في طول النفس، فأتته الدعوات من أكثر من عشرة عواصم. وفي 1727 في بولونيا لقي أول هزيمة له؛ ذلك أنه قاسم انطونيو برناكي لحناً، فاعترف له بأنه (ملك المغنين)، وتوسل إليه أن يكون معلمه. ووافق برناكي، وسرعان ما بز التلميذ معلمه. وراح فارينللي يحرز الآن نصراً بعد نصر في البلد تلو البلد-البندقية وفينا وروما ونابلي وفيرارا ولوكا وتورين ولندن وباريس. وكان تفننه الصوتي عجيبة العصر. وكان فن التنفس من أسرار براعته، فقد عرف أكثر من أي مغن آخر كيف يتنفس بعمق وسرعة وهدوء، وكان في استطاعته أن يستمر في غناء بنغمة ما بعد أن تتوقف جميع الآلات الموسيقية. وفي لحن Son Qual nave ( على أي مركب) بدأ النغمة الأولى مخافتاً لا يكاد يسمع، وطها تدريجياً إلى ملء حجمها، ثم هبط بها شيئاً فشيئاً إلى خفوتها الأولى. وكان جمهور السامعين أحيانا، حتى في إنجلترا-ذلك البلد الرصين-يصفق لهذه العجيبة السعيدة تصفيقاً يمتد خمس دقائق (15). وقد اكتسب قلوب سامعيه كذلك بحنانه وكياسته ورقته، وكانت هذه الخلال في فطرته كما كانت في صوته. وفي 1737 قام بزيارة لأسبانيا خالها قصيرة، ولكن المكث طال به في مدريد أو قربها ربع قرن وسوف نفتش عليه هناك في فصل لاحق.
وبفضل المغنين الطواشية أمثال فارينللي وسينيزينو، وكواكب الغناء من النساء أمثال فاوستينا بوردوني وفرنشسكا كوتسوني، أصبحت الأوبرا صوت إيطاليا، وبهذه المثابة استمع إليها الناس بابتهاج في كل بلد أوربي إلا فرنسا حيث اشتعلت نار الحرب. وكلمة "أوبرا" كانت في الأصل جمع " opus" ومعناها "أعمال" ولكن الجمع أصبح في إيطاليا مفرداً، واحتفظ بمعناه "العمل"، وما نسميه الآن أوبرا كان يسمى Opera Per Musica- عملاً موسيقياً. ولم تتخذ الكلمة معناها الحالي إلا في القرن الثامن عشر. وإذ كانت متأثرة بتقاليد الدراما اليونانية، فقد صممت أصلاً على أنها تمثيلية تصاحبها الموسيقى، ثم ما لبثت الموسيقى أن طغت على التمثيلية في إيطاليا، وطغت الأغاني (الآريا) على الموسيقى. وصممت أوبرات تتيح عروضاً منفردة لكل(40/15)
مغنية أولى وكل مغن أول في الفرقة. وكان السامعون يتجاذبون الحديث فيما بين هذه القمم المثيرة، وبين الفصول يلعبون الورق أو الشطرنج، ويقامرون، ويأكلون الحلوى أو الفاكهة أو العشاء الساخن, ويتزاورون ويغازلون من مقصورة إلى مقصورة. في مثل هذه المهرجانات كان النص عادة يغرق في طوفان معترض في الأغاني والثنائيات والكوارس والباليهات. وقد ندد المؤرخ لودقيكو موراتوري بطمس العشر على هذا النحو (1701) (16) ووافقه كاتب النصوص أبوستولوتسينو، وانتقد المؤلف الموسيقي بنديتو مارنشيللي هذا الاتجاه في "تياترو على الموضة" (1721). وأوقف متاستازيو حيناً هذا السيل الجارف، ولكن في النمسا لا في إيطاليا. وناضل جوميللي وتراييتا ضده، ولكن مواطنيها أنكروا عليها هذا النضال، ذلك أن الإيطاليين آثروا في في غير مواربة الموسيقى على الشعر، واتخذوا الدراما مجرد تكئة للأغنية.
وأغلب الظن أنه ما من شكل فني آخر وعاه التاريخ حظي بالشعبية التي حظيت بها الأوبرا في إيطاليا، وما من حماسة ضارعت حماسة جمهور إيطالي يرحب بلحن أو قفلة يشدو بها مغنٍ مشهور. ولو سعل أحد المستمعين في حفلة كهذه لعد ذلك منه جريمة اجتماعية كبرى. وكان التصفيق يبدأ قبل أن تختم الأغنية المألوفة، وتدعمه العصي تدق على الأرض أو على ظهور المقاعد، وكان بعض المتحمسين يقذفون بأحذيتهم في الهواء (17). وكان لكل مدينة إيطالية تزهو بنفسها قليلاً أو كثيراُ (وأيها كانت مبرأة من الزهو؟) دار للأوبرا، وبلغ عدد هذه الدور في الولايات البابوية وحدها أربعين. وبينما كانت الأوبرا في ألمانيا حفلة رسمية تؤدى في البلاط ويحرم منها جمهور الشعب، وبينما حد من مستمعيها في إنجلترا ارتفاع أسعار الدخول، نجدها في إيطاليا مفتوحة لكل شخص لائق الهندام نظير رسم متواضع، وأحياناً دون رسم على الإطلاق. ولما كان الإيطاليون قوماً يحبون الاستمتاع بالحياة فقد أصروا على أن يكون لأوبراتهم خاتمة سعيدة مهما كان في هذه الأوبرات من فواجع. ثم أنهم أحبوا الفاكهة كما أحبوا رقة العاطفة. فنما بينهم تقليد يقضي بدس فاصل هزلي بين فصول الأوبرا. ثم تطورت هذه الفواصل(40/16)
إلى نوع قائم بذاته حتى لقد نافست (الأوبرا الجادة) في شعبيتها، وأحياناً في طولها. والذي فتن باريس في 1752 كان "أوبرا هازلة- Opera Buffa" وهي الخادمة تنقلب ربة البيت La Serva Padrann لبرجوليزي، التي أشاد بها روسو دليلاً على تفوق الموسيقى الإيطالية على الفرنسية.
أياً كانت الأوبرا الإيطالية، هازلة أو جادة، فإنها كانت قوة في التاريخ. وكما غزت روما مرة غربي أوربا بجيوشها، وكما غزتها كنيسة روما مرة ثانية بعقيدتها، كذلك غزتها إيطاليا مرة ثالثة بالأوبرا. فأزاحت أوبراتها الإنتاج الوطني في ألمانيا والدنمرك وإنجلترا والبرتغال وأسبانيا بل وروسيا، وكان مغنوها معبودي كل عاصمة أوربية تقريباً. واتخذ المغنون الوطنيون أسماء إيطالية لكي يحظوا بالقبول في وطنهم. وسيمضي هذا الغزو الساحر ما بقي للحروف اللينة التفوق في الغناء على الحروف الساكنة.
3 - الدين
كانت الطبقة المسيطرة في إيطاليا هي طبقة الأكليروس بعد البريمادونات والمغنين الخصيان. وراح رجال الدين يمشون أو يركبون في غفاراتهم المتميزة وقبعاتهم العريضة الخواف في حرية تخالطها الكبرياء عبر المجتمع الإيطالي عالمين أنهم يوزعون أغلى نعمة عرفتها البشرية-هي نعمة الرجاء. وبينما كانت نسبة رجال الكنيسة إلى الشعب في فرنسا في هذا القرن على التقريب واحداً إلى مائتي نفس، كانت النسبة في روما واحداً لكل خمس عشرة، وفي بولونيا واحداً لكل شبع عشرة، وفي نابلي وتورين واحداً لكل ثمان وعشرين (18). وقد شكا رجل معاصر من أهل نابلي من هذا الوضع، وهو باعترافه رجل متمسك بالتقاليد:
"لقد استفحل عدد الأكليروس بحيث اصبح لزاماً على الأمراء أن يتخذوا الإجراءات للحد من عددهم وإلا ابتلعوا الدولة بأسرها. فأي(40/17)
ضرورة لأن يهيمن على أصغر القرى الإيطالية خمسون قسيساً أو ستون؟ ... أن العدد الضخم من أبراج الأجراس والأديرة يحجب نور الشمس. وهناك مدن يبلغ فيها العدد خمسة وعشرين ديراً لرهبان أو راهبات الدومينكان وسبعة مجامع لليسوعيين، ومثلها للتياتين، ونحو عشرين أو ثلاثين ديراً للأخوة الفرنسيسكان، وما لا يقل عن خمسين أخر من طوائف دينية مختلفة من الجنسين، هذا فضلاً عن أربعمائة أو خمسمائة كنيسة ومصلى (19) ".
ولعل هذه الأرقام بالغ فيها الكاتب دعماً لحجته. ونحن نسمع عن أربعمائة كنيسة في نابلي، و260 في ميلان، و110 في تورين، على أن هذه دخلت ضمنها المصليات الصغيرة. وكان الرهبان فقراء نسبياً، أما الأكليروس من غير الرهبان فكانوا في جملتهم يملكون ثروة تفوق ثروة النبلاء. وكان الأكليروس في مملكة نابلي يحصلون على ثلث الموارد. وفي دوقية بآرما كان نصف الأرض يملكه الأكليروس، وفي تسكانيا ثلاثة أرباع الأرض تقريباً. وفي البندقية أضافت الوصايا الجديدة في السنوات الإحدى عشرة من 1755 إلى 1765 إلى الكنيسة من الأملاك ما قيمته 3. 300. 000 دوقاتية (20). وكان بعض الكرادلة والأساقفة من أغنى الرجال في إيطاليا، ولكن هؤلاء الكرادلة والأساقفة كانوا أولاً مديرين وحكاماً، ولم يكونوا قديسين إلا أحياناً. من ذلك أن عدة رجال منهم في النصف الثاني من القرن نزلوا عن ثروتهم وترفهم وعاشوا حياة الفقر الاختياري.
أما الشعب الإيطالي فلم يبد منه أي احتجاج ذي بال على ثراء الأكليروس، اللهم إلا قلة من المعلقين والهجائين. لقد كان الشعب فخوراً ببهاء كنائسه وأديرته وأحباره وبدت لهم مساهماتهم ثمناً زهيداً يدفعونه لقاء النظام الذي وفره الدين للأسرة والدولة. وكان في كل بيت صورة أو تمثال للمسيح المصلوب، وآخر للعذراء، وأمامهما تركع الأسرة كلها في صلاة كل مساء-الأبوان والأبناء والخدم. فأي شيء يستطيع الحلول محل التأثير الأخلاقي لتلك الصلوات الموحدة بين القلوب؟ وكان الامتناع(40/18)
عن أكل اللحم أيام الجمع، وأيام الأربعاء والجمع في الصوم الكبير، ضبطاً نافعاً للشهوة-كما كان نعمة على الصحة وعلى صيادي السمك. أما القساوسة، الواعون لمفاتن النساء، فلم يغالوا في إدانة خطايا الجسد، وأغضوا عن مظاهر التحلل في الكرنفالات. لا بل أن البغايا كن في السبوت يوقدن شمعة أمام العذراء، ويودعن نقوداً لترتيل القداس. وقد أدهش دبروس وهو يشاهد تمثيلية في فيرونا أن يرى التمثيل يتوقف حين دقت أجراس الكنائس معلنة موعد الصلاة (الأنجيلوس)، وركع كل الممثلين وصلوا، وقامت ممثلة كانت تتصنع الإغماء في المسرحية لتشارك في الصلاة ثم عادت إلى إغمائها (21). حقاً ندر أن أحب الناس ديناً من الأديان حباً جماً كما أحب الإيطاليون الكثلكة في إيطاليا. على أنه كان للصورة وجه آخر-هو الرقابة على المطبوعات وديوان التفتيش. وقد طالبت الكنيسة كل إيطالي أو إيطالية أن يؤدي مرة في السنة على الأقل "واجب عيد القيامة"-أي يذهب للاعتراف على الكاهن في سبت النور، ويتناول القربان في صباح القيامة. فإذا قصر في هذا الواجب-في كل أرجاء إيطاليا باستثناء أكبر المدن-استوجب التوبيخ من الكاهن، فإذا لم يجد مع العاصي التوبيخ والنصح سراً عوقب بنشر اسمه على أبواب كنيسة الأبرشية، فإذا تمادى في الرفض كان جزاؤه الحرم، بل السجن في بعض المدن (22). على أن ديوان التفتيش كان قد فقد الكثير من قوته وشرته. وكان في الإمكان تفادي الرقابة الكنسية في المراكز الكبرى، فخفت الرقابة على المطبوعات، وكان هناك انتشار صامت للشك الهرطقة في أوساط المثقفين لا بل بين رجال الأكليروس أنفسهم-لأن بعضهم كانوا جانسنيين في دخيلة أنفسهم برغم أوامر البابا.
وإذا كان الكثير من القساوسة والرهبان قد عاشوا حياة الراحة والدعة، ولم يكونوا غرباء على الإثم، فقد كان هناك أيضاً الكثيرون ممن وفوا ينذروهم، واحتفظوا بالإيمان حياً بالإخلاص لواجباتهم. وقامت المؤسسات الدينية الجديدة شاهداً على بقاء نبض الحياة في الرهبنة. من ذلك أن القديس(40/19)
الفونسودي لجيرومي المحامي العريق الأصل أسس في 1732 جماعة "أتباع الفادي" (أي المسيح)، كذلك أسس القديس بولس الصليبي (باولودانتي)، الذي مارس أقسى ضروب النسك، في 1737 "طائفة المتألمين". أي إتباع صليب المسيح المقدس وآلامه.
وكانت جماعة اليسوعيين في 1730 تضم نحو 23. 000 عضو. منهم 3. 622 في إيطاليا، ونصفهم قساوسة (23). ولم يكن هناك تناسب قط بين سلطانهم وعددهم. فكثيراً ما أثروا في السياسة الداخلية والدولة بحكم كونهم آباء الاعتراف للملوك والملكات والأسر المرموقة، وكانوا أحياناً أكثر القوى إلحاحاً-بعد جماهير الشعب-في اضطهاد الهرطقة. ومع ذلك كانوا أكثر اللاهوتيين الكاثوليك تحرراً، وقد رأينا في غير من هذا الموضع كم حاولوا في صبر أن يتوافقوا مع حركة التنوير الفرنسية. وقد تميزت بعثاتهم الخارجية بمثل هذه المرونة. ففي الصين حولوا مئات الألوف إلى الكاثوليكية (24)، ولكن تنازلاتهم الذكية لعبادة الأسلاف، وللكنفوشية، وللطاوية، صدمت مبعوثي الطوائف الدينية الأخرى فاقنعوا البابا بندكت الرابع عشر بأن يكبح جماح اليسوعيين ويوبخهم في مرسوم Ex quo Singulari (1743) . على أنهم ظلوا برغم ذلك أقدر وأعلم على العقيدة الكاثوليكية ضد البروتستانتية والإلحاد، وأخلص المؤيدين للباباوات ضد الملوك. وقد وجد الملوك في جماعة اليسوعيين أثناء صراعات السيادة والسلطة بين الدول القومية والكنيسة التي تعلو على القوميات عدواً هو أشد أعدائهم دهاء وإلحاحاً. ومن ثم فقد صحت نيتهم على القضاء عليها. ولكن الفصل الأول في هذه الدراما مكانه البرتغال.
4 - من تورين إلى فلورنسة
إذا دخلنا إيطاليا من فرنسا بطريق مون-سني، هبطنا جبال الألب إلى بيدمونت التي تسمى "سفح الجبل" ثم مررنا بكروم وحقول للحبوب وبساتين لأشجار الزيتون أو الكستناء حتى نبلغ توبرين، القصبة القديمة لبيت سافوي والتي يرجع عمرها ألفي سنة. وهذا البيت من أقدم الأسر(40/20)
الملكية الموجود، وقد أسسه في 1003 أومبرتو بيانكامانو-هومبرت ذو اليد البيضاء. وكان رأس الأسرة في الحقبة التي نحن بصددها من أكفأ حكام العصر. فقد ورث فكتور أماديوس الثاني عرش دوقية سافوي في التاسعة من عمره (1675) واضطلع بشؤون الحكم في الثامنة عشرة وقاتل من أجل الفرنسيين آناً وضدهم آناً في حروب لويس الرابع عشر، وشارك أوجين السافواوي في طرد الفرنسيين من تورين وإيطاليا، وخرج من معاهدة أوترخت (1713) وقد أضاف صقلية إلى تاجه. وفي 1718 استبدل سردينا بصقلية، واتخذ لقب ملك ساردينا (1720) ولكنه احتفظ بتورين عاصمة له. وحكم مملكته بكفاية تشوبها الخشونة، وأصلح التعليم العام وزاد في رفاهية الشعب، وبعد أن حكم خمسة وخمسين عاماً تخلى عن العرش لابنه شارل إيمانويل الأول (حكم 1730 - 73).
كانت تورين خلال هذين الحكمين اللذين امتدا قرابة قرن كامل مركزاً قيادياً للحضارة الإيطالية. وقد وصفها مونتسيكو الذي شاهدها في عام 1728 بأنها "أجمل مدينة في العالم (25) " مع أنه أحب باريس. وامتدح تشسترفيلد عام 1749 بلاط سافوي لأنه خير بلاط في أوربا يربي "أناساً مهذبين لطفاء (26) ". وبعض الفضل في بهاء تورين راجع إلى فليبو يوفار، المعماري الذي كان لا يزال يتنفس وحي النهضة الأوربية. فعلى تل سوبرجا الشامخ الذي يعلو 2. 300 قدم فوق المدينة بنى (1717 - 31) لفكتور أماديوس الثاني في ذكرى تحرير تورين من احتلال الفرنسيين باسيليقا جميلة بطراز الأروقة والقباب الكلاسيكي استخدمت مقبرة لأسرة سافوي الملكية قرناً من الزمان. ثم أضاف إلى قصر ماداما العتيق (1718) سلماً فخماً وواجهة ضخمة، وفي 1729 صمم قلعة ستوبينجي الهائلة (التي أكملها بنديتو ألفييري) والتي أبرز بهوها الرئيسي كل فخامة الباروك الحالية. وظلت تورين عاصمة لأدواق سافوي حتى انتقلوا بعد نصرهم النهائي (1860 وما بعدها) إلى روما ليتربعوا على عرش إيطاليا الموحدة.
أما ميلان التي طالما خنقتها السيطرة الأسبانية فقد بعثت من جديد تحت(40/21)
الحكم النمساوي الأكثر رفقاً. ففي 1703 أنشأ فرانترتيفن، وفي 1746 و1755 استكمل فيليتشي وروكليريتشي بمعونة الحكومة، مصانع للنسيج وسعت من إحلال الإنتاج الواسع النطاق الذي يموله ويديره رأس المال محل الحرف والنقابات الحرفية. أما التاريخ الثقافي لميلان فقد لمع فيه الآن اسم جوفاني باتيستا سامارتيني، الذي نستطيع إلى الآن الاستماع إليه أحياناً على أمواج الأثير المتدفقة. ويلاحظ أنه في سمفونياته وصوناناته استبدل بوقار موسيقى كبار الموسيقيين الألمان الكونترابنتي تفاعلاً ديناميكياً بين الموضوعات والحالات النفسية والمتعارضة. وحين وفد الفتى جلوك على ميلان (1737) ليشغل وظيفة موسيقي الحجرة للأمير فرانتشسكوملتسي، أصبح تلميذ سامارتيني وصديقه واتخذ طريقه في بناء هيكل الأوبرا. وفي 1770 صاح المؤلف الموسيقي البوهيمي يوزف مزلفتشك، وهو يصغي مع موتسارت الشاب إلى بعض سمفونيات سمارتيني في ميلان "لقد وجدت الأب الذي أنجب أسلوب هايدن! (27) "-وهو إذن أحد آباء السمفونية الحديثة.
وأما جنوه فقد كابدت خطوباً في القرن الثامن عشر. كانت تجارتها قد انحطت إثر منافسة المحيطات للبحر المتوسط، ولكن موقعها الاستراتيجي على ربوة دفاعية تطل على ثغر حسن الإعداد لفت الانتباه الخطر من الدول المجاورة. ووقعت الحكومة المحصورة بين أعداء من الخارج وشعب غضوب جاهل من الداخل في أيدي أسر تجارية قديمة تحكم عن طريق مجلس مغلق ودوج مطيع. هذه الأولجركية العاملة على تخليد نفسها في كراسي الحكم أثقلت كاهل الشعب بالضرائب حتى هوى إلى درك الفقر الكئيب الفاقد الصبر، وسيطر عليها وابتزها هي الأخرى بنك سان جورجو. فلما حاصرت قوات سافوي والنمسا المتحالفة جنوه في 1746 لم تجرؤ الحكومة على تسليح الشعب ليقاوم خشية أن يقتل الحكام، وآثرت أن تفتح أبوابها للمحاصرين الذين فرضوا تعويضات وفديات جرت عليها الخراب المالي. أما العامة الذين فضلوا المستغلين من بني جلدتهم، فقد ثاروا على الحامية(40/22)
النمساوية، وقذفوها بوابل من البلاط والطوب انتزعوه من الأسطح والشوارع، وطردوها طرداً مخزياً ثم عاود الطغيان القديم سيرته الأولى.
وشيد نبلاء جنوه القصور الجديدة مثل قصر فيراري، وشاركت ميلان في رعاية مصور بلغ شهرة من المرتبة الثانية في عصرنا هذا. فتكاد كل صورة باقية من الصور التي رسمها الساندور ماناسكو ترعنا بأصالة أسلوبها القاتمة. فصورة "بنكينللو يعزف على القيثارة"-جسد مستطيل في بقع مهملة سوداء وبنية، واللوحة الرشيقة المسماة "فتاة وموسيقى أمام المدفأة (29) " ولوحة "الحلاق (30) " تبدو عليه اللهفة على قطع حلقوم زبونه، ولوحة "حجرة طعام الرهبان" الضخمة الشاهدة على ازدهار مطبخ الكنيسة، هذه كلها روائع فنية تذكرنا بالجريكو في أجسادها النحيلة وحيلها الضوئية، وترهص بجويا في فضحها الرهيب لقساوات الحياة، وتنزع إلى الحداثة في احتقارها الخشن للتفاصيل المتكلفة المتزمتة.
وشهدت فلورنسة في هذا العصر نهاية أسرة من أشهر أسر التاريخ. فقد كان حكم كوزيمو الثالث (1670 - 1723) الذي طلا أمده أرشيدوقاً لتسكانيا نكبة على شعب مازال فخوراً بذكريات عظمة فلورنسة تحت حكم آل مديتشي الأسبقين. وقد سمح كوزيمو هذا الذي تسلط اللاهوت على تفكيره للأكليروس بأن يحكموه ويبتزوا من موارده الهزيلة منحاً سخية للكنيسة. وكان من أثر الحكم المستبد، والإدارة العاجزة، والضرائب الباهظة أن فقدت الحكومة التأييد الشعبي الذي حظيت به الأسرة المالكة طوال مائتين وخمسين عاماً.
وآثر فرديناند بن كوزيمو الأكبر الغواني على رجال حاشيته، ودمر صحته بالإفراط في اللذات، ومات أبتر لا عقب له في 1713. وكان لكوزيمو ابن يدعى جان (يوحنا) جاستوني أولع بالكتب، ودرس التاريخ والنبات، وعاش حياة هادئة. وفي 1697 أكرهه أبوه على الزواج من آن أميرة ساكس لاونبرج، وكانت أرملته فقيرة الثقافة. وذهب جان ليعيش معها في قرية بوهيمية نائية، واحتمل الملل عاماً،(40/23)
ثم تعزى بالخيانات الزوجية في براغ. فلما ساءت صحة فرديناند، استدعى كوزيمو جان إلى فلورنسة، ولما مات فرديناند أعلن جان وريثاً لتاج الأرشيدوقية. ورفضت زوجة جان أن تعيش في إيطاليا. وخشي كوزيمو أن ينقرض بيت مديتشي، فامتنع مجلس الشيوخ الفلورنسي بأن يصدر قراراً يقضي عند موت جان جاستوني دون عقب بأن تؤول العرش إلى شقيقة جان المدعوة آنا ماريا لودفيكا.
وحامت الدول الأوربية في لهفة حول الأسرة المحتضرة. ففي 1718 رفضت النمسا وفرنسا وإنجلترا وهولندا الاعتراف بترتيب كوزيمو، وأعلنت أنه يجب عند وفاة جان أن تعطى تسكانيا وبارما لدون كارلوس الابن الأكبر لاليزابث فارنيزي ملكة أسبانيا. واحتج كوزيمو، وأعاد تنظيم دفاعات لجهورن وفلورنسة الحربية ولكن متأخراً. وخلف موته لابنه دولة أنهكها الفقر وعرشاً مزعزع الأركان.
وكان جان جاستوني الآن (1732) في عامه الثاني والخمسين. فجاهد ليصلح مساوئ الإدارة والاقتصاد، وطرد الجواسيس والمتملقين الأذلاء الذين أثروا في عهد أبيه وخفض الضرائب وأعاد المنفيين، وأفرج عن السجناء السياسيين، وعاون على إحياء الصناعة والتجارة ورد لحياة فلورنسة الاجتماعية الأمان والمرح. وبفضل إثراء كوزيمو الثاني وجان جاستوني لقاعة الأوفيتسي للفنون، وازدهار الموسيقى تحت قيادة كما فرانسشكو فيراتشيني، والمراقص التنكرية، ومواكب العربات المزخرفة، ومعارك الحلوى والأزهار الشعبية-بفضل هذا كله أصبحت فلورنسة تنافس البندقية وروما في جذب الزوار الأجانب، مثال ذلك أنه اجتمع فيها حوالي عام 1740 الليدي ماري ورتلي مونتاجو، وهوراس ولبول، وتوماس جراي حول الليدي هنرييتا بومفريت في قصر ريدولفو. إن في المجتمع المحتضر شيئاً يجذب إليه الناس جذباً حزيناً.
ولما أضنت جان جاستوني جهوده، أحال في 1731 تبعات الحكم إلى وزرائه وانزلق إلى هوة اللذات الحسية. وجردت أسبانيا جيشاً عدته(40/24)
ثلاثون ألف مقاتل لتضمن الخلافة لدون كارلوس، وأرسل شارل السادس النمساوي خمسين ألف جندي ليرافقوا ابنته ماريا تريزا في طريقها إلى عرش الأرشيدوقية. وأمكن تفادي الحرب باتفاق (1736) أبرم بين النمسا وفرنسا وإنجلترا وهولندا يقضي بأن يأخذ كارلوس نابلي، وأن تأخذ ماريا وزوجها فرانسوا اللوزيني-وتسكانيا. وفي 9 يوليو 1737 قضى آخر المديتشيين نحبه وأصبحت تسكانيا تابعة للنمسا وازدهرت فلورنسة من جديد.
5 - ملكة الأدرياتيك
بين ميلان والبندقية استرخت بعض المدن الصغرى. فبرجامو اضطرت إلى أن تقنع في نصف القرن الذي نحن بصدده بمصورين مثل جيسلاندي، وبمؤلفين موسيقيين مثل لوكاتيللي. وقدمت فيرونا الأوبرات في مسرحها الروماني، وكانت محظوظة برجل مرموق هو المركيز فرانشسكو سكبيوني دي مافي. وقد قلد فولتير مسرحيته الشعرية (ميروبي) (1713) وأهداه في كرم مسرحيته (ميروب) باعتباره "أول كاتب أوتي من الشجاعة والعبقرية ما أعانه على المغامرة بكتابة مأساة تخلوا من الغزل، مأساة جديرة بأثينا في عزها، حيث تكون محبة الأم هي قوام المؤامرة كلها، وينبعث أرق ضروب التشويق من أطهر الفضائل (32) ". وهناك عمل آخر لمافي أبروز حتى من مسرحيته تلك وهو "فيرونا المصورة" (1731 - 32) وهو كتاب بدأ تحديد خطى علم الآثار. واعتزت مدينته به فأقامت له تمثالاً في حياته. وكانت فتشنتسا بمبانيها التي شيدها بلاديو كعبة يحج إليها المعماريون الذين يحبون الطراز الكلاسيكي. أما بادوا فكان بها جامعة اشتهرت بكليتي الحقوق والطب ولمه فيها جوزيبي تارتيني، الذي اعترف به الجميع (عدا جمنياني) إماماً لعازفي الفيولينة الأوربيين، ومن الذي لم يستمع إلى موسيقى تارتيني "رعشة الشيطان"؟
هذه المدن كلها كانت جزءاً من جمهورية البندقية. وكذلك كانت تريفيزو وفريولي، وفلتري، وباسانو، وأوديني، وبللونو، وترنتو، وبولتسانو(40/25)
في الشمال، واستريا في الشرق، وفي الجنوب امتدت دولة فينيتسيا مخترقة كيودجا وروفيجو إلى نهر بو، وملكت عبر الأدرياتيك كتارو وبريفيتسا وأجزاء أخرى مما يقع في يوغوسلافيا وألبانيا، وكانت تملك في الأدرياتيك جزائر كورفو وكفالونيا وزنطة. وسكن هذا الملك المعقد نحو ثلاثة ملايين من الأنفس كل منها يعد نفسه مركز العالم.
6 - الحياة الفينيتسية
أما مدينة البندقية (فينيتسيا) ذاتها عاصمة الجمهورية، فكانت تضم 137. 000 - نسمة. وكانت الآن في فترة اضمحلال سياسي واقتصادي، بعد أن استولى الترك على إمبراطوريتها الأيجية، وانتزعت دول الأطلنطي الكثير من تجارتها الخارجية. وكان فشل الحروب الصليبية، وإعراض الحكومات الأوربية بعد انتصارها في ليبانتو (1571) عن تقديم المعونة للبندقية في الدفاع عن مخافر العالم المسيحي الأمامية في الشرق، ولهفة تلك الحكومات على أن تقبل من تركيا امتيازات تجارية ضنت بها على أشجع أعدائها (33) -هذه التطورات كلها قد خلفت البندقية في حال من الضعف أعجزها عن الاحتفاظ ببهائها أيام النهضة، ومن ثم أن ترعى بيتها هي-فتمنح مملكاتها الإيطالية والأدرياتية حكومة صارمة في القانون، والرقابة السياسية، والإشراف الشخصي، ولكنها كفء في الإدارة، متسامحة في الدين والأخلاق، متحررة في التجارة الداخلية.
وكانت تحكمها أولجركية شأن غيرها من جمهوريات أوربا في القرن الثامن عشر. وفي هذا الخليط من حطام السلالات المختلفة-انطونيين وشيلوكيين وعطيليين، وبين جماهير لم تصب من التعليم حظاً يذكر، بطيئة التفكير سريعة الحركة، تؤثر اللذة على السلطة، كان معنى الديمقراطية -لو استقرت فيها-هو الفوضى المتوجة. ومن ثم قصر الحق في عضوية المجلس الأعلى على نحو ستمائة أسرة تضمنها "الكتاب الذهبي" ولكن هذه الأرستقراطية الوطنية أضيفت لها إضافات حكيمة من صفوف التجار ورجال المال وإن كانوا من دم غريب. وكان المجلس الأعلى يختار السناتو، الذي(40/26)
كان يختار مجلس العشرة القوي النفوذ. وكان جيش من الجواسيس ينتقل في صمت بين المواطنين ويبلغ القضاة بأي تصرف أو كلام مريب يصدر من أي بندقي-حتى من الدوج نفسه. وكان الأدواج الآن عادة حكاماً صوريين وظيفتهم استقطاب الوطنية وتزيين الدبلوماسية.
وكان الاقتصاد يخوض معركة خاسرة ضد المنافسة الأجنبية ورسوم الاستيراد وقيود النقابات الحرفية. ولم تتوسع صناعة البندقية لتبلغ مرحلة المشروعات الحرة والتجارة الحرة والإدارة الرأسمالية، بل قنعت بشهرة حرفها. ولم يبق في صناعة الصوف التي كانت تشغل ألفاً وخمسمائة عامل في عام 1700 غير ستمائة في نهاية القرن، واضمحلت صناعة الحرير في الفترة ذاتها فلم يبق فيها غير ألف واحد بعد أن حفلت باثني عشر ألفاً (34). وقاوم صناع زجاج مورانو كل تغيير في الطرق التي أذاعت في الماضي شهرتهم في طول أوربا وعرضها، وتسربت أسرارهم إلى فلورنسة وفرنسا وبوهيميا وإنجلترا، واستجاب منافسوهم لما طرأ من تقدم على الكيمياء، وللتجارب التي أجريت في الصناعة، وهكذا ولى زمان المورانو. وبالمثل استسلمت صناعة الدنتلا لمنافسيها وراء الألب، فلم يحل عام 1750 حتى كان البنادقة أنفسهم يلبسون المخرمات الفرنسية. وازدهرت صناعتان: مصايد الأسماك التي استخدمت ثلاثين ألف رجل، واستيراد العبيد وبيعهم.
ولم يسمح للدين بالتدخل في أرباح التجارة أو لذات الحياة. ونظمت الدولة جميع المسائل المتعلقة بممتلكات الكنيسة وبجرائم رجال الدين. وكان اليسوعيون قد أعيدوا في 1657 بعد طردتهم في 1606، ولكن بشروط حدت من نفوذهم في التعليم والسياسة. ووجدت تعاليم فولتير وروسو وهلفتيوس وديدرو طريقها إلى صالونات البندقية ولو بطريق الزوار رغم أن الحكومة حظرت استيراد مؤلفات الفلاسفة الفرنسيين، وداعبت الأرستقراطية في البندقية كنظيرتها في فرنسا الأفكار التي استنزفت قوتها (35). وقبل الناس الدين على أنه عادة لا شعورية تقريباً من عادات الشعائر والإيمان، ولكنهم كانوا يلهون أكثر مما يصلون. وقد وصف مثل بندقي أخلاقيات البنادقة(40/27)
بكل ما في الأبجرام من قصور، "في السباح قداس صغير، وبعد الغداء لعبة قمار صغيرة، وفي المساء امرأة صغيرة" (36). وذهب الشبان إلى الكنيسة لا ليصلوا للعذراء ولكن ليدققوا النظر في النساء. وكان النساء برغم الغضبات الكنسية والحكومية يرتدين "الديكولتيه" الذي يكشف عن نحورهن وظهورهن (37) وكانت الحرب المتصلة بين الدين والجنس تهيئ للجنس أسباب النصر.
وأجازت الحكومة البغاء المنظم إجراءاً واقياً لسلامة الشعب. واشتهرت غواني البندقية بجمالهن، ودماثة طباعهن، وفخامة لباسهن، وبذخ مساكنهن المشرفة على القناة الكبرى. وكان عدد المعروض من هؤلاء الغواني ( Cortigiane) كبير، ولكنه رغم ذلك قصر على الوفاء بالطلب. وكان المقتصدون من البنادقة، والأغراب مثل روسو، يتجمعون معاً اثنين أو ثلاثة لينفقوا على محظية (38). ولكن النساء المتزوجات انغمسن في العلاقات الغرامية الخطرة رغم هذه التسهيلات، ولم يكتفين بمرافقيهن من "السادة الخدام"، واختلف بعضهن إلى الكازينوات التي وفرت فيها كل أسباب اللقاءات الغرامية. ووبخت الحكومة علناً عدة نساء نبيلات لسلوكهن المنحل، وأمرت بعضهن أن يلزمن بيوتهن، ونفت بعضهن خارج البلاد. ولكن الطبقات الوسطى كانت أكثر تعقلاً، وكان تعاقب النسل يشغل الزوجة ويشبع حاجتها لتلقى الحب وبذله. ولم تغدق الأمهات على أطفالهن في أي بلد آخر ما أغدقته في البندقية من عبارات الإعزاز الحارة. ومن عباراتهن المأثورة: (يا سبع القديس مرقص! يا بهجتي! يا زهرة ربيعي!).
أما الجريمة فكانت في البندقية أقل منها في أي بلد آخر في إيطاليا، فقد كبح جماح العدوان كثرة ضباط الشرطة والأمن ويقظتهم. ولكن القوم تقلبوا القمار على أنه عمل من أعمال الإنسان الطبيعية. ونظمت الحكومة يانصيباً في 1715. وافتتح أول نادٍ للقمار في 1638، وسرعان ما كثر عدد هذه الأندية العامة والخاصة التي تهرع إليها جميع الطبقات.(40/28)
وكان في استطاعة مهرة المقامرين المخادعين من أمثال كازانوفا أن يعيشوا على مكاسبهم من القمار، في حين يخسر غيرهم مدخرات عام بأكمله في ليلة واحدة. وكان المقامرون ينحنون على مائدة القمار في حب صامت أحر من عشق الناس. أما الحكومة فكانت تتفرج بعين الرضى (حتى1774)، لأنها فرضت الضرائب على أندية القمار وبلغ إيرادها السنوي منها نحو 300. 000 جنيه (39).
وأقبل العاطلون والأغنياء من شتى الدول لينفقوا مدخراتهم أو سني شيخوختهم وسط الاسترخاء الخلقي والمرح المطلق في الميادين والقنوات. وخفت حمى السياسة بعد أن تخلا الجمهورية عن إمبراطوريتها. ولم يجرِ حديث الثورة هنا على أي لسان، فقد كان لكل طبقة عاداتها وتقاليدها العاملة على الاستقرار، واستغراقها في الواجبات التي تقبلتها، هذا فضلاً عن المسرات المتاحة لها. وكان الخدم طيعين أوفياء، ولكنهم لا يطيقون الإهانة أو الازدراء. وكان ملاحو الجندول فقراء، ولكنهم ملوك البحيرات، يقفون على زوارقهم المذهبة في فخر وثقة بمهارتهم الموروثة عن الأسلاف، أو يدورون حول المنحنيات وهم يصيحون صيحات قوية غريبة أو يدندنون بأغنية تصاحب تمايل أجسادهم، وإيقاع مجاديفهم.
واختلطت الجنسيات المختلفة الكثيرة في الميادين. واحتفظ كل منها بميزة من زي ولغة وتبذل، وظلت الطبقات العليا ترتدي ما ارتدته في عز أيام النهضة، من قمصان من أرق الكتان، وسراويل من المخمل، وجوارب حريرية، وأحذية ذات مشابك، ولكن البنادقة هم الذين أدخلوا إلى غربي أوربا في هذا القرن لباساً تركياً هو السراويل الطويلة (البنطولونات). وكانت الباروكة قد وفدت من فرنسا حوالي 1665. وعني المتأنقون من الشباب عناية بالغة بلباسهم وشعرهم ورائحتهم حتى لقد صعب تمييز جنسهم. أما النساء العصريات فقد رفعن فوق رؤوسهن أبراجاً عجيبة من الشعر المستعار أو الطبيعي. وكان الرجال والنساء جميعاً يشعرون كأنهم عراة إذا لم يتحلوا بالجواهر والحلي. وكانت المراوح تحفاً فنية، ترسم في تأنق،(40/29)
وكثيراً ما كانت تغشى بالأحجار الكريمة أو تحوي منظاراً لعين واحدة (مونوكل).
وكان لكل طبقة أنديتها، ولكل شارع مقهاه، يقول جولدوني "في إيطاليا نتناول عشرة أقداح من القهوة كل يوم" (40) وازدهرت كل ضروب الملاهي، من معارك الجوائز ( Pugni) إلى المراقص التنكرية. وكلمة "بألوان" ( Balloon) مشتقة من لعبة كانت تسمى باللوني Pallone- فيها تنطط كرة منفوخة براحة اليد. وكانت رياضة الماء تكرر بانتظام. فمنذ 1315 كان يقام سباق Rcgatta في 25 يناير على القناة الكبرى، بين زوارق تسير بخمسين مجدافاً وتزين كما تزين عرباتنا في المعارض، ويبلغ الاحتفال ذروته بلعبة بولو مائية ينقسم فيها مئات البنادقة إلى جماعات متصاحبة متنافسة. وكان الدوج في عيد الصعود يمخر عباب الماء في أبهة من "سان ماركو" إلى الليد وعلى متن سفينة الدولة الفاخرة الزينة المسماة "بوتشنتورو" بين مئات من السفن الأخرى ليزف البندقية إلى البحر من جديد.
واتخذت العطلات الكثيرة أسماء وذكريات القديسين والمناسبات السنوية التاريخية، لأن مجلس شيوخ البندقية وجد أن الخبر والسرك بديل مقبول عن الانتخابات. في مثل هذه المناسبات كانت المواكب البهية تنتقل من كنيسة إلى كنيسة ومن ميدان إلى ميدان، وكانت الأبسطة الزاهية الألوان، وأكاليل الزهر والحرائر تتدلى من النوافذ أو الشرفات على الطريق، وكان هناك موسيقى سهلة، وأغنية دينية أو غرامية، ورقص رشيق في الشوارع. وألف النبلاء الذين يختارون للمناصب المرموقة أن يحتفلوا بانتصاراتهم بالعروض، والأقواس، وتذكرات النصر، والمهرجانات، وأعمال البر التي تكلفهم أحياناً ثلاثين ألف دوقاتية. وكان كل عرس مهرجاناً، ومأتم الوجيه من القوم أفخم حدث في حياته.
ثم كان هناك الكرنفال-ذلك التراث المسيحي من "ساتورنالياً" روما والوثنية. وكانت الكنيسة والدولة تأملان أنهما إذا سمحتا بإجازة(40/30)
من الأخلاق استطاعتا التخفيف بقية العام من التوتر القائم بين الجسد والوصية السادسة. وكان الكرنفال في إيطاليا عادة لا يستغرق إلا أسبوعاً واحداً هو الأسبوع السابق للصوم الكبير، وفي بندقية القرن الثامن عشر امتد من 26 ديسمبر أو 7 يناير إلى "الثلاثاء السمين" Mardi Gras-Martedi Grasso وربما اتخذ المهرجان اسمه من ذلك اليوم الأخير من الأيام التي سمح فيها بأكل اللحم Carne Vale أي وداعاً للحم. وكان البنادقة في كل ليلة تقريباً من أسابيع الشتاء تلك، والزوار المتجمعون من طول أوربا وعرضها-يتدفقون على الميادين، يرتدون ملابس فاقعة الألوان، ويخفون سنهم ورتبهم وشخصياتهم وراء الأقنعة. وفي ذلك التخفي هزأ الرجال والنساء بالقوانين، وراجت سوق البغايا، وتطايرت قطع الحلوى، وقذف البيض الصناعي هنا وهناك لينشر ماءه المعطر حين ينكسر. وكانت شخصيات بانتالوني، وارلكينو، وكوامبينو، وغيرها من الشخصيات المحببة من المسرح الكوميدي تتبختر وتثرثر لتسلي الجمع المحتشد، ورقصت الدمى، وبهر السائرون على الحبال مئات الأنفاس. وكانت تجلب الحيوانات الغريبة لهذه المناسبة، كوحيد القرن الذي شوهد أول مرة بالبندقية في مهرجانات 1751 وفي منتصف الليلة السابقة لأربعاء الرماد ( Mercoledi Della Conoi) تدق أجراس كنيسة القديس مرقص الضخمة مؤذنة بانتهاء الكرنفال، هنا يعود المعربد المنهك إلى فراشه الحلال، وبعد نفسه للاستماع إلى القسيس يقول له في الغد: " Memento, Homo, Quia Puia Pulvis es et in Pulvcrem Redieris" " تذكر يا ابن آدم أنك تراب وإلى التراب تعود".
7 - فيفالدي
كانت البندقية ونابلي مركزي الموسيقى المتنافسين في إيطاليا. فاستمعت البندقية في مسارحها إلى ألف ومائتي أوبرا مختلفة في القرن الثامن عشر. هناك خاضت أشهر كواكب الغناء في ذلك العصر، فرانشسكا كوتزوني(40/31)
وقاوستينا بوردوني، معاركهما المشجية في سبيل التفوق، وكانت كل منهما تهز العالم من خشبة المسرح. فأما كوتزوني فكانت تغني أمام فارينللي في مسرح، وأما بوردوني فأمام برناكي في مسرح آخر، وانقسمت البندقية بأسرها بين المعجبين بهؤلاء المغنين. ول قد غنى أربعتهم معاً لذابت ملكة الأدرياتيكي طرباً في بحيراتها.
ومقابل قلاع الأوبرا والبهجة هذه قامت الملاجئ الأربعة Ospedali التي رعت فيها البندقية بعض فتياتها اليتيمات أو غير الشرعيات. ورغبة في شغل هؤلاء الأطفال المشردات وإضفاء المغزى على حياتهن كن يدربن على الموسيقى الصوتية والآلية، وعلى الغناء في فرق الإرشاد، وإحياء الحفلات الموسيقية العامة من خلف حواجز ذات قضبان كحواجز الأديرة. وقد قال روسو أنه لم يسمع في حياته شيئاً أثر فيه كأصواتهن الرقيقة وهن يغنين في إيقاع مدرب (41)، وذكر جوته أنه لم يسمع قط سوبرانو بهذا الإتقان، أو موسيقى "لها هذا الجمال الذي لا يوصف (42) ". وكان يعلم في هذه المعاهد نفر من أعظم الملحنين الإيطاليين ويؤلفون لها الموسيقى، ويفودون حفلاتها، أمثال مونتيفردي، وكافاللي، ولوتي، وجالوبي، ويوريورا، وفيفالدي ...
واتجهت البندقية إلى مدن إيطاليا، وأحياناً النمسا وألمانيا، لتزود مسارحها بالأوبرات وتمد ملاجئها وأوركستراتها وعازفيها المهرة بالموسيقى الصوتية والآلية. وكانت هي ذاتها الأم أو الحاضنة لانطونيو لوتي، عازف الأرغن ثم رئيس فرقة المرتلين في كنيسة القديس مرقص، ومؤلف أوبرات غير ذات بال، ولكنه أيضاً ملحن قداس ذرفت له عينا بيرني البرتستانتي، ولبلدا ساري جالوبي الذي اشتهر بأوبراته الهازلة وببهاء الحانه الأوبرالية ورقتها، ولألساندور مارتشيللو الذي تتبوأ كونشرتاته مقاماً عالياً في مؤلفات عصره الموسيقية، وأخيه الأصغر بنديتو الذي قيل عن تلحينه لخمسين مزموراً أنه "من أبدع المؤلفات الموسيقية قاطبة (43) ولانطونيو فيفالدي".(40/32)
ولقد كان استماع بعضنا لكونشرتو من تأليف فيفالدي أول مرة مفاجأة أشعرتنا بالخزي. فلم جهلناه طوال هذا الزمن؟ هنا انسياب جليل للنغم، وتموجات ضاحكة من اللحن، ووحدة في البناء وتماسك للأجزاء كان خليقاً بأن يكسب هذا الرجل مدخلاً أسبق من هذا إلى علمنا، ومكاناً أرفع في تواريخنا الموسيقية (1).
ولد حوالي 1678 لعازف فيولينة في أوركسترا مصلى الدوجات بكاتدرائية القديس مرقص. وعلمه أبوه الفيولينة؛ وحصل له على وظيفة في الأوركسترا. وفي الخامسة عشرة كرس تكريساً مبدئياً للدين، وفي الخامسة والعشرين أصبح قسيساً ولقب "البريتي روسو" لحمرة شعره. ولعل ولعه بالموسيقى تعارض مع واجباته الكهنوتية. وقال الأعداء إنه "ذات يوم بينما كان فيفالدي يتلو القداس، خطر له موضوع يصلح لفوجه، وللتو غادر المذبح ... وذهب إلى غرفة المقدسات والملابس ليدون الموضوع، ثم عاد ليكمل القداس (44) ". واتهمه قاصد بابوي بأنه يحتفظ بعدة نساء، وأخيراً نهاه ديوان التفتيش (كما زعموا) عن تلاوة القداس. وقد روى انطونيو في سنوات لاحقة قصة تختلف عن هذه تمام الاختلاف. وقال:
"كانت آخر مرة تلوت فيها القداس منذ خمسة وعشرون عاماً، لا بسبب منعي من تلاوته ... ولكن بناء على قرار مني اتخذته بسبب علة أرهقتني منذ ولادتي. فبعد أن رسمت قسيساً كنت أتلو القداس عاماً أو أكثر بقليل، ثم توقفت عن تلاوته لأن هذا المرض اضطرني ثلاث مرات إلى مغادرة المذبح دون أن أتمه.
_________
(1) خصصت له طبعة 1928 من "قاموس جروف للموسيقى والموسيقيين" عموداً واحداً وخصصت له طبعة 1954 اثني عشر عموداً، وأحكم من هذا على الذيوع الفجائي لشهرة فيفالدي، فهل الشهرة نزوة من نزوات الصدفة؟(40/33)
"ولهذا السبب ذاته أقضي وقتي كله تقريباً في بيتي ولا أبرحه إلا راكباً زورقاً أو عربة لأنني لم أعد قادراً على المشي بسبب حالة الصدر التي أعانيها، أو على الأصح شعور الضيق والتوتر في صدري ( Strettzza di Petto) وربما كانت هي (الربو) ولا يدعوني أي نبيل لبيته، لا ولا حتى أميرنا، لأن الجميع عليمون بمرضي، وقد كانت أسفاري دائماً غالية النفقة جداً لأنني كنت مضطراً دائماً أن أصحب معي أثناءها أربع نساء أو خمساً ليساعدنني. "ثم أضاف أن هؤلاء النسوة كن نقيات السيرة" يسلم الناس في كل مكان بعفتهن .. وكن يؤدين الصلاة كل يوم من أيام الأسبوع (45) ".
على أنه حتى لو شاء لما استطاع أن تغلب الخلاعة على خلقه لأن معهد الموسيقى الملحق بالملجأ الديني احتفظ به طوال سبعة وثلاثين عاماً عازفاً للفيولينة ومعلماً وملحناً أو رئيس للكورس. وقد لحن لتلميذه البنات معظم أعماله غير الأبورالية. وتكاثرت الطلبات عليه، ومن ثم كان يكتب في عجلة ثم يصحح فيما يتاح له من فراغ، وقد أخبر دبروس أن في استطاعته أن "يلحن الكونشرتو بأسرع مما يستطيع ناسخ أن ينسخه (46) ". وبالمثل كانت أوبراته تلحن على عجل، وقد سجلت إحداها على صفحة الغلاف عبارة تشي بالفخر (أو الاعتذار) هي ( Fatto in Cinque Giorni) كتبت في خمسة أيام. وقد وفر الوقت كما وفره هندل بالاستعارة من نفسه، فأقتبس من موسيقاه القديمة ما يلبي حاجاته الحاضرة.
وفي فترات فراغه من عمله في الملجأ ألف أربعين أوبرا. واتفق كثير من معاصريه مع تارتيني على أنها متوسطة الجودة، وقد سخر منها بنديتو مارتشيللو في (تياترو على الموضة) ولكن جماهير النظارة في البندقية، وفتشنتسا، ومانتوا، وفلورنسة، وميلان، وفيينا، رحبوا به، وكثيراً ما كان فيفالدي يترك بناته ليسافر مع نسائه مخترقاً شمالي إيطاليا، بل حتى إلى فيينا وأمستردام ليعزف الفيولينة أو ليقود إحدى أوبراته أو ليشرف على إخراجها وديكورها. وأوبراته الآن ميتة، ولكن هذا مصير معظم(40/34)
الأوبرات التي ألفت قبل جلوك. فقد تغيرت الأساليب والعادات والأبطال، والأصوات، والجنسان.
ويعرف التاريخ 554 من مؤلفات فيفالدي، منها 454 كونشرتو. وقد قال ناقد ماكر أن فيفالدي لك يكتب ستمائة كونشرتو، بل هو كونشرتو واحد أعاده ستمائة مرة (47). ويبدو الأمر كذلك أحياناً. ففي هذه القطع قدر كبير من نشر الأوتار ونغمات الأرغن اليدوي المتصلة، وقياس للوقت أشبه بحركات البندول، لا أننا نجد حتى في السلسلة الشهيرة المسماة (الفصول) (1725) صحارى من الرتابة، ولكن فيها أيضاً قمماً من الحيوية المشبوبة والعواصف القارصة؛ وواحات من الصراع الدرامي بين العازفين المنفردين والأوركسترا؛ وجداول سائغة من الألحان. في قطع كهذه (48)، أبلغ فيفالدي الكونشرتو الكبير مكانة ممتازة لا سبق لها ولا يبزها إلا باخ وهيندل.
وكان فيفالدي يعاني كمعظم الفنانين من الحساسية التي غذت عبقريته. وقد عكست قوة موسيقاه طبعه الناري، وعكست رقة نغماته تقواه. فلما تقدم به العمر استغرق في واجباته الدينية حتى لقد وصفته رواية مبالغة بها لا يترك مسبحته إلا ليلحن (49). وفي 1740 فقد وظيفته في الملجأ الديني أو استقال منها، ولأسباب نجهلها الآن نزح من البندقية إلى فيينا. ولا نعرف المزيد عنه؛ اللهم إلا أنه مات هناك بعد سنة ودفن كما يدفن فقراء الناس.
ومر موته دون ان تلحظه الصحف الإيطالية، لأن البندقية كانت قد كفت عن الاهتمام بموسيقاه، ولم يقدره أحد قدراً يقرب من قمة فنه لا في وطنه ولا في جيله. على أن مؤلفاته لقيت الترحيب في ألمانيا. فاستورد كوانتسي الذي كان عازفاً للفلوت وملحناً لفردريك الأكبر؛ كونشرتات فيفالدي؛ وقبلها بصراحة نماذج تحتذى. واشتد إعجاب باخ بها حتى نقل تسعة منها على الأقل للهاربسكورد، وأربعة للأرغن، وواحداً(40/35)
لأربعة هاربسكوردات ومجموعة وتريات (50). وواضح أن باخ أخذ عن فيفالدي وكوريللي البناء الثلاثي لكونشرتاته.
وكاد فيفالدي أن يكون نسياً منسياً طوال التاسع عشر إلا من الدارسين الذين تتبعوا تطور باخ. ثم رده إلى مكان مرموق في 1905 أرنولد شيرنج في كتابه "تاريخ الكونسيرات الآلية"؛ وفي عشرينات القرن العشرين دافع أرتورو توسكانيني عن قضية فيفالدي بكل عواطفه ومكانته. واليوم يحتل "القسيس الأحمر" مؤقتاً أرفع مكان بين الملحنين الإيطاليين في القرن الثامن عشر.
8 - ذكريات
من صيف الفن البندق المؤذن بالأفول يبرز نحو اثني عشر مصوراً ويلتمسون أن نذكرهم. ونكتفي هنا بتحية نقرئها حباً مبتستا بيوتي، الذي لم ترفع البندقية فوقه غير تيبولو وبيتا تسيتا، ويأكوبو آميجوني الذي أورث بوشيه أسلوبه الشهواني؛ وجوفاني أنطونيو باللجريني، الذي حمل ألوانه إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وهو الذي زين قلعة كمبرلتز، وقلعة هوارد، وبنك فرنسا. وألفت للنظر من هؤلاء ماركو ريتشي لأنه قتل أحد النقاد ثم انتحر. ففي عام 1699، حين كان في الثالثة والعشرين، طعن ملاح جندول استخف بصوره طعنات قضت عليه، ثم فرالي دلمماشيا، وأغرم بمشاهدها الطبيعية، وبلغ من حذقه في التقاطها بألوانه أن غفرت له البندقية جريمته وهللت له كأنه تنتوريتو مبعوثاً من جديد. وصحبه عمه سبستيانو ريتشي إلى لندن، حيث تعاون على تصوير مقبرة دوق ويفونشير. وكان ككثيرين من فناني القرنين السابع عشر والثامن عشر يجب أن يرسم الأطلال الحقيقية أو الخيالية ولا ينسى في ذلك نفسه. وفي 1729، وبعد عدة محاولات، أفلح في الانتحار. وفي 1733 بيعت إحدى لوحاته بخمسمائة دولار؛ وفي 1963 بيعت من جديد بتسعين ألف دولار (51)، وهو ما بين مبلغ تقدير قيمة الفن وهبوط قيمة النقود.(40/36)
وتأمل شخصية روزاليا كارييرا أدعى إلى السرور. فقد بدأت حياتها العملية برسم نماذج للمخرمات الفينيسية Point de Venise؛ ثم رسمت علب السعوط (كما فعل رينوار الصغير) ثم المنمنمات، وأخيراً وجدت في ألوان الباستيل قمة تفوقها. ولم يحل عام 1709 حتى كانت قد اكتسبت من الشهرة ما جعل فردريك الرابع ملك الدنمرك يدعوها حين اعتلى العرش ليختارها لترسم له لوحات الباستيل تمثل أجمل سيدات البندقية أو أبعدهن صيتا. وفي 1720 دعاها إلى باريس بيير كروزا جامع التحف المليونير. وهناك لقيت من الترحيب والحفاوة ما لم يلقه فنان أجنبي آخر منذ بريتني. وكتب الشعراء فيها الصونيتات؛ وزارها الوصي فليب أورليان، وصورها فاتو، وصورته هي، وجلس إليها لويس الخامس عشر لتصوره؛ وانتخبت عضواً في أكاديمية التصوير؛ وقدمت لوحة الدبلوم "ربة الفن" المعروضة في اللوفر. وبدا للناس كأن روح الروكوك قد تجسدت فيها.
وفي 1730ذهبت إلى فيينا، حيث رسمت صوراً بالباستيل لشارل السادس؛ وإمبراطورته، والأرشيدوقة ماريا تريزا. فلما عادت إلى البندقية واستغرقت في فنها استغراقاً أنساها أن تتزوج. وفي أكاديمية البندقية ملء حجرة من اللوحات التي رسمتها، وفي قاعة الفنون يدرسن157، معظمها يتميز بالوجوه الوردية، والخلفيات الزرقاء، والبراءة المشرقة، ورقة الوجوه ذات الغمزات؛ بل أنها حين رسمت هوراس وليول (52)، جعلته يبدو كأنه فتاة. وكانت ترضي غرور كل من يجلس إليها لتصوره إلا نفسها، وصورتها الذاتية المعلقة في قلعة وندزر تظهرها في سنيها الأخيرة وقد أبيض شعرها وشابها شيء من الاكتئاب كأنها تتوقع أن يكف بصرها بعد قليل. وقد اضطر طوال الأعوام الأثني عشر الأخيرة من عمرها البالغ اثنين وثمانين عاماً محرومة من النور واللون اللذين كانا لها بمثابة رحيق الحياة. وقد تركت بصمتها على فن جيلها: ولعل لاتور قد أستلهم الحرارة منها، وتذكر جرو تمثيلها لشباب النساء في صورة مثالية؛ وانحدرت ألوانها الوردية-الحياة بلون الورد-إلى بوشيه ورنوار.(40/37)
أما جوفاني باتستا بياتسيتا فكان فناناً أعظم يسمو فوق العواطف الهشة ويحتقر الزخرف ولا يسعى وراء إرضاء الجمهور بقدر سعيه إلى تذليل صعاب صناعته والتمسك بأرفع تقاليدها. وتبين زملاءه الفنانون هذه النزعة فيه، ومع أن تيبولو كان له فضل السبق في تأسيس أكاديمية البندقية للتصوير والنحت (1750)، فإن بياتسيتا هو الذي اختاروه أول رئيس لها. ولوحته المسماة "رفقة عند البئر" (53) جديرة بتتسيانو، وهي أقل حتى من تتيسيانو اكتراثاً بمفاهيم الجمال المتعارف عليها. واللوحة تكشف من جسد رفقة قدراً يكفي لإثارة غريزة المتوحش، ولكن وجهها الهولندي وأنفها الأفطس لم يصورا لينتشي بهما الإيطاليون. فالذي يثير عواطفنا هنا هو الرجل، إنه شخصية بفن النهضة: وجه قوي، ولحية ملمعة وقبعة ذات ريش وومضة إغراء ماكر في عينيه. واللوحة كلها آية من آيات اللون والنسيج والتصميم، وقد تميز بياتسيتا بأنه كان أكثر المصورين البنادقة احتراماً في جيله، وأنه مات أفقرهم جميعاً.
وأشهر منه أنطونيو كانالي، الملقب كاناليتو، لأن نصف العالم يعرف البندقية بفضل مناظره Vedute. أما إنجلترا فعرفته دماً ولحماً. وقد نهج حيناً نهج أبيه الذي امتهن رسم المناظر للمسارح، ثم درس العمارة في روما، فلما عاد إلى البندقية طبق الفرجار والزاوية على رسمه، وجعل العمارة ملمحاً من ملامح صوره. وفي هذه الصور عرفنا ملكة الأدرياتك كما كانت تبدو في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ونلحظ من لوحة باتشينودي سان ماركو Baccino بحرية القديس مرقص (54) مبلغ ازدحام البحيرة الكبرى بالمراكب، ونبصر سباق الزوارق Regatta على القناة الكبرى (55) ونرى أن الحياة كانت زاخرة مشوبة شأنها من قبل دائماً، ويبهجنا أن نجد "جسر الريالتو" (56) وميدان القديس مرقص (57) والميدان الصغير (58) وقصر الأدواج (59) وكنيسة سانتا ماريا ديللا سالوتا (60) كما نجدها اليوم تقريباً، إذا استثنينا البرج الذي أعيد بناؤه. وصور كهذه هي التي احتاج إليها السياح في الشمال الملبد بالغيوم ليذكروا في عرفان شمس البندقية الشديدة(40/38)
الصفاء وسحرها الفتان. وقد اشتروا هذه الصور ودفعوا أثمانها ثم حملوا هذه التذكارات إلى بلادهم، وسرعان ما طالبت إنجلترا بكاناليتو نفسه. فذهب إليها في 1746 ورسم مناظر مستفيضة لهواً يتهول (61)، "ونهر التيمز من قصر رتشموند"، واللوحة الأخيرة بجمعها المدهش بين الاتساع والتناسب والتفصيل هي تحفة كاناليتو الرائعة الصفاء وسحرها الفتان. وقد اشتروا هذه الصور ودفعوا أثمانها ثم حملوا هذه التذكارات إلى بلادهم، وسرعان ما طالبت إنجلترا بكاناليتو نفسه. فذهب إليها في 1746 ورسم مناظر مستفيضة لهوا يتهول (61)، "ونهر التيمز من قصر رتشموند"، واللوحة الأخيرة بجمعها المدهش بين الاتساع والتناسب والتفصيل هي تحفة كاناليتو الرائعة. ولم يعد إلى البندقية إلا في 1755. وظل هناك عاكفاً بهمة على عمله حتى عام 1766 حين كان قد بلغ التاسعة والستين. وقد كتب بفخر على لوحته داخل كاتدرائية القديس مرقص هذه العبارة "رسمت بدون منظار". (62) وقد أسلم أسلوبه في القياس الدقيق إلى ابن أخيه برناردو بللوتو كاناليتو، وولعه بالمناظر إلى "تلميذه الطبيب" فرانشسكو جواردي الذي ستلتقي به ثانية.
وكما أبرز كاناليتو المنظر الخارجي للمدينة الفخمة، كشف بييترو لنجي عن الحياة داخل جدرانها باستخدامه أسلوب تصوير مناظر الحياة اليومية في رسم الطبقة الوسطى. فالسيد التي تتناول فطورها في ثوبها الفضفاض الطويل، والأب الراهب يعلم ابنها، وابنتها الصغيرة تدلل كلباً لعبة، والخياط يعرض فستاناً، ومعلم الرقص يدرب السيدة على خطوات المنويت، والأطفال وعينهم تحملق معرض للوحوش، الصبايا يمرحن في لعبة "الأستغماية" (الغميضة)، والتجارة في حوانتيهم، والمتنكرون بالأقنعة في الكرنفال، والمسارح، والمقاهي، "والجمعيات" الأدبية، والشعراء يتلون أشعارهم، ودجاجلة الطب، وقارئات البخت، وباعة السجق والبرقوق، والتمشي في اليدان، وفريق القنص، وجماعة صيد السمك، والأسرة في عطلتها: كل نشاط برجوازي يستحق الذكر هناك، وفي إفاضة، تفوق حتى ما في كوميديات جولدوني، صديقي لونجي. إنه ليس فناً عظيماً، ولكنه فن يشرح الصدر، ويرينا مجتمعاً أكثر نظاماً وتهذيباً مما كنا نتصوره من أرستقراطي أندية القمار أو أعمال شحن السفن وتفريغها الشتامين السبابين.(40/39)
9 - تيبولو
أما البندقي الذي أوهم أوربا لحظة أن النهضة قد عادت فهو جامباتستا تيبولو. ومن المشاهد المألوفة في أي يوم من أيام الصيف أن ترى موكباً من الطلاب والسياح يدخلون مسكن أسقف فورتسبورخ ليرى بيت السلم والسقف اللذين رسم تيبولو صورهما الجصية في 1750 - 53، هذه الصور هي قمة التصوير الإيطالي في القرن الثامن عشر. أو تأمل لوحة "الثالوث يظهر للقديس كلمنت" في متحف الفن القومي بلندن، ولاحظ تكوينها البارع، ورسمها الدقيق، وتناولها الحاذق للضوء، وعمق لونها وتوهجه، أليس هذا قريباً لفن تتسيانو؟ ربما، ولولا أن تيبولو قد طوف كثيراً لكان واحداً من عمالقة التصوير.
أو لعل ثراءه هو الذي عوقه. ذلك أنه كان آخر طفل لتاجر بندقي غني خلف ثروة كبيرة عند وفاته. وما لبث جان، الذي كان وسيماً ذكياً مرحاً "أن اكتسب الازدراء الأرستقراطي لكل ما هو شعبي" (63). وفي 1719 حين بلغ الثالثة والعشرين تزوج تشيشيليا أخت فرانشسكو جورادي، فولدت له أربع بنات وخمسة أولاد، أصبح اثنان منهم مصورين وعاشوا جميعاً في بين أنيق في أبرشية سانتا ترينيتا. وكانت موهبته قد تفتحت. ففي 1716 عرض لوحة "تضحية أسحق" (64)، وهي لوحة فجة، ولكنها قوية، ووضح أنه كان في تلك الحقبة متأثراً بفن بياتيستا. وقد درس فيرونيزي أيضاً، واتخذ أسلوب باولي في الملابس الفخمة والألوان الدافئة والخطوط الشهوانية تيبولو مواضيعه من قصة إبراهيم، ولكن التناول لم يكن كتابياً تماماً. فوجه سارة المنبعث من طوق مكشكش من أطواق عصر النهضة، هو غضون وتجاعيد تكشف عن سنين أثريتين، ولكن الملاك رياضي إيطالي له ساق فاتنة. ويبدو أن تيبولو أحس أن في استطاعته، في قرن بدأ يسخر من الملائكة والمعجزات، أن يسمح لمزاجه باللهو بالتقاليد المبجلة، وقد أتاح له رئيس الأساقفة اللطيف هذا اللهو. ولكن كان على الفنان(40/40)
أن يكون حذراً، لأن الكنيسة لم تزل يومها من أهم مصادر تميل المصورين في العالم الكاثوليكي.
أما المصدر الآخر فكان العلمانيين أصحاب القصور التي يراد تزيينها بالصور. وقد روى جان في قصر كازالي-دونياني بميلان (1731) قصة سكبيو بالصور الجصية. ولم تكن هذه الصور معبرة عن فن تيبولو النموذجي، لأنه لم يكن بعد قد شكل أسلوبه المتميز، أسلوب الأشخاص الذين يتحركون في يسر وانطلاق في حيز غير محدد، ولكنها دلت على براعة أثارت ضجة في شمالي إيطاليا. ولم يحل عام 1740 حتى اهتدى إلى موطن النبوغ في فته، وأنجز ما أعتبره البعض (65) رائعته الكبرى-وهي سقف قصر كليرنتي بميلان وبهو ولائمه. واختار لهذه الرائعة مطايا لخياله "أركان الأرض الأربعة" و "مسيرة الشمس" و "أبوللو والآلهة الوثنية" وأسعده أن يترك عالم الأساطير المسيحية الكابي ويمرح على قمم أولمب حيث يستطيع استخدام الآلهة اليونانية الرومانية شخوصاً في عالم متحرر من قوانين الحركة وأغلال الجاذبية بل من قواعد الرسم الأكاديمية. لقد كان في صميمه وثنياً كأكثر الفنانين الذين يذوب قاموسهم الأدبي في حرارة مشاعره، ثم أن الجسم الجميل قد يكون نتاج روح قوية العزيمة قادرة على التشكيل. ومن ثم يكون هو ذاته واقعياً روحياً. وراح تيبولو الآن يطلق من جعبته على مدى ثلاثين عاماً أرباباً وربات رافلين في غلائل من الشاش، عراة في غير اكتراث، يسرحون ويمرحون في الفضاء، أو يطارد بعضهم بعضاً بين الكواكب أو يتطارحون الغرام على وسادة من السحب.
فلما قفل إلى البندقية عاد إلى المسيحية، وكفرت صوره الدينية عن أساطيره الوثنية. فرسم لمدرسة سان روكو لوحة قماشية سماها "هاجر وإسماعيل" يلفت النظر فيها جمال الطفل النائم. وفي كنيسة الجزواتي التي سماها الدومينكان من جديد كنيسة "سانتا ماريا ديل روزاريو" رسم لوحة "تأسيس التسبحة" ورسم لمدرسة الرهبان الكرمليين "عذراء جبل الكرمل" وكادت هذه الصورة تضارع تتسيانو "البشارة". ورسم لكنيسة القديس الفيزي ثلاث(40/41)
صور، إحداها المسماة "المسيح حاملاً الصليب" تزدحم بشخوص قوية صورت تصويراً نابضاً بالحياة. وهكذا سدد تيبولو دينه لعقيدة وطنه.
على أن خياله كان أكثر تحرراً على جدران القصور. ففي قصر بربارو رسم "تمجيد فرانشسكو بربارو"-واللوحة الآن في متحف لمتربوليتا للفنون بنيويورك. ورسم لقصر الأدواج لوحة "نبتون يقدم لفينوس خيرات البحر". وقد لقصر بابا دوبولي لقطتين مبهجتين للبندقية في الكرنفال-"المنويته" و"المشعوذ". ثم توج كل صور القصور التي رسمها في البندقية بزخرفة قصر لابيا بصور جصية تحكي قصة أنطونيوس وكليوباترة في مشاهد بهية نفذت تنفيذاً رائعاً. ورسم زميل له يدعى جيرولامو منجوتسي كولونا الخلفيات المعمارية في فورة من بهاء الطراز البلاديوي. فعلى جدار ترى لقاء الحاكمين، وعلى الجدار المقابل وليمتهما، وعلى السقف حشد جامع من شخوص طائرة تمثل بيجاسوس، والزمن، والجمال، والرياح التي تثيرها عفاريت نفاخة مرحة. وفي لوحة "اللقاء" تهبط كليوباترة من زورقها في ثياب تبهر الأبصار، تكشف عن صدر ناهد لتفتن حاكماً مرهقاً في الحكومة الثلاثية، حتى من هذه تسقط كليوباترة لؤلؤة غالية الثمن في خمرها، ويؤخذ أنطونيوس بهذا الثراء الذي لا يعبأ بشيء. وعلى شرفة يعزف الموسيقيون قياثيرهم ليضاعفوا الخطر مرتين والثمل ثلاثاً، وهذه الرائعة التي تذكر بفيرونيزي وتنافسه كانت إحدى الصور التي نسخها رينولدز في 1752.
هذا الإنتاج الذي تميز بالأسلوب الفخم رفع تيبولو إلى قمة ترى من وراء الألب. فأذاع الكونت فرانشكو الجاروتي صديق فردريك وفولتير اسمه في أوربا. وفي تاريخ مبكر (1736) أبلغ الوزير السويدي في البندقية حكومته أن تيبولو هو أصلح رجل يرسم القصر الملكي في استوكهولم، "كله ذكاءً وغيرة". سهل المعاملة، يتدفق أفكاراً، موهوب في اختبار الألوان الساطعة، سريع في عمله سرعة خارقة يرسم صورة في زمن يقل(40/42)
عما يستغرقه مصور آخر في مزج ألوانه (66) ". وكانت استوكهولم آنذاك مدينة جميلة ولكنها بدت بعيدة جداً.
وفي 1750 جاءته دعوة أقرب، فقد طلب إليه كارل فيليب فون جرايفنكلاو أمير فورتسبرج الأسقف أن يرسم صوراً للقاعة الإمبراطورية لقصر الإداري الذي بناه مؤخراً. وأغرى الأجر المعروض بإلحاح الفنان المسن. فلما وصل في ديسمبر بصحبة ابنيه دمونيكو البالغ أربعة وعشرين عاماً ولورنتسو ذي الأربعة عشرة وجد تحدياً لم يتوقعه في بهاء قاعة القصر التي صممها بلتازار نويمان. فأني لأي صورة العين وسط ذلك الضياء الباهر؟ وكان نجاح تيبولو هنا القمة التي توجت عمله. فقد رسم على الجدران قصة الإمبراطور فردريك ببروسيا (الذي كان قد ذهب في لقاء مع بياتريس أميرة برجنديا في فورتسبرج (1156) وعلى السقف رسم "أبوللو مصطحباً العروس"؛ هناك راح يصول ويجول في مهرجان من الخيول البيضاء والأرباب المرحين والضياء يتألق فوق ملائكة تطفوا وغيوم شفافة. وعلى منحدر من السقف رسم "الزفاف": وجوه مليحة؛ وأجسام مهيبة، وأغطية وأستار مزدانة بالزهر؛ وأثواب تذكر بالبندقية أيام فيرونيزي لا بالطرز الوسيطة. وأنشرح صدر الأسقف فوسع العقد ليحتوي سقف بيت السلم الكبير ونقوش مذبحين لكاتدرائية. وعلى طريق السلم الفخم رسم تيبولو القارات وجبل أولمب-مرتع خياله السعيد-وصورة رائعة لابوللو إله الشمس يجوب السماوات.
وقفل جامباتستا إلى البندقية (1753) غنياً مرهقاً، وترك دمنيكو ليكمل المهمة في فورتسبرج. وما لبث أن انتخب رئيساً للأكاديمية. وكان فيه لطف في الطبع جعل حتى منافسيه مولعين به، فلقبوه (تيبوللو الطيب). ولم يستطع مقاومة جميع المطالب التي تكاثرت على وقته المتضائل، فنحن نجده يرسم في البندقية، وترفيزو؛ وفيرونا، وبارما، فضلاً عن لوحة قماشية كبيرة طلبها "بلاط موسكوفيا". وما كنا لننتظر منه في هذه الحالة أن ينتج عملاً كبير آخر له ولكنه في 1757. حين كان في الحادية(40/43)
والستين، اضطلع برسم صور فيلا فالمارانا قرب فيتشنتسا. ورسم منجوتسي كولونا الإطار المعماري ووقع دمنيكو على بع الصور من المضيفة، أما جامباتستا فقد نشر ألوان فرشاته في الفيلا ذاتها. وأختار موضوعات من ملاحم الألياذة، والأنياذة، وأورلندو الغاضب، والقدس المحررة، وأطلق العنان لخداعيته المرحة فتاه اللون في الضوء، والمكان في اللانهاية، وترك أربابه ورباته يطفون على هواهم في جنة سمت فوق كل الشواغل والأزمان. وقد أخذ العجب جوته وهو يتأمل هذه الصور الخصبة فقال في دهشة:
"غاية في البهجة والجرأة"، وكانت هذه آخر انتصار مثير لتيبولو في إيطاليا.
وفي 1761 طلب إليه شارل الثالث ملك أسبانيا أن يحضر ويرسم صوراً في القصر الملكي الجديد بمدريد. وأعتذر هذا التتسيانو المتعب بشيخوخته؛ ولكن الملك رجا مجلس شيوخ البندقية أن يستعمل نفوذه. فانطلق على مضض مرة أخرى مع ولدية الوفيين ونموذجه كرستينا؛ تاركاً زوجته مرة أخرى لأنها كانت تحب كازينوات البندقية. وسوف نلقاه راكباً سقالة الرسم في أسبانيا.
10 - جولدوني وجوتسي
يبرز في أدب البندقية في هذا العصر أربعة أشخاص كل اثنين منهم معاً: أبوستولو تسينو وبييترو متاستازيو وكلاهما كاتب نصوص لأوبرات كانت شعراً؛ ثم كارلو جولدوني وكارلو جوتسي اللذان اقتتلا ليحلا محل الكوميديا البندقية كوميديا أصبحت مأساة جولدوني. وقد كتب جولدوني عن الاثنين الأولين يقول:
"لقد أثر هذان المشهوران في إصلاح الأوبرا الإيطالية. فقبل مجيئهما لم يكن غير الأرباب والشياطين والآلات والعجائب في هذه الملاهي المنغمة. وكانت تسينو أول من فكر في إمكان تمثيل المأساة بشعر(40/44)
غنائي دون ابتذال، وإنشادها دون أن يرهق الإنشاد السامعين. وقد أنفذ فكرته بطريقة رضي عنها الجمهور رضاء عظيماً، مما حقق له ولأمته مفخرة كبرى (67) ".
وحمل تسينو إصلاحاته إلى فيينا في 1718، ثم اعتزل راضياً ليخلى الجو لمتاستازيو في 1730 وعاد إلى البندقية وعشرين عاماً من السلام. أما متاستازيو فقد لعب دور راسين لكورنيي تسينو كما قال جولدوني، فأضاف الصقل إلى القوة، وارتفع بالشعر الأوبرالي إلى قمة لم يرتفع إليها من قبل. وقد وضعه فولتير في مصاف كبار الشعراء الفرنسيين؛ وعده روسو الشاعر المعاصر الوحيد الذي يصل شعره إلى القلب. واسمه الأصلي بييترو تراباسي (بيتر كروس). وقد سمعه ناقد مسرحي يدعى جان فنتشنتو جرافيا يغني في الشوارع؛ فتبناه؛ وسماه من جديد متاستازيو (وهو المقابل اليوناني لتراباسي). وأنفق على تعليمه: وخلف له ثروة عند مماته. وراح بييترو يبدد هذه الثروة في غير تحرج، ثم تعاقد مع محامٍ فرض علي شرطاً هو ألا يقرأ أو يكتب بيتاً واحداً من الشعر. ومن ثم أخذ يكتب تحت اسم مستعار.
وفي نابلي طلب إليه المبعوث النمساوي أن يكتب غنائيات لكنتاتا؛ وألف بوريورا الموسيقى، وغنت الدور الرئيسي ماريانا بورلجاريللي المشهورة يومها باسم لارومانينا، وسار كل شيء على ما يرام. ودعت المغنية الكبرى الشاعر إلى صالونها، وهناك التقى بليو وفنتشي وبرجوليزي وفارينللي وهاشي والساندرو ودمنيكون سكارلاتي؛ وتطور متاستازيو سريعاً في تلك الصحبة المثيرة. ووقعت لارومانينا في غرامه وكانت في الخامسة والثلاثين أما هو ففي الثالثة والعشرين. وخلصته من شباك المحاماة وأخذته رفيقاً مع زوجها الكيس المتسامح؛ وأوحت إليه بكتابة أشهر نصوصه " Didone Abandonata ديدوني المهجورة" التي لحنها إثنا عشر ملحناً متعاقباً بين 1724 و 1823. وفي 1726 كتب "سيروي" لحبيبته وبنى عليها فنتشي وهاشي وهندل أوبرات مستقلة. وأصبح متاستازيو الآن أكثر النصوص رواجاً في أوربا.(40/45)
وفي 1730 قبل دعوة إلى فيينا وترك لارومانينا. وحاولت أن تلحق به. وخاف أن يعرضه وجودها للفضيحة، فحصل على أمر بمنعها من دخول الأراضي الإمبراطورية فطعنت صدرها محاولة الانتحار، وأخفق هذا الجهد الذي بذلته لتلعب دور ديدو؛ ولكنها لم تعش أكثر من أربع سنين أخرى.
وعند موتها خلفت لأينياسها الخائن كل ثروتها. ولكن متاستازيو رفض قبول التركة متأثراً بتأنيب ضميره ونزل عنها لزوجها. وكتب يقول "لم يعد لي أي أمل أن أوفق إلى السلوى. واعتقد أن ما بقي لي من عمري سيكون حزيناً لا لذة فيه" (67). وكان يستمع بالنصر تلو النصر في حزن حتى تقطعت حرب الوراثة النمساوية عروض الأوبرا في فيينا. وبعد 1750 كان يكرر نفسه دون هدف. لقد استهلك الحياة قبل موته (1782) بثلاثين عام.
طردت أوبرا الدراما التراجيدية من المسرح الإيطالي كما تنبأ فولتير من قبل وتركه للكوميديا. ولكن الكوميديا الإيطالية كانت تسيطر عليه الكوميديا ديللارتي-وهي مسرحية الحديث المرتجل والأقنعة المميزة. وكانت معظم الشخوص قد تقويت منذ زمن طويل: بنتالوني البرجوازي الطيب ذو السراويل، وتارتاجليا الخادم النابوليتاتي المتهته، وبريجيللا الدساس الساذج الذي يقع في شرك دسائسة، وتروفالدينو الأكول الشهواني اللطيف، وأرلكينو-ويقابله هارلكوين (المهرج) عندنا، وبولتشنيللو-ويقابله عندنا بنش، وأضافت مختلف المدن والأجيال مزيداً من الشخوص. وترك معظم الحوار والكثير من الأحداث في الحبكة والاختراع المرتجل. ويقول كازانوفا "كان الممثل في تلك الكوميديا المرتجلة إذا توقف لأن كلمة غابت عنه، لم يعفه ردوداً مؤخرة الصالة والشرفات العليا الرخيصة من صباح السخرية والاستهجان (68) ".
وكانت المسارح العاملة في البندقية عادة سبعة، كلها مسماة بأسماء قديسين، ويؤمها جمهور من النظارة شائن السلوك. فكان النبلاء في(40/46)
مقاصيرهم لا يهمهم ما يلقونه على العامة تحتهم. وكانت الأحزاب المتخاصمة ترد على التصفيق بالصفير أو التثاؤب أو العطس أو السعال أو الصيحات الديكة أو مواء القطط (69). وفي باريس كان أكثر رواد المسرح من علية القوم، وأرباب المهن أو المثقفين والأدباء، أما في البندقية فكانوا أساساً من الطبقة الوسطى، يتخللهم هنا وهناك الغواني المتبرجات، وملاحو الجندولات البذيئون، والقساوسة والرهبان متنكرين، وأعضاء الشيوخ المتغطرسين في عباءاتهم وباروكاتهم. وكان عسيراً أن ترضى مسرحية هذه العناصر كلها في مثل هذا الخليط من البشر، ومن ثم نزعت الكوميديا الإيطالية إلى أن تكون مزيجاً من الهجاء والهزل ما دربوا عليه من تصوير شخصيات ثابتة. هذا هو الجمهور وهذا هو المسرح الذي جاهد جولدوني في رفعه إلى مكانة الكوميديا المشروعة المتحضرة.
ويسر القارئ ما كتبه في "مذكراته" من استهلال بسيط، قال: "ولدت في البندقية في 1707 .... جاءت بي أني إلى العالم دون كبير ألم مما زاد حبها لي. ولم تعلن مولدي صيحات كالعادة، وبدأ هذا اللطف آنئذ دليلاً على الخلق الهادئ الذي احتفظت به دائماً منذ ذلك اليوم" (70).
وكان هذا القول تفاخراً منه ولكنه حق، فجولدوني من أحب الرجال في تاريخ الأدب، وكان من بين فضائله التواضع رغم هذا الاستهلال-وهي خلة ليست في طبيعة الكتاب. ولنا أن نصدقه إذ يقول "كنت معبود الأسرة" وذهب الأب إلى روما ليدرس الطب، ثم إلى بروجيا ليمارسه، وتركت الأم في البندقية لتربي ثلاثة أطفال.
وكان كارلو طفلاً نابغة. استطاع أن يقرأ ويكتب في الرابعة، وألف كوميديا في الثامنة. واقنع الأب والأم أن تسمح لكارلو بالذهاب إليه والعيش معه في بروجيا. وهناك درس الغلام على اليسوعيين، وتفوق ودعا الانضمام إلى الجماعة، ولكنه رفض. ولحقت الأم وابن آخر بالأب،(40/47)
ولكن هواء الجبل البارد في بيروجيا لم يلائمها، فانتقلت الأسرة إلى ريميني، ثم إلى كيودجا. ودخل كارلو دومنيكية في ريميني، ثم إلى كودجا. ودخل كالو كلية دومنيكية في ريميني، حيث كان يتلقى كل يوم جرعات من كتاب القديس توما الأكويني "قمة اللاهوت". وإذ لم يجد شيئاً يثير مشاعره في تلك الرائعة من روائع العقلانية فقد قرأ أرستوفان، وبلوتس، وترنس، فلما قدمت فرقة من الممثلين إلى ريميني انضم إليها فترة طالت إلى حد أدهش أبويه في كيودجا. فوبخاه وعانقاه، ثم أرسلاه ليدرس القانون في بافيا. وفي 1731 نال درجته الجامعية وبدأ ممارسة المحاماة، ثم تزوج، "وكان الآن أسعد رجل في العالم" (71)، اللهم إلا أنه أصيب بالجدري في ليلة زفافه.
وجذبته البندقية فعاد إليها، ونجح في المحاماة، وأصبح قنصلاً هناك لجنوه. ولكن المسرح ظل يستهويه، وهفت نفسه للكتابة، واشتهى أن تخرج مسرحياته. مثلت مسرحيته "بلزاريوس" في 24 نوفمبر 1734 بنجاح ملهم، وظلت تعرض يومياً حتى 14 ديسمبر، وضاعف سروره افتخار أمه العجوز به. على أن البندقية لم تكن تستسيغ التراجيديا، ففشلت مسرحياته التالية التي من هذا النوع، فانصرف حزيناً إلى الكوميديا. ولكنه رفض كتابة الفارصات "الكوميديا ديللارتي"، وأراد أن يؤلف كوميديات السلوك والأفكار على طريقة موليير، وألا يعرض على خشبة المسرح شخوصاً ثابتة تجمدت في أقنعة، بل شخصيات ومواقف مشتقة من الحياة المعاصرة. واختار بعض الممثلين من فرقة كوميديا البندقية، ودربهم، وأخرج في 1740 "مومولو" رجل البلاط. "ونجحت التمثيلية نجاحاً مدهشاً، وكان في هذا ما أرضاني" (72). ولكنه لم يرضَ تماماً، لأنه كان قد نزل عن بعض أفكاره بتركه الحوار كله دون أن يكتبه إلا للدور الرئيسي، ويخلفه أدواراً لأربعة من الشخوص المقنعة التقليدية.
وراح يدفع إصلاحاته خطوة خطوة. ففي مسرحية "المرأة الشريفة" كتب لأول مرة الحركة والحوار كاملين. وهبت فرقة معادية لتنافس(40/48)
تمثيلياته أو تسخر منها. وتآمرت عليه الطبقات التي هجاها، مثل التشيسبي (مرافقي الزوجات) فحاربها كلها وعقد لها النصر. ولكن لم يكن العثور على مؤلف آخر يزود فرقته بالكوميديات المناسبة. ومن ثم فقدت تمثيلياته هو رضاء الجمهور لكثرة تكرارها. وأكرهته المنافسة على أن يكن ست عشرة تمثيلية في سنة واحدة.
وبلغ أوجه في 1752، وأشاد ب فولتير "بوصفه موليير إيطاليا". ولقيت مسرحيته "لالوكانديرا" (صاحبة الفندق) في ذلك العام "نجاحاً رائعاً حتى ..... فضلت على أي عمل أنجز في هذا النوع من الكوميديا". وقد اعتز بأنه راعي "الوحدات الأرسطاطالية في الحركة والمكان والزمان، وفيما عدا ذلك كلن يحكم كل تمثيلياته بواقعية، فيقول "إنها جيدة، ولكنها لم ترقَ بقد إلى مستوى موليير" (73). وكان قد تعجل في كتابتها تعجلاً لا يتيح له أن يجعلها أعمالاً فنية، فكانت ذكية البناء، مرحة على نحوٍ سار، مطابقة للحياة بوجه عام، ولكن أعوزها ما ميز موليير من اتساع الأفكار، وقوة الحديث، وبراعة العرض، ومن ثم ظلت على سطح الشخوص والأحداث. ومنعته طبيعة جمهوره على أن يحاول التحليق في أجواء العاطفة أو الفلسفة أو الأسلوب وكان في فطرته من البشر ما منعه من سبر الأغوار التي عذبت موليير من قبل.
وقد صدم مرة أخرى على الأقل صدمة أخرجته عن لطفه وجرحته في الصميم، وذلك حين تحداه كارلو جوتسي على مكان الصدارة المسرحية في البندقية وفاز في المعركة. وكان هناك رجلان باسم جوتسي شاركا في الضجة الأدبية التي أثيرت في ذلك العهد، أحدهما جسبارو جوتسي الذي ألف تمثيليات أكثرها مقتبس من الفرنسية، وكان محرراً لدورتين بارزتين وقد بدأ حركة إحياء دانتي. أما الثاني وهو أخوه كارلو فلم يكن فيه هذا اللطف والأنس، كان رجلاً طويل القامة وسيماً مغروراً متحفزاً للعراك على الدوام. وكان أذكى عضو في أكاديمية جرانلليسكي "التي شنت حملة لاستعمال الإيطالية التسكانية النقية في الأدب بدلاً من اللهجة التي استعملها(40/49)
جولدوني في معظم تمثيلياته. ولعله-وهو العشيق (أو المرافق الخادم) لتيودورا ريتشي-أحس بوخز موجع حين هجا جولدوني مرافقي الزوجات هؤلاء. وقد كتب هو أيضاً "مذكرات" هي البيان المفصل للحروب التي خاضها. وقد حكم على جولدوني كما يرى مؤلفاً آخر فقال:
"تبينت في جولدوني وفرة من الدوافع الكوميدية، والصدق والطبيعية. ولكني اكتشفت فيه فقراً وحقارة في الحبكة، وهذه محاسن ومساوئ متنافرة، والمساوئ كثيراً ما تكون الغالبة، ثم هناك عبارات سوقية ذات توريات منحطة ... ونتف وأقوال فيها تنطع، مسروقة لا أدري من أين أو مجلوبة لتخدع جمهوراً من الجهال، وأخيراً فهو بوصفه كاتباً للإيطالية (إلا أنه يكتب باللهجة البندقية التي دل على تمكنه منها) لم يبدُ غير جدير بأن يوضع في مصاف أغبى المؤلفين الذين استخدموا لغتنا وأحقرهم وأقلهم دقة وصواباً ... وعلي أن أضيف في الوقت ذاته أنه لم يخرج قط تمثيلية دون أن يكون لها سمة كوميدية ممتازة. وقد بدا لعيني أن له دائماً مظهر رجل ولد بإحساس فطري بالطريقة التي يجب أن تؤلف بها الكوميديات الأصلية، ولكنه-لعيب في تعليمه، ولافتقار إلى التمييز، ولضرورة إرضاء الجمهور وتقديم بضاعة جديدة للكوميديين المساكين الذين يكسب قوتهم على حسابهم، وللعجلة التي كان ينتج بها هذا العدد الوفير من التمثيليات كل سنة ليقي نفسه من الغرق-أقول أنه لهذا كله لم يستطع قط أن يبتكر تمثيلية واحدة لا تزخر بالأغلاط (74) ".
وفي 1757 أصدر جوتسي ديوان شعر يعرب عن انتقادات مماثلة في "أسلوب كبار كتاب التسكانية القدامى". ورد جولودوني بشعر مثلث القافية (على طريقة دانتي) بما معناه أن جوتسي أشبه بالكلب الذي ينبح القمر ( Come il Cane Che Abbaja la luno)
ورد عليه جوتسي بالدفاع عن "الكوميديا ديللارتي" ضد انتقادات جولدوني القاسية، واتهم جولدوني بأن تمثيلياته تفوق كوميديا الأقنعة مائة مرة في فجورها ونبوها وعدوانها على مكارم الأخلاق، وصنف معجم من "العبارات الغامضة، والتوريات البذيئة وغيرها من القذارات"(40/50)
أخذها من أعمال جولدوني. يقول مولمنتي أن الجدل "أثار في المدينة ضرباً من الهوس، فكان الخلاف يناقش في المسارح والبيوت والحوانيت والمقاهي والشوارع (75) ".
وتحدى كاتب مسرحي آخر يدعى (أباتي كياري) جوتسي أن يكتب تمثيلية خيراً من التمثيليات التي ندد بها، وكان هذا الكاتب قد لدغه من قبل صل جوتسي التسكاني. ورد جوتسي أن هذا يسير عليه، حتى عن أتفه المواضيع وباستخدام كوميديا الأقنعة التقليدية دون غيرها. وفي يناير 1761 أخرجت فرقة في تياترو سان صمويلي تمثيليته المسماة "خرافة حب البرتقالات الثلاثة" وهي مجرد سيناريو أظهر بتالوني، وترتاجليا، وغيرهما من أصحاب (الأقنعة) يبحثون عن ثلاث برتقالات يعتقد أن لها قدرات سحرية، وأما الحوار فترك للارتجال. وكان نجاح هذه (الخرافة) حاسماً: ذلك أن الجمهور البندقي العائش على الضحك استطاب خيال القصة والهجاء الضمني لحبكات كياري وجولدوني. وأردفها جوتسي بتسع (خرافات) أخرى في خمس سنوات، ولكن قدم فيها حواراً شعرياً، وبهذا سلم جزئياً بنقد جولدوني للكوميديا ديللارتي. على أية حال بدا انتصار جوتسي كاملاً. وظل جمهور مسرح القديس صموئيل شيدي الإقبال عليه، في حين هبط الإقبال على مسرح جولدوني (سانت أنجيلو) إلى ما يقرب من الإفلاس. وانتقل كياري إلى بريشا، أما جولدوني فقبل دعوة إلى باريس (1).
وتوديعاً للبندقية أخرج جولدوني (1762) "أمسية من أمسيات الكرنفال الأخيرة" وتروي قصة مصمم منسوجات هو السنيور انتسوليتو الذي كان على وشك أن يفارق وهو حزين في البندقية النساجين الذين طالما زود أنوالهم بالرسوم. وسرعان ما تبين الجمهور في هذا رمزاً للكاتب المسرحي الذي يترك آسفاً الممثلين الذين طالما زود مسرحهم بالتمثيليات. فلما ظهر انتسوليتو في المشهد الأخير ضج المسرح (كما يقول جولدوني) "بتصفيق
_________
(1) حولت "خرافتان" من خرافات جوتسي إلى أوبرات: "ري توراندوتي" لفيبر وبوزوتي، و "حب البرتقالات الثلاث": لبروكوفيف.(40/51)
كهزيع الرعد تسمع خلاله هتافات ... (رحلة سعيدة) (عد إلينا ثانية) (لا يفتك أن تعود إلينا) (76) ". وغادر البندقية في 15 إبريل 1762 ولم يرها بعد ذلك قط.
وفي باريس شغل عامين بتأليف كوميديات لمسرح الإيطاليين، وفي 1763 رفعت إليه دعوى إغواء (77)، ولكن بعد سنة كلف بتعليم الإيطالية لبنات لويس الخامس عشر. وقد كتب بالفرنسية، بمناسبة زفاف ماري أنطوانيت والأمير الذي أصبح فيما بعد لويس السادس عشر، مسرحية من أفضل مسرحياته، واسمها (الجلف الأخير) وكوفئ عليها بمعاش قدره 1200 فرنك، ألغته الثورة حين بلغ الحادية والثمانين. وقد واسى فقره بإملاء مذكراته لزوجته (1792) -وهي مذكرات غير دقيقة، خصبة الخيال، مثيرة، مسلية، وفي رأي جولدوني أنها (درامية على نحو أصدق من كوميدياته الإيطالية (78))، ومات في 6 فبراير 1793. وفي 7 فبراير، بناء على اقتراح قدمه الشاعر ماري-جوزف دشنييه، رد إليه المؤتمر الوطني معاشه. وإذ لم يجده المؤتمر في حال تسمح له بتسلمه، فقد أعطاه لأرملته بعد أن خفضه.
كان انتصار جوتسي في البندقية قصير الأجل. فقبل أن يموت (1806) بسنين طويل اختفت (خرافاته) من خشبة المسرح، وبعثت كوميديات جولداني في مسارح إيطاليا. وما زالت تمثل عليها في كثرة تكاد كوميديات موليير في فرنسا. ويقوم تمثاله في الكامبوسان بارتولوميو بالبندقية، وفي اللارجو جولدوني (بفلورنسة). ذلك لأن الإنسانية كما كتب في مذكراته واحدة في كل مكان، والحسد يعلن عن نفسه في كل مكان، وفي كل مكان يكسب الرجل الهادئ الطبع في النهاية محبة الشعب وييلي خصومه (79) ".(40/52)
11 - روما
في جنوبي نهر بو، وعلى طول الدرياتيك وعبر الأبنين، كانت تقوم ولايات الكنيسة-فيرارا وبولونيا وفورلي ورافنا وبروجه وبتفنتو وروما-فتكون بهذا القسم الأوسط والأكبر من الحذاء السحري.
أما فيرار فحين أدمجت في الولايات البابوية (1598) جعل الدوق آل استنسي مودينا مقراً لهم، وجمعوا فيها محفوظاتهم وكتبهم وفنونهم. وفي 1700 أصبح لودفيكو موراتوري القسيس والباحث وفقيه القوانين أميناً على هذه الكنوز. واستطاع خلال خمسة عشر عاماً من العمل الدءوب، ومن ثماني وعشرين مجلداً، أن يصنف "كتاب الشؤون الإيطالية" (1723 - 38)، وأضاف بعد ذلك عشرة مجلدات للآثار والنقوش الإيطالية. وكان أثرياً أكثر منه مؤرخاً، وما لبث كتابه "الحوليات الإيطالية" الذي أصدره في اثني عشر مجلداً أن تقادم، ولكن أبحاثه في الوثائق والنقوش جعلته الأب والمصدر للتأليف التاريخي الحديث في إيطاليا.
وكانت بولونيا أكثر هذه الولايات ازدهاراً باستثناء روما. وظلت مدرسة تصوريها الشهيرة حية في عهد جوزيبي كرسبي (الأسباني)، وكانت جامعتها لا تزال من خير الجامعات الأوربية. وكان قصر بفيلاكو (1749) من أعظم أبنية القرن أناقة. وسمت أسرة ممتازة تركزت في بولونيا بالعمارة والمسرحية ورسم المناظر المسرحية إلى ذرى الإتقان في العصور الحديثة. فبنى فرديناندو جاللي داببيينا (التياترو ريالي) في مانتوا (1731) وكتب نصوصاً شهيرة عن فنه، وأنجب ثلاثة أبناء واصلوا مهارته في الزخرفة الخداعة الفاخرة. وصمم أخوه فرانشسكو المسارح في فيينا ونانسي وروما، والتياترو فيلارمونيكا بفيرونا-الذي كثيراً ما يعتبر أجمل مسرح في إيطاليا. وأصبح الساندرو بن فرديناندو كبير معماريي ناخب البلاتينات. وصمم ابن ثان يدعى جوزيبي مدخل دار الأوبرا في بايرويت (1748) -أجمل بناء موجود من نوعه (80). ورسم أنطونيو الابن الثالث تصميمات "التياترو كومونالي" في بولونيا.(40/53)
وقد ترددت في ذلك المسرح وفي كنيسة سان بترونيو القديمة الضخمة أفضل الموسيقى الآلية التي عزفت في إيطاليا، لأن بولونيا كانت المركز الإيطالي الرئيسي للتعليم والنظرية الموسيقيين. فهناك كان بادري جوفاني باتستا مارتيني يعقد مجلسه المتواضع الصارم كأجل معلم للموسيقى في أوربا. وكان يقتني مكتبة موسيقية تضم سبعة عشر ألف مجلد، وقد ألف نصوصاً ممتازة من الكونترابنت وتاريخ الموسيقى، وأرسل عشرات من مشاهير الرجال في أكثر من عشر دول. وكان وسام الأكاديمية فيلارومونيكا التي ترأسها سنين كثيرة مشتهى جميع الموسيقيين. فإلى هنا سيأتي الصبي موتسارت 1770 ليواجه الاختبارات المقررة، وهنا سيعلم روسيني ودونيتستي. وكان المهرجان السنوي للمؤلفات الموسيقية الجديدة، التي يؤديها أوركسترا الأكاديمية ذو المئة عازف، في نظر إيطاليا الحدث الأعظم للسنة الموسيقية.
قدر جيبون سكان روما في 1740 بنحو 156. 000 نسمة. وحين تذكر زهوة ماضيها الإمبراطوري وتناسى فقراء هذا الماضي وأرقاءه، وجد أن سخر العاصمة الكاثوليكية يجافي ذوقهم:
"في داخل الأسواق الأوريلية الفسيحة تغشي القسم الأكبر من التلال السبعة الكروم والأطلال. ولعل جمال المدينة الحديثة وبهاءها راجع إلى مفاسد الحكومة وتأثر الخرافة. فقد تميز كل حكم (إلا فيما ندر) بصعود أسرة جديدة صعوداً سريعاً، أثرت بفضل الخير الذي لا عقب له على حساب الكنيسة والدولة. وقصور أبناء الأخوة والأخوات المحظوظين هؤلاء هي أغلى صروح الأناقة العبودية، فقد سخرت لها أسمى فنون المعمار والتصوير والنحت، وأبهاؤها وحدائقها تزينها أنفس الآثار القديمة التي جمعوها تذوقاً أو غروراً (81) ".
وقد تميز باباوات هذا العهد بسمو الخلق، وكانت فضائلهم تسمو كلما هبط سلطانها. وكانوا كلها إيطاليين، لأن أحداً من الملوك الكاثوليك أبى أن يسمح لأي من الآخرين أن يقتضي البابوية. وقد برر كلمن الحادي عشر (حكم 1700 - 21) اسمه (ومعناه الرحيم) بإصلاحه سجون روما(40/54)
أما إنوسنت الثالث عشر (1721 - 24) فهو في رأي رانكي البروتستنتي:
"كان يملك مؤهلات رائعة للحكم الروحي والزمني معناً، ولكن صحته كانت هشة جدة .. وقد وجدت الأسر الرومانية المتصلة به بصلة القرابة، والتي راودها الأمل في أن يرفع من شانها، أنها واهمة كل الوهم: لا بل إن ابن أخيه لم يستطع الظفر بالأثنتي عشر ألف دوقاتية كل عام (التي أصبحت الآن الدخل العادي لابن الأخ) دون مشقة (82) ".
أما بندكت الثالث عشر (1724 - 30) فكان "رجلاً ذا تقوى شخصية عظيمة (83) ". ولكنه (كما قال مؤرخ كاثوليكي) سمح بقدر كبير جداً من السلطة لمحاسيب غير جديرين بعطفه (84) ". وأغرق كلمنت الثالث عشر (1730 - 40) روما بأصدقائه الفلورنسيين، وسمح لنفسه حين شاخ وكف بصره أن ينقاد لأبناء أخيه الذين زاد تعصبهم الصراع بين اليسوعيين والجانسنيين في فرنسا مرارة فوق مرارة.
وفي رأي ماكولي أن بندكت الرابع عشر (1740 - 58) "كان أفضل وأحكم خلفاء القديس بطرس المائتين والخمسين (85) " وهو حكم فضفاضي، ولكن البروتستانت والكاثوليك وغير المؤمنين على السواء مجمعون على الثناء على بندكت لأنه كان رجلاً واسع العلم، ذا شخصية محببة ونزاهة خلقية. ولم يرَ وهو رئيس لأساقفة بولونيا أي تناقض بين الاختلاف إلى دار الأوبرا ثلاث مرات في الأسبوع والاهتمام الصارم بواجبات الأسقفية (86)، وقد وفق أثناء ولايته منصب البابوية بين حياته الشخصية ومرح الطبع وتحرر الحديث وتذوق الأدب والفن تذوقاً يكاد يكون وثنياً. وقد أضاف تمثالاً لفينوس عارية إلى مجموعته، وقال للكردينال دتنسان أن أمير وأميرة فورتمبرج خطا أسميهما على جزء من التشريح جميل الاستدارة لا يذكر كثيراً في المراسلات البابوية (87). وكاد يشبه فولتير في حدة الذكاء والظرف، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون إدارياً حازماً ودبلوماسياً بعيد النظر.(40/55)
وقد وجد مالية البابوية تشكو الفوضى: فنصف الإيرادات يضيع في الانتقال من بلد إلى بلد وثلث سكان روما كنسيون يفوق عددهم كثيراً ما تحتاج إليه شؤون الكنيسة، ويكلفونها من النفقة ما لا تطيقه. فأنقص بندكت موظفيه الشخصيين، وطرد أكثر جنود الجيوش البابوية، وأنهى محسوبية الأقارب، وخفض الضرائب، وأدخل الإصلاحات الزراعية، وشجع المشروعات الصناعية، ولم يمر طويل وقت حتى أثمرت أمانته واقتصاده وكفاءته فائضاً للخزانة البابوية. أما سياسته الخارجية فقد قدمت تنازلات ودية للملوك المشاغبين، فوقع مع سردينيا والبرتغال ونابلي وأسبانيا اتفاقات سمحت لحكامها الكاثوليك بالترشيح لكراسي الأسقفية. وجاهد ليهدئ الضجة العقائدية في فرنسا، بالتراخي في تنفيذ الأمر البابوي Unigenitus ( الوحيد الجنس) الصادر ضد الجانسنيين، "ماد الإلحاد يزداد كل يوم فعلينا أن نسأل إن كان الناس يؤمنون بالله لا إن كانوا يقبلون الأمر البابوي (88) ".
وبذل جهوداً شجاعة ليعثر على حل وسط مؤقت Modus Vivendi مع حركة التبرير. وقد لاحظنا تقبله الودي لإهداء فولتير مسرحية (محمد) إليه رغم أن المسرحية كانت تسلط عليها نيران الكنيسة في باريس (1746). وعين لجنة لمراجعة كتاب الصلوات اليومية ولتخليصه من بعض الأساطير الأبعد تصديقاً، على أن توصيات اللجنة لم تنفذ. واستطاع بنشاطه الشخصي أن يحقق انتخاب دالمبير بمجمع بولونيا (89). وكان يثبط التحريم المتعجل للكتب. فلما أشار بعض مساعديه عليه بشجب كتاب لامتري "الإنسان الآلة" أجاب أليس من واجبكم أن تكفوا عن إبلاغي بوقاحات الحمقى؟ "اعلموا أن للبابا يداً مطلقة ليمنح البركات فقط (90) " وقد تخلت قائمة الكتب المحرمة التي أصدرها في 1758 عن جميع محاولات تعقب المؤلفات غير الكاثوليكية. واقتصرت-فيما عدا استثناءات قليلة-على خطأ بعض الكتب التي ألفها كتاب كاثوليك. وأمر بألا يدان كتاب قبل أن يعطى مؤلفه إن وجد فرصة للدفاع عن نفسه، ولا يدان كتاب في موضوع علمي إلا بعد استشارة الخبراء. وينبغي أن يؤذن لرجال العلم أو الدرس دون(40/56)
إبطاء بقراءة الكتب المحرمة (91). واتبعت هذه القواعد في طبعات القائمة الثالثة، وأكدها ليو الثالث عشر في 1900.
وقد ألفى الباباوات حكم روما عسيراً عسر يقرب من عسر حكم العامل الكاثوليكي. ولعل جمهور المدينة كان أشد الجماهير فظاظة وعنفاً في إيطاليا وربما في أوربا. فأي سبب يمكن أن يفضي إلى مبارزة بين النبلاء أو إلى صراع دامٍ بين الزمر المتحزبة التي قسمت المدينة المقدسة. وأما في المسرح فإن حكم النظارة كان يمكن أن يكون قاسياً لا رحمة فيه خصوصاً إذا أخطأ، وسنرى مثالاً عليه في حالة برجوليتزي. وجاهدت الكنيسة لتهدئ الشعب بالأعياد والمواكب والغفرانات والكرنفال، وسمحت للناس في الأيام الثمانية السابقة للصوم الكبير بأن يرتدوا ملابس تنكرية مرحة غريبة الأشكال، وأن يسرحوا ويمرحوا على (الكورسو) والتمس النبلاء رضى الجماهير باستعراضاتهم على الخيل أو العربات تحمل راكبين مهرة أو نساء حساناً في أبها زينة، وعرضت البغايا بضاعتهم لقاء أجور رفعتها مؤقتاً، وخففت المغازلات المقنعة من ثقل الزواج الأحادي بضع ساعات. فإذا انقضى الكرنفال عاودت روما مسيرتها المتناقضة من التقوى والإجرام.
أما الفن فلم يزدهر وسط العائدات المتناقضة التي يغلها إيمان مضمحل. لقد أسهمت العمارة ببعض الإسهامات الصغيرة: مثال ذلك أن الساندرو جاليلي أضاف لكنيسة جان جوفاني القديمة في اللاتيرانو واجهة فخمة، وخلع فرديناند وفوجا على كنيسة سانتا ماريا مادجوري وجهاً جديداً، وشيد فرانشسكو دي سانكتيس "السكالا دي سبانيا الفسيحة المهيبة من ميدان أسبانيا إلى مزار "الثالوث الأقدس" في مونتني. وأضاف النحت أثراً مشهوراً هو "الفونتانا دي تريفي"-حيث يلقى السائح المسرور قطعة نقود من وراء كتفه في الماء ليضمن عودته لزيارة روما ثانية. وكان لنافورة المخارج الثلاثة تاريخ طويل. ولعل برتيتي ترك رسماً تخطيطياً لها، وافتتح كلمنت الثاني عشر مسابقة لإنشائها، وقدم التصميمات لها أدمي بوشاردان الباريسي ولامبير سجبير آدم النانسي، واختير جوفافي مايني ليصممها،(40/57)
ونحت بييترو براتشي مجموعة نبتون وفريقه الوسطي (1732)، ونحت فليبو ديللافاللي تمثل الخصوبة والشفاء، وقد نيكولو سالقي الخلفية المعمارية، وأكمل جوزيبي يانيني العمل في 1762، وربما أوحت مشاركة العقول والأيدي الكثيرة على هذا النحو خلال ثلاثين سنة بأنه هناك شيء من التخاذل في الإرادة أو الفقر في الموارد، ولكنها تدحض أي فكرة بأن الفن في روما كان ميتاً. وأضاف براتشي إلى مآثره مقبرة (هي الآن في كاتدرائية القديس بطرس) لماريا كلمنتينا سوبيسكا، الزوجة التعسة لجيمس الثالث المطالب الاستيوراني بالعرش، وخلف دللافاللي في كنيسة القديس أغناطويس نقشاً بارزاً رقيقاً يمثل البشارة، جديراً بالنهضة الأوربية في أوجها.
أما التصوير فلم يتمخض عن عجائب في روما في هذا العصر، ولكن جوفافي باتستا بيرانيزي جعل الحفر فناً من الفنون الكبرى. ولد لبناء بالحجر قرب البندقية، وقرأ باللاديو وحلم بالقصور وأضرحة القديسين. على أن البندقية كانت تحوي من الفنانين أكثر مما تحوي من المال، أما روما فكان فيها مال أكثر من الفنانين، ومن ثم نزح جوفاني إلى روما وبدأ عمله معمارياً. غير أتن الكلب على المباني كان ضعيفاً. ولكنه صمم المباني على أي حال، أو على أصح رسم مباني غريبة الأشكال تبدو كأن "السلالم الأسبانية" سقطت فوق "حمامات دقلديانوس". ونشر هذه الرسوم في 1750 باسم "رسوم مختلفة" و"كارتشيري" (المسجون)، واشتراها الناس كأنهم يشترون الألغاز أو الأسرار الغامضة. ولكن بيرانيزي وجه مهارته في حالاته النفسية الأنبل إلى حفر رسومه التخطيطية للآثار القديمة. فقد عشقها كما عشقها بوسان وروبير، وأحزنه أن يرى هذه الأطلال الرائعة تزداد تحللاً يوماً بعد يوم بفعل النهب أو الإهمال، وظل طوال خمسة وعشون عاماً، في كل يوم تقريباً، يخرج ليرسمها، وفوته أحياناً تناول وجباته من الطعام، بل أنه حتى وهو يموت من السلطان واصل الرسم والنقش والحفر. وقد ذاع مؤلفاه "الآثار الرومانية" و"مناظر(40/58)
روما" في شكل نسخ مطبوعة في أوربا كلها وشاركت في الإحياء المعماري للأساليب الكلاسيكية.
وقد وجد ذلك الأحياء حافزاً قوياً من الحفائر التي أجريت في هركولانيوم وبومببي وهما أغرقهما ثوران فيزوف في 79م ففي 1719 أبلغ بعض الفلاحين أنهم وجدوا تماثيل مدفونة في التراب في هركولانيوم. وأقضت تسعة عشر عاماً قبل أن يمكن الحصول على المال اللازم لارتياد الموقع على نحو نسقي. وفي 1748 بدأت حفائر مماثلة تكشف عن عجائب بومبيي الوثنية، وفي 1752 كشف عن معابد بايستوم الضخمة الجليلة بعد اجتثاث الأجمة التي غطتها. وأقبل الأثريون من شتى البلاد ليدرسوا الكشوف ويصفوها، وأثارت رسوم هذه الآثار اهتمام الفنانين والمؤرخين جميعاً، وسرعان ما غزا المتحمسون للفن الكلاسكي روما ونابلي، وقدموا على الأخص من ألمانيا. فأتى منجز في 1740، وفنكلمان في 1755. وهفت نفس لسنج للذهاب إلى روما، "لأمكث هناك على الأقل سنة، وإلى الأبد أن أمكن" (92). ثم جوته-ولكن لنرجي هذه القصة الآن.
إما انطون رفائيل منجر فمن العسير أن نضعه في مكان واحد، لأنه ولد في بوهيميا (1728)، وخص بجهوده إيطاليا وأسبانيا، واختار روما موطناً له. وسماه باسم كوريدجو ورفائيل، وكان رساماً للنمنمات في درسدن، ونذره للفن، وظهرت على الصبي مخايل النجابة فأخذه أبوه وهو في الثانية عشرة إلى روما. ويروى أنه حبسه هناك في الفاتيكان يوماً بعد يوم ولا غداء له إلا النبيذ والخبز، وأخبره أن أراد مزيداً أن يطعم على آثار رفائيل وميكل أنجيلو والعالم الكلاسيكي. وبعد أن أقام أنطون برهة قصيرة في درسدن عاد إلى روما واسترعى الأنظار بلوحة رسمها للعائلة المقدسة، وكانت نموذجه فيها مارجاريتا جواتسي "عذراء فقيرة فاضلة جميلة" (93) وتزوجها في 1749، وفي المناسبة ذاتها دخل في المذهب الكاثوليكي الروماني. وعاد ثانية إلى درسدن، وعين مصوراً لبلاد أوغسطس الثالث براتب قدره ألف طالر في العام. ووافق(40/59)
على أن يرسم لوحتين لكنيسة بدرسدن، ولكنه أقنع الملك الغاضب بأنه يسمح له برسمها في روما، وفي 1752 استقر هناك وهو بعد في الرابعة والعشرين. ولما بلغ السادسة والعشرين عين مديراً لمدرسة الفاتيكان للتصوير. وفي 1755 التقى بفنكلمان، واتفق معه على أن الباروك غلطة؛ وأن الفن يجب أن يطهر نفسه ويهذبها بأشكال الكلاسيكية الجديدة. ولعله في هذه الفترة أو نحوها رسم بالباستل صورته الذاتية الموجودة الآن في متحف فن درسدن-وجه فتاة وشعرها، ولكن العينين تلمعان بكبرياء رجل واثق من أن في استطاعته أن يهز العالم.
وحين طارد فردريك الأكبر أوغسطس من سكسونيا (1756) توقف راتب منجز الملكي، وكان عليه أن يعيش على الأجور المتواضعة المعروضة عليه في إيطاليا. وجرب العمل في نابلي، ولكن الفنانين المحليين هددوا حياته باعتباره دخيلاً، وذلك عملاً بتقليد نايولتاني قديم، فقفل منجز إلى روما سريعاً. وزين فيللا ألباني بصورة جصية حظيت بالشهرة ذات يوم، وما زالت ترى هناك لوحته "برناس" (1761) الممتازة فنياً، الكلاسيكية هدوءاً، الميتة عاطفياً. ومع ذلك أحس الوزير الأسباني في روما أن هذا هو الرجل الذي يصلح لرسم صور يزدان بها القصر الملكي في مدريد. وأرسل شارل الثالث في طلب منجز ووعده بألفي دبلون في العام مضافاً إليها مسكن ومركبة ورحلة مجانية على بارجة أسبانية موشكة على الإقلاع من نابلي. وفي سبتمبر 1761 وصل منجز إلى مدريد.
12 - نابلي
أ- الملك والشعب
أصابت مملكة نابلي التي ضمت كل إيطاليا جنوب الولايات البابوية اللطمات الشديدة في الصراع على السلطة بين النمسا وأسبانيا وإنجلترا وفرنسا. ولكن هذا دأب التاريخ في تمزيقه الكئيب للمنطق، والتأرجح الدامي بين النصر والهزيمة، وحسبنا هنا أن نلاحظ أن النمسا استولت عللا نابلي في 1707،(40/60)
وأن دوس كارلوس، دوق بارما البوربوني وابن فليب الخامس ملك أسبانيا، طرد النمساويين في 1734، وحكم حتى 1759 باسم شارل الرابع ملك نابلي وصقلية. وكانت عاصمته التي ضمت 300. 000 من الأنفس أكبر مدينة في إيطاليا.
وبلغ شارل النضج في فن الملك ببطء. ففي أول عهده اتخذ الملكية جوازاً للبذخ: فأهمل شؤون الحكومة، وأنفق نصف أيامه في القنص، وأسرف في الأكل حتى أصبح بديناً. ثم حوالي 1755، وبوحي من وزير العدل والشؤون الخارجية المركيز برناردو دي تانوتشي اضطلع بالتخفيف من مظالم تلك الإقطاع القاسي الذي توارى خلف كد الحياة النابولية ونشوتها.
وكانت تحكم المملكة طويلاً ثلاث جماعات متشابكة. فالنبلاء يملكون ثلثي الأرض تقريباً ويستعبدون أربعة أخماس الملايين الخمسة الذين يسكنونها ويسيطرون على البرلمان، ويتحكمون في نظام الضرائب، ويعرقلون كل إصلاح. والأكليروس يملكون ثلث الأرض، ويسترقون الشعب روحياً بلاهوت قوامه الرعب، وكتاب حافلة بالأساطير، وشعائر تستغل المصلين، ومعجزات على شاكلة تسبيحهم المصطنع كل نصف سنة لدم القديس ياتيوراس (حامي نابلي) المتخثر. وكانت الإرادة في يد قانونيين يدينون بالطاعة للنبلاء أو الأحبار، ومن ثم التزموا بالوضع الموروث من العصر الوسيط. وكانت الطبقة الوسطى الفقيرة المؤلفة أكثرها من التجار عاجزة سياسياً. وعاش الفلاحون والبرولتاريا في فقر أكره بعضهم على قطع الطريق وكثيراً منهم على التسول، وكان هناك ثلاثون ألف شحاذ في نابلي وحدها (94). وقد وصف دبروس جماهير العاصمة بأنهم "أبغض الرعاع، وأقذر الحشرات" (95) -وهو حكم أدان النتيجة دون أن يدمغ السبب. على أننا يجب أن نعترف بأن هؤلاء النابوليين المهلهلي الثياب، المتشبثين بالخرافات، الخاضعين لسلطان الكهنة، يبدو أنهم كانوا يملكون من نكهة الحياة وبهجتها أكثر من أي جمهور آخر في أوربا.(40/61)
وكبح شارل قوة النبلاء باجتذابهم إلى بلاطه حتى يكونوا تحت ناظري الملك، وبإقامة نبلاء جدد يلتزمون بتأييده. وثبط تدفق الشباب على الأديرة، وأنقص جموع الكنسيين من 100. 000 إلى 81. 000، وفرض ضريبة قدرها اثنان في المائة على ممتلكات الكنيسة، وحد من حصانات الأكليروس القانونية. وضيق تانوتشي من سلطة النبلاء القضائية، وحارب الفساد في القضاء، وأصلح الإجراءات القضائية، وخفف من صرامة قانون العقوبات. وأبيحت حرية العبادة لليهود، ولكن الرهبان أكدوا لشارل أن افتقاده الوريث الذكر لعرشه هو العقاب الذي أنزله به الله جزاء تسامحه الآثم فسحب الغفران من اليهود (96).
وكان ولع الملك بالبناء الفضل في إقامة صرحين شهيرين في نابلي. وأحدهما هو "التياترو سان كارلو" الشاسع، وقد أقيم 1737 وما زال واحداً من أوسع وأجمل دور الأوبرا الموجودة. وفي 1752 بدأ لويجي فانفيلتي يبني الصرح الآخر في كازوتا على واحد وعشرين ميلاً شمالي العاصمة، وهو قصر ملكي هائل صمم لينافس فرساي وليقوم بوظيفة في إيواء الأسرة المالكة ونبلاء الحاشية وأهم الموظفين الإداريين. وقد اقتضى بناؤه كد العبيد سوداً وبيضاً طوال اثنين وعشرين عاماً. وكانت الأبنية ذات المنحيات تقوم على جانبي مدخل فسيح إلى الصرح الأوسط الذي مد واجهته 30 قدماً. وقام في الداخل مصلى ومسرح وغرف لا حصر لها وسلم مزدوج عريض كانت كل درجة فيه لوحة رخام واحدة. وامتدت وراء القصر على طول نصف ميل الحدائق المنسقة، وعدد غفير من التماثيل، ونافورات فخمة تغذيها قناة طولها سبعة وعشرون ميلاً.
ولم يكن في نابلي فن متميز في هذا العصر غير قصر كازيرتا هذا (لأن القصر أطلق عليه اسم مدينته شأن الأسكوريال وفرساي)، ولا كان هناك شيء يستحق الذكر في الدراما أو الشعر. لقد ألف رجل كتاباً جريئاً "التاريخ المدني لملوك نابلي" (1723) وهو هجوم متواصل على جشع الأكليروس، ومفاسد المحاكم الكنسية، وسلطة الكنيسة الزمنية، ودعوى(40/62)
البابوية يحقها في نابلي كإقطاعية بابوية، أما المؤلف واسمه بييترو وجانوني فقد حرمه رئيس أساقفة نابلي، وفر إلى فيينا، وزج به ملك سردانيا في السجن، ثم مات في تورين (1748) بعد أن قضى اثنتي عشرة سنة حبيساً (97). وفقد أنطونيو جينوفيزي إيمانه وهو يقرأ لوك، وحاول في كتابه "مبادئ الميتافيزيقا" (1743) أن يدخل سيكولوجية لوك إلى إيطاليا. وفي 1754 أنشأ رجل أعمال فلورنسي في جامعة نابلي أول كرسي أوربي للاقتصاد السياسي بشرطين، إلا يشغله كنسي أبداً، وأن يكون أول شاغل له أنطزنيو جينوفيزي. ورد جينوفيزي صنيعه (1756) بأول بحث اقتصادي نظامي في اللغة الإيطالية "دروس في التجارة"، ردد صرخة التجار ورجال الصناعة المطالبين بالتحرر من القيود الإقطاعية والكنسية وغيرها على المشروعات التجارية الحرة. وفي العام نفسه أعرب كزنيه عن هذا المطلب ذاته للطبقة الوسطى الفرنسية في مقالاته، التي كتبها لموسوعة ديدرو.
ولعل بعض الاتصال كان قد تم بين جينوفيزي وكزنيه على فرديناندو جالياني النابولي الباريسي. وقد نشر جالياني في 1750 "بحثاً في النقود" قرر فيه ببراءة اقتصادي في الثانية والعشرين من عمره ثمن السلعة حسب تكلفة إنتاجها. وألمع منه كتابه "حوار حول تجارة الغلال" الذي ذكرناه من قبل نقداً لكزنيه. فلما اضطر إلى العودة إلى وطنه بعد السنين المثمرة التي قضاها في باريس، أحزنه ألا يجد في نابلي صالونات، ولا امرأة كمدام جوفران تطعمه وتثير ذكاءه وظرفه. على أنه كان فيها على أية حال فيلسوف بصمته على التاريخ.
ب- جامبا تيستافيكو
تروي ترجمته الذاتية انه حين كان في السابعة سقط من على سلم نقالي، فصدم الأرض برأسه أولاً، وظل غائباً عن الوعي خمس ساعات. وأصيب برأس في الجمجمة تكون من حوله ورم ضخم. وكان الورم(40/63)
يخفف بشقه بمبضع المرة تلو المرة. ولكن الصبي فقد من الدم في هذه العملية ما جعل الجراحين يتوقعون موته القريب. ولكنه بقي على قيد الحياة "بفضل الله، ولكن نتيجة لهذه البلية شببت بمزاج مكتئب حاد (98) ". كذلك أصيب بالدرن. ولو كانت العبقرية رهناً بمعوق بدني لكان فيكو موفور الحظ.
وحين بلغ السابعة عشرة (1685) كسب قوته بإعطاء الدروس الخصوصية في فاتوللا (قرب سالرنو) لأبناء أخي أسقف اسكيا. ومكث هناك تسع سنين، ولكنه كان أثناءها عاكفاً في حماسة محمومة على دراسة القانون وفقه اللغة والتاريخ والفلسفة. وافتتن على الأخص بقراءة أفلاطون وأبيقور ولوكريتيوس ومكيافللي وفرانسيس بيكن وديكارت وجروتيوس، وخرج من هذا كله بشيء من الأذى لإيمانه الديني. وفي 1697 حصل على كرسي أستاذ البيان في جامعة نابلي، ولم يؤجر عليه بأكثر من مائة دوقاتية في العام، زادها بإعطاء الدروس الخصوصية، ومن هذا الدخل كان يعول أسرة كبيرة. وماتت ابنة له في ريعان الصبي، وظهرت على ابن له ميول شريرة اقتضت إرساله إلى إصلاحية للأحداث، أما زوجته فكانت أمية عديمة الكفاية، فكان على فيكو أن يكون الأب والأم والمعلم جميعاً (99). وفي وسط هذه الشواغل المشتتة للفكر كتب فلسفته للتاريخ.
وقد قدم كتابه "مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم" (1725)، وحاول إن وجد في فوضى التاريخ انتظامات من التعاقب قد تنير الماضي والحاضر والمستقبل. ورأى فيكو أن في استطاعة أن يتبين ثلاث فترات رئيسية في تاريخ كل شعب:
(1) عصر الأرباب الذي اعتقدت فيه الأمم (غير اليهود) أنها تعيش في ظل حكومات إلهية، وأن كل شيء كان بأمر الأرباب عن طريق التكهن والوحي.
(2) عصر الأبطال حين كانوا يسيطرون على الجمهوريات أرستقراطيةـ، بحكم تفوق في طبيعتهم اعتقدوا أنهم يمتازون به على العامة.(40/64)
(3) عصر البشر، وفيه أقر الجميع بأنهم متساوون في الطبيعة البشرية فأقاموا أولى الجمهوريات الشعبية ثم الملكيات (100).
وقد طبق فيكو الفترة الأولى على التاريخ (الأممي واللاتيني) (غير الكتابي)، فما كان في استطاعته أن يقول إن يهود العهد القديم إنما "اعتقدوا أنهم) يعيشون في ظل حكومات إلهية" دون المساس بالتقاليد المقدسة. ولما كان ديوان التفتيش (وهو في نابلي أشد صرامة منه في شمال إيطاليا) قد حاكم باحثين نابوليين لأنهم تكلموا على بشر وجدوا قبل آدم، فإن فيكو وفق بجهد بين صيغته وبين سفر التكوين بالافتراض بأن جميع ذراري آدم، إلا اليهود، قد ارتدوا بعد الطوفان إلى حالة أقرب إلى الوحشية فسكنوا الكهوف وتسافدوا دون تمييز في شيوعية نساء. ومن (حالة الطبيعة) الثانية هذه تطورات الحضارة بطريق الأسرة والزراعة والملكية والأخلاق والدين. وكان يذكر الدين أحياناً على أنه طريقة أرواحية (لتفسير الأشياء والأحداث) وأحياناً يشيد به باعتباره قمة التطور.
ويقابل مراحل التطور الاجتماعي الثلاث، ثلاث (طبائع) أو طرق لتفسير الكون: اللاهوتية، والأسطورية والعقلية.
وكانت الطبيعة الأولى، بحكم خداع الخيال (وهو أقوى ما يكون في أضعف الناس قدرة على التدليل العقلي)، طبيعة شعرية أو إبداعية، قد نسمها على سبيل التجوز إلهية، لأنها تصورت الأشياء المادية على أنها تحيا بقوة الآلهة ... وكان الناس نتيجة لخطأ خيالهم هذا يخافون خوفاً رهيباً من الأرباب التي خلقوها هم أنفسهم .... أما الطبيعة الثانية فهي الطبيعة البطولية، فقد اعتقد الأبطال أنهم من أصل إلهي .... وأما الثالثة فالطبيعة (الطريقة) البشرية، طبيعة ذكية. ومن ثم متواضعة، معتدلة، منطقية، تسلم بأن الضمير والعقل والواجب كلها نواميس (101) ".
وقد حاول فيكو لتاريخ اللغة والأدب والقانون والحكومة(40/65)
مكاناً ملائماً في هذا النظام الثلاثي. ففي المرحلة الأولى كان الناس يتواصلون بالإشارات والإيماءات، وفي الثانية بالرموز والتشبيهات والصور، وفي الثالثة بالكلمات التي اتفق عليها القوم ... ليحددوا بهذا معنى القوانين. ومر القانون نفسه بتطوير مقابل لهذا: فكان أول الأمر إلهياً؛ منزلاً كما كان أول الأمر إلهياً؛ منزلاً كما كان الحال في ناموس موسى، ثم بطولياً كقانون ليكورجوس، ثم بشرياً-أملاه العقل البشري المكتمل النمو (102) كذلك مرت الحكومة بثلاث مراحل: التيوقراطية؛ وفيها زعم الحكام أنهم صوت الله، والأرستقراطية، وفيها اقتصرت جميع الحقوق المدنية على طبقة الأبطال الحاكمة، والبشرية، وفيها يعتبر الجميع سواء أما القوانين ... ، وهذه هي الحال في المدن الشعبية الحرة، .. ، وكذلك في الملكيات التي تجعل جميع رعاياها سواء أمام قوانينهم (103). وواضح أن فيكو استعاد تلخيص أفلاطون للتطور السياسي من الملكية إلى الأرستقراطية إلى الديمقراطية إلى الدكتاتورية (حكم الطغاة)، ولكنه غير الصيغة لتقرأ: تيوقراطية وأرستقراطية، وديمقراطية، وملكية. وقد اتفق مع أفلاطون في أن الديمقراطية تنزع إلى الفوضى، واعتبر حكم الرجل الواحد علاجاً ضرورياً للخلل الديمقراطي، "أن الملكيات هي الحكومات النهائية، ... التي تصل إليها الأمم لتستريح (104). أفلالال
وقد ينبعث الخلل الاجتماعي من التدهور الخلقي، أو الترف، أو تركيز الثروة تركيزاً يمزق الأمة، أو الحسد العدواني بين الفقراء. ومثل هذا الخلل يفضي عادة إلى الدكتاتورية، كما نرى في حكم أوغسطس الذي كان فيه الشفاء من الفوضى الديمقراطية في الجمهورية الرومانية. فإذا عجزت حتى الدكتاتورية عن وقف الانحلال، فإن أمة أشد قوة وعنفواناً تدخل فاتحة للبلاد.
"وإذا كان الناس الذين بلغ منهم الفساد هذا المبلغ قد انقلبوا عبيداً لشهواتهم الجامحة ... فإن العناية الإلهية تقضي بأن يصيروا عبيداً بحكم القانون الطبيعي للأمم، .... فيستعبدوا لأمم أفضل منهم يحكمونهم بعد أن يغلبوهم كما يحكم الغالب الأقاليم الخاضعة له ... وهنا يستطيع ضوءان عظيمان من أضواء النظام الطبيعي. أولهما أن من يعجز عن حكم نفسه يجب(40/66)
أن يدع القادر على حكمه أن يحكمه، والآخر أن العالم يحكمه دائماً من هم بالطبيعة أصلح الحاكمين (106).
وفي مثل هذه الحالات يرتد الشعب المغلوب إلى مرحلة التطور التي وصل إليها غالبوه. وهكذا أرتد سكان الإمبراطورية الرومانية إلى الهمجية والتخلف بعد غزوات الشعوب الهمجية واضطروا إلى أن يبدءوا بالتيوقراطية (حكم الكهنة واللاهوت)؛ وتلك كانت العصور المظلمة. ثم جاء عصر بطولة آخر بمجيء الحروب الصليبية؛ وأمراء الإقطاع يقابلون أبطال هومر ودانتي هو هومر مكرراً.
ونسمع في فيكو أصداء للنظرية التي تزعم أن التاريخ تكرار دائر، ولقانون مكيافللي " Corsi e Ricori التطور والتقهقر" وفكرة التقدم تضار في هذا التحليل، فليس التقدم إلا نصف حركة دورية نصفها الأخر الانحلال؛ والتاريخ، شأنه شأن الحياة، هو تطور وانحلال في تعاقب وحتمية لا محيص عنهما.
وقدم فيكو في الطريق إلماعات مدهشة. فقد رد الكثيرين من أبطال الأساطير الكلاسيكية إلى الأسماء البعدية Eponyms والتشخيصات التالية لعمليات ظلت طويلاً لا شخصية أو متعددة الشخصيات، فأورفيوس مثلاً كان المدمج الوهمي لموسيقيين بدائيين كثيرين، وليكورجوس كان التجسيد لسلسلة القوانين والعادات التي جمدت إسبارطة، ورومولوس كان ألف رجل جعلوا من روما دولة. (107) وبالمثل رد فيكو هومر إلى الخرافة، مدللا على ذلك-قبل كتاب فردريك فولت "مقدمات نقدية لهومر (1795) بنصف قرن-بأن الملاحم الهومرية إنما هي حصيلة تجمعت وأدمجت شيئاً فشيئاً لجماعات وأجيال من رواة الملاحم الذين كانوا ينشدون بطولات طروادة وأوديسيوس في مدن اليونان (108). وقبل قرن تقريباً من صور كتاب بارتهولد نيبور "تاريخ روما" (1811 - 32) رفض فيكو الفصول الأولى من تاريخ ليفي لأنه أسطورية. "كل تواريخ(40/67)
الأمم غير اليهودية كان لها بدايات خرافية (109) " (وهنا أيضاً يتجنب فيكو في حذر أن يمس تاريخية سفر التكوين).
وهذا الكتاب الخطير يكشف عن عقل قوي تزعجه المضايقات المتصلة، يكافح لصياغة أفكار أساسية دون أن يقضي به المسير إلى سجن من سجون ديوان التفتيش. وقد بذل فيكو قصاراه المرة بعد المرة ليعلن ولاءه للكنيسة وأحس أنه جدير بثناء الكنيسة لتفسيره مبادئ القانون بطريقة تتفق واللاهوت الكاثوليكي (110). ونحن نسمع نغمة أكثر إخلاصا في رأيه في الدين دعامة لا عنى عتها للنظام الاجتماعي والفضيلة الشخصية: "أن للأديان دون غيرها القوة على جعل الناس يعملون الأعمال الفاضلة (111) ... " ومع ذلك، ورغم تكرار استعماله للفظ "العناية الإلهية"، يبدو أنه يبعد الله عن التاريخ ويرد الأحداث إلى التفاعل الحربين الأسباب والنتائج الطبيعية. وقد هاجم دارس دومنيكي فلسفة فيكو لأنها ليست مسيحية بل لوكريتيه.
ولعل العلمانية المنبعثة من تحليل فيكو كان لها بعض الصلة بإخفاقها في أن تظفر بالاستماع إليها في إيطاليا، وما من شك في أن ما شاب عمله من استطرد فوضوي وعاب فكره من اختلاط قد قضى على "علمه الجديد"، بأن يولد ميتاً وأن تكون ولادته مؤلمة. فلم يوافقه أحد على اعتقاده بأنه كتب كتاباً عميقاً أو مثيراً. وعبثاً ناشد لكلير ولو ليذكره في دورية "أخبار عالم الدب"، وبعد عشر سنوات من ظهور كتاب العلم الجديد خف شارل الرابع لنجده فيكو، فعينه مؤرخاً رسمياً للملك براتب سنوي قدره مائة دوقاتية. وفي 1741 قرت عين جامباتستا برؤية ولده جنارو يخلفه أستاذاً في جامعة نابلي. وفي سنواته الأخيرة (1743 - 44) ضعف عقله فترى في غيبية أشرفت على الجنون.
وكان في مكتبة مونتسيكو نسخة من كتابه (112)، وقد أقر الفيلسوف الفرنسي في هوامش مذكرات خاصة بدينة لنظرية فيكو في التطور والانحلال الدوري، ويظهر هذا الدين الذي لم يفصح عنه في كتاب مونتسيكو "عظمة الرومان وانحطاطهم" (1734). وفيما عدا هذا ظل فيكو مجهولاً(40/68)
في فرنسا حتى جول ميشليه (1827) ترجمة مختصرة لكتاب العلم الجديد. وقد وصف ميشليه إيطاليا بأنها "الأم الثانية والحاضنة التي غذتني في صباي بفرجل، وفي شبابي بفيكو (113) ". وفي 1826 بدأ أوجست كونت المحاضرات التي أصبحت فيما بعد "مجموعة محاضرات في الفلسفة الوضعية" (1830 - 42)، وفيها يشعر بتأثير فيكو في كل خطوة.
أما الإنصاف الكامل لفيكو فلم يأت إلا على يد رجل نابولي هو بنديتو كروتشي (114)، الذي ألمع هو الآخر إلى أن التاريخ يجب أن يتخذ مكانه إلى جوار العلم أساساً ومدخلاً للفلسفة.
جـ - موسيقى نابلي
تليت نابلي قول فيثاغورس، قرأت أن الموسيقى أرفع ضروب الفلسفة. وقد كتب لالاند، الفلكي الفرنسي، بعد جولة في إيطاليا في 1765 - 66يقول:
"إن الموسيقى هي الانتصار الأعظم للنابوليين، وكأن أغشية طبلة الأذن في ذلك البلد أشد توتراً وتناغماً ورنيناً منها في أي بلد آخر في أوربا. فالأمة كلها تغني. وإيماءات الجسد، والنبرة، والصوت، وإيقاع المقاطع بل والحديث نفسه-كلها تتنفس الموسيقى. ومن ثم كانت نابلي المصدر الرئيسي للموسيقى الإيطالية، ولكبار الملحنين، والأوبرات الممتازة، ففيها أخرج كوريللي وفنتشي ورينالد وجوميللي ودورانتي وليو وبرجوليزي ... وكثير غيرهم من أعلام الملحنين روائعهم (115) ".
على أن نابلي تفوقت في الأوبرا الألحان الصوتية فقط، أما في الموسيقى الآلية فقد عقدت الزعامة للبندقية، وشكا هواة الموسيقى من أن أهل نابلي أحبوا جيل الصوت أكثر من لطائف الهارموني (التوافق) والكونترابنت. هنأ ملك نيكولوبو ريورا، "الذي ربما كان أعظم من عاش من معلمي الغناء (116) ". وكان كل شادٍ إيطالي يصبو إلى أن يكون تلميذه، فإذا قبله(40/69)
احتمل في ذلة شذوذاته العاتية؛ وروى أنه أبقى جايتانو كفاريللي خمس سنوات في صفحة تمارين واحدة، ثم صرفه مؤكداً له أنه الآن أعظم المغنين في أوربا (117). وكان هناك معلم غناء آخر يدعى فرانشيسكو دورانتي، لم يفوقه مرتبة غير يوريورو، وقد علم الغناء لفتشي، وجومللي، ويرجوليزي، وبايزيللو، ويتشيني.
أما ليوناردوفنتشي فقد بدأ معوقاً بسبب اسمه، ولكنه ظفر بالغناء المبكر بتلحينه أوبرا متاستازيو Didone Abband Onate. وقال الجاروتي "أن فرجل نفسه كان يبهجه أن يسمع تلحيناً فيه هذه الحيوية وهذا التعذيب؛ تهجم فيه على القلب والروح كل قوى الموسيقى (118) ". وأشهر منه ليوناردو ليو، في الأوبرا الجادة والهازلة، والاوراتوربو. والقداسات والموتيتات، وقد ترددت نابولي فترة بين الضحك على أوبراه الكوميدية La Finta Fraeastana ( الضجة المفتعلة) والبكاء على لحن Miaerenr ( ارحمني) الذي لحنه لخدمات الصوم الكبير في 1744.
وحين استمع ليو حوالي عام 1735 إلى كنتاتا من تلحين نيكولو جوميللي قال في عجب "لم يمضِ طويل زمن حتى يغدو هذا الفتى محط عجب أوربا وإعجابها .. (119) " وقد حقق جوميللي النبوءة تقريباً. ففي الثالثة والعشرين من عمره ظفر بإطراء نابلي الحماسي على أوبراه الأولى، وفي السادسة والعشرين حقق نصراً مماثلاً في روما. وحين مضى إلى بولونيا قدم نفسه على أنه تلميذ لبادري مارتيني، ولكن حين سمعه ذلك المعلم المبجل يرتجل فوجيه بكل تطورها الكلاسيكي صاح "إذن فمن أنت؟ أتراك تسخر مني؟ إنني أنا الذي يجب أن يتعلم منك" (120). وفي البندقية أثارت أوبراته من الحماسة ما حمل مجلس العشرة على تعيينه مديراً للموسيقى في مدرسة ذوي الأمراض المستعصية، وهناك كتب قطعاً من أفضل موسيقى ذلك الجيل الدينية. وحين انتقل إلى فيينا (1748) أخذ يلحن مع متاستازيو الذي ارتبط معه برباط صداقة وثيقة. وبعد أن حقق مزيداً من الانتصارات في البندقية وروما استقر في شتوتجارد ولودفجسبرج(40/70)
(1753 - 68) رئيساً لفرقة مرتلي دوق فورتمبرج. وهنا عدل أسلوبه الأوبرالي في اتجاه ألماني، فزاد من توافقه تركيباً، وأضفى مزيداً من المادة والثقل لموسيقاه الآلية، وتخلى عن تكرار الألحان من البداية Da Capo وأضاف مصاحبة أوركسترالية للسرديات وأحل الباليه محلاً بارزاً في أوبراته، ربما متأثراً بجان جورج نوفير، أستاذ الباليه الفرنسي في شتوتجرد، وقد مهدت هذه التطورات في موسيقى جوميللي، إلى حد ما، لإصلاحات جلوك.
فلما عاد الملحن المسن إلى نابلي (1768) أنكر الجمهور ميوله التيوتونية، ورفضوا أوبراته رفضاً باتاً. وقد قال موتسارت بعد أن سمع إحداها هناك في 1770 - "إنها جميلة، ولكن أسلوبها أرفع وأقدم مما يحتمله المسرح"، (121) ولقي جوميللي حظاً أفضل بموسيقاه الكنسية. فرتلت موسيقى لحن "ارحمني" و "قداسة للموتى" في العالم الكاثوليكي طولاً وعرضاً. وقد كتب وليم بكفورد بعد استماعه إلى القداس يرتل في لشبونة في 1787 "لم أسمع قط ولعلي لن أسمع ثانية مثل هذه الموسيقى المهيبة المؤثرة" (122). واعتزل جوميللي في بلدته أفرسا بعد أن ادخر لمستقبله بحرص تيوتوني، وأنفق سنواته الأخيرة شيخاً بديناً ثرياً. وفي 1774 شيع جثمانه جميع موسيقيي نابلي البارزين.
وقد ضحك نابلي أكثر حتى مما غنت. فبأوبرا كوميدية غزا برجوليزي باريس بعد أن أبت تلك المدينة المستكبرة دون سائر العواصم الأوربية أن تخضع لأوبرا إيطاليا الجادة. ولم يخض جوفاني باتستا برجوليزي تلك المعركة بشخصه، ووفد على نابلي وهو في السادسة عشرة. وما أن بلغ الثانية والعشرين حتى كان قد كتب عدة أوبرات، وثلاثين صوناتا، وقداسين، حظيت كلها بالإعجاب الشديد، وفي 1733 قدم أوبرا تسمى Il Prigioniero " السجين" وقد لها بمقدمة "الخادمة التي تنقلب سيدة البيت": والنص قصة مرحة تحكي كيف تحتال الخادمة سربينا على سيدها(40/71)
حتى يتزوجها، أما الموسيقى فساعة حافلة بالمرح والألحان الرشيقة. وقد أسلفنا كيف أسر هذا المرح البارع مزاج باريس وقلبها في "حرب المهرجين" في 1752، التي عرضت في الأوبرا مائة مرة، ثم ستاً وتسعين مرة أخرى في 1753 في التياتر فرانسيه. وقاد برجوليزي أثناء ذلك أوبراه "الأولمبياد" في روما (1735)، فقوبلت بعاصفة من صفير الاستهجان، وببرتقالة صوبت بدقة على رأس الملحن. (123) وبعد سنة ذهب إلى بوتسرولي ليعالج من إصابته بالسل، الذي ازداد فداحة من جراء أسلوب حياته الخليع. وقد كفر موته الباكر عن آثامه، ودفنه في الكاتدرائية المحلية الرهبان الكبوشيون الذين أنفق معهم أيامه الأخيرة. أما روما التي ندمت على فعلتها بعثت "الأولمبياد" من جديد، وصفقت لها في طرب شديد، واليوم تحفظ له إيطاليا ذكرى مجيدة لا لفواصله المرحة بقدر ما تحفظها له لرقة العاطفة في "آلام العذراء" التي لم يعش ليكملها. وقد جعل برجوليزي نفسه موضوعاً لأوبراوين.
وقد أصاب دومنيكو سكاربوتي ما أصاب برجوليزي من مبالغة طفيفة نفختها فيه رياح الذوق، ولكن من ذا الذي يستطيع مقاومة تألق براعته وخفة يده؛ ولد في عام العجائب، عام هندل وباخ (1685)، وكان الطفل السادس لألكساندور سكارلاتي، الذي كان آنئذ فردي الأوبرا الإيطالية. وقد تنفس الموسيقى منذ ولد. فقد كان أخوه بييترو، وابن عمه جوزيبي، وعماه فرانشيسكو وتومازو موسيقيين. وكانت أوبرات جوزيبي تخرج في نابلي وروما وتورين والبندقية وفيينا. وخشي الأب أن تختنق عبقرية الفتى دومنيكو بهذه الوفرة في المواهب فبعث به إلى البندقية وهو في العشرين وقال، إن ابني هذا نسر كبر جناحاه، فيجب ألا يبقى في العش، وعلي ألا أعطل طيرانه (124).
وفي البندقية واصل الشاب دراساته والتقى بهندل. ولعلهما قصدا روما حيث دخلا بتحريض من الكردينال أوتوبوني في مباراة ودية على الهاربسكورد ثم على الأرغن. وكان دومنيكو يومها أفضل عازف على(40/72)
الهاربسكورد في إيطاليا، ولكن يروى أن هندل لم يكن دونه مهارة عليهم، أما على الأرغن فإن سكارلاتي اعترف بصراحة بتفوق "السكسوني العزيز" عليه. وتوثقت الصداقة بين الرجلين، وهذا أمر عسير جداً على كبار الممارسين لفن واحد، ولكن يقول معاصر لهما أن "دومنيكو كان صاحب طبع غاية في اللطف وسلوك غاية في النبل" (125). أما هندل فكان قلبه كبير كهيكله. ومنع الإيطالي تواضعه وحياؤه من عرض براعته في العزف على الهاربسكورد أمام الجماهير. ونحن نعرفها من أخبار السهرات الموسيقية الخاصة فقط. وقد خيل لأحد سامعيه في روما (1714) "أن عشرة آلاف شيطان كانوا يعزفون على الآلة" إذ لم يسمع قط من قبل "مثل هذه الفقرات تنفيذاً وتأثيراً" (126) وكان سكارلاتي أو من طور إمكانات لوحة مفاتيح اليد اليسرى بما في ذلك إمرارها فوق اليد اليمنى. قال "إن الطبيعة منحتني عشرة أصابع، وبما أن آلتي تتيح تشغيلها جميعاً، فلست أرى سبباً ألا أستعملها" (127).
وفي 1709 قبل وظيفة "مايسترو دي كابللا" لمملكة بولندا السابقة ماريا كازيميرا. ذلك أنها بعد موت زوجها جان سويبكي نفيت لاعتبارها دساسة مثيرة للقلاقل. فلما قدمت إلى روما في 1699 صممت على إنشاء ندوة تحفل بالعبقريات كصالون كرستينا ملكة السويد التي ماتت قبل ذلك بعشر سنين. فجمعت الكثير من رواد صالون كرستينا السابقين في قصر على ميدان "ترينيتا دي مونتي" وفيهم عدة أعضاء في الأكاديمية الأركادية. وهناك (1709 - 14) أخرج سكارلاتي عدة أوبرات. ولما شجعه نجاحها، قدم "أمليتو" (هاملت) على مسرح الكايرانيكو. ولم تلق قبولاً حسناً من الجمهور. ولم يعد دومنيكو بعدها قط لتقديم أوبرا لجمهور إيطالي. فلقد وضع أبوه مستوى للأوبرا كان أعلى من أن يدركه.
وظل أربع سنين (1715 - 19) يقود الكابيلا جوليا بالفاتيكان، ويعزف الأرغن في كاتدرائية القديس بطرس؛ ثم لحن الآن "آلام العذراء" التي حكم الجمهور عليها بأنها "رائعة أصلية" (128) وفي 1719، قاد أوبراه(40/73)
"نار تشيزو" في لندن. ثم نجده بعد عامين في لشبونة قائداً لفرقة المنشدين للملك يوحنا الخامس ومعلماً لأبنة الملك ماريا بربارا، التي أصبحت بفضل تعليمه عازفة ماهرة على الهاربسكورد، ومعظم صوناتاته الباقية ألفها باستعماله. فلما عاد إلى نابلي (1725) تزوج وهو في الثامنة والأربعين بماريا جنتيلي التي لم تتجاوز السادسة عشرة، وفي 1729 اصطحبها إلى مدريد. في تلك السنة تزوجت ماريا بربارا من فرديناند، ولي عهد أسبانيا. فلما انتقلت معه إلى إشبيلية رافقها سكارلاتي وظل في خدمتها إلى أن ماتت.
وماتت زوجة سكارلاتي في 1739 مخلفة له خمسة أطفال. وتزوج ثانية، وسرعان ما أصبح الخمسة تسعة. فلما أصبحت ماريا بربارا ملكة على أسبانيا (1746) جلبت أسرة سكارلاتي معها إلى مدريد. وكان فارنيللي الموسيقي الأثير لدى الملك والملكة، ولكن المغني والعازف أصبحا صديقين حميمين. وكانت وظيفة سكارلاتي وظيفة خادم مميز، ويمد البلاط الأسباني بالموسيقى. وحصل على إذن بالذهاب إلى دبلن في 1740 وإلى لندن في 1741؛ ولكنه كان أكثر الوقت يعيش في قناعة هادئة بمدريد أو قربها، متوارياً عن العالم تقريباً، لا يخامره الظن على الأرجح بأنه سيكون أثيراً لدى عازفي البيانو في القرن العشرين.
ولم ينشر سكارلاتي في حياته سوى ثلاثين صوناتا من بين 555 صوناتا تستند الآن إليها شهرته استناداً قلقاً بفضل حلياتها النغمية. وقد دل عنوانها المتواضع (تمارين على الهاربسكورد) على هدفها المحدود، وهو ارتياد إمكانات التعبير بتقنية الهاربسكورد. وهي ليست صوناتات إلى بالمعنى الأقدم للفظ، أي قطع آلية "تعزف" ولا تغنى. ولبعضها موضوعات متعارضة، وبعضها تزاوج في مقامات كثيرة وصغيرة، ولكنها كلها في حركة مفردة لم تبذل فيها أي محاولة لتفصيل الموضوع وتلخيصه. وهي تمثل تحرر موسيقى الهاربسكورد من تأثير الأرغن، وتلقى التأثيرات من الأوبرا بمؤلفات للوحة المفاتيح. وقد تفوقت على حيوية أصوات السوبرانو والمغنين ورقتها ورعشاتها وحيلها بالأصابع الخفيفة الرشيقة الطيعة لخيال لعوب مسرف.(40/74)
لقد "لعب" سكارلاتي الهاربسكود بمعنى الكلمة الحرفي. يقول في هذا: "لا تتوقعوا أي عمق في العلم، بل معابثة بارعة للفن" (129). وهناك أثر في الرقص الأسباني وما فيه من أرجل طافرة وتنورات مدومة وصاجات رنانة تحسه في هذه التموجات والتدفقات؛ وفي كل موضع من الصوناتات تجد استسلام العازف للذة التحكم في آلته (130).
ولابد أن هذا الفرح بالآلة كان من بواعث السلوى لسكارلاتي في سنوات خدمته تلك في أسبانيا. وقد نافسته لذة لعب الميسر الذي أتى على الكثير من معاشه، واضطرت الملكة إلى سداد ديونه غير مرة. ثم ساءت صحته بعد عام 1751، وزادت تقواه وورعه. وفي 1754 عاد إلى نابلي ومات فيها بعد ثلاث سنين. وتولى فارنيللي الطيب إعالة أسرته المعوزة.
وقد أرجأنا الكلام على سيرة فارنيللي الغريبة في أسبانيا حتى فصل لاحق. وقد يكون هو ودومنيكو سكارلاتي، وجامباتستا ودومنيكو تيبولو، من الإيطاليين الموهوبين الذين كان لهم الفضل، هم ومنجز المتطلين تقريباً، في استخدام الموسيقى والفن الإيطاليين في البعث الأسباني. وفي 1759 لحق بهم ملك نابلي أو يبقهم. ففي ذلك العام مات فرديناند السادس دون عقب، وورث أخوه شارل الرابع ملك نابلي العرش الأسباني باسم شارل الثالث. وأسفت نابلي على رحيله عنها. وكان هذا الرحيل في أسطول من ست عشرة سفينة يوم عطلة حزينة لأهل نابلي، فاجتمعوا في حشود كبيرة بطول الشاطئ ليشاهدوه وهو يقلع، ويروى أن كثيرين منهم بكوا وهو يودعون "ملكاً أثبت أنه أب لشعبه" (131). وقد كتب له أن يتوج أعماله ببث الشباب في حياة أسبانيا.(40/75)
الفصل العاشر
البرتغال وبومبال
1706 - 1782
1 - يوحنا الخامس
1706 - 1750
لم اضمحلت البرتغال بعد أيامها المجيدة التي أنجبت ماجلان وفاسكو داجاما وكاموئيس؟ لقد كان في جسدها وروحها يوماً ما من الهمة ما يكفي لإرتياد نصف الكرة وإنشاء المستعمرات الجريئة في ماديرا، والأزور، وأمريكا الجنوبية، وأفريقيا، ومدغشقر، والهند وملقا، وسومطرة. أما الآن، في القرن الثامن عشر، فقد باتت نتوءاً ضئيلاً لأوربا، مقيدة إلى إنجلترا في التجارة والحرب، ويغذيها ذهب البرازيل وماسها اللذان يصلان إليها بإذن الأسطول البريطاني. فهل أنهكت قواها لفرط ما قدمت من الرجال البواسل لتملك هذا العدد العديد من المخافر الأمامية القلقة التوازن على أطراف المعمورة؟ أم لعل تدفق الذهب عليها نزح الحديد من عروقها وأوهن طبقاتها الحاكمة فانتكست من حياة الإقدام والمغامرة إلى حياة اللين والدعة؟
أجل، لا بل أنه من قوة الصناعة أيضاً. فأي جدوى في محاولة تبذلها لتنافس مهرة الصناع أو ملتزمي الصناعة الإنجليز أو الهولنديين أو الفرنسيين في الحرف أو الصناعات، ما دام في طاقتها شراء ما تستورده من الكساء والغذاء وأسباب الترف والنعيم بالذهب المستورد؟ فأما الأغنياء الذين يتاجرون بالذهب فقد أصبحوا أكثر غنى، ازدادوا فخامة ملبس وبهاء زينة، وأما الفقراء الذين حيل بينهم وبين ذلك الذهب فقد ظلوا يتردون في فقرهم لا يحثهم على الكد والعرق غير حافز الجوع. وأدخل(40/76)
تشغيل الرقيق في مزارع كثيرة، وملأ المتسولون المدن ضجيجاً بصيحاتهم. وقد كتب عنهم وليم بكفورد حين سمعهم في 1787 يقول "ليس بين الشحاذين قاطبة من يضارع شحاذي البرتغال قوة رئات، ووفرة قروح، وكثرة حشرات، وتنوع أسماك، وترتيب خرق؛ ومثابرة لا تهاب .. أن عددهم لا يحصى، عمي، صم، جرب (1) ".
ولم تكن لشبونة يومها هذه المدينة الجميلة التي نعهدها اليوم. لقد كانت الكنائس والأديرة غاية في البهاء، وقصور النبلاء فسيحة ضخمة، ولكن نسبة لا تقل عن عشر السكان بغير مأوى، وكانت الأزقة الملتوية تفوح منها رائحة القمامة والقذارة (2). ومع ذلك فهنا، كما في سائر بلاد الجنوب، عوض الفقر بأسباب العزاء من الأيام المشمسة، والأمسيات المزدانة بالنجوم، والموسيقى، والدين، والنساء المتدينات ذوات العيون التي تعذب الناظرين. وكان القوم يتدفقون في الشوارع بعد أن تخف وقدة القيظ لا يعوقهم لدغ البراغيث في أجسامهم ولا طنين البعوض في الهواء، فيرقصون ويغنون ويعزفون على القياثير ويقتتلون للفوز بابتسامة من عذراء.
وكانت المعاهدات (1654، 1662، 1703) قد قيدت البرتغال بإنجلترا في تكافل عجيب حالف بينهما في الاقتصاد والسياسة الخارجية وأبقاهما في الوقت نفسه أشد ما تكونان تبايناً في العادات وخصومة في العقيدة. وتعهدت إنجلترا بحماية استقلال البرتغال والسماح باستيراد النبيذ البرتغالي (البورت من أوبورتو) برسم جمركي مخفض جداً. أما البرتغال فتعهدت بالسماح باستيراد المنسوجات الإنجليزية معفاة من الرسوم، وبالوقوف في صف إنجلترا في أي حرب تنشب. ونظر البرتغاليون إلى الإنجليز على أنهم زنادقة هالكون يملكون أسطولاً قوياً، ونظر الإنجليز إلى البرتغال على أنهم قوم جهلة متعصبون يملكون المواني الاستراتيجية. وسيطر رأس المال البريطاني على الصناعة والتجارة البرتغاليتين. كتب بومبال يشكو من هذه الأوضاع في شيء من المبالغة:
"في سنة 1754 لم تكد البرتغال تنتج أي شيء يعينها على الاستكفاء.(40/77)
فثلثا الضروريات المادية تزودهما إنجلترا. وغدت إنجلترا السيد المتصرف في تجارتنا كلها، وكان الوكلاء الإنجليز يديرون تجارتنا الخارجية بجملتها .. فهم يملكون كل شحنات السفن المقلعة من لشبونة إلى البرازيل، ومن ثم يملكون الثروة العائدة بديلاً عن هذه الشحنات. فلم يكن شيء برتغالياً إلا بالاسم فقط (3) ".
ومع ذلك وصل إلى يد الحكومة البرتغالية من ذهب المستعمرات وفضتها وأحجارها الكريمة ما يكفي لتميل مصروفاتها ولجعل الملك مستقلاً عن مجلس الشعب وسلطانه الضريبي. وهكذا عاش يوحنا الخامس، طوال ملكه الذي امتد أربعة وأربعين عاماً، يرفل في رغد من العيش كأنه أحد سلاطين الشرق؛ ويلطف من تعدد نسائه بالثقافة ويجمله بالولاء للكنيسة. فوهب الأموال الطائلة أو أقرضها للبابوية، وتلقى نظير ذلك لقب "صاحب الجلالة العظيم الإيمان" بل نال حتى حق تلاوة القداس-دون حق تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. قال فردريك الأكبر "كانت لذاته في الوظائف الكهنوتية، ومبانيه أديرة، وجيوشه رهباناً وخليلاته راهبات (4) ".
وأثرت الكنيسة بفضل هذا الملك الذي يدين لها بالكثير جداً من الغفرانات. فملكت نصف الأراضي (5)، وشغل أتباعها تسعمائة دار دينية. وبلغ عدد الكنسيين من مختلف الرتب أو الملحقين بالمؤسسات الدينية زهاء 200. 000 في أمة تعد مليونين من الأنفس. وأختص اليسوعيون بمكان الصدارة المرموق سواء في أرض الوطن وفي المستعمرات، فلقد ساهموا في الفوز بالبرازيل للبرتغال، ولقي نفر منهم الترحيب في البلاط، وتمكن بعضهم التسلط على الملك. وكان الملك في موكب (عيد القربان) العظيم يحمل أعمدة المظلة التي حمل تحتها بطريرك لشبونة السر المقدس. فلما تعجب الإنجليز لمنظر طريق الموكب يصطف على جانبيه الجند والمصلون وكلهم عاري الرأس جاثٍ على ركبتيه، قيل لهم في تفسير هذا المشهد أن مثل هذه(40/78)
المراسم وعرض الآنية النفيسة والرفاة المعجز في الكنائس، عامل رئيسي في حفظ النظام الاجتماعي بين الفقراء.
وكانت محاكم التفتيش خلال ذلك ساهرة على نقاء عقيدة الأمة ودمائها. وقد كبح يوحنا الخامس من سلطان هذه المؤسسة بحصوله على مرسوم من البابا بندكت الثالث عشر يسمح لسجنائها بأن يدافع عنه المحامون ويشترط مراجعة الملك لجميع أحكامها (6). ومع ذلك كان لهذه المحكمة من النفوذ والسلطان ما مكنها من إحراق ستة وستين شخصاً في لشبونة على مدى أحد عشر عاماً (1732 - 42) من بينهم أنطونيو خوزيه دا سيلفا كبير كتاب العصر المسرحيين البرتغاليين، الذي اتهم بأنه يضمر اليهودية. وفي يوم إعدامه (19 أكتوبر 1739) مثلت إحدى مسرحياته في ملهى لشبونة (7).
وأحب يوحنا الخامس الموسيقى والأدب والفن. فاستقدموا الممثلين الفرنسيين والموسيقيين الإيطاليين إلى عاصمة ملكه. ثم أنشأ أكاديمية التاريخ الملكية. ومول القناة الكبرى التي تمد لشبونة بالماء. وأنفق خمسين مليوناً من الفرنكتات ليشيد دير مافرا (1717 - 32)، الذي يفوق الأسكوريال سعة، والذي ما زال من أروع ما تحويه شبه الجزيرة الأيبيرية من صروح. ورغبة في تزيين داخل الدير استعار من أسبانيا أعظم مصوري القرن البرتغاليين.
وكان هذا المصور-فرانسسكوفييرا-البالغ آنذاك الرابعة والثمانين من عمره يمزج العشق والفن في شاعرية افتتنت بها البرتغال بأسرها. ولد بلشبونة في 1699، ووقع في غرام أجنيز إيلينا دي ليما وهما بعد طفلان. وإذ كان مولعاً بالتصوير أيضاً، فقد ذهب إلى روما في التاسعة ودرس فيها سبع سنين، ولما بلغ الخامسة عشرة فاز بالجائزة الأولى في مسابقة قدمتها أكاديمية القديس لوقا. وحين عاد في 1715أختاره يوحنا الخامس ليرسم صورة "سر التناول" وروي أنه أتمها في ستة أيام. ثم أنطلق باحثاً عن أجنيز، فرده عنها أبوها النبيل وحبس الفتاة في دير للراهبات. فلجأ فرانسسكو إلى الملك، ولكنه أبى أن يتدخل في الأمر. فقصد روما وحصل على مرسوم(40/79)
بابوي يلغي نذور أجنيز الديرية ويصرح بزواجه منها. ولكن السلطات البرتغالية تجاهلت المرسوم. فتنكر فرانسسكو في زي بناء بعد أن عاد إلى لشبونة، ودخل الدير وخطف حبيبته وتزوجها. فأطلق عليه أخوها الرصاص، ولكنه شفي من إصابته وغفر لمهاجمه. وعينه يوحنا الخامس مصوراً للبلاط. ولم يكتف بتكليفه تزيين دير مافرا بل وكل إليه تجميل القصور الملكية. وبعد موت أجنير (1775) أنفق فرانسسكو ما بقي من أجله في الاعتكاف الديني وأعمال البر. كم من قصص كهذه تروي مغامرات الروح والدم ضاعت وراء واجهات التاريخ؟
2 - بومبال واليسوعيون
مات يوحنا الخامس عام 1750 بعد أن قضى ثمانية أعوام يعاني الشلل والعته، وبدأ ابنه يوسف الأول (خوزيه مانويل) حكماً حافلاً بالأحداث. فعين في وزارته وزيراً للحرب والشؤون الخارجية يدعى سباستيا وخوزيه دي كافالو اي ميللو، الذي يعرفه التاريخ باسم المركيز بومبال، أعظم وأرهب من حكم البرتغال في أي عهد من عهودها.
كان قد بلغ الحادية والخمسين من عمره حين ارتقى يوسف العرش. تلقى العلم على أيدي اليسوعيين في جامعة كويمبرا، واكتسب أول شهرته رياضياً وزعيماً مشاغباً لعصابة "الموهوك" التي عاثت فساداً في شوارع لشبونة. وفي 1733 أغرى النبيلة دونا تريزا نورونها بالفرار معه. فتبرأت منها أسرتها، ثم تبينت موهبته فأعانته على الترقي في حرفة السياسة. وأتته زوجته بثروة صغيرة، وورث مالاً آخر من عم له. وشق طريقه بالوساطة والإلحاح والكفاية الواضحة. وفي 1739 عين وزيراً مفوضاً لدى لندن، واعتكفت زوجته في أحد الأديرة حيث ماتت في 1745 وخلال السنوات الست التي قضاها بومبال في لندن درس الاقتصاد ونظام الحكم الإنجليزيين ولحظ طاعة الكنيسة الأنجلكانية للدولة، ولعله نفض عنه بعض إيمانه الكاثوليكي. ثم عاد إلى لشبونة (1744)، وأوفد مبعوثاً إلى فيينا (1745)، وهناك تزوج(40/80)
ابنة أخ للمرشال داون الذي كتب له الظفر بالخلود لأنه هزم فردريك مرة، وقد ظلت عروسه الجديدة وفية له طوال ما أحرزه من انتصارات وما مني به من هزائم.
وكان يوحنا الخامس عديم الثقة به لأن له "قلباً فضاً" (8). ولأنه "سليل أسرة قاسية محبة للثأر" (9) ولأن فيه القدرة على أن يتحدى ملكاً. ومع ذل استدعي بومبال إلى أرض الوطن عام 1749، ورقي إلى منصب الوزارة بفضل تأييد اليسوعيين. وثبته يوسف الأول في وظيفته. وسرعان ما أتاح له ذكاؤه المقرون بالجد والاجتهاد أن يسيطر على الوزارة الجديدة. كتب قائم بالأعمال فرنسي يقول "يمكن اعتبار كافالو الوزير الأول، فهو سريع البت وافر النشاط لا يعتريه كلل. ولقد كسب ثقة مولاه الملك، ولم يظفر بها أحد أكثر منه في جميع شؤون السياسة" (10).
وظهر تفوقه واضحاً جلياً في الزلزال الكبير الذي زلزل لشبونة في أول نوفمبر 1755. ذلك أنه في الساعة 9. 40 صباح عيد جميع القديسين بينما كان معظم السكان يصلون في الكنائس، زلزلت المدينة بهزات أربعة أحالت نصفها أنقاضاً، وقتلت أكثر من خمسة عشر ألف شخص، ودمرت اكثر الكنائس، وأبقت على معظم المواخير (11) وعلى بيت بومبال. وهرع كثير من السكان فزعاً إلى شواطئ تاجه، ولكن موجة مد بلغ ارتفاعها خمس عشرة قدماً أغرقت مزيداً من الأنفس. وفي غمار الفوضى التي ضربت أطنابها بدأ السفلة من الغوغاء يسرقون ويقتلون وهم آمنون. أما الملك الذي لم يفلت هو نفسه من الموت إلا بشق الأنفس، فقد طلب إلى وزرائه أن يشيروا عليه بما ينبغي صنعه. ويقال أن بومبال أجاب "علينا أن ندفن الموتى ونقدم الغوث للأحياء". وأطلق يوسف يده، واستعمل بومبال سلطته بما تميز به من همة وسرعة. فعين الجند لحفظ النظام وأقام الخيام والمعسكرات لإيواء من باتوا بغير مأوى. وأمر بأن يشنق فوراً كل من وجد يسرق الموتى. ثم حدد أسعار المؤن بما لا يزيد على أسعارها(40/81)
السائدة قبل الزلزال، وألزم جميع السفن الوافدة أن تفرغ شحناتها من الطعام وتبعها بتلك السعار. وأعانه تدفق الذهب البرازيلي الذي لم ينضب، فأشرف على إعادة بناء لشبونة سريعاً بطرق مشجرة عريضة وشوارع جيدة الرصف والإضاءة. وقلب المدينة كما نراه اليوم من صنع المعماريين والمهندسين الذين اشتغلوا تحت إشراف بومبال (12).
وكان لنجاحه في هذه الكارثة التي أضعفت معنوية الأمة الفضل في ترسيخ قدمه في الوزارة واضطلع الآن بعملين بعيدي الأثر: أولهما تخليص الحكم من سيطرة الكنيسة، والآخر تحرير الاقتصاد من سيطرة بريطانيا. وتطلبت المهمتان رجلاً أوتي صلابة الفولاذ إلى صفات الوطنية والإباء ومضاء العزيمة التي لا تعرف شفقة أو رحمة.
وإذا كان عداؤه للأكليركية قد تركز على اليسوعيين فإنما السبب الأول هو أنه توجس منهم إثارة المقاومة لتملك البرتغال للأقاليم البارجوانية التي كان اليسوعيين منذ عام 1605 ينظمون فيها أكثر من 100. 000 هندي في إحدى وثلاثين مستوطنة، على أساس شبيه بالأنظمة الشيوعية في خضوع شكلي لأسبانيا (13). وكان الرواد من الأسبان والبرتغال قد سمعوا بوجود الذهب (الأسطوري تماماً) في تربة باراجوي. وشكا التجار من أن الآباء اليسوعيين يحتكرون تجارة الصادر الباراجوي ويضيفون الأرباح إلى أموال طائفتهم. ففي 1750 فاوض بومبال لعقد معاهدة نزلت البرتغال بمقتضاها لأسبانيا عن مستعمرة سان سكرومنتو الغنية (على مصب الريودي لابلاتا) بديلاً عن سبع من المستوطنات اليسوعية المجاورة للحدود البرازيلية. واشترطت المعاهدة أن يهاجر الثلاثون ألف هندي المقيمون في هذه المستوطنات إلى أقاليم أخرى ويتخلوا عن الأرض للبرتغال الوافدين. وأمر فرديناند السادس ملك أسبانيا يسوعيي باراجوي بالرحيل عن المستوطنات وبإصدار الأمر لرعاياهم بالرحيل هدوء. وزعم اليسوعيون أنهم امتثلوا لهذه الأوامر، أما الهنود فقاموا في إصرار غاضب عنيف اقتضى التغلب عليه جيشاً برتغالياً ثلاث سنين. واتهم بومبال جماعة اليسوعيين بتشجيع هذه المقاومة سراً.(40/82)
فعقد العزم على أن ينهى كل مشاركة لليسوعيين في الصناعة والتجارة والحكومة البرتغالية. فلما أدرك يسوعيو البرتغال نيته تضافرت جهودهم للإطاحة به.
وكان قائدهم في هذه الحركة جابرييل مالاً جريداً، الذي ولد بمنادجو (على بحيرة كومو) عام 1689، وتميز على أقرانه في المدرسة بما مارس من غض يديه حتى يدميهما، وكان يقول أنه بهذه الطريقة يعد نفسه لتحمل آلام الاستشهاد. ثم التحق بجمعية اليسوعيين، وأبحر إلى البرازيل مبعوثاً. وراح يبشر الهنود في الأدغال بالإنجيل من 1724 إلى 1735. وأفلت من الموت عدة مرات-من أكلة لحوم البشر، ومن التماسيح، ومن الغرق في السفينة، ومن المرض. وابيضت لحيته في بواكير كهولته. ونسبت إليه قوى خارقة، وكانت الجموع المترقبة تتبعه أينما ظهر في مدن البرازيل. وبنى الكنائس والأديرة، وأسس المدارس اللاهوتية. وفي 1747 قدم على لشبونة في طلب المال من الملك يوحنا. وحصل عليه، ثم أبحر قافلاً إلى البرازيل وأسس المزيد من البيوت الدينية، وكثيراً ما شارك بيديه في أعمال البناء. وفي 1753 عاد إلى لشبونة ثانية، لأنه كان قد وعد بأن يعد الملكة الأم للقاء ربها. وقد عزا زلزال 1755 لخطايا الشعب، وطالب بإصلاح الأخلاق، وتنبأ مع غيره من أفراد طائفته بمزيد من الزلازل إن لم تنصلح الأخلاق. وأصبح بيت خلوته الدينية بؤرة للمؤامرات ضد بومبال.
وكان بعض أسر النبلاء ضالعين في هذه المؤامرات. واحتجوا بأن ابن مالك أرض ريفي حقير قد سود نفس على البرتغال، وقبض على مقاليد حياتهم ومقدراتهم. وكان أحد هذه الأحزاب الأرستقراطية تحت زعامة دوم خوزيه دي ماسكارينهاس، دوق أفيرو، وآخر يرأسه ابن أخي الدوق وهو المركيزة دونا ليونور، إحدى زعيمات المجتمع البرتغالي، تلميذة شديدة التحمس للأب مالاً جريداً كثيرة التردد عليه. وكان أكبر أبنائها، الدوم لويز برناردو، "مركيز طابوره الأصغر" متزوجاً من عمته. فلما(40/83)
رحل لويز إلى الهند جندياً، أصبحت هذه "المركيزة الصغيرة" الفاتنة الرائعة الجمال خليلة ليوسف الأول، وهذا أيضاً لم ينسه قط آل أفيرو وطابوره. وافقوا اليسوعيين صادقين على أنه لو أزيح بومبال لتحسن الموقف.
ورد بومبال بإقناع يوسف بأن جمعية اليسوعيين تشجع سراً المزيد من الثورة في بارجواي، وأنها لا تتآمر على الوزارة فحسب بل على الملك أيضاً. ففي 19 سبتمبر 1757 أقصى مرسوم ملكي عن البلاط أباء اعتراف الأسرة المالكة اليسوعيين. وأمر بومبال ابن عمه، فرانسسكو دي المادا إي مندونسا، المبعوث البرتغالي لدى الفاتيكان، بألا يظن بالمال في سبيل تشجيع وتمويل الحزب المناوئ لليسوعيين في روما. وفي أكتوبر قدم المادا لبندكت الرابع عشر قائمة بالتهم الموجهة إلى اليسوعيين: اتهموا بأنهم "ضحوا بكل العهود والواجبات المسيحية، والدينية، والطبيعية، والسياسية في رغبة عمياء ... في جعل أنفسهم سادة على الحكومة". وبأن الجمعية مدفوعة "بشره لا يشيع لاقتناء الأموال الأجنبية وتكديسها، بل حتى لاغتصاب أملاك الملوك (14) "، وفي أول إبريل 1758 أمر البابا الكردينال دي سالدانها، بطريرك لشبونة، بالتحقيق في هذه التهم. وفي 15 مايو نشر سالدانها مرسوماً يعلن أن اليسوعيين البرتغال يمارسون التجارة. "مخالفين بذلك جميع القوانين السماوية والبشرية"، وأمرهم بالكف عنها. وفي 7 يونيو، بتحريض من بومبال في أغلب الطن، وأمرهم بالامتناع عن سماع الاعترافات أو عن الوعظ. وفي يوليو نفي يسوعي لشبونة إلى مسافة ستين فرسخاً عن القصر الملكي: وخلال ذلك (3 مايو 1758) مات بندكت الرابع عشر، فعين خليفته كلمنت الثالث عشر لجنة تحقيق أخرى، قررت أن اليسوعيين براء من التهم التي رماها بها بومبال (15).
وخامر الناس بعض الشك في أن يوسف الأول سيؤيد وزيره في هجومه على اليسوعيين، ولكن تحولاً فجائياً في الأحداث دفه الملك دفعاً تماماً إلى صف بومبال. ذلك أن يوسف كان في ليلة الثالث من سبتمبر 1758 قافلاً إلى قصره القريب من بيليم من لقاء غرام سري مع مركيزة طابوره(40/84)
في أغلب الظن (16). وقبيل منتصف الليل انبعث ثلاثة رجال مقنعين من عقد قناة وأطلقوا المار على المركبة دون أن يصيبوا هدفهم. وأطلق السائق لجواده العنان، وما هي إلا لحظة حتى انطلقت رصاصتان من كمين آخر، وأصابت الأولى السائق والأخرى الملك في كتفه وذراعه اليمينين. وقررت محكمة تحقيق لاحقة أن كميناً ثالثاً أعده أفراد من آل طابوره كان ينتظر المركبة على مسافة أبعد على الطريق العام إلى بيليم. ولكن يوسف أمر السائق أن يحيد عن الطريق الرئيسي ويقصد بيت جراح الملك، الذي ضمد جراح الرجلين. ولعل الأحداث التالية التي أحدثت ضجة في جميع أرجاء أوربا، كانت تختلف كل الاختلاف لو نجح الكمين الثالث في الاغتيال المبيت.
وتصرف بومبال بتدبر ودهاء. فنفيت إشاعات الهجوم رسمياً، وعزى اعتكاف الملك المؤقت إلى كبوة كباها، وظل جواسيس الوزير ثلاثة أشهر يجمعون الأدلة. فوجدوا رجلاً يشهد بأن انطونيو فريرا استعار بندقية منه في 3 أغسطس وردها إليه في 8 سبتمبر. وقيل أن رجلاً قال أن فريرا استعار مسدساً منه في 3 سبتمبر ورده بعد أيام. وقال الشاهدان أ، فريرا في خدمة دوق أفيرو وشهد سلفادور دوراو؛ وهو خادم في بيليم، بأنه في ليلة الهجوم، بينما كان في لقاء خارج بيت أفيرو، سمع عفواً أفراداً من أسرة أفيرو عائدين من مغامرة ليلية.
وأعد بومبال لقضيته في حيطة وجرأة. فضرب صفحاً عن الإجراء الذي يتطلبه القانون، والذي كان سيحاكم الأشراف المشبوهين أمام محكمة من كبار النبلاء؛ ومحكمة كهذه لن تدينهم أبداً. وبدلاً من هذا، أصدر الملك في 9 ديسمبر مرسومين، وكان هذا الإصدار أول كشف علني عن الجريمة: فعين المرسوم الأول الدكتور بدور جونسا لفيس بيريرا قاضياً يرأس محكمة خاصة بقضايا الخيانة العظمى، وأمره الآخر بأن يميط اللثام عن المسئولين عن محاولة قتل الملك ويقبض عليهم ويعدمهم. وخول جونسا لفيس بريرا سلطة إغفال جميع الأشكال المألوفة للمحاكمات، وأمرت المحكمة(40/85)
بتنفيذ أحكامها يوم إعلانها. وأضاف بومبال إلى المراسيم بياناً رسمياً علق في جميع أرجاء المدينة، يروي أحداث 3 سبتمبر، ويعد بمكافأة أي شخص يقد الأدلة التي تعين على القبض على القتلة (17).
وفي 13 ديسمبر قبض 13 موظفاً حكومياً على دوق أفيرو، وعلى ابنه المركيز جوفيا البالغ من العمر ستة عشر عاماً، وعلى خادم أنطونيو فريرا، وعلى مركيزي طابوره الأب والابن، وعلى المركيزة طابوره الأم، وعلى كل خدم الأسرتين، وعلى خمسة نبلاء آخرين. وطوق الجند في ذلك اليوم جميع الكليات اليسوعية، وأودع السجن مالاجريدا واثنا عشر آخرون من زعماء اليسوعيين. وتعجيلاً للفصل في الأمر، أباح مرسوم ملكي صدر في 20 ديسمبر (بخلاف ما جرى عليه العرف في البرتغال) استعمال التعذيب لاستخلاص الاعترافات من المتهمين. وفحص خمسون سجيناً بالتعذيب أو التهديد بالتعذيب. وورطت عدة اعترافات دوق أفيرو، واعترف هو نفسه بذنبه تحت وطأة التعذيب، واعترف أنطونيو فريروا أنه أطلق المار على المركبة، ولكنه أقسم أنه لم يكن يعلم أن ضحيته المحتمل هو الملك. وتحت وطأة التعذيب عرض عدة خدم تلك الأسرة بجملتها للخطر، واعترف المركيز الابن باشتراكه، أما المركيز الأب الذي عذب حتى كاد يلفظ أنفاسه فقد أنكر أنه مذنب. وكان بومبال ذاته يحضر فحص الشهود والمسجونين. وكان قد أمر بتفتيش البريد، فزعم الآن أنه وجد ضمنه أربعاً وعشرين رسالة كتبها دوق أفيرو، وعدة أفراد من آل طابوره، ومالاجريدا وغيره من اليسوعيين، لإحاطة أصدقائهم أو أقربائهم في البرازيل بالمحاولة الفاشلة، واعدينهم بمزيد من الجهود لقلب الحكومة. وفي 4 يناير 1759 عين الملك الدكتور أورزيبيو تافاريس دي سكوبرا للدفاع عن المتهمين. ودفع سكوبرا بأن الاعترافات التي انتزعت تحت التعذيب عديمة القيمة في الدلالة على الجريمة، وأن جميع النبلاء المتهمين يستطيعون إثبات غيابهم ليلة الجريمة. على أن المحكمة قضت بأن الدفاع غير مقنع، ورأت أن الرسائل المعترضة صحيحة وأنها تؤيد الاعترافات، وفي 12 يناير حكمت المحكمة بأن جميع المتهمين مذنبون.(40/86)
وأعدم تسعة منهم في 13 يناير في ميدان بيليم العام، وأول من تقر إعدامه كان مركيزة طابوره الأم. فانحنى الجلاد ليوثق قدميها وهي على المقصلة فدفعته قائلة "لا تمسني إلا لتقتلني" (18) وبعد أن أكرهت على رؤية العدة التي سيموت بها زوجها وابناها-وهي دولاب التعذيب، والمطرقة والحطب-ضرب عنقها. وحطم ولداها على الدولاب ثم شنقا، وظلت جثتاهما على المشنقة حين صعد إليها دوق أفيرو ومركيز طابوره الأب. وذاقا مرارة الضربات المحطمة ذاتها، وترك الدوق ليطول عذابه حتى تم إعدامه آخر المتهمين-وهو أنطونيو فريرا الذي أحرق حيا. ثم أحرقت جميع الجثث وذر رمادها في نهر تاجه. ومازال الجدل قائماً في البرتغال حول هؤلاء النبلاء، هل تعمدوا حقاً قتل الملك الأم لا؟ هذا مع التسليم بعدائهم لبومبال.
أكان اليسوعيون ضالعين في تلك المحاولة؟ لم يكن هناك في أن مالاجريدا في غضباته المضربة كان قد تنبأ بسقوط وبموت الملك وشيكاً، (19) ولم يكن هناك شك في أنه هو وآخرون من اليسوعيين كانوا قد اجتمعوا مرات بأعداء الوزير من الأشراف. وكان قد دل ضمناً على علمه بمؤامرة ما بكتابته إلى إحدى نبيلات البلاط يرجوها أن تنبه يوسف إلى الحذر من خطر وشيك. فلما سئل وهو في السجن كيف علم بهذا الخطر أجاب في "كرسي الاعتراف" (20). وفي غير هذا (كما يقول مؤرخ من خصوم اليسوعيين) "ليس هناك دليل إيجابي يربط اليسوعيين بهذا الاعتداء" (12). ولكن بومبال اتهمهم بإثارة حلفائهم بوعظهم وتعاليمهم إثارة دفعتهم إلى محاولة الاغتيال. وأقنع الملك أن الموقف يتيح للملكية الفرصة لتعزيز قوتها إزاء الكنيسة. وعليه ففي 19 يناير أصدر يوسف مراسيم بضم جميع ممتلكات اليسوعيين في المملكة، وبإلزام جميع اليسوعيين بيوتهم أو مدارسهم حتى يفصل البابا في التهم الموجهة إليهم. واستعمل بومبال أثناء ذلك مطبعة الحكومة ليطبع-ويوزع عماله على نطاق واسع في الداخل والخارج-كراسات نبسط الحجج التي تدين الأشراف واليسوعيين، وكانت هذه فيما يبدو أول مرة استخدمت فيها حكومة من الحكومات المطبعة(40/87)
لتفسر تصرفاتها للأمم الأخرى. وربما كان لهذه المنشورات بعض الأثر في المعاونة على طرد اليسوعيين من فرنسا وأسبانيا.
وفي صيف 1759 أستأذن بومبال كلمنت الثالث عشر في تقديم اليسوعيين المعتقلين للمحاكمة أمام محكمة الخيانة العظمى، وزاد بالاقتراح بأن يحاكم جميع الكنسيين المتهمين بجرائم ضد الدولة، منذ الآن، أمام البابا بعزم الملك على طرد اليسوعيين من البرتغال، وأعربت عن الأمل في أن يوافق الباب على هذا الإجراء باعتباره إجراء تبرره تصرفاتهم، وضرورياً لحماية الملكية. وصدمت هذه الرسائل كلمنت، ولكنه خشي أن قاومها صراحة أن يقنع بومبال الملك بقطع الصلات جميعها بين الكنيسة البرتغالية والبابوية. وتذكر ما فعله هنري الثامن عشر في إنجلترا، وكان يعرف أن فرنسا أيضاً تزداد عداء لجماعة اليسوعيين، ففي 11 أغسطس بعث بالإذن بمحاكمة اليسوعيين أمام المحكمة المدنية، ولكنه قصر بوضوح موافقته على تلك الحالة بعينها. ثم وجه إلى الملك نداء شخصياً يدعو للرأفة بالقساوسة المتهمين، وذكر يوسف بإنجازات هذه الطائفة الماضية، وأعرب عن رجائه بألا يؤخذ جميع اليسوعيين البرتغاليين بجريرة فئة قليلة منهم.
ولكن نداء البابا فشل. ففي 3 سبتمبر 1759 - وكان اليوم ذكرى الاغتيال المبيت-أصدر الملك مرسوماً ضمنه قائمة طويلة بجرائم منسوبة لليسوعيين، وأمر بما يأتي:
"إن هؤلاء الرهبان، نظراً إلى فسادهم وسقوطهم المؤسف بعيداً عن رهبنتهم المقدسة، ولما أصابهم عن عجز واضح عن العودة إلى شعائرها بسبب هذه الرذائل البشعة المتأصلة، يجب أن ينفوا نفياً حقيقياً فعلاً .. وأن يحاكموا ويطردوا من جميع أهلاك جلالته، باعتبارهم عصاة سيئي السمعة وخونة، وأعداء، اعتدوا على شخصه الملكي وعلى مملكته .. ويقتضي الأمر ألا يقبلهم أي شخص كائناً ما كانت مكانته أو وضعه في أي(40/88)
من ممتلكاته وألا يتصل بهم بتاتاً سواء بالحديث أو المراسلة، وإلا كان جزاؤه الموت الذي لا رجوع فيه (22).
واستثنى من المرسوم اليسوعيين الذين لم ينذروا أنفسهم النذر الوثيق للرهبنة، والذين يجب عليهم أن يلتمسوا إعفائهم من نذورهم الأولية. وصادرت الدولة ثروة اليسوعيين كلها، ومنع المنفيون من أن يأخذوا معهم غير ملابسهم الشخصية (23). واقتدوا من جميع أرجاء البرتغال في مركبات أو سيراً على الأقدام إلى سفن أقلتهم إلى إيطاليا. وتم رحيلهم على هذا النحو من البرازيل وغيرها من الممتلكات البرتغالية. ووصلت أول شحنة من المنفيين إلى تشيفيتافكيا في 24 أكتوبر، ورثى لحالهم حتى ممثل بومبال هناك. كان بعضهم ضعيفاً لكبره، وبعضهم يكاد يتضور جوعاً، وبعضهم مات في الطريق. ورتب قائد الجماعة، لورنتسو ريكي، استقبال الأحياء منهم في بيوت يسوعية في إيطاليا، وشارك الأخوة الدومنيكان في استضافتهم. وفي 17 يونيو 1760 أوقفت الحكومة البرتغالية العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان.
وبدا نصر بومبال نصراً مؤزراً، ولكنه كان عليماً بأنه نصر لا تحبه الأمة، وأفضى بع الشعور بعدم الأمان إلى توسيع سلطته إلى الدكتاتورية الكاملة، فبدأ حكماً من الاستبدادية والإرهاب حتى عام 1777. وكان جواسيسه يبلغونه بكل ما يكشفونه من ألوان المقاومة لسياساته أو أساليبه، وسرعان ما اكتظت سجون لشبونة بالمسجونين السياسيين. وقبض على الكثيرين من الأشراف والكهنة لاتهامهم بمؤامرات جديدة على الملك، أو باشتراكهم في المؤامرة القديمة. وأصبحت قلعة جنكيرا، المتوسطة الموقع بين لشبونة وبيليم، سجناً خاصاً للأشراف زج فيه كثير منهم حتى قضوا نحبهم. وفي سجون أخرى أودع اليسوعيون المجلوبون من المستعمرات والمتهمون بمقاومة الحكومة-وظل بعضهم نزيلها تسعة عشر عاماً.
أما مالاجريدا فقد ظل يذوي في سجنه اثنين وثلاثين شهراً قبل أن(40/89)
يمثلا أمام المحكمة. وسلى الشيخ سجنه بتأليفه كتاب "حياة القديسة حنه البطولية، أم مريم، أملتها القديسة حنه ذاتها للأب المبجل مالاجريدا"، وصودر المخطوط بأمر بومبال، وقد وجد فيه عدة سخافات يمكن أن توصف بالهرطقة: فقد قال مالاجريدا أن القديسة حنة حبل بها كما حبل بمريم، دون أن تلوثها الخطيئة الأصلية، وأنها كانت تتكلم وتبكي في بطن أمها (24). وبعد أن عين بومبال أخاه بول دي كارفالو رئيساً لديوان التفتيش في البرتغال، أمر بأن يستدعى مالاجريدا للمثول أمامه، وكتب بيده ورقة اتهام تتهم اليسوعيين بالجشع، والرياء، والدجل، وانتهاك المقدسات، وبتهديدهم الملك بالتنبؤ مراراً بموته. وإذ كان مالاجريدا-الذي بلغ الآن الثانية والسبعين-قد أصبح نصف مخبول لشدة ما كابد من عذاب، فقد أخبر قضاة التفتيش بأنه تكلم مع القديس أغناطيوس لويولا والقديسة تريزا (25). وأراد قاضٍ منهم لأن يقف المحاكمة إشفاقاً على الشيخ فحي بأمر بومبال. وفي 12 يناير 1761 حكمت المحكمة المقدسة بأن مالاجريدا مذنب بالهرطقة، والتجديف، والضلال، وبخداع الشعب بما زعم من إعلانات إلهية له. ومد في أجله ثمانية شهور أخر. وفي 20 سبتمبر سيق إلى المشنقة في البراسا روسيو، فشنق، وأحرق مشدوداً إلى خازوق. وقال لويس الخامس عشر معقباً بعد سماعه بالإعدام "لكأني أحرقت الشيخ المخبول نزيل مستشفى البتيت (ميزون) الذي يزعم أنه الله الأب (26). وكان رأي فولتير في الحادث وهو يسجله "أنه حماقة وسخف مقرونان بشر غاية في البشاعة (27) ".
ولم يرقَ جماعة الفلاسفة الفرنسيين ما طرأ على بومبال من تطور، بعد أن كان رأيهم فيه في 1758 أنه "مستبد مستنير". لقد رحبوا بالإحاطة باليسوعيين، ولكنهم استنكروا الأساليب التعسفية التي أنتجها الدكتاتور، والنغمة العنيفة التي سرت في نشراته، والوحشية التي لوثت عقوباته. وصدمتهم معاملة اليسوعيين خلال ترحيلهم، وإعدام الأسر العريقة بالجملة، والمعاملة غير الإنسانية التي لقيها مالاجريدا. على أنه لم(40/90)
يصلنا إي سجل يثبت احتجاجهم على حبس أسقف كويمبرا ثماني سنوات لأنه أدان لجنة بومبال للرقابة على المطبوعات التي سمحت بتداول مؤلفات متطرفة، كقاموس فولتير الفلسفي وعقد روسو الاجتماعي.
بيد أن بومبال نفسه لم يبشر بهرطقات، وكان يختلف إلى القداس بانتظام. ولم يكن هدفه القضاء على الكنيسة بل إخضاعها للملك، فلما وافق كلمنت الرابع عشر عام 1770 على السماح للحكومة بالترشيح لمناصب الأسقفية، اصطلح مع الفاتيكان. وأسعدت يوسف الأول-وقد دنا أجله-فكرة الظفر بعد هذا كله بكامل البركات الكهنوتية حين يموت. وبعث البابا بقبعة الكردينالية إلى بول أخي بومبال، وأتحف بومبال نفسه بخاتم يحمل صورة البابا، ونمنمة إطارها من الماس، ورفات كامل لأربعة قديسين.
3 - بومبال المصلح
وترك الدكتاتور أثناء ذلك بصمته على اقتصاد البرتغال وإدارتها وحياتها الثقافية. وأعاد تنظيم الجيش بمساعدة الضباط الإنجليز والألمان، وقد صد هذا الجيش غزوا أسبانيا في حرب السنين السبع. وانتهج ما أنتجه ريشليو في فرنسا في القرن السابع عشر، فحد من سلطان الأرستقراطية الممزق الأمة، ومركز الحكومة في ملكية تستطيع أن تمنح هذه الأمة الوحدة السياسية، والتطور التعليمي، وبعض الحماية من تسلط الكنيسة وكف النبلاء بعد إعدام آل طابوره عن التآمر على الملك، وخضع الأكليروس للدولة بعد طرد اليسوعيين. وفي فترة الجفوة مع الفاتيكان كان بومبال يعين الأساقفة، وكان أساقفته يرسمون القساوسة دون الرجوع إلى روما. وحد مرسوم ملكي من اقتناء الكنيسة للأرض، وقيد حرية الرعايا البرتغاليين في تحميل تركاتهم بوصايا لإقامة القداديس (18) وأغلق الكثير من الأديرة وحظر على الباقي منها قبول رهبان جدد تقل أعمارهم عن الخامسة والعشرين. وأخضع ديوان(40/91)
التفتيش لإشراف الحكومة. وحولت محكمته إلى محكمة عامة خاضعة للقواعد التي تخضع لها محاكم الدولة، وجردت من سلطات الرقابة على المطبوعات، وألغى ما جرت عليه من تمييز بين قدامى المسيحيين وجددهم (أي اليهود أو المغاربة الذين دخلوا في المسيحية وذريتهم)، لأن بومبال افترض أن في دماء معظم الأسبان والبرتغال الآن عرقاً سامياً (29). وبمقتضى مرسوم صدر في 25 مايو 1773 أصبح جميع الرعايا البرتغال صالحين الاختيار للمناصب المدنية والعسكرية والكنسية (30)، ولم تحرق محكمة التفتيش إنساناً بعد إحراق مالاجريدا عام 1761 (31).
وفي تلك السنة ألغى بومبال ثلاثة أرباع الوظائف الصغيرة التي كانت تعوق سير القضاء، ويسرت الطريق إلى المحاكم وجعل التقاضي أقل كلفة. وفي 1761 أعاد تنظيم الخزانة، وألزمها بموازنة حساباتها كل أسبوع، وأمر بأن تراجع إيرادات ومصروفات البلديات كل سنة، وحقق بعض التقدم في أشد الإصلاحات كلها عسراً-وهو خفض عدد الموظفين في البلاط الملكي والحد من الإسراف في نفقاته. فتخلص من الثمانين طاهياً الذين كانوا يطعمون يوحنا الخامس وبطانته، واضطر يوسف الأول أن يقنع بعشرين فقط. وبمقتضى مرسوم صدر في 25 مايو 1773 ألغى الرق في الواقع في البرتغال ولكن سمح باستمراره في المستعمرات.
وامتدت يد المصلح إلى كل ركن. فبذل الدعم الحكومي للزراعة ومصايد الأسماك، وأدخل دودة القز في المقاطعات الشمالية. وأنشأ الفواخير، ومصانع الزجاج، ومصانع القطن والورق، لينهي اعتماد البرتغال على استيراد هذه الحاصلات من الخارج. وألغى المكوس الداخلية في انتقال السلع، وأقام التجارة الحرة بين البرتغال ومستعمراتها الأمريكية. وأسس كلية للتجارة يدرب البرتغال من الأجانب الذين يتجرون فيها وينقلونها، وفي هذا فشل-أو فشلت البرتغال- لأن(40/92)
تجارة البرتغال في 1780 كان أكثرها لا يزال في أيدي الأجانب لا سيما البريطانيين.
واقتضى طرد اليسوعيين بناء التعليم من جديد بناء شاملاً. فنشرت في البلاد المدارس الأولية والثانوية الجديدة التي بلغ عددها 837 - وحولت الكلية اليسوعية في لشبونة إلى كلية للإشراف يديرها العلمانيون. ووسع منهج الدراسة في كويمبرا وأضيفت إليه مقررات في العلوم، وأقنع بومبال الملك بتشييد دار للأوبرا ودعوة المغنين الإيطاليين لقيادة الفرق. وفي 1757 أسس "أركاديا لشبونة" لتشجيع الأدب.
وحظي الأدب البرتغالي طوال نصف قرن مثير (1755 - 1805) بحرية نسبية في الأفكار والأشكال. وبعد أن حرر نفسه من النماذج الإيطالية، أقر بسحر فرنسا، وأحس بنسائم تهب عليه من حركة التنوير. وظفر انطونيو دينيز داكروز أي سيلفا بالشهرة في وطنه كله بكتابة هجاء سماه "أو هسوبي" (1772)، ووصف فيه في ثمانية أقسام شجاراً بين أسقف وكبير كهنة، وترجم خواو أنستاسيودا كونها بوب فولتير، وعلى هذه الترجمة أدانته محكمة التفتيش (1778) عقب سقوط بومبال. وأولع فرانسسكو مانويل دوناسكيمنتو بالكتب، وكان ابن عامل في تفريغ السفن وشحنها، وأصبح قطباً لجماعة تمردت على الأكاديمية الأركادية لأنها عائق لتطور الشعر القومي. وفي 1778 أمرت محكمة التفتيش بالقبض عليه (مغتنمة ثانية فرصة سقوط بومبال) متهمة إياه بالولع بالفلاسفة المحدثين من إتباع العقل الطبيعي "ففر إلى فرنسا، حيث أنفق تقريباً كل سنيه الواحدة والأربعين الباقية من عمره، وهناك كتب معظم قصائده التي تتقد بحب الحرية والديمقراطية، وفيها قصيدة غنائية "لحرية الولايات المتحدة واستقلالها" وقد عده أنصاره إماماً للشعر البرتغالي لا يميزه فيه غير كاموئيس. وحوى مجلد في قصائد الحب يسمى "أماريليا" أرشق وأرخم شعر العصر، الذي خلفه توماز أنطونيو جونزاجا الذي عانى السجن (1785 - 88) بتهمة التآمر السياسي ومات في المنفى، أما خوزيه(40/93)
أجوستينودي ماسيدو، الراهب الأوغسطيني الذي جرد لفسقه، فقد اتخذ في جرأة، لقصيدته "أو أورينتي" الموضوع الذي اتخذه من قبل كاموئيس-وهو رحلة فاسكو داجاما إلى هند. وكان يرى قصيدته أعظم من اللويزياده "والإلياذة" ولكنهم يؤكدون أنها عمل كئيب. وأطرف منه هجاء كتبه في ستة أقسام "أوس بوروس" شهر فيه ماسيدو صراحة برجال ونساء من جميع المراتب، الأحياء منهم والأموات. وكان ألد خصومه مانويل ماريا باربوزا دي بوساجي، الذي سجنته محكمة التفتيش (1797) بتهمة إذاعة الأفكار الفولتيرية في شعره وتمثيلياته. وقد رده إعدام ماري أنطوانيت إلى المحافظة في الدين والسياسة، فاستعاد تدينه أيام الشباب، ورأى في البعوضة دليلاً على وجود الله (32).
أما الحديث العظيم في تاريخ الفن في حكم بومبال فهو التمثال الذي صنع ليوسف الأول، والذي مازال قائماً في ميدان الحصان الأسود بلشبونة. وقد صممه يواكيم مكادو دي كاسترو، وصبه بالبرونز ترتولوميو داكوستا وهو يمثل الملك راكباً جواداً مطهماً، ظافراً فوق أفاعي ترمز إلى القوى الشريرة التي غلبها في حكمه. وجعل بومبال من إزاحة الستار عن هذا الأثر (6 يونيو 1775) احتفالاً بوزارته المنتصرة. فاصطف جنود الجيش في الميدان، واجتمع رجال السلك السياسي، والقضاء، ومجلس الشيوخ وغيرهم من كبار القوم مرتدين الملابس الرسمية، ثم أقبلت الحاشية، ثم الملك والملكة، وأخيراً تقدم بومبال وأزاح الستار عن التمثال والقاعدة الضخمة التي صورت ميدالية عليها الوزير لابساً صليب المسيح. وفهم الكل إلا الملك أن الموضوع الحقيقي الاحتفال هو بومبال.
وبعد أيام من إزاحة الستار أرسل إلى يوسف الأول وصفاً وردي اللون للتقدم الذي حققه بومبال منذ 1759: نشر التعليم والإلمام بالقراءة والكتابة، ونمو الصناعة والتجارة، وتطور الأدب والفن، وارتفاع مستوى المعيشة بصفة عامة، على أن توخي الصدق لا بد أن تختزل الكثير من وصفه هذا، فالصناعة والتجارة كانتا تنموان، ولكن في بطء شديد،(40/94)
وكانتا تعانيان المصاعب المالية، أما الفنون فركدت، وكان نصف لشبونة لا يزال (1774) في الخرائب التي سببها زلزال 1755. وكان تعلق الشعب الفطري بأهدب الدين يعيد سلطان الكنيسة إلى سابق عهده. وكان صلف بومبال وأساليبه الدكتاتورية تخلق له أعداء جدداً كل يوم. وكان قد اقتنى لنفسه ولأقربائه ثروة طائلة وبنى لنفسه قصراً غالي التكلفة. ولم تكد توجد أسرة نبيلة في المملكة بغير عضو محبوب من أعضائها يذوي غي غياهب السجن. وكان الناس في طول البرتغال وعرضها يصلون ويتضرعون إلى الله سراً بأن يسقط بومبال عن عرشه.
4 - انتصار الماضي
في سنة 1775 بلغ الملك الستين. وكانت العلل الخليلات قد أشبنه قبل أوانه، وراح ينفق الساعات متأملاً في الخطيئة والموت. وسأل نفسه أكان على حق في انتهاج سياسات وزيره، وهل كان منصفاً لليسوعيين؟ ثم ما خطب أولئك الأشراف والقساوسة نزلاء السجون؟ بوده أن يغفر لهم وهو يطلب الآن المغفرة لنفسه. ولكن أنى له أن يذكر فكرة لهذه لبومبال؟ وفي 12 نوفمبر 1776 أصيب بنوبة فالج، وكان البلاط يغتبط توقعاً لحكم ملك جديد ووزارة جديدة. وكانت وريثة العرش ابنته ماريا فرنسسكا التي كانت زوجاً لأخيه بدرو. وكانت امرأة صالحة، وزوجاً وأماً صالحة، وإنساناً عطوفاً باراً، ولكنها كانت إلى ذلك كاثوليكية غيوراً، كرهت عداء بومبال للأكليروس كرهاً حملها على ترك البلاط لتعيش في هدوء مع بدرو في طليوذ على أميال من العاصمة. وأحاط الدبلوماسيون الأجانب حكوماتهم بأن تمنع انقلاباً وشيكاً في السياسات البرتغالية.
وفي 18 نوفمبر تناول الملك الأسرار المقدسة، وفي 29 نوفمبر أصبحت ماريا وصية على العرش. وكان من أول أفعالها إنهاء سجن أسقف كويمبرا، ورد الحبر البالغ أربعة وسبعين عاماً إلى كرسيه وسط مظاهر الفرح(40/95)
الشاملة تقريباً. ورأى بومبال سلطانه يتضاءل، ولحظ في نذر قاتمة أن أفراد الحاشية الذين كانوا بالأمس أتباعاً أذلاء له، يرونه الآن وقد قضى على نفوذه السياسي. وفي عمل أخير من أعمال الاستبداد انتقم انتقاماً وحشياً من قرية تريفاريا التي عارض أهلها-وكانوا صيادي سمك-تجنيد أبنائهم بالقوة، فأمر فصيلة من الجند بأن يحرقوا القرية: فأحرقوها بإلقاء المشاعل الملتهبة من نوافذ الأكواخ الخشبية في ظلام الليل (23 يناير 1777).
وفي 24 فبراير مات يوسف الأول، وأصبحت الوصية الآن الملكة ماريا الأولى (حكمت 1777 - 1816)، وأصبح زوجها الملك بدرو الثالث (1777 - 86). وكان بدرو رجلاً ضعيف العقل، واستغرقت ماريا في التقوى وأعمال البر. وسرعان ما استعاد الدين سلطانه، وقد كان نصف حياة الشعب البرتغالي. واستأنفت محكمة التفتيش نشاطها في الرقابة وقمع الهرطقة. وأرسلت الملكة كاريا إلى البابوية أربعين ألف جنيه لرد بعض ما أنفقت في رعاية اليسوعيين المنفيين. وفي غداة دفن يوسف أمرت الملكة بالإفراج عن ثمانمائة سجين، وكان أكثرهم قد سجنه بومبال لمعارضته سياسته. وكان كثير منهم قد قضى عرشين عاماً في غياهب السجون، فلما خرجوا لم تحتمل عيونهم ضوء الشمس وكانوا كلهم تقريباً في أسمال بالية، وبدا الكثيرون منهم في ضعفي سنهم، وكان المئات من السجناء قد قضوا نحبهم في سجونهم. ولم يبقَ على قيد الحياة من بين 124 يسوعياً زج بهم في السجون قبل ثمانية عشر عاماً سوى خمسة وأربعين (33). ورفض خمسة من الأشراف الذين أدينوا بتهمة الاشتراك المزعوم في مؤامرة قتل يوسف أن يبرحوا السجن حتى تعلن براءتهم رسمياً.
وكان لمشهد ضحايا عداء بومبال المفرج عنهم، ولنبأ تحريق تريفاريا، أرثهما في تفاقم كره الشعب لبومبال إلى حد لم بعد يجرؤ فيه على الظهور علانية. وفي أول مارس أرسل إلى الملكة ماريا كتاباً يستقيل فيه من جميع وظائفه ويستأذن في الاعتكاف في ضيعته بمدينة بومبال. وطالب(40/96)
الأشراف المحيطون بالملكة بسجنه وعقابه، ولكن حين تبين لها أن جميع القوانين التي استنكرتها كان قد وقعها الملك السابق، قررت أنها لا تستطيع عقاب بومبال دون أن تلطخ أمام الناس ذكرى أبيها. وقبلت استقالة الوزير وسمحت له بالاعتزال في بومبال، ولكنها أمرته أم يلزمها وفي 5 مارس غادر لشبونة في عربة خفيفة مستأجرة آملاً أن يفلت من أنظار الناس، ولكن بعضهم تبينه فحصبوا عربته ولكنه هرب منهم. ولحقت به امرأته عند مدينة أوبرس، وكان يومها في السابعة والسبعين.
والآن وقد غدا مواطناً عادياً تكاثر عليه الهجوم من كل صوب بدعاوى تطالبه بديون أغفل سدادها، وأضرار أوقعها بالشاكين، وممتلكات استولى عليها دون تعويض أصحابها تعويضاً كافياً. وحاصر المحضرون أبوابه في بومبال بسلسلة من الأوامر القضائية. كتب يقول "ما من دبور أو بعوضة في البرتغال إلا طار إلى هذه البقعة النائية وطناً في إذني". وساعدته الملكة بأن واصلت إجراء الراتب الذي كان يتقاضاه وزيراً عليه مدى الحياة وزادت عليه معاشاً متواضعاً. بيد أن أعداء لا حصر لهم ألحوا على الملكة في تقديمه للمحاكمة بتهمتي الانحراف والخيانة. وقد اتخذت إجراء وسطاً بسماحها للقضاة بأن يزوروه ويسألوه بأمر هذه التهمة. فظلوا يحققون معه ساعات كل مرة على مدى ثلاثة أشهر ونصف حتى التمس الدكتاتور العجوز الرحمة. وأجلت الملكة التصرف في تقرير الفحص، آملة أن يعفيها موت بومبال من هذا الحرج، وسعت في القوت نفسه إلى تهدئة خصومه بأن أمرت بإعادة محاكمة المتهمين الذين أدينوا بالاشتراك في محاولة اغتيال أبيها. وأيدت المحكمة الجديدة الحكم بذنب دوق أفيرو وثلاثة من خدمه، ولكنها برأت ساحة باقي المتهمين أجمعين وأعلنت براءة الطابوريين. وردت كل ألقابهم وممتلكاتهم للأحياء منهم (3 إبريل 1781). وفي 16 أغسطس أصدرت الملكة مرسوماً يدين بومبال "مذنباً بجرائم شائنة" ويضيف قراراً بتركه آمناً في منفاه محتفظاً بثروته مادام قد ألتمس الصفح.(40/97)
وكان بومبال يمضي حثيثاً إلى مرض الموت. فقد غشي جسده كله تقريباً قروح صديدية يبدو أن سببها الجذام (35). ومنعه الألم من النوم أكثر من ساعتين في اليوم، وأضعفته الدوزنتاريا، وأقنعه أطباءه بشرب حساء مصنوع من جلد الثعابين، كأنما أرادوا أن يزيدوه عذاباً على عذاب. وتمنى الموت، وتناول الأسرار المقدسة، وانتهت آلامه في 8 مايو 1782 وبعد خمسة وأربعين عاماً، وقفت بقبره جماعة من اليسوعيين كانت تجتاز المدينة، وتلت الجماعة، بشعو الانتصار والرأفة، صلاة جنائزية تطلب الراحة لنفسه.(40/98)
الفصل الحادي عشر
أسبانيا وحركة التنوير
1700 - 1788
1 - البيئة
أوصى شارل الثاني، أخر الهابسبورجيين الأسبان، عند وفاته عام 1700، بأسبانيا وكل إمبراطوريتها العالمية لفرنسا البوربونية-العدو القديم لآل هابسبورج، وقد قاتل حفيد لويس الرابع عشر، الذي لقب بفليب الخامس ملك أسبانيا، ببسالة خلال حرب الوراثة الأسبانية (1703 - 12) للاحتفاظ بوحدة تلك الإمبراطورية كاملة، وامتشقت أوربا كلها تقريباً الحسام للحيلولة دون هذا التوسع الخطر في قوة البوربون. وأخيراً أكرهت أسبانيا على النزول عن جبل طارق ومينورقة لإنجلترا، وصقلية لسافوي، ونابلي وسردانيا وبلجيكا للنمسا.
ثم إن فقد أسبانيا لقوتها البحرية لم يترك لها سوى قبضة ضعيفة على المستعمرات التي كانت تغذي تجارتها وثروتها. فقمع أمريكا الأسبانية مثلاً كان يعطيها غلة بلغت من خمسة إلى عشرين ضعفاً في الفدان لقلة الأرض الأسبانية. وجادت تلك الأراضي المشمسة بالزئبق النحاس والزنك والزرنيخ والأصباغ واللحوم والجلود والمطاط والقرمز والسكر والكاكاو والبن والتبغ والشاي والكينين والكثير من العقاقير الأخرى. وفي 1788 صدرت أسبانيا لمستعمراتها الأمريكية بضائع قيمتها 158. 000. 000 ريال، واستوردت منها بضائع قيمتها 804. 000. 000 ريال ولكن هذا "الخلل في الميزان التجاري الذي لم يكن في مصلحة أسبانيا محاه سيل متدفق من الفضة والذهب الأمريكيين. وأرسلت الفلبين شحنات سفن من الفلفل والقطن والنيلة وقصب السكر. وقد بلغ سكان الفلبين في تقرير ألكسندر فون همبولت(40/99)
في ختام القرن الثاني عشر 1. 900. 000، وسكان أمريكا الأسبانية 16. 902. 000، أما أسبانيا نفسها عام 1797 فقد بلغ سكانها 10. 541. 000 (1). وأنه لفضل يعزى لحكم البوربون أن هذا الرقم الأخير يعني تضاعف السكان الذين لم يزيدوا على 5. 700. 000 عام 1700.
لم تسخ الجغرافيا على أسبانيا إلا بميزة التجارة البحرية. كانت الأرض في الشمال خصبة تغذرها الأمطار والثلوج الذائبة من جبال البرانس، وكانت قنوات الري (وأكثرها خلفه المغاربة للغالبين) وقد استصلحت الأراضي الجدباء في بلنسية ومرسية والأندلس، ولكن باقي أراضي أسبانيا كان جبلياً أو قاحلاً إلى درجة مثبطة للهمم. ولم يتح لهبات الطبيعة أن تنموا وتتطور بفضل الإقدام الاقتصادي، فذهب أكثر الأسبان حباً للمغامرة إلى المستعمرات، وفضلت أسبانيا أن تشتري المنتجات الصناعية من الخارج بذهب مستعمراتها وما تغله مناجم الفضة أو النحاس أو الحديد أو الرصاص في أسبانيا ذاتها. وتخلفت صناعاتها التي كانت لا تزال في المرحلة النقابية أو البيتية تخلفاً شديداً عن صناعات أقطار الشمال النشيطة، وكان الكثير من مناجمها الغنية تشغله الإدارة الأجنبية لفائدة المستثمرين الألمان أو الإنجليز. واحتكرت "المستا" إنتاج الصوف، وهي اتحاد من ملاك قطعان الغنم ميزته الحكومة، ورسخت التقاليد قدمه، وسيطرت عليه فئة قليلة من النبلاء والأديرة، وخنقت المنافسة، وتخلفت أسباب التحسين. وتعفنت برولتاريا ضئيلة في المدن، وتشتغل خدماً لكبار القوم أو عمال مياومة في النقابات الحرفية، وكانت منازل الأثرياء تزدان ببعض العبيد الزنوج أو المغاربة. وعاش طبقة وسطى صغيرة معتمدة على الحكومة أو الأشراف أو الكنيسة.
وكان 51. 5% من الأرض الزراعية تملكه الأسر الشريفة في مساحات شاسعة و16. 5% تملكه الكنيسة، و32% تملكه الكومونات (المدن) أو الفلاحون. وتأخر نمو ملكية الفلاحين للأرض بفعل قانون وقف قديم يشترط وقف الأرض كاملة على الابن الأكبر ويمنع رهن أي جزء منها أو بيعه. وكان ثلاثة أرباع الأرض خلال معظم هذا القرن فيما عدا إقليم(40/100)
الباسك يفلحه مستأجرون يؤدون ضريبة على صورة إيجار، أو رسوم، أو خدمات، أو عيناً لملاك من الأشراف أو رجال الدين الذين ندر أن رأوهم ولما كانت الإيجارات تجنى حسب إنتاجية المزرعة، فإن المستأجرون افتقدوا الحاجز على الابتكار أو الاجتهاد (2). ودافع الملاك عن هذا النظام بالزعم بأن الهبوط المطرد في قيمة العملة يكرههم على رفع الإيجارات لتتمشى مع الأسعار والتكاليف المتصاعدة. ثم أن ضريبة مبيعات فرضت على ضروريات الحياة كاللحم والنبيذ وزيت الزيتون والشموع والصابون كانت أثقل وطأة على الفقراء (الذين أنفقوا معظم دخلهم على الضروريات) وأخف وقعاً على الأغنياء. وترتب على هذه الإجراءات، وعلى الامتيازات الوراثية، وعلى الفوارق الطبيعية في القدرة البشرية، أن تركزت الثروة في القمة، وران على القاع فقر كئيب اتصل جيلاً بعد جيل، تخففه وتسري به التعزيات فوق الطبيعة.
وكانت طبقة النبلاء منقسمة إلى درجات من الشرف انقساماً يملؤه التحاسد والتنابذ. ففي القمة (في 1787) 119 من كبار النبلاء ( Grandes de Espana) . وقد نحزر مبلغ ثرائهم من تقرير مبالغ فيه على الأرجح كتبه الرحالة البريطاني المعاصر جوزف تاونسند وذكر فيه "أن ثلاثة من كبار النبلاء-وهم دوق أوزونا، ودوق ألبا، ودوق مديناسلي-يملكون إقليم الأندلس بجملته (3). وكان دخل دوق مدينا من مصايد أسماكه وحدها مليون ريال في العام، ودخل دوق أوزنا السنوي 8. 400. 000 ريال، ودخل كونت أراندا قرابة 1. 600. 000 ريال في السنة" (4). ويلي كبار النبلاء 535 من أصحاب الألقاب Titulos- وهم رجال منحهم الملك ألقاباً وراثية بشرط أداء نصف دخلهم للتاج. ويلي هؤلاء الفرسان Caballeros الذين يعينهم الملك في عضوية مجزية في إحدى طبقات أسبانيا الأربع: وهي سنتياجو، والقنطرة، وكالاترافا ومونتيزا. أما أدنى النبلاء مرتبة فكانوا الـ 400. 000 هيدلج Hidalgo الذين يملكون مساحات متواضعة من الأرض، والذين أعفوا من الخدمة العسكرية ومن(40/101)
السجن للدين، وكان لهم الحق في أن يلبسوا شعار النبالة وأن
يخاطبوا بلقب "الدون". وكان بعضهم فقراء، وبعضهم انضم إلى المتسولين في الشوارع. وكان معظم النبلاء يعيشون في المدن، ويعينون موظفي الأقاليم.
أما الكنيسة الأسبانية فقد ادعت الحق في نصيب مريح من جملة الناتج القومي بوصفها الحارس الإلهي للوضع الراهن. وقد قدر مصدر أسباني موثوق أن دخلها السنوي بعد الضرائب يبلغ 1. 101. 753. 000 ريال، ودخل الدولة يبلغ 1. 371. 000. 000 ريال (5). وكان ثلث إيرادها يأتيها من الأرض، ومبالغ طائلة تجمعها من العشور وبواكير الثمار، ومبالغ صغيرة من مراسيم العماد، والزيجات، والجنائز، والقداديس على أرواح الموتى، والحلل الديرية تباع للأتقياء الذين ظنوا إنهم إن ماتوا وعليهم هذه الأرواب فقد يتسللون إلى الجنة دون مساءلة. وأتى الرهبان المستجدون بمزيد من المال بلغ 53. 000. 000 ريال. على أن أوساط القساوسة كانوا بالطبع فقراء لكثرة عددهم من جهة، فقد كان في أسبانيا 91. 258 من رجال الكهنوت، منهم 16. 481 كانوا قسساً و2. 943 رهباناً يسوعيين (6). وفي 1797 كان ستون ألف راهب وثلاثون ألف راهبة يعيشون في ثلاثة آلف دير. وكان رئيس أساقفة إشبيلية وموظفوه البالغون 235 مساعداً يتمتعون بدخل سنوي مقداره ستة ملايين ريال، أما رئيس أساقفة طليطلة-وكان له ستمائة مساعد-فبلغ دخله تسعة ملايين ريال. وهنا، كما في إيطاليا والنمسا، لم تثر ثروة رجال الدين أي احتجاج من الشعب، فالكاتدرائية من خلقهم، وقد أحبوا أن يروها في زينة بهية.
وقد ضرب تدينهم المثل والقدوة للعالم المسيحي. فلم يلقَ اللاهوت الكاثوليكي في بقعة أخرى في القرن الثاني عشر مثل هذا الإيمان الشامل به، ولا شهدت الطقوس الكاثوليكية من هذا الاحترام الشديد. ونافست الممارسات الدينية السعي وراء العيش، ولعلها فاقت السعي وراء الجنس، باعتبارها جزءاً من صميم الحياة. وكان أفراد الشعب بما فيهم البغايا، يرسمون علامة الصليب مراراً وتكراراً كل يوم. وفاقت عبادة العذراء عبادة المسيح(40/102)
بكثير، وانتشرت صورها وتماثيلها في كل مكان، وكان النساء يخطن الأرواب لتماثيلها في شغف، ويتوجن رأسها بالأزهار النضرة، وفي أسبانيا أكثر من غيرها ارتفع صوت الشعب مطالباً بجعل، "حملها غير الدنس"-أي خلوها من لوثة الخطيئة الأصلية-جزءاً من العقيدة المحددة المشترطة. وكان الرجال يساوون النساء تمسكاً بأهداب الدين. فكثير من الرجال، كالنساء، كانوا يختلفون إلى القداس يومياً. وكان الرجال من الطبقات الدنيا يجلدون أنفسهم في بعض المواكب الدينية (حتى حرم هذا الجلد في 1777) في حبال فيها عقد تنتهي بكرات من الشمع تحوي زجاجاً محطماً، وزعموا أنهم يفعلون هذا برهاناً على حبهم لله أو مريم أو امرأة ما، ورأى بعضهم أن هذا القصد مفيد للصحة (7) وأنه يهدئ من شبق إيروس.
وكانت المواكب الدينية كثيرة، مثيرة، غنية بالألوان، وقد شكا ظريف من أنه لم يستطع أن يخطو في مدريد خطوة دون أن يصادف المشهد المريب، وكان في الامتناع عن الركوع إذا مر الموكب مجازفة بالاعتقال أو الاعتداء. فحين قام أهل سرقسطة بثورة عام 1766 وراحوا ينهبوا ويسلبون ظهر موكب ديني على رأسه الأسقف يحمل بين يديه القربان المقدس، فكشف العصاة رؤوسهم وجثوا في الشوارع، فلما عبر الموكب استأنفوا سلب المدينة (8). وكانت كل مصالح الحكومة تشارك في موكب "عيد القربان" العظيم، يتقدمهم الملك أحياناً. وكانت مدن أسبانيا تجلل بالسواد طوال أسبوع الآلام، والملاهي والمقاهي تغلق، والكنائس تغص بالعابدين، والمذابح الإضافية تقام في الميادين العامة استجابة لتدفق التقوى والورع. ففي أسبانيا كان المسيح ملكاً، ومريم ملكة، والإحساس بالحظرة الإلهية في كل لحظة من لحظات اليقظة، جزءاً من صميم الحياة.
وزكت طائفتان دينيتان أكثر من غيرهما في أسبانيا. فسيطر اليسوعيون على التعليم بفضل علمهم ولباقته في الحديث وأصبحوا آباء الاعتراف للأسرة المالكة. أما الدومنيكان فسيطروا على ديوان التفتيش، ومع أن هذه المؤسسة كانت قد ودعت عصرها الذهبي منذ أمد بعيد، فقد بقي لها(40/103)
من القوة ما يكفي لإرهاب الشعب وتحدي الدولة. فلما ظهرت فلول لليهودية بسبب تراخي البوربون قطع ديوان التفتيش دابرهم بإحراقهم علناً. وعلى مدى سبع سنوات (1720 - 27) أدان الديوان 868 شخصاً، اتهم 820 منهم بأنهم يبطنون اليهودية، وأحرق 75، وزج غيرهم في سفن تشغيل العبيد أو أكتف بجلدهم (9). وفي 1722 أظهر فليب الخامس تبنيه لأساليب الحياة الأسبانية إذ ترأس مهرجاناً فخماً لإحراق المهرطقين، أحرق فيه تسعة منهم احتفالاً بمقدم أميرة فرنسية إلى مدريد (10). أما خلفه فرديناند السادس فقد أبدى روحاً أكثر اعتدالاً، ففي عهده (1746 - 59) أحرق عشرة "فقط" أحياء، وكلهم من اليهود "المرتدين (11) ".
ومارس ديوان التفتيش رقابة خانقة على كل ضروب النشر. وقد قدر راهب دومنيكي أن المطبوع في أسبانيا خلال القرن الثاني عشر كان أقل من المطبوع في القرن السادس عشر (12). وكان أكثر الكتب دينياً، وأحبها الشعب بوصفها هذا. وكانت الطبقات الدنيا أمية، ولم تشعر بحاجة للقراءة أو الكتابة. وكانت المدارس في قبضة رجال الدين، ولكن آلافاً من الأبرشيات كانت خلواً من المدارس. أما الجامعات الأسبانية التي كانت يوماً ما جامعات عظيمة فقد تخلفت تخلفاً شديداً عن نظيراتها في إيطاليا أو فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا في كل ناحية إلا اللاهوت التقليدي. وكانت مدارس الطب فقيرة، رديئة الإعداد بالأساتذة، ناقصة الأجهزة، واعتمد العلاج على الحجامة، وإعطاء المسهلات، والاستعانة ببركات القديسين، والصلاة. وكان الأطباء الأسبان خطراً على حياة الناس. كان العلم علم العصر الوسيط، والتاريخ أساطير، وزكت الخرافة وكثرت النذر والمعجزات. وظل الإيمان بالسحر إلى نهاية القرن، وظهر بين الأهوال التي صورها الرسام جويا.
تلك كانت أسبانيا التي قدم البوربون من فرنسا ليحكموها.(40/104)
2 - فليب الخامس
1700 - 1746
كان فليب الخامس ( Felipe Quinto) رجلاً طيباً في حدود فلسفة حياته التي ضيقها تعليمه. كان ابناً أصغر للدوفان، فدرب إلى التواضع، والتقوى، والطاعة، فلم يتغلب قط على هذه الفضائل إلى حد يكفي للتصدي لنصف قرن من التحديات في الحكم والحرب. وأفضت به تقواه إلى أن يتقبل في أسبانيا ظلامية دينية كانت تحتضر في فرنسا، وجعلته سهولة انقياده مطوعاً لوزرائه وزوجاته.
وكانت ماريا لويزا جابرييلا، ابنة فكتور أماديوس الثاني ملك سافوي، لا تعدو الثالثة عشرة يوم تزوجت فليب (1701)، ولكنها كانت رغم حداثتها حاذقة لمكر النساء وكيدهن، واستطاعت بجمالها وحيويتها وبغضباتها ودموعها، أن تخضع الملك فيستسلم بعد إرهاق، بينما تدير هي وكبيرة وصيفاتها سياسة وطنهما الجديد. وكانت هذه الوصيفة-ماري آن دلا تريموال، أميرة أورسان، والأرملة الفرنسية لنبيل أسباني كبير، قد أعانت الملكة الصبية على الزواج والقبض على السلطة. ومكنها طموحها الممزوج باللباقة من أ، تصبح قوة وراء العرش خلال عشرة أعوام. وما كان في استطاعتها أن تعتمد على الحمال لأنها كانت في التاسعة والخمسين في 1701، ولكنها أمدت المملكة بما تفتقر إليه من معرفة ودهاء، وبعد عام 1705 كانت تقرر السياسة. وفي 1714 ماتت ماريا لويزا في السادسة والعشرين، وتردى فليب الذي تعلم أن يحبها حباً صادقاً في اكتئاب مرضي. ورأت مدام ديزورسان أن تنفذ سلطانها بترتيب زواجه من إيزابيلا (اليزابيث) فارتيزي، ابنة أودواردو الثاني دوق بارما وبياسنزا. وذهبت للقاء الملكة الجديدة عند الحدود الأسبانية، ولكن إيزابيلا أمرتها في اقتضاب أن ترحل عن أسبانيا، فاعتزلت في روما وماتت بعد ثماني سنوات مغمورة منسية رغم ثرائها.
لم تعترف إيزابيلا بأن النهضة الأوربية قد ولت، فقد وهبت كل قوة(40/105)
الإرادة، وشدة الذكاء، وحدة الطبع، واحتقار الوساوس الذي تميزت به النساء كما تميز الرجال الذين هيمنوا على إيطاليا القرن السادس عشر. وقد وجدت في فليب رجلاً عاجزاً عن الحسم؛ عاجزاً عن النوم منفرداً، ومن ثم أصبح فراشها عرشها الذي تحكم منه أمة، وتدير جيوشاً، وتظفر بإمارات إيطالية. ولم تكن قد عرفت أي شيء تقريباً عن أسبانيا. ولم تألف قط الخلق الأسباني ولكنها درست ذلك الخلق، ونجحت في التعرف على حاجات البلد؛ وأدهش الملك أن يجدها لا تقل عن وزرائه إطلاعاً وسعة حيلة.
وكان فليب في سنوات حكمه الأولى قد استخدم جان أوري وغيره من المساعدين الفرنسيين لإعادة تنظيم الحكومة على الأسس التي وضعها لويس الرابع عشر: إدارة ومالية ممر كرتان مراقبتان، مع بيروقراطية مدربه ونظار إقليمين؛ وكلهم خاضعون لسلطة المجلس الملكي التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وأسمه هنا "مجلس تشتالة" Consejo de Castilla؛ فقل الفساد؛ وحد من الإسراف-إلا في عمليات البناء الخاصة بالملك. ثم خلف هؤلاء الوزراء الفرنسيين في 1714 إيطالي كفء طموح هو الاباتي جوليو البيروني، الذي جعل نشاطه الأسبانيين يرتعدون. وكان أبناء لبستاني في بياتشنزا، وصل إلى أسبانيا بوصفه سكرتيراً لدوق فندوم. وكان أول من اقترح إيزابيللا فارنيزي زوجة ثانية لفليب، فيسرف وصوله إلى السلطة عرفاناً بصنيعه. وقد وفقا معا في إقصاء الملك عن شؤون الدولة. وعن أي مشورة غير مشورتهما. وخططا معاً لبناء قوات أسبانيا المسلحة واستخدامها لطرد النمساويين من إيطاليا واستعادة النفوذ الأسباني في نابلي وميلان، وإقامة عروش للأذواق يزينها يوماً ما أبناء إيزابيللا البعيدة النظر.
وطلب البيروني خمس سنين للاستعداد، فأحل في المناصب الرئيسية رجالاً أكفاء من الطبقة الوسطى محل الكسالى من حملة الألقاب، وفرض الضرائب على الأكليروس القساوسة المتمردين (13)، وخرد السفن البالية وبنى خيراً منها، وأقام القلاع والترسانات على طول السواحل(40/106)
والحدود، وأعان الصناعة بالمال، وشق الطرق، وزاد من سرعة المواصلات وألغى ضرائب المبيعات ومكس المرور. وقد أنذر السفير البريطاني في مدريد حكومته بأن أسبانيا لن تنقضي عليها بضع سنين أخر من أمثال هذه الخطى حتى تغدو خطراً على غيرها من دول أوربا (14). ورغبة في تهدئة هذه المخاوف تظاهر البيروني بأنه يجند القوات ليعين بها البندقية والبابوية على الترك. والواقع أنه أرسل ست سفن كبيرة إلى كلمنت الحادي عشر، الذي كافأه بقبعة الكردينالة الحمراء (1717). كتب فولتير "أن الملكية الأسبانية قد استأنفت حياة جديدة تحت حكم الكردينال البيروني (15) ".
ومنح كل شيء إلا الوقت. كان يرجو أن يكسب رضاء الفرنسيين والإنجليز عن الأهداف الأسبانية في إيطاليا، وعرض تنازلات قيمة مقابل هذا الرضا، ولكن الملك المهمل أفسد هذه المناورات بكشفه عن رغبته في الحلول محل فليب أورليان حاكماً لفرنسا. وانقلب هذا على فليب، وانضم إلى إنجلترا والأقاليم في ميثاق للحفاظ على الترتيبات الإقليمية التي حددتها معاهدة أوترخت. وانتهكت النمسا تلك المعاهدة بإكراهها سافوي على إعطائها صقلية مقابل سردانيا. واحتج البيروني بأن هذا يضع عبر البحر المتوسط دولة ما زال رئيسها يطالب بتاج أسبانيا. ولعن تطور الأحداث بهذه العجلة على غير ما ينبغي ثم أذعن لدخول حرب قبل الأوان. واستولى أسطوله الوليد على بلرمو (1718)، وسرعان ما أخضع جيشه صقلية كلها لسلطة أسبانيا وهنا انضمت النمسا إلى إنجلترا وفرنسا وهولندا في حلف رباعي ضد أسبانيا. وفي 11 أغسطس 1718 دمر أسطول بريطاني بقيادة الأميرال بنج الأسطول الأسباني تجاه ساحل صقلية، وحبس خيرة أسبانيا في تلك الجزيرة بينما غزت الجيوش الفرنسية أسبانيا. وطلب فليب وايزابيللا الصلح، فأجيب الطلب شريطة أن ينفي البيروني. ففر إلى جنوه (1719)، وشق طريقه متخفياً إلى روما عبر لومبارديا التي يملكها النمساويون، وشارك في مجمع(40/107)
الكراولة الذي انتخب البابا إنوسنت الثالث عشر، ومات عام 1752 وقد بلغ الثامنة والثمانين. وفي 17 فبراير 1720 وقع مبعوث أسباني بلندن معاهدة نزل فيها فليب عن كل حق يدعيه في عرش فرنسا، ونزلت أسبانيا عن صقلية للنمسا، ووعدت إنجلترا برد جبل طارق إلى أسبانيا، وتعهدت الحلفاء بأن يكون لنسل إيزابيللا الحق في وراثة بارما وتسكانيا.
وفي مجال السياسة الدولية سرعان ما ينقلب الحلفاء أعداء، ويصبح الخصوم أصدقاء رسمياً. ودعماً للسلام مع فرنسا، كان فليب قد خطب ابنته ماريا أنا فكتوريا التي لم تسلخ من عمرها سوى عامين، للويس الخامس عشر في 1721، وأرسل إلى فرنسا (1722) وسط دهشة الجمع. ولكن في 1725 ردتها فرنسا لعل لويس أن يتزوج امرأة تستطيع الاضطلاع فوراً بمهمة انجاب وريث له. ورأت أسبانيا في هذا الرد إهانة، فتحالف مع النمسا، ووعد الإمبراطور شارل السادس بمساعدة أسبانيا على استعادة جبل طارق، فلما حاول جيش أسباني الاستيلاء على ذلك المعقل لم يأت العون من النمسا؛ وفشلت المحاولة، ولم تصطلح أسبانيا مع إنجلترا وحسب، بل ردت لها احتكار الازينتو Asiento الذي يبيح لها بيع العبيد للمستعمرات الأسبانية، ومقابل هذا تعهدت بريطانيا بأن تجلس الدون كارلوس، ابن إيزابيللا، على عرش دوقية بارما. وفي 1731 اتجه كارلوس وستة آلاف أسباني إلى إيطاليا في حراسة أسطول إنجليزي. ونزلت النمسا عم بارما وبياتشنزا لكارلوس رغبة في الحصول على تأييد بريطانيا وأسبانيا لها في ارتقاء ماريا تريزا للعرش الإمبراطوري. وفي 1734 رفع كارلوس نفسه إلى عرش نابلي. وهكذا اكتمل نصر إيزابيللا.
على أن فليب أصابته نوبة من الاكتئاب أخذت بعد عام 1736 تنحدر أحياناً إلى درك الجنون. فقبع في ركن من حجرته، ظاناً أن كل الداخلين عليه ينوون قتله، وعافت نفسه الأكل مخافة أن يدس له السم فيه. وظل(40/108)
ردحاً طويلاً يأبى أن يبرح فراشه أو يحلق لحيته. وجربت إيزابيللا عشرات الوسائل لشفائه أو تهدئته، ولكنها أخفقت كلها إلا واحدة. ففي 1737 أقنعت فارنيللي بأساليب الملاطفة والتملق أن يجيء إلى أسبانيا. وذات ليلة، في جناح ملاصق لجناح الملك، رتبت حفلاً موسيقياً عنى فيه "الخصي" العظيم لحنين من تأليف هاسي. ونهض فليب من فراشه لينظر خلال الباب ويرى أي قوة استطاعت أن تشدو بهذه الأصوات الساحرة. وجاءته إيزابيللا بفارينللي، فأثنى عليه الملك وعانقه وأمره بأن يطلب ما شاء من مكافأة فتوهب له مهما غلت. وكانت الملكة قد أوصت المغني بما يجيب، فلم يطلب إلا أن يسمح الملك بأن تحلق لحيته وأن يرتدي ثيابه ويحضر المجلس الملكي. ووافق الملك وخفت مخاوفه، وبدا أنه شفي كأنما بمعجزة. ولكن حين أقبل المساء التالي أرسل في طلب فارنيللي ورجاه أن يغني هاتين الأغنيتين ذاتهما ثانية، إذ لم يكن في الإمكان تهدئته لينام إلا بهذه الطريقة. وهكذا استمرت الحال ليلة إثر ليلة طوال عشر سنين. وكان أجر فارنيللي 200. 000 ريال في العام، ولكن لم يسمح له بالغناء إلا في البلاط. وتقبل هو الشرط شاكراً، ومع أن نفوذه على الملك كان أقوى من نفوذ أي من وزرائه، فأنه لم يستغله وأستعمله دائماً للخير؛ وظل بريئاً من روح الرشوة وأكتسب إعجاب الجميع (16).
وفي 1746 أمر فليب أن يقام 100. 000 قداس لخلاص نفسه. فإذا لم يكن ثمة حاجة لهذا العدد الكبير ليدخل به الجنة فليوهب الفائض للنفوس المسكينة التي لم يتح لها مثل هذا الاستعداد (17). في ذلك العام قضى فليب نحبه.
3 - فرديناند السادس
1746 - 1759
وخلفه على العرش ثاني أبنائه من زوجته الأولى، فأعطى أسبانيا ثلاثة عشر عاماً من الحكم الشافي من عللها. وعمرت إيزابيللا حتى سنة 1766،(40/109)
ولقيت من ابن زوجها معاملة رقيقة مجاملة، ولكنها فقدت سلطانها على التأثير في الأحداث. وأصبحت زوجة فرديناند، ماريا بربارا، تلميذة سكارلاتي، هي المرأة التي تقف وراء العرش. ومع أنها كانت مفرطة الولع بالطعام والمال، فإنها كانت روحاً أرق من إيزابيللا، وبذلت أكثر همتها لتشجع الموسيقى والفن. وواصل فارنيللي غناءه لحكام الجدد، ولم يستطع هاريسكورد سكارلاتي أن ينافسه. وعمل الملك والملكة على إنهاء حرب الوراثة النمساوية، فقبلا معاهدة إكس-لا-شابل (1748)، مع إنها أعطت تسكانيا للنمسا، وبعد عام أنهيا اتفاق الازينتو الذي عمر 136 سنة بدفع 100. 000 جنيه لشركة بحر الجنوب تعويضاً عن خسارة امتيازاتها في تجارة الرقيق.
كان فرديناند رجلاً حسن النية، لطيفاً أميناً، ولكنه ورث جسداً رقيقاً وكان معرضاً لنوبات من الغضب كان يخجل منها خجلاً مؤلماً. (18) وحمله الوعي بعيوبه على ترك الحكم لوزيرين قديرين-دون دون خوزيه دي كارفاخال وزينون دي سومر ديفللا، مركيز انسنادا. وحسن انسنادا أساليب الزراعة، وأعان بالمال التعدين والصناعة، وشق الطرق والقنوات، وألغى المكوس الداخلية، وأعاد بناء البحرية واستبدل بضريبة البيوع البغيضة ضريبة على الدخل والممتلكات، ونظم المالية من جديد، وحطم عزلة أسبانيا الفكرية بإيفاده البعوث من الطلبة إلى الخارج. ويرجع بعض الفصل إلى دبلوماسية انسنادا في إبرام اتفاق مع البابوية (1753) احتفظ للملك بحق فرض الضرائب على الأملاك الكنسية وتعيين الأساقفة للكراسي الأسبانية. وقد حد من سلطان الكنيسة، وأخضع ديوان التفتيش، وألغيت الاحتفالات العلنية بإحراق المهرطقين.
واختلف الوزيران في سياستهما الخارجية. فأما كارفاخال فقد أثر فيه لطف السفير البريطاني المخلص، السير بنجامين كين، فاستن سياسة مؤيدة للبريطانيين مسالمة لهم، وأما انسنادا فقد حابى فرنسا، وتحرك نحو محاربة إنجلترا. وطال صبر فرديناند عليه لأنه قدر نشاطه وكفايته، ولكنه أقاله(40/110)
في النهاية. وبينما كانت كل أوربا تقريباً تتردى في سنوات سبع من الحرب، منح فرديناند شعبه فترة من السلام والرخاء أطول مما حظيت به أسبانيا منذ أيام فليب الثاني.
وفي 1758 ماتت ماريا بربارا. وكان الملك يحبها حباً يوحي بأن السياسة لم يكن لها دخل في زواجهما، ومن ثم اعترته حالة من الاكتئاب وتشعث الشعر وإطلاق اللحية ذكرت الناس باكتئاب أبيه من قبل، وأصابته هو الآخر لوثة في آخر سنة من عمره. وفي أخريات أيامه كان يأبى الذهاب إلى فراشه مخافة ألا ينهض منه أبداً. ومات في كرسيه في 10 أغسطس 1759 وبكى الجميع الملكين الحبيبين لأن حكمهما كان بركة ندر أن حظيت بها أسبانيا.
4 - التنوير يدخل أسبانيا
قصة التنوير في أسبانيا مثال لقوة عرضة للمقاومة تصطدم بجسم ثابت لا يقبل الحركة. فالخلق الأسباني، ووفاؤه لإيمانه الوسيط وفاء كتبه بالدم، كان يصد كل رياح الهرطقة أو الشك عاجلاً أو آجلاً، ويرفض كل دخيل من الزي أو العادات أو الاقتصاد. ولم يحبذ الفكر الدخيل غير قوة اقتصادية واحدة-هي التجار الأسبان الذين كانوا يتعاملون مع الأجانب كل يوم، ويعرفون أي قوة وثراء حققهما ونظراؤهم في إنجلترا وفرنسا. وكانوا راغبين في استيراد الأفكار إذا استطاعت أن تضعف من السلطة التي ورثها النبلاء والأكليروس على أرض أسبانيا وحياتها وعقلها. وقد علموا أن الدين فقد سلطانه في إنجلترا، وسمع بعضهم بنيوتن ولوك، لا بل أن جبون قدر له أن يجد بعض من يقرؤونه في أسبانيا (19).
وبالطبع هبت أقوى رياح التنوير من فرنسا. وكان النبلاء الفرنسيون الذين تبعوا فليب الخامس إلى مدريد قد مستهم الزندقة التي أخفت رأسها أيام لويس الرابع عشر، ولكنها استشرت أيام الوصاية. وفي 1714 أسس(40/111)
بعض الدارسين الأكاديمية الملكية الأسبانية محاكاة للأكاديمية الفرنسية؛ وسرعان ما بدأت وضع معجم لغوي؛ وفي 1737 اضطلعت صحيفة "دياريو دي لوس لتراتوس دي أسبانيا" بمنافسة "الجورنال دي سافان" الفرنسية. وكان الدوق ألبا الذي أشرف على الأكاديمية الملكية عشرين عاماً (1756 - 76) شديد الإعجاب بجان-جاك روسو (20). وفي 1773 - أكتتب بثمانية جنيهات ذهبية (لوي دور) لتمثال فولتير الذي كان يصنعه بيجال. كتب إلى دالامبير يقول "أنني وقد مضى عليّ بتثقيف عقلي سراً أغتنم هذه الفرصة للشهادة علانية بعرفاني وإعجابي بالرجل العظيم الذي كان أول من دلني على الطريق (21) ".
وحظي كتاب روسو "إميل" بإعلان مجاني حين أحرق في احتفال رسمي بكنيسة من كنائس مدريد (1765) (22). وعاد شباب من الأسبان الذين عرفوا باريس كالمركيز دي مورا الذي عشق جولي دلسبيناس إلى أسبانيا يحملون شيئاً من آثار الشكوكية التي التقوا بها في الصالونات. وهربت إلى أسبانيا نسخ من أعمال فولتير أو ديدرو أو رينال؛ فأيقظت بعض العقول المحددة. وكتب أسباني في 1763 يقول "كان من أثر الكتب المؤذية الكثيرة التي راجت بين الناس؛ ككتب فولتير وروسو وهلفتيوس؛ أن كثر فتور الإيمان في هذا البلد (23) ". وكان بابلو أو لافيدي يجهر بالأفكار الفولتيرية في صالونه بمدريد (حوالي 1766) (24). وحوت رفوف "الجمعية الاقتصادية لأصدقاء السلام" أعمالاً لفولتير وروسو وبيل ودالامبير ومونتسكيو وهوبز ولوك وهيوم (25). وذكر الأبيه كليمان الذي جاب أرجاء أسبانيا عام 1768 انتشار اللامبالاة بالدين انتشاراً واسعاً، لا بل الكفر بالعقيدة، المستتر وراء مراعاة الطقوس الكاثوليكية في الظاهر (26). وقد أبلغ ديوان التفتيش في 1778 أن كبار موظفي البلاط يقرؤون لجماعة الفلاسفة الفرنسيين (27).
وكان من الأهمية بمكان للتاريخ الأسباني أن يصبح بدرو أباركا، كونت أراندا، خلال رحلة قام بها في فرنسا، صديقاً لفولتير. وقد نحكم(40/112)
على علاقته من نشاطه اللاحق سفيراً لأسبانيا لدى فرنسا، وقد اختلط في غير تجرح بالموسوعيين في باريس وقامت بينه وبين دالامبير صداقة ملؤها الإعجاب به، وعبر فرنسا ليزور فولتير في فرنيه. وكان يصرح بولائه للكنيسة في أسبانيا، ولكنه هو الذي أقنع شارل الثالث بطرد اليسوعيين، وبإرشاده انظم إب صفوف "المستبدين المستنيرين" الذين كان يتطلع إليهم جماعة الفلاسفة باعتبارهم خير معوان لهم في نشر التعليم والحرية والعقلانية.
5 - شارل الثالث
1759 - 1788
أ- الحكومة الجديدة
حين وصل من نابلي كان يناهز الثالثة والأربعين. ورحب به الجميع إلا اليسوعيين (28) الذين ساءهم بيع أسبانيا لمستوطناته في باراجواي إلى البرتغال (1750)، وفيما عدا هذا كسب جميع القلوب بإعفاء الناس من الضرائب المتأخرة، ورد بعض الامتيازات التي فقدتها الأقاليم في ظل سياسة المركزية التي انتهجها فليب الخامس. وقد جلل موت زوجته ماريا أماليا بالحزن سنة حكمه الأولى لأسبانيا. ولم يتزوج بعدها قط وإنه لمما يشرف آل بوربون الأسبان في القرن الثامن عشر أنهم ضربوا لملوك أوربا المثل في الوفاء لأزواجهم والثبات على حبهم.
وقد رسم دبلوماسي بريطاني صورة بريطانية لشارل الذي كانت له مواجهات مع الإنجليز في نابلي.
"للملك مظهر غريب سواء شخصه أو زيه. فهو ضئيل القامة ولون بشرته شبيه بلون المحنة ولم يفصل له سترة طوال هذه السنين الثلاثين، لذلك يبدو في سترته وكأنها الزكيبة، وصدريته وسراويله وكوبه من الجلد عادة، وعل ساقه طماق يقيهما من البلل. وهو يخرج للرياضة كل يوم من أيام السنة غير عابئ بمطر أو ريح (29).(40/113)
ولكن إيرل برستول- أردف في 1761، "إن للملك الكاثوليكي مواهب جيدة، وذاكرة مواتية، وسيطرة غير عادية على نفسه في جميع المناسبات. وقد بات يتشكك في الناس لكثرة ما خدعوه. وهو يفضل دائماً أن ينال موافقة الآخرين على رأيه باللين، وله من طول الأناة ما يجعله ينصح محدثه المرة بعد المرة دون أن يستعمل سلطته. ومع ذلك فرغم سيماء اللطف العظيم البادي عليه استطاع أن يبث الرهبة في قلوب وزرائه وحاشيته. " (30)
ولم يكن في تقواه الشخصية ما ينذر بأنه سيهاجم اليسوعيين أو يضطلع بالإصلاحات الدينية. كان يختلف إلى القداس كل يوم. وقد أدهش عدواً إنجليزياً "وفاؤه الأمين العنيد بكل معاهداته مبادئه وارتباطاته" (31) وكان يخصص جزءاً كبيراً من كل يوم من أيام الأسبوع (عدا الأحد) لشؤون الحكم. يستيقظ في السادسة، ويزور أبناؤه، ويفطر، ويعكف على العمل من الثامنة إلى الحادية عشرة، ويجتمع بوزرائه، ويستقبل كبار القوم ويتناول غداءه مع غيره، ويخصص عدة ساعات للصيد، ويتعشى في التاسعة والنصف، ويطعم كلابه، ويتلو صلواته، ثم يمضي إلى فراشه. ولعل الصيد كان وقاءً صحياً قصد بن أن يصرف عنه الاكتئاب الموروث في الأسرة.
وبدأ ببعض الأخطاء الخطيرة. ذلك أنه لجهله بأسبانيا التي لم يرها من كان في السادسة عشرة اتخذ اثنين من الإيطاليين كانا قد أخلصا في خدمته بنابلس مساعدين أثيرين لديه: المركيز دي جريمالدي في السياسة الخارجية، والمركيز دي سكللاتشي في الشؤون الداخلية.
وقد وصف إيرل برستول سكللاتشي هذا بأنه "غير ذكي. أنه مولع بالعمل ولا يشكو أبداً من كثرته تنوع إدارات الحكومة التي تتركز فيه ... وأعتقد أنه غير قابل للارتشاء، ولكنني لا أريد أن أكون مسئولاً بهذا القدر عن زوجته (32) ولم يحب جرائم مدريد ولا روائحها الخبيثة ولا ظلمتها، ومن ثم فقد نظم لها شرطة نشيطة وفرقة لتنظيف شوارعها، وأنار(40/114)
العاصمة بخمسة آلاف مصباح. وأباح الاحتكارات لتزويد المدينة بالزيت والخبز وغيرهما من الضروريات. وحدث أن الجفاف رفع الأسعار، فطالبت الجماهير برأس سكللاتشي. وقد أغضب رجال الدين بلوائح حدت من امتيازاتهم وسلطتهم. وفقد المئات من المؤيدين حين صادر الأسلحة المخبأة. وأخيراً أثار الشعب بمحاولة تغيير زي الشعب. فقد أقنع الملك بأن العباءة أو الكاب الطويل الذي يخفي البدن والقبعة العريضة ذات الحافة المقلوبة التي تخفي كثيراً من الوجه، يسهلان إخفاء السلاح ويعوقان الشرطة عن التعرف على المجرمين. ومن ثم حظرت سلسلة متعاقبة من المراسيم الملكية الكاب والقبعة، وزود رجال الضبط بالمقصات الكبيرة يقصون بها العباءات المخالفة حتى يصلوا بها إلى الطول القانوني (33). وكان في هذا التحكم فوق ما يطيقه المدريديون الأباة. فثاروا في أحد الشعانين، 23 مارس 1766، واستولوا على مخازن الذخيرة، وأطلقوا السجناء، وتغلبوا على الجنود والشرطة، وهاجموا بيت سكللاتشي، وحصبوا جريمالدي، وقتلوا الحرس الولوني الذين يحرسون القصر الملكي، وجابوا الشوارع يرفعون رءوس هؤلاء الدخلاء الممقوتين على الرماح متوجة بقبعات عريضة الحواف. وظل الرعاع يومين يواصلون التقتيل والنهب. وهنا أذعن شارل، وألغى المراسيم، وأعاد سكللاتشي إلى إيطاليا محروساً. وكان في غضون ذلك قد أكتشف مواهب الكونت أراندا، وعينه رئيساً لمجلس قشتالة. فجعل أراندا العباءة والصمبريرة Sombrero أي القبعة العريضة الحافة الزي الرسمي للبلاد. وكان في هذا المعنى الجديد المتضمن ما زهد الناس في الزي القديم، ومن ثم اتخذ معظم أهل مدريد الزي الفرنسي.
كان أراندا سليل أسرة عريقة غنية في أرجوان. رأيناه يتشرب التنوير في فرنسا، كذلك ذهب إلى بروسيا حيث درس التنظيم العسكري ثم عاد إلى أسبانيا متشوقاً إلى العمل على أن يصل وطنه إلى مستوى تلك الدول الشمالية. وأفرط أصحابه الموسوعيون في الجهر باغتباطهم لتقليده السلطة، وأحزنه أنهم بذلك زادوا مهمته صعوبة، (34) وود لون أنهم درسوا(40/115)
الدبلوماسية من قبل. وقد عرف الدبلوماسية السياسة بأنها فن "إعادة تنظيم قوة مختلفة السلطات، ومواردها، ومصالحها، وحقوقها، ومخاوفها وآمالها، حتى إذا سمحت المناسبة استطعنا أن نهدئ من هذه القوى، أو نفرق بينها، أو نهزمها أو نتحالف معها، ذلك رهن بكيفية خدمتها لمصالحنا وزيادتها لأمتنا" (35).
وكنا الملك في حالة نفسية مواتية لإصلاحات الكنيسة لتوجسه من أن الأكليروس شجعوا الثورة على سكللاتشي سراً (36). وكان قد أذن للمطبعة الحكومية في أن تطبع عام 1765 مقالاً غفلاً من أسم الكاتب عنوانه Tratado de la Regalia de L'amortizaction. تشكك في حق الكنيسة في جمع الثورة العقارية، وزعم أن الكنيسة ينبغي أن تكون خاضعة للدولة في جميع الأمور الزمنية. وكان المؤلف هو كونديه بدرو رودريجر دي كومبومانيس، وكان عضواً في مجلس قشتالة. وكان شارل قد أصدر عام 1761 أمراً يشترط موافقة الملك على نشر الأوامر أو الرسائل البابوية في أسبانيا، وفي تاريخ لاحق ألغى هذا الأمر. ولكنه عاد فجدده في 1768. وأيد الآن أراندا وكومبومانتيس في سلسلة من الإصلاحات الدينية شكلت من جديد وجه أسبانيا الفكري طوال جيل مثير.
ب - الإصلاح الديني الأسباني
لم يكن في نية المصلحين الأسبان أن يقضوا على الكاثوليكية في أسبانيا- ربما باستثناء أراندا. وكانت الحروب الطويلة التي خاضتها البلاد لطرد العرب (كالكفاح الطويل لتحرير أيرلندا) قد جعلت الكاثوليكية جزءاً من الوطنية وكتفتها إلى درجة إحالتها إلى إيمان قدسته تضحيات الأمة تقديساً لا يتيح التحدي الناجح أو التغيير الجذري. وكان أمل المصلحين أن يخضعوا الكنيسة لإشراف الدولة، وأن يحرروا عقل أسبانيا من رهبة محكمة التفتيش. وقد بدءوا بمهاجمة اليسوعيين.
كانت جماعة اليسوعيين قد ولدت بأسبانيا في عقل أغناطيوس لويولا(40/116)
وتجاربه، وكان نفر من أعظم قادتها من أسبانيا. وكما حدث في البرتغال، وفرنسا، وإيطاليا، والنمسا اضطلعت الجماعة بالتعليم الثانوي، وزودت الملوك والملكات بآباء الاعتراف، وشاركت في تشكيل السياسات الملكية. وقد أثار سلطانها المتسع غيرة الأكليروس الكاثوليكي غير الرهباني، وأحياناً عداءه. وكان بعض هؤلاء يؤمنون بأن سلطة المجامع المسكونة تعلو على سلطة الباباوات، أما اليسوعيين فقد دافعوا عن سمو سلطة الباباوات على سلطة المجامع والملوك. وشكا رجال الأعمال الأسبان من أن اليسوعيين المشتغلين بتجارة المستعمرات يبيعون بأسعار أقل من التجار المحترفين بفضل ما يتمتعون به من إعفاءات كنسية من الضرائب، وقرروا أن هذا يقلل من الإيرادات الملكية. وآمن شارل بأن اليسوعيين ما زالوا يشجعون مقاومة هنود باراجواي لأوامر الحكومة الأسبانية (37)؛ وروعه أن يطالعه أراندا وكامبومانيس وغيرهما على خطابات ادعوا أنهم وجدوها بين رسائل اليسوعيين، وقد صرح أحد هذه الخطابات الذين زعموا أن كاتبه هو الأب ريكي قائد الطائفة اليسوعية؛ بأن شارل ابن غير شرعي ويجب أن يحل محله أخوه لويز. وقد رفض الكاثوليك وغير المؤمنين على السواء صحة هذه الخطابات (39)، ولكن شارل ظنها صحيحة وانتهى إلى أن اليسوعيين يأتمرون لخلعه، وربما لقتله (40). ولحظ أن محاولة- زعموا أن اليسوعيين كانوا ضالعين فيها- بذلت لاغتيال يوسف الأول ملك البرتغال (1758)، فصحت نيته على أن يحذو حذو يوسف ويطرد الطائفة من مملكته.
وحذره كامبومانيس من أن خطوة كهذه لن يتاح لها النجاح إلا بالاستعدادات المستورة تتبعها ضربة فجائية مدبرة، وإلا استطاع اليسوعيين الذين كانوا يحظون بتبجيل الشعب أن يثيروا ضجة مؤذية في الأمة وممتلكاتها جميعاً. وعملاً باقتراح أراندا أرسلت رسائل مختومة ممهورة بتوقيع الملك في مطلع عام 1767 إلى الموظفين في جميع أرجاء الإمبراطورية مشفوعة بالأمر بعدم فضها إلا في 31 مارس في أسبانيا، وفي 2 إبريل في المستعمرات،(40/117)
وألا كان الموت عقاب المخالفين. وفي 31 مارس أستيقظ اليسوعيون الأسبان ليجدوا بيوتهم ومدارسهم يطوقها الجنود، ويجدوا أنفسهم معتقلين. وأمروا بالرحيل في هدوء، غير مصطحبين سوى ما يطيقون حمله، أما سائر ممتلكات اليسوعيين فقد صادرتها الدولة. ومنح كل مبعد معاشاً صغيراً يوقف أن عارض أي يسوعي في طرده. ثم أخذوا في عربات تحت الحراسة العسكرية إلى أقرب ميناء وأركبوا السفن إلى إيطاليا. وبعث شارل بكلمة إلى البابا كلمنت الثالث عشر يخيره أنه "ينقلهم إلى الأراضي الكنسية ليظلوا تحت إشراف قداسته الحكيم العاجل .... وأني أرجو من قداستكم ألا تعتبروا هذا القرار إلا احتياطاً مدنياً لا غنى عنه، لم أتخذه إلا بعد البحث الناضج والتفكير العميق (41) ".
فلما حاولت أولى السفن التي كانت تحمل ستمائة من اليسوعيين، أن تنزلهم في تشيفبتافكيا، رفض الكردينال تورجياني، السكرتير البابوي، السماح لهم بالرسو محتجاً بأن إيطاليا لا تستطيع بهذه السرعة المفاجئة أن تعنى بهذا العدد الكبير من اللاجئين (42). وظلت السفينة الأسابيع تجوب البحر المتوسط باحثة عن ميناء مضياف بينما يعاني ركابها البائسون من رداءة الجو ومن الجوع والمرض. وأخيراً سمح لهم بالنزول في قورسقه، وبعد حين استوعبتهم الولايات البابوية في جماعات سهلة القيادة. ولقي اليسوعيون في غضون هذا النفي المماثل من نابلي وبارما وأمريكا الأسبانية والفلبين. وناشد كلمنت الثالث عشر شارل الثالث أن يلغي هذه المراسيم التي سيصعق العالم المسيحي كله لا محالة لما فيها من مباغتة وقسوة. فأجاب شارل "أنني لرغبتي في أن أعفي العالم من فضيحة كبرى سأظل ما حييت مختبئاً في قلبي سر المؤامرة النكراء التي اقتضت هذه الصرامة. وينبغي لقداستكم أن تصدقوا كلمتي، فسلامة حياتي تفرض عليّ الصمت العميق (43) ".
ولم يصفح الملك قط عن الأدلة التي قام عليها مراسيمه. وفي التفاصيل من التناقض والغموض ما يجعل المرء عاجزاً عن الحكم عليها. وقد اعترض(40/118)
دالامبير على الطريقة التي نفي بها اليسوعيون، ولم يكن بصديق لهم. ففي 4 مايو 1767 كتب إلى فولتير يقول:
"ما رأيك في مرسوم شارل الثالث الذي طرد اليسوعيين على هذا النحو المفاجئ؟ ألا ترى، رغم اقتناعي بأن لديه مبررات كافية ووجيهة، بأنه كان ينبغي أن يصفح عنها لا أن يحبسها في "قلبه الملكي"؟ ألا ترى أنه كان ينبغي له أن يسمح لليسوعيين بتبرير أنفسهم، لا سيما لأن الجميع واثقون أنهم ما كانوا يستطيعون هذا؟ وألا ترى أيضاً أن من الظلم البين لهم أن يتركوا جميعاً ليموتوا جوعاً بينما الواجب على أخ علماني واحد، ربما يقطع الكرنب الآن في المطبخ، أن يقول كلمة بطريقة أو بأخرى في الدفاع عنهم؟ ... ألا يبدو لك أنه كان مستطيعاً أن يتصرف بتعقل أكثر في تنفيذ أمر هو رغم كل شيء أمر معقول (44) "؟
أكان طردهم إجراء محبباً لدى الشعب؟ بعد عام من استكمال هذا الطرد وفي عيد القديس شارل، طلع الملك على شعبه من شرفة قصره، فلما سألهم جرياً على عادة مألوفة عندهم أي منحة يرغبون في أن يهبهم صاحوا "بصوت واحد" أن يسمح لليسوعيين بالعودة، وأن يلبسوا رداء الأكليروس غير الرهباني- فأبى شارل، ونفى رئيس أساقفة طليطلة متهماً إياه بأنه المحرض على الالتماس الذي أشتبه في أنه يهدف إلى التوفيق (45). ولما طلب البابا في 1769 إلى أساقفة أسبانيا رأيهم في طرد اليسوعيين، وافق عليه اثنان وأربعون، وعارضه ستة، ولم يبد ثمانية رأياً في الأمر (46). وأغلب الظن أن الكهنة من غير الرهبان كانوا مغتبطين بإعفائه من منافسة اليسوعيين لهم. ووافق الأخوة الأوغسطينيون في أسبانيا على الطرد، ثم أيدوا بعد ذلك مطالبة شارل الثالث بفض جماعة اليسوعيين بجملتها (47).
أما ديوان التفتيش فلم يكن في الإمكان اتخاذ إجراء معجل كهذا معه، فقد كان أعمق من جمعية اليسوعيين تغلغلاً في رهبة وتقاليد الشعب الذي عزا إلى الديوان في صيانة الأخلاق والاحتفاظ بنقاء إيمانهم- بل حتى(40/119)
نقاء دمائهم. وحين ولي شارل العرش كان الديوان يسيطر على عقل أسبانيا برقابة صارمة ساهرة. فأي كتاب تظن به الهرطقة الدينية أو الانحراف الخلقي يقدم إلى الفاحصين، فإذا رأوه خطراً بعثوا بتوصياتهم إلى مجلس ديوان التفتيش، وللمجلس سلطة الأمر بمصادرة الكتاب وعقاب مؤلفه. وكان الديوان يصدر دورياً فهرساً بالكتب المحرمة، وكان إحراز كتاب منها أو قراءته دون إذن كنسي جريمة لا يغتفرها إلا ديوان التفتيش، وقد يعاقب مرتكبها بالجرم. وكان على القساوسة خصوصاً في الصوم الكبير أن يسألوا جميع المعترفين بذنوبهم أن كانوا يملكون أو يعلمون أن إنساناً يملك كتاباً محظوراً. وكل مقصر في الإبلاغ عن انتهاك للفهرس يعتبر مذنباً كمنتهكه، وما كان لأية روابط أسرية أو علاقات ودية أن تعفيه من العقاب (48).
ولم ينجز وزراء شارل في هذا المضمار سوى إصلاحات صغيرة. ففي 1768 حد من سلطة الديوان في رقابة المطبوعات باشتراط الحصول على التصديق الملكي على جميع المراسيم المحرمة للكتب قبل تنفيذها. وفي 1770 أمر الملك محكمة الديوان بأن تقتصر على الهرطقة والارتداد دون غيرهما، وإلا تسجن إنساناً ما لم يثبت ذنبه على نحو قاطع. وفي 1784 أمر بأن تعرض عليه إجراءات الديوان الخاصة بكبار النبلاء، وأعضاء مجلس الوزراء والموظفين الملكيين، لمراجعتها. ثم عين رئيساً عاماً للديوان أبدى موقفاً أكثر تحرراً بازاء خلافات الفكر (49).
وكان لهذه الإجراءات المتواضعة بعض الأثر، لأن الرئيس العام لديوان التفتيش قرر في حزن أن الخوف من اللوم الكنسي على قراءة الكتب المحرمة يكاد يصبح في خبر كان (50)، وكان وكلاء الديوان بعد 1770 بوجه عام أقل غلواً، وعقوباته أرحم من ذي قبل. ومنح التسامح الديني للبروتستنت في عهد شارل الثالث، وللمسلمين في 1779، وأن لم يمنح لليهود (51). وفي عهد شارل الثالث أحتفل بإحراق المنحرفين أربع مرات، آخرها عام 1780 في إشبيلية حين أحرقت عجوز اتهمت بالسحر، وأثار إعدامها(40/120)
هذا من النقد في كل أرجاء أوربا (52) ما مهد الطريق لإلغاء ديوان التفتيش الأسباني في 1713.
ومع ذلك ظلت حرية الفكر إذا أعرب صاحبها عنها حتى في عهد شارل الثالث تعاقب قانوناً بالموت. ففي 1768 أتهم بابلو أولافيدي أمام ديوان التفتيش بحيازته صوراً بذيئة في بيته بمدريد، وربما كانت نسخاً من عرايا بوشيه، لأن أولافيدي كان قد جاب فرنسا حتى فرنيه. ثم رمي بتهمة أخطر في 1774، هي أنه لم يسمح بإقامة أديرة في القرى النموذجية التي أنشأها في سييرا مورينا، وأنه حظر على الكهنة تلاوة القداس في غير يوم الأحد أو طلب الصدقات. وأحاط ديوان التفتيش الملك بأن هذه الجرائم وغيرها قد أثبتت بشهادة ثمانين شاهداً. وفي 1778 أستدعي أوفلافيدي لمحاكمته وأتهم بتأييده نظرية كوبرنيق الفلكية وتراسله مع فولتير وروسو. فرجع الرجل عن أخطائه وتصالح مع الكنيسة، وصودرت كل أملاكه، وحكم عليه بالحبس في دير ثمانية أعوام. وفي 1780 تداعت صحته، وسمح له بالاستشفاء بمياه منتجع معدني في قنلونيه، ومنها فر إلى فرنسا، حيث أستقبله أصحابه الفلاسفة في باريس استقبال الأبطال. ولكنه لم يقضِ في منفاه بضع سنوات حتى استبد به الحنين إلى مغانيه الأسبانية. فألف كتاباً مشرباً بروح التقوى عنوانه "الإنجيل المنتصر أو الفيلسوف المهدي" وعليه أذن ديوان التفتيش بعودته (53).
ونلاحظ أن محاكمة أوفلافيدي جرت بعد سقوط أراندا من رآسة مجلس قتشتالة وفي أخريات حكم أراندا أنشأ مدارس جديدة يقوم بالتدريس فيها أكليروس غير رهباني لملء الفراغ الذي خلفه اليسوعيون، وأصلح العملة بإحلال نقود من نوع جيد وتصميم أرقى محل العملات الممزوقة (1770). على أن إحساسه باستنارته الفائقة جعله بمضي الزمن نزقاً متغطرساً وقحاً. فبعد أن جعل سلطة الملك مطلقة سعى إلى تقييدها بزيادة نفوذ الوزراء. وفقد القدرة على الرؤية المتناسية وتقدير الأمور في أوضاعها الصحيحة، وحلم بإخراج أسبانيا بعد جيل واحد من كتلتها المطمئنة إلى تيار الفلسفة(40/121)
الفرنسية. وأعرب في جرأة مغالية عن أفكاره المهرطقة، حتى لكاهن اعترافه. ومع أن الكثير من رجال الأكليروس غير الرهبان أيدوا بعض إصلاحاته الكنسية لما فيها من نفع للكنيسة (54)، فأنه أخاف عدد أكبر بالكشف عن أمله في حل ديوان التفتيش جملة (55). وأشتد كره الناس له حتى أنه لم يجرؤ على الخروج من قصره دون حرس. وراح يكثر من الشكوى من ثقل أعباء وظيفته حتى أخذه شارل آخر الأمر عن كلمته فأوفده سفيراً إلى فرنسا (1713 - 87) وهناك تنبأ بأن المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، التي بدأت ثورتها آنذاك، ستصبح في الوقت المناسب من أعظم دول العالم (56).
جـ - الاقتصاد الجديد
سيطر على الوزارة بعد رحيل أراندا ثلاثة من الرجال الأكفاء. فخلف خوزيه مونينو، كونت فلوريدا بلانكا، جريمالدي وزيراً للشؤون الخارجية (1776)، وسيطر على مجلس الوزراء حتى عام 1792. وقد تأثر بالفلاسفة الفرنسيين كما تأثر أراندا ولكن بدرجة أقل. وأرشد الملك في إجراءات لتحسين الزراعة والتجارة والتعليم والعلوم والفنون، ولكن الثورة الفرنسية أخافته فانتكس محافظاً، وقاد أسبانيا إلى أول تحالف ضد فرنسا الثورة (1792). أما بدور دي كامبومانيس فقد ترأس مجلس قشتالة خمس سنين، وكان المحرك الأول في الإصلاح الاقتصادي. وأما جسبار ملكور دي خوفللانوس، أرفع الأسبان في جيله (57) " فقد عرفته الجماهير أول ما عرفته قاضياً رحيماً نزيهاً في إشبيلية (1767) ومدريد (1778). وجاء أكثر نشاطه في الحكومة المركزية تالياً لعام 1789، ولكنه أسهم إسهاماً قوياً في السياسة الاقتصادية أيام شارل الثالث بكتاب ألفه في الإصلاح الزراعي (1787). وقد أذاع اقتراحه مراجعة القانون الزراعي، وهو الاقتراح الذي كتبه برشاقة أسلوب كاد يداني بها رشاقة أسلوب شيشيرون، وشهرته في أوربا طولاً وعرضاً. هؤلاء الثلاثة، بالإضافة إلى أراندا، كانوا أباء التنوير الأسباني والاقتصاد الجديد. ويرى دارس إنجليزي، بوجه عام، أن النتيجة الطيبة التي حققوها تضارع ما تحقق في مثل هذا(40/122)
الزمن القليل في أي بلد آخر، ولا ريب في أن تاريخ أسبانيا لا يحوي فترة يمكن مقارنتها بحكم شارل الثالث (58).
كانت العقبات التي اعترضت الإصلاح في أسبانيا لا تقل خطراً في الاقتصاد عنها في الدين. فقد بدأ تركيز الملكية الثانية في الأسر الشريفة أو الجماعات الكنسية، واحتكار "المستا" لإنتاج الصوف، حاجزين في وجه التغيير الاقتصادي لا سبيل إلى التغلب عليهما. وكان ملايين الأسبان يفخرون بحياة الكسل التي يحيونها، ولا يخجلون من التسول، وكانوا لا يثقون في التغيير لأنه خطر يهدد بالتبطل (1). وكان المال يختزن في خزائن القصور والكنائس بدلاً من استثماره في التجارة أو الصناعة. وكان طرد المغاربة واليهود والموريسكو قد أزال كثيراً من مصادر تحسين الزراعة وتطوير التجارة. وقد نجم عن صعوبات الاتصال والنقل الداخليين أن تخلف داخل البلاد قرناً عن برشلونة وإشبيلية ومدريد.
على أن فريقاً صادقي النية- نبلاء وقساوسة وأفراد من طبقة العامة رجالاً ونساء- كونوا رغم هذه المعوقات "جمعية اقتصادية لأصدقاء السلام" لدراسة وتشجيع التعليم والعلوم والصناعة والتجارة والفنون. فأنشئوا المدارس والمكتبات، وترجموا الأبحاث الأجنبية وقدموا الجوائز على المقالات والأفكار، وجمعوا المال لمشروعات وتجارب اقتصادية تقدمية. وقد أدانوا تكديس الأمة للذهب باعتباره أثراً مذكراً بالركود، وذلك اعترافاً منهم بتأثير الطبيعيين الفرنسيين وآدم سمث. وأكد واحد منهم: "أن الأمة التي تملك معظم الذهب هي أفقر الأمم ... كما أثبتت أسبانيا (60). ورحب خوفللانوس بـ"علم الاقتصاد المدني" باعتباره "علم الدولة الحقيقي". وكثرت المقالات الاقتصادية. وكان مقال كاميومانيس عن الصناعة الشعبية إلهاماً للآلاف ومنهم الملك.
_________
(1) قرر قانون أراجوني أن يزود كل نبيل من طبقة الهيدلج كلاً من أبنائه بمعاش لأنه "لا يليق بالنبيل أن يشتغل" (59).(40/123)
وبدأ شارل باستيراد الغلال والبذور للأقاليم التي اندثرت فيها الزراعة. وحث المدن على أن تؤجر أراضيها المشاع غير المزروعة للفلاحين بأقل إيجار عملي. وأنشأ فلوريدا بلايكا ببعض إيرادات التاج من دخول الرتب الكنسية الشاغرة أرصدة دينية في بلنسية وملقا لإقراض المال للمزارعين بفائدة منخفضة. ولكي يحد شارل من إزالة الغابات وتعرية التربة أمر جميع الكومونات بأن تزرع كل سنة عدداً محدداً من الأشجار. ومن هنا ذلك الاحتفال السنوي بـ"يوم الشجرة" الذي ظل في نصف الكرة تقليداً صحياً أيام شبابنا. وقد شجع إغفال الأوقاف القديمة، وثبط وقف الجديد منها، وبهذا يسر تجزئة الضياع الكبيرة إلى ملكيات للفلاحين. ثم اختزلت امتيازات احتكار أغنام المستا اختزالاً حاداً وأبيح زرع مساحات كبيرة من الأرض كانت من قبل حكراً للرعي. واستقدم المستعمرون الأجانب لتعمير المناطق الخفيفة السكان. مثال ذلك أن أولافيدي أنشأ (1767 وما بعدها) في إقليم سبيرا مورينا بجنوب غربي أسبانيا، الذي كان إلى ذلك الحين متروكاً للصوص والوحوش، أربعاً وأربعين قرية وإحدى عشرة مدينة مأهولة بالوافدين الفرنسيين أو الألمان، وأصبحت هذه المستوطنات مشهورة برخائها. وشقت القنوات الطويلة لربط الأنهار وري مساحات واسعة من الأرض كانت من قبل جرداء قاحلة. ثم شقت شبكة من الطرق الجديدة كانت في فترة خير الطرق في أوربا (62)، فربطت القرى والمدن في تيسير يعين على سرعة المواصلات والنقل والتجارة.
ومدت الحكومة يد العون للصناعة. ورغبة في إزالة الوصمة التي ألصقتها التقاليد بالعمل اليدوي، أعلن مرسوم ملكي أن لا تعارض بين الأعمال الحرفية وشرف المكانة الاجتماعية، وأن الحرفيين يصح منذ الآن اختيارهم للوظائف الحكومية. وأنشئت المصانع النموذجية: للمنسوجات في وادي الحجارة وسقوبية، وللقبعات في سان فرناندو، وللحرائر في طلبيه، وللصيني في بوين رتيرو، وللزجاج في سان إلدفونسو، وللزجاج والأثاث الخشبي الفاخر وقطع النسيج المرسوم في مدريد. وشجعت المراسيم الملكية تطور(40/124)
الإنتاج الرأسمالي على نطاق واسع، لا سيما في صناعة النسيج. فكان في وادي الحجارة عام 1780 ثمانمائة نول تستخدم أربعة آلاف نساج، وأدارت شركة واحدة في برشلونة ستين مصنعاً تضم 2. 162 نولاً نساج القطن، وكان في بلنسيه أربعة آلاف نول تنسج الحرير، وأخذت تنافس تجارة ليون في الحرير لما حظيت به من إمكانات التصدير. وفي 1792 كان في برشلونة ثمانون ألف نساج، ولم يفقها في إنتاج الأقمشة القطنية غير أقاليم إنجلترا الوسطى.
وكانت إشبيلية وقادس تتمتعان منذ عهد بعيد باحتكار تحميه الدولة للتجارة مع الممتلكات الأسبانية في الدنيا الجديدة، فأنهى شارل الثالث هذا الامتياز وسمح لمختلف الثغور بالاتجار مع المستعمرات، ثم أبرم بعد التفاوض مع تركيا معاهدة (1782) فتحت الموانئ الإسلامية للسلع الأسبانية. وكانت النتائج مجزية لجميع الأطراف. وازداد أمريكا الأسبانية سريعاً، وارتفع دخل أسبانيا من أمريكا ثمانمائة في المائة في عهد شارل الثالث، وتضاعفت تجارة صادرها ثلاث مرات (63).
وتطلبت أنشطة الحكومة المتسعة دخولاً أكبر. وقد أمكن الحصول عليها إلى حد ما باحتكار الدولة لبيع البراندي، والتبغ، وورق اللعب، والبارود، والرصاص، والزئبق، والكبريت، والملح. وفي بداية العهد كانت هناك ضرائب مبيعات نسبتها خمسة عشر في المائة في قتلونيا، وأربعة عشر قشتالة. وقد وصف خوفللانوس ضرائب المبيعات بحق إذ قال "إنها تفاجئ ضحيتها ... عند ميلادها، وتطاردها وتعترضها حين تدور، ولا تغفل عينها عنها أبداً أو تدعها تفلت منها حتى تقضي عليها". (64) وفي عهد شارل الثالث ألغيت ضريبة المبيعات في قتلونيا، وفي قشتالة خفضت إلى اثنين أو ثلاثة أو أربعة في المائة (65). وفرضت ضريبة متدرجة معتدلة على الدخول. وضماناً للمزيد من المال بتشغيل مدخرات الشعب، أقنع فرانسسكو دي كاباروس الخزانة بأن تصدر سندات حكومية تقل فائدة. فلما هبطت هذه السندات إلى ثمانية في المائة من قيمتها الاسمية،(40/125)
أسس (1782) أول مصرف قومي أسباني- بنكودي سان كارلوس- استهلك السندات بقيمتها الاسمية وأعاد الثقة المالية بالدولة.
وأثمر حسن الإدارة وروح الأقدام زيادة محسوسة في ثروة الأمة في جملتها. وكان أكثر الطبقات انتفاعاً هي الوسطى، لأن منظماتها هي التي أعادت تشكيل الاقتصاد الأسباني. ففي مدريد كون 375 من رجال الأعمال خمس نقابات تجارية كبرى سيطرت على معظم تجارة العاصمة. ونستطيع الحكم على مبلغ ثرائها من استطاعتها أن تقرض الحكومة عام 1776 ثلاثين مليون ريال (66).
وقد حبذت الحكومة بوجه عام ظهور طبقة رجال الأعمال هذا باعتباره أمراً لا غنى عنه لتحرير أسبانيا من الاعتماد الاقتصادي والسياسي على دول ذات اقتصاد أرقى. ولم تحظ البرولتاريا الناشئة، هنا شأنها في تلك الدول، بنصيب مذكور في الثراء الجديد. وارتفعت الأجور لا سيما في قتلونية حيث شكا الأغنياء من صعوبة العثور على الخدم والاحتفاظ بهم (67)، ولكن يمكن القول بوجه عام أن الأسعار ارتفعت بأسرع من ارتفاع الأجور، وإن الطبقات العاملة كانت فقيرة في ختام العهد فقرها في مطلعه. وقد لاحظ إنجليزي حساب لنسيه في 1797 ذلك التناقض بين (ثراء .. التجار، وأصحاب المصانع، ورجال الدين، والعسكريين، والسادة من ملاك الأرض و "الفقر، والبؤس، والأسمال" التي ترى في كل شارع (68). وعليه فقد رحبت الطبقات الوسطى بالتنوير Luees الآتي من فرنسا وإنجلترا في حين كان موظفيهم الذين ملئوا الكنائس ولثموا المزارات يعوزون أنفسهم بالنعمة الإلهية وبآمال الفردوس.
واتسعت المدن في ظل الاقتصاد الجديد. وكان يعيش في المراكز البحرية الكبرى- برشلونة وبلنسية وإشبيلية وقادس- سكان يتفاوتون من 80. 000 إلى 100. 000 (1800). وكان يسكن مدريد (في 1797) 167. 607، بالإضافة إلى 30. 000 من الأجانب. وحين ولي شارل الثالث العرش كانت المدينة تشتهر بأنها أقذر عواصم أوربا. وكان الناس من سكان(40/126)
الأحياء الفقيرة لا يزالون يفرغون قمامتهم في الشوارع معتمدين على الريح أو المطر لتبديدها، فلما حظر شارل هذه العادة رموه بالطغيان. قال "إن الأسبان أطفال يبكون حين يحممون (69) ". وقد أقام موظفوه رغم هذا نظاماً لجمع القمامة وللصرف، ونظم الزبالون لجمع النفاية لاستخدامها سماداً (70)، وبذل جهد لمنع التسول ولكنه باء بالفشل، ورفض الشعب السماح للشرطة بالقبض على المتسولين- لا سيما المكفوفين منهم الذين شكلوا نقابة قوية فيما بينهم.
وأصلح شارل من أمر عاصمته عاماً بعد عام. فجيء لها بالماء من الجبال إلى سبعمائة نافورة، حمله منها 720 سقاء في مشقة وعناء لتوزيعه على بيوت المدينة. وأضيأت الشوارع بمصابيح الزيت من الغسق إلى نصف الليل طوال شهور ستة في الخريف والشتاء، وكان أكثر الشوارع ضيقاً ملتوياً يتبع دروباً عتيقة متعرجة ويتوارى من شمس الصيف، ولكن بعض الشوارع المشجرة العريضة الجميلة شقت، وتمتع الشعب بالبساتين الفسيحة والمماشي الظليلة. وكان أحبها إلى الناس (باسيوديل برادو) أو متنزه المرج، الذي لطفت هواءه النوافير والأشجار، وفضله العشاق للاستطلاع ولقاءات الغرام. وهناك في 1785 بدأ خوان دي فيللا نوفا تشييد متحف البرادو. وهناك في أي يوم تقريباً كانت تجري أربعمائة مركبة، وفي أي عشية كان يتجمع ثلاثون ألف مدريدي. وحظر عليهم التغني بالأغاني البذيئة، أو الاستحمام عراة في النوافير، أو عزف الموسيقى بعد منتصف الليل، ولكنهم كانوا يستمتعون بأصوات النساء الرخيمة وهن ينادين على البرتقال والليمون والبندق. ذكر الرحالة أن المشهد الذي كان يرى كل يوم على البادو في أخريات القرن الثامن عشر كان يعدل ما يرى في مدن أخرى في الفترة نفسها في الآحاد والعطلات فقط (71)، وأصبحت مدريد آنئذ، كما عادت في عصرنا هذا، من أجمل مدن أوربا.
لم ينجح شارل الثالث في السياسة الخارجية نجاحه في الشؤون الداخلية. وبدا أن ثورة المستعمرات الإنجليزية في أمريكا تتيح فرصة الانتقام للخسائر التي منيت بها أسبانيا في حرب السنين السبع، فحث أراندا شارل على تقديم(40/127)
العون للثوار، فبعث له الملك سراً بمليون جنيه (يونيو 1776). وأفضت هجمات القراصنة الإنجليز على السفن الأسبانية آخر الأمر إلى إعلان أسبانيا الحرب على إنجلترا (23 يونيو 1779). واستعادت قوة أسبانية مينورقة، ولكن محاولة الأسبان الاستيلاء على جبل طارق باءت بالفشل. واتخذت العدة لغزو إنجلترا، ولكن الغزو عطلته العواصف (البروتستنتية) وفي صلح فرساي (1783) سحبت أسبانيا مطالبها بجبل طارق ولكنها استعادت فلوريدا.
وأحزن الملك في سنيه الأخيرة إخفاقه في استرداد وحدة الأراضي الأسبانية وكانت الحروب قد أتت على شطر كبير من الثروة التي أنتجها الاقتصاد الجديد. ولم يستطع وزراؤه الأكفاء أن يتغلبوا قط على شديدتين من قوى المحافظة- كبار النبلاء بضياعهم الشاسعة، والأكليروس بما لهم من مصلحة راسخة في سذاجة الشعب. أما شارل نفسه فنذر أن تذبذب في ولائه الأصيل للكنيسة. ولم يعجب به شعبه قط إعجابه حين يراه- وقد لقي موكباً دينياً- يعطي مركبته للأسقف حامل القربان ثم ينضم إلى الموكب سائراً على قدميه. وأكسبه ورعه المحبة التي افتقدها من الشعب وهو الغريب الوافد من إيطاليا- في العقد الأول من حكمه. فلما وافته منيته (14 ديسمبر 1788)، بعد أربعة وخمسين عاماً حكم فيها نابلي وأسبانيا، كان كثيرون يرون فيه أبر ملوك أسبانيا إن لم يكن أعظمهم. وقد تجلت فطرته الطيبة الرقيقة حين سأله الأسقف القائم على خدمته وهو على فراش الموت هل غفر لأعدائه جميعاً، فقال متسائلاً "كيف أنتظر جواز المرور هذا قبل أن أغفر لهم؟ لقد غفرت لهم أجمعين في اللحظة التالية للإساءة (72) ".
6 - الخلق الأسباني
أي طراز من الناس كان أسبان القرن الثامن عشر هؤلاء؟ الإجماع على أنهم كانوا قوماً أفاضل إذا قيسوا بنظرائهم في إنجلترا وفرنسا. وكان لهم في تدينهم الشديد، ومن شجاعتهم وإحساسهم بالشرف، ومن تماسكهم ونظامهم الأسريين، عوامل تصحيح قوية لحساسيتهم الجنسية وكبريائهم(40/128)
العدوانية، حتى مع تكريسهم شوفينيه مشبوبة في مسائل العرق والدين. وقد أعاق الانتخاب الجنسي الشجاعة لأن النساء الأسبانيات وهن يطلبن الحماية كن يمنحن أرق ابتساماتهن للرجال الذين يواجهون الثيران في الحلبة أو الشوارع، أو الذين يبادرون برفض الإهانة والثأر لأنفسهم، أو الذين يعودون من الحرب مكللين بغار الانتصار.
ولانت الفضائل الجنسية يتفق الأفكار والعادات الفرنسية، وكانت الصبايا يحرسن حراسة مشددة، وكان رضا الوالدين (بعد 1766) شرطاً قانونياً للزواج، ولكن النساء في المدن الكبيرة كن بعد الزواج ينغمسن في الغزل والمعابثة وأصبح "الفرس التابع" ملحقاً ضرورياً للسيدة العصرية، وازداد الفجور (73). وابتدعت جماعة صغيرة تدعى "الماخو" و"الماخا" مظهراً فذاً من مظاهر الحياة الأسبانية. وكان الماخو رجالاً من الطبقة الدنيا يلبسون كالغنادير، ويرتدون العباءات الطويلة، ويطيلون شعورهم، ويغطون رؤوسهم بقبعات عريضة الحافة، ويدخنون السيجار الكبير، وكانوا على استعداد دائم للعراك، يعيشون عيشة بوهيمية على نفقة خليلاتهم-الماخا-كلما أمكن ذلك. ولم يعبئوا بالقانون في اتصالاتهم الجنسية؛ وكان للماخا في كثير من الحالات زوج يعولها بينما تعول هي خليلها الماخو، ويعرف نصف العالم الماخا، كاسية أو عارية من فرشاة جويا.
أما الفضيلة الاجتماعية فكانت عالية المستوى نسبياً. لقد وجد الفساد السياسي والتجاري، ولكن ليس على النطاق الواسع المعروف آنئذ في فرنسا أو إنجلترا، ذكر رحالة فرنسي أن "الأمانة الأسبانية مضرب الأمثال وتتجلى واضحة في العلاقات التجارية" (74). فكانت كلمة السيد الأسباني مستنداً أدبياً ساري المفعول من لشبونة إلى سانت بطرسبرج. وكثيراً ما كانت الصداقة في أسبانيا أبقى من الحب. أما البر بالفقراء فموفور. ففي مدريد وحدها كانت المؤسسات الدينية توزع كل يوم ثلاثين ألفاً من قصاع الحساء المغذي على الفقراء (75). وأسس الكثير من المستشفيات والملاجئ الجديدة،(40/129)
ووسع الكثير من القديم منها أو حسن. وكان جل الأسبان كرماء رحماء إلا مع المهرطقين والثيران.
وكان قتال الثيران ينافس الدين والجنس والشرف والأسرة محلاً لحب الأسبان. وكان الدفاع عن هذه المعارك، شأنه شأن ألعاب المجالدة في روما القديمة، يقوم على أساسين أن الشجاعة يجب أن تربى في الرجال، وأن الثيران لا بد أن تموت قبل أن تؤكل. وقد حرم شارل هذه المعارك، ولكنها استأنفت بعد موته بقليل. وكان مهرة المصارعين الفرسان ومغامروهم معبودي الطبقات كلها. وكان لكل منهم أنصاره، فدوقة ألبا تؤثر كوستللاريس ودوقة أوزونا تؤثر روميرو، وقسم الحزبان مدريد كمل قسم جلوك ويتشيني باريس. وراهن الرجال والنساء بأرزاقهم على مصير الثيران، وعلى كل شيء آخر تقريباً. وكان القمار محرماً بالقانون ولكنه شائع، لا بل كانت البيوت الخاصة تدير أمسيات للقمار وكانت المضيفات يقبضن رسوم اللعب.
وتخلت ملابس السادة شيئاً فشيئاً عن العباءة السوداء المقبضة والياقة الصلبة التي تزيا بها الجيل السابق، واستبدلت بها الزي الفرنسي-وهو السترة الملونة والصدرة الطويلة من الساقان أو الحرير، وسراويل الركوب، والجوارب الحريرية الطويلة، والحذاء ذو المشبك، يتوج هذا كله باروكة وقبعة مثلثة الأركان. أما المرأة الأسبانية فألفت أن تجعل من مفاتنها سراً غامضاً مقدساً تلفها في صدرات من الدنتللا وتنورات طويلة، ذات أطواق موسعة أحياناً. وتستعمل براقع من قماش الطرح إخفاء لعيونهن التي يود المعجب الأسباني لو أغرق روحه في أعماقها المظلمة. وكانت السيدة في القرن السابع عشر نادراً ما تكشف عن قدميها لأنظار الرجال، أما الآن فقد قصرت الجونلة إلى بضع بوصات فوق الأرض، واستعيض عن الخفين المستويين بحذاء مدبب عالي الكعب، وقد أنذر الوعاظ بأن تعرية النساء لأقدامهن على هذا النحو غير مهذب إنما يزيد نار الرجال المتقدة اشتعالاً. ولكن النساء ابتسمن، وزين أحذيتهن، ونشرن تنوراتهن، وروحن بمراوحهن(40/130)
حتى في أيام الشتاء. وكانت إيزابيللا فارنيزي تملك ذخيرة من 1626 مروحة زين بعضها برسوم لرسامين ذوي شهرة قومية.
وكانت الحياة الاجتماعية مقيدة في كل شيء إلا المراقص. فاجتنبت المجتمعات في الأمسيات النقاش الجاد مؤثرة عليه الألعاب والرقص والغزل. وكان الرقص غراماً كبيراً في أسبانيا، وقد أفرخ ألواناً اشتهرت في أوربا. فكانت "الفاندانجو" ترقص على ميزان ثلاثي بالصاجات، أما السجيديللا فيؤديها زوجان أو أربعة أزواج من الراقصين، بمصاحبة الصاجات وبالغناء عادة، وقد اتخذت رقصة مشتقة منها تسمى البوليرو وشكلها حوالي 1780، وسرعان ما اكتسبت شعبية مجنونة. وفي رقصة الكونترادانزا كان صف من الرجال يواجه صفاً من النساء في تقدم وتأخر متناوبين، وكأنما يرمز هذا إلى تكتيك الحرب الأبدية بين المرأة والرجل، أو كان أربعة أزواج يؤلفون ويحيطون مربعاً في رقصة فخمة تدعى الكونترا دانزا كوادرادا-أي الكدريل. وكانت حفلات الرقص المقنع تجتذب أحياناً 3. 500 من الراقصين المتحمسين، وكان القوم في المرافع يرقصون حتى مطلع الفجر.
وجعلت هذه الرقصات الحركة شعراً حياً وحافزاً جنسياً. قيل إن المرأة الأسبانية التي ترقص السجيديللا كان في رقصها من الإغراء ما يخرج البابا ومجمع الكرادلة بأسره عن وقارهم (76). وقد وجد كازانوفا نفسه شيئاً يتعلمه في أسبانيا فقال:
"حين أوشك الليل أن ينتصف بدأت أعنف الرقصات وأكثرها جنوناً ... وهي الفندانجو، التي ظننت في سذاجتي أنني طالما شهدتها، والتي فاقت (هنا) أشد تصوراتي جموحاً ... ففي إيطاليا وفرنسا يحرص الراقصون على تجنب الإيماءات التي تجعل هذه الرقصة أكثر الرقصات شهوانية. ويخطو الزوجان-راقص وراقصة-ثلاث خطوات فقط، ثم يرتميان في مختلف الأوضاع الفاجرة وهما يصحبان الموسيقى بالمصاحبات ويعرضان قصة العشق كلها من مولده إلى ختامه من أول تنهيدة إلى آخر نشوه. فلم أملك لشدة انفعالي إلا أن أصيح عاليا (77) ".(40/131)
وقد عجب من سماح ديوان التفتيش برقصة مثيرة كهذه إلى هذا الحد، فقيل له أنها "محرمة تحريماً باتاً، لولا أن الكونت أراندا أذن بها لما جرؤ أحد على رقصها".
وارتبطت بالرقص ألوان من الموسيقى الأسبانية كانت من أحبها إلى الشعب، مثال ذلك أن الكانتي فلامنكو أو الغناء الغجري (الفلمنكي) استخدم نغمة شاكية عاطفية كان كل المغنين الغجر يصاحبون بها "السجيديللا جيتانا". ولعل هذه الأغاني الشجية كانت أصداء لألحان مغربية، أو لعلها عكست النوعية المكتئبة للدين والفن الأسبانيين، أو العجز المسخط عن الوصول إلى جسد المرأة، أو انقشاع الوهم عقب الوصال. وقد وفدت نغمة أبهج بوفود الأوبرا الإيطالية (1703) وأغاني فازينللي. ولكن "الخصي" العجوز فقد الحظوة في عهد شارل الثالث بعد أن ظل يشدو بأغانيه طوال عهدين، وقد أنزله شارل عن عرشه بهذا السطر "أن الديوك المخصية لا تصلح إلا للأكل (78) ". واتصل النفوذ الإيطالي بمجيء سكارلاتي، وانتصر مرة أخرى بمجيء بوكيريني الذي قدم في 1768، وسيطر على موسيقى البلاط على عهد شارل الثالث وشارل الرابع، ومكث بأسبانيا حتى وافاه الأجل (1805).
وبحركة عكس هذه الحركة وفق فنشنتي مارتن أي سولار، بعد أن حقق لنفسه الشهرة في أسبانيا، في أن يخرج الأوبرا الإيطالية في فلورنسة، وفيينا، وسانت بطرسبرج ونافست صوناتات أنطونيو سولر على الهاربسكورد صونتات سكارلاتي، وحول دون لويز ميسون "التونادا" أو السولو الصوتية، إلى "التوناد يللو" فاصلاً من الغناء بين فصول المسرحية. وفي 1799 أنهى أمر ملكي حكم الموسيقى الإيطالية في أسبانيا بحظر أداء أي تمثيلية ما لم تكتب باللغة القشتالية ويمثلها ممثلون أسبان (79).
والخلق الأسباني لا يمكن صبه في قالب متماثل واحد. فالروح الأسبانية تتفاوت بتفاوت المشهد الطبيعي من ولاية إلى ولاية، وكان الأسبان المتفرنسون الذين تجمعوا في مدريد طرازاً يختلف كل الاختلاف عن المواطنين الذين(40/132)
تجمدوا في العادات الأسبانية. ولكننا قد نستطيع بعد أن نغض النظر عن الأقليات الدخيلة ظان نتبين في الشعب الأسباني طبعاً أصيلاً متفرداً. فقد كان في الأسباني كبرياء ولكن في قوة صامته لا تستمد الكثير من الشوفينية أو القومية، كانت كبرياء الفردية، وإحساساً مصمماً بالكفاح المنفرد ضد الأذى الدنيوي أو الإهانة الشخصية أو الهلاك الأبدي. ولمثل هذه الروح كان يمكن أن يبتدي العالم الخارجي أمراً ذا أهمية ثانوية لا يستحق القلق أو الكد في سبيله، فلا أهمية إلا مصير النفس في الصراع مع الإنسان والبحث عن الله. إذن فما أتفه مشكلات السياسة، والسباق على المال، والإعلاء من قدرة الشهرة أو المنصب، وحتى انتصارات الحرب لا مجد يكللها ما لم تكن انتصارات على أعداء الدين. أما وقد ضربت جذور الأسباني في صميم هذا الدين، فقد كان في استطاعته أن يقابل الحياة بهدوء رواقي، وبإيمان بالقضاء والقدر ينتظر في اطمئنان ثواب الجنة بعد الممات.
7 - العقل الأسباني
حين قبل لويس الرابع عشر ما عرضه آخر ملوك الهابسبورج في أسبانيا من الإيصاء بتاجه لحفيد الملك العظيم، صاح سفير أسباني بفرساي في ابتهاج "لم يعد الآن وجود لجبل البرانس! " ولكن تلك الكتل الرهيبة لم تتزحزح عن موقفها عقبة كؤوداً في سبيل التنوير الفرنسي، ورموزاً للمقاومة التي ستلقاها محاولة قلة مخلصة أن تصبغ العقل الأسباني بالصبغة الأوربية.
وقد فاجأ كاميومانيس الشيوخ بمقال في التعليم الشعبي (1774 - 76)، جعل من التوسع في التعليم الشعبي أساساً لا غنى عنه لحيوية الأمة ونموها. ولم يرَ بعض كبار رجال الدين وملاك الأراضي معنى لإزعاج الشعب بمعرفة لا لزوم لها قد تفضي في النهاية إلى الهرطقة الدينية أو الثورة الاجتماعية. ولكن خوفيللانوس الذي لم يثنه هذا الاعتراض كافح لنشر الإيمان بالتعليم، وكتب يقول "كثيرة هي الجداول المؤدية إلى الرخاء الاجتماعي، ولكنها كلها تنبع من منبع واحد هو التعليم العام. (80) وكان يعلل نفسه بأن التعليم(40/133)
سيعلم الناس أن يفكروا، وإن التفكير سيحررهم من سلطان الخرافة والتعصب، وإن العلم الذي يطوره أمثال هؤلاء سيستخدم موارد الطبيعة لقهر المرض والفقر. وتقبل بعض كرائم النبيلات هذا التحدي، والفن Junta dw Damas لتميل المدارس الابتدائية. وأنفق شارل الثالث مبالغ كبيرة في إنشاء المدارس الأولية المجانية. وشارك أفراد غير رسميين في تأسيس الأكاديميات لدراسة اللغات أو الأدب أو التاريخ أو الفن أو القانون أو الطب.
وكان طرد اليسوعيين ملزماً بإعادة تشكيل المدارس الثانوية وميسراً لها. وأمر شارل بتوسيع مقررات العلوم في هذه الكليات، وبتحديث كتبها المدرسية، وبالسماح للعلمانيين بالتدريس في أقسامها. وأعان الكليات بالمنح والهبات، وقرر المعاشات للبارزين من المعلمين (81) ". ونصحت الجامعات بتدريس فيزياء نيوتن وفلسفة ديكارت وليبنتز في مناهجها. ورفضت جامعة سلمنقه النصيحة بحجة أن "مبادئ نيوتن ... وديكارت لا تشابه الحقيقة الموحى بها بالقدر الذي تشابهها به مبادئ أرسطو (82) "، ولكن معظم الجامعات الأسبانية قبلت التوجيه الملكي، وكانت جامعة بلنسيه الآن (1784)، بطلابها البالغ عددهم 2. 400، أكبر المراكز التعليمية وأكثرها تقدماً في أسبانيا. وأدخلت عدة طوائف دينية "الفلسفة الحديثة" في كلياتها. وحث قائد الرهبان الكرملين الحفاة، المعلمين الكرمليين على قراءة أفلاطون وشيشرون وفرنسيس بيكن وديكارت ونيوتن وليبنتز ولوك وفولف وكوندياك، هنا لم يكن للقديسين حكم. ودرست جماعة من الرهبان الأوغسطينيين هوبز، وأخرى هلفيتوس. وكانت مثل هذه الدراسات تلحق دائماً بردود تفندها، ولكن كثيراً من المؤمنين الغيورين فقدوا إيمانهم وهم يفندون دعاوى أعدائه.
من ذلك "حداثة" راهب فذ اشتهر يوم كان شارل لا زال شاباً، ذلك هو بنيتو خيرونيمو فيخواي مونتنجرو الذي انفق الأعوام السبعة والأربعين الأخيرة من عمره (1717 - 64) في دير بندكتي ياوفيدو،(40/134)
ومع ذلك استطاع أن يدرس بيكن وديكارت وجاليلو وبسكال وجاسندي ونيوتن وليبنتز، ورأى في عجب وخجل كيف عزلت أسبانيا بعد سرفانتس عن التيارات الكبرى للفكر الأوربي. فأرسل من قلايته، بين عامي 1726 و1739، سلسلة من ثمانية مجلدات سماها Teatro Critico وهو لا يعني نقد المسرح، بل الامتحان الدقيق للأفكار. وقد هاجم فيها المنطق والفلسفة اللذين يدرسان في أسبانيا في أيامه، وامتدح دفاع بيكن عن العلم الاستقرائي، ولخص كشوف العلماء في كثير من المجالات، وهزأ بالسحر والكهنة والمعجزات الزائفة، والجهل بالطب، والخرافات الشعبية، ووضع قواعد للوثوق بالتاريخ نسفت الأساطير القوية الساذجة في غير رحمة، وطالب بنشر التعليم بين جميع الطبقات، ودافع عن حياة أكثر حرية وعلنية للنساء في التعليم والمجتمع.
واجتمع حول كتبه شرذمة من الأعداء يتهمون وطنيته وينددون بإقتحاماته. واستدعاه ديوان التفتيش أمام محكمته، ولكنها لم تهتد إلى هرطقة صريحة لا في شخصه ولا في كتابه. وفي 1742 استأنف حملته بأول مجلدات خمس عنوانه "رسائل متفقهة مستطلعة". وكان يكتب بأسلوب جيد، مقراً بالتزام كل مؤلف التزاماً أدبياً بأن يكون واضحاً، واستطاب الجمهور تعليمه وشجاعته فتكاثر الطلب على "التياترو" و "الرسائل" حتى بلغ ما طبع منها خمس عشرة طبعة حتى علم 1786. ولكنه لم يستطع قطع دابر الخرافة في أسبانيا، فظلت الساحرات والعفاريت والشياطين تملأ الجو وتخيف العقول، ولكن كان جهده بداية السير على الدرب، ومن مفاخر طائفته أن يقوم بهذا الجهد راهب لزم قلايته المتواضعة دون أن يزعجه أحد حتى أوفته منيته وهو في الثامنة والثمانين (1764).
وأكليريكي أخر هو الذي كتب أشهر كتاب نثري في أسبانيا في القرن الثامن عشر. وكما حرص البندكتيون على ألا يلحق بفيخواي أذى، فكذلك حمي اليسوعيون قسيساً منهم كان أهم إنتاج له نقداً لاذعاً للمواعظ. وكان خوزيه فرانسسكو ذي ايزلا هو نفسه واعظاً بليغاً، ولكن أضحكته(40/135)
أول الأوامر، ثم أزعجته، الحيل الخطابية والأوهام الدبية، والتمثيل والتهريج الذي يجذب به بعض الوعاظ انتباه الشعب ودراهمه في الكنائس والميادين العامة. وفي 1758 سخر سخرية لاذعة بهؤلاء المبشرين في "قصة عن الراهب جيروندو الواعظ المشهور". يقول الأب ايزلا إن الراهب جيروندو:
"ألف أن يبدأ عظاته بمثل أو نكتة سوقية أو شذرة غريبة انتزعت من سياقها فبدت لأول وهلة غير منطقية أو تجديفاً أو كفراً حتى إذا ترك جمهوره لحظة مترقباً في عجب أنهى عباراته وطلع بتفسير أحال كل ما قاله إلى ضرب من التفاهة الحقيرة. من ذلك أنه كان يعظ ذات يوم عن سر الثالوث فاستهل عظته بقوله "أنى أنكر إن الله موجود كوحدة في الجوهر وثالوث في الذات" ثم توقف لحظة. وتلفت السامعون بالطبع حولهم .. متسائلين ما عسى أن تكون خاتمة هذا التجديف المهرطق. وأخيراً، وبعد أن ظن الواعظ أنه قبض على ناصيتهم، وأصل الحديث قائلاً: "كذلك يزعم الأبيونيون، والمارسيونيون، والاريوسيون، والمانويون، والسوسينيون، ولكني أثبت ضلالهم كلهم من الأسفار المقدسة، والمجامع، وآباء الكنيسة (83) ".
وبيعت ثمانمائة نسخة من كتاب "الراهب جيروندو" خلال يوم من صدوره. وهاجمه الرهبان الوعاظ زاعمين أنه يشجع على احتقار رجال الدين. وأستدعى أيزلا أما محكمة التفتيش، وأدين كتابه (1760)، أما هو فلم يعاقب. ثم أنضم إلى إخوانه اليسوعيين في المنفى، وأصيب في الطريق بالشلل. وقضى ختام عمره في بولونيا عائشاً على المعاش الضئيل الذي منحه إياه الحكومة الأسبانية.
أما الشعر فكان يقرضه كل أسباني ملم بالكتابة. وقد اجتمع في 1727 في مباراة شعرية (عام 1727) 150 متنافساً. وأضاف خوفيلانوس الشعر والدراما لضروب نشاطه الأخرى فقيهاً ومربياً ورجل دولة. وأصبح بيته(40/136)
في مدريد ملتقى لرجال الأدب وقد ألف الهجائيات على طريقة جوفينال، موبخاً الفساد الذي وجده في الحكومة والقانون، وتغنى بمناهج الحياة الريفية الآمنة المطمئنة شأن كل ساكن للمدن. ونظم نقولا فرنانديز دي موراتن شعراً ملحمياً تناول مغامرات كورتيز، ويقول العارفون أن-هذه القصيدة "أرفع قصيدة من نوعها أنجبتها أسبانيا في القرن الثامن عشر (84) ".
وكانت الأشعار المرحة المهذبة التي نظمها دييجو جونزالز، الراهب الأوغسطيني، أحب إلى الشعب من قصيدته التعليمية "مراحل الإنسان الأربع" التي أهداها إلى خوفيللانوس. كذلك اتخذ دون توماس دي أيريارتي أي أوروبيزا اتجاهاً تعليمياً في قصيدته "في الموسيقى"، وكان خيراً منها "قصصه الخرافية" (1782) التي طغت مغامز العلماء وأكسبته شهرة لم تزل حية إلى اليوم. وترجم بعض مآسي فولتير وملاهي موليير، وسخر من الرهبان "الذين يتسلطون على السموات وعلى ثلثي أسبانيا"، وقد حاكمه ديوان التفتيش فأنكر آراءه، ومات بالزهري وهو في الحادية والأربعين (1791) (85).
وفي 1780 أعلنت الأكاديمية الأسبانية عن جائزة تمنح لقصيدة تمجد الحياة الرعوية. فقال إيريارتي الجائزة الثانية ولم يغفر قط لصاحب الجائزة الأولى، لأن ميلانديز فالديس مضى ليصبح كبير الشعراء الأسبان في ذلك العهد. وتودد خوان إلى خوفيلانوس، وحصل بنفوذه على كرسي الإنسانيات في جامعة سلمنقة (1781) وهناك أقنع الطلاب أولاً، ثم الكلية، بدراسة منهج أكثر اقتحاماً، بلغ إلى حد قراءة لوك ومونتسيكو. وألف في أوقات فراغه فيما بين المحاضرات مجلداً من الأغاني والشعر الرعوي-هو استحضارات حية لمشاهدة الطبيعة في أبيات بلغت من الرقة وكمال الصقل ما لم تقرأه أسبانيا منذ أكثر من قرن. وكان للرضى الذي أسبغه عليه خوفللانوس الفضل في ترقيته إلى منصب القضاء بسرقسطة وإلى محكمة القضاء العالي في بلد الوليد، وأضرت السياسة بشعره. فلما نفي خوفيللانوس (1798) أقصى ميلانديز أيضاً. فجرد قلمه للتنديد بغزاة(40/137)
أسبانيا الفرنسيين، وخص منهم جوزيف بونابرت، ولكنه عاد إلى مدريد في 1808، وقبل وظيفة تحت رآسية جوزيف بونابرت، وصدم أسبانيا بقصائد يتملق بها سادته الأجانب. وفي حرب التحرير التي خلعت جوزيف نهب الجنود الفرنسيون منزل الشاعر، وهاجمه هو نفسه الغوغاء الغاضبون، فهرب لحياته من أسبانيا. وقبل أن يعبر البيداسوا إلى فرنسا قبل آخر بقعة من التراب الأسباني (1813). وبعد أربع سنوات مات فقيراً مغموراً في مونبلييه.
وكان ينبغي أن يكون لأسبانيا كتاب مسرح أكفاء في هذا العهد، لأن الملوك البوربون كانوا ميالين للمسرح. وقد عملت على اضمحلاله ثلاثة عوامل: إيثار إيزابللا فارنيزي القوي الأوبرا، وفليب الخامس لفارنيللي، ومن ثم اعتماد المسرح على الجمهور الذي كان أكثر ما يستحسنه هو "الفرص"، والمعجزات، والأساطير والشقشقات اللفظية، وجهد كتاب الدراما الجادون لحبس تمثيلياتهم داخل "الوحدات الأرسطاطالية" في الحركة والمكان والزمان. وكان أحب كتاب المسرحية إلى الشعب في ذلك القرن هو رامون فرانسسكودي لاكروز، الذي كتب نحو أربعمائة فارص صغير يهجو فيها عادات الطبقتين الوسطى والدنيا وأفكارهما وحديثهما، ويصور مع ذلك ذنوب الجماهير وحماقاتهم بعطف غافر. أما خوفيللانوس، "رجل أسبانيا الجامع" فقد جرب الكوميديا، وظفر باستحسان الجمهور والنقاد جميعاً بملهاته "المجرم المكرم" (1773): وفحواها أن سيداً أسبانياً يرفض مراراً وتكراراً أن يبارز غريماً ثم يقبل التحدي أخيراً بعد إلحاح، ويقتله في معركة عادلة، ثم يحكم عليه بالإعدام قاضٍ يتبين أنه أبوه. وقد أستهدف خوفيللانوس، وهو المصلح على الدوام، من تمثيليته هذه الوصول إلى التخفيف من القانون الذي اعتبر المبارزة جريمة كبرى.
أما الحملة الداعية إلى الوحدات الأرسطاطالية فقد تزعمها الشاعر نيقولا فرنانديزدي موراتن: وواصلها حتى تكللت بالنجاح ابنه لياندرو. وقد أبهجت خوفللانوس أشعار هذا الفتى الباكرة، فحصل له على وظيفة في(40/138)
السفارة الأسبانية بباريس. وهناك صادق جولدوني، فوجهه إلى كتابة التمثيليات. وأغدق الحظ هباته على صوراتين الابن: فأوفد على نفقة الدولة ليدرس المسارح في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا. وحين عاد إلى أسبانيا منح وظيفة شرفية أتاحت له الفراغ اللازم للعمل الأدبي. وقدمت ملهاته الأولى لمسرح في مدريد عام 1786، ولكن عرضها عطل أربع سنوات ريثما يفرغ المديرون والممثلون من الجدل في استطاعته تمثيلية تتبع قواعد أرسطو والتمثيلية الفرنسية أن تجتذب جمهوراً أسبانياً. وقد نجحت نجاحاً معتدلاً. وانقلب موراتين مهاجماً، ففي تمثيليته الكوميديا الجديدة (1792) سخر من المرهي الشهبية سخرية تقبل الجمهور بعدها الدرامات التي تدرس الخلق وتنير الحياة. وأشاد القوم بموراتين مولييرا أسبانيا، وسيطر على مسرح مدريد حتى غزا الفرنسيون أسبانيا عام 1808. وقادته ميوله الفرنسية وسياسته التحررية كما قادت ميلانديز وجويا إلى التعاون مع حكومة جوزف بونابرت، فلما سقط جوزيف لم ينج موراتين من السجن إلا بشق النفس. ولجأ إلى فرنسا، ومات أخيراً بباريس في 1828 وهي السنة التي مات فيها ببوردو الرسام جويا الذي نفى نفسه عن وطنه مختاراً.
8 - الفن الأسباني
ما الذي يمكن توقعه منه بعد اجتياح أسبانيا في حرب الوراثة لأسبانيا الطويلة؟ لقد سلبت الجيوش الغازية الكنائس، ونهبت المقابر، وأحرقت الصورة، وربطت خيولها في المزارات المقدسة. ثم جاء غزو جديد بعد الحرب، وخضع الفن الأسباني طوال نصف قرن للنفوذ الفرنسي أو الإيطالي فلما أنشئت أكاديمية سان فرناندو عام 1752 لإرشاد شباب الفنانين ومساعدتهم، جاهدت لتقر في أذهانهم مبادئ كلاسيكية جديدة غريبة كل الغرابة عن الروح الأسبانية.
وكافح الباروك كفاحاً عنيفاً في سبيل البقاء، وكان له ما أراد في المعمار(40/139)
والنحت. فانتصر في الأبراج التي أضافها فرناندو دي كازيس أي نوفا (1738) إلى كاتدرائية سنتياجودي كومبوستيلا، وفي الواجهة الشمالية التي شيدها فنتورا روديجيز _1764) لهذا الصرح ذلته تذكاراً للقديس يعقوب حامي أسبانيا وقد زعمت إحدى الأساطير المحببة للشعب أن تمثالاً للعذراء مقاماً على عمود في سرقسطة دبت فيه الحياة وتكلم مع القديس يعقوب. في ذلك الموقع شيدت التقوى الأسبانية "كنيسة عذراء العمود"، ولتلك الكنيسة صمم رودريجيز هيكلاً هو مقصورة من الرخام والفضية يضم تمثال العذراء.
وأقيم قصران مشهوران فيعهد فليب الخامس. فقد اشترى على مقربة من سقوبية أرض دير ومزرعته الملحقة، ووكل إلى فليبو يوفارا التوريني أن يشيد على هذه البقعة قصر سان الدوفونسو (1719 وما يليها)، وأحاط المباني بحدائق وست وعشرين نافورة تنافس نافورات فرساي. وعرفت هذه المجموعة بلاجرانغا، وقد كلفت الشعب 45. 000. 000 كراون. ولم تكد تكتمل حتى دمرت النار ليلة ميلاد عام 1734 "القصر" الذي كان المقر الملكي بمدريد منذ عهد الإمبراطور شارل الخامس وانتقل فيليب إلى بوين رتيرو التي شيد فيها فليب الثاني قصراً 1631. فظل هذا المقر الرئيسي للملك طوال ثلاثين عاماً.
وصمم يوفارا قصراً ملكياً آخر عوضاً عن "القصر" المحترق-يضم المساكن والمكاتب وحجرات الاجتماع ومصلى ومكتبة ومسرحاً وحدائق-لوشيد لفاق في فخامته أي قصر ملكي عرف يومها، وكان النموذج وحده يحوي من الخشب كمية تكفي لبناء بيت. ولكن يوفارا عاجلته المنية قبل أن يبدأ البناء (1736). ورفضت إيزابللا فارنيزي تصميمه لفداحة تكاليفه، فشيد خلفه جوفاني باتستا ساكيتي التوريني القصر الملكي (1737 - 64) القائم بمدريد اليوم-وطوله 470 قدماً، وعرضه 470 قدماً، وارتفاعه 100 قدم. هنا حل طراز النهضة المتأخرة محل الباروك: فكانت الواجهة ذات أعمدة دورية وإيوانية، يتوجها درابزين انتشرت عليه تماثيل ضخمة(40/140)
لملوك أسبانيا القدامى. وحين صحب نابليون أخاه جوزيف ليملك في هذا القصر قال وهما يصعدان السلم الفخم "ستكون أفضل من مني منزلاً (86) ". وقد انتقل شارل الثالث إلى هذا الصرح الهائل عام 1764.
أما النحت الأسباني ففقد بعض صرامته وجموده متأثراً بالفنين الفرنسي والإيطالي، وخلع الضحك على ملاكه (السيرافيم) والرشاقة على قديس أو قديسين. وكانت موضوعاته دينية على الدوام تقريباً، لأن الكنيسة كانت تدفع للنحاتين أعلى الأجور. من ذلك أن رئيس أساقفة طليطلة أنفق 200. 000 دوقاتية على حجاب المذبح الشفاف الذي أقامه نارسيسوتومي (1721) خلف خورس الكاتدرائية: وهو مجموعة ملائكة من رخام يطوفون على سحب من رخام، وكان في ممشى الكنيسة المسقوف فتحه جعلت الرخام وضاء ومنه اتخذ حجاب المذبح اسمه. وعاشت الواقعية القديمة في تمثال "جلد المسيح (87) " الذي نحته لوزيز كارمونا-وهو تمثال من الخشب، رهيب بما فيه من آثار ضرب وجروح دامية. وأجمل منه تمثال الإيمان، والرجاء، والمحبة، التي نحتها فرانسسكو فرجارا الابن لكاتدرائيات كوينسا (1759). وقد عدها سبان-برموديز، فازارى أسبانيا، أروع ما أنتجه الفن الأسباني.
وأعظم الأسماء في فن النحت الأسباني في القرن الثامن عشر كان اسم فرانسسكو زاركيللو إي الكراز. مات أبوه ومعلمه، وكان نحاتاً في كابوا، وفرانسسكو في العشرين وخلفه العائل الأول لأمه وأخته وستة أخوة. وكان الفتة أفقر من أن يستأجر الموديلات، لذلك كان يدعو المارة، بل المتسولين ليشاركوه غداءه وليرسمهم، وربما كانت تلك هي الطريقة التي عثر فيها على الأشخاص لرائعته "العشاء الأخير" المحفوظة الآن في "دير يسوع" بمرسيه. وبمساعدة أخته اينيس التي كانت ترسم وتعمل نموذجاً له؛ وأخيه خوزيه، الذي كان ينحت التفاصيل، وأخيه القسيس باتريسيو، الذي كان يلون الأجسام والثياب، انتج فرانسسكو في سني عمره الأربع والسبعين 1. 792 تمثالاً فيها الكبير وفيها الصغير، بعضها ذو حيل لا طعم لها كعباءة(40/141)
من المخمل المطرز فوق تمثال للمسيح، بعضها مؤثر بتقواه البسيطة تأثيراً حمل مدريد على أن تعرض عليه مهام مجزية لتزيين القصر الملكي. ولكنه فضل البقاء في وطنه مرسيه الذي شيعه عند وفاته عام 1781 في مشهد جليل.
أما التصوير الأسباني في القرن الثامن عشر فكان يرزخ تحت كابوس أجنبي مزدوج لم يفق منه حتى حطم جويا كل القيود بفنه الجارف الذي لم يسبق له نظير. جاءت أول موجة فرنسية بمجيء ران ورينيه وميشيل-آنج هواس، ولوي-ميشيل فانلو. وقد أصبح هذا مصور البلاط لفليب الخامس، ورسم لوحة هائلة للأسرة المالكة كلها، بالبواريك والجونلات المطوقة، وغيرها (88). ثم أقبل قطيع من الإيطاليين الذين يفيضون حيوية فانفينللي، واميجوني، وكورادو.
ووصل جامباتستا تيبولو وأبناؤه إلى مدريد في يونيو 1762. وعلى سقف غرفة العرش في القصر الملكي الجديد رسموا صورة جصية شاسعة "تمجيد أسبانيا"، احتفالاً بتمجيد الملكية الأسبانية وقتها وفضائلها وتقواها وأقاليمها: فيها الأجسام الأسطورية الرمزية متوازنة في الهواء، والنيريدات والتريتونات والزفيرات، والجن المجنح، والأطفال السمان، والفضائل والرذائل ملحقة في الفضاء المنور، وأسبانيا ذاتها متربعة على العرش وسط ممتلكاتها، ممجدة بكل صفات الحكومة الصالحة. وعلى سقف غرفة الحرس رسم تيبولو "اينياس تقوده فينوس إلى معبد الخلود"، وعلى يقف الحجرة الملحقة بمخدع الملكة رسم ثانية "انتصار الملكية الأسبانية". وفي 1766 كلف شارل تيبولو بأن يرسم سبع لوحات لمذبح كنيسة القديس بسكال بأرانحيز، واستخدم المصور في إحداها وجه حسناء أسبانية ليمثل حمل العذراء غير المدنس، ولا تزال الصورة تتألق. في البرادو. وأدان كاهن الملك، الأب خوالين دي إلكنا ما في فن تيبولو من وثنية وفجاجات لأنها دخيلة على روح أسبانيا. وتاب تيبولو، ورسم صورة قوية سماها إنزال المسيح عن الصليب" (89)، وهي تأمل في الموت تنيره الملائكة(40/142)
الواعدة بالقيامة وأرهقت هذه الجهود الجبار الهرم، فمات في مدريد عام 1770 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وبعد قليل أزيلت لوحات مذبح ارانجنيز وكلف أنطوان روفائيل منجز برسم لوحات بدلها.
وكان منجز قد وفد على مدريد في 1761 وهو في الثالثة والثلاثين، فتى قوي واثق من نفسه آمر ناه. ولم يكن شارل يشعر قط بارتياح لمرأى غيوم تيبولو المنورة-فآنس الآن في هذا الألماني المقحام الرجل المطلوب لتنظيم العمل الفني اللازم للقصر. وفي 1764 عين منجز مديراً لأكاديمية سان فرناندو، وسيطر على التصوير الأسباني في فترات إقامته بأسبانيا. وقد أساء ترجمة الطراز الكلاسيكي إلى سكون لا دم فيه ولا حياة، وأغضب بذلك تيبولو الشيخ وجويا الشاب. ولكنه كافح كفاحاً نافعاً لينهي إسراف الزخرفة الباروكية وشطحات خيال الروكوك. ومن أقواله أن الفن يجب أن يسعى أولاً إلى "أسلوب طبيعي" بمحاكاته الأمينة للطبيعة، وعندها فقط يستهدف الأسلوب السامي "الذي انتهجه الإغريق. فكيف السبيل إلى هذا التسامي؟ بإقصاء الناقص وغير المتصل بالموضوع، بالربط بين الكمالات الجزئية التي توجد هنا وهناك في أشكال مثالية يتصورها خيال مدرب مع تجنب كل ضروب الإسراف.
وافتتح منجز إنتاجه برسم أرباب أولمب على سقف مخدع الملك، وزين مخدع الملكة بصورة مماثلة. وربما أدرك منجز أن صاحبي الجلالة، لم يتبعاه تماماً حتى جبل أولمب، لذلك رسم رافده مذبح للمصلى الملكي، "ميلاد المسيح" و "إنزال المسيح من الصليب". وكان يضني نفسه في العمل، ولا يأكل إلا قليلاً، بات عصبي المزاج، وانهارت صحته، وخيل إليه أنه واجد البرء في روما. ومنحه شارل إجازة مدها منجز إلى أربعة أعوام. وفي فترة إقامته الثانية بأسبانيا مزيداً من الرسوم الجصية إلى القصور الملكية في مدريد وأرانجيز. ولكن صحته تداعت مرة أخرى، فالتمس من الملك الأذن له بالتقاعد في روما. ومنحه الملك الطيب طلبته، وأجرى عليه معاشاً متصلاً من ثلاث آلاف كراون في العام.(40/143)
ولكن ألم يكن في أسبانيا آنئذ فنانون وطنيون يرسمون؟ أجل كانوا كثيرين ولكن اهتمامنا الذي تضائل مع بعد الشقة والزمان خلفهم على هامش الشهرة الخابية. كان هناك لويز ميلنديز للذي كاد يعدل شاروان في صور الطبيعة الصامتة (الطيور والفواكه) ويحتفظ متحف البرادو بأربعين منها، ومتحف بوسطن بمثال منها فاتح للشهية، ولكن اللوفر يبزهما جميعاً بصورة ذاتية رائعة. وهناك لويز باريت أي الكازار، الذي بارى كاناليتو في تصوير مناظر المدينة كما ترى في لوحته Puerta de Sol- أكبر ميادين مدريد، وأنطونيو فيلادامات، الذي شهد له منجز بأنه أكفأ مصوري العصر الأسبان، وفرانسسكو بايو لإي سوبياس، الرقيق المتهجم المخلص لفنه، الذي نال الجائزة الأولى في الأكاديمية عام 1758، وصمم قطع النسيج لمنجز، وأصبح صديقاً، وعدواً، وصهراً لجويا.
9 - فرانسسكو دي جويا أي لوسيبنتس
أ - نشأته
اتخذ فرانسسكو اسم قديس حام شأن جميع الصبيان الايبيريين، ثم اسم أبيه خوزيه جويا، واسم أمه أورجاسيا لوسيبنتس- أي ربة اللطف والنور. وكانت تنتمي إلى طبقة الهيدلج (أدنى طبقات النبلاء) ومن هنا إضافة "دي" التي أدخلها فرانسسكو على اسمه. ولد في 30 مارس 1746 بفونتينودوس، وهي قرية ارجونية يسكنها 150 من الأنفس ولا يزينها شجر- إنما هي تربة حجرية، وصيف قائظ، وشتاء قارس، يأتي على الكثيرين، ويصيب الأحياء بالاكتئاب والخشونة.
وراح فرانسسكو يتلهى بفرشاة الرسم، فرسم في صباه لكنيسة القرية صورة للعذراء "سيدة العمود"، حامية أرجون. وفي 1760 انتقلت الأسرة إلى سرقسطة، حيث اشتغل الأب بالطلاء بالذهب، وأتاح له دخله أن يوفد ابنه لدراسة الفن على يد خوزيه لوزان. ومع هذا الفنان وخوان راميريز نسخ جويا صور كبار الرسامين القدامى، وقلد تلوين تيبولو الناعم،(40/144)
وتعلم من التشريح قدراً يكفي لرسم صور العرايا المحرمة. وفي رواية أنه شارك- ثم تزعم بعد قليل- فريقاً من الشباب الجموح الذين دافعوا عن قريتهم ضد قرية أخرى، وكيف أن بعض الفتيان قتلوا في إحدى المعارك، وكيف فر فرانسسكو إلى مدريد مخافة أن يقبض عليه.
وفي ديسمبر 1763 دخل امتحاناً للالتحاق بالأكاديمية فرسب. وتصف الأسطورة حياته الصاخبة في العاصمة، ولكن لا نعلم على التحقيق إلا أن جويا كان بينه وبين القوانين حب مفقود. وعاد إلى دخول امتحان المسابقة في 1766 ورسب. وربما كان هذا الرسوب المتكرر من حسن حظه: فقد أفلت من وصاية منجز الأكاديمية، ودرس الصور التي كان تيبولو يرسمها في مدريد، ثم أرسى أسلوب فذ تغلب عليه شخصيته. وتروي الأسطورة بعد ذلك أنه أنظم إلى فريق من مصارعي الثيران وسافر معهم إلى روما في تاريخ مجهول. ولقد كان دائماً شديد التحمس لمصارعي الثيران الراكبين (التوريادور) ومرة وقع باسم دي لويس تورس. كتب إلى موارنين في شيخوخته يقول "كنت في شبابي مصارع ثيران، لا أرهب شيئاً وسيفي في يدي" (91). وربما قصد بهذا أنه كان من أولئك الصبية المغامرين الذين يصارعون الثيران في الشوارع. على أية حال وصل إلى إيطاليا، لأنه في 1770 فاز بالجائزة الثانية في مسابقة بأكاديمية الفنون الجميلة في بارما. وتحكي الأسطورة أنه تسلق قبة كاتدرائية القديس بطرس وسطا على دير ليخطف راهبة. وأكثر من هذا احتمالاً أنه كان يدرس صور ماناسكو الذي ربما كان لتلوينه القاتم، وأجساده المعذبة، ومناظر محكمة تفتيشه، من الأثر العميق في نفسه ما فاق الأوضاع الهادئة الكلاسيكية التي أوصى بها منجز في أسبانيا.
وفي خريف 1771 نلتقي به في سرقسطة التي عاد إليها ليزين مصلى في الكاتدرائية "الكنيسة الكبرى لسيدة العمود".
وقد أجاد التصوير، وكوفئ بخمسة عشر ألف ريال نظير جهد استغرقه ستة أشهر، واستطاع الآن أن يعول زوجة إذا تزوج. وعامل القرب(40/145)
في تقرير اختارنا شريك الحياة، وهكذا تزوج (1773) خوزيفا بايو، وكان فيها ريعان الشباب، ولها شعر ذهبي، ومكانها في متناوله. وقد استخدمها نموذجاً، ورسم صورتها مراراً، وصورتها المعلقة في البرادو تظهرها متعبة بتكرار الحمل، أو محزونة لخيانات فرانسسكو لها (92).
ثم نقل إلى مدريد (1775). وكلفه منجز (1776) - بتوصية من من بايو على الأرجح- بأن يرسم لوحات قماشية كبيرة تصلح رسوماً تخطيطية (كرتونات) للمصنع الملكي للنسجيات الذي أنشأه فليب الخامس على غرار مصنع الجوبلان. وغامر جويا الآن برفض خطير، فاتخذ قراراً شكل مستقبله. ذلك أنه أغفل ميل منجز إلى الميثولوجيا الكلاسيكية وتاريخ الأبطال، فرسم على اتساع كبير وبألوان ناصعة الناس الذين ينتمون إلى طبقته وعصره- رسم كدهم وحبهم، ومهرجاناتهم وأعيادهم، ومصارعاتهم مع الثيران ولعبهم بطائرات الورق، أسواقهم ورحلاتهم الخلوية وألعابهم، وإلى هذه الواقعية أضاف في جرأة أشياء تخيلها ولكنه لم يرها قط. أما منجز فقد ارتفع إلى مستوى الموقف: فلم يذم هذا الخروج على التقاليد الأكاديمية، وشعر بنبض الحياة يسري في الأسلوب الجديد، وأعطى هذا التمرد مزيداً من التكليفات. وأنتج جزياً خلال خمسة عشر عاماً خمسة وأربعين كلاتوناً أساسياً لعمله، بينما راح ينتقل إلى مجالات أخرى بثقة متزايدة. واستطاع الآن أن يأكل ويشرب مطمئناً. كتب إلى صديقه زاباترا "أن دخلي يتراوح بين اثني عشر ألفاً وثلاثة عشر ألف ريال في السنة".
على أن نوعاً من البكتريا تطفل على هذا النجاح الذي أصابه ولسنا نعرف مصدر الزهري الذي ابتلي به جويا، ولكنا نعرف أنه مرض مرضاً خطيراً في إبريل 1777 (93). وأبلى منه شيئاً فشيئاً، ولكن لعل المرض كان له بعض الأثر في التشاؤم الذي شاب فنه، وربما في فقده السمع في 1793. على أنه تملك صحته في 1778 بالقدر الذي أتاح له المشاركة في مشروع وضعه شارل الثالث ليذيع في خارج أسبانيا بالنسخ المطبوعة عن الكليشهات ذخائر الفن الأسباني. ولهذا الغرض نسخ جويا ثماني عشرة(40/146)
لوحة لفيلاسكيذ، ومن هذه النسخ صنع محفورات، وكانت هذه مهارة جديدة عليه، وظل مناقشه حيناً متردداً فجاً، ولكن من هذه البداية تطور ليصبح من أعظم الحفارين بعد رمبرانت. وسمح له بأن يقدم نسخة بشخصه إلى الملك، وفي 1780 سجل واحد من مصوري البلاط. وقبل الآن في الأكاديمية آخر الأمر. وحوالي 1785 رسم لوحة شارل الثالث الشهيرة، التي بدأ فيهل الملك لابسا حلة الصيد، مهيأ للقتل، ولكنه هرم، مكدود، متقوس الساقين محدودب الظهر، هنا ضحى جويا كعادته بالرضى في سبيل الصدق.
واستقدم جويا أمه وأخاه كاميلو بعد موت أبيه ليعيشا معه ومع خوزيفا والأطفال. وقبل شتى التكليفات ليعول هذه الأسرة المتكاثرة: فرسم لوحة جصية في كنيسة سان فرانسسكو الجراندي، وصوراً دينية لكلية كالاترافا بسلمنقة، ومشاهد من الحياة اليومية لمنزل دوق أوزونا الريفي، ثم رسم لوحات للأشخاص لكونها أربح فرع في مهنته. فرسم عدة لوحات لوزونا (94)، واحدة للدوق وأسرته- يبدو فيها الأطفال شديدي التصلب وأخرى لدوقة أوزونا بثلاثة أرباع طولها (95) - وهي معجزة من اللون والزيت تستحيل حريراً ومخرمات.
وربما كان جويا سعيداً عام 1784. ففي ذلك العام ولد له خافيد، وهو الابن الوحيد الذي قدر له أن يبقى حياً بعد موت أبيه. وأزيح الستار عن الصور الجصية التي رسمها لكنيسة القديس فرنسيس الكبير في احتفال رسمي، وأثنى مشاهدوها عليها كأروع لوحة في ذلك العهد، وكان الملك وكل حاشيته حضوراً، وقد شاركوا في الثناء. وحوالي 1787 رسم جويا لوحة المركيز دي بونتيخوس، وهي الآن من أنفس ما تملكه قاعة الصور القومية في واشنطن. وبعد عام إلى رسم الطبيعة في لوحته La Pradera de San Isidro (96) - وتمثل حقلاً غص بالمتنزهين يحتفلون بعيد القديس حامي مدريد العظيم بالركوب والتمشي والجلوس والأكل والشرب والغناء(40/147)
والرقص على شواطئ مانزاناريس المعشية. وهي لا تعدوا أن تكون تخطيطاً، ولكنها آية من آيات التصوير.
ولم يزد عمر جويا على الثالثة والأربعين حين مات شارل (1788) ولكنه حسب نفسه قد شاخ. وكان قد كتب في ديسمبر من العام إلى زاياتر يقول "لقد شخت، وملأت التجاعيد وجهي حتى أنك لن تستطيع التعرف عليّ "لولا أنفي الأفطس وعيناي الغائرتان (97) ". وما كان في استطاعته التنبؤ بأنه ما زال أمامه فسحة في الأجل تمتد أربعين سنة، وبأن أكثر مغامراته شططا وأروع إنتاجه مستكناً في مستقبل أيامه. لقد تطور في بطء والآن سيكرهه الغرام والثورة أن يتابع السير وإلا كان من المغرقين. فأرتفع مع الأحداث، وأصبح أعظم فنان في جيله.
ب - غرامه
وقد شغله 1789 رسم صور للملك والملكة الجديدين احتفالاً بدخولهما مدريد رسمياً في 21 سبتمبر. وكان "فيليبي" بن شارل الثالث البكر، قد أقصي عن وراثة العرش لعتهه، فآل العرش للابن الثاني الذي وصفه مؤرخ غير متعاطف بأنه "نصف معتوه (98) " لا أكثر. وكان شارل الرابع ساذجاً حسن الظن بالناس، فيه من الطيبة ما يكاد يغري الأشرار بالشر. وكان قد انصرف إلى حياة القنص والأكل والإنجاب لافتراضه أنه مقصي عن وراثة العرش، بحكم كونه الابن الثاني. أما وقد بات الآن بديناً لين العريكة، فأنه أستسلم راضياً لزوجته ماريا لويز البارمية، وتجاهل- أو جهل- فسقها مع عشقها، ورقى عشيقها مانويل دي جودوي رئيساً للوزارة (1792 - 97).
وكانت الملكة الجديدة قد داعبت الأفكار التحررية قبل ولايتها للعرش، وقد شجع شارل الرابع في أول سني حكمه فلوريدا بلانكا، وخوفيللانوس، وكامبومانيس (وكلهم رسمهم جويا) على المضي في برنامج إصلاحاتهم. غير أن سقوط الباستيل روع شارل الرابع وفلوريدا بلانكا فارتدت الحكومة(40/148)
إلى رجعة سياسية أعدتها إلى التعاون الكامل مع الكنيسة باعتبارها أقوى معقل للملكية. وأهمل الكثير من القوانين التقدمية التي سنت في عهد شارل الثالث، وأستعاد التفتيش بعض سلطاته، وأوقف استيراد الأدب الفرنسي، وحظرت جميع الصحف إلا صحيفة مدريد اليومية الرسمية، وأقصي عن البلاط خوفيللانوس وكامبومانيس وأراندا. وابتهج الشعب بانتصار إيمانهم الذي يعتزون به. وفي 1793 انضمت أسبانيا إلى الحرب التي خاضتها الملكيات ضد فرنسا الثائرة.
في وسط هذا المعمعان حالف الحظ جويا. ففي إبريل 1789 عين "رساماً للحجرة" فلما مرضت خوزيفا وأشار الطبيب بهواء البحر علاجاً لها صحبها جويا إلى بلنسيه (1790) حيث كرمه القوم كأنه فيلاسكويز أسبانيا الجديد. وواضح أن الطلب أشتد عليه من أقصى أسبانيا إلى أقصاها، لأننا نجده في 1792 في قادس ضيفاً على سبستيان مارتينيز. وفي طريق عودته أصيب في إشبيلية بالدوار والشلل الجزئي، فعاد إلى صديقه في قادس، وظل نهباً للقلق طوال فترة نقاهة غير قصيرة.
فأي مرض هذا الذي شكا منه؟ لقد وصفه بايو وصفاً غامضاً بقوله أنه "ذو طبيعة رهيبة جداً". وخامره الشك في أن جويا سيبرأ منه يوماً ما (99). وكتب رياتر صديق جويا في مارس 1793: "لقد جلب على جويا هذا المأزق افتقاره إلى التدبر، ولكن لابد من مواساته بكل الشفقة التي يتطلبها مصابه (100) ". وقد فسر دارسون كثيرون هذا المرض بأنه من أعقاب الزهري (101) ولكن آخر تحليل طبي رفض هذا الرأي وشخصه بأنه التهاب أعصاب تلافيف الأذن (102). أياً كان الأمر فإن جويا كان فاقد السمع حين عاد إلى مدريد في يوليو 1793، وكذلك ظل إلى يوم مماته. وفي فبراير 1794 كتب خوفيللانوس في يوميته "كنبت إلى جويا، فرد بأنه كان عاجزاً حتى عن الكتابة نتيجة السكتة الدماغية التي أصيب بها (103) ". ولكن الشلل زال شيئاً فشيئاً، وما وافى عام 1795 حتى كان في جويا من العافية ما أغراه بالوقوع في الحب.(40/149)
وكانت تريزا كاتيانا ماريا ديل بيلار الدوقة الثالثة عشرة من سلالة ألبا الشهيرة. وكان أبوها قد تشرب الفلسفة الفرنسية، فرباها على مبادئ متحررة، وتلقت تعليماً هيأ لها عقلاً يقظاً وإرادة عنيدة. فلما بلغت الثالثة عشرة تزوجت الدوق خوزيه دي توليدو أوزوريو، دوق ألبا البالغ من العمر تسعة عشر ربيعاً. وكان الدوق رقيق الجسد معلولاً، فلزم بيته أكثر الوقت وأغرق نفسه في الموسيقى. ورسمه جويا جالساً إلى البيانو أمام نوتة لهايدن. وكانت الدوقة متغطرسة جميلة شهوانية. وقد لاحظ رحالة فرنسي أنه "ليس في رأسها شعرة لا تثير الشهوة (104) "، وكانت تشبع رغباتها دون قيد من فضيلة أو نفقة أو طبقة. واقتنت في بيتها شخصاً معتوهاً، وراهباً أعور، وزنجية صغيرة أصبحت ربيبتها المفضلة. ولكن كان وراء هذه المغامرات الجريئة نفس سمحة كريمة، ولعلها انعطفت نحو جويا لأنه كان أصم تعساً بقدر ما مالت إليه لأنه يستطيع أن يخلدها بفرشاته.
ولا بد أنه رآها مراراً قبل أن تقف ليرسمها، لأنها كانت تحوم داخل البلاط وخارجه وتثير الأقاويل بمغازلاتها وبعدائها الجريء للملكية. وأول صورة تحمل تاريخاً رسمها لها تبدو فيها بطولها كله، وقد لفت قسماتها النحيلة الحارة في لمة من الشعر الأسود، ويمناها تشير إلى شيء على الأرض. فإذا تأملنا الصورة قرأنا عليها بوضوح هذه العبارة "إلى دوقة ألبا دي جويا 1795 (105) ". وهنا إيماءة إلى صداقة قائمة فعلاً. وليست الصورة من روائع جويا. ويفضلها كثيراً تلك التي رسمها في العام نفسه لفرانسسكو بايو الذي كان قد مات لتوه. وفي نوفمبر خلفه جويا مديراً لمدرسة التصوير بالأكاديمية.
ومات دوق ألبا في يونيو 1796. واعتكفت الدوقة فترة حداد وجيزة في ضيعتها الريفية بسانلوكار، بين إشبيلية وقاديس. وليس من المؤكد أن جويا رافقها، ولا علم لنا إلا بغيابه عن مدريد من أكتوبر 1796 إلى إبريل 1797، وبتدوينه في كراستين رسوماً لبعض ما رأى في سانلوكار. ومعظم الرسوم تبدو فيها الدوقة تستقبل الضيوف، أو تربت الزنجية، أو تشد شعرها في نوبة غضب، أو تتقيل (بينما تنقل الخادمة المبولة) (106)، أو يغشى(40/150)
عليها في نزهة، أو تعبث مع منافس أو آخر ممن ينافسون جويا على يديها الملاطفتين. وتدل الرسوم التخطيطية على غيرته المتصاعدة، وتبدو فيها أيضاً امرأة أخرى- تخرج عارية من الحمام، أو ترقد على الفراش نصف كاسية أو تضع الرباط على ساق بديعة التكوين، ولعل جويا انغمس كالدوقة في انحرافات الحب. ومع ذلك فالراجح أنه في سانلوكار رسم أعظم ما يفخر به من صورها (107) - في زي "ماخا" وقحة ترتدي ثوباً أسود في صفرة، بحزام من القرمز والذهب حول خصرها النحيل، وطرحة سوداء فوق رأسها، وفي يمناها (وهي في حد ذاتها من آيات التصوير) خاتمان يحمل أحدهما اسم "ألبا" والآخر "جويا"، وتشير سبابتها إلى اسمه، وتاريخ 1797، مكتوبين على التربة الرملية تحت قدميها. وكان يرفض دائماً بيع هذه اللوحة.
وكانت مغامرة غرامه المزدهر قد صورت حين رجع جويا إلى مدريد. وتتهمها بعض رسومه "الكابريكو" (1797) بالاستسلام الفاجر لأشتات من ذكور يفتقرون إلى اللياقة. وقد اتهمها جودوي بإغواء وزير الحربية وكتب إلى الملكة يقول أن ألبا وكل أنصارها ينبغي أن يدفنوا في حفرة كبيرة (108) ". وحين ماتت الدوقة (23 يوليو 1803) وهي بعد في الأربعين، أرجفت مدريد أنها سممت، وعطف الناس عليها لأنها خلفت قدراً كبيراً من ثروتها الضخمة لخدمتها. كذلك أوصت براتب سنوي يبلغ 3. 600 ريال لخافير بن جويا. وأمر الملك بالتحقيق في موتها- وعين جودوي رئيساً للمحققين- وزج بالطبيب وبعض أتباع الدوقة في السجن، وألغيت وصيتها، وحرم خدمها من أنصبتهم التي أوصت لهم بها، وسرعان ما تزينت الملكة بأجمل جواهر ألبا (109).
جـ - قمة المجد
كان جويا قد استقال عام 1797 من منصبه مديراً للتصوير في الأكاديمية، فقد أعجزته كثرة شواغله الآن عن التدريس. وفي 1978(40/151)
اختير لزخرفة قبة كنيسة سان أنطوني دي لافلوريدا وقلب قوصرتها، ومع أنه أثار غضب الأكليروس بتصويره الملائكة بأطراف شهوانية، إلا أن الكل تقريباً أجمعوا على أنه نقل إلى تلك الفراغات المقدسة، في صورة الهام، حياة شوارع مدريد ودمها. وفي 31 أكتوبر 1799 عين "مصور البلاط الأول" براتب قدره خمسون ألف ريال في العام. ورسم في (1800) أشهر لوحاته قاطبة وهي "شارل الرابع وأسرته (110) "- وهي كشف قاس عن بلاهة الأسرة المالكة، ونحن نقشعر حين نتخيل منظر هذه المجموعة من الأبدان المنتفخة والأرواح القميئة إذا جردوا من ثيابهم البراقة- وتلك براعة في الإشعاع والتألق ندر أن بزها رسام في تاريخ الفن. ويروي التاريخ أن الضحايا أعربوا عن كامل الرضى عن اللوحة (111).
وفي ركن من اللوحة رسم جويا نفسه. وعلينا أن نغفر أنانية صوره الذاتية الكثيرة، ولا ريب في أن بعضها كان دراسات تجريبية استخدم فيها مرآة، شأنه فيها شأن ممثل يتدرب على التعبير بسحنته أمام المرآة، واثنتان منهما رائعتان. وخيرهما (اللوحة الأولى من الكابريكو) يبدو فيها في الخمسين، أصم ولكن في كبرياء، له ذقن عدواني، وشفتان شهوانيتان وعيون فظة، وشعر ينمو فوق أذنيه ويكاد يصل إلى ذقنه، وتتوج هذا كله قبعة حريرية فاخرة تعلوا رأسه الضخم كأنها تحد لجميع نبلاء الدنيا المحظوظين. وبعد تسعة عشر عاماً من رسمه هذه اللوحة، وبعد أن نجا من ثورة، رمى القبعة، وفتح قميصه عن عنقه، وكشف عن نفسه في مزاج ألطف. لم تزل له كبرياؤه، ولكن فيه من الثقة الكبيرة بنفسه ما يربأ به عن التحديات (112).
وكان رسم الأشخاص أقوى نواحي فنه. ومع أن معاصريه كانوا يعلمون بأنه لن يتملقهم، فأنهم خضعوا في لهفة لحكم فن راودهم الأمل في أنه سيحمل ذكراهم قروناً طوالاً سواء كانت الذكرى مبعث صيت ذائع أو عار يخزيهم. ولدينا علم بثلاثمائة نبيل وثمانية وثمانين عضواً في الأسرة المالكة جلسوا أمامه ليرسمهم، وقد بقيت من هذه الصور مائتان. ومن أفضلها صورة لفرديناند جييمارويه، السفير الفرنسي، وقد أتى بها صاحبها إلى(40/152)
باريس، واقتناها اللوفر 1865، وإليها يرجع بعض الفضل في بعث شهرة جويا في فرنسا. وأروع ما رسم من صور الأطفال صورة دون مانويل أوزوريو دي زونيجا، المحفوظة بمتحف المتروبوليتان للفن بنيويورك، هنا أدرك جويا فيلاسكيز. وقد ضارع فيلاسكيز ثانية في كوكبة النساء اللاتي صورهن، وانتظمت صوره لهن أشتاتاً، فيها النحيلات مثل "الطفلة الملكية يوزيفا"، وفيهن المرأة الساحرة الخلابة مثل السنيورا جارثيا (113)، والممثلة المتكهلة "لاتيرانا (114) "_جمال مصور ولكنه يخلي مكانه للشخصية.
أما أكثر نساء جويا سفوراً فهي "الماخا" الوقحة التي رقدت حوالي (1798) خالية من كل زينة ليرسم لها "الماخا العارية" ثم كاسية في إغراء ليرسم لها "الماخا في ثيابها" وهاتان اللوحتان الصنوان تجتذبان من رواد البرادو عدداً غفيراً كالذي تجتذبه الموناليزا من رواد اللوفر. والماخا العارية ولوحة فيلاسكويز "فينوس في المرآة" هما الصورتان العاريتان الوحيدتان في التصوير الأسباني، لأن رسم العرايا في الفن الأسباني كان عقابه السجن سنة ومصادرة المنقولات والنفي. وقد غامر به فيلاسكويز في حماية فليب الرابع، وجويا في حماية جودوي الذي وافق جويا على تفضيل الثديين الكبيرين والخصر النحيل والشفاه الممتلئة. "وماخا" جويا لم تكن صورة لدوقة ألبا رغم ما تواتر عنها، كذلك لم تكن الكاسية التي رسمها جويا لتحل محل العارية حين جاء الدوق الغاضب (كما تروي الأسطورة) وفي عينيه نذير المبارزة. ولكن اللوحتين اشترتهما الدوقة أو أعطيتا لها، وانتقلتا بعد وافتها إلى مجموعة جودوي.
وبينما كان جويا يمد أسرته بالمال الذي يكسبه من تصوير الأشخاص، راح يتسلى (1796 - 97) بمحفورات وصور مائية نشرها في 1799 على أنها "نزوات"- ثلاث وثمانون صورة لعقل أرزن فيه خشونة وغضب، وتصف في هجاء قاتم وعناوين ساخرة عادات جيله وأخلاقه ونظمه. وألمع هذه السلسلة هي رقم 43: وهي تصور(40/153)
رجلاً أستسلم للنوم على مكتبة بينما العفاريت تحوم حول رأسه: وعلى المكتب عبارة تقول "حلم العقل يبعث العفاريت". وقد فسر جويا هذا بأن "الخيال إذا هجره العقل أفرخ العفاريت، وإذا اتحد بالعقل كان خالق الفنون ومبدع أعاجيبها (114) ". وهذه طعنة للخرافات التي أظلمت عقل أسبانيا، ولكنها كذلك وصف انصف إن جويا. فلقد كانت الأحلام المرعبة لا تبرحه، "ونزواته" على الأخص تمتلئ بمناظرها المروعة. هناك ترى جسد الإنسان وقد انحط إلى عشرات الأشكال الوارمة، العجفاء، الكسيحة، الوحشية، والبوم والقطط تنظر إلينا شزراً، والذئاب والنسور تجوس خلسة، والساحرات يطرن في الهواء، والأرض تبعثرت فيها الجماجم وعظام السيقان وجثث الأطفال حديثي الولادة حديثي الموت. وكأنما قفز خيال هيرونيموس بوش المريض عبر فرنسا متخطياً القرون ليدخل عقل جويا ويشيع فيه الفوضى.
أكان جويا عقلانياً؟ كل ما نستطيع أن نقوله هو أنه فضل العقل على الخرافة. ففي أحد رسومه صور شابة مكللة بالغار ممسكة بميزان تطارد طيور سوداء بالسوط، وتحت الصورة كتب جويا "أيها العقل المقدس لا تبق على أحد (116) ". وفي رسم أخر رهبان يجردون أنفسهم من أرديتهم (117)؛ وقد ركب على جسد راهب يصلي وجه مجنون (118). وصور "محكمة ديوان التفتيش (119) " مشهداً كئيباً من ضحايا مساكين تحاكمهم سلطة باردة الشعور. وصور يهودياً مقيداً بالأغلال في زنزانة التفتيش، وكتب هذا التعليق "أي زاباتا، أن مجدك سيدوم إلى الأبد (120) ". أكان هذا صدى لكتاب فولتير "أسئلة زاباتا"؟ وقد رسم تسعاً وعشرين لوحة لضحايا التفتيش يعانون شتى العقوبات (121)، وفي أخرهم رسم إنساناً مبتهجاً فوق هذا العنوان "الحرية المقدسة! " (122) ومع ذلك ظل إلى يوم مماته يرسم علامة الصليب على وجهه في روع، ويدعو المسيح والقديسين ويتوج رسائله برسم الصليب، وربما كانت هذه كلها أثار متخلفة من عادات كونها في صباه.(40/154)
د - ثورة
أكان جويا ثائراً؟ لا بل إنه لم يكن حتى جمهورياً. وليس في فنه أو كلامه علامة تدل على أنه يرغب في الإحاطة بالملكية الأسبانية. وقد ربط شخصه وحظه بشارل الثالث، وشارل الرابع، وجودوي، وجوزف بونابرت، وعاشر نبلاء البلاط في سرور وابتهاج. ولكنه خبر الفقر من قبل، وما زال يراه من حوله، ونفره إملاق الجماهير وما ترتب عليه من جهل وخرافة، وتقبل الكنيسة للفقر الجماعي نتيجة طبيعية لطبيعة البشر وفوارقهم. وقد خلد نصف فنه الأغنياء، أما النصف الأخر فكان صرخة تطالب بإنصاف الفقراء، واحتجاجاً على همجية القانون وديوان التفتيش والحرب. كان موالياً للملكية قي لوحاته الشخصية، كاثوليكياً في صوره، متمرداً في رسومه، ففيها أعرب بقوة تكاد تكون وحشية عن مقته للظلامية والظلم والحماقة والقسوة. ويمثل رسم منها رجلاً ممداً فوق مخدعه وعنوان الرسم "لأنه أكتشف حركة الأرض". ورسم آخر يصور امرأة وضعت في المقطرة لأنها "أبدت عطفها على قضية التحرير".
ومن هؤلاء الأسبان الذين سموا أنفسهم تحرريين؛ يبدوا أنهم كانوا أول حزب سياسي استعمل ذلك الاسم. وقد عنوا به التدليل على شوقهم إلى الحرية- حرية العقل من الرقابة، وحرية الجسد من الانحطاط، وحرية الروح من الطغيان. وكانوا قد تلقوا في عرفان "التنوير" الوافد من حركة التنوير الفرنسية. ورحبوا بدخول قوة فرنسية في أسبانيا (1807)، والواقع أنه نصف السكان رحبوا بها جيشاً للتحرير؛ ولم يسمع احتجاج حين استقال شارل الرابع وتوج ولده فرديناند السابع تحت حماية جنود مورا. وقد رسم جويا صورة للحاكم الجديد.
ولكن مزاج الشعب ومزاج جويا تغيرا حين استدعى نابليون شارل الرابع وفرديناند السابع إلى بايون وخلعهما؛ ونفى أحدهما إلى إيطاليا(40/155)
والآخر إلى فرنسا، ونصب أخاه جوزف ملكاً على أسبانيا. وتجمع حشد غاضب أمام القصر الملكي. وأمر جنده بأن يخلوا الميدان، ففر الجمع، ولكنه عاد إلى الاحتشاد حتى بلغوا عشرين ألفاً في ميدان مايور. فلما زحف الجنود الفرنسيون والمماليك نحو الميدان أطلقت عليهم النيران من النوافذ والبواكي. فاشتد غضبهم، واقتحموا البيوت وراحوا يقتلون أهلها دون تمييز. ودارت بين الجند والجماهير معركة امتدت طوال النهار، هو يوم مايو الأشهر (2 مايو 1808)، وسقط مئات الرجال والنساء صرعى، وشهد جويا من موضع قريب شطراً من المذبحة (123). وفي 3 مايو أعدم ثلاثون من السجناء الذين قبض عليهم الجند بواسطة فرقة لإطلاق النار. وأعدم كل أسباني أمسك متلبساً ببندقية في يده. وهبت أسبانيا الآن كلها تقريباً ثائرة على الفرنسيين، وسرت "حرب التحرير" من إقليم لإقليم. ولطخت الطرفين بما اقترفا من فظائع وحشية وشهد جويا بعضها ولم تبرحه ذكراها حتى يوم مماته. وفي 1811 كتب وصيته مخافة أن يتفاقم سوء الحال. وفي 1812 ماتت خوزيفا. وفي 1813 استولى ولنجتن على مدريد، وعاد فرديناند السابع إلى عرشه.
واحتفل جويا بانتصار أسبانيا برسم لوحتين من أشهر لوحاته (1814) (124). إحداهما "يوم مايو" أعاد فيها يناء ما رأى أو سمع أو تخيل من المعركة الناشبة بين جماهير مدريد وجنود الفرنسيين والمماليك. فوضع المماليك في القلب، لأن اشتراكهم في القتال هو الذي أثار أبلغ استنكار في الذاكرة الأسبانية. ولا داعي للسؤال هل كانت الصورة تاريخاً صحيحاً، فهي فن رائع قوي، ابتداء من تدريجات الألوان التي تومض على جواد المملوك المجند وانتهاء بوجوه الرجال الذين روعهم ووحشهم الاختيار بين أن يقتلوا أو يُقتلوا. وأنصع من هذه اللوحة، اللوحة الأخت "الرمي بالنار في الثالث من مايو"- وفيها فرقة لحملة البنادق الفرنسيين يعدمون السجناء الأسبان. وليس في فن جويا ما هم أبلغ وقعاً في النفس من التباين بين الرعب والتحدي في الشخصية الوسطى في تلك المذبحة.(40/156)
والآن وقد بات جويا أرملاً، أصم، مكرهاً على الصمت، فقد انكفأ إلى فنه وهو ما يزال "مصور الحجرة الملكية" ذا المعاش المقرر، ولكنه لم يعد أثيراً لدى البلاط. ولعل أقوى محفوراته قد حفرها في 1812. وهي "العملاق" (125) - وتثمل هرقول بوجه كاليبان، جالساً على حافة الكرة الأرضية، كأنه مارس يستريح بعد حرب ظافرة. وكان طوال الفترة من 1810 يرسم رسوماً تخطيطية صغيرة ثم يحفرها ويطبعها، وقد سماها "العقابيل القتالة لحرب أسبانيا الدموية مع بونابرت، وغيرها من النزوات". ولم يجرؤ على نشر هذه الرسوم الخمسة الثمانين ولكن أوصى بها لولده، الذي باعها أبنه لأكاديمية سان فرناندو، والتي نشرتها عام 1863 بعنوان "توارث الحرب".
وهذه الرسوم التخطيطية ليست مشاهد عادية للمعارك يستخفي القتال فيها في ثوب البطولة والمجد. إنما هي لحظات من الرعب والقسوة تنسى خلالها ضوابط الحضارة الهزلية في حميا الصراع ونشوة الدماء. هنا بيوت تحترق وتنهار على ساكنيها، ونسوة يهرعن إلى المعركة بحجارة أو رماح أو بنادق، هنا نساء تهتك أعراضهن، ورجال يشدون إلى أعمدة أما فرق ضرب النار، ورجال طاحت سيقانهم أو أذرعهم أو رؤوسهم, وجندي يحب الأعضاء التناسلية لرجل (126) وجثث تخوزق فوق جذوع أو أطراف الشر الحادة، ونساء ميتات مازلن قابضات على أطفالهن الرضع، وأطفال يرقبون في هلع قتال آبائهم، وأكداس من الموتى يقذف بهم في الحفر، والنسور تستمتع بالتهام الموتى من الآدميين. وتحت هذه الصور أضاف جويا تعليقات ساخرة. "هذا ما ولدت له" (127)، "هذا رأيته" (128)، "لقد حدث هكذا" (129)، "ليدفنوا الموتى ويلزموا الصمت" (130). وفي النهاية أعرب جويا عن يأسه وأمله. فالصورة رقم 79 تمثل امرأة تموت بين الحفارين والكهنة، وعنوانها "الحق يموت"، ولكن الصورة رقم 80 تظهرها وهي تشع ضياء، وتسأل "أتبعث حية مرة أخرى؟ ".(40/157)
هـ - انحدار
في فبراير 1819 أشترى بيتاً ريفياً على الضفة الأخرى لنهر مانزاتاريس. كانت الأشجار تظلله، ومع أنه كان عاجزاً عن سماع شدو الغدير الذي حف به، فإنه استطاع أن يحس الدرس المستفاد من جريانه الهادئ المطمئن. وكان جيرانه يسمون بيته "بيت الأصم". ولما كان خافير قد تزوج واستقل ببيته، فقد صحب جويا معه دونا لونادياوايس، خليلة ومديرة لبيته. وكانت امرأة سليطة اللسان قوية البدن، ولكن جويا كان في حصن حصين من لسانها السليط. وأتت معها بطفلين- صبي هو جييرمو، وفتاة صغيرة مرحة تدعى ماريا ديل روزاريو، وقد أصبحا عزاء لحياة الفنان في شيخوخته.
ولقد كان في أمس الحاجة لهذا الحافز الصحي لأن عقله كان على شفا الجنون. على هذا النحو فقط نستطيع أن نفهم "الرسوم الزنجية" التي غطى بها كثيراً من جدران البيت الذي كان مستشفاه. وراح يرسم بالأسود والأبيض في الأغلب، وكأنه يعكس ظلام عقله، ولم يعطِ حدوداَ معينة للأجساد التي رسمها وكأنه وفي لغموض رؤاه، ولكنه استعمل ألواناً جصية حسنة ليثبت بسرعة على الحائط صور حلم سريعة الزوال. وقد رسم على جدار جانبي طويل "رحلة سان ايزيدرو" وهو العيد الذي رسمه مبتهجاً عام 1788 قبل إحدى وثلاثين سنة ولكنه الآن أصبح مشهداً كئيباً لمتعصبين متوحشين مخمورين. وجمع على الجدار المقابل أشخاصاً أفظع حتى من هؤلاء في "سبت الساحرات" وهن يتعبدن لنيس أسود ضخم على نحوٍ رهيب لأنه شيطانهن وإلههن الآمر. وفي أقصى الحجرة ارتفعت أبشع صورة في تاريخ الفن، صورة ساترن يفترس ابنه- مار يفترس طفلاً عاريا، أكل رأسه وذراعه وأخذ يلتهم الذراع الباقية وهو يرش الدم من حوله (131). وربما كانت الصورة رمزاً مجنوناً لأمم مجنونة تأكل بنيها في الحرب. هذه رؤى رجل تعذبه أطياف الموت المروعة فهو يرسمها في جنون ليطردها من ذاته ويثبتها على الجدار.
وفي 1823 هربت ليوثاديا إلى بوردو بولديها لخوفها من الاعتقال(40/158)
بسبب نشاطها الماسوني. وقرر جويا أن يلحق بهم بعد أن ترك وحيداً مع الجنون الذي رسمه على جدرانه. ولكنه لو رحل بغير إذن من الملك لفقد حقه في الراتب الرسمي الذي كان يتقاضاه بوصفه مصور الحجرة، فألتمس إجازة شهوراً للاستشفاء بمياه بلومبيير، فمنح الإجازة. ونقل ملكية بيته لحفيده ماريانو، وفي يونيو 1824 يمم شطر بوردو، وليوثاريا، ماريا ديل روزاريو.
وبات حبه لحفيده ماريانو العاطفة المشبوبة المتسلطة عليه كلما دنت منيته. فأوصى بمعاش سنوي للصبي وعرض دفع النفقات إذا أتى خافيير بماريانو إلى بوردو. ولم يستطع خافيير الحضور ولكنه أرسل زوجته وأبته، فلما وصلا عانقهما جويا في انفعال انهار بسببه واضطر إلى ملازمة الفراش. وكتب إلى ابنه يقول: "يا عزيزي خافيير، إنما أردت أن أخبرك بأن هذه الفرحة كلها كانت فوق ما أحتمل ... أدعو الله أن يتيح لك أن تأتي وتأخذهما وعندها تفيض كأس سعادتي (132) ". وفي صباح الغد أحتبس صوته وشل نصف بدنه. وطال احتضاره ثلاثة عشر يوماً وهو ينتظر بصبر نافذ مجيء خافيير دون جدوى. ومات في 16 إبريل 1828. وفي 1899 نقل رفاته من بوربو إلى مدريد ودفن أمام مذبح كنيسة سان أنطونيو دي لافلوريدا، حيث رسم قبل مائة عام تحت القبة آلام الحياة الأسبانية وأحزانها وأفراحها وقصص حبها.(40/159)
الفصل الثاني عشر
وداعاً إيطاليا
1760 - 1789
1 - جولة وداع
لو سمحنا لأنفسنا بنظرة واحدة أخرى إلى إيطاليا لوجدناها حتى في هذه القيلولة الظاهرية دافئة بالحياة. فسنرى تورين تحتضن الفيري، ولوكا تنشر موسوعة ديدرو، وفلورنسة تزدهر ثانية تحت حكم الدوق الكبير ليوبولد، وميلان تصلح القانون بفضل بيكاريا وبافيا وبولونيا تهتزان طرباً لتجارب فولتا وكلفاني، والبندقية تعاني من سلوك كازانوفا، ونابلي تتحدى البابوية، وروما متورطة في مأساة اليسوعيين، وعشرات من مرابي الموسيقى تصدر الأوبرا ومهرة العازفين ليهدئوا صدر الأقطار المتوحشة عبر الألب. وسنلتقي في إيطاليا بمائة ألف أجني قدموا إليها ليدرسوا كنوزها وليصطلوا بشمسها. ففي هذا العهد وفد إليها جوته بعد أن أرهقه نبلاء قيمار ليجدد شبابه ويروض ربة شعره.
كان انطباع جوته الأول وهو منحدر من الأب إلى فينتسيا ترد نتينا (سبتمبر 1786) تأثره بالهواء المعتدل والجو المشرق الذي "يضفي غاية البهجة على مجر الوجود بل حتى على الفقر" (1) ثم هذه الحياة الطليقة: "فالأهالي دائماً خارج بيوتهم وهم لخلو بالهم لا يفكرون في شيء، إلا في أن يحيوا". وظن أن التربة المثمرة لابد أن تجود على هؤلاء القوم البسطاء بحاجاتهم المتواضعة دون إبطاء، ولكن الفقر وعدم وجود الوسائل الصحية في المدن الصغيرة أفزعاه:
"حين سألت النادل عن مكان (لقضاء الحاجة) أشار لي على الفناء قائلاً "ممكن، تحت، في الحوش". فسألته "أين؟ " فقال في لهجة ودية "في أي(40/160)
مكان، كما تشاء ... كل الأفنية الأمامية والأعمدة تلوثها الأقذار، لأن القوم يقضون حاجاتهم بطريقة طبيعية جداً" (2).
على أن التكيف الحسي جعله يسلم بالأمر الواقع شيئاً فشيئاً.
وكانت البندقية تستمتع بانحلالها اللطيف، فحوالي 1778 وصف كارلو جوتسي في مبالغة تغار على الفضيلة ما بدا له أنه انحلال عام في الأخلاق:
"إن منظر النساء وقد انقلبن رجالاً، والرجال نساء، وكلهم نسانيس، وكلهم غارقون ... في دوامة الموضة، يفسدون ويغوون بعضهم بعضا بلهفة كلاب الصيد تجري وراء رائحة الفريسة، ويتنافسون في شهواتهم وسرفهم المدمر ... ويحرقون البخور ... ليريابوس (3) ... (إله الشهوة) ".
وفي 1797 ألقى اللوم على الفلسفة في هذا الانهيار:
"إن الدين، ذلك الكابح الصحي لشهوات البشر ... قد أصبح هزؤوا بين الناس. ولست أملك إلا الإيمان بأن المشنقة مفيدة للمجتمع، لأنها أداة لعقاب الجريمة وردع من تحدثه نفسه بالإجرام. ولكن فلاسفتنا العصريين نددوا بالمشنقة زاعمين أنها تحيز ظالم وهكذا زادوا جرائم القتل على الطريق العام والسرقات وأعمال العنف مائة ضعف".
"وقد أكدوا لنا أن إبقاء النساء في بيوتهن لرعاية بنيهن وبناتهن ... والإشراف على خدمة الأسرة واقتصادها، إنما هو تحيز بالٍ وهمي. وللتو انطلقت النساء من بيوتهن معربدات كالباخوسيات، صائحات "الحرية ... الحرية ... " وغصت الشوارع بهن ... وأسلمن أثناء ذلك عقولهن الطائشة إلى الموضات والبدع التافهة، والملاهي ومغامرات الحب ومظاهر الدلال وسائر السفاسف .... أما الأزواج فلم يؤتوا من الشجاعة ما يمكنهم من مقاومة هذا التدمير لشرفهم ومالهم وأسرهم، وخافوا من أن يشهر بهم ويرموا بهذه الكلمة الرهيبة، كلمة "التحيز" ... فقد وصفت مكارم الأخلاق،(40/161)
والحشمة، والعفة، بأنها تحيز ... وحين أكرهت جميع هذه التحيزات المزعومة على الهروب ... ظهر الكثير من النعم الكبرى والبركات العظمى. كالكفر، والإحاطة بالاحترام والتوقير، وقلب العدالة رأساً على عقب ... وتشجيع المجرمين والرثاء لهم، والخيالات الملتهبة، والأحاسيس المرهفة، والغرائز البهيمية، والانهماك في جميع اللذات والشهوات، والترف العاتي ... والتفاليس ... والخيانات الزوجية (4) ".
ولكن أسباب الانحلال الرئيسية كانت بالطبع اقتصادية وحربية؛ ذلك أن البندقية فقدت ثراءها الذي لها الدفاع عن قوتها وعلى النقيض منها ازدادت قوة غريمتها النمسا البشرية ازدياداً مكنها من السيطرة على كل المداخل البرية إلى بحيرات البندقية، ومن خوض بعض حملاتها الحربية على أرض الجمهورية المحايدة العاجزة.
وفي 9 مارس 1789 انتخب لودوفيكومانن لرئاسة الجمهورية-وكان بذلك آخر الأدواج المائة والعشرين الذين تعاقبوا على كرسي رئاسة البندقية في استمرار رائع منذ عام 697. وكان رجلاً ذا ثراء طائل وشخصية هزيلة، ولكن ما كان في طوق الفقر أو الشجاعة أن يردا عنه مأساته. ذلك أن الباستيل سقط في أربعة أشهر، وتسلطت عبادة الحرية على خيال فرنسا، وحين أقبل هذا الدين مع فيالق نابليون اكتسح كل إيطاليا تقريباً تحت رايته وبقوة نشوته. وفرض الكورسيكي الظافر يظاهره ثمانون ألف جندي على ملكة الأدرياتيكي حكومة مؤقتة أملاها بنفسه (12 مايو 1797) محجاً بأن القوات النمساوية قد استعانت عليه بأرض البندقية، ومتهماً البندقية بأنها ساعدت أعداءه سراً. وفي ذلك اليوم أعطى الدوج مانن قلنسوة الرئاسة لأحد أتباعه بعد أن استقال، وأمره قائلاً "خذها بعيداً عني فلن تحتاج إليها ثاني (5) " وبعد أيام مات. وفي 16 مايو احتلت الجنود الفرنسية المدينة. وفي 17 أكتوبر وقع بونابرت في كاميوفورميو معاهدة نقلت البندقية وكل الأقاليم التي تمتلكها تقريباً إلى النمسا في مقابل تنازلات من النمسا لفرنسا في البلجيك وضفة الرين اليسرى. وحدث هذا بالضبط(40/162)
بعد ألف ومائة عام من انتخاب أول دوج لحكم بحيرات البندقية والدفاع عنها.
أما بارما فكانت محمية أسبانية، ولكن دوقها، والدون فيليبي، ابن فيليب الخامس وايزابيللا فارنيزي، تزوج لويزا اليزابث ابنة لويس الخامس عشر وقد عود نفسه عاداتها المسرفة وجعل بلاطه فرسايا مصغرة. وأصبحت بارما مركزاً للثقافة تختلط فيه أساليب الحياة العالمية في بهجة ومرح. يقول كازانوفا "لقد خيل إلي أنني لم أعد عائشاً في إيطاليا، فكل شيء بدا منتمياً للجانب الآخر من الألب. ولم يكن المارة يتكلمون إلا الفرنسية والأسبانية (6) ". وقام وزير مستنير يدعى جيوم دوتيو بإصلاحات حافزة للدوقية. هنا كانت تنتج مصنوعات من أبدع أنواع النسيج والبللور والقاشاني.
أما ميلان فقد شهدت توسعاً صناعياً ينبئ في تواضع بما بلغته من تفوق اقتصادي في إيطاليا اليوم. ذلك أن الحكم النمساوي أرخى قبضته على قدرات الأهالي وإقدامهم. وتعاون الكونت كارل يوزف فون فرميان، حاكم لومبارديا، مع الزعماء الوطنيين على تحسين الإدارة، وحد من السلطة الظالمة التي كان يمارسها البارونات الإقطاعيون الأوليجركيون في المدن. وظهرت طائفة من أحرار الاقتصاد يتزعمهم بيترو فري، وتشيزاري بونيزانا دي بيكاريا، وجوفاني كارلي، اعتنقت مبادئ الفيزوقراطيين، وألغوا المكوس على التجارة الداخلية، وأنهوا نظام الالتزام الضرائبي، ووزعوا العبء بفرض الضرائب على الأملاك الكنسية. ونمت صناعة النسيج حتى انتظمت في 1785 تسعاً وعشرين شركة تشغل 1. 384 نولاً. ومسحت الأراضي، ومولت الدولة مشروعات الري، واشتغل الفلاحون بهمة صادقة. وفي السنوات الإحدى والعشرين فيما بين 1749 و1770 ارتفع سكان الدوقية من 90. 000 إلى 130. 000 (7). وفي فترة انتعاش ميلانو هذه بنى مجتمعها التياترو الاسكالا (1776 - 78)، الذي اتسع لـ3. 600 متفرج تحيط بهم زخارف فاخرة كزخارف القصور، واحتوى تسهيلات(40/163)
للموسيقى، والسمر، والأكل، ولعب الورق، والنوم. وفوق هذا كلها صهريجاً للمياه صمم لإطفاء أي حريق. هنا ظفر تشيما روزا وكيروبيني بانتصارات مدوية.
وكان العصر عصر البطولة لكورسكا. لقد كانت تلك الجزيرة الجبلية الصغيرة مثقلة بأحداث التاريخ. فالفينيقيون القادمون من آسيا الصغرى أقاموا مستعمرات فيها حوالي 560ق. م. ثم قهرهم الأثروريون، الذين قهرهم القرطاجنيون، الذين قهرهم الرومان، الذي قهرهم الروم البيزنطيون، الذين قهرهم الفرنجة، الذي قهرهم المسلمون، الذين قهرهم إيطاليو تسكانيا، الذي قهرهم البيزاويون، الذي قهرهم الجنويون (1347). ومات في ذلك القرن ثلثا السكان من الطاعون الأسود. وفي ظل الحكم الجنوي انحدر الكورسيكيون الذين أرهقهم الوباء وغارات القراصنة، والذين حرمت عليهم المناصب الكبرى وأثقلت كواهلهم بضرائب لا يطيقونها، وانقلبوا إلى حال أشبه بالتوحش لم يحترم فيها قانون غير قانون الثورات العنيفة .. وأخفقت الثورات التي اندلعت بين الحين والحين لما ابتلي به القوم من عداوات طاحنة وما افتقدوا من العون الأجنبي. أما جنوه ففي سبيل الدفاع عن حياتها ضد الجيوش النمساوية استنجدت بفرنسا لتعينها على حفظ النظام في كورسكا. واستجابت فرنسا مخافة أن يستولي البريطانيون على الجزيرة ويستخدموها قلعة يتسلطون منها على البحر المتوسط، فاحتلت الجنود الفرنسية أياتشو وغيرها من الحصون الكورسيكية (1719 - 48). ولما بدا أن الأمن قد استتب انسحب الفرنسيون، وعاد سلطان جنوه إلى سابق عهده، وبدأت ثورة باولي التاريخية.
وقد سبق باسكالي دي باولي هذه البطولات غاريبالدي بقرن كامل. وقد وصفه اللورد شاتام بأنه "واحد من هؤلاء الرجال الذين لم يعد الناس يعثرون عليهم إلا في صفحات بلوتارخ (8) ". ولد (1725) ابناً لثائر كورسيكي وتبع أباه إلى المنفى، ودرس في نابلي على يد الاقتصادي المتحرر جينوفيزي، وخدم في جيش نابلي، ثم عاد إلى كورسيكا (1755)(40/164)
واختير ليقود تمرداً على جنوه. وبعد عامين من القتال أفلح في طرد الجنويين من الجزيرة إلا بعض مدنها الساحلية فلما ولي رئاسة الجمهورية الجديدة بالانتخاب (1757 - 68) أظهر في ميدان التشريع والإدارة نبوغاً لا يقل عن نبوغه في استراتيجية الحرب وتكتيكها. فقد وضع دستوراً ديمقراطياً، وقمع الثورات، وألغى حقوق أمراء الإقطاع الظالمة، ونشر التعليم، وأسس جامعة في عاصمته كورتي.
واضطرت حنوه لعجزها عن قهره إلى بيع الجزيرة لفرنسا (15 مايو 1768) بمليوني فرنك. ووجد باولي الآن نفسه يقاتل جنوداً فرنسيين يعززون بالإمداد المرة بعد المرة. وكان سكرتيره ومساعده في ذلك الوقت كارلو بونابتي، الذي ولد له ابن سماه نابليوني باياتشو في 15 أغسطس 1769. فلم قهر الفرنسيون باولي في بونتينوفو (مايو 1769) طلق هذا النضال الذي لا أمل فيه ولجأ إلى إنجلترا، وهناك منحته الحكومة معاشاً، وأذاع بوزويل اسمه. وكان جونسون واحداً من أصدقائه. على أن الجمعية الوطنية لفرنسا الثورة استدعته من منفاه، وأشادت به "بطلاً وشهيداً للحرية" وعينته حاكماً على كورسيكا، (1791). ولكن المؤتمر الفرنسي حكم بأن في ميوله اليعقوبية قصوراً، فأرسل لجنة لخلعه، وخف الجنود البريطانيون لنجدته، ولكن القائد البريطاني استولى على الجزيرة وأعاد باولي إلى إنجلترا (1795). ثم جرد نابليون قوة فرنسية لتطرد البريطانيين (1796)، ورحب أهل الجزيرة بالفرنسيين باعتبارهم موفدين من قبل "الكورسيكي"، وانسحب البريطانيون، وخضعت كورسيكا لفرنسا.
أما توسكاني فقد ازدهرت تحت حكم كبار الأدواق الهابسبورج الذين خلفوا آل مديتشي (1738). وبعد أن اتخذ حاكمها الأسمى فرانسوا اللوريني النمسا مقراً له لزواجه من ماريا تريزا، فوض الحكم إلى مجلس وصاية يرأسه زعماء وطنيون نافسوا الميلانيين الأحرار في إصلاحاتهم الاقتصادية، فقد حققوا حرية التجارة الداخلية في الغلال (1767) قبل أن يبذل طورجو محاولة كمحاولتهم في فرنسا بسبع سنين. وحين مات فرانسوا(40/165)
(1765) خلفه دوقاً أكبر ابنه الأصغر ليوبولد، الذي تطور حتى أصبح واحداً من أجرأ وأشجع "المستبدين المستنيرين". كبح الفساد في المناصب، وأصبح القضاء والإدارة المالية، وسوى بين الناس في الضرائب، وألغى التعذيب والمصادرة وحكم الإعدام، وأعان الفلاحين، وجفف المستنقعات، وأنهى الاحتكارات، ونشر حرية التجارة وحرية المؤسسات التجارية، وسمح للكومونات بالحكم الذاتي، وتطلع إلى وضع دستور شبيه بالدساتير الديمقراطية للدوقية. وقد راع جوته ما شهده من نظافة المدن التوستانية النسبية وصلاحية الطرق والكباري، وجمال الأشغال العامة وفخامتها (9). وحين أصبح يوزف أخو ليوبولد إمبراطوراً أوحد، أعان ليوبولد على إلغاء معظم الامتيازات الإقطاعية في تسكانيا، وإغلاق كثير من الأديرة، والحد من سلطة الأكليروس.
وفي ميدان الإصلاحات الكنسية تلقى ليوبولد تعاوناً صادقاً من سكبيوني دي ريكي أسقف بستويا وبراتو. وكان في تسكانيا عرف قاسي يقضي على جميع الفتيات اللاتي لا مهور لهن بالرهبة، وانضم ريكي إلى الدوق الكبير في رفع السن الدنيا لنذر الرهبنة وتحويل الكثير من الأديرة إلى مدارس للبنات. واتخذت التدابير لنشر التعليم غير الديني بإحلال المدارس العلمانية محل مدارس اليسوعيين. وكان ريكي يتلو القداس بالإيطالية. ويقاوم الخرافات، المر الذي أساء كثيراً إلى جماهير الشعب. فلما شاع أنه ينوي إزالة "حزام العذراء مريم" الشهير في براتو لأنه زائف، أحدث الشعب شغباً ونهبوا قصر الأسقف. على أن ريكي دعا رغم ذلك مجمعاً أسقفياً انعقد في بستويا عام 1786 وأعلن مبادئ تذكر بـ"المواد الغالية" الصادرة في 1682. ومفادها أن السلطة الزمنية مستقلة عن السلطة الروحية (أي أن الدولة مستقلة عن الكنيسة)، وأن البابا عرضة للخطأ حتى في الأمور المتصلة بالعقيدة.
وكان ليوبولد يحيا حياة البساطة، وأحبه الناس لطباعه الفطرية غير المتكلفة. ولكن حين امتد حكمه وأرهقته خصومة السنين بات ظنوناً معتزلاً الناس، واستخدم عدداً غفيراً من الجواسيس ليكونوا له عيوناً على مساعديه(40/166)
وأعدائه على السواء. وقد أسدى له يوزف النصيحة من فيينا قائلاً: "دعهم يغشونك أحياناً، فهذا خير من أن تعذب نفسك عذاباً متصلاً لا غناء فيه" (10). فلما غادر ليوبولد فلورنسة ليخلف يوزف إمبراطوراً (1790) انتصرت قوى الرجعية في تسكانيا وأدان البابا بيوس الداس ريكي في 1794 وأودعه السجن (1799 - 1805) حتى سحب هرطقاته. ورد قدوم حكومة نابليون (1800) الأحرار إلى سابق سلطانهم.
وهرول جوته إلى روما عبر تسكانيا. استمع إليه وهو يكتب في أول نوفمبر 1786:
"وأخيراً وصلت إلى عاصمة العالم العظيمة هذه .. وكأنما طرت طيراناً فوق جبال النيرول. إن شوقي لبلوغ روما كان شديدا .. حتى كان التفكير في التخلف في أي مكان ضرباً من المحال، وحتى فلورنسة لم أمكث فيها سوى ثلاث ساعات. والآن، كما أخالني سأظفر بالهدوء مدى الحياة، فلنا أن نقول إن حياة جديدة تبدأ حين يرى الإنسان بعينيه ما لم يسمع أو يقرأ عنه من قبل إلا قليلاً. وأنا الآن أرى جميع أحلام شبابي تتحقق أمام عيني".
وأي خليط يدير الرؤوس كانت روما القرن الثامن عشر وهي تشغى بالشحاذين والنبلاء، بالكرادلة والخصيان المغنين، بالأساقفة والبغايا، بالرهبان والتجار، باليسوعيين واليهود، بالفنانين والمجرمين، بالفتاك والقديسين، وبالسياح يبحثون عن الآثار نهاراً وعن الغواني ليلاً. وهنا، وعلى اثني عشر ميلاً من أسوار المدينة، مدرجات وثنية وأقواس نصر، وقصور ونافورات من عهد النهضة، وثلاثمائة كنيسة وعشرة آلاف قسيس و170. 000 نسمة. ومن حول الفاتيكان قلعة المسيحية الكاثوليكية، عاش صنف من الرعاع كانوا أشد ما عرف العالم المسيحي صخباً وتمرداً وعداءاً للأكليروس. وكالنت الكراسات البذيئة المهاجمة للكنيسة يطاف بها في الشوارع، والمهرجون يقلدون في سخرية في الميادين العامة أقدس مراسم القداس. ولعل فنكلمان وهو الرجل الحي الرقيق كان يبالغ قليلاً حين قال:(40/167)
"في النهار يسود روما هدوء معتدل، أما في الليل فإن الشيطان ينطلق من عقاله. ونتيجة للحرية الكبيرة التي تسود هنا، ولعدم وجود أي نوع من أنواع الشرطة، يتصل الشجار وضرب النار وإطلاق الصواريخ والألعاب الناري في جميع الشوارع الليل كله .. والجماهير عاصية لا تخضع لسلطان، قد أعيا الحاكم كثرة النفي والشنق" (11).
كانت روما مدينة تتسم بطابع العالمية أكثر حتى من باريس-يختلط فيها الفنانون والطلاب والشعراء والسياح بالأحبار والأميرات في الصالونات وقاعات الفن والمسارح.
هنا كان فنكلمان ومنجز يبشران بإحياء الطراز الكلاسيكي، وهنا كان الباباوات المرهقون المحاصرون يكافحون لتهدئة ثائرة الجماهير التي طحنها الفقر بالخبز والبركات الروحية، ولتعطيل السفراء الذين يلحون في إلغاء الطائفة اليسوعية والحفاظ على صرح المسيحية المعقد بأسره من الانهيار تحت وطأة التقدم العلم وهجمات الفلسفة.
ولكن لنمضي قدماً مع جيته إلى نابلي. لقد خيل إليه أنه لم يشهد قط مثل هذه الفرحة بالحياة:
"إذا كان في استطاعة المرء وهو في روما أن يعكف من فوره على الدراسة، فليس في استطاعته هنا أن يفعل شيئاً إلا أن يعيش. فأنت تنسى نفسك والعالم، وأنا عن نفسي أجده شعوراً غريباً أن أتنقل من قوم لا يفكرون إلا في الاستمتاع بالحياة ... عنا لا يعرف الناش شيئاً بعضهم عن بعض. وقلما يلحظون أن غيرهم يسيرون أيضاً في طريق سيرهم جنباً إلى جنب معهم. وهم يجرون سحابة نهارهم خلفاً وأماماً في فردوس دون أن يلتفتوا حولهم، ولو بدأ فكا الجحيم المجاوران ينفتحان ويثوران، فإنهم يستنجدون بالقديس يتيواريوس (12).
وكان الدوق كارلوس بعد رحيله عن نابلي قاصداً أسبانيا في 1759(40/168)
قد أوصى بمملكة بانلي وصقلية إلى ابنه فرديناند الرابع البالغ من العمر ثمانية أعوام، بوصاية المركيز دي تانوكي وواصل تانوكي حرب الكنيسة التي بدأها على عهد كارلوس. فألغى الكثير من أديرة الرهبان والراهبات ولم يتردد في إتباع تعليمات شارل الثالث ملك أسبانيا بطرد اليسوعيين. فما أن انتصف ليل 3 - 4نوفمبر 1767 حتى قبض الجند على جميع أعضاء الطائفة في المملكة، وقادوهم-وهو لا يحملون من مقتنياتهم سوى الثياب التي عليهم-إلى أقرب ثغر أو نقطة حدود، ومن هناك رحلوا إلى الولايات البابوية.
ولما بلغ فرديناند الرابع عامه السادس عشر (1767) أنهى وصاية تانوكي. وبعد عام تزوج ماريا كارولينا، الأبنة التقية لماريا تريزا. وسرعان ما سيطرت على زوجها وتزعمت حركة رجعية ضد سياسات تانوكي المناهضة لرجال الدين. وكانت إصلاحات المركيز قد قوت ملكية تانوكي ضد نبلاء الإقطاع والكنيسة، ولكنها لم تحقق شيئاً يذكر في تخفيف الفقر الذي لم يترك للجماهير أملاً إلا في الآخرة.
وانتهجت صقلية نهجاً مماثلاً. فكان بناء كاتدرائية بلرمو (1782 - 1802) أهم وأخطر في نظر الشعب من محاولة دمونيكو دي كاراكولي ترويض أمراء الإقطاع الذين سيطروا على البلاد. وكان قد عمل سنوات كثيرة سفيراً لنابلي في لندن وباريس، وأستمع إلى البروتستنت والفلاسفة. فلما عُين والياً على صقلية (1781) فرض الضرائب الباهظة على كبار ملاك الأراضي، واختزل حقوقهم الإقطاعية على أقنانهم، وأنه ما كان لهم من امتيازات اختيار القضاة المحليين. ولكن حين تجاسر على حبس أمير يحمي قطاع الطرق، وأمر بإنقاص يومين من العطلات التي تمنح تكريماً للقديس روزاليا حامي بلرمو، ثارت عليه جميع الطبقات، وقفل إلى نابلي مهزوماً (1785) (13). فالفلاسفة لم يكونوا قد برهنوا بعد على أنهم يفهمون حاجات الإنسان وطبيعته خيراً مما تفهمها الكنيسة.(40/169)
2 - البابوات والملوك واليسوعيون
استندت قوة الكنيسة الكاثوليكية على إيمان بالخوارق ركب في فطرة البشر، والتسليم بالدوافع الحسية والمخلفات الوثنية والتسامي بها، وتشجيع الخصوبة الكاثوليكية، وغرس لاهوت غني بالشعر والأمل، نافع للتهذيب الخلقي والنظام الاجتماعي. كذلك كانت الكنيسة في إيطاليا لمصدر الرئيسي للدخل القومي، ورادعاً معترفاً بقيمته لشعب يؤمن إيماناً شديداً بالخرافات، وثني النزعة مشبوب العطفة. وقد كثرت الخرافات بين الإيطاليين، فحتى (1787) أحرقت الساحرات في بلرمو-وقدمت المرطبات للنبيلات العصريات اللاتي حضرن هذا المشهد (14). وعاشت المعتقدات والعادات والمراسم الوثنية في ظل موافقة الكنيسة عليها عن طيب خاطر. كتب جوته يقول "لقد انتهيت إلى اعتقاد القاطع بأن كل آثار المسيحية الأصلية قد انقرضت هنا في روما (15) ". على انه بقي في العالم المسيحي الكثير من المسيحيين الحقيقيين، حتى في إيطاليا. ومن هؤلاء الكونت كايسوتي دي كيوزانو، أسقف أستي، الذي نزل عن ميراثه الكبير، وعاش في فقر اختياري، وكان لا يسافر إلا راجلاً. كذلك كان تستا أسقف مونريالي ينام على القش، ولا يأكل إلا ما يمسك رمقه ولا يحتفظ من دخله إلا بثلاثة آلاف ليرة لحاجاته الشخصية، ويخصص ما بقي منه للأشغال العامة وللفقراء (16).
واستجابت الكنيسة لحركة التنوير إلى حد ما. وبالطبع أدرجت أعمال فولتير وروسو وديدرو وهلفتيوس ودولباخ ولا متري وغيرهم من أحرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة، ولكن أبيح الحصول على إذن بقراءتها من البابا. وكان المونسنيور فنتمليو أسقف قطنيا (1757 - 73) يقتني في مكتبته طبعات كاملة من فولتير وهلفتيوس وروسو (17). وألغيت محكمة التفتيش في تسكانيا وبارما عام 1769، وفي صقلية عام 1782، وفي روما عام 1809. وفي 1783 نشر قسيس كاثوليكي يدعى تابعورني، تحت اسم صديقه تراوتما نسدورف، مقالاً "في التسامح الكنسي والمدني"(40/170)
أدان فيه محكمة التفتيش وحكم على كل ضروب الإكراه للضمير بأنها منافية للمسيحية، ودافع عن جميع أنواع اللاهوت إلا الإلحاد (18).
وكان من سوء طالع البابوات في نصف القرن الثامن عشر هذا أن يضطروا إلى مواجهة مطالبة الملوك الكاثوليك بحل جمعية اليسوعيين كلية. وكانت الحركة المناهضة لليسوعيين جزءاً من صراع على القوة بين قومية الدولة الحديثة الظافرة، ودولية بابوية أضعفتها حركة الإصلاح البروتستانتي وحركة التنوير وصعود طبقة رجال الأعمال. ولم يلح أعداء الجمعية الكاثوليك إلحاحاً سافراً باعتراضهم الرئيسي عليها، وهو أنها دأبت على تأييد سلطة الباباوات باعتبارها فوق سلطة الملوك، ولكنه كرهوا أشد الكره أن يشكل قيام منظمة لا تعترف برئيس غير رئيسها، والبابا في الواقع داخل كل دولة عميلاً لسلطة أجنبية. وقد سلموا بغزارة علم اليسوعيين وتقواهم، وبإسهاماتهم في العلوم والأدب والفلسفة والفن، وبتربيتهم المثابرة الفعالة للشباب الكاثوليكي؛ وببطولتهم في البعثات الأجنبية وباستعادتهم كثيراً من الأرض التي فقدتها الكاثوليكية واستولت عليها البروتستنتية. ولكن التهمة التي وجهوها إلى الجمعية هي أنها كانت تتدخل المرة بعد المرة في الشؤون العلمانية؛ وأنها اشتغلت بالتجارة طمعاً في الربح المادي؛ وأنها غرست مبادئ الفتاوى التي تغتفر الفساد الخلقي والجريمة، وأغضت حتى عن قتل الملوك، وأنها سمحت للعادات والمعتقدات الوثنية بأن تعيش بين أتباعها المزعومين في آسيا؛ وأنها أساءت إلى الطوائف الدينية الأخرى وإلى كثير من الكهنة غير الرهبان، بحدتها في الجدل ونغمتها المشربة بالاحتقار. وأصر سفراء ملوك البرتغال وأسبانيا ونابلي وفرنسا على إلغاء الترخيص البابوي الخاص بالجمعية وعلى حل المنظمة رسمياً وفي كل مكان.
على أن طرد اليسوعيين من البرتغال في 1759 ومن فرنسا في 1764 - 67، ومن أسبانيا ونابلي في 1767، ترك الجمعية تواصل نشاطها وسط وشمالي إيطاليا، وفي سيليزيا وبولندا. وفي 7 فبراير 1768 طردوا من دوقية بارما البوربونية، وأضيفوا إلى حشد اللاجئين اليسوعيين في ولايات(40/171)
الكنيسة. واحتج البابا كلمنت الثالث عشر بأن بارما إقطاعة بابوية، وهدد الدوق فرديناند السادس ووزراءه بالجرم إذا نفذ مرسوم الطرد. فلما أصروا أصدر مرسوماً أعلن فيه مصادرة رتبة الدوق ولقبه وإلغاءهما. وبدأت الحكومات الكاثوليكية في أسبانيا ونابلي وفرنسا حرباُ على البابوية. واستولى تانوتشي على مدينتي بنيفنتو وبونتيكوفو البابويتين واحتلت فرنسا أفنيون. وفي 10 ديسمبر 1768 قدم السفير الفرنسي في روما باسم فرنسا ونابلي وأسبانيا إلى البابا مطلباً بسحب المرسوم الموجه ضد بارما وبإلغاء جمعية اليسوعيين. وانهار الحبر الأعظم تحت وطأة هذا الإنذار النهائي. وكان يبلغ من العمر آنذاك ستة وسبعين عاماً، فدعا لعقد مجمع من المطارنة والمبعوثين في 3 فبراير 1769 لدراسة الأمر. وفي 2 فبراير خر صريعاً بانفجار عرق في دماغه.
وانقسم الكرادلة الذين دعوا لاختيار خلف له فريقين: الغيورين الذين اقترحوا تحدي الملوك، والمهدئين الذين آثروا التسويات الهادئة. ولما كانت الكثرة العظمى من الكرادلة الإيطاليين من فريق الغيورين الذين اجتمعوا سريعاً في روما، فقد حاولوا افتتاح المجمع قبل أن يصل فريق الكرادلة المهدئين من فرنسا وأسبانيا والبرتغال. واحتج السفير الفرنسي فأجل المجمع. وفي غضون هذا عرض لورنتسو ريكي قائد اليسوعيين قضيتهم للخطر إذ أصدر كراسة اعترضت على سلطة أي بابا في إلغاء الجمعية (19). وفي مارس وصل الكاردينال دبيرني من فرنسا وبدأ طوافه على الكرادلة بهدف ضمان انتخاب بابا راغب في إرضاء أصحاب الجلالة الكاثوليك. وقد رفض المؤرخون، سواء منهم الكاثوليك (21)، وخصوم الكاثوليك (22)، الشائعات التي زعمت بعد ذلك (20) أنه هو أو غيره رشوا أغروا بوسيلة ما الكاردينال جوفاني جانجاتللي بأن يعد بهذا إذا اختير لكرسي البابوية. وكان جانجاتللي بإجماع الكل رجلاً عظيم الثقافة والتقوى والنزاهة، بيد أنه كان ينتمي إلى طائفة الفرنسسكان التي طالما خاصمت اليسوعيين سواء في ميدان البعثات التبشيرية أو اللاهوت (23).(40/172)
وفي 19 مايو 1769 انتخب باجماع آراء الكرادلة الأربعين، واتخذ اسم كلمنت الرابع عشر، وكان يومها في الثالثة والستين.
ثم ألفى نفسه واقفاً تحت رحمة الدول الكاثوليكية. ففرنسا ونابلي تتشبثان بالأقاليم البابوية التي استولتا عليها، وأسبانيا وبارما تتخذان موقف التحدي، وهددت البرتغال بإقامة بطريركية مستقلة عن روما، بل أن ماريا تريزا التي كانت حتى ذلك الحين حارة الولاء للبابوية واليسوعيين ولكنها الآن فقدت سلطانها الذي انتزعه منها ابنها حر التفكير جوزف الثاني، وردت على نداء البابا بطلب معونتها بأنها لا تستطيع مقاومة الإرادة الموحدة لمثل هذا العدد الكبير من الملوك والحكام. وأصدر شوازيل الذي كان مسيطراً على حكومة فرنسا آنذاك تعليماته لبيرني بأن يخبر البابا أنه "إذا لم يستطع التوصل إلى تفاهم مع فرنسا ففي استطاعته أن يعتبر كل علاقاته به منتهية (24) ".
وكان شارل الثالث ملك أسبانيا قد أرسل مثل هذا الإنذار النهائي في 22 إبريل. أما كلمنت، الذي حاول كسب الوقت، فقد وعد شارل بأنه عن قريب "سأرفع إلى حكمة جلالتكم وذكائكم خطة للقضاء المبرم على الجمعية (25) ". وأمر مساعديه بالرجوع إلى السجلات وتلخيص تاريخ جمعية اليسوعيين وإنجازاتها وجرائمها المزعومة. ورفض التسليم بما طالب به شوازيل من الفصل في النزاع خلال شهرين. وقد اقتضاه الفص ثلاث سنين، ولكنه أذعن في النهاية.
ففي 21 يوليو 1773 وقع الرسالة البابوية التاريخية، وقد بدأت بقائمة طويلة من الجماعات الدينية التي حظرها الكرسي البابوي المقدس على مدى الأيام، وذكرت الشكاوى الكثير التي رفعت ضد اليسوعيين، والجهود الكثيرة التي بذلها البابوات لعلاج المساوئ المزعومة. "وقد لاحظنا ببالغ الحزن أن هذه العلاجات وغيرها مما استعمل بعد ذلك لم يكن لها من الفاعلية أو القوة ما يضع حداَ لهذه المتاعب والتهم(40/173)
والشكاوى (26) ". واختتمت الرسالة بهذه العبارة "وإذ تبين لنا أن جمعية اليسوعيين لم تعد قادرة على أن تؤتي الثمرات الوفيرة والخير العظيم اللذين من أجلهما أسست ووافق عليها العدد الكبير من الباباوات أسلافنا الذين شرفوها بالكثير من المزايا الجديرة بالإعجاب، وإذ رأينا أنه من المستحيل تقريباً-بل أنه مستحيل إطلاقاً-على الكنيسة أن تتمتع بسلام صادق متين ما بقيت هذه الطائفة ... فإننا بعد الفحص المتأني، ونتيجة لمعرفتنا الخاصة وبحكم كمال سلطتنا الرسولية، نحل ونلغي بمقتضى هذه الرسالة البابوية جمعية اليسوعيين. ونبطل ونلغي كل مناصبها ووظائفها وإداراتها، ودورها، ومدارسها، وكلياتها وخلواتها، وملاجئها وسائر المؤسسات التي تخصها على أي وجه كائناً ما كان وفي أي إقليم أو مملكة أو دولة لها وجود فيه (27) ".
ثم وعدت الرسالة البابوية بصرف معاشات لليسوعيين الذين لم يرسموا بعد ويريدون العودة لحياة العلمانيين، وأذن للكهنة اليسوعيين بالانضمام إلى الأكليروس غير الرهبان أو بأي طائفة دينية يوافق عليها الكرسي البابوي، وسمح لليسوعيين المقبولين في الرهبنة والذين نذروا أنفسهم نذراً نهائياً مطلقاً بأن يبقوا في بيوتهم السابقة شريطة أن يلبسوا رداء الكهنة غير الرهبان ويخضعوا لسلطة الأسقف المحلي.
وفي معظم الحالات؛ وباستثناء بعض المبعوثين في الصين، تقبل اليسوعيون حكم إعدام هذا الذي أصدره البابا على جمعيتهم بامتثال ونظام ظاهرين .. بيد أن كراسات غفل من اسم المؤلف طبعت ووزعت دفاعاً عن قضيتهم، وقبض على ريتشي وعدد من معاونيه بتهم لم تثبت عليهم قط بأنهم يتراسلون مع خصوم المرسوم. ومات ريتشي في السجن في 24 نوفمبر 1775 بالغاً الثمانية والسبعين.
ولم يعش كلمنت الرابع عشر إلا عاماً واحداً أو يزيد بعد المرسوم. وكثرت الشائعات بأن عقله أختل في شهوره الأخيرة. وقد اجتمعت عليه(40/174)
الأسقام، ومنها الأسقربوط والبواسير، لتجعل كل نهار وليل في حياته شقاء وتعاسة له. وأصابته في إبريل 1774 نزلة برد لم تبرحه قط، ولم تحل نهاية أغسطس حتى كان الكرادلة يناقشون مسألة خلافتهم، وفي 22 سبتمبر قضى كلمنت نحبه.
وبعد الكثير من التأجيلات والدسائس أجلس مجمع الكرادلة على كرسي البابوية (15 فبراير 1775) جوفاني براسكي الذي اتخذ اسم بيوس السادس. وكان رجلاً مثقفاً أكثر منه سياسياً، يجمع التف الفنية، ويسحر الجميع برفته، وقد حسن إدارة الكوريا (الإدارة البابوية) وأستصلح بعض المستنقعات الوبتية. ورتب حلاً وسطاً مؤقتاً مسالماً لليسوعيين مع فردريك الأكبر. وفي 1793 أنظم للحلف المعدي لفرنسا الثائرة. وفي 1796 غزا نابليون الولايات البابوية، وفي 1798 دخل الجيش الفرنسي روما، وأعلنها جمهورية، وطالب البابا بالتخلي عن كل سلطاته الزمنية. ولكنه أبى، فاعتقل، وظل في أماكن وحالات مختلفة من السجن حتى وفاته (29 أغسطس 1799). أما خليفته بيوس السابع فقد جعل رد جمعية اليسوعيين إلى سابق عهدها (1714) جزءاً من انتصار التحالف على نابليون.
3 - القانون وبيكاريا
ظلت أخلاق إيطاليا وسلوكها مزيجاً من العنف والتراخي، من الثأر والحب. كتب موتسارت من بولونيا عام 1770، وكان في الرابعة عشرة من عمره "إن إيطاليا بلد ناعس" (28)، ولم يكن قد تعلم فلسفة القيلولة. أما أبوه فكان رأيه في 1775 أن "الإيطاليين أوغاد في كل أنحاء العالم" (29).
وقد علق موتسارت وجوته كلاهما على الجريمة الإيطالية. كتب موتسارت يقول إن في نابلي "زعيماً للشحاذين يتقاضى من الملك خمساً وعشرين دوقاتية كل شهر مقابل تهدئتهم لا أكثر" (30). وكتب جوته يقول: إن أكثر ما يلفت نظر الغريب هو كثرة الاغتيالات. واليوم كان الضحية فناناً ممتازاً(40/175)
هو شفندمان ... وقد طعنه القاتل الذي اشتبك معه عشرين طعنة، فلما أقبل الحارس طعن نفسه. وليس هذا ما يجري به العرف هنا عموماً، فالقاتل عادة يقصد أقرب كنيسة، فمتى بلغها أصبح في مأمن تام" (31). وكانت كل كنيسة تعطي المجرم الأمان في حرمها-أي الحصانة من الاعتقال ما بقي تحت سقفها.
وحاول القانون كبح الجريمة بتشديد العقوبة أكثر مما حاولها بكفاية الشرطة. فقد نصت قوانين بندكت الرابع عشر الرحيم على عقوبات التجديف بالجلد، فإذا تكررت الجريمة ثلاث مرات كان عقابها التشغيل خمس سنوات في سفن الأسرى والعبيد. وكان السطو على دير الراهبات ليلاً جناية كبرى، أما مغازلة امرأة شريفة أو معانقتها علانية فعقابه التشغيل المؤبد على هذه السفن. وكان تشويه السمعة الخلقية، حتى إذا لم يحتو غير الصدق يعاقب بالإعدام ومصادرة الممتلكات. (ومع ذلك لم يقلل هذا من المقطوعات الهجائية). ومثل هذه العقوبة فرضت على حمل الطبنجات المخبأة. على أن الجناة كانوا في كثير من المناطق يتفادون هذه الأوامر بالفرار إلى دولة مجاورة أو بفضل رحمة القاضي، أو الاحتماء بالكنيسة. ولكن العقوبات كانت تنفذ بصرامة في حالات عديدة. من ذلك أن رجلاً شنق لادعائه أنه كاهن، وآخر لسرقة ثوباً كهنوتياً باعه بفرنك وربع، وثالث ضرب عنقه لكتابته خطاباً أتهم البابا كلمنت الحادي عشر بعلاقة غرامية مع ماريا كلمنتينا سوبيسكا (32). وإلى تاريخ متأخر (1762) كان السجناء تحطم أجسادهم على دولاب التعذيب، عظمة بعد عظمة، أو يسحلون على الأرض في ذيل حصان مهموز. على أن من واجبنا أن نضيف جانباً أكثر إشراقاً على الصورة، هو أن بعض الجماعات كانت تجمع المال لدفع غرامات السجناء وتحريرهم. وغدا إصلاح القانون، سواء من حيث الإجراءات أو من حيث العقوبات، جزءاً طبيعياً من الروح الرحيمة التي أنجبها أبوان-حركة تنوير إنسانية، وأخلاقيات مسيحية تحررت من لاهوت قاس.
ومن مفاخر إيطاليا أن يصدر أقوى نداء يدعو لإصلاح القانون في هذا(40/176)
القرن عن شريف ميلاني. وقد كان هذا الشريف-تشزاري بونيزانا، مركيز بكاريا، نتاج اليسوعيين والفلاسفة الفرنسيين. ومع أنه وهب من الثراء ما يسمح له بحياة التبطل فإنه كرس نفسه بغيرة لا تفتر لحياة التأليف الفلسفي والإصلاح العملي. وقد أمسك عن مهاجمة دين الشعب؛ ولكنه تصدى رأساً للظروف الفعلية للجريمة والعقاب. وقد صدمه أن يرى قذارة السجون الميلانية التي كانت مرتعاً للأمراض، وأن يسمع من السجناء كيف ولم اعتادوا الإجرام وكيف حوكموا على جرائمهم. وأفزعه أن يكتشف مخالفات صارخة في الإجراءات القضائية، وألواناً من التعذيب الوحشي للمشبوهين والشهود، وضروباً من التعسف في الأحكام سواء بالتشديد أو التخفيف، وألواناً من القسوة الضاربة في العقاب. وحوالي 1761 انضم إلى بييتروفيري في جمعية سمياها "البونيات" (قبضات الأيدي) -نذرت نفسها للعمل والفكر معاً. وفي 1764 بدءا مجلة "المقهى" محاكاة لمجلة أديسون "سيكتير"، وفي ذلك العام نشر نيكاريا بحثه التاريخي "بحث في الجرائم والعقوبات".
وفي مستهل كتابه أعلن غي تواضع أنه يتأثر بخطى "روح القوانين" الذي ألفه "الرئيس الخالد" لبرلمان بوردو، فالقوانين يجب أن ترسي على العقل، ورائدها الأساسي ليس الانتقام من الجريمة بل حفظ النظام الاجتماعي، وينبغي أن تستهدف دائماً "أوفر سعادة موزعة على أكبر عدد (33) ". هنا قبل بنتام بخمسة عشر عاماً، نجد المبدأ الشهير لأخلاقيات مذهب المنفعة. واعترف بكاريا بصراحته المعهودة بتأثره بهلفتيوس، الذي أورد الصيغة ذاتها في كتابه "في الروح" (1758). (وكان قد صدر في سلسلة فرانسس هتشسن "أفكار في الجمال والفضيلة" (1725). وقال بكايا أن توسع التعليم وتعميقه أملاً في الحد من الجرائم أصوب لمصلحة المجتمع من الالتجاء إلى عقوبات فد تحول شخصاً أجرم عرضاً من مخالطته المجرمين إلى مجرم عريق. فالواجب أن يكون لكل متهم الحق في محاكمة عادلة وعلنية أما قضاة أكفاء يتعهدون بالحياد والنزاهة. ويجب أن تقفو المحاكمة الاتهام سريعاً؛ وأن يكون العقاب متناسباً مع(40/177)
الضرر الواقع على المجتمع لا مع نية الفاعل. فضراوة العقوبة تولد ضراوة الخلق، حتى في الجمهور غير المجرم. أما التعذيب فيجب عد الالتجاء إليه إطلاقاً، فالمذنب الذي تعود على الألم قد يحتمله في تجلد وتفترض براءته، في حين قد يكره الألم بريئاً مرهب الأعصاب على الاعتراف بأي شيء فيحكم بأنه مذنب. ويجب ألا يسمح بعد بحماية الكنيسة للمجرمين، ويجب إلغاء عقوبة الإعدام.
وطبع الكتيب ست طبعات في ثمانية عشر شهراً، وترجم إلى اثنتين وعشرين لغة أوربية. وأشاد بكاريا بالترجمة الفرنسية التي قام بها مورلليه وقال أنها أفضل من الأصل. وقد شارك فولتير بمقدمة غفل من السم لتلك الترجمة؛ وأقر المرة بعد المرة بأثر بكاريا في جمهوره لإصلاح القانون. وبادرت معظم الدويلات الإيطالية إلى إصلاح قوانين عقوباتها. ولم يحل عام 1789 حتى كانت أوربا كلها تقريباً قد ألغت التعذيب. وتأثرت كاترين ببكاريا كما تأثرت بفولتير في إلغاء التعذيب في أملاكها. أما فردريك الأكبر فكان قد أنهاه فعلاً في روسيا (1740) إلا في حالات الخيانة.
وفي 1768 عين بكاريا في كرسي للقانون والاقتصاد أنشئ خصيصاً له في كلية البالاتين بميلان. وفي 1790 عين في لجنة لإصلاح القضاء في لمبارديا. وقد سبقت محاضراته عدة أفكار أساسية لآدم سمث ومالتامن في تقسيم العمل والعلاقة بين العمال ورأس المال، وبين السكان وكمية الطعام. وفيه بعثت "إنسانية" النهضة الأوربية من جديد في صورة التنوير في إيطاليا.
4 - مغامرات
أ - كاليوسترو
ولد جوزيبي بلسامو لصاحب متجر ببلرمو في 1743. ونضج مبكراً وسرعان ما أصبح لصاً بارعاً. وفي الثالثة عشرة قيد تلميذاً في دير(40/178)
البنفراتيللي. وعين هناك مساعداً لصيدلي الدير، فتعلم كم قواريره ومحابيره وكتبه من الكيمياء والخيمياء ما يكفي لإعداد نفسه لاحتراف الشعوذة الطبية ... ولما كلف بأن يقرأ حياة القديسين على الرهبان وهم يتناولون طعامهم، استبدل بأسماء القديسين أسماء أشهر مومسات بلرمو. وجلد عقاباً له، فهرب من الدير وانظم إلى عالم المجرمين السفلي، ودرس فن الأكل دون بذل العرق. واشتغل قواداً ومزوراً ومزيفاً للنقود، وقارئاً للبخت، وساحراً، ولصاً وأفلح في إخفاء آثاره بمهارة عجزت معها الشرطة عن إدانته إلا بالوقاحة.
فلما رأى نفسه مشبوهاً على نحو يضايقه، انتقل إلى مسينا، وعبر إلى ريدجو كالأبرياء، وجرب الفرص التي تتيحها نابلي وروما. وتكسب فترة بإدخال لمسات على نسخ الصور وبيعها على أنها من صنعه. ثم تزوج لورنتسا فيلكياني، وأثرى ببيع جسدها. وأنتحل اسم المركيز دي بللجريني، وأخذ نبيلته المكسبة إلى البندقية ومرسليا وباريس ولندن. ثم دبر أن تمسك زوجته بين ذراعي كويكري ثري؛ وعاشا على المال الذي ابتزاه نتيجة للخطة شهوراً. ثم غير اسمه إلى الكونت دي كاليوسترو، وتنكر بشوارب ولبس حلة كولونيل بروسي، وسمى زوجته من جديد بالكونتيسة سيرافينا. ثم عاد إلى بلرمو، وقبض عليه بتهمة التزوير، ولكن أفرج عنه تحت إلحاح منذر بالشر من أصحابه الذين روعوا القضاء.
وإذ بليت مفاتن سيرافينا لكثرة تداولها، فقد أخذ يطبق ما تعلم من كيمياء فجهز وباع العقاقير التي تضمن إزالتها التجاعيد وتأجيجها لنار العشق. ولما عاد إلى إنجلترا أتهم بسرقة قلادة من الماس وقضى فترة في السجن ثم انضم إلى جماعة الماسون وانتقل إلى باريس، وادعى أنه الرئيس الأكبر للماسون المصريين. وأكد لعشرات السذج أنه عثر على الأسرار القديمة لإعادة الشباب، الذي يمكن تحقيقه بعلاج يمتد أربعين يوماً تستعمل فيه المسهلات والمعرقات وغذاء من الجذور، والحجامة، والتيوصوفية (34). وكان كلما أفتضح أمره في مدينة مضى إلى غيرها؛ وأتصل بأسرها الفنية(40/179)
بفضل طريقة المصافحة وخاتمه الماسونيين. وفي سانت بطرسبرج أشتغل طبيباً، وعالج الفقراء مجاناً؛ وأستقبله بوتمكين، ولكن طبيب كاترين الكبرى، وكان اسكتلندياً حاذقاً، حلل بعض أكاسير هذا الطبيب ووجدها فارغة لا قيمة لها. فسمح لكاليوسترو بيوم واحد يحمل فيه بضاعته ويرحل. وفي وارسو أفتضح أمره ثانية على يد طبيب آخر في كتيب سماه "نزع القناع عن كاليوسترو" (1780)، ولكن قبل أن يدركه كان قد انطلق إلى فيينا وفرانكفورت وستراسبورج. وهناك سحر الكردينال الأمير لوي-رينيه-إدوارد روهان، الذي وضع في قصره تمثالاً نصفياً لزعيم الماسون الأكبر كتب عليه "كاليوسترو المقدس" وأتى به الكردينال إلى باريس، وتورط النصاب الكبير على غير قصد منه قصة القلادة الماسية. فلما انكشفت هذه الخدعة زج بكاليوسترو في الباستيل؛ ولكن سرعان ما أفرج عنه لبراءته، ولكنه أمر بمغادرة فرنسا (1786). فوجد زبائن جدداً في لندن. وزار جوته أثناء ذلك أم كاليوسترو في صقلية وأكد لها أن ولدها الذائع الصيت قد أطلق سراحه وأنه في مأمن (35) (1).
وفي لندن حيث تكاثر المشككون في أمره انتقل الكونت والكونتيسة إلى بازل وتورين وزوفبريتو وترنت، يشتبه فيهما في كل بلد ثم يطردان. وتوسلت إليه سيرافينا أن يأخذها إلى روما لتصلي عند قبر أمها، فوافق الكونت. وفي روما حاولا أن يقيما محفلاً لماسونيته المصرية، فقبضت عليهما محكمة التفتيش (29 ديسمبر 1789)، واعترفا بأنهما دجالان نصابان، فحكم على كاليوسترو بالسجن مدى الحياة، وأنهى أيامه في قلعة سان ليو قرب بيزارو في 1795 وقد بلغ الثانية والخمسين. وهكذا كان هو أيضاً جزءاً من صورة القرن المستنير.
ب- كازانوفا
أضاف جوفاني ياكوبو كازانوفا لقب "دي سينجالت" الفخم لاسمه
_________
(1) أنبهر جوته بحياة كاليوسترو وجعلها موضوعاً لتمثيلية متوسطة الجودة سماها "زعيم الماسون الأكبر".(40/180)
بتفنيط عشوائي للأبجدية، باعتبار هذا اللقب تشريفاً يفيد في أبهر الراهبات وتحدى حكومات أوربا. ولد لممثل وممثلة في البندقية عام 1725، وظهرت عليه منذ طفولته أمارات النشاط الذهني. تتلمذ لاحتراف القانون، وزعم أنه نال الدكتوراه في جامعة بادوا وهو في السادسة عشرة. وعلينا في كل خطوة من "مذكراته" الشائقة أن نكون على حذر من شطط خياله، ولكنه يقص قصته بصراحة يدين بها نفسه إدانة تحملنا على تصديقه حتى ونحن نعلم أنه يكذب.
وبينما كان في بادو حقق أول غزواته-وهي بتينا، "فتاة حلوة في الثالثة عشرة" وأخت لمعلمه الكاهن الطيب جوتسي. فلما مرضت بالجدري عني بها كازانوفا وأصيب بالمرض. ويزعم في روايته أن أعمال الرحمة التي كان يقوم بها كانت تعدل غزواته الغرامية. وحين ذهب في شيخوخته إلى بادو لآخر مرة، "ألفيتها عجوزاً، مريضة، فقيرة، وقد ماتت بين ذراعي". (37) وكل عشيقاته تقريباً يصورهن مغرمات به إلى النهاية.
على أنه عانى من فقر مذل رغم درجته القانونية. مات أبوه، وكانت أمه تمثل في مدن بعضها وصل في بعده حتى سانت بطرسبورج، وتنساه عادة. وكسب بعض المال من عزف الكمان في الحانات والشوارع. ولكنه وهب القوة كما وهب الوسامة والشجاعة. فلما أصيب السناتور البندقي زوان براجادينو (1746) بالنقطة وهو يهبط السلم، احتمله ياكوبو بين ذراعيه وأنقذه من سقطة فجائية. وبعدها بسط عليه السناتور حمايته في مآزق كثيرة وزوده بالمال لزيارة فرنسا والنمسا. وفي ليون انضم إلى الماسون الأحرار، وفي باريس "أصبحت رفيقاً، ثم رئيساً للطائفة". (ونحن نلحظ في شيء من الدهشة قوله "في زمني لم يكن في فرنسا من يعرف كيف يبالغ في الأسعار") (38).
وفي 1753 عاد إلى البندقية، وسرعان ما لفت نظر الحكومة باحترافه السحر والتنجيم. وبعد عام أبلغ محقق رسمي مجلس الشيوخ عنه فقال:(40/181)
لقد أفلح في التسلل إلى قلب الشريف زوان براجادينو .... وابتز ماله ابتزازاً باهظاً ..... وقد أخبرني بنديتو بيزانو أن كازانوفا بسبيله إلى أن يصبح فيلسوفاً قبلانياً وأنه يحاول التكسب بالحجج الزائفة يموه بها في مهارة على عقول ضحاياه ..... وقد أمكنه ..... إقناع براجادينو بأن في استطاعته استحضار ملاك النور لينفعه. (39)
ويضيف التقرير أن كازانوفا قد بعث إلى أصحابه بكتابات تشي بحقيقته مفكراً ملحداً. ويقول كازانوفا "لقد وقر في نفسي سيدة تدعى مدام ممنو أنني أعلم ولدها مبادئ الإلحاد (40) ".
"أن التهم التي وجهت إليّ تتعلق بالكرسي (البابوي) المقدس، والكرسي المقدس وحش ضارٍ من الخطر أن تمسه. وكانت هناك ظروف معينة ... جعلت من الصعب عليهم حبسي في السجون الكنسية التابعة لمحكمة التفتيش، ولهذا السبب تقرر في النهاية أن تناط محكمة التفتيش الدولة "بمحاكمتي (41) ".
ونصحه براجادينو بالرحيل عن البندقية، ولكن كازانوفا أبى. وفي الغداة قبض عليه، وصودرت أوراقه، وحبس دون محاكمة في البيومبي "ألواح الرصاص" هو اسم سجن الدولة البندقي نسبة إلى ألواح الرصاص المسقوف بها.
"حين جن الليل استحال على أن أغمض عيني لأسباب ثلاثة: أولها الفئران، وثانيها الطنين الرهيب الذي تحدثه ساعة كاتدرائية القديس مرقس التي كانت تدق وكأنها في حجرتي، وثالثها ألوف البراغيث التي أغارت على بدني تعضني وتلدغني وتسمم دمي بحيث أصابتني انقباضات عنيفة بلغت حد التشنجات" (42).
وحكم عليه بالسجن خمس سنين، ولكنه هرب بعد أن ظل رهين محبسه خمسة عشر شهراً (1757) بفضل سلسلة معقدة من الحيل(40/182)
والمخاطرات والأهوال أصبحت روايته لها جزءاً من "عدة نصبه" في كثير من الأقطار.
فلما عاد ثانية إلى باريس اشتبك في مبارزة مع فتى يدعى الكونت نيكولا دلاتور دوقرن وأصابه بجرح، ثم شفاه بمرهم "سحري"، وكسب صداقته، فقدمه إلى عمة له غنية تسمى مدام دورفيه، كانت شديدة الإيمان بقوى السحر، ومؤملة أن تستعين بها على تغيير جنسها. واستغل كازونوفا سذاجتها، ووجد فيها وسيلة خفية للإثراء.
"إنني لا أستطيع وقد شخت الآن أن أرجع ببصري إلى هذا الفصل من حياتي دون أن أخمر خجلاً" (43). وهذا اتصل على مدى فصول كثيرة أخرى من كتابه. وأضاف إلى دخله بالغش في لعب الورق، وتنظيم يانصيب للحكومة الفرنسية، وبالحصول على قرض لفرنسا من الأقاليم المتحدة. وفي الرحلة من باريس إلى بوكسل قرأت كتاب هلفتيوس "في الروح" طول الطريق. (44) (ويقدم للمحافظين مثالاً مقنعاً من إنسان حر التفكير انقلب رجلاً فاسقاً وإن كانت المرحلة التالية هي العكس في أغلب الظن). وكان في كل محطة يلتقط خليلة، وفي كثير من المحطات يجد خليلة سابقة، وبين الحين والحين يقع مصادفة على ذرية له لم يقصد إنجابها.
وزار روسو في مونمورنسي، وفولتير في فرنيه (1760) وقد سبق أن استمتعنا بشطر من ذلك الحديث الخاص بينهم. وإذا جاز لنا أن نصدق كازانوفا، فإنه اغتنم الفرصة ليوبخ فولتير على فضحه سخافات الميثولوجيا الشعبية:
كازانوفا: هيك نجحت في القضاء على الخرافة، فماذا تحل محلها؟
فولتير: يعجبني هذا! حين أخلص البشرية من وحش ضار يفترسها، أتسألني ماذا أحل محله؟(40/183)
كازانوفا: إن الخرافة لا تفترس البشرية، بل أنها على العكس ضرورية لوجودها.
فولتير: ضرورية لوجودها! ذلك تجديف مخيف. إنني أحب البشر، وأود أن أراهم أحراراً سعداء مثلي. والخرافة والحرية لا يمكن أن يسيرا يداً بيد. أتظن أن العبودية تؤدي إلى السعادة؟
كازانوفا: إن ما تريده إذن هو سيادة الشعب؟
فولتير: معاذ الله! يجب أن يكون للجماهير ملك يحكمها.
كازانوفا: في هذه الحالة تكون الخرافة ضرورية، لأن الشعب لن يعطي رجلاً هو مجرد إنسان حق حكمه ...
فولتير: أريد ملكاً يحكم شعباً حراً، ويلتزم قبله بشروط متبادلة تمنع أي ميل من جانبه للاستبداد.
كازانوفا: يقول أديسون أن هذا الملك ... يستحيل وجوده. وأنا متفق مع هوبز. فعلى المرء أن يختار من الشرين أقلهما ضرراً. والأمة التي تحررت من الخرافة هي أمة من الفلاسفة والفلاسفة لا يعرفون كيف يطيعون. وما من سعادة ترجى لشعب لا يسحق ويذل ويظل مصفداً بالقيود.
فولتير: هذا شنيع! وأنت فرد في الشعب! ...
كازانوفا: إن العاطفة المسيطرة عليك هي حبك للبشرية. وهذا الحب يعميك. أحب البشرية، ولكني أحبها كما هي. فالبشرية ليست قابلة للمزايا التي تود أن تغدقها عليها، فهذه المزايا لن تزيدها إلا تعاسة وانحرافاً .....
فولتير: يؤسفني أن يكون لك هذا الرأي السيئ في إخوانك في الإنسانية (45).
وكان كازانوفا يشق طريقه أينما ذهب إلى بيت من البيوت الأرستقراطية،(40/184)
لأن الكثير من النبلاء الأوربيين كانوا ماسوناً، أو روزيكروشيين أو مدمنين على علوم السحر. وهو لم يقتصر على ادعاء العلم الغيبي في هذه الميادين، بل أضاف إلى دعواه القوام الممشوق، والوجه المتميز (وإن لم يكن وسيماً) والتمكن من اللغات، وتأكيد الذات الخداع، ومعيناً من القصص والفكاهات، وقدرة خفية غامضة على الكسب في لعب الورق أو ألعاب الكازينوات. وكان حيثما ذهب يساق عاجلاً أو آجلاً إلى السجن أو حدود البلاد. واضطر بين الحين والحين إلى الاشتباك في مبارزة، ولكنهم كالأمة في مراحل تاريخها لم يخسر قط.
وأخيراً غلبه الحنين إلى وطنه. وكان حراً في السفر أينما شاء في إيطاليا إلا في البندقية. والتمس الإذن مراراً بالعودة، وأخيراً منحه، وفي 1775 عاد إلى البندقية. واستخدمته الحكومة جاسوساً، وكان نصيب تقاريره الإهمال لاحتوائها على الكثير جداً من الفلسفة والقليل جداً من المعلومات، فرفت. وانتكس إلى عادات صباه وكتب هجاء للشريف جريمالدي، فأمر بأن يبرح البندقية وإلا واجه السجن مرة أخرى في "ألواح الرصاص". وفر إلى فيينا (1782)، ثم إلى سبا، ومنها إلى باريس.
وهناك التقى بالكونت فون فالدشتين، الذي أحبه فدعاه إلى العمل أميناً لمكتبته في قلعة دوكس بيوهيميا. وكانت فنون كازانوفا في العشق والسحر وخفة اليد قد وصلت إلى نقطة تقلصت فيها عائداتها، فقبل الوظيفة براتب ألف فلورين في العام. فلما وصل وتسلم منصبه، أحزنه أن يتكشف أنه أعتبر خادماً، وأن يتناول غداءه في قاعة الخدم. وفي دوكس أنفق أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره. وهناك كتب "تاريخ حياته" "أولاً لتخفيف هذا الركود الميت الذي يقتلني في بوهيميا الخاملة هذه ... وقد استطعت بالكتابة عشر ساعات أو اثنتي عشرة كل يوم أن امنع الحزن الأسود من نهش قلبي المسكين وإتلاف عقلي" (46). وقد زعم الصدق المطلق في روايته،(40/185)
وهي في كثير من الحالات تتفق والتاريخ في الهزء والسخرية، بيد أننا كثيراً ما نفتقر إلى إثبات صحة روايته، ولعل ذاكرته تداعت بينما قوي خياله. ولا نملك إلى القول بأن كتابه من أكثر مخلفات القرن الثامن عشر فتنة واستهواء للقارئين.
وقد عمر كازانوفا حتى ناح على موت النظام القديم فقال: "إيه يا فرنسا العزيزة الجميلة! البلد الذي كانت الأمور في تلك الأيام تجري فيه رخاء رغم أوامر الاعتقال الملكية، ورغم السحرة ورغم فقر الشعب! أي فرنسا العزيزة، إلام انتهى أمركِ اليوم؟ لقد أصبح الشعب ملكاً عليك، الشعب الذي هو أشرس الحكام قاطبة وأشدهم طغياناً" (47).
وهكذا في آخر أيامه، وهو 4 يونيو 1798، أختتم حياته في تقوى أتته في أوانه. "لقد عشت فيلسوفاً وهاأنذا أموت مسيحياً" (48). لقد حسب الفسق فلسفة، ورهان بسكال مسيحية.
5 - فنكلمان
ولننظر الآن إلى رجل مثالي على سبيل المقابلة بينت الأضداد.
وهذا الرجل الذي كان أعظم الشخصيات أثراً في تاريخ الفن في هذا العهد لم يكن فناناً بل دارساً كرس حياته الناضجة لدراسة تاريخ الفن، وحرك موته الغريب روح أوربا المثقفة. ولد في 9 ديسمبر 1717 بمدينة ستندال في براندنبورج. وكان أبوه الإسكافي يأمل أن يحترف ابنه حرفته، ولكن يوهان رغب في درس اللاتينية. وقد أدى نفقات تعليمه الباكر بالغناء. ثم تقدم سريعاً مدفوعاً بشوقه واجتهاده. فكان يعلم التلاميذ الذين تنقصهم الكفاية، ويشترى الكتب والطعام. فلما كف بصر معلمه كان يوهان يقرأ له، وراح يلتهم مكتبة أستاذه. وأجاد تعلم اللاتينية واليونانية، ولم يكن ميالاً إلى اللغات الأجنبية الحديثة. وحين سمع بأن مكتبة يوهان ألبرت فابريكوس الدارس الكلاسيكي الشهير ستباع بالمزاد لوفاته، سار 178 ميلاً من برلين إلى همبرج، واشترى روائع الكتب اليونانية واللاتينية، وحملها على كتفه عائداً إلى برلين (49). وفي 1738 دخل جامعة هاله طالب لاهوت، ولم يكن به شغف باللاهوت، ولكنه اغتنم الفرصة(40/186)
لدراسة العبرية. وبعد أن تخرج اكتسب قوته بتعليم التلاميذ الخصوصيين وقرأ مرتين كل قاموس بيل "القاموس التاريخي والنقدي". ولعل هذه القراءة خلفت بعض الأثر على إيمانه الديني. وفي عام واحد قرأ الألياذة والأوديسة ثلاث مرات من أولهما لآخرهما باليونانية.
وفي 1743 قبل دعوة ليكون مديراً معاوناً لمدرسة بزيهاوزن في ألتمارك، بمرتب قدره 250 طالراً في العام. وكان في النهار يعلم "أطفالاً جرب الرؤوس أبجديتهم. بينما كنت ... أتحرق شوقاً لمعرفة "الجنين"، وأردد تشبيهات من هومر" (50). وكان في المساء يدرس لتلاميذه الخصوصيين ليحصل على نفقات مسكنه وطعامه، ثم يعكف على الروائع الكلاسيكية حتى منصف الليل وينام حتى الرابعة، ثم يعود إلى روائعه الكلاسيكية ثانية، ثم يخرج متعباً ليدرس. وقبل بابتهاج دعوة وجهها إليه الكونت فون بون بوناو ليكون مساعداً لأمين مكتبة في قصره الريفي بنوتهنتز، قرب درسدن، لقاء السكن وخمسين إلى ثمانين طالراً في العام (1748). هناك ألفى المتعة البالغة في مجموعة من أضخم مجموعات الكتب في ذلك العصر.
وممن كانوا يختلفون إلى هذه المكتبة الكردينال أركنتو، القاصد البابوي في بلاط ناخب سكسونيا. وقد راعه علم فنكلمان وحماسته، ونحوله وشحوبه. فقال له "ينبغي أن تذهب إلى إيطاليا". وأجاب يوهان أن هذه الرحلة غاية مشها قلبه، ولكن موارده تعجز عن نفقتها. ودعاه القاصد لزيارته بدرسدن، فذهب إليه مرات. وقد أبهجه تفقه اليسوعيين الذين التقى بهم في بيت القاصد وأدبهم. وعرض عليه الكردينال باسونيي-وكان يقتني 300. 000 مجلد في روما-وظيفة أمين مكتبته هناك، لقاء السكن والمعيشة وسبعين دوقاتية، ولكن الوظيفة لا يمكن أن يشغلها غير كاثوليكي. ووافق فنكلمان على الدخول في الكاثوليكية. وإذا كان قد أعرب من قبل عن إيمانه بأنك "بعد الموت ليس هناك ما يخيفك، ولا ما تؤمل فيه" (51) فإنه لم يجد صعوبات لاهوتية في هذا التحول، وكل صعوباته كانت اجتماعية. وقد كتب إلى صديق لأمه يقول "إن حب(40/187)
المعرفة، وهذا الحب وحده، هو الذي يستطيع إغرائي بالاستماع إلى الاقتراح الذي رض علي" (52) (1).
وفي 11 يوليو 1754، في مصلى القاصد في درسدن، أعلن إيمانه الجديد، واتخذت الترتيبات لرحلته إلى روما. ولأسباب شتى مكث في درسدن عاماً آخر، ساكناً دارساً مع الرسام-النحات-الحفار آدم وايزن. وفي مايو 1755 نشر في طبعة محدودة لم تتجاوز خمسين نسخة أول كتبه "خواطر في تقليد الآثار اليونانية في الرسم والنحت". وقد وصف فيه الآثار التي جمعت في درسدن، ورأى بالإضافة إلى هذا الوصف أن فهم اليونان للطبيعة كان أسمى من الفهم العصري لها، وهذا هو السر في التفوق الهليني في الفن. ثم اختتم بقوله "إن سبيلنا الوحيد إلى العظمة، بل إلى العظمة التي لا تحاكي ... هو بمحاكاة القدماء" (56). ومن رأيه أن روفائيل دون جميع الفنانين المحدثين هو الذي حقق هذا الهدف الأسمى. وكان هذا الكتيب علامة بداية للحركة الكلاسيكية الجديدة في الفن الحديث. وقد لقي قبولاً طيباً، وأجمع كلويشتوك وجوتشيد على الإشادة بعلمه وأسلوبه. وحصل الأب رواخ، كاهن الاعتراف الخاص بفردريك أوغسطس، لفنكلمان من الملك الناخب على معاش من مائتي طالر لكل من العامين التاليين، وأعانه بثمانين دوقاتية لرحلته إلى روما. وأخيراً، في 20 سبتمبر 1755، انطلق فنكلمان إلى إيطاليا في صحبة يسوعي شاب. وكان قد بلغ السابعة والثلاثين.
_________
(1) أنظر "باتر" في مقاله الرائع عن فنكلمان "لعله كان يحس بعراقة ما وبشيء أشبه بالفخامة الوثنية في المذهب الكاثوليكي الروماني. وهو في انصرافه عن البروتستنتية المعقدة التي كانت مبعث سأم له في شبابه، وقد يدور في خلده أنه بينما كانت روما قد راضت نفسها على النهضة، فإن المبدأ البروتستانتي في الفن قد عزل ألمانيا عن تقليد الجمال العظيم" (53). وكتب جوته في كتيب عن فنكلمان (1804) "إن المزج الوثني يشع من جميع تصرفاته وكتاباته ... ولا بد أن نذكر بعده عن كل أسلوب مسيحي في التفكير، لا بل كرهه العام لهذا الأسلوب، حين نحاول الحكم على هذا التحول المزعوم في مذهبه. فالفريقان اللذان انقسم إليهما الدين المسيحي كانا في نظره أمراً لا أهمية له على الإطلاق" (54). "ولا تعني كلمة "وثني" بالضرورة الإلحاد. فطالما أكد فنكلمان إيمانه بالله، ولكن "بإله جميع الألسنة وأمم والمذاهب". (55)(40/188)
فلما بلغ روما لقي عنتاً في جمرك المدينة الذي صادر عدة مجلدات لفولتير من حقائبه، على أنها أعيدت له بعد ذلك. ووجد سكناً من خمسة مصورين في بيت على التل الينسي-الذي قدسته ظلال بوسان وكلود لوران. والتقى بمنجز، الذي أعانه بشتى الطرق الكثيرة. وأطلق له الكاردينال باسيونيي في العمل بمكتبته، ولكن فنكلمان كان إلى الآن يرفض أي وظيفة ثابتة لرغبته في ارتياد فن روما. فحصل على إذن بزيارات متكررة لبلفيدير الفاتيكان وأنفق الساعات أمام تماثيل أبوللو، وهرقول النصفي، واللاوكون، واتخذت أفكاره شكلاً أوضح بعد تأمله في هذه المنحوتات. وزار تيفولي وفراسكاتي وغيرهما من الضواحي ذات الأطلال القديمة. وأكسبه حبه للفن القديم صداقة الكردينال الساندور الباني، وأعطاه الكردينال أركنتو مسكناً في البلاتسوديللا كانسلليريا-وهو المقر البابوي، وفي مقابل هذه المنحة أعاد فنكلمان تنظيم مكتبة القصر. وأصبح الآن في سعادة غامرة. قال "لقد كان الله مديناً لي بهذا، فأنني قاسيت كثيراً جداً في شبابي" (57). وكتب إلى صديق في ألمانيا كما كان يكتب عشرات الزوار الكبار:
"كل شيء صفر إذا قورن بروما! لقد ظننت فيما مضى أنني درست كل شيء دراسة كاملة، وهاأنذا أدرك بعد مجيئي أنني لم أعرف شيئاً. لقد أصبحت هنا أصغر مما كنت يوم خرجت من المدرسة إلى مكتبة بوناو. فإذا شئت أن تتعلم كيف تعرف الرجال، فهذا مكانك، هنا رؤوس ذات مواهب لا حد لها، رجال أوتوا قدرات فائقة، وآيات في الطابع الرفيع الذي خلعه اليونان على تماثيلهم ... وكما أن الحرية التي يتمتع بها الناس في الدول الأخرى ليست إلا ظلاَ إذا قيست بحرية روما-وهو ما قد تخاله مفرقة-كذلك تجد في هذه المدينة أسلوباً مختلفاً في التفكير. فروما في اعتقادي هي المدرسة العليا للعالم، وأنا أيضاً امتحنت فيها وهذبت" (58).
وفي أكتوبر 1757 غادر روما قاصداً نابلي مزوداً بخطابات تعريف.(40/189)
وسكن هناك ديراً ولكنه كان يتناول طعامه مع رجال كتانوكي وجالياني. وزار مدناً عابقة بأريج التاريخ القديم-بوتسولي، وبايا، وميزينوم، وكاوماي-ووقف مدهوشاً أمام هياكل بايستوم المهيبة. وفي مايو 1758 قفل إلى روما محملاً بذخائر العلم بالآثار. في ذلك الشهر استدعى إلى فلورنسة ليصنف ويوصف المجموعة الضخمة من الجواهر، والمحفورات، والخرائط، والمخطوطات التي خلفها البارون فليب فون ستوش. وشغلته المهمة قرابة عام وكادت تهدم صحته. ومات أركنتو أثناء ذلك، واجتاح فردريك الأكبر أرض سكسونيا، وفقد فنكلمان مسكنه في الكانسليريا ومعاشه من الملك الناخب التعس. وخف ألباني لنجدته إذ قدم له أربع حجرات وعشرة أسكوزات في الشهر لقاء العناية بمكتبته. وكان الكاردينال نفسه اثرياً متحمساً، وفي كل أحد كان يركب مع فنكلمان لتصيد التحف القديمة.
وأضاف فمكلمان جديداً إلى سمعته بإصداره كتيبات عميقة في هذه الموضوعات المفردة "في جمال الأعمال الفنية، ملاحظات على عمارة القدماء، وصف لتمثال هرقول النصفي في البلفدير، دراسة الآثار الفنية". وفي 1760 حاول ترتيب رحلة إلى اليونان مع الليدي أورفورد، زوجة أخي هوراس ولبول؛ ولكن الخطة أخفقت. كتب يقول "ما من شيء في الدنيا تقت إليه بحرارة كهذه الرحلة. وما كنت لأضن بإصبع من أصابعي تقطع، لا بل وددت أن أجعل من نفسي كاهناً لسيبيل (إلاهة الطبيعة) لو استطعت أن أشهد هذا البلد في فرصة كهذه" (50) أما كهنة سيبيل فكان الشرط فيهم أن يكونوا خصياناً، ولكن هذا لم يمنع فنكلمان من التنديد بأمر قديم للحكومة الرومانية يشترط تغطية الأعضاء الداخلية لابوللو واللاردكون وغيرهما من التماثيل في البلفدير بمآزر المعدن، وقد أعلن "إنه لم يشرع في روما طوال عهدها مثل هذه السنة الغبية".
وكان للإحساس بالجمال من السلطان عليه ما ألغى تقريباً كل وعي فيه بالجنس. فإذا شعر بتفصيل جمالي فإن تفضيله يؤثر جمال جسم الذكر المكتمل(40/190)
الرجولة عن حلاوة المرأة الهشة العابرة. ويبدو أن تمثال هرقل النصفي (التورسو) قد أثر فيه أكثر مما أثرت خطوط جسد فينوس الناعمة الملفوفة. وقال كلمة طيبة في الخناثي-على الأقل في التمثال الذي شهده في فيللابورجيزي (60). وقال مؤكد "لم أكن في حياتي عدوا للجنس الآخر، ولكن أسلوب حياتي أبعدني عن كل اتصال به. ولعلي كنت أتزوج، وأكبر ظني أنه كان واجباً على أن أفعل، لو أنني عدت إلى زيارة وطني الأول، أما الآن فإن هذا لا يكاد يخطر لي ببال" (61). وفي زيهاوزن كانت صداقته لتلميذه لامبريشت تقوم مقام التعلق بالمرأة، وفي روما عاش مع رجال الكنيسة، وندر أن التقى بالشباب مع النساء. وذكروا "إنه كان يتناول العشاء في السبوت فترة طويلة مع فتى من روما، نحيل وسيم الطلعة، فارع القامة، يتحدث معه عن الحب" (62). وقد "رسمت بناء على طلبه صورة لمغن جميل من الخصيان" (63) ثم إنه أهدى للشريف الفتى البارون فريدرش راينهولد فون برج "رسالة في القدرة على الإحساس بالجمال"، "وقد وجد القراء فيها وفي خطاباته لبرج لغة الحب لا لغة الصداقة، وهي في الواقع كذلك" (64).
وفي 1762 و1764 عاد إلى زيارة نابلي. وقد قدم للدارسين الأوربيين قي "خطاب عن آثار هوكولانيوم" (1762) و"تقرير عن أحدث كشوف هوكولانيوم" (1764) أول معلومات منظمة وعلمية عن الكنوز التي تم الحفر عنها في تلك المدينة وفي بومبي. وكان الآن معترفاً به أعظم حجة في الفن الكلاسيكي القديم. وفي 1763 عين بالفاتيكان في وظيفة "أثرى الحجرة الرسولية" وأخيراً، في 1764، نشر المجلدات الضخمة التي كان يؤلفها ويحيلها بالصور طوال سنوات سبع Geschichte der Kunst des Alterthums " تاريخ الفن القديم". وقد أحتوى الكتاب على أخطاء كثيرة رغم ما أنفق في إعداده من وقت وجهد، واثنان من هذه الأخطاء كانا خدعتين قاسيتين. ذلك أن صديقه منجز كان قد درس رسمين هما وليدا خيال منجز وزعم(40/191)
إنهما نسختان دقيقتان لصورة أثرية. وأدرج فنكلمان الصورتين في كتابه، واستعمل الرواسم وأهدى الكتاب كله لمنجز. وتضمنت المترجمات التي ظهرت سريعاً في الفرنسية والإيطالية كل الأخطاء تقريباً، مما أشعر فنكلمان بالخزي، فكتب إلى بعض أصحابه "إننا اليوم أحكم مما كنا بالأمس. ليتني أستطيع أن أريك كتابي "تاريخ الفن" وقد نقح تنقيحاً كاملاً ووسع توسيعاً كبيراً! لم أكن قد تعلمت الكتابة بعد حين شرعت في تأليفه فلم تكن الأفكار مترابطة بدرجة كافية، وفي مواضع كثيرة افتقار إلى الانتقال من السابق إلى اللاحق-وهو ملاك الفن الأسمى" (65). ومع ذلك أنجز الكتاب عملاً غاية في العسر-هو إجادة الكتابة في الفن. وقد رفعه حبه الشديد لموضوعه إلى مستوى الأسلوب الجميل.
وقد اتجه حرفياً إلى تاريخ الفن لا إلى الفنانين، وهو موضوع أيسر مأخذاً بكثير. وبعد أن مسح مسحاً متعجلاً الفن المصري والفينيقي واليهودي والفارسي والاتروري، أطلق العنان لحماسته الفياضة في 450 صفحة تناولت فن اليونان القديم. وفي فصول ختامية ناقش الفن اليوناني في عهد الرومان. وكان توكيده دائماً على اليونان لأنه كان مقتنعاً بأنهم عثروا على أسمى صور الجمال: في رهافة الخط لا في لمعة اللون، في تمثيل الأنماط لا الأفراد، في طبيعة الأجسام ونبلها، في انضباط التعبير العاطفي، في هدوء المظهر وصقله، في اطمئنان القسمات حتى في الحركة، وفوق هذا كلها في النسبة والعلاقات المتسقتين بين الأجزاء المتميزة في كل موحد توحيداً منطقياً. لقد كان الفن الإغريقي في رأي فنكلمان هو عصر العقل مجسماً.
وقد ربط تفوق الفن الإغريقي بالاحترام العظيم الذي كان الإغريق يكنونه بامتياز الجسد في الجنسين. "كان الجمال امتياز يقضي إلى الشهرة، لأننا نجد تواريخ الإغريق تذكر أولئك الذين تميزوا به" (66)، على نحو ما تفعل التواريخ الآن في ذكر كبار الساسة والشعراء والفلاسفة. وكانت هناك مباريات في الجمال عند الإغريق كما كانت مباريا للألعاب الرياضية. وعند فنكلمان أن الحرية السياسية، وتزعم اليونان لعالم البحر المتوسط(40/192)
قبل حرب البلوبونيز، هذان أفضيا إلى مركب من العظمة والجمال، وأنتجا "الطراز الفخم" في فيدياس مكانه لبراكستليس، وبدأ الاضمحلال. وكانت حرية الفن جزءاً من الحرية اليونانية، وتحرر الفنانون من القواعد الصارمة وجزءوا على خلق أجساد مثالية لا توجد في الطبعة. فلم يقلدوا الطبيعة إلا في التفاصيل، وكان العمل الفني كله مجموعة كمالات لا توجد في أي شيء طبيعي إلا جزئياً. لقد كان فنكلمان رومانتيكياً يبشر بالشكل الكلاسيكي.
ولقي كتابه القبول في أوربا بأسرها باعتباره حدثاً في تاريخ الأدب والفن. وأرسل إليه فردريك الأكبر دعوة (1765) للحضور إلى برلين مشرفاً على المكتبة الملكية وإدارة الآثار. ووافق فنكلمان نظير ألفي طالر في العام، وعرض فردريك ألفاً فقط، وأصر فنكلمان على موقفه، وذكر فردريك بقصة المغني الخصي الذي طالبه بمبلغ ضخم نظير أغانيه، فشكا فردريك من أنه يطلب أكثر مما يكلفه خير قواده، فكان رد المغني "إذن فليكلف قائده بالغناء".
وفي 1765 عاد فنكلمان لزيارة نابلي، هذه المرة في صحبة جون ولكز الذي كان قد جعل أوربا تدوي بتحديه للبرلمان ولجور الثالث. وبعد أن جمع المزيد من المعلومات عاد إلى روما وأكمل كتابه الهام الثاني "آثار قديمة غير منشورة" (1767). وكان أصدقاؤه من الأحبار قد شكوا من كتابته "تاريخه" بالألمانية التي لم تكن إلى ذلك الحين أداة كبرى من أدوات الدرس فأبهجهم الآن استعماله الإيطالية، وانتشى المؤلف السعيد، الجالس بين كردينالين، بقراءة جزء من كتابه في كاستل جاندولفو على كلمنت الثالث عشر وجمع غفير من الأعيان. على أنه أتهم بحيازته كتباً مهرطقة وإبدائه ملاحظات (68)، ولم يحصل من البابوية قط على المنصب الذي شعر بأنه جدير به.(40/193)
وقرر أن يزور ألمانيا (1768) ربما مؤملاً أن يحصل فيها على مورد يمكنه من رؤية بلاد اليونان. ولكن استغراقه الشديد في الفن الكلاسيكي وأساليب الحياة الإيطالية أفقده اللذة في وجوده بأرض الوطن، فتجاهل مناظرها الطبيعية وساءه معمارها وزخارفها الباروكية. وكان يردد مائة مرة لرفيق رحلته (69)، "لنعد إلى روما" وقد احتفى به القوم في ميونخ، وأهدوه جوهرة أثرية رائعة. وفي فيينا أعطته ماريا تريزا مداليات غالية، ودعته الإمبراطورة والأمير فون كاونتز للإقامة هناك، ولكنه ما لبث أن قفل إلى إيطاليا في 18 مايو وهو لم يكد يغيب عنها شهراً واحداً.
وفي تريستا تعطل انتظاراً لسفينة يستقلها إلى أنكونا. وأثناء أيام الانتظار هذه تعرف إلى مسافر آخر يدعى فرانشيسكون أركانجيلي. وكانا يتمشيان معاً ويشغلان حجرتين متجاورتين في الفندق. وسرعان ما أراه فنكلمان الميداليات التي تلقاها في فيينا. على أنه-على قدر علمنا-لم يريه كيسه المملوء بالذهب. وفي صبيحة 8 يونيو 1768 دخل أركانجيلي حجرة فنكلمان، ووجده جالساً إلى منضدة، فألقى أنشوطة حول عنقه، ونهض فنكلمان واشتبك معه، فطعنه أركانجيلي خمس مرات وفر هارباً. وضمد طبيب جروحه ولكنه قال أنها مميتة. وتناول فنكلمان الأسرار المقدسة، وأملى وصيته، وأعرب عن الرغبة في أن يرى مهاجمه ويصفح عنه، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة في الرابعة بعد الظهر. وقد خلدت تريستا ذكراه بتماثل جميل.
وقبض على أركانجيلي في 14 يونيو. فاعترف بجريمته، وفي 18 يونيو صدر عليه هذا الحكم: "عقاباً على جريمة القتل التي اقترفتها على جسد يوهان فنكلمان .. قضت محكمة الجنايات الإمبراطورية بأن ... تحطم حياً على دولاب التعليم، من رأسك إلى قدميك حتى تفارق روحك بدنك" وكذلك صنع به في 20 يوليو.
كانت عيوب فنكلمان وثيقة الصلة بالجغرافيا. فلأنه لم يحقق قط أمله في زيارة اليونان في ظروف كانت ستتيح له الدرس المستفيض للآثار القديمة،(40/194)
كان يفكر في الفن اليوناني وكأنه الفن اليوناني الروماني كما وجده في المتاحف والمجموعات والقصور في ألمانيا وإيطاليا، وفي إطلال هركو لانيوم وبوميي. وتفضيله النحت على التصوير، وتمثيل الأنماط لا الأفراد، والهدوء لا التعبير عن العاطفة، وإيثاره النسبة والتناسق، ومحاكاة القدامى دون الابتكار والتجريب. كل هذا فرض على الدوافع الخلاقة في الفن عدة قيود أسفرت عن الانتقاص الرومانتيكي على ما في الأشكال الكلاسيكية من الصرامة الباردة. وقد أعماه التركيز على اليونان والرومان عن حقوق الطرز الأخرى وإمكاناتها، وكان يرى-كما رأى لويس الرابع عشر-إن رسوم الحياة اليومية التي أنتجتها الأراضي الواطئة ليست إلا من قبيل "الجروتسك".
ومع ذلك كان إنجازه رائعاً. فقد أحدث انتفاضة في كل دنيا الفن والأدب والتاريخ الأوربي بتمجيده لليونان. ولقد جاوز حدود النزعة الشبيهة بالكلاسيكية التي نزعت إليها إيطاليا النهضة وفرنسا لويس الرابع عشر إلى الفن الكلاسيكي ذاته. ونبه العقل الحديث إلى ما في النحت اليوناني من كمال ناصع مطمأن. وجعل من فوضى مئات التحف الرخامية والبرونزية والصور والمجوهرات والعملات آثار علمية. وكان تأثيره على أفضل العقول في الجيل التالي هائلاً. فقد ألهم لسبخ، ولو بالاعتراض على آراءه، وشارك في إنضاج هيردر وجوته، ولعله لولا الإلهام الذي انبعث من فنكلمان لما توج بيرون شعره بالموت في بلاد اليونان. وقد أعان هذا الهلنستي الغيور على تشكيل مبادئ منجز ونورفالدسن الكلاسيكية الحديثة، وتصوير جاك-لوي دافيد الكلاسيكي الحديث. يقول هيجل "يجب أن يعد فنكلمان واحداً من أولئك الذين عرفوا في ميدان الفن كيف يخلقون أداة جديدة للروح الإنسانية" (70).
6 - الفنانون
لم تكن إيطاليا في حاجة إلى حث يأتيها من فنكلمان، لأنها كانت تكرم أربابها، وكان فنها المتراكم يقوم في كل جيل بمهمة المدرسة التي تدرب مئات الفنانين من أقطار كثيرة. من ذلك أن كارلو ماركيوني صمم فيلا(40/195)
الباني الفخمة (1758) التي جمع فيها الكردينال الباني بإرشاد فنكلمان مجموعة عالمية الشهرة من المنحوتات القديمة-لا تزال غنية رغم طول لعدوان عليها. (فقد سرق نابليون 294 من تحفها لفرنسا، وربما كان هذا هو العلة في قول إيطالي مأثورة في تلك الأيام: ليس كل الفرنسيين لصوصاً، بل عدد عديد منهم).
وأنجبت البندقية أكثر كبار المصورين الإيطاليين في تلك السنة، وقد ورث ثلاثة منهم أسماء مشهورة. أولها أليساندرو لونجي بن بييترو، الذي أبرز عبقرية قومه بصور شخصية رقيقة منها صورتان لجولدوني (71). ولقد رأينا من قبل دومنيكو تيبولو يصحب أباه إلى أوجزبورج ومدريد، ويعرض في تواضع تخصصه على عامة الشعب. ففي مضيفة فيلا فالمارنا أستهل إنتاجه المستقل بصور المشاهد اليومية في حياة الريف، فصورة "الفلاحين يستجمون" أشبه بالقصيدة الرعوية، تصور أدواتهم وقد سقطت عنهم، وتصور استرخاءهم في دعة واطمئنان. وبعد أن مات أبوه في أسبانيا عاد دومنيكو إلى البندقية وأطلق العنان لأسلوب الواقعية الساخرة الذي اتخذه لنفسه (72).
وثالث هؤلاء هو فرانشسكو جواردي، صهر جامباتستا تيبولا، الذي تعلم التصوير من أبيه، وأخيه، وكانا ليتو. وقد فاته التقدير في جيله، ولكن لوحته "فيدوتي" لفتت أنظار النقاد ببراعتها في التقاط ونقل لطائف الضوء وتقلبات الجو، وربما أوحى ببعض الإلماعات للتأثريين الفرنسيين. ولم ينتظر تحذير كونستابل الذي قال "تذكر أن الضوء والظل لا يقفان ساكنين أبداً" (74) وكأنما صممت أجواء البندقية ومياهها لتهيئ هذه المناظر المضببة المنصهرة. وقد ذكروا أن جواردي كان أحياناً يحمل مرسمه في زورق ويسير به على القنوات الصغرى ليلتقط مناظر لم تبتذل بطول إلف الناس لها. وكان يرسم الناس بغير عناية، وكأنه شعر بأنهم ليسوا سوى(40/196)
تفاصيل سريعة الزوال إلى جوال المعمار المكين والبحر والسماء الدائمين رغم مل يطرأ عليهما من تغير. ولكنه كان قادراً على تصوير الناس أيضاً، فتراهم يزحمون البياتسيتا في لوحة "المهرجان (75) "، أو يسيرون في ثياب فاخرة في "صالة فيلارمونيتشي (76) " الكبرى. وكان أخوه جوفاني يعد أثناء حياتهما مصوراً أفضل منه. وكاناليتو أعظم من كليهما، أما اليوم فإن جواردي يعد بالبقاء بعد أن تخبو شهرة الاثنين.
وعاد أنطونيو روفائيل منجز من أسبانيا عام 1768، وسرعان ما أصبح قطب التصوير في روما. ولم يشك أحد في تفوقه على معاصريه من الفنانين. كانت الرؤوس المتوجة تسعى إلى ريشته. وتسعى إليها دون جدوى أحياناً. وكان فنكلمان يلقبه بروفائيل عصره، وأشاد بلوحته الرهيبة "جبل بارناس" "رائعة" خليقة بأن ينحني أمامها حتى روفائيل (77)، وضمن كتابه "تاريخ الفن القديم" تقديراً عظيماً لصديقه (78).
وأروع الصور التي رسمها منجز في هذه الفترة صورته الذاتية (1773؟) (79) ويبدو فيها وهو ما يزال قوياً وسيماً أسود الشعر معتزاً بنفسه في الخامسة والأربعين. وبعد أن أقام فترة ثانية في أسبانيا عاد (1777) ليقضي ما بقي له من أجل في إيطاليا. وواصل نجاحه، ولكن موت زوجته (1778) حطم روحاً كانت من قبل شديدة المرح. واجتمعت عليه شتى الأسقام فأضعفته، وأجهز عليه التجاؤه إلى المشعوذين والعلاجات السحرية. ومات عام 1779 وهو في الحادية والخمسين. وأقام تلاميذه لذكراه نصباً في البانتيون، إلى جوار تمثال روفائيل. واليوم لا تجد من يجل ذكراه من النقاد مهما صغر شأنه.
7 - الموسيقى
كانت موسيقى الكنيسة قد اضمحلت مع تحول الحياة شيئاً فشيئاً بعيداً عن الدين، ووصلتها العدوى من الأشكال الأوبرالية. وكانت موسيقى الآلات تزكو، من جهة بفضل التحسين الطارئ على البيانو، ولكن أهم(40/197)
من ذلك لشعبية الكمان (الفيولينه) المتزايدة. وغزا كبار العازفين من أمثال يوفياني وفيوتي ونارديني أوربا بقوس الكمان. وطاف موتزيو كلمنتي، الذي غادر إيطاليا ليعيش في إنجلترا عشرين سنة، بالقارة عازفا على الأرغن والبيانو، ونافس موتسارت تعليقاً على عزفه أن هذا العزف آلي أكثر مما يجب. وكان أنجح معلم للبيانو في القرن الثامن عشر، وقد أرسى أسلوب القرن التاسع عشر في تكنيك البيانو بسلسلة تمارينه ودراساته الشهيرة "خطوات إلى بارناس" موطن ربات الفنون Muses اللاتي اشتقت منهن الموسيقية اسمها. وورث جاتيانو بونياني تفنن أستاذه تارتيني في عزف الكمان وأسلمه إلى تلميذه جوفاني باتستا فيوتي، الذي عبر أوربا من ألها لآخرها ظافراً. ومازال في استطاعة آذاننا المؤثرة للقديم أن تستمتع بكونشرتو كمان فيوتي في مقام الصغير.
أم لويجي بوكيريني فقد رحل كما رحل الكثير من الإيطاليين عن البلد اكتظ بالموسيقيين ليلتمس جمهوراً من المستمعين الخارج. وقد سحر أسبانيا من 1768 حتى مماته في 1805 بآلة التشيللو كما سحرها من قبل فارنيللي بصوته وسكارلاتي ببيانه القيثاري (الهاريسكورد). وعلى مدى جيل كامل كانت مؤلفاته الآلية تنافس مؤلفات موتسارت في ظفرها بالإشادة والإطراء من شتى الدول، وكان فردريك وليم الثاني ملك بروسيا، وهو نفسه عازف تشيللو، يفضل رباعيات بوكيريني على رباعيات موتسارت (80). وقد ألف خلال سنيه الاثنتين والستين خمساً وتسعين رباعية وتربة، وأربعاً وخمسين ثلاثية، واثنتي عشرة خماسية للبيانو، وعشرين سمفونية، وخمسة كونشرتوات للتشيللو، وأوراتوريوين، وبعض الموسيقى الدينية. ويعرف نصف العالم حكته "الكنويت" وهي حركة من إحدى خماسياته. ولكن يجب أن يعرف العالم كله الكونشوتو بمقام B الشديد الانخفاض الذي ألفه للفيولو منشيللو والأوركسترا.
واستسلمت أوربا دون مقاومة (فيما عدا باريس مرة أخرى) للغناء الإيطالي الجميل "الملعلع" (البيل كانتو). فمن أكثر من عشر من مدن(40/198)
الحذاء السحري تدفقت مغنيات الأوبرا من أمثال كاترينا جابر بيللي والمغنين الخصيان أمثال جسبارو باكييروتي عبر الألب إلى فيينا وميونخ وليبرج ودرسن وبرلين وسانت بطرسبورج وهمبورج وبروكسل ولندن وباريس ومدريد. وكان باكييروتي آخر الخصيان المشهورين في عالم الغناء، وقد نافس فن فارنيللي جيلاً بأكمله. واسترق أسماع لندن أربعة أعوام، ومازال إطراء الإنجليز له يتردد في "يومية" (81) فاني بيرني، وفي كتاب أبيها "تاريخ الموسيقى العام (82).
وتبع المؤلفون الموسيقيون وقادة الأوركسترا الإيطاليون المغنين. فألف بييتر جوليبمي مائتي أوبر، وتنقل بين نابلي ودرسدن وبرنزويك ولندن ليقودها. وقد انحدر إلينا ذكر موسيقى آخر من نابلي هو نيكولا بيتشيني، ولكنه ذكر شوهته منافسة لم يرغب فيها مع جلوك في باريس، ولكن جالياني وصفه بأنه "رجل شريف جداً (83) ". وقد ظلت أوبراته الهازلة عقداً كاملاً للبدعة السائدة في نابلي وروما، لا بل إت أوبرا برجوليري "الخادمة التي انقلبت ربة البيت" لم تحظ بمثل الشعبية التي حظيت بها أوبرا بيتشيتي (1760). وكان جوميللي، وبرجوليزي، وليو، وجولبي قد لحنوا "أولبميادي" التي ألفها متاستازيو، فنهج بتشيني نهجهم وبزهم كلهم بإجماع الرأي. وفي 1776 قبل دعوة إلى باريس، أما الحرب الضارية التي تلت ذهابه إلى هناك فلابد أن تنتظر دورها الجغرافي، ولكن بتشيني سلك من أولها لآخرها مسلكاً غاية في المجاملة، مبقياً على صداقته مع منافسيه جلوك وساكيني رغم أن المتشيعين لهما هددوا حياته. (83) فلما أغرقت أحداث الثورة الفرنسية هذه الأوبرا الهازلة عاد بتشيني إلى نابلي. وهناك حددت إقامته في منزله أربع سنوات لتعاطفه مع فرنسا، وكانت أوبراته تقاطع بصيحات السخرية حتى توقف تمثيلها، وعاش في فقر يشين وطنه. وبعد أن فتح نابليون إيطاليا دعي إلى باريس مرة أخرى 1798، ومنحه القنصل الأول وظيفة شرفية متواضعة، ولكن أصابته بالشلل حطمته جسداً وروحاً، ومات في باريس عام 1800.(40/199)
أما أنطونيو ساكيني فقد ولد لأب كان صياد سمك في بوتسولي، وكان يدرب ليخلف أباه حين سمعه فرانشسكو دورانتي يغني، فانطلق به إلى نابلي تلميذاً ومحسوباً له. وقد أحتفى الجمهور بأوبراه "سمير أميدي" في التياترو أرجنتينو بروما احتفاء أبقاه مع ذلك المسرح سبع سنين مؤلفاً للأوبرات. وبعد أن أقام ردحاً في البندقية خرج ليغزو ميونخ وشتوتجارت ... ولندن 1772. وصفق الجمهور لأوبراته هناك، ولكن الدسائس المعادية أضرت بشعبيته، وأتلفت عاداته الفاجرة صحته. ولما انتقل إلى باريس أخرج رائعته Oedipe a Colone (1786) التي احتلت خشبة الأوبرا طوال 583 عرضاً في السنوات السبعة والخمسين التالية، وفي وسعنا أن نسمعها إلى اليوم على الهواء من حين لحين. وقد اقتبس عدة إصلاحات مما أدخله جلوك، وأقلع عن أسلوب الإيطاليين في جعل الأوبرا تلفيقاً من الألحان، وفي أوديبي تسيطر القصة على الألحان، وتضفي الكوراس التي استلهمتها من أوبوراتوريوات هندل الجلال والعظمة على الموسيقى والموضوع كليهما.
واتصل الغزو الغنائي بأنطونيو سالييري، عدو موتسارت وصديق بيتهوفن الشاب. ولد قرب فيرونا، وأرسل وهو في السادسة عشرة إلى فيينا (1766)، وبعد ثماني سنوات عينه يوزف الثاني مؤلفاً موسيقياً للبلاط، وفي 1788 رئيساً لفرقة المنشدين. في هذه الوظيفة فضل مؤلفين آخرين على موتسارت، ولكن القصة التي زعمت أن هذه المعارضة سببت انهيار موتسارت ليست إلا خرافة (85). فبعد موت موتسارت صادق سالييري الابن وأعان على تطوره الموسيقي. وقد قدم بيتهوفن عدة مؤلفات لسالييري، وقبل اقتراحاته بتواضع لم يعهد فيه.
أما "ألمع نجم في سماء الأوبرا الإيطالية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر (86) " فهو جوفاني بانيزيللو. كان أبناً لجراح بيطري في تارانتو، وقد أعجب معلموه اليسوعيين بصوته إعجاباً حملهم على إقناع أبيه بأن يوفده إلى معهد جماهير نابلي شديدي الحب لبتشيني، لذلك قبل دعوة وجهتها إليه كاترين الكبرى. وفي سانت بطرسبورج ألف (1782) Il Barbiere di Siviglia(40/200)
(حلاق إشبيلية)، وقد كتب لها من النجاح الخالد في أوربا كلها ما جعل الجمهور يلعن أوبرا عرضها نفس الموضوع بروما (5 فبراير 1816) الموسيقي روسيني لأنها تطفل غير كريم على أرض حرام لبايزيللو الذي كان لا يزال على قيد الحياة. وتوقف بايزيللو بفيينا في طريق عودته من روسيا عام 1784 فترة أتاحت له تأليف اثنتي عشرة "سمفونية" ليوزف الثاني، وأخرج أوبرا Il ne Teodoro " تيودور الملك" سرعان ما ظفرت بقبول عم كل أوربا. ثم عاد إلى نابلي رئيساً لفرقة المرتلين لفرديناند الرابع. وأقنع نابليون فرديناند بأن "يعيره" بازيللو، فلما وصل المؤلف إلى باريس (1802) أستقبل استقبالاً بلغ من الفخامة والبهاء ما أثار عداء الكثيرين. وفي 1804 قفل إلى نابلي تحت حماية جوزيف بونابرت ومورا.
ويجب أن نلاحظ في مرورنا مبلغ الصبر والأناة التي كان هؤلاء الإيطاليون يعدون بهما مستقبلهم المهني. فبايزيللو درس تسع سنين في معهد دورانتي الموسيقي "دي سان أو نوفريو"، وتشيماروزا درس إحدى عشرة سنة في معهد سانتا ماريا دي لورينو، ثم في نابلي. وبعد أن تتلمذ دومنيكو تشيماروزا طويلاً على يد ساكيني وبتثيني وغيرهما، أخرج أول أوبرا له Rtravaganze Del Cont " إسراف الكونت" وسرعان ما استمع الناس لأوبراته في فيينا ودرسدن ولندن. وفي 1787 ذهب بدوره إلى سان بطرسبورج حيث أبهج قلب القيصرة المزواج بأوبرا كليوباترة. وحين دعاه ليوبولد الثاني ليخلف سالييري رئيساً للمرتلين بفيينا، أخرج هناك أشهر أوبراته وهي "الزواج السري" (1792). وقد بلغ سرور الإمبراطور بها حداً جعله يأمر بعد انتهائها بتقديم العشاء لجميع الحاضرين، ثم أمر بإعادة الأوبرا كلها (87). وفي 1793 دعي ثانية إلى نابلي "رئيساً للمرتلين" لفرديناند الرابع. فلما خلع جيش من جيوش الثورة الفرنسية الملك (1799) رحب تشيماروزا بالحدث ترحيباً حاسماً، فلما رد فرديناند إلى عرشه حكم على تشيماروزا بالإعدام. ثم خفف الحكم إلى النفي. ويمم المؤلف شطر سانت بطرسبورج، ولكنه مات في الطريق بالبندقية (1801). واحتوت مخلفاته التي تركها بالإضافة إلى العديد من الكنتاتات، والقداسات،(40/201)
والأوراتوريوات، نحو ست وستين أوبرا كانت تلقى استحساناً أكثر بكثير ما ظفرت به أوبرات موتسارت، وهي حتى في وقتنا هذا يجب أن تعد في مرتبة تالية لأوبرات موتسارت فقط في أوبرا القرن الثامن عشر الهازلة.
وإذا كانت الملوديا هي لب الموسيقى، فالموسيقى الإيطالية إذن أسمى الموسيقات. كان الألمان يفضلون التناغم متعدد الأصوات (الهارمونيا البوليفونيه) على الخط الميلودي البسيط. وفي هذه الناحية ظفرت إيطاليا بنصر آخر على ألمانيا حين أخضع الأماني موتسارت البوليفونيه للميلودية. ولكن الإيطايين غلبوا الميلوديا تغليبا جعل أوبراتهم أقرب إلى أن تكون سلسلة من الأغاني الرخيمة أكثر منها درامات موسيقية كالتي قصد إليها أوائل مؤلفي الأوبرا الإيطاليين (حوالي 1600) في محاولتهم منافسة فن الإغريق الدرامي. وهكذا نرى دلالة الحركة الإيطالية، بل دلالة الكلمات في حالات كثيرة، تضيع وسط بهاء الأغنية وروعتها وكان هذا جميلاً، ولكن إذا كان الفن كما اعتدنا أن نراه هو استبدال النظام بالفوضى للكشف عن المغزى أو الدلالة، فإن الأوبرا في الأيدي الإيطالية قصرت دون بلوغ أسمى إمكاناتها، وقد اعترف بهذا بعض الإيطاليين مثل جوميللي وتراييتا، وجهدوا لصب الموسيقى والتمثيلية في كل موحد، ولكن ذلك الإنجاز كان عليه ينتظر أوبرات جلوك ليحقق أنصع صوره. وهكذا توقف في بندول الحياة الغزو الإيطالي لأوربا بالميلوديا، حين أخرج جلوك عام 1774 في باريس "أفحبيني في أولدي" التي أخضعت الموسيقى للتمثيلية. ولكن الصراع بين الميلوديا والدراما أتصل، وكسب فاجنز معركة للدراما، واستولى فردي على غنائم جديدة للميلوديا. وليت النصر الكامل لا يتحقق لأي من الفريقين.
8 - الفييري
لم ينجب هذا العصر رجلاً على شاكلة دانتي، ولكن كان هناك باريني في الشعر وفيلانجييري في النثر، والفييري في الدراما والنثر والشعر.
ولقد شق جوزيبي باريني طريقه صعداً من الفقر، وكسب قوته بنسخ(40/202)
المخطوطات، ودخل دنيا النشر (1752) بديوان صغير من "الشعر المنثور" واحترف القسوسة وسيلة للعيش، وحتى بعد هذا اضطر لكسب قوته بإعطاء الدروس الخصوصية لأن إيطاليا اكتظت بالقساوسة. وأرهف الفقر قلمه فاتجه إلى الهجاء. وتأمل في حياة الكثير من نبلاء الإيطاليين العاطلة المترفة فخطر له أن يصف يوماً نموذجاً في حياة شريف ذي "دم أزرق". وفي 1763 أصدر أول جزء سماه (الصباح)، وبعد عامين أضاف (الظهيرة)، ثم أكمل الجزء الثالث الذي لم يعش لينشره (المساء) و (الليل)، وهي في مجموعها تؤلف هجائية ضخمة سماها "اليوم" Il Giorno وأبدى الكونت فوني فيرمان نبلاً حقيقياً بتعيينه القس الشاعر محرراً لجازيته ميلان، وأستاذاً للآداب البحتة في "السكولا بالاتينا" ورحب باريني بالثورة الفرنسية، وكافأه نابليون بعضوية مجلس مدينة ميلان. والقصائد الغنائية التي نظمها بين 1757 و1795 تدع من عيون الأدب الإيطالي الصغيرة. ولا يصلنا بالترجمة إلا صوت خافت منه، كما نسمعه في هذه السوتينته التي توحي بأن كاتبها عاشق لا قسيس:
إيه أيها الكرى الرحيم، يا من تشق بجناحك الرقيق
طريقك الهادئ متعجلاً في الليل البهيم
وتتراءى بالأحلام الكثيرة السريعة
للنفس المضناة على فراشها الساكن:
أذهب إلى حيث تضع "فيليس" رأسها اللطيف
وخدها النضر على الوسادة الهادئة،
وبينما يرقد جسدها روع روحها
برؤيا جسم كئيب خلقته بسحرك،
وليكن شديد الشبه بي،
شوه الشحوب وجهه،
حتى تستيقظ وقد هزها الحنان علي.(40/203)
إنك لو تفضلت عليّ بهذا الصنيع،
لجدلت لك إكليلاً مزدوجاً من الزهر
ووضعته في سكون على مذبحك (88)
ولنضف إلى هذه الباقة من الزهر زهرة من التنوير الإيطالي هي فقرة كتاب جايتانو فيلانجييري "على التشريع" La Seienza Della Legislazione، (1780 - 85) ، استوحاها من بكاريا وفولتير.
"ما ينبغي أن يكون الفيلسوف مخترعاً للمذاهب بل رسولاَ للحقيقة، وما دامت الشرور التي ابتليت بها البشرية قائمة بغير شفاء، وما دام مسموحاً للخطأ والتحيز بأن يخلدا هذه الشرور، وما دامت الحقيقة مقصورة على القلة وعلى المميزين، محجوبة عن معظم النوع الإنساني وعن الملوك، فسيظل واجب الفيلسوف أن يبشر بالحقيقة، وأن يحافظ عليها ويشجعها، وينيرها. وحتى إذا كانت الأضواء التي ينشرها لا تفيد في جيله وقومه، فإنها لا شك ستفيد في بلد وجيل آخرين. فالفيلسوف- ذلك المواطن في كل مكان وزمان- أمامه الدنيا كلها وطناً، والأرض مدرسة، والأجيال القادمة تلاميذ" (89).
وقد لخص العهد كله في الفييري: فالإنتقاض على الخرافة، وتمجيد الأبطال الوثنيين، والتنديد بالاستبداد، والإشادة بالثورة الفرنسية، والنفور من شططها والصيحة المطالبة بتحرير إيطاليا- كل هذا مضافاً إلى قصة غرام حرام ووفاء نبيل. وقد سجل هذه الحياة المشبوهة في "حياة فيتوريو الفييري ... وكتوبة بقلمه، موصولة إلى ما قبل موته بخمسة أشهر. وهي من أعظم التراجم الذاتية، لا تقل كشفاً عن نفس صاحبها عن "اعترافات" روسو. ويستهلها بعبارة يلقي القارئ أمامها السلاح: "إن حديث المرء عن نفسه، وأكثر منه الكتابة عن نفسه- إنما هو دون أدنى شك وليد المحبة الفائقة التي يحبها المرء لذاته، وبعدها لا يتوارى الكاتب خلف قناع من التواضع ولا تند عنه أمارة على عدم الأمانة:(40/204)
"ولدت في مدينة أسني بييدمونت في 17 يناير 1749 لأبوين شريفين ثريين محترمين. وأنا أذكر هذه الظروف على أنها ظروف سعيدة للأسباب التالية. فقد خدمن شرف المولد خدمة كبرى، .. لأنه مكنني من أن أذم النبالة لذاتها دون أن أتهم بالدوافع الدنيئة أو بدافع الحسد، وأن أميط اللثام عن حماقاتها، ورذائلها، وجرائمها ... أما الثراء فعصمني من قبول الرشوة، وأطلق حريتي في خدمة الحق دون سواه" (90).
ومات أبوه وهو طفل، وتزوجت أمه ثانية. وانطوى الغلام على نفسه، وأطال التفكير، وفكر في الانتحار في الثامنة ولكنه لم يهتد إلى أي طريقة مريحة. وتكفل به خال له وأرسله وهو في التاسعة ليتلقى العلم في أكاديمية تورين. وهناك تولى خادم خاص خدمته والسيطرة عليه بالعنف. وحاول معلموه أن يحطموا إرادته كأول مرحلة في تنشئته رجلاً، ولكن طغيانه ألهب كبرياءه وشوقه إلى الحرية "إن درس الفلسفة ... كان من النوع الذي ينوم الطالب وهو واقف منتصباً" (91). على ـن موت خاله تركه المتصرف في ثروة عريضة وهو بعد في الرابعة عشرة.
وبعد أن حصل على موافقة ملك سردينيا التي كانت شرطاً للسفر خارج البلاد بدأ في 1766 جولة في أوربا استغرقت ثلاثة أعوام. ووقع في غرام نساء شتى، وعشق الأدب الفرنسي والدستور الإنجليزي. ودمرت قراءته لمونتسيكو وفولتير وروسو لاهوته الموروث، وبدأت كراهيته للكنيسة الرومانية- مع أنه بالأمس فقط لثم قدم كلمنت الثالث عشر "شيخ لطيف في جلال وقور" (92). وفي لاهاي شغف حباً بامرأة متزوجة، فابتسمت ثم انصرفت عنه، وعاد يفكر في الانتحار، وكان العهد عهد فرتر، والانتحار فكرة شائعة في الجو. ثم عاد ليكتشف أن الفكرة أشد جاذبية منها تنفيذا، فرجع إلى بيدمونت ولكنه شقي في جو ملؤه الخضوع السياسي والديني شقاء حمله على استئناف أسفاره (1769).
وجاب الآن أرجاء ألمانيا والدنمرك والسويد- حيث أحب الطبيعة كما يقول وأحب الناس وحتى الشتاء. ومنها إلى روسيا، فاحتقرها لأنه لم يرَ في(40/205)
كاترين الكبرى إلا مجرمة متوجة، ورفض أن يقدم لها. ولم يسغ بروسية فردريك خيراً من إساغته روسيا، فهرول إلى هولندا التي أنتجت نهج الجمهورية في بسالة، وإلى إنجلترا التي كانت تحاول أن تعلم جوج الثالث أن يخلي بينه وبين شؤون الحكم. وقد أغوى زوجة رجل إنجليزي، وبارز، وجرح. ثم أصيب بعدوى الزهري في أسبانيا (93)، وعاد إلى تورين للعلاج (1772).
وفي 1774 تماثل للشفاء بالقدر الذي أتاح له الدخول في ثاني مغامراته الغرامية الكبرى، مع امرأة تكبره بتسع سنين. وتشاجرا ثم افترقا. وأزاحها من أحلامه بكتابة تمثيلية سماها "كليوبطرة"، وأي شيء أكثر إثارة من عضوية في حكومة ثلاثية، وملكة، ومعركة، وصل؟ وأخرجت التمثيلية بتورين في 16 يونيو 1775 "وسط تصفيق الاستحسان ليلتين متعاقبتين"، ثم سحبه لإجراء تعديلات فيها. وأخذ الآن يتحرق شوقاً إلى الشهرة غاية في النبل والسمو. وأعاد الآن قراءة بلوتارخ وعيون الأدب اللاتيني، ودرس اللاتينية من جديد ليغوص في مآسي سنيكا، وفي هذه القراءات وجد موضوعات وأشكالاً لدراماته. وعزم على استعادة الأبطال والفضائل القديمة كما استعاد فنكلمان الفن القديم.
وفي غضون هذا (1777) كان يكتب رسالته "في الطغاة". ولكنها احتوت من التهم الحادة للدولة والكنيسة ما جعله ينكص عن نشرها، فلم ترَ النور إلا في 1787. فقد كانت ملتهبة بغيرة أشبه بالغيرة الدينية:
"ليس الفقر الطاحن ... ولا عطل الأرقاء الذي تتردى فيه إيطاليا، كلا، فما هذه هي الدوافع التي وجهت عقلي إلى الشرف الرفيع الحق، شرف تجريد قلمي للهجوم على الإمبراطوريات الزائفة. ذلك أن إلهاً ضارباً إلهاً مجهولاً، ظل يسوط ظهري منذ نعومة أظافري ... إن روحي الحرة لن تجد سلاماً أو راحة حتى أكتب صفحات قاسية لهدم الطغاة" (94).(40/206)
وهذا تعريفه للطغاة:
"كل الذين توسلوا بالقوة أو الحيلة- أو حتى بإرادة الشعب أو النبلاء- إلى القبض التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون، أو هم كذلك ... والطغيان هو الصفة التي يجب أن تنعت بها ... أي حكومة يستطيع فيها الشخص أن المنوط بتنفيذ القوانين أن يضعها أو يقضي عليها أو ينتهكها أو يفسرها أو يعرقل سيرها أو يوقفها وهو في مأمن من العقاب" (95).
وعند الفييري أن الحكومة الأوربية كانت مستبدة باستثناء الجمهورية الهولندية والملكيتين الدستوريتين في إنجلترا والسويد. وقد أشاد بالجمهورية الرومانية متأثراً في ذلك بمكيافيللي، وراوده الأمل في أن الثورات ستقيم جمهوريات في أوربا عما قليل. ورأيه أن خير ما يستطيع أي وزير لطاغية مستبد أن يفعله هو أن يشجعه على ألوان من الطغيان تبلغ من الشطط ما يسوف الشعب إلى الثورة (96). والثورة في سنيها الأولى معذورة إذا لجأت إلى العنف لتمنع عودة الاستبداد إلى الحياة:
"وبما أن الآراء السياسية كالآراء الدينية لا يمكن تغييرها تغييراً كاملاً أبداً دون استعمال الكثير من العنف، لذلك كانت كل حكومة جديدة مضطرة لسوء الحظ إلى أن تعنف إلى حد القسوة، بل تظلم أحياناً حتى تقنع أو ربما تكره أولئك الذين لا يرغبون في التجديد ولا يفهمونه ولا يحبونه ولا يرتضونه" (97).
ومع أن الفييري كان نبيلاً، ولقبه الكونت دي كوتيميليا، فأنه أدان الأرستقراطية الوراثية لأنها شكل من أشكال الطغيان أو أداة من أدواته. وأدان بالمثل جميع الأديان المنظمة ذات السلطان. وقد سلم بأن "المسيحية أسهمت بقدر غير قليل في تلطيف العادات الشائعة بين جميع الناس"، ولكنه أشار إلى "الكثير من أعمال الوحشية الغبية الجاهلة" التي(40/207)
ارتكبها الحكام المسيحيون "من قسطنطين" (98). ويمكن القول عموماً:
"إن الدين المسيحي يكاد لا يتفق والحرية ... فالشعب، وحكمة التفتيش والمطهر، والاعتراف، والزواج الذي لا انفصام له، ورهبانية الكهنة- هذه هي الحلقات الست في السلسلة المقدسة التي تقيد السلطة الزمنية (الدولة) بقيود أوثق حتى لتزداد على الأيام ثقلاً وامتناعاً على التحطيم" (99).
وبلغ من مقت الفييري للاستبداد أنه نصح باجتناب الخلف أو الزواج إطلاقاً في دولة مستبدة. وبدلاً من أن ينجب أطفالاً، أخرج في خصوبة إيطالية مماثلة أربع عشرة مأساة بين 1775، و1783، كلها بالشعر المنثور، وكلها كلاسيكية بناء وشكلاً، وكلها يشب الطغيان بسخط خطابي، ويمجد الحرية باعتبارها أشرف من الحياة. فترى ميوله في "البازي" مع محاولة المتآمرين الإحاطة بلورنتسو وجوليانودي مديتشي، وفي "بروتس الأول" و "بروتس الثاني" لم يعف من اللوم تاركوين وقيصر، وفي "فليبو" كان بكل قلبه مع كارلوس ضد ملك أسبانيا، ولكنه في "ماريا ستواردا" (ماري ستيوارت) وجد في رؤساء العشائر الاسكتلندية من الطغيان أكثر مما في الملكة الكاثوليكية. فلما أنتقد على إخضاعه التاريخ لفكرته دافع عن نفسه بقوله:
"سيسمع الناس أكثر من لسان خبيث يقول ... أنني لا أصور شيئاً إلا الطغاة في صفحات مفرطة الطول لا لطف فيها، وإن قلمي الدموي المنقوع في السلم يضرب دائماً على نغمة واحدة رتيبة، وأن ربة شعري الفظة لا تنهض إنساناً من العبودية الشريرة، بل تثير ضحك الكثيرين. ولكن هذه الشكاوى لن تحول روحي عن هدف بمثل هذا السمو، ولا تعوق فني مهما كان ضعيفاً غير كفء لتلبية حاجة بهذه الشدة. لا ولن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح إذا ولد رجال صادقون بعدما يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة (100) ".(40/208)
وقد أولع بكونتيسة ألباني ولعاً لم يفقه إلا ولعه بالحرية وكانت ابنة جوستاف أدولف- أمير شتولبرج- جديرن فتزوجت (1773) الأمير تشارلز إدوارد ستيوارت، المطالب الشاب بعرش بريطانيا، الذي سمى الآن نفسه كونت ألباني. وقد انغمس هذا الذي كان فتى أنيقاً جداً يوم كان "الأمير الحلو تشارلي" في الشراب ومصاحبة الخليلات لينسى هزائمه. ولم يعقب هذا الزواج الذي رتبه البلاط الفرنسي، وكان زواجاً شيقاً، ويبدو أن الكونتيسة ذاتها لم تكن مبرأة من العيوب. وقد التقى بها الفييري في 1777، ورثى لها، ثم احبها. ولكي يكون قريباً منها، حراً في مساعدتها وتتبع تقلبات حظها دون أن يتكبد مشقة الحصول على إذن ملكي لكل خطوة عبر الحدود، تخلى عن مواطنه بيدمونت، ونزل عن معظم ثروته وضيعته لأخته، ثم انتقل إلى فلورنسا 1778. وكان الآن في التاسعة والعشرين من عمره.
واستجابت الكونتيسة لغرامه برقة وحذر مراعية كل أصول اللياقة. وفي 1780 حين أمست حياتها في خطر من جراء عنف زوجها السكير، اعتكفت في دير، ثم في بيت زوج أختها في روما. كتب الفييري يقول "بقيت في فلورنسا كأني يتيم مهجور، وعندها اقتنعت كل الاقتناع أنني بدونها لم أكن أوجد ولو نصف وجود، لأنني ألفيتني عاجزاً كل العجز تقريباً عن القيام بأي عمل جيد (101) ". وما لبث أن ذهب إلى روما، حيث سمح له برؤية محبوبته بين الحين والحين، ولكن زوج أختها قاوم جهوده في الحصول على قرار بإبطال زواجها، مسترشداً بذلك في رأي القساوسة. (ومن هنا دفاعه الملتوني عن الطلاق "ديللا تيرانيدي (102) "). وأخيراً منعها زوج أختها من زيارة الكونتيسة، فغادر روما، وحاول أن يرفه عن نفسه بالأسفار والخيل- التي كانت "غرامه الثالث"، بعد الفنون و "سيدتي النبيلة". وفي 1784 حصلت عل انفصال شرعي، فانتقلت إلى كولمار في الألزاس. وهناك لحق بها الفييري، وبعدها عاشا(40/209)
في رباط غير زوجي حتى أتاح لهما موت زوجها أن يتزوجا. وقد كتب الفييري عن حبه في نشوة تذكرنا بما كتبه دانتي في "الحياة الجديدة".
"هذا الحب المحموم- الحب الرابع والأخير، .. كان يختلف عن علاقاتي الغرامية الثلاث السابقة. ففيها لم أجد نفسي منفعلاً بأي عاطفة ذهنية توازي وتمتزج بعاطف القلب. نعم كان هذا الحب أقل عنفاً وحرارة ولكنه أكثر استمراراً وأعمق تغلغلاً في الشعور والوجدان. وبلغ من قوة عاطفتي أنها ... سيطرت على كل انفعال وخاطر فيّ، ولن تنطفئ في داخلي أبداً إلا بانطفاء الحياة نفسها. وقد وضح لي ... أنني وجدت فيها امرأة حقة، لأنها بدلاً من أن تصبح كسائر المساء العاديات عقبة في طريقي إلى الشهرة الأدبية- امرأة تقدم الاهتمامات النفعية وترخص ... أفكار المرء- وجدت فيها التشجيع والعزاء والقدوة الحسنة في كل عمل صالح. وإذا تبينت هذا الكنز الفريد وقدرته حق قدره، فأنني بذلت لها ذاتي باستسلام مطلق. ولا ريب في أنني لم أكن مخطئاً في هذا، لأنني الآن وقد مضى على حبي لها أكثر من اثني عشر عاماً ... يزداد حبي لها كلما ذبلت تلك المفاتن العابرة (وهي ليست نفسها الباقية) بحكم الزمن. ولكن عقلي وقد تركز فيها يسمو ويرق، ويزداد حسناً كل يوم، وأما عقلها هي فأنني أجرؤ على القول بأن هذا يصدق عليها، وأن من حقها أن تستمد مني العون والقوة (103) ".
وبهذا الحافز مضى يكتب المزيد من المآسي، وبعض الملاهي، وشيئاً من الشعر بين الحين والحين. وكان قد كتب خمس قصائد غنائية بعنوان Ameraca Libra. وفي 1788 انتقل الحبيبان إلى باريس، حيث أشرف الفييري على نشر مطبعة بومارشين في كيل على الراين لأعماله. وحين سقط الباستيل هلل الفييري للثورة وكله حماسة متقدة للحرية وقال أنها فجر عصر أسعد للبشر. ولكن سرعان ما قزز شطر الثورة وسرقها روحاً كان تصورها للحرية أرستقراطياً، روحاً تطالب بالتحرر من الغوغاء والأغلبيات ومن البابوات والملوك على حد سواء. ففي 18 أغسطس 1792 غادر هو والكونتيسة(40/210)
باريس بما استطاعا حمله من مقتنياتهما في مركبتين فأوقفهما عند أبواب المدينة حشد يسألهما عن حقهما في مغادرته. يقول الفييري "قفزت من المركبة بين الغوغاء، ملوحاً بجوازات سفري السبعة وأخذت أصيح وأحدث ضجة .. وهو دائماً السبيل إلى التغلب على الفرنسيين (104) ". وواصلا الرحلة راكبين إلى كاليه وبركسل، وهناك نما إليهما أن السلطات الثورية في باريس أمرت بالقبض على الكونتيسة. فهرعا إلى إيطاليا، واستقرا في فلورنسا. وكتب الفييري الآن Misogallo مضطرباً بنار الحقد على فرنسا و"حشد عبيدها أبناء السفاح" (105).
وفي 1799 استولى جيش الثورة الفرنسية على فلورنسا فلجأ الفييري والكونتيسة إلى فيللا في ضاحية حتى رحل الغزاة. وقد أضعفه وأشابه انفعال هذه السنين، فاعتقد في ختام ترجمته الذاتية التي كتبها عام 1802 وهو بعد في الثالثة الخمسين أنه شاخ. وأوصى بكل ممتلكاته للكونتيسة ثم مات بفلورنسا في 7 أكتوبر 1803 ودفن في كنيسة سانتا كروتشي. وهناك أقامت له الكونتيسة أثراً ضخماً من صنع كانوفا، وقد مثلت فيه إيطاليا تنوح فوق المقبرة. وقد ضمت إلى حبيبها هناك في 1824.
وتكرم إيطاليا الفييري باعتباره Il Vate d'Italia نبي الأحياء الذي حررها من الأغلال الأجنبية الكنيسية. وكانت دراماته على ما فيها من حدة ورتابة تقدماً منشطاً خلف ورائه المآسي العاطفية التي كانت تقدم للمسرح الإيطالي قبله. ومن تمثيلياته "فليبو" و "شاول" و"ميرا" أعدت روح إيطاليا نفسها لماتزيني جاريبالدي.
ولم يقتصر نشر الطغاة Della Tirannide في الخارج على كيل (1787) وباريس، بل طبع في ميلانو (1800) وغيرها من المدن الإيطالية في 1802 و1803 و1805 و1809 و1840 و1849 و1860، وأصبح لإيطاليا ما كان لفرنسا وإنجلترا وأمريكا كتاب يبين "حقوق الإنسان" (1750). وكان الفييري بداية الحركة الرومانسية في إيطاليا، بيرونا قبل بيرون، يبشر بتحرير العقول والدول من أغلالها. وبعده كان لزاماً على إيطاليا أن تتحرر.(40/211)
الفصل الثالث عشر
حركة التنوير في النمسا
1756 - 1790
1 - الإمبراطورية الجديدة
إذا توخينا الدقة في التعبير قلنا أن كلمة "النمسا" إنما تدل على أمة، وقد تدل تجاوزاً على الإمبراطورية التي تزعمتها النمسا. فمن الناحية الشكلية كانت هذه الإمبراطورية حتى عام 1806 هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي انتظمت ألمانيا وبوهيميا وبولندا والمجر وأجزاء من إيطاليا وفرنسا. بيد ا، الأهداف القومية أضعفت من الولاء للإمبراطورية إلى حد لم يبق معه الآن (1756) من هذه الأقطار سوى إمبراطورية نمساوية مجرية تظم النمسا وستيريا وكارنتيا وكارنيولا وتيرول والمجر وبوهيميا ومطرانيات كولونيا وتريير وماينز الكاثوليكية، وأشتاتاً متباينة من إيطاليا، ثم منذ 1713 الأراضي الواطئة النمساوية-التي كانت أسبانية فيما مضى-وهي على التقريب بلجيكا الحالية.
أما المجر التي كان يسكنها قرابة خمسة ملايين من الأنفس فكان يسودها نظام إقطاع فخور. فأربعة أخماس الأرض يملكه النبلاء المجريون ويفلحه الأقنان، ولم يقع عبء الضرائب إلا على الفلاحين وأهل المدن الألمان أو الصقالبة. وكان الإمبراطورية الجديدة قد ولدت شرعياً في 1687، حين تخلى النبلاء المجريون عن حقهم القديم في اختيار ملكهم واعترفوا بأباطرة الهابسبورج ملوكاً عليهم. ودعت ماريا تريزا كبار النبلاء المجريين إلى بلاطها متبعة استراتيجية البوريون، وأعطتهم المناصب والألقاب والأنواط، وهدأتهم حتى قبلوا القانون الإمبراطوري قانوناً لأملاكهم وفيينا عاصمة لهم. وكلفت الإمبراطورة في استجابة سمحة لوكاس فون هلد براند بعمل(40/212)
تصميمات للمباني الحكومية في بودا؛ وبدأ العمل في 1769، ثم جدد في 1894 فأعطى العاصمة القديمة بناء من أروع المباني الملكية في العالم. وشيد أغنياء النبلاء المجريين القصور الريفية الفخمة على الدانوب أو في خلواتهم الجبلية منافسين في ذلك الملكة، فبنى الأمير بال أسترهاتي مقراً لأسرته في أيزنشتات (1663 - 72) وبنى الأمير ميكلوس يوزف أستراهاتي بطراز النهضة على نحو ثلاثين ميلاً قلعة أسترهاتي الجديدة (1764 - 66) التي ضمت 126 حجرة للضيوف، وردهتين كبيرتين للاستقبالات وحفلات الرقص، ومجموعة غنية من التحف، وعلى مقربة منها مكتبة بها 7. 500 مجلد ومسرح به أربعمائة مقعد. ومن حول القصر حول مستنقع شاسع إلى حدائق زينت بالمغارات والمعابد والتماثيل، وجهزت بالصوبات وأشجار البرتقال والأرض المخصصة للوحوش والطيور البرية. يقول رحالة فرنسي "هذه القلعة لا يضارعها أي مكان في فخامتها-ربما باستثناء فرساي". وإليها أقبل المصورون والمثالون والممثلون والمغنون والعازفون، وهنا ظل هايدن جيلاً كاملاً يقود فرقته ويؤلف موسيقاه ويتوق للانطلاق إلى عالم أرحب.
أما بوهيميا-وهو اليوم القسم التشيكي من تشيكوسلوفاكيا-فلم تحظ بمثل هذا التفوق في عهد ماريا تريزا. وكانت قد انسحبت من التاريخ بعد حرب الثلاثين وقد حطم روحها القومي حكم أجنبي وعقيدة كاثوليكية فرضت على شعب عرف يوماً يان هوس وجيروم البراغي. وعانت الملايين الثمانية التي تسكنها من جراح الحرب في الصراع المتكرر الذي دارت رحاه بين روسيا والنمسا، وانتقلت عاصمتها التاريخية من يد إلى يد مراراً وتكراراً، إذا كانت ملكتها الغربية تنتقل من هزيمة إلى نصر إلى هزيمة. واضطرت بوهيميا إلى أن تقنع باستقلال في الثقافة والذوق، فنشأت مؤلفيها الموسيقيين أمثال جيورج بندا، وتفردت براغ باستقبالها الحار لأول عرض لأوبرا موتسارت "دون جوفاني" (1787)، التي لم تصب بعد ذلك في فينا غير إطراء فاتر كان أشبه بالذم منه بالمديح.
وأما في الأراضي الواطئة النمساوية فقد كان كفاح النبلاء المحليين(40/213)
للاحتفاظ بسلطتهم التقليدية أنجح منه في بوهيميا، وسكيدر أيام "الإمبراطور الثائر" الأخيرة. وقد كان لتلك الأقاليم السبعة بالبانت (التي ضمت بروكسل، وأنتورب، ولوفان)، ولكسمبورج، وفلاندر، وهاينوت، ونامور، وجلدرز- تاريخ عريق جليل، وكان النبلاء الذين حكموا رعاياهم الملايين الأربعة شديدي الحرص على الامتيازات التي ثبتت لامتحان قرون كثيرة. وعرض المجتمع العصري أزياءه، وقامر بمكاسبه، وشرب أحياناً المياه المعدنية كما شرب الأنبذة في سبا في أسقفية ليبج المجاورة. وكان زهرة ذلك المجتمع في هذا العصر المير شارل-جوزف دلين، الذي وهبته بروكسل للعالم في 1735. وقد قام على تعليمه عدة أباء من الرؤساء الكاثوليك "لم يؤمن بالله منهم غير واحد"؛ أما هو نفسه فكان "متديناً أسبوعين" (1) في هذا البلد المغرق في الكثلكة. وقد أبلى بلاء حسناً في حرب السنين السبع وخدم يوزف الثاني مستشاراً وصديقاً حميماً، والتحق بالجيش الروسي في 1787؛ ثم رافق كاترين الكبرى في "مسيرتها" إلى القرم، وبنى لنفسه قطراً ريفياً فاخراً وقاعة للفنون قرب بروكسل، وكتب أربعة وثلاثين مجلداً من "المنوعات"؛ وأثار الإعجاب في النفوس-حتى نفوس الفرنسيين-بطباعه المهذبة، وأضحك أندية أوربا العالمية الطابع بظرفه وخفة دمه المشربة بالفلسفة (1).
هذه الإمبراطورية المعقدة؛ الممتدة من الكربات إلى الرين؛ هي التي دانت أربعين سنة لامرأة من عظيمات نساء التاريخ.
2 - ماريا تريزا
رأيناها من قبل في الحرب، وفيها لم تسلم إلا لفردريك وأبلت في السياسة الحربية، وفي اتساع النظرة وإلحاح الهدف، وفي الشجاعة تواجه الهزيمة.
_________
(1) "كانت مدام دي لوكزبني ... قادرة على الإصغاء، وهو أمر ليس بالسهولة التي يحسبها الكثيرون، ولم يعرف أحمق قط كيف يفعله" (2).(40/214)
قال فردريك عنها في 1752 "إذا استثنينا ملكة المجر وملك سرينيا (شارل إيمانويل الأول) الذي انتصرت عبقريته على تعليمه الرديء، لم نجد في ملوك أوربا وأمراءها كلهم غير معتوهين مشهورين (3). لقد فاقتها في فن الحكم إليزابث الأولى ملكة إنجلترا من قبلها، وكاترين الثانية قيصرة روسيا من بعدها، ولم يفقها ملكات غير هاتين. وكانت في رأي فردريك "طموحاً محبة للثأر" (4). ولكن أكان يتوقع منها ألا تحاول استرجاع سيليزيا التي اغتصبها؟ أما الأخوان جونكور فرأيا فيها "ذهناً متوسطاً جيداً يرافقه قلب محب، وإحساساً سليماً بالواجب، وقدرات مذهلة على العمل، وحضوراً قوياً وجاذبية غير عادية ... أماً حقيقية لشعبها" (5). وكانت غاية في اللطف مع كل من لم يهاجم إمبراطوريتها أو إيمانها؛ وعلى سبيل المثال نذكر استقبالها الحار لأسرة موتسارت في 1768 (6). وكانت أماً فاضلة، ورسائلها لأبنائها نماذج في الرقة والمشورة الحكيمة، ولو أستمع إليها يوزف لما مات إنساناً فاشلاً، ولو أتبعت ماري أنطوانيت نصيحتها لكان من الجائز أن يُعفى رأسها من الجيلوتين.
لم تكن ماريا تريزا ملكة "مستبدة مستنيرة". فهي لم تكن مستبدة. وفي رأي فولتير "أنها وطدت ملكها في جميع القلوب بدماثة طبع وشعبية لم يؤتهما غير قلة من أسلافها، وقد ألغت المراسم والقيود من بلاطها ... ولم ترفض مقابلة إنسان، ولم يبرح شخص حضرتها غير راضٍ" (7). ولم تكن قط مستنيرة بالمعنى الذي يقصده فولتير، فقد أصدرت المراسيم المتعصبة ضد اليهود والبروتستانت، وظلت كاثوليكية صادقة إلى النهاية، وشهدت في هلع تسرب الشكوك الدينية إلى فينا من لندن وباريس، وحاولت أن تصد هذا التيار بتشديد الرقابة على الكتب والدوريات، ومنعت تدريس الإنجليزية "لطابع هذه اللغة الخطر من حيث مبادئها الدينية والخلقية المفسدة" (8).
ومع ذلك لم تنجُ تماماً من تأثير ذلك العداء للأكليروس الذي كان يكنه مستشاروها وابنها. فقد ذكروا لها أن ممتلكات الأكليروس الإقليمية(40/215)
وغيرها من أسباب الثراء تتزايد بسرعة نتيجة لتلميح الكهنة للمرضى المشرفين على الموت بأن في استطاعته التكفير عن آثامهم واسترضاء الله بالإيصاء ببعض الثروة للكنيسة، فإذا سارت الأمور على هذا المنوال فلابد أن يأتي قريباً ذلك اليوم الذي تصبح فيه الكنيسة-التي هي فعلاً دولة داخل الدولة-سيدة على الحكومة. وكانت أديرة الراهبات والرهبان تتكاثر فتقصي الرجال والنساء على الحياة الناشطة وتعفي المزيد من الثروة من الضرائب. وكان الصبايا يغرين بنذر أنفسهن للرهبنة قبل أن يبلغن السن التي يدركن فيها مغزى التكريس مدى الحياة وقد بلغ تسلط الأكليروس على التعليم حداً تشكل معه كل عقل نامٍ على أن يدين بولائه الأعلى للكنيسة لا للدولة. واستسلمت الملكة لهذه الحجج استسلاماً حملها على الأمر ببعض الإصلاحات الهامة. فحظرت وجود الكنسيين عند كتابة الوصايا. وأنقصت عدد المؤسسات الدينية، وأمرت بفض الضرائب على جميع الثروة الدينية. وحرمت النذر للرهبنة قبل سن الحادية والعشرين. وحظرت الكنائس والأديرة إيواء المجرمين بمقتضى "حق اللجوء". وأمرت بألا يعترف بأي منشور بابوي في المملكة النمساوية قبل أن يحصل على تصديق الإمبراطورة. واخضع ديوان التفتيش لإشراف الحكومة، لا بل أنه في الواقع ألغيً. وأعيد تنظيم التعليم تحت إدارة جوهارت فان سفيتن (طبيب الملكة) والأب فرانتس راوتنشراوخ، وأحل العلمانيون محل اليسوعيين في كثير من كراسي الأساتذة (9)، وأخضعت جامعة فيينا للإدارة العلمانية وإشراف الدولة، وروجت المناهج فيها وفي غيرها بهدف التوسع في تعليم العلوم والتاريخ (10). وهكذا سبقت الإمبراطورة التقية إلى حد ما الإصلاحات الكنسية التي سيقوم بها ابنه الشكاك.
وكانت مثلاً في الفضيلة في زمن نافست فيه قصور الدول المسيحية الآستانة في تعدد الزوجات. ولعل الكنيسة كانت مستخدمة إياها حجة وبرهاناً على فضل التمسك بالعقيدة لولا أن أغسطس الثالث ملك بولندا ولويس الخامس عشر ملك فرنسا وكلاهما كاثوليكي كان أشره العشاق(40/216)
استكثاراً من النساء. ولم تقتد أرستقراطية فيينا بها. فقد فر الكونت أركو إلى سويسرا مع خليلته، وهربت الكونتسية أسترهاتسي إلى فرنسا مع الكون فون در شولنبورج، وكان الأمير فون كاونتي يصحب خليلته في تلك الفترة في مركبته، فلما عاتبته الإمبراطورة قال لها "سيدتي، لقد أتيت لأتحدث عن شؤونكِ لا عن شؤوني (11) " ونظرت ماريا تريزا باشمئزاز إلى هذا التحلل، وأصدرت مراسم قاسي لفرض الوصية السادسة على الشعب. وأمرت بتطويل تنانير النساء في أسفلها وقمصانهن في أعلاها (12). ونظمت جيشاً من ضباط العفة خولت لهم القبض على أي امرأة يشتبه في احترافها البغاء. وشكا كازانوفا من أن "تعصب الإمبراطورة وضيق عقلها جعل الحياة شاقة على الأجانب بوجه خاص (13) ".
ويرجع الفضل في كثير من نجاحها إلى وزرائها الأكفاء. فقد قبلت إرشادهم وكسبت إخلاصهم. وظل المير فون كاونتز منوطاً بالشؤون الخارجية رغم فشل سياسته "قلب الأحلاف"، وقد أخلص في خدمة الإمبراطورية أربعين عاماً. وغير لودفج هاوجفتز من الإدارة الداخلية، وأعاد رودلف شوتك تنظيم الاقتصاد. هؤلاء الرجال الثلاثة أدوا للنمسا ما أداه ريشليو وكولبير من قبل لفرنسا، والواقع أنهم خلقوا دولة جديدة، أقوى بما لا يقاس من المملكة المختلة النظام التي ورثتها ماريا تريزا.
بدأ هاوجفتز بإعادة بناء الجيش الإمبراطوري. وكان يعتقد أن هذا الجيش انهار أما الانضباط البروسي لأنه كان مؤلفاً من وحدات مستقلة يجمعها ويقودها نبلاء شبه مستقلين، واقترح وأنشأ جيشاً ثابتاً قوامه 108. 000 محارب يخضعون لتدريب موحد وإشراف مركزي. ولكي يمول هذا الجيش أوصى بفرض الضرائب على النبلاء والكهنة كما تفرض على العامة، واحتج النبلاء والكهنة، وتصدت لهم الإمبراطورة بشجاعة وفرضت عليهم ضريبة ملكية وضريبة دخل. وامتدح فردريك عدوته إدارية كفئاً، "لقد نظمت ماليتها تنظيماً لم يبلغه أسلافها قط، ولم تقتصر على تعويض(40/217)
ما فقدته بالنزول عن أقاليم لملكي بروسيا وسردينيا بالإدارة الحسنة بل أنها زادت من دخلها زيادة كبيرة (14) ". وواصل هاوجفتز جهوده لتنسيق القانون، وتحرير القضاء من تسلط النبلاء، ولإخضاع أمراء النبلاء لإشراف الحكومة المركزية. وأذيع في 1768 قوانين موحدة.
وكان شوتك يجاهد أثناء ذلك ليبث النشاط في الاقتصاد الخامل. فالصناعة كانت تعرقل مسيرتها الاحتكارات التي حابت النبلاء، ولوائح النقابات الحرفية التي ظلت سارية حتى 1774، على أن لنتز كلن بها رغم هذا مصانع للصوف تضم 26. 000 عامل، وتفوقت فيينا في صناعة الزجاج والخزف الصيني، وتصدرت بوهيميا سائر أقطار الإمبراطورية في عمليات التعدين. وكان في النمسا والمجر مناجم منتجة، ففي غاليسيا رواسب ملحية كبيرة، وكانت المجر تستخرج من الذهب كل عام ما قيمته سبعة ملايين جولدن. وحمى شوتك هذه الصناعات بالرسوم الجمرجية، لأنه كان لزاماً أن يتحقق للنمسا، المشتبكة في حروب متكررة، اكتفاء ذاتي في السلع الضرورية، فالتجارة الحرة كالديمقراطية ترف لا يتأتى إلا في الأمن والسلام.
ومع ذلك ظلت الإمبراطورية زراعية إقطاعية. ذل أن الإمبراطورية شأنها في ذلك شأن فردريك، لم تجرؤ وهي تواجه الحرب على المجازفة بالتفسخ الاجتماعي الذي قد يحدث نتيجة لمهاجمة الإشراف الراسخين في امتيازاتهم. وقد ضربت المثل الطيب بإلغاء القنية في أراضيها، وفرضت على أعيان المجر المتغطرسين مرسوماً يخول للفلاح أن يتنقل ويتزوج ويربي أبناءه كما يشاء، وأن يستأنف أحكام سيده الإقطاعي أمام محكمة المقاطعة (15). على أن طبقة الفلاحين في المجر وبوهيميا كانت رغم هذه المسكنات في فقر قريب من فقر فلاحي روسيا. وكانت الطبقة الدنيا في فيينا تعيش في فقر تقليدي، بين القصور الباذخة والأوبرات المتقنة والكنائس الضخمة توزع الأمل على البشر.(40/218)
وكانت فيينا بادئة في منافسة باريس وضواحيها في الأبهة الملكية. فكان قصر شونبرن (الربيع الجميل) الواقع خارج المدينة مباشرة يحوي 495 فداناً من الحدائق، مخططة (1753 - 75) على غرار فرساي، بسياجات شامخة مستقيمة، ومغارات غريبة وبرك متناسقة، وتماثيل بديعة من نحت دونر وبيير ومعرض وحوش وحديقة نباتات، وعلى رابية في خلفية "جلورييت" بناها في 1775 يوهان فون هوهنبرج-مبنى مقنطر معمد في طراز رومانيسكي خالص. أما قصر شونبرون ذاته، وهو مجمع ضخم من 1441 حجرة، فقد صممه يوهان برنهارت فشر فون أرلخ في 1965، ولكنه ترك ناقصاً في 1705. فكلفت ماريا تريزا نيكولوبا كاسي بتصميمه من جديد، واسئؤنف العمل فيه عام 1744 وأكمل عام وفاة الإمبراطورة (1780). وكان في داخله قاعة كبرى طولها 141 قدماً لها سقف روكوكي الطراز رسمه جريجوريو جولييلمي (1761). وكان قصر شونبرون مقراً للبلاط من الربيع إلى الخريف.
وبلغ عدد أفراد الحاشية الآن 2400. واقتضت رعاية الخيل والمركبات استخدم مائتين وخمسين سائساً وخادماً. وبلغت جملة نفقة صيانة القصر وملحقاته 4. 300. 000 وجولدن غب العام (16). أما الملكة ذاتها فقد مارست القصد في النفقة واعتذرت عن بهاء قصرها بضرورته لمراسم الحكم الملكي. وعوضت عن ذبح حاشيتها بسخائها في أعمال البر. ذكرت مدام دستال في معرض حديثها عن النمسا بعد جيل "إن عناصر البر هناك تنظم بكثير من الترتيب والسخاء، فالإحسان الخاص والعام يصرف بروح سامية من وكل شيء في هذا العدل ... وكل شيء في هذا البلد يحمل طابع حكومة أبوية حكيمة متدينة (17) ".
ولم يكد يوجد أثر للتسول رغم فقر الشعب، وكانت الجرائم قليلة نسبيا. (18) ووجد أفراد الشعب مسراتهم البسيطة في التزاور، واللقاء والاختلاط في الميادين، والابتراد في البساتين الوارفة الظلال والتمشي في(40/219)
طريق البراتر الذي يحفه الشجر، والتنزه في الريف، أو-في أدنى طبقاتهم-طرب لمرأى المعارك الضارية تنظيم بين حيوانات تتضور جوعاً. وأجمل منه هذه الرقصات لا سيما المنويت التقليدية، ففي هذه الرقصة نادرا ما كان الرجل والمرأة يتلامسان، فكل حركة تحملها التقاليد والقاعدة، وتؤدي بانضباط ورشاقة. أما الموسيقى فكان نصيبها في حياة فيينا من البر بحيث تطالبنا بتناولها في فصل خاص بها.
وبالقياس إلى هذا كله كان الأدب ضعيفاً فجاً. فلم يكن للنمسا التي سيطرت عليها المقدسات نصيب في حركة "شتورم فوند درانج" التي أثارت ألمانيا. ولم تكن ماريا تريزا راعية للعلم ولا للأدب البحت. ولم يكن في فيينا صالونات أدبية، ولم يختلط المؤلفون والفنانون والفلاسفة بالنساء والنبلاء والساسة كما في فرنسا. لقد كان مجتمعاً ساكناً، فيه ما في أساليب العيش القديمة المحسوبة من سحر وراحة، أنقذ من ضجيج الثورة وعجيجها ولكن أعوزته فتنة الأفكار المتحدية. وكانت صحف فيينا الخاضعة لرقابة دقيقة عوائق غبية للفكر، وربما باستثناء "الفيير تسايتونج" التي أسست في 1780. أما مسارح فيينا فكان ديدنها الأوبرا للأرستقراطية والبلاط، أو الملاهي الغليظة لعامة الشعب. كتب ليوبولد موتسارت يقول إن "شعب فيينا في جملته لا يشعر بالحب لأي شيء جاد أو معقول، بل إن أفراده لا يفهمونه. وفي مسارحهم البراهين الوفيرة على أن الهراء المطلق دون غيره هو الذي يرضيهم-كالرقصات والمنوعات المسرحية الخفيفة (البرلسك) والتهريجات وحيل الأشباح وألاعيب الشيطان" (19). ولكن بابا مونسارت كان قد خيب أمله استقبال فيينا لولده.
هذا الخليط من الممثلين والموسيقيين والعامة والأقنان والبارونات ورجال البلاط والكنيسة حكمته الإمبراطورة العظيمة بسهر الأم واهتمامها الشديد. وكان زوجها فرانسوا اللوريني قد توج إمبراطوراً في 1745، ولكن مواهبه وجهته إلى التجارة لا الحكم. فنظم الصناعات، وزود الجيوش النمساوية بالحلل والخيول والسلاح، وباع الدقيق والعلف لفردريك(40/220)
بينما كان هذا مشتبكاً في حرب مع النمسا (1756) (20)، وترك إدارة الإمبراطورية لزوجته. على أنه في الأمور الزوجية كان يتشبث بحقوقه، وقد أنجبت له الإمبراطورة التي أحبته رغم خياناته ستة عشر طفلاً (21). وربتهم في محنة وصرامة، وأكثرت من تعنيفهم، وأعطتهم من جرعات الفصيلة والحكمة ما جعل ماري أنطوانيت تبتهج بالفرار إلى فرساي، أما يوزف فكان يتسلى بالفلسفة. ودبرت الخطط بمهارة لتحصيل على مراكز مريحة لأبنائها الآخرين، فجعلت ابنتها ماريا كارولينا ملكة على نابلي، وابنتها ليوبولد دوقاً أكبر لتسكانيا، وأبتها فرديناند حاكما على لمبارديا. وكرست نفسها لإعداد ولدها البكر يوزف للاضطلاع بالتبعات الجسام التي ستخلفها له، وراقبت في قلق تطوره أثناء التعليم والزواج، وزعزع الفلسفة وخطوب الحب، حتى أتى الوقت الذي رفعته في نشوة من المحبة والتواضع وهو في الرابعة والعشرين ليتربع بجوارها على عرش الإمبراطورية.
3 - يوزف في مرحلة النمو
1741 - 1765
كانت قد وكلت اليسوعيين بتعليمه، ولكنها في سبق لأفكار روسو طلبت أن يعلم كما لو كان يلهو. (22) فلما ناهز الرابعة شكت من أن "ولدي يوزف لا طاقة له على الطاعة" (23) ولا غرور فالطاعة ليست لهواً. ذكر السفير البروسي حين كان يوزف في السادسة "لقد كون فكرة مغرورة عن منصبه" ولجأت ماريا تريزا إلى التهذيب وفرض التقوى، ولكن الصبي وجد الطقوس الدينية مملة، وأنكر الأهمية التي يعلقها الناس على العالم فوق الطبيعي. فحسبه العالم الذي يعيش فيه ويرث جزءاً منه. وما لبث أن سئم إتباع العقائد السنية وأكتشف ما في فولتير من فتنة. وفيما عدا ذلك لم يكن يهتم اهتماماً يذكر بالأدب، ولكنه شغف بالعلوم والاقتصاد والتاريخ والقانون الدولي. ولم يتخلص قط مع الزمن من غطرسة صباه(40/221)
وكبريائه، ولكنه ترعرع وأصبح فتى وسيماً يقظاً لم تباعد أخطاؤه بعد بينه وبين أمه. فكان في أسفاره يكتب لها رسائل تفيض رقة بنوية حارة.
فلما بلغ العشرين عين عضوا في مجلس الدولة (شتاتسرات). ولم يلبث (1761) أن وضع ورقة تحمل أفكاره في الإصلاح السياسي والديني وقدمها إلى أمه، وظلت هذه الأفكار جوهر سياساته إلى نهاية حياته. وقد أشار على الإمبراطورة بأن تنشر التسامح الديني في ربوع مملكتها، وتقلص سلطة الكنيسة، وتخفف عن الفلاحين أعباء الإقطاع، وتسمح بحرية أكبر في انتقال السلع والأفكار. (24) وطلب إليها أن تقلل من نفقة البلاط ومراسمه، وتزيد من نفقة الجيش. وقال إن على كل عضو في الحكومة أن يعمل ليستحق راتبه، وإن من الواجب فرض الضرائب على الإشراف شأنهم شأن سائر الشعب. (25)
وكان أثناء ذلك يتعلم جانباً آخر من الحياة. ذلك أن لويس الخامس عشر كان قد عرض حفيدته إيزابللا البارسية عروساً تصلح للدوق الأكبر، كجزء من اتفاق عكس الأحلاف. وبدأ أن الحظ حالف يوزف: فإيزابللا فتاة في الثامنة عشر جميلة ذات خلق طيب باستثناء ميلها للاكتئاب. وفي 1760 جاءت عبر الألب في قافلة يجرها ثلاثمائة جواد. واحتفل بالزفاف في مهرجان باذخ، وسعد يوزف بأن يجد بين ذراعين مخلوقاً بهذا الحسن. ولكن إيزابللا كانت عميقة الإيمان باللاهوت الذي تلقته، ولم تجد لذة في كل الهبات التي حبتها بها الحياة، بل تاقت إلى الموت. كتبت إلى أختها في 1763 تقول "أن الموت رحيم، ولم أفكر فيه يوماً أكثر مما أفكر فيه الآن. وكل شيء يوقظ في الرغبة في أن أموت سريعاً. علم الله كيف أتمنى أن أترك حياة تهينه تعالى كل يوم ... ولو كان مسموحا للمرء أن يقتل نفسه لما ترددت في ذلك" (26). وفي نوفمبر 1763 أصيبت بالجدري، ولم يبد منها أي تشجيع للأطباء الذين حاولوا شفاءها، فما انقضت خمسة أيام حتى ودعت الحياة. أما يوزف الذي أحبها عميقاً فلم يفق من هذه اللطمة.(40/222)
وبعد شهور أخذه أبوه إلى فرنكفورت-على-المين ليتوج ملكاً على الرومان-وهي الخطوة التقليدية إلى العرش للإمبراطوري. وهناك انتخب في 26 مارس 1764 (وكان الشاب جوته بين الجمع الحاضر)، وفي 3 إبريل توج. ولم يستمتع بالمراسم المطولة، والخدمات الدينية، والخطب، وشكا في خطاب لأمه من "الهراء والحماقات البالية التي كان لزاماً علينا أن نستمع إليها طوال اليوم. أنه يقتضي جهوداً جبارة أن أمنع نفسي من مصارحة هؤلاء السادة بملغ ما في عملهم وكلامهم من بلاهة. "ولم يكف خلال هذا كله عن التفكير في الزوجة التي فقدها. "علي أن أبدو في غاية الابتهاج رغم ما يعتصر قلبي من ألم ... أنني أحب الوحدة .. ومع ذلك يجب أن أعيش بين الناس .. وعلي أن أثرثر طوال النهار وأفوه بأحاديث كلها لغو وتفاهة (27) ". ولابد أنه أحسن إخفاء مشاعره، لأن أخاه ليوبولد قرر أن "ملكنا-ملك الرومان-ساحر دائماً، رائق المزاج دائماً، مرح، كيس، مؤدب، وهو يكسب جميع القلوب (28) ".
فلما عاد إلى فيينا أبلغ بضرورة زواجه ثانية، ذلك أن استمرار الحكومة المنتظم اقتضى فيما يبدو استمرار أسرة هابسبورج. واختار كاونتز زوجة له هي يوزيفا البافارية، لأن كاوتنز كان يأمل أن يضيف بافاريا إلى ملك النمسا. ووقع يوزف مشروع الزواج الذي وضعه له كاونتز، وبعث به، وكتب إلى دوق بارما (والد ايزابيللا) وصفاً ليوزيفا قال فيه "إنها مخلوق صغير قصيرة بدينة تجردت من سحر الشباب، على وجهها دمامل وبقع حمراء وأسنان منفرة .. فاحكم بنفسك ما كلفني هذا القرار .. ألا رفقاً بي، ولا يفتر حبك لابن لك قد دفن في قلبه إلى الأبد صورة معبودته رغم أن له زوجة ثانية" (29). وقد زف يوزف إلى يوزيفا في بواكير عام 1765. وحاولت أن تكون له زوجة صالحة، ولكنه زهد فيها سراً وعلانية. وقاست في صمت، ثم ماتت بالجدري في 1767. ورفض يوزف أن يتزوج مرة أخرى. وكرس الآن مل بقي من حياته للحكم وفية مزيج محزن من الفتور والإخلاص، من المثالية والغرور.(40/223)
4 - الأم وولدها
1765 - 1780
طلت ماريا تريزا فترة محطمة الجسد والعقل بعد موت الإمبراطور فرانسوا الأول (18 أغسطس 1765). وشاركت خليلته الحزن عليه، وقالت لها: "يا عزيزتي الأميرة؛ لقد فقدت كلتانا الكثير". (30) وقصت شعرها، وتصدقت بصيوان ثيابها، ونبذت كل أنواع الخلي ولبست السواد إلى يوم مماتها. وسلمت شؤون الحكم ليوزف ورددت حديث الاعتكاف في أحد الأديرة. على أنها عادت إلى الحياة العامة لخشيتها من أن يكون وريثها الطائش غير كفء للحكم؛ ثم وقعت في 17 نوفمبر إعلاناً رسمياً بالمشاركة في الحكم. واحتفظت بالسلطة العليا في الشؤون الداخلية للنمسا والمجر وبوهيميا؛ أما يوزف فتقرر باعتباره إمبراطوراً أن يناط به الشؤون الخارجية الجيش؛ ثم الإدارة والمالية بسلطة أقل؛ ولكنه في الشؤون الخارجية قبل إرشاد، كاونتز، وفي جميع الميادين خضعت قراراته لمراجعة الإمبراطورة. وقد خفف احترامه وحبه لأنه من حدة شغفه بالسلطة. فلما أشرفت على الموت تقريباً بالجدري في 1767 لزم سريرها إلا نادراً؛ وأذهل الحاشية بعمق قلقه وحزنه. وأخيراً أقنعت هذه الهجمات الثلاث التي أصاب بها المرض الأسرة المالكة الأطباء النمساويين بإدخال التطعيم ضد الجدري.
وأقلق الابن النحب أمه بإلحاح أفكاره المطالبة بالإصلاح. ففي نوفمبر 1765 أرسل إلى مجلس الدولة مذكرة لابد أنها أفزعت قراءها:
"رغبة في الاحتفاظ بالمزيد من كفاءة الرجال القادرين على خدمة الدولة سأصدر أمراً-مهماً قال البابا وجمع الرهبان في العالم-يحرم انقطاع أي من رعاياي للعمل الكنسي قبل ... سن الخامسة والعشرين. فالعواقب والوخيمة-للجنسين-التي كثيراً ما تنجم عن النذور المبكرة خليق بها أن تقنعنا بنفع هذه الترتيب، فضلاً عن المبررات المتصلة بالدولة.
"وينبغي أن يكون التسامح الديني والرقابة المعتدلة على المطبوعات،(40/224)
والكف عن المحاكمة على الأخلاق وعلى التجسس في خصائص الناس-ينبغي أن يكون هذا كله من مبادئ الحكم الأساسية. إن الدين والأخلاق هما ولا شك من بين أهداف الملك الرئيسية". ولكن غيرته يجب ألا تتجاوز الحد إلى عقاب الأجانب وتحويلهم عن دينهم. فالعنف لا جدوى منه في مسائل الدين والأخلاق؛ إنما الحاجة إلى الإقناع. أما عن الرقابة فينبغي أن نكون شديدي التنبه لما يكتب ويباع ولكن تفتيش جيوب الناس وحقائبهم ولا سيما الأجانب إجراء متطرف في الغيرة. ومن اليسير أن نثبت أن كل كتاب محرم يوجد الآن في فيينا رغم الرقابة الصارمة على المطبوعات الآن، وفي وسع أي إنسان أن يغريه هذا التحريم أن يشتريه بمثلي ثمنه ..
"ويجب دفع الصناعة والتجارة قدماً بحظر جميع البضائع الأجنبية فيما عدا التوابل، وبإلغاؤ الاحتكارات، وإنشاء مدارس تجارية، وبالقضاء على الوهم الذي يزعم أن الاشتغال بالتجارة لا يتفق مع النبالة.
وينبغي تقرير حرية الزواج، حتى ما ندعوه الآن بالزواج غير المتكافئ. فلا القانون إلهي ولا الطبيعي يحرمه، فالتحيز وحده هو الذي يوهمنا بأنني أعظم قدراً لأن حدي كان كونتاً، أو لأنني أملك رقاً وقع عليه شارل الخامس. أننا لا نرث من آبائنا غير الوجود البدني، إذن فالملك أو الكونت أو البرجوازي أو الفلاح كلهم سواء (31) ".
ولابد أن ماريا تريزا ومستشاريها قد شموا ريح فولتير أو "الموسوعة" في هذه المقترحات. وكان على الإمبراطور الشاب أن يسير الهوينا، ولكنه تقدم. فنقل إلى الخزانة عشرين مليون جولدن-نقداً وسندات وأملاكاً-خلفها له أبوه يف وصيته، ثم غير الدين القومي بفائدة أربعة في المائة بدلاً من ستة. وباع أراضي الصيد والقنص التي كانت للإمبراطور المتوفى، وأمر بذبح الخنازير البرية التي كانت هدفاً وأداة تدمير لمحاصيل الفلاحين. وفتح البراتر وغيره من البساتين للشعب رغم احتجاجات النبلاء ولكن بموافقة أمه (32).(40/225)
وفي 1769 صدم الإمبراطور والبلاط بذهابه إلى نايسي في سيليزيا وقضائه ثلاثة أعوام أيام (25 - 27 أغسطس) في مناقشات ودية مع فردريك الأكبر أعدى أعداء النمسا. وكان قد أخذ عن ملك بروسيا فكرة الملك "الخادم الأول للدولة". وأعجب بإخضاع فردريك الكنيسة للدولة، والتسامح مع شتى المذاهب والديانات، وحسد بروسيا على تنظيمها العسكري وإصلاح شرائعها. وقد شعر كلا الرجلين أن الوقت حان لإغراق خلافتهما في اتفاق وقائي ضد روسيا الصاعدة. وكتب يوزف لأمه يقول "بعد العشاء ... دخنا ودار حديثنا حول فولتير (33) " ولم يكن الملك البالغ من العمر آنئذ سبعة وخمسين عاماً فكرة طيبة عن الإمبراطور ذي الثمانية والعشرين. كتب يقول "لقد اتخذ الملك الشاب مظهر الصراحة الذي ناسبه تماماً ... أنه رغب في أن يتعلم، ولكنه لم يؤت من الصبر ما يتيح له أن يعلم نفسه، ومنصبه الرفيع يجعله سطحياً والطمع الذي لا حد له ينهش قلبه .. وله من الذوق ما يكفي لقراءة فولتير وتقدير مزاياه (34).
وقد حمل المنذر بالخطر، الذي حققته كاترين الثانية في روسيا، كاونتز على ترتيب اجتماع ثانٍ مع فردريك. والتقى الملك والإمبراطور والأمير في تويشتات بمورافيا في 3 - 7 سبتمبر 1770. ولابد أن يوزف تطور تطوراً كبيراً خلال ذلك العام، لأن فردريك كتب الآن إلى فولتير يقول "أن الإمبراطور الذي نشئ في بلاط متعصب قد نبذ الخرافة، واتخذ العادات البسيطة رغم أنه ربي في جوف مترف، وهو متواضع رغم ما يحرق له من بخور، وهو مع شوقه للعظمة والمجد يضحي بأطماعه في سبيل واجبه البنوي (35).
وكان هذان اللقاءان جزءاً من تربية يوزف السياسية. وقد أضاف إليها بزيارة ممتلكاته وفحصه مشكلاتها وإمكاناتها بنفسه. ولم يزرها بوصفه إمبراطور بل سافر مثل عامة الناس يركب جواداً. وتجنب(40/226)
المراسم ونزل في الفنادق بدلاً من قصور الريف. وحين زار المجر في 1764 و1768 لاحظ فقر الأقنان المدقع وصعق حين رأى في أحد الحقول جثث أطفال ماتوا جوعاً. وفي 1771 - 72 رأى مثل هـ1افي بوهيميا ومورافيا وكان حيثما ذهب يسمع أنباء أو يشهد الأدلة على خشية الإقطاعيين وجوع الأقنان. وكتب يقول "إن الموقف الداخلي لا يصدق ولا يوصف، أنه يفطر القلوب (36) ". فلما عاد إلى فيينا سخط على التحسينات التافهة التي ينويها مستشارو الإمبراطورة فقال "إن الإصلاحات الصغيرة لن تجدي قتيلاً، إذ لابد من تغيير في الكل". واقترح البدء بالاستيلاء على بعض الأرضي الكنسية في بوهيميا ليبني فوقها مدارس وملاجئ ومستشفيات. وبعد نقاش طويل اقنع المجلس بأن يصدر (1774) قانوناً ميسراً يقلل وينظم حجم تشغيل اٌنان (الذي كان البوهيميون يسمونه روبوتا) الواجب عليهم للسيد الإقطاعي وقاوم إقطاعيو بوهيميا والمجر، وهب الأقنان البوهيميون في ثورة غير منظمة، فأخضعتهم قوات الجيش. ولامت ماريا تريزا ابنها على هذه الضجة الكبرى فكتبت لعاملها في باريس مرسي دارجنتو:
"إن الإمبراطور الذي يسرف في شعبيته قد أفرط في الحديث خلال لرحلاته المختلفة ... حول الحرية الدينية وتحرير الفلاحين. وقد أحدث هذا كله الاضطراب في جميع ولايتنا الألمانية ... فليس الفلاح البوهيمي وحده هو الذي يخشى منه، بل المورافي والستيري والنمساوي أيضاً، لا بل أنهم في قسمنا يجرءون على التمادي في أشد الوقاحات (37) ".
وزاد توتر العلاقات بين الابن والأم (1772) حين انظم يوزف إلى فردريك وكاترين الثانية في التقسيم الأول لبولندا. فاحتجت على اغتصاب أمة صديقة وكاثوليكية. وبكت حين أقنعها يوزف وكاونتز بعد إلحاح بإضافة توقيعها إلى الاتفاق الذي أعطى شطراً من بولندا للنمسا. وقد علق فردريك بخبث "أنها تبكي، ولكنها تأخذ (38) ". على أنها كانت مخلصة في أسفها كما نرى من خطابها لولدها فرديناند "كم من مرة جاهدت لأتجنب اشتراكي في عمل يلوث ملكي(40/227)
كله؟ ليت الله يمنحني الإعفاء من تبعته في عالم آخر. إنه يثقل قلبي ويعذب ذهني، ويشيع المرارة في أيامي (39).
وقد تأملت خلق ولدها في خوف ومحبة. "إنه يحب الاحترام والطاعة،، ويرى المعارضة شيئاً كريهاً لا يكاد يحتمل ... وكثيراً ما يكون غير مراع لشعور الآخرين ... وحيويته الكبيرة المتزايدة تفضي إلى رغبة عاتية في أن ينال ما يريد بكل دقائقه ... أن لولدي قلباً طيباً. ومرة أنبته بمرارة:
"حين أموت أخادع نفسي بأنني سأظل حية في قلبك، بحيث لا تخسر الأسرة والدولة بموتي ... أن تقليدك (لفردريك) ليس بالأمر السار. فهذا البطل ... هذا الفاتح-أله صديق واحد؟ ... أية حياة هذه التي تنعدم فيها الإنسانية. أياً كانت مواهبك فليس أن تكون جربت كل شيء. حذار من الوقوع في خطيئة الحقد؟ إن قلبك ليس شريراً إلى الآن، ولكنه سيكون كذلك. لقد حان الوقت للكف عن التلذذ بكل هذه الملاحظات الظريفة، هذه الأحاديث الذكية البارعة التي لا هدف لها إلا السخرية من الغير ... إنك عابث تتظاهر وأنت في الواقع لست إلا مقلداً عديم التفكير حين تحسب نفسك مفكراً مستقلاً (40) ".
وكشف يوزف عن جانبه من الموقف في خطاب إلى ليوبولد:
"لقد بلغت شكوكنا وعدم ثقتنا هنا قمة لا تستطيع تخيلها. فالواجبات تتراكم كل يوم ولا شيء يعمل. وأنا أكدح كل يوم حتى الخامسة أو السادسة لا يتخلل ذلك غير ربع ساعة أتناول فيها الطعام وحيداً، ومع ذلك لا شيء يحدث. فإن أسباباً تافهة، ودسائس طالما كنت ضحيتها تسد الطريق، وكل شيء أثناء ذلك يذهب إلى الشيطان. أنني أهديك منصبي بوصفي الابن البكر (41) ".
وقد احتقر الرجال الذين شاخوا في خدمة أمة. ولم يؤيده غير كاونتز، ولكن في حذر يغيظه.(40/228)
وأما الإمبراطورة المسنة فقد استمعت إلى أفكار ابنها الثورية في ذعر. وصارحته برأيها:
"إن أهم مبادئك السياسية هي: 1 - إطلاق الحرية في ممارسة الدين، وهو ما لا يستطيع ملك أو أمير كاثوليكي السماح به دون أن يتحمل تبعة ثقيلة. 2 - القضاء على طبقة النبلاء القنية ... 3 - الدفاع عن الحرية في كل شيء وهو مبدأ يتردد كثيراً جداً ... أنني بلغت من الشيخوخة حداً لا يستطيع معه تقبل أفكار كهذه، وأسأل الله ألا يجربها خلفي أبداً. أن التسامح الديني، وعدم الاكتراث واللامبالاة هما بالضبط يكبح الجماح؟ لا ضابط ولا المشنقة ولا دولاب التعذيب .. إنني أتكلم سياسياً لا كمسيحية. فما من شيء ألزم وأنفع من الدين. أتريد السماح لكل إنسان بأن يسلك على هواه؟ وإذا لم يكن هناك عادة ثابتة، وخضوع للكنيسة، فأين ترانا نكون؟ ستكون النتيجة قانون القوة ... ليس لي من أمنية إلا أن أستطيع حين أموت الانضمام إلى أسلافي متعرية بأن ابني سيكون عظيماً تقياً كأجداده، وأنه سيقلع عن حججه الباطلة، وعن الكتب الشريرة، وعن الاتصال بأولئك الذين أغووا روحه على حساب كل شيء ثمين مقدس، لا لشيء إلا لإقامة حرية موهوبة لا يمكن .. أن تفضي لغير الخراب الشامل (42) ".
ولكن إذا كان ثمة شيء يتوق إليه يوزف فهو حرية الدين. ربما لم يكن ملحداً كما خاله بعضهم (43)، ولكنه كان قد تأثر تأثيراً عميقاً بأدب فرنسا. وكانت جماعة من رجال الفكر النمساويين وقد ألفت فعلاً في 1772 حزب التنوير (44). وفي 1772 نشر جورجي بيسينيي المجري في فيينا مسرحية تردد أفكار فولتير، وقد قبل الدخول في الكاثوليكية إرضاء لماريا تريزا، ولكنه ارتد إلى العقلانية بعد موتها (45). ولا ريب أن يوزف كان على علم بهذا الكتاب المشهور المسمى "الوضع الكنسي والقانوني لبابا روما" (1763)، الذي أكد فيه أسقف كاثوليكي بارز تخفى تحت اسم فيرونيوس، من جديد سمو المجامع(40/229)
العامة على الباباوات، وحق كل كنيسة قومية في أن تحكم نفسها. ورأى الإمبراطور الشاب في ثروة الكنيسة النمساوية الموطدة الأركان عقبة كؤوداً في طريق التطور الاقتصادي، وفي سيطرة الكنيسة على التعليم، المعوق الأكبر لنضج العقل النمساوي. وفي يناير 1770 كتب إلى شوازيل:
"أما عن خطتك للتخلص من اليسوعيين فأنا موافق عليها موافقة تامة ... ولا تسرف في الاعتماد على أمي، فإن التعلق الوثيق باليسوعيين صفة موروثة في أسرة الهابسبورج ... على أن لك صديقاً في كاونتز، وهو ينفذ ما يشاء من الإمبراطورة (46) ".
ويبدو أن يوزف استعمل نفوذه في روما ليوصل كلمنت الرابع عشر إلى الخطوة النهائية، وقد أبهجه إلغاء البابا للطائفة 1773 (47).
ولو عرفت ماريا تريزا من خطابات ولدها مبلغ انحرافه إلى معسكر "الفلاسفة" لصعقت. لقد بذلت قصاراها لتمنع حل جمعية اليسوعيين، ولكن كاونتز أقنعها بالامتثال لرأي سائر الدول الكاثوليكية. كتبت إلى صديقة لها تقول "إنني مغمورة يائسة لما أصاب اليسوعيين. لقد أحببتهم وأكرمتهم طوال حياتي، ولم أرَ قط فيهم غير كل شيء بناء للروح (48) ". وقد عطلت تنفيذ الأمر البابوي بتعيين لجنة لدراسة. وأتيح لليسوعيين النمساويين الوقت لنقل أموالهم ومقتنياتهم الغالية وأوراقهم من البلد. وصودرت أملاك اليسوعيين، ولكن الإمبراطورة حرصت على أن يلتقي أعضاء الطائفة المعاشات والثياب وشتى العطايا.
ووسع اغتباط يوزف الواضح بحل جماعة اليسوعيين الهوة بين الأم وولدها. ففي ديسمبر 1773 انهار تحت وطأة التوتر وتوسل إليها أن تعفيه من كل مشاركة في شؤون الحكم. وأفزعها اقتراح مذهل كهذا، وكتبت إليه نداء مؤثراً للمصالحة:
"يجب أن أعترف بأن قدراتي، ووجهي، وسمعي، وحذقي-كلها(40/230)
تتدهور سريعاً وبأن الضعف الذي ارتعت منه طوال حياتي-وهو التردد في اتخاذ القرارات-يرافقه الآن، تثبيط الهمة والافتقار إلى الخدام الأوفياء فالجفوة منك ومن كاونتز وموت مستشاري المخلصين، والمروق عن الدين، وتدهور الأخلاق، والرطانة التي تجري على كل لسان، والتي لا أفهمها-كل هذا يكفي لسحقي. أنني أقدم لك كامل ثقتي، وأسألك أن تنبهني لأي خطأ ارتكبه .. أعن أما ... تعيش في وحدة، وسيقضي عليها أن ترى كل جهودها وأحزانها ذهبت أدراج الرياح. قل لي ما تريد أفعله لك (49) ".
وتصالح معها، ووافقت المرأة التي حاربت يوماً فردريك وأوقفت تقدمه، مؤقتاً على أن تتعاون مع تلميذ فردريك المعجب به. واستخدما معاً ثروة اليسوعيين المصادرة في الإصلاح التعليمي. وفي 1774 أصدرا "نظاماً عاماً للتعليم" أحدث تنظيماً جديداً أساسياً للمدارس الابتدائية والثانوية. فوفرت مدارس متدرجة للتعليم الإلزامي لجميع الأطفال، وسمحت بدخول البروتستنت واليهود طلاباً ومعلمين، وقدمت لتلاميذها التعليم الديني في كل دين، ولكنها وضعت الأشراف في أيدي موظفين حكوميين. وسرعان ما أصبحت مدارس الشعب Voikschulen هذه تعد خير المدارس في أوربا. وأنشئت مدارس لتدريب المعلمين، وتخصصت المدارس العليا Hauptschulen في العلوم والتكنولوجيا، وعلمت المدارس الثانوية Gymnasien اللاتينية والعلوم الإنسانية، وخصصت جامعة فيينا إلى حد كبير للقانون والعلوم السياسية والإدارة، وأدت وظيفة دار الحضانة لموظفي الدولة. واستبدل بإشراف الكنيسة على التعليم إشراف من الدولة لا يقل عنه صرامة ودقة.
واستمر التعاون بين الأم وولدها فألغى التعذيب (1776). ولكن الاتفاق بينهما حطمته أحداث السنة التالية. ذلك أن يوزف كان بنوي منذ زمن زيارة باريس-لا ليرى "الفلاسفة" وسيدفئ في الصالونات، بل ليدرس موارد فرنسا جيشها وحكومتها، وليرى ماري أنطوانيت،(40/231)
وليقوي الروابط التي ربطت ربطاً واهياً جداً بين الأعداء القدامى في حلفهما الهش. فلما مات لويس الخامس عشر، وبدا أن فرنسا على شفا التمزق، كتب يوزف إلى ليبوبولد يقول: "أنني قلق على أختي فسيكون عليها أن تلعب دوراً شاقاً (50) ". ووصل باريس في 18 إبريل 1777، وحاول أن يتكتم زيارته فتخفى تحت اسم الكونت فون فلكشتين وأشار على الملكة الشابة المرحة بأن تقلع عن الإسراف والطيش، وصبغ وجنتيها وشفتيها، وأصغت إليه في ضجر. وحاول ولكنه فشل في كسب لويس السادس عشر إلى حلف سري لكبح توسع روسيا (51). وتحرك بسرعة في أرجاء العاصمة و"لم تمضِ أيام حتى عرف عنها أكثر مما سيعرف لويس السادس عشر طوال حياته (52) ". وزار الأوتيل ديو ولم يخف دهشته لسوء الإدارة غير الإنسانية لذلك المستشفى. وفتن أهل باريس، وذعرت حاشية فرساي، حين وجدت أرفع ملوك أوربا يمشي في زي مواطن بسيط، يتكلم الفرنسية كأحد أبنائها. ويلتقي بجميع الطبقات دون تكلف. أما عن نجوم الأدب فقد التمس أولاً لقاء روسو ويوفون. وحضر أمسية عند مدام نكير، والتقى بجبون، ومارمونتيل، والمركيزة دودفان، ومما يشرفه أن رباطة جأشها وشهرتها أربكتاه أكثر مما أربكها مقامه الرفيع، فالعمى يسوي بين الناس لأن الشالات يتكون نصفها من الثياب. وحضر جلسة لبرلمان باريس وأخرى للأكاديمية الفرنسية. وأحس الفلاسفة أنهم وجدوا في النهاية الحاكم المستنير الذي تطلعوا إليه أداة لثورة سليمة. وبعد أن قضى يوزف شهراً في باريس تركها في جولة بالأقاليم فسافر شمالاً إلى نورمندية، ثم على الساحل الغربي إلى بايون، ثم تولوز، فمونيليه فمرسليا، ثم صعد مع الرين إلى ليون وشرق إلى جنيف. ومر بفرنيه دون أن يزور فولتير، إذ لم يشأ أن يغضب أمه أو يرتبط جهاراً برجل يخاله الشعب النمساوي والملك الفرنسي شيطاناً مجسماً.
وكان حريصاً على استرضاء أمه، لأن عشرة آلاف مورافي هجروا(40/232)
الكثلكة في غيبته إلى المذهب البروتستنتي، وكان رد الفعل من جانب ماريا تريزا-أو مجلس الدولة-على هذه الكارثة اتخاذ إجراءات تذكرنا بغارات الفرسان على بيوت الهجونوت أيام لويس الرابع عشر. فقبض على زعماء الحركة وشتتت اجتماعات البروتستنت وجند المتحولون العنيدون في الجيش وفرضت عليهم الأشغال الشاقة وأرسلت نساؤهم إلى الملاجئ. فلما عاد يوزف إلى فيينا قال لأمه محتجاً "أن السبيل لإعادة هؤلاء الناس إلى الكثلكة أن تجعلي منهم جنوداً أو ترسليهم إلى المناجم أو تستخدميهم في الأشغال العامة ... يجب أن أعلن صراحة ... أن المسئول عن هذا الأمر، أيا كان، هو أحقر خدامك، وهو لا يستحق مني غير الازدراء، لأنه أحمق وقصير النظر (53) ". وأجابت الإمبراطورة بأنها ليست مصدرة هذه المراسيم بل مجلس الدولة، ولكنها لم تسحبها. وجاء وفد من المورافيين البروتستنت لمقابلة يوزف، فأمرت ماريا تريزا بالقبض على أفراده. وكانت الأزمة بين الأم وولدها تسير إلى طريق مسدود حتى أقنعها كاونتز بسحب المراسيم. فأوقفت الاضطهادات، وسمح لمعتنقي البروتستنتية بممارسة عبادته الجديدة شريطة أن يكون ذلك في هدوء ببيوتهم. وتوقف صراع الجيلين برهة.
ثم استؤنفت لما مات مكسمليان يوزف ناخب بافاريا في 30 ديسمبر 1777 دون أن يعقب بعد حكم طويل رخي. وفي الصراع على وراثة دولته أيد يوزف الثاني ناخب بالاتين شارل (كارل) تيودور شريطة أن ينزل للنمسا عن جزء من بافاريا، وأيد فردريك الأكبر شارل دوق تزافا يبروكن، وأعلن أنه سيقاوم أي محاولة من النمسا لتملك أرض بافارية. وحذرت الإمبراطورة ولدها من تحدي ملك بروسيا الذي لم يزل منيعاً لم يقهر بعد. ولكن يوزف تجاهل نصيحتها، وأيده كاونتز، وجردت قوة نمساوية على بافاريا. وأمر فردريك جيشه بدخول بوهيميا والاستيلاء على براغ ما لم يجل النمساويون عن بافاريا. وقاد يوزف جيشه الرئيسي ليدافع عن براغ، واقترب الجيشان العدوان، ولاح أن حرباً نمساوية بروسية أخرى وشيكة على سفك(40/233)
دماء الأخوة. أما فردريك فقد تجنب خوض المعركة منتهكاً بذلك السوابق والتوقعات، واكتفى بإطلاق جنوده على المحاصيل البوهيمية ليأتوا عليها، وأما يوزف فقد تردد في الهجوم لعلمه بشهرة فردريك قائداً للجيوش. وكان يأمل أن تخف فرنسا لنجدته، وأرسل على وجه السرعة نداءات لماري أنطوانيت. فأرسل له لويس السادس عشر خمسة عشر مليون جنيه، ولكنه لم يستطع أن يفعل أكثر من هذا، لأن فرنسا كانت قد وقعت (6 فبراير 1778) حلفاً من المستعمرات الأمريكية الثائرة، وكان عليها أن تعد نفسها لخوض حرب مع إنجلترا. وأقام يوزف في معسكره نهباً للغيظ والقلق بينما نهبته البواسير في الطرف الآخر.
وهنا قبضت ماريا تريزا على أزمة الأمور انتفاضة أخيرة من انتفاضات الإرادة، وأرسلت إلى فردريك عرضاً للصلح (12 يوليو) ووافق فردريك على للتفاوض، وأذعن يوزف لأمه، وتوسط لويس ملك فرنسا وكاترين قيصرة روسيا في النزاع. وانتهى الأمر بمعاهدة تشن (13 مايو 1779) التي عزت بوزف بأربعة وثلاثين ميلاً مربعاً من بافاريا، ولكن شارل تيودور استأثر بكل ما بقي من تلك الإمارة الناخبة، وهكذا توحدت بافاريا وبالاتينات، واتفق على أن تحصل بروسيا على بايرويت وانسباخ بعد موت حاكمها الأبتر. وادعى كل فريق أنه المنتصر.
هذه الأزمة الثالثة بين فردريك المسن والإمبراطورة المسنة قضت عليها. وكانت لا تتجاوز الثالثة والستين عام 1780، ولكنها كانت بدينة مصابة بالربو، أضعف قلبها حربان وستة عشر حملاً فضلاً عن الهم المقيم. وفي نوفمبر حاصرها مطر غزير وهي راكبة عربة مكشوفة، فأصابها سعال خبيث، ولكنها أصرت على أن تقضي الغد تعمل في مكتبها. وقد قالت مرة "إنني ألوم نفسي على الوقت الذي أنفقه في النوم" (54) وقضت أيام مرضها الأخيرة جالسة على كرسي إذ استحال عليها تقريباً أن تتنفس وهي راقدة. واستدعى يوزف أخوته وأخواته إلى جوارها، وقام على رعايتها في محبة. وطلق الأطباء كل أمل في شفائها فارتضت أن تتناول الأسرار الأخيرة. وفي ساعاتها(40/234)
الأخيرة قامت وتعثرت من كرسيها إلى سريرها. وحاول يوزف أن يريحها فقال "إن جلالتك في سيئ". فأجابت "نعم، ولكنه وضع مناسب للموت فيه". وماتت في 29 نوفمبر 1780.
5 - المستبد المستنير
1780 - 1790
بعد أن حزن يوزف حزناً صادقاً على أم أدرك الآن مبلغ عظمتها، شعر بأنه حر في أن يكون نفسه، وأن يبدأ بتنفيذ أفكاره المتفتحة في الإصلاح. كان الحاكم المطلق للنمسا والمجر وبوهيميا والأراضي الواطئة الجنوبية، وكان أخوه ليوبولد مطيعاً له في تسكانيا، وأخته ماري أنطوانيت معينة له في فرنسا. وأحس إحساساً عميقاً بالفرص التي واتته في قمة حياته وذروة سلطته.
فأي رجل كان يومئذ؟ لقد بلغ الأربعين، ما زال في ربيع الحياة وكان وسيماً جداً حين يغطي رأسه الأصلع بباروكة. وقد وهب عقلاً يقظاً نشطاً نشاط شبه محموم، متمشياً مع جيله، ولكن هدأه شيئاً إلمامه بالتاريخ وخلق البشر. وكان دائم الإحساس بشح الوقت، لذلك لم يخطئ إلا بسبب التسرع والعجلة، وقلما أخطأ عن سوء قصد. وتروي القصص الكثيرة عن رفاهة حسه بخطوب غيره واستعداده لرفع المظالم التي يمكن رفعها (55). وقد أباح للشعب الالتقاء به على قدر ما سمحت به واجباته. وكان يعيش عيشة البساطة ويرتدي من الثياب ما يرتديه أي جندي، ويتجنب الظهور في ثياب الملوك الفاخرة. وكان مبرأ كفردريك من مخاللة الخليللات، ولم يكن له "أصدقاء إغريق"، وكان عمله غرامه الذي استغرقه. وكان كفردريك يبذل من الجهد في عمله أكثر مما يبذل أي مساعد له. وكان قد أعد نفسه إعداداً صادقاً أميناً للقيام بتبعاته، فلم يسافر للمتعة والظهور، بل للملاحظة والدراسة وفحص صناعات الكثير من الأقطار وفنونها وبيوتها الخيرية ومستشفياتها ومحاكمها ومؤسساتها البحرية والحربية؛ ونظر بعينيه هو إلى شعوب مملكته وطبقاتها ومشكلاتها. فصحت نيته الآن، على قدر ما وسع رجلاً واحداً،(40/235)
على تحقيق أحلام الفلسفة. "ما دامت قد ارتقت العرش، ولبست أعظم تاج في العالم، فقد جعلت الفلسفة المشرع لإمبراطوريتي" (56) ونظر الفلاسفة في كل أرجاء أوربا إلى المغامرة الكبرى وكلهم تطلعات صادقة.
وكانت أولى الصعوبات في طريقه أن يجد الأعوان الذين يشاركونه حلمه. فأكثر الذين آلوا إليه بالوراثة كانوا من الطبقات العليا التي اختزلت إصلاحاته امتيازاتهم. لقد أيده كاونتز وفان شفيتن، وشجعه اثنان من المستشارين الخصوصيين-هما كوالتنبورج وجيلر-واثنان من أساتذة جامعة فيينا هما-مارتيني وزوننفيلس-، ولكن الأعوان الأدنى مرتبة من هؤلاء لم يكونوا سوى بيروقراطيين تجمدوا في المألوف من العادات، واستراحوا إلى الموروث من التقاليد، وقاوموا التغيير تلقائياً. وراح يوزف في عجلة لا تسمح بالمجاملة يعامل هؤلاء الأعوان معاملة الخدم، ويربكهم بحشد من الأوامر، ويطلب إليهم إبلاغه عن أي خطأ جسيم يرتكبه مساعدوهم (57)، ويغرقهم بالاستبيانات ويطالبهم بجهد لا يفتر كجهده. ووعدهم هم وأراملهم بمعاشات يستحقونها بعد خدمة عشر سنين، فشكروه، وأنكروا أساليبه، وسدروا في كبريائهم. وأفضت ثقة يوزف بعدالة أهدافه إلى ضيقه بكل نقد أو نقاش. وكتب إلى شوازيل (الذي كان الآن ينعم بالتقاعد) "عش أسعد مما أستطيع إنني لم أكد أعرف السعادة، وسوف أشيخ قبل أن أكمل الطريق الذي رسمته لنفسي" (58). ولكن أجله قصر عن أن يدرك سن الشيخوخة.
وقد نبذ كل تفكير في الديمقراطية، فقد أحس أن أفراد شعبه غير مستعدين لإصدار الحكم الصائب في السياسة، وأنهم باستثناءات قليلة سيعتنقون أي آراء يتسلمونها من سادتهم أو كهنتهم. وحتى الملكية الدستورية بدت له غير مبشرة بخير؛ فبرلمان كالبرلمان الإنجليزي سيكون مجتمعاً مغلقاً من كبار ملاك الأرض والأساقفة الذين يتحدون أي تغيير جذري. وكان من المسلمات في رأي يوزف أن الملكية المطلقة دون غيرها هي القادرة على تحطيم جدار العادات وكسر أغلال التعصب وحماية الضعفاء السذج من الأقوياء الماكرين.(40/236)
ومن ثم تناول كل مشكلة بشخصه، وأصدر توجيهات نظمت كل مناحي الحياة. ورغبة في تشجع الأمثال لأوامره أنشأ نظام جاسوسية أفسدت عليه حسناته. وكان من مقومات حكمه المطلق أن يجند بالإلزام جيشاً دائماً كبيراً لا يعتمد على أمراء الإقليم، يغذيه بالتجنيد الإلزامي العام، ويخشنه بالتدريب البروسي. وراوده الأمل في أن يقوى هذا الجيش من صوته في المسائل الدولية، وأن يلزم فردريك حدوده، وربما أعانه على التهام بافاريا وطرد الترك من البلقان المجاورة (ولا عجب فقد كان في نفس فيلسوفنا شيء من شهوة التملك). ثم عين لجنة من الفقهاء لإصلاح القوانين وتنسيقها، وبعد أن قضت اللجنة ست سنوات من العمل الشاق نشرت قانوناً مدنياً جديداً للإجراءات القضائية. فخففت العقوبات، وألغيت عقوبة الإعدام. (في إنجلترا المعاصرة كانت مائة جريمة لا تزال تعتبر من الجرائم الجسمية) ولم تعد الشعوذة ولا السحر ولا الارتداد جرائم يعاقب عليها القانون. وحرمت المبارزة؛ واعتبر قضاء المبارز على غريمه في مبارزة جريمة قتل. وجعل الزواج عقداً مدنياً، وأحل الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، وقضى بإمكان الحصول على الطلاق من السلطة المدنية. أما القضاة فلا يعينون إلا بعد تريب خاص وبعد اجتيازهم امتحانات عسيرة، وألغى الكثير من المحاكم الكنسية. وتقررت مساواة جميع الأشخاص أمام القانون، وصعق النبلاء حين عرض أحد أفرادهم في المشهرة وحكم على آخر بكنس الشوارع.
وألغيت القنية بسلسلة من المراسيم، 1781 - 85. وكفل للجميع حق تغيير المسكن أو المهنة، وحق التملك، وحق الزواج بالرضى المتبادر، وأعد محامون خصوصيون لحماية الفلاحين في حرياتهم الجديدة. وفقد البارونات حق محاكمة مستأجريهم جنائياً، ولكن تحاشياً لضعف الإنتاج في ضياع البارونات، أجيز للسادة أن يقتضوا أقنانهم السابقين بعض الخدمات المألوفة.
وشجع بوزف الصناعة الرأسمالية لاقتناعه بأن لوائح الطوائف الحرفية معطلة للتطور الاقتصادي، ولكنه عارض في الاستكثار من الآلات مخافة (أن تحرم الألوف من أرزاقهم) (59). وأعفى العمال الصناعيين من التجنيد،(40/237)
ولكنهم تذمروا من إنقاصه أيام العطلات المقدسة. ثم رفع من مقام التجار ورجال الصناعة والمصارف وخلع عليهم ألقاب الشرف وأسباب التكريم القومي. وألغى المكوس الداخلية أو خففها، ولكنه أبقى على الرسوم الحماية الجمركية المرتفعة على الواردات. ورفع رجال الصناعة الوطنيون الأسعار بعد أن حصلوا على التحصن من المنافسة الأجنبية وانتخبوا السلع الرديئة (60). وساء بروسيا وسكسونيا وتركيا فرض هذه التعريفات فأوصدت أبوابها في وجه حاصلات الإمبراطورية. وفقد الألب والاودر والدانوب بعض تجارتها. وحاول يوزف أن يزيد حركة التجارة البرية مع ثغور الأدرياتيكي بشق طريق جديد هو طريق يوزفينا الذي اخترق جبال الألب الكرنيوليه، وأسس شركة هند شرقية وراوده الأمل في تطوير التجارة مع الشرق وأفريقيا وأمريكا بطريق ثغري فيومي وتريسته الحرين. وفي 1784 أبرم معاهدة تجارية مع تركيا، ولكن بعد ثلاث سنوات أغلقت حربه مع تركيا منافذ الدانوب إلى البحر الأسود وأفلس تجار الدانوب الواحد تلو الآخر.
وتشجيعاً لتداول رأس المال ألغى من القوانين التحريم القديم للفائدة، وأحل القروض بفائدة 5% ورقى مصرفياً يهودياً إلى رتبة البارونية. وقدم القروض الحكومية والاحتكارات الموقوتة إلى المشروعات الجديدة. واقتبس فكرة الفزيوقراطيين في فرض ضريبة واحدة تقع على الأرض فقط، وتتفاوت حسب الموقع والخصوبة، ويؤديها ملاك الأرض كبارهم وصغارهم واقتضى المشروع مسح جميع أراضي الإمبراطورية، فتم هذا بنفقة بلغت 120. 000. 000 جولدن دفعها الملاك. وقضى القانون الجديد بأن يحتفظ الفلاح بسبعين في المائة من محصوله أو دخله، ويعطي للدولة اثني عشر في المائة، ويقسم الباقي بين الفروض الإقطاعية والعشور الكنسية، وكان قبل ذلك يدفع للدولة أربعاً وثلاثين في المائة وللملك تسعاً وعشرين في المائة، وللكنسية عشرة في المائة، ولا يحتفظ لنفسه إلا بسبعة وعشرين في المائة (61). واحتج النبلاء بأن هذا التقسيم الجديد سيجلب عليهم الخراب، وفي المجر قاموا بثورة.(40/238)
وزاد عدد سكان النمسا والمجر وبوهيميا من 187. 700. 000 في 1780 21. 000. 000 في 1790 (62). وقرر كاتب معاصر أن الأكواخ المبنية بالآجر أخذت تحل محل الزرائب الريفية العتيقة، وأن الآجر يأخذ مكان الخشب في منازل المدن (63). وظل الفقر جاثماً على الصدور، ولكن مرسوماً إمبراطورياً صدر في 1781 أنشأ "مؤسسات للفقراء، يستطيع أي شخص عاجز عن التكسب أن يطالب بالمعونة منها دون أن يريق ماء الوجه.
ومع أن يوزف كان من الناحية الرسمية "نائب المسيح" والمدافع عن الكنسية المسيحية و"حامي فلسطين ... والإيمان الكاثوليكي"، فقد شرع بمجرد تقليده زمام السلطة المطلقة في تقليص دور الكنيسة في أراضيه "المورثة"-أي النمسا والمجر وبوهيميا. ففي 12 أكتوبر 1781 أصدر مرسوم التسامح، وبمقتضاه تقررت حرية البروتستنت والروم الأرثوذكس في أن يكون لهم معابدهم ومدارسهم واجتماعاتهم، وفي تملك الأملاك وامتهان المهن الراقية، وشغل المناصب السياسية والحربية. وحث الإمبراطور الشعب على تجنب كل دواعي النزاع بسبب الخلافات المذهبية .... ومعاملة من ينتمون لطائفة دينية أخرى بالود واللطف (64). وفي توجيه أصدره يوزف إلى فان زفيتن كشف في صراحة عن مصادر إلهامه: "إن التعصب قضي عليه في إمبراطوريتي التي قد يسعدها أنها لم تضح بأشخاص مثل كالاس وسرفن ... أن التسامح هو ثمرة انتشار التنوير ( Les Iumieres) الذي شاع الآن في جميع أرجاء أوربا. وهو قائم على الفلسفة، وعلى عظماء الرجال الذي أسسوها ... إن الفلسفة دون غيرها هي التي يجب أن تكون رائد الحكومات" (65).
على أنه كان لهذا التسامح حدود كما كان في مقال فولتير "عن التسامح" (1763)، فقد نبه بعض المستشارين يوزف إلى أن إزالة جميع الضوابط والقيود ستسفر عن نمو العقائد الجامحة نمواً مفرطاً، لا بل الإلحاد السافر، وأن هذا سيفضي إلى المذاهب المتناحرة والفوضى الاجتماعية وامتهان كل سلطة فلما نما إليه أن بضع مئات من البوهيميين جاهروا بالربوبية (1783) أمر بأن أي رجل يجهر بعقيدته هذه "يجب دون مزيد من التحقيق أن(40/239)
يجلد أربعاً وعشرين جلدة على ردفيه بسوط من جلد ثم يصرف". وتكرر هذه العملية كلما تجدد الجهر بهذه العقيدة (66). ورحل بعض الغلاة من الربوبيين إلى المستعمرات العسكرية. وسترى في مكان لاحق إلى أي حد بلغت جهود يوزف في تحرير اليهود.
وكان من نتائج مرسون التسامح الزيادة السريعة في عدد من جهروا بالبروتستنتية في المملكة، من 74. 000 في 1781 إلى 157. 000 في 1786. ونمت حرية الفكر، ولكنها ظلت محصورة في الدوائر الخاصة. أما الماسون الأحرار الذين رسخت أقدامهم في النمسا فقد نظموا في فيينا (1781) محفلاً أنظم إليه الكثير من المواطنين البارزين، وقد حماه الإمبراطور نفسه (رغم ربوبيته المفهومة ضمناً). قال أحد أعضائه "كان هدف الجماعة إعمال حرية الضمير والفكر التي احتضنتها الحكومة هذا الاحتضان الموفق، ومكافحة الخرافة والتعصب في ... طوائف الرهبان التي هي أهم سند لهذه الشرور (67) , وتكاثرت المحافل الماسونية حتى بلغت ثمانية في فيينا وحدها، وأصبح من مجاراة العصر أن ينتمي شخص إليها، وارتدى الجنسان الشعارات الماسونية، وألف موتسارت الموسيقى للحفلات الماسونية. وبمضي الوقت اشتبه يوزف في اشتعال هذه المحافل بالتآمر السياسي. ففي 1785 أمر بأن تندمج محافل فيينا في محفلين فقط، ولم يسمح بأكثر من محفل واحد في عاصمة إقليمية.
وعين يوزف لجنة لتراجع قوانين الرقابة على المطبوعات. وفي 1782 نشر النتائج التي انتهت إليها في مدونة جديدة. فخطرت الكتب التي دأبت على مهاجمة المسيحية أو المحتومة على "عبارات لا أخلاقية وبذاءات قذرة"، ولكن حظرت أيضاً الكتب "المحتومة على أخبار المعجزات والأشباح والرؤى الخرافية وما إلى ذلك مما قد يقضي بعامة الناس إلى الإيمان بالخزعبلات ويثير الاشمئزاز في نفوس الدارسين" (68). وسمح بالمطبوعات المحتومة على انتقادات أو هجائيات ساخرة حتى لو هاجمت الإمبراطور، شريطة أن تحمل اسم المؤلف الحقيقي، وأن تخضع لقانون القذف. وأبيح للدارسين أن يقرءوا في المكتبات الكتب المدرجة في فهرس الكتب التي حرمتها الكنيسة(40/240)
الرومانية. وتعفى الكتب العلمية من الرقابة كلية، وكذلك الكتب الثقافية، شريطة أن تؤكد طابعها الثقافي سلطة معترف بها. وأبيح استيراد الكتب المؤلفة بلغات أجنبية وبيعت دون معوق. ووسعت الحرية الأكاديمية. فلما اتهم أربعة عشر طالباً بجامعة انزبروك معلمهم أمام السلطان لأنه زعم أن العالم أقدم من ستة آلاف سنة، حسم يوزف الأمر بهذه العبارة السريعة الموجزة "يجب أن يطرد الطلاب الأربعة عشر، لأن أدمغة في فقر أدمغتهم لن تفيد من التعليم (69) ". وأثارت النظم الجديدة الاحتجاجات الغاضبة من الكهنوت، فرد يوزف بإعطاء فيينا حرية النشر الكاملة (1787). وحتى قبل هذا التحرير أفاد ناشرو فيينا من التراخي في تنفيذ قانون 1782: فأغرقت النشرات والكتب والمجلات النمسا بالفحش أو ما يقرب من الفحش، وبكشف أسرار الراهبات، وبالهجمات على الكنيسة الكاثوليكية أو على المسيحية ذاتها.
وأحس يوزف أن واجبه أيضاً أن ينظم الشؤون الكنسية. ففي 29 نوفمبر 1781 أصدر مرسوماً أغلق عدداً كبيراً من أديرة الرهبان والراهبات التي "لا تدير مدارس ولا تعنى بمرضى ولا تشتغل بدراسات". فأغلق 413 بيتاً دينياً من 2163 بتاً دينياً في الأقاليم الألمانية (النمسا وستيريا وكارنثيا وكارنيولا). وأفرج عن 27. 000 من شاغليها البالغ عددهم 65. 000 وقررت لهم معاشات، وأجرى مثل هذا الخفض في بوهيميا والمجر. قال يوزف "أن المملكة أشد فقراً وتخلفاً من أن تسمح لنفسها بترف الإنفاق على العاطلين (70) ". أما ثورة هذه المؤسسات المنحلة-التي بلغت نحو ستين مليون جولدن-فقد أعلن أنها ملك للشعب، وصادرتها الدولة.
وأعلن أن الأديرة الباقية لا يجوز لها أن ترث أملاكاً. أما طوائف الرهبان المتسولين فأمرت بأن تكف عن التسول ومنعت من قبول رهبان جدد. وألغيت جماعات الأخوان الدينية. وتقرر أن تسجل جميع الممتلكات الكنسية لدى الحكومة، التي حرمت بيعها أو تبادلها.(40/241)
ثم واصل يوزف جهوده ليخضع الأساقفة الكاثوليك لإشراف الدولة. فاشترط على الأساقفة الجدد أن يقسموا يمين الطاعة للسلطات العلمانية. وتقرر ألا تجار أي لائحة أو مرسوم بابوي في النمسا إلا بإذن الحكومة. أما الأوامر البابوية الصادرة في 1362 و1713، التي دانت المهرطقين والجانسنيين فتهمل. على أن يوزف نظم أبرشيات جديدة، وبنى الكنائس الجديدة، وقد الرواتب لإعانة طلاب القسوسة، وفتح مدارس لاهوتية جديدة ووضع لها برنامجاً يؤكد على العموم المعارف العلمانية كاللاهوت والطقوس سواء بسواء.
وأثارت هذه القوانين الأكليروس في كل أرجاء أوربا. ورجا أحبار كثيرون يوزف أن يلغي مراسيمه المعادية للأكليروس. فلما لم يلق إليهم بالا هددوه بالجحيم، فايتسم ومضى في طريقه. وأخيراً اتخذ البابا بيوس السادس بشخصه، وكان رجلاً وسيماً مثقفاً رقيقاً مغروراً، خطوة غير مألوفة، إذ غادر إيطاليا (27 فبراير 1782) وعبر الابنين والألب في الشتاء ووصل إلى فيينا (22 مارس) وقد عقد النية على الاتجاه برجاء شخصي للإمبراطور، وكانت هذه أول مرة منذ 1414 تطأ فيها أقدام أحد الباباوات أرض ألمانيا. أما يوزف خرج من المدينة مع رفيقيه في الشكوكية كاونتز ليرافقا الحبر الأعظم إلى الأجنحة التي كانت تشغلها ماريا تريزا. وخلال إفاقة البابا كانت الجموع تحتشد كل يوم تقريباً أمام القصر الملكي التماساً لبركته. وقد وصفهم بعد ذلك يوزف بهذه العبارات:
غصت جميع ممرات القصر وسلالمه بالناس، واستحال على الإنسان رغم مضاعفة عدد الحراس أن يحمي نفسه من كل الأشياء التي أتوا بها إليه ليباركها: أوشحة كتفيه، ومسبحات، وصور، وكان يتجمع لنيل البركة التي يمنحها من الشرفة سبع مرات في اليوم حشد من الناس لا يمكن أن يكون المرء فكرة عن ضخامته إلا إذا رآه. وليس من المبالغة القول أنه تجمع مرة ستون ألفاً على الأقل. وكان المنظر غاية(40/242)
في الجمال، فقد أقبل الفلاحون وزوجاتهم وأبنائهم من مناطق تبعد عشرين فرسخاً. وبالأمس ديست امرأة تحت نافذتي مباشرة (71).
وكان تأثر يوزف بمناشدات البابا البليغة أقل من تأثره بهذا الدليل على سلطان الدين على العقل البشري، ومع ذلك واصل إغلاق الأديرة "حينما كان بيوس في ضيافته (73) ". وحذره البابا تحذير المتنبئ. أنك إن مضيت في مشروعاتك المدمرة للإيمان وقوانين الكنيسة فإن يد الرب ستكون ثقيلة الوطأة عليك، وستعطلك في مسيرتك، وستحفر من تحتك هوة تبتلعك وأنت بعد في عنفوانك، وستضع حداً للملك الذي كان في وسعك أن تجعله ملكاً عظيماً مجيداً (73). وبعد شهر من أسباب التكريم والإخفاق عاد بيوس حزيناً إلى روما. وعقب ذلك عين الإمبراطور رئيساً لأساقفة ميلان رجلاً يدعى فسكونتي غير مقبول من الإدارة البابوية، ورفض البابا أن يصدق على التعيين، وأشرفت الكنيسة والإمبراطورية على القطيعة. ولم يكن يوزف مستعداً لمثل هذه الخطوة العنيفة، فهرول إلى روما (ديسمبر 1782) وزاد بيوس وأعلن ولاءه للكنيسة وكسب موافقة البابا على تعيين الدولة للأساقفة-حتى في لمبارديه. وافترق الملك والحبر الأعظم على ود. ونثر يوزف ثلاثين ألف سكودي على جماهير روما، وهتف له القوم بصيحات الشكر "يحيا إمبراطورنا".
فلما عاد إلى فيينا واصل حركته الإصلاحية الدينية القائمة على فرد واحد. وبعد أن تحدى البابا كما تحداه لوثر (الذي يشبهه به الكثير من البروتستنت وهم معترفون بفضلهم)، وبعد أن هاجم الأديرة كما هاجمها هنري الثاني، شرع مثل كلفن في تطهير الكنائس، فأمر بإزالة لوحات النذور ومعظم التماثيل، وبكف المصلين عن لمس الصور وتقبيل الرفاة وتوزيع التمائم ... ونظم طول الخدمات الدينية وعددها، والملابس التي تغطي تماثيل العذراء، وطابع الموسيقى الكنسية، وتقرر أن تتلى الابتهالات مستقبلاً بالألمانية لا باللاتينية، وأن تحصل رحلات الحج(40/243)
والمواكب الدينية على موافقة السلطات المدنية، وانتهى الأمر بعدم التصريح إلا بموكب واحد-لعيد القربان المقدس، وأحيط الشعب رسمياً بأنه لا داعي للركوع في الشوارع أمام أي موكب ديني حتى ولو حمل القربان المقدس، ويكفي في هذه المناسبات خلع القبعات. وأخبر أساتذة الجامعات بأنه لا حاجة تدعوهم بعد اليوم إلى أن يقسموا بأنهم يؤمنون بعقيدة حمل العذراء غير المدنس.
ولم يستطع أحد أن يتشكك في إنسانية أهداف يوزف. فالثروة التي أخذها من الأديرة المستغنى عنها خصصها لإعانة المدارس والمستشفيات والمبرات، ولصرف معاشات الرهبان والراهبات الذين أخرجوا من أديرتهم، ولصرف إعانات إضافية لكهنة الأبرشيات الفقراء. وأصدر الإمبراطور سلسلة طويلة من الأوامر للنهوض بالتعليم، فكان على كل الجماعات المحتوية على مائة طفل بلغوا سن الالتحاق بالمدارس أن تمول مدارس أولية لهم. وتقرر أن يكون التعليم الأولي إلزامياً وعاماً. ووفرة الأديرة أو الدولة مدارس للبنات وأعينت الجامعات في فيينا وبراغ ولمبرج وبست ولوفان، أما جامعات انزبروك وبرون وجراتز وفرايبورج فحولت إلى معاهد Lyc (es لتعليم الطب أو القانون أو لفنون العملية. وأنشئت مدارس للطب من بينها "اليوزفينوم" للطب والجراحة العسكريين. وأخذت فيينا تشق طريقها لتصبح من أرقى المراكز الطبية في العالم.
6 - الإمبراطور والإمبراطورية
تضاعفت المصاعب في وجه مشروعات يوزف الثورية بسبب تنوع ملكه. لقد كان يعرف النمسا جيد المعرفة، ولكنه لم يدرك رغم أسفاره الشاقة مبلغ تغلغل السادة المجريين في حياة أمتهم الاقتصادية والسياسية، ولا أدرك كيف تستطيع وطنية الجماهير المجرية أن تتغلب على المصالح الطبقية. ولقد رفض عند تقلده الملك أن يتبع تقليداً جرى عليه السلف فيذهب إلى برسبورج ليتوج ملكاً على المجر، لأنه سيطالب في ذلك الحفل(40/244)
بأن يقسم يمين الولاء للدستور المجري الذي يكرس أنظمة المجتمع الاقتصادية. ثم أغضب كل مجري حين أمر بنقل تاج القديس اسطفانوس حامي المجر من بودا إلى فيينا (1784). وكان قد أحل الألمانية لا المجرية محل اللاتينية لغة للقانون والتعليم في المجر. وأغضب رجال المال والأعمال المجريين حين عطلت رسومه الجمركية تصدير محاصيلهم إلى النمسا. ثم أنه صدم الكنيسة الكاثوليكية بتدخله في طقوسها التقليدية وبسماحه للجماعات البروتستنتية المجرية بالتكاثر من 272 إلى 758 في عام واحد (1783 - 84). ووقعت المجر في فوضى أصطرعت فيها الطبقات والقوميات واللغات والمذاهب.
وفي 1784 قام فلاحو قلاشيا (بين الدانوب والألب الترنسلفانية) بثورة عنيفة ضد سادتهم الإقطاعيين، وأشعلوا النار في 182 قصراً ريفياً للأشراف وستين قرية، وقتلوا 4. 000 مجري، وأعلنوا أنهم يفعلون هذا كله برضى الإمبراطور. وعطف يوزف على كرههم للظلم الطويل (75)، ولكنه كان يحاول إنهاء الإقطاع سلمياً بالتشريع، وما كان في وسعه أن يسمح للفلاحين بتعجيل الأمور بالتحريق والتقتيل. وعليه فقد أرسل جنوده لقمع الثورة، وأعدم مائة وخمسون من زعماء الثورة، وهدأت الثورة. ولامه النبلاء على الثورة، ولامه الفلاحون على فشلها. وتهيأ المسرح لثورة قومية على الإمبراطور في 1787.
وفي نوفمبر1780 ذهب يوزف بشخصه ليدرس مشكلات الأراضي الواطئة النمساوية. فزار تامور ومونز وكورتراي وابيير ودنكرك واوستنذ وبروج وغنت وأودنارد وأنتوب ومالين ولوفان بروكسل. وقام برحلة جانبية إلى الأراضي الواطئة المتحدة .. إلى روتردام، ولاهاي ولايدن وهارلم وأمستردام وأوترخت وسبا (حيث تغذى مع الفيلسوف رينال). وقد راعه التناقض بين رخاء هولندا والركود النسبي في الاقتصاد البلجيكي. وعزا هذا إلى نشاط رجال الأعمال الهولنديين وفرصهم، وإلى إقفال نهر الشلت في وجه تجارة المحيط نتيجة لمعاهدة مونستر (1648) فعاد إلى(40/245)
بروكسل وعقد عدة اجتماعات لمحاولة تحسين التجارة والإدارة والمالية والقضاء. وفي يناير 1781 عين أخته ماريا كرستين وزوجها ألبرت دوق ساكستشن حاكمين على الأراضي الواطئة النمساوية.
وأدرك الآن لأول مرة مبلغ التضارب بين إصلاحاته والالتزامات الموروثة التي تمتعت بها الطبقات العليا في هذا البلد التاريخي. فكان إقليم من أقاليمها مثلاً، وهو برابانت، يملك مرسوماً للحريات يرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر ويعرف بـ "المدخل البهيج". وكان يتوقع من كل حاكم يدخل بروكسل أن يقسم يمين الولاء لهذا المرسوم، وجاء في إحدى مواده إنه لو انتهك الحاكم أي مادة منه كان لرعاياه الفلمنكيين الحق في أن يمتنعوا عن أداء أي خدمة له وأن يرفضوا طاعته. وطالبت مادة أخرى الملك بأن يحافظ على الكنيسة الكاثوليكية، في جميع امتيازاتها وممتلكاتها وسلطاتها الراهنة، وأن يطبق جميع قرارات ترنت. وأشباه هذا الدستور كان يتعلق بها الأشراف والأكليروس في الأقاليم الأخرى. وعقد يوزف النية على ألا يسمح لهذه التقاليد بأن تتحدى إصلاحاته. وبعد أن قام بزيارة قصيرة لباريس (يوليو 1781) قفل إلى فيينا.
وفي نوفمبر بدأ يطبق مرسوم التسامح الديني على هذه الأقاليم. فجعل الأديرة البلجيكية مستقلة عن البابا، وأغلق عدداً منها وصادر إيراداتها. واحتج أساقفة بروكسل وأنتورب ومالبن، ولكن يوزف واصل مسيرته ففرض على "بلجيكا" لوائحه الخاصة بلوحات النذور والمواكب والطقوس الدينية. ثم سحب من الأساقفة حقهم في الإشراف على المدارس قائلاً "إن أبناء لاوي (أي الكهنة) ينبغي أن يكفوا عن احتكار عقول البشر" (76). ثم ألغى الامتيازات الخاصة التي طالما تمتعت بها جامعة لوفان. وأنشأ هناك مدرسة لاهوتية جديدة محررة من السيطرة الأسقفية، وأمر بأن يدرس فيها كل طالب بلجيكي القسوسية خمس سنين (77). وإذ كان تواقاً إلى تحسين حكومة الأقاليم، فقد أستبدل بالمجالس الإقليمية والمجالس الخاصة(40/246)
الأرستقراطية القديمة (يناير 1787) مجلساً واحداً للإدارة العامة يرأسه مفوض يعينه الإمبراطور، ثم أحل هيئة قضائية موحدة علمانية محل المحاكم القائمة إذ ذاك، من إقطاعية وإقليمية وكنسية. وأعلن أن جميع الأشخاص أياً كانت طبقتهم سواسية أما القانون.
وأنظم الأشراف وكثير من البرجوازيين إلى الأكليروس في مقاومة هذه القوانين. ولم يلطف من أعدائهم تلك الجهود العقيمة التي بذلها يوزف بإعادة فتح الشلت أما تجارة المحيط، فقد رفضت هولندا الإذن بها، وشاركتها الرفض فرنسا رغم توسلات ماري أنطوانيت. وف يناير 1787 أخطر مجلس برابانت يوزف بأن لا سبيل إلى إحداث تغييرات في دستور الإقليم القائم إلا بموافقة المجلس، ومعنى ذلك في الواقع أنهم أخبروه أن حكمه للأراضي الواطئة النمساوية يجب أن يكون ملكية دستورية لا مطلقة. وتجاهل هو الإعلان، وأمر بتنفيذ مراسيمه. ورفض المجلس الموافقة على الضرائب ما لم تلقَ اعتراضاتهم الاهتمام. ثم تفجر الهياج في عنف اتسع نطاقه بحيث اضطرت ماريا كرستينا إلى الوعد بإلغاء الإصلاحات البغيضة (31 مايو 1787).
أين كان الإمبراطور خلال هذا الجو الهائج المائج؟
كان يغزل كاترين الثانية دبلوماسياً، مؤمناً بأن التحالف مع روسيا سيعزل بروسيا ويشد أزر النمسا في حربها مع الترك. وكان يوزف حتى قبل موت أمه قد زار القيصرة في موجيليف (7 يونيو 1780) ومن هناك مضى إلى موسكو وسانت بطرسبوج. وفي مايو 1781 وقعت النمسا وروسيا تحالفاً تعهد فيه الطرفان بأن يخف الواحد لنجدة الآخر إذا هوجم.
فلما خيل إليه أن هذا الاتفاق سيشل حركة الملك السبعيني فردريك، عاد من جديد (1784) يعرض الأراضي الواطئة النمساوية على الأمير الناخب شارل تيودور بديلاً عن بافاريا. وكان العرض مغرياً للأمير، ولكن فردريك استنفر كل طاقاته ليفسد هذه الخطة. فحرك ثورة على(40/247)
الإمبراطور في المجر وبلجيكا، وحرض دوق تزفايبروكن-الوريث لعرش بافاريا-على مقاومة هذا البدل، وبعث عملاءه ليقنعوا الأمراء الألمان بأن استقلالهم يتهدده التوسع النمساوي. وأفلح في أن ينظم (23 يوليو 1785) بروسيا وسكسونيا وهانوفر وبرونزيك وماينز وهسي كاسل وبادن وساكسي فيمار وجوتا ومكلنبورج وأنزباخ وانهالت في حلف أمراء Furstenbund تعهدوا فيه بمقاومة أي توسع للنمسا على حساب أي دولة ألمانية. واستنجد يوزف ثانية بشقيقته في فرساي، واعترف يوزف بهزيمته أمام الثعلب العجوز الذي كان يوماً ما معبود شبابه. ولما تلقى في أغسطس 1786 نبأ موت فردريك أعرب عن أسف مضاعف: "بوصفي جندياً يؤسفني رحيل رجل عظيم كان صانع جيل في فنون الحرب، وبصفتي مواطناً يؤسفني أن موته تأخر ثلاثين عاماً" (78).
أصبح الآن أمل الإمبراطور الوحيد في توسيع ملكه معقوداُ على الإنضمام إلى كاترين في حملة لتقسيم أملاك تركيا الأوربية في ما بينهما. فلما خرجت قيصرة الروسيا في يناير 1787 لتزور وترهب فتوحها الجديدة في الجنوب دعت يوزف ليلتقي بها في الطريق ويرافقها إلى القرم. ولكنه لم يوافق لتوه على اقتراحها بشن حرب صليبية موحدة، وقال "غنما أريد سيليرنيا، والحرب مع تركيا لن تنيلنيها" (79). ومع ذلك فحين أعلنت تركيا الحرب على روسيا (15 أغسطس 1787) وجد يوزف نفسه مكرهاً على خوضها، فقد ألزمه تحالفه مع كاترين أن يعينها في حرب "دفاعية". يضاف إلى هذا أن الفرصة أتيحت الآن للنمسا بسبب اشتباك تركيا في الحرب اشتباكاً حرجاً لاسترداد الصرب والبوسنة، وربما أيضاً للحصول على ثغر على البحر الأسود. وعليه ففي فبراير 1788 أرسل جنوده إلى الحرب وأمرهم بأن يستولوا على بلغراد.
ولكن السويديين اغتنموا هذه الفرصة ليرسلوا قوة تهاجم سانت(40/248)
بطرسبورج. واستدعت كاترين الجيش من الجنوب ليدافع عن عاصمتها. فلما خف على الترك ضغط الروس ركزوا قوتهم على النمساويين. وحين ذهب يوزف ليقود جيشه رآه وقد أضعفته اللامبالاة وفرار الجند ومرضهم، فأمر بالتقهقر وعاد إلى فيينا يملؤه اليأس ويجلله العار. وسلم القيادة إلى لاودن، وهو من أبطال حرب السنين السبع وأنقذ المارشال العجوز شرف الجيش النمساوي باستيلائه على بلغراد (1789). ولما فشل هجوم السويد على روسيا عاد جنود كاترين يتدفقون على الجنوب وتباروا مع الأتراك في مذابح رهيبة تركت الحياء منهم أكثر قليلاً من أعدائهم. وكان يوزف مغتبطاً بأمل النصر العسكري الذي طال ارتقابه، وإذا ببروسيا وإنجلترا والسويد وهولندا تتدخل لمساعدة الترك خوفاً من توسع الروس. ووجد يوزف فجأة أن جميع أوربا البروتستنتية تقريباً قد اتحدت وأخذت تمتشق الحسام ضده. وعاد ثانية يستنجد بفرنسا، ولكن فرنسا كانت في 1789 مشغولة بالثورة. ووقعت بروسيا التي يملك عليها فردريك وليم الثاني حلفاً مع تركيا (يناير 1790) وأرسلت العملاء لإذكاء الثورة على الإمبراطور في المجر والأراضي الواطئة النمساوية.
ورحبت المجر بهذه الدسائس لأنها كانت في ثورة سافرة على مراسيم يوزف في التجنيد الإجباري والضرائب وتغيير اللغة والإصلاح الديني. وفي 1786 دعا إمريش مالونجي المجريين إلى انتخاب ملك خاص بهم. وفي 1788 دبر رميجيوس فرانيو مؤامرة لجعل فردريك وليم ملكاً على المجر، وأفشى الكونتان أسترهاتي وكاروليي سر المؤامرة للإمبراطور فحكم على فرانيو بالسجن ستين عاماً. وفي 1789 وجه مجلس الطبقات المجري إلى بروسيا نداء لتحرير المجر من سلطان النمسا. ولما بلغ نبأ الثورة الفرنسية للمجر دوت صيحات المطالبة بالاستقلال في أرجاء البلاد. أما يوزف الذي شعر بالموت يسري في عروقه فلم يعد له من القوة ما يمكنه من الثبات على موقفه. وحثه أخوه ليوبولد على الاستسلام. وفي يناير 1790 أعلن ما يأتي:
"لقد قررنا أن نرد إدارة المملكة-أي المجر-إلى وضعها في 1780(40/249)
لقد أرسينا (الإصلاحات) بدافع الغيرة على الصالح العام مؤمنين أنكم بعد التجربة ستجدونها مبعث سرور لكم، بيد أننا الآن أقنعنا أنفسنا بأنكم تؤثرون النظام القديم ... ولكننا نريد أن يظل قانون التسامح نافذاً ... وكذلك قانون الأقنان ومعاملتهم وعلاقتهم بسادتهم" (80).
وفي فبراير رد تاج القديس أسطفانوس إلى بودا وكان يلقى الترحيب والابتهاج من الجماهير في كل خطوة على الطريق. وهدأت الثورة.
أما الثورة في الأراضي الواطئة النمساوية فقد انطلقت بكل قوتها لأنها شعرت هناك بحرارة الحرة الثورية في فرنسا المجاورة. وأبى يوزف المصادقة على الوعد الذي قطعته شقيقته لمجلس برابانت بإلغاء الإصلاحات التي كرهوها. فأصدر الأمر بتنفيذها وأمر جنوده بإطلاق النار على أي حشود تقاومها، ففعلوا وقتل ستة من القائمين بالشغب في بروكسل (22 يناير 1788) وعدد غير معروف في أنتورب ولوفان. ودعا محامٍ من بروكسل يسمى هنري فان دن نوت أفراد الشعب إلى التسلح والتطوع في جيش استقلال. وأيد الأكليروس النداء تأييداً إيجابياً، وأضيف إليه حافز لم يكن في الحسبان هو نبأ سقوط الباستيل، وسرعان ما احتشد في الميدان عشرة آلاف من الوطنيين وعلى رأسهم قائدة أكفاء. وفي 24 أكتوبر أذاع إعلان "للشعب البرابانتي" خلع يوزف الثاني من منصب الحاكم عليهم. وفي 26 أكتوبر هزمت قوة من الوطنيين الجنود النمساويين. واحتل الثوار المدينة تلو المدينة. وفي 11 يناير 1790 أذاعت الأقاليم السبعة قرار استقلالها، وأعلنت قيام جمهورية الولايات المتحدة البلجيكية، واتخذت اسمها هذا من القبائل البلجيكية التي دوخت قيصر قبل ثمانية عشر قرناً. وأسعد إنجلترا وهولندا وبروسا أن تعترف بالحكومة الجديدة. واستنجد يوزف بفرنسا، ولكن فرنسا ذاتها كانت مشغولة بخلع ملكها. وبدا أن كل العالم القديم الذي عرفه يوزف يتمزق وينهار. ثم إن الموت كان يدعوه إليه.(40/250)
7 - الموت الأسود
كانت مرارة تلك الأشهر الأخيرة كاملة. فقد كانت المجر وبلجيكا تضطرمان بالثورة، والأتراك يتقدمون، وجيشه متمرداً، وشعبه من النمساويين الذين أحبوه يوماً ما انقلبوا عليه منتهكاً لحرمة تقاليدهم ومعتقداتهم المقدسة. وندد به القساوسة ملحداً، وكرهه النبلاء لأنه حرر أقنانهم، وتصايح الفلاحون مطالبين بمزيد من الأرض، وكان فقراء المدن يتضورن جوعاً، ولعنت جميع الطبقات الضرائب والأسعار المرتفعة التي سببتها الحرب. وفي 30 يناير 1790 أغلى يوزف جميع الإصلاحات التي أمر بها منذ وفاة ماريا تريزا بعد أن ألقى السلاح مستسلماً، ولم يبقَ منها إلا على إلغاء القنية.
ترى لم فشل؟ لقد قبل بملء الإيمان وصادق الثقة نظرية جماعة الفلاسفة القائلة بأن الملك الذي يتوافر له التعليم الجيد والنية الحسنة هو خير أداة للتنوير والإصلاح. وقد أوتي التعليم الجيد، أما النية الحسنة فقد شوهها حبه للسلطة، وأخيراً غلبت لهفته على أن يكون فاتحاً حماسته لإجلاس الفلسفة على العرش. كان يفتقر إلى قدرة الفيلسوف على الشك، وكان من المسلمات لديه صواب وسائله كصواب غاياته. وقد حاةول إصلاح الكثير جداً من الشرور في وقت واحد، وفي عجلة كبيرة، ولم يستطع الشعب أن يستوعب تعدد قراراته المربك. ولقد كان يأمر بأسرع مما يستطيع أن يقنع، وحاول أن يحقق في عشر سنين ما يحتاج تحقيقه إلى قرن من التعليم والتغيير الاقتصادي. والشعب أساساً هو الذي خذله. فقد تعمقت جذوره وترسخت في امتيازاته وأهوائه، وفي تقاليده وكنائسه، إلى حد منعه من أن يعطيه التفهم والتأييد اللذين أصبح حكمه المطلق بدونهما عاجزاً لا حول له في مثل هذه الإصلاحات العسيرة .. وآثر أفراده كنائسهم وقساوستهم وعشورهم على ضرائبه وجواسيسه وحروبه. ولم يستطيعوا وضع ثقتهم في رجل يهزأ بأساطيرهم الحبيبة، ويضايق أساقفتهم، ويذل باباهم.
وطوال هذه السنوات المرهقة بعد 1765 كان بدنه متمرداً على إرادته.(40/251)
فلم تقوَ معدته على هضم سرعة عدوه، وقد حذرته مراراً ودون جدوى بحاجته إلى الراحة. وأنذره الأمير دلين بأنه يقتل نفسه، وكان عليماً بهذا، ولكنه قال "وما الذي أستطيعه؟ أنني أقتل نفسي لأنني لا أستطيع أن استنفر الآخرين ليعملوا" (81). وكانت رئتاه مريضتين، وصوته ضعيفاً مكتوماً، وكان يشكو الدوالي وتدميع عينيه، والحمرة، والبواسير .. وقد عرض نفسه لكل الأجواء في حربه مع الترك، وأصابته حمى الربيع كما أصابت الألوف في جيشه. وكان لا يقوى على التنفس أحياناً؛ "أن قلبي يخفق لأقل حركة" (82) وفي ربيع 1789 بدأ يتقيأ دماً-تقريباً ثلاث أوقيات في الدفعة كما كتب لأخيه ليوبولد. وفي يونيو أصيب بآلام عنيفة في كليتيه. "إنني أتبع أشد نظم التغذية صرامة فلا آكل لحماً ولا خضراً ولا مستحضرات ألبان، وغذائي الحساء والأرز" (83) ثم طلع له خراج شرجي وكان لابد من شقه هو وبواسيره بمبضع الجراح. وأصيب بالاستسقاء. فدعا ليوبولد ليحضر ويتسلم شؤون الحكم. وقال: "لست آسف على التخلي عن العرش. كل ما يحزنني أن يكون عدد الناس السعداء قلة قليلة كهذه" (84). وكتب إلى الأمير دلين "لقد قتلني وطنك. كان الاستيلاء على عنت عذابي وخسارة بروكسل هي موتي .. اذهب إلى الأراضي الواطئة وأعدها إلى ملكها، فإن لم تستطع فابقَ هناك. لا تصحِ بمصالحك من أجلي فأنت أب لأطفال" (85). ثم كتب وصيته وترك الهبات السخية لخدمه وللـ"سيدات الخمس اللاتي أطقن عشرته" (86). وتناول في استسلام أسرار الكنيسة الكاثوليكية الأخيرة وطلب الموت وفي 20 فبراير 1790 استجابت السماء وكان يومها في الثامنة والأربعين. واغتبطت فيينا برحيله وقدمت المجر الشكر لله.
أكان إنساناً فاشلاً؟ في الحرب نعم، بلا جدال. وقد وجد ليوبولد الثاني (1790 - 92) أن من الحكمة رغم انتصارات لاودن أن يبرم الصلح مع تركيا (4 أغسطس 1791) على أساس الوضع السابق للحرب. وإذ عجز عن تهدئة الأشراف المجريين فقد ألغى منح الحرية للأقنان. أما في بوهيميا والنمسا فقد احتفظ بمعظم الإصلاحات ولم تلغَ مراسيم الصلح، ولم تفتح(40/252)
الأديرة التي أغلقت، وظلت الكنيسة خاضعة لقوانين الدولة. وكان التشريع الاقتصادي قد حرر التجارة والصناعة وحفزهما. وانتقلت النمسا دون ثورة عنيفة من دولة وسيطة إلى أخرى عصرية، وشاركت في حيوية القرن التاسع عشر الثقافية المنوعة.
وكان يوزف قد كتب إلى كاونتز يقول "إنني لاقتناعي العميق بنزاهة نياتي أرجو أن يبحث الخلف بعد موتي أعمالي وأهدافي قبل أن يحكم علي وسيكون أميل وأنزه ومن ثم أكثر إنصافاً لي من معاصري" (88).
وقد اقتضى هذا البحث الخلف ردحاً طويلاً، ولكنه تعلم في النهاية أن يرى فيه-رغم أسفه على أوتقراطيته وتعجبه-أكثر "المستبدين المستنيرين" جرأة وتطرفاً وإن كان أقلهم حكمة .. وبعد أن ولى رد الفعل الذي جاء في عهد مترنيخ، أعيدت إصلاحات يوزف الثاني واحداً بعد الآخر. ووضع ثوار 1848 إكليلاً من الزهور على قبره اعترافاً بفضله.(40/253)
الفصل الرابع عشر
إصلاح الموسيقى
إننا لا نتصور بسهولة يوزف الثاني موسيقياً وهو الرجل المتأهب للمعارك ومع ذلك يقال لنا أنه تلقى "تعليماً موسيقياً دقيقاً شاملاً" إنه كان صاحب صوت جهير رخيم، وكان يستمع إلى حفلة موسيقية كل يوم تقريباً، وكان عازفاً ماهراً على الفيولنشللو والفيولة والكلافير (1). وكان كثير من النبلاء موسيقيين، وأكثر منهم رعاة للموسيقى، وحذت الطبقة الوسطى حذوهم، فكان في كل بيت بيان قيثاري "هاربسيكورد" وتعلم كل إنسان أن يعزف على آلة موسيقية، وعزفت الثلاثيات والرباعيات في الشوارع، والحفلات الموسيقية في المتنزهات ومن زوارق مضاءة على قناة الدانوب في عيد القسيس يوحنا. وازدهرت الأوبرا في البلاط وفي مسرح الأوبرا الذي أنشأه يوزف الثاني في 1778.
وارتقت فيينا إلى مقام الصدارة في مطالع القرن التاسع عشر بوصفها العاصمة الموسيقية لأوربا لأنه جمعت في أخريات القرن الثامن عشر بين تقاليد ألمانيا وإيطاليا الموسيقية المتنافسة. فمن ألمانيا جاءت البوليفونية، ومن إيطاليا الميلوديا، ومن ألمانيا جاءت الزنجشبيل-وهو مزيج من الدراما الهزلية والحوار المنطوق والموسيقى العارضة والأغاني الشعبية، ومن إيطاليا جاءت الأوبرا الهازلة، وتحالف الشكلان في فيينا كما نرى في أوبرا موتسارت "الاختطاف من السراي". ويمكن القول عموماً أن التأثير الإيطالي غلب الألماني في فيينا، فلقد غزت إيطاليا النمسا بالألحان كما غزت النمسا شمالي إيطاليا بالسلاح. وفي فيينا كانت الأوبرا الجادة إيطالية في أكثرها، إلى أن جاء جلوك، وجلوك نُشئ على الموسيقى الإيطالية.(40/254)
1 - كرستوفر فليبالت جلوك
1714 - 1787
ولد في إيرازباخ من أعمال البالاتينات العليا، لحراج كاثوليكي انتقل بأسرته في 1717 إلى نويشلوس ببوهيميا. وتلقى كريستوفر في المدرسة اليسوعية بكوموتاو تعليماً في الدين واللاتينية والآداب القديمة والترتيل والكمان والأرغن والبيان القيثاري. فلما رحل إلى براغ 1732 تلقى دروساً في الفيولنشللو، وتعيش بالترتيل في الكنائس، والعزف على الكمان في المراقص، وإحياء الحفلات الموسيقية في المدن المجاورة.
وكان كل صبي ذكي في بوهيميا ينجذب إلى براغ، واستطاع نفر من ألمعهم شق طريقهم إلى فيينا. واستهدف جلوك الحصول على وظيفة في أوركسترا الأمير فرديناند فون لوبكوفتز. وفي فيينا استمع إلى الأوبرات الإيطالية وأحس جاذبية إيطاليا القوية. وأعجب الأمير فرانشسكو ملتزي بعزمه، فدعاه إلى ميلان (1737). ودرس جلوك التأليف الموسيقي على يد سامارتبني، وتعلق بالأساليب الإيطالية في الموسيقى، وانتهجت أوبراته الأولى (1741 - 45) نهج الطرائق الإيطالية، وقاد حفلاتها الافتتاحية في إيطاليا. وأتته هذه الخطوات الموفقة بدعوة لتأليف وإخراج أوبرا لمسرح هيماركت في لندن.
وهنا قدم أوبرا La Caduta Degiganti ( سقطة العملاق) (1746). ورفضت مصحوبة بمديح هزيل، وقال هندل العجوز الفض أن جلوك لا يعرف "عن الكونترابنت أكثر مما يعرف طباخي" (2) ولكن الطباخ كان صاحب صوت باص-جهير-حسن، ولم يكتب لجلوك أن تعتمد شهرته على الكونترابنت. والتقى برني بجلوك وقال في وصفه "إن له مزاجاً في شراسة مزاج هندل. ويشوهه الجدري تشويهاً رهيباً .. وله جهمة كريهة" (3). وأذاع جلوك على الجماهير-ربما لموازنة ميزانيته-أنه سيقدم "كونشرتو على ست وعشرين كأس شراب ضبطت (بملئها إلى مستويات مختلفة) بماء نبع تصاحبها فرقة موسيقية كاملة (أوركسترا)، لأن هذه آلة موسيقية جديدة من اختراعه يعزف عليها كل ما يمكن عزفه على الكمان أو بيان قيثاري". ومثل هذه(40/255)
"الهارمونيكا الزجاجية أو الكؤوس الموسيقية" كانت قد أدخلت في دبلن قبل سنتين. واستحضر جلوك الأنغام بلمس حواف الكؤوس بإصبعه المبللة. واستهوى الحفل (23 إبريل 1746) أصحاب الفضول، فكرر بعد أسبوع.
وغادر جلوك لندن قاصداً باريس في 26 ديسمبر وهو مبتئس بهذا النجاح. وهناك درس أوبرات رامو الذي كان قد اتجه إلى الإصلاح بإدماج الموسيقى والباليه بالحركة. وفي سبتمبر قاد الأوبرات في همبورج واتصل في علاقة غرام مع مغنية إيطالية وأصيب بالزهري. وكان شفاؤه بطيئاً جداً، حتى أنه حين ذهب إلى كوبنهاجن كان عاجزاً عن قيادة الأوركسترا. ثم عاد إلى فيينا، وتزوج ماريان برجيا (15 سبتمبر 1750) ابنة تاجر غني. وقد منحه صداقها الأمن المالي فاتخذ بيتاً في فيينا، واختفى عن الأنظار في استجمام طويل.
وفي سبتمبر 1754 عينه الكونت مارتشالو دوراتزو قائداً للأوركسترا نظير ألفي فلورن في العام ليلحن للبلاط. وكان دواتزو قد مل الأوبرا الإيطالية التقليدية، فتعاون مع جلوك في دراما موسيقية سميت L'innocenza Giustificata ( البراءة المبررة) لم تكن القصة مجرد تكئة للموسيقى، ولا موسيقى مجرد تجميع الألحان، إنما الموسيقى تعكس الحركة، والألحان حتى الكوراس-تدخل في الحبكة دخولاً فيه شيء من المنطق. وهكذا كانت حفلة الافتتاح (8 ديسمبر 1755) البشير والنتاج الأول للإصلاح الذي يقرن التاريخ بينه وبين اسم جلوك. وقد رأينا في موضع سابق مساهمات بنديتو مارتشللو وجومللي وترايتا في هذا التطور، والنداء الذي وجهه روسو وفولتير والموسوعيون لربط أوثق بين الدراما والموسيقى. وكان مناستازيو قد أعان عليه بإصراره في إباء على أن الموسيقى يجب أن تكون خادمة للشعر (4). وربما تأثر جلوك بشغف فنكلمان بإحياء المثل الإغريقية في الفن، وكان الملحنون يعرفون أن الأوبرا الإيطالية كمحاولة لإحياء الدراما الكلاسيكية التي أخضعت موسيقاها للتمثيلية وكان جان-جورج نوفير أثناء ذلك ينادي (1760) بالتسامي بالباليه من مجرد الرقص الإيقاعي إلى الإيماء(40/256)
الدرامي المعبر عن "عواطف كل شعوب الأرض وعاداتهم وتقاليدهم ومراسمهم وأزيائهم (5) ". ونسج جلوك هذه العناصر كلها في شكل أوبراوي جديد بفضل ما أوتي من كيمياء العبقرية العجيبة.
إن من أسرار المرء أن يغتنم الفرصة إذا سنحت. فما الذي حدا بجلوك إلى هجر نصوص أوبرات متاستازيو ويتخذ رانييرو دا كالتابيجي شاعراً لأوبرا "أورفير وأورديتشني"؟ لقد ولد كالزابيجي في ليفورنو. وبعد مغامرات في الحب والمال وفد على باريس ونشر هناك ترجمة لـ"الشعر الدرامي" لمتاستازيو (1755) وقدم لها بـ"رسالة" أعرب فيها عن أمله في ظهور نوع جديد من الأوبرا-"كل مبهج يكون خلاصة التفاعل بين كورس كبير وبين الرقص والحركة التمثيلية التي يتحد فيها الشعر والموسيقى بطريقة رائعة (6) ". فلما انتقل إلى فيينا أثار اهتمام دوراتزو بأفكاره عن الأوبرا، ودعاه الكونت ليكتب نصاً لأوبرا، فكتب .. "أورفيو وأورديتشي". وعرض دوراتزو القصيدة على جلوك، فرأى في الحبكة البسيطة الموحدة موضوعاً يمكن أن يبتعث كل طاقاته.
وقدمت النتيجة لفيينا في 5 أكتوبر 1762. واستطاع جلوك أن يجند لدور أورفيوس أكبر المغنين الخصيان ذوي الصوت الكونترالتو وهو جاتيانو جواديني. أما القصة فقديمة قدم الأوبرا، وقد استعملها أكثر من عشرة كتاب لنصوص الأوبرا بين 1600، 1761، واستطاع جمهور السامعين تتبع الحركة دون أن يفقهوا الإيطالية. واستغنت الموسيقى عن السرد الذي لا يصاحبه العزف، والألحان الأساسية المعادة، ( da capo) ، والزخارف والمحسنات، وفيما عدا ذلك نهجت نهج الأسلوب الإيطالي ولكنها سمت إلى آفاق غنائية فيها من النقاء ما ندر أن بلغه أحد من قبل ولا من بعد. وصرخة اليأس المنبعثة من أورفيوس بعد أن أفقده الموت حبيبته مرة ثانية؟ Che Faro Sanz Euridice " ماذا أفعل بدون أورديتشي"؟ ما تزال أجمل ألحان الأوبرا قاطبة، ونحن(40/257)
حين نسمع هذا اللحن، ولحن القلوب الحزين في "رقصة الأرواح المباركة" تعجب كيف وجد هذا البوهيمي العاصف هذه الرهافة في روحه.
ولم تلقَ أورفيو استقبالاً حاراً في فيينا؛ ولكن ماريا تريزا تأثرت بها تأثيراً عميقاً وأرسلت إلى جلوك صندوق سعوط محشواً بالدوقاتيات. وما لبث أن اختير لتعليم الغناء للأرشيدوقة ماريا أنطونيا. وكان أثناء ذلك مكباً هو وكالزابيجي على تأليف أوبرا عدها البعض أكمل ما ألفاه من أوبرات، وهي "السيست". وقد أعلن المؤلف في مقدمة النسخة المنشورة كتبها كلزابيجي لجلوك مبادئ إصلاحه للأوبرا. قال:
"حين اضطلعت بكتابة الموسيقى لألسيست صممت على أن أجردها تماماً من كل تلك المساوئ .. التي طالما شوهت الأوبرا الإيطالية .. وقد جهدت لأقصر الموسيقى على وظيفتها الحقيقية وهي خدمة الشعر بالتعبير وبمتابعة مواقف القصة دون قطع الحركة المسرحية أو خنقها بحشو لا غناء فيه من التعليقات. ولم أرَ أن من واجبي أن أمر مرور الكرام بالقسم الثاني من لحن ما، ربما كانت كلماته آخر وأهم الكلمات-لكي أعيد بانتظام ... كلمات القسم الأول ... وقد أحسست أن الافتتاحية يجب أن تحيط المتفرجين بطبيعة الحركة التي ستقدم لهم وتكون-إن شئت-خلاصتها .. , أن الآلات الأوركسترالية يجب أن تدخل متناسبة مه أهمية الكلمات وقوتها ولا تترك ذلك التناقض الحاد بين اللحن والسرد في الحوار ... الذي يشوه بشكل غشوم قوة الحركة وحرارتها ... وقد آمنت بأن جهدي الأعظم يجب أن ينصرف إلى البحث عن البساطة الجميلة (7) ".
وباختصار، يجب أن تخدم الموسيقى الدراما وتزيد من حدتها، لا أن تجعل منها مجرد تكئة للعروض الصوتية أو الأوركسترالية. وقد عبر جلوك عن الأمر تعبيراً فيه غلو بقوله "أنني أحاول أن أنسى أنني موسيقي (8) "، وأن عليه أن يندمج مع كاتب النص في تأليف "دراما(40/258)
بالموسيقى". "وقصة السست تمتنع قليلاً على التصديق، ولكن جلوك أنقذها بافتتاحية قاتمة سبقت بتصوير الحركة المأساوية وأفضت إليها، وبمشاهد عاطفية مؤثرة بين السست وأطفالها، وبدعائها لآلهة العالم السفلي في لحن "أرباب ستاكس"، وبالكروالات الجليلة والمجموعات الفخمة. واستمع جمهور فيينا لهذه الأوبرا في ستين حفلة بين الافتتاح في 16 ديسمبر 1767 و1779. ولكن النقاد وجدوا فيها أخطاء كثيرة، أما المغنون فشكوا من أنها لم تفسح لهم المجال الكافي لعرض فنهم.
وبذل الشاعر والمؤلف محاولة ثانية في أوبرا "باريز وهيلانة" (30 نوفمبر 1770). وقد اقتبس كلزابيجي الحبكة من أوفيد الذي جعل من قصة باريز وهيلانة مغامرة غرامية شخصية بدل أن تكون فاجعة دولية. وعرضت الأوبرا عشرين مرة في فيينا، ومرة في نابلي، ولم تعرض في غيرهما. وتحمل كالزبيجي تبعة هذا الفشل النسبي، وطلق كتابة النصوص الأوبرات. وراح جلوك يبحث عن تربة يلقي فيها بذرته. وأشار عليه صديق في السفارة الفرنسية في فيينا يدعى فرانسوا دي رولليه أن يقدم لجماهير باريس تحية يرحبون بها، في صورة أوبرا فرنسية يضع موسيقاها مؤلف ألماني. وعملاً باقتراحات لديدرو وألجاروتي أشار فيها بأن تمثيلية راسين "إفجييني" تتيح موضوعاً مثالياً للأوبرا صاغ دورولليه التمثيلية نصاً لأوبرا وقدمها لجلوك .. ورأى جلوك مادتها متفقة تمام الاتفاق مع ذوقه فعكف على العمل من فوره.
ورغبة في تمهيد الطريق إلى باريس وجه دورولليه خطاباً إلى مدير دار الأوبرا نشر في المركيز دفرانس أول أغسطس 1772 - ذكر فيه أن "مسيو جلوش" كان ساخطاً أشد السخط على الزعم بأن اللغة الفرنسية لا تتلاءم مع الموسيقى، وأنه اقترح إثبات العكس بـ"إفجييني في أوليد". ولطف جلوك من غضب روسو المتوقع (وكان يومها يعيش منزوياً في باريس) بأن أرسل إلى المركيز خطاباً (أول فبراير 1773) أعرب فيه عن أمله في التشاور مع روسو حول "الوسيلة التي أنوي اتخاذها لإخراج موسيقى(40/259)
صالحة لجميع الأمم، وإزالة فوارق الموسيقى الوطنية السخيفة (9) ". واستكملاً لهذا الإعلان الذي يبلغ الغاية في البراعة، استعملت ماري أنطوانيت-التي لن تنس أستاذها القديم-نفوذها في دار الأوبرا. ووافق مديرها على إخراج "إفجيني"، وحضر جلوك إلى باريس، وألزم المغنين وأوركسترا ببروفات بلغت من الشدة والانضباط حداً ندر أن عرفوه من قبل. وتبين أن صوفي أرنوا كبيرة المغنيات متمردة على أوامره فهدد بالإقلاع عن المشروع. وبدا أن جوزيف لجرو قد أضعفه المرض إلى حد منعه من تمثيل دور الجبار أخيل: "أما جانتان فستري" إله الرقص وقتها، فأراد أن يكون نصف الأوبرا باليهاً (10). وشد جلوك شعره، أو قل باروكته، وأصر على موقفه، وانتصر. وكانت حفلة الافتتاح (19 إبريل 1774) حدث العالم الموسيقي المثير. وقد نحس بما كانت عليه العاصمة الجياشة من هياج إذا قرأنا خطاب ماري أنطوانيت لأختها ماريا كرستينا في بروكسل. قالت:
"إنه نصر عظيم يا عزيزتي كرستين، إن الحماسة تجرفني، ولم يعد الناس يتكلمون على شيء غير هذا. وكل الرؤوس تجيش نتيجة لهذا الحدث ... فهناك إنشقاقات ونزعات أشبه بالنزاع الديني. ومع أنني أعلنت في البلاط أنني في صف هذا العمل الملهم، فإن هناك تحريات ومناقشات شديدة الحيوية. أما في المدينة فيبدوا أن الحال أسوأ من هذا (11) ".
ورد روسو تحية جلوك بإعلانه أن "أوبرا مسيو جلوك قلبت كل أفكاره رأسا على عقب، وقد اقتنع الآن أن اللغة الفرنسية تستطيع أن تنسجم كأي لغة أخرى مع الموسيقى القوية المؤثرة الحساسة (12). وكانت الافتتاحية رائعة حتى أن الجمهور في الليلة الأولى طالب بإعادتها ووجه النقد للألحان لأنها مسرفة في الطول، ولأنها تقطع سير الدراما، ولكنها تميزت بعمق مركب الشعور تفردت به موسيقى جلوك. وقد قال الأبيه أرنو عن أحدها وهو "أجاممنون" "بمثل هذا اللحن قد يؤسس المرء دينا (13) ".(40/260)
ونافس جلوك الآن لويس الخامس عشر المحتضر محوراً لحديث باريس. وكان بدنه الضخم القوي ووجهه الأحمر وانفه الكبير يشار إليها كلها حيثما ذهب. وأصبح طبعة الغضوب موضوعاً الغضوب موضوعاً لعشرات النوادر. ورمم له جروز صورة ظهرت فيها طبيعته الطيبة المرحلة من خلف خطوط النضال والتوتر. وراح يأكل كما يأكل الدكتور جونسون، ويسرف في الشراب إسرافاً لا يبرزه فيه غير بوزويل، ولم يتظاهر باحتقار المال، وكان يبادر للاشتراك في الثناء على عمله. وقد عامل الحاشية وعامة الناس معاملة واحدة باعتبارهم أدبي منه قدراً، وكان ينتظر من كبار النبلاء أن يناولوه باروكته ومعطفه وعصاه، ولما قدم إليه أحد الأمراء فلم يبرح جلوك مقعده علل سلوكه هذا بقوله "لقد ألف الناس في ألمانيا ألا يقوم الواحد منهم إلا لمن يحترمه (14) ".
وكان مدير الأوبرا قد أنذروه بأنه في حالة نجاح "إفجيني وأوليد"، فسيضطر جلوك إلى كتابة خمس أوبرات أخرى في تعاقب سريع، لأن إفجيني ستطرد جميع الأوبرات الأخرى من المسرح. ولم يرهب الإنذار جلوك أنه اعتاد أن يقتطع أجزاء من مؤلفاته القديمة ويحشرها في الجديدة وترجمت له "اورفيو واوريديتشي" إلى الفريسة، ولما لم يجد مغنياً كفوءاً ذا صوت رنان "كونترالتو" في متناوله، أعاد كتابة دور اورفيو لليجرو ذي الصوت الصارخ (التينور). أما صوفي أرنو التي لانت عريكتها الآن فقد لعبت دور اوريديتشي. ونجحت حفلة الافتتاح الباريسية نجاحاً ادفأ صدره. وجادت ماري أنطوانيت، ملكة فرنسا الآن، بمعاش قدره ستة آلاف فرنك لـ"عزيزي جلوك" (15). وقفل إلى فيينا ورأسه يطاول النجوم.
وفي مارس 1776 عاد إلى باريس بترجمة فرنسية لألسست، أخرجت فلم تلق غير استحسان متوسط في 23 إبريل. أما جلوك الذي تعود النجاح فقد استجاب لهذه النكسة بكبرياء غاضبة وقال "ليست ألسست من نوع الأعمال التي تسر الجمهور سروراً مؤقتاً، أو التي تسرهم لجدتها.(40/261)
فليس للزمن عليها سلطان. وأنا أزعم أنها ستسر السامعين نفس السرور بعد مائتي عام إذا لم يطرأ على اللغة الفرنسية تغيير" (16). وفي يونيو عاد إلى فيينا، وسرعان ما بدأ يلحن النص الذي كتبه مارمونتيل من جديد لمسرحية "رولان" التي سبق أن كتب نصها كينو.
وبدأت الآن أشهر المعارك في تاريخ الأوبرا. ذلك أن إدارة الأوبرا كانت أثناء هذا قد كلفت نيكولوبتشيني النابولي بتلحين النص ذاته، وأن يحضر إلى باريس ويخرجه. وحضر (31 ديسمبر 1776)، فلما أنبئ جلوك بهذا التكليف أرسل إلى درولليه الذي كان بباريس آنذاك خطاباً يضطرم بغضبه أولمبية:
"لقد تلقيت للتو خطابك الذي ... ناشدتني فيه مواصلة تلحين أوبرا "رولان". ولكن هذا لم يعد ممكناً، لأنني حين سمعت أن إدارة الأوبرا التي لم تجهل أنني ألحن رولان كلفت بهذا العمل ذاته مسيوبتشيني، أحرقت كل ما كتبت منه، ولعله لم يكن يساوي الكثير ... وأنا لم أعد رجلاً يدخل في منافسة، وسكون للمسيو بيتشيني ميزة كبيرة جداً عليّ لأنه بغض النظر عن كفايته الشخصية وهي بلا شك عظيمة جداً-سيكون له ميزة الجدة ... وأنا واثق أن سياسياً معيناً من معارفي سيقدم الغذاء والعشاء لثلاثة أرباع باريس ليكسب له أنصاراً (17).
ولأسباب ليست الآن واضحة نشر هذا الخطاب-الذي كان من الواضح إنه خطاب خاص-في "الأنية ليترير" عدد فبراير 1777 فأصبح عن غير قصد إعلاناً للحرب.
ووصل جلوك إلى باريس في 29 مايو ومعه أوبرا جديدة هي "أرميد" والتقى المؤلفان الغريمان على الغداء، فتعانقا وتحدثا حديثاً ودياً. وكان بتشيني قد حضر إلى فرنسا دون أن يخطر له أنه سيكون بيدقاً في مؤامرة حزبية قذرة وتجارة أوبرالية، كان هو شخصياً شديد الإعجاب بفن جلوك. ولكن الحزب مضت في الصالونات والمقاهي، وفي الشوارع(40/262)
والبيوت، رغم ما بين الغريمين من مودة؛ وروى تشارلز ببرني أنه "ما من باب فتح لزائر دون أن يوجه إليه هذا السؤال قبل يسمح له بالدخول: سيدي أأنت من أنصار بتشيني أم من أنصار جلوك (18)؟ " أما مارمونتيل ودالامبير ولاهارب فقد تزعموا الحزب المناصر لبتشيني والأسلوب الإيطالي، وأما الأبيه أرنو فقد دافع فقد دافع عن جلوك في "إعلان للإيمان بالموسيقى"، وأما روسو، الذي كان قد افتتح الحرب بمقاله المناصر للموسيقى الإيطالية "في الموسيقى الفرنسية" (1753)، فقد ناصر جلوك.
وأخرجت أرميد في 23 سبتمبر 1777. وكان موضوعها وموسيقاها رجوعاً إلى أشكال رسخت قبل إصلاح جلوك، وقد اقتبست القصة من تاسو، ومجدت رينالد والمسيحي وأرميدا الوثنية، وكانت الموسيقى موسيقى لوللي معادة برقة رومانسية، وأما الباليه فباليه نوفير في أروعه، وأعجب هذا المزيج الجمهور فاستقبل الأوبرا استقبالاً حسناً، ولكن انصار بيتشيني نددوا بأرميد قائلين إنها ليست سوى صقل للوللي ورامو. وانتظروا في شوق أوبرا رولان الذي كان يلحنها حامل لوائهم. وأهداها بيتشيني إلى ماري أنطوانيت مشفوعة باعتذاراته: لقد كنت في حاجة لكل شجاعتي وأنا مزدرع ومعزول في بلد كل شيء فيه جديد عليّ تفت في عضدي مئات العقبات المعترضة علي، ولقد فارقتني شجاعتي (19). وكان أحياناً يوشك أن يكف عن النضال ويعود إلى إيطاليا. ولكنه ثابر، ووجد عزاء في نجاح حفلة العرض الأولى (27 يناير 1778). وبدا أن الانتصارين يلغي أحدهما الآخر. وواصلت الحرب السافرة احتدامها. وقد رأتها مدام فيجيه لبرون رأى العين فقالت "كانت ساحة القتال العادية هي حديقة الباليه رويال. فهناك كان أنصار جلوك وبيتشيني يتشاجرون مشاجرات بلغ من عنفها أنها أفضت إلى مبارزات كثيرة.
وعاد جلوك إلى فيينا في مارس، وتخلف في فرتية ليرى فولتير. ثم صحب معه إلى بيته نصين أولهما كتبه نيكولا-فرانسوا جيار وبناه على مسرحية أوربيدس "إفجيني في تاورس". أما الثاني فكتبه البارون(40/263)
جان-باتيس وتشودي عن موضوع الصدى ونارسيس. وعكف على الكتابين فما حل خريف 1778 حتى شعر أنه على استعداد لخوض معركة أخرى. وهكذا نجده في نوفمبر في باريس مرة أخرى، وفي 18 مايو 1779 قدم في دار الأوبرا أوبرا "إفجيني في تاوريد" التي يعدها معظم الطلاب أعظم مؤلفاته الموسيقية. وهي قصة قاتمة، وكثير من موسيقاها شكاة رتيبة، ونحن نمل أحياناً لنواح إفجيني العالي. ولكن حين ينتهي العرض ويسكت سحر الموسيقى والأبيات عقلنا الشكاك ندرك أننا استمعنا إلى دراما عميقة قوية. وقد لاحظ معاصران أن فيها فقرات كثيرة رائعة، أما الأبيه أرنو فقال "إن فيها فقرة رائعة واحدة فقط، هي العمل كله (21) ". واستقبل الجمهور العرض الأول للأوبرا بحماسة بالغة.
على أن جلوك تحدى الآلهة، فتعجل بتقديم أوبراه الثانية "الصدى ونارسيس" (21 سبتمبر 1779). ولكنها فشلت، فغادر المايسترو باريس في غضبة مضرية معلناً أنه شبع من باريس وأنه لن يكتب مزيداً من الأوبرات. ولو أطال مكثه فيها لسمع "إفجيني في تاورند". أخرى أخرجها بتشيني بعد عامين من الجهد الشاق. واستقبل الجمهور العرض الأول (23 يناير 1780) استقبالاً حسناً، ولكن في الليلة الثانية كانت الآنسة لا جير التي غنت دور إفجيني مخمورة بصورة واضحة حتى لقد حطمت صوفي أرنو العرض بتلقيها الأوبرا "إفجيني في شمبانيا (22) ". وأنهى هذا الحادث المؤسف الحرب الأوبرالية، واعترف بيتشيني بهزيمته اعترافاً جميلاً.
أما جلوك فقد حلم في فيينا بانتصارات أخرى. ففي 10 فبراير 1880 كتب إلى كارل أوجست دوق ساكسي-فيمار راعي جوته: لقد شخت كثيراً، وقد بعثرت خير طاقات ذهني على الأمة الفرنسية. ولكني أشعر بدافع باطني يدفعني لكتابة شيء لبلدي (23). ثم لحن بعض أناشيد كلويشتوك التي مهدت الطريق لأجمل الليدات. وفي 1781 أصيب بالنقطة، ولكن كان عزاء له استقبال فيينا لإفجيني في تاروس وأحياء(40/264)
"أورفيو والسست". وفي 15 نوفمبر 1787 بينما كان يستضيف جماعة من أصدقائه تعاطى في جرعة واحدة قدحاً من مسكر قوي كان محظوراً عليه. وأصابته تشنجات لم تمهله غير ساعات. وحاول بتشيني وهو في نابلي دون جدوى جمع المال لإحياء حفلات موسيقية سنوية تذكاراً لمنافسه (24). ذلك أن إيطاليا التي كانت تحبذ الميلوديا لم تأبه بإصلاحات جلوك: ونهج موتسارت نهج الإيطاليين، ولابد أنه صعق لفكرة تسخير الموسيقى للشعر. أما هردر الذي جاء في ختام هذه الفترة الخلاقة والذي رجع البصر إليها بمعرفة محدودة بباخ وهايدن وموتسارت فقد وصف جلوك بأنه أعظم ملحني القرن قاطبة (25).
2 - يوزف هايدن
1732 - 1809
من الأيسر علينا أن نحب هايدن، فهاهنا رجل لم يتشاجر مع إنسان غير زوجته، رجل يشيد بمنافسيه كأنهم أصدقاؤه، رجل أشرب موسيقاه بالمرح، وكان بمزاجه الفطري عاجزاً عن المأساة.
ولم يحبه الحظ شرف المولد. فقد كان أبوه صانع عربات ونقاشاً في روراو، وهي مدينة صغيرة على الحدود بين النمسا والمجر. أما أمه فكانت طاهية لأشراف هاراش وكان أبواه كلاهما من أصل سلافي كرواتي لا ألماني. وكثير من ألحان هايدن تردد صدى الأغاني الكرواتية. وكان الثاني بين اثني عشر طفلاً مات ستة منهم في مستهل طفولتهم. وقد عمد باسم فرانتس يوزف هايدن، ولكن كان من المألوف يومها أن ينادى الأطفال باسمهم الثاني.
فلما ناهز السادسة أرسل ليعيش مع قرب يدعى يوهان ماتياس فرانك، صاحب مدرسة في هاينبورج. هناك كان يومه يبدأ بدروس في الفصل من الساعة السابعة إلى العاشرة، ويلي القداس، ثم الرجوع للبيت لتناول الغداء، ثم دروس من الثانية عشرة إلى الثالثة، ثم دروس في الموسيقى. وقد درب على التدين ولم يفقده قط. وكانت أمه تتوق إلى(40/265)
تخرجه قسيساً، وأحزنها حزناً عميقاً اختياره حياة الموسيقى التي لا ضمان لاستقرارها. على أن فرانك شجع ميل الطفل للموسيقى وعلمه كل ما في طاقته أن يتعلمه، وألزمه نظاماً صارماً للدرس. وقد ذكر هايدن في شيخوخته هذا الرجل وغفر له قائلاً "سأكون ما حييت شاكراً لذلك الرجل أنه الزمني العكوف على العمل وإن اعتدت أن أنال من الجلد أكثر مما أنال من الطعام (26) ". وبعد أن قضى يوزف عامين مع فرانك أخذه إلى فيينا جبورج روتير، مدير فرقة المرتلين في كاتدرائية القديس اسطفانوس، ورأى رويتر إن صوته "الضعيف الحلو" قد يجد مكاناً متواضعاً في فرقة المرتلين. وهكذا ذهب الغلام الحيي المشتاق ليعيش في مدرسة المرتلين "الكانتوربي" الملحقة بالكاتدرائية. وهناك كان يتلقى دروساً في الحساب والكتابة واللاتينية والترتيل والكمان. ورتل في الكاتدرائية وفي المصلى الإمبراطوري، ولكنه كان لا ينال إلا أتفه الغذاء، فكان يرحب بدعوات للغناء في البيوت الخاصة يستطيع أن يملأ معدته فضلاً عن إنشاد أغانيه.
وفي 1745 أنظم إليه في مدرسة المرتلين أخوه ميخائيل الذي كان يصغره بخمس سنين. وحوالي هذا التاريخ بدأ صوت يوزف يصبح أجش، فعرض عليه أن يخصى ليحتفظ بصوته السوبرانو، ولكن أبويه لم يوافقا. واحتفظ به رويتر أطول ما يستطيع، وأخيراً في 1748 وجد يوزف نفسه وهو في السادسة عشرة حراً ومفلساً، لم يؤت من حسن السمت وجاذبيته ما يكسبه رضى الحظ عنه. فقد نقر الجدري وجهه، وكان أنفه بارزاً، وساقاه أقصر مما يناسب جسمه، ولباسه رثاً، ومشيته لا رشاقة فيها، ومسلكه خجولاً متردداً. ولم يكن بعد قد حذق العزف على أي آلة، ولكنه كان في تلك الآونة يقلب الألحان في رأسه.
وعرض عليه زميل في صف المرتلين حجرة على السطح، وأقرضه أنطوان بوخهولتز 150 فلوريناً ردها إليه هايدن الأمين فيما بعد. وكان عليه أن يجلب الماء صعداً إلى حجرته العليا كل يوم، ولكنه حصل على(40/266)
كلافير (لوحة مفاتيح) قديم، وبدأ يعلم بعض التلاميذ، فأعانه هذا على الحياة. وكان أكثر الأيام يعمل ست عشرة ساعة بل أكثر، ويعزف على الكمان في الكنيسة، ثم على الأرغن في مصلى خاص للكونت هاوجفتز وزير ماريا تريزا، ويغني بصوت التينور بين آن وآخر في كاتدرائية القديس اسطفانوس. وكان لمناستازيو الشهير شقة في الميناء ذاته فحصل لهايدن على وظيفة معلم موسيقى لابنة صديق له، وعن طريق مناستازيو التقى هايدن ببوربورا، ووافق هايدن على أن يخدم أمير معلمي الغناء هذا على أي وجه شاء مقابل تعليمه التأليف الموسيقي. ثم تلقى دروس التأليف الثمينة، وكان ينظف حذاء المايسترو ومعطفه وباروكته ويقوم بمصاحبة بوربورا وتلاميذه على الكلافير. وقد قال هايدن وهو يذكر تلك الأيام فيما بعد "يستطيع الشباب أن يتعلموا من أن شيئاً يمكن أن يخرج من لا شيء. فكل ما أنا عليه الآن إنما هو ثمرة أوقات الشدة التي عانيتها (27) ".
وعن طريق أصدقائه الجدد تعرف إلى جلوك، ودترزدورف وعدة أفراد من النبلاء. وأخذ كارل يوزف فون فورنبرج (1755) ليمكث معه طويلاً في بيته الريفي-فيتزيرل-بقرب ملك، هناك وجد هايدن أوركسترا من ثمانية عازفين واتسع بعض الفراغ للتأليف. فكتب الآن أولى رباعياته. ثم أضاف إلى هيكل الصوناتا المكون من ثلاث حركات والذي نقله عن كارل فيليب إيمانويل باخ منويتا، ودون الحركات الأربع لقطع أربع، ثم أعطى الآلية شكلها الحديث. وعاد إلى فيينا في 1756 ولفت أنظار نفر من التلاميذ النبلاء مثل الكونتيسة فون تون. ثم قبل (1759) وظيفة مدير الموسيقى للكونت مكسمليان فون مورتزن الذي كان أوركستراه الخاص المؤلف من اثني عشر إلى ستة عشر عازفاً يعزف في فيينا شتاءً، وفي فيللا الكونت بلوكافيك ببوهيميا صيفاً. ولهذه المجموعة كتب هايدن أولى سمفونياته (1759).
وإذ كان يكسب الآن مائتي فلورين في العام يضاف إليها المسكن والمأكل، فقد رأى أن في وسعه المغامرة بالزواج. وكان من بين تلاميذه(40/267)
ابنتان لصانع باروكات. فأغرم بالصغرى ولكنها ترهبت، وأقنع الأب هايدن بأن يتزوج شقيقتها ماريا أنا (1760). وكانت في الحادية والثلاثين وهو في الثامنة والعشرين. وتبين أنها مشاغبة متعصبة مسرفة عقيم. يقول هايدن "لا يهمها مثقال ذرة أن كان زوجها فناناً أو إسكافياً (28) ". وبدأ ينظر إلى غيرها من النساء.
وكان يختلف إلى بيت مورتزن أحياناً للاستماع إلى الموسيقي الأمير يال أنطوان استرهاتسي. فلما حل مورتزن أوركستراه أستخدم الأمير هايدن (1761) مساعداً لمدير الموسيقى في مقره الريفي بأيزنشتات في المجر. ونص العقد على أن يتقاضى هايدن أربعمائة فلورن في العام بالإضافة إلى مكان على مائدة الموظفين، و "يلاحظ بصفة خاصة أنه حين يدعي الأوركسترا للأداء أما جمهور أن يبدو الموسيقيون في بزة رسمية مرتدين الجوارب الطويلة البيضاء والقمصان البيضاء ... وضفيرة أو باروكة (29) ". وفي أيزنشتات كان رئيس فرقة المرتلين جريجور فرنر عاكفاً على الموسيقى الكنسية، فجهز هايدن الحفلات وألف لها الموسيقى. وكان يترأس على أربعة عشر موسيقياً وسبعة مغنين وكورس أختير من بين خدم المير. وقد شارك حجم الأروكسترا الصغير، وطابع المستمعين، في تقرير نوع الموسيقى الخفيف اللطيف الذي كتبه هايدن لأسرة استرهاتسي. وأكسبته طبيعته محبة الموسيقيين ولم يمض على مجيئه إلى أيزنشتات كثير حتى راحوا يلقبونه "بابا هايدن" رغم إنه لم يتجاوز وقتها التاسعة والعشرين (30). وألف لهم الصوناتات والثلاثيات والرباعيات والكونشروتوات والأغاني والكنتاتات ونحو ثلاثين سمفونية. وكثير من هذه المؤلفات وإن كانت ملكاً للأمير حسب نص العقد نشر أو تداوله الناس مخطوطاً في فيينا وليبزج وأمستردام وباريس ولندن، ولم يحل عام 1766 حتى كان اسم هايدن ذائعاً دولياً.
فلما مات بال أنطون (18 مارس 1762) خلفه في رآسة أسرة إسترهاتسي أخوه ميكلوس يوزف الذي كاد يحب الموسيقى حبه لحلته(40/268)
المرصعة بالماس. وكان يحسن العزف على "الفيولادي بوردوني". (وهي شكل مختلف من أشكال الفيولادا جامبا)، وكان سيداً لطيفاً لهايدن طوال عشرتهما التي امتدت قرابة ثلاثين عاماً. يقول هايدن "كان أميري على الدوام راضياً عن أعمالي فلم احظ منه بمجرد تشجيع الاستحسان الدائم، ولكن بوصفي قائداً للأوركسترا استطعت أن أجري التجارب وألاحظ ما يحدث منها أثراً وما يضعف هذا الأثر، وهكذا كنت في وضع أتاح لي إن أحسن، وأغير .. وأغامر كما أشاء. لقد كنت مقطوع الصلة بالعالم وما من أحد يشوش علي أو يعذبني، فأكرهت على الابتكار (31).
ومات فرنر في 5 مارس 1766، وأصبح هايدن رئيساً لفرقة المرتلين. وسرعان ما انتقلت الأسرة إلى القصر الجديد "قلعة هاتسي" التي كان ميكلوس قد بناها في الطرف الجنوبي لنويزيدلر زي في شمال غربي المجر. وكان الأمير شديد التعلق بهذا القصر حتى يسكنه من مطلع الربيع حتى آخر الخريف، ثم ينتقل شتاء إلى فيينا مصطحباً موسيقييه أحياناً. وكان العازفون المغنون يكرهون هذه العزلة الريفية لاسيما لأنها كانت تفصلهم عن زوجاتهم وأبنائهم ثلاثة فصول في العام، ولكنهم كانوا يتعاطون أجوراً حسنة ولم يجرؤا على الشكوى. وذات مرة أراد هايدن أن يلمح لميكلوس بأن موسيقييه مشتاقون إلى أخذ إجازة، فألف "سمفونية الوداع" (رقم 5) وفي ختامها كانت الآلة تلو الأخرى تختفي من المدونة والعازف يطفئ شمعته ويتناول موسيقاه وآلته ثم يغادر المسرح. وفطن الأمير إلى القصد فرتب الفرقة إلى فيينا في وقت قريب.
وسمح لهايدن على سبيل الاستثناء بأن يصحب معه زوجته إلى استرهاتسي، ولكنه لم يقدر هذا الامتياز. ففي 1779 وقع في غرام لويجا بولتسللي، وكانت مغنية وسطاً استخدمتها استرهاتسي مع زوجها عازف الكمان أنطونيو. ويبدو أن هايدن أحس أنه ما دامت الكنيسة الكاثوليكية لم تسمح له بتطليق زوجته المتعبة فإن عليها من قبيل الرأفة أن تسمح له بإنحرافة أو اثنتين، ولم يبذل كثيراً من الجهد في إخفاء علاقته الغرامية هذه. أما أنطونيو فقد بلغ(40/269)
من الكبر والمرض ما منعه من الاحتجاج الفعال، وكان يعلم أن الفضل في بقائه في وظيفته راجع إلى أن رئيس فرقته يستطب لويجا. وكانت قد قدمت إلى استرهاتسي بغلام في الثانية، وفي 1783 ولدت صبياً آخر نسبته الشائعات إلى بابا هايدن، وتعلق قلب هايدن بالغلامين جميعاً وكان عوناً لهما طوال حياته.
وخلال تلك السنوات الحافلة بالشواغل في استرهاتسي لم يتطور هايدن في فن التلحين إلا تطوراً بطيئاً لأنه افتقد الحافز والمنافسة الخارجيين، فلم ينتج شيئاً يستحق أن يذكر به إلى أن أبلغ الثانية والثلاثين-وهي سن كان موتسارت قد أكمل فيها "أعماله الكاملة" باستثناء "الناي السحري" و"القداس الجنائزي". وقد أنتج هايدن أبدع أعماله بعد بلوغه الخمسين، وأولى سمفونياته الكبرى حين قارب الستين، و"الخليقة" حين كان في السادسة والستين. وكتب عدة أوبرات تؤدى في استرهاتسي، ولكن حين دعته براغ لتقديم أوبرا فيها، ضمن سلسلة تقرر أن تحتوي على الزواج فيجارو ودون جوفاني، أحجم في رسالة كلها تواضع نبيل (ديسمبر 1787)، قال:
"تريد مني أوبرا هازلة ... فإذا كان قصدك إخراجها في براغ فأني لا أستطيع أن أسدي إليك هذا الصنيع. ذلك أن أوبراتي لا تنفصل عن المجتمع الذي كتبت له، ولن تحدث التأثير المقصود منها إذا عزلت عن بيئتها الأصلية. ولكن يكون أمراً آخر أن أشرف بتكليفي بكتابة أوبرا جديدة لمسرحكم. على أنه حتى في هذه الحالة، سيكون من المغامرة أن أضع نفسي منفساً لموتسارت العظيم. ولو أنني استطعت فقط أن ألهم كل عاشق للموسيقى، خصوصاً بين العظماء، بمشاعر تبلغ في عمقها مشاعري، وفهم واضح كفهمي، وهم يستمعون إلى أعمال موتسارت الممتنعة على التقليد، إذن لتبارت الأمم على حيازة هذه الجوهرة الكريمة داخل حدودها. وعلى براغ أن تجاهد الاحتفاظ بهذا الكنز في قبضتها، ولكن بمكافأته المكافأة اللائقة. وإغفال هذا الجزء كثيراً ما يكون مصدر حزن في حياة عبقري(40/270)
عظيم، وتثبيط للمزيد من الجهود ولمستقبل الأيام. وأني لأشعر بالسخط لأن موتسارت لم يستخدم إلى الآن في أي بلاط إمبراطوري أو ملكي. عفواً إن كنت قد خرجت عن الموضوع، فموتسارت رجل عزيز علي جداً" (32).
وكان هايدن نفسه يتوق إلى بلاط تنشر فيه موهبته جناحيها على نطاق أوسع، ولكن كان عليه أن يقنع بالمجاملات الملكية. ووصلته الهدايا من فرديناند الرابع ملك نابلي وفردريك وليم الثاني ملك بروسيا وماريا فيودروفنا الأرشيدوقة الروسية. وفي 1781 بعث إليه شارل الثالث ملك أسبانيا علبة سعوط ذهبية مرصعة بالماس، وسافر السفير الأسباني لدى فيينا إلى استرهاتسي ليقدم إليه هذا الكنز الصغير بشخصه. ولعل لبوكيريني يداً في هذه اللفتة، وكان يومها يقيم في مدريد، لأنه اقتبس أسلوب هايدن بحماسة شديدة حتى لقد لقب بـ"زوجة هايدن" (33). ولما قرر مجلس الكاتدرائية في قادس تكليف موسيقى بوضع الإطار الموسيقي لـ"كلمات مخلصنا السبع الأخيرة" رسا التكليف على هايدن، فاستجاب بأوراتوريو (1785) لم يلبث أن أدى في أقطار كثيرة-في الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخ مبكر (1791). وفي 1784 طلب مخرج باريسي ست سمفونيات، فأتحفه هايدن بست "سمفونيات باريسية". ووصلته عدة دعوات ليقود الحفلات الموسيقية في لندن. وشعر هايدن بأنه مربوط باتسرهاتسي برباط الولاء كما هو مربوط برباط التعاقد، ولكن خطاباته الخاصة تشي بشوقه المتزايد إلى مسرح أرحب لفنه.
وفي 28 سبتمبر 1790 مات الأمير نيكلوس يوزف. ولم يكن الأمير الجديد انطون استرهاتسي ولوعاً بالموسيقى، ففصل كل الموسيقيين تقريباً، ولكنه احتفظ بهايدن اسمياً في خدمته، ومنحه معاشاً سنوياً قدره ألف وأربعمائة فلورين، وسمح له بأن يسكن حيث يشاء. وانتقل هايدن إلى فيينا لتوه تقريباً، وتلقى الآن عدة عروض، أعجلها من يوهان بيتر سالومون،(40/271)
الذي صرح له بهذه العبارة "لقد جئت من لندن لآخذك معي، وسنبرم اتفاقنا غداً". وعرض عليه 300 جنيه لقاء أوبرا جديدة، و300 أخرى نظير ست سمفونيات، و200 أخرى نظير حق تأليفها، و200 أخرى نظير عشرين حفلة موسيقية في إنجلترا، و200 أخرى نظير حفلة موسيقية تحيا فيها لصالح هايدن-ومجموعها كلها 1200 جنيه. وكان هايدن يجهل الإنجليزية ويخشى عبور المانش. وتوسل إليه موتسارت ألا يضطلع بهذه الأعباء والمغامرات قائلاً "يا أبت لم تتلق أي تعليم يؤهلهم للعالم الواسع، وأنت لا تتكلم إلا القليل جداً من اللغات! " وأجاب هايدن "ولكن لغتي مفهومة في العالم كله". (34) وباع البيت الذي منحه إياه الأمير ميكلوس يوزف في أيزنشتات، ودبر معاش زوجته وخليلته، ثم انطلق إلى مغامرته الكبرى. وأنفق مع موتسارت الأيام الأخيرة قبل الرحيل، وبكى موتسارت حين رآه يرحل (إنني أخشى يا أبتاه أن يكون هذا آخر وداع لنا).
وغادر هايدن وسالومون فيينا في 15 ديسمبر 1790، ووصلا إلى لندن في أول يناير 1791. وكانت أولى حفلات هايدن الموسيقية (11 مارس) انتصاراً له. وختمت "المورننج كرونكل" تقريرها عنها بهذه العبارة "لا نستطيع أن نخفي أملنا الوطيد في أن يكون في هذا الترحيب البالغ الذي لقيه منا أعظم عباقرة الموسيقى في جيلنا هذا ما يغريه بأن يتخذ مقامه في إنجلترا" (35). ونجحت كل الحفلات الموسيقية، وفي 16 مايو أبهجت قلب هايدن حفلة أحييت لصالحه بـ350 جنيه. وفي ذلك الشهر حضر حفلة تذكارية لهندل في كنيسة وستمنستر. واستمع إلى (المسيا) وبلغ به التأثر حد البكاء، وقال في تواضع (هندل، أستاذنا جميعاً) (36). واقترح بيرني على جامعة أكسفورد أن تمنح هندل الجديد درجة فخرية، وقبل الاقتراح، وذهب هندل إلى الجامعة في يوليو، وأصبح دكتوراً في الموسيقى، وقاد هناك سمفونية في مقام G الكبير (رقم 92) وكان قد ألفها قبل ثلاث سنوات، ولكن التاريخ يعرفها منذ ذلك الوقت بسمفونية(40/272)
أكسفورد .. وتذكرنا حركتها البطيئة الجميلة بالأغنية الشعبية الإنجليزية القديمة "لورد راندول".
ولقد أتيح لهايدن أن يستمتع بمشهد الريف الإنجليزي الذي رأى فيه تمجيداً سماوياً للنبات والمطر، لذلك قبل مغتبطاً عقب عودته إلى لندن دعوات لبيوت ريفية. وهناك وفي لندن كسب الكثير من الأصدقاء بترحيبه بالعزف والغناء في حفلات خاصة. واتخذ له تلاميذ متقدمين في الموسيقى ليعلمهم التأليف، ومن بينهم أرملة وسيمة غنية تدعى يوهانا شروتر. ومع أنه كان في الستين، فأن هالة شهرته أدارت رأسها فعرضت عليه حبها. وقد ذكر هذا الحديث فيما بعد فقال "أغلب الظن أنني كنت متزوجها لو كنت عزباً" (37). وفي غضون هذا كانت زوجته تلح عليه في العودة. وفي خطاب أرسله إلى لويجا بولتسيللي قال متذمراً (إن زوجتي -الوحش الجهنمي-كتبت لي أشياء بلغت من الكثرة ما أكرهني على الجواب بأنني لن أعود أبداً) (38).
وراح يشتغل بهمة رغم ما أثقل ضميره وجيبه من النسوة الثلاث، فألف الآن ستاً (رقم 93 - 98) من سمفونياته اللندنية الأثنتي عشرة. ونرى فيها تطوراً ملحوظاً من إنتاجه في إيزتشتات واسترهاتسي. ولعل سمفونيات موتسارت قد شحذت فنه، أو لعل احتفاء إنجلترا به قد اخرج خير ما فيه، أو لعل استماعه إلى هندل حرك فيه أعماقاً لم تمسها بيئته الساكنة الهادئة في ربى المجر، أو لعل علاقاته الغرامية قد رفعته إلى العواطف الرقيقة كما بعثت فيه الفرحة البسيطة. وشق عليه إن يبرح إنجلترا؛ ولكنه كان مرتبطاً يعقد مع الأمير أنطون استرهاتسي الذي أصر الآن على عودة هايدن ليشارك في المهرجانات الممهدة لتتوج الإمبراطور فرانسيس الثاني. ومن ثم نراه يقتحم المانش ثانية في أواخر يونيو 1792، وينتقل من كاليه إلى بروكسل إلى بون، ويلتقي ببيتهوفن (الذي كان آنئذ في الثانية والعشرين)، ويحضر التتويج في فرانكفورت، ثم يصل إلى فيينا في 26 يونيو.(40/273)
ولم تشر صحيفة واحدة إلى عودته، ولا نظمت له حفلات موسيقية، ولا حفل به البلاط. ولو كان موتسارت موجودا لاحتفى بمقدمه، ولكن موتسارت كان قد قضى. وكتب هايدن إلى أرملته، وتطوع بإعطاء دروس مجانية لابنه؛ وحث الناشرين على طبع المزيد من موسيقى موتسارت. ثم ذهب ليعيش مع زوجته في المنزل المحتفظ به الآن متحفاً لهايدن (هايدن-جاسي 19). وأرادته الزوجة أن يكتب لها البيت فرفض. وازدادت مشاجراته معها حدة. وقدم بيتهوفن في ديسمبر 1792، ليدرس عليه. ولكن العبقريين لم ينسجما معاً، فقد كان بيتهوفن متكبراً مسيطراً، وكان هايدن يلقبه "المغولي الأكبر" (39). وقد شغله استغراقه في عمله هو عن تصحيح تمرينات تلميذه بأمانة، ووجد بيتهوفن سراً معلماً آخر، ولكنه واصل تلقي الدروس عن هايدن. فقال الجبار الصغير "لم أتعلم منه شيئاً (40) "، ومع ذلك فكثير من قطعه الأولى تنهج نهج هايدن، وقد أدهى بعضها لمعلمه الشيخ.
وازداد تقدير القوم لهايدن في النمسا وفي روراو، فأقام الكونت فون هاراخ في روراو، عام 1792، تمثالاً لابن البلدة الذي غداً الآن ذائع الصيت، ولكن ذكرى انتصاراته وصداقاته في إنجلترا كانت لا تزال حارة، ومن ثم لم يتردد الموسيقى في الموافقة على العرض الثاني الذي قدمه لم سالومون بالذهاب إلى لندن وتكلفه كتابة ست سمفونيات جديدة. فغادر فيينا في 19 يناير 1794 ووصل إلى لندن في 4 فبراير. وكانت إقامته هذه التي امتدت ثمانية عشر شهراً في إنجلترا نصراً مؤزراً شدد عزمه كنصره الأول. وظفرت المجموعة الثانية من "السمفونيات اللندنية" (أرقام 99 - 104) باستقبال طيب، وخرج هايدن من حفلة أحييت لصالحه بدخل صافي قدره 400 جنيه. وكان تلاميذه يدفعون له جنيهاً إنجليزياً في الدرس، وكانت السيدة شروتر تسكن بقربة، وعاد الأثير المقرب للطبقة الأرستقراطية، فاستقبله الملك وأعداء الملك على السواء، وأمير ويلز، وعرضت عليه الملكة مسكناً في ونزر طوال الصيف إذا أطال مقامه في إنجلترا موسماً آخر. ولكنه اعتذر بأن(40/274)
أمير استرهاتسي الجديد يدعوه للعودة، وأنه لا يستطيع الغياب عن زوجته فترة طويلة كهذه (!). وكان الأمير أنطون قد مات، وأراد خلفه الأمير ميكلوس الثاني أن يعيد الحفلات الأوركسترالية في ايزنشتات. وهكذا غادر هايدن لندن في 15 أغسطس 1795 بعد أن حزم حقائبه وجيوبه عامرة ويمم شطر وطنه.
وبعد أن زار تمثاله في روراو قدم نفسه لميكلوس الثاني في ايزنشتات ونظم الحفلات الموسيقية لشتى المناسبات هناك. على أنه كان يقيم في بيته في أطراف فيينا باستثناء الصيف والخريف. وفي عامي 1796 - 97 كان نابليون يسوق النمساويين أمامه في إيطاليا، وهدد تصاعد المشاعر الثورية في النمسا نظام هابسبورج الملكي، وتذكر هايدن كيف شدت الحماسة التي أثارها إنشاد النشيد الإنجليزي "حفظ الله الملك" إزر أسرة هانوفر في إنجلترا، وساءل نفسه إلا يمكن أن يفعل نشيد قومي مثل هذا في شد أزر الإمبراطور فارنسيس الثاني؟ وتقدم صديقه البارون جوتفريد فان زفيتن (ابن طبيب ماريا تريزا) بهذا الاقتراح إلى الكونت فون زاوراو وزير الداخلية. وعين زاوراو ليوبولد هاشكا ليؤلف نصاً للنشيد، واستجاب الشاعر بنشيده "حفظ الله الإمبراطور فرنسيس، إمبراطورنا الصالح فرانسيس".
ووفق هايدن لهذه الكلمات لحناً لأغنية كوراتية قديمة، وكانت النتيجة نشيداً قومياً مؤثراً رغم بساطته. وأنشد علانية في عيد ميلاد الإمبراطور في 12 فبراير 1797 في جميع المسارح الكبرى في مملكة النمسا والمجر. وقد ظل مع بعض التغيير في ألفاظه-النشيد القومي النمساوي حتى 1938. وطور هايدن اللحن، مع تنويعات، ليصبح الحركة الثانية في رباعيته الوترية (76 رقم 3).
ثم حاول أن ينافس "المسيا" وهو ما يزال أسيراً لسحر هندل. وكان(40/275)
سالومون قد قدم له نصاً مصنفاً من قصيدة لمتن "الفردوس المفقود"، وترجم فان زفيتن النص إلى الألمانية، ولحن هايدن الأوراتوريو الضخم "دي شويفونج" (الخليقة). وأدى إوراتوريو "الخليقة" أمام جمهور دعى إلى قصر الأمير فون شفارتسنبرج في 29 - 30 إبريل 1798. وبلغ احتشاد الجمهور خارج القصر مبلغاً اقتضى معه حفظ النظام استخدام خمسين شرطياً من الخيالة (كما يؤكدون) (41). ومول الأمير حفلة عامة في المسرح القومي في 19 مارس 1799، ونفح مؤلف الموسيقى بكل دخلها (الذي بلغ أربعة آلاف فلورن). وحيا السامعون الموسيقى بحماسة أشبه بالحماسة الدينية، وما لبث الأوراتوريو أن استمع إليه الناس في كل مدينة كبرى تقريباً في العالم المسيحي. وأدانت الكنيسة الكاثوليكية اللحن لأنه أخف وأجذل من يصلح لموضوع جليل كهذا، ووافق شيلر بيتهوفن في السخرية من تقليد هايدن لحيوانات جنة عدن، أما جوته فقد أشاد بالعمل، وظفر اللحن في بروسيا بعروض في القرن التاسع عشر فاقت في كثرتها أي لحن كورالي آخر.
وقدم فان زفيتن نصاً آخر اقتبسه من قصيدة جيمس طومسن "الفصول". وعكف هايدن عليه بهمة قرابة عامين (1799 - 1801)، مما أضر كثيراً بصحته. وقد قال "أن "الفصول" قصمت ظهري". وحظيت حفلة العرض الأولى باستقبال طيب، ولكن اللحن لم يثر حماسة واسعة أو دائمة. وبعد أن قاد هايدن "كلمات المسيح السبع الأخيرة" لصالح أحد المستشفيات اعتزل حياته النشيطة.
وكانت زوجته قد ماتت في 20 مارس 1800، ولكنه كان الآن قد بلغ من الكبر حداً لا يتيح له الاستمتاع بحريته وإن لم يمنعه من الاستمتاع بشهرته. فقد اعترف به الناس أمام المؤلفين الموسيقيين، وتكاثرت عليه أسباب التشريف من شتى المدن، ووفد عليه مشاهير الموسيقيين-أمثال كيروبيني، وآل فيبر، واجناز بلييل، وهوميل-لتقديم واجب الاحترام والإجلال له. ولكن الروماتزم والدوار وغيرهما من الأصواب أورثته(40/276)
الاكئتاب وسرعة الغضب والتشبث الرهيب بأهدب الدين. وحين زاره كاميل بلييل في 1805 وجده "ممسكاً بمسبحة في يديه، وأعتقد أنه يقضي أكثر يومه في الصلاة، وهو لا يفتأ يقول أن نهايته قد دنت ... ولم نطل المكث معه لأننا رأينا أنه يريد أن نصلي (42). في ذلك العام انتشرت شائعة كاذبة زعمت أن هايدن مات. وكتب كيروبيني كنتاتا عن موته، وخططت باريس لحفلة موسيقية تذكارية يعزف فيها قداس موتسارت الجنائزية، ثم وصل نبأ بأن الشيخ ما زال على قيد الحياة. فلما سمع هايدن بالأمر قال معقباً "إذن لسافرت إلى باريس لأقود القداس الجنائزي بنفسي" (43).
وظهر آخر مرة أمام الجمهور في 27 مارس 1809 حين رتلت "الخليقة" في جامعة فيينا احتفالاً بعيد ميلاده السادس والسبعين الوشيك. وأرسل الأمير استرهاتسي مركبته لنقل الرجل العاجز إلى الحفلة الموسيقية. وحمل هايدن على كرسي ذي مسندين إلى القاعة بين الجمهور من النبلاء ومشاهير القوم، ولفت الأميرات شيلانهن حول جسده المرتعش. وجثا بيتهوفن وقبل يده. وغلب التأثر المؤلف العجوز، ولم يكن بد من إعادته إلى بيته في فترة الاستراحة.
وفي 12 مايو 1809 بدأت مدفعية نابليون تقصف فيينا. وسقطت قنبلة على مقربة من بيت هايدن فهزته هو وسكانه، ولكن هايدن قال ليطمئنهم "يا أبنائي لا تخافوا، فحيث يوجد هايدن لن يصيبكم سوء". وصدق قوله إلا عن نفسه، فقد حطم القصف جهازه العصبي. فلما استولى الفرنسيون على المدينة أمر نابليون بأن يرابط حرس شرف أمام بيت المؤلف. ورتل ضابط فرنسي عند دخوله لحناً من "الخلقية" بطريقة فيها كثير من الرجولة والسمو حتى أن هايدن عانقه وفي 31 مايو قضى نحبه وهو في السابعة والسبعين، وأقامت كبرى مدن أوربا كلها الصلوات تذكاراً له.
يقتصر إنجاز هايدن التاريخي على تطوير الأشكال الموسيقية. وقد أضفى على الأوركسترا حيوية جديدة بما أوجده من توازن بين الأوتار وآلات النفخ والنقر. وإذ بنى فوق جهود سامارتيني وشتامنز وكارل(40/277)
فليب إيمانويل باخ: فإنه أرسى شكل الصوناتا باعتبارها عرضاً وتفصيلاً وتلخيصاً لموضوعات متعارضة وأعد لموتسارت الموسيقي الخفيفة المسلية المسماة "ديفرتمنتو" باعتبارها أقل شكلية من المتتالية وأنسب اللقاءات الاجتماعية. وأعطى الرباعية الوترية صورتها الكلاسيكية بإطالتها إلى أربع حركات، وبإعطاء الحركة الأولى "شكل الصوناتا". وهنا كان على خلفائه أن يستخدموا عدد ونوع الآلات التي استخدمها هايدن، وقد حقق في كثير من الحالات جمالاً مشرقاً رقيقاً يعود إليه بعضنا متخففاً من التعقيدات العسيرة التي نجدها في رباعيات بيتهوفن الأخيرة.
ولا تزال على قيد الحياة تسمع سمفونيات أو عشر من السمفونيات هايدن المائة والأربعة. ولم تكن الأسماء التي تحملها من اختياره ولكنها من وضع المعلقين أو الناشرين. وقد لاحظنا في مكان سابق تطور "السمفونية" (رأى الأصوات المجمعة) من المقدمة بفضل تجارب سامرتيني وشتامتز. وقد سبق كثيرون هايدن في صياغة بناء السمفونية "الكلاسيكية" فلما خرج من استرهاتسا إلى عالم أرحب لم يكن قد بلغ من الكبر حداً يعجزه عن أن يتعلم من موتسارت كيف يملأ البناء مغزى وعاطفة. وتحدد "سمفونية أكسفورد" مرحلة صعوده إلى مدى أبعد وقوة أعظم، وترينا "السمفونية اللندنية" هايدن في قمة آفاقه السمفونية. والسمفونية رقم 101 (سمفونية الساعة) مبهجة، ورقم 104 لا يقل مستواها عن سمفونيات موتسارت.
ويمكن القول بوجه عام إننا نحس في موسيقاه طبيعة لطيفة سمحة ربما لم تشعر بأعماق الحزن أو الحب، طبيعة اضطرت إلى الإنتاج في عجلة لم تسمح بإنضاج الفكرة أو الموضوع أو الجملة. لقد كان هايدن أسعد من أن يبلغ العظمة العميقة، ولقد تكلم أكثر مما يتيح له التعبير عن الكثير. ومع ذلك فإن في هذه الأنغام اللعوب ذخيرة من البهجة الصافية الهادئة، فهنا كما قال "قد يستمتع المتعبون المكدودون، أو الرجل الذي أثقلته هموم الحياة، ببعض السلوى والانتعاش (44) ".(40/278)
وعقب موت هايدن انصرف العصر عن موسيقاه. فلقد عكست أعماله عالماً إقطاعياً ثابتاً وطيد الأركان، وبيئة من الأمن والدعة الأرستقراطيين، وكان في هذه الأعمال من المرح والرضى عن النفس ما لا يشبع قرناً ملؤه الثورات والأزمات والنشوات الرومانسية واليأس. ولكن الناس عادوا يقبلون عليه حين امتدحه برامز وكتب دبوسي "تحية إجلال لهايدن" (1909). عندها أدرك الناس أنه إذا كان روفائيل وميكل أنجيلو الموسيقي اللذان جاء بعده قد سكبا فكراً أعمق مع تمكن أرهف في مؤلفاتهما الموسيقية، فأنهما لم يستطيعا ذلك إلا لأن هايدن ومن سبقوه صاغوا الأشكال التي تلقاها فنهما الرائع. قال هايدن "إني أعلم أن الله منحني موهبة، وأنا شاكر له هذه المنحة وأحسبني قمت بواجبي وكنت ذا نفع .. فليصنع الآخرون كما صنعت" (45).(40/279)
الفصل الخامس عشر
موتسارت
1 - الصبي العجيب
1756 - 1766
كانت سالزبورج مخفراً موسيقياً لفيينا، شأنها في ذلك شأن براغ وبرسبورج واسترهاتسا، لها طابعها الخاص أولاً بسبب مناجم ملحها التي تعلل اسمها، وثانياً بسبب جبالها المجاورة ونهر زالتساخ الذي يشطرها شطرين، وثالثاً بسبب نموها حول الدير والكرسي الأسقفي اللذين أنشأهما هناك القديس روبرت الفورمزي حوالي عام 700م. وقد رقي رئيس أساقفتها لرتبة (الأمير الإمبراطور) في 1278، ومنذ ذلك التاريخ حتى عام 1802 ظل حاكم المدينة المدني والديني جميعاً. وفي 1731 - 32 أكره نحو ثلاثين ألف بروتستنتي على الهجرة، مخلفين سالزبورج كاثوليكية خالصة محكومة كلها بحكومة من رجال الدين الكاثوليك. وفيما عدا ذلك كان نير رئيس الأساقفة خفيفاً على سكان سنيي العقيدة، أقبلوا على المتع الجسدية وغيرها من مباهج الدنيا بعد أن اطمأنوا إلى حقائق الأبدية المؤكدة. وكان زيجسموند فون شراتنباخ رئيس الأساقفة أيام صبي موتسارت، رجلاً يتحلى بقدر كبير من الطيبة والشفقة إلا مع المهرطقين.
إلى هذه البلدة الجميلة إذن قدم ليوبولد موتسارت في 1737 وهو في الثامنة عشرة من وطنه أوجزبورج، ربما ليدرس اللاهوت ويمتهن القسوسية. ولكنه أسلم قلبه للموسيقى، وخدم ثلاث سنين موسيقياً وتابعاً في بيت أحد النبلاء، وفي 1743 أصبح رابع عازفي الكمان في أوركسترا رئيس الأساقفة. فلما تزوج آنا ماريا بيرتل (1747) عدهما القوم أجمل عروسين في سالزبورج. وقد ألف الكونشرتوات والقداسات والسمفونيات، كما ألف كتاباً مدرسياً لتقنية الكمان حظي طويلاًَ بالتقدير. وفي 1757 عين مؤلفاً موسيقياً لبلاط رئيس الأساقفة. ولم يبق الموت إلا على اثنين من(40/280)
أطفاله السبعة جاوزا سن الطفولة: ماريا آنا (ماريا "نانيزل") المولودة في 1751، وفولفجانج أماديوس المولود في 27 يناير 1756 (واسم الغلام الكامل-الذي تشفعت به الأسرة لدى قديسين عديدين- كان يوانس خريسوستومس فولفجانجس تيوفيلوس موتسارت، وقد ترجم تيوفيلوس من اليونانية إلى اللاتينية بأماديوس أي محب الله). وكان ليوبولد زوجاً وأباً طيباً، مخلصاً ومجتهداً. وخطاباته لولده تفيض محبة ولا تعوزها الحكمة. وكان بيت موتسارت-إذا أغضينا عن قليل من نابي الحديث يدور فيه-مرفأ للحب المتبادل، والتقوى الأبوية، والدعابات الطفلية، والموسيقى التي لا تنقضي.
كان القوم يتوقعون من كل طفل ألماني أن يصبح موسيقياً إلى حد ما، يعزف على إحدى الآلات. وعلم ليوبولد أطفاله الموسيقى مع مبادئ القراءة. فكانت ماريانا قد أتقنت في الحادية عشرة العزف على الكلافيكورد. أما فولفجانج فقد عكف على الكلافير في شغف بعد أن حفزته قدوتها، فاستطاع في الثالثة أن يميز بين الأوتار، وفي الرابعة أن يعزف عدة قطع من الذاكرة، وفي الخامسة ابتكرا ألحاناً سجلها أبوه أثناء عزفها. وامتنع ليوبولد عن اتخاذ تلاميذ آخرين يلقنهم الموسيقى ليفرغ بجملته لطفليه وإن كلفة ذلك بعض التضحية. ولم يرسل "فولف" إلى المدرسة، لأنه نوى أن يكون معلمه في كل شيء. ولعل هذا التعليم اقتضى شيئاً من الضبط الألمانيين ولكن لم تكن الحاجة لكثير منه في هذه الحالة، ذلك أن الغلام كان يلزم لوحة المفاتيح من تلقاء نفسه ساعات طوالاً إلى أن يجبر على مبارحتها (1). وقد كتب إليه ليوبولد بعد هذه الفترة بسنوات يقول:
"لقد كنت في مرحلة الطفولة والصبى تسلك مسلكاً جاداً يختلف عن مسلك سائر الأطفال، وحين كنت تعزف الكلافير، أو تعكف على الموسيقى، لم تكن تسمح بأقل مزاح معك. لا بل إن سحنتك ذاتها كانت تتسم بطابع الجد الشديد، حتى لقد تنبأ الكثيرون ممن راقبوك بأنك ستموت قبل أوانك بسبب نبوغك المبكر ومظهرك الجاد (2) ".(40/281)
وفي يناير 1762، حين كانت ألمانيا مازالت تمزقها الحرب، اصطحب ليوبولد ابنته وابنه إلى ميونخ ليعرض على الأمير الناخب مكسمليان يوزف براعتهما في العزف، وفي سبتمبر استصحبهما إلى فيينا. ودعيا إلى شونبرون، وابتهجت ماريا تريزا وفرانس الأول بالطفلين، وقفز فولفجانج إلى حجر الإمبراطورة، وضمها إليه وقبلها، ولما تحداه الإمبراطور عزف على الكمان بأصبع واحد، وعزف على الكلافيكورد دون أن يخطئ رغم حجب المفاتيح بقطعة من قماش. وفيما كان فولفجانج يمرح وهو يجري مع الأميرات، زلت قدمه وسقط، فالتقطته الأرشيدوقة ماريا أنطونيا-وكانت في السابعة-وراحت تسري عنه. فقال لها "أنت طيبة"، ثم أضاف شاكراً "سوف أتزوجك (3) ". وفتح الكثير من النبلاء بيوتهم لآل موتسارت وبهتوا للموسيقى التي سمعوها وأثابوا ثلاثتهم بالمال والهدايا. ثم ألزم الغلام الفراش أسبوعين لإصابته بالحمى القرمزية-وكان هذا أول الأمراض الكثيرة التي ستنغص عليه رحلاته. وفي 1763 عادت الفرقة إلى سالزبورج.
وأغضى رئيس الأساقفة المتسامح عن تجاوز ليوبولد فترة إجازته، لا بل رقاه نائباً لرئيس فرقة المرتلين ولكن في 9 يونيو شد ليوبولد رحاله مرة أخرى مضحياً بالمزيد من الترقيات، مصطحباً هذه المرة زوجته، ليعرض ولديه على أوربا، إذ لم يكن ممكناً أن يظلا أبد الدهر طفلين معجزين. وقدم الطفلان حفلتين موسيقيتين في ماينز وأربعاً في فرانكفورت وقد استعاد جوته بعد ستين عاماً ذكرى استماعه إلى إحداها، وكيف تعجب من "الرجل القصير ذي الباروكة والسيف"-لأنه هكذا ألبس ليوبولد ابنه فولفجانج كأنه عجيبة من عجائب السرك. ففي إعلان نشر في جريدة فرانكفورتية بتاريخ 30 أغسطس 1763 وعد المتفرجون في حفلة ذلك المساء بالآتي:
"ستعزف الفتاة الصغيرة ذات الإحدى عشرة سنة أعسر مؤلفات كبار الموسيقيين، أما الصبي الذي لم يبلغ السابعة بعد فسيعزف على الكلافيكورد(40/282)
أو الهاربسيكورد. كذلك سيعزف كونشرتو للفيولينة، ويصاحب سمفونيات على الكلافير ولوحة المفاتيح مغطاة بالقماش في يسر بالغ كأنه يبصر المفاتيح. وسيسمى جميع النغمات التي تعزف عن بعد، سواء مفردة أو متوافقة، على الكلافير أو على أية آلة أخرى-جرساً كانت أو كأساً أو ساعة. وأخيراً سيرتجل على الهابسيكورد والأرغن طوال ما يراد له أن يعزف، وفي أي مقام (4) ".
وربما أضرت هذه المطالب المرهقة التي فرضت على مواهب الصبي بعض الضرر بصحته أو أعصابه، ولكن يبدو أنه استمتع بتصفيق الجمهور استمتاع أبيه بدنانيره.
وقد عزفوا في كوبلنتز، وخاب أملهم في بون وكولونيا، ولكنهم أحيوا حفلة في آخن. وفي بروكسل توقعوا أن يشرف الحاكم العام الأمير شارل اللوريني الحفل بحضوره، ولكنه كان مشغولاً. كتب ليوبولد غاضباً:
"لقد انقضى علينا الآن قرابة ثلاثة أسابيع في بروكسل .. دون أن يحدث شيء ... وما من شغل لسموه غير الصيد والتهام الطعام والشراب، وقد تبين لنا في النهاية أنه مفلس ... صحيح أننا لتقينا العديد من الهدايا هنا، ولكنا لا نريد أن نحولها إلى نقود ... وسيكون في استطاعتنا بعد قليل أن نفتح متجراً بكل هذه الهدايا من علب النشوق والحقائب الجلدية وما إليها منة توافه رخيصة (5) ".
وأخيراً وافق الأمير على الحضور فأحييت الحفلة، وجمعت الدنانير، وركبت الفرقة ميممة باريس.
وفي 15 نوفمبر 1763 بلغوا باريس بعد معاناة ثلاثة أيام من السفر على طريق وعرة تملوها الحفر. وكانوا يحملون خطابات تقديم إلى كثير من الأعيان، ولكن تبين أن أثمنها خطاب إلى ملشيور جريم، الذي رتب أن يستقبل آل موتسارت مدام ديمبادور، والأسرة المالكة، وأخيراً لويس الخامس عشر والملكة ماري لسزنسكا. وفتحت الآن أفخم البيوت للزائرين،(40/283)
وحالف التوفيق حفلاتهم الخاصة والعامة، وكتب جريم إلى قرائه في حماسة يقول:
"إن المعجزات الحقيقية نادرة، ولكن ما أعجب أن تتاح لنا الفرصة لرؤية واحدة منها! لقد قدم لتوه رئيس فرقة مرتلين من سالزبورج اسمه موتسارت بصحبة اثنين من أجمل الأطفال في العالم في فاما ابنته البالغة من العمر أحد عشر ربيعاً فتعزف على البيان أروع عزف، وتؤدي أطول المقطوعات وأصبعها بدقة مذهلة. وأما أخوها الذي سيبلغ السابعة في فبراير القادم فظاهرة خراقة بحيث لا تكاد تصدق ما تراه بعينيك ... فيداه صغيرتان جداً ... وهو يرتجل ساعة، مستسلماً لوحي عبقريته، بذخيرة من الأفكار المبهجة ... وليس لدى أكفأ رئيس لفرقة موسيقى ما لهذا الطفل من المعرفة العميقة يتآلف الألحان والتنقل بين النغمات ... وليس أيسر عنده من حل أي رموز تضعها أمامه. وهو يكتب ويؤلف بيسر مدهش، ولا يجد ضرورة للذهاب إلى البيانو واختبار الأوتار التي يريدها. وكتب له "منويتا" وطلبت إليه أن يضع باصاً لها. فأمسك بقلم وكتب الباص دون أن يذهب إلى البيان ... أن الطفل سيدير رأسي إن استمعت إلى المزيد من عزفه ... ومن أسف أن الناس في هذا البلد لا يفقهون عن الموسيقى إلا أقل القليل (6) ".
وبعد أن حققت الأسرة الكثير من الانتصارات في باريس غادرتها إلى كاليه (10 إبريل 1764). وفي لندن استقبلهم جورج الثالث. وفي 19 مايو، أمام الملك والحاشية، طوال أربع ساعات عزف فولفجانج موسيقى هندل وباخ. غيرهما من كبار الموسيقيين بمجرد النظر إلى المدونة وصاحب غناء الملكة شارلوت، وارتجل لحناً جديداً لباص أغنية لهندل. أما بوهان كرستيان باخ، الذي كان قد اتخذ لندن مقاماً له في 1762، فأجلس الصبي على ركبته وعزف معه صوناتا، وكان كل منهما يعزف فاصلة بدوره "في دقة بالغة ما كان في استطاعة أحد معهما أن يحسب العزف من عازفين لا من عازف واحد (7) ". وبدأ بلخ "فوجة"، وتابعها(40/284)
فولفجانج، كما لو كان العازفان العبقريان عازفاً واحداً هنا أيضاً. وبعدها طلت مؤلفات موتسارت سنوات عديدة متأثرة بيوهان كرستيان باخ. وفي 5 يونيو أحيا الطفلان حفلة أبهجت قلب ليوبولد بمائة جنيه إنجليزي خالصة. ولكن الأب أصيب بالتهاب شديد في الحلق، واعتكفت الأسرة للاستجمام أسابيع عدة، ألف فيها فولفجانج سمفونيتين (ك16 و19)، وكان الآن يناهز الثامنة.
وفي 24 يوليو 1765 غادروا لندن إلى هولندا، ولكن في مدينة ليل مرض الوالد وولده، وأرجئت الجولة شهراً، وإن كان رئيس الأساقفة فون شراتنباخ قد طلب إلى ليوبولد أن يعود منذ زمن. ووصلوا إلى لاهاي في 11 سبتمبر، ولكن في الغد مرضت ماريانا بدورها، ولم تلبث أن تدهورت حالها حتى أنها في 21 أكتوبر تناولت الأسرار المقدسة الأخيرة. وفي 30 سبتمبر أحيا فولفجانج حفلة بدون مساعدة أخته. وما أن تماثلت للشفاء حتى دهمته الحمى، واضطرت الأسرة إلى تعطل كلفها غالياً حتى يناير1766. وفي 29 يناير و26 فبراير أحيوا حفلات في أمستردام، وعزفت الآن لأول مرة سمفونية لموتسارت (ك22) أمام الجمهور. وكان الصبي خلال هذه الشهور يؤلف في نشاط محموم. وفي مايو قفلوا إلى باريس حيث كانوا كثيراً من حقائبهم. وهيأ جريم لهم مسكناً مريحاً، وعادوا يعزفون في فرساي وفي حفلات عامة، ولم يقتلعوا أنفسهم من العاصمة الفاتنة إلا في 9 يوليو.
وأطالوا المكث في ديجون ضيوفاً على أمير كونديه، وأنفقوا أربعة أسابيع في ليون، وثلاثة في جنيف، وأسبوعاً في لوزان؛ وآخر في برن، وأثنين في زيورخ، واثني عشر يوماً في دوناوشنجن ثم وقفات قصيرة في بيبراخ، وأولم، وأجزبورج، وفترة أطول في ميونخ، حيث مرض فولفجانج مرة أخرى. وأخيراً، في آخريات نوفمبر 1766، وبعد غيبة ثلاث سنين ونصف، وصلت الأسرة إلى سالزبورج. وصفح عنهم رئيس الأساقفة الشيخ، واستطاعوا الآن أن ينعموا بأسباب الراحة المتاحة في(40/285)
بيتهم. وبدا أن كل شيء على ما يرام، ولكن موتسارت لم يستعد بعدها صحته موفورة قط.
2 - مرحلة المراهقة
1766 - 1777
كان ليوبولد رب عمل صارماً لا يعرف هوادة ولا لين له قناة. درب ولده تدريباً شاقاً على دراسة الكونترابنط. والباص الدقيق الكامل، وغير ذلك من عناصر التأليف الموسيقي التي تلقاها من الموسيقى الألمانية والإيطالية. وحين سمع الأسقف أن فولفجانج يؤلف الموسيقى تساءل ألم يتعاون معه أبوه في هذا التأليف. ولكي يقطع الشك باليقين دعا الغلام معه أسبوعاً ثم عزله عن كل معونة خارجية، ودفع إليه ورقاً وقلماً وأعطاه هاربسيكورداً وطلب إليه أن يؤلف قسماً من أوراتوريو عن الوصية الأولى. وفي ختام الأسبوع قدم إليه موتسارت نتيجة عمله، وقيل لرئيس الأساقفة. إنها جديرة بالثناء. وكلف رئيس أوركستره ميخائيل (أخا يوزف) هايدن بأن يؤلف قسماً ثانياً، وعازف أرغنه أن يؤلف قسماً ثالثاً، ثم عزف الكل في قصر رئاسة الأسقفية في 12 مارس 1767، وروي أنه يستحق الإعادة في 2 إبريل. وقسم موتسارت وارد الآن تحت رقم 35 في كتالوج كوشل (1).
وبلغ ليوبولد أن الأرشيدوقة ماريا يوزفا ستزف قريباً إلى فرديناند ملك نابلي، فخطر الاحتفالات التي ستقام في القصر الإمبراطوري ستتيح فرصة جديدة لولديه. وعليه قصدت الأسرة فيينا في 11 سبتمبر 1767. فاستقبلوا في القصر، وكانت النتيجة إصابة فولفجانج وماريانا كليهما بالجدري الذي التقطا عدواه من العروس. وأخذ الأبوان التعسان طفليهما المعجزين إلى أولموتز بمورافيا، حيث قدم لهما الكونت بوتستاتسكي
_________
(1) صدر هذا أصلاً في ليبزج عام 1862 تحت اسم Chronologisch-Thematisches Verzeichniss Sammtlicher Tonworke W,A. Mozarts ونحن نستعمل الطبعة المنقحة من عمل ألفريد أينشتين في كتابه "موتسارت شخصيتة وآثاره (لندن 1957)، 473 - 83(40/286)
المأوى والرعاية وظل موتسارت أعمى تسعة أيام. وفي 10 يناير عادت الأسرة إلى فيينا. واحتفلت بهم الإمبراطورة ويوزف الثاني، ولكن البلاط كان في حداد على وفاة العروس، ولم يكن هناك محل لأحياء حفلات موسيقية.
وبعد غياب طويل لا نفع فيه عادت الأسرة إلى ساليزبورج (5 يناير 1769) وواصل موتسارت دراسته مع أبيه، ولكن في أواخر ذلك العام قدر ليوبولد أنه علم الصبي كل ما يستطيع أن يعلمه، وأن ما يحتاج إليه فولفجاج الآن هو الإلمام بحياة إيطاليا الموسيقية. ومن ثم حصل الأب وابنه على خطابات تقديم لكبار الموسيقيين الإيطاليين من يوهان هاسي وغيره، ثم انطلقا في رحلتهما في 13 ديسمبر 1769 تاركين ماريانا وأمها ليحتفظا بموطئ قدم في سالزبورج. وفي الليلة التالية أحيا موتسارت حفلة في إنزبروك، وعزف بمجرد الإطلاع على النوتة كونشرتو غير مألوف وضع أمامه امتحاناً لمهارته، وهللت الصحافة المحلية لـ"معلوماته الموسيقية الخارقة (8) ". وفي ميلان التقيا بسامارتيني وهاسي وبتشيني، وحصل الكونت فون فرميان لفولفجانج على تكليف بتأليف أوبرا، وهذا معناه مائة دوقاتية تدخل الأسرة. وفي بولونيا استمعنا إلى صوت فارينللي الذي لم يزل معجزاً، وكان قد عاد من انتصاراته في أسبانيا، ورتبا مع بادري مارتيني أن يعود فولفجانج ليدخل الاختبارات المؤهلة لدبلوم "الأكاديميات فيلارمونيكا" المرموق. وفي فلورنسة، في قصر الأرشيدوق ليوبولد، عزف موتسارت على الهاربسيكورد مصاحباً فيولينة نارديني. ثم هرع الأب وولده إلى روما ليلحقا موسيقى أسبوع الآلام.
ووصلا في 11 إبريل 1770، أثناء عاصفة رعدية برقية، فحق لليوبولد أن يكتب أنهما "استقبلا استقبال عظماء الرجال بإطلاق المدافع (9) ". وكان وصولهما بالضبط في وقت سمح لهما بالذهاب إلى كنيسة السستين والاستماع إلى "ميزريري" (لحن المزمور الخمسين "أرحمني") الذي ألفه جريجوريو الليجري، والذي كان يرتل هناك كل عام. وكان من العسير(40/287)
الحصول على نسخ من هذا الكورال الأشهر المكتوب لأربعة أصوات أو خمسة أو تسعة، فأصغى إليه موتسارت مرتين ثم كتبه من الذاكرة. ومكثا في روما أربعة أسابيع، وأحييا حفلات موسيقية في بيوت النبلاء مدنيين وكنسيين. وفي 8 مايو انطلقا في رحلتهما إلى نابلي. وكان الطريق خطراً لانتشار اللصوص فيه، فسافر موتسارت وأبوه مع أربعة رهبان أوغسطينين لينالا الحماية الدينية أو يظفرا بتناول القربان قبل الموت في هذه الضرورة الملحة. واستبقتهما نابلي شهراً بأكمله لأن النبلاء ابتداء من تانوتشي فتازلا دعوهما لأمسيات ووضعوا كل أسباب الترف تحت تصرفهما. فلما عزف فولفجانج في "الكونسر فاتوريو ديللا بييتا" غزا الجمهور المؤمن بالخرافات براعته لضرب من السحر كامن في خاتم يلبسه. وأدهشهم أنه واصل العزف بالبراعة ذاتها بعد أن خلع خاتمه.
وبعد أن استمتعا بالمقام في روما مرة أخرى عبرا الأبنين ليصليا للعذراء في كنيستها "سانتا كازا" بلوريتا، ثم اتجها شمالاً لينفقا ثلاثة أشهر في بولونيا. وكان موتسارت يتلقى كل يوم تقريباً دروساً من بادري مارتيني في أسرار التأليف الموسيقي. ثم تقدم لاختبار القبول في "الأكاديميا فيلارمونيكا"، فأعطى قطعة من ترنيمة بسيطة جريجورية، طلب إليه أن يضيف إليها وهو محبوس وحده في حجرة نوتات عليا ثلاثاً بالأسلوب التقليدي الدقيق " Stile Osserrato" وأخفق في المحاولة، ولكن البادري الطيب صحح إجابته، وقبل المحلفون الصورة المنقحة "نظراً إلى الظروف الخاصة"-ربما لصغر سن موتسارت.
وفي 18 أكتوبر كان الوالد والولد في ميلان. هناك حقق فولفجانج أول انتصاراته مؤلفاً موسيقياً، ولكن بعد الجهد الجهيد والمعاناة الكثيرة وكان موضوع الأوبرا التي كلف بها "مترداتي، ملك بنطس"، وقد اخذ النص من راسين. وراح الفتى الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة يكد ويكدح تأليفاً وعزفاً وتنقيحاً حتى كلت أصابعه واستحالت حماسته ضرباً من الحمى، فاضطره أبوه إلى أن يحدد ساعات عمله ويهدئ من اضطرابه بنزهة على(40/288)
الأقدام بين الحين والحين. وأحس موتسارت أن هذا الاختبار، وهو أول أوبرا جادة يؤلف موسيقاها، أشد خطراً له من ذلك الامتحان العتيق الذي أداه في بولونيا. فقد يكون مستقبله مؤلفاً لموسيقى الأوبرا رهنا بنتيجته. وتوسل الآن إلى أمه وأخته أن يصليا من أجل نجاح هذه المغامرة رغم أنه لم يكن شديد الميل إلى التقوى والورع، "حتى ننعم كلنا بالعيش معاً مرة أخرى" (10). وأخيراً حين كادت تضنيه كثرة البروفات، قدمت الأوبرا للجمهور (26 ديسمبر 1770)، وقادها مؤلفها، وكان انتصاره كاملاً. وقوبلت كل أغنية هامة بالتصفيق الحاد، وبعضها بهتافات يحيى المايسترو يحيى المايسترو الصغير. أعيد عرض الأوبرا عشرين مرة. كتب الأب الفخور التقي "بهذا نرى كيف تعمل قوة الله فينا حين لا ندفن المواهب التي منحنا إياها فضلاً منه" (11).
واستطاعا الآن أن يعودا إلى موطنهما برؤوس مرفوعة. ففي 28 مارس 1771 وصلا إلى سالزبورج. وما أن بلغاها حتى تلقيا طلباً من الكونت فون فرمان، باسم الإمبراطورة، يرجو أن يكتب فولفجانج سريناتا أو كنتاتا، ويحضر إلى ميلان في أكتوبر ليقودها جزءاً من الاحتفالات التي ستقام بمناسبة زفاف الأرشيدوق فرديناند إلى أميرة مودينا. ووافق رئيس الأساقفة زجسموند على أن يتغيب ليوبولد مرة أخرى عن أعماله، وفي 13 أغسطس يمم الوالد والولد من جديد شطراً إيطالياً، فلما وصلا إلى ميلان وجدا فيها هاسي يعد أوبرا للاحتفالات ذاتها. وقد رتب المديرون-ربما عن غير عمد منهم-لقاء للعبقرية يتنافس فيه أشهر مؤلفي الأوبرا الإيطالية الأحياء، البالغ آنذاك ثلاثة وسبعين عاماً، مع غلام الخامسة عشرة الذي لم يكد يفرغ من اختبار جناحه في التحليق الأوبرالي. وأديت أوبرا هاسي المسماة "رورجيرو" في 16 أكتوبر فقوبلت بتصفيق حار وفي الغد رتلت كنتاتا موتسارت المسماة ( Aseanio in Alba) تحت عصا قيادته، وكان التصفيق خارقاً. وكتب ليوبولد لزوجته "يؤسفني أن سريناتا فولفجانج طمست أوبرا هاسي طمساً تاماً (12). وكان هاسي(40/289)
كريماً سمح النفس، فشارك في الثناء على موتسارت، وفاه بنبوءة مشهورة "إن هذا الفتى سيلقينا كلنا في زوايا النسيان" (13).
وعاد الوالد والولد إلى سالزبورج (11 ديسمبر 1771). وبعد خمسة أيام مات زجسموند الطيب. وكان خلفه في رئاسة الأسقفية، وهو هيرونيموس فون باولا، كونت كوللوريدو رجلاً عقلاني الثقافة، معجباً بروسو وفولتير، مستبداً مستنيراً يتوق إلى تنفيذ الإصلاحات التي كان يعدها يوزف الثاني. ولكنه فاق حتى يوزف في استبداده مع استنارته، فكان يشترط الانضباط والطاعة ولا يطيق المعرضة. ولم يقنع من موتسارت إسهاماً في حفل تنصيبه في 29 إبريل 1772 بأقل من أوبرا يؤلفها لهذه المناسبة. واستجاب الفتى الذي ذاع صيته سريعاً بأوبرا "حلم سكيبيو"، وقد وفت بالغرض منها ثم نسيت. واغتفرها كوللوريدو، وعين فولفجانج لفرقة الموسيقى براتب سنوي قدره 150 فلوريناً. وعكف الفتى شهوراً على تأليف السمفونيات الرباعية والموسيقى الدينية، ولكنه أكب أيضاً على أوبرا "لوتشيو سيللا" التي طلبتها ميلان لتعرض في 1773.
ولم يحل 4 نوفمبر 1772 حتى كان ليوبولد وصانع ثروته في عاصمة لومبارديا مرة أخرى، وراح فولف بعد قليل يكدح ويكدح ليوفق بين أفكاره الموسيقية ونزوات المغنين وقدراتهم. وبدأت مغنية الأوبرا الأولى "البريمادونا" بالغطرسة والبرم بكل شيء، وكان "المايسترينو" صبوراً طويل الأناة معها، وانتهت بحبه وصرحت بأنها "قد متنتها المعاملة الفذة التي عاملها بها موتسارت" (14). ولم تلق حفلة الافتتاح (26 فبراير 1772) النجاح الأكيد الذي لقيته "متريداتي" قبل عامين، فقد مرض المغني التينور أثناء البروفات، واقتضى الأمر إحلال مغن آخر محله لم يكن له سابق خبرة على خشبة المسرح، ومع ذلك احتملت الأوبرا تسعة عشر عرضاً. وكانت موسيقاها صعبة، والأغاني منشودة بالانفعالات فوق ما ينبغي. ولعل أثراً من الحركة الأدبية الألمانية المسماة(40/290)
Sturm und Drang ( أي الدفع والجهاد، وهي ثورة على التنوير الفرنسي) وقد دخل هنا دخولاً معارضاً إلى الأوبرا الإيطالية (15). على موتسارت جلب معه نظير هذا وضوح الغناء الإيطالي الجميل (البيل كانتو)، وزادت أجواء إيطاليا المشرقة وحياة هوائها الطليق من إشراق روحه السعيدة بفطرتها. وتعلم غب إيطاليا أن الأوبرا الهازلة، كما سمعها في أعمال بتشيني وبايزييللو، يمكن أن تكون فناً رفيعاً، فدرس شكلها، وأبلغه الكمال في "دون جوفاني" لقد كانت كل تجربة يمر بها تعليماً لذهنه اليقظ وأذنيه المرهقتين.
وشهد 13 مارس 1773 الوالد والولد مرة أخرى في سالزبورج. ولم يكن رئيس الأساقفة الجديد متسامحاً في فترات غيابهما الطويل كما كان زجسموند، ولم ير مبرراً لمكافأة ليوبولد بترقيته، وعامل فولمفجانج كأنه مجرد فرد في حاشيته الخاصة. وتوقع من موتسارت وأبيه أن يزودا كورسه وأوركستراه بالموسيقى فورية، جديدة، جيدة. فظلا يشقيان عامين ليرضياه. ولكن ليولولد لم يدر كيف يستطع أن يعول أسرته دون هذه الجولات الإضافية، أما فولفجانج الذي تعود على سماع تصفيق الاستحسان له فلم يستطع تقبل وضعه خادماً موسيقياً. ثم أنه أراد أن يكتب الأوبرات، وكان مسرح سالزبورج، وكورسها، وأوركستراها وجمهورها-كل أولئك أصغر من أن يسمح لهذا الفرخ الألمعي بأن يرفرف جناحيه النامين.
ثم انقشعت السحب قترة حين كلف مكسمليان يوزف أمير بافاريا الناخب موتسارت بأن يكتب لأوبرا هازلة لكرنفال ميونخ لعام 1775، وحصل على موافقة رئيس الأساقفة، بمنح المؤلف وأبيه إجازة من العمل. فغادرا سالزبورج في 6 ديسمبر 1774. وعانى فولفجانج من البرد القارس الذي ابتلاه بوجع في الأضراس أسى من أن تخفف من الموسيقى أو الفلسفة ولكن حفلة الافتتاح لأوبرا "البستانية المزعومة" التي قدمت في 13 يناير 1775 حملت كرستيان شوبارت-وكان مؤلفاً مرموقاً-على التنبؤ بأنه(40/291)
"ما لم يثبت موتسارت في النهاية أنه نبات ربه ربي في مستنبت زجاجي (أي عجلت بنموه العناية البيتية المكثفة)، فست أشك في أنه سيصبح من أعظم المؤلفين الموسيقيين حتى يومنا هذا" (16). وعاد موتسارت إلى سالزبورج ورأسه يدوم بنشوة النجاح ليقوم بخدمة أحس أنها ضرب حقير من العبودية.
وأمر رئيس الأساقفة بدراما موسيقية احتفالاً بزيارة الآرشيدوق مكسمليان ابن ماريا تريزا الأصغر، وأخذ موتسارت نصاً قديماً لمتاستازيو وألف "الملك الراعي". وقد أديت في 23 إبريل 1775. والقصة سخيفة، أما الموسيقى فرائعة، وما زالت مقتطفات منها تظهر في ربرتولا الحفلات الموسيقية. وكان موتسارت في غضون هذا يتدفق بالصوناتات والسمفونيات والكونشرتوات والسرينادات، والقداسات، ومن مؤلفات هذه الأعوام التسعة قطع تعد من روائعه الخالدة-مثل كونشرتو البيانو في مقام E ( ك250). على أن رئيس الأساقفة قال له إنه لا يفقه شيئاً في فن التأليف الموسيقي، وإن علبه أن يذهب ليدرس في كونسرفتوار نابلي (17).
وطلب ليوبولد بأن يأخذ ابنه في جولة بعد أن عجز عن احتمال الموقف فوق ما احتمل، فرض كوللوريدو وقال إنه لا يسمح بأن يظل أفراد من موظفيه "يستجدون الرحلات" فلما عاود ليوبولد الطلب فصله رئيس الأساقفة هو وابنه من وظيفتيهما. وأغتبط فولفجانج، ولكن ليوبولد روعته فكرة القذف به وهو في السادسة والخمسين في خضم عالم لا يميز الطيب من الخبيث. ولانت قناة رئيس الأساقفة ورده إلى منصبه، ولكنه لم يسمح له بأي غياب عم عمله. فمن تراه يصحب فولفجانج الآن في الغزوة البعيدة التي اختطت له؟ لقد بلغ موتسارت الحادية والعشرين، وهي سن المغامرة الجنسية والقيود الزيجية، ولقد كان الآن أحوج إلى الإرشاد منه في وقت مضى. ومن ثم قرر أن تصحبه أمه. أما ماريا التي حاولت أن تنسى أنها هي أيضاً كانت فيما مضى فتاة عبقرية فقد مكثت لتبذل لأبيها(40/292)
أكرم الرعاية والمحبة. وفي 23 سبتمبر 1777 غادرت الأم وأبنها يالزبورج ليغزوا ألمانيا وفرنسا.
3 - الموسيقى والزواج
1777 - 1778
كتب موتسارت لأبيه-من ميونخ في 26 سبتمبر يتغنى بما ظفر به من تحرر: "إنني أفضل حالاتي النفسية، فرأسي تخفف من الأثقال كأنه الريشة منذ انطلقت بعيداً عن ذلك الهراء، وفوق ذلك أصبحت أسمن من ذي قبل" (18). ولابد أن هذا الخطاب تقاطع مع خطاب من ليوبولد، الذي قد يذكرنا انفعاله مرة أخرى بأن أحداث التاريخ كتبت على أجساد البشر:
"بعد أن رحلتما كلا كما صعدت سلمنا في غاية التعب، وألقيت بنفسي على مقعد. وحين تبادلنا عبارات الوداع بذلت جهوداً كبيرة لأتماسك حتى لا أجعل فراقنا شديد الإيلام؛ وفي غمرة الزحام والاضطراب نسيت أن أمنح ولدي بركة الأب. فعدوت إلى النافذة وأرسلت بركتي خلفك ولكني لم أرك ... وقد بكت نانيرل بكاء مراً ... وكلانا نرسل التحيات ونقلك أنت وهي ملايين المرات" (19).
وعلمت ميونيخ فولفجانج إنه لم يعد معجزاً في عالم الموسيقى، إنما هو موسيقى فرد بلد يفوق فيه المعروض من مؤلفي الموسيقى وعازفيها عدد المطلوب منهم. وكان الأمل قد راوده في الحصول على وظيفة طيبة في حاشية الناخب الموسيقية، ولكن كل الوظائف كانت مشغولة. فمضت الأم وولدها إلى أوجزبورج، حيث أفنيا نفسيهما في زيارة أصدقاء ليوبولد أيام شبابه استجابة لإلحاح ليوبولد، ولكن أحياء منهم كان أكثرهم الآن يشكو السمنة والركود، ولم يجد فولفجانج فيهم ما يثير اهتمامه اللهم إلا ابنه عم مرحة تدعى ماريا أنا تكلا موتسارت سوف يخلد اسمها بعبارات بذيئة. وكان أدنى إلى غرضه صانع بيانات يدعى بوهان أندرياس شتاين، هنا(40/293)
ولأول مرة بدأ موتسارت الذي كان إلى الآن يعزف على الهاربسيكورد يقدر إمكانيات الآلة الجديدة، وما أن بلغ باريس حتى كان قد تم انتقاله إلى البيانو. وفي حفلة موسيقية في أوجزبورج عزف على البيانو والفيولينة فظفر بتصفيق شديد وربح ضئيل.
وفي 26 أكتوبر مضت الأم وابنها إلى مانهايم. هناك استمتع موتسارت بالصحبة والتشجيع من موسيقيين بارعين، ولكن الأمير الناخب كارل تيودور لم يستطيع أن يجد له وظيفة، واكتفى بأن أثابه على أدائه في البلاط بساعة ذهبية لا أكثر. وكتب موتسارت إلى أبيه يقول "كان أصلح لي أن ينفحني بعشرة كارواينات ... إن النقود هي ما يحتاج إليه المرء وهو في رحلة، وأعلم أنني الآن املك خمس ساعات ... وأنا أفكر جدياً في عمل جيب للساعات في كل سروال من سراويلي، وحين أزور شريفاً كبيراً سألبس ساعتين ... حتى لا يخطر له أن ينفحني بساعة (20) ". ونصحه ليوبولد أن يبادر بالرحيل إلى باريس حيث يتلقى المساعدة من جريم ومدام دبينيه، وكلن فولفجانج اقنع أمه بأن الرحلة أشق من أن تطيقها في شهور الشتاء. وإذا افترض ليوبولد أنهما راحلان عما قليل إلى باريس، فقد حذر فولفجانج من نسائها وموسيقييها، وذكره بأنه الآن الأمل المرجو في إعالة الأسرة. وقال ليوبولد إنه استدان سبعمائة جولدن، وإنه يعطي دروساً خصوصية في شيخوخته.
"وهذا أيضاً في بلدة يبخس فيها أجر هذا العمل المرهق ... إن مستقبلنا رهن بفطنتك الكبيرة ... وأنا عليم بأنك تحبني، لا بوصفي أباك فحسب، بل أصدق أصدقائك وأوفاهم، وأنك تفهم وتقد أن سعادتنا وشقاءنا، وأكثر من ذلك طول أجلي أو التعجيل بموتي، كلها ... في يديك أنت بعد الله. وإذا كنت قد أصبت في قراءة أفكارك، فإني لا أتوقع منك غير الفرح والاغتباط، وهذا وحده خليق أن يعزيني وأنا محروم لغيابك من بهجة الأب وأما أسمعك وأبصرك وأضمك بين ذراعي .. من صميم قلبي أمنحك بركتي الأبوية (21) ".(40/294)
وفي إحدى خطابات ليوبولد (9 فبراير 1778) أضافت "نانيريل" التي بلغت الآن السادسة والعشرين والتي كانت لعدم توفر المهر تواجه مستقبل العوانس، سطوراً تكمل صورة هذه الأسرة المتاحة:
"إن بابا لا يترك لي أبداً كتب لماماً ولكن ... إني أتوسل إليها إلا تنساني ... وأتمنى رحلة سعيدة سارة إلى باريس مقرونة بالصحة السابغة. على أنني أرجو صادقة أن أستطيع عناقكما سريعاً. والله وحده عليم متى يحدث هذا. كلانا تواق لأن تحقق لنفسك الثراء، فهذا معناه سعادتنا جميعاً. إني أقبل يدي ماما وأعانقك، وآمل أن تذكرنا وتفكر فينا دائماً. ولكن عليك ألا تفعل إلا إذا كان في وقتك متسع، ولو ربع ساعة تتخفف أثناءه من التأليف والتدريس" (22).
في هذا المزاج من التفاؤل العظيم والثقة المشربة بالحب تلقى ليوبولد خطاباً كتبه فولفجانج في 4 فبراير يعلن إليه فيه وصول كيوبيد. ذلك أن رجلاً من صغار الموسيقيين في مانهايم يدعى فريدولين فيبر، حباه الحظ وأثقل كاهله بزوجة وخمس بنات وولد. وكانت السيدة فيبر تلقي شباكها لتقتنص الأزواج، لا سيما لكبرى بناتها يوزيفان ذات التسعة عشر ربيعاً، التي بلغت سن الزواج وخيف أن تفوتها سوقه. ولن موتسارت تعلق بألويسيا ذات الستة عشر ربيعاً، التي جعلها صوتها الملائكي ومفاتنها الرائعة حلماً يراود خيال الموسيقي الشاب. ولم يكد يلحظ مونستانتسي ذات الأربعة عشر ربيعاً التي قدر لها أن تكون زوجة. وقد ألف لألويسيا بعضاً من أرق أغانيه. فلما غنتها نسي مطامحه وفكر في مرافقتها-مع يوزيفان وأبيهما-إلى إيطاليا حيث تستطيع الحصول على تدريب صوتي وتتاح لها فرص أوبرالية، بينما يعينهم هو على العيش بإحياء الحفلات الموسيقية وتأليف الأوبرات. كل هذا شرحه العاشق الصغير الشجاع لأبيه قال:
"لقد أحببت هذه الأسرة التعسة حباً جعل أعز أماني أن أسعدهم .... ونصيحتي إليهم أن يقصدوا إيطاليا. والآن أود أن تكتب لصديقنا الطبيب(40/295)
لوجاتي، وخير البر عاجله، وتستفسر منه عن أفضل الشروط التي تُعطى لمغنية أوبرا أولى في فيرونا ... أما عن غناء ألويسيا فأني أراهن بحياتي أنها ستجلب لي الشهرة .. فإذا نجحت خطتنا-فإننا-الهرفيبر، وأبنتا وأنا-سنشرف بزيارة أختنا العزيزة أسبوعين في طريقنا مروراً بسالزبورج ... وسيسرني أن أكتب أوبرا لفيرونا لقاء خمسين تسكيني (650 دولاراً) ولو تتاح لها فرصة الشهرة ... وسوف تكون الأبنة الكبرى نافعة جداً لنا، لأنها تستطيع أن تدير شؤون بيتنا، فهي خبيرة بالطهو، وبالمناسبة، لا تدهش كثيراً إذا عرفت أنه لم يبقَ معي سوى اثني وأربعين جولديناً من السبعة والسبعين، وليس هذا إلا نتيجة ابتهاجي لوجودي مرة أخرى في صحبة قوم شرفاء على شاكلتي في لتفكير ...
"وافني برد سريع. ولا تنس مبلغ شوقي لكتابة الأوبرات. وأنا أحسد أي إنسان يؤلف أوبرا. وأكاد أبكي غيظاً حين أسمع ... لحناً (آرباً). ولكن أوبرا إيطالية لا ألمانية، وجادة لا هازلة .. والآن قد كتبت كل ما يثقل صدري. وأمي راضية تمام الرضى عن أفكاري ... وفكرة مساعدة أسرة فقيرة دون الإضرار بي تبهج نفسي في الصميم. إنني أقبل يديك ألف مرة، وما زلت حتى الموت ولدك المطيع جداً (23) ".
ورد ليوبولد في 11 فبراير:
"يا ولدي العزيز: لقد قرأت خطابك المؤرخ 4 الجاري بدهشة ورعب .. لقد جفاني النوم الليل كله ... يا إلهي الرحيم! ... لقد ولت تلك اللحظات السعيدة حين كنت وأنت طفل أو غلام لا تمضي إلى فراشك دون أن تقف على كرسي وترتل لي ... وتقبلني المرة بعد المرة على طرف أنفي وتقول لي إنني حين أشيخ ستضعني في صندوق زجاجي وتحميني من كل نسمة هواء، حتى تحتفظ بي دائماً وتكرمني. أصغِ إليّ إذن وتذرع بالصبر! ... "
ومضى يقول إنه كان يأمل أن يؤجل فولفجانج زواجه حتى يؤمن(40/296)
لنفسه مكاناً مكيناً في عالم الموسيقى، وعندها يبني بزوجة صالحة، وينجب أسرة طيبة، ويعين أبويه وشقيقته. ولكن هذا الابن ينسى الآن أبويه بعد أن فتنته "سيرانة" شابة، ولا يفكر إلا في أن يتبع فتاة إلى إيطاليا كأنه فرد من بطانتها. فياله من هراء لا يصدق!
"انطلق إلى باريس، ومن فورك، وأبحث عن مكانك بين عظماء القوم، فأما أن تكون شيئاً عظيماً أو لا شيء إطلاقاً، فمن باريس يدوي اسم الرجل ذي الموهبة العظمى وشهرته ويجلجلان في أرجاء الدنيا بأسرها. هناك يعامل النبلاء العبقريين بأعظم احترام وتقدير ومجاملة، وهناك سترى أسلوباً مهذباً في الحياة هو النقيض المذهل لخشونة رجال حاشيتنا الألمان ونسائهم، وهناك تستطيع التمكن من اللغة الفرنسية" (24).
وأجاب موتسارت في تواضع بأنه لم يأخذ مأخذ الجد الشديد خطة مرافقة آل فيبر إلى إيطاليا، ثم ودع الأسرة وداعاً باكياً، ووعد بأن يراهم في طريقه إلى أرض الوطن. وفي 14 مارس 1778 اتخذ هو وأمه طريقهما إلى باريس مستقلين المركبة العامة.
4 - في باريس
1778
وبلغاها في 23 مارس، وصادف وصولهما بالضبط حركة تمجيد فولتير التي طغت على نبأ قدومهما. واتخذا لهما مسكنا بسيطاً، وأنطلق موتسارت باحثاً عن عمل يكلف به. واستجمع جريم ومدام دبينيه جهدهما ليلفتا بعض النظر إلى الشاب الذي هللت له باريس عجيبة موسيقية قبل أربعة عشر عاماً. فعرضت عليه فرساي وظيفة عازف أرغن البلاط لقاء ألفي جنيه لخدمة ستة أشهر كل سنة ونصحه ليوبولد بقبول العرض، وعرض جريم، ورفض موتسارت الوظيفة لأن الأجر بخس، وربما لأنها لا تناسب موهبته. وفتحت له بيوت كثيرة إن قبل العزف على البيانو لقاء وجبة غداء أو عشاء. ولكن حتى الوصول إلى هذه البيوت اقتضى رحلة غالية في عربة تشق طريقاً موحلة. ولاح بصيص من الأمل(40/297)
في أحد النبلاء المدعو الدوق دجين، وألف موتسارت له ولابنته الكونشرتو الرائع في مقام " C" للفلاوته والهارب (ك 299)، وأعطى الشابة النبيلة دروساً في التأليف الموسيقي لقاء أجر طيب، ولكنها لم تلبث أن تزوجت ولم يدفع الدوق سوى ثلاثة جنيهات ذهبية "لوي دور" (75 دولاراً) لكونشرتو كان خليقاً بأن يطرح باريس تحت قدمي موتسارت. ولأول مرة في حياته فارقته شجاعته. فكتب إلى أبيه في 29 مايو يقول "إنني في صحة لا بأس بها ولكنني كثيراً ما أتساءل هل الحياة تستحق أن يعيشها المرء". وانتعشت روحه المعنوية حين كلفه لجرو، مدير الكونسير سيرتيوبل بكتابة سمفونية (ك 297) أديت بنجاح في 18 يونيو.
ثم ماتت أمه في 3 يوليو. وكانت قد بدأت حياتها الجديدة بالاستمتاع بتخففها من متاعب سالزبورج وعناء الزوجية، ولكن سرعان ما حنت إلى بيتها وواجباتها واتصالاتها اليومية التي تضفي على حياتها غنى ومغزى. وحطمت صحتها رحلة الأيام التسعة إلى باريس في مركبة مهتزة ورفقة منفرة ومطر غزير، وألقى فشل ابنها في أن يجد له وظيفة في باريس ظلاً من الكآبة على روحها المرحة عادة. وراحت تقضي الأيام وحيدة وسط بيئة غريبة وألفاظ لا تفهمها، بينما يذهب ابنها إلى تلاميذه وإلى الحفلات الموسيقية والأوبرات ... ورآها موتسارت الآن تذبل في هدوء، وأنفق الأسابيع الأخيرة بجوارها يرعاها ويحنو عليها ولا يكاد يصدق أنها قد تموت بهذه السرعة.
وقدمت له مدام دبينيه حجرة في منزلها مع جريم، ومكاناً على مائدتها، وحرية استعمال بيانها. ولم ينسجم تماماً مع جريم في هذه الجيرة، القريبة فلقد كان جريم يمجد فولتير وموتسارت يحتقره، وصدمه زعم مضيفيه وأصدقائهم بأن المسيحية ليست سوى أسطورة نافعة في ضبط المجتمع. وأراده جريم أن يقبل التكليفات الصغيرة سبيلاً إلى الكبيرة، وأن يعزف دون أجر الأسر ذات النفوذ، بيد أن موتسارت أحس أن عملاً كهذا سينضب قوته التي يؤثر أن يدخرها للتأليف. وحكم(40/298)
جريم بأنه كسلان، وأخبر ليوبولد بحكمه هذا فأمن عليه (25). وزاد الموقف سوءاً اقتراض موتسارت المرة بعد المرة من جريم مبالغ بلغت جملتها خمسة عشر جنيهاً ذهبياً (375 دولاراً). وأخبره جريم أن في إمكانه تأجيل السداد إلى أجل غير مسمى. وكذلك كان (26).
وحسم الموقف خطاب (31 أغسطس 1778) من موتسارت الأب يقول إن رئيس الأساقفة كوللوريدو عرض أن يرقى الأب رئيساً للمرتلين إذا عمل فولفجانج عزفاً على الأرغن ورئيساً للموسيقيين، على أن يعطي كل منهما خمسمائة فلورين في العام، يضاف إلى هذا "أن رئيس الأساقفة صرح أنه على استعداد لأن يسمح لك بالسفر حيث تشاء إن أردت كتابة أوبرا". ثم أضاف ليوبولد طعماً قدر أن موتسارت لابد مبتلعه، فقال أن ألويسيا فيبر ستدعى على الأرجح للانضمام إلى كورس سالزبورج، وفي هذه الحالة "لابد أن تعيش معنا" (27). ورد موتسارت (11 سبتمبر) "حين قرأت خطابك هزني الطرب لأنني شعرت بأنني أصبحت فعلاً في حضنك. صحيح أن العرض لا يحمل أملاً كبيراً لي في المستقبل كما أخالك معترفاً، ولكن حين أتطلع إلى لقائك وعناق أختي العزيزة جداً لا أفكر في أي أمل آخر".
وعليه ففي 26 سبتمبر استقل المركبة إلى نانسي. وفي ستراسبورج كسب بضعة جنيهات لقاء حفلات شاقة في مسارح كادت تخلوا من روادها. وتلبث مايهايم أملاً في تعيينه قائداً للأوبرا الألمانية، ولكن هذا الأمل أيضاً خاب كغيره ومضى إلى ميونخ وهو يحلم بألويسيا فيبر. ولكنها كانت قد وجدت مكاناً في كورس الأمير الناخب، ربما في قلبه، فاستقبلت موتسارت بهدوء لم يبدُ فيه أي رغبة في أن تكون عروساً له. فألف وغنى أغنية مرة، ثم راضَ نفسه على قبول سالزبورج.
5 - سالزبورج وفيينا
1779 - 1782
وصل إلى البيت في منتصف يناير، واستقبل باحتفالات ألقى عليها ظلاً من الحزن إدراكه الأليم الآن لحقيقة موت الأم. وسرعان ما شد إلى(40/299)
نيره عازفاً للأرغن ورئيساً لفرقة الموسيقى، وسرعان ما أصابه القلق والتبرم وقد تذكر هذه الأيام فيما بعد:
"في سالزبورج كان العمل عبئاً عليّ، ولم أكن أستطيع أن أسكن إليه قط. فلم ذلك؟ لأنني لم أكن قط سعيداً ... فليس في سالزبورج-من وجهة نظري على الأقل-تسلية لها أي قيمة. وأنا أرفض الاختلاط بأشخاص كثيرين هناك-أما غيرهم فأكثرهم لا يرونني صالحاً لصحبتهم أضف إلى ذلك إنه ليس هناك من حافز لموهبتي. وكأن الجمهور خشب مسندة لا تستجيب حين أعزف أو حين تؤدى قطعة من تأليفي. أتمنى لو كان في سالزبورج ولو مسرح واحد متوسط الجودة (28) ".
وتاقت نفسه إلى كتابة الأوبرات؛ ورحب بطلب الأمير الناخب كارل تيودور أن يكتب أوبرا لمهرجان ميونخ التالي. فشرع يكتب "إيدومنيو ملك كريت" في أكتوبر 1780، وفي نوفمبر ذهب إلى ميونخ لعمل البروفات. وفي 29 يناير 1781 أخرجت الأوبرا بنجاح رغم طولها غير العادي. ومكث موتسارت في ميونخ ستة أسابيع أخرى، يستمتع بحياتها الاجتماعية، حتى استدعاه رئيس الأساقفة كوللوريدو ليلحق به في فيينا. هناك سره أن يسكن القصر الذي يسكنه رئيسه، ولكنه كان يأكل مع الخدم. "يجلس التابعان على رأس المائدة؛ وأنا أحضى بشرف الجلوس مقدماً على الطباخين (29) ". وكان هذا عرفاً شائعاً في ذلك العصر في بيوت النبلاء، وقد احتمله هايدن باستياء مكظوم، أما موتسارت فقد تمرد عليه في علانية متزايدة. وقد سره أن تعرض موسيقاه وموهبته في بيوت أصدقاء رئيس الأساقفة؛ ولكنه استشاط غيظاً حين رفض كوللوريدو معظم توسلاته أن يأذن له بقبول ارتباطات خارجية قد تأتيه بدخل إضافي وشهرة أوسع. "حين أفكر في أنني سأغادر فيينا دون أن يكون في جيبي ألف فلورين على الأقل يغوص قلبي في باطني (30) ".
وصحت نيته على أن يترك خدمة كوللوريدو. ففي 2 مايو 1781 ذهب ليسكن نزيلاً مع آل فيبر الذين كانوا قد انتقلوا إلى فيينا. فلما أرسل(40/300)
إليه رئيس الأساقفة تعليماته بالعودة إلى سالزبورج، أجاب بأنه لن يستطيع الرحيل قبل 12 مايو. وتلا ذلك لقاء مع رئيس الأساقفة، وروى موتسارت ما دار فيه لأبيه فقال:
"إنه رماني بأقذع الشتائم-أوه! إنني في الحق لا أستطيع حمل نفسي على أن أكتبها كلها لك! وأخيراً، حين أحسست بالدم يغلي في عروقي، لم أطق أن أحتمل أكثر مما احتملت؛ فقلت له "إذن فسموك لست راضياً عني" ماذا! أتريد أن تهددني؛ أيها الوغد أيها النذل؟ دونك الباب إذن، لن يكون لي صلة بعد اليوم برجل تعس مثلك! "وأخيراً قلت" ولا أنا بك. "إذن فأخرج! " وفيما أنا خارج قلت "فليكن، وغداً سيصلك مني خطاب". قل لي يا أبي العزيز أما كان لزاماً عليّ أن أقول هذا عاجلاً أو آجلاً؟ ... "
"أكتب لي سراً بأنك مسرور-لأن لك الحق في أن تسر حقيقة-وانتقدني انتقاداً قاسياً علانية، حتى لا يقع عليك أي لوم أو تثريب. ولكن إذا نالك من رئيس الأساقفة أي إهانة فتعال إليّ فوراً في فيينا. ففي وسعنا نحن الثلاثة أن نعيش على دخلي (31) ".
ودفع بليوبولد في أزمة أخرى. وبدا أن منصبه تعرض للخطر، وكان لابد أن ينقضي بعض الوقت حتى تصلني تأكيدات من كوللوريدو. وأفزعه نبأ مساكنة ابنه لآل فيبر. فقد مات رب الأسرة، وتزوجت إليوسيا الممثل يوزف لانجي، ولكن كان للأرملة بنت أخرى تدعى كونستانتسي تنتظر زوجاً. أفهذا طريق مسدود أخر أمام فولفجانج؟ وتوسل إليه ليوبولد أن يعتذر لرئيس الأساقفة ويعود. ورفض موتسارت لأول مرة أن يطيع أباه. "إنني في سبيل رضاك يا أبي مستعد لأن أتخلى عن سعادتي وصحتي بل وحياتي ذاتها، ولكن شرفي فوق كل شيء عندي، وكذلك يجب أن يكون عندك. يا أعز الآباء وأكرمهم، طالبني بما شئت إلا هذا (32) ". وفي 2 يوليو بعث إلى ليوبولد بثلاثين دوقاتي عربوناً لمساعدته المقبلة.(40/301)
وتوجه ثلاث مرات إلى مسكن رئيس الأساقفة لفيينا ليقدم استقالته الرسمية. ورفض حاجب كولليوريدو أن ينقلها لسيده، وفي المرة الثالثة "ألقى بموتسارت خارج حجرة الانتظار وأردف ذلك بركلة في ظهره"-وهي العبارة التي وصف بها موتسارت المشهد في خطابه المؤرخ 9 يونيو (33). ولكي يرضى أباه أنتقل من بيت فيير إلى مسكن آخر. وأكد لليوبولد أنه إنما كان "يمزح" فقط مع كونستانتسي. "ولو كان على أن أتزوج كل من ضحكت معهن لكان لدي على الأقل مائة زوجة (34) ". على أنه كتب لأبيه في 15 ديسمبر يقول إن كونستانتسي غاية في اللطف والسذاجة وحب البيت، وهو لذلك يريد أن يتزوجها".
"أترعبك الفكرة؟ ولكني أتوسل إليك يا أعز أب وأحبه أن تصغي إلي ... إن صوت الطبيعة يتكلم في باطني عالياً كما في غيري-بل ربما أعلى مما يتكلم في رجل ضخم قوي غليظ. إنني ببساطة لا أستطيع أن أعيش كما يعيش معظم الشباب في هذه الأيام. أولاً لأنني متدين جداً، وثانياً لأنني أشد حباً للجار، وأرفع إحساساً بالشرف من أن أغوي فتاة بريئة، وثالثاً لأن بي من الرعب والتقزز، ومن رهبة الأمراض والخوف منها، ومن الرعاية لصحتي، ما يعصمني من العبث مع النسوة الفاجرات. وفي وسعي أن أقسم أنه لم يكن لي قط علاقات من هذا النوع مع أي امرأة ... وأراهن بحياتي على صدق ما قلته لك ...
"ولكن من هي موضوع حبي؟ .. أليست إحدى بنات فيبر؟ بلى .. إنها كونسانتسي ... أرقهن كلهن وأذكاهن وأفضلهن جميعاً ... قل لي هل في استطاعتي أن أتمنى لنفسي زوجة خيراً منها .. قصارى ما أطمع فيه أن يكون لي دخل مضمون صغير (وهذا رجائي الوطيد بحمد الله)، وعندها لن أكف عن رجائك بأن تسمح لي أن أنقذ هذه الفتاة المسكينة وأن أحقق لي-ولنا جميعاً إن جاز لي القول-السعادة الكاملة. فلا أشك في أن سعادتي تسعدك؟ وستحظى بنصف دخلي الثابت ... أرجوك أن تشفق على ولدك! (35) "(40/302)
ولم يعرف ليوبولد ماذا يصدق. فقد بذل كل جهد ليثني ولده المفلس تقريباً عن الزواج، ولكن موتسارت أحس بأنه بعد أن قضى ستة وعشرين عاماً من الطاعة لأبيه آن الأوان لينقذ مشيئته ويحيا حياته. وظل سبعة أشهر يلتمس عبثاً موافقة أبيه، وأخيراً، في أغسطس 1782، تزوج دون هذه الموافقة. وفي 5 أغسطس وصلت الموافقة، وأصبح موتسارت الآن حراً في أن يكتشف إلى أي حد يستطيع المرء أن يعول أسرة بتأليف حشد من أكثر أنواع الموسيقى الرائعة تنوعاً في تاريخ الإنسان.
6 - المؤلف الموسيقي
كان له عذره في الثقة بنفسه، لأنه كان قد أشتهر عازفاً على البيان، وحصل على دروس خاصة لتلاميذ يدفعون أجور مجزية، وأخرج أوبرات ناجحة، فلم يمض شهر على تركه خدمة رئيس الأساقفة حتى تلقى من الكونت أورسيني-روزتبرج مدير مسارح بلاط يوزف الثاني، تكليفاً بتأليف (دراما منطوقة) تتخللها الأغاني، وعرضت النتيجة في 16 يوليو 1782، في حضرة الإمبراطور، تحت اسم (الاختطاف من السراي). وأدانها فريق من خصومه، ولكن كل السامعين تقريباً فتنتهم الأغاني المرحة التي ازدان موضوع عتيق: حسناء مسيحية يأسرها القراصنة، ويبيعونها لحريم تركي، ثم ينقذها حبيبها المسيحي بعد دسائس لا تصدق. وكان تعليق يوزف الثاني على الموسيقى "أنها يا عزيزي موتسارت أجمل مما تحتمله آذننا، وأنغامها كثيرة جداً". وهو تعليق أجاب عنه المؤلف المتهور "إنها بالضبط يا صاحب الجلال بالكثرة التي يقتضيها المقام". (36) وأعيد عرض الأوبريت ثلاثاً وثلاثين مرة في فيينا في سنيها الست الأولى. وقد أطرها جلوك، وإن أدرك أنها أغفلت تماماً "إصلاحه" للأوبرا، وأعجب بالتأليفات الآلية لهذا الشاب العنيف، ودعاه لتناول الغداء معه.
وقد استمد موتسارت إلهامه من إيطاليا لا من ألمانيا، وآثر اللحن والتوافق البسيط على البوليفونية "تعدد الأصوات" المعقدة المتعمقة. ولم(40/303)
يشعر بتأثيرات قوية من هندل ويوهان سبستيان باخ إلا في عقده الأخير. وفي 1782 انضم إلى الموسيقيين الذين كانوا يحيون الحفلات تحت رعاية البارون جوتفريد فان زفيتن، وأكثرها من تأليف هندل وباخ، في المكتبة القومية أو في بيت فان زفيتن. وفي 1774 كان البارون قد جلب من برلين إلى فيينا كتاب (فن الفوجة) و (الكلافورد الحسن الضبط) وغيرهما من أعمال ي. س. باخ. واستنكر الموسيقى الإيطالية لأنها تفتقر إلى الإتقان الشديد، ورأى أن الموسيقى الحقة تتطلب الالتفاف الدقيق للفوجة، والبولوفونية، والكونترابنط. أما موتسارت فهو وإن لم يسمح قط للبناء أو القاعدة أو التشكل بأن تكون غالية في ذاتها، فقد أغد من نصيحة فان زفيتن وموسيقاه، ودرس هندل وآل باخ الكبار بعناية. بعد 1787 قاد موسيقى هندل في فيينا، وسمح لنفسه بشيء من الحرية في توفيق مدونات هندل لأوركسترا فيينا. وفي موسيقاه الآلية اللاحقة زواج بين الميلوديا الإيطالية والبولفونية الألمانية في وحدة متسقة.
والنظرة العجلى إلى كتالوج كوشل لمؤلفات موتسارت هي إحدى التجارب الشديدة الوقع في النفس. فهناك قائمة ضمت 626 عملاً-وهي أكبر حجم من الموسيقى خلفه أي مؤلف عدا هليدن، وكلها أنتج في حياة صاحبها التي لن تتجاوز ستاً وثلاثين سنة، وتحوي روائع من شتى الأشكال: 77 صوتا، و8 ثلاثيات، و29 رباعية و5 خماسيات، 51 كونشرتو، و96 قطعة خفيفة (ديفرتمنتي) أر رقصات أو سرينادات، و52 سمفونية، و90 لحنا أو أغنية، 60 مؤلفاً دينياً، و22 أوبرا. وإذا كان بعض ن كانوا قريبين من موتسارت حسبوه كسولاً، فربما كان السبب أنهم لم يدركوا تماماً أن عناء الروح قد يضني الجسد، وأن العبقرية إذا حرمت فترات الكسل انزلقت إلى الجنون. وقد قال له أبوه (إن التأجيل خطيئتك التي لا تفتأ محدقة بك) (37). وكان موتسارت في كثير من الحالات يؤجل ساعة تدوين الموسيقى التي كانت تتخلق في رأسه. قال "إنني-إن شئت-منقوع في الموسيقى. فهي في عقلي طوال اليوم، وأنا أحب أن أحلم بها، وأدرسها، وأتأملها" (38). وقد روت زوجته "كان دائم النقر على شيء ما-على قبعته، أو كاتينة(40/304)
ساعته-أو المائدة أو المقعد وكأنها لوحة المفاتيح". (39) وكان أحياناً يواصل هذا التأليف الصامت حتى وهو يبدو مصغياً لإحدى الأوبرات. وكان يحتفظ بقصاصات من ورق تدوين الموسيقى في جيوبه أو في جيب العربة الجانبي وهو مسافر، ثم يدون عليها نوتات متناثرة، وقد ألف أن يحمل علبة من الجلد تتلقى هذه الأشتات. فإذا تأهب لم يجلس إلى لوحة المفاتيح بل إلى المنضدة. وتقول كونستانتسي "كان يكتب الموسيقى كما يكتب الخطابات، ولم يحاول قط عزف حركة حتى تكتمل". أو قد يجلس إلى البيان ساعات بأكملها يرتجل ويترك خياله الموسيقي حراً طليقاً في الظاهر ولكنه في نصف وعي يخضعه لبناء متميز-كشكل الصوناتا، أو الآريا، أو الفوجة ... وكان الموسيقيون يستمتعون بارتجالات موتسارت لأنهم كانوا يستطيعون أن يتبينوا في ابتهاج خفي النسق المتواري خلف أنغام تبدو عفوية في ظاهر الأمر. قال نيمتشك في شيخوخته "لو جرؤت على أن أصلي لفرحة أرضية أخرى لكانت أن أسمع موتسارت يرتجل" (40).
وكان في استطاعة موتسارت أن يعزف أي موسيقى تقريباً بمجرد الإطلاع نوتتها لأن طول خبرته بارتباطات النوتات وتعاقبها المعينة أتاح له قراءتها كأنها نوتة واحدة، وكانت أنامله المدربة تعزفها كأنها جملة أو فكرة موسيقية واحدة، تماماً كما يستوعب القارئ المدرب سطراً كأنه كلمة، أو فقرة كأنها سطراً. واقترنت ذاكرة موتسارت بهذه القدرة على إدراك الكليات، والإحساس بالمنطق الذي يلزم الجزء بالدلالة على الكل. وفي السنوات اللاحقة كان يستطيع أن يعزف أياً من كنشرتواته تقريباً عن ظهر قلب. وفي براغ كتب أجزاء الطبلة والبوق للخاتمة الثانية في "دون جوفاني" دون أن تتاح له نوته الآلات الأخرى، وكان قد حفظ تلك الموسيقى المعقدة في ذاكرته. وذات مرة دون جزء الفويولينه فقط من صوناتا للبيانو والفيولينه، وفي الغد، ودون بروفا، عزفت رجينا سترينا زاكي جزء الفيواينه في حفلة، وعزف موتسارت جزء البيانو من مجرد ذكرى تصوره دون أن يتسع له الوقت لتدوينها على الورق (41). ولعل صحائف التاريخ لا تحوي ذكرى رجل آخر استغرقته الموسيقى إلى هذا الحد.(40/305)
ونحن ننظر إلى صوناتات موتسارت على إنها أقرب إلى الخفة والمعابثة، وأنها لا تقف في صف مع ألحان بيتهوفن المشبوبة القوية من نفس النوع، وقد يكون السبب أنها كتبت لتلاميذ محدودي المهارة في العزف، أولها ربسيكوردات ذوات تصويت محدود، أو البيانو لم يؤت وسيلة لمواصلة نغمة (42). والصونات في مقام A ( ك331). وما حوت من "منويته" ممتعة، و"الروندو اللأتوركا" ومازالت (1778) بأسلوب الهاربسيكورد.
ولم يكن موتسارت أول الأمر يهتم بموسيقى الحجرة، ولكن في 1773 وقع على رباعيات هايدن المبكرة، وحسد ما فيها من براعة كونترابنطية، وقلدها قارب النجاح في الرباعيات الست التي ألفها في تلك السنة. وفي 1781 نشر هايدن سلسلة أخرى، وحرك هذا موتسارت ثانية للمنافسة فأصدر (1782 - 85) ست رباعيات (ك 387، 421، 428، 458، 464 - 65) تعترف الجمع الآن بأنها من أرفع الأمثلة في بابها. وشكا العازفون من صعوبتها الهائلة، وانتقد النقاد الرباعية السادسة على الأخص لتنافراتها المتعارضة ومزجها الصاخب بين المفاتيح الكبيرة والصغيرة ورد موسيقي إيطالي النوتة للناشر محتجاً بأن من الواضح أنها تزخر بالأخطاء الفظيعة. ومزق أحد المشترين أوراقها وقد استشاط غضباً حين وجد إن التنافرات متعمدة. ومع ذلك فإن هايدن قال لليوبولد موتسارت بعد عزفه الرباعيات الرابعة والخامسة والسادسة مع موتسارت وديترسدورف وغيرهما "أمام الله وبصفتي رجلاً صادقاً، أقول لك إن ابنك أعظم من عرفت من المؤلفين قاطبة سواء شخصياً أو بالاسم. فهو ذواقة، وأكثر من ذلك يملك أعمق معرفة بالتأليف الموسيقي (42) ". فلما نشرت الرباعيات الست (1785) أهداها موتسارت إلى هايدن بخطاب يتألق بتفرده حتى وسط ما تبادلا من رسائل كلها رائع:
"إن أباً قرر أن يدفع بأبنائه إلى الدنيا الواسعة فرأى من واجبه أن يكلهم إلى رعاية وإرشاد رجل كان ذائع الصيت في ذلك الحين، واتفق فوق ذلك إنه كان أصدق أصدقائه. وبالمثل أدفع بأبنائي الستة إليك، أيها الصديق(40/306)
الأعز الأشهر. حقاً أنهم ثمرة درس طويل شاق، ولكن الأمل الذي عللني به أصدقاء كثيرون بأن تعبي فيهم سيعوضه بعض الجزاء ... يملوني زهواً بهذه الفكرة، وهي أن أبنائي هؤلاء سوف يكونون يوماً ما مبعث عزاء لي.
"لقد أعربت لي أثناء مقامك بهذه العاصمة ... عن استحسانك لهذه المؤلفات، ويشجعني تقديرك لها أن اهديها إليك ويغريني بالأمل بأنك لن تراها غير جديرة برضائك. فأرجو أن تتفضل بقبولها، وكن لها بمثابة الأب والمرشد والصديق. ومنذ هذه اللحظة أنزل لك عن جميع حقوقي عليها. على أنني التمس منك أن تعفو عن الأخطاء التي ربما غابت عن عين مؤلفها المتحيزة، وأن تواصل برغمها صداقتك الكريمة لرجل يقدر هذه الصداقة أسمى تقدير (44) ".
وكان لموتسارت ولع خاص بخماسياته. وكان يرى أن خماسيته بمقام E المنخفض للبيانو والأوبرا والكلارنيت والهورن والباصون (ك 452) "خير ما ألفت قاطبة (45) ". ولكن هذا كان قبل أن يكتب أوبراته الكبرى. وكانت قطعة Einekleine Nachtmusik " موسيقى ليلية صغيرة" في الأصل (1787) مؤلفة كخماسية، ولكن سرعان ما تلقتها الأوكسترات الصغيرة، وهي الآن تصنف بين سرنادات موتسارت. وكان يقدر السرينادة بمقام E المنخفض (ن 375) لأنها مكتوبة "بشيء من العناية"، وهي القطعة التي عزفت له هو نفسه ذات أمسية في 1781، ولكن الموسيقيين يؤثرون عليلها في المرتبة السرنادة بمقام C الصغير (ن 388) -التي تعدل في قتامتها ألحان بتهوفن وتشايكوفسكي الحزينة (الباتتيك).
ووجه موتسارت الأوركسترا بعد أن اكتشفه إلى عشرات التجارب: افتتاحية، وموسيقات حالمة، ومتتاليات، وكاساسيونات Cassations ( وهي تنوعات للمتتالية) وموسيقات راقصة، وأخرى خفيفة (ترفيهية Divertimenti) ، وقصد بالأخيرة عادة إن تخدم هدفاً عابراً لا أن يتردد(40/307)
صداها في بهاء التاريخ، وعلينا أن نستمتع بها لا أن نزنها. وحتى مع هذا، فإن القطعة الخفيفة رقم 15 (ك 334) عملان قيمان، وأبعث للبهجة من معظم السمفونيات.
واستعمل موتسارت كما استعمل هايدن لسمفونياته "فرقة" من خمسة وثلاثين عازفاً، ومن ثم تقصر دون توصيل قيمتها الكاملة لآذان ألفت الجهورية المضاعفة في أوركسترات القرن العشرين ويطري النقاد السمفونية رقم 25 (ك 183) لأنها "مشبوبة العاطفة (46) ". و"آية في التعبير العنيف (47) ". ولكن أقدم سمفونيات موتسارت المشهورة هي "باريس" (رقم 31 ك 297) التي طوعها موتسارت لحب الفرنسيين للرقة والفتنة. أما سمفونية هافنر (رقم 35 ك385) فقد ألفت أصلاً على عجل لتزدان بها المهرجانات التي أعدها زجسموند هافنر، عودة سالزبورج السابق، لزفاف ابنته (1782)، وفي تاريخ لاحق أضاف موتسارت إليها أدواراً للفولاوته والكلارنيت ثم قدمها في فيينا (3 مارس 1783) في حفلة حضرها يوزف الثاني "وصفق لي الإمبراطور تصفيقاً حاراً"، ونفحه بخمسة وعشرين دوقاتيه (48). وفي هذه السمفونية ورقم 36، التي كتبها في لنتز في نوفمبر 1783، ظل موتسارت محافظاً على الشكل والطابع-المبهجين دائماً، العميقين فيما ندر-اللذين طبع بهما هايدن السمفونية، وفي السمفونيتين تقع الحركة البطيئة من الآذان المسنة موقع الاغتباط والعرفان. وعلينا أن نتكلم باحترام أكثر على السمفونية رقم 38 التي ألفها موتسارت لبراغ في 1786، هنا تبهج الحركة الأولى الموسيقى بمنطقها الغنائي ومهارتها الكونترابنطية، أما حركتها المعتدلة البطء (الأندانتي) التي أضافت التأمل إلى اللحن، فقد حملت الخبراء على الإشادة بـ "كمالها الخالد (49) " وبـ "عالمها السحري (50) ".
وهناك إجماع على أن أعظم سمفونيات موتسارت قاطبة هي الثلاث التي سكبها في سيل متدفق من الإلهام في صيف 1788، في حقبة من حياته ألم به فيها فقر كئيب وأثقلته ديون متفاقمة. والأولى مؤرخة 26 يونيو،(40/308)
والثانية 25 يوليو، والثالثة 10 أغسطس-ثلاثة أطفال أنجبت في ثلاثة أشهر. وعلى قدر علمنا لم تعزف واحدة منها في حياته قط، ولم يسمعها قط، بل ظلت في ذلك العالم الخفي الغامض الذي كانت فيه البقع السوداء المسطورة على فرخ من الورق في نظر مؤلفها-"قصائد معدة للغناء لا صوت لها"-علامات وإيقاعات لا يسمعها غير الذهن. والثالثة التي تسمى خطأ "جوبيتر" (رقم 41 بمقام C ك551) تعد عادة خيرها، ويرى شومان أنها تعدل أعمال شكسبير وبيتهوفن (51)، ولكنها لا تصلح لتذوق الهواة. والسمفونية رقم 40 في مقام G الصغير (ك 550) تبدأ بقوة ترهص بموسيقى Eroich ثم تتطور تطوراً دعا المعلقين-في نضالهم للتعبير عن الموسيقى بالألفاظ دون جدوى-إلى أن يقرؤوا فيها "ليرا" أو "مكبثا" من المأساة الشخصية (52)، ولكنها للآذان الأبسط تبدو مبهجة بهجة ساذجة تقريباً. وهذه الآذان نفسها تجد أن أعظم السمفونيات إشباعاً لها هي رقم 39 في مقام E المنخفض (ك543)، فهي لا يثقلها كرب، ولا تعذبها التقنية، إنما هي الإيقاع واللحن ينسابان في غدير هادئ مطمئن، وهي من نوع الموسيقى التي قد تبهج قلوب الآلهة في إجازة ريفية من الأعباء السماوية.
و"السمفونية كونشرتانتي" هي هجين بين السمفونية والكونشرتو، وقد نبتت من الكونشرتو جروسو بمقابلة آلتين أو أكثر للأوركسترا في حوار بين الميلوديا والموسيقى المصاحبة. وقد ارتفع موتسات بهذا الشكل إلى ذروته في "السمفونية كونشرتانتي" في مقام E المنخفض (ك364) للفلاوته والفيولينه والفيوله (1779)، وهي لا تقل روعة عن أي من سمفونياته الأخرى.
وكان الكونشرتوات مبهجة، ففيها تعين فقرات العزف المنفرد الأذن غير المدربة على تتبع مواضيع وأنغام قد يحجبها في السمفونيات التعقيد التقني أو التفنن الكونترابنطي. والحوار فيها طريف، ويزداد طرافة إذا كانت المناظرة بين واحد والكل " Solo Contra Tutti" كما نرى في شكل الكونشرتو كما اقترحه كارل فليب إيمانويل باخ وطوره موتسارت. ولما كان موتسارت(40/309)
يستطيب هذه المواجهات الهارمونية، فإنه كتب نعظم كونشرتواته للبيانو، ففيها كان يعزف دور العازف المنفرد بنفسه مضيفة عادة في أواخر الحركة الأولى قفلة تتيح له أن يسرح ويمرح. وأن يتألق عازفاً بارعاً لآلته.
وأول ما بدأ يتفوق في هذا الضرب كان في كونشرتو البيانو رقم (9) في مقام E المنخفض (ك 271). وأول كونشرتواته التي مازالت محببة للسامعين هي رقم 20 في مقام D الصغير (ك466) الشهرة بـ"الرومانتسي" الطفلية الطابع تقريباً. ويجوز لنا أن نقول أنه في هذه الحركة البطيئة بدأت الحركة الرومانسية في الموسيقى. وسواء كان السبب هو الكسل أو الشواغل، فإن موتسارت لم يكمل تدوين موسيقى هذا الكونشرتو إلا قبل ساعة من الزمن المحدد لأدائه (11 فبراير 1785)، ووصلت نسخة العازفون وأدى موتسارت دوره أداء خبير صناع، حتى لقد طلبت إعادة الكونشرتو مرات كثيرة في السنوات التالية.
وقدم موتسارت موسيقى رفيعة لآلات منفردة أخرى. ولعل الكونشرتو الرخيم في مقام A للكلارينت (ك622) يصلنا مذاعاً مراراً أكثر من أي مؤلفاته الأخرى. وفي شبابه المرح (1774) كان يستمتع أيما استمتاع بكونشرتو في مقام B المنخفض للباصون. وكانت كونشرتوات الهورن فقاعات تنفخ في مرح على النوتة-التي كانت أحياناً تحوي تعليمات مضحكة للعازف. " Da Bravo! Corraggio! Bestia! " لأن موتسارت كان خبيراً بأكثر من آلة نفخ واحدة. ثم يرفعنا كونشرتو الفلاوته والهارب (ك299) إلى السماء الأعلى.
وفي 1775 حين كان موتسارت في التاسعة عشرة ألف خمسة كونشرتوات للفيولينة وكلها رائع، وثلاثة منها ما زالت تحتويها ربرتوارات حية إلى اليوم. والكونشرتو رقم 3 في مقام G ( ك226) فيه حركة بطيئة (أداجو) انتشى لها رجل كآينشتاين (53)، ورقم 4 في مقام D من روائع الموسيقى، ورقم 5 في مقام A فيه حركة غنائية معتدلة البطء تنافس معجزة صوت المرأة.(40/310)
لا عجب إذا كان موتسارت قد أنتج بعضاً من ألذ الألحان في التأليف الموسيقي قاطبة، لا سيما في سنوات حبه لألويسية فيبر. وهي ليست أغاني (ليدات) مكتملة التفتح كالتي حققت تطويرها الناجح على يد شوبرت وبرامز، إنما هي أبسط وأقصر، تزين في الغالب كلمات سخيفة، ولكن موتسارت إذا وجد شعراً بمعنى الكلمة كقصيدة جوته (البنفسجية) "ارتفع إلى ذرى الشكل (ك476). فها هنا بنفسجة مرتعشة فرحاً باقتراب راعية حسناء تقول في نفسها ما أحلى الرقاد على صدرها؟ ولكن بينما كانت الراعية تمشي وهي تغني في جذل إذا هي تسحقها تحت قدمها دون أن تلحظها" (54). أكانت هذه ذكرى ألويسية القاسية؟ لقد كتب لها موتسارت من قبل لحناً من أرق ألحانه Non So D'onde Diene. ولكنه لم يلقِ بالاً إلى مثل هذه الأغاني المنعزلة، فقد احتفظ بموارد فنه الصوتي الخفية لألحان أوبراته وللمؤلفات التي وضعها للكنيسة.
على أنه قل أن سمعت موسيقاه الدينية خارج سالزبورج، لأن الكنيسة الكاثوليكية لم ترضَ عن المحسنات الأوبرالية التي كان رؤساء الأساقفة الذين خدمهم موتسارت يتوقعونها منه فيما يبدو. فالقداس المطول في سالزبورج كان يرتل في مصاحبة الأرغن، والوتريات، والأبواق، والترنبونات، والطبول، وكانت فقرات من المرح تنطلق فجأة في أكثر المواضع وقاراً ورهبة في قداسات موتسارت. ومع ذلك فإن الروح الدينية لابد تحركها موتينات نسجد لك (ك327) و"القديسة مريم أم الرب" (ك341 ب)، وأبدع نغم يفوق جماله الموصول كل أنغام موتسارت يظهر في "سبحوا الرب" في القسم الرابع من تسبيحة الاعتراف المسائية (ك339) (55).
يمكن القول عموماً أن موسيقى موتسارت هي صوت عصر أرستقراطي لم يسمع بسقوط الباستيل، وحضارة كاثوليكية لم يكد إيمانها مكدر، حرة في الاستمتاع بمباهج الحياة دون أن تسعى هذا السعي الحثيث لتجد مضموناً جديداً لحلم أفرغ من مضمونه القديم. وهذه الموسيقى في جوانبها الأخف تتسق مع رشاقة الزخرف الركوكي، ومع رومانسيات فاتو التصويرية،(40/311)
وأولمب تيبولو الطافي في هدوء، وابتسامات مدام دبومبادور وأروابها وخزفها. وهي في عمومها موسيقى هادئة صافية، تشوبها بين الحين والحين لمسات من الألم والغضب، ولكنها لا ترفع صلاة متذللة ولا تحدياً بروميثياً للآلهة. لقد بدأ موتسارت موسيقاه في طفولته، وكانت تكمن في مؤلفاته خصيصة طفلية حتى اتضح له أن القداس الجنائزي الذي كان يكتبه لرجل غربياً كان قداساً لجنازته هو.
7 - الروح والجسد
لم يوهب موتسارت فتنة الجسد. فقد كان قصير القامة، رأسه أكبر مما يناسب جسمه، وأنفه اضخم من أن يلائم وجهه، وشفته العليا راكبة على السفلى، وحاجباه الكثيفان يحجبان عيناه القلقتين، لا يروع الناظر إليه غير شعره الأشقر الغزير. وفي سني عمره اللاحقة حاول التعويض عن عيوب قامته وقسماته باللباس البهي: قميص من الدنتلا، وسترة زرقاء، ذات ذيول، وأزرار ذهبية وسراويل تصل إلى الركبة ومشابك فضية فوق حذائه (56). ولم يكن الناظر إليه ينسى مظهره إلا وهو يعزف على البيانو، عندها تضطرم عيناه بالتركيز الشديد، وتخضع كل عضلة في بدنه نفسها لحركة ذهنه ويديه.
وكان في صباه متواضعاً طيب القلب، واثقاً بالناس محباً لهم، ولكن ما ظفر به من شهرة مبكرة، وما اغتذى عليه كل يوم تقريباً من التصفيق والاستحسان، أحدث عيوباً في خلقه. وقد حذره ليوبولد (1778) قائلاً "إنك يا بني سريع الغضب مندفع ... شديد التحفز للرد في لهجة ساخرة على أول تحد" (57). واعترف موتسارت بهذا وبأكثر منه. فكتب يقول "لابد أن انتقم لنفسي إن أساء إنسان، فإذا لم أرد لعدوي الصاع صاعين أراني إنما جازيته صاعاً بصاع ولم أعاقبه" (58). ثم كان أشد الناس غلواً في تقدير عبقريته. "إن الأمير كاونتز أخبر الأرشيدوق بأن أمثالي لا يجود بهم الزمان إلا مرة كل مائة عام (59).(40/312)
وكان يسود خطاباته ويظهر في موسيقاه روح الفكاهة حتى آخر سني عمره. وكان هذا الروح عادة ضاحكاً معابثاً في براءة، يشتد أحياناً فيصبح هجاء جاداً، وفي شبابه كان بين الحين والحين ينحرف إلى فحش القول وهجره. وقد مر بمرحلة من الافتتان بالغائط. وحين كان في الحادية والعشرين كتب لابنة عمه ماريا أنا تكلا موتسارت تسعة عشر خطاباً تلوثها سوقية لا تصدق (60). وأشاد خطاب كتبه لأمه بالتطبل (أي امتلاء البطن بالغازات) نثراً وشعراً (61) ولم تكن أمه شديدة الاحتشام، فقد نصحت زوجها في خطاب كتبته له فقالت "اعتن بصحتك يا حبيبي، وادفع عجزك إلى فمك" ويبدو أن هذه العبارات "القعرية" كانت عرفاً سائداً في أسرة موتسارت وبيئتها، ولعلها كانت ميراثاً من جيل أشد شبقاً. على أنها لم تمنع موتسارت من أن يكتب لأبويه وشقيقته خطابات تفيض بأرق الحب. وكان في زعمه عريساً بكراً. فهل كان زوجاً وفيا؟ لقد اتهمته زوجته بـ"مغازلات الخدم (63) " ويقول كاتب سيرته المخلص:
"وانتشرت الشائعات بين الجمهور وفي الصحف، وبولغ في وصف لحظات نادرة من الضعف عنده، فجعلت سمات مميزة لخلقه. فنسبت إليه مغازلة كل تلميذة من تلاميذه وكل مغنية كتب لها أغنية، وكان يعد من الفكاهات أن يلقب بالسلف الأول لدون جوان (64) ".
وقد نجم عن كثرة لزوم زوجته الفراش للوضع، وتكرار أسفارها إلى المنتجعات الصحية وغيابه عنها في جولاته الموسيقية، وحساسيته لكل مفاتن النساء، واختلاطه بالمغنيات الفاتنات والممثلات المتحررات-نجم عن هذا كله موقف كانت فيه المغامرة لا مفر منها تقريباً. وقد روت كونستانتسي كيف أنه أعترف لها بـ"حماقة" من هذا النوع ولمَ غفرتها له-"لقد كان طيباً جداً بحيث يستحيل على الإنسان أن يغضب منه" ولكن أختها تقص أنباء تفجرات عنيفة بينهما بين الحين والحين (65). ويلوح أن موتسارت كان شديد التعلق بزوجته، وقد أحتمل عيوبها ربة للبيت، وكان يكتب لها أثناء فراقهما خطابات تفيض إعزازاً كإعزاز الأطفال (66).(40/313)
ولم يكن موفقاً من الناحية الاجتماعية. من ذلك أنه قسا في الحكم على بعض منافسيه "إن صوناتات كلمنتي عديمة القيمة ... فهو مشعوذ ككل الإيطاليين (67) ". "بالأمس أسعدني الحظ بالاستماع إلى الهر فريهولت يعزف كونشرتواً من تأليفه التعس. ولم أجد فيه إلا القليل جداً مما يستحق الإعجاب (68) ". ولكنه امتدح الرباعيات التي نشرها مؤخراً أجنازبلييل وإن نافست رباعياته. ووبخه أبوه لأنه يبغض الناس فيه بصلفه (69)، وأنكر موتسارت الصلف، ولكن لا نكران في أنه لم يكن له إلا قلة ضئيلة من الأصدقاء بين موسيقيي فيينا، وأن روحه المتكبرة ألقت العقبات في طريق تقدمه. ذلك إن حظ الموسيقى في النمسا وألمانيا كان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية، وقد رفض موتسارت أن يقدم النبالة على العبقرية.
ثم إنه عانى من معوق آخر هو أنه لم يختلف قط إلى المدرسة أو الجامعة. ولم يكن أبوه قد أتاح له متسعاً من الوقت للتعليم العام. وقد أقتنى موتسارت فيما اقتنى من كتب قليلة دواوين شعر لجسنر وفيلاند وجلليرت، ولكن يبدو أنه استعملها في الكثير الغالب مصدراً لنصوص ممكنة للأوبرات. وكان قليل الاكتراث للفن أو الأدب, وكان في باريس حين مات فولتير، فلم يستطع أن يفقه لم ضجت المدينة هذا الضجيج الكثير بسبب زيارة الثائر الهرم وموته. كتب لأبيه يقول "إن هذا الوغد الكافر فولتير قد نفق كأنه كلب، كأنه حيوان! وهذا جزاؤه الحق (70) ". وقد تشرب بعض العداء لرجال الدين من أخواته الماسون، ولكنه شارك في موكب لعيد القربان المقدس وهو يمسك شمعة في يده (71).
ولعل سذاجة عقله هي التي جعلته محبوباً رغم أخطائه. فالذين لم ينافسوه في الموسيقى وجدوه أنيس المعشر بشوشاً رفيقاً هادئ الطبع عادة. كتبت أخت زوجته صوفي فيبر "لم أرَ موتسارت طوال حياتي هائج الطبع، ولا حتى غاضباً (72) ". ولكن هناك روايات تناقض هذه. وكان بمثابة الحياة لكثير من الحفلات الخاصة، دائم الرغبة في العزف، دائم الاستعدادات لنكتة أو لعبة. وكان يحب البولنج، والبليارد، والرقص، ويبدو أحياناً فخوراً(40/314)
برقصه أكثر من موسيقاه (73). وإذا لم يكن كريماً سمح النفس مع منافسيه، فإنه كان أريحياً دون تفكير تقريباً مع كل من عداه. وندر أن رد سائلاً. فأقترض منه ضابط أوتار البيانو المرة بعد المرة دون أن يرد قروضه. وكان موتسارت لا يخفي احترامه الشديد للمال، ولكن مرد ذلك أنه كان يفتقر أشد الافتقار إلى الوقت أو الميل للتفكير في المال، حتى أنه كثيراً ما أعوزه هذا المال. وإذ اضطر إلى الاعتماد على وسائله في كسب المال، واضطر إلى أن يعول أسرة بمنافسة عشرات الموسيقيين الغيورين منه فقد أهمل شؤون ماله، وسمح لمكاسبه أن تتسرب من بين أصابعه دون اكتراث منه، وأنحدر إلى درك الإملاق اليائس وهو يكتب أروع موسيقى جيله في سمفونياته الثلاث الأخيرة وأوبراته الثلاث الأخيرة.
8 - الأوج
1782 - 1787
لقد بدأ حيات الاحتراف موسيقياً مستقلاً في فيينا بنجاح قرت به عينه. فكان يتقاضى أجراً طيباً على الدروس التي يعطيها، وأتاه كل كونشرتو عزف في 1782 - 84 بنحو خمسمائة جولدن (74). ولم ينشر من مؤلفاته في حياته سوى سبعين، ولكنه تقاضى عنها ثمناً معقولاً. وأعطاه الناشر أرتارين مائة دوقاتية نظير الرباعيات الست المهداة إلى هايدن-وكان ثمناً طيباً في تلك الأيام (75). وخسر ناشر آخر يدعى هوفمايستر بطبعه رباعيات موتسارت للبيانو في مقام G الصغير (ك478) و E الخفيض (ك493)، فقد وجدها الموسيقيون عسيرة جداً (وهي الآن تعد سهلة)، وأنذر هوفمايستر قائلاً: "أكتب بشعبية أكثر وإلا فلن أستطيع أن أطبع المزيد من مؤلفاتك أو أنقدك عنه" (76). وكان موتسارت يتقاضى الأجر العادي عن أوبراته، وهو مائة دوقاتية، ولكنه تقاضى عن "دون جوفاني" 225 دوقاتية مضافاً إليها حصيلة حفلة موسيقية أحييت لصالحه. واجتمع له في هذه السنين "دخل طيب جداّ" (77) كتب أبوه وقد زاره في 1785 يقول "إذا لم يكن على ولدي ديون مستحقة ففي ظني أنه يستطيع الآن أن يودع في المصرف ألفي جولدن" (78).(40/315)
ولكن موتسارت لم يودع ذلك المال في المصرف، بل أنفقها على مصروفاته الجارية، وعلى الترفيه، والملابس الفاخرة، وعلى تلبية حاجات الأصدقاء المتسولين. لهذا السبب وغيرها من أسباب أكثر غموضاً وقع في هوة الدين في ذروة الطلب على خدماته ومؤلفاته. وفي تاريخ مبكر (15 فبراير 1783) كتب إلى البارونة فون فالدتشتيتن يقول إن أحد دائنيه هدده بأن "يقاضيني ... وأنا في هذه اللحظة لا أستطيع الوفاء بالمبلغ-ولا حتى بنصفه ... أتوسل إليك يا سيدتي بحق السماء أن تعيني على الاحتفاظ بشرفي وسمعتي (79). وجاءه الفرج المؤقت من نجاح حفلة موسيقية أحييت لصالحه في مارس، إذ أتته بألف وستمائة جولدن، وقد أهدى بعض هذا المال لأبيه.
وفي مايو 1783 انتقل إلى منزل حسن في رقم 244 بميدان يودن. هناك ولد له طفله الأول (17 يونيو) "صبي جميل قوي، ملفوف كالكرة". ولان جانب الأب بفضل هذا الحدث والهدية بعد أن ساءه زواج ابنه. واستغل فولفجانج وكونستانتسي هذا اللين ليزورا ليوبولد ونانيرل في سالزبورج، بعد أن تركا الطفل في فيينا مع مربية. وفي 19 أغسطس مات الطفل. وبقي أبواه في سالزبورج لأن موتسارت كان قد رتب أن يعزف فيها قداسه في مقام C الصغير الذي سترتل فيه كونستانتسي. وأطال فولفجانج وكونستانتسي مكثهما فوق أصول الضيافة، لأن ليوبولد كان عليه أن يحسب حساب كل درهم، ورأى أن زيارة ثلاثة أشهر أطول مما يحتما. وفي طريق عودتهما إلى فيينا تخلفا في لنتز، حيث كلف الكونت فون تون موتسارت بكتابة سمفونية.
فلما عاد إلى بيته عكف بهمة على التدريس والتأليف والعزف والقيادة. وفي ثلاثة أشهر (26 فبراير إلى 3 إبريل 1784) أحيا ثلاثة حفلات موسيقية وعزف في تسع عشرة حفلة أخرى (80). وفي ديسمبر انضم إلى أحد المحافل الماسونية السبعة بفيينا، وأستمتع باجتماعاتهم، ولم يتردد في الموافقة على تأليف الموسيقى لأعيادهم. وفي فبراير قدم أبوه في زيارة طويلة بعد أن(40/316)
ألانه مولد ولد أخر لكونستانتسي. وفي 1785 دخل لونتسودا بونتي حياة موتسارت.
وقد عاش لورنتسو هذا حياة فيها من المغامرة ما يقرب من مغامرة صديقه كازانوفا. كان قد ولد في 1749 ابناً لدباغ جلود في حي يهود تشينيدا. فلما بلغ الرابعة عشرة أخذ أبو إيمانويلي كونليانو وإخوان له الأطفال إلى لورنتسودا بونتي، أسقف تشينيدا، ليعمدهم اتباعاً للكنيسة الكاثوليكية. واتخذ إيمانويلي أسم الأسقف، وأصبح كاهناً، واتصل في البندقية بامرأة متزوجة، فنفي، وانتقل إلى درسدن، ثم إلى فيينا، وفي 1783 استخدمه المسرح القومي شاعراً وكاتباً لنصوص الأوبرات.
واقترح عله موتسارت إمكان تأليف نص لأوبرا يؤخذ من كوميديا "زواج فيجارو" الحديثة التي ألفها بومارشيه. وكانت الكوميديا قد ترجمت إلى الألمانية لتمثيلها في فينا، ولكن يوزف الثاني حظر عرضها بحجة احتوائها على نزاعات ثورية تسيء إلى بلاطه. فهل في الإمكان إقناع الإمبراطور، الذي لم يكن هو نفسه مفتقراً إلى النزعة الثورية، بأن يسمح بأوبرا تستخلص من التمثيلية بحكمة وحصافة؟ وكان بونتي معجباً بموسيقى موتسارت، وسيبدي فيه الرأي التالي في تاريخ لاحق، وهو أنه رجل "لم يستطع حتى الآن، برغم ما أوتي من مواهب تفوق مواهب أي مؤلف موسيقي في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أن يستغل عبقريته السماوية في فيينا بسبب دسائس خصومه" (81). ثم حذف من التمثيلية الحواشي المتطرفة التي كتبها بومارشيه، وحول ما بقي إلى نص إيطالي يضارع خير نصوص متاستازيو.
كانت قصة "زوتج فيجارو" هي المتاهة القديمة التي تتشابك فيها الاستخفاءات والمفاجآت والاكتشافات واستغفال الخدم الذكي لسادتهم: وكل هذا مألوف في الكوميديا منذ عهد ميناندر وبلوتس. وسرعان ما أحب موتسارت الموضوع، وألف الموسيقى بسرعة تكاد تبلغ سرعة تشكل النص، فتم الاثنان(40/317)
في ستة أسابيع. وفي 29 إبريل 1786 كتب موتسارت الافتتاحية، وفي أول مايو حالف النجاح العرض الأول للأوبرا. وربما كان بعض الفضل في نجاحها لبنوتشي، الباصو المرح الجهوري الصوت، الذي غنى دور فيجارو ولكن لابد أن الفضل الأكبر لحيوية الموسيقى وملاءمتها للمناسبة، والألحان رائعة مثل شكاة كيروبينو "ما الذي تعرفونه ( Voi Che Sapete) ، وتوسل الكونتيسة توسلاً حاراً فيه ضبط للنفس إلى إله الحب في لحن الحب " Porgi Amor" وقد استعيدت الألحان غير مرة حتى استغرق العرض مثلي الوقت العادي، وفي نهايته طلب الجمهور موتسارت مرات ليظهر على خشبة المسرح.
وكانت حصيلة إخراج "فيجارو" في فيينا وبراغ خليقة بأن تعين موتسارت على الوفاء بديونه عاماً لولا إسرافه ولولا تكرار مرض زوجته وحملها. وفي إبريل 1787 انتقلا إلى بيت أقل تكلفة، في رقم 224 شارع لاند شتراسي. وبعد شهر مات ليوبولد مخلفاً لولده ألف جولدن.
وكلفته براغ بأوبرا أخرى. واقترح بونتي مغامرات دون جوان الجنسية موضوعاً لها. وكان ترسو دي مولينا قد عرض "الدون" الأسطوري على المسرح بمدريد في 1630 تحت اسم "مخادع إشبيلية"، وروى موليير القصة في باريس وسماها "وليمة الحجر" (1665) وقدمها جولدوني في البندقية باسم "دون جوفاني تنوريو" (1736) وكان فنتشنتي ريجيني قد عرض "وليمة الحجر" في فيينا عام 1777، وفي عام 1787 هذا نفسه كان جوزيبي جاتسانيجا قد أخرج بالعنوان ذاته أوبرا سطا بونتي على أسطر كثيرة منها، ومن بينها قائمة مرحة بخطايا جوفاني.
وعرفت "أعظم الأوبرات قاطبة" (كما سماها روسين) أول مرة في براغ في 29 أكتوبر 1787). وذهب موتسار الكونستانتسي إلى العاصمة البوهيمية ليشهدا هذا الحادث، وكثرت الحفاوة بهما إلى حد دعاه إلى تأجيل تأليف الافتتاحية حتى عشية العرض الأول، وفي منتصف الليل(40/318)
"بعد قضاء أبهج أمسية يمكن تصورها (82) " ألف قطعة أقرب ما تكون إلى موسيقى فاجنر في إيذانها بالعناصر التراجيدية والكوميدية للتمثيلية. ووصلت نوتة الافتتاحية إلى الأوركسترا بالضبط في الوقت المحدد للأداء (83). كتبت جريدة فيينا تسايتونج تقول "مثلت اليوم الاثنين أوبرا الموسيقار موتسارت "دون جوفاني" التي طال انتظارها ..... ويجمع الموسيقيون وأهب الخبرة على أن مثل هذا العرض لم يرَ في براغ قط من قبل. وقاد الهر موتسارت بشخصه الموسيقيين، وكان ظهوره في الأوركسترا إيذاناً بترديد الهتاف الذي تكرر عند خروجه (84) ".
وفي 12 نوفمبر عاد الزوجان السعيدان إلى فيينا. وبعد ثلاثة أيام مات جلوك، وعين يوزف الثاني موتسارت ليخلفه رئيس موسيقيي الحجرة للبلاط. وبعد معاناة شديدة مع المغنين أخرجت "دون جوفاني" بفيينا في 17 مايو 1788 دون أن تلقى استحساناَ يذكر. وأدخل موتسارت وبونتي عليها المزيد من التغيير والتبديل، ولكن الأوبرا لم تحظَ قط في فيينا بالنجاح الذي حظيت به في براغ ومانهايم وهامبورج. وشكا ناقد برليني فقال أن "التمثيلية الهازلة" عدوان على الفضيلة. ولكنه أردف "إن كان لأمة من الأمم أن تفخر بأحد أبنائها، فإن لألمانيا أن تفخر بموتسارت مؤلف هذه الأوبرا (85) ". وبعد تسع سنوات كتب جوته إلى شيلر "إن آمالك التي ترجوها للأوبرا تحققت بوفرة في دون جوفاني (86) " وتحسر أن موتسارت لم يعش ليكتب موسيقى فاوست.
9 - الحضيض
1788 - 1790
لم تلبث حصيلة دون جوفاني أن نفذت، ولم يكفِ راتب موتسارت المتواضع لشراء الطعام إلى بالجهد. وقبل إعطاء التلاميذ دروساً خصوصية ولكن التدريس كان عملاً مرهقاً مضيعاً للوقت. وعليه فقد انتقل إلى مسكن أرخص في ضاحية فيرنجر شتراسي. ومع ذلك تكاثرت عليه الديون. فاقترض أينما استطاع-خصوصاً من تاجر كريم وأخ في الماسونية يدعى(40/319)
ميخائيل بوشبرج. وقد كتب إليه موتسارت في يونية 1788 يقول:
"ما زلت مديناً لك بثماني دوقاتيات. ورغم أني في هذه اللحظة لست في وضع يمكنني من سداد هذا المبلغ لك، فإن ثقتي فيك لا حد لها، بحيث أجرؤ على التوسل إليك بأن تسعفني بمائة جولدن حتى الأسبوع القادم وهو الموعد المحدد لبدء حفلاتي الموسيقية في الكازينو. عندئذ سأكون بالتأكيد قد تسلمت نصيبي الذي وعدتُ به فأستطيع بغاية السهولة أن أرد لك 136 جولدناً مقروناً بأحر عبارات شكري (87) ".
وأرسل أليه بوشبرج المائة جولدن. وشجع هذا موتسارت، فرجاه (17 يونيو) في إقراضه ألف جولدن أو ألفين لمدة عام أو عامين بفائدة مناسبة "وكان قد ترك متأخرات من إيجار بيته القديم دون أن يدفعها، فهدده المالك بحبسه، فاستدان موتسارت ليؤدي له دينه. والظاهر أن بوشبرج لم يوافه بكل ما طلب، لأن المؤلف اليائس أرسل إليه توسلات جديدة في يونيو ويوليو. وفي تلك الشهور النكدة المزعجة ألف موتسارت "السمفونيات الكبرى" الثلاث.
ثم رحب بدعوة أتته من الأمير كارل فون لشنوفسكي ليركب معه إلى برلين. واقترض لتلك الرحلة مائة جولدن من فراتنز هوفدميل. وغادر الأمير والصعلوك فيينا في 8 إبريل 1789. وفي درسدن عزف موتسارت أما الأمير الناخب فردريك أغسطس فظفر بمائة دوقاتية. وفي ليبزج عزف في حفلة عامة على أرغن باخ، وتأثر بترتيل فرقة "تماستولي" ليموتيته باخ "أنشدوا للرب". Singet Dem Herron. وفي بوتسدام وبرلين (28 إبريل إلى 28 مايو) عزف لفردريك وليم الثاني، فنفحه بسبعمائة فلورين، مع تكليف بست رباعيات وست صوناتات. ولكن مكاسبه أنفقت بسرعة عجيبة، وقد عزت شائعة غير مؤكدة بعض هذا الإنفاق إلى صلة غرام بمغنية برلينية تدعى هنرييته بارونيوس. (88) وفي 23 مايو كتب إلى كونستانتسي يقول "أما عن عودتي فعليكِ أن تتطلعي إليّ أنا أكثر من التطلع إلى النقود (89) " ووصل أرض الوطن في 4 يونيو 1789.(40/320)
واحتاجت كونستانتسي، التي كانت حاملاً مرة أخرى، إلى الأطباء والعقاقير وإلى رحلة غالية للاستشفاء بمياه بادن-باي-فيين. وفزع موتسارت إلى بوشبرج مرة أخرى:
"يا إلهي العظيم! لست أتمنى لأعدى أعدائي أن يكون في موقفي الراهن. إنكَ لو تخليت عني يا أعز صديق وأخ (ماسوني) لقضي علينا قضاء مبرماً-نفسي التعسة البريئة وزوجتي المريضة المسكينة وأطفالي ... فكل شيء رهن ... بموافقتك على إقراضي خمسمائة جولدن أخرى، وإلى أن تسوى أموري أتعهد بأن أرد لك عشرة جولدنات كل شهر، ثم أسدد لك المبلغ كله. يا إلهي! لا أكاد أقوى على حمل نفسي على إرسال هذا الخطاب، ومع ذلك فلابد مما ليس منه بد! اغفر لي بالله، فقط اغفر لي! (90) ".
وأرسل له بوشبرج 150 جولدناً أنفق أكثرها في سداد فواتير كونستانتسي في بادن. وفي 16 نوفمبر، ولدت في بيتهم بنتاً ماتت في اليوم نفسه. وأعانه يوزف الثاني بأن كلفه هو وبونتي بكتابة، "مسرحية هازلة" عن موضوع قديم (استخدمه ماريفو في لعبة الحي والحظ 1730): خلاصتها إن رجلين يتنكران لاختبار وفاء خطيبتيهما فيجدان فيهما ليناً ورخاوة، ولكنهما يغفران لهما على أساس أن كل النساء هكذا " Cosi Fan Tutte" ومن هنا اسم الأوبرا "هكذا يفعلن جميعاً". ولم يكن الموضوع بالذي يتفق ومزاج موتسارت المأساوي آنئذ (إذا استثنينا قليلاً من العبث بدر من كونستانتسي في بادن)، ولكنه قدم للنص البارع الظريف موسيقى هي التجسيد الكامل للبراعة والظرف، وندر أن مجد هراء بمثل ما مجد به هذا الهراء. وقد لقي عرض الأوبرا الأول في 26 يناير 1790 نجاحاً لا بأس به، وأعيد العرض أربعة مرات في شهر واحد، وكانت الحصيلة مائة دوقاتية لموتسارت. ثم مات يوزف الثاني (20 فبراير)، وأغلقت مسارح فيينا أبوابها حتى 12 إبريل.
وراود موتسارت الأمل في أن يجد له الإمبراطور الجديد عملاً، ولكن(40/321)
ليوبولد الثاني تجاهله. وكذلك تجاهل بونتي فرحل إلى إنجلترا وأمريكا، وانتهى به المطاف (1838) مدرساً للإيطالية فيما هو الآن جامعة كولومبيا بنيويورك (91). واستنجد موتسارت بيوشبرج من جديد (29 ديسمبر 1789، 20 يناير، 20 فبراير، 1، 8، 23 إبريل 1790)، ولم يرده خائباً قط، ولكن ندر أن تلقى منه كل ما طلب. وفي أوائل مايو طلب ستمائة جولدن ليؤدي ما استحق عليه من إيجار، فأرسل إليه بوشبرج مائة. واعترف ليوشبرج في 17 مايو "أنني مضطر للالتجاء إلى المرابين" وفي ذلك الخطاب ذكر أنه لم يبق له من تلاميذه سوى اثنين، ورجا صديقه "أن يذيع بين الناس أنني مستعد لإعطاء الدروس (92) " على أن ما به من توتر الأعصاب وضيق الخلق كان يحول بينه وبين إجادة التعليم. وكان أحياناً يخلف مواعيده مع تلاميذه وأحياناً يلعب معهم البليارد بدلاً من أن يعطيهم درساً (93). ولكنه كان إذا وجد طالباً ذا موهبة مبشرة بذل له نفسه دون تحفظ، وهكذا نراه يعلم يوهان هومل في اغتباط وبنجاح، وقد تتلمذ له (1787) وهو لا يزال في الثامنة، وأصبح عازفاً شهيراً للبيانو في الجيل التالي.
وأضافت الأمراض الخطيرة آلاماً إلى أحزان موتسارت. وقد شخص طبيب أوجاعه بأنها "التهاب مفرز لحويصلة الكلية مصحوب بتقيح، وتضررات بؤرية كامنة، تفضي بالضرورة إلى عجز كلوي تام (94) ". وهذا معناه التهاب في الكلى صديدي مضعف. كتب إلى بوشيرج في 14 أغسطس 1790 يقول "إنني اليوم في منتهى التعاسة لم يغمض لي جفن في الليلة البارحة لشدة الألم ... تصور حالي-عليل تتوشني الهموم والمنغصات ... ألا تستطيع إعانتي بمبلغ تافه؟ إنني أرحب جداً بأقل مبلغ". وأرسل له بوشبرج عشرة جولدنات.
واتخذ موتسارت رغم سوء حالته الصحية خطوة يائسة ليعول أسرته. ذلك أنه تقرر تتويج ليوبولد بفرانكفورت في 9 أكتوبر 1790. وكان في حاشية الإمبراطور سبعة عشر موسيقياً للبلاط، ولكن موتسارت لم يدعَ. ومع ذلك ذهب بصحبة فرانتز هوفر زوج أخته وعازف الفيولينه. ورهن موتسارت آنية الأسرة الفضية ليغطي نفقة الرحلة. وفي فرانكفورت عزف(40/322)
وقاد في 15 أكتوبر كونشرتو البيانو في مقام D ( ك537)، الذي ألفه قبل ثلاث سنوات، ولكن شاءت نزوة من نزوات التاريخ أن تسميه "كونشرتو التتويج"-وهو ليس من أفضل موسيقاه. كتب لزوجته يقول "لقد نجح نجاحاً باهراً من حيث الشرف والمجد، ولكنه أخفق من حيث المال (95) ". وقفل إلى فيينا دون أن يزيد ما كسبه عما أنفق إلا قليلاً. وفي نوفمبر انتقل إلى منزل أرخص في راوهنشتاينجاسي حيث قدر له أن يلقى منيته.
10 - القداس الجنائزي
1791
وأعانته على الحياة عاماً آخر ثلاثة تكليفات وافته في تتابع سريع. ففي مايو 1791 عرض عليه إيمانويل شيكانيدر، الذي كان يخرج الأوبرات والتمثيليات الألمانية في مسرح بإحدى ضواحي، مخططاً لنص يدور حول ناي سحري، ورجا أخاه في الماسونية أن يؤلف موسيقى للنص، فقبل موتسارت. ولما ذهبت كونستانتسي وهي حبلى مرة أخرى إلى بادن-باي فيين في يونيو، قبل دعوة شيكانيدر أن ينفق نهاره في بيت وسط حديقة قرب المسرح حيث يستطيع تأليف "الناي السحري" تحت حث المدير وإلحاحه. أما الأمسيات فقد صحب فيها شيكانيدر في حياة الليل بالمدينة. يقول يان "كانت الحماقة والترف الرفيقين الحتميين لمثل هذه الحياة، وسرعان ما وصلت أنباؤهما إلى آذان الجماهير ... فلوثت اسمه شهوراً بقدر من القدح فوق ما يستحق (96) ". ووسط هذه الاسترخاءات وجد موتسارت وقتاً للركوب إلى بادن (على أحد عشر ميلاً من فيينا) ليزور زوجته التي ولدت له فولفجانج موتسارت الثاني في 26 يوليو.
في ذلك الشهر وافاه طلب من غريب مجهول الاسم، يعرض عليه مائة دوقاتية يؤلف لقاءها سراً قداساً جنائزياً، ثم يرسله إليه دون أي إعلان لاسم المؤلف. وتحول موتسارت من مرح "الناي السحري" إلى موضوع الموت، وإذا هو يتلقى في أغسطس تكليفاً من براغ بتأليف أوبرا " La Clemenza Di Tito" " شفقة تيتو" تمثل هناك في مناسبة وشيكة هي تتويج ليوبولد الثاني ملكاً على بوهيميا. ولم يتح له غير شهر واحد لوضع موسيقى جديدة لنص متاستازيو القديم. وعكف عليه في مركبات مهتزة(40/323)
وفنادق صاخبة أثناء رحلته مع زوجته إلى براغ. وغنيت الأوبرا في 6 سبتمبر دون أن تحظى إلا باستحسان وسط. وكانت الدموع تترقرق في عيني موتسارت وهو يغادر المدينة الوحيدة التي ناصرته من قبل، ويدرك أن الإمبراطور شهد فشله. ولم يكن له من عزاء إلا أجر المائتي دوقاتية، والنبأ اللاحق بأن إعادة عرض الأوبرا في براغ 30 سبتمبر لقي كل النجاح.
في ذلك اليوم قاد من البيانو أول عرض للناي السحري. والقصة كانت في بعضها من قصص الجان، وفي بعضها تمجيداً لشعائر الدخول في الماسونية. وأفرغ موتسارت خير فنه في تأليف موسيقاها وإن اتبع معظم الألحان لخط ميلودي بسيط يناسب جمهوره المؤلف من الطبقة الوسطى. وقد أغدق فيضاً من الزوقات (الكولوراتورا) على "ملكة الليل"، ولكنه كان بينه وبين نفسه يسخر من غناء الكواوراتورا ويشبهه بـ"الشرائط المقطعة" (97). ومارس الكهنة الذي يفتتح الفصل الثاني موسيقى ماسونية، ولحن كبير الكهنة " In Diesen Leiligen Hallen" " في هذه القاعات المقدسة لا نعرف شيئاً عن الانتقام، ومحبة الداخلين في الإيمان لإخوانهم من البشر هو المبدأ الهادي"-هذا اللحن هو زعم الماسونية بأنها ردت أخوة البشر التي تبشر بها المسيحية من قبل. (قارن جوته بين الناي السحري والجزء الثاني من فاوست، الذي بشر هو أيضاً بالأخوة، وإذ كان هو نفسه ماسونياً فقد قال عن الأوبرا إن لها "معنى أسمى لن يغيب عن أعضاء الجماعة" (98). ولقي العرض الأول نجاحاً قلقاً، وصدم النقاد ذلك المزج بين الفوجة والمرح (99)، على أن الناي السحري ما لبث أن أصبح أحب أوبرات موتسارت إلى الناس، وأحب الأوبرات قبل فاجنر وفردي. وقد أعيد أداؤه مائة مرة خلال أربعة عشر شهراً من العرض الأول.
وجاء هذا النصر الأخير وموتسارت يشعر بيد الموت تمسه. وكأن القدر أراد أن يؤكد سخريته، إذ تلقى الآن من جماعة من نبلاء المجريين تعهداً باشتراك سنوي قدره ألف فلورين، ثم عرض عليه ناشر أمستردامي مبلغاً أكبر حتى من نظير اختصاصه بحق طبع بعض أعماله. ثم تلقى في سبتمبر دعوة إلى لندن من بونتي، فرد عليه قائلاً "كان بودي أن اتبع نصيحتك، ولكن كيف أستطيع؟ ... إن حالتي تنبئني بأن ساعتي قد(40/324)
حانت، وأنا موشك على فراق الحياة. وقد أتت النهاية قبل أن أستطيع إثبات موهبتي. ومع ذلك كانت الحياة جميلة" (100).
وفي شهوره الأخيرة أفرغ عافيته المتداعية في تأليف "القداس الجنائزي" وراح يعكف عليه أسابيع عديدة عكوفاً محموماً. فلما حاولت زوجته أن تصرفه عنه إلى شواغل أقل جهامة قال لها "إنني أكتب القداس الجنائزي لنفسي، وسيصلح صلاة لمأتمي" (101) وألف لحن "يا رب أرحم" Kyrie وأجزاء من "يوم الغضب" والبوق السماوي Yuba Mirum " والملك الموهوب" Rex Tremendae واذكرني Recordare و"الباكية" Lacrimosa و"أيها الرب" و"المدانون Confutatis" و"القرابين" Hostias. وقد ترك هذه الأجزاء المتناثرة دون مراجعة، وهي تشي باضطراب عقل يواجه الانهيار. وقد اكمل فرانتز زافير زوسماير "القداس الجنائزي" على نحو رائع.
وفي نوفمبر بدأت يدا موتسارت ورجلاه تتورم ورماً مؤلماً، وأصابه شلل جزئي. فاضطر إلى لزوم فراشه، في تلك الأمسيات حين كانت أوبرا "الناي السحري" تمثل كان يضع ساعته إلى جواره ويتابع كل فصل في خياله، مدندناً بالألحان أحياناً. وفي آخر يوم من حياته طلب نوتة القداس الجنائزي، ورتل دور الألتو، ورتلت السيدة شاك السوبرانو، وفرانتز هوقر التنور، والهر جيرل الباص. فلما بلغوا "الباكية" بكى موتسارت. وتنبأ بأنه سيموت الليلة. وناوله كاهن الأسرار المقدسة الأخيرة. وقرب المساء فقد الوعي، ولكنه فتح عينيه منتصف الليل بقليل ثم أدار وجهه إلى الحائط وسرعان ما انتهت آلامه (5 ديسمبر 1791).
ولم تستطع زوجته ولا أصدقاؤه أن يشيعوه كما ينبغي أن يشيع. صلي على الجثمان في كنيسة القديس إسطفانوس في 6 ديسمبر، ودفن في فناء كنيسة القديس مرقص. ولم يشتر له قبر، بل أدلي الجثمان في قبو عام صنع ليتلقى أجساد خمسة عشر أو عشرين من الفقراء المعدمين. ولم تحدد الموضع علامة من صليب أو نص، فلما ذهبت إليه أرملته بعد أيام لتصلي، لم يستطع أحد أن يدلها على البقعة التي ضمت رفات موتسارت.(40/325)
الكتاب الرابع
الإسلام والشرق السلافي
1715 - 1796(41/4)
الفصل السادس عشر
الإسلام
1715 - 1796
1 - الأتراك
حوصرت المسيحية في القرن الثامن عشر بين فولتير ومحمد (صلى الله عليه وسلم) بين حركة التنوير والإسلام. فمع أن العالم الإسلامي كان قد فقد سطوته الحربية منذ رد سويبسكي الترك على فيينا عام 1683، إلا أنه ظل مسيطراً على المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وشبه جزيرة العرب وفلسطين وسوريا وفارس وآسيا الصغرى والقرم وجنوبي روسيا وبسارابيا وملدافيا وولاشيا (رومانيا) وبلغاريا والصرب (يوغسلافيا) والجبل الأسود والبوسنة ودلماشيا واليونان وكريت وجزر الأرخبيل وتركيا. وهذه الأقطار كلها- باستثناء فارس- كانت جزءاً من إمبراطورية الأتراك العثمانيين المترامية الأطراف. فعلى الساحل الدلماشي بلغوا الأدرياتيك وواجهوا الولايات البابوية، وعلى البوسفور تسلطوا على المنفذ البحري الوحيد من البحر الأسود، وكان في مقدورهم أن يقفوا سداً منيعاً بين الروس والبحر المتوسط متى شاءوا.
فإذا عبرنا الأقاليم المجرية إلى بلاد المسلمين لم نلحظ للوهلة الأولى فرقاً يذكر بين المدينتين المسيحية والإسلامية. فهنا أيضاً كان فقراء المسلمين السذج الأتقياء يفلحون الأرض تحت إمرة سادتهم الأغنياء والأذكياء المتشككين. ولكن المشهد الاقتصادي يتغير فيما وراء البوسفور: فلا يكاد المزروع من الأقاليم يبلغ 15%، أما الباقي فصحراء أو جبال لا تتيح غير(41/5)
التعدين أو الرعي، هناك كان الإنسان يتميز به الإقليم هو البدوي الذي أسود لونه وتحمص جلده من الشمس، وتدثر على نحو معقد اتقاء للرمال والقيظ. أما المدن الساحلية والمتفرقة هنا وهناك كانت حافلة بالتجارة والحرف اليدوية، ولكن الحياة بدت أكثر دعة واسترخاء مما كانت في المراكز المسيحية، فالنساء يلزمن بيوتهن أو يسرن في وقار شديد تحت أحمالهن ووراء خمرهن، والرجال يمشون الهوينا في الشوارع. وكان جل الصناعة يدوياً، وورشة الصانع ملحقاً يتصدر بيته، وكان يدخن غليونه ويتجاذب الحديث مع غيره أثناء العمل، وأحيناً يشارك زبوناً قهوته.
ويمكن القول بوجه عام أن التركي العادي كان قانعاً غاية القناعة بمدينته، حتى لقد ظل قروناً لا يطيق أي تغيير ذي بال. وكانت التقاليد هنا كما كانت في التعاليم الكاثوليكية مقدسة قداسة التنزيل. أما الدين فكان أعظم قوة وانتشاراً في الأقطار الإسلامية مما كان في العالم المسيحي، والقرآن هو الشريعة والديانة معاً، وفقهاء الإسلام شراح الشريعة الرسميون. وكان الحج إلى مكة المكرمة يقود كل عام درامته المثيرة فوق رمال الصحراء وعلى الطرق المتربة. أما في الطبقات العليا فإن البدع العقلانية التي طلع بها معتزلة القرن الثامن الميلادي، والتي واصلها الشعراء والفلاسفة المسلمون طوال عصر الإيمان، لقيت قبولاً واسعاً مستوراً. كتبت الليدي ماري ورتلي مانتاجيو من الاستانة في 1719 تقول:
"إن الأفندية (أي الطبقة المتعلمة) .. ليسوا أكثر إيماناً بالوحي الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) منهم بعصمة البابا. ويصرحون بالربوبية بينهم وبين من يثقون بهم ولا يتكلمون على شريعتهم (أي ما يمليه القرآن الكريم) إلا بوصفها مؤسسة سياسية، تصلح الآن لأن يتقيد بها العقلاء من الناس وإن كانت أصلاً من عمل رجال السياسة والمتحمسين من رجال الدين" (1).
وانقسم الإسلام بين مذهبي السنة والشيعة كما انقسمت مسيحية الغرب(41/6)
بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ثم قام مذهب جديد في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، أحد شيوخ نجد- وهو الهضبة الوسطى التي نعرفها اليوم بالعربية السعودية. وكان الوهابيون من الإسلام أشبه بالبيورتان من المسيحية: استنكروا التعبد للأولياء، وهدموا أضرحة المشايخ والشهداء، واستهجنوا لبس الحرير والتدخين، ودافعوا عن حق كل فرد في أن يفسر القرآن لنفسه (2). وقد شاعت الخرافات في جميع المذاهب على السواء، ولقى دجاجلة الدين كما لقيت المعجزات الكاذبة التصديق السريع، وكان جل المسلمين يعدون مملكة السحر عالماً حقيقياً كعالم الرمال والشمس الذي يكتنفهم (3).
أما التعليم فهيمن عليه رجال الدين الذين آمنوا بأن أضمن سبيل لتكوين المواطنين الصالحين أو الأتباع الأوفياء القبيلة هي ترويض الخلق لا تحرير الفكر. وكان رجال الدين قد انتصروا في معركتهم مع العلماء والفلاسفة والمؤرخين الذين ازدهروا أيام الإسلام الوسيط، فانتكس الفلك إلى التنجيم، والكيمياء إلى الخيمياء، والطب إلى السحر، والتاريخ إلى الأساطير. ولكن في كثير من المسلمين حلت المحكمة الصامتة محل التعليم والتفقه في المعرفة. وكما قال داوتي الحكيم البليغ: "إن العرب والترك، الذين كتبهم هي وجوه الرجال ... والذين شروحهم وتفاسيرهم هي الأقوال المأثورة السائرة ومئات الأمثال الحكيمة القديمة السائدة في عالم الشرق، هؤلاء قريبون من إدراك الحقائق الإنسانية. إنهم شيوخ راسخون في الحكمة وهم لا يزالون شباباً، ولا ينسون بعد ذلك إلا القليل مما تعلموا (4) ". وقد أكد ورتلي مونتجيو في خطاب كتبه عام 1717 لأديسون أن "الرجال ذوي الشأن من الأتراك يبدون في أحاديثهم مهذبين لا يقلون تحضراً عن أي رجال التقيت بهم في إيطاليا" (5)، أجل فالحكمة ليس لها وطن.
ولقد كان عالم الإسلام على الدوام غنياً بالشعراء. ذلك أن الصحاري الرهيبة، والسماء المحيطة، والنجوم المنتشرة إلى ما لا نهاية في الليالي الصافية، كل أولئك حرك الخيال كما حرك الإيمان الديني بالإحساس بما في الكون من(41/7)
أسرار ملغزة، وأضفى دم الشباب المضطرم بالرغبة المكبوتة على مفاتن النساء تصوراً مثالياً، تلك المفاتن التي زدنها إغراء في ذكاء وحكمة باحتجابهن وحيائهن. وفي 1774 نشر السير وليم جونس كتابه "شروح على الشعر العربي" الذي كشف للعقول اليقظة في غربي أوربا عن حب المسلمين للشعر وما ينطوي عليه من رقة وعاطفة مشبوبة. أما أعظم فحول الشعراء العثمانيين في القرن الثامن عشر فهو نديم، الذي تغنى بشعره أيام السلطان محمد الثالث (1703 - 30):
إيه أيها الحب الحائر، إن قلبي وروحي ضاعا هباءً
وفرغ مني الصبر وذهب الجلد
ذات مرة كشفت عن صدرها البديع،
فإذا الراحة والسلام يهربان من صدري ...
لها خال في خدها وثني، وضفائر وثنية، وعيون وثنية ...
أقسم أن دنيا جمالها القاسي بأسرها وثنية خالصة.
ولقد وعدتني بقبلات على نحرها، وبقبلات على صدرها،
ولكن ويلي فقد حنثت الوثنية بوعدها السابق.
يا للرشاقة المحببة التي أبرزت بها غدائرها من تحت طربوشها،
كل مخلوق أبصرها تأمل حسنها مشدوهاً لتوه.
يا قاسية القلب، لأجلك يبكي الرجال وينوحون يأساً،
إن قدك الرقيق لزكي من كل شذى وأبهج من كل لون،
فليت شعري هل أرضعتك وردة عطرة من ثديها.
وأنك لتقبلين أيتها الحلوة وفي إحدى يديك وردة وفي الأخرى كأس.
فلا أدري أي الثلاثة آخذ- الوردة أم الكأس أم أنت.(41/8)
لكأن نبعاً متدفقاً تفجر من نهر الحياة.
حين طلعت عليَّ بذلك القد اللدن البديع (6).
وكان على النساء الإفادة ما استطعن من قدودهن اللدنة الرشيقة، فمتى ذبلت محاسنهن جر عليهن الزمن ذيول النسيان في زوايا الحريم. وكان لفظ "الحريم" هذا لا يقصر على أزواج الرجل وسراريه، بل ينسحب على كل إناث بيته. وقد ظل الحجاب مضروباً عليهن في القرن الثامن عشر، وكان يسمح لهن بالخروج من الدار، ولكن (بعد 1754) كان عليهن إذا خرجن أن يخفين كل عضو فيهن إلا عيونهن الساحرة، ولا يدخل جناحهن غير الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو الابن. وحتى بعد الموت كان المفروض أن يتصل هذا الفصل بين الجنسين في الدار الآخرة. فالمؤمنات لهن جنتهن غير جنة الرجال، والمؤمنون يمضون إلى فردوس آخر ترفه فيه عنهم حور من الجنة أبكار متجددات الشباب. وكانت خيانة المرأة لزوجها تعاقب عقاباً صارماً ويندر حدوثها، وكان العربي يحلف بـ "شرف حريمه" كأغلظ الإيمان (7). وروت الليدي ماري أن النساء التركيات اللاتي سمح لها بلقائهن لم تضقن بالحجاب الذي عزلهن عن الرجال. وقد رأت بعضهن يعدلن في جمال الوجه وحسن القد ورفاهة الطبع "أشهر حساننا الإنجليزيات (8). فلما أذن لها بدخول أحد الحمامات العامة الكثيرة، تبين لها أن النساء يمكن أن يكن جميلات حتى لو تجردن من الثياب. وقد افتتنت على الأخص بنساء الطبقة الراقية في حمام بأدرنة. دعوتها لخلع ملابسها والاستحمام معهن، فاعتذرت. "ولما اشتد إلحاحهن عليَّ اضطررت في النهاية إلى أن أفتح قميصي وأريهن مشدي (الكورسيه)، فأقنعهن هذا تماماً إذ رأيت أنهن اعتقدن أني حبيسة بقيود تلك الآلة بحيث لا أقوى على فتحها، وقد عزون هذه الحيلة لتدبير زوجي. وعلقت إحداهن قائلة "انظرن كم يقسو الأزواج الإنجليز على نسائهن المساكين (9) ".
وكان الأتراك فخورين بحماماتهم العامة، يرون أنفسهم على العموم شعباً(41/9)
أنظف من النصارى الكفار. وكان الكثيرون من أفراد الطبقتين العليا والوسطى يختلفون إلى الحمام التركي مرتين في الأسبوع، وأكثر منهم يختلفون مرة في الأسبوع. هناك يجلسون في غرفة ملئت بخاراً حتى يتصببون عرقاً، ثم يأتي عامل فيدعك كل مفصل في أجسامهم ويدلك لحمهم ويكيسه بقطعة من القماش الخشن ثم يغسله. لا عجب إذن إن لم نسمع الكثير عن روماتيزم المفاصل في تركيا. على أن أمراضاً أخرى تفشت بينهم لا سيما الرمد، فالرمال والذباب كانت تنقل العدوى إلى العيون. ولكن الأتراك كما أسلفنا علموا أوربا التطعيم ضد الجدري.
ولم يخامرهم شك في أن مدينتهم تفوق مدنية الأقطار المسيحية. صحيح أنهم سلموا بأن الرق كان أوسع انتشاراً في بلاد المسلمين، ولكنهم لم يروا فرقاً حقيقياً بين الأرقاء في تركيا والأقنان ( Serfs) أو الخدم ( Servants) في العالم المسيحي، وقد اتفقت معهم في الرأي الليدي ماري واصل اللفظ. وكانوا لا يقلون عنا غلواً في حب الأزهار والعناية بها، فكانت لهم مثلنا مباريات مجموعة في تربية زهرة الطوليب؛ كما شهدت الآستانة في عهد السلطان أحمد الثالث (1703 - 30)؛ ويبدو أن الأتراك هم الذين أدخلوا إلى أوربا المسيحية بطريق البندقية وفيينا والأراضي الواطئة أزهار الطوليب والياقوتية ( Hyacinth) الشرقية وحوزان الحدائق ( ranuneulus) كما أدخلوا أشجار القسطل (أبي فروة) - والميموزا (10).
أما الفن في تركيا فكان الآن في اضمحلال شأنه في معظم الأقطار المسيحية. واعتبر الأتراك أنفسهم أرقى في صناعات الفخار والنسيج والأبسطة والزخرفة وحتى في المعمار. فقد ورثوا عن آبائهم كيف يضفون على التصوير التجريدي منطقاً وتواصلاً ودلالة. وفاخروا ببهاء القاشاني الذي صنعوه (كما يرى على نافورة أحمد الثالث في الآستانة)، وبيريق قرميدهم الذي لا ينطفئ، وبصلابة منسوجاتهم ورقتها" وبتألق أبسطتهم ومتانتها. واشتهرت الأناضول والقوقاز في هذه الحقبة بوبرهما اللامع وتصميم السجاد الهندسي الدقيق، لا سيما سجاجيد الصلاة التي توجه أعمدتها وأقواسها المدببة(41/10)
المصلى الراكع صوب المحراب الذي يشير في كل مسجد إلى قبلة مكة المكرمة. كذلك فضل الأتراك جوامعهم ذات القباب والقرميد والمآذن على أبراج الكاتدرائيات القوطية وعقودها وفخامتها الكابية. وشيدوا حتى في هذه الحقبة المضمحلة المساجد العظيمة في نوري- عثمانية (1748) ولا ليلى- يامسي (1765)، وحاكى أحمد الثالث طراز الحمراء في القصر الذي شيده في عام 1729. أما الآستانة فلعلها كانت أروع العواصم الأوربية، كما كانت أوسعها رقعة برغم شوارعها المتشابكة وأحيائها الفقيرة الكثيرة الضجيج، وكان سكانها البالغون مليونين من الأنفس (11) مثلى سكان لندن، وثلاثة أمثال سكان باريس، وثمانية أمثال سكان روما (12). وحين أطلت الليدي ماري على المدينة والميناء من قصر السفير البريطاني، خيل إليها أنهما "ربما يؤلفان معاً أبهى مشهد في العالم" (13).
على عرش هذه الإمبراطورية العثمانية، من الفرات إلى الأطلنطي، تربع سلاطين عصر الاضمحلال. ولقد نظرنا في موقع آخر من هذا الكتاب (14) في أسباب ذلك الاضمحلال: وهي انتقال تجارة غربي أوربا التي تقصد آسيا، إذ أصبحت تدور حول أفريقيا بحراً بدلاً من طريقها البري الذي كان يختر مصر أو غربي آسيا؛ وتخريب قنوات الري أو إهمالها؛ وتوسع الإمبراطورية وامتدادها إلى مسافات مترامية لا تتيح لها الحكم المركزي الفعال وما ترتب على ذلك من استقلال الباشوات ونزوع الولايات إلى الانفصال؛ وتدهورت الحكومة المركزية لتفشي الرشوة والعجز والكسل، وتمرد الانكشارية المرة تلو المرة على النظام الصارم الذي كان له الفضل فيما بلغوا من قسوة وتسلط القدرية والجمود على الحياة والفكر، وتراخي السلاطين الذين استطابوا خدور النساء وآثروها على ساحات الوغى.
وقد استهل أحمد الثالث حكمه بسماحة للإنكشارية بأن يملوا عليه اختياره لكبير وزرائه (الصدر الأعظم). وهذا الوزير هو الذي قبل رشوة بلغت 230. 000 روبل بعد أن قاد 200. 000 تركي ضد 38. 000 جندي من جيش بطرس الأكبر عند نهر بروت، لقاء سماحه للقيصر المحاصر(41/11)
بالفرار (21 يوليو 1711). وحدث أن حضرت البندقية أهل الجبل الأسود على الثورة على تركيا، فأعلنت هذه الحرب عليها (1715) وأتمت فتح كريت واليونان .. فلما أن تدخلت النمسا، أعلنت تركيا الحرب عليها (1716)، ولكن أوجين أمير سافوا هزم الترك في بترفارداين وأكره السلطان بمقتضى معاهدة بساروفتز (1718) على الجلاء من المجر، والنزول عن بلغراد وأجزاء من ولاشيا للنمسا، وتسليم البندقية حصوناً في ألمانيا ودلماشيا. ولم تسفر المحاولات التي بذلتها تركيا لتعويض هذه الخسائر بالغارات تشنها على فارس إلا على المزيد من النكسات والهزائم، وقد قتل الغوغاء- بقيادة عامل حمام- الوزير إبراهيم باشا وأكرهوا أحم على التنازل عن العرش (1730).
وجدد ابن أخيه محمود الأول (1730 - 54) الصراع مع الغرب ليفرض بالحرب تدفق الضرائب وتعاليم الدين، وانتزع جيش تركي أوخاكوف وكلبورون من الروسيا، واسترد جيش آخر بلغراد من النمسا. غير أن اضمحلال تركيا عاود سيرته الأولى في عهد مصطفى الثالث (1757 - 74). ففي 1762 أعلنت بلغاريا استقلالها. وفي 1769 خاضت تركيا الحرب مع الروسيا منعاً لانتشار سلطان الروسيا في بولندا. وهكذا بدأ ذلك الصراع الطويل الذي أنزلت فيه جيوش كاترين الكبرى هزائم ساحقة بالأتراك. فلما مات مصطفى أبرم أخوه عبد الحميد الأول (1774 - 89) معاهدة مذلة تسمى قجوق قينارجي (1774)، قضت على النفوذ التركي في بولندا وجنوبي الروسيا ومالدافيا وولاشيا، وعلى هيمنة الأتراك على البحر الأسود. وجدد عبد الحميد الحرب في 1787، فهزم هزائم منكرة، ومات كمداً. وكان على تركيا أن تنتظر حتى يجيء كمال باشا (أتاتورك) لينهي قرنين من الفوضى ويجعل منها دولة حديثة.
2 - الإسلام في أفريقيا
بعد أن فتح العثمانيون مصر (1517) أنابوا عنهم في حكمها الباشوات والولاة. وسمحوا للمماليك الذين كانوا يحكمون مصر منذ 1250 بالاحتفاظ(41/12)
بسلطتهم بكوات على السنجقيات الاثنتي عشرة التي قسمت إليها البلاد. وبينما كان الباشوات يبددون عافيتهم في البذخ والترف، درب البكوات جنودهم على الولاء لأشخاصهم. وسرعان ما تحدوا سلطة الولاه المكروهين. وكان أكثر هؤلاء الحكام المحليين إقداماً هو على بك [الكبير]، الذي كان في طفولته قد بيع عبداً. ففي 1766 خلع الباشا وفي 1769 أعلن استقلال مصر. وانتشى بخمرة النصر فقاد جنده المماليك ليفتح جزيرة العرب، واستولى على مكة، واتخذ لقب سلطان مصر وخاقان البحرين (الأحمر والمتوسط). وفي 1771 أوفد "أبا الذهب" على رأس ثلاثين ألف مقاتل لفتح الشام، ففتحها، ولكنه تحالف مع الباب العالي، وقاد جيشه عائداً إلى مصر. وفر على بك إلى عكا، وجند جيشاً آخر، والتقى بقوات أبي الدهب والأتراك، وقاتل حتى أثخن بالجراح فعجز عن المضي في القتال، ووقع في الأسر، ثم قضى نحبه بعد أسبوع (1773). وعادت مصر ولاية عثمانية من جديد.
ودون ذبذبات السلطة ونشوات القتل هذه استطاعت مراكب التجارة وقوافلها، واجتهاد الحرفيين، وفيضان النيل السنوي، وعرق الفلاحين في التربة الطمية الخصبة-استطاعت كلها أن تبقى في مصر على اقتصاد لم يجن ثماره غير قلة حبتها الطبيعية أو الظروف بالكفاية أو المنصب. وأنتج جهد الحقول والبحار ومحصولها طعاماً للمدن وخصوصاً الإسكندرية التي كانت من أعظم الثغور، والقاهرة التي كانت من أكثر العواصم سكاناً في عالم القرن الثامن عشر. وكانت الشوارع ضيقة لتحجب الشمس، وقد زينت بالمشربيات والشرفات التي يستطيع الحريم اختلاس النظر منها إلى الحياة من تحتهن. وكانت الشوارع الكبيرة تعج بالحرف التي تحدت تطفل رأس المال أو إنتاج الآلات. وكانت كل صناعة في أقطار الإسلام فناً، وحلت الجودة محل الكم. فصنع الفقراء التحف والطرف للأغنياء ولكنهم لم يبيعوهم قط آباءهم وعزة نفوسهم.
وقام في القاهرة ثلاثمائة مسجد تدعم فقراءها بالرجاء، وتزين(41/13)
المدينة بالقباب الضخمة والأروقة المعمدة الظليلة والمآذن الشامخة. وكان أحدها وهو الجامع الأزهر جامعة الإسلام الأولى، يؤمه على الطلاب ألفان أو ثلاثة من أقصى بقاع الأرض، من ماليزيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ليتعلموا لغة القرآن وعلوم البلاغة والتوحيد والأخلاق والشريعة، وكان خريجو الجامعة يؤلفون جماعة العلماء، ومنهم يختار المعلمون والقضاة. لقد كان نظاماً وضع لسنية صارمة في الدين والأخلاق والسياسة.
وهكذا لم يكد يطرأ على الأخلاق أي تغيير من قرن إلى قرن. وكانت سن بلوغ الأحداث متقدمة عنها في الأقطار الشمالية، فتزوج كثير من البنات في الثانية أو الثالثة عشرة، وبعضهن في العاشرة، وبقاء الفتاة بغير زواج إلى السادسة عشرة كان عاراً. ولم يقدر على تعدد الزوجات الذي أباحته الشريعة الإسلامية إلا أغنياء القوم. أما الزوج الذي تخونه زوجته فلم يكن من حقه الشرعي أن يقتل هذه الزوجة المجرمة فحسب، بل كان يلقى التشجيع من الرأي العام (15). وكان الفكر الإسلامي، كالمسيحي، يعتبر المرأة مصدراً رئيسياً للشر، لا يمكن السيطرة عليه إلا بإخضاعها إخضاعاً صارماً. وكان الأطفال ينشأون على نظام الحريم، فيتعلمون أن يحبوا أمهم وأن يخشوا أباهم ويجلوه، وكانوا كلهم تقريباً يتعلمون ضبط النفس وحين الأدب (16). وساد حسن السلوك جميع الطبقات، مع شيء من يسر الحركة ورشاقتها، لعله أخذ عن النساء اللائي ربما اكتسبنه من حمل الأثقال على رءوسهن. وكان المناخ مانعاً من العجلة مشجعاً على الكسل.
ولم يمنع تعدد الزوجات البغاء، ففي استطاعة البغايا توفير الإثارة التي أخمدها طول الألفة. وتخصصت غواني مصر في الرقصات الفاجرة، وبعض الآثار القديمة تكشف عن قدم هذا الإغراء. وكانت كل مدينة كبرى تخصص للبغايا حياً يمارسن فيه حرفتهن دون خوف من عقاب القانون. وكانت النساء اللائي يحذقن الراقصات الفاجرة، شأنهن في جميع الحضارات،(41/14)
يستأجرن لهز أجسادهن أمام محافل الذكور، وفي بعض الحالات كانت النسوة أيضاً يستمتعن بمشاهدة هذا الرقص (17).
أما الموسيقى فكانت تخدم الحب والحرب، فهي تستفز المهاجمين وتهدي المهزومين. وكان الموسيقيون المحترفون من الجنسين يؤتى بهم للترفيه. كتب إدوارد لين في 1833 يقول "سمعت في القاهرة أعظم الموسيقيين شهرة وأطربتني أغانيهم أكثر من أي موسيقى أخرى استمتعت بها في حياتي (18). وكانت الآلة المفضلة هي "الكمنجة"، وهي ضرب من الفيولا النحيلة، ولها وتران من شعر الخيل على صندوق مصمت مصنوع من جوزة هند شقت بين وسطها ورأسها وغطيت بقشر سمك مشدود (1). وكان العازف يتربع ويسند طرف الآلة المدبب على الأرض، ويضرب أوتارها بقوس من شعر الحصان وخشب الدردار. أو قد يقعد العازف وفي حجره قانون كبير وينقر الأوتار بريشة من القرن ملصقة بسبابتيه. وتحول العود القديم الآن إلى شكل الجيتار. فإذا أضفت تاياً، وماندولينا، وطمبورينا، اكتمل لك أوركسترا يروق الذوق المتحضر، خيراً من تلك الموسيقى البدائية التي تهيج اليوم المحافل الغربية.
أما "دول البربر" أي البلاد التي زعموا أنها "بربرية" أو همجية-وهي طرابلس وتونس والجزائر ومراكش-فقد دخلت التاريخ في القرن الثامن عشر أولاً بفضل بطولات قراصنتها أو اغتيال "باياتها" أو "داياتها" وقد احتفظت هذه الحكومات باستقلالها الفعلي بإرسالها "الهدايا" بين الحين والحين إلى السلاطين بالآستانة. وكان قوت الشعب يأتي أكثره من الزراعة أو القرصنة، وكانت الفدية التي تؤدى على الأسرى النصارى جزءاً هاماً من الدخل القومي: غير أن قباطنة القراصنة كان أكثرهم نصارى (19). أما الفنون فظلت محتفظة بوجود قلق، ولكن البنائين المغاربة احتفظوا بقدر من المهارة أتاح لهم أن يزركشوا بالقرميد الأزرق والأخضر المتألق "باب منصور" الفخم الذي أضيف في 1732 بوابة بقصر مولاي إسماعيل وجامعه الضخم
_________
(1) الوصف ينطبق على الربابة لا على الكمنجة (المترجم).(41/15)
الذي ابتناه في القرن السابع عشر في مكناس، وكانت آنئذ مقر سلاطين مراكش. أما مولاي إسماعيل هذا فقد أقر النظام في حكمه الذي امتد خمسة وخمسين عاماً (1672 - 1727) وأنجب مئات الأبناء، ورأى في منجزاته ما يبرر طلب يد ابنة للويس الرابع عشر يضمها إلى حريمه (20). ويصعب علينا أن نسيغ أساليب حياة شديدة التباين ن أساليب حياتنا، ولكن قد يعيننا على ذلك أن نتذكر ملاحظة قالها رحالة مغربي عند عودته من زيارة إلى أوربا "يا لها من متعة أن يعود المرء إلى الحضارة" (21).
3 - الإسلام في فارس
1722 - 1789
ولو سئل رجل فارسي في هذه الحقبة لأعرب عن شعوره بالراحة شبيه بهذا عند عودته إلى وطنه بعد مقامه حقبة في الأقطار المسيحية أو حتى في أقطار العثمانيين المسلمين. فالفارسي المتعلم حتى سقوط الدولة الصفوية (1736) في أغلب الظن كان يضع المدنية الإيرانية في مرتبة أعلى من أي حضارة معاصرة، ربما باستثناء الصينية. وكان يستنكر النصرانية باعتبارها انتكاساً غلى الشرك الشائع بين العوام. ولعله كان يسلم بتفوق بلاد النصارى في العلوم والتجارة والحرب، ولكنه كان يؤثر الفنون على العلوم، والحرف اليديوة على الصناعة المميكنة.
كان القرن الثامن عشر قرناً أليماً على فارس. فأنى لإيران وقد غزاها الأفغانيون من الجنوب الشرقي، ولاحقتها غارات قناصة العبيد من الأزبك في الشمال الشرقي، وهاجمتها غارات السلب والنهب الروسية في الشمال، واجتاحتها المرة بعد المرة الجيوش التركية في الغرب، وأفقرها طغيان نادر شاه ملكها المحب للأبهة وتعسفه في جميع الضرائب، ومزق أوصالها الصراع الوحشي بين الأسر المتناحرة طمعاً في العرش الفارسي-نقول أني وكيف تستطيع إيران وقد ابتليت بهذا الاضطراب كله أو تواصل التقاليد العظمى للأدب والفن الفارسيين.
وكان البلد الذي نسميه الآن أفغانستان في القرن السادس عشر تتقاسمه(41/16)
ثلاث حكومات: كابول الخاضعة للحكم الهندي، وبلخ الخاضعة للأزبك، وهراة وقندهار الخاضعتان للفرس. وفي 1706 - 8 ثار أفغانيو قندهار بقيادة مير (أمير) فايز وطردوا الفرس. وغزا ابنه مير محمود فارس، وخلع الحاكم الصفوي حسيناً، ونصب نفسه شاهاً. وقد دعم الدين سلاحه، لأن الأفغانيين كانوا يتبعون المذهب السني، ويكفرون الفرس المتشيعين. وقتل محمود في سورة غضب ثلاثة آلاف من حرس حسين وثلاثمائة من أشراف الفرس، ونحو مائتي طفل اشتبه في أنهم استنكروا قتل آبائهم. وبعد راحة طويلة قتل محمود في يوم واحد (7 فبراير 1725) جميع الأحياء من أفراد الأسرة المالكة خلاً حسيناً واثنين من أبنائه الصغار. ثم التاث عقل محمود، فقتله وهو لا يزال في السابعة والعشرين ابن عمه أشرف (22 أبريل 1725) الذي نادى بنفسه شاهاً. وهكذا بدأ سفك الدماء الذي هد كيان فارس في ذلك القرن.
واستنجد طهماسب بن حسين بروسيا وتركيا، فاستجابت بالاتفاق على اقتسام فارس فيما بينهما (1725). ودخل جيش تركي فارس واستول على همدان وقزوين والمراغة، ولكن هزمه أشرف قرب كرمانشاه. وكان الجنود الأتراك يفتقرون إلى الحماسة، فقد تساءلوا أي سبب يدعوهم لمقاتلة الأفغانيين، وهم أخوة لهم سنيون على شاكلتهم، ليردوا الصفويين الشيعيين الزنادقة إلى الحكم. وتصالح الأتراك مع أشرف ولكنهم احتفظوا بالأقاليم التي فتحوها (1727).
وبدا أن أشرف قد غدا الآن في أمان، ولكن ما مضي عليه عام حتى تحدى سلطانه المغصوب الدخيل ظهور رجل فارسي مغمور انقض على العدو في بضع سنين، فحقق انتصارات من أروع وأفظع ما سجله تاريخ الحروب قاطبة. وقد ولد هذا المقاتل واسمه نادر قيلي (أي عبد الله) في خيمة بشمال شرقي إيران (1686) وكان يعين أباه على رعي ما يملكان من قطعان الغنم والماعز، ولم يتح له من التعليم غير ما لقنته الحياة الشاقة المحفوفة(41/17)
بالمخاطر. فلما بلغ الثامنة عشرة وخلف أباه كبيراً لأسرته اختطفه هو وأمه المغيرون الأزبك وحملوهما إلى خيوة حيث باعوهما عبيداً. وماتت الأم في ذل السر، ولكن نادراً هرب وأصبح زعيماً لعصابة لصوص، واستولى على كالات ونيشابور ومشهد، وأعلن ولاءه وولاء هذه المدن للشاه طهماسب، وتعهد بطرد الأفغانيين من فارس ورد عرش فارس إلى طهماسب. وقد أنجز هذا كله في حملات متلاحقة (1729 - 30) ورد طهماسب إلى عرشه، فعين نادراً سلطاناً على خراسان وسيستان وكرمان ومازندران.
وما لبث القائد المظفر أن شرع في استرداد الأقاليم التي استولت عليها تركيا. فاستطاع بهزيمة الترك هزيمة فاصلة في همدان (1731) أن يخضع العراق وأزربيجان لحكم الفرس. ثم نمى إليه نبأ تمرد في خراسان، فرفع الحصار عن أروان وزحف ألفاً وأربعمائة ميل عبر العراق وإيران ليحاصر هراة، وهو زحف يتضاءل بالقياس إليه الزاحف الشهير الذي عبر فيه فردريك الأكبر ألمانيا مراراً في حرب السنين السبع. ونزل طهماسب بشخصه أثناء ذلك إلى ساحة القتال ضد الترك فخسر كل ما كسبه نادر، ونزل عن جورجيا وأرمينيا لتركيا نظير تعهد الترك بمساعدته ضد روسيا (1732). فأسرع نادر قافلاً من الشرق وأنهى المعاهدة، وخلع طهماسب وسجنه، وأجلس على العرش غلاماً لطهماسب لم يجاوز عمره ستة أشهر باسم الشاه عباس الثالث، ونادى بنفسه وصياً على الصبي، وأرسل إلى تركيا إعلاناً بالحرب.
ثم زحف على الترك بجيش عدته ثمانون ألف مقاتل جندهم بالإقناع أو بالإرهاب. وعلى مقربة من سامراء التقى بجيش عرمرم من الترك يقودهم توبال عثمان من محفته لبتر ساقيه. وأطلقت النار مرتين على جوادي نادر أسفله، وفر حامل علمه ظناً منه أنه قتل، وانقلبت عليه فرقة عربية كان يعتمد على معونتها، وهكذا كانت هزيمة الفرس هزيمة نكراء ماحقة (18 يوليو 1733). ولكنه لملم فلول جيشه في همدان، وجند آلافاً(41/18)
جدداً، وسلحهم وأطعمهم، ثم كر على الترك وبطش بهم في ليلان في مذبحة رهيبة لقي فيها توبال عثمان حتفه. ثم اندلعت ثورة أخرى في جنوب غربي فارس، فشق نادر طريقه من الغرب إلى الشرق، وهزم الزعيم المتمرد فانتحر. وفي عودته عبر فارس والعراق، التقى بثمانين ألف تركي في بغاوند (1735)، وهزمهم هزيمة نكراء أكرهت تركيا على إبرام صلح نزلت بمقتضاه لفارس عن تفليس وجوندة وأروان.
لم ينس نادر أن بطرس الأكبر هاجم فارس في 1722 - 23، واستولى على أقاليم جيلان وأستراباد ومازندران على بحر قزوين، وعلى مدينتي دربند وباكو. وكانت روسيا قد ردت الأقاليم الثلاثة لفارس (1732) لانشغالها في جهات أخرى. فهدد نادر الآن (1735) بالتحالفمع تركيا ضد روسيا إن لم تنسحب من دربند وباكو. وعليه سلمت إليه المدينتان، ودخل نادر أصفهان دخول الفاتح الظافر الذي أعاد بناء قوة فارس. فلما مات الصبي عباس الثالث (1736) مختتماً بموت ملك الصفويين، جمع نادر بين الواقع والمظهر، وارتقى العرش باسم نادر شاه.
وكان يؤمن بأن الخلافات الدينية بين تركيا وفارس تعمل على نشوب الحروب المتكررة، لذلك أعلن أن فارس ستتخلى منذ الآن عن بدعة التشيع وترتضي السنية مذهباً لها. فلما أدان زعيم الشيعة هذه الخطوة شنقه نادر بكل هدوء مستطاع. ثم صادر أوقاف قزوين الدينية ليفي بنفقات جيشه لأن فارس على حد قوله مدينة لجيشها أكثر مما هي مدينة لدينها (22). ثم إذ شعر بالحنين إلى الحرب، فأشرك معه في الملك ابنه رضا قلي، ثم قاد جيشاً من 100. 000 مقاتل ليفتح به أفغانستان والهند.
وضرب الحصار عاملاً كاملاً حول قندهار. فلما استسلمت له (1738) كان كريماً رحيماً مع المدافعين عنها، حتى أن جيشاً من الأفغانيين انضوى تحت لوائه وظل وفياً له إلى يوم مماته. ثم زحف على كابول مفتاح ممر(41/19)
خيبر، وهناك أعانته الغنائم التي ظفر بها على رفع الروح المعنوية في جيشه. وكان محمد شاه، إمبراطور الهند المغولي، يأبى أن يصدق إمكان الغزو الفرس للهند، وكان أحد ولاته قد قتل مبعوث نادر إليه، فعبر نادر جبال الهملايا، واستولى على بشاور، وعبر السند، وزحف على دلهي حتى لم يعد بينه وبينها سوى ستين ميلاً قبل أن يهب جيشه محمد لمقاومته والتقى الجيشان الهائلان على بطاح كرنال (1739)، واعتمد الهنود على فيلتهم، أما الفرس فقد هاجموا هذه الحيوانات الصبورة بكرات النار، فانقلبت الفيلة هاربة وأشاعت الفوضى في جيش الهنود، وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عدد زاد على القتلى، ويروي نادر أن محمد شاه جاءه يلتمس الرأفة "أمام حضرتنا السماوية". (23) وفرض عليه القائد المنتصر تسليم دلهي وكل ثروتها القابلة للنقل تقريباً، والتي تقدر بـ 87. 500. 000 جنيه، بما فيها عرش الطاووس الأشهر، الذي كان قد صنع (1628 - 35) لشاه جيهان في أوج سطوة المغول. وقتل بعض جنود نادر في شغب أحدثه الأهالي، فانتقم بالسماح بجيشه بذبح 100. 000 من الوطنيين في سبع ساعات. واعتذر عن هذه الفعلة بتزويج ابنه نصر الله من ابنة محمد. ثم زحف قافلاً إلى فارس لا يعوقه عائق بعد أن أثبت أنه أعظم الفاتحين قاطبة منذ تيمور لنك.
وكان قدره المقدور أنه لو سرح جيشه فربما يعيث فساداً في الأرض ويشق عليه عصا الطاعة، ولو أبقى عليه جيشاً عاملاً فلزام عليه أن يكسوه ويطعمه، وكانت النتيجة التي خلص إليها أن الحرب أرخص له من السلم إذ استطاع خوضها على ساحة غريبة. فمن ترى يكون هدفه الآن؟ وتذكر غارات الأزبك على شمال شرقي فارس، وكيف باعوه عبداً، وكيف ماتت أمه في رقها. وإذن ففي 1740 قاد جيشه زاحفاً على أزبكستان، ولم يكن لأمير بخاري لا القوة ولا الميل للوقوف في وجه نادر، ومن ثم فقد أذعن، وأدى تعويضاً ضخماً، ووافق أن يكون نهر سيحون كما كان في القدم الحد بين أزبكستان وفارس. وكان أخاه خيوه قد أعدم مبعوث نادر،(41/20)
فقتل نادر هذا الخان، وأطلق سراح آلاف من العبيد الفرس والروس (1740).
كان نادر بكل شخصيته مقاتلاً استغرقت الحرب عقله كله، فلم يعد فيه ذرة من الرغببة في الحكم والإدارة. وبات السلام عنده عبئاً ثقيلاً لا يطيقه. وجعلته الغنائم والأسلاب إنساناً جشعاً بخيلاً بدلاً من أن يكون جواداً كريماً. فحين ملأت خزائنه كنوز الهند أعلن تأجيل دفع الضرائب في فارس ثلاث سنين، ثم عدل عن رأيه وأمر بجمع الأموال كما كانت تجمع من قبل، وأفقر جباته فارس كما لو كانت بلداً مغلوباً. ثم خامرته الظنون بأن ابنه يتآمر على خلعه، فأمر بأن تفقأ عيناه. وقال له ابنه رضا قلي "إنك تفقأ عيني بل عيني فارس" (24). وبدأ الفرس يمقتون منقذهم كما تعلم الروس من قبلهم أن يمقتوا بطرس الأكبر. وأثار الزعماء الدينيون عليه بغض أمة طعنت في إيمانها الديني. فحاول أن يخمد التمرد المتعاظم بإعدام المتمردين بالجملة، حتى لقد بنى أهراماً من جماجم ضحاياه. وفي 20 يونيو 1747 اقتحم خيمته أربعة رجال من حرسه وهجموا عليه، فقتل اثنين منهم، ولكن الآخرين صرعاه. وتنفست فارس كلها الصعداء.
وهوت من بعد البلاد إلى درك من الفوضى أسوأ مما تردت فيه أيام سيطرة الأفغانيين. فطالب نفر من خانات الأقاليم بالعرش، وتلا ذلك مباراة في التقتيل والاغتيال. وقنع أحمد خان بتأسيس مملكة أفغانستان الحديثة. أما شاه رخ-الرجل الوسيم اللطيف الرحيم-فقد سملت عيناه بعد اعتلائه العرش بقليل، فتقهقر ليحكم خراسان حتى 1796. وخرج كريم خان منتصراً من الصراع، وأسس الأسرة الزندية (1750) التي احتفظت بسلطانها حتى 1794. واختار كريم شيراز عاصمة لملكه، وزينها بالمباني الجميلة، وساد جنوبي فارس تسعة وعشرين عاماً من نظام وسلام لا بأس بهما. فلما مات جعل التطاحن على السلطة يتخذ من جديد صورة الحرب الأهلية، وعادت الفوضى تضرب أطنابها من جديد.
اختتمت فارس آخر مراحلها الفنية العظمى بسقوط الدولة الصفوية على(41/21)
يد الأفغانيين، فلم تجملها بعد ذلك غير بعض الآثار الفنية الصغيرة. وقد وصف اللورد كرزن مدرسة الشاه حسين (1714) بأصفهان-وكانت كلية لتدريب الدارسين والمحامين-بأنها "من أفخم الأطلال في فارس" (25). وتعجب السيربرسي سايكس من "قرميدها البديع ... ورسومها المخرقة الجميلة" (26). وكان صناع القرميد لا يزالون أمهر صناعه في العالم بأسره، بيد أن افتقار الطبقات العليا نتيجة للحروب الطويلة قضى على سوق المهارة والتفوق وأكره الخزافين على الهبوط بفنهم إلى مستوى الصناعة. وصنعت أغلفة الكتب الفاخرة من الورق المعجن المصقول. وأنتج النساجون أقمشة مقصبة ومطرزة غاية في الرهافة. وظلت السجاجيد الفارسية تنسج للمحظوظين من شعوب كثيرة رغم أنها شهدت آخر أمجادها في عهد الشاه عباس الأول. وفي يوشاجان، وهراة، وكرمان، وشيراز على الأخص، كان النساجون ينتجون سجاجيد "لا يقلل من روعتها في عين الناظر إلا مقارنتها بأسلافها الكلاسيكية" (27).
أما الشعر الفارسي فقد حطم الفتح الأفغاني قلبه، وتركه أخرس أو كالأخرس طوال حقبة العبودية التالية لهذا الفتح. وحوالي 1750 صنف لطف على بك أدار-قاموساً بسير الشعراء الفرس، اختتم بستين من معاصريه. ومع هذه الوفرة الظاهرة فإنه آسف على ما رآه مجاعة في الكتاب المجيدين في عصره، وعزا ذلك إلى الفوضى والفقر السائدين، "واللذين استشريا بحيث لم يعد لإنسان رغبة في قراءة الشعر فضلاً عن قرضه" (28). ونسوق هنا تجربة نموذجية للشيخ على خازن، الذي نظم أربعة دواوين من الشعر، ولكنه أمسك في حصار الأفغانيين لأصفهان، ومات كل أهل بيته في الحصار، وظل هو على قيد الحياة، ثم أفاق من محنته، وهرب من أنقاض المدينة التي كانت رائعة الجمال يوماً ما، وأنفق الأعوام الثلاثة والثلاثين الباقية من أجله في الهند. وقد خلد في "مذكراته" (1742) ذكرى مائة شاعر فارسي في جيله، وأعظمهم في رأيه سيد أحمد هاتف الأصفهاني، ولعل أكثر قصائده ظفراً بالثناء تلك التي أكد فيها بوجد المتصوفة إيمانه بالله رغم الشك والدمار:(41/22)
"في الكنيسة قلت لفاتنة نصرانية،
يا من يقع القلب في فخك أسيراً،
أنت التي يتعلق كل طرف شعرة من شعري بسدي منطقتك!
إلى متى تضلين الطريق إلى وحدانية الله؟
إلى متى تفرضين على الإله الواحد عار التثليث؟
كيف يتأتى أن تدعي الإله الحق الواحد أباً وابنا وروح القدس؟
فافتر ثغرها الجميل وقالت لي والضحك الحلو يتدفق منها:
إن كنت تعرف سر الإله الواحد فلا ترمني بسبة الكفر!
في ثلاث مرايا يشرق الجمال الأبدي بشعاع من وجهه الساطع.
وبينما نحن في حديثنا هذا انبعثت هذه الأنشودة بجوارنا من جرس الكنيسة:
"إنه إله واحد ولا إله سواه؟
"لا إله إلا الله وحده ...
في قلب كل ذرة تشقينها ترين شمساً في الوسط.
إن أنت بذلت لله كل ما تملكين، فلا حسب كافراً
إن أصابك مثقال ذرة من الخسران ...
سوف تعبرين الصراط الضيق وتبصرين الملكوت الرحب،
ملكوت الإله الذي لا يحده مكان .. ..
وسوف تسمعين ما لم تسمعه أذن، وترين ما لم تره عين،
حتى يأتوا بك إلى مكان لا تبصرين فيه من الدنيا وأهلها غير واحد أحد
إلى هذا الواحد ستبذلين الحب من قلبك وروحك،
حتى ترى بعين اليقين في جلاء لا خفاء فيه.
إنه إله واحد ولا إله سواه،
لا إله إلا الله وحده" (29).(41/23)
الفصل السابع عشر
فاصل روسي
1725 - 1762
1 - العمل والحكم
كتب فريدريك الأكبر حوالي عام 1776 يقول: "من بين جيران بروسيا أجمعين تستحق روسيا أعظم الاهتمام لأنها أخطرهم، فهي قوية وقريبة. وسيضطر حكام بروسيا القادمون كما اضطررت أنا للسعي إلى صداقة هؤلاء الهمج" (1).
وعلينا دائماً ونحن نفكر في روسيا أن نتذكر حجمها. كانت في عهد كاترين الثانية تضم أستونيا وليفونيا وفنلنده (بعضها)، وروسيا الأوربية، وشمالي القوقاز، وسيبريا. وقد اتسعت رقعتها من 687. 000 إلى 913. 000 كيلو متر مربع في القرن الثامن عشر، وزاد سكانها من ثلاثة عشر مليوناً في 1722 إلى ستة وثلاثين مليوناً في 1790 (2). وفي 1747 قدر فولتير سكان فرنسا أو ألمانيا بأنهم يزيدون قليلاً من سكان روسيا، ولكنه لاحظ أن روسيا تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة أي من الدولتين. وسيقوم الزمن والأصلاب الروسية بملء تلك المساحات الشاسعة.
وفي عام 1722 كان 97. 7% من سكان روسيا ريفيين، وظلت نسبتهم 96. 4% في 1790، فقد كان التصنيع يسير ببطء شديد. وفي 1762 كان كل الشعب إلا عشرة في المائة منه فلاحين، وكان 52. 4% من هؤلاء أقناناً (3)، ونصف الأرض يمتلكه نحو 100. 000 من النبلاء، ومعظم ما بقي منها تملكه الدولة أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وبعضها(41/25)
يملكه فلاحون شبه أحرار ما زالوا يلتزمون بأداء الخدمات وبالطاعة للسادة المحليين. وكانت ثورة الممالك تحسب بعدد أقنانه، من ذلك أن الكونت بيتر بلغت ثروته 140. 000 قن (4). وكان الأقنان الذين تمتلكهم الكنيسة وعددهم 992. 000 أهم جزء في ثروتها، وكان 2. 800. 000 قن يفلحون أراضي التاج في 1762 (5).
وكان الشريف يتكفل بالقيادة العسكرية والتنظيم الاقتصادي، وهو عادة معفى من الخدمة العسكرية ولكنه كثيراً ما تطوع بها أملاً في الحظوة عند الحكومة. وكان له حقوق محاكمة أقنانه، وله أن يعاقبهم، أو يبيعهم أو ينفيهم إلى سيبيريا. على أنه كان عادة يسمح لفلاحيه بإدارة شئونهم بواسطة مجلس قريتهم أو "المير" وكان القانون يلزمه بإمداد أقنانه بالبزار وبإعالتهم في فترات القحط. وقد ينال القن حريته بشرائها من مالكه أو بالانخراط في سلك الجيش، ولكن هذا مشروط في برضى الملك. وكان للفلاحين الأحرار حق شراء الأقنان وامتلاكهم، وكان بعض هؤلاء الأحرار ويلقبون "كولاكي" (أي القبضات)، يهيمنون على الشئون القروية، ويقرضون المال بالربا، ويبزون السادة الإقطاعيين استغلالاً وصرامة (6). وكان السيد والقن كلاهما متين السلالة، صلب العود، قوي الذراع واليد، عكفاً مع على تذليل التربة، واضطلعا معاً بعبء ترويض فصول السنة. وكانت المشاق أحياناً فوق ما يطيق البشر، بحيث نسمع مراراً بأقنان يهجرون مزارعهم في أعداد كبيرة ويختفون في بولندة أو الأورال أو القوقاز، وكان الألوف منهم يلقون حتفهم في الطريق، والألوف يتصيدهم الجند ويقبضون عليهم. وبين الحين والحين يهب الفلاحون في ثورة مسلحة على سادتهم وعلى الحكومة، وتنشب بينهم وبين الجيش معارك يستميتون فيها في الدفاع عن أنفسهم، ولكن الهزيمة تلاحقهم دائماً، فيزحف الأحياء منهم قافلين إلى واجباتهم-إلى إخصاب النساء بذريتهم، والتربة بدمائهم.
وقد درب بعض الأقنان على الفنون والحرف، فكانوا يمدون سادتهم بكل احتياجاتهم تقريباً. ويروي الكونت سيجور في معرضه حديثه عن(41/26)
حفل أقيم لكاترين الثانية أن الشاعر الذي نظم الأوبرا والمؤلف الذي ألف موسيقاها، والمعماري الذي بنى قاعة الاستماع، والنقاش الذي زخرفها، وممثلي المسرحية وممثلاتها، والراقصين والراقصات في الباليه، والموسيقيين في الأوركسترا-كل أولئك كانوا أقناناً للكونت خريمتييف (7). وكان الفلاحون يصنعون في الشتاء الطويل الملابس والأدوات التي سيحتاجون إليها في السنة المقبلة. وكانت الصناعة في المدن بطيئة التطور، من جهة لأن كل بيت كان ورشة، ومن جهة أخرى لأن صعوبات النقل كانت عادة تضيق السوق فلا تجاوز الجهات المجاورة للمنتج. وشجعت الحكومة المشروعات الصناعية بتقديمها الاحتكارات للمحظوظين، وأحياناً بتزويدهم برأس المال، وقد وافقت على أن يشارك الأشراف في الصناعة والتجارة. وظهرت رأسمالية مبتدئة في صناعات التعدين والميتالورجيا والعتاد الحربي، وفي إنتاج المصانع للمنسوجات والخشب المنشور والسكر والزجاج. وسمح للـ "مقاولين" بشراء الأقنان لتزويد مصانعهم بالعمال، على أن هؤلاء "الفلاحين المملوكين" لم يكونوا مربوطين بالمالك بل بالمشروع، وألزمهم مرسوم حكومي صدر في 1736، هم ذريتهم، بالبقاء في مصانعهم حتى يؤذن لهم رسمياً بتركها. وكانوا في حالات كثيرة يعيشون في معسكرات منفصلين عن أسرهم في الغالب الأعم (8).
أما ساعات العمل فتتفاوت بين إحدى عشرة وخمس عشرة في اليوم للرجال، تتخللها ساعة الغداء، وأما الأجور فتتراوح بين أربعة روبلات وثمانية في اليوم للرجال، وبين روبلين وثلاثة للنساء. ولكن بعض أرباب العمل تكلفوا بإطعام عمالهم وإسكانهم ودفع الضرائب عنهم. وبعد عام 1734 ازداد تشغيل العمال "الأحرار"-أي غير الأقنان-في المصانع لأنه أتاح مزيداً من الحوافز للعمال وحقق مزيداً من الربح لحق العمل. وكان العمل من الرخص بحيث لا يشجع اختراع الآلات أو استخدامها، ولكن في عام 1748 استخدم بولزونوف آلة بخارية في مصانع الحديد التي ممتلكها بالأورال. (9)(41/27)
وبدأت طبقة وسطى صغيرة عديمة الحول سياسياً تتشكل ببطء بين طبقتي النبلاء والفلاحين. ففي عام 1725 كان نحو ثلاثة في المائة من السكان تجاراً: أصحاب متاجر في القرى والمدن والأسواق، ومستوردين للشاي والحرير من الصين والسكر والبن والتوابل والعقاقير من وراء البحار، وللمنسوجات الفاخرة والخزف والورق من غربي أوربا، ومصدرين للخشب والتربنتينة والقار وشحم الحيوان والكتان والقنب. وكانت القوافل تسافر إلى الصين بطريق سيبيريا أو بحر قزوين، والسفن تقلع من ريجا وريفل ونارفا وسانت بطرسبرج. ولعل الأنهار والقنوات كانت تنقل من التجارة أكثر مما تنقله الطرق البرية أو البحرية.
وكانت موسكو تقع في قلب تلك التجارة الداخلية، وكانت من الناحية المادية أكبر مدن أوربا، إذ أنها بها شوارع طويلة عريضة، و484 كنيسة ومائة قصر، وآلاف الأكواخ والزرائب، ويكن بلغوا 277. 535 في 1780 (10)، والفرنسيون والألمان واليونان والإيطاليون والإنجليز والهولنديون والآسيويون يتحدثون لغاتهم ويعبدون آلهتهم كما يشاءون. وكانت سانت بطرسبرج قلعة الحكومة. ومعقلاً لأرستقراطية متفرنسة، ومركزاً للأدب والفن، أما موسكو فكانت قطب الديانة والتجارة، وتتسم بحياة نصف شرقية لم تخلع عنها طابعها الوسيط، وبوطنية وسلافية مشربة بالغيرة والإخلاص. هاتان كانتا البؤرتين المتنافستين اللتين تدور حولهما المدينة الروسية. حيناً تمزق الشعب شطرين كالخلية المنقسمة، وحيناً تحيله مركباً متوتراً سيصبح قبل ختام القرن مبعث الرعب لأوربا والحكم الفيصل في مصيرها.
وكان محالاً على شعب أضناه ووحشه صراعه مع الطبيعة، وأعوزته أسباب الاتصال أو الأمن على الحياة، وأفتقر أشد الافتقار إلى فرص التعليم وإلى الوقت الذي يفكر فيه-نقول إن شعباً كهذا كان محالاً عليه أن يحظى بامتيازات الديمقراطية في صورة من صورها، ومن ضرب عن النظام(41/28)
الملكي في الحكم المركزي. وكان من الأمور التي لا بد من توقعها أن تتعرض الملكية للانقلابات المتكررة، تقوم بها أحزاب النبلاء المهيمنين على إمدادهم العسكرية للحكومة، وأن تسعى الملكية إلى الحكم المطلق، وأن تعتمد على الدين معواناً لجنودها وشرطتها وقضاتها على صيانة الاستقرار الاجتماعي والسلام الداخلي.
وكان الفساد عقبة كؤوداً سدت كل مسالك الإدارة. وحتى النبلاء الأثرياء الملتفون حول العرش كان من السهل اجتذابهم بـ "الهدايا". يقول كاستيرا الذي كان معاصراً تقريباً لهذه الحقبة "إن كان هناك عاصم الروس من التملق، فإنه ما من أحد منهم يستطيع مقاومة إغراء الذهب (11) ". وكان النبلاء يهيمنون على حرس القصر، ذلك الحرس المعز المذل، الذي يقيم الملوك ويخلعهم، ويؤلفون طبقة مميزة من الضباط في الجيش، ويملأون مجلس الشيوخ الذي كان يشرع القوانين في عهد اليزابيث، ويرأسون الوزارات (الكوليجيا) التي تهيمن على العلاقات الخارجية، والمحاكم، والصناعة، والتجارة، والمالية، ويعينون الكتبة الذين يواصلون السير على النظام البيروقراطي، ويوجهون اختيار الحاكم للمحافظين، الذين يديرون الـ "جوبرنيات" أي المحافظات التي انقسمت إليها الإمبراطورية ويختارون (بعد 1761) "الفويفوديين" الذين يحكمون الأقاليم. وكان مكتب الرقيب المالي المؤلف أكثره من رجال الطبقة الوسطى يبسط ظلله على جميع فروع الحكومة، وهو مكتب مخابرات اتحادي، مخول له أن يكشف ويعاقب الاختلاس، ولكنه ألقى نفسه محبطاً رغم استخدامه المخبرين على نطاق واسع. فلو أن الملك رفت كل موظف مذنب بالرشوة والفساد لتوقف دولاب الدولة. وكان في جباة الضرائب من الفهم للمال مالاً يبقى لخزانة الدولة مما يجمعون أكثر من ثلثه. (12)
2 - الدين والثقافة
كان للدين سلطان كبير في روسيا. لأن الفقر كان مدقعاً، ولأن تجار الأمل وجدوا مشترين كثيرين. واقتصرت الشكوكية على طبقة عليا(41/29)
تقرأ الفرنسية، وكان للماسونية أتباع كثيرون في هذه الطبقة (13). أما سكان الريف وأكثر سكان المدن فكانوا يحيون في عالم فوق طبيعي قوامه التدين الذي يشيع فيه الخوف، يتخيلون الشياطين محيطة بهم، ويرسمون الصليب مراراً وتكراراً في اليوم، ويتضرعون للقديسين بالتشفع لهم، ويتعبدون لرفاتهم، يرهبون المعجزات، ويرتعدون فرقاً من النذر، ويخرون سجداً أمام الصور المقدسة، ويولولون بترانيم كئيبة تنطلق من صدور جهيرة. وكان للكنائس أجراس ضخمة قوية، وقد أقم بوريس جودونوف جرساً منها بلغ وزنه 882. 000 رطل، ولكن الإمبراطورة أنا إيفانو فينا بزته في هذا الميدان، إذ صب لها جرس يزن 432. 000 رطل (14). وعمرت الكنائس بالمصلين، وكانت الطقوس هنا أكثر مهابة ووقاراً والصلوات أكثر حماسة ووجدا منها في روما البابوية نصف الوثنية. أما القساوسة الروس-وكل منهم يلقب بالبابا-فكانت لهم لحي وشعر مرسل وأردية قاتمة تصل إلى أقدامهم (لأن مظهر السيقان يتعارض مع الكرامل والوقار). وقلما كانوا يختلطون بالنبلاء أو البلاط بل يعيشون في بساطة متواضعة، متبتلين في أديرتهم أو متزوجين في دورهم. وكان رؤساء الأديرة يحكمون الرهبان، والرئيسات يحكمن الراهبات؛ وكان الكهنة غير الرهبان يخضعون للأساقفة، وهؤلاء لرؤساء الأساقفة، وهؤلاء للمطارنة الإقليميين، وهؤلاء للبطريرك في موسكو؛ والكنيسة بجملتها تعترف برئيس الدولة رأساً لها. وخارج الكنيسة عشرات من الملل والنحل تتنافس في التصوف والتقوى والكراهية.
وأفاد الدين في بث ناموس أخلاقي حقق بالجهد خلق النظام وسط الدوافع القوية التي طبع عليها شعب بدائي. واتخذ نبلاء البلاط أخلاق الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها ولغتها، وكانت زيجاتهم صفقات عقارية خفف من عبئها العشاق والخليلات. وكان نساء القصر أرقى تعليماً من رجاله، ولكنهن قد يتفجرن في لحظات الغضب بألفاظ حامية وعنف قاتل. أما عامة الشعب فكانت لغتهم سوقية غليظة، وكثر بينهم العنف، وكانت القسوة تتفق وقوة البدن وصفاقة الجلد. وكان كل إنسان يقامر ويسكر حسب طاقته،(41/30)
ويسرق حسب منصبه (15)، ولكن الكل كانوا محسنين، وبزت الأكواخ القصور في كرم الضيافة. وكانت الوحشية والكرم صفتين شائعتين في المجتمع كله.
أما اللباس فيختلف من أزياء باريس العصرية في البلاط إلى القلانس من الفراء وجلد الغنم والقفازات الصفيقة التي يرتديها الفلاحون، ومن جوارب النبلاء الطويلة الحريرية إلى الأربطة الصوفية التي تحوي سيقان الأقنان وأقدامهم. وفي الصيف قد يستحم عامة الناس عراة في الأنهار متجاهلين الجنس. وكانت الحمامات الروسية كالتركية عنيفة ولكنها محبوبة. وفيما خلا هذا كان الاهتمام بالنظافة الصحية عارضاً، وحفظ الصحة العامة بدائياً. وكان انبلاء يحلقون لحاهم، أما عامة الشعب فيطلقونها رغم مراسيم بطرس الأكبر.
وكان في كل بيت تقريباً بالالايكا (جيتار)، وكان في سانت بطرسبرج على عهد اليزابيث وكاترين الثانية أوبرا مجلوبة من إيطاليا وفرنسا. وإليها وفد مشاهير المؤلفين والقادة الموسيقيين، وأبرع مغني العصر وعازفيه. وكان المال ينفق بسخاء على تعليم الموسيقى، وقد أثبت صوابه وفائدته بتفجير العبقرية الموسيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان أصحاب الأصوات المبشرة من الذكور يرسلون من جميع أصقاع روسيا إلى الكنائس الكبرى لتدريبهم. ولما كانت الطقوس الكنسية اليونانية لا تبيح استعمال الآلات في الكورس، فإن الأصوات كانت حرة طليقة، فحققت من أعمال الانسجام والتناغم ما لم يكن له نظير في أي بلد آخر في العالم، وغنى الصبيان أدوار السوبرانو، ولكن المرتلين بأصوات الباص (العميقة الخفيفة) هم الذين أذهلوا كثيرين من الأجانب بمدى الخفض في أصواتهم وباتساع شعورهم من همسات الرقة والحنان إلى موجات القوة الحنجرية.
فمن تراهم مؤلفو هذه الموسيقى المؤثرة لفرق الترتيل الروسية، أكثرهم رهبان مغمورين لم تقرع الأجراس لموتهم ولم تشتهر أسمائهم. ويبرز(41/31)
من بينهم راهبان في القرن الثامن عشر. أولهما سوزونوفتش بيريزوفسكي الصبي الأوكراني الذي وهب صوتاً كأنما خلق ليتعبد الله. وأوفدته كاترين الثانية إلى إيطاليا على نفقة الدولة ليحصل أفضل التعليم الموسيقي، وعاش سنوات في بولونيا، وتعلم التأليف الموسيقي على البادري مارتيني. فلما عاد إلى روسيا كتب موسيقى دينية جمعت بين القوة الروسية والرشاقة الإيطالية. وقوبلت جهوده لإصلاح ترتيل الكورس بالمقاومة من أنصار القديم، فبات فريسة لاكتئاب مرضى، وقتل نفسه غير مجاوز الثانية والثلاثين (1777) (16). أما الثاني، وهو أشهر منه، فاسمه ديمتري بورتنيانسكي، الذي أدخل وهو لا يزال طفلاً في السابعة كورس كنيسة البلاط، وناطت الإمبراطورة اليزابيث جالوبي بتعليمه، فلما عاد جالوبي إلى إيطاليا أوفدت كاترين الثانية ديمتري معه إلى البندقية ومنها انتقل إلى يد البادري مارتيني ثم إلى روما ونابلي، حيث ألف موسيقى على الطريق الإيطالية. وفي 1779 عاد إلى روسيا، وسرعان ما عين مديراً لكورس كنيسة البلاط، وقد احتفظ بمنصبه هذا حتى مماته (1825). وقد ألف لفرقة الترتيل قداساً يونانياً، وموسيقات في أربعة وثمانية أقسام لخمسة وخمسين مزموراً. وتدريبه للفرقة يرجع له أكثر الفضل في بلوغها مكانة من التفوق جعلتها إحدى عجائب العالم الموسيقي. وفي 1901 احتفلت سانت بطرسبرج بذكرى ميلاده المائة والخمسين بمظاهر الأبهة والفخامة.
أما الفن الروسي فقد سيطر عليه التأثير الفرنسي، ولكن الشخصية القائدة فيه كان إيطاليا يدعى فرانشيسكو، (أوبارتولوميو) راستريللي. وكان بطرس الأكبر قد استقدم أبلي كارلو إلى روسيا (1715)، فصب بالبرونز تمثالاً لبطرس ممتطياً صهوة جواد، وآخر بالحجم الطبيعي للإمبراورة أنا أيفانوفنا. وورث الابن طراز لويس الخامس عشر الذي جلبه كارلو من فرنسا، وأضاف إليه بعض ما استوحاه من روائع الباروك التي صنعها بلتازار نويمان وفيشر فون أرلاخ في ألمانيا والنمساء، وقد طوع هذه التأثيرات لحاجات روسيا وطرزها الفنية بانسجام فائق حتى أصبح المعماري المقرب للقيصرة اليزابيث. ويكاد يكون كل بناء روسي ذي خطر(41/32)
مشيد من 1741 إلى 1763 مصمماً بيده أو بيد معاونيه. فعلى ضفة نيفا اليسرى أقام (1732 - 54) "القصر الشتوي" الذي أحرق في 1837 ولكن أعيد بناؤه طبقاً لتصميمه الأصلي فيما يظن: كتلة هائلة من النوافذ والعمد في ثلاث طبقات، تعلوها التماثيل والشرفات المفرجة؛ وكان أقرب منه إلى ذوق اليزابث قصر زاركوي سيلو (أي قرية القيصر)، المشيد على ربوة تبعد خمسة عشر ميلاً جنوبي سانت بطرسبرج. وعلى يساره بني كنيسة، وفي داخل القصر كان سلم فخم يؤدي إلى قاعة كبرى تضيئها نوافذ ضخمة بالنهار وست وخمسون ثرياً بالليل؛ وفي الطرف الأبعد قاعة العرش وأجنحة الإمبراطورة، ثم حجرة صينية تقدم فروض الإجلال التي درج القرن الثامن عشر على تقديمها للفن الصيني. وهناك "حجرة الكهرمان" المكسوة بألواح من الكهرمان والتي أهداها فردريك وليم الأول بديلاً لخمسة وخمسين من رماة القنابل اليدوية الفارعي الأجسام، وقاعة للصور تضم بعض المجموعات الإمبراطورية. أما داخل القصر فأكثره بزخرفة ركوكية، وصفها رحالة إنجليزي بأنها "مزيج من الهمجية والفخامة" (17). وقد أزيلت بأمر كاترين الثانية زخارف الواجهة الذهبية، فقد كانت كاترين بسيطة نقية في ذوقها.
وكان الأدب أبطأ تطوراً من الفن. فقد افتقد التشجيع لندرة القراء، وقيدت رقابة الكنيسة والدولة حرية التعبير، ولم تكن اللغة الروسية قد صقلت ذاتها نحواً ولفظاً بحيث ترقى إلى مستوى الأداة الأدبية. ومع ذلك فحتى قبل تولي اليزابيث العرش (1742 (ترك ثلاثة من الكتاب بصماتهم على صفحة التاريخ. وأولهم فازيلي تايتشيف-كان صاحب نشاط وفكر، رحالة مؤرخاً، دبلوماسياً وفيلسوفاً، يحب روسيا ولكنه يفتح عقله في تشوق للتطورات الاقتصادية والفكرية في الغرب. وكان واحداً من ذلك النفر من الشباب الذين أوفدهم بطرس إلى الخارج بغية إخصاب روسيا فكرياً. وقد أعاد بأفكار خطرة: فقد قرأ الأصول أو الخلاصات لكتب(41/33)
بيكون وديكارت ولوك وجروتيوس وبيل، وذبل إيمانه السني، فلم يؤيد الدين إلا بوصفه معواناً على الحكم (18). وقد خدم بطرس في حملات حربية خطرة. وأصبح حاكماً لأستراخان، واتهم بالاختلاس. (19) واجتمع له من جولاته ذخيرة من المعلومات الجغرافية والعرقية والتاريخية انتفع بها في كتابه "تاريه روسيا". وقد أغضب هذا الكتاب رجال الدين، ولم يجرؤ أحد على طبعه حتى السنوات السمحة الأولى من حكم كاترين الثانية (1768 - 1774).
وواصل ثاني هؤلاء الكتاب الثلاثة-وهو الأمير أنطيوخ كانتمير-التمرد على الهوت. كان ابناً لحاكم (هوسبودار) ملدافي، وجيء به إلى روسيا في عامه الثالث، وتعلم الحديث بست لغات، وخدم في السفارات الروسية في لندن وباريس، والتقى بمونتسكيو وموبرتوي، فلما عاد كتب نقداً لاذعاً لأولئك الغلاة من الوطنيين الداعين للجامعة السلافية، المعارضين لتلويث الحياة الروسية بالأفكار الغربية. وإلى القارئ طرفاً من قصيدته "إلى عقلي":
"أيها العقل الفج، يا ثمرة الدراسات الحديثة، أمسك، ولا تدفع القلم في يدي ... ما أكثر الطرق السهلة المؤدية في زماننا هذا إلى أسباب التشريف، ولكن أقل الطرق تقبلاً هو الطريق الذي خططته الأخوات الحافيات التسع (ربات الفنون) ... عليك أن تكد وتكدح هناك، وبينما تشقى أنت يتجنبك الناس كأنك الوباء ويتهكمون عليك، ويبغضونك ... ... "أن الذي يكب على الكتب ينقلب كافراً"، هكذا يدمدم كريتو متذمراً في يده مسبحته ... ويريدني أن أرى مبلغ الخطر في بذرة المعرفة التي تلقى بيننا: إن أطفالنا ..... مما يفزع الكنيسة، بدأوا يقرأون الكتاب المقدس، وهم يناقشون كل شيء ويريدون معرفة العلة لكل شيء، ولا يضعون في رجال الدين إلا أقل الثقة ... إنهم لا يوقدون الشمع أمام الصور، ولا يحفظون المواسم والأعياد ...
"أيها العقل، نصيحتي لك أن تصبح أشد صمماً من قطعة زلابية،(41/34)
ولا تشك لأنك مغمور ... وإذا كانت الحكمة المنعمة قد علمتك شيئاً، ... فلا تشرحه لغيرك" (20).
وزاد كانتيمير من إساءاته بترجمته كتاب فونتنيل "أحاديث حول تعدد العوالم"، وقد أدين الكتاب لأنه كوبرنيقي، مهرطق، مجدف، ولكن كانتيمير أحبط ما بيته له مضهدوه، فقد مات وهو في السادسة والثلاثين (1744). ولم تجد هجائياته ناشراً يقدم على نشرها حتى عام 1762.
وفي عهد القيصرة اليزابيث بدأ الأدب الروسي يؤكد ذاته شيئاً أكثر من مجرد كونه صدى للأدب الفرنسي. وقد شعر ثالث هؤلاء الكتاب، وهو ميخائيل لومونوزف، بالتأثير الألماني لا الفرنسي، وكان قد درس في ماربورج وفرايبورج، ثم تزوج فتاة ألمانية، وجلب معها إلى سانت بطرسبرج حملاً ثقيلاً من العلم. وأصبح سبع الأكاديمية المبرز في كل شيء حتى في الشراب (21). ورفض أن يتخصص، فكان عالماً في المعادن، وجيولوجياً، وكيميائياً، وكهربائياً، وفلكياً، واقتصادياً، وجغرافيا، ومؤرخاً، وفيلولوجياً، وخطيباً. وقد لقبه بوشكن "أول جامعة روسية" (22) وفي غمار هذا كله كان يقرض الشعر:
وكان منافسه الأكبر على ثناء الطبقة المفكرة هو ألكسيس سوماروكوف الذي نشر ديواناً من القصائد الغنائية من نظمه ونظم لومونوسوف ليظهر أنه أشعر منه (وكان الفرق بينهما طفيفاً). أما مفخرة سوماروكوف الحقيقية فهي إنشاؤه مسرحاً قومياً روسياً (1756) ألف له تمثيليات رددت صدى تمثيليات راسين وفولتير. وقد ألزمت اليزابيث حاشيتها بالحضور، وكانوا لا يدفعون أجراً عن دخول المسرح، فشكا سوماروكوف من أن راتب الخمسة آلاف روبل الذي يتقاضاه في العام لا يقيم أوده، ولا يعين مسرحه على الحياة. "إن ما كان الناس يشهدونه في أثينا يوماً وما يشهدونه اليوم في باريس، يشهدونه كذلك في روسيا بفضل اهتمامي ... وفي ألمانيا لم يوفق حشد من الشعراء لما وفقت إلى صنعه بجهودي أنا وحدي" (23).(41/35)
وفي 1760 أعيا من هذه الجهود المضنية فشد رحاله إلى موسكو، ولكن ميله للشجار ما لبث أن أورثه الفقر هناك. فناشد كاترين الثانية أن تبعث به إلى الخارج على نفقة الدولة، وأمد لها أنه "لو وصف أوربا قلم كقلمي، لما كفاه 300. 000 روبل" (24) واحتملته كاترين في صبر حتى مات صريع الشراب (1777).
ولنبعث الآن شيئاً من الإشراق في هذه الصفحات بقصة غرام بطلتها أميرة اسمها ناتاليا بوريسوفنا دولجوروكايا، وكانت ابنة الكونت والمشير بوريس خريميتيف، رفيق سلاح بطرس الأكبر. ففي ربيعها الخامس عشر (1729) يوم كانت "باهرة الجمال ومن كار الوارثات في روسيا" (25) خطبت لفاسيلي لوكيش دولجوروكي، أقرب المقربين للقيصر بطرس الثاني. وقبل أن يتاح عقد القران مات بطرس، فنفى خلفه فاسيل إلى سيبريا، وأصرت ناتاليا على أن تتزوجه وتتبعه إلى المنفى. وعاشت معه ثمانية أعوام في تبولسك، وولدت له طفلين. وفي عام 1739 أعدم، وبعد أن قضت في المنفى ثلاثة أعوام أخرى سمح لها بالعودة إلى روسيا الأوربية فأكملت تعليم أبنائها، ثم دخلت ديراً في كييف. هناك، واستجابة لرجاء ولدها ميخائيل، كتبت "مذكراتها" (1768) التي نشرها حفيدها الشاعر الأمير إيفان ميخايلوفيتش دولجوروكي في 1810. وقد أحيا ذكراها ثلاثة عراء روس، وهي محل إجلال روسيا باعتبارها نموذجاً للكثيرات من النساء الروسيات اللاتي شرفن الثورة ببطولتهن ووفائهن.
والخلاصة أن الحضارة الروسية في جملتها كانت مزيجاً من الانضباط الحتمي والاستغلال القاسي، ومن التدين والعنف، ومن الصلاة والتجديف، ومن الموسيقى والتبذل، ومن الوفاء والقسوة، ومن الخضوع الذليل والبسالة التي لا تقهر. ولم يستطيع القوم أن يكتسبوا فضائل السلم لأنه كان لزاماً عليهم أن يخوضوا، خلال فصول شتاء مديدة، وليالي قارسة البرد طويلة، حرباً مريرة مع الرياح القطبية التي تكتسح سهولهم المتجمدة دون ما حاجز يعوقها. إنهم لم يعرفوا قط النهضة الأوربية ولا الإصلاح(41/36)
البروتستنتي، ومن ثم كانوا-إلا في عاصمتهم المتكفلة-لا يزالون أسرى قيود اعصر الوسيط. وكانوا يعزون أنفسهم بكبرياء العرق ويقين الإيمان، دون أن يبلغ ذلك بعد مبلغ النزعة القومية الإقليمية، إنما كان اقتناعاً ضارياً بأنه بينما كان الغرب يورد نفسه موارد الهلاك بالعلم والثروة والوثنية والكفر، أقامت "روسيا المقدسة" وفية لمسيحية آباء الكنيسة الأولين، أقرب الأمم إلى قلب المسيح وأحبها إليه، وإليها سيؤول حكم العالم وافتداؤه، يوما ما.
3 - السياسة الروسية
1725 - 1741
ليس تاريخ روسيا ما بين بطرس الأكبر واليزابث بتروفنا إلا سجلاً كئيباً محيراً من الدسائس وثورات القصر. فهذه الحقبة تتيح لنا-إن كان لحقبة ما أن تتيح-ونحن مطمئنون-أن نوفر في الحيز والوقت. ومع ذلك فلا مناص من ذكر بعض عناصر هذا الخليط إن أردنا أن نفهم مركز كاترين الكبرى وخلقها وسلوكها.
كان الوريث الطبيعي للعرش عام 1725 بيوتر ألكسيفتش، صبي العاشرة وابن ألكسيس (وألكسيس هو الابن القتيل لبطرس الأكبر)، ولكن أرملة بطرس التي لم تعرف القراءة والكتابة أقنعت حرس القصر (بدفعها رواتبهم التي طال تخلفها) بأنه عينها خلفاً له، وبفضل تأييدهم أعلنت (7 فبراير 1725) توليها العرش باسم كاترين الأولى، إمبراطورة إقليم روسيا كلها. ولكن كاترين الصغرى هذه انغمست بعد ذلك في الشراب والفسق. وكانت تحب الخمر حتى تغيب عن وعيها كل مساء، وتمضي إلى فراشها عادة في الخامسة صباحاً، وقد تركت زمام الحكم لعشيقها السابق الأمير الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ومعه مجلس أعلى، -واضطلع الكونت أندراي أوسترمان، الألماني المولد، بالشئون الخارجية ووجه روسيا إلى مصادقة ألمانيا والنمس ومعاداة فرنسا. وعملاً بمخططات(41/37)
بطرس الأكبر، زوجت كاترين ابنتها آنا بتروفنا لكارل فريدرش، دوق هولشتين-جوتورب، وذهب العروسان ليعيشا في كيل، حيث ولدت آنا الغلام الذي صار فيما بعد بطرس الثالث. أما كاترين نفسها، فقد ماتت في 6 مايو 1727 شهيدة لذاتها، بعد أن عينت خلفاً لها الصبي بيوتر الكسيفيتش الذي اغتصب عرشه من قبل.
ولم يكن بطرس الثاني هذا يتجاوز الثانية عشرة، فظل منشيكوف يواصل الحكم، واستغل سلطاته في الإثراء تحسباً للمستقبل. فهب لفيف من النبلاء بزعامة الأخوين إيفان وفاسيلي لوكيتش دولجوروكي فأطاحوا بمنشيكوف ونفوه إلى سيبيريا حيث مات في 1729. ولم يمض عام حتى لقى بطرس الثاني حتفه بالجدري، وانتهى بموته صلب الذكور في أسرة رومانوف. هذا الحادث المؤسف هو الذي أتاح لروسيا أن تحكمها على مدى ستة وستين عاماً ثلاث نساء ضارعن، أو فقن، أكثر معاصريهن من الملوك كفاءة تنفيذية وآثاراً سياسية، وسبقنهم جميعاً-باستثناء لويس الخامس عشر-في مضمار العربدة الجنسية.
أما أولى هؤلاء القيصرات فهي آنا إيفانوفنا، ابنة إيفان الكسيفيتش البالغة خمسة وثلاثين عاماً، وأبوها كان الأخ الأبله لبطرس الأكبر. وقد اختارها المجلس الأعلى لأنها اكتسبت سمعة واقية بالوداعة والطاعة. ووضع المجلس الذي كان يهيمن عليه آل دولجوروكي وجولتسين "شروطاً" بعثوا بها إلى آنا وهي في كورلاند، لا بد من قبولها لتثبيتها على العرش. فوقعت على الشروط (28 يناير 1730). ولكن لا الجيش ولا الاكليروس أرادوا إحلال الاولجركية محل الأوتقراطية. لذلك انطلق وفد من حرس القصر للقاء آنا، والتمس منها أن تتقلد زمام السلطة المطلقة. فاستوحث الشجاعة من أسلحتهم، ومزقت "الشروط" على مرأى من الحاشية.
وكانت آنا عديمة الثقة بالنبلاء الروس، فاستقدمت من كورلاند الألمان الذين كانوا يمتعونها هناك. فأصبح إرنست فون بورن، أو بيرون(41/38)
عشيقها السابق رئيساً للحكومة، ورد أوسترمان لرياسة الشئون الخارجية، وأعاد الكونت خريستوف فون مونيش تنظيم الجيش، وساعد لوفنفولدي وكورف، وكيزرلنج، على تطعيم نظام الحكم الجديد ببعض الكفاية الألمانية. فجمعت الضرائب بصرامة يقظة، ووسع التعليم وأدخلت عليه التحسينات، وهيئ للدولة جهاز مدرب من الموظفين المدنيين. وبمثل هذه الفاعلية سجنت الحكومة أو نفت أو أعدمت الدولجوروكيين والجولتسينيين.
وعاشت آنا عيشة منتظمة نسبياً، بعد أن قنعت بعشيقين (بيرون ولوفنفولدي)، فكانت تستيقظ في الثامنة، وتخص ثلاث ساعات لشئون الحكم، وتبتسم ابتسامة الرضى، إذ يبسط رجالها الألمان سلطان روسيا. فغزا جيش يقوده مونيش بولنده، وخلع ملكها ستانسلاس لسكزنسكي-الخاضع لتوجيه الفرنسيين-وأجلس على عرشه أوغسطس الثالث السكسوني، واتخذ أول خطوة على طريق ربط بولنده بالروسيا. وردت فرنسا بأن حرضت تركيا على أن تهاجم روسيا، ولكن السلطان تردد لانشغاله على جبهته الفارسية، فرأت روسيا الفرصة مواتية لإعلان الحرب على تركيا، وهكذا بدأت (1735) ستون سنة من صراع السيادة على البحر الأسود. وشرح دبلوماسيو آنا الموقف فقالوا إن الأتراك، أو من يلوذ بهم في جنوبي روسيا، في يدهم مخارج الأنهار الخمسة الكبرى-دنيستر، وبوج، ودنيير، ودون، وكوبان-التي كانت أهم مسالك التجارة الروسية المتجهة جنوباً، وأن القبائل الإسلامية نصف الهمجية التي سكنت الأحواض الدنيا لهذه الأنهار هي خطر دائم يتهدد مسيحيي روسيا، وأن الشواطئ الشمالية للبحر الأسود جزء طبيعي وضروري من روسيا، وأن شعباً عظيماً نامياً كالشعب الروسي يجب ألا يحال بعد اليوم بينه وبين الوصول إلى البحر الأسود والبحر المتوسط دون معوق، وقد ظلت هذه الحجج الأنشودة المتكررة التي ظلت تتغنى بها روسيا طوال ما بقي من القرن وما بعده.
أما أول الأهداف فكان القرم، شبه الجزيرة الذي يقوم معقلاً تركياً(41/39)
على الجبهة الشمالية للبحر الأسود. وكان الاستيلاء على شبه الجزيرة تلك هو الغاية التي استهدفتها حملة مونيش عام 1736. وكان أعدى أعدائه في هذه الحملة المسافات المترامية والمرض ... ذلك أنه كان عليه أن يعبر 330 ميلاً من القفار والبراري التي لا تستطيع لبلدة واحدة من بلادها أن تقدم الطعام أو الدواء لجيش عدته 57. 000 مقاتل، وكان لزاماً أن ترافقهم ثمانون ألف عربة في طابور طويل معرض في أي نقطة أو لحظة لهجوم قبائل التتار عليه. واستطاع مونيش بفضل قيادته الماهرة أن يستولي في تسعة وعشرين يوماً على بريكوب، وكوسلوف، وبخشيسراي (عاصمة القرم)، ولكن في ذلك الشهر تفشت الدوسنطاريا وغيرها من الأمراض في جيشه فأحدثت من الشقاء والتمرد بين رجاله ما أكرهه على التخلي عن فتوحه والتقهقر إلى أوكرانيا، واستولى أثناء ذلك قائد آخر من قواد آنا على آزوف المشرفة على مصب نهر دون.
وكر مونيش على الجنوب في أبريل 1737 بسبعين ألف مقاتل، واستولى على أوخاكوف، قرب مصب نهر بوج. وفي يونيو انضمت إليه النمسا في مهاجمة الترك، ولكن حملتها باءت بفشل ذريع ألجأها إلى إبرام صلح منفرد، أما روسيا التي تركت فجأة لتواجه الجيش التركي برمته، والتي كانت تتوقع حرباً مع السويد، فقد وقعت (18 سبتمبر 1739) صلحاً رد إلى الأتراك تقريباً كل ما كسبه الروس في حملات ثلاث. واحتفل بالمعاهدة في سانت بطرسبرج على أنها انتصار باهر لم يكلف أكثر من مائة ألف قتيل.
وعاش آنا بعد سنة الحرب، وقبيل موتها عينت وريثاً للعرش، إيفان السادس، الغلام الذي لم يتجاوز عمره ثمانية أسابيع: وهو ابن بنت أختها آنا ليوبيو لدوفنا الألمانية المولد وأنطون أولريش أمير برنزويك. وأوصت أن يكون بيرون وصياً على إيفان حتى يبلغ السابعة عشرة. ولكن مونيش وأوسترمان كانا الآن قد نالهما من بيرون ما يكفي، فانضما إلى أولريش وليوبولدوفنا ونفوه إلى سيبيريا (9 نوفمبر 1740). وأصبحت(41/40)
آنا ليوبولدوفنا وصية، ومونيش "الوزير الأول". وخشي السفيران الفرنسي والسويدي أن يسيطر التيوتون على روسيا سيطرة كاملة، فمولا ثورة يقومبها الأشراف الروس. واختار الثوار سراً مرشحاً للعرش في اليزافيتا بتروفنا ابنة بطرس الأكبر وكاترين الأولى.
وكانت اليزابث، كما سندعوها هنا. في الثانية والثلاثين من عمرها، ولكنها في أوج حسنها وشجاعتها ونشاطها، تحب الألعاب الرياضية والتدريب العنيف، ولكنها أيضاً ولوعة بمتع الغرام، وقد رفهت عن سلسلة من العشاق، ولم تظفر بقدر يذكر من التعليم، وكانت تكتب الروسية بصعوبة وتتكلم الفرنسية بطلاقة. ويبدو أن فكرة تشريفها العرش لم تخطر لها ببال إلى أن نحتها آنا ليوبولدوفنا وأوسترمان جانباً مؤثرين عليها الأجانب. فلما أمرت الوصية فرق سانت بطرسبرج بالرحيل إلى فنلندة، وتذمر الجند لأنهم سيواجهون حرب شقاء، اغتنمت اليزابث الفرصة، فلبست الزي العسكري، وقصدت ثكنات الجند في الساعة الثانية من صباح 6 ديسمبر 1741، وناشدتهم أن يناصروها، ثم ركبت مركبة الجليد إلى القصر الشتوي على رأس فوج من الجيش وأيقظت الوصية، وزجت بها هي والقيصر والطفل في السجن. فلما استيقظت المدينة وجدت أن لها حاكماً جديداً، إمبراطورة روسية خالصة، وابنة لبطرس العظيم. واغتبطت روسيا وفرنسا بهذا الحدث.
4 - إليزابث بتروفنا
1741 - 1762
من العسير فهم هذه المرأة خلال ضباب الزمن والأهواء. وحين لقيتها كاترين الثانية في 1744 "راعها منها جمالها وجلال سلوكها .. ومع أنها كانت بدينة جداً، فإن بدانتها لم تنل قط من حسنها أو تجعل حركتها ثقيلة مضطربة ... رغم ارتدائها طوقاً هائلاً لتنورتها حين تكتمل زينتها (26) ". وكانت تبطن الشكوكية إلى شفا الإلحاد (27)، وتظهر الغيرة(41/41)
على الديانة التقليدية. وقد لاحظ مراقب فرنسي "ميلها السافر للشراب" (28)، ولكن علينا أن نتذكر أن روسيا بلداً بارداً وأن الفودكا تدفئ شاربها. وقد رفضت أن تتزوج مخافة أن يبدد الزوج قوتها ويضاعف من أسباب الخلاف والخصومة. ويزعم البعض أنها تزوجت سراً الكسيس رازموفسكي، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن سوى الأول بين أقران عديدين. وكان فيها غرور وخيلاء، وولع بالحلي والملابس المبهرجة، ولها خمسة عشر ألف ثوب، وأكوام من الجوارب، و2500 حذاء (29)، وقد استعملت بعضها قذائف أثناء النقاش، وكان في استطاعتها أن توبخ خدمها وحاشيتها بلغة السوقة، وقد صدقت على بعض العقوبات القاسية، ولكنها كانت في سريرتها رحيمة الفؤاد (30). ألغت عقوبة الإعدام إلا على جريمة الخيانة (1744)، ولم تسمح بالتعذيب إلا في أخطر المحاكمات؛ أما عقوبة الجلد فقد بقيت نافذة، ولكن اليزابث كانت تشعر أنه لا بد من إيجاد وسيلة لتثبيط المجرمين الذين جعلوا الطرق العامة وشوارع المدن غير مأمونة في الليل، وقد جمعت في طبعها بين القلق والكسل، ووهبت ذكاءً فطرياً حاداً، وأعطت وطنها خير حكومة سمحت بها حالة التعليم والأخلاق والعادات والاقتصاد الروسي.
وبعد أن نفت أوسترمان ومونش إلى سيبيريا، أعادت مجلس الشيوخ إلى قيادة السلطة الإدارية، ووكلت الشئون الخارجية إلى ألكسي بتروفيش بستوزيف-ريومين. وقد وصفته كاترين الثانية بأنه "دساس كبير، سيئ الظن بالناس، حازم جريء في مبادئه، عدواً لا يعرف الصفح، ولكنه صديق صدوق لأصدقائه" (31). وكان مشغوفاً بالمال كما يشغف به عادة من يعرفون أن سمو المنصب قد يفضي إلى السقوط، وحين حاولت إنجلترة أن ترشوه قدرت أن نزاهته تكلف 100. 000 كراون (32). ولا علم لنا إن كانت الصفقة قد تمت، ولكن بستوزيف وقف بوجه عام في صف إنجلترة ولكن هذا كان رداً طبيعياً على تأييد فرنسا للسويد وتركيا ضد روسيا. وقد عرض فردريك الأكبر هو الآخر على بستوزيف 100. 000 كراون إلى ألف بين روسيا وبروسيا، ولكن العرض رفض (33). وبدلاً منه(41/42)
ألف بستوزيف بين روسيا والنمسا (1745) وإنجلترة (1755). فلما اتبعت إنجلترة هذا التحالف مع بروسيا (16 يناير 1756) تهدم بناء الأحلاف الذي أقامه بستوزيف، وأهملت اليزابيث بعدها الأخذ بنصائحه، وربطت وزارة جديدة روسيا بحلف فرنسي-نمساوي كان "نقضاً للأحلاف السابقة: وكان رحى حرب السنين السبع دائرة.
وقد رأينا في موضع سابق من هذا الكتاب-وما أبعد الشقة بيننا وبينه-كيف هزم القائد الروسي أبراكسين البروسيين في جروس بيجرزدورف (1757)، ثم سحب جيشه إلى بولندة. وأقنع سفيرا فرنسا والنمسا اليزابث بأن بستورزيف كان قد أمر بتقهقر أبراكسين وأنه يتآمر لخلعهما. فأمر بالقبض على المستشار والقائد جميعاً (1758). ومات أبراكسين في السجن، وأنكر بستورزيف التهمتين، وقد برأت ساحته المعلومات التي أنيط عنها اللثام فيما بعد. وأراد خصومه أن يعذبوه ليعترف، ولكن اليزابث كفتهم، وحل ميخائيل فورونستوف محل بستوزيف مستشاراً.
وفي غمار حفلات البلاط الراقصة، وموائد قماره ودسائسه وغيراته وأحقاده، كانت اليزابث تشجع معاونيها على دفع المدنية الروسية قدماً. ففتح محسوبها الشاب إيفان شوفالوف جامعة في موسكو، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية، وأوفد الطلاب في بعثات للخارج للدراسات العليا في الطب، واستقدم المعماريين والمثالين والمصورين الفرسيين لأكاديمية الفنون ( Akademia Iskustv) التي أقامها في العاصمة (1758). وقد تبادل الرسائل مع فولتير، وأغراه بتأليف "تاريخ الإمبراطورية الروسية في عهد بطرس الأكبر" (1757). أما أخوه بيوتر شوفالوف فقد أعان الاقتصاد بإلغاء المكوس على التجارة الداخلية. على أن اليزابث سمحت أثناء ذلك للتعصب الديني بأن يزداد إرضاء لدعاة الجامعة السلافية، فأغلقت بعض المساجد في أقاليم التتار، ونفت 35. 000 يهودياً.
وكانت أكبر مآثرها انتصار جيوشها وقوادها المرة بعد المرة على فردريك(41/43)
الثاني، ووقفهم الزحف البروسي، وإشرافهم على سحقه لولا أن هد تدهور صحتها من قدرتها على حمل التحالف الفرنسي النمساوي الروسي على التماسك كتب السفير البريطاني في تاريخ مبكر (1755) يقول: "لقد ساءت صحة الإمبراطورية وأصيبت ببصق الدم والنهج، وبالسعال المستمر، وبالأرجل المتورمة، وبالماء في رئتيها، ومع ذلك فقد رقصت "منويتا معي". (34) وراحت الآن تدفع ثمناً باهظاً لإيثارحا حياة الفسق على الزواج. وإذ كانت بغير خلف، فق طالما بحثت عن شخص من دم ملكي يستطيع التصدي لمشاكل روسيا الخارجية والداخلية، فوقع اختيارها-وهو اختيار لا يمكن تفسيره-على كارل فريدرش أولرش، ابن أختها آنا بتروفنا وكار فريدرش، دوقهولشتين-جوتورب. وكانت هذه أكبر غلطة اقتفتها في حكمها، ولكنها كفرت عنها باختيارها لشريكة حياته.
5 - بطرس وكاترين
1743 - 1761
ولد بيوتر فيودوروفتش، كما أعادت اليزابث تسمية وريثها، بمدينة كيل في 1728. ووكان بوصفه حفيداً لبطرس الأكبر ولشارل الثاني عشر كليهما صالحاً لارتقاء العرشين الروسي والسويدي. وقد ألزم البيت لضعف صحته حى بلغ السابعة، ثم اختير بتغيير فجائي للانضمام إلى حرس هولشتين ونشئ على حياة الجندية. وأصبح رقيباً في التاسعة، وكان يسير شامخ الرأس في العروض الميدانية، وتعلم لغة ضباط الجيش وأخلاقهم. وحين ناهز الحادية عشرة عين له مرب ألماني نشأنه على الإيمان اللوثري بصورة لا تنسى، وأسرف في تأديبه إسرافاً أصابه بالعصاب. وإذ أرهبه هذا المربي بعنفه، فقد انطوى على الجبن والتكتم، ولاذ بالمكر والخداع، (35) وبات "دائم النزق والعناد وحب الشجار" (36). ولعل روسو كان مستشهداً به مثالاً يوضح الزعم بأن الإنسان خير الفطرة ولكن البيئة السيئة هي التي تفسده. ذلك أن بطرس كان رقيق الفؤاد، يتمنى أن يسلك المسلك الحق، كما سنرى من(41/44)
مراسيمه الملكية، ولكن دمره ما فرض عليه من القيام بأدوار لا تناسبه. وحين التقت به كاترين الثانية وهو في الحادية عشرة وصفته بأنه "وسيم الطلعة حسن السلوك مجامل" وقالت "أنها لم تشعر بأي نفور من فكرة الزواج به". (37)
وفي 1743 أمرت اليزابث بأن يؤتى به إلى روسيا، وخلعت عليه لقب الغراندوق، ويبدو أنها أدخلته في المذهب الأرثوذكسي، وحاولت تدريبه على شئون الحكم. ولكنها "وقفت مشدوهة" لفقر تعليمه واهتزاز شخصيته وفي سانت بطرسبرج أضاف السكر عيباً إلى عيوبه الأخرى، وراود الأمل اليزابث بأن هذا الفتى الغريب قد يتاح له، إذا زوج بامرأة صحيحة البدن ذكية الفؤاد، أن ينجب قبل وفاة اليزابث قيصراً كفوءاً لروسيا في مستقبل أيامه. وبهذه الروح المجردة من التعصب العرقي، والتي اتسمت بها الأستقراطيات الأوروبية حتى أثناء قيام الدول القومية، اتجهت اليزابث ببصرها خارج روسيا، فوقع اختيارها على أميرة مغمورة من إحدى الإمارات الألمانية الصغرى. وكان فريدريك الثاني الماكر قد أوصى بهذا الاختيار أملاً في أن يظفر بقيصرة ألمانية صديقة في روسيا التي أصبحت الآن مبعث خوف لألمانيا.
وعند هذه النقطة تواجهنا مذكرات كاترين الكبرى، وهي مذكرات لا يتطرق الشك إلى صحة نسبتها إليها، لم تطبع حتى عام 1859، ولكن المخطوطة الفرنسية التي كتبتها كاترين بخط يدها محفوظة بدار المحفوظات القومية في موسكو فهل هي جديرة بالثقة؟ إن القصة التي ترويها هذه المذكرات تؤيدها على العموم مصادر أخرى. (38) وعيبها ليس الكذب بل التحيز فهي قصة أجادت روايتها بذكاء وحيوية، ولكنها في بعضها دفاع عن خلعها زوجها، وعن احتمالها نبأ قتله بمثل ما احتملته به من رباطة جأش.
وقد ولدت في شتتن بيومرانيا في 21 أبريل 1729 وسميت عند تعميدها صوفيا أوجستا فردريكا بأسماء ثلاث عمات لها. أما أمها فكانت يوهانا اليزابث أميرة هولشتين-جوتورب، ومن طريقها كانت كاترين ابنة(41/45)
خالة بطرس. أما أبوها فكان كرستيان أوجست، أمير انهالت-تسربست في وسط ألمانيا، واللواء في جيش فريدريك. وقد خاب أمل أبويها لولادة بنت لا ولد، وحزنت الأم كأنها أسقطت جنيناً. أما كاترين فقد كفرت عن أنوثتها باتخاذها فحولة القادة العسكريين وحنكة الأباطرة المحاكمين، بينما ظلت طوال ذلك أكثر العشيقات في أوربا طلاباً وأقربهن منالاً.
كانت تشكو ألواناً من أمراض الطفولة، ومنها مرض اشتد عليها حتى خلفها تبدو للناظرين كأنها ستظل مشوهة ما بقي لها من العمر "في عمودها الفقري تعرج" و "كتفها اليمنى أعلى كثيراً من اليسرى"، وأصبحت الآن "تتخذ شكل حرف Z" فحبسها جلاد المدينة السابق" الذي تخصص في علاج انخلاع المفاصل، في مشد (كورسيه) "لم أكن أخلعه قط نهاراً ولا ليلاً إلا حين أغير ملابسي الداخلية، وبعد ثمانية عشر شهراً بدأت أبدي علامات على استقامة عودي". (39) ولكثرة ما تردد في سمعها أنها دميمة، صممت على أن تنمي ذكاءها بديلاً عن الجمال، فكانت مثالاً آخر من أمثلة النقص الذي يشعر به صاحبه فيحفزه إلى قدرات تعويضية. واختفت دمامتها حين لف البلوغ أعضاءها فاستدارت. وكانت رغم هذا الخطوب ذات "طبع رضي" وفيها من الفرح الفطري "ما استلزم ضبطه". (40)
تلقت تعليمها على مهذبين نخص منهم بالذكر قسيساً لوثرياً كان يلقى عنتاً من أسئلتها. مرة سألته "أليس من الظلم أن يحكم على تيطس، وماركوس أوريليوس، وجميع عظماء العالم القديم بالهلاك الأبدي رغم فضلهم، لأنهم لم يعرفوا شيئاً عن رؤيا يوحنا اللاهوتي؟ " وكانت تحسن الجدل إلى حد حمل معلمها على أن يعتزم جلدها لولا تدخل إحدى المربيات. وقد أرادت بصفة خاصة أن تعرف شكل تلك الهيولي التي سبقت الخليقة كما ورد في سفر التكوين. "ولكن إجاباته لم تبد قط مقنعة" و "فقد كلانا أعصابه"، وزاد انزعاجه بإصرارها على أن يفسر لها "بالضبط معنى الختان" (41) وكان معلموها الآخرون ومربيها فرنسيين، لذلك أتقنت(41/46)
الفرنسية، فقرأت كورنيي، وراسين، وموليير، وكان واضحاً أنها مهيأة لقراءة فولتير. وهكذا أصبحت من أفضل نساء عصرها تعليماً.
وانتهى نبأ هذه الأميرة الذكية إلى الإمبراطورة اليزابث، وكانت تواقة إلى فتاة قد تمنح بطرس الذكاء بالتناضح. ففي أول يناير 1744 وصلت إلى أم صوفيا دعوة للحضور معها في زيارة البلاط الروسي. وتردد الوالدان، فقد بدت لهما روسيا بلداً قلقاً بدائياً إلى حد خطر، أما صوفيا التي حدست أن زواجها من الفرندوق قيد البحث فقد التمست الجواب بقبول الدعوة. وعليه ففي 12 يناير بدأوا الرحلة الطويلة الشاقة عبر برلين وشتتن وبروسيا لشرقية وريجا وسانت بطرسبرج إلى موسكو، وفي برلين استضافهم فريدريك، وأعجبته صوفيا، "وراح يسألني ألف سؤال ويتكلم على الأوبرا والكوميديا والشعر والرقض، وباختصار كل شيء يمكن أن يخطر ببال إنسان يتحدث إلى فتاة في الرابعة عشرة (42) " وفي شتتن "ودعني أبي، وكانت آخر مرة رأيته فيها، وقد بكيت بكاءً مراً". وبلغت الأم وابنتها موسكو في 9 فبراير في حاشية مترفة، بعد رحلة في مركبة جليد امتدت اثنتين وخمسين ساعة من سانت بطرسبرج.
وفي ذات المساء التقت ببطرس ثاني مرة، وقد وقع من نفسها هذه المرة أيضاً موقعاً طيباً، إلى أن أسر لها أنه لوثري صميم، وأنه يحب إحدى الوصيفات في البلاط (43). ولاحظت أن الروس يكرهون لهجته وعاداته الألمانية، أما هي فقد عولت على تعلم الروسية والتمكن منها. وعلى قبول المذهب الأرثوذكسي بحذافيره وشعرت بشيء "أكثر قليلاً من عدم المبالاة نحو بطرس، ولكن "لم أكن غير مبالية بالتاج الروسي". وعينوا لها ثلاثة مدرسين-للغة، والدين، وللرقصات الروسية. وقد شقت على نفسها في الدرس-فنهضت مرة في منتصف الليل للاستذكار-حتى ألزمت الفراش لإصابتها بذات الجنب، "زظللت أتذبذب بين الحياة والموت سبعة وعشرين يوماً، فصدمت خلالها ست عشرة مرة، أحياناً أربع مرات في اليوم" (44). وفقدت أمها حظوتها في البلاط لأنها طلبت استدعاء قسيس(41/47)
لوثري. أما صوفيا فقد كسبت قلوباً كثيرة بطلبها قسيساً يونانياً. وأخيراً، في 21 أبريل، استطاعت أن تظهر أمام الناس. "كنت هزيلة كأنني هيكل عظمي ... في وجهي وقسماتي غضون، وشعري ساقط، ولوني غاية في الشحرب" (45) وأرسلت لها الإمبراطورة ملء قدر من "الروج".
وفي 28 يونيو جازت صوفيا، في خشوع مؤثر، مراسم دخولها في المذهب الأرثوذكسي. وأضيف الآن إلى أسمائها اسمان هما إكاترينا ألكسيفنا؛ ومن ثم أصبحت منذ الآن تدعى كاترين. وفي صباح الغد، وفي الكتدرائية الكبرى، "أوسبنسكي سوبور"، خطبت رسمياً للغرندوق بطرس. وابتهج كل من رآها بتواضعها اللبق، وحتى بطرس بدأ يحبها. وبعد أربعة عشر شهراً من التدريب تزوجا في 21 أغسطس 1745 في سانت بطرسبرج. وفي 10 أكتوبر رحلت أم كاترين قاصدة أرض الوطن.
وكان بطرس الآن في السابعة عشرة، وزوجته في السادسة عشرة. كانت جميلة، وكان قبيحاً لأنه أصيب بالجدري في سنة خطبتهما. وكانت من الناحية الفكرية شرهة يقظة، أما هو فيقول سولوفيف أنه "بدت عليه كل إمارات التخلف العقلي، وكان أشبه بطفل كبير" (46)، يلهو بالدمى والعرائس والعساكر اللعب، ويولع بالكلاب حتى أنه يحتفظ بعدد منها في شقته، ولم تعرف كاترين أيهما شر من الآخر، نباحها أم رائحتها المنتنة (47). ولم يحسن الموقف بالعزف على كمانه. وازداد ميله للشراب، "ومنذ1753 كان يثمل بالشراب كل يوم تقريباً" (48) وكثيراً ما كانت الإمبراطورة اليزابث توبخه على نقائصه، ولكنها لم تضف القدوة إلى الوصية. وكان الذي يزعجها أكثر هو كرهه السافر لروسيا التي سماها "بلداً لعيناً" (49)، واحتقاره للكنيسة الأرثوذكسية وقساوستها، وأهم من هذا كله عبادته لفريدريك الأكبر، حتى أثناء اشتباك روسيا وبروسيا في حرب طاحنة، وأحاط نفسه بـ "حرس هولشتيني" من الجند كلهم تقريباً ألمان، وفي بيب لهوه بأورانينباوم كان يلبس أتباعه الزي الألماني، ويدربهم على الطريقة البروسية. وحين هرم القائدان الروسيان فرمور وسالتيكوف(41/48)
البروسيين عام 1759 أمسكا عن متابعة انتصاراتهما مخافة أن يغضبا بطرس (50) الذي قد يصبح قيصراً في أية لحظة.
وكاد زواجهما أن يصبح صراعاً بين ثقافتين، لأن كاترين كانت تسعى إلى المزيد من التعليم بدراسة الأدب الفرنسي. ويبدو أمراً لا يصدق أن تقرأ هذه الشابة خلال سنيها التسعة وهي غراندوقة أفلاطون وبلوتارخ وتاسيتوس وبيل وفولتير وديدرو ومونتسكيو الذي قالت عن كتابه "روح القوانين" أنه ينبغي أن يكون "كتاب صلوات يومية لكل ملك سليم الإدراك" (51) ولا بد أن كتباً كهذه أتت على البقية الباقية من معتقدات كاترين الدينية-رغم أنها واصلت دون توان مراعاتها للطقوس الأرثوذكسية وأعطتها هذه الكتب ذلك المفهوم عن "الاستبداد المستنير" الذي تشربه فريدريك من فولتير قبل ذلك بجيل.
وخلال ذلك (إن صدقنا روايتها المباشرة) "لم يصل زواجي بالغراندوق إلى نقطة الاكتمال" (52) وفي رأي كاستيرا الذي كتب في 1800 سيرة لكاترين تنبئ بإطلاع حسن كما تتسم بالعداء لها، أن "بطرس كان يشكو عيباً بدا رغم سهولة إزالته أشد قسوة، ولم يستطع عنف حبه ولا محاولاته المتكررة أن يحققا نقطة الاكتمال في زواجه. (53) وهذه الحالة لها نظير لافت للنظر، وهي حالة لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، وربما كان النفور الذي انتهت كاترين إلى الإحساس به نحو بطرس خلال خطبتهما الطويلة قد وضح له وأورثه العنة النفسية. وسرعان ما اتجه إلى نساء أخريات، واتخذ الخليلة تلو الخليلة ممن راودهن الأمل في الحلول محل الغراندوقة كاترين. وفي روايتها أن سنوات الزواج الأولى هذه كانت سنوات شقاء وتعاسة لها. وذات يوم (فيم يروي هوراس ولبول)، حين سألتها الإمبراطورة لم يثمر زواجها، أجابت بأنه ينبغي ألا ينتظر أي ثمر له. وكان هذا في الواقع إعلاناً لعجز زوجها. وأجابت اليزابث بأن الدولة تطالب بالخلف، وتركت للغراندوقة مهمة الحصول على هذا الخلف(41/49)
بمساعدة من تشاء. وكانت ثمرة طاعتها ولداً وبنتاً. " (54) وقد بينت مدام ماريا تشوجلوكوفا، التي عينتها إليزابث وصيفة لكاترين، للغراندوقة (فيما روته هذه) أن هناك استثناءات هامة لقاعدة الوفاء الزوجي، ووعدتها بأنها تكتم السر إذا اتخذت كاترين عشيقاً، (55) و (" لا ريب في أن هذا الاقتراح المخجل لم يأت من الوصيفة بل من الإمبراطورة ذاتها (56) ". وعلينا أن ننظر إلى هذه الأمور في منظور بلاط روسي طال إلفه لملكات عديدات العشاق، وبلاط فرنسي تعود على ملوك متعددي العشيقات، وبلاط سكسوني-بولندي ضم مائة وخمسين طفلاً أنجبهم أوغسطس الثالث.
فهل اقتدت كاترين بهذه المثل إلى درجة الإفراط؟ بعد ولايتها العرش، نعم. أما قبلها فيبدو أنها اقتصرت في قصد رواقي على ثلاثة عشاق-أولهم-بعد زواجها بنحو ست سنوات-سرجي سالتيكوف، الضابط الشاب المفعم حيوية. وتشرح كاترين استجابتها لحبه فتقول:
"إن جاز لي توخي الصراحة .... قلت إنني كنت أجمع بين عقل الرجل ومزاجه، وبين مفاتن المرأة الجديرة بأن تحب، وأرجو الصفح عن هذا الوصف، الذي يبرره صدقه ... فلقد كنت جذابة، ومن ثم كان نصف الطريق إلى الإغراء قد قطع فعلاً، ومن الإنسانية الخالصة في مثل هذه المواقف ألا يقف الإنسان في منتصف الطريق .... فالمرء لا يستطيع أن يمسك بقلبه في يده، يحبسه أو يطلقه، يشد عليه قبضته أو يرخيها كما يشاء. " (57)
وفي 1751 حملت ولكنها أسقطت حملها، وتكررت هذه التجربة المؤلمة في 1753. وفي 1754 ولدت الطفل الذي صار فيما بعد الإمبراطور بولس الأول. واغتبطت اليزابث، وأهدت كاترين 100. 000 روبل، وأرسلت سالتيكوف لينزوي انزواءاً مأموناً في استكهولم ودرسدن، حيث كان "عابثاً مستهتراً مع جميع النساء اللاتي قابلهن" (58) كما تروي كاترين(41/50)
أما بطرس فازداد سكراً، واتخذ مزيداً من الخليلات، واستقر أخيراً على اليزافينا فوروتسوفا، ابنة أخي المستشار الجديد. وكانت كاترين تتشاجر معه، وتسخر منه ومن أصدقائه علانية. (59) وفي 1756 قبلت ملاطفة فتى بولندي وسيم في الرابعة والعشرين يدعى الكونت ستانسلاس بونياتوفسكي، قدم إلى سانت بطرسبرج ملحقاً للسير هانبري-وليمز، السفير البريطاني. وتصفها سيرة ستانسلاس الذاتية في سنة 1755:
"كانت تناهز الخامسة والعشرين ... في تلك اللحظة بالذات التي هي أجمل اللحظات للنساء الجميلات. كان لها شعر فاحم، وبشرة بيضاء ناصعة وأهداب سوداء طويلة، وأنف إغريقي، وفم كأنه خلق للقبلات، ويدان وذراعة غاية في الحسن، وقد نحيل يغلب فيه الطول على القصر. ومشية غاية في النشاط ملؤها المهابة رغم هذا. وكان رنين صوتها مبهجاً، وضحكتها مرحة كطبعها" (60).
فلما حدق النظر فيها "نسي أن هناك قطراً اسمه سيبيريا. "وكان هذا الغرام أعمق ما شعرت به من غراماتها الكثيرة، وغراماته هو، فقد ظل قلبها مع يونياتوفسكي بعد أن اتخذت عشاقاً آخرين بزمن طويل، أما هو فلم يفق قط تماماً مع افتتانه بها، مهما أنزلت به سياساتها من آلام موجعة. وحين ذهبت لتقيم مع بطرس في أورانينباوم، خاطر ستانسلاس بحياته بزيارتها سراً هناك. وكشف أمره، وأصدر بطرس أوامره بشفته. غير أن كاترين تشفعت لبطرس بخليلته التي هدأت ثائرة الغراندوق بعد أن ألانتها هدية من كاترين. وأخيراً، وفي نوبة من الود، ولم يكتف بطرس بالصفح عن يونياتوفسكي، بل دعا كاترين للانضمام إلى عشيقها، ودخل معهما ومع اليزافيتا فورونتسوفا في "معيشة رباعية" لطيفة تخللتها عشاءات مرحة اشتركوا فيها جميعاً (61).
وفي 9 ديسمبر 1758 ولدت كاترين بنتاً. واعتقد أفراد الحاشية عموماً أن أباها هو بونياتوفسكي (62) ولكن بطرس نسب الفضل لنفسه،(41/51)
وتقبل التهاني، ونظم المهرجانات احتفالاً بهذا الإنجاز (63)، ولكن الطفلة ماتت بعد أربعة أشهر. واستدعى بونياتوفسكي إلى بولندة بأمر الإمبراطورة، وحرمت كاترين العشق هنيهة، ولكنها افتتنت بمغامرات الحب والحرب التي خاضها جريجوري جريجوريفتش أورلوف، ياور بيوتر شوفالوف. وكان أورلوف قد كسب لنفسه حسن السمعة بثباته في موقعه في معركة زورندورف رغم جروحه الثلاثة. وكان له بنية الرجل الرياضي و "وجه ملاك" (64)، ولكنه لم يعرف من المناقب إلا الظفر بالسلطة والنساء بأي وسيلة متاحة. وكان لشوفالوف خليلة هي الأميرة إلينا كوراكين، وكانت من أجمل حسان القصر وأكثرهن تحللاً، فاجتذبها أورلوف وظفر بها من رئيسه، وأقسم شفالوف أنه قاتله، ولكنه مات قبل أن ينفذ فيه وعيده. وأعجبت كاترين بشجاعة أورلوف، ولاحظت أن له أربعة أخوة في الحرس كلهم قوي فارع الطول، وقالت في نفسها إن هؤلاء الخمسة سيفيدون إذا طرأ طارئ. وعليه رتبت لقاء مع جريجوري، ثم ثانياً، فثالثاً، وسرعان ما أزاحت كوراكين واحتلت مكانها. ولم يحل يوليو 1761 حتى كانت حاملاً، وفي أبريل 1762 ولدت ابناً لأورولف، وأحيط الحدث بما أمكن من تكتم، وربى الغلام باسم الكسيس بوبرينسكي.
وفي ديسمبر 1761 وضح أن الإمبراطورة بادئة مرضها الأخير، وبذلت محاولات لإشراك كاترين في مؤامرة تستهدف منع بطرس من ارتقاء العرش، وقد أنذرت بأن بطرس إن أصبح قيصراً سينحيها جانباً ويجعل اليزافيتا فورونتسوفا زوجته ومليكته، ولكن كاترين رفضت الاشتراك في المؤامرة. وفي 5 يناير 1762 (حسب التقويم الجديد) ماتت الإمبراطورة اليزابث، وارتقى العرش بطرس دون معارضة سافرة.
6 - بطرس الثالث
1762
وقد أدهش الجميع بسماحة قراراته، فالود الفطري الذي حجبه ضباب العادات الفظة الغبية تكشف الآن في نوبة من العرفان لتقلده السلطة بسلام،(41/52)
فصفح عن أعدائه، واستبقى معظم وزراء اليزابث، وحاول أن يتلطف مع كاترين. فخصص لها في القصر جناحاً مريحاً في طرف منه، وسكن هو جناحاً في الطرف الآخر. وخصص لخليلته الغرف الوسطى، وكان هذا بالطبع إهانة بالغة، ولكن كاترين ابتهجت في دخيلة نفسها بسكناها على مبعدة منه. وزودها بمخصصات سخية، ودفع ديونها الباهظة دون تحقيق في أصلها. (65) وفي الحفلات الرسمية كان يسوي بينها وبينه في المكان وأحياناً يقدمها على نفسه. (66)
ثم أعاد من المنفى الرجال والنساء الذين نفاهم الحكام السابقون إلى سيبيريا فعاد الآن مونيش وقد بلغ الثانية والثمانين ليرحب به اثنان وثلاثون حفيداً، ورده بطرس إلى رتبة المشير، وأقسم مونيش ليخدمنه إلى النهاية، وقد بر بقسمه. وأحل الإمبراطور السعيد النبلاء من الالتزام الذي فرضه عليهم بطرس الأكبر، وهو أن يعطوا الدولة سنين كثيرة في حياتهم، فاقترحوا أن يصنعوا له تمثالاً من الذهب، ولكنه أمرهم أن يستعملوا هذا الذهب استعمالاً أرشد. (67) وألغى مرسوم أصدره بطرس في 21 فبراير بالشرطة السرية التي أبغضها الناس جميعاً، وحرم الاعتقال للتهم السياسية حتى يراجعها مجلس الشيوخ ويقرها. وفي 25 يونيو أصدر بطرس مرسوماً بأن يعفى مقترف الزنا من التعنيف الرسمي منذ الآن، "فحتى المسيح لم يدن (الزانية) في ذلك الأمر". (68) وابتهجت الحاشية، وسر التجار لتخفيض رسوم التصدير، وخفض ثمن الملح، وأبطل شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع أما "قدامى المؤمنين" الذين هربوا من روسيا اتقاء اضطهادهم في عهد اليزابث فقد دعوا للعودة والتمتع بالحرية الدينية. ولكن رجال الدين أثارت سخطهم الشديد مراسيم 16 فبراير و21 مارس التي أممت جميع أراضي الكنيسة وجعلت جميع القساوسة الأثوذكس موظفين حكوميين ذوي رواتب. وحرر الأقنان العاملون على ضياع النبلاء أن يحرروا هم أيضاً-سريعاً. ووسط هذه الإصلاحات كلها-التي أشار بها عليه مختلف الوزراء-راح بطرس يشرب حتى يثمل.(41/53)
أما أغرب قراراته الذي أسعده أيما سعادة، فهو إنهاؤه الحرب مع بروسيا. وكان حتى قبل ولايته العرش قد فعل الكثير ليساعد فريدريك، فأوصل سراً الخطط الحربية التي وضعها مجلس اليزابث، وراح الآن يفاخر بعمله هذا (69) وفي 5 مايو ربط الروسيا ببروسيا في تحالف دفاعي هجومي. وأصدر تعليماته إلى قائد القوات الروسية المحاربة مع الجيش النمساوي أن يضعها في خدمة "سيدي الملك" (70) ثم ارتدى بزة عسكرية بروسية، وأمر الجنود المحليين بأن يحذوا حذوه، تم أدخل الضبط والربط البروسيين في الجيش، ونظم التدريبات العسكرية كل يوم لحاشيته، وأجبر كل ذكر في الحاشية على المشاركة فيها دون مراعاة للسن أو النقرس (71). وقدم "حرس هولشتين" الخاص به على أفواج العاصمة المعتدة بمكانتها.
ولم يكن الجيش الروسي كارهاً للسلم، ولكن أذهله هجر روسيا لحلفائها الفرنسيين والنمساوين في عجلة، وتخليها عن جميع الأقاليم التي ظفرت بها من بروسيا خلال الحرب. وأفزعه أن يذيع بطرس عزمه على تجريد جيش روسي على الدنمرك لاسترداد دوقية شلزفج التي أخذتها الدنمرك من أدواق هولشتين، ومنهم أبو بطرس. وأبان الجلود في غير لبس إنهم سيرفضون خوض حرب كهذه، فلما طالب بطرس إلى كيريل رازوموفسكي أن يزحفبجيش على الدنمرك أجابه القائد "يا صاحب الجلالة يجب أولاً أن تعطيني جيشاً آخر يكره جيشي على الزحف. " (72)
وفجأة وجد بطرس نفسه مكروهاً رغم إصلاحاته الجريئة الممتازة، كرهه الجيش خائناً لوطنه، وكرهه الإكليروس لوثرياً أو شرامن اللثوري، وطالب الأقنان الذين لم يعتقوا بالحرية في تذمر وصخب، وسخر منه البلاط ووصفه رجلاً أحمق مأفوناً. وفوق هذا كله حامت حوله شبهة عامة في أنه ينوي تطليق كاترين والزواج من خليلته. (73) "أن هذه الشابة" (كما يروي كاستيرا) "العاطل من أي موهبة خطاب أو كلام، المتغطرسة في غباوة .. استطاعت بدهائها أن تحصل من القيصر-تارة بتملقه، وتارة يتأنبه، وتارة حتى بضربه-على تجديد للعهد الذي قطعه لها ... وهو(41/54)
أن يتزوجها ويبوئها عرش روسيا بدلاً من كاترين (74) ولما لعبت برأسه السلطة والخمر عنف في معاملة كاترين، حتى لقد رماها علانية بالحماقة. (75) كتب البارون دبروتري إلى شوازيل يقول: "إن الإمبراطورة (كاترين) في وضع شديد القسوة، وهي تعامل بمنتهى الاحتقار ... ولن يدهشني أنا العليم بشجاعتها وعنفها إن دفعها هذا إلى نوع من الشطط ... ولا يألو بعض أصدقائها جهداً في تهدئتها، ولكنهم لا يترددون في المخاطرة بكل شيء في سبيلها أن اقتضى الأمر" (76).
وكانت سانت بطرسبرج وأرباضها حافلة بأنصار كاترين. أحبها الجيش والحاشية وجماهير الشعب. وكان أخلص أصدقائها في هذه الأيام العصيبة، بعد وصيفاتها وجريجوري أورلوف، أميرة داشكوفا "إيكاترينا رومانوفنا". ولم تكن هذه السيدة الجريئة المغامرة تتجاوز التاسعة عشرة، ولكنها كانت ذات مكانة مرموقة في القصر لأنها ابنة أخي المستشار فورونتسوفوأخت خليلة بطرس. وكان بطرس في سذاجته أو بين كؤوس الخمر قد كشف لها عن نيته في خلع كاترين وإحلال اليزافيتا فورونتسوفا محلها على العرش. (77) ونقلت داشكوفا النبأ إلى كاترين، -ورجتها أن تشترك في مؤامرة لتنحية بطرس. ولكن كاترين كانت قد دبرت فعلاً مؤامرة مع نيكيتا بانين، مربي ولدها بولس، وكيريل رازوموفسكي، هتمان (زعيم) أوكرانيا، ونيقولا كورف رئيس الشرطة، والأخوين أورلوف، وب. ب باسيك، وهو ضابط في فوج محلي.
وفي 14 يونيو أصدر بطرس أمره بالقبض على كاترين، ثم ألغى الأمر، ولكنه أمرها بالاعتكاف في بيترهوف، على اثني عشر ميلاً غربي العاصمة. أما بطرس نفسه فخلاً بعشيقته في أورانينباوم. وترك تعليمات بأن يعد الجيش نفسه فلإبحار إلى الدنمرك، ووعد بأن يلحق به في يوليو. وفي 27 يونيو قبض على الملازم باسيك لإلقائه خطباً تحط من قدر الإمبراطور. وخشي جريجوري وألكسي أورلوف أن يكره بالتعذيب على الاعتراف بالمؤامرة، فقرر التصرف فوراً. وعليه ففي الثامن والعشرين ركب ألكسي(41/55)
في عجلة قاصداً بيترهوف، وأيقظ كاترين، وأقنعها بأن تعود معه راكبة إلى سانت بطرسبرج. وفي طريقهما توقفاً عند ثكنات فوج اسماعيلوفسكي، واستدعى الجند على قرع الطبول، وناشدتهم كاترين أن ينقذوها من تهديدات الإمبراطور، فأقسموا على حمايتها، "اندفعوا ليقبلوا بدمي وقدمي، وهدب ثوبي، وهم يدعونني مخلصتهم" (في رواية كاترين ليونيا فوفسكي (78)) -لأنهم علموا أنها لن ترسلهم إلى الدنمرك. ومضت إلى كتدرائية كازن في حراسة فوجين والأخوين أورلوف، وهناك نودي بها حكماً مطلقاً لروسيا. ولحقت بها فرقه بريويرازنسكي هناك، وتوسل رجالها إليها "أن-تغفر لنا أننا آخر من جاء" (79) ثم انضم إلى صفوفهم حرس الخيالة، وصحبها أربعة عشر ألف جندي إلى القصر الشتوي؛ وهناك أعلن مجمع الكنيسة، ومجلس الشيوخ رسمياً خلع بطرس وتولية كاترين. واحتج بعض ذوي المقامات الرفيعة، ولكن الجيش أرهبهم، فأقسموا يمين الولاء للإمبراطورة.
وارتدت زي نقيب في حرس الخيالة، وركبت على رأس جندها إلى بيترهوف. وكان بطرس قد ذهب إلى هناك صبيحة ذلك اليوم ليراها، فلما علم بالثورة فر إلى كرونستات. وعرض عليه مونيش أن يصحبه إلى بومرانيا ويجند جيشاً ليرده إلى العرش، ولكن بطرس عاد إلى أورانينباوم وهو عاجز عن اتخاذ القرار. فلما اقتربت قوات كاترين أنفق يوماً في التماس حل وسط، ثم وقع على اعتزاله العرش في 29 يونيو (حسب التقويم القديم)؛ قال فردريك: "لقد سمح بأن يطاح به كما يسمح طفل بأن يرسل إلى فراشه" (80). وسجن في روبشا، على خمسة عشر ميلاً من سانت بطرسبرج. والتمس من كاترين أن تسمح له بالاحتفاظ بخادمه الزنجي، وكلبه الصغير، وكمانه، وخليلته. فأجيبت طلباته كلها إلا آخرها. ونفيت اليزافيتا فوونتسوفا إلى موسكو: ثم اختفت من صحائف التاريخ إلى الأبد.(41/56)
الفصل الثامن عشر
كاترين الكبرى
1762 - 1796
1 - الحاكمة المطلقة
انتصرت كاترين، ولكنها كانت عرضة لكل المخاطر التي ينطوي عليها التغيير الفوضوي. فلكي تكافئ الجنود الذين حرسوها في سعيها إلى السلطة أمرت حانات العاصمة بأن تقدم لهم الجعة والفودكا مجاناً، وكانت النتيجة السكر انتشار بينهم انتشاراً كاد يقوض الأساس الحربي لقوتها. ففي منتصف ليلة 29 - 30 يونيو، بينما كانت كاترين مستغرقة في أول نوم لها خلال ثمان وأربعين ساعة، أيقظها ضابط وقال لها، "إن رجالنا مخمورون جداً. وقد صرح فيهم فارس من الهوصار "إلى السلاح! أن ثلاثين ألف بروسي قادمون لاختطاف أمنا (كاترين)! فتقلدوا سلاحهم وهم قادمون ليطمئنوا عليك". وارتدت كاترين ثيابها، وخرجت، ونفت إشاعة قدوم البروسيين، وأقنعت محاربيها بالمضي إلى فراشهم (1).
ثم عرضها ابنها بولس للخطر. وقد بلغ السنة الثامنة من عمره وذلك أن بنين، وأشرافاً كثيرين، ومعظم الاكليروس، أحسوا أن الشرعية تقتضي تتويج بولس إمبراطوراً وتعيين كاترين وصية عليه، ولكنها خشيت أن إجراء كهذا يلقي بالحكم في أيدي أولجركيه أرستقراطية ستسعى إلى خلعها أو التسلط عليها. وأعلنت رسمياً أن بولس وارث للعرش، ولكن مؤيديه واصلوا إثارة المشاعر، وشب الابن على كراهية أمه لأنها سلبته حقه في التاج.(41/57)
وحين ذاع نبأ الانقلاب في أرجاء روسيا تبين أن الرأي العام خارج العاصمة مناوئ لكاترين. ذلك أن العاصمة عرفت عيوب بطرس مباشرة، وأجمعت عموماً على عدم أهليته للحكم، أما الشعب الروسي خارج سانت بطرسبرج فقد عرفه من التدابير السمحة التي أضفت على حكومته شيئاً من السمو. فجماهير موسكو، البعيدة بعداً لا يسمح لها بالإحساس بفتنة كاترين، ظلت معارضة في عناد لتوليها العرش. وحين اصطحبت كاترين بولس إلى موسكو (معقل التقاليد السنية) صفق له أهلها بحرارة، أما كاترين فكان لقاؤهم لها فاتراً. وندد كثير من أفواج الجيش في الأقاليم بجنود بطرسبرج غاصبين للسلطة القومية.
ولا علم لنا إن كان العطف الواسع على بطرس هو أحد العوامل في موته. ذلك أن القيصر المخلوع الذي تحطمت روحه راح يرسل الالتماسات الذليلة لزوجته ويقول لها "ارحميني واعطيني سلواي الوحيدة"-يعني خليلته-ويرجوها أن تسمح له بالعودة إلى أقاربه في هولشتين. ولكنه بدلاً من أن يلتقي هذا العزاء حبس في حجرة واحدة وفرضت عليه رقابة دائمة. وكان الكسبي أورلوف، رئيس حراسة، يلعب الورق معه ويقرضه النقود. (2) وفي 6 يوليو 1962 (حسب التقويم الجديد)، ركب الكسبي في عجلة إلى سانت بطرسبرج وأنبأ كثيرين بأن بطرس تشاجر معه ومع غيره من الأتباع ومات في العراك الذي أفضت إليه المشاجرة. أما عن كيفية موته، فالتاريخ لا يعرف غير الشائعات التي لم تثبت صحة واحدة منها: قيل إنه سمم أو خنق (3)، وإنه ضرب حتى مات (4)، وإنه مات إثر "التهاب الأمعاء والسكتة الدماغية" (5) وينتهي آخر من أرخ هذه الحقبة إلى أن "تفاصيل القتل لم يمط عنها قط اللثام تماماً، والدور الذي لعبته فيه كاترين يظل غير مؤكد. " (6) ومن غير المحتمل أن تكون كاترين قد أمرت بهذه الفعلة، (7) ولكنها لم تعاقب أحداً على ارتكابها، وأخفتها عن الجماهير يوماً، وقضت يومين في بكاء ظاهر، ثم سلمت بالأمر الواقع. وقد أدانتها أوربا كلها تقريباً بالقتل، أما فردريك الأكبر الذي خسر الكثير بخلع بطرس فقد برأ ساحتها، "كانت الإمبراطورة جاهلة تماماً بهذه الجريمة، وقد سمعت بها في يأس(41/58)
لم تصطنعه، لأنها توقعت بحق ذلك الحكم الذي يصدره عليها اليوم في كل إنسان. " (8) ووافق فولتير فردريك. أما بولس ابن كاترين، فبعد أن قرأ الأوراق الخاصة التي خلفتها أمه عند وفاتها، خلص إلى أن الكسي قتل بطرس دون أي أمر أو طلب من كاترين. (9)
وخلقت الحادثة مشاكل لكاترين كما حلت مشاكل أخرى: فقد أوحت بسلسلة متعاقبة من المؤامرات لخلعها، وتركتها في انزعاج متصل وخطر داهم وسط فوضى الحكم التي اكتنفتها. كتبت عن هذه الحقبة فيما بعد فقالت: "ظل مجلس الشيوخ متبلداً يصم أذنيه عن شئون الدولة. وبلغت كراسي التشريع درجة من الفساد والتفسخ كادت تطمس معالمها. " (10) وكانت روسيا قد خرجت لتوها من حرب انتصرت فيها ولكنها كلفتها ثمناً فادحاً، فكانت الخزانة مدينة بثلاثة عشر مليون روبل، وتشكوا عجزاً بلغ سبعة ملايين روبل في العام، وافتضح حال المالية من رفض كبار المصرفيين الهولنديين إقراض المال لروسيا. وتأخرت رواتب الجند شهوراً كثيرة. وبلغ من سوء نظام الجيش أن كاترين خشيت أن يغزو تتار جنوبي روسيا إقليم أوكرانيا في أية لحظة. أما البلاط فقد اضطرب بالمؤامرات وأضدادها، وبالخوف من فقدان مناصب الكسب أو السلطة، أو الأمل في الظفر بها. وبعد سقوط بطرس بقليل ذهب السفير البروسي إلى أنه "من المؤكد أن حكم الإمبراطورة كاترين لن يكون أكثر من فاصل قصير في تاريخ العالم" (11). وكان هذا من قبيل التمني، لأن فردريك حزن على موت حليفه العابد لشخصه. وأخذت كاترين تلغي الأوامر التي أصدرها بطرس لمساعدة فردريك.
وحاولت الإمبراطورة أن تهدئ معارضة رجال الدين بتأجيل تنفيذ المرسوم الذي أصدره بطرس بتأميم أراضي الكنيسة، ثم أدفأت صدور أنصارها بما خلعته عليهم من مكافآت سخية: فنفحت جريجوري أورلوف بخمسين ألف روبل، وفتح الطريق أمامه إلى الفراش الملكي. وأعيد بستوزيف من منفاه، ورد إلى حياة مريحة ولكن دون أن يرد إلى منصبه.(41/59)
ثم ترفقت بمن عارضوها من قبل. وقدم مونيش فروض الطاعة والولاء فصفحت عنه فوراً وعينته حاكماً على استونيا ولفونيا، وربما أعانتها هذه التدابير على الثبات فوق عرشها المهتز، ولكن أهم العوامل التي كانت عوناً لها هي شجاعتها وذكاؤها. ذلك أن سبعة عشر عاماً قضتها زوجة مهملة لوريث العرش علمتها رغم حيويتها الشابة قدراً من الصبر والحكمة وضبط النفس وخداع الحكم. وقررت الآن، في تحد لنصيحة بانين، وارتياب في ولاء مجلس الشيوخ ونزاهته وكفايته، أن تركز الحكم كله في شخصها، وأن تواجه ملوك أوربا المستبدين-باستبدادية تنافس جمع فردريك بين العسكرية والفلسفة. ولم تتخذ لها زوجاً. وإذ كان النبلاء يسيطرون على مجلس الشيوخ، فقد كان الخيار بين أوتقراطية الملكة والاستبدادية المجزأة للسادة الإقطاعيين، وهو بالضبط الخيار الذي واجهه ريشلو في فرنسا للقرن السابع عشر.
وأحاطت كاترين نفسها بالكفاءة من الرجال، واكتسبت ولاءهم، بل حبهم في كثير من الحالات، ألزمتهم للعمل الشاق، ولكنها أجزلت لهم العطاء، ولعلها غالت في مكافآتهم، فقد أصبح بهاء بلاطها وبذخه عبئاً كبيراً على مواردها. وكان بلاطاً غير متجانس، مؤصلاً في البربرية ومصقولاً بالثقافة الفرنسية، ومحكوماً بامرأة ألمانية تفوق مساعديها تعليماً وذكاءاً. وقد أثمرت مكافآتها السخية للخدمات الاستثنائية المنافسة دون أن تكبح جماح الفساد. فكان الكثيرون من بطانتها يأخذون الرشا من الحكومات الأجنبية، واتخذ بعضهم موقف الحياد بقبول الرشا من طرفين متعارضين. وفي 1762 أذاعت كاترين على الأمة اعترافاً غير عادي، فقالت:
"أننا نعده واجباً أساسياً وضرورياً أن نعلن للشعب، بحسرة صادقة، أننا سمعنا منذ زمن مديد، وأننا الآن نرى في أفعال ظاهرة للعيان، إلى أي درجة استشرى الفساد في إمبراطوريتنا، بحيث لا يكاد يوجد منصب في الحكومة .... لا تعدو فيه على العدالة عدوى هذا الوباء. فإذا طلب(41/60)
إنسان وظيفة كان عليه أن يدفع ثمنها، وإذا شاء إنسان أن يدفع عن نفسه شر الافتراء، فبالمال، وإذا أراد أن يتهم جاره زوراً وبهتاناً ففي استطاعته بالهدايا أن يضمن نجاح خططه الشريرة" (12).
وكان بعض المؤامرات التي تكاثرت من حولها يستهدف إحلال إيفان السادس محلها. وكان قد قضى الآن رهين السجن إحدى وعشرين سنة بعد أن خلعه انقلاب ديسمبر 1741. ففي سبتمبر 1762 أفصح فولتير عن خوفه من أن "إيفان قد يطيح بمن أحسنت إلينا" (13)، وكتب يقول: "أخشى أن تقتل إمبراطورتنا العزيزة. " (14) فزارت كاترين إيفان، ووجدته "إنساناً مهملاً مهجوراً تردى في العته نتيجة السجن سنين طويلة" (15) ثم تركت لحراسه أوامر بأنه لو بذلت أي محاولة لم تصرح بها هي نفسها للإفراج عنه، فعليهم أن يقتلوا إيفان خيراً من أن يسلموه. وفي منتصف ليلة 5 - 6 يوليو 1764 ظهر ضابط في الجيش يدعى فاسيلي ميروفتش على باب السجن يحمل ورقة فحواها أنها أمر من مجلس الشيوخ بتسليم إيفان له. ثم مضى يعينه بعض من الجند وطرق باب الزنزانة التي كان حارسان ينامان فيها مع إيفان، وطالب بالدخول. فلما رفض طلبه أمر بإحضار مدفع لتحطيم الباب. فلما سمع الحارسان الأمر قتلا إيفان. وقبض على ميروفتش وأعلنت وثيقة عثر عليها في جيبه أن كاترين خلعت، وإن إيفان السادس أصبح منذ الآن قيصراً لروسيا. ورفض عند محاكمته أن يفضي بأسماء شركائه. وكان جزاؤه الإعدام. واتهم الرأي العام عموماً كاترين بقتل إيفان. (16)
واتصلت المؤامرات. ففي 1768 أكد ضابط يدعى تشوجلو كوف أنه موكل من الله بالانتقام لمقتل بطرس الثالث، فتسلح بخنجر طويل، ووجد طريقة إلى القصر الملكي، واختبأ عند منعطف دهليز ألفت كاترين أن تمر فيه. وسمع جريجوري أورلوف بخبر المؤامرة، فقبض على تشوجلوكوف، الذي اعترف مفاخراً بأنه ينوي قتل الإمبراطورة، وكان جزاؤه، النفي إلى سييبريا.(41/61)
2 - العاشقة
أحاط بكاترين نبلاء لا تستطيع أن تثق بهم، ولاحقتها الدسائس التي أحدثت الاضطراب في الإدارة، لذلك اخترعت ضرباً جديداً من الحكم جعلت فيه عشاقها المتعاقبين كبار إداري الحكومة. فكان كل عشيق خلال صعود نجمه كبير وزرائها، وأضافت شخصها إلى مكافأة المنصب، ولكنها اقتضت كفاءة الخدمة نظير ذلك. كتب ماسون (وهو واحد من أعداء كاترين الفرنسيين الكثيرين) يقول "لم تكن وظيفة واحدة من وظائف الحكومة كلها لا تؤدي فيها الواجبات بمنتهى التدقيق .. وربما لم يكن هناك أي منصب لم تبد فيه الإمبراطورة اختياراً وتمييزاً أكثر من غيره. وفي اعتقادي أنه لم تقع حالة تبين فيها أن المنصب شغله شخص غير كفء له. " (17) ومن الخطأ أن تكون فكرتنا عن كاترين أنها امرأة فاجرة منغمسة في اللذات، فقد راعت جميع مظاهر اللياقة، ولم تسمح لنفسها قط بالدخول في أحاديث نابية، ولا سمحت بها في حضرتها. (18) وقد بذلت لمعظم عشاقها الود الوفي-ولبعضهم الود الرقيق، ورسائلها إلى بوتمكين تم على إخلاص يكاد يكون صبيانياً، وقد أصابها موت لانسكوي بحزن مدمر.
وكانت تستعين بالفن والعلم معاً في مهمة اختيار صاحب الحظوة الجديد. فهي تنشد رجالاً يجمعون بين القدوة السياسية والجسدية، كانت تدعو المرشح لتناول العشاء، وتختبر عاداته وعقله، فإذا جاز هذا الامتحان الدقيق فحصه بأمرها طبيب القصر، فإذا خرج من هذا الاختبار سليماً عينته ياوراً لها، وأعطته راتباً مغرياً، وسمحت له بمعاشرتها. وإذ كانت مجردة تماماً من الإيمان الديني، فإنها لم تسمح لأي من الأخلاقيات المسيحية بأن تتدخل في طريقتها الفذة في اختيار الوزراء. وقد وضحت الأمر لنقولا سالتيكوف فقالت: "إنني أخدم الإمبراطورة بتربيتي الشبان الأكفاء" (19) وكانت الخزانة تتكلف غالياً في مكافأة هؤلاء المحظوظين-وإن كانت التكلفة على الأرجح أقل كثيراً ما كانت تنفقه فرنسا على خليلات لويس(41/62)
الخامس عشر ومحظياته. وفي تقدير كاستيرا أن الاخوة الخمسة أورلوف تسلموا سبعة عشر مليون روبل، وبوتمكين خمسين مليوناً، ولانسكوي 7. 260. 000. وقد ارتدت بعض هذه النفقة إلى روسيا بصورة الخدمة الفعالة، فقد أضاف بوتمكين مثلاً، وهو أكثر عشاقها حظوة وتدليلاً، أقاليم درت على الإمبراطورية الربح الوفير.
ولكن لم كانت تغير وتبدل في عشاقها بهذه الكثرة، حتى أنها اتخذت منهم واحداً وعشرين في أربعين سنة؟ لأن بعضهم أخفق في واجب أو أكثر من واجباتهم المزدوجة، وبعضهم تبين عدم وفائه: وبعضهم مست الحاجة إليه في مواقع بعيدة. من ذلك أن أحدهم، ويدعى ريمسكي كورساكوف، فاجأته في مسكنها بين ذراعي وصيفة شرفها، فاكتفت كاترين بطرده، وتركها آخر يدعى مامونوف لأنه آثر عليها رفيقة أكثر شباباً، وأقالته الإمبراطورة دون أن تنتقم منه. (20) يقول ماسون، "من الخصائص الشديدة الغرابة في خلق كاترين أن أحداً من المقربين إليها لم يجلب على رأسه كرهها أو انتقامها، وإن أساء إليها العديدون منهم، ولم يكن تركهم مناصبهم بسببها. ولم ير الناس قط أحدهم ينزل به العقاب ... وفي هذا تبدو كاترين أسمى من جميع النساء. " (21)
بعد تولي كاترين العرش احتفظ جريجوري أوزلوف بمكانته المرموقة عشر سنوات، وقد أطرته كاترين في حب فقالت:
"إن للكونت جريجوري عقل النسر، فأنا لم ألق في حياتي رجلاً أوتي فهماً أدق وألطف لأي أمر يضطلع به أو حتى يقترح عليه ... ونزاهته تعصمه من أي تهجم عليه ... ومن أسف أن التعليم لم يتح له أي فرصة لصقل سجاياه ومواهبه، وهي في الحق فائقة، ولكن حياته العشوائية تركتها كالأرض المرحة. " (22)
ثم كتبت في موضع آخر "أن هذا الرجل كان خليقاً بأن يظل (عشيقها وأثيرها) إلى النهاية لولا أنه كان أول من مل صاحبه. " (23)(41/63)
وقد جاهد جريجوري لتحرير الأقنان، واقترح تحرير المسيحيين من ربقة العثمانيين، وأسن البلاء في الحروب، وأغضبت الحاشية بكبريائه وغطرسته وراغ من ذراعي كاترين. وقد أقصى في 1772 إلى حيث الثراء والدعة في ضياعه. أما أخوه ألكسي فقد أصبح أمير البحر الأول، وقاد الأسطول الروسي إلى النصر على الأتراك، وظل محتفظاً بالحظوة طوال العهد، وعمر حتى قاد أفواجه ضد نابليون.
وحل محل جريجوري في حظوته فتى فائق الحسن مغمور يدعى ألكسيس فاسيلتشيك، دسه حزب من أحزاب البلاط على كاترين ليصرف فكرها عن أورلوف المنفي، ولكنها وجدته غير كفء لا في السياسة ولا في غير السياسة، فأحلت مكانه (1774) جريجوري ألكسندروفتش بوتمكين، وكان ضابطاً في حرس الخيالة، الذين ارتدت زيهم (1762) لتقودهم ضد بطرس، فلما لاحظ بوتمكين أن سيفها تنقصه الشرابة التي يعتز بلبسها الحرس، انتزع شرابته من مقبض سيفه وركب في جرأة خارج صفوف الجيش، وقدم لها هذا الوسام، فقبلته، واغتفرت له جرأته، وأعجبت بوجهه الوسيم وجسمه المفتول. وكان أبوه-وهو كولونيل متقاعد من صغار النبلاء-قد قرر أن يكون ابنه قسيساً، وتلقى بوتمكين قدراً لا يستهان به من التعليم في التاريخ والدراسات الكلاسيكية واللاهوت، وأثبت تفوقه في جامعة موسكو. ولكنه وجد حياة الجيش أنسب لمزاجه الجموح الخصب الخيال من المدرسة اللاهوتية. وقد سحره بالطبع ما اجتمع لكاترين من جمال وسلطان، فقال عنها أنها إذا دخلت حجرة مظلمة أنارتها" (24).
وفي حرب 1768 قاد فوج خيالته ببسالة مستهترة حملت كاترين على أن تبعث إليه بإطراء شخصي. فلما عاد إلى سانت بطرسبرج أكلته الغيرة من الاخوة أورلوف وفاسيلتشيك. وتشاجر مع الاخوة أورلوف، وفي معركة معهم فقد إحدى عينيه (25). ولكي يخرج الإمبراطورة من عقله-أو يدخل نفسها في عقلها-ترك البلاط، واعتزل في ضاحية، ودرس اللاهوت، وأطلق شعره ولحيته، وأعلن أنه سيترهب، فرق له قلب كاترين، وبعثت إليه تقول أنها تقدره تقديراً(41/64)
كبيراً، ودعته ليعود، فحلق لحيته، وهذب شعره، وارتدى بزته العسكرية، وظهر في البلاط، واهتز طرباً لبسمات الإمبراطورة. وحين افتقدت كاترين الكفاية في فاسيلتشيك فتحت ذراعيها لبوتميكن، وكان يومها في الرابعة والعشرين، في أوج عنفوانه وفتنته. وسعان ما هامت به هيامه بها، وراحت تحبوه بوصلها، وتغدق عليه الروبلات، والأراضي، والأقنان، وحين كان يغيب كانت ترسل إليه رسائل غرامية بريئة من مظهر الجلالة.
"ما أعجب حالي! كل شيء اعتدت أن أسخر منه وقع لي الآن، لأن حبي لك أعماني. فالعواطف التي ظننتها بلهاء مفرطة غير طبيعية أمارسها أنا نفسي الآن. إنني لا أقوى على إبعاد عيني الغبيتين عنك .. ..
"لا نستطيع الالتقاء إلا خلال الأيام الثلاثة القادمة، فبعدهايحل أول أسبوع في الصوم الكبير، المخصص للصلاة والصيام. وسيكون اللقاء إثماً كبيراً. إن مجرد التفكير في هذا البعد يبكيني" (26).
وعرض عليها الزواج، ويعتقد بعض المؤرخين أنهما تزوجا سراً، وفي خطابات عدوه تعدوه "زوجي الحبيب" وتتكلم عن نفسها فتقول "زوجتك" (27)، رغم أننا يجب ألا نستخلص الحقيقة أبداً من مجرد الألفاظ ويبدو أنه ملها، ربما لهيامها الجموح به؛ وتبين أن صوت المغامرة أقوى لديه من الدعوة للهجوم على قلعة فرغ من فتحها. وقد ظل نفوذه عليها عظيماً حتى أن معظم المقربين الذين خلفوه لم يخلفوه إلا بعد الحصول على موافقته.
وهذا ما حدث لبيوتر زافودوفسكي، الذي استدفأ في خدرها من 1776 إلى 1777، ولسيمون زوريتش (1777 - 1778)، وإيفان رمسكي-كورساكوف (1778 - 1780). ولم تشعر بغرام يملك عليها لها مرة أخرى إلا حين اتخذت ألكسيس لانسكوي (1780) عشيقاً. فهذا الفتى لم يكن وسيماً كيساً مثقفاً فحسب، بل كان صاحب حس شعري(41/65)
مرهف وحب إنساني للخير، وصديقاً ذكياً للآداب والفنون. "لقد بدا أن الجميع يشاركون الملكة في ولعها به" (28). وفجأة أصيب بآلام لا تطاق في الأمعاء، واشتبهت الحاشية في أن يكون بوتمكين قد دس له السم، ثم مات رغم كل جهود الأطباء ورعاية كاترين المخلصة، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها. وقضت ثلاثة أيام في عزلة وحزن. ونحن نسمع المرأة من خلف الحاكمة-والقلب من خلف التاريخ-في رسالة كتبتها في 2 يوليو 1784.
"خيل إلي أنني هالكة بعد هذه الخسارة التي لا تعوض ... لقد عللت نفسي بأن سيكون العون لي في شيخوختي. كان مجاملاً، وتعلم الكثير، واكتسب كل ميولي ... كان فتى أقوم على تربيته، وكان شاكراً، رقيقاً، طيباً" ... إن لانسكوي لم يعد له وجود .. وباتت حجرتي وكراً فارغاً بعد أن كانت تفيض إشراقاً وبهجة، ولا قدرة لي إلا على جر نفسي إليها كأنني طيف من الأطياف .. لا أستطيع النظر إلى وجه إنسان دون أن يختنق صوتي ... لا أستطيع أن أذوق النوم ولا الطعام .. ولست أدري ماذا يكون مصيري" (29).
وظلت عاماً تحرم نفسها من العشاق، وأخيراً استسلمت لألكسيس أرمولوف، (1785 - 1786)، الذي ساء بوتمكين كثيراً فاستعيض عنه سريعاً بألكسيس مامونوف. ولكن سرعان ما زهد ألكسيس في خليلته ذات السبعة والخمسين، واستأذن في الزواج منالأميرة شرباتوف، واحتفلت كاترين بالعروسين في زفاف رسمي بالبلاط، ثم صرفتهما محملين بالهدايا (1789) (30). وآخر القائمة هو بلاتون زوبوف (89 - 1796) وكان ملازماً في حرس الخيالة، مفتول العضل دمث الطباع. وكانت كاترين شاكرة له خدماته، فاضطلعت بالإشراف على تعليمه، وانتهت بمعاملته معاملة الأم لابنها. وقد لازمها حتى مماتها.
3 - الفيلسوفة
بين الحب والحرب، وسياسة الدولة والدبلوماسية، وجدت هذه المرأة المدهشة وقتاً للفلسفة. وقد تكون فكرة عن سمو المكانة التي بلغتها جماعة(41/66)
"الفلاسفة" الفرنسيين حين نرى أكفأ حاكمين من حكام القرن الثامن عشر يعتزان بتبادل الرسائل معهم ويتنافسان على الظفر بثنائهم.
وكانت كاترين قبل ولايتها العرش بزمن طويل تستطيب أسلوب فولتير وفكاهته الذكية وعباراته المجردة من التوقير، وتحلم بأن تكون ذلك الحاكم "المستبد المستنير" الذي راود أحلامه. ولا بد أنها أعجبت بديدرو أيضاً، لأنها في سبتمبر 1762 عرضت أن تطبع الموسوعة في سانت بطرسبرج إذا أمعنت الحكومة الفرنسية في حظرها. ولم يبق من الرسائل التي كتبتها لفولتير قبل 1765 إلا واحدة، وقد ردت على أبيات أرسلها لها في أكتوبر 1763:
"لأول مرة آسف على أنني لست شاعرة، وأن يكون ردي على أبياتك بالضرورة نثراً لا شعراً. ولكني أود أن أقول لك أنني منذ 1764 مدينة بأعظم الفضل لك. فقبل تلك الحقبة لم أكن أقرأ شيئاً غير الروايات، ولكن حدق أن وقعت كتبك في يدي مصادفة، وبعدها لم أكف عن قراءتها، ولا رغبت في قراءة كتب أقل جودة في الكتابة أو أقل تثقيفاً ... وهكذا لا أفتأ أعود إلى خالق ذوقي عودتي إلى أعمق أسباب تسليتي، وأؤكد لك يا سيدي إن كنت قد حصلت أي معرفة فالفضل فيها لك. وأنا الآن أقرأ مقالك "في التاريخ العام"، وبودي لو حفظت كل صفحة منه عن ظهر قلب" (31).
وظلت كاترين طيلة حياتها، أو حتى مماتهم، تراسل فولتير وديدرو ودالمبير ومدام جوفران وجريم وكثيرين غيرهم من وجوه الفرنسيين. وأسهمت في المال الذي جمعه فولتير لقضية كالاس وسيرفانس وقد أسلفنا القول أنها أمرت باستيراد شحنات كبيرة من الساعات من فرنيه، ومن الجوارب التي صنعها عمال فولتير، وأحياناً فولتير نفسه (إن جاز لنا أن نصدق الثعلب العجوز). وكان من بواعث فخره ن الرؤوس المتوجة أغدقت عليه أسباب التكريم، وقد كافأ كاترين بأن أصبح مندوبها الصحفي في فرنسا. وقد برأ ساحتها من الاشتراك في جريمة قتل بطرس الثالث، وكتب يقول "أعلم أن(41/67)
كاترين تلومها بعض الشائعات التافهة حول زوجها، ولكن هذه أمور عائلية لا شأن لي بها" (32). وناشد أصحابه أن يؤيدوه في الدفاع عن كاترين، فكتب إلى دارجنتال يقول:
"هناك صنيع آخر أرجو أن تسديه إلى، وهو يخص كاترين. يجب أن ندعم سمعتها في باريس بين أفاضل القوم ووجهاؤهم ... وعندي أسباب قوية للاعتقاد بأن الدوقين براسلان وشوازيل لا يعتبر أنها أكثر نساء العالم نقاء ضمير، ومع ذلك فأنا عليم ... بأنه لم يكن لها يد في موت زوجها السكير .. ثم أنه كان أكبر أحمق تربع على عرش ... ونحن مدينون بالفضل لكاترين لأنها أوتيت الشجاعة لخلع زوجها، وهي تسوس ملكة بحكمة واعتزاز، وينبغي أن نبارك رأساً متوجاً ينشر التسامح الديني في أرجاء 135 درجة طولية ... إذن أرجوك أن تذكر كاترين بخير كثير (33).
أما مدام دو دوفان فقد رأت أن تبرئة الإمبراطورة هذه مخزية جداً، كذلك أدانتها مدام دشوازيل وهوراس ولبول (34). وما كان يتوقع في براسلان وشوازيل اللذين يوجهان علاقات فرنسا الخارجية أن يعجبا بإمبراطورة تعارض النفوذ الفرنسي في بولندة وتتحداه في تركيا. وكانت الشكوك تساور فولتير ذاته بين حين وحين. فلما سمع بمصرع إيفان السادس، سلم في حزن بـ "أن علينا أن نخفف قليلاً من غلوائنا في التحمس" لكاترين (35). ولكنه ما لبث أن أطرى برنامجها التشريعي، ورعايتها للفنون، وحملتها لنسر الحرية الدينية في بولندة، وخلع عليها الآن (18 مايو 1767) لقب "سميراميس الشمال". وحين خاضت الحرب ضد تركيا قطع هجومه على الكنيسة الكاثوليكية I'imfame ليمتدح حملتها الصليبية لإنقاذ المسيحيين من المسلمين.
أما ديدرو فقد استهواه بالمثل ذلك الجمال المتربع على العرش، وكان له في ذلك مبررات قوية. ذلك أن كاترين سمعت أنه ينوي بيع مكتبته ليجمع مهراً لابنته، فأصدرت تعليماتها لوكيلها الباريسي بأن يشتريها بأي ثمن يطلبه ديدرو، فطلب ستة عشر ألف جنيه وقبضها. ثم رجت ديدرو أن يحتفظ(41/68)
بالكتب حتى مماته، وأن يكون حارسها على المكتبة نظير راتب قدره ألف جنيه في العام، وزادت بأن دفعت راتبه مقدماً عن خمسة وعشرين عاماً. وأصبح ديدرو بين عشية وضحاها رجلاً غنياً ومحامياً يدافع عن كاترين. فلما دعته لزيارتها لم يستطع أن يرفض. قال "يجب أن يرى الإنسان امرأة كهذه ولو مرة في العمر" (36).
وبعد أن دبر شئون المال لزوجته وابنته خرج وهو في الستين (3 يونيو 1773) في الرحلة الطويلة الشاقة إلى سانت بطرسبرج. ولبث شهرين في لاهاي يرشف حلاوة الشهرة على مهل، ثم واصل الرحلة بطريق درسدن وليبزج، وحرص على أن يتجنب برلين وفردريك الذي كان قد أبدى عنه بعض الملاحظات الشائكة. وأصيب مرتين خلال الرحلة بالمغص إصابة عنيفة، ثم وصل إلى سانت بطرسبرج في التاسع من أكتوبر، واستقبلته كاترين في العاشر منه. كتب يقول "ليس هناك من يعرف خيراً منها فن رفع الكفلة عن محدثها" (37). ودعته للتكلم في صراحة، "كما يتكلم رجل لرجل". ففعل، وأومأ إيماءاته على عادته، وأكد نقاطع بصفع فخذي الإمبراطورة. كتبت كاترين لمدام جوفران تقول "إن ديدرو هذا رجل غريب الأطوار. فأنا أخرج من لقاءاتي معه بفخذين مرضوضتين سوداوين تماماً. وقد اضطررت إلى وضع منضدة بيننا وقاية لنفسي ولأعضائي" (38).
وقد حاول فترة أن يلعب دور الدبلوماسي كما حاول فولتير مع فردريك، وأن يصرف روسياً عن تحالفها مع النمسا وبروسيا إلى تحالف مع فرنسا (39)؛ ولكنها سرعان ما صرفته إلى موضوعات أقرب إلى صناعته. وأخبرها في شيء من التفصيل كيف يمكن أن تحول روسيا إلى بلد مثالي، واستمعت إليه جذلة، ولكنها ظلت على تشككها. وقد استعادت فيما بعد هذه الأحاديث في رسالة كتبتها للكونت لوي-فليب دسيجور. قالت:
"تحدثت معه كثيراً ومراراً، ولكن بفضول أكثر من الفائدة. ولو صدقته لانقلب كل شيء في مملكتي، فالتشريع والإدارة المالية- كلها(41/69)
كانت تنقلب رأساً على عقب لتفسح مجالاً لنظريات غير عملية ... ثم قالت له في صراحة: "يا مسيو ديدرو، لقد أصغيت بمنتهى اللذة لكل ما أوحى به فكرك اللماح .. أن المرء، بكل مبادئك السامية، قد يؤلف كتباً رائعة، ولكنه يخسر في تجارته ... أنك تشتغل على الورق، الذي يتحمل كل شيء .. أما أنا، الإمبراطورة المسكينة، فأشتغل على جلد البشر، وهو جلد سريع التهيج حساس على نحو مختلف" ... وبعدها قصر كلامه على الأدب (40). وحين وقعت على مذكرات كان قد كتبها "بتعليمات صاحبة الجلالة الإمبراطورة ... لوضع القوانين" وصفتها (بعد وفاته) بأنها "محض هذيان، لا أثر فيه لمعرفة بالحقائق ولا لتدبير ولا لنظر ثاقب" (41). ومع ذلك استمتعت بحديثه المفعم حيوية، وكانت تبادله الأحاديث كل يوم تقريباً خلال مقامه الطويل (1).
وبعد أن ديدرو خمسة أشهر من البهجة الغامرة في صحبتها، والتعب في بلاطها، نوى الرحيل إلى أرض الوطن. فأمرت كاترين بصنع عربة خاصة له يستطيع أن يتكئ فيها مستريحاً. وسألته أن الهدايا ترسلها إليه فقال لا شيء، ولكنه ذكرها بأنها لم تف بوعدها أن ترد له نفقات رحلته، وقد قدرها بألف وخمسمائة روبل، فنفحته بثلاثة آلاف وبخاتم ثمين، وعينت ضابطاً ليرافقه حتى لاهاي. فلما عاد إلى باريس أثنى عليها ثناء الشكر والعرفان.
ولم تحاول كاترين الاتصال بروسو، الذي كان نقيضها إلى حد مؤلم في الطبع والأفكار، ولكنها صادقت جريم، لأنها عرفت أن صحيفته "الرسائل الأدبية" تصل إلى أيدي الأوربيين ذوي النفوذ. واتخذ أول خطوة بعرضه (1764) أن يوافيها برسائله الدورية، فوافقت ونقدته ألفاً وخمسمائة روبل في السنة. وقد رآها أول مرة حين ذهب إلى سانت بطرسبرج (1773) في بطانة مير هسي-دار مشتات لحضور زفاف أخت الأمير إلى الغراندوق بولس. وقدوجدته كاترين أكثر واقعية من ديدرو، مطلعاً إطلاعاً مفيداً
_________
(1) لعل القصة التي زعمت أن أويلر أريك ديدرو أمام الحاشية الروسية ببرهان جبري وهمي على وجود الله قصة مشكوك في صحتها (42).(41/70)
جداً على جميع مناحي ذلك العام الباريسي الذي سحرها بأدبه وفلسفته وفنه ونسائه وصالوناته. ودعته "للدردشة" معها كل يوم تقريباً خلال شتاء 1773 - 1774 وقد كتبت إلى فولتير عن هذه اللقاءات: "إن حديث السيد جريم يمتعني، ولكن الأشياء التي نود أن نتبادل الكلام فيها من الكثرة بحيث اتسمت لقاءاتنا إلى الآن بالحماسة أكثر من اتسامها بالنظام أو التتابع" وفي حرارة هذه الأحاديث كان عليها المرة بعد المرة أن تذكر نفسها بأن عليها (على حد قولها) أن تعود إلى "أكل العيش" أكل عيشها بالالتفافات إلى مهمة الحكم (43). وعاد جريم إلى باريس يطفح تحمساً لكاترين "غذاء روحي، وعزاء قلبي، وفخر عقلي، وبهجة روسيا، وأمل أوربا" (44). وعاد إلى زيارة بطرسبرج في 1776، وكان يلقاها كل يوم تقريباً على مدى عام. ورجته أن يمكث ويشرف على التنظيم الجديد للتعليم في روسيا، ولكن حن إلى باريس ومدام ريينيه. ولم تكن كاترين بالمرأة الغيور، فلما سمعت أن مدام ريينيه تعاني أزمة مالية بعثت إليها بطريق رقيق غير مباشر ما يكفي لتلبية حاجاتها (45). ومنذ 1777 قام جريم بمهمة الوكيل لكاترين في فرنسا في المشتريات الفنية والمهام السرية. ودامت صداقته لها إلى النهاية دون أن يكدر صفوها مكدر.
ماذا كان نتائج هذا الغزل بين الأوتقراطية والفلسفة؟ أما من حيث مصادقتها للفلاسفة بوصفهم وكلاؤها الصحفيين في فرنسا، فالأثر السياسي كان صفراً؛ فالسياسة الفرنسية، ومن ثم المؤرخون الفرنسيون، ظلوا خصوماً ألداء لبلد كروسيا يحبط الأهداف الفرنسية في أوربا الشرقية. ولكن إعجابها بأبطال التنوير الفرنسي كان مخلصاً، لأنه بدأ قبل تقلدها السلطة بزمن طويل، ولو كان تظاهراً وادعاءً لما ثبت للمواجهات الطويلة مع ديدرو وجريم. وقد أعان اتصالها بالفكر الفرنسي على صبغ روسيا المتعلمة بالصبغة الأوربية، وعلى تعديل الرأي الغربي الذي رأى في روسيا وحشاً هائلاً جباراً. وقد اقتدى روس كثيرون بكاترين، وراسلوا كتاب الفرنسيين، وشعروا بتأثير الثقافة والعادات والفنون الفرنسية. وزار باريس عدد متزايد من الروس، ومع أن كثيرين منهم أنفقوا وقتهم في المغامرات(41/71)
الجنسية إلا أن الكثيرين اختلفوا إلى الصالونات والمتاحف والبلاط، وقرأوا الأدب والفلسفة الفرنسيين، وجلبوا معهم أفكاراً شاركت في الإعداد لتفجر الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
4 - الحاكمة القديرة
لا يتطرق إلينا الشك في صدق نيات كاترين في مطلع حكمها.
فقد وجدت هذه القرارات في نسخة "تليماك" التي كانت تقرؤها:
"عليك بدراسة الإنسان، وبتعلم استخدام الرجال بغير الاستسلام لهم دون تحفظ. وابحثي عن الكفاية الأصيلة وإن وجدت في أقصى الأرض، لأنها تكون عادة متواضعة متوارية.
ولا تسمحي لنفسك بأن تصبحي فريسة للمتملقين، أفهميهم أنك ى تعبأين بالمديح ولا بالتذلل والخنوع. وضعي ثقتك في أولئك الذين لديهم الشجاعة للاعتراض على آرائك ... والذين تهمهم سمعتك أكثر مما يهمهم رضاءك.
"كوني مؤدبة، رحيمة، منفتحة، عطوفاً، متحررة العقل. ولا تدعي سمو مكانتك بمنعك من النزول في تلطف إلى صغار الناس، ووضع نفسك في موضعهم. واحرصي على ألا يضعف هذا اللطف من سلطانك أو ينتقص من احترامهم لك ... وانبذي كل تصنع وافتعال. ولا تسمحي للعالم أن يلوثك إلى الحد الذي يفقدك مبادئ الشرف والفضيلة القديمة.
أقسم بالسماء أن أطبع هذه الكلمات على صفحة قلبي" (46).
وكانت تدأب على الإحاطة بدقائق كل موضوع تتناوله، وقد كتبت تعليمات مفصلة عن مئات المواضع من تدريب الجيش والعمليات الصناعية إلى زينة حاشيتها وإخراج الأوبرات والتمثيليات. قال أحد كتاب سيرتها الأولين وكان من أقلهم تعاطفاً:(41/72)
"إن الطموح لم يطفئ في روح كاترين تذوقاً حاراً للذة، ولكنها كانت تعرف كيف تنبذ اللذة، وتنتقل إلى الاضطلاع بأكثر الواجبات خطراً، وإلى الممارسة التي لا تكل لشئون الحكم. فتحضر جميع مداولات المجلس، وتقرأ رسائل سفرائها، وتملي، أو تشير ... بالردود التي لا يرد بها. ولا تكل لوزرائها سوى تفاصيل العمل، ولا تفتأ تراقب تنفيذه" (47).
واستحالت أو كادت مهمة حكم رقعة ملكها الشاسعة لكثرة القوانين الموجودة (عشرة آلاف). وتنوعها، وتناقضاتها، وفوضاها. وإذ راودها الأمل في أن تؤدي لروسيا ما أداه من قبل جستنيان للدولة الرومانية، وفي أن تدعم سلطتها، فإنها دعت إلى موسكو في 14 ديسمبر 1766 موظفين إداريين وخبراء قانونيين من كل ركن من أركان الإمبراطورية، ليقوموا بمراجعة دقيقة شاملة وجمع وتنسيق للقانون الروسي. واستعداداً لمجيئهم أعدت بشخصها تعليمات " Nakaz" تصف المبادئ التي ينبغي أن يشكل على أساسها القانون الجديد. وقد عكست هذه المبادئ قرائتها لمونتسكيو وبكاريا وبلاكستون وفولتير. واستهلت تعليماتها بالتصريح بأنه يتعين التفكير في روسيا على أنها دولة أوربية، ينبغي أن يكون لها دستور قائم على "مبادئ أوربية". وليس معنى هذا في مفهومها "حكومة دستورية" تخضع الملك لهيئة تشريعية يختارها الشعب، فمستوى التعليم في روسيا لن يسمح حتى بحق انتخاب محدود كالموجود آنئذ في بريطانيا. إنما يعني حكومة يحكم فيها الحاكم طبقاً للقانون، وإن كان هو ف نهاية الأمر المصدر الوحيد للقانون. وقد أيدت كاترين النظام الإقطاعي-أعني نظام الولاء والخدمات المتبادلة بين الفلاح والمقطع (التابع) وبين المقطع والسيد الإقطاعي، وبين السيد والملك-باعتباره نظاماً لا غنى عنه للاستقرار القتصادي والسياسي والحربي في روسيا عام 1766 (وهي بلد الجماعات التي لا تكاد تنعزل بعضها عن بعض، وعن مركز الحكومة، نتيجة لصعوبات الانتقال والنقل)، ولكنها ألحت على ضرورة تعريف وتحديد حقوق السادة على أقنانهم قانوناً، وعلى السماح للأقنان بتمالك الأملاك، وعلى نقل محاكمة الأقنان وعقابهم من السيد الإقطاعي إلى قاضي عمومي يسأل محكمة إقليمية مسئولة أمام الملك (48). وينبغي أن تكون جميع المحاكمات(41/73)
علنية، وأن يبطل استخدام التعذيب، وأن تلغى عقوبة الإعدام قانوناً وواقعاً. أما العبادة الدينية فينبغي أن تكون حرة، "فالتعصب هو أضر الكبائر بين هذه الكثرة من مختلف العقائد" (49). ثم قدمت هذه التعليمات قبل طبعها إلى مستشاريها، فنبهوها إلى أن أي تغيير فجائي من الأحوال المألوفة سيدفع بالروسيا إلى مهاوي الفوضى؛ وقد سمحت لهم بتعديل مقترحاتها، لا سيما ما استهدفت عتق الأرقاء تدريجياً (50).
وقد دفعت هذه التعليمات التي نشرت في هولندة في 1767 صفوة المفكرين الأوربيين إلى الثناء الحماسي عليها، حتى بعد أن عدلت على هذا النحو. وأرسلت الإمبراطورة نسخة منها رأساً إلى فولتير، الذي قدم فروض احترامه المعهودة: "سيدتي، تلقيت البارحة ضماناً من ضمانات خلودك-هو مجموعة قوانينك في ترجمة ألمانية. وقد شرعت اليوم في ترجمتها إلى الفرنسية. وسوف تظهر في الصينية، وفي كل لسان، وسوف تكون إنجيلاً للبشر أجمعين (51). وأضاف في رسائل تالية: "إن المشرعين يحتلون مكان الصدارة في هيكل المجد، أما الفاتحون فيأتوهم من بعدهم ... إنني أعد (التعليمات) أجل آثار هذا القرن" (52). ومنعت الحكومة الفرنسية بيع (التعليمات) في فرنسا.
وقدمت "التعليمات" المعدلة إلى "لجنة صياغة القانون الجديد" التي اجتمعت في 10 أغسطس 1767. وكانت تتألف من 564 عضواً تنتخبهم جماعات شتى: 161 من النبلاء و208 من المدن، 79 من الفلاحين الأحرار، و54من القوزاق، و34 من القبائل غير الروسية (مسيحيين أو غير مسيحيين) و28 من الحكومة. ولم يمثل الاكليروس بصفتهم طبقة، ولم يمثل الأقنان إطلاقاً. وكانت اللجنة من بعض وجوها نظير لمجلس طبقات الأمة الفرنسي الذي تقرر أن يجتمع في باريس في 1789، وقد أتى المندوبون للحكومة بقوائم احتوت المظالم ومقترحات الإصلاح من دوائرهم على نحو ما سيفعل مندوبو ذلك المجلس الأشهر. ورفعت هذه الوثائق إلى الإمبراطورة فأتاحت لها ولمساعديها مسحاً قيماً لحالة المملكة.(41/74)
ولم تخول اللجنة سلطة إصدار القوانين، بل تقديم المشورة للإمبراطورة عن حالة كل طبقة أو إقليم وحاجاته وتقديم الاقتراحات للتشريع. وكفلت للمندوبين حرية الكلام وعدم المساس بأشخاصهم. واقترح بعض عتق جميع الأقنان وطلب بعضهم مزيداً من التوسع في حق امتلاك الأقنان. وفي ديسمبر 1767 - استراحت اللجنة، وفي فبراير 1768 انتقلت إلى سانت بطرسبرج، وبلغ مجموع الجلسات التي عقدتها 203؛ وفي 18 ديسمبر أجلت إلى أجل غير مسمى لأن نشوب الحرب ضد تركيا استدعى وجود مندوبين كثيرين في الجبهة. ووكلت مهمة صياغة التشريع المقترح إلى لجان فرعية، ظل بعضها يجتمع حتى 175، ولكن لم توضع مجموعة قوانين. ولم تسوء كاترين تماماً هذه النتيجة غير الحاسمة، فقالت "إن اللجنة ... أعطتني النور والمعرفة عن جميع الإمبراطورية، وأنا الآن على بينة مما يلزم، وأعرف بما ينبغي أن أهتم. وقد فصلت اللجنة جميع أقسام القانون، ووزعت الشئون تحت رؤوس مواضيع، وكنت خليقة بأن أفعل أكثر من هذا لولا الحرب مع تركيا، ولكنا أدخلنا وحدة لم نعهدها إلى الآن في مبادئ النقاش وطرائقه" (53). وقد أظهرت كاترين للنبلاء في الوقت نفسه مبلغ عرض القاعدة التي ترتكز عليها سلطاتها. واقترحت اللجنة قبل انفضاضها أن تخلع عليها لقب "الكبرى"، فرفضت، ولكنها وافقت على أن تلقب "أم الوطن".
وأصبحت اثنتان من توصيات كاترين قانوناً: إلغاء التعذيب وإقرار التسامح الديني. وقد توسع في هذا التسامح: فسمح القانون للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأن تنافس اليونانية الأرثوذكسية، وحمى اليسوعيين حتى بعد أن حل البابا كلمنت الرابع عشر طائفتهم (1773)، وأذن للتتار الفولجا بأن يعيدوا بناء مساجدهم. وسمحت كاترين لليهود بدخول روسيا، ولكنها أخضعتهم لضرائب خاصة، وقصرت إقامتهم على مناطق معينة (ربما تحقيقاً لسلامتهم). ثم تركت الراسكولنيكيين-المنشقين الدينيين-أحراراً في ممارسة شعائرهم دون عائق؛ وكتبت إلى فولتير تقول "صحيح أن عندنا متعصبين يحرقون أنفسهم لأنهم لم يعودوا مضطهدين من الغير، ولكن لو حذا حذوهم المتعصبون في الدول الأخرى لما نجم عن ذلك ضرر يذكر" (54).(41/75)
وأبهج جماعة الفلاسفة بصفة خاصة إخضاع كاترين الكنيسة الروسية للدولة. وشكا بعضهم من أنها لا تزال تحضر الخدمات الدينية (وكذلك كان يفعل فولتير)، وأدرك أكبرهم سناً أن حضورها لا غنى عنه للاحتفاظ بولاء الشعب. وقد حولت بمرسوم أصدرته في 26 فبراير 1764 جميع أراضي الكنيسة ملكاً للدولة. وبدأت الدولة منذ الآن تدفع رواتب رجال الدين الأرثوذكس-وبهذا ضمنت تأييدهم للحكومة. وأغلق الكثير من أديرة الرهبان والراهبات، ومنع الباقي منها من قبول أكثر من عدد معلوم من المترهبين الجدد، ورفعت السن القانونية لنذر الرهبنة. واستخدمت الموارد الفائضة من المؤسسات الكنسية في إنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات (55).
وعارض رجال الدين والنبلاء التوسع في التعليم الشعبي مخافة أن يفضي انتشار المعرفة بين الجماهير إلى الهرطقة والكفر والتحزب، وأن يعرض النظام الاجتماعي للخطر. هنا بدأت كاترين-كما بدأت في غيره-بتطلعات تحررية، فلجأت إلى جريم:
"أصغوا إليَّ لحظة يا أصدقائي الفلاسفة: ستكونون لطافاً ظرافاً إذا تفضلتم برسم خطة للشباب، من ألف باء إلى الجامعة ... ليس عندي-أنا التي لم أدرس في باريس ولم أعش فيها-معرفة بهذا الأمر ولا بصر به .. إنني مهتمة جداً بفكرة إنشاء جامعة وإدارتها، ومدرسة ثانوية (جمنازيوم) وأخرى أولية ... وإلى أن تستجيبوا لطلبي سأنقب في "الموسوعة" عما أنشده وبالتأكيد سأستخرج منها ما أنشده" (56).
وقد أثرت فيها أثناء ذلك الحماسة البيداجوجية التي أبداها إيفان بتسكي، الذي جاب السويد وألمانيا وهولندة وإيطاليا وفرنسا، واختلف إلى صالون مدام جوفران ودرس الموسوعة والتقى بروسو. ففي 1763 أنشأت في موسكو مدرسة القطاء، خرجت في 1796 أربعين ألف طالب، وفي 1764 فتحت مدرسة للبنين في سانت بطرسبرج، وفي 1765 أخرى للبنات، وفي 1764(41/76)
حول دير سمولني إلى معهد سمولني لبنات النبلاء- وهذا صدى لمعهد مدام دمانتنون "سان سير"، وكانت كاترين أول حاكم روسي يفعل شيئاً لتعليم النساء. ولما فت في عضدها افتقارها إلى المعلمين المؤهلين، بعثت الطلاب الروس لدراسة التربية في إنجلترة وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأنشئت مدرسة للمعلمين في 1786.
وقد أعجبتها إصلاحات يوزف الثاني التعليمية في النمسا، فطلبت إليه أن يعيرها شخصاً خبيراً بنظامه، فأرسل إليها تيودور يانكوفش الذي وضع لها خطة نشرتها باسم "قانون المدارس الشعبية" (5 أغسطس 1786). وأنشئت مدرسة أولية في أهم بلدة في كل إقليم، ومدرسة ثانوية في كل مدينة كبرى من مدن ست وعشرين مقاطعة، وفتحت هذه المدارس لجميع الأطفال أياً كان طبقتهم، ولم يسمح فيها بالعقاب البدني؛ وكانت الدولة تمدها بالمدرسين والكتب المدرسية. بيد أن المشروع أحبطه إلى حد كبير عزوف الآباء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس بدلاً من استخدامهم للشغل في البيت. وخلال اسنوات العشر التي انقضت منذ تأسيس "المدارس الشعبية" حتى وفاة كاترين، زاد عدد ببطء من أربعين إلى 316 مدرسة، وعدد المعلمين من 136 إلى 744، وعدد التلاميذ من 4. 398 إلى 17. 341. وفي عام 1796 كانت روسيا لا تزال شديدة التخلف عن الغرب في ميدان التعليم الشعبي.
أما التعليم العالي فكان متاحاً على نطاق ضيق في جامعة موسكو وفي المعاهد أو الأكاديميات الخاصة، وأنشئت مدرسة تجارية في 1772، وأكاديمية للمناجم في 1773. ووسعت أكاديمية العلوم القديمة وزودت بالمال الوافر. وفي 1783، بناء على إلحاح الأميرة داشكوفا، وتحت رآستها، أنشئت أكاديمية روسية لتحسين اللغة، وتشجيع الأدب، ودراسة التاريخ، فأصدرت المترجمات، ونشرت الدوريات، وصنفت قاموساً صدر في ستة أجزاء بين 1789، 1799.
وقد روعت كاترين نسبة الوفيات العالية في روسيا، وبدائية وسائل(41/77)
حفظ الصحة العامة والنظافة الشخصية، فاستقدمت الأطباء الأجانب، وأسست كلية للصيدلة في موسكو، ودبرت المال لإنتاج الأدوات الجراحية. وفتحت في موسكو ثلاثة مستشفيات جديدة ومستشفى للأمراض العقلية وفي سانت بطرسبرج ثلاثة مستشفيات جديدة بما فيها "مستشفى سري" للأمراض التناسلية (57). وفي 1768 أدخلت لروسيا التطعيم ضد الجدري، وهدأت مخاوف الشعب بوضعها شخصها وهي في الأربعين ليجري عليها العلاج كثاني شخص في روسيا، وما لبثت كاترين أن كتبت لفولتير تقول "إن الذين طعموا هناك في شهر واحد أكثر ممن طعموا بفيينا في سنة" (58). (وفي 1772 دخل التطعيم نابلي لأول مرة، وفي 1774 مات لويس الخامس عشر بالجدري غير مطعم).
5 - الاقتصادية
من القوانين الأساسية التي أصدرتها كاترين قانون (1765) قضى بأجواء مسح لجميع أراضي روسيا. وقد قوبلت هذه العملية بمقاومة شديدة من الملاك. وحين اختتم العهد كانت قد شملت عشرين إقليماً من خمسين، ولكنها لم تستكمل حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبينما كان المسح جارياً أدركت الإمبراطورة في وضوح مثبط للهمم كيف يعتمد اقتصاد روسيا على تنظيم الزراعة بواسطة نظام قوامه السادة والأقنان. وفي 1766 أعلنت عن جائزة من ألف دوقاتية تمنح لأفضل مقال عن تحرير الأقنان. وفاز بالجائزة بياردي دلابيه إكس لا شابل، الذي رأى أن "العالم كله يطالب الملوك بتحرير الفلاحين" وتنبأ بأن الإنتاج الزراعي سيزداد زيادة هائلة "إذا ملك الفلاحون الأرض التي يزرعونها" (59). غير أن الملاك الأشراف حذروا كاترين من أن الفلاح سيهجر القرى إلى المدن إن لم يربط بالأرض وبسيده الإقطاعي، أو سيهاجر من قرية إلى قرية في لا مبالاة أكثر، فيخلق بذلك الفوضى، ويمزق الاقتصاد، ويعوق تجنيد أبناء الفلاحين الأشداء للجيش أو الأسطول.
ومضت القيصرة الحائرة في مشروعها على حذر، فالنبلاء يملكون المال(41/78)
والسلاح اللذين يستطيعان الإطاحة بها، وهم في هذه المحاولة يستطيعون الاعتماد على تأييد الاكليروس الذين ساءهم فقدان أراضيهم وأقنانهم. وخافت من الخلل الذي قد تحدثه هجرة جماعية من الفلاحين المحررين إلى مدن غير مستعدة لإسكانهم أو إطعامهم أو تشغيلهم. على أنها قامت بخطوات نحو عتق الأقنان. فجددت مرسوم بطرس الثالث الذي حرم شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع، وفرضت على أرباب العمل أن يدفعوا أجور عمالهم نقداً وأن يراعوا ظروف العمل التي يقررها موظفو المدينة أو "المير" (60)؛ ولكن حتى مع هذا ظل وضع الأقنان الصناعيين وضع العبودية القاسية المذهلة. وحرمت كاترين القنية في المدن التي أنشأتها (61)، ثم عتقت الأقنان المشتغلين على الأراضي التي أخذت من الكنيسة نظير دفعهم رسماً صغيراً (62)، على أن هذه التحسينات طغت عليها منحها المتكررة من أراضي الدولة لمن أخلصوا لها الخدمة كالقواد أو رجال الدولة أو العشاق، وعلى هذا النحو أصبح أكثر من 800. 000 من الفلاحين الأحرار أقناناً. وارتفعت نسبة الأقنان في سكان الريف من 52. 4% في بداية العهد إلى 55. 5% في ختامه، وزاد عدد الأقنان من 7. 6700. 000 إلى 20. 000. 000 (63). ثم أكملت كاترين استسلامها للنبلاء بـ "خطابات الامتياز للنبلاء" (1785): فقد أكدت فيها من جديد إعفاءهم من ضريبة الرؤوس، والعقوبة البدنية، والخدمة العسكرية، وحقهم في ألا يحاكموا إلا أمام أمرائهم، وفي استخراج المعادن من أرضهم، وفي امتلاك المشروعات الصناعية، وفي السفر إلى خارج البلاد كما يشاءون. وقد حظرت على الملاك أن يكونوا طغاة أو قساة، ولكنها أبطلت مفعول هذا الحظر بمنع الأقنان من أن يرسلوا إليها شكاواهم.
ولجأ الفلاحون بعد أن أخمد صوتهم على هذا النحو إلى الفرار أو التمرد أو الاغتيال. وقد قتل ثلاثون من السادة الإقطاعيين بأيدي فلاحيهم بين عامي 1760 و1769؛ واندلعت خمسون فتنة بينهم فيما بين عامي 1762 و1773 (64). وكانت هذه الفتن تخمد سريعاً حتى قائم زعيم ثائر عرف كيف يحول السخط نظاماً، وأسلحة اللاحين انتصارات. ذلك أن إمليان بوجاشيف كان قوزاقياً من إقليم الدون، حارب في صفوف الروس ضد(41/79)
البروسيين والأتراك، ثم طلب تسريحه، ولكن طلبه رفض، ففر من الجيش، وقبض عليه، فعاودوا الفرار، وارتضى حياة طريد القانون. وفي نوفمبر 1772، بعد أن شجعه الرهبان الساخطون، أعلن أنه بطرس الثالث الناجي بأعجوبة من كل المحاولات التي بذلت لقتله. وجذب الفلاحين وقطاع الطرق للانضواء تحت لوائه، حتى أحس بأن ساعده اشتد، فهجر بعصيان الغاصبة كاترين (سبتمبر 1773). وتوافد عليه قوزاق الأورال والفولجا والدون؛ وآلاف الرجال الذين حكم عليهم بالسخرة في مناجم الأورال ومصاهر المعادن؛ وفئات "المؤمنين القدامى" التواقين إلى الإطاحة بالكنيسة الأرثوذكسية؛ وقبائل التتار والقرغيز والبشكير المحلية الذين لم ينسوا إكراه اليزابث لهم على الدخول في المسيحية؛ ثم أقنان آبقون من سادتهم، ومساجين هربوا من السجون: هؤلاء تقاطروا على لواء بوجاشيف حتى اجتمع له عشرون ألف رجل تحت إمرته. فزحفوا ظافرين من مدينة إلى مدينة، وهزموا القوات التي سيرها ضدهم الحكام المحليون، واستولوا على مدن هامة مثل قازان وساراتوف؛ ثم صادر المؤن، وقتلوا الملاك، وأكرهوا الفلاحين المعارضين على الانضمام إليهم، وزحفوا مصعدين في حوض الفولجا صوب موسكو. وأعلن بوجاشيف أن لن يرتقي هو العرش هناك، بل سيبوئة الغراندوق بولس. ولكنه-بمزاح رهيب على الأرجح-لقب زوجته الفلاحة بالملكة، وكبار ضابطه بأسماء ضباط كاترين: الكونت أورلوف، والكونت بانين، والكونت فورونشوف.
وسخرت كاترين أول الأمر من هذا "المركيز بوجاشيف"، ولكنها حين علمت أن العصاة استولوا على قازان، جردت قوة كبيرة تحت إمرة الجنرال بيوتر إيفانوفتش بانين لإخماد الفتنة. وخف النبلاء لنجدتها بعد أن أدركوا أن الخطر يتهدد هيكل الإقطاع بأسره، وسرعان ما انضم الجنرال الكسندر فاسيليفتش سوفوروف إلى بانين بفرسانه الذين أصبحوا أحراراً في التحرك بعد عقد الصلح مع الأتراك؛ وأوقع الخلل في صفوف العصاة التقاؤهم بجنود مدربين تحت قيادة ضباطهم الإمبراطوريين. فتقهقروا من موقع إلى آخر، واستنفدوا مؤنهم، وبدأوا يتضورون جوعاً. واعتقل بعض(41/80)
زعمائهم-الطامعين في الخبر واعفو-بوجاشيف وسلموه للمنتصرين. فجيء به إلى موسكو في قفص من حديد، وحوكم في الكرملين، وقطع رأسه ومزق جسده أرباعاً، وعرض رأسه على عمود في أربعة أقسام من المدينة ليكون "عبرة لغيره" ثم أعدم خمسة من ضباطه، وجلد غيرهم على هذا الجانب من الموت، ونفوا إلى سيبيريا. وكان من نتائج الفتنة دعم التحالف بين الإمبراطورة والنبلاء.
على أنها تحدث النبلاء شيئاً ما بتأييدها لنمو طبقة قوامها رجال المال والأعمال. ذلك أن اقتناعها ببراهين الفزيوقراطيين دعاها لإقرار حرية التجارة في المحاصيل الزراعية (1762)، ثم في كل شيء، وأنهت (1735) الاحتكارات المعتمدة من الحكومة بإصدارها قراراً يبيح لكل إنسان حرية الاضطلاع بأي مشروع صناعي وتنفيذه. وقد أخر نمو الطبقة الوسطى غلبة الصناعة التي تقوم في الأكواخ والعزب، ومشاركة النبلاء في المغامرات الصناعية والتجارية. وزادت المصانع من 984 إلى 3. 161 في عهد كاترين، ولكن هذه كان أكثرها ورشاً صغيرة لا تستخدم من الصناع إلا القليلين. وزاد سكان المدن من 328. 000 في عام 1724 إلى 1. 300. 000 في عام 1796 - ومع ذلك لم يزل أقل من أربعة في المائة من مجموع السكان (65).
ولم تأل الإمبراطورة الكثيرة الشواغل جهداً في النهوض بالتجارة دون أن تلقى إلا التأييد الضنين من حاشيتها النبيلة. لقد كانت الطرق غاية في السوء، ولكن الأنهار كثيرة، وقد ربطتها القنوات في شبكة مفيدة. وفي عهد كاترين بدئ شق قناة بين الفولجا والنيفا لربط البلطيق ببحر قزوين، وقد خططت لقناة أخرى تصل بحر قزوين بالبحر الأسود (66). وظفرت بالتفاوض أو بالحرب بحرية مرور التجارة الروسية دون معوق في البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط. ثم حثت دبلوماسييها على عقد المعاهدات التجارية مع إنجلترة (1766) وبولندة (1775) والدنمرك (1782) وتركيا (1783) والنمسا (1785) وفرنسا (1787). ونمت التجارة الخارجية من 21. 000. 000 روبل عام 1762 إلى 96. 000. 000 عام 1796 (67).(41/81)
في هذه الأرقام يجب أن نحسب حساب تضخم العملة الذي تدفع به الحكومات نفقات حروبها. وقد اقترضت كاترين من داخل البلاد وخارجها 130. 000. 000 روبل لتمويل حملاتها على تركيا، وأصدرت نقوداً ورقية تجاوزت كثيراً أي غطاء من الذهب. وفقد الروبل أثناء حكمها 32% من قيمته. وفي هذه الفترة ذاتها، ورغم زيادة الإيرادات من 215. 000. 000 (68). وأكثر هذا الدين نجم عن الحروب التي كسرت شوكة تركيا، ومدت حدود روسيا إلى البحر الأسود.
6 - المحاربة
بدأت كاترين بأهداف سلمية كما يبدأ كل فيلسوف: فأعلنت أن مشاكل الإمبراطورية الداخلية ستستغرق اهتمامها، وأنها ستتجنب كل صراع مع الدول الأجنبية إذا لم يتحرش بها أحد. فثبتت صلح بطرس الثالث مع بروسيا، وأنهت حربه مع الدنمرك. وفي 1762 رفضت الإغراء بفتح كورلاند أو التدخل في بولندة، وقالت "عندي ما يكفي من البشر الذين على إسعادهم، ولن يزيدني رفاهية ذلك الركن الصغير من أركان الأرض" (69). ثم خفضت الجيش، وأهملت ترسانات السلاح، وسعت إلى التفاوض مع تركيا لإبرام معاهدة للصلح الدائم.
ولكنها كانت كلما درست الخريطة وجدت عيباً في حدود روسيا. ففي الشرق كانت الإمبراطورية محمية جيداً بجبال الأورال وبحر قزوين وضعف الصين. وفي الشمال تحميها الثلوج. أما في الغرب فالسويد مستولية على جزء من فنلنده، قد يتوقع منه الهجوم في أي لحظة يشنه شعب ما فتئ يسوؤه ما غصبه منه بطرس الأكبر؛ وكانت بولندة وبروسيا تسدان الطريق إلى "أوروبا" والاصطباغ بحضارتها. أما في الجنوب فقد سد التتار، الخاضعون لخان مسلم يسيطر عليه الترك، الطريق إلى البحر الأسود. فأي إجهاضات للتاريخ أعطت روسيا جغرافية كهذه، وحدوداً شاذة كهذه؟ وهمس في أذنها القائد القديم مونيش، والقائد الجديد جريجوري أورلوف، بأن الوضع يكون معقولاً أكثر لو كان البحر الأسود هو الحد الجنوبي، وبأنه يكون(41/82)
جميلاً رائعاً لو استطاعت روسيا الاستيلاء على الآستانة والتسلط على البوسفور. ما نيكيتا بانين، وزير خارجيتها من 1763 إلى 1780. فقد فكر في طرق لإعلاء نفوذ روسيا في بولندة ومنع هذا البلد الأعزل من الوقوع في براثن بروسيا.
وتأثرت كاترين بحججهم، وأخذت تتحرق شوقاً لأن تبوئ وطنها الثاني مكاناً في السياسة يتفق ومكانها على الخريطة. فلم ينقض عام على تقلدها السلطة حتى انطلقت إلى سياسة خارجية لا ترضى في طموحها بأقل من جعل روسيا الدولة المحورية على القارة. كتبت إلى الكونت كيزرلنج، سفيرها في وارسو تقول "أقول لك أن هدفي أن أرتبط بروابط الصداقة مع جميع الدول، في تحالف مسلح، حتى أستطيع على الدوام أن أقف في صف مظلوم، وبهذا أصبح الحكم لأوربا (70).
وأنت عليها فترات كانت فيها قاب قوسين من هدفها هذا. وآية ذلك أنها سحبت روسيا من حرب السنين السبع فإنها في الوقع حسمت ذلك الصراع الذي شمل القارة كلها لصالح فردريك. وفي عام 1764 أبرمت مع فردريك معاهدة كانت نذيراً بتقطيع أوصال بولندة. ثم استغلت حاجة الدنمرك إلى تأييد روسيا لها ضد السويد لتهيمن على سياسة الدنمركيين الخارجية. وفي عام 1779 كانت حكماً بين فردريك ويوزف في معاهدة تشن، وأصبحت حامية الدستور الإمبراطوري الألماني. وفي 1780 ربطت الدنمرك والسويد وبروسيا والنمسا والبرتغال بالروسيا في "عصبة حياد مسلح" لحماية السفن المحايدة في الحرب الدائرة بين إنجلترة ومستعمراتها الأميركية، فتقرر ألا تتعرض السفن المحايدة للهجوم من أي من الطرفين المحاربين ما لم تحمل ذخائر حربية؛ وأن الحصار لكي يكون شرعياً ولكي يحترم يجب أن يكون حقيقياً لا مجرد إعلان على الورق.
وقبل أن قلبت الأحلاف ذلك القلب الثاني بزمن طويل بدأ الصراع الطاحن على التسلط على البحر الأسود. وقد نشأت أول حروب كاترين(41/83)
التركية نتيجة ثانوية غريبة لغزوها بولندة. ذلك أنها كانت قد أرسلت هناك جيشاً لإعانة غير الكاثوليك في كفاحهم لنيل حقوق متساوية من الأغلبية الكاثوليكية؛ وحمل الكاثوليك سفيراً بابوياً على أن يفهم تركيا أو فرصتها حانت لتهاجم روسيا؛ وأيدت فرنسا الاقتراح، وحرضت السويد وخان القرم على الانضمام للهجوم (71). وحزن فولتير على إمبراطورته التي أحدق بها الخطر. وكتب إليها يقول "إن تجنيد سفير بابوي للأتراك في حربه الصليبية عليك لموضوع جدير برواية هزلية إيطالية عنوانها "مصطفى الحليف الفاضل للبابا! "، فالموقف كاد يغريه بأن يكون مسيحياً. لا بل أنه في خطاب أرسله إلى كاترين في نوفمبر 1768 اقترح عليها حرباً مقدسة على الكفار.
"إنك تكرهين البولندين على أن يكونوا متسامحين سعداء على الرغم من سفير البابا، ويبدو أنك تلقين من السماء عنفاً. فإذا شنوا عليك الحرب فربما تبلورت فكرة بطرس الأكبر في جعل الآستانة عاصمة للإمبراطورية الروسية ... وفي ظني أنه لو قدر على الأتراك أن يطردوا من أوربا يوماً فسيكون هذا على أيدي الروس ... فليس يكفي لإذلالهم؛ بل يجب ردهم إلى موطنهم إلى الأبد (72).
ورفضت السويد أن تشارك في الهجوم على روسيا، ولكن تتار القرم اجتاحوا مستعمرة "الصرب الجديدة" الروسية، الحديثة، (يناير 1769). وزحف جيش تركي عدته 100. 000 مقاتل صوب بود وليا لينضم إلى جيش الاتحاد البولندي. ورفضت كاترين أن تسحب قواتها من بولندة. وجردت ثلاثين ألف مقاتل يقودهم ألكسندر جولتسين وبيوتر روميا نتسيف لهزيمة التتار ورد الترك؛ فلما قيل لها إن عدد هؤلاء الترك هائل أجابت "إن الرومان لم يكونوا يعبأون بكثرة إعدامهم، إنما كانوا يسألون، أين هم؟ " (73). ورد التتار على أعقابهم، واستولى الروس على آزوف وتاجانروج شمالي الدون؛ وهزم سبعة عشر ألف روسي 150. 000 تركي في كاجول (1770) وتقدم روميانتسيف حتى بلغ بوخارست، حيث استقبله السكان الأرثوذكس(41/84)
بمظاهر الفرح والتهليل. وفي 1771 اجتاح فاسيلي ميخايلوفتش دولجوروكي القوم وقضى على الحكم التركي هناك.
وأكثر حتى من هذا إثارة للعجب والإعجاب جرأة الكرسي أورلف، الذي قاد أسطولاً روسياً مخر به عباب المانش، والأطلنطي، والبحر المتوسط، وهزم الأسطول التركي تجاه خيوس، وأباده في خزمي (يوليو 1770)؛ غير أن الضرر الذي لحق بمراكبه كان فادحاً فلم يتح له مواصلة انتصاراته.
على أن أحداثاً أخرى لم تبعث مثل هذه البهجة في فؤاد كاترين. من ذلك أن طاعوناً تفشي في الجيش الروسي على طول الدانوب ثم ارتد إلى موسكو حيث كان يحصد ألف روح كل يوم في صيف 1770. وكانت عليمة بأن فردريك ينظر باستنكار إلى امتداد ملكها وسلطانها؛ وأن يوزف الثاني يزعجه تقدم روسيا إلى حدود النمسا في البلقان؛ وأن فرنسا لا تترك حجراً لا تقلبه دعماً لحليفتها تركيا؛ وأن إنجلترة ستقاوم بشدة تسلط روسيا على البوسفور؛ وأن السويد إنما تترب بها الدوائر. فدعت كاترين الترك إلى مؤتمر، فحضروا، ولكنهم حرنوا لإصرارها على استقلال القرم؛ وفي 1773 استؤنفت الحرب.
وفي يناير 1774 مات مصطفى الثالث؛ وقرر خلفه أن تركيا قد بلغت من الفوضى والإرهاق حداً يهدد وجودها كدولة أوربية. فاعترفت تركيا بمقتضى صلح كجوق قينارجي (في رومانيا) 21 يوليو 1744 باستقلال القرم (التي ظلت تحت حكم التتار)، ونزلت لروسيا عن آزوف، وكرش وبنيكالي، وكلبورون (على مصب دنيبر). وفتحت البحر الأسود والبوسفور والدردنيل للمراكب الروسية، ودفعت لروسيا تعويض حرب قدره 4. 500. 000 روبل، ومنحت العفو للمسيحيين الذين شاركوا في ثورات على حكامهم الأتراك، واعترفت بحق روسيا في حماية المسيحيين في تركيا. وكان هذا في جملته من أميز المعاهدات التي أبرمتها روسيا في تاريخها (74). فقد غدت روسيا الآن من دول البحر الأسود؛ وتركت(41/85)
القرم وغيرها من أقاليم التتار في جنوب روسيا مفتوحة أمام الغزو الروسي المبكر، واستطاعت الإمبراطورة الشاكة أن تظهر بمظهر المدافعة عن الإيمان. وراحت كاترين-بعد أن أسكرها النصر-تحلم بتحرير اليونان-أعني بفتحها، وبتتويج حفيدها قسطنطين في الآستانة رأساً لإمبراطورية جديدة. وأبهجت فؤاد فولتير الشائخ برؤى الألعاب الأولمبية وقد ردت إلى مجدها التليد؛ فكتبت إليه تقول "سوف تجعل ممثلين يونانيين يمثلون التراجيديات اليونانية القديمة في مسرح (ديوينسيوس) بأثينا". فلما تذكرت الجيوش والخزانة التي استنفدت أضافت: "على أن أمرس الاعتدال، وأقول إن السلم خير من أروع حروب الدنيا" (75).
وأخذت الآن تحل محل فردريك كأشهر ملوك أوربا، وتعجب الناس جميعاً من سعيها الحثيث لتحقيق أهدافها، ومن الامتداد المرعب لسلطانها، وسافر يوزف الثاني إمبراطور النمسا، الذي طالما انحنى لعبقرية فردريك، إلى موجيليف، ومنها أكمل الرحلة الطويلة إلى سانت بطرسبرج ليلتقي بالقيصرة ويسعى إلى التحالف معها. وفي مايو 1781 أبرمت مع يوزف ميثاقاً للعمل الموحد في بولندة وضد تركيا.
وكان بوتمكين في غضون هذا يبني لنفسه الشهرة في الجنوب. ذلك أنه نظم وسلح وأطعم جيشاً جديداً عدته 300. 000 مقاتل، وبنى أسطولاً للبحر الأسود، له موانئ في سباستبول وأودسا وترسانة في خرسون، واستعمر أقطار روسيا الجنوبية ذات المستوطنات الضئيلة، وأسس المدن والقرى، وأقام المصانع، وزود المستعمرين بالماشية والآلات والبزار-وكل هذا ليوفر قواعد للتموين في حملة حربية تضيف القرم إلى تاج كاترين، وربما ليظفر بتاج لنفسه. وتشاجر تتار القرم وانقسموا، فألان بوتمكين زعماءهم بالرشا؛ فلما غزا شبه الجزيرة في النهاية (ديسمبر 1782) لم يلق من المقاومة إلا أقلها؛ وفي 8 أبريل 1783، ورغم احتياجات تركيا عديمة الجدوى، ابتعلت مملكة الروس القرم. ورقى بوتمكين مشيراً، ورئيساً للكلية الحربية، وأميراً لطورس، وحاكماً عاماً للقرم. ونفحته الإمبراطورة فوق هذا كله(41/86)
بمكافأة من 100. 000 روبل، أنفقها بوتمكين على الخليلات والشراب والطعام.
ورأتن كاترين هي أيضاً أن الوقت قد حان لشيء من الاسترخاء. فجمعت بين اللهو والعمل بترتيبها "رحلة ملكية" فخمة على اليابس والماء تفتش خلالها على فتوحها وتترك انطباعاً قوياً في نفوس هذه الأقاليم-وأوربا كلها-بثراء بلاطها وأبهته. وفي 2 يناير 1787، غادرت القصر الشتوي مدثرة بفرائها وشرعت في رحلتها الطويلة في "برلينيه" أي مركبة مقفلة في الكبر بحيث تحتوي-فضلاً عن شخصها الذي اتسعت أبعاده الآن-عشيقها مامونوف صاحب الخطوة آنئذ، وكبيرة وصيفاتها، وكلباً صغيراً، ومكتبة صغيرة. وتبعتها أربع عشرة عربة و170 مركبة جليد، تحمل سفراء النمسا، وبريطانيا، وفرنسا-كوبنتزل، وفتزهربرت، والكونت سيجور-مضافاً إليهم الأمير دلين وجيش من الموظفين والبطانة والموسيقيين والخدم. وكان بوتمكين قد سبقها بأيام ليعد لها الطريق، وليضيئه بمئات المشاعل، وليرتب كل ليلة وجباتها وأماكن لنوم الجميع. وكان الموكب إذا مر بمدينة كبرى استراح يوماً أو يومين ريثما تلتقي القيصرة بوجود المدينة، وتستعرض أحوالها، وتوجه أسئلتها، وتوزع اللوم أو المكافأة. وبدت كل مدينة على الطريق في أحسن مظهر عملاً بتحذيرات بوتمكين وتعليماته، فاغتسلت وتزينت كما لم تفعل قط من قبل، سعيدة ولو ليوم واحد في حياتها.
وفي كييف أشرف بوتمكين على نقل البلاط المتنقل إلى سبع وثمانين سفينة كان قد أعدها وزينها. وعليها أبحر الركب الإمبراطوري هابطاً الدنيبر. وعلى طول النهر شاهدت كاترين "القرى البوتمكينية" التي هيأها أمير طورس الأريب وجلاها ليدخل السرور إلى قلبها، وربما ليترك في نفوس الدبلوماسيين انطباعاً قوياً عن ثراء روسيا. وبعض هذا الثراء ارتجله بوتمكين، وبعضه كان حقيقياً. "أما أنه شيد القرى الكاذبة على الضفتين، ودرب الفلاحين ليخلقوا وهماً بما هم عليه من تقدم، فذلك من شطحات خيال دبلوماسي سكسوني" (76). فقد قام الأمير دلين بعدة رحلات(41/87)
على الشاطئ ليستكشف ما وراء الواجهة، فقال أنه رغم بوتمكين لجأ إلى بعض الحيلة، فإنه (أي دلين) راعته "المنشآت الفخمة وهي بعد في مهدها، والمصانع النامية، والقرى ذات الشوارع المنتظمة التي تحفها الأشجار" (77). ولعل كاترين نفسها لم تنخدع، ولكنها ربما استنتجت كما استنتج سيجور، أنه حتى لو كان نصف ثراء تلك المدن ونظافتها مظهراً زائلاً، فإن حقيقة وجود سباستبول فعلاً-المدينة والقلاع والميناء، وكلها بنى على شواطئ القرم في عامين-هذه الحقيقة كفت لجعل بوتمكين جديراً بالثناء. وقد وصفه الأمير دلين الذي كان يعرف تقريباً كل إنسان ذي شأن في أوربا بأنه "أعجب رجل التقيت به في حياتي" (78).
وفي كانيوف جاء ستانسلاس بونياتوفسكي ملك بولندة، ليقدم فروض الولاء للمرأة التي منحته حبها وعرشه. وفي موقع أبعد على الدنيبر الأدنى، عند كايداكي، انضم يوزف الثاني إلى الموكب الذي اتخذ طريقه ثم برا إلى خرسون فالقرم. هنالك داعبت الإمبراطورة، والإمبراطور، والحاكم العام، أحلامهم بطرد الترك من أوربا، فحلمت كاترين بالاستيلاء على الآستانة، ويوزف بابتلاع البلقان، وبوتمكين بتولي عرش داشيا (رومانيا). ونصحت إنجلترة وبروسيا السلطان عبد الحميد بأن يوجه ضربته إلى الروس في غفلة منهم قبل أن يستكملوا استعداداتهم الحربية (79). وكان في وقاحة السفير الروسي في الآستانة ما هيأ لتركيا حافزاً إضافياً، فحبسه السلطان، وأعلن الجهاد، وطالب برد القرم ثمناً للصلح. وفي أغسطس 1787 عبر الجيش التركي الرئيسي الدانوب وزحف على أوكرانيا.
لقد تعجل بوتمكين في الإعلان عن فرحه؛ ذلك أن روسيا لم تكن مستعدة بعد للامتحان النهائي؛ لذلك نصح الإمبراطورة بالتخلي عن القرم. ولكنها وبخته على جبنه الذي لم تعهده فيه، ثم أمرته هو وسوفوروف وروميا نتسيف أن يعدوا كل القوات المتاحة لهم وينطلقوا للقاء الغزاة؛ أما هي فقد انسحبت إلى سانت بطرسبرج. ودحر سوفروف الترك في كلبورون، وحاصر بوتمكين أوشاكوف المشرفة على منافذ دنيبر وبوج. وبينما كان الجهاد والحرب(41/88)
الصليبية يواجه أحدهما الآخر في جنوبي روسيا، قررت السويد أن الفرصة واتتها أخيراً لاسترداد ما فقدت من أقاليم. فجدد جوستاف الثالث حلفاً قديماً مع الترك بعد أن شجعته إنجلترة وبروسيا (80)، وطالب كاترين برد فنلنده وكاريليا للسويد، ةالقرم لتركيا. وقد نفصل الحديث عن هذه الحرب في موضع لاحق، أما الآن فحسبنا أن نقول أن أسطولاً سويدياً أنزل بالروس في البلطيق هزيمة فاصلة في 9 يوليو 1799، وكان قصف المدفعية السويدية يسمع من القصر الشتوي؛ وفكرت كاترين في إخلاء عاصمتها. على أن مفوضيها ما لبثوا أن أقنعوا السويد بأن تبرم الصلح (15 أغسطس 1790).
وغدت كاترين الآن حرة في تركيز قوات ضد الترك، وانضمت النمسا إلى روسيا في الحرب. وأنهى بوتمكين حصار أوشاكوف بأن أمر رجاله بالهجوم مهما كان الثمن. وكلف النصر الروس ثمانية آلاف قتيل، وختمت المعركة الضارية بمذبحة أتت على الضحايا دون تمييز (17 ديسمبر 1788) وتقدم بوتمكين ليستولي على بندر، واستولى النمساويون على بلغراد، ودحر سوفروف الأتراك في رمنيك (22 سبتمبر 1789). وبدا أن تركيا مقضي عليها بالفناء.
على أن الدول الغربية أحست أن الموقف يدعو إلى العمل الموحد ضد كاترين إن أريد ألا يقع البوسفور-ذلك المعقل الاستراتيجي-في يدها فتصبح روسيا السيد المتسلط على أوربا. وبعد موت فردريك الأكبر (1789) رأى خليفته فردريك وليم الثاني في فزع تحرك روسيا صوب الآستانة، وتحرك النمسا في البلقان؛ وبين روسيا والنمسا وهما بهذه القوة الجديدة ستبيت بروسيا تحت رحمتهما. وعليه ففي 31 يناير 1790 ربط حكومته مع الباب العالي في ميثاق ألزمه بأن يعلن الحرب على روسيا والنمسا جميعاً في الربيع، وبألا يضع السلاح إلا إذا ردت لتركيا كل إقليمها التي خسرتها.
وبدا أن المد السياسي يتحول ضد كاترين. فقد أضعف قوة يوزف الثاني نشوب الثورة في الأراضي الواطئة النمساوية وانتشار الفوضى في المجر؛ ثم مات في 20 فبراير 1790، وأبرم خلفه هدنة مع الأتراك. وحثت(41/89)
إنجلترة وبروسيا كاترين مرة أخرى على عقد الصلح على أساس الاحتفاظ بكل الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في الحرب؛ ولكنها أبت؛ ذلك أن استيلاءها على أوشاكوف كان قد فتح الطريق أمام روسيا إلى البحر الأسود، فهي لا تريد أن تتخلى عن هذا الكسب الحيوي. ثم إن قوادها كانوا يسيرون من نصر إلى نصر، وتوجوا انتصاراتهم باستيلاء سوفوروف وبوتمكين على مدينة اسماعيل (22 ديسمبر 1790)؛ وقد خسر الروس في سبيل الاستيلاء على هذا المعقل التركي الواقع على الدانوب عشرة آلاف مقاتل، وخسر الترك ثلاثين ألفاً. وبعد هذه الوليمة الدموية انتكس بوتمكين الذي أنهكته الحرب إلى ضرب من الكسل المترف والسفاح المخزمي مع بنات أخيه؛ وفي 15 أكتوبر 1791 مات على طريق قريب من ياسي. وأغمى على كاترين ثلاث مرات في اليوم الذي سمعت فيه بنبأ موته.
وفي مارس 1791 اقترح وليم بت الابن على البرلمان إرسال إنذار نهائي إلى روسيا يطالبها بأن ترد لتركيا كل الأقاليم التي استولت عليها في الحرب الراهنة، واقترح إرسال أسطول بريطاني إلى البلطيق نذيراً بالحرب. ولم تجب كاترين، أما البرلمان فقد ثنى بت عن إنفاذ مشروعه حين سمع التجار البريطانيون يتحسرون على ضياع تجارتهم مع روسيا. وأما تركيا فقد كفت عن الصراع بعد أن أنهكتها الحرب، فوقعت في جاسي (9 يناير 1792) معاهدة ثبتت سيطرة روسيا على القرم وحوضي دنيبر وبوج. وهكذا لم تصل كاترين إلى الآستانة، ولكنها بلغت ذروة حياتها كأقوى حاكم في أوربا، وألمع امرأة في قرنها.
7 - المرأة
أكانت امرأة، أم هولة؟ رأينا أنها في مستهل حكمها كانت فاتنة الجسد، وفي عام 1780 كانت قد سمنت، ولكن هذه السمنة لم تفعل بها شيئاً إلا إضافة الثقل إلى العظمة. وقد وصفها الأمير دلين (الذي كان من أوائل من لقبوها "الكبرى" (84) وصفاً مهذباً فقال:(41/90)
"كانت في 1780 لا تزال حسنة الصورة، وفي استطاعة الناظر إليها أن يستنتج أنها كانت فيما مضى رائعة الجمال أكثر منها وسيمة. ولم يكن بالمرء حاجة إلى فراسة ليقرأ على جبينها، كما يقرأ في كتاب، العبقرية والعدالة والشجاعة ةالعمق ورباطة الجأش ولطف الطبع والهدوء والتصميم. وقد اكتسب صدرها الجميل على حساب خصرها الذي كان يوماً ما شديد النحول؛ ولكن الناس عادة يسمنون في روسيا ... ولم يلحظ المرء قط أنها قصيرة القامة" (82).
وقد صورها كاستيرا في كتابته عنها عقب موتها بأنها كانت ترتدي ثوباً أخضر في احتشام. "كان شعرها المبدر ببودرة خفيفة، يطفو على كتفيها، وتعلوه قلنسوة صغيرة مرصعة بالماس. وفي سنيها الأخيرة ألفت أن تستعمل قدراً كبيراً من الروج، لأنها كانت لا تزال تطمع في ألا تسمح لآثار الزمن أن تبدو على وجهها، ومن المحتمل أن هذا الطموح وحده هو الذي دعاها للعيش بمنتهى الاعتدال" (83).
كانت مغرورة، واعية في غير مواربة بثقافتها وسلطتها. قال يوزوف الثاني لكاونتز "إن الغرور معبودها، وقد أفسدها الحظ وثقافتها المسرفة" (84). وفي رأي فردريك الأكبر أن كاترين لو كانت تراسل الله لا دعت لنفسها مرتبة مساوية له على الأقل (85). ومع ذلك كانت تتحدث إلى ديدرو كما يتحدث "رجل إلى رجل"، ورجت فالكونيه أن يسقط من حديثه لها عبارات المجاملة. وكانت "باستثناء بعض جرائم القتل المحتملة ومذابح الحرب المبررة) لا تقل لطفاً وأنساً عن تشارلز الثاني ملك إنجلترة أو هنري الرابع ملك فرنسا. وفي كل يوم كانت تلقى من نوافذها الخبر لآلاف الطيور التي تجيئها بانتظام لتطعم (86). وفي سنوات ملكها الأخيرة كانت تطلق العنان بين الحين والحين لنوبات غضب لا تليق بصاحبة السلطان المطلق، ولكنها حرصت على ألا تصدر أمراً أو توقع ورقة وهي في هذه النوبات البركانية، وسرعان ما أخذت تشعر بالخجل من هذه التفجرات، وأخذت(41/91)
نفسها بالتحكم في أعصابها. أما عن شجاعتها فقد نبذت أوربا كل شك فيها.
كانت شهوانية بلا مراء ولا مبالاة، ولكن غرامياتها لا تؤذينا بشيء بقدر ما تؤذينا "حديقة ظباء" لويس الخامس عشر. وقد درجت على ما درج عليه كل حكام زمانها فأخضعت الأخلاق للسياسة، وأخمدت المشاعر الشخصية إذا عرقلت توسيع رقعة دولتها. وحيث انعدم مثل هذا الصراع كان لها كل حنان المرأة ورقتها، تحب الأطفال، وتلاعبهم وتمرح معهم، وتعلمهم، وتصنع لهم اللعب. وكانت في رحلاتها تحرص دائماً على أن يطعم السائقون والخدم كما ينبغي أن يطعموا (87). وبين الأوراق التي وجدت على منضدتها بعد موتها قبرية كتبتها لنفسها، "كانت تغفر في يسر، ولا تبغض أحداً، وإذا كانت متسامحة، متفهمة، ذات طبع مرح، فقد أوتيت روحاً جمهورية وقلباً عطوفاً" (88).
ولم تكن عطوفاً على ولدها البكر، من جهة لأن بولس أخذ منها بعد ولادته بقليل، وقام على تربيته بانن وغيره تحت إشراف اليزابت؛ ومن جهة لأن المؤامرات التي دبرت لخلعها كانت أحياناً تنوي جعله إمبراطوراً تحت الوصاية؛ ومن جهة لأن بولس طالما خامره الظن بأن أمه قاتلة بطرس؛ كذلك لأن بولس "كان يطيل التفكير دائماً في سرقة حقوقه في خلافة أبيه الافتراضية على العرش". ولكن كاترين تعلقت بابني بولس الساحرين ألكسندر وقسطنطين، وأشرفت بشخصها على تعليمها، وحاولت إبعادهما عن تأثير أبيهما، وبيتت أن يرث تاجها ألكسندر لا بولس (89). أما بولس الذي سعد بزواجه الثاني فكان ينظر في اشمئزاز واضح إلى سلسلة العشاق الذين أمتعوا أمه واستنزفوا موارد الدولة.
أما من الناحية العقلية فقد بزت كاترين على عشاقها. كانت ترضى جشعهم، ولكن ندر أن سمحت لهم بتقرير سياستها. وقد أحسنت استيعاب الأدب الفرنسي إلى حد أتاح لها مراسلة أقطابه كما يراسل الواحد من جماعة(41/92)
الفلاسفة صاحبه؛ لا بل إن خطاباتها لفولتير كانت تنافس خطاباته لها فطنة وتمييزاً، وتضارعها رشاقة وخفة دم. وكانت رسائلها كثيرة العدد كترة رسائل فولتير مع أنها كتبتها خلال فواصل دسائس القصر، والثورات الداخلية، والدبلوماسية الحرجة، والحروب التي غيرت خرائط الدول. وكان حديثها يجعل ديدرو دائم التنبه والاستعداد، ويحرك مشاعر جريم إلى حد الانتشاء. "كان على المرء في تلك اللحظات أن يرى هذا الرأس الفذ الذي هو مزاج من العبقرية والحسن حتى يكون فكرة عن النار التي تحركها، والسهام التي تطلقها، والهجمات التي تلاحق ... الهجمة منها الهجمة ... ولو كان في طاقتي أن أدون هذه الأحاديث كلمة كلمة لأتيح للدنيا كلها قطعة نفيسة وربما فريدة في تاريخ العقل البشري (90). على أنه كان يشوب هذا السيل الدافق من أفكارها اضطراب وعدم استقرارا سريعان؛ فكانت تندفع بأسرع مما ينبغي في مشاريع لم تمعن التفكير فيها، وكانت أحياناً يهزمها إلحاح الأحداث وكثرة الواجبات. ولكن النتيجة حتى مع هذا كانت هائلة".
ويبدو أمراً لا يصدق أن تجد كاترين في حياة اضطربت بمثل هذه الأحداث المثيرة سياسية كانت أم حربية وقتاً تكتب فيه قصائد الشعر، والأخبار التاريخية، والمذكرات، والتمثيليات، ونصوص الأوبرات، ومقالات المجلات، وحكايات الجن، ورسالة علمية عن سيبيريا، وتاريخاً للأباطرة الرومان، ومذكرات مستفيضة عن "تاريخ روسيا" وفي 1769 - 1770 رأست تحرير مجلة هجائية دون أن تعلن عن اسمها، وكانت هي أهم محرريها. ومن صورها الأدبية صورة وصفت منافقاً في الدين يحضر القداس يومياً، ويشعل الشموع أمام الصور المقدسة، ويتمتم بالصلوات في فترات متقطعة، ولكنه يغش التجار، ويفتري على الجيران، ويضرب الخدم، ويندد بالرذيلة الفاشية ويتحسر على الأيام الخالية الطيبة (91). أما حكاية الجن التي كتبتها كاترين، واسمها "الأمير خلور" فتحكي عن شاب خاض مغامرات خطرة بحثاً عن وردة خرافية بلا شوك، ليكشف في النهاية أنه ليس هناك وردة كهذه إلا الفضيلة؛ وقد أصبحت هذه القصة من عيون القصص في الأدب الروسي، وترجمت إلى لغات كثيرة؛ وكانت(41/93)
اثنتان من مسرحياتها مآسي تاريخية تقلد شكسبير؛ ومعظمها فكاهيات بسيطة تسخر من المشعوذين والمغفلين والبخلاء والمتصوفين والمسرفين، وتهزأ بكاليسترو، والماسون، والمتعصبين الدينيين. هذه التمثيليات كان يعوزها الدقة والصقل، ولكنها أبهجت الجماهير مع أن كاترين أخفت أنها مؤلفتها، وقد وضعت هذه العبارة على ستار المسرح الذي شيدته في الهرمتاج "إنه يهذب العادات بالضحك"؛ وكان هذا خير تعبير عن هدف كوميدياتها. أما أفضل مسرحياتها، واسمها "أوليج" فكانت تتابعاً رائعاً لمشاهد من تاريخ روسيا، أشاع فيها الحيوية سبعمائة مؤد في الرقصات والباليهات والألعاب الأولمبية. وكانت جل إنتاج كاترين الأدبي يراجعه السكرتيرون، لأنها لم تتمكن قط من الهجاء أو النحو الروسي، ثم أنها لم تأخذ هوايتها للتأليف مأخذ الجد الشديد؛ ولكن الأدب استمد الشجاعة من قدوتها الإمبراطورية وأضفى على ملكها عظمة نهائية ومجداً تشوبه الشوائب.
8 - الأدب
أخذت روسيا تشعر بعدم نضجها الفكري، فراح جيش من المؤلفين يقلدون في تواضع النماذج الأجنبية، أو يترجمون آثاراً حظبت بالشهرة في فرنسا أو إنجلترة أو ألمانيا. وجادت كاترين بخمسة آلاف روبل من جيبها الخاص لتشجيع هذا السيل الدخيل، وترجمت هي نفسها قصة "بليزير" لمارمونتيل. فلما تحمس الروس للمشروعات العريضة ترجم رحمانينوف، أحد ملاك الأراضي في تامبوف، أعمال فولتير؛ وترجم فيريفكين، رئيس كلية قازان، إلى الروسية "موسوعة" ديدرو. وترجم غير هؤلاء شكسبير والكلاسيكيات اليونانية واللاتينية، "وأورشليم المحررة" لتاسو ...
أما أنجح شعراء العهد فهو جافريل رومانوفتش درزافين. ولد الأسرة رقيقة الحال في أورنبرج الشرقية، وكان الدم التتاري يجري في عروقه، فخدم في فوج بريوبرازنسكي عشرة أعوام، ورأى كاترين ترقى إلى ذري السلطة، وشارك في إخماد فتنة بوجاشيف ضابطاً في الجيش، وشق طريقه صعداً إلى عضوية مجلس الشيوخ، وحين لاحظ درازفين أن الإمبراطورة(41/94)
أطلقت اسم "فليتسا" على أميرة خيرة في قصة "الأمير خلور"، أطلق هذا الاسم في قصيدة عاطفية شهيرة (1782) على "الملكة الشبيهة بالآلهة لقبيلة قرغيز-قازاق" وتوسل إلى هذه السلطانة قائلاً "علميني كيف أجد الوردة التي لا شوك لها ... وكيف أعيش حياة تجمع بين اللذة والاستقامة" (92). وحين ناجى الشاعر فليتسا بأن "من قلمها تفيض السعادة على كل البشر الفانين" كان يمتدح كاترين على نحو واضح. وحين لام نفسه "على النوم حتى الظهر، وتدخين التبغ، وشرب القهوة ... وجعل الدنيا ترتعد لنظراتي ... والانغماس في ولائم فاخرة على مائدة تتألق بالفضة والذهب"، عرف البلاط كله أن هذه غمزة أراد بها بوتمكين. وقد ارتفع درازفين إلى قمة النشوة في مديح "الإمبراطورة" فليتسا، التي "تخلق النور من الظلمات، ولا تؤذي أحداً، وتقضي عن الهنات، وتدع الناس يتكلمون كما يشاءون، وتكتب القصص الخرافية لتعلم شعبها، وتعلم خور الأبجدية" (أي حفيدها ألكسندر). ويختتم الشاعر بقوله: "أتوسل إلى النبي العظيم أن يسمح لي بلمس تراب قدميك، وأن أستمتع بذلك الجدول العذب جدول ألفاظك ولحظك. أني أتضرع إلى قوى السماء أن تنشر أجنحتها الزرقاء وتحرسك في الخفاء ... وأن يسطع صيت أعمالك في الأجيال القادمة سطوع النجم في السماء" (93). وأكد درازفين أنه لا يطمع في جزاء على كل هذا المديح العطر، ولكن كاترين رقته، وما لبث أن قرب منها قرباً بصره بعيوبها؛ فكف عن كتابة المدائح. واتجه إلى عرش أسمى ونظم "قصيدة غنائية للإله"، مهنئاً إياه تعالى على كونه "ثلاثة-في-واحد" وعلى حفظه السماوات في مثل هذا النظام الجميل. وكان أحياناً يهبط إلى الميتافزيقا، ويردد برهان ديكارت على وجود الله فيقول: "أنا بالطبع موجود، وإذن فأنت موجود" (94). وقد ظلت هذه القصيدة الغنائية نصف قرن لا ينافسها شعر في شعبيتها حتى جاء بوشكن.
وقد فاجأ دنيس إيفانوفتش فون فيزين العاصمة بكوميديتين رشيقتين هما "اللواء" و "القاصر". ونجحت الثانية نجاحاً كاملاً حتى أن بوتمكين نصح المؤلف قائلاً "مت الآن، أو لا تكتب شيئاً بعد اليوم" بمعنى أن أي شيء يكتبه بعد هذا سيضعف من شهرته (59). وقد فض فيزين النصيحة ورأى(41/95)
تحقيق النبوءة التي احتوتها. وفي سنته الأخيرة جاب غربي أوربا وأرسل إلى وطنه بعض رسائل ممتازة احتوت إحداها نبوءة فيها رنين الافتخار "نحن (الروس) بادئون، أما هم (يقصد الفرنسيين) فمنتهون" (96).
وأطرف شخصية في أدب عصر كاترين هو نيكولاي إيفانوفتش نوفيكوف. فقد تطور هذا الفتى بعد أن طرد من جامعة موسكو لكسله وتخلفه ليصبح رجلاً ذا نشاط ذهني لايني. ففي الخامسة والعشرين (1769)، في سانت بطرسبرج، رأس تحرير مجلة "الدبور" التي أطلق عليها هذا الاسم بخبث شيطاني ليعارض دورية سوماروكوف "النحلة النشيطة". وقد هاجم نوفيكوف بأسلوبه المرح الفساد الذي استشرى في الحكومة، وهاجم الإلحاد الفولتيري السائد في الطبقات العليا لأنه مدمر للأخلاق الشخصية؛ وامتدح بالمقارنة ما افترض وجوده من إيمان الروس المسلم وأخلاقهم المثالية قبل بطرس الأكبر. "وكان قدامى الحكام الروس قد توقعوا أن إدخال الفنون والعلوم سيقضي قضاءً مبرماً على أثمن كنز يملكه الروس-وهو أخلاقهم" (97). هنا أيضاً كان روسو يخوض حرباً مع فولتير. وحدجت كاترين "الدبور" بنظرات متجهمة، فحتجبت في 1770. وفي 1775 انضم نوفيكوف إلى الماسون الأحرار، الذين كانوا ينزعون في روسيا إلى الغيبية، والتقوية، والأوهام "الروزكروشية" (1) بينما اخوانهم في فرنسا يداعبون الثورة. وفي 1779 انتقل إلى موسكو، واضطلع بأعمال مطبعة الجامعة، ونشر في ثلاث سنوات من الكتب عدداً يفوق ما أخرجته تلك المطبعة في أربع وعشرين سنة. وحصل بمعونة مالية من صديق له على مزيد من المطابع، وكون داراً للنشر، وفتح مكتبات لبيع الكتب في جميع أرجاء روسيا، وأذاع نشر إنجيله في الدين والإصلاح. وأسس المدارس، والمستشفيات، والمستوصفات والبيوت النموذجية للعمال.
فلما أحالت الثورة الفرنسية كاترين من حاكمة مستبدة مستنيرة إلى حاكمة
_________
(1) Rosicurucian نسبة لجمعية سرية اشتهرت في القرنين الـ 17 والـ 18 وزعمت أنها تملك معرفة سرية للطبيعة والدين. (المترجم)(41/96)
مستبدة مذعورة، خشيت أن يكون نوفيكوف بسبيل قلب النظام القائم. فأمرت بلاتون، مطران موسكو، أن يفحص أفكار نوفيكوف. وكتب الحبر يقول: "أضرع إلى الله الواسع الرحمة أن يكون هناك مسيحيون مثل نوفيكوف، لا في القطيع الذي وكله الله وأنت إلى فحسب، بل في العالم بأسره" (98). ولكن الإمبراطورة التي ظلت على ربيبتها رغم ذلك أمرت بسجن نوفيكوف في قلعة شلوسلبورج (1792). هناك ظل حبيساً حتى ماتت كاترين. فلما أفرج عنه بولس الأول اعتكف في ضيعته بتخفين، وأنفق سنيه الأخيرة في التقوى وأعمال البر.
أما ألكسندر نيكولايفتش رد شتشيف فقد لقي حظاً أشد عثاراً. أوفدته كاترين إلى جامعة ليبزج، فتعرف إلى بعض أعمال جماعة الفلاسفة، وأثر فيهبنوع خاص كتاب روسو "العقدالاجتماعي" كما أثر فيه فضح رينال لوحشية الأوربيين في استغلال المستعمرات وتجارة الرقيق. وعاد إلى سانت بطرسبرج وهو يضطرم بالمثل الاجتماعية، فلما وكلت إليه إدارة الجمرك تعلم الإنجليزية ليتعامل مع التجار البريطانيين، ودرس الأدب الإنجليزي، وأثر فيه خاصة كتاب ستيرن "رحلة عاطفية". وفي 1790 نشر كتاباً من عيون الأدب الروسي اسمه "رحلة من سانت بطرسبرج إلى موسكو". وقد أقر الكتاب بالإيمان القويم، ولكنه ندد بخدع القساوسة التي يحتالون بها على سذاجة الشعب؛ وقبل النظام الملكي، ولكنه برر الثورة على الحاكم الذي ينتهك "العقد الاجتماعي" بتجاهله للقانون. ووصف تمزيق نظام التجنيد الإجباري لأوصال السر، وبغي السادة على أقنانهم. وقال راد شتشيف أنه أخبر في أحد الأماكن بنبأ مالك هتك عرض ستين فلاحة عذراء. ثم شهر بالرقابة ودافع عن حرية الصحافة. ولم يكن داعية للثورة، ولكنه طلب التفهم الرحيم لمن يدعون إليها. وناشد النبلاء والحكومة إنهاء القنية. "فلترق قلوبكم أيها القساة؛ حطموا أغلال أخوتكم، وافتحوا سجون الرق. إن للفلاح الذي يهبنا العافية والحياة الحق في التصرف في الأرض التي يفلحها" (99).(41/97)
ومن عجب أن الرقيب أجاز الكتاب. ولكن كاترين خافت في 1790 أن يحذو شعبها حذو الثورة الفرنسية. فدونت ملاحظة بضرورة عقاب مغتصب العذارى الستين، ولكنها أمرت بمحاكمة راد شتشيف بتهمة الخيانة. ووجدت في كتابه فقرات عن اقتحام الحصون وثورة الجنود على قيصر قاس، ومدائح للإنجليز لمقاومتهم ملكاً ظالماً. فحكم مجلس الشيوخ على المؤلف بالإعدام؛ وخففت كاترين الحكم إلى النفي عشر سنين في سيبيريا. وسمح الإمبراطور بولس الأول لراد شتشيف بالعودة من المنفى (1796)، ثم دعاه ألكسندر الأول إلى سانت بطرسبرج (1801). وهناك انتحر بعد سنة، لأنه ظن دون مبرر أنه سينفي ثانية. ومصيره ومصير نوفيكوف من الوصمات الكثيرة التي تلطخ عهداً رائعاً.
9 - الفن
صنعت كاترين للفن أكثر قليلاً مما صنعته للأدب، لأن الفن لا يستهوي غير الطبقات العليا، ولا يقرع ناقوس الثورة. ولكن الموسيقى الشعبية كانت ثورية دون قصد منها، لأن كلها تقريباً تألف من أغان حزينة في مقام صغير وبمصاحبة شاكية باكية، لا تحكي قصة القلوب التي انفطرت حباً فحسب، بل الأنفس التي براها الكد والكدح. وندر أن سمع النبلاء تلك الأغاني، ولكنهم استمتعوا بالأوبرات الإيطالية التي جلبها إلى سانت بطرسبرج جالوبي، وبايزيللو، وسالبيري وتشيماروزا، الذين كانت الدولة تدفع أجورهم كلهم، أما كاترين نفسها فلم تكون شديدة الحب للأوبرا. قال "لا أستطيع في الموسيقى أن أميز نغمات غير نغمات كلابي التسعة، التي يشترك كل منها بدوره في شرف الوجود في حجرتي، والتي أستطيع التعرف على صوت كل كلب منها عن بعد" (100).
ثم اعترفت أيضاً أنها لا تملك القدرة على فهم الفن. وقد بذلت وسعها لتربي هذا الفهم في روسيا. فوفرت المال الذي مكن بتسكي من أن يدير بالفعل (1764) عجلة أكاديمية الفنون التي أنشئت أيام اليزابث (1757). واشترت روائع الفن المعترف بقيمتها في الخارج وعرضتها في قاعات تحفها،(41/98)
فدفعت 180. 000 روبل ثمناً لمجموعة الكونت فون برول في درسدن، و40. 000 جنيه ثمناً لمجموعة السير روبرت ولبول في هوتن هول، و440. 000 فرنك لمجموعة شوازيل، و460. 000 لمجموعة كروزا. وقد عقدت بهذا كله صفقات رابحة دون أن تدري، لأن هذه المجموعات التي التقطتها من هنا وهناك ضمت ألفاً ومائة لوحة من أعمال رفائيل، وبوسان، وفانديك، ورمبرانت، وغيرها من التحف الخالدة التي زادت قيمتها مع الزمن وهبوط العملة. واستطاعت من طريق جريم وديدرو (اللذين كانت تتابع نشاط صالونيهما باهتمام) أن تكلف برسم اللوحات فنانين فرنسيين-أمثال فرنيه، وشاردان، وهودون-ونسخت لها كطلبها بالحجم الطبيعي لوحات جصية من أعمال رفائيل في الفاتيكان وبنيت قاعة خاصة بها في الأرميتاج.
ولم تكلف الفنانين الوطنيين إلا بالقليل، لأن ذوقها الفرنسي لم يجد في فن جيلها الروسي غير القليل مما له قيمة باقية .. على أنها قدمت المال لتعليم وإعالة الطلاب في أكاديمية الفنون وأوفدت عدداً منهم للدراسة في غربي أوربا. وفي تلك الأكاديمية تخرج رسام أحداث التاريخ أنطون لوزنكو، ورساما الأشخاص ديمتري ليفتسكي وفلاديمير بوروفيكوفسكي. أما لوزنكوا فقد قضى خمس سنين في باريس وثلاثاً في روما ثم عاد إلى سانت بطرسبرج (1769) ليعلم في الأكاديمية. وقد أثار ضجة بلوحته المساة "فلاديمير أمام روجنيدا"، ولكنه-ربما لفداحة واجباته الأكاديمية-أخفق في أن ينتج الروائع المنتظرة منه، ثم اختطفه الموت وهو في السادسة والثلاثين (1773). وأما ليفتسكي فقد استخدمته كاترين ليرسم بعض الشابات اللاتي كن يدرسن بمعهد سمولني؛ والنتيجة شاهد بجمالهن الرائع. وقد سترت اللوحة التي صور فيها كاترين بدانتها تحت أردية فضفاضة. كذلك جلست لتصورها مدام فيجه لبرون، وكانت من بين الفنانات الفرنسيات الكثيرات اللاتي دعتهن كاترين لإضفاء الرشاقة الفرنسية على الفن الروسي.
وأعظم فنانيها الذين استتقدمتهم كان فالكونيه. قدم في 1766، وأقام في روسيا اثنتي عشرة سنة. وقد طلبت إليه كاترين أن يصمم ويصب(41/99)
بالبرونز تمثالاً لبطرس الأكبر ممتطياً جواده. وكان قد جلب معه شابة تدعى ماري-آن-كوللو، كانت النموذج لرأي التمثال الضخم. وتحدى فالكوفيه قوانين الفيزياء بتمثيله الحصان يقفز في الهواء، وقائمتاه الخلفيتان فقط تلمسان أرضاً صلبة، وهي صخرة ضخمة جلبت من كاريليا لترمز إلى المقاومة الهائلة التي تغلب عليها بطرس؛ وتحقيقاً للتوازن أظهر فالكونيه حية نحاسية-رمزاً للحسد-تلدغ ذيل الحصان. وقد احتفظت هذه الرائعة الفنية بتوازنها بينما تغيرت سانت بطرسبرج إلى بتر وجراد ثم إلى لننجراد. واستغرق فالكونيه في هذا العمل وقتاً أطول مما توقعته كاترين؛ ففقد اهتمامها به، وأهملت المثال، فعاد إلى باريس وقد خاب أملها فيه، وفي روسيا، وفي الحياة.
وفي 1758 وفد نيكولا-فرانسوا جييه من فرنسا ليعلم النحت في الأكاديمية. وقد نبغ ثلاثة من تلاميذه في عهد كاترين: تشوين وكوزلوفسكي وشخيدرين. أما تشوين فقط كلفه بوتمكين بنحت تمثال "كاترين الثانية" لقاعة نصر نارويدا المقببة (الروتندا)؛ وقد وصف الخبراء التمثال بأنه "عديم الحياة بارد (101) "، وكذلك يبدو التمثال الذي نحته تشوين لبوتمكين. أما كوزلوفسكي فقد انتهى إلى مثل هذا الجمود في المقبرة التي نحتها للمرشال سوفوروف، وحتى في تمثاله لإله الحب كيوبيد. أما شيخدرين فجل أعماله أنتجها في عهد ألكسندر الأول: فإلى عام 1812 ينتمي تمثاله المسمى "الكرتيدات يسندن الكرة السماوية"-وترى فيه امرأة تحمل الدنيا-وقد تخصص إيفان بتروفتش مارتوس في التماثيل الجنائزية، وحفلت الجبانات في بطرسبرج بتماثيله "الباكية"؛ وقد قيل عنه أنه "أبكى الرخام" وقد تخلف النحت الوطني إلا في تقليده للطرز الأجنبية. وكانت الكنائس الأرثوذكسية تحرم التماثيل وقنع النبلاء بالفنانين الذين يعثرون عليهم بين أقنانهم.
ولكن المعمار ازدهر في عهد كاترين، لأنها صممت على أن تترك بصمتها على عاصمتها. قالت "إن المباني العظيمة تعلن عظمة الحكم ببلاغة لا تقل عن بلاغة الأعمال العظيمة" (102). وكتبت في 1779 تقول "أنت تعلم أن هوس البناء أقوى اليوم عندنا مما كان في أي وقت مضى، ولم يهدم(41/100)
زلزال قط عمائر قدر العمائر التي شيدناها ... وهذا الهوس شيء لعين، فهو ينضب المال، وكلما بنينا ازددنا رغبة في البناء، إنه مرض كالسكر بالخمر" (103). ومع أنها قالت لفالكونيه "إني لا أعرف حتى كيف أرسم" فقد كان لها رأيها الخاص في الفن، أو قل رأى تأثير بالحفائر الرومانية في هركولانيوم وكتب كايلوس وفنكلمان. فولت ظهرها للباروك المزوق والروكوك الزاهي، وهما طرازان سادا في عهد اليزابث، وفضلت عليهما الطراز الكلاسيكي الجديد الأكثر بساط ونقاء. وقد عزا إليها بعض معاصريها فضل إصدار التعليمات الواضحة المحددة والرسوم التخطيطية التمهيدية لمعمارييها (104).
فلما افتقدت الفنانين الوطنيين الذين يحققون لها أفكارها، ولت وجهها شطر غربي أوربا التماساً لرجال ورثوا التقاليد الكلاسيكية. وهكذا قدم جان باتست فالان دلا موت، الذي شيد لها على نهر نيفا قصر أكاديمية الفنون (1765 - 72) وله واجهة بطراز النهضة منآجر مكسو ورواق معمد كلاسيكي، وداخله سلم نصف مستدير فخم يفضي إلى قاعة مستديرة تعلوها قبة. وبنى فلان ملحقاً للقصر الشتوي هي الأرميتاج الشهير، الذي كانت كاترين تراه ملاذاً تحتمي به من مراسيم البلاط، ولكنه أصبح قاعة تحفها، وهو اليوم من أهم متاحف العالم. وقالت كاترين في وصفه لجريم عام 1790 "أنه خلوتي الصغيرة، في موقع مناسب بحيث لا يكلفني الذهاب إليه أو الإياب منه إلى حجرتي أكثر من ثلاثة آلاف خطوة .. هناك أجول بين طائفة من الأشياء التي أحبها وأزهو بها، وتلك الجولات الشتوية التي تحفظ على عافيتي" (105).
ومن فرنسا أيضاً قدم الاسكتلندي تشارلز كاميرون، الذي درس الزخرفة الكلاسيكية في وطنه. وقد ابتهجت كاترين بالإشراق والرقة اللذين كان يزين بهما-بالفضة واللاكيه والزجاج واليشب والعقيق والرخام المتعدد الألوان-الجناح الخاص الذي احتفظت به لنفسها ولعشاقها وكلابها في "القصر العظيم" بتسارسكو سيلو. كتبت تقول "لم أر قط ضريباً لهذه(41/101)
الحجرات حديثة الزخرف؛ ولم أمل قط طوال الأسابيع التسعة الأخيرة من تأملها" (106). وحول هذا القصر خططت لها حديقة بالطراز "الطبيعي" و "الإنجليزي"، وصفتها في خطاب إلى فولتير فقالت: "إنني الآن أهيم حباً بالحدائق الإنجليزية الطراز، بخطوطها القصيرة، والمنحنية، ومنحدراتها المدرجة في رفق، وبركها وبحيراتها ... إنني شديدة النفور من الخطوط المستقيمة؛ وباختصار أقول أن الهوس الإنجليزي (الانجلومانيا) يسيطر على هوسي بالنبات" (107). وقد بنى كاميرون لولدها بولس وزوجته الثانية الفاتنة في بافلوفسك (وهي ضاحية أخرى من ضواحي العاصمة) قصراً بطراز الفيلات الإيطالية؛ هنا حفظ الغراندوق وماريا فيود وروفنا التحف التي جمعاها في رحلاتهما في غرب أوربا.
ومن إيطاليا أقبل أنطونيو رينالدي، الذي بنى قصرين باذخين أهدتهما كاترين لجريجوري أورلوف، قصر الرخام على نهر نيفا، وقصر جاتشينا قرب تسارسكوسيلو، الذي أصبح المسكن المفضل عند بولس الأول. ومن جاء جاكومو كورانجين الذي استهوته المعابد اليونانية في باسيتوم وروائع باللاديو في قتشنتشا. وفي 1780 عرض على كاترين عن طريق جريم تصميمات ونماذج لأبنية شتى كان يؤمل تشييدها. وافتتنت بها كاترين ومنذ ذلك التاريخ حتى 1815 شيد كورانجي في سانت بطرسبرج أو على مقربة منها العدد الوفير من المباني بالطراز الكلاسيكي، مسرح الأرميتاج، ومعهد سمولني (الذي ألحقه بدير سمولني في راستريللي)، ومصرف الإمبراطورية، ومصلى الطريق المالطية، والقصرالإنجليزي في بيتر هوف، وقصر ألكسندر في تسارسكو سيلو. وقد صمم هذا القصر لحفيد كاترين الذي أصبح فيما بعد ألكسندر الأول، والذي انتقل إليه في 1793، بعد الفراغ من تشييده بعامين. "إنه من روائع معمار القرن الثامن عشر" (108) (1).
_________
(1) كان القصر المفضل لدى القيصر نيقولا الثاني: ومنه فر إلى سيبيريا والموت في 1917. وقد حوله السوفييت متحفاً. ولحقت به أضرار بالغة في الحرب العالمية الثانية. ولكنه رمم.(41/102)
ولكن ألم يكن هناك معماريون روس ينفقون روبلات كاترين؟ بلى. فقد حداها الأمل في ترك أثر يخلد ذكرها في موسكو إلى أن تكلف فاسيلي بازينيف بتصميم "كرملن" من الحجر ليحل محل كرملن إيفان الأكبر المبني بالآجر. وصمم بازينيف قصراً هائلاً لو قام لتضاءل بالقياس إليه قصر فرساي؛ والذين رأوا نموذجه الخشبي-الذي تكلف ستين ألف روبل-تعجبوا من براعته. غير أن الأساسات التي أرسيت ليقوم عليها هبطت بهبوط التربة بفعل نهر موسكو، فنكصت كاترين عن المغامرة على أنها دبرت المال الذي أتاح لإيفان ستاروف أن يبني على ضفة نيفا اليسرى قصر تارويدا، وأهدت هذا القصر المنيف إلى بوتمكين تخليداً لفتحه القرم.
وأياً كانت تكلفة نفقات المباني التي شيدتها كاترين فإنها حققت هدفها. كتب ماسون المعاصر لها يقول: "إن الرجل الفرنسي بعد دورانه على شواطئ بروسيا الماحلة وشقه سهول ليفونيا المقفرة التي لم تزرع، تأخذه الدهشة والطرب إذ يعثر مرة أخرى وسط بيداء مترامية على مدينة كبيرة فخمة، تزخر بمجتمع راق وبأسباب الترويح وبالفنون وألوان الترف التي خالها لا توجد إلا في باريس" (109). أما الأمير دلين فبعد أن شهد أوربا كلها تقريباً خلص إلى أنه "رغم ما في كاترين من عيوب، فإن الصروح التي شيدتها، العامة منها والخاصة، تجعل سانت بطرسبرج أبدع مدينة في العالم" (110) ولا عجب، فقد حول لحم عشرة ملايين من الفلاحين ودمهم إلى طوب وحجر.
10 - خاتمة المطاف
لو أن كاترين سئلت لبينت-كما هو دأب الحكام طوال العصور والأزمان-أنه ما دام الموت حقاً على البشر على أية حال، فلم لا يسخر الحكام عبقرية الرجال لتوجيه هؤلاء الأحياء المطاردين والبشر المقضي عليهم لا محال بالموت، لجعل الدولة قوية، وجعل مدنها عظيمة؟ لقد عودتها سنوات السلطان، وتحديات الثورة والحرب، وتقلبات النصر والهزيمة،(41/103)
أن تطيق آلام الغير دون أن تجفل، وأن تغضي عن استقلال الأقوياء للضعفاء باعتباره شراً لا قبل لها بعلاجه.
وقد أرهبتها الثورة الفرنسية بعد ما أزعجها العديد من المؤامرات لخلعها وأخافتها فتنة بوجاشيف. وقد أطاقتها راضية حين توقعت ألا تكون أكثر من إطاحة بأرستقراطية عاطلة وحكومة عاجزة؛ ولكن حين أكره حشد من رعاع باريس لويس السادس عشر وماري انطوانيت على ترك فرساي وسكنى التويلري وسط جماهير أفل زمامها-وحين أعلنت الجمعية التأسيسية أنها صاحبة السلطة العليا، وحين ارتضى لويس أن يكون الأداة المنفذة لأوامرها لا غير-عندها ارتعدت كاترين فرقاً من التشجيع الذي أعطى بالمثل للذين سعوا إلى أن يفعلوا نظير هذا في روسيا. فسمحت للأكليروس بأن يحظروا نشر أعمال فولتير التي كانت يوماً ما موضع حبها (111). ثم حرمت هي ذاتها بعد قليل جميع المطبوعات الفرنسية؛ ونقلت تماثيل فولتير النصفية من قاعاتها إلى حجرة لسقط المتاع (1792) (112) ثم نفت المثالي راد يشتشيف (1790)، وسجنت نوفيكوف المشرب بروح خدمة المجتمع (1792)، وفرضت رقابة تفتيشية على الأدب والمسرحيات. فلما قطع رأساً لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالجيلوتين (1793) قطعت صلاتها مع الحكومة الفرنسية، وحضت الملكيات الأوربية على تأليف تحالف ضد فرنسا. ولك تنضم هي ذاتها لذلك التحالف، بل استعملته لتشغل به الدول الغربية ريثما تتم ابتلاعها لبولندة. وقد قالت لأحد دبلوماسييها "إن كثيراً من مشروعاتي لم يستكمل بعد، ويجب شغل بلاطي برلين وفيينا حتى يتركانا طلقاء بغير قيود" (113).
على أن آثاراً ضئيلة تخلفت من تحررها القديم وبقيت حتى 1793. ففي ذلك العام أبلغها أحد الحاشية أن فردريك-سيزار دلاهارب، الذي كان المعلم الخاص لحفيديها، جمهوري عنيد. فأرسلت في طلبه وأنبأنه بالخبر، فأجاب "إن جلالتك كنت على علم قبل أن تكلي إلى تعليم الغراندوقين أنني سويسري، وإذن فجمهوري" ثم رجاها أن تمتحن تلميذيه، وأن(41/104)
تحكم على عمله من سلوكهما. ولكنها كانت تعلم كم أحسن تعليمهما، فقالت له "سيدي، لتكن يعقوبياً أو جمهورياً أو ما شئت، إنني مؤمنة بأنك رجل أمين، وهذا يكفيني. فابق مع حفيدي واحتفظ بكامل ثقتي، وعلمهما بما عهدته فيك من غيرة" (114).
وفي وسط هذا الضجيج اتخذت آخر عشاقها (1789) وهو بلاتون زوبوف. وكان في الخامسة والعشرين، وهي في الحادية والستينز وكتبت لعشيقها "الشرفي" بوتمكين تقول: "عدت إلى الحياة كأنني ذبابة خدرها البرد" (115). واقترح "تلميذها" الجديد هجوماً مثلث الشعب على تركيا: جيش روسي بقيادة أخيه فاليران ذي الأربعة والعشرين ربيعاً يعبر القوقاز إلى فارس ويقطع كل تجارة اليابس بين تركيا والشرق؛ وجيش ثان بقيادة سوفوروف يتغلغل في البلقان ليحاصر الآستانة؛ ثم أسطول البحر الأسود الروسي، تحت إمرة الإمبراطورة نفسها ليتسلط على البوسفور. وبعد سنوات من الإعداد بدئ بتنفيذ هذه المغامرة الملحمية (1796) واستولى الروس على دربنت وباكو؛ وتطلعت كاترين إلى انتصارات تكمل برنامجها وتتوج حياتها.
وفي صباح 17 نوفمبر 1796 بدت مرحة كالعادة. وبعد الفطور اعتكفت في حجرتها. ومضى وقت ولم تظهر ثانية، فقرعت خادمتها الباب، فلما لم تجب دخلت، فوجدت الإمبراطورة منبطحة على الأرض، صريعة انفجار شريان في الدماغ، وفصدت مرتين، وأفاقت لحظة، ولكنها فقدت النطق. وفي العاشرة من مساء ذلك اليوم لفظت أنفاسها.
وأحس أعداؤها أنها لا تستحق ميتة رحيمة كهذه. ولم يغفروا لها قط تلك التناقضات بين مزاعمها التحررية وحكمها الاستبدادي، وضيقها بالمعارضة، وإخفاقها في تنفيذ الإصلاح المقترح للقانون الروسي، واستسلامها للنبلاء في توسيعها للقنية. ولم تحمد لها انتصاراتها تلك الأسر التي أفقرتها الضرائب الباهظة، أو التي ثكلت أبناءها بسبب حروبها. ولكن الشعب في جملته صفق لها لأنها مدت روسيا إلى حدود أرحب وأكثر أمناً. لقد(41/105)
أضافت 200. 000 ميل مربع لمساحة روسيا، وفتحت ثغوراً جديدة لتجارة روسيا، وزادت السكان من تسعة عشر إلى ستة وثلاثين مليوناً. وكانت عديمة الضمير في دبلوماسيتها- ربما أكثر قليلاً من معظم حكام ذلك العهد في ابتلاعها بولندة.
أما أعظم منجزاتها فهو مواصلتها جهود بطرس الأكبر لإدخال روسيا في نطاق الحضارة الغربية. وبينما كان بطرس يفكر في هذا الهدف بلغة التكنولوجيا، كانت كاترين تفكر فيه أولاً بلغة الثقافة، فاستطاعت بقوة شخصيتها وشجاعتها أن تنتزع الطبقات المتعلمة في روسيا من العصور الوسطى وتدفعها إلى فلك الفكر الحديث في الأدب والفلسفة والعلوم والفنون. وكانت بين أندادها من الحكام المسيحيين (باستثناء فردريك الثاني غير المسيحي) سباقة إلى توطيد التسامح الديني. وقد عقد مؤرخ فرنسي مقارنة فضلها فيها على الملك الأعظم (لويس 14) قال "إن سماحة كاترين، وبهاء حكمها، وفخامة بلاطها ومنشآتها، وآثارها، وحروبها-هذا كله كان بالنسبة لروسيا بالضبط ما كأنه عصر لويس الرابع عشر بالنسبة لأوربا. غير أن كاترين إذا نظرنا إليها كفرد وجدناها أعظم من هذا الملك. ذلك أن الفرنسيين هم الذين بنوا مجد لويس، أما كاترين فهي التي بنت مجد الروس. ولم يتح لها كما أتيح له ميزة حكم شعب مهذب، ولا أحيطت منذ طفولتها بشخصيات عظيمة مثقفة" (116).
وفي تقدير مؤرخ إنجليزي أن كاترين "هي الحاكمة الوحيدة التي فاقت اليزابث ملكة إنجلترة كفاءة، وهي تعدلها من حيث الأهمية الباقية لأعمالها" (117). وقال مؤرخ ألماني "كان كل ما فيها "كائناً سياسياً"، لا ضريب لها من جنس النساء في التاريخ الحديث، ولكنها في الوقت ذاته امرأة خالصة، وسيدة عظيمة" (118)، ويجوز لنا أن نطبق عليها المبدأ السمح الذي وضعته جوته: كانت عيوبها عدوى انتقلت إليها من جيلها أما فضائلها فكانت من صنعها هي. "(41/106)
الفصل التاسع عشر
اغتصاب بولندة
1715 - 1795
1 - نظرة عامة على بولندة
1715 - 1764
كانت الجغرافيا، والعرق، والدين، والسياسة، هي الأعداء الطبيعية لبولندة. ذلك أن هذا القطر كان يعدل فرنسا اتساعاً، إذ امتد عام 1715 من الأودر غرباً إلى ما يقرب من سمولنسك وكييف شرقاً، ولكن لم يكن له حد طبيعي-من جبال أو نهر عريض-على أي جبهة ليقيه شر الغزو؛ وقد اشتق اسم بولندة من كلمة " Pole" وهو السهل. ولم يكن لها سوى منفذ واحد إلى البحر-عند دانتزج، أما الفستولا الذي وجد له مصباً هناك، فلم يكن بالحد الذي يصلح للدفاع ضد بروسيا المجاورة. وقد افتقدت الأمة وحدة العراق، فكانت كثرة البولنديين البالغة 6. 500. 000 نسمة (1715) في صراع متقطع مع الأقليات الألمانية واليهودية واللتوانية والروسية؛ وهنا التقى التيوتون والسلاف وجهاً لوجه في عداء طبيعي. ولم يكن هناك وحدة دينية: فالأغلبية الكاثوليكية الرومانية تحكم وتظلم "المنشقين"-وهؤلاء هم الآخرون منقسمون في نزاع وخصام بين بروتستنت وروم وأثرذكس ويهود. ولم يكن هناك وحدة سياسية، لأن سلطة السيادة التي حرص أصحابها على الاحتفاظ بها كانت في يد "السجم" أو "الديت"، المؤلف كله من نبلاء لكل منهم، بمقتضى حق النقض المطلق، سلطة إبطال مفعول أي اقتراح يقترحه الباقون كلهم، وإنهاء أي دورة، أو أي ديت منتخب، إن شاء. أما الملك فينتخبه الديت، وهو خاضع! "مواثيق" يوقعها شرطاً(41/107)
لانتخابه، ولم يكن في استطاعته أن يتبع أي سياسة طويلة المدى وهو مطمئن أقل اطمئنان إلى توريث تاجه لذريته أو تلقى التأييد المتصل. وقد طالب النبلاء بهذه السلطة غير المقيدة على التشريع لأن كلاً منهم أراد أن يكون مطلق الحرية في السيطرة على أراضيه وأقنانه. ولكن التقييد وروح الحرية، فما إن تصبح الحرية مطلقة حتى تقضي عليها الفوضى، وتاريخ بولندة بعد جان سوبيسكي كان سجلاً للفوضى.
وكان أكثر الأرض يزرعه أقنان يرسفون في قيود ذل إقطاعي لا مغيث لهم منه. وكان السيد الإقطاعي أحياناً رفيقاً بهم، ولكنه كان دائماً مطلق السلطة. وأما أقنانه فلم يدينوا له فقط بجزء المحصول الذي يقدره ويطالبهم به، بل كان لزاماً عليهم أيضاً أن يعطوه من كدهم، دون أجر، عمل يومين أو ثلاثة في ضيعته كل أسبوع. ومن حسن الحظ أن الأرض الجيدة الري كانت خصبة، فوجد الفلاحون ما يكفي لإقامة أودهم، ولكن كوكس وصفهم بأنهم "أشد فقراً وذلاً وشقاءً من أي شعب لاحظناه في رحلاتنا" (1). وكان سادتهم المحليون هم الطبقة الدنيا من النبلاء أو صغار الأعيان (شلاختاً)، وهؤلاء الملاك بدورهم كانوا خاضعين لنحو مائة من الأقطاب الذين يملكون أو يشرفون على مساحات شاسعة. وكان صغار الأعيان يشغلون معظم الوظائف التنفيذية في الدولة، وهم من الناحية النظرية يؤلفون الغالبية في مجلس السجم، ولكن السياسة البولندية كانت من الناحية الفعلية صراعاً بين الأقطاب أو أسرهم، الذين يتلاعبون بمجموعات من صغار الأعيان مستعينين بالنفوذ الاقتصادي أو الرشوة المباشرة (2).
وظلت الأسرة في بولندة تحتفظ بأفضليتها البدائية على الدولة. فكان آل رادزيفل، وآل بوتوكي، وآل تشارتوريسكي، كل منهم يترابط أفراده بعاطفة من التماسك الأسري أوثق من أي رباط قومي؛ هنا كان حب الوطن هو حرفياً احترام الأب وتبجيله، والأب الأكبر سناً فوق كل شيء. وكانت الأسرة قوية كنظام أو مؤسسة، لأنها كانت وحدة الإنتاج الاقتصادي والتهذيب الأخلاقي، فلم يكن هناك نزعة فردانية اقتصادية تشتت الأبناء(41/108)
في أرجاء الوطن؛ والابن يقيم عادة في الضيعة الموروثة، خاضعاً لأمر أبيه ما دام الأب حياً. وزكت الأسرة بفضل وحدة السلطة، هذه الوحدة ذاتها الذي أضعف الدولة افتقادها. وكانت كل ثروة الأسرة تحت إشراف أبوي ممركز، وفي كثير من الحالات كانت تزداد من عام إلى عام بفضل أرباح الاستغلال والتصدير المعاد استثمارها من جديد، وفي حالات عديدة فاقت ثروة الملك نفسه. وكان عشرون أسرة بولندية في القرن الثامن عشر ينفق كل منها أكثر من 200. 000 جنيه في العام على البيت (3). وكانت الأسرة القوية تسمى بيتها بلاطاً، له مستخدموه، وجيشه الخاص، وخدمه الكثيرون، ومظاهر الأبهة الشبيهة بأبهة الملوك؛ من ذلك أن الأمير كارول رادزيفيل، الذي بلغت مساحة أرضه نصف مساحة بولندة، أولم في 1789 وليمة لأربعة آلاف ضيف كلفته مليوناً من الماركات (4).
أما أشهر الأسر البولندية قاطبة-والتي بلغ من شهرتها أنها كانت تعرف باسم "الأسرة" فقط-فهي أسرة تشارتوريسكي. فقد تبوأت مرتبة الإمارة منذ القرن الخامس عشر، واتصلت بصلة القرابة ببيت جاجيللو، الذي حكم بولندة من 1384 إلى 1572. وقد تزوج الأمير كازيميرز تشارتوريسكي (مات 1741)، نائب مستشار لتوانيا، بايزابللا مورستن، التي أضافت دفعة جديدة من الثقافة الفرنسية إلى الأسرة. وأنجب منها ثلاثة من المشاهير هم: (1) فردريك ميشال تشارتوريسكي، الذي أصبح كبير مستشاري لتوانيا، (2) ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي، الذي أصبح أمير بالاتين لـ "روسيا الحمراء"، (3) قنسطنطنياً التي تزوجت ستانسلاس بونياتوفسكي الأول، وولدت له بونياتوفسكي الثاني، وهو الشخصية المأساوية الكبرى في التاريخ البولندي.
ومن مفاخر آل تشارتوريسكي فوق ما تميزوا به أن نزعتهم التحررية نمت بنمو ثروتهم. فقد طالما عرفوا بترفقهم بأقنانهم؛ قال أحد معاصريهم "لو أنني ولدت قناً لوددت أن أكون قناً للأمير ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي" (5). فأنشأوا المدارس للأطفال، وزودوهم بالكتب(41/109)
المدرسية، وبنوا الكنائس والمستشفيات والأكواخ النموذجية. ثم جلبوا إلى ضيعتهم وقصرهم في بولافي (قرب لوبلين) معلمين ودارسين دربوا الشباب أياً كانت طبقتهم، على خدمة الدولة. أما من الناحية السياسية فإن الأسرة عارضت حق النقض المطلق لأنه من شأنه أن يجعل الحكم الفعال ضرباً من المحال. واتحدت ضدهم أسر كثيرة شعرت بأن حق النقض هو حاميها الأوحد من الأوتقراطية الممركزة. وكان أقواها أسرة بوتوكي، وزعيمها الأمير فيلكس بوتوكي، الذي كان في استطاعته أن يركب ثلاثين ميلاً في اتجاه واحد دون أن يجاوز أرضه-ثلاثة ملايين من الأفدنة في أوكرانيا.
أما الصناعة والتجارة، اللتان شاركتا في القرن السادس عشر في جعل بولندة قطراً عظيماً وفي إثراء مدنها، فقد عطلتهما خصومة ملاك الأرض ومجلسهم النيابي المطيع. فكانت مدن كثيرة بأسرها تقع في نطاق الملكية الخاصة لقطب من الأعيان آثر الزراعة على الصناعة مخافة أن تنشأ طبقة وسطى مستقلة. وكانت منافسة الحرف اليدوية التي ينتجها الأقنان في الضياع قد جرت الكساد على مهرة الصناع في المدن. كتب انطوني بوتوكي في 1744 يقول "إن خراب المدن ظاهر للعيان حتى أن كبرياتها في الدولة-باستثناء وارسو دون غيرها-أشبه بأوكار اللصوص" (6). ففي مدينة لفوف مثلاً كثر النجيل في الشوارع، وأصبحت بعض ميادينها حقولاً مفتوحاً، ومدينة كاراكاو التي كانت يوماً ما من أعظم المراكز الثقافية في أوربا هبط عدد سكانها إلى تسعة آلاف، وعدد الطلاب في جامعتها الشهيرة إلى ستمائة (7).
ويرجع بعض ما أصاب المدن من انحلال إلى عودة الكاثوليك إلى غزو بولندة. فقد كان كثير من البروتستنت المطرودين تجاراً أو صناعاً مهرة، وقد ترك تقلص عددهم في جميع أرجاء بولندة إلا غربيها (حيث بقي ألمان كثيرون) للمسرح البولندي لملاك الأرض، وكان هؤلاء من الكاثوليك الرومان، أو في الشرق من الروم الأرثوذكس أو الموحدين (وهم كاثوليك يمارسون الطقوس الشرقية ولكنهم يعترفون بابا روما).(41/110)
وكان المنشقون أو المخالفون- من البروتستنت والروم الأرثوذكس واليهود، وجملتهم ثمانية في المائة من السكان-محرومين من الوظائف العامة ومن عضوية الديت، وكل الدعاوي المرفوعة ضدهم بنظرها محاكم كاثوليكية خالصة (8). وقد بلغت الخصومة الدينية مبلغاً دفع الجماهير عام 1724، في مدينة تورون (ثورن) التي كان أكثر أهلها من البروتستنت، إلى أن تنتهك قدسية القربان وتدوس على صورة العذراء بعد أن أثار غضبها الشديد مسلك طالب يسوعي. وقدأعدم تسعة من هؤلاء المغيرين. واستنجد بروتستنت بولندة ببروسيا، والروم الأرثوذكس بالروسيا، وعرضت بروسيا وروسيا الحماية، ومنها تقدمتا الغزو والتقسيم.
أما أخلاق البولنديين فقد شابهت الأخلاق الألمانية على المائدة، والفرنسية في الفراش. وقد أكره الفلاحين على الاكتفاء بالزوجة الواحدة عكوفهم على الأرض والنسل، ولكن هذا الاكتفاء كان عسيراً في العاصمة لجمال النساء و "سلوكهن المغري" (9)، هؤلاء النساء اللاتي لم يسمحن لتعليمهن الأرقى بأن يقف عقبة في طريق فتنتهن. ويروي أن نساء الطبقة الراقية في وارسو كن من الناحية الجنسية منحلات كنساء باريس (10). ويؤكد لنا بوتياتوفسكي أنه كان بكراً حتى الثانية والعشرين (11)، ولكنه يضيف أن هذه العفة كانت شاذة في طبقته-وكان السكر متوطناً لا يعرف الفوارق بين الطبقات. فهو بين الفلاحين أنساهم في نشوته ما يعانون من فقر أو مشقة أو برد، أما النبلاء فقد سرى عنهم ما يعانون من العزلة والسأم، وفي جميع الطبقات كان الذكور ينظرون إليه لا على أنه رذيلة بل مظهر من مظاهر التيمز. وقد كرم القوم يان كومارتشفسكي لأنه استطاع أن يفرغ في جوفة دلواً من الشبانيا في جرعة واحدة دون أن يدور رأسه أو تخونه قدماه. وقد نبه القوم بونياتوفسكي إلى أنه لن يكون محبوباً ما لم يثمل بالشراب مرتين في الأسبوع (12). وكان إكرام الضيف عادة شائعة بين الجميع، ولكن كان يقاس بمقدار الطعام والشراب الذي كان يقدم للضيف. وقد يحدث أن يرهن أحد الأقطاب مدينة يملكها ليدفع نفقات مأدبة.(41/111)
وكان البولنديون المثقفون يضفون على المشهد رونقاً بأزيائهم. أما الفلاح فكان في الصيف يقنع بالقميص والسراويل إلى الركبة من التيل الخشن، دون جوارب طويلة أو حذاء. وفي الشتاء يدثر نفسه كالحزمة دون مراعاة للون، ولا وقت للزينة، وأما الأعيان الذين يعدون نحو 725. 000 فلباسهم الحذاء الطويل والسيف والقبعة ذاتالريشة والرداء الملون من الحرير أو المخرمات، ثم حول الخصر حزام عريض من النسيج المنقوش ذي الألوان الكثيرة. وهذا الزي الذي اعتزوا بقوميته نقلوه عن المسلمين نتيجة اتصال اللتوانيين بالأتراك في أوكرانيا، وقد عكس ما كان يحدث أحياناً من تحالف بين بولندة وتركيا ضد النمسا أو روسيا، وربما عبر عن نصر آسيوي في عادات البولنديين وأخلاقهم.
أما من الناحية الثقافية فقد عطل بولندة من 1697 إلى 1763 عدم مبالاة ملوكها السكسون بالأدب والفن السلافيين، كما عطلها حربان مدمران. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية هم راع للفنون فحسب، بل إنها كانت الموزع للتعليم والأمين الأكبر على نفائس الثقافة والأدب. وقد فرضت حجراً دقيقاً على بولندة يقيها حركة العلم والفلسفة في الغرب، ولكنها في نطاق حدودها نشرت المعرفة ونمتها. من ذلك أن جوزيف زالوسكي أسقف كييف جمع 200. 000 مجلد في وارسو لمكتبته التي تعد من أعظم مكتبات العصر، وفي 1748 فتحها للجمهور وأهداها للأمة؛ وكان أثناء ذلك يحيا حياة الزهد، وقد ضحى بنفسه في الصراع الناشب ليحفظ على بولندة استقلالها.
وهو الذي وجه القسيس الشاب المتطلع، ستانسلاس كونارسكي، إلى دراسة التاريخ والقانون وفي 1731 أصدر كونارسكي المجلد الأول من أربعة مجلدات جمعت ونسقت القانون البولندي من كازيمير الأكبر حتى وقته. هذه الأبحاث وغيرها كشف لكونارسكي عن مدى سقوط بولندة المخزن من حالة الازدهار الذي شهدته أيام النهضة الأوربية. وقد اقتنع بأن البعث لن يأتي إلا من القمة، لذلك أنشأ في وارسو (1740) "كلية للنبلاء" يتلقى فيها شباب الأشراف تعليماً لا يقتصر على الرياضة واللغات والآداب الكلاسيكية (التي أجاد اليسوعيون تدريسها)، بل يشمل(41/112)
العلوم الطبيعية واللغات الحديثة. وكان هذا عملاً بطولياً، لأنه لم يكن لديه مال ولاكتب، ولا معلمون ولا تلاميذ، ومع ذلك فقد جعل من كلية النبلاء هذه بعد خمسة عشر عاماً من الكد معهداً ذائع الصيت مرموقاً، وأحد المنابع للإحياء الثقافي في عهد بونياتوفسكي ولدستور 1791 المستنير. وقد دعا لإصلاح اللغة البولندية تخليصاً لها من العبارات اللاتينية والبلاغة المزوقة؛ واحتجت الأمة، ولكنها تعلمت. ثم توج كونارسكي أعماله بإصداره في بولندة (1760 - 63) أهم رسالة سياسية في القرن، تحمل هذا العنوان البريء، "في التسيير الفعال لدفة المناقشات" ولكنها احتوت ثورة شعواء على حق النقض المطلق. وهنا أيضاً ارتفعت الاحتجاجات الكثيرة ولكن بعد عام 1764 لم يحل "ديت" بحق النقض. وبمعونة كونارسكي بدأ يونياتوفسكي إصلاح الدستور البولندي.
وقبل ذلك الإحياء الرائع المتقطع عانت بولندة سبعة عشر عاماً من الفوضى والعار والاضمحلال تحت حكم الملوك السكسون.
2 - الملوك السكسون
1697 - 1763
في موضع آخر من هذا الكتاب (13) ذكرنا كيف تخطى الديت البولندي ابن سوبيسكي العظيم ليعطي تاج بولندة لفردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا الذي دخل في المذهب الكاثوليكي بين عشية وضحاها ليصبح أوغسطس الثاني (أي القوي) ملك بولندة، وكيف ولى شارل الثاني عشر ملك السويد مكانه ستانسلاس لشتشز نسكي (1704)، وكيف أتاحت هزيمة شارل في بلطاوة (1709) لأوغسطس أن يستعيد عرشه، وقد تمتع بالقليل من السلطات التشريعية التي كان يتمتع بها ملوك القرن الثامن عشر، ولكن بكل امتيازات الملوك الجنسية. فلما فشل في حكم بولندة رد حبه إلى سكسونيا، فجمل درسدن، وأترع جوفه بالجعة، وأفرغ عافيته بالخليلات، ثم أضاف الإهانة إلى الأذى باتخاذه واحدة فقط من هؤلاء الخليلات من بين حسان(41/113)
بولندة. وفي أخريات عهده وضع خطة لتقسيم بولندة بين النمس وبروسيا وسكسونيا، ولكنه مات (1 فبراير 1733) قبل أن ينفذ تدبيره الشرير. وقد قال على فراش الموت، "إن حياتي كلها كانت خطيئة متصلة" (14).
وفي فترة خلو العرش التي تلت ذلك خلال تجميع ديت انتخابي، أغدق المبعوثون الفرنسيون المال ليكسبوا نواباً يعملون على إعادة لشتشزنسكي. وكان ستانسلاس منذ خلعه يعيش في الألزاس مستمتعاً بالسلام والأمل. وفي 1725 أصبحت ابنته ماري ملكة على فرنسا بزواجها من لويس الخامس عشر، وتوقع لويس الآن أن يتبع حموه، متى رد إلى عرشه، السياسة الفرنسية، سياسة توحيد بولندة وبروسيا وتركيا في صف واحد يضرب نطاقاً حول النمسا. وشعرت الحكومة الروسية بأن حلفاً كهذا من شأنه إضعافها في صراعاتها المحتومة مع تركيا وبروسيا، فبادرت بإرسال الروبلات إلى وارسو لتمنع انتخاب لشتشزنسكي. ولكن الجنيهات الفرنسية كانت أثقل من الروبلات الروسية، وفي 10 سبتمبر 1733 أصبح لشتشزنسكي ملكاً على بوليدة باسم ستانسلاس الأول.
ورفضت أقلية الاعتراف بانتخابه، ووضعت نفسها تحت حماية جيش روسي زحف على الفستولا ونادى بالناخب السكسوني ملكاً على بولندة باسم أوغسطس الثالث (6 أكتوبر). وهكذا بدأت حرب الوراثة البولندية، وبدأ أول تدخل حاسم لروسيا في شئون بولندة وبحث ستانسلاس عن جيش بولندة يدافع عنه، فلم يجد جيشاً إلا على الورق، ففر إلى دانتزج واستنجد بفرنسا. وكان يرأس الحكومة الفرنسية آنذاك الكردينال فلوري، ولم يكن به رغبة لخوض حرب مع روسيا النائية، فأرسل مفرزة من 2. 400 جندي سحقها الروس بجيش من اثني عشر ألف مقاتل. وفر ستانسلاس من دانتزج واعتكف في اللورين. وفي يناير 1736 وقع على تنازله العرش، وفي يوليو اعترف بأوغسطس الثالث ملكاً.
ولكنه لم يكن أصلح من لشتشزنسكي لقيادة أمة ركبت الفوضى في صميم دستورها. وتعاون فترة مع آل تشارتوريسكي في محاولات لإنهاء(41/114)
حتى النقض، فاستعملت أسرة بوتوكي الفيتو المرة بعد المرة للاحتفاظ بهذا الحق، وأخيراً يئس أوغسطس وأخلد إلى الدعة في درسدن، ولم يزر بولندة إلا لماماً. واستمر الفساد واستشرى، وشارك الملك فيه إذا ألفى نفسه عاجزاً عن وقفه، وباع المناصب لمن يدفع فيها أغلى الأثمان. وهيمن الأقطاب على المحاكم والقوات المسلحة، وتفاوضوا رأساً من الدول الأجنبية وتلقوا منها الإعانات المالية (15). وناورت فرنسا والنمسا وبروسيا وروسيا لترى أيها يستطيع الظفر بنصيب الأسد من انحلال دولة بولندة الوشيك.
وقبل موت أوغسطس الثالث (5 أكتوبر 1763) وبعده تذرعت المنافسة على تعيين خلفه والتسلط عليه بكل حيلة دبلوماسية حتى وصلت إلى شفا الحرب. فطالب آل بوتوكي بجيش دائم عدته 100. 000 مقاتل ليحمي بولندة من السيطرة الأجنبية، أما آل تشارتوريسكي فقد راضوا أنفسهم على أن تكون بولندة محمية روسية، وتفاوضوا مع كاترين الثانية. وادعت روسيا لنفسها الحق في حماية الأقلية الرومية الأرثوذكسية في بولندة، ومدت ذاكرتها إلى الماضي البعيد لتتذكر أن أقاليم بولندة الشرقية انتزعها من روسيا سانت فلاديمير (956 - 1015) قبل ثمانمائة سنة. أما فرنسا فقد ناصرت ابن أوغسطس الثالث خلفاً له، فلو أن روسيا سيطرت على بولندة لأنهار صرح السياسة الخارجية الفرنسية كله في الشرق. وأما فردريك الأكبر الذي كان قد اختتم لتوه سبع سنين من الحرب الطاحنة مع فرنسا والنمسا، فقد كان في حاجة إلى صداقة كاترين التي نجا من الكارثة بإذنها، ووافق على أن يؤيد مرشحها للتاج البولندي، ثم أبرم معها (11 أبريل 1764) معاهدة تلزم الطرفين سراً بمعارضة أي تغييرات في دستور بولندة أو السويد، مخافة أن تقضي أي زيادة ف سلطة الملك إلى جعل أحد هذين القطرين أو كليهما قوياً إلى حد خطر؛ وهكذا اعتزما الدفاع عن الفوضى باسم الحرية. وهدأت كاترين مخاوف آل تشارتوريسكي بوعدها باختزال حق النقض المطلق بعد أن تستقر الأمور في نصابها، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وبإجماع آراء "ديت" أقنعته الروبلات،(41/115)
وجيش روسي لا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أميال، اختير ستانسلاس بونياتوفسكي ليتبوأ عرش بولندة.
3 - بونياتوفسكي
ولد لستانسلاس بونياتوفسكي الأب، حاكم كراكاو، وقسطنطيا تشارتوريسكي، في 7 يناير 1732. قال لمدام جوفران "ربيت تربية صارمة جداً على يد أم ندر أن تجدي لها نظيراً اليوم في أي مكان، في حين اكتفى أبي في وعظي بأن أجد فيه الأسوة الحسنة" (16). وحين بلغ السادسة عشرة بدأ القيام برحلات واسعة. وفي 1753 بهر مدام جوفرات وصالونها وكل باريس تقريباً بهيأته ومسلكه وشبابه. وبعد بضع سنوات، وجرياً على سنة جيله، كتب صورة ذاتية كانت مطابقة للحقائق مطابقة منصفة، قال فيها:
"كان خليقاً بي أن أرضى عن شكلي لو كنت فقط أطول بوصة ... وكان أنفي أقل انعقافاً، وفمي أصغر بعض الشيء. بهذه التحفظات أعتقد أن وجهي طلق معبر، ومظهري لا يخلو من امتياز ... وكثيراً ما يجعلني قصر نظري أبدو مرتبكاً، ولكن للحظة واحدة فقط. فالواقع أنني قد أوذي شعور الغير بالتطرف في الناحية المضادة-بسلوك شديد الخيلاء ويعينني ما حصلت من تعليم ممتاز على إخفاء عيوبي العقلية والبدنية، حتى أن كثيراً من الناس ربما توقعوا مني أكثر مما أستطيع إعطاءه في يسر. وعندي من الذكاء ما يكفي للمشاركة في أي حديث، دون أن يكفي للحديث طويلاً ومراراً. على أن ما فطرت عليه من تعاطف ولطف كثيراً ما يخف لنجدتي. وبي ولع طبيعي بالفن ... ويمنعني كسلى أو أوغل في الفنون والعلوم كما أشتهي. وأنا إما مفرط في العمل وإما عاطل منه. وفي استطاعتي الحكم على الأمور حكماً جيداً جداً ... ولكنني في مسيس الحاجة للمشورة المخلصة لكي أنفذ أي خطة من بنات أفكاري. وأنا حساس جداً، ولكن الحزن يؤثر فيَّ أكثر كثيراً من الفرح. فأنا أول من يبتئس ... وإذا أحببت أحببت حباً جماً ... ولست(41/116)
محباً للثأر. ومع أنني في أول لحظات غيضي قد أتوق للانتقام من أعدائي، إلا أنني لا قدرة لي أبداً على إنفاذ رغبتي، فالحنو يقف دائماً حائلاً بيني وبين الثأر" (17).
وتوحي قدرة بونياتوفسكي على أن يرى ذاته-ويعبر عنها-على هذا النحو الجميل بأنه ولد ليفكر ويكتب لا ليخطط وينفذ. وكان قد التقى بمونتسكيو وقرأ فولتير؛ واكتسب رهافة ونعومة المجتمع الفرنسي الفكرية مع درجة من تلك "الحساسية" التي أخذت تجد التعبير عنها في روسو. وكان شديد الحساسية للنساء، ويشعر أن ما أعطينه، جسداً وروحاً، لا يقدر بثمن. وقد شاع أنه قبض عليه في باريس لعدم وفائه بدين، ثم أطلق سراحه بعد حبسه ساعة، عندما دفعت مدام جوفران 100. 000 جنيه ليفرج عنه" (18).
وبعد أن قضى في باريس خمسة أشهر، وإذا كان قد تعلم الإنجليزية، فقد مضى إلى إنجلترة واختلف إلى بعض جلسات البرلمان، وتطلع إلى إعادة تشكيل الموقف البولندي على غرار إنجلترة كما صورها مونتسكيو. فلما عاد من رحلاته (1754) عين مشرفاً أول للتوانيا. وبعد عام رافق السير تشارلز هانبري وليمز إلى روسيا، وكانت النتائج كما أسلفنا. ثم عاد إلى وطنه عام 1756، ولكنه ذهب إلى سانت بطرسبرج في 1757 سفيراً لبولندة. وشارك في المؤامرة ضد اليزابث في 1758، وأكره على الرحيل عن روسيا دون أن يمهل وحزنت كاترين على رحيله، ولكنها حين أيدته ليرتقي عرش بولندة لم يكن دافعها أنها لم تزل تحبه، بل لأنه (في زعمها) أقل حقاً في العرش من أي مرشح آخر، وإذن فخليق به أن يكون أكثر عرفاناً بهذا الصنيع (19). أما هو فلم يفق قط كا الإفاقة من تلك العلاقة الغرامية المثيرة، وكان يتذكر كاترين قبل أن تقسي السلطة قلبها، وبقي افتتانه بها حتى حين اتخذته مطية لإخضاع شعبه.
وبعد انتخابه بيومين أرسل النبأ إلى مدام جوفران:
"ماما العزيزة: يبدو أنني أجد لذة أعظم وأنا أدعوك بذلك الاسم(41/117)
منذ أمس الأول. (وكانت أمه ميتة) لم يكن في تاريخنا كله انتخاب بهذا الهدوء وهذا الإجماع .. وكانت كل كبريات نبيلات المملكة حاضرات في ساحة الانتخاب وسط أفواج النبلاء ... وسرني أن تنادي بي أصوات جميع النساء كأصوات جميع الرجال ... فلم لم تكوني هناك؟ إذن لانتخبت ابنك" (20).
وقد رأينا كيف اقتحمت "ماما" طرق أوربا لتزور "ابنها" في قصره بوارسو (1766). وإذ لم يكن لديها مفهوم واقعي عن الفجوة التي تفصل بين الحضارتين الفرنسية والبولندية، فقد تاقت نفسها إلى أن تراه يرفع بولندة في عام واحد ما يقتضي رفعه قرناً، وأصبحت مشورتها مصدر إزعاج له، وكدرت محبة بونياتوفسكي البنوية لها؛ فتنفس الصعداء حين رحلت، وإن هدأها بالمجاملات وبصورة لشخصه في إطار مرصع بالماس. واحتفظت بالصورة ولكنها ردت الماس. فلما نأت عنه عاودها حبها له في كل حرارته، وكتبت له من فيينا تؤكد له "المحبة التي هي ضرورة من ضرورات حياتي" (21).
وبذل ستانسلاس ما وسعه من جهد. فانقطع لمهام الحكم خلال هذه السنوات الأولى بشعور الحاكم المخلص لواجبه. فكان يحضر كل يوم مداولات وزرائه، ويعكف إلى ساعة متأخرة من الليل على مشكلات اضطلع ببحثها في تفصيل شديد التدقيق. وقد وفق إلى حد كبير في تدريب فيلق من الموظفين المدنيين ذوي الكفاية الفائقة والنزاهة المذهلة (22). ثم فتح بابه لمن يريد لقاءه، وسحر الجميع بلطفه، ولم يسحر الجميع بتحمسه للإصلاح. ولكن نشاطه خفف منه إحساسه بأنه معتمد على كاترين، لا بل على الجيش الروسي الذي خلفته في بولندة ليكفل سلامته وطاعته. وكان سفيرها الكونت أوتوفون شتاكلبرج يرقبه بعينه الساهرة مخافة أن ينسى سلطان روسيا عليه.
وكان الأعداء يحدقون به من بعيد ومن قريب. فالنبلاء البولنديون حزبان: الحزب الذي يتزعمه آل بوتوكي يدعو للاستقلال قبل الإصلاح،(41/118)
ويرغب في كبح سلطة الملك بالإبقاء على قوة الأرستقراطية، والحزب الآخر الذي يتزعمه آل تشارتوريسكي يطلب الإصلاح أولاً، وحجته أن بولندة بفوضاها الراهنة أضعف من أن تنضو عنها الحماية الروسية. وكان آل تشارتوريسكي مترددين في تأييد يونياتوفسكي، فقد أحزنهم سرفه وكثرة خليلاته. وقد خصص له الديت 2. 200. 000 طالر في العام، وفي 1786 زادها إلى 6. 143. 000 جولدن-وهو ما يوازي ثلث إيراد الحكومة. ولكنه تجاوز مخصصاته، لأنه كان قد اقترض من المصارف في وطنه وفي خارجه. ودفعت الدولة ديونه مرتين، ومع ذلك ففي عام 1790 كان لا يزال مديناً بمبلغ 11. 500. 000 جولدن (23). وكان مثل كاترين يتطلع إلى تخليد ذكرى ملكه بتشييد صروح الباذخة، ووزع نفسه وحاشيته على قصرين غاليين، وأقام حفلات الترفيه الكثيرة التكلفة، وأغدق العطايا على الفنانين والكتاب والنساء.
وكانت جاذبيته غالية التكلفة. فلقد كان عند توليه العرش في الثانية والثلاثين من عمره، وسيماً مثقفاً كريماً غير متزوج، فجمع من حوله رهطاً من الحسان يتلهفن على يده وعلى كيس نقوده. وسر العديدات ممن أخفقن في الزواج منه أن يشاركنه فراشه، وشاركت بعض الممثلات الباريسيات في الترفيه عن الملك. واحتج التشارتوريسكيون، فاعترف بخطاياه وتمادى فيها. وأخيراً قادته خليلته تدعى باني جرابوفسكا إلى المذبح في زواج سري. وبعدها خضعت حياته الجنسية للرقابة الشديدة، واستطاع أن يبذل اهتماماً أكثر بشئون الحكم والأدب والفنون.
وقد اهتم اهتماماً شخصياً بأعمال وحياة فناني جيله ومؤلفيه. وحذا حذو كاترين فجمع الصور والتماثيل والكتب، وبنى قاعة للفن ومكتبة، وأبرز في المكتبة تمثالاً لفولتير. ووجد عملاً للفنانين الوطنيين، واستقدم غيرهم من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. ولم يستطع بيرانيزي وكانوفا الحضور، ولكنهما نفذا أعمالاً له في إيطاليا. وقد حول نصف القصر الملكي إلى مدرسة للفن،(41/119)
ودبر المال ليمكن شباب الفنانين الواعدين من الدراسة في الخارج. وأسس قرب وارسو صناعة للبرسلان ضارعت منتجاته منتجات ميسن وسيفر. وقد ألهم بقدوته أثرياء البولنديين-كآدم تشارتوريسكي، واليزابث لوبوميرسكا، وهيلين رادزيفيل، وغيرهم-ليجمعوا التحف، ويكلفوا الفنانين بأعمال فنية، ويحلوا تنويعات الطراز الكلاسيكي الحديث محل ركوك الفترة السكسونية في بناء قصورهم وزخرفتها. وكان هو ذاته يحبذ مزيجاً من فن الباروك والفن الكلاسيكي، وبهذا الطراز صمم دومنيكو مرليني قصر لازينكي على مشارف وارسو. وكان المصورون الأجانب أثناء ذلك يدربون جيلاً جديداً من الفنانين البولنديين الذي بلغوا مرحلة النضج بعد أن اختفت الحرية البولندية.
أما أول الخطوات التي أفضت إلى تلك الكارثة فكانت العقبات التي وضعها فردريك الأكبر في طريق إصلاح بولندة لذاتها. وإلى ذلك الحين (1767) لم يكن لدى كاترين فيما يبدو نية تقطيع أوصال قطر كبولندة خاضع خضوعاً واضحاً لنفوذ الروسي، فالتقسيم سيوسع رقعة بروسيا بحيث تغدو عائقاً أشد خطراً مما يمكن أن تكونه بولندة السلافية أمام مشاركو روسيا في شئون غربي أوربا وثقافتها. لذلك اكتفت بالمطالبة بإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية الكاملة. ولكن فردريك أراد أكثر من هذا. فهو لم يستطع قط أن يروض نفسه على قبول هذه الحقيقة، وهي أن غربي بروسيا، الألماني البروتستنتي في غالبيته الكبرى، خاضع للحكم البولندي الكاثوليكي. ومن ثم كان نوع من التقسيم لبولندة هدفاً عنده لا يغيب عنه. وأي تقوية لبولندة، سياسية أو عسكرية، ستعرقل بلوغ أهدافه؛ لذلك أيد عملاؤه حق النقض المطلق، وعارضوا في تشكيل جيش قومي بولندي، ورحبوا بالخلافات المحتدمة بين الكاثوليك والمنشقين لأنها تتيح ذريعة للغزو.
وتعاون تعصب الكهنوت الكاثوليكي الروماني مع خطط فردريك. فقد قاوم كل محاولة تبذل لإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية. وفي "روسيا البيضاء"-التي كانت آنئذ جزءاً من بولندة، مشتملة على منسك-انتزعت(41/120)
السلطات الكاثوليكية الرومانية مائتي كنيسة من أتباعها الروم الأرثوذكس وأعطتها لطائفة الموحدين، ومنعت الجاليا الأرثوذكسية من ترميم كنائسها القديمة وبناء أخرى جديدة. وفي حالات كثيرة فصل الأطفال عن آبائهم لينشأوا على طاعة الكنيسة الرومانية، وأسيئت معاملة القساوسة الأرثوذكس، وأعدم بعضهم (24)، وكان بونياتوفسكي، وهو ربيب جماعة الفلاسفة الفرنسيين، ميالاً إلى التسامح الديني (25)، ولكنه كان عليما بأن الديت سيقاوم بالقوة إن اقتضى الأمر، أي خطوة للسماح لغير الكاثوليكي الرومان بعضويته؛ وأحس أنه ينبغي تأجيل اقتراحاً كهذا حتى يستطيع تعديل من نوع ما لحق النقض المطلق أن يشد أزره. وأجاب فردريك وكاترين بأنهما لا يطلبان من بولندة أكثر مما يمنحانه لأقلياتهم الدينية. وقدم للديت الذي اجتمع في أكتوبر ونوفمبر 1766 التماس من بروسيا وروسيا والدنمرك وبريطانيا العظمى بمنح اخوانهم في الدين في بولندة كامل حقوقهم المدنية.
وهناك أثارت بلاغة "كاجيتان سوليتك" أسقف كراكاو ثائرة النواب، فهبوا غاضبين وطالبوا لا برفض الالتماس فحسب، بل بتقديم مؤيديه البولنديين للمحاكمة لأنهم خونة لبولندة ولله (26). ونجا بجلدهم من الموت نفر حاولوا الدفاع عن الملتمس (27). وحاول بونياتوفسكي أن يهدئ المجلس بإصدار (نوفمبر 1766) نبذة سماها "آراء مواطن صالح" ودعا فيها جميع البولنديين للوحدة القومية، وأنذرهم بأن الشعب المنقسم على ذاته يحرض على الغزو. ثم رجا في الوقت نفسه السير البولندي في بطرسبرج أن يفصل روسيا عن الدول موقعة الملتمس. وكتب يقول "لو أصروا على هذا (الملتمس) فإنس لا أتوقع غير عشية كعشية (مذبحة) القديس بارتولميو للمنشقين، وحصاداً من السفاكين أمثال رافياك يغتالونني .. وستحيل الإمبراطورة عباءتي الملكية رداء (للقنطور) نيسوس. وسيكون على أن اختار بين نبذ صاقتها وبين مناصبة وطني العداء". وردت عليه كاترين بطريق نيكولاي ربنان سفيرها في وارسو تقول "لا أستطيع أن أتصور كيف يرى الملك نفسه خائناً لوطنه مجرد أن يؤيد مطالب العدل والإنصاف" (28).(41/121)
لقد كان يفصلها عن بولندة من البون الشاسع سواء في المسافة أو التعليم ما لا يتيح لها الشعور بوطيس الغضب والكبرياء البولندين. فلما ألفت جماعة من نبلاء البروتستنت اتحاداً في ثورن، وألف حزب من المتشبعين لآل تشارتوريسكي اتحاداً في رادوم، أمرت كاترين ربنن بأن يعرض عليهما حماية روسيا. وتحت ستار هذه الحجة جلب ثمانين ألف مقاتل روسي إلى تخوم بولندة، وبعضهم إلى وارسو ذاتها.
وعاد الديت إلى الاجتماع في أكتوبر 1767. وحض الاسقفان الوسكي وسولتيك النواب على الوقوف بحزم أمام أي تغيير في الدستور. وهنا قبض ربنن على الأسقفين واثنين من العلمانيين بتهمة إهانة الإمبراطورة متخطياً بونياتوفسكي، ونقلهم إلى كالوجا على تسعين ميلاً جنوب غربي موسكو. فاحتج الديت، وأعلن ربنن أنه إذا لقي المزيد من المعارضة فإنه لن يكتفي بترحيل أربعة أقطاب فقط بل أربعين. وفي 24 فبراير 1768 استسلم الديت لتهديدات الحرب وأبرم مع روسيا معاهدة قبل بها كل مطالب كاترين. فمنح المنشقون الحرية الكاملة للعبادة الدينية، وحقهم في أن يختاروا لعضوية الديت وللوظائف العامة، وتقرر أن تنظر الدعاوي القضائية بين الكاثوليك والمنشقين أمام محاكم مختلطة. وسر الديت وكاترين وفردريك بتثبيت المعاهدة لحق النقض المطلق، مع بعض استثناءات للتشريع الاقتصادي. وقبل الديت كاترين حامية لهذا الدستور الجديد، ولقاء هذا ضمنت كاترين الوحدة الإقليمية لبولندة ما استمر هذا الاتفاق. واغتبطت لأنها لم تكتف بمنح بولندة نصيباً من الحرية الدينية أكبر حتى مما تمتعت به إنجلترة، بل أنها أحبطت خطة فردريك لتقسيم بولندة. وتلقى بونياتوفسكي تهاني جماعة الفلاسفة وازدراء شعبه.
4 - التقسيم الأول
اتفق الوطنيون والقساوسة البولنديون 1768 - 72 مع فردريك على عدم قبول الموقف. وأدان الأكليروس الكاثوليكي الروماني بقوة تسليم استقلال بولندة الذاتي لامرأة ملحدة روسية. واستنفر البولنديين رجلان،(41/122)
أسقف كامر فنييك المسمى آدم كراسنسكي، ويوزف بولاسكي (أبو كازيمير ولاسكي الذي قاتل دفاعاً عن أمريكا)، بالعظات والنشرات ليؤكدوا من جديد حريتهم السياسية ودكتاتوريتهم الدينية. فما انقضى اسبوع على استسلام الديت لربنن حتى ألفت جماعة من البولنديين (29 فبراير 1768) اتحاد "بار"-وهي مدينة على الدنيستر في أوكرانيا البولندية. وكان الأقطاب الذين مولوا الحركة مدفوعين بكراهيتهم لكاترين والملك، وكان "الجمهور الأبله" كما لقب فردريك أتباعهم يضطرم غيرة على المذهب الحق الأوحد، وتردد صدى هذه الحماسة في شعر الشعراء يتحسرون في مراثي حزينة على إذلال بولندة و "ارتداد" ملكها. وبعثت تركيا والنمسا للوطنيين السلاح والمال، وأقبل دمورييه من فرنسا لينظمهم في وحدات مقاتلة. وانضم البولنديون الراغبون في رد الأسرة السكسونية للعرش إلى الحركة التي ما لبثت أن انتشرت إلى مواقع متفرقة في طول البلاد وعرضها. وكتب ربنن إلى كاترين يقول "إن بولندة بأسرها اشتعلن ناراً". وفكر بونيا توفسكي في الانضمام إلى الاتحاد، ولكن أعضاءه الغلاة المتهورين نفروه وأقصوه عنه بالمطالبة بخلعه لم يكن بإعدامه (29). وإذا جاز أن نصدق فولتير (30)، فإن ثلاثين من أعضاء الاتحاد أقسموا في تشستوكوفا هذا القسم:
"نحن الذين أثارتنا غيرة مقدسة دينية، والذين صممنا على الثأر لله والدين والوطن، بعد أن أسخطنا ستانسلاس أوغسطس، محتقر الشرائع الساوية والأرضية، وراعى الكفار والمهرطقين، نتعهد ونقسم أمام صورة أم الرب المقدسة المعجزية بأن نستأصل من وجه الأرض شأفة من يدنسها بوطئة الدين. فليساعدنا الرب! ".
وأمر ربنن الجيش الروسي بإخماد الفتنة، فطرد الاتحاديين وراء الحدود التركية وأحرق مدينة تركية. فأعلنت تركيا الحرب على روسيا (1768) وطالبت بجلاء الروس عن بولندة وتحريرها. واغتنم القوزاق فرصة الاضطراب الشديد ليغزو أوكرانيا البولندية. فطبشوا بملاك الأرض، ووكلائهم اليهود، والفلاحين الكاثوليك والرومان أو البروتستنت، في مهرجان من(41/123)
التقتيل العشوائي، ففي مدينة واحدة قتلوا ستة عشر ألف رجل وامرأة وطفل. ورد الاتحاديون بقتل من وصلت إليهم أيديهم من الروس والمنشقين، وهكذا عانى البروتستنت واليهود من خطر مضاعف. ففي هذه السنوات بجملتها (1768 - 70) هلك خمسون ألفاً من سكان بولندة سواء في المذابح أو المعارك (31).
وبدأت كل الأطراف الآن حديث التقسيم. أما الاتحاديون فقد اتهمهم أعداؤهم بأنهم وافقوا على تقسيم بولندة فيما بينهم وبين حلفائهم (32). ففي فبراير 1769 أرسل فردريك إلى سنانت بطرسبرج اقتراحاً بتقسيم بولندة بين روسيا وبروسيا والنمسا، واشترطت كاترين في ردها أن تمد بروسيا والنمسا يد العون لروسيا لطرد الترك من أوربا، لكي توافق على أن تختص بروسيا بذلك الجزء من بولندة الذي يفصل بروسيا الكبرى عن بروسيا الشرقية، أما باقي بولندة فيخضع للحماية الروسية (33)، ولكن فردريك تردد. أما شوازيل المتحدث باسم فرنسا فقد اقترح على النمسا أن تستولي على الأقاليم البولندية المجاورة للمجر. ورأتها النمسا فكرة مواتية في وقت موات، وعليه ففي أبريل 1769 احتلت إقليم سبتز البولندي، الذي كانت المجر رهنته لبولندة في 1412 ولم يفك رهنه قط (34). وفي 1770 اقترح الترك الذين كانوا آنئذ يقاتلون بصفتهم مدافعين عن بولندة-على النمسا تقسيم بولندة بين النمسا وتركيا (35).
وبينما كانت هذه المفاوضات دائرة ارتضت الدول الغربية فكرة تقسيم بولندة نتيجة لا مناص منها لفوضاها السياسية، وأحقادها الدينية، وعجزها الحربي و "أدرك كل رجل دولة في القارة أن الكارثة واقعة لا محالة" (36). ولكن البولنديين من خصوم الاتحاديين في هذا الوقت أوفدوا عضواً في الديت ليطلب إلى الفيلسوف الاشتراكي مابلي، وإلى عدو جماعة الفلاسفة روسو، أن يضعا دستوراً مؤقتاً لبولندة جديدة. وقدم مابلي توصياته في 1770 - 71، أما روسو فقد فرغ من "دستور بولندة" في أبريل 1772 - بعد شهرين من التوقيع على أولى معاهدات التقسيم.(41/124)
واستمتع اتحاد بار بلحظات من النشوة قبل انهياره. ففي مارس 1770، ومن مدينة فارنا التركية، أعلن خلع بونياتوفسكي. وفي 3 نوفمبر 1771، اعترض بعض-الاتحاديين طريقه وهو يغادر منزل عم له في الليل، وتغلبوا على حرسه، وقتلوا أحدهم رمياً بالرصاص، ثم جروا الملك من داخل عربته، وأحدثوا قطعاً في رأسه بضربة سيف، ثم اختطفوه من عاصمة ملكه. ولكن دورية من الشرطة هاجمتهم في غابة بيلني، وأثناء العراك هرب بونياتوفسكي، واتصل بالحرس الملكي، فأتى رجاله وعادوا به إلى قصره مشعث الشعر ينزف دماً في الخامسة صباحاً. وهكذا قضى على كل احتمالات المصالحة بين الحكومة والاتحاد. ولجأ بونياتوفسكي إلى المساعدة الروسية، وقمع الاتحاد، وبقيت منه بقية في تركيا-الهلال يحمي الصليب (1772) (37).
على أن تقدم جيوش روسيا إلى البحر الأسود والدانوب أزعج كلاً من بروسيا والنمس. فلا فردريك الثاني ولا جوزف الثاني كانا مغتبطين بتوقع سيطرة روسيا على البحر الأسود، وأسوأ من ذلك أن الآستانة. وكانت بروسيا قد تعهدت في معاهدتي 1764 و1766 بأن تساعد روسيا إذا هوجمت، وكانت تركيا من الناحية الشكلية هي المعتدي في حرب 1768 الروسية التركية؛ وكانت بروسيا تعرض خزانتها للإفلاس بإرسالها المعونات المالية لروسيا. أما النمسا التي ساءها دخول القوات الروسية فلاشيا فكانت تهدد بالتحالف مع تركيا ضد روسيا؛ في تلك الحالة كانت روسيا ستنتظر من بروسيا أن تهاجم النمسا. ولكن فردريك كان قد ضاق ذرعاً بالحرب. لقد خاض حربين ليستولي على سيليزيا ويحتفظ بها، فلم يخاطر بها الآن؟ ومن ثم آثر الطرق الدبلوماسية. وتساءل ألا يمكن استرضاء الدول الثلاث بحصص يلتهمونها من أرض بولندة؛ لو أن الأمور تركت تجري مجراها والسفير الروسي يحكم بولندة فعلاً لما كانت المسألة إلا مسألة وقت حتى تبتلع روسيا ذلك البلد كلية متسترة وراء أي حجة. فهل ما زال في الإمكان الحيلولة دون هذا؟ بلى، إذا ارتضت كاترين أن تأخذ بولندة الشرقية فقط، وتدع فردريك يأخذ بولندة الغربية وتنسحب من الدانوب. وهل يخفف(41/125)
من شره يوزف للقتال أن يعطي نصيباً من الغنيمة؟
وعليه ففي يناير 1771 اقترح الأمير هنري، أخو فردريك، الخطة على الدبلوماسيين الروس في سانت بطرسبرج، واعترض بنن بأن روسيا قد ضمنت وحدة بولندة الإقليمية، فذكروه بأن هذا الضمان كان رهناً بالتزام بولندة بدستورها الجديد وتحالفها مع روسيا، وأن هذا الالتزام انقطع بانضمام العدد الكبير من النواب لاتحاد بار المتمرد. ومع هذا لم ترض كاترين عن الخطة. فأي شيء يدعوها لإعطاء فردريك جزءاً من بولندة بينما قد تأخذ هي الكل بعد قليل؛ ولم تدعم قوة بروسيا بمزيد من الأرض، والموارد، والثغور البلطية، ومزيد من الجند الفارعين، ولكنها لم ترد خوض حرب مع فردريك، فقد كان لديه 180. 000 رجل تحت السلاح؛ وآثرت على ذلك أن تجعله يمنع يوزف من الاتحاد مع تركيا ضد روسيا، فهدفها الحاضر ليس بولندة بل البحر الأسود. وعليه ففي 8 يناير 1771، أشارت لهنري عرضاً في حلة إلى موافقتها مبدئياً على خطة فردريك.
وانقضى عام قبل أن تتمكن المفاوضة من الفصل في تقسيم الغنيمة. فقد أراد فردريك أن يأخذ دانتزج، فاعترضت كاترين؛ وكذلك بريطانيا التي كانت تجارتها مع البلطيق ترسو على ذلك الثغر. وفي غضون هذا عبأت النمسا قواتها، وتحالفت سراً مع تركيا. وفي 17 فبراير 1772 وقع فردريك وكاترين "اتفاقاً" على تقسيم بولندة. وألانت كاترين جانب يوزف بتخليها عن جميع مطالب روسيا في فلاشيا وملدافيا؛ ثم إن رداءة محصول 1771 جعل من المستحيل عليه إطعام جيشه. وكانت ماريا تريزا من جهة أخرى تتوسل إلى ولدها بكل دموعها لتمنعه من الاشتراك في اغتصاب بولندة، غير أن فردريك وكاترين أكرهاه على الموافقة بشروعهما في الاستيلاء الفعلي على الأقاليم التي خصا نفسيهما بها. وفي 5 أغسطس 1772 أضاف يوزف توقيعه على ميثاق التقسيم.
أما المعاهدة فبعد الديباجة التي ابتهلت إلى الثالوث المبارك، وافقت على أن تحتفظ بولندة بثلثي أرضها وثلث سكانها. واستولت النمسا على بولندة الجنوبية بين فولينيا والكربات، مع غاليسيا وبودوليا الغربية-27. 000(41/126)
ميل مربع، و2. 700. 000 - نسمة. وأخذت روسيا "روسيا البيضاء" (بولندة الشرقية إلى دوينا ونيبر) 36. 000 ميل مربع، و1. 800. 000 نسمة. وأخذت بروسيا "بروسيا الغربية" فيما عدا دانتزج وتورن 13. 000 ميل مربع و600. 000 نسمة. وأخذ فردريك أصغر نصيب، ولكنه كان قد ألزم المتآمرين بالسلام، و "خاط"- على حد قوله بروسيا الغربية وبروسيا الشرقية مع براندنبرج. وقال قال الوطني ترايتشكي إن فردريك على أية حال لم يفعل أكثر من أنه رد إلى ألمانيا "معقل الفرسان التيوتون، -وادي فايشيزال الجميل- الذي انتزعه الفرسان الجرمان من البرابرة في الأيام الخالية" (38) وذكر فردريك وربا بأن سكان بروسيا الغربية كثرتهم العظمى ألمانية وبروتستنتية، أما كاترين فقد ذكرت أن الإقليم الذي أخذته يسكنه كله تقريباً أتباع الكنيسة الرومية الكاثوليكية المتحدثون بالروسية (39).
وسرعان ما احتلت الدول الثلاث أنصبتها من الغنيمة بجيوشها. واستنجد بونياتوفسكي بالدول الغربية لتمنع التقسيم، ولكنها كانت في شغل شاغل عنه؛ ففرنسا تتوقع الحرب مع إنجلترة، وقد ترددت في معارضة حليفتها النمسا، وإنجلترة تواجه الثورة الوليدة في أمريكا، والخطر الذي قد يأتيها من فرنسا وأسبانيا؛ ونص جورج الثالث بونياتوفسكي بأن يصلي لله (40). وطالبت الدول صاحبة التقسيم بدعوة الديت ليصدق على التقسيم الجغرافي الجديد؛ فماطل بونياتوفسكي عاماً، وأخيراً دعا الديت للاجتماع في جرودونو. ورفض الكثير من النبلاء والأساقفة حضوره، وبعض الذين جاءوا وأحنجوا نفوا إلى سيبيريا؛ وقبل غيرهم الرشا؛ وحولت البقية المتخلفة من الديت نفسها إلى اتحاد كونفدرالي (يبيح فيه القانون البولندي حكم الأغلبية)، ووقع الديت المعاهدة التي نزلت عن الأقاليم المنتزعة من بولندة (18سبتمبر 1773) وبكى بونياتوفسكي ووقع كما بكت ماريا تريزا ووقعت.
وقبلت أوربا الغربية هذا التقسيم الأول على أنه البديل الوحيد لابتلاع روسيا لبولندة ابتلاعاً تاماً. ويقال إن بعض الدبلوماسيين "أذهلهم اعتدال(41/127)
الشركاء، الذين اكتفوا بالثلث في حين كان الكل رهن إشارتهم إن طلبوه" (41). واغتبط جماعة الفلاسفة لأن بولندة المتعصبة عاقبها مستبدوهم المستنيرون، ورحب فولتير بالتقسيم باعتباره هزيمة تاريخية للكنيسة الكاثوليكية، (42) ولكنه بطبيعة الحال لم يكن سوى انتصار للقوة المنظمة على العجز الرجعي.
5 - التنوير البولندي
1773 - 1791
كان على بونياتوفسكي أن يختار الآن بين روسيا وبروسيا حامياً له وسيداً عليه. فاختار روسيا، لأنها أكثر بعداً، ولأن روسيا دون غيرها تستطيع منه فردريك من الاستيلاء على دانتزج وتورن. وكانت كاترين تواقة إلى الحيلولة دون مزيد من توسع بروسيا، التي كان جيشها العقبة الكؤود في طريق التوسع الروسي غرباً. لذلك أمرت سفيرها في وارسو بأن يقدم العون لبونياتوفسكي بكل طريقة تتفق ومصالح روسيا، وأرسلت إلى الملك المقترحات التي وضعها بنين من قبل لدستور بولندي أيسر نفيذاً. وقد احتفظ هذا الستور بنظام الملكية الانتخابية وحق النقض المطلق، ولكنه دعم قوة الملك بأن أقام برآسته، وكأداته التنفيذية، مجلساً دائماً من ستة وثلاثين عضواً، ينقسم إلى وزارات للشرطة والعدل والمالية والشئون الخارجية والحرب؛ ثم نص على إنشاء جيش نظامي من ثلاثين ألف مقاتل. وخاف النبلاء أن يهدد الجيش كهذا سيطرتهم على الملك، فخفضوا العدد إلى ثمانية عشر ألفاً، على أن الديت الذي انعقد في 1775 صدق على الدستور الجديد مع هذا الاستثناء واستثناءات صغيرة أخرى، وأصبح في وسع بونياتوفسكي الآن أن يشرع في رد شيء من العافية على الأمة.
واستمر الفساد ولكن الفوضى قلت، فأمكن التغلب على عصابات قطاع الطرق، ونما الاقتصاد القومي. وعمقت الأنهار لتسمح بمرور السفن الكبيرة، وشقت الترع لتصل بين الأنهار، وأكملت في 1783 "قناة ملكية" تربط البحرين البلطي والأسود. وازداد سكان بولندة بين عامي 1715 و1773 من 6. 500. 000 إلى 7. 500. 000، وتضاعف دخل الدولة. وتقرر نظام للمدارس القومية، وأعدت الكتب المدرسية وزود بها التلاميذ،(41/128)
ومنحت الهبات من جديد لجامعتي كراكاو وفلنو وبعث فيهما النشاط، وأسست الدولة كليات لتخريج المعلمين ومولتها. وكان يونياتوفسكي يحب أن يحيط نفسه بالشعراء والصحفيين والفلاسفة. كتب كوكس يقول "إن الملك يولم كل خميس للأدباء المشهورين بعلمهم وقدراتهم، وجلالته يترأس بنفسه المائدة" (43). ويقود النقاش في الكتب والأفكار. وقد استضاف ثلاثة مؤلفين ليعيشوا معاً، ورفع دخل مؤلفين آخرين في صمت (44). وكان آلاف البولنديين، مع تقديمهم فروض الإجلال للكنيسة-يقرءون لوك ومونتسكيو وفولتير وديدرو ودالامبير وروسو. وهكذا أرسيت أسس التنوير البولندي أو الستانسلافي.
وقد اجتذب يسوعي يدعى آدم ناروشفتش أذن الملك بشعره؛ فرقي أسقفاً، ولكنه واصل نظم الشعر العاطفي للطبيعة، وما زال "ترنيمته للشمس" و "فصوله الأربعة" تحبب فيه من يستطيعون قراءته في الأصل. وقد استعملت "قصائده الهجاءة" ألفاظاً شعبية رابيلية الطابع أحياناً أو نابية. وطلب إليه ستانسلاس أن يكتب تاريخاً لبولندة يجمع بين السهولة والعمق. فأنفق الشاعر في هذا العمل تسع سنين، وأخرج في ستة مجلدات (1780 - 86) أثراً يمتاز بتوثيقه الدقيق. ولكن حماسته فترت بعد التقسيم الثاني، وأصيب بالاكتئاب، ولم يعمر أكثر من سنة بعد التقسيم الأخير (45).
أما أبرز كتاب العهد البولنديين فهو اجناتسي كراسيكي. وقد اكتسب في رحلاته صداقة فولتير وديدرو (46) وأصبح قسيساً، ثم رئيساً للأساقفة آخر الأمر، ولكن ستانسلاس حثه على إطلاق العنان لمواهبه الشعرية. فكتب ملحمة هازلة سماها "ملحمة الفيران، انتقد فيها نقداً لاذعاً حروب جيله وصورها معارك بين الجرذان والفيران. وفي قصيدته "هوس الرهبنة" (1778) هزأ بالخصومات الديرية وأسلحتها الفتاكة هي الكتب اللاهوتية. ثم اتجه إلى النثر، فروى في "مغامرات السيد نيقولا المكتشف" (1776) كيف اكتشفت نبيل بولندي شاب، مزود بكل حصيلة العصر وعواطفه، تحطمت به السفينة على جزيرة غربية، إن الرجال والنساء يمكن أن يكونوا(41/129)
مجدين فضلاء رغم جهودهم في "حالة الفطرة". وقد اقتفى خطر هومر وسويفت وديفو في أعماله هذه، ثم اقتبس أسلوب أديسون وأخرج سلسلة من صور الحياة اليومية، منها "بان بود ستولي" (1778 وما بعدها) التي تصف حياة جنتلمان ومواطن مثالي. وفي "قصص خرافية وأمثال (1779) تحدى فيدروس ولافونتين، وهاجم في تهكم لاذع خراب الذمة والوحشية المستشرية من حوله. وكانت آخر نصيحة له هوراسية النزعة، "التمس لك ركناً هادئاً، ودع السعادة تأتيك خلسة" (47).
ومع أن تأثير التنوير الفرنسي على ناروشفتش وكراسيكي قد حاد منه سلطان الدين، إلا أنه ظهر بشكل قاطع في ستانسلاس ترمبيكي، الذي لم يذكر الدين قط إلا بروح العداء. وقد مجد شعره الطبيعة، ولكن ليس في تلك المظاهر السارة التي كثيراً ما تحرك العواطف الرقيقة؛ فقد آثر جوانبها الأكثر جموحاً ووحشية، إسرافها المجنون في إنتاج النبات والحيوان، عواصفها وسيولها، صراع الحياة مع الحياة والمأكول مع الآكل؛ واقتبست خرافاته شكلها من لافونتين ولكن روحها منقول عن لوكريتيوس. وقد أكسبته قوة شعره ورهافته وصقله مكانة مرموقة في هذا الازدهار الأدبي. وسانده بونياتوفسكي في جميع محنه، وعند خلع الملك رافقه الشاعر في المنفى، ومكث معه حتى مات.
وكان هناك شعر ديني كثير، لأن الدين كان العزاء الأخير للبولنديين في خطوبهم الشخصية والقومية. وقصائد فرانتشيشيك كارينسكي المسماة "أغنية الصباح" و "أغنية المساء" و "ولادة المسيح" أدب كما أنها تعبد. أما فارنتشيشيك كثيازنين فكان يتنقل في غير عناء بين هذين العدوين القديمين، الدين والجنس، فحين أشرفعلى دخول القسوسية اكتشف أناكريون والحب؛ ونشر قصائد غزلية" إيروتيكا" (1770)، ونشد سعادة الدنيا، ثم عاد إلى الدين، ومات مجنوناً. إن محاولة التوفيق بين النقيضين قد تفضي إلى الجنون كما تفضي إلى الفلسفة.
أما في مضمار الدراما فإن أبرز رجالها هو فويتسيش بوجوسلافسكي،(41/130)
الذي يكرم وطنه ذكراه باعتباره "أبا المسرح البولندي"؛ ويجوز لنا أن نسميه "جاريك" بولندة، ولكن البولنديين لو سئلوا لوصفوا جاريك بأنه بوجوسلافسكي إنجلترة. وكان فيما يبدو أول بولندي كرس حياته كلها للمسرح، ممثلاً، وكاتباً مسرحياً، ومخرجاً، ومديراً لمسارح دائمة في وارسو ولفوف، ومديراً لشركات نشرت تذوق الدراما في طول البلاد وعرضها ووراء الحدود. قدم شكسبير وشريدان مترجمين، وألف هو نفسه كوميديات ما زال بعضها يمثل على المسرح البولندي. وكانت أفضل تمثيليات هذه الفترة هي "عودة النائب" بقلم جوليان أورسين نيمتشفتش الذي كان هو نفسه نائباً، فقد صور جانبي الأزمة السياسية تصويراً درامياً في حب نائب من دعاة الإصلاح لفتاة يدافع أبواها عن امتيازات الأقطاب وأساليب العيش في الماضي.
وآخر رجال التنوير البولنديين وأعظمهم هو هوجر كوللونتاج. نقل إليه تعليمه عدوى أفكار جماعة الفلاسفة، ولكنه ستر هرطقاته ستراً كافياً حتى حصل على وظيفة كاهن مريحة في كراكاو. وعينه يونياتوفسكي (1773) عضواً في لجنة للتعليم، وضع لها كوللونتاج وهو لا يزال في الثالثة والعشرين برنامجاً لإصلاح تعليمي يتفق وخير برامج جيله. وحين ناهز السابعة والعشرين وكل بإعادة تنظيم جامعة كراكاو، وأنجز المهمة في بضع سنين، ثم بقي في الجامعة مديراً لها. وفي "خطابات من كاتب مجهول إلى رئيس الديت" (1788 - 89)، وفي "القانون السياسي للأمة البولندية" (1790) قدم مقترحات أصبحت أساساً لدستور 1791.
وكافحت بولندة، بفضل حث شعرائها ومعلقيها، لتنير نفسها وتصبح دولة قوية قادرة على الدفاع عن ذاتها. وحانت الفرصة حين عرض فردريك وليم الثاني-خلف فردريك الثاني-على "ديت السنين الأربع" الذي استمر انعقاده من 1788 إلى 1792 تحالفاً تتعهد فيه بروسيا بأن يحمي جيشها القوي بولندة من أي تدخل أجنبي. وكانت روسيا في شغل بحربها مع تركيا والسويد، فالآن قد تستطيع بولندة أن تعتق نفسها من خنوعها الطويل لكاترين، وتتخلص من أعمال السلب والنهب التي اقترفها الجنود الروس على الأرض(41/131)
البولندية طوال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة. وحل الديت مجلس بونياتوفسكي الدائم رغم احتجاجاته، ووافق على أن يجند بإذن الديت جيش من 100. 000 مقاتل، وأمر الجيش الروسي بالرحيل عن بولندة فوراً (مايو 1789)، إما كاتربن التي كانت في حاجة لجميع قواتها في مواقع أخرى فلم تقاوم، ولكنها أقسمت على الانتقام. وفي 29 مارس 1790 أبرم الديت تحالفاً مع بروسيا.
وكان بونياتوفسكي هو أيضاً قد ثمل الآن بجو الحرية. فنبذ ولاءه لكاترين وتزعم صياغة دستور جديد. وقد نصت شروطه على جعل الملكية وراثية، ولكنها ضمنت وراثة البيت المالك السكسوني للعرش بعد موت بونياتوفسكي الذي لم يعقب. وتقرر أن توسع سلطات التاج التنفيذية بإعطاء الملك حق النقض المعلق-أي حق منع قرار وافق عليه دايت من أن يصبح قانوناً حتى يؤكده الدايت التالي. ونص على أن يعين الملك وزرائه والأساقفة، وأن يتولى قيادة الجيش، وعلى أن ينتخب عددصغير من المواطنين وغيرهم من أهل المدن نواباً. أما الديت فيتألف من مجلسين؛ مجلس للنواب له وحده الحق في وضع القوانين، ومجلس للشيوخ-يتألف من الأساقفة وحكام الأقاليم ووزراء الملك-تشترط موافقته على أي قانون. أما حق النقض المطلق فتحل محله قاعدة الأغلبية. ويعترف بالمذهب الكاثوليكي الروماني ديناً سائداً للأمة، ويعد الارتداد عنه جريمة، وفيما عدا ذلك فحرية العبادة مكفولة للجميع. وبقيت القنية، ولكن للفلاحين الآن أن يستأنفوا دعاواهم من المحكمة الوراثية إلى محكمة إقليمية أو قومية. وكان تأثير الدستور الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية (1787 - 98) واضحاً في هذه التوصيات. ذلك أن البولنديين الذين حاربوا دفاعاً عن المستعمرات الأمريكية كانوا قد هيأوا ذهن بونياتوفسكي، ولم يكن قد نسي قراءته للوك ومنتسكيو وجماعة الفلاسفة.
ورغبة في ضمان التصديق على مقترحاته لجأ بونياتوفسكي إلى الحيلة. ذلك أن كثيراً من أعضاء الديت ذهبوا إلى مواطنهم لقضاء عطلة عيد القيامة عام 1791، فدعاه الملك للانعقاد في 3 مايو، وهو تاريخ أبكر(41/132)
من يتيح للأعضاء البعيدين العودة إلى وارسو لحضور الافتتاح الجديد؛ أما النواب القريبون الذين وصلوا في الميعاد فكان أكثرهم أحرار النزعة يمكن الاعتماد عليهم في تأييد الدستور الجديد. وعرض عليهم في القصر الملكي بمجرد اجتماعهم، فقوبل بتصفيق جارف، وصدق عليه بأغلبية كبيرة. وقد تذكر البولنديون الوطنيون ذلك اليوم، الثالث من مايو 1791، في فخر واعتزاز، وخلدوه في الأدب والفن والأغاني البولندية.
6 - تمزيق بولندة
1792 - 1795
اعترفت جميع الدول بالدستور الجديد إلا روسيا. ووصفه إدموند بيرك بأنه "أنبل امتياز نالته أمة في أي زمان" وصرح بأنه ستانسلاس الثاني قد تبوأ مكاناً في التاريخ بين عظماء الملوك ورجال الدولة (48)، ولكن هذه الحماسة ربما كانت انعكاساً لابتهاج إنجلترة بهزيمة كاترين.
وأخفت الإمبراطورة حيناً عداءها لبولندة الجديدة، ولكنها لم تغفر طرد جيشها منها على عجل، ولا إحلال النفوذ البروسي محل الروسي في الشئون البولندية. فلما أنهت معاهدة ياسي (9 يناير 1792) حربها مع تركيا، وتحررت من الخوف من شريكيها السابقين في الجريمة-بروسيا والنمسا-لتورطهما في الحرب ضد فرنسا الثائرة (أبريل 1792)، تلفتت حولها تبحث عن مدخل جديد إلى بولندة.
وقد هيأه لها البولنديون المحافظون، إذ وافقوا كاترين كل الموافقة على أن دستور بونياتوفسكي قد صدق عليه ديت جمع على عجل بحيث لم يستطع أشراف كثيرون حضوره. وكان فيلكس بوتوكي وغيره من الأقطاب ساخطين أشد السخط على التخلي عن حق النقض المطلق الذي ضمن لهم القوة أمام السلطة المركزية، ولم يكونوا راغبين في النزول عن حقهم في انتخاب الملك، وفي الهيمنة عليه تبعاً لذلك. ورفض بوتوكي حلف يمين الولاء للمرسوم الجديد، ثم قاد جماعة من النبلاء إلى سانت بطسبرج وطلب إلى الإمبراطورة أن تساعدهم على إعادة الدستور الأقدم (دستور 1775) الذي(41/133)
سبق أن تعهدت بحمايته. فأجابت بأنها لا تريد التدخل في بولندة بناء على طلب أفراد قليلين، ولكنها ستنظر في نداء من أقلية بولندية منظمة يعتد بها، وأحيط فردريك وليم الثاني علماً بهذه المفاوضات، وكان متورطاً في الحرب ضد فرنسا، كارهاً لخوض حرب ضد روسيا، فأخير الحكومة البولندية (4 مايو 1792) بأنها إن كانت تنوي الدفاع عن دستورها الجديد بقوة السلاح فعليها ألا تتوقع الدعم مع بروسيا (49). وقف بوتوكي إلى بولندة، وألف 14 (مايو 1792)، في بلدة بأوكرانيا، اتحاد تارجوفيكا، ودعا للانضواء تحت لوائه كل الذين يريدون إعادة الدستور القديم. ولقب أتباعه أنفسهم بالجمهوريين، وأدانوا تحالف بولندة مع بروسيا، وأثنوا على كاترين، والتمسوا بركتها وطلبوا جيشها.
فأرسلتهما جميعاً، وزحف الاتحاديون على وارسو بعد أن توفر لهم هذا الدعم. وكانت دعوتهم إلى "الحرية" قد أحدثت بعض التأثير، لأن مدناً عديدة استقبلتهم استقبالاً للمحررين؛ وفي تريسابول (5 سبتمبر) رحب القوم ببوتوكي كأنه فعلاً ملك بولندة الجديد. ودعا بونياتوفسكي الديت أن يعطيه كل السلطات التي تلزم للدفاع. فعينه دكتاتوراً، ودعا كل الذكور البالغين من البولنديين للخدمة العسكرية، ثم ارفض. وعين بونياتوفسكي ابن أخيه، الأمير يوزف بونياتوفسكي ذا التسعة والعشرين عاماً، قائداً أعلى للجيش الذي وجده مفتقراً إلى التدريب ومجهزاً أسوأ تجهيز. وأمر يوزف جميع كتائب الجيش بأن تنضم إليه في لوبار على نهر سلوتش، ولكن القوات الروسية كانت قد طوقت الكثيرين فلم يستطيعوا الحضور، والذين حضروا كانوا أضعف من أن يقفوا الزحف الروسي. وتقهقر الشاب إلى بولون، مركز إمداداته تقهقراً منظماً أتاحه قتال المؤخرة الباسل بقيادة تاديوس كوتشيوسكو، الذي كان قد حارب من قبل في صفوف المستعمرات في أمريكا، وكان وهو في السادسة والأربعين عريقاً في أمجاد الوطنية والحرب.(41/134)
وفي 17 يونيو 1792 التقى البولنديون بجيش روسي كبير عند زيلنتسي، وهزموه في أول معركة حامية انتصرت فيها بولندة منذ أيام سوبيسكي. هنا أيضاً أثبت كوتشيوسكو مهارته، باستيلائه على ربوة سيطرت منها مدفعيته على ساحة المعركة؛ أما يوزف، الذي كان إلى الآن موضع الريبة في كفايته من مرءوسيه الذين في مثلي عمره، فقد كسب احترامهم بقيادته احتياطية من الجنود بشخصه ليكره الروس على التقهقر. وأثلج نبأ النصر صدر بونياتوفسكي، ولكن كاد يغلب هذا النبأ نبأ آخر بأن الأمير لودفج فورتمبرج قائد الجيش البروسي الموكل بالقوات البولندية في لتوانيا، قد هرب من موقعه تاركاً جنوده في حالة من الفوضى أتاحت للروس في 12 يونيو الاستيلاء على فلنو عاصمة لتوانيا دون مشقة.
لم يبق من أسباب الدفاع عن بولندة الآن غير جيش يوزف. وكانت مؤنه وعتاده من الضآلة أفواجه إلى الصيام أربعاً وعشرين ساعة، ولم تملك المدفعية غير اثني عشر صندوقاً من الذخيرة. فأمر الأمير بالتقهقر إلى دوبنو؛ فلما رمى بالجبن ثبت عند دوبينكا (18 يوليو) واستطاع بجيشه البالغ 12. 500 مقاتل أن يتعادل مع 28. 000 مقاتل روسي. ثم تقهقر بنظام حسن إلى كوروف، حيث انتظر وصول التعزيزات والمؤن التي وعده بها الملك.
ولكن ستانسلاس كان قد يئس. ذلك أن رفض فردريك وليم الثاني أن ينفذ شروط الحلف البروسي البولندي، وخيانة الأمير لودفج، وهروب المئات من الجيش الذي جمعه في براجا-كل أولئك كان فوق ما تطيقه روحه التي لم تكن يوماً ما شديدة البسالة. وعليه فقد أرسل نداءً شخصياً لكاترين يلتمس شروطاً مشرفة، وكان جوابها (23 يوليو) إنذاراً نهائياً يشترط عليه الانضمام إلى اتحاد تاجوفيكا وإعادة دستور 1775. وقد صدمته لهجتها التيلم تعرف هوادة ولا ليناً؛ أفهذه هي المرأة التي استجابت يوماً لغرامه الطائش؟(41/135)
وكان حنانه هو المسيطر عليه الآن. فلقد فكر في المقاومة، وفي التسلح والمضي إلى الجبهة ليقود دفاعاً يائساً؛ ولكن زوجته، وأخته، وابنة أخيه، اشتد بكاؤهم لفكرة موته وما يجره عليهم من الوحدة والأسى، حتى وعد الملك بأنه سيسلم. ثم ما جدوى المقاومة بعد هذا كله؟ فبعد أن قطع الأمل في أي معونة من بروسيا-في وقت توقع فيه الهجمات على الجبهة الغربية العزلاء-، كيف تستطيع بولندة الوقوف في وجه روسيا؟ ألم يحاول جاهداً أن يثني الديت عن الاستخفاف بكاترين والمغامرة بكل شيء اعتماداً على وعود بروسيا؟ ألم يلح في طلب جيش كبير حسن التجهيز، وألم يرفض الديت اعتماد المال لهذا الجيش بعد أن وافق على الرجال؟ وحتى لو حقق الجيش البولندي الراهن انتصاراً أو اثنين على الروس، أفلا تستطيع كاترين، المتخمة بالجنود بعد أن أبرمت الصلح مع تركيا، أن ترسل الموجة تلو الموجة من الجنود المدربين المدججين بالسلاح ضد فلوله المبعثرة المختلة النظام؟ فعلام التضحية بمزيد من الأرواح، وإسلام نصف بولندة إلى الخراب، إذا كان التسليم هو النهاية على كل حال؟
أرسل السفير الروسي الجديد، ياكوف سييفرس، إلى أخته وصفاً ملؤه العطف يصور فيه بونياتوفسكي في هذه الساعة، ساعة الانهيار البدني والروحي قال:
"لم يزال الملك (في عامه الستين) رجلاً وسيماً أنيقاً، وإن كان وجهه شاحباً، ولكن في وسع المرء أن يرى أن ستاراً قائماً قد أسدل على روحه. إنه يحسن الحديث، بل يتحدث بفصاحة، وهو مجامل حسن الاستماع دائماً ومع الجميع، ومسكن سيئ، وهو مهمل، مزدري مخذول، ومع ذلك فهو ألطف الناس جميعاً. وإذا غضضت النظر عن منصبه الرفيع، وتأملته من وجهة النظر الشخصية فقط، قلت إن فضائله ترجح رذائله. ولا ريب في أنه أسوأ الملوك حظاً بعد لويس السادس عشر. إنه يحب أقرباءه حباً جماً، وهؤلاء الناس هم علة نكباته كلها (50).(41/136)
وفي 24 يوليو 1792 قرأ بونياتوفسكي الإنذار النهائي الروسي على مستشاريه الخصوصيين، ونصحهم بأن يركنوا إلى سماحة كاترين وشهامتها. واحتج كثيرون منهم على هذه السذاجة. واقترح أحدهم المدعو مالا خوفسكي أن يجمع في ساعة واحدة 100. 000 جولدن لأغراض الدفاع، وألح على أن الجيس البولندي يستطيع-حتى إذا اقتضى الأمر التخلي عن وارسو-أن يتقهقر إلى كاركاو ويجند جيشاً جديداً في الجنوب الآهل بالسكان. وهزم اقتراح بونياتوفسكي بالتسليم في المجلس بأغلبية عشرين صوتاً ضد سبعة. ولكنه أبطل قرارهم بحكم سلطته دكتاتوراً، وأمر ابن أخيه بالكف عن المقاومة. ورد يوزف بأن على الملك بدلاً من هذا التسليم أن يبادر إلى الجبهة بما يستطيع جمعه من قوات ويقاتل إلى النهاية. فلما أصر ستانسلاس على انضام الجيش إلى الاتحاد أرسل إليه جميع الضباط إلا واحداً استقالاتهم وعاد يوزف إلى موطنه السابق في فيينا. وفي 5 أغسطس احتل جيش روسي براجاً. وفي أكتوبر أرسل يوزف رجاء إلى عمه يدعوه لاعتزال ملكه قبل أن تزول البقية الباقية من الشرف. وفي نوفمبر دخل بوتوكي مع طلائع جيش الاتحاديين وارسو دخول الظافر، وألقى على بونياتوفسكي درساً في واجبات الملك. ولكن انتصار بوتوكي تبين بعد قليل أنه كارثة، لأن الجنود البروسيين دخلوا بولندة في يناير 1793، وواصلوا زحفهم ليحتلوا دانتزج وتورن، دون أن يطلق حلفاء بوتوكي الروس رصاصة ليمنعوهم. ووضح أن روسيا وبروسيا قد اتفقتا على تقسيم بولندة ثانية.
وكانت كاترين وفردريك وليم قد وقعا هذا الاتفاق في 23 يناير، ولكنهما تكتما أمره حتى 28 فبراير. أما بوتوكي فقد استنفر البولنديين من جميع الأحزاب ليهبوا دفاعاً عن بولندة؛ فضحكوا منه، وندد به يوزف خائناً لوطنه، وتحداه للمبارزة، ولكن ستانسلاس منعها.
وبمقتضى هذا التقسيم الثاني حصلت روسيا على 89. 000 ميل مربع من بولندة الشرقية، يعيش فيها 3. 000. 000 من السكان، بما في هذا(41/137)
فلنو ومنسك؛ أما بروسيا فأخذت 23. 000 ميل مربع من بولندة الغربية، يعيش فيها 1. 000. 000 من السكان بما فيها دانتزج وتورن؛ وبقي لبولندة 80. 000 ميل مربع و4. 000. 000 نسمة-وهو يقرب من نصف ما ترك لها من قبل في 1773. ولم يكن للنمسا نصيب في هذه الغنيمة الثانية، ولكن هدأتها الوعود الروسية بمساعدتها في الحصول على بافاريا. أما الدول الغربية التي كانت لا تزال منهمكة في صراعها مع فرنسا الثائرة فلم تتخذ أي إجراء ضد هذا الاغتصاب الثاني، الذي عللته لها كاترين بأنه ضرورة اقتضاها تطور الدعوة الثورية في وارسو، التي تهدد بالخطر جميع الملكيات.
ولكي تلبس هذه السرقة ثوب الشرعية أمرت بونيا توفسكي أن يدعو الديت للاجتماع في جرودنو، وأمرته بالحضور بشخصه ليوقع على تحالف مع روسيا فأبى الذهاب أول الأمر، ولكن حين عرضت الوفاء بديونه-التي بلغت الآن 1. 566. 000 دوقاتية-قبل هذا الإذلال الجديد خدمة لدائنيه. وزود السفير الروسي بالمال لرشوة عدد كاف من النواب ليحضروا اجتماع الديت، ولم يجد عناء في رشوة عدة أعضاء من بطانة الملك ليفشوا كل كلمة فاه بها سيدهم وكل عمل أتاه. وأمكن إقناع هذا "الديت الأخير" (17 يونيو إلى 24 نوفمبر 1793) بأن يوقع معاهدة مع روسيا، ولكنه ظل شهوراً يأبى التصديق على التقسيم الثاني. وقيل للأعضاء أنهم ممنوعون من مغادرة القاعة حتى يوقعوا، فظلوا على رفضهم وجلسوا صامتين اثنتي عشرة ساعة. ثم طرح الرئيس المسألة للتصويت، فلما لم يسمع جواباً أن السكوت علامة الرضى (25 سبتمبر). وعاد ما بقي من أرض بولندة محمية روسية؛ وأعيد دستور 1775.
وإذا كان في استطاعة رجل واحد أن يفتدي الأمة فذلك هو كوتشيوسكو أمده التشارتوريسكيون بالمال فذهب إلى باريس (يناير 1793) والتمس معونة فرنسا لبلد يتعاطف في حرارة مع الثورة الفرنسية. وتعهد بأنه لو مدت فرنسا يد المعونة لبولندة لهب الفلاحون البولنديون في ثورة على القنية، وأهل المدن على النبلاء، وقال إن بونياتوفسكي سينزل عن عرشه ليكون النظام جمهورياً، وإن جيشاً بولندياً سيساند فرنسا في حربها مع بروسيا (51).(41/138)
ورحب الزعماء الفرنسيون بمقترحاته، ولكن نشوب الحرب مع إنجلترة (فبراير 1793) وغزو الحلفاء لفرنسا، قضيا على كل أمل في تقديم العون لبولندة.
وفي غياب كوتشيوسكو جند بعض المواطنين والماسون الأحرار وضباط الجيش جيشاً بولندياً جديداً (مارس 1794). وهرع كوتشيوسكو من درسدن إلى كركاو لينضم إليه، فعين قائداً أعلى وأعطى سلطات مطلقة، وأمر كل خم بيوت في بولندة أن توافيه بجندي من المشاة، وكل خمسين بفارس، وأمر هؤلاء المجندين بأن يأتوا بما يجمعونه من سلاح، حتى المعاول والمناجل. وفي 4 أبريل هاجم بأربعة آلاف مقاتل نظامي وألفي فلاح مجند قوة عدتها سبعة آلاف روسي في راتسلافيس قرب كراكاو، وهزمها بفضل براعة قيادته من جهة وفاعلية مناجل الفلاحين من جهة أخرى.
فلما سمع فريق الرايديكاليين أو "اليعقوبيين" في وارسو بهذا النصر نظم رجاله عصياً مسلحاً انضم إليه الزعماء من الطبقة الوسطى في تردد. وفي 17 أبريل هاجم هؤلاء الثوار الحامية الروسية المؤلفة من 7. 500 مقاتل، وقتلوا الكثيرين منهم، وهزموا فرقة بروسية من 1650 جندي، وهربت قوات الاحتلال، وخضعت وارسو لحظة للسيطرة البولندية. وحررت انتفاضة كهذه مدينة فلنو (23 أبريل) وشنقت هتمان (زعيم) لتوانيا الأكبر، واستردت أجزاء من بولندة حتى منسك تقريباً. وفي 7 مايو وعد كوتشوسكو الإقنان بعتقهم، وكفل لهم تملك الأرض التي يزرعونها. وانضوى تحت لوائه خلق كثير من المتطوعين والمجندين حتى اجتمع له في يونيو 1794 (150. 000) رجل لم يكن منهم حسن التجهيز أكثر من 80. 000.
على هؤلاء تدفقت الموجات المتتالية من الجنود الروسية أو البروسية المدربة. وفي 6 يونيو فاجأ جيش متحالف من 26. 000 مقاتل البولنديين قرب تشيكوسيني، ولم يتح لكوتشيوسكو من الوقت إلا ما يجلب فيه 14. 000(41/139)
مقاتل فقط. فهزم بخسائر فادحة، والتمس الموت في المعركة، ولكن الموت راغ منه؛ وتقهقرت فلول البولنديين إلى وارسو. وفي 15يونيو استولى البروسيون على كراكاو؛ وفي 11 أغسطس استعاد الروس فلنو؛ وفي 19 سبتمبر أبادت قوة روسية من 12. 500 من الجنود المتمرسين بالقتال بقيادة سوقوروف جيشاً بولندياً من 5. 500 مقاتل عند تريسابول؛ وفي 10 أكتوبر هزم 13. 000 روسي كوتشيوسكو نفسه وهو يقود 7. 000 بولندي عند ما سيسجويس، وجرح جرحاً خطيراً وأسر. ولم يفه كما زعمت الأسطورة بصرخه اليأس "لقد قضى على بولندة! " ولكن الهزيمة كانت قاضية على الثورة الباسلة.
أما سوفوروف فقد وحد مختلف الجيوش الروسية واقتحم معسكر البولنديين الحصين في براجا، وراح جنوده الذين أصابهم جنون المعركة يذبحون لا المدافعين فقط بل سكان البلدة المدنيين. وسلم بونياتوفسكي وارسو تفادياً لمذبحة أشد بشاعة. وأرسل سوفوروف كوتشيوسكو وغيره من زعماء الثوار إلى حيث السجن في سانت بطرسبرج، وأرسل الملك إلى جرودنو ليكون رهن إشارة الإمبراطورة. وهناك، في 25 نوفمبر 1795، وقع على اعتزاله الملك. وتوسل إلى كاترين أن تبقى على جزء من بولندة، ولكنها صممت على أن تحل المسألة البولندية بالقضاء على الأمة البولندية كما ظنت. وبعد خمسة عشر شهراً من النزاع، وقعت روسيا وبروسيا والنمسا معاهدة التقسيم الثالث (26 يناير 1797) واستولت روسيا على كورلاند ولتوانيا وغربي بودوليا وفولينيا-181. 000 ميل مربع؛ واستولت النمسا على "بولندة الصغيرة" بما فها من كراكاو ولودلن-45. 000 ميل مربع؛ وأخذت بروسيا الباقي بما فيه وارسو-57. 000 ميل مربع. وفي التقسيمات الثلاثة كلها استوعبت روسيا نحو 6. 000. 000 من سكان بولندة البالغين 12. 200. 000 نسمة (1797)، والنمسا 3. 700. 000، وبروسيا 2. 500. 000 نسمة.(41/140)
وفر آلاف البولنديين من وطنهم، وتسلم الأجانب الأملاك المصادرة. وظل بونياتوفسكي في جرودنو، يتسلى بدراسة النبات ويكتب مذكراته. وبعد موت كاترين دعاه بولس الأول إلى سانت بطرسبرج وخصص له القصر الرخامي و100. 000 دوقاتية في العام، وهناك مات في 12 فبراير 1798 بعد أن بلغ السادسة والستين. أما كوتشيوسكو فقدأفرج عنه الإمبراطور بولس في 1796، وعاد إلى أمريكا، ثم إلى فرنسا، وواصل جهوده لتحرير بولندة حتى مماته (1817). وما يوزف بونياتوفسكي فقد فر إلى فيينا، وشارك في حملة نابليون على روسيا، وجرح في سمولنسك، وأحسن البلاء في ليبزج، ورقى مارشالاً في الجيش الفرنسي، ومات في 1813 مكرماً حتى من أعدائه. وأما بولندة فلم تعد دولة، ولكنها ظلت شعباً وحضارة، يلوثها الاضطهاد الديني، ولكنها تميزت بعظماء الشعراء والقصاصين والموسيقيين والفنانين والعلماء، ولم تتخل قط عن عزمها على النهوض من جديد.(41/141)
الكتاب الخامس
الشمال البروتستنتي(41/144)
الفصل العشرون
ألمانيا في عهد فردريك
1756 - 1786
1 - فردريك المظفر
من هذا الغول الذي أثار الخوف والإعجاب دولياً، والذي سرق سيليزيا، وهزم نصف أوربا المتحد ضده، وهزأ بالدين، وازدرى الزواج، وأعطى فولتير دروساً في الفلسفة، واقتطع بعض أوصال بولندة ولو ليمنع روسيا من التهاماً كلها؟
لقد بدأ أقرب إلى الأشباح منه إلى الغيلان يوم عاد حزيناً منتصراً من حرب السنين السبع ودخل برلين (30 مارس 1763) بين تصفيق الجماهير المملقة. كتب إلى دارجنس يقول "إني أن أعود إلى مدينة لن أعرف فيها غير الأسوار، ولن أجد أحداً من معارفي، حين تنتظرني مهمة ضخمة، وحيث أخلف بعد زمن غير طويل عظامي في مثوى لا تكدر هدوءه الحرب ولا الكوارث ولا سفالة الإنسان" (1) كانت بشرته قد جفت وتغضنت، وعيناه الزرقاوان الرماديتان داكنتين منتفختين، ووجهه يحمل آثار المعركة والمرارة، وأنه فقط هو الذي احتفظ بجلاله القديم. وقد ظن أنه لن يستطيع الحياة طويلاً بعد أن استنزفت الحرب الطويلة موارده جسداً وعقلاً وإرادة، ولكن زهده مد في أجله ثلاثة وعشرين عاماً آخر. كان مقلاً في طعامه وشرابه، لا يعرف الترف؛ يعيش ويلبس في قصره الجديد ببوتسدام كما لو كان في المعسكر، وكان يضن بالوقت المخصص للعناية بشخصه؛ وفي سنيه الأخير أقلع عن الحلاقة، واكتفى بجز لحيته بمقص بين الحين والحين؛ ورددت الشائعات أنه لم يكن يستحم كثيراً (2).(41/145)
وأكملت الحرب تقسى خلقه الذي بدأ دفاعاً ضد قسوة أبيه. فكان يتطلع بهدوء رواقي بينما الجنود المحكوم عليهم يمرون ستاً وثلاثين مرة (3) بين صفين من الرجال يجلدونهم. وكان يتعقب موظفيه وقواده ويزعجهم بالجواسيس السريين، والتدخل المفاجئ، واللغة البذيئة، والأجر الشحيح وبضروب من الأوامر التفصيلية تخنق روح المبادرة والاهتمام. ولم يكسب قط حب أخيه الأمير هنري الذي جد وأخلص في خدمته في الدبلوماسية والحرب. وكان له بعض الصديقات، ولكنهن كن يخفنه أكثر مما يحببنه، ولم يسمح لواحدة منهن بدخول دائرة أخصائه. كان يحترم المعاناة الصامتة التي عانتها ملكته التي أهملها، وعند عودته من الحرب فاجأها بهدية من 25. 000 طالر؛ ولكن من المشكوك فيه أنه شاركها فراشها إطلاقاً. ومع ذلك تعلمت أن تحبه إذا رأته بطلاً في المحن مخلصاً في الحكم؛ وكانت تشير إليه في حديثها عنه بعبارة "ملكنا العزيز" و "هذا الملك العزيز الذي أحبه وأعبده" (4). ولم يكن له ولد، ولكنه كان شديد التعلق بكلابه، وكان اثنان منها ينامان عادة في حجرته ليلاً، ربما لحراسته؛ وكان أحياناً يستصحب أحدهما إلى فراشه ليدفئه بحرارة الحيوان. وعندما مات آخر كلابه الكثيرة لديه "بكى اليوم كله" (5). وقد ظن به اللواط (6). ولكنا لا نملك في هذه الشبهة غير التخمين.
وعلى أنه كان يخفي تحت جلده العسكري الصلب عناصر من الحنان نبدر أن كشف عنها أمام الناس. فقد بكى كثيراً لموت أمه، وكان يرد على محبة أخته فلهلمينه الحارة بمحبة مخلصة. وقد وزع على بنات أخيه بعض الأفضال الصغيرة غير الملحوظة. كان يضحك من عواطف روسو المفرطة، ولكنه اغتفر له عداءه وعرض عليه الملجأ حين نبذه العالم المسيحي. وكان يتنقل بين التدريب الصارم لجنوده وصفير الألحان من نايه. وقد ألف الصوناتات والكونشرتوات والسمفونيات التي شارك في أدائها أمام حاشيته. وسمعه العالم بيرني هناك، وقرر أنه عزف "بضبط شديد، واستهلال صافي منسق، ولعب بالأصابع بديع، وذوق نقي بسيط، ودقة بالغة في التنفيذ، إتقان(41/146)
متساو في كل معزوفاته"، على أن بيرني يضيف إلى ما ذكر أنه في بعض الفقرات الصعبة، ... اضطر جلالته-على عكس ما تقتضيه القواعد-أن يلتقط نفسه ليكمل الفقرة (7) (1).
وفي سنوات لاحقة أكرهه ازدياد النهج وفقدان عدة أسنان على الإقلاع عن العزف على الناي، ولكنه استأنف دراسة الكلافير.
وكانت الفلسفة هوايته المحببة بعد الموسيقى. كان يحب أن يشاركه مائدته فيلسوف أو اثنان ليسلخ جلد القساوسة ويستفز قواد الجيش. وكان ثابت القدم كفؤاً لفولتير في رسائله معه. وقد بقي على شكوكيته في حين اعتنق معظم جماعة الفلاسفة العقائد الجازمة والخيالات الشاطحة. وكان أول حاكم في العصور الحديثة يجهر بلادينيته، ولكنه لم يهاجم الدين علناً. وذهب إلى أن "لدينا من درجات الأرجحية ما يكفي لبلوغ اليقين بأن "لا شيء بعد الموت" (9)، ولكنه رفض حتمية دولباخ وأكد (كرجل هو الإرادة المتجسدة) أن العقل يؤثر على الأحاسيس على نحو خلاق، وأن في استطاعة العقل أن يسيطر على دوافعنا الفطرية بالتعليم (10) أما حب الفلاسفة إليه فهم (صديقي لوكريتيوس ... وإمبراطوري الطيب ماركوس أوريليوس"؟ وعنده أن أحداً لم يضف إليهما شيئاً ذا بال (11).
وقد اتفق مع فولتير على الاعتقاد بأن "الجماهير" تسرف في إنسالها وتفرط ف كدها بحيث لا يتسع لها الوقت للتعليم الحقيقي. ولن يجدي تبصيرها بأوهام اللاهوت إلا في دفعها إلى العنف السياسي. وهو يقول في هذا "إن التنوير نور من السماء للواقفين على القمم، وجمرة مدمرة للجماهير" (12)،
_________
(1) في 1889 نشر براتكويف وهرقل 120 قطعة موسيقية من تأليف فردريك الأكبر. وقد سجل عدد منها على أقراص. وقد أحييت سنفونيته في مقام D لنايين وأوركسترا في بريلن عام 1928 وفي نيورك عام 1929. (8)(41/147)
وقد أجمل قوله هذا تاريخ مذابح سبتمبر 1792 وإرهاب 1793 قبل أن تبدأ الثورة الفرنسية. وكتب إلى فولتير في أبريل 1759 يقول "فلنعترف بهذه الحقيقة: إن الفلسفة والفنون والآداب لا تنتشر إلا بين قلة من الناس، أما الجماهير العريضة ... فتظل كما جبلتها الطبيعة، حيوانات شريرة حاقدة" (13) وكان يسمى النوع الإنساني (في شيء من المزاح). "هذا الجنس الملعون"-ويضحك من أحلام الخير والسلام يقول:
"إن الخرافة والنفعية والانتقام والخيانة ونكران الجميل سوف تثير المعارك الدامية المحزنة إلى آخر الدهر، لأننا محكومون بالعواطف، ونادراً، جداً بالعقل. ولن تنقطع أبداً الحروب وقضايا المحاكم ومظاهر الدمار والأوبئة والزلازل والتفاليس ... وما دام الأمر كذلك، ففي ظني أن هذا الوضع ضرورة لا بد منها ... ولكن يلوح لي أنه لو كان هذا الكون قد فطره كائن خير لخلقنا أسعدد ما نحن ... إن العقل البشري ضعيف، وأكثر من ثلاثة أرباع البشر خلقوا ليخضعوا لأسخف ضروب التعصب. فالخوف من الشيطان والجحيم يبهر عيونهم، وهم يكرهون الرجل الحكيم الذي يحاول تنويرهم ... وعبثاً التمس فيهم صورة الله التي يؤكد اللاهوتيون أنهم يحملونها. إن في داخل كل إنسان وحشاً، وقليلون هم الذين يستطيعون ترويضه، وأكثر الناس يرخون له اللجام ما لم يكبحهم الخوف من القانون" (14).
وقد خلص فردريك إلى أن السماح للحكومات بأن تتسلط عليها الأغلبية مجلبة للكوارث. فلكي تحيا الديمقراطية يجب أن تكون-كغيرها من نظم الحكم-أقلية تقنع الأغلبية بأن تسمح لنفسها بأن تقودها الأقلية. وقد رأى فردريك رأى نابليون فيما بعد من أن "الأرستقراطية موجودة دائماً بين الأمم وفي الثورات" (15) وآمن بأن الأرستقراطية الوراثية تربي الإحساس بالشرف والولاء، والرغبة في خدمة الدولة بتضحية شخصية بالغة، لا يمكن توقعها من نوابع البورجوازيين الذين نشأوا بفضل التسابق على الثروة،(41/148)
لذلك أحل بعد الحرب شباب النبلاء محل معظم ضباط الطبقة الوسطى الذين ترقوا في الجيش (16). ولكن بما أن هؤلاء النبلاء المعتزين بعراقتهم قد يصبحون مصدراً للتفتت والفوضى، وأداة للاستغلال، إذن فلا بد من أن يحمي ملك مطلق السلطة الدولة من الانقسام، ويدفع الظلم الطبقي عن عامة الشعب.
وكان فردريك يحب أن يصور نفسه خادماً للدولة والشعب. وربما كان هذا تبريراً لإرادة القوة فيه، ولكنه تسامى بحياته إلى مستوى دعواه. فأضحت الدولة عنده "الكائن الأعلى" الذي يبذل في سبيله نفسه وغيره؛ ومطالب خدمة الدولة تغلب عنده على ناموس الفضيلة الفردية؛ فالوصايا تتوقف عند أبواب الملوك. ووافقته جميع الحكومات على هذه "السياسة الواقعية"، وقبل معظم الملوك النظرة إلى الملكية على أنها خدمة مقدسة. وقد اعتنق فردريك هذا المفهوم من اتصاله بفولتير؛ ومن طريق إلصاقهم بفردريك طور الفلاسفة ونظريتهم "الملكية" ومؤداها أن الأمل الأكبر في الإصلاح والتقدم معقود على تنوير الملوك.
وهكذا أصبح برغم حروبه معبود الفلاسفة الفرنسيين، وهدأ من عدائهم له، حتى عداء روسو الفاضل. وقد رفض دالامبير طويلاً دعوات فردريك له، ولكنه لم يكف عن الثناء عليه. فكتب لفردريك يقول "إن الفلاسفة والأدباء في كل بلد طالما تطلعوا إليك يا مولاي قائداً ومثالاً لهم" (17) وأخيراً أذعن الرياضي المتحفظ للدعوات المتكررة، وأنفق شهرين مع فردريك في بوتسدام عام 1763. ولم تنتقص الألفة (والمعاش الذي أجراه عليه) من إعجاب دالامبير به. فقد أبهجه إغفال الملك لقواعد التشريفات، وأطربته تعليقاته-لا على الحرب والحكومة فحسب، بل على الأدب والفلسفة أيضاً، وقال لجولي دلسبيناس إن هذا الحديث كان أروع من أي حديث يتاح للمرء سماعه آنئذ في فرنسا (18). فلما ابتأس دالامبير في 1776 حزناً على موت جولي، بعث إليه فردريك برسالة تظهر هذا الغول في ثوب الرجل الحكيم الحنون:(41/149)
"يؤسفني الخطب الذي ألم بك ... إن جراح القلب أكثر الجراح إيلاماً ... ولا شيء يبرئها غير الزمن ... إن لي لسوء طالعي حظاً وفيراً جداً من الخبرة بالآلام التي تحدثها خسائر كهذه. وخير دواء هو سيطرة المرء على نفسه ليصرف تفكيره بعيداً ... وخليق بك أن تختار بحثاً هندسياً يتطلب العكوف الدائم عليه ... إن شيشرون أغرق نفسه في التأليف ليتعزى عن موت حبيبته تلياً ... وفي مثل سنك وسني خليق بنا أن نكون أكثر استعداداً للسلوى لأن لحاقنا بمن فجعنا فيهم لن يطول" (19).
ثم حث دالامبير على أن يحضر ثانية إلى بوتسدام "سوف نفلسف معاً تفاهة الحياة ... وبطلان الرواقية ... وسوف أشعر بالسعادة في تهدئة حزنك كأنني انتصرت في معركة. " هنا على الأقل ملك أحب الفلاسفة، إن لم يكن ملكاً فيلسوفاً بكل معنى الكلمة.
ولكن هذه المعاملة لم يعد يطبقها على فولتير، ذلك أن خلافاتهما في برلين وبوتسدام، والقبض على فولتير في فرانكفورت-كل هذا ترك جراحاً أعمق من الحزن. وبقي الفيلسوف يعاني الألم والمرارة أطول مما بقي الملك. فأخبر الأمير دلين أن فردريك "لا قدرة له على عرفان الجميل، ولم يعترف قط بجميل إلا للجواد الذي هرب على ظهره في معركته مولفتس" (20). ثم عاد تبادل الرسائل بين ألمع رجلين في القرن حين كتب فولتير إلى فردريك محاولاً أن يثني المحارب اليائس على الانتحار. وراحا يتبادلان العتاب والمجاملات. وذكر فولتير فردريك بالإهانات التي لقيها الفيلسوف وابنة أخته من عمال الملك، وأحاب فردريك: "لولا صلتك برجل فتن حباً بعبقريتك الرائعة لما أفلت بهذه السهولة ... فاعتبر الأمر كله منتهياً، ولا تذكر لي شيئاً بعد اليوم عن ابنة أختك تلك المتعبة" (21). ولكن الملك رغم هذا لاطف الذات المفلسفة على نحو ساحر:
"أتريد كلاماً حلواً؟ حسناً جداً، سأخبرك ببعض الحقائق. إنني أقدر فيك أروع عبقرية ولدتها الأجيال، إنني أعجب بشعرك، وأحب نثرك ... ولم يؤت كاتب قبلك مثل هذه اللمسة المرهفة، ولا مثل هذا(41/150)
الذوق الأصيل الرقيق ... إنك ساحر في حديثك، تعرف كيف ترفه وتعلم في وقت واحد. إنك أكثر المخلوقات التي عرفتها إغواء ... كل شيء في حياة الإنسان يتوقف على الزمان الذي يجيء فيه إلى هذا العالم. وأنا وإن جئت متأخراً جداً، إلا أنني لست بآسف على هذا، لأنني رأيت فولتير، ... ولأنه يكتب لي" (22).
وأعان الملك بتبرعاته السخية حملات فولتير دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفان، وصفق للحرب التي شنها على الكنيسة الكاثولكية ( L,infame) ، ولكنه لم يشارك جماعة الفلاسفة ثقتهم في تنوير النوع الإنساني. فقد تنبأ بفوز الخرافة في السباق بينها وبين العقل. فتراه يكتب إلى فولتير في 13 سبتمبر 1766 يقول:
"إن مبشريك سيفتحون أعين قلة من الشباب ... ولكن ما أكثر الحمقى الذين لا يعقلون في هذا العالم! .. صدقني، لو أن الفلاسفة أقاموا حكومة فلن يمضي نصف قرن حتى يخلق الشعب خرافات جديدة ... قد يتغير موضوع العبادة، كما تتغير الأزياء في فرنسا؛ (ولكن) ما أهمية أن يسجد الناس أمام قطعة من الفطير، وأمام العجل أبيس، أو أمام تابوت العهد، أو أمام تمثال من التماثيل؟ لأيهم الاختيار، فالخرافة واحدة، والعقل لا يكسب شيئاً" (23).
على أن فردريك تصالح مع الدين بعد أن قبله ضرورة بشرية، فحمى كل صوره السلمية بمنتهى التسامح. ففي سيليزيا التي غزاها ترك الكاثوليكية هادئة دون إزعاج، فيما عدا فتحه أبواب جامعة برلين لجميع المذاهب، وكانت من قبل وقفاً على الكاثوليك .. ثم رحب باليسوعيين بصفتهم معلمين ذوي قيمة كبرى، وكانوا بعد أن طردهم الملوك الكاثوليك قد التمسوا ملجأ تحت حكمه اللا أدري. وبالمثل بسط حمايته على المسلمين واليهود والملحدين؛ وفي عهده وفي مملكته مارس كانط حرية الكلام والتعليم والكتابة، وهي الحرية التي لقيت أشد تعنيف وقضي عليها بعد موت فردريك. وفي ظل هذا التسامح اضمحلت معظم صور الدين في بروسيا. ففي 1780 كان هناك(41/151)
كنسي واحد لكل ألف من سكان برلين، وفي ميونخ ثلاثون (24). وقد ذهب فردريك إلى أن التسامح سيقضي على الكاثوليكية عاجلاً. كتب إلى فولتير في 1767 يقول "لا بد من حدوث معجزة لكي تعود الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق عزها، فلقد أصيبت بسكتة دماغية خطيرة، وسوف يمد في أجلك لتتعزى بدفنها وكتابة قبريتها" (25). ولكن أشد الشكاك غلواً في شكوكيته نسي لحظة أن يشك في الشكوكية.
2 - إعادة بناء روسيا
لم يكد حاكم في التاريخ في صناعة الحكم كما كد فردريك، ربما باستثناء تلميذه جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، كان يأخذ نفسه كما يأخذ جنوده بالتدريب الشاق، فيستيقظ عادة في الخامسة، وأحياناً في الرابعة، ويشتغل حتى السابعة، ثم يفطر، ويجتمع بمساعديه حتى الحادية عشرة، ويستعرض حرس قصره، ويتناول الغذاء في النصف بعد الثانية عشرة مع الوزراء والسفراء، ثم يعمل حتى الخامسة، وعندها فقد يسترخي بالموسيقى والأدب الحديث. أما عشاء "نصف الليل" بعد الحرب، فكان يبدأ في التاسعة والنصف، وينتهي في الثانية عشرة، ولم يسمح لأي روابط أسرية بأن تصرفه عما هو عاكف عليه، ولا لأي مراسم بلاطية بأن تثقله، ولا لأي عطلات دينية بأن تقطع عليه كده، وكان يراقب وزرائه، ويملي كل خطوة تقريباً من خطوات السياسة، ويرقب حالة الخزانة، وقد أنشأ فوق الحكومة كلها ديواناً للمحاسبات، خول له سلطة فحص أي مصلحة في أي وقت. وأصدر إليه تعليماته بأن يبلغ عن أي شبهة مخالفة. وكان يعنف في معاقبة الانحراف أو عدم الكفاية عنفاً اختفى معه من بروسيا أو كاد ذلك الفساد الحكومي الذي استشرى في كل بلد آخر من بلدان أوربا.
وكان يعتز بهذا العمل، وبسرعة إفاقة وطنه مما حاق به من دمار. بدأ بألوان من الاقتصاد في بيته أثارت السخرية من بلاطي النمسا وفرنسا المسرفين رغم أنهما بلدان مهزومان. فكان البيت الملك يدار باقتصاد شديد كأنه بيت حرفي. فصوان ملابسه لا يحوي غير حلة جندي، وثلاثة معاطف قديمة، وصدريات(41/152)
متسخة بالنشوق، ورداء رسمي لازمه طوال حياته. وقد طرد بطانة أبيه من الصيادين وكلاب الصيد. ولم يبن أسطولاً، ولم يسع إلى تلك المستعمرات. وكان موظفوه يتقاضون أجوراً زهيدة، وقد أنفق بمثل هذا البخل على البلاط المتواضع الذي احتفظ به في برلين حينما هو مقيم في بوتسدام. ومع ذلك فقد حكم إيرل تشسترفيلد عليه بأنه أكثر بلاط في أوربا أدباً وتألقاً ونفعاً لشاب أن يوجد فيه، " ثم أردف قائلاً: "سترى فنون الحكم وحكمته في ذلك البلد الآن (1752) خيراً مما تراها في أي بلد آخر في أوربا" (26). على أنه بعد عشرين سنة من هذا التاريخ كتب اللورد مالمسبري، السفير البريطاني لدى بروسيا، ربما لتعزية لندن، يقول إنه "ليس في تلك العاصمة (برلين) رجل فاضل واحد ولا امرأة عفيفة واحدة" (27).
على أن فردريك كان يكبح شحه إذا اتصل الأمر بالدفاع القومي. فسرعان ما أعاد جيشه إلى سابق قوته بفضل الإقناع والتجنيد الإجباري؛ فهذا السلاح الذي في متناوله هو وحده الذي يتيح له صيانة وحدة أراضي بروسيا أمام أطماع جوزيف الثاني وكاترين الثانية. وكان على ذلك الجيش كذلك أن يدعم القوانين التي هيأت النظام والاستقرار للحياة البروسية. وقد أحس أن القوة المركزية هي البديل الوحيد للقوة المختلة الممزقة توضع في أيدي الأفراد. وكان يؤمل أن تتطور الطاعة بدافع الخوف من القوة، إلى طاعة بدافع الاعتياد على القانون-وهي قوة اختزلت إلى قواعد وأخفت براثنها.
وقد جدد أمره للفقهاء بأن ينسقوا في نظام قانوني واحد (قانون بروس عام) التشريع المتنوع المتناقض للكثير من الأقاليم والأجيال. وكانت هذه المهمة قد توقفت بموت صموئيل فون كوكسيجي (1755) وبنشوب الحرب، فاستأنفها الآن المستشار يوهان فون كارمر وعضو المجلس الخاص ك. ج. سفاريتس، واستكملت في 1791. وقد سلم القانون الجديد بوجود الإقطاعية والقنية، ولكنه حاول في(41/153)
هذه الحدود أن يحمي الفرد من الطغيان أو الظلم الخاص أو العام. فألغى المحاكم التي لا ضرورة لها. وقلل من الإجراءات القانونية وعجلها، وخفف العقوبات، وصعب الشروط اللازمة للتعيين في وظائف القضاء. وتقرر ألا ينفذ حكم بالإعدام إلا بتصديق الملك، وفتح للجميع باب الاستئناف أمام الملك. وقد اكتسب سمعة العدالة المحايدة، وسرعان ما اعترف الجميع للمحاكم البروسية بأنها أنزه وأكفأ المحاكم في أوربا (28).
وفي 1763 أصدر فردريك النظام التعليمي العام ليثبت ويوسع التعليم الإلزامي الذي أعلنه أبوه في 1716 - 17. فتقرر أن يذهب كل طفل في بروسيا من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة إلى المدرسة. ومن صفات فردريك المميزة إسقاط اللاتينية من منهج التعليم الأولى، وتعيينه قدامى الجند معلمين، وجعله منظم التعليم يجري بتدريب أشبه بالتدريب العسكري (29). وقد أضاف الملك: "من الخير أن يعلم المدرسون في الريف الأحداث الدين والأخلاق ... وحسب أهل الريف أن يتعلموا القليل من القراءة والكتابة ... ولا بد من تخطيط التعليم ... بحيث يبقى عليهم في القرى ولا يؤثر عليهم ليهجروها" (30).
وحظي تجديد البناء الاقتصادي بالأولوية في الوقت والمال. فبدأ فردريك باستخدام المال الذي جمع من قبل لحملة حربية أخرى-زالت الحاجة إليها الآن-في تمويل تعمير المدن والقرى وتوزيع الطعام على المجتمعات الجائعة، وتقديم البذور للزراعات الجديدة؛ ثم وزع على المزارع ستين ألف حصان أمكن توفيرها من الجيش. وبلغت جملة المبالغ التي أنفقت على أعمال الإغاثة العامة 20. 389. 000 طالر (31). وأعفيت سيليزيا التي اجتاحتها الحرب من الضرائب ستة أشهر؛ وبنى فيها ثمانية آلاف بيت في ثلاث سنين، وقدم مصرف عقاري المال للفلاحين السيليزيين بشروط ميسرة. وأسست جمعيات للتسليف في مراكز شتى لتشجيع التوسع الزراعي. وصرفت مياه منطقة المستنقعات الممتدة على الأودر الأدنى، فهيأت أرضاً صالحة للزراعة لخمسين ألف رجل. وبعث المندوبون إلى الخارج لدعوة مهاجرين إلى بروسيا، فجاء منهم 300. 000 (32).(41/154)
ولما كانت القنية تربط الفلاح بسيده، فإنه لم توجد في بروسيا حرية الانتقال إلى المدن، تلك الحرية التي يسرت في إنجلترة تطور الصناعة السريع. وقد جهد فردريك بكل الوسائل للتغلب على هذا المعوق. فأقرض الملتزمين المال بشروط ميسرة، وأجاز الاحتكارات المؤقتة، واستورد العمال، وفتح مدارس الصنائع، وأنشأ مصنعاً للبرسلان في برلين. وناضل لينشئ صناعة الحرير، ولكن أشجار التوت ذبلت في برد الشمال. وشجع التعدين النشيط في سيليزيا الغنية بالمعادن. وفي 5 سبتمبر 1777 كتب إلى فولتير كما يكتب أحد رجال الأعمال لزميل له يقول: "إنني عائد من سيليزيا راضياً عنها الرضى كله ... فقد بعنا للأجانب ما قيمته 5. 000. 000 كراون من التيل، و1. 200. 000 كراون من القماش ... وقد أمكن اكتشاف طريقة لتحويل الحديد إلى صلب أبسط كثيراً من طريقة ريومور" (33).
وتسهيلاً للتجارة ألغى فردريك المكوس الداخلية ووسع الموانئ، وحفر القنوات وشق ثلاثين ألف ميل من الطرق الجديدة. أما التجارة الخارجية فقد عاقتها الرسوم المرتفعة على الواردات والحظر المفروض على تصدير السلع الاستراتيجية؛ واقتضت الفوضى الدولية حماية الصناعة الوطنية لضمان الاكتفاء الصناعي في الحرب. ورغم ذلك نمت برلين قلباً للتجارة وللحكومة: ففي 1721 كانت تضم من السكان 60. 000، وفي 1777 زادوا إلى 140. 000 (34). لقد كانت تتهيأ لتصبح عاصمة لألمانيا.
ولكي يمول فردريك هذا المزيج من الإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية، والأوتقراطية، اقتضى شعبه من الضرائب قدراً يقرب مما رد عليهم من نظام اجتماعي وإعانات مالية وأشغال عامة. واحتفظ للدولة باحتكار الملح والسكر والتبغ والبن (بعد 1781)، وامتلك ثلث الأرض الصالحة للزراعة (35). وفرض الضرائب على كل شيء، حتى على المغنين الجائلين واستقدم هلفتيوس ليخطط له نظاماً محكماً في جميع الضرائب. وكتب(41/155)
سفير إنجليزي يقول: "إن مشروعات الضرائب الجديدة نفرت الشعب حقاً من ملكهم" (36). وقد ترك فردريك عند موته في خزانة الدولة 51. 000. 000 طالر-وهو ما يعادل إيراد الدولة السنوي مرتين ونصفاً.
وفي 1788 نشر ميرابو (الابن) بعد زيارات ثلاث لبرلين تحليلاً مدمراً عنوانه "في النظام الملكي البروسي تحت حكم فردريك الأكبر". وكان قد ورث عن أبيه مبادئ الفزيوقراطيين التي تنادي بالمشروعات الحرة، لذلك أدان نظام فردريك باعتباره دولة بوليسية، وبيروقراطية تخنق كل روح للمبادرة وتعدو على كل حرية شخصية. وكان في وسع فردريك أن يرد على هذه التهم بأنه لو انتهج سياسة "عدم التدخل Laissez Fairo" في حالة الفوضى التي ضربت أطنابها في بروسيا عقب حرب السنين السبع لأفسدت عليه هذه السياسة انتصاره بما تجر من فوضى اقتصادية. لقد كان التوجيه أمراً حتمياً، وكان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع القيادة الفعالة، وهو لا يعرف شكلاً من أشكال القيادة غير قيادة القائد الحربي لجنوده. لقد أنقذ بروسيا من الهزيمة والانهيار، ودفع الثمن يفقدانه حب شعبه له؛ وقد فطن إلى هذه النتيجة، وعزى نفسه بمبررات أخلاقية:
"إن البشر يتحركون إذا حثثتهم على الحركة، ويقفون إذا كففت عن دفعهم ... والناس مقلون في القراءة، زاهدون في أن يتعلموا كيف يمكن التصرف في أي شيء بطرق مختلفة. أما أنا، أنا الذي لم أصنع بهم قط غير الخير، فهم يظنون أنني أريد أن أضع سكيناً على حلوقهم بمجرد أن يلوح احتمال إدخال أي تحسين مفيد، لا بل أي تغيير على الإطلاق. في مثل هذه الحالات اعتمدت على شرف هدفي وسلامة ضميري، وعلى المعلومات التي أملكها، ثم مضيت في طريقي هادئاً" (37).
وقد انتصرت إرادته. فازدادت بروسيا حتى في حياءه غنى وقوة. وتضاعف عدد سكانها، وانتشر فيها التعليم، وأخفى التعصب الديني رأسه. صحيح أن هذا النظام الجديد اعتمد على الاستبداد المستنير، وأن هذا الاستبداد(41/156)
بقي بغير الاستنارة بعد أن مات فردريك، وأن الهيكل القومي اعتراه الضعف وانهار في فيينا أمام إرادة تعادل إرادة فردريك قوة وجبروتاً. ولكن الصرح النابليوني أيضاً، الذي اعتمد على إرادة رجل واحد وتفكيره، انهار هو أيضاً، وفي خاتمة المطاف كان بسمارك، وريث فردريك والمستفيد البعيد في تركته، هو الذي عاقب فرنسا التي سيطر عليها وريث نابليون، وهو الذي جعل من بروسيا وعشرات الإمارات دولة موحدة قوية هي ألمانيا.
3 - الإمارات
لنذكر أنفسنا من جديد بأن ألمانيا لم تكن في القرن الثاني عشر أمة بل اتحاداً مفككاً من دول مستقلة تقريباً، قبلت صورياً الإمبراطور "الروماني المقدس" في فيينا رأساً لها، وأوفدت ممثلين لها بين الحين والحين إلى ديت إمبراطوري (رايشستاج)، أهم وظائفه الاستماع إلى الخطب، واحتمال عبء المراسم، وانتخاب إمبراطور جديد. وكان للدول لغة وآداب وفنون مشتركة، ولكنها تباينت في العادات والزي والعملة والعقيدة. وكان في هذا التفتت السياسي بعض الفوائد: فتعدد بلاطات الأمراء كان مواتياً لتنوع الثقافات تنوعاً مشجعاً؛ وكانت الجيوش صغيرة بدلاً من أن تكون متحدة فتصبح مصدر إرهاب لأوربا؛ ثم إن سهولة الهجرة فرضت على الدولة والكنيسة والشعب قسطاً كبيراً من التسامح في الدين والعادات والقانون. وكانت سلطة كل أمير مطلقة من الناحية النظرية، لأن المذهب البروتستنتي كرس "حق الملوك الإلهي". أما فردريك، الذي لم يقر بأي حق إلهي غير حق جيشه، فقد سخر من "معظم الأمراء الصغار، لا سيما الألمان منهم" الذين "يدمرون أنفسهم بالإشراف السفيه إذ يضللهم الوهم بعظمتهم المتصورة، فأصغر ابن لأصغ ابن لأسرة مقطعة يخيل إليه أنه من طراز لويس الرابع عشر، فيبني فرسايه، ويقتني الخليلات، ويحتفظ بجيش ... له من القوة ما يكفي لخوض ... معركة على مسرح فيرونا" (38).(41/157)
وكانت أهم هذه الإمارات سكسونيا. وقد دالت دولة فنها ومجدها يوم تحالف أميرها الناخب فردريك أوغسطس الثاني مع ماريا تريزا ضد فردريك الأكبر، فقصف الملك القاسي درسدن ودمرها عام 1760 وفر الناخب إلى بولندة بصفته ملكها أوغسطس الثالث، ثم مات في 1763. وورث حفيده فردريك أوغسطس الثالث الإمارة الناخبة وهو في الثالثة عشرة، واكتسب لقب (العادل)، وحول سكسونيا إلى مملكة (1806)، واحتفظ طوال تقلبات كثيرة بعرشه إلى أن مات (1827).
ويدخل كارل أويجن، دوق فورتمبرج، قصتنا في المقام الأول باعتباره صديقاً ثم عدواً لشيلر. وقد فرض الضرائب على رعاياه ببراعة لا ينضب معينها، وباع عشرة آلاف من جنوده لفرنسا، واحتفظ ببلاط كان في رأي كازانوفا "ألمع بلاط في أوربا" (39)، حوى مسرحاً فرنسياً، وأوبرا إيطالية، وسلسلة من المحظيات. ويعيننا أكثر منه في قصتنا كارل أوجسط، دوق ساكسي-فايمار الحاكم من 1775 إلى 1828؛ ولكننا سنراه في مظهر أكثر بهاء وهو محاط بنجوم أناورا سماء ملكه-فيلاند، وهردر، وجوته، وشيلر. وكان واحداً من فريق "المستبدين المستنيرين" الصغار الذين ساهموا في هذا العصر في نهضة ألمانيا حين شعروا بتأثير فولتير وبالمثال الذي ضربه فردريك. ونهج نهج هؤلاء رؤساء الأساقفة الذين حكموا مونستر وكولون وتريير وماينز وفورتزبورج-بامبرج باستكثارهم من المدارس والمستشفيات، وحدهم من إسراف البلاط، وتخفيفهم من الفوارق الطبقية، وإصلاحهم السجون، وتقديمهم الإعانات للفقراء، وتحسينهم أحوال الصناعة والتجارة. كتب أدموند بيرك يقول "ليس من السهل أن نجد أو نتصور حكومات أكثر اعتدالاً وتسامحاً من هذه الإمارات الكنسية" (40).
على أن الفوارق الطبقية كانت تؤكد في أكثر الدول الألمانية باعتبارها جزءاً من أسلوب الضبط الاجتماعي. فكان النبلاء والاكليروس وضباط الجيش وأرباب المهن والتجار والفلاحون يؤلفون طبقات منفصلة؛ وداخل كل فئة من هؤلاء درجات ومراتب صلبت كل منها ذاتها باحتقار المرتبة(41/158)
الأدنى منها. وكان زواج الفرد خارج طبقته أمراً مستحيلاً تقريباً، ولكن بعض التجار والماليين اشتروا النبالة. واحتكر النبلاء المناصب العليا في الجيش والحكومة، وقد اكتسب كثيرون منهم امتيازاتهم ببسالتهم أو كفايتهم ولكن الكثيرين كانوا عالة على المجتمع، لا يفضلون الحلل التي يرتدونها، يتنافسون على المكان الاجتماعي المقدم في البلاط، ويتبعون الموضات الفرنسية في اللغة والفلسفة والخليلات.
ومما يذكر بالفخر لأمراء ألمانيا الغربية وأساقفتها ونبلائها أنه لم يحل عام 1780 حتى كانوا قد أعتقوا فلاحيهم الأقنان، وبشروط يسرت الانتشار الواسع للرخاء في الريف. وقد ذهب رانيهولد لنتس إلى أن الفلاحين مخلوقات أفضل-أكثر بساطة ووداً وفطرية-من التجار الذين يحصون الدراهم أو شباب النبلاء الذين يختالون كبراً (41). وقد صورت سيرة هينريش يونج الذاتية (1777) حياة القرية في كدها اليومي وفي مهرجاناتها الموسمية في صورة مثالية؛ ووجد هردر أغاني الفلاحين الشعبية أصدق وأعمق من شعر الكتب؛ ووصف جوته في كتابه (الشعر والحقيقة) الاحتفال بموسم صنع الخمر بأنه "يغمر بالفرح إقليماً بأسره" من صواريخ وغناء ونبيذ (42). كان هذا جانباً من المشهد الألماني؛ أما الجانب الآخر فكان الجهد الشاق والضرائب المرتفعة والنساء يشخن في الثلاثين والأطفال الأميين يرتدون الأسمال ويتسولون في الشوارع. قالت إيفا كونيج لليسنج في 1770 "في إحدى المحطات تزاحم حولي ... ثمانون شحاذاً ... وفي ميونيخ جرت ورائي أسر بأكملها وأفرادها يصيحون بأنني بالتأكيد لن أتركهم يموتون جوعاً" (43).
لقد كانت الأسرة في القرن الثامن عشر أهم من الدولة أو المدرسة. أو المدرسة. وكان البيت الألماني المصدر والمركز للتهذيب الخلقي، والنظام الاجتماعي، والنشاط الاقتصادي. ففيه يتعلم الطفل أن يطيع أباً صارماً، ويلوذ بأم محبة، ويشارك في سن مبكرة في مختلف الواجبات البناءة التي تملأ فراغ اليوم. وقصيد شيلر "أغنية الجرس" تعطينا صورة مثالية ترى فيها "الزوجة الشديدة التواضع ... تحكم دائرة الأسرة بحكمة، وتدرب(41/159)
البنات، وتكبح تهور الأولاد، وتعكف في كل لحظة من فراغها على نولها" (44). وكانت الزوجة خاضعة لزوجها، ولكنها معبودة أبنائها. أما خارج البيت، إلا في قصور الأمراء، فكان الرجال عادة يقصون النساء عن حياتهم الاجتماعية، ومن ثم كان حديثهم ينحو إلى الإملال أو البذاءة. أما في قصور الأمراء فكان هناك كثير من النساء المثقفات المهذبات السلوك. ويرى إكرمان أن بعضهن "يكتبن بأسلوب رائع ويفقن في هذا كثيراً من أشهر مؤلفينا" (45). وكان على نساء الطبقة العليا في ألمانيا، كما في فرنسا، أن يتعلمن الإغماء جزءاً من بضاعتهن، والاستعداد لذرف الدموع دليلاً على رقة شعورهن.
أما أخلاق البلاط فقد اقتدت بالمثل الفرنسية في الشراب والقمار والفسق والطلاق. تقول مدام دستال أن النبيلات من النساء كن يبدلن أزواجهن "في غير مشقة وكأنهن يرتبن أحداث تمثيلية"، وكن يفعلن هذا "بقليل من مرارة النفس" (46). وضرب الأمراء المثل في السلوك اللا أخلاقي ببيع جنودهم للحكام الأجانب؛ وهكذا بنى حاكم هسي-كاسل قصراً أنيقاً، وأنفق على بلاط مترف، من حصيلة إتجاره في جنوده. وبلغ مجموع ما باعه الأمراء الألمان-أو ما "أقرضوه" على حد تعبيرهم-خلال الثورة الأمريكية ثلاثين ألف جندي لإنجلترة مقابل 500. 000 جنيه؛ ومن هؤلاء 12. 500 لم يعودوا قط (47). ولم يبد ألمان القرن الثامن عشر خارج بروسيا ميلاً يذكر للحرب وهم يتذكرون أهوال القرن السابع عشر. ويبدو أن "الخلق القومي" يمكن أن يطرأ عليه التغيير من قرن لآخر.
وكان الدين في ألمانيا أطوع للدولة منه في الأقطار الكاثوليكية. كان منقسماً إلى ملل ونحل، فحرم بذلك من حبر أعظم مرهوب ينسق عقيدته واستراتيجيته ودفاعه؛ وكان قادة الدين يعينهم الأمير، ودخل الدين يعتمد على مشيئته. وكان إيماناً قوياً في الطبقتين الوسطى والدنيا؛ ولم يتأثر بموجات الإلحاد التي تدفقت من إنجلترة وفرنسا غير النبلاء والمفكرين وبعض الأكليروس. وكان إقليم الراين أكثره من الكاثوليك، ولكن في هذا الإقليم بعينه شهدت هذه الحقبة قيام حركة تتحدى سلطة البابوات في جرأة.(41/160)
وبيان ذلك أنه في 1763 نشر يوهان نيكولاوس فون هونتايم، أسقف تريير المساعد، متخفياً وراء اسم مستعار هو يوستينوس فبرونيوس، رسالة باللاتينية في "حالة الكنيسة، وسلطة بابا روما الشرعية" وترجم الكتاب من اللاتينية إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية، وأحدث ضجة في جميع أرجاء غربي أوربا. وقد قبل "فبرونيوس" سيادة البابا، ولكن على أنها سيادة شرف وإدارة تنفيذية؛ فالبابا غير معصوم، وينبغي أن يتاح استئناف قراراته أمام مجمع عام تكون له السلطة التشريعية النهائية في الكنيسة. وكان المؤلف سيء الظن بالتأثير المحافظ المستور للبلاط البابوي (الكيوريا)، -وألمع إلى أن التركيز المفرط للسلطة الكنسية تمخض عن حركة الإصلاح البروتستنتي؛ وقد تيسر اللامركزية رجوع البروتستنت إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية. وفي مسائل القانون البشري، لا الإلهي، يحق للأمراء العلمانيين أن يرفضوا طاعة البابوية، ولهم-إن لزم الأمر-حتى فصل كنائسهم القومية عن روما. وأدان البابا الكتاب (فبراير 1764)، ولكنه أصبح كتاب "صلاة للحكومات" (48) وقد رأينا تأثيره على يوزف الثاني.
ومال رؤساء أساقفة كولون وتريير وماينز وسالزبورج لآراء "فبرونيوس"، فقد رغبوا في الاستقلال عن البابا استقلال الإمارات الأخرى عن الإمبراطور. وعليه ففي 25 سبتمبر 1786 أصدروا "بيان إيمس التمهيدي" (قرب كوبلنتز) الذي كان خليقاً بإحداث حركة إصلاح بروتستنتي جديدة لو أخرج إلى حيز التنفيذ:
"إن البابا أعلى سلطة في الكنيسة وسيظل أعلى سلطة فيها ... ولكن الامتيازات (البابوية) التي لا تنحدر عن القرون المسيحية الأولى بل هي مبنية على المراسيم الإيزادورية الباطلة، والتي تنتقص من قدر الأساقفة ... لم يعد في الإمكان أن تعد قانونية، فهي تنتمي إلى اغتصابات الكيوريا الرومانية؛ وللأساقفة الحق (ما دامت الاحتجاجات السلمية لا تجدي) في صيانة حقوقهم الشرعية تحت حماية الإمبراطور الألماني-الروماني.(41/161)
ويجب ألا يكون هناك بعد اليوم أي استئنافات (من الأساقفة) أمام روما .. وألا تتلقى الطرق (الدينية) أي توجيهات من رؤساء أجانب، ولا أن تحضر مجامع عامة خارج ألمانيا. ويجب ألا ترسل أية تبرعات لروما ... وألا تملأ روما الوظائف الكنسية الشاغرة ذات الدخول، بل تملأ بانتخاب قانوني للمرشحين الوطنيين ... وينبغي أن ينظم هذه الأمور وغيرها مجمع قانوني ألماني" (49).
ولم يؤيد الأساقفة الألمان هذا الإعلان خوفاً من قوة الكيوريا المالية، ثم أنهم ترددوا في الاستعاضة عن سيادة روما النائية بسلطة الأمراء الألمان المباشرة والأصعب تفادياً. وهكذا انهارت الثورة الوليدة. وعدل هونتهايم عن أقواله (1788)، وسحب رؤساء الأساقفة بيانهم التمهيدي (1789)، وعادت الأمور كلها تسير سيرتها الأولى.
4 - عصر التنوير الألماني
ولكن ليس بكل معنى العبارة فالتعليم، باستثناء الإمارات الكنسية، كان قد انتقل من سيطرة الكنيسة إلى سيطرة الدولة. فأساتذة الجامعات تعينهم الحكومة وتدفع رواتبهم (في تقتير مخجل)، ولهم وضع الموظفين العموميين. ومع أن جميع المدرسين والطلاب كان يشترط عليهم الإقرار بأنهم يدينون بمذهب الأمير، إلا أن الكليات الجامعية، حتى سنة 1789، كانت تتمتع بقدر متزايد من الحرية الأكاديمية. وحلت الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم. وكثرت المقررات الدراسية في العلوم والفلسفة، وتوسع في تعريف الفلسفة (في جامعة كونجزبرج على عهد كانط) بأنها "القدرة على التفكير، وعلى البحث في طبيعة الأشياء دون تغرضات أو مذهبية" (50). وقد طلب كارل فون تسيدلتس وزير التربية المخلص في عهد فردريك الأكبر، إلى كانط أن يقترح طرقاً "لصد الطلاب في الجامعات عن دراسات "أكل العيش"، وإفهامهم أن القليل الذي يتعلمونه من القانون، لا بل اللاهوت والطب، سيكون أيسر استيعاباً وآمن تطبيقاً لو ملكوا ناصية المعرفة الفلسفية" (51).(41/162)
وقد حصل الكثير من فقراء الطلاب على معونة حكومية أو أهلية لمواصلة التعليم الجامعي، وإنها لقصة مبهجة تلك التي روي فيها إكرامان كيف كان جيرانه الرحماء يمدون إليه يد المعونة في كل خطوة من خطى تطوره (52). ولم يكن بين جماعة الطلاب تفرقة طبقية (53). فكل خريج يسمح له بأن يحاضر تحت رعاية الجامعة مقابل أي رسم يستطيع جمعه من المستمعين، وقد بدأ كانط حياته المنهنية على هذا النحو؛ وكانت منافسة المعلمين الجدد لقداماهم تحفز هؤلاء على أن يكونوا مستعدين في كل لحظة. وقد حكمت مدام دستال على الجامعات الألمانية الأربع والعشرين بأنها "أرقى الجامعات علماً في أوربا. فليس في أي قطر، ولا حتى في إنجلترة، وسائل بهذه الكثرة للتعليم أو للارتقاء بقدرات الإنسان إلى الكمال ... ومنذ عصر الإصلاح البروتستنتي تفوقت الجامعات البروتستنتية على الكاثوليكية تفوقاً لا جدال فيه، ويرتكز مجد ألمانيا الأدبي وفخرها على هذه المعاهد" (54).
وانتشر الإصلاح التعليمي وشاع في الجو. فأصدر يوهان بازدوا-مستلهماً قراءته لروسو-في 1774 كتاباً من أربعة مجلدات عنوانه "المبادئ" رسم مخططاً لتعليم الأطفال بطريق المعرفة المباشرة بالطبيعة؛ فيجب أن يكتسبوا الصحة والعافية بالألعاب والتمرينات الرياضية؛ وأن يتلقوا الكثير من تعليمهم في الهواء الطلق بدلاً من أن يلزموا مكاتبهم؛ وأن يتعلموا اللغات لا بالأجرومية والصم بل بتسمية الأشياء والأفعال التي يصادفونها في خبراتهم اليومية؛ وأن يتعلموا الأخلاق بتأليف جماعاتهم وتنظيمها؛ وأن يتهيأوا للحياة بتعلم حرفة ما. والدين يدخل في المنهج لا بالصورة القديمة الغالبة؛ وكان بازدو يتشكك في عقيدة التثليث جهاراً (55) وأنشأ في دساو (1774) معهداً خيرياً نموذجياً أخرج تلاميذ، صدمت الكبار "وقاحتهم، وسلاطتهم، وسعة علمهم وخيالهم" (56)، ولكن هذا "التعليم التقدمي"، كان متسقاً مع حركة التنوير، فانتشر سريعاً في طول ألمانيا وعرضها.
وكانت التجارب في مضمار التعليم جزءاً من الاختمار الفكري الذي(41/163)
اضطربت به البلاد بين حرب السنين السبع والثورة الفرنسية. فكثرت الكتب والجرائد والمجلات والمكتبات المتنقلة وأندية القراءة كثرة ملؤها الحماسة. وانبثقت الحركات الأدبية العديدة، ولكل منها أيديولوجيتها ومجلتها وقادتها. وكانت أول جريدة يومية ألمانية "داي لبتزج ذيتونج" قد بدأت عام 1660، فلم يحل عام 1784 حتى كان هناك 217 جريدو يومية وأسبوعية في ألمانيا. وفي 1751 بدأ ليسنج يحرر القسم الأدبي من "فوسيك ديتونج" في برلين؛ وفي 1772 أصدر ميرك وجوته هردر "أنباء فرانكفورت الأدبية؛ وفي 1773 - 89 جعل فيلاند من "در تيوتش مركر" أكثر المجلات الأدبية في ألمانيا نفوذاً. وكان هناك ثلاثة آلاف مؤلف ألماني في 1773، وستة آلاف في 1787، وفي ليبزج وحدها 133. وكثيرون منهم كانوا كتاباً يعملون بعض الوقت. وربما كان ليسنج أول ألماني تعيش من الأدب سنين كثيرة. وكان جل المؤلفين فقراء، لأن حق التأليف لم يحمهم إلا دخل إماراتهم؛ واختزلت الطبعات المسروقة أرباح المؤلف والناشر على السواء اختزالاً شديداً. وقد خسر جوته من كتابه جوتز فون برليشنجن وكان ربحه ضئيلاً من قصته "آلام فرتر"، وهي أعظم انتصار أدبي لذلك الجيل. ويعد تفجر الأدب الألماني أحد الأحداث العظمى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فحين كتب دالامبير من بوتسدام في 1763 لم يجد في المطبوعات الألمانية شيئاً يستحق الذكر (57)؛ ولكن ما وافى عام 1790 حتى كانت ألمانيا تنافس فرنسابل ربما تبزها في العبقرية الأدبية المعاصرة. وقد لاحظنا احتقار فردريك للغة الألمانية لأنها جشاء غليظة تؤذيها الحروف الساكنة؛ ومع ذلك فإن فردريك نفسه، بهزيمته الرائعة لهذا العدد الكبير من أعدائه، قد ألهم ألمانيا العزة القومية التي حفزت الكتاب الألمان على استعمال لغتهم والوقوف أنداداً لأمثال فولتير وروسو. فلم يحل عام 1763 حتى كانت الألمانية قد هذبت نفسها وأضحت لغة أدبية مستعدة للتعبير عن حركة التنوير الألماني.
ولم يكن هذا التنوير وليداً بتولياً. فهو الثمرة المؤلمة التي تمخضت عنها الربوبية الإنجليزية مقترنة بالتفكير الحر الفرنسي(41/164)
على أرض مهدتها عقلانية كريستان فون فولف المعتدلة. وكانت تفجرات الربوبية الكبرى التي فجرها تولاند وتندال وكولتز ووستن وولستن قد تمت ترجمتها إلى الألمانية قبيل عام 1743، وما وافى عام 1755 حتى كانت "رسائل" جريم تثبت أحدث الأفكار الفرنسية بين الصفوة المثقفة من الألمان. وتوفر في 1756 من أحرار الفكر في ألمانيا نفر أتاح إصدار "معجم لأحرار الفكر". وفي 1763 - 64 أصدر بازدوف كتابه (محبة الصدق) الذي رفض أن وحي إلهي غير وحي الطبيعة ذاتها. وفي 1759 بدأ كريستيان فريدرش نيقولاي، وهو تاج كتب برليني، "رسائل عن إحداث ثمرات الأدب"؛ وقد ظلت هذه الرسائل التي أثرتها مقالات بأقلام ليسنج وهردر وموسى مندلسون حتى عام 1765 مناراً أدبياً لحركة التنوير يحارب التطرف في الأدب والسلطة في الدين.
وشاركت الماسونية في الحركة فتأسس أول محفل للماسون بهمبورج في 1753، ووتلته محافل أخرى؛ وكان من أعضائها فردريك الأكبر، وفرديناند دوق برنزويك، وكارل أوجست دوق ساكسي-فايمار، وليسنج، وفيلاند، وهردر، وكلويشتوك، وجوته، وكلاسيت. وكانت هذه الجماعات بوجه عام تميل إلى الربوبية. ولكنها تحاشت النقد العلني للإيمان التقليدي. وفي 1776 نظم آدم فايسهاويت، أستاذ القانون الكنسي في إنجولشتات، جمعية سرية شقيقة، سماها "برفكتيبيلستن"، ولكنها اتخذت بعد ذلك الاسم القديم (المستنيرين) وقد اتبع مؤسسها، وهو يسوعي سابق، المنهج الذي جرت عليه جماعة اليسوعيين، فقسم رفاقها إلى درجات من الإطلاع على أسرارها وأخذ عليهم العهد بطاعة قادتهم فيحملة "لتوحيد جميع الرجال القادرين على التفكير المستقل"، ولجعل الإنسان "آية من آيات العقل، فيبلغ بذلك أسمى درجات الكمال في فن الحكم". (58) وفي 1784 حظر كارل تيودور، ناخب بافاريا، جميع الجمعيات السرية، فلقيت "طائفة المستنيرين" حتفها في سن مبكرة.
وتأثر بحركة التنوير حتى الأكليروس. فطبق يوهان سملر أستاذ الفلسفة(41/165)
في هالة "النقد الأعلى" على الكتاب المقدس. فزعم (على العكس تماماً من الأسقف فاربورتن) أن العهد القديم لا يمكن أن يكون موحى به من الله، لأنه-إلا في مرحلته الأخيرة-تجاهل الخلود. وألمع إلى أن المسيحية قد حرفها عن تعاليم المسيح لاهوت القديس بولس الذي لم ير المسيح قط؛ ثم نصح اللاهوتيين بأن ينظروا إلى المسيحية على أنها صورة عابرة من صور جهد الإنسان في بلوغ حياة فاضلة. فلما رفض كارل بارت وغيره من تلاميذه العقيدة المسيحية بأكملها إلا الإيمان بالله، عاد سملر إلى إيمانه السني، واحتفظ بكرسي اللاهوت من 1752 إلى 1791. ووصفبارت المسيح بأنه معلم عظيم فقط. "مثل موسى، وكونفوشيوس، وسقراط، وسملر، ولوثر، ومثلي أنا" (59) كذلك سوى يوهان إيبرهارت بين سقراط والمسيح، وقد طرد من وظيفة القسوسية اللوثرية، ولكن فردريك عينه أستاذاً للفلسفة في هالة. وقسيس آخر يدعى ف. أ. تيلر اختزل المسيحية إلى الربوبية، ودعا لعضوية كنيسته أي إنسان مؤمن بالله، بما في ذلك اليهود (60)، أما يوهان شولتز، الراعي اللوثري، فقد أنكر لاهوت المسيح، ولم ير في الله أكثر من "الأساس الكافي للعالم" (61)، وقد طرد من وظيفته في 1792.
هؤلاء المهرطقون المفصحون عن هرطقاتهم كانوا قلة قليلة؛ ولعل المهرطقين الصامتين كانوا كثيرين. أما وقد رحب هذا العدد الكبير من رجال الدين بالعقل، وكان الدين في ألمانيا أقوى كثيراً منه في إنجلترة أو فرنسا وكانت فلسفة فولف قد أمدت الجامعات بهذا التوفيق بين العقلانية والدين، فإن التنوير الألماني لم يتخذ صورة متطرفة. ولم يسع إلى تدبير الدين بل إلى تخليصه من الأساطير والسخافات وسلطان رجال الدين-وهي أمور جعلت الكاثوليكية في فرنسا مبعث سرور عظيم للشعب وسخط شديد لجماعة الفلاسفة، وقد فطن العقلانيون الألمان-وهم يتبعونروسو لا فولتير-إلى ما للدين من إغراء قوي للعناصر العاطفية في الإنسان؛ ثم أن النبلاء الألمان، الأقل جهراً بارتيابيتهم من الفرنسيين، ساندوا الدين معواناً للأخلاق والحكم. وجاءت الحركة الرومانتيكية فكبحت زحف العقلانية، ومنعت ليسنج من أن يكون لألمانيا ما كانه فولتير من قبل لفرنسا.(41/166)
5 - جوتهولت ليسنج
1729 - 1781
كان جده الأعلى عمدة لبلدة في سكسونيا، وظل جده أربعة وعشرين عاماً عمدة على كامينتس، وكتب دفاعاً عن التسامح الديني؛ وكان أبوه الراعي اللوثري الأول في كامينتس، وكتب دروساً في تعليم العقيدة بالسؤال والجواب حفظها ليسنج عن ظهر قلب. أما أمه فكانت ابنة الواعظ الذي تقلد أبوه من قبل منصب الراعي لكنيسته. وكان تصرفاً طبيعياً منها أن تنذره للقسوسية، وطبيعياً منه بعد أن أتخم بالتقوى أن يتمرد.
وكان تعليمه المبكر في البيت وفي مدرسة ثانوية بمدينة مايسين مزيجاً من التأديب الألماني والآداب الكلاسيكية، ومن اللاهوت اللثوري والكوميديا اللاتينية. يقول "كان تيوفراستوس، وبلاوتوس، وترينس، عالمي الذي درسته بابتهاج" (62)، وحين بلغ السابعة عشرة بعث إلى ليبزج على منحة دراسية. فوجد المدينة أكثر إثارة للاهتمام من الجامعة؛ وانغمس في بعض حماقات الشباب، وعشق المسرح ووقع في غرام إحدى الممثلات، وسمح له بالدخول وراء الكواليس، وتعلم وسائل تقوية التأثير المسرحي. وفي التاسعة عشرة كتب تمثيلية، ووفق في جهوده فأخرجت. فلما سمعت الأم بنبأ هذه الخطيئة بكت، واستدعاه الأب إلى البيت غاضباً. ولكنه سرى عنهما بابتسامة، وأقنعهما بسداد ديونه. وحين وقعت أخته على قصائده وجدتها بذيئة إلى حد مذهل وأحرقتها؛ فرمى ثلجاً في صدرها ليخفف من حماستها. ثم أعيد إلى ليبزج ليدرس الفلسفة ويصبح أستاذاً، ولكنه وجد الفلسفة قاتلة، واقترض ديوناً عجز عن الوفاء بها، ثم هرب إلى برلين (1748).
هناك عاش حياة الأديب الذي يلتقط رزقه يوماً بيوم-يراجع الكتب، ويترجم، ويشترك مع كريستلوب ميليوس في تحرير مجلة مسرحية لم تعمر. وما أن بلغ التاسعة عشرة حتى أصبح مدمناً للتفكير الحر. فقرأ سبينوزا ووجده برغم هندسته لا يقاوم. وألف مسرحية (1749) عنوانها(41/167)
"الروح الحر"، قابلت بين تيوفان القسيس الشاب اللطيف، وآدراست الحر التفكير الخشن الصخاب الذي تغلب عليه إلى حد ما صفات الأوغاد. هنا انتصرت المسيحية في الجدل. ولكن في هذه الفترة أو حولها كتب ليسنج لأبيه يقول "ليس الإيمان المسيحي بالشيء الذي ينبغي للمرء أن يتقبله من أبويه بتسليم" (63) وألف الآن تمثيلية أخرى (اليهود) ناقشت التزاوج بين المسيحيين واليهود. فهنا عبراني غني شريف لا اسم له إلا "المسافر". ينقذ حياة نبيل مسيحي وابنته، فيعرض النبيل عليه الزواج من ابنته مكافأة له، ولكنه يعدل عن عرضه حين يميط اليهودي اللثام عن حقيقة جنسه؛ ويوافق اليهودي على أن الزواج لو تم لكان غير سعيد. ولم يتعرف ليسنج إلى موسى مندلسون الذي رأى فيه تجسيداً للفضائل التي كان قد خلعها على "المسافر" إلا بعد خمس سنين (1754) وذلك أثناء مباراة للشطرنج.
وفي بواكير عام 1751 كلف فولتير أو سكرتيرة ليسنج بأن يترجم إلى الألمانية مادة أراد الفيلسوف المتغرب أن يستعملها في دعوى رفعها على أبراهام هيرش، وسمحالسكرتير لليسنج أن يستعير جزءاً من مخطوط كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر". وفي تاريخ لاحق من تلك السنة ذهب ليسنج إلى فتنبرج وأخذ المخطوط معه. وخشي فولتير أن تستعمل هذه النسخة غير المصححة في إصدار طبعة مسروقة، فأرسل إلى ليسنج طلباً عاجلاً بأسلوب مهذب ليرد الأوراق. واستجاب ليسنج، ولكنه أنكر النغمة المتعجلة، وربما كان هذا سباً في تشويه خصومته التالية لأعمال فولتير وخلقه.
ونال ليسنج درجة الأستاذية من جامعة فتنبرج عام 1752. فلما عاد إلى برلين شارك في دويات شتى بمقالات اتسمت بكثير من التفكير الإيجابي والأسلوب اللاذع، فما حل عام 1753 حتى كان قد اكتسب قراء بلغوا من الكثرة حداً يلتمس له معه العذر في أن ينشر وهو في الرابعة والعشرين طبعة جمعت كل أعماله في ستة مجلدات. وقد اشتملت على تمثيلية جديدة اسمها "الآنسة سارة سمامبسن" كانت من معالم تاريخ المسرح الألماني. وكان(41/168)
المسرح الألماني إلى هذا التاريخ قد أخرج كوميديات وطنية، ولكن ندر أن أخرج مأساة وطنية. لذلك ناشد ليسنج زملاءه كتاب التمثيليات أن يتحولوا عن النماذج الفرنسية إلى النماذج الإنجليزية ويكتبوا مآسيهم هم. وامتدح ديدرو لدفاعه عن الكوميديا العاطفية ومأساة الطبقة الوسطى، ولكن تمثيلية "الآنسة سامبسن" استوحاه من إنجلترة-من "التاجر اللندني" لجورج ليللو (1731) و "كلاريسا" لصموئيل رتشردسن (1748).
ومثلت المسرحية في فرانكفورت-على-الأدور عام 1755، ولقيت قبولاً حسناً. وقد احتوت كل عناصر الدراما؛ بدأت بإغواء، واختتمت بانتحار، ووصلتهما بنهر من الدموع. والوغد مليفونت (الحلو المظهر) هو لفليس في قصة رتشردسن؛ تمرس بسلب الفتيات بكارتهن، ولكنه يستنكر الزواج بواحدة؛ يعد سارة بالزواج-ويهرب معها، ويعاشرها معاشرة الأزواج، ثم يسوف في الزواج؛ وتحاول خليلة سابقة له أن تسترده، وتخفق، فتدس السم لسارة، ويصل أبو سارة، مستعداً لأن يغفر كل شيء ويقبل ميلفونت صهراً له، وكأنه يطبق ملاحظة ليسنج الساخرة: إن الأبطال في المآسي لا يموتون من شيء إلا من الفصل الخامس (64).
وخيل إليه أن في استطاعته الآن أن يرتزق من الكتابة للمسرح، ولما لم يكن في بريلن مسارح فإنه رحل إلى ليبزج (1755) ثم اندلعت حرب السنين السبع، فأقفل المسرح، وكسدت سوق الكتب، وبات ليسنج مفلساً. فعاد إلى برلين، وشارك في مجلة نيقولاي "رسائل عن أحدث ثمرات الأدب" بمقالات سجلت قمة جديدة في النقد الأدبي الألماني. تقول رسالته التاسعة عشرة "إن القواعد هي ما يشاء أساتذة الفن مراعاته" وفي 1760 غزا الجيش النمساوي الروسي برلين، ففر ليسنج إلى برزلاو حيث عمل سكرتيراً لقائد بروسي. وخلال السنين الخمس التي أقامها هناك اختلف إلى الحانات، وقامر، ودرس سبينوزا، وآباء المسيحية القدامى، وفنكلمان، وكتب "لاوكون"، ثم عاد إلى برلين في 1765. وفي 1766 دفع بأشهر كتبه إلى المطبعة.(41/169)
وهذا الكتاب "لاوكون، أو على التخوم بين التصوير والشعر" استلهم حافزه المباشر من كتاب فنكلمان "أفكار عن محاكاة الآثار الإغريقية في التصوير والنحت" (1755). وبعد أن كتب ليسنج نصف مخطوطه وصله كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم" (1764)، فقطع بحثه وكتب يقول، "لقد ظهر كتاب الهر فنكلمان في تاريخ الفن. ولن أجرؤ على التقدم خطوة أخرى قبل أن أقرأ هذا الكتاب" (65) واتخذ نقطة انطلاقة من مفهوم فنكلمان عن الفن الإغريقي الكلاسيكي متمثلاً في الوقار الهادئ والفخامة المطمئنة، ووافق على زعم فنكلمان أن مجموعة تماثيل اللاوكون المحفوظة بقاعة الفاتيكان للفنون احتفظت بهذه الصفات رغم الألم القتال (اشتبه لاوكون، كاهن أبوللو في طروادة، في أن هناك يونانيين يختبئون في "حصان طروادة"، فقذفه برمح، ولكن الإلهة أثينا المحابية لليونان أقنعت بوسيدان أن يطلع من البحر ثعبانين ضخمين التفا حول الكاهن وولديه التفافاً قاتلاً). وقد ظن فنكلمان أن مجموعة لاوكون-التي تعد الآن عملاً من أعمال نحاتين رودسيين في القرن الأخير قبل المسيح-تنتمي إلى عصر فيدياس الكلاسيكي.
أما لماذا خلع فنكلمان، الذي شاهد هذا الأثر ودرسه صفة الجلال المطمئن على ملامح الكاهن المشوهة فذلك سر غامض. وقد قبل ليسنج الوصف لأنه لم ير التمثال قط (66). ووافق على أن المثال خفف من تعبير الألم؛ ثم راح يتساءل عن سبب هذا الانضباط الفني، وأراد استنباطه من قيود الفن التشكيلي الأصيلة الصحيحة.
ثم تمثل بقول الشاعر الإغريقي سيمونيدس إن "التصوير شعر صامت، والشعر تصوير بليغ" (67). وأضاف أن الاثنين مع ذلك يجب أن يلزما حدودهما الطبيعية: فالتصوير والنحت ينبغي أن يصفا الأشياء في المكان، لا أن يحاولا قص قصة، أما الشعر فينبغي أن يروي أحداثاً في الزمان، لا أن يحاول وصف أشياء في المكان. وينبغي أن يترك الوصف المفصل للفنون التشكيلية، فإذا ورد في الشعر، كما في "فصول" طومسن أو "ألب" هالر، قطع السرد وشوش الأحداث. "ومعارضة هذا الذوق الفاسد(41/170)
ومناقضة هذه الآراء التي لا أساس لها، هو والهدف الرئيسي للملاحظات التالية" (68). ولكن سرعان ما نسي ليسنج هذا الهدف، وتاه في نقاش مستفيض لكتاب فنكلمان في تاريخ الفن. هنا كانت تعوزه الخبرة والكفاية، وكان لتمجيده الجمال المثالي باعتباره هدف الفن أثر معطل على التصوير الألماني. ثم أنه خلط بين التصوير والنحت، وطبق عليهما جميعاً المعايير الخاصة بالنحت في المقام الأول. وبهذا شجع شكلية أنطون رفائيل منجز الجامدة. بيد أن أثره على الشعر الألماني كان بركة؛ فقد حرره من الأوصاف المسهبة، والنزعة الوعظية المدرسية، والتفصيل الممل، وأرشده إلى الحركة والشعور. وقد أقر جوته شاكراً بالتأثير المحرر لكتاب ليسنج "لاوكون".
ووجد ليسنج نفسه أكثر تمكناً من عمله حين انتقل (أبريل 1767) إلى همبورج كاتباً وناقداً مسرحياً براتب قدره ثمانمائة طالر في العام. وهناك أخرج تمثيليته الجديدة. "منافون بارنهيلم". وبطل التمثيلية-الميجر ثلهايم-العائد من الحرب بأكاليل الغار إلى أملاكه يظفر بخطبة منا الحسناء الغنية. غير أن الحظ الذي قلب له ظهر المجن، والدسائس المعادية التي لاحقته، يهويان به إلى درك الفقر، فينسحب من الخطبة لأنه لم يعد الزوج الصالح لوريثة ثروة ضخمة. ويختفي، ولكنها تطارده وتتوسل إليه أن يتزوجها، فيرفض. وإذ تدرك السبب تدبر خدعة تبيت بها معدمة ولكن في صورة جذابة؛ ويعرض الميجر الآن نفسه زوجاً لها ويدخل رسولان فجأة يعلنان كل من ناحية أن منا وتلهايم قد استردا ثروتهما. ويبتهج الجميع، وحتى الخدم يدفعون على عجل إلى الزواج. والحوار مبرح، والشخوص بعيدة التصديق، والحبكة منافية للعقل-ولكن كل الحبكات تقريباً منافية للعقل.
وفي اليوم الذي شهد افتتاح المسرح القومي بهمبورج (22 أبريل 1767) أصدر ليسنج نشرة قدم بها لمقالاته في نظرية الدراما وقد علقت هذه المقالات دورياً، طوال العامين التاليين، على التمثيليات التي أخرجت في ألمانيا، وعلى نظرية الدراما في أعمال الفلاسفة. وقد اتفق مع أرسطو على القول بأن الدراما أسمى أنواع الشعر، وقبل في تناقض مندفع القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه "في الشعر":(41/171)
"لست أتردد في الاعتراف ... بأني أعده معصوماً مثل "مبادئ" (69) اقليدس (الذي لم يعد الآن معصوماً). ومع ذلك توسل إلى مواطنيه أن يكفوا عن تبعيتهم لكورنيني وراسين وفولتير، وأن يدرسوا فن الدراما كما هو معلن في شكسبير (الذي تجاهل قواعد أرسطو). وقال أنه يشعر أن في الدراما الفرنسية إسرافاً في الشكلية لا يسمح بإحداث ذلك "التنفيس" أو تطهير العواطف الذي وجده أرسطو في الدراما اليونانية؛ وذهب إلى أن شكسبير قد حقق هذا التطهير على نحو أفضل في الملك لير، وعطيل، وهاملت بحدة الحركة وقوة لغتها وروعتها. وقد أكد ليسنج ضرورة توفر عنصر الاحتمال، ناسياً منديل ديدمونة. فكاتب الدراما القدير يتجنب الاعتماد على المصادفات والتفاهات، فيبني بالتدريج كل شخص من شخوصه بحيث تصدر الأحداث بالضرورة عن طبيعة الأشخاص المعنيين. وقد وافق كتاب الدراما في فترة حركة "شتورم أوند درانج (الاقتحام والجهاد) على اتخاذ شكسبير مثلاً أعلى، وحرروا الدراما الألمانية في ابتهاج من الدراما الفرنسية. وألهمت الروح القومية التي تصاعدت بانتصارات فردريك وهزيمة فرنسا نداء ليسنج ودعمته، وسيطر شكسبير على المسرح الألماني قرابة قرن من الزمان.
غير أن تجربة همبورج انهارت لأن الممثلين تنازعوا فيما بينهم ولم يتفقوا إلا على الاستياء من مقالات ليسنج النقدية. فشكا فريدرش شرودر من أن "ليسنج لم يستطع قط أن يفرغ لمشاهدة عرض كامل للمسرحية؛ فهو يخرج ويدخل، أو يتحدث إلى معارفه، أو يستسلم للتفكير، ومن السمات التي تثير سروره العابر يكون صورة هي نسج من عقله ولا تمت إلى الواقع بسبب" (70) وهذا الحكم المميز أجاد وصف حياة ليسنج وعقله المتمردين.
والآن هل يجدر بنا أن نقف به في منتصف طريقه لنلقي عليه بنظرة؟ كان ربعة، منتصب القامة في كبرياء، قوياً لدناً بفضل التمرين الرياضي المنتظم، مليح القسمات، أزرق العينين في دكنة، بنى الشاعر فاتحه محتفظاً بلونه هذا حتى مماته. وكان دافئاً في صداقاته، حاراً في عداواته. لا يسعده شيء كالجدل، فإذا اشتبك فيه أثخن الجراح بقلم حاد. كتب يقول "ليبدأ(41/172)
الناقد بالبحث عن شخص يستطيع الاختلاف معه. وهكذا يلج موضوعاً ويوغل فيه شيئاً فشيئاً، ثم يقفو الباقي هذه الخطوة نتيجة طبيعية لها، وأنا أعترف صراحة بأنني اخترت أولاً المؤلفين الفرنسيين لهذا الغرض، لا سيما المسيو فولتير" (71) -وقد اقتضى هذا الاختيار قدراً كافياً من الشجاعة. وكان متحدثاً ذكياً ولكنه مندفع، حاضر الجواب، لديه عن كل شيء أفكار بلغت من الكثرة والقوة مبلغاً لم يتح له أن يضفي عليها النظام أو الاتساق أو الفعالية الكاملة. وكان يستمتع بالبحث عن الحقيقة أكثر من الوهم الخطر بأنه وجدها. ومن هنا جاءت أشهر ملاحظاته:
"ليست الحقيقة التي يملكها الرجل-أو يعتقد أنه يملكها-هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد المخلص الذي بذله للوصول إليها. لأنه ليس بامتلاك الحقيقة بل بالبحث يطور المرء تلك الطاقات التي فيها وحدها كماله المطرد النمو. فالتملك يجعل العقل راكداً كسولاً متكبراً. ولو أن الله احتوى في يمناه الحقيقة كلها، ولم تحتو يسراه إلا الحافز الدائم الحركة نحو الحقيقة، علماً بأنني سأخطئ دائماً أبداً-ثم قال لي "اختر! " لأحنيت رأسي في أتضاع أمام يسراه وقلت" أبتاه، أعطني هذا! فالحقيقة الخالصة لك أنت وحدك" (72).
وبقيت له من تجربة همبورج الفاشلة صداقتان غاليتان، إحداهما مع إليزر رايماروس، ابنة هرمان رايماروس أستاذ اللغات الشرقية في أكاديمية همبورج، التي جعلت من بيتها ملتقى لأرقى الجماعات ثقافة في المدينة. وانضم ليسنج إلى ندوتها، واختلف إليها مندلسون وياكوبي أثناء وجودهما في المدينة، وسوف نرى الدور الحيوي الذي لعبته هذه الجماعة في تاريخ ليسنج. أما الصداقة الثانية التي كانت أوثق حتى من هذه فصداقته لإيفا كونيج يقول ليسنج إن هذه السيدة التي كانت زوجاً لتاجر حرير وأما لأربعة أطفال "ذكية تفيض حيوية، وهبت لباقة المرأة وكياستها"، وأنها "كانت لا تزال محتفظة ببعض نضارة الشباب وفتنته" (73)، وقد جمعت هي أيضا(41/173)
من حولها صالوناً من الأصدقاء المثقفين، كان ليسنج يحتل مكان الصادرة منهم. فلما رحل زوجها إلى البندقية في 1799 قال لليسنج، "إني أترك أسرتي وديعة بين يديك". ولم يكن هذا بالترتيب الحكيم، لأن الكاتب المسرحي لم يكن له ما يملكه إلا العبقرية، وكان مديناً بألف طالر. وفي أكتوبر من ذلك العام قبل دعوة من الأمير كارل فلهلم فريناند حاكم برنزويك ليضطلع بأمانة مكتبة الدوقية في فولفنيوتل، التي تقلص سكانها إلى ستة آلاف نسمة منذ أن نقل دوقها الحاكم مقره إلى برنزويك (1753) على سبعة أميال منها، ولكن مجموعة كتبها ومخطوطاتها كانت في رأي كازانوفا "ثالث أعظم مكتبة في العالم" (74) واتفق على أن ينقذ ليسنج ستمائة طالر في العالم ويخصص له مساعدان وخادم، ويعطي سكناً مجانياً في قصر الدوق القديم؛ وفي مايو 1770 استقر في بيته الجديد.
غير أنه لم يكن أمين مكتبة ناجحاً، ومع ذلك فقد أبهج رئيسه باكتشافه بين المخطوطات بحثاً مشهوراً مفقوداً بقلم بيرنجار الثوري (998 - 1088) يتشكك فيه في عقيدة استحالة خبز القربان وخمرة إلى جسد المسيح ودمه. وقد افتقد في حياته القاعدة، التي عاشها الآن، الكفاح والحافز اللذين وجدهما في همبورج وبرلين. ثم أن انكبابه على قراءة المخطوط الرديئة في الضوء الضعيف أضر عينيه وأصابه بنوبات من الصداع، وبدأت صحته تتداعى. فعزى نفسه بكتابة مسرحية جديدة سماها"إميليا جالوتي" أفصحت عن الضيق بامتيازات الطبقة الأرستقراطية وأخلاقها. فإميليا هذه ابنة جمهوري متحمس، يشتهيها سيدهما أمير جواستاللا فيقتل خطيبها بأمره، ثم يخطفها إلى قصره؛ فيعثر عليها أبوها، ويطعنها طعنات مميتة استجابة لإلحاحها، ثم يستسلم لبلاط الأمير ويحكم عليه بالإعدام، بينما الأمير سادر في غيه لا يختلج إلا لحظة. وحرارة المسيحية وبلاغتها أنقذتا خاتمتها، فأصبحت مأساة محببة على خشبة المسرح الألماني، وقد أرخ جوته بعرضها الأول (1772) بعث الأدب الألماني من رقدته. ورحب بعض النقاد بليسنج شكسبيراً ألمانياً.
وفي أبريل 1775 ذهب ليسنج إلى إيطاليا مرافقاً لليويولد أمير برنزويك، وقضى ثمانية أشهر يستمتع بالحياة في ميلان والبندقية وبولونيا ومودينا(41/174)
وبارما وبياتشنتسا وبافيا وتورين وكورسيكا وروما؛ وهناك قدم إلى البابا بيوس السادس، وربما شاهد تمثال لأوكون متأخراً. وفي فبراير 1776 كان قد عاد إلى فولنفبوتل. وفكر في الاستقالة، ولكنه أقنع بالبقاء في منصبه بعلاوة قدرها مائتا طالر فوق راتبه، وبمائة جنيه ذهبي فرنسي (لوي دور) في العام بوصفه مستشاراً لمسرح مانهايم. وعرض الآن وهو في السابعة والأربعين على الأرملة إيفا كونيج أن تصبح زوجاً له وأن تحضر بأولادها معها. فحضرت، وتزوجا (8 أكتوبر 1776). وظلا عاماً يتمتعان بحياة سعيدة هادئة. وفي عشية الميلاد من عام 1777، ولدت طفلاً مات في الغد. وبعد ستة عشر يوماً ماتت الأم أيضاً، وفقد ليسنج طعم الحياة.
ولكن الجدل حفظ عليه حياته. في أول مارس 1768 ودع هرمان رايماروس الحياة مخلفاً لزوجته مخطوطاً ضخماً لم يجرؤ قط على طبعه. وقد مررنا في غير هذا الموضع (75) من الكتاب مرور الكرام بهذا "الدفاع عن المؤمنين العقلانيين". وكان ليسنج قد أطلع على شطر من هذا المؤلف الممتاز، فطلب إلى السيدة رايماروس أن تسمح له بنشر أجزاء منه، فوافقت. وكان له بصفته أميناً للمكتبة سلطة نشر أي مخطوط في المجموعة. فأودع مخطوط "الدفاع" في المكتبة، ثم نشر جزءاً منه في 1774 بعنوان "تسامح الربوبيين ... بقلم كاتب مجهول". فلم يثر أي ضجة. ولكن الراسخين في الأمور الروحية أثارهم القسم الثاني في مخطوط رايماروس الذي أصدره ليسنج في 1777 بعنوان "مزيد من بحوث الكاتب المجهول عن الوحي". وقد زعم هذا القسم أنه لا يمكن لأي وحي موجه لشعب واحد أن يظفر بقبول جميع الناس في عالم تتنوع أجناسه وأديانه هذا التنوع الكبير، فالذين سمعوا إلى الآن بالكتاب المقدس؛ اليهودي-المسيحي، بعد ألف وسبعمائة سنة، ليسوا إلا أقلية من البشر، وإذن فلا يمكن قبوله تنزيلاً من الله للنوع الإنساني. ثم نشر قطعة أخيرة من المخطوط بعنوان "أهداف المسيح وتلاميذه" (1778) لم تصور المسيح ابناً لله بل صوفياً متحمساً شارك رأي بعض اليهود في أن العالم المعروف يومها قد أشرف على نهايته، وسيعقبه قيام(41/175)
ملكوت الله على الأرض؛ وقد فهمه الرسل على هذا النحو (في زعم رايماروس)، لأنهم أملوا في أن يبوءوا عروشاً في هذا الملكوت القادم. فلما انهار الحلم بصرخة المسيح اليائسة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"-اخترع الرسل (كما ظن رايماروس) خرافة قيامته إخفاء لهزيمته، وصوروه بصورة ديان العالم المكافئ المنتقم.
وهاجم اللاهوتيون الذين صدموا أجزاء "خطوط فولفتبوتل" هذه في نيف وثلاثين مقالاً في الصحف الألمانية. واتهم يوهان ملكيور جوتسي كبير رعاة همبورج ليسنج بأنه موافق سراً على مزاعم "الكاتب المجهول"، وحض الكنيسة والدولة جميعاً على عقاب هذا المنافق. أما الخصوم الأكثر اعتدالاً فقد وبخوا ليسنج على نشره بالألمانية المفهومة للقراء شكوكاً كان من الواجب الإفصاح عنها، إن جاز الإفصاح إطلاقاً، باللاتينية لفئة قليلة من القراء. ورد ليسنج في إحدى عشرة نشرة (1778) نافست "رسائل بسكال الإقليمية" في تهكمها المرح-ونكتتها الذكية الفتاكة. يقول هيني "لم يسلم منه رأس، وما أكثر الرءوس التي أطاح بها لمجرد العبث الخالص، ثم دفعته شقاوته إلى رفعها علانية ليرى الناس أنها فارغة" (76). وقد ذكر ليسنج مهاجميه بأن حرية الحكم والنقاش عنصر حيوي في برنامج حركة الإصلاح البروتستنتي؛ ثم إن للشعب الحق في كل المعرفة المتاحة له، وإلا لكان بابا واحد من بابوات روما خيراً من مائة نبي بروتستنتي. وعلى أية حال فإن قيمة المسيحية (في زعمه) ستبقى حتى لو كان الكتاب المقدس مجرد وثيقة بشرية وكانت معجزاته مجرد قصص خرافية ورعة أو أحداث طبيعية. وصادرت حكومة الدوق أجزاء مخطوط فولفنبوتل ومخطوط رايماروس، وأمرت ليسنج بألا ينشر المزيد دون موافقة الرقيب البرنزويكي.
فلما ألزم ليسنج الصمت على منبره اتجه إلى خشبة المسرح فألف أروع تمثيلياته. وكان قد أعسر مرة أخرى إثر النفقات التي تحملها بسبب مرض زوجته وموتها، فاقترض ثلاثمائة طالر من يهودي همبورجي ليوفر الوقت اللازم للفراغ من مسرحية "ناثان الحكيم. وقد اختار(41/176)
مكاناً لأحداثها مدينة أورشليم أبان الحملة الصليبية الرابعة. وأما ناثان هذا فتاجر يهودي ورع له زوجة وسبعة أبناء يذبحهم المسيحيون الذين أتلفت الحرب الطويلة أخلاقهم. وبعد ثلاثة أيام يأتيه راهب بطفلة مسيحية ماتت أمها لتوها، وكان أبوها-الذي قتل في المعركة مؤخراً-قد أنقذ ناثان من الموت في مناسبات عديدة. ويسمي ناثان الطفلة ريكا، ويربيها وكأنها ابنته. ولا يلقنها إلا التعاليم الدينية التي يجمع عليها اليهود والنصارى والمسلمون.
وبعد ثمانية عشر عاماً، وبينما كان ناثان غائباً لقضاء بعض مصالحه، احترق بيته؛ وينقذ فارس شاب من فرسان المعبد ريكا ثم يختفي دون التعريف بشخصه؟ وتحسبه ريكا ملاكاً معجزاً. ويبحث ناثان بعد عودته عن المنقذ ليكافئه، فيسبه هذا لأنه يهودي، ولكن ناثان يقنعه بالمجيء لتقبل شكر ريكا وعرفانها. فيحضر، ويقع في غرامها وتبادله الحب، ولكنه حين يعرف أنها مسيحية المولد ولم ترب كمسيحية يساءل نفسه ألا يلتزم بيمين الفروسية بتبليغ الأمر إلى بطريرك أورشليم. ثم يشرح مشكلته للبطريرك دون ذكر أسماء الأفراد، ويحدس البطريرك أنهما ناثان وريكا، فيقسم أنه قاتل ناثان لا محالة. ثم يرسل راهباً ليتجسس على اليهودي، ولكنه هو الراهب ذاته الذي جاء بريكا إلى اثنان قبل ثمانية عشر عاماً؛ وقد لحظ طوال هذه السنين حكمة التاجر المشربة بالعاطفة، فيخبره بالخطر الذي يتهدد حياته، ويحزنه ذلك الحقد الديني الذي يجعل الناس قتلة سفاكين للدماء إلى هذا الحد.
ثم يقع صلاح الدين، حاكم القدس الآن، في ضائقة مالية. فيرسل في طلب ناثان بأمل الاقتراض منه. فيحضر ناثان، ويفطن إلى حاجة صلاح الدين، فيعرض السلفة قبل أن تطلب منه. أما السلطان، العليم بما اشتهر به ناثان من حكمة، فيسأله أي الأديان الثلاثة أفضل في رأيه. ويجيب ناثان بقصة حورها بحكمة من القصة التي رواها بوكاشيو ونسبها لملكي صادق اليهودي الاسكندري. تقول القصة إن خاتماً نفيساً كان يتوارثه جيلاً بعد جيل دليلاً(41/177)
على الوارث الشرعي لضيعة غنية. ولكن في أحد هذه الأجيال يحب الأب أبناءه الثلاثة حباً يستوي حرارة وصدقاً، فيأمر بصنع ثلاثة خواتم متشابهة، ويعطي كل ابن خاتماً سراً، وبعد موته يتنازع الأبناء على أن الخواتم هو الأصيل والحقيقي، ثم يحتكون إلى القضاء-حيث ظل الأمر معلقاً لم يفصل فيه إلى اليوم. فأما الأب المحب فهو الله، وأما الخواتم الثلاثة فهي اليهودية والمسيحية والإسلام، والتاريخ لم يفصل بعد في أمر هذه الأديان وأيها هو شريعة الله الحقة. ويدخل ناثان تغييراً جديداً على القصة: فالخاتم الأصلي كان المفروض أنه يجعل لابسه إنساناً فاضلاً، ولكن بما أن أحداً من الأبناء الثلاثة لا يفضل غيره من الناس، فمن المحتمل أن يكون الخاتم الأصلي قد فقد، فكل خاتم-أي كل دين-حقيقي بقدر ما يجعل لابسه فاضلاً. ويعجب صلاح الدين بجواب ناثان إعجاباً شديداً فيقوم ويعانقه-وعقب هذا الحديث الفلسفي يظهر مخطوط عربي يتبين منه أن فارس المعبد وريكا ولدان لأب واحد. فيحزنان لأنهما لا يستطيعان الزواج، ولكنهما يفرحان لأن في استطاعتهما الآن أن يحب أحدهما الآخر كأخ وأخت ينالان بركة ناثان اليهودي وصلاح الدين المسلم.
أكان ناثان صورة صاغها على غرار موسى مندلسون؟ هناك أوجه شبه بين الاثنين كما سنرى في فصل لاحق، ومن المحتمل، برغم أوجه الخلاف الكثيرة، أن ليسنج وجد في صديقه الكثير مما ألهمه تلك الصورة المثالية لتاجر القدس. وربما رسم ليسنج اليهودي والمسلم بتعاطف أكثر مما رسم المسيحي مدفوعاً برغبته الشديدة في التبشير بالتسامح؛ ففارس المعبد في أول لقاء مع ناثان فظ في تعصب، والبطريرك (أهو ذكرى ليسنج لجوتسي؟) لا ينصف في صورته هذه الأساقفة الرحماء المستنيرين الذين كانوا آنئذ يحكمون تريير وماينزوكولون. وأنكر جمهور ألمانيا المسيحي التمثيلية حين نشرت في 1779 لأنه رآها غير منصفة؛ وانضم إلى هذا النقد العديد من أصدقاء ليسنج. فلم تصل تمثيلية "ناثان الحكيم" إلى خشبة المسرح إلا في عام 1783 م في الليلة الثالثة كان المسرح خالياً. وفي 1801 لقيت(41/178)
نسخة معدلة أعدها شيلر وجوته قبولاً حسناً في فايمار، وبعدها ظلت من التمثيليات المحببة في المسارح الألمانية طوال قرن كامل.
وقبل أن يموت ليسنج بعام أصدر نداءه الأخير للتفاهم، وصاغه في عبارات دينية، كأنما أراد أن يلين جانب المقاومة ويقيم جسراً بين الأفكار القديمة والجديدة. وهذا المقال المسمى "تربية النوع الإنساني" من بعض نواحيه يبرر الأفكار القديمة؛ ثم ندرك أن الدفاع إنما هو دعوة لحركة التنوير. فالتاريخ بجملته يمكن أن ينظر إليه على أنه رؤيا مقدسة، وتربية تدريجية للنوع الإنساني. وكل دين عظيم كان مرحلة في هذه الإنارة المتدرجة الخطوات، فهو ليس كما افترض بعض الفرنسيين خدعة يخدع بها رجال الدين الأنانيون السذج من الناس، إنما هو نظرية عالمية قصد بها تمدين البشرية، وغرس الفضيلة والتهذيب والوحدة الاجتماعية. ففي إحدى مراحله (مرحلة العهد القديم) حاول الدين جعل الناس فضلاء بأن وعدهم بطيبات الدنيا ف عمر مديد؛ وفي مرحلة أخرى (مرحلة العهد الجديد) حاول التغلب على التناقض المثبط للعزائم بين الفضيلة والنجاح في هذه الدنيا بوعده بثواب الآخرة؛ وفي كلتا الحالتين خوطب الناس على قدر فهمهم المحدود في ذلك الوقت. وكل دين فيه نواة غالية من الحقيقة، ربما كان الفضل في تقبل الناس لها ذلك الغلاف من الخطأ الذي جعلها سائغة. فإذا كان اللاهوتيون قد أحاطوا المعتقدات الأساسية شيئاً فشيئاً بعقائد عسيرة الفهم، كالخطيئة الأصلية والتثليث، فإن هذه التعاليم أيضاً هي رموز للحقيقة وأدوات للتربية. فالله يمكن تصوره على أنه قوة واحدة لها وجوه ومعان كثيرة؛ والخطيئة أصلية بمعنى أننا كلنا مولودون بنزوع لمقاومة الشرائع الأخلاقية والاجتماعية (77). ولكن المسيحية فوق الطبيعة ليست سوى خطوة في تطور العقل البشري، وستأتي مرحلة أعلى حين يتعلم النوع الإنساني أن يعقل، وحين يصبح الناس من القوة ووضوح الرؤية بحيث يفعلون الصواب لأنهم يرونه صواباً ومعقولاً، لا طمعاً في ثواب مادي أو سماوي. وقد بلغ بعض الأفراد تلك المرحلة، وهي لم تتوفر للنوع الإنساني إلى الآن ولكنها "آتية، آتية لا ريب فيها ... زمان رسالة جديدة خالدة! " (78) وكما أن(41/179)
الفرد المتوسط يلخص في نموه التطور الفكري والخلقي للنوع، فكذلك يمر النوع في بطء خلال التطور الفكري والخلقي للفرد الأعلى. وإذا شئن التعبير بطريقة فيثاغورية، قلنا أن كلاً منا يولد من جديد، ثم يولد من جديد، حتى تكتمل تربيته-أي تكيفه مع العقل.
ترى ماذا كانت آراء ليسنج النهائية في الدين؟ لقد قبله معيناً هائلاً للفضيلة، ولكنه أنكره نسقاً من العقائد القطعية التي تفرض قبولها وإلا كانت الخطيئة والعقاب والعار الاجتماعي. وكان فكره عن الله أنه الروح الباطن للحقيقة، المسبب للتطور والمتطور هو ذاته؛ ورأى في المسيح أكمل إنسان مثالي، ولكنه ليس تجسيداً لهذا الإله إلا مجازاً؛ وقد تطلع إلى زمن يختفي فيه اللاهوت كله من المسيحية، فلا يبقى إلا مبدأ أخلاقي سام من العطف الصبور والأخوة العالمية. وفي مسودة خطاب إلى مندلسون صرح بالتزامه برأي سبينوزا في أن الجسم والعقل هما الظاهر والباطن لحقيقة واحدة، وصفتان لجوهر واحد متطابق مع الله. وقال لياكوبي" إن المفاهيم التقليدية عن الإله يعد لها وجود عندي، وأنا لا أطيقها، لا أطيقها كلها! لا أعرف غير هذا" (79)؛ وفي 1780 طلب إليه ياكوبي الذي زاره في فولفنبوتل أن يساعده في الرد على سبينوزا وتفنيد آرائه، فصدمه جواب ليسنج: "ليس هناك فلسفة غير فلسفة سبينوزا ... ولو خيرت في أن أتسمى اسم آخر لما عرفت غير اسمه" (80).
وقد ترك ليسنج وحيداً في أخريات عمره بسبب هرطقاته وضراوته أحياناً في الجدل. وبقي له بعض الأصدقاء في برنزويك يختلف إليهم بين الحين والحين للحديث ولعب الشطرنج. وكان أبناء زوجته يعيشون معه في فولفنبوتل، وقد خصص لهم التركة الصغيرة التي خلفتها كاملةز ولكن خصومه شهروا به في طول ألمانيا وعرضها ملحداً رهيباً. فتحداهم، وتجاسر على معارضة الرجل الذي يدفع له راتبه، ذلك أن كارل فلهلم فرديناند، الذي أصبح الآن (1780) دوقاً على برنزويك، زج في السجن يهودياً(41/180)
شاباً أثار سخطه. فزار ليسنج الفتى في سجنه، ثم اصطحبه إلى منزله بعد ذلك ليسترد عافيته.
أما عافيته هو فكانت قد ولت. وغشي بصره الآن حتى لم يكد يقوى على القراءة. وكان يعاني من الربو، وضعف الرئتين، وتصلب الشرايين. وفي 3 فبراير 1781 بينما كان في زيارة لبرنزويكأصابته نوبة ربو شديدة، وبصق دماً. وأوصى أصحابه قائلاً: حين ترونني مشرفاً على الموت، استدعوا موثقاً، وسأعلن أمامه أنني أموت على غير دين من الأديان السائدة (81). وفي 15 فبراير بينما كان راقداً في فراشه اجتمع نفر من أصحابه في الحجرة المجاورة. وفجأة فتح باب حجرته، وظهر ليسنج منحني الظهر مهزولاً، ورفع قلنسوته محيياً، ثم خر على الأرض صريعاً بسكتة دماغية. وأذاعت مجلة لاهوتية أن الشيطان حمله عند موته إلى الجحيم كأنه فاوست آخر باع روحه (82). ولم يخلف من المال إلا أقل القليل، فاضطر الدوق إلى دفع نفقات جنازته.
لقد كان البشير بأعظم عصور ألمانيا الأدبية. ففي عام موته نشر كانط كتابه الخطير "نقد العقل الخالص" ونشر شيلر أول تمثيلياته. وكان جوته يرى في ليسنج المحرر العظيم، وأبا التنوير الألماني. قال جوته موجهاً الخطاب إلى طيف ليسنج "في الحياة كرمناك إلهاً من الآلهة؛ أما الآن وقد مت فإن روحك تسيطر على جميع النفوس".
6 - رد الفعل الرومانتيكي
كان جوته يتحدث باسم أقلية صغيرة؛ أما السواد الأعظم من الشعب الألماني فتشبثت بتراثه الديني، ورحب بالشاعر الذي تغنى بإيمانهم رجلاً ملهماً من السماء. فبعد أن أثار هندل مشاعر إرلندة على الأقل بأنغام "المسيا" السمائية بست سنوات، أسر فريدرش جوتليب كلوبشتوك قلب ألمانيا بالقصائد الحماسية الأولى من ملحمته (المسيا) (1748 - 73).(41/181)
وقد ولط كلوبشتوك في 1724 قبل مولد ليسنج بخمش سنين، وعاش اثنين وعشرين سنة بعده. وقد أصبح ليسنج رجلاً حر الفكر وهو ابن القسيس، أما كلوبشتوك ابن المحامي فقد اتخذ من نظم ملحمة شعرية عن حياة المسيح أهم رسالة لحياته. وبلغ من تحمسه الشديد لموضوعه أنه نشر الأقسام الثلاثة الأولى من الملحمة وهو لا يزال فتى في الرابعة والعشرين. وقد فتنت هذه الأبيات السداسية التفاعيل، غير المقفاة، جمهوراً من القراء بلغ من عرفانهم أنهم أرسلوا الرسائل من جميع أرجاء ألمانيا لابنة عمه حين تقدم لخطبتها بعد سنة يناشدونها أن تقبل الخطبة، ولكنها رفضتها. بيد أن فردريك الخامس ملك للدنمرك-استجابة لتوصية وزيره يوهان فون برنشتورف-دعا كلوبشتوك للحضور والإقامة في البلاط الدنمركي وإكمال ملحمته نظير أربعمائة طالر في العام. وفي طريق الشاعر إلى كوبنهاجن راقته إحدى المعجبات الدنمركيات، واسمها مارجريتا مولر؛ وفي 1754 تزوجها، وفي 1758 ماتت فحطمت قلبه وأظلمت شعره. وقد خلد ذكراها في القسم الخامس عشر من "المسيا" وفي بعض من أعمق قصائده الشعبية تأثيراً. وأقام في كوبنهاجن عشرين سنة، ثم ذهبت حظوته عند الملك بعد طرد برنشتورف، فعاد إلى همبورج، وفي 1773 نشر آخر أجزاء ملحمته الضخمة.
وكان مطلعها دعاء هو صدى لملتن، ثم روت في عشرين قسماً القصة المقدسة، ابتداءً من تأملات المسيح على جبل الزيتون وانتهاء بصعوده إلى السماء. وبعد أن أنفق كلوبشتوك في كتابة ملحمته وقتاً قارب ما أنفقه المسيح لكي يعيشها، اختتمها بتسبحة تفيض حمداً وشكراً لله:
هاأنذا بلغت هدفي! إن الفكرة المثيرة
ترف خلال روحي. وذراعك القادرة على كل شيء
ربي وإلهي هي وحدها التي هدتتي
عبر أكثر من قبر مظلم قبل أن أبلغ
ذلك الهدف البعيد! أنت الرب شفيتني،
وأنزلت فيضاً جديداً من الشجاعة على قلبي المتخاذل،(41/182)
الذي كان في صحبة حميمة مع الموت؛
وكنت إذا شخصت إلى الأهوال لم تلبث
أشكالها المظلمة أن تتوارى، لأنك تحميني؛
لقد اختفت سريعاً ...... يا مخلصي، لقد تغنيت
بوعد رحمتك. ووطئت قدماي
طريقي المخيف، وكل رجائي فيك أنت؛ (83)
ورحبت ألمانيا السنية الإيمان بملحمة "المسيا" كأفضل شعر كتب إلى يومها بالألمانية. وينبئنا جوته عن مستشار في فرانكفورت كان يقرأ الأقسام العشرة الأولى "كل سنة في أسبوع الآلام، وبهذه الطريقة، ينعش روحه طوال العام". أما جوته فلم يكن يستطيع الاستمتاع بالملحمة إلا بنبذ شروط معينة لا تتخلى عنها ثقافة تسير قدماً إلا على مضض (84). وقد سكب كلوبشتوك ورعه بغزارة في شعره حتى أصبحت قصيدته سلسلة متعاقبة من الغنائيات والكوراليات الباخية أكثر منها الرواية المتدفقة التي يجب أن تكونها الملحمة؛ وليس من اليسير علينا أن نتتبع تحليقاً عاطفياً استغرق عشرين قسماً وخمسة وعشرين سنة.
وكما أن فولتير ولد نقيضه في روسو، كذلك جعل ليسنج بارتيابيته، وعقلانيته، ونزعته الفكرية، ألمانيا تشعر بحاجتها إلى كتاب يدركون مقابل هذا مكان وحقوق الوجدان، والعاطفة، والخيال، والغموض، والرومانس، والعنصر فوق الطبيعي في حياة البشر.
وقد أصبحت عبادة "الحساسية" عند بعض ألمان هذه الفترة، لا سيما النساء منهم، ديناً كما أصبحت موضة. وكان في دارمشتات "حلقة لذوي الحساسية" جعل أعضاؤها من العاطفة والتعبير الوجداني مبدأ وشعيرة. وكان روسو هو "مسيا" هذه النفوس. وفاق تأثيره في ألمانيا تأثير فولتير بمراحل؛ واعترف به هردر وشيلر ينبوعاً للإلهام؛ وكان كتاب كانط "نقد العقل العلمي" مشرباً بروسو، أما جوته(41/183)
فقد بدأ بروسو "الشعور هو كل شيء" وانتقل إلى فولتير "فكر في أن تحيا"، ثم انتهى إلى ضرب رأسيهما بعضهما ببعض. وجاء في غضون ذلك شعراء الوجدان من إنجلترة: جيمس طومسون، ووليم كولنز، وإدورد ينج، وقصاصاً الوجدان رتشردسن وستيرن. وقد أثارت مختارات توماس برسي من روائع الشعر الإنجليزي القديم، وديوان مكفرسن (من الشعر المنثور الذي زعم أنه ترجمة لشعر "أوسيان" من مخطوطات غالية قديمة) الاهتمام بشعر العصر الوسيط وغموضه ورومانسيته؛ وبعث كلوبشتوك وهاينريش فون جرستنبرج إلى الحياة فيثولوجية اسكندناوة وألمانيا السابقة للمسيحية.
وكان يوهان جيورج هامان، قبل عام 1781، قائد الثورة على العقل. ولد مثل كانط في مدينة كونجزبرج الغائمة السماء، وأشربه أبوه الوجدان الديني بشدة، وتلقى علومه في الجامعة، ثم كافح وهو فقير واشتغل معلماً خاصاً، ووجد عزاءه في إيمان بروتستنتي يثبت لكل لطمات حركة التنوير. وكان يقول أن العقل ليس إلا جزءاً من الإنسان، حيث التطور وليس أساسياً؛ أما الغريزة، والحدس، والوجدان، فهي أعمق منه، والفلسفة الحقة تقيم نفسها على طبيعة الإنسان وجوانبها كلها. واللغة ليست في أصلها حصيلة للعقل بل منحة من الله للتعبير عن الوجدان. والشعر أعمق من النثر. والأدب العظيم لا يكتب بمعرفة القواعد والأسباب ومراعاتها، بل بتلك الخاصية التي لا يمكن تعريفها وهي العبقرية التي تتجاوز كل القواعد مهتدية بالوجدان.
ووافق فريدريش ياكوبي هامان وروسو. وقال أن فلسفة سبينوزا منطقية جداً إذا كنت تقبل المنطق، ولكنها زائفة لأن المنطق لا ينفذ أبداً إلى قلب الحقيقة، التي لا تتكشف إلا للوجدان والإيمان. فوجود الله لا يمكن إثباته بالعقل، ولكن الوجدان يعرف أنه بدون الإيمان بالله تكون حياة الإنسان عبثاً مأساوياً يائساً.
بهذا التمجيد للوجدان والشعر شحنت الروح التيوتونية لتطلق تحليقات(41/184)
من الأدب الخصيب الخيال جعلت النصف الثاني من القرن الثامن عشر في ألمانيا مذكراً بحرارة إنجلترة وخصوبة إنتاجها على عهد اليزابث. فكثرت مجلات الشعر، التي عانت قصر العمر المألوف، وكتب يوهان هاينريش فوس قصة رقيقة بالشعر سماها "لويزة" (1783 - 95) فضلاً عن قيامه بترجمة هومر وفرجل وشكسبير، وقد كسبت هذه القصة محبة الألمان وحفزت جوته لينافسها. وظفر سالومون جسنر بقراء دوليين أقبلوا على غنائياته الرقيقة ورعوياته النثرية. ومس ماتياس كلوديوس قلوب مائة ألم أم بأغانيه الريفية عن الحياة العائلية، مثل أغنيته المسماة "تهويدة تغني على ضوء القمر":
نامي الآن يا صغيرتي!
لم تبكين؟
ناعمة هي الراحة،
وحلوة في ضوء القمر.
وسيقبل النعاس عما قليل
وبلا ألم.
إن القمر يفرح بالأطفال
ويحبك (85).
أما جوتفريد بورجر فقد أوتي كل فضائل لعبقرية الرومانسية. كان ابناً لراعي كنيسة، وأرسل إلى خاله في جوتنجن ليدرس القانون، ولكن حياته الفاجرة أفضت إلى تركه الكلية. وفي 1773 نال غفران جميع الناس لخطاياه بقصيدته الشعبية "لينوره". وحبيب لينوره هذه يرحل مع جيش فردريك إلى حصار براغ. وفي كل صباح تنتفض من أحلامها وتسأله "يا فلهلم، أأنت عديم الإيمان، أم أنت ميت؟ وإلى متى يبطئ قدومك؟ " وتضع الحرب أوزارها، ويعود الجند، ويلقاهم الزوجات والأمهات والأبناء بالفرح والشكر لله:
وراحت تستفسر من الجميع في ذلك العرض،(41/185)
وتسأل كل واحد عن اسمه،
ولكن أحداً لم يعطها جواباً،
لا أحد ممن عادوا،
فلما مضى كل الجنود،
مزقت شعرها الفاحم،
وارتمت على الأرض
في نوبات أليمة من اليأس القاتل.
وتقول لها أمها أن "ما يفعله الله يفعله حسناً"، وتجيب لينوره بأن هذا وهم، وتطلب لنفسها الموت ... وتحدثها الأم عن النعيم والجحيم، وترد لينوره بأن النعيم أن تكون مع فلهلم، والجحيم أن تحرم منه، وتروح تهذي طوال نهارها. فإذا جن الليل وقف فارس ببابها، وهو لا يذكر اسمه، بل يأمرها بأن تأتي معه وتكون عروسه. فتمتطي خلفه جواده الأسود، وتركب الليل كله. ثم يصلان إلى جبانة، وترقص الأشباح من حولها. وفجأة ينقلب الفارس جثة هامدة، وتجد ليسنورة أنها متشبثة بهيكل عظمي. وبينما هي تتأرجح بين الحياة والموت تنوح الأرواح بهذه الكلمات:
صبراً، صبراً! حتى حين ينفطر القلب!
لا تنازعي الله في سمائه!
لقد جردت من جسدك؟
فليسبغ الله رحمته على روحك (86)،
7 - الزوبعية
اندفعت الحركة الرومانتيكية من ورع كلويشتوك ورقة جسنر إلى النزعة الفردية الخارجة على تقاليد الاحترام، إلى تمرد الشباب الألماني وجهاده في نشوة الثورة الأخلاقية والاجتماعية. ذلك أن أرستقراطية البلاطات الجامدة المتصلبة وعقائدية الوعاظ المتهافتة وجشع طبقة رجال الأعمال وتكالبهم الكئيب على المال، وأساليب البروقراطيين المطردة المملة المبلدة بالشعور،(41/186)
وحذلفة العلماء وغرورهم-كل أولئك أثار سخط شباب الألمان الواعين بقدراتهم المغموطين مكانتهم. وقد أصاخوا السمع لصيحة روسو طلباً للطبيعية والحرية، ولكنهم لم يعبأوا بتمجيده "للإرادة العامة" ووافقوه على رفض المادية، والعقلانية، والحتمية، ووافقوا ليسنج على تفضيل انحرافات شكسبير القوية عن القواعد، على كلاسيكية كورنبي وراسين المقيدة للحركة. وأساءوا ذكاء فولتير وظرفه، ولكن المكان الذي اجتازه تراءى لهم صحراء جرداء. وقد طربوا لتمرد المستعمرات الأمريكية على إنجلترة. كتب جوته وهو يستعيد ذكرى هذه الحقبة "تمنيناً للأمريكيين النجاح كله، وبدأ اسما فرانكلين وواشنطن يسطعان ويتألقان في سماء السياسة والحرب" (87). هؤلاء المتمردون المجاهدون أحسوا نشوة المراهقة الجسمية واليقظة العقلية، وشكوا من كابوس الشيوخ على الشباب، والدولة على النفوس. كانوا مع الأصالة، والتجربة المباشرة والتعبير الطليق، واعتقد بعضهم أن عبقريتهم تعفيهم من القانون. وأحسوا أن الزمن في صفهم، وأن المستقبل القريب سيشهد انتصارهم. يقول جوته "أوه، لقد كانت حقبة سعيدة حين كنت أنا وميرك شابين! " (88).
وأعرب بعض هؤلاء المتمردين عن فلسفتهم بتحدي تقاليد الزي وإحلال تقاليد من عندهم محلها، فكان كرستوف كاوفمان يسير عاري الرأس، مشعث الشعر، مفتوح القميص حتى السرة (89). ولكن هذا كان حالة شاذة، وإذا استثنينا حالة انتحار أو حالتين، فإن أكثر أبطال الحركة اجتنبوا هذا العرض المقلوب لزيهم. وكان بعضهم ميسوراً. وكان جوته نفسه واحداً من أسلاف الزوبعية بمسرحيته جوتز فون برليشنجن (1773)، وفي السنة التالية أصبحت قصته "آلام فرتر" لواء الرومانتيكية الخفاق. وانضم شيلر إلى الحركة فأصدر "اللصوص" (1781)، ولكن هذه النفوس المعقدة، المتطورة، سرعان ما تركت الحملة ليضطلع بها شباب أكثر التهاباً وأضعف جذوراً.(41/187)
وكان يوهان ميرك أحد الآباء المؤسسين للحركة وكل الشواهد تدل على أنه كان سليم العقل قوي البدن، وكان قد أتم دراسته بالجامعة، وأصبح شخصاً أثيراً في بلاط هسي-دار مشتات، ثم عين رئيساً عاماً لصيارفة الجيش، واشتهر بالذكاء الحاد والكفاءة العملية. وحين التقى به جوته في 1771 وقع من نفسه موقعاً حسناً، فاشترك معه ومع هردر في تمويل مجلة نقدية تسمى "أنباء فرانكفورت الأدبية"، ومن هنا لقب "الفرانكفورتيين" (90) الذي أطلق أول الأمر على المتمردين. وإذ كان ميرك خبيراً بدنياً الأعمال والسياسة، ورحالة جاب أرجاء ألمانيا وتنقل في أنحاء روسيا، فقد شهد وانتقد انتقاداً لاذعاً غرور الغنى، وملل العيش في قصور الملوك والأمراء، واستغلال الفلاحين. فلما ألفى نفسه عاجزاً عن إصلاح هذه الأحوال، بات متألماً ساخراً. وقد سماه جوته "مفستوفيليس ميرك"، واتخذ من نفسه ومن ميرك نماذج الأدوار الأبطال في فاوست. واضطرب عقل ميرك لهزائمه في عمله وتعاسته مع زواجه. ووقع في حبائل الدين، فأنقذه منها دوق ساكسي-فايمار استجابة لرجاء جوته. ثم بات فريسة لاكتئاب لا يبرحه، وقتل نفسه وهو لا يزال في الخمسين (1791).
وأكثر مأساة حتى من هذه الحياة كانت حياة راينهولد لنتس. وكان ابناً لراعي كنيسة لوثري في ليفونيا، أثر في أعصابه الضعيفة، ومزاجه السريع الإثارة، في طفولته التأكيد على عقيدتي الخطيئة والجحيم (91). وأعانه حين استماعه إلى محاضرات كانط في كونجزبرج؛ وقاده كانط إلى كتابات روسو، فقال لنتس بعد قليل عن "هلويز الجديدة" إنها خير كتاب طبع إطلاقاً في فرنسا. وفي ستراسبورج التقى بجوته، فبهرته شخصية الإيجابية، وقلده في الفكر والأسلوب، وكتب أشعاراً غنائية أشبهت أشعار جوته إلى حد أنها ضمنت في بعض طبعات أعمال جوته. ثم مضى إلى زيزنهايم، ووقع (بعد جوته) في غرام فردريكه بريون، ونظم القصائد الحارة في مديحها. وأمد لها أنها إن لن تستجب لحبه فهو قاتل نفسه، فلم تفعل ولم يفعل. ثم انتقل إلى فايمار، وصادقه جوته، وحيد جوته على نجاحه، وسخر من علاقة جوته بشارلوته فون شتاين، وطلب إليه الدوق أن يرحل(41/188)
عن الدوقية ... وكان شاعراً ومسرحياً موهوباً. وتمثيليته المسماة "الجند" نقدت نقداً لاذعاً الفوارق الطبقية والحياة البرجوازية، وشخصيتها المحورية فتاة من الطبقة الوسطى تتطلع عبثاً إلى الزواج من ضابط. ثم تنقلب مومسا وتتحرش بأبيها الذي لم تتعرف عليه في الشوارع. وإذ كان لنتس مفتقراً إلى الثبات والاستقرار افتقاراً أعجزه عن العثور على مكان مرموق في الحياة، فقد راح يهيم متنقلاً من وظيفة إلى وظيفة ومن إخفاق إلى إخفاق، ويعاني نوبات من الجنون، ويحاول الانتحار غير مرة، وأخيراً مات مجنوناً (1792).
أما مكسمليان فون كلنجر فكان أذكى دعاة الحركة. ندد بالدنيا وارتقى فيها إلى مكان مرموق، وأطلق لقلمه العنان في الحديث العنيف في تمثيلياته، ثم أصبح أميناً لجامعة دوربات، واستمتع بكل آثام الشباب وحماقاته وعمر حتى التاسعة والسبعين. وعنه كتب جوته بيته الذي نم عن حسن إدراك وفطنة: "في الصبايا نحب ما هن عليه، أما في الفتيان فنحب ما يرجى أن يكونوه". وقد أعطت أشهر تمثيلية كتبها كلنجر وهو في الرابعة والعشرين (1776) "شتورم أوند درانج" اسمها ومزاجها للزوبعية. وترى فيها المتمردين الأوربيين يتغربون في أمريكا أملاً في أن يجدوا منافذ حرة لنزعاتهم الفردية؛ أما لغتها فلغة العاطفة المشبوبة وقد محت؛ وأما دعوتها فدعوة العبقرية التي تحررت من كل القواعد. وقد حارب كلنجر في الجيشين النمساوي والروسي، وتزوج ابنة غير شرعية لكاترين الكبرى، وهبطت ثورته أخيراً حين تولى منصب الأستاذية، ثم تجمد عموداً من أعمدة الدولة.
وأما فلهلم هاينزي فقد توج الحركة برواية "أرد نجهللو" (1787) التي جمعت بين الفوضوية، والعدمية، والشيوعية، والفاشية، واللامبالاة، بالأخلاق، وإرادة القوة، في مهرجان صاخب من الشهوانية والجريمة، بقول البطل بأن الجريمة ليست بجريمة إن كانت شجاعة؛ وما من جريمة حقيقة غير الصعف، وأصدق الفضائل شجاعة الجسم والإرادة؛ والحياة(41/189)
إظهار للغرائز الأساسية، ونحن نخطئ إذا دمغنا هذه الغرائز باللا أخلاقية. وهكذا يغوي أردنجللو ويقتل إذا لاحت له الفرصة أو دفعته النزوة، ويرى في عواطفه المشبوبة الطليقة من كل قيد أسمى قوانين الطبيعة. وهو يصف بطولات هانيبال ويمجده إنساناً أعلى ويتساءل: "ما قيمة مليون من الرجال الذين لم يحظوا طوال حياتهم بساعة واحدة كساعاته-بالقياس إلى هذا الرجل الفرد؟ " (92) وهو يقيم مجتمعاً شيوعياً تسوده شيوعية النساء وحق الانتخاب للنساء وعبادة قوى الطبيعة باعتبارها الدين الأوحد.
في دوامة الزوبعية (شتورم) المضطربة هذه خلعت بعض الأفكار الغالبة على هذه الحركة طابعها وتأثيرها. فمعظم قادتها أتوا من الطبقة الوسطى، وبدأوا ثورتهم احتجاجاً على امتيازات الحسب والنسب، ووقاحة ذوي المناصب، وبذخ الأحبار الذين ينعمون بطيبات العييش على حساب عشور الفلاحين. وقد أجمعوا على الرثاء لحفظ الفلاح العاثر-حراً كان أو قناً-وتصوير خلقه في صورة مثالية. وأهابوا بالنساء أن ينبذن موضاتهن وأطواقهن وعواطفهن الهشة وإغماءاتهن وتقواهن الخانعة الذليلة، ودعوهن للمجيء والمشاركة في الحياة المثيرة التي يحياها العقل المحرر من الأغلال، والذكر الجوال. وأعادوا تعريف الدين بأنه إلهام سماوي في نفس عبقريتها جزء من الحافز الخلاق والسر المبدع في الدنيا. ووحدوا بين الطبيعة والله، وانتهوا إلى أن الإنسان يكون إلهياً إذا كان طبيعياً. واتخذوا من أسطورة فاوست المنحدرة من العصر الوسيط رمزاً للجوع الفكري والطموح الملتهب الذي يحطم كل حواجز التقاليد أو الأعراف أو الأخلاق أو القوانين. وهكذا نرى "مالرمولر" يكتب قبل جوته بزمان مسرحية سماها "فوستس لوبن" "لأنني عرفت فيه من البداية رجلاً عظيماً ... يحس بقوته كلها، ويشعر باللجم الذي قيده به القدر، ويحاول أن يخلعه، ووتوفر له شجاعة الإطاحة بكل شيء يقف في طريقه" (93).
وقد وسمت حماسة الزوبعية وشططها هذه الحركة بأنها تعبير عن المراهقة الفكرية، وصوت أقلية قضى عليها بأن يعلو صوتها ثم يخبو. ولم تكسب(41/190)
الحركة أي تأييد شعبي، لأن التقاليد والشعب يساند الواحد منهما الآخر دائماً. فلما وجد أتباع الحركة أنفسهم بغير قاعدة في بنيان الحياة الألمانية، تصالحوا مع الأمراء، وأملوا-كما أمل جماعة الفلاسفة-أن يقود الحكام المستنيرون الطريق إلى التحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي. وأدرك هردر وجوته وشيلر الحركة في شبابهم، ثم انسحبوا من نارها الآكلة، وقلموا أظافرهم وأطبقوا أجنحتهم، وتقبلوا حماية أدوق فايمار الكرام شاكرين.
8 - الفنانون
كان ألمان العصر الذي نحن بصدده أنداداً في الفن للفرنسيين والإيطاليين. فلقد نقلوا الباروك عن إيطاليا والروكوك عن فرنسا، ولكنهم أعطوا إيطاليا فنكلمان ومنجز، وآثر ملوك فرنسا وملكاتها الألمان المغتربين أمثال دافيد روتنجن، و "جان" ريزنر، وآدم فايسفايلر، على صناع الأثاث الفاخر الفرنسيين؛ من ذلك أن لويس السادس عشر دفع ثمانين ألف جنيه ثمناً لمكتب من صنع روتنجن (94). وحفل المقر الملكي في ميونخ، وقصر فردريك الجديد في بوتسدام، وبيوت أثرياء الألمان، بالأثاث الضخم الدقيق النقوش، حتى وفد طراز أخف في نهاية العصر من صنع الإنجليزيين تشينديل وشيراتن. وكانت مصانع مايسن قد أضرت بها الحرب، ولكن نمفنبرج ولود فجزبرج وبوتسدام وغيرها من المراكز واصلت صناعات البرسلان والخزف. وأشرقت رفوف الألمان ومدافئهم وموائدهم ومكاتبهم بصغار التماثيل المرحة الرشيقة الرقص والغناء والتقبيل.
وعلى نطاقأوسع ظهر نحت للتماثيل جدير بالإعجاب. شديد الاهتمام من ذلك أن مارتن كلاور نحت تمثالاً نصفياً لجوته في أيام فايمار الأولى-بدا فيه متشوفاً، براق العين، واثق النفس (95). ولم يبلغ لودفج، بن مارتن، هذا الاتقان في تمثاله الذي نحته لشيلر (96)، وأفضل منه تمثال شيلر المعروض الآن في ميدان بشتوتجارت من صنع يوهان فون دانيكر. أما سيد النحت الألماني في هذا العصر فيوهان جوتفيلد شادوف، الذي أصبح مثالاً للبلاط في برلين عام 1788. وفي 1791 نحت رأساً لفردريك،(41/191)
وفي 1793 صنع له تمثالاً كامل الطول؛ وفي 1816 صب بالبرونز "فردريكاً" (97) أصغر-وهو رائعة لا ينساها من شهدها. وصب البرونز "مركبة النصر" لبوابة براندنبرج، وكاد يبلغ روعة الجمال الكلاسيكي في المجموعة الرخامية التي نحتها لولية العهد الأميرة لويزة وأختها فريدريكه.
وكثر المصورون في ألمانيا كثرة أتاحت لها أن تنزل لإيطاليا عن اثني عشر منهم ثم يبقى لها بعد ذلك مصورون أكفاء "من ذلك أن عدد المصورين من آل تيشباين الذي جمعتهم رابطة الفرشاة كان كبيراً بحيث يسهل علينا الخلط بينهم. فأحدهم وهو يوهان هاينريش تيشباين المصور فيبلاط هسي-كاسل رسم صورة بديعة لليسنج. أما ابن أخيه يوهان فريدريش تيشباين، فرسم في كاسل وروما ونابلي وباريس وفيينا ولاهاي ودساو وليبزج وسانت بطرسبرج، وصور مجموعة ساحرة لأبناء الدوق كارل أوجست أمير ساكسي-فايمار، وأما يوهان هاينريش فلهلم تيشباين فعاش في إيطاليا (1787 - 99)، ورسم صورة مشهورة "جوته في كمبانيا روما" ثم عاد ليصبح مصور البلاط لدوق أولدنبورج.
وكان من مصادر "الزوبعية" "الألمانية المنحازة لإيطاليا آدم فريدريش أويزر، النحات، الرسام، النقاش، المعلم، وداعية إصلاح الفن على الأصول الكلاسيكية. وقد عاش فنكلمان معه زمناً في درسدن، وانتقد رسمه، وأعجب بخلقه، وقال "أنه يعرف كل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه خارج إيطاليا" (98) وفي 1764 عين أويزر مديراً لأكاديمية الفنون في ليبزج، وزاره جوته هناك وانتقلت إليه عدوى الحمى الإيطالية.
ويحتل مكان الصدارة بين الفنانين الذين بقوا في ألمانيا دانيل شودوفيكي، وكابولندياً. ولد في دانبرج، وترك يتيماً، فتلعم أن يكسب قوته بصنع الرسوم والمحفورات والصور. وفي 1743 انتقل إلى برلين وأصبح ألمانياً في كل شيء إلا اسمه. وقد روى حياة المسيح في منمنمات رائعة أذاعت صيته في طول البلاد وعرضها، في رسم بمزاج فولتيري "جان كالاس وأسرته" وتكاثر الطلب على رسومه حتى أنه لم ينشر أي أثر أدبي كبير في بروسيا(41/192)
سنين طوالاً دون أن تزينه رسوم من صنعه. وفي أروع محفوراته صور أسرته: فصور نفسه ومكب على عمله، وزوجته تشرف في اعتزاز على أبنائه الخمسة، ثم جدران البيت تكسوها الصور. ورسم بالطباشير الأحمر صورة لوته (شارلوته) كستز، التي أحبها جوته وفقدها. وترى في عمله رشاقة في الخط ورقة في الشعور تميزه عن هوجارت، الذي كثيراً ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظر الحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظرالحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة. وكثيراً ما استلهم فاتو؛ وفي صورته "لقاء في حديقة الحيوان (99)، ترى ولع فاتو بالهواء الطلق وتموج ثياب النساء الخلاب.
وقد ترك أنطون جراف صورة لشودو وفيكي (100) -يفيض ابتسامات وقصاً ولحماً مكتنزاً-وصورة لنفسه (101) وهو يتطلع من فوق لوحته ولكنه مكتمل الزينة كأنه يتأهب للذهاب إلى حفلة رقص. وقد أفرغ حيوية أكثر على لوحته الجميلة لزوجته (102)، والتقط غرور الممثلة كرورنا شروتر (103) وجلل بالثياب المذهبة جسد السيدة هوفرات بومي الفضفاض (104).
وآخر قائمة المصورين في نصف القرن الذي نحن بصدده هو آزموس ياكوب كارستنز، الذي استوعب دعوة فنكلمان نصاً وروحاً، وأكمل الأحياء الكلاسيكي في التصوير الألماني. ولد في شلزفج، وتعلم في مدارسكوبنهاجن وإيطاليا، ومارس عمله في لوبك وبرلين على الأخص، ولكنه عاد إلى إيطاليا في 1792، ووجد المتعة الكبرى في تأمل أطلال النحت والعمارة القديمين. ولم يعرف أن الزمن قد نزح اللون من الفن اليوناني فلم يبق إلا على الخط؛ وعليه أحال فرشاته إلى قلم كما فعل منجز، ولم يستهدف إلا الشكل الأكمل. وقد أزعجته العيوب البدنية التي شابت أجساد نماذجه التي يصورها في مرسمه، فقرر أن يركن إلى خياله؛ وأبهجه أن يصور الأرباب اليونانية والمناظر المستقاة من الميثولوجيا اليونانية كما تخيلها هو وفنكلمان. ومن هذه انتقل إلى تصوير دانتي وشكسبير. وكان ولعه بالخط والشكل يفتقد دائماً اللون والحياة، وحتى حين كان يبلغ في رؤياه لأشباه الإله رؤيا تقرب(41/193)
من رؤيا ميكلانجلوا، كما نرى في لوحة "مولد النور" (105)، فإننا لا نستطيع الثناء عليه إلا لأنه تذكر صور كنيسة السستين بالدقة التي تذكر بها موتسارت موسيقاها. وردت روما على محبته بمحبة مثلها، وأتاحت لعمله (1795) العرض في أوسع وأشهر المعارض التي أتيحت لأي فنان حديث. وهناك مات بعد ثلاث سنين غير متجاوز الرابعة والأربعين. ولا غرو فالفن كالجنس قد يكون ناراً آكله.
وغلب مزاج الكلاسيكية الجديدة على الزخرفة المعمارية لبوتسدام وبرلين في عهد فردريك الأكبر. وكان قد بدأ قصره الجديدة في 1755، ولم يسمح للحرب بأن تعوقه عن المضي في المشروع. فشارك في تصميمه ثلاثة معماريين-بورنج، وجونتارد، ومانجر؛ فمزجوا الكلاسيك بالباروك في صرح مهيب يذكر بقصور روما القديمة، أما الزخارف الداخلية فقد نافسوا فيها أبدع نماذج الروكوك الفرنسي. وكان للكنيسة الفرنسية في برلين رواق معمد كلاسيكي، فأضاف إليه جونتارد وتلميذه جبورج أونجر برجاً كلاسيكياً (1780 - 85). وزاد أونجر برلين جلالاً بتشييد مكتبة ملكية في 1774 - 80. أما بوابو براندنبورج التي بناها كارل لانجهانز في 1788 - 91 فقد قلدت تقليداً سافراً مداخل الأكروبول الفخمة؛ وقد نجت بالجهد من التدمير في الحرب العالمية الثانية، ولكنها فقدت "الكدريجة الشهيرة، وهي العربة ذات الجياد الأربعة التي توجها بها شادوف.
كانت مدن ألمانيا أخرى تنحت الآثار المخلدة لأمراء البيوت المالكة والنبلاء الرفات. فزينت أخت فردريك فلهلميه مدينة بايرويت بقصر زين بالروكوك الساحر (1744 - 73). وفي كاسل صمم سيمون لوي دوري (1769 وما بعدها) صالة الرقص الفخمة والحجرة الزرقاء في قلعة حاكم هسي-كاسل. وفي الراين قرب دسلدورف بنى نيكلاوس فون بيجاجي قلعة بنرات الفخمة (1755 - 69)، وبنى فليب دلا جبيير لودفجز بورج قصر مونريبو الجميل (1762 - 64).(41/194)
9 - بعد باخ
أسعدت ألمانيا بالموسيقى وتأثرت بها أكثر من أي أمة أخرى باستثناء إيطاليا. فالأسرة التي خلت من الآلات الموسيقية كانت شذوذاً وكانت المدارس تعلم الموسيقى تعليمها للدين والقراءة سواء بسواء تقريباً. وكانت الموسيقى الكنيسية آخذة في الاضمحلال لأن العلم والفلسفة، والمدن والصناعة، كانت تصرف العقول عن الدين إلى الدنيا، وظلت الترانيم اللوثرية العظيمة تجلجل، ولكن الأغنية أخذت تتحول من الكوارس الكنسية إلى الليدات والتمثيليات الغنائية والأوبرا. وقد افتتح يوهان بيتر شولتس عهداً جديداً في الأغنية ب "أغان في فوكستن" (1782)؛ وبعدها حظيت ألمانيا بزعامة لا تنازع في استخدام الموسيقى في الشعر الغنائي.
وقد شجع التحسين الآلي الذي أدخل على البيانوا انتشار الحفلات الموسيقية وظهور مهرة العازفين على الآلات. وغزا العازفون أمثال يوهان شوبرت، وآبت فولجر، ويهان هومل، المدن الكثيرة بأدائهم الموسيقي. ففي 10 مارس 1789 قام هومل الذي لم يتجاوز الأحد عشر ربيعاً بعزف على البيانو في درسدن؛ ولم يدر أن موتسارت سيكون بين السامعين؛ وخلال الحفلة رأى أستاذه السابق وتعرف عليه؛ فما إن فرغ من عزف قطعته حتى شق طريقه بين الجمع المصفق وعانق موتسارت في عبارات حارة تفيض بالولاء والبهجة (106). واكتسبت آبت (أعني آبوت، أي الأب الديني) فوجلر لقبه هذا برسامته قسيساً (1773)؛ وفي مانهايم كان قسيس البلاط ومدير الموسيقى معاً. وكان في التأليف الموسيقي من أكثر كتاب القرن أصالة وتأثيراً؛ وفي العزف على الأرغن أثار غيرة موتسات؛ وفي التعليم كان صاحب الفضل في تكوين فيبر ومييربير؛ ثم أضحك مانهايم وهو ممثل للبابا يلبسه الجوار الطويلة الزرقاء وبحمله كتاب صلواته مع موسيقاه، وبجعله جمهوره أحياناً ينتظره ريثما يفرغ من صلاته.
وكان أوركسترا مانهايم الآن فرقة من ستة وسبعين موسيقياً منتقين،(41/195)
يقودهم بكفاية كرستيان كانا بيش معلماً وقائداً وعازفاً منفرداً على الكمان. وقد أثر عن اللورد فوردابس قوله أن ألمانيا تبر سائر الأمم لسببين: الجيش البروسي وأوركسترا مانهايم. ويليه شهرة أوركسترا جيفاندهاوس بلييزج. وكانت الحفلات الموسيقية عملاقة تحوي ثلاثة أو أربعة أو أحياناًستة كونشرتوات في برنامج واحد. والقوم يحيونها في كل مكان-في المسارح والكنائس والجامعات والقصور والحانات والمتنزهات. ونافست السمفونية الآن الكونشرتو في الربرتوار الأوركسترالي، وما وافت سنة 1770 - حتى قبل مجيء هايدن-حتى حظيت السمفونية بقبولها كأرقى ألوان الموسيقى الآلية (107).
ونصف المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة منحدرون من قلب يوهان سبستيان باخ القوي وصلبه المكين. أنجبت له زوجته الأولى سبعة أطفال، أحرز اثنان منهم-فلهلم فريدمان وكارل فليب إيمانويل-سمعة دولية. وأنجبت له زوجته الثانية ثلاثة عشر طفلاً برز في عالم الموسيقى منهم اثنان هما يوهان كرستوف فريدرش ويوهان كرستيان. ثم أنجبت يوهان كسرستوف فريدرش مؤلفاً موسيقياً صغيراً هو فلهلم فريدرش ارنست باخ؛ وهكذا أعطى يوهان سبستيان باخ العالم خمسة رجال ضمنوا لهم مكاناً في تاريخ الموسيقى. يضاف إلى هؤلاء أحد أقربائه الأبعدين واسمه يوهان ارنست باخ، درس على الأستاذ في ليبزج، وأصبح رئيساً لفرقة المرتلين في فايمار، وترك عدة مؤلفات موسيقية ليجر عليها النسيان ذيوله.
أما فلهلم فريدمان باخ فقد ولد في فايمار. والقسم الأول من مؤلف أبيه "الكلافير الوسيط" كتب لتعليمه. وقد سار حثيثاً في دراسته، ولم يناهز الستة عشر عاماً حتى كان يؤلف الموسيقى. فلما بلغ الثالثة والعشرين عين عازفاً اللارغن بكنيسة صوفيا بدرسدن، ولكما كانت واجباته في هذه الوظيفة هينة فقد ألف عدة صوناتات وكونشرتوات وسمفونيات. ثم ازداد راتباً وشهرة حين اختير (1746) عازف أورغن في كنيسة ليفراون بهاله. وأقام هناك ثمانية عشر عاماً، ومن هنا تلقيبه "باخ هاله". وكان مولعاً بالشراب لا يعلو على ولعه به إلا ولعه بالموسيقى. ثم استقال في(41/196)
1764، وظل عشرين عاماً يهيم متنقلاً من بلد إلى بلد، ويقيم بالجهد أوده بالعزف في حفلات موسيقية وبتعليم التلاميذ. وفي 1774 استقر في برلين حيث مات في ضنك عام 1784.
وكان كارل فليب إيمانويل باخ أعسر، فاضطر إلى قصر عزفه على الأرغن والبيانو. وفي 1734 حين بلغ العشرين التحق بجامعة فرانكفورت، وهناك حظي بصحبة جيورج فليب تليمان، الذي كان أحد عرابيه يوم عماده وأعطاه جزءاً من اسمه. وفي 1837 عزف بعض مؤلفاته أمام جمهور ضم فردريك وليم الأول ملك بروسيا. ولما علم بأن ولي العهد فردريك يحب الموسيقى، قصد راينزبرج وقدم إليه نفسه دون أن يظفر بثمرة عاجلة؛ ولكن في 1740 عينه فردريك، الذي أصبح الآن ملكاً، عازفاً على الصنج في أوركسترا الكنيسة ببوتسدام. ولكنه ضاق بمصاحبة ناي فردريك الهوائي المزاج وقبول سلطته الملكية في الموسيقى. وبعد أن قضى في الأوركسترا ستة عشر عاماً، اعتزل ليفرغ التعليم. وقد حدد كتابه "بحث في العزف الحقيقي على الكلافير" (1753 وما بعدها) بداية تقنية البيانو الحديثة، وكان لهذا الكتيب الفضل في اكتساب هايدن البراعة الفنية في العزف على البيانو، وبسبب قال موتسارت عن "باخ برلين" هذا: "إنه أبونا، ونحن صبيته؛ والذين يعرفون منا أي شيء على وجهه الصحيح، فإنما تعلمناه منه، ووغد ذلك الطالب الذي لا يعترف بهذا" (108). وقد خرج إيمانويل في مؤلفاته عامداً على أسلوب أبيه الكونترابنطي، مؤثراً تناولاً متجانس الصوت وخطا ميلوديا أبسط. وفي 1767 قبل وظيفة المدير لموسيقى الكنيسة في همبورج، وهناك أنفق الإحدى وعشرين سنة البقية في أجله. وفي 1795 جاء هايدن إلى همبورج ليراه، ولكنه وجد أن أعظم أبناء يوهان سبستيان قد مضى على موته سبع سنين.
أما يوهان كريستوف فريدرش باخ فقد درس على أبيه وفي جامعة ليبزج، ثم عين في الثامنة عشرة (1750) موسيقار الحجرة في بوكسبورج، لفلهلم كونت شاومبورج-ليه. وحين بلغ السادسة والعشرين أصبح مديراً للموسيقى. أما الحدث العظيم الذي وقع له ف عامه الثامن والعشرين فهو(41/197)
مجيء هردر (1771) مبشراً؛ وقد زوده هردر بنصوص ملهمة للأوراتوربوات والكنتاتات، والأغاني؛ واتبع يوهان كرستوف أساليب أبيه وروحه، ثم ضاع في خضم تغيرات الدهر وتقلباته.
وعلى النقيض منه كان ولاء الابن الأصغر، يوهان كرستيان باخ، لإيطاليا. بعث إلى برلين وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة عند موت أبيه، وهناك بذل له أخ غير شقيق، يدعى فلهلم فريدمان، العون وقام على تعليمه. وحين بلغ التاسعة عشرة ذهب إلى بولونيا، حيث أدى الكونت كافالييري أجوستينوليتا نفقات دراسته على الأب مارتيني؛ وقد افتتن الشاب بالحياة الإيطالية والموسيقى الكاثوليكية، فدخل في المذهب الكاثوليكي، وظل ست سنوات يخص الكنيسة أولاً بمؤلفاته الموسيقية. وفي 1760 عين عازف أرغن في كتدرائية ميلان، وأصبح "باخ ميلان" ثم أثارت الأوبرا الإيطالية أثناء ذلك طموحه للتفوق في الموسيقى غير الدينية كما تفوق في الموسيقى الكنسية، فأخرج الأوبرات في تورين ونابلي (1761)؛ وشكا رؤساؤه الميلانيون من أن رشاقة هذه المؤلفات تتنافر مع مركزه في الكتدرائية فنقل يوهان كرستيان مقامه إلى لندن (1762)، حيث حظيت أوبراته عادة بعروض طويلة الأمد. وما لبث أن عين رئيساً للموسيقى عند الملكة شارلوت صوفيا، ورحب بالصبي موتسارت ذي الأعوام السبعة عند مجيئه إلى لندن في 1764، وراح يلهو معه على البيانو. وأحب الصبي هذا الموسيقى الذي اكتمل نضجه الآن، وأخذ عنه الكثير من الألماعات في تأليف الصوناتات والأوبرات والسمفونيات. وفي 1778 ذهب باخ إلى باريس ليقدم أوبراه "أماديس الغاليين"، وهناك التقى ثانية بموتسارت، وكان ابتهاج فتى الثانية والعشرين به كابتهاجه قبل خمسة عشر عاماً. كتب فولفجانج لأبيه يقول "إنه رجل أمين ينصف الناس، وأنا أحبه في كل قلبي" (109).
ويمكن القول على الجملة أن أسرة باخ هذه ابتداء من فايت باخ الذي مات في 1619، وانتهاء بفلهلم فريدرش إرنست باخ الذي مات في 1845، هي أبرز الأسر في تاريخ الثقافة. فمن بين نحو ستين من هؤلاء الباخين(41/198)
المعروفة أسماءهم من أقرباء يوهان سبستيان، كان ثلاثة وخمسون موسيقيين محترفين، وكان ثمانية من أسلافه وخمسة من أخلافه من وزن كاف لتبرير نشر مقالات عنهم في قاموس للموسيقى (110). وقد ظفر عدد من الأبناء في حياتهم بيت ذائع وشهرة فاقت ما تتمتع به يوهان سبستيان. ولا يعني هذا أنهم احتكروا الشهة الموسيقية، فالموسيقيون الأفذاذ كانوا كالعادة يلقون المديح الأعظم وهم أحياء، ثم يجر عليهم النسيان ذيوله حين يموتون؛ وقد نافس مؤلفون موسيقيون مثل كارك فريدرش فاش وكرستيان فريدرش شوبارت أبناء باخ في ذيوع اسمهم.
وإذا نحن رجعنا النظر إلى هذا النصف الثاني من القرن الثامن عشر لحظنا بعض الخطوط الخاصة في التطور الموسيقي. فاتساع مساحة البيانوا وازدياد قوته حررا الموسيقى من خضوعها للألفاظ وشجع المؤلفات للموسيقى الآلية؛ ثم إن إقبال الجماهير المتزايد على الحفلات الموسيقية، وتقلص هيمنة الكنيسة، بعدا بالمؤلفين عن يوليفونية يوهان سبستيان باخ وقربهم من هارمونيات خلفائه الأسهل تذوقاً. وعمل تأثير الأوبرا الإيطالية على تفوق الميلوديا حتى في قطع الموسيقى الآلية، بينما أحدثت الليدات، بحركة مضادة، تعقيداً جديداً في الأغنية. وبلغت الثورة على الأوبرا الإيطالية ذروتها في جلوك، الذي أراد إخضاع الموسيقى للدراما، ولكنه بالعكس أضفى السمو على الدراما بالموسيقى. وعمل درب آخر طورت الثورة "المسحية الغنائية"، التي بلغت أوجهاً في "الناي السحري". وانتقل الكونشرتو جروسو إلى الكونشرتو الموضوع لآلة منفردة واحدة وأوركسترا، واتخذت الصونات شكلها الكلاسيكي في كارل فليب إيمانويل باخ وهيدان، وتطورت الرباعية إلى السمفونية. وهكذا تهيأ كل شيء لبيتهوفن.
10 - الشيخ فرتز
فوق كل هذه الحياة المنوعة، حياة السياسة والدين والصناعة واللهو والموسيقى والفن والعلم والفلسفة والبروالإثم-كان يلوح طيف البطل الشائخ الذي لقبته ألمانيا "الشيخ فرتز"-لا حباً بل تكريماً له بوصفه أعجب وأدهش(41/199)
تيوتوني في عصره. فهو لم يقنع بحكم مملكته وأوركستراه، بل حسد قلم فولتير وتاقت نفسه إلى الظفر بالثناء عليه شاعراً ومؤرخاً. وقد خلف للأجيال التالية ثلاثين مجلداً من كتاباته: سبعة في التاريخ، وستة في الشعر، وثلاثة في الأبحاث العسكرية، واثنين في الفلسفة، واثني عشر في الرسائل، كلها بالفرنسية. أما أشعاره فأكثرها من النوع العابر سريع الزوال، ولم يعد القراء يذكرونها. ولكنه كان من كبار المؤرخين في جيله. ففي بواكير ملكه كتب تاريخ أسلافه-"مذكرات في تاريخ أسرةبراندنبورج" (1751). وقد زعم لنفسه الحياد كما يزعم أكثر المؤرخين: "لقد ارتفعت فوق كل الأهواء والميول، ونظرت إلى الأمراء والملاك والأقرباء نظري إلى أناس عاديين"، (111) ولكنه ارتفع إلى ذروة الحماسة والنشوة وهو يصف الناخب الأكبر فردريك وليم.
أما رائعته الأدبية فهي "تاريخ عصري" الذي سجل حكمه. وقد بدأه عقب انتهاء الحرب السيليزية الأولى (1740 - 42)، وواصل كتابته على فترات حتى أخريات عمره. وقد ضمنه تاريخ العلم والفلسفة والأدب والفن، ربما متأثراً بفولتير-وإن كان قد كتب جانباً كبيراً من هذا الكتاب قبل أن يظهر كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" و "مقاله في الأعراف" وقد اعتذر عن تضييعه حيزاً في كتابه على "بلهاء يلبسون الأرجوان، ودجاجلة يحملون التيجان ... أما تتبع الكشف عن الحقائق الجديدة، وتفهم أسباب التغيير في الأخلاق والعادات، ودراسة الطرق التي قشعت بفضلها ظلمة الهمجية من عقول الناس-فهذه بالتأكيد موضوعات جديرة بأن تشغل جيع المفكرين". (112) وقد أثنى على هوبز ولوك والمؤلهة في إنجلترة، وعلى توماسيوس وفولف في ألمانيا، وفونتينيل وفولتير في فرنسا. "هؤلاء العظماء وتلامذتهم كالوا للدين ضربة قاضية. وبدأ الناس يمحصون ما كانوا يعبدونه بغباوة، وأطاح العقل بالخرافة ... وكسبت الربوبية أتباعاً كثيرين، وهي العبادة البسيطة للكائن الأعظم". (113) وإذ كان فردريك يحتقر الحكومة الفرنسية ويحب الأدب الفرنسية، فإنه فضل ملحمة فولتير "الهنريادة" على الألياذة، وفضل راسين على سوفوكليس وسوى بين بوالو وهوراس،(41/200)
وبين بوسويه وديموستين. وسخر من لغة ألمانيا وأدبها، وامتدح فنها المعماري. وشق على نفسه ليبرر غزوه سيليزيا، فقال أنه أحس أن لرجل الدولة أن ينتهك الوصايا العشر إن اقتضته ذلك مصالح دولته الحيوية "فخير أن يحنث الملك بعهده من أن يهلك الشعب" (114) -وهذا الهلاك-كما أمل أن تصدقه-هو الخطر الذي تهدد بروسيا في 1740؛ وقد اعترف بأنه اقترف أخطاء كثيرة في قيادته جيشه، ولكنه رآه أمراً لا ضرورة له أن يسجل فراره مولفتز. وهذان المجدان في جملتهما يقفان على قدم المساواة مع أفضل الكتابات التاريخية عن أوربا الحديثة قبل جبون.
وما أن وضعت حرب السنين السبع أوزارها حتى عكف فردريك على كتابة "تاريخ حرب السنين السبع". وكان كقيصر يتطلع إلى أن يكون خير مؤرخ لحملاته، وكقيصر تحاشى الحرج فتكلم عن نفسه بضمير الغائب. وهنا أيضاً حاول-ربما بعذر أفضل-أن يبرر المبادرة الجريئة التي بدأ بها الحرب. وقد امتدح ألد أعدائه، ماريا تريزا، في كل ما يتصل بحكمها الداخلي، أما في علاقاتها الخارجية فقد أدان هذه المرأة المتكبرة "التي" استبد بها الطمع فأرادت أن تبلغ هدف المجد من كل طريق" (115) ووسط سجل الحملات، المحايد إلى حد لا بأس به، توقف ليندب أمه التي ماتت في 1757 وشقيقته التي لحقت بها في 1758. والصفحة التي وصف فيها فلهلمنية واحة من الحب في بيداء خربة من الحرب.
وقد خلص إلى أن التاريخ أستاذ عظيم تلاميذه قليلون: "إن في طبيعة البشر ألا يتعلم إنسان من التجربة. وحماقات الآباء تضيع هدراً على الأبناء، وكل جيل لا بد مقترف حماقاته" (116) "كل من يقرأ التاريخ بإمعان يدرك أن المشاهد ذاتها كثيراً ما تتكرر، وأنه لا حاجة بنا إلا لتغيير أسماء الممثلين" (117). ولكنا حتى لو استطعنا أن نتعلم، فإننا سنظل عرضة للمصادفة التي لا يمكن التنبؤ بها. "إن هذه المذكرات تقنعني أكثر فأكثر بأن كتابة التاريخ إن هي إلا تجميع لحماقات الناس وضربات الحظ. فكل شيء يدور حول هذين الموضوعين" (118).(41/201)
وقد حاول مرتين (1752 و1768) في "وصية أخيرة" أن ينقل لورثته بعض الدروس المستفادة من تجربته الخاصة. فحثهم على دراسة أهداف الدولة المختلفة ومواردها، والوسائل المتاحة لحماية بروسيا وتنميتها. وحذا حذو أبيه في تأكيده على الحاجة لأحكام ضبط الجيش، وحذر خلفاءه من الإنفاق فوق ما يسمح به الدخل؛ وتنبأ بالمتاعب السياسية التي ستحيق بفرنسا لسفهها المالي؛ ونصح بزيادة الإيرادات لا بفرض ضرائب جديدة بل بحفز إنتاجية الاقتصاد. وينبغي حماية كل الأديان ما التزمت الهدوء والسلام-رغم أن "جميع الأديان إذا فحصها المرء وجدها ترتكز على نسق من الخرافة غير معقول قليلاً أو كثيراً (119). أما سلطة الملك فيجب أن تكون مطلقة، ولكن على الملك أن يعد نفسه أول خادم للدولة. وما دامت بروسيا في خطر من صغر حجمها وسط دول كبيرة كروسيا وفرنسا والإمبراطورية النمساوية المجرية، فإن من واجب الملك أن يغتنم أي فرصة ليوسع بروسيا ويوحدها-ويحسن أن يكون ذلك بفتح سكسونيا وبروسيا البولندية وبومرانيا السويدية: "أن أول شغل شاغل للأمير هو أن يصون سلطته، أما الثاني فهو أن يوسع رقعته. وهذا يقتضي المرونة وسعة الحيلة ... وستر المطامع الخفية يكون بإعلان الميول السلمية حتى تأتي اللحظة المواتية. تلك طريقة جميع رجال الدولة العظماء" (120).
وينبغي أن يعد الملك خلفه للحكم، فيهيئ له التعليم على يد رجال مستنيرين لا رجال كنسيين، لأن هؤلاء يشحنون رأسه بخزعبلات يقصد بها أن يكون أداة طيعة في يد الكنيسة (121). وتعليم كهذا من شأنه أن يخرج عقلاً ضعيفاً سرعان ما تسحقه مسئوليات الدولة. "ذلك ما رأيته، وإذا استثنيت ملكة المجر (ماريا تريزا) وملك سردينيا (شارل إيمانويل)، فإن كان ملوك أوربا ليسوا سوى بلهاء مشهورين" (122). وقد كتب هذا واليزابث تحكم روسيا. وكانت "وصية" 1768 أكثر تأدباً، لأن كاترين كانت قد أثبتت علو همتها، وتنبأ فردريك الآن بأن روسيا ستكون أخطر دولة في أوربا (123).
فلما شاخ بدأ يسائل نفسه إن كان ابن أخيه ووريثه المحتمل-فردريك(41/202)
فلهلم الثاني-صالحاً لوراثة الحكم. كتب إليه يقول "إنني أشقى من أجلك ولكن على أن أفكر في الاحتفاظ بما أصنع، فإن كنت كسولاً خاملاً ذاب في يديك كل ما جمعته بالجهد والمشقة" (124). وفي 1728 كتب وقد ازداد تشاؤماً "لو أن ابن أخي لان وتراخى بعد موتي، لما بقي شيء اسمه بروسيا في ظرف عامين" (125). وقد تحققت النبوءة في فيينا عام 1806، لا لأن فردريك وليم الثاني كان رخواً ليناً، بل لأن نابليون كان صلباً قاسياً.
وقد بات فردريك ذاته في عقدة الأخير قاسياً إلى حد لا يحتمل. فاختزل قدراً كبيراً من الحرية التي سمح بها للصحافة قبل 1756. كتب ليسنج إلى نيقولاي في 1769 يقول "إن حريتكم البرلينية تتقلص .. إلى حرية جلب ما تشاءون جلبه إلى السوق من سخافات ضد الدين ... ولكن لريفع إنسان صوته نيابة عن الرعايا، وضد الاستغلال والاستبداد ... وعندها ستتبين سريعاً أي دول أوربا أكثرها اليوم عبودية وذلاً". (126) وكره هردر وطنه بروسيا، وانصرف فنكلمان في "رعب" عن ذلك "البلد المستبد" (127). وحين زار جوته برلين في 1778 أدهشته عدم شعبية الملك. ومع ذلك كان الشعب يبجل فردريك شيخاً لم يضن طوال خمسة وأربعين عاماً بيوم واحد في سبيل خدمة الدولة.
وقد برته الحرب كما براه السلم. وكثرت واشتدت عليه نوبات النقرس والربو، والمغص والبواسير، وزادت أوجاعه حدة لولعه بالوجبات الثقيلة والأطعمة الحريفة. وفي 22 - 25 أغسطس 1778 استعرض جيشه السيليزي قرب برزلاوز وفي اليوم الرابع والعشرين ظل على صهوة جواده ست ساعات بردائه العسكري العادي والمطر يهطل غزيراً، وعاد إلى مسكنه مبللاً يرتعد من البرد. ولم يستعد عافيته بعدها قط. وفي يونيو 1786 أرسل في طلب الدكتور تسمرمان من هانوفر. وتوقف عن تعاطي العقاقير التي وصفت له، وآثر الأحاديثالمرحلة عن الأدب والتاريخ، ولكي يلزمه تسمرمان الهدوء وصف له كتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية(41/203)
وسقوطها" (128). وتفاقمت أوصابه بالاستسقاء، وأحدثت القطوع التي أجريت له لتخفيف الانتفاخات غرغرينة. ثم أطبق عليها الالتهاب الرئوي فاكتمل الحصار، وفي 17 أغسطس 1786 مات فردريك وهو في الرابعة والسبعين. وكان قد طب أن يدفن في حديقة "صانسوسي" قرب قبور كلابه وحصانه الحبيب، ولكن أمر رحيله هذا الذي أصدره على البشرية أغفل، فدفن إلى جوار أبيه في كنيسة الحامية ببوتسدام. وحين جاء نابليون ووقف أما قبر فردريك بعد أن هزم البروسيين في يينا قال لقواد جيشه "لو كان على قيد الحياة لما كنا هنا" (129).(41/204)
الفصل الحادي والعشرون
كانت
1724 - 1804
1 - مقدمة
لعل كانت ما كان ليظهر قط لولا وجود فردريك الأكبر. ذلك أن كتابيه "نقد العقل الخالص" و "الدين في حدود العقل وحده" يسرت صدورهما شكوكية فردريك وتسامحه الديني؛ فلم ينقض على موت فردريك عامان حتى أخرجت الحكومة البروسية كانت.
كان كانت كفردريك ربيباً لحركة التنوير، وقد تشبث بولائه للعقل حتى النهاية-رغم كل ذبذبته الاستراتيجية، ولكنه أيضاً كروسو كان جزءاً من الحركة الرومانتيكية، مكافحاً للتوفيق بين العقل والوجدان، وبين الفلسفة والدين، وبين الفضيلة والثورة. وقد أشربه أبواه النزعة التقوية، ثم هجنها بعقلانية كرستيان فونفولف؛ واستوعب هرطقات جماعة الفلاسفة؛ وهجنها بـ "اعتراف قسيس سافوا بالإيمان" في كتاب روسو "إميل"؛ وورث سيكولوجية لوك وليبنتس وباركلي وهيوم الدقيقة البارعة، واستخدمها في محاولة لينقذ العلم من هيوم، وينقذ الدين من فولتير. وقد رتب حياته بانتظام بورجوازي، ورحب بالثورة الفرنسية. وإذ عاش منفرداً في بروسيا الشرقية، فإنه أحس ولخص كل تيارات عصره العقلية.
ولد في كونيجزبرج (22 أبريل 1724) النائية عن فرنسا، المولعة بالوضوح والمعتمة بضباب البحر. وقد أثيرت بعض الشكوك حول أصل أسرته الاسكتلندي، ولكن كانت نفسه يخبرنا أن جده "في ختام القرن(41/205)
الماضي هاجر من اسكتلندة إلى بروسيا، ولا أدري لم" (1). وتزوج أبوه يوهان جيورج كانت من آنا رويتر، وكان إيمانويل (ومعناها الله معنا) رابع أبنائهم الأحد عشر. وقد اتخذ اسمه الأول من قديس يوم ميلاده، ثم غير اسم الأسرة من Cant إلى Kant ليمنع الألمان من أن ينطقوه "تسانت" (2) وقد نشئت الأسرة كلها على مذهب التقويين، الذي كان كالمثودية الإنجليزية يشدد على الإيمان والتوبة والالتجاء رأساً إلى الله، بعكس العبادة اللوثرية التقليدية في الكنيسة بقسيس وسيط.
وكان أحد وعاظ التقويين قد أنشأ في كوينجزبرج "كلية فردريكية". والتحق إيمانويل بها من سن الثامنة إلى السادسة عشرة. وكان اليوم المدرسي يبدأ في الخامسة والنصف صباحاً بنصف ساعة من الصلاة، وكل حصة في الصف تختم بالصلاة؛ وخصصت ساعة كل صباح لتعليم الدين، مع التشديد على نيران الجحيم؛ وكان التاريخ يدرس أساساً من العهد القديم، واليونانية من العهد الجديد. وحده. ويوم الأحد يكرس أكثر للعبادة. لقد كان تعليماً أثمر الفضيلة في بعض خريجيه، والنفاق في آخرين، وربما روحاً كئيبة في معظمهم. وقد أنكر كانت فيما بعد هذه الجرعة الثقيلة من التقوى والإرهاب، وقال أن الخوف والرعدة يغلبانه حين يتذكر تلك الأيام (3).
وفي 1740 انتقل إلى جامعة كوينجزبرج. هنا كان أحب المدرسين إليه مارتن كنوستن الذي عرف كانت بـ "عقلانية" فولف رغم كونه تقوياً. وكان كنوتسن قد قرأ للربوبيين الإنجليز، وأدانهم ولكنه ناقش آراءهم، وترك بعض الشكوك الربوبية في واحد من تلاميذه على الأقل. فلما دعي كانت بعد قضاء ست سنين في الجامعة ليرسم قسيساً لوثرياً، رفض الدعوة رغم ما وعد من ترقية قريبة إلى وظيفة مريحة (4). وعاش بدلاً من ذلك تسع سنين رقيق الحال يعلم أبناء الأسرة الخاصة ويواصل دراسته. وكان اهتمامه حتى 1770 بالعلم لا باللاهوت "وكان لوكريتيوس من أحب المؤلفين إليه" (5).
وفي 1755 نال كانت درجة الدكتوراه، وسمح له بأن يحاضر في الجامعة(41/206)
بوصفه "معلماً خاصاً" لا يكافأ إلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. وظل خمسة عشر عاماً في هذا الوضع القلق. وخلال هذه البداية الطويلة الأمد رفضت طلباته لوظيفة الأستاذية مرتين. وظل فقيراً، يتنقل من نزل إلى نزل، ولا يجرؤ على الزواج، ولا يسكن بيتاً خاصاً به حتى بلغ التاسعة والخمسين (6). وقد حاضر في مواضيع كثيرة التباين، ربما ليجتذب عدداً أكبر من الطلاب، وكان عليه أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد أن كانت المعلم كان يختلف تماماً عن كانت المؤلف الذي اشتهر بغموضه. وقد وصفه هردر، الذي كان أحد تلاميذه (1762 - 64) بعد ثلاثين عاماً، محتفظاً له بذكرى ملؤها العرفان بالجميل، فقال:
"أسعدني الحظ بمعرفة فيلسوف كان معلمي. ففي مقتبل عمره تحلى بشجاعة الشباب المرحة، وأعتقد أن هذه الشجاعة لازمته حتى الشيخوخة. وكان جبينه الواضح المفكر مستقراً للبشر والسرور الذي لا يكدر صفوه مكدر، وكان حديثه حافلاً بالأفكار شديد الإيحاء؛ وفي متناوله الضحك والدعابة الذكية والخيال الفكه؛ ومحاضراته تجمع بين التعليم والترفيه الكثير. وبالروح ذاتها التي انتقد بها ليبنتس وفولف وباومجارتن ... وهيوم، بحث في القوانين الطبيعية التي قال بها نيوتن وكبلر والفيزيائيون. وبهذا الأسلوب تناول كتابات روسو ... ولم يكن لأي عصبة أو ملة، ولا تحيز أو إجلال لاسم من الأسماء، أدنى تأثير عليه مقابل نشر الحقيقة ودعمها. وكان يشجع سامعيه على التفكير لأنفسهم ويضطرهم في رفق إلى هذا التفكير؛ أما الاستبداد فكان غريباً على طبعه. وهذا الرجل الذي أذكر اسمه بأعظم عرفان وتبجيل هو إيمانويل كانت، وصورته مماثلة أمامي، وهي محببة إلى نفسي" (7).
ولو أردنا أن نتذكر كانت على الأخص من واقع عمله قبل أن يبلغ السابعة والخمسين (1781) لوجب أن نرى فيه العالم أكثر من الفيلسوف-رغم أن هذين المصطلحين لم يكونا بعد منفصلين. وأول أعماله المنشورة "خواطر من التقييم الحقيقي للقوى الديناميكية، 1747" نقاش علمي عن قوة الجسم أثناء حركته وهل تقاس (كما زعم ديكارت وأويلر) بالكتلة(41/207)
مضروبة في السرعة، أو (كما زعم ليبنتس) بالكتلة مضروبة في مربع السرعة؛ وهو إنجاز ممتاز لفتى في الثالثة والعشرين. وتلا بعد هذا سبع سنوات مقال في زمن دوران الأرض اليومي وهل يتغير بالمد والجزر. وفي العام نفسه نشر كانت بحثاً عن الأرض وهل بسبيلها إلى الشيخوخة؛ هنا أعرب كانت عن القلق الذي يساور عصرنا الحديث على فقد الشمس بعض طاقتها كل يوم على تجمد أرضنا في المستقبل.
وفي بحث رائع نشر عام 1705 قدم الشاب الجريء ذو الحادية والثلاثين عاماً "التاريخ الشامل للطبيعة، ونظرية السماوات". وقد تنشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلف وأهدي إلى فردريك الأكبر؛ وربما خاف كانت أن يلحقه أذى من رجال اللاهوت وأمل في أن يبسط الملك عليه حمايته، وقد رد جميع عمليات الأرض والسماء إلى قوانين آلية، ولكنه أكد أن النتيجة، بما فيها من تناسق وجمال، تثبت وجود عقل اسمي. ولكي يفسر كانت أصل المنظومة الشمسية اقترح "الفرض السديمي". قال:
"إنني أزعم أن كل مادة المنظومة الشمسية ... كانت في بداية الأشياء كلها متحللة إلى عناصرها الأولية، وأنها ملأت كل الفضاء ... الذي تدور فيه الآن الأجسام المكونة منه ... وفي فضاء مملوء على هذا النحو، لا يمكن أن يدوم هدوء شامل إلا لحظة ... فالعناصر المشتتة الأكثفنوعاً، بحكم قوتها الجاذبة، تجمع من حولها كل المادة الأقل وزناً نوعياً؛ وهذه العناصر هي الأخرى، مع المادة التي وحدتها معها، تتجمع في النقط التي توجد فيها جسيمات من نوع أكثر كثافة، وهذه بالمثل تنضم إلى جسيمات أكثف، وهلم جراً ...
"ولكن للطبيعة قوى أخرى، ... بفعلها تتنافر هذه الجسيمات، وهي التي تحدث-بصراعها مع الجاذبيات-تلك الحركة التي هي بمثابة الحياة الدائمة للطبيعة ... وقوة التنافر هذه تظهر في مرونة الأبخرة، وتدفق الأجسام القوية الرائحة، وانتشار جميع المواد الكحولية. وهذه القوة هي التي بفعلها تحيد تلك العناصر التي قد تكون ساقطة إلى النقطة التي تجتذبها ...(41/208)
عن حركتها في خط مستقيم؛ وسقوطها العمودي يكون في حركة دائرية حول المركز الذي تسقط نحوه" (8).
واعتقد كانت أن جميع النجوم تجمعت أو هي بسبيل التجمع-في مثل هذه المنظومات من الكواكب والشموس، وقد أضاف عبارة ذات مغزى "أن الخليقة لا تكتمل أبداً، إنها لا تكف عن مواصلة السير" (9). وهذا الفرض السديمي الذي افترضه كانت في 1755، وكذلك التعديل الذي أدخله عليه لابلاس (1796)، حافل بالصعوبات كمعظم ما تلاه من النظريات في أصل الكون، ومع ذلك يقول فيه فلكي حي شهير "إني أعتقد أن بحث كانت عن أصل الكون كان أبدع تلخيص موضوعي للعلم حتى ذلك الوقت" (10). أما بالنسبة لنا فإن دلالة البحث تكمن في بيانه أن كانت لم يكن ميتافيزيقياً غيبياً بل رجلاً فتن بالعلم، وكافح للتوفيق بين المنهج العلمي والعقيدة الدينية. وهذا لب جهوده حتى النهاية".
وفي 1756، حين هزته كارثة زلزال لشبونة التي وقعت في 1755 - كما هزت فولتير-إلى أعماق فلسفته، نشر كانت ثلاث مقالات عن الزلازل ومقالاً عن نظرية في الرياح. وفي 1757 نشر "مجملاً لمجموعة محاضرات في الجغرافيا الطبيعية وبياناً عنها"، وفي 1758 نشر "نظرية جديدة في الحركة والسكون. فلما اتسعت دائرة اهتماماته أرسل إلى المطبعة رسائل قصيرة عن موضوعات التفاؤل (1759)، والقياس المنطقي (1762)، وأمراض الرأس (1764). وقد ألمع في هذه الرسالة إلى أن تقسيم العمل المتزايد قد يقضي إلى الجنون نتيجة التكرار الرتيب الممل. وفي 1763 انتقل إلى اللاهوت ببحث عنوانه "الدعامة الوحيدة الممكنة للبرهنة على وجود الله"؛ وواضح أنه كان مبلبل الخاطر لاهتزاز إيمانه الديني. وفي 1764، بعد ثماني سنين من نشر بيرك رسالة مماثلة، قدم "ملاحظات على الشعور بالجميل والجليل".
ومرت به أوقات خطر له فها أن يوسع فرضه في أصل الكون التطوري(41/209)
ليشمل علم الأحياء؛ وكان على علم بأن الأشكال الجديدة تطورت من القديمة بفعل تغيرات في ظروف الحياة (11)، وقبل الرأي القائل بأن تشريح الإنسان كان في الأصل ميسراً لحركة أرجل أربع (12). ومع ذلك أحجم عن فكرة البيولوجية القائمة كلها على المذهب الآلي". "كذلك مرت بي أوقات سرت خلالها في هذه الدوامة مفترضاً هنا ميكانيكا طبيعية عمياء أساساً للتفسير، واعتقدت أنني أستطيع استكشاف طريق أسلكه إلى المفهوم البسيط الطبيعي. ولكنني كنت دائماً أنتهي إلى تحطيم سفينة العقل، ومن ثم آثرت المغامرة في محيط الأفكار الذي لا حدود له" (13). وكان رودلف راسبي (مؤلف رحلات البارون مونتشاوزن) قد اكتشف مؤخراً مخطوط ليبنتس المفقود منذ زمن طويل "مقالات جديدة في الفهم البشري" ونشره في 1765، واستطاع كانت أن يقرأه بالفرنسية، وقد أسهم في تحويله إلى نظرية المعرفة. على أنه لم يهجر اهتمامه بالعلم هجراناً تاماً، فقد كتب في تاريخ متأخر (1785) مقالاً عنوانه "في براكين القمر". غير أن الصراع الباطن بين دراساته العلمية ولاهوته الموروث حفزه إلى التماس التوفيق بينهما في الفلسفة.
ويحتمل أن يكون من العوامل التي وجهته هذه الوجهة الجديدة عرض (1770) منصب أستاذ المنطق والميتافيزيقا عليه. وكان الراتب ضئيلاً لرجل بلغ السادسة والأربعين وهو 167 طالراً في العام، زيد ببطء إلى 225 في 1786؛ وقد رفعت الراتب خدمات عارضة أداها بوصفه "سناتورا" و "أقدم أساتذة الكلية" في 1789 إلى 726 طالراً وكانت التقاليد تقضي بأن يلقي الأستاذ الجديد خطاباً افتتاحياً باللاتينية. واختار كانت موضوعاً عسيراً هو "في شكل ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول". واستعمل كانت المصطلحات "المدرسية" التي كانت تزال سائدة في الجامعات الألمانية. وقصد بالعالم المحسوس العالم كما تدركه الحواس، وسوف يسميه أيضاً فيما بعد بعالم الظواهر. أما العالم المعقول. فيقصد به العالم كما يدركه الذهن أو العقل، وسوف يسميه بعد ذلك العالم "النوميني". ونحن نحاول فهو العالم المحسوس بأن نطبق عليه المفاهيم الذاتية للزمان والمكان بواسطة الرياضة والعلوم؛ والعالم المعقول بتجاوز الحواس عن طريق العقل(41/210)
والمتافيزيقا إلى مصادر العالم المحسوس وأسبابه فوق الحسية. هنا أرسى كانت نظريته الأساسية: وهي أن الزمان والمكان ليسا شيئين موضوعيين أو محسوسين بل شكلين من أشكال الإدراك الحسي أصيلين في طبيعة العقل وبنيانه؛ وأن العقل ليس متلقياً وناتجاً سلبياً للأحاسيس، بل هو عامل إيجابي-له طرائق وقوانين عمل أصيلة لتحويل الأحاسيس إلى أفكار.
وقد عد كانت هذا البحث الجوهري "النص الذي سيفصل القول فيه في الكتاب التالي" وتدل هذه العبارة الواردة في خطاب حرره في 1771 إلى ماركوس هرتس على أن الفيلسوف كان الآن يخطط لكتابة "نقد العقل الخالص". وبعد اثنتي عشرة سنة من العكوف على ذلك البحث الضخم نشره على الناس في 1781، وأهداه لكارل فون تسيدلنتس وزير التعليم والشئون الدينية في عهد فردريك الأكبر. وكان تسيدلنتس، كما كان الملك، ربيب حركة التنوير، ونصيراً لحرية النشر. وقد قدر كانت أن حمايته ستكون مفيدة جداً إذا استشف اللاهوتيون وراء ألفاظه الغامضة واستنتاجاته السنية في ظاهرها تحليلاً من أشد التحليلات التي تلقاها اللاهوت المسيحي تدميراً.
2 - نقد العقل الخالص
1781
إذا وجد العالم هذا الكتاب عسيراً فقد يكون السبب منهج العمل الذي انتهجه كانت. كتب إلى موسى مندلسون (16 أغسطس 1783) يقول: مع أن الكتاب "ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عاماً، فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلاً أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ-وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلا فلو تباطأت وحاولت صياغته في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقاً في أغلب الظن" (14). إن الوضوح يقتضي الوقت، ولم يكن كانت واثقاً من أنه يملك الوقت. وق حذف عمداً بعض الأمثلة الموضحة(41/211)
مخافة أن يتضخم كتابه؛ "فهذه ليست ضرورية إلا من وجهة النظر الشعبية، وهذا الكتاب لا يمكن أبداً جعله صالحاً للاستهلاك الشعبي" (15). وهكذا كتب كانت لأهل حرفته، وركن إلى غيره في تبسيطه وتخفيفه ليصلح للهضم. ومع أن كرستيان فون فولف كان قد سبقه في التأليف الفلسفي بالألمانية، إلا أن تلك اللغة لا تزال على جفافها في التعبير عن ظلال التفكير، ولم تكن قد استقرت على مصطلحات فنية في الفلسفة. وكان على كانت في كل خطوة تقريباً أن يخترع ترجمة ألمانية لمصطلح لاتيني، وفي كثير من الحالات حتى اللاتينية كانت تفتقر إلى مصطلحات تفي بالفوارق الدقيقة التي أراد التعبير عنها. وقد أربك قراءه بخلعه المعاني الجديدة على الألفاظ القديمة، وبنسيانه أحياناً تعاريفه الجديدة. والصفحات المائة الأولى واضحة وضوحاً لا بأس به، أما باقي الكتاب فحريق فلسفي لا يبصر فيه القارئ غير الخبير شيئاً من الدخان.
وقد احتاج العنوان نفسه إلى إيضاح. فأنى للقارئ أن يعرف أن "نقد العقل الخالص" معناه تمحيص نقدي حصيف للعقل مستقلاً عن التجربة، و "النقد لم يعن التحليل والعرض فحسب، بل الحكم أيضاً، كما يستفاد من سلف اللفظة اليوناني (بمعنى يحكم). وقد قصد كانت أن يصف الحس، والإدراك الحسي والفكرة والعقل، وأن يقرر لكل منها حدودها واختصاصاتها الصحيحة. ثم أمل أن يبين أن في استطاعة العقل أن يعطييا المعرفة مستقلاً عن أي خبرة مؤيدة، كما هي الحال في معرفتنا أن ستة مضروبة في ستة تساوي ستة وثلاثين، أو أنه لا بد أن يكون للمعلول علة. تلك أمثلة لـ "العقل الخالص"-أعني المعرفة القبلية أو الأولية، أي المعرفة التي لا تتطلب برهاناً من التجربة. يقول: "إن ملكة المعرفة الحاصلة من المبادئ القبلية يمكن أن نسميها العقل الخالص، والبحث العام في قدرتها وحدودها (يؤلف) نقد العقل الخالص" (16). وقد اعتقد كانت بأن بحثاً كهذا سينطوي على مشكلات الميتافيزيقا؛ وكان على ثقة من أنه "ما من مشكلة ميتافيزيقية واحدة لم تحل، أو لم يقدم(41/212)
مفتاح حلها على الأقل" في هذا النقد (17). وذهب إلى أن الخطر الوحيد الذي يخشاه "ليس خطر تفنيد آرائي بل عدم فهمي" (18).
فما الذي جرى يا ترى إلى خوض هذه المغامرة البطولية؟ قد يظن أن إعلاء حركة التنوير الفرنسية من شأن العقل-وزعم جماعة الفلاسفة أن الإيمان يجب أن يخضع للعقل-وما حاق باللاهوت المسيحي نتيجة لهذا من دمار، كان السبب الذي جعل كانت يصمم على دراسة أصل العقل وعمله وحدوده. وقد لعب ذلك الحافز دوره، كما ورد في مقدمة كانت للطبعة الثانية (19)، ولكن المقدمة ذاتها أوضحت بجلاء أن العدو الذي أسهدفه هو هذه التوكيدة الإيقانية (الدجماطيقية) بكل ألوانها-أي كل مذاهب الفكر التقليدية والمبتدعة على السواء، التي ينشئها عقل لم يخضع للامتحان. وقد لقب كرستيان فون فولف بـ "أعظم الفلاسفة الدجماطيقيين قاطبة" لأنه اضطلع بإثبات عقائد المسيحية، وفلسفة لبنتس بالعقل وحده. وكل المحاولات التي تبذل للبرهنة على صدق الدين أو كذبه بالعقل الخالص هي في نظر كانت صور من الدجماطيقية؛ وقد حكم بـ "دجماطيقية الميتافزيقا" على كل مذهب في العلم أو الفلسفة أو اللاهوت لم يخضع أولاً لامتحان نقدي للعقل ذاته.
وقد اتهم تفكيره هو، حتى عام 1770، بأنه مدان بهذه الدجماطيقية. يقول أن ما أيقظه من هذه التأملات غير الممحصة هو قراءته لهيوم-ربما كتابه "بحث في الفهم البشري" الذي ظهرت ترجمته ألمانيا له في 1755. وكان هيوم قد زعم أن كل تدليل يعتمد على فكرة العلة، وأننا في التجربة الفعلية لا ندرك العلة إدراكاً حسياً بل التعاقب وحده؛ وإذن فكل العلم والفلسفة واللاهوت يرتكز على فكرة-علة ليست غير فرض ذهني لا حقيقة مدركة حسياً. كتب كانت يقول "أعترف بصراحة أن ملاحظة ديفد هيوم هي التي قطعت على سباتي الدجماطيقي منذ سنين طويلة ووجهت أبحاثي في مجال الفلسفة النظرية في اتجاه مختلف كل الاختلاف" (20). فكيف يمكن إنقاذ مفهوم العلة من المكان الوضيع، مكان الفرض غير اليقيني، الذي(41/213)
خلفه فيه هيوم؟ يقول كانت أنه لا سبيل إلى ذلك إلا ببيان أنه قبلي، مستقل عن الخبرة، واحد من تلك المقولات، أو أشكال الفكر، التي وإن كانت ليست بالضرورة فطرية، إلا أنها جزء من التركيب الفطري للعقل (1). ومن ثم صمم على التغلب على دجماطيقية فولف وارتيابية هيوم جميعاً بنقد-أي بتمحيض نقدي-يصف في الوقت نفسه سلطة العقل ويحددها ويحييها. وهذه المراحل الثلاث-الدجماطيقية، والارتيابية، والنقد-هي في نظر كانت المراحل الثلاث الصاعدة في تطور الفلسفة الحديثة.
وفي ولع بالتعاريف، والتمييزات، والتصنيفات، وباستخدام للألفاظ الطويلة اختصاراً للكلام، قسم كانت المعرفة كلها إلى معرفة تجريبية (تعتمد على التجربة) وأخرى ترانسندنتالية (مستقلة عن التجربة ومن ثم متجاوزة لها). وقد وافق على أن المعرفة كلها "تبدأ" بالتجربة، بمعنى أن إحساساً ما لا بد أن يسبق وينبه عمليات الفكر، ولكنه يعتقد أن في اللحظة التي تبدأ فيها التجربة فإن تركيب العقل يشكلها بما تأصل فيه من أشكال "الحدس" (الإدراك الحسي) أو الإدراك العقلي. وأشكال "الحدس" الأصيلة هي الصور المشتركة بين الجميع، والتي تتخذها التجربة في إحساسنا الظاهر كمكان، وفي حساسيتنا الباطنة كزمان.
وبالمثل توجد أشكال فطرية من الإدراك العقلي أو الفكر، مستقلة عن التجربة وهي تشكلها. وقد سماها كانت المقولات، وقسمها بتناسق أولع به وحرص عليه حرصاً شديداً إلى أربع مجموعات ثلاثية: ثلاث مقولات للكم-هي الوحدة والكثرة وجملة الكل؛ وثلاث مقولات للكيف-هي الوجود والسلب وحد التناهي؛ وثلاث مقولات قوائم للإضافة هي الجوهر في مقابل العرض، والسببية في مقابل التلازم، والمشاركة أو التفاعل؛
_________
(1) ذكر كانت في خطاب لجارفي في 1798 تفسيراً لاحقاً لـ "يقظته" هذه. قال: "إن تناقضات العقل الخالص (الصعوبات التي ينطوي عليها الإيمان بالله أو عدم الإيمان به، أو حرية الإرادة، أو الخلود) ... هي التي بدأت إيقاظي من سباق الدجماطيقي وساقتني إلى نقد العقل" (21).(41/214)
وثلاث مقولات قوائم للجهة-هي الإمكان في مقابل الاستحالة، والوجود في مقابل العدم، والضرورة في مقابل العرضية. وكل إدراك حسي يندرج تحت واحد أو أكثر من هذه الأشكال أو القوالب الأساسية للفكر. فالإدراك الحسي إحساس تترجمه الأشكال الفطرية للزمان والمكان، والمعرفة إدراك حسي تحوله المقولات إلى حكم أو فكرة. والتجربة ليست قبولاً سلبياً لانطباعات موضوعية على حواسنا، إنما هي حصيلة العقل المؤثر إيجابياً على خامة الإحساس.
وقد حاول كانت أن يعارض ارتيابية هيوم في العلية، وذلك بأن عد علاقة العلة والمعلول شكلاً حقيقياً من أشكال الفكر لا حقيقة موضوعية؛ وهي بهذه الصفة مستقلة عن الخبرة وليست خاضعة لعدم يقينية الأفكار التجريبية. ولكنها مع ذلك جزء ضروري من كل تجربة، لأننا لا نستطيع فهم التجربة بدونها. ومن ثم فإن "إدراك العلة العقلي" ينطوي على صفة الوجوب، التي لا يمكن لأي تجربة أن تعطيها" (22). وقد ظن كانت أنه بـ "خفة القلم" هذه أنقد العلم من ذلك القيد المذل، قيد الاحتمال، الذي قضى عليه به هيوم. بل إنه زعم أن العقل البشري لا الطبيعة-هوالذي ينشئ "قوانين الطبيعة" الشاملة، وذلك بإضفائه على بعض تعميماتنا-كالتعميمات الرياضية-صفات من الشمول والوجوب لا تدرك موضوعها إدراكاً حسياً. "إننا نحن الذين ندخل ذلك الترتيب والانتظام على المظهر الذي نسميه "الطبيعة". وما كنا لنجدهما قط في المظاهر لولا أننا نحن أنفسنا بحكم طبيعة عقلنا، وضعناهما في الأصل هناك" (23) و "قوانين الطبيعة ليست كيانات موضوعية بل مركبات عقلية نافعة في معالجة التجربة".
وكل معرفة تتخذ شكل الصور أو المثل، والمثالي بهذا المعنى على صواب: فالعالم "بالنسبة لنا" ليس إلا أفكارنا. وما دمنا لا نعرف المادة إلا كأفكار وبواسطة الأفكار، فالمادة إذن مستحيلة منطقياً، لأنها تحاول أن ترد المعلوم مباشرة (الأفكار) إلى المجهول أو المعلوم بطريق غير مباشر. ولكن المثالي يخطئ إذا اعتقد أنه لا شيء "موجود" إلا صورنا، لأننا نعلم أن الصور(41/215)
يمكن إحداثها بالأحاسيس، ونحن لا نستطيع تفسير كل الأحاسيس دون أن نفترض، لكثير منها، علة خارجية. وبما أن معرفتنا مقتصرة على الظواهر أو المظاهر-أي على الشكل الذي يتخذه السبب الخارجي "بعد" أن تشكله أساليب إدراكنا الحسي والعقلي-فإننا لا نستطيع أبداً أن نعرف الطبيعة الموضوعية لتلك العلة الخارجية (24)، ولا بد أن تظل بالنسبة لنا شيئاً-في-ذاته، ملغزاً، "نومينا" يدرك عقلياً ولا يدرك حسياً على الإطلاق. فالعالم الخارجي موجود ولكنه في حقيقته المطلقة مجهول لا يمكن معرفته" (25).
والنفس أيضاً حقيقية ولكن لا يمكن معرفتها. ونحن لا ندركها حسياً على الإطلاق بوصفها كياناً مضافاً إلى الحالات العقلية التي ندركها حسياً، وهي الأخرى"نومين" يدرك عقلياً بالضرورة باعتبارها الحقيقة التي من وراء الذات الفردية، والحس الأخلاقي وأشكال العقل وعملياته. والإحساس بالذات يمتزج مع كل حالة عقلية، ويوفر الاستمرارية والهوية الشخصية. والوعي بالذات "وعي الذات الاستبطاني" هو أوثق تجاربنا قاطبة، ولا سبيل إلى إدراكه عقلياً كشيء مادي بأي جهد بطولي من جهود المخيلة (26). ويبدو من المستحيل أن تؤثر نفس لا مادية في جسد مادي، وأن تتأثر به، ولكن لنا أن نعتقد أن الحقيقية المجهولة والكامنة وراء المادة "قد لا تكون مع ذلك شديدة الاختلاف في طبيعتها" من ذلك الشيء-في-ذاته، الباطن، الذيهو النفس (27).
وليس في استطاعتنا بالعقل الخالص أو النظري أن نثبت (كما حاول فولف) أن نفس الفرد خالدة، أو أن الإرادة حرة، أو أن الله موجود؛ ولكنا أيضاً لا نستطيع بالعقل الخالص أن ندحض هذه المعتقدات (كما خطر لبعض الشكاك أن يفعلوا) فالعقل والمقولات مهيأة للتعامل مع الظواهر أو المظاهر فقط، الظاهرة أو الباطنة، ولا نستطيع تطبيقهما على الشيء-في-ذاته، أي على الحقيقة من وراء الأحاسيس أو النفس التي من وراء الأفكار. فإذا حاولنا إثبات عقائد الدين أو دحضها وقعناً في أغلاط (في البرهان)(41/216)
أو أغاليط (مغالطات) أو نقائض-تناقضات ملازمة. كذلك ينتهي الأمر إلى استحالات كهذه إذا قلنا أن العالم كان له بداية أو لم يكن، أو أن الإرادة الحرة أو غير حرة، أو إن كان واجباً أو كائناً أعلى موجود أو غير موجود. وعبر كانت في بلاغة غير معهودة فيه عن البرهان الغائي (28). ولكنه خلص إلى أن "قصارى ما يستطيع هذا البرهان إثباته هو "مهندس" ... تعوقه دائماً أشد التعويق تكيفية المادة التي يشتغل بها، لا "خالق" .. يخضع لفكرته كل شيء" (29).
ومع ذلك كيف نستطيع الرضى بمثل هذه النتيجة المحيرة-وهي أن حرية الإرادة، والخلود، والله، هذه كلها لا يمكن إثباتها أو نفيها بالعقل الخالص، يقول كانت إن في باطننا شيئاً أعمق من العقل، هو شعورنا الذي لا يقبل التفنيد بأن الوعي، والعقل، والنفس، ليست مادية، وأن الإرادة حرة إلى حد ما، وإن يكن على نحو غامض ولا منطقي؛ ونحن لا نستطيع أن نقنع طويلاً بالنظر إلى العالم على أنه تسلسل لا معنى له من التطور والفناء دون مغزى خلقي أو عقل أصيل. فكيف نستطيع تبرير إرادة الإيمان فينا؟ من جهة (كما يقول كانت) بالجدوى الفعلية للإيمان-لأنه يقدم لنا بعض الهداية في تفسير الظواهر، ويوفر لنا شيئاً من السلامة الفلسفية والسلام الديني، يقول:
"إن أشياء العالم يجب النظر إليها" كأنها "تلقت وجودها من عقل أسمى. ففكرة (الله) هي في الحقيقة مدرك عقلي موجه، لا مدرك عقلي مباشر (هي فرض يعين على الكشف والفهم، ولكنها ليست برهاناً) ... ففي ميدان اللاهوت يجب أن ننظر إلى كل شيء "كأن" جماع المظاهر كلها (العالم المحسوس ذاته) له أساس واحد، أسمى، كل الاكتفاء، وراء ذاته-هو عقل موجود بذاته، مبتكر، مبدع. لأنه في ضوء هذه الفكرة، فكرة العقل المبدع، نوجه الاستخدام التجريبي "لعقلنا" بحيث نحصل على أقصى امتداد مستطاع له .. والمفهوم المحدد الوحيد الذي يعطينا إياه العقل النظري الخالص عن الله هو، بأدق معنى، مفهوم "ربوبي"؛ أي أن العقل لا يحددالصحة(41/217)
الموضوعية لمثل هذا المفهوم، إنما هو يعطينا فقط الفكرة عن شيء هو الأساس للوحدة الأسمى والواجبة لكل الحقيقة التجريبية" (30).
ولكن المبرر الأشد إلزاماً للاعتقاد الديني، في رأي كانت، هو أن هذا الاعتقاد لا غنى عنه للأخلاقية و "لولا أن هناك كائناً أصلياً متميزاً عن العالم، ولو كان العالم ... بغير خالق، ولو كانت إرادتنا غير حرة، ولو كانت الروح ... فانية كالمادة، إذن لفقدت الأفكار والمبادئ الأخلاقية "كل صحتها" (31). وإذا شئنا للصفة الأخلاقية والنظام الاجتماعي إلا يعتمدا كلية على الخوف من القانون، فلا بد لنا من دعم الإيمان الديني، ولو بوصفه مبدأً منظماً، ويجب أن نسلك، كأننا نعرف "أن هناك إلهاً، وأن نفوسنا خالدة، وأن إرادتنا حرة" (32). أضف إلى ذلك، أننا إعانة للفكر والأخلاق-مبررون في تمثيل سبب العالم بلغة تشبيهية لطيفة دقيقة. (بغيرها لا نستطيع تصور أي شيء متصل بهذا السبب) أعني ككائن ذي فهم، ومشاعر سرور واستياء، ورغبات ومشيئات تقابلها" (33).
وهكذا يختتم كتاب "النقد" الشهير، مخلفاً مذاهب الفكر المتعارضة وقد سرى عنها وأثار استياءها. لقد أصبح في وسع الشكاك أن يزعموا أن كانت برد اللاإدرية، وأن يزدروا إرجاعه الله إلى مكانته السابقة مكملاً للشرطة. ووبخه اللاهوتيون المصدومون على تسليمه بهذا القدر الكبير للكفار، واغتبطوا لأن الدين خرج-فيما بدا لهم-حياً من رحلته الخطرة داخل متاهة عقل كانت. وفي 1786 وصف كرال راينهولت هذه الضجة الكبرى فقال:
"لقد حكم الدجماطيقيون على كتاب "نقد العقل الخالص": بأنه محاولة شاك يقوض يقينية المعرفة كلها؛ والشكاك بأنه قطعة من التبجج المستعلي تضطلع بإقامة صورة جديدة من الدجماطيقية على أنقاض مذاهب سابقة؛ وفوق الطبيعيين بأنه حيلة مبيته بدهاء لإزاحة الأسس التاريخية للدين، ولاقاه المذهب الطبيعي دون جدل عنيف؛ والطبيعيون بأنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان المحتضرة؛ وحكم عليه الماديون بأنه إنكار مثالي النزعة لحقيقة(41/218)
المادة؛ والروحانيون بأنه قصر لا مبرر له للمعرفة كلها على العالم المادي مستتر تحت اسم ميدان التجربة ... " (34).
وهاجمت مدارس الفكر هذه كلها تقريباً الكتاب فأذاعت بذلك شهرته ولو بتجريحه. وأعلت من قدرة كل العوامل حتى عسر فهمه الذي جعله تحدياً يتعين على كل عقل عصري أن يقبله. وسرعان ما جرت مصطلحات كانت وألفاظه الطويلة على كل لسان مثقف.
ولم يستطع كانت أن يفهم لم عجز نقاده عن فهمه. ألم يعرف كل مصطلح أساسي مراراً وتكراراً؟ (بلى، وما أشد التباين في تعاريفه!) وفي 1783 رد على الهجمات بإعادة صياغة "النقد" فيما خاله صورة أبسط، وسمى رده في تحد "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة قادرة على الظهور كعلم". وزعم في هذا الرد أنه قبل كتابة "نقد العالم الخالص" لم تكن هناك ميتافيزيقا حقيقية على الإطلاق، لأنه ما من مذهب قدم لنفسه بتمحيص ناقد لأداته-وهي العقل. فإذا كان بعض القراء عاجزين عن فهم كتاب "النقد" فقد يكون السبب أنهم ليسوا على مستواه تماماً؛ "وفي هذه الحالة على القارئ أن يستخدم مواهبه العقلية في شيء آخر"، وعلى أي حال "ما من حاجة تدعو كل إنسان لدراسة الميتافيزيقا" (35). لقد كان في الأستاذ العجوز دعابة وكبرياء، وفيه حدة الطبع أيضاً. على أن "المقدمة" باتت كلما أو غلت عسرة عسر كتاب النقد الأصلي.
واتصل الجدل في ظل حكومة فردريك الأكبر المتسامحة. وكان كانت قد كتب في كتابه "نقد العقل الخالص" فقرات بليغة عن شرف العقل، وعن حقه في حرية التعبير (36). وفي 1784، حين كان لا يزال مطمئناً إلى حماية فردريك وتسيدلتس، نشر مقالاً عنوانه (ما التنوير؟). وقد عرف التنوير بأنه حرية الفكر واستقلاله، واتخذ شعراً ونصيحة القول المأثور "تجرأ على أن تعرف". وأبدى أسفه على تخلف التحرر الفكري نتيجة لمحافظة الأغلبية على القديم. "فإذا سألنا(41/219)
هل عائشون في عصر مستنير؟ فالجواب لا"، إنما نحن نعيش في "عصر التنوير" "ثم حيا فردريك باعتباره عنوان حركة التنوير الألماني وحاميها، والملك الوحيد الذي قال لرعاياه "فكروا كما تشاءون" (37).
ولعله كتب هذا الكلام مؤملاً أن خليفة فردريك سيلزم سياسة التسامح. ولكن فردريك وليم الثاني (1786 - 97) كان أكثر اهتماماً بقوة الدولة منه بحرية العقل. فلما أعدت طبعة ثانية من "نقد العقل الخالص" (1787) عدل كانت بعض فقراته، وحاول التخفيف من حدة هرطقاته بمقدمة طابعها الاعتذار. قال "وجدت من الضروري أن أنفي المعرفة (بالأشياء في ذواتها) لأفسح مجالاً للإيمان ... فالنقد وجده يستطيع أن يقطع جذور المادية والقدرية والكفر والإلحان والتعصب والخرافة" (38). وكان محقاً في هذا الحذر. ففي 9 يوليو 1788 أصدر يوهان كرستيان فون فولنر، وزير الإدارة اللوثرية "مرسوماً دينياً" رفض التسامح الديني صراحة باعتباره مسئولاً عن التحلل الخلقي، وهدد بالطرد من منابر الكنائس أو كراسي الجامعات كل الوعاظ أو المدرسين المنحرفين عن المسيحية التقليدية. في هذا الجو الرجعي نشر كانت "نقده" الثاني.
3 - نقد العقل العملي
1788
وما دام كتاب "النقد" الأول زعم أن العقل الخالص لا يستطيع أن يثبت حرية الإرادة، وما دامت الأخلاقية-في رأي كانت-تحتاج إلى هذه الحرية، فإن عمليات العقل بدت وقد تركت الأخلاقية، كاللاهوت، دون أساس عقلي. بل أسوأ من هذا أن حركة التنوير قوضت الأساس الديني للأخلاق بالتشكيك في وجود إله مثيب معاقب. فأنى للحضارة أن تبقى حية إذا انهارت عمد الأخلاقية التقليدية هذه؟ وأحس كانت أنه هو نفسه، بوصفه تلميذاً صريحاً للتنوير، ملتزم أخلاقياً بالعثور على أساس عقلي ما لناموس أخلاقي. وعليه ففي مقال تمهيدي عنوانه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق" (1785) رفض محاولة أحرار الفكر إقامة الأخلاقية على(41/220)
تجربة الفرد أو النوع؛ فمثل هذا الاشتقاق البعدي خليق بأن يسلب المبادئ الأخلاقية تلك الكلية وذلك الإطلاق اللذين هما في رأيه شرط للمبدأ الأخلاقي السليم. ثم أعلن بما تميز به من ثقة بالنفس: "أنه من الواضح أن المفاهيم الأخلاقية كلها مستقرة ومتأصلة قبلياً في العقل كلية" (39). وقد استهدف كتابه الثاني الكبير "نقد العقل العملي" العثور على ذلك المستقر والأصل وإيضاحه. فسيحلل العناصر القبلية في الأخلاقية كما حلل الكتاب الأسبق في النقد العناصر القبلية في المعرفة.
يزعم كانت أن لكل فرد ضميراً، إحساساً بالواجب، وعياً بقانون أخلاقي آمر. "شيئان يملآن العقل بالإعجاب والرهبة المتجددين المتعاظمين أبداً ... السموات المرصعة بالنجوم من فوقنا، والقانون الأخلاقي في داخلنا" (40). وكثيراً ما يتعارض هذا الشعور الأخلاقي برغباتنا الحسية، ولكننا ندرك أنه عنصر أسمى فينا من طلب اللذة. وهو ليس ثمرة التجربة، إنما هو جزء من بنائنا النفسي الأصيل، مثل المقولات؛ وهو محكمة باطنية حاضرة في كل شخص من كل جنس (41). وهو مطلق الحكم، يأمرنا أمراً غير مشروط، وبغير استثناء أو عذر، بأن نفعل الحق من أجل الحق، كغاية في ذاته، لا كوسيلة للسعادة أو الثواب أو لخير غيره. فأمره مطلق.
وهذا الأمر المطلق يتخذ شكلين: "أعمل بحيث تستطيع قاعدة إرادتك أن تظل على الدوام صادقة كمبدأ للتشريع العام"؛ أسلك بحيث إذا سلك الغير مثلك سار كل شيء على ما يرام، وهذه (الصيغة المعدلة من القاعدة الذهبية-أي التي تأمر بمعاملة الناس كما تحب أن يعاملون) هي "القانون الأساسي للعقل العملي الخالص" (42)، وهي "الصيغة لإرادة خيرة خيراً مطلقاً (43). وفي صيغة ثانية، "أعمل بحيث تعامل الإنسانية، سواء ممثلة في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، وفي كل حالة، كغاية لا كمجرد واسطة إطلاقاً" (44)، -في هذه الصيغة الثانية أعلن كانت مبدأ أشد ثورية من أي شيء احتواه الإعلان الأمريكي أو الفرنسي لحقوق الإنسان.
والإحسان بالالتزام الخلقي دليل إضافي على قدر من حرية الإرادة.(41/221)
فأنى يكون لنا هذا الشعور بالواجب أو لم نكن أحراراً في أن نعمل أو لا نعمل، ولو كانت أفعالنا مجرد حلقات في سلسلة لا تنفصل من العلة والمعلول الميكانيكيين؟ والشخصية بدون الإرادة الحرة عديمة المعنى؛ وإذا كانت الشخصية عديمة المعنى كانت الحياة كذلك، وإذا كانت الحياة عديمة المعنى كان الكون كذلك (45). ويدرك كانت بمنطق الحتمية الذي لا يبدو ولا مهرب منه، فكيف يستطيع الاختيار الحر أن يتدخل في عالم موضوعي يبدو محكوماً بقوانين ميكانيكية (كما يعترف كانت)؟ (46) وجوابه عن هذا السؤال بلغ الغاية في الغموض والإبهام. فهو يذكرنا بأن القانون الميكانيكي مركب عقلي، نظام يفرضه العقل، بواسطة مقولته العلية، على عالم المكان والزمان ذرية للتعامل معه باتساق. وما دمنا قد قصرنا المقولات على عالم الظواهر، وما دمنا قد سلمنا بأننا لا نعرف كنه العالم النوميني-الشيء-في-ذاته الكائن خلف الظواهر-فأننا لا نستطيع الزعم بأن القوانين التي نركبها للظواهر تصدق أيضاً على الحقيقة المطلقة. وبما أننا سلمنا أننا لا نعرف، في ذواتنا، إلا الذات الظاهرية-عالم المدركات الحسية والصور فقط-ولا نعرف كنه النفس الباطنة والنومينية، فإننا لا نستطيع الزعم بأن قوانين العلة والمعلول التي يبدو أنها تحكم أفعال أبداننا (بما فيها أمخاخنا) تنطبق أيضاً على إرادات الحقيقة الروحية المطلقة الكائنة وراء عملياتنا العقلية. فوراء ميكانيكيات العالم الظاهري للمكان وللأفكار في الزمان قد تكون هناك حرية في العالم النوميني الذي بلا مكان ولا زمان، عالم الحقيقة المطلقة-الظاهرة أو الباطنة. وأفعالنا وأفكارنا تحدد بمجرد دخولها عالم الأحداث المادية أو العقلية المدركة حسياً؛ وقد تظل حرة في أصلها في النفس غير المدركة حسياً؛ "وهكذا يمكن لحرية والطبيعة أن توجد معاً" (47)، وليس في إمكاننا إثبات هذا، ولكن يجوز لنا شرعاً أن نفترضه متضمناً بحكم طبيعة حسناً الأخلاقي الآمرة؛ وبدونه تموت حياتنا الأخلاقية.
على أي حال (في رأي كانت)، لم لا ينبغي أن نقدم العقل العملي على النظري؟ أن العلم، الذي يبدو أنه يجعلنا آلات ذاتية الحركة، هو في النهاية مضاربة-مقامرة على الصحة الدائمة لنتائج ومناهج لا تفتأ تتغير. ونحن(41/222)
على حق إذا شعرنا بأن الإرادة في الإنسان أهم من الذهن، فالذهن أداة صاغتها الإرادة للتعامل مع العالم الخارجي والميكانيكي، وما ينبغي أن يكون السيد المتسلط على الشخصية التي تستخدمه (48).
ولكن إذا كان الحس الأخلاقي يبرر افتراضنا قدر من الإرادة الحرة، فإنه يبرر أيضاً اعتقادنا بخلود النفس، ذلك أن حسناً الأخلاقي يستحثنا إلى كمال تحبطه المرة بعد المرة دوافعنا الحسية، ونحن لا نستطيع تحقيق هذا الكمال في حياتنا على الأرض؛ فإذا كان هناك عدل في العالم فلا بد أن نفترض أننا سنمنح حياة متصلة بعد الموت لاكتمالنا الأخلاقي. وإذا كان هذا يفترض أيضاً وجود إله عادل، فإن هذا أيضاً يبرره العقل العملي. فالسعادة الأرضية لا تتفق دائماً والفضيلة، ونحن نشعر أن التوازن بين الفضيلة والسعادة سيصحح في مكان ما، وهذا لا سبيل إليه إلا إذا افترضنا وجود إله يحقق هذه المصالحة، وعليه فإن وجود سبب للطبيعة كلها، متمايز عن الطبيعة ذاتها، محتوياً لمبدأ ... الانسجام الدقيق بين السعادة والفضيلة، هذا أيضاً من مسلمات "العقل العملي" (49).
وقد عكس كانت النهج التقليدي المألوف. فبدلاً من أن يستنبط الحس الأخلاقي والناموس الأخلاقي من الله (كما فعل اللاهوتيون من قبل)، استنبط الله من الحس الأخلاقي. ويجب أن نتصور واجباتنا لا على أنها "أوامر تعسفية لإرادة غريبة عنا" بل قوانين أساسية لكل إرادة حرة في ذاتها". على أنه ما دامت تلك الإرادة والله كلاهما ينتميان إلى العالم النوميني، فينبغي أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية ولن ننظر إلى الأفعال (الأخلاقية) على أنها إلزامية لأنها أوامر الله، ولكنا سنعدها أوامر إلهية لأن فينا التزاماً باطنياً نحوها" (50).
وإذا كان هذا التفكير "الإرادي" (العنيد) يشوبه بعض الغموض، فقد يكون السبب أن كانت لم يكن شديد التحمس لمحاولته التوفيق بين فولتير وروسو. فقد مضى "نقد العقل الخالص" شوطاً أبعد حتى من فولتير في الاعتراف بأن العقل الخالص لا يستطيع إثبات حرية الإرادة،(41/223)
أو الخلود، أو الله. ولكن كانت كان قد وجد في تعاليم روسو-عن تهافت العقل، وأولية الوجدان، وانبثاق الدين من الحس الأخلاقي للإنسان-مهزباً مستطاعاً من اللاإرادية، والتحلل الخلقي، وبوليس فولنر. ورأى أن روسو أيفظه من "السبات العقائدي" في الأخلاق كما أيقظه هيوم في الميتافيزيقا (51). فكان كتابه الأول في النقد ينتمي إلى حركة التنوير، والثاني إلى الحركة الرومانتيكية، ومحاولة الجمع بين الاثنين كانت من أبرع الإنجازات في تاريخ الفلسفة. وقد عزا هايني المحاولة إلى الحرص على حاجات عامة الشعب: لقد رأى الأستاذ خادمه الأمين لامبه يبكي على موت الله؛ "فرق له قلب إيمانويل كانت، وأثبت أنه ليس فيلسوفاً عظيماً فحسب، بل إنساناً طيباً أيضاً، وقال بمزيج من العطف والتهكم: "يجب أن يكون للامبه العجوز إله، وإلا فلن يستطيع أن يكون سعيداً ... أما من جهتي فأنا فإن العقل العملي يستطيع أن يضمن وجود الله" (52).
4 - نقد الحكم
1790
ولا بد أن كانت نفسه كان غير راض عن براهينه، لأنه في كتابه "نقد الحكم" عاد إلى مشكلة الآلية مقابل الإرادة الحرية، وتقد إلى مشكلة الصراع بين الآلية والقصد، وأضاف إليها مقالات معقدة في الجمال، والجلال، والعبقرية، والفن. وهو مزيج لا يثير الشهية.
أما ملكة الحكم هذه، "فهي عموماً ملكة التفكير في الجزء على أنه محتوى في الكل"، وهي إدراج شيء أو فكرة أو حدث تحت صنف أو مبدأ أو قانون. لقد حاول كتاب "النقد" الأول أن يدرج جميع الأفكار تحت المقولات الكلية القبلية، وحاول الثاني إدراج جميع المفاهيم الأخلاقية تحت حس أخلاقي قبل كلي، أما الثالث فاضطلع بالعثور على مبادئ قبلية لأحكامنا الجمالية (الإستطيقية) -في النظام أو الجمال أو الجلال في طبيعة أو الفن، (53) "إني أجرؤ على الأقل في أن تنهض صعوبة حل معضلة، في طبيعتها مثل هذا التعقيد، عذراً يبرر بعض الغموض الذي لا يمكن تجنبه في حلها" (54).(41/224)
إن الفلسفة "الدجماطيقية" قد حاولت من قبل أن تجد عنصراً موضوعياً في الجمال؛ أما كانت فيشعر أن هنا، على الأخص، يكون العنصر الذاتي هو الغالب. فليس هناك شيء جميل أو جليل إلا أن يجعله الوجدان كذلك. ونحن نصف بالجمال أي شيء يعطينا تأمله لذة منزهة-أي لذة مجردة من رغبة شخصية؛ فنحن نستمد إشباعاً جمالياً، وجمالياً فقط، من غروب الشمس، أو من لوحة لرفائيل، أو كتدرائية، أو زهرة، أو حفلة موسيقية، أو أغنية. ولكن لم تعطينا أشياء أو تجارب بعينها هذه اللذة المنزهة؟ لعل السبب أننا نرى فيها اتحاداً من الأجزاء يؤدي وظيفته بنجاح في كل متناسق. وفي حالة الجليل تلذنا العظمة أو القوة التي لا تهددنا بخطر؛ وهكذا نشعر بالجلاء في السماء أو البحر، إلا إذا هددنا اضطرابهما بالخطر.
ويزداد تقديرنا للجمال أو الجلال بقبولنا الغائية-أي بتبيننا في الكائنات الحية موائمة أصيلة بين الأجزاء وحاجات الكل، وبشعورنا بحكمة إلهية في الطبيعة وراء التناسق والانسجام، والعظمة والقوة. ولكن العلم يهدف إلى عكس هذا تماماً-وهو أن يثبت أن الطبيعة الموضوعية كلها تعمل بقوانين ميكانيكية، دون خضوع لأي قصد خارج عنها، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذين المدخلين إلى الطبيعة؟ بقبولنا الآلية والغائية جميعاً بقدر ما تساعداننا كمبدئين موجهين، كفرضين ييسران الفهم أو البحث. فالمبدأ الآلي يساعدنا على الأخص في البحث في المواد غير العضوية، أما المبدأ الغائي فهو خير عون لنا في دراسة الكائنات الحية. ففي هذه الكائنات قوى للنمو والتوالد تعيي التفسير الميكانيكي؛ فهناك توفيق واضح بين الأجزاء وأغراض العضو أو الكائن، كاستخدام المخالب للقبض والعيون للإبصار. ومن الحكمة الإقرار بأنه لا الآلية ولا الغائية يمكن إثبات صدقهما صدقاً كلياً. والعلم نفسه، بمعنى من المعاني، هو غائي، لأنه يفرض في الطبيعة ترتيباً، وانتظاماً، ووحدة معقولة، "كأن" عقلاً إلهياً نظمها ويبقى عليها (55).
وقد اعترف كانت بالصعوبات الكثيرة التي تعترض النظر إلى الإنسان(41/225)
والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره بجلاء في نظام يوضع بحيث يحقق كلاً غائياً للكائنات الطبيعية على الأرض هو موطنها-التربة أو العنصر الذي يراد لها أن تزكو عليه أو فيه. ولكن التعمق في طبيعة هذا الشرط الأساسي للإنتاج العضوي كله أثراً يظهر أثراً لأي علل إلا تلك التي تعمل دون غاية إطلاقاً، بل تنزع في الواقع إلى التدمير دون أن يكون القصد منها تشجيع تكوين الأنواع والنظام والغايات. والبر والبحر لا يحويان فقط آثار كوارت قديمة العهد هائلة حلت بهما وبكل ما زخرا به من كائنات حية، ولكن تكوينهما بجملته-طبقات اليابس وخطوط سواحل البحر-يحمل كل المظاهر الدالة على أنه نتيجة قوى عنيفة قهارة لطبيعة تعمل في فوضى" (56).
ومع ذلك أيضاً، فإننا لو تخيلنا عن كل فكرة في وجود هدف في الطبيعة لسلبثا الحياة كل معناها الأخلاقي، فتصبح سلسلة حمقاء من ولادات مؤلمة وميتات معذبة، ليس فيها للفرد ولا للأمة ولا للنوع شيء مؤكد إلا الهزيمة. فلا بد لنا من أن نؤمن بغاية إلهية ولو للاحتفاظ بسلامة عقولنا-وما دامت الغائية لا تثبت غير صانع مكافح بدلاً من خيرية إلهية كلية القدرة، فلا بد إذن من أن نرسي إيماننا في الحياة على حس أخلاقي لا يبرره غير الاعتقاد باله عادل. بهذه العقيدة نستطيع أن نعتقد-وأن كنا لا نستطيع أن نثبت بالبرهان-إن البار هو الغاية النهائية للخليقة، وأنه أنبل ثمرة للتدبير العظيم الملغز (57).
5 - الدين والعقل
1793
لم يكن كانت قانعاً قط بلاهوته الـ "كأني" المتردد. ففي 1791، في كتيب عنوانه "عن تهافت جميع المحاولات الفلسفة في الإلهيات" أعاد القول إن "عقلنا عاجز عن تبصيرنا بالعلاقة بين العالم ... والحكمة السامية". وأضاف إلى هذا تحفظاً، ربما لنفسه، فقال: "على الفيلسوف ألا يلعب دور المحامي الخاص في هذا الأمر؛ وعليه ألا يدفع عن أي قضية(41/226)
يعجز عن فهم عدالتهم، ولا يستطيع إثباتها بطرق التفكير الخاصة بالفلسفة" (58).
ثم عاد إلى المشكلة في سلسلة من المقالات أفضت به إلى تحدي الحكومة البروسية تحدياً سافراً. وطبعت أولى هذه المقالات وعنوانها "في الشر المتأصل" في "مجلة برلين الشهرية" عدد أبريل 1792. وأذن الرقيب بنشرها على أساس أن "العلماء المتعمقين في التفكير هم وحدهم الذين يقرءون كتابات كانت" (59). ولكنه رفض نشر المقال الثاني "في الصراع بين مبادئ الخير والشر للسيطرة على الإنسان". ولجأ كانت إلى حيلة. ذلك أن الجامعات الألمانية كان لها امتياز اعتماد الكتب والمقالات للنشر؛ فقدم كانت المقال الثاني والثالث والرابع إلى كلية الفلسفة بجامعة يينا (وكان يشرف عليها آنئذ جوته وكارل أوجست دوق فايمار، وكان شيلر أحد أساتذتها)، وأذنت الكلية بالنشر، وبهذا طبعت المقالات الأربع كلها في كونجزبرج عام 1793 بعنوان "الدين في حدود العقل وحده".
والسطور الأولى تعلن الفكرة الرئيسية السائدة فيها: "بقدر ما تبنى الأخلاق على مفهوم الإنسان كفاعل حر، هذا الإنسان الذي-بسبب حريته هذه-يتعامى بعقله عن رؤية القوانين غير المشروطة، فإن هذه الأخلاق في غير حاجة إلى فكرة كائن آخر من فوقه ليجعله يدرك واجبه، ولا إلى حافز غير القانون ذاته يجعله يؤديه ... ومن هنا فإن الأخلاق من أجل ذاتها هي لا تحتاج إلى دين على الإطلاق" (60). ويعد كانت بطاعة السلطات، ويسلم الحاجة به إلى الرقابة، ولكنه يشدد على "ألا تسبب الرقابة أي اضطراب في مجال العلوم" (61) فغزو اللاهوت للعلم، كما حدث في حالة جاليليو، "قد يعطل جميع جهود العقل البشري ... ويجب أن يتمتع اللاهوت الفلسفي بكامل الحرية على قدر ما يمتد إليه علمه" (62).
ويستنبط كانت مشكلات الأخلاق من وراثة الإنسان لنوازع الخير والشر. "لا حاجة لإقامة الدليل صورياً على أن نزعة الفساد لا بد متأصلة في الإنسان وذلك لكثرة الأمثلة الصارخة التي تضعها الخبرة أمام(41/227)
أعيننا" (63). وهو لا يوافق روسو على أن الإنسان يولد خيراً أو كان خيراً في "حالة الطبيعة"، ولكنه يتفق معه في إدانة "رذائل الحضارة والمدنية" لأنها "أشد عيوب أذى" (64)، "والواقع أن هذا السؤال ما زال بغير جواب، وهو، ألا تكون أسعد في حالة غير متحضرة ... مما نحن في حالة المجتمع الراهنة" (65) ما فيهمن استغلال ونفاق وخلل أخلاقي وتقتيل بالجملة في الحرب. وإذا شئنا أن نعرف طبيعة البشر الحقيقية فيكفي أن نلاحظ سلوك الدول.
ولكن كيف بدأ "الشر المتأصل في طبيعة البشر"؟ .. إنه لم يبدأ بسبب "الخطية الأصلية"، "فلا ريب في أن أشد التفسيرات كلها سخفاً لذيوع هذا الشر وانتشاره في جميع أفراد وأجيال نوعنا هو التفسير الذي يصفه ميراثاً منحدراً إلينا من أبوينا الأولين" (66). وربما كانت النوازع "الشريرة" قد تأصلت في الإنسان تأصلاً قوياً لأنها كانت ضرورية للبقاء في الأحوال البدائية، وهي لا تصبح رذائل إلا في المدنية-في المجتمع المنظم، وفيه لا تحتاج إلى القمع بل إلى الضبط (67). "فالميول الطبيعية، إذا نظرنا إليها في ذاتها، خيرة، أي أنها لا تلام، ومحاولة القضاء عليها ليست عديمة الجدوى فحسب، بل ضارة ومستحقة للوم. والأولى أن نروضها، وبدلاً من أن يصطدم بعضها ببعض يمكن أن ينسق بينها لتنسجم في كل يسمى السعادة (68). والخير الأخلاقي هو أيضاً غريزي، كما يدل على ذلك الحس الأخلاقي في جميع الناس، ولكنه في أول الأمر ليس إلا حاجة، لا بد من تنميتها بالتعليم الأخلاقي والتهذيب الشاق. وأفضل الأديان ليس الذي يفوق غيره في التمسك الدقيق بالعبادة الطقسية، بل أعظمها تأثيراً في الناس ليحيوا حياة أخلاقية (69). والدين القائم على العقل لا يبني نفسه على وحي إلهي، بل على إحساس بالواجب يفسر على أنه أقدس عنصر في الإنسان (70). ومن حق الدين أن ينظم نفسه على هيئة كنيسة (71)، وله أن يحاول تحديد عقيدته بالأسفار المقدسة، وأن يعبد، بحق، المسيح بوصفه أعظم البشر شبهاً بالله، وأن يعد بالجنة وينذر بالنار (72)، و "لا يمكن تصوير دين لا يحتوي على اعتقاد بحياة آخرة" (73). ولكن لا ينبغي أن يكون ضرورياً للمسيحي أن يؤكد إيمانه بالمعجزات، أو بلاهوت المسيح، أو بالتكفير عن خطايا البشر بصلب المسيح، أو بالحكم المقدر على الأرواح بالجنة(41/228)
أو النار بالنعمة الإلهية تمنح دون نظر إلى الأعمال الصالحة أو الشريرة (74). و "من الضروري أن نغرس بعناية بعض أشكال الصلاة في أذهان الأطفال "الذين لا يزالون في حاجة إلى حرفية الدين) (75).، ولكن صلاة الضراعة "التي يتوسل بها لكسب النعمة الإلهية وهم خرافي" (76).
أما حين تنقلب كنيسة ما مؤسسة لإكراه الناس على الإيمان أو العبادة؛ وحين تزعم لنفسها الحق الأوحد في تفسير الكتاب المقدس وهي تعريف الأخلاقية، وحين تكون كهنوتها يدعي لنفسه سبل الاتصال وحده بالله والنعمة الإلهية؛ وحين تجعل من عبادتها مجموعة طقوس سحرية لها قوى معجزية؛ وحين تصبح ذراعاً للحكومة وأداة للطغيان الفكري؛ وحين تحاول أن تتسلط على الدولة وتستخدم الحكام العلمانيين مطايا للطمع الكهنوتي-عندها يثور العقل الحر على كنيسة كهذه، ويبحث خارجها عن ذلك الدين العقلي الخالص، الذي هو السعي لبلوغ الحياة الأخلاقية (77).
وقد تميز هذا الأثر الكبير الأخير من آثار كانت بالتذبذب والغموض الطبيعيين في رجل لا ولع له بحياة السجون. ففي الكثير من الحشو "السكولاستي"، ويشوبه العجيب من تشقيقات المنطق ومن اللاهوت المفرق في الخيال. ومع ذلك فالعجب العجاب مع رجل بلغ التاسعة والستين. أن يظل مبدياً مثل هذه القوة في الفكر والقول، ومثل هذه الشجاعة في صراعه مع قوى الكنيسة والدولة مجتمعة. وقد بلغ الصراع بين الفيلسوف والملك ذروته حين (أول أكتوبر 1794) أرسل إليه فردريك وليم الثاني الأمر التالي الصادر من المجلس الملكي:
"إن شخصنا البالغ السمو قد لاحظنا طويلاً باستياء شديد كيف تسيء استخدام فلسفتك لتقوي وتحط من قدر الكثير من أهم وألزم تعاليم الأسفار المقدسة والمسيحية، وكيف أنك على التحديد، فعلت هذا في كتابك "الدين في حدود العقل وحده" ... ونحن نطالبك فوراً بجواب غاية في النزاهة، ونتوقع أنك في المستقبل، تجنباً لسخطنا الشديد، لن يبدر منك ما يسيء كهذا الذي بدر، بل على العكس فإنك طبقاً لمقتضيات(41/229)
واجبك ستستخدم مواهبك وسلطتك لكي يتحقق هدفنا الأبوي أكثر فأكثر. إما إذا تماديت في المقاومة فلك أن تتوقع بالتأكيد أن تجر عليك المقاومة عواقب وخيمة" (78).
ورد كانت رداً ملؤه الاسترضاء. فذكر أن كتاباته لم يوجهها إلا للدارسين واللاهوتيين، الذي ينبغي صيانة حرية تفكيرهم لصالح الحكومة ذاتها. وقال أن كتابه قد سلم بقصور العقل في الحكم على الأسرار النهائية للإيمان الديني. ثم اختتم بتعهد الطاعة: "إنني بوصفي خادم جلالتكم المخلص كل الإخلاص أعلن هنا إعلاناً قاطعاً أنني منذ الآن سأمتنع كلية عن جميع التصريحات العلنية عن الدين، الطبيعي منه والموحي، سواء في المحاضرات أو المؤلفات. "فلما مات الملك (1797) أحس كانت أنه في حل من وعده؛ ثم أن فردريك وليم الثالث عزل فولنر (1797) وألغى الرقابة، وأبطل المرسوم الديني الصادر في 1788. وبعد هذه المعركة أجمل كانت نتائجها في كتيب سماه "صراع الملكات" (1798)، كرر فيه دعواه بأن الحرية الأكاديمية لا غنى عنها للنمو الفكري للمجتمع. ونحن إذا نظرنا إلى الأمر في جوهره، تبين لنا أن الأستاذ القصير القامة، القابع في ركن قصي من أركان المعمورة، قد انتصر في معركة ضد دولة تملك أقوى جيش في أوربا. وستنهار الدولة عما قريب، ولكن ما وافى عام 1800 حتى كانت كتب كانت أبلغ الكتب تأثيراً في حياة ألمانيا الفكرية.
6 - المصلح
واعتزل إلقاء المحاضرات في 1797 (بعد أن بلغ الثالثة والسبعين)، ولكنه واصل نشر المقالات في الموضوعات الحيوية حتى 1798. وظل على صلة بالشئون العالمية رغم عزلته. فلما اجتمع مؤتمر بازل عام 1795 ليرتب صلحاً بين ألمانيا وأسبانيا وفرنسا، اغتنم كانت الفرصة (كما فعل من قبل الأبيه سان-بيير مع مؤتمر أوترخت في 1713) لينشر كراسة عنوانها "في السلام الدائم".(41/230)
وقد استهلها استهلالاً متواضعاً بوصفه "السلام الأبدي" شعاراً يليق بجبانة الموتى، وأكد للساسة أنه لا يتوقع منهم أن يروا فيه أكثر من مجرد "معلم نظري متحذلق عاجز عم إلحاق أي خطر بالدولة". (79) وبعد أن نحى مواد الصلح المبرم في بازل جانباً باعتبارها مواد تافهة قصد بها مسايرة الظروف، وضع بصفة لجنة مؤلفة من رجل واحد-"ست مواد أولية" تجمل الشروط الأساسية للسلام الدائم: فحرمت المادة الأولى جميع التحفظات والملاحق السرية لأي معاهدة. وحظرت المادة الثانية على أي دولة أن تستولي على أخرى أو تسيطر عليها. وطالبت المادة الثالثة بالتخلص تدريجياً من الجيوش الدائمة. وذهبت المادة الرابعة إلى أنه لا يجوز لأي دولة "أن تتدخل بالقوة في دستور دولة أخرى". وطالبت المادة السادسة كل دولة تخوض حرباً مع أخرى بألا "تسمح بأعمال عدائية من شأنها أن تجعل الثقة المتبادلة مستحيلة، في حالة إبرام سلام في المستقبل، كالاستعانة بالقتلة يغتالون أو يدسون السم ... والتحريض على الفتنة في دولة العدو".
وإذ كان من غير المستطاع إبرام صلح طويل الأمد بين دولة لا تعترف بحدود لسيادتها، فإنه لا بد من بذل الجهود الحثيثة لتطوير نظام دولي، وإيجاد بديل للحرب بهذه الطريقة. ومن ثم وضع كانت بعض "المواد المحددة" للسلام الدائم. أولاً، "يجب أن يكون دستور كل دولة جمهورياً. ذلك أن الملكيات والارستقراطيات تنزع إلى الحروب المتكررة، إذ أن الحاكم والنبلاء هم عادة في مأمن من فقد أرواحهم وثرواتهم في الحرب، لذلك يبادرون إلى خوضها بوصفها "تسلية الملوك"؛ أما في الجمهوريات "المواطنون هم المسئولون عن قرار إعلان الحرب أو عدم إعلانها، "وهم الذين سيتحملون العواقب"، ومن ثم "فليس من المحتمل أن يغامر مواطنو دولة (جمهورية) في أي وقت بلعبة غالية التكلفة إلى هذا الحد" (80). ثانياً "يجب أن يبنى كل حق دولي على أساس اتحاد فدرالي بين الدول الحرة"، (81) وألا يكون هذا الاتحاد دولة عظمى، "فالواقع أن الحرب ليست سيئة سوءاً لا برء منه كسوء الملكية العالمية" (82). فينبغي أن يقرر كل شعب حكومته الخاصة(41/231)
به، ولكن على كل دولة بمفردها (على الأقل .. دول أوربا) أن تتجمع في اتحاد كنفدرالي تخول له سلطة التحكم في علاقاتها الخارجية. والمثل الأعلى الذي لا بد من التمسك به هو أن تمارس الدول القانون الأخلاقي الذي تطالب به مواطنيها. فهل يمكن أن تسفر مغامرة كهذه عن شر أعظم مما ينجم عن الممارسة الدائمة للخداع والعنف الدوليين؟ لقد راود كانت الأمل بأن مكيافللي سيثبت في نهاية المطاف أنه مخطئ، وليس هناك ن داع للتضارب بين الأخلاقية والسياسية، ذلك أن "الأخلاق وحدها هي القادرة على قطع العقدة التي لا تقوى السياسة على فكها" (83).
وواضح أن كانت كان مخدوعاً في أمر الجمهوريات (التي شاركت بعد ذلك ف أبشع الحروب قاطبة)؛ ولكن ينبغي أن نقرر أنه كان يعني بـ "الجمهورية" الحكومة الدستورية لا الديمقراطية كاملة. فلقد كان عديم الثقة بالدوافع المتهورة التي تحفز رجالاً لا تكبحهم قيود (84)، وكان يخشى إطلاق حق التصويت للجميع باعتباره تسليطاً للأغلبيات الجاهلة على الأقليات التقدمية والأفراد الخارجين على الإجماع (85). ولكن كانت تغيظه الامتيازات الموروثة، وخيلاء الطبقة، والقنية التي تطوق كونجزبرج، ورحب بالثورة الأمريكية التي أخذت، في رأيه، تكون اتحاداً فدرالياً من دويلات مستقلة، على غرار النظام الذي اقترحه لأوربا. وناصر الثورة الفرنسية بحماسة تقرب من حماسة الشباب، حتى بعد مذابح سبتمبر وحكم الإرهاب.
ولكنه، شأن أتباع التنوير جميعاً تقريباً، آمن بالتعليم أكثر مما آمن بالثورة. في هذا المجال، كما في مجالات كثيرة، أحس بتأثير روسو والحركة الرومانتيكية. "يجب أن نسمح للطفل منذ نعومة أظفاره بكامل الحرية من جميع النواحي ... شريطة ألا يتدخل في حرية غيره" (86). على أنه تحفظ بعد قليل في هذه الحرية الكاملة، وسلم بأن قدراً من الضبط ضروري في تكوين الخلق؛ "فإهمال الضبط شر أعظم من إهمال الثقافة، لأن إهمال الثقافة يمكن علاجه في الحياة فيما بعد"، (87) أما أفضل ضبط فهو العمل، وينبغي مطالبة الطفل به في جميع مراحل تعليمه. والتربية(41/232)
الأخلاقية لا غنى عنها، وينبغي أن تبدأ في مرحلة مبكرة. وإذ كانت الطبيعة البشرية تحتوي بذرة الخير والشر كليهما، فإن كل تقدم أخلاقي رهن باقتلاع الشر وغرس الخير، ولا يكون هذا بالثواب والعقاب، بل بالتشديد على مفهوم الواجب".
والتعليم الذي تقوم به الدولة ليس أفضل من التعليم الذي تقوم به الكنيسة، فالدولة ستسعى إلى تكوين المواطنين المطيعين اللينين المتعصبين لوطنهم. والأفضل ترك التعليم للمدارس الخاصة التي يرأسها معلمون مستنيرون ومواطنون مشربون بروح الخدمة العامة (88). لذلك أشاد كانت بمبادئ ومدارس يوهاك بازروف. وأسف على ما تتسم به مدارس الدولة وكتبها المدرسية من تحيز للقومية، وتطلع إلى زمن تعالج فيه جميع الموضوعات بحيدة ونزاهة. وفي 1784 نشر مقالاً بعنوان "أفكار لتاريخ عام من وجهة نظر عالمية"؛ وقد أجمل المقال لتقدم البشرية من الخرافة إلى التنوير، ولم يفسح للدين إلا دوراً صغيراً، وطالب بمؤرخين يرتفعون فوق التعصب القومي.
وقد أدفأ فؤاده بالإيمان بالتقدم، الأخلاقي منه والفكري، كما أدفأ جماعة الفلاسفة أفئدتهم. ففي 1793 وبخ موسى مندلسون على قوله أن كل تقدم يلغيه تقهقر. "في الإمكان الاستشهاد بأدلة كثيرة على أن النوع الإنساني بوجه عام، لا سيما في زماننا بالقياس إلى الأزمنة السابقة كلها، قد سار خطوات لا يستهان بها نحو حياة أفضل من الناحية الأخلاقية. ولا ينقض هذا القول حالات التوقف المؤقتة. وصراخ القائلين بأن النوع الإنساني ينحط باستمرار منشؤه بالضبط أن المرء حين يقف على درجة أعلى من الأخلاقية يمتد بصره إلى مدى أبعد أمامه فيكون حكمه على حالة الناس كما هم، بالقياس إلى ما ينبغي أن يكونوا، حكماً أشد صرامة" (89).
فلما بدأ كانت آخر عقد في عمره (1794) أصاب تفاؤله المبكر شيء من الإظلام، ربما سبب الرجعية في بروسيا وتحالف الدول على فرنسا الثائرة. فانطوى على نفسه، وكتب سراً ذلك الأثر الذي نشر بعد وفاته، والذي قدر له أن يكون وصيته الأخيرة للنوع الإنساني.(41/233)
7 - بعد الموت
كان في بدنه من أضأل الرجال في جيله حجماً-لا يجاوز طوله خمسة أقدام إلا قليلاً، يزيده قصراً تقوس إلى الأمام في عموده الفقري. وكان يشكو ضعفاً في رئتيه، ووجعاً في معدته، ولم يطل عمره إلا بفضل تغذية منتظمة معتدلة. ومما يتفق وطبيعته أنه وهو في السبعين كتب مقالاً عنوانه "في قدرة العقل على التحكم في الشعور بالمرض بقوة العزيمة". وكان يؤكد على حكمه التنفس من الأنف؛ فالمرء يستطيع التغلب على الكثير من نزلات البرد، وغيرها من العثرات بإقفال فمه (90). ومن ثم كان في مسيراته اليومية يمشي وحيداً تجنباً للحديث. ثم يمضي إلى فراشه بانتظام في العاشرة، ويستيقظ في الخامسة، ولم يستغرق في النوم إلا ما بعدها مرة على مدى ثلاثين عاماً (كما يؤكد لنا) (91). وقد فكر في الزواج مرتين، ثم أحجم مرتين. ولكنه لم يكن عزوفاً من عشرة الناس؛ فقد اعتاد أن يدعو ضيفاً أو ضيفين، غالباً من تلاميذه، دون أي امرأة قط-لمشاركته غداءه في الواحد بعد الظهر. وكان أستاذاً للجغرافيا، ولكن ندر أن تحرك خارج كونجزبرج، ولم يرقط جبلاً، ولعله لم ير البحر قط على قربة منه (92). وقد شد من أزره طوال محنة الفقر والرقابة عزة نفس لم تلن إلا ظاهرياً لأي سلطان غير سلطان عقله. وكان كريم النفس سمحاً، ولكنه صارم في أحكامه، يفتقد روح الفكاهة الخليق بأن ينقذ الفلسفة من الغلو في الجد. وكان حسه الأخلاقي أحياناً يبلغ من الرهافة حد التزمت الذي يسيء الظن بكل اللذات حتى تثبت أنها فاضلة.
ولقد بلغ من قلة اكتراثه بالدين المنظم أنه لم يختلف إلى الكنيسة إلا إذا اقتضته ذلك واجباته الجامعية (93). ويبد أنه لم يصل قط في حياته بعد الرشد (94). روى هردر أن تلاميذ كانت بنوا شكوكيتهم الدينية على تعليم كانت (95). وقد كتب كانت إلى مندلسون يقول "صحيح حقاً أنني أفكر بأوضح اقتناع، وبغاية الرضى، في أشياء كثيرة ليس لدي الشجاعة أبداً على قولها، ولكني لا أقول أبداً أي شيء لا أعتقده" (96).(41/234)
وكان حتى آخر سني حياته يجاهد لتحسين عمله، وفي 1798 أخبر صديقاً: "إن العمل الذي أشغل به نفسي الآن يجب أن يتناول الانتقال من الأساس الميتافيزيقي للعلوم الطبيعية إلى الفيزياء. فلا بد من حل هذه المشكلة، وإلا كان هنا فجوة في نسق الفلسفة النقدية". (97) ولكنه في ذلك الخطاب وصف نفسه بأنه "قد عجز عن العمل الذهني". ودخل حقبة طويلة من اضمحلال البدن، والأوجاع المتراكمة، وشعور الوحشة الذي يصاحب شيخوخة العزب. ووافته المنية في 12 فبراير 1804. ودفن في كتدرائية كونجزبرج، فيما يعرف الآن بـ "ستوا كانتيانا"، (مثوى كانت) ونقشت على قبره كلماته "السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقاموس الأخلاقي في باطني".
وقد خلف عند موته خليطاً كبيراً من الكتابات نشرت على أنها "أثر منشور بعد وفاة مؤلفه" في 1882 - 84. وفي إحداها وصف "الشيء-في-ذاته"-الطبقة السفلية المجهولة من وراء الظواهر والأفكار-بأنه "ليس شيئاً حقيقياً، ... ولا حقيقة موجودة، بل مجرد مبدأ ... للمعرفة القبلية التركيبية للعيان-الحسي المتعدد (98) ". وقد سمته ... "أي شيئاً لا وجود له إلا في فكرنا". وقد طبق هذه الارتيابية ذاتها على فكرة الله:
"ليس الله جوهراً موجوداً خارجي، بل مجرد علاقة أخلاقية في باطني ... والأمر المطلق لا يفترض جوهراً يصدر أوامره من عل، ويتصور إذن على أنه خارجي، بل هو أمر أو نهي من عقلي أنا ... والأمر المطلق يمثل الواجبات الإنسانية كأوامر إلهية لا بالمعنى التاريخي، كأن (كائناً إلهياً) قد أصدر أوامر للناس، بل بمعنى أن العقل ... له القدرة على الأمر بسلطة شخص إلهي وعلى هيئته ... "وصورة كائن كهذا، يجثو أمامه الجميع ... الخ. تنبعث من الأمر المطلق، وليس العكس ... أن الكائن الأعلى ... هو من خلق العمل ... لا جوهر خارج عني" (99).(41/235)
وهكذا انتهت الفلسفة الكانتية التي تشبثت بها المسيحية طويلاً، في ألمانيا ثم بعدها في إنجلرة، باعتبارها آخر وأفضل أمل للألوهية، بتصور كئيب لله يراه خيالاً نافعاً نماه العقل البشري ليفسر المطلقية الواضحة للأوامر الأخلاقية.
أما خلفاء كانت الذين يجهلون هذا الأثر الذي خلفه بعد موته، فقد أشادوا به منقذ المسيحية، والبطل الألماني الذي قتل فولتير؛ وغلوا في تمجيد إنجازه غلو غلب تأثيره على تأثير أي فيلسوف من المحدثين. وتنبأ أحد تلاميذه وهو كارل راينهولت بأنه لن يمضي قرت حتى تنافس شهرة كانت شهرة المسيح (100). وقبل الألمان البروتستنت كلهم (باستثناء جوته) زعم كانت بأنه أحدث "ثورة كوبرنيقية" في علم النفس: فبدلاً من أن يكون الفكر (الشمس) هو الذي يدور حول الشيء (الأرض)، جعل الأشياء تدور حول الفكر، ويعتمد عليه. وقد أرضى غرور الذات الإنسانية أن يقال لها أن أساليبها الفطرية في الإدراك الحسي هي المقومات المحددة لعالم الظواهر. وخلص فشته (حتى قبل وفاة كانت) إلى أن العالم الخارجي من خلق العقل، واستهل شوبنهاور-الذي قبل تحليل كانت-بحثه الضخم "العالم كإرادة وفكرة" بهذا الإعلان "إن العالم فكرتي"-وهو إعلان أثار بعض الدهشة في مدام دستال.
واغتبط المثاليون لأن كانت كان قد جعل المادية مستحيلة منطقياً ببيانه أن العقل هو الحقيقة الوحيدة المعروفة لنا مباشرة. وسعد الصوفيون لأن كانت قد قصر العلم على الظواهر، وأقصاه عن العالم النوميني والحقيقي حقاً، وترك هذه المملكة الغامضة (التي أنكر في دخيلة نفسه وجودها) متنزهاًخلاصاً للاهوتيين والفلاسفة. أما الميتافزيقا، التي كان جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين قد أقصوها عن الفلسفة، فقد رد لها اعتباراً حكماً للعلوم كلها، وأقر جان بول لاشتير لألمانيا بسيادة الهواء، بعد أقر لبريطانيا بسيادة البحر، ولفرنسا بسيادة اليابس. وبنى فشته وشيلنج هيجل القلاع الميتافيزيقية على مثالية كانت الترانسندنتالية، وحتى رائعة شوبتهاور اتخذت نقطة انطلاقها(41/236)
من تشديد كانت على أولوية الإرادة. قال شيلر "انظر كيف هيأ غني واحد أسباب الرزق لمجموعة من المتسولين" (101).
كذلك أحس الأدب الألماني هو أيضاً تأثير كانت سريعاً، لأن فلسفة عصر تكون على الأرجح أدب العصر الذي يليه. ففرق شيلر برهة في مؤلفات كانت، وكتب خطاباً ملؤه الإجلال للمؤلف، وبلغ في مقالاته النثرية غموضاً يقرب من الغموض الكانتي. وأصبح الإبهام واللبس موضة فاشية في الكتابة الألمانية، وشعار نبالة يشهد بعضوية حامله في تلك الطائفة العتيقة، طائفة نساجي خيوط العناكب. قال جوته "إن التأمل الفلسفي، على العموم، أذى للألمان، لأن من شأنه أن يجعل أسلوبهم غامضاً عسيراً مبهماً. وكلما قوي تعلقهم بمدارس فلسفية بعينها ازدادت كتابتهم سواء" (102).
ويتردد المرء في اعتبار كانت كاتباً رومانتيكياً، ولكن الفقرات الأدبية الغائمة التي كتبها في الجمال والجلال غدت من الينابيع التي انبثقت منها الحركة الرومانتيكية. ولقد انبعثت محاضرات شيلر في يينا "ورسائله في تربية الإنسان الاستطيقية" (1795) -وهي معالم على طريق تلك الحركة-من دراسته كتاب كانت "نقد الحكم". وقد هيأ التفسير الذاتي النزعة لنظرية كانت في المعرفة أساساً فلسفياً لمذهب الفردية الرومانتيكية الذي نشر لواءه مزهواً في حركة "شتورم" (الزوبعية). وعبر تأثير كانت الأدبي إلى إنجلترة، فتأثر به كولبردج وكارليل، ثم عبر إلى إنجلترة الجديدة، وأعطى اسماً لحركة إمرسن وثورو-الترانسندنتالية (103). لقد هز أستاذ الجغرافيا القصير القامة المحدودب الظهر العالم وهو يطأ أرض "متنزه الفيلسوف" في كونجزبرج. وما من شك في أنه قدم للفلسفة وعلم النفس أشق ما عرفه التاريخ إلى الآن من تحليل لعملية المعرفة.(41/237)
الفصل الثاني والعشرون
الطرق إلى فايمار
1733 - 1787
1 - أثينة ألمانيا
ترى لم أختار أسمى عصور الأدب الألماني فايمار دون غيرها وطناً له؟ إن ألمانيا لم يكن لها عاصمة واحدة ترتكز فيها ثقافتها كما كانت الحال في فرنسا وإنجلترة، ولم تكن تملك ثروة مركزة لتمويل هذه الثقافة. وكانت حرب السنين السبع قد أضعفت برلين ولييبزج، أما درسدن فكادت تدمرها تدميراً؛ وأما همبورج فقد بذلت مالها أولها للأوبرا؛ ثم للمسرح. وفي 1774 كانت فايمار، عاصمة دوقية ساكسي-فايمار-آيزيناخ، بلدة هادئة يسكنها نحو 6. 200 نسمة، وحتى بعد أن ذاع صيتها أشار إليها جوته بـ "هذه العاصمة الصغيرة التي تضم-كما يقول الناس على سبيل المزاح عشرة آلاف شاعر وبعض السكان" (1) فهل مجدها يا ترى بناه أفراد عظام؟.
لقد حكمت فايمار من 1758 إلى 1775 ابنة أخت فردريك الأكبر، وهي المرأة المرحة، الدوقة الأرملة آنا أماليه، التي ترملت وهي في الثامنة عشرة بموت زوجها الدوق قسطنطين، وأصبحت وصية على ولدهما كارل أوجست الذي لم يتجاوز العام الواحد. وإليها يرجع الفضل في فتح باب بين الحكومة والأدب بدعوتها فيلاند للحضور والقيام على تهذيب أبنائها (1772). وكانت واحدة من نساء عديدات مثقفات حفزن الشعراء والمسرحيين(41/239)
والمؤرخين تحت قيادتها وحتى موتها في 1807 بإغراء الجنس والمديح، وقد حولت بيتها بعد عام 1776 صالوناً، شجعت فيه استعمال الألمانية لغة الأدب-رغم أن الجميع كانوا يتكلمون الفرنسية أيضاً.
وفي 1775 كان بلاط فايمار يضم نحو اثني عشر شخصاً وأتباعهم. وقد وجد الشاعر الكونت كرستيان تسوشتولبرج في هذا البلاط جواً ساراً خالية من الكلفة في ذلك العام الذي وصل فيه جوته. يقول "إن الدوقة العجوز (وكانت يومها في السادسة والثلاثين) هي الفطنة المجسمة، وهي مع ذلك لطيفة وطبيعية جداً. أما الدوق فغلام عجيب، كله وعد وتبشير، وكذلك أخوه. ثم هناك الكثير من الأشخاص الممتازين". (2) وفي 1787 وصف شيلر "نبيلات فايمار" بأنهن "شديدات الحساسية وقل أن تجد بينهن واحدة لم تخض تجربة غرام، وجميعهن يحاولن غزو القلوب ... فهنا حكومة هادئة لا تكاد تحس بها، تسمح لكل إنسان بأن يحيا، وأن يصطلي في الهواء والشمس. وإذا كان بالمرء ميل إلى المرح فكل الفرص متاحة له" (3).
وتقلد كارل أوجست حكم الدوقية في 3 سبتمبر 1775 حين بلغ الثامنة عشرة. وما لبث أن اتخذ زوجة بعد أن أجرى معاشاً على خليلته (4)، والزوجة هي لويزة أميرة هسي-دارمشتات، ثم اقتنص جوته في الطريق، وكان يمارس الصيد في ضراوة، ويسوق مركبته في تهور مخترقاً شوارع المدينة الهادئة، ويتنقل على عجل بين النساء؛ ولكن تهوره كبحه عقل نضج ببطء حتى بلغ القدرة على الحكم الصائب. وقد درس الزراعة والصناعة وبسط رعايته عليهما، وشجع العلوم، وأعان الأدب، وجاهد لخير إمارته وشعبها. واستمع إلى مدام دستال التي جابت ألمانيا في 1803 تقول: "ليس بين الإمارات الألمانية كلها إمارة تشعرنا أكثر من فايمار بمزايا الدويلة حتى يكون أميرها رجلاً قوي الفهم قادراً على السعي لإسعاد جميع طبقات رعاياه دون أن يفقد شيئاً من طاعتهم ... ومواهب الدوق الحربية يحترمها الجميع، وحديثه المثير المشرب بالتفكير يذكرنا على الدوام بأنه ربيب فردريك(41/240)
العظيم. ولسمعته وسمعة أمه الفضل في اجتذاب ألمع رجال العلم والثقافة إلى فايمار. ولأول مرة أصبح لألمانيا حاضرة أدبية كبرى" (5).
2 - فيلاند
1733 - 1775
كرستوف مارتن فيلاند هو أقل الرجال الأربعة، الذين أذاعوا صيت فايمار، شهرة بين الناس، ولكن لعله كان أجدرهم بالحب. وقد عزفت على قيثارته كل مؤثرات جله تقريباً ووفقت نغماتها بكل دوره. كان ابناً لراعي كنيسة في أبروهولتسهايم (قرب بيبراخ في فورتمبرج) فنشئ على التقوى واللاهوت. فلما اكتشف الشعر جعل الرجل الفاضل كلوبشتوك مثله الأعلى، ثم تحول إلى فولتير ترفيهاً عن نفسه. ثم وجد في بلدة فارتهاوزن القريبة منه مكتبة الكونت فون شتاديون الضخمة، فنهل من الأدبين الفرنسي والإنجليزي، ونفض عنه قدراً كبيراً من اللاهوت، حتى لقد هزأ بإيمان صباه في رواية سماها "دون سلفيو فون روزالفا" (1764). ونشر مترجمات نثرية لعشرين من مسرحيات شكسبير (1762 - 66)، فأتاح بذلك لألمانيا لأول مرة نظر إلى شكسبير ككل، ويسر لكتاب التمثيليات الألمان مهرباً من الصيغة الكلاسيكية التي اتخذتها الدراما الفرنسية. وكان فنكلمان وآخرون أثناء ذلك يبشرون بالدعوة الهيلينية، وصاغ فيلاند لنفسه صورته الخاصة من هذه الدعوة فاتخذ نغمه أبيقورية خفيفة في كتابه "قصص هزلية" (1765)، وجعل رجلاً إغريقياً وهمياً البطل لأهم عمل نثري ألفه وهو "تاريخ أجاثون" (1766 - 67)، الذي وصفه ليسنج بأنه "الرواية الوحيدة اللائقة بالرجال المفكرين" (6).
وقد أراد فيلاند (البالغ ثلاثة وثلاثين عاماً) في صفحاتها المطوفة أن يبسط فلسفته في الحياة، متمثلة في المغامرات الجسدية والعقلية لرجل أثيني من عصر بركليس. قال في المقدمة "لقد اقتضت خطتنا تصوير بطلنا وهو يجتاز شتى المحن"، وهي محن من شأنها أن تربي الإنسان على الأمانة والحكمة دون الالتجاء إلى الحوافز أو الدعائم الدينية (7). وأجاثون (أي الطبيب)،(41/241)
الشاب الوسيم، يقاوم محاولة إحدى كاهنات دلفي لإغوائه، وبدلاً من ذلك يشعر نحو العذراء الساذجة "بسوخي" (النفس) يجب نقي وإن كان مشوباً. ويدخل عالم السياسة، فيشمئز من تعصب الأحزاب، ويندد بالناخبين لافتقارهم بالناخبين لافتقارهم إلى المبدأ، ثم ينفى من أثينا. وفيما هو يهيم فيجبال اليونان يقع على لفيف من النسوة التراقيات يحتفلن بعيد باخوس برقصات شهوانية عنيفة؛ فيحسبنه باخوس، ويكدن يخنقنه بعناقهن، ثم تنقذه عصابة من القراصنة، تبيعه عبداً في أزمير لهبياس، وهو أحد سوفساطي القرن الخامس ق. م. ويشرح فيلاند فلسفة السوفسطائيين في سخط فيقول:
"إن الحكمة التي جعل منها السوفسطائيون مهنة لهم كانت من حيث الكيف كما كانت من حيث الأثر النقيض للحكمة التي جهر بها سقراط. فالسوفسطائيون علموا فن إثارة أهواء الرجال (بالخطابة)؛ بينما غرس سقراط فن سيطرة الإنسان على أهوائه. وقد بينوا كيف يظهر الإنسان أمام الناس حكيماً فاضلاً، أما هو فقد بين كيف يكون الإنسان كذلك. وهم شجعوا شباب أثينا على محاولة السيطرة على الدولة، أما هو فبين لهم أنهم سينفقون نصف عمرهم ليتعلموا كيف يحكمون ذواتهم. وكانت فلسفة سقراط تفخر بالحياة مجردة من الغنى، أما فلسفة السوفسطائيين فكانت تعرف كيف تحقق الغنى. كانت كيسة، خلابة، متقلبة، مجدت العظماء ... وعبثت بالنساء، وتملقت كل شخص ينقدها ثمن التملق. كانت فيكل مكان لا تحس الغربة، لها الحظوة في البلاط، وفي مخادع النساء، ومع الطبقة الارستقراطية، وحتى مع طبقة الكهان، في حين أن تعاليم سقراط ... يحكم عليها الفضوليون بأنها عديمة النفع، والمتبطلون بأنها عديمة المذاق، والأتقياء بأنها خطرة. " (8).
وتتمثل في هبياس كما يصوره فيلاند كل أفكار السوفسطائيين ورذائلهم. فهو فيلسوف، ولكنه حرص على أن يكون مليونيراً أيضاً. وهو يعتزم(41/242)
أن ينشئ أجاثون المستقيم الخلق على أسلوب أبيقوري في التفكير والعيش. ويزعم أن أحكم سياسة ينتهجها الإنسان أن يجري وراء الأحاسيس اللذيذة، و "كل اللذات هي في حقيقتها حسية" (9). وهو يضحك من أولئك الذين يحرمون أنفسهم من لذات هذه الحياة الدنيا أملاً في مباهج السماء التي قد لا تتحقق أبداً. "فمن ذا الذي رأى مرة أولئك الأرباب، وتلك المخلوقات الروحية، التي يؤكد (الدين) وجودها؟ "فهذا كله حيلة يخادعنا بها الكهنة (10). ويدين أجاثون هذه الفلسفة لأنها تتجاهل العنصر الروحي في الإنسان وحاجات النظام الاجتماعي. ويقدمه هبياس إلى داناي المرأة الغنية الجميلة، ويشجعها على إغوائه، ويخفي عنه ماضي داناي حين كانت محظية. وترقص المرأة وتحمل أجاثون رشاقة جسدها مع سحر حديثها وموسيقى صوتها على أن يقدم لها حبه الخالص الطاهر. وتفسد داناي على هبياس مؤامراته إذ ترد حب أجاثون بمثله. ذلك أنها بعد أن تقبلت في أحضان رجال كثيرين تجد تجربة وسعادة جديدتين في حب أجاثون. وهي تتطلع إلى أن تبدأ مع أجاثون حياة جديدة أكثر طهراً بعد أن سئمت غرامياتها العديمة العاطفة. فتشتريه مع هبياس، وتعتقه، وتدعوه لمقاسمتها ثروتها؛ ولكن هبياس يبوح لأجاثون بماضي داناي وهي محظية انتقاماً منها. فيركب أجاثون البحر إلى سيراكيوز.
وهناك يكتسب سمعة طيبة بالحكمة والنزاهة، فيصبح الوزير الأول للدكتاتور ديونيسيوس. وقد تخلى الآن عن بعض مثاليته:
"فلم يعد يحلم كما كان بتلك المثاليات الرفيعة عن طبيعة البشر. أو قل أنه انتهى إلى معرفة البون الشاسع بين الإنسان الميتافيزيقي، الذي يفكر فيه المرء أو يحلم به في خلوته المتأملة، أو الإنسان الفطري وهو خارج لتوه في بساطته الفجة من يدي الطبيعة الأم، وبين الإنسان الزائف الذي جعله المجتمع والقوانين والآراء والحاجات والتبعية والصراع المتصل بين رغباته وظروفه، وبين مصلحته ومصلحة غيره، وما يترتب على ذلك من ضرورة إخفاء مقاصده الحقيقية وسترها باستمرار-أقول أن هذا كله(41/243)
جعل الإنسان كاذباً، منحطاً، مشوهاً، متنكراً وراء مئات الصور الخداعة وغير الطبيعية. ولم يعد ذلك المتحمس، الفتى الذي كان يخيل له أن تنفيذ مشروع عظيم سهل يسير كتصوره. وقد تعلم أن على المرء ألا يتوقع الكثير من الآخرين، وألا يعتمد كثيراً على تعاونهم معه، و (أهم من ذلك كله) ألا يثق كثيراً بنفسه ... وتعلم أن أكثر الخطط كمالاً هي في الغالب أسوؤها (وأنه) لا شيء في العالم الأخلاقي، كما في العالم المادي، يتحرك في خط مستقيم، وبالاختصار أن الحياة أشبه برحلة بحرية يتعين فيها على الربان أن يكيف مسيره وفق هوى الريح والجو، ولا يطمئن أبداً إلى أن التيارات المعاكسة لن تعطله أو تجنح بمركبة؛ وأن كل شيء رهن بهذا: وهو أن يضع نصب عينيه ميناء الوصول الذي يقصده رغم مئات الانحرافات عن الطريق" (11).
ويخلص أجاثون الخدمة لسيراكيوز وينجز بعض الإصلاحات، ولكن مؤامرة في القصر تخلعه، فيعتزل في تارنتوم. وهناك يرحب به صديق قديم لأبيه هو الفيلسوف والعالم الفيثاغوري أرخيتاس (ازدهر 400 - 365 ق. م) الذي يحقق حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف. وهناك يعثر على حبيبة صباه بسوخي، ولكنها للأسف متزوجة من ابن أرخيتاس، ثم يتبين أنها أخت أجاثون. على أن داناي يؤتي بها (بعصا الروائي السحرية) من أزمير إلى تارنتوم، وقد هجرت عاداتها الأبيقورية لتحيا حياة العفة والبساطة. ويطلب إليها أجناثون أن تغفر له بعد أن أدرك أنه أثم بهجرانه إياها، فتعانقه، ولكنها ترفض الزواج منه، فقد عولت على التفكير عن انحرافات الماضي بحياة الزهد والتعفف في ما بقي لها من أجل. وتختتم القصة بأجناثون قانعاً قناعة لا تصدق بأن يعد المرأتين أختين له.
والكتاب تشوبه عشرات المآخذ. فبناؤه مفكك؛ ومصادفاته ذرائع كسولة للتهرب من الصنعة الروائية؛ وأسلوبه لطيف ولكنه شديد الأطناب؛ وفي كثير من الفقرات يبتعد الفاعل عن الفعل حتى ينسى؛ وقد هنأ أحد النقاد المؤلف بعيد ميلاده بأن تمنى له حياة طويلة طول جمله. ولكن "تاريخ(41/244)
أجاثون" برغم هذا يعد من أعظم آثار عصر فردريك. وقد دلت استنتاجاته على أن فيلاند قد اصطلح مع الدنيا، وأن في الاستطاعة الآن أن يوكل إليه تعليم الشباب المندفع المتوتر وترويضه. فعين في 1769 أستاذاً للفلسفة في إيرفورت. ومنها أصدر بعد ثلاث سنين "المرآة الذهبية" وهو كتاب بسط فيه آراءه في التربية. وافتتنت به آنا آماليا، فدعته ليجرب نظرياته التربوية مع أبنائها. فذهب، وأنفق ما بقي من عمره في فايمار، وفي 1773 أنشأ مجلة (الرائد الألماني)، التي ظلت جيلاً (1773 - 89) تحت قيادته أعظم المجلات الأدبية نفوذاً في ألمانيا. وكان النجم الفكري لفايمار حتى أتى جوته، وحين اقتحم الكاتب الشاب الجريء المدينة في 1775، رحب به فيلاند دون شعور بالغيرة، وسيظل صديقه مدى ست وثلاثين سنة.
3 - جوته بروميثيوس
1749 - 1775
أ - نشأته
تقبلت على يوهان فولفجانج فون جوته شتى التجارب منذ كان يجوب شوارع فرانكفورت- على- المين وهو واع بأنه حفيد عمدتها، حتى سبعينياته التي كان لأحاديثه العارضة فيها الفضل في إذاعة اسم كاتب سيرتهإكرمان (كما أذاع جونسون اسم بوزويل)، واستوعب كل ما وسع الحياة والحب والرسائل أن تمنحه، راداً إياه- في عرفان- حكمة وفناً.
وكانت فرانكفورت "مدينة حرة"، يسودها التجار والأسواق، ولكنها إلى ذلك المقر الذي خصصه الأباطرة للتويج الملوك الألمان وأباطرة الدولة الرومانية المقدسة. وفي 1749 كان يسكنها 33. 000 نسمة جلهم تقي مهذب بشوش الوجه. وكان مولد جوته في منزل متين ذي طوابق أربعة (دمره حريق في 1944 ثم أعيد بناؤه في 1951). وكان أبوه يوهان كاسبار جوته ابن خياط وفندق ميسور الحال، وقد دمر يوهان كاسبار مستقبله السياسي بالكبر والخيلاء، واعتزل مهنة المحاماة مؤثراً حياة الدراسة الهاوية في مكتبته(41/245)
الأنيقة. وفي 1748 تزوج كاتارينا اليزابث، ابنة يوهان فولفجانج تكستور عمدة فرانكفورت. ولم ينس ابنها قط أنه عن طريقها ينتسب إلى الإشراف من غير حملة الألقاب، الذين حكموا المدينة أجيالاً قبل ذلك. قال لأكرمان وهو في الثامنة والسبعين، "نحن أشراف فرانكفورت كما نعد أنفسنا دائماً مساوين لطبقة النبلاء؛ وحين احتوت يداي إجازة النبالة (التي منحت له عام 1782) لم أر أني ظفرت بشيء أكثر مما كنت أملك منذ زمن طويل". (12) وكان يحس أن "الأوغاد فقط هم المتواضعون" (13).
وكان أكبر أطفال ستة، لم يتجاوز الطفولة منهم غيره هو وأخته كورنيليا؛ في تلك الأيام كان الحنان الأبوي الكبير يعد عناءً باطلاً. ولم يكن بيتهم بالبيت السعيد؛ فالأم لطيفة الطبع تميل إلى الفكاهة والشعر، ولكن الأب حاكم صارم متزمت أقصى عنه قلوب أطفاله بخشونة طبعه وضيق خلقه. يقول جوته مستعيداً ذكرى طفولته "لم يكن في الإمكان نمو علاقته سارة مع أبي" (14). وربما اكتسب جوته منه كما اكتسب من تجربته عضواً في مجلس شورى الدوق بعض التصلب الذي بدا عليه في أخريات حياته. وربما أخذ عن أمه روحه الشاعرة وحبه للدراما. وقد بنت في بيتها مسرحاً للعرائس؛ ولم يفق ابنها قط من افتتانه بهذا المسرح.
وتلقى الأطفال تعليمهم المبكر على يد أبيهم، ثم من معلمين خصوصيين. واكتسب فولفجانج الإلمام بقراءة اللاتينية واليونانية والإنجليزية وبعض العبرية، والقدرة على التحدث بالفرنسية والإيطالية. وتعلم أن يعزف على الهاربسيكورد والفيولنشييلو، ويرسم ويصور بالألوان، ويركب الخيل ويثاقف ويرقص، ولكنه اتخذ الحياة خير معلم له. فارتاد كل نواحي فرانكفورت بما فيها حي اليهود؛ وسدد النظرات الغرامية للفتيات اليهوديات الحسان، وزار مدرسة يهودية، وحضر حفلة ختان، وكون لنفسه فكرة عن أيام اليهود المقدسة (15). وأضافت إلى تعليمه أسواق فرانكفورت إذ جلبت إلى المدينة وجوهاً وسلعاً غريبة دخيلة، وكذلك أضاف الضباط الفرنسيون في بيت جوته إبان حرب السنين السبع. وفي 1764 شهد الصبي ذو الخمسة(41/246)
عشر ربيعاً تتويج يوزف الثاني ملكاً على الرومان؛ وقد حفظ كل صغيرة وكبيرة في الحفل، وأنفق عشرين صفحة على وصفه في سيرته الذاتية (16).
وحين ناهز الرابعة عشرة وقع في أول غرام من غرامياته الكثيرة التي أثمرت نصف شعره. وكان في تلك الآونة قد اشتهر ببراعته في قرض الشعر، فطلب إليه بعض الصبية ممن اختلط بهم أحياناً أن يكتب خطاباً منظوماً بأسلوب فتاة موجهة إلى فتى؛ فأحسن كتابته، مما حملهم على أن يرتبوا تسليمه لعضو مقيم من جماعتهم على أنه مرسل إليه من حبيبته. وأراد الصبي أن يرد على الشعر بالشعر ولكن أعوزته الكفاية وخانته القوافي، فطلب إلى جوته أن ينظم له رداً. فوافق، وعرفاناً بجميله دفع العاشق نفقات نزهة خرجت فيها الجماعة إلى فندق في إحدى ضواحي المدينة. وكانت الخادمة صبية مراهقة تدعى مرجريته- أو جرتشن اختصاراً، وقد أطلق جوته اسمها على بطلة تمثيليته "فاوست". وربما هيأته القصص الغرامية التي قرأها، والرسائل التي كتبها، لتذوق سحر الأنوثة في الصبايا. كتب وهو في الستين يقول "إن أول نوازع الحب في شاب غشيم يتجه اتجاهاً روحياً بحتاً. ويبدو أن الطبيعة ترغب في أن يدرك أحد الجنسين بحواسه الجمال والطبيعة في الجنس الآخر. وهكذا تكشف لي عالم جديد من الجميل والرائع بمرأى هذه الفتاة وبميلي الشديد لها". (17) ولم يفقد ذلك العالم بعدها قط؛ فكانت المرأة بعد المرأة تحرك روحه الحساسة، وتحركها غالباً بالتبجيل كما تحركها بالرغبة؛ فحين كان في الثالثة والسبعين وقع في غرام فتاة في السابعة عشرة.
وغلبه الارتباك لحظة وأعجزه عن التحدث إلى ساحرته. "ذهبت إلى الكنيسة مدفوعاً بحبي لها ... ورحت خلال الخدمة البروتستنتية الطويلة أحدق فيها بملء عيني". (18) ثم رآها ثانية في فندقها جالسة في المغزل. كما جلست جرتشن أخرى في فاوست. واتخذت هي الخطوة الأولى الآن، ووقعت في ابتهاج الخطاب الغرامي الثاني الذي اصطنعه كأنه مرسل من فتاة. ثم قبض على واحد من الجماعة كان جوته قد أوصى جده به، وهو يزيف سندات ووصايا؛ فهي فولفجانج أبواه عن مزيد من الاتصال بهؤلاء(41/247)
الصبية، ورحلت جرتشن إلى مدينة بعيدة، ولم يرها جوته بعدها قط. وقد تضايق كثيراً حين علم أنها قالت "كنت أعامله دائماً على أنه طفل" (19).
وكان الآن (1765) راضياً تمام الرضى بالرحيل عن فرانكفورت ودراسة القانون في جامعة ليبزج، وراح ككل شاب طلعة يقرأ قراءات واسعة خارج الموضوعات المقررة لدراسته. وكان قد تصفح "قاموس بيل التاريخ النقدي" في مكتبة أبيه، وخرج منه بأذى كبير لإيمانه الديني؛ "ما إن وصلت إلى ليبزج حتى حاولت أن أتحرر كلية من صلتي بالكنيسة" (20). ثم أنفق فترة في التنقيب في الغيبيات والخيمياء وحتى السحر، وهذا أيضاً دخل في مسرحية "فوسمت". ثم جرب الحفر وصنع الرواسم من الخشب، ودرس مجموعة الصور المعروضة في درسدن؛ وتكررت زياراته للمصور أويزر في ليبزج. وقد ألم بكتابات فنكلمان بطريقة أويزر، وعن هذه الكتابات وكتاب ليسنج "اللاوكون" تلقى أول نفحات إجلاله للطراز الكلاسيكي. وكان هو وطلاب آخرون يعدون استقبالاً حاراً لفنكلمان في ليبزج حين وافاهم نبأ مصرعه في تريست (1768).
وكان الإحساس بالجمال هو الغالب في مدخله إلى العالم. ففي الدين لم يحب غير أسراره المقدسة، المثيرة، الغنية بالألوان. ولم يحب الفلسفة كما كتبها الفلاسفة، باستثناء سبينوزا؛ وكان يرتعد من المنطق ويهرب من كانط. وقد أحب الدراما، وكتب مسرحية لا قيمة لها في ليبزج، ودأب على قرض الشعر كل يوم تقريباً، حتى وهو يستمتع إلى محاضرات القانون. والقصائد التي نشرها باسم "أغاني ليبزج" مكتوبة بأسلوب أناكريون، فيها عبث ولهو، وأحياناً إثارة وشبق:
ومع ذلك فأنا قانع تملؤني الفرحة
إن هي جادت فقط ببسمتها الحلوة،
أو إن استعملت وهي على المائدة
قدمي حبيبها وسادة لقدميها؛(41/248)
أو أعطني التفاحة التي قضمتها،
أو الكأس التي شربت منها،
وكشفت عن ثديها المكنون
حين تنشد ذلك قبلتي (21).
أكانت هذه مجرد من؟ لا فيما يبدو. ذلك أنه كان قد وجد في ليبزج رأساً جميلاً- رأس آنيت شونكويف- راغباً في أن يلج على الأقل الدهليز إلى الحب. وكانت ابنة تاجر خمور يقدم وجبة الظهر للطلاب. وكان جوته يتناول طعامه هناك مراراً فاشتهاها. واستجابت لحرارة عاطفته بتحفظ حكيم، وسمحت لرجال آخرين بأن يتقربوا منها، فبدأ يغار، وأخذ يتجسس عليها؛ وتشاجرا ثم تصالحا، ثم تشاجرا وافترقا. ولقد ذكر نفسه حتى في هذه النشوات أنه حفيد عمدة، وأن باطنه قريناً- هو حافز ودافع لجن نهم يطالب بالحرية في سبيل الاكتمال التام إلى مصيره المحتوم. وقبلت آنيت خطيباً غيره.
ورأى جوته في هذا هزيمة له، وحاول نسيانها بالانغماس في اللذات. "لقد فقدتها حقاً وكان للجنون الذي انتقمت به لخطئي من نفسي بالعدوان على طبيعتي الجسدية بشتى الطرق المسعورة، لألحق بعض الأذى بطبيعتي الخلقية- أقول كان له ضلع كبير جداً في إصابتي بالأمراض البدنية التي خسرت بسببها بعضاً من أفضل سني عمري". (22) واستسلم للاكتئاب، وأصابه عسر هضم عصبي، وابتلى بورم مؤلم في عنقه، واستيقظ ذات ليلة على نزيف كاد يقضي عليه. وغادر ليبزج دون أن يظفر بدرجته الجامعية، وقفل إلى فرانكفورت (سبتمبر 1768) ليواجه تأنيب الأب ومحبة الأم.
ثم تعرف أثناء فترة نقاهته الطويلة إلى سوزانة فون كلتنبرج، وكانت تقوية مورافية، لطيفة، عليلة. "كان صفاؤها وهدؤ عقلها لا يبرحانها قط، وكانت تنظر إلى مرضها نظرتها إلى عنصر ضروري في وجودها الأرضي(41/249)
العابر" (23). وقد وصفها بعد سنين وصفاً فيه تعاطف وبراعة في "اعترافات روح جميلة". التي أدخلها في كتابه "ولكنه سجل في غير مبالاة مزاعمها من أن قلقه واكتئابه سببهما إخفاقه في المصالحة مع الله. "كنت أعتقد منذ حداثتي إنني على علاقة طيبة جداً مع إلهي- لا بل إنني تخيلت ... أنه قد يكون مديناً لي بدين لم يوفه بعد، لأنني كنت مع الجرأة بحيث رأيت أن عليه لي مأخذاً يقتضي أن اغتفره له. وكان هذا الغرور قائماً على حسن نيتي الذي لا حد له، وهو ما كان خليقاً بإلهي أن يعينني عليه معونة أفضل كما بدل لي. وللقارئ أن يتصور كم من المرات دخلت في مناعات مع أصدقائي حول هذا الموضوع، ولكنها كانت تنتهي دائماً بغاية المودة والصفاء" (24).
ومع ذلك مرت به لحظات متفرقة من التقوى، إلى حد الاختلاف إلى بعض جلسات الإخوان المورافيين، ولكن نفره من هؤلاء القوم البسطاء (25)، "ضعف ذكاءهم" وسرعان ما ارتد إلى الجمع المتقطع بين الإيمان بوحدة الوجود والشك العقلاني.
وفي أبريل 1770 رحل إلى ستراسبورج أملاً في نيل درجته القانونية. ووصفه زميل من الطلاب (وهو في الحادية والعشرين) بأنه "فتى وسيم الوجه، له جبين رائع وعينان واسعتان متقدمتان "ولكنه أردف" أن التعامل مع هذا الشاب لن يكون أمراً يسيراً، إذ يبدو أن له طبعاً جموحاً غير مستقر" (26). وربما كان مرضه الطويل سبباً في إثارة أعصابه؛ وكان "قرينه" أشد إقلاقاً له من أن ينيله الهدوء والاستقرار، ولكن أي شاب تسري النار في دمه يستطيع أن ينعم بالهدوء؟ وحين وقف أمام الكتدرائية الكبرى حياها بشعور الوطنية، لا بوصفها كاثوليكية بل معماراً ألمانياً، معمارنا، فالإيطاليون لا يستطيعون المفاخرة بشيء نظيرها، وأقل منهم الفرنسيون" (27) (ولم يكن قد رأى بعد إيطاليا ولا فرنسا). "وصعدت وحيداً إلى أعلى قمة في البرج ... وغامرت من هذا العلو بأن أخطو إلى الخارج على افريز لا يكاد يبلغ ياردة مربعة. وقد أوقعت هذا الرعب(41/250)
والعذاب على نفسي مراراً وتكراراً حتى أصبحت التجربة في نظري أمراً غير ذي بال". (28) وقد لاحظ أحد أساتذته أن "الهرجوته كان يسلك بأسلوب جعل الناس ينظرون إليهم نظرتهم إلى دعي كاذب من أدعياء العلم، وخصم مسعور لكل تعليم ديني. والرأي الذي أجمع عليه الكل تقريباً أن في رأسه برجاً ناقصاً" (29).
وعملت التجارب الجديدة الكثيرة على تأجيج ناره. فقد التقى بهردر مرات خلال إقامته في ستراسبورج. وكان هردر الذي يكبره بخمس سنوات، هو الطرف المسيطر في هذه اللقاءات؛ وقد وصف جوته نفسه، في نوبة تواضع عارضة، بأنه "كوكب" يدور حول شمس هردر. وأزعجته نزعة هردر الدكتاتورية، ولكنه حفزه إلى قراءة الأغاني الشعبية القديمة، وكتاب مكفرسن "أوسيان" ومسرحيات شكسبير (في ترجمة فيلاند). ولكنه قرأ أيضاً فولتير وروسو وديديرو ثم درس مقررات في الكيمياء والتشريح والولادة، فضلاً عن مواصلة دراسة القانون ... ثم أنه واصل دراسته للنساء.
ذلك أنه شعر بفتنتهن بكل ما في الشاعر من حساسية مرهفة، وكل ما في الشاب من توهج كهربي. وبعد هذه الحقبة بسبعة وأربعين عاماً أخبر إكرمان بأنه يعتقد أن للأشخاص تأثيراً مغنطيسياً غامضاً على غيرهم، وأكثره عن طريق تباين الجنس (30). فكانت تحركه خطرات الفتيات الخفيفة الرشيقة، وموسيقى أصواتهن وضحكهن، ولون أثوابهن وحفيفها؛ وكان يحسد الزهرة التي كن أحياناً يزين بها مشدهن أو شعرهن على التصاقها بهن. وكانت الواحدة تلو الأخرى من هذه المخلوقات السحرية تستنفر دمه، وتكبر في خياله، وتحرك قلمه. لقد أحب من قبل جرتشن وآنيت، وعما قليل سيكون هناك وللي وشارلوته، ثم منا وأولريكه. أما الآن، في زيزنهايم (قرب ستراسبورج). فكانت افتنهن قاطبة- فردريكه بريون.
كانت الابنة الصغرى (تسعة عشر ربيعاً في 1771) لراعي كنيسة(41/251)
المدينة، الذي شبهه جوته بقسيس ويكفيلد الفاضل الذي روى جولد سمت قصته. والصفحات التي كتبها جوته عن فردريكه في سيرته الذاتية هي أروع ما كتب في حياته من نثر (31). وكان يركب مراراً من ستراسبورج ليستمتع بما اتسمت به هذه الأسرة الريفية من بساطة لم تفسدها حضارة. وكان يصطحب فردريكه في نزهات طويلة لأنها كانت ترسل نفسها على سجيتها في الهواء الطلق. وقد أحبته، ومنحته كل ما طلب. "في خلوة في الغابة تعانقنا بعاطفة عميقة، وتبادلنا أخلص التأكيدات بأن كلاً منا يحب الآخر من أعماق قلبه". (32) ولكن سرعان ما راح يعترف لصديق بأن "المرء لا تزداد سعادته مثقال ذرة بنيله ما تمنى".
وكان خلال ذلك يكتب باللاتينية رسالة الدكتوراه التي أكدت (كما أكد فبرونيوس حق الدولة في الاستقلال عن الكنيسة. وقد نالت موافقة الكلية الجامعية؛ ونجح في الامتحانات؛ وفي 6 أغسطس 1771 نال درجة الليسانس في القانون. وجاء أوان الرحيل عن ستراسبورج. فركب إلى زيزنهايم ليودع فردريكه، "وحين مددت إليها يدي وأنا على صهوة جوادي، اغرورقت عيناها بالدموع. وأحست بضيق شديد ... وبعد أن نجوت آخر الأمر من انفعال الوداع، تمالكت نفسي تماماً ومضيت في رحلة هادئة مطمئنة". (33) أما تقريع الضمير فجاء بعد ذلك. "لقد انتزعت جريتشن مني؛ وهجرتني آنيت؛ أما الآن فكنت مذنباً لأول مرة. فقد جرحت أحب قلب جرحاً في الصميم؛ وكانت فترة الندم الكئيب مع افتقادي ذلك الغرام المنعش الذي كنت قد ألفته- فترة عذاب أليم .. " (34) إنه شعور أناني إلى حد محزن، ولكن من منا، في تجارب الحب وزلاته، لم يجرح قلباً أو قلبين قبل أن يظفر بقلب؟ وماتت فردريكه دون أن تتزوج، في 3 أبريل 1813.
ب- جوتز وفرتر
لم يمارس حامل إجازة القانون الجديد مهنة المحاماة في فرانكفورت إلا كرهاً وكان يزور دارمشتات بين الحين والحين، وأحس تأثير تمجيدها(41/252)
للعاطفة في وجدانه. وجاز الآن فترة من رد الفعل الشديد ضد فرنسا، وضد الدراما الفرنسية وقواعدها الصارمة، وحتى ضد فولتير. وراح يسيغ أكثر فأكثر شكسبير الذي عرض على خشبة المسرح طبيعة الإنسان حلالاً كانت أو حراماً. في هذا المزاج، وفي عنفوان الشباب وحيويته، كان مهيأ للحركة الزوبعية. فتعاطف مع رفضها للسلطة، وإعلائها للغريزة فوق العقل، وللفرد البطل فوق الجماهير الحبيسة في سجن التقاليد. وهكذا كتب "جوتز فون برليشنجن" في 1772 - 73.
وكانت إنجازاً ممتازاً من فتى في الثالثة والعشرين: دراما جمعت بين الحب والحرب والخيانة في قصة تنبض بالحماسة للحرية، وتنضج حيوية، وتشد الانتباه من أولها لآخرها. أما جوتز هذا ففارس أطاح الرصاص بيمناه في المعركة وهو في الرابعة والعشرين (1504)؛ فركبت في ذراعه يد حديدية أعانته على استعمال سيفه قاطعاً بتاراً كما كان من قبل، وإذ رفض الاعتراف بأي سيد إلا الإمبراطور، فقد أصبح واحداً من أولئك "البارونات اللصوص" الذين ادعوا باسم الحرية أن لهم مطلق السلطة على أرضهم إلى درجة سلب عابري السبيل وشن الحروب الخاصة. وفي 1495 أصدر الإمبراطور مكسمليان الأول مرسوماً يحرم الحروب الخاصة، وإلا كان عقاب المذنب مزدوجاً- النفي بأمر الإمبراطور والحرم بأمر الكنيسة. ورفض جوتز ذو اليد الحديدية النفي لأنه يخالف الحقوق المتوارثة، ودارت التمثيلية أول أمر حول الصراع بين فارس المتمرد وأمير بامبرج الأسقف. وإذ كان جوته يحب النساء أكثر كثيراً من حبه للحرب، فإنه ركز الاهتمام على أوليده فون فالدورف التي ألهب جمالها وثراؤها رجالاً كثيرين بالرغبة المشبوبة المستهترة. ففي سبيلها نقض أدلبرت فون قايزلنجن، وهو فارس "حر" آخر، تحالفه مع جوتز وفسخ خطبته لماريا أخت جوتز، وإنجاز إلى الأسقف. ولعل جوته تذكر- في حب فايزلنجن المتذبذب- عدم وفائه هو. وأرسل نسخة من التمثيلية إلى فردريكه بيد صديق قائلاً "سيري عن فردريكه المسكينه بعض الشيء أن ترى العاشق الخائن يموت بالسم" (35).(41/253)
وقد حور المؤلف التاريخ ليطوعه لمسرحيته، فجوتفريد فون برليشنجن لم يبلغ في نبله وشهامته مبلغ جوتز كما صوره جوته؛ ولكن تعديلات كهذه تعد من قبيل الجواز الشعري، شأنها شأت القوافي المشوهة. كذلك يغتفر لجوته ذلك الحديث الخشن المتهور الذي أجراه على لسان بطله تعبيراً عن الفحولة. وحيي أخرجت المسرحية في برلين (1774) أدانها فردريك الأكبر "تقليداً بغيضاً" لتلك "البربرية" التي رآها هو في شكسبير، كما رآها فولتير؛ ثم دعا المسرحيين الألمان أن يلتمسوا نماذجهم في فرنسا. وقد وافق هردر فردريك أول الأمر، وقال لجوته "لقد دمرك شكسبير" (36)، ولكنه بعث بالنسخة المشهورة إلى أصدقائه مشفوعة بالتقريظ العظيم. "أمامكم ساعات من السحر. فهناك قدر غير عادي من القوة والعمق والإخلاص الألماني الأصيل في التمثيلية، وإن كانت بين الحين والحين لا تعدو أن تكون تدريباً ذهنياً" (37). أما الجيل الأصغر فقد حيا جوته بوصفه أسمى تعبير عن حركة "شتورم" وطالب للقراء الألمان أن يسمعوا أخبار فرسان العصر الوسيط، ورموز الخلق الألماني الجبار. ولذ البروتستنت أن يسمعوا أصداء لوثر في "الأخ مارتن"، الذي يشكو من أن نذوره الفقر والعفة والطاعة نذور غير طبيعية، والذي يصف المرأة بأنها "فخر الخليقة وتاجها"، ويهش للخمر لأنها "تبهج قلب الرجل"، ويقلب قولاً مأثوراً قديماً بقوله أن "البهجة أم الفضائل كلها" (38). وحتى أبو جوته، الذي اضطر أن يعاونه في مهنة المحاماة والذي رأى فيه صورة لتدهور سلالة أبيه، اعترف بأنه ربما كان في غير الغلام خير رغم كل شيء.
وفي مايو 1772 كان على المحامي الشاب أن يذهب في مهمة قضائية إلى فنتسلار، مقر محكمة الاستئناف الإمبراطورية. وراح يجول بين الحقول والغابات ومخادع النساء غير مكترث البته بالقانون، وهو يرسم ويكتب ويستوعب. وفي فنتسلار التقى بكارل فلهلم يروزاليم، الشاعر والمتصوف، وجيورج كرستيان كستنر، وهو موثق وصفه جوته بأنه "يتسم بالسلوك الهادئ الرصين، وبوضوح الرؤية، ... وبالنشاط الرزين الذي لا يكل" (39)،(41/254)
وبلغ من ثقته بالترقي في وظيفته أنه كان مرتبطاً بفتاة ليتزوجها. وقد وصف كستنر جوته وصفاً فيه سماحة وكرم:
"هو في الثالثة والعشرين، والابن الوحيد لأب غني جداً. وقد تقرر- وفقاً لمشيئة أبيه- أن يمارس المحاماة في المحكمة هنا، أما مشيئته هو فهي أن يدرس هومر وبندار وأي شيء آخر توحي به عبقريته وذوقه وقلبه ... والحق أنه صاحب عبقرية أصيلة، ورجل على خلق. وهو صاحب خيال ذو حيوية خارقة، ويعبر عن نفسه بالصور والتشبيهات ... ومشاعره عنيفة، ولكنه يملكها عادة. وقناعاته نبيلة، وهو بريء تماماً من الهوى ويسلك كما يحب دون أن يعبأ إن كان سلوكه هذا يسر غيره، أو هو السلوك العصري، أو السلوك المباح. وكل ألوان القهر بغيضة في نظره. وهو يحب الأطفال، وفي وسعه أن يلاعبهم ساعات بطولها ... إنه رجل ممتاز تماماً" (40).
وفي 9 يونيو 1772 التقى جوته بخطيبة كستنر في حفلة رقص ريفية، واسمها شارلوته بوف. ثم زارها في الغد، ووجد في الأنوثة فتنة جديدة. أما لوته هذه التي كانت يومها في العشرين فهي أكبر الأخوات في أسرة من أحد شر طفلاً. وكانت الأم ميتة والأب مشغولاً بكسب قوته؛ وقامت لوته بدور الأم للأطفال الكثيرين. ولم تؤت بهجة الفتاة الصحيحة البدن ونضارتها فحسب، بل زادت عليهما جاذبية المرأة الشابة التي تؤدي في بساطة وأناقة هندام مهام وظيفتها بكفاءة وحب وبشاشة. وسرعان ما وقع جوته في غرامها، فما كان في استطاعته أن يظل طويلاً بغير صورة أنثى تدفئ خياله. ورأى كستنر الموقف، ولكنه لثقته مما يملك أبدى تسامحاً كريماً. أما جوته فقد سمح تقريباً بمزايا الخطيب المنافس، ولكن لوته كانت دائماً تصده، وتذكره بأنها مخطوبة. وأخيراً طلب إليها أن تختار بينهما، ففعلت، ورحل جوته عن فنتسلار في الغد (11 سبتمبر) دون أن تختلج كبرياؤه إلا لحظة. وظل كستنر صديقه الوفي حتى مماته.
وقبل أن يعود جوته إلى فرانكفورت توقف في ايرنبرايشتاين على الرين، وهي موطن جيورج وصوفي فون لاروش. وكانت لصوفي ابنتان "سرعان(41/255)
ما جذبتني بشدة كبراهما مكمسليانة، وإنه لإحساس لذيذ جداً حين يبدأ غرام جديد في التحرك داخلنا قبل أن يخمد القديم تماماً. فعند غروب الشمس يود المرء أن يرى القمر يطلع على الجانب المقابل" (41). على أن مكسمليانة تزوجت بيتر برنتانو، وولدت بنتاً رشيقة اسمها بتينا، وقعت في غرام جوته بعد خمسة وثلاثين عاماً. وراض جوته نفسه على حياة فرانكفورت والمحاماة. ولكنه لم يرتض هذه الحياة تماماً، فقد فكر حيناً في الانتحار. يقول:
"كنت أملك فيما أملك من مجموعة كبيرة من السلاح خنجراً جميلاً جيد الصقل. وكنت أضعه كل ليلة بجوار فراشي، وقبل أن أطفئ الشمعة جربت إن كان في استطاعتي أن أفلح في إغماد السن الحاد بوصتين في قلبي. فلم أوافق في هذه المحاولة قط، أقلعت أخيراً عن الفكرة بضحكي من نفسي، وكففت عن كل أوهامي ووساوسي، وصممت على أن أعيش.
"ولكي أستطيع هذا العيش في بشر اضطررت إلى حل مشكلة أدبية، تتحول فها كل مشاعري الماضية ... إلى ألفاظ. فجمعت لهذا الغرض العناصر التي كانت تعتمل في سنوات، واستحضرت في ذهني الحالات التي أثرت في وعذبتني أشد تأثير وعذاب؛ ولكن شيئاً لم ينته إلى شكل محدد. فقد افتقدت الحدث، أو الأسطورة، التي يمكن فيها أن ترى هذه الحالات كلاً متكاملاً" (42).
وقد محام من زملائه في فتسلار هذا الحدث الذي يدمج هذه العناصر. ففي 30 أكتوبر 1772 قتل فلهلم يروزاليم نفسه يأساً من حبه لزوجة صديق له، بعد أن استعار مسدساً من كستنر. قال جوته وهو يستحضر الحدث "وبمجرد سماعي بنبأ موت يروزاليم .... تشكلت خطة "فرتر" في ذهني، وتسابق الكل معاً من جميع الجوانب" (43). ربما، ولكنه لم يبدأ تأليف الكتاب إلا بعد خمسة عشر شهراً. وواصل أثناء ذلك مغازلته لمكسمليانة برنتانو- التي كانت قد انتقلت مع زوجها إلى فرانكفورت- بمثابرة وإصرار جعلا الزوج يحتج، فانسحب جوته.
وشتت جهده ألوان مختلفة من المشروعات الأدبية المخففة. فقد داعب(41/256)
فكرة قص قصة اليهودي التائه من جديد، وخطط زيارة يقوم بها اليهودي لسبينوزا، وأن يبين أن الشيطان كما تدل جميع الظواهر منتصر على المسيح في العالم المسيحي (44)، ولكن لم يزد على عشر صفحات في "اليهودي التائه". ثم نظم هجائيات في ياكوبي، وفيلاند، وهردر، ولنتس، ولافاتر، ولكنه وفق رغم ذلك على كسب صداقتهم. وشارك في كتاب لافاتر في الفراسة، سمح له بأن يفحص قسمات دماغه، وكانت النتائج مرضية لغروره. وكان حكم السويسري "إن هنا ذكاء، مع حساسية تؤججه. لاحظ الجبين النشيط ... والعين السريعة النفوذ والفحص والافتتان ... والأنف، الذي يكفي ذاته إعلاناً عن الشاعر .. مع الذقن الفحل، والأذن القوية المتسعة- فمن ذا الذي يرتاب في العبقرية الكامنة في هذا الدماغ؟ (45) ومن ذا الذي يستطيع تطبيق هذه المقاييس الدماغية؟ " على أن ياكوبي قال أن هذا ممكن، لأنه بعد أن زار جوته في يوليو 1773 وصفه في رسالة إلى فيلاند بأن "عبقري من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، رجل به مس من الجن، كتب عليه أن يسلك وفق أوامر الروح الفردي" (46).
وأخيراً، في فبراير 1774، كتب جوته الكتاب الذي ذاع اسمه في طول أوربا وعرضها، "آلام الفتى فرتر". وكان قد أطال التفكير فيه، وأطال ترديده في تأملاته وخياله، حتى لقد أطلقه الآن كما يقول "في أربعة أسابيع ... اعتزلت الناس كلية، ومنعت زيارة أصحابي" (47). قال لأكرمان بعد خمسين سنة "كان ذلك خلقاً غذوته بدم قلبي كما يفعل طائر البطريق" (48). وقد قتل فرتر ليمنح نفسه السلام.
وكان ملهماً في إيجاز الكتاب. اشتعل شكل الرسائل، محاكاة لقصة رتشردسن "كلاريسا" وقصة روسو "جولي" من جهة، ومن جهة أخرى لأن هذا الشكل كان ملائماً للإفصاح عن العاطفة وتحليلها، وربما لأنه في هذا الشكل استطاع أن يستعمل بعض الرسائل التي كتبها من فتسلار لأخته كورنيليا أو لصديقه ميرك. وصدم شارلوته وكستنر بإطلاقه اسمها الفعلي(41/257)
"لوته على بطلة حب واضح أنه يصف غرام جوته بعروس كستنر، وكستنر يقابله في القصة "البرت" الذي صوره المؤلف في إطراء. وحتى اللقاء في المرقص، وزيارة الغد، كانا في القصة كما كانا من قبل في الواقع. "منذ ذلك اليوم تستطيع الشمس والقمر والنجوم أن تسير سيرتها في هدوء، ولكني لا أعي بنهار ولا بليل، وكل العالم من حولي يتلاشى ... لم يعد عندي صلوات أتلوها إلا لها" (49). على أن فرتر ليس جوته بالضبط: فهو أكثر عاطفية، وأميل إلى البكاء والكلام المتدفق والرثاء لنفسه. ولكي يقود المؤلف القصة إلى نهايتها الفاجعة، اقتضاه ذلك أن يغير فرتر من جوته إلى فلهلم يروزاليم. أما اللمسات الأخيرة فهي تحي تاريخ ما حدث: يستعير فرتر، كما استعار يروزاليم، مسدس البرت لينتحر به، وقصة ليسنج "إميليا جالوتي" ملقاة على مكتبة وهو يموت. "ولم يصحبه كاهن" إلى قبره.
كانت قصة "آلام الفتى فرتر" (1774) حدثاً في تاريخ الأدب وتاريخ ألمانيا. فقد عبرت عن العنصر الرومانسي في الحركة الزوبعية ودعمته، كما عبرت قصة "جوتز فون برليشنجن" من قبل عن العنصر البطولي. واستقبلها الشباب المتمرد بالمديح والمحاكاة، وارتدى بعضهم السترة الزرقاء والصدرة الصفراء البرتقالية كفرتر، وبكى بعضهم كفرتر، وانتحر بعضهم باعتبار الانتحار الشيء "العصري" الوحيد الذي يجلب عمله. واحتج كستنر على الولوغ في أسراره، ولكن لم يلبث أن هدئ، ولم يقل لنا أحد أن شارلوته شكت حين قال لها جوته "إن اسمك تنطقه آلاف الشفاه المعجبة بكل إجلال" (50). ولم يشارك رجال الدين الألمان في هذا الاستحسان. وأدان واعظ همبورجي القصة لأنها دفاع عن الانتحار، أما الراعي جوتسي، عدو ليسنج، فقد حمل على الكتاب، وأدانه ليسنج لعاطفيته المفرطة وافتقاره إلى القصد الكلاسيكي (51). وفي عشاء عام لأي القس ي. ك. هازنكمبف جوته في مواجهته على "تلك القطعة الشريرة من الكتابة"، ثم أردف "ليهد الله قلبك الضال"! وأفحمه جوته بجواب(41/258)
هادئ: "اذكرني في صلواتك" (52). وكان الكتيب أثناء ذلك يكتسح أوربا في مترجمات عديدة، منها ثلاثة في فرنسا خلال سنوات ثلاث؛ واعترفت الآن فرنسا لأول مرة بأن في ألمانيا أدباً.
جـ - الملحد الشاب
كان لرجال الدين بعض العذر في القلق على جوته، لأنه كان في هذه المرحلة يهجر بعداء الكنيسة المسيحية. كتب كستنر في 1772 يقول "أنه يجل الدين المسيحي، ولكن ليس في الصورة التي يصوره بها لاهوتيونا ... إنه لا يتردد على الكنيسة، ولا يتناول القربان، ونادراً ما يصلي. " (53) وكان جوته يكره على الأخص تأكيد المسيحية على الخطيئة والندم (54)، ويؤثر أن يأثم دون ندم. كتب إلى هردر (حوالي 1774) يقول "ليت تعليم المسيح كله لم يكن هذا الهراء الذي يثير سخطي بصفتي بشراً، مخلوقاً مسكيناً محدوداً ذا رغبات وحاجات! " (55) ووضع مخططاً لمسرحية عن بروميثيوس رمزاً فلإنسان يتحدى الآلهة، ولكنه لم يزد على مقدمته صدمت ياكوبي وأبهجت ليسنج. وما بقي منها هو أكثر تفجرات جوته المعادية للدين تطرفاً. يقول بروميثيوس:
غط سماءك يا زيوس بالضباب الملبد بالغيوم،
وإله- كما يلهو طفل يقطع رؤوس الشوك
على شجر البلوط وقمم الجبال!
فأنت لا بد تارك أرض قائمة،
وكوخي، الذي لم تبنه،
ومدفأتي التي تحسدني على توهج نارها.
لست أعرف تحت السماء من هو أفقر منكم أيها الآلهة!
إنكم تغذون جلالتكم بالجهد من الضحايا وصلوات الرغبات،
ولولا حمق الأطفال والمتسولين المتعللين بالآمال
لماتت هذه الجلالة جوعاً.(41/259)
حين كنت طفلاً لا أعرف في ماذا أفكر،
كانت عيناي الضالتان تتطلعان إلى الشمس،
كأن لها أذناً تصيخ السمع إلى شكاتي،
أو قلباً كقلبي يرق لنفس معناة.
فمن ترى أعانني على غطرسة الطاغية؟
ومن أنقذني من الموت، من العبودية؟
أليس هو قلبي المقدس المضطرم،
هو الذي صنع هذا كله وحده،
ولكنه لحداثته وطيبه ولأنه كان مخدوعاً،
فهو يرفع الشكر لذلك النائم هناك؛
أمجدك؟ لماذا؟
هل خففت مرة أحزان المثقلين بالهموم؟
هل كفكفت مرة دموع المعذبين؟
ألم يفطرني بشراً؟
ذلك الزمان الجبار والقدر السرمدي-
سيداي وسيداك ...
هاأنذا قاعد هنا، أصنع الرجال على شاكلتي،
سلالة شبيهة بي،
تحزن وتبكي، تفرح وتمرح،
وتزدريك كما أزدريك.
ثم انتقل جوته ببطء من حضيض الإلحاد المغرور هذا إلى "حلولية" سبينوزا الأكثر تهذيباً. روى لافاتر أن "جوته قال لنا أشياء كثيرة عن سبينوزا ومؤلفاته ... فقد كان رجلاً غاية في الإنصاف والاستقامة والفقر ... وكان الربوبيين المحدثين فقد أخذوا آراءهم عنه أولاً ... وأضاف جوته أنه رسائله أطرف ما عرف العالم كله عن الاستقامة وحب البشر" (56)،(41/260)
وبعد اثنين وأربعين عاماً قال جوته لكارل تسلتر إن أكثر الكتاب تأثيراً فيه هم شكسبير وسبينوزا ولينايوس (57) وفي 9 يونيو 1785 كتب إلى ياكوبي بتسلمه كتابه "في تعاليم سبينوزا"، وتكشف مناقشته لتفسير ياكوبي لهذه التعاليم عن دراسة مستفيضة للفيلسوف- القديس اليهودي. كتب يقول "إن سبينوزا لا يبرهن على وجود الله، إنه يبرهن على أن الوجود (حقيقة المادة- العقل) هو الله. فليرمه غيري لهذا السبب بالإلحاد، أما أنا فأميل إلى أن أصفه وأثني عليه رجلاً تقياً جداً، لا بل مسيحياً جداً! ... وأنا آخذ عنه أصح المؤثرات في تفكيري وسلوكي" (58).
وقد علق جوته في سيرته الذاتية على رده على ياكوبي بقوله: "كنت لحسن الحظ قد أعددت نفسي ... بعد أن انتحلت إلى حد ما أفكار وعقل رجل خارق للعادة ... وهذا العقل، الذي كان قدأثر في تأثيراً حاسماً جداً، وكتب له أن يؤثر تأثيراً عميقاً جداً في أسلوب تفكيري كله، هو سبينوزا. ذلك أنني بعد أن بحثت في العالم عبثاً عن وسيلة لتطوير طبيعتي الغريبة، وقعت في النهاية على كتاب "الأخلاق" لهذا الفيلسوف ... فوجدت فيه مسكناً لعواطفي المشبوبة، وتفتحت أمامي نظرة واسعة حرة تشرف على العالم الحسي والخلقي ... ولم تبلغ بي الجرأة قط مبلغ الاعتقاد بأنني فهمت كل الفهم رجلاً ... ارتقي، بدراساته الرياضية والربانية، إلى ذري الفكر، رجلاً يلوح أن اسمه حتى في يومنا هذا، يعين الحد الذي تقف عنده كل المحاولات التأملية" (59).
وقد أضاف مزيداً من الدفء لعقيدته الاسبينوزية في الحلول (وحدة الوجود) بولعه الشديد بالطبيعة، ولم يكن هذا الولع ابتهاجاً فحسب بمرأى الحقول النضرة أو الغابات الغامضة أو النباتات والأزهار المتكاثرة في تنوع غزير، بل أنه عشق أيضاً حالات الطبيعة الأكثر صرامة، وأحب أن يشق طريقه خلال الريح أو المطر أو الثلج، ثم صعوداً إلى قمم الجبال الخطرة. وكان يتحدث عن الطبيعة كأنها أم يرضع من صدرها رحيق الحياة ونكهتها. وقد عبر فيملحمة من الشعر المنثور سماها "الطبيعة" (1780)، بوجدان(41/261)
وديني، عن استسلامه المتواضع للقوى الخلاقة المدمرة التي تكتنف الإنسان، واندماجه السعيد فيها:
"الطبيعة! إنها تكتنفنا وتحضرنا- ونحن نستطيع الخطو خارجها، ولا التعمق في داخلها.
إنها تتلقانا، دون توسل إليها ولا تحذير، في حلبة رقصها، ثم ترافقنا في رقص سريع حتى تنهك قوانا ونخر من بين ذراعيها ..
"إنها لا تفتأ تخلق الأشكال الجديدة، فما هو موجود الآن لم يكن موجوداً قط من قبل،
وما فات لن يعود؛ الكل جديد، ومع ذلك فهو دائماً القديم.
إنها تبدو وكأنها دبرت كل شيء للفردية، ولكنها لا تعبأ مثقال ذرة بالأفراد،
إنها بانية أبداً، هادمة أبداً، ومصنعها لا سبيل للوصول إليه ...
إنها تملك الفكر؛ وهي تتأمل باستمرار، لا كإنسان، بل كالطبيعة.
إنها لها عقلاً كلي الشمول خاصاً بها؛ وما من أحد يستطيع النفوذ إليه ...
إنها تسمح لكل طفل بأن يعبث بها، ولكل أحمق بأن يحكم عليها،
والآلاف تعثر أقدامهم ولا يرون شيئاً، إن فرحتها بالكل.
إنها رحيمة، وأنا أثني عليها وعلى كل أعمالها. إنها حكيمة هادئة.
لا يستطيع المرء أن يستخلص منها أي تفسير، أو ينتزع منها عطية لا تعطيها بمشيئتها الحرة.
لقد وضعتني هنا، وسوف تقودني بعداً. وأنا أوكل إليها نفسي، ولها أن تفعل بي ما تشاء.
فهي لن تكره صنعة يدها" (60).
وفي ديسمبر 1774 توقفت الدوق كارل أوبست بفرانكفررت في الطريق بحثاً عن عروس في كارلسروهي.
وكان قد قرأ "جوتز فون برليشنجن" وأعجبته، فدعا مؤلفها للقائه. وذهب جوته، ووقع من نفس الدوق موقعاً طيباً، وساءل الدوق نفسه ألا يجوز أن يصبح هذا العبقري الوسيم المهذب نجماً ساطعاً في بلاط فايمار. وكان عليه أن يعجل بالرحيل، ولكنه طلب إلى جوته أن يلتقي به ثانيةفي رجوعه من كالسروهي.(41/262)
كان جوته كثير الكلام عن القدر، قليلة جداً عن المصادفة. ولعله لو سئل لأجاب أن القدر- لا المصادفة- هو الذي جاء به إلى الدوق، وأنه هو الذي صرفه عن حسن للي شوثيمان إلى مخاطر فايمار وفرصها المجهولة. أما للي هذه فكانت ابنة تاجر غني في فرانكفورت. وقد دعى جوته إلى حفل استقبال في بيتها بعد أن أصبح الآن سبعاً من سباع المجتمع الراقي. وعزفت للي على البيانو عزفاً رائعاً، واتكأ جوته على ركن منه وراح يحدق على مهل في مفاتنها ذات الستة عشر ربيعاً وهي تعزف. "كنت أحس أنني أشعر بقوة جذابة غاية في الرقة ... ثم ألفنا أن نلتقي ... وأصبحنا الآن ولا غنى للواحد عن صاحبه ... وملكني شوق لا سبيل إلى مقاومته (61). فما أسرع ما ترتفع هذه الحمى الشهيرة، التي فجرتها حساسية شاعر. قبل أن يدرك معنى ما فعل، كان قد خطبها رسمياً (أبريل 1775). أما للي التي ظنت أنها اقتنصته وأمنته، فراحت تعابث غيره. وشهد جوته ذلك فغلت مراجل غيظه.
في هذه الفترة بالضبط مر صديقان هما الكونت كرستيان والكونت فريدريش تسو شتولبرج بفرانكفورت في طريقهما إلى سويسرة. واقترحا على جوته أن ينضم إليهما. وحثه أبوه على الذهاب ومواصلة الرحلة إلى إيطاليا. "وانفصلت عن للي بعد أن أفضت إليه ببعض السر ولكن دون أن استأذن قبل الرحيل" (62).
وقد بدأ الرحلة في مايو 1775، والتقى بالدوق ثانية في كارلسروهي، فدعاه بصفة نهائية إلى فايمار. ومضى إلى زيورخ، حيث التقى بلافاتير وبودمير. وتسلق سانت جوتهارد وتطلع باشتياق إلى إيطاليا، ثم تسلطت على خياله من جديد صورة للي، فترك أصحابه ويمم شطر وطنه، وفي سبتمبر كانت للي بين زراعيه. ولكن ما أن خلا إلى نفسه في حجرة حتى عاوده خوفه القديم من الزواج سجناً وركوداً. وأنكرت للي تردده، فاتفقا على فسخ خطبتهما، وفي 1776 تزوجت برنهارد فون توركهايم.
أما الدوق الذي ألم بفرانكفورت في طريق عودته من كارلسروهي(41/263)
فقد عرض على جوته أن يرسل إليه عربة تقله إلى فايمار. ووافق جوته، ودبر أمره، وانتظر اليوم الموعود. ولكن العربة لم تأت. أفكان ذلك عبثاً وخديعة. وبعد أن قضى أياماً من التلبث المغيظ انطلق في رحلته إلى إيطاليا. ولكن العربة الموعودة لحقته في هيدلبرج، وقدم مبعوث الدوق التفسيرات والاعتذارات، فقبلها جوته. وفي 7 نوفمبر 1775 وصل إلى فايمار، وكان يومها في السادسة والعشرين، ممزقاً كعادته دائماً بين إله الغرام والقدر، تهفو نفسه إلى النساء ولكنه مصمم على أن يصير إنساناً عظيماً.
4 - هردر
1744 - 1776
لم يمض شهر على وصول جوته إلى فايمار حتى أنهى إلى الدوق اقتراحاً مشفوعاً بموافقته الحارة، هو اقتراح فيلاند بأن تعرض على يوهان جوتفريد هردر وظيفة المشرف العام على اكليروس الدوقية ومدارسها. ووافق الدوق. أما هردر فقد ولد بمورنجن في بروسيا الشرقية (25 أغسطس 1744)، فهو من حيث الجغرافيا وضباب البلطيق قريب إيمانويل كانط. وكان أبوه معلماً فقيراً وقائد فرقة ترتيل تقوى النزعة، وهكذا كان للصبي أوفر نصيب من الشدائد. فمنذ كان في الخامسة كان يشكو ناسوراً في عينه اليمنى. واضطرته ضرورة المشاركة بعد قليل في موارد الأسرة إلى ترك المدرسة والاشتغال سكرتيراً وخادماً لسبستيان تريشو، الذي كان يكسب رزقاً طيباً بتأليف كتيبات في التقوى. وكان لديه مكتبة استوعبها يوهان. فلما بلغ الثامنة عشرة أرسل إلى كونجزبرج لإزالة الناسور ولدراسة الطب في الجامعة. على أن الجراحة أخفقت، وقلبت فصول التشريح معدة الشاب فانصرف عن الطب إلى اللاهوت.
وتصادق مع هامان الذي كان يعلمه الإنجليزية مستعملاً هاملت نصاً، وحفظ هردر المسرحية كلها تقريباً عن ظهر قلب. واختلفت إلى محاضرات كانط في الجغرافيا والفلك وفلسفة فولف. وبلغ من حب كانط له أنه أعفاه من الرسم الذي يحصل من الطلبة نظير حضورهم المحاضرات. وكسب هردر قوته بالترجمة وتدريس التلاميذ الخصوصيين، ثم قام بالتدريس في مدرسة(41/264)
الكتدرائية بمدينة ريجا من سن العشرين إلى سن الخامسة والعشرين. وحين بلغ الحادية والعشرين رسم قسيساً لوثرياً، وفي الثانية والعشرين أصبح ماسونياً (63)، وفي الثالثة والعشرين عين مساعداً للراعي في كنيستين قرب ريجا. ودخل عالم النشر في الثانية والعشرين بكتاب في الأدب الألماني الحديث، ثم أضاف إليه جزءاً ثانياً وثالثاً بعد عام. وراعت ثقافة المؤلف الشاب كانط وليسنج ونقولاي ولافاتر-وامتدحوا دعوته إلى أدب قومي متحرر من الوصاية الأجنبية.
واستبق هردر الموضة "الفرترية" بوقوعه في غرام يائس بامرأة متزوجة. واشتدت معاناته من الاكتئاب والغم في بدنه وعقله، فمنحه رؤساؤه إجازة ينقطع فيها عن عمله، ووعدوه بأن يوظفوه من جديد براتب أعلى عند عودته. وافترض مالاً، ثم غادر ريجا (23 مايو 1769) ولم يرها ثانية قط. وركب البحر إلى نانت، وأقام فيها أربعة أشهر، ثم مضى إلى باريس والتقى بديدرو ودالامبير، ولكن أحداً لم يستطع إقناعه بالانحياز إلى التنوير الفرنسي.
وذلك أن ميله الفطري كان جمالياً (استطيقياً) أكثر منه عقلياً. ففي باريس بدأ يجمع الشعر البدائي، ووجد فيه متعة تفوق ما في أدب فرنسا الكلاسيكي. وقرأ كتاب مكفرس: "أوسيان" في ترجمة ألمانية، وحكم بأن هذه التقليدات البارعة أروع من معظم الشعر الإنجليزي الحديث بعد شكسبير. ثم بدأ في 1769 مقالات في النقد الفني والأدبي أطلق عليها اسم (الغياض)، ونشر ثلاثة مجلدات منها في حياته بعنوان (غابات من النقد). وفي فبراير 1770 أنفق أربعة عشر يوماً في اتصال مثمر مع ليسنج في همبورج. ثم صاحب أمير هولشتين-جوتورب معلماً ورفيقاً. وجاب معه ألمانيا الغربية. وفي كاسل التقى برودلف راسبي، أستاذ الآثار والمؤلف القادم لكتاب "قصة البارون مونتشاوزن عن أسفاره وحملاته العجيبة في روسيا" (1785). وكان راسبي قد استرعى اهتمام ألمانيا بكتاب توماس برسي "مخلفات من الشعر الإنجليزي القديم" سنة ظهوره (1765).(41/265)
وتقوى هردر في إيمانه بأن واجب الشعراء أن يهجروا الدعوة الفنكلمانية، اللسنجية لتقليد الكلاسيكيات اليونانية، وأنه أخلق بهم أن يتشبثوا بالمنابع الشعبية لتقليد أمتهم في الشعر الفولكلوري والتاريخ القصصي الغنائي.
وانتقل هردر مع الأمير إلى دارمشتات، فالتقى بجماعة "الحساسيين" فيها. وراقه إعلاؤهم شأن العاطفة، وخص بالتقدير عواطف كارولينية فلاخسلاند، الأت اليتيمة لزوجة عضو المجلس الخاص أندرياس فون هسي، ودعي هردرللوعظ في كنيسة محلية، فسمعته، وتأثرت بوعظه، وتمشيا معاً في الغابات، وتلامست أيديهما، فانعطف قلبه، وعرض عليها الزواج ولكنها نبهته إلى أنها تعيش على صدقة أختها، وأنها لن تستطيع أن تدفع له مهراً، ورد هو بأنه مثقل بالدين، وأن المستقبل أمامه غامض جداً، وأنه ملتزم بمرافقة الأمير. وتعاهدا بألا تكون خطبة رسمية، ولكنهما اتفقا على تبادل الحب بالرسائل. ثم رحلت جماعته إلى مانهايم في 27 أبريل 1770.
فلما وصلوا إلى ستراسبورج ترك هردر الأمير رغم شوقه لرؤية إيطاليا. ذلك أن الناسور الذي في غدته الدمعية سد القناة الدمعية الموصلة إلى المنخر فأصابه بألم لا يهدأ. ووعده الدكتور لوبشتين أستاذ أمراض النساء في الجامعة بأن الجراحة ستزيل الانسداد في ثلاثة أسابيع. واستسلم هردر، دون مخدر، للثقب المتكرر لقناة خلال العظم إلى ممر الأنف. ولكن الجرح بدأ يتلوث، وظل هردر ستة أشهر تقريباً حبيس حجرته في الفندق وقد فت في عضده فشل الجراحة، وران عليه اكتئاب بسبب شكوكه في مستقبله. في هذه الحالة النفسية من المعاناة والتشاؤم، التي بجوته (4 سبتمبر 1770). ويذكر جوته هذه الفترة فيقول "أتيح لي أن أحضر الجراحة وأن أكون نافعاً في نواحي كثيرة" (64). وقد ألهمه رأي هردر القائل بأن الشعر ينبثق غريزياً في الشعب، لا من "بضعة رجال مهذبين مثقفين" (65). وحين رحل هردر وقد نفد ما معه من مال، "اقترض جوته مبلغاً من أجله" رده هردر فيما بعد.(41/266)
ثم قبل على مضض دعوة من الكونت فلهلم تسوليبي، حاكم إمارة شاومبورج-ليبي الصغيرة في شمال غربي ألمانيا، ليعمل واعظاً لبلاطه ورئيساً للمجلس الكنسي في عاصمته المتواضعة بوكيبورج. وفي أبريل 1771 غادر هردر استراسبورج، وزار كارولينه في دارمشتات وجوته في فرانكفورت، ووصل إلى بوكيبورج في الثامن والعشرين. فوجد الكونت حاكماً "مستبداً مستنيراً" من طراز إداري صارم، أما المدينة فكانت قروية في كل شيء إلا الموسيقى، التي كان يحسن تزويدها بها يوهان كريستوف فريدريش باخ، وراض هردر نفسه عن الانفصال عن التيار الرئيسي للفكر الألماني، ولكن الكتب التي أصدرها في مكانه الصغير أثرت تأثيراً قوياً في ذلك التيار، وأسهمت في تشكيل الأفكار الأدبية للحركة الزوبعية. وقد أكد للكتاب الألمان أنهم إن التمسوا الإلهام في جذور الأمة وحياة الشعب فسوف يأتي الوقت الذي يبزون فيه الفرنسيين كل ما حققوه. وقد تحققت هذه النبوءة في الفلسفة والعلم.
وقد ظفر بحثه في أصل اللغة (1772) بالجائزة التي قدمتها أكاديمية برلين عام 1770. ومع أن هردر كان يجهر بتدنيه مخلصاً، إلا أنه رفض الفكرة التي تزعم أن اللغة من صنع الله وحده؛ وقال أنها من صنع البشر، وأنها نتجت طبيعياً من عمليات الإحساس والتفكير. وألمع أن اللغة والشعر كانا واحداً باعتبارهما تعبيرين عن الانفعال، وأن الأفعال، المعبرة عن الفعل، كانت أول أقسام الكلام". وفي مجلد آخر سماه "فلسفة أخرى مضافة إلى فلسفات التاريخ" (1774) عرض التاريخ على أنه "الفلسفة الطبيعية للأحداث المتعاقبة" فكل حضارة هي وجود بيولوجي له مولده وشبابه ونضجه وانحلاله وموته؛ ويجب أن تدرس من وجهة نظر عصرها، دون تحيزات مبنية على بيئة وعصر آخرين. وقد أعجب هردر إعجاب الرومانتيكيين عموماً بالعصور الوسطى لأنها زمان الخيال والوجدان، والشعر والفن الشعبيين، والبساطة والسلام الريفيين؛ وعلى نقيض ذلك كانت أوربا بعد النهضة عبارة عن عبادة للدولة، وللمال، وللترف الحضري، وللتكلف والافتعال، وللرذيلة. وانتقد التنوير لأنه عبادة لوثن العقل، وقارن بينه وبين ثقافات(41/267)
اليونان والرومان مقارنة لا تخدم التنوير. ولقد أبصر هردر يد الله كما أبصرها بوسويه في العملية التاريخية كلها، ولكن الواعظ المفوه كان أحياناً ينسى لاهوته، ويرى أن "التغيير العام للعالم كان يقوده الإنسان أقل كثيراً مما يقوده قدر أعمى (66) ".
وحمله شعوره بالوحدة إلى أن يطلب كارولينة وزوج أختها أن يأذنا له بالحضور والزواج منها رغم ضآلة دخله. فوافقا، وزف الحبيبان في دارمشتات في 2 مايو 1773. ثم عادا إلى بوكيبورج، واقترض هردر بعض المال ليجعل دار القسيس بيتاً مبهجاً لزوجته. وقد بذلت له زوجته الخدمة والحب الخالص مدى الحياة. وبفضل وساطتها انقشع الفتور الذي ران من قبل على المودة بين هردر وجوته، وحين وجد جوته نفسه في موقف يسمح له بتزكية الراعي لوظيفة أسخى عطاء، أسعده أن يفعل ذلك. وفي أول أكتوبر 1776 وصل هردر وكارولينة إلى فايمار، وانتقلا إلى البيت الذي أعده لهما جوته. ولم يبق الآن سوى عضو واحد ليكتمل عقد الرباعي الذي سيضع شهرة فايمار.
5 - شيلر في سني تطويقه
1759 - 1787
ولد يوهان كريستوف فريدريش شيلر في 10 نوفمبر 1759 بمدينة مارباخ في فورتمبرج. وكانت أمه ابنة صاحب فندق الأسد، وأبوه جراحاً-ثم ضابط برتبة الكابتن-في جيش الدوق كارل أويجين؛ وكان يتنقل مع فوجه، ولكن زوجته أقامت أكثر الوقت في لورش أولود فجزبرج. وفي هاتين المدينتين تلقى فريدريش تعليمه. وقد نذره أبواه للقسوسية، ولكن الدوق أقنعهما بأن يبعثا به وهو في الرابعة عشرة إلى كارلشولي (مدرسة كارل) في لود فجزبرج (ثم في شتوتجارت)، حيث يعد أبناء الضباط لمهنة المحاماة أو الطب أو الجندية. وكان نظام المدرسة نظاماً عسكرياً صارماً، والدراسات مجافية لطبيعة غلام فيه حساسية مرهفة تقرب من حساسية الفتيات. وكان رد فعل شيلر أن تشرب كل ما وجد إليه سبيلاً من(41/268)
الأفكار الثورية، ثم صبها (1770 - 1789) في مسرحية "اللصوص" التي فاقت جوتز فون برليشنجن تعبيراً عن الحركة الزوبعية.
وفي 1780 تخرج شيلر في الطب، وأصبح جراحاً لفوج في شتوتجارت. وكان راتبه ضئيلاً، وسكن حجرة واحدة مع الملازم كايف. وكانا يجهزان طعامهما وأكثره من السجق والبطاطس والخس، ثم أن النبيذ في المناسبات السارة. وقد شق على نفسه ليكون رجلاً له كل حس الجندي بالمعركة والجعة والمواخير، وزار المومسات اللاتي يختلفن إلى المعسكر (67)؛ ولكنه لم يكن يسيغ الابتذال والسوقية، فالنساء في نظرته المثالية أسرار غامضة مقدسة يجب أن يدنو منها الرجل في إجلاله ورعدة. وكانت صاحبة الدار واسمها لويزة فيشر أرملة في الثلاثين، ولكنها إذا عزفت على الهاربسيكورد "فارقت روحي جسدي الترابي الفاني" (68)، وتمنى لو "أنني التصقت إلى الأبد بشفتيك" ... لا تشرب أنفاسك" (69). وهي طريقة مبتكرة في الانتحار.
وحاول عبثاً أن يجد ناشراً لمسرحية "اللصوص"، فلما أن أخفق، وفر واقترض ثم طبعها على نفقته (1781). وقد أدهش نجاحها الناس حتى مؤلفها ذا الاثنين والعشرين ربيعاً. وفي رأي كارليل أنها بدأت "عصراً في الأدب العالمي" (70)، ولكن ألمانيا الوقور صدمها أن المسرحية لم تترك ناحية من نواحي الحضارة الراهنة إلا إدانتها. وذكرت المقدمة التي صدر بها شيلر تمثيلته أنها تبين عظمة الضمير وأذى التمرد.
وخلاصة التمثيلية أن كارل مور، وهو الابن البكر للكونت المسن مكسمليان فون مور، يخصه أبوه بحبه لما اتسم به من مثالية وسماحة خلق؛ ومن ثم يحسده ويبغضه أخوه فرانتن. ويرحل كارل ويدخل جامعة ليبزج، ويتشرب مشاعر التمرد التي تضطرب بها صدور شباب أوربا الغربية. فلما ألح الدائنون في مطالبته بالدين، راح يندد بعباد المال القساة الذين "يلعنون الصدوقي الذي يقصر في الحضور إلى الكنيسة بانتظام، ومع أن تقواهم لا تخرج عن عد مكاسبهم، المجلوبة بالربا، على مذبح الكنيسة ذاته" (71).(41/269)
ثم يفقد كل إيمان بالنظام الاجتماعي القائم، وينضم إلى عصابة من اللصوص، ويصبح زعيماً لها، ويقسم يمين الولاء لها حتى الموت، ثم يهدي ضميره بلعب دور روبن هود. ويصفه أحد أفراد العصابة بهذه العبارات:
"إنه لا يقتل كما نقتل طمعاً في شيء يسلبه، أما المال ... فيبدو أنه لا يعبأ به مثقال ذرة، فثلث الغنيمة الذي هو حق خالص له يعطيه لليتامى، أو ليعين به شباب الكلية المبشرين بمستقبل مرموق. أما إذا وقع في براثنه عين من أعيان الريف الذين يسومون فلاحيهم سوء العذاب كأنهم الأنعام، أو وغد يرفل في فاخر الثياب ممن يعوجون القضاء ليخدم مآربهم ... أو أي رجل من هذا النوع-عندها يا بني يتجلى على فطرته ثائراً هادراً كأنه شيطان رجيم" (72).
ويندد كارل برجال الدين لأنهم يتملقون السلطان ويعبدون صنم المال سراً، "وخيرهم لا يتردد في أن يخون الثالوث الأقدس كله في سبيل عشرة شواقل" (73).
ويدبر فرانتس في غضون هذا إبلاغ الكونت في رسالة كاذبة أن كارل مات. ويصبح فرانتس الوريث لثروة أبيه، ويتقدم لخطبة إميليا التي تحب كارل حياً أو ميتاً. ويدس فرانتس السم لأبيه، ويهدئ وخز ضميره بالإلحاد: "لم يثبت بعد أن فوق هذه الأرض عيناً ترقب كل ما يجري عليها ... ليس هناك إله (74). ويسمع كارل بجرائم أخيه، فيقود عصابته إلى قلعة الأب ويضرب حصاراً على فرانتس، فيتضرع هذا إلى الله مستمياً في التماس العون، فإذا لم يصله عون قتل نفسه. وتقدم أميليا نفسها لكارل شريطة أن يقلع عن حياة اللصوصية؛ وهو تواق إلى هذا، غير أن أتباعه يذكرونه بتعهده البقاء معهم حتى الموت. فيحترم تعهده، وينصرف عن أميليا؛ ولكنها تتوسل إليه أن يقتلها، فيستجيب لها، وبعد أن يرتب أن ينال عامل فقير المكافأة المرصودة للقبض عليه، يستسلم للقانون وللمشنقة.
وهذا كله بالطبع هراء. فالشخوص والأحداث يستحيل تصديقها،(41/270)
والأسلوب منمق طنان، والخطب لا تطاق، والفكرة عن المرأة مثالية على نحو رومانسي. ولكنه هراء قوي. ذلك أن فينا كلنا تقريباً تعاطفاً خفياً مع أولئك الذين يتحدون القانون؛ فنحن أيضاً نحس أنفسنا أحياناً وقد ضيقت علينا الخناق وأرهقتنا آلاف القوانين والأوامر التي تكبلنا أو تغرمنا وقد طال اعتيادنا على المنافع التي وهبنا إياها القانون حتى أننا لنأخذه قضايا مسلمة؛ ونحن لا نشعر بتعاطف طبيعي مع الشرطة حتى نقع ضحية من ضحايا التمرد على القانون. ومن ثم وجدت التمثيلية المطبوعة قراء متحمسين واستحساناً حاراً، ولم تمنع شكاوي الوعاظ والمشرعين، الذين زعموا أن شيلر مجد الجريمة، أحد النقاد من أن يحييه لأنه يعد بأن يصبح شكسبيراً "ألمانيا" (75)، ولا منعت المخرجين من أن يقترحوا إخراج المسرحية.
وعرض البارون فولفجانج هريبرت فون دالبرج أن يقدمها على المسرح القومي بمانهايم إذا وضع لها شيلر نهاية أسعد. ففعل: واقتضى التعديل أن يتزوج مور أميليا بدلاً من أن يقتلها. وتسلل شيلر من شتوتجارت دون أن يستأذن الدوق كارل أو بجين قائده الحربي ليحضر العرض الأول للمسرحية في 13 يناير 1782. وأقبل الناس من فورمز ودارمشتات وفرانكفورت وغيرها من المدن ليشهدوا التمثيل. ولعب أوجست افلاند دور كارل، وكان من ألمع ممثلي الجيل؛ وأبدى النظارة استحسانهم بالصياح والتشيج، ولم تلق مسرحية ألمانية أخرى من قبل مثل هذا الاحتفاء (76)، وكانت قمة في الحركة الزوبعية. وبعد المسرحية كرم الممثلون شيلر وتودد إليه ناشر من مانهايم، وشق عليه أن يعود إلى شتوتجارت ويستأنف حياته جراحاً للفوج. وفي شهر مايو تسلل ثانية إلى مانهايم لشهد عرضاً آخر لمسرحية ثانية. فلما أن عاد ثانية إلى فوجه، وبخه الدوق وحظر عليه تأليف المزيد من التمثيليات.
ولم يقو على تقبل هذا الحظر. ففي 22 سبتمبر 1782 هرب إلى مانهايم في صحبة صديق يدعى أندرياس سترايشر. وهناك قدم لدالبرج تمثيلية جديدة سماها "مؤامرة فييسكو في جنوه". وقرأها على الممثلين،(41/271)
فحكموا أنها هابطة مؤسفاً عن مستوى "اللصوص"، وقال والبرج أنه قد يخرج المسرحية إذا راجعها شيلر؛ فعكف شيلر أسابيع على هذه المهمة، ولكن دالبرج رفض حصيلة هذا الجهد. ووجد شيلر نفسه لا يملك فلساً. وأنفق سترايشر على إعاشته النقود التي ادخرها ليدرس الموسيقى في همبورج. فلما نفدت، رحب شيلر بدعوة للإقامة في باورباخ في كوخ تملكه السيدة هنرييتا فون فولتسوجن. وهناك كتب تمثيليته ثالثة سماها "الدسيسة والحب". ووقع في غرام الآنسة لوته فون فولتسوجن البالغة من العمر ستة عشر ربيعاً. ولكنها آثرت عليه منافساً في حبها. وظفرت "فييسكو" التي نشرت في غضون هذا بتوزيع جيد. وندم دالبرج، وأرسل إلى شيلر دعوة ليكون كاتب التمثيليات المقيم لمسرح مانهايم براتب قدره ثلاثمائة فلورن في العام. فوافق (يوليو 1783).
ونعم شيلر بعام من السعادة القلقة رغم كثرة ديونه التي عجز عن سدادها ورغم ما أصيب به مرة من مرض خطير. وعرضت فييسكو على المسرح أول مرة في 11 يناير 1784، وقد أفسدها ما أصر عليه دالبرج من نهاية سعيدة لا يمكن تصديقها، ولم تثر المسرحية أي حماسة من النظارة. بيد أن "الدسيسة والحب "كانت أفضل بناء، وأقل خطباً، وأظهرت حساً متزايداً بالمسرح؛ وقد رأى فيها البعض، من وجهة النظر المسرحية، أفضل المآسي الألمانية قاطبة (77). وبعد أن فرغ الممثلون من العرض الأول (15 أبريل 1784) ضج النظارة بتصفيق صاخب حمل شيلر على أن يقوم من مقعده في إحدى المقصورات وينحني للجمهور.
كانت سعادته مفرطة قصيرة الأجل. ذلك أنه لم يكن بطبيعته صالحاً للتعامل مع الممثلين، الذين كانوا على شاكلته تقريباً في عصبيتهم؛ فقد قسا في الحكم على آدائهم، ولا مهم على عدم حفظ أدوارهم حفظاً دقيقاً (78). ولم يستطع أن يكمل تمثيلية ثالثة سماها "دون كارلوس" في الزمن المشروط. فلما أن قارب عقده "كاتباً للمسرح" الانتهاء في سبتمبر 1784 رفض دالبرج تجديده. ولم يكن شيلر قد ادخر شيئاً، فعاد من جديد يواجه الإملاق والدائنين الذين فرغ صبرهم.(41/272)
في هذه الفترة أو نحوها نشر بعض "الرسائل الفلسفية" التي تدل على أن الشكوك الدينية قد أضيفت إلى مشكلاته الاقتصادية. فهو لم يستطع تقبل اللاهوت القديم، ومع ذلك اشمأزت روحه الشاعرة من الإلحاد المادي، كذلك الذي عبر عنه دولباخ في كتابه "مذهب الطبيعة" (1770). ولم يعد قادراً الآن على أن يصلي، ولكنه كان يحسد القادرين على الصلاة؛ وقد وصف في إحساس بالخسارة الفادحة ذلك العزاء الذي يهبه الدين لآلاف النفوس في ظروف الألم والحزن والاحتضار (79). على أنه احتفظ بإيمانه بحرية الإرادة، وبالخلود، وبإله مجهول، بانياً هذا كله، كما بناه كانط، على الوجدان الأخلاقي. وقد أعرب في عبارة لا تنسى عن مبدأ المسيح الأخلاقي "حين أبغض انتزع شيئاً من نفسي، أما حين أحب فإنني أزيد ثراء بما أحب. والصفح معناه أن أتلقى ثروة فقدت. وكراهة البشر إنما هي انتحار بطيء" (80).
وسط هذه الظروف المعقدة جمل كرستيان جوتفريد كورنر حياة شيلر بصداقة من أروع الصداقات في تاريخ الأدب. ففي يونيو 1784 أرسل إلى شيلر من ليبزج رسالة تنم على الإعجاب الحار، مشفوعة بصور له، ولخطيبته مناشتوك، وأختها دوراً، وخطيب دوراً لودفج هوبر، ومحفظة جيب طرزتها منا. أما كورنر هذا فقد ولد في 1756 (قبل مولد شيلر بثلاثة أعوام) لراعي كنيسة القديس توماس التي قاد فيها باخ قبل جيل الكثير من الموسيقى الخالدة. وقد نال الشاب إجازته في القانون وهو في الحادية والعشرين، وكان الآن مستشاراً لمجلس الكنيسة الأعلى في درسدن. وآخر شيلر رده حتى 7 ديسمبر، إذ كان مرهقاً بمتاعبه وهمومه. ورد عليه كورنر يقول "نحن نقدم لك صداقتنا دون تحفظ، فاحضر إلينا بأسرع ما تستطيع" (81).
وتردد شيلر. وكان قد كون صداقات في مانهايم، ووقع في غرام العديدات، لا سيما (1784) شارلوته فون كالب، التي تزوجت قبل(41/273)
ذلك بعام واحد. وفي دارمشتات، في ديسمبر 1784، التقى بالدوق كارل أوجست أمير ساكسي-فايمار، وقرأ عليه الفصل الأول من "دون كارلوس، ونال لقب Rat أو المستشار الفخري، ولكن لم يصله أي عرض بمكان في سماء فايمار. ومن ثم فقد قرر أن يقبل دعوة كرونر لليبزج. وعليه، ففي 10 فبراير 1785 أرسل إلى المعجب الذي لم يعرفه به نداء عاطفياً يظهره ريباً من نقطة الانهيار.
"في الوقت الذي في نصف سكان مانهايم إلى المسرح ... أطير إليكم أيها الأصدقاء الأعزاء ... فمنذ أن تلقيت خطابكم الأخير لم تبرحني قط الفكرة بأننا مخلوقون بعضنا لبعض، لا تسيئوا الظن بصداقتي إذ تبدو متعجلة بعض الشيء. فالطبيعة تطرح الكلفة في رضاها عن بعض الكائنات. والنفوس النبيلة ترتبط بخيط رقيق كثيراً ما يتبين أنه طويل البقاء.
"فإذا ما التمستم العذر لرجل تدفئ قلبه أفكار عظيمة ولكنه لم ينجز غير أفعال صغيرة؛ رجل لا يستطيع إلى الآن إلا أن يحدس من حماقاته أن الطبيعة رصدته لشيء ما، ويطالب بالحب الذي لا حدود له، وهو مع ذلك يجهل ما في وسعه أن يقدمه رداً على هذا الحب؛ ولكنه رجل يستطيع أن يحب شيئاً ما يتجاوز شخصه، ولا يعذبه شيء كرؤيته نفسه بعيداً كل البعد من أن يكون ما يشتهي أن يكونه؛ أقول إذا تطلع رجل هذه طبيعته إلى صداقتكم فإن صداقتنا ستكون أبدية، لأنني أنا ذلك الرجل. فلعلكم ستحبون شيلر، حتى إن كان تقديركم للشاعر قد تضاءل".
وقد توقف عن إكمال هذا الخطاب، ولكنه استأنفه في 22 فبراير:
"لا أستطيع المقام بعد اليوم في مانهايم ... فلا بد لي من زيارة ليبزج والتعرف إليكم. إن نفسي متعطشة لغذاء جديد-لناس أفضل-للصداقة، والمودة، والمحبة. لا بدأن أكون قريباً منكم، وبفضل حديثكم وصحبتكم ستنتعش روحي الجريحة ... يجب أن تهبوني حياة جديدة، وسأصبح خيراً مما كنت في أي وقت مضى. سأكون سعيداً-إنني لم أنعم بالسعادة قط إلى الآن .. أتراكم ترحبون بمقدمي؟ " (82).(41/274)
ورد كورنر في 3 مارس يقول "سنستقبلك بأذرع مفتوحة" ثم نقد ج. ي. جوشن الناشر الليبزجي بعض المال ليرسل إلى شيلر مقدم أتعابه عن مقالات مستقبله (83). فلما أن وصل الشاعر إلى ليبزج (17 مارس 1785 كان كورنر غائباً في درسدن، ولكن خطيبته، وأختها، وهوبر، أدفأوا شيلر بالطعام والحفاوة البالغة. وأحبه جوشن لتوه، وكتب يقول "لا أستطيع أن أصف لك مبلغ عرفان شيلر واستجابته حين تبذل له النصيحة الناقدة، ومبلغ جهاده في سبيل تطوره الخلقي" (84).
والتقى كورنر بشيلر أول مرة في ليبزج في أول يوليو، ثم قفل إلى درسدن. وكتب إليه شيلر يقول "لقد جمعت السماء بيننا بطريقة عجيبة، وصداقتنا معجزة. " ولكنه أردف أنه أشرف على الإفلاس من جديد (85). فبعث إليه كورنر بالمال، والطمأنينة، والنصيحة:
"إن كنت في حاجة إلى المزيد فاكتب لي وسأرسل لك أي مبلغ برجوع البريد. أنني لو كنت ذا ثراء طائل، وكان في استطاعتي ... أن أرفعك فوق العوز والحاجة لضروريات الحياة في يوم من الأيام، لما جرؤت على أن أفعل هذا، فأنا عليم بأنك قادر على كسب ما يفي بكل حاجاتك بمجرد أن تشرع في العمل. ولكن اسمح لي-على الأقل سنة واحدة-بأن أعفيك من ضرورة العمل. في استطاعتي أن أدبر هذا دون إعسار، وفي استطاعتك أن ترد لي المال إن شئت حين تسمح بذلك ظروفك" (86).
وزاد من قدر هذا الجود أن كورنر كان يجهز نفسه للزواج. وزف العروسان بدرسدن في 7 أغسطس 1785. وفي سبتمبر لحق بهما شيلر وعاش معهما، أو على حسابهما، حتى 20 يوليو 1787. في هذه الفترة أو نحوها-ربما وسط سعادة العروسين-كتب أشهر قصائده "أغنية للفرح" التي أصبحت تاج السمفونية التاسعة. وكلنا يعرف ميلودية بيتهوفن المؤثرة، ولكن القليلين منا، خارج ألمانيا، من يعرفون كلمات شيلر. وقد بدأت بنداء للمحبة الشاملة، وانتهت بدعوة للثورة:(41/275)
أيتها الفرحة المنبثقة من لهب سماوي يا ابنة الفردوس، إننا نقبل إلى هيكلك ملتهبين بتلك النار المقدسة. أنت صاحبة التعاويذ التي وحدت من باعت التقاليد الرهيبة بينهم، كل الناس يصبحون أخوة حيث يمتد جناحاك الرفيقان.
الكورس: نحن نجمع الملايين بين أحضاننا، ونرسل قبلتنا إلى الدنيا بأسرها! أيها الأخوة، إن وراء السماء المرصعة بالنجوم يسكن أب محب من جرب النعم المقيم في صداقة الأصدقاء، ومن ظفر بعذرية محبوبة ليشاركنا في ابتهاجنا. ومن سبى قلباً يملكه دون الناس أجمعين-ومن أخفق، فلينصرف عن جماعتنا باكياً.
الكورس: كل ساكن للكون الكبير يقدم الإجلال للمحبة وهي تتقدم إلى طريق النجوم حيث يملك الإله المجهول. إن القلوب الباسلة الرازحة تحت الآلام تمد يد العون حيثما يبكي الأبرياء. والعهد الذي لا يخذل أبداً(41/276)
والوفاء للصديق والعدو! وتحدي الملوك، والروح الجريئة، وإن كلفتنا المال والدم أيها الأخوة، التيجان لأشرف مستحقيها والموت لكل سلالة الكذابين!
الكورس: اقفل الدائرة المقدسة وأقسم بالخمرة الذهبية! أقسم بالوفاء بهذه العهود المقدسة أقسم برب الفلك.
وظل كورنر يعون شيلر عامين أملاً في أن يصوغ الشاعر في شكل لائق تلك المسرحية التي قصد بها تصوير الصراع بين فليب الثاني وابنه كارلوس. ولكن شيلر طال توانيه وتسويفه للتمثيلية حتى فقد المزاج التي بدأها به، ولعل ازدياد إطلاعه على التاريخ غير نظرته إلى فليب؛ ومهما يكن الأمر، فقد غير الحبكة حتى افتقدت الوحدة والتسلسل. "وفي غضون هذا (فبراير 1787) وقع في غرام هنرييتا فون أرنيم، واستهلكت الخطابات الغرامية مداد قلمه، بينما كانت هي تتصيد خطيباً أغنى منه. وأقنع كورنر شيلر بأن يعتكف في إحدى الضواحي حتى يفرغ من مسرحيته. وأخيراً تمت (يونيو 1787)، وعرض مسرح همبورج أن يخرجها. وانتعشت معنوية شيلر وكبرياؤه، فلعله الآن يرى جديراً بالانضمام إلى كوكبة الأدباء المتألقة حول الدوق كارل أوجست، أما كورنر الذي تنفس الصعداء فقد وافقه على أنه ليس للشاعر مستقبل في درسدن. ثم إن شارلوته فون كالب كانت في فايمار، بغير زوج، تغريه بالمجيء. وعليه، ففي 20 يوليو، وبعد الكثير من عبارات الوداع، ركب شيلر منطلقاً من درسدن إلى حياة جديدة. فوصل فايمار في الغد، وهكذا اكتمل عقد الزمرة العظمى.(41/277)
الفصل الثالث والعشرون
فايمار إبان ازدهارها
1775 - 1805
1 - تتمة لفيلاند
1775 - 1813
حين رأى موتسارات فيلاند في مانهايم عام 1777 قال في وصف وجهه أنه "قبيح إلى حد مخيف، تغشاه ندوب الجدري، وله أنف طويل، ... وفيما خلال هذا فهو ... رجل موهوب جداً ... والناس يحدقون فيه كأنه قد هبط من السماء" (1). وقد كرهه طيور النوء الهائجون أنصار الحركة "الزوبعية" لأنه سخر من انتشاءاتهم المتمردة؛ أما فايمار فأحبته لأنه لطف نقده اللاذع بالكياسة ويغفران عام للنوع الإنساني، ولأنه احتمل في رضى تفجر النجوم الجديدة مراراً في سماء الأدب بينما كان في استطاعته أن يدعي لنفسه مكان الصدارة. وقد خلد جوته ذكره في سيرته الذاتية بشعور العرفان بصنيعه (2). أما شيلر فقد خال في أول لقاء بينهما مغروراً محزوناً، ولكن "الموقف الذي اتخذه مني للتو يدل على الثقة والحب والتقدير" (3).
وقال الشاعر الكبير للشاعر الفتى "سنفتح عما قليل قلبينا الواحد للآخر، وسياسعد كل منا صاحبه بدوره" (4)، وقد أثبت وفاءه بهذا الوعد. "إنني وفيلاند نتقارب أكثر كل يوم ... ولا تفوته مناسبة لا يذكرني فيها بكلمة طيبة" (5).
وقد وفق فيلاند في منافسته للوافدين الجدد بإصداره في 1780 رواية شعرية اسمها "أوبرون" تحكي قصة فارس تنقذه عصا أمير الجان السحرية من مائة جنيه ومن شراك مفاتن ملكة اشتدت بها حرارة العشق. وحين(41/278)
اضطر جوته إلى الجلوس لمصور يرسم صورته وأراد أن يقعد ساعة دون حركة، طلب إلى فيلاند أن يقرأ عليه أجزاء من هذه الملحمة. يقول فيلاند "لم أشهد قط إنساناً سعد بعمل إنسان آخر كما سعد جوته" (6). وقد ترجم جون كوينسي آدمز القصيدة وهو سفير للولايات المتحدة في بروسيا في 1797 - 1801، واقتبس منها جيمس بلانشيه نصر أوبرا فيبر (1826).
واحتوى عدد مارس 1798 من مجلة فيلاند "الرائد الألماني الجديد" مقالة يحتمل أنها بقلم فيلاند-تنبأت بالأحداث المقبلة على نحو يلفت النظر. فقد لاحظت الفوضى التي تردت فيها فرنسا منذ 1789، وأوصت بتعيين دكتاتور لها، كما وقع في الأزمات التي تعرضت لها روما الجمهورية؛ ورشحت بونابرت الشاب، الذي كان يواجه المتاعب يومئذ في مصر، بوصفه صالحاً لهذه المهمة بشكل واضح. وحين فتح نابليون ألمانيا فعلاً التقى بفيلاند في فايمار وايرفورت (1808)، وتحدث معه في أدب اليونان والرومان وتاريخهم، وكرمه فيمن كرم من الكتاب الألمان بوصفه أعظمهم بعد جوته (7).
وفي 25 يناير 1813 كتب جوته في يوميته "دفن فيلاند اليوم" ثم أنهى النبأ إلى صديق في كارلسباد قائلاً: "لقد تركنا صديقنا الطيب فيلاند .. ففي 3 سبتمبر احتفلنا كما ألفنا كل عام بعيد ميلاده الثمانين بمظاهر الابتهاج. لقد كان في حياته توازن بديع بين الهدوء والنشاط. فلقد أسهم بقدر هائل في ثقافة الأمة العقلية في ترو وأناة ملحوظين، دون أي نضال مشبوب أو صراخ عال" (8).
2 - هردر والتاريخ
1777 - 1803
كتب شيلر في يوليو 1787 "لقد تركت هردر لتوي ... أن حديثه رائع، ولغته دافئة قوية، ولكن مشاعره يراوحها الحب والكره" (9).
وكانت واجهات هردر في فايمار متنوعة، فلم تتح له متسعاً من الوقت للتأليف. فكان بصفته قسيساً خاصاً للدوق يقوم بواجبات العماد، والتثبيت(41/279)
في الإيمان، وعقد الزيجات والإشراف على الجنازات لأسرة الدوق وبلاطه. وبصفته المراقب العام للدوقية كان يشرف على سلوك الأكليروس وتعييناتهم، ويحضر اجتماعات مجلس الكنيسة ويلقى عظات فيها من سلامة العقيدة القدر الذي تسمح به شكوكه الخاصة. وكانت مدارس الدوقية تحت إدارته، فأصبحت نموذجاً تحتذيه ألمانيا كلها. هذه المسئوليات مضافاً إليها ناسوره وسوء صحته عموماً، جعلته سريع الغضب وصبغت حديثه بين الحين والحين بما سماه جوته "اللدغة الخبيثة" (10). وقد ظل ثلاث سنين (1780 - 83) هو وجوته يتجنب أحدهام صاحبه؛ وقد أنكر الدوق بعض عظات هدر. قال جوته "بعد عظة كهذه لم يبق أمام أي أمير إلا الاعتزال" (11). وقال فيلاند اللطيف الطبع معلقاً في 1777 "وددت لو قام بيني وبين هردر اثنا عشر هرماً" (12)، وتعلمت فايمار أن تلتمس المعازير "الاكلينيكية" لقسيسها الشبيه بدين سويفت، وردت زوجته اللطيفة كارولينة على بعض لدغه. وفي 28 أغسطس 1783 اغتنم جوته اتفاق وقوع عيد ميلاده وعيد ميلاد ابن هردر البكر في يوم واحد ليدعو آل هردر العشاء. واصطلح عضو المجلس الخاص والمراقب العام، وكتب جوته يقول أن "السحب الكئيبة التي فرقت بيننا طويلاً قد انجلت، وإلى الأبد في اعتقادي" (13). وبعد شهر أضاف "لست أعرف رجلاً أنبل قلباً أو أسمح وروحاً" (14)، وذكر شيلر في 1787 أن "هردر شديد الإعجاب بجوته-بل هو يكاد يعبده". (15) وأصبح فيلاند وهردر في الوقت المناسب صديقين متفاهمين (16)، وكان هذان، لا جوته ولا شيلر، هما اللذين قادا الحديث في صالون آنا أماليا واكتسبا قلب الدوقة الأرملة (17).
وواصل هردر وسط واجباته الإدارية البحث في الشعر البدائي، وجمع عينات منه من نيف وعشرة شعوب، ومن أورفيدس إلى أوسيان، ونشرها في "مختارات سماها Volksliede " أغاني شعبية" (1778) أصبحت ينبوعاً من ينابيع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا. وبينما كان جوته يتهيأ لعودة إلى المثل والأشكال والأساليب الكلاسيكية ولضبط العقل للعاطفة، كان هردر يشير بالانتفاض على عقلانية القرن الثامن عشر وشكلية القرن السابع عشر والعودة إلى إيمان العصر الوسيط وأساطيره وأناشيده وأساليب حياته.(41/280)
وفي 1788 عرضت الأكاديمية البافارية جائزة لأفضل مقال "في آثار الشعر في عادات الأمم وأخلاقها". وفاز مقال هردر ونشرته الأكاديمية في 1781. وقد تتيع المقال ما رآه المؤلف تدهوراً للشعر بين العبرانيين واليونان والأوربيين الشماليين، من التعبير الملحمي المبكر عن التاريخ والمشاعر والأفكار الشعبية في إيقاعات طليقة فياضة، إلى تدريب "مصقول" ومدرسي، بعد المقاطع، ويلوي القوافي، ويقدس القواعد، ويضيع حيوية الشعب وسط مظاهر الافتعال المميتة التي تشوب حياة الحضر. وزعم هردر أن النهضة الأوربية قد انتزعت الأدب من الشعب وحبسته بعيداً في قصور الملوك والأمراء، وأن الطباعة قد أحلت الكتاب محل المنشد الحي. وفي مقال آخر "في روح الشعر العبري" (1783) اقترح هردر قراءة سفر التكوين على أنه شعر لا علم، وكان قد تمكن من العبرية بجهده الخاص؛ وألمع إلى أن شعراً كهذا يستطيع أن يحمل بالرمزية من الحقيقة قدر ما يحمله العلم بـ "الواقع".
ولقد كافح إيمانه الديني للصمود رغم سعة إطلاعه على الكتب العلمية والتاريخية. ففي عامه الأول في فايمار اشتبه بعضهم في أنه ملحد، حر الفكر، سوسيني، صوفي (18). وكان قد قرأ أجزاء "مخطوطة فولفنبوتل" لريماروس، التي نشرها ليسنج، وتأثر بها تأثراً كفى لتشكيكه في لاهوت المسيح (19). ولم يكن ملحداً، ولكنه وافق على وحدة الوجود التي قال بها سبينوزا. قال لياكوبي في 1784 "لست أتبين إلهاً من وراء العالم المادي" (20) وقد حذا حذو ليسنج في دراسة سبينوزا والدفاع عنه، "يجب أن أعترف أن هذه الفلسفة تسعدني جداً" (21). وقد كرس لسبينوزا الفصول الأولى من رسالة عنوانها "أحاديث عن الله" (1787)، ففي هذا البحث فقد الله صورته الذاتية وأصبح قوة الكون وروحه، الذي لا سبيل إلى معرفته إلا في نظام العالم والوعي الروحي للإنسان (22). على أن هردر في دراساته الموجهة إلى الأكليروس قبل الصفقة الخارقة لمعجزات المسيح، وخلود النفس (23).
ثم جمع العناصر المتفرقة لفلسفته وجعل منها كلاً منسقاً نسبياً في رائعة ضخمة سماها في تواضع "أفكار نحو فلسفة في تاريخ الإنسان"، وهي(41/281)
كتاب من كتب القرن الثامن عشر البزرية الخطيرة. صدر في أربعة أجزاء في 1784 و1787 و1791. وإشراف مشروع ضخم كهذا على التمام وسط مسئوليات هردر الرسمية يقوم شاهداً على الخلق القوي والزوجة الصالحة. وآية ذلك ما كتبه هردر إلى هامان في 10 مايو 1784: لم أؤلف طوال حياتي كتاباً كهذا وأنا نهب للكثير من المتاعب وأسباب الإرهاق من الداخل ودواعي الإزعاج من الخارج، بحيث أستطيع القول أنه لولا أن زوجتي، التي هي "المؤلف الحقيقي" لكتبي، ولولا جوته الذي نظر مصادفة في الجزء الأول-أقول لولا أنهما لم يفترا عن تشجيعي وحثي، لظل كل شيء في مثوى الكائنات التي لم تر النور" (24).
ويستهل الجزء الأول بقصة للخليقة، دنيوية في صراحة، مبنية على الفلك والجيولوجيا المعروفين، دون لجؤ للكتاب المقدس إلا بوصفه شعراً. وقد زعم أن الحياة لم تنشأ من المادة، لأن المادة ذاتها حية. والجسم والعقل ليسا جوهرين منفصلين متضادين. إنما هما صورتان لقوة واحدة، وكل خلية في كل جسم حي تحتوي الصورتين إلى حد ما. وليس هناك قصد خارجي يمكن رؤيته في الطبيعة، ولكن هناك قصداً باطنياً-هو "التصميم الكامل" والباعث لكل بذرة أن تتطور إلى كائن نوعي بكل ما لها من أجزاء معقدة مميزة. وهردر لا يقول بأن الإنسان تطور من الحيوانات الدنيا، ولكنه يراه عضواً في المملكة الحيوانية، يناضل كغيره من الكائنات للطعام والبقاء. وقد أصبح الإنسان إنساناً باتخاذه القامة المنتصبة، مما طور فيه جهازاً للحس قائماً على البصر والسمع لا على الشم والذوق؛ فغدت قوائمه الأمامية أيدي، حرة في القبض، والاستعمال، والاحتواء، والتفكير. وأسمى ثمرات الله أو الطبيعة هو الذهن الواعي، الفعال بتفكير وحرية، المكتوب له الخلود.
ويبدأ الجزء الثاني من "الأفكار" بفرض يزعم أن الإنسان بطبيعته خير، ويجدد القول بالتفوق والسعادة النسبيين للمجتمعات البدائية، ويستنكر الفكرة الكانطية-الهيجلية فيما بعد-التي تزعم أن الدولة هي هدف التطور البشري. وقد احتقر هردر الدولة كما عرفها. كتب يقول "في الدول العظمى لا بد(41/282)
أن يتضور الفئات جوعاً لكي يزهو فرد واحد ويتقلب في النعيم؛ أن عشرات الألوف يظلمون ويساقون إلى الموت لكي يستطيع أحمق أو عاقل متوج واحد أن يحقق حلمه" (25).
وفي الجزء الثالث امتدح هردر أثينا على ديمقراطيتها النسبية التي أتاحت للحضارة أن تنتشر في كثير من طبقات السكان. أما روما التي أقامت ثراءها على الفتح والرق فقد طورت حضارة ضيقة خلفت الشعب في الفقر والجهل. في هذا التاريخ كله لم ير هردر أي "عناية إلهية"، فهو أشر من أن يكون من عند الله. فالله، الواحد مع الطبيعة، يدع الأمور تجري في أعنتها وفق القانون الطبيعي وغباوة البشر. ومع ذلك فبحكم صراع البقاء ذاته ينبعث بعض التقدم من الفوضى؛ فيطور العون المتبادل، والنظام الاجتماعي، والأخلاق، والقانون، كوسائل للبقاء، ويتحرك الإنسان في بطء صوب إنسانية رحيمة. لا لأن هناك خطاً متصلاً للتقدم، فهذا غير ممكن، لأن كل حضارة قومية هي كيان فريد، له طابعه المتأصل، ولغته، ودينه، وناموسه الخلقي، وأدبه وفنه، وكل حضارة-شأنها شأن أي كائن حي-إذا استثنينا ما يطرأ عليها من حوادث عارضة-تنحو للنمو إلى نهايتها القصوى الطبيعية، التي تضمحل بعدها وتموت. وليس هناك ضمان لتفوق الحضارات اللاحقة على السابقة، ولكن إسهامات كل حضارة تنقل على نحو أفضل إلى الحضارة التي تخلفها، وهكذا ينمو التراث الإنساني.
والجزء الرابع يمتدح المسيحية أما للمدنية الغربية. فالبابوية الوسيطة حققت هدفاً نافعاً يكبحها استبدادية الحكام والنزعة الفردية للدول؛ والفلاسفة المدرسيون، وأن نسجوا نسيجاً واهياً أجوف بألفاظ ثقيلة، إلا أنهم أرهفوا أدوات العقل ولغته، وجامعات العصر الوسيط جمعت وحفظت ونقلت الكثير من ثقافة اليونان والرومان، بل بعض علوم العرب والفرس وفلسفتهم. وهكذا أصبح المجتمع الفكري أكبر عدداً وأرهف حساً من أن يقوى عليه سدنة السلطة، وتحطمت أغلال العرف، وأعلن العقل الحديث تحرره.(41/283)
وحقق هردر فيما بين الجزئين الثالث والرابع من "الأفكار" حلمه الذي طال تأجيله برؤية إيطاليا. ذلك أن يوهان فريدريش هوجو فون ذالبرج، المستشار الكاثوليكي الخاص لرئيس أساقفة تريير الناخب، دعا هردر ليصحبه في رحلة كبرى تدفع لها فيها كل نفقاته. وأذن له دوق ساكسي-فايمار، وكارولينة، بالغياب؛ فغادر فايمار في 7 أغسطس 1788. فلما لحق بدالبرج في أوجزبرج وجد أن خليلة دالبرج عضو هام في الجماعة. واجتمع على هردر وجودها ومطالبها، وسوء صحته، لتنغص عليه رحلته. وفي أكتوبر وصلت آنا أميليا إلى روما. فترك هردر دالبرج وانضم إلى بطانتها. وقد استلطف أنجليكا كاوفمان استلطافاً أكثر مما ترضى عنه كارولينة، وأسرفت رسائل كارولينة في الكلام عن جوته والميل إليه. وعاد هردر لدغه، وكان قد سمع أنباء عن حياة جوته في روما. وكتب يقول "إن رحلتي هنا كشفت لي لسوء الحظ عن حياة جوته الأنانية على نحو أوضح مما كنت أتمنى، وهي حياة في صميمها لا تعبأ بالغير على الإطلاق. إنه لا يملك غير هذا، فلندعه، وشأنه إذن .. " (26).
وعاد إلى فايمار في 9 يوليو 1789. وبعد خمسة أيام سقط الباستيل، وغير هردر خططه في التأليف. فأكمل الجزء الرابع من "الأفكار"، ثم نحى الكتاب جانياً، وكتب بدلاً منه "رسائل لتقدم الإنسانية (1793 - 97). وقد بدأها بتقريظ حذر للثورة الفرنسية، ورحب بانهيار الإقطاع الفرنسي، ولم يذرف دموعاً على علمنة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا (27)، وحين انطلق الدوق وجوته لمواجهة الفرنسيين عند فالمي، وعادا يجرران أذيال الهزيمة، حبس هردر هذه "الرسائل" الأولى، وخصص الباقي للثناء على الموتى من العباقرة الذين لا خوف من الثناء عليهم.
ولم يفقد في يخوخته من لذة الصراع الفكري. فقابل نقد كانط لكتاب "الأفكار" بهجوم حاد على "نقد العقل الخالص". ووصف الكتاب بأنه تلاعب رهيب بالألفاظ الميتافيزيقية الأشباح، مثل "الأحكام التركيبية القبلية"، وأنكر ذاتية المكان والزمان، واتهم كانط بأنه أعاد إلى علم النفس فكرة الملكات، التي زعم الفلاسفة(41/284)
المدرسيون أن العقل ينقسم إليها. ثم ألمع، في تنبؤ، إلى أن الفلسفة قد تختط طريقاً جديداً بالتحليل المنطقي للغة-لأن الاستدلال ما هو إلا حديث باطني.
وقد وافق جوته إلى حد كبير على نقد هردر لكانط، ولكن هذا لم يعصمه من لدغه نصيبه منه بين الحين والحين. فحين أقام كلاهما تحت سقف واحد في يينا عام 1803 قرأ جوته على جماعة كان هردر واحداً منها أجزاء من مسرحيته الجديدة "الابنة الطبيعية" (أي غير الشرعية). وأثنى هردر على المسرحية للآخرين، ولكن حين سأله المؤلف رأيه لم يستطع مقاومة الرد بتورية عن الصبي الذي ولدته خليلته جوته فقال: "إني أحب ابنك الطبيعي أكثر من ابنتك الطبيعية" ولم يستطب جوته الدعابة. وبعدها لم يلتق الرجلان قط. واعتكف هردر في خلوة بيته بفايمار، ومات هناك في 18 ديسمبر 1803 - قبل شيلر بعامين، وقبل فيلاند بعشرة، وقبل جوته بتسعة وعشرين ودفن بأمر الدوق كارل أوجست-الذي كثيراً ما ضايقه هردر-بمراسم التكريم الكبير في كنيسة القديسين بطرس وبولس.
3 - جوته عضو المجلس الخاص
1775 - 1776
لقي جوته في فايمار ترحيباً من الجميع إلا السياسيين. كتب فيلاند إلى لافاتر في 13 نوفمبر 1775 "لا بد لي من إنبائك بأن جوته معنا منذ الثلاثاء الماضي، وأنه لم تنقض ثلاثة أيام حتى شعرت بمحبة عميقة لهذا الشخص الرائع-فأنا أنفذ إلى أعماقه وأحسه وأفهمه تماماً-على نحو تستطيع أن تتخيله أفضل كثيراً مما أستطيع أن أصفه" (28). وفي الشهر نفسهكتب أحد رجال الحاشية إلى والدي جوته يقول "فكرا في ابنكما كأوثق صديق لدوقنا العزيز، ... وهو محبوب إلى حد العبادة أيضاً من جميع السيدات من فضليات النساء في هذه المنطقة" (29).
بيد أن سماء فايمار لم تخل من غيوم. ذلك أن الدوق كان يستطيب الصيد العنيف والإفراط في الشراب، وقد صاحبه جوته فيهما جميعاً أول الأمر،(41/285)
فاتهم كلوبشتوك الشاعر علانية بأنه يفسد أميراً فاضلاً. وخشيت لويزة أن يقصي جوته زوجها عنها، مع أن حقيقة الأمر أنه استخدم تأثيره ليرد الدوق إلى الدوقة رغم أن زواجهما لم يكن زواج حب. وتشكك بعض الموظفين في جوته باعتباره تابعاً متطرفاً من أتباع الحركة "الزوبعية" ذا معتقدات وثنية وأحلام رومانسية. وهجم على فايمار عدد من أنصار تلك الحركة-لنتن، وكلنجو، وغيرهما-وقدموا أنفسهم باعتبارهم أصدقاء جوته، وطالبوا بالغنيمة. وحين استلطف جوته بيتاً ذا حديقة خارج بوابة المدينة ولكنه قريب من قلعة الدوق-أفقد كارل أوجست جوته بعض عطف الرأي العام بإخلائه شاغلي البيت تمكيناً لجوته من الانتقال إليه (21 أبريل 1776). هناك تخفف الشاعر من مراسم البلاط، وتعلم كيف يزرع الخضر والأزهار. وظل ثلاثة أعوام يسكن البيت على مدار السنة، ثم في الصيف فقط حتى 1782، حين انتقل إلى قصر فسيح في المدينة لينصرف إلى واجباته المتزايدة بصفته عضواً في الحكومة.
كان الدوق قد فكر فيه شاعراً، ودعاه إلى فايمرا ليكون كوكباً من كواكب الأدب في بلاطه. ولكنه رأىأن مؤلف مسرحية ثائرة ورواية غرامية باكية، هذا الكاتب الذي ناهز السادسة والعشرين، أخذ يصبح رجلاً ذا حكم عملي سديد. وعليه فقد عين جوته في "مكتب للاشتغال"، وطلب إليه أن ينظر في حالة المناجم في المينا وفي تشغيلها. وقام جوته بالمهمة بهمة وذكاء حملاً كارل أوجست على التصميم على ضمه للمجلس الخاص الذي يدير شئون الدوقية. واحتج عضو قديم على تدفق الشعر على المجلس على هذا النحو الفجائي، وهدد بالاستقالة. ولكن الدوق والدوقة الأرملة هدءاً ثائراً، وفي 11 يونيو 1776 أصبح جوته "عضو المجلس المختص بالتفويض الدبلوماسي" براتب سنوي قدره ألف ومائتا طالر. فقلل من مغازلاته للسيدات. وقد كتب فيلاند لميرك في 24 يناير يقول "منذ أمد طويل، من اللحظة التي قرر فيها أن يكرس نفسه للدوق وشئون الدوق، راح يسلك بحكمة مبرأة من الخطأ وبحذر الرجل الخبير بأمور الدنيا" (30). وفي 1778 رقي إلى منصب وزير الحرب، وكان يومها(41/286)
منصباً هادئاً، ثم إلى العضوية الكاملة للمجلس الخاص في 1799. وقد حاول بعض الإصلاح، ولكنه وجد نفسه معوقاً بالمصالح المكتسبة في القمة، واللامبالاة العامة في القاعدة، وما لبث هو نفسه أن بات محافظاً تام المحافظة. وفي 1781 عين رئيساً لغرفة الدوقية. وفي 1782 خلع عليه يوزف الثاني براءة النبالة، وغداً "فون" جوته. قال لأكرمان بعد خمسة وأربعين عاماً "في تلك الأيام كنت أشعر بغاية الرضى عن نفسي بحيث أنني لو كنت رقيت أميراً لما وجدته تغييراً ذا بال" (31).
وامتزجت بمستقبله السياسي قصة غرام كانت أبقى وأحر وآلم حب في حياته. استمع إلى وصف الدكتور يوهان تسمرمان لإحدى مرضاه وصفاً لا يمت إلى الطب بسبب في نوفمبر 1775.
"إن للبارونة فون شتين، زجة البارون ورئيس الخيالة، عيوناً نجلاء سوداء رائعة الجمال. وصوتها رقيق خافت. ولا يفوت أحداً أن يلحظ على وجهها سمات ... الرزانة، ودماثة الطبع، واللطيف ... والفضيلة، والحساسية العميقة. إن آداب السلوك في البلاط، التي تملك ناصيتها إلى حد الكمال، تحولت فيها إلى بساطة رفيعة نادرة. وهي نقية جداً، ذات سمو روحي مؤثر يكاد يبلغ حد النشوة. ولا يستطيع المرء من مشيتها الأنيقة ومهارتها في الرقص التي تقرب من مهارة المحترفين أن يستشف نور القمر الهادئ المطمئن ... الذي يملأ قلبها بالسلام. أنها في الثالثة والثلاثين، ولها عدة أطفال، وأعصابها ضعيفة. ووجنتاها ورديتان، وشعرها فاحم، وبشرتها ... إيطالية اللون" (32).
وقد ولدت شارلوته فون شارت في 1742، وتزوجت البارون يوسياس جوتلوب فون شتين في 1764. وفي 1772 بلغ مجموع ما أنجبت من أطفال سبعة، مات منهم أربعة. وحين التقى بها جوته كانت لا تزال تعاني من الحمل المتكرر، وامتزج إحساسها بالضعف بما فطرت عليه من تواضع وحياء. ورفعها جوته في خياله إلى السماء، ولا غرو فقد كان فيه دم شاب وخيال شاعر، ألف تجميل الواقع ونيط به هذا التجميل، ومع ذلك لم يجاوز(41/287)
ما قاله طبيبها في تمجيدها. فقد كانت شيئاً جديداً في بستان وروده النسائية: كانت ارستقراطية، كأنما ركب السلوك المهذب في فطرتها، ورآها جوته كأنهما من النفائس المذخورة في قدس النبالة. وكان من ثمرات علاقتهما أنها نقلت إليه آداب طبقتها، وعلمته ضبط النفس، والطبيعة، والاعتدال، والمجاملة. وكانت شاكرة حبه إياها لأنه رد إليها اهتمامها بالحياة، ولكنها قبلت هذا الحب كما تقبل امرأة كريمة المربى إعجاب فتى يصغرها بسبع سنين-باعتباره آلام النمو لروح متشوف يبحث عن التجربة وتحقيق الذات.
ولم يكن حباً من أول نظرة، فبعد أن انضم إلى زمرة فايمار بستة أسابيع كان لا يزال يقرض الشعر عن "الجميلة للي" شونمان (33). ولكن في 29 ديسمبر 1775، لاحظ الدكتور تسمرمان تنبه جوته إلى "فضائل ومفاتن جديدة في شارلوته". وما حل 15 يناير حتى كان يحاول مقاومة افتتانه الوليد بها، فقال لها "إنني مسرور لأنني أبعد عنك وأفطم نفسي منك"، ولكن لم يواف 28 يناير حتى كان قد ألقى السلاح، وكتب إليها يقول "يا ملاكي الحبيب، لن آتي إلى البلاط. إن بي من شعور السعادة ما لا أطيق معه كثرة الخلق ... فاسمحي لي أن أحبك كما أفعل". ثم كتب في 23 فبراير "يجب أن أخبرك أيتها المختارة بين النساء أنك ألقيت في قلبي حباً يملؤني بهجة" (34).
وردت برسائل كثيرة، ولكن لم يبق منها غير واحدة من هذه الحقبة: "لقد عزلت نفسي بعيداً عن العالم، ولكنه الآن يعود إلى عزيزاً، وعزيزاً بسببك. إن قلبي يبكتني وأنا أشعر أنني أعذب نفسي وأعذبك. فقبل ستة أشهر كنت على أتم استعداد للموت، وأنا لم أعد الآن مستعدة للقائه" (35). وملكته النشوة. فقال لفيلاند "ليس من تفسير لما تفعله هذه المرأة بي ... إلا إذا قبلت نظرية التقمص. أجل، لقد كنا يوماً ما رجل وزوجته! (36) واتخذ لنفسه امتياز الأزواج في الشجار والمصالحة. كتب شارلوته إلى تسمرمان في مايو 1776 تقول: "لقد تركني ثائراً قبل أسبوع، ثم عاد بحب طاغ ... فماذا هو صانع بي في النهاية؟ (37) ويبدو أنها أصرت على أنيظل حبهما أفلاطونياً، أما هو فكان به من حرارة العشق مالا يجعله(41/288)
يترك حبهما عند هذا الحد، فقال لها "إن أمتنع على العيش معك فإن حبك لن ينفعني بأكثر من حب غيرك الغائبات عني" (38). ولكنه أردف في الغد "اصفحني عني أنني آلمتك. وسأحاول بعد اليوم أن أحتمل الألم وحدي" (39).
وشعر بالوحشة حين ذهبت إلى بيرومنت النائية في الشمال للعلاج، ولكنها زارته في المينا وعند عودتها (5 - 6 أغسطس 1776). وكتب في 8 أغسطس يقول "كان لحضورك أثر عجيب في ... وحين أفكر أنك كنت هنا في كهفي معي، وإنني أمسكت بيدك وأنت تنحنين على ... أرى صلتك بي مقدسة وغريبة معاً ... فليس هناك كلام يعبر عنها، وأعين الرجال لا تبصرها" (40). وكان لا يزال حاراً في حبه لها بعد أن انقضى على لقائهما الأول قرابة خمس سنين. ففي 12 سبتمبر 1780 كتب وهو وحيد في زلباخ "كلما استيقظت من أحلامي وجدتني ما زلت أحبك وأصبو إليك. والليلة بينما كنا راكبين ورأينا النوافذ المضاءة في بيت أمامنا، قلت في نفسي ليتها هناك لتضيفنا. إن هذا المكان جحر حقير، ومع ذلك فلو أنني استطعت أن أعيش هنا في هدوء طوال الشتاء معك لأحببته كثيراً (41). ثم كتب في 12 مارس 1781:
"لقد امتزجت روحانا امتزاجاً جعلني كما تعلمين مربوطاً بك رباطاً لا فكاك منه، ولن يفصلنا علة ولا عمق. وددت لو كان هناك قسم ما أو أسر مقدس ما ييربطني بك على نحو مرئي ووفقاً لقانون ما. لكم يكون هذا رائعاً! ولا شك أن فترة الاختبار كفاني طولها لإنعام التفكير الواجب في الأمر ... أن اليهود يربطون زناراً حول أذرعتهم أثناء الصلاة. وهكذا أربط على ذراعي زناك العزيز حين أوجه صلاتي إليك، وأرغب إليك في أن تنقلي إلى طبيعتك وحكمتك واعتدالك وصبرك".
وقد فسر بعضهم "فترة الاختبار" المنصرمة، بأنها تشير إلى أن شارلوته أسلمت جسدها إليه" (42)، ومع ذلك كتب إليها بعد ست سنوات يقول.(41/289)
"يا عزيزتي لوته، أنت لا تعلمين أي عنف أوقعته بنفسي وما زلت أوقعه. وكيف أن فكرة عدم امتلاكي إياك ... ترهقني وتفنيني" (43). فإذا كان غرامهما قد اكتمل حقاً فإن السر قد كتم أحسن كتمان. وقد احتمل البارون فون شتين، الذي عمر حتى 1793، هذه العلاقة الغرامية بمجاملة جنتلمان من أهل القرن الثامن عشر. وكان جوته يختم خطاباته بين الحين والحين بعبارة "تحياتي إلى شتين" (44).
وقد تعلم أن يحب أطفالها أيضاً، وكلما امتد به العمر اشتد شعوره بحرمانه من أطفال له. وفي ربيع 1783 أقنعها بأن لا تسمح لابنها فرتز ذي السنين العشر بالإقامة معه في زورات طويلة، وحتى بمصاحبته في رحلات طويلة. وفي أحد خطاباتها لفرتز (سبتمبر 1783) يظهر جانب الأمومة فيها، وتتكشف قلوب البشر الكامنة خلف واجهة التاريخ المجردة من عواطف البشر.
"إنني عظيمة الابتهاج لأنك لم تنسني وأنت منطلق في هذا العالم الجميل، وأنت تكتب إلي بحروف لا بأس بها وإن لم يكن رسمها حسناً جداً. وما دمت تعتزم الإقامة أطول مما توقعت، فإنني أخشى أن لا تبدو ثيابك حسنة المظهر جداً. فإذا اتسخت واتسخت أنت أيضاً، فاطلب إلى عضو المجلس الخاص جوته فقط أن يلقي بفرتزي الصغير الحبيب في الماء ... حاول أن تستمتع بفرصتك الطيبة، واجتهد أن تسر عضو المجلس بسلوكك، ووالدك يرغب إلى أن أقرئك تحيته (45).
فإذا وافى عام 1785 كان غرام جوته قد هدأت فورته في فترات صمت طويلة. وفي مايو 1786 شكت شارلوته من أن "جوته يفكر كثيراً ولا يقول شيئاً" (46). وكانت الآن تناهز الرابعة والأربعين، أما هو ففي السابعة والثلاثين، وكان آخذاً في الانطواء على نفسه. كثير التردد على يينا هروباً من بلاط فايمار والتماساً لتجدد الشباب بين الطلاب. وكان قد اعتاد دائماً أن ينعش نفسه بالطبيعة، فيتسلق قمة بروكن (وهي قمة ارتفاعها 3. 747 قدماً في جبال هارتس، اقترنت منذ أمد بعيد بأسطورة فاوست)، ويخرج في(41/290)
رحلات مع الدوق في سويسرة (سبتمبر 1779 إلى يناير 1780). وكان أحياناً وهو يسترجع الماضي يشعر "بأنني خلال السنوات العشر الأولى من حياتي في الوظيفة والبلاط بفايمار لم أكد أنجز شيئاً" (47) في مضمار الأدب أو العلم. ولكن كان من الخير تهجين الشاعر بالإداري، وتأديب الغني الذي كان التدليل يفسده، والعاشق الخائن، بتبعات المنصب وبطء الانتصار في الحب. وقد أفاد من كل تجربة ونما مع كل هزيمة. "أن خير ما في، هو ذلك السكون الباطني العميق الذي أعيش فيه وأنمو، رغم العالم، والذي بفضله اكتسب مالاً يقوى العالم على انتزاعه مني أبداً" (48). فلم يكن شيء يضيع هدراً عليه، وكل شيء وجد التعبير عنه في مكان ما في كتاباته، وأخيراً أصبح خير ما حوته ألمانيا المفكرة منصهراً في كل متكامل.
وينتمي إلى هذه الحقبة قصيدتان من أعظم قصائده: أولاهما مزواجة بين الفلسفة والدين، وبين الشعر والنثر، في قصيدة "الطبيعة". وثانيتهما أعظم أشعاره الغنائية كمالاً. وهي الثانية من قصائده المسماة "أنشودة الجوالين في الليل" التي نقشها على جدران كوخ الصيد في 7 سبتمبر 1780 (49) ربما في حالة من حالات الشوق القلق:
على قمم التلال كلها ران السكون؛ وعلى ذري الأشجار لا تكاد تسمع نفساً يتردد؛ الطير نيام في الغابات مهلاً: فأنت أيضاً ستهجع مثلها سريعاً (50).
وهناك قصيدة من قصائد جوته العاطفية المشهورة الأخرى تنتمي إلى هذه المرحلة من مراحل تطوره: وهي قصيدة "ملك العفاريت" الحزينة وضع لها شوبرت لحناً موسيقياً. فمتى عبر شاعر عن إحساس الطفل بالكائنات(41/291)
الخفية المنتشرة في الطبيعة تعبيراً أقوى مما في هذا الخيال السريع، خيال الطفل المشرف على الموت، الذي يرى "ملك العفاريت" آتياً ليخطفه من بين ذراعي أبيه؟.
في هذه الحقبة أيضاً كتب جوته ثلاث مسرحيات نثرية: "اجمونت (1775) وافجيني في تاوريس (1779) وتورقواتو تاسو ( Torquato Tasso) (1780) - وهي ثمر كاف لخمس سنين قضاها في خضم السياسة. ولم تخرج "اجمونت" على المسرح إلا في 1788، أما إفجيني فقدمت على مسرح فايمار في 6 أبريل 1779 (قبل العرض الأول لأوبرا جولك التي بهذا الاسم بستة أسابيع (؛ ولكن جوته غير فيها وبدل، ونظمها شعراً، أثناء مقامه في روما، بحيث يحسن النظر إليها على أنها نتاج لمرحلة جوته الكلاسيكية. كذلك أعاد صياغة "تاسو" ونظمها شعراً في إيطاليا، ولكنها تدخل هنا جزءاً من افتتان جوته بشارلوته فون شتين. ففي 19 أبريل 1781 كتب إليها يقول: "كل كلام تاسو موجه إليك" (51). وصدقت كلامه، فطابقت بينها وبين ليونورا، وبين جوته وتاسو، وبين كارل أوجست ودوق فرارا.
وقد تلقف جوته الأسطورة التي زعمت أن انهيار عقل تاسو في بلاط فرارا قد اشتد، إن لم يكن قد نشأ أصلاً، عن غرام تعس بأخت لألفونس الثاني (حكم 1559 - 97) (52). وما من شك في أن جوته كان يفكر في نفسه حين وصف ما يدور في فكر تاسو الشعري:
إن عينه قلما تطيل النظر إلى هذا المشهد الأرضي، أما أذنه فمرهفة السمع لأنغام الطبيعة. وأما صدره فيتلقى للتو في ابتهاج ما يقدمه التاريخ وتأتي به الحياة، ثم يجمع الأشتات المتفرقة ويربط بينها ويبعث حسه الذكي الحياة في الموتى. وهكذا يغرينا الرجل العجيب(41/292)
وهو يتحرك في عالمه المسحور بأن نطوف معه ونشاركه فرحه. وهو يبدو كأنه يدنو منا، إلا أنه يظل بعيداً كما كان، فإذا اتفق ووقعت عينه علينا رأي الأشباح في مكاننا (53)
وقد تكون ليونورا، الأميرة الجليلة التي ترتضي حب الشاعر ولكنها تأمره بأن يكبح حماسته ويراعى اللياقة، هي شارلوته فون شتين تضبط غرام جوته المشبوب في هذا العالم الفاسق ويعلن تاسو-وهنا يتكلم الشاعران كلاهما:
كل ما يصل القلب إلى أغنيتي فيتردد صداه فيه، إنما أدين به لواحد، وواحد فقط! فلم يحم حول روحي طيف غامض، يتقدم تارة في سناء باهر، ثم يتوارى ثانية. فأنا نفسي، بعيني رأس، أنا الذي أبصرت مثال كل فضيلة وكل جمال (54)
وأما الدوق ألفونسو فهو شبيه كارل أوجست في صبره على غضبات الشاعر وغرامياته وأحلام يقظته، وهو مثله يحزنه تباطؤ الشاعر في الفراغ من رائعة موعودة:
بعد كل خطوة بطيئة يدع عمله، لا يفتأ يبدل ويغير، ولا طاقة له على الانتهاء (55).
وهو وصف صادق لكتابه جوته المنجمة وإبطائه وتسويفه في إنجاز "فلهم مايستر" و "فاوست". وأميرة أخرى تمتدح ألفونسو كارل أوجست على إتاحته الفرصة لتاسو-جوته لينضج بممارسته لشئون الدنيا وهنا تعلو أبيات مشهورة:
"إن الموهبة تكون نفسها في سكون" والشخصية تتشكل في نهر العالم" (56).(41/293)
ولكن التلازم بين الشاعرين يتضاءل في النهاية: فتاسو لا يبدي شيئاً من قدرة جوته على السباحة في نهر العالم، فيغرق في مملكة أحلامه ويضرب بالحذر واللياقة عرض الحائط، ويحتضن الأميرة المذهولة بين ذراعيه، ويجن جنونه حين تنتزع نفسها من ضمته ومن حياته. ولعل جوته أحس بأنه كان قد وقف على شفا هذا الجرف.
وكثيراً في إيطاليا ملاذاً يعتصم به من موقف يهدد سلامة عقله. وفي نحو هذه الفترة في الصيغة الأولى لـ "فلهلم مايستر" نظم لمينون أغنية شوق ولهفة تلائم آماله أكثر من آمال مينون:
أتعرف البلد الذي تزهر فيه أشجار الليمون، حيث تتوهج ثمار البرتقال الذهبية في الأوراق الداكنة، حيث يهب النسيم العليل من السماء الزرقاء، حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة النار السامقة حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة الغار السامقة أتعرفه جيداً؟ هناك! هناك! أشتهي يا حبيبتي أن انطلق معك!
لقد كانت فايمار جميلة، ولكنها لم تكن دافئة. ثم إن هموم المنصف كدرت روح الشاعر، "أنها لوسيلة مرة من وسائل كسب القوت أن يضطر المرء إلى محاولة خلق التناغم والانسجام بين نشازات العالم" (57). وقد أضنته حياة البلاط، "ليس بيني وبين هؤلاء القوم ولا بينهم وبيني شيء مشترك يربطنا" (58). وكانت قد وقعت بعض الجفوة بينه وبين الدوق لعجزه عن مسايرة خطى الدوق في الصيد والغزل، وغرامه الكبير الوحيد قد براه الزمن وكثرة الشجار. فأحس أنه لا بد له من التحرر من هذه الأصفاد الكثيرة، والبحث عن اتجاه ونظرة جديدين. فطلب إلى الدوق أن يمنحه إجازة، فاستجاب الدوق، ووافق على أن يواصل دفع راتب جوته. ورغبة في توفير مبلغ إضافي من المال باع جوته لجوشن، الناشر الليبزجي، حق نشر طبعة من مجموعة مؤلفاته. ولم يبع جوشن إلا 602 نسخة، فخسر 1. 720 طالر في هذه المغامرة.(41/294)
وفي أول سبتمبر 1786 كتب جوته إلى شارلوته من كارلسباد يقول:
"الآن وداعاً أخيراً، أريد أن أكرر لك أني أحبك حباً جماً ... وأن تأكيدك لي أنك تجدين من جديد لذة في حبي يجدد فرحة حياتي. لقد احتملت الكثير في صمت إلى الآن، ولكني لم أرغب في شيء بأحر مما رغبت في أن تتخذ علاقتنا صورة لا يقوى عليها أي ظرف. فإذا لم يكن هذا مكناً، فلن أرتضي أن أسكن حيث تكونين، بل أوثر أن أكون وحيداً في ذلك العالم الذي انطلق إليه الآن (59).
4 - جوته في إيطاليا
1786 - 1788
واتخذ له في رحلة اسماً مستعاراً هو "المسيو جان-فليب مولر" لأنه أراد التحرر من مضايقات الشهرة. وكان في السابعة والثلاثين، ولكنه ذهب بتطلع يفوق حتى تطلع الشباب وترقبه المرح، وباستعداد يفضل كثيراً استعداد الشباب، لأنه كان ملماً ببعض تاريخ إيطاليا وفنها. وفي 18سبتمبر كتب إلى هردر يقول "آمل أن أعود شخصاً مولوداً من جديدا" وكتب إلى كارل أوجست "أرجو أن أعيد معي إنساناً تطهر تماماً وتجهز تجهيزاً أفضل كثيراً من ذي قبل". وإلى هذيثن وإلى غيرهما من الأصدقاء أرسل "رسائل مع إيطاليا" ما زالت تحوي نبض الحياة الإيطالية السريع. وقد قدم لها بالشعار القديم " Auch in Arkadien- هو أيضاً كان الآن في أركاديا. وقد رأينا في موضع آخر من الكتاب مبلغ شكره على ضوء الشمس. فقد صاح عند دخوله إيطاليا" إني أومن بالله من جديد! " (60) ولكنه أحب الشعب الإيطالي أيضاً، وجوههم وقلوبهم الطلقة، وطبيعة حياتهم، وحرارة حديثهم ومرحه. وإذ كان عالماً كما كان شاعراً، فإنه لاحظ الخصائص الخاصة بالظواهر الجوية، والتكوينات الجيولوجية، والعينات المعدنية، وأنواع الحيوان والنبات، وأحب حتى السحالي المارقة فوق الصخور.
وبلغ من شدة شوقه للوصول إلى روما أنه مر مرور الكرام بفنيسيا ولمبارديا وتسكانيا ولكنه تلبث في فتشنتسا وقتاً كفى لأشعاره ببساطة معمار بلاديو وقوته الكلاسيكيتين. وعاد يؤكد من جديد نفوره من الطراز القوطي.(41/295)
"لقد تحررت إلى الأبد-ولله الحمد-من كل ميل إلى تلك الأعمدة الشبيهة بقصبات التدخين، وقلاعنا الصغيرة المتوجة بأبراج الكنائس، والأطراف المورقة لمبانينا! ... لقد فسح بلاديو أمامي الطريق لكل ... فن" (61). وعاد بهذا الطريق إلى فتروفيوس الذي درسه في طبعه أشرف عليها جالياني، صاحبنا الظريف القادم من نابلي وباريس. واستحال الطراز الكلاسيكي الآن غراماً عنده، يلون كتاباته وفكره، ويعيد صياغة بعض أناجه القديم، مثل "افجيني" و "تاسو" في قالب وخط كلاسيكيين. وفي البندقية بدت قصور الباروك في عينيه مسرفة إلى البهرج. مفرطة في الأناقة النسائية؛ لا بل أنه انصرف عن واجهات النهضة إلى أطلال العمائر والتماثيل الكلاسيكية في المتاحف. ولكن دمه الحار تجاوب مع لون فيرونيزي وتتسيانو وكبريائهما.
وقد بحث في فرار عبثاً عن القصر الذي حبس فيه تاسو. وبعد أن قضى ثلاثة أيام في بولونيا وثلاث ساعات فقط في فلورنسة انطلق حثيثاً عبر بروجه وتيرني وتشيتا دي كاستيللو، وفي 29 أكتوبر 1786 ركب إلى روما مخترقاً "البورتا ديل بوبولو" (بوابة الشعب) وأحس الآن بلحظة عابرة من التواضع "كل الطرق مفتوحة أمامي لأني أسير بروح التواضع" (62).
وإذ لم يكن قد تمكن من لغة الحديث الإيطالية، فقد بحث عن الجالية الألمانية، لا سيما الفنانين الألمان، لأنه تطلع إلى أن يتعلم على الأقل أصول الرسم والتصوير والنحت. وأعجبت أنجليكا كاوفمان بحماسته ووسامته فرسمته في صورة أبرزت شعر الأسود وجبينه العالي وعينيه الصافيتين. وارتبط بصداقة حميمة مع يوهان هاينريش فلهلم تيشباين، الذي أسلمه لنا في لوحته الشهيرة "جوته في الريف" (63). يستلقي في استرخاء كأنه فتح أركاديا. وكان جوته قد راسل هذا المصور قبل حضوره إلى إيطاليا بزمن طويل، ثم التقيا لأول مرة في 3 نوفمبر، حين اجتمعا في "بياتسا سان بيترو (ميدان القديس بطرس)، وتعرف الشاعر على الفنان، وقدم إليه نفسه ببساطة "أنا جوته" (64)، ووصفه تيشباين في خطاب إلى لافاتر بهذه العبارات:(41/296)
"وجدته تماماً كما توقعت. ولم يدهشني غير الرزانة والهدوء في رجل له هذه الحساسية الناشطة، ثم قدرته على الاسترخاء والتصرف بحرية في جميع الطروف. وما يسرني أكثر حتى من هذا هو بوساطة حياته. فكل ما طلبه مني كان في إعداد حجرة صغيرة يستطيع أن ينام فيها ويعمل دون إزعاج؛ ثم أبسط الطعام ... وهو يجلس الآن في تلك الحجرة الصغيرة عاكفاً على قصة "افجيني" من الصباح الباكر إلى الساعة التاسعة. ثم يخرج لدراسة روائع الفن" (65).
وكثيراً ما كان تيشباين مرشداً له في جولاته هذه، ورتب تزويده بما طلب من الرسوم، وحصل له على نسخ من الصور الأكثر شهرة. وقد رسم جوته بنفسه رسوماً تخطيطية للصور التي أراد تذكرها بنوع خاص. ثم جرب النحت، ونحت رأساً لهرقول. واعترف بأنه غير موهوب في الفنون التشكيلية، ولكنه شعر أن هذه التجارب تعطيه إحساساً أفضل بالشكل، وتساعده على تصور ما يريد وصفه (66). ثم أكب على كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم"، "هنا على الطبيعة أجده ثميناً جداً ... والآن يستطيع عقلي في النهاية أن يتسامى إلى أعظم وأنقى إبداعات الفن في مأمن هادئ" (67). "إن تاريخ العالم كله يربط نفسه بهذه القبعة، وأحسبني ولدت ... ولادة جديدة صادقة منذ اليوم الذي دخلت فيه روما ... أظنني تغيرت إلى الصميم" (68). ويبدو أنه استمتع خلال ذلك بالفن الحي الذي قدمته الموديلان "اللذيذات" اللائي جلسن للمصورين في مراسمهم (69). وأنهت إقامته في روما ذلك التخلص من النزعة الرومانتيكية الذي بدأ بمسئوليات المنصب. وبدأ الآن تمرد جوتز على القانون، ودموع فرتر، في نظر جوته الذي أخذ ينضج كأنها إمارات عقل غير متزن، "إن الرومانتيكية مرض، والكلاسيكية صحة" (70). وقد كان في تحمسه الجديد للآثار الرخامية والأعمدة والتيجان والقواصر الكلاسيكية والخطوط النقية للتماثيل اليونانية مسحة رومانتيكية. "إذا شئنا حقاً نموذجاً نحتذيه، فعلينا دائماً أن نرجع إلى قدماء اليونان، الذين يتمثل في أعمالهم دائماً جمال الإنسان" (71). وقد رأى جوته، كلما رأى فنكلمان، الجانب "الأبوللوني "للحضارة(41/297)
والفن اليونانيين فقط-تمجيد الشكل والقصد، وكان الآن يتجاهل تلك النشوة "الديونيسية" التي لونت الخلق والدين والحياة اليونانية تلويناً دافئاً جداً، والتي أعربت في جوته ذاته عن نفسها خلال "قرينه" وغرامياته.
في هذا الوجد الكلاسيكي أعاد كتابة "افجيني في تاوريس" شعراً (1787)، واعتزم أنه ينافس راسين، لا بل يوربيديس نفسه. وإذ كان قلبه لا يزال محتفظاً بجمرات النار التي أضرمتها فيه شارلوته فون شتين، فقد سكب في أحاديث الأميرة اليونانية شيئاً من رقة البارونة الألمانية وتمالكها نفسها. وروى القصة القديمة جداً، بكل ما فيها من تعقيدات الميثولوجية والأنساب، وزاد من حدة الدراما بتصويره الملك السكوذي تصويراً متعاطفاً، وأقدم على تغيير الخاتمة لتتوافق مع الفكرة-النادرة بين اليونان-التي تزعم أن على الإنسان التزامات حتى للبرابرة (الهمج أو غير اليونان). ولا يستطيع تقدير إنجاز جوته حق قدره إلا الذين يقرءون الألمانية بطلاقة، ومع ذلك قال ايبوليت تين، وهو رجل فرنسي، وناقد فذ، خبير على الأرجح بدرمات راسين: "إنني لا أفضل أي عمل أدبي حديث على درامة جوته افجيني في تاوريس" (72).
وقد أحيت ذكريات شارلوته في هذه المسرحية، ثم في "تاسو" "أكثر منها، اللتين أعاد كتابتهما في روما، شعوره من نحوها. لقد أصابها بجرح عميق هروبه المفاجئ إلى إيطاليا وتركه ولدها في عهده الخادم، فأعادت فرتز لفورها، وطالبت جوته برد كل الرسائل التي كتبتها له. فكتب معتذراً من روما (8 و13 و20 ديسمبر 1786)، وبعثت إليه (18 ديسمبر) بتذكرة فيها لوم "حلومر" فكان رده (23 ديسمبر) "ليس في طاقتي أن أصف لك كيف يدمى قلبي أنك مريضة، ومريضة بسبب غلطتي. فاصفحي عني. لقد صارعت أنا نفسي الموت والحياة، وما من لسان يقوى على النطق بما كان يعتمل في داخلي. "وأخيراً لانت. فكتب لها أول فبراير 1787 "الآن أستطيع أن أنصرف إلى عملي وأنا أسعد مزاجاً لأنني تسلمت منك رسالة تقولين فيها أنك تحبين رسائلي وتبتهجين بها".(41/298)
في ذلك الشهر ذهب هو وتيشباين إلى نابلي وارتقى فيزوف مرتين؛ وفي محاولته الثانية غطى ثوران صغير للبركان رأسه وكتفيه بالرماد. ووجد متعة عظمى في الأطلال الكلاسيكية في بومبي، وبهت للجلال البسيط الذي رآه في المعابد اليونانية ببايستوم. فلما عاد إلى روما ركب البحر إلى بلرمو، ومضى ليدرس المعابد الكلاسيكية في سجسته وجرجنتي (أجرجنتو)، ووقف في المعبد اليوناني بتاورمينا، ثم قفل إلى روما في شهر يونيو. فلما تعاظم افتتانه بـ "أروع مدينة في العالم كله" (73). أقنع الدوق كارل أوجست بأن يواصل دفع راتبه حتى نهاية 1787. فلما أن نفدت المهلة راض نفسه ببطء على العودة إلى الشمال. فغادر روما في 25 أبريل 1788، وسافر على مهل عبر فلورنسة وميلان وكومو حتى بلغ فايمار في 18 يونيو. وكان كل يوم يتساءل كيف يستقبل الدوق، والحاشية، وشارلوته، رجلاً يحس أنه تبدل إنساناً آخر.
5 - جوته في الانتظار
1788 - 1794
كان الدوق قد عين رئيساً جديداً للمجلس بموافقة الشاعر الغائب؛ والآن أعفي جوته بناء على طلبه من جميع واجباته الرسمية عدا منصب وزير التعليم، ولم يخدم المجلس بعدها إلا بصفة استشارية. وكان الدوق لطيفاً معه، ولكنه كان قد اتخذ أخصاء غيره، ثم أنه لم تعجبه العواطف الشبيهة بالنزعات الجمهورية التي استشفها من "إجمونت" بعد أن أعاد الشاعر كتابتها. أما جمهور القراء قد نسي جوته أو كاد؛ وأقبل على شاعر جديد يدعى شيلر، وصفق بحماسة لتمثيلية "اللصوص" الزاخرة بروح التمرد والعنف الذي اتسمت به الحركة "الزوبعية"، والذي بدأ الآن سخيفاً فجافى عين شاعر يتأهب للتبشير بالنظام والقصد الكلاسيكيين. وأما شارلوتة فون شتين فقد استقبلته ببرود. وأنكرت طول غيابه، وتمهله في العودة، وتحمسه المتصل لإيطاليا، ولعلها سمعت بـ "موديلات" روما. كتبت تقول إن لقاءهما الأول عقب وصوله كان "زائفاً كل الزيف في طابعه، ولم نتبادل شيئاً غير الملل" (74). ورحلت لتقيم فترة في كوخبرج، وصار جوته حراً في التفكير في كرستيانة فولبيوس.(41/299)
وقد دخلت هذه الفتاة حياته في 12 يوليو 1788 إذ حملت عليه رسالة من أخيها. وكانت في الثالثة والعشرين، تعمل في مصنع للأزهار الصناعية، وراع جوته منها روحها النضرة، وعقلها البسيط، وأنوثتها المتفتحة. فدعاها إلى بيته ذي الحديقة لتعمل مديرة للبيت، وما لبث أن جعلها خليلة له. ولم تنل حظاً من التعليم، وقال "إنها لا تستطيع فهم الشعر إطلاقاً (75)، ولكنها استسلمت له في ثقة واطمئنان، ومنحته تحقيق ذاته الجسدي الذي أنكرته عليه شارلوتة فيما يبدو. وفي نوفمبر 1789، حين أوشكت أن تصبح أماً، أخذها إلى بيته في فايمار، وجعلها زوجته علانية في كل شيء إلا الاسم. وصدمت شارلوتة والحاشية لتجاوزه الحدود الطبقية وعدم إخفائه العلاقة المحرمة. وقد أحزنه كثيراً هو وكرستيانة هذا الموقف، ولكن الدوق المتمرس بالخليلات قام عراباً للطفل الذي ولد في عيد الميلاد 1789، وعمده في أغسطس هردر الصارم، الغفور رغم صرامته.
أما جوته، الذي كثيراً ما كان عاشقاً، ولكنه الآن فقط كان أباً، فقد وجد الكثير من السعادة في "الرجل الصغير" و "المرأة الصغيرة". ودبرت له أمر بيته، واستمتعت إليه في حب حتى وهي لا تفهمه، ومنحته الصحة والعافية. قال لصديق منذ اجتازت هذه العتبة أول مرة لم ينلني منها غير الفرح" (76). ولم ير فيها عيباً غير حبها للخمر حباً فاق حتى حبه، وما أفضى إليه هذا أحياناً من المرح والقصف الذي لا يمكن السيطرة عليه. وكانت تختلف إلى المسرح، وترتاد حفلات الرقص الكثيرة، بينما يظل جوته في البيت ويخلد ذكرها في "المراثي الرومانية" Romische Elegien (1789 - 90) ، التي كتبها على طريقة بربروتيوس وبأخلاقيات كاتوللوس. وليس في هذه "المراثي الرومانية" شيء حزين، إنما تشتق اسمها هذا من بحر المراثي " elegiac" الذي تتناوب فيه البحور السداسية والخماسية التفاعل؛ وهي لا تتصل بروما بل بأرملة طروب-نستشف من ورائها كرستيانة نفسها:
"كل ما تحويه أسوارك المقدسة أي روما الخالدة يشغى بالحياة، ولكنه في ناظري ساكن ميت.(41/300)
أواه، منذا يوشوش في أذني؟ متى أشهد في النافذة ذلك القد الجميل الذي يحيي وإن أحرق؟ لا تندمي يا حبيتي على أنك استسلمت هكذا سريعاً! ثقي بي، أراك غير جريئة؛ إنما أشعر بالإجلال .. إن الإسكندر وقيصر وهنري وفردريك، هؤلاء الجبابرة، يودون أن يخلعوا على نصف المجد الذي ظفروا به لو أنني وهبتهم ليلة واحدة على الأريكة التي أرقد عليها؛ ولكنهم وما أسفاه يقعدهم ليل أوركوس في قسوة. فاغتبط إذن، أيها الحي، ناعماً في بيتك المنور بالحب قبل أن تبلل موجة "ليذي" الحزينة قدمك الهاربة" (77)
وربما كانت تلك الأرملة الجميلة ذكرى من أيام روما، وكلن دفء هذه الأبيات مبعثه كرستيانة. على أية حال ألم يكن يدرس الفن؟
على أنه مما يعينني على الدرس أيضاً أن أرسم بيد حساسة تلافيف صدرها الجميلة وأدع الأنامل الحكيمة تنزلق هابطة على الفخذ الناعم، لأنني هكذا أتمكن من صنعة النحات القديم، وأتأمل، وأقارن، وأتعلم أن آتي وأبصر بعين شاعرة، وأشهر بيد مبصرة (78).
ولم يرق نبيلات فايمار هذا العرض المرخص لمفاتنهن، وحزنت شارلوته الوقور على انحدار بطلها "جالاهاد" لا بل أن كارل أوجست ذاته انزعج قليلاً، ولكن سرعان ما هدأت نفسه. وعندما كانت الدوقة الأرملة عائدة من إيطاليا أرسل الدوق جوته إلى البندقية ليصحبها إلى أرض الوطن. وطال مقامه هناك (مارس إلى يونيو 1790) طولاً ضايقه، وتاق إلى كرستيانة، وصب جام غيظه من الباعة الإيطاليين ووسائل النظافة الإيطالية في "الابجرامات الفينيسية"-وهي، أقل أعماله إغراء بالقراءة.
فلما عاد من البندقية وجد أن الثورة الفرنسية تبعث النشوة في شباب ألمانيا، والخوف في حكامها. وكان الكثيرون من أصحابه، وفيهم فيلاند(41/301)
وهردر، يصفقون للإطاحة بالاستبدادية الملكية في فرنسا. أما جوته، الذي أدرك أن كل العروش مهددة بالخطر، فقد اتخذ موقفه إلى جوار الدوق، وأشار عليه بالحيطة وقال إن أناساً كثيرون جداً "يجرون وفي أيديهم منفاخ بينما يلوح لي أن الأجدر بهم أن يبحثوا عن أباريق الماء البارد للسيطرة على النار (79). وأطاع أمر كارل أوجست له بأن يصحبه في حملة الحلف الأول ضد فرنسا. وحضر معركة فالمي (20 سبتمبر 1792)، ووقف هادئاً تحت النيران، وشارك في الهزيمة. وقد سجل ضابط ألماني في يوميته أن الشاعر-عضو المجلس الخاص، حين طلب إليه التعليق على الحدث أجاب "منذ اليوم ومن هذا الموضع يبدأ عصر جديد في تاريخ العالم" (80). وليس لدينا ما يؤيد هذه القصة. ومهما يكن من أمر، فإن جوته هاجم الثورة بقوة حين عاد إلى فايمار، وكانت تدخل فترة شططها ووحشيتها (1792 - 94).
ورسخت هذه التطورات في جوته ذلك التحول الطبيعي، تحول العقل الآخذ في النضج، من التلذذ بالحرية إلى حب للنظام. وشعر جوته أنه إذا كان في استطاعة أي أحمق أن يكون مبتكراً، فإن في استطاعة أي أحمق أن يحيا كما يشاء" (81) منتهكاً العادات أو القوانين في اطمئنان لأن غيره يراعونها. ولم يشعر بتحمس للديمقراطية، فلو أتيح لنظام كهذا أن يمارس فعلاً لكان معناه تسلط الغفلة والجهل والخرافة والهمجية. لقد كان لطيفاً سمحاً في نطاق دائرته، ينفق بعض دخله على أعمال البر المستوردة (82)، ولكنه كان ينكمش من الجماهير. فإذا وجد بين الجماهير أو الأغراب انطوى على نفسه في كبرياء وأحجام، وكان يجد سعادته الوحيدة في بيته. في سني القلاقل هذه (1790 - 94) ران عليه سبات كئيب أيقظته منه لمسة شباب شيلر المتحمس ومنافسة قلمه.
6 - شيلر في الانتظار
1787 - 1794
كان جوته في إيطاليا حين وصل شيلر إلى فايمار. واعترف الشاعر المعسر بغيرته من عضو المجلس الخاص الغائب. "بينما هو يرسم في إيطاليا، يبذل النكرات(41/302)
من الناس العرق من أجله كأنهم دواب الحمل. إنه يبعثر هناك راتباً قدره 1. 800 طالر، وهنا عليهم أن يضاعفوا كدهم ليحصلوا على نصف هذا المال" (83). وفي 12 أغسطس 1787 كتب بروح أكثر تعاطفاً.
"يتكلم الكثيرون هنا عن جوته في شيء من الحب، بل إنهم أكثر حباً له وإعجاباً به إنساناً أكثر منه مؤلفاً. ويقول هردر أنه أوتي حكماً شديد الوضوح وعمقاً كبيراً في الوجدان، وعواطف نقية جداً. وجوته في رأي هردر مبرأ من كل روح للدس والوقعية، وهو لم يؤذ أحداً قط ... وهو في معاملاته السياسية يتصرف بصراحة وجرأة ... ويقول هردر أن جوته أحق بالإعجاب كرجل دنيا منه شاعراً ... وأن له عقلاً يتسع لأي شيء" (84).
وكان الدوق غائباً حين حضر شيلر، ولكن أنا أمالياً وشارلوته فون شتين استقبلتاه استقبالاً حاراً. وأخبره فيلاند أنه "ينقصه الصقل والوضوح والذوق" (85)، وتطوع بأن يصقله، وسرعان ما أخذ الشاعر المتحمس يكتب المقالات لمجلة فيلاند "الرائد الألماني". وقد وجد ترفيهاً أحر مع شارلوت فون كالب، التي كان لها كشارلوته الأخرى زوج واسع الأفق "إن الناس أخذوا يهمسون في صوت عال بعض الشيء حول علاقتي بشارلوته ... وقد كتب لي الهر فون كالب. وسيحضر في آخر سبتمبر، وسيؤثر وصوله كثيراً في ترتيباتي. وصداقته لي لم يطرأ عليها تغيير، وهو أمر مدهش، لأنه يحب زوجته، ويعلم بصلتي الحميمة بها ... ولكنه لا يمكن أن يشك لحظة واحدة في وفائها ... وما زال كما كان، الرجل الأمين الطيب القلب" (86).
وفي 27 أغسطس 1787 عرضت "دون كارلوس" أول مرة في همبورج. وكان بشيلر من الولع بفايمار ما من منعة من الذهاب لحضور العرض. وقد استقبلت تمثيليته هذه وهي أولى تمثيلياته الشعرية، بالمديح والذم كليهما لأنها استسلام لأسلوب المأساة الفرنسية، ولكن يعوزها الوحدة المسرحية التي تتطلبها قواعد أرسطو. وقد استهلت بالصراع بين فليب الثاني وابنه على حب اليزابث أميرة فالوا، ثم انتقل مركز الاهتمام في منتصف التمثيلية(41/303)
إلى كفاح الأراضي الواطئة للتحرر من السيادة الأسبانية ومن قسوة ألفا. وحاول شيلر أن يرسم صورة محايدة لفليب، وقد صفق القراء البروتستنت لهذا النداء الذي وجهه المركيز بوزا إلى الملك:
يا صاحب الجلالة، لقد مررت مؤخراً بأرض فلاندر وبرابانت-أقاليم كثيرة غنية موفقة، تزخر بشعب باسل عظيم أمين! قلت في نفسي أنه لشيء رائع حقاً أن يكون الإنسان أباً لشعب كهذا! ثم تعترث قدمي فوق كومة من عظام رجال محترقة! فليتك ترد لنا كل ما حرمتنا منه، وتدع السعادة تتدفق من نبع خيرك لأنك قوي كريم النفس؛ دع عقل الإنسان ينضج في ملكك الشاسع ... ويصبح ملكاً حقاً بين مئات الملوك! ... دع كل فرد من رعيتك يصبح ما كانه يوماً ما-الغاية والهدف لرعاية المليك واهتمامه، لا يربطه واجب غير محبة الأخ لأخيه" (87).
وهجر شيلر الدراما طويلاً رغم نجاح دون كارلوس. وكان قد كتب إلى كورنر في 1786 يقول "إن التاريخ يدخر لي مع كل يوم تال مغريات جديدة ... وددت لم أدرس شيئاً غيره طوال عشر سنوات متصلة؛ أظنني كنت أصبح مخلوقاً من نوع آخر. أترى أنه ما زال أمامي متسع من الوقت للتعويض عما فقدت؟ " (88) ولم يكن في استطاعته أن يعول نفسه، فضلاً عن يعول أسرة، من حصيلة مسرحيات عارضة قد تذبل وتموت(41/304)
موتاً مبكراً حتى بعد أن تحظى بعرض أول يصفق له النظارة. فلعل كتاباً ناجحاً في التاريخ يكسبه من الشهرة العلمية ما يكفي للظفر بأستاذية في جامعة يينا. هناك لن يبعد عن فايمار بأكثر من أربعة عشر ميلاً، وسبقي في نطاق سلطة الدوق وكرمه.
وعليه، فبعد أن فرغ من "دون كارلوس" عكف على تأليف "تاريخ سقوط الأقاليم الواطئة المتحدة". وإذ كان لا يقرأ الهولندية، فقد اعتمد على مراجع ثانوية جمع من رواياتها تصنيفاً غير ذي قيمة باقية. وانتقد كورنر المجلد الأول (1788) بأمانته المعهودة: "إن العمل الراهن، مع كل مزاياه، لا يحمل طابع تلك العبقرية التي أنت ميسر لها" (89). وتخلى شيلر عن الكتاب، ولم يصدر مجلد ثان في موضوعه.
وفي 18 يوليو 1788 عاد جوته من إيطاليا، وفي سبتمبر التقى بشيلر في ضاحية رود ولشتات. وكتب شيلر إلى كورنر يقول: "إن الفكرة العظيمة التي كونتها عنه لم تنقص مثقال ذرة ... ولكنني أشك في أننا سنتقارب تقارباً وثيقاً يوما ما ... إنه يسبقني بمراحل ... فلا يمكن أن نلتقي على الطريق. وقد سارت حياته كلها من بدايتها في اتجاه معاكس لاتجاه حياتي. وعالمه ليس عالمي. وأفكارنا في بعض النقاط متعارضة تعارضاً تاماً" (90). والحق أن الشاعرين كانا يبدوان وكأن العناية قصدت بهما أن يكره الواحد صاحبه. فجوته، ذو التسعة والثلاثين، قد وصل ونضج، أما شيلر، ذو التسعة والعشرين، فكان يتسلق ويجرب؛ ولم يتفقا إلا في الأنانية المتعالية. كان أصغرهما من غمار الشعب، رقيق الحال، يكتب الشعر القريب من الثورية؛ أما الآخر فكان غنياً، رجلاً ذا مكانة ومنصب مرموق، عضواً في المجلس الخاص يستنكر الثورة. وكان شيلر قد خرج لتوه من حركة "الزوبعية"؛ كان صوت الوجدان والعاطفة والحرية والرومانس؛ إما جوته، الذي تولع باليونان، فكان بكل ميوله مع العقل، والقصد، والنظام، والأسلوب الكلاسيكي. على أية حال ليس من الطبيعي في عالم المؤلفين أن يحب بعضهم بعضاً، فإنهم إنما يسعون للظفر بذات الجائزة.(41/305)
فلما أن عاد جوته وشيلر إلى فايمار لم يكن يفصل مسكنيهما غير مسيرة قصيرة، ولكنهما لم يتصلا الواحد بالآخر. وساءت العلاقة بينهما بظهور نقد شيلر المناوئ لتمثيلية جوته "إجمونت" وقرر جوته أن أثينا الصغيرة" لا تتسع لكليهما. ففي ديسمبر 1788 زكى شيلر لكرسي في التاريخ بجامعة يينا. وقبل شيلر المنصب مسروراً وزار جوته ليشكره، ولكنه كتب إلى كورنر في 29 فبراير 1789:
لو طالت عشرتي لجوته لشقيت بها. فهو لا يهش حتى لأصدق أصدقائه، ولا شيء يربطه. وأنا أومن حقاً أنه أناني من الدرجة الأولى. وقد أوتي موهبة تطويق أعناق الناس بمجاملات صغيرة وكبيرة، ولكنه يفلح دائماً في أن يظل هو نفسه حراً ... وأنا أنظر إليه على أنه تجسيد لنظام مدروس جيداً من الأنانية التي لا حد لها. وينبغي ألا يطيق الناس مخلوقاً كهذا بقربهم. وأنا أبغضه لهذا السبب، وإن لم أملك إلا الإعجاب بعقله، والتفكير فيه بسمو. لقد بعث في مزيجاً عجيباً من البغض والحب" (91).
وفي 11 مايو 1789 تسلم شيلر عمله في يينا، وفي 26 مايو ألقى "خطاب الافتتاح" وموضوعه "ما التاريخ العالمي وما الهدف من دراسته"؟ وإذ كان الدخول مجاناً، فقد تبين أن الحضور يفوق كثيراً ما تتسع له الحجرة المخصصة، وانتقل الأستاذ مع جمهوره في هرج ومرج إلى قاعة في الطرف الآخر من المدينة. وقد لقيت هذه المحاضرة ثناءً مستطاباً، "فقد غنى لي الطلبة سريناداً في تلك الليلة وهتفوا لي ثلاثاً (92). غير أن عدد من سجلوا أسماءهم لحضور المحاضرات كان صغيراً-وكان الحضور نظير رسم يدفعه الطالب، ومن ثم كان دخل شيلر من التدريس ضئيلاً.
فأضاف إليه بالكتابة. وفي 1789 - 91 أصدر على ثلاث دفعات "تاريخ حرب الثلاثين". هنا وجد اليسر على الأقل من حيث اللغة، وإن منعته مضايقات شديدة مرة أخرى من الرجوع إلى المصادر الأصلية، وشوه حبه لإصدار الأحكام والتفلسف القصة وقطعها. ومع ذلك فقد رحب فيلاند بالكتاب دليلاً على "قدرة شيلر على أن يرتفع إلى مستوى هيوم وروبرتسن(41/306)
وجبون" (93). وبيعت سبعة آلاف نسخة من المجلد الأول في السنة الأولى لصدوره.
وشعر شيلر الآن أن في استطاعته إشباع شوقه إلى بيت خاص به، وإلى امرأة تمنحه حبها ورعايتها. وكان قد أتيح له لمحة خاطفة لشارلوته وكارولينة فون لنجفيلد في مانهايم عام 1784. ثم رآهما ثانية في رودولشتات في 1787، وكانت "لوته" تعيش هناك مع أمها، أما كارولينة، الشقية في زواجها، فكانت تسكن في البيت المجاور. وكتب شيلر إلى كورنر يقول: (94) "إنهما لذيذتان رغم أنهما غير جميلتين، وهما ترانني غاية السرور. وهما مطلعتان على أدب العصر، وتتوفر الأدلة على تمتعهما بتعليم راق جداً. وهما عازفتان ماهرتان على البيانو". وأنكرت السيدة لنجفيلد فكرة زواج ابنتها عن شاعر مملق، ولكن كارل أوجست منحه بمعاش صغير قدره مائتا طالر، وأنعم عليه دوق ساكسي-ميننجن بشعار النبالة. وقد نبه لوته إلى أن فيه عيوباً كثيرة. فقالت أنها لحظتها، ولكنها أضافت "إن الحب حب الناس كما نجدهم، وقبول مواطن ضعفهم إن وجدت بقلب محب". (95) وزفا في 22 فبراير 1790، واتخذا منزلاً متواضعاً في يينا. وأتته لوته بدخلها البالغ مائتي طالر في العام، وأنجبت له أربعة أطفال، وأثبتت خلال شدائده كلها أنها الزوجة الصابرة الحنون. كتب يقول "إن قلبي يسبح في السعادة، وعقلي يستمد قوة وعافية جديدتين" (96).
وعكف على عمله بهمة، يعد محاضرتين كل أسبوع، ويكتب المقالات، والقصائد، والتاريخ. وظل شهوراً يكد ويكدح أربع عشرة ساعة في اليوم (97). وفي يناير 1791 أصيب بنوبتين من "الحمى النزلية" جلبتا معهما آلاماً في المعدة وبصقاً للدم. وظل طريح الفراش ثمانية أيام ومعدته ترفض كل طعام. وأعان الطلبة لوته على الهناية به و "تنافسوا أيهم يسهر معي .... وبعث إلى الدوق بست زجاجات من نبيذ ماديرا المعتق الذي أفادني مع بعض النبيذ المجري" (98). وفي شهر مايو أصابه "تشنج رهيب، مصحوب بأعراض الاختناق، فتراءى لي أن ساعتي قد دنت ... وودعت(41/307)
أحبائي، وظننتني راحلاً عن الدنيا في أي لحظة ... وخففت عني كثيراً جرعات قوية من الأفيون والكافور والمسك واستعمال عوامل التبثر" (99).
وأزعج أصحابه شائعة كاذبة بموته، وصلت حتى كوبنهاجن. وهناك-بناء على اقتراحين من كارل راينهولت ويينز باجيزن-وهما نبيلان دانمركيان-عرض الدوق فردريش كوستيان أمير هولشنين-أوجستنبورج واللونت إرنست فون شيملمان على شيلر منحة سنوية قدرها ألف طالر على مدى ثلاث سنين. فقبلها شاكراً. وأعفته الجامعة من التدريس ولكنه ظل يحاضر فرقة خاصة صغيرة. ثم خصص بعض فراغه الجديد، بناء على اقتراح من راينهولت، لدراسة فلسفة كانط التي قبلها كاملة تقريباً، وهو ما أضحك جوته وأثار اشمئزاز هردر، وربما ألحق بعض الأذى بشعر شيلر.
ونشر الآن (1793) مقاله الطويل "في الكياسة والكرامة" الذي استهل التربية الرومانسية "للروح الجميلة". وقد عرف هذه الروح الجميلة بأنها تلك التي "ينسجم فيها العقل والحواس، والواجب والميل، وتجد هذه كلها التعبير الخارجي في الكياسة" (100). ولا بد أن المتبرعين الكوبنهاجيين قد هالهم أن يتلقوا، كبعض الرد على منحتهم، كتيباً عنوانه "رسائل في التربية الجمالية (الاستطيقية) للإنسان" (1793 - 94). وقد بدأ شيلر بفكرة كانط على الإحساس بالجمال كتأمل نزيه للصور المتناسقة، ثم زعم (مع شافتسبري) أن "الشعور الذي ينميه الجميل يهذب السلوك" ويصبح الحس الجمالي هو والفضيلة واحداً. وأنه لعزاء أن نقرأ، في هذا الرأي المنبعث من أيام فايمار المزدهرة أن شيلر (كجوته) رأى أن جيله منحل، غارق في انحطاط خلق سحيق" (101).
فلما عاد من الفلسفة إلى الشعر وجد عناء في استحضار "تلك الجرأة والنار المضطرمة التي كنت أملكها من قبل، .. لقد أفسدني الجدل النقدي" (102). ولكنه أصر على أن "الشاعر هو الإنسان الأصيل الوحيد، وليس أفضل الفلاسفة إلا كاريكاتوراً إذا قيس به" (103)، ورفع(41/308)
وظيفة الشاعر في تعليم البشر والتسامي بهم إلى مستوى الإلهام السماوي. وقد وصف في قصيدة غنائية طويلة "الفنانون 1789" الشعراء والفنانين بأنهم يرشدون النوع الإنساني إلى وحدة الجمال مع الفضيلة والحق. وفي قصيدة أخرى "آلهة اليونان" (1788) امتدح اليونان على حساسيتهم الجمالية وإبداعاتهم الفنية، وزعم، في إبهام حذر، إن العالم بات كئيباً قبيحاً منذ حلت المسيحية محل الهيلينية. وكان واقعاً الآن تحت سحر جوته كما وقع جوته من قبل تحت سحر فنكلمان.
ولعل تصوير شيلر وجوته الرومانسي لليونان القديمة كان هروباً من المسيحية. فشيلر ينتمي إلى التنوير رغم بعض الفقرات الورعة، شأنه في ذلك شأن جوته؛ وقد قبل إيمان القرن الثامن عشر بالخلاص عن طريق العقل البشري لا النعمة الإلهية. واحتفظ باعتقاد ربوبي في الله-شخصي في الشعر فقط-وخلود غامض. ورفض الكنائس كلها البروتستنتية منها والكاثوليكية. ولم يكن المواعظ حتى مواعظ هردر. وقد كتب بيتين شهيرين في إبجرام عنوانه (عقيدتي) يقول فيهما:
أي دين أعترف به؟ ولا واحد من كل الأديان التي تذكرها لي. ولم؟ بسبب الدين (104).
وكتب إلى جوته في 9 يوليو 1796 يقول "إن الطبيعة السليمة الجميلة-كما تقول أنت نفسك-ليست في حاجة إلى ناموس أخلاقي، إلا إلى القانون لطبيعتها، ولا إلى ميتافيزيقا سياسية. وكان في وسعك أن تضيف أيضاً أنها ليست في حاجة إلى إله، ولا فكرة خلود تدعم وتصون بها ذاتها". ومع ذلك كان فيه عوامل من الخيال والرقة ردته صوب المسيحية:
"إنني أجد أن المسيحية تحتوي فعلاً على الأصول الأولي لكل ما هو أسمى وأنبل؛ وصورها الخارجية المختلفة لا تبدو لنا بغيضة منفرة إلا لأنها تعبيرات سيئة عن الأسمى .. ولم يشدد أحد تشديداً كافياً على ما يمكن أن يكون هذا الدين لعقل جميل أو على الأصح ما يمكن أن يفهمه منه(41/309)
عقل جميل. وهذا يفسر نجاح هذا الدين نجاحاً كبيراً مع الطبائع الأنثوية، وأنه في النساء فقط مكن احتماله إطلاقاً" (105).
ولم يكن شيلر كجوته مركباً من حيث بدنه للوثنية الخالصة. كان وجهه مليحاً ولكنه شاحب، وقوامه فارعاً ولكنه نحيل هش. وكان يخشى تقلبات الجو اليومية ويؤثر القعود في حجرته يدخن ويتنشق. وكان يقابل بينه وبين جوته مقابلة الفكرة ضد الطبيعة، والخيال ضد العقل، والعاطفة ضد الفكر الموضوعي (106). وكان يجمع بين الحياء والكبرياء، يخشى الخصومة ولكنه يرد دائماً على الهجوم؛ سريع الغضب فاقد الصبر أحياناً (108). وكان يميل إلى استخراج العبرة عن كل شيء، وإلى الضرب على وتر مثالي عال. ومما يريح نفوسنا أن نراه يستمتع بغراميات قصة ديدرو "الحلي الواشية" (109). وقد أجاد تحليل موهبته في خطاب مبكر إلى جوته:
"لقد غلبني عقل الشاعر عموماً حين كان ينبغي أن أفلسف، وغلبني عقل الفيلسوف حين كنت أريد الشعر. وحتى الآن كثيراً ما يحدث أن يقتحم الخيال تجريداتي، والفكر الهادئ نتاجي الشعري. ولو استطعت السيطرة على هاتين القوتين بحيث أعين لكل منهما حدودها (كما كان جوته يفعل) لبقي لدي أمل في التطلع إلى مصير سعيد. ولكن حين بدأت أعرف طاقاتي المعنوية وأستخدمها على الوجه الصحيح، هاجمني المرض للأسف وهددني بتقويض قوالي البدنية" (110).
وعاوده المرض بعنف في ديسمبر 1793؛ ثم تماثل للشفاء، ولكن إحساسه بأن لا شفاء له منه وأنه يجب أن يتوقع نوبات راجعة أورثه الكآبة. ففي 10 ديسمبر كتب إلى كورنر يقول "إنني أكافح هذا الشعور بكل قوى عقلي ... ولكنني أصد دائماً ... فإن غموض مستقبلي؛ ... والشكوك في عبقريتي التي لا يدعمها ولا يشجعها الاتصال بغيري، والافتقار التام لذلك الحديث العقلي الذي أصبح ضرورة لا غنى لي عنها"؛ تلك كانت الأفكار الملازمة لمحنته الجسدية. وراح يتطلع في تشوق، من يينا لفيمار،(41/310)
إلى جوته الذي ينعم بعافية يحسد عليها، ذلك "العقل السليم في الجسم السليم" وأحس شيلر أنه هناك يوجد الرجل الذي يستطيع أن يعطيه الحافز والدعم، لو أن الجليد القائم بينهما ذاب، وسقط حاجز الأميال الأربعة عشرة الذي يفصل بينهما!
7 - شيلر وجوته
1794 - 1805
وسقط الحاجز لحظة حين حضر الرجلان في يونيو 1794 جلسة عقدتها جمعية التاريخ الطبيعي في يينا. فلما التقى شيلر بجوته وهما يغادران القاعة، قال معلقاً أن العينات البيولوجية المعروضة في المؤتمر تعوزها الحياة، ولا يمكنها أن تعين مشاهدها حقاً على فهم الطبيعة. ووافق جوته مشدداً، وتجاذبا الحديث حتى بلغا بيت شيلر. وقال جوته فيما بعد مستعيداً ذكرى اللقاء "وأغراني الحديث بالدخول معه وشرحت له ... "تحور النباتات"-وهي مقالة زعم فيها جوته أن جميع النباتات تنويعات من نمط أولي واحد. وأن كل أجزاء النبات تقريباً تنويعات أو تطويران للورقة. "واستمع ... إلى هذا كله بكثير من الاهتمام وبفهم واضح، ولكن ما إن فرغت حتى هز رأسه وقال لي "ليست هذه تجربة، إنما هي فكرة"، أي أنها نظرية لم تثبتها الملاحظة أو الاختبار. وغاظ التعليق جوته، ولكنه رأى أن لشيلر عقلاً مستقلاً، فازداد احترامه لها. أما زوجة شيلر "التي أحببتها وقدرتها منذ طفولتها، فقد بذلت قصاراها لتوثق تفاهمنا المتبادل" (111).
وفي مايو 1794 كان شيلر قد وقع عقداً بالإشراف على تحرير مجلة أدبية شهيرة "تسمى داي هورين والهوراي" في الميتولوجيا الإغريقية ربات الفصول. وكان يأمل أن يجند للمجلة كانط، وفشته، وكلوبشتوك، وهردر، وياكوبي، وياجيزين، وكورنر، وراينهاولت، وفلهلم فون همبولت، وأوجست فلهلم فون شليجل، ثم جوته-أفضل صيد يطمع في اقتناصه. وفي 3 يونيو أرسل إلى فايمار رسالة موجهة إلى "السيد الكريم المحتد، الرفيع المقام، المكرم، عضو المجلس الخاص"، تحتوي على نشرة تمهيدية للمجلة المقترحة، وأضاف: "أن الورقة المرافقة تعرب عن(41/311)
رغبة عدد من الرجال الذين يقدرونك تقديراً بغير حدود في أن تشرف الدورية بمقالات من قلمك، يجمع الكل بصوت واحد على عظم قيمتها. ونحن نشعر يا صاحب السعادة بأن موافقتك على دعم هذا المشروع ستكون ضماناً لنجاحه" (112). ورد جوته بأنه يسره المشاركة بمقالاته، وأنه "على ثقة من أن الاتصال الأوثق بالرجال الأصلاء الذين يؤلفون لجنتكم سيبعث حياة جديدة في كثير مما هو راكد الآن في باطني (113).
وهكذا بدأ تراسل يعد من ذخائر تاريخ الأدب، وصداقة اتصلت إحدى عشرة سنة-حتى موت شيلر-فيها من تبادل الاحترام والعون ما ينبغي أن يدخل في تقديرنا للنوع الإنساني. روربم كان أكثر هذه الرسائل الباقية كشفاً-وعددها 999 - هي الرسالة الرابعة (23 أغسطس 1794)، التي حلل فيها شيلر-بعد عدة لقاءات مع جوته جمعت بين المجاملة والصراحة وبين التواضع والاعتزاز بالنفس، الفوارق بين عقليهما. قال:
"إن أحاديثي الأخيرة معك حركت كل ذخيرة أملكها من الأفكار ... فكثير من الأشياء التي لم أستطع أن أصل فيها إلى تفاهم خاص مع نفسي تلقت ضوءاً جديداً غير متوقع من تأملي لعقلك (فهكذا أسمي التأثير العام لأفكارك على) .. لقد أعوزني التجسيد لعدد من أفكاري التأملية، وأنت وضعتني على الطريق المفضي إليه. وأسلوبك الهادئ الواضح في النظر إلى الأشياء يعصمك من التيه في الطرق الجانبية التي كثيراً ما يشرد بي فيها تأملي وخيالي المستبد. إن حدسك الصائب يدرك كل الأشياء، ويدركها على نحو أكمل كثيراً مما ينشده المرء في عناء بالتحليل ... وعقول كعقلك قل أن تعرف إلى أي حد بعيد نفذت وتغلغلت، وأنه ما من داع يذكر يدعوها للاستعارة من الفلسفة، التي لا تستطيع في الواقع إلا أن تتعلم منها ... ومع أنني فعلت هذا على بعد، إلا أنني طالما راقبت المسار الذي سلك فيه عقلك .. أنت تبحث عن الضروري في الطبيعة، ولكنك ... تنظر إلى الطبيعة بوصفها كلا حين تحاول جعل الضوء يلقي على أجزائها الفردية، أنت تبحث عن تفسير الفرد في جماع مظاهرها المتنوعة (114).(41/312)
أما رد جوته (27 أغسطس) فقد تجنب في ذكاء تحليل عقل شيلر:
"ما كنت لأتلقى بمناسبة عيد ميلادي الذي وقع هذا الأسبوع هدية أجمل من رسالتك التي تلخص فيها حياتي بيد ودود، وتشجعني فيها بتعاطفك على استخدام قدراتي استخداماً أكثر مثابرة ونشاطاً. وسيكون من دواعي سروري أن أكشف لك حين تتاح لي الفرصة ما كانه حديثك لي، وكيف أنني أنا أيضاً أعد تلك الأيام مرحلة متميزة في حياتي، لأنه يبدو لي أننا لا نملك بعد هذا اللقاء غير المتوقع إلا أن نطوف في دروب الحياة معاً".
وتابع جوته هذه الرسالة (4 سبتمبر) بدعوة لشيلر لحضر إلى فايمار وينفق معه أياماً فيها. "سيكون فلي استطاعتك أن تشرع في أي عمل تشاء دون أن يزعجك أحد. وسنتجاذب الحديث معاً في أوقات ملائمة. وفي ظني أننا لن نفترق دون أن تحقق بعض الكسب. وعليك أن تعيش هنا تماماً كما تحب، وكما لو كنت في بيتك ما أمكن ذلك". ولم يتردد شيلر في القبول، ولكنه حذر جوته قائلاً "إن تشنجات الربو التي أعاني منها تلزمني الفراش طوال الصباح لأنها لا تسمح لي بأي راحة في الليل". وهكذا كان شيلر ضيف جوته وعليله تقريباً من 14 إلى 28 سبتمبر. وأعتني أكبر الرجلين بالشاعر العليل عناية رفيقه، وحماه من المضايقة، وبذل له النصح في أمر غذائه، وعلمه حب الهواء الطلق. كتب شيلر (29 سبتمبر) بعد عودته إلى يينا يقول "أجدني في بيتي مرة أخرى، ولكن أفكاري لا تزال في فايمار. ولا بد لي من وقت طويل أحل فيه خيوط كل الأفكار التي أيقظتها في". ثم (8 أكتوبر)، ناشده بما عهد فيه من تحمس "يبدو لي أنه من الضروري أن نصل فوراً إلى قدر من التفاهم الواضح حول أفكارنا عن الجميل".
ثم تلا ذلك شهور ثلاثة من التحضير للعدد الأول من مجلة "هورين" الذي صدر في 24 يناير 1792، والثاني في أول مارس، والأعداد الباقية شهرياً على مدى ثلاث سنين، وكتب جوته من فايمار (18 مارس) يقول "إن الناس يتهافتون عليها، ويتخاطفون أعدادها، وما كنا لنطمع في أكثر(41/313)
من ذلك لهذه البداية". وفي 10 أبريل كتب شيلر لجوته يقول "لقد كتب لي كانط خطاباً ودياً جداً، ولكنه طلب مهلة لإرسال مقالاته ... ويسرني أننا أغرينا الطائر العجوز بالانضمام إلينا. " وطلب جوته أن تنشر مقالاته غفلاً من التوقيع، لأنها اشتملت على عدد من "مراثيه الرومانية"، وكان عليما بأن نزعتها الشيقة القوية ستبدو غير لائقة بعضو في المجلس الخاص.
وفي حماسة النجاح المتهورة أقنع شيلر جوته بأن يشترك معه في إصدار دورية أخرى "التقويم السنوي للشعر" صدرت كل سنة من 1796 إلى 1800. وأطرف ما احتوته هو الابجرامات المسماة Xenien والتي صاغها الشاعران على غرار ابجرامات مارتيال Xenia ( اكسينا) التي كانت تكتب هدايا للضيوف. وقد وصف شيلر المشروع لكرونر فقال: "إن العملية كلها تجميع لأبجرامات، كل منها مقطع شعري من بيتين. وهي في أكثرها هجائيات عنيفة شيطانية، موجهة بصفة خاصة ضد المؤلفين وأعمالهم، يتخللها هنا وهناك ومضات خاطفة من الأفكار الشعرية أو الفلسفية. فسيكون هناك عدد لا يقل عن ستمائة من هذه المقطوعات" (115). وكان جوته قد اقترح هذه الفكرة ذريعة لرد اللطمات إلى نقادهما، وللسخرية من المؤلفين المغرورين وأصحاب الميول البورجوازية، ولتنبيه جمهرة القراء الألمان إلى الاهتمام بالأدب اهتماماً أشد. وعزماً على أن يطلقنا هذه "الهدايا" على معسكر الرجعيين "كالثعالب المشتعلة الذيول". (116) وكانت الأبجرامات بلا توقيع، وكان بعضها نتاجاً مشتركاً للمتآمرين كليهما. وإذ كان الكثير من هذه الذيول المشتعلة موجهاً ضد مؤلفين طواهم النسيان أو جدليات لا يذكرها الناس الآن، فإن الزمن أطفأ نارها، ولكن واحداً منها بقلم جوته يستحق منا التنويه الخاص:
"جاهد دائماً في سبيل الكل، وإذا لم تستطع أنت نفسك أن تصبح كلاً، فاربط نفسك إلى كل ما يوصفك جزءاً تابعاً".
وهناك إبجرام آخر يعزى عادة إلى شيلر يفصل الفكرة:
"أتخاف الموت؟ أتريد الحياة دون أن تموت؟ إذن عش في الكل!(41/314)