الموضوع، وهو العفة المصونة خلال سلسلة طويلة من المغريات، قد أوحت به قصة "حياة ماريان" (1741 - 41) التي ألفها الكاتب الفرنسي ماريفو. أياً كان الأمر، فإن رتشاردسن أقام في نوفمبر 1740 معلماً على طريق الأدب الإنجليزي بإصداره كتاباً في مجلدين سماه "باملا، أو الفضيلة التي كوفئت؛ سلسلة من الرسائل العائلية من آنسة جميلة إلى أبويها؛ منشوراً لأول مرة ليربي مبادئ الفضيلة والدين في عقول الشباب من الجنسين" وراج الكتاب، وأضاف إليه رتشاردسن مجلدين آخرين في 1741، "باملا في أسمى حالاتها"، يقصان فضائلها وحكمتها بعد زواجها.
وما زال نصف القصة الأول طريفاً، لأننا لا نكبر أبداً على استطرافنا لقصص الإغواء-وإن كان كل شيء حتى الإغواء يصبح مملاً بعد ألف صفحة. ويبدأ التركيز على العاطفة في الصفحة الأولى، حيث تكتب باملا "أواه! لكم تذرف عيناي الدمع مدراراً! لا تعجبا إذا رأيتما الورق شديد التلوث". وهي مثال الطيبة والتهذيب والتواضع. فلما أرسلت خارج الأسرة لكي "تخدم" وهي في السادسة عشرة حولت لأبويها أول ما كسبت من مال "لأن العناية الإلهية لن تتركني في عوز ... فإذا حصلت على المزيد فإنني واثقة بأنه من واجبي، وسيكون موضع اهتمامي أن أحبكما وأعتز بكما، لأنكما أحببتماني واعتززتما بي حين لم أكن أقوى على صنع شيء لنفسي (73) ". أما الأبوان الحذران فيرفضان إنفاق المال حتى يطمئنا إلى أنه ليس عربوناً يدفعه مخدومها الأعزب لوصالها. وينبهانها إلى أن جمالها يعرض عفتها للخطر "إننا نخاف-نعم، يا بنيتي العزيزة، إننا نخاف-لئلا تشتطي في عرفان الجميل، فتكافئيه بتلك الجوهرة، بفضيلتك، التي لا يستطيع مال ... أن يعوضك عنها". فتعدهما بأن تكون حذرة وتضيف "ما أجمل فعل الخير! إنه كل ما أحسد عليه العظماء". وعواطفها جديرة بالإعجاب وإن فقدت بعض فتنتها لأنها تصرح بها. وفي مأساة متفاقمة يدخل مخدومها مخدعها دون التمهيد الواجب، ويضمها إلى صدره المضطرب. فيغشي عليها، وتفسد خطته. فلما أفاقت "وضعت يدي على فمه وقلت: أواه! قل لي، ولكن لا تقل لي، ماذا عانيت أنا في هذه المحنة؟ (74) ". فيؤكد لها أن مقاصده(35/271)
أخفقت. وإذ تقدر ما ينطوي عليه اشتهاؤه لها من تحية، تتعلم شيئاً فشيئاً أن تحبه، وتعد المراحل التي تتدرج فيها عاطفتها من الخوف إلى الحب، لمسة من اللمسات الرقيقة الكثيرة التي تدعم شهره رتشاردسن كاتباً سيكولوجياً. على أنها تقاوم كل حصاراته رغم ذلك، وينتهي به الحال إلى الانهيار، فيعرض عليها الزواج. وإذا أسعد باملا أنها أنقذت فضيلتها وروحه، فإنها تعتزم أن تكون زوجة إنجليزية مثالية: تلزم بيتها، وتتجنب الحفلات الفخمة، وتمسك حسابات الأسرة بعناية، وتوزع الصدقات، وتطهو الهلام والكعك والحلوى والفاكهة المحفوظة، وتكون شاكرة إذا تفضل عليها زوجها بالحديث معها بين الحين والحين هابطاً السلم الطبقي إليها. ويختتم رتشاردسن المجلد الثاني بعظة في فوائد الفضيلة في المسامة بين الجنسين، "إن ناشر هذه الصفحات سيحقق هدفه إذا أوحت (فضيلة باملا) بالقدوة المحمودة في عقول أي أشخاص أفاضل، قد يكتسبون بهذا حقاً فيما نالته باملا عن جدارة من أسباب الثواب والثناء والبركة".
وأضحك هذا بعض الإنجليز، مثل فيلدنج القوي الصلب، ولكن آلافاً مؤلفة من قراء الطبقة الوسطى شاركوا باملا خفقات قلبها في تعاطف. وأطرى رجال الدين الكتاب، وقد سرهم أن يجدوا مثل هذه الدعامات لعظاتهم في أدب بدا أنه باع نفسه لرئيس الشياطين (بعلزبول). ونفدت أربع طبعات من باملا في ستة أشهر. وبالطبع حث الناشرون رتشاردسن على مزيد من التنقيب في هذا المنجم الغني، ولكنه لم يكن بالكاتب المرتزق، ثم إن صحته بدأت تعتل. فتريث، ومضي في أعماله الطباعية. ولم يخرج رائعته التالية التي جاءته بأوربا البورجوازية كلها عند قدميه إلا عام 1747.
وقد صدرت هذه الرائعة، واسمها "كلاريسا، أو تاريخ شابة" وطولها ألفاً صفحة، في سبعة مجلدات، ما بين نوفمبر 1747 وديسمبر 1748. وكان قد ساءه اتهامه بأن قصة باملا أظهرت الفضيلة مجرد خطة للمساومة، وأنها صورت فاسقاً صلحت حاله تصويرها لزوج صالح، لذلك عمد إلى إظهار الفضيلة هبة إلهية سوف تثاب في السماء، وإظهار فاسق سادر في غيه مقضياً عليه لا محالة بنهاية سيئة مدمرة،(35/272)
وخلاصة القصة أن لفليس الطائش الذي اشتهر بأنه شيطان من النساء، يطلب يد كلاريسا هارلو، فلا تثق به، ولكنها مفتونة أشد الفتنة بشهرته. وتحظر عليها أسرتها لقاء وغد كهذا وتغلق أبوابه في وجهه، وتعرض عليه مستر سومز، وهو رجل لا رذائل فيه ولا شخصية، فترفضه؛ ولكي يكرهوها على الإذعان يوبخونها ويعذبونها ويحبسونها. ويستأجر لفليس مساعداً ليزيف هجوماً مسلحاً عليها من أقاربها؛ ولكي تكفر منهم تسمح له بخطفها إلى سانت البانس. وهي راغبة في الزواج منه، ولكنه يرى في هذا مغامرة يائسة جداً. فيكتب صديق له:
" ... كنت أصمم على الزواج لولا هذا الاعتبار، وهو أنني متى تزوجت مرة أصبحت متزوجاً مدى الحياة. تلك هي المصيبة! لو أن الرجل استطاع أن يفعل كما تفعل الطير ويغير (زوجاته) كل عيد من أعياد القديس فالنتين .. لما كان في الأمر بأس على الإطلاق ... وتغيير كهذا سيكون وسيلة للقضاء على .. أربع أو خمس كبائر فظيعة: هتك العرض، الذي يطلق عليه هذه التسمية السوقية، والخيانة الزوجية، والزنا؛ كذلك لن يلهث الرجل وراء تعدد الزوجات، وستمتنع كثيراً جرائم القتل والمبارزة، ولن يسمع الناس بشيء اسمه الغيرة (وهي العلة في أعمال العنف المفزعة) ... ولن تكون هناك امرأة عاقر ... فكلا الجنسين سيحتمل الآخر، لأن في استطاعتهما أن يرعى كل منهما مصلحته بعد بضعة أشهر ... وستزدحم الصحف بفقرات .. .. تعني بتعارف المحبين. عندها ألن يكون التميز جميلاً جداً يا جاك؟ تماماً كما في الزهور، فهذا السيد، أو هذه السيدة، أما موسمي (أو موسمية)، وأما مستديم (أو مستديمة) (75) ".
ويحاول إغواء كلاربسا، فتنذره بأنها قاتلة نفسها أن لمسها، فيحبسهاً حبساً خسيساً وأن تلطف معها فيه، وترسل خلاله الرسائل المفعمة حزناً لأنا هاو، صديقتها التي تأتمنها على سرها. أما هو فيخترع الحيلة تلو الحيلة ليخترق معاقل دفاعها، فتقاومه، ولكنها(35/273)
ترى أن عرضها تلوث تلوثاً لا برء منه لأنها قبلت نصف قبول أن تهرب معه. وتكتب الرسائل الأليمة لأبيها ضارهة إليه أن يغفر لها بل أن يسحب اللعنة التي استمطرها عليه، والتي تعتقد أنها ستقفل في وجهها أبواب الجنة إلى الأبد، ولكنه يأبى، فتصيبها علة مدمرة لا يسندها فيها غير إيمانها. أما لفليس فيختفي في فرنسا ويقتل في مبارزة بيد عم كلاربسا، وأخيراً يأتي أبواها عارضين عليها المغفرة، فيجدانها ميتة.
إنها قصة بسيطة، طال عزفها على نغمة واحدة طولاً لا يمكن أن يشد عقولنا المحكومة، ولكنها أصبحت في إنجلترا القرن الثامن عشر مثار خلاف قومي. فكتب مئات من القراء إلى رتشاردسن في فترات النشر يتوسلون إليه ألا يدع كلاريسا تموت (76). ووصف أحد الآباء بناته الثلاث بأنهن "في هذه اللحظة تمسك كل منهن بمجلدها الخاص (من كلاريسا)، وعيونهن كلها بللها الدمع كأنها زهرة مخضلة في الربيع (77) ". أما الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، التي بلغت غاية ما تبلغ نساء عصرها الإنجليزيات من علم وثقافة، فقد تقبلت الكتاب على أنه استرضاء لعواطف الطبقة الوسطى وحماسة الجماهير، ولكنه آذن ذوقها الأرستقراطي. قالت:
"كنت تلك الحمقاء العجوز التي بكت على كلاريسا هارلو كما تبكي أي بائعة لبن في السادسة عشرة لسماعها أغنية "سقوط السيدة" الشعبية. والحق أن المجلدات الأولى الأنتني بما حوت من شبه كبير بأيام صباي، ولكن الكتاب في جملته بضاعة غثة ... إن كلاريسا تتبع قاعدة الإفضاء بكل أفكارها لكل من تراه، وقد غاب عنها في أوراق التين في وضعنا البشري الشديد النقص لازمة لعقولنا لزومها لأجسامنا، وليس من اللياقة أن نعرض كل أفكارنا، تماماً كما أنه ليس من اللياقة أن نعرض كل أبداننا (78) ".
وألحت نساء إنجلترا الآن على رتشاردسن المنتصر في أن يصور لهن رجلاً مثالياً كما صور المرأة المثالية-في ظنهن-في باملا. فتردد أمام هذه المهمة الشائكة، ولكن حفزه إليها هجو فيلدنج لباملا في روايته(35/274)
"جوزف أندروز"، كما حفزته اللوحة الكاملة المفصلة التي رسمها فيلدنج لرجل في روايته "توم جونز"، وعليه فقد أخرج بين نوفمبر 1753 ومارس 1754، في مجلدات سبعة، "قصر السر تشارلز جرانديسن". ومزاج عصرنا الذي لا يبالي يصعب عليه أن يفهم لم لقيت هذه الرواية الثالثة نجاحاً عظيماً كما لقيت أختاها من قبل؛ فانتقاض القرن العشرين على البيورتانية، وعلى التوفيق الذي حاوله العصر الفكتوري الوسيط، ختم على قلوبنا فلم تعد ترى صور الطيبة المثالية، على الأقل في الذكور؛ فقد لقينا رجالاً طيبين، ولكن أحداً منهم لم يخل من عيوب تكفر عن طيبته. ولقد حاول رتشاردسن أن يجمل السر تشارلز بعض الهنات، ولكنا ما زلنا نكره هذه الشقة البعيدة بينه وبيننا. أضف إلى ذلك أن الفضيلة نفقد فتنتها إذا عرضت على الأنظار. ولقد أفلت جرانديسن بالجهد من أن يسلكه صانعه في زمرة القديسين.
وألح رتشاردسن على الوعظ إلحاحاً جعله يسمح لبعض العيوب أن تشوب فنه الأدبي. فانعدمت أو كادت الفكاهة والنكتة الذكية عنده، وأوقعته محاولة حكاية قصة طويلة بالرسائل في أشياء بعيدة الاحتمال (كتذكر العدد الهائل من الأحاديث)، ولكنها أتاحت له عرض الأحداث نفسها من مختلف وجهات النظر، وأضف على الحكاية ألفة لا تكاد تتير في شكل أقل ذاتية. وكان مما يتمشى تماماً مع العرف في ذلك العصر أن يكتب الإنسان الرسائل الطويلة الحميمة إلى من يثق بهم من ذوي القربى أو الأصدقاء. ثم إن طريقة الرسائل هذه أفسحت المجال أمام موهبة رتشاردسن الكبرى-وهي عرض خلق المرأة. هنا أيضاً توجد عيوب. فعلمه بالرجال أقل من علمه بالنساء، وبالنبلاء أقل من العامة، وقل أن لقط ما في النفس الإنسانية من تقلبات وتناقضات وتطور-ولكن مئات التفاصيل تدل على ملاحظته الدقيقة للسلوك الإنساني. ففي هذه الروايات ولد القصص السيكولوجي الإنجليزي والنزعة الذاتية التي بلغت في روسو مبلغ الحمى.
وتقبل رتشاردسن نجاحه في تواضع وواصل عمله طباعاً، ولكنه بنى لنفسه بيتاً أفضل. وكتب رسائل طويلة ضمنها النصائح لدائرة كبيرة من النساء، كان بعضهن يدعوه "بابا العزيز"-وفي أخريات عمره(35/275)
دفع ثمن الفكر المركز والفن المسهب حساسية عصبية وأرقاً. وفي 4 يوليو 1761 قضت عليه إصابة بالفالج.
وكان تأثيره الدولي أعظم من تأثير أي إنجليزي آخر في عصره باستثناء وسلي وبت الأب. وقد أعان في وطنه على صوغ المزاج الخلقي لإنجلترا جونسن، وعلى الارتفاع بأخلاقيات البلاط بعد جورج الثاني. وأسهم التراث الخلقي والأدبي الذي خلفه في تكوين رواية جولدسمث "قسيس ويكفيلد" (1766) ورواية جين أوستن "العقل والوجدان" (1811). أما في فرنسا فقد عد كاتباً لا ضريب له في القصة الإنجليزية. يقول روسو "لم تكتب قط في أي لغة رواية تعدل أو حتى تقترب من كلاريسا (79) ". وقد ترجم الأبيه بريفوست رتشاردسن، ومسرح فولتير بأملا في "نانين" وصاغ روسو "هلويز الجديدة" على غرار كلاريسا موضوعاً وشكلاً وهدفاً خلقياً. وارتفع ديدرو إلى المناجاة المفرطة الحماسة في مقاله "تقريظ لرتشاردسن" (1761)، فقال لو أنه أكره على بيع مكتبته لما احتفظ من كتبه كلها إلا بهومر ويوربيديس وسوفوكليس ورتشاردسن. وفي ألمانيا ترجم جيلليرت باملا، وحاكاها، وبكى تأثراً من جرانديسن (80)؛ وانتشي كلوبشتوك طرباً بكلاريسيا؛ وبنى فيلاند تمثيلية على جرانديسن؛ وراح الألمان يحجون إلى بيت رتشردسن (81). وفي إيطاليا مسرح جولدوني قصة باملا.
واليوم لا يقرأ أحد رتشاردسن إلا مضطراً بحكم الدرس، ونحن لا نملك الفراغ الذي يتسع لكتابة رسائل كهذه، فضلاً عن قراءتها؛ والناموس الأخلاقي الذي يدين به عصر صناعي دارويني يهرب في ضجر من المحاذير والقيود البيورتانية. ولكنا نعرف أن هذه الروايات مثلث ثورة الوجدان على عبادة الفكر والعقل، أكثر مما مثله شعر طومسن، وكولنز، وجراي، ونتبين في رتشاردسن الأب-كما تتبين في روسو البطل-لتلك الحركة الرومانسية التي ستنتصر في أواخر القرن على صنعة بوب الكلاسيكية وواقعية فيلدنج العارمة.(35/276)
ب- هنري فيلدنج
1707 - 1754
حين قدم إلى لندن في 1727 أعجب الناس كلهم بقوامه الفارع، وبنيته القوية، ووجهه الوسيم، وحديثه المرح، وقلبه المفتوح؛ فهنا رجل أعدته الطبيعة ليستمتع بالحياة في كل لذتها وواقعها السيئ السمعة. كان يملك كل شيء إلا المال؛ وإذ كان مضطراً-على حد قوله-إلى أن يكون سائقاً أجيراً، أو كويتباً أجيراً، فإنه شد نفسه إلى قلم، واكتسب قوت يومه بكتابة الهزليات والتمثيليات الكاريكاتورية. واستعملت الليدي ماري مونتاجيو، وهي ابنة خال له من المرتبة الثانية، نفوذها ليخرج له مسرح دروري لين تمثيلية "الحب وراء أقنعة عديدة" (1728)، وذهبت مرتين لتشهدها معلنة عن نفسها في تفضل؛ وفي 1732 ساعدت على عرض تمثيلية "زوج عصري" فترة طويلة. وواصل تأليف المسرحية تلو المسرحية، وكلها غير ممتاز، ووقع على عرق من الهجاء المرح في "مأساة المآسي، أو حياة وموت توم ثم الكبير" (1731).
وفي 1734 تزوج شارلوت كرادوك بعد خطبة اتصلت أربع سنين. وورثت عقب زواجهما 1. 500 جنيه، فأخلد فيلدنج معها إلى حياة الدعة سيداً من سادة الريف. ووقع في حب زوجته. وقد وصفها وصف الزوج المفتون بزوجته في شخص صوفيا وسترن الجميلة في خفر، وأميليا بوث التي لا حد لصبرها وأناتها. وتؤكد لنا الليدي بيوت "أن اللغة المشرقة التي عرف كيف يستعملها لم تزد على أنصف محاسن الأصل وجمالها (82) ".
وفي 1736 عاد إلى لندن وأخرج تمثيليات لا تستحق الذكر. ولكن في 1737 وضع قانون الرخص قيوداً على الدراما، وانسحب فيلدنج من المسرح. ودرس القانون، وقبل محامياً (1740). وتحول مسار حياته في ذلك العام بظهور رواية رتشاردسن "باملا". وأثارت فضائل البطلة وخالقها المعتمدة كل ما في فيلدنج من نزوع إلى الهجو. و "قصة مغامرات جوزف أندروز وصديقه مستر ابراهام آدمز، مكتوبة بطريقة سرفانتيس" (1742) بدأها تقليداً ساخراً(35/277)
لباملا. فجوزف، الذي يقدمه لنا المؤلف على أنه أخو باملا، فتى طاهر جميل بين الفتيان كباملا بين الفتيات، تراوده مخدومته المرة بعد المرة كما وقع لباملا، ويقاوم مثلها، ويفصل مثلها في رسائله المحاولات الخبيثة للعدوان على عذريته. ورسالته لأخته باملا رسالة تكاد تكون "رتشاردسونية"، وإن لم تكن كذلك تماماً:
"أختي العزيزة باملا:
"أرجو أن تكوني بخير، عندي خبر ويا له من خبر أفضي به إليك! ... لقد وقعت سيدتي في غرامي-أي ما يسميه عليه القوم بالوقوع في الغرام-وفي نيتها أن تدمرني، ولكني أرجو أن يكون لدي من العزم والحصافة ما يعصمني من التفريط في عرضي لأي سيدة على ظهر البسيطة.
"لقد طالما أخبرني المستر آدمز أن العفة فضيلة كبرى في الرجل كما هي في المرأة سواء بسواء. وهو يقول إنه لم يعرف قط امرأة غير زوجته، وسأحاول أن أقتدي به. والحق أن افضل كله لمواعظه ونصائحه الممتازة ولرسائلك في قدرتي على مقاومة إغراء يقول أن أحداً لا يذعن له إلا أن ندم في هذه الدنيا وهلك عقاباً في الآخرة ... ما أجمل النصائح والمثل الطيبة! ولكني مسرور لأنها طردتني من مخدعها كما فعلت، فلقد كدت أنسي مرة كل كلمة قالها لي القس آدمز.
"ولست أشك يا أختي العزيزة في أن لك من الحصافة ما تصونين به فضيلتك من كل إغراء، وأتوسل إليك في إلحاح أن تصلي لكي منحني الله القوة على صون فضيلتي، لأنها في الحق تهاجم هجوماً عنيفاً من أكثر من امرأة، ولكني أرجو أن أقتدي بمثالك، وبمثال يوسف الصديق سميي، فأصون فضيلتي من كل إغراء (83) ".
وينجح جوزف، ويظل بكراً حتى يتزوج العذراء فاني. أما باملا، التي رفعت درجة في سلم المجتمع حين تزوجت مخدومها الغني، فتدين فاني لتجاسرها على الزواج من جوزف، الذي ارتفعت منزلته(35/278)
في المجتمع بزواج باملا برجل من عليه القوم. ولام رتشاردسن فيلدنج لأنه اقترف "إضافة فاجرة خسيسة" إلى باملا (84).
ولم تشبع شهوة فيلدنج للهجو بتقليده الساخر لرتشاردسن، وراح يحاكي الألياذة محاكاة ساخرة، بالتضرع إلى ربات الفنون والآداب ويجعل كتابة ملحمة. وقد فاض ينبوع فكاهته في مختلف الشخصيات التي تلقاها جوزف وآدمز في طريقهما، لا سيما الفندقي تو-واوز، الذي تفاجئه المسز تو-واوز متلبساً "بالجرم الفاضح" مع الخادمة بتي ثم تصفح عنه، و "احتمل في هدوء ورضي أن يذكر بذنوبه ... مرة أو مرتين كل يوم طوال حياته الباقية". وإذ لم يكن في طبع فيلدنج أن يصنع بطلاً، ورواية بأكملها، من شاب لا عيب فيه، فإنه سرعان ما فقد اهتمامه بجوزف، وجعل القس آدمز الشخصية المحورية لكتابه. وقد بدا هذا خياراً بعيد الاحتمال، لأن آدمز كن قساً سنياً في إخلاص وصدق، يحمل معه مخطوطه بمواعظه باحثاً عن ناشر متهور. ولكن المؤلف أعطاه "بيبة" متينة، ومعدة قوية، وقبضتين صلبتين؛ ومع أن القس يعارض الحرب، فإنه مقاتل كفء يصرع سلسلة من الأوغاد يتعقبونه لسرقة قصته. وإلى حد بعيد أحب شخص رسمه فيلدنج، ونحن نشارك لذة المؤلف في مواجهته مواجهات غريبة مع الخنازير، والوحل، والدم. والذين كانوا في شبابهم يتأثرون تأثراً عميقاً بالمثل المسيحي الأعلى، لا بد يستشعرون المحبة الحارة لرجل دين خلا تماماً من الغش وفاضت نفسه براً. ويقابل فيلدنج بينه وبين القس تراليبر الجشع، الذي كان "من أضخم الرجال الذين يجدر بك أن تراهم، وكان في استطاعته أن يقوم بدور السر جون فلستاف دون أن يحشو بدنه (85) ".
وازدهى النجاح فيلدنج، فأصدر في 1743 ثلاث مجلدات وضع عليها عنواناً متواضعاً هو "منوعات". وقد احتوى المجلد الثالث على آية من آيات التهكم المتصل في "حياة المستر جوناثان وايلد العظيم" ولم يكن ترجمة حقيقية للنص القرن الثامن عشر الأشهر، "فإن قصتي تروي على الأصح أفعالاً كان من الجائز أن يقوم بها (86) ". وكان في شكله الأول سخرية من السر روبرت ولبول لاتجاره في الأصوات(35/279)
الانتخابية المسروقة، فلما مات ولبول أصدره المؤلف الجديد في صور هجاء "للعظمة" كما درج الناس على تقديرها وتحقيقها. وذهب فيلدنج إلى أن معظم "عظماء الرجال" أساءوا إلى البشر أكثر مما أحسنوا إليهم؛ وهكذا لقب الاسكندر بالأكبر أو "العظيم" لأنه بعد أن "اجتاح إمبراطورية شاسعة بالحديد والنار وأهلك العدد الهائل من البؤساء الذين لا ذنب لهم، ونشر الخراب والدمار كأنه العاصفة الهوجاء يقال لنا من أعمال الشفقة التي تذكر له أنه لم يذبح عجوزاً ولم يغتصب بناتها (87) " واللص أحرى بضمير أكثر راحة واطمئناناً من ضمير رجل الدولة، لأن ضحاياه أقل وغنيمته أضأل (88).
وبأسلوب التراجم السياسية يخلع فيلدنج على جوناثان شجرة نسب رفيعة، فيرجع بأصله إلى "ولفستن وايلد، الذي قدم مع هنجست". وكان لأمه صفة غروية في أصابعها غاية في العجب (89). ومنها تعلم جوناثان فن اللصوصية وآدابها، وسرعان ما مكنه ذكاؤه الفائق من تنظيم عصابة من الشبان البواسل الذين كرسوا حياتهم لإراحة الناس الزائدين عن الحاجة من سلعهم الزائدة عن الحاجة، أو من حياتهم التي لا معنى لها. وكان يصيب حظ الأسد من مكاسبهم، ويتخلص من المتمردين من مساعديه بتسليمهم لسلطات القضاء والأمن. وقد أخفق في إغواء ليتيا المطاردة، التي آثرت أن يعتدي على عرضها مساعده فايربلود، الذي "اغتصب هذه المخلوقة الجميلة في دقائق، أو على الأقل كاد يغتصبها، لولا أنها منعته من ذلك بامتثالها في الوقت المناسب (90) ". وبعدها تزوجت وايلد. وبعد أسبوعين يدخلان في "حوار زوجي" تشرح فيه حقها الطبيعي في حياة الفسق، فيدعوها بالكلبة، ثم يتبادل القبل ويتصالحان. ويتصاعد حجم جرائمه أكثر فأكثر حتى يطيب لزوجته أن تراه محكوماً عليه بالإعدام. ويرافقه قسيس إلى المشنقة. فينشله وايلد في الطريق، ولكنه لا يجد معه سوى فتاحة للقوارير، لأن الكاهن كان ذواقه للخمور، أما "جوناثان العظيم، فبعد كل مغامراته الجبارة، كانت خاتمته-التي قل من عظماء الرجل من يستطيعون تحقيقها-أن علق من عنقه حتى مات (91) ".(35/280)
وفي أواخر عام 1744 فقد فيلدنج زوجته، وكدر موتها مزاجه حتى طهر حزنه بتصويرها تصوير المحب، خلال أسي البعد، في شخص صوفيا وأميليا. وبلغ به العرفان بالوفاء الصادق الذي أبدته خادمة زوجته التي بقيت معه لترعى أبناءه أنه تزوجها في 1747. وكان خلال ذلك يعاني من المرض والعوز، ثم أنقذه من الفقر تعيينه (1748) قاضي صلح لوستمنستر، ثم لمدلسكس بعد قليل. وكانت وظيفة شقة، ينقد عليها راتباً غير مضمون من رسوم المتقاضين الذين يوافونه بمحكمته بشارع بو. وقد وصف الجنيهات الثلاثمائة التي تجمعت له من هذه الوظيفة كل عام بأنها "أقذر نقود على وجه الأرض (92) ".
ولا بد أنه كان خلال هذه السنوات الحافلة بالشدائد (1744 - 48) عاكفاً على أعظم رواياته، لأنها صدرت في فبراير 1749 في مجلدات ستة باسم "قصة توم جونز اللقيط". وهو يروي لنا أن الكتاب ألف في "بضعة آلاف من الساعات" استنقذها من القضاء والكتابة المأجورة، ولم يستطع أحد أن يتبين من فكاهة الكتاب القوية وأدبه الفحل أن هذه كانت سنوات الحزن والنقرس والعوز. ومع ذلك فهاهنا ألف ومائتا صفحة في رواية يعدها الكثيرون أعظم الروايات الإنجليزية. فلم يسبق في الأدب الإنجليزي أن وصف رجل هذا الوصف الكامل الصريح، بدناً وعقلاً وخلقاً وشخصية. ويحضرنا في هذا المجال تلك الكلمات الشهيرة التي قدم بها ثاكري لقصته "بندنيس".
"منذ أن ووري مؤلف توم جونز للتراب لم يؤذن لروائي منا أن يرسم "رجلاً" بأقصى ما يملك من قدرة. فحتم علينا أن نستره وأن نخلع عليه ابتسامة متكلفة تقليدية معينة. والمجتمع مصر على رفض "الطبيعي" في فننا .. .. وأنت تأبى أن تسمع .. .. ما يتحرك في دنيا الواقع، وما يدور في المجتمع، وفي الأندية، والكليات، وقاعات الطعام-تأبى أن تسمع واقع حياة أبنائك وحديثهم".
ويطالعنا توم أول ما يطالعنا طفلاً غير شرعي وجد في فراش المستر أولورذي الطاهر النقي. وبين هذه البداية وزواج توم في النهاية(35/281)
حشر فيلدنج مائة حدث، بأسلوب يوهم بأنه أسلوب قصص التشرد ذات الفصول المتتابعة في غير ترابط، ولكن القارئ سيدهشه أنه هو ثابر على القراءة إلى النهاية أن يجد أن هذه الأحداث كلها تقريباً ضرورية للحبكة البارعة، أو لعرض الشخوص وتطويرها؛ وأن يجد الخيوط تحل والعقد تفك. والعديد من الأشخاص مرسومون في صورة مثالية، مثل أولورذي الذي يكاد يشبه جرانديسن، وبعضهم مبسطون تبسيطاً شديداً، مثل بلايفل الذي يكرهنا على احتقاره، أو القس نواكوم، المربي "الذي سيطرت العصا على أفكاره (93) ". ولكن كثيراً منهم يظهر فيهم ماء الحياة، ومنهم سكواير وسترن "الذي يعتز ببنادقه وكلابه وخيله (94) " أكثر من أس شيء في الدنيا، ثم تأتي زجاجة شرابه، ثم ابنته صوفيا الفريدة في بابها. هاهنا "كلاريسا" أخرى تعرف مسالكها بين فخاخ الرجال، وباملا أخرى تصيد رجلها دون أن تزعجها تجاربه الماضية قبل الزواج.
أما توم ففيه شيء من التحلل الجنسي، وفيما عدا ذلك فهو من أطيب أن يصلح للبقاء. تبناه أولورذي، وعلمه ثواكوم وأدبه بعصاه، فأدرك الرجولة القوية التي لا يكدر صفوها غير الخبثاء الذين يذكرونه بأصله الغامض. وهو يسطو على بستان فاكهة ويسرق بطة، ولكن أباه بالتبني يغتفر هذه الألاعيب جرياً على أفضل التقاليد الشكسبيرية. وتعجب به صوفيا وهو على بعد عفيف منه، ولكن توم، الشاعر بمولده غير الشرعي، لا يجرؤ إطلاقاً على الوقوع في حب سيدة تبعد عنه هذا البعد السحيق مكانة ومالاً. وهو يقنع بمولي سيجرم، ابنة حارس الصيد، ويعترف بأنه ربما كان أباً لطفلها، ويروح عنه كثيراً أن يجد أنه ليس إلا واحداً من عديدين يحتمل أن يكون أحدهم أباً للطفل. وتعانى صوفيا إذ تعلم بهذا الغرام الآثم، ولكن إعجابها بتوم لا يفتر إلا لحظة عابرة. وهو يمسك بها بين ذراعيه إذ تسقط من جوادها أثناء الصيد، ويشي احمرار وجهها بشعورها نحوه، فيسارع إلى مطارحتها الغرام. ولكن أباها، سكواير وسترن، كان قد هيأ جيبه لصفقة تزويجها من المستر بلايفل، وهو ابن أخت أولورذي الغني الذي لم يعقب، ووريثه الشرعي. وترفض صوفيا الزواج من هذا المنافق الشاب، ويصر أبوها، وتكد المعركة الناشبة بين إرادة الأب(35/282)
ودموع ابنته عدة مجلدات. أما توم فيبتعد محجماً، ويدعهم يفاجئونه في أيكة ومولي بين ذراعيه، وتظهر صوفيا في هذا المشهد فتقع مغشياً عليها. ويطرد أولورذي توم كارهاً، فيبدأ هذا أسفاره الحافلة بالأحداث، التي بدونها كان عسيراً على فيلدنج أن يكتب رواية، إذ كان لا يزال مقلداً لسرفاتتس ولساج. ويظل قلبه مع صوفيا الكسيرة الخاطر، ولكن وقد ظن أنه فقدها إلى الأبد ينزلق إلى فراش المسز ووترز. وبعد شدائد كثيرة، وتعقيدات لا تصدق، يصفح عنه أولورذي، ويحل محل بلايفل وريثاً له، ويصلح ذات البين مع صوفيا الخجول الصفوح، ويرحب به سكواير وسترن صهراً له ترحيباً صادقاً مع أنه كان قبل أسبوع على أهبة قتله. ويتعجل وسترن الخاتمة الآن فيقول:
"إليها يا بني، إليها، أمض إليها .. هل انتهى كل شيء؟ هل حددت اليوم يا فتى؟ ماذا، أيكون غداً أم بعد؟ لن أرضي بالتأجيل دقيقة أكثر من بعد غد ... يمينا أنها لتود من كل قلبها أن تزف الليلة، أليس كذلك يا صوفي؟ ... أين بالله أولورذ؟ اسمع يا أولورذي، أراهن خمسة جنيهات لكراون أن سيولد لنا صبي بعد تسعة أشهر من غد (95) ".
إن أحداً لم يصف الحياة الإنجليزية منذ شكسبير بمثل هذه الخصوبة أو الصراحة. ذلك أن أوصافهم لا تشمل كل جوانب تلك الحياة؛ ونحن نفتقد فيها الرقة والوفاء والبطولة والمجاملات والعاطفة-هذه التي توجد في أي مجتمع. أما فيلدنج فآثر رجل الغريزة عن رجل الفكر. واحتقر مهذبي الكتب ومطهريها الذين حاولوا في زمانه أن ينقوا تشوسر وشكسبير، كما احتقر الشعراء والنقاد الذين ظنوا أن الأدب الجاد يجب ألا يتناول غير علية القوم. وفهم الحب بين الجنسين على أنه حب جسدي، وأحال نواحيه الأخرى إلى دنيا الأوهام. واحتقر جنون المال الذي لحظه في كل طبقة، وكره الدجل والنفاق كرهاً شديداً. ولم يرحم الوعاظ، ولكنه أحب القس آدمز، والبطل الوحيد في "اميليا" هو الدكتور هاريسن، وهو قس أنجليكاني؛ وكان فيلدنج نفسه يعظ في كل مناسبة من رواياته.
وبعد أن نشر توم جونز جرد قلمه لحظة لتناول المشكلات التي(35/283)
كابدها في عمله قاضياً. وكانت تجربته تواجهه كل يوم بما في لندن من عنف وإجرام. فاقترح وسائل لتشديد حراسة الأمن العام وتصريف القضاء. ويفضل جهوده، وجهود السر جون فيلدنج، وأخيه لأبيه، الذي خلفه قاضياً في شارع بو، قضي على عصابة بثت الرعب في لندن، وشنق كل أفرادها تقريباً. وذكر متفائل في 1757 أن "الشر المسيطر، شر سرقات الشوارع، قد قمع كلية تقريباً (96) ".
في هذه الأثناء كان هنري قد نشر آخر رواياته "أميليا" (ديسمبر 1751). أنه لم يستطع نسيان زوجته الأولى، ولقد نسي أن عيوب ربما شابتها، فأقام الآن لذكراها أثراً صورها فيه الزوجة الكاملة لجندي مبذر قصير النظر. فالكابتن بوث رجل لطيف شجاع كريم، وهو يعبد زوجته أميليا، ولكنه يقامر حتى يتردى في الدين، ويبدأ الكتاب بالكابتن في السجن. وهو يستغرق مائة صفحة يقص فيها قصته على نزيلة أخرى هي الآنسة ماثيوز؛ يفصل لها جمال زوجته وتواضعها ووفاءها وحنانها وغير ذلك من صفاتها المثالية، ثم يقبل دعوة الآنسة ماثيوز له أن يشاركها فراشها، وينفق "أسبوعاً كاملاً في هذا الحديث المجرم (97) ". وفي مشاهد السجن هذه وغيرها من المشاهد اللاحقة، يفضح فيلدنج، ربما في شيء من المغالاة، نفاق الرجال والنساء وفساد الشرطة والقضاء ووحشية المساجين. ويجد القارئ هنا وصف سجون المدينين التي ستعمر قرناً آخر لتثير سخط دكنز. ويستطيع القاضي ثراشر أن يعرف جريمة سجين من لهجته الإيرلندية، "يا غلام، لسانك يشي بذنبك. فأنت إيرلندي، وهذا دائماً دليل كاف في نظري (98) ". ويتصاعد عدد الأوعاد مع كل فصل، حتى تصرخ أميليا لأبنائها الذين عضهم الفقر قائلة "سامحوني لأنني أتيت بكم إلى هذه الدنيا (99) ".
وأميليا، مثل جريزلدا، هي المثل الأعلى للمرأة الصبور كما تخيله فيلدنج. يكسر أنفها في أحد الفصول الأولى، ولكن جراحة الأنف تصلحه، وتعود جميلة جمالاً يغري بمحاولة العدوان على عرضها مرة في كل فصلين تقريباً. وهي تسلم بقصورها الفكري عن زوجها وتطيعه في كل شيء، إلا أنها ترفض الذهاب إلى حفلة تنكرية؛ وتحضر(35/284)
لحناً دينياً (أوراتوريو)، ولكنها تتعرض في تعريض نفسها لنظرات العابثين في فوكسهول. فإذا عاد بوث إليها بعد إحدى مغامراته الطائشة وجدها "تؤدي عمل الطاهي باللذة التي تستشعرها سيدة راقية في ارتداء ثيابها استعداداً لحفلة رقص (100) ". وتتلقى رسالة من الآنسة ماثيوز اللئيمة تش فيها بخيانة بوث لزوجته في السجن، فتمزق الرسالة وتكتم خبرها عن زوجها، وتظل تحبه رغم كل سكره وقماره وديونه وسجنه، وتبيع حليها الضئيلة الثمن، ثم ملابسها، لتطعمها وتطعم أطفالها. ولا تفت في عضدها أخطاؤه بقدر ما تفت فيه قسوة الرجال والأنظمة التي توقعه في شباكها. فلقد كان فيلدنج، شأنه في ذلك شأن روسو وهلفتيوس، يرى أن أكثر الناس طيبون بفطرتهم، وإن ما يفسدهم هو البيئات الشريرة والقوانين السيئة. وعند ثاكري أن أميليا "أكثر الشخصيات فتنة في القصص الإنجليزي (101) ". ولكن ربما لم تكن سوى حلم زوج. وفي النهاية تصبح أميليا بطبيعة الحال وارثة، وتعتزل هي وبوث في ضيعتها، ويستقيم حال بوث.
أما خاتمة الرواية فلا تكاد تبررها مقدماتها؛ فبوث يبقى بوث على الدوام. ولقد حاول فيلدنج أن يربط كل عقد حبكته في وحدة سعيدة، ولكن خفة يده هنا مكشوفة جداً، فلقد أدرك التعب هذا الروائي الفحل، وأثار تقززه جو اللصوص والقتلة الذي أحاط به. كتب بعد أن فزع من اميليا يقول "لن أزعج العالم بعد اليوم بمزيد من أطفالي الذين تلدهم لي ربة الأدب ذاتها". وفي يناير 1752 بدأ "مجلة كوفنت جاردن"، وكتب بعض المقالات القوية، ورد على نقد سمولت، وصوب طلقه إلى روايته "رودريك راندوم"، وفي نوفمبر ترك المجلة تموت. وكان شتاء 1753 - 54 أقسى من أن يحتمله بدنه الذي هده العمل والاستسقاء والصفراء والربو. وجرب ماء القار الذي نصبح به الأسقف باركلي، ولكن الاستسفاء استفحل، وأشار عليه طبيبة بالسفر إلى بلد أدفأ. ففي يونيو 1754 استقل سفينة تدعى "ملكة البرتغال" مع زوجته وابنته. وفي الطريق كتب "يوميات رحلة إلى لشبونة"، وهي من ألطف ما كتب. ومات في لشبونة في 8 أكتوبر 1754، ودفن هناك في الجبانة الإنجليزية.(35/285)
فما الذي أنجزه؟ لقد أرسي دعائم رواية السلوك الواقعية؛ ووصف حياة الطبقات الوسطى الإنجليزية وصفاً أنصع من أي وصف أتى به مؤرخ، وفتحت كتبه عالماً بأسره. ولكنه لم ينجح مثل هذا النجاح في الطبقات العليا، وكان عليه أن يقنع في هذا الميدان، كما قنع رتشاردسن، بنظرة الدخيل. ولقد عرف من حياة وطنه الجسد خيراً مما عرف الروح، ومن الحب جسده خيراً مما عرف روحه، وغابت عنه مقومات الخلق الإنجليزي الأكثر رهافة وخفاء. ومع ذلك فقد ترك بصمته على سمولت، وستيرون، ودكنز، وثاكري؛ لقد كان أباً لهم أجمعين.
جـ- طوبياس سمولت
1721 - 1771
لم يكن سمولت يحبه، لأنهما تنافسا على استحسان القراء في الميدان نفسه. وكان أصغر الرجلين اسكتلندياً وافق هيوم على التحسر لأن إنجلترا عاقت الطريق إلى فرنسا. ولكن جده كان قد شجع الاتحاد البرلماني مع إنجلترا عملياً (1707)، وكان عضواً في البرلمان المتحد. ومات الأب وطوبياس في الثانية من عمره، ولكن الأسرة أنفقت على تعليم الصبي في مدرسة دمبرتون الثانوية وفي جامعة جلاسجو حيث درس المقررات الممهدة لدراسة الطب. ولكنه بدلاً من أن يواصل الدرس حتى يحصل على درجته الطبية أدركته عدوى الكتابة، وهرع إلى لندن وجاريك، يحمل مأساة ضعيفة ألفها، ورفضها جاريك. وبعد أن جاع طوبياس فترة قصيرة التحق مساعداً لجراح في البارجة "كمبرلاند" وأبحر معها (1740) في الحرب التي نشبت مع أسبانيا بسبب "أذن جنكنيز". واشترك في الهجوم الأخرق على قرطاجنة المواجهة لساحل كولومبيا. وفي جميكا ترك الخدمة، وهناك التقى بنانسي لاسيل التي تزوج عقب عودته (1744) إلى إنجلترا. وسكن بيتاً في داوننج ستريت ومارس الجراحة، ولكن شهوة الكتابة غلبته، وكانت تجاربه في البحرية تطالبه على الأقل بقصة واحدة. لذلك نشر أشهر رواياته في سنة 1748.
أما هذه الرواية، واسمها "مغامرات رودريك راندوم"، فهي(35/286)
رومانسية التشرد القديمة، الحافلة بالأحداث الدائرة حول إحدى الشخصيات. ولم يعترف سمولت بأي فضل لفيلدنج، ولكنه اعترف بالفضل الكبير لسرفانتيس ولساج. وقد شده البشر وأفعالهم أكثر مما شدته الكتب والألفاظ، فحشد قصته بالأحداث وأضفى عليها نتانة الأقذار ولون الدماء، وملأها ناساً تفوح منهم رائحة الشخصية والحديث الفحل. وهذه الرواية من أقدم وأفضل مئات الروايات الإنجليزية التي كتبت عن البحر. ولكن قبل أن يجند رودريك في البحرية يختبر-كما اختبر صانعه-عينات من الفنادق الإنجليزية والأخلاق اللندنية. وما أكثر ما افتقدناه لأننا لم نجرب السفر في مركبات القرن الثامن عشر تلك والنزول في تلك الفنادق! -مسرح حافل بالأنفس المصطرعة والجنود المحتضرين، والقوادين والمومسات، والباعة الجوالين يحملون حزمهم ويخفون نقودهم، والرجال يقلبون المباول بحثاً عن الفراش الخطأ، والنساء يصرخن مستغيثات من مغتصب ثم تسكتهن النقود، وكل صعلوك يتظاهر بالعظمة، وكل إنسان يسب ويشتم. فالآنسة جني تخاطب البائع الجوال قائلة "أنت أيها الفاسق العريق في الزنا مائة في المائة" وتسأل الكابتن "لعنك الله يا سيدي، من أنت؟ ومن جعلك كابتناً أيها المتملق، القواد، كناس الخنادق الحقير؟ تباً لك! وويل للجيش إذا كان أمثالك من ضباطه (102) ".
وفي لندن يصبح رودريك (وهو هنا= سمولت) مساعداً لصيدلاني. ويفلت من الزواج حين يجد خطيبته في الفراش مع رجل آخر. "لقد أعطتني السماء من الصبر وحضور الذهن ما جعلني أنسحب فوراً، وشكرت حظي ألف مرة على هذا الكشف السعيد الذي عولت على الإفادة منه فأكف عن كل تفكير في الزواج مستقبلاً (103) " وهو يقنع بحياة الفسق، ويطلع على حياة البغايا وبلاويهن، ويعالج أمراضهن، ويندد بالدجاجلة الذين يبتزون مالهن، ويلاحظ أن المومس "مع كثرة شكوى الناس من أنها مصدر إزعاج تفلت من العقب بفضل مالها من نفوذ على القضاة، الذين تدفع لهم هي وجميع من يعملن في خدمتها تبرعات ربع سنوية لقاء حمايتهن (104) ".
ثم يفقد وظيفته لاتهامه باطلاً بالسرقة، ويتردى في مهاوي الفاقة حتى "لم أجد ملجأ ألوذ به غر الجيش والبحرية". ويعفيه من(35/287)
عذاب اتخاذ القرار عصابة لجمع المجندين بالقوة، تصرعه على الأرض فاقد الوعي وتجره إلى متن سفينة صاحب الجلالة "ثندر". ويستسلم لمصيره، ويصبح ضابطاً جراحاً. وبعد يوم واحد في البحر يدرك أن الكابتن أوكم ليس إلا وحشاً نصف مجنون، يلزم البحارة المرضي بالعمل ضناً منه بالمال حتى يموتوا. ويقاتل رودريك في قرطاجنة وتتحطم به السفينة، فيسبح إلى بر جميكا، ويصبح خادماً لشاعرة عجوز عليلة، ويقع "في حب" ابنة أخيها نارسيسا، "وداعبته الأحلام بأنه سيستمتع يوماً ما بهذه المخلوقة اللطيفة (105) ". وهكذا تجري القصة في تدفق سمولت اللاهث، بفقرات تتصل الواحدة منها ثلاث صفحات، في لغة بسيطة قوية بذيئة. وفي لندن يصادق رودريك مجموعة جديدة من الأصدقاء الغريبي الأطوار، بما فيهم الآنسة ميلندا جوستراب والآنسة بدي جرايبويل. ثم يمضي إلى باث بمزيد من مناظر مركبات السفر؛ هناك يلتقي بنارسيسا الحلوة ويظفر بمحبتها له، ثم يفقدها، ويشتبك في مبارزة ... ويعود إلى البحرية جراحاً، ويبحر إلى غينيا (حيث "يشتري" قبطان سفينة أربعمائة عبد ليبيعهم في بارجواي "بربح كبير")، ثم يعود إلى جميكا، حيث يجد أباه الذي فقده منذ أمد طويل وأصبح الآن ميسور الحال، ويعود إلى أوربا ثم إلى نارسيسا، فيتزوجان ويعود بها إلى إسكتلندة وضيعة أبيه؛ أما نرسيسا "فيبدأ خصرها يستدبر بشكل ملحوظ". وأما رودريك:
"فإذا كان على الأرض شيء يسمى السعادة الحقة فأني استمتع بها. لقد سكتت الآن اضطرابات عاطفتي العاصفة ولانت في حنان الحب وهدوئه، بعد أن رسخ جذورها ذلك الاتصال الحميم والتعاطف القلبي الذي لا يجود به غير رباط الزوجية الطاهر".
وراجت رواية رودريك راندوم. وأصر سمولت الآن على نشر مسرحيته "قاتل الملك" مشفوعة بمقدمة محق فيها أولئك الذين رفضوها من قبل؛ وقد دأب على أن يطلق العنان لطبعه الحاد في خلق الأعداء. وذهب إلى أبردين في 1750 وتسلم درجة الطب، ولكن شخصيته كانت عقبة في طريق مارسته الطب، فانكفأ إلى الأدب. وفي 1751 أصدر "مغامرات بريجرين بيكل". وهنا، كما في راندوم، دعا العنوان(35/288)
القارئ لجولة من الأحداث المثيرة في حياة جوابه؛ ولكن سمولت وقع الآن على عرق من الفكاهة اللاذعة في أنجح شخوصه، ذلك هو الكومودور ترنيون، الذي يصفه بأنه "سيد من طراز غاية في الغرابة" كان "مقاتلاً مغواراً في زمانه، وفقد عيناً وعقباً في الخدمة العسكرية (106) " وهو يصر على أن يقص للمرة التاسعة كيف قصف بالمدافع بارجة فرنسية تجاه رأس فنستير. ويأمر خادمه توم بابير بأن يؤمن على كلامه، وهنا "فتح توم فمه كأنه سمكة "قد" لاهثة، وبإيقاع أشبع بعصف الريح الشرقية تصفي في شق" فاه بالتأييد المطلوب (وقد رأى فيه ستيرن هنا آثاراً طفيفة من العم توبي والجاويش تريم).
ويواصل سمولت مرحه خلال وصف صاخب لمسز جريزل وهي تخطب ود الكومودور الذي يتوسل إليه مساعده ذو الساق الواحدة، جاك هانشواي، ألا يسمح لها بأن "تجره تحت مؤخر سفينتها" لأنها "متى أحكمت وثاقك إلى مؤخرها، انطلقت والله حثيثاً، وجعلت كل عرق من عروق جسدك ينشق من الشد". ويطمئنه الكومدور قائلاً "لن يرى إنسان هوسر ترنيون طريحاً في مؤخر السفينة في ذيل أي-في العالم المسيحي (107) " على أن مختلف الخطط والمكائد تحطم عفته؛ فيوافق على أن "يثبت مركبه بمرساة" أي يتزوج، ولكنه يمضي إلى رباط الزوجية "كمجرم ماض إلى إعدامه ... وكأنه يخشى في كل لحظة من تحلل عناصر الطبيعة". ويصر على أن يكون فراش زواجه أرجوحة شبكية، فتنهار تحت ثقل الجسدين، ولكن هذا لم يقع إلا بعد أن "ظنت السيدة أن هدفها العظيم قد تحقق، وسلطانها أصبح مكفولاً أمام جميع صدمات الحظ". على أن هذا التلاحم بين جسدين ينتهي بغير ثمر، فتنكفئ المسز ترنيون إلى البرندي و "فروض الدين التي راحت تؤديها بصرامة تفيض حقداً".
وقد صور السر ولتر سكوت سمولت في أربعيناته بأنه "وسيم جداً، جذاب الملامح، وحديثه-بشهادة كل أصدقائه الباقين على قيد الحياة-منير ومسل غلى أبعد حد (108) ". وأجمع الناس على أنه رجل حاد الطبع في حديثه. قال يصف السر تشارلز نولز أنه "أميرال بغير إرادة، ومهندس بغير معرفة، وضابط بغير عزيمة، ورجل بغير(35/289)
السجن ثلاثة أشهر، وغرامة قدرها مائة جنيه (1757). على أن حدة طبعه كانت ترافقها فضائل كثيرة، فقد كان كريماً رحيماً، أعان فقراء المؤلفين، وأصبح كما قال السر ولتر "أباً شديد التعلق بأبنائه، وزوجاً محباً لزوجته (110) ". وكان منزله في لورنس لين بحي تشلسي ملتقى لصغار الكتاب الذين كانوا يصيبون من طعامه وإن لم يتبعوا نصائحه؛ وقد نظم بعضهم في فرقة من المساعدين الأدبيين. وكان رائداً بين الناشرين (ودرايدن بين الشعراء)؟) في إلزامه تجار الكتب بتأييده في شرط يليق بعبقريته. وكان أحياناً يكسب ستمائة جنيه في العام، ولكن كان عليه أن يكد ويكدح ليكسبها. وكتب ثلاث روايات أخرى، اثنتان منها لا تستحقان الذكر. وأقنع جاريك بأن يخرج تمثيليته "العقاب"، التي نجحت بفضل هجماتها على فرنسا؛ ثم كتب لعدة مجلات مقالات تتسم بروح التحرش والمشاكسة؛ ورأس تحرير صحيفة "البريطاني" لسان حال المحافظين. وترجم جيل بلاسي، وعدة مؤلفات لفولتير، ودون كخوته (مستعيناً بترجمة سابقة)، وكتب-أو أشرف على كتابة-تاريخ لإنجلترا من تسعة مجلدات (1757 - 65). ومن المؤكد أنه استخدم "مصنعه الأدبي" المؤلف من الكتاب المأجورين في جراب ستريت ليصنف "تاريخاً للعالم" وكتاباً ذات ثمانية مجلدات اسمه "الحالة الراهنة للأمم".
وحين بلغ الثانية والأربعين عام 1763، كان قد دفع باعتلال صحته ثمن حياته المتطلعة، الحافلة بالمغامرة والجهد والشجار والكلام. ونصحه طبيبه بأن يستشير أخصائياً في مونبلييه يدعى الدكتور فيز. فمضي إليه، وأخبر الأخصائي أن ربوه، وسعاله، وبصاقه الصديدي، دليل على إصابته بالسل، واذكره العودة إلى رطوبة إنجلترا وخضرتها، فقد ظل عامين في القارة، يغطي نفقاته بكتابة "رحلات في فرنسا وإيطاليا" (1766)، وقد أبدى هنا، كما أبدى في رواياته، تلك النظرة الحادة اللماحة التي ترى سمات خلق الأفراد والأمم ومميزاته؛ ولكنه تبل أوصافه بالشتائم الصريحة. وأخبر سائقي مركبات السفر، وزملاءه المسافرين، وأصحاب الفنادق، والخدم، والأجانب المتحمسين لأوطانهم، رأيه فيهم دون مواربة؛ واعترض على كل فاتورة حساب، وحطم الفن الفرنسي والإيطالي، وسخر من الكاثوليكية، وحكم على(35/290)
الفرنسيين بأنهم لصوص جشعون لا يغفلون دائماً سرقاتهم بغلاف من الأدب والكياسة. استمع إليه يقول:
"لو أن فرنسيا أدخل إلى أسرتك .. لكان أول رد له على مجاملاتك أن يطارح زوجتك الغرام إذا كانت جميلة؛ وإلا فأختك، أو ابنتك، أو ابنة أخيك أو أختك ... أو جدتك ... فإذا كشف أمره ... صرح في صفاقة بأن ما صنعه لم يكن سوى تودد لا غبار عليه، مما يعد في فرنسا من مقومات التربية الحسنة (111) ".
وعاد سمولت إلى إنجلترا وقد تحسنت صحته كثيراً، ولكن عله عاودته في 1768، فحاول الاستشفاء في باث. غير أنه وجد مياهها عديمة الجدوى له، وهواءها الرطب خطراً عليه؛ وفي 1769 عاد إلى إيطاليا. وفي فيللا قرب لجهورن كتب آخر كتبه وأفضلها وهو "رحلة همفري كلنكر" وفي رأي ثاكري أنه "أفكه قصة كتبت منذ ذلك الفن الجميل، فن كتابة الروايات (112) ". وهو ولا شك أمتع وألطف كتب سملت إذا استطعنا أن نطيق شيئاً من القذر. وفي مطلع القصة تقريباً نلتقي بالدكتور-الذي يتحدث عن الروائح "الطيبة" أو "الخبيثة" باعتبارها ميولاً ذاتية خالصة" لأن كل شخص يزعم أنه يتقزز من رائحة إفرازات شخص آخر يستنشق رائحة إفرازاته هو برضا تام، وقد ناشد جميع الحاضرين من السيدات والسادة هناك أن يشهدوا على صدق قوله (113) "، ويلي ذلك صفحة أو اثنتان من شروح أشد لذعاً وحرافة حتى من هذه. وبعد أن تخفف سمولت من هذه اللقمة، عمد إلى اختراع سلسلة مرحة من الشخوص، يواصلون الحكاية بخطاباتهم في أسلوب غاية في العجب والإمتاع، وعلى رأسهم ماثيو برامبل وهو "سيد عجوز" وعزب عصي، ينطقه سمولت بآرائه. وهو يذهب إلى باث للاستشفاء، ولكنه يجد خبث رائحة مياهها أشد وقعاً في نفسه من قوتها الشافية. وهو يكره زحام الجماهير، ويغمى عليه مرة من رائحتهم المتجمعة، ولا يطيق هواء لندن الملوث، أو أطعمتها المغشوشة. يقول:
"إن الخبز الذي آكله في لندن عجين مؤذ اختلط بين الجير والشب(35/291)
ورماد العظام؛ غث المذاق مدمر للجسم. ولا يجهل القوم الطيبون هذا الغش ولكنهم يفضلونه على الخبز الصحي، لأنه أكثر بياضاً ... وهكذا يضحون بمذاقهم وصحتهم ... والطحان أو الخباز مضطر إلى تسميمهم ... ومثل هذا الفساد الشديد يظهر في لحم العجول الذي يأكلونه، والذي يبيضون لونه باستنزاف دمه مراراً وتكراراً، وبغير هذا من الوسائل الخبيثة؛ وقياساً على هذا يصح للمرء أن يتناول غذاءه بمثل هذا الاطمئنان من قطعة محمرة من قفاز جلد الماعز .. .. ولن تصدقوا أن الجنون بلغ بهم أن يسلقوا خضرهم ومعها قطع نحاسية من نصف البنس لينضروا لونها (114) ".
وعليه يهرع ماثيو عائداً إلى ضيعته الريفية، حيث يستطيع أن يتنفس ويأكل دون أن يعرض حياته للخطر. وفي طريقه إليها، بعد أن انتهى ربع القصة، يلتقط غلاماً ريفياً فقيراً في أسمال بالية يدعة همفري كلنكر "كانت نظراته تنبئ بالجوع، ولم تكد الخرق التي يلبسها تستر ما يقتضي اللياقة إخفاءه". ويعرض هذا الصعلوك أن يسوق العربة، ولكن حين يتربع على مقعد السائق العالي تنشق سراويله العتيقة، وتشكو المسز طابيثا برامبل (أخت ماثيو) من أن همفري "جرؤ على أن يؤذي بصرها بإبداء أردافه العارية". ويكسو ماثيو الصبي، ويلحقه بخدمته، ويحتمله بصبر حتى حين يصبح الفتى واعظاً مثودياً عقب سماعه جورج هوايتفيلد.
ويبدو جانب آخر من الموقف الديني في المستر-الذي يقابله برامبل في سكاربرو، والذي يفاخر بأنه تحدث إلى فولتير في جنيف "عن تسديد اللطمة القاضية لخرافة المسيحية (115) " ويدخل خارجي آخر اسمه الكابتن لزماها جو القصة في درم-"رجل طويل هزيل، يتفق مظهره هو وحصانه مع وصف دون كخوته ممتطياً جواده روزنانتي". وقد عاش بين هنود أمريكا الشمالية، وهو يقص في لذة كيف أن هؤلاء الهنود قد شووا على النار مرسلين فرنسيين لقولهما أن الله سمح لابنه "أن يدخل أحشاء امرأة، ويعدم كما يعدم المجرمون"، ولأنهما زعما أنهما يستطيعان "تكثير الله إلى ما لا نهاية بالاستعانة بقليل من الدقيق والماء" وكان لزماهاجو "يكثر استعمال ألفاظ مثل(35/292)
العقل، والفلسفة، وتناقض الحدود؛ وقد أنكر خلود نار الجحيم. بل قذف بعض مفرقعاته عقيدة خلود الروح قذفاً شيط شوارب إيمان السيدة طابيثا قليلاً (116) ".
ولم يكتب لسمولت أن يرى "همفري كلنكر" مطبوعة. ففي 17 سبتمبر 1771 مات في فيللته الإيطالية غير متجاوز الخمسين، بعد أن خلق من الأعداء والشخصيات الحية أكثر مما خلقه أي كاتب آخر في زمانه. ونحن نفتقد فيه ما نجده في فيلدنج من ابتهاج وتقبل صحي للحياة وبناء للحبكة فيه جهد وعناية، غير أن في سمولت حيوية عارمة، وفيه رنين ورائحة مدن بريطانيا ومراكبها وطبقتها الوسطى، وحكايته ذات الأحداث المترابطة البسيطة تتدفق بحرية وحيوية أكثر دون أن يعوقها عائق من المواعظ .. ورسم الشخوص أقل لفتاً للنظر في فيلدنج، ولكنه أكثر تعقيداً. وكثيراً ما يقنع سمولت بتكديس السمات المميزة للأفراد بدلاً من ارتياده للتناقضات والشكوك والتجارب التي تصنع الشخصية. وهذا الأسلوب في تمييز الأفراد-بالمبالغة في خصيصة ما باعتبارها "لازمة" في كل شخص-انتقل إلى دكنز، الذي واصل بمذكرات بكوك الرحلة التي بدأها ماثيو برامبل.
هؤلاء الكتاب-رتشردسن وفيلدنج وسمولت-إذا أخذناهم معاً، وجدناهم يصفون إنجلترا منتصف القرن الثامن عشر وصفاً أكمل وأدق من أي وصف أتى به مؤرخ أو جميع المؤرخين-الذين يضلون طريقهم وسط الشذوذات. فكل شيء موجود هنا، اللهم إلا تلك الطبقة العليا التي أخذت عن فرنسا عاداتها ومستعمراتها. هؤلاء الروائيون أدخلوا الطبقات الوسطى دخول الظافرين إلى ميدان الأدب، كما أدخلهم ليللو إلى الدراما، وجاي إلى الأوبرا، وهوجارث إلى التصوير. لقد خلقوا الرواية الحديثة وتركوها تراثاً لا يباري.
6 - الليدي ماري
بهذا اللقب ألفت إنجلترا أن تلقب ألمع الإنجليزيات في جيلها، المرأة التي دخلت تاريخ الآداب والعادات بهجومها على التقاليد التي حبست جنسها، ودخلت تاريخ آداب اللغة بكتابتها رسائل تنافس رسائل مدم دسفينييه.(35/293)
وقد حظيت بظروف مواتية للانطلاق؛ فهي حفيدة السر جون ايفلين، وابنه ايفلين بييربونت الذي انتخب عضواً بالبرلمان سنة مولدها (1689)، والذي ورث عقب ذلك ضيعة غنية ولقب ايرل كنجزتن، ومن هنا لقبت ابنته بـ "ليدي ماري" منذ طفولتها. أما أمها، الليدي ماري فيلدنج، كان أبوها ايرلاً، وابن عمها هو الروائي المعروف. وماتت الأم وبطلتنا لا تتجاوز الرابعة من عمرها. وأرسل الأب أطفاله إلى أمه لتكفلهم، فلما ماتت عادوا إلى مقره الريفي المترف، ثورزبي بارك، في مقاطعة نوتنجهامشير، وكانوا يعيشون أحياناً في منزله اللندني في بيكاديللي. وكان شديد التعلق بماري التي اختارها "نخباً" (أي شخصاً يشرب نخبه) للعام في نادي الكيت كات؛ هناك كانت تنتقل من حج إلى حجر، وتبدي ذكاءها في شيطنة. وقد علمت نفسها في مكتبة أبيها بمعاونة مربيتها، فكانتا تتفقان هناك أحياناً ثماني ساعات في اليوم، تستوعبان الرومانسيات الفرنسية، والتمثيليات الإنجليزية. والتقطت بعض الفرنسية والإيطالية، وعلمت نفسها اللاتينية بالاستعانة بـ "تحولات" الشاعر أوفيد .. وكان أديسون وستيل وكونجريف يختلفون إلى البيت، ويشجعونها على الدرس، ويحفزون ذهنها المتطلع. ونحن نعرف، من مصدر وحيد هو مصدرها هي، أن إلمامها بالآداب اللاتينية هو الذي جذب إليها اهتمام إدوارد ورتلي.
وكان حفيداً لإدوارد مونتاجيو، أول ايرل لساندوتش، واتخذ أبوه سني مونتاجيو اسم ورتلي عند زواجه بوارثة ذلك اللقب. وكان إدوارد حين التقى بماري (1708) -وهو في الثلاثين-رجلاً ذا شأن وتطلعات كبيرة، تزود بتعليم جامعي، ودعي لاحتراف المحاماة في الحادية والعشرين، وظفر بكرسي في البرلمان وهو في السابعة والعشرين. وهو لا يدري كيف بدأ توددها إليه، ولكن هذا التودد أحرز شيئاً من التقدم، لأنها اكتتبت له في 28 مارس 1710 تقول:
"اسمح لي بأن أقول هذا (وأنا عليمة بأن قولي قد يبدو غروراً)، وهو أني أعرف كيف أسعد رجلاً معقولاً؛ ولكن على ذلك الرجل ... أن يسهم هو نفسه بشيء في هذا ... وهذه الرسالة ... هي أولى رسالة كتبتها في حياتي لإنسان من جنسك، وستكون الأخيرة. فعليك ألا تتوقع رسالة أخرى على الإطلاق (117) ".(35/294)
وأفلحت استراتيجتها المتأنية. فلما مرضت بالحصبة أرسل إليها رسالة قصيرة كانت أحر مما ألف أن يرسل: "كان يفرحني كثيراً أن أسمع بن حسنك قد أوذي جداً لو كنت أسر بأي شيء يسوءك، لأن من شأن هذا أن يقلل عدد المعجبين بك (118) ". ودفع جوابها حملتها خطوة أخرى "إنك تظن أنني-لو تزوجتني-سأهيم بحبك شهراً، ويحب آخر في الشهر التالي، ولكن لن يحدث هذا ولا ذاك. ففي استطاعتي أن أقدر إنساناً، وأن أكون صديقة لإنسان، ولكنني لا أدري أأستطيع أن أعشق (119) ". ولعل هذه الصراحة جعلته يتريث، لأنها كتبت في نوفمبر "تقول إنك لم تستقر على رأي بعد، فدعني أقرر نيابة عنك، وأعفيك من مشقة الكتابة ثانية. وداعاً غلى الأبد! لا ترد (120) ". وعادت تكتب في فبراير 1711 لتقول له "هذه آخر رسالة أبعث بها (121) ". واستأنف تودده إليها، فتقهقرت، وأغرته بالمطاردة الحثيثة. وتدخلت الاعتبارات المالية واعتراض الأب، فدبرا الهرب، وإن كان معنى هذا ألا تتوقع مهراً من أبيها. وأنذرت ورتلي إنذاراً أميناً "فكر الآن لآخر مرة بأي طريقة يجب أن تأخذني. سأحضر إليك بقميص نومي وتنورتي، وذلك كل ما ستحصل عليه معي (122) " والتقيا في نزل، وتزوجا في أغسطس 1721، وبعدها لقبت بالليدي ماري ورتلي مونتاجيو، هذا الاسم الأخير اتخذته من نسب زوجها، ولكن لما كان ابناً لابن ثان للأسرة (غير البكر)، فقد ظل اسمه إدوارد ورتلي دون ألقاب شرف.
وما لبثت دواعي العمل والسياسة أن نقلته إلى درم ولندن، بينما تركها بدخل متواضع جداً في عدة بيوت في الريف انتظاراً لوصول وليدها. وفي أبريل لحقت بورتلي في لندن، وهناك وُلد طفلها الأول في شهر مايو. على أن سعادتها كانت قصيرة الأجل، فقد رحل زوجها سعياً لإعادة انتخابه في البرلمان، وما لبثت أن أخذت تشكو الوحدة؛ لقد تطلعت إلى شهر عسل حالم، وتطلع هو إلى مقعد في البرلمان جديد. وأخفقت حملته الغالية التكلفة، ولكنه عين عضو لجنة صغيراً. واستأجر بيتاً قرب قصر سانت جيمس، وهناك، في يناير 1715، بدأت الليدي ماري غزوها للندن.(35/295)
وقد خبرت فيها دوامة الحياة الاجتماعية. فكانت تستضيف الأصحاب أيام الاثنين، وتختلف إلى الأوبرا أيام الأربعاء، وإلى المسرح أيام الخميس. وتزور وتزار، وترفرف حول بلاط جورج الأول، ومع ذلك ظفرت برضي الأميرة كارولين. وصادقت الشعراء، وتبادلت النكت الذكية مع بوب وجاي. وافتتن بوب ببديهتها الحاضرة، ونسي لحظة احتقاره للجنس الأنعم، وصفق لجهودها في تعليم البنات، وأهداها بعض قوافيه التي نظمها في هرولة:
"في الحسن أو الذكاء
لم يجرؤ بشر بعد
أن يشك في علو كعبك،
ولكن من الرجال ذوي الفطنة
من رأي أن التسليم لسيدة
في أمور العلم أمر عسير.
إن المدارس الوقحة،
بقواعدها الغبية البالية،
أنكرت التعليم على الإناث،
وكذلك ينكر البابويون
على الناس قراءة الكتاب المقدس
مخافة أن تغدو الرعية حكيمة كراعيها.
إن المرأة كانت أول
من ذاق لذة المعرفة
(رغم أنها لعنت)
ويجمع الحكماء
على أن القوانين يجب أن تقضي
بالحق لأول مالك.
إذن فاستأنفي أيتها السيدة الحسناء
في جرأة ذلك الحق القديم(35/296)
الذي هو مطلب جنسك كله؛
واجعلي الرجال يتلقون
على يد حواء ثانية ذكية
معرفة الخير والشر.
ولكن إذا كانت حواء الأولى
قد عوقبت عقاباً صارماً
لأنها لم تقطف غير تفاحة واحدة،
فأي عقاب جديد
يقضي به عليك،
يا من سرقت الشجرة كلها بعد أن ذقت حلاوتها (123)؟ "
وكتب جاي الآن نشيداً رعوياً سماه "التبرج" هجا فيه بعض أعلام لندن تحت أسماء زائفة شفافة. وشاركت الليدي ماري في هذه اللعبة. وبمساعدة بوب وجاي نظمت نشيدين رعويين نافست أبياتهما الزوجية البتارة أبيات الشاعرين رشاقة ولذعاً. ولم تنشر هاتين القصيدتين، ولكنها سمحت بتداول نسخ مخطوطة منهما بين الأصدقاء-واكتسبت الآن شهرة بأنها قريع بوب بين النساء، امرأة تحذق فنون القلم والقوافي والسخرية الموجعة.
على أنها في ديسمبر 1715 كابدت لطمة أوجع من سهامها. ذلك أن الجدري الذي قتل من قبل أخاها هاجمها هجوماً قاسياً حتى شاع أنها ماتت. وقد نجت من الموت، ولكن وجهها تشوه ببثور الجدري، ورموشها سقطت، ولم يبق غير عينيها السوداوين النجلاوين أثراً من ذلك الجمال الذي اعتمدت عليه في دفع زوجها إلى الأمام. ومع ذلك ظفر ورتلي بالمكافأة، ففي أبريل 1716 عين "سفيراً فوق العادة" في البلاط العثماني، وابتهجت الليدي ماري، فلقد حلمت بالشرق مرتعاً للأحلام والشعر، وحتى وهي في صحبة زوجها قد تجد الرومانس في الآستانة أو في الطريق إليها. وكتب لها بوب وقد طاف هذا الحلم(35/297)
بخياله كذلك، في أول يوليو، رسالة أشرفت على شفا الغرام بأسلوب أنيق:
"لو خطر لي أنني لن أراك ثانية لقلت هنا أشياء ما كنت لأقولها لشخصك. فما أريد أن أتركك تموتين مخدوعة فيَّ، أي تذهبين إلى الآستانة دون علم بأنني، بشيء من المبالغة، وبغاية التعقل أيضاً، يا سيدتي".
ثم وقع بالتحية المنمقة المألوفة، تحية العبد الخاضع المطيع (124).
وفي أول أغسطس، عبر ورتلي وماري وابنهما البالغ ثلاث سنين ورهط من الخدم والحشم البحر إلى هولندا. ومروا بكولونيا إلى ريجنزبرج، حيث أبحروا على ذهبية يجدف فيها اثنا عشر ملاحاً مروراً بقمم جبلية تعلوها القلاع. وفي فيينا وجدت رسالة من بوب يقدم فيها قلبه ويؤكد لها:
"لا لأني أرى في كل إنسان متجرد مشهداً رائعاً مثلك أنت وقلة أخرى من الناس ... في وسعك أن تتخيلي بسهولة مبلغ رغبتي في مراسلة شخص علمني منذ أمد بعيد أن الاحترام من أول نظرة محال كالحب، وأفسد عليَّ من ذلك الحين لذة كل حديث مع أحد الجنسين، وكل صداقة مع الجنس الآخر تقريباً .. لقد فقدت الكتب تأثيرها عليَّ، وآمنت منذ رأيتك أن هناك شيئاً أقوى من الفلسفة، وأن هناك، منذ سمعتك، إنساناً حياً هو أحكم من جميع الحكماء (125) ".
ولكنه أضاف أمله بأن تكون سعيدة مع زوجها، وردت عليه قائلة:
"ربما ضحكت مني لشكري إياك بكل وقار عن اهتمامك المتفضل الذي أعربت عنه. ومن المؤكد أنه يحق لي، أن شئت أن أحمل الأشياء الجميلة التي قلتها لي على محمل الفكاهة والمزاج، وربما كان حملي(35/298)
لها على هذا المحمل صواباً. ولكنني لم أكن في حياتي ميالة ولو نصف ميلي الآن لتصديقك (126) ".
وفي 3 فبراير 1717 بعث لها بوب بتصريح آخر يبوح فيه بحبه العميق، محتجاً على اعتباره إياه "صديقها فقط". واحتفظت ماري بهذه الرسائل لنفسها، سعيدة بأنها حركت حطام أحد الشعراء الأحياء.
وبلغت الجماعة الآستانة في مايو. وهناك عكفت ماري على تعلم التركية بعزيمة ماضية، وبلغت من ذلك مبلغاً أتاح لها فهم الشعر التركي والإعجاب به، واتخذت الثياب التركية، وزارت النساء في الحريم، ووجدتهن أرقى من خليلات جورج الأول. ولاحظت ممارسة التطعيم في تركيا بشكل منتظم وناجح وقاية من الجدري، وطعم الدكتور ميتلاند الجراح الإنجليزي في الآستانة ولدها بناء على طلبها. ورسائلها من تلك المدينة لا تقل فتنة عن أي رسائل في هذا الجانب من جوانب مدام دسفنييه، أو هوراس ولبول، أو ملشيور جريم. ولم تنتظر حتى يخبرها إنسان بأنها أدب، فلقد كتبت بهذا التطلع، وقال لأصدقائها "أن أحدث اللذات التي صادفتها في طريقي هي رسائل مدام دسفنييه، جميلة جداً هذه الرسائل، ولكني أؤكد، دون أدنى غرور، أن رسائلي لن تقل عنها إمتاعاً بعد مضي أربعين سنة من الآن. لذلك أنصحكم بألا تقذفوا بأي منها في سلة المهملات (127) ".
واتصلت رسائلها مع بوب. فتوسل إليها أن تأخذ تأكيداته مأخذ الجد، ولكن نبرته كانت مزيجاً محيراً من المزاح والحب. وقد تصور تركيا في خياله الشاطح "بلد الغيرة، حيث لا تتحدث النساء التعسات مع أحد إلا الخصيان، وحيث يؤتى لهن بالطعام، -حتى الخيار-مقطعاً". ثم أضاف وهو يفكر في تشوه جسده محزوناً "أنني شخصياً قادر على أن أتبع إنساناً أحببته، لا إلى الآستانة فحسب، بل إلى أرجاء الهند التي يقولون لنا أن النساء فيها يعظم حبهن لأقبح الرجال صورة، ... ويرين في التشوهات دلائل الرضي الإلهي". ويقول إنه سيعتنق الإسلام إن اعتنقته ويصحبها إلى مكة، وأنه لو وجد التشجيع(35/299)
صدق (109) ". وأقام عليه الأميرال دعوى القذف، فكابد سمولت الكافي لالتقى بها في لمباردية، "مسرح تلك الغراميات المشهورة بين الأميرة الجنية وقزمها (128) ". فلما علك أنها عائدة إلى أرض الوطن هزه الطرب حتى كاد ينتش: "أكتب وكأنني ثمل، فاللذة التي أجدها في التفكير في عودتك تطريني فوق حدود التعقل واللياقة ... تعالي بالله، تعالي يا ليدي ماري، تعالي سريعاً! (129) ".
وأخفقت بعثة ورتلي، ودعي للعودة إلى لندن. ونحن نقرأ عينة من أسفار القرن الثامن عشر في رحيلهم من الآستانة في 5 يونيو 1718 ووصولهم إلى لندن في 12 أكتوبر. هناك عاودت الليدي ماري حياتها في البلاط ومع الأدباء والظرفاء، ولكن بوب الذي كان الآن عاكفاً على ترجمة هومر، كان مشغولاً في ستانتون هاركورت. على أنه انتقل في مارس 1719 إلى تويكنهام، وفي يونيو وجد ورتلي والليدي ماري بمعونته بيتاً هناك أيضاً باعه لهما السر جودفري نللر. وعقب ذلك دفع بوب لنللر عشرين جنيهاً ليرسم لها صورتها (130). وقد أجاد نللر رسمها مع أنه كان في الرابعة والسبعين. فاليدان رائعتان، والوجه يكاد يكون شرقياً كلباس الرأي التركي، والشفتان ممتلئتان امتلاءً شهوانياً، والعينان نجلاوان سوداوان لا تزالان تخلبان الألباب-وقد أشاد بهما جاي في أبيات في هذه الفترة. وعلق بوب اللوحة في حجرة نومه، وخلدها في قصيدة بعث بها إليها:
"البسمات اللعوب حول الفم المغمّز،
وسيماء الجلال والصدق السعيدة،
ونظير هذا من تألق في الذهن الرفيع
حيث اجتمعت كل المفاتن والفضائل،
علم في تواضع، وحكمة في اعتدال،
عظمة في غير تكلف، وذكاء في غير ادعاء (131) ".
في ذلك العام بلغ نجمها أوجه، وبدأت الكوارث التي ابتليت بها. ذلك أن زائراً فرنسياً يدعى توسان ريمون أودع عندها ألفين من الجنيهات لتستثمرها على الوجه الذي تستصوبه. فاشترت بها أسهماً(35/300)
من شركة بحر الجنوب بناء على نصيحة بوب، ولكن الأسهم هبطت هبوطاً مدمراً، فأصبح الألفان خمسمائة، فلما أنهت الأمر إلى ريمون اتهمهما بسرقة ماله (1721). وفي السنة نفسها هدد حياة ابنتها التي ولدتها في 1718 وباء جدري أصابها، فأرسلت في طلب الدكتور ميتلاند الذي كان قد عاد من الآستانة، فطعم الفتاة بناء على طلبها. وسنرى في مكان لاحق تأثير هذا المثل على الطب البريطاني قبل جنر.
وفجأة، في 1722، انهارت صداقتها لبوب. كانا إلى شهر يوليو يلتقيان في كثرة أثارت القيل والقال في تويكنهام. ولكن في سبتمبر بدأ يكتب الرسائل الودية إلى جوديث كوبر، ذكر فيها على سبيل تعزيتها، أن هناك اضمحلالاً واضحاً في "ألمع ذكاء في العالم". وزعمت الليدي ماري أن بوب قد أباح لها بحبه في حرارة، وأنه لم يغتفر لها قط الاستخفاف التي قابلت به هذه المغامرة الجريئة (132). ولزم الصمت برهة، ولكنه كان بين الحين والحين يرهف شعره في مناسبات بسهام يستشفها القارئ بسهولة. ولما كتبت لصديق تذكر أن سويفت وبو وجاي هم الذين اشتركوا في كتابة قصيدة غنائية شعبية ظن الصديق أنها من نظمها، بعث إليها بوب بتوبيخ حاد؛ وفي قصائده "المنوعات" التي نشرها في 1728 أذاع هذا التوبيخ بوضوح صارخ:
"تلك ألاعيبك يا ليدي ماري،
ولكن ما دمت تفقسين، فاعترفي بأفراخك،
وكوني أكثر حذقاً في نقراتك،
فلا تنقري كبار ديوكك كما تفعلين بصغارها (133) ".
وفي قصيدة سماها "التقليد" (1733) أشار إلى "سافو الهائجة .. .. التي ابتلاها حبها بمرض ... " وهو يعني أن عشيقها أصابها بالزهري (134). ويقول هوراس ولبول أنها هددت بأن ترسل إليه من يضربه بالسوط.
وكانت هذه المشاحنة القبيحة ضربة أخرى أعانت على انهيار زواجها. ذلك أن ورتلي بعد أن استعاد مكانه في البرلمان تركها مهملة(35/301)
إهمالا واضحاً في تويكنهام. وقد جعلت موت أبيه (1727) رجلاً عريض الثراء، فزودها بحوائجها المادية، ولكنه تركها لمواردها الخاصة في شئون الحب. وأخذ ابنها يثبت أنه وغد كسول. أما ابنتها التي غدت امرأة ذكية مهذبة فكانت سلواها الوحيدة. وحاول اللورد هرفي أن يحتل مكان بوب في حياتها، ولكن كان في طبيعة جسمه ما جعله لا يستطيع أن يغتفر لها، ولا لزوجته، كونها امرأة. ولا بد أنه عرف بتقسيم الليدي ماري النوع الإنساني إلى رجال، ونساء، وهرفيين (135).
وفي 1736 دخل نيزك إيطالي فلكها وغير مساره. ذلك هو فرانتشسكو الجاروتي، الذي ولد بالبندقية في 1712، وكان قد أثار بعض الضجة في دنيا العلم والأدب الخالص. وفي 1735 كان ضيفاً في بيت فولتير ومدام دشاتليه في سيريه حيث درس ثلاثتهم نيوتن. ثم قدم إلى لندن بخطابات تعريف من فولتير، واستقبل في البلاط، والتقى بهرفي وبالليدي ماري على طريقه. ووقعت في غرامه كما لم تقع قط في غرام ورتلي لأن قلبها كان خالياً، ولأنه كان جميلاً، ذكياً، شاباً. وكانت ترتعد حين يخطر لها أنها في السابعة والأربعين وأنه في الرابعة والعشرين. وبدا أن طريقها إلى الرومانس قد غدا ممهداً من زواج ابنتها بايرل بيوت (أغسطس 1736). فلما سعت أن الجاروتي عائد إلى إيطاليا أرسلت إليه خطاباً يفيض بعاطفة الصبايا المشبوبة:
"لم أعد أعرف بأي طريقة أكتب إليك. فمشاعري أقوى مما ينبغي، وليس في طاقتي أن أفسرها ولا أن أخفيها. فلكي تغتفر لي رسائلي يحب أن تجيش في صدرك حماسة كحماستي. وأنني لأرى كل ما في هذا من حماقة دون أي أمل في إصلاح نفسي. فمجرد فكرة مشاهدتك أعطتني نشوة تذيبني، فماذا جرى لتلك اللامبالاة الفلسفية التي صنعت مجد أيامي الماضية وهدوءها؟ لقد فقدتها غلى الأبد، ولو أن هذا الغرام المشبوب شفى لما رأيت أمامي غير الملل القاتل. فاغفر هذا الشطط الذي كنت السبب فيه، وتعال لتراني (136) ".
وأتى، وتناول العشاء معها عشية رحيله. وكان هرفي قد دعاه أيضاً، فلم يلب دعوته. فجن من الغيرة، وكتب إلى الجاروتي طعناً(35/302)
مراً في الليدي ماري، منبهاً إياه إلى أنها كانت تذيع على لندن كلها غزوها الإيطالي بهذه العبارة المزهوة Vini, Vidi, Vici " جئت، ورأيت، وغلبت" ربما، ولكن رسائلها إلى الجاروتي لم تكن رسائل الغالب:
"ما أجبن الإنسان حين يحب" أخشى أن أسيء إليك بإرسالي هذا الخطاب حتى ولو كان قصدي أن أسرك. والحق أنني مجنونة في كل أمر يتصل بك حتى أنني لست واثقة من خواطري .. كل ما هو مؤكد هو أنني سأحبك ما حييت، برغم نزوتك وتعقلي (137) ".
ولم يرد على هذه الرسالة، ولا على ثانية، ولا ثالثة، رغم تهديدها بالانتحار. أما الرابعة فقد انتزعت منه رداً جاء كما تقول "في وقت مناسب جداً لإنقاذ البقية الباقية من عقلي". فق عرضت أن تتبعه إلى إيطاليا، ولكنه ثناها عن الفكرة، وراحت تجتر غرامها في عزلتها ثلاث سنوات. ولكن في 1739 أقنعت زوجها بأنها في حاجة إلى رحلة لإيطاليا. وكان قد فقد حبه لها، فاستطاع أن يتصرف تصرف الإنسان المهذب. فودعها حين غادرت لندن، ووافق على أن يرسل لها راتباً ربع سنوي قدره 245 جنيهاً من دخله الخاص، وأن يحول إليها دخلها السنوي الذي أوصي به أبوها وقدره 150 جنيهاً. وسافرت بأسرع ما تستطيع غلى البندقية أملاً في أن تجد الجاروتي هناك، ولكنه كان قد ذهب إلى برلين (1740) ليعيش مع فردريك الثاني المتوج حديثاً، وكان يحبه حب اللوطيين. واتخذ ماري لها بيتاً على قناة البندقية الكبرى وقد استبد بها الحزن، وافتتحت فيه صالوناً، واستضافت الأباء والكبراء، وحظيت بالتودد اللطيف من نبلاء البندقية وحكامها.
ثم غادرت البندقية إلى فلورنسة بعد عام، وأقامت شهرين في قصر ريدولفي ضيفاً على اللورد والليدي بومفريت. ورآها هوراس ولبول هناك، وأرسل إلى هـ. س. كونواي وصفاً رقيقاً لها:
"هل أنبأتك بأن الليدي ماري ورتلي هنا؟ إنها تضحك من الليدي ولبول (زوجة أخي هوراس)، وتقرع الليدي بومفريت،(35/303)
وتضحك منها المدينة كلها. ولا بد أن لباسها، وجشعها، ووقاحتها، تدهش أي إنسان لم يسمع باسمها. فهي ترتدي قبعة بشعة (تربط تحت الذقن) لا تخفي خصلاتها السوداء الدهنية القوام التي ترسلها دون تمشيط أو تجعيد، وأزاراً أزرق قديماً يفغر فاه ويكشف عن تنورة من التيل. وقد انتفخ وجهها انتفاخاً شديداً من أحد جانبيه بمخلفات-غطى بعضها بلزقة، وبعضها بالطلاء الأبيض .. وقد قامرت مرتين أو ثلاثاً في لعبة ورق (تسمى الفرعونية) في قصر الأميرة كراءون حيث تغش بكل وسيلة في اللعب. وهي في الحق مسلية، كنت أقرأ أعمالها التي تعيرها مخطوطة، ولكنها نسائية إلى حد مفرط، وأعجبني القليل من أعمالها (138) ".
والواقع أن هذا الكاريكاتور كان له أساس، فقد جرى العرف في إيطاليا على أن ترتدي المرأة في بيتها الثياب الفضفاضة المهملة توخياً للراحة، وما من شك في أن وجه ماري منقراً جداً، ولكن ليس بالزهري بالتأكيد (139). وكان من عادات المؤلفين أن يعيروا الأصدقاء مخطوطاتهم. وقد أثارت الليدي ماري استياء ولبول الشاب بمصادقتها لمولي سكيريت، التي ساءه منها أنها أصبحت الزوجة الثانية لأبيه. ولعل الليدي ماري كانت أكثر إهمالاً لمظهرها مما اعتادت بعد أن ظنت أنها فقدت الجاروتي إلى الأبد.
ثم علمت أنه في تورين، فهرعت إليها، ولحقت به (مارس 1741)، وعاشت معه شهرين. ولكنه عاملها بخشونة وعدم مبالاة، وسرعان ما تشاجرا وافترقا، فمضي هو غلى برلين، وهي إلى جنوه. هناك رآها ولبول مرة أخرى، واستمتع بكرم ضيافتها، ووجه إلى مركبتها أبيات تنفث السم:
"إيه أيتها العربة، يا من حكم عليك بأن تحملي
جلد الليدي ماري العفن،
اذهبي بها إلى أقصى ركن في إيطاليا،
وأنزليها بالله حية،
ولا تعجني بهزاتك ولطماتك(35/304)
نصف الأنف الذي ما زالت تحتفظ به (140) ".
وفي 1760 أبهجها أن تعلم أن صهرها أصبح عضواً في المجلس الخاص لجورج الثالث. وفي 21 يناير 1761 مات زوجها تاركاً معظم ثروته لابنته، و1. 200 جنيه في العام لأرملته. وعادت الليدي ماري إلى إنجلترا (يناير 1762) بعد غيبة امتدت إحدى وعشرين سنة، إما لأن موت زوجها أزال عقبة خفية في سبيل رجوعها، وإما لأن سطوع نجم صهرها في عالم السياسة قد اجتذبها إلى وطنها.
غير أن الأجل لم يمهلها أكثر من سبعة أشهر، ولم تكن بالأشهر السعيدة. ذلك أن مطاردتها لألجاروتي، وأنباء كتلك التي أشاعها عنها هوراس ولبول، كانت قد سوأت سمعتها؛ ثم أن ابنتها لم تسعد بحبة أمها رغم حرصها على صحتها وراحتها. وفي يونيو بدأت الليدي ماري تشكو ورماً في صدرها. وتقبلت في هدوء مصارحة طبيبها لها بأنها مصابة بالسرطان، وقالت إنها عاشت من العمر ما يكفي. وماتت بعد شهور من الألم (21 أغسطس 1762).
وكان من آخر طلباتها أن تنشر رسائلها لتعطي الفقراء جانبها من القصة، وتدعم حقها في تذكر الناس لها. ولكنها كانت قد عهدت بمخطوطاتها إلى ابنتها، فبذلت هذه الابنة (الليدي بيوت) التي غدت الآن زوجاً لرئيس الوزراء ما وسعها لتمنع نشرها. على أن الرسائل التي كتبتها من تركيا نسخت سراً قبل أن تسلم لابنتها، وصدرت في 1763. وسرعان ما نفدت عدة طبعات منها، وكان من قرائها الذين ابتهجوا بها جونسن وجبون. أما النقاد الذين قسوا على المؤلفة وهي حية، فقد أسرفوا الآن في إطراء رسائلها. وكتب سمولت يقول إن الرسائل "لم يكتب نظيرها أي كاتب رسائل من أي جنس، أو سن، أو أمة" وفضلها فولتير على رسائل مدام سفنييه (141). وقد(35/305)
أحرقت الليدي بيوت قبل أن تموت في 1794 يومية أمها الضخمة، ولكنها تركت الرسائل ليتصرف فيها ابنها البكر. فسمح بنشر بعضها في 1803، أما الرسائل التي كتبتها لألجاروتي فظلت طي الخفاء إلى أن أقنع بايرون جون مري بأن يشتريها من صاحبه الإيطالي (1817). ولم يكتمل نشرها إلا عام 1861، واعترف الناس بأن الليدي ماري تشارك بوب، وجراي، وجاي، ورتشاردسن، وسمولت، وهيوم، الفضل في جعل أدب إنجلترا أعظم آداب ذلك العصر الفحل تنوعاً وحيوية وتأثيراً.(35/306)
الفصل السادس
التصوير والموسيقى
1714 - 1756
1 - المصورون
لم تكن إنجلترا التي سطع نورها الأصيل في عالم الأدب والسياسة سوى تابع متواضع في دنيا الموسيقى والتصوير. وكان لتخلفها في التصوير أسباب كثيرة، ليست منها أجواؤها الممتعة، فالأجواء أعتمت في الأراضي المنخفضة كذلك، ومع ذلك حفلت هولندا بمصورين كثيرين كثرة طواحين هوائها. وربما كان المانش أحد الأسباب، لأنه كان أشبه بالترس منع عن إنجلترا الفنون كما وقاها حروب القارة، وربما كانت الموهبة الإنجليزية غارقة في التجارة وفي الحرب بعد ولبول. وقد تلام البروتستنتية على ركود الفن الإنجليزي، لأن الفن ينمو ويترعرع على الخيال، والبروتستنتية أقصت الخيال عن الفن وكرسته للأدب واللاهوت، ولكن يرد على هذا أيضاً بأن هولندا كانت بروتستنتية. وأغلب الظن أن العامل الأهم كان الثورة والتراث البيورتانيين؛ إعدام تشارلز الأول عاشق الفن، وتشتيت مجموعته الفنية، وانحسار الذهن الإنجليزي-باستثناء ملتن-خلال فوضى الجمهورية (الكومنولث). وقد طأطأ التأثير البيورتاني رأسه خلال عودة الملكية، ولكنه عاد يرفعه مع وليم الثالث والهانوفريين، ثم اتخذ في المثودية صورة منبعثة من القوة، وغدا الجمال خطيئة مرة أخرى.
كان هناك منجزات صغيرة في الفنون الصغرى. من ذلك أن الخزف البديع الناعم العجينة صنع في تشلسي (1755) تقليداً لخزف مايسين وسيفر. وأثرى خزافو برمنجهام من صنع الآنية من اللك (اللاكيه). وبلغ ثراء أحدهم، واسمه جون بسكرفيل، مبلغاً أتاح له إشباع هوايته بطبع طبعات جميلة للشعراء الإنجليز. وزينت حنايا الركوك المتسمة بالخيال الجامح الكتب والقماش والأثاث والأواني(35/307)
وفضة شفيلد وقاعة الروتندا في حدائق فوكسهول، وبعض الحجرات في قصر تشسترفيلد وسترويري هل.
أما المثالون فقد كان الناس قد بدءوا يفرقون بينهم وبين البنائين. وكان أقطاب المثالين في إنجلترا أجانب المولد وأن أصبحوا عادة مواكنين بريطانيين. فوفد بيتر شاميكرز من أنتوبرت، وأشرك مع لوران ديلفو في نحت تمثال دوق بكنجهام ونورمانديه في دير وستمنستر. وكان أعظم هؤلاء الأجانب لوي روبياك، وهو ابن مصرفي من ليدن، قدم إلى إنجلترا في 1744 وارتقى سريعاً بفضل رعاية آل ولبول. وقد نفذ تمثال شكسبير النصفي المعروض الآن بالمتحف البريطاني، وتمثال هندل المعروض بقاعة الصور القومية، وحبته الملكة كارولين برعايتها، وجلست إليه ليصنع لها تمثالاً، وكلفه بأن ينحت تماثيل نصفية لبويل، ونيوتن، ولوك، وغيرهم من أفاضل الإنجليز لتضعها في مغارتها برتشموند. وقد لقب تشسترفيلد (وكان ذواقة للفنون) روبياك-"فيدياس زمانه (1) ". ومات روبياك مفلساً في 1762 بعد أن عاش حياة ملؤها التفاني في خدمة فنه.
أما العمارة فكانت في نشوة من فن اللاديو. ذلك أن الثروة الصاعدة التي حققتها الطبقات العليا التي أثرت وهي متبرمة في ظل السلام الولبولي قد مولت مئات الرحلة الكبرى، التي تشرب فيها السادة البريطانيون حب معابد الرومان وقصور النهضة. وكانت البندقية دائماً تدخل في أسفارهم، فيقف المسافرون في الطريق عند فتشنتسا ليعجبوا بواجهات باللاديو، فإذا عادوا ملأوا إنجلترا بالأعمدة والأعتاب والقواصر الكلاسيكية. وفي 1715 - 25 أصدر كولين كامبل كتابه "فتروفيوس بريتانيكوس" الذي أصبح إنجيل البللاديويين، ودفع وليم كنت (1727) وجيمس جبز (1728) الطراز دفعة أخرى بتأليف كتيبات في العمارة، وفي 1716 نشر رتشرد بويل، ايرل برلنجتن الثالث، طبعة فاخرة من نصوص باللاديو، وفي 1730 نشر ترميمات باللاديو للصروح القديمة. واحتوى بيته الريفي في تشزيك على نسخة من "فيللا روتندا" التي بناها باللاديو في(35/308)
فتشنتسا، برواقها المعمد وقبتها الوسطى. وكان برلنجتن راعياً سخياً للأدب والموسيقى والفن، وصديقاً لباركلي وهندل وبوب وجاي.
وفي 1719 جلب من روما معه معمارياً شاباً يدعى وليم كنت ظفر بجائزة بابوية على رسومه، وكان شديد التحمس لكل ما هو كلاسيكي. وغدا كنت أحب الفنانين وأحفلهم بالمواهب في إنجلترا، بعد أن سكن قصر برلنجتن حتى وفاته (والقصر ما زال بعد تجديده مركزاً من مراكز الفن الإنجليزي) فصور أسقف قصور هوتن وستو وكنزنجتن؛ وصمم الأثاث وصحاف الطعام والمرايا والزجاج، ومركباً للمهرجانات وملابس لسيدات المجتمع، ونحت تمثال شكسبير في دير وستمنستر؛ وكان ممن تزعموا حركة تشجيع الحديقة الإنجليزية "الطبيعية"؛ وفي ميدان العمارة شديد معبد الفضيلة القديمة في حدائق ستو، وقصر ديفونشير ببيكاديللي، وقصر حس الخيالة في هوايتهول، وقاعة هولكم المدهشة في نورفوك.
وفي 1738 رفع اللورد برلنجتن إلى مجلس مدينة لندن تصميم كنت البللاديوي لمسكن عمدة لندن "مانشن هاوس"، واعترض عضو بأن باللاديو كان بابوياً، فرفض تصميم كنت، وتلقى جورج دانس الأب التكليف (وكان بروتستنتياً) وقام به خير قيام. ولكن في ذلك العام بدأت الحفائر في هركولانيوم، وأفضت الكشوف إلى على الحفر عن بومبيي (1748 وما بعدها)، وفي 1753 نشر روبرت وود "أطلال بلميرا (تدمر) " وفي 1757 "أطلال بعلبك"، وأعطت هذه الكشوف للحملة الكلاسيكية في إنجلترا دفعة لا تقاوم، ووضعت حداً لوفرة التزويق الباروكي الذي ازدهر في قصر فانبروج "بلنهيم" الذي بنى لأسرة تشرشل. وفي 1748 بنى إسحاق وير، وهو معماري آخر كان يرعاه برلنجتن، قصر تشسترفيلد في شارع كرزن.
وقد فات البالاديويين في تحمسهم هذا أن العمارة الكلاسيكية إنما صممت لأجواء البحر المتوسط لا لرياح إنجلترا وغيومها. وأخطأ كولن كامبل خطأً جسيماً بنقله عن النماذج الإيطالية دون أن يطوعها لشتاء إنجلترا؛ فقلعة ميروث التي بناها لم تسمح إلا لبصيص من أشعة(35/309)
الشمس بدخولها، أما قاعة هوتن التي شادها لروبرت ولبول فقد ضحت بحجرات المعيشة إيثاراً للصالات الفخمة التي تلقف التيارات الشديدة البرودة. واستخدم جيمز جبز، أحد تلاميذ كرستوفر رن، الطراز الكلاسيكي استخداماً رائع التأثير في كنيسة سانت ماري-لستراند بلندن (1714 - 17)، وبرج هذه الكنيسة أشبه بأغنية من الحجر. وأضاف جبز (1719) إلى كنيسة سانت كلمنت دين التي بناها رن برجاً يعلو علواً لا يتناسب مع قاعدته، ولكنه مع ذلك جميل جمالاً محفوفاً بالخطر. وتوج عمله في 1721 برواق كلاسيكي وأعمدة كورنثية في سانت مارتنز-أن-ذفيلدز، بميدان ترافلجار. وأخيراً خلق في مكتبة رادكليف بأكسفورد (1737 - 47) لحناً منسجماً من الأعمدة والقبة.
أما بهاء باث المعماري فالفضل الأول فيه لجون وود. وكانت الفكرة المسيطرة عليه هي ربط المباني المفردة في كتلة واحدة، ومن ثم صمم وبدأ-وأكمل ابنه جون بكفاية-"الهلال الملكي" الضخم-وهو ثلاثون بيتاً وراء واجهة موحدة من 114 عموداً كورنثياً-دمرت تدميراً شديداً في الحرب العالمية الثانية، ولكن أمكن ترميمها. وعلى مقربة من هذا المكان بنى وود الأب والابن "السيركس" (الميدان) (157 - 46)، وهو دائرة جميلة من المساكن يكسو واجهتها فريز متصل وثلاثة صفوف من الأعمدة؛ هنا سكن بت الأب، وتوماس جينزبورو، وكليف حاكم الهند. وصمم وود-دون أن يكمل-لجوانب ثلاثة من "كوين سكوير" سلسلة أخرى من المنازل الموحدة وراء واجهة تحكي واجهات قصور النهضة. والكثير من هذا البرنامج، برنامج تصميم وبناء المدن، موله رالف ألين الذي اتخذه فيلدنج نموذجاً صاغ على غراره "سكواير أولورذي". وبنى وود الأب لألن قصراً فاخراً بلاديوي الطراز في يرايور بارك (1735 - 43)، خارج باث بميلين.
لقد كان فقر جماهير بريطانيا يعدله بهاء قصورها. فقد تكلف معبد ألن في برايور بارك 240. 000 جنيه. وأوحت نزوة المباراة للنبلاء والتجار بإقامة القصور الضخمة للضيافة والتباهي. ويقول(35/310)
هرفي أن روبرت ولبول اكتسب عداء اللورد تاونشند الأبدي ببنائه هوتن هول على مستوى أشد ترفاً حتى من قصر تاونشند المجاور المسمى رينهام بارك. وقد ندد اللورد لتلتن بهذا "الجنون الوبائي" جنون بناء القصور، ومع ذلك طالبت زوجته بقصر جديد يبنى على الطراز الإيطالي، فأذعن لها تحت ضغط الإلحاح وإلى حد أشرف به على الإفلاس. فلما تم بناء القصر هجرت زوجتها إلى مغنى أوبرا إيطالي مشكوك في رجولته، وسرعان ما انتشرت في إنجلترا، وحتى في إيرلندة الإنجليزية، أمثال هذه البيوت المظهرية التي بناها الأغنياء. ونظمت الرحلات السياحية، ونشرت الكتب المرشدة، لزيارة هذه المساكن الفخمة وحدائقها وقاعات صورها. وطبقت شهرة هذه الصروح الآفاق حتى بلغت روسيا، فطلبت كاترين الكبرى إلى جوسيا ودجوود أن يصنع لها طقم مائدة إمبراطورياً مزيناً بمناظر من قصور الريف الإنجليزية (2).
وأودعت معظم الصور في إنجلترا، وأخفيت في كثير من الحالات، في هذه البيوت الأرستقراطية إذا لم يكن هناك بعد متاحف يستطيع الجمهور العام أن يشاهد فيها الصور. وكانت الرعاية تغدق بوجه خاص على الفنانين الأجانب، وكلها تقريباً لقاء لوحات تصور الأعيان الذين داعبهم الأمل في أن يخلدوا على القماش بينما تبلي أجسادهم داخل توابيت من الخشب؛ ولم يكن هناك سوق للمناظر الطبيعية ولا للوحات "التاريخية". فلما وفد كارل فانلو على إنجلترا في 1737 تهافت الكثير جداً من الوجوه النبيلة عليه ليصورها، حتى أن رتل العربات المقتربة من بيته ظل أسابيع ينافس ذلك الواقف أمام المسارح. ودفعت المبالغ الطائلة للرجل الذي كان يسجل مواعيده رشوة يؤدونها له ليسبقوا غيرهم وإلا فقد يضطر الواحد منهم إلى الانتظار ستة أسابيع (3).
"وحاولت "الجمعية الملكية للفنون" التي أسست عام 1754 أن تشجع المواهب الوطنية بالمباريات والمعارض، ولكن الطلب على التصوير الإنجليزي تباطأ جيلاً آخر. وظفر جوزف هايمور، وهو تلميذ لننلر، ببعض المشترين للوحاته حين رسم مشاهد من رواية(35/311)
"باملا (4) "؛ والتقط توماس هدسن بعض حيوية هندل في لوحته التي رسمها له في 1749 (5). وكان من تلاميذ هدسن مصور يدعى جوشوا رينولدز، تنبأ أستاذه بأنه "لن ينبغ أبداً (6) ". ولكن السر جيمس ثورنهل كان أبعد نظراً. فقد حقق نجاحاً بصور نيوتن، وبنتلي، وستيل، وصور القبة الداخلية لكنيسة القديس بولس، وأسقف مستشفى جرينتش وقصر بلنهيم، وأحرز الخلود بالإنابة، لأنه زوج ابنته لأعظم مصوري العصر الإنجليز قاطبةً.
2 - وليم هوجارث
1697 - 1764
كان أبوه مدرساً وكاتباً أجيراً، ألحقه في صباه بنقاش للأسلحة. وانتقل من ذلك إلى الحفر على النحاس، ثم إلى رسم الرسوم الإيضاحية للكتب. وفي 1726 أعد اثنتي عشرة محفورة (كلشيهات) كبيرة لكتاب بطلر "هوديبراس". ثم التحق بفصل التصوير الذي كان يعلم فيه ثورنهل، وتعلم التصوير بالزيت، ثم هرب مع ابنة أستاذه، وصفح عنه ثورنهل وعينه مساعداً له.
كانت الرسوم الإيضاحية التي رسمها هوجارث لمسرحية العاصفة، ولمسرحيتي هنري الرابع، ولأوبرا الشحاذ، صوراً نابضة بالحياة. فميراندا رقيقة حنون، وكالبان فظ غليظ، وبرسبرو عطوف كريم، وايريل يداعب مزهراً في الهواء، والسير جون فلستاف يتكلم من كرشه بخيلاء، والكابتن ماكهيث في أغلاله وألحانه، بطل في العيون زوجاته رغم كل شيء. ووقع هجاء المستقبل على ذلك العرق الذي تميز به، وذلك في لوحة "المصلين النيام"، فقد كره هوجارث كل المواعظ إلا مواعظه؛ أما في "حفلة الأطفال" فقد تلذذ بأجمل جوانب الحياة الإنجليزية. وهذه الصور تلذنا الآن، ولكنها لم تأته بثناء وقتها.
وجرت تصوير الأشخاص ولكنه لم يحقق نتائج تذكر، وكانت المنافسة قاسية، فأكثر من عشرة مصورين يجمعون ثروات صغيرة بتملق زبائنهم وتوزيع العمل على مساعديهم؛ فهم يرسمون الرأس ولكنهم يحيلون رسم الخلفيات والستائر لمساعدين يخبسونهم أجورهم. يقول هوجارث(35/312)
"وكل هذا يتم بسرعة مريحة تتيح الرئيس الحصول في أسبوع واحد على مال أكثر مما يستطيع أن يحصل عليه رجل ذو مواهب فنية من أعلى المراتب في ثلاثة أشهر (7) ". وندد بتجار الوجوه هؤلاء الذين جملوا وجوه زبائنهم إشباعاً لغرورهم واستدراراً لمالهم. أما هو فمذهبه أن يصور زبائنه بكل ما فيهم من دمامل وإلا فلا. فلما جلس إليه نبيل تغلب عليه سيماء القردة صوره هوجارث بإهانة مؤذية. ورفض اللورد أن يأخذ صورته إذ لم يكن قد رأى نفسه قط كما يراه الآخرون. فأرسل إليه المصور رسالة جاء فيها:
"المستر هوجارث يقدم إحتراماته الواجبة للورد-وإذا وجد أنه لا يريد أن يأخذ الصورة التي رسمت له، فهو يذكره مرة أخرى بحاجة المستر هوجارث إلى المال. فإذا لم يرسل سيادته في طلب الصورة خلال ثلاثة أيام، فسيبيعها، بعد إضافة ذيل وغيره من الملحقات الصغيرة، إلى المستر هير مقتني الوحوش الشهير؛ لأن المستر هوجارث قطع لذلك السيد عهداً بإعطائه الصورة لعرضها في معرض للصور (8) " ..
ودفع اللورد المال.
وكان هوجارث واثقاً من أن في استطاعته أن يرسم صور الأشخاص كأي فنان قدير. وبينما كان يصور هنري فوكس (البارون هولاند فيما بعد) أخبر هوراس ولبول أنه وعد فوكس أنه إذا جلس متبعاً تعليماته فإنه سيرسم له صورة لا تقل روعة عن صور روبنز أو فانديك (9)، وهو ما صدم هوراس في الصميم من تقاليده. وربما برر كثير من لوحات هوجارث التي رسمها للذكور استنكاراً ولبول لها، فالوجوه "مقلوبة" جداً، وبعضها يستحق وصف هوجارث الهازئ لبعض الصور الإنجليزية بالـ "ساكنة" ولكن يجب أن نستثني منها لوحة "السر توماس كورام" التي أسلفنا ذكرها في معرض الحديث عن الاحتفال بمستشفى اللقطاء الذي أسسه كورام، والذي ترى فيه صورته، فقد التقط هوجارث الطبيعة البارة بالناس في الوجه المبتسم، والخلق الحازم في اليدين المقبوضتين. ولقد كانت فرشاته، بوجه عام، أرفق بالنساء منها بالرجال. مثال ذلك أن "صورة سيدة" تنافس صور(35/313)
جانزبورو، وصورة "سيدة في ثياب بنية (11) " لها الملامح القوية لامرأة أفلحت في تربية أطفال كثيرين؛ وإذا كانت صورة "الآنسة ماري إدواردز (12) " ميتة نوعاً ما، فإن الكلب-وهو حاضر دائماً في لوحات هوجارث-يبعث فيها الحياة، وأروع من هذه الصور اللوحات الجماعية مثل "أسرة برايس (13) " و "أبناء جراهام (14) " وأفضل حتى من ذه "خدم هوجارث (15) "، حيث ترى كل وجه مرسوماً في حب بكل طابعه المتفرد. وأبدع صوره كلها بالطبع هي "بائعة الجمبري (16) "-وهي ليست لوحة شخصية بل ذكرى رجل سليم قوي الصبية التي رآها تبيع الجمبري من سلسلة متزنة على رأسها؛ فتاة عطلت من كل زينة أو زخرف، لا تستحي من الأسمال التي تكسوها، تطل على الدنيا وقد توردت وجنتاها وتألقت عيناها صحة وعافية بفضل الحركة والنشاط.
وقد ترك هوجارث على الأقل أربع لوحات صور نفسه فيها. ففي 1745 صور نفسه مع كلبه السمين "ترمب (17) ". وفي 1752 أرانا نفسه جالساً إلى حامله، جسم قصير متين، ووجه مستدير قصير سمين، وأنف أفطس عريض، وعينان زرقاوان أتعبهما طوال النضال وشفتان مزمومتان تحفزا لاستئناف النضال. كان في رأي ثكرى "مواطناً لندنياً أميناً مرحاً، ورجلاً مخلصاً صريحاً، يحب نكتته، وأصحابه، وكأسه، وروزبيفه-روزبيف إنجلترا العجوز (18) ". ولم يكن يصل طوله غلى خمسة أقدام، ولكنه كان يحمل سيفاً (19) ولا يطيق اللغو من أي إنسان. ووراء حبه للقتال دفاعاً عن النفس قلب محب، مسرف في العاطفة أحياناً، قطع على نفسه العهد أبداً بشن الحرب على النفاق والقسوة. وكان يحتقر النبلاء الذين يصورهم، ويحب اللندني البسيط البريء من الخيلاء. وقد أدخل الجماهير الإنجليزية إلى دنيا الفن، فصورهم في آثامهم وآلامهم، في مستشفى المجاذيب، والسجن، والدين، والكد المضني. وكره الفرنسيين لأنهم أفسدوا الإنجليز بغلوهم في الزينة وبخيلائهم الأرستقراطية. ولم ينس قط أنه قبض عليه لأنه رسم رسوماً تخطيطية لبوابة كاليه، فثأر لنفسه بتصويره الفرنسيين كما رآهم هناك: عمالاً أجلافاً، وجمهوراً يؤمن بالخرافة، وراهباً بديناً يحدق بنشوة في كتف من لحم البقر (20).(35/314)
وقد أنبأنا هوجارث في كتابه "نوادر" كيف حولته ضآلة ربحه من صوره إلى التجارة الذي أكسبه الشهرة، قال: "كرهت أن أنحدر إلى درك "صانع" الصور الشخصية، وإذ كنت لا أزال أصبو إلى الاستقلال في عملي، فقد طلقت كل أمل في الانتفاع من ذلك المورد .. وبما أني لم أستطع إقناع نفسي بالعمل كما يعمل بعض إخواني، وجعل تصوير الأشخاص ضرباً من الصناعة يدار بالاستعانة بمصوري الخلفيات والستائر، لذلك لم تحقق لي هذه الطريقة من الربح ما يكفي لسد نفقات أسرتي. ومن ثم وجهت أفكاري إلى رسم وحفر الموضوعات الخلفية العصرية، وهذا ميدان لم يطرق في أي بلد أو عصر (21) ".
وعلى ذلك رسم في 1731 ست صور سماها "رحلة بغي"، وحفرها على النحاس، ومن هذه المحفورات صنع سلسلة من النسخ المطبوعة عرضت للبيع بعد عام، ترى فيها الفتاة القادمة من الريف تقدمها قوادة قاهرة على الإقناع إلى سيد ملهوف؛ والصبية سريعة التعلم، ولا تلبث أن تحرز ثراءً قبيحاً. ثم يقبض عليها لا للبغاء بل للسرقة، وتؤدي عملها المفروض عليها في السجن وهو نفض القنب، ثم تسير حثيثاً غلى المرض والموت، ولكن يعزيها أن يشجع جثمانه رهط من المومسات، وكان في استطاعة هوجارث أن ينقل شخوصه من الواقع دون مشقة أو عناء، فقد رأينا المسز نيدهام ينكل بها في المشهرة عقاباً لها على احترافها بالبغاء، ويحصبها الجمهور، وتموت من إصابتها. (ومع ذلك فإن الكولونيل تشارتريز، الذي اتهم مرتين بهتك العرض وحكم عليه مرتين بالإعدام، عفا عنه الملك مرتين، ومات في أبهة النبلاء بمقره بالريف (22)). وقد أخطأ هوجارث حين خيل إليه أنه طرق ميداناً جديداً في هذه الرسوم التي تمثل الحياة اليومية، فقد سبقها الكثير في إيطالية النهضة، وفي فرنسا، وفي الأراضي المنخفضة، وفي ألمانيا. ولكن هوجارث جعل الآن من "الموضوعات الخلقية" فناً وفلسفة. على أنه، ككل الأخلاقيين، لم يكن مبرأ من الإثم، فقد أطاق في غير اشمئزاز صحبة السكارى والبغايا (23)، واكن الهدف من صوره المطبوعة أولاً التكسب، ثم التبشير بالفضيلة إن أمكن.(35/315)
وراجت صور "البغي" المطبوعة، فاستهوت ألفاً ومائتي مكتتب، ونيف ربحها الصافي على ألف جنيه. ومع أن طبقات مسروقة كانت تنتقص من ربح المصور، فإنها أبعدت شبح الجوع عن بابه. وأقبل الجمهور البريطاني في غير تردد على مناظر الخطيئة هذه، وهو الذي لم يكن به ولع باللوحات، فهنا فاكهة محرمة، طهرتها الفضيلة ولكنها لم تنتقص من بهجتها، وهنا يستطيع المرء لقاء ثمن زهيد أن يتعرف إلى الرذيلة وهو في مأمن، وأن يرقب عقابها الذي تستحقه وهو راض. واستطاع هوجارث الآن أن يطعم أسرته من مكاسبه، لا بل اتخذ مسكناً له في حي لستر فيلدز العصري، وعلق على بابه رأساً مذهباً يشير إلى مهنته فناناً. وقد اشترى بعد ذلك بيتاً ريفياً في كزيك.
ثم رسم صوراً كبيرة في السنوات القليلة التالية، لا سيما "مهرجان سذريك"-وهي لوحة "بروجلية" إنجليزية-ولوحة جماعية لطيفة تدعى "أسرة إدواردز" ولكنه عاد إلى رسومه المطبوعة في 1733، وعارض سلسلة "البغي" بسلسلة سماها "رحلة فاجر" ترى فيها شاباً طائشاً مفتوناً يرث فجأة تركة كبيرة، فيهجر أكسفورد غلى لندن، ويستمتع بالحانات والمومسات، ويبدد ماله، ويجر إلى السجن لعجزه عن الوفاء بديونه، ثم تنقذه خليلته التي نبذها، ويستعيد قدرته على الوفاء بديونه الزواج من كهله عوراء غنية، ولكنه يقامر بثروته الجديدة في نادي هوايت، فيودع السجن مرة أخرى، ويختتم سيرته مجنوناً في مستشفى "بدلام". لقد كانت تمثيلية أخلاقية في صور سهلة الفهم تصور قطاعاً من الحياة تصويراً دقيقاً. ولكن يحمي هوجارث سلسلة صور "الفاجر" المطبوعة من السرقة شن حملة تستهدف الحماية القانونية لحقوقه. وفي 1735 أقر البرلمان "قانوناً لتشجيع فنون الرسم، والحفر، والنقش الخ"، وهذا القانون، الذي تعارف الناس على تسميته "قانون هوجارث" أعطاه حقاً يعادل حق التأليف على صوره المطبوعة. وفي 1745 باع بالمزاد اللوحات التي حفر عنها سلسلتي "البغي" و "الفاجر"، فربح منها 427 جنيهاً.
وتوافرت له الآن الكفاية المالية والثقة بالنفس، فغزا غزوة أخرى(35/316)
في التصوير. "لقد راودتني بعض الآمال في أن ينجح فيما يسميه المغالون في إطراء الكتب "الأسلوب العظيم في تصوير التاريخ (24) ". وفي العقد الممتد من 1735 إلى 1745 أنتج صوراً رائعة كان عليها أن تنتظر قرناً لتحظى بالتقدير. فلوحة "الشاعر المحزون (25) " هي القصة القديمة، قصة المؤلف الذي افتقر يطالب في إلحاح بإيجار مسكنه بينما تحيك زوجته في عصبية وينام قطه في رضي خلي من الهم. وحاولت لوحته "بركة بيت حسداً" رسم مشهد من الإنجيل، ولكن هوجارث تبله بحسناء نصف عارية تقف أمام المسيح وجهاً لوجه. ولم يكن الفنان معصوماً من إغراء جسد الأنثى، ففي محفورته "الممثلات المتجولات يرتدين ثيابهن في جرن" خلع على هذا الجسد الفتنة والإغراء بالثياب نصف المجردة. وتقرب لوحة "السامري الصالح (26) " من مستوى "أئمة التصوير القدامى". وألطف منها لوحة كبيرة سماها "ديفد جاريك في دور رتشارد الثالث (27) " وقد كلفه بها رجل يدعى دنكوم دفع فيها مائتي جنيه، وهذا أغلى ثمن دفع لمصور إنجليزي إلى ذلك الحين.
ومع ذلك لم تظفر هذه الأعمال باستحسان النقاد. فعاد هوجارث (175) إلى هجو الحياة اللندنية في محفورات أكد فيها المنقاش درساً أخلاقياً بقصة. ففي المشهد الأول من "الزواج العصري" يتعاقد إيرل مفلس مصاب بالنقرس ليزوج لقبه وابنه الكاره فتاة كارهة هي ابنة حاكم إقليمي غني. ويعرض الإيرل نسب الأسرة في شكل شجرة على درج، ويرش المحامي المسحوق المجفف على التوقيعات، ثم يدير العريس ظهره للعروس التي تلقى أذناً مصغية لعشيقها، ويختص كلبان نفسيهما بالسلام العائلي. وفي المنظر التالي يبدو الزوجان وقد تخاصما. فقد عاد اللورد الشاب منهوكاً من مغامرة أنفق فيها ليلة ودلت على طبيعتها قلنسوة فتاة من الدنتللا تطل من جيبه؛ أما الزوجة الشابة فتتثاءب بعد أن قضت الليل ترفه عن أصحابها بالموسيقى والقمار و "الدردشة"، وهنا أيضاً ليس هناك مخلوق سعيد إلا الكلب. أما المشهد الثالث فهو هوجارث في أجرأ حالاته، ترى فيه اللورد الوغد يأتي بخليلته إلى طبيب دجال ليجهضها. والنظر الرابع يرينا الزوجة أثناء ترجيل شعرها في استقبال الصباح، ونرى عشيقها معها وهي تتجاهل الموسيقى التي يعزفها أو يغنيها(35/317)
ضيوفها، وفيهم مخنث في شعره أوراق ملفوفة. وفي المنظر الخامس أمسكها زوجها متلبسة مع عشيقها، ويستل الرجلان سيفيهما، ويجرح الزوج جرحاً مميتاً، ويفر العشيق من النافذة، ويغلب الندم الزوجة ويظهر رجل الشرطة بالباب. وفي المنظر الأخير نرى الأرملة الشابة تحتضر، وينزع أبوها خاتماً ثميناً من إصبعها ليستنقذ البقية الباقية من الثروة التي دفعها ثمناً للقبها.
وفي 1751 أعلن هوجارث أنه سيبيع بالمزاد في ساعة محددة في مرسمه اللوحات الزيتية التي رسمها لسلسلة "الزواج العصري"، ولكنه أنذر تجار الصور أن يبتعدوا عن المزاد. فلم يظهر غير شخص واحد، عرض 126 جنيهاً ثمناً للوحات وأطرها. ونزل عنها هوجارث لقاء هذا الثمن، ولكن سخط في سره على ما رآه إخفاقاً معيباً. وفي 1797 بيعت هذه اللوحات بمبلغ 1. 381 جنيه. وهي اليوم من أغلى ما تملكه قاعة الصور القومية بلندن. وكان أثناء ذلك قد أسخط الملك بلوحته "زحف فرقة الحرس إلى إسكتلندة" (1745) وكانت السنة التي حاول فيها "الأمير تشارلي الجميل" الإطاحة بالهانوفريين. وصور هوجارث رجال الحرس الملكي يتجمعون عند إحدى ضواحي لندن المسماة فنشلي. يدعوهم زمار وطبال، ويستعين الجند على تقبل قدرهم بالسكر، وهم جماعة مظهرهم زري، وأصلح للقصف في حانة منهم للقاء مع الموت في ساحة الأبطال، وأطلع جورج الثاني على اللوحة كطلب الفنان الذي استأذن في إهدائه إليه. ولكن الملك رفض وهو يصيح "ماذا؟ مصور يهزأ بجندي؟ أنه يستحق أن يحبس عقاباً على وقاحته. اغربوا باللوحة الحقيرة عن وجهي" وتقول رواية غير مؤكدة أن هوجارث أهدى الصورة إلى فردريك الأكبر بوصفه "مشجعاً للفنون والعلوم (28) ".
وعاد إلى صوره المطبوعة الهجائية. فتتبع سيرة صبيين من صبيان الصناع في اثنتي عشرة لوحة سماها "الجد والكسل" (1747). فأما فرانك جوتشايلد فيكد ويكدح ويقرأ الكتب الجيدة ويختلف إلى الكنيسة كل أحد، ويتزوج ابنة معلمه ويحسن إلى الفقراء، ويصبح عمدة البلدة وحاكماً إقليمياً ثم عمدة على لندن، وأما توم أيدل فينام(35/318)
ويشخر فوق نوله، ويقرأ الكتب الخبيثة مثل "مول فلاندرز"، ويسكر ويقامر وينشل، ثم يؤتى به أمام الحاكم جودتشايلد الذي يحكم عليه بالشنق وهو يبكي شفقة عليه. وقابلت محفورتان، هما "زقاق الجن" و "شارع الجعة" (1751) بين "النتائج الرهيبة لشرب الجن" والآثار الصحية للجعة. أما "المراحل الأربع للقسوة" (1751) فقد قال الفنان إنها استهدفت "تهذيب تلك المعاملة الهمجية للحيوان، التي تجعل منظر شوارع عاصمتنا محزناً جداً لكل نفس حساسة. وإنني لأشد فخراً برسمي لهذه الصور مما لو كنت صاحب رسوم رفائيل الهزلية (29) ". وفي سلسلة "صور أربع لأحد الانتخابات" (1755 - 58) استهدف شروطاً أبهض ثمناً، فقد هاجمت فساد السياسة الإنجليزية.
ولو أخذنا صور هوجارث المطبوعة على أنها مجرد رسوم لكانت فجو في فكرتها وتنفيذها متعجلة غير دقيقة في تفاصيلها. ولكنه كان ينظر إلى نفسه على أنه مؤلف أو كاتب مسرحي أكثر منه مصوراً، وقد أشبه صديقه فيلدنج أكثر من ألد خصومه وليم كنت، ولم يكن يعرض تقنيات التصوير بل يقدم صورة للعصر، "لقد حاولت تناول موضوعي كما يتناوله كاتب للدراما، فصورتي هي خشبة مسرحي، والرجال والنساء هم ممثلي الذين يراد منهم ببعض الحركات والإيماءات أن يقدموا عرضاً صامتاً (30) ". ونحن إلى نظرنا إلى صوره المطبوعة على أنها هجائيات وجدناها مبالغات متعمدة، فهي تشدد على جانب وترهف نقطة وهي أكثر ازدحاماً بالتفاصيل مما ينبغي أن يكون عليه العمل الفني، ولكن كل تفصيل فيما عدا الكلب الذي لا مناص منه يسهم في الموضوع. وصوره المطبوعة في مجموعها تتيح لنا نظرة إلى طبقة لندن الوسطى-الدنيا في القرن الثامن عشر؛ البيوت، والحانات وحي المل، وكوفنت جاردن، وكوبري لندن، وتشيبسايد، وبرايدويل، وبدلام، وشارع فليت، وهذه ليست كل لندن، ولكن ما صوره منها ينبض بالحياة نبضاً رائعاً.
أما ناقدو الفن وجماعوه وتجاره في ذلك العهد فلم يعترفوا لا بكفاية هوجارث فناناً ولا بصدقه هجاء. فاتهموه بأنه لا يصور غير(35/319)
حثالة الحياة الإنجليزية، وسخروا منه لأنه اتجه إلى صور مطبوعة شعبية لعجزه عن تصوير اللوحات الشخصية الناجحة أو المناظر التاريخية. ونددوا برسمه لأنه مهمل وغير دقيق. وقد رد عليهم بأن اتهم التجار بأنهم يتآمرون على الإشادة بما يحتفظون به من مخلفات كبار المصورين القدامى، بينما يتركون الأحياء يتضورون جوعاً. قال:
"إن أفضل الصور صيانة وأكملها صقلاً، بغير تكريس لها من سلطتهم وتأييد من التقاليد ... لا تباع في مزاد علني بخمسة شلنات، في حين أن لوحة قماشية عتيقة، حقيرة، معطوبة، مرممة، إذا كرسها ثناؤهم عليها، لا بد أن تباع بأي ثمن مهما غلا، وتحتل مكاناً بين أرقى المجموعات. كل هذا يفهمه التجار فهماً تاماً (31) ".
وقد رفض أن يخضع رأيه لأمثال هؤلاء التجار أو الخبراء. وندد باسترقاق المصورين الإنجليز لمحاكاة فانديك أو للي أو نللر؛ لا بل إنه أطلق على عمالقة التصوير الإيطالي لقباً هزلياً هو "الأساتذة السود"، لأنهم ألقوا على التصوير الإنجليزي حجاباً كثيفاً بالسحر الأسود (الشيطاني) الكامن في ألوانهم القاتمة الشبيهة بالصلصة البنية. فلما بيعت لوحة منسوبة إلى كوريدجو بأربعمائة جنيه في مزاد بلندن، تشكك في صحة نسبتها وفي قيمتها، وقال إن في وسعه أن يرسم صورة لا تقل عنها جودة في أي وقت شاء. فلما تحداه بعضهم، رسم لوحة "سجسموندا" (1759) -وهي محاكاة جيدة لكوريدجو، فيها الدانتيللا والملابس الزاهية والأيدي الرقيقة والوجه الجميل، ولكن العينين كان يشوبهما من الاكتئاب ما لم يسر المشتري المنتظر، الذي أبى أن يدفع الجنيهات الأربعمائة التي طلبها هوجارث ثمناً لها. وقد بيعت بعد موته بستة وخمسين جنيهاً.
ثم أعطى خصومه سلاحاً جديداً بتأليفه كتاباً. فعلى لوحة الألوان الظاهرة في الصورة التي رسمها لنفسه ولكلبه (1745) كان قد تتبع خطاً ملتفاً لاح أنه العنصر الأساسي في الشكل الجميل. وقد عرف هذا الخط في رسالة تربوية سماها "تحليل الجمال" (1753) بأنه(35/320)
ذلك الخط الذي يتكون بلف سلك في توال مطرد حول مخروط، وذهب إلى أن خطاً كهذا ليس سر الجمال فحسب، بل حركة الحياة. وكان هذا كله في رأي نقاد هوجارث هراءً سخيفاً.
على أنه أثري برغم أنوفهم، فاقتنى كل بيت مثقف تقريباً صوره المطبوعة، وتاح له بيعها المتصل دخلاً ثابتاً. وفي 1757، وبعد أن نسيت لوحته "زحف فرقة الحرس"، عين "رئيس المصورين لكل أعمال جلالته"، وهي وظيفة أتته بمائتي جنيه أخرى في السنة. وكان في وسعه الآن أن يختصم أعداءً جدداً. ففي 1762 أصدر صورة مطبوعة سماها "العصر الحاضر" هاجم فيها بت وولكس وغيرهما لأنهما تجار حرب. ورد ولكس في مجلته "البريطاني الشمالي" يصف هوجارث بأنه عجوز مغرور جشع لا يستطيع تصور "فكرة واحدة عن الجمال" ورد هوجارث بنشره لوحة صور فيها ولكس وحشاً أحول. ورد تشرشل، صديق ولكس، بخطاب شرس سماه "رسالة إلى وليم هوجارث"، فأصدر هوجارث صورة مطبوعة بدا فيها تشرشل على هيئة دب، وكتب يقول "إن اللذة والفائدة المالية اللتين حصلت عليهما من هاتين المحفورتين، بالإضافة إلى ركوبي الخيل بين الحين والحين، أعادا إليَّ من الصحة الموفورة أكثر ما يرجى في مثل عمري". ولكن في 26 أكتوبر 1764 انفجر أحد شرايينه فمات.
ولم يترك بصمة منظورة على فن زمانه. وفي 134 افتتح "مدرسة حياة" ليدرب الفنانين، وقد أدمجت في 1768 في الأكاديمية الملكية للفنون. ولكن حتى الفنانون الذين تعلموا في مدرسته هجروا واقعيته مؤثرين عليها المثالية الفاشلة يومها. مثالية رينولدز وجينزبورو. على أن تأثيره أحس به الناس في مجال الكاريكاتور؛ هناك انتقلت فكاهته وقوته من توماس رولاندسن إلى إسحاق وجورج كرونشاك، وأصبح الكاريكاتور فناً. أما شهرة هوجارث الحالية مصوراً فقد بدأت بملاحظة لهويسلر قال فيها إن هوجارث "هو المصور الإنجليزي العظيم الوحيد (34) ". وقد استثنى هويسلر نفسه في حرص من هذه المقارنة. وقال قاض أقل تحوطاً في تقديره لهوجارث "إننا لو نظرنا إليه في أفضل صورة لوجدناه أعظم شخصية في تصوير(35/321)
القرن الثامن عشر (35) ". وهذا التقدير يمثل ما يشيع اليوم من بخس لقدر رينولدز بدعوى أنه كان مجملاً للأرستقراطيين همه جمع المال، وتلك نزوة عارضة ستختفي. ومن العسير تقييم هوجارث كفنان، لأنه لم يكن فناناً فحسب، فلقد كان صوت إنجلترا الغاضبة لما فيها من فساد وانحطاط، ولقد عد نفسه بحق قوة اجتماعية. كذلك فهمه فيلدنج فقال فيه "أكاد أجرؤ على التأكيد بأن عمليه هذين اللذين يسميهما "رحلة فاجر"" و "رحلة بغي"، قصد بهما خدمة قضية الفضيلة .. أكثر مما خدمتها كل المجلدات الضخمة التي كتبت إطلاقاً في الأخلاق (36) ". على أن شيئاً واحداً لا شك فيه، هو أنه كان الإنجليزي الصميم بين جميع من عاش من الفنانين الإنجليز.
3 - الموسيقيون
من ألغاز التاريخ المحيرة ذلك السر في أن إنجلترا التي أسهمت هذا الإسهام الموفور في التطور والنظرية الاقتصاديين والسياسيين، وفي الأدب والعلم والدين والفلسفة-إنجلترا هذه أقفزت نسبياً في أشكال التأليف الموسيقي الأكثر تعقيداً منذ عصر اليزابيث الأولى. وربما وجدنا بعض تعليل لهذه الظاهرة في زوال الكثلكة من إنجلترا؛ فالمذاهب الجديدة شجعت المؤلفات الموسيقية الرفيعة تشجيعاً أقل، ومع أن الشعائر اللوثرية في ألمانيا والأنجليكانية في إنجلترا تطلبت الموسيقى، فإن أشكال البروتستنتية الأكثر تزمتاً في إنجلترا وفي الجمهورية الهولندية لم تبذل تشجيعاً يذكر لأي موسيقي تزيد على الترنيمة الجماعية التي يرنمها المصلون. وحل محل أساطير كنيسة روما وطقوسها، التي طالما شددت على مباهج الإيمان، عقائد جبرية قاتمة تشدد على هول الجحيم، ولم يستطع غير "أورفيوس" أن يغني في وجه الجحيم. وماتت أغاني إنجلترا اللإليزابيثية الغرامية الشعبية في الصقيع البيورتاني. وقد جلبت عودة الملكية من فرنسا روحاً أكثر مرحاً، ولكن بعد موت بيرسل أسدل حجاب كثيف على الموسيقى الإنجليزية من جديد.
هذا باستثناء الأغاني التي تفاوتت من الجهوريات الجماعية المنتشرة في أندية الطرب glee clubs إلى الرقة الهفافة التي تميزت(35/322)
بها الغنائيات المأخوذة من تمثيليات شكسبير. وكلمة glee هي الكلمة الأنجلو-سكسونية gleo، ومعناها الموسيقى؛ ولم تتضمن بالضرورة الفرح، وكانت تطبق عادة على الأغاني التي لا ترافقها الموسيقى لثلاثة أصوات أو أكثر. وازدهرت أندية الطرب قرناً، وبلغت أوجها حوالي عام 1780 في عز أيام أكبر مؤلفي لأغاني الطرب، وهو صموئيل وب. وكان أجمل منها موسيقات توماس آرن التي لحنها لأغاني شكسبير-"هبي، هبي، يا ريح الشتاء" و "تحت شجرة الغابة الخضراء" و "حيث ترشف النحلة رحيقها هناك أرشف رحيقي"؛ وما زالت هذه تسمع في إنجلترا. والموسيقى المشجي آرن هو الذي لحن قصيدة طومسن "احكمي يا بريطانيا"! " وفي هذه الفترة، أو قبلها، لحن وطني مجهول نشيد بريطانيا القومي، "حفظ الله الملك". وعلى قدر ما نعلم، غني هذا النشيد علناً أول مرة في 1745 حين جاء نبأ بأن قوات جورج الثاني هزمها الاسكتلنديون بقيادة المطالب الشاب بالعرش عند بريستونبانس، ولاح أن أسرة هانوفر قد حان حينها. والنشيد في أقدم صوره المعروفة وهي (وهي لا تختلف إلا اختلافاً طفيفاً عن الكلمات واللحن الحاليين) دعا إلى الله بالنصر على الحزب الإستيوارتي في السياسة الإنجليزية، وعلى الجيش الإستيوارتي الزاحف من إسكتلندة:
"حفظ الله مولانا الملك
ليحي لكنا النبيل (جورج الثاني) طويلاً،
حفظ الله الملك.
ربنا انصره نصراً عزيزاً
واجعله سعيداً عظيماً،
ليملك علينا طويلاً،
حفظ الله الملك.
ربنا وإلهنا قم،
وشتت أعداءه،
واجعلهم يسقطون،
واحبط سياساتهم
وأفسد مكائدهم الوضيعة(35/323)
آمالنا معلقة عليه (في النص الحالي "عليك")،
احفظ اللهم أجمعين (37) ".
واقتبست اللحن لفترات شتى تسع عشرة دولة، لحنت به أغاني وطنية، ومن هذه الدول ألمانيا وسويسرا والدنمرك والولايات المتحدة الأمريكية-التي أحلت في 1931 محل "أمريكا" نشيداً قومياً "الراية المرصعة بالنجوم" يغني وفق لحن عسير من أغنية شراب إنجليزية عتيقة.
ويدل رواج الأغاني الرقيقة في إنجلترا على ذوق موسيقي واسع الانتشار. فكان في كل بيت هاربسيكورد فيما عدا بيوت الفقراء، وكان كل إنسان تقريباً يعزف على إحدى الآلات الموسيقية، وتوفر من العازفين في الاحتفال بذكرى هندل عام سنة 1784 بدير وستمنستر عدد يكفي للعزف على خمسة وتسعين كماناً، وست وعشرين فيولا، وإحدى وعشرين فيولنتشللو، وخمسة عشر دبل باصاً، وستة نايات، وست وعشرين أوبوا، واثني عشر بوقاً، واثني عشر نفيراً، وست ترمبونات، وأربعة طبول، مع فرقة غنائية من تسعة وخمسين سوبرانو، وثمانية وأربعين تينوراً وأربعة وثمانين باصاً-وهذا عدد كان خليقاً لكبره بأن يرتجف له هندل فرقاً في مقبرته بالدير. ولم يدخل الكلارينت إلا في أواخر القرن. وكان هناك أراغن رائعة، وعازفون عظماء عليها مثل موريس جرين الذي كانت أناشيده وتسبيحات شكره-مع تلك التي لحنها هندل وبويس-هي تقريباً موسيقى إنجلترا الكنسية الوحيدة الجديرة بالذكر في ذلك العصر.
أما وليم بويس فقد ارتقى حتى أصبح مديراً للفرقة الموسيقية الملكية (أي الأوركسترا) وعازف الأرغن في الكنيسة الملكية رغم ما شاب سمعه من خلل في صباه. وكان أول "مايسترو" يقود العازفين واقفاً. أما هندل ومعاصروه الآخرون فكانوا يقودونهم من الأرغن أو الهاربسيكورد وما زالت بعض أناشيده-لا سيما "على أنهار بابل"-تسمع في الكنائس الأنجليكانية، وما زالت البيوت الإنجليزية تسمع على الأقل أغنيتين من أغانيه "قلوب من البلوط" التي كتبها لإحدى تمثيليات(35/324)
جاريك الإيمائية، و "رفقاً في هبوبك يا نسيم الجنوب" وهو لحن في كنتانا "سليمان". أما سمفونياته فتبدو ضعيفة هزيلة لآذاننا التي عراها الذبول.
كان الشيء المثير الوحيد في دنيا الموسيقى الإنجليزية في مطلع القرن الثامن عشر هو مجيء الأوبرا، وكانت هناك عروض سابقة ترجع إلى عام 1674، ولكن الأوبرا لم تستهو المزاج الإنجليزي إلا حين قدم المغنون الإيطاليون من روما في 1702. وفي 1708 صدمت لندن وافتتنت بصوت مغن سوبرانو، خصي ( castrato) يدعى نيكوليني. وتلاه مغنون خصيان آخرون، وقد ألفتهم إنجلترا، وكادت تجن بصوت فارينللي. فما وافى عام 1710 حتى كان في لندن من المغنين الإيطاليين عدد أتاح لهم تقدير أول أوبرا فيها بالإيطالية دون غيرها. وقامت الاحتجاجات الكثيرة على هذا الغزو. وخصص له أديسون العدد الثامن عشر من صحيفته "سبكتيتور" مستهدفاً:
"أن يسلم إلى الأجيال القادمة وصفاً أميناً للأوبرا الإيطالية .... أن حفدتنا البعيدين سيشتد فضولهم لمعرفة السر في أن أجدادهم اعتادوا الجلوس معاً كأنهم جمهور من الأجانب في وطنهم ليستمعوا إلى تمثيليات بأكملها تمثل أمامهم بلسان لا يفهمونه".
واستنتج من حبكات هذه التمثيليات أنه ما من شيء في الأوبرا "يصلح للتلحين الجيد إلا كان لغواً فارغاً". وسخر من المناظر التي يغازل فيها البطل حبيبته بالإيطالية، فترد البطلة بالإنجليزية-وكأن اللغة أمر ذو بال في مثل هذه الأزمات. واعترض على المناظر المسرحية المسرفة-على العصافير الحقيقية التي تطير حول المسرح، ونيكوليني يرتعش في قارب مكشوف على بحر من الورق المقوى.
وكان في صدر أديسون ضغينة يريد شفاءها، فقد كتب النص لأوبرا توماس كلايتون الإنجليزية "روزامووند" التي فشلت (38). وأغلب الظن أن ثورته (21 مارس 1711) فجرها العرض الأول (24 فبراير) لأوبرا إيطالية تسمى "رينالدو" في دار أوبرا هايماركت.(35/325)
وزاد الطين بلة أن الموسيقى ألفها ألماني وفد مؤخراً على إنجلترا، هذا إلى أن الكلام كان بالإيطالية. ومما أفزع أديسون أن الأوبرا الجديدة حققت نصراً عظيماً، فما مضت ثلاثة أشهر حتى كانت قد عرضت خمس عشرة مرة اكتظ المسرح فيها دائماً برواده، ورقصت لندن على مختارات من موسيقاها، وتغنت بألحانها الأكثر بساطة (39). تلك هي بداية الطور الإنجليزي في أروع سيرة في تاريخ الموسيقى.
4 - هندل
1685 - 1759
أ - نشأته
كان جيورج فريدرش هندل (1) أشهر مؤلف موسيقي على عهد يوهان سباستيان باخ. انتصر في ألمانيا ودانت له إيطاليا الموسيقية، وكان روح الموسيقي وتاريخها في إنجلترا طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر. واتخذ تفوقه قضية مسلمة، لم يجادله في ذلك مجادل، وشمخ في دنيا الموسيقى كأنه مارد مسيطر يزن 250 رطلاً.
ولد في مدينة هاله بسكسونيا العليا في 53 فبراير 1685 قبل مولد يوهان سبستيان باخ بستة وعشرين يوماً، وقبل مولد دومنيكو سكارلاتي بثمانية أشهر. ولكن بينما أشرب باخ وسكارلاتي الموسيقي منذ طفولتهما، وأتيح لهما أبوان من مشهوري المؤلفين، وربيا على سلم موسيقي ملزم، ولد هندل لأبوين لا يكترثان للموسيقى؛ فأبوه كان الجراح الرسمي في بلاط الدوق يوهان أدولف أمير ساكس-فايسنفيلز، وأمه ابنة قس لوثري. ولم يرضيا عن إدمان الغلام على عزف الأرغن والهاربسيكورد، ولكن حين أصر الدوق بعد أن سمعه يعزف على ضرورة تدريبه على الموسيقى، سمحا له بأن يدرس على فريدريش تساخاو، عازف الأرغن بكنيسة ليبفراوينكيرشي في هاله. وكان تساخاو معلماً مخلصاً دقيقاً. فما بلغ جيورج الحادية عشرة حتى كان يؤلف
_________
(1) كان في ألمانيا يوقع باسمه H (ndel ( هندل)، وفي إيطاليا وإنجلترا Hendel (41) .(35/326)
السوناتات (التي بقي منها ست)، وحذق العزف على الأرغن إلى حد حمل تساخاو والأبوين المستسلمين على إيفاده إلى برلين ليعزف أمام صوفيا شارلوت ناخبة براندنبورج المثقفة، التي ستصبح عما قليل ملكة بروسيا. فلما عاد جيورج إلى هاله (1697) وجد أن أباه قد مات. أما أمه فعمرت إلى سنة 1729.
وفي 1702 دخل جامعة هاله ليحضر لمهنة المحاماة في ظاهر الأمر. وبعد شهر عينه القائمون على الكتدرائية الكلفنية في هاله مكان عازف أرغنهم السكير. أما العبقري الشاب الذي لا يستقر على حال، والذي هفت نفسه إلى مجال أرحب، فبعد أن قضي عاماً واحداً هناك اقتلع كل جذوره التي في هاله باستثناء حبه المقيم لأمه وانطلق ميمماً هامبورج، حيث كان الناس يحبون الموسيقى حباً يكاد يبلغ حبهم للمال. وكان في هامبورج داراً للأوبرا منذ 1678. هناك وجد هندل، وهو في الثامنة عشرة، مكاناً له عازفاً ثانياً للكمان. وصادق يوهان ماتيسون البالغ من العمر اثنتين وعشرين عاماً، و"التينور" الأول في الأولبرا، الذي أصبح بعد ذلك أشهر النقاد الموسيقيين في القرن الثامن عشر. ورحلا معه إلى لوبك (أغسطس 1703) ليستمعا إلى الشيخ بوكستيهودي يعزف، ويتحسسا إمكان خلافته في العزف على الأرغن في كنيسة مارينكرشي، ووجدا أن خليفته يجب أن يتزوج ابنة هذا الشيخ. فنظرا إلى الشيخ وابنته ثم رحلا عن المدينة.
وانهارت صداقتهما في مبارزة سخيفة سخف المبارزات في أي مسرحية. ذلك أنه في 20 أكتوبر 1704 أخرج ماتيسون أوبراه "كليوبطره" ومثل دور البطل فيها. ولقيت نجاحاً لا شك فيه، وأعيد تمثيلياً مراراً. وفي هذه الحفلات قاد هندل الأوركسترا والمغنين من الهاربسيكورد. وكان ماتيسون أحياناً ينزل من خشبة المسرح بعد أن يموت في دور أنطونيوس، وفي نشوة الفخر يأخذ مكان صديقه قائداً وعازفاً على الهاربسيكورد، ويسعد بنصيب من التصفيق الأخير. وفي 5 ديسمبر أبى هندل أن يحل صديقه محله على هذا النحو. فألحق الصديقان الأوبرا بشجار ساخن، وعقب انتهاء التمثيل سارا إلى الميدان العام، واستلا سيفيهما، واقتتلا على أنغام المديح من رعاة الأوبرا(35/327)
والمارة. وصك سيف ماتيسون زراً معدنياً على سترة هندل فانكسر. وانقلبت المأساة مهزلة في نظر الجميع إلا بطليها، وراحا يجتران سخطهما إلى أن قبل مدير الفرقة أوبرا هندل "الميرا" التي احتاجت إلى ماتيسون ليؤدي دور التينور. وأعاد نجاح الأوبرا (8 يناير 1705) الخصمين صديقين كما كنا من قبل.
وأحب الناس أوبرا "الميرا"، التي احتوت على واحد وأربعين لحناً بالألمانية وخمسة عشر بالإيطالية، حباً أتاح عرضها عشرين مرة في سبعة أسابيع. ودب دبيب الغيرة في قلب راينهارت كايزر الذي كان مشرفاً على الفرقة ومؤلفاً لمعظم أوبراتها. وضعفت شبيه أوبرا هامبورج، وعاش هندل عامين على دخل ضعيف. وكان الأمير جوفان جاستوني دي مديتشي، أثناء مروره بهامبورج، قد نصحه بأن يرحل إلى إيطاليا حيث يجن الناس كلهم بالموسيقى ويصدح حتى خدم المطاعم بالأغاني الجميلة. واقتحم هندل ثلوج جبال الألب في ديسمبر وفي محفظته مائتا دوقاتية، وخطاب من جاستوني إلى أخيه فرديناند وجد جيوب فرديناند منيعة نزل إلى روما. ولكن دار الأوبرا هناك كان قد أغلقها البابا إنوسنت الثاني عشر باعتبارها بؤرة للفساد. وعزف هندل على الأرغن في كنيسة سان جوفاني لاترانو، وصفق له الجمهور عازماً بارعاً، ولكنه عاد إلى فلورنسة لأن أحداً لم يرد أن يخرج أوبراه الجديدة. هناك وجد جاستوني الذي دافع عنه، ففتح فرديناند كيس نقوده، ومثلت "رودريجو"، وسر الجميع بها، ونفح فرديناند مؤلفها الشاب بمائة سكوين (300 دولار؟) وطقم عشاء من الخزف. ولكن فلورنسة لم يكن بها دار أوبرا عامة، أما البندقية فكان بها ست عشرة داراً. ومن ثم مضي هندل إلى البندقية.
كان ذلك في خريف 1707، وملكة الأدرياتي مبهورة بسحر أليساندرو سكارلاتي، تصفق لأعظم أوبراته "مترداتي أوباتوري"، فلا مجال فيها لألمان شاب حديث العهد بتعلم أسرار الميلوديا الإيطالية ودرس هندل أوبرات سكارلاتي، ووجد له صديقاً وفياً في ابن اليساندرو. وتقول الرواية أنه حين عزف هندل وهو مقنع على الهاربسيكورد في حفلة تنكرية في البندقية، صاح دومنيكو سكارلاتي(35/328)
"هذا أما السكسوني المعجز أو الشيطان (42) ". والصداقة الخالدة التي ربطت قلبي أعظم عازفين للهاربسيكورد في ذلك العهد أشبه بلحظة تناغم وانسجام وسط نشاز التاريخ. وقد ترك كلاهما البندقية للموسيقيين الأكبر منهما سراً وانطلقا إلى روما (يناير 1708؟).
وفي هذه المرة لقي هندل استقبالاً أفضل. فقد بلغ نبأ "رودريجو" العاصمة، وفتح الأمراء والكرادلة أبوابهم له، وهم أشد ضيقاً بلهجته الألمانية منهم بمذهبه اللوثري. وبنى المركيز دي رسبولي مسرحاً خاصاً في قصره ليخرج عليه أول أوارتوريو لهندل، واسمها "القيامة"، وكانت موسيقاها مفاجأة ملهمة في قوتها وتعقيدها وعمقها، وسرعان ما راحت الصفوة المثقفة كلها في روما تتحدث عن "السكسوني الطويل الجبار". غير أن موسيقاه كانت أصعب مما يحبه العازفون الإيطاليون. فلما أخرج الكردينال بييترو أوتوبوني أوراتوريو هندل "سريناتا" أتعبت الموسيقى أركانجلو كوريللي، الذي كان عازفاً أول للكمان وقائداً للأوركسترا. فتمتم في تأدب "أيها السكسوني العزيز، هذه الموسيقى تنهج النهج الفرنسي الذي لا أفهمه (43) ". وأخذ هندل الكمان من يدي كوريللي وعزف بحيويته المعهودة. وسامحه كوريللي.
بقي على هندل أن يغزو نابلي. وتقول رواية لا يعتمد عليها أن هندل وكوريللي، وسكارلاتي الأب والابن، كلهم قصدوا تلك المدينة معهم (يونيو 1708). وتزعم قصة أخرى مشكوك فيها أن هندل وقع في غرام هناك؛ ولكن التاريخ الحذر يعترف في أسف بأنه ليس لديه أي دليل سليم على أي غرام وقع فيه هندل إبان حياته في أي بلد، اللهم إلا غرامه بأمه وبموسيقاه. وقد يبدو أمراً لا يصدق أن خلو قلب رجل استطاع أن يكتب مثل هذه الألحان المشبوبة من شعلة الحب، ولعل التعبير عنها بدد حرارته على أجنحة الغناء. أما أهم الأحداث في هذه الفترة التي أقام فيها هندل في نابلي فهو-على قدر علمنا-لقاؤه بالكردينال فنتشنتسو جريماتي، حاكم نابلي وسليل أسرة بندقية غنية. وقد قدم للمؤلف نص أوبرا تتناول موضوع أم نيرون القديم. وأتم هندل المهمة في ثلاثة أسابيع. ورتب جريماتي تمثيلها في مسرح أسرته بالبندقية، فأسرع إليها هندل حاملاً موسيقاه.(35/329)
كانت الحفلة الافتتاحية لأوبرا "أجربينا" (26 ديسمبر 1709) أبهج الانتصارات التي عرفها هندل إلى ذلك الحين. ولم تخالج الإيطاليين الكرماء الغيرة لأن ألمانيا تفوق عليهم في لعبتهم، وأراهم روائع من النغم، واقتحامات من الانتقال، وأفانين من الصنعة قل أن أدركها حتى موسيقيهم المفضل اليساندرو سكارلاتي، فهتفوا "يحي السكسوني الحبيب (44) ". ونال نصيباً من هذا الهتاف المغني الباصو الممتاز جوزيبي بوسكي الذي تنقل صوته قفي يسر بين سلسلة كاملة من تسع وعشرين نغمة.
وخطب الكثيرون ود هندل الآن. فنصحه تشارلز مونتاجيو، ايرل مانشستر الذي كان سفيراً لبريطانيا في البندقية، بأن يذهب إلى لندن، وعرض عليه الأمير ارنست أوغسطس الأخ الأصغر للناخب جورج لويس، وظيفة قائد الفرقة الموسيقية الكنسية في هانوفر. لقد كانت البندقية رائعة، تتنفس الموسيقى، ولكن إلى متى يستطيع المرء أن يكسب قوته من أوبرا واحدة، وإلى متى يستطيع الركون إلى هؤلاء الإيطاليين المتقلبين؟ أما هانوفر ففيها ضباب، وغيوم، وكلام خارج من الحناجر، ولكن فيها أيضاً دار فخمة للأوبرا وراتب ثابت وطعام ألماني دسم؛ ثم أنه يستطيع بين الحين والحين أن يركب منها ليزور أمه في هاله. وعليه ففي 15 يونيو 1710 عين هندل قائداً للفرقة الكنسية في هانوفر، وكان يومها في الخامسة والعشرين، براتب سنوي قدره ألف وخمسمائة كراون، مع الأذن له بالغياب بين حين وحين. وفي خريف ذلك العام، طلب الأذن له بزيارة إنجلترا، فحصب عليه، ووعد بالرجوع سريعاً.
ب - غزو إنجلترا
كانت أوبرا لندن في محنة. ففيها فرقة إيطالية تغني، مغنيها الباصو بسكي، ومغنيتها الكونترالتو زوجته، ومغنيها السوبرانو نيكوليني الذي ذهب تشارلز بيرني، مؤرخ الموسيقى الغيور، إلى أنه "أول مغن عظيم حقاً غني في مسرحنا (45) ". ولكن دار أوبرا هايماركت (وكانت يومها تسمى مسرح صاحبة الجلالة)، ومسرح(35/330)
دروري لين، كانا يقعان في قسم من المدينة، تنشل فيه الجيوب وتحطم الرءوس. وتردد "المجتمع الراقي" في المغامرة بباروكاته وأكياس نقوده هناك.
وسمع آرون هل مدير الفرقة بأن هندل في لندن، فعرض عليه نص أوبرا مأخوذاً عن "تحرير أورشليم" لتاسو. وعكف هندل على العمل بنشاطه الهائل، ونقل في غير تحرج عن ألحانه هو، فلم ينقض أسبوعان حتى أتم أوبرا "رينالدو". فأخرجت في 24 فبراير 1711، وأعيد عرضها أربع عشرة مرة أمام جمهور حافل قبل أن ينتهي الموسم في 22 يونيو. وهاجمها أديسون وستيل، ولكن لندن أقبلت عليها، وتغنت بألحانها في الشوارع، وأكثر ما مس أوتار العاطفة من ألحانها بل يستطيع أن يحرك مشاعرنا حتى في يومنا هذا، لحنان هما اتركني إنني أبكي Lascia Ch'io pianga و Cara Sposa يا زوجتي العزيزة، وقد ربح جون وولش ألفاً وأربعمائة جنيه بنشره أغاني من أوبرا مينالدو، واقترح هندل في سخرية أن على وولش أن يكتب موسيقى الأوبرا القادمة ويترك له نشرها (46). وما لبثت هذه الأوبرا، وهي خير أوبرات هندل، أن أخرجت في دبلن وهامبورج ونابلي، وقد شغلت المسرح في لندن عشرين عاماً.
ومد هندل أجازته حتى بلغت سنة كاملة وهو يرشف نجاحه على مهل، ثم عاد كارهاً إلى هانوفر (يونيو 1711) ولم يكن هناك أسداً في قاعات الاستقبال، بل خادماً في قصر الأمير الناخب؛ وأغلقت دار الأوبرا فترة الموسم، فألف الكونشر توات الكبيرة والكنتاتات، وبينما كان خياله يحلق في سماء الأوبرات. وفي أكتوبر 1712 استأذن في زيارة أخرى "قصيرة" لإنجلترا. وأذن له الأمير الناخب، ربما هو شاعر أن إنجلترا ستكون على أية حال إقطاعية هانوفرية بعد قليل. ووصل هندل إلى لندن في نوفمبر، ومكث هناك ستاً وأربعين سنة.
وقد حمل معه أوبرا جديدة هي "الراعي الوفي"، التي ما زال استهلالها اللطيف يسحر جونا. وقد أخرجت في 22 نوفمبر، وفشلت. وولفور بدأ موضوعاً آخر وقد حفزه هذا الفشل أكثر مما ثبط همته،(35/331)
والموضوع هو "تيسيو (ثيوسيوس). وكانت حفلة الافتتاح نصراً له، ولكن المدير هرب بعد الليلة الثانية حاملاً إيصالات شباك التذاكر. وتسلم عمله مدير آخر اسمه جون هيديجر، وواصل عرض "تيسيو" حتى بلغت عروضها ثلاثة عشر، وكافأ المؤلف الذي لم ينقذ أجره بتنظيمه حفلة خيرية لإعانة "المستر هندل"، ظهر فيها المؤلف وهو يعزف على الهاربسيكورد. ودعا ايرل بيرلنتن، وكان مستمعاً متحمساً، هندل لينزل ضيفاً عليه في قصر بيرلنتن، وقبل هذه الدعوة، ووجد المسكن الطيب والطعام المترف، والتقى هناك ببوب، وجاي، وكنت، وغيرهم من أئمة الأدب والفن.
وأقبلت عليه الدنيا أيما إقبال. ذلك أن الملكة آن تاقت لوضع حد لحرب الوراثة الأسبانية، وأتت النهاية مع معاهدة أوترخت، فأبهج هندل آن بأن "تسبحة أوترخت" وبـ "أغنية الميلاد" في عيد ميلادها. وأثبت فيهما أنه درس "كوارس" بيرسيل. وأثابته الملكة العطوف بمعاش قدره بمائتا جنيه. أما وقد ظفر بالاطمئنان والرخاء، فإنه استراح الآن على مجدافيه طوال سنة من التهرب.
ولكن في أول أغسطس 1714 ماتت آن، وأصبح الناخب جورج لويس أمير هانوفر ملكاً على إنجلترا باسم جورج الأول. وتوجس هندل بعض الشيء من هذا الاتجاه الذي اتخذته الأحداث. فالواقع أنه هرب مع هانوفر، ولو أنه يتوقع أن يكون الملك غير راض عنه، وقد حدث هذا، ولكن جورج لزم الهدوء. وأعيدت تسمية مسرح هايماركت الآن فسمى "مسرح جلالة الملك"، وأحس الملك أنه ملزم ببسط رعايته على هذا المسرح، ولكنه كان يعرض أوبرا "رينالدو" التي لحنها لذلك المتهرب، فذهب جورج متنكراً إلا في لهجته، واستمتع بالعرض. وكان هندل خلال ذلك قد كتب أوبرا أخرى "أماديجي الغالي"، وأخرجها هيديجر في 25 مايو 1715، وأحبها جورج. وبعد قليل طلب عازف الكمان والمؤلف الإيطالي فرنتشسكو جيمنياني، الذي دعى للعزف في البلاط، أن يصاحبه هندل، لأنه عازف الهاربسيكود الوحيد في إنجلترا الذي يصلح لمصاحبته. وكان له ما أراد، وأبدع هندل في العزف فعفا عنه الملك، ورفع معاشه على أربعمائة جنيه في السنة.(35/332)
ووكلت إليه الأميرة كارولين تدريس بناتها، وأضافت معاشاً قدره مائتا جنيه. وهكذا الآن صاحب أعلى أجر بين المؤلفين الموسيقيين في أوربا.
فلما غادر جورج الأول لندن (9 يوليو 1716) ليزور هانوفر اصطحب هندل معه. وزار الموسيقي أمه في هاله، وبدأ نفحته الدورية لأرملة معلمه القديم تساخاو التي أخنى عليها الدهر. وعاد الملك والمؤلف إلى لندن في مطلع 1717. ودعا جيمس بريدجس، ايرل كارنارفون-دوق تشندوس فيما بعد-هندل ليعيش في قصره الفاخر المسمى "كانونز" بمدلسكس، ويحل محل قائد الموسيقى فيه، الدكتور يوهان بيبوش، الذي انتقم لنفسه فيما بعد تأليفه موسيقى "أوبرا الشحاذ". هناك كتب هندل "متتابعات موسيقية للهاربسيكورد" وهي "فنتازيات" على الهاربسيكورد بأسلوب دومنيكو سكارلاتي وكوبران، وبعض الكونشرتوات الكبيرة، وأثنى عشر "نشيداً تشاندوسياً" وموسيقى لتمثيلية تنكرية لجاي سمها "آسيس وغلاطية"، وأوبرا "راداميستو".
ولكن من يخرج الأوبرا؟ لقد هبط عدد رواد مسرح صاحب الجلالة، وأشرف هيديجر على الإفلاس. ورغبة في إنقاذه وإنقاذ الأوبرا أسس نفر من النبلاء والأعيان (فبراير 1719) الأكاديمية الملكية للموسيقى، ومولوها بخمسين سهماً طرحت على الجمهور بسعر مائتي جنيه للسهم، واشترى جورج الأول خمسة أسهم. وفي 21 فبراير أعلنت صحيفة لندنية أسبوعية أن "المستر هندل، وهو أستاذ موسيقي شهير، أبحر إلى القارة بأمر جلالة الملك ليجمع فرقة من صفوة المغنين في أوربا للأوبرا في مسرح هايماركت (47) " وأغار هندل على مختلف الفرق في ألمانيا، وزار أمه مرة أخرى. وبعد ساعات من مغادرته هالة إلى إنجلترا ظهر يوهان سبستيان باخ في المدينة بعد أم مشي عليها نحو خمسة وعشرين ميلاً من كوتن، وطلب أن يقابل الألماني العظيم الذي غزا إنجلترا؛ ولكنه وصل متأخراً، ولم يلتق الموسيقيان قط.
وفي 27 أبريل 1720 مثلت "راداميستو" أمام الملك، وخليلته، وجمهور تألق بالألقاب والجواهر، وناضل أشخاص من ذوي الألقاب(35/333)
ليدخلوا. يقول مينويرنج "لقد رد العديد من السادة الذي عرضوا دفع أربعين شلناً ثمناً لكرسي من المقاعد الرخيصة (48) ". ونافس الجمهور الإنجليزي في تصفيقهم وهتافهم البنادقة الذين صفقوا وهتفوا لأوبرا "أجربيينا" قبل ذلك بأحد عشر عاماً. وهكذا غدا هندل مرة أخرى بطل لندن.
ولكن البطولة شاب تمامها نقصان. ذلك أن جماعة منافسة من عشاق الموسيقى، يتزعمهم إيرل بيرلنتن الراعي الأسبق لهندل، فضلوا عليه جوفاني باتيستا بونونتشيني. فأقنعوا الأكاديمية الملكية للموسيقى بأن تفتتح موسمها الثاني بأوبرا بونونتشيني "آستارتو" (19 نوفمبر 1720)، وضمنوا لدور البطل فيها مغنياً سوبرانو كان الآن معبوداً للجماهير أكثر من نيكوليني. وكان لـ "سنسينو" هذا "فرانتيشسكو برناردي)، الكريه الطباع، الساحر الصوت، الفضل في انتصار أوبرا آستارتو والوصول بعروضها إلى العشرة. أما المعجبون ببونونتشيني فقد أشادوا به موسيقياً أعظم من هندل. ولم يكن أحد هذين المؤلفين مسئولاً عن الحرب التي قسمت الآن جمهوراً الأوبرا اللندني إلى فريقين متخاصمين، ولكن لندن كانت في ذلك العام، عام انفجار فقاعة بحر الجنوب، عصبية كباريس. أما الملك والأحرار ففضلوا هندل، وأما ولي العهد والمحافظون فناصروا بونونتشيني، واحتشد الظرفاء وكتاب الكراريس لدخول المعركة .. وبدا أن بونونتشيني قد أثبت تفوقه بأوبرا جديدة سماها "كريسبو" (يناير 1722) وفقت توفيقاً حمل الأكاديمية على أن تتبعها بنصر آخر لبونونتشيني هي "جريزلدا". فلما مات ملبره العظيم (في يونيو) اختير بونونتشيني، لا هندل، ليؤلف النشيد الجنائزي، ونفحت ابنة الدوق هذا الإيطالي معاشاً سنوياً قدره خمسمائة جنيه. لقد كان ذلك العام عام بونونتشيني.
ورد هندل بأوبرا "أوتوني" ومغنية سوبرانو جديدة أغراها من إيطاليا بضمان لم يسبق له نظير مقداره ألفا جنيه. وكانت هذه المغنية، واسمها فرانتشسكا كوتزوني، كما رآها هوراس ولبول، "قصيرة سمينة، لها وجه عجيني القوام نزق، وبشرة ناعمة رقيقة،(35/334)
ممثلة غير قديرة، سيئة الهندام، غبية، شاطحة الأحلام (49) "، ولكنها كانت تصدح بصوت ساحر. وقد حفلت "بروفاتها" بصراع الإرادات والطباع الحادة. قال لها هندل "أعرف جيداً أنك شيطانة حقيقية، ولكنني أنا نفسك أريدك أن تعرفي أنني بعلزبول (رئيس الشياطين) ". فلما أصرت على غناء لحن مخالفة لتعليماته، أمسك بها وهدد بأن يقذفها من النافذة (50). ولما كانت الألفان من الجنيهات ستتبعانها، فإنها أذعنت لأمره. وفي حفلة الافتتاح (12 يناير 1723) أبدعت الغناء حتى صاح أحد المتحمسين من المقاعد الرخيصة وسط غنائها "على اللعنة في أن بطنها عشاً من البلابل (51) ". وقد نافسها سنسينو، وأعانها "باصو" بوسكي. وفي الليلة الثانية بيعت الكراسي بزيادة قدرها خمسة جنيهات. وفي نحو هذه الفترة كتب جون جاي إلى جوناثان سويفت يقول: -
"أما التسلية المسيطرة على المدينة فهي الموسيقى دون سواها؛ هي الكمانات والفيولات الجهيرة والأبواب الواقعية، لا القياثير والمزامير الشعرية. ولا يسمح لأحد بأن يقول "أنا أغني" إلا إذا كان خصياً أو امرأة إيطالية. وكل إنسان أصبح الآن حكماً عظيماً في الموسيقى كما كان الناس في أيامك حكاماً من الشعر؛ والقوم الذين لم يكونوا يستطيعون التمييز بين نغمة وأخرى يتشاجرون الآن كل يوم على الأساليب المختلفة التي ينتهجها هندل، وبونونتشيني، وأتيليو "أريوستي) ... وفي لندن وستمنستر، في كل حديث مهذب، يجمع الرأي على أن سنسيئو هو أعظم رجل ظهر في الوجود (52) ".
ثم اشترى هندل بعد أن صعد نجمة ثانية بيتاً في لندن (1723) وأصبح مواطناً بريطانياً (1727). وواصل حرب الأوبرا حتى 1728. ونبش التاريخ بحثاً عن الموضوعات، فعرض على المسرح فلافيوس، وقيصر، وتيمورلنك، وسكبيو، والاسكندر، ورتشارد الأول. ورد بونونتشيني باستياناكس، وارمينيا، وفارناسس، وكلبورنيا؛ ولحن وارتاجزرسيس، ودارا؛ ولم يسبق في أي عهد أن لحن التاريخ على هذا النحو المتناغم. وفي 1726 ازداد وطيس الصراع الثلاثي بوصول(35/335)
فاوستينا بوردوني، وهي مغنية نصف-سوبرانو، دانت لها قبل ذلك البندقية ونابلي وفيينا. صحيح أنها لم توهب نبرات كوتزوني الرقيقة العذبة، ولكنها وجدت لصوتها سنداً من وجهها وقوامها ورشاقتها. وفي أوبرا "اليساندرو" (5 مايو 1726) جمع هندل بين المغنيتين، وأعطاهما عدداً متساوياً من الألحان المنفردة، ووازن بينهما بعناية في لحن ثنائي، وصفق لها السامعون معاً بضع أمسيات، ثم انقسموا فريقين، فكان فريق يصوت سخرية بينهما الآخر يصفق استحساناً، وهكذا أضيف بعد جديد لحرب الأنغام. وفي 6 يونيو 1727 حين غنت المغنية الأولى في أوبرا بونونتشيني "اتسايناتي" انفجر أنصار كوتزوني محدثين جلبة شائنة من صفير الاستهجان وصيحات الاستنكار حين حاولت بوردوني الغناء. واندلع القتال في قاعة الصالة وسرى إلى خشبة المسرح، وشاركت فيه مغنيتا الأوبرا وراحت الواحدة منهما تشد شعر الأخرى، وحطم النظارة مناظر المسرح مبتهجين-وكل هذا في حضرة كارولين، أميرة ويلز، وهي شاعرة بالخزي والمهانة.
ولعل "قياس الخلف" هذا كان وحده كافياً لقتل الأوبرا الإيطالية في إنجلترا. أما الضربة القاضية فقد كالها لها واحد من أرق الناس في لندن. ففي 29 يناير 1728، قدم جون جاي "أوبرا الشحاذ" في مسرح لنكولنز أن فيلدز. وقد وصفتا أغانيها المرحة الذكية البذيئة، ولكن الذين سمعوها تغني على أنغام الموسيقى التي وضعها أو اقتبسها يوهان بيبوش-هؤلاء فقط هم الذين في وسعهم أن يفهموا لم تحول جمهور المسارح بجملته تقريباً عن هندل وبونونتشيني وأريوستي، إلى بيبوش وبوللي وجاي، وظلت "أوبرا الشحاذ" تمثل الليلة تلو الليلة طوال تسعة أسابيع، بينما راحت "سيرانات" مسرح صاحب الجلالة وخصيانه يغنون لكراسي خاوية. ثم إن جاي كان قد هجا الأوبرا الإيطالية وسخر من حبكاتها البلهاء، وهزأ بالارتعاشات و "الشخلعات" في غناء المغنين والمغنيات السوبرانو، واتخذ اللصوص والشحاذين والمومسات شخوصاً للتمثيلية بدلاً من الملوك والنبلاء والعذارى والملكات، وعرض القصائد الشعبية الإنجليزية أغاني أفضل من الألحان الإيطالية. وابتهج الجمهور بالألفاظ التي يستطيع فهمها، خصوصاً إذا كانت مكشوفة بعض الشيء. ورد هندل بمزيد من الأوبرات-سيروي، وطولوميو ملك مصر(35/336)
(1728) وقد حظيت كلتاهما بلحظات مجيدة ولكنهما لم تأتيا بربح. وفي 5 يونيو شهرت الأكاديمية الملكية للموسيقى أفلاسها ولفظت أنفاسها الأخيرة.
على أن هندل لم يسلم بالهزيمة. فبعد أن هجره النبلاء الذين لاموه على خسائرهم، كون مع هيديجر (يونيو 1728) "الأكاديمية الجديدة للموسيقى"، وأنفق عليها عشرة آلاف جنيه-وهي كل مدخراته تقريباً-وتلقى مع الملك الجديد، جورج الثاني، وعدا بألف جنيه في العام معونة له. وفي فبراير انطلق إلى القارة في رحلة أخرى ليجند مواهب جديدة، لأن كوتزوني وبوردوني وسنسينو ونيكوليني وبوسكي، هجروا سفينته المشرفة على الغرق وراحوا يغنون للبندقية. واستخدم هندل بدلاً منهم ديوكا وبلابل جدداً. أنطونيو برناكي السوبرانو، وأنيبالي فابري التينور، وآنا ماريا سترادا ديل بو السوبرانو. وفي رحلة عودته توقف ليزور أمه آخر مرة. وكانت يومها في التاسعة والسبعين، عمياء مشلولة تقريباً. وبينما كان في هاله زاره فلهلم فريدمان باخ، الذي أتاه بدعوة لزيارة ليبزج، حيث عرضت قبيل ذلك أول مرة "آلام المسيح كما رواها متى البشير". واضطر هندل إلى رفض الدعوة. فهو لم يسمع بيوهان سباستيان باخ إلا لمالماً، ولم يخطر بباله قط أن شهرة هذا الرجل ستحجب شهرته يوماً ما. وهرول قافلاً إلى لندن، والتقط في طريقه الباصو الهامبورجي يوهان ريمنشنيدر.
وظهرت الفرقة الجديدة في أوبرا "لوتاريو" في 2 ديسمبر 1729 دون أن تلقى نجاحاً. وجرب حظه ثانياً في 24 فبراير بأوبرا "بارتنوبي"، فلم يوفق. وأعيد برناكي وريمنشنيدر إلى القارة، واستدعى سنسينو ثانية من إيطاليا، وبفضله هو وسترادا ديل بو، ونص كتبه متاستاسيو، اجتذبت أوبرا هندل "بورو" أسماع لندن (2 فبراير 1731)، وكان قد خلع على هذه الأوبرا طائفة من أعظم ألحانه تأثيراً. وامتلأ مسرح صاحب الجلالة براوده مرة أخرى. واستقبلت أوبرتان أخريان، هما "ايتسيو" و "سوزارمي" استقبالاً طيباً.
ولكن الكفاح للإبقاء على جمهور إنجليزي بأوبرا إيطالية أخذ(35/337)
يصبح أشد عسراً. وقد بدأ الآن أنه طريق مسدود ينتهي دائماً بالإنهاك البدني والمالي. لقد قهر هندل إنجلترا، ولكن إنجلترا بدت قاهرته الآن، فلقد كانت أوبراته شديدة التشابه، مصيرها المحتوم إلى الضعف والهزال. ولقد سمت بها الألحان الرائعة، ولكن هذه الألحان إنما كانت موصولة بالحبكة وصلاً هزيلاً، وكانت بلغة غير مفهومة مهما كان فيها من انسياب رقيق، وكثير منها لحن للسوبرانو من الرجال، وهؤلاء ازداد العثور عليهم صعوبة. وتحكمت القواعد الجامدة والغير بين الفنانين في توزيع الألحان، وزادت من افتعال القصة. ولو أن هندل واصل السير على الخط الإيطالي لكاد يصبح النوم نسياً منسياً. على أن سلسلة من المصادفات انتزعته انتزاعاً من دربه المطروق ووجهته إلى الميدان الذي سيظل فيه نسيج وحده حتى في أعين زماننا هذا.
جـ - هزيمته
في 23 فبراير 1732، وفي حانة "التاج والمرساة" عرض برنارد جيتس، احتفالاً بعيد ميلاد هندل السابع والأربعين، أوراتوريو هندل "استير" عرضاً خاصاً. وقد اجتذبت جمهوراً مجزياً أغرى جيتس بتكرار عرضها مرتين-مرة لجماعة خاصة، ومرة (في 20 أبريل) للجمهور. وكان هذا أول أداء علني في إنجلترا. واقترحت الأميرة آن عرض "استير" بمسرح جلالة الملك وتزويدها بالملابس والمناظر والحركة، ولكن أسقف لندن أحتج على تحويل الكتاب المقدس إلى أوبرا. فاتخذ هندل الآن قراراً من أهم القرارات في حياته، وأعلن أنه سيخرج "قصة استير المقدسة" "أوراتوريو بالإنجليزية" في مسرح هيماركت في 2 مايو، ولكنه أضاف أنه "لن يصاحب الأداء حركة على المسرح"، وأن الموسيقى "ستؤدي بطريقة حفلة التتويج الدنية"، وهكذا فرق بين الأوراتوريو والأوبرا. وجاء بكورسه وأوكستراه، وعلم لاسترادا والإيطاليين الآخرين أن يغنوا أغانيهم المنفردة بالإنجليزية. وحضرت الأسرة المالكة، واحتملت "استير" عروضاً خمسة في أول شهر لها.
وأخفقت أوراتوريو أخرى سماها "أسيس وغلاطية" (10 يونيو) في إرضاء مشاهديها، وارتد هندل إلى الأوبرا. فعرضت أوبرا(35/338)
"أورلاندو" (27 يناير 1733) فترة طيبة، ولكن حتى مع هذا التحسن، واجهت شركته مع هيديجر الإفلاس. فلما أخرج هندل الأوراتوريو الثالثة "دبوره" (17 مارس) حاول أن يستعيد كفايته المالية بمضاعفة أجر الدخول. ونددت رسالة غفل من التوقيع موجهة إلى صحيفة "كرافتسمان" بهذا الإجراء، ودعت للثورة على سيطرة "المستر هندل الوقح ... المستبد، المسرف (53) " على موسيقى لندن. ولما كان هندل قد ظفر برعاية الملك، فقد فقد أتوماتيكياً مودة فردريك، أمير ويلز، وابن جورج الثاني وعدوه. وأخطأ هندل-الذي كثيراً ما خضع سلوكه لحدة طبعه-بالإساءة إلى جوزف جوبي، الذي كان يعلم الرسم لفردريك؛ وثأر جوبي لنفسه برسمه كاريكاتوراً للموسيقى ظهر فيه مخلوقانهما متوحشاً له خطم خنزير بري؛ ووزعت نسخ من الرسم في أرجاء لندن فأضافت إلى تعاسة هندل. وفي ربيع 1733 شجع أمير ويلز حاشيته على تأليف فرقة منافسة سميت "أوبرا الأشراف". واستقدمت الفرقة من نابلي أشهر معلمي الغناء في ذلك العهد، وهو نيكولو بوربورا، وأغرت سنسينو بترك هندل، وكوتزوني بالمجيء من إيطاليا؛ وفي 29 ديسمبر، وفي مسرح لنكولنز أن فيلدز، أخرجت أوبرا بوربورا "آريانا" التي لقيت استحساناً عظيماً. أما هندل فقد قابل هذا التحدي الجديد بأوبرا تناولت موضوعاً مشابهاً مشابهة تنطوي على التحدي، "آريانا في كريت" (26 يناير 1734)، فلقيت هي أيضاً استقبالاً حسناً. ولكن في نهاية الموسم انتهى عقده مع هيديجر، وأجر هيديجر مرح جلالة الملك لأوبرا الأشراف، ونقل هندل فرقته إلى مسرح كوفنت جاردن الذي يملكه جون رتش.
وانتقم بوربورا بدعوة كارلو بروسكي، أشهر المغنين الخصيان، المعروف لأوربا كلها باسم "فارينللي". وقد نفصل الحديث عن غناء هذا الرجل حين نلتقي به في وطنه بولونيا، وحسبنا هنا أن نقول أنه حين انضم إلى سنسينو وكوتزوني في أوبرا بوربورا "أرتازرسي" كان ذلك حدثاً في تاريخ إنجلترا الموسيقي، وأعيد عرض الأوبرا أربعين مرة في السنوات الثلاث التي مكثها فارينللي-وقابل هندل بأوبرا "أريودانتي" (8 يناير 1735)، وهي من أروع أوبراته، غنية غنى فريداً في موسيقاها الآلية، وقد ظفرت بعشرة عروض في شهرين،(35/339)
ووعدت بأن تغطي نفقات هندل. ولكن حين أخرج بوربورا أوبرا "بوليفيمو" (أول فبراير) التي لعب فيها فارنيللي دور البطل، لم يستطع الملك ولا الملكة ولا الحاشية أن يمتنعوا عن مشاهدتها، وفاقت في مرات عرضها "أرتازيرسي"، بينما لم تلبث أوبرا هندل "التشينا" (16 أبريل) أن أقفر مسرحها من رواده-ولو أن ألحاناً أوركسترالية متتابعة (سويت) من موسيقاها لا تزال تظهر على البرامج اليوم. واعتزل هندل ساحة القتال نصف سنة ليطبب آلامه الروماتزمية بمياه ينابيع تنبردج.
وفي 19 فبراير عاد إلى كوفنت جادرن بأوراتوريو لحنها القصيدة درايدن "وليمة الاسكندر". كتب معاصر أن جمهور الألف والثلاثمائة مشاهد الذين ملأوا المسرح استقبلوا الأوراتوريو بصفيق "ندر أن سمع في لندن (54) ". وتعزى هندل بربح منها بلغ 450 جنيهاً، ولكن القصيدة كانت أهزل من أن تحتمل إعادة عرضها أكثر من أربع مرات، رغم أن هندل قام بعزف مثير على الأرغن في فترة الاستراحة، وانقلب المؤلف-المخرج-القائد-العازف اليائس من الأوبرا من جديد. وفي 12 مايو قدم "أطلانطا" مسرحية رعوية تحتفل بزواج أمير ويلز. وكان قد دعا من إيطاليا مغنياً خصياً جديداً يدعى جيتسيللو (جواكينو كونتي) لغناء السوبرانو، وخص دوره بلحن (كاري سلفي" وهو من أجمل وأخلد أغانيه. وبلغ من سرور فردريك أنه نقل رعايته من فرقة بوربورا إلى فرقة هندل، ولكن هذا النصر كدر إلغاء الملك لتبرعه السنوي بألف جنيه لمشروع هندل حين سمع بالخطوة التي اتخذها ابنه.
وكف بوربورا عن المعركة في ربيع 1736. وملأ هندل مسرحه بمناوبة الأوبرا مع الأوراتوريو، وأضاف إلى فرقة "جوستينو" (16 فبراير 1737) "الدببة، والحيوانات الغريبة، والتنانين التي تقذف النار (55) ". ولكن الجهد الذي اقتضته مسئولياته المنوعة حطمه. وفي أبريل أصابه انهيار عصبي، ونقطة شلت ذراعه اليمنى فترة. وفي 18 مايو عرض "برينيتشي"، آخر أوبرا كتبها لفرقته. ثم أغلق مسرحه في أول يونيو مثقلاً بديون كثيرة، متعهداً بالوفاء بها جميعاً كاملة، وقد فعل. وبعد عشرة أيام حلت "أوبرا الأشراف"(35/340)
المنافسة له، مثقلة بدين قدره اثنا عشر ألف جنيه. وهكذا انتهى عصر الأوبرا العظيم في إنجلترا.
وكانت صحة هندل من بين ما تخلف من حطام. فالروماتزم في عضلاته، والتهاب المفاصل في عظامه، والنقرس في أطرافه-هذه كلها تفاقمت في صيف 1737 بنوبة جنون عارضة (56). فغادر إنجلترا ليستشفي بمياه آخن. وكتب السرجون هوكنز يقول إنه هناك:
"أحتمل من إفرازات العرق التي بعثتها حمامات البخار ما أدهش كل إنسان. وبعد بضع محاولات من هذا النوع، بدأت معنويته خلالها ترتفع ولا تهبط من أثر العرق الغزير، فارقه اضطراب عقله، وبعد بضع ساعات .. .. ذهب إلى كنيسة المدينة الكبرى، ووصل إلى الأرغن، ثم عزف عليه عزفاً جعل الناس يعزون شفاءه إلى المعجزة (57) ".
وفي نوفمبر عاد إلى لندن، وإلى الكفاية المالية وأسباب التشريف. وكان هيديجر قد عاد ثانية إلى مسرح صاحب الجلالة. ونقد هندل ألف جنيه لقاء أوبراتين، واحتوت إحداهما وهي "سرسي" (15 أبريل 1738) على اللحنين المشهورين "لارجو" و "أومبرا مايفو". ودفع مستأجر حدائق فوكسهول إلى روبياك ثلاثمائة جنيه لينحت تمثالاً يظهر فيه الموسيقى وهو يداعب أوتار قيثارة؛ وفي 2 مايو أزيح الستار عن هذا التمثال الثقيل الوقفة، الغبي التعبير، في الحدائق في حفلة موسيقية. ولا بد أن هندل قد سره أكثر من هذا تلك الحفلة التي أعين بها في 28 مارس، والتي أتت بكثير من ألف جنيه. فدفع الآن ديون أعجل دائنيه، وكان أحدهم يهدد بإيداعه سجن المدينين. ولكنه كان مشرفاً على الإفلاس برغم كل تشريف. ولم يستطع أن يتطلع بعد ذلك إلى هيديجر، الذي أعلن (24 مايو) أنه لم يتلق من الإكتتابات ما يتيح له إخراج أوبرات في 1738 - 39. هنا، ودون تكليف ولا فرقة، بدأ هندل أعظم أطواره، وهو في الثالثة والخمسين، والأوصاب والأوجاع تهز بدنه.(35/341)
د - الأوراتوريو
نشأ هذا الشكل الجديد نسبياً من كورالات العصور الوسطى التي تمثل أحداثاً في التاريخ المدون في الكتاب المقدس أو حية القديسين. وكان القديس فليب نيري قد خلع على هذا الشكل اسمه بتفضيله إياه وسيلة للعبادة التعليم الديني في مصلى آباء الأوراتوريو في روما. وطور جاكومو كاريسمي وتلميذه اليساندرو سكارلاتي الأوراتوريو في إيطاليا، ونقلها هنريس شوتس من إيطاليا إلى ألمانيا، وبلغ رينهارت كيزر بهذا اللون شأوا بعيداً قبل موته (1739). وهذا هو التراث الذي بلغ غايته في "مسيا" Messiah هندل عام 1741.
والفضل في نجاح هندل يرجع بعضه إلى توفيقه بين هذا الشكل وبين الذوق الإنجليزي. وقد واصل اختيار موضوعات الأوراتوريو من الكتاب المقدس، ولكنه أضفى عليها بين الحين والحين عنصر تشويق غير ديني، كما فعل في موضوع الحب في "يوسف واخوته". وفي "يفتاح"؛ وركز على الطابع الدرامي لا الديني، كما فعل في "شاول" و "إسرائيل في مصر"؛ واستعمل نصاً إنجليزياً خالصاً، أخذ جزءاً منه فقط من الكتاب المقدس. لقد كانت في جزء كبير منها موسيقى دينية، ولكنها مستقلة عن الكنائس والطقوس. وقد مثلت على مسرح تحت رعاية علمانية. يضاف إلى هذا أن هندل استخدم الموضوعات الكتابية ليرمز بها للتاريخ الإنجليزي، فإسرائيل ترمز إنجلترا، وتمرد 1642 الكبير وثورة 1688 المجيدة يمكن سماعها في كفاح اليهود للتحرر من ربقة المصريين (أسرة ستيوارت) والسيطرة الهلنستية (الغالية)؛ ولم يكن الشعب المختار في حقيقته سوى الأمة الإنجليزية، وإله إسرائيل هو نفسه الإله الذي قاد الشعب الإنجليزي إلى النصر بعد المحن. وكانت فكرة هندل عن الله أشبه بفكرة البيورتان، فهو "يهوه" إله العهد القديم الجبار، لا إله الآب كما يصور العهد الجديد (58). وكان هذا إحساس إنجلترا، فاستجابت في فخر لأوراتوريوات هندل.
بدأ الطريق الصاعد إلى "المسيا" بأوراتوريو "شاول" التي أخرجت على مسرح صاحب الجلالة في 16 يناير 1739. "إن مارش الموتى المهيب، الجليل، لكفيل وحده بأن يخلد هذا العمل (59) ".(35/342)
ولكن الجمهور لم يعتد شكل الأوراتوريو، لذلك لم تعمر "شاول" أكثر من عشرة عروض. وبهمة لا تصدق ألف هندل وقدم (4 أبريل) آية أخرى من آياته هي "إسرائيل في مصر". هنا جعل الكورس هو البطل، صوت أمة تولد، ووضع موسيقى يعدها الكثيرون أسمى ما كتب (60). ولكن اتضح أنها مترامية عسيرة فوق ما يحتمله الذوق السائد آنئذ، وأنهى هندل موسمه التاريخي بديون جديدة.
وفي 23 أكتوبر اندفعت إنجلترا إلى الحرب مع أسبانيا بسبب أذن جنكنز. وفي وسط ضجيج الحرب وصخبها استأجر هندل مسرحاً صغيراً، وفي عيد القديسة راعية الموسيقيين قدم الإطار الموسيقي الذي ألفه لقصيدة درايدن الغنائية التي كتبها بمناسبة "عيد القديسة سيسيليا" (22 نوفمبر 1739) ولم تستطع لندن، حتى في برد تلك الليلة من ليالي الشتاء وفوضاها، أن تقاوم ذلك الاستهلال الرخيم المشرق، أو لحن السوبرانو الأثيري في القسم الثالث، أو "الناي الشاكي الخافت" و "العود الصادح" في الخامس، في حين اتفق "دق الطبل الراعد، ذلك الدق المضاعف المضاعف المضاعف" مع روح الحرب المدمدمة في الشوارع. وعاود الأمل هندل، وجرب أوبرا سماها "أمينيو" (1740)، ولكنها فشلت، وجرب أخرى اسمها "ديداميا" (1741)، ففشلت هي أيضاً، واعتزل العملاق المرهق المسرح الموسيقي اللندني قرابة عامين.
وكان هذان العامان أروع ما ف حياته. ففي 22 أغسطس 1741 بدأ يؤلف أوراتوريو "المسيا". وقد اقتبس النص تشارلز جيننز من أسفار أيوب والمزامير وأشعياء ومراثي أرميا وحجي وزكريا وملاخي-وكلها من أسفار العهد القديم، ومن أناجيل متى ولوقا ويوحنا، ورسائل بولس، وسفر الرؤيا-وهي من أسفار العهد الجديد. وأتم كتابة الموسيقى في ثلاثة وعشرين يوماً، وقال لصديق إنه في بعض هذه الأيام "حسبتني حقاً أبصر السماء كلها أمامي فعلاً، والله العلي ذاته (61) ". وإذ لم يتح له أمل مبكر في العثور على جمهور لها، فقد انتقل إلى كتابة أوراتوريو كبيرة أخرى هي "شمشون"، بناها على قصيدة ملتن عن معاناة شمشون Samson Agonistes وفي تاريخ غير معرف خلال(35/343)
هذه النشوات تلقى دعوة لعرض بعض أعماله في دبلن. وبدا له أن الاقتراح آت من العناية الإلهية التي تقدره حق قدره، ولكن الحقيقة أنه أتى من وليم كافندش، دوق ديفونشير، ونائب الملك في إيرلندة.
ووصل إلى دبلن في 17 نوفمبر 1741. واستخدم أفضل من وجد من المغنين، ومنهم سوزانا ماريا كبر، الابنة المثقفة لتوماس آرن، ونظمت عدة هيئات خيرية ست حفلات موسيقية له، نجحت نجاحاً حمله على تقديم لسلة ثانية. وفي 27 مارس 1742 نشرت مجلتان في دبلن إعلاناً جاء فيه:
"رغبة في إغاثة المسجونين في عدة سجون، وإعانة مستشفى ميرسر .. .. سيقدم يوم الاثنين 12 أبريل على قاعة الموسيقى في شارع فيشامبل، أوراتوريو المستر هندل الكبرى الجديدة، المسماه "المسيا". وسيشارك فيها أعضاء الكورس في كلتا الكتدرائيتين، ويعزف المستر هندل بعض الكونشتوات على الأرغن (62) ".
وبيعت التذاكر كذلك للبروفات التي ستجري في 8 أبريل، والتي قالت مجلة فوكنر أنها "تؤدي أداءً رائعاً ... اعترف منه أعظم الحكام بأنها أبدع لحن موسيقي سمعه الناس إطلاقاً". وأضيف إلى هذا إعلان يؤجل حفلة الاثنين إلى الثلاثاء، ويرجو السيدات "أن يحضرن بغير أطواق لأثوابهن، لأن هذا من شأنه أن يدعم عمل البر، إذ سيفسح المكان لعد أكبر من المحاضرين". وطلبت فقرة أخرى إلى الرجال أن يحضروا بغير سيوفهم. وبهذه الطرق اتسعت قاعة الموسيقى لسبعمائة شخص بدلاً من ستمائة.
وأخيراً، وفي 13 أبريل 1742، قدم أشهر الألحان الموسيقية الكبرى قاطبة. وفي 17 أبريل احتوت ثلاثة صحف دبلندية نقداً واحداً:
"في يوم الثلاثاء الماضي قدمت أوراتوريو المستر هندل الكبرى المقدسة، "المسيا" .. .. وقد اعترف أفضل الحكام بأنها أفضل القطع الموسيقية صقلاً. وتعوزنا الألفاظ للأعراب عن المتعة الفائقة التي أتاحتها للجمهور المزدحم المعجب. وقد تضافرت عناصر السمو والفخامة(35/344)
والرقة، التي واءم بينها وبين أنبل الألفاظ وأجلها وأشدها تأثيراً، لتطرب وتسحر القلب والأذن المسلوبين. ومن الإنصاف لمستر هندل أن يعرف العالم أنه تبرع في سخاء بحصيلة هذه الحفلة الكبرى لتوزع بالتساوي بين جمعية إغاثة المسجونين، ومبرة العجزة، ومستشفى ميرسر، وهو عمل ستذكره له هذه الهيئات بالشكر على الدوام (63) ".
وأعيد عرض "المسيا" في دبلن في 3 يونيو. وقد أعيدت ألف مرة منذ ذاك التاريخ، ومع هذا فمنذا الذي مل تلك الألحان-سواء الهادئة منها أو الفخمة-، تصاحبها الترانيم الخافتة الرقيقة اللطيفة مثل "سوف يطعم قطيعة" و "أعلم أن فادي حي"، و "ليتمجد اسمه" و "كان مزدري مرفوضاً"؟ لقد حدث والمسز كبر تترنم بهذا اللحن الأخير في أول عرض بدبلن أن صاح قسيسأنجليكاني من بين الحاضرين قائلاً "لتغفر لك خطاياك من أجل هذا أيتها المرأة! " فكل ما في الرجاء الديني من عمق وحرارة، وكل ما في الترتيل الورع من رقة وحنان، وكل ما وهب الموسيقى من فن وعاطفة-كل هذا اجتمع ليجعل من هذه الألحان أرفع اللحظات في الموسيقى الحديثة.
وفي 13 أغسطس غادر هندل دبلن منتعش الروح ممتلئ الجيب ولقد عقد النية على أن يغزو إنجلترا من جديد. ولا بد أنه قد سرى عنه غلو بوب في الثناء عليه في الجزء الرابع من "ملحمة الأغبياء" (1742):
هاهو هندل العملاق يقف قوياً وهو مدجج بسلاح جديد!
مثل برياريوس الشجاع، وله مائة يد (أي الأوركسترا)
يأتي ليحرك ويوقظ ويهز النفوس
ورعود جوبيتر تتبع طبوا مارس
وعليه ففي 18 فبراير 1743، في المسرح الملكي بكوفنت جاردن، قد الموسيقي الذي استعاد شبابه أوراتوريو "شمشون". وكان جورج الثاني على رأس الصفوة اللندنية التي حضرت حفلة الافتتاح. وأبهج الاستهلال الجميل كل إنسان سمعه إلا هوراس ولبول، الذي صمم على ألا يعجب بشيء قط؛ وكان اللحن الرفيع الذي مطلعه "يا رب الجنود"(35/345)
رائعاً روعة تقرب من روعة ألحان المسيا، وكما فعل شمشون الجبار الذي سحق بقوته المحتفلين إذ أسقط عليهم المعبد، فكذلك كان تأثير أوراتوريو "شمشون" ساحقاً على الحاضرين. ولكن حين عرضت المسيا نفسها بعد شهر (23 مارس) على لندن، لم يستطع حتى الملك-الذي أرسي يومئذ تقليداً دائماً بوقوفه عند ترنم الفرقة بلحن "هللويا"-أن ينهض بالأوراتوريو إلى مقام التقبل. فرجال الدين نددوا باستعمال المسرح للموسيقى الدينية، أما النبلاء فما زالوا على صدهم وجراح إخفاق فرقتهم الأوبرالية توجعهم. ولم تعرض المسيا في العامين التاليين إلا ثلاث مرات، ثم توقف عرضها حتى عام 1749. ففي ذلك العام أهدى هندل، الذي كان رجلاً باراً بالإنسانية فيما بين إفلاساته، أرغناً جميلاً لمستشفى اللقطاء الذي كان صديقه هوجارث يحبه حباً جماً، وفي أول مايو 1750 أول عرض من عروض المسيا السنوية لإعانة أولئك البؤساء المحظوظين.
وفي 27 يونيو 1743 قاد جورج الثاني جيشه للنصر في معركة ديتنجن. فلما عاد إلى لندن حيته المدينة بالعروض والأضواء والموسيقى، وصدحت الكنيسة الملكية في قصر سانت جيمس بـ "تسبيحة ديتنجن" التي لحنها هندل لهذه المناسبة (27 نوفمبر). وكانت نتاج العبقرية والمقص، لأنها احتوت فقرات مسروقة من مؤلفين أسبق وأقل شأناً من هندل، ولكنها كانت معجزة من معجزات اللصق. وابتهج الملك.
فلما أن تشجع هندل بالابتسامات الملكية، جدد جهوده ليقتنص آذان لندن من جديد. وفي 10 فبراير 1744 قدم أوراتوريو أخرى سماها "سملي" احتوت ترنيمة بديعة اسمها "حيثما سرت" ما زالت تترنم بها إنجلترا وأمريكا، ولكن الأوراتوريو لم تستطع تجاوز عروض أربعة. وظل النبلاء على عدائهم لهندل، وحرصت نبيلات كثيرات على إقامة الولائم المترفة في الأمسيات المقررة للحفلات الموسيقية التي يحييها هندل، واستؤجر الأوباش ليمزقوا إعلاناته. وفي 23 أبريل 1745 ألغى الحفلات الموسيقية الثمان التي أعلن عنها من قبل، وأغلق مسرحه، واعتزل في تنبردج ولز. وأرجفت الشائعات أنه مجنون. كتب حامل لقب ايرل شافتسبري في تلك الفترة يقول (24 أكتوبر) "إن هندل المسكين يبدو(35/346)
أحسن قليلاً، وأرجو أن يتماثل للشفاء تماماً، ولو أن عقله قد اختلط اختلاطاً تاماً (64) ".
وربما أخطأت الشائعات، لأن هندل الذي بلغ الستين استجاب بكل قواه لدعوة من ولي العهد ليحيي ذكرى انتصار أخي الأمير الأصغر، دوق كمبرلاند، على القوات الإستيوارتية في كالودين. واتخذ هندل انتصار يهوذا المكابي (166 - 161 ق. م) على خطط أنطيوخس الرابع لقرض الهلنستية على وطنه موضوعاً رمزياً للأوراتوريو الجديدة. وقد أحسن الجمهور استقبالها (أول أبريل 1747) حتى احتملت إعادة عرضها خمس مرات في أول موسم لها. أما يهود لندن الشاكرون هذا الاحتفال النبيل بأحد أبطالهم القوميين، فقد أعانوا على تكثير جمهور النظارة، فمكنوا هندل من تقديم الأوراتوريو أربعين مرة قبل موته. واعترافاً بفضل هذا الدعم الجديد اتخذ أكثر موضعات ألحانه الدينية بعد ذلك من تاريخ اليهود أو أساطيرهم، اسكندر بالوس، ويشوع، وسوسنة، وسليمان، ويفتاح. وعلى عكس ذلك لم تجتذب أوراتوريو "تيودورا"-وهو اسم مسيحي-من الجمهور إلا أقل القليل، حتى لاحظ هندل في مرارة أنه "كان هناك مكان يتسع للرقص" وغادر تشسترفيلد المسرح قبل نهاية العرض معتذراً بأنه "لا يريد إزعاج الملك في خلوته (65) ".
هـ - بروميثيوس
ليست الأوراتوريو إلا "نوعاً" واحداً من ذلك "الجنس" المسمى هندل. ذلك أن روحه المتعددة الأشكال اتجهت بتوافق تلقائي تقريباً لأي شكل من الأشكال الموسيقية الكثيرة. فالأغاني التي ما زالت تمس أوتار العاطفة، وقطع الأرغن أو البيان المتناهية الرقة، والسوناتات، والمتتابعات، والرباعيات، والكنشرتو، والأوبرا، والأوراتوريو، وموسيقى الباليه، والقصائد الغنائية، والرعويات والكنتاتات، والتراتيل، والأناشيد الوطنية، وتسبيحات الشكر، وترانيم أسبوع الآلام-كل شيء تقريباً إلا السمفونية الوليدة نجده في موسيقاه، منافساً بذلك فيض بيتهوفن أو باخ المتدفق، و"متتابعات الهاربسيكورد" تبدو اليوم على الهاربسيكورد وكأنها أصوات أطفال سعداء لم يعرفوا التاريخ بعد. وهناك مجموعة ثانية من المتتابعات(35/347)
بدأ بذلك الاستهلال الذي لعب به الموسيقى برامز لعباً مرحاً في "تنويعات وفوجه على موضوع لهندل".
وكما أخذ هندل الأوراتوريو عن كاريسيمي وكايزر وارتفع بها إلى أوجهاً، كذلك أخذ عن توريللي وكوريللي "الكونشرتو الكبير"-لآلتين أو أكثر لمغن واحد أو مغنيين مع أوركسترا صغير (أوركسترا الحجرة). وفي مجموعته الموسيقية السادسة ترك اثني عشر من هذه الكونشرتوات الكبيرة، مقابلاً كمانين وفيولنتشيللو بمجموعة وترية، وبعضها يبدو لنا اليوم رتيباً، وبعضها يقرب من كونشرتو براندنبورج لباخ. كذلك نجد في هندل كونشرتوات ممتعة لآلة منفردة-الهاربسيكورد أو الكمان، أو الفيولا، أو الأوبرا، أو الهارب. أما تلك المخصصة للوحات المفاتيح فكان يؤديها هندل بنفسه في المقدمات أو الفواصل. وكان أحياناً يترك متسعاً في موسيقى الكونشرتو لما يجب أن نسميه اليوم "ارتجالاً" cadenza، حيث يستطيع العازف أن يطلق العنان لخياله ويظهر براعته. وكانت ارتجالات هندل في مثل هذه الافتتاحات أعاجيب تحدث الناس بها طويلاً.
وفي يوليو 1717 نظم جورج الأول "رحلة" ملكية في ذهبيات حفلت بالزينات على نهر التيمز. وتكشف صحيفة "الديلي كورنت" عدد 19 يوليو 1717 عن هذا المشهد فتقول:
"في مساء الأربعاء حوالي الثامنة نزل الملك إلى النهر عند هوايتهول في ذهبية مكشوفة، كان فيها أيضاً دوقة نيوكاسل، وكونتيسة جودولفن، ومدام كيلمانسيك، وايرل أوكني، وصعدوا في النهر جنوب تشلسي. ورافقتهم ذهبيات كثيرة أخرى يستقلها بعض علية القوم، وزوارق كبيرة العدد بحيث غطت صفحة النهر تقريباً. وخصص زورق فرقة موسيقية من فرق المدينة لعزف الموسيقى، زود بخمسين آلة من جميع الأنواع، عزف عليها العازفون طوال الطريق من لامبث .. .. أبدع السمفونيات، التي لحنها المستر هندل خصيصاً لهذه المناسبة وأعجبت جلالته جداً حتى طلب عزفها أكثر من ثلاث مرات في الذهاب والإياب (66) ".(35/348)
وهذه هي "موسيقى الحياة"، التي هي اليوم أبقى وألذ ما تخلف من مؤلفات هندل الآلية. ويبدو أنه كان هناك في الأصل إحدى وعشرون حركة-وهو عدد أكبر من أن يحتمله المستمعون العصريون الذين تعوزهم الذهبيات والوقت، ونحن لا نستمع عادة لأكثر من ست. وبعضها متعبة بعض الشيء في تطوافها المشجي، ولكن أكثرها موسيقى صحية مرحة متألقة، كأنها متدفقة من ينبوع لتهديد خليلات الملك. و "موسيقى المياه" أقدم قطعة موسيقية في الذخيرة الأوركسترالية الحالية.
وبعد جيل كامل، ومن أجل جورج ثان، أضفى هندل الكرامة على مناسبة خلوية أخرى. ذلك أن الحكومة قررت إقامة عرض للألعاب النارية في جرين بارك احتفلا بصلح اكس-لا-شابل، ووكلت هندل بتأليف "موسيقى الألعاب النارية الملكية". فلما عزفت بروفا هذه الموسيقى في حدائق فوكسهول (21 أبريل 1749)، دفع اثنا عشر ألف شخص مبلغ الشلنين-الكبير في ذلك الوقت-للاستماع إليها؛ وبلغ التزاحم مبلغاً عطل المرور على الطريق الذي يعبر كوبري لندن ثلاث ساعات-"ولعل هذا كان أروع ثناء ظفر به أي موسيقي على الإطلاق (67) ". وفي 27 أبريل شق نصف سكان لندن طريقهم إلى جرين بارك، واقتضى الأمر هدم ست عشرة ياردة من سوق الحديقة لتمكينهم من الدخول في الميعاد. وعزفت "فرقة" من مائة موسيقي لحن هندل، وتألقت الألعاب النارية في السماء، وشبت النار في مبنى أقيم لهذه المناسبة، فذعر الجمع المحتشد وأوذي كثيرون ومات شخصان. ولم يبق من المهرجان إلا موسيقى هندل. وإذ كان هدف هذه الموسيقى أن تخلد حرباً ظافرة وأن تسمع عن بعد فقد كانت عبارة عن دوي هتافات وطنين طبول أشد ضجيجاً مما تحتمله الأذن التي ألفت الحركة البطيئة. ولكن فيها حركة بطيئة جداً تقع وقعاً محموداً على الأعصاب المرهقة.
وانتهت إنجلترا آخر الأمر إلى محبة الألماني العجوز الذي ناضل جاهداً ليكون إنجليزياً. لقد فشل في نضاله، ولكنه حاول، حتى إلى حد السب والشتم بالإنجليزية. وتعلمت لندن أن تغتفر له بدانته الهائلة،(35/349)
ووجهه العريض وخديه المنتفخين، وساقيه المقوستين ومشيته الثقيلة، ومعطفه القرمزي المخملي، وعصاه الذهبية المقبض، وعجبه وتعاليه؛ لقد كان لهذا الرجل بعد كل المعارك التي خاضها الحق في الظهور بمظهر الفاتح، أو على الأقل بمظهر اللورد، نعم كان في سلوكه جلافة، وكان يدرب موسيقييه بالحب والغضب، ويوبخ جمهور المستمعين على كلامهم خلال البروفات، ويهدد مغنياته باستعمال العنف، ولكنه غلف عنفه بالفكاهة. فلما التحمت كوتزوني وبوردوني بالأيدي على خشبة المسرح قال هدوء "اتركوهما لتنهيا المعركة"، وراح يدق لحناً مصاحباً مرحاً على النقاريات ليرافق سورة غضبهما (68). ولما هدده مغن بالوثب على الهاربسيكورد لأنه عزف هندل المصاحب اجتذب السامعين أكثر من غناء المغني، طلب إليه هندل أن يحدد تاريخ هذه التمثيلية المقترحة للإعلان عنها قائلاً أن "الذين سيأتون ليروك تقفز أكثر من الذين سيأتون ليسمعوك تغني (69) ". وكانت ملاحظاته الظريفة تعدل في براعتها تعليقات جوناثان سويفت، ولكن الاستمتاع بها كان يقتضي الإلمام بأربع لغات.
وفي 1752 بدأ يفقد بصره. فبينما كان يكتب "يفتاح" اختلطت الرؤية أمام عينيه حتى اضطر إلى الكف عن الكتابة. وفي المخطوطة الأصلية المحفوظة بالمتحف البريطاني أخطاء عجيبة-"سيقان رسمها بعيدة بعض الشيء عن النوتات التي تنتمي إليها، ونوتات واضح أنها ضلت طريقها (70) ". وفي أسفل الصفحة سطر كتبه المؤلف "إلى هنا وصلت، الأربعاء 13 فبراير. منعتني عيني اليسرى من الاستمرار". وبعد عشرة أيام كتب على الهامش "23 فبراير، حالتي أحسن قليلاً. استأنفت العمل". ثم ألف موسيقى لهذه الكلمات "فرحنا يضيع في الحزن ... كما يضيع النهار في الليل (71) ". وفي 4 نوفمبر كتبت صحيفة "الجنرال أدفرتيرز": "بالأمس أعد "لعملية السد أو الكتركت) السيد جورج فردريك هندل التي يجريها له الطبيب وليم برومفيلد جراح سمو أميرة ويلز". وبد أن الجراحة نجحت، ولكن في 27 يناير 1753 أعلنت جريدة لندنية أن "المستر هندل كيف بصره في النهاية تماماً لسوء الحظ". على أن التقارير اللاحقة تشير إلى أنه احتفظ ببصيص من النور حتى موته.(35/350)
وواصل التأليف والقيادة سبع سنين أخر. فقدم في ستة أسابيع (23 فبراير إلى 6 أبريل 1759) حفلتين عرض فيهما "سليمان"، وحفلة عرض فيهما "شمشون" واثنتين "يهوذا المكابي" وثلاثاً "المسيا". ولكن بينما كان يغادر المسرح عقب حفلة عرض المسيا في 6 أبريل وقع مغشياُ عليه، واقتضى الأمر حمله إلى بيته. فلما أفاق كان دعاؤه أن يفسح له في الأجل أسبوعاً آخر. "أريد أن أموت في يوم الجمعة الكبيرة، رجاء أن ألحق بالآلة الصالح، ربي ومخلصي الحبيب، في يوم قيامته (72) ". وأضاف إلى وصيته ملحقاً أوصي فيه بألف جنيه لجمعية إعانة الموسيقيين العجزة وعائلاتهم، وبمبالغ كبيرة لثلاثة عشر صديقاً، وإلى "خادماتي راتب سنة لكل واحدة". ومات في سبت النور (عشية القيامة)، 14 أبريل 1759، ودفن في دير وستمنستر في 20 أبريل، في مشهد من "أعظم حشد للبشر من جميع الرتب رؤى في مثل هذه المناسبة بل وفي أي مناسبة أخرى (73) ".
ولقد ترك ثروة موسيقية لا تضارع، ستاً وأربعين أوبرا، واثنين وثلاثين أوراتوريو، وسبعين مقدمة، وإحدى وسبعين كنتاتاً، وستة وعشرين كونشرتاً كبيراً، وثمانية عشر كونشرتاً للأرغن، وكثيراً وكثيراً غير هذا بحيث يملأ كل هذا مائة مجلد ضخم، تكاد تعدل أعمال باخ وبيتهوفن مجتمعة. وكان بعض هذا التراث مكرراً، وبعضه مسروقاً، لأن هندل سطا على موسيقى تسعة وعشرين مؤلفاً على الأقل دون إقرار بفضلهم ليستعين بهم على الوفاء بمواعيده (74)، مثال ذلك أن المينيوويت في مقدمة "شمشون" أخذت أنغامها نصاً من أوبرا كلوديوس لكايزر.
ومن العسير تقدير هندل بقدره الصحيح، لأنه لا يعرض علينا اليوم إلا اليسير من أعماله. أما الأوبرات، فإنها باستثناء بعض الألحان الساحرة لا سبيل إلى بعثها، فقد وضعت ضمن نماذج إيطالية ذهبت ولا أل في رجوعها فيما يبدو، ونصوص موسيقاها الموجودة الآن ناقصة، وهي تستعمل رموزاً واختصارات أكثرها غير مفهوم الآن، وقد كتبت لأوركيسترات يختلف تكوينها عن تكوين أوركستراتنا اختلافاً تاماً، ولأصوت لجنس ثالث مختلف كل الاختلاف عن المتوسط من(35/351)
أجناس عصرنا. وتبقى بعد ذلك موسيقى الكونشرتو الشبيهة بأرض صيد سعيدة تحوي كنوزاً منسية، و "موسيقى المياه"، والأوراتوريوات-ولكن حتى هذه الأوراتوريوات "عتيقة"، لأنها كتبت لإنجليز يعدون للمعركة ويهود شاكرين؛ وتحتاج تلك الكوارس الضخمة والحركات الصوتية المتكاثرة إلى معدة ضليعة في الموسيقى لتهضمها-وإن كان مما يبهجنا أن نسمع "يفتاح" و "إسرائيل في مصر" من جديد. ويخبرنا الموسيقيون أي في الأوراتوريوات المهملة فخامة ووقاراً، وسموا في الوجدان، وقوة في التصوير والتعبير والدراما، وتنوعاً وبراعة في التقنية التركيبية، لم يدركها أحد بعده في ذلك اللون من التأليف الموسيقى. وقد عاشت "المسيا" إلى اليوم رغم ما شبها من تكرار وتقطيع أوصال لأنها من جهة تصون وتدخر أهم العقائد المسيحية العزيزة حتى على من تنكروا لها، ولكن أهم من ذلك أن ألحانها العميقة و "قراراتها" المعبرة عن الانتصار تجعلها في جملتها أعظم تأليف مفرد في تاريخ الموسيقى.
وقد أدركت إنجلترا عظمته بعد موته، فلما اقتربت ذكرى ميلاده انضم النبلاء الذين كانوا يخاصمونه من قبل إلى الملك والنواب في أحيائها بثلاثة أيام من موسيقاه. ولما كان مولده في 1684 طبقاً للتقويم الإنجليزي، فقد أقيمت أول حفلة في 26 مايو 1784 بدير وستمنستر، والثانية والثالثة في 27 و29 مايو. ولم تكف هذه لتلبية الطلب، فأقيمت حفلتان أخريان في الدير في 3 و5 يونيو. وبلغ عدد المرتلين 274، والعازفين في الأوركسترا 251، وبدأ الآن ذلك التقليد الذي يسبغ على عروض هندل الضخامة العارمة والجلال الطاغي. وأحيت عروض هائلة كهذه احتفالات لاحقة بذكرى مولد هندل، حتى إذا جاء عام 1874 ازداد عدد المشاركين في الأداء حتى بلغ 3. 500. وقد ذهب بيرني الذي سمع أحد هذه العروض الكبرى إلى أن ضخامة الصوت لم تنتقص من حلاوة الموسيقى (78). على أي حال كانت هذه أضخم حفلات أقيمت لإحياء ذكرى أي موسيقي كائناً من كان. والآن وقد خفت فورتها فقد يصبح في الإمكان الاستماع إلى موسيقى هندل من جديد.(35/352)
5 - فولتير في إنجلترا
1726 - 1728
كان يعيش في إنجلترا عام 1726 شاب فرنسي سيتبوأ في تاريخ القرن الثامن عشر مكاناً أهم كثيراً من مكان هندل. لقد بلغ فولتير السواحل الإنجليزية عند جرينتش قرب لندن في 10 أو 11 مايو. وكان أول انطباع له فياضاً بالحماسة. فقد كان أسبوع مهرجان جرينتش، وكادت صفحة التيمز تغطيها الزوارق والأشرعة الضخمة، وكان الملك هابطاً النهر في ذهبية حافلة بالزينة، تسبقها فرقة موسيقية، وعلى الشاطئ رجال ونساء يختالون على جياد تخطر، ثم عشرات من الفتيات الحسان يمشين وقد تزين ليوم عطلة. وأثارت مشاعر فولتير البالغ من العمر اثنتين وثلاثين سنة أجسادهن الرشيقة، واحتشامهن، ووجناتهن المتوردة. على أنه نسيهن حين وصل غلى لندن ووجد أن المصرفي الذي كان يحمل إليه خطاب تحويل على رصيده بعشرين ألف فرنك قد أشهر إفلاسه. وأنقذه أفرارد فوكنر، وهو تاجر التقى به في فرنسا، فأقام عدة شهور في ضيعة هذا البريطاني الكريم بواندزورث، وهي ضاحية من ضواحي لندن. وأرسل جورج الأول إلى فولتير مائة جنيه حين سمع بحادثه المؤسف.
وكان يحمل رسائل تعريف من هوراشيو ولبول، السفير البريطاني لدى فرنسا، إلى كثير من مشاهير الإنجليز، وقد التقى عاجلاً أو آجلاً بكل إنسان تقريباً ممن يشار إليهم بالبنان في ميدان الأدب أو السياسة الإنجليزية. فاستقبله روبرت ولبول، رئيس الوزراء، ودوق نيوكاسل، وسارة دوقة ملبره، وجورج أوغسطس وكارولين أمير وأميرة ويلز، ثم آخر المطاف الملك الذي نفحه بساعة ثمينة أرسلها فولتير عربون صلح لأبيه.
ثم زار "سيدي اللورد بولنبروك وسيدتي الليدي بولنبروك" و "وجد محبتهما لا تزال كما هي (77) ". وفي أغسطس قام برحلة خاطفة إلى فرنسا، وهو لم يزل على تلهفه لقتال روهان، ولكن سبب الرحلة كان في أغلب الظن تنظيم شئونه المالية. وعاش ثلاثة أشهر-بعضها مع سويفت-ضيفاً على الايرل الثالث لبيتربورو. واستمتع(35/353)
ثلاثة أخرى في قصر ايستربري بضيافة بوب دودنجنتن، ذلك السياسي الفاسد والراعي العطوف لفيلدنج، وطومسن، وبنج. والتقى فولتير بكلا الشاعرين هناك، وقرأهما دون أن يخرج بفائدة من القراءة. ومن ثم عكف على تعلم اللغة بعزم صادق، فما وافت نهاية عام 1726 حتى كان يكتب الخطابات بالإنجليزية (78). واقتصر في الشهور الأولى على المجالس التي كانت تفهم فيها الفرنسية، ولكن كل من كان ذا شأن من الرجال أو النساء في الأدب الإنجليزي أو السياسة الإنجليزية كان يعرف الفرنسية. وكتب المذكرات التي ملأها الآن باللغتين على السواء، وهي تدل على أنه تعلم الألفاظ النابية أول ما تعلم من الإنجليزية.
وقد اكتسب من الإحاطة بالأدب الإنجليزي ما لم يكتسبه فرنسي مرموق بعده حتى ايبوليت تين. وقرأ بولنبروك، ولكنه وجد قلم الفيكونت أقل ألمعية من لسانه؛ على أنه ربما أخذ من كتاب بولنبروك المسمى "مفهوم الملك الوطني" الاعتقاد بأن خير الأمل في الإصلاح الاجتماعي يجيء على يد الملكة المستنيرة. وشق طريقه وسط أحقاد سويفت المقطرة، وربما تعلم منه بعض فنون الهجاء، وحكم بأنه "يفوق رابليه بما لا يقاس (79) ". وقرأ ملتن، ووقع من فوره على هذه الحقيقة، وهي أن الشيطان هو الطل الحقيقي لملحمة الفردوس المفقود (80). وقد رأينا في مكان آخر انفعاله المختلط بشكسبير-الإعجاب ببلاغة "الهمجي المحبوب"، و "درر" السمو أو الرقة الدفينة وسط "كومة روث هائلة" من المهازل والمباذل (81). وقلد "يوليوس قيصر" في "موت قيصر"، وعطيل في "زائير". كذلك ظهرت رحلات جلفر من جديد في "ميكروميجاس"، ومقال بوب عن الإنسان في "رسائل منظومة في الإنسان".
وبادر بعد وصوله إلى إنجلترا بزيارة بوب. وصدمه منه تشوهه وعذاباته، وأذهلته حدة ذهن بوب وإرهاف عبارته، وفضل مقال بوب في النقد على مقال بوالو في "فن الشعر (82) ". وزار كونجريف المسن وساءه أن يجد الرجل الذي كان يوماً ما مسرحياً عظيماً أراد أن يعتبر "جنتلماناً لا مؤلفاً (83) ". وعلم في حسد بأمر الوظائف الشرفية والمعاشات التي منحتها الوزارات الإنجليزية قبل ولبول(35/354)
للمؤلفين، وقارن بين هذا الوضع وما صار إليه أمر أكبر شعراء فرنسا، الذي زج به في السجن لأنه استاء من إهانة نبيل له.
ومن الأدب انتقل إلى العلم، فالتقى بأعضاء الجمعية الملكية، وبدأ يدرس نيوتن تلك الدراسة التي أتاحت له بعد ذلك أن يحل نيوتن محل ديكارت في فرنسا. وتأثر تأثراً عميقاً بالجنازة الرسمية التي شيعت بها صفوة الإنجليز نيوتن، ولاحظ كيف رحبت الكنيسة الأنجليكانية بعلام يدفن في دير وستمنستر. ومع أنه كان قد أصبح ربوبياً قبل زيارته لإنجلترا-إذ تعلم فن الشك من رابليه ومونتيني وجاسندي وفونتنيل وبيل-فإنه الآن اتخذ دعماً له من ربوبيي إنجلترا-من تولاند وولستن وتندال وتشب وكولنز ومدلتن وبولنبروك؛ وسيسلح مكتبته بكتبهم في فترة لاحقة، وكان أقوى حتى من هؤلاء تأثير لوك الذي امتدحته فولتير لأنه أول من درس العقل دراسة واقعية. ولاحظ أن القليل جداً من هؤلاء المهرطقين المصرين على هرطقتهم سجنوا بسبب آرائهم. ثم لاحظ نمو التسامح الديني منذ 1689، وذهب إلى أنه لا يوجد في إنجلترا تعصب دين أعمى، وحتى الكويكرز خفت فورتهم فغدوا رجال أعمال هادئين. وزار أحدهم، وسره بأن ينبأ بأن بنسلفانيا بلد مثالي يخلو من الطبقات والحروب والأعداء (84).
كتب بعد ذلك غلى مدام دو دفان يقول "ما أشد حبي للإنجليز، ما أشد حبي لهؤلاء القوم الذين يقولون ما يعتقدون (85)! " وعاد يقول:
"انظري ما حققته قوانين الإنجليز، لقد ردت لكل إنسان حقوقه الطبيعية التي سلبته إياها كل النظم الملكية تقريباً. وهذه الحقوق هي: الحرية الكاملة للفرد وما يملك؛ وحقه في أن يكلم الناس بقلمه؛ وأن يحاكمه محلفون من الرجال الأحرار إذا اتهم بجريمة؛ وألا يحاكم في أي أمر إلا طبقاً لقوانين محددة؛ وأن يجهر وقت السلم بالدين الذي يفضله أياً كان، مع البعد عن تلك المناصب التي لا يختار لها إلا أعضاء الكنيسة الأنجليكانية (86) ".
والسطر الأخير يدل على أن فولتير أدرك حدود الحرية الإنجليزية. فقد عرف أن الحرية الدينية لم تكن قط كاملة، وقد سجل(35/355)
في مذكراته القبض على "مستر شبنج" لما أبدى من ملاحظات مهينة على خطاب العرش (87). وكان في استطاعة أي من مجلسي البرلمان أن يستدعي المؤلفين لمحاكمتهم على تصريحاتهم المؤذية عن أعضاء البرلمان؛ وكان في استطاعة كبير الأمناء أن يرفض التصريح بالتمثيليات؛ وقد وضع ديفو في المشهرة عقاباً على نشرة حشاها تهكماً. ولكن فولتير أحس بأن حكومة إنجلترا رغم فسادها أعطت الشعب قسطاً من الحرية يحفزه حفزاً خلاقاً في كل مجالات الحياة.
فهنا على سبيل المثال كانت التجارة حرة نسبياً، لا يغل يدها ما يعرقلها في فرنسا من مكوس داخلية. وخلعت على رجال الأعمال المناصب الإدارية الرفيعة، وسيعين صديقه فوكنر بعد قليل سفيراً لإنجلترا في تركيا. وأحب فولتير، رجال الأعمال، روح الإنجليز العملية، واحترامهم للحقائق والواقع والمنفعة، وبساطة سلوكهم وعاداتهم وملبسهم حتى الأثرياء منهم. وأحب أكثر من هذا كله الطبقة الوسطى الإنجليزية. وقارن بين الإنجليز وجعتهم: رغوة على السطح، وحثالة في القاع، ولكن الوسط رائع (88). كتب في 12 أغسطس 1726 يقول: "لو خيرت لآثرت المكث هنا لغرض واحد هو أن أتعلم أن أفكر"، وفي دفقة من حماسته دعا تييريو غلى زيارة "أمه مغرمة بالحرية، مثقفة، ذكية، تحتقر الحياة والموت، أمة من الفلاسفة (89) ".
وقد كدر صفاء غرامه هذا بإنجلترا ما حام حوله حيناً من اشتباه بوب وغيره في أنه يعمل جاسوساً على أصدقائه المحافظين لوزارة وليول (90). فلما اتضح أن الشبهة ظالمة نبذت للتو، وظفر فولتير بشعبية كبيرة بين النبلاء وصفوة المثقفين اللندنيين. وحين قرر أن ينشر ملحمة الهنريادة في إنجلترا، أرسلت له كل الدوائر المثقفة تقريباً اكتتاباتها، بما فيه جورج الأول، والأميرة كارولين، والبلاطان المتنافسان؛ وطلب سويفت غلى بعض هؤلاء، أو قل أمرهم، بالاكتتاب. فلما ظهرت القصة (1728) أهديت إلى كارولين، التي كانت الملكة الآن، مشفوعة بباقة من الأزهار إلى جورج الثاني، الذي رد على التحية بنفحة قدرها أربعمائة جنيه، ودعوة إلى حفلات العشاء الملكية. ونفدت ثلاث طبعات في ثلاثة أسابيع، رغم أن النسخة بيعت بثمن باهظ قدره ثلاث جنيهات. وقد قدر فولتير دخله من هذه الطبعة(35/356)
الإنجليزية بمبلغ 150.000 فرنك. واستخدم بعض هذا المال ليعين عدة فرنسيين في إنجلترا (91)، أما الباقي فقد استثمره بغاية الحكمة، حتى لقد حكم بعد ذلك على هذا الربح الذي لم يتوقعه بأنه الأصل في ثرائه. ولم يكف قط عن عرفانه بصنيع إنجلترا.
لقد دان لها قبل كل شيء بحفز هائل لذهنه وإنضاج لفكره. فلما عاد من منفاه جلب معه كتب نيوتن ولوك في حقائبه. وأنفق جزءاً من سنيه العشرين التالية في تعريف فرنسا بهما. كذلك جلب معه كتب الربوبيين الإنجليز، الذين زودوه ببعض الذخيرة التي سيستعملها في الحرب على "العار". وكما أن إنجلترا على عهد تشارلز الثاني تعلمت الخير والشر من فرنسة لويس الرابع عشر، فكذلك ستتعلم فرنسة لويس الخامس عشر من إنجلترا الأعوام 1680 - 1761. ولم يكن فولتير وسيط التبادل الأوحد في هذا الجيل؛ فإن مونتسكيو، وموبورتوي، وبريفوست، وبوفون، ورينال، وموريلليه، وليلاند، وهلفتيوس، وروسو-هؤلاء أيضاً أتوا إلى إنجلترا، والذين لم يأتوا تعلموا من الإنجليزية ما يكفي لجعلهم حملة للأفكار الإنجليزية. وقد أجمل فولتير في تاريخ لاحق هذا الدين في رسالة بعث بها إلى هلفتيوس. قال:
"لقد استعرنا من الإنجليز المرتبات السنوية، وأموال استهلاك الديون، وبناء السفن وتسييرها، وقوانين الجاذبية، ... والألوان الأساسية السبعة، والتطعيم، وسنكتب منهم، دون إدراك منا، حرية تفكيرهم الرفيعة، واحتقارهم العميق لتفاهة المعلومات التي تعطيها المدارس (92) ".
ومع ذلك شعر بالحنين إلى فرنسا. لقد أشبهت إنجلترا الجعة، أما فرنسا فلها مذاق النبيذ في فمه. والتمس المرة بعد المرة أن يؤذن له في العودة. ويبدو أنه منح الأذن بشرط معتدل هو أن يجتنب باريس أربعين يوماً. ولا علم لنا متى غادر إنجلترا، وأغلب الظن أن هذا كان في خريف 1728، وفي مارس 1729 كان في سان-جرمان-أن-ليه؛ وفي 9 أبريل كان في باريس، رجلاً هذبته المحن ومحصته دون أن تقضي عليه، جياشاً بالأفكار، متلهفاً على تغيير هذه الدنيا وتبديلها.(35/357)
الكتاب الثاني
فرنسا
1723 - 1756(36/5)
الفصل السابع
الشعب والدولة
كان عدد سكان فرنسا التي عاد إليها فولتير 1727، نحو تسعة عشر مليوناً من الأنفس، مقسمة إلى ثلاث طبقات: رجال الدين والنبلاء، ثم الطبقة الثالثة التي تضم بقية الشعب. وإذا أردنا أن نفهم الثورة الفرنسية فلا بد لنا من أن ندرس كل طبقة منها دراسة دقيقة.
1 - النبلاءُ
أطلق السادة الإقطاعيون الإقليميون الذين استمدوا ألقابهم من الأرض التي امتلكوها (وهي ربع أرض فرنسا تقريباً) على أنفسهم اسم "نبلاء السيف". وكانت مهمتهم الرئيسية أن ينظموا ويتولوا قيادة الدفاع عن سيادتهم وعن إقليمهم وعن وطنهم وعن ملكيهم. وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر ترأس هؤلاء النبلاء نحو ثمانين ألف أسرة ضم نحو أربعمائة ألف من الأنفس (1). وكانوا شيعاً أو طبقات متحاسدة، أعلاها طبقة ذرية الملك الذي يتربع في دست الحكم وأولاد أخوته وأخواته. ويلي هؤلاء في منزلة أدنى، طبقة أشراف فرنسا: وتضم الأمراء من أبناء الملوك السابقين، ثم سبعة أساقفة وخمسين دوقاً. ويأتي بعد ذلك الأدواق الأقل شأناً، ثم الحاصلون على لقب مركيز، ثم لقب كونت، ثم لقب فيكونت، ولقب بارون وشيفالييه (نبيل من الدرجة الدنيا). وكانت ثمة امتيازات رسمية تميز هذه السلسلة من المراتب بعضها عن بعض. ومن هنا كان نزاع حاد فاجع حول حق السير تحت المظلة في مواكب عيد القربان أو حق الجلوس في حضرة الملك.
ومن بين نبلاء السيف هؤلاء، تعقبت أقلية منهم أصول ألقابها وممتلكاتها عبر عدة أجيال، واختصت نفسها باسم "النبلاء ذوي المحتد الكريم"،(36/6)
ونظروا فيها بعين الازدراء إلى النبلاء الذين حصلوا على لقب النبالة عن طريق أسلاف حديثي العهد، أو حصلوا عليه هم أنفسهم في عهد لويس الثالث أو لويس الرابع عشر. كما أن بعض هذه الألقاب كانت تمنح لقاء خدمات للدولة في الحرب أو في الإدارة أو في التمويل، كما أن بعضها كان يبيعه الملك المعظم المعوز الراحل، مقابل ستة آلاف جنيه، وبهذه الطريقة، كما قال فولتير، "حصل عدد كبير من المواطنين-رجال المصارف والجراحون والتجار والكتبة وخدم الأمراء-على براءة النبالة (2) " وثمة مناصب حكومية معينة، مثل منصب المستشار أو كبير القضاة، كانت تضفي على شاغليها لقب النبالة تلقائياً. وفي عهد لويس الخامس عشر كان في مقدور أي رجل عادي أن يحصل على النبالة بشراء حق تعيينه وزيراً مقابل مائة وعشرين ألف جنيه. وفي عهد لويس السادس عشر ربما كان هناك نحو تسعمائة وزير وهمي أو صوري من هذا الطراز. كما أنه كان في الإمكان شراء اللقب بشراء ضيعة أحد النبلاء. ويحتمل أنه في 1789، كان نحو 59%، من مجموع النبلاء ينحدرون في الأصل من الطبقة الوسطى (3).
ووصلت غالبية هؤلاء إلى درجة كبيرة من الأهمية ورفعة الشأن عن طريق دراسة القانون، ومن ثم حصلوا على مناصب القضاء والإدارة. ومن بينهم كان أعضاء البرلمانات الثلاثة عشر التي كانت بمثابة دور قضاء في كبريات المدن في فرنسا، ولما كان يجوز للقاضي أو الحاكم ترك منصبه لابنه، فقد تشكلت أرستقراطية وراثية-هم نبلاء الرداء (الروب). وكان الرداء بالنسبة لرجل القضاء، كما هو بالنسبة لرجل الدين، يمثل نصف السلطة أو السيادة. وكان أعضاء البرلمانات وهم يرفلون في أرديتهم القرمزية، وعباءاتهم الثقيلة والأكوام ذات الأهداب والشعور المستعارة المضمخة والقبعات ذات الريش، يجيئون في مرتبة أدنى من الأساقفة ونبلاء الأرض. ولكن حيث أن بعض الحكام والقضاة أصبحوا، عن طريق الرسوم القانونية التي كانوا يتقاضونها، أكثر ثراء من معظم ملاك الأرض(36/7)
ذوي الحسب والنسب، فقد تحطمت الحواجز بين نبلاء السلاح ونبلاء الرداء وما وافى عام 1789 حتى كان ثمة اندماج كامل تقريباً بين الطبقتين. وبلغت الطبقة التي تكونت عندئذ من وفرة العدد والقوة مبلغاً لم يستطع الملك معه أن يقف في وجهها أو يقاومها، وزعماء الثورة وحدهم هم الذين استطاعوا أن يقضوا على هذه الامتيازات الباهظة التكاليف.
وانتاب الفقر كثيراً من النبلاء القدامى بسبب الإهمال في إدارة ممتلكاتهم أو تغيبهم عنها، أو بسبب أتباعهم أساليب متخلفة في زراعتها، أو إنهاك التربة، أو خفض قيمة العملة التي كانوا يتقاضون بها إيجار الأرض أو الرسوم الإقطاعية. ولما كان المفروض ألا يشتغل النبلاء بالتجارة أو الصناعة، فإن نمو هذه وتلك خلق اقتصاداً قائماً على المال، قد يمتلك المرء في ظله أرضاً شاسعة ولكنه يظل فقيراً. وكان هناك في بعض أقاليم فرنسا مئات من النبلاء يعانون من الفقر مثلما يعاني الفلاحون (4). ولكن أقلية كبيرة من النبلاء تمتعت بثروات ضخمة وبذروا تبذيراً. فكان الدخل السنوي لمركيز دي فييت 150 ألف جنيه، ولدوق دي شفريز 400 ألف جنيه، ولدوق دي بويون 500 ألف جنيه. وأعفى معظم النبلاء من الضرائب المباشرة، إلا في حالة الطوارئ، حتى تصبح الحياة لديهم أكثر احتمالاً ويسراً. وخشي الملوك أن يفرضوا عليهم الضريبة حتى لا يطالبوا بدعوة مجلس الطبقات، فقد تفرض الطبقات الثلاث في مثل هذا الاجتماع بعض الرقابة على الملك ثمناً للموافقة على الاعتمادات أو الإعانات. قال توكفيل "كان عدم المساواة في الضرائب يعمل على التفرقة بين الطبقات في كل عام حيث أعفى الأغنياء وأثقل كاهل الفقراء (5) ". وفي عام 1749 فرضت على النبلاء ضريبة دخل قدرها 5% ولكنهم كانوا يفاخرون بالتهرب منها.
وقبل القرن السابع عشر كان نبلاء الأرض يقومون بمهام الاقتصاد والإدارة والحرب، وأياً كانت طريقة إحراز الممتلكات، فإن هؤلاء السادة نظموا تقسيم الأرض وفلاحتها، إما عن طريق الرقيق أو عن طريق عقود الإيجار، وسهروا على القانون، وقاموا بإجراءات المحاكمة وأصدروا(36/8)
الأحكام، ونفذوا العقوبات، وتعهدوا المدارس والمستشفيات المحلية، ووزعوا الصدقات. وفي مئات من مناطق السيادة والنفوذ مارس السيد الإقطاعي هذه الوظائف والمهام، بالقدر الذي سمحت به الأنانية الطبيعية في الإنسان. وقد اعترف الفلاحون بانتفاعهم منه، ومن ثم فإنهم أطاعوه واحترموه وفي بعض الأحيان أحبوه.
وأدى عاملان أساسيان إلى تبديل هذه العلاقة الإقطاعية: تعيين الحكام أو المحافظين على عهد الكاردينال ريشيليو وما بعده، وتحويل لويس الرابع عشر لكبار السادة الإقطاعيين إلى رجال حاشية. وكان هؤلاء المحافظون موظفين بيروقراطيين من الطبقة الوسطى، يبعث بهم الملك ليحكموا الأقسام الاثنين والثلاثين التي انقسمت إليها فرنسا من الناحية الإدارية. وكانوا عادةً ذوي كفاية ومقدرة ونيات حسنة، ولو لم يكونوا جميعاً من أمثال ترجو. وقاموا بتحسين الأحوال الصحية والإضاءة وتزيين المدن، وأعادوا تنظيم الشئون المالية، وبنوا السدود والخزانات على الأنهار من اجل الري، أو أقاموا الحواجز اتقاء لخطر الفيضانات، وزودوا فرنسا في هذا القرن بشبكة هائلة من الطرق لم يكن لها مثيل في سائر أنحاء العالم. وشرعوا في أن يغرسوا على جوانبها الأشجار التي تظللها اليوم وتزينها (6). وسرعان ما زحزح تفوقهم في الدأب على العمل والمقدرة والكفاية السادة الإقطاعيين المحليين عن حكم الأقاليم، ورغبة في التعجيل بهذه الزحزحة التي تركز الحكم في أيدي هؤلاء المحافظين، وعمد لويس الرابع عشر إلى دعوة السادة الإقطاعيين للانتظام في بلاطه الملكي. وهناك عينهم في وظائف بسيطة ذات ألقاب رفيعة وأوشحة مخدرة. وفقدوا الاتصال بالشئون المحلية على حين ظلوا يحصلون من مزارعهم على الموارد اللازمة للإنفاق على قصورهم وبطانتهم في باريس أو فرساي. وتشبثوا بحقوقهم الإقطاعية بعد أن تخلوا عن واجباتهم الإقطاعية. إن ضياع المهام الإدارية التي كانوا يقومون بها في مجال الاقتصاد والحكومة جعلهم عرضة للاتهام بأنهم كانوا طفيليات غير ضرورية عالة على فرنسا.(36/9)
2 - رجال الدين
كانت الكنيسة الكاثوليكية قوة أساسية ذات وجود بارز في كل ركن في الحكومة. وقدر رجال الدين الكاثوليك في فرنسا بنحو 260 ألفاً في 1667 (7)، و420 ألفاً في 1715 (8). و194 ألفاً في 1762 (9). وهذه الأرقام كلها من قبيل التخمين، ولكن قد نفترض انخفاض هذا العدد بنسبة 30% في القرن الثامن عشر، على الرغم من تزايد عدد السكان، وحسب لاكروا أن فرنسا كان فيها عام 1763، 18 رئيس أساقفة، 109 أساقفة، و40 ألف قسيس، و50 ألف مساعد قسيس، و27 ألف كاهن، و20 ألف كاتب (من رجال الدين)، ومائة ألف راهب وراهبة وعضو أخوية دينية (10)، ومن بين 740 ديراً كان هناك 625 ديراً يتولى شئونها مساعدو رؤساء أديار، لمصلحة رؤساء أديار متغيبين عنها وكانوا يتمتعون باللقب وبنصف أو ثلثي دخل الدير، دون أن يكون مطلوباً منهم أن يحيوا حياة كنسية.
وكان رجال الدين الأعلى مرتبة يشكلون من الوجهة العملية فرعاً من النبلاء، وكان الملك يعين كل الأساقفة، عادة، بناء على ترشيح السادة الإقطاعيين المحليين، على شرط موافقة البابا. ورغبة من الأسرات ذوات الألقاب في عدم تفتيت ممتلكاتهم بالتوريث، كفلت لصغار أبنائها المناصب الأسقفية ومناصب رؤساء الأديار، حتى أنه في 1789 لم يكن من بين المائة والثلاثين أسقفاً في فرنسا إلا واحداً فقط من الأفراد العاديين غير ذوي الألقاب (11). وأدخل أبناء الأسرات العريقة هؤلاء معهم إلى الكنيسة عاداتهم الني درجوا عليها في التمتع بترف الدنيا وزخرفها. ومن ذلك أن الأمير الكاردينال إدوارد دي روهان كان في القداس يرتدي ثوباً كهنوتياً له حواش من المخرمات المعقودة، قدرت قيمته بمائة ألف جنيه، وكانت أدوات مطبخه من الفضة الخالصة (12). وفسر رئيس الأساقفة ديللون دي ناربون للويس السادس عشر، السبب في أنه أي رئيس الأساقفة، استمر(36/10)
في ممارسة الصيد بعد أن حرمه على رجال الدين في أسقفيته، بقوله "مولاي إن رذائل رجالي من عند أنفسهم، ولكني ورثت رذائلي أنا عن أسلافي (13) لقد انقضى العصر الزاهر لرجال الكنيسة-من أمثال بوسويه وفينلون وبوردللو-وأفسح المرح الأبيقوري الصاخب في عهد الوصاية المجال أمام رجال مثل ديبو أوتنسان للترقي في مناصب الكنيسة على الرغم من انغماسهم في ملذات الصيد بنوعيه، اقتناص الحيوان واصطياد النساء. وقضى كثير من الأساقفة معظم حياتهم في فرساي أو باريس، مشاركين البلاط الملكي بهجته ومسراته ومباذله، فاحتفظوا بقدم في الآخرة وقدم في الدنيا، ولم ينسوا نصيبهم من متاعها.
وكان للأساقفة ورؤساء الأديار حقوق السادة الإقطاعيين وواجباتهم، حتى إلى حد تقديم ثور لخدمة أبقار فلاحيهم (14). وكانت ممتلكاتهم الشاسعة، التي كانت تضم أحياناً مدن بأسرها، تدار كما تدار الممتلكات الإقطاعية. وكان جزء كبير من مدينة فرن ومعظم الأرض المحيطة بها ملكاً للأديار (15)، وفي بعض الكوميونات (وحدات التقسيم الإداري)، عين الأسقف كل القضاة والموظفين، وهكذا عين رئيس أساقفة كمبري الذي كان السيد الأعلى على منطقة تضم 75 ألفاً من السكان كل رجال الإدارة في كاتوكمبرسيس، ونصفهم في كمبراي (16). وعمر نظام الرقيق لأطول فترة في ضياع الأديار (17) وكان للكهنة في سان كلود في جبال جورا اثنا عشر ألفاً من الرقيق، وقاوموا بشدة الانتقاص من الخدمات الإقطاعية (18). وارتبطت حصانات الكنيسة وامتيازاتها بالنظام الاجتماعي القائم، كما جعلت لهيئة الكنيسة أقوى تأثير محافظ على القديم يناهض أي تغيير في فرنسا.
وجمعت الكنيسة سنوياً، مع شيء من الاعتدال ومراعاة الظروف، العشور من نتاج كل مالك أرض وماشية، ولكن هذا نادراً ما كان العشر في الواقع، بل كان في الكثير الغالب جزءاً من اثني عشر، وأحياناً جزءاً من عشرين (19). وبهذه العشور، بالإضافة إلى الهبات والوصية والتوريث، وبدخل العقارات الثابتة، احتفظت الكنيسة بكهنة أبرشياتها فقراء معوزين(36/11)
على حين عاش الأساقفة مترفين منعمين. وأغاثت الكنيسة المحتاجين المعدمين وعلمت الصغار ولقنتهم مبادئها. وفي المقام التالي بعد الملك وجيشه، كانت الكنيسة أقوى وأغنى سلطة في فرنسا. وكانت تمتلك، طبقاً لمختلف التقديرات، ما بين 6% و20% من الأرض (20)، وثلث الثروة (21). وكان دخل أسقف سنس السنوي 70 ألف جنيه، وأسقف بوفيه 90 ألفاً، ورئيس أساقفة روان 100 ألف، ورئيس أساقفة ناريون 190 ألفاً، ورئيس أساقفة
باريس 200 ألف، أما رئيس أساقفة ستراسبورج فقد أربى دخله السنوي على المليون من الجنيهات (22). وكان رأس مال كنيسة بريمونتريه بالقرب من لاؤون 45 مليوناً من الجنيهات. أما الاخوة الدومنيكان البالغ عددهم 236 في تولوز فقد بلغت مقتنياتهم من الأملاك الفرنسية والمزارع في المستعمرات ومن الرقيق الأسود ما قدرت قيمته بعدة ملايين من الجنيهات أما رهبان سانت مور فقد بلغت قيمة ممتلكاتهم 24 ملوناً من الجنيهات تدر ثمانية ملايين في العام.
ولم تدفع الكنيسة أية ضرائب عن شيء من ممتلكاتها أو دخلها، ولكن كبار رجال الدين كانوا يقررون بصفة دورية في المجامع الوطنية إعانة اختيارية للدولة. وفي 1773 بلغت هذه الإعانة ستة عشر مليوناً من الجنيهات لمدة خمس سنوات. وقد اعتبرها فولتير نسبة عادلة من دخل الكنيسة (23). وفي 1749 اقترح ماشول دي ارنوفيل المراقب العام المالي أن يستبدل بهذه المنحة الاختيارية ضريبة مباشرة سنوية قدرها 5% من مجموع الدخل تفرض على الكنيسة وعلى عامة الناس وخشي رجال الدين أن تكون هذه خطوة أولى نحو سلب أموال الكنيسة بغية إنقاذ الدولة، فقاوموا الفكرة في "غضب شديد وإصرار (24) ". كذلك اقترح ماشول تحريم التوريث بالوصية للكنيسة دون موافقة الدولة، وإلغاء المؤسسات الدينية التي قامت منذ 1636 دون ترخيص من الملك، ومطالبة شاغلي الرتب الكنسية ذوات الدخل بتقديم تقرير عن مواردهم إلى الحكومة. وأبت جمعية انعقدت من رجال الدين الامتثال لهذه القرارات، وقالوا: "لن نوافق إطلاقاً على أن يصبح ما كان حتى الآن ثمرة حبنا وإجلالنا ضريبة على طاعتنا"، وأمر لويس الخامس عشر(36/12)
بفض الاجتماع، كما أصدر المجلس الملكي أوامره إلى المحافظين بجمع ضريبة أولية مقدارها سبعة ملايين ونصف مليون جنيه على أملاك الكنيسة.
وحاول فولتير تشجيع ماشول والملك فأصدر كتيباً عنوانه "صوت الحكمة وصوت الشعب" حرض فيه الحكومة على أن تفرض سيطرتها على الكنيسة، وأن تحول دون أن تكون الكنيسة دولة داخل الدولة، وأن تعهد إلى فلاسفة فرنسا بالدفاع عن الملك والوزارة ضد كل قوى الخرافة (25). ولكن لويس الخامس عشر لم ير سبباً يدعوه إلى الاعتقاد بأن الفلاسفة في مقدورها أن تكسب الجولة في الحرب مع الكنيسة. وأدرك أن نصف سيادته وسلطانه يتركز على مسحة الزيت المقدس وتتويجه بأيدي رجال الكنيسة، ليصبح بعد ذلك-في نظر الجماهير التي ليس في مقدورها أن تدنوا منه إلى حد تستطيع معه إحصاء عدد محظياته-نائب الله الذي يتحدث بمقتضى التفويض الإلهي. أن الإرهاب الروحي الذي يبثه رجال الدين في النفوس وتعززه قوى التقاليد والعادات والاحتفالات الدينية والملابس الكهنوتية
والهيبة، نقول إن هذا الإرهاب قام مقام ألف من القوانين ومائة ألف من رجال الشرطة في المحافظة على النظام الاجتماعي، والإبقاء على طاعة الجماهير وامتثالها للحكومة والملك. وهل في مقدور أية حكومة، دون دعم من الرجاء والخوف الخارقين للطبيعة، أن تسيطر على ما فطر عليه الناس من نزعة التمرد على القانون أو عدم الخضوع له؟ وعقد الملك عزمه على الاستسلام للأساقفة، ونقل ماشول إلى منصب آخر، وصادر كتاب فولتير، ووافق على منحة اختيارية بدلاً من الضريبة على أملاك الكنيسة.
إن قوة الكنيسة كانت تعتمد أساساً على نجاح كاهن الأبرشية، وإذا كان الناس يخشون رجال الدين الذين يضعون التيجان على رؤوسهم (الأساقفة مثلاً)، فانهم أحبوا الراعي المحلي الذي شاركهم فقرهم وعوزهم، وأحياناً كدحهم وكدهم في فلح الأرض. انهم تذمروا من جمع العشور، ولكنهم كانوا على يقين من أن رؤساء الراعي هم الذين أرغموه على جمعها،(36/13)
وأن ثلثي هذه العشور ذهب إلى الأسقف أو إلى أحد ذوي المناصب الكنسية الغائبين عنها، على أن كنيسة الأبرشية. ضناها ما كانت تعاني من خلل وحاجة إلى ترميم، مما تئن منه التقوى نفسها. إن هذه الكنيسة الحبيبة كانت دار بلديتهم، يعقدون فيها اجتماعاتهم القروية تحت رئاسة الكاهن. وفي سجل الأبرشية، وهو شاهد بقائهم صابرين متجلدين عبر الأجيال، كانت تدون مواليدهم وزيجاتهم ووفياتهم. وكان صوت أجراس هذه الكنيسة أنبل موسيقى ترن في آذانهم، والاحتفالات هي المسرحية التي تشد انتباههم وتبعث فيهم النشاط، وقصص القديسين ذخائر الأدب عندهم، كانت أعياد تقويم الكنيسة هي العطلات المحببة إلى نفوسهم. ولم ينظر الناس إلى عظات راعي الأبرشية ونصائحه وتحذيراته أو إلى تعليمه وتربيته لأبنائهم، على أنها تلقين مبادئ أسطورية لتدعيم لسلطان الكنيسة، بل نظروا إليها على أنها عون لا غنى عنه للنظام الأبوي والانضباط الخلقي، وعلى أنه إيحاء بنظام إلهي يتجلى فيه معنى الخلود الذي خفف من أسلوب حياتهم الممل الجاف في هذه الدنيا. فكانت العقيدة ثمينة أثيرة لديهم إلى حد الاستثارة إلى الفتك بمن يحاول انتزاعها منهم. ورحب الوالدان الفلاحان بالدين جزءاً من الواجبات اليومية في البيت، ونقلا إلى أولادهما الأساطير الدينية، وواظب الجميع على صلوات المساء والوالدان على رأسهم. وكان راعي الأبرشية يحب الناس كما أحبوه، فانضم إليهم في الثورة.
وتناقص عدد الرهبان والراهبات وأخوة الطوائف الدينية، ولكن نمت فيهم روح الفضيلة (26) كما نمت ثروتهم. ونادراً ما كانوا الآن يتسولون أو يعيشون على الصدقات لأنهم وجدوا من الحكمة ومن الخير لهم أن ينتزعوا الوصية بالتوريث من الذين يدنو أجلهم ثمناً بدلاً من أن يستجدوا بعض البنسات من القرية، وفاضت بعض ثرواتهم على أعمال البر والإحسان، فأنفق كثير من الأديار على المستشفيات والملاجئ، ووزعت الطعام على الفقراء يومياً (27). وفي 1789 ألحت جماعات كثيرة على حكومة الثورة ألا تقضي على الأديار المحلية لأنها كانت المنظمات البارة المحسنة الوحيدة في(36/14)
نطاق أراضيها. (28) وأدت أديار الراهبات مهام كثيرة تؤدي الآن بطرق أخرى، فكانت توفر مأوى للأرامل، وللنساء اللائى افترقن عن أزواجهن، وللسيدات المراهقات مثل مدام دي ديفان التي رغبت في أن تنأى بنفسها عن
صخب الدنيا. ولم تنكر الديار متاع الحياة الدنيا وزينتها إنكاراً تاماً، فقد استخدمها الأثرياء مأوى لما زاد عن الحد من بناتهم، وإلا فإن زواجهن إذا لم يلجأن إلى الأديار يتطلب مهوراً تنقص من ميراث الأبناء، ولم يكن هؤلاء العذارى المنبوذات ميالات دائماً إلى التقشف. وكان للأم أوريني (رئيسة دير للراهبات) عربة تجرها أربعة جياد، فكانت تستقبل في جناحها الفاخر أفراداً من الجنسين. وكانت الراهبات في ألكس يرتدين التنورات ذوات الأطواق الموسعة والأردية الحريرية المبطنة بالفرو، وكن في أديار أخرى يتناولن العشاء ويرقصن مع ضباط من المعسكرات المجاورة (29) وواضح أن هذه كانت ضروباً من التسلية البريئة غير الآثمة، فإن كثيراً من الأقاصيص التي رويت عن الفساد الخلقي في الأديار في القرن الثامن عشر كانت مبالغات شنيعة مثيرة استخدمت في حرب الدعاية بين المذاهب المتنابذة، وكانت الحالات التي لزم فيها البنات الدير على غير إرادتهن نادرة (30).
وكان اليسوعيون قد ضعف سلطانهم ومكانتهم. إنهم ظلوا حتى 1792 يسيطرون على التعليم، وكانوا يزودون الملك والملكة بكهنة اعتراف ذوي تأثير قوي، ولكنهم عانوا من فصاحة بسكال، ومن تشكك أوصياء العرش غير الأتقياء، وكانوا يخسرون معركتهم الطويلة المريرة مع الجانسنيين فإن هؤلاء الكاثوليك المتعصبين لعقيدتهم عمروا بعد الاضطهادات الملكية والمراسيم البابوية، وكان عددهم كبير في مجال الأعمال والمهن والاشتغال بالقانون، وكانوا يقتربون من الهيمنة على برلمان باريس وغيره من البرلمانات. وبعد موت زعيمهم اللاهوتي المتقشف فرانسوا دي باريس (1727) حج الجانسنيون المتحمسون المغشي عليهم إلى جدته في مقبرة سان ميدارد، وهناك جلدوا أنفسهم بالسياط، حتى أصاب بعضهم نوبات من(36/15)
التشنج، ومن سموا "بالمتشنجين" وتوجعوا وبكوا وابتهلوا إلى الله أن يمن عليهم بالشفاء، وأدعى كثير منهم أنهم برئوا بمعجزة. وبعد ثلاثة أعوام من هذه الأحداث أغلقت السلطات هذه المقابر، وكما قال فولتير: حرم على الله بأمر من الملك أن يأتي بمعجزات هناك، وانقطعت التشنجات، ولكن الباريسيين السريعي التأثر مالوا إلى تصديق المعجزات، وفي 1733 ذكر أحد الصحفيين في مبالغة ظاهرة أن مدينة باريس الطيبة جانسنية قلباً وقالباً (31). وتحدياً للمرسوم الملكي الصادر في 1720 رفض صغار رجال الدين الامتثال للأمر البابوي الصادر في 1713 الذي استنكر فيه البابا إنوسنت الثالث عشر مائة مسألة ومسألة زعموا أن الجانسنيين أثاروها. وقضى رئيس أساقفة باريس بأن السر المقدس الأخير لا يجوز أن يقدم لأي فرد لم يكن قد أعترف لقسيس كان قد ارتضى الأمر البابوي. وأسهم هذا النزاع في إضعاف مركز الكنيسة المنقسمة أمام هجمات الفلاسفة.
وكان الهيجونوت وغيرهم من البروتستانت الفرنسيين لا يزالون يعتبرون خارجين عن القانون، ولكن مجموعات صغيرة منهم كانت تجتمع سراً. واعتبر القانون أن زوجة البروتستانتي عاهرة وأن أبناءها غير شرعيين، ليس لهم أن يرثوا أية أملاك. وفي عهد لويس الخامس عشر شنت عدة حملات للاضطهاد والتعذيب. وفي 1717 قبض على أربعة وسبعين فرنسياً يقيمون الشعائر البروتستانتية، وأرسلوا للتجديف في القواديس أو المراكب الشراعية وزج بزوجاتهم في السجن، وقضى مرسوم صدر في 1724 بعقوبة الإعدام على الوعاظ البروتستانت، وبمصادرة أملاك كل من يشهد اجتماعات البروتستانت، مع إرسال الرجال للتجديف في السفن الشراعية. وحلق شعور النساء واعتقالهن مدى الحياة (32) وفي عهد الكاردينال فليري حدث شيء من التراخي في تنفيذ هذا المرسوم. ولكن بعث من جديد بعد موته، بناء على طلب الأساقفة الكاثوليك في جنوب فرنسا (33). وفي 1749 أمر برلمان بوردو بالتفريق بين 46 زوجاً وزوجة وفق الطقوس البروتستانتية.(36/16)
وكان من الجائز انتزاع الأطفال الذين يشتبه في أن آباءهم من البروتستانت؛ لتربيتهم وتنشئتهم في بيوت كاثوليكية. وإنا نسمع عن رجل ثري من الهيجونوت أنفق 200 ألف جنيه رشوة للموظفين الرسميين حتى يسمحوا له بالاحتفاظ بأبنائه. (34) وفيما بين عامي 1744 و1753 سجن نحو 600 بروتستانتي، وحكم على 800 آخرين بعقوبات مختلفة (35). وفي 1752 شنق في مونبلييه الواعظ البروتستانتي بينز-البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً. وفي نفس العام، أمر لويس الخامس عشر، تحت تأثير مدام دي بمبادور، بوضع حد لهذه الاضطهادات. (36) وبعد ذلك استطاع البروتستانت في باريس أو قريباً منها، أن يتفادوا العقوبات، على شرط حضور الصلوات الكاثوليكية مرة في العام (37).
وعلى الرغم من تعصب زعماء الكنيسة وانشغالهم بأمور الدنيا ورغبتهم في السلطة والنفوذ، فقد كان بين رجال الدين الفرنسيين مئات ممن امتازوا بالعلم الغزير والحياة التقية النقية. وبالإضافة إلى أولئك الأساقفة الذين بددوا في باريس العشور التي جمعوها من الفلاحين، كان هناك أساقفة آخرون إتسموا بالطهر والتقي قدر ما سمحت به المهام الإدارية. فكان الكاردينال لويس أنطوان دي نواي رئيس أساقفة باريس رجلاً ذكياً نبيلاً. وكان الناس يحبون جان بابتست ماسيون أسقف كلبر مونت على الرغم من عظاته الزاخرة بألوان العلم والمعرفة، والتي كان فولتير يحب أن يستمع إليها وقت تناول الطعام، لجمال أسلوبها على الأقل. أما جبرائيل دي كايلوس أسقف أوكسير فقد وهب كل ثروته للفقراء، وباع طبقه الفضي ليطعم الجياع؛ ثم اعتذر لمن التمسوا بعد ذلك بقوله "يا أبنائي، لم يبق لدي شيء أعطيكم إياه" (38). ولم يبرح الأسقف فونسوا دي بلزونس مكانه وسط الطاعون الرهيب الذي اجتاح مرسيليا 1720، حين هلك ثلث سكان المدينة، وفر منها معظم الأطباء ورجال الحكم والقضاء. وفي هذا كتب ليمونتي: "انظروا إلى بلزونس: وأنه أنفق كل ما يملك. لقد هلك كل الذين كانوا في خدمته بسبب العدوى، فسار على قدميه فقيراً بائساً في الصباح إلى مواطن(36/17)
التعاسة والشقاء؛ كما كان يرى مساء وسط الأماكن التي اكتظ بها ولوثها أولئك الذين يعانون سكرات الموت، ليطفئ ظمأهم، ويواسيهم وكأنه صديق لهم ... وفي ساحة الموت هذه يأخذ بيد الأنفس التي لا معين لها. إن مثل هذا المثل الذي ضربه هذا الأسقف الذي يبدو أنه محصن ضد أي أذى كان كفيلاً بأن يدفع ..... كهنة الأبرشيات والقساوسة والطوائف الدينية إلى محاكاته في شجاعته وبسالته، فلا يتخلى أحد عن موقعه، ولا يبالي أحد بما يلقى من عناء وتعب ولو ضحى بحياته. وهكذا أودى الوباء بستة وعشرين راهباً، وبثمانية عشر من بين ستة وعشرين يسوعياً. واستدعى الكيوشيون أخوتهم من الأقاليم الأخرى، فسارع هؤلاء إلى الاستشهاد في خفة المسيحيين
الأولين وابتهاجهم بمثل هذا العمل. وقضى الطاعون على ثلاثة وأربعين من بين خمسة وخمسين منهم. أما سلوك الرهبان الأوراتوريين (طائفة كاثوليكية) فكان أروع من هذا. فقد بذلوا غاية جهدهم (39).
ولنذكر، ونحن نسجل الصراع المرير بين الدين والفلسفة، ونشارك الفلاسفة مقتهم للرقابة الخانقة والخرافة الشائنة، أنه كان هناك بين رجال الكنيسة على اختلاف مراتبهم الورع والتقي كما كان هناك الغنى والثراء، بقدر سواء. كما كان هناك الإخلاص مع الفقر بين كهنة القرى، أما الناس فقد تغلغل فيهم حب راسخ يتعذر المساس به أو النيل منه، لعقيدة هيأت للزهو الهوى شيئاً من الانضباط المنقذ من الضلال، كما هيأت للأيام العصيبة الشاقة رؤيا وجد الناس فيها شيئاً من السلوى والعزاء.
3 - الطبقة الثالثة
أ - الفلاحون
تساءل "الاقتصاد السياسي" الذي وصمه كارليل بأنه "العلم الكئيب" هل الفقراء فقراء، لأنهم جهلة، أم أنهم جهلة لأنهم فقراء. ويمكن أن نجيب على هذا السؤال، بالموازنة بين الاستقلال البهيج الذي يفاخر به الفلاح الفرنسي اليوم، وحالته في النصف الأول من القرن الثامن عشر.(36/18)
وفي 1723 كانت حال الفلاح آخذة في التحسن بالمقارنة بالمستوى المنحط الذي هبطت به إليه حروب لويس الرابع عشر وابتزازاته. فإنه خضع للرسوم الإقطاعية ولعشور الكنيسة، إلى جانب إنه امتلك نسبة متزايدة من أرض فرنسا، كانت تتراوح بين 20% في نورماندي وبريتاني و50% في لنجدوك وليموزين (40). ولكن متوسط حصة هؤلاء الملاك الصغار كان ضئيلاً-من ثلاثة إلى خمسة أفدنة-إلى حد اضطروا معه إلى الاشتغال بأجر في المزارع الأخرى ليعولوا أسراتهم. فإن معظم الأرض كانت ملكاً للنبلاء أو رجال الدين أو الملك، وكانوا يفلحها مستأجرون أو مزارعون نظير جزء من المحصول، أو عمال مياومة تحت إشراف قهرمان أو وكيل مسئول. وكان المالك يتقاضى من المستأجر مالاً وغلة وخدمات أما المزارعون فكانوا يعطون المالك نصف المحصول في مقابل الأرض والآلات الزارعة والبذور.
وعلى الرغم من تزايد ملكية الفلاح ظلت هناك بقايا إقطاعية كثيرة، فإن أقلية ضئيلة من الملاك قد لا يتجاوز 2% هي التي وضعت يدها على أراض معفاة من الرسوم الإقطاعية. وكل الفلاحين باستثناء مالكي هذه الأرض المعفاة، كان مطلوباً منهم أن يعملوا للسيد الإقطاعي المحلي لعدة أيام في السنة تكفي لحرث أرضه وبذرها، وحصاد محصولها وتخزينه. وكانوا يدفعون له رسوماً مقابل صيد السمك في البحيرات أو الجداول المائية ومقابل رعي ماشياتهم في الحقول، مما يقع في زمام أرضه. (في فرائش كومتيه، وأوفرن، وبريتاني، حتى قيام الثورة كانوا يدفعون له مبلغاً من المال مقابل الأذن لهم بالزواج (41). وكان لزاماً عليهم أن يستخدموا طاحونته ومخبزه ومعصرة النبيذ أو الزيت التابعة له، وليس غيرها. وأن يدفعوا له مالاً في كل مرة يستخدمون فيها شيئاً من هذه. كما نفذوه مالاً عن كل مستوقد أقاموه وكل بئر حفروه وكل جسر عبروه في نطاق أرضه (إن أمثال هذه الضرائب موجود بيننا الآن في أشكال متغيرة، وتدفع للدولة). وكانت القوانين تحرم على السيد ورفاقه الإضرار بمزروعات الفلاح(36/19)
أو حيواناته عند الصيد، ولكن هذه القوانين أغفلت إغفالاً شديداً، وكان محظور على الفلاح أن يطلق النار على حمائم السيد، وهي تأكل محصوله (42) وبناء على تقدير يتسم بالتحفظ بلغت الرسوم الإقطاعية جملتها نحو 14% من إنتاج الفلاح أو دخله، وهناك تقديرات ترفع من هذه النسبة (43).
وفي بعض الأماكن بقي الرق بمعناه الحقيقي، وقدر مؤرخ اقتصادي مشهور أن عدد الرقيق في فرنسا في القرن الثامن عشر لم يجاوز المليون (44)، ونقص عددهم، ولكن في 1789 كان لا يزال في فرنسا نحو 300 ألف من الأرقاء (45) ومثل هؤلاء الفلاحين كانوا مرابطين بالأرض ولم يكونوا يستطيعون قانوناً أن يهجروا أرضهم أو يبيعوها أو ينقلوها أو يغيروا محال إقامتهم دون موافقة سيدهم. فإذا ماتوا دون أبناء كانوا يعيشون معهم، وعلى استعداد للنهوض بشئون المزرعة، آلت المزرعة بكل معداتها إلى السيد.
وكان على الفلاح، بعد دفع الرسوم الإقطاعية وعشور الكنيسة، أن يجد مالاً أو يبيع شيئاً من نتاجه أو ممتلكاته ليواجه الضرائب التي تفرضها عليه الدولة. ودفع الفلاح وحده ضريبة الأراضي، وبالإضافة إلى ذلك دفع ضريبة الملح، و5% من الدخل ضريبة الرأس عن كل فرد في البيت. وبهذا كان يدفع في الجملة ثلث دخل للمالك والكنيسة والدولة. (46) وكان من سلطة جباة الضرائب أن يدخلوا أو يقتحموا كوخه، ليفتشوا عن المدخرات المخبأة، ويستولوا على الأثاث تسديداً لمبلغ الضريبة المفروضة على الأسرة. وكما كان الفلاح ملزماً بالعمل ودفع الرسوم لسيده، فإنه بعد 1733 كان ملزماً بأن يعمل للدولة بدون أجر من 12 إلى 15 يوماً في السنة، في إقامة الجسور وبناء الطرق أو إصلاحها (أعمال السخرة). وكان يعاقب بالسجن إذا قاوم أو توانى.
ومذ تصاعدت الضرائب بازدياد الدخل والتحسينات، فإنه لم يكن ثمة ما يحفز الفلاحين على الابتكار والعمل والمغامرة. وظلت أساليب الزراعة(36/20)
بدائية في فرنسا، إذا قورنت بالأساليب في إنجلترا المعاصرة. وكانت فرنسا تتبع نظام إراحة الأرض الذي يقضي بترك كل قطعة دون زراعة سنة في كل ثلاث سنين، على حين أدخلت إنجلترا نظام الدورة الزراعية. وكانت الزراعة المكثفة غير معروفة تقريباً، والمحاريث الحديدية نادرة الوجود. وكانت الحيوانات قليلة العدد في المزرعة، كما كان السماد قليلاً. وكان متوسط الأرض المملوكة ضئيلاً إلى حد لا يسمح باستخدام الآلات بشكل مجز.
وروع السائحون الإنجليز في ذلك العصر لفقر الفلاح الفرنسي. ففي 1718 كتبت السيدة ماري مونتاجو: "في كل محطة كنا نقف فيها لتبديل خيول البريد كان أهل البلدة جميعاً يخرجون إلينا يسألوننا إحساناً، في وجوه أضناها البؤس والجوع وملابس رثة ممزقة، وما كانوا بعد ذلك في حاجة إلى دليل أبلغ من ذلك لإقناعنا بتعاسة أحوالهم (47). ولم يرسم المراقبون الفرنسيون صورة أكثر إشراقاً من هذه إلا في وقت متأخر من هذا القرن. وقال سان سيمون: "في 1825 كان الناس في نورماندي يعيشون على حشائش الحقول. إن أول ملك في أوربا عظيم لمجرد كونه ملك الشحاذين. وتحويله مملكته إلى مستشفى فسيح الأرجاء يقيم فيه أناس يعانون سكرات الموت، انتزع منهم كل شيء دون أن يبدوا شيئاً من التذمر (48) ". وفي 1740 حسب المركيز رينيه لويس دي أرجنسون، أن عدد الفرنسيين الذين ماتوا بسبب الفقر والعوز في العامين الأخيرين أكبر من عدد من قتلوا في حروب لويس الرابع عشر كلها (49) ". وقال بسنارد: "كانت ملابس الفقراء من الفلاحين-وكانوا كلهم تقريباً فقراء-تدعو إلى الإشفاق والرثاء، حيث لم يكن لدى الفرد منهم إلا ثوب واحد للصيف والشتاء معاً .... أما الحذاء الوحيد (المرقع الواهي المثبت بالمسامير) الذي اقتناه عند زواجه، فكان لزاماً أن يستخدمه بقية أيام حياته، أو على الأقل طيلة بقاء الحذاء (50) ". وقدر فولتير أن مليوني فلاح فرنسي كانوا يستخدمون نعالاً خشبية في الشتاء، وكانوا يسيرون حفاة الأقدام في الصيف، لأن(36/21)
الضرائب الباهظة المفروضة على الجلود جعلت الأحذية ضرباً من الترف (51) أما مسكن الفلاح يبنى من الطين مع سقف من القش، وكان عادة يتكون من غرفة واحدة، منخفضة لا سقف لها في بعض الأجزاء في شمال فرنسا، على أن الأكواخ كانت تبنى أقوى حتى تحتمل البرد والرياح في الشتاء". وكان طعام الفلاح يتألف من الحساء والبيض ومنتجات الألبان وخبز الشعير أو الشوفان. أما اللحم وخبز القمح فكان أكلهما إسرافاً طاوئاً (53). ففي فرنسا، كما هو الحال في أي مكان آخر، كان أولئك الذين يطعمون الأمة لا يملكون من الغذاء إلا أقله.
ووجد الفلاح بعض العزاء والسلوى من هذه الحياة الشاقة في الخمر والدين. وكانت الحانات كثيرة وصنع الجعة في الدار مشجعاً. وكانت الأخلاق خشنة جافة، طابعها الوحشية. وكثيراً ما تفجرت أعمال العنف بين الأفراد والأسرات والقرى. ولكن سادت الأسرة عاطفة حب قوية، ولو أنها صامتة، وكان الأبناء كثيرين، ولكن اختطفت يد المنون معظمهم قبل أن يبلغوا رشدهم. وكاد ألا يكون هناك زيادة في سكان فرنسا فيما بين عامي 1715 و1740. فقد أحدثت الحرب والمرض والقحط أثرها بانتظام وفق ما جاء في نظرية مالتس.
ب - البروليتاريا (العمال الكادحون)
وكان خدم المنازل أدنى مكانة من الفلاحين في السلم الاجتماعي، وكانوا فقراء إلى حد لم يهيئ إلا لقليل منهم أن يتزوجوا. وكانت طبقة البروليتاريا في المدن أعلى قليلاً من الفلاحين، وكانت تشكل الحرفيين في الحوانيت والمصانع وحمالي البضائع ومتعهدي الخدمات وعمال البناء أو الترميم. وكان معظم الصناعة لا يزال منزلياً أو محلياً يقوم في أكواخ ريفية أو في الدور في المدن الصغيرة. وكان التجار يقدمون المواد الخام، ويجمعون الإنتاج، ويستولون على كل الربح تقريباً. وكانت الصناعة في المدن إلى حد كبير في الطور النقابي (نظام نقابات العمال وطوائفهم في العصور الوسطى)، فكان هناك المعلمون والغلمان الذين يتدربون، وعمال المياومة المهرة،(36/22)
يعملون جميعاً وفقاً للقواعد القديمة التي حددت النقابة والحكومة بمقتضاها ساعات العمل وشروطه، وطرز الإنتاج ونوعيته وسعره والمنطقة المحدودة المسموح فيها بالبيع. إن هذه التنظيمات والقواعد جعلت من التحسينات أمراً عسيراً، واستبعدت حافز المنافسة الخارجية، وأسهمت مع رسوم التجارة الداخلية في تعويق التنمية الصناعية. وكانت النقابات قد أصبحت أرستقراطية عمالية، وارتفعت الرسوم على القبول في سلك المعلمين الصناعيين إلى ألفي جنيه، واتجهت هذه المهنة إلى أن تكون وراثية. (53) وكان العمل في الحوانيت يبدأ مبكراً وينتهي متأخراً. وكان عامل المياومة حول فرساي يبدأ عمله في الرابعة صباحاً وينتهي منه في الثامنة مساءاً. (54) ولكن العمل كان أقل إجهاداً منه في المصانع اليوم، كما أن أعياد الكنيسة هيأت أيام عطلة كثيرة.
وكانت الصناعة في معظمها "صغيرة" تستخدم ثلاثاً أو أربعاً من "الأيدي العاملة" من خارج الأسرة. بل أن المدابغ ومصانع الزجاج والمصابغ كانت مؤسسات صغيرة. وكان عدد العمال في بوردو لا يتجاوز أربعة أمثال أصحاب العمل. واحتفظت الحكومة على أية حال ببعض مصانع كبيرة-مصانع الصابون، ومصانع نسيج الجوبلان (المزدان بالرسوم) ومصانع الخزف الصيني في سيفر. وأخذت عملية التعدين في التوسع بعد أن حل الفحم محل الخشب في الوقود. وثارت الاحتجاجات على دخان الفحم الذي يلوث الهواء، ولكن الصناعة آنذاك، كما هو الحال اليوم، مضت تشق طريقها، وتعرضت صحة الناس في باريس، وفي لندن على حد سواء، للخطر نتيجة لتنفس هذا الهواء الملوث. وكانت هناك مصانع للصلب في دوفيني، ومصانع للورق في أنجوموا. وتوسعت مصانع النسيج توسعاً ملحوظاً في الشمال، فاستخدم فان روبيه 1500 عامل في مصنع واحد في آبفيل واستخدم فان دركروسن ثلاثة آلاف رجل في ليل (55). وشجع ازدياد العمال هذا على تقسيم العمل والتخصص فيه، وحفز على اختراع الآلات للعمليات المكررة على نسق واحد (الروتينية) وتضمنت دائرة(36/23)
معارف ديدرو (1751 وما بعدها) أوصافاً ورسوماً مدهشة لآلات متنوعة معقدة أدخلت بالفعل في الصناعة في فرنسا، يندر أن تكون قد نالت استحساناً أو ترحيباً من البروليتاريا. وحين أقيم نول جاكار (لحياكة الأقمشة المصورة) في ليون، عمد عمال نسيج الحرير إلى تهشيمه، خشية أن يلقى بهم في عرض الطريق بلا عمل (56).
ورغبة في تشجيع الصناعات الجديدة فإن حكومة فرنسا-كما فعلت حكومة إنجلترا في عصر اليزابث-منحت عدة احتكارات، مثال ذلك أنها منحت أسرة فإن روبية احتكار إنتاج الأقمشة الهولندية الرفيعة، كما ساعدت مشروعات أخرى بمعونات وقروض دون فوائد. وفرضت الحكومة على كل الصناعة تنظيماً صارماً موروثاً عن كولبير. وأثار هذا الأسلوب اعتراضاً متزايداً من جانب أصحاب المصانع والتجار الذين دفعوا بأن الاقتصاد ينمو ويزدهر إذا تحرر من تدخل الحكومة، وترديداً لهذا المطلب، قال فنسنت دي جورناي (حوالي 1755) عبارته التاريخية اتركه وحده "اتركه يعمل" التي عبرت في الجيل التالي، على لسان فرانسوا كني وترجو، عن المذهب الفيزيوقراطي الذي نادى بحرية العمل والتجارة.
واستاء الحرفيون أيضاً من هذه القواعد والتعليمات التي وقفت حجر عثرة في سبيل تنظيمهم من اجل ظروف عمل وأجور أفضل. ولكن أهم ما هاج حفيظتهم هو أن عمال الريف والمصانع كانوا ينتزعون السوق من أيدي النقابات. فما وافى عام 1756 حتى كان أصحاب المصانع قد هبطوا بالحرفيين في المدن الكبرى-حتى بالمعلمين النقابيين-إلى مستوى الإجراء الذين يعتمدون في عملهم على المقاولين أو الملتزمين. (57) وفي نطاق النقابات أجرى المعلمون-تخفيضاً في أجور عمال المياومة الذين عمدوا إلى الإضراب على نحو دوري. وكان الفقر في القرى شديداً مثلما هو في المدن تقريباً. ووصل نقص المحاصيل بالطبقة الكادحة، البروليتاريا، في المدن إلى حد المجاعة والشغب كل بضع سنين، كما حدت في تولوز 1747، وفي باريس(36/24)
1751، وفي تولوز 1752 (58) وكان القسيس الملحد جان مزلييه قد اقترح بالفعل، حوالي 1749 استبدال شيوعية قائمة على الحرية بالنظام القائم (59).
وفي أواسط القرن كانت باريس وروان وليل وليون وبوردو ومرسيليا تعج بالبروليتاريا. وتفوقت ليون بوصفها مركزاً صناعياً لبعض الوقت على باريس. وقد وصفها الشاعر الإنجليزي توماس جراي في 1739 بأنها "ثانية مدن المملكة من حيث الاتساع والمكانة. وشوارعها بالغة الضيق والقذارة، ودورها بالغة الارتفاع والاتساع (تتكون الدار من خمسة طوابق في كل طابق 25 غرفة)، مكتظة بالسكان". (60) وكانت باريس خلية هائجة، يقطنها 800 ألف منهم 100 ألف خادم، و20 ألف متسول، وفيها الأكواخ الكئيبة والقصور الفخمة، والأزقة والحارات المظلمة والشوارع القذرة وراء المتنزهات الأنيقة، وفيها الفن إلى جانب الإملاق والفقر المدقع. وسارت فيها المركبات الكبيرة والمركبات العامة ذات الجواد الواحد والمحفات يصطدم بعضها ببعض مع تبادل السباب والشتائم، واختناق شديد في حركة المرور. وكانت بعض الشوارع قد صفت منذ 1690 وعام 1742 رصف تريساكيه الطرق بأحجار ملساء، ولكن معظم الشوارع كانت قذرة تماماً، مملوءة بالحصى الكبير الذي يصلح لإقامة المتاريس في أثناء الثورات. وبدأت مصابيح الشوارع تحل محل الفوانيس في 1745 ولكنها لم تكن تضاء إلا إذا لم يكن القمر بدراً. وظهرت لافتات أسماء الشوارع في 1728. ولكن لم توضع للبيوت أرقام قبل الثورة. وكان للأغنياء وحدهم صنابير ماء في بيوتهم، أما سائر الناس فكان يزودهم بالماء عشرون ألف سقاء يحمل الواحد منهم دلوين بهما أحياناً سبع مجموعات من درجات السلم. أما المراحيض في المنازل والحمامات المزودة بالماء الجاري الساخن والبارد، فكانت امتياز لكبار الأثرياء. وظلت آلاف الحوانيت، المشهورة بشعاراتها الرائعة المثيرة، على حالتها من الفوضى في الموازين والمقاييس المتضاربة والمشتبه فيها، إلى أن وضعت الثورة النظام المتري (العشري). وكان هناك أصحاب حوانيت أمناء في "متاجر الثقة"، ولكن الغالبية(36/25)
اشتهرت بالتطفيف في المقاييس والتلاعب في الأسعار ورداءة أنواع السلع. (61) وكان بعض الحوانيت ينتحل عظمة زائفة خداعة لأن أصحابها كانوا يستقلون العربات. وكان الفقراء من الناس يعتمدون في شراء حاجياتهم أساساً على الباعة المتجولين الذين حملوا بضاعتهم جاهدين في دلاء أو سلال على ظهورهم، والذين أسهموا في موسيقى الشوارع بصيحاتهم ونداءاتهم التقليدية غير المفهومة التي يدعون بها الناس إلى الشراء، من "البطاطس المطبوخة" إلى الموت للفئران "فقد نازعت الفئران الناس على تيسيرات السكنى في المدينة، وزاحم الرجال النساء والأطفال الفئران في مسابقة الحصول على الطعام. قال رجل فارسي كان في زيارة مونتسكيو": "البيوت مرتفعة إلى حد يظن معه أنه لا يقطنها إلا منجمون. ولك أن تتخيل مدينة بنيت في الهواء، فيها أقيمت ستة أو سبعة منازل الواحد منها فوق الآخر وهي مزدحمة بالسكان، حتى إذا نزلوا جميعاً إلى الشارع، رأيت هناك حشداً رائعاً. لقد بقيت هنا شهراً، لم يقع نظري فيه على شخص واحد يسير بخطى وئيدة. وليس في العالم كله مثل الرجل الفرنسي وهو يجتاز الطريق، إنه يعدو أو يطير (62). أضف إلى ذلك المتسولين والمتشردين والنشالين والمغنين في الشوارع والنافخين في الأرغن والدجالين بائعي الأدوية المزيفة. وجملة القول أنهم شعب تشيع فيه مائة من أخطار البشر، لا يوثق به إطلاقاً، متلهف على الكسب، مسرف في الدنس والتجديف بكل معنى الكلمة. ولكنه إذا أوتي اليسير من الطعام أو النبيذ فهو ألطف شعوب العالم وأكرمها وأكثرها مرحاً وابتهاجاً.
جـ - البرجوازية
وفيما بين الطبقتين الدنيا والعليا قامت الطبقة الوسطى، تضمر لها أولاهما البغض والكراهية، وتزدريها الثانية، وكانت تضم الأطباء والأساتذة ورجال الإدارة وأصحاب المصانع والتجار ورجال المال، وهي طبقة شقت طريقها إلى الثروة والنفوذ والسلطة في حذق ومهارة وصبر وجلد.(36/26)
وقام أرباب المصانع بمغامرات اقتصادية وتطلبوا من أجلها عائداً وفاقاً. وشكوا من انهم يتعرضون لمائة من المضايقات التي تسببها لهم تعليمات الحكومة ورقابة النقابات على السوق والعمال المهرة، واغتاظ التجار الذين يوزعون المنتجات من فرض ألف من المكوس والرسوم التي تعوق حركة البضائع، ذلك أنه عند كل نهر أو قناة أو مفترق طرق كان هناك وكيل عن النبيل أو رجل الكنيسة مالك الأرض، ليتقاضى رسماً على الترخيص بمرور البضائع. وأوضح السيد المالك أن هذه المكوس غنما هي تعويض معقول له عما ينفق في صيانة الطرق والجسور والمعابر وإصلاحها لتبقى صالحة للاستعمال. وألغى مرسوم ملكي صادر في عام 1724 ألفاً ومائتين من هذه المكوس، ولكن بقيت بعد ذلك منها مئات لعبت دوراً في كسب البورجوازية إلى جانب الثورة وتأييدها لها.
أما التجارة الفرنسية التي كانت معوقة في الداخل فقد انتشرت واتسعت فيما وراء البحار. وسيطرت مرسيليا، وكانت ميناء حرة، على تجارة أوربا مع تركيا والشرق. ومدت شركة الهند التي أعيد تأسيسها 1743، أسواقها ونفوذها السياسي في البحر الكاريبي ووادي الميسيسيبي وأجزاء من الهند. ورفعت بوردو، وهي، المنفذ السياسي لتجارة الأطلنطي، تجارتها البحرية من أربعين ملوناً من الجنيهات في عام 1724 إلى 250 مليوناً في 1748. وأبحر أكثر من 300 سفينة سنوياً من بوردو ونانت إلى أميركا، يحمل معظمها العبيد ليعملوا في مزارع قصب السكر في جزر الأنتيل ولويزيانا (63). وفاقت نسبة المبيعات من السكر المنتج من أمريكا الفرنسية مثيلتها من السكر الإنجليزي المنتج في جمايكا وباربادوس في الأسواق الأوربية، (64) وربما كان هذا من أسباب حرب السنين السبع، وارتفعت جملة تجارة فرنسا الخارجية من 215 مليوناً من الجنيهات في 1715 إلى 600 مليون في 1750. (65) وقدر فولتير أن عدد السفن التجارية التي استخدمتها فرنسا زاد من 300 سفينة في 1715 إلى 800 في 1738. (66)
وكانت الأرباح المتزايدة من التجارة البحرية الدافع الأساسي لغزو(36/27)
المستعمرات. وكانت حماسة التجار والمبشرين الفرنسيين قد كسبت لفرنسا معظم كندا وحوضي الميسيسيبي وبعض الجزر في البحر الكاريبي. وتحدت إنجلترا هذه الممتلكات الفرنسية على اعتبار أنها تضيق الخناق على مستعمراتها في أمريكا وتعرضها للخطر. والحرب هي التي يمكن أن تحسم هذه القضية، ودب الخلاف بين إنجلترا وفرنسا في الهند بسبب منافسة مماثلة. وكان الفرنسيون في 1683 قد وطدوا مركزهم على الساحل الشرقي جنوبي مدراس، وفي 1688 حصلوا من إمبراطور المغول على حق السيطرة الكاملة على شاندرناجور شمالي كلكتا. وفي ظل القيادة النشيطة اليقظة لجوزيف دوبليكس، استولى هذان الثغران على كثير من التجارة والثروة إلى حد أحست معه شركة الهند الشرقية الإنجليزية، التي كانت قد أقامت لها مراكز في مدراس (1639) وبمباي (1668) وكلكتا (1686) -أنها مضطرة إلى خوض الحرب مع الفرنسيين من أجل مملكة المغول التي تتمزق أوصالها.
ولما رأت إنجلترا وفرنسا أنهما على طرفي نقيض في حرب الوراثة النمساوية (1744) فان ماهي دي لابور دونيه-الذي كان قد ضرب رقماً قياسياً في الإقدام والمغامرة في إدارة جزر موريشيوس وبوربون الفرنسية في المحيط الهندي-عرض على حكومة فرساي خطة "للقضاء على التجارة وعلى المستعمرات الإنجليزية في الهند". (67) وهاجم مدراس بأسطول فرنسي، بموافقة دوبليكس الحسود، وسرعان ما أرغم المدينة على الاستسلام (1746) وتحت مسئوليته الخاصة وقع مع السلطات الإنجليزية اتفاقية تقضي بإعادة مدراس إليهم لقاء تعويض قدره 420 ألف جنيه. ورفض دوبليه التصديق على الاتفاقية، ولكن لابوردونيه أصر في عناد، وأبحر على سفينة هولندية إلى أوربا: وأسرته سفينة إنجليزية، وأطلق سراحه تحت وعد شرف، ودخل باريس فزج به في الباستيل بتهمة التمرد والخيانة، وطلب المحاكمة، وبعد عامين قضاهما في السجن حوكم وقضى له بالبراءة (1751) وتوفي 1753. وفي تلك الأثناء حاصر أسطول إنجليزي قوى بوندشيري (أغسطس(36/28)
1748) فدافع عنها دوبليكس دفاعاً مجيداً حتى رفع الحصار عنها (أكتوبر). وبعد ذلك بسبعة أيام وصلت الأنباء إلى الهند بأن معاهدة إكس لاشابل أعادت مدراس إلى إنجلترا. ذلك أن الحكومة الفرنسية أدركت أنه مقضي عليها بالهزيمة في الهند بسبب ضعف قواتها البحرية، فرفضت أن تدعم مشروعات دوبليكس في الغزو والفتح، وأرسلت إليه قوات واعتمادات هزيلة، وأخيراً استدعته إلى فرنسا (1754). وامتد به الأجل حتى رأى الإنجليز يوقعون بالفرنسيين هزيمة منكرة في الطور الهندي من حرب السنين السبع.
وكان "رجال المال" في قمة الطبقة الثالثة وكانوا من مقرضي النقود على نطاق ضيق، من الطراز العتيق المحافظ، أو من أصحاب المصارف بكل معنى الكلمة، الذين يتعاملون في الودائع والقروض والاستثمارات، أو من "ملتزمي الضرائب" الذين يعملون للدولة باعتبارهم "وكلاء الدخل". وكانت القيود التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على تقاضي فوائد الأموال قد ضعف أثرها أو أصبحت غير ذات موضوع تقريباً، في تلك الأيام. ورأى جون لو أن نصف فرنسا متلهف على الاتجار في الأسهم والسندات، وافتتحت باريس سوق الأوراق المالية (البورصة) فيها سنة 1724.
وكان بعض (رجال المال) أغنى من معظم النبلاء. فكان باريس مونتمارتل يمتلك مائة مليون جنيه، ولينورمان دي تورنهيم عشرين مليوناً، وصمويل برنارد 33 مليوناً (68). وزوج برنارد بناته من أزواج أرستقراطيين حيث دفع لكل منهن مهراً قدره 800 ألف جنيه (69). وكان سيداً مهذباً محباً لوطنه. وفي 1715 حدد بنفسه الضرائب المستحقة على ممتلكاته بمبلغ تسعة ملايين من الجنيهات، ومن ثم كشف ثروة كان يمكن أن يخفيها جزئياً (70). وعندما قضى نحبه (1739)، أماط فحص حساباته اللثام عن المدى الواسع لصدقاته الخفية (71). أما الاخوة الأربعة الذين حملوا لقب "باريس" فقد طوروا مؤسستهم المصرفية إلى سلطة سياسية. وتعلم منهم فولتير كثيراً من براعته المالية، فأذهل أوربا لكونه فيلسوفاً و "مليونيراً" في الوقت معاً.(36/29)
وكان "الملتزمون العامون" أبغض رجال المال في فرنسا في القرن الثامن عشر. وكان النظام "الملتزم العام" قد أدخل في 1697 لجمع الضرائب غير المباشرة-أساساً الضرائب على الإعانات والتسجيلات والطلبات والملح والتبغ-ولكي تنفق الحكومة هذه الإيرادات قبل جمعها ألزمت بها شخصاً يدفع لها المبلغ المتعاقد عليه، مقابل حق جبايتها على مدى ست سنوات. وانعكس ازدياد الضرائب والثروة والتضخم في ارتفاع ثمن هذا العقد الرابح: 80 مليوناً 1726، 92 مليوناً 1744، 152 مليوناً 1774. ولم تقع أية حكومة يوماً في حيرة جرياً وراء الطرق التي تنفق بها أموال شعبها وفوضت للمتعاقد مهمة جمع الضرائب بالتعاقد إلى أربعين "ملتزماً عاماً" أو أكثر، دفع كل منهم كلوناً من الجنيهات أو أكثر ضماناً مقدماً، ولعق أصابعه كلما مرت بها الإيرادات، وهكذا، فيما بين عامي 1726 - 1730 جاوزت أرباح الملتزمين العامين الأربعين 156 مليوناً من الجنيهات (73). وابتاع كثير من أمثال هؤلاء الجباة الضياع والألقاب وشادوا القصور الفخمة وعاشوا حياة غاية في البذخ والترف، مما أثار حنق الأرستقراطية ورجال الكنيسة. وجمع بعضهم روائع الفن وأحاطوا أنفسهم بالفنانين والشعراء والخليلات، وفتحوا أبواب بيوتهم مأوى أو منتدى للصفوة من أهل الفكر وكان "ألطف الفلاسفة، هلفشيوس، واحداً من أكرم "الملتزمين العاميين". وقضى روسو فترة طويلة في ضيافة مدام دي ابيناي زوجة أحد الملتزمين. واستمتع رامو وفانلو بكرم الضيافة لدى الاسكندر دي لابوبلنيير الذي اشتهر من بين رجال المال بأنه يمثل ميسيناس (رجل الدولة الروماني من رعاة الدب صديق هوراس وفرجيل في القرن الأول ق. م) وثار كبار أفراد البورجوازية المتلهفون على الاعتراف بمكانتهم الاجتماعية، لأنفسهم من استهجان الكنيسة واحتقار النبلاء لهم، بمناصرة الفلاسفة ضد الكنيسة، ثم ضد النبلاء فيما بعد، وربما كان رجال المال هم الذين أمدوا الثورة بالمال.(36/30)
4 - الحكومة
كانت الطبقة الوسطى آنذاك أكثر فعالية وقوة في الدولة، لأنها شغلت كل المناصب، فيما عدا مناصب الوزارة التي كانت تتطلب عبير شجرة الأسرة أو عراقة الحسب والنسب، وكان أفرادها يشكلون البيروقراطية وصقلت مواهبهم بالانتقاء الطبيعي في ميدان الاقتصاد، وأثبتوا أنهم أمهر وأقدر من النبلاء سليلي الأسرات الواهنين الخاملين الذين ليس لهم ما يحفزهم على الجد والعمل. وفي الحق أن نبلاء الرداء في البرلمانات والحكام كانوا ينتسبون إلى البرجوازية من حيث الأصل والخلق. وتولت الطبقة الوسطى شئون الكوميونات والأربعين مقاطعة، وإدارات الحرب والتموين والمواصلات والمناجم والطرق والشوارع والجسور والأنهار والقنوات والثغور. وكان قواد الجيش من النبلاء، ولكنهم قاموا بحملات خططها لهم في باريس رجال من الطبقة الوسطى، بارعون في تخطيط الحرب (73). إن نمط البرجوازية الفرنسية في القرن التاسع عشر كان قد سبق تشكيله في القرن الثامن عشر.
وكان المعترف به بصفة عامة أن الإدارة في فرنسا كانت أحسن إدارة في أوربا، ولكن كانت تشوبها عيوب قاتلة: كانت مركزية متغلغلة، مفصلة إلى حد إنها عوقت الابتكار والمبادرة والحيوية المحلية، وضيعت كثيراً من الوقت في نقل الأوامر والتقارير. وبالمقارنة بإنجلترا كانت فرنسا استبدادية مطلقة خانقة. فلم يكن مسموحاً بالاجتماعات العامة، ولم يؤخذ بالاقتراع الشعبي إلا في المسائل المحلية التافهة، ولم يقف أي برلمان في وجه الملك. وحسن لويس الخامس عشر الحكومة بإهمالها، ولكنه فوض إلى وزرائه سلطات ملكية مثل إصدار أوامر القبض أو الرسائل المختومة، وغالباً ما أسيء استخدام هذه السلطة. حقاً إن مثل هذه "الرسائل السرية"، أفلحت أحياناً في تسيير شئون الحكومة بسرعة عن طريق تجنب التفاصيل الفنية في الإجراءات الإدارية "الروتين الحكومي". وبإحدى هذه الرسائل أسس لويس الرابع عشر "الكوميدي فرانسيز" في عام 1680. وأنقذت بعض الرسائل سمعة إحدى الأسرات، بالزج بوغد لئيم في السجن دون(36/31)
بطاء ودون محاكمة علنية ربما كانت تكشف عن كوارث خاصة. كما أن بعض هذه الرسائل؛ كما حدث عند انتقال فولتير وسجنه للمرة الثانية، حال بين أحد الحمقى الذين يمكن الصفح عنهم، وبين إتمام حماقته. وفي حالات كثيرة صدرت الرسائل بناء على طلب والد يائس (مثل ميرابو الأكبر) من تقويم اعوجاج ابن جامح. وفي مثل هذه الحالات كان السجن خفيفاً قصير الأمد. ولكن كانت هناك حالات كثيرة من القسوة الصارخة، ومن أمثلتها احتجاز الشاعر ديفورج لمدة ست سنوات (1750 - 1756) في حجرة من الحديد لأنه استنكر تصرف الحكومة في نفي شارل إدوارد ستيوارت حفيد جيمس الثاني من فرنسا (وكانوا يسمونه المطالب الصغير بالعرش). (74) وإذا كان لنا أن نصدق رواية الكاتب الألماني ولهلم جريم، وهو دقيق بصفة عامة، فإن الحكومة قدرت أعظم التقدير انتصارات موريس دي ساكس في المعارك إلى حد أنها أرسلت إلى الشاعر شارل فافار أمراً سرياً ليضم زوجته إلى قائمة خليلات دي ساكس. (75) إن أية إساءة إلى أحد النبلاء من رجل عادي، أو أي نقد شديد يوجه إلى الحكومة، كان من شأنه أن يؤدي إلى صدور رسالة سرية مختومة تتضمن أمراً بالقبض والزج في السجن دون محاكمة أو قضية مبينة. ومثل هذه الأوامر التعسفية أثارت استياء متزايداً على مر السنين في هذا القرن الثامن عشر.
وعوق القانون الفرنسي مع تقدم الإدارة الفرنسية، وكان يختلف من مقاطعة إلى مقاطعة مما أعاد إلى الأذهان انفراد المقاطعات بعضها عن بعض باستقلالها الذاتي، في سالف الأيام. وكان في مختلف أقاليم فرنسا. 350 هيئة قانونية متباينة. وكان كولبير قد قام بمحاولة غير موفقة في تنظيم القانون الفرنسي وتحديده في "قانون العقوبات" الذي صدر في 1670 ولكن قانونه خلط بشكل مضطرب بين تشريع العصور الوسطى والحديثة، والتشريع الألماني والروماني، والتشريع الكنسي والمدني. وكان الملك يسن القوانين الجديدة وفقاً لمتطلبات الساعة، وعادة بناء على إلحاح وزرائه مع التسرع في التحقق من انسياقها مع القوانين القائمة. وكان من العسير على المواطن أن يتبين أي القوانين ساري المفعول في محل إقامته أو في قضيته.(36/32)
وتولت "الشرطة الراكبة" تنفيذ قانون العقوبات في الأقاليم، أما في المدن الكبيرة فكان يتولاه "شرطة البلدية"، التي نظمها ودربها أحسن تدريب وتنظيم في باريس، مارك رينيه دي فواييه دي آرجنسون، الذي لم ينجب أبناء لامعين فحسب، بل أنه كذلك بوصفه قائد الشرطة من 1679 إلى 1718، اكتسب لقب "اللعين"، لأنه كان يبدو وكأنه شيطان، وأنه كان على أية حال مصدر رعب وفزع لمجرمي باريس، لأنه كان يعرف أوكارهم وأساليبهم، ومع ذلك كان (كما يؤكد لنا سان سيمون) "يتسم بالروح الإنسانية" (76) -عطوفاً على البؤساء.
وكان الشخص المقبوض عليه يسجن قبل المحاكمة، ويعامل معاملة لا تكاد تختلف عن معاملته وهو مذنب محكوم عليه بالعقوبة. وقد يقضي-مثل جين كالاس-شهوراً في السلاسل والأغلال والتعذيب العقلي، معرضاً للمرض في كل يوم بين الأقذار. وإذا حاول الهرب تصادر ممتلكاته، وإذا اتهم بجريمة كبرى لا يسمح له بالاتصال بمحام. ولم يكن هناك حق التحقيق في قانونية أمر الاعتقال (هابياس كوربس)، أو حق المحاكمة عن طريق المحلفين. وكان الشهود يسألون سراً، كل على حدة. وإذا أعتقد القاضي بأن المتهم مذنب، ولكن ليس هناك أدلة كافية لإدانته، كان له سلطة تعذيبه لينتزع منه اعترافاً. وقل حدوث مثل هذا التعذيب القضائي وخفت حدته على عهد لويس الخامس عشر، ولكنه ظل جزءاً من الإجراءات القانونية في فرنسا حتى 1780.
وتراوحت العقوبات من الغرامات إلى تمزيق الوصال. وكانت المشهرة مفضلة في عقاب عدم الأمانة في العمل. وكان اللصوص وصغار المجرمين يجلدون بالسياط، وهم يجرون مربوطين في ذيل عربة في الشوارع. وكان يمكن أن يكون الإعدام عقوبة الخدم إذا اقترفوا السرقة، ولكن مخدوميهم نادراً ما تمسكوا بتنفيذ هذا القانون. وفي 1748 أبطل بصفة رسمية الحكم بالتجديف في السفن الشراعية الكبيرة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لمجموعة كبيرة متباينة من الجرائم منها السحر والشعوذة والتجديف على الله(36/33)
وسفاح ذوي القربى واللواط والعلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان. ولم يعودوا يلجئون إلى قطع العنق أو شد المجرم إلى الخازوق لإحراقه. ولكن كان يمكن أن يزيدوا من روعة تنفيذ الحكم "بسحب المحكوم عليه وتمزيق أوصاله إلى أربعة أجزاء" أو تحطيم أطرافه بقضيب حديدي وهو مربوط إلى "دولاب" التعذيب. وروي "أن الناس، وبخاصة في باريس، كانوا دائماً يتطلعون في ابتهاج وسرور إلى تنفيذ حكم الإعدام (77) ".
وكان النظام القضائي معقداً مثل القانون تقريباً. وكان في الريف آلاف المحاكم الإقطاعية التي تطبق القانون المحلي، ويرأسها قضاة يعينهم السادة الملاك، وكان يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في القضايا الصغيرة فقط، وليس لها أن تفرض من العقوبات إلا الغرامة البسيطة، وكانت أحكامها عرضة للاستئناف، ولكن الفلاح وجد أن من العسير عليه، ومما يكلفه نفقة باهظة أن يكسب قضية ضد السيد المالك. وعلاوة على محاكم السادة الملاك هذه كانت هناك محاكم محلية، وكان في كثير من المدن محاكم خاصة بالكوميونات وفوق كل هذه المحاكم الدنيا كانت هناك المحاكم الإقليمية التي تطبق القانون الملكي، وللملك أن يعين محاكم خاصة لأغراض خاصة. وكانت الكنيسة تحاكم رجالها بمقتضى قانونها الكنسي الخاص بها في محاكم كنسية. وكان المحامون يحتشدون في مختلف المحاكم وفيما حولها، مستفيدين من ولع الفرنسيين بالتقاضي. وكان في المدن الكبرى الثلاث عشرة برلمانات تتألف من قضاة يعملون على هيئة محاكم عليا لهذه المدن وما حولها، وعلى الأساس كان برلمان باريس يخدم ثلث فرنسا تقريباً. وطالب كل برلمان بأن أي مرسوم ملكي أو حكومي لا يصبح قانوناً إلا إذا عرض على البرلمان ووافق عليه وسجله. ولم يسلم المجلس الملكي للدولة بهذا الطلب قط، ولكنه في الغالب سمح للبرلمان بحق الاعتراض. ودارت أشد حقب التاريخ الفرنسي كآبة حول هذه المطالب المتعارضة والمتنازع عليها بين الملك والبرلمانات.
وبين برلمان باريس والملك قام الوزراء والبلاط. وشكل كل الوزراء معاً "مجلس الدولة" وكان البلاط يتألف من الوزراء علاوة على النبلاء(36/34)
أو رجال الدين أو أعيان العامة الذين كانوا قد قدموا إلى الملك، بالإضافة إلى معاوني رجال البلاط وخدمهم. وكانت هناك مراسم صارمة (بروتوكول) تحدد وضع كل رجل في البلاط ومسوغاته وأسبقيته وامتيازاته وواجباته، كما انه كانت هناك قواعد تشريفات معقدة مدروسة مفصلة تيسر الاحتكاك بين عدة مئات من الأفراد المزهوين الذين تملأ الغيرة والحقد قلوبهم، كما تثقل كواهلهم. كما أن المراسم والتشريفات الباذخة المسرفة لطفت من رتابة نظام الحاشية. وهيأت جو الغموض الذي لا غنى عنه للحكومة الملكية. وكانت ضروب التسلية الأثيرة لدى أفراد الحاشية هي الانهماك في القيل والقال والكل، والميسر والصيد والقنص والزنى. وقال سفير نابلي "إن تسعة أعشار الناس في فرنسا يموتون جوعاً، والعشر يموت من عسر الهضم (78) وكانت مبالغ الخسارة والمكسب على موائد القمار جسيمة. ولكي يسدد رجال الحاشية ديونهم كانوا يبيعون نفوذهم لمن يدفع مبلغاً محترماً لأحد أفراد الحاشية، وكان لكل زوج في البلاط، تقريباً، عشيقة، ولكل زوجة تقريباً عشيق. ولم ينكر أحد على الملك خليلاته، وكل ما شكا منه النبلاء أن الملك صحب معه إلى فراشه مدام دي بمبادور وهي سيدة من عامة الشعب على حين انهم ربما أحسوا أنه قد يشرفهم أن يفترع جلالته بناتهم البكارى.
وعلى الرغم من أن لويس الخامس عشر كان قد بلغ سن الرشد رسمياً في 1723، فإنه كان آنذاك في سن الثالثة عشرة، وعهد بالإدارة إلى لويس هنري، الدوق دي بوربون. وكان التفكير قد اتجه لشغل هذا المنصب إلى كونت دي تولوز، وهو أحد أبناء لويس الرابع عشر الذين أضيفت عليهم صفة الشرعية، ولكنه استبعد "لأنه لفرط أمانته لا يصلح أن يكون وزيراً (79) " وكان السيد الدوق دي تولوز "نفسه رجلاً طيب الشعور، بذل كل ما في وسعه للتخفيف من فقر الشعب، وفكر في تحقيق هذا الغرض عن طريق وضع نظام يحدد الأسعار والأجور بصفة رسمية، ولكن قانون العرض والطلب جيب آماله. وتجاسر على فرض ضريبة دخل قدرها 2% على كل الطبقات فاحتج رجال الدين وتآمروا على سقوطه (80)(36/35)
وأباح لعشيقته المركيزة دي بري من النفوذ والسلطان أكثر مما ينبغي، وكانت ذكية، ولكن ذكاءها كان دون جمالها، فاحتالت على زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا، أملاً في أن تستبقي الملكة الشابة تحت تأثيرها. ومهما يكن من أمر فإن ماري سرعان ما فقدت نفوذها وعطفت مدام دي براي على فولتير، وأقصت رجال الدين ودفعت الدوق إلى مهاجمة الأسقف الذي يتولى تعليم الملك، والذي كان قد أوصى الملك باختيار الدوق ليكون وزيره الأول. ولكن الملك كان يعجب بمعلمه ويثق فيه أكثر من أي رجل آخر في الدولة.
وكان أندريه هركيل دي فليري قد عين أسقفاً في فريجيس 1698 ثم مؤدباً للملك 1715. وسرعان ما أصبح ذا تأثير شديد على عقل الصبي. وكان الأسقف فارع الطول وسيماً مرناً لبقاً، كسولاً بعض الشيء لا يتعجل الحظ والثراء أبداً، ولو أنه وصل إلى ما يصبوا إليه. واعتقد ميشيليه وسانت بيف أن فليري، باعتباره معلماً، كان قد أضعف شخصية الملك الصغير بإطلاق العنان لرغباته وشهواته في ابتهاج خال من الهموم والتفكير، ورباه على مساندة اليسوعيين والعطف عليهم (81). ولكن فولتير، الذي لم يكن صديقاً لرجال الدين، أعجب بفليري، وقدره أعظم تقدير، معلماً ووزيراً، على حد سواء وأخذ فليري على عاتقه أن يشكل ذهن تلميذه ويدربه على العمل والتكتم والاستقامة والأمانة، وعلى أن يصون نفسه وسط تعجل الحاشية وهياجها وصخبها، طيلة الفترة التي لم يبلغ فيها الملك سن الرشد، والتي نعم فيها بحسن تأثير الوصي وتقدير الشعب. ولم يمن فليري قط بقيمة خدماته، ولم يشكك قط من الآخرين، ولم يغمس يده في مكائد الحاشية ودسائسهم قط. وحاول سراً أن يتعرف على شئون المملكة في الداخل ومصالحها في الخارج. وصفوة القول إن سلوكه الواعي الحذر ومزاجه اللطيف جعلا كل فرنسا تود أن تراه على رأس الإدارة فيها (82).
ولما علم فليري بأن تأثيره المستمر في تقرير السياسة استفز الدوق دي بوربون ليوصي بطرده من البلاط، ولم يبذل أي محاولة للاحتفاظ بمركزه(36/36)
بل انسحب في هدوء إلى دير السلبيشيانر في Issy، إحدى ضواحي باريس (18 ديسمبر 1725). وأمر الملك الدوق أن يطلب إلى فليري أن يعود، وعاد بالفعل، وفي 11 يونية، استجابة لما وضح من رغبة الحاشية ورجال الدين والجمهور، (83) أمر لويس الخامس عشر، بشكل مفاجئ، بوربون "أن يأوي إلى شانتيللي ويبقى هناك لحين صدور أوامر أخرى". وأبعدت مدام دي بري إلى قصرها في نورماندي، حيث تولاها الضجر والسأم إلى أبعد الحدود، فتناولت السم وفارقت الحياة (1727).
وظل فليري يخطو إلى الأمام بفضل تراجعه، ولم يحظ بأي منصب رسمي، بل إنه على العكس، حث الملك على ان يعلن أنه سيتولى الحكم بنفسه منذ الآن. ولكن لويس آثر الصيد أو لعب القمار، وأصبح فليري الوزير الأول في كل الشئون إلا اللقب (11 يونية 1726). وكان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر، وكم من نفس طموحة تطلعت إلى أن يعاجله الموت، ولكنه حكم فرنسا سبعة عشر عاماً.
ولم ينس فليري أنه قسيس، فألغى ضريبة ال2% فيما يتعلق برجال الكنيسة، فكان جوابهم على هذا أنهم قدموا للدولة منحة اختيارية قدرها خمسة ملايين جنيه، وطلب فليري أن يساندوه في تنصيبه كاردينالاً، وكان في حاجة إلى اللقب ليكون له حق الصدارة والأسبقية على الأدواق في مجلس الدولة، فكان له ما أراد (5 نوفمبر)، ولم يحاول منذ تلك اللحظة أن يخفي الحقيقة، تلك هي أنه كان يحكم فرنسا.
ولشد ما كانت دهشة الحاشية حين رأوه متواضعاً وهو في أوج السلطة مثلما كان متواضعاً وهو يمهد لها. وعاش في بساطة تكاد تتسم بالتقتير، قانعاً بالحقيقة الواقعة دون امتيازات السلطة ومقتضياتها. وكتب فولتير "إن ارتفاع مكانته لم يغير من عاداته وسلوكه، ودهش الجميع ليجدوا في شخص رئيس وزارة، أعظم رجال الحاشية جاذبية وفي نفس الوقت أعظمهم نزاهة وتجرداً" (84) وقال هنري مارتن "كان أول وزير عاش بعيداً عن الترف والبذخ ومات فقيراً". (85) وكان أميناً غاية الأمانة،(36/37)
ولم يسئ استغلال منصب قط. (86) وكان إلى أبعد الحدود أكثر تسامحاً ممن يحيطون به" (87) وعامل فولتير معاملة ودية لطيفة وتغاضى عن ممارسة الطقوس البروتستانتية سراً، ولكنه لم يتسامح قط مع الجانسنيين.
ولم يعكف، بطريقته المتروية المتأنية، على تقرير السياسة فحسب، بل على إدارة الحكومة كذلك. وأختار معاونيه بعد حكم فاصل مدقق، وساسهم في حزم وكياسة. وفي عهده تابع هنري فرانسوا دي أجوسو مهمته الطويلة المدى (1728 - 1751) في إصلاح القوانين وتنسيقها، وأعاد فيلبيرت أورى النظام والاستقرار إلى مالية الدولة. وتجنب فليري الحرب حتى أكره عليها بسبب الأطماع الأسرية في الأسرة الحاكمة، ومن ثم هيأ لفرنسا فترات سلام وهدوء طويلة، سمحت لها باستعادة الانتعاش الاقتصادي. وبدا أن نجاحه برر مقدماً الحجج التي رددها الفيزيوقراطيين "أن نحكم حكماً يسيراً معناه أن نحكم حكماً مطلقاً" (حرية التجارة والصناعة وعدم تدخل الحكومة فيهما). ووعد بوقف التضخم، وأوفى بوعده. واتسعت التجارة الداخلية والخارجية، وزاد الدخل. وحيث أنفق الإيرادات في قصد أكيد بعيد عن التبذير، وحد من نفقات مهرجانات الحاشية الملكية، فإنه استطاع أن يلغي ضريبة ال2% على الدخل بالنسبة لكل الطبقات، وأن يخفف ضريبة الأملاك التي أبهظت كاهل الفلاحين. وأعاد إلى المدن الكبيرة والصغيرة الحق في انتخاب موظفيها الرسميين. وإقتداء بالمثل الذي ضربه فليري في الاستقامة تحسنت أخلاق رجال البلاط على كره منهم.
وفي مقابل هذه المفاخر والمزايا تطل بعض المآخذ الجسيمة برؤوسها. إنه أرخص للملتزمين العامين في الاستمرار في جمع الضرائب دون تدخل من جانب الوزارة. وتعزيزاً من للمشروع الضخم الذي وضعه المحافظون، أقر نظام السخرة الذي فرض على الفلاحين والعمل دون مقابل اللهم إلا الطعام. وأسس مدارس عسكرية لأبناء الأرستقراطية، ولكنه قبض يده بشكل مخل غير حكيم بإهماله إصلاح البحرية والتوسع فيها، وسرعان ما باتت تجارة(36/38)
فرنسا ومستعمراتها تحت رحمة الأساطيل الإنجليزية. إنه وثق ثقة عمياء في قدرته على المحافظة على السلام بينه وبين إنجلترا.
وطيلة حكم روبرت وولبول في إنجلترا نجحت سياسة السلام التي انتهجها الكاردينال. فإن الرجلين، ولو أنهما كانا على طرفي نقيض في الخلق والطباع، اتفقا على أن السلام أمر مرغوب فيه. على أنه في 1733، حضه مستشاروه في الشئون الخارجية على القيام بمحاولة فاترة لاجلاس ستانسلاس لزكزنسكي، وهو حمو الملك، على عرش بولندة، ولكن ستانسلاس اقترح إصلاح دستور بولندة وتشكيل حكومة قوية، وآثرت كل من روسيا والنمسا أن تكون بولندة عاجزة مهيضة الجناح، فرفضتا هذا الاقتراح. وفي حرب الوراثة البولندية (1733 - 1738) طردتا لزكزنسكي من وارسو ثم من دانزج. ولما كان فليري يعارض أي صراع خطير، فإنه نصح ستلانسلاس بأن يلجأ إلى نانسي ولونفيل حاملاً لقب "ملك اللورين". ولم تقع الكارثة، فإن لزكزنسكي والدول اتفقوا على أنه عند وفاته تعود إلى فرنسا اللورين التي كانت فرنسية إلى أبعد حد، وهذا ما حدث في 1766.
وجاهد فليري الذي كان في الثامنة والثمانين قدر طاقته المتضائلة، أن ينأى بفرنسا عن حرب الوراثة النمساوية (1740)، ولكن امرأة فرضت سلطانها عليه. ذلك أن فليسيتيه دي نسل مركيزة فنتيميل، التي كانت آنذاك تشارك الملك فراشه أصغت في بهجة وفرح إلى شارل أوجست فوكيه، كونت دي بل أيل، حفيد المختلس البارع نيقولا فوكيه الذي كان لويس الرابع عشر قد أحسن صنعاً بعزله. إن بل أيل هذا أبلغ المركيزة أن فليري رجل هرم أحمق، وأنه في مهاجمة فردريك الثاني ملك بروسيا للملكة الشابة ماريا تريزا ملكة النمسا، فرصة ذهبية لتمزيق إمبراطوريتها، وأن فرنسا ينبغي أن تنضم إلى فردريك، وتقتسم الغنائم. وصبت العشيقة الفاتنة هذه الكلمات في آذان الملك الولهان. وأقنعته بأن ينتزع زمام الأمور من بين يدي الكاردينال اللتين ترتعدان خوفاً وجبناً، ويستعيد مجد فرنسا.(36/39)
وناشد فليري بأن الشرف والمصلحة تحولان دون المضي في مشروع بل آيل. فإن إنجلترا لن تسمح بتدمير النمسا لتصبح فرنسا عظيمة إلى حد ينذر بالخطر. وأن على فرنسا أن تدخل في حرب مع إنجلترا أيضاً، وأن فرنسا في خير حال في السلم! وفي 7 يونية 1741 أعلن لويس الحرب على النمسا. وفي 25 نوفمبر استولى بل آيل على براج، واتفقت معه كل فرنسا تقريباً على أن فليري عجوز أحمق.
وبعد عام في الحرب تخلى فردريك المراوغ عن فرنسا وعقد سراً هدنة مع النمسا، وإذ تحررت الجيوش النمساوية على هذا النحو، تقدمت إلى بوهيميا، وشرعت في تطويق براج. ولم تكن إلا مسألة وقت، ليضطر إلى التسليم بل آيل وجيشه المؤلف من عشرين ألف رجل، أقضى مضاجعهم وأزعجهم الأهالي الذين أضمروا لهم العداء. وفي 11 يونية 1742 أرسل فليري إلى القائد النمساوي كونت فون كونجزج نداء مذلاً يناشده فيه شروطاً معتدلة للحامية الفرنسية، وقال فيه "يعلم كثير من الناس كم كنت أرض القرارات التي اتخذناها، وإني أرغمت بطريقة ما على الموافقة عليهما" (88) فأرسل كونجزج الخطاب إلى ماريا تريزا التي نشرته على العالم. وأرسل جيش فرنسي لإنقاذ بل آيل، ولكنه لم يصل إليه قط. وفي ديسمبر ترك بل آيل وراءه ستة آلاف من المرضى والجرحى، وغادر بقواته الأصلية براج إلى الحدود عند إيجو، ولكن عملية الفرار هذه حدثت في قلب الشتاء عبر مائة ميل جبال ومستنقعات مغطاة بالجليد أو الثلوج، ولم تنقطع غارات العدو عليهم طيلة انسحابهم، وهلك من الأربعة عشر ألف رجل الذين بدءوا هذه المسيرة اثني عشر ألفاً في الطريق، وامتدحت فرنسا هذا الإنقاذ الرائع بالارتداد المذهل. وتخلى فليري عن الوزارة، وآوى إلى الدير في أسى حيث فارق الحياة (29 يناير 1743) وهو في سن التسعين.
وأعلن الملك أنه سيتولى رياسة الوزارة بنفسه منذ الآن.(36/40)
5 - لويس الخامس عشر
عجباً: ماذا يكون شعور الإنسان عندما يكون ملكاً وهو في سن الخامسة؟ أن الصبي الذي قدر له أن يحكم فرنسا تسعة وخمسين عاماً، كان لا يكاد يسترعي الانتباه أو الملاحظة في طفولته المبكرة، كان ضعيفاً هزيلاً، يتوقعون أن يعاجله الموت بين آونة وأخرى. وفجأة في 1712 توفي والداه دوق ودوقة برجندي بالجدري، وأصبح الصبي وريث العرش، وبعد ثلاث سنوات كان هو الملك.
واتخذت كل الاحتياطات لجعله غير صالح للحكم. وقلقت مربيته مدام دي فنتادور أشد القلق على صحته، وعملت على وقايته من قسوة الجو، وغرس فيه كاهن اعتراف يسوعي احتراماً رهيباً للكنيسة. وكان فليري، معلمه ومؤدبه، كيساً متسامحاً، ويبدو أنه فكر في أنه من الخير لفرنسا أن يكون مليكها كسولاً بليداً. أما معلمه الخاص ماريشال دي فيلروا فقد دبر سماً عكسياً، حيث قاده إلى نافذة في قصر التويلري ليرى الجماهير التي احتشدت لتصفق وتهلل وتهتف له، وهو يقول "أنظر يا مولاي، هذا الجمع وهؤلاء الناس كلهم لك تابعون لك. أنت مليكهم وسيدهم. (89) واقترنت القدرة على كل شيء بالعجز وعدم الأهلية لأي شيء.
لقد افسد لويس هالة القداسة التي أضفوها عليه، وكان أنانياً في سلطته بليداً عنيداً، ومن ثم نشأ شاباً ضجراً صموتاً، مع التجاوز عن تجنبه مراقبة حراسه وفيما بعد تجنبه مراسم حاشيته وخنوعها ليجد متنفساً في الحفر على الخشب وشغل الإبرة وحلب البقر واللعب مع الكلاب. (90) إن عناصر القسوة التي تكمن فينا جميعاً تمكنت عنده من أن تظهر إلى السطح من خلال جبنه. ويروى أنه كان في صباه يجد لذة في صيد الحيوانات بل قتلها. (91) وفي سني نضجه هذب من هذه القسوة إلى مجرد الصيد، وربما برزت في سوء معاملته، وسرعة نبذه للبنات اللائى شاركنه فراشه بعد تدريبهن على ذلك في "متنزه الظباء" على أن معاملته(36/41)
لأصدقائه تميزت بقدر من الحساسية المقرونة بالحذر والخجل ومراعاة شعورهم وحقوقهم.
وكان له ذهن سليم، كان من الممكن أن يتفوق لو أن الأخلاق ساندته ودعمته. وأدهش الجميع بقوة ذاكرته وسرعة بديهيته. وكان بطبيعته يؤثر الألعاب على الدرس. ولكنه استوعب بعض التعليم الصحيح في اللاتينية والرياضيات والتاريخ وعلم النبات والفنون العسكرية. وشب فارع الطول نحيل القوام، ولكن عريض المنكبين، مع بشرة جميلة وشعر ذهبي متجعد. وقال عنه ماريشال دي ريشيليو أنه "أكثر الصبية وسامة وملاحة في مملكته" (92) يحتفظ متحف فرساي بصورة رسمها له فانلر، وهو في الثالثة عشرة بالسيف والدرع، مما يكاد يتلاءم مع الوجه الصبياني. وقارنه رينيه لوس دي آرجنسون بإله الحب عند اليونان "ايروس" (كيوبيد عند الرومان). ووقعت النساء في غرامه لأول نظرة. وحين مرض في 1722 صلت كل فرنسا من أجله، وعندما أبل من مرضه بكت كل فرنسا فرحاً وابتهاجاً. إن هذا الشعب الذي كثيراً ما عانى وقاسى من ملوكه طرب وابتهج لما رواده من أمل في أن الشاب سرعان ما يتزوج وينجب ابناً يحفظ العرش في الأسرة الكريمة العريقة.
والحق إنه كان قد خطب (1721) وهو في سن الحادية عشرة، ماريا آنا فكتوريا، وعمرها عامان، ابنة فيليب الخامس ملك أسبانيا. وكانت قد انتقلت إلى باريس، وكانت الآن تنتظر أن تبلغ سن الزواج. ولكن مدام دي بري رأت أنها قد تستطيع الاحتفاظ بنفوذها المتزايد بفسخ هذا القران المرتقب، وتزويج لويس من ماري لزكزنسكي ابنة ملك بولندة المخلوع. وشرعت في تنفيذ خطتها، وأعيدت الأميرة إلى أسبانيا (1725) وتلك إهانة لم يغتفرها البلاط الأسباني قط. وكان ستانسلاس في مأواه في ويزمبرج في الألزاس حين تلقى طلب ملك فرنسا يد أبنته، فدخل إلى الحجرة الني كانت أبنته وأمها تعملان فيها وقال "فلنسجد شكراً لله". فتعجبت ماري فرحة مبتهجة وقالت "أبي العزيز، هل دعيت ثانية لارتقاء(36/42)
عرش بولندة؟ "فأجاب ستانسلاس" بل إن الله من علينا بنعمة مذهلة أكثر. لقد أصبحت ملكة فرنسا" (93) إن ماري لم تكن تحلم قط بارتقاء أعظم عرش في أوربا. وكانت قد رأت صور لويس الخامس عشر، شاباً يكلله المجد والرفعة، وسيماً قوياً، إلى أبعد حد. وأرسلت إليها الخزانة الفرنسية الأردية والثياب والملابس الداخلية والأحذية والقفازات والمجوهرات، ووعدتها بمائتين وخمسين ألف جنيه لدى وصولها إلى فرساي، وبراتب سنوي قدره عشرون ألف كراون ذهباً مدى الحياة. وتلقت ماري هذا كله في ذهول وهي لا تكاد تصدق، واتجهت إلى الله بالشكر على حظها السعيد. وفي 15 أغسطس 1725 عقد قرانها على الملك بتوكيل في ستراسبورج، وسارت فرحة إلى باريس عبر طرق تجتاحها العواطف لعدة أيام قاسية. وزفت إلى الملك في فونتنبلو في 5 سبتمبر. وكان هو في الخامسة عشرة، وكانت هي في الثالثة والعشرين من العمر، ولم تكن جميلة، بل طيبة فقط.
أما لويس الذي قد أبدى بعد ولعاً بالنساء، فإنه أفاق عندما مس عروسه المتواضعة، وعانقها في حرارة أدهشت حاشيته، وكانت حياتهما لبعض الوقت مثالاً للحب والسعادة، وحظيت باحترام الناس وولائهم، ولكنها لم تكن يوماً ذات شعبية أو محبوبة. وكانت لطيفة ودودة رقيقة حساسة، لا تعوذها الدعابة المرحة، ومع ذلك افتقدت فرساي فيها الذهن المتوقد والحديث المرح المفعم بالحيوية، مما أصبح لزاماً أن تتحلى به سيدات البلاط. وصعقت ماري لأخلاقيات الأرستقراطية الفرنسية، ولكن نقدها لها لم يجاوز أنها ضربت مثلاً للزوجة الأمينة المخلصة الحريصة على إسعاد زوجها وعلى إنجاب وريث له. وعلى مدى اثني عشر عاماً وضعت عشرة أطفال، وفي سنوات أخرى عانت كثيراً من الإجهاض. وكان إشباع شهوة الملك معضلة واجهت الملكة. أنها توسلت إليه أن يتعفف ويستعصم، على الأقل أيام الاحتفال بأعياد كبار القديسين، وأصيبت في غمرة جهودها وواجباتها "بناسور" خبيث، والتمست "الحرارة" التي تضطرم بين جنبي(36/43)
الملك منافذ أخرى. وكان عرفانها بحسن صنيع مدام دي بري والدوق دي بوربون محنة ابتليت بها وأصغت في صبر ناقد حين هاجم الدوق بوربون فليري في حضرة الملك. وعندما تولى زمام السلطة أرسل بناتها إلى دير ناء بحجة الاقتصاد في النفقات. ورجح نفوذه المتزايد من كفة أعدائها. ولما زاد فتور الملك نحوها آوت إلى حلقة محدودة من أصدقائها، ولعبت الورق ونسجت البسط، وحاولت الرسم، ووجدت بعض السلوى والعزاء في التقوى وأعمال البر. "وعاشت حياة الدير والرهبنة وسط انفعالات الحاشية وعبثها" (94).
وكان ينبغي للملك أن يلهو ويتسلى، ولكن مدام دي بري كانت قد اختارت له زوجة غير مسلية. على أنه لم يتخذ خليلة إلا بعد سبعة أعوام من زواجه، وعند ذاك اتخذ أربعاً على التعاقب، مع قدر محدود من الإخلاص، لأنهن كن أخوات. ولم يكن رائعات الجمال، ولكن كن جميعاً نشيطات مسليات مفعمات بالحيوية، وكن جميعاً ما عدا واحدة ذوات خبرة بأساليب الغنج والدلال والعبث. وواضح أنه كان للويزا دي نسل كونتيسة دي مللي الشرف في أن تكون سباقة إلى إغراء الملك وإغوائه (1732). إنها، مثل لويزا دي لآفالبير، أخلصت في حبها لعشيقها الملكي، ولم تكن تسعى للثراء أو السلطة، وكل ما سعت إليه هو أن تسعده. فلما زاحمتها أختها فليسيتيه، وكانت لتوها قد غادرت الدير، على مخدع الملك، فإن لويزا شاركتها في لويس (1739) في قران رباعي مهرطق-لأنه ظل يتردد على الملكة. وأزعج هذا التعقيد ضمير الملك، وتجنب تناول القربان المقدس، لفترة من الوقت، بعد أن سمع قصصاً رهيبة مفزعة عن أناس كانوا قد تناولوا القربان في فم آثم خاطئ. (95) إن هذه المرأة المغوية الخطرة (السيرانه: عند الإغريق كائن أسطوري له رأس امرأة وجسم طائر، كانت تسحر الملاحين بغنائها فتوردهم موارد الهلاك) -كما تروي إحدى أخواتها "كان لها شكل الغرناد (سمك بحري) وعنق الغرنوق (طائر ذو عنق طويل) ورائحة القرد" (96). ومع ذلك احتالت(36/44)
التحمل. وحفاظاً على ماء الوجه وآداب المجتمع أوجد لها لويس زوجاً، وعينها مركيزة فنتميل. وفي 1740 آوت مدام دي ميللي إلى أحد الأديار، ولكنها غادرت بعد عام واحد لترعى منافستها المنتصرة التي كانت تعاني سكرات الموت أثناء الولادة (1741). وبكى الملك وبكت مدام دي ميللي معه. ووجد بعض العزاء بين ذراعيها، وعادت عشيقة له من جديد.
وثمة أخت ثالثة، أدليد نسل، البدينة الدميمة، وكانت بارعة ذكية، عملت على تسلية الملك بحركاتها الجسدية وسرعة بديهتها وأجوبتها السريعة. واستمتع الملك بها، ووجد لها زوجاً، وظل على علاقة بها. أما الأخت الرابعة، مدام دي فلافاكور، فإنها صدت الملك وصادقت الملكة. ولكن الأخت الخامسة، أقدرهن جميعاً، هي ماري آن دمي نسل دي لاتورنل، أقنعت مدام دي ميللي بأن تقدمها للملك. ولم تغز ماري قلب الملك فحسب، بل أنها أصرت كذلك على أن تكون المحظية الوحيدة، وأقصيت ميللي فقيرة معدمة، وهوت بين عشية وضحاها من أبهة الملكية إلى كآبة الدير. وهكذا أزاحت كل من الأخوات من بنات نسل أختاً لها. وبعد ذلك بقليل كانت ماري تشق طريقها لتصل إلى مقعدها في كنيسة نوتردام، فكان في هذا إزعاجاً لجماعة من المصلين، وتذمر أحدهم قائلاً: "كل هذه الضجة من اجل بغي فاجرة" فقالت هي: "سيدي، مادمت عرفتني جيداً فأرجو أن تمن علي بالصلاة لله من اجلي. (97) " ولا بد من أن الله سبحانه وجد من اليسير أن يغفر لها.
وكانت السيدة نسل الجديدة أجمل الأخوات. إن الصورة التي رسمها لها ناثييه-وجه وسيم، صدر بارز منتفخ، قوام رشيق، في ثوب من حرير مهفهف متموج يكشف عن قدمين صغيرتين رقيقتين-لتفسر شدة اندفاع الملك نحوها وميله إليها. وإلى هذا كله كانت تجمع ذكاء متقداً قدر بريق عينيها. وعلى النقيض من دي ميللي كانت ماري تتلهف على الثروة والسلطان. وقدرت أن نفقاتها تستحق أن يكون لها دوقية شاتورو(36/45)
التي تدر 85 ألف فرنك في العام، فحصلت عليها وعلى لقب دوقة (1743). ودخلت التاريخ لمدة عام.
وتحيز لها وساندها حزب قوي في البلاط، كان يأمل في استخدام نفوذها في كسب الملك إلى جانب سياسة عسكرية فعالة، تعود فيها سلطة الحكومة من البيروقراطية البرجوازية إلى النبالة العسكرية (نبلاء السيف) وكان لويس في بعض الأحيان، شعوراً منه بالواجب، ينهمك في العمل مع وزرائه، ولكنه على الأغلب كان يفوض إليهم سلطاته وواجباته. ونادراً ما اجتمع بهم، أو عارضهم، وأحياناً وقع مراسيم اقترحها أو عرضها عليه أعوان متنافسون. وهرب من قواعد التشريفات في البلاط إلى كلابه وجياده وإلى الصيد والقنص. فإذا لم يخرج يوماً للصيد قال رجال الحاشية "أن الملك لا يفعل شيئاً اليوم". وعلى الرغم من انه لم تعوزه الشجاعة، فإنه لم يكن يميل إلى الحرب، وكان يؤثر الفراش على الخندق.
وفي المخدع وفي حجرة الجلوس حرضت الدولة الشهوانية اللعوب-مستعيدة ذكرى أجنيس سوريل-الملك على القيام بدور فعال في الحرب ضد إنجلترا والنمسا. وصورت له لويس الرابع عشر يقود جيشه إلى المجد والعظمة في مونزونامور، وتساءلت: لماذا لا يتألق لويس الخامس عشر الوسيم الشجاع في درعه وسيفه وعلى رأس جيشه، مثلما كان يفعل جده العظيم. ونجحت الخطة، وماتت الدوقة منتصرة. وأفاق الملك الكسول لحظة من سباته. وربما كان نتيجة لاستحثاثها وتحريضها، إنه عندما حانت منية فليري المسالم، أعلن لويس أنه سيحكم ويملك معاً. وفي 26 أبريل 1744 استأنفت فرنسا الحرب الفعلية ضد النمسا، وفي 22 مايو تجدد التحالف مع فردريك ملك بروسيا الذي بعث بشكره وامتنانه إلى مدام شاتوره. وتقدم لويس إلى الجبهة في أبهته الملكية وتبعه بعد يوم واحد خليلاته وسائر سيدات البلاط، تحيط بهن كل كظاهر البذخ والترف المألوفة، وكسبت القوات الفرنسية الرئيسية التي يقودها الملك، ولكن يخطط عملياتها(36/46)
أدريان موريس دي نواي وموريس دي ساكس، انتصارات يسيرة في كورتراي ومنان وأبيرس وفورنيس. وبدا وكان لويس الرابع عشر والقرن العظيم ولدا من جديد.
ووسط المهرجانات والإبتهاجات ترامت الأنباء بأن قوة فرنسية تخلي عن مساندتها إلى حد كاف حلفاءها البافاريون، كانت قد هيأت الفرصة لجيش نمساوي مجري أن يحتل أجزاء من الألزاس واللورين، مما اضطر معه ستانسلاس الذي لم يفارقه سوء الطالع، إلى الهرب من لونفيل. وترك لويس فلاندرز وأسرع إلى متز أملاً في استثارة همم الجيش المنهزم بوجوده. ولكنه، هناك، نتيجة المشاغل المتنوعة وسوء الهضم وحرارة أواسط الصيف، انتابه مرض شديد، وازدادت الحالة سوءاً بسرعة إلى حد أنه في 11 أغسطس ظن أن في خطر من أن يهلك، وكانت خليلته قد لحقت به، وهي الآن تسهر على العناية به ورفض أسقف سواسون أن يناوله الأسرار المقدمة الأخيرة إلا إذا طردت الدوقة. واستسلم لويس، وأقصاها إلى نحو 150 ميلاً بعيداً عن الحاشية (14 أغسطس 1744) وشيعها الأهالي بصيحات الاحتقار والاستنكار وهي تغادر المدينة.
وفي الوقت نفسه كانت ماري لزكزنسكي قد عجلت بالسفر عبر فرنسا لتكون إلى جانب زوجها وهو طريح الفراش. وعلى الطريق التقى ركبها بعربة شاتور وبطانتها. وعانق الملك الملكة قائلاً "لقد سببت لك ما لا تستحقين من الحزن والأسى، وأرجو أن تغتفري لي هذا كله". فكان جوابه "ألا تعرف أنك لست في حاجة أبداً إلى الصفح من جانبي. إن الخطأ في حق الله وحده". وعندما بدأ الملك يسترد صحته كتبت الملكة إلى مدام دي موريا بأنها "أسعد مخلوقة على وجه الأرض". واغتبطت فرنسا كلها أيما اغتباط بشفاء الملك وندمه على ما فات، وعانق المواطنون بعضهم بعضاً في الشوارع، وعانق بعضهم جواد الرسول الذي حمل هذه الأنباء السارة. وأطلق بعضهم على الملك "لويس المحبوب جداً" ورددت الأمة هذه العبارة. وعندما سمع بها لويس تعجب قائلاً "ماذا فعلت لأجعلهم يحبونني إلى هذا الحد؟ " (98) إنه كان رمز الوالد لشعبه.(36/47)
وأنقذ فردريك الألزاس بغزو بوهيميا، فإن الجيش النمساوي المجري ترك الألزاس لإنقاذ براج. وأنضم لويس، وهو لا يزال ضعيفاً إلى جيشه المتقدم نحو ألمانيا، ورآه يستولي على فريبورج-أم بريسجو. وفي نوفمبر عاد الملك إلى فرساي، وأعاد مدام دي شاتورو إلى سابق حظوتها ومكانتها، ونفي أسقف سواسون. ولكن في 8 ديسمبر، وبعد أن عانت من الحمى والهذيان لعد أيام، قضت الخليلة نحبها. ودفنت في ظلام الليل، تفادياً لامتهان الجمهور لرفاتها. واستاء الملك من رجال الدين فامتنع عن تناول الأسرار المقدسة في عيد الميلاد، وظل يترقب غراماً جديداً.
ونسيت الأمة لبعض الوقت خطايا "المحبوب جداً" وسط انتصارات جيشه، وكان قائد ألماني بروتستانتي هو بطل فرنسا. ذلك أن موريس دي ساكس كان ابن أوغسطس القوي ناخب مكسونيا وملك بولندة. وكانت أمه هي الكونتيس ماريا أورورا فون كونجز مارك التي اشتهرت بين محظيات الملك بالجمال والذكاء إلى حد أطلق معه فولتير عليها "أنها أشهر امرأة على مدى قرنين من الزمان" (99). وفي سن الثانية عشرة تزوج موريس من جرهانا فكتوريا، كونتيس فون لوين، وكانت سيئة الخلق مثل أبيه. وبدد ثروتها واستنكر دعارتها وفجورها وطلقها (1721). وبعد أن أظهر شجاعته في حملات كثيرة قصد باريس لدراسة الرياضيات. وفي 1720 حصل على منصب في الجيش الفرنسي. وبعد أن نجا من كل محاولات زوجته لقتله بالسم، عثر على خليلة مخلصة في شخص أدريين لكوفرير التي برزت مكانتها في الكوميدي فرانسيز آنذاك (1721). وفي 1725 غادر فرنسا ليؤسس له مملكة في كورلند (جزء من لتفيا الحالية). أما الممثلة العظيمة، فإنها على الرغم من حزنها الشديد على فقد حبيبها، منحته، عوناً على تنفيذ مشروعه، كل ما لديها من فضة وحلي ومصوغات، قيمتها أربعون ألف جنيه. وبهذا المبلغ، بالإضافة إلى سبعة آلاف طالير (عملة فضية ألمانية قديمة) من والدته، قصد إلى كورلند، وانتخب لعرش الدوقية (1726). ولكن كاترين(36/48)
الأولى قيصرة روسيا وأياه ساندا مجلس الديت البولندي في مناهضة ارتقائه العرش، وطردت القوات البولندية من كورلند، الجندي الذي لم يكن ليقهر لولا هذه المقاومة، ولما عاد إلى باريس (1728) وجد أن الممثلة الكبيرة كانت تنتظره مخلصة له، ولكنه كان قد ورث عن أبيه خلقه وتقلبه، ورضى بها صاحبة الحظوة الأولى بين عشيقاته.
ومع هذا الانحلال الخلقي الجدير بالازدراء وتقلبه بين أحضان النساء الواحدة بعد الأخرى دون أن يبادلهن إخلاصهن، أصبح موريس في ميدان القتال عبقرياً لا يجارى في استراتيجية الحرب، جريئاً في تفكيره، يقظاً لأي خطر يتهدده، وأية فرصة تسنح له. وقال عنه فردريك الأكبر منافسه الوحيد في ذاك العصر إنه "قادر على تلقين الدروس لأي قائد في أوربا" (100) وفي ربيع 1745 عين قائداً عاماً للجيش الفرنسي، وصدرت إليه الأوامر بالتقدم نحو الجبهة. وكان على شفا الموت آنذاك في باريس، حيث أنهكه إفراطه في الشراب وآلام داء الاستسقاء المبرحة، وسأله فولتير كيف يذهب إلى ميدان القتال في مثل هذه الحالة، فأجابه موريس "ليس المهم أن أعيش ولكن المهم أن أبدأ" (101). وفي 11 مايو التحم بجيشه البالغ 52 ألف رجل مع قوات الإنجليز والهولنديين البالغ عددهم 46 ألفاً من الرجال الأشداء، في فونتنوي. وكان لويس والدوفين يتابعان سير المعركة الشهيرة على ربوة قريبة، أما موريس الذي أقعده الاستسقاء عن ركوب الخيل، فكان يديرها وهو على كرسي من الأغصان المجدولة. ويروي لنا فولتير، فيما كان يمكن أن يتطور إلى أسطورة وطنية، (102) أنه عندما أصبح مشاة العداء وجهاً لوجه على مرمى البنادق، صاح لورد تشارلز هاي قائد الحرس الإنجليزي "أيها الفرنسيون أطلقوا النار" فأجابه كونت دي أنتروخ عن الفرنسيين "أيها الرجال، نحن لن نبدأ بإطلاق النار، فهل تبدءون أنتم" (103) وأياً كان الأمر كياسة أو خدعة حربية، فإن الثمن كان غالياً، حيث قتل بالطلقات الأولى تسعة ضباط و434 من المشاة، وجرح 35 ضابطاً و430 جندياً. (104) واضطرب المشاة الفرنسيون وتفرقوا وولوا الأدبار. وأرسل موريس إلى الملك يعرض عليه الانسحاب، فأبى لويس، حتى حين وصل(36/49)
إلى مكانه الجنود العائدون، وربما أخجلهم تصميمه. فما كان من موريس إلا أن امتطى صهوة جواد، وأصدر أوامره إلى قوته من جديد وأعاد تنظيمها، وأطلق القوات الملكية الخاصة على العدو. وقد رأى الفرنسيون مليكهم في خطر الأسر أو الهلاك، وحيث شجعهم وجود ماريشال دي ساكس المتهور تحيط به طلقات النار من كل مكان في أية لحظة، فإنهم جددوا القتال، وأبدى النبلاء والعامة بطولة عظيمة مشربة بروح الانتقام في ساحة المجد. وأخيراً هزم الإنجليز واختلت صفوفهم، وأرسل موريس إلى الملك يبشره بالفوز في هذا الالتحام المرير. وفقد الإنجليز والهولنديون 7500 رجل، والفرنسيون 7200. وحنى لويس رأسه خجلاً حين حياه الجنود الباقون على قيد الحياة. والتفت إلى الدوفين ولي العهد قائلاً "انظر يا بني كم يكلف النصر، احرص على أن تكون ضنيناً بدماء رعاياك" (105). وبينما عاد الملك ومرافقوه إلى فرساي، تقدم موريس للاستيلاء على غنت وبروجز وأودينارد وأوستند وبروكسل. ودانت الفلاندرز كلها فترة من الزمن.
وضيع فردريك نتائج فونتنوي بتوقيعه صلحاً منفرداً مع النمسا (ديسمبر 1745) وتركت فرنسا تقاتل وحدها على ست جبهات من الفلاندرز إلى إيطاليا. وبمقتضى معاهدة إكس لاشبال (1748) تخلت عن الفلاندرز، وكان عليها أن تقنع بالحصول على دوقيات بارما وبياشنزا وجوستللا لصهر لويس الجديد (زوج ابنته) الأمير دون فيليب الأسباني. وعاش موريس أوف سكوسونيا حتى عام 1750، غنياً معززاً مكرماً، ومثقلاً بالأمراض. وكان يجد فسحة من الوقت، بين الغواني، ليدون بعض نظرات فلسفية حالمة: "ماذا نرى اليوم في الأمم! نفر من الناس يعيشون في فراغ وسرور وجدة على حساب الجماهير التي لا تعيش إلا على توفير ملذات جديدة دوماً لهذه القلة من الناس. إن هذه المجموعة من الظالمين والمظلومين تشكل ما نسميه مجتمعاً" (106).(36/50)
وتجاسر رجل آخر من القلة المرموقة المنعمة على أن يحلم بنظام أرحم وأكرم. ذلك أن ريننيه لويس دي فواييه، مركيز أرجنسون الذي تولى منصب وزير الخارجية لمدة ثلاث سنوات (1744 - 1747)، كتب في 1739 "تأملات في حكومة فرنسا"، ولم يجرؤ على نشره إلا في 1765. وجاء فيه أن هؤلاء الذين يفلحون الأرض هم أعظم قطاع من السكان قيمة، وينبغي أن يتحرروا من كل الرسوم والالتزامات الإقطاعية، والحق أنه يجدر بالحكومة، أن تقرض صغار الفلاحين أموالاً لتساعدهم على الإنفاق على زراعاتهم (107). والتجارة حيوية لازدهار الأمة ويجب تحريرها من المكوس والرسوم الداخلية، بل من رسوم التصدير والاستيراد كلما أمكن ذلك. والنبلاء هم أقل العناصر قيمة في الدولة، أثبتوا عجزهم في الإدارة، وهم عالة على المجتمع". وإذا قال أحد بأن هذه المبادئ تتفق مع الديموقراطية، وتميل إلى القضاء على طبقة النبلاء فلن يكون مخطئاً". وإنه ليجدر بالتشريع أن يهدف إلى أكبر قدر ممكن من المساواة. وينبغي أن يحكم الكوميونات موظفون ينتخبون محلياً، على ان تبقى السلطة المطلقة الرئيسية في يد الملك، لأن الملكية المطلقة وحدها هي القادرة على حماية الناس من ظلم (108). واستبق دي آرجنسون الفلاسفة في التطلع إلى الإصلاح على يد ملك مستنير، وقص على النبلاء ما لم يعترفوا به إلا في 4 أغسطس 1789 حين تنازلوا عن امتيازاتهم الإقطاعية، ومن ثم كان مرحلة في طريق فرنسا إلى روسو وإلى الثورة.
وفي 1747 استسلم لويس لتحريض نواي ومورياس وبمبادور وعزل دي آرجنسون. وفقد المركيز ثقته في الملوك. وفي 1753 تنبأ بما حدث في عام 1789: "إن المساوئ والشرور الناجمة عن الحكومة الملكية الاستبدادية لتقنع كل فرنسا وكل أوربا بأنها أسوأ الحكومات .... وإن هذه الفكرة لتبرز وتنتشر وتزداد قوة، وقد تؤدي إلى ثورة وطنية ... وكل شيء يمهد الطريق إلى حرب أهلية .. وأذهان الناس مهيأة للتمرد(36/51)
والعصيان، ويبدو أن كل شيء يتجه إلى ثورة كبرى في الدين والحكومة معاً (109) ".
أو كما قالت خليلة الملك الجديدة "من بعدي الطوفان".
6 - مدام دي بمبادور
هي من أشهر النساء في التاريخ، وأوتيت من الرشاقة والجمال ما أعمى أبصار معظم الرجال عن آثامها وخطاياها، ومع ذلك وهبت من قوة الذهن ما مكنها لمدة عقد زاهر من السنين، من أن تحكم فرنسا وتحمي فولتير وتنقذ موسوعة ديدرو، مما أدى بالفلاسفة إلى القول بأنها تنتسب إليهم. ومن العسير أن ننظر إليها في الصورة التي رسمها لها بوشيه دون أن نفقد نزاهة المؤرخ في الافتتان بالإنسان. فهل كانت دي بمبادور إحدى روائع الطبيعة، أو إحدى روائع بوشيه فحسب؟
وكانت قد بلغت الثامنة والثلاثين حين رسمها، وكانت صحتها الهزيلة تتدهور، ولم يحط من قدرها بالحسية أو الشهوانية السطحية في صوره العارية المشرقة. وبدلاً من ذلك أبرز تقاطيع وجهها الرائعة، ورشاقة قوامها، والذوق في ملابسها. والرقة الناعمة في يديها، "وتسريحة" شعرها الخفيف الأسمر عالياً فوق الجبين. وربما زاد من قيمة هذه المفاتن بخياله ومهارته، ولكنه مع ذلك لم ينقل ضحكتها المرحة المستهترة، ولا ريحها الوديعة، بل لم ينقل ذكاءها الحاد الماكر ولا قوة شخصيتها الهادئة، ولا صلابة إرادتها التي لا تلين ولا ترحم أحياناً.
وكانت جميلة منذ ولادتها تقريباً. ولكنها لم تحسن اختيار والديها، فكان عليها أن تناضل طوال حياتها ضد ازدراء الأرستقراطية للطبقة الوسطى التي نبتت فيها. وكان والدها سماناً (بقالاً)، وهو فرانسوا بواسون الذي لم يستطع يوماً أن يتخلى من اسمه (بواسون بالفرنسية معناها سمك). واتهم بالاختلاس فحكم عليه بالإعدام شنقاً، ولكنه هرب إلى همبرج، وتحايل للحصول على العفو عن جريمته، وعاد إلى باريس(36/52)
(1741). أما والدتها فكانت ابنة "متعهد لتموين العجزة". وشغلت بالارتماء في أحضان الرجال، بينما كان زوجها يستدر العطف في همبرج. واستمتعت بعلاقة غرامية طويلة بملتزم ثري، هو شارل فرانسوا لينورمانت دي تورنهيم، الذي تولى الإنفاق على تعليم البنت الجميلة التي وضعتها مدام بواسون في 1721.
وأتيح لهذه الابنة، جين أنطوانيت بواسون. أحسن ما يمكن أن يتاح من المعلمين، جليوت، الجهير العظيم، للغناء، وكربيون الأب لفن الإلقاء، حتى باتت في الوقت المناسب تنافس نجوم المسرح في الغناء والرقص والتمثيل. وكان صوتها في حد ذاته إغواء". (110) وتعلمت الرسم والحفر، وعزفت على البيان القيثاري إلى حد تحمست له مدام دي ميللي في استحسان عزفها. ولما كانت جين في التاسعة من عمرها تنبأت لها سيدة عجوز (كافأتها فيما بعد على نبوءتها) بأنها ستصبح يوماً ما "عشيقة الملك" (111) ولما بلغت الخامسة عشرة دعا جمالها وأعمالها البارعة أمها إلى القول بأنها "طبق شهي للملك"، ولو أنه من المؤسف أنها لن تكون ملكة. (112) ولكن "الطعام الشهي الملكي" كانت قد بدأت تسعل دماً.
وفي سن العشرين أغراها مسيو دي تورنيهم بأن تتزوج ابن أخيه شارل غليوم لينورمانت دي اتوال، ابن أمين صندوق دار سك النقود. وهام الزوج يحب زوجته، وقدمها إلى المنتديات مفاخراً مزهو بها. والتفت في منتدى مدام دي تنسان بمونتسكيو وفونتنيل وديكلو وماريفو، وأضافت فن الحديث إلى مفاتنها الأخرى. وسرعان ما استضافت هي نفسها، مع فونتنيل، مونتسكيو وفولتير في بيتها. وكانت سعيدة. وأنجبت طفلين وأقسمت "أنه لن يحملها أحد في العالم، إلا الملك، على أن تخون زوجها أو تكون غير مخلصة له" (113) أية بصيرة نافذة هذه!
وفكرت الوالدة في أن هذا الاستثناء من المستطاع تدبيره. ورأت أنه يمكن أن تقصد جين مستقلة مركبة فاخرة إلى غابات سينار حيث يذهب لويس للصيد. وكثيراً ما رأى الملك وجهها الذي لا يمكن نسيانه. وقدمت(36/53)
الرشاوي إلى غلمان الملك ليطروا جمالها لديه. وفي 28 فبراير 1745 شهدت حفلة رقص تنكرية أقيمت في أوتيل دي فيل بمناسبة زواج الدوفين، وتحدثت إلى الملك، وطلب منها أن تخلع القناع لحظة، ففعلت، ثم انصرفت وهي ترقص، وفي إبريل رآها في مسرحية هزلية تمثلها إيطالية في فرساي. وبعد ذلك بعدة أيام أرسل إليها دعوة لتناول العشاء. ونصحتها أمها "بأن تسلي الملك وتدخل السرور على قلبه" وفعلت جين، واستسلمت للملك. وعرض عليها جناحاً في فرساي فقبلت. وحث مسيو تورنهيم الزوج على أن يأخذ المسألة بروح فلسفية: "لا تعرض نفسك للسخرية بالاسترسال في الغضب مثل أي برجوازي، أو بخلق مشكلة (114) وعين الملك مسيو دي أتوال ملتزماً عاماً، وكيف الرجل نفسه ليكون جامع ضرائب، وابتهجت الأم بارتفاع مكانة ابنتها، وقضت تحبها. وفي سبتمبر حصلت جين على ثروة عريضة، وأصبحت المركيزة دي بمبادور، وقدمت بهذه الصفة إلى الحاشية وإلى الملكة التي هدأت من روعها ولاطفتها في ارتباك طفيف. إن الملكة غفرت لها باعتبارها شراً لا بد منه، ودعتها للعشاء. أما الدوفين فإنه، على أية حال، أطلق عليها "مدام هور" (السيدة البغي) واستاءت الحاشية لاقتحام سيدة برجوازية مخدع الملك واستيلائها على أمواله، وما فاتها أن يلاحظوا انزلاقها من حين إلى حين إلى التفوه بألفاظ الطبقة الوسطى أو انتهاج أساليبهم. وتمتعت باريس بالمقطوعات الساخرة والهجاء اللاذع "لخادمة الملك الشابة". وعانت في صمت وجلد بغض الناس لها، حتى باتت قادرة على تثبيت انتصارها وفرض سلطانها.
وإذا رأت لويس وقد بلغ به السأم والضجر ذروته، وهو الذي يملك كل شيء، ولكن كل شيء كان قد فقد عنده كل نكهته وطلاوته، فإنه تفننت وأظهرت عبقريتها في تسليته والترفيه عنه. فألهته بحلبات الرقص والمسرحيات الهزلية والحفلات الموسيقية وروايات الأوبرا، وحفلات العشاء والنزهات والصيد والقنص، وفيما بين هذا وذاك أدخلت على قلبه البهجة والسرور بمرحها وحيويتها وحديثها البارع وذكائها. وأقامت في فرساي(36/54)
"مسرح البيت الصغير"، وأقنعت الحاشية بالقيام بأدوار على المسرح، كما كان الحال في أيام لويس الرابع عشر، ومثلت هي نفسها في مسرحيات موليير الهزلية، وقامت بدورها على خير وجه، إلى حد أن الملك قال عنها "أشد النساء فتنة في فرنسا" (115). وتنافس النبلاء على تمثيل الأدوار وقام الدوفين الصارم نفسه بدور أمام "السيدة البغي". وتفضل بأن يكون دمثاً معها في دنيا النفاق. وأصابت الملك بعض نوبات دينية، فهدأت من روعه بالموسيقى الدينية التي عزفتها بشكل يأسر لبه، حتى نسي خوفه من الجحيم. وأصبح يعتمد عليها كل الاعتماد لولعه بالحياة وتعلقه بها، فأكل معها، ولعب ورقص وقاد عربته واصطاد معها، وقضى معها كل ليلة تقريباً. وما هي إلا بضع سنين حتى خارت قواها وتدهورت صحتها.
وشكا البلاط من أن مدام دي بمبادور صرفت الملك عن مهامه بوصفه حاكماً، وأنها كانت عبئاً ثقيلاً على خزانة الدولة، فقد ازدانت بأغلى الثياب والجواهر، وتألقت غرفة ملابسها بآنية الزينة المصنوعة من البلور والفضة والذهب. وازدانت حجرتها بالأثاث المطلي باللك أو الخشب الأطلساني أو المطعم بالصدف والعاج والمعادن، وأروع آنية الخزف المصنوعة في درسدن وسيفر والصين واليابان، وكانت تضاء بثريات فخمة من الفضة والزجاج، تنعكس أنوارها على مرايا ضخمة على الجدران، أما سقوفها فكانت مغطاة بالصور التي بوشية وفانلو لإلهات الحب التي تبهج الحواس وتثيرها. ولما أحست بأنها سجينة وسط هذا الترف والبذخ، سحبت مبالغ من المال من الملك أو من الخزانة لتشيد أو تؤثث قصوراً وبررت تجهيزاتها المسرفة وحدائقها الشاسعة بأنها لازمة لاستضافة صاحب الجلالة. وكان لها الضيعة والقصر في كريسي في دري، وشادت قصر "المنظر الجميل" الفخم على ضفاف السين بين سيفر ومودون. وأقامت صوامع أو أدياراً صغيرة في غابات فرساي وفونتنبلو وكومبيين واتخذت من "أوتيل دي بونتشارتران مقراً لإقامتها في باريس، ثم انتقلت إلى قصر كونت دي افري في شارع فوبورج سانت أونوريه، ويبدو أن السيدة(36/55)
الفاتنة أنفقت ما يبلغ في جملته 36. 327. 268 جنيهاً (116)، كان جزء منه فناً بقي في حوزة فرنسا. وبلغت نفقاتها الخاصة 33 ألف جنيه سنوياً (117). واتهمتها فرنسا بأنها كانت تكلفها أكثر مما تكلفها الحرب.
وجمعت دي بمبادور من السلطة والنفوذ قدر ما جمعت من الثروة وأصبحت المجرى الرئيسي الذي يفيض بالتعيينات والرواتب وأوامر العفو وغيرها من النعم والعطايا من الملك .. وحصلت لذوي قرباها على المنح والهبات والألقاب والوظائف ذات العمل اليسير والدخل الكبير. ولم تهيئ لابنتها الصغيرة ألكسنرين التي كانت تسميها "فانفان" شيئاً يذكر، ولكنها كانت تحلم بتزويجها لأحد أبناء لويس الخامس عشر من مدام دي فنتميل، ولكن فانفان ماتت في سن التاسعة، وحطمت قلب أمها. أما أخوها آبل-الوسيم الدمث-فإنه بنفسه كسب عطف الملك الذي كان يدعوه "بالأخ الصغير"، وكثيراً ما كان يدعوه على العشاء. ونصبته بمبادور مركيز دي ماريني وعينته مديراً عاماً للمباني، فقام بوظيفته في جد وكفاية، إلى حد رضي معه وسر به الجميع تقريباً. وعرضت بمبادور عليه أن ترقي به إلى مرتبة الدوق فرفض.
وانتشر أثرها على الفن الفرنسي بل الأوربي، ويرجع هذا إلى حد ما إلى الملك، ولكن أكبر الفضل فيه يرجع إلى شخصها هي. وأخفقت محاولاتها في أن تكون هي بنفسها فنانة، ولكنها أحبت الفن من كل قلبها، وما لمست شيئاً إلا وصار جميلاً. وازدهرت الفنون الصغيرة بشكل يبهر الألباب بفضل تشجيعها. وأقنعت لويس الخامس عشر بأن فرنسا تستطيع صنع الخزف اللازم لها، بدلاً من استيراده من الصين ودرسدن، مما يكلفها 500 ألف جنيه سنوياً. وثابرت على ذلك حتى تعهدت الحكومة بتمويل مصانع الخزف في سيفر، واكتسب الأثاث وأدوات الأكل وساعات الحائط والمراوح والمركبات وأواني الزهر والزجاجات والصناديق والنقوش على الأحجار الكريمة والمرايا، واكتسب كل أولئك فتنة دقيقة سريعة الزوال حتى يتفق مع ذوقها الرفيع الذي يتطلب مهارة فائقة،(36/56)
وأصبحت "ملكة الروكوكو" (118). (فن الزخرفة المعقدة). وكان قدر كبير من إسرافها في النفقة يرجع إلى الرعاية التي أسبغتها على الرسامين والمثالين والنقاشين على الخشب والمعادن ونجاري الأثاث الفاخر والمعماريين. وأغدقت على بوشية وأودري ولاتور ومائة غيرهم من الفنانين. وأوحت إلى فانلو وشاردان أن يصورا مشاهد الحياة العامة، فأنهت بذلك التكرار المبتذل لموضوعات من تاريخ العصور القديمة والوسطى وأساطيرها، واحتملت في تسامح باسم تذمر لاتور ووقاحته، حين كان يرسم لها صورة. وأطلق اسمها على المراوح وتسريحات الشعر والثياب والأطباق والأرائك والكراسي والأشرطة، وعلى "وردة بمبادور" المصنوعة من الخزف المفضل لديها، وفي هذه الحقبة، لا في عهد لويس الرابع عشر، على الأرجح، بلغ تأثير فرنسا على المدينة الأوربية ذروته.
وربما كانت بمبادور أكثر نساء زمانها ثقافة. وكان لها مكتبة تضم 3500 مجلد منها 738 في التاريخ، و315 في الفلسفة، ومجلدات كثيرة في الفن، وبعض مجلدات في السياسة أو القانون، إلى جانب عدة قصص في الحب. وواضح أنها إلى جانب تسلية الملك ومكافحة أعدائها والمساعدة على حكم فرنسا، كانت تجد فسحة من الوقت لقراءة الكتب القيمة، لأنها هي نفسها كتبت لغة فرنسية رائعة، في رسائل زاخرة بالمادة ساحرة البيان. وكم توسلت إلى حبيبها أن يباري جده في رعايته للأدب، ولكن ورعه وبخله قعدا به عن ذلك. وعندما حاولت أن تخجله وتحرجه بقولها: بأن فردريك الأكبر أجرى على دالمبرت راتباً قدره ألف ومائتا جنيه، أجاب بقوله "هنا أفذاذ أكثر مما في بروسيا. وقد أكون مضطراً إلى إقامة مأدبة عشاء كبيرة لأجمعهم كلهم". وبدأ يعدهم على أصابعه "موبرتيوس، فونتنيل، لاموت، فولتير، فريرون، بيرون، ديتوش، مونتسكيو، كاردينال دي بوليناك". وأضاف من كانوا حوله، "دالمبرت، كليرو، كريبيون الابن، بريفوسث" .. وعندئذ تنهد الملك قائلاً "حسناء معنى هذا أن كل هؤلاء كان يمكن أن يتناولوا الغداء أو العشاء معي طوال خمسة وعشرين عاماً (119) ".(36/57)
وعلى ذلك احتلت بمبادور مكان الملك في رعاية الأدب. فأتت بفولتير إلى البلاط، وأغدقت عليه، وحاولت أن تحميه من سوء تصرفاته، وساعدت منتسكيو، ومارمونتل، وديكلوس، وبيفون وروسو، ويسرت انضمام فولتير وديكلوس إلى الأكاديمية الفرنسية. ولما سمعت بما يعاني كريبيون الأب من الفقر أجرت عليه راتباً، وخصصت له جناحاً في اللوفر، وعاونت على إحياء مسرحيته "كاتيلينا"، وأصدرت تعليماتها إلى إدارة المطبعة الملكية بإصدار طبعة أنيقة من روايات الكاتب العجوز. واختارت فرانسوا كيزني طبيباً خاصاً لها وهو من أنصار المذهب الفزيوقراطي وخصصت له جناحاً تحت جناحها مباشرة في فرساي، وكانت تستقبل هناك ديدرو ودالمبرت وديكلوس وهلفيشيوس وترجو، وغيرهم، مما كان يمكن أن تكون أفكارهم مصدر إزعاج الملك، ويروي مارمونتل: "ولما لم تكن تستطيع أن تدعو هذه المجموعة من الفلاسفة إلى "صالونها" فإنها كانت تنزل لهم لتجتمع بهم على المائدة وتتجاذب معهم أطراف الحديث (120) ".
وكان طبيعياً أن ينظر رجال الدين وجماعة الأتقياء في الحاشية وعلى رأسهم الدوفين، بعين الرعب والفزع إلى تدليل هؤلاء الكفار. وفوق ذلك، كان معروفاً أن بمبادور كانت تؤيد فكرة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة، بل حتى تجريدها من الصفة الدينية أو انتزاعها من يد الكنيسة، إذا كان هذا هو المهرب الوحيد من إفلاس الدولة (121). وأشار اليسوعيون على كاهن اعتراف الملك أن يمتنع عن مناولته الأسرار ما دام يحتفظ بعلاقته بهذه العشيقة الخطرة (122). ودافع أبناء الملك عن رجال الدين، واستخدمت ابنته الكبرى هنريت التي يؤثرها بحبه، نفوذها في التفريق بينه وبين بمبادور. وكان عيد الفصح كم كل عام مثار أزمة بين العاشقين. ففي 1751 أظهر لويس تلهفاً شديداً على تناول القربان المقدس. وفي محاولة منها لتهدئته واسترضاء كاهن الاعتراف، الأب بيروسو، واظبت على إقامة الشعائر الدينية وحضور القداس يومياً والصلوات بشكل يلفت الأنظار، كما أكدت للكاهن أن علاقتها الآن بالملك علاقة(36/58)
أفلاطونية بريئة تماماً. ولما لم يقتنع الكاهن بهذا، فإنه طلب إليها، أن تغادر البلاط، شرطاً مسبقاً للسماح للملك بتناول الأسرار المقدسة. ومات بيروسو، ولكن خلفه ديمارتس وكان متشدداً مثله. وثبتت بمبادور في مكانها، ولكنها داومت على ورعها الظاهري. ولم تغتفر قط لليسوعيين أنهم لم يأخذوا "تحولها" مأخذ الجد، وربما كان لاستيائها منهم دور صغير في طردهم من فرنسا في 1762.
وربما كان قولها الحق في أنه لم يعد لها اتصال جنسي بالملك لويس. وقد أكد دارجنسون أحد أعدائها هذه الحقيقة (123). وكانت بالفعل قد أفضت إلى بعض خلصائها بأنها تجد مشقة متزايدة في الاستجابة للنيران المتقدة بين جنبيه (124)، واعترفت بأن عدم تحمسها لمضاجعته ذات مرة أوهن ما اشتد من قوته، وأصابه عجز جنسي وتملكه الغضب (125). وتناولت "عقاقير الحب" (126) دون نتيجة تذكر، اللهم إلا الإضرار بصحتها. وأدرك أعداؤها في البلاط هذا الوضع فجددوا مؤامرتهم لاقتلاعها من مركزها. وفي 1753 دبر دارجنسون خطة تنفذ بها مدام دي شوازيل رومانت إلى أحضان الملك، ولكنها طالبت بثمن باهظ ظن أنه لا يتكافأ مع تضحيتها وسرعان ما تمكنت بمبادور من طردها. وهنا آن الأوان أن تأوي المحظية الأولى المنهوكة إلى "متنزه الظباء" البغيض.
وفي "متنزه الظباء" في طرف ناء من فرساي جهز مسكن لإقامة شابة أو شابتين مع خدمهما ومرافقيهما حتى يحين الوقت ليستقبلهما لويس في جناحه الخاص، أو يقصد إليهما في مسكنهما متنكراً في زي كونت بولندي عادة. وتناثرت الشائعات بأن هؤلاء البنات كن كثيرات، وأضافت الأساطير أن سن بعضهن لم تزد على تسع سنوات أو عشر. والظاهر أنه لم يكن يوجد منهن في وقت واحد أكثر من اثنتين (127)، وكان يؤتى بمجموعات منهن على التعاقب، ليتدربن على أن يقدمن للملك "حق السيادة" فإذا حملت إحداهن أعطيت مبلغاً من المال يتراوح بين عشرة آلاف ومائة ألف جنيه، يساعدها على العثور على زوج لها في الأقاليم، وكان الأطفال(36/59)
الذين يولدون عن هذا الطريق يمنحون راتباً سنوياً قدره أحد عشر ألف جنيه. وعلمت مدام دي بمبادور بأمر هذا "الحريم" الذي لا يصدق، فلزمت الصمت. ورغبة منها في ألا تحتل مكانها عشيقة من النبيلات ستعمل من غير شك على إبعادها عن البلاط، بل ربما عن باريس، آثرت أن تترك للشابات الوضيعات أن يشبعن أذواق الملك الفاسدة، وانهارت حالتها المعنوية إلى الحضيض وقالت لمدام دي هوست "كل ما أضن به هو قلبه، وكل هؤلاء الفتيات غير المتعلمات لن يسلبنني إياه (128) ".
ولم تنزعج الحاشية انزعاجاً ملموساً لهذه الترتيبات الجديدة لأن كثيراً من رجالها احتفظوا هم أنفسهم بأكواخ في "منتدى الظباء" هذا لخليلاتهم (129). ولكن أعداء بمبادور افترضوا أن سلطانهم قد آذن بزوال. ولكن خاب فألهم، فإن الملك ظل صديقها المخلص لفترة طويلة بعد أن انقطعت عن أن تكون "خليلته". وكان في 1752 قد خلع عليها رسمياً لقب دوقة. وفي 1756، وعلى الرغم من احتجاجات الملكة منحها المنصب الرفيع "مديرة قصر الملكة" (كبير وصيفات الملكة). فلازمت الملكة، وحضرت معها العشاء ورافقتها إلى القداس. ولما كانت وظيفتها الجديدة تقتضي الإقامة في البلاط فإن اليسوعيين تنازلوا عن طلبهم إبعادها وألغي "الحرم من الكنيسة" الذي ظل مفروضاً عليها لفترة طويلة"، وأجيز لها تناول الأسرار المقدسة. أما بنات الملك اللاتي ناصبها العداء منذ زمن طويل فكن يقصدن إلى زيارتها في "شوازي".
وقضى لويس معها مدة ساعات في كل يوم تقريباً، حيث ظل يجد لذة في طلاوة حديثها ورقتها الفاتنة التي لا تنضب معينها. واستمر يحترم، وغالباً ما يتبع، مشورتها في التعيينات، وفي المسائل الداخلية، بل حتى في السياسة الخارجية. وأصدرت الأوامر إلى الوزراء، واستقبلت السفراء واختارت القواد، وتحدثت أحياناً باسم الملك وباسمها، وكأنها تشترك في الحكم، فكانت تقول "نحن" سننظر (في الأمر). وكان طلاب الوظائف يزحمون حجرة انتظارها، فكانت تحسن استقبالهم وتلاطفهم. وسلم أعداؤها بسعة إطلاعها المدهشة في الشئون السياسية، ولباقتها في الأحاديث الدبلوماسية،(36/60)
ونظراتها التي كثيراً ما كانت ثاقبة (130). وكانت قد أشارت منذ زمن بعيد إلى أن عجز قواد فرنسا هو أساس اضمحلالها العسكري. وفي 1750، اقترحت على لويس أن ينشئ مدرسة حربية يتلقى فيها الفنون والعلوم العسكرية أبناء الموظفين والضباط الذين قتلوا أو استنزفت قواهم في خدمة الدولة. ووافق الملك ولكنه أبطأ في توفير الاعتمادات اللازمة للمشروع. فنقلت بمبادور إلى هذا المشروع دخلها الخاص لمدة عام، ووفرت له أموالاً إضافية عن طريق "يانصيب"، وضريبة على لعب الورق، وأخيراً فتحت المدرسة 1758 ملحقة "بقصر الانفاليد".
والآن نصح هذا الوزير الساحر بلا وزارة بمراجعة جريئة لسياسة فرنسا الخارجية وإعادة تقييمها. وربما جاءت المبادرة بهذا "النقض المشئوم للأحلاف" من كونت فون كونتز سفير النمسا في باريس. وقد عززها التنازل الكاره من جانب الإمبراطورة التقية ماريا تريزا التي خاطبت بمبادور "بصديقتي العزيزة"، و "ابنة عمي"، كما عززها فردريك الأكبر بإشارته المهنية إلى المركيزة دي بمبادور "بحكم المرأة" في البلاط الفرنسي. وكانت مدام دي شاتور ودارجنسون قد وجها السياسة الخارجية نحو الصداقة مع بروسيا، وأوضح كونتز وبمبادور أن بروسيا الحديثة-التي قويت بالانتصار في حرب الوراثة النمساوية، والتي لديها جيش قوامه ألف جندي أحسن تدريبهم تحت إمرة قائد قدير طموح لا يبالي بأية مبادئ خلقية، وملك غدر بفرنسا مرتين بتوقيعه صلحاً منفرداً-إن بروسيا هذه لا بد أنها سرعان ما تشكل خطراً أشد من خطر النمسا التي كانت قد فقدت آنذاك سيليزيا، ولم تعد تتوقع أي عون أو تأييد من أسبانيا في ظل حكم آل بوريون، وقد انقضى تطويق النمسا لفرنسا. وقويت هذه الحجة حين عقدت بروسيا في 16 يناير 1754 تحالفاً مع إنجلترا-عدوة فرنسا التقليدية ورد مجلس الدولة الفرنسي على هذا بإبرام تحالف مع النمسا (أول مايو). وهنا نجد أن المركيزة دي بمبادور التي عادت الآن تبصق دماً، وكانت في الخامسة والثلاثين، ولم يبق لها من العمر إلا ثمان سنوات، نجد أنها قد لعبت دورها في التمهيد لإشعال حرب السنين السبع.(36/61)
الفصل الثامن
الأخلاق والعادات
1 - التعليم
كان بين الصراعات الكثيرة الأساسية التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر، محاولة الكنيسة الاحتفاظ بسيطرتها على التعليم، إلى جانب محاولة الفلاسفة وغيرهم إنهاء هذه السيطرة والقضاء عليها. وبلغ الصراع ذروته بطرد اليسوعيين من فرنسا في 1762، وتأميم المدارس الفرنسية، وغلبة التعليم العلماني في الثورة الفرنسية. وكان خلاف قد بدأ يبرز في النصف الأول من القرن الثامن عشر فقط.
ولم تكن الغالبية العظمى من الفلاحين تعرف القراءة. وفي كثير من المجتمعات الريفية، كانت الهيئات البلدية، حتى إلى عام 1789، "لا تكاد تعرف الكتابة" (1). وكان في معظم الأبرشيات على أية حال "مدرسة صغيرة" يقوم فيها الكاهن بنفسه، أو من يعينه هو، بتعليم القراءة والكتابة والدين المسيحي على صورة سؤال وجواب، للأولاد الذكور أساساً، في مقابل رسم زهيد يدفعه الآباء عن كل تلميذ (2)، أما الأولاد الذين يعجز آباؤهم عن الدفع فكانوا يتعلمون بالمجان إذا طلبوا ذلك. وكان اللحاق بهذه المدرسة مطلوباً قانوناً بمقتضى مراسيم 1694 و1724، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ (3)، وامتنع كثير من الآباء الفلاحين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لحاجتهم إليهم في المزرعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم رأوا أن التعليم أمر مزعج لا ضرورة له لمن قدر عليهم أن يشتغلوا في الأرض. فالتعليم لم يكن يكفل أي ارتفاع في المركز الاجتماعي لأن الحواجز الطبقية كانت عقبة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في النصف الأول من القرن. وفي القرى والمدن الصغيرة نادراً ما كان الذين تعلموا القراءة يقرئون شيئاً غير ما تعلق بعملهم اليومي. وكان كل إنسان يعرف قواعد الدين، وفي المدن الكبيرة وحدها كان هناك شيء من المعرفة بالأدب والعلوم والتاريخ.(36/62)
وفي الطبقات المتوسطة والعليا كان معظم التعليم على أيدي المربيات والمؤدبين، أو المعلمين الخاصين، وأخيراً على أيدي معلمي الرقص، وهؤلاء الأخيرين كان مفروضاً فيهم أن يعلموا الجنسين كليهما الفنون الشاقة، وهي فنون الجلوس والوقوف والمشي والحديث والإيماء، في كياسة ورقة. وتلقت بعض الفتيات دروساً خاصة في اللاتينية، وفوق هذا كله تقريباً، تعلم الفقراء الغناء والعزف على البيان القيثاري. وقام التعليم العالي للبنات في الأديار، حيث ارتقين في الدين والتطريز والموسيقى والرقص وقواعد السلوك القويم الذي يجدر بالشابة أو الزوجة أن تتحلى به.
وكان كل التعليم الثانوي للذكور تقريباً في يد اليسوعيين، ولو أن الرهبان الأوراتوريين والبندكتيين أسهموا فيه. وكان المتشككون من أمثال فولتير وهلفيشيوس من بين الخريجين العديدين المرموقين في كلية اليسوعيين "لويس الأكبر" حيث كان الأب شارل بوريه يقوم بتدريس "البلاغة" (أي اللغة والأدب وعلم الكلام) وترك في تلاميذه ذكريات طيبة. وما كاد المنهج في المدارس اليسوعية ليتغير طوال قرنين من الزمان. وعلى الرغم من تركيز هذا المنهج على الدين والأخلاق، فإن مادته كانت كلاسيكية إلى حد بعيد، فكان التلاميذ يدرسون مؤلفات روما القديمة في نصوصها الأصلية، فأكب التلاميذ الصغار على دراسة الفكر الوثني لمدة خمس أو ست سنوات، فلا عجب أن ساورتهم بعض الريبة في عقيدتهم المسيحية. وأكثر من هذا فإن اليسوعيين "لم يدخروا وسعاً في تنمية ذكاء تلاميذهم وغيرتهم" (4). فكانوا يشجعون على المناقشة والتحدث علانية وعلى تمثيل الروايات، وكانوا يتعلمون قواعد لترتيب أفكارهم والتعبير عنها، ومن ثم كان جزء من وضوح الأدب الفرنسي وصفاته من غرس المدارس اليسوعية، وأخيراً تلقى الطالب مناهج قاسية في المنطق والميتافيزيقا وعلم الأخلاق عن أرسطو من ناحية وفلاسفة العصور الوسطى السكولاسيين (المدرسيين) من ناحية أخرى. وهنا مرة أخرى، نجد أن النتائج كانت تقليدية، إلا أن عادة التفكير والاستنتاج والتعليل بقيت-وأصبحت بالفعل-علامة مميزة لهذا العصر(36/63)
"عصر العقل" بوجه خاص. وكان الجلد بالسياط أيضاً جزءاً من المنهج، حتى لطلاب الفلسفة، ودون تميز في المرتبة أو المكانة الاجتماعية، فقد جلد من أصبح فيما بعد مركيز دارجنسون ودوق بوفلرز، أمام أقرانهما في الفصل، لأنهما قذفا أساتذتهما الأجلاء بحبات البازلاء (5).
وعلت الشكوى بالفعل من أن المنهج لم يول عناية تذكر بما وصلت إليه المعرفة من تقدم وازدهار، وأن التعليم كان نظرياً إلى حد كبير، ولا يعد للحياة العملية، وإن الإلحاح الشديد على التعليم الديني قد أفسد الأذهان أو أغلقها. وفي "رسالة عن التعليم" كانت يوماً مشهورة (1726 - 1728) دافع شارل رولان رئيس جامعة باريس عن المنهج الكلاسيكي (القديم التقليدي) وعن التركيز على الدين. وكان من رأيه أن الهدف الأسمى من التعليم هو خلق أناس أفضل. وأفاضل المعلمين "لا يعنون كثيراً بالعلوم، حيث لا تساعد هذه العلوم على التمسك بأهداب الفضيلة. ولم يكونوا يأبهون كثيراً بالتزود بألوان المعرفة، إذا لم تقترن بالاستقامة وحسن الخلق. وكانوا يؤثرون الرجل الأمين على الرجل العالم الواسع الإطلاع (6). وقال رولان إنه من الصعب أن نشكل الخلق القويم دون تأسيسه على عقيد دينية. ومن ثم "ينبغي أن يكون الهدف من جدودنا، والغرض من تعليمنا هو الدين" (7) وسرعان ما يثير الفلاسفة الجدل حول هذا الموضوع، ويستمر الجدل حول ضرورة الدين للأخلاق طوال القرن الثامن عشر، والقرن الذي يليه. وهو جدل حي في أيامنا هذه.
2 - الأخلاق
ويبدو أن حجة رولان كانت تؤيدها الفروق الطبقية في المبادئ الأخلاقية. وإن الفلاحين الذين تمسكوا بدينهم عاشوا حياة أخلاقية نسبياً، وربما كان هذا، على أية حال راجعاً إلى حقيقة أن الأسرة كانت وحدة الإنتاج الزراعي، وأن الأب كان أيضاً المستخدم أي صاحب العمل، وكان نظام الأسرة يرتكز في جذوره على نظام اقتصادي يفرضه تعاقب الفصول ومتطلبات الأرض. واستمسكت الطبقات الوسطى بقدر كبير من العقيدة(36/64)
الدينية، مما عزز سلطة الأبوين أساساً للنظام الاجتماعي. أما مفهوم الأمة باعتبارها رابطة من الأسرات عبر الأجيال، فقد هيأ لأخلاقيات الطبقة الوسطى قوة التماسك والتقاليد. وكانت الزوجة البرجوازية نموذجاً للجد والتقوى والأمومة. وكانت تتحمل آلام الوضع في صبر وجلد، وسرعان ما كانت تعود إلى عملها. وكانت قانعة ببيتها وعلاقاتها مع جيرانها، وقليلاً ما انزلقت إلى زخرف الدنيا الخداع التي يسخر الناس فيها من الإخلاص على أنه شيء عتيق بال. ونادراً ما نسمع عن حوادث الزنى عند زوجات الطبقة الوسطى. وضرب كل من الأب والأم معاً مثلاً رائعاً في العادات القويمة والتمسك بالدين والحب المتبادل. وتلك هي الحياة التي خلد شاردان ذكرها معتزاً بها، في لوحته مثل "البركة".
ومارست كل الطبقات أعمال البر والإحسان وكرم الضيافة. وكانت الكنيسة تجمع الصدقات وتوزعها. ودعا الفلاسفة المعادون للدين إلى عمل الخير، وبنوا دعوتهم على أن هذا الحب للإنسانية لا حب لله، ومن ثم كانت "الإنسانية" الحديثة نتاجاً للدين والفلسفة معاً. وأمدت الأديار الجياع بالطعام، وعنيت الراهبات بالمرضى، وقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء والأيتام والعجزة على الموال التي تدفعها الدولة للكنيسة والنقابات. وكان بعض الأساقفة مبذرين منصرفين إلى متاع الدنيا. ولكن نفراً آخر منهم-مثل أساقفة أوكسير وميربوا وبولون ومرسيليا-وهبوا ثرواتهم وحياتهم لأعمال البر والإحسان. ولم يكن موظفو الدولة مجرد طالبي مناصب أو نفعيين طفيليين، فإن موظفي بلدية باريس كانوا يوزعون الطعام وحطب الوقود والنقود على الفقراء" وفي ريمس خصص أحد أعضاء البلدية 500 ألف جنيه للصدقات. وكان بالملك لويس الخامس عشر نزعات إلى الشفقة والعطف والحنان المشوب بالجبن. وعندما خصص مبلغ 600 ألف جنيه للألعاب النارية احتفالاً بمولود دوق برجندي الجديد (1751)، ألغى الملك العرض وأمر بتوزيع المبلغ مهوراً لستمائة من أفقر بنات باريس، وحذت مدن أخرى حذوه. وعاشت الملكة عيشة مقتصدة غير مسرفة وأنفقت معظم(36/65)
دخلها في الأعمال الخيرية. وكذلك أنفق دوق أورليان ابن الوصي المشاغب الخليع ثروته في أعمال البر والإحسان. ويبدو الجانب غير المشرق في هذا الموضوع في الفساد والإهمال اللذين شوها إدارة المؤسسات الخيرية. فهناك عدة أمثلة لمديري مستشفيات استولوا لأنفسهم على الأموال التي كانت تصلهم من اجل العناية بالمرضى والفقراء.
وعكست الأخلاقيات الاجتماعية طبيعة الإنسان-أناني وكريم، وحشي ولطيف، يخلط بين قواعد اللياقة وسفك الدماء في المعركة. ولعب رجال الطبقات العليا والدنيا ونساؤها الميسر في تهور بالغ، دون إحساس بالمسئولية وبددوا ثروات أسراتهم، وكان الغش في اللعب سائداً إلى حد كبير (8). وفي فرنسا، كما كان الحال في إنجلترا، أفادت الحكومة من حب الناس للمقامرة بإنشاء "يانصيب" وطني. أما أسوأ مظاهر الحياة الفرنسية وأكثرها مجافاة للأخلاق فهو أرستقراطية الحاشية البالغ الخالي من الرحمة، تلك الأرستقراطية التي كانت تعيش على الدخول التي كانت تبتزها من الفلاحين الفقراء. فإن ملاءات سرير الدوقة دي لافري كانت مشغولة بالمخرمات الغالية الثمن، وتكلفت 40 ألف كراون، وكانت لآلئ ومجوهرات مدام اجمونت تساوي 400 ألف كراون (9)، وكانت الخيانة والخداع أمرين عاديين مألوفين من أعمال الموظفين، واستمر بيع الوظائف والمناصب، وكان مشتروها يستغلونها في الإثراء غير المشروع تعويضاً لهم عما دفعوا فيها ولم يكن قدر كبير مما يجبى من الضرائب يصل إلى خزانة الدولة. وفي غمرة هذا الفساد نمت روح الوطنية، ولم يكف الرجل الفرنسي عن حب فرنسا، ولك يطق الرجل الباريسي أن يعيش طويلاً بعيداً عن باريس. وامتاز كل فرنسي تقريباً بالبسالة. وفي حصار ماهون، ورغبة من المارشال دي ريشيليو في منع جنوده من تعاطي المسكرات، أصدر هذا القائد قراراً يقول فيه "أن أي فرد منكم يوجد ثملاً في المستقبل لن يكون له شرف الاشتراك في الهجوم" فتوقف شرب الخمر تقريباً (10)، واستمرت المبارزة على الرغم من كثرة قرارات تحريمها. وقال لورد تشسترفيلد "إن المرء ليلحقه الخزي والعار إذا لم يثر للإهانة، وإنه ليلقى حتفه إذا استاء لها (11) ".(36/66)
وكان عقاب اللواط الإعدام حرقاً. ولكن هذا القانون كان ينفذ في الفقراء وحدهم، كما حدث مع أحد رعاة البغال 1724. وفي 1725 ألقي القبض على الراهب ديفونتين، الذي كان قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات اليسوعية لمدة خمسة عشر عاماً، واتهم بمثل هذه الفعلة، فأهاب بفولتير لمساعدته، فنهض من فراش مرضه قاصداً إلى فونتبنلو، واستحث فليري ومدام دي بري لاستصدار عفو عنه (12)، وطيلة العشرين عاماً اللاحقة كان ديفونتين من ألد أعداء فولتير. وكان بعض خدم الملك منحرفين جنسياً. ويبدو أن أحدهم، وهو تريمو ويل، اتخذ من الملك ذي الستة عشر ربيعاً غلاماً له (13).
وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء. وفي المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفي بنفقاتهن الضرورية، وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً (14). وقدر كاتب معاصر عدد البغايا في باريس بأربعين ألفاً. وهناك تقدير آخر بأنهن ستون ألفاً (15) وكان الرأي العام-فيما عدا الطبقة الوسطى متسامحاً مترفقاً بأمثال هؤلاء النسوة، حيث أدرك أن كثيراً من النبلاء ورجال الدين ووجوه المجتمع ساعدوا على خلق هذا الطلب الذي أدى إلى هذا العرض، وتذرع الرأي العام بشيء من اللياقة، فأدان الفقيرات اللاتي يبعن أعراضهن أقل مما أدان الذين يشترون المتعة، أي أن مسئولية هؤلاء عن هذا العمل الشائن أكبر. وكانت نظرة رجال الشرطة إلى هذا الأمر تختلف عن ذلك اللهم إلا إذا قدمت شكوى خاصة أو عامة ضد هؤلاء "البنات" وهنا يتم الاعتقال بالجملة، تبرئة لساحة الحكومة، وعندئذ يساق النساء للمثول أمام أحد القضاة، وقد يحكم القاضي بإيداعهن السجن أو المستشفى، حيث تحلق رءوسهن بالموس ويعاقبن ويوضعن تحت المراقبة ثم يطلق سراحهن، وتنمو شعورهن من جديد. وإذا خلقن متاعب جمة لأحد ذوي النفوذ والسلطان أو أسأن إليه، فيمكن إرسالهن إلى لويزيانا. وعرضت محظيات الحاشية أو المومسات اللاتي يتردد عليهن(36/67)
الأغنياء، مركباتهن وحليهن ومجوهراتهن في طريق "كور-لا-رين" في باريس، أو في متنزه "لونجشامب" (16). وإذا حصلن على عضوية الكوميدي فرانسيز أو الأوبرا، حتى لتمثيل الأدوار القصيرة، اكتسبن الحصانة ضد الاعتقال بتهمة بيع مفاتنهن أو أعراضهن. وارتفع بعضهن ليكن نماذج للفنانين (لرسم الصور العارية)، أو يتخذهن النبلاء ورجال المال أخداناً لهم خاصة. واقتنص بعضهن أزواجاً، وحصلن على ألقاب وثروات، وأصبحت واحدة منهن بارونة سانت شاموند.
وكانت الزيجات القائمة على الحب، دون موافقة الأبوين، تزداد في عددها وفي الإنتاج الأدبي. وكان من الممكن الاعتراف بشرعيتها إذا عقدت أمام كاتب العدل أو الموثق. ولكن في معظم الأحوال، حتى بين الفلاحين ظل الآباء هم الذين يرتبون أمر الزواج باعتباره اتحاداً بين الممتلكات والأسرات، لا مجرد اتحاد الأفراد. فالأسرة، لا الفرد، هي وحدة المجتمع، ومن ثم كانوا يرون أن بقاء الأسرة وممتلكاتها أهم من الملذات العابرة أو العواطف السريعة الوهن عند الشباب المتهور. وفوق هذا قال فلاح لابنته "الحظ أقل عمى من الحب (17) ".
وكانت السن القانونية للزواج هي الرابعة عشرة للذكور والثالثة عشر للإناث. ولكن كان يمكن قانوناً أن تتم الخطبة في سن السابعة، وهي التي حددها فلاسفة العصور الوسطى مبدأ "سن العقل" وكانت الشهوة الجامحة عند الشبان تدفع بهم إلى مطاردة الآنسات مطاردة عنيفة، إلى حد أن الآباء زوجن بناتهن حالما كان ممكناً ميسوراً تفادياً لإنفضاض البكارة قبل الأوان، وهكذا كانت المركيزة دي سوفبيف أرملة في الثالثة عشرة من عمرها. ولزمت بنات الطبقتين الوسطى والعليا الدير حتى يتم اختيار الأزواج لهن، وعندئذ يعجل بهن من حياة الدير إلى حياة الزوجية، وكان لزاماً تشديد الحراسة عليهن في الطريق. وبهذا النظام القاسي المنافي للأخلاق السيئ، كان كل النساء تقريباً عذارى عند الزواج.
وإذ احتقرت الأرستقراطية الفرنسية التجارة والصناعة، ونادراً ما(36/68)
غطت الدخول الإقطاعية نفقات الإقامة في البلاط وما تقتضيه من مظاهر، فإنها وطنت النفس على تزويج أبنائها للذين توافرت لهم الأرض ولم يتوافر لديهم المال، من بنات الطبقة البرجوازية العليا اللاتي لا يملكون أرضاً، ولكن يملكن كالاً. ولما اعترض ابن دوقة شولن على زواجه من ابنة التاجر بونييه ذات الصداق الكبير، أوضحت له أمه "أن زواج المنفعة ممن هي دونك مرتبة، هو مجرد حصولي على الروث لتسميد الأرض" (18). وفي مثل هذه الزيجات عادة، كان الزوج النبيل أو ذو اللقب، وهو يستغل أموال زوجته، يذكرها من حين لآخر بأصلها الوضيع، وسرعان ما يتخذ خليلة، وفي هذا خير شاهد على احتقاره لزوجته. ولم يغب هذا أيضاً عن ذاكرة الطبقة الوسطى حين ساعدت الثورة.
ولم يوصم الزنى بأية وصمة عار اجتماعي، في البيئة الأرستقراطية، بل كان أمراً مقبولاً باعتباره بديلاً ساراً عن الطلاق الذي حرمته الديانة الوطنية. وقد يتخذ الزوج الذي يخدم في الجيش أو في الأقاليم له خليلة، دون أن يبدي لزوجته سبباً مقبولاً للشكوى. وقد يفترقان الواحد منهما عن الآخر، بالخدمة في الحاشية أو في الضيعة، وهنا أيضاً قد يتخذ خليلة ومذ كان عقد الزواج يتم دون الزعم بأن العاطفة يمكن أن تتجاوز عن الثراء فإن كثيراً من الزوجين من النبلاء عاشا فترة طويلة من حياتهما منفصلين، وأباح كل منهما للآخر زلاته، شريطة أن تكون هذه الزلات مستورة بلباقة، كما تكون في حالة المرأة مقصورة على رجل واحد في نفس الوقت وأجرى مونتسكيو على لسان سائحه الفارسي قوله: "إن الرجل الذي يريد أن يستحوذ على زوجته له هو وحده يعتبر معكراً لصفو السعادة العامة، غبياً يريد أن يستأثر بالاستمتاع بضوء الشمس، ويحجبها عن سائر الناس (19) ". وسئل يوماً دوق دي لوزون الذي لم يكن رأى زوجته طيلة عشر سنين، ماذا يقول لو أن زوجته أرسلت إليه تنبئه بأنها حامل، فأجاب، مثل أي سيد ماجد في القرن الثامن عشر: "أكتب إليها لأقول إني مبتهج فرح لأن الله بارك زواجنا، اعتن بصحتك، سأحضر لأقدم لك إحتراماتي هذا المساء (20) " فالغيرة كانت أمراً مرذولاً.(36/69)
وكان بطل الزنى وفتى العصر ونموذج الأناقة في ذاك الزمان هو لويس فرانسوا أرمان دي فينيرو دي بلسيس، دوق ريشيليو حفيد أخي الكاردينال الصارم المتقشف. وقد انزلقت إلى مخدعه عدة سيدات نبيلات من ذوات الألقاب، الواحدة تلو الأخرى، تجرهن إليه مكانته وثروته وشهرته. ولمما وبخ ابنه وهو في العاشرة من عمره على بطء تقدمه في دراسته اللاتينية، أجاب في سرعة مفحمة: "أن أبي لا يعرف اللاتينية، ولكنه مع ذلك يحظى بأجمل نساء فرنسا (21) ". وهذا لم يمنع اختياره للأكاديمية الفرنسية قبل فولتير، صديقه ودائنه، بثلاث وعشرين سنة، وكان فولتير يكبره بعامين. ومهما يكن من أمر فإن الرأي العام استهجن سلوك هذا الدوق لأنه كان يجلب إلى الملك النساء لهذا الغرض الدنيء. ومنعته جيوفران من التردد على ندوتها لأنه يجمع بين عديد من أمهات الكبائر (22) ". وعمر حتى بلغ الثامنة بعد التسعين، ومات قبل قيام الثورة بعام واحد.
وإذا كانت العلاقة بين الزوجين على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نتصور مصير أبنائهما. وكان النبلاء يعتبرون صراحة أن أبنائهم عوائق في طريقهم، ويدفعون بهم عند ولادتهم إلى المرضعات، ويتولى تنشئتهم مربيات ومعلمون خاصون، حيث يرون والديهم بين الحين والحين. وروى تاليران أنه لم ينم قط تحت السقف الذي نام تحته أبوه وأمه. وكان من رأي الأبوين أنه من الحكمة أن يباعدوا بينهم وبين أبنائهم، فكانت العلاقة الحميمة أمراً شاذاً، وكانت الألفة أمراً غير معروف. فخاطب الابن أباه بقوله "سيدي" وقبلت البنت يد أمها. وإذ كبر الأبناء أرسلوا إلى الجيش أو الكنيسة أو الدير. وكانت كل الممتلكات تؤول إلى الابن الأكبر، كما كان الحال في إنجلترا.
واستمر أسلوب الحياة هذا سائداً في نبلاء الحاشية، حتى ارتقاء لويس السادس عشر عرش فرنسا في 1774. وكشف هذا الأسلوب، من جهة أخرى، عن فقدان الأيمان بالدين عند الطبقات العليا. وتخلى الناس تماماً عن مفهوم الزواج في المسيحية، مثله في ذلك مثل مفهوم الفروسية في(36/70)
العصور الوسطى. وأصبح الجري وراء اللذة والمتعة "وثنياً" بشكل أشد سفوراً منه في أي وقت منذ عصر روما الإمبراطورية المضمحلة. ونشرت كتب كثيرة في "الأخلاقيات في فرنسا في القرن الثامن عشر"، ولكن كانت هناك أيضاً كتب كثيرة تعالج البذاءة والفحش بطريقة مدروسة متعمدة، وكانت أوسع انتشاراً ورواجاً ولو كانت سرية. وكتب فردريك الأكبر يقول: إن الفرنسيين ولا سيما سكان باريس، أصبحوا الآن مترفين منغمسين في الملذات، أوهنتهم المتعة والدعة" (23) وحوالي 1749 رأى مركيز دارجنسون في انحطاط الوعي الخلقي نذيراً آخر بكارثة وطنية: "القلب قوة نسلب أنفسنا إياها كل يوم لأننا لا نروضه ولا ندربه أبداً. على حين أننا نشحذ الذهن ونصقله باستمرار، فنصبح عقلانيين -لا عاطفيين- أكثر فأكثر ... وإني لأتنبأ بأن هذه المملكة لا بد هالكة، نتيجة لإخماد القوى التي تنبع من القلب، إننا لا نكسب أصدقاء، ولم نعد نحب عشيقاتنا، فكيف نحب بلادنا؟ ... إن الناس يفقدون يوماً بعد يوم تلك الخلة الحميدة التي نسميها رقة الشعور. ويختفي الحب والحاجة إلى الحب ... وحسابات المصلحة تشغلنا وتستنزفنا دائماً. وكل شيء سبيل إلى الدسيسة والمكيدة ... وتنطفئ جذوة النار الداخلية (العواطف) لأننا لا نغذيها، ومن ثم يزحف الشلل إلى القلب (24) ".
وهذا هو صوت بسكال يردد مذهب طائفة بورت رويال (مذهب الجانسنيين) وصوت روسو، قبل ظهور جان جاك بجيل واحد، أو صوت الأرواح المرهفة الحس في أي عصر من عصور القلق الفكري والتحرير، ولسوف يطرق أسماعنا ثانية.
3 - العادات
لم ير التاريخ قط أخلاقيات طائشة مثل هذه، مزخرفة مموهة بتهذيب ورقة في السلوك وأناقة في الملبس والحديث، وتنوع في المتع والملذات، وفتنة في النساء، وكياسة متأنقة في المراسلات، وإشراق في الفكر والذكاء.(36/71)
"ولم يوجد قط في فرنسا من قبل، أو في أوربا المعاصرة ... بل ولا في العالم منذ وجد العالم، مجتمع مهذب ذكي مبهج، مثل المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر" (25) قال هيوم في 1741 إن الفرنسيين "أتقنوا بدرجة كبيرة ذلك الفن، وهو انفع الفنون وأليقها ألا وهو فن الحياة، فن المجتمع، فن الحديث" (26). ولم تستخدم كلمة "مدنية" إلا في أخريات هذه الحقبة، فلم تظهر في قاموس جونسون 1755، ولا في "المعجم الكبير" الذي صدر في 30 مجلداً في باريس في 1768.
وأحس الفرنسيون بالمدنية بوجه خاص في ملابسهم، ونافس الرجال النساء منافسة كبيرة في العناية بالثياب. واقتضى الزي العصري السائد أن يلبس أفراد الطبقة العليا قبعات كبرى ذوات ثلاث زوايا، مزدانة بالريش والأشرطة الذهبية، ولما كانت هذه القبعات تفسد ترتيب شعورهم المستعارة، فإنهم وضعوا القبعات عادة تحت أذرعتهم. وكانت الشعور المستعارة آنذاك أصغر مما كانت عليه أيام الملك العظيم (لويس الرابع عشر)، وكانت أكثر شيوعاً حتى بين الحرفيين. وكان في باريس ألف ومائتا حانوت للشعور المستعارة، يعمل فيها ستة آلاف عامل. وكان الشعر الطبيعي والمستعار يدهن بالمساحيق. وكان شعر الذكور طويلاً عادة، ويلم بشريط أو في كيس وراء الرقبة. وكانوا يرتدون سترة طويلة زاهية اللون-من المخمل عادة-فوق البذلة الداخلة التي تكشف عن صدرة مفتوحة عند الحلق، وعن قميص حريري رقيق، ورباط عنق عريض، وأكمام تنتهي إلى "كشكشات" مزخرفة عند المعصم. وكانت "بنطلونات" الركوب القصيرة ملونة، والجوارب من الحرير الأبيض. وكانت الأحذية تشد بمشابك من فضة. ولبس أفراد الحاشية أحذية ذات كعوب حمراء، علامة مميزة لهم، واستخدم بعضهم عظام فك الحوت ليحتفظوا بأذيال ستراتهم ممتدة على نحو صحيح. وتزين بعضهم بالماس في عري ستراتهم. وكان الجميع يحملون سيوفاً. وحمل بعضهم العصى. وكان حمل السيف محرماً على الخدم وغلمان الحرفيين والموسيقيين (27). وكانت ملابس أفراد الطبقة البرجوازية(36/72)
بسيطة: سترة و "بنطلون" قصير من قماش عادي قاتم، وجوارب صوفية سوداء أو رمادية، وأحذية ذات نعال سميكة وكعوب وطيئة. وارتدى الحرفيون وخدم المنازل الأردية التي كان الأغنياء ينبذونها. وتذمر ميرابو الأكبر من انه لا يستطيع التمييز بين الحداد واللورد!
وظلت السيدات تتمتعن بحرية أرجلهن داخل الرحاب الفسيح لتنوراتهن ذات الأطواق الموسعة. وشجب رجال الدين النساء اللائي ارتدين مثل هذه التنورات "بأنهن إناث قردة أو أعوان الشيطان" ولكن النساء أحببنها لأنها تضفي عليهن جلالاً حتى ولو كن حبالى. وتروي مدام دي كريكي "أنها لم تستطع أن تهمس أذن مدام دي اجمونت لأن التنورة ذات الأطواق الموسعة حالت دون اقتراب الواحدة منهما من الأخرى" (28) أما حذاء السيدة ميلادي "ذو الكعب العالي المصنوع من جلد ملون والمرصع بتطريزات من الذهب والفضة-فقد أضفى على قدميها فتنة تسلب الألباب إذا لم يراهما أحد. وارتقى صانع حذائها إلى مصاف البرجوازية العليا بسبب إبداعه في فنه، وكم من قصة حب كتبت عن قدم جميلة، وهي عادة حذاء جميل وكان مثيراً إلى مثل هذا الحد تقريباً، ذلك "الخف" المزين برسوم الأزهار، الذي لا نعل له، والذي كانت تلبسه ميلادي في البيت. وكانت مقيدة أيضاً الأهداب والحواشي والمراوح والملابس التحتية المزخرفة التي كانت تجذب عين الرجل الزائغة أو تخفي جسم المرأة الحائرة في كل ناحية. وكان مشد الخصر والردفين (الكورسيه) المصنوع من عظام فك الحوت يساعد على تشكيل هذا الجسم في القوام الأنيق الذي يقتضيه العصر ويلائم المكانة الاجتماعية. وبرز جزء معقول من الصدر ليشهد بالامتلاء المناسب المريح. وكان الحلاقون وضيعين بسطاء. ولم تظهر تسريحة الشعر العالية إلا في 1763. وعالجت مستحضرات التجميل والتطرية لليدين والذراعين والوجه والشعر. وتخلف الرجال قليلاً عن النساء في استخدام العطور. وكان وجه السيدة ينقش ويطلى بالمساحيق، وتوضع عليه بطريقة بارعة لصوق تجميلية أو شامات من الحرير الأسود مقطعة على شكل قلوب(36/73)
أو قطرات من الدموع أو أقمار أو نيازك أو نجوم، ويمكن أن يكون للسيدة العظيمة سبع أو ثمان من هذه اللصوق على جبهتها، وصدغيها وقرب عينيها وعلى جوانب الفم. وكانت تحمل صندوقاً للصوق فيه شامات إضافية تعوض بها ما قد يتساقط منها. وكانت المائدة في حجرة ملابس السيدة الغنية تتألق بالأدوات والمواد اللازمة لها-صناديق من الذهب والفضة أو الحجر اللازوردي، مخصصة لحفظ أدوات الزينة. وتلألأت الجواهر الثمينة على الذراعين والرقبة والأذنين والشعر. وكان يسمح للرجال ذوي الحظوة بالدخول إلى حجرة ملابس السيدة ميلادي ليجاذبوها أطراف الحديث، بنما كانت وصيفاتها تقمن بإعدادها لبرنامج اليوم. وكان الرجال في الطبقة الأرستقراطية عبيداً للنساء كما استعبدوا للزي السائد للنساء، أما الزي فيحدده مصممو ملابس النساء. وبعد 1704 أعرضت فرنسا عن محاولات تحديد الزي او الملابس، عن طريق قوانين ضبط الإنفاق. واتبعت أوربا الغربية بصفة عامة أزياء فرنسا، ولكن كانت هناك أيضاً موجة معاكسة فإن زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا أتى بطرز بولندية وأدخلت الحرب ضد النمسا والمجر أزياء مجرية، وعمل زواج الدوفين من الأميرة الإسبانية ماريا تريزا رافاييلا على انتشار "الطرحة" في فرنسا من جديد.
ولم تكن وجبات الطعام منمقة مزخرفة مثل الثياب، ولكنها تطلبت علماً دقيقاً متنوعاً، كما تطلبت فناً رقيقاً. وكان المطبخ بالفعل النموذج الذي يحتذى في العالم المسيحي ومكمن الخطر فيه. وفي 1749 حذر فولتير قومه من أن وجبات الطعام الثقيلة التي يتناولونها "قد تصيب آخر الأمر أذهانهم بالتبلد" (29). وضرب مثلاً طيباً للغذاء البسيط وسلامة العقل والفطنة. وكلما ارتقت الطبقة، ازداد ما تتناول من طعام. وعلى هذا كانت وجبة العشاء على مائدة لويس الخامس عشر تتكون من حساء، وشواء من لحم تتكون من حساء، وشاء من لحم البقر، وطبق من لحم العجل، وبعض الدجاج، والحجل والحمام، ثم الفاكهة الطازجة والفاكهة المحفوظة (30) ويقول فولتير "كان نفر قليل من الفلاحين يذوقون طعم اللحم لأكثر من مرة واحدة في الشهر" (31).(36/74)
وكانت الخضراوات ضرباً من الترف في المدينة حيث كان يصعب الاحتفاظ بها طازجة. وانتشر أكل السمك "الأنقليس". وكان بعض السادة الكبار ينفقون 500 ألف جنيه سنوياً على المطبخ، وأنفق أحدهم 72 ألف جنيه على مأدبة عشاء أعدها للملك والحاشية. وكان رئيس الخدم في البيوتات الكبيرة شخصية مهيبة تثير الإعجاب، يلبس ثياباً فاخرة ثمينة، ويحمل سيفاً، ويتألق في إصبعه خاتم من الناس. وكانت النساء الطباخات موضع ازدراء واحتقار، وكم طمع الطباخون وجهدوا في ابتداع أطباق جديدة ليخلدوا أسماء سادتهم، فأكلت فرنسا طبق شرائح لحم العجل المنظر الجميل (بل في) -قصر مدام دي بمبادور المفضل لديها-"ودجاج فيلروا" وصلصة الميونيز، تخليداً لذكرى انتصار ريشيليو في "ماهون" (32). وكانوا يتناولون الأكلة الرئيسية في الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، والعشاء في التاسعة أو العاشرة ليلاً.
وكانت القهوة آنذاك تنافس النبيذ شراباً. ولا بد أن ميشيليه (المؤرخ الفرنسي 1798 - 1874) أحب القهوة كثيراً، حيث رأى أن تزايد تدفق البن من شبه الجزيرة العربية والهند وجزيرة البوريون والبحر الكاريبي أسهم في انتعاش الروح الذي ميز عصر الاستنارة (33). وكانت كل صيدلية تبيع البن حبوباً أو القهوة المعدة للشراب على المنضدة الطويلة بداخلها. وفي 1715 كان في باريس 300 مقهى، وفي 1750 زادت إلى 600، كما وجد منها عدد مناسب في كل مدينة في الأقاليم وفي مقهى "بروكوب" وكان يسمى أيضاً "كاف الكهف لأنه كان دائماً مظلماً" كان ديدرو ينشر أفكاره، كما كان فولتير يقصد إليه متنكراً ليسمع التعليقات على أحدث رواياته. وكان مثل هذا المقهى منتدى العامة حيث يلعبون الشطرنج أو "الضامة" أو "الدومينو"، وفوق هذا وذاك يتجاذبون أطراف الحديث لأن الناس ازداد شعورهم بالوحدة والوحشة بازدياد السكان في المدن.
وكانت الأندية عبارة عن مقاه خاصة، عضويتها مقيدة، وتغلب عليها رعاية مصالح من نوع محدد. وحوالي 1721 أسس الراهب آلاري نادي(36/75)
"دي لا نترسول" (عبارة عن طابق مسروق بين الطابق الأرضي والطابق الذي فوقه، في دار الراهب، حيث كان يجتمع نحو عشرين من رجال السياسة والقضاء والحكم والأدب ليتدارسوا شئون الساعة، دينية أو سياسية وكان بولنجبروك هو الذي جاء بهذا الاسم فأدخل لفظة CLUB إلى اللغة الفرنسية، وهناك شرح الراهب دي سانت بيير برامجه للإصلاح الاجتماعي والسلام الدائم، مما أزعج الكاردينال فليري فأمر بفض النادي في 1731. وبعد ذلك بثلاث سنوات أسس أيضاً أنصار جيمس الثاني اللاجئون من إنجلترا في باريس أول دار فرنسية للبنائين الأحرار (الماسونيين)، كانت ملجأ للربوبيين، ووكراً للدسائس السياسية، وأصبحت منفذاً للنفوذ الإنجليزي ومهدت الطريق للفلاسفة.
إن الرجال والنساء، وقد أصابهم الضجر والسأم من الكدح والنصب في أعمالهم اليومية كانوا يقصدون زرافات ووحداناً إلى المتنزهات وقاعات الرقص والمسارح وفرق الموسيقى والأوبرا، وأولع الأثرياء بالصيد والقنص والبرجوازيون بالنزهات الخلوية. وكانت غابة بولونيا والشانزلزيه وحدائق التويرلري وحدائق لكسمبرج وحديقة النباتات أو حديقة الملك، كما كانوا يسمونها آنذاك-أماكن مفضلة للتنزه في المركبات أو مشياً على الأقدام، ولقاء العشاق وعروض عيد الفصح. أما إذا لزم الناس بيوتهم فإنهم كانوا يتسلون بالألعاب المنزلية والرقص والموسيقى والتمثيليات الخاصة. وكان كل إنسان يرقص. وكان "البالية" قد أصبح فناً ملكياً معقداً. ظفر الملك فيه بنصيب من حين إلى حين. وكان راقص الباليه مثل كامارحو أو لاجوسان معبود الجماهير في المدينة ومشتهى أصحاب الملايين.
4 - الموسيقى
كانت الموسيقى في فرنسا قد انحطت منذ تفوق للي على موليير في تسلية الملك الأعظم فلم يكن هنا في فرنسا هذا الجنون أو الولع الشديد بالموسيقى الذي أدى بإيطاليا إلى نسيان إذلالها أو خضوعها السياسي، ولا التفاني الشديد في أساليب التلحين، الذي أوجد القداسات الضخمة والألحان الموسيقية(36/76)
المطولة المبنية على رواية الإنجيل لآلام المسيح في ألمانيا على عهد باخ.
وكانت الموسيقى الفرنسية في عصر انتقال من الشكل التقليدي إلى زخرفة الباروك، إلى رقة الروكوكو، ومن الطباق المعقد ذي الألفاظ المشوهة للحن، إلى ألحان سلسة متدفقة وأفكار رئيسية رقيقة تتلاءم مع الطبيعة الفرنسية. واستمر مؤلفو الموسيقى يخرجون أغاني الغزل أو الهجاء أو أغاني حزينة تتحدى الفتيات، وتتحدى الملوك، وتستنكر العزوبة والتواني. وامتدت رعاية الموسيقى من الملوك الذين يتطلبون العظمة والجلال إلى رجال المال الذين يدافعون عن حظوظهم مع الفرق الموسيقية والمسرحيات والشعر مما يستأثر به القلة من ذوي الجاه والنفوذ. وأخرجت أوبرا روسو "الموزيات الأنيقات" (إلهات تسع تحمين الشعر والغناء في الأساطير اليونانية) Les Muses Galantes في بيت الملتزم العام بوبلنيير. وكان لبعض الأغنياء فرق موسيقية خاصة بهم. وكانت العروض أو الحفلات المفتوحة للجمهور مقابل رسم دخول، تقدمها بانتظام في باريس "فرق الموسيقى الروحية" التي أنشئت 1725 وتبعتها في ذلك سائر المدن. وقدمت الأوبرا في باليه رويال" في وقت متأخر بعد الظهر عادة، حتى إذا انتهت في الثامنة والنصف مساء، قصد المتفرجون للتنزه في حدائق التويلري، وأطربهم المغنون والعازفون في الهواء الطلق. وكان هذا واحداً من المظاهر الفاتنة في الحياة في باريس.
وإنا لندرك من مطالعة كتاب ديدرو "ابن أخي رامو" كم من الملحنين والموسيقيين البارعين أقبل الناس عليهم إقبالاً شديداً في هاتيك الأيام، على حين جر عليهم النسيان اليوم ذيوله. وثمة ملحن فرنسي واحد من تلك الحقبة خلف لنا أعمالاً لا تزال تتشبث بالحياة. إن جين فيليب رامو أولع أيما ولع بالموسيقى. وكان أبوه عازف الأرغن في كنيسة سانت اتيين في ديجون. ويؤكد لنا كتاب السير المتحمسون أن جين استطاع في سن السابعة أن يقرأ أية موسيقى توضع أمامه بمجرد زقزق نظره عليها. وفي الكلية استغرق كل جهده في الموسيقى إلى حد أن الآباء اليسوعيين فصلوه، وبعد ذلك(36/77)
كاد جين لا يفتح كتاباً إلا في الموسيقى أو عن الموسيقى. وسرعان ما أصبح بارعاً في العزف على الأرغن والبيان القيثاري والكمان مما لم يكن بعده زيادة لمستزيد في ديجون. ولما وقع الشاب في شراك الغرام، ورأى الوالد أن في هذا مضيعة لمواهبه أرسله إلى إيطاليا ليدرس أسرار الألحان فيها (1701).
ولما عاد جان إلى فرنسا، عمل عازفاً على الأرغن في كليرمونت فراند وخلف أباه في ديجون (1709 - 1714)، ثم رجع أدراجه إلى كليرمونت عازفاً على الأرغن، في الكاتدرائية (1716)، ثم استقر به المقام في باريس 1721. وهناك في 1722 وهو في التاسعة والثلاثين كتب مؤلفه الرائع عن النظرية الموسيقية في فرنسا في القرن الثامن عشر "رسالة عن علم الإيقاع موجزاً في أسسه الطبيعة". وحاول رامو أن يبرهن أنه يوجد دائماً في التأليف الموسيقي السليم، سواء كان موزعاً أو غير موزع-"قاعدة أساسية" يمكن أن تستمد منها كل الأنغام التي فوقها، وأن كل النغمات المتآلفة يمكن أن تستخرج من سلسلة إيقاعات النغمات الجزئية، وأن كل هذه الأنغام يمكن أن تقلب دون أن تفقد هويتها. إن رامو كتب بأسلوب لا يفهمه إلا أكثر الموسيقيين تبحراً ومعرفة بالموسيقى، ولكن أفكاره سرت دالمبرت الرياضي، الذي شرحها بشكل أوفى 1752 وإنك لتجد أن قوانين الترابط الوتري التي صاغها رامو، مقبولة في عصرنا هذا أساساً نظرياً للتأليف الموسيقي (34).
وشن النقاد هجومهم على رامو، فرد عليهم هو بتآليف وتفاسير، حتى حظي بالتقدير والإجلال بما أخضع له الموسيقى من قوانين، كما فعل نيوتن بالنسبة للنجوم (35). وفي 1726 - وهو في سن الثالثة والأربعين تزوج من ماري ماجنو، إذ ذاك في الثامنة عشرة. وفي 1727 وضع موسيقى مسرحية فولتير الغنائية "سمسون" ولكنهم حظروا إخراجها على أساس أن قصص الكتاب القدس لا يجوز تحويلها إلى أوبرا. وكان على رامو أن يكسب قوته بالعمل عازفاً للأرغن في كنيسة "سانت كروادي لا بروتنيري. وبلغ الخمسين من العمر قبل أن يغزو مسرح الأوبرا.(36/78)
وفي 1733 قدم له الراهب بللجرين أوبرا "هبوليريت وأريسيمي" المبنية على رواية راسين "فدر" ولكن الراهب حصل من رامو على صك بمبلغ خمسمائة جنيه ضماناً في حالة سقوط الأوبرا. ولما مثلت على سبيل التجربة ابتهج الراهب بموسيقاها أيما ابتهاج، إلى حد أنه مزق الصك في نهاية الفصل الأول. ولما مثلت أمام الجمهور في أكاديمية الموسيقى أدهشت المتفرجين بخروجها الجريء عن الأنماط التي كانت قد أصبحت تقاليد مقدسة منذ عهد للي. واعترض النقاد على ما أتى به رامو من إيقاعات جديدة غريبة، وتغييرات مبتدعة في طبقة الصوت وتعقيدات في التوزيع الموسيقي بل أن الفرقة الموسيقية نفسها كرهت الموسيقى. وفكر رامو لبعض الوقت في التخلي عن محاولاته في مجال الأوبرا ولكن محاولاته الثانية Les Indes Galantes (1735) حظيت بإعجاب المتفرجين بتدفق ألحانها المنسقة، أما أوبرا Castor Et Polluy 1737 فكانت من أروع الانتصارات في تاريخ الأوبرا الفرنسية.
وأفسده النجاح، وتفاخر بأنه في مقدوره أن يحول أي نص إلى أوبرا جيدة وأن ينقل صحيفة أي جريدة إلى موسيقى. وأنتج (36) سلسلة طويلة من الأوبرات غير الهامة. ولما ضاق مديرو أكاديمية الموسيقى ذرعاً به انصرف إلى تأليف قطع للبيان القيثاري والكمان والفلوت. وأخذ لويس الخامس عشر-أو بالأحرى مدام بمبادور-بيده، باستخدامه في كتابة موسيقى رواية فولتير "أميرة نافار"، التي لقيت في فرساي نجاحاً أعاد له مكانته (1745) ونال رضا الأكاديمية من جديد، وكتب مزيداً من روايات الأوبرا. ومذ ألفت باريس أسلوبه فإنها نسيت للي، ونادت برامو ملكاً على دنيا الموسيقى بلا منازع.
وفي 1752 وجد نفسه يواجه تحدياً جديداً. ذلك أن بعض الفنانين العازفين والملحنين كانوا قد قدموا من إيطاليا. ومن ثم بدأت حرب صاخبة بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية التي بلغت ذروتها في السبعينات بالموسيقار بتشيني ينافس جلك Gluck. وفي دار الأوبرا في باريس قدمت(36/79)
فرقة إيطالية مع أوبرا برجوليزي " La Serva Randona" فاصلاً موسيقياً وهي من روائع الأوبرا الهزلية ورد أنصار الموسيقى الفرنسية على ذلك بالنشرات ويقطع رامو. وانقسمت الحاشية إلى معسكرين وناصرت مدام بمبادور الموسيقى الفرنسية على حين دافعت الملكة عن الموسيقى الإيطالية، وهاجم جريم الأوبرا الفرنسية بأسرها (1752) وأعلن روسو أن الموسيقى الفرنسية بغيضة لا تطاق. والعبارة الأخيرة في مؤلفه "رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) تدل أبلغ دلالة على خلله العاطفي قال: "وفي اعتقادي أني قد أوضحت أن الموسيقى الفرنسية مجردة من الوزن والتناغم معاً، لأن اللغة لا توفرها لها هذا أو ذاك. والغناء الفرنسي مجرد نباح وشكوى متصلتين ولا تطيقه الأذن غير المتحيزة، وأن إيقاعها غير مستساغ وأنها لا تعبر عن شيء ولا تشعر إلا بما تلقت عن معلمها، وأن النغم الفرنسي ليس نغماً، وأن المقاطع الصوتية الفرنسية ليست مقاطع صوتية. ومن ثم انتهيت إلى أن الفرنسيين ليس لديهم موسيقى، ولن يكون لهم شيء منها قدر لهم أن يكون لديهم شيء من الموسيقى فستكون وبالاً عليهم".
وانتقم أنصار الموسيقى الفرنسية بخمس وعشرين نشرة أصدروها ضد روسو، وأحرقوا تمثالاً على باب دار الأوبرا (37) واستخدم رامو، على كره منه، عنصراً رئيسياً في حرب المهرجين، فلما هدأت المعركة وأعلن انتصاره فيها اعترف هو نفسه بأن الموسيقى الفرنسية لا تزال في حاجة إلى أن تتعلم الشيء الكثير عن الموسيقى الإيطالية، وقال إنه لو لم تكن سنه قد كبرت إلى هذا الحد، لعاد إلى إيطاليا ليدرس طرق برجوليزي وغيره من الأساتذة الإيطاليين.
وكان رامو آنذاك في قمة شعبيته، ولكن كان له أعداء كثيرون قدامى وجدد. وأضاف إليهم بنشرة أصدرها يعرض فيها أخطاءه التي وردت في المقالات التي ظهرت عن الموسيقى في دائرة المعارف. فما كان من روسو، وهو كاتب معظم هذه المقالات إلا أن انقلب عليه وازداد مقتاً له. أما ديدرو أبو دائرة المعارف فإنه كان السباب للملحن العجوز في لباقة تبعث(36/80)
على الاحترام في "ابن أخي رامو" التي لم ينشرها تفضلاً منه وكرماً، قال: إنه الموسيقار الشهير الذي خلصنا من موسيقى للي المتعددة الأصوات التي ترنمنا بها لأكثر من قرن من الزمان، والذي كتب كلاماً كثيراً خيالياً غير مفهوم وحقائق غامضة عن نظرية الموسيقى-وهي كتابات لم يفهمها هو، ولا أحد غيره قط. إنه أخرج لنا عدداً من الأوبرات التي يجد فيها المرء أنغاماً متآلفة وشيئاً من الغناء، والأفكار غير المترابطة والثرثرة في سرعة وجلبة، والحركات السريعة ومواكب النصر والحراب والمثل العليا وألحان الرقص ... مما سيبقى إلى الأبد (38).
وحين ظهر رامو في إحدى المقصورات 1760 - وهو في سن السابعة والسبعين لمناسبة إعادة أوبرا "داردانوس" وهي من إخراجه، لقي احتفاء وترحيباً حماسياً كاد يفوق ما قوبل به فولتير بعد ذلك بثمانية عشر عاماً. ومنح الملك براءة النبالة. وأعفته هو وأسرته ديجون الفخورة بابنها من الضرائب البلدية مدى الحياة. وانتابته وهو في قمة مجده حمى التيفوييد، وذبل بسرعة وقضى نحبه في 12 ديسمبر 1764 وشيعته باريس باحتفال مهيب حيث ووري التراب في كنيسة سانت أوستاش. وأقامت مدن كثيرة في فرنسا الصلوات تكريماً له.
5 - الصالونات
كانت باريس العاصمة الثقافية للعالم، أكثر منها فرنسا. قال ديكلوس "إن هؤلاء الذين يعيشون على مسافة مائة فرسخ من العاصمة إنما يبعدون عنها بمائة عام من حيث أساليب السلوك والتفكير (39) وربما لم توجد عبر التاريخ قط مدينة تعج بحياة متنوعة الألوان. فالمجتمع المهذب المصقول وفنون الأدب الرفيع ائتلفا في رباط وثيق مذهل. وكان الخوف من الجحيم قد زال عن الباريسيين المتعلمين وتركهم في حالة المرح والابتهاج لم يسبق لها مثيل، لا يلقون بالاً في وثوقهم الجديد بأنه ليس هناك عملاق رهيب قدير في السموات، يسترق السمع إلى خطاياهم ويحصيها عليهم. ومن تحرير الذهن على هذا النحو لم تنجم بعد آثار كئيبة من عالم مجرد من القداسة(36/81)
والهدف الخلقي، عالم برتجف في زمهرير التفاهة والحقارة، وكان الحديث شائقاً تتخلله الدعابة والمرح. وغالباً ما انتقل إلى هزل ظاهري، وهنا كان التفكير ينحصر في ظواهر الأمور خشية عدم العثور على شيء في أعماقها. وكان القيل والقال والفضائح تنتشر بسرعة من ناد إلى ناد ومن بيت إلى بيت، وكثيراً ما تطرق الحديث إلى آفاق خطيرة في السياسة والدين والفلسفة، مما قد يتيسر الخوض فيه اليوم إلا نادراً.
وكان المجتمع متألقاً، لأن السيدات كن مبعث الحياة فيه، وكن المعبودات التي قدسها هذا المجتمع، وهن اللائي تولين توجيهه، وبطريقة ما وبرغم العرف والعوائق أتيح لبعضهن قدر من التعليم يكفي لتبادل الحديث في فطنة وذكاء مع أئمة الفكر الذين أحببن أن يستضيفوهم. ونافسن الرجال في الاستماع إلى محاضرات رجال العلم (40). إذ عاش الرجال قليلاً في المعسكرات وطالت إقامتهم في العاصمة وفي الحاشية فقد تزايد إحساسهم بالمفاتن غير الملموسة في النساء-رشاقة الحركة، عذوبة الصوت حيوية الروح ومرحها، بريق العينين، رهافة الذوق، الجزع المشوب بالحنان والحب، النفس المشربة بالرحمة والشفقة. إن تلك الصفات جعلت المرأة محبوبة في كل مدينة ولكنا ربما لا نجد في أية ثقافة أخرى أن الطبيعة والتعليم والملابس والحلي وأدوات التجميل والزينة قد جعلت من المرأة مخلوقاً يسحر الألباب بقدر مل كانت عليه في فرنسا القرن الثامن عشر. وكل هذا المفاتن والمغريات لا تستطيع على أية حال أن تفسر سلطان المرأة وقوتها. إن الذكاء في معالجة الرجال وسياستهم أمر ضروري. وبارى ذكاء النساء عقل الرجال وفي بعض الأحيان تفوق عليه. وعرف النساء الرجال أفضل مما عرف الرجال النساء. والرجال يندفعون في تهور بالغ إلى أفكار لتنضج حتى تفهم، على حين إن التراجع المحتشم المطلوب حتى من السيدة المتفتحة، هيأ لهل فسحة من الوقت للملاحظة والتجريب وتخطيط حملتها أو هجومها.
وكلما ازدادت حساسية الرجل اتساعاً وعمقاً، نما تأثير المرأة ونفوذها. وفتشت البسالة في ميدان الحب عن جزاء وفاق لها في الصالون وفي مخدع(36/82)
المرأة وفي الحاشية على حد سواء. وكم اهتز الشعراء طرباً حين وجدوا آذاناً صاغية من الجنس الرقيق. وكم رفع من شأن الفلاسفة تفضل السيدات ذوات التهذيب الرفيع والمكانة العالية بالاستماع إليهم، بل إن أغزر العلماء علماً وأوسعهم إطلاعاً وجدوا في الصدور الناعمة وفي حفيف الرقص مثاراً للفكر والعقل. وهكذا مارست المرأة قبل "تحريرها" سيادة طبعت العصر بطابعها المتميز. وتذكرت مدام فيجي لبرون فيما بعد "كانت المرأة تحكم آنذاك، ثم ثلت الثورة عرشها" (41). إن النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية. من ذلك أن مدام دي تنسان هيأت اختيار ماريفو بدلاً من فولتير، لعضوية مجمع الخالدين "الأكاديمي فرانسيز) في 1742. وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد.
كانت كلودين الكسندرين دي تنسان-بعد بمبادور-هي السيدة الأكثر إمتاعاً وتشويقاً بين النساء اللاتي سيطرن على فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد عرفنا كيف هربت من أحد الأديار، وأنجبت دالمبرت، واتخذت لها مسكناً في باريس في شارع سانت أونوريه حيث استقبلت مجموعة متعاقبة من العشاق، بينهم بولنجبروك، ريشيليو، فونتنيل (صموت ولكنه نشيط قوي في سن السبعين) وعدداً من الرهبان ومدير الشرطة في باريس. وأضافت الشائعات أخاها بيير إلى قائمة المترددين عليها، ولكن ربما أحبته لمجرد أنها أخت حنون مصممة على تنصيبه كاردينالاً، إن لم يكن رئيساً للوزراء. وعن طريقه وعن طريق غيره دبرت أن تكون ركناً قوياً في حياة فرنسا.
إنها جمعت المال أولاً:. واستثمرته على طريقة دكتور لو، ولكنها باعت الأسهم في الوقت المناسب. وقبلت الحراسة على ثروة شارل جوزيف دي لا فرزني، ثم أبت إعادتها إليه، فانتحر في دارها، تاركاً وصية(36/83)
يتهمها فيها بالسرقة (1726)، وأرسلت إلى الباستيل ولكن أصدقائها دبروا أمر الإفراج عنها، واحتفظت بمعظم الثروة. وتحدت ثرثرة المدينة والحاشية، وخرجت منها سالمة.
وحوالي 1728 أفاضت مدام دي تنسان إلى مخدعها صالوناً اتخذته سلماً ترقى به إلى السلطة والقوة، واستقبلت فيه مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، على مائدة العشاء عدداً من الرجال البارزين، أطلقت عليهم "معرض الوحوش" منهم مونتنيل، مونتسكيو، ماريفو، بريفوست، هلفشيوس، استروك، مارمونتل، هينولت، ديكلوس، مابلي، كوندرسيه، وأحياناً تشسترفيلد. وكانت المجموعة كلها من الرجال عادة لأن تنسان لم تكن تطيق على مائدتها أية منافسات. ولكنها أطلقت "لوحوشها" العنان، ولم تغضب قط لرافضهم السافر للمسيحية. وتساوي كل الناس من كل الطبقات هناك، فكان الكونت النبيل في مستوى الرجل من العامة، وقد تروى التقاليد فيما بعد أنه هنا كانت تجري أكثر المناقشات تألقاً ودقة طوال هذا القرن، قرن الحديث الذي لا حدود له (42).
وعن طريق ضيوفها وعشاقها وكهنة اعترافها استخدمت نفوذها لتحقيق أهدافها بطريقة سرية فيما بين فرنسا وروما. ولم يكن أخوها طموحاً، بل كان يتوق إلى الباسطة في الحياة والهدوء في الأقاليم، ولكنها وسعت حتى عين رئيس أساقفة ثم كاردينالاً، وأخيراً وزيراً في مجلس الدولة. وعاونت على أن تجعل من مدام شاتورو خليلة للملك، واستحثتها على حث الملك ليقود جيشه في الحرب. إنها رأت في بلادة لويس وتكاسله مصدراً للاضمحلال السياسي ونذيراً بهذا الاضمحلال. وربما كانت على صواب فيما فكرت فيه من أنها لو تولت رياسة الوزارة للقيت الحكومة نجاحاً أكبر، وأظهرت نشاطاً وحيوية أكثر. وناقش رواد صالونها في جرأة انحلال الملك واحتمال قيام الثورة.
وفي شيخوختها نسيت خطاياها، وانضمت إلى اليسوعيين وشنت الحملات على الجانسينين، وتبادلت رسائل المودة مع البابا بندكت الرابع عشر الذي(36/84)
أرسل إليها صورته اعترافاً منه بخدمتها للكنيسة. إن رقة الفؤاد التي ازدانت بها أخطاؤها، وجدت لها منافذ كثيرة. ولما قابل الجمهور في بداية الأمر كتاب مونتسكيو "روح القانون" (1748) بعدم الاكتراث اشترت تنسان كل نسخ الطبعة الأولى تقريباً، ووزعتها مجاناً على أصدقائها الكثيرين. وتولت رعاية مارمونتل الشاب وأسدت إليه النصح أن يعقد فوق كل شيء، أواصر الصداقة مع النساء، لا الرجال، وسيلة للارتقاء والصعود في هذا العالم (43). وأصبحت هي نفسها، في سني شيخوختها وضعفها الأخيرة، كاتبة ومؤلفة، وسترت الطيش والحماقة بإغفال ذكر اسمها على ما ألفت. وقارن أصدقاؤها النقاد قصتها بقصة مدام دي لافاييت (برنسيس دي كليف Prnicesse De Cleves) .
وفارقت مدام تنسان الحياة في 1749 وهي في الثامنة والستين. وعندئذ تساءل فونتينل العجوز "أين أتناول العشاء مساء يوم الثلاثاء الآن؟ " ولكنه أجاب لنفسه في ابتهاج على الفور "حسناً"، عند مدام جيوفرين (44). وربما التقينا به هناك.
كان صالون مدام دي دفاند قديماً قدم صالون تنسان، كما عمر مثل ما عمر صالون جيوفرين تقريباً. إن ماري دي فيشي شامروند باتت يتيمة وهي في سن السابعة فوضعت في دير اشتهر بالتعليم، فبدأت تدرس وتتأمل في سن مبكرة الأوان، وكانت تلقي أسئلة تتسم بالتشكك إلى حد مزعج، وإذ وقعت الراهبة في حيرة من أمر الصبية وأسئلتها فإنها أحالتها إلى الواعظ المتفقه ماسيون، الذي عجز عن تفسير المسائل الغامضة، فتخلى عنها يأساً من إنقاذها من الضلال. وفي سن الحادية والعشرين أصبحت مركيزة دي ديفان بزواج تم عن تراض بين الطرفين، ولكنها سرعان ما تبينت أن زوجها شخص مبتذل ممل إلى حد لا يحتمل، فافترقا بعد اتفاق وفر لها ثروة لا بأس بها. وفي باريس وفرساي انصرفت إلى لعب الميسر في اندفاع شديد "لم أفكر في شيء إلا القمار" ولكن بعد ثلاثة أشهر منيت فيها بخسائر فادحة، "تولاني جزع شديد، وحزنت على ما أنا فيه، ونأيت بنفسي(36/85)
عن هذه الحماقة". وقضيت فترة قصيرة خليلة للوصي (45). ثم تنحت عنه إلى عدوته الدوقة دي مين. وفي مسكو التقت بشارل هنولت رئيس مجلس التحقيق العسكري، الذي أصبح عشيقاً لها، ثم صديقاً مدى الحياة.
وبعد أن أقامت لبعض الوقت مع أخيها انتقلت إلى نفس الدار في شارع دي بون، التي قضى فيها فولتير نحبه. وإذ اشتهرت بجمالها وعينيها البراقتين وذكائها الحاد، فإنها جذبت إلى مائدتها (حوالي 1739) نفراً من مشاهير الرجال الذين جاءوا ليؤلفوا صالوناً يذيع صيته كما ذاع صيت صالون تنسان تقريباً: هنولت، مونتسكيو، فولتير، مدام دي شانيليه، ديدرو، دالمبرث، مارمونتل، مدام دي ستال دي لونيه ...... وفي 1747، وقد بلغت آنذاك الخمسين، وخفضت من غلوائها بعض الشيء، استأجرت شقة جميلة في دير سان جوزيف في شارع سان دومنيك. وكان من عادة الأديار تأجير غرف للعرائس والأرامل والنساء اللائي افترقن عن أزواجهن، وكانت هذه المساكن عادة في أبنية خارج المبنى الأساسي الخاص بالراهبات. ولكن في حالة هذه المتشككة الثرية، كان المسكن داخل جدران الدير، والحق إنه المسكن الذي كان قد آوى تحت سقفه مؤسسة هذا الدير الآثمة، مدام دي مونتسبان. وتبع صالون المركيزة شخصها إلى مقرها الجديد. ولكن ربما أزعجت البيئة المحيطة به الفلاسفة، فلم يعد ديدرو يحضر ونادراً ما كان يجيء مارمونتل، وكان جريم يتردد بين الحين والحين، وسرعان ما أنقطع دالمبرث. ومعظم المجموعة الجديدة في سان جوزيف كانوا من سلالة الأرستقراطية القديمة: مارشال لكسمبورج ومارشال ميربوا وعقيلتاهما، دوقا ودوقتا دي بوفلوز ودي شوازيل ودوقات اجوبون وجرامونت وفليروا وصديق مدام دي ديفاند من أيام طفولتها ولمدى الحياة، وهو بونت دي فيل. وكانوا يلتقون في السادسة، ويتناولون العشاء في التاسعة ثم يلعبون الورق والميسر؛ ويتناولون بالتحليل والتفصيل الأحداث الجارية في عالم السياسة والأدب والفن، ثم يفترقون. في نحو الساعة الثامنة صباحاً. وكان الأجانب البارزون، والوافدون على باريس يحتالون للحصول على(36/86)
دعوة إلى "مأوى النبلاء" هذا. وروى لورد باث في 1751 "إني لأذكر أمسية دار الحديث فيها عن تاريخ إنجلترا، وكم دهشت وارتبكت حين وجدت أن هؤلاء القوم عرفوا من تاريخ بلادنا خيراً مما عرفنا نحن عنه! (46).
وتفردت دي ديفاند بأصفى ذهن وأسوأ خلق بين صاحبات الصالونات فكانت مغرورة متغطرسة عيابة شكاكة، أنانية أكثر مما يليق بالمرء أن يكون. ولما عالج كتاب هلفشيوس "الروح" ما ذهب إليه لاروشفوكول من أن كل الدوافع الإنسانية أنانية، علقت هي بقولها في ازدراء "إنه إنما كشف عن سر كل إنسان" (47) وكانت تجيد الهجاء المشوب بالحقد والضغينة كما فعلت في وصفها مدام دي شاتيليه. ولم تر في الحياة الفرنسية إلا الجوانب التافهة الضعيفة. وذهبت إلى ان الفقراء اشتركوا، بقدر ما سمحت به ظروفهم في رذائل الأغنياء ومساوئهم. ولم تضف شيئاً إلى التطلعات المثالية للفلاسفة سوى ما جاءت به العقيدة العتيقة من أساطير مغرية مريحة للنفس. وتجنيب الاستنتاجات وآثرت العادات القويمة. واحتقرت ديدرو ونعته بأنه جلف ساذج. وأحبت دالمبرث ثم عادت فكرهته. وأعجبت بفولتير لأنه سيئ السلوك حاد الذهن. والتقت به في 1721 وعندما هرب من باريس، ثم شرعت في 1736 تبادله الرسائل التي تعد من الروائع في الأدب الفرنسي ولم تقل رسائلها عن رسائله. رقة وعمقاً وصفاء وروعة ولكنها لم تبلغ ما بلغه في رسائله من لطف وسهولة وبعد عن التكلف والكياسة.
وفي سن الخامسة والخمسين بدأت تفقد بصرها، واستشارت كل متخصص في طب العيون، ثم بجأت إلى كل دجال ومشعوذ. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والعناء ذهب بصرها تماماً (1754)، ويومذاك أنذرت أصدقاءها بأنهم إذا استمروا في شهود أمسياتها فإنه يجدر بهم أن يحتملوا السيدة العجوز الضريرة. وعلى الرغم من هذا قصدوا إليها. وأكد لها فولتير من جنيف أن ذكاءها وفطنتها باتا أكثر تألقاً مما كانت حتى وهي بصيرة، وشجعاها على المضي في الحياة لمجرد أن تثير غضب من يدفعون لها(36/87)
رواتبها السنوية. ووجدت في جولي دي لسبيناس شابة لطيفة نشيطة فاتنة تعاونها على أن تستقبل وتستضيف الأصدقاء. وكانت هي آنذاك تتصدر المائدة وكأنها هومر الأعمى يتصدر مائدة مستديرة وحوله الحكماء وشعراء الملاحم البطولية، وكانت تتنقل هنا وهناك وقورة شامخة متحدية لمدة ستة وعشرين عاماً آخر. وإنا لنأمل أن نلتقي بها هي أيضاً مرة أخرى.
ولقد كان عصراً مشرقاً زاهياً، لأن النساء تألقن فيه، وجمعن فيه بين الذكاء والجمال، مما لم يسبق له مثيل. وبفضلهن ألهب الكتاب الفرنسيون الفكر بالعاطفة، وزينوا الفلسفة بالظرف وخفة الروح. وكيف كان يتسنى لفولتير أن يكون فولتير بغير وجودهن؟ حتى ديدرو الفظ الغامض اعترف بقوله "إن النساء عودتنا أن نناقش أشد الموضوعات جفافاً وتعقيداً، بشكل ساحر واضح، إننا نحدثهم حديثاً متواصلاً، ونريد منهن الإصغاء إلينا، ونخشى أن يتولاهن التعب أو الضجر. ومن ثم كنا نستخدم طريقة معينة في إيضاح آرائنا لهن في يسر وسهولة. وكانت هذه الطريقة تنتقل من مجرد الكلام إلى أسلوب" (48) وبفضل النساء أصبح النثر الفرنسي أكثر إشراقاً ووضاءة من الشعر واكتسب اللغة الفرنسية سحراً رقيقاً، ورشاقة في العبارة ولباقة في الحديث مما جعلها بهيجة ذات مكانة رفيعة. وبفضل النساء انتقل الفن الفرنسي من طراز الباروك الغريب الشاذ إلى الشكل المهذب المصقول والذوق الرفيع، مما ازدانت به كل مظاهر الحياة في فرنسا.(36/88)
الفصل التاسع
عبادة الجمال
1 - انتصار الروكوكو
في هذا العصر، فيما بين الوصايا وحرب السنين السبع-عصر طراز لويس الخامس عشر-كانت النساء تتحدى الآلهة: أي الفريقين أحق بالعبادة، وكان السعي وراء الجمال ينافس الانصراف إلى التبتل والورع، والاندفاع إلى الحرب. وفي الفن والموسيقى، كما في العلوم والفلسفة، تراجع كل ما هو فوق الطبيعة أمام كل ما هو طبيعي. إن هيمنة المرأة على ملك حساس شهواني، هيأت اعتباراً جديداً أو مكانة جديدة للرهافة ورقة الوجدان. كما أن الاتجاه إلى مذهب اللذة والمتعة في الحياة الذي كان قد بدأ على عهد فيليب دي أورليان، بلغ ذروته في أيام بمبادور. وأصبح الجمال أكثر من أي وقت مضى، أمراً ذا "قيم ملموسة" فكان شيئاً يسر المرء أن يلمسه بيده أو تقع عليه عيناه، ابتداء من خزف سيفر إلى لوحات بوشيه العارية. وتخلى المهيب الفخم عن مكانه للبهيج السار والجليل الوقور للرشيق الرقيق، وكبر الحجم لفتنة الرشاقة، وكان الروكوكو فن أقلية أبيقورية غنية متلهفة على الاستمتاع بكل لذة قبل انقضاء دنياها السريعة الزوال، وفي غمرة طوفان من التغيير تتعجل حدوثه. وفي هذا الطراز الدنيوي الصريح طفرت الخطوط فرحاً، ورقت الألوان، وخلت الأزهار من الأشواك، وتجنبت الموضوعات الفاجعة لتؤكد الإمكانات الباسمة المشرقة في الحياة، وكان الروكوكو آخر مرحلة في الباروك من تمرد الخيال على الحقيقة والواقع، ومن ثورة الحرية والانطلاق على النظام والقواعد. ومع ذلك لم تكن حرية مخلة، بل ظل إنتاجها يحتفظ بالمنطق والتركيب، ويعطي المغزى شكلاً. ولكنها كرهت الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة، ونفرت من التماثيل، وآلمها أن تترك أية قطعة أثاث دون نقوش. وعلى(36/89)
الرغم من أناقة الروكوكو الجذابة، فإنه أنتج آلافاً من الأشياء التي لا يفوقها شيء في رشاقتها وزخرفتها. ولمدة نصف قرن من الزمان جعل الروكوكو من الفنون الصغيرة أسمى فن في فرنسا.
وعلى قدر علمنا لم يوجد قط مثل هذا النشاط من قبل، وقليلاً ما كان مثل هذا التفوق والامتياز، في مجالات الأعمال الجمالية، تلك المجالات التي كانت يوماً أقل شأناً. وفي تلك الحقبة صار الفنان والحرفي مرة أخرى شخصاً واحداً كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى، وكان هؤلاء القادرون على تجميل الجوانب الخصوصية في الحياة موضع تكريم مع الرسامين والمثالين والمعماريين في هذا العصر.
ولم يبلغ الأثاث قط من قبل هذه الدرجة من الروعة والإتقان. ولم يعد أثاث طراز "لويس الخامس عشر ضخماً مثل ما كان في عهد الملك العظيم، وقد كان تصميمه مقصوداً للراحة، ولا للعظمة والوقار، وكان أكثر ملاءمة لجسم المرأة وملابسها، منه للجلال والتباهي، واتخذت الأرائك أشكالاً شتى، لتتناسب مع الأوضاع الجسمية والأمزجة. وكتب فولتير "إن السلوك الاجتماعي أيسر اليوم منه في الماضي، ويمكن أن ترى السيدات يقرأن على الأرائك أو أسرة النهار (سرير ضيق يحول في النهار إلى أريكة) دون أن يسببن أي إزعاج أو مضايقة لأصدقائهن ومعارفهن (1). وكان السرير يتوج بظلة رقيقة جميلة وتزين ألواحه بالصور والرسوم أو تنجد، وتنفش قوائمه نقشاً جميلاً. وطورت أنماط جديدة من الأثاث لتواجه حاجات جيل آثر فينوس على مارس (آثر آلهة الجمال على إله الحرب) وأخذ الكرسي المنجد ذو الذراعين والوسادة الوثيرة (البرجير) والأريكة المكسوة بنسيج مزدان بالصور والرسوم، والكرسي الطويل (شيزلنج) ومائدة الكتابة والقراءة (ما يوضع عليه الكتاب عند القراءة) ومنضدة الحوض في حجرة النوم والمائدة المثبتة إلى الحائط تحت مرآة (الكونسول)، ومسند القدمين، والخزنة العالية ذات الأدراج، وصان السفرة-كل هذه الأشياء أخذت آنذاك أشكالها، وفي الغالب أسماءها التي احتفظت في الواقع(36/90)
بها إلى يومنا هذا. وأسرفوا في النقش وغيره من ألوان الزخرفة والتزيين إلى حد أثار رد فعل في النصف الثاني من القرن، وتطعيم خشب الأثاث بالصدف أو المعادن الذي أدخله أندريه شارل بولليه في عهد لويس الرابع عشر، وأهمله أبناؤه من بعده، حيث كانوا نجاري الأثاث لدى لويس الخامس عشر وغطت تشكيلة كبيرة من التطعيم سطح الخشب الملون أو المكسو بقشرة رقيقة أو المدهون بورنيش الك "ووضع فولتير" أشغال الك "في فرنسا القرن الثامن عشر، في مرتبة سواء مع ما كان يرد منها من الصين أو اليابان. أما الحرفيون من أمثال كرسنت، أو بورد اوبن، كافييري، وميسونيه فقد بلغوا من التفوق والتبريز في تصميم الأثاث وزخرفته درجة حدت بنجاري الأثاث الأجانب إلى القدوم إلى فرنسا لدراسة أساليبهم، ثم نشروا الطراز الفرنسية من لندن إلى بطرسبرج. وجمع جوست أوريل ميسونييه بين عشرة فنون أو تزيد، فبنى البيوت، وزخرف أجزاءها الداخلية، وصنع الأثاث على أحدث طراز، وصنع "الشمعدانات" والآنية الفضية للمائدة وصمم علب السعوط وأغطية الساعات، ونظم المشاهد الفاخرة، وألف عدة كتب دون فيها مهاراته وفنونه. وكاد أن يكون الرجل العالمي في زمانه.
وقد حلت الألفة والعلاقات الحميمة في الحياة على عهد لويس الخامس عشر محل التمسك بالرسميات الذي ساد القرن السابع عشر، فإن الزخرفة الداخلية انتقلت من الفخامة والأبهة إلى الرقة. وفي هذا أيضاً بلغ العصر الذروة، فالأثاث والبسط والسجاد والتنجيد والقطع الفنية، وساعات الحائط والمرايا، والإطارات والأنسجة المزدانة بالصور والرسوم والستائر واللوحات والسقوف والشمعدانات، حتى خزائن الكتب-صنعت كلها في تناسق في الألوان والطراز يسر الناظرين. وقد يساورنا الظن بأن الكتب كانت تشترى للون جلدتها والمادة المصنوعة منها قدر ما تشترى من أجل محتوياتها، ولكنا يمكن أن ندرك هذه اللذة أيضاً. وإنا لننظر بعين الحسد إلى المكتبات الشخصية الخاصة المرصوصة وراء الزجاج في خزائن جميلة(36/91)
مرتكزة على الحائط: وكانت حجرات الطعام نادرة في فرنسا قبل 1750، أما موائد الطعام فكانت تصنع بحيث يمكن بسهولة تمديدها لمضاعفة عدد الجالسين إليها وإزالتها، لأن ضيوف العشاء قد يبلغون عدد كبيراً لا يمكن التنبؤ به. ولم تعد المدافئ من ذاك الطراز الضخم الذي كان قد انحدر من العصور الوسطى إلى لويس الرابع عشر، ولكنها ازدانت بزخرفة مترفة، وفي بعض الأحيان (وهذا مثال نادر للذوق السقيم في هذه الحقبة) كانت تماثيل للمرآة تستخدم بمثابة أعمدة تحمل رفوف المدفأة, وكانت كل التدفئة تقريباً عن طريق مدافئ مفتوحة تسترها حواجز مزخرفة، ولكنا كنا نجد هنا وهناك في فرنسا، كما كان في ألمانيا، موقداً مكسواً بالخزف المزخرف. وكانت الإضاءة بالشموع التي تثبت بمائة طريقة مختلفة، تبلغ أقصى روعتها في الشمعدان الضخم المتألق، المصنوع من البلور أو الزجاج أو البرونز. وإنا لنعجب من كثرة القراءة على ضوء الشموع، ولكن ربما قللت المشاق من إنتاج الهراء واستهلاكه.
ومع تقدم القرن، حلت اللوحات الحائطية الزاهية الألوان والمزخرفة زخرفة رقيقة محل النسيج المزدان بالصور والرسوم، وفي هذه الفترة كانت قمة ازدهار فن هذا النسيج. وفي كل أنواع النسيج تقريباً-من الدمقسي والمطرزات والمقصبات إلى البسط والسجاجيد والستائر الممتازة تحدت فرنسا في تلك الأيام أفخر منسوجات الشرق. وتخصصت أميان في المخمل المنقوش واشتهرت ليون وتور ونيم بالحرير المزركش. وفي ليون ابتدع جان بيلمنت وجان بابتست هويه وغيرهما سجاجيد تعلق على الجدران ممهورة ومخيطة بموضوعات ومناظر صينية أو تركية أسرت لب بمبادور. وكان هذا النسيج يصنع في مصانع المؤممة في باريس وبوفيه، وفي الحوانيت الخاصة في أوبيسون وليل. وكانت هذه المنسوجات إذ ذاك قد فقدت وظيفتها في الانتفاع بها للحماية من الرطوبة والتيارات الهوائية، وأصبحت للتزين فقط وغالباً ما صغر حجمها لتلتئم مع النزعة إلى تصغير الحجرات. وسار النساجون في مصانع الجوبلان وبوفيه وفق التصميمات والرسوم(36/92)
التي وضعها، والألوان التي تصح باستخدامها أئمة الرسم في ذاك العصر، وكانت جميلة بصفة خاصة تلك القطع الخمس عشرة التي نسجتها مصانع جوبلان (1717) وفق الرسوم التي أعدها شارل أنطوان كوبيل لتصوير قصة "دون كيشوت". أما نساجو بوفيه فإنهم، كما سنرى أنتجوا قطعاً رائعة من النسيج، صمم رسومها الفنان بوشيه. وفي 1712 أعيد تنظيم مصانع "سافونيري" وكانت في الأصل لصنع الصابون-وأطلق عليها المصنع الملكي لصناعة السجاد على طراز فارس والشرق الأدنى وسرعان ما أنتج سجاجيد ضخمة امتازت برسوم دقيقة وألوان متنوعة ووبر ناعم مخملي، وهذه أجمل سجاجيد ذات وبر في فرنسا القرن الثامن عشر. وكانت مصانع النسيج المزدان بالصور والرسوم هي التي تقوم بالتنجيد الذي يتطلب المثابرة وبذل أقصى الجهد لكراسي الأثرياء، ولا بد أن كثيراً من الأصابع المتواضعة الذليلة قد تعبت وتصلبت لتوفر لهؤلاء الأثرياء مقاعد وثيرة تقيهم عناء الجلوس.
وأقبل الخزافون الفرنسيون على عصر من المغامرة. وهيأت لهم حروب لويس الرابع عشر الفرصة. ذلك أن الملك العجوز صهر ما لديه من فضة لتمويل جيوشه وأحل الخزف مكان الفضة، وأمر رعاياه بأن يحذو حذوه. وسرعان ما لبت مصانع الخزف في روان وليل وسكو وستراسبورج وموستير سانت ماري ومرسيليا هذا المطلب الجديد. وبعد موت لويس الرابع عشر شجع الميل إلى الأطباق وغيرها من الأشياء المصنوعة من الخزف-شجع الخزافين إلى إنتاج أجمل ما عرف منها في تاريخ أوربا. ورسم مشاهير الفنانين من أمثال بوشيه وفلكونيه وباجو المناظر على الخزف الفرنسي وابتدعوا أشكالاً كثيرة منه.
وفي نفس الوقت كانت فرنسا تتجه إلى إنتاج الخزف الصيني. وكانت أنواع متعددة من العجينة الملساء تصنع في أوربا منذ مدة طويلة ترجع إلى 1582 في فلورنسه و1673 في روان، وكانت كلها على أية حال تقليداً للنماذج الصينية. ولم تكن مصنوعة من العجينة الصلبة المأخوذة(36/93)
من مادة الكاوين أي الصلصال الصيني، أو حجر الطفل الصيني الذي يذاب في درجة حرارة عالية في الشرق الأقصى. وإنما كانت من صلصال أقل صلابة يسخن في درجة حرارة منخفضة ثم يغطى "بالغربتة" وهي مادة متكلسة أو شبه منصهرة ومصقولة. وحتى هذا الخزف الصيني المصنوع من العجينة الطرية-وبخاصة في شانتبللي، وفنسن ومنسي-فيلروا (بالقرب من باريس) كان جميلاً جداً، واستمر استيراد الخزف المصنوع من الصلصال الصلب من الصين أو در سدن. وفي 1740 انتزعت مدام دي بمبادور مائة ألف جنيه من لويس الخامس عشر، و250 ألفاً من مصادر خاصة للتوسع في إنتاج الخزف من العجينة الطرية في فنسن. وفي 1756 نقلت عمال فنسن المائة إلى مبنى أوسع وأوفى بالغرض في سيفر (بين باريس وفرساي) وهناك في 1769 بدأت فرنسا إنتاج الخزف الصيني الحقيقي من الصلصال الصلب.
وأفاد صائغو الذهب والفضة من أن ملك فرنسا استخدم من منتجاتهم رصيداً احتياطياً قومياً، محولاً السبائك إلى أشكال مسرفة في الجمال، ولكن يمكن في الحال صهرها إذا دعت الضرورة. وفي عهد لويس الخامس عشر ازداد طلب الطبقات المتوسطة على المشغولات الفضية بوصفها أدوات نافعة أو وسائل للزينة. وتكاد كل أنماط السكاكين التي نستخدمها اليوم تكون قد اتخذت شكلها الراهن في فرنسا القرن الثامن عشر: شوكات المحار، ملاعق المثلجات، ملاعق السكر، أطقم الصيد، طقم الرحلات، سكاكين وشوكات الأكل، أضف إلى ذلك مملحة المائدة، وفناجين الشاي والأباريق والأواني وأدوات التجميل والشمعدانات، وكلها مزدانة بنقوش بديعة أو مصنوعة ف أشكال جميلة .. "وكان أحسنها في هذا المجال طراز لويس الخامس عشر من بين كل الطرز الفرنسية (2) وصنع صائغوا الذهب والفضة صناديق أو علباً صغيرة حملها الرجال والنساء على السواء، لحفظ السعوط أو الأقراص أو المساحيق أو الحلوى، كما صنعوا مائة صنف من الأواني والأوعية والصناديق لمنضدة الزينة وحجرة النوم والملابس، وكان في حوزة(36/94)
الأمير دي كونتي مجموعة من ثمانمائة صندوق من مختلف الأشكال، من المعادن النفيسة، وكلها رائعة متقنة الصنع. واستخدمت مواد أخرى كثيرة لمثل هذه الأغراض: العقيق، عرق اللؤلؤ، اللازورد .... وكان قطع الجواهر وتركيبها الامتياز الذي تفرد به 350 من مهرة الحرفيين الذين ضمتهم نقابة الصائغين.
وحملت أشغال المعادن سمعة العصر في رقة القوالب والأشكال والصقل والإتقان. واتخذت مناصب أو مساند الحطب المشتعل أشكالاً خرافية من التصميمات أو الرسوم المعقدة من الحيوانات الخيالية عادة. واستخدم البرونز الذهبي اللون لصنع أو زخرفة هذه المناصب والمشاعل والشمعدانات ذوات الشعب أو تحليتها بالزخارف، أو لتركيب ساعة الحائط أو البارومتر أو حجر الشب أو الخزف الصيني. فبلغ البرونز الحديث ذروه استخدامه في القرن الثامن عشر، فكان من الممكن أن تكون ساعات الحائط في أشكال ضخمة غريبة وساعات الجيب أو اليد صلبة جميلة-من البرونز أو المينا أو الفضة أو الذهب، ومزدانة بنقوش غاية في الجمال والإتقان. وكانت المشاعل في بعض الأحيان تحفاً رائعة في فن النحت، مثل تلك التي أبدعها فالكونيه لقصر فرساي. وكانت المنمنمات والرسوم الفاخرة من روائع هذا العصر. وأنتجت أسرة واحدة هي أسرة رومتيير، خمسة أشكال من الرصائع (الميداليات) المحفورة على مدى قرن من الزمان، تميزت كلها بدقة الصنع إلى أن الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة رحبت بانضمامها إليها، في عداد كبار الرسامين والمثاليين. إن القرن الثامن عشر عرض في الأشياء الصغيرة في الحياة أعظم ثروته خلواً من الهموم، كما عرض أكثر فنونه دقة وإتقاناً. وقال تلليران "إن أولئك الذين لم يعيشوا قبل 1789 لن يدركوا أبداً إلى أي حد يمكن أن الحياة حلوة" (3)، إذا تسنى للمرء أن يختار الطبقة التي ينتمي إليها ويتفادى المقصلة.(36/95)
2 - فن العمارة
وتجاهل فن العمارة الروكوكو تقريباً. وتتغير الطرز ببطء في البناء أكثر منها في الزخرفة لأن مقتضيات الرسوخ والثبات أقل مرونة من تقلبات الذوق. وكانت الأكاديمية الملكية لفن العمارة التي نظمها كولبير في 1681 يتولى توجيهها الآن ورثة تقاليد لويس الرابع عشر. وواصل روبرت دي كوت عمل جول هردوين مانسار الذي كان قد أكمل قصر فرساي. وكان جرمين بوفران تلميذاً لمانسار، وكان جاك جول جبراييل وابنه جاك آنج خلفين غير مباشرين لمناسار، ومن ثم حصر تيار هذه التقاليد مجراه في قوة وصلابة، واحتفظ هؤلاء الرجال بطراز الباروك، بل بالطراز نصف الكلاسيكي، بالمظاهر الخارجية التي سادت في القرن العظيم، مثل الأعمدة وتيجانها والعتبات، ولكنهم سمحوا بمسحة من الروكوكو فيما شادو من مبان.
وخفف ضعف الإيمان من حدة التحمس لبناء كنائس جديدة، ولكن جددت على أية حال واجهتا كنيستين قديمتين. ذلك أنه في 1736 أقام روبرت دي كوت لكنيسة سانت روش أعمدة وقوصرة (مثلث أعلى الواجهة) كلاسيكية. وفيما بين 1743 - 1745 زود جان نيقولا سرفاندوني كنيسة سانت سولبيس برواق ضخم ذي طابقين في مدخلها، قائم على أعمدة دورية وأيويية من طراز بللاديو الروماني الكئيب، ولكن العمارة المدنية هي التي عبرت عن روح العصر وتحولت فيما بعد عدة قصور بنيت في تلك الفترة إلى وزارات وطنية أو دور للسفارات الأجنبية. من ذلك قصر ماتنيون 1721 الذي أصبح سفارة النمسا، ثم داراً لرئيس الوزراء، وقصر البوربون (1722 - 1750) الذي أدمج جزء منه في مجلس النواب، وقصر سوبيز (الذي عدل بناؤه 1742) والذي أصبح داراً للمحفوظات الوطنية.
وفي عهد المركيز دي ماريني، مدير المباني، ازدهرت أحوال عدد(36/96)
كبير من المهندسين المعماريين والمثالين والرسامين ومهندسي الزخرفة، ووجد مساكن وأعمالاً لهم ورأى أنهم يؤجرون أجراً حسناً. وكان المهندس المعماري الأثير لديه هو جاك آنج جيراييل الذي ارتضى التقليد الكلاسيكي عن طيب خاطر. وبعد صلح اكس لاشابل (1748) انهمك إدم بوشاردون في إقامة تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وعهد إلى جبريل بتصميم المكان الذي يحيط بالتمثال. فوضع حول مساحة مكشوفة بين حدائق التويلري والشانزليزليه، دائرة من "الدرابزينات" والحدائق الغائرة، وشاد في الطرف الشمالي قصر كحريون الحالي ووزارة البحرية الحالية، وكلاهما على طراز كلاسيكي بحت، وعمد إلى تزيين الميدان بإقامة أربعة تماثيل أسطورية سرعان ما أطلق عليها الباريسيون أسماء خليلات الملك-ميللي فنتيميل، شاتورو، بمبادور. وأطلق على الميدان اسم لويس الخامس عشر، ونسميه اليوم ميدان الكونكورد. وقد يسرنا أن نعلم أنه كان هناك ازدحام في حركة المرور منذ مائتي عام. وجيمس انجل جبرائيل هذا هو نفسه الذي شاد في 1752 المدرسة الحربية المتناسقة الأجزاء إلى حد بالغ والتي تضاهي رشاقة أعمدتها مثيلتها في أية ساحة رومانية قديمة.
ولم تكن باريس هي وحدها التي جددت مبانيها وغيرت وجهها في هذا العصر ففي شاتنيللي عهد دوق بوربون إلى جان أوبيرت بإقامة أسطبلات لجياده وكلابه، بلغت من الفخامة حداً يدعو إلى المقابلة بينها وبين أكواخ الفلاحين. وفي اللورين جعل ستانسلاس لزكزنسكي من نانسي واحدة من أجمل مدن فرنسا، وهناك أكمل بوفران بناء الكاتدرائية التي كان قد بدأها أستاذه جول هاردوين "انسار" وفيما بين عامي 1750 - 1757 أقام أمانويل هيري دي كورني "المدينة الجديدة" في نانسي: دار البلدية من طراز الروكوكو، وميدان ستانسلاس الذي يؤدي عبر حديقة عامة وقوس النصر إلى ميدان دي لاكاريير ودار الحكومة، وأحاط جان لامور ميدان ستانسلاس بحواجز من قضبان حديدية متصالبة (1751 - 1755) هي أجمل ما صنع من نوعها في الفن الحديث. وأقامت ليون آنذاك ميدان(36/97)
كويس الأكبر وافتتحت كل من نانت وروان وريمس وبوردو ميدان الملك. وشادت تولوز مبنى فخماً للبرلمان، وأقامت روان نافورات جميلة وزينت الجسور الفخمة مدينة سنس. وعمت المتنزهات الواسعة نانت وبلوا ومونبلييه. وفيما بين عامي 1730 - 1760 حول جان جاك جبراييل بوردو إلى مدينة حديثة ذات ميادين شاسعة وشوارع واسعة ومتنزهات طلقة الهواء وواجهة جميلة تطل على المياه، وشيدت فيها المباني العامة على طراز عصر النهضة الرائع.
وأخيراً تخطت العمارة الفرنسية الحدود، فعهد إلى رجال العمارة الفرنسيين بإقامة المباني في سويسرا وألمانيا والدنمرك وروسيا وإيطاليا وإسبانيا. وفي أواسط القرن وحين ضعفت قوة فرنسا العسكرية ومكانتها السياسية نجد أنها بلغت ذروة النفوذ والتأثير في مجال العادات والفن.
3 - النحت
خاض النحت في تلك الحقبة معركة مريرة في محاولة للاعتراف به فناً هاماً كبيراً. وكانت مهمته قد اقتصرت لعهد طويل على أن تكون زخرفية أو تزيينية. وفي عهد لويس الرابع عشر أقيمت التماثيل لتضفي زينة وبهاء على القصور الفخمة والحدائق الشاسعة. أما الآن فقد قل الاهتمام بالنحت لأن الولع بالبناء قد استنفد أغراضه كما استنزف فرنسا، وقبع الأغنياء في مبان أصغر حجماً، ولم تجد التماثيل الضخمة لها مكاناً في قاعات الاستقبال أو النوم. وشكا المثالون من ان الأكاديمية الملكية للرسم والنحت منحت معظم جوائزها للرسامين. واقترح بيجال أن يكون هناك مثال ملكي على غرار الرسام أو المصور الملكي، وأيد بشخصه حملة طائفة سان ميشيل لكسر التقليد الذي جرى عليه العمل وهو تكريم الرسامين وحدهم بمثل هذه المهمة. وانصرف المثالون على كره منهم إلى زخرفة البيوت بقطع صغيرة وبالزهريات والنقوش البارزة، وسعوا إلى منافسة رسامي الأشخاص بأن يشكلوا الجسم الفاني في صورة خداعة من البرونز أو الحجر الذي لا يبلى، ما داموا يتقاضون الأجر. ولما تهيأ لبعض هؤلاء المثالين مزيد(36/98)
من الفرص للعمل اختاروا طراز الروكوكو الرشيق الطبيعي اللعوب المرح على حين ظلوا يحبذون وقار الخطوط الكلاسيكية.
وكما هو الحال مع الرسامين والحرفيين مال فن النحت إلى أن ينموا في أسرات بعينها. وساعد نيقولا كوستو أستاذه أنطوان كويسيفوكس في تزيين القصور الملكية في مارلي وفرساي، وصمم الشخصيات العظيمة، رامزاً إلى أنهار فرنسا، وهي الآن في البلدية دار البلدية في ليون. ولا يزال تمثاله "النزول من الصليب" في كنيسة نوتردام دي باريس، و "الراعي الصياد" واحداً من اثنا عشر تمثالاً رائعاً تغالب الزمن والجو في حدائق التويللري. ونحت غليوم كوستو الأول الأخ الأصغر لنقولا، تمثالاً من المرمر لماري لزكز نسكا، مثل تمثال جونو (4) (زوجة جوبيتر في الأساطير الرومانية) كما نحت تمثال "جياد مارلي" القوية (1740 - 1745) لذلك القصر أساساً، ولكنها الآن متمردة على اللجام في المدخلين الغربي والشرقي لقصر الكونكورد. أما ابنه غليوم كوستو الثاني، فقد حفر للدوفين مقبرة في كاتدرائية سنس.
وأنجبت مدينة نانسي أسرة أخرى من الفنانين فورث جاكوب سجسبرت آدم أبناءه الثلاثة النحت والعمارة، وقضى لمبرت سجسبرت آدم عشر سنوات في الدرس والتحصيل في روما، عاد بعدها إلى باريس، حيث تعاون مع أخيه الأصغر نقولا سباستيان في إقامة نافورة "نبتيون وامفتريت" (إله وإلهة البحر) ف يحدائق فرساي ثم قصد إلى بوتسدام حيث حفر لفردريك الأكبر-هدية من لويس الخامس عشر-مجموعتين من الرخام-صيد الحيوان وصيد السمك-لقصر سان سوسي. ثم رجع نقولا سباستيان إلى نانسي وشاد مقبرة كثرين أو بالنسكا في كنيسة نوتردام دي بون سيكور، وثمة أخ ثالث، وهو فرانسوا بلتازار جسبار، أسهم في تزيين عاصمة ستانسلاس.
وهناك أسرة ثالثة من النحاتين بدأت بالمثال فيلبوكافييري الذي غادر لإيطاليا في 1660 ليعمل مع ابنه فرانسوا شارل في خدمة لويس الرابع عشر.(36/99)
وثمة ابن آخر هو جاك كافييري الذي بلغ بعبقرية الأسرة إلى الذروة متفوقاً على كل معاصريه في أشغال البرونز. وتنافست القصور الملكية كلها تقريباً في الإفادة من فنه في زمانه. وفي قصر فرساي اشترك مع ابنه فيليب في المدفأة في جناح الدوفين وفي صنع قاعدة برونزية من طراز الروكوكو لساعة الملك الفلكية المشهورة الآن. وتعد التركيبات والسنادات البرونزية التي صنعها للأثاث أثمن وأغلى قيمة من الأثاث نفسه (5).
وارتضى آدم بوشاردون-الذي أسماه فولتير "فيداس" فرنسا (6) (نحات أغريقي في القرن الخامس ق. م) -ارتضى تماماً كل القواعد الكلاسيكية التي نادى بها راعيه كونت دي كايلوس. وجد لعدة سنين مناناً لتمثال بيجال خيل لهذا الأخير أنه غلب على أمره. وأورد ديدرو ذكر بوشاردون في قوله "لم أدخل قط إلى مرسم (ستوديو) إلا خرجت منه بشعور من القنوط سيطر علي لعدة أسابيع" (7) ورأى ديدرو أن تمثال "الحب-كيوبيد" (8) الذي صنعه بوشاردون مكتوب له الخلود، ولكنه لا يكاد يتلظى بنار الحب، وخير منه النافورة التي أقامها المثال نفسه في شارع جرينل في باريس، وهي تحفة رائعة في جلالها الكلاسيكي وعظمتها وفي 1749 عهدت إليه المدينة بصنع تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وأكب على العمل فيه لمدة تسع سنين، وصبه في 1758، ولكن لم يمهله القدر ليراه قائماً وطلب إلى السلطات البلدية، وهو على فراش الموت 1762، أن تكل إلى بيجال إكمال المشروع، وهكذا اختتمت المنافسة التي طال أمدها بين هذين المثالين، فيما ينبئ عن الإعجاب والثقة بينهما، ونصب التمثال في ميدان لويس الخامس عشر، ثم جاءت الثورة الفرنسية فحطمته 1792 باعتباره رمزاً بغيضاً.
ونبذ جان بابتست ليمويين كل القيود والقواعد الكلاسيكية، لأنها تحكم على النحت بالفناء. لماذا لا يعبر الرخام أو البرونز-مثل صور الألوان المائية أو الزيتية عن الحركة والوجدان والضحك والفرح أو الحزن-مما تجرأت التماثيل الهللينية على أن تعبر عنه؟ وبهذه الروح صمم ليمويين(36/100)
مقبرتي كاردينال فليري والرسام بيير مينارد لكنيسة سان روش، وكذلك في تمثال مونتسكيو الذي نحته لمدينة بوردو، أبرز المثال المؤلف "روح للقوانين" ساخراً مكتئباً شكاكاً، وسطاً بين سناتور روماني وفيلسوف إقليمي يسخر من أساليب الباريسين في حياتهم. وأصبحت تلك البسمة العابرة هي العلامة المميزة للعديد من التماثيل النصفية التي صنعها ليمويين بأمر من الملك لكثير من رجال فرنسا البارزين. وانتصر هذا الأسلوب التعبيري الممتع على كلاسيكية بوشاردون، وانتقل إلى بيجال وباجو وهودون وفالكونيه في عصر من اعظم عصور النحت في فرنسا.
4 - الرسم
كان الرسامون هم أصحاب اليد الطولى بين الفنانين آنذاك. وعكست سيطرة بوشيه مرة أخرى نفوذ النساء وتأثيرهن على الفنون، وأحست مركيزة بمبادور أن الرسامين قد أضاعوا كثيراً من الوقت مع أبطال الرومان وقديسي المسيحية وآلهة الإغريق، وقد آن الأوان لينظروا إلى فتنة الأحياء من النساء في أبهى حللهن وتورد خدودهن، ويبرزوا بالخطوط والألوان رشاقة العصر التي لم يسبق لها مثيل في تقاطيع الوجوه، وفي الثياب وفي العادات وفي كل الكماليات في حياة الأقلية الثرية. وكانت المرأة يوماً خطيئة، وهي تعلن أنها لا تزال خطيئة، لكن لا شيء إلا أن تكون أكثر إغراء وفتنة. إنها ثأرت لنفسها من تلك القرون المرعبة التي أذلتها فيها الكنيسة ودمغتها بأنها أس البلاء، ومصدر اللعنة. وسمح لها بدخول جنة لا يغشأها إلا الخصيان بفضل عذرية أم الإله فقط. وليس ثمة شيء ينم في جرأة أكبر على اضمحلال الديانة في فرنسا من زحزحة السيدة العذراء عن الفن الفرنسي.
وحل الملك والأرستقراطية ورجال المال محل الكنيسة في رعاية الفن. وفي باريس أصبحت أكاديمية سان لوك للرسامين منافساً ومستحثاً للأكاديمية الملكية للفنون الجميلة المحافظة المتمسكة بالقديم. وفي الأقاليم نشأت أكاديميات إضافية في ليون ونانسي ومتز ومرسيليا وتولوز وبور وكلبرمنت(36/101)
فراند وبو وديجون وريمس. وفضلاً عن جائزة روما السنوية وضعت اثنتا عشرة مسابقة وجائزة، بعثت في دنيا الفن حركة دائبة واهتياجاً شديداً، وفي بعض الأحيان كان الملك أو غيره من رعاة الفن، يواسون من لم يفوزوا في هذه المسابقات بشراء بعض لوحاتهم أو منحهم بعض المال الذي يكفل لهم الإقامة لبعض الوقت في إيطاليا.
وعرض الرسامون لوحاتهم في الشوارع، وفي بعض الأعياد الدينية كانوا يثبتونها في الستائر التي تتدلى من نوافذ الأتقياء في الطرق التي يمر بها الموكب الديني. ورغبة في تعويق ما بدا للفنانين المعترف بهم أنه نهج غير ملائم، استأنفت الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1737 وبعد انقطاع ثلاث وثلاثين سنة، إقامة المعرض العام للرسم والنحت المعاصرين في "القاعة المربعة" في متحف اللوفر. وهذا المعرض السنوي أو الذي كان يقام كل عامين بعد 1751 أصبح في أواخر أغسطس وطوال سبتمبر حدثاً مثيراً في الحياة الفنية والاجتماعية في باريس، وفي دنيا الأدب، وجعل الصراع بين المحافظين في الأكاديمية والمتمردين داخلها أو خارجها، من الفن معركة تنافس معارك الحديث عن الجنس بل معارك الحرب الحقيقية في أحاديث الناس في العاصمة. واحتقر أنصار الخطوط البسيطة المحتشمة غير المبالغ في زخرفتها، والتهذيب الذي يعاون على الإصلاح-كما كانوا هم أنفسهم موضع احتقار-أنصار اللون والتجريب والابتكار والحرية. وأصبح النقد الفني عملاً ناجحاً. وكانت "تأملات في فن الرسم" للكونت دي كابوس تقرأ في إسهاب على الملأ في الأكاديمية. وروى جريم أنباء المعارض لقراء رسائله. وتخلى ديدرون عن هجومه على المسيحية ليصبح واحداً من أشد الفنيين معارضة في ذاك العصر. وأثار الحفارون على الخشب والمعادن مثل جاك لي بلون ولورنت كارز الهياج بنشر نسخ مطبوعة من الأعمال المشهورة وتزيين الكتب بالصور، وإنتاج روائع من عملهم هم أنفسهم. وكان لي بلون أول من بدأ الحفر بالألوان في 1720.
ولم يكسب الفنانون قط من قبل، اللهم إلا في مجال الفنون الدينية،(36/102)
مثل هذا الجمهور المتحمس، أو مثل هذه الرعاية على نطاق واسع. ويأت الرسام الآن يوجه نشاطه إلى العالم بأسره.
أ - في حجرة الانتظار
ارتفع عدد كبير من الرسامين إلى قمة المجد في تلك الحقبة، حتى أنه ليشق علينا هنا مجرد ذكرهم، ولسوف نعرض في تفصيل أكثر لبوشيه وشاردان ولاتور، ولكن هناك من قد يزعجهم إغفالنا ذكرهم.
فهناك الرسام المبرز جان فرنسوا دي تروي، ولكنه كانت تعوزه الحيوية، وكان رسمياً إلى درجة لا يصلح معها أن يكون عظيماً. وأحبه الجميع، ووافق إلى حد مبير على أن يستخدم ملامح وجهه وكأنها ملامح وجه السيد المسيح "آلام المسيح في البستان (9) " ووجد في إغراء السيدات لذة أكثر منها في رسمهن، وترك وراءه كثيراً من القلوب الكسيرة المحطمة والأعمال المشوهة، وزخرف فرنسوا ليمويين (ويجب ألا تخلط بينه وبين المثال جان بابتست) عقد قاعة هركيول في قصر فرساي بنحو 142 شكلاً ضخماً، ونقل إلى تلميذه بوشيه فن إحلال اللون الوردي الذي تؤثره مدام دي بمبادور محل اللون الأسمر المائل للحمرة في لوحات رامبرانت واستبق شارل أنطوان كوبيل، وهو ابن وحفيد لرسامين، شاردان في رسم مشاهد الحياة اليومية وأحداثها، وقد التقينا به رساماً للوصي، وفي 1747 أصبح الرسام الأول للملك لويس الخامس عشر.
وقد سر فردريك الأكبر باقتناء لوحته "سيدة أمام المرآة" لقصر سان سوسي، ولا يزال اللوفر يعرض لوحته "الحب والأميرة فاتنة الجمال التي أحبها كيوبيد" من نسيج الجوبلان المنقوش، وهي تركيب نفيس من طبيعة بشرية وقماش.
وحظي جان مارك ناتيير بشعبية ورواج في رسم الأشخاص لأنه عرف، عن طريق الوضعة (كيف يكون وضع المرء أمام الرسام) واللون وحركة الضوء، كيف يخلص الجالسين أمامه من العيوب أو التشويهات التي أصابتهن بفعل الوراثة أو أحداث الحياة، حتى أن كل السيدات اللاتي(36/103)
رسمهن، فيما عدا واحدة، سررن حين وجدن أنفسهن في لوحاته، فاتنات مغريات كما اعتقدن دائماً في أنفسهن. ولوحته "مدام دي بمبادور" معلقة في فرساي، بشعرها الجميل الملون بلون خفيف، وعينيها الوديعتين اللتين لا تكادان تكشفان عن لهفتها على السلطان والسيطرة وتنافس الملوك والملكات على الظفر بالفنان ناتيير. فقد رسم ماري لزكزنسكا سيدة برجوازية تشرع في القيام بنزعة في الريف (10) وأنصف كل الإنصاف جمال أدليد (11) ابنة الملكة. وعندما زار بطرس الأكبر باريس رسم ناتيير لوحتين له ولزوجته القيصرة، ودعاه بطرس للانتقال إلى روسيا فأبى، فما كان من القيصر إلا أن حمل اللوحتين دون أن ينقده أجراً. وأحضر جاك أندريه أفيد المولود في الفلاندروز بعض لوحات فلمنكية واقعية تصور الناس كما هم، ولا بد أن ميرابو الأكبر جزع عندما رأى نفسه كما رآه أفيد فصوره (12). ولكنها على أية حال من أعظم لوحات هذا القرن.
وعلى كل هؤلاء السادة الجالسين في حجرة الانتظار-حتى على بوشيه وشاردان-نجد جريم وديدرو يؤثران كارل فانلو، وهو سليل أسرة كبيرة من الرسامين تحمل اسم فانلو، نعرف منهم تسعة بأسمائهم. ولد في نيس 1705. واصطحبه معه رفيقه الرسام جان بابتست إلى روما حيث درس بالأزميل والفرشاة معاً. وفي باريس فاز بجائزة روما 1724، ثم قضى في إيطاليا فصلاً دراسياً آخر، عاد بعده إلى فرنسا وأراضي الأكاديمية وأغضب بوشيه، بأتباعه كل القواعد الأكاديمية. وحيث أنه أفزع كل جهده وقضى كل وقته في الاشتغال بفنه، ولم يدخر منه شيئاً ليتعلم القراءة والكتابة والعادات القويمة والحديث المهذب، فإن مدام بمبادور نفرت منه ف شيء من الاشمئزاز (13) بأنه "وحش مزعج" ومع ذلك عهدت إليه برسم (مناقشة إسبانية). ولفترة وجيزة ارتضى مزاج العصر، ورسم سيدات متشحات بأردية ملتصقة بأجسامهن، ولكنه سرعان ما ركن إلى الرزانة والهدوء في حياة أسرية نموذجية، فخوراً بزوجته البارعة المصقولة ولوعاً بابنته كارولين. وفي 1753 اشترك مع بوشيه في زخرفة قاعة المجلس(36/104)
الرائعة في قصر فونتنبلو، وبلغ درجة كبيرة من الشهرة إلى حد أنه عندما اتخذ مقعده في الكوميدي فرانسيز، بعد مرض عضال كاد يودي بحياته، نهض الحاضرون وحيوه وصفقوا له مظهرين بهذه العلاقة الوثيقة بين الفن والأدب في هذا العصر الذي تميز بثقافة عالية.
وسجل جان بابتست أودري رحلات الصيد الملكية في أعمال النقش والرسم على القماش. واختارته الملكة معلماً لها. وكانت تتولاها الدهشة والعجب حين تراقبه وهو يعمل. وزودت بعض قطعه المنقوشة نساجي القماش بتوجيهات ونماذج ممتازة يهتدون بها في عملهم، وسرعان ما عين أودري مديراً للمصنع الملكي في يوفيه، فلم يجد هناك إلا الفوضى والتدهور، فأعاد تنظيم العمل في حزم وشدة، وأثار همم العمال بحماسته؛ وصمم لهم سلسلة من قطع النسيج المزدان بالرسوم، موضحاً بصور الحيوانات المبهجة قصص لافونتين الخرافية. وهناك أيضاً وضع الرسم التمهيدي للمجموعة الأخاذة من النساء والوحوش المعلقة في اللوفر، في "ديانا دي بورتيير". وتملكت النساجين في الجوبلان الغيرة من النجاح الذي أصابه مصنع بوفيه، فاقنعوا الملك بنقل أودري إلى المصنع القديم، وهناك أفنى نفسه في صراع مرير لحمل النساجين على قبول الألوان التي وضعها. وفي الوقت نفسه أسهم في كل من بوفيه وباريس في تدريب المواهب والقدرات المتشعبة لدى أكثر فناني منتصف القرن في فرنسا امتيازاً وتألقاً، وأكثر من نال منهم تعنيفاً قاسياً.
ب - بوشيه
1703 - 1770
استمع إلى ديدرو وهو يتأمل في لوحات بوشيه العارية: أية ألوان، وأية تشكيلة، وأية وفرة في المواد والفكار! إن هذا الرجل توفر لديه كل شيء إلا يصدق. إن انحطاط الذوق واللون، وأسلوب التركيب، والشخصية والتعبير، كل هذا تبع خطوة بخطوة انحلال الخلق .... وماذا عسى هذا الرجل أن يرسم إلا ما تصوره في خياله؟ وماذا يمكن أن يتخيل رجل يقضي حياته برفقة نساء المدينة؟ ..... إن هذا الرجل(36/105)
لا يمس بفرشاته إلا ليبرز الأرداف والصدور. إنه لا يدرك ما هو الجمال .... فإن الكياسة والأمانة والبراءة والبساطة أصبحت كلها غريبة عليه. إنه لم ير الطبيعة لحظة واحدة قط، وعلى الأقل الطبيعة التي تدخل البهجة على نفسي، وعلى نفسك، مثل طفل كريم المولد، أو امرأة ذات وجدان حي. إنه مجرد من الذوق .... والواقع إنه في تلك اللحظة بعينها، عين الرسام الأول للملك (1765) (14) ".
ويحتمل ألا يكون بوشيه قد اطلع على هذا النقد قط لأنه كان موجهاً إلى قراء جريم الأجانب. فلنلق نحن نظرة على الفنان دون نية مبيتة للحقد عليه أو الإساءة إليه.
كان بوشيه ابناً صميماً من أبناء باريس. وكان أبوه يشتغل بوضع التصاميم، يملك محلاً بالقرب من اللوفر، ولقن ابنه فرنسوا مبادئ الرسم والنحت، وإذ أظهر الفتى استعداداً وموهبة فقد تتلمذ على النقاش لورنت كارز ثم على الرسام فرنسوا اليمويين. وحيث اشتغل برسم المشاهد للأوبرا، فإنه اجتمع هناك بنفر من الممثلات وبنات الفرقة الموسيقية. وانغمس في مباذل عهد الوصاية، بقدر ما أتاحت له إمكاناته (15) ويروي لنا إنه وقع مرة في حب رومانتيكي مع بائعة فاكهة جميلة اسمها روزيت، وبدا له أنه قد تجسدت فيها البساطة والطهارة معاً، فاتخذ منها نموذجاً للوحة لمريم العذراء، أفرغ فيها كل ما تبقى له من تقوى طفولته وصباه. ولكنه، وهو لم يكمل بعد هذه اللوحة انزلق إلى اتصال جنسي غير شرعي، وحين حاول أن يكملها أفلت من الوحي والإلهام، كما أفلتت من روزيت. ولم يسترجع قط لحظات هذا الخيال الرقيق اللطيف (16).
وتطورت مهارته ونمت بسرعة تحت إرشاد ليمونيين. وفي هذا المرسم تعلم شيئاً من نزعة كوريجيو إلى الأشكال النسوية ذات التقاطيع الكلاسيكية والرقة الناعمة. وفي قصر لكسمبرج درس اللوحات الزيتية المتألقة على القماش التي كان روينز قد حول فيها الحياة لماري مديتشي إلى ملحمة من اللون "وعظمة الشباب". وفي 1723، وهو في سن العشرين فاز بجائزة رومه(36/106)
التي أهلته للإقامة الكاملة في باريس لمدة ثلاث سنوات، مع راتب قدره 300 جنيه، ثم أربع سنوات في روما. وإنا لنحصل على صورة حياة الطالب في عهد الوصاية إذا علمنا أن رفاق الفائز بهذه الجائزة حملوه على الأكتاف وطافوا به حول ميدان اللوفر.
وفي 1727 رافق كارل فانلو إلى إيطاليا. ويقول مدير الأكاديمية الملكية الفرنسية في روما وجد "للشاب الصغير المدعو بوشيه .... جحراً صغيراً في غرفة، وأسكنه فيه، وأخشى ألا يزيد حقيقة عن جحر، ولكنه على الأقل سيقيم تحت سقف (17). ولكن لم يكن لزاماً على الشاب المتواضع، كما وصفه المدير، دوماً أن ينام في هذا الجحر، لأنه وجد كثيراً من المضاجع ترحب به في روما. وإنه لمن علاءم تغير الذوق إنه لم يبد ولعاً بأعمال رافاييل أو ميكل أنجيلو، ولكنه عقد أواصر الصداقة مع تيبولو (رسام فينيسي 1696 - 1770).
ولما عاد إلى باريس (1731) استمر يوقد الشمعة من طرفيها (يمسك بالعصا من وسطها)، ونادراً ما كان يقنع بشيء إلا المعرفة المباشرة بنماذجه، ومع ذلك وجد فسحة من الوقت ليرسم بعض لوحات رائعة مثل "اغتصاب يوروبا" في الأساطير اليونانية (أميرة فينيقية أحبها زيوس واختطفها) وهي من بين عروضه التي لا تحصى لشكل المرأة. وخيل إليه في 1733 أنه وقع على فينوس نفسها في نموذجه جين بوزو، وعلى الرغم من انه أحس "بأن الزواج لا يلتئم معه" (18) فإنه اتخذ منها زوجة، ولم يرع عهد الزوجية إلا قليلاً. وكالت له هي بنفس الكيل. ومن المحتمل أنها جلست أمامه ليرسم لوحة "رينوو آرميد (19) " التي كسبت له العضوية الكاملة في أكاديمية الفنون الجميلة (1734). وحينذاك عهد إليه لويس الخامس عشر برسم مناظر سارة في حجرة نوم الملكة التي كانت لا تزال تتمتع بحبه، وعند إعادة افتتاح المعرض 1737 اتسعت شهرة الفنان وكثر رعاة فنه. ولم يذق بعد ذلك طعم الفاقة، ولم يعد له منافس.
وتخصص بوشيه في رسم "العاريات" وحتى زواجه لم يكن قد تريث(36/107)
طويلاً إلا نادراً مع امرأة واحدة ليكشف شيئاً أكثر من بشرتها. ولكنه كان قد وجد أن ذلك المظهر الخارجي ممتع بلا حدود، وبدا أنه عقد العزم على رسمه من كل الأركان والزوايا، وفي كل الأشكال والأوضاع، من الشعر الأشقر الحريري الناعم إلى الأقدام العارية التي لم تنتعل قط. وكان بوشيه هو الروكوكو قلباً وقالباً.
ولكنه كان أكثر من ذلك. وعلى الرغم من ان النقاد المتأخرين عابوا عمله من الناحية الفنية، فإنه كان بالفعل فناناً حاذقاً في التأليف واللون والخط، على أنه ف بعض الأحيان تعجل في العمل، ولم يعط الفن حقه رغبة في سرعة الحصول على الأجر، وهلل كثير من المعاصرين إعجاباً بروح التأثيرية الثورية في لوحاته وخصوبة خياله والرشاقة البسيطة في خطوطه. وقال ديدرو الذي ناصبه العداء، "لم يعرف أحد قدر ما عرف بوشيه، فن الضوء والظل (20) وكاد أي فرع من الرسم والتصوير ألا يروغ من مهارته. إن هؤلاء الذين لا يعرفون منا إلا بعض لوحاته الزيتية وقطعه المصورة على القماش ليدهشون إذ يعلمون أن "شعبية بوشيه ترجع إلى رسوماته قدر ما ترجع إلى لوحاته الزيتية (21). وكانت رسوماته مادة ثمينة طيلة حياته، وتنافس في الحصول عليها مشاهير جامعي الرسومات. وكانت تشتري لتستخدم مساند أو حوامل، وتعلق في حجرات النوم والجلوس على الجدران، وكانت من عجائب الاقتصاد-نقرة في الخد تعبر عنها نقطة أو بقعة صغيرة وبسمة يطبعها خط، وكل بريق وحفيف التنورات الحريرية ينبثق في إعجاز من قطعة من الطباشير. ومن المحقق أنه ليس من أجل الثروة وحدها، ولكن بفضل العبقرية والخيال المتفجرين فيه، يضيئان عينيه ويقودان يديه، أكب بوشيه على العمل عشر ساعات يومياً في مرسمه، تاركاً بصماته على كل شيء يلمسه تقريباً. وفضلاً عن ألف لوحة، رسم بوشيه المراوح وبيض النعام والخرف والرصائع والستائر والأثاث والمركبات ومناظر المسرح وجدران وسقوف المسارح. وقصدت كل باريس النشيطة لترى الزخرفة التي أعدها خلفية (لباليه نوفير" الأعياد(36/108)
الصينية" 1754. ولم يكن به ميل شديد إلى المناظر الطبيعية، لأنه كان سفير أفروديت إلهة الحب والجمال إلى اللوفر، ومع ذلك احتفظ بشخصياته البشرية في الغابات والحقول، بجوار المياه الفوارة والأطلال الظليلة وتحت السحب البيضاء في السماء الزرقاء، وشمس دافئة تغري بحرارة الدم وتطريها. وربما ظن المرء أن مشاهد الحياة اليومية لا تلائمه، ومع ذلك رسم لوحة "منظر أسرة" وأبرز-وكأنما أراد أن يحرر نفسه من عبودية الجمال-فناء المزرعة وحظيرة الماشية وبرج الحمام، وعربية اليد، والأنقاض في الفناء الخلفي، والحمير ترزح تحت أحمال من الأوعية والآنية التي تحدث قعقعة. واستكمالاً لذخيرته أصبح أعظم مصمم لرسوم النسيج في هذا القرن.
وفي 1736 دعاه أودري إلى مدينة بوفيه ليضع تصميمات للنساجين هناك حيث بدأ بأربعة عشر رسماً لمناظر قروية إيطالية (22). وقد لاقت هذه الرسوم نجاحاً كبيراً إلى حد أنها نسجت اثنتا عشرة مرة على الأقل قبل وفاته. ثم انتقل إلى موضوع أكثر نموذجية "قصة الأميرة الفاتنة"-خمس استار تعلق على الجدران، شكلتها مدام بوشيه، وهي من التحف الرائعة في فن القرن الثامن عشر. وتوج أعماله بست قطع من النسيج المزدان بالرسوم والنقش أطلق عليها "الحياة الريفية الكريمة" (23) إحداهما وهي "صائد الطير" تمثل حبيبين فاتنين من أروع ما أخرج من حرير والصوف. وشكا النقاد من أنه بسبب أودري وبوشيه أصبح النسيج المزدان بالنقوش أقرب شبهاً باللوجات الزيتية، وأنه فقد خصائصه المميزة. ولم يأبه لويس الخامس عشر بهذا كثيراً، لأنه عندما توفي أودري (1755) رقى بوشيه إلى رئيس مصانع الجوبلان.
وفي الوقت نفسه حظي الفنان المنتصر الظافر برعاية بمبادور المتقدة حماسة وغيرة. فزخرف لها قصر "المنظر الجميل" وصمم أثاثه. وللمسرح الذي سعت به إلى الترفيه والتسرية عن الملك رسم المناظر وابتكر الملابس ورسم لها عدة لوحات آية في الجمال الأخاذ والرقة يحار الناظرون إليها في الحكم عليها. وإن الاتهام بأن بوشيه لم يصل قط إلى ما وراء الجسد قد(36/109)
سقط الآن وأخرس، فإنه لم يهيئ لنا إن نرى كثيراً من مفاتن جسد العشيقة قدر ما هيأ لنا أن نلمس مناقب الذكاء والرقة التي حببتها إلى الملك، والاهتمام بالثقافة الذي جعل منها معبودة الفلاسفة، والذوق الفني النسوي الرفيع في الثياب الذي أضفى في كل يوم فتنة جديدة على مفاتن الجسد العانية. ويفضل هذه اللوحات ولوحة. الرحلة-لاتور "استطاعت بمبادور تذكير الملك في هدوء بالجمال الذي ولى والفتنة الأرق التي بقيت. وربما استخدمت بمبادور كذلك لوحات بوشيه الحسية الشهوانية في إرضاء رغبة الملك الجنسية القوية. ولا عجب إذن في أنها جعلت من بوشيه صديقاً أثيراً لديها، ووفرت له جناحاً في اللوفر، وتلقت عنه درساً في النقش، وبحثت معه مشروعاته في زخرفة قصورها، والارتقاء بالفنون. ورسم لها (1753) لوحتين من أعظم لوحاته الشروق والغروب" (24) وفي كلتا اللوحتين، بطبيعة الحال، كانت الأشكال البشرية تفوق الشمس بهاء وبريقاً.
وعمر بوشيه بعد بمبادور، وبعد الحرب الفاجعة مع إنجلترا وفردريك الأكبر، وظلت أحواله في ازدهار إلى سن السابعة والستين حيث وافته المنية. وتكاثر عليه التكليف بعمل اللوحات، وأصبح ثرياً، ولكن لم تقل حماسته وغيرته في العمل عن ذي قبل، وطهر ثروته بالبذل والسخاء. وكان عربيداً محسناً خيراً، لا يكل ولا يمل من الفسق والدعارة ولكنه دائماً أبدا مرح ودود، "لطيف كريم غير متحيز، ينأى بنفسه عن الأحقاد الدنيئة ..... به مناعة ضد التلهف الحقير على كسب المال" (25) وكان متعجلاً في عمله إلى حد لم يبلغ معه قمة الامتياز. وأطلق لخياله عنان الحرية إلى درجة لم يلمس معها جوانب الحقيقة والواقع. وأبلغ رينولدز أنه ليس في حاجة إلى نماذج، وأنه يؤثر الرسم من الذاكرة، ولكن ذاكرته جاءت بأشكال مثالية. ولما لم يصوب له الواقع ذاكرته، فإنه بات مهملاً في رسمه مبالغاً في ألوانه. واتهمه جريم وديدرو وآخرون بأنه أخطأ فحسب الظرف واللطف جمالاً، وأنه هبط بجلال الفن إلى مجرد(36/110)
زخرفة سطحية ذات مظهر خداع، وبأنه افسد أخلاق العصر بإعلاء قيمة مفاتن الجسد. وعاب عليه ديدرو واستنكر ابتسامته المتكلفة وتصنعه ... وشامات الجمال، واللون الأحمر على الخدود ... ونساءه العابثات، ورجاله الفاسقين الشهوانيين وأولاد باخوس وسلينوس غير الشرعيين (إلها الخمر والعربدة في الأساطير اليونانية) (26) ومات بوشيه وهو يعمل في مرسمه تاركاً على الحامل لوحة لم يكملها "تزين فينوس" وكأنما يتحدى بها ديدرو. وعندما سمع ديدرو بموت الفنان أحس بالندم وقال "لقد أسأت إلى بوشيه كثيراً بكلامي عنه، وإني لأكف الآن عن الحديث عنه. (27) ولنكتف نحن بهذا القدر.
جـ - شاردان
1699 - 1779
كم اختلف عالم بوشيه عن دنيا شاردان-أي تباين بينهما في مفاهيم الجمال وفي الخلق والذكاء! كانت هنا تقريباً حرب طبقية، ثورة الطبقة المتوسطة ضد الأبيقورية المسرفة المبذرة عند رجال المال والأرستقراطية والحاشية. ولد جان مابتست سيمفون شاردان برجوازياً، وظل برجوازياً قانعاً، وصور الحياة البرجوازية في إخلاص بالغ. وكان أبوه معلم نجارة ذا مكانة عالية في نقابته، يمتلك داراً في شارع السين على الضفة اليسرى من النهر، ولما كان يظن أن أبنه جان سيخلفه في مهنته، فإنه لم يعن بتعليمه في المدرسة قدر عنايته بتدريبه على الأعمال اليدوية. وأسف شاردان على ما فاته من تعليم وعلى ضآلة ما حصل منه، ولكن هذا منعه من ارتياد مجالات الفن القديمة، فولى وجهه وفرشاته شطر الأشياء التي حوله في المصنع والبيت. وسرعان ما أحب الرسم وتلهف على التصوير، وسمح له والده بالالتحاق بمرسم بيير جاك كيز، ثم بتسجيل اسمه رساماً في البلاط الملكي.
ولم يكن الشاب سعيداً هناك، فإن النماذج التقليدية التي طلب إليه أن ينسخ عنها بدت بعيدة بشكل مخيف عن الحياة التي عرفها وألفها. وعندما طلب إليه جراح صديق لوالده أن يعد له لافتة تعلن عن مهنة الحلاق الجراح، وتبرز أدواتها، فإن جان-وربما تذكر عند ذاك شعار الرسام(36/111)
اتو لجرسانت-رسم لافتة ضخمة تمثل رجلاً جرح في مبارزة، يقوم على العناية به جراح ومساعده، ومن حسن التدبير أضاف إلى هذا سقاء وشرطياً وبعضاً من حرس الليل، ومركبة، وامرأة تحدق النظر من نافذتها، وحشداً من المتفرجين يحملقون من فوق الرؤوس-كل أولئك في منظر رائع عن الصخب والإيماءات والإثارة. وغضب الجراح ورأى أن يلقي باللافتة عرض الحائط، ولمنها جذبت انتباه المارة ونالت استحسانهم إلى حد كبير إلى درجة أن الجراح استبقاها على بابه، ولم نسمع بعد ذلك شيئاً عن شاردان، حتى كان عام 1728، حين حظيت بإطراء خاص، لوحته "السمكة" ولوحته "الخوان" (البوفيه) -طبق فضي فيه فاكهة-في معرض في الهواء الطلق في ميدان الدوفين. ودعاه بعض أعضاء الأكاديمية ليطلب الانضمام إلى عضويتها. ودبر أن يعرض بعض من لوحاته هناك غفلاً من اسمه، فأعلن من رأوها أنها تحف رائعة، ونسبوها إلى فلمنج، ثم اعترف شاردان بأنه صاحبها، فاستنكروا هذه الخدعة، ولكنه على أية حال فاز بعضوية الأكاديمية (1728).
وفي 1731 خطب مرجريت سنكتار التي وعده أبواها بصداق كبير، ولكن في فترة الخطوبة مني الوالدان بخسائر جسيمة وفارقا الحياة، تاركين مرجريت لا تملك شروى نقير، وتزوجها شاردان على الرغم من ذلك، وهيأ لهما أبوه مسكناً في الطابق الثالث من منزل كان قد اشتراه حديثاً على ناصية شارع دي فور وشارع البرنسيس. وهناك أقام الفنان مرسمه الذي كان أيضاً مطبخه، فقد اختار الآن بصفة نهائية أن يرسم الحياة الهادئة ومشاهد الحياة اليومية. وأصبحت الخضر والفاكهة والسمك والخبز واللحم كل الأشياء التي تبعثرت في أنحاء الغرفة، نماذج لفرشاته تارة، وصنوف قائمة طعامه تارة أخرى.
وافتتن شاردان بالأشكال والألوان المتغيرة في الأشياء العادية، ورأى فيها خصائص في لبيئة والتركيب والضوء قلما تلحظها العين الغافلة. فإن جانبي التفاحة أو خديها كانا بالنسبة له يحملان طابعاً رومانتيكياً مثل تورد(36/112)
وجنتي العذراء، وبريق السكين فوق مفرش المائدة الأخضر تحداه أن يمسك به في حركته السريعة، ويحاول تثبيته في فنه. وأبرز هذه الأشياء الصغيرة البسيطة في أمانة وتبصر، وبراعة فنية في اللون والمناسيب والضوء والظل، مما لم يتيسر إلا لقلة من الفنانين أن يبلغوه. وإننا لننظر إلى هذه الأشياء الطبيعية الميتة، ونحس بأنها حية وإننا لم نرها رؤية صادقة قط من قبل، وإننا لم نتحقق قط من تعقيد أشكالها وتفردها، ومن الفروق الدقيقة بين ظلال ألوانها، ولم يجد الشعر فقط في إناء من الأزهار أو عنقود من العنب، بل في مرجل قديم محطم، وفي جوزة، وفي قشرة برتقالة، وفي فتات كسرة من الخبز. ففي هذه كلها شعر دائماً كما كان الفلمنكيون والهولنديون قد عرفوا من قبل، ولكن من في فرنسا بوشيه وبمبادور خامره يوماً شعور بوجود هذا الشعر. وكان جمال هذه الأشياء بطبيعة الحال في عين الرائي أو المشاهد أو بالأحرى في نفسه. إن شعور شاردان القوي وبصيرته النافذة-وفقره-كل أولئك هو الذي جعل من مخزن حفظ الأطعمة قصيدة غنائية، ومن قائمة الطعام ملحمة شعرية.
وكل إنسان يعرف هذه القصة-أو الأسطورة؟ -كيف انساق شاردان إلى رسم الأشكال البشرية. إنه سمع ذات يوم صديقه أفيد يرفض 400 جنيه أجراً لرسم لوحة لأحد الأشخاص، فعجب شاردان أشد العجب، وهو معتاد على الجور الضئيلة، لهذا الرفض. فما كان جواب أفيد إلا أن قال "هل تظن أن رسم إنسان سهل مثل رسم مرق التوابل (الصلصة). (28). وكانت سخرية لاذعة، ولكن مفيدة. إن شاردان كان قد ضيق مجال موضوعاته تضييقاً شديداً، وسرعان ما كان يمكنه أن يشبع رغبات زبائنه وعملائه في الأطباق وألوان الطعام، وعقد العزم على رسم الأشخاص، وكشف في نفسه عن عبقرية في رسم الأشخاص في رقة وتعاطف، وكان هو الذي هيأ لهذه العبقرية أن تخمد. وقبل التحدي من فوره. ورسم لوحة لصديقة أفيد نفسه، "المتفاخر" (29). وأتبعها بلوحة أحسن منها "دار لعب الورق". ولكن هنا أيضاً كان التفوق والامتياز(36/113)
في الملابس لا في الوجوه. وفي لوحة "الطفل والخذووف (النحلة) " خطا شاردان خطوته الثانية: اليدان بشعتان بعض الشيء، ولكن الوجه ينبئ عن عقل سليم. ووجد هذا الاعتناق الرقيق منفذاً في رسمه للبنات، كما هو الحال في التحفتين الرائعتين اللتين تضمهما مجموعة روتشيلد: "بنت تلعب تنس الريشة"، وأخرى "تتسلى بتناول غذائها".
إن شاردان لم ير في النساء الأغراء الباسم الذي أثار بوشيه، بل رأى فضائل وخصائص الزوجية والأمومة التي هي عماد الدولة، وهي التي تقودها إلى طريق الخلاص. ومع شاردان دخلت سيدات الطبقة المتوسطة مجال الفن الفرنسي، وحصلت على حقها فيه. إن هذا الفنان عرفها وأحبها في كل ما تقوم به من خدمات جليلة آسرة: إحضار الطعام من السوق، سحب الماء، تقشير السلجم، لف الصوف، العناية بالمريض، تحذير التلميذ من إهمال واجبه أو التهرب منه، أو كما أبرز شاردان في أشهر لوحاته "الخير والبركة" (30) الإمساك عن الطعام حتى تكف صغرى البنات، ويداها الصغيرتان مضمومتان، عن الصراخ والبكاء ويشيع في وجهها ابتسام الرضا، ورأى المرأة دائماً في ملابس البيت، غير متبرجة، في حركة دائبة، تخدم زوجها وأولادها من الفجر وصلاة الصباح إلى أن يأووا جميعاً في أمان إلى فراشهم ويتدثروا. وإننا لنرى من خلال لوحات شاردان باريس وهي أكثر حكمة وأكبر عقلاً من الحاشية، لا تزال متعلقة بالأخلاقيات القديمة والعقيدة الدينية التي وفرت لها عوناً روحياً. وهذا هو أعظم فن نفعاً وصحة في كل تاريخ الفن.
إن هذه الصور التي يهلل لها العالم الآن لم تلق إلا رواجاً محدوداً جداً آنذاك، ولم تأت للفنان إلا بفرنكات معدودة تقيم أوده في بساطة قانعة. ولم يساوم مع عملاءه، وباع اللوحات بأي ثمن عرضوه عليه تقريباً, ولما كان يعمل في بطء وكد وجد، فإنه أنهك نفسه في فقر نسبي، على حين أن بوشيه استنفد جهده في يسر ورخاء. ولما توفيت زوجته الأولى بعد أربعة أعوام فقط من الزواج، آل مسكنه إلى حالة شديدة من الفوضى وسوء(36/114)
النظام. وكأنه مسكن طالب، ألح عليه أصدقائه أن يتزوج ثانية، ولو ليحظى بيد امرأة رشيقة وسيدة تعيد النظام إلى بيته. وتردد تسع سنين ثم تزوج الأرملة مرجريت بوجيه. وهو في بساطة زواج مصلحة. وجاءت له مرجريت بصداق متوسط، يشمل بيتاً تملكه (13 شارع البرنسيس)، فانتقل إليه. حيث وضعت خاتمة لفقره وعوزه، وكانت سيدة فاضلة وزوجة شديدة التدقيق. وتعلم هو أن يحبها شاكراً ممتناً.
وزيادة في معونته من الناحية المالية خصص له الملك (1752) راتباً قدره 500 جنيه، وعينته الأكاديمية (1754) أميناً للصندوق فيها، وسرعان ما عهدت إليه بترتيب اللوحات المقدمة إليها في قاعات العرض فيها، ولكنه لم يصلح لهذه المهمة مطلقاً، ولكن زوجته ساعدته فيها. وفي 1756 أقنع صديق نقاش-هو شارل نيقولا كوشان الثاني-ماريني بأن يخصص لشاردان غرفة مريحة في اللوفر. وهذا هو كوشان نفسه الذي كان تواقاً إلى إبعاد شاردان عن تكرار صور المطبخ، فحصل له على تكليف برسم ثلاث لوحات، لتوضع (فوق الباب) لقصر ماريني. فأخرج شاردان في جد واجتهاد (1765) "خصائص الفن" وخصائص الموسيقى (32) ثم حصل على تكليف آخر برسم لوحتين شبيهتين لقصر مدام دي بمبادور "المنظر الجميل". ولسوء الحظ لم يدفع المبلغ الموعود للوحات الخمس حتى عام 1771.
وفي نفس الوقت كان الفنان تتقدم سنه ويفقد مهارته. ففي 1767 نرى ديدرو الذي كان قد رحب بعمله وأثنى عليه بوصفه "روح الطبيعة والحقيقة" يقول في أسى وأسف "إن شاردان رسام ممتاز لمشاهد الحياة اليومية، ولكنه يذوي ويذبل (33) ". وكانت لوحات لاتور المرسومة "بالبستل" تأخذ بمجامع الألباب في باريس. وفي غمرة المنافسة أخذ شاردان نفسه الطباشير والورق وأدهش لاتور حين أبدع لوحتين بالبستل لشخصه. وهما من أعظم الإنتاج وروعة واتقاناً وكمالاً في اللوفر. إحداهما تمثله في قلنسوة قديمة ضيقة مزدوجة العقد على رأسه، والعوينات(36/115)
(النظارة) في أعلى أنفه، ورباط عنق مربوط بإحكام حول عنقه. وأبرزت الأخرى نفس الزي ونفس الوجه مملوءاً بالدهشة والشخصية، بالإضافة إلى قناع يظلل عينيه اللتين يشكو فيهما ألماً. وأشهر من هاتين، لوحة البستل التي أبدعها لزوجته الثانية، وهي آنذاك في الثامنة والستين: وجه كريم جميل، أخرجه بمهارة متسمة بالحب. وتلك هي اللوحة التي يقع عليها اختيارنا لتكون تحفة شاردان ورائعته.
وكانت خاتمة مظفرة لحياة فذة شريفة كريمة. ولسنا في حاجة إلى تصوير شاردان رجلاً بريئاً من زلات البشر، فالحق أنه هو نفسه أيضاً، وقد وخزته أشواك الحياة وأساءت إليه الأحقاد، كان في مقدوره أن يقاوم بالانفجار في الغضب وفي قارص الكلام، ولكنه لما فارق الحياة في 1779، فإن أحداً في دنيا الفن الباريسي الحاسدة الحاقدة المفترية، لم يجد كلمة سوء عدائية يقولها فيه. بل إن نظام الحكم المنهار نفسه بدا أنه تحقق من ان شاردان قد كشف بأسلوب فني لم يبزه فيه أحد في زمانه، عن فرنسا، التي هي فرنسا الحقيقية التي لا تزال سليمة بارئة من السقام، تلك الدنيا المستترة، دنيا الكد الخالص والولاء للأسرة، مما يمكن أن يبقى ويعمر-ويساعد فرنسا على البقاء-بعد قرن من الفوضى والثورة. وكما قال ديدرو "كان شاردان أعظم ساحر لدينا" (33).
د - لاتور
1704 - 1788
إن نزعات الذوق المتقلبة لا تقدم اليوم إكليل الغار في فن الرسم الفرنسي في القرن الثامن عشر، إلى بوشيه أو إلى شاردان، بل تقدمه إلى موريس كانتان دي لاتور.
وهو أكثر الشخصيات الثلاث إمتاعاً وتشويقاً، لأنه مزج رذائله وفضائله باستهتار شيطاني، وساق العالم المرتعد بأسره إلى زاوية، وطلب كما فعل ديوجنيس، إلى ملك أن يبتعد عن طريقه. وكان نزاعاً إلى جمع المال في جشع شديد، مغروراً وقحاً متغطرساً، عدواً لدوداً وصديقاً متقلباً عميقاً مزهواً مثل رجل عجوز يخفى سني عمره أو يفاخر بها، وكان أميناً(36/116)
صريحاً، بخيلاً، ومحسناً مسرفاً وساذجاً أنيساً، وطنياً ملتهباً حماسة وغيرة، يحتقر الألقاب، ومن ثم رفض لقب النبالة الذي عرضه عليه الملك. ولكن هذا كله لا يتصل بالموضوع، فإنه كان أعظم رسام في عصره، وأعظم مصور بالبستل في تاريخ فرنسا.
وجلس لويس الخامس عشر يوماً إلى لاتور ليرسمه، فاستاء الملك وجرحت كبرياؤه لكثرة ما ردد الفنان من عبارات المديح والثناء على الجانب، وقال له "ظننت أنك فرنسي". فأجاب لاتور "لا يا مولاي، أنا من سانت كانتان في بيكاردي (34) " (مقاطعة في شمال فرنسا كانت يوماً جزءاً من الفلاندرز). انه ولد هناك لأب موسيقار موسر، أراد له أن يكون مهندساً، ولكن الوالد آثر أن يكون رساماً، فأنبه الوالد على ذلك، وهرب موريس وهو في الخامسة عشرة إلى باريس ثم ريمس ثم كمبراي، يرسم اللوحات هنا وهناك، وفي كمبراي دعاه أحد الدبلوماسيين الإنجليز إلى لندن ضيفاً عليه فيها. وذهب إليها موريس، وهنا جمع مالاً وقضى وقتاً سعيداً مستمعاً بالحياة، وعاد إلى باريس وتظاهر بأنه رسام إنجليزي. وكانت روزاليا كارييرا في باريس في عام 1721 وكان وجهاء القوم، ابتداء من الموصى إلى أحداث محدثي الثراء، يفتشون عن لوحاتها المرسومة بالبستل. ووجد لاتور أن مثل هذه الرسوم بالأقلام الملونة تلتئم مع مزاجه القلق، أكثر من الزيت الذي يحتاج إلى جهد وجلد. وقضى عدة سنين يحاول ويجرب ويخطئ، حتى تعلم أن يحقق وينجز بالطباشير ظلالاً ودقة في اللون والتعبير مما لم يتسن لأحد من رسامي الأشخاص في زمانه أن يباريه فيها.
وعندما عرض بعض لوحاته في معرض 1737 بدأ رسامو الزيت يوجسون خفية من منافسة أقلام البستل لهم. وكانت لوحته الثلاث المرسومة بالبستل حديث معرض 1740. وكانت لوحته رئيس مدينة ريو في رداء الحاكم الأسود وعباءته الحمراء "هي التي فازت بالجائزة في معرض 1741. أما لوحته التي رسمها للسفير التركي فقد تكاثر عليها الجمهور المعجب في(36/117)
1742. وسرعان ما طالبت دنيا الأناقة التي تهفو دوماً إلى كل ما هو مستحدث، بالتحول إلى طباشير، وأصبح صدام لاتور مع الملك حدثاً تاريخياً. ذلك أن الفنان بدأ بالاعتراض على الحجرة إلى اختيرت ليجلس الملك فيها أمامه ليرسمه، لأن الضوء كان ينفذ إليها من كل جانب، قائلاً "ماذا تتوقع من أن أفعل في هذه المشكلة؟ " فأجاب الملك "لقد اخترت هذه الحجرة المنعزلة خصيصاً، حتى لا يعكر صفواناً أحد". فرد عليه لاتور بقوله "لم أكن يا سيدي أعلم أنك لست سيداً في دارك". وفي مناسبة أخرى عبر الفنان عن أسفه لأن فرنسا لا تملك أسطولاً ضخماً، فاعترض الملك في خبث "فما بال فرنيه الذي صور مناظر البحر يعج بالسفن (35) " ولما علم لاتور أن الدوفين أبلغ أنباء مضللة كاذبة عن مسألة معينة، ابتدره في رفق "وهكذا ترى كيف أنه من السهل على أناس أمثالكم أن يقعوا في حبائل المخادعين المختالين" (36).
وعلى الرغم من صراحته اللاذعة المزعجة، منحته الأكاديمية عضويتها الكاملة 1746 - التي هي بمثابة شهادة امتياز وتفوق. ولكن في 1749، نتيجة سعي حثيث من الرسامين بالزيت، قررت الأكاديمية ألا تقبل مزيداً من رسوم البستل. وفي 1753 شكا أحد مصوري اللوحات الزيتية "من أن دي لاتور ارتقى برسم البستل إلى درجة قد تثير النفور من اللوحات الزيتية" ورد لاتور كيد الشاكي في نحره بالحوافز والروائع.
وكان له منافس في البستل، وهو جان بابتست برونو الذي كان يؤثره ليمونيين وأودري وغيرهما من الأكاديميين على دي لاتور، فطلب هذا إلى برونو أن يرسمه (لاتور شخصياً) فقبل برونو وأخرج له تحفة رائعة، وأجزل العطاء له دي لاتور الأجر، ولكنه رسم بعد ذلك نفسه في لوحة من أعظم اللوحات الذاتية المعروفة روعة وإبرازاً للشخصية والذات ودبر مع شاردان أن تعرض اللوحتان كلتاهما جنباً إلى جنب في معرض 1751. وأجمع كل الذين شاهدوهما أن اللوحة الذاتية تفضل لوحة برونو, ولا تزال اللوحة الذاتية التي رسمها لاتور لنفسه تبتسم ابتسامة النصر في متحف اللوفر.(36/118)
وهناك أيضاً اللوحة التي تحدى بها بوشيه وهي لوحة البستل الوحيدة التي عرضها 1755. وأفلتت الفرصة منه تقريباً. فحين وجهت إليه الدعوة ليرسم أشهر سيدة في المملكة أجاب "أرجو أن تتفضلوا بإبلاغ مدام دي بمبادور أنني لا أخرج لأرسم". وكانت تلك طريقته في جلب الحظ والمال، مثل إيقاع الفريسة في الشرك، بالتراجع، وتوسل إليه أصدقاؤه أن يقبل، فأرسل كتاباً ينبئ بأنه سيحضر، ولكن شريطة ألا يقطع عليه أحد سير العمل. ولما وصل نزع وقاء حذائه، وخلع الحذاء، ونزع شعره المستعار عن رأسه ورقبته (ياقته) وغطى رأسه بقلنسوة حريرية، ثم بدأ يرسم. وفجأة فتح الباب ودخل الملك. فاحتج لاتور قائلاً: لقد وعدتني يا سيدي أن يظل الباب مغلقاً "فضحك الملك ورجاه أن يستأنف عمله، ولكنه رفض" يستحيل علي أن أطيع جلالكم. سأعود عندما تكون السيدة وحدها ... لا أحب أن يقاطعني أحد. فانسحب الملك، وأكمل الفنان الجلسة، ومن أشهر صورتين لمدام دي بمبادور، نجد أن اللوحة التي رسمها لاتور أعمق من تلك التي أنتجها بوشيه، وأقل إشراقاً في اللون، واتقاناً في اللمسات الخيرة والتفاصيل، ولكنها أكثر نضجاً من حيث التعبير وإبراز الشخصية. ولا ريب أن لاتور رسم المركيزة، بإيحاء منها، باعتبارها راعية للفن والموسيقى والأدب والفلسفة، وعلى أريكة قريبة منها قيثارة، وفي يدها بعض صفحات موسيقية، وعلى المنضدة كرة أرضية، وحقيبة أوراق من نفش يديها، وقصة فولتير "هنرياد" وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" والمجلد الرابع من موسوعة ديدرو.
وعندما فرغ لاتور من اللوحة طلب عليها أجراً قدره 48 ألفاً من الجنيهات. وعلى الرغم من تبذيرها وإسرافها فإنها رأت أن المبلغ المطلوب مبالغ فيه بعض الشيء، وأرسلت إليه 24 ألف جنيه ذهباً. وفكر لاتور في رد المبلغ. فسأله شاردان إذا كان يعرف ثمن اللوحات الموجودة في نوتردام، بما فيها روائع برون ولي سير، فأجاب لاتور سلياً، وقدر شاردان جملة تكاليفها بمبلغ 12 ألف جنيه. وأعاد لاتور النظر في تقديره(36/119)
وقبل المبلغ الذي أرسلته بمبادور (24 ألفاً). أليه، بصفة عامة كان يطالب بالجر تبعاً لثروة الجالسين أمامه، فإذا اعترضوا ردهم خائبين، وربما كان هناك بعض استثناءات لفولتير وروسو ودالمبرت، حيث أعجب بالفلاسفة من كل قلبه، وأقر صراحة بتجرده من الإيمان الديني.
وربما كانت أجوره المرتفعة سبباً في اشتداد الطلب عليه من جميع الأنحاء. وعن طريقه عرفنا الشخصيات القيادية في عصره، وأصبح قمة ف الرسم بالبستل، فأبدع لوحات جميلة رائعة للملكة ولولي العهد الصغير، والدوفين المتظاهر بالرزانة والاحتشام (38)، ولاكامارجو راقصة الباليه الأولى، وحاول أن يرسم لروسو لوحة يبدو فيها لطيفاً عاقلاً حكيماً (39)، وفي أحد أعماله البالغة الروعة رسم موريس دي ساكس القائد الوسيم المنتصر على الجيوش والسيدات (40)، وأبرز في لوحة رسمها لصديقه الرسام جان رستوت شعلة النشاط ونضارة الحياة في عينيه (41). ولبس الخز والمخرمات والشعر المستعار استعداداً لصورة ذاتية معلقة الآن في أميان. وعلى الرغم من عادته الخشنة ونزواته غير المشروعة، وحالاته النفسية المتقلبة التي لا ضابط لها، فقد كان موضع الترحيب في قصور الأرستقراطية، في ندوة مسيو دي لابوبلنيير في باسي، وفي صالون مدام جيوفرين. وكان يرتبط بأواصر الصداقة بمشاهير كتاب عصره، بل حتى الرسامين والمثالين الذين نظروا إلى نجاحه بعيون حاسدة-فانلو، شاردان، جريز، بيجال، باجو. ومنحه الملك معاشاً إضافياً ومسكناً في اللوفر. ولا بد أن الرجل كان، فوق كل شيء، محبوباً.
ولم يتزوج لاتور قط. ولكنه لم يتنقل كثيراً بين أحضان السيدات كما فعل بوشيه وكان له عشيقة، هي الآنسة فل Mlle Fel التي ساعد غناؤها على نجاح أوبرا روسو "عراف القرية". وتضايق منها جريم لأنها لم تبادله الحب، ولكنها أقبلت على لاتور من كل قلبها. وذكر هو لها بالعرفان والشكر كل ما وفرت له من أسباب الراحة والتسلية حتى إنه ظل يشرب نخبها وهو في الثمانين من عمره. وكان إخلاصها له شيء من العزاء(36/120)
والسلوى حين تقدمت به السن فتصلبت أصابعه وغشى بصره. ودفع ثمن الرخاء والرغد الذي نعم به وهو في ذروة مجده، بما لقي من إذلال طال أمده في سني شيخوخته واضمحلال صحته, إنه عمر بعد أن تلاشت عبقريته، وسمع النقاد يتحدثون عنها، وكأنما أدركها الفناء.
وعندما قارب الثمانين ترك مسكنه في اللوفر، ليعيش في الهواء الطلق في أوتي Auteuil. وأخيراً عاد إلى مسقط رأسه. واستقبلت سانت كانتان ابنها السخي المبذر بطلقات المدافع ودق النواقيس والهتافات الشعبية. وعمر في هذه البلدة الهادئة أربع سنوات أخرى وذبل عقله النشيط إلى مس خفيف غير مؤذ من الجنون، فأصبح يتمتم بشيء من فلسفة وحدة الوجود (الله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي الإنسان مظاهر للذات الإلهية)، ويعبد الله والشمس معاً، ويحلم بالثورة مؤملاً في قيامها. وفارق الحياة قبل قيامها بعام واحد. وقبل أيدي خدمه وهو في النزاع الأخير.(36/121)
الفصل العَاشِر
نشاط الذهن
1 - صناعة الكلام
الآن أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية لكل متعلم ومثقف في أوربا، وواسطة الاتصال والتفاهم المعترف بها في الدبلوماسية والعالمية، وكان فردريك الأكبر يستخدمها بانتظام، اللهم إلا في التحدث إلى قواته. وألف جيبون أول كتاب له باللغة الفرنسية، واتجه تفكيره لبعض الوقت إلى أن يكتب بها مؤلفه المعروف "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". وفي 1784 أعلنت الأكاديمية الألمانية عن مسابقة ذات جائزة لمن يكتب أحسن موضوع يوضح أسباب التفوق والتبريز، ونشرت مطبوعاتها بالفرنسية. وكانت الأسباب الرئيسية لهذا التفوق هو المنزلة السياسية السامية لفرنسا في عهد لويس الرابع عشر ونشر القوات الفرنسية للغتهم في الأراضي الوطيئة وألمانيا والنمسا وأسبانيا، وعلو مكانة الأدب الفرنسي في القارة، بشكل لا نزاع فيه (وقد يكون لإنجلترا تحفظات على هذا)، وشعبية المجتمع الباريسي بوصفه مدرسة للدراسات الثقافية والنشاط الاجتماعي، تنهل منها النخبة الممتازة في أوربا، ثم الرغبة في إحلال لغة أحدث وأكثر مرونة محل اللغة اللاتينية في علاقات الأمم بعضها ببعض، وقيام الأكاديمية الفرنسية بتنقية اللغة وتقسيمها عن طريق قاموسها، ولم تصل قط لغة وطنية أخرى ما بلغته الفرنسية من دقة وتنوع، ومن قوة وسحر في العبارة، ورشاقة ووضوح في الأسلوب. وكان ثمة بعض الخسارة في هذا الانتصار: ذلك أن النثر الفرنسي ضحى بالصراحة البريئة عند مونتاني والحيوية الدافقة القاسية الصادرة عن القلب عند رابليه. وأصاب الشعر الفرنسي الوهن والضعف في سجن القواعد التي وضعها بوالو،(36/122)
وانزلفت الأكاديمية نفسها-حتى أيقضها ديكلوس بعد انتخابه 1746 - إلى شكليات غامضة وضآلة مبعثها الجبن والحذر.
وكانت حرية الفكر والكلام النسبية في عهد الوصاية الخطير قد شجعت على مضاعفة عدد المؤلفين والناشرين والمكتبات. واندس من يطبعون وينشرون ويبيعون الكتب في كل مكان، حتى على الرغم من أنه يتقدم القرن، أصبحت هذه التجارة خاسرة، وكان في باريس وحدها منهم كلهم تقريباً فقراء معدمون. وانتشرت المكتبات في كثير من المدن، وكان في بعضها حجرات للمطالعة مفتوحة للجماهير، نظير رسم دخول ضئيل (40 سو) وقل أن كان التأليف مهنة كافية لكسب القوت، ولذلك كانت تكمل عادة بعمل آخر، فكان كريبيون الأكبر كاتباً لدى موثق عقود، وكان روسو ينسخ الموسيقى. واستطاع نفر قليل من مشاهير الكتاب أن يبيعوا إنتاجهم لقاء ثمن عال. ولما أعسر موريفو بسبب انهيار نظام لو، استطاع أن يصلح ماليته ويسترد ثروته برواياته ومسرحيته "ماريان"، وقبض روسو، وهو عادة فقير، خمسة آلاف جنيه عن كتابه "اميل". وكان حق الطبع القانوني الوحيد هو الترخيص الملكي بالنشر وكان في هذا حماية للمؤلف من السطو على كتابه في فرنسا، ولكن ليس من السطو وطبعه خارجها، وكان هذا الترخيص يمنح لمن يكفل المراقبون الرسميون خلو كتابه مما يسئ إلى الكنيسة أو الدولة. وكان يمكن للأفكار الجديدة أن تتخطى هذه العقبة بإخفاء مادة الكتاب أو الهرطقة في أسلوب مقنع. فإذا لم تنجح هذه الخدعة، فقد يعمد المؤلفين إلى إرسال المخطوط إلى أمستردام أو جنيف، أو أية مدينة أجنبية أخرى، ليطبع هناك بالفرنسية ويوزع في الخارج، ويتداول سراً في فرنسا.
وأدى اتساع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم وتجمع المفكرين في باريس إلى خلق جمهور متلهف على الكتب، ونهضت مجموعة كبيرة من المؤلفين لتلبية هذا المطلب وإشباع هذه الرغبة. وأثار ضعف الدولة في عهد لويس(36/123)
الخامس عشر وانهيار الإيمان الديني، المناقشات الشفوية والخطية في المسائل السياسية والفلسفية. وإذ كرهت الأرستقراطية تلك الملكية التي حدث من سلطتها، كما كرهت الكنيسة التي كانت تساند الملكية، فإنها استمعت بآذان صاغية ذات مصلحة إلى نقد الحكومة والعقيدة كلتيهما، وانضمت الطبقة المتوسطة العليا إلى الأرستقراطية في إصغائها لهذا النقد، أملاً في تغيير يحقق لها المساواة الاجتماعية مع طبقة النبلاء.
وفي هذا الجو الجديد حقق المؤلفون والكتاب مكانة قلما تيسرت لهم قبل القرن الثامن عشر أو بعده. وقوبلوا بالترحيب في الصالونات حيث تحدثوا وأيدوا آراءهم بكل ما أوتوا من فصاحة وبيان. واستقبلوا في قصور ذوي الألقاب ما داموا لم يجرحوا كبرياءهم أو يسيئوا إليهم. وكان أصحاب المال يستضيفونهم ويكرمون وفادتهم، وفي بعض الأحيان يسكنونهم في قصورهم، مثل ما فعل بوبيلنيير، وأصبحوا برغم فقرهم قوة في الدولة. قال ديكلوس في 1751 "إن إمبراطورية رجال الفكر، من بين كل الإمبراطوريات، أوسعها امتداداً، دون أن تكون مرئية. إن أصحاب السلطة يأمرون، ولكن رجال الفكر يحكمون. وعلى المدى البعيد ... إن عاجلاً أو آجلاً، سيتغلب الرأي العام أي شكل من أشكال الاستبداد والحكم المطلق أو يغلبه" (1) (وفي 1751 لم يكن قد تم التوصل بعد إلى الأسلوب الذي يتحقق به تشكيل الرأي العام تشكيلاً محكماً بالمال أو عن طريق الحكومة).
وإذا رحب جمهور متزايد بالكتاب الفرنسيين، وحفزهم مئات المتنافسين اليقظين، وحررهم ضعف العقيدة، واستحثهم زهو الطباعة وخيلاؤهم، فإنهم دفعوا إلى المطبعة بسيل من الرسائل والنشرات والأبحاث والنقد اللاذع والمقالات والمذكرات، والتاريخ والقصص والمسرحيات والقصائد والأبحاث الدينية والفلسفية، والكتابات الإباحية الداعرة والأدب المكشوف، مما حطم كل أغلال الرقابة وقيودها، واكتسح كل مقاومة، وغير عقل فرنسا وعقيدتها(36/124)
وحكومتها بل إلى حد ما عقل العالم وعقيدته وحكوماته. ولم يحدث قط أن وجد في الأدب من قبل مثل هذا الذكاء الحاد أو المزاج الرقيق أو هذا التهريج الماجن أو هذا السخف المهلك، وتصدعت كل القواعد التقليدية في الكنيسة والدولة تحت ضغط الهجمات التي شنتها تلك الأقلام الحادة، المسمومة أحياناً، المغمورة أو المجهولة عادة.
إن الرسائل الخاصة نفسها أصبحت قناعاً شائعاً. فما من سيدة أو رجل إلا نقح رسائله وأعاد كتابتها وصقلها وتأنق فيها أملاً في أن يطالعها أكثر من شخص الذي أرسلت إليه فتتألق أمام العيون وتكون متعة لقارئيها، كذلك نجحوا أحياناً في أن تكون رسائلهم "كتابات ممتازة" أي قطعاً من الأدب. وبسبب حبهم للحديث والمناقشة فإنهم تحدثوا على الورق إلى الأصدقاء أو الأعداء الغائبين عنهم، بشكل طبيعي وكأنما يخاطبونهم وجهاً لوجه، وبكل الحماسة والحيوية اللتين تدور بهما أحاديثهم حول المائدة في الصالونات. ولم تكن تلك الرسائل تتضمن مجرد توافه الأخبار الشخصية، بل كانت في معظم الأحوال نقاشاً في السياسة والأدب والفن، وكانت في بعض الأحيان نثراً-لغة المجتمع-يزخر بالسجع الذي كثيراً ما يأتي عفو في الفرنسية، مع أكبر الأمل في إطراء القارئ لها، وهكذا كان فولتير يدخل السرور على قلوب أصدقائه بسلسلة القصائد التي يبعث بها إليهم، مما كانت تفيض به قريحتهم الوقادة وفنه الرشيق.
وآذن عصر الخطابة بزوال، لأن فرنسا القرن الثامن عشر خشيت أن يتولاها السأم والضجر حتى لو استمعت إلى بوسويه آخر (أسقف وخطيب واعظ في القرن السابع عشر). ولكن الخطابة ستعود مع قيام الثورة. وكانت كتابة "المذكرات" لا تزال سائدة، لأنها باعتبارها رسائل إلى الأعقاب والأجيال القادمة. احتفظت بشيء من سحر المكاتبات وفتنتها. وفي نهاية الحقبة، وفي 1755 وصلت إلى المطبعة مذكرات البارونة مدام دي ستال لوني قد فارقت الحياة 1750، وقد أعادت هذه المذكرات إلى الأذهان ذكريات عهد الوصاية وأمسيات دي سكو. وهنا كما يقول جريم، كانت سيدة نافست فولتير نفسه بامتيازها وبراعتها في النثر (2).(36/125)
2 - المسرح
تفوقت المسارح على الصالونات من حيث المكانة التي احتلتها في باريس، وما حظيت به من حب وإقبال بين الباريسيين. ويقول فولتير لمارمونتيل: "إن المسرح أعظم مهنة سحراً وفتنة، ففيه يكسب المرء بين عشية وضحاها جاهاً ومالاً، وإن رواية واحدة تأتي لصاحبها بالثروة والشهرة" (3). وكانت هناك في الأقاليم مسارح لا بأس بها، وكان ثمة تمثيل مسرحي خاص في بيوت الأغنياء، بعض المسرحيات أمام الملك والحاشية في فرساي. ولكن التحمس للروايات في باريس بلغ حد الجنون والحمى والجدل والشجار أو الابتهاج والسرور. واحتفظت "الكوميدي فرنسيز" في "المسرح الفرنسي" بأعلى الدرجات في الموضوع والأداء، ولكن الجماهير الغفيرة كانت تقصد إلى "مسرح الإيطاليين" ومسرح "الأوبراكوميك".
وتألفت كل هذه المسارح، ودار الأوبرا في "الباليه رويال" من قطاعات فسيحة بها عدة صفوف من المقصورات والمقاعد للقلة التي يفوح منها شذا العطر، أما جمهور المشاهدين الأقل تبرجاً وثراء فكانوا يقفون تحت الشرفات الداخلية، (على الأرض) التي نسميها خطأ. "الأوركسترا" ولم توضع فيها مقاعد حتى جاءت الثورة. وكان نحو 150 من المتحمسين المتأنقين الذين يدفعون أجراً أكبر، ويجلسون على خشبة المسرح، يحيطون بالممثلين من ثلاثة جوانب. وقد استنكر فولتير هذه العادة، لأن هذا كان يعوق الممثلين ويفسد المنظر. "لما كانت معظم رواياتنا لا تعدو أن تكون حواراً طويلاً، فإن التمثيل المسرحي لا يكون له وجود، أو إذ وجد بداً سخيفاً (4) وتساءل كيف يتسنى لممثل مسرحي أن يمثل على مثل هذا المسرح مشهد بروتس ثم أنطوني وهما يخطبان في أهل روما بعد قتل قيصر؟ وكيف يمكن "للروح" المسكين في هملت أن يسترق النظر من خلال هذه الهياكل العظيمة المتمتعة بامتياز الجلوس على خشبة المسرح؟ إنه ليكاد يكون من المتعذر تمثيل أي من روايات شكسبير في مثل هذه الظروف (5) وكان لاعتراضات فولتير القوية، التي أيده فيها ديدرو وغيره، أثرها فما وافى عام 1759 حتى كانت خشبة المسرح في فرنسا قد أخليت من المتفرجين.(36/126)
ولقي فولتير نجاحاً أقل في حملاته لتحسين الوضع الديني للممثلين. وكانت مكانتهم الاجتماعية قد تحسنت، فكانوا يترددون على دور الأرستقراطية، وفي كثير من الحيان كانوا يمثلون بناء على طلب الملك. ولكن الكنيسة استمرت في اتهامها للمسرح بأنه مدرسة للفساد والفضائح والعمال المخزية، وذهبت إلى أن كل الممثلين بطبيعة الحال محرومون من الكنيسة، وحرمت دفنهم في الأرض المخصصة للمؤمنين-وهي تشمل كل المقابر في باريس وأشار فولتير إلى هذا التناقض:
إن الممثلين يتقاضون أجوراً من الملك، في الوقت الذي تحرمهم فيه الكنيسة. ويصدر إليهم أمر الملك بالتمثيل كل مساء، بينما تحظر عليهم الديانة أن يمثلوا إطلاقاً، وإذا امتنعوا عن التمثيل زج بهم في السجن (كما حدث عندما أضرب ممثلو جلالته عن العمل) فإذا مثلوا ألقي بهم (عند موتهم) في البالوعات. إننا نبتهج ونسر بهم، ونعترض على دفنهم معنا، ونرحب بهم على موائدنا بينما نغلق أبواب مقابرنا دونهم (6).
وكانت أدريين ليكوفرير أعظم الممثلات الفرنسيات في زمانها مثلاً واضحاً لهذه المتناقضات في حياتها ومماتها. إنها ولدت في 1692 قرب ريمس وجاءت إلى باريس في العاشرة من عمرها، وأقامت قرب "المسرح الفرنسي" وكثيراً ما شقت طريقها إليه، ثم قلدت في البيت الممثلات اللاتي أعجبت بهن وهي واقفة على أرض المسرح تحت الشرفات. وفي سن الرابعة عشرة نظمت فرقة من الهواة قاموا بالتمثيل على مسارح خاصة. وأعطاها الممثل "لي جراند" دروساً، وهيأ لها مكاناً في فرقة تمثل في ستراسبورج. وقامت بالتمثيل في الأقاليم لعدة سنوات، كما فعل موليير، وانتقلت من دور إلى دور، ومن قصة غرام إلى أخرى دون ريب. وهفت نفسها إلى الحب، فلم تصادف إلا الداعرين الفجرة، وتركها اثنان منهما على التعاقب حاملاً، ورفضا الزواج منها. وفي سن(36/127)
الثامنة عشرة وضعت بنتاً. وفي الرابعة والعشرين وضعت بنتاً أخرى. وفي 1715 عادت إلى باريس، والتقى بها هناك فولتير الشاب، وكان لها لبعض الوقت أكثر من صديق (7). وفي 1717 أصبحت السيدة الأولى في "المسرح الفرنسي" الذي كان مأواها ومبعث إلهامها في شبابها.
ولم تكن مثل معظم الممثلات الشهيرات بارعة الجمال، بل كانت بدينة، وكانت قسمات وجهها غير متناسقة، ولكنها تميزت برقة تفوق الوصف في جلستها ووقفتها وحركتها وعاداتها، وموسيقى مغرية في صوتها، وبريق من الشرر والاحساس في عينيها السمراوين، وتعبير متحرك كريم في وجهها. وكان كل تصرف منها يعبر عن شخصيتها. ورفضت أن تتبع الأسلوب الخطابي الذي كان قد أصبح تقليداً سائداً في التمثيل في فرنسا في المسرح الطويل المستطيل الشكل في المسارح القديمة. وعقدت العزم على أن تمثل دورها وتنطلق بعباراتها على خشبة المسرح كما تتحدث في الحياة الواقعية، اللهم إلا في إخراج الحروف من مخارجها والإبانة في اللفظ، ورفع درجة الصوت، مما هو لنقل كلماتها إلى أبعد مكان يوجد فيه الجمهور. إنها في فترة عملها القصيرة حققت ثورة أو انقلاباً في فن التمثيل المسرحي. وتحقق هذا أيضاً في عمق شعورها، وقدرتها على نقل انفعالات الحب أو رقته، وكل العطف أو الرعب في أي مشهد مأساوي. وتفوقت في الفن الشاق، فن الإصغاء المعبر اليقظ حين يتكلم الآخرون.
وامتدحها الشيب، أما الشبان فقد وقعوا في غرامها. وهام بحبها الشاب شارل أوجسطين دي قريول كونت أرجنتال الذي كان مقدراً أن يصبح "ممولاً ومدعماً بنقوده" لفولتير ووكيلاً له، وجزعت والدة شارل لهذا خشية أن يعرض على أدريين الزواج فتقبل، فأقسمت الأم أن تبعث بولدها إلى المستعمرات، وعندما سمعت الممثلة بهذا أرسلت إلى مدام دي قريول (22 مارس 1721) وتؤكد لها أنها لن تشجع الشاب على الاتصال بها أو تبادل الرسائل معها: "سأكتب إليه بأي شيء يرضيك. ولن أراه بعد الآن إذا كنت ترغبين في ذلك. ولكن لا تهدديه بإرساله(36/128)
إلى أقصى الأرض. وسيعمل كل ما يبعث في قلبك الرضا والارتياح، ويضفي عليك الشهرة والمجد، وما عليك إلا أن توجهي مواهبه وقدراته وتنمي فضائله لتؤتى ثمارها (8).
وكانت آدريين على حق، فإن دارجنتال فاز بعضوية برلمان باريس، وفي سن الخامسة والثمانين، حين كان يقلب النظر في الأوراق التي تركتها والدته، عثر على هذه الرسالة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً من قبل.
واستمتعت آدريين بدورها بنشوة الحب كما عانت من الهجران والصدود. وكان الأمير الشاب موريس السكسوني كثيراً ما يتردد على المسرح الذي تعمل فيه، ولم يكن بعد قد انفتحت أوداجه زهواً بانتصاراته، ولكنه كان وسيماً عاطفياً خيالياً حتى أنه عندما أقسم على الإخلاص والولاء لها مدى حياته ظنته فارس أحلامها الذي طال انتظارها له، وإذا وصل الأمر بالرجال إلى وعد بالإخلاص مدى الحياة، فإنهم يحيون ويموتون عدة مرات مثل القطط (بسبع أرواح). ورضيت به عشيقاً (1721)، وعاشا لفترة من الزمن يرشقان كؤوس المحبة والإخلاص إلى حد أن باريس قارنتهما بقمريات لافونتين الحبيبات. ولكن الجندي الشاب الذي أصبح لتوه "قائد معسكر" راوده الحلم بأن يكون ملكاً، وقد رأيناه يسارع إلى كورلند (جزء من تلقيا الحالية) طمعاً في الحصول على التاج فيها، وكان نصف الأموال التي حملها معه من مدخرات آدريين.
فتسلت عن فراقه بتأسيس "صالون" في بيتها. ولم يكن غير ذي عائد فكري لها إنها كانت قد تعلمت رشاقة راسين وأفكار موليير، حتى أصبحت من خيرة سيدات فرنسا ثقافة وعلماً، ولم يكن أصدقاؤها من المعجبين العابرين، ولكنهم رجال ونساء أحبوا عقلها. فقصد فونتيل وفولتير ودارجنتال والكونت دي كايلوس بانتظام إلى دارها لتناول العشاء، ووجد بعض السيدات الأنيقات من ذوات الألقاب والأحساب متعة في الانضمام إلى هذه الجماعة المتألقة.
وفي 1728 عاد الجندي الذي لم يواته الحظ ولم يتحقق أمله إلى باريس.(36/129)
وكان البعاد قد خفف من لوعة حبه. وتبين أن آدريين كانت تكبره آنذاك بأربعة أعوام حيث كانت في السادسة والثلاثين وعرض كثير من السيدات الثريات أن يشاركنه مضجعه، وكان الدم الملكي يجري في عروق إحداهن مثله تقريباً، وهي لويز دي لورين دوقة بويون حفيدة بطل بولندة النبيل جان سوبيسكي، وكانت تختال في جرأة أمام موريس في مقصورتها في المسرح الفرنسي، إلى حد أن آدريين ولت وجهها شطر هذه المقصورة، حين كانت تلقي في شيء من التوكيد بعض أبيات غاضبة من رواية راسين " Phedre" " لست واحدة من هؤلاء السيدات الوقحات اللائي تعلمن، وهن يلقين ظلالاً من الجريمة على مظهر الوئام الهادئ الوادع، إن يكن صفيقات إلى حد لا يستشعرن معه الخجل من سوء تصرفهن" (9).
وفي يولية 1729 أبلغ سيمون بوريه، القسيس رسام المنمنمات الآنسة ليكفرير أن رسولين مقنعين من إحدى سيدات البلاط عرضا عليه أن يعطي الممثلة بعض أقراص السم لقاء 6600 جنيه إذا قام بالمهمة. فأخطرت آدريين الشرطة بذلك. فقبضوا على القسيس وأجروا معه تحقيقاً دقيقاً. ولكنه صمم على أقواله. وكتبت آدريين إلى مدير الشرطة رسالة رائعة تطلب منه إطلاق سراح القسيس: "إني تحدثت إليه، وجعلته يتحدث إليّ كثيراً لوقت طويل، وأجاب دائماً إجابات محكمة ذكية، ليس لأني أرغب في أن يكون ما قال صحيحاً. فإن لدي مزيداً من الأسباب التي تحملني على أن أتمنى أن يكون مخبولاً. آه: أليس إلى الله وحده أتوسل ان يغفر له؟ ولكن إذا كان بريئاً فأرجو أن نفكر يا سيدي إلى أي حد يجدر بي أن أهتم بمصيره. لا تلق بالاً إلى مهنتي أو مولدي وأصلي، ولكن حاول متفضلاً أن تستشف حقيقة نفسي التي بين جنبي، وكم هي صادقة مخلصة، وقد كشفت لك عن سريرتها. بجلاء ووضوح في كتابي هذا (10).
وأصر الدوق دي بويون على أية حال، على احتجاز القسيس، ثم أفرج عنه بعد بضعة شهور، وظل مصراً على أقواله. ولسنا ندري حتى يومنا هذا مبلغ صدق روايته.(36/130)
وفي فبراير 1730 بدأت الآنسة ليكوفريير تعاني من إسهال يزداد سوء يوماً بعد يوم. وظلت تمثل أدوارها على المسرح، ولكن في أوائل مارس حملوها من المسرح مغمى عليها. وفي 15 مارس مثلت، وهي تلتقط آخر أنفاسها "جوكاست" في رواية فولتير "أوديت" وفي يوم 17 مارس لزمت الفراش، وصارت تنزف نزيفاً مميتاً من أمعائها، ولم يعد الماريشال يزورها، ولكن فولتير ودارجنتال فقط هما اللذان سهرا على العناية بها في هذه الخاتمة الفاجعة المذلة، وفاضت روحها في 20 مارس بين ذراعي فولتير.
وحيث كانت آدريين قد رفضت الشعائر الأخيرة للكنيسة (11). فإن القانون الكنسي حرم دفنها في الأرض المخصصة للمؤمنين، واستأجر أحد الأصدقاء اثنين من حملة المشاعل ليحملا جثمانها في عربة أجرة لدفنه سراً على ضفاف السين، فيما أصبح فيما بعد شارع بورجون. (في نفس العام 1730 دفنت الممثلة الإنجليزية آن أولدفيلد باحتفال عام في كنيسة وستمنستر.) وفي 1730 نظم فولتير قصيدة (موت الآنسة ليكوفرير يستنكر فيها المعاملة المهينة في دفنها بهذه الطريقة: "تأثرت كل القلوب، مثل قلبي، بالأسى والفجيعة. وإني لأسمع كل الفنون الذاهلة تولول من حولي، وهي تذرف الدمع. أن ملبومين (ربة المأساة) قضت نحبها، ماذا عساكم تقولون أيها الأعقاب رجال الغد إذا علمتم بهذا الأذى الأليم المدمر الذي ألحقه أناس قساة بلا قلوب بهذه البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها؟ لقد حرموا من الدفن من إذا كانت في اليونان القديمة لأقاموا لها مذبحاً في الهيكل. لقد رأيتم يقدسونها ويزدحمون حولها. إنها لا تكاد تموت متى تصبح محرمة، لقد سحرت ألباب العالم، ثم ها أنتم تعاقبونها، كلا، لن تكون هذه الضفاف بعد الآن دنسة، إنها تضم رفاتك، وستكون هذه المقبرة الحزينة معبداً جديدا لنا، نمجده في ترانيمنا، وتضفي عليه ظلالك قدسية".(36/131)
وكان أعظم كاتب مسرحي في ذاك العصر، بطبيعة الحال، فولتير. وكان له منافسون كثيرون، من بينهم بروسبو جولتون دي كربيون، وهو معمر عجوز كان ينبغي له أن يفارق الحياة منذ أمد طويل. وكان كربيون قد أنتج فيما بين عامي 1705 و1711 روايات ناجحة ثم اقتنع بالفشل المحتوم لروايته "اجزرسيس" 1714، وهنا كانت نهايته، وكان قد انقطع عن التأليف، وبات يعاني الفقر، ويجد بعض السلوى في مسكن على السطح مع مجموعة لطيفة من عشر كلاب وخمسة عشر قطاً وبعض الغرابيب السود. وفي 1745 أنقذته مدام دي بمبادور بمعاش ووظيفة عاطلة (يقبض راتباً ولا يؤدي عملاً)، واتخذت التدابير الطبع مجموعة أعماله في مطبعة الحكومة. وقصد إلى فرساي ليقدم لها الشكر. ولما كانت هي مريضة، فقد استقبلته وهي ملازمة الفراش، فلما انحنى ليقبل يدها دخل لويس الخامس عشر، فصاح ابن السبعين "مولاتي، لقد وقعت الكارثة، إن الملك فاجأنا معاً" (12). وسر الملك بومضة الذكاء وسرعة البديهة وانضم إلى بمبادور في حثه على إكمال روايته "كاتيلين وكان قد أهملها وشهدتها مدام بمبادور والحاشية، ونال العرض الأول الاستحسان (1748). واهتز كربيون طرباً من جديد لما أصاب من شهرة ومال. وفي 1745 وهو في الثمانين أخرج آخر رواياته. وعمر بعد ذلك ثمان سنين، سعيداً بحيواناته.
ولم يطب فولتير نفساً بظهور منافس له من بين القبور، ولكن كان عليه أيضاً أن يواجه في الملهاة منافسه ماريفو المتعدد الجوانب الشديد الانفعال إن بيير كارل دي شمبلين دي ماريفو أصبح هجاءً حين رأى بمحض الصدفة، حبيبته ذات السبعة عشر ربيعاً تطبق عملياً مفاتنها المغرية أمام المرآة. ودق قلبه مؤقتاً فقط، لأن والده كان المدير الثري لدار سك النقود في ريوم، وكم من شابه أو غادة تاقت نفسها لتكون زوجة بيير. وتزوج من أجل الحب، وأدهش باريس حين عاش حياة جنسية طابعها الرصانة والاعتدال. وانضم إلى صالون مدام دي تنسان، وربما تعلم فيه الدعابة المرحة، والعبارة الرشيقة الإحساس الرقيق، وانتقل كل أولئك إلى رواياته، وتميزت به مسرحياته.(36/132)
وأول نجاح أصابه ماريفو هو رواية "آرليكان يصقله الحب" التي عرضت لمدة أثنتا عشرة ليلة متوالية على "مسرح الإيطاليين" 1720. وبقدر ما كان يحصل عليه من أجور، فقد معظم أمواله عند انهيار بنك لو. ويروي إنه استرد ثروته بقلمه (13)، حيث كتب سلسلة من رواياته الملهاة (الكوميديا) أمتعت باريس بمرحها اللطيف وحبكتها البارعة، وأشهرها "لعبة الحب والحظ". وقد هاجمت اعتزام زوجين (أربعة أشخاص، رجلان وامرأتان) اعتزاماً متزامناً، ولكن غير متفق عليه، أن يختبرا إخلاص الخطيب الذي لم تقع عليه العين بعد، عن طريق تبادل الزي والشكل بين سيد وخادم وسيدة وخادمة، في سلسلة من المصادفات السخيفة المضحكة، مثل منديل ديزدمونة (في رواية عطيل). وسر نساء باريس أكثر مما سر رجالها بالمآزق التي يتورط فيها الحب في هذه الرواية وبما فيها من عاطفة رقيقة. وهنا أيضاً كما هو الحال في قصر فرساي، وفي الصالونات، وعند واتو وبوشيه، تحكمت المرأة، وكان لها القول الفصل، وحل تحليل المشاعر محل مشاكل السياسة وبطولات الحرب، وتخلت الملهاة الرجولية عند مولبير عن مكانها أمام الملهاة الأنثوية التي سيطرت على المسرح الفرنسي (معترضة الطريق) إلى أيام سكرايب وديماس الابن وساردو.
3 - القصة الفرنسية
إن ماريفو هذا هو نفسه الذي أضفى على القصة في فرنسا شكلاً جديداً. وفي 1731 أصدر الجزء الأول من "حياة ماريان". وتقبلها القراء قبولاً حسناً. واستمر يقدم أجزاء أخرى عام 1741، حتى بلغت أحد عشر جزءاً، ولم يكملها (ولو أنه عمر حتى عام 1763)، لأن هدفه لم يكن أن يقص حكاية بقدر ما كان أن يحلل شخصية، وبالذات شخصية المرأة، وبصفة خاصة في الحب. ولم يكن ثمة شيء رائع أخاذ أكثر من المشهد الافتتاحي، عصابة من اللصوص تسطو على مركبة للبريد والمسافرين، وتقتل كل من فيها، باستثناء ماريان التي عاشت لتقص القصة في شيخوختها.(36/133)
وتحتفظ البطلة والمفروض أنها مؤلفة القصة، بعدم ذكر اسمها، وهذا عمل كيدي، إلى النهاية. وتحمل المخطوطة إلى صديق لها مع تحذيره "لا تنس أنك وعدتني ألا تبوح باسمي أبداً" أنا أود ألا يعرفني أحد إلا أنت" (14).
ولما كان أبوها من بين الضحايا، فقد تولى تربيتها رجل برجوازي محسن كريم، حتى أصبحت بائعة في محل لبيع ملابس النساء. وازدادت فتنة وجمالاً إلى حد أثار مسيو دي كليمال. وصار يقدم لها هدايا صغيرة ثم هدايا ثمينة، وأخيراً طلب يدها جزاء ما قدم. ولكنها رفضته، وأعادت إليه هداياه بعد ترددات يصفها ماريفو في ذكاء لطيف. وكان جديراً بنا أن نقول إنها في نفس الوقت كانت قد التقت بابن أخي كليمال، وهو مسيو دي فالفيل، الذي كان أقل من عمه مالاً وأصغر منه سناً. ومهما يكن من أمر فإن فالفيل يترك ماريان معلقة، لما يقرب من ألف صفحة، وينصرف إلى سيدة أخرى. وهنا ختام قصة ماريفو.
تلك هي القصة النفيسة في فرنسا القرن الثامن عشر، التي لم تنافسها إلا قصة "اتصالات خطيرة" التي كتبها كودرلوس دي لاكلوس (1782). إنها أعادت إلى الأذهان قصة مدام دي لاقاييت "الأميرة دي كليف (1678)، ولو إنها تكاد لا تعادلها في رقة الشعور وجمال الأسلوب، ولكن بزتها في تحليل الدافع والعاطفة، وهنا نجد امرأة، مثل باميلا عند ريتشاردسن، تحتفظ بشرفها لأهميته في سوق الزواج، إنها تدرك أنه ليس لدى المرأة إلا قيمة هزلية فانية، لتقدمها تأييداً لأحادية الزواج للرجل الذي يتجه إلى تعدد الزوجات. وتلك صورة أكثر تهذيباً من الصورة التي أخرجها ريتشاردسن، الذي بدأ قصة باميلا بعد تسع سنين من ماريان وربما تأثر بها. وفي مقابل ذلك نجد أن قصة ريتشاردسن "كلاريسا (1747) " ساعدت روسو في "هلواز الجديدة".
وعكس ماريفو خلق الطبقة المتوسطة القوي الحذر، على حين أولع كربيون الابن بفسق الأرستقراطية وفجورها الطائش. وكانوا يطلقون(36/134)
عليه "كربيون المرح" تمييزاً له عن أبيه "كربيون المكتئب" (الذي قال عن ابنه إنه أسوأ إنتاجه الكبير). نشأ كلود بروسبر جولبوت دي كربيون في باريس في عصر الوصاية الذي رجحت أخلاقه التعليم الجزويتي الذي تلقاه كلود، ولعدة سنين شارك أباه سكنه فوق السطح وغربانه وكلابه وقططه. وفي 1734 وهو في سن السابعة والعشرين اشتهرت قصته "المنزلق على السطح". ومن الجائز أن يكون هذا لقب كل أبطاله وعنوان كل كتبه، لأن الحب فيها-كما قال شامفورت-هو مجرد "ملامسة سطحين" (15). ووقعت أحداث القصة في اليابان، ولكنها كانت نقداً لاذعاً أو هجاءً صريحاً للكنيسة والدولة في فرنسا، وللدوقة دي مين الصغيرة (الفتاة الجميلة)، إلى حد أن الكاردينال فليري أبعد الكاتب-كلود كربيون-عن باريس لمدة خمس سنوات.
ولما عاد المؤلف أصدر في 1740 أسوأ رواياته سمعة "الأريكة"، وقد أبعد من أجلها ولكن لمدة أقصر. ووقعت الأحداث في "أجرا" ولكن الأخلاقيات كانت باريسية. إن السلطان تولاه الضجر والسأم، ويريد قصصاً يسري عنه. ويتفضل رجل الحاشية الشاب أمانزي، فيرى كيف أنه تجسد فيما مضى من الزمان على هيئة أريكة، ويعود بذاكرته إلى بعض الخطايا التي ابتلى بها زنيرك الأريكة. وتعاقبت أحداث الزنى في تفصيل متزايد. ووجد كربيون متعة بالغة في قصته ( Almohid and Mochles) وهما بعد أن أطنيا في التفاخر بعفتهما وطهارتهما، يعترفان بأن أفكارهما غير عفيفة مثل سلوك سائر البشر، ويخلصان إلى أنه لا يمكن أن يكون في الفعل إثم أكبر منه في التفكير، ومن ثم فانهما يوائمان بين الفعل والقول. وتلك، على أية حال، استثنائية. فان نساء كربيون يتطلبون عادة جزاء (عملاً) مالياً عن أقوالهن، ومن ثم أحصت "أميناً" بعناية ما حصلت عليه من مال، ولم تستجب لرغبة حبيبتها إلا بعد أن تأكدت كل التأكد إنه لم يخطئ في العملية الحسابية. (11)
ولقي الكاتب ما كان مقدراً له من نجاح. ووجد قراء في عدة لغات(36/135)
أسرفت كلها في تصرفات شاذة. واعترف لورنس ستيرن بأنه تأثر بقصص كربيون. وفضلها هوراس وولبول على قصص فليدنج. وكان مفهوم الرجل الفاضل العفيف توماس جراي عن الجنة والنعيم "أن يقرأ إلى الأبد قصصاً جديدة من تأليف ماتريفو وكربيون" (17). وجاءت من إنجلترا على عجل السيدة هنريتا ستافورد، وأصبحت خليلة كربيون، وأم ولده، ثم زوجته ويروون أنه جعل من نفسه زوجاً مثالياً لها (18). وفي 1752 انضم إلى الكسيس بيرون زشارل كوللي في تأسيس "الكاف-الكهف، وهو ناد للموهوبين المرحين الذين اشتهروا بالبعد في الوقار والمزاح. وفي 1759 عين "بدليل الخلف" رقيباً ملكياً على الأدب. ولما توفي والده في 1762، بعد أن أبطأ به الموت إلى حد مثير، ورث ابنه معاشه. "والأمور بخواتيمها".
وفقدت كتب كربيون شعبيتها قبل وفاته بزمن طويل. ولكن في الوقت نفسه كان أحد رجال الدين العلماء المثقفين قد كتب قصة لا تزال حية مؤثرة إلى يومنا هذا. وكانت حياة أنطوان فرنسوا بريفوست دي أجزيل، المعروف باسم الراهب بريفوست، متعددة الألوان مرهقة مثل سير الحياة التي أبدعها قلمه. إنه ولد في أرتوا في 1697، وتعلم في مدارس اليسوعيين، ثم أصبح راهباً مبتدئاً في طائفة اليسوعيين (1713)، وتركهم ليلتحق بالجيش، وارتقى إلى رتبة ضابط، ووقع في شراك الحب، وخاب فيه أمله وتحطم قلبه، وأصبح راهباً بندكتياً (1719)، ثم قسيساً 1726، وقد بعث على الدهشة والعجب أن نقول إنه منذ ذلك الوقت اعتمد في حياته كل الاعتماد على قلمه.
وكان بريفوست، حتى قبل أن يهجر حياة الدير، قد كتب قصة رومانسية "مذكرات ومغامرات رجل ذي حيثية"، نشرت الأجزاء الأربعة الأولى منها 1728 في باريس، وبعد عام قضاه في إنجلترا قصد إلى هولندة، وفي 1730 بدأ ينشر قصة ثانية "الفيلسوف الإنجليزي، أو تاريخ مستر كليفلند، الابن الطبيعي لكروامول "وهي من أوائل القصص التاريخية،(36/136)
وكتبها في ثمانية مجلدات في السنوات التسع التالية. وفي 1731 نشر المجلدات الخامس والسادس والسابع من "المذكرات" سالفة الذكر ونشر المجلد السابع على حدة في باريس 1731 تحت اسم "مغامرات الفارس دي جرييه ودي مانون ليسكو" (تأليف مسيود). وحظرت الحكومة الفرنسية تداوله، ومن ثم أقبل عليه الناس إقبالاً شديداً متزايداً. ويقال "إنه في باريس لقي رواجاً كبيراً، وتهافت الناس عليه كما يندفعون إلى النار" (19)
وقصة مأنون موضوعة في قالب قبيح غير مصقول من التظاهر والإدعاء، فثمة اثنتا عشرة بغياً في مركبة في طريقهن إلى ميناء الهافر لترحيلهن إلى أمريكا. والمركيز-الرجل ذو الحيثية المجهول، والمفروض أنه يدون المجلدات السبع من المذكرات، يأسر قلبه جمال إحدى الفتيات التي وصف وجهها فيما بعد "بأنه يمكن أن يعيد العالم إلى الوثنية" (20). ويرى كذلك فارس دي جرييه البائس الوحيد الذوق يحدق النظر باكياً في خليلته السابقة، مانون، ويستبد به الحزن والأسى لأنه مفلس ولا يستطيع أن يتبعها إلى منفاها، وتتحرك مشاعر المركيز ويتأثر تأثراً مزدوجاً فيعطي دي جرييه أربعة جنيهات ذهباً؛ مكنت الفارس من مصاحبة مانون إلى لويزيلنا. ويراه المركيز في كاليه بعد ذلك بعامين، ويأخذه إلى داره. أما بقية المجلد الصغير فهي رواية دي جرييه لقصة حبه.
وكان شاباً نموذجياً كريم المحتد، مبرزاً في كل شيء في الكلية في اميان، وكان في عزم أبويه أن يلحقاه بطائفة الفرسان في مالطة. وفي غمرة آمالهم العريضة "جعلاني أضع الصليب" (21). ولكن مانون مرت أمامي ودخلت حياتي، وتغير كل شيء. وكانت آنذاك في الخامسة عشرة وهو في السابعة عشرة، "ولم تكن قد تنبهت بعد إلى الفرق بين الجنسين". وعجل وهو هذا التطور المكبوت على الفرار. وتبلغه مانون أنها أرسلت إلى اميان ضد رغبتها لتندمج في سلك الراهبات، فيعرض عليها أن يخلصها من هذا، ويهربان إلى باريس، وبدا أن إعجابهما المتبادل كان عقداً وميثاقاً كافياً"، وتحللنا من مراسم الكنيسة، ووجدنا أننا أصبحنا رجلاً(36/137)
وزوجة، دون أن نفكر في هذا أو نتنبه له، ويكشف أخوه أمره ويقبض عليه ويعيده إلى والده الذي يخبره بأن مانون أصبحت بالفعل خليلة للسيد "ب" أحد رجال المصارف. ويرى دي جرييه أن يذهب ليقتل السيد "ب" فيحبس الوالد ابنه، ويأتي أحد الأصدقاء تيبرج، ويؤكد الزعم بأن مانون خليلة السيد "ب" ويحث دي جورييه على الانتظام في سلك الكهنوت، ويلتحق الشاب بمعهد سان سلبيس اللاهوتي، ويصبح راهباً. "وظننت أني تطهرت تماماً من دنس الحب، ويذهب بعد عامين لحضور امتحان عام ومناظرة في السوربون، فيفاجأ بمانون بين الحاضرين، وتشق عي طريقها إليه، وتعترف بخيانتها، ولكنها تقسم إنها لم تقترف الخطيئة مع السيد "ب" إلا لتوفر المال لدي جرييه. ويهربان من جديد.
ويتخذ الحبيبان مسكناً في ضاحية شبو، ويعيشان حياة باذخة على مبلغ الستين ألف فرنك الذي حصلت عليه مانون من السيد "ب". ويأمل دي جرييه بعد فصله من سلك الرهبنة وعودته إلى الفروسية، أن يحصل من أبيه على الصفح والمال أو أن يرث مال أبيه بعد موته. ويسطو عليهما أحد اللصوص فيسلبهما مالهما. ويجدان أنهما أصبحا معدمين بين عشية وضحاها. وأدركت آنذاك أن الإنسان قد يحب المال دون أن يكون بخيلاً .. لقد عرفت مانون .... ومهما كانت مخلصة وفية مغرمة بي في وقت الرخاء، فلا يمكن الاعتماد عليها في وقت الشدة. إنها اهتمت كثيراً بالمتعة والثروة لتضحي بهما من أجلي" (22). وهو يحبها أكثر من حبه للشرف. ويسمح لاخوتها أن يعلموه الغش في لعب الورق فيكسب بعض المال، ولكنه يتعرض للسرقة مرة أخرى. وتهجره مانون إلى رجل فاجر عجوز ثري، وتركت له رسالة تقول فيها "إني أعمل لأجعل فارس غنياً سعيداً". وينضم إليها في مؤامرة لابتزاز المال من هذا الرجل العجوز، وينجحان ويختفيان ثم يقبض عليها، وتوضع هي في الملجأ العام باعتبارها بغياً، ويرسل هو إلى الدير. ولكنه يهرب منه بإطلاق النار على حارس البوابة: ويقترض نقوداً ويرشو القائمين على الأمر في الملجأ ليسهلوا لمانون سبيل الهرب، وتقطع على نفسها عهداً بحبه إلى الأبد.(36/138)
ولما نفد رصيدهما من المال، أجازت لوريث غني أن يتخذها خليلة، ويقبض عليها ثانية، ويقنع والد جرييه السلطات الرسمية بترحيلهما ويحاول دي جرييه إنقاذهما في الطريق، فلما عجز عن ذلك أبحر معها إلى نيو أورليانز، وهناك تعلمت أن تحتمل مرارة الفقر، وأن تكون مخلصة كل الإخلاص لدي جرييه، ويعودان إلى ممارسة الشعائر الدينية، ولكن ابن حاكم المستعمرة يهيم بحبها. ولما كان مانون ودي جرييه قد أهملا أن يعقدا عقداً شرعياً بالزواج، فإن الحاكم مارس حقه في أن يزوجها من أي فرد في المستعمرة، ومن ثم أمرها أن تقبل ابنه زوجاً لها. وأردى دي جرييه لابن قتيلاً في مبارزة، ويهرب الحبيبان إلى الفيافي والقفار سيراً على الأقدام. وبعد مسيرة عدة أميال مرهقة، تسقط مغشياً عليها وتفارق الحياة، "وقضيت يومين وليلتين لا تفارق شفتاي وجه عزيزتي مانون ويديها". وحفر بيديه جدثاً لها ويواريها التراب، ويرقد على القبر ليقضي نحبه هو الآخر. ولكن صديقه الطيب تيبرج، الذي قدم في نفس الوقت من فرنسا، يعثر عليه، ويصحبه ثانية إلى كاليه، إلى المركيز ليروي حكايته.
وأصبحت "مانون ليسكو" معيناً لا ينضب لقصص حب مبللة بالدموع. فإن أية امرأة، ولو لم تكن "محطمة القلب" تذرف الدمع على موت مانون وحزن دي جرييه، مغتفرة لها حيلها المالية، وله جرائمه الخسيسة. وضرب بريفوست على نغمة جديدة حين نسب إلى بطله وبطلته أخطاءً كثيرة إلى هذا الحد، وجعلها أخطاء حقيقية، حين كشف عن حب مانون الطاغي للذة والمتعة، وقدرة حبيبها على التطفل والغش والسرقة والقتل. وهي طراز عتيق للبطلة، وهو بالتأكيد مثال جديد للبطل. وربما بلغ الكتاب قدراً أكبر من القوة لو أن دي جرييه ترك ليموت على قبر مانون.
وربما روى بريفوست القصة بمثل هذا الإحساس والعاطفة لأنه هو نفسه كان لديه الحماسة والغيرة اللتان تجلتا في دي جرييه. ومن ثم كانت(36/139)
القصة سيرة حياته قبل أن تكون حادثاً. ولم يكن تافهاً متطفلاً، ترجم إلى الفرنسية روايات ريتشاردسن الثلاث الضخمة، وزادت تلك الترجمات من تهافت فرنسا على ريتشاردسن، وهو تهافت كان له مظهر مختلف عند روسو وديدرو. وترجم كتاب مدلتون "حياة شيشرون"، وكتاب هيوم "تاريخ إنجلترا"، وكتب عدة قصص أقل شأناً، وعدة مجلدات عن "التاريخ العام للرحلات". وفي أمستردام في 1733، وقع في غرام عشيقة رجل آخر. ولما نمى إليه أن البندكتيين استصدروا أمراً بسجنه، هرب إلى إنجلترا مصطحباً هذه السيدة معه. وفي لندن كسب عيشه بإعطاء دروس خاصة. وفي 15 ديسمبر قبض عليه بتهمة قدمها ضده أحد تلاميذه بأنه زيف ورق نقدية من ذات الخمسين جنيهاً-وهي جريمة عقوبتها القانونية الإعدام. وسرعان ما أطلق سراحه لأسباب مجهولة. وعاد إلى فرنسا (1734) وانضم من جديد إلى طائفة البندكت. وفي 1753 عين في دير سان جورج-دي جين.
وأدى موته بعد عشر سنين من ذلك إلى أسطورة ترويها حفيدته بيف لسانت بيف وكأنهما حقيقة، تلك هي أنه أصيب بالسكتة أثناء سيره في غابات شانتيللي، وأن طبيباً ظن أنه مات فقام بتشريحه ليقف على سبب الوفاة، وأن بريفوست كان لا يزال حياً، ولكن فحص الجثة هو الذي أودى بحياته (23). هذه القصة مرفوضة اليوم بصفة عامة (24).
وكان تأثير بريفوست كبيراً. إنه أسهم في تشكيل رواية روسو "هلواز الجديدة"، وحرك ديدرو الحاد الذهن الرقيق القلب ليكتب مسرحيات باكية عاطفية. كما اتخذ هذا التأثير مثالياً في قصة "بول وفرجيني" للكاتب برناردين دي سانت بيير. وبرز التأثير من جديد في "غادة الكاميليا" لديماس الابن. ولعبت دوراً في الحركة الرومانسية، إلى أن قدم فلوبرت "مدام بوفاري" (1857). ولا تزال مانون تحيا وتموت في الأوبرا.(36/140)
4 - حكماء أقل شأناً
ونعود إلى الكلام عن راهب آخر، وينبغي علينا في هذه المرة أن نوفيه حقه. فقد رأينا كيف أن شارل ايريني كاستل راهب سان بيير، روع الدبلوماسيين في أوترخت بكتابه "مذكرة في حفظ السلام على الدوام". (1712). وهي التي أسرت لب روسو وكان كلاهما كما رأينا، بعرض على نادي "أنترسول" خليطاً من أفكار وإصلاحات تقدمية إلى حد أن الكاردينال فليري أحس بأنه مضطر إلى إغلاق النادي إنقاذاً للدولة (1731). فماذا كانت هذه الأفكار؟
إن شارل هذا، على غرار كثير من الثائرين المتمردين، قد اكتسب ذهنه حدة ومضاء بفضل التعليم اليسوعي. إنه لم يطل به الوقت ليطرح العقيدة السائدة جانباً، وعلى الرغم من إنه ظل يعلن اعتناقه الكثلكة، فإنه ألحق بها أذى ماكراً في "مقالة ضد الإسلام"، حيث أن ما أورد فيها من حجج-مثل فولتير في كتابه "محمد"-يمكن تطبيقه بسهولة على المسيحية التقليدية. وواضح أن "تفسيره المادي" للمعجزات المزعومة التي قال بها البروتستانت والمنشقون والمسلمون" قصد به المثل التشكك في المعجزات الكاثوليكية.
وفي 1717 ثم في 1729 أعاد نشر "مشروع السلام الدائم" بعد التوسع فيه. وناشد ملوك أوربا، ومن بينهم سلطان تركيا، أن يعقدوا ميثاقاً مقدساً يمكن أن يكفل بالتبادل ممتلكاتهم الحالية، وأن تنبذ الحرب وسيلة لتسوية الخلافات الدولية، وأن يخضع هذه الخلافات لاتحاد أوربي تكون له قوة فرض قبول القرارات التي يصدرها. وصاغ نموذجاً لدستور لهذا الاتحاد، مع القواعد التي يمكن اتباعها في إجراءات اجتماعات هذا الاتحاد. وحدد الأنصبة المالية التي تخصصها كل من الدول الأعضاء للاتحاد، ولم يكن أحد ليتوقع تنبؤه بأن مؤتمر فيينا 1715، سيشكل، على هذه الأسس "حلفاً مقدساً" للإبقاء دوماً على النظم الملكية والإقطاعية، وإخماد الحركات الثورية.(36/141)
ولم يكن ثمة صعوبات يمكن أن تزعزع ثقة الراهب المرن السريع التكيف، فأقر، في عبرة دينية الإيمان بالتقدم، وفي كتابه "ملاحظات على التقدم المستمر في العقل العالمي" (1737) أعلن، قبل كوندورسيه بزمن طويل، إمكان بلوغ الجنس البشري مرتبة الكمال غير المحدود بفضل قوة العقل في رجال العلم والحكومات. إنه فوق كل شيء قال وهو مستغرق في التفكير والتأمل، بأن الجنس البشري وفقاً لمراجع موثوقة، لا يزيد عمره على سبعة أو ثمانية آلاف سنة، ومن ثم فإنه لا يعدوا أن يكون في مرحلة "طفولة العقل"، فما الذي لا نتوقعه منه في شبابه النشيط بعد ستة آلاف سنة، وفي الازدهار الرائع في مرحلة نضج الجنس البشري بعد مائة ألف عام من الآن؟ (25).
إن سان بيير بمشكلتنا الحديثة: تلك هي أنه بينما خطت العلوم والمعرفة خطوات واسعة في طريق التقدم، لم يحدث في مجال الأخلاق أو السياسة تقدم متكافئ مع تلك الخطوات، إن المعرفة تزود الرذيلة بالوسائل والأدوات بقدر ما تهذب الأخلاق وتعمل على تنويرها. وكيف ننحو بنمو المعرفة نحو تقويم أخلاق الأفراد والأمم؟ وفي رسالته "مشروع لتحسين أوضاع حكومات الدول والبلوغ بها إلى درجة الكمال" (1737) اقترح سان بيير تأسيس "أكاديمية سياسية" تتألف من اعظم الرجال عقلاً وحكمة في البلاد، وتكون بمثابة هيئة استشارية للوزراء في الدولة في كل ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي والخلقي. وقدم عدة اقتراحات محددة: تعليم عام تحت إشراف الحكومة (لا الكنيسة)، تسامح ديني، زواج رجال الدين، توحيد القوانين الفرنسية، قيام الدولة برعاية الصالح العام والنظام الاجتماعي، وأخيراً زيادة الإيرادات القومية عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول والتركات (26). وفي 1725 أضاف الراهب إلى اللغة الفرنسية لفظة "الإحسان أو عمل الخير" ليميز الروح الإنسانية التي آثرها على الصدقات التي تقترن بفكرة التنازل والتلطف في النظام القديم. ووضع قبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل مبدأ المنفعة: ذلك "أن قيمة أي كتاب(36/142)
أو قاعدة أو نظام أو عمل تقاس بعدد وعظمة الملذات والمتع الفعلية التي تحققها، وما ينتظر أن تحققها في المستقبل، لأكبر عدد من الناس (27). وبدا معظم الأفكار الأساسية عند الفلاسفة استهلالاً أو مقدمة لسان بيير، بل للأمل في ملك مستنير، كعامل من عوامل الإصلاح. وكان سان بيير بكل بساطته وسذاجته وأطنابه، أحد الأذهان التي حملت بذور عصر الاستنارة.
ولا بد أن شارل بينو ديكلوس قد ازدرى الراهب سالف الذكر لأنه خيالي واهم لا يتفق مع ذهن واقعي. ولد في دينان بمقاطعة بريتاني، واحتفظ حتى النهاية بالشخصية الجادة الحذرة العنيدة التي تميز بها البريتون. وكان ابناً لوالد برجوازي ميسور ماتت في السنة الأولى بعد المائة، فاستطاع أن يقضي شبابه الطائش في باريس في عهد الوصاية. وتلقى تعليمه العالي عند اليسوعيين وبنات الهوى، وانغمس في حماقات الشباب أيما انغماس. وزاد من حدة ذكائه في المقاهي، ومكنت له شهرته بسرعة البديهية من ارتياد المجتمع والصالونات، وزاد من شهرته بقصة "تاريخ البارونة دي لوز" (1741) التي كادت أن تكون اتهاماً لله. إن البارونة تصد كل هجوم على أمانتها الزوجية، ولكنها تستسلم لحاكم فاسق فاسد، لتنقذ حياة زوجها المتورط في مؤامرة ضد الملك. وتغتصب البارونة مرتين. وفي سورة غضب جنوني تصرخ "أيها الرب القاسي، كيف استحق كراهيتك لي هل لأن الفضيلة كريهة لديك؟ (28) ".
وعلى الرغم من مغزى هذا الكتاب وما تضمنه من إثارة جنسية انتخب ديكلوس للأكاديمية (1746) بفضل نفوذ مدام دي بمبادور. واشترك بحيوية ونشاط في أعمالها، وأعاد تنظيمها، وربط بينها وبين أدب العصر وفلسفته ربطاً بعث فيها الحياة. وفي 1751 خلف فولتير في وظيفة مؤرخ لملك وفي 1754 سعى لانتخاب دالمبرت لعضوية الأكاديمية، وفي 1755 انتخب سكرتيراً دائماً لها، وظل الروح المسيطرة عليها حتى وفاته. وكسب الأكاديمية إلى جانب الأفكار المتحررة. ولكنه رثى وأسف لتهور دي هولباخ(36/143)
وهلفشيوس وديدرو "إن هذه العصبة من الملحدين الصغار سوف تنتهي باقتيادي إلى كرسي الاعتراف".
وإنا لنذكره بصفة خاصة من اجل كتابه "نظرات في الخير والشر في هذا القرن" (1750) وهو يتضمن تحليلاً هادئاً دقيقاً مفصلاً عن الأخلاقيات والشخصية الفرنسية. وكتبه قبل أن يبلغ الخامسة والأربعين، واستهله بوقار حكيم خَرِفْ "لقد عشت، وأود أن أعيش لأكون ذا نفع لمن سيعيشون". ويأسف "لأن أعظم الشعوب حضارة ومدنية ليست كذلك أكثرها تمسكاً بالفضيلة": إن أسعد الفترات هي تلك التي لا تعتبر فيها الفضيلة حسنة أو ميزة، وإذا بدأ اعتبارها كذلك، فإن العادات بالفعل تتغير. وإذا أصبحت هدفاً للسخرية فتلك هي آخر مراحل الفساد (29).
وفي رأيه أن "أكبر نقيصة في الرجل الفرنسي أن له على الدوام شخصية شبابية، ومن ثم فهو في الغالب أنيس لطيف، وقلما يكون راسخاً متزناً، ويكاد لا يمر بسن النضج، بل ينتقل من الشباب إلى عجز الشيخوخة ..... فالرجل الفرنسي هو طفل أوربا (30) -مثلما أن باريس هي ملعبها. ولا يتعاطف ديكلوس كل التعاطف مع عصر العقل الذي يحس أنه دوامة تعصف حوله" "لست متأكداً من إني أحسن الظن كثيراً بهذا القرن، ولكن يبدو لي أن تخمراً معيناً في العقل يتجه نحو التطور والنمو في كل مكان (31) ". إننا في هذه الأيام ننتقد كثيراً في عنف بالغ التحيز والتحامل وربما قضينا عليهما إلى حد كبير. إن التحيز ضرب من القانون العام السائد بين البشر ... وفيما يتعلق بهذا الموضوع. لا أملك إلا أن أنحى باللائحة على الكتاب الذين يريدون مهاجمة الخرافة (وقد يكون من البواعث النافعة الجديرة بالثناء إذا تمت المناقشة على أساس(36/144)
فلسفي). فيقرضون أسس الأخلاق ويضعفون روابط المجتمع ... والنتيجة المؤسفة لهذا على قرائهم، هي أن يصبح الشباب مواطنين سيئين ومجرمين مخزين، وأن ينتاب الشقاء الذين يتقدم بهم العمر (32).
وكان جريم المراسل الباريسي للشخصيات الأجنبية وواحداً من كثير ممن استاءوا من هذا التشهير الرقيق بالفلسفة، الصادر من رجل نهل من منابع كثيرة "إذا كان المرء مجرداً من الشعور فاسد الذوق، فليس له أن يتحدث عن الأخلاق ولا عن الفنون (33). ولكن جريم كان يزاحم ديكلوس في الظفر بالحظوة لدى مدام دي ابيناي، وإن مذكرات هذه السيدة الرقيقة لنصور ديكلوس فظاً مستبداً إذا تمكن، شديد التهور إذا غلب على أمره. ولكن جريم هو الذي أعد هذه المذكرات للنشر. وإذا كان لنا أن نصدق هذه الصفحات العتيقة الباكية فإن مدام ابيناي طردت من بيتها هذا العربيد الخائن. وهام رجل الأكاديمية العلامة على وجهه بحثاً عن مضاجع وأراض أخرى، وأخيراً رحل عن هذا العالم وهو في السابعة والستين.
وكان لوك دي كلابيير مركيز دي فوفينارج أجدر بالحب. وفي سن الثامنة عشرة التحق بالجيش ثملاً يحب بلوتارك وبالطموح إلى ارتقاء مدارج المجد في خدمة الملك. واشترك في مغامرة الماريشال دي بل أيل المنكوبة في حملة بوهيما 1741 - 1743. وفي الانسحاب المهلك من براغ تجمدت رجلاه، وحارب في دتنجن 1743. ولكن اعتلت صحته إلى حد إنه ترك الجيش بعدها. وسعى إلى الحصول على منصب دبلوماسي، وكاد أن يظفر ببغيته بفضل مساعدة فولتير لولا أن مرض الجدري شوه وجهه. وبدأ بعده يضعف، وانتابه سعال مزمن قتال أقعده عن ممارسة أي عمل.
وأصبحت الكتب عزاءه، وشغله الشاغل. وكان يقول "فوق كل شيء، إن أحسن الأشياء هي أكثرها شيوعاً، فإنك تستطيع أن تشتري ذهن فولتير مقابل كراون واحد" (34) وحذر من الحكم على الكتب بثقل وزنها، فإن خير المؤلفين قد يتحدثون أكثر مما ينبغي وكثير منهم غامضون(36/145)
إلى حد يبعث السأم والضجر. والوضوح يزين التفكير العميق" (35). وكان مؤلفه الذي دفع به إلى المطبعة 1746 يقع في خمس وسبعين صفحة مقدمة في التعرف على الروح الإنسانية"، وأعقبه "607 من التأملات والحكم" في 115 صفحة. وبعد ذلك بعام واحد، وفي فندق حقير في باريس، قضى نحبه، وهو في الثانية والثلاثين، وهو يمثل موزار وكيتس في الفلسفة الفرنسية.
وقال فوفينارج "إن للفلسفة أنماطها وأشكالها، مثل الملابس والموسيقى والعمارة (36) " وقبل بضع سنين قليلة من إضفاء روسو المثالية على الطبيعة والمساواة، صور فوفينارج "الطبيعة بأنها صراع وحشي من أجل الغلبة والسيطرة"، و "المساواة" على أنها وهم وخداع: السائد بين الملوك، وبين الشعوب، وبين الأفراد، أن الأقوى يرتب لنفسه حقوقاً على الأضعف، ونفس القاعدة متبعة بين الحيوانات والكائنات غير الحية، وهكذا يجري كل شيء في الكون بالعنف. وهذا النظام الذي نعيبه بشيء من شبهة العدل، هو أعم وأثبت وأهم قانون في الطبيعة (37).
إن كل الناس غير أحرار وغير متساوين:
ليس حقاً أن المساواة قانون من قوانين الطبيعة. إن الطبيعة لم تجعل الأشياء متساوية. وإن قانونها الأساسي هو الإخضاع والتبعية .... ومن ولد ليطيع، فسوف يطيع حتى وهو متربع على العرش (38).
أما بالنسبة للإرادة الحرة، فهي أيضاً أسطورة أو خرافة "فليست الإرادة هي العلة الأولى لأي تصرف أو عمل، بل إنها المنبع الأخير". وإذا أوردنا المثل التقليدي على الإرادة الحرة، وهو أنك تستطيع أن تختار هذا أو ذلك أأو ب "بمحض إرادتك" فإن فوفينارج يرد "إني إذا اخترت ب فإن هذا بسبب أن الحاجة إلى الاختيار تقفز إلى تفكيري في اللحظة التي تجول ب بخاطري فيها (39). والإيمان بالله أمر لا مفر منه ولا غنى عنه، على أية حال. وأحس فوفينارج بأنه عن طريق هذا الإيمان وحده يمكن أن يكون للحياة وللتاريخ معنى غير الصراع الدائم والهزيمة في النهاية (40).(36/146)
وأبرز معالم فلسفة فوفينارج دفاعه عن العواطف، ولا ينبغي القضاء عليها لأنها أصل الشخصية والعبقرية وكل قوة التفكير ونشاطه. "الذهن عين النفس المبصرة، ولكن ليس قوتها، لأن قوتها تكمن في القلب أي في العواطف. إن أكثر العقول استنارة لا يمدنا بالقوة على العمل والإرادة (41) .... والأفكار العظيمة تنبع من القلب ... وربما كنا مدينين للعواطف بأعظم منجزات العقل (42) .. إن العقل والوجدان يستشير كل منهما الأخر ويكمله بالتناوب، وهذا الذي يستشير أحدهما ويغفل الآخر، إنما يحرم نفسه في حمق وغباء من بعض الموارد التي منحنا إياها من أجل سلوكنا (43).
وأقر فوفينارج أن حب الذات عام بين الناس، ولكنه رفض اعتباره رذيلة، حيث أنه الضرورة الأولة من ضرورات قانون الطبيعة الأول: حفظ الذات. كما أن الطموح ليس رذيلة، بل أنه حافز "إن حب المجد والعظمة هو الذي يصنع ما تحرزه الأمم من تقدم ونجاح (44). ويضيف أن المرء غير أهل للمجد والعظمة إذا لم يع قيمة الوقت (45). ومهما يكن من أمر فإن هناك رذائل يجب أن تكبح جماحها القوانين والمبادئ الأخلاقية وإن فن الحكومة ليكمن في توجيه الرذائل إلى الخير العام (46). وهناك أيضاً فضائل حقيقية "إن أولى أيام الربيع أقل روعة وفتنة من نمو الفضيلة في الشباب (47).
وعلى الرغم من تسليم فوفينارج بآراء هوبز ولاروشفوكو، ومن تجربته للشر في حياته، فإنه احتفظ بإيمانه بالجنس البشري. قال صديقه مارمونتل: "إنه عرف الحياة ولم يحتقرها. إنه، وقد كان صديقاً للناس، اعتبر الرذيلة محنة وسوء حظ، يبتلي الناس بهما لا جريمة. وحلت الشفقة في قلبه محل الاحتقار والبغض ... إنه لم يذل إنساناً قط ... إن هدوءاً لم يتبدل أخفى آلامه عن أعين أصدقائه. وما كنا في حاجة لاحتمال المحنة، إلا أن تكون لنا فيه أسوة حسنة، فإنا ونحن نرى رباطة جأشه، ما كنا لنجرؤ على إظهاره حزنناً وشقائنا أمامه (48).(36/147)
ووصفه فولتير بأنه "أتعس الناس حظاً وأكثرهم هدوءاً (49).
إن من أكرم مظاهر الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. ذلك العطف السابغ والعون الودي اللذين حبا بهما فولتير "نبي العقل" فوفينارج نصير بسكال و "القلب". إن الفيلسوف الشاب أعلن عن إعجابه "برجل يشرف قرننا، رجل لا يقل عظمة وشهرة عن أسلافه" (50). وكتب إليه الرجل العجوز الأكبر منه سناً في لحظة من لحظات التواضع: "لو أنك كنت قد رأيت التور قبل مولدك ببضع سنين، فلربما اكتسبت كتاباتي قيمة أكبر (51) إن أفصح قطعة في مجلدات فولتير المائة هي ما قال في تأبين فوفينارج عند تشييع جنازته (52).
5 - مونتسكيو
1689 - 1755
أ - الرسائل الفارسية
وجد فولتير أنه من العسير عليه أن يحب مونتسكيو لأن مؤلفه "روح القوانين" (1748) اعتبر بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر. وظهر كتاب حين بلغ صاحبه التاسعة والخمسين، وكان ثمرة خمسين عاماً من التجربة والخبرة، وأربعين عاماً من الدرس والبحث وعشرين عاماً قضاها في تأليفه.
ولد شارل لويس دي سيكوندا بارون دي لابريد ودي مونتسكيو، في لابريد بالقرب من بوردو وفي مقاطعة مونتاني، في 18 يناير 1689. وكان يفاخر مبتهجاً بأنه من سلالة هؤلاء القوط، وهم الذين بعد أن غزوا الإمبراطورية الرومانية، "أسسوا الملكيات وأقاموا صرح الحرية هنا وهناك في كل مكان" (53) إنه انتسب على أية حال إلى "نبلاء السلاح ونبلاء الرداء" كان أبوه كبير القضاة في جوين، وكان الصداق التي قدمته أمه قصر لابريد وأرضها. وفي ساعة مولده تقدم إلى بوابة القصر سائل مسكين، فأدخلوه وأطعموه وجعلوا منه عراباً للطفل (أي أباه في العماد)، زعماً منهم بأن شارل لن ينسى الفقراء أبداً (54). وتربى طوال السنوات الثلاث الأولى من عمره بين فلاحي القرية، وأرسل في سن الحادية عشرة(36/148)
إلى مدرسة طائفة الأورتوريين في جويللي على بعد عشرين ميلاً من باريس .. ثم عاد إلى بوردو في سن السادسة عشرة ليدرس القانون. وفي سن التاسعة عشرة حصل على درجته العلمية في القانون.
وفي 1713 مات أبوه، وكان شارل آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، تاركاً له ممتلكات واسعة وثروة متوسطة. وكان يتحدث بصراحة عما "يملك من أرض وعن اتباعه" وسوف تراه تمسك بشدة بالنظام الإقطاعي. وبعد ذلك بسنة دخل برلمان بوردو عضواً وقاضياً. وفي 1716 أوصى له عمه-الذي كان قد اشترى رياسة البرلمان-بثروته ومنصبه، وقد دافع مونتسكيو فيما بعد عن "بيع المناصب" باعتباره "عملاً حسناً في الدول الملكية، لأنه يجعل من واجب أبناء الأسرات العريقة أن ينهضوا بالمهام التي قد لا يحصلون عليها عن طريق الدوافع النزيهة غير المغرضة وحدها (56). وبينما كان يتولى رياسة البرلمان قضى معظم وقته في الدرس والبحث، فأجرى تجارب وقدم أبحاثاً في الفيزياء والفسيولوجيا إلى أكاديمية بوردو، وخطط "تاريخاً جيولوجياً للأرض" لم يكتبه قط ولكن المادة التي جمعها له شقت طريقها إلى كتابه "روح القوانين".
وكان في الثانية والثلاثين حين ملأ أبصار وأسماع باريس في عهد الوصاية بأروع كتبه. إنه أغفل ذكر اسمه على كتابه "الرسائل الفارسية" (1721) لأنه ضم بين دفتيه قطعاً لا يليق صدورها عن قاض. وربما أخذ فكرته عن كتاب جيوفاني مارانا "جاسوس السيد الكبير" (1684) الذي نقل فيه جاسوس تركي وهمي للسلطان، في بذاءة تلفت النظر، عقائد المسيحيين الفاسدة وسلوكهم في أوربا، والمفارقات المضحكة أو القاتلة بين ما يعلنون وما يفعلون، وثمة أسلوب شبيه في تصوير الحضارة الغربية كما يراها الشرقيون، استخدمه أديسون في سبكتاتور"، وكان شارل دفرسني "تسليات جادة وهازلة" قد تصور تعليقات أحد أبناء سيام في باريس، كما أن نيقولا جيوددقيل كان قد أبرز العادات الفرنسية كما يراها أحد هنود أمريكا، وكانت ترجمة جالاند لكتاب "ألف ليلة وليلة" (1704 -(36/149)
1717) قد زادت من شغف الفرنسيين بالحياة الإسلامية، كذلك فعلت المحاضرات المصورة عن رحلات سير جون شاردان وجان تافرنيه. كما أنه من مارس إلى يوليه 1721 لفت السفير التركي أنظار باريس بفتنة زيه وأساليبه الغريبة. من أجل ذلك كله كانت فرنسا مستعدة لتلقى "الرسائل الفارسية". وبيع من هذا الكتاب ثمان طبعات على مدى عام واحد.
وقدم مونتسيكيو "الرسائل" على أنها مكتوبة بقلم ريكا وأوزبك، وهما سائحان فارسيان في فرنسا. ومراسليهما في أصفهان. إن هذه الرسائل لن تعرض فقط نقاط الضعف والأهواء والتحيز عند الفرنسيين، ولكنها كشفت أيضاً عن حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية من خلال الكتاب أنفسهم.
وحين يسخر القارئ من هذه العيوب والأخطاء، فليس أمامه إلا أن يتقبل عن طيب خاطر السخرية من عيوبه وأخطائه هو. وقد مست هذه العيوب والأخطاء مساً رقيقاً. ومن ذا الذي يغضب لهذه الأفكار الساخرة غير المقصودة، أو الطعنات بسيف مغلف بطريقة مهذبة؟ وفوق ذلك تضمنت بعض الرسائل أسراراً أو رسائل شخصية سارة من حريم أوزبك في أصفهان. من ذلك أن زاكي أي محظيته تكتب لتبلغه بما تعاني من آلام مبرحة لغيابه عنها. كما أن ريكا تصف مفهوم سيدة مسلمة عن الجنة بأنها مكان يكون فيه لكل سيدة فاضلة مجموعة من الرجال الوسيمين المكتملي الرجولة، وهنا يطلق مونتسكيو لقلمه العنان في سرد التفاصيل في أسلوب الطيش الذي اشتهر به عهد الوصاية.
وكان من غير المستطاع، اللهم في فترة خلو العرش هذه، أن تتفادى الهرطقات السياسية والدينية في الرسائل عين الرقيب والمؤاخذة الرسمية. لقد قضى الملك القديم نحبه، والملك الجديد ما زال صبياً، والوصي رجل متسامح مرح مبتهج. وعند ذاك استطاع مونتسكيو أن يجعل الفارسيين الذين أوردهم في رسائله يسخرون من حاكم "ساحر" جعل الناس يعتقدون أن الورق نقود (كان نظام لو قد انهار. (57)) كما استطاع أن يفضح فساد(36/150)
الحاشية، وخمول النبلاء المبذرين وسوء إدارة أموال الدولة، وأن يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة، والجمهوريات الحديثة في هولندا وسويسرا. يقول أوزبك "إن الملكية نظام شاذ غير سوي، ينزلق إلى حكم استبدادي مطلق" (58) (انظر فيما بعد رأياً مخالفاً).
وفي الرسائل من 11 - 14 يوضح أوزبك طبيعة الإنسان ومشكلة الحكم بالتحدث عن سكان الكهوف (التروجلوديون) (1) الذين يتخيلهم عرباً انحدروا من التروجلودييين الذين وصفهم هيرودوت (59) وأرسطو (60) بأنهم قبائل همجية عاشت في أفريقية (قبل التاريخ). وكان تروجلوديو أوزبك يكرهون كل تدخل حكومي. ومن ثم قتلوا كل حاكم مفكر، وعاشوا في جنة من الحرية التامة "اتركه ليعمل" واستغل كل بائع حاجة المستهلك ورفع سعر منتجاته. وإذا اغتصب رجل قوي زوجة رجل ضعيف، فليس ثمة قانون أو حاكم يلجأ إليه. وأفلت القتل والاغتصاب والسلب والنهب دون عقاب، اللهم إلا الاقتصاص الخاص بالعنف، وإذا عانى سكان النجاد من الجفاف تركهم سكان الوهاد يموتون جوعاً، وإذا عانى هؤلاء من الفيضان تركهم سكان النجاد يهلكون. ومن ثم فنيت القبيلة، وبقى على قيد الحياة أسرتان بفضل الهجرة، وتبادلتا العون، ونشأتا أطفالهما على التمسك بالدين والفضيلة واعتبرتا أنهما أسرة واحدة، واختلطت قطعانهما دائماً تقريباً. (61) ولما زاد عددهم وجدوا أن أعرافهم غير كافية-لحكمهم فاختاروا ملكاً وخضعوا للقوانين. وانتهى أوزبك إلى أن الحكومة ضرورية ولكنها تعجز عن تأدية مهمتها إذا لم تكن قائمة على الفضيلة في الحاكم والمحكومين ..
وكانت الهرطقات الدينية في الرسائل أكثر ترويعاً وتنفيراً من الهرطقات السياسية. ويرى أوزبك أن الزنوج يتصورون أن الإله أسود وأن الشيطان أبيض. ويوحي (مثل زينوفون) بأنه إذا كانت المثلثات تتحدث عن
_________
(1) قصد بهذه الكلمة في الأصل سكان الكهوف، أي الذين يحفرون جحوراً ليقيموا فيها. مثل خصومنا السياسين.(36/151)
اللاهوت، فلا بد أن للإله ثلاث أضلاع وثلاث نقاط حادة. ويعجب أوزبك من ساحر آخر يسمى البابا، يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزاً وأن الخمر ليس خمراً، وألف شيء من هذا الطراز. (62) ويسخر من الصراع بين اليسوعيين والجانسينيين. وأفزعته محاكم التفتيش في أسبانيا والبرتغال، حيث "يتسبب الدومنيكان في إحراق الناس كما يحرق القش". (63) ويسخر من المسابح وثياب الرهبان الفضفاضة. وهو يتساءل كم تعمر البلاد الكاثوليكية في منافسة مع الشعوب البروتستانتية، لأنه يرى أن تحريم الطلاق وعزوبة الراهبات والرهبان سوف يعوقان ازدياد السكان في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا (قارن إيرلندة في القرن العشرين) ويقدر أوزبك، على هذا المعدل، أن الكاثوليكية في أوربا لن تعمر أكثر من 500 سنة أخرى (64) (1). أضف إلى هذا أن هؤلاء الرهبان الخاملين الذين يزعمون انهم مستعصمون زاهدون يستولون على كل ثروة الدولة تقريباً. إنهم عصبة من البخلاء يأخذون دائماً ولا يعطون أبداً. إنهم باستمرار يكنزون دخولهم لتكون مصدر قوة. وتصاب هذه الثروة بالشلل، فلا تتداول ولا تستغل في التجارة أو الصناعة أو المصانع" (66) ويقلق أوزبك التفكير في أن كفار أوربا الجهلة الذين يعبدون المسيح بدلاً من عبادة الله والإيمان بحمده سيكون مصيرهم النار، ولكن يراوده بعض الأمل في أنهم في النهاية سيعتنقون الإسلام ويُنقذون (67).
وفي تخيل رمزي جليل يتأمل أوزبك في الإلغاء (1685) مرسوم هنري الرابع للتسامح المعروف بمرسوم نانت.
أنت تعلم ياميرزا كيف أن بعض وزراء الشاه سليمان (لويس الرابع عشر) دبروا خطة لإرغام الأرمن في فارس (الهيجونوت) على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام (الكثلكة)، اعتقاداً منهم بأن إمبراطوريتنا
_________
(1) ذهب مونتسكيو في 1721 إلى أن عدد سكان أوربا لا يكاد يبلغ عشر عدد سكانها في عهد الإمبراطورية الرومانية (65) وأنه آخذ في التناقص، وأن زنوج أمريكا سرعان ما يهلكون.(36/152)
ستظل ملوثة ما دامت تحتضن هؤلاء الكفار ... إن اضطهاد مسلمينا الغيورين لهؤلاء الكفار عبدة النار اضطرهم إلى الفرار زرافات إلى الهند الشرقية، وبذلك حرم فارس من هذا الشعب الجاد النشيط. ولم يبق أمام هذا التعصب الأعمى إلا شيء واحد هو تدمير الصناعة، حتى تنهار الإمبراطورية (فرنسا 1713)، حاملة معها تلك الديانة التي أرادوا لها النهوض والتقدم.
وإذا كان الحوار النزيه غير المتحيز ممكناً يا ميرزا، فلست متأكداً من أنه من الخير للدولة أن تكون بها عدة ديانات مختلفة ... والتاريخ زاخر بالحروب الدينية، ولكن ... ليس تعدد الديانات هو الذي أدى إلى الحروب، بل روح التعصب الذي يشجع الديانة التي تعتقد أنها في صعود (68).
إن الأفكار التي تضمنتها الرسائل الفارسية تبدو لنا الآن مبتذلة عتيقة. ولكنها كانت للمؤلف حين عبر عنها، مسألة حياة أو موت، وعلى الأقل مسألة سجن أو نفي. إنها الآن عتيقة لأننا كسبنا معركة الحرية في التعبير عن الآراء. إن الرسائل الفارسية فتحت الطريق، لهذا استطاع فولتير بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أن يصدر "رسائل عن الإنجليز" ويلقي ضوءاً إنجليزياً على حطام فرنسا. وأعلن هذان الكتابان عن عصر الاستنارة. وعمر مونتسكيو وحريته بعد كتابه، لأنه كان من طبقة النبلاء، ولأن الوصي على العرش كان متسامحاً، كما ارتفعت بعض أصوات الاستنكار وسط التهليل والإعجاب، ومع ذلك لم يجرؤ على الإفصاح عن اسمه وهو المؤلف. وذهب دارجنسون الذي انتقد هو نفسه الحكومة فيما بعد إلى أن "هذه التأملات وأفكار لا يستطيع أن يأتي بها رجل ذكي بسهولة، ولكن ينبغي على الرجل الحصيف الحذر ألا يسمح بطبعها". وأضاف ماريفو الحريص "يجدر أن يضن الإنسان بمجهوده في مثل هذه الموضوعات" وقال مونتسكيو "عندما حظيت إلى حد ما بتقدير الجمهور فقدت تقدير الطبقات الرسمية، وواجهت ألفاً من ألوان الاستخفاف والاستهزاء" (69).
وعلى الرغم من كل شيء قصد مونتسكيو إلى باريس ليرشف كؤوس(36/153)
الشهرة في المجتمع وفي الصالونات. وفتحت له الأبواب مدام دي تنسان ومركيزة لمبرت ومركيزة ديناند. ولما كان قد ترك زوجته وراءه في لابريد فلم يكن من العسير أن يقع في شراك الغرام مع سيدات باريس. وتطلع إلى آفاق بعيدة، فتاقت نفسه إلى ماري آن دي يوربون أخت الدوق دي بوربون الذي أصبح رئيساً للوزارة في 1723. ويروي من أنه ألف من أجلها شعراً منثوراً "معبد الحب" (1725) عامراً بنشوة الوجد والهيام، وخفف من وطأة خلاعة هذا الشعر بادعائه أن القصيدة مترجمة عن اليونانية، ومن ثم حصل على ترخيص ملكي بطبعها. وبذل المساعي وبخاصة عن طريق مدام دي ري، لينضم إلى الأكاديمية، فاعترض الملك بأنه غير مقيم في باريس. فأسرع إلى بوردو وتخلى عن رياسته لبرلمانه، وانضم إلى مجمع الأربعين الخالدين (1728).
وفي أبريل قام برحلة استغرقت ثلاثة أعوام زار فيها بعض أجزاء إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وأراضي الراين وهولندة، وإنجلترا. التي قضى فيها ثمانية عشر شهراً (نوفمبر 1729 - أغسطس 1731) وهناك عقد أواصر الصداقة مع تشسترفيلد وغيرهم من وجوه القوم، واختير عضواً في الجمعية الملكية في لندن، وانضم إلى البنائين الأحرار (الماسونية)، واستقبله الملك جورج الثاني والملكة كارولين، وحضر جلسات البرلمان، وأولع بما ظنه الدستور البريطاني. وعاد أدراجه إلى فرنسا شديد الإعجاب-مثل فولتير-بالحرية، ولكن ما لمسه من مشاكل الحكومة زاد من رصانته واتزانه. وآوى إلى لابريد، وحول متنزهه إلى حديقة إنجليزية، وتفرغ-فيما عدا زيارات طارئة إلى باريس-لأبحاثه وكتاباته التي شغلت بقية أيام حياته.
ب- لماذا سقطت روما
في 1734 أصدر مونتسكيو، دون توقيع، ولكن معترف به عند الجمهور، "نظرات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم". وكان قد دفع بالمخطوطة إلى عالم يسوعي، ووافق على حذف ما يمكن أن يثير ريب الكنيسة. ولكن الكتاب لم يجد، وما كان له أن يجد النجاح الذي صادفته(36/154)
"الرسائل الفارسية" لأنه لم يتضمن أية بذاءات أو أية أشياء تجافي الاحتشام، بل كان يعالج موضوعاً قديماً معقداً وكان محافظاً نسبياً في سياسته ولاهوته. ولم يستسغ المتطرفون (الراديكاليون) التوكيد على أن يكون الانحطاط الخلقي سبباً للاضمحلال القومي، ولم يكونوا مستعدين ليقدروا عمق التقدير والحكمة الرائعة في عبارات مثل "أن الذين لم يعودوا يرهبون القوة في مقدورهم أن يظلوا على احترامهم للسلطة". (70) وتعتبر هذه الرسالة الصغيرة الآن محاولة رائدة في فلسفة التاريخ، ورائعة من روائع النثر الفرنسي تعيد إلى الأذهان ذكرى بوسويه ولكنها تضيف الروعة إلى الوقار.
إن الموضوع جذب نظر المؤرخ الفيلسوف لأنه انتظم السلسلة الكاملة لحضارة عظيمة من الميلاد إلى الفناء، وعرض في نظرة شاملة وتفصيل رائع إحدى عمليات التاريخ الأساسية-وهي عملية الفناء أو الانحلال الذي يبدو أنه قدر محتوم أن يعقب كمال التطور في الأفراد والديانات والدول. وكان ثمة اشتباه في أن فرنسا بعد انقضاء القرن العظيم، قد دخلت في فترة طويلة من الاضمحلال في الإمبراطورية والأخلاق والأدب والفن. إن الثالوث المدنس: فولتير وديدرو وروسو-لم يكن قد بدأ بعد إنهم يتحدون التفوق الفكري والعقلي في القرن السابع عشر. ولكن جراءة العصر الجديد المتزايدة برزت في حقيقة أن مونتسكيو، وفي إيضاحه وشرحه لمجرى التاريخ لم يدرس إلا الأسباب الأرضية، وطرح جانباً في هدوء اللهم إلا لمحات من الإجلال الطارئ، العناية الإلهية التي نجدها في كتاب بوسيويه "بحث في تاريخ العالم" قد اتجهت بكل الأحداث إلى نتائج محتومة بقضاء هذه العناية الإلهية. ورأى مونتسكيو أن يفتش عن قوانين التاريخ، مثلما كان نيوتن يبحث عنها في الفضاء: "ليس الحظ هو الذي يحكم العالم، كما نرى من تاريخ الرومان ... فثمة أسباب عامة معنوية أو مادية، تعمل عملها في كل مملكة، ترفعها أو تحافظ عليها أو تطيح بها، وكل ما يحدث خاضع لهذه الأسباب. وإذا كان ثمة سبب خاص يعينه، مثل النتيجة الطارئة لمعركة ما هو الذي قضى على دولة ما، فهناك(36/155)
سبب هام جعل سقوط هذه الدولة ينتج عن معركة واحدة. وصفوه القول إن الحركة العامة نجر معها كل الأحداث الخاصة غير المتوقعة (71).
وبناء على هذا اختزل مونتسكيو وهبط بدور الفرد في التاريخ. فالفرد مهما عظمت عبقريته لا يعدو أن يكون أداة "الحركة العامة". ولا ترجع أهميته إلى قدرته الفائقة بقدر ما ترجع إلى التقائه مصادفة مع ما أسماه هيجل "روح العصر" فلو أن قيصر وبومبي فكرا مثل ما فكر كاتو (سعياً في الإبقاء على سلطة السناتور الروماني) فربما انتهى آخرون غيرهما إلى نفس أفكارهما. وعند ذاك كانت الجمهورية التي كان مقدراً عليها الفناء لأسباب داخلية، تنساق إلى الانهيار على أيد أخرى" (72).
ولكن القدر ليس توجيهاً روحياً أو باطنياً، وليس قوة ميتافيزقية. انه مجموعة معقدة من عوامل تنتج "الحركة الرئيسية". والمهمة الأساسية للمؤرخين الفلسفيين، في رأي مونتسكيو، هي الكشف عن كل عامل من هذه العوامل وتحليله وتبيان فعاليته وعلاقته. ومن ثم كان سقوط روما (في نظره) يرجع أولاً إلى التحول من جمهورية توفر لها توزيع السلطات وتوازنها، إلى إمبراطورية تصلح أكثر ما تصلح لحكم بلاد تابعة لها، ولكنها تركز كل الحكم في مدينة واحدة في يد رجل واحد، مما يدمر حرية ونشاط المواطنين والأقاليم. ويمرر الزمن انضمت أسباب أخرى إلى هذا السبب الرئيسي: انتشار الخنوع والخمول بين الجماهير، رغبة الفقراء في أن تعولهم الدولة، ضعف الأخلاق بسبب الثروة والترف والفسق والفجور، تدفق الغرباء الذين تشكلهم التقاليد الرومانية والذين كانوا مستعدين لبيع أصواتهم لمن يدفع أكبر ثمن، فساد رجال الإدارة المركزيين والمحليين، خفض قيمة العملة، فداحة الضرائب، هجر المزارع، استنزاف الحيوية العسكرية بسبب الديانات الجديدة وطول أمد السلم، وفشل النظام العسكري وسيطرة الجيش على الحكومة المدنية، إيثار الجيش تنصيب الأباطرة أو خلعهم عن حماية الحدود من هجمات المتبربرين .... ومن الجائز أن مونتسكيو-على عكس توكيد بوسويه(36/156)
على العوامل الخارقة للطبيعة-لم يقم وزن كبير لتغيير الديانات، الذي أكده جيبون سبباً أساسياً لانهيار الإمبراطورية.
ولكن مونتسكيو كان دوماً يعود إلى ما أعتبره العامل الرئيسي في اضمحلال روما-وهو التحول من الجمهورية إلى الملكية, ذلك أن الرومان غزوا بفضل مبادئهم الجمهورية، كثيراً من الشعوب، ولكن في الوقت الذي حققوا فيه هذا، لم تقو الجمهورية على الصمود، وتسببت في الاضمحلال مبادئ الحكم الجديد وهي مخالفة لمبادئ الجمهورية (73). ومهما يكن من شيء فأننا عدنا إلى الفصل السادس لنتفحص المبادئ الأساسية أو الوسائل التي قهرت بها الجمهورية الرومانية "كل الشعوب" نجد مجموعة منوعة غريبة: الخداع، نقض المعاهدات، العنف والقوة، العقوبات الصارمة، بذر بذور الشقاق بين العدو ليسهل قهره تدريجياً، (فرق تسد)، نقل السكان من مكان إلى مكان بالقوة، تعكير جو الحكومات المناهضة ومحاولة القضاء عليها بتقديم المساعدات للثورات الداخلية ورشوة القائمين بها. وغير ذلك من الإجراءات المألوفة لدى رجال الدولة. واستخدم الرومان حلفاءهم في القضاء على أعدائهم، وسرعان ما استداروا ليدمروا هؤلاء الحلفاء (74) وواضح-أن مونتسكيو-ناسباً هذا الوصف للمبادئ الجمهورية أو مزدردا ميكافيللي في جرعة واحدة-اعتبر في الفصل الثامن عشر، الجمهورية مثلاً أعلى للعظمة، ورثى الإمبراطورية منزلقاً بهيجاً للانحلال. ومع ذلك اعترف بفساد السياسة في الجمهورية وبالعظمة السياسية للإمبراطورية في ظل "حكمة نرفاء، ومجد تراجان، وبسالة هادريان وفضائل الاثنين الانطونينيين" (75) وهنا وجه مونتسكيو كلاً من جيبون ورينان إلى تسمية هذه الحقبة "أكرم وأسعد حقبة في تاريخ الحكومة". ولدى هؤلاء الملوك الفلاسفة وجد مونتسكيو أيضاً أخلاق الرواقين التي فضلها بصراحة ووضوح على الأخلاق المسيحية، وانتقل إعجاب مونتسكيو بالرومان في عهد الجمهورية إلى الفرنسيين المتحمسين للثورة، وأسهم في تغيير الحكومة الفرنسية، والنظم العسكرية والفنون في فرنسا.(36/157)
ووقع في الكتاب بعض أخطاء في عمل علمي عجل به ضغط الوقت والرغبة في إنجاز مهمة أضخم. فلم يكن مونتسكيو في بعض الأحيان مدققاً في استخدام النصوص القديمة. من ذلك، على سبيل المثال أنه أخذ الفصول التي كتبها ليفي عن "نشأة روما" على أنها تاريخ، على حين أن فاللا وجلارونوس وفيكو رفضوا هذه الرواية على أنها أسطورة. ويبخس مونتسكيو من قيمة العوامل الاقتصادية وراء سياسة جراتشي وقيصر، ولكن في نقابل مواطن الضعف هذه، فأن نظرة أوسع لا بد أن تحيط ببلاغة الكتاب وقوته وتركيز أسلوبه، ويعمق التفكير وأصالته، ومحاولة المؤلف الجريئة في أن يرسم في صورة واحدة ارتفاع وسقوط حضارة كاملة، ويرتفع بالتاريخ من مجرد سجل للتفاصيل إلى تحليل النظم ومنطق الأحداث. وهنا كان ثمة تحد للمؤرخين، كان على فولتير وجيبون أن يسعيا لمواجهته، كما كان هنا تلهف على فلسفة للتاريخ قد يحاول مونتسكيو نفسه، بعد جيل من الكد والجد أن يتبعه بكتاب "روح القوانين".
جـ- روح القوانين
مضت أربعة عشر عاماً بين ظهور كتاب "النظرات" وكتاب "روح القوانين" بدأ مونتسكيو أروع أعماله هذا حوالي 1729، وهو في سن الأربعين. وكان موضوع روما حصيلة جانبية أو ثانوية إعتراضية. وفي 1747 حين بلغ السادسة والخمسين لقي من العمل نصباً وكأن به ميلاً إلى تركه، "كثيراً ما شرعت في هذا الكتاب، وكثيراً ما طرحته جانباً. وقذغت بالأوراق التي كتبتها ألف مرة. " (76) وأهاب بالموزيات ربات الفنون والعلوم أن يرعينه ويساعدنه: "إن الدرب طويل، ولقد أضناني الأسى والإرهاق، أدخلن على قلبي البهجة والفتنة اللتين تدفعان بي إلى السير في الطريق، لقد عرفتهما يوماً، ولكنهما الآن تخلتا عني أنتن لستن مقدسات مطلقاً، إلا حين تتولين قيادنا، عن طريق اللذة والسرور، إلى الحكمة والحق" (77). ولا بد أن هؤلاء الربات استجبن لندائه، لأنه واصل العمل. ولما انتهت المهمة في خاتمة المطاف اعترف بتردده واعتداده بنفسه(36/158)
وزهوه: لقد سلكت طريقي نحو الهدف دون إعداد خطة. ولم أعرف أية قاعدة ولا شواذ وما عثرت على الحقيقة إلا لافتقادها ثانية. ولكن عندما وقعت على الأصول والمبادئ ذات مرة وأتاني كل ما كنت أفتش عنه، وفي غضون عشرين عاماً، وجدت أن العمل قد بدأ وخطا خطوات ثم أشرف على الاكتمال، حتى أنجز ... وإذا صادف هذا العمل نجاحاً، فأني سأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله. ومهما يكن من أمر، فلست أظن أني كنت مفتقراً إلى العبقرية كل الافتقار, ولما رأيت كم من عظماء الرجال في فرنسا وألمانيا طرقوا هذا الموضوع قبلي، تملكتني الحيرة إعجاباً بهم، ولكن لم أفقد شجاعتي ولم يزايلني الإقدام، وقلت مع كوريجيو "وأنا أيضاً رسام" (78).
وعرض المخطوطة على هلفشيوس وهبنولت وفونتبيل، ورأى هذا الأخير أن البحث يفتقر إلى طلاوة الأسلوب الفرنسي. (79) وتوسل هلفشيوس إلى المؤلف ألا يسيء سمعته الطيبة بوصفه متحرراً بنشر كتاب يتساهل إلى هذا الحد مع كثير من المعتقدات المحافظة المتمسكة بالقديم (80). وقرر مونتسكيو أن هذه التحذيرات غير ذات موضوع، وتقدم للطبع. ولما كان يخشى الرقابة الفرنسية فانه أرسل المخطوطة إلى جنيف، وهناك صدر الكتاب 1748 في مجلدين، دون ذكر اسمه. وحين كشف رجال الدين الفرنسيون عن هرطقاته شجبوه وصدر أمر الحكومة بمنع تداوله في فرنسا. وفي 1750 تولى مالشرب-منقذ دائرة المعارف فيما بعد-شئون الرقابة، رفع الحظر عن الكتاب، وسرعان ما شق طريقه وصدرت منه وعشرون طبعة في عامين، وسرعان ما ترجم إلى لغات أوربا المسيحية.
وكانت العنونات على أيام مونتسكيو توضيحية حقاً، دقيقة غالباً. ولذا سمى كتابه "في روح القانون" أو "في العلاقات التي يجب أن تقوم بين القوانين وبين دستور كل حكومة، والعادات والمناخ والديانة والتجارة، وغيرها". وكان بحثاً في العلاقات بين القوى المادية والأنماط الاجتماعية، وفي(36/159)
العلاقات المتبادلة بين مكونات الحضارة. وحاول أن يضع الأساس لما يمكن أن نسميه الآن علم الاجتماع العلمي": أي-على غرار البحث في العلوم الطبيعية-التمكن من الوصول إلى نتائج محققة يمكن إثباتها، تلقى الضوء على المجتمع الحاضر، إلى تنبؤات مشروطة للمستقبل، وكان عسيراً بطبيعة الحال، على رجل واحد أن يتمه مع قصر العمر، والأوضاع الحالية للأثنولوجيا (علم الأعراق البشرية) والتشريع والتأريخ.
وبمعنى أدق، كانت فكرة مونتسكيو أن روح القوانين "-أي أصلها وطبيعته ونزعتها-إنما يحددها أولاً مناخ البلاد وتربته، ثم فسيولوجية الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. وبدأ بتعريف عريض: إن القوانين بأوسع معانيها وأكثرها تعميماً هي العلاقات الضرورية التي تنشأ عن طبيعة الأشياء وواضح أنه أراد أن يأتي "بالقوانين الطبيعية" في العالم المادي، والاطرادات القياسية في التاريخ، تحت مفهوم عام واحد. وعلى غرار جروشيوس وبوفندروف وغيرهما ممن سبقوه، ميز مونتسكيو بين عدة أنواع من القوانين: 1 - القانون الطبيعي، الذي عرفه بأنه "عقل إنساني، بقدر ما يحكم شعوب الأرض بأسرها" (81) أي "الحقوق الطبيعية" لكل الناس بوصفهم كائنات وهبت عقلاً. 2 - قانون الأمم في علاقاتها بعضها ببعض. 3 - قوانين سياسية تحكم العلاقات بين الفرد والدولة. 4 - القانون المدني علاقات الأفراد بعضهم ببعض.
وذهب مونتسكيو إلى أنه في الأطوار الأولى للمجتمع البشري كان العامل الحاسم في القوانين هو التضاريس الأرضية: أهي غابة أم صحراء أم أرض منزرعة؟ أهي أرض داخلية أم ساحلية؟ أهي جبال أم سهول؟ وما هو نوع التربة وطبيعة الغذاء الذي تنتجه؟ وصفوة القول أن المناخ أول العوامل وبالدرجة الأولى أقوى العوامل في تحديد اقتصاد الشعب وقوانينه (وشخصيته القومية). (إن بودين في القرن السادس عشر سبق مونتسكيو إلى هذا التوكيد الأولى كما تبعه فيه بكل في القرن التاسع عشر). تأمل على سبيل المثال الفوارق المناخية، ونتيجة لها الفوارق البشرية، بين الشمال والجنوب:(36/160)
إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة ... وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة: وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة، وشعوراً أكبر بالتفوق، أي رغبة أقل في الانتقام، وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة وقدراً أقل من الارتياب ومن الدهاء السياسي والمكر. لقد شهدت الأوبرا في لإنجلترا وفي إيطاليا حيث رأيت نفس الروايات ونفس الممثلين، ومع ذلك فإن نفس الموسيقى حدثت آثاراً متباينة في كل من الأمتين، فإحداهما فاترة رابطة الجأش، والثانية نشيطة منتعشة مبتهجة ... وإذا نحن سافرنا إلى الشمال لالتقينا بأناس قلت رذائلهم وكثرت فضائلهم ... وإذا نحن اقتربنا من الجنوب لتخيلنا أننا نبتعد كل الابتعاد عن حدود الأخلاق، حيث تؤدي أقوى الانفعالات والأهواء إلى شتى أنواع الجرائم، حيث يبذل كل إنسان أقصى الجهد، إذا واتته الظروف، أن يحقق رغباته الجامحة ... ".
وفي البلاد الحارة نجد الماء الموجود في الدم يضيع إلى حد كبير بسبب العرق، ومن ثم يجب تعويضه بسائل مماثل، وللماء هناك فوائد جمة، وقد تعمل المشروبات القوية على تخثير كريات الدم الذي يتبقى بعد تبخر الرطوبة المائية. أما في البلاد الباردة فالماء المختلط بالدم قليلاً ما يفقد بالعرق، ومن ثم يجدر أن يستفيدوا من المشروبات الروحية التي بدونها قد يتخثر الدم ... ومن ثم نجد أن تحريم الشريعة الإسلامية للخمر يلائم بلاد العرب. والقانون الذي حرم على القرطاجيين شرب الخمر قانون مناخي. ومثل هذا القانون لا يصلح للبلاد الباردة حيث يبدو أن المناخ يفرض عليهم لوناً من الإدمان على المسكرات بشكل عام ... وينتشر شرب الخمر على قدر البرودة والرطوبة في الجو (82). أو تأمل العلاقة بين المناخ والزواج: إن الإناث في البلاد الحارة يكن صالحات للزواج في سن الثامنة أو التاسعة أو العاشرة ... ويهرمن في سن العشرين، ومن ثم فإن عقلهن لا يقترن بجمالهن. وإذا تطلب الجمال السيطرة والتسلط أفسد العقل هذا المطلب. وإذا تحلين بالعقل تجردن من الجمال .. ومن ثم ينبغي أن تكون(36/161)
هؤلاء السيدات في حالة من التبعية، لأن العقل في الشيخوخة لا يمكن أن يوفر السيطرة التي لم يستطع حتى الشباب والجمال أن يحققاها. ولهذا كان طبيعياً إلى أبعد الحدود في هذه البلاد، إذا لم يكن ثمة قانون يمنع، أن يترك الرجل زوجة ليتزوج بأخرى وأن يباح تعدد الزوجات.
وفي المناخ المعتدل. حيث تحتفظ النساء بمفاتنهن على أكمل وجه، وحيث يتأخر بلوغهن سن النضج، وينجبن في مرحلة متقدمة من الحياة، نجد أن الشيخوخة أزواجهن تتبع شيخوختهن إلى حد ما، وحيث أنهن كن يتمتعن بقدر أكبر من العقل والمعرفة عند الزواج (أكبر من مثيلاتهن في الأقاليم شبه المدارية)، فإن هذا يستوجب وجود نوع من المساواة بين الجنسين، وقانون الاقتصار على زوجة واحدة تبعاً لذلك. وهذا هو السبب في أن الإسلام (مع نظام تعدد الزوجات) دخل بسهولة واستقر في آسيا بقدر ما امتد بصعوبة إلى أوربا، وأن المسيحية استقرت في أوربا وتحطمت في آسيا. وقصارى القول، هذا هو السبب في أن الإسلام أحرز مثل هذا التقدم في الصين، على حين لم تتقدم المسيحية إلا قليلاً (83).
وعند هذه النقطة يتبين مونتسكيو أنه أحل المناخ محل العناية الإلهية عند بوسويه، ويسارع فيضيف إكراماً للرب، احتراساً منقذاً: إن عقول البشر على أية حال خاضعة للعلة الأسمى، الله، الذي يفعل ما يشاء، ويخضع كل شيء لإرادته. وظن بعض اليسوعيين أن مونتسكيو قد عراه الخجل.
وسرعان ما تابع تعميماته الطائشة. ففي "الشرق"، (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يرغم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يعرض تعدد الزوجات وأحاد به الزواج على حد سواء للخطر إذا أطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في (بلادنا في الشمال حيث عادات النساء فاضلة بطبيعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل قدر من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته) (84). إنها لمتعة أية متعة أن تعيش في مثل هذه(36/162)
الأجواء التي تبيح الحديث وحيث الجنس اللطيف البالغ للفتنة يبدو أنه يزين المجتمع، وحيث الزوجات اللاتي تقتصر الواحدة منهن نفسها على إسعاد رجل واحد، ويسهمن في إدخال السرور والبهجة على الجميع (85)).
والعادات والأعراف نتائج مباشرة للمناخ أكثر من القوانين، لأن القوانين ينبغي أن تحاول في بعض الأحيان مقاومة آثار المناخ. وذلك أنه بتقدم الحضارة تتحكم الضوابط الأخلاقية أو القانونية-وينبغي لها أن تتحكم-في العوامل المناخية، مثال ذلك عزل المرأة وحجابها في الشرق. ويهدف أحكم المشرعين إلى موازنة (الأسباب الطبيعية). والعادات والأعراف وظيفة الزمان والمكان، وليس ثمة عادة أو عرف خطأ أو صواب أو أنه الأفضل في حد ذاته. والعرف، في الجملة خير قانون، لأنه تكيف طبيعي بين الشخصية والموقف، ويجدر بنا أن نتأنى ونسير بخطى وئيدة في تغيير العادة والعرف. وتأبى العادة أن تتبدل بالقانون عادة (86).
وحيث أن المواطن يحدد العادة التي تحدد بدورها الخلق القومي فإن شكل الحكومة لا بد أن يختلف من كان إلى مكان تبعاً لهذا المركب الثلاثي. وهي تتوقف بصفة عامة على مدى سعة الرقعة الحكومية: فالجمهورية تنسجم مع رقعة صغيرة من الأرض، يستطيع زعماء المواطنين فيها أن يجتمعوا للتشاور وللتداول أو العمل، فإذا اتسعت الرقعة تطلبت مزيداً من الحروب، وخضعت للحكم الملكي. وتتحول الملكية إلى استبدادية إذا حكمت رقعة شاسعة أكثر مما ينبغي لأن السلطة الاستبدادية وحدها هي التي تستطيع المحافظة على خضوع حكام المقاطعات لسلطانها (87). ويجدر أن تركز الملكية على (الشرف)، أعني أنه يجب تصنيف سكانها في مراتب، كما يجب أن يكون مواطنوها متحمسين غاية التحمس لألقاب الشرف والأوسمة وتفضيلهم أو إيثارهم بالحظوة. أما الجمهورية فيجدر أن تقوم على نشر (الفضيلة) على أوسع نطاق، ويعرف مونتسكيو الفضيلة على طريقته الخاصة بأنها (حب الإنسان لبلده-أعني حب المساواة (88).(36/163)
وقد تكون الجمهورية أرستقراطية أو ديموقراطية تبعاً لطريقة حكمها: هل يتولاه قسم من المواطنين أو كلهم. ويعجب مونتسكيو بفنيسيا (البندقية) كجمهورية أرستقراطية. وبمدن الدول القديمة على أنها ديموقراطية وهو يعلم ولكن يتجاهل أن المواطنين المحررين ليسوا إلا أقلية. ويمتدح الحكم الذي أقامه وليم بن في أمريكا. ويمتدح في حماسة أكبر إنشاء المناطق الشيوعية الدينية التي أسسها اليسوعيون في باراجواي (89). والحق يقال على أية حال إن الديموقراطية الأمينة الحقة لا بد أن تحقق المساواة الاقتصادية والسياسية معاً، وأن تنظم المواريث والمهور، وتعمل على فرض الضريبة التصاعدية على الثروات (90). أن خير تلك الديموقراطيات هي التي يعترف فيها مواطنوها بعجزهم عن تحديد السياسة التي تنتهجها بلدهم، ومن ثم يقرون السياسة التي يحددها ممثلوهم الذين انتخبوهم. وينبغي على الدولة الديموقراطية أن تهدف إلى المساواة ولكن يمكن أن تدمرها روح المساواة المتطرفة، حين يسعد كل مواطن أن يكون في مستوى أولئك الذين اختارهم ليأتمر بأمرهم ... وإذا كان هذا هو الوضع فلن تقوم للفضيلة قائمة في الجمهورية. فهنا يكون المواطنون راغبين كل الرغبة في ممارسة مهام الحكام الذين لا يعود أي توفير أو احترام. وهنا يكون الاستخفاف بمداولات السناتو، ومن ثم لا يكون هناك احترام لأعضائه، ولا احترام لكبر السن، وإذا انعدم التقدير والاحترام لكبر السن انعدم تبعاً لذلك الإذعان للوالدين أو الأزواج والامتثال للرؤساء.
وسرعان ما تتفشى هذه الظاهرة. إن الناس إذ يصابون بهذا البلاء محاولين التستر على فسادهم، يسعون إلى إفساد من وضعوا ثقتهم فيهم ... وعندئذ يقتسمون الأموال العامة فيما بينهم، فإذا استثاروا بإدارة الأمور بالإضافة إلى تكاسلهم وتراخيهم، انصرفوا إلى مزج فقرهم بشيء من لهو الترف (91).
وهكذا يقول البارون، مردداً قول أفلاطون عبر ألفين من السنين: تنقلب الديموقراطية إلى فوضى. ثم إلى دكتاتورية، ثم تنهار.(36/164)
وهناك في مونتسكيو أجزاء كثيرة تحبذ الجمهورية الأرستقراطية، ولكنه خشي الاستبدادية التي ذهب إلى إمكان قيامها في الديموقراطية إلى حد أنه كان يريد الصبر عليها أو تحملها إذا كانت هذه الجمهورية تحكم وفقاً لقوانين راسخة. ويعالج أقصر فصول كتابه الحكم المطلق الاستبدادي وهو يتألف من ثلاث مقالات قصيرة: "إذا أراد متوحشوا لويزيانا ثماراً قطعوا الشجرة من جذورها ليجمعوا الثمار، وهذا رمز للحكومة الاستبدادية (92) " أي أن الحاكم المستبد يستأصل أعظم الأسرات كفاية ومقدرة ليحمي قوته وسلطانه. وكانت الأمثلة التي أوردها لهذا شرقية بشكل يطمئن إليه، ولكن كان من الواضح أنه يخشى نزوع ملكية البوربون إلى الاستبداد، حيث كان الكاردينال ريشيليو ولويس الرابع عشر قد دمرا قوة الأرستقراطية السياسية. وتحدث عن ريشيليو وكأنه "مأخوذ بحب السلطة المطلقة (93) ". أنه كره أشد الكراهية بوصف كونه نبيلاً فرنسياً، أن يهبطوا بمكانة طبقته إلى مجرد أفراد في الحاشية الملكية، واعتقد أن بعض القوى المتوسطة الخاضعة التابعة، ضرورة لحكومة صحيحة وكان يعني بهذه القوى النبلاء مالكي الأرض والحكام الوراثيين، وكان ينتسب إلى كليهما. ومن ثم دافع النظام الإقطاعي بتفصيل شديد (1753 صفحة)، مضحياً بوحدة كتابه وتناسقه. إن مونتسكيو هو الوحيد من بين فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر الذي امتدح نظام العصور الوسطى، واتخذ من لفظة "قوطي"، تعبيراً عن الثناء والإطراء. وفي الصراع الذي استمر طوال حكم لويس الخامس عشر بين الملكية والبرلمانات اتخذ الحكام الذين يعدون للمعركة مصنعاً للحجج والأسانيد في "روح القوانين".
إن نفور مونتسكيو من الحكومة المطلقة مطية للحكم المطلق أدى به إلى تحبيذه حكومة مختلطة: فيها ملكية وأرستقراطية وديموقراطية معاً-ملك ونبلاء وجمعية عامة. ومن هنا كان أشهر آرائه، نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة (94). فالسلطة التشريعية تسن(36/165)
القوانين لكن لا تتولى تنفيذها، وتتولى السلطة التنفيذية القيام على تنفيذها ولكن لا تسنها. وتقتصر السلطة القضائية على تفسيرها. "وتضم السلطة التشريعية مجلسين، مجلس يمثل الطبقات العليا، وآخر بمثل العامة. وهنا يتحدث البارون ثانية.
في مثل هذه الدولة يوجد دائماً أناس يتميزون بحكم مولدهم وثرواتهم وألقابهم، فإذا تساووا وخلطوا بعامة الشعب، فلا يكون لهم إلا صوت واحد مثل الباقين، فإن الحرية العامة تكون بمثابة استرقاق لهم، ومن ثم يفقدون اهتمامهم بمساندة الحكم، وتكون معظم القرارات الشعبية في غير مصلحتهم. ويجدر أن يتناسب نصيبهم مع سائر امتيازاتهم في الدولة، وهذا يحدث فقط حين يشكلون هيئة في الدولة يكون لها الحق في مقاومة إساءة استعمال الشعب للسلطة في الدولة، كما يكون للشعب الحق في مقاومة أي اعتداء على حرية الشعب. ومن هنا تكون السلطة التشريعية في أيدي النبلاء وأيدي الذين ينتخبهم الشعب، على أن يكون لكل هيئة اجتماعية ومداولاتها منفصلة عن الأخرى، ولكل صلاحياتها وآراؤها (95) ".
وتكون كل من الهيئات الثلاث وكل من المجلسين رقيباً بعضهم على بعض، وبهذه الطريقة المعقدة تلتئم حريات المواطن مع حكمة الحكومة وعدالتها ونشاطها.
وكانت هذه الأفكار عن الحكومة المختلطة قد انحدرت إلى مونتسكيو من دراسته لهارنجتون وألجرنو وسيدني ولوك، ومن الخبرة التي اكتسبها في لإنجلترا. إنه ذهب إلى أنه وجد هناك مثله الأعلى مهما كان منقوصاً، في ملكية تكبح جماحها ديموقراطية في مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقراطية في مجلس اللوردات. وظن أن المحاكم في إنجلترا هي بمثابة كابح مستقل لجماح البرلمان والملك وامتدح ما كان قد رأى في إنجلترا رقابة نشتسترفيلد وغيره من النبلاء ولكنه مثل فولتير استخدم هذا الشكل المثالي حافزاً لفرنسا. ولا بد أنه عرف أن المحاكم الإنجليزية ليست مستقلة تمام الاستقلال عن البرلمان، ولكنه ذهب إلى أنه من الخير لفرنسا أن(36/166)
تفكر في الأخذ بحق المتهمين في إنجلترا تحقيق عاجل، أو إطلاق سراحهم بكفالة، ومحاكمتهم أمام محلفين من طبقتهم، مع تحدي الاتهام، وإعفائهم من التعذيب، ولكنه رأى كذلك "ألا يدعى النبلاء للمثول أمام المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم. "إنهم كذلك لهم الحق في محاكمتهم أمام نظرائهم (96) ".
إن مونتسكيو أصبح محافظاً أكثر فأكثر مع تقدمه في السن. إن روح المحافظة على القديم رسالة والتزم في الشيخوخة، كما أن الراديكالية، (التطرف) رسالة نافعة في الشباب، والاعتدال هبة وخدمة في أواسط العمر، ومن ثم كان لنا دستور في ذهن أمة، بما فيه من سلطات ذات وقيود وضوابط متبادلة وعرف مونتسكيو الحرية مع كل تمجيد لها بوصفها الهدف الصحيح للحكومة، بأنها" حق كل إنسان في عمل ما تجيزه القوانين فإذا أتى مواطن شيئاً تحرمه القوانين، فإنه لا يعود يتمتع بالحرية. لأن سائر المواطنين يمكن أن يكون لهم نفس الصلاحية (97) ". واتفق مع زميليه جاسكون ومنتاني، على استنكار الثورات. "إذا ثبت شكل الحكومة واستقر منذ أمد بعيد، وبلغت الأمور حداً معيناً من الثبات والاستقرار، فإنه من الحكمة تقريباً أن تترك الأمور كما هي، لأن الأسباب-هي غالباً معقدو أو غير معروفة-التي هيأت لها الصمود والثبات، سوف تستمر في الإبقاء عليها (أي على هذه الحكومة (98)).
ورفض فكرة المساواة في الملكية أو السلطة ولكنه فكر، مثل جراتسي في تركيز ملكية الأرض: "من الأرض التي تكفي لتغذية أمة ... لا تكاد تحصل عامة الشعب على ما يقوت أسره ... فإن رجال الدين والأمير والمدن وعظماء الرجال وبعض البارزين من المواطنين يصبحون دون أن يحسوا ملاكاً لكل الأرض التي تبقى غير منزرعة. وتهجر الأسرات التي دمرت مزارعها، والرجل الكادح معدم فقير. وفي هذا الوضع يجدر بالهيئة الحاكمة أن توزع الأرض بين الأسرات المحتاجة وتوفر لها المواد والأدوات اللازمة لإصلاحها وزراعتها، وينبغي أن يستمر التوزيع ما دام هناك من يتسلمها (99).(36/167)
واستنكر زراعة الأرض من أجل جباة الضرائب لحساب رجال المال الخصوصيين، واستنكر الرق بشدة في حماسة أخلاقية وتهكم لاذع (100). واعترف بالضرورة الطارئة للحرب، وامتد بمفهوم الدفاع إلى إجازة-المسارعة إلى الاستيلاء على الأراضي: إن حق الدفاع الطبيعي قد ينطوي أحياناً بالنسبة لدولة ما على ضرورة الهجوم، كما يرى بعضهم على سبيل المثال أن حفظ السلام قد يمكن دولة أخرى من تدمير هذا السلام، وعندئذ يكون غزو هذه الأمة الأخيرة هو السبيل الوحيد للحيلولة بينها وبين تدمير السلام (101).
ولكنه استنكر سباق التسلح: ولقد ساد الاضطراب من جديد كل أوربا، فأصاب أمراءها وأغراهم بحشد قوات هائلة، ولهذا مضاعفاته، ويصبح بالضرورة معدياً، فإنه إذا شرع ملك في زيادة قواته، فإن الباقين بطبيعة الحال يحذون حذوه. ومن ثم لا نجني من هذا ألا الدمار الشامل (102).
وعلى الرغم من أنه قدر الروح الوطنية أكبر تقدير إلى حد أنه سوى بنها وبين الفضيلة، إلا أنه راوده في بعض الأحيان حلم مبادئ أخلاقية أرحب أفقاً: "إذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي ولكنه يضر بأسرتي، فينبغي علي ألا أقدم عليه، وإذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي، ولكنه يضر بأسرتي، وليس لوطني، فيجدر بي أن أحاول أن أنساه، وإذا رأيت أن شيئاً ذا فائدة لوطني، ولكنه يضر بمصلحة أوربا والجنس البشري فلا بد أن أعتبره جريمة رسمية (103) ".
إن غاية ما يصبو إليه من مبادئ أخلاقية وديانة خفية هو مذهب الرواقيين القدامى: "لم توجد قط مبادئ أكثر منها التئاماً مع الطبيعة البشرية ولا أقوم منها لبناء المواطن الصالح ... وإذا استطعت أن أتخلى عن المسيحية لحظة لوصفت القضاء على مذهب زينون مؤسس مذهب الرواقيين محنة من بين المحن التي ابتلى بها الجنس البشري ... إن هذا المذهب وحده هو الذي صنع المواطنين، وهو وحده الذي صنع عظماء الرجال وهو وحده الذي صنع الأباطرة. وإذا نحينا جانباً الحقائق التي(36/168)
كشف عنها لحظة، وفتشنا في الطبيعة كلها فإننا لن نجد شيئاً أسمى من الانطوانيين، حتى ولا جوليان نفسه (وهو إطراء انتزع مني أرجو ألا يجعلني شريكاً في جريمة الردة).
كلا، لم يوجد قط منذ عهده أمير أجدر بحكم الجنس البشري (104). وواضح أن مونتسكيو حرص في "روح القوانين" على مسالمة المسيحية. إنه اعتراف بوجود الله-فأي حمق أفظع من قضاء وقدر أعمى خلق كائنات ذكية (105). ولكنه تصور هذا العقل الأسمى كما عبرت عنه قوانين الطبيعة، وهو لا يتدخل فيها مطلقاً. قال فاجيه "إن الله بالنسبة لمونتسكيو هو روح القوانين (106) "، وقبل المعتقدات الخارقة للطبيعة دعامة ضرورية لقانون أخلاقي لا يلتئم مع طبيعة الإنسان. "ومن الخير أن يكون هناك بعض كتب مقدسة لتكون شريعة مثل القرآن عند المسلمين، وكتب زرادشت عند الفرس، والفيدا عند الهنود، والكتب القديمة عند الصينيين. وإن الشرائع الدينية تكمل القوانين المدنية، وتحدد مدى السيطرة الاستبدادية (107) ". وينبغي أن تكون الدولة والكنيسة رقيبة كل منهما على الأخرى، كما ينبغي أن تظل كل منهما منفصلة عن الأخرى. وهذا التفريق الكبير بينهما هو أساس هدوء الأمم (108) ". ودافع مونتسكيو عن الدين ضد بيل (109). ولكنه أخضعه، مثل أي شيء آخر لتأثير المناخ والخلق القومي: "إن حكومة معتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، والحكومة المستبدة أصلح للعالم الإسلامي. وإذا اختيرت ديانة تلائم مناخ بلد ما، تتعارض مع مناخ بلد آخر فإن هذه الديانة لن تقوم في هذا البلد الثاني، وإذا أدخلت كان مآلها النبذ والرفض (110) .... والمذهب الكاثوليكي أكثر ما يكون توافقاً مع الملكية، والبروتستانتية مع الجمهورية .... وإذا انقسمت المسيحية لسوء الحظ إلى كثلكة وبروتستانتية، فإن أهل الشمال يعتنقون البروتستانتية، على حين يظل أهل الجنوب متمسكين بالكاثوليكية. والسبب واضح. فإن أهل الشمال يتمسكون، وسيظلون يتمسكون إلى الأبد بروح الحرية والاستقلال، وهذا ما لا يتمتع به أهل الجنوب. فإن الديانة التي لا يكون لها رئيس بارز هي أكثر ملاءمة لهم (111).(36/169)
وعلى حين سلم مونتسكيو بمزايا الدين إجمالاً فإننا نراه يسهب في نقده، واستنكر شراء رجال الدين في فرنسا (112). ودون "أفظع احتجاج على محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، لوقف إحراق المهرطقين، وحذرهم من أنه "إذا تجرأ أحد في الأجيال القادمة أن يثبت أن الناس في أوربا في عصرنا كانوا متحضرين، فإنه لا بد أن يمثل أمام القضاء ليثبت أنهم كانوا متبربرين (113) " وسخر بوصفه قوطياً محباً لوطنه، من عصمة البابا من الخطأ وألح في أن تكون الكنيسة خاضعة للسلطة المدنية، واتخذ بالنسبة للتسامح الديني موقفاً وسطاً: "إذا كان للدولة مطلق الحرية في اعتناق أو نبذ أي دين جديد، فينبغي أن ترفضه، فإذا اعتنقته وجب عليها أن تتسامح معه (114). ومع كل احترامه للرقيب ظل مونتسكيو عقلانياً "فالعقل هو أكمل وأكرم وأجمل ملكتنا (115) ". وماذا يقدم عصر العقل شعاراً أفضل من هذا؟.
د - النتيجة
ما أسرع ما اعترف الناس "بروح القوانين" حدثاً ضخماً في الأدب الفرنسي، ولكن النقاد تلقفوه عن اليمين وعن الشمال. فالجانسنيون واليسوعيون، وهم على طرفي نقيض عادة، اتفقوا على مهاجمته على أنه رفض ماكر خبيث للمسيحية. وقالت جريدة "أخبار الكنيسة" وهي لسان حال أتباع جانسن: "إن الجمل المعترضة التي يضعها المؤلف ليقول لنا أنه مسيحي تؤكد لنا توكيداً هزيلاً أنه كاثوليكي، وإن المؤلف ليسخر من سذاجتنا إذا حسبناه على غير ما هو عليه". وختم المحرر حديثه بنداء وجهه إلى السلطات المدنية باتخاذ إجراء ضد الكتاب (116). واتهم اليسوعيون مونتسكيو باتباعه فلسفة سبينوزا وهوبز، بافتراضه وجود قوانين في التاريخ مثلما هي في العلوم الطبيعية، ولم يترك مجالاً لحرية الإرادة. ودافع الأب برتييه في صحيفة "تريفو" اليسوعية عن أن الحق والعدل مطلقان، وليسا نسبيين تبعاً للمكان والزمان، وإن القوانين يجب أن ترتكز على مبادئ عامة من الله، لا على تنوعات المناخ والتربة والعرف والخلق القومي (117)(36/170)
ورأى منتسكيو أنه من الحكمة أن يصدر في 1750 "دفاعاً عن روح القوانين"، تتصل فيه من الحاد والمادية والجبرية، وأكد من جديد مسيحيته. ولكن رجال الدين ظلوا غير مقتنعين.
وكان الفلاسفة الناشئون في ذات الوقت مستائين، حيث اعتبروا روح القوانين كتيباً في المحافظة على القديم، واستاءوا من روعه العارض واعتدال إصلاحاته المقترحة، ومفهومه الهزيل الفاتر على التسامح الديني (118). وكتب هلفشيوس إلى مونتسكيو يعنفه على تركيزه السديد على أخطار التغيير الاجتماعي والمصاعب التي تعترضه (119). أما فولتير الذي كان يعد كتابه عن الفلسفة التاريخ في البحث "في الأعراف"، فإنه لم يكن متحمساً لعمل مونتسكيو. ولم يكن قد نسي معارضة السيد الرئيس لانضمامه إلى الأكاديمية بقوله: عار على الأكاديمية أن يكون فولتير عضواً فيها، وسيكون العار عليه يوماً ما ألا يكون عضواً فيها (120) ".
وتوقف نقد فولتير تحت ضغط الظروف، وتحول إلى إطراء غير متحمس واعتراض بأن مونتسكيو كان مبالغاً في تأثير المناخ. ولاحظ أن المسيحية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارصة البرد، ورأى أنه من الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية لأن آن بولين كانت جميلة، لا لأن هنري الثامن كان فاتراً (121). وإذا كانت روح الحرية نشأت-كما ذهب إليه مونتسيكو، في الأقاليم الجبلية، فكيف تفسر قيام الجمهورية الهولندية القوية، أو "حق اعتراض"، اللوردات البولنديين (وفي القاموس الفلسفي) دون صفحات كثيرة تتضمن أمثلة تدل على أن للمناخ بعض الأثر، ولكن للحكومة أثراً كبر منه مائة مرة ولكن للديانة والحكومة معاً، أثراً أكبر من هذا بكثير (122)). إننا لنسأل الذين يؤمنون بأن المناخ يفعل كل شيء (لم يزعم مونتسكيو هذا) لماذا يقول الإمبراطور جوليان في رسائله إن الذي سره في الباريسيين هو خلقهم الوقور وعاداتهم الصارمة، ولماذا نرى الباريسيين الآن، دون أدنى تغيير في المناخ، أطفالاً لعوبين هازلين، وهو أمر تعاقبهم عليه الحكومة وتسخر(36/171)
منهم من أجله، وفي نفس الوقت، كما أنهم هم أنفسهم يسخرون، في لحظة تالية من سادتهم ويهجونهم هجاء لاذعاً (123).
ووجد فولتير الجواب:
إنه الانقباض أو الاكتتاب، وهو عكس ما يرددونه في كثير من الإستشهادات والحكم والمثال، ولكنه دائماً الحقيقة تقريباً ... "فالناس في المناطق الحارة جبناء مثل العجائز، أما في المناخ البارد فهم شجعان مثل الشبان". "إننا يجدر بنا أن نكون على حذر من أن بعض القضايا العامة. تفلت منا، وما كان في مقدور أحد أن يجعل من سكان لابلند أو الأسكيمو محاربين على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها (124).
ثم يمتدح فولتير "روح القوانين" فيقول: "بعد أن أقنعنا أنفسنا على هذا النحو بأن الأخطاء كثيرة في، "روح القوانين ... " وأن هذا العمل ينقصه النهج، كما تعوزه خطة العمل والنظام، فقد يليق بنا أن نتساءل ما الذي أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة، وأدى إلى شهرته العظيمة. إنه في المقام الأول مكتوب بذكاء عظيم، على حين أن من ألفوا في هذا الموضوع كانت كتاباتهم مملة تبعث على السأم والضجر. وعلى هذا الأساس رأت إحدى السيدات (مدام دي ديفان) وهي تتمتع بذكاء مثل ذكاء مونتسكيو أن الكتاب هو "الذكاء في القوانين"، وهو أصح تعريف له. وثمة سبب أقوى وهو أن الكتاب يعرض وجهات نظر أو آراء عظيمة ويهاجم الطغيان والخرافة والضرائب الفادحة ... إن مونتسكيو كاد أن يكون على خلاف مع العلماء لأنه ليس عالماً، ولكنه كان دائماً على حق تقريباً ضد المتعصبين ومتعهدي الرقيق. أن أوربا مدينة له بالشكر والامتنان على الدوام (125).
وأضاف في موضع آخر: "إن الإنسانية كانت قد ضيعت أعمالها المجيدة (من أجل الحرية) واستردها مونتسكيو (126).
واتفق النقد المتأخر مع فولتير إلى حد كبير على حين اعترض على(36/172)
مبالغاته (127). حقاً إن أسلوب الكتاب كان ضعيفاً، مع قليل من المنطق في ترتيب الكتاب وتسلسل موضوعاته ونسيان للفكرة الأساسية التي تحكم الربط بين أجزائه. وفي تحمس مونتسكيو ليكون عالماً، يجمع الحقائق ويفسرها، لم يعد فناناً. أنه ضيع الكل في الأجزاء، بدلاً من تنسيق الأجزاء في كل منسق. وكان قد قضى في جمع مادة الكتاب أكثر من نصف عمره، وكتبه في نحو عشرين عاماً، وأساء التأليف المتقطع إلى وحدة الكتاب، وتسرع في الوصول إلى أحكام عامة من أمثلة قليلة ولم يفتش عن أمثلة تنقضها-مثال ذلك أيرلندة الكاثوليكية في الشمال البارد ومن ثم يجب أن تكون بروتستانتية وتخلى من منهجه حين قال: "لقد وضعت المبادئ الأولى ووجدت أن الحالات الخاصة لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة بشكل طبيعي، وأن تاريخ كل الأمم ليس إلا نتائج لهذه المبادئ "فهذا هو خطر تناول التاريخ بفلسفة يثبتها عن طريق هذا التاريخ وعند جمع مادة الكتاب قبل مونتسكيو كل بيانات السائحين دون تحقيق ولا تدقيق، وفي بعض الأحيان أخذ الخرافات والأساطير على إنها تاريخ، بل أن ملاحظاته المباشرة كان يمكن أن تكون خاطئة، ومن ذلك أنه رأى "فصلاً بين السلطات" وفي حكومة إنجلترا على حين أنه كان من الواضح أن السلطة التشريعية هناك كانت تغطي على السلطة التنفيذية.
وإلى جانب هذه الأخطاء لا بد أنه كان للكتاب مزايا أدت إلى الترحيب به وتأثيره. إن فولتير حدد أسلوبه بحق، على أن الأسلوب أيضاً عانى من شظايا المعلومات لا المعلومات الكاملة المستوفاة. وأولع مونتسكيو بالفصول القصيرة وربما كان هذا وسيلة للتركيز، مثال ذلك الفصل الذي كتبه عن الحكم الاستبدادي المطلق، مما أدى إلى التقطع وعدم الترابط مما عوق تدفق الفكرة. وربما كان جزء من عدم استيفاء البحث راجعاً إلى تفاقم ضعف بصره مما اضطره إلى الإملاء بدلاً من الكتابة. وعندما كان يتمتع بكامل قوته وحيويته حقق في عبارات قوية واضحة بعضاً من الإشراق والروعة في الرسائل الفارسية. ويروي فولتير أن في "روح القوانين من العبارات الساخرة أكثر مما يليق بكتاب في القانون. يقول(36/173)
مونتسكيو "إن الناس فينيسيا مقترون غاية التقتير إلى حد أنه من أجل المومسات وحدهن يستطيع الرجال أن يغادروا البيت ومعهم نقود (128) ". وهذا، على الرغم من كل شيء، أسلوب وقدر معتدل هادئ وهو في بعض الأحيان غامض ولكنه يعوض عن حل الألغاز.
وكان مونتسكيو متواضعاً كما كان مصيباً في أنه أرجع جزءاً من قيمة الكتاب إلى موضوعه وهدفه. أنك لكي تعثر على قوانين في القوانين، وعلى نظام في تنوعها تبعاً للمكان والزمان، ولكي تعمل علة تنوير الحكام والمصلحين عن طريق دراسة مصادر التشريع وحدوده بالنسبة لطبيعة ومكان الدول والناس-فهذا عمل جليل ضخم تقتضي ضخامته وجلاله الصفح عن الزلات. وأخفق هربرت سبنسر في نفس هذا العمل بعد ذلك بمائة وثمانية وأربعين عاماً، وعلى الرغم من عدد كبير من المعاونين في البحث، وبسبب نفس الرغبة في استخلاص أحكام عامة، ولكن كلنا المحاولين كأننا زيادة في الحكمة. ولكن كتاب مونتسكيو كان. أفضل وهناك الناس سبقوه ولم يكن هو البادئ (1) بالتأليف في هذا الموضوع، ولكنه عجل بوضع المنهج التاريخي بقوة للدراسة المقارنة للنظم. ولقد سبق فولتير في وضع فلسفة للتاريخ مستقلة عن الأسباب الخارقة للطبيعة وبلغ آفاقاً واسعة ونزاهة في الرأي لم يبلغها فولتير. إن بيرك أطلق على مونتسكيو "أعظم عبقرية نورت هذا العصر (130) واعتبره بين تين أعقل وأحكم وأكثر الرجال اتزاناً في هذا العصر (131) ورأى هوراس ورلبول أن روح القوانين أحسن كتاب ظهر على الإطلاق (132) وقد لا يكون هذا صحيحاً ولكنه أحسن كتاب ظهر في هذا الجيل.
لقد أنهك هذا الكتاب مؤلفه. وكتب إلى أحد الأصدقاء: أعترف لك أن هذا الكتاب قتلني. سأخلد إلى الراحة ولن أعمل شيئاً بعد الآن (133)
_________
(1) أبقراط: الهواء والماء والأماكن. ارسطو: دساتير أثينا. ميكافيللي: المقالات. بودين: منهج لتيسير بعض المعلومات التاريخية.(36/174)
وعلى الرغم من ذلك استمر يدرس ويبحث. وكان يقول "الدراسة بالنسبة لي هي خير علاج لكل خيبة أمل في الحياة. ولم أجد ضيقاً إلا فرج من كرته ساعة قضيتها في القراءة (134).
وزار باريس من حين لآخر وسعد بشهرته هناك التي كانت تضارع شهرة فولتير آنذاك (1748). ويقول رينال لقد جذب كتاب روح القوانين انتباه كل الشعب الفرنسي. إننا نجده في مكتبات علماءنا ودارسينا وعلى منضدة زينة سيداتنا وعند كل شبابنا المتأنق (135) ورحبوا بالمؤلف من جديد في الصالونات واستقبلوه في البلاط الملكي، ولكنه قضى معظم الوقت في لابيرد حيث قنع بأن يكون سيداً عظيماً. وسر الإنجليز بالكتاب أيما سرور حتى أنهم طلبوا من أعداداً وفيرة. وفي سنيه الأخيرة كاد أن يصاب بالعمى، وكان يقول "يبدو لي أن الأثير الخفيف من البصر الذي بقي لي ليس إلا فجر اليوم الذي تغلق فيه عيناي إلى الأبد (136) وفي 1754 قصد إلى باريس لإنهاء إيجار بيته هناك، ولكنه أثناء تلك الزيارة أصيب بالتهاب رئوي وقضى نحبه في 10 فبراير 1755 وهو في السادسة والستين وتناول الأسرار المقدسة الكاثوليكية. وكان الأديب الوحيد الذي شيع جنازته هو ديدرو وهو من أتباع مذهب اللاأدرية (137) وذاع صيته وامتد أثره على مر القرون. وكتب جيبون: "على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين لم يقبل الناس على قراءة كتاب أو نقده أكثر منه. وليست روح البحث والتحقيق التي أثارها أقل مآثر الكاتب علينا (138) " وكان جيبون وبلاكستون وبيرك من بين من أفادوا من روح القوانين وعظمة الرومان واضمحلالهم وعده فودريك الأكبر أحسن كتاب بعد كتاب الأمير، ورأت كثرين الكبرى أنه ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية لدى الملوك (139) واقتبست فقرات منه للرجال الذين عينتهم لمراجعة القوانين الروسية. ولم ينقل واضعوا مسودة الدستور الأمريكي عن مونتسكيو نظرية فصل السلطات فحسب بل استبعاد أعضاء الوزارة من الكونجرس كذلك(36/175)
وتضمنت كتاباتهم كثيراً من الاقتباسات من الكتاب. وأصبح روح القوانين الكتاب المقدس عند الزعماء المعتدلين في الثورة الفرنسية تقريباً ونشأ عن كتاب عظمة الرومان واضمحلالهم بعض إعجابهم بالجمهورية عند الرومان. ويقول فاجيه أن كل الأفكار الحديثة العظيمة بدأت بمونتسكيو (141) وعلى مدى جيل من الزمان كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا.(36/176)
الفصل الحادي عشر
فولتير في فرنسا
1 - في باريس
1729 - 1734
لدى عودة فولتير من إنجلترا في أواخر عام 1728 أو أوائل عام 1729 اتخذ مسكناً مغموراً في حي سان جرمان-ان لي-على بعد 11 ميلاً إلى الشمال الغربي من باريس، وحشد أصدقاءه لينشروا أنباء غير رسمية عن إلغاء قرار نفيه من فرنسا ثم من العاصمة، ونجحوا في هذا، بل في استعادة معاشه الملكي كذلك. وما حل شهر أبريل حتى ظهر فجأة، وأخذ يجول خلال العاصمة. وفي أحد الاجتماعات سمع أن العالم الرياضي كوندوا مين حسب أن من يشتري كل أوراق "اليانصيب" التي تصدرها باريس لا بد أن يحقق ثراء، فأسرع فولتير واقتراض نقوداً من رجال المصارف من أصدقائه. واشترى كل الوراق، فكان ما تنبأ به العالم الرياضي، ولكن المراقب العام للحسابات رفض الدفع، فرفع فولتير دعوى أمام القضاة وكسب القضية وتسلم المبلغ (1) وفي أخريات عام 1729 قطع 150 ميلاً في ليلتين ونهار واحد من باريس إلى نانسي ليشتري أسهماً في مشروع دوق اللورين، وعادت عليه هذه المغامرة بأرباح طائلة. وهكذا أعان فولتير مدبر الأعمال المالية فولتير الشاعر الفيلسوف.
نراه في 1730 مرة أخرى في باريس مفتوناً إلى حد الجنون بالمغامرات والمشروعات، وكان لديه عادة عدة أعمال أدبية قيد الإنجاز في وقت واحد، يتنقل من واحد إلى الآخر، ولذة الهوى في التنقل، دون أن يضيع وقتاً. وكان آنذاك يكتب رسائل عن الإنجليز وتاريخ شارل الثاني عشر "موت الآنسة ليكوفرير"، والصفحات الأولى في الغادة العذراء. وذات يوم 1730 اقترح عليه زوار الدوق دي ريشيليو وهم(36/177)
يتحدثون عن جان دارك أن يكتب لها تاريخاً، ولم يكونوا بعد في فرنسا قد اعترفوا بها قديسة حامية لفرنسا. وبدا للمفكر الحر فولتير أن العناصر الخارقة للطبيعة في أسطورة جان دارك تشد انتباهه إلى معالجة تاريخها معالجة فكاهية. فتحداه ريشيليو أن يحاول ذلك، وكتب فولتير المقدمة في تلك الليلة، ولم تكن مرثيته في ليكوفرير قد نشرت بعد، ولكن صديقه الأخرق نيقولا ثيوريو كان قد قرأها على الملأ على أوسع نطاق. وأستأنفت الأصوات اللاهوتية البغيضة طنينها المزعج حول رأس فولتير.
وفي 11 ديسمبر وكأنما كان فولتير ظمآناً إلى كسب الأعداء، أخرج قصته لوسيوس جينيوس بروتوس الذي أطاح طبقاً لرواية ليفي بعرش الملك تاركينيوس وأسهم في إقامة الجمهورية الرومانية، وأنكرت المسرحية على الملوك قدسيتهم وعدم جواز انتهاك حرماتهم، ونادت بحق الشعب في تغير حكامه. وشكا الممثلون من أن الرواية خالية من فكرة الحب ووافقت باريس على أنها بدعة خرقاء سخيفة. وسميت المسرحية بعد عرضها 16 مرة. وبعد اثنتين وستين عاماً أعيد تمثيلها من جديد، لأن باريس كانت آنذاك تواقة إلى مشاهدة مقصلة لويس السادس عشر.
وفي نفس الوقت كان فولتير قد حصل على ترخيص ملكي بنشر "تاريخ شارل الثاني عشر ملك السويد". وهنا كان الموضوع لا يكاد يسيء إلى لويس الخامس عشر أو الكنيسة، كما يسر الملكة، لأن الرواية تناولت موقف أبيها ستانسلاس بشكل لائق كريم. وظهرت طبعة من 2600 نسخة في الوقت الذي ألغى فيه الترخيص الملكي دون سابق إنذار، وصودرت كل النسخ فيما عدا واحدة احتفظ بها فولتير. واحتج فولتير لدى حامل الأختام فأبلغ أنه قد حدث تغيير في السياسة الخارجية مما كان لزاماً معه إرضاء غريم شارل الثاني عشر وضحيته، وهو أوغسطس "القوي" الذي ما زال ملكاً على بولندة. وقرر فولتير أن يتجاهل أمر الحظر وانتقل متنكراً إلى روان وباشر طبع تاريخه سراً. وفي أكتوبر 1731 تداوله الناس في حرية مطلقة وأقبلوا على قراءته وكأنه قصص.(36/178)
وذهب بعض النقاد إلى انه محشو بالخيال، واسماه بعض المؤرخين الواسعي الاطلاع رومانسية "في أسلوب مشرق بارع في السرد القصصي، ولكنه غير دقيق في التفاصيل (2) ولكن فولتير كان قد أعد الكتاب على طريقة الباحث المدقق إنه لم يطلع على وثائق الدولة فحسب بل إنه كذلك توقف ليستقي المعلومات من مصادرها الأصلية: الملك السابق ستانسلاس، ماريشال دي ساكس دوقة مالبرو، بولنجيروك، آكسل سبار (الذي اشترك في معركة نارفا) فونسيكا (طبيب برتغالي كان يعمل في تركيا أثناء وجود شالر هناك) والبارون فابريس (سكرتير شارل سابقاً). وأكثر من هذا فإن فولتير كان قد أقام فترة مع البارون فون جورتز وزير شارل ذي الحظوة لديه. وربما حول إعدام البارون 1719 نظر فولتير إلى دراسة أسد الشمال "وفي 1740 أشار جوران برج الذي كان قسيس شارل إلى الأخطاء التي وقع فيها فولتير، وقام فولتير بتصويب هذه الخطاء في الطبعات اللاحقة. وكانت هناك أخطاء أخرى وبخاصة في الوصف التفصيلي للمعارك. وجادل النقاد المتأخرون (3) في أن فولتير بالغ في تقدير شارل على "إنه الرجل الأكثر استثناء وخرقاً للعادة الذي ظهر على الأرض" وجمع في شخصيته بين أعظم مناقب أسلافه. ولا عيب فيه ولا ينغص عليه حياته إلا أنه جمع بين هذه المناقب في إفراط زائد (4) وربما تخفف الكلمة الأخيرة من حدة النقد، فقد أوضح فولتير أن شارل جاوز الحد وافرط في التحلي بهذه المناقب البطولية حتى أصبحت عيوباً وعددها، ومنها التبذير والتهور والقسوة وعدم القدرة على المغفرة والصفح. كما أوضح كيف أن أخطاء الملك قد أضرت بالسويد. وانتهى إلى أن شارل "كان رجلاً شاذاً استثنائياً لا رجل عظيماً (5) "وعلى أية حال لم يكن الكتاب عملاً ثقافياً فحسب، بل عملاً فنياً كذلك-من حيث التركيب والشكل والحيوية والأسلوب-وسرعان ما أقبل كل المتعلمين في أوربا على قراءة شارل الثاني ملك السويد وذاعت شهرة فولتير إلى حد لم يسبق له مثيل.
وأصبح فولتير بعد عودته من روان (5 أغسطس 1731) ضيفاً مقيماً(36/179)
على الكونتيس دي فونتين مارتل في قصرها بالقرب من "الباليه رويال"، وقد وجدت في رفقته سعادة بالغة حتى ظلت تؤويه وتطعمه حتى مايو 1733 وترأس في حيوية شديدة ولائم العشاء الأدبية التي كانت تقيمها، ومثل المسرحيات وبخاصة مسرحياته هو على مسرحها الخاص. وفي أثناء إقامته هناك كتب نص "أوبرا شمشون" لرامو-وهو ملحن فرنسي في القرن الثامن عشر (1732) -ومن المحتمل أنه شهد من مقصورة الكونتيس في "المسرح الفرنسي" سقوط روايته "اريفيل" (1732) كما شهد النجاح الباهر الذي لقيته مأساة زائير (13 أغسطس 1732) فكتب إلى صديق له: "ما مثلت رواية بمثل الروعة التي مثلت بها زائير في عرضها الرابع. وكم وددت لو أنك كنت معي لتشهد أن الجمهور لم يسخط على صديقك، وظهرت في المقصورة، واتجهت كل الأيدي بالتصفيق لي، فأستحيت وخبأت نفسي. ولكني أكون مرائياً إذا لم اعترف لك بأني قد اهتزت مشاعري وتأثرت كثيراً (6).
وظلت هذه المسرحية أحب مسرحياته إليه حتى النهاية. إنها كلها ليس لها وجود الآن، قضى عليها تغير الأذواق والأمزجة والأسلوب، ولكنا بجدر بنا أن نبعث إحداها على الأقل من قبرها، لأنها لعبت جميعاً دوراً مثيراً كبيراً في حياته. وزائير طفلة مسيحية أسرها المسلمون في صباها في الحروب الصليبية، وأنشئوها على العقيدة الإسلامية، وهي لا تعرف إلا القليل عن فرنسا اللهم إلا أنها مسقط رأسها، وهي الآن غادة فاتنة في حريم السلطان أوروزمان في بيت المقدس. وهام السلطان وهامت هي به حباً. وفي مستهل الرواية كانت على وشك أن تصبح زوجة له. وتؤنبها أسيرة مسيحية أخرى اسمها فاتيما على نسيانها أنها كانت مسيحية. وفي رد زائير توضيح لأثر الجغرافيا في تحديد العقيدة الدينية: "إن أفكارنا وعاداتنا وعقيدتنا الدينية إنما الأعراف والتقاليد والنزعة القومية السائدة في أيامنا الأولى. فإذا رأت النور على ضفاف نهر الكنج لعبدت أوثان الهند، وإذا ولدت في باريس لكن مسيحية. وأنا الآن مسلمة سعيدة. إننا لا نعرف إلا ما تلقناه إن أبدى الأبوين اللذين يتوليان تربيتنا(36/180)
وتعليمنا هي التي تنقش على قلوبنا الغضة تلك الأحرف التي ينقحها الزمن ويصقلها. وتعمل القدرة على تثبيتها عميقة في عقولنا، ولا يقدر على محوها إلا الله (7).
ويصور فولتير أوروزمان رجلاً يتحلى بكل الفضائل بشكل واضح إلا الصبر. إن المسيحيين ليصعقون ويذهلون إذ يرون مسلماً وقوراً مهذباً مثل المسيحيين. وتتولى السلطان الدهشة إذ يرى مسيحية فاضلة، ويرفض أن يحتفظ بحريم، ويعد بالاقتصار على زوجة واحدة. ولكن فولتير كان منصفاً لشخصياته المسيحية كذلك، فهو ينظم أبياتاً عامرة في جمال الحياة المسيحية الحقة. وهناك أسير مسيحي آخر هو نير ستام، وقع في الأسر في طفولته كذلك، ونشأ مع زائير، وفك أساريره حين تعهد بالرجوع ليفتدي بالمال عشرة من الأسرى، ويذهب ثم يعود ليدفع مبلغ الفدية المطلوب من ماله الخاص. ويكافئه أوروزمان بإطلاق سراح مائة لا عشرة فقط من المسيحيين. ولكن نير ستام بحزن لأن زائير ولوسنيان لم يكونا من بين من أطلق سراحهم، ومكان هذا الملك بيت المقدس (1186 - 1187). وتناشد زائير السلطان أوروزمان أن يطلق سراح لوسنيان، فيجيبها إلى طلبها. إن الملك العجوز يعتبر زائير في منزلة ابنته ونير ستام في منزلة ابنه. إنها الآن موزعة بين حبها للسلطان الكريم وولائها لأبيها وأخيها وعقيدتهما المسيحية. ويهيب بها لوسنيان أن تتخلى عن السلطان والإسلام معاً: "أواه يا أبنتي، فكري في الدم الزكي الذي يجري في عروقك، دم عشرين ملكاً كلهم مسيحيون مثلي، دم الأبطال، دم المدافعين عن العقيدة، دم الشهداء والقديسين. إنك لا تعرفين مصير أمك، إنك لا تعرفين أنه في نفس اللحظة التي ولدت فيها ذبحها أولئك المتبربرون الذي تعتنقين دينهم البغيض على مرأى مني. إن أخوتك والشهداء الأعزاء يمدون إليك أيديهم من السماء، يريدون أن يحتضنوا أختاً لهم. آه يا ابنتي! تذكريهم! إن الرب الذي خنث عهده، لفظ النفس الخير من أجلنا ومن أجل البشر جميعاً. انظري إلى الجبل المقدس الذي قتل عليه مخلصنا، والمقبرة التي نهض منها ظافراً منتصراً. في كل طريق تمشين فيه سترين خطوات الرب، هل(36/181)
تنكرين خالقك؟ زائير: ... يا إلهي العظيم ... تكلم يا أبتاه ماذا أفعل؟ لوسنيان: ... أذهبي عني العار والحزن بكلمة منك، وقولي أني مسيحية. زائير: إذن يا إلهي، أنا مسيحية .....
لوسينان: أقسمي بأنك ستحفظين هذا السر الخطير.
زائير: اقسم لك على ذلك (8).
ولما علم نير ستام بإصرارها على الزواج من أوروزمان، راوده التفكير في قتلها، ولكن رق قلبه، وألح في قبولها التعميد فوافقت، وبعث إليها برسالة يحدد فيها مكان وزمان الاحتفال بتعميدها، وحسب أوروزمان الذي لم يكن يدري أن نير ستام أخوها، إنها رسالة حب وغرام، ويفاجئ زائير في الموعد المضروب، ويطعنها. ثم يكتشف أن العشيقين المزعومين ليسا إلا أخاً وأختاً، فينتحر.
إن حبكة الرواية موضوعة ببراعة، مبسوطة بطريقة مسرحية متماسكة وهي تمثل في شعر سلس موسيقي. وإننا لندرك من خلال القطع العاطفية التي تبدو الآن ثقيلة مبالغاً فيها، والسبب في أن باريس أغرمت بزائير وأوروزمان، وفي أن الملكة الصالحة الحزينة ذرفت الدمع عند تمثيل المسرحية للحاشية في فونتنبلو. وترجمت المسرحية إلى الإنجليزية ومثلت بسرعة في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا. ونودي آنذاك بفولتير أعظم شاعر على قيد الحياة في فرنسا، وخلفاً صالحاً لطورني وراسين. ولكن هذا لم يرق في عيني جان بابتست روسو، وهو شاعر فرنسي مقيم في المنفى في بروكسل، فحكم على زائير بأنها "مسرحية تافهة فاترة ... مزيج كريه من التدين والفجور". فرد عليه فولتير شعراً في معبد الذوق" يشهر فيه بروسو ويمجد موليير.
وبلغ فولتير ذروة المجد وعانق النجوم، ولكنه لم يكف عن العمل. ففي شتاء 1732 - 1733 درس الرياضيات كما درس نيوتن، مع ضحيته مستقبلاً موبرتوي Moupertuis، وأعاد كتابة "ايريفيل Eriphile" ونقح زائير وشارل الثاني عشر، وجمع مادة كتابه "قرن لويس الرابع(36/182)
عشر" ووضع اللمسات الأخيرة على كتابه "رسائل عن الإنجليز" وأخرج مسرحية أخرى (أليد) كما كتب أشياء صغيرة لا تحصى: رسائل، قصائد مدح، اقتراحات، بعض الحكم الساخرة، بعض أغاني الحب-وكلها تتسم بالظرف في نظم رقيق مصقول. وعندما ماتت مضيفته السخية، مدام دي فونتين مارتل، انتقل إلى داره في شارع (لونج بزان) واشتغل بتصدير القمح. ومذ جمع بين التجارة والقصص، فإنه التقى (1732) بالسيدة جبرييل اميلي لي تونلييه دي برتيل مركيزة دي شاتيليه، وارتبطت حياته بحياة السيدة الفذة المغامرة حتى وافاه الأجل المحتوم.
وكانت آنذاك في السادسة والعشرين (وهو في الثامنة والثلاثين)، وكانت حياته بالفعل حافلة متعددة الجوانب فهي ابنة البارون دي برتييه، ولذلك تلقت تعليماً غير عادي. حتى أنها في سن الثانية عشر تعلمت اللاتينية والإيطالية وغنت غناء رخيماً، وعزفت على البيان الصغير، وبدأت في سن الخامسة عشرة تترجم الإلياذة إلى الفرنسية شعراً، وأضافت إلى هذا اللغة الإنجليزية ودرست الرياضيات على يدي موبرتوي. وفي التاسعة عشرة تزوجت المركيز فلورنت كلود دي شاتيليه لومونت، وكان في الثلاثين من العمر. وأنجبت له ثلاثة أطفال. ولكن فيما بعد هذا لم يكن للواحد مبهماً يرى الآخر إلا لماماً، حيث كان هو عادة مشغولاً مع فرقته، أما هي فبقيت قريبة من الحاشية وقامرت بمبالغ طائلة، وجربت الحب. فلما هجرها عشيقها الأول تناولت سماً، وأنقذوها على كره منها بواسطة عقار مقيء، واحتملت في رباطة جأش جربتها من قبل، هجران عشيق ثان هو الدوق دي ريشيليو، لأن كل فرنسا عرفت قصة تقلبه بين النساء.
والتقى فولتير بالمركيزة على مائدة العشاء فلم ينزعج، بل سرته قدرتها على التحدث في الرياضيات والفلك والشعر اللاتيني. ولم تكن مفاتنها طاغية لا سبيل إلى مقاومة إغرائها، ولكن سيدات أخريات أسرفن، في وصفها. استمع إلى مدام دي فان وهي تقول: (امرأة ضخمة متحفظة لا أوراك لها، صدرها هزيل؛ ... ذات ذراعين ضخمين ورجلين(36/183)
كبيرين، وقدمين ضخمتين، ورأس صغير جداً، وقسمات حادة، وأنف محدد وعينية صغيرتين خضراوين تميلان إلى الزرقة. سمراء البشرة أسنانها رديئة (9) " واتفقت معها المركيزة دي كريكي فقالت "إنها عملاقة-ماردة، ذات قوة جبارة، وكانت فضلاً عن ذلك آية في القبح والبشاعة، وكان جلدها في لون مبشرة جوزة الطيب الداكنة، إنها تشبه في جملتها جندياً طويل القامة قبيح الصورة. ومع ذلك تحدث فولتير عن جمالها (10) ". أن سانت لامبرت الوسيم احبها سراً عندما كانت في الثانية والأربعين. وليس لنا أن نثق في رأي السيدات بعضهن في البعض الآخر. وقد تبين من صورها الشخصية أن اميلي كانت طويلة القامة مسترجلة، ذات جبهة مديدة ونظرة متعجرفة، ولم تكن قسمات وجهها غير جذابة، وقد نشعر بشيء من الاطمئنان إذا علمنا أن (لها صدراً شهوانياً ولكنه راسخ (11)).
ويمكن أن تكون أميلي قد كان فيها ما يكفي من الرجل ليكمل المرأة في فولتير. ومهما يكن من أمر فإنها لجأت إلى كل الحيل والوسائل الأنثوية لتصلح ما أفسد الدهر من جمالها-مستحضرات التجميل والعطور والمجوهرات والحلي والمخرمات. وسخر فولتير من ولعها بالتزين. ولكنه أعجب بتحمسها للعلوم والفلسفة. فهنا سيدة استطاعت حتى في غمرة الصخب والضوضاء في باريس وفرساي أن تنسحب من مائدة القمار، لتدرس نيوتن ولوك، إنها لم تقرأ نيوتن فحسب بل أنها استوعبته كذلك زهي التي ترجمت قوانين نيوتن إلى الفرنسية، ووجد فولتير أنه من اللائق أن يتخذ من نفس المرأة رفيقة دراسة وعشيقة في وقت معاً. وفي 1734 اعتبر بنفسه بالفعل الرجل الذي ترتضيه عشيقاً لها: (يا إلهي! أية لذة ومتعة أجدها بين ذراعيك كم أنا سعيد بالإعجاب بالمرأة التي أحبها (12)!
2 - رسائل عن الإنجليز
في عامي 1733 و1734 نشر فولتير بعد عناء شديد أول إسهامه في عصر الاستنارة، وكان عبارة عن 24 رسالة موجهة من إنجلترا إلى تييريو(36/184)
وترجمت إلى الإنجليزية وصدرت في لندن (1733) رسائل متعلقة بالأمة الإنجليزية. ولكن كان في طبع الأصول في فرنسا مغامرة بحرية المؤلف وصاحب المطبعة كليهما. وخفف فولتير من بعض الأجزاء، وحاول أن يحصل على أذن من الحكومة بطبع البقية، فرفضوا منحه الترخيص، وهنا لجأ ثانية إلى نشرها سراً في روان. وحذر الناشر جور من تسرب أية نسخة للتداول لبعض الوقت على الأقل، ولكن في أوائل 1734، وصلت عدة نسخ إلى باريس تحت عنوان "رسائل فلسفية". وحصل أحد القراصنة الناشرين على نسخة، وأصدر منها طبعة كبيرة العدد دون على فولتير. وفي نفس الوقت كان فولتير ومدام دي شاتيليه قد قصدا إلى قصر مونتحي بالقرب من أوتون على مسافة 190 ميلاً من باريس ليحضرا حفل زفاف ريشيليو.
وبدأ الكتاب بأربع رسائل عن جماعة الكويكرز الإنجليزية، وأوضح فولتير أن هؤلاء الكويكرز ليس لهم تنظيم كنسي ولا قساوسة ولا أسرار ولا قرابين مقدسة، مع ذلك مارسوا الشعائر المسيحية في إخلاص وإيمان أكثر من أي مسيحيين عرفهم. ووصف أو تخيل زيارة قام بها لواحد منهم وقال: "سألت واحداً منهم: سيدي العزيز، هل عمدوك؟ فأجاب "لا لم أعمد لا أنا ولا أخوتي". وصحت في وجهه: عجباً كيف يكون هذا إذن أنتم لستم مسيحيين! فأجاب في صوت هادئ خفيض يا بني، لا تقسم، نحن مسيحيون" "ونحن نحاول أن نكون مسيحيين صالحين، ولكننا لا نرى أن المسيحية مجرد ماء بارد مع قليل من الملح على الرأس وعارضته. (يا إلهي! لا تتحدث بهذا الضلال! هل نسيت أن يوحنا عمد المسيح؟) فرد قائلاً: يا صاحبي، لا تقسم بعد ذلك، إن يوحنا عمد المسيح ولكن المسيح لم يعمد أحداً ... ونحن أتباع المسيح لا أتباع يوحنا فقلت له: (وا حسرتاه أيها المسكين جزاؤك الحريق في بلاد محاكم التفتيش وسألني (هل أجروا لك عملية ختان؟).
فأجبته (لم يكن لي شرف الختان).(36/185)
فقال: (حسناً، أنت مسيحي دون ختان، وأنا مسيحي دون تعميد)
وقال الكويكرز إن التعميد مثل الختان من العادات السابقة على المسيحية وقد أبطلها إنجيل السيد المسيح الجديد. ثم استطرد فولتير يتحدث عن الحرب) لن نذهب أبداً إلى الحرب، لا لأننا نخشى الموت، بل لأننا لسنا ذئاباً ولا نموراً، ولا كلاباً نحن رجال مسيحيون. أن إلهنا الذي أمرنا نحب أعداءنا يقينا لا يريد منا أن نعبر البحر لنقتل أخوة لنا، لمجرد أن السفاحين الذين يرتدون ثياباً في لون الدم وقبعات عالية ترتفع إلى قدمين يجندون المواطنين بينما يحدثون جلبة باثنتين من العصي ممدتين على جسم حمار. وبعد النصر تتألق لندن كلها في الأضواء وتلتهب سماؤها بالألعاب النارية وطلقات المدافع، على حين نرثي في صمت للمذبحة التي أدت إلى مثل هذا الابتهاج العام (13).
لقد أوذيت فرنسا أيما إيذاء، وكادت أن تدمر نفسها لمحاولتها فرض عقيدة واحدة على جميع الفرنسيين. وأسهب فولتير في وصف التسامح بالنسبة للخلافات الدينية في إنجلترا. "هذه بلد الطوائف. والرجل الإنجليزي، باعتباره حراً يسلك إلى السماء الطريق الذي يختاره. (14) ووازن فولتير بين أخلاق رجال الدين الإنجليز وأقرانهم الفرنسيين. وهنأ الإنجليز بأنهم ليس لديهم رهبان. إن الإنجليز ليحمدون الله ويشكرونه على أنهم بروتستانت حين يعلمون أن الشبان الفرنسيين المعروفين بفسقهم وفجورهم يرقون إلى مناصب الأساقفة والمطارنة بفعل الدسائس، ويؤلفون الأغاني الرقيقة ويقيمون ولائم العشاء الباذخة كل يوم تقريباً، ويطلقون على أنفسهم أنهم خلفاء الرسل. (15) وفي الرسالة الثامنة أدار فولتير الخنجر إلى صدر الحكومة في فرنسا: "إن الأمة الإنجليزية وحدها هي التي عرفت كيف تحدد سلطة الملوك بوقوفها في وجههم ... وأخيراً أقامت هذه الحكومة الرشيدة، وفيها يتمتع الملك بكل القوة والسلطة في أن يفعل الخير، على حين تغل يداه عن الإتيان بأي شر أو سوء. (وهنا يردد فولتير عبارة مشهورة مأثورة عن رواية فنليون "تليماك". إن إقرار الحرية في إنجلترا تطلب ثمناً غالياً(36/186)
ولا ريب، فقد أغرق صنم الحكم الاستبدادي المطلق في بحر من الدماء، ولكن الإنجليز لا يرون أنهم اشتروا القوانين العادلة الصالحة بثمن باهظ، فهناك أمم أخرى مرت بمحن وأوقات عصيبة لا تقل عما عاناه الإنجليز، ولكن الدماء التي أريقت دفاعاً عن قضية الحرية لم تكن إلا تثبيتاً لعبوديتها (21).
إن حق التحقيق في قانونية حبس التهم في إنجلترا يحرم السجن دون قضية محددة، ويتطلب محاكمة علنية، بواسطة المحلفين، أما في فرنسا فهناك "الأوامر السرية المختومة". وقبل مونتسكيو بأربعة عشر عاماً، رأى فولتير "فصل السلطات في الحكومة الإنجليزية وامتدحه وبالغ فيه، كما رأى تنسيق العمل بين الملك ومجلس اللوردات ومجلس العموم. وأشار فولتير إلى أنه لا يمكن فرض ضرائب إلا بموافقة البرلمان" "وأنه لا يعفي أحد من ضرائب معينة ... لأنه نبيل أو كاهن. " (17) وفي إنجلترا يشتغل صغار أبناء النبلاء بالتجارة وبمختلف المهن، أما في فرنسا فإن التاجر غالباً ما يسمعهم يتحدثون عن مهنته في ازدراء واحتقار، حتى يبلغ به الحمق إلى حد الشعور بالخزي والعار من الاشتغال بالتجارة. ولست أدري أيهما أنفع للدولة-نبيل نتأنق يعرف بالضبط متى يصحو الملك من نومه أو يأوى إلى فراشه، ويستشعر العظمة حين يقوم بدور العبد الرقيق ... أو رجل أعمال (مثل فوكنر مضيف فولتير في لندن، يثري وطنه ويصدر الأوامر من مكتبه إلى سورات والقاهرة، ويسهم في إسعاد العالم بأسره (18) وأخيراً في قطعة تضمنت برنامجاً لفرنسا ذهب فولتير إلى: أن الدستور الإنجليزي بلغ قمة التفوق وكان من نتيجة ذلك أن كل الناس استعادوا حقوقهم الطبيعية، على حين أنهم محرمون منها في سائر الملكيات تقريباً. وهذه الحقوق هي الحرية الكاملة في أشخاصهم وفي ممتلكاتهم: حرية الصحافة حق المحاكمة بناء على نص صريح في القانون، وحق كل إنسان في اعتناق العقيدة التي يرتضيها دون إزعاج. (19)
ولا بد أن فولتير عرف أن فريقاً من الناس فقط هم الذين تمتعوا بهذه الحقوق الطبيعية "وأن الحرية الشخصية لم تتحر من خطر الرقابة الصحفية،(36/187)
وأنه كانت هناك حدود وقيود على حرية الكلام في الدين وفي السياسة، وأن المنشقين والكاثوليك كانوا مستبعدين من الوظائف العامة. وأنه كان من الميسورة في إنجلترا رشوة القضاة ليتجاهلوا القانون. إن فولتير لم يدون وصفاً نزيهاً لواقع إنجلترا, أنه كان يستخدم إنجلترا سوطاً يحرك به الثورة في فرنسا ضد ظلم الدولة أو الكنيسة. أن كون كل هذه الحقوق تقريباً أصبحت الآن قضية مسلماً بها في البلدان المتحضرة يضفي على ما أنجزه القرن الثامن عشر روعة وجلالاً.
ولا يقل عن هذا أهمية في أثره على الفكر الحديث امتداح فولتير لبيكون ولوك ونيوتن. إنه قال عن بيكون الذي اتهموه وجرحوه ما حكم به بولنجيزوك على مالبرو "إنه رجل بلغ من العظمة حداً لا أستطيع معه أن أتذكر هل كان له أخطاء أم لا" (20) ثم أردف يقول" إن هذا الرجل العظيم بيكون هو أبو الفلسفة التجريبية لا من أجل التجارب التي قام بها، بل بما وجه من نداءات قوية للنهوض بالبحث العلمي. وتلك هي الفكرة التي حدت بديدرو ودالمبرت إلى القول بأن بيكون هو أول من أوحى إليهم بدائر المعارف التي وضعوها.
وخصص فولتير لجون لوك كل الفصل الثالث عشر تقريباً. إنه لم يجد فيه مجرد علم العقل بدلاً من أسطورة النفس، بل وجد فلسفة كامنة كاملة حتى أنه بإرجاعه كل المعرفة إلى الشعور، حول الفكر الأوربي عن الإلهام الإلهي إلى الخبرة الإنسانية، باعتبارها المصدر الوحيد للحقيقة وأساسها. ورحب برأي لوك في أنه يمكن تصور إن المادة يمكن تمكينها من التفكير وغصت بهذه العبارة بالذات حلوق رجال الرقابة الفرنسية، وكان لها أثراً كبير في الحكم على الكتاب وإدانته. ويبدو أنهم تنبئوا فيها بمادية لامتري وديدرو. ورفض فولتير أن يسلم نفسه إلى المادية، ولكنه عدل عبارة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" إلى "أنا جسم وأنا أفكر ولا شيء غير هذا".
وأشارت الرسالة الرابعة عشرة على الفرنسيين أن يتخلصوا من ديكارت(36/188)
وينصرفوا إلى دراسة نيوتن. إن حكم الرأي العام في إنجلترا على هذين المفكرين هو إن أولهما كان حالماً والثاني حكيماً. وقدر فولتير أعظم تقدير إضافات ديكارت إلى الهندسة، ولكنه لم يستسغ الدوامات الكونية عند ديكارت. إنه أقر بأن ثمة شيئاً وهمياً غامضاً، أو على الأقل مخدراً في مقالات نيوتن عن الكرونولوجيا القديمة (تقسيم الزمن إلى فترات وتعيين تاريخ الأحداث) وسفر الرؤيا، وأوحى فولتير بشكل لطيف بأن نيوتن كتب هذه المقالات ليعزي البشرية عن تفوقه البالغ عليها (21) إنه وجد أن نيوتن ما زال عويصاً يصعب فهمه، ولكن اجتماع الرجال البارزين في الحكومة وفي ميدان العلوم لتشييع جنازته ترك في نفسه أثراً عقد معه العزم على دراسة قوانين نيوتن، وعلى أن يكون رسول نيوتن إلى فرنسا، وهنا أيضاً غرس فولتير بذور دائرة المعارف وعصر التنوير.
وأخيراً صدم فولتير الفكر الديني في فرنسا بنقد لاذع وجهه إلى آراء بسكال. إنه لم يقصد تضمين هذا في رسائله، فليس لهذا علاقة بإنجلترا، ولكنه كان قد أرسله من إنجلترا إلى تيير 1728، فألحقه الناشر اللص بالرسائل باسم رقم 25، وكانت النتيجة أن الجانسنيين-الذين قدسوا بسكال إلى حد العبادة، وسيطروا على برلمان باريس-، فاقوا الآن اليسوعيين (الذين لم يحبوا بسكال قط) في استنكار فولتير وشجبه وكان فولتير غير قابل أساساً للاتفاق مع بسكال حيث كان في هذه المرحلة (اللهم إلا في رواياته) عقلانياً متشدداً لم يكن قد وجد بعد مجالاً للوجدان في فلسفته. وكان لا يزال شاباً ممتلئاً حيوية ونشاطاً ينعم بالحياة وسط محنه البطولية، ومن ثم عارض التشاؤم الجزع الكئيب عند بسكال "ولسوف أتجاسر فأقوم بدور الجنس البشري ضد هذا المبغض للشر المهيب" (22) ورفض "رهان" بسكال (أي أنه من الأحكم أن نراهن على وجود الله لا العكس) باعتباره عملاً صبيانياً يجافي الحشمة والوقار ... إن اهتمامي بالاعتقاد بشيء ليس برهاناً على أن هذا الشيء موجود" (23) ولم يعرض بسكال الرهان (على أنه برهان) وسلم بأنه ليس في مقدورنا أن نفسر الكون أو نعرف قدر(36/189)
الإنسان، ولكنه أرتاب في أننا نستطيع من هذا الجهل أن نستنتج صدق قانون الإيمان المسيحي الذي جاء به الرسل. كما أنه لم يحس في هذا العصر المرح المفعم بالحيوية بأي تعاطف مع تطلع بسكال إلى الراحة والدعة، حيث نادى بأن الإنسان "خلق ليعمل ... فعدم العمل وعدم الوجود سيان بالنسبة للإنسان (24) ".
وليست "ملاحظات على أفكار بسكال" أفضل ما كان يمكن أن تجود به قريحة فولتير. أنه لم يكن قد أعدها للنشر، ولم يكن لديه الفرصة لمراجعتها وتنقيحها. وقضت الأحداث اللاحقة-مثل زلازل لشبونة-على نضارة تفاؤله الفتي. وعلى الرغم من هذا الملحق غير المدروس وغير الجدير بالاعتبار، فإن "الرسائل الفلسفية" كانت أحد المعالم البارزة في الأدب الفرنسي والفكر الفرنسي. فهنا لأول مرة ظهرت الجمل الموجزة الدقيقة والوضوح المبين والذكاء المرح والتهكم اللاذع، وأصبح كل هذا منذ الآن طابعاً أدبياً مميزاً يتجاوز ويتجاهل الحرص على إنكار اسم المؤلف. إن هذا الكتاب، وكتاب الرسائل الفارسية حددا أسلوب النثر الفرنسي من عهد الوصاية إلى عصر الثورة. وفوق هذا فإنها أحكمت حلقة من أقوى الحلقات في الربط بين المفكرين الفرنسيين والإنجليز، وهي كما قدر بكل "أهم حقيقة إلى حد بعيد في تاريخ القرن الثامن عشر" (25) إنها كانت بمثابة إعلان حرب ومخطط شن حملة. وقال روسو عن هذه الرسائل إنها قامت بدور كبير في إيقاظ عقله. ولا بد أن آلافاً من شباب فرنسا دانوا لها بمثل هذا الفضل. وقال عنها لافاييت أنها صيرته جمهورياً وهو في التاسعة من عمره. ورأى هين "إنه لم يكن لزاماً على رقيب المطبوعات أن يصادر هذا الكتاب حيث كان لا بد من قراءته بغير هذا الإجراء" (26).
وأحست الكنيسة والدولة والملك والبرلمان أنهم لم يعودوا يطيقون صبراً على مثل هذه الجراح الكثيرة في صمت، فأرسل صاحب المطبعة إلى سجن الباستيل، وصدر أمر سري مختوم بالقبض على فولتير أينما وجد. وفي 11 مايو ظهر أحد رجال الشرطة يحمل أمراً بالقبض عليه. ولكن من(36/190)
المحتمل أن موبرتوي ودار جنتال كانا قد حذرا فولتير فغادر فرنسا قبل ذلك بخمس ة أيام. وبناء على أمر البرلمان في 10 يونيه أحرق كل ما وجد من نسخ الكتاب بيد مأمور التنفيذ العام في فناء قصر العدل باعتباره عملاً شائناً ينافي الدين والخلاق القومية ويتعارض مع احترام الواجب للسلطات العامة.
وقبل معرفة المركيزة دي شاتيليه بوصول فولتير سالماً إلى اللورين كتبت إلى صديق لها: "أنا لا أطيق صبراً على مجرد علمي بأنه في السجن وهو في مثل هذه الصحة والعافية وقوة الخيال. وأنا لا أحبذ ذلك مطلقاً". وأجمعت هذه السيدة والدوقة دي بشيليو وغيرهما من السيدات ذوات المكانة الرفيعة أمرهن على العمل معاً للحصول على عفو عنه. ووافق حامل الأختام على إلغاء أمر القبض إذا أنكر فولتير تأليفه للكتاب. لكن تلك كانت خدعة لأنه كان على علم اليقين أن فولتير هو المؤلف. وكان حامل الأختام هذا أحد موظفي الحكومة الذين لطفوا من حدة الرقابة من آخر بالأعضاء عما في الكتاب من مآخذ. ووافق فولتير فوراً على إنكار أنه المؤلف. وهذه كذبة بيضاء من الممكن الصفح عنها بسهولة. فضلاً عن أن الكتاب الذي برئ من تأليفه وزع دون موافقته. وكتب فولتير إلى الدوقة دي ايجوبون:
يقولون إنه يجب أن أتراجع ... بكل سرور .. سأعلن أن بسكال على حق دائماً وأن القساوسة مهذبون وديعون منزهون عن الغرض "وإن الرهبان ليسوا متغطرسين ولا منصرفون إلى تدبير الدسائس، ولا حقراء وأن محاكم التفتيش المقدسة هي انتصار الإنسانية والتسامح (27).
والغي أمر القبض على شرط أن يبقى فولتير بعيداً عن باريس. فتنقل من قصر إلى قصر قرب حدود المدينة ورحب النبلاء الذين لم يتمسكوا كثيراً بأهداف الدين، كما لم يميلوا مطلقاً إلى الحكومة الملكية المركزية المستبدة وتلقى الدعوة بالإقامة في بلاط هولشتين مع معاش قدرة عشرة آلاف فرنك سنوياً ولكنه رفض (28) وفي يوليه أوى إلى قصر مدام دي شاتيليه في سيري(36/191)
في شمبانيا. وهناك وهو الضيف الذي يتحمل نفقات عشيقته وزوجها بدأ أسعد سني حياته.
3 - أنشودة الحب في سيري
1734 - 1744
سيري الآن قرية عدد سكانها 250 شخصاً في مقاطعة المارن الأعلى في شمال شرقي فرنسا على بعد بضعة أميال من اللورين، وصفتها مدام دنيس ابنة أخي فولتير 1738 بأنها منعزلة موحشة على بعد أربعة فراسخ من العمران في منطقة لا يرى المرء فيها شيئاً غير الجبال والأراضي غير المنزرعة (29) وربما أحبها فولتير لأنها بقعة هادئة حيث يستطيع أن يتفرغ فيها لدراسة العلوم وكتابة التاريخ والفلسفة، وتنساه الحكومة الفرنسية, أما إذا لاحقته فإنه يستطيع الانطلاق منها هرباً إلى اللورين في ظرف ساعة واحدة.
وكان القصر طللاً متهدماً من مخلفات القرن الثالث عشر. قلما أقام فيه آل شاتيليه ولم يكن يصلح للسكنى منذ أمد بعيد، ولم يهتم المركيز بإصلاحه، أو لم يكن لديه المال لهذا الغرض، فأقرضه فولتير 40 ألف فرنك بفائدة قدرها 5% للقيام بالإصلاحات اللازمة ولم يطالب المركيز قط بسداد هذا القرض. وأعدت بعض غرف شغلها فولتير، وأمر ببناء جناح جديد، وأشرف على ترميم بقية القصر. وفي نوفمبر وصلت المركيزة ومعها مائتا حقيبة من الأمتعة، وعدلت من إصلاحات فولتير بما يتناسب مع ذوقها الخاص، وأقامت هناك-وهي التي كانت قضت معظم سني شبابها بين الحاشية الملكية أو قريباً منها-منصرفة إلى الدراسة مع زوجها وعشيقها في وقف معاً. وأقام المركيز اللطيف نعها ومع فولتير بين الحين والحين حتى 1740، محتفظاً لنفسه في لباقة بشقة خاصة به وبمواعيد خاصة لتناول الطعام وحده. وبعد ذلك قضى معظم وقته مع كتيبته. وكانت دهشة فرنسا وإعجابها بكياسة الزوج أقل منها بإخلاص العشيقين.
وفي ديسمبر عادت مدام شاتليه إلى باريس وزارت الدوقة رويشيليو في معتقلها، وأقنعت الحكومة بإلغاء الأمر بإقصاء فولتير عن العاصمة (2 مارس 1735) فقصد إلى باريس وأقام فيها عدة أسابيع مع خليلته،(36/192)
ولكن ماضيه لاحقه، فإن أجزاء من شعره الفاجر كان يتناقله الناس. ولم يتمالك هو نفسه قراءة بعض قطعه القوية على أصدقائه. كما نشر أحد الناشرين اللصوص "رسالة إلى أورانيا"، وكان فولتير قد كتبها قبل ذلك بخمس عشر سنة، وقد هاجم فيهس المسيحية، فأنكر أنه مؤلفها بطبيعة الحال ولكنها كانت تحمل بصمات أسلوبه وفكره. ولم يصدق إنكاره أنه المؤلف، فهرب ثانية إلى اللورين، ومنها في حيطة وحذر إلى سيري. وتلقى من الحكومة تأكيدات عن طريق غير مباشرة بأنه إذا ظل هناك دون أن يرتكب أية مخالفة أخرى فلن يعكر صفوه أحد. ولحقت به مدام دي شاتيليه مع ابنتها وابنها ومعلمهما، وكان طفلها الثالث قد مات. وهنا أخيراً بدأ شهر عسل فلسفي.
وكان لكل من الفيلسوفين مجموعة غرف خاصة به على جانبي القصر. وكانت شقة فولتير تتكون من حجرة انتظار ومكتب ومكتبة وحجرة نوم وكسيت وجدران بنسيج من المخمل الأحمر المنقوش، وازدانت باللوحات التي اقتنى منها فولتير مجموعة ثمينة منها لوحة من رسم تيشيان وعدة لوحات من رسم تنيير، كما كان هناك تماثيل فينوس وكيوبييد وهركيوليز، ولوحة كبيرة لصديقها الجديد الأمير فردريك ولي عهد بروسيا. وعلى حد تعبير مدام جرافيني، كانت النظافة التامة في هذه الحجرات إلى حد "يمكن معه تقبيل الأرض" (30) أما جناح المركيزة فكان مختلفاً عن هذا ذوقاً: اللون أصفر الفاتح واللون الأزرق الباهت مع لوحات من رسم فيرونيز وواتو، وصورة السقف وأرضيته من الرخام، ومائة من الصناديق والزجاجات الصغيرة والخواتم والمجوهرات وأدوات الزينة متناثرة هنا وهناك في حجرة ملابسها الصغيرة. وبين مجموعتي الغرف كانت هناك قاعة كبيرة أعدت لتكون معملاً للفيزياء والكيمياء، فيها مضخات هواء ومقاييس حرارة وأفران وبوتقات ومنظار مقرب (تلسكوب) ومجهر (ميكروسكوب) ومنشورات وبوصلات وموازين. وكان هناك عدة غرف للزوار، لم تكن مؤثثة تأثيثاً جيداً. وعلى الرغم من القماش المنقوش على الجدران كانت رياح الغابات(36/193)
تتسلل إلى القصر من خلال الشقوق والنوافذ والأبواب. وكان لزاماً لتدفئة هذا القصر إلى حد مقبول وجود 36 مدفأة تستهلك في اليوم الواحد ستة (كوردات) من الخشب (الكورد=28 قدماً مكعباً من الخشب). ويمكن أن نتخيل عدد الخدم اللازمين له، أضف إلى ذلك مسرحاً لأن فولتير كان يحب أن يمثل وبخاصة في رواياته هو أنه ليؤكد لنا أن المركيزة كانت ممثلة بارعة، وكان الضيوف والمعلم والخدم يحيطون بشخصيات الرواية، ويغنوا بالأوبرا، أحياناً لأن المركيزة (كما يؤكد فولتير مرة أخرى) كان صوتها ملائكياً. كما كان هناك عروض لمسرح العرائس وعروض بالفانوس السحري، قرنها فولتير بتعليقات أغرقت الحاضرين في الضحك.
ولكن اللهو كان طارئاً أما العمل فكان نظاماً يومياً. وكان العاشقان عادة، يعملان منفصلين كل في نطاقه، ولو أنهما تعاونا أحياناً في العمل، وقلما كان الواحد منهما يرى الآخر في أثناء النهار إلا في وجبة الطعام الرئيسية عند الظهر تقريباً. وكان المركيز يترك المائدة قبل أن يبدأ الحديث. وغالباً ما أنسل فولتير أيضاً إلى مكتبه تاركاً الآخرين يتسامرون. وكان له هناك أدوات مائدته الخاصة به لأنه يتناول طعامه وحده أحياناً. وإنا لنرى قلبه بحق محدثاً ممتعاً ممتلئاً بالحيوية، ويمكن أن يكون محط الأنظار ومبعث الحياة في أي اجتماع يشهده، ولكنه كان يكره الحديث التافه. وكان يقول "هذا الوقت الذي نقضيه في الحديث يزعجني كثيراً ويجدر بنا ألا نضيع دقيقة واحدة، إن أكثر ما نضيع هو الوقت (31) وكان يخرج أحياناً لصيد الغزال حباً في الرياضة.
وجدير بنا أن لا نصور الرفيقين الفيلسوفين على انهما ملاكان، فيمكن أن تكون السيدة الجافة مستبدة بل قاسية بخيلة بعض الشيء عنيفة مقترة مع خدمها وكانت تحتج إذا نقدهم فولتير أجراً أكبر، ولم يكن بها استحياء من شيء في جسمها، فلم تكن تأبه كثيراً لخلع ملابسها جميعاً أمام سكرتيرهما لونجشامب، أو تكليفه بصب الماء الساخن عليها وهي في الحمام. وكانت(36/194)
تطلع خفية على الرسائل التي يكتبها ضيوفها أو ترد إليهم، وليس لدينا دليل على هذا إلا شهادة سيدة أخرى (33) أما فولتير فكان له مئات الأخطاء التي ستكتشف في الوقت المناسب. كان شاعراً مزهواً وكان سريع الغضب والتجهم كأنه طفل، وكثيراً ما هاجم عشيقته وتشاجر معها، وما كان هذا الشجار على أية حال إلا سحب صيف تؤكد سادة أيامهما، وسرعان ما كان فولتير يعود إلى هدوئه وابتسامته وابتهاجه. وما كان يمل الحديث عن سعادته وعن حبه لرفيقته بطريقته الهادئة. ونظم لها مائة قصيدة حب قصيرة كل منها تصوير بارع في فن محكم. وكانت إحدى هذه الدرر الأدبية مع خاتم من حجر كريم نقشت عليه صورته: "بنقش يبرز هذه القسمات ليقع عليها بصرك. أنظري إليها لتقري عيناً بها. أما صورتك فهي منقوشة في أعماق قلبي بيد صناع أكثر حذقاً وبراعة. (34) ".
أما هي فقالت لا أطيق فراقه لمدة ساعتين دون أن يمزقني الألم (35).
ومن بين العشيقين الفيلسوفين كانت هي أكثر انصرافاً إلى العلم وانكباباً عليه منه. ونفذت قانون سيادة المرأة غير المسطور في إخفاء مخطوطة كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" الذي لم يكمل بعد، ووجهته بشدة إلى دراسة العلوم بوصفها الدراسة الحقة لرجل العصر الحديث. ووصفتها مدام دي جرانيني، وكانت ضيفاً عليها في 1738، بأنها أكثر مثابرة على أبحاثها العلمية من فولتير، حيث كانت تقضي معظم النهار وجزءاً كبيراً من الليل في مكتبها. وفي بعض الحيان حتى الساعة الخامسة أو السابعة صباحاً. (36) وكان موبرتوي يأتي من حين إلى سيري ليتابع دروسه لها في الرياضيات والفيزياء. وربما كانت هذه الزيارات بالإضافة إلى إعجاب المركيزة السافر بسعة علم موبرتوي، هي التي أثارت الغيرة في قلب فولتير الشديد الحساسية، فأدت إلى الملاكمة والشجار بينهما في برلين.
وهل كانت دي شاتيليه عالمة باحثة حقاً، أم أنها اتخذت من العلم سبيلاً للأناقة ومجاراة مقتضيات العصر. ورأت مدام دي ديفان وبعض سيدات أخريات أن دراستها وأبحاثها كانت مجرد مظهر كاذب، وزعمت المركيزة(36/195)
دي كريكي: أن الجبر والهندسة اقتربا بها من حافة الجنون، على حين أن تحذلقها وكلفها الشديد بموضوع دراستها جعلاها لا تحتمل. والواقع أن ذهنها تشوش بكل ما تعلمته أو عرفته (37) ولكن استمع إلى مدام دي جرافيني وهي تصف لنا جلسة في سيري.
"في هذا الصباح قرأت علينا ربة البيت عملية هندسية لمؤلف إنجليزي حالم ... وكان الكتاب باللغة اللاتينية؛ وقرأته علينا بالفرنسية، وترددت لحظة عند كل عبارة، وكأني بها تتفهم العمليات الهندسية، ولكن لا، إنها ترجمت بسهولة المصطلحات الهندسية والأرقام والألفاظ الغريبة، ولم تتوقف في شيء. ألا يثير هذا الدهشة حقاً؟ (38).
وأكد فولتير لتييريو أن مدام دي شاتيليه كانت تعرف الإنجليزية جيداً، وأنها عرفت كل المؤلفات شيشرون الفلسفية، وكانت مولعة جداً بالرياضيات والميتافيزيقا (39). وذات مرة بزت العالم الفيزيائي وعضو الأكاديمية دي ميران في مناقشة عن الطاقة الحركية (40) وقرأت شيشرون وفرجيل في الأصل اللاتيني وأريستو وتاسو بالإيطالية، ونيوتن بالإنجليزية، وعندما زار الجاروتي سيري تحدثت معه بالإيطالية. وكتبت ولكن لم تنشر كتاباً من ستة مجلدات عن دراسة "سفر التكوين"، مبنية على أعمال الربوبيين الإنجليز عرضت فيه للمتناقضات والأشياء البعيدة الاحتمال والأعمال غير الأخلاقية والأفعال الظالمة في الكتاب المقدس. وكانت رسالتها عن السعادة بحثاً أصيلاً عن أسس السعادة، حيث رأت أن هذه الأسس هي الصحة والحب والفضيلة والانغماس الذاتي العقلاني، ثم طلب العلم والمعرفة. وترجمت قوانين نيوتن من اللاتينية إلى الفرنسية، وأشرف على طبعها كليرو، ونشرت بعد وفاتها بست سنوات (1756). وألقت عرضاً موجزاً لنظام العالم نشر في 1759 وأعلن فولتير ربما من قبيل الشهامة والود، أنه يفوق كتابه "مبادئ فلسفة نيوتن" (1738) (41) وعندما أعلنت أكاديمية العلوم (1738) عن جائزة لأحسن بحث عن طبيعة النار وانتشارها، ودخل فولتير المسابقة كتبت هي سراً البحث وقدمته دون ذكر اسمها، وكتبته في الليل لتخفيه عن فولتير (حيث أتى في بحثي عارضت كل آرائه تقريباً (42)) ولم يفز أي منهما بالجائزة التي حصل(36/196)
أولر. ولكن الأكاديمية طبعت مقاليهما، وامتدح كل منهما مقال الآخر في نشوة الحب العقلي.
ومن أجل موضوعه هو، قام بعدة تجارب بعضها في معمله وبعضها في مسبك في شومون المجاورة (43) ودرس فولتير التلكس وكان قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الأوكسجين (44). ونراه في مايو 1737 يكتب إلى الراهب موسينو في باريس يطلب إليه كيميائياً للحضور إلى سيري لقاء مائة جنيه سنوياً مع الإقامة الكاملة. ولكن كان على هذا الكيميائي أيضاً أن يتلو القداس في أيام الآحاد والعطلات في كنيسة القصر (45). أته من جانبيه آمن الآن بالعلم وحده. وكتب في 1741 ينبغي أن نعتقد في صحة ما تكشف عنه لنا عيوننا وما تكشف عنه الرياضيات. أما فيما عدا هذا فيجدر أن نكتفي بالقول بأننا لا نعرف (46). فالفلسفة كانت تعني عنده آنذاك خلاصة العلم:
وبهذا المعنى استخدم فولتير الإصلاح في مؤلفه "مبادئ فلسفة نيوتن أملا في الترخيص الملكي بنشره، ولكنه لم يجب إلى طلبه، وظهرت منه طبعة في أمستردام (1738) دون موافقته. وصدرت طبعته هو هناك في عام 1741، وكانت عبارة عن مجلد ضخم يضم 440 صفحة، نموذجاً رائعاً لما يسميه الفرنسيون "دون تعمد الانتقاض من قدره" تبسيطاً، أي محاولة فهم العويص الصعب منه إلى أكبر حد ممكن. وأضاف المشرف على الطبع عنواناً فرعياً وضع ليكون في متناول الجميع. وغير الراهب ديفتنون هذا العنوان الفرعي في نقد غير ودي إلى "عويص على كل الناس" وعلى النقيض من ذلك امتدح الجميع الكتاب بل أن اليسوعيين تقبلوه بقبول حسن في صحيفة تريفو (47). وهنا طردت الجاذبية الكونية التي كشفها نيوتن دوامات ديكارت من أذهان الفرنسيين. وشمل كتاب فولتير عرضاً لبصريات نيوتن، وتحقق من التجارب في معمله الخاص، وحاول إجراء تجارب أخرى من عندياته، وحاد عن طريقه قليلاً، ليؤكد اتساق فلسفة(36/197)
نيوتن مع الإيمان بالله. وفي نفس الوقت أكد شمولية القانون في العالم المادي.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود لم يكن فولتير روح رجل العلم ولا تحديداته وقيل أنه أخفق في أن يكون رجل علم. وينبغي بنا أن نرجح القول بأنه كان شخصاً ثرياً متعدد الجوانب إلى حد لا يستطيع معه أن ينصرف إلى العلم كل الانصراف بصفة نهائية. أنه استخدم العلم وسيلة لتحرير العقل، حتى إذا تم له ما أراد انصرف إلى الشعر والمسرحية والفلسفة بأوسع معانيها، والإنهماكات الإنسانية في الشئون الأساسية في عصره "يجب أن نهيئ الطريق في حياتنا لكل أساليب المعرفة والوجدان ونفتح أمامها الأبواب لتنفذ إلى نفوسنا، فإذا لم تتبدد هذه شذر مذر فإن هناك مكاناً فسحاً لكل شيء (48) " وهكذا كتب في ذاك الوقت (1734) بحث في الإنسان ردد فيه إلى حد كبير آراء بوب في نفس الموضوع، حتى إلى درجة إجازة فكرة غير فولتيرية "كل شيء صواب (49) ". ونظم في هذه السنوات معظم غادة أورليان (جان دارك). وربما كان هذا انتجاعاً لبعض الراحة من عناء نيوتن. وشرح فلسفته في رسالة في الميتافيزيقا، وقد رأى من الحكمة أن يحجم عن نشرها.
وكانت رسالة فذة مثل سائر إنتاجه، وبدأها بأن تخيل نفسه زائراً وافداً من كوكب المشتري إلى كوكب المريخ، ومن ثم رأى أنه لا يتوقع منه أن يوفق بين آرائه وبين ما جاء به الكتاب المقدس. وحط رجاله بين كفار جنوب أفريقية. وينتهي إلى أن الإنسان حيوان أسود الجلد شعره شبيه بالصوف، ثم ينتقل إلى الهند ليجد أناساً صفر اللون ذوي شعر سبط غير مجعد، فيستنتج أن الإنسان جنس يتألف من عدة أنواع متميزة لا تنحدر كلها من أصل أو سلف واحد (50) ويحكم من مظاهر النظام في العالم ومن التركيب الهادف ذي المعنى في أعضاء الحيوان بأن هناك رباً ذكياً يصمم أو يركب صور الجميع. ولا يرى دليلاً على وجود نفس خالدة غير فانية(36/198)
في الإنسان، ولكنه يشعر بأن إرادته حرة. وقبل هيوم وآدم سميث يزمن طويل نرى فولتير يستمد روح الأخلاق من التعاطف بين الناس بعضهم مع بعض، وقبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل أيضاً نرى فولتير يحدد الفضيلة والرذيلة بما هو مفيد وغير ضار بالمجتمع (51) وسنعود إلى هذه الرسالة فيما بعد.
وكم اختلفت هذه الرسالة عن الشعر المرح الذي نظمه فولتير في تاريخ جان دارك وأنا إذا فتحنا الملحمة الساخرة اليوم فلا بد لنا أن يقفز إلى ذاكرتنا أن الكلام الفرنسي والأدب الفرنسي كانا أكثر تحرراً آنذاك منهما في النصف الأول من القرن العشرين. ولقد رأينا نموذجاً في الرسائل الفارسية للحاكم مونتسكيو، بل أن ديدرو كان أكثر حرية لا في الجواهر المنظومة فحسب، بل في جاك المؤمن بالقضاء والقدر كذلك. فإذا قورنت جان دارك بهذين الكتابين كما نشرها أخيراً فولتير 1756، لوجدناها معتدلة بشكل محمود. ومن المحتمل أن الأصل الذي جرى تداوله سراً كان أقرب إلى أسلوب رابليه، ودافع كوندرسيه الوقور الرزين عن القصيدة وروى أن مالشرب وهو أحد كبار موظفي الحكومة الفرنسية حفظها عن ظهر قلب (52)، ووجد في القسم الحادي والعشرين من القصيدة بعد بحث مجهد، بعض أبيات معتدلة في فسقها وشهوانيتها يمكن التجاوز عنها مثل الصور الشبيهة بها عند آريوستو، وقد عوض عنها بقطع كثيرة تقدم وصفاً رائعاً وسرداً بارعاً، وكان فولتير مثل كثير من الفرنسيين في زمانه يرى في جان دارك بنتاً فلاحة بريئة ساذجة، وربما كانت ابنة غير شرعية استسلمت للخرافات واعتادت سماع (الأصوات)، وارتاب في أن فرنسا كان لا بد أن تنقذ من الغزو الإنجليزي حتى ولو لم تولد هي قط. وفيما عدا هذا ومع التسامح في بعض الأخطاء التاريخية، فإنه روى القصة بأمانة مع تمليحها ببعض الدعابة ومال الملك برأسه نحو جان الباسلة التي لا تهاب شيئاً، وقال في صوت مهيب يرهبه الجميع إلا هي وحدها، أنصتي إلى ياجان، إذا كنت عذراء حقاً فأقسمي اليمين، فأجابت: مولاي العظيم،(36/199)
أصدر أوامرك الآن إلى الأطباء الحكماء الخبيرين بأسرار النساء ونظاراتهم على أنوفهم، ورجال الدين والصيادلة وكبيرات الممرضات الخبيرات ليجتمعوا على الفور للفصل في الأمر، فليدققوا النظر ويروا ومن هذا الجواب الحكيم عرف شارل أنها ملهمة تلقت وحياً، وأنها تتمتع بنعمة العذرية المقدسة المباركة، ثم قال الملك حسناً يا ابنة السماء، ما دامت تعرفين كل شيء فأخبريني ماذا حدث بيني وبين زوجتي في الفراش في الليلة الماضية؟ أتوسل إليك تحدثي بصراحة، فقالت جان لا لم يحدث شيء، فدهش الملك وركع وصاح بصوت عال: أنها معجزة، ثم رسم علامة الصليب وانحنى احتراماً وإجلالاً (53).
وقرأ فولتير على ضيوفه مقطعاً أو مقطعين من جان دارك رغبة في تسليتهم، وليبعث الدفء في أمسيات الشتاء الباردة. وكانت مدام دي شاتيليه تحتفظ بالمخطوطة الضخمة في حرز أمين، وسمح فولتير في استخفاف وإهمال بتداول بعض الأجزاء بين أصدقائه ونسخ بعضها وتناقلها المجتمع غير المهذب على نطاق أوسع مما كان من الحكمة أن يكون. وكان الخوف من أن تقاضيه الحكومة الفرنسية-لا بسبب فحش القصيدة بل بسبب الهجاء اللاذع في بعض أجزائها للرهبان واليسوعيين والأساقفة والبابوات ومحاكم التفتيش-من بواعث القلق والهموم التي أقضت مضجعه وعكرت عليه صفة حياته.
وكان فولتير أكثر جدية ووقاراً في الزير Alzler " التي بدئ بعرضها بشكل يدعو إلى المساعدة والابتهاج على المسح الفرنسي في 27 يناير 1736. وحققت التاريخ المسرحي بارتداء الثياب التي كانت سائدة في الزمان والمكان المحددين لأحداث الرواية-الغزو الأسباني لدولة بيرو وسلبها ونهبها. ويتوسل الفاريت الحاكم الأسباني للبلد المغلوب على أمره إلى المنتصرين أن يضعوا حداً لقسوتهم فيقول "نحن سوط العذاب الذي نصب على هذه الدنيا الجديدة، نحن عابثون جشعون ظالمون ... نحن المتبربرون وحنا هنا أنا المتوحشون السذج البسطاء، ولو أنهم عنيفون(36/200)
بطبيعتهم، فانهم شجعان بواسل مثلنا، ولكنهم يفوقوننا في الميل إلى الخير وطيبة النفس (54). وصفقت باريس لهذه الرواية لمدة عشرين ليلة متوالية ودفعت 53. 640 جنيهاً، وتنازل فولتير عن نصيبه من دخل الرواية للممثلين.
وفي 8 أغسطس 1736 تلقى فولتير أول رسالة من فردريك ملك بروسيا، ومن هنا بدأت مراسلات مشهورة وصداقة فاجعة. وفي نفس العام نشر قصيدة "الرجل الدنيوي" وكأنما كانت رداً مسبقاً على رسالة روسو "بحث في الفنون والعلوم" (1751) أن فولتير ضاق ذرعاً بالحالمين الواهمين الذين يضفون المثالية على الإنسان البدائي غير المتمدن الودود الصاعد "أو يحبذون الرجوع إلى الطبيعة" هرباً من الانفعال وتوتر الأعصاب والنفاق والخداع في الحياة الحديثة. إنه هو نفسه كان مستريحاً وسط ما يعاني من بلايا ومحن، ورأى أنه كان عليه لزاماً عليه أن يقول كلمة طيبة في المدنية إنصافاً لها. إنه لم يجد أية فضيلة أو ميزة في الفقر، أو أي انسجام بين الجراثيم والحب وربما كان البدائيون شيوعيين، وهذا فقط لأنهم لم يكونوا يملكون شيئاً. وإذا إتسموا بالاعتدال والقصد والرزانة فما ذاك إلا لأنهم لم يكن لديهم خمور "وأنا من جانبي أحمد للطبيعة الحكيمة أنها من أجل سعادتي أنجبتني في هذا العصر الذي يحط من قدره نقادنا الذين تعروهم الكآبة والانقباض. إن هذا الزمن الدنس ملائم كل الملائمة لحياتي فأنا أحب الترف والبدخ بل الحياة الناعمة وكل الملذات والفنون على اختلاف أنواعها، والنظافة والذوق والزينة والزخرفة وبدا له كل هذا مفضلاً لديه بشكل واضح على جنات عدن "أبي العزيز آدم، اعترف أنك ومدام حواء كانت لكما أظفار طويلة سوداء بما فيها من أقذار، وان شعره كما كان أشعث أغبر إلى حد ما .... وعبثاً حاول العلماء أن يعينوا مكان جنة عدن ... إن جنة الأرض هي التي أعيش فيها أنا الآن.
ولم ترق في أعين رجال الدين الصورة التي رسمها فولتير لآدم وحواء، وأصروا على أن سفر التكوين تاريخ صحيح، ولم يقروا فولتير على ما جاء(36/201)
به عن أظافر آدم وشعر حواء، وتعالت الأصوات مطالبة بالقبض على شيطان سيري الكافر. وحذره الأصدقاء مرة ثانية، فاعتزم الرحيل. وفي 21 ديسمبر 1736 غادر سيري واميلي، قاصداً بروكسل متنكراً في زي التاجر ريفول. وسخر المعجبون به هناك من تنكره ومثلوا مسرحية آلزير تكريماً له. وحذر جان بابتست أهل بروكسل من أن فولتير جاء إليهم ليبشر بالإلحاد، فانتقل إلى ليدن حيث احتشدت الجماهير لرؤيته، ثم إلى أمستردام حيث أشرف على طبع كتابه عن نيوتن، وساور المركيزة آنذاك الخوف من أنه لن يعود إليها مطلقاً، فكتبت إلى دار جنتال: "منذ أسبوعين فقط كنت أتعذب لعدم رؤيته لمدة ساعتين اثنتين، وكنت أكتب إليه من غرفتي إلى غرفته، ومضى الآن أسبوعان لا أعرف أين هو ولا أعرف ماذا يفعل ... أنا في حالة يرثى لها (55) وأخيراً عاد (مارس 1737) وهو يقسم انه لولا حبه لها لما أقام في فرنسا التي تلاحقه وتطارده على هذا النحو.
وفي مايو 1739 عاد العشيقان إلى بروكسل حيث استخدم فولتير كل مواهبه القانونية وغيرها في قضية تتعلق بممتلكات المركيزة. ثم قصد هو وزوجها إلى باريس حيث قدم فولتير روايتي محمد وميروب إلى مسرح الكوميدي فرانسيز، وحيث رأت السيد شاتيليه في المطبعة مجلداتها الثلاثة عن "قوانين الفيزياء" وفي هذه الدروس "تهربت من فولتير ونيوتن كليهما مؤثرة عناصر الوجود الأولية في فلسفة ليبنتز. وفي سبتمبر عادوا إلى سيري، ثم قصدوا بعدها إلى بروكسل لإقامة طويلة، ومنها في سبتمبر 1740 أسرع فولتير إلى كليف Cleves لأول لقاء له مع فردريك، وكان قد أصبح ملكاً، ورفض أن يدعو أميلي معه. وفي نوفمبر قطع مسافة 150 ميلاً مرهقة قاصداً برلين ليقوم بمهمة دبلوماسية للكاردينال فليري، وسنعود إلى تفصيل هذه المهمة فيما بعد. وذهبت أميلي في نفس الوقت إلى فونتنبلو حيث بذلت جهداً كبيراً في الحصول على إذن لفولتير بالإقامة في باريس، أن سيري أصبحت عبثاً لا يطاق. وفي 23 نوفمبر(36/202)
كتبت إلى دار جنتال: لقد لقيت جزاء سنمار على كل ما فعلت في فونتنبلو، لقد ذللت كل العقبات، وحصلت لفولتير على حق العودة إلى بلده دون قيد أو شرط، ووفقت بينه وبين الوزارة، ومهدت الطريق لقبوله في الأكاديمية، وصفوة القول أني في ثلاثة أسابيع أستطعت أن أعيد إليه كل ما فقده في ستة أعوام. فهل تعلم كيف كافاني على مثل هذا الإخلاص والغيرة؟ أنه أبلغني في رسالة جافة أنه قصد إلى برلين، وهو يعلم علم اليقين أنه يحطم قلبي ويعذبني عذاباً لا يوصف ... لقد انتاباني الحمى ... وآمل أن أفارق الحياة وشيكاً ... وهل تصدق أن الفكرة التي تستبد بعقلي حين أحس بأن الحزن سيقتلني، هي فكرة الأسى العميق الذي ينتاب فولتير لموتى؟ ... أني لا أطيق أن أفكر في أن ذكراي سوف تسبب له يوماً الشقاء والألم، ويجدر بكل اللذين أحبوه أن يكفوا عن لومه.
وانتزع فولتير نفسه من جو النفاق الملكي ليلحق بعشيقته، وفي طريق عودته بعث إلى فردريك برسالة يوضح فيها وجهة نظره في الموضوع:
" إني أترك ملكاً عظيماً يكرم ويشجع فناً أعجب به إلى حد التأليه، لألحق بسيدة لا تقرأ إلا ميتافيزيقا وولف المسيحي (شارح ليبنتز). أني أنتزع نفسي من أعظم حاشية إمتاعاً وإيناساً في أوربا من أجل قضية قانونية. أني لم أترك حاشيتك الفاتنة الجديرة بالحب لأتنهد وأتأوه مثل أحمق معتوه بين يدي امرأة، ولكن هذه المرأة يا مولاي هجرت من أجلي كل شيء، مما يتخلى سائر النساء عن أصدقائهن من أجله. أنني أسير فضلها في كل شيء أن الحب غالباً ما يكون سخيفاً مضحكاً، ولكن الصداقة الخالصة والود الصافي لهما حقوق يرتبط المرء أكثر مما يرتبط بأوامر الملك (56).
والتقى ثانية بأميلي في بروكسل التي أصبحت بلدهما الثاني بسبب طول الإجراءات في قضيتها. وفي مايو 1741 شهدا العرض الأول لرواية محمد في ليل، ولقيا ترحيباً حماسياً. وعادا إلى بروكسل مزهوين مبتهجين، ولكن عكر صفوهما شعور بأن جذوة الغرام قد بدأت تنطفئ. وكان حبها(36/203)
لا يزال قوياً. ولو أن جوهر هذا الحب كان الرغبة في السيطرة والتسلط. ولكن شعلة الحب عند فولتير بدأت تتحول إلى قلمه. وفي يولية 1741 اعتذر لها عن غيرته التي أخذت تذوي وتذبل: "إذا وددت أن أستمر على الحب فعليك أن تعيدي إلى مسافات من زمان الحبيبين، أعيدي إلى إذا كان في مقدورك، فجر الحياة، وهي في غسق المساء، نحن نموت مرتين، وأنا الحظ هذا جيداً. إنه موت لا يطاق أن نتوقف عن الحب ونحن جديران به، أما توقف الحياة نفسها فهو أمر تافه لا قيمة له".
وفي أغسطس 1742 قصدا إلى باريس ليشهدا العرض الأول لرواية "محمد" في المسرح الفرنسي. وكان فولتير قد سعى للحصول على إذن رسمي من الكاردينال فلبري بتمثيلها، فأجابه إلى طلبه. وكان هذا العرض الأول (19 أغسطس) الحدث الأدبي لذاك العام، وشهده كثير من الحكام ورجال الدين والشعراء بالإضافة إلى الجمهور الذي اكتظ به المكان. وبدا أن الجميع راضون على المسرحية باستثناء نفر من رجال الدين الذين زعموا أن الرواية ليست إلا "هجوماً عنيفاً على المسيحية" وانضم فريرون وديفونتين وغيرهم إلى هذه الشكوى. وعلى الرغم من أن الكاردينال أحس بأن هؤلاء النقاد يسيئون إلى قضيتهم، فإنه بعث إلى فولتير برسالة سرية ينصحه فيها بسحب الرواية، وتم هذا بعد العرض الرابع من إقبال شديد على الرواية. وعاد فولتير وأميلي أدراجهما إلى بروكسل، وقد استبد بهما الغضب لخيبة أملهما.
وهل كانت رواية "محمد" هجوماً على المسيحية؟ ليس الأمر إلى هذا الحد. أنها كانت تهاجم التعصب العمى والتزمت ولكنها صورت الرسول في صورة غير ودية ربما أثلجت صدور المسيحيين الأبرياء من التاريخ ومن سوء النية فيه. أنه صور الرسول مخادعاً تعمد أن يدرس دينه الجديد إلى عقول قوم سذج ويستغل أيمانهم في استثارة هممهم في القتال، ويغزو مكة، بإصدار أمره إلى نصيره المتعصب سعيد بقتل الشيخ زبير الذي يقاوم هذا الغزو وعندما يتردد سعيد يؤنبه محمد في عبارات بدت(36/204)
لبعض المستمعين وكأنها تعريض برجال الدين المسيحيين، فهو يقول: "وأنت أيضاً تتردد؟ أيها الشباب الجريء، إنه لما يتنافى مع الدين أن تتردد. إن الذين يستخدمون عقولهم لا يميلون إلى الإيمان. بمحمد، إن عليك أن تمتثل. إن إرادة الله تقضي بذلك. ألا تعلمون أن إبراهيم الخليل ولد هنا وأن جثمانه الطاهر يرقد هنا، وهو الذي امتثل لصوت الله وأخمد صيحات الطبيعة بين جنبيه، وتخلى عن ولده العزيز!! أن الله العلي القدير نفسه هو الذي يطلب إليكم أن تضحوا، ويهيب بكم أن تنفروا إلى القتال، ومن ذا الذي يتجرأ فيتردد في تنفيذ أمر الله إذا دعاكم إلى القتال؟ فاضربوا إذن فوق الأعناق. أن دم الشيخ زبير يخولكم النعيم المقيم في الدار الآخرة (58) (1).
ويقتل سعيد الشيخ العجوز الذي يتبين وهو يلفظ أنفاسه الخيرة أن القاتل ابنه. وهذا بطبيعة الحال هجوم من فولتير على استخدام الدين ذريعة لسفك الدماء وإشعال نار الحرب. وهذا ما قصد إليه فولتير. وفي رسالة إلى فردريك ضرب أمثلة لجرائم ارتكبت بإسم الدين، منها قتل وليم أورانج وهنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا. ولكنه أنكر أن المسرحية هجوم على الدين. بل أنها دعوة إلى استمساك المسيحيين بمبادئ المسيحية الحقة.
وفي سبتمبر 1742 واساه الكردينال فليري بإفاده إلى فردريك ليحاول توجيه سياسته إلى الصداقة مع فرنسا. وقصد فولتير مزهواً بدبلوماسيته لزيارة الملك في آخن. وتبين الملك أهدافه ومراميه، فرد على حديثه السياسي شعراً، وأعاد فولتير إلى باريس مع عشيقته أميلي والمسرحية. وفي 20 فبراير 1743 أخرجت على الكوميدي فرانسيز أعظم رواياته ميروب حيث لاقت نجاحاً أخرس ألسنة أعدائه بعض الوقت.
_________
(1) أثبتنا هنا ما ورد في الأصل الإنجليزي من رواية فولتير. وواضح أنه أبعد ما يكون عن جوهر الإسلام وتاريخه ومشروعية القتال. ولكنا حرصنا على الأمانة في النقل. (المترجم)(36/205)
وكانت عدة مسرحيات قد كتبت بالفعل في نفس الموضوع، منها مسرحية يوريبيدس التي لم يبق منها إلا شذرات قليلة وفي خطاب تمهيدي أقر فولتير بالفضل والعرفان لمركيز فرانشسكو سبيون دي مافي (وهو من فيرونا) الذي كان قد أخرج ميروب في 1713. وكانت هذه المسرحيات تتميز بتحول الاهتمام فيها إلى حب الوالدين لا إلى الحب الجنسي ويروون أن معظم الحاضرين سالت دموعهم في المشهد الأخير. ولأول مرة في تاريخ المسرح الفرنسي تعالت الأصوات تنادي بظهور المؤلف على خشبة المسرح، وقيل أنه وافق وبذلك أوجد سابقة أسف لها لسنج أشد الأسف. وطبقاً لبعض المصادر الأخرى يقال أن فولتير رفض الظهور على المسرح على الرغم من حث الدوقتين اللتين جلس في مقصورتهما، وكل ما فعله أنه نهض واقفاً في مكانه لحظة رداً على التحية (59)، وحكم فردريك بأن هذه المأساة من احسن ما كتب من مسرحيات (60). وذهب جيبون إلى ان الفصل الأخير يضارع أي فصل في مسرحيات راسين (61).
وقلل من قيمة نجاح "ميروب" إخفاق فولتير في الفوز بمقعد في الأكاديمية الفرنسية. إنه سعى له سعياً متواصلاً إلى حد أنه أعلن نفسه كاثوليكياً حقاً ومؤلف أبحاث أقرتها الكنيسة (62). وأيده لويس الخامس عشر في بداية المر ولكن وقف في طريقه وزيره الجديد مورياس الذي احتج بأنه لا يليق أن تشغل نفس شريرة دنسة المقعد الذي خلا بوفاة الكاردينال فلبري. وشغل المقعد أسقف ميربوا. واستحث فردريك فولتير أن يترك البلد الذي لا يلقي فيه عباقرته سوى هذا القدر الضئيل من التكريم، ويحضر ليقيم معه في بوتسدام. فاعترضت مدام شاتيليه وأشارت عليه الحكومة الفرنسية بقبول الدعوى لبعض الوقت والقيام بعملية التجسس في برلين. وهفت نفسه إلى الاشتغال بالسياسة، فقبل الدعوى وقام ثانية بالرحلة المرهقة راكباً عبر فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وقضى في هذه المغامرة ستة أسابيع (30 أغسطس-12 أكتوبر 1743) ومرة أخرى سخر فردريك من سياسته وأمتدح شعره، وعاد فولتير إلى أميلي(36/206)
في بروكسل. وفي أبريل 1744 استأنفا مقامهما في سبري محاولين بعث غرامهما الميت إلى الحياة من جديد.
وفي "رسالة السعادة" كانت المركيزة ترى أن الرغبة في المعرفة هي إحدى الرغبات التي تسهم أكبر إسهام في سعادة الإنسان لأنها تجعلنا أقل اعتماداً بعضنا على بعض ومع ذلك تقول عن الحب: "إنه أعظم الأشياء الطبيعية التي هي في متناول أيدينا، وهي الشيء الوحيد الذي نضحي من أجله بلذة الدرس والتحصيل. والمثل الأعلى في هذا المجال شخصان يفتتن الواحد منهما بالآخر إلى حد لا تفتر معه عواطفهما ولا تصاب بالتخمة أبداً، ولكن لا يمكن لإنسان أن يأمل في مثل هذا التآلف والانسجام بين شخصين، لأن هذا الشيء يفوق حد الكمال. فالقلب الأهل لمثل هذا الحب والنفس الوقية بالمحبة إلى هذا الحد يجوز أن تخلق مرة واحدة كل قرن من الزمان (63).
وفي رسالة مؤثرة لخصت تخيلها عن هذا الأمل:
"قضيت عشرة أعوام سعدت فيها بحب الرجل الذي غزا قلبي. وقضيت هذه الأعوام العشرة في ارتباط وثيق به ... وعندما انتقص امتداد العمر والمرض من تعلقه بي لم ألحظ هذا إلا بعد مرور فترة طويلة. إني أحببته لسببين، قضيت حياتي كلها معه واستمتع قلبي الواثق بنشوة الحب، بالإضافة إلى توهمي أنني أيضاً جديرة بالحب، وأفلت من يدي هذا الظرف السعيد (64).
وماذا حول فولتير من الحب والهيام إلى هذا الوفاء المتقطع؟ ويبدو أنه كان صادقاً في التذرع باعتلال صحته. ولكنا سنجده في بحر عام واحد يتأوه ويتنهد كالمعتوه بين يدي امرأة" والحق أنه كان قد استنزف جانباً من حياته واهتمامه-مدام دي شاتيليه والعلم. إن العزلة في سيري ربما أورثت السأم والملل بسرعة ذهناً يافعاً. ولم تكن نعمة وبركة إلا عند ملاحقة الشرطة له، وعندما كان يدعوه العلم إلى التفرغ له، ولكنه كلن آنذاك قد تذوق ثانية ملذات باريس ومباهجها، واستمتع بمشاهدة افتتاح(36/207)
مسرحياته، بل كان يلعب دوراً في السياسة القومية، وأحس بسحر الحاشية ولو من بعيد، وأصبح صديقه المركيز دار جنسون الوزير الأول، كما أصبح صديقه ومدينه الدوق دي ريشيليو الأمين الأول للملك. وكان لويس قد رق له ولأن جانبه. وفي 1745 كان الدوفين على وشك أن يتزوج من الأميرة الأسبانية ماريا تيريزا رافاييلا، ولا بد أن تقام احتفالات ضخمة لهذا الغرض، فكلف ريشيليو فولتير بكتابة مسرحية لهذه المناسبة. وكان على رامو أن يكتب الموسيقى، فيتعاون الملحن والشاعر في العمل معاً، وكان لزاماً أن بحضر فولتير إلى باريس، وفي سبتمبر 1744 ودع العاشقان سيري وانتقلا إلى العاصمة.
4 - رجل البلاط
1745 - 1758
بلغ فولتير آنذاك سن الخمسين. وكان لوقت غير قصير يحتضر في كل عام مرة. وكتب إلى تييريو في 1735 "من المؤكد أنه ليس أمامي إلا سنوات قليلة أعيشها (65). وكان قد بلغ آنذاك الحادية والأربعين، وكان أمامه ثلاث وأربعين سنة أخرى، فكيف تسنى له هذا؟ عندما انتابته علة خطيرة في شالون في أعالي المارن (1748)، ووصف له أحد الأطباء بعض الأدوية، قال فولتير، كما يروي سكرتيره، إنه لن يتبع شيئاً من هذه التعليمات، لأنه يعرف كيف يعالج نفسه في أيام الصحة والمرض على حد سواء، وسيظل طبيب نفسه كما كان دائماً. وفي مثل هذه الأوقات كان فولتير يصوم لبعض الوقت، ثم يأكل قليلاً من الحساء الرقيق والخبز المحمص والشاي الخفيف والشعير والماء. ويستطرد سكرتيره لونجشامب فيقول: "تلك هي الطريقة التي عالج بها فولتير نفسه فبرئ من سقمه الذي ربما أدى به إلى نتائج خطيرة لو أنه أسلم نفسه إلى أطباء شالون. كان مبدؤه أن صحتنا تتوقف علينا نحن، وركائزها الثلاث هي القصد في الطعام والشراب وضبط النفس والاعتدال في كل شيء، والتمرينات الرياضية البسيطة، ففي كل الأمراض التي لا تكون نتيجة لأحداث خطيرة أو تكون خلل أساسي في أعضاء الجسم الداخلية، يكفي أن تساعد الطبيعة التي(36/208)
تسعى جاهدة في شفائنا، وأن نلتزم في الغذاء بنظام دقيق لفترة طويلة إلى حد ما، فنتغذى على السوائل المناسبة والأغذية الخفيفة الأخرى. ورأيته دائماً يلتزم بهذه القاعدة طيلة وجودي معه (66).
وكان بارعاً مثل رجال المصارف في إدارة أمواله واستثمارها. وكان مستورداً وشاعراً ومقاولاً وكاتباً مسرحياً ورأسمالياً وفيلسوفاً ومقرضاً للنقود وصاحب معاش ووارثاً. وساعده صديقه دار جنسون على جمع ثروة من تموين الجيش (67)، وكان قد ورث جزءاً من ثروة أبيه وترك له موت أخيه أرمان (1745) دخل بقية أملاك أبيه. وأقرض الدوق ريشيليو ودوق دي فلبار والأمير دي جيز وغيرهم مبالغ كبيرة، ووجد عناء كبيراً في استرداد الديون، ولكنه عوض عنها بالأرباح (68). وفي 1735 كان ريشيليو مديناً له بمبلغ 46. 417 من الجنيهات دفع عنه الدوق أرباحاً سنوية قدرها 4000 (69) جنيه "وفي حالة مسيو دي بريزي غير الموثوق به كان فولتير يطلب فائدة قدرها 10%، واستثمر فولتير أكثر أمواله في سندات مدينة باريس التي تدر ربحاً قدره 5% أو 6%، وكثيراً ما أعطى تعليماته إلى وكيله للإلحاح على مدينيه بالسداد: "أنه من الضروري يا صديقي أن تطالب مرة ومرتين وتلح وتراقب وتلح في الطلب-ولكن لا تعذب المدينين من أجل إيرادي السنوي ومتأخراتي (70) وفي 1979 قدر سكرتير فولتير أن دخله السنوي بلغ 80 ألف جنيه (71). ولم يكن فولتير ينبش الأرض بحثاً عن المال، ولم يكن بخيلاً مقتراً، وكثيراً ما منح الأموال وقدم سائر المساعدات لشباب الطلبة ومد يد المعونة قولاً أو فعلاً إلى فوفينارج ومارمونتل ولا هارب. وقد رأيناه يتنازل عن العائدات رواياته للممثلين، وعند ما ضاع عليه أربعون ألف جنيه بسبب إفلاس ملتزم عام كان قد أقرضه المبلغ واجه الأمر في هدوء، ولم يثر أو يغضب. وذكر العبارات التي تعلمها في صغره "أعطانا الله، وأخذ الله فليتقدس اسم الله".
ولو أن فولتير أوتي مالاً أقل ليستغله ويعنى به، وكان أكثر بدانة أو اكتنز لحماً أكثر فوق عظامه، فلربما كان أقل حساسية وعصبية وأقل نزقاً(36/209)
وانفعالاً. وكان كريماً حذراً حريصاً على مشاعر الناس وحقوقهم. وكان عادة مرحاً ودوداً طلق المحيا مفعماً بالحيوية والنشاط، وكان أهلاً للصداقة الحميمة الوثيقة. وما أسرع ما كان يغتفر أية إساءة لا تجرح كبرياءه، ولكنه لم يكن يحتمل في صبر أي نقد أو عمل عدائي (وكان يقول أني أحسد الحيوانات على شيئين، جهلها مما قد ينتابها من مصائب بما يقال عنها (72)) وأثار ذكاؤه الحاد حفيظة كثير من الأعداء، فحمل عليه فريرون وبيرون وديفونتين وهاجموا أراءه في عنف أشد من عنف رجال الدين في مهاجمته. ولسوف نسمع منهم شيئاً فشيئاً. ورد عليهم فولتير الضربات بمثلها على الرغم من نصح مدام شاتيليه له بالتزام الصمت، ووجه إليهم أقذع السباب والشتائم، وجند أصدقاءه لشن الحملات عليهم. وكم وجدت المركيزة مشقة في منعه من الذهاب إلى باريس ليعنف ديفونتين أو يتحداه، بل أنه فكر في مناشدة الرقابة أن يحظر نشر ما يكتبه ألد أعدائه. لقد كان في فولتير كل شوائب مناقبة ومزيد من الشوائب.
ووجد فولتير في رامو (الموسيقار) شخصاً نزقاً مزهواً سريع الغضب مثله. وكان تعاونهما في العمل امتحاناً قاسياً لكل منهما. ولكن أخيراً اكتمل نص الأوبرا والموسيقى وقام الممثلون والموسيقيين بعمل تجربة للرواية. وفي 23 فبراير 1735 عُرضت "أميرة نافار"-ولقيت ما كان مقدراً لها من نجاح. وبعد ذلك بشهر خصصت لفولتير حجرة في فرساي تقارب ما وصفه في رسائله الخاصة بأنها "أقذر حجرة في فرساي" وتبوأت مركيزة شاتيليه من جديد في الحاشية مكانها الذي كانت قد ضحت به من أجل فولتير. وحصلت آنذاك على الامتياز المذهل وهو الجلوس في حضرة الملكة. وكان في صعود نجم مدام دي بمبادور تدعيم لمركز فولتير فقد تعرف عليها حين كانت مدام دتوال، وزارها في دارها، وكتب في مديحها شعراً تافهاً، وبناء على إلحاح منها عينه الملك (أول أبريل) مؤرخ الملك براتب قدره ألفي جنيه في العام.
وسرعان ما اقتضت الظروف أن يثبت جدارته ووجوده، ذلك أنه في 11 مايو 1745 هزم الفرنسيون الإنجليز في فونتنوي فطلب دار جنسون قصيدة(36/210)
غنائية تخلد هذا الانتصار. ونظم فولتير 350 بيتاً من الشعر في ثلاثة أيام طبعت خمس طبعات على مدى أسبوعين. وأحب الملك فولتير لفترة وجيزة، وأصبح فولتير شاعر حرب. وزيادة في تخليد ذكرى النصر كلف فولتير ورامو بإعداد أوبرا المهرجان. وأبرزت أوبرا "معبد المجد العظيم" أي تراجان-أي لويس الخامس عشر-عائداً من المعركة ظافراً منتصراً، وخصص لفولتير في تلك الأمسية مكان على مائدة الملك، وأكلا معاً طعاماً شهياً، ولكن فولتير سأل ريشيليو في لهفة: هل تراجان راض؟ ولكن الملك سمعه مصادفة ورأى أنه وقح جرئ بعض الشيء فلم ينبس إليه ببنت شفه.
وثمل فولتير بمزيج من الشهرة والانتساب إلى الحاشية الملكية، فبدأ حملة جديدة للانضمام إلى مجمع الخالدين (الأكاديمية الفرنسية) ولم يأل أي مجهود في تحقيق مأربه. وفي 17 أغسطس 1745 أرسل نسخة من رواية "محمد" إلى البابا بندكت الرابع عشر، يسأله أن يهديها إليه. وفي 19 سبتمبر رد البابا اللطيف: سعدت الليلة الماضية بروايتك "محمد" التي قرأتها بشغف وسرور عظيم. وإني لأقدر مواهبك أكبر تقدير، وهذا أمر يعترف به الجميع ... وأني لأكبر كل الإكبار نبلك وإخلاصك ... وإني هنا أمنحك بركتي الرسولية (73) ".
واغتبط فولتير بهذا الوسام أيما اغتباط حتى أنه كتب إلى البابا تقديراً حاراً ختمه بقوله: بكل إجلال وتقدير واحترام أقبل قدميك المقدستين (74) وأعلن إلى باريس تمسكه بالمذهب الكاثوليكي وإعجابه باليسوعيين، وأطنب في مدائحه لمدام بمبادور والملك. وتوسلت بمبادور إلى الملك وقبل الملك رجاءها. وأخيراً في 9 مايو 1746 وافقت الأكاديمية على الانضمام أمير الشعراء في هذا العصر والكتاب المسرحيين فيه إليها. وزيادة في تكريمه وتدعيم مركزه عين في 22 ديسمبر موظفاً في الحاشية الملكية مخصصاً للقيام على شئون الملك.(36/211)
وربما تسنى له في أيام النجاح والعيش الرغيد هذه أن يكتب رواية "بابوك أو الدنيا كما هي" وبابوك رجل من سكيزيا (إقليم قديم في جنوب شرقي أوربا وجنوب غربي آسيا) يجول ليرى الدنيا، وبخاصة كيف تسير المور في فارس (أي فرنسا) وأصابه الذهول والفزع لما رأى من الحروب والفساد السياسي وشراء الوظائف وجباية الضرائب وثراء رجال الدين. ولكن ترحب به سيدة (مدام دي بمبادور) استماله جمالها وثقافتها وكياستها إلى "المدينة" ويرى بابوك هنا وهناك بعض مظاهر الكرم ونماذج للأمانة. ثم يزور رئيس الوزراء (تذكير بالكاردينال فليري) ويجده يعمل جاهداً لإنقاذ فارس من الفوضى والهزائم، ويخلص إلى أن الأمور تسير سيراً حسناً بقدر ما تسمح به الظروف الراهنة للطبيعة البشرية للتعليم، وأن الدنيا بوضعها الحاضر لا تستحق التدمير بعد، وأن الإصلاح خير من الثورة، أما بالنسبة لشخصه هو على أية حال فإنه سيقلد الحكماء الحقيقيين الذين سيعيشون بينهم وبين أنفسهم في عزلة وهدوء (75). فهل شعر بالوحشة والشوق إلى سيري فعلاً؟
إنه على أية حال لم يكن لائقاً ليعمل في البلاط. فإنه بطريقة تعوزها اللباقة إلى حد لا يصدق احتفل بانتصار الفرنسيين في برجن آوب زوم بقصيدة صور فيها الملك لويس الخامس عشر طائراً من ميدان المعركة إلى أحضان بمبادور، وعهد إليهما معاً بمهمة الاحتفاظ بالفتوحات واستبد الغضب بالملكة وبأبنائها، وأستنكر نصف أفراد البلاط وقاحة الشاعر، وفي الوقت عينه كانت دي شاتيليه قد انغمست في لعب الميسر، وفي ليلة واحدة خسرت 84 ألف فرنك، وأنذرها فولتير بالإنجليزية وهو واقف إلى جوارها بأنها تغش في اللعب. وفهم بعض اللاعبين ذلك واحتجوا وترامت أنباء هذه الصراحة المخزية إلى أفراد الحاشية، فلم تترك للشاعر صديقاً في فرساي أو فونتنبلو، وهرب فولتير وأميلي إلى سكو (1747) ليقيما لدى الدوقة دي مين التي ما زالت على قيد الحياة، وهناك بقي لمدة شهرين في جناح منفرد (منعزل) بعيد عن أنظار الناس، وهناك حاول أن ينسى ورطته(36/212)
ومحنته بالانصراف إلى كتابة بعض القصص الرومانسية المرحة التي ساعدت على ان تجعل منه أعظم المؤلفين شعبية في الأدب الفرنسي. وواضح أنه قرأها ذات يوم على الضيوف المقربين الذين تألفت منهم حاشية الدوقة الخاصة. ومن هنا كان إيجاز هذه القصص وما فيها من هجاء مرح وسخرية لطيفة.
وأطول هذه القصص التي كتبت فيما بين عامي 1746، 1750 هي "زاديج أو سر القدر" وزاديج شاب بابلي لطيف غني تلقى أحسن تعليم، عاقل قدر ما يمكن أن يكون الإنسان عاقلاً واسع الإطلاع على علوم قدامى الكلديين، فهم أصول ومبادئ الفلسفة الطبيعية، وعرف من الميتافيزيقا ما يمكن أن يعرف في أي عصر، أي القليل منها أو لا شيء على الإطلاق (76). وكان على وشك أن يتزوج من سمينا الجميلة حين هاجمه بعض قطاع الطرق، وأصابوه بجرح تحول إلى خراج في عينه اليسرى، واستدعى هرمز الطبيب المشهور من ممفيس وفحص الجرح، ثم أعلن أن زاديج لا بد أن يفقد عينه، ولو أنه في العين اليمنى لأمكن علاجه بسهولة، ولكن الجروح في العين اليسرى غير قابلة للشفاء. وأعلنت سمينا أنها تنفر نفوراً لا سبيل إلى مقاومته من الرجال ذوي العين الواحدة، ومن ثم هجرت زاديج وتزوجت من غريمه. وفي ظرف يومين التأم الجرح من تلقاء نفسه وشفيت العين تماماً، ويؤلف الطبيب هرمز كتاباً يثبت فيه أن هذا مستحيل، ويدخل زاديج السرور على قلب الملك موابدار بنصائحه الغالية، وعلى قلب الملكة آستارت بنظراته الحانية فتقع في شراك غرامه، ويهرب زاديج إلى مدينة نائية. وفي الطريق يرى رجلاً يضرب امرأة، ويستجيب في شجاعة لصرخاتها طلباً للمساعدة، فيتدخل بينهما ويهاجمه الرجل بعنف ولكنه يرد به قتيلاً. وتسبه المرأة بألفاظ جارحة لأنه قتل عشيقها. ويمضي زاديج في طريقه ويؤخذ ويباع بيع الرقيق. عندئذ تصور زاديج "الناس كما هم في حقيقة أمرهم ...... حشرات يفتك بعضها ببعض من أجل قطرة من طين".(36/213)
وقص "ممنون الفيلسوف" حكاية رجل اعتنق يوماً الفكرة الجنونية بأنه متعقل كل التعقل ولكنه وجد نفسه قاصراً قصوراً بائساً عاجزاً يواجه مئات الكوارث، فيقرر أن الأرض مستشفى كبير للأمراض العقلية تقوم الكواكب الأخرى بترحيل المجانين فيها إليه (77).
أما رحلات سكارمنتادو فهي تطوف بشاب من كريت من بلد إلى بلد حيث يكتشف له في كل يوم مشاهد جديدة من التعصب أو الخداع أو القسوة أو الجهل. ففي فرنسا تجتاح الحروب الدينية المقاطعات، وفي إنجلترا تحرق الملكة ماري خمسمائة من البروتستانت، وفي أسبانيا ينشق الشعب في لذة رائحة المهرطقين الذين ألقي بهم في النار، وفي تركيا ينجو سكارمتادو من الختان بأعجوبة، وفي فارس يتورط في الصراع بين طائفتي السنة والشيعة من المسلمين، وفي الصين يتهمه اليسوعيون بأنه شخصية بارزة من طائفة الدومنيكان، وأخيراً يعود إلى كريت "ومذ رأيت الآن كل ما هو نادر أو خير أو جميل على الأرض، فقد وطدت العزم على ألا أرى في المستقبل شيئاً غير بلدي، وتزوجت وسرعان ما أدخلني الشك في خيانة زوجتي، ولكني على الرغم من هذا الشك وجدت أن هذه هي لأسعد ظروف الحياة (78).
وتوسع ميكروميجاس في أفكار النسبية التي استخدمها سويفت في رحلات جلليفر. والسيد ميكروميجاس رجل يصلح للإقامة في نجم الشعري اليمانية، وطوله 120 ألف قدم وعرض صدره خمسون ألفاً، وطول أنفه 6. 333 قدماً. عندما بلغ 670 عاماً من العمر ذهب ليستزيد من التعليم.
وبينما هو يحوم في الفضاء هبط على كوكب الزحل فسخر من الأقزام هناك، حيث بلغ طول الناس هناك ستة آلاف قد أم نحوها، وتعجب كيف يتسنى لسكان زحل المعدمين هؤلاء الذين ليس لهم إلا 72 حاسة فقط أن يعرفوا الحقيقة وسأل أحد السكان إلى أي حد من العمر تعيشون؟ فصاح ساكن زحل واحسرتاه! قليل جداً منا يعيشون لأكثر من 500 دورة حول الشمس (وهي بحسابنا نحن تصل إلى نحو 15 ألف سنة) وهكذا ترى أننا بشكل ما نموت في اللحظة التي نولد فيها .... وما أقل ما نتعلمه(36/214)
حين ينزل بنا الموت قبل أن نستفيد من خبرتنا (79). ويدعو ساكن الشعري اليمانية ساكن زحل إلى مصاحبته لزيارة كواكب أخرى، فتتعثر أقدامهما على كوكب الأرض، وتبتل قدما ساكن الشعري، ويكاد ساكن زحل يغرق وهما يسيران فوق البحر المتوسط. فلما وصلا إلى البر رأيا حشوداً من الأهالي صغار الأجسام يتمركزون هنا وهناك في اهتياج شديد، وعندما يتضح لساكن الشعري اليمانية أن مائة ألف من سكان الأرض هؤلاء يلبسون القبعات وعدداً مساوياً يضعون العمائم، يقتلون ويطيح بعضهم برؤوس بعض في صراع (الحروب الصليبية) حول ركام من التراب (فلسطين) لا يكاد يعلو على عقبيه يصيح ساخطاً. مستاءً: أيها الكفار الأوغاد ... قلبي يحدثني أن أتقدم خطوتين أو ثلاثاً لأسحق تحت قدمي وكر السفاحين الحمقى بأسره (80).
وكل هذا كان عاماً ساراً بهيجاً، وكان يمكن أن يمر دون أن يحرك أحد ساكناً. ولكن فولتير في 1748 عكر صفو باريس بنشرة صغيرة "صوت الحكماء وصوت الشعب" هاجم فيها كنيسة فرنسا في نقطة حساسة، تلك هي "أملاك الكنيسة في فرنسا"، حيث ينمو العقل ويتطور يوماً بعد يوم، فإن العقل يعلمنا أنه يجدر بالكنيسة أن تسهم في نفقات الأمة بنسبة مواردها، وأن الهيئة التي نصبت نفسها لتلقين مبادئ العدالة يجدر بها أن تبدأ بنفسها لتكون قدوة للعدالة ونموذجاً لها ورغم أن الأديار تضيع أقوات الشعب وموارد الأرض في خمول عقيم، واتهم "الخرافة" بقتل الحكام وإراقة بحور من الدماء في الاضطهادات والحروب، وذكر الملوك بأن أحداً من الفلاسفة لن تمتد يده على مليكه، وإذا اتحد الملوك مع العقل وجردوا أنفسهم من الخرافة فكم يكون الناس أسعد وأهنأ بالاً. وقل أن أثارت رسالة موجزة مثل هذه العاصفة الهوجاء. ونشرت خمس عشرة رسالة مضادة للرد على رسالة "صوت الحكماء وصوت الشعب" التي لم يذكر اسم مؤلفها.
وأثناء إقامة فولتير في فصل الشتاء في سكو سددت مدام دي شاتيليه(36/215)
ديون القمار، وهدأت من روع الرابحين، وخففت من استيائهم لما نعتهم به فولتير، وأعادته إلى باريس حيث أشرف على نشر قصصه الصغيرة، ووجد من الحكمة على الرغم من المشقة والتعب أن يلبي دعوة ستانسلاس لزكزنسكي لزيارة بلاطه في لونفيل-على بعد نحو 18 ميلاً من نانسي عاصمة اللورين. وبعد رحلة مرهقة وصل الحبيبان إلى لونفيل (1748) ولكن بعد أسبوعين وصل كتاب من دارجنتال ينبئ به فولتير بأن ممثلي الكوميدي فرانسيز على استعداد لتجربة روايته سمير اميس، وإنهم في حاجة إليه لمعاونتهم في تفسير أبياتها. وكانت هذه الرواية تعني الشيء الكثير لديه، وكانت بمبادور من طيبة نفسها الآثمة قد أعادت إلى المسرح كربيون (الأب) الفقير المعدم وهيأت له سبيل النجاح. وكان ماريفو قد نجا سر فاعتبر مسرحيات الشيخ الهرم أعلى مرتبة من مسرحيات فولتير. وكان الشاعر النحيل الجسم قد اعتزم أن يثبت تفوقه بكتابة روايات في نفس الموضوعات التي كان كربيون قد طرقها. ومن ثم أسرع فولتير إلى باريس تاركاً أميلي في حرية مهلكة في لونيفل. وفي 29 أغسطس 1748 عرضت سميراميس لأول مرة عرضاً ناجحاً. وبعد العرض الثاني أسرع متنكراً إلى مقهى بركوب واستمع إلى تعليقات من شهدوا المسرحية. وكانت ثمة تعليقات امتدحت الرواية وأطرتها، تقبلها فولتير على أنها من حقه، وثمة آراء أخرى انتقصت من قدرها وهاجمتها. وقد آلمته هذه أيما إيلام، حيث كان عليه أن يحتملها صامتاً، ولكنه استفاد مما وجه إلى المسرحية من نقد، فنقحتها واستمر عرضها طويلاً، وهي تعد الآن من أحسن مسرحياته.
وأسرع ثانية في جو سبتمبر العاصف عبر فرنسا إلى لونفيل، وكاد يموت في الطريق عند شالون، ولما استحثه فردريك الأكبر على المضي إلى بوتسدام اعتذر بأن المرض أفقده نصف سمعه وعدة أسنان من أسنانه، إلى حد أنه لن يكون إلا مجرد هيكل في برلين. فأجاب "تعال بلا أسنان وبلا أذنين، إذا لم يكن بد من الحضور على هذه الصورة، ما دام أن هذا الشيء الذي بتعذر تعريفه، والذي يمكنك من التفكير، والذي يوحي بكل ما جميل، سيحضر معك" (82) ولكن فولتير آثر المقام مع أميلي.(36/216)
5 - موت الحبيبة
أحب الملك الصالح ستانسلاس الأدب، وكان قد قرأ فولتير وأصابته عدوى عصر الإستنارة، وفي 1749 كان الملك بصدد نشر بيانه "الفيلسوف المسيحي" الذي كانت ابنته ملكة فرنسا قد قرأته في استياء حزين. وحذرته من أن آراءه يشتم منها أنها نابعة من آراء فولتير إلى حد كبير. ولكن الشيخ الهرم استساغ آراء فولتير كما أعجب بذكائه. وكما أنه كان له أيضاً محظية (هي المركيزة دي بوفلرز) فأنه لم يجد تناقضاً في أن يتخذ من الشاعر محظياً له في بلاطه. كما عين، فوق ذلك، زوج أميلي المتحرر الواسع الأفق كبير مديري قصره براتب قدره ألفا كراون سنوياً.
وكان ثمة موظف آخر في بلاط ستانسلاس، هو المركيز جان فرانسوا دي سانت لامبرت، قائد الحرس. وكانت مدام دي شاتيليه قد التقت به لأول مرة في 1747، وكان هو في الحادية والثلاثين وهي "في الحادية والأربعين. وكانت تلك سن خطيرة لامرأة لم يعد عشيقها إلا مجرد صديق حميم. وفي ربيع 1748 بدأت تكتب للضابط الوسيم رسائل غرام تكاد تتسم بحماسة البنات الصغيرات وخلاعتهن: "تعال إلي بمجرد أن ترتدي ملابسك" سأطير إليك بعد أن أتناول العشاء. "واستجاب سانت لامبرت مغازلاً متودداً. وذات مرة في أكتوبر فاجأهما فولتير في خلوة مظلمة يتبادلان أحاديث الحب والهيام. إن أعظم الفلاسفة هو وحده الذي يتقبل هذه الفعلة النكراء، الخيانة، في هدوء وتسامح. ولم يثر فولتير لهذا الوضع على الفور، وأنبهما في شيء من الهذر والمزاج، ولكنه أوى إلى غرفته حين عرض سانت لامبرت تسوية الأمر معه-أي يقتله عند الفجر. وقصدت أميلي إلى فولتير في الثانية صباحاً، وأكدت له حبها الخالد، ولكنها ذكرته في رفق "بأنك لزمن طويل شكوت ... من قواك أن تنهار ... فهل يسيء إليك أن يحل أحد أصدقائك محلك؟ " وعانقته ولاطفته ودللته بأسماء الدلال التي كانت تناديه بها، فخفت سورة غضبه وقال "آه أنت على حق دائماً يا سيدتي. ولكن طالما كان لزاماً أن تجري الأمور على هذا النحو فلا(36/217)
أقل من ألا تجري تحت سمعي وبصري" وفي الليلة التالية قصد سانت لامبرت إلى فولتير واعتذر له على تحديه. وعانقه فولتير وقال له "أي بني، لقد نسيت كل شيء. إني أنا المخطئ، أنت في زهرة عمر الشباب والحب والمتعة، فاستمتع بهذه اللحظات، فأنها قصيرة. إن هذا العاجز المريض مثلي لا يصلح لهذه الملذات" وفي الليلة التالية تناول ثلاثتهم العشاء معاً (83).
واستمر هذا الثلاثي "حتى ديسمبر حين اعتزمت السيدة دي شاتيليه الذهاب إلى سيري لتدبير شؤونها المالية. وصحبها فولتير، وجدد فردريك دعوته. وكان فولتير يميل الآن إلى تلبيتها. ولكن المركيزة فور وصولها إلى سيري أسرت إليه بأنها حامل، وأنها في مثل هذا السن وكانت آنذاك في الثالثة والأربعين، لا تتوقع أن تعيش بعد الولادة. وكتب فولتير إلى الملك فردريك ألا ينتظر قدومه. كما طلب إلى سانت لامبرت أن يحضر إلى سيري. وهناك اتفق العشاق الثلاثة على خطة لتأمين شرعية الطفل. واستحثت السيدة زوجها على القدوم إلى سيري للتعجيل بإنجاز بعض المهام. ولم ينزعج الزوج لوجود عاشقين آخرين إلى جانب زوجته يكملان شخصه، بل سعد كل السعادة حين استقبلوه بالترحيب وأكرموا وفادته. وازدانت المركيزة بأبهى زينة وأزهى حلة، ولاطفته أعظم ملاطفة، وشرب وثمل حتى كان ما كان (مما لست أذكره) وبعد بضعة أسابيع أبلغته أنها قد ظهرت عليها أعراض الحمل. واحتضنها في زهو وفرح. وأعلن عن الحادث السعيد المرتقب إلى كل الناس، وتقدم إليه الجميع بالتهنئة. ولكن فولتير وسانت لامبرت اتفقا على "أن يعد الطفل من بين أعمال مدام شاتيليه المتنوعة" (84) وعاد المركيز (الزوج) وسانت لامبرت إلى عملهما.
وفي فبراير 1749 عادت أميلي وفولتير إلى باريس وانصرفت هي إلى ترجمة قوانين نيوتن بمعاونة كليرو. وثمة رسالتان إلى سانت لامبرت (18، 20 مايو) تكشفان عن شخصيتها: "كلا: إنه ليس في مقدوري أن أعبر عن تقديسي وحبي لك حب عبادة. لا تلمني على نيوتن، ويكفيني(36/218)
عذابي بسببه. وما ضحيت قط بشيء قدر تضحيتي للعقل ببقائي هنا لإنجازه .. أنا أستيقظ في التاسعة، وأحياناً في الثامنة صباحاً. وأتناول القهوة، واستأنف العمل في الرابعة، وأتوقف عنه في العاشرة ... وأتجاذب أطراف الحديث مع فولتير حتى منصف الليل وهو يتناول معي العشاء. وفي منتصف الليل أعود إلى العمل في نيوتن واستمر حتى الخامسة صباحاً. إني أنجز هذا الكتاب من اجل العقل والشرف ولكني أحبك أنت وحدك" (85).
وفي 10 يونيه جدد فردريك بسرعة دعوة فولتير إلى الحضور إلى بوتسدام ظناً من الملك أن سانت لامبرت قد أعفى فولتير من أية مسئوليات أخرى يلتزم بها تجاه دي شاتيليه، فأجاب فولتير "حتى فردريك الأكبر نفسه لا يستطيع أن يحول بيني وبين القيام بالواجب لا يمكن أن يحلني منه أي شيء ... لن أتخلى عن سيدة قد تعاجلها المنية في سبتمبر. والأرجح أن عملية الوضع ستكون خطيرة جداً عليها، ولكن إذا كتبت لها النجاة، فإني أعدك يا مولاي أن أحضر في أكتوبر وأقدم ولائي لجلالتكم (86) ".
وفي يوليه صحبها إلى لونفيل لتكون تحت رعاية طبية خاصة. إن خوف الموت أزعجها كل الإزعاج-يختطفها الموت في الوقت الذي وجدت فيه الحب من جديد، وفي الوقت الذي كانت فيه سني دراستها وبحثها على وشك أن تتوج بنشر كتابها. وفي 10 سبتمبر أنجبت طفلة. وفي اليوم العاشر من سبتمبر فارقت الحياة بعد أن عانت كثيراً. واستبد الحزن والأسى بفولتير فزلت قدمه وهو يغادر غرفتها وسقط على الأرض، وظل فاقد الوعي فترة من الوقت. وساعده سانت لامبرت على الأفاقة من غشيته. وقال فولتير عندئذ: "آه يا صديقي أنت الذي قتلتها ... يا إلهي! ما الذي أغراك بأن تصل بها إلى هذه الحالة؟! " وبعد ذلك بثلاثة أيام طلب فولتير من لونجشامب الخاتم الذي خلعوه من يد السيدة المتوفاة. وكانت صورته منقوشة عليه يوماً ما وجده السكرتير في يد لامبرت، وتعجب فولتير قائلاً: "هكذا النساء. لقد خلعت صورة ريشيليو من هذا الخاتم، ثم جاء سانت لامبرت فطردني ... هذا هو نظام الطبيعة .. شخص ينتزع مكان آخر.(36/219)
وهكذا تسير الأمور في هذه الدنيا (87) ". ووريت مدام دي شاتيليه التراب في لونفيل في أروع مظاهر المهابة والجلال في بلاط ستانسلاس، وسرعان ما تبعتها طفلتها.
وعاد المركيز وفولتير إلى سيري ومن هناك رد على بعض رسائل التعزية التي تلقاها من باريس: "أنتم عزائي، يا ملائكة الرحمة أنتم تجعلونني أحب بقية أيامي التعسة. إنني أعترف لكم أن البيت الذي أظلها على الرغم مما يثير في نفسي من أشجان، ليس كريهاً عندي ... أنا لا أهرب من أي شيء يحدثني عنها ويذكرني بها. إني أحب سيري ... والأماكن التي زانتها عزيزة على أنا لم أفقد سيدة، بل فقدت نصف نفسي. فقدت نفساً خلقت لها نفسي، فقدت صديقة عشرين عاماً، عرفتها في طفولتها. إن أكثر الآباء عطفاً وحناناً لا يحب ابنته الوحيدة إلا كما أحببت أنا هذه السيدة. وبودي أن أجد في كل مكان ما يذكرني بها. وأحب أن أتحدث مع زوجها ومع ابنها (88).
ومع ذلك أدرك فولتير أنه سيذبل ويذوي إذا بقى مترملاً سيري الموحشة المنعزلة. وأرسل كتبه وأجهزته العلمية ومجموعته الفنية إلى باريس، وسافر في أثرها في 25 سبتمبر 1749. وفي 12 أكتوبر استقر به المقام في العاصمة، في قصر واسع الأرجاء في شارع ترافرسبير.
6 - مدام دنيس
كان من اليسير على فولتير أن يقنع ابنة أخته بالحضور لتكون ربة البيت حيث كانت لفترة من الوقت خليلته.
ولدت ماري لويز مجنو Mignot (1712) وهي ابنة كاترين أخت فولتير. وعندما توفيت كاترين (1726) تكفل فولتير برعاية أولادها. وفي 1737، عندما بلغت ماري السادسة والعشرين، دفع لها خالها صداقاً محترماً حيث تزوجت من الكابتن نقولا شارل دنيس، وكان موظفاً صغيراً في الحكومة.(36/220)
وتوفي الزوج بعد ست سنوات من زواجه، وفي نفس الوقت الذي انتقل فيه فولتير والمركيزة دي شاتيليه إلى باريس. والتمست الأرملة بعض السلوى والعزاء بين ذراعي فولتير، ووجد هو بعض الحرارة والدفء بين ذراعيها. وواضح أن حب الخال سرعان ما تحول إلى شيء غير مشروع. وفي رسالة مؤرخة في 23 مارس 1745 خاطب فولتير ابنة أخته بقوله "محبوبتي، عزيزتي" (89) (1) وقد تكون هذه العبارة حب برئ ولكن في ديسمبر، أي قبل عامين من لقاء المركيزة بسانت لامبرت كتب فولتير إلى الأرملة الطروب رسالة يجدر اقتباسها حرفياً حتى يمكن تصديقها: "أقبلك ألف قبلة. روحي تقبل روحك، إن قلبي مفتون بك. أقبل كل شيء فيك" (90).
وحذفت مدام دنيس بعض الألفاظ تواضعاً وخجلاً، ولكن المفروض أنها أجابت برسالة غرامية، لأن فولتير كتب لها من فرساي في 27 ديسمبر 1745: "عزيزتي، تقولين إن كتابي إليك بعث السرور والنشوة حتى في حواسك كلها. وأنا مثلك تماماً. فلم أكد أقرأ العبارات الممتعة التي جاءت في كتابك حتى التهبت مشاعري من الأعماق. وأوليت كتابك كل الإجلال الذي أحب أن أوليه لشخصك كله، سأحبك حتى الممات" (92). وفي ثلاث رسائل بعث بها إليها في 1746 "إني أقبلك ألف قبلة" (93). بودي أن أعيش عند قدميك وأموت بين ذراعيك .. (94) "متى يكون في مقدوري أن أعيش إلى جوارك وينساني العالم بأسره؟ " (95) وفي 27
_________
(1) هذه العبارة والمقتطفات التالية مأخوذة عن رسائل خطية اكتشفها تيودور بسترمان في 1957، واشترتها مكتبة بيير بونت مورجان في نيويورك من أعقاب السيدة دنيس. ونشر الدكتور بسترمان، مدير معهد ومتحف فولتير في لي دليس في جنيف، النص الأصلي، مع ترجمة فرنسية تحت عنوان "رسائل غرامية من فولتير إلى ابنة اخته (باريس 1957) وترجمة إنجليزية (لندن 1958). وكل الرسائل، فيما عدا أربعاً من بين 142 رسالة بخط فولتير، وبعضها مكتوب بالإيطالية التي كانت مدام دنيس ملمة بها. وكتبت هذه الرسائل فيما بين عامي 1742 - 1745. وثلاث منها مؤرخة على وجه التحديد. ومن ثم لا يمكن أن يكون تسلسلها التاريخي مؤكداً. والتواريخ التي أوردناها هنا هي التي حددها دكتور بسترمان.(36/221)
يوليه 1748 كتب يقول: "سأحضر إلى باريس من أجلك أنت إذا سمحت ظروفي سيئة. وسألقي بنفسي عند قدميك. وأقبل كل مفاتنك. وفي نفس الوقت أطبع ألف قبلة على كل موضع في جسمك الذي غمرني بفيض من اللذة والبهجة" (97).
في عمر الرجال، مثلما هو في عمر النساء، فترة خطيرة، وهي عندهم أطول، ويرتكبون فيها حماقات لا تصدق. وكان فولتير ألمع شخصية في القرن الذي عاش فيه، ولكن لا يجدر بنا أن نعده من بين الفضلاء الحكماء، فكثيراً ما اقترف هذه السخافات والعمال الطائشة وتردى في هذه التصرفات المتطرفة ونوبات الغضب الصبيانية، مما سر أعداءه وأزعج أصدقاءه. إنه وضع نفسه تحت رحمة ابنة أخته التي كان واضحاً أنها مغرمة به، ولكنها أحبت نقوده حباً متزايداً. إننا نجدها تستغل سيطرتها عليه لتزيد من ثروتها، حتى يوم وفاته. إنها لم تكن امرأة رديئة بمقاييس العصر. ولكنها ربما جاوزت حدود عمرها باتخاذها سلسلة من العشاق-باكولار دارنو، مارمونتيل، مركيز دي اكسيمين-لتستكمل رعاية خالها. (98) ووصفها مارمونتيل مادحاً في 1747 "إن هذه السيدة مقبولة بكل ما فيها من قبح. إن شخصيتها البسيطة غير المتكلفة تشربت مسحة من شخصية خالها. وكان فيها كثير من ذوقه ومن مرحه وأدبه الجم، ومن هنا كان السعي إلى الاجتماع بها والتودد إليها" (99).
وفي يوم وفاة مدام شاتيليه كتب فولتير إلى ابنة أخته:
"ابنتي العزيزة، فقدت اليوم صديقة عشرين عاماً. ولوقت غير قصير-كما تعرفين. لم أكن أنظر إلى مدام دي شاتيليه على أنها امرأة (هكذا). أنا واثق أنك ستشاطرينني الحزن الشديد عليها. إنه من المؤسف حقاً أن أراها تفارق الحياة في مثل هذه الظروف ولمثل هذا السبب، وأنا لا أتخلى عن المركيزة دي شاتيليه في هذه المحنة المتبادلة .... سأحضر من سيري إلى باريس لأحتضنك بين ذراعي، والتمس فيك عزائي وأملي الوحيد في الحياة (100).(36/222)
وطوال الشهور الثمانية التي قضاها في العاصمة، تلقى فولتير من فردريك الأكبر رسائل كثيرة يستحثه فيها على الحضور، وكان هو يميل إلى قبول الدعوة. وعرض عليه فردريك أن يشغل وظيفة كبيرة في البلاط، مع دار خاصة بالمجان براتب قدره 5000 تالر في العام. (101) ولكن فولتير الذي كان من رجال مثلما كان فيلسوفاً، طلب إلى ملك بروسيا أن يقرضه بعض المال لتسديد نفقات الرحلة. ووافق الملك في تانيب ماكر، حيث شبه الشاعر بهوراس الذي رأى من الحكمة أن يمزج النافع بالمقبول (102). وطلب إلى فولتير الأذن بالرحيل من ملك فرنسا، ووافق لويس على الفور، قائلاً لخلصائه المقربين: "هذا سيزيد من جنون رجل مجنون في بلاط بروسيا وسيخفف من جنون رجل في فرساي (103). وفي 10 يونية 1750 غادر فولتير باريس إلى برلين.(36/223)
الكتاب الثالث
أوروبا الوسطى
1713 - 1756(37/4)
الفصل الثاني عشر
ألمانية باخ
1715 - 1756
1 - المشهد الألماني
لم يكن منتظراً من فولتير وهو يخترق ألمانيا أن يستطيع ترويض ذهنه الباريسي الهوائي على تقدير ما للألمان من أجسام وملامح وآداب وحديث، وعلى تذوق الأدب والموسيقى والفنون القوطية. وأغلب الظن أنه لم يكن قد سمع قط بيوهان سبستيان باخ، الذي مات في 18 يوليو 1750، وبعد وصول فولتير إلى برلين بثمانية عشر يوماً. ولعله لم يكن قد رأى تلك العبارة التي وصف بها هيوم ألمانيا 1748، وهي أنها "بلد بديع، زاخر بقوم أمناء مجدين، ولو قيضت له الوحدة لكان أعظم قوة ... في الأرض" (1).
وكان من حسن طالع فرنسا وإنجلترا أن هذا الشعب القوي النشيط، البالغ عدده آنذاك زهاء عشرين مليونا من الأنفس، كان لا يزال منقسماً إلى نيف وثلاثمائة دويلة مستقلة من الناحية العملية، لكل منها أميرها المتمتع بالسيادة، وبلاطها، وسياستها، وجيشها، وعملتها، ومذهبها الديني، وزيها الخاص، وكلها في مختلف مراحل التطور الاقتصادي والثقافي، لا تجمعها غير رابطة اللغة، والموسيقى، والفن. وثلاث وستون من إماراتها-بما فيها كولونيا، وهلدسهايم، ومينز، وترير، وشييير، وفورتسبورج - يحكمها رؤساء أساقفة أو أساقفة، أو رؤساء ديورة. وكانت إحدى وخمسون مدينة - أهمها هامبورج، وبريمن،(37/5)
ومجدبورج، وأوجربورج، وفورمبورج، وأولم، وفرانكفورت-على المين-مدناً "حرة"، بمعنى أنها، كالأمراء، تخضع لرأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة خضوعاً طليقاً من القيود الثقيلة.
وكان أكثر الأراضي الألمانية، باستثناء سكسونيا وبافاريا، يزرعه الأقنان أو رقيق الأرض المرتبطون بها، ويخضع لكل الفروض الإقطاعية القديمة تقريبا. وكان هناك 4. 500 قن من بين 8. 000 فلاح في أسقفية هلدسهايم حتى عام 1750 (2) وكانت الفوارق الطبقية حادة، ولكن طول العهد بها ثبتها تثبيتا جعل طبقة العامة تتقبلها في غير تذمر شديد، وقد خفف منها بقاء أطول واحترام أعظم لالتزامات السادة الإقطاعيين بحماية الفلاح في الكوارث، ورعايته في المرض والشيخوخة، والعناية بالأرامل واليتامى، وحفظ النظام والسلام (3)،
واشتهر الإقطاعيون "اليونكو" في بروسيا بإدارتهم أملاكهم بكفاية، وبتطبيقهم السريع للطرائق الزراعية المحسنة.
وأخذت الصناعة والتجارة تنتعشان بعد أن أنفقت ألمانيا سبعة وستين عاما في الأفاقة من حرب الثلاثين سنة. وكانت سوق ليبزج أحفل أسواق أوربا بروادها، ففاقت سوق فرانكفورت حتى بيع في الكتب. وبلغت فرانكفورت وهمبورج في هذا القرن في نشاطهما التجاري شأواً لم تبلغه سوى باريس، ومرسليا، ولندن، وجنوه، والبندقية، والآستانة. ولم يستعمل أمراء التجارة الهمبورجيون ثراءهم في الترف والمظاهر فحسب بل في الرعاية المتحمسة للأوبرا، والشعر والدراما، ففي همبورج حقق هاندل انتصاراته الأولى، ووجد كلوبستوك المأوى، وكتب لسنج مقالاته عن المسرح الهمبورجي. وكانت المدن الألمانية كشأنها اليوم، خير المدن إدارة في أوربا (4).
وبينما أفلح الملك في فرنسا وإنجلترا في إخضاع النبلاء للحكومة المركزي، نرى أن الناخبين أو الأمراء، أو الأدواق، أو الكونتات، أو الأساقفة، أو رؤساء الديورة والذين حكموا الدويلات الألمانية،(37/6)
سلبوا الإمبراطور كل السلطان حقيقي على أملاكهم، وأتو بصغار النبلاء أتباعا في بلاط الأمير. وكانت هذه البلاطات ( Residenzen) ، فضلاً عن المدن الحرة، مراكز للحياة الثقافية كما كانت مراكز للحياة السياسية في ألمانيا. وانجذبت إليها ثروات ملاك الأراضي، وأنفقت على القصور الضخمة ومظاهر البذخ والثياب الفاخرة التي كانت في كثير الأحايين نصف الرجل ومعظم سلطانه. وهكذا نجد إيبرهارت لودفج، دوق فررتمبرج، يكل إلى ي. ف. نتى ودوناتو فريتسوني أن يشيدا له (1704 - 33) في لودفجزبورج (قرب شتوتجارت) قصرا بديلا بلغ في فخامته تصميمه وزخرفته، وفي كثرة ما حوى من أثاث أنيق وتحف فنية بديعة، مبلغاً لا بد قد كلف رعاياه الكثير من المال والعرق. وفي 1751 ألحق بالقلعة الكبرى ( Schloss) في هيدلبرج، التي بدء بناؤها في القرن الثالث عشر، راقود في كهف الخمور (وهو وعاء ضخم للتخمير) يتسع لتخمير 49,000 جالون من الجعة في المرة. وفي مانهايم اتفق الدوق شارل تيودور خلال حكمه الطويل ناخباً لليالاتين (1733 - 99)، 35 مليون فلورين على المؤسسات الفنية والعلمية، والمتاحف، والمكتبات، وعلى إعانة المعماريين، والمثالين، والمصورين والممثلين والموسيقيين. ولم تكن هانوفر بالبلد الفسيح ولا الفخم، ولكن كان يحوي داراً للأوبرا اجتذبت إليها هاندل. وكانت ألمانيا مجنونة بالموسيقى جنون إيطاليا الأم ذاتها.
وكانت كان لميونخ دار كبرى للأوبرا مولتها ضريبة فرضت على لعب الورق. غير أن بافاريا الناخبين أشهروا عاصمتهم بشيء آخر أيضاً هو العمارة. وكان مكسليان إيمانويل قد لجأ إلى باريس وفرساي حين اجتاح النمساويون في حرب الوراثة الإسبانية، فلما عاد إلى ميونخ (1714) جلب معه ولعا بالفن وطراز الركوك. وصحبه معماري فرنسي شاب يدعى فرنسوا دكوفلييه، شيد للناخب التالي، شارل ألبرت في حديقة نمفنبورج، آية من آيات الروكوك الألماني، هي قصر صغير يسمى امالينبورج (1734 - 39)، ظاهره بسيط،
وباطنه يعج(37/7)
بالزخرف: فيه قاعة مرايا (شبيجلزال)، مقببة تبهر الأنظار، ذات زخارف من الجص بأشعار شعرية وعربية الطراز، وحجرة صفراء (جلبس تسيمر) تحير زخارفها الجصية المذهبة العين التي تحاول تتبع تصميمها المعقد. وبهذا الطراز الطاغي نفسه بدأ يوزف افنر، وأتم كوفلييه، الحجرات الإمبراطورية في قصر الدوق بميونخ. وكان كوفلييه قد غادر فرنسا في العشرين من عمره قبل أن يتعلم الخضوع الكامل للذوق الفرنسي. ومن عكف الفنانون الألمان، دون أن يلقوا منه معارضة، على تطوير الزخارف الجصية بتحرر الهواة وحماستهم، فحققوا الكمال في الجزيئات مع الإسراف في الكليات. وقد تحطمت الحجرات الإمبراطورية في الحرب العالمية الثانية.
ولم يكن فردريك أوغسطس الأول "القوي"، ناخب سكسونيا (حكم 1694 - 1733) ليرضى بان يبزه أي دوق ميونخي. ومع أنه انتقل إلى وارسو (1697) ملكاً على بولندة باسم أوغسطس الثاني، فقد وجد الوقت ليفرض على السكسونيين من الضرائب ما يكفي لجعل درسدن "فلورنسة نهر الألب". فتقدمت بذلك جميع المدن الألمانية في الإنفاق على الفن، كتبت الليدي ماري مونتاجير في 1716 تقول: "إن المدينة أكثر ما رأيت من مدن في ألمانيا نظافة وأناقة، وأكثر بيوتها حديثة البناء وقصر الناخب آية في الجمال" (6). وجمع
أوغسطس الصور في نهم كنهمه في جمع الخليلات، أما ابنه الماخب فردريك أوغسطس الثاني (حكم 1733 - 63) فقد أغدق المال على الخيل والصور، و "جلب فنون إلى ألمانيا" (7) كما قال ونكلمان. وفي 1743 أوفد أوغسطس الأصغر هذا لجاروتي إلى إيطاليا حاملاً الدوقاتيات لشراء الصور، ولم يلبث الناخب أن دفع 000و100 سيكوين (000و50 دولار؟) ثمناً لمجموعة الدوق فرانتشسكو الثالث أمير مودينا، وفي 1754 اشترى لوحة رفائيل "سستسني مادونا" (عذراء كنيسة السستين) بعشرين ألف دوقاتية، وهو ثمن لم يسبق له
نظير. وهكذا تكونت قاعة صور درسدن العظمى.
وقامت في درسدن دار جميلة للأوبرا في 1718، ولابد أن فرقتها(37/8)
كانت متفوقة، لأن هاندل أغار عليها ليزود منها مشروعاته الإنجليزية الجريئة في 1719، وكان أوركستراها بقيادة يوهان هاستي من خيرة الأوركسترات في أوربا (8). وفي درسدن ولد الخزف الميسيني- ولكن يجب أن تنفرد لهذا قصة مستقلة. وأما في عمارة العاصمة السكسونية فإن ألمع الأسماء كان متاوس دانيل بوبلمان، الذي شاد لأغسطس القوى في 1711 - 22 قصر تسفنجر الشهير مركزاً لمهرجانات البلاط. وهو مجمع باروكي رائع من أعمدة وعقود ونوافذ
جميلة ذات عمد وشرفات وقبة تتوج هذا كله. وقد دمرت القنابل القصر في 1945، ولكن البوابة الفخمة أعيد بناؤها وفق التصميم الأصلي. ولهذا الناخب الذي لا يتعب ولا يكل أقام المعماري الروماني جيتانو كيافيري بطراز الباروك كنيسة البلاط (1738 - 51)، وهذه أيضاً دمرت إلى حد كبير ثم رممت بنجاح. إن التاريخ سباق بين الفن والحرب، والفن يلعب في هذا السباق دور سسيفوس (ملك كورنثة الذي قضي عليه بان يدحرج حجراً ثقيلا صاعداً الجبل، فلا يلبث الحجر أن يتدحرج إلى أسفل).
2 - الحياة الألمانية
كانت ألمانيا الآن تتصدر أوربا في ميدان التعليم الأولى. ففي 1717 جعل فردريك وليم الأول ملك بروسيا التعليم الابتدائي إلزامياً في مملكته، وأسس في العشرين سنة التالية 1700 مدرسة لتعليم الصغار وتلقينهم ما يريد. وكان يقوم بالتدريس عادة في هذه المدارس مدرسون علمانيون وأخذ دور الدين في التعليم يتضاءل. وتركز الاهتمام على تعويد التلاميذ الطاعة والاجتهاد، وكان الجلد عقاباً لا غنى عنه. وقد حسب معلم أنه خلال إحدى وخمسين سنة مارس فيها التعليم جلد تلاميذه 124. 000 جلدة بالسوط، وصفعهم بيده 136. 715 صفعة، وضربهم بالعصا 911. 527 ضربة، ولكمهم على آذانهم 1. 115. 800 لكمة. وفي 1747 أسس يوليوس هيكر، القسيس البروتستنتي في برلين أول "مدرسة واقعية Realschule، وقد سميت كذلك لأنها أضافت الرياضيات والدراسات(37/9)
الصناعية إلى اللاتينية والألمانية والفرنسية، وسرعان ما أنشأت معظم المدن الألمانية معاهد على غرارها.
أما في الجامعات فإن دراسة اليونانية ارتفعت إلى مكان مرموق جديد فأرسلت بذلك الأسس لتفوق ألمانيا اللاحق في الدراسات اليونانية وقامت جامعات إضافية في جونتن (1737) وإرلانجن (1747). وإذا كان ناخب هانوفر (الذي أصبح ملكا على إنجلترا) يمول جامعة جوتنجن، فإنها حذت حذو جامعة هاللي في إطلاق يد الأساتذة في التعليم، والتوسع في تدريس العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية، والقانون. وخلع الطلاب الآن الرداء الجامعي، وارتداء العباءة، وتقلدوا السيف والمهماز، والتحموا في المبارزات، وتلقوا الدروس من سيدات المدينة الأكثر تحللاً. وكانت الألمانية لغة التعليم إلا في الفلسفة واللاهوت.
على أن الألمانية كانت قد انحدرت سمعتها الآن، لأن الطبقة الأرستقراطية أخذت تستعمل الفرنسية. كتب فولتير من برلين (24 نوفمبر 1750) يقول "أنني أجد نفسي هنا في فرنسا، فما من إنسان يتكلم غير الفرنسية. أما الألمانية فللجند والخيل، ولا يحتاج إليها المرء إلا على الطرق" (9). وقدم المسرح الألماني الهزليات بالألمانية، والمآسي بالفرنسية - وكانت عادة تختار من ذخيرة المآسي الفرنسية. وكانت ألمانيا آنئذ أقل الدول الأوربية نزعة قومية، لأنها لم تكن بعد دولة.
وعانى الأدب الأماني من هذا الافتقار إلى الوعي القومي. وكان أكثر مؤلفي العصر الألمان أثرا، وهو يوهان كرستوف جوتشيد، الذي جمع من حوله لفيفا من الأدباء أحال ليبزج إلى "باريس صغرى"، يستعمل الألمانية في كتاباته، ولكنه استورد مبادئه من بوالو، وندد بالفن الباروكي لأنه ضرب من الفوضى البراقة، ودعا إلى الرجوع للقواعد الكلاسيكية في الكتابة والفن كما مارسها الفرنسيون على عهد لويس الرابع عشر. وهاجم ناقدان سويسران-هما بودمير وبريتنجر-إعجاب(37/10)
جوتشيد بالنظام والقواعد، وأحسا أن الشعر يستمد قوته من قوى الوجدان والعاطفة الأعمق من العقل، وحتى في راسين يتفجر عالم من الانفعال والعنف خلال الشكل الكلاسيكي. وأكد بودمير أن "أفضل الكتابات ليس ثمرة القواعد ... فالقواعد تشتق من الكتابات" (10).
أما كرستيان جيلليرت، الذي فاق جميع الكتاب الألمان شعبية، فقد وافق بودمير، وبويتنجر، ويسكال، على أن الوجدان هو لب الفكر وروح الشعر. وكان جديرا باسم المسيحي (كرستيان) إذ بلغ من احترام الناس له لنقاء حياته ورقة سلوكه أن الملوك والأمراء كانوا يختلفون إلى محاضراته في الفلسفة والأخلاق بجامعة ليبزج، وأن النساء كن يأتين ليلثمن يديه. وكان رجلا ذا عاطفة لا يخجل من الجهر بها، ناح على القتلى في معركة روسباخ بدلا من أن يحتفل بانتصار فردريك فيها، ومع ذلك فإن فردريك، أعظم رجل واقعي في ذلك العصر، وصفه بأنه "أكثر العلماء الألمان معقولية" (11). على أن فردريك آثر عليه في أغلب الظن إيفالد مرسيان فون كلايست، الشاعر الشاب الفحل الذي بذل حياته لأجله في معركة كونرسدورف (1759) وكان رأى الملك في الأدب الألماني قاسيا ولكنه مشوب بالأمل: "ليس لدينا كتاب مجيدون على الإطلاق، ولعلهم يظهرون حين أكون سائرا في فراديس النعيم ... ستسخر مني لاهتمامي بتوصيل بعض المفاهيم عن الذوق وبعض "الملح" الكلاسيكي لأمة لم تعرف إلى لآن شيئا غير الطعام والشراب والقتال (12) وكان كانت، وكلويشتوك، وفيلاند، ولستج، وهردر، وشيلر، وجيته- كان هؤلاء جميعا قد ولدوا في هذه الأثناء.
وثمة ألماني من أهل ذلك العهد كسب تعاطف فردريك الفعال وهو كرستيان فون فولف، وكان ابن دباغ ارتقى إلى منصب الأستاذية في جامعة هاللي. وقد اتخذ المعركة كلها موضوعا لتخصصه، فحاول أن يصنفها على أساس فلسفة ليبنتس. ومع أن مدام دشاتليه وصفته بأنه "ثرثار كبير"، فإنه التزم بأن يسترشد بالعقل، وبطريقته المتعثرة بدأ التنوير(37/11)
الألماني ( Aufklarung) وحطم السوابق بتدريس العلوم والفلسفة بالألمانية. ومجرد إيراد قائمة بكتبه السبعة والستين كفيل بأن يعطل مسيرنا. وقد بدأ برسالة من أربعة مجلدات عن "جميع العلوم الرياضية" (1710)، ثم ترجم هذه المجلدات إلى اللاتينية (1713) وأضاف إليها قاموسا رياضيا (1716) ييسر الانتقال إلى الألمانية. وواصل التأليف بسبعة كتب (1712 - 25) في المنطق، والميتافزيقيا، والأخلاق، والسياسة، والفيزياء، والغائية، والأحياء، وكل عنوان منها تتصدره في جرأة هاتان الكلمتان "أفكار معقولة" وكأنه يرفع راية العقل فوق صارية. وإذ كان يهفو إلى جمهور قراء أوربي، فإنه غطى هذه المنطقة كلها بثماني رسائل لاتينية، كان أكثرها تأثيرا "علم النفس التجريبي" (1732)، و"علم النفس العقلاني" (1734) و"اللاهوت الطبيعي" (1736). وبعد أن خرج حيا من كل هذه المآزق ارتاد فلسفة القانون (1740 - 49)، ولكي يتوج هذا الصرح كتب ترجمة لحياته.
وسير أسلوبه المدرسي المنتظم يجعل من الصعب قراءته في عصرنا المحموم. ولكنه كان بين الحين والحين يلمس مناطق حية. من ذلك أنه رفض ما ذهب إليه لوك من اشتقاق المعرفة كلها من الإحساس، وكانت نظرياته معبراً بين ليبنتس وكانت لأنه أصر على الدور النشيط الذي يؤديه العقل في تكوين الأفكار. فالجسم والعقل، والحركة والفكرة، عمليتان متوازيتان، لا تؤثر إحداهما في الآخرة. والعالم الخارجي يعمل آلياً، وهو يبدي دلائل كثيرة على الخطة ذات القصد، ولكن ليس فيه معجزات وحتى عمليات العقل خاضعة لحتمية العلة والمعلول. أما الأخلاق فينبغي أن تلتمس ناموساً خلقياً مستقلا عن العقيدة الدينية، وعليها ألا تعتمد على الله لتخويف البشر حتى يلتزموا الفضيلة. وأما وظيفة الدولة فليست السيطرة على الفرد بل توسيع الفرص لنموه (13). وهو يطري الأخلاق عند كونفوشيوس بوجه خاص، لأنها لم تقم الفضيلة على الوحي فوق الطبيعي بل على العقل البشري (14). "إن قدامى أباطرة الصين وملوكها كانوا قوما ذوي ميل فلسفي وبفضل عنايتهم أصبح نظام حكومتهم خير النظم جميعا" (15).(37/12)
وذهب كثير من الأمان إلى فلسفة فولف مهرطقة إلى حد خطر، رغم اعترافاته الجادة بالعقيدة المسيحية. وأنذر أعضاء في هيئة التدريس فردريك وليام الأول بأنه لو قبلت حتمية فولف فلن يكون في الإمكان عقاب أي جندي هارب، وسينهار صرح الدولة كله (16). فأمر الملك المرتاع الفيلسوف بأن يغادر بروسيا خلال ثمان وأربعين ساعة وإلا "كان عقابه الموت الفوري" فهرب إلى مجدبورج وجامعتها، حيث رحب به الطلاب رسولا وشهيداً للعقل. وقد نشر أكثر من مائتي كتاب أو كتيب خلال ستة عشر عاما (1721 - 37) تهاجمه أو تدافع عنه. وكان من أول أعمال فردريك الأكبر الرسمية عقب اعتلاه العرش (1740) إنه وجه دعوة حارة للفيلسوف المنفي يطلب إليه الرجوع إلى بروسيا وهاللي. وجاء فولف وفي 1743 عين مديراً للجامعة. وازداد اتباعه للابن التقليدي مع الزمن، ومات (1754) في كل ورع المسيحي السني.
ولقد كان تأثيره أعظم كثيراً مما قد نحكم به من شهرته الضعيفة في العصر الحاضر، وجعلته فرنسا عضو شرف في أكاديمية علومها، وعينته أكاديمية سانت بطرسبورج الإمبراطورية أستاذاً فخريا بها، وترجم الإنجليز والإيطاليون مؤلفاته في مثابرة، وفرض ملك نابلي النسق الفولفي في جامعاته. وأطلق عليه الجبل الأصغر من الألمان لقب الحكيم، وشعر بأنه علم ألمانيا أن تفكر. واضمحلت طرائق التعليم المدرسية القديمة، وزادت الحرية الأكاديمية. ونقل مارتن كنوتسن الفلسفة الفولفية إلى جامعة كونجزبرج، حيث كان يدرس إيمانويل كانت.
وضعف تأثير الدين في الحياة الألمانية بسبب تطور العلم والفلسفة، ونتائج البحث في الكتاب المقدس التي أزالت الأوهام، فضلا عن قوى العلمنة الشديدة. وانتشرت بين الطبقات العليا الأفكار الربوبية التي وصلت من إنجلترا بفضل الترجمات واتصال إنجلترا بها نوفر، ولكن أثر هذه الأفكار كان تافها إذا قيس بنتيجة إخضاع الكنيسة-الكاثوليكية والبروتستنية على السواء-للدولة. لقد قوت حركة الإصلاح البروتستنتي العقيدة الدينية حينا، ثم جاءت حرب الثلاثين فأضرت بهذه العقيدة، والآن كان خضوع(37/13)
الأكليروس للأمراء الحاكمين سبباً في زوال هالة التقى والورع التي خلعت القدسية من قبل سلطانهم. وأصبحت التعيينات في الوظائف الكنسية يمليها الأمير أو السيد الإقطاعي المحلي. أما النبلاء فتظاهروا بالدين، كما فعل نطراؤهم في إنجلترا، باعتباره مسألة منفعة سياسية وعرف اجتماعي. وفقد الأكليروس اللوثري والكلفني مقامهما، واستردت الكاثوليكية سلطانهم في بطئ. في هذه الفترة انتقلت ولايات سكسونيا، وفورتمبرج، وهسي، وكلها بروتستنتية، إلى حكام كاثوليك، واضطر فردريك اللاأدري إلى استرضاء سيليزيا الكاثوليكية.
ولم تزك غير حركة دينية واحدة في المناطق البروتستنتية وهي حركة الإخوان المتحدين، أو الإخوان الموارفيين. ففي عام 1722 هاجر نفر من أعضائها الذين اضطهدوا في مورافيا إلى سكسونيا، ووجد الملجأ في ضيعة الكونت نيكلاوس لودفج فون تستسندورف. وقد رأى هذا الكونت الشاب، الذي كان هو نفسه ابن العماد لفيليب ياكوب سبينر في هؤلاء اللاجئين فرصة لإحياء روح المذهب التقوى. فبنى لهم على أرضه قرية هرنهوت (أي جبل الرب)، وأنفق ثروته كلها تقريبا على طبع الأسفار المقدسة وكتب تعليم العقيدة المسيحية، وكتب التراتيل وغيرها من المؤلفات لينتفعوا بها. وقد أعانت رحلاته في أمريكا (1741 - 42) وإنجلترا (1750) وغيرهما على إنشاء مستعمرات لهؤلاء الإخوان في كل قارة، والواقع أن الإخوان الموارفييين هم الذين بدءوا نشاط البعوث الحديث في الكنائس البروتستنسية (17) فقد جلب بيتر بولر تأثيرا قويا للإخوان في الحركة المثودية حين التقى بجون وسلي في 1735. وفي أمريكا استقر بهم المقام قرب بيت لحم في بنسلفانيا، وفي سليم بكارولينا الشمالية. واحتفظوا يإيمانهم ونظامهم سليمين لم تكد تمسهما رياح العقيدة وأزياء اللباس، وربما كان الثمن شيئاً من قسوة الروح في علاقاتهم العائلية، ولكن لا مناص للشاك من أن يحترم قوة إيمانهم وإخلاصه، وانسجامه الغريب مع حباتهم الخلفية.
وكانت أخلاق العصر بصفة عامة أسلم وأصح في ألمانيا منها في فرنسا،(37/14)
إلا حيث سرت بدعة محاكاة فرنسا من اللغة إلى الفسق. في الطبقات الوسطى خضعت الحياة العائلية لضبط أشرف على التعصّب والغلو، فقد درج الآباء على أن يسوطوا بناتهم، وزوجاتهم أحيانا (18)، وفرض فردريك وليم الأول على بلاط برلين نظاما تسوده الرهبة، ولكن ابنته وصفت البلاط السكسوني في درسدن بأنه بلغ في زناه بلغ بلاط لويس الخامس عشر. ويؤكد لنا مصدر غير ويق أنه كان لأوغسطس القوي 354 طفلا"طبيعيا" (أي غير شرعي) نسى بعضهم أبوتهم المشتركة في فراش سفاح المحارم. بل قيل إن أوغسطس نفسه اتخذ له خليلة من ابنته غير الشرعية الكونتيسة أوركتسيلسكا (19)، التي علمت فردريك الأكبر فيما بعد فنون الغرام. وقد أصدرت كلية الحقوق بجامعة هاللي في بواكير القرن الثامن عشر إعلاناً دافعت فيه عن التسري بين الملوك والأمراء (20).
وكانت الآداب السلوك صارمة، ولكنها لم تدع لنفسها ما تميت به الآداب الفرنسية من رشاقة الحركة أو سحر الحديث. وأدفأ النبلاء أنفسهم بالحلل والألقاب بعد أن انتزعت منهم السلطة السياسية. كتب اللورد تشسترفيلد في 1748 يقول: "أعلم أن الكثير من الخطابات رد دون أن يفتح لأنه أغفل كتابة لقب من بين عشرين في عنوانه" (21). وكان حكم أولفر جولدسمث قسوة المتعصب لوطنه إذ قال: " فلنوف الألمان حقهم، إنهم وإن كانوا أغبياء فليس هناك أمة حية تتكلف رزانة محمودة أكثر منهم، أو تفوقهم في فهم آداب الغباء" (22) وقد وافقه فردريك الأكبر (23) وظل الأكل وسيلة محببة لإنفاق اليوم. واقتبس الأثاث طرز النقش والتطعيم المزدهرة آنئذ في فرنسا، ولكن لم يكن في فرنسا ولا في إنجلترا شئ يداني في بهجته مواقد الطهو الملونة بألوان تشرح الصدر، والتي أثارت حسد الليدي ماري مونتاجيو (24). وكانت الحدائق الألمانية مطلينة، ولكن البيوت الألمانية، بما حوت من واجهات نصفها من الخشب، ونوافذ ذات أعمدة، وأفاريز واقية، خلعت على المدن الألمانية فتنة مشرقة تنم على حس جمالي مرهف وإن لم يكن قد تشكل.(37/15)
والواقع أن الذي أرسى الاستعمال الحديث لفظ Aesthetic ( جمالي) في كتابه بهذا العنوان (1750)، وأذاع نظرية في الجمال والفن بوصفها قسما من أقسام الفلسفة مشكلة من مشاكلها، كان ألمانيا يدعى ألكسندر باومجارتن.
3 - الفن الألماني
كانت صناعة الخزف هنا فناً كبيراً، لأن الألمان علموا أوربا في هذه الفترة كيف تصنع الصيني، فلقد استأجر أوغسطس القوي يوهان فرديدرش بوتجر لتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وأخفق بوتجر، ولكنه انشأ بمساعدة صديق قديم لسبينوزا يدعى فلترفون تشير نهاوس مصنعاً للقاشاني في درسدن، وأجرى تجارب وفقت آخر الأمر في إنتاج أول خزف صيني صلب العجينة. وفي 1710 نقل هذه الصناعة إلى مايسين، على أربعة عشر ميلا من درسدن، وهناك واصل تحسين طرائقه وصقل منتجاته حتى وفاته (1719). وكان خزف مايسين يرسم بالأوان غنية على أرضية بيضاء برسوم رقيقة للزهر والطير ومشاهد الحياة اليومية والمناظر الطبيعية ومناظر البحر واللقطات الغربية من الثياب والحياة الشرقيتين. وزاد يوهان يواكيم كيندلر العملية تحسيناً، فأضيف النحت في الصيني إلى الرسم تحت السطح المصقول؛ وخلدت التماثيل الصغيرة الغربية وأشخاص الفولكلور والكوميديا الألمانيين، ودلت روائع خصبة الخيال مثل رائعة "خدمة البجع" لكيندلر واييرلاين على أن في استطاعة الفن أن ينافس ما حوته خزائن النساء المنوعة بهاء ونعومة. وسرعان ما راحت كل مجتمعات أوروبا الأرستقراطية، حتى في فرنسا، تزين حجراتها بتماثيل من صيني مايسين فيها تهكم مضحك. واحتفظت المدينة بتفوقها في الفن إلى سنة 1758، حين اجتاحها الجيش البروسي في حرب السنوات السبع.
ومن أوجزبورج، ونونمبرج، وبايرويت، وغيرها من المراكز، سكب الخزافون الألمان في البيوت الألمانية فيضاً باروكياً من المنتجات(37/16)
الحرارية، من أبدع القاشاني والصيني إلى الأباريق البهيجة التي جعلت حتى فن شرب الجعة تجربة جمالية. وتزعمت ألمانيا أوروبا طوال أكثر من القرن الثامن عشر في صناعة الزجاج لا الصيني فحسب (25). كذلك لم يبز صناع الأشغال الحديدية الألمان أحد في هذا العصر، ففي أوجزبورج وإيبزاخ، وغيرهما صنعوا بوابات من الحديد المشغول تلك التي كان يقيمها جان لامور في نانسي. أما الصاغة الألمان فلم يفقهم غير أبرع زملاءهم في باريس. وحفر الحفارون الألمان (كنوبلزدورف، وجلومي، وروجنداس، وريدنجر، وجيورج كيليان، وجيورج شمت) أو نقشوا بالحرق سوماً بديعة في الأطباق النحاسية (26).
أما المصورون الألمان في هذه الفترة فلم يظفروا بالشهرة الدولية التي ما زال يجزى بها فاتوا، وبوشيه، ولاتور، وشاردان. وإنه لمن ضيق أفقنا الفكري- ذلك الضيق الذي لا مهرب منه-جهل غير الألمان بصور مصورين ألمان مثل كوزساس آرام، وبلتازار دينر، ويوهان فيدلر، ويوهان تيلي، ويوهان تسيزنيس، وجيورج دماريه، فحسبنا أن نتلو أسماءهم على الأقل ونحن اكثر إحاطة بمصور فرنسي استوطن ألمانيا يدعى أنطوان بين، وقد أصبح مصور البلاط لفردريك وليم الأول ثم لفردريك الأكبر. وتصور رائعته فردريك وهو بعد غلام برئ في الثالثة ومعه أخته فلهليني ذات الستة أعوام (27)، ولو أن هذه اللوحة رسمت في باريس لسمعت بها الدنيا كلها.
واكتسبت أسرة صيتاً زائغاً في ثلاثة ميادين-التصوير والنحت والعمارة. فقد رسم كوزماس دميان آزام، في كنيسة القديس إميرام بريجنزبورج، صعود القديس بندكت إلى الفردوس، وأعانه على ذلك بمنصة إطلاق. واشترك كوزماس مع أخيه إيجد في رسم داخل كنيسة القديس نيبوموك بميونخ-عمارة يغشاها النحت بأكثر ضروب الباروك إسرافاً. وحفر إيجد بالجص"صعود مريم" لكنيسة دير في رور ببافاريا. وبدت اليد الإيطالية الرقيقة في نافورة نبتون الرائعة التي أقامها لورنتسو(37/17)
ماتيللي في درسدن، وكانت النافورة ن المعالم الشهيرة في بهاء العاصمة السكسونية. أما بلثازار برموزر فقد أفسد تمثاله "تمجيد الأمير أوجين (28) " بخليط مهوش من التماثيل الرمزية، وقد زين بمثل هذا الإسراف جناح قصر تسفنجر بدرسدن، ولكنه حقق درجة من الجلال والقوة تكاد تقربه من ميكل أنجيلو في تمثال "الرسل" المتجمعين حول منبر كنيسة البلاط بدرسدن، وتمثاله "القديس أمبروز" المصنوع من خشب الزيزفون في تلك الكنيسة يستشرف قمة النحت الأوربي في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد تصور جيورج ايبنيست الجمال الألماني الممشوق في تمثاله البديع "باخوس واريادنى" الذي نحته لبستان سانسوني. وحفلت البساتين والحدائق الألمانية بالمنحوتات، وقدر خبير في الباروك أن "في ألمانيا من تماثيل الحدائق الجيدة نسبة تفوق كل ما في سائر أوربا من تماثيل مجتمعة (29) ".
على أن المعمار هو الميدان الذي لفت فيه الفنانون الألمان أنظار الفنانين الأوربيين في هذا العصر. فقد ترك يوهان بلتازار نويمان بصمته على أكثر من عشرة مبان. وكانت رائعته قصر أمير فورتسبورج الأسقف، وقد تعاون آخرون معه في التصميم والتنفيذ (1719 - 44)، ولكن يده كانت اليد الهادية. وقد تحطمت في الحرب العالمية الثانية القاعة الفينيتسية وقاعة المرايا، المتألقتان بزخارفها، ولكن بقيت أربع قاعات لتشهد بهاء الداخل، أما بيت السلم الفخم الذي اشتهر في دنيا الفن كلها بصورة سقفه الجصية التي رسمها تيبولو؛ فكان واحد من عدة مبان شبيهة به أعانت على دفع نويمان إلى مكان مرموق بين معماريي زمانه. وبيت السلم الذي بناه للقصر الأسقفي في بروشزال يختلف عن هذا كل الاختلاف، ولكنه يكاد يعدله روعة-وهو ضحية أخرى من ضحايا الانتحار القومي. وربما فاق كليهما جمالا بيت السلم المزدوج الذي بناه لأوجستوسبورج في برول بقرب كولونيا. وكان بناء بيوت السلم غرامة، فأغدق من فنه على بيت آخر في دير بمدينة ايبراخ. وزين مصاعده بالباروك المزخرف كنيسة(37/18)
القديس بولس في تريير وكنيسة كرويتسبيرج قرب بون، وأضاف إلى كتدرائية فورتسبورج مصلى بلغ ظاهره أكمل ما يمكن أن يبلغه طراز الباروك.
وتخصصت العمارة الكنسية الآن في بناء الديورة الضخمة. فقام إنريكو تسوكاللي في 1781 بترميم "كلوستر أتال"، وهو دير بندكتي بناه الإمبراطور لويس البافاري عام 1330 في واد جميل على مقربة من أوبراميرجا وحدد بناؤه إنريكوتسوكاللي، وتوجه بقبة رشيقة. وقد دمرت النار كنيسة الدير في 1744، فأعاد بناءها يوزف شموتسر في 1752، وقد حلى داخلها تحلية دقيقة بطراز الروكوك المذهب الأبيض، بصور جصية بريشة يوهان تسايلر ومارتن كنوللر، وأضيف مذابح جانبية فاخرة في 1757، وأرغن اشتهر بغطائه الجميل. وأروع هذه الآثار التقوية هي الكلوستركرشي، أو كنيسة الدير البندكتي، الغنية غنى لا يصدق، والواقعة في اوتوبورين جنوب شرقي ميمنجن. هنا نظم يوهان ميكائيل فيشر المجموعة، وقام يوهان كريستيان بالنقوش المذهبة، وصنع مارتن هورمان مقاعد المرتلين-وهي مفخرة الحفر الألماني في الخشب في القرن. وقد عكف فيشر على هذا العمل في فترات متقطعة من 1737، حتى وفاته في 1766.
وكرهت الطبقات الحاكمة - كما كره الرهبان- أن تنتظر جنة بعد القبر. فشيدت بعض القاعات الفخمة للمدن، مثل قاعتي لونبورج وبامبرج ولكن أعظم جهود العمارة العلمانية خصص للقلاع والقصور. فكان في كل كارلزروهي قصر لحاكم بادن دورلاخ، هو قلعة فريدة في بابها، بنيت على شكل مروحة-تتشعب أضلاعها من حديقة لها شكل مقبض متجهة إلى شوارع المدينة. وقد دمر هذا القصر كما دمر كثير مما احتوته المدينة في الحرب العالمية الثانية، وحاقت هذه المأساة أيضاً بقصر برلين العظيم الذي شيده أندرياز شلوتر وخلفاؤه (1699 - 1720)، ثم ضحية أخرى هي قصر مونبيجو، القريب من بوابة شبانداو ببرلين، أما قلعة برول التي صممت لرئيس أساقفة كولونيا فقد دمر بعضها، وأما قلعة(37/19)
بروشزال فقد دمرت برمتها. وفي ميونخ بنى يوزف افنر قصر برييزنج وفي تريير بنى يوهان زايتس لرئيس الأساقفة الحاكم "قصر الناخب"- وهو نموذج للجمال الوديع. وأما الأسقف ناخب مينز، فقد بنى له مكسمليان فون فيلش ويوهان دينتسينهوفر بقرب بومر زفيلدن قلعة كبرى ثانية، تدعى قلعة فيسنشتين، أقام فيها يوهان لوكاس فون هيلدبرانت بيت سلم مزدوجاً يستطيع كبار القوم أن يصعدوا ويهبطوا عليه دون أن يصدم بعضهم بعضاً.
وتوج فردريك الأكبر المعمار الألماني العلماني في القرن الثامن عشر بتكليفه جيورج فون كنوبلز دورف وآخرين بأن يبنوا في بوستدام (خارج برلين بستة عشر ميلا)، وفق تصميم صنعه الملك نفسه، ثلاثة قصور كانت في مجموعها ضريباً لفرساي: قصر الدولة "شتاتشلوس"، (1745 - 51)، والقصر الجديد "نويئس" (1755)، ومنتج فردريك الصيفي، لذي سماه شلوس"قلعة سانسوسي". فكان طريق مشجر من درج هين، يبدأ من نهر هافل، يفضى بعد خمس مراحل تخترق بستاناً مدرجاً إلى هذه "القلعة الخلية البال" التي اتخذت نوافذها ذات الأعمدة وقبتها الوسطى بعض وحيها من قصر تسفنجر بدرسدن. واحتوى جناح من أجنحتها على قاعة للفنون، وتحت القبة دائرة من الأعمدة الكورنثية الجميلة، مكتبة زينت بزخارف ملولبة روكوكية، وتألقت بالكتب التي احتوتها خزانات زجاجية، وأتاحت للملك ملاذاً من السياسة والقواد الحربيين. وفي سانسوسي على الأخص كان فولتير يلتقي بقرينه في الملك الفيلسوف الذي استطاع أن يحكم دولة، ويتحدى الكنيسة، ويصمم بناء، ويرسم لوحة شخصية، وينظم شعرا لا بأس به، ويكتب تاريخا ممتازا، وينتصر في حرب على نصف أوربا، ويلحن موسيقى، ويقود أوركسترا، ويعزف على الفلوت.
4 - الموسيقى الألمانية
احتلت الموسيقى الألمانية مكان الصدارة من مولد هاندل وباخ في 1685 حتى موت برامز 1897. ففي أي وقت من هذه السنين التي بلغت 212(37/20)
كان أعظم الملحنين الأحياء، باستثناء الأوبرا (30). وقد بلغ شكلان موسيقيان، هما الأوراتوريو والفوجه، غاية تطورهما في إنتاج الألمان في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وقد يضيف البعض أن القداس الكاثوليكي الروماني تلقى تعبيره النهائي على يد بروتستنتي ألماني. لقد انتهى عصر القصور، وبدأ عصر الموسيقى.
كانت الموسيقى جزءا من الدين، كما كان الدين جزءا كبيرا جدا من الموسيقى في كل بيت ألماني. فما من أسرة، اللهم إلا في أفقر الطبقات إلا استطاعت أن تترنم بالترانيم المشتركة، وما من فرد إلا استطاع أن يعزف على آلة أو أكثر. ورتلت مئات من جماعات الهواة المسماة Liebhaber الكنتاتات التي يعتبرها المرتلون المحترفون اليوم عسيرة إلى حد مثبط (31). وظفرت كتيبات الموسيقى بشعبية الكتاب المقدس. ودرست الموسيقى مع القراءة والكتابة في المدارس العامة. وكان النقد الموسيقي أرقى من نظيرة في أي بلد باستثناء إيطاليا، وكان أعظم نقاد الموسيقى في ذلك القرن ألمانيا.
وأغلب الظن أن يوهان ماتيزون كان أشهر من أي موسيقى ألماني بين الموسيقيين الألمان وأقلهم ظفرا بحبهم. فقد حجب غروره جلائل أعماله. عرف اللغات الأدبية القديمة والحديثة، وألف في القانون والسياسة، وأجاد العزف على الأرغن والبيان القيثاري إجادة أتاحت له أن يرفض أكثر من عشر دعوات إلى شغل وظائف مرموقة، وكان راقصا رشيقا، ورجل دينا عريض الثقافة، وكان مثاقفاً خبيراً كاد يقتل هاندل في مبارزة معه. وغنى بنجاح في أوبرا همبورج، وألف الأوبرات، والكانتاتات، وتراتيل أسبوع الآلام، والموشحات الدينية، والسوناتات والسويتات. وطور شكل الكانتاتا قبل باخ. وظل تسع سنين قائد فرقة المرتلين للدوق هولستين، فلما أصيب بالصم قنع بأن يؤلف. وأصدر ثمانية وثمانين كتابا، ثمانية منها في الموسيقى، وأضاف إليها رسالة عن التبغ. وأنشأ واشرف على صحيفة "النقد الموسيقي" (1722 - 25)، وهي أقدم ما عرفنا من نقاش نقدي(37/21)
للمؤلفات الموسيقية القديمة والجديدة، وصنف قاموس تراجم للموسيقيين المعاصرين، ومات في الثالثة والثمانين (1764)، بعد أن حفز عالم الموسيقى حفزا قويا.
أما الآلات الموسيقية فكانت في تطور وتغير دائمين، ولكن الأرغن ظل سيدها من غير مناع. وكان له عادة ثلاث لوحات مفاتيح أو أربع، مضافا إليها دواسة لجوابين ونصف، وضوابط مختلفة تستطيع محاكاة أي آلة أخرى تقريبا. ولم تصنع إلى الآن أي أرغن أبدع من تلك التي صنعها اندرياس زلبرمان الاستراسبورجي، وحوتفريد زلبرمان الفرايبرجي ولكن الآلات الوترية كانت تزداد رواجا فاستعملت "موترة المفاتيح" clarichord ( أي المفتاح والوتر) لوحة مفاتيح لتشغيل روافع مزودة بمماسات صغيرة من النحاس لتضرب الأوتار. وكان عمر هذه الآلة ثلاثة قرون وربما أكثر أما البيان القيثاري harpischord ( الذي سماه الفرنسيون clavecin والايطاليون clavi أو gravicembalo) فكانت أوتاره ينقرها لسان من ريشة أو جلد ملصق بروافع تحركها (عادة) لوحة مفاتيح مزدوجة، بمساعدة دواستين وثلاثة ضوابط أو أربعة. وكان لفظ clavier يستعمل للدلالة على أي آلة موسيقية لوحة مفاتيح-الموترة، أو اليان القيثاري، أو اليان- وعلى لوحات مفاتيح الأرغن. وكان البيان القيثاري في أساسه قيثاراً تنقر فيه الأصابع الأوتار بواسطة مفاتيح، الريشة وروافع، وكانت تنبعث منه أصوات لها رقيق، ولكن لما كانت الريشة وريش ترتد بمجرد ضربها الوتر، فإن هذه الآلة لم يتح لها أن تطيل نغمة أو تنوع حدتها. ولكي تعزف درجتين من درجات الصوت كان لا بد لها من اللجوء إلى لوحة مفاتيح مزدوجة -العليا للـ "بيانو" (خافته) والسفلى للـ "فورتي" (عالية) وقد انبعث "البيانو فورت" من الجهود التي بذلت للتغلب على هذه العيوب.
وفي عام 1709 أو قبله صنع بارتولوميو كريستوفوري في فلورنسة أربعة "بيانات قيثارية بالخافت والعالي". وفيها حلت محل الريشة مطرقة جلدية صغيرة كان في الإمكان إطالة اتصالها بالوتر بمواصلة خفض المفتاح،(37/22)
في حين أمكن التحكم في علو النغمة بالقوة التي يضرب بها الأصبع المفتاح. وفي عام 1711 وصف سكبيوتى دي ما في الآلة الجديدة في مجلته "جورنالي ديي ليتراتي دياليا"، وفي عام 1725 ظهر هذا المقال بدرسدن في ترجمة ألمانية، وفي 1726 صنع جوتفريد زلبرمان، بوحي من التجمة (32)، بيانين على هدى من مبادئ كريستوفوري. وحوالي عرض نموذجا محسنا على يوهان سبستيان باخ، الذي صرح بأنه الضعف في القدرة الصوتية العليا، وأنه يتطلب لمسا شديدا. وسلم زلبرمان بهذه العيوب واجتهد في تلافيها. وبلغ من توفيقه في هذا أن فردريك في 1747، فأعجبه، ولكنه رأى أنه بلغ من الشيخوخة حدا لا يسمح الآلة الجديدة وظل في السنوات الثلاث الباقية في عمره يؤثر الأرغن والبيان القيثاري.
أما الأوركسترا فكان يستخدم أساسا في خدمة الأوبرا أو الكورس، وقل أن وضعت الموسيقى له وحده، ألا أن تكون مقدمات. وكانت الأوبرا والباصون أكثر عدداً منها في أوركسترا هذه الأيام، وطغت آلات النفخ على الآلات الوترية. أما الحفلات الموسيقية العامة فكانت إلى ذلك العهد نادرة في ألمانيا، وكادت الموسيقى تنحصر برمتها في الكنيسة، والأوبرا، والبيت، والشوارع. وأحييت حفلات لموسيقى الحجرة في ليبزج من 1743 في بيوت أغنياء التجار، ثم قبل بها جماعات أكبر فأكبر من المستمعين، وزيد العازفون إلى ستة عشر، وفي 1476 أعلن دليل صادر في ليبزج أنه "في أيام الخميس تحيا حفلة موسيقية بأشراف شركة التجار التقية، وأشخاص آخرين، من الساعة الخامسة إلى الثامنة في نزل البجعات الثلاث وأضاف الإعلان أن هذه الحفلات يرتادها أفراد المجتمع العصري وتلقى الإعجاب والاهتمام الشديد (33). ومن هذه الجماعة الموسيقية Collegium Musieum تطور في 1781 الكونشرتو الكبير في قاعة تجار الأجواخ. Gewandhaus بلييزج-وهو أقدم سلسلة موجودة من الكونشرتو.
ولم تخص الآلات وحدها إلا بأقل القليل من المؤلفات الموسيقية، ولكن بعض هذه المؤلفات شارك بنصيب في تطوير السمفونية. وفي مانهايم قامت(37/23)
مدرسة من الملحنين والعازفين-كثير منهم من النمسا أو إيطاليا أو بوهيميا-بدور قيادي في هذا التطوير. فهناك جمع شارل تيودور أمير بالاتين الناخب (حكم 1733 - 99)، وراعى الفنون جميعا، أوكسترا اشتهر عموما بأنه خير الأوكسترات قاطبة في أوربا. وقد لحن يوهان شتاميتز، عازف الكمان الماهر، لهذا الأوركسترا سيمفونيات بالمعنى الصحيح، أي مؤلفات أوركسترالية مقسمة إلى ثلاث حركات أو أكثر، كانت أولاها تنهج نهج السوناتا-أعنى عرض مواضيع متقابلة، والتوسع فيها دون قيود، ثم تخليصها. وجريا على طريقة الملحنين النابوليين، اتخذ الشكل الجديد عادة تعاقب هذه الحركات: السريع، والبطئ، فالسريع (الألليجرو، والأندانتي، والألليجرو). وأضاف أحيانا من الرقص "منيوتا". وهكذا انتقل عصر الموسيقى البوليفونية (أي المتعددة الأصوات)، المبينة على فكرة رئيسية واحدة، والبالغة قمتها في ي. س. باخ، إلى عصر الموسيقى السيمفونية - عصر هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن.
وظل الصوت البشري أعظم الآلات الموسيقية سحراً. فلحن كارل فليب إيمانويل باخ، وكارل هاينريش جراون وغيرهما قصائد الغرام المشبوب التي نظمها يوهان كرستيان جونثر، ووجد يوهان إرنست باخ الفيماري الوحي للعديد من الأغاني الألمانية (الليدر)، الجميلة في شعر كرستيان جلليرت. وازدهرت الأوبرا في ألمانيا الآن، ولكن غلب عليها الطابع الإيطالي، إذا استوردت ألحانها ومغنيها من إيطاليا. وكان لكل بلاط كبير قاعة أوبراه، التي لا تفتح عادة إلا للصفوة. أما همبورج التي هيمن عليها تجارها فكانت استثناء للقاعدة، فقدمت الأوبرا الألمانية، وأباحت حضور حفلاتها للجمهور الذي يدفع، وجندت مغنياتها من السوق. وفي همبورج تربع راينهارت كازر على عرش مسرح جينزيماركت (سوق الأوز) أربعين عاماً. وخلال حكمه هذا لحن 116 أوبرا، معظمها إيطالي نصاً وأسلوباً، ولكن بعضها ألماني. ذلك أن كتاب ماتيزون "الموسيقى الوصي"، المنشور في 1728 أشهر صيحة الحرب على الغزاة(37/24)
الإيطاليين: "أخرجوا أيها البرابرة! [ Fouri barbari] ليمنع من الاشتغال بالأوبرا الأجانب الذين يحاصروننا من الشرق إلى الغرب! (34)، ولكن سحر الأصوات والألحان الإيطالية لم يكن سبيل إلى مقاومة. وحتى في همبورج خنق الولع بالأوبرات النابولية المؤلفات الوطنية. فاستسلم كايز وشد رحاله إلى كوبنهاجن، وأغلق مسرح همبورج أبوابه في 1739 بعد حياة امتدت ستين عاما، ولما أعيد افتتاحه في 1741 خصص صراحة للأوبرا الإيطالية. وحين أعاد فردريك الأبوبرا إلى برلين (1742)، اختار ملحنين ألماناً ومغنين إيطاليين. وقال في دهشة "مغن ألماني! أني لأوثر أن أسمع حصاني يصهل (35).
وأنجبت ألمانيا في هذا العصر مؤلفاً واحداً للأوبرا من الطراز الأول هو يوهان أدولف هاسي، ولكنه هو أيضاً خطب ود إيطاليا. فقد درس فيها عشر سنوات على أليساندرو سكارلاتي ونيكولو بوربورا، وتزوج المغنية الإيطالية فاوستينا بوردورني (1730)، ولحن الموسيقى لنصوص إيطالية وضعها أبوستولوزينو وميتاستاسيو، وغيرهما. واستقبلت أوبراته الأول في نابلي والبندقية استقبالا بلغ من حماسته أن إيطاليا لقبته " il caro Sassone" أي السكسوني المحبوب. فلما عاد إلى ألمانيا دافع بغيرة عن الأوبرا الإيطالية، ووافقه معظم الألمان، وكرموه أكثر من هاندل الغائب، وأكثر كثيراً من باخ المجهول، وشبهه بيرني، هو وجلوك، برفائيل وميكل أنجيلو الموسيقى في بلاد الألمانية (36). ولم يبلغ أحد حتى الإيطاليون، ما بلغته أوبراته المائة من غنى في الابتكار اللحني أو الدرامي. وفي 1731 تلقى هو وزوجته، أعظم مغنيات الأوبرا في ذلك العصر، دعوة إلى درسدن من أوغسطس القوي. وأسرت فاوستينا العاصمة بصوتها وسحرها هاسي بألحانه. وفي 1760، فقد أكثر ممتلكاته، ومن بينها مخطوطاته المجموعة، نتيجة قصف فردريك الأكبر لدرسدن بالقنابل. وكلفت المدينة المدمرة عن عرض أوبراته، فرحل هاسي وزوجته إلى فيينا حيث راح وهو في الرابعة والسبعين ينافس جلوك. وفي 1771، في زواج(37/25)
الأرشيدوق فرديناند بميلان، تقاسم البرنامج الموسيقي مع الصبي موتسارت البالغ الرابعة عشر من عمره. ويروي أنه قال "إن هذا الصبي سوف يحجبنا كلنا (37)!. وعقب ذلك ذهب هو وفارستينا لينفقا ما بقى لهما من عمر في البندقية. وهناك مات كلاهما عام 1783، هو في الرابعة والثمانين، وهي في التسعين. وقد فاق تآلف حياتهما اتساق أغانيهما.
وبينما كانت لموسيقى الإيطالية تنتصر في دور الأوبرا الألمانية، ازدهرت الموسيقى الكنسية رغم سخرية فردريك منها لأنها "عتيقة"، و"منحطة" (38) وسنرى الموسيقى الكاثوليكية تزكو في فيينا، وفي الشمال ألهمت الحماسة البروتستنتية الباقية على قيد الحياة فيضاً من الكنتاتات، والكورالات، وترانيم أسبوع الآلام، وكأن مائة ملحن كانوا يمهدون لباخ الطريق ويعدون له الأشكال والصيغ الموسيقية. وغلبت موسيقى الأرغن، ولكن الكثير من الأوركسترات كان يحوي الكمان والفيولنتشيللو. ولم يقتصر ظهور تأثير الأوبرا على التوسع في الأوركسترات وفرق الترتيل الكنسية، بل كذلك في لطابع الدرامي المتزايد للألحان الكنسية.
أما أشهر مؤلفي الموسيقى الدينية في ألمانية باخ فكان جيورج فليب تيليمان الذي ولد قبل باخ بأربع سنوات (1681) ومات بعده بسبعة عشر عاماً (1767). وقد عده ماتيزون أعظم معاصريه الألمان قاطبة في التأليف الموسيقى، ولعل باخ كان يوافق على هذا الرأي باستثناء واحد لأنه نسخ كأنتاتات كاملة ألفها منافسه. وكان تيليمان طفلاً عبقرياً، تعلم اللاتينية واليونانية والكمان والفلوت في طفولته، وحين بلغ الحادية عشرة بدأ يلحن، وفي الثانية عشرة ألف أوبرا مثلت على المسرح وقام هو بالغناء في أحد أدوارها. كذلك لحن كنتاتا وهو الثانية عشرة، وقادها وهو واقف فوق مقعد ليستطيع العازفون رؤيته.
ثم شب تيوتونيا قوياً بشوشاً مرحاً وألحاناً. وفي 1701 بينما كان يمر بهاللي التقى بهاندل الذي كان في السادسة عشرة من عمره فأحبه من أول نظرة. ومضى إلى ليبزج ليدرس القانون، ولكنه ارتد(37/26)
إلى الموسيقى وأصبح عازف أرغن الكنسية الجديدة (1704). وبعد عام قبل وظيفة الكنسية في زوراو، ثم مضى إلى أيزيتاخ، حيث التقى بباخ، وفي 1714 قام بدور العدَّاب لكارل فليب إيمانويل، ابن يوهان سبستيان. وفي 1711 قام ماتت زوجته الشابة وأخذت معها قلبه كما قال، ولكنه تزوج ثانية بعد ثلاث سنين. وفي 1721 مضى إلى همبورج، حيث كان عازفاً في ست كنائس، وأشرف على تعليم الموسيقى في الجمنازيوم، وإضطلع بشئون أوبرا همبورج، وحرر مجلة للموسيقى، ونظم سلسلة من الحفلات الموسيقية العامة استمرت إلى يومنا هذا. وقد حالف الحظ تيليمان في كل شئ، إلا في إيثار زوجته للضباط السويديين بحبها.
وكانت قدراته على الإنتاج تضارع أي رجل في ذلك عصر، عصر عمالقة الموسيقى. فقد لحن لجميع الآحاد والأعياد في سعة وثلاثين عاماً ألواناً من الموسيقى الدينية- تراتيل لأسبوع الآلام، وكنتاتات، واورتوريات، وأناشيد، وموتيتات، وأضاف إلى ذلك كله الأوبرات والأوبرات الفكاهية، والكونشرتات، والثلاثيات، والسرينادات، وقال هاندل إن في استطاعة تيليمان أن يلحن موتيتا ذا ثمانية أقسام بالسرعة التي يكتب بها المرء خطاباً (39). وقد أخذ أسلوبه عن فرنسا، كما أخذ هاسي أسلوبه عن إيطاليا، ولكنه أضاف إليه حيويته الخاصة. وفي 1765، حين كان في الرابعة والثمانين، فألف كنتاتا تسمى "إينو" عدها رومان رولان معادلة لنظائرها من تأليف هاندل، وجلوك، وبيتهوفن. ولكن تيليمان كان ضحية خصوبته. فقد لحن بأسرع مما يمكنه من الإتقان، ولم يكن له صبر على تنقيح الثمرات الناقصة لعبقريته أو شجاعة على تحطيمها. وقد اتهمه ناقد بـ"الإسراف الذي لا يصدق (40) واليوم يكون نسياً منسياً ولكنه بين الحين والحين يجيئنا روحاً متحررة من الجسد في الهواء، فنجد كل ألحانه المنبعثة من مراقدها رائعة الجمال (41).
ولم ينفرد فردريك بتفضيله كارل هاينريش جراون على تيليمان وباخ. وقد ذاع صيت كارل أول ما ذاع بفضل صوته السوبرانو، فلما قصر هذا الصوت تحول صاحبه إلى التلحين، فألف في الخامسة عشرة كنتاتا(37/27)
كبيرة لأسبوع الآلام (1716) رتلت في كرويتسشولي بدرسدن. وبعد أن مضى فترة يعمل عازفاً للكنيسة في برنزويك استخدمه فردريك (1735) ليشرف على الموسيقى في راينزبرج. وظل يخدم البلاط البروسي طوال الأعوام الأربعة عشرة الباقية من عمره، لأن موسيقاه، حتى الدينية منها، كانت تبهج الملك الشاك. وظفر لحن الآلام المسمى "موت يسوع"، الذي رتل أولا في كتدرائية برلين سنة 1755، بشهرة في ألمانيا لم تضارعها غير شهرة "المسيا" في إنجلترا وإيرلندة، وظل يعاد سنوياً في أسبوع الآلام حتى يومنا هذا. وشاركت ألمانيا البروتستنتية كلها فردريك في الحزن على موت جراون قبل أوانه.
وخلال ذلك كان خمسون "باخاً" قد ألقوا البذرة وأعدوا المسرح لظهور أشهر وريث لهم. وقد رسم يوهان سبستيان باخ بنفسه شجرة أسرته في كتابه "أصل أسرة باخ الموسيقية" الذي وصل إلى المطبعة في 1917، وقد أفرد الناقد الموسيقي المدقق "شبيتا"180 صفحة لرسم ذلك النهر الأورفي. وانتشر في مدن ثوربنجيا أفراد من آل باخ يمكن رد نسبهم إلى عام 1509. وكان أقدم موسيقي من الأسرة بدأ به يوهان سبستيان قائمته هو جد جده المدعو فايت باخ (توفي 1619). ومنه انحدرت أربع بطون من الباخيين الذين برز العديد منهم في الموسيقى، وقد بلغوا من الكثرة مبلغاً جعلهم يؤلفون ضرباً من النقابة المهنية التي الفت أن تجتمع دورياً لتبادل الرأي. وتلقى أحدهم، وهو يوهان أمبروزيوس باخ عن أبيه فن عزف الكمان الذي ورَّثه لأبنائه. وفي 1671، قد تزوج اليزابيث خلف ابن عمه موسيقياً للبلاط في أيزيناخ. وكان في 1668، قد تزوج اليزابيث لاميرهيرت، ابنة تاجر فراء أصبح عضوا في مجلس المدينة. فأنجب مها بنتين وستة أبناء. وارتقى أكبر الأبناء، وهو يوهان كريستوف باخ، إلى وظيفة عازف الأرغن في أوردورف. والتحق أبن آخر؛ هو يوهان باكوب باخ، بالجيش السويدي عازفاً للأوبرا. وكان أصغر الأبناء هو يوهان سبستيان باخ.(37/28)
5 - يوهان سبستيان باخ
1685 - 1750
أ - مراحل حياته
ولد في 21 مارس 1685 بأيزيناخ في دوقية ساكسيفايمار. وفي "الكوتهاوس" المشرف على ميدان لوثر كان المصلح الديني العظيم قد عاش صباه، وعلى تل مشرف على المدينة فارتبورج، القلعة التي اختبأ فيها من شارل الخامس (1521 وترجم العهد الجديد، إن أعمال باخ أشبه بالإصلاح البروتستنتي ملحناً.
واتت أمه وهو في التاسعة، ومات أبوه بعد ثمانية أشهر، وضم يوهان سبستيان وشقيقه يوهان باكوب إلى أسرة أخيهما يوهان كريستوف. وفي "الجمنازيوم" بأريزيناخ تلقى سبستيان الكثير من تعاليم المسيحية وبعض اللاتينية، وفي "الليسية" بمدينة أوردروف القريبة درس اللاتينية، واليونانية، والتاريخ، والموسيقى. وكان متقدماً في فرقته، فرقي بسرعة وكان أبوه قد علمه الكمان، وعلمه أخوه كريستوفر البيان القيثاري. وعكف بشغف على هذه الدراسات الموسيقية، وكأن الموسيقى تجرى في عروقه. ونسخ عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية التي لم تكن ميسرة له بانتظام نسخاً كاملا، وهكذا بدأ الأذى الذي لحق ببصره فيما يظن البعض.
فلما ناهز سبستيان الخامسة عشرة انطلق ليكسب قوته تخفيفاً عن أسرة يوهان كريستوف المتزايدة. فوجد وظيفة مغن سوبرانو في مدرسة ديرر القديس ميخائيل بلونيبرج، فلما تغير صوته احتفظت به المدرسة عازفاً للكمان في الأوركسترا. ومن لونيبرج زار همبورج، التي تبعد عنها ثمانية وعشرين ميلا، ربما للذهاب إلى الأوبرا، ولكن بالتأكيد للاستماع إلى عزف يوهان ادم راينكن، عازف أرغن كنسية القديسة كاترين البالغ من العمر سبعة وسبعين عاماً. ولم تجتذبه الأوبرا، ولكن فن الأرغن استهوى روحه القوية النشيطة، ففن تلك الآلة الشامخة استشعر تحدياً(37/29)
لكل طاقته ومهارته. فما وافت سنة 1703 حتى كان قد بلغ من البراعة في العزف عليها مبلغاً حمل الكنيسة الجديدة بآرنشتات (القريبة من أرفورت) على استخدامه ليعزف ثلاث مرات كل أسبوع على الأرغن الكبير الذي ركب في الكنيسة مؤخراً، والذي ظل مستعملا حتى 1863. أما وقد أطلق يده في استعمال هذه الآلة لدراساته. فإنه بدأ الآن تلحين أول أعماله الهامة.
وقد أبقاه الطموح دائم التحفيز للنهوض بفنه. ونمى إليه أن أشهر عازف على الأرغن في ألمانيا، ديترش بوكستيهودي، سيعزف في مدينة لوبيك على بعد خمسين ميلا منه، سلسلة من الألحان فيما بين عيد القديس مارتن وعيد الميلاد في كنيسة مريم. فطلب إلى مجلس كنيسته إجازة شهر، فمنح الإجازة، وأناب ابن عمه يوهان ارنست في أداء عمله وصرف راتبه ثم انطلق راجلا إلى لونيك (أكتوبر 1705). وقد رأينا هاندل وماتيزون يقومان بمثل رحلة الحج هذه. ولم يغر باخ بزواج ابنه بوكستيهودي لقاء وراثة وظيفة، إنما كان يريد أن يدرس أسلوب الأستاذ في العزف على الأرغن. ولا بد أن هذا أو شيئاً غيره قد استهواه، لأنه لم يعد إلى أرنشتات حتى منتصف فبراير. وفي 21 فبراير 1706 وبخه مجلس الكنيسة على مده إجازته، وعلى إدخال "تنويعات غريبة" في إستهلالات ترانيمه الجماعية. وفي 11 نوفمبر أنذر لتقصيره في تدريب فرقة الترتيل تدريباً كافياً، ولسماحه سراً "لعذراء غريبة بالتراتيل في الكنيسة"، (ولم يكن يسمح للنساء بعد بالترتيل في الكنيسة). أما الفتاة الغريبة فكانت ماريا برباره باخ، ابنة عمه. وقدم من الاعتذارات ما استطاع تقديمه، ولكنه استقال في يونيو 1707، وقبل وظيفة عازف الأرغن لكنيسة القديس بلازيوس بمولهاوزن. وتقرر أن يكون راتبه السنوي خمسة وثمانين جولدينا، وثلاثة عشر بوشلا من القمح، وكردين من الخشب، وست حزم من الحطب، وثلاثة أرطال من السمك-وهو راتب يعد حسناً جداً بالنسبة للزمان والمكان (42) وفي 17 أكتوبر تزوج ماريا برباره.
ولكن تين له أن مولها متعبة كأرنشتات. ذلك أن جزءاً من المدينة(37/30)
كان قد احترق، ولم يكن أهلها المرهقون في حال يتقبلون معها هذه التنويعات الغريبة، وكان شعب الكنيسة ممزقاً بين اللوتريين السنيين المولعين بالترتيل، والتقويين الذين يعتقدون أن الموسيقى أقرب الأشياء إلى الكفر. وكانت فرقة المرتلين تشكو الفوضى، وباخ يستطيع إحالة الفوضى نظاماً في الأنغام لا في الرجال. فلما تلقى دعوة ليصبح عازف أرغن ومديراً للأوركسترا في بلاط فلهلم إرنست دوق ساكسيفيمار، توسل إلى رؤساءه أن يخلو سبيله (43). وفي يونيو 1708 انتقل إلى وظيفته الجديدة.
وكان يتلقى راتباً طيباً في فيمار -156 جولدينا في العام، رفعت إلى 225 في 1713، واستطاع الآن أن يطعم الأفراخ التي كانت ماريا برباره تفقسها. ولم يقنع بحاله تماماً، لأنه كان خاضعاً لرئيس المرتلين في الكنيسة يوهان دريزي، ولكنه أفاد من صداقة يوهان جوتفريد فالتر، عازف الأرغن في كنيسة المدينة، ومؤلف أول قاموس موسيقي ألماني (1732)، وملحن كورالات لا تقل جودة عن كورالات باخ. وبما اضطلع في دراسة الموسيقى الفرنسية والإيطالية باهتمام الآن بفضل فالتر المثقف. وقد أحب فريسكوبالدي وكوريللي، ولكنه افتتن جداً بكونشرتات الكمان التي وضعها فيفالدي، ونقل تسعة منها لآلات أخرى. وكان أحياناً يدخل شذرات مما نقل في ألحانه. ونستطيع أن نحس أثر فيفالدي في كونشرتات برندنبورج ولكنا نحس فيها أيضاً روحاً أعمق وفناً أغنى.
أما أهم واجباته في فيمار فعزف الأرغن في كنيسة القلعة (شلوسكيرشي). وهناك كان في متناوله أرغن صغير ولكنه مجهز تجهيزاً كاملا. وألف لهذه الآلة الكثير من أعظم قطعه الأرغنية: الباسا كاليا والفوجه في مقام C الصغير، وأفضل التوكاتات، ومعظم الاستهلالات والفوجات الكبيرة. وكتاب الأرغن الصغير (أورجلبوخلاين). وكانت شهرته إلى الآن عازف أرغن لا ملحناً. وقد تعجب المشاهدون، ومنهم ماتزون الناقد، لخفة حركته في استعمال المفاتيح، والدوسات، والضوابط، وصرح أحدهم بأن قدمي باخ "تطيران على لوحة الدواسة كأنما كان لهما جناحان" (44)(37/31)
ودعي ليعزف في هاللي، وكاسل، وغيرهما من المدن. وفي كاسل (1714) أعجب به ملك السويد القادم فردريك الأول إعجاباً حمله على أن يخلع من أصبعه خاتماً ماسياً ويعطيه لباخ. وفي 1717، التقى باخ في درسدن بجان لوى مارشان الذي ذاع صيته في الأرض عازف أرغن للويس الخامس عشر. واقترح بعضهم مباراة بين العازفين، واتفقا على اللقاء في البيت الكونت فون فلمنج، وكان على كل منهما أن يعزف بمجرد النظر أي لحن أرغني يوضع أمامه. وحضر باخ في الساعة المحددة، ولكن مارشان رحل عن درسدن قبله لأسباب مجهولة الآن، فأتاح لباخ نصراً غيابياً لم يشرح صدره.
على أن القوم تخطوه في الترقية، رغم اجتهاده وشهرته المتزايدة، حين مات رئيس عازفي فيمار، وأعطيت الوظيفة لابن الميت. وكان باخ في حالة استعداد نفسي لتجربة بلاط جديد. وعرض عليه ليوبولد أمير أنهالتكوتن وظيفة رئيس عازفيه. ولكن دوق ساكسيفيمار الجديد، قلهلم أوغسطس، رفض أن يخلي سبيل عازف أرغنه. وألح باخ عليه، فسجنه (6 أبريل 1717)، وثابر باخ على اصراره، فأطلقه الدوق (2 ديسمبر)، وهرول باخ بأسرته إلى كوتن. ولما كان الأمير ليوبولد كلفنيا لا يوافق على موسيقى الكنيسة، فقد كانت وظيفة باخ أن يدير أوركسترا البلاط، الذي كان الأمير نفسه يعزف فيه الفيولا دا جامبا (فيولا الساق). وعليه ففي هذه الفترة (1717 - 23) ألف باخ الكثير من موسيقى الحجرة، بما فيها السويتات الإنجليزية والفرنسية. وفي 1721 أرسل إلى كرستيان لودفج حاكم براندنبورج الكونشرتات التي تحمل ذلك الاسم.
تلك كانت في أكثرها سنوات سعيدة، لأن الأمير ليوبولد أحبه، واصطحبه في رحلات شتى، وأظهر في فخر موهبة باخ، وظل صديقا له يوم فرق التاريخ بين طريقيهما. ولكن حدث في يوليو 1720 أن ماتت ماريا برباره بعد أن ولدت لباخ سبعة أطفال ظل أربعة منهم على قيد الحياة. وبكاها سبعة عشر شهراً، ثم اتخذ له زوجة ثانية تسمى أنا مجدلينا فولكن، ابنة نافخ بوق في أوركستراه. وكان الآن في السادسة والثلاثين، وهي(37/32)
لا تتجاوز العشرين، مع ذلك قامت خير قيام بما ناطها به من واجب-وهو أن تكون أماً وفية لأطفاله. أضف إلى ذلك أنها كانت تعرف الموسيقى، فساعدته في تلحينه، ونسخت مخطوطاته، وغنت له بصوت وصفه بأنه "سوبرانو شديد الصفاء" (45). وقد أنجبت له ثلاثة عشر طفلا، مات سبعة منهم قبل أن يبلغوا الخامسة. لقد نزلت بتلك الأسرة العجيبة فواجع كثيرة. وقد أزعجت باخ مشكلة تعليم أطفاله بازياد عددهم. وكان لوثرياً متحمساً، كره الكلفنية الكئيبة التي تعلم العقيدة الكلفنية. ثم أن أميره المحبوب تزوج (1721) أميرة شابه قللت مطالبها من ليوبولد من اهتمامه بالموسيقى. ومرة أخرى رأى باخ أن قد آن أوان التغيير. لقد كان روحاً قلقة، ولكن القلق صنعه، ولو أنه ظل في كوتن لما سمعنا به قط.
وحدث في يونيو 1722 أن مات يوهان كوناو، بعد أن شغل عشرين عاماً وظيفة قائد فرقة الترتيل في مدرسة توماس بليبزج. وكانت مدرسة خاصة ذات سبعة صفوف وثمانية مدسين، تهتم بتدريس اللاتينية والموسيقى واللاهوت اللوثري. وكان على الطلاب والخريجين، بإشراف قائد فرقة الترتيل، أن يقدموا الموسيقى للكنائس المدنية. وكان القائد خاضعاً لمدير المدرسة والمجلس البلدي الذي يدفع الرواتب.
وطلب المجلس إلى تيليمان أن يشغل الوظيفة الشاغرة، لأنه حبذ الأسلوب الإيطالي الذي اتسمت به ألحان تيليمان، ولكنه رفض. فعرضها على كريستوفر جراوبنر قائد فرقة المرتلين في دارمشتات، ولكن رئيس جراوبنر أبى أن يحله من عقده. وفي 7 فبراير تقدم باخ للمجس طالباً الوظيفة، وارتضى شتى الاختبارات التي أجريت عليه للتأكد من كفايته. ولم يشك أحد في مهارته عازفاً للأرغن، ولكن بض أعضاء المجلس رأوا أن أسلوب ألحانه يتسم بروح محافظة شديدة (46). وكان اقتراح أحدهم رجلا متوسط الكفاية (47). واستخدم باخ (22 أبريل 1723) بشرط أن يقوم بتدريس اللاتينية فضلا عن الموسيقى(37/33)
وأن يحيا حياة التواضع والهدوء، وأن يوقع بقبوله العقيدة اللوثرية، وأن يبدي للمجلس"كل الاحترام والطاعة الواجبين" وألا يغادر المدينة قط بغير إذن من العمدة. وفي 30 مايو أسكن هو وأسرته في جناح المدرسة السكني، وبدأ واجباته الرسمية. وظل يشغل هذه الوظيفة الثقيلة الأعباء حتى مماته.
وأخذ منذ الآن يلحن مؤلفاته الموسيقية، فيما عدا القداس بمقام "ب" الصغير، لاستخدامها في كنيستي ليبزج الرئيسيتين - كنيسة القديس توماس وكنيسة القديس نيقولا. وكانت خدمات الكنيسة يوم الأحد تبدأ في الساعة السابعة صباحاً بمقدمة على الأرغن، ثم يرتل القسيس الصلاة الافتتاحية، وترتل فرقة المرتلين كيريا (مطلع صلاة كيرياليسون-أي يا رب ارحمنا)، ويرتل القسيس والفرقة - وأحياناً المصلون- ترتيلة "جلوريا" (أي المجد لله في الأعالي) بالألمانية، ثم يرتل المصلون ترتيله. ويرتل القسيس الإنجيل وقانون الإيمان، ويعزف عازف الأرغن مقدمة، وترتل الفرقة كنتاتا، والمصلون ترتيلة "نؤمن كلنا بإله واحد"، ويلي ذلك عظة للقسيس تمتد ساعة، يعقبها الصلاة ثم البركة. وبعد ذلك يأتي تناول القربان المقدس، ثم ترنيمة أخرى. وتنهي هذه الخدمة في الساعة العاشرة شتاء والحادية عشرة صيفاً. وفي الحادية عشرة يتناول الطلاب والمدرسون الغداء في المدرسة. وفي الواحدة والربع بعد الظهر تعود الفرقة إلى الكنيسة لصلاة المساء، ومزيد من الصلوات، والترانيم، والعظة، وتسبحة "تعظم نفسي الرب Magnificat" في صيغتها الألمانية. وفي الجمعة الكبيرة ترتل الفرقة لحن الآم المسيح. ولكي يؤدى باخ الموسيقى لهذه الخدمات كلها درب فرقتين، كل منهما من نحو اثنى عشر عضواً، وأوركسترا يعزف على نحو ثماني عشرة آلة. وكان المغنون المنفردون جزءاً من الفرقة، يرتلون معها قبل ألحانهم ومقاطعهم الملحونة وبعدها.
ولقاء هذه الخدمات المعقدة التي أداها باخ في ليبزج كان يتقاضى راتباً في المتوسط سبعمائة طالر في السنة، يدخل فيه نصيبه من صروفات التلاميذ المدرسية، وأتعابه نظير تقديم الموسيقى في الأفراح والمآتم.(37/34)
وكانت سنة 1729، التي جاءت ب" لحن آلام المسيح كما رواها القديس متي"، في حساب باخ سنة سيئة، لأن الجو اعتدل جداً حتى عز الموتى (48). وكان بين الحين والحين يكسب بعض المال الإضافي من قيادة الحفلات الموسيقية العامة للجماعة الموسيقية. وحاول أن يزيد من دخله بالمطالبة بالإشراف على الموسيقى في كنيسة القديس بولس الملحقة بجامعة ليبزج، وعارضه بعض منافسيه عليها، فظل سنتين في خلاف مع السلطات الجامعية وانتهى إلى حل وسط غير مرض لكل الأطراف المعنية.
ثم خاض معركة طويلة أخرى مع المجلس البلدي الذي يختار الطلبة لمدرسة توماس، ذلك أن أعضاء المجلس نزعوا إلى أن يرسلوا له طلاباً اختيروا بفضل نفوذ سياسي الكفاية موسيقية فيهم، فلم يستطيع باخ أن يصنع من هؤلاء الوافدين الجدد مرتلين لا للسوبراو ولا للمجهز، وفي 23 أغسطس 1730 أودع المجلس احتجاجاً رسمياً، وكان رد المجلس أن رماه بأنه معلم غير كفء وضابط للنظام ضعيف، وبأنه كان يفقد أعصابه وهو يوبخ التلاميذ، وبأن الفوضى تستشري في فرق الترتيل وفي مدرة. (49) وكتب باخ إلى صديق بلوينبرج يطلب إليه أن يساعده في العثور على وظيفة أخرى. فلما لم يفتح في وجهه باب التمس (27 يوليو 1733) من أوغسطس الثالث، ملك بولندة الجديد، أن يعطيه في بلاطه منصباً ولقباً يحميانه مما يلقاه من "إهانات لا يستحقها" وأبطأ أوغسطس في الاستجابة ثلاث سنوات، وأخيراً (19 نوفمبر 1836) خلع على باخ لقب "ملحن البلاط الملكي". وكان المدير الجديد لمدرسة توماس خلال ذلك ينازع باخ حقه في تعيين عرفاء لفرقة وتأديبهم وجلدهم. وطال النزاع شهوراً، وطرد باخ مرتين العريف الذي عينه إرنستي من منصبه الأرغن، وأخيراً ثبت الملك سلطة باخ.
لم تكن حياته قائداً للمرتلين في ليبزج إذن بالحياة السعيدة. فلقد سكب روحه وطاقته في ألحانه وفي أدائها، فلم يبق بعد ذلك شئ كثير لممارسة التربية أو الدبلوماسية. وقد وجد بعض العزاء في صيته الذائع ملحناً وعازف أرغن. وقبل الدعوات للعزف في فيمار، وكاسل، وناومبورج، ودرسدن، ونقد أجراً على هذه الحفلات العارضة وعلى اختباره للأراغن. وفي 1740(37/35)
عين ابنة كارل فليب ايمانويل صناجاً في أوركسترا كنيسة فردريك الأكبر. وفي 1741 زار باخ برلين، وفي 1747 دعاه فردريك للحضور وتجربة البيانات التي اشتراها مؤخراً من جوتفريد زلبرمان. وأدهشت الملك ارتجالات "باخ العجوز"، وتحداه أن يرتجل فوجه في ستة أقسام، فأبهجته استجابة باخ. ولما عاد باخ إلى ليبزج لحن ثلاثية الفلوت، والكمان، والبيان القيثاري، وأرسلها هي وقطعاً أخرى "هدية موسيقية" للملك عازف الفلوت، بوصفه "ملكاً هو محط الإعجاب في الموسيقى كما في جميع فنون الحرب والسلام الأخرى" (50). وفيما خلا هذه الفواصل المثيرة، كرس باخ نفسه بإخلاص مضن لواجباته قائداً للمرتلين، ولحبه لزوجته وأبنائه، وللتعبير عن فنه وروحه في أعماله.
ب- مؤلفاته الموسيقية
(أ) -الآلية
كيف نعتذر لاجترائنا على هذا العرض لضخامة إنتاج باخ وتنوعه دون أن تتوفر لنا كفاية المحترفين للقيام بهذه المهمة؟ ليس في وسعنا أن نفعل شيئاً هنا، اللهم إلا أن نقدم للقراء قائمة تجملها المحبة لباخ.
فلنبدأ إذن بمؤلفاته للأرغن، فالأرغن ظل غرامه المقيم، لم يضارعه فيه أحد غير هاندل الذي فقد وراء البحار. كان باخ يحب أحياناً أن يفك كل ضوابطه لمجرد اختبار رئاته وجس قوته. وكان يلهو به لهوه بآلة دانت لسيطرته تماماً، وخضعت لكل شطحاته. ولكنه في استبداده هذا وضع حداً لأهواء العازفين بتحديده الأوتار التي يجب استعمالها بعلامات الجهير (الباص) المدونة، وذلك بأرقام في أسفلها، وهذا هو الجهير "المرقم" أو الكامل الذي يعين السلسلة المتصلة التي ينبغي أن يصاحب بها الأرغن أو البيان القيثاري الآلات الأخرى أو الصوت.
وخلال مقام باخ في فيمار أعد لابنه الأكبر ولغيره من الطلاب "كتيباً للأرغن" من خمسة وأربعين استهلالا كورالياً، وأهداه إلى "الإله العلي وحده(37/36)
تمجيداً له، وإلى جارى لكي يعلم به نفسه". وكانت وظيفة الاستهلال الكورالي أن يكون مقدمة بالآلات لترنيمة جماعية، ليرسم موضوعها ويحدد طابعها. ورتبت هذه الاستهلالات لتؤلف متتاليات ملائمة لعيد الميلاد، وأسبوع الآلام، وعيد القيامة، وظلت وقائع السنة الكنيسية هذه إلى النهاية" Alle Menschen mussen sterben" ( كل البشر مصيرهم الموت)، تلتقي بموضوع من موضوعات باخ التي يعود إليها المرة بعد المرة، ويخفف منه على الدوام عزمه على مواجهة الموت بالإيمان بقيامة المسيح بشيراً بقيامتنا. وسنسمع هذه النغمة ذاتها بعد سنوات في لكورال الحزين" Komm, susser tod" ( تعال أيها الموت الحلو). ويرافق هذه التقوى الغامرة في هذه الاستهلالات، وفي ألحان باخ الآلية بوجه عام، مرح صحي، فتراه يطفر أحياناً فوق المفاتيح في فرحة تنويعات تذكرنا بشكاوى مجلس كنيسة أرنشتات منه.
وبلغت جملة ما خلفه باخ من المقدمات الكورالية 143، يعدها دارسو الموسيقى أول أعماله وأكملها منم الناحية التقنية. فهي قصائده الغنائية كما أن القداسات وألحان الآلام ملاحمه. وقد طوف بسلم الأشكال الموسيقية كلها، ولم يسقط منه غير الأوبرا لأنها غريبة على وظيفته ومزاجه، ومفهومه عن الموسيقى قرباناً لله قبل كل شئ. ولكي يفسح لفنه مجالا أرحب أضاف فوجة للمقدمة، فجعل فكرة الجهير تتابع نفس الفكرة الرئيسية في الندى، أو العكس، في لعبة متشابكة أبهجت نفسه الولوعة بالطباق الموسيقى. فترى لحن المقدمة والفوجة بمقام E الصغير يبدأ ببساطة مغرية، ثم يحلق في أجواء معقدة من الغنى والقوة تكاد تلقى الرعب في أذن السامع. أما لحن المقدمة والفوجة بمقام D الصغير فهو باخ على أروعه بناءاً، وصنعة فنية، وتطويراً للفكرة الرئيسية، وخصوبة تصورية، وقوة عارمة. وربما كان أروع من هذا إلباسا كاليا والفوجة بمقام C الصغير. وقد أطلق الأسبان اسم Pasacalle على اللحن الذي يعزفه موسيقى "عابر بالطريق"؛ وأصبح في إيطاليا لوناً من الرقص، أما في باخ فهو فيض جليل من النغم، يجمع بين البساطة والتأمل والعمق.(37/37)
وألف باخ للأرغن أو موترة المفاتيح اثنتي عشرة توكاتات tocattas أي قطعاً تستطيع أن تمرن "لمس" العازف. وكانت تحتوي على ضربات سريعة على لوحة المفاتيح ونغمات عالية جريئة، وأخرى خافتة رقيقة، وفوجه من النغمات يدوس بعضها أعقاب بعض في دعابة وعبث. وقد ظفرت التوكاتا والفوجه في مقام D الصغير، في هذه المجموعة، بأكبر عدد من المستمعين، وبعض، الفضل في هذا راجع لألحان أوكسترالية مكيفة كانت أنسب من الأرغن للأذن العصرية غير الكنسية. ومن بين التوكاتات السبع الموضوعة لموترة المفاتيح أو البيان القيثاري، يتبدى باخ هنا أيضاً في التوكاتا بمقام C الصغير وقد ملك ناحية صنعته في ثقة كاملة - فهي فرحة من مزج الألحان تعقبها حركة بطيئة كلها عذوبة صافية مهيبة.
وليس من السهل نحن الذين حرمنا الأنامل الماهرة والآذان المرهفة أن نقدر اللذة التي استشعرها ياخ ومنحها سامعيه في مؤلفاته التي وضعها لموترة المفاتيح- التي كانت بالنسبة له تعنى البيان القيثاري عادة. فعلينا أولا أن نفهم مبادئ البناء التي اتبعها في تطوير بضع نغمات فكرة رئيسية إلى بناء مفصل معقد ولكنه منظم - أشبه بقطعة فنية من الطراز العربي في سجادة فارسية أو محراب جامع، تسرح بعيداً عن قاعدتها وكأنها تحررت من كل القيود، ولكنها تفعل دائماً في منطق يضيف الإشباع العقلي إلى لذة الشكل الحسية. ثم علينا أن نستعير سحر يدي باخ، لأنه ابتكر في العزف فناً يتطلب الاستخدام الكامل لأصابع اليدين كلها (بما فيها الإبهام)، في حين قل أن تطلب من سبقوه أكثر من الأصابع الثلاث الوسطى في مؤلفاتهم لموترة المفاتيح. ولقد أحدث ثورة حتى في وضع اليد. فقد نحا العازفون قبله إلى الاحتفاظ بيدهم مبسوطة أثناء ضربهم المفاتيح، ولكن باخ علم تلاميذه أن يحنوا اليد حتى تضرب جميع الأنامل المفاتيح في نفس المستوى. وبغير هذه الطريقة كان يستحيل ظهور عازف مثل ليست.
وأخيراً، حين اقتبس باخ نظاماً اقترحه أندرياس فركمايستر في 1691، طالب بضبط الأوتار في الآلات ضبطاً متوسطاً متكافاً، بحيث يقسم(37/38)
"الجواب" إلى أثنى عشر نصف نغمة متساوية تماماً، فلا يحدث أي تنافر عند الانتقال من مقام إلى مقام. وكان في حالات كثيرة يصر على أن يضبط بنفسه البيان القيثاري الذي سيعزف عليه (51). لذلك وضع كتابه "البيان القيثاري الصحيح الضبط" (الجزء الأول، 1722 والجزء الثاني، 1744): ثمان وأربعون مقدمة وفوجة- اثنتان لكل مقام كبير وصغير - "لاستعمال وتمرين شباب الموسيقيين الراغبين في التعليم، ولمن حذقوا هذه الدراسة أيضاً على سبيل التسلية" كما نص عليه العنوان الأصلي للكتاب. والقطع ذات أهمية كبرى للموسيقين، ولكن الكثير منها أيضاً يستطيع أن يبعث فينا فرحة باخ أو شعوره المتأمل، وهكذا نرى جونو يقتبس المقدمة بمقام C الكبير، في شكل محور، لتكون لحناً مصاحباً على آلة منفردة (أويلجاتو) للحنه "السلام يا مريم". وقد وجدت بعض النفوس العميقة، مثل ألبرت شفايتسر، في هذه المقدمات والفوجات "عالماً من السلام" وسط ضجيج الصراع البشري (52).
ثم أصدر باخ، الذي لم يكن لخصوبته نهاية، في 1731 الجزء الأول من كتابه "كلافيروبونج" (أي تمرينات على موترة المفاتيح) وقد وصفه بهذه العبارة "تمرينات من مقدمات، وموسيقى للرقصات الألمانية (المائدة) والكورانت، والسراباند، والجيج، والمنويت، وغيرها من اللطائف، مؤلفة على سبيل الترويح الذهني عن محبي الفن". (53) وأضاف إلى هذين الجزأين أجزاء ثلاثة في سنوات لاحقة، حتى أصبح الكتاب في النهاية متضمناً لأشهر مؤلفاته: "مبتكرات" و "بارتيتات"، وسنفونية، و"ألحان جولدبرج المحورة" و"الكونشرتو الإيطالي"، وبعض المقدمات الكورالية الجديدة للأرغن. وذكر المخطوط أنه يقدم"المبتكرات مرشداً أميناً يهدي محبي إلى طريق واضح .. لا لاكتساب الأفكار الجيدة (المبتكرات) فحسب، بل لوضعها بأنفسهم ... ولاكتساب أسلوب غنائي في العزف، و ... ميل قوي إلى التلحين" (54). وبهذه الأمثلة كان في استطاعة الطالب أن يرى كيف يمكن تطوير الفكرة الرئيسية، متى وجدت بالمزج بين الألحان عادة، تطويراً منطقياً لتبلغ خاتمة موحدة. وقد لعب(37/39)
باخ بفكراته كأنه حاو مرح، فهو يقذف بها في الهواء، ويقلبها بطناً لظهر، ويقلبها رأساً على عقب، ثم يقيمها على قدميها سالمة من غير سوء. إن الأنغام "والتيمات" لم تكن طعامه وشرابه والهواء الذي يتنفسه فحسب، بل كانت إلى ذلك تسليته وراحته.
وكانت البارتيتات تسليات شبيهة بما ذكرنا. وقد أطلق الإيطاليون لفظ "بارتيتا Partita على اللحن الراقص ذي الأقسام المختلفة. فالبارتيتات بمقام D الصغير و B الكبير اتخذت خمسة أشكال راقصة: "الألماند" أو الرقصة الألمانية، والكورانت الفرنسية، والسراباند، والمنويت، والجيج. ويظهر هنا تأثير العازفين الإيطاليين، الذي شمل حتى مصالبة اليدين، التي كانت حيلة محببة لدومنيكو سكارلاتى وهذه القطع تبدو لنا اليوم تافهة القيمة، ولكن يجب أن نتذكر أنها لم تؤلف للبيانو فورت الجبار، بل لموترة المفاتيح الهشة، وفي وسعها-إذا لم نشتط فيما تطلبه منها- أن تمنحنا بهجة فريدة في بابها.
وأعسر من هذه هضماً "ألحان جولدبرج المنوعة". ويوهان تيوفيلوس جولدبرج هذا كان عازف موترة مفاتيح للكونت هرمان كايزرلنج، السفير الروسي لدى بلاط درسدن. فلما زار الكونت ليبزج اصطحب معه جولدبرج ليهدئ أعصابه بالموسيقى التماساً للنوم. وفي هذه المناسبات تعرف جولدبرج إلى باخ وهو مشوق إلى تعلم طريقته الفنية في العزف على لوحة المفاتيح. وأعرب كليزرلنج عن رغبته في أن يؤلف باخ قطعاً للموترة من نوع "يدخل عليه شيئاً من البهجة في لياليه المؤرقة" (55). وتفضل باخ بتأليف "لحن ذي ثلاثين تنويعاً" أثبت أنه علاج للأرق. وكافأه كايزرلنج بقدح ذهني يحوي مائة جنيه من الذهب. ولعله هو الذي حصل لباخ على تعيينه ملحناً لبلاط الملك- النخب السكسوني.
على أن فن باخ لا قلبه هو الذي كان في هذه التنويعات. فتراه يهدي الموترة بشعور ولذة أعظم، سبعة توكاتات، وسوناتات كثيرة، و"ففتازيا وفجه ملونة" بمقام D الصغير، و"كنشرتو إيطالية" حاول فيها بحيوية وروح مذهلتين، أن ينقل إلى لوحة المفاتيح تأثيرات الأوركسترا الصغير.(37/40)
وثمة شكل موسيقي وجد سبيله إلى جميع مؤلفاته الأوركسترالية تقريباً- وهو الفوجه. وقد وفدت كمعظم الأشكال الموسيقية من إيطاليا، ولاحقها الألمان في مطاردة مشبوبة طغت على موسيقاهم حتى مجيئ هايدن. وأجرى عليها باخ تجاربه في "فن الفوجة"، فأخذ فكرة واحدة وبنى منها أربع عشرة فوجة وأربعة اتباعات في متاهة فن مزج الألحان تبين كل ضرب من التقنية الفوجية. وقد خلف المخطوطة ناقصة عند موته، فنشرها ابنه كارل فليب إيمانويل (1752) ولم يبع منها غير ثلاثين نسخة. ولا عجب فعصر البوليفوني (تعدد النغمات)، والفوجة كان في طريقه إلى الزوال بزوال أعظم أساتذته، وأخذ فن مزج الألحان يخلى السبيل للهارمونى.
ولم يكن ولوعاً بالكمان ولعه بالأرغن وموترة المفاتيح. لقد بدأ حياته عازف كمان أحياناً يعزف على الفيولا في المجموعات الموسيقية التي يقودها في نفس الوقت، ولكن بما أن أحداً من معاصريه أو أبنائه لم يذكر شيئاً عن عزمه على الكمان، فلنا أن نفترض أنه لم يكن يتجلى في تلك الآلة. على أنه لا بد كان قديراً في العزف عليها، لأنه ألف للكمان وللفيولا موسيقى غاية في الصعوبة، يغلب على الظن أنه كان على استعداد لعزفها بنفسه. وتعرف دنيا الموسيقى الغربية كلها "الشاسون" التي اختتم بها بارتيتا بمقام D الصغير الكمان المفرد، فهي آية في الأسلوب الفني ألف كل عازف كمان أن يهفو إليها هدفاً أعظم له. وقد يرى فيها بعضنا استعراضاً كريهاً من الحواية والشعوذة- أشبه بحصان يعذب قطة على مراحل عديدة. أما عند باخ فقد كانت محاولة جريئة ليحقق على الكمان عمق الأرغن وقوته اليوليفونيين. فلما نقل بوزوني اللحن إلى البيانو، أصبحت اليوليفونية أكثر طبيعية، وكانت النتيجة باهرة. (وعلينا ألا نتعالى على هذه المنقولات وإلا وجب أن ندين باخ ذاته).
فإذا وصلنا إلى مؤلفات باخ التي أعدها لأوركستراه الرقيق، وجدت فيها حتى الأذن في المحترفة الكثير مما يشبه القصائد التي تتغنى للفرح والبهجة. ولا بد أن الهدية الموسيقية التي أهداها لفردريك الأكبر قد أبهجته بألحانها المتألقة وهزته بأنغامها المتألقة نصف الشرقية. وقد كتب باخ بالإضافة(37/41)
إلى البارتيتات أو المتتابعات في "تمرينات الموترة" خمس عشرة متتابعة لرقصات. وسميت ستة منها بالمتتابعات الإنجليزية لأسباب نجهلها الآن، وستة بالمتتابعات الفرنسية، وهذه التسمية أوضح لأنها نسجت على منوال النماذج الفرنسية واستعملت ألفاظاً فرنسية بما فيها كلمة Suite ( أي المتتابعة) ذاتها. وفي بعضها تطغى مهارة الصنعة، فتسمع حتى الآلات الوترية تبعث أنغاماً يغلب عليها النفخ. ومع ذلك فأن أبسط الناس يستطيع أن يحس ذلك لجمال المهيب الذي يفيض به لحنه الشهير "أريوزو" أو "لحن لوتر المقام G" الذي يؤلف الحركة الثانية للمتابعة رقم 3. وقد نسيت هذه المؤلفات أو كادت بعد موت باخ، حتى عزف مندلسون أجزاء منها لجيته في 1830، وأقنع أوركسترا قاعة تجار الأجواخ بليبزج ببعثها سنة 1838.
واقتبس باخ شكل الكونشرتو كما مارسه فيفالدى، واستخدمه في شتى أنواع التشكيلات الآلية. والحركة البطيئة بطئاً مهيباً، عند موسيقى ولد بمزاج معتدل البطء، تجعل كنشرتو الكمان بمقام D الصغير مبهجاً جداً، كذلك فإن الحركة البطيئة في كنشرتو الكمان رقم 2 بمقام E هي التي تؤثر فينا بعمقها الحزين ورقتها المتألقة. وربما كان أعذب هذه القطع الموسيقية هو الكونشرتو بمقام D الصغير لكمانين، والنشيط vivace منهما تصوير خالص دون لون، كأنه شجرة دردار شتوية، ولكن الأريث Largo لقطة أثيرية من الجمال الصافي- الجمال المعتمد على ذاته، دون "برنامج" أو أي شائبة فكرية تشوبه.
ولكونشرتات براندبنودج تاريخها الخاص. ففي 23 مارس 1721 بعث بها باخ إلى أمير، نسيه الناس إلا في هذا الأمر، مشفوعة بهذه الرسالة بالفرنسية، التي صاغها كاتبها بأسلوب عصره. قال:
إلى صاحب السمو الملكي الأمير كرستيان لودفج، حاكم براندنبورج: مولاي:
بما أنني تشرفت بالعزف أمام سموكم قبل عامين، ولاحظت أنكم استشعرتم شيئاً من السرور بالموهبة المتواضعة التي حبتني بها السماء في الموسيقى، وحين انصرفتم سموكم الملكي شرفتموني بأمر لي بأن أبعث إليكم ببعض قطع(37/42)
من تأليفي، فإني الآن عملاً بأوامركم الكريمة أبيح لنفسي أن أقدم لسموكم الملكي إحتراماتي المقرونة بالتواضع الشديد، مع الكونشرتات المرافقة ... متوسلاً إليكم في تواضع ألا تحكموا على نقصها بدقة ذلك الذوق الموسيقي المرهف الرقيق الذي يعرف الجميع أنكم تملكونه، بل أن تتبينوا في كرم ولطف ذلك الاحترام العميق والطاعة الشديدة المتواضعة اللذين قصدت بهذه القطع أن تشهد عليهما. وفيما عدا ذلك يا مولاي، فإنني بكل تواضع أطلب إلى سموكم الملكي أن تجودوا بمواصلة أفضالكم علي، وبأن تثقوا بأنه ما من شئ أتوق إليه كرغبتي في استخدامي في شئون أجدر بكم وبخدمتكم، لأنني يا مولاي، بغيرة لا تعدلها غيرة، خادمكم المتواضع جداً
جان سبستيان باخ (56).
ولا علم لنا هل شكر الحاكم لباخ هديته أو أثابه عليها، ولعله فعل، لأنه كان شغوفاً بالموسيقى، يحتفظ بأوركسترا ممتاز. وعند موته (1734) أدرجت الكونشرتات الستة، بخط باخ الشديد العناية والتأنق ضمن 127 كونشرتو في قائمة جرد وجدها شبيتا في المحفوظات الملكية ببرلين. وفي هذه القائمة قدرت قيمة كل من هذه الكونشرتات بأربعة جروشينات (1. 60 دولار).
وتتبع كونشرات براندبنورج شكل الكونشرتو الكبير الإيطالي-ألحان في عدة حركات، تعزف على مجموعة صغيرة من آلات غالية (الكونشرتينو) يصاحبها أوركسترا وترى (الريبينو أو التوني). وقد استعمل هاندل والإيطاليون كمانين وفيولونتشيللو للكونشرتينو، أما باخ فقد نوع هذا بجرأته المعهودة، وقدم كماناً، وأوبوا، وبوقاً، وفلوتاً آلات مقصدرة في الكونشرتو الثاني، وكماناً وفلوتين في الكونشرتوا الرابع، وموترة مفاتيح، وكماناً، وفلوتاً في الخامس، وطور البنيان إلى تفاعل معقد بين الكونشرتينو والريبينو في حوار حي - من الانفصال والتعارض، والتداخل، والاتحاد - لا يفهم فنه ومنطقه ويستمتع بهما غير الراسخين في الموسيقى. أما من عداهم فقد يجدون بعض الفقرات مكررة تكراراً مملا، نذكرهم بأوركسترا ريفي يقيس الوقت لرقصة، ولكن حتى نحن نستطيع أن نحس بسحر(37/43)
الحوار ورقته، وأن نجد في الحركات البطيئة سلاماً مهدئاً أنسب للقلوب المسنة والأرجل المتلكئة مما نجده في دوامة الحركات العجلاء، ومع ذلك فإن الكونشرتو الثاني يستهل بأعجل (الليجرو) خلاب، والرابع يضفي عليه البهجة فلوت لعوب، أما الخامس فهو باخ في أوجه.
(ب-) الصوتية
لم يستطع باخ وهو يلحن للصوت أن يلقي جانباً كل ما طوره من حيل وخفة يد على لوحة المفاتيح، ولا الجهود الجبارة المعذبة التي طالب بها أوركستراه، فقد كتب للأصوات كأنها آلات لا يكاد يكون لحذقها ومداها حدود، وكان ضنيناً في الاستجابة لرغبة المرتل أو المغني في أن يتنفس. ونهج نهج عصره في تمديد المقطع الواحد ليشمل ستة أنغام ("كيرييـ- يليـ- يـ- يـ- يـ- يـ- ييسون")، ومثل ذلك الاستكثار من الأنغام لم يعد أسلوب العصر، ولكن بفضل مؤلفاته للصوت حقق باخ شهرته الراهنة بوصفه أعظم ملحن في التاريخ.
وقد حياه إيمانه الوطيد بالعقيدة اللوثرية إلهاماً حاراً يعدل أي إلهام وجده باليسترينا في القداس الكاثوليكي. فكتب نحو أربع وعشرين ترنيمة وست موتيتات وفي الاستماع إلى إحدى هذه الست Singet dem Herrn ( رنمو للرب) "شعر موتسارت أول ما شعر بعمق باخ. وكتب لجماهير المصلين ولكورسه كورالات قوية كانت كفيلة بأن تبهج قلب لوثر الشبيه بقلبه": عند أنهار بابل" و "حين تشتد الحاجة"، و"تجملي أيتها النفس المباركة" وقد أثر هذا الكورال الأخير في مندلسون تأثيراً عميقاً حتى قال لشومان "لو أن الحياة سلبتني الرجاء والإيمان لردهما إليَّ هذا الكورال وحده" (57).
ولحن باخ لأعياد الميلاد، والقيامة، والصعود، أوراتوريات-كانت تراتيل ضخمة للكوارس، أو المرتلين المنفردين، أو الأرغن، أو الأوركسترا. وقد رتل أوراتوريو Weinachts Oratorium الميلاد، كما يسمى الأورتوريو الأول، في كنيسة توماس في ستة أقسام على ستة أيام بين عيد الميلاد وعيد(37/44)
الظهور (الغطاس) 1734 - 45. وأخذ من أعماله المبكرة نحو سبعة عشر لحناً أو كورساً، مستعملاً حقه فيما يملك، ونسج منها قصة عن ميلاد المسيح استغرقت ساعتين. وكاد بعض ألحانه هذه التي سطا عليها لا ينسجم مع النص الجديد، ولكن كان في استطاعة السامع أن يغفر الكثير من الأخطاء في لحن يقدم، في مطلعه تقريباً، الكورس الذي يبدأ بهذه الكلمات "كيف ألقاك اللقاء الجدير بك؟ ".
كانت الأوراتوريات في صميمها تجميعات لكنتاتات. وكانت الكنتاتا ذاتها كورالا تتخلله الألحان. ولما كانت الخدمة اللوثرية كثيراً ما تطلب الكنتاتات، فقد ألف باخ ثلاثمائة منها، بقي منها إلى اليوم نحو مائتين. وقد حدت صلتها الوثيقة بالطقوس اللوثرية من عدد المستمعين لها في زماننا هذا، ولكن كثيراً من الألحان التي تضمنتها فيه جمال يسمو على أي لاهوت. وفي فيمار، في سنته السادسة والعشرين (1711) كتب باخ أول كنتاتاته الرائعة" Actus tragieus التي تبكي مأساة الموت ولكنها تفرح برجاء القيامة. وفي 1714 - 17 خلد تقسيمات السنة الكنسية بطائفة من أروع كنتاتاته: فالأحد الأول من الآحاد الأربعة السابقة للميلاد Advent كتب "تعال الآن، يا مخلص الوثنيين". ولعيد القيامة 1715 كتب "السموات تضحك، والأرض تبتهج" التي استعمل فيها ثلاثة أبواق، ونقارية، وثلاث أبواب وكمانين، وفيولنتشيللوين، وباصونا، وسلسلة أنغام على لوحة المفاتيح لتعين الكورس، وتحمل جمهور المصلين، على أن يهتزوا طرباً بانتصار المسيح؛ وكتب للأحد الرابع من الآحاد السابقة للميلاد في 1715، "القلب والفم والعقل والحياة" مع الكورال الجذل المألوف" و"أويلجاتو" الأوبرا، "يسوع، يا بهجة أشواق الإنسان". وكتب للأحد السادس عشر بعد عيد الثالوث الأقدس 1715، "تعالي يا ساعة الموت الحلوة". وفي ليبزج لحن تسبحة أخرى لقيامة المسيح "رقد المسيح في سجن الموت المظلم". وفي الذكرى المئوية الثانية لـ "إعلان العقيدة الأجزبورجي" لحن ترنيمة لوثر التي مطلعها "إلهنا حصن حصين" في صورة كنتاتا تعد(37/45)
الترنيمة في قوتها، ولكن ربما كانت أعنف من أن تكون تعبيراً مناسباً عن الإيمان.
وكان في باخ إحساس صحي بمباهج الدنيا رغم تدينه وصلته الوثيقة بالتقوى بحكم واجباته، وكان في وسعه أن يضحك، كما يبكي، من كل قلبه. وتسللت عناصر علمانية إلى مؤلفاته الدينية، وقد اكتشف بعض أنغام من أوبرات عصره في القداس بمقام B الصغير (58). ولم يتردد في أن يغدق موارد فنه على كنتاتات علمانية خالصة، بقي منها الآن إحدى وعشرون. فألف "كنتاتا الصيد" و"كنتاتا القهوة"و "كنتاتا الزفاف" وسبع كنتاتات لاحتفالات مدينة. وفي 1725 كتب كنتاتا كاملة بمناسبة عيد ميلاد أوجست موللر الأستاذ بجامعة ليبزج "أيولوس المغتبط" احتفالا بتحرير الرياح، وربما بمجاز خبيث. وفي 1742 خلع موسيقاه على "كنتاتا الفلاحين الساخرة سخرية كاريكاتورية صريحة، بما فيها عن رقص القرويين الصاخب وشربهم وغزلهم. وبعد عام 1740 لم تعد الموسيقى الكنسية الغالية في ليبزج، وقدمت الحفلات الموسيقية العامة بازدياد ألحاناً علمانية ..
وقبل ن تدخل الموسيقى الدينية عصر اضمحلالها حلق بها باخ في أجواء لم تبلغها من قبل البلاد البروتستنتية. وكان من مخلفات القداس الكاثوليكي في الخدمة الكنسية اللوثرية ترتيل تسبحة "تعظم نفسي الرب" في عيد زيارة العذراء (2يوليو). وكان هذا إحياء لزيارة مريم لابنة خالتها أليصابات، حين فاهت العذراء كما ورد في إنجيل البشير لوقا (الإصحاح الأول 46 - 55) بترنيمة شكرها التي لا شبيه لها: Magnificat anima meadominam " تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى إتضاع أمته. فهو ذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني. " ولحن باخ هذه السطور وما يليها مرتين، ولعله لحنها في صورتها لخدمة الميلاد بليبزج عام 1723. هنا يسمو الدين، والشعر، والموسيقى كلها إلى نفس الذروة في وحدة رائعة.
وبعد ست سنوات بلغ تلك الذرى غير مرة في "ألحان أسبوع الآلام(37/46)
كما ورد في إنجيل متى". ولقد كان تلحين قصة آلام المسيح وموته القرون الطوال جزءاً من الطقس الكاثوليكي. واقتبس كثير من الملحنين البروتستنت صيغة الكنتاتا لهذا الغرض، واستخدم أثنان منهم قبل باخ إنجيل القديس متى نصاً لهما (59). وكتب باخ على الأقل ثلاثة من ألحان الآلام، متبعاً فيها على التوالي روايات يوحنا (1723)، ومتى (1729)، ومرقص (1731). ولم يتخلف من اللحن الثالث غير قطع متناثرة. ولحن الآلام على رواية يوحنا يشوبه تعاقب غير منطقي للمناظر وخلط بين الأحداث، ونزوع تيوتوني إلى الخطب الراعدة، ولكن الأجزاء الأخيرة منه تخف إلى رقة ورهافة في الشعور، وعمق حزين في التأمل، بلغ غاية ما تبلغه الموسيقى تأثيراً في النفس .. ولحن Es ist vollbracht ( قد أكمل) ترجمة عميقة لأخطر حدث في قصة المسيح، وما من امتحان للملحن أو المصور أعسر من هذا.
وفي عصر يوم الجمعة الكبيرة، 15 أبريل 1729، في كنيسة توماس بليبزج، أخرج باخ أعظم ألحانه قاطبة. وقد أتيح له في هذا اللحن "لحن الآلام على رواية متى، نص ألماني جيد، بنى على رواية متى الكاملة نسبياً، ورتبة أديب محلي يدعى كرستيان فردريك هنريكي، الملقب "بيكاندر". ويبدو أن باخ نفسه كتب النص لعدة كوارس وقد ظنها البعض قطعاً لا مبرر له لقصة الإنجيل، ولكنها كالكورس في المسرحية اليونانية تثري الدراما بالتعقيب والشرح، وإيقاعاتها الحزينة تعبر عن عواطفنا وتطهرها- وهما وظيفتان للفن الاسمي. وإذا كان الكثير جداً من موسيقى باخ إعلاناً للبراعة أو القوة، فإن لحن الآلام على رواية متى كله تقريباً هو صوت الأسى، أو العرفان، أو المحبة-في قرار الكورال المتكرر، الحزين، الرقيق، وفي رفاهة الألحان، وفي أنغام الفلوت الملازمة ترنم كأنها آتية من عالم آخر، وفي الضبط الوقور للأدوار المصاحبة التي تلتف حول الكلمات ووسط الأحداث كأنها زخارف مذهبة مفضضة في كتاب قداس من العصر الوسيط. هنا يفتح لنا باخ أعماقاً من الوجدان والمغزى لا تنكشف في مكان آخر إلا في الرواية الأصلية ذاتها، فهذه المأساة مازالت(37/47)
بالنسبة لنا نحن أبناء الحضارة الغربية أشد المآسي تأثيراً في نفوسنا، لأنها لا تقتصر على تمثيل صلب شخص مثالي نبيل بأيدي أخوتنا من بني البشر، بل تجاوز هذا إلى الرمز لصلبه يومياً في العالم المسيحي، ولذلك الموت البطيء، في كثير منا، موت الإيمان الذي أحبه هذا الشخص إلهاً له.
وكاد باخ أن يوفق في أن يبلغ مرة أخرى، في القداس بمقام B الصغير، ذرى الانفعال والصنعة التي بلغها في لحن الآلام المذكور. ولكنه لم يستطيع أن يشعر بالانسجام الكامل مع مغامرته الجديدة كما شعر في لحنه ذاك. فلقد كان إنجيل الآلام أساس العقيدة البروتستنتية ومرتكزها، وكان باخ مستغرقاً في تلك القصيدة استغراقاً لا سبيل إلى رده عنه. على أن القداس على أي حال كان تطويراً كاثوليكياً، وقانون الإيمان ذاته يعبر عن التزام لا شك فيه بـ "كنيسة واحدة مقدسة، جامعة (كاثوليكية) catholicam، رسولية". ومع أن الشعائر اللوثرية احتفظت بالكثير من القداس الكاثوليكي، فإن هذا الكثير كان أثراً قلقاً تخلص فعلاً من لحن "يا حمل الله Agnus Dei" قبل باخ. وكان القداس في عصر باخ وفي الكنائس أيامه يغير قطعة قطعة بالكنتاتات. وبقاياه اللاتينية تقصى شيئاً فشيئاً عن الطقوس. وقد رتلت ألحاناً الآلام لباخ بالألمانية، وكان قد درس أربع ترانيم ألمانية بين الأبيات اللاتينية للحنه "تعظم نفسي الرب". ولكن القداس كان لاتينياً خالصاً بحكم التقاليد بحيث كانت أي اقحامات ألمانية فيه تغامر بأن يؤخذ عليها عيب التنافر. وكان قد غامر بهذا التحدي بكتابته أربعة قداسات جزئية بمثل هذه الملاحق الألمانية، ولم تكن النتيجة مرضية. فدرس بعناية تلك القداسات الكاثوليكية التي لحنها بالسترينا وغيره من الإيطاليين. وأرحت علاقته ببلاط درسدن أنه قد يسر الملك-الناخب الكاثوليكي إذا لحن قداساً كاثوليكياً. وحين بعث لأوغسطس الثالث (1733) ملتمساً بطلب وظيفة ولقب في البلاط أرفق معه لحني "كيرياليسون" و "المجد لله Gloria " أصبحا فيما بعد جزأين من القداس بمقام B الصغير. ويلوح أن الملك لم يهتم بهما. وأداهما باخ في كنائس ليبزج، فاستقبلا استقبالا طيباً، وواصل هو هذا العمل (1733 - 38) فأضاف إليهما أجزاء أخرى، قانون الإيمان Credo،(37/48)
ولحن "قدوس قدوس قدوس Sanetus" ولحن "أوصنا Osanna، ولحن "مبارك الرب Benedictus" ولحن "يا حمل الله" ولحن "هبنا سلاماً" Dona nobis pacem. فلما اكتمل هذا كله أصبح قداساً في صورته الكاثوليكية. ولعل باخ قد راوده الأمل في أن يأمر أوغسطس الثالث بترتيله في بولندة، ولكن القدر لم يحقق أمنيته، لأنه لم يترتل قط في كنيسة كاثوليكية. وقد قدمه باخ قطعة قطعة في مناسبات شتى، في كنيسة توماس أو كنيسة نيقولا يليبزج.
والآن، هل نسوق التحفظات المترددة التي تخالط إعجابنا بهذا القداس الضخم بمقام B الصغير؟ أن قوة باخ تطغي مراراً على ذلك التواضع الذي ينبغي أن يشرب خطاب موجه إليه تعالى، وقد يبدو أحياناً أنه لا بد قد ظن أن الله أصم أذنيه، لأنه قد أمسك طويلاً عن الكلام في لغات كثيرة. فلحن "كيرياليسون" يجر ضخامته الراعدة المختلطة جراً طويلا مملا حتى لنصبح نحن أيضاً في النهاية "إليسون- أي ارحمنا! " أما لحن "المجد لله" فهو في أكثره متقن من حيث مصاحباته الأوركسترا، وهو ينتقل إلى لحن جميل، لحن "الجالس عن يمين الآب". ولكنه يبيت أجش خشنا بصوت الأبواق في لحن "لأنك وحدك قدوس" ثم يتناول لحن "مع روحك القدوس" برعد من المقاطع الموسيقية لا بد جعل الروح القدس يرتعد مخافة أن يقتحم هذا التيوتوني الجبار أبواب السماء عنوة. ومن عجب أن قانون لأيمان-بتفاصيله ودقائقه العقائدية التي أحدثت الانقسام في العالم المسيحي، والتي لا تلائم بطبيعتها الموسيقى-ينتج أسمى لحظات القداس بمقام B الصغير، إلا وهما لحن "وتجسد" ولحن "الصلب"، حيث يظفر باخ ثانية بذلك الجلال الهادئ الذي بلغه في لحن الآلام على رواية متى. ثم يأتي لحن "وقام من ببين الأموات" فيطلق كل الأنغام الصارخة، التي نفذ صبرها، أنغام الأبواق والطبول، لتصبح وترعد تهللاً بانتصار المسيح على الموت. ويهدئنا لحن "مبارك الرب" بنغمة الصادح (التينور) الرقيق وكمانه المنفرد السماوي. والمصاحبة الأوركسترالية للحن "يا حمل الله" جميلة(37/49)
في عمق، ولكن لحن "هبنا سلاما" دليل على القوة لا على هبة السلام. تلك ردود فعل صريحة ليس لها كبير قيمة. ولن يتذوق القداس بمقام B الصغير تذوقاً كاملا غير أولئك الذين توافر لهم شئ آخر فضلا عن التربية المسيحية التي لم تفقد نغماتها التوافقية العاطفية، وهو القدرة الفنية على أن يميزوا ويستمتعوا بما في اللحن من بناء، ونغيمات، وصنعة، وبما استعمله الملحن فيه من موارد منوعة، وبما في تأليف الأوركسترالي من تعقيد، وبتكييف الأفكار الرئيسية في الموسيقى وفي أفكار النص.
وقد انتقد بعض الموسيقيين المحترفين باخ أثناء حياته. ففي 1737 نشر يواهان أدولف شايبي (الذي أصبح فيما بعد قائد الأوركسترا لملك الدنمرك) خطاباً غفلا من من التوقيع امتدح فيه باخ عازفاً على الأرغن، وأشار إلى أن "هذا الرجل العظيم يكون محط إعجاب الأمم كلها لو كان أسلس من هذا، ولو لم تكن ألحانه مفتعلة لما فيها من ضجيج واختلاط، ولو لم يحجب جمالها الاسراف في الصنعة (60). وبعد عام جدد شايبي هجومه فقال "إن ألحان باخ الكنسية تزداد افتعالا وبطئاً، وهي تقصر عن ألحان تليمان وجراون في الامتلاء بالاقتناع المؤثر أو التأمل الفكري (61). وكان شايبي قد حاول الحصول على منصب عازف الأرغن في ليبزج وعلق باخ على عزفه الذي أداه على سبيل الاختبار تعليقاً في غير مصلحته، وهجاه في إحدى كنتاتاته؛ ولعل نقد شايبي لم يخل من غل. ولكن شبيتا، أشد المعجبي بباخ حماسة، ينبئنا أن الكثيرين من معاصري شايبي شاطروه آراءه (62). وربما كان بعض نقاده يمثلون انتفاض الجيل الجديد في ألمانيا على الموسيقى الطباقية التي بلغت عند باخ من التفوق ما لم يترك بعده مجالا لشئ غير التقليد، وقد شهد القرن العشرين انتفاضاً كهذا على السمفونية.
ولعل شايبي كان مؤثراً هاندل على باخ، ولكن هاندل كان قد خسرته ألمانيا وكسبته إنجلترا، فشق على ألمانيا بالطبع أن تقارن بينه وبين باخ. فإذا عقدت هذه المقارنة كان هدفها دائماً تفضيل هاندل (63). وقد أعرب بيتهوفن عن الرأي الألماني حين قال، "إن هاندل أعظمنا جميعاً" (64).(37/50)
ولكن هذا كان قبل أن يبعث باخ تماماً من زوايا النسيان. ومع الأسف أن هذين العملاقين - وهما أعظم مفاخر الموسيقى وألمانيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر-لم يلتقيا قط، ولو قد فعلا لأثر الواحد منهما في صاحبه تأثيراً طيباً. وقد انطلق كلا الرجلين من الأرغن، واعترف الناس لهما بأنهما أعظم عازفيه في زمانهما، ثم واصل باخ إيثاره تلك الآلة بحبه، في حين جعل هاندل الصدارة للصوت، وهو الذي راح يتنقل بين مغنيات الأوبرا وخصيان المغنين، وزواج هاندل بين الميلوديا الإيطالية والطباق الموسيقى الألماني، وفتح طريقاً إلى المستقبل، أما باخ فكان التمام والكمال للماضي البوليفوني، الفوجي، الطباقي. وأحس الناس، حتى أبناؤه، أنه لم يبق من سبيل للتحرك على ذلك الخط.
ومع ذلك كان في تلك الموسيقى القديمة شيئ صحي، سيستعيده في تشوف وحنين رجال مثل مندلسون؛ ذلك أنها كانت لا تزال مشربة بالإيمان الراسخ، الذي لم تزعزعه بعد تلك الشكوك التي ستنفذ إلى صميم العقيدة المعزية. ولقد كانت صوت حضارة مكتملة التشكل، بوصفها الملاك والذروة لفن ولتقليد موروث. ولقد عكست التنميق الزخرفي للبارك، ولأرستقراطية لم يعد يتصدى لها الآن متصد. ولم تكن ألمانيا قد ولجت بعد عصر تنويرها "الأوفكليرنج"، ولا سمعت صياح أي من ديوك الثورة. فليسنج مازال صغيراً، وكل ألماني تقريباً يؤمن بالعقيدة النيقوية قضية لا نقاش فيها، ولم يشذ بتفضيل فولتير غير الأمير فردريك البروسي. وعما قليل سيتزعزع صرح المعتقدات والطرائق الموروثة أفخم زعزعة تكاد تهدمه هدماً من جراء دعوات العقول المبتدعة، وستطوى صفحات ذلك السلام المنظم القديم، وذلك الاستقرار الطبقي، وذلك الإيمان العجيب الذي لا يساوره شك ولا تساؤل-كل هذا كتب موسيقى باخ، وستتغير كل الأشياء، حتى الموسيقى، باستثناء الإنسان دائماً.
جـ- ختام
لقد أتاحت عزلته وترويضه في ليبزج أن يرث الماضي دون غضاضة أو تمرد. وكان إيمانه الديني، بعد موسيقاه راحته وملاذه. كان يقتنى(37/51)
في مكتبته ثلاث وثمانين مجلداً في اللاهوت، أو التفسير، أو الوعظ والإرشاد. وقد أضاف إلى عقيدته اللوثرية، المستقيمة، الرجولية، مسحة من الغيبة، ربما أخذها عن الحركة التقوية في زمانه-مع أنه عارض التقوية لعدائها لأي موسيقى كنسية غير التراتيل. وكان أكثر موسيقاه ضرباً من العبادة. وقد ألف أن يبدأ التلحين بصلاة يقول فيها "أعني يا يسوع" وكان يستهل كل مؤلفاته تقريباً ويختمها بإهدائها لجلال الله ومجده. وعرف الموسيقى بأنها "تناغم لطيف لمجد الله وبهجة الروح المباحة" (65).
وفي الصور التي خلفها لنا في أخريات عمره نرى فيه الرجل الألماني النموذجي، عريض المنكبين، بديناً، ممتلئ الوجه أحمره، عظيم الأنف، له إلى ذلك كله حاجبان مقوسان أضفيا عليه نظرة متسلطة يشوبها بعض الغيظ والتحدي. وكان طبعه حاداً وقد حارب ببأس شديد دفاعاً عن منصبه وآرائه، أما فيما عدا ذلك فقد كان أشبه بدب دمث لطيف يستطيع أن يطأطئ وقاره مازحاً إذا توقفت المعارضة. ولم يشارك بنصيب في حياة ليبزج الاجتماعية، ولكنه لم يكن ضنيناً باستضافة الأصدقاء، ومن بينهم منافسون كثيرون من أمثال هاسي وجراون. وكان متعلقاً بأسرته، يستغرقه عمله وبيته. وقد درب جميع أطفاله العشرة الأحياء على الموسيقى، وزودهم بالآلات، واحتوى بيته خمس موترات مفاتيح، وعوداً، وفيولا للساق، وعد كمانات، وفيولات، وفيولنتشلات. كتب إلى صديق في تاريخ مبكر (1730) يقول "أستطيع الآن أن أحي حفلة موسيقية، صوتية وآلية، من أفراد أسرتي" (67). وقد يتاح لنا في موضع لاحق أن نرى كيف واصل أبناؤه وفاقوه شهرة.
ثم وهن بصره في أخريات عمره. وفي 1749 ارتضى أن تجرى له جراحة على يد نفس الطبيب الذي عالج هاندل بنجاح في الظاهر، ولكن الجراحة أخفقت هذه المرة وتركته مكفوف البصر تماماً. وعاش بعدها في حجرة معتمة لأن النور الذي لم يستطيع رؤيته كان يؤذي عينيه. على أنه واصل التلحين رغم بلواه، شأنه في ذلك شأن بيتهوفن الأصم، وراح الآن(37/52)
يملي صهيراً له الافتتاحية الكورالية "حين تشتد بنا الحاجة". وكان قد أعد نفسه للموت منذ أمد بعيد، ووطن نفسه على تقبله، إذا حان حينه، عطية من الآلهة؛ ومن ثم ألف لحنه المؤثر "تعال أيها الموت الحلو".
تعال أيها الموت الرحيم، أيها الراحة المباركة،
تعال لأن حياتي مقفرة،
وقد تعبت من الدنيا.
تعال لأنني في انتظارك،
تعال سريعاً وهدئ روحي،
وأسبل عيبني في رفق؛
تعال، أيها الراحة المباركة (68).
وفي 18 يوليو 1750 بدا أن بصره قد رد إليه بصورة معجزة، وتجمعت أسرته من حوله في فرح وابتهاج ولكن فجأة، في 28 يوليو، قضت عليه إصابة بالفالج و "رقد إلى الرب هادئاً مباركاً" (69) كما تقول لغة ذلك العهد المفعمة بالرجاء.
وكاد يصبح نسياً منسياً بعد موته. وبعض هذا النسيان مرجعة انزواء باخ في ليبزج، وبعضه عسر ألحانه الصوتية، وبعضه اضمحلال الميل إلى الموسيقى الدينية والأشكال الطباقية. وحاول يوهان هيللر، الذي شغل في 1789 وظيفة باخ قائداً لفرقة المرتلين في مدرسة توماس، أن "يبث في التلاميذ استهجان فجاجات باخ" (70). وكان اسم باخ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يعني كارل فليب إيمانويل، الذي كان يأسف على طابع موسيقى أبيه العتيق (71). وما حلت سنة 1800 حتى بدا أن كل ذكر ليوهان سبستيان باخ قد طوى.
ولم يذكر عمله غير أبنائه. وقد وصفه أثنان منهما ليوهان نيكولاوس فوركل، مدير الموسيقى بجامعة جوتنجن. ودرس فوركل العديد من ألحانه فتحمس له، ونشر في 1802 ترجمة لحياته في تسع وثمانين صفحة صرح فيها بأن:(37/53)
"الأعمال التي خلفها لنا يوهان سبستيان باخ هي تراث قومي لا يقوم بثمن ولا يملكه أي شعب آخر ... وتخليد ذكرى هذا الرجل العظيم ليس واجب الفن وحده بل واجب الأمة ... فهذا الرجل، الذي هو أعظم من عاش ولعله أعظم من سيعيش من شعراء الموسيقى ومنظريها، كان ألمانياً ... فته به فخراً يا وطني" (72).
وفتح هذا النداء المستنفر للوطنية قبر باخ. فاشترى كارل تسلتر، مدير أكاديمية الغناء ببرلين، مخطوطة لحن الآلام، واستطاع فيلكس مندلسون، تلميذ تسلتر، أن يقنعه بأن يسمح له بأن يقود في الأكاديمية أول أداء لهذا اللحن يؤدى في مكان غير الكنيسة (11 مارس 1829). ولاحظ صديق لمندلسون أن لحن الآلام هذا قد بعث إلى النور بعد تقديمه أول مرة بمائة عام تقريباً، وأن يهودياً في الحادية والعشرين من عمره هو صاحب الفضل في بعثة من مرقده (73). وأدى جميع المشاركين في اللحن أدوارهم دون أن يتقاضوا أجراً. وزاد مندلسون على هذا الإحياء بتضمين معزوفاته ألحاناً أخرى لباخ. وفي 1830 نزل فترة ضيفاً على جوته، فشغله جوته بطلبه عزف ألحان باخ.
ووافق هذا الأحياء ظهور الحركة الرومانسية، وتجديد الإيمان الديني بعد حروب نابليون، وزال سلطان الواقعية؛ فقد ارتبطت الثورة (الفرنسية) المجرمة، وبـ "ابن الثورة"، ذلك الرجل الرهيب الذي طالما أذل ألمانيا في ساحات القتال. وكانت ألمانيا الآن ظافرة، فشارك حتى هيجل في الإشادة بباخ بطلاً للأمة. وفي 1837 دعا روبرت شومان إلى نشر أعمال باخ نشراً كاملاً، وفي 1850 تألفت "جماعة باخ"، وجمعت مخطوطات باخ من كل مصدر، وفي 1851 صدر أول مجلد، وفي 1900 صدر المجلد السادس والأربعون والأخير. وقال برامز أن أعظم حدثين في التاريخ الألماني وقعا في عهده تأسيس الإمبراطورية الألمانية، ونشر ألحان باخ الكاملة (74). وهذه الألحان تؤدى اليوم أكثر من ألحان أي ملحن آخر، ويتقبل العالم الغربي كله تقدير باخ بأنه "أعظم شاعر موسيقي عاش إلى اليوم".(37/54)
الفصل الثالث عشر
فردريك الأكبر وماريا تريزا
1 - استهلال إمبراطوري
1711 - 1740
يبدو أن فولتير كان أول من لقب فردريك بـ "الأكبر" منذ عام 1742 (1) Frederiv Le Grand وكانت العبارة جزءاً من ميثاق الإعجاب المتبادل دام عشرة سنين بعد ذلك التاريخ. ولكن إذا جاز التاريخ أن ينحو نحو الشاعر هويتمان في التهليل للمهزومين بنفخ الأبواق، حق له أيضاً أن يلقب ماريا تريزا بالكبرى، لأنها كانت واحدة من عدة ملكات فقن في العصور الحديثة معظم الملوك وأزرين بهم.
ولنبدأ حديثنا عنها من خلال خليفتها. فقبل أن تولد بست سنوات ارتقى أبوها الهابسبورجي (1711) عرش "الأمبراطورية الرومانية المقدسة" وتسمى شارل السادس. وكان رأي فولتير في هذه الدولة أنها لا تملك واحدة من هذه الصفات الثلاث، ولكنها لا تزال إمبراطورية، تكسوها مهابة تسعة قرون. وضمت هذه الدولة التي حكمت من فيينا حكماً واهناً النمسا، والمجر، وبوهيميا (تشكسلوفاكيا) واستراليا، وكارنثيا، وكارنيولا، والتيرول؛ وفي 1715 بسطت سلطانها على الأراضي المنبسطة الإسبانية السابقة، التي نعرفها الآن باسم بلجيكا، ولم تكن الدويلات الألمانية فيها خاضعة للإمبراطور إلا بالاسم، أما المدن الحرة الألمانية فقد اعترفت بسلطته في شئونها الخارجية، وكانت بوهيميا الآن في اضمحلال، فقد أشاع فيها الفوضى التعصب الديني واستغلال الملوك الغائبون عن أرضها وأكثرهم يتكلمون لغة أجنبية، أما المجر فكانت قد عانت من كونها أهم منطقة للصراع ين المسيحيين والعثمانيين، عبرها أكثر من عشرة جيوش واستهلكوها؛ وتقلص عدد سكانها، واستشرت الفوضى في حكومتها. ورفضت طبقة(37/55)
من النبلاء كبيرة العدد حربية النزعة، لم تعد مجرية الجنس إلا في قسم منها، أن تدفع الضرائب الإمبراطورية، وكرهت الحكم النمساوي. ولم يكن يملك أرضاً في المجر سوى النبلاء والكنيسة، فقسماها ضياعاً شاسعة يفلحها الأقنان، وجنيا منها الدخول التي بنيا بها كبار الأديار والقلاع والقصور، ورعيا الموسيقى والفن. وكان بعض النبلاء يمتلك خمسين ألف فدان للواحد، وكانت أسرة استرهازي تملك سبعة ملاين فدان (2).
أما النمسا نفسها، اكبر المستفيدين في الإمبراطورية، فكانت تنعم بالرخاء. فبينما لم يزد سكان المجر على مليونين، بلغ سكان النمسا زهاء 6. 100. 000 في 1754 زادوا إلى 8. 500. 000 في 1800. وفيها هي أيضاً كانت الأرض ملكاً للنبلاء أو الأكليروس يفلحها الأقنان؛ وقد عمرت القنية في النمسا حتى 1848. وكان شأن الضياع فيها شأنها في إنجلترا يحتفظ بها ملوكها كاملة بحق البكورة، الذي يقضي بأن تورث الأرض كلها للابن البكر، أما الأبناء الأصغر منه فيعوضون بوظائف في الجيش، أو الكنيسة، أو الإدارة؛ وهكذا بلغت حاشية الإمبراطور شارل السادس أربعين ألفاً، ولم يكن في النمسا طبقة وسطى غنية تتحدى سلطان الأرستقراطية الطاغي أو تخفف من دمها الأزرق. وكانت الزيجات مسألة بروتوكول. وأبيحت الخليلات والعشاق بقانون غير مكتوب، على ألا يجاوز هذا نطاق الطبقة. وقد كتبت الليدي ماري مونتاجيو من فيينا في 1716، ربما بما يعهد في الرحالة من مبالغات، فقالت:
"من العادات الراسخة أن يكون لكل سيدة نبيلة زوجان، إحداهما حامل الإسم والآخر القائم بالواجبات، وهذه الارتباطات معروفة جداً حتى أن القوم يعدونها إهانة صريحة تشجب علناً أن تدعو امرأة من علية القوم إلى الغداء دون أن تدعو في الوقت ذاته تابعيها هذين ... العشيق والزوج اللذين تجلس هي بينهما رسمياً في وقار شديد ... والمرأة تتطلع إلى عشيق حالما تتزوج باعتباره جزءاً من حاشيتها (3).
وكانت الطبقة الأرستقراطية، في جميع أرجاء هذه الدولة التي كانت تتحول(37/56)
الآن إلى إمبراطورية نمساوية-مجرية تعمل ويدها في يد الكنيسة. ولعل النبلاء تقبلوا اللاهوت الكاثوليكي في شئ من التحفظ والارتياب، وكان العديد منهم ماسونا (4). ولكنهم سخوا شاكرين على دين أعان بمثل هذه السماحة أقفانهم وبناتهم المجردات من المهور على الرضى بنصيبهم في هذه الدنيا تعللاً بالآخرة. وكان تنوع العقائد كفيلا بتشويش هذه العملية لو أبيح لأنه مفض إلى الجدل والشك، أما التسامح الديني فهو ولا ريب من خطل السياسة. وقد جعل فيرميان رئيس أساقفة سالزبورج الحياة في رئاسة أسقفيته عسيرة على البروتستنت عسراً حمل ثلاثين ألفاً منهم على الهجرة، فنزح معظمهم إلى بروسيا (1722 - 23) (5) حيث شدوا من أزر عدو النمسا الصاعد. كذلك أسهمت هجرات أو حركات طرد مماثلة من بوهيميا في الاضمحلال الاقتصادي لتلك الدويلة التي كانت يوماً ما تعتز باستقلالها، وعملت على تقدم ألمانيا البروتستنتية.
وشارك الأغنياء والفقراء في تمويل عمارة العصر الكنيسة. ففي براغ أكمل كيليان اجناز دينتسنهوفر أعظم المعمارين التشيكيين، في عمارة ضخمة فخمة، كنيسة القديس نيقولا التي بدأها كريستوف دينتسنهوفر. وترك يوهان برنارد فيشر فون إرلاخ، أعظم المعماريين النمساويين، بصمته على سالزبورج، وباغ، وروما، وشيد هو وابنه يوزف إيمانويل رائعة من الباروك في كنيسة القديس شارل بفينا. وأبرزت الأديار الفخمة مجد الله ورفاهيات العزوية. فكان هناك مثلاً الدير البندكتي في ملك على الدانوب حيث نشر ياكوب برانتاوير ومساعدوه (6) مجمعاً يشتمل على مبان، وأبراج، وقبة، وفي داخله القصور الفخمة والأعمدة الرائعة، والزخرفة الفاخرة. وهناك دير القساوسة الأوغسطينيين القديم في دورنشتين الذي أعاد بناءه (7) بالباروكة الأنيق يوزف مونجناشت؛ ويلاحظ أن أهم مفاخره -البوابة الرئيسية والبرج الغربي- من إنتاج متياس شتايندل، وهو مثال اتجه إلى العمارة وهو في الثامنة والسبعين. وهناك كنيسة الدير البندكي وكتبته في آلتنبورج (وبانيهما هو مونجناشت أيضاً) وهما مشهورتان بالزخارف المترفة. وهناك دير الرهبان البندكتين في تسفيتل،(37/57)
وهو من آثار القرن الثاني عشر، وقد أقام فيه مونجناشت وشتايندل واجهة جديدة وبرجاً ومكتبة (9). أما الخورس الرائع فكان من صنع مايستريوهان في 1343 - 48؛ هنا أظهر الطراز القوطي القديم تفوقه على الباروك الجديد. ثم هناك دير ستامز في التيرول الذي أعاد بناءه (10) جيورج جومب، والذي تميزه المصبعات الحديدية والزخارف الجصية في بيت سلم "الأحبار"؛ وهنا كان يدفن أمراء الهايسبورج. وهناك كنيسة الدير في هوتسوجنبورج، وهي الرائعة التي أبدعها فرانتس بن يوزف مونجناشت، في حياته القصيرة (1724 - 48). وهناك كنيسة الدير في فيلليرنج، التي قيل فيها أنها "أبدع بناء بطراز الروكوك في النمسا" (11). ونلاحظ في مرورنا هنا الأرغن الرائعة في هذه الكنائس كالتي في هوتسوجنبورج وفيلليرنج، والمكتبات الجميلة؛ ومن نماذجها مكتبة الدير البندكتي في آدمونت، المحتوية على 94. 000 مجلد، 1. 100 مخطوطة في هيكل من الزخرف الباروكي. لقد كان رهبان النمسا في قمة مجدهم في عصر الإيمان المتداعي الذي نحن بصدده.
وقد جارهم النبلاء بنفس الخطو. ففي النمسا والمجر، كما في ألمانيا، كان كل أمير يتوق إلى ضريب لفرساي؛ ومع أنه عجز عن منافسة ذلك البهاء المفرط فإنه جمع من الأسلاب ما أتاح له بناء "قصر" palais ( كما كان يسميه) يعكس كل جانب ومظهر فيه سمو مكانته. فشاد أوجين أمير سافوي قصراً صيفياً على مستويين في ضيعته خارج فيينا "بلفدير واطئ" (وهو الآن متحف الباروك) و "بلفدير عالي" وضع تصميمهما الجميل يوهان لوكاس فون هلدبرانت. وصمم يوهان برنارد فيشر فون إرلاخ قصر الأمير الشتوي (وتشغله الآن وزارة المالية) كذلك وضع تصميمات لقصر شونبرون وحدائقه لينافس بهما فرساي، ولكن البناء الفعلي الذي بدأ في 1696 أغفل هذه التصميمات أو خفف منها أثناء تنفيذه. وصمم فيشرفون إرلاخ وابنه يوزف إيمانويل المكتبة الإمبراطورية-وهي المكتبة القومية الآن-التي يرى أخصائي في فن الباروك أن بها أبدع بناء داخلي لأي مكتبة في العالم (12). وفي 1726 فتح شارل السادس هذا الكنز للجمهور وفي 1737(37/58)
اشترى لها مجموعة المخطوطات والكتب الهائلة التي كان يمتلكها أوجين أمير سافوي. لقد كانت فيينا، إلى حد كبير، أجمل مدينة في دولة الجرمان.
وقد جمل اكثر العمارة النمساوية بالنحت. ونذكر هنا بجهل خجول تمثال "المسيح المصلوب" الخشبي الذي صنعه أندريه تاماش في دير شتامز، وتمثال الإمبراطور فرانسيس الأول الرخامي الذي تحته بلقازا مول والمعروض في متحف الباروك بفيينا؛ وفي وسعنا أن نستشعر على البعد تفاني يوزف شتامل في فنه، إذ أنفق معظم حياته في تجميل دير آدمونت بالتماثيل. ولكن كيف يغتفر لنا كل هذا الإبطاء في التنويه بجيورج رافائيل دونير مثالا لا يفوقه بين مثالي العصر غير برنتيتي؟ فقد ولد في اسلنجن بمنخفضات النمسا (1693) وتلقى فنه على يد جولياني؛ وبفضل هذه الوصاية الإيطالية اكتسب الميل الكلاسيكي الذي أتاح له تنقية ما في الباروك النمساوي من إسراف. على أن تمثاله الرخامي "تمجيد شارل السادس" (13) ما زال يعاني من غرابة الباروك وشططه-ففيه يرى الإمبراطور وقد رفعه إلى السماء ملاك له ساقان خميلتان وثديان متألقان؛ ومع ذلك فنحن شاكرون للفن أن أعاد للصاروفيم (الملاك) شيئاً ملموساً-وهو الذي خالته الفلسفة مجرداً من الجسد. ومن آيات دونير الجديرة بعصر النهضة تمثاله "القديس مارتن والشحاذ" في كاتدرائية برسبورج (براتيسلافا)، ولمنحوتته الرخامية البارزة "هاجر في البرية" (14) جمال كلاسيكي ناعم. وقد بلغ أوجه في التماثيل التي صبها من الرصاص لنافورتين كبيرتين في فيينا: نافورة "العناية الإلهية" في السوق الجديدة، التي تمثل أنهار النمسا، ونافورة أندروميدا التي تنافس نافورة روما. وقبل أن يموت في 1741 بعام بالضبط صب لكاتدرائية جورك مجموعة تمثل بكاء مريم على جسد المسيح؛ وهي مجموعة كانت خليقة بأن تشيع البهجة في صدر رافائيل لأن دونير اتخذ اسمه.
ولم ينتج المصورون ولا الشعراء في هذا العصر في النمسا أو ممتلكاتها أي آثار تثير اهتمام العالم الخارجي، وربما يستثنى من هذه القاعدة الصور الجصية التي صورها دانيل جران داخل قبة المكتبة الكبرى في فيينا. أما في الموسيقى فقد كانت فيينا المركز المعترف به للعالم الغربي. وكان شارل(37/59)
السادس يعشق الموسيقى عشقاً لا يعلو عليه سوى حبه لبناته وعرشه. وقد لحن هو نفسه أوبرا، وصاحب فارينيللي عازفاً على البيان القيثاري، وقاد البروفات. وجلب لفيينا خيرة المغنين، والعازفين، والممثلين، ورسامي المناظر المسرحية، دون أن يعبأ بالتكاليف. وفي إحدى المناسبات أنفق -فيما قدرت الليدي ماري- ثلاثين أف جنيه ليخرج أوبرا واحدة (15). وبلغ عدد المرتلين والعازفين في فرقة كنيسته 135. وأصبحت الموسيقى "إمبراطورية"، أو على الأقل أرستقراطية. وفي بعض الأوبرات كان جميع المشاركين-ساء العازفين المفردين، أو الكورس، أو الباليه، أو الأوركسترا-أفراداً من الطبقة الأرستقراطية. وفي إحدى هذه الحفلات كانت تقوم بالغناء في الدور الرئيسي الأرشيدوقة ماريا تريزا (16).
وقبل أعظم كتاب نصوص الأوبرا في ذلك العهد الدعوة إلى فيينا. فأقبل أبوستولو زينو من البندقية في 1718، وعمل شاعراً لبلاط شارل السادس، وفي 1730 اعتزل في لطف مخلياً مكانه لبيتروتراباسي، النابولي الذي كان قد تسمى من جديد، "ميتاستاسيو". وفي السنوات العشر التالية كتب ميتاستاسيو-بالإيطالية دائماً-مسرحيات شعرية بلغ من قدرتها على إثارة العواطف أن كبار ملحني أوربا الغربية أسعدهم أن يلحنوها. ولم يضارعه أحد في تكييف الشعر وفق مطالب الأوبرا - أي في ملاءمة موضع نصه، وحركته، ومشاعره، لمقتضيات المغنين المنفردين، والثنائيين، والمقاطع الملحونة، والكوارس، والباليهات، والمناظر المسرحية؛ ولكنه فرض لقاء ذلك على الملحنين التوافق الإيقاعي بين موسيقاهم ومسرحيته. وعظم نجاحه حتى خشي فولتير أن تطرد الأوبرا الدراما من المسرح، وقال "إن هذا الوحش الجميل يخنق مليومين (ربة التراجيديا) " (17).
وتربع شارل السادس على عرش كل هذه الموسيقى، والفن، والبلاط المتعدد اللغات، والإمبراطورية، بيد مبسوطة، وقلب رحيم، وحزن رجل الحرب. ذلك أن قواده لم يستطيعوا أن يتبعوا عصا قيادته، وحين طالبهم بأغاني الفرح لم يعطوه غير المآسي. لقد جرت ريح الحرب مع النمسا رخاء ما دام أوجين أمير سافوي محتفظاً بقوة ذهنه وسلطانه، وهو الذي(37/60)
شارك ملبره صد جيوش لويس الرابع عشر؛ فانتزعت بلغراد من العثمانيين، وسردانيا من سافوى، وميلان ونابلي والأراضي المنخفضة الإسبانية من أسبانيا. ورقي أوجين لا قائداً عاماً لجميع الجيوش النمساوية فحسب، بل وزيراً أول ومديراً للدبلوماسية. والواقع أنه بسط سلطانه على كل شئ إلا الأوبرا، ولكنه- وقد أذعن للناموس الذي يبلي أجساد البشر-أصاب الوهن عقله لا جسمه فحسب. وفي حرب الوراثة البولندية (1733 - 35) انزلقت النمسا إلى صراع مع فرنسا، وإسبانيا، وسافوي (التي كانت تعرف آنئذ بمملكة سردانيا الصغيرة) وخسرت اللورين، ونابلي، وصقلية (1735 - 38)، وأسفر تحالفها مع روسيا عن حرب أخرى مع تركيا؛ وضاعت منها البوسنة، والصرب، والأفلاق، وعادت بلغراد تركية من جديد (1739). ولم يؤت الإمبراطور من المواهب ما يعوض به المواهب التي افتقدها معاونوه. وإليك رأى فردريك الأكبر فيه:
"أخذ شارل السادس من الطبيعة الصفات التي تصنع المواطن الصالح، ولكنه لم يأخذ صفة من تلك التي تصنع الرجل العظيم. كان سمحاً دون تمييز، له روح محدودة دون بصيرة ثاقبة؛ وكان قادراً على الانكباب على العمل، ولكن دون عبقرية، يجهد نفسه دون أن ينجز الكثير، ويجيد معرفة القانون الألماني، وعدة لغات، وقد نبغ في اللاتينية على الأخص. وكان أباً صالحاً وزوجاً صالحاً، ولكن شابه ما شاب جميع أمراء البيت المالك النمساوي من تعصب وميل للخرافة" (18).
وكان عزاءه وفخره في كبرى بناته ماريا تريزا، التي وطد العزم على توريثها عرشه: ولكن أباه ليوبولد الأول كان قد أبرم (1703) "ميثاقاً متبادلاً للوراثة" تقرر فيه أن يحكم الوراثة مبدأ حق الابن البكر؛ فإذا لم يوجد وريث ذكر انتقل التاج إلى بنات ابنه جوزيف (المولود في 1678) ثم إلى بنات ابنه شارل (المولود في 1685). وترك موت جوزيف الأول في 1711 دون وريث ذكر (ولكن بابنتين على قيد الحياة) التاج لشارل. وفي 17143 بمقتضى "أمر عال" أصدره شارل لمجلسه الخاص، أعلن مشيئته بأن ينتقل عرشه وأملاكه الشخصية بعد وفاته إلى أكبر أبنائه الحي،(37/61)
فإذا لم يكن هناك ابن على قيد الحياة فإلى كبرى بناته. وقد ولد ابنه الوحيد ومات عام 1726. وبعد أن انتظر شارل عبثاً إنجاب آخر، ناشد الدولة الأوربية أن تتفادى نشوب حرب وراثة بقبولها وضمانها الجماعي لنظام الوراثة الذي وضعه. وفي الأعوام الثمانية التالية قبلت أمره العالي أسبانيا، وروسيا، وبروسيا، وإنجلترا، وهولندا، والدنمرك، وإسكندناوه وفرنسا.
ولكن مصاعب نشبت فصنعت كثيراً من التاريخ. ذلك أن سكسونيا وبافاريا كان على قيد عرشيهما أميران متزوجان من ابنتي جوزيف أخي شارل، فطالبا الآن بوراثة عرش الإمبراطورية عملا بميثاق ليوبولد الأول، أما فردريك وليم الأول ملك بروسيا فوافق على أساس تأييد شارل له في مطالبته بجزء من دوقيتي يولش وبيرج ويبدو أن شارل وافق على هذا الشرط ولكن سرعان ما بذل لمنافسي فردريك ليم وعوداً عكس هذا الوعد. وعليه انضم ملك بروسيا إلى أعداء الإمبراطور (19).
وفي 1736 تزوجت ماريا تريزا من فرانسس ستيفن، دوق اللورين، وغراندوق توسكانيا فيما بعد (1737)، وهي في الثامنة عشرة من عمرها. وفي 20 أكتوبر 1740 مات شارل السادس، مختتماً بموته فرع الذكور في بيت هابسبورج. واعتلت ماريا تريزا العرش بوصفها أرشيدوقة النمسا وملكة بوهيميا والمجر. وأصبح زوجها شريكاً لها في الحكم، وإذ لم يبد كبير اكتراث بشئون الدولة أو كفاءة تذكر للقيام عليها فقد وقع عبء الحكم كله على عاتق الملكة الشابة. وكانت في عام 1740 تملك كل مفاتن الأنوثة والملك؛ قسمات بديعة، وعيون زرق متألقة، وشعر أشقر غزير، ورقة في السلوك، وخفة في الحركة، ومتعة العافية، وحيوية الشباب (20). وكان ذكاؤها وخلقها يفوقان هذه المفاتن كلها قصراً عن التصدي للمشكلات التي أحدقت بها من كل جانب. وكانت الآن حاملاً في شهرها الرابع بالطفل الذي سوف يخلفها باسم جوزيف الثاني "المستبد المستنير". ونازعها حقها في العرش كل من شارل ألبرت ناخب بافاريا، وفردريك أوغسطس الثاني ناخب سكسونيا، وناصر حزب قوى في فيينا القضية البافارية، ولم يكن هناك تأكيد بأن المجر ستعترف بها ملكة عليها، ولم تتوج بهذا الوصف حتى 24(37/62)
يونيو 1741. أما خزانة الإمبراطورية فخاوية إلا من 100. 000 فلورين، زعمت الإمبراطورة أرملة شارل السادس أنها ملك لها. وكان الجيش مختل النظام، وقواده تعوزهم الكفاية. وكان مجلس الدولة مؤلفاً من أعضاء مسنين فقدوا القدرة على التنظيم أو القيادة. وانتشرت الشائعات بأن العثمانيين سيزحفون مرة أخرى على فيينا بعد قليل (21). وطالب فليب الخامس ملك أسبانيا بالمجر وبوهيميا، وملك سرداينا بلمبارديا ثمناً لاعترافهما بها (22). أما فردريك الثاني الذي أصبح ملكاً على بروسيا قبل تولي ماريا تريز العرش بخمسة شهور فقط، فقد بعث إليها يعرض الاعترافات بها والدفاع عناه ودعم انتخاب زوجها إمبراطوراً، شريطة أن تنزل له عن الشطر الأكبر من سيليزيا، فرفضت العرض، ذاكرة ما كان أبوها يرجوه من بقاء المملكة سليمة لا تجزأ ولا يمسها سؤ. وفي 23 ديسمبر 1740 غزا فردريك سيليزيا، ووجدت المملكة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً نفسها تخوض حرباً مع أقوى دولة في ألمانيا، ومع الرجل الذي قدر له أن يكون أعظم قائد في عصره.
2 - استهلال بروسي
1713 - 1740
أ- فردريك وليم الأول
كانت أسرة هوهنتسلرن قد نجحت في رفع إمارة برندنبورج الناخبة إلى مملكة بروسيا في 1701، وأصبح أميرها الناخب ملكاً باسم فردريك الأول. وقد أوصى بأن يرث ملكه بعد موته ابنه فردريك وليم الأول (حكم 1713 - 40). وكان الملك الجديد، عن طريق زوجته صوفيا دورتيا، صهراً لجورج الأول الذي ارتقى عرش إنجلترا في 1714. وكانت أملاك بروسيا تشمل بروسيا الشرقية، وبومرانيا السفلى، وإقليم الحدود المسمى برندنبورج (والمحيط برلين) وإقليم كليفز في غربي ألمانيا، وكونتية مارك، ومدينة رافنزبيرج في وستفاليا: وكلها أخلاط مفككة من البلاد تمتد امتداداً متقطعاً من الفستولا إلى الألب، ولا تربط بينها غير قوات الملك. وبلغ سكان "بروسيا" هذه في 1740 نحو 3. 300. 000 زادوا إلى 5. 800. 000 في نهاية القرن، أما بنيانها الاجتماعي فكان إقطاعياً(37/63)
في أساسه: فلاحون يدفعون الضرائب والفروض الإقطاعية، وطبقة وسطى ضعيفة، وطبقة نبلاء تطالب بإعفائها من الضرائب ثمناً لتزويد الملك بالعون الحزبي. وكانت رغبة فردريك وليم الأول في التحرر من الاعتماد على هؤلاء النبلاء بعض ما دعاه إلى تنظيم جيش دائم سيقرر التاريخ السياسي لأوربا الوسطى طوال نصف قرن.
كان فردريك وليم حاكماً شاذاً شذوذ ابنه الأشهر منه، الذي يرجع معظم الفضل في انتصاراته لجيش أبيه. ولم يوهب الوالد ولا الولد شخصية جذابة ساحرة، ولم يسترضي إحداهما العالم بجمال طلعته أو لطف ابتسامته، بل واجهه كلاهما بسحنة آمرة صارمة تسوس الجيوش: كان الأب قصيراً بديناً، له وجه متورد تحت قبعة مثلثة، وعينان تنفذان إلى صميم كل زيف وصوت يعلن عن إرادة صاحبه، وفكان على استعداد لطحن كل مقاومة. وإذ كان شهية طيبة دون أن يكون ذواق للطعام، فقد طرد طاهيه الفرنسي، واكل طعام الفلاحين؛ وكان يستهلك الكثير في وقت قصير دون احتفال يذكر لأنه كان في شغل عن هذا بعمله. ورأى نفسه سيد الدولة وخادمها، فعكف على تصريف شئون الحكم في أمانة وسخط، لأنه وجد فيها الكثير المعوج المنحرف، فأقسم أن يقومه بالقوة. واختصر إلى النصف عدد كبار الموظفين المغرورين الذين عطلت سلطاتهم المتضاربة عمل الحكومة، وباع ما ورثه من مجوهرات، وخيول، وأثاث فاخر، واختزل مظاهر بيت الملك إلى بساطة بيت المواطن من أهل المدن، وجمع الضرائب أينما أمكن تنميتها، وخلف لفردريك الثاني خزانة مملوءة إلى حد مغر.
وأراد من كل إنسان أن يكد ويكدح مثله، فأمر موظفي البلديات بأن يراقبوا أخلاق السكان، ويبشروا بالجد والاقتصاد، وأن يؤدبوا المتشردين بالأشغال الشاقة وبسط إشراف الدولة على التجارة والصناعة، ولكنهما وجدتا التشجيع في تحسن حال القنوات والطرق. وفي 1722 أصدر الملك اليقظ أمراً يقرر التعليم الإلزامي ففرض على كل أبرشية أن تمول مدرسة، فما وافت سنة 1750 حتى كانت بروسيا تتصدر أوربا كلها في التعليمين الابتدائي والثانوي (23). وألقيت البذرة لعصر كانت وجيته.(37/64)
وحين تبين فردريك ويم أن الأتقياء من الناس يعملون بأثبت مما يعمل الشكاك، أيد الحركة التقوية. وتسامح مع الكاثوليك على مضض وأخبر الكلفنيين بأن يكفوا عن التبشير بكآبة مذهبهم الجبري، وأمر اللوثرين بأن يستعملوا الألمانية بدل اللاتينية في طقوسهم، وأن يقلعوا عن ارتداء المدرعات "والبطرشيلات" وعن رفع القربان أمام المصلين، باعتبار هذه كلها من مخلفات البابوية. ولما أكره رئيس أساقفة سالزبورج خمسة عشر ألف بروتستنتي على الهجرة، رحب بهم فردريك وليم وأقرضهم المال رحلتهم التي قطعوا فيها خمسمائة ميل، وأجر لهم الأراضي (ولم تكن من خيرة أرضه) إلى أن تؤتى أرضهم غلاتها. واستقدم خمسة عشر ألف مهاجر آخرين من سويسرا والدويلات الألمانية. وهكذا ردت بروسيا إلى الحياة الاقتصادية بعد أن دمرتها حرب الثلاثين.
كانت الرغبة العارمة التي دفعت الملك إلى هذا النشاط هي تأمين الأمة في عالم لا يكف عن الحرب. فحين تقلد فردريك وليم السلطة كانت الحرب الشالية الكبرى ما تزال مستقرة، تشتبك فيها السويد، وروسيا وبولندا، والدنمرك، وسكسونيا، وبعد قليل إنجلترا، وكانت العبرة الواضحة من هذه الحرب أنه لا غنى عن جيش قوي للسلم، وسط عالم يسوده السطو المؤمم. وكان ملك بروسيا تواقاً إلى الحصول على ستتن ثغراً لتجارة برلين، فاشتراها بمبلغ 400. 000 طالر من الدول التي انتزعها من شارل الثاني عشر. ولكن شارل رفض عقب عودته من تركيا أن يعترف بهذا البيع لبضاعة مسروقة، فعرض فردريك وليم أن يردها للسويد نظير الـ 400. 000 طالر التي دفعها، ولم يكن شارل يملك المال، ولكنه أصر على استرداد ستتن، فأعلنت بروسيا الحرب عليه (1715) وانضمت إلى أعوانه في حصار شترالزوند. وفر شارل إلى السويد ونصف العالم ضده، وأدركه الموت هناك. وعاد فردريك وليم إلى برلين وستتن في جيبه، وبريق الانتصار في عينيه.
بعد هذا أصبح الجيش شغله الإداري الشاغل. ولم يكن بالرجل العسكري النزعة تماماً، ولا كان مقاتلا قط، ولم يخض حرباً بعد ذلك بتاتاً، ولكنه(37/65)
عقد العزم على ألا يخوض أحد حرباً ضده وهو في مأمن. فلقد كان هذا الرجل الذي بنى أشهر جيش في ذلك القرن "من أعظم الملوك حباً للسلام" (24) وهو القائل "أن مبدئي ألا أؤذي أحداً، على ألا أسمح بأن يستهين بي أحد" (25) ومن ثم راح يجمع الجند، ويطلب أطول من يجد منهم قامة في ولع شديد؛ وكان يكفي للظفر بمودته أن يرسل له إنسان رجلاً طوله ستة أقدام على الأقل وكان الملك يسخو في دافع ثمنهم ويبتهج قلبه لقوامهم الفارع. ولم يكن أكثر جنوناً بالجيوش من زملائه الملوك، إلا فيما يتصل بطول الجندي. فقد كان لفرنسا مثلاً في 1713 من الجند النظاميين 160. 000، ولروسيا 130. 000، وللنمسا 90. 000 (26). ولكي يرفع فردريك وليم عدة جيشه إلى 80. 000 في بلد لا يزيد سكانه على ثلاثة ملايين، جند الجند من الخارج وفرض التجنيد الإجباري في أرض الوطن، وقاوم الفلاحون وسكان المدن الإكراه على الخدمة العسكرية، فكانوا يؤخذون بالحيلة أو القوة؛ وحدث مرة أن اقتحم ضابط من فرق التجنيد كنيسة وساق أطول الرجال وأقواهم رغم توسلاتهم (27). (ولنذكر أننا نحن أيضاً نفرض التجنيد الإجباري) وكان الرجال إذا انخرطوا في سلك الجندية يجدون الرعاية الطيبة، ولكنهم أخضعوا لنظام قاس وتدريب شاق؛ وكان الجلد هو العقاب حتى لصغار الذنوب.
وطبق التجنيد الإجباري على النبلاء أيضاً، ففرض على كل نبيل سليم البدن أن يخدم في الجيش ضابطاً ما دام يطيق الخدمة العسكرية. وكان هؤلاء الضباط يدربون تدريباً خاصاً، ويخصهم الملك بالتكريم. فأصبحوا طبقة حاكمة يحتقرون التجار، والمعلمين، ورجال الدين، والطبقات الوسطى عامة، وينظرون إليهم نظرتهم إلى طبقات دنيا مستضعفة، وكثيراً ما كانوا يعاملونهم بوقاحة وتفاخر، أو بوحشية وضراوة. ولكنهم دربوا المشاة والمدفعية والفرسان في تشكيلات دقيقة وحركات طيبة لم يعرفها قط أي جيش حديث آخر في أغلب الظن. وشارك الملك ذاته في هذه المناورات العسكرية، وأشرف على تدريب جنوده في تدقيق وحب؛ فلما ولى فردريك الثاني العرش(37/66)
وجد تحت إمرته قوة الرجال مهيأة للخدع الحربية والغنائم، متجاهلة في لحظة كل دروس السلام التي تعلمها الأمير من الفلسفة.
ب- فرتز الصغير
كان "جاويش تدريب الأمة البروسية العظيم" (كما وصف كارليل فردريك وليم الأول) (28)، أباً لعشرة أطفال أكبرهم فلهلمينا. والمذكرات التي خلفتها عند وفاتها (1758) هي أكثر مصادرنا مباشرة ووثوقاً عن تاريخ أخيها الباكر. وربما أسهبت بتركيز انتقائي في ذكر قسوة مربيتها، وأنانية أمها الجافية، ووحشية أبيها، وأوامره الاستبدادية في أمر زواجها، ومعاملته الصارمة للفتى فرتز الذي أحبته مفخرة وعزاء لحياتها (29). قالت "لم يوجد حب نظير حبنا الواحد للآخر لقد أحببت أخي حباً جماً وحاولت على الدوام أن أدخل السرور على قلبه" (30).
وكان فردريك، المولود في 24 يناير 1712، يصغرها بثلاثة أعوام. ولم يرضى عنه أبوه ولا أمه. قد جهدا ليصنعا منه قائداً وملكاً، أما هو فأبدى كل إمارة على أنه سيصبح شاعراً وموسيقياً. وبين أيدينا التعليمات التي أعطاها فردريك وليم لمعلمي ولده. قال:
"اغرسوا في ولدي ما يجب من محبة الله وخشيته باعتبارهما الأساس والركن الركين لخيرنا الزمني والأبدي. فلا تذكروا على مسمعه أبداً أي أديان زائفة أو مذاهب إلحادية، أو أريوسية، أو سوسينية، أو ما شاكل ذلك من أسماء لهذه السموم التي تستطيع إفساد العقل الحدث بسهولة كبيرة (وقد أصبح فردريك كل هؤلاء). ومن ناحية أخرى يجب أن يعلم ما يجب من استنكار للبابوية وبصر بما تفتقر إليه من أساس وما فيها من سخف ...
وليتعلم الأمير الفرنسية والألمانية ... دون اللاتينية ... وعلموه الحساب، والرياضة، والمدفعية، والاقتصاد، بتعمق ... والتاريخ على الأخص ... وكلما شب زيدوه علماً بالتحصينات، وتشكيل المعسكر، وغير ذلك من علوم الحرب، ولكي يدرب الأمير منذ صباه على أن يعمل ضابطاً وقائداً ... اغرسوا في ولدي الحب الصادق لمهنة الجندي. وأقنعوه(37/67)
بأنه لما كان السيف هو الشيء الوحيد الذي يكسب الأمير الشهرة والشرف، فإنه سيكون محتقراً من جميع الناس إذا لم يحبه ويلتمس فيه فخره الوحيد" (31).
ولو أفسح للأب في أجله بما يكفي لتاه فخراً بولده جندياً وقائداً، ولكن كل شئ بدا وكأنه يسير في طريق خطأ خلال سنوات التلمذة تلك. فقد كان الغلام ذكياً، ولكنه لم يهتم قط بالهجاء. احتقر اللغة الألمانية وأحب لغة فرنسا وأدبها موسيقاها وفنها. وأحب أن ينظم الشعر الفرنسي، وواصل هويته تلك إلى آخر عمره. وكان الملك الشيخ يستشيط غيظاً إذا رأى ولده وبيده كتب فرنسية، ويزداد غضبه حين يجده يعزف على الفلوت. وجاء يوهان كوانتش، عازف الفلوت في بلاط سكسونيا، إلى برلين ليعلم الصبي خفية بناء على طلب أمه. وكان كوانتش إذا سمع الملك يدنو يختبئ في خزانة، ويقلب فردريك روبه الفرنسي إلى سترة حربية، ولكن الأب كان يثور لمرأى الكتب الفرنسية ملقاة هنا وهناك، فأمر الخدم أن يرسلوها إلى بائع كتب، فبيعها خير من حرقها. ولكن الخدم لم يفعلوا هذا ولا ذاك، بل خبأوا الكتب، وبعد قليل أعادوها للأمير.
وبذل الشيخ قصارى جهده الذي اختلطت فيه محبة الأب بغضبه ليجعل الصبي مقاتلا. فاصطحبه في رحلات صيده، وخشنه بحياة الخلاء، وعوده الخطر والركوب والوعر، وألزمه العيش على الطعام الزهيد، والنوم القليل، ووكل إليه أمور فوج في جيشه، وعلمه أن يدرب جنده، وأن يرقى بطارية مدفعية، وأن يطلق المدافع. وتعلم فردريك هذا كله، وأبدى قدراً كافياً من الشجاعة، ولكن الأب تبين بغضب متزايد أن الفتى، الذي بلغ الآن السادسة عشرة راح يكون صداقة حميمة مريبة مع ضابطين شابين هما الكابتن فون كاتي والملازم كابت. وكان كاتي واسع الاطلاع كثير الرحلات، ورغم ما تركه الجدري على وجهه من ندوب، فإن "تهذيب عقله وسلوكه" كما قالت فلهلمينا "جعله رفيقاً لطيفاً جداً ... وكان يفخر بأنه حر الفكر. وتأثير كاتي هو الذي دمر كل إيمان ديني في صدر أخي" (32).
ولم يستطيع فردريك وليم أن يستجيب لهذه التطورات المنحرفة في ابنه(37/68)
البكر إلا بالغضب والعنف. وكان ديدنه استعمال العصا مع خدمه، فهدد باستعمالها لتأديب ولده. وكانت فلهلمينا خلال ذلك تقاوم خططه لتزويجها لحليف سياسي قوي؛ وبدا أن الولد والبنت أرسلهما القدر ليخيبا كل أماله. "لقد بلغت ثورة أبي على أخي وعليّ مبلغاً جعله يقصينا عن حضرته فيما عدا ساعات الطعام. وحدث ذات مرة أن الملك قذف رأس أخي بطبقه، وكان يمكن أن يصيبه لولا أنه حاد عنه، وفي مرة أخرى قذف الطبق علي وقد نجوت منه أنا أيضاً لحسن حظي، ثم انهال على بوابل من السب والشتم ... وإذ مررت أنا وأخي على مقربة لتبرح الحجرة دفع نحونا عكازه ليضربنا. ولم يكن يرى أخي قط دون أن يهدده بعصاه. وكثيراً ما قال لي فرتز إنه قد يحتمل كل معاملة سيئة إلا أن يضرب، فإذا بلغ الأمر حد الضرب فإنه سيهرب (33).
وفي وسعنا أن نفهم بعض أسباب الغضب الذي استشعره الملك المسن. ذلك أنه كان قد تطلع إلى ترك ملكه هذا الذي أعاد تنظيمه لولد يواصل رعايته للجيش، ويقتصد في النفقات، ويبني الصناعات، ويصرف شئون الدولة بأمانة واجتهاد، ولم يكن ممكناً أن نتوقع منه التنبؤ بأن ابنه هذا سيفعل هذا كله وأكثر منه. فهو لم يجد في "فريدرش" غير فتى وقح مخنث، يجعد شعره كالفرنسيين بدلا من أن يقصه كالجنود البروسيين (34)، ويمقت الجنود والصيد، ويهزأ بالدين، وينظم الشعر الفرنسي، ويعزف على الفلوت. فأي مستقبل يمكن أن يكون لبروسيا إذا حكمها هذا الفتى الضعيف؟ وحتى التماساته للعفو بين الحين والحين يمكن أن يفسرها أبوه بأنها جبن منه. وذات مرة قال الملك لمن حوله بعد أن لكم أذني ولده إنه لو لقي هذه المعاملة من أبيه لضرب نفسه بالرصاص؛ ولكن فريدرش لا يملك الإحساس بالشرف وإنه على استعداد لاحتمال أي شئ (35).
وحاول الملك -إذا صدقنا الخبر الذي أنهاه فردريك إلى فلهلمينا- أن يقتله في بوتسدام في ربيع 1730. قال:
أرسل في طلبي ذات صباح. فما إن دخلت الحجرة حتى أمسك بناصيتي وطرحني أرضاً. وبعد أن ضربني بقبضته جرني إلى النافذة وربط حبل(37/69)
الستارة حول عنقي- وأتيح لي لحسن الحظ وقت للنهوض والإمساك بيديه، ولكنه جذب الحبل بكل قوته حول عنقي فشعرت بأنني أختنق وصحت مستغيثاً. وجرى تابع ليسعفني، واضطر إلى استعمال القوة لينقذني (36).
وأسر فريدرش- الذي بلغ الثامنة عشرة- إلى فلهلمينا أنه ينوي الهروب إلى إنجلترا مع كاتي وكايت. فتوسلت إليه ألا يفعل، ولكنه أصر وكتمت سره في خوف، ولكن الملك الذي أحاط ولده بالجواسيس علم بأمر المؤامرة، وقبض على ابنه وابنته، وعلى كاتي وكايت (أغسطس 1730). وأطلق سراح فلهليمنا بعد حين وفر كايت إلى إنجلترا، ولكن فريدريش وكاتي حوكما أمام مجلس عسكري وحكم عليهما بالإعدام (30 أكتوبر). وأعدم كاتي في فناء قلعة كوسترين (وهي الآن كوسترزين في بولندا) وأكره فريدرش بأمر أبيه على أن يشهد منظر الإعدام من نوافذ زنزانته (6 نوفمبر). وفكر الملك في قطع رأس ولده، وفي جعل من يليه من أبنائه ولياً للعهد، ولكنه خشي الأصداء الدولية لهذه الفعلة، فراض نفسه على الإبقاء على حياة فريدرش.
ومن نوفمبر 1730 إلى فبراير 1732 ظل الأمير يلزم كوسترن، في سجن محكم أول الأمر، ثم في حدود المدينة لا يبرحها، تحت رقابة مشددة طوال الوقت، ولكن "برلين كلها أرسلت إليه المؤونة لا بل أفخر الطعام والشراب" (37). في رواية فلهليمينا. وفي 15 أغسطس 1731، بعد عام من الفراق، جاء الملك ليرى ابنه، وقرعه ما شاء له التقريع، وقال له إن مؤامرة الهروب لو نجحت "لألقيت إلى الأبد في مكان لا ترى فيه الشمس أو القمر ثانية (38). جثا فريدرش على ركبتيه والتمس الصفح من أبيه، وانهار الشيخ، وبكى، وعانقه؛ وقبل فريدرش قدمي أبيه (39). فأطلق سراحه، وبعث به في جولة بالأقاليم البروسية ليدرس اقتصادها وإدارتها. لقد غيرت سنوات صراعه مع أبيه تلك من خلقه وقسته.
أما فلهلمينا التي أبهجها أن تترك سقف أبويها فقد قبلت يد هنري ولي عهد بايرويت. وبعد أن تزوجا في برلين (30 نوفمبر 1731) ذهبت إلى الجنوب لتصبح (1734) أميرة بايرويت، ولتجعل بلاطها يزخر بالثقافة.(37/70)
وفي فترة سلطانها هناك تحول المسكن الأميري، وهو قلعة إيريميتاج، إلى قصر ريفي (شاتو) من أجمل القصور الريفية في ألمانيا.
وكان على فريدرش هو أيضاً أن يتزوج، رضى أم كره. وقد ساءه هذا الإلزام، وهدد قائلا "لو أصر الملك على هذا فسأتزوج طاعة له، ثم أدفع بزوجتي إلى ركن من الأركان وأحيا كما أشتهي" (40). وعليه فقد قاد إلى مذبح الكنيسة (12 يونيو سنة 1733) إليزابث كرستينا "أميرة برنزويك- بيفرن الجليلة" وكان يومها في الحادية والعشرين وهي في الثامنة عشرة، "جميلة جداً" كما قالت أم فردريش لفلهلمينا ولكنها "بليدة كحزمة من القش-ولست أدرى كيف ينسجم أخوك مع هذه الإوزة" (41). ومع أن فردريك تعلم في سنوات لاحقة أن يقدرها تقديراً كبيراً، إلا أنه في هذه الفترة تركها أكثر الوقت وحيدة تلتمس لنفسها السلوى. وذهبا ليسكنا في راينزبرج، على أميال شمال برلين. هناك بنى الزوج الأعزب لنفسه حصناً يلوذ به، وأجرى التجارب في الفيزياء والكيمياء، وجمع العلماء، والأدباء، والموسيقيين، من حوله، وتبادل الرسائل مع فولف، وفونتنيل، وموبيرتيوي، وفولتير.
جـ - الأمير والفيلسوف
(1736 - 40)
ورسائله مع فولتير من أعظم وثائق ذلك العهد كشفاً وإنارة: فهي تعبير أدبي رائع لشخصيتين بارزتين يتضاءل فيه فن أكبرهما سناً أمام واقعية الفتى المتفتح. كان فولتير الآن في عامه الثاني والأربعين، وفردريك في الرابعة والعشرين. وكان فولتير زعيم الأدباء الفرنسيين غير منازع، ولكن كاد يدير رأسه أن يتسلم من ولي عهد سيرتقي العرش بعد حين الخطاب التالي الذي كتبه من برلين في أغسطس 1736 وأرسله مع رسول خاص إلى الشاعر في سيريه:
سيدي:
مع أنه لم يتح لي سرور التعرف إليك شخصياً فإن ذلك لا يقلل من معرفتي بك من خلال آثارك. فهي كنوز عقلية إذا جاز القول، وهي تكشف(37/71)
للقارئ عن مواطن للجمال عند كل قراءة جديدة لها ... ولو بعث الخلاف حول فضائل المحدثين والقدامى من جديد، لدان عظماء المحدثين لك، ولك وحدك، بالفضل في رجحان كفتهم ... فلم يحدث قط أن نظم شاعر مسائل الميتافيزيقا في إيقاع منغم، وقد حفظ لك أنت شرف السبق في هذا المضمار. "
وواضح أن فردريك لم يكن قد قرأ لوكرتيوس بعد، ربما لضآلة إلمامه باللاتينية، ولكنه قرأ فولف، وأرسل إلى فولتير:
"صورة من اتهام ودفاع السيد فولف، أشهر فلاسفة زماننا، الذي يتهم اتهاماً قاسياً بالمروق عن الدين والإلحاد لأنه حمل النور إلى أحلك أركان الميتافيزيقا ... وقد طلبت ترجمة لكتاب فولف" رسالة عن الله، والنفس، والعالم ... وسأوافيك بها".
هذا وإن ما تقدمه من عطف ومعونة لجميع من يكرسون أنفسهم للآداب والعلوم يجعلني آمل أن تسلكني فيمن تراهم جديرين بإرشاداتك .... "
والظاهر أن فردريك كان قد سمع بعض ما شاع عن قصيدة فولتير "لابوسيل": (عذراء اللورين).
سيدي؛ لست أشتهي شيئاً لاقتناء جميع كتاباتك .... وإذا كان بين مخطوطاتك ما تود ستره عن أعين الجماهير فإني أتعهد بالاحتفاظ به سراً مكتوباً ...
إن الطبيعة إذا شاءت كونت نفساً عظيمة ذات قدرات تدفع الآداب والعلوم قدماً، وواجب الأمراء أن يكافئوا الجهد النبيل الذي يبذله صاحب هذه النفس وليت "المجد" يستخدمني لأكلل نجاحك ....
وإذا أبى حظي أن يسعدني بالقدرة على الاستيلاء عليك، فعساني على الأقل أرى يوماً ما ذلك الرجل الذي طالما أعجبت به من بعيد، وأؤكد لك، بلساني، أنني مع كل التقدير والاعتبار الواجبين للذين يكرسون جهودهم للجماهير مهتدين في ذلك بمشعل الحق- يا سيدي صديقك المخلص،
فردريك ولي عهد بروسيا
وفي وسعنا أن نتصور شعور الاغتباط الذي قرأ به فولتير هذا الخطاب،(37/72)
وهو الذي لم يكبر قط على الغرور، فراح يرشف رحيقه أمام المركيزة الغيور. وبادر بعد تسلمه بالرد عليه في 26 أغسطس 1736:
مولاي:
لا بد أن يكون إنساناً مجرداً من كل عاطفة ذلك الذي لا يتأثر تأثراً بالغاً بالخطاب الذي شئتم سموكم الملكي تشريفي به. فمحبتي لذاتي تزهو به زهواً شديداً؛ ولكن محبتي للبشر، التي غذوتها دائماً في قلبي، والتي أجرؤ على القول بأنها أساس خلقي، منحتني سروراً أعظم نقاء وصفاء- لأنني أرى أن في الدنيا الآن أميراً يفكر كإنسان، أميراً فيلسوفاً، سوف يسعد الناس.
واسمح لي بأن أقول أنه ليس على وجه الأرض إنسان لا يدين لك بالشكر على العناية التي تبذلها لكي تهذب بالفلسفة السلمية نفساً ولدت لتأمر وتنهي. إذ لم يوجد بين الملوك صالح إلا أولئك الذين بدءوا بمحاولة تعليم أنفسهم، وبتبين خيار الناس من أشرارهم، وبحب ما هو حق، ويمقت الاضطهاد والخرافة. وإن أميراً يثابر على هذه الأفكار قد يعيد العصر الذهبي إلى بلده! ترى لم لا يسعى إلى هذا المجد إلا قلة قليلة من الأمراء؟ .... لأنهم يفكرون في ملكهم أكثر مما يفكرون في النوع الإنساني. أما حالك فنقيض هذا بالضبط؛ (وما لم يغير ضجيج العمل ولؤم البشر يوماً ما من هذا الخلق الإلهي) (1) فإن شعبك سيعبدك، والعالم كله سيحبك، والفلاسفة الجديرين بهذا الاسم سيؤمون دولتك، والمفكرين سيتزاحمون حول عرشك .... لقد تركت الملكة كرستينا الشهيرة ملكها طلباً للآداب والفنون، فاملك إذن يا مولاي، وستقبل الآداب والفنون ساعية إليك ...
ولست أجد من الشكر لسموكم المعاني ما يكفي على إهدائي ذلك الكتيب عن السيد فولف. وإنني أحترم الأفكار الميتافيزيقية، فهي أشعة من نور تتخلل الليل الدامس. وفي رأيي أننا يجب ألا ننتظر من الميتافيزيقيا أكثر من هذا. ولا يبدو أن من المحتمل الكشف إطلاقاً عن الأصول الأولى للأشياء. فالفئران التي فرض عليها البقاء في ثقوب صغيرة من بناء هائل لا تدري هل
_________
(1) العبارة المحصورة بين القوسين مضافة.(37/73)
البناء خالد أم غير خالد، أو من بناه، أو لم بناه. وما أشبهنا بهذه الفئران. والبناء الإلهي الذي بنى الكون لم ينبئ أحداً منا قط يسره المكنون فيما أعلم ..
سأصدع بأمرك وأبعث إليك بتلك الكتابات التي لم تنشر. وستكون أنت يا مولاي جمهور قرائي، وسيكون نقدك مكافأتي، فهذا ثمن لا يقدر على دفعه من الملوك والأمراء إلا الأقلون. وأنا واثق من كتمانك سرها ... وإني في حق أراها سعادة غالية أن آتى لأقدم احترامي لسموكم الملكي ... لولا أن الصداقة التي تبقيني في هذه الخلوة لا تسمح لي بمغادرتها، ولا شك أنكم توافقون جوليان، ذلك الرجل العظيم المفترى عليه كثيراً، على قوله "ينبغي أن بفضل الأصدقاء دائماً على الملوك".
وثق يا مولاي أنه أياً كان ركن الأرض الذي سأختتم فيه حياتي، فإن تمنياتي ستكون دائماً لك-أي لسعادة شعب بأكمله. وسيعد قلبي نفسه واحداً من رعاياك، وسيكون مجدك دائماً عزيزاً علي. وسأتمنى أن تكون دائماً كما أنت، وأن يكون الملوك الآخرون مثلك-وإنني مع عميق الاحترام خادم سموكم الملكي المتواضع جداً.
فولتير (43)
واتصلت الرسائل بين أعظم ملوك زمانه وأعظم أدبائه طوال اثنين وأربعين عاماً، مع انقطاعات أليمة تخللتها. وتكاد كل كلمة في هذه الرسائل تجزى قراءتها، لأنه لا يتاح لنا كثيراً امتياز الاستماع إلى رجلين كهذين يتحدثان هذا الحديث لحميم المدروس. نحن نصد أنفسنا بصعوبة عن إغراء نقل ما في هذه الرسائل من الأحكام المنيرة، ومن آيات الذكاء؛ ولكن بعض فقراتها تعيننا على تصور هذين العملاقين المتنافسين، رب السيف ورب القلم (1).
_________
(1) الاشارات التالية للترجمة الانجليزية للرسائل التي قام بها رتشرد أولدنجتن بعنوان: The Letters of Voltaire and Frederick The Great (New York 1927) رسائل ولتير وفردريك الأكبر (نيويورك؛ 1927) والتي نزكيها بقوة.(37/74)
فهما بادئ ذي بدء يتفقان في إعجاب الواحد منهما بصاحبه. ففردريك يعرب عن دهشته لأن فرنسا لم تتبين "الكنز المخبوء في قلبها"، ولأنها تترك فولتير "يعيش وحيداً في صحاري شامبين ... ومنذ الآن ستصبح سيريه (معبدي) دلفي، ورسائلك وحي المقدس" (44). "اترك وطنك الجاحد، وتعال إلى بلد يعبدك فيه أهله" (45). ويرد فولتير باقات الزهر بأجمل منها، فيقول "إنك تفكر كتراجان، وتكتب كبليني، وتستعمل الفرنسية كأحسن كتابنا ... ستكون برلين بفضل رعايتك أثينة ألمانيا، بل ربما أوربا" (46). وهما متفقان على الربوبية، يؤكدان الإيمان بالله ويعترفان بأنهما لا يعرفان عنه تعالى قط وهما يمقتان رجال الدين الذين يقيمون سلطانهم على ما يزعمون من قرب الله (47). ولكن فردريك مادي صريح "الشيء المؤكد هو أنني، مادة، وأنني أفكر" (48) وجبري خالص؛ أما فولتير فليس مستعداً بعد للتخلي عن الفكرة حرية الإرادة (49). وينصح فردريك "بالصمت العميق إزاء القصص الخرافية المسيحية، التي قدسها قدمها وغرارة الناس السخفاء والتافهين" (50) ولا يترك فولتير فرصة يلقن فيها تلميذه الأمير حب الإنسانية وكراهية الخرافة، والتعصب، والحرب أما فردريك فلا يأخذ الإنسانية مأخذ الجد الشديد: "إن الطبيعة تنجب بطبيعتها اللصوص، والحساد، والمزورين، والقتلة؛ فهم يغطون وجه البسيطة، ولولا القوانين التي تقمع الرذيلة لاستسلم كل فرد لغرائزه الفطرية ولما فكر إلا في نفسه" (51) ... والبشر بطبيعتهم ميالون إلى الشر، وهم ليسوا أخياراً إلا بقدر ما تهذب التربية والتجربة من عنفهم وطيشهم (52).
وقد تميزت السنوات الأخيرة في تلمذة فردريك بحدثين. ففي 1738 انضم إلى جماعة الماسون (53). وفي 1739، وهو في نشوة من تأثير فولتير فيما يبدو، ألف كتيباً سماه "الرد على كتاب الأمير لميكافللي" حاسب فيه الفيلسوف الإيطالي حساباً عسيراً على ما بدا في كتابه من تبرير لأي ذريعة يراها الحاكم ضرورية لصيانة دولته أو دعمها. وقال الأمير الجديد، لا، فالمبدأ الحق الوحيد للحكم هو ولاء الملك وعدله وشرفه. وقد أعرب الفيلسوف الأمير عن احتقاره للملوك الذين يؤثرون "مجد الفاتحين المهلك على المجد(37/75)
الذي يكسب بالعطف والرحمة. "، وتساءل ما الذي يغري إنساناً بأن يطلب عظمته الشخصية باشفاء غيره من الناس وتدميرهم" (54). ومضى فردريك يقول:
إن مكيافللي لم يفهم طبيعة الملك الحقة ... فهو ليس السيد المطلق المتصرف فيمن يدينون لحكمه، إنما هو أول خدامهم، وينبغي أن يكون الأداة لرفاهيتهم كما أنهم الأداة لمجده (55).
ثم أطرى فردريك الدستور الإنجليزية مقتدياً بفولتير على الأرجح:
يبدو لي أننا لو شئنا الإشادة بشكل من أشكال الحكم على أنه القدوة لجيلنا لكان هو الحكم الإنجليزي. فالبرلمان هناك هو القاضي الأعلى للشعب والملك على السواء، وللملك كامل القدرة على فعل الخير، ولا قدرة على فعل الشر (56).
ولسنا نجد في هذه الآراء أي علامة من علامات عدم الإخلاص، فهي تتكرر المرة بعد المرة في رسائل فردريك التي تنتمي لهذه الفترة. وقد بعث بمخطوطة كتابه إلى فولتير (يناير سنة 1740)، الذي طلب الإذن له بأن ينشرها. ووافق المؤلف الفخور على استحياء، وكتب فولتير مقدمة للكتاب، وأخذ المخطوطة إلى لاهالي، وأشرف على طبعها، وصحح تجاربها. وفي أواخر سبتمبر طلع الكتاب على الناس فجأة غفلا من اسم المؤلف بعنوان "المعارض لميكافللي". وسرعان ما كشف مؤلفه، وشارك القراء فولتير في الترحيب بمقدم ملك- فيلسوف.
أما فردريك وليم الأول فقد ظل إلى النهاية تقريباً على ما كان عليه طويلا، كأنه سنديانة كثيرة العقد، يوبخ، ويندد، ويشرع القانون بطريقته العجيبة. وبأنه يسالم العالم على مضض إلا حين أنبأه واعظ البلاط بدنو أجله، وبأنه يحب أن يغفر لأعدائه إن أراد أن يغفر الله له. وأرسل في لحظاته الأخيرة في طلب فردريك، وعانقه وبكى، فلعل هذا الفتى العنيد، رغم هذا كله، أن يحوي بين جنبيه مقومات ملك؟ وسأل القادة المحيطين بسريره "ألست محظوظاً لأن لي ولداً أستخلفه"؟ (57) ولعل(37/76)
الابن فهم الآن أكثر من ذي قبل إحساس أبيه الشيخ بأن الملك يجب أن يكون له بعض الحديد في دمه.
وفي 31 مايو 1740 أسلم فردريك وليم الأول روحه وعرشه وقد أبلاه النضال ولما يجاوز الحادية والخمسين، وآل الملك لمعارض مكيافللي.
3 - مكيافللي الجديد
كان فردريك الثاني في الثانية عشرة منى عمره حين ولى العرش. وكان لا يزال- كما رسمه أنطوان بين قبل ذلك بعام- الموسيقى والفيلسوف رغم دروعه البراقة: قسمات حلوة رقيقة، وعينان واسعتان تختلط فيهما الزرقة بالشهية، وجبين عال؛ "له أسلوب في السلوك طبيعي جذاب، وصوت خافت سار" (58). على حد قول السفير الفرنسي. وكان إلى ذلك الحق تلميذه فولتير، وقد كتب له بعد ستة أيام من تقلده الحكم:
لقد تبدل حظي، وشهدت اللحظات الأخيرة لملك، ومعاناته، وموته. لم يكن بي حاجة وأنا أرتقي العرش إلى ذلك الدرس لكي أشمئز من خيلاء العظمة البشرية ... وأرجو ألا ترى في إلا مواطناً غيوراً، وفيلسوفاً تغلب عليه نزعة الشك، وصديقاً صدوقاً. وإني أستحلفك بالله أن تكتب لي كتابتك لإنسان عادي، وأن تحتقر مثلي الألقاب والأسماء وكل مظاهر الزهو والغرور (59).
وعاد يكتب إلى فولتير بعد ثلاثة أسابيع:
"إن ضخامة العمل الذي ألقاه القدر على عاتقي لا يكاد يترك وقتاً لحزني الحقيقي. وإنني أشعر أنني بعد فقدي أبي مدين بجملتي لبلدي. وبهذا الهدف أعمل بكل طاقتي لاتخاذ أسرع التدابير وأصلحها للخير العام" (60).
وقد صدق. ففي غداة توليه العرش، حين حكم من برد الربيع بأن المحصول سيكون متأخراً وهزيلاً، أمر بأن تفتح مخازن الغلال العامة، وأن يباع القمح للفقراء بأسعار معقولة. وفي اليوم الثالث ألغى في جميع أرجاء بروسيا اللجوء إلى التعذيب في محاكمة المجرمين-قبل أن يصدر باكاريا(37/77)
رسالته الخطرة بأربعة وعشرين عاماً، وينبغي أن نضيف أن التعذيب في المحاكمات وإن إجازة القانون إلا أنه من الناحية العملية تقادم في عهد فردريك وليم الأول، وأن فردريك انتكس لحظة إلى استعماله في حالة واحدة عام 1752 (61). وفي 1757 وكل إلى صموئيل فون كوكيي، كبير القضاة البروسيين، أن يشرف على إصلاح القانون البروسي إصلاحاً شاملا.
وظهر تأثير الفلسفة في أعمال أخرى قام بها هذا الشهر الأول. ففي 22 يونيو أصدر فردريك أمراً بسيطاً جاء فيه "يجب التسامح مع جميع الأديان، وعلى الحكومة أن تتحقق من أن أحداً منها لا يجوز على غيره، لأن على كل إنسان في هذا الوطن أن يصل إلى السماء بطريقته الخاصة" (62). ولم يصدر أمراً رسمياً عن حركة المطبوعات، ولكنه أباحها عملياً، فقال لوزرائه "إن الطباعة حرة" واحتمل في صمت ملؤه الاحتقار مئات الانتقادات العنيفة التي نشرت ضده (63). ومرة أخرى هجوماً ساخراً معلقاً في أحد الشوارع، فأمر بأن ينقل إلى مكان يسهل فراءته فيه. وقال "لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعاً: يقولون ما يشتهون، وأفعل ما أشتهي" (64). ولكن هذه الحرية لم تكن كاملة قط؛ فكلما ارتقى فردريك الأكبر في مدارج العظمة حظر النقد العلني لتدابيره الحربية أو مراسيمه الضرائبية. وظل ملكاً مطلق السلطة وإن حاول أن يجعل تدابيره متسقة مع القوانين.
ولم يبذل أي محاولة لتغيير هيكل المجتمع أو الحكومة البروسيين. فظلت المجالس والهيئات كما كانت، إلا أن فردريك شدد الرقابة عليها وشارك بهمة أكبر في أعمالها؛ وقد أصبح عضواً في جهاره البيروقراطي. قال السفير الفرنسي "إنه يبدأ حكمه بطريقة مرضية جداً: فحيثما تلفت وجدت آثار بره برعيته وعطفه عليها" (65). ولكن هذا لم يمتد إلى التخفيف من وطأة القنية؛ فظل الفلاح البروسي أسوأ حالا من الفرنسي، واحتفظ النبلاء بامتيازاتهم.(37/78)
وتضافر تأثير فولتير مع تقليد ليبنتس في إحياء أكاديمية برلين للعلوم إحياء قوياً. فبعد أن أسسها فردريك الأول (1701) أهملها فردريك وليم الأول. أما فردريك الثاني فقد جعلها الآن أبرز الأكاديميات في أوربا. وقد سلف القول بأنه رد فولف من منفاه. وأراد فولف أن يرأس الأكاديمية ولكنه كان طاعناً في السن، ضعيف الساقين، فيه شئ من الخضوع للعقائد التقليدية. أما فردريك فأراد فردريك رئيساً لها من أصحاب "العقول القوية" (أحرار الفكر)، رجلا مواكباً لآخر تطورات العلم، لا يعوقه معوق من اللاهوت. عملاً باقتراح من فولتير (أسف عليه فيما بعد) دعا (يونيو 1740) بيير لوى مورو دمويير توي، الذي كان الآن في منتصف عمره، عائداً لتوه من بعثة شهيرة إلى لايلاند لقياس درجة من درجات العرض. وحضر موبيرتوي وأغدق عليه فردريك العون والتأييد، فبنى مختبراً عظيماً وأجرى تجارب أحياناً في حضرة الملك والحاشية. وقد ذهب جولدسمث، الذي لا بد قد خبر جمعية لندن الملكية، إلى أن أكاديمية علوم برلين "تفوق أي أكاديمية غيرها في الوجود" (66).
وأبهج هذا كله فولتير. فلما أتيحت لفردريك فرصة زيارة كليفز دعا الفيلسوف للقائه. وكان فولتير يومها في بروكسل، فانتزع نفسه من مركيزته الفكدة، وسافر 150 ميلاً إلى "شلوس مويلاند". هناك رأى أفلاطون الجديد ديونيسيوسه أول مرة، وأنفق ثلاثة أيام (11 - 14 سبتمبر 1740) في نشوة غامرة لم يفسدها غير وجود ألجاروتي دموبيرتوي. وفي خطاب للسيدة سيدفيل كتبه في 18 أكتوبر أبدى رأيه في فردريك فقال:
في ذلك المكان رأيت رجلاً من ألطف الرجال في الدنيا، هو زينة المجتمع، ولو لم يكن ملكاً لسعى إليه الناس في كل بلد، فيلسوف مبرأ من التزمت، كله حلاوة، وكياسة، وسلوك كريم؛ ينسى أنه ملك حين يلقى أصدقاءه. لقد احتجت إلى جهد من ذاكرتي لأتذكر أن الجالس عند أسفل سريري ملك له جيش عدته 100. 000 مقاتل (67).
ولم يكن فردريك أقل إغتياظاً. فقد كتب إلى مساعده جوردان في 24 سبتمبر يقول:(37/79)
رأيت فولتير الذي كن تواقاً إلى معرفته، ولكني رأيته وحمى الربع تهدني، وعقلي وجسدي متوتر الأعصاب ... إن له فصاحة سيشرون، ولطف بيلي، وحكمة أجريبا، فهو باختصار يجمع خير ما يجني من الفضائل والمواهب من ثلاثة من أعظم القدماء. وعقله لايني عن التفكير، وكل قطرة مداد هي رحيق ذكاء يقطر من قلمه ... إن لاشاتليه محظوظة بعيشة معها، فإن في وسع إنسان لم يؤت من المواهب غير ذاكرة قوية أن يؤلف كتاباً رائعاً من الأقوال الحكيمة التي ينثرها كيفما اتفق" (68).
فلما رجع فردريك إلى برلين لاحظ أن لديه جيشاً عدته 100. 000 مقاتل، وفي 20 أكتوبر مات شارل السادس وارتقت عرش إمبراطورية النمسا والمجر شابة لها جيش من الدرجة الثانية. في ذلك اليوم ذاته أرسل فرديك إلى فولتير خطاباً نذيراً بالشر، جاء فيه "أن موت الإمبراطور يغير كل أفكاري السليمة، وأظن أن الأمور ستنحو في شهر يونيو نحو المدافع والبارود، والجنود والخناق، بدلاً من الممثلات والمراقص والمسارح؛ بحيث أراني مضطراً إلى إلغاء الاتفاق الذي كنا على وشك إبرامه (69).
وأحس فولتير في قلبه وجعاً. أترى تلميذه هذا تاجر حرب كأي ملك آخر؟ وانتهز دعوة فردريك إياه لزيارته في برلين فقرر أن يرى ما هو مستطيع صنعه في سبيل السلام وقد يستطيع في الوقت ذاته أن يصلح ما فسد بينه وبين فرساي لأن الكردينال فلوري، الذي ظل قابضاً على دفة الحكم في فرنسا كان هو أيضاً ينشد السلام. وعليه ففي 2 نوفمبر كتب إلى الكردينال يعرض خدماته عميلا سرياً لفرنسا، في محاولة لرد فردريك إلى حظيرة الفلسفة. وقبل العنيفة على الدين "لقد كنت حدثاً، وربما طالت حداثتك بعض الشيء" (70). وفي خطاب آخر بنفس التاريخ (14 نوفمبر) كتب الكردينال اللطيف ينبئ بتسليمه كتاب "المعارض لميكافيلي من مدام دشاتليه وأطراه وهو يحدس بحكمة هوية مؤلفة:
أياً كان مؤلف هذا الكتاب، فهو جدير بأن يكون أميراً إن لم يكنه. والقليل الذي قرأته منه يفيض حكمة ومعقولية وفيه تعبير عن مبادئ جديرة(37/80)
بالإعجاب الشديد، مما يؤهل مؤلفه لقيادة غيره من الناس، شريطة أن يؤتى من الشجاعة ما يجعله يطبق مبادئه. فإذا كان قد ولد أميراً فقد دخل في ميثاق جليل جداً مع الشعب؛ وما كان الإمبراطور أنطونيوس مكتسباً المجد الخالد الذي يحفظ به جيلا بعد جيل لو لم يعدم بعدالة حكمه تلك الفضيلة السامية التي بسطها لجميع الملوك في مثل هذه الدروس المنيرة ... وسوف أتأثر تأثراً لا حد له إذا استطاع صاحب الجلالة البروسي أن يجد في مسلكي بعض التطابق مع مبادئه، ولكني أؤكد لك على الأقل أنني أعتبر مخططه مخططاً لأكمل وأمجد حكومة (71).
وبعد أن رتب فولتير أداء فردريك لجميع نفقات رحلته عبر ألمانيا لأول مرة، وأنفق زهاء أسبوعين مع الملك في رايننزبرج وبوتسدام وبرلين (20 نوفمبر إلى ديسمبر) وارتكب خطأ بإطلاعه فردريك على خطاب الكردينال عن كتابه "المعارض لميكافللي" وتبين فردريك فوراً أن فولتير يلعب دور الدبلوماسي، ففسر مديح فلوري الجميل على أنه دعوة للتعاون مع فرنسا، وضايقه أن يرى نفسه معوقاً بمقال كتبه في الفلسفة. وتبادل الشعر والأجوبة البارعة مع فولتير، ورفه عنه بعزفه على الفلوت، وصرفه دون شئ محدد أكثر من شكره على الكينين الذي لطف به الشاعر برداء الملك، وفي 28 نوفمبر كتب فردريك إلى جوردان وهو يعنى فولتير دون أن يذكر اسمه صراحة". إن صاحبك البخيل سيعب ما شاء ليروى ظمأه الذي لا يطفأ للغنى، فسيقبض ثلاثة آلاف طالر، وهو ثمن غال يدفع لمهرج؛ فما من مهرج بلاط نقد مثل هذا الأجر من قبل" (72). ويبدو أن هذا المبلغ شمل نفقات رحلة فولتير-التي تطوع فردريك على الأرجح بدفعها-وتكاليف نشر كتابه "المعارض لميكافيللي" التي كان فولتير قد قدمها من جيبه الخاص. وهكذا إذا دخل المال من الباب خرج الحب من الشباك، كما يقولون، إن فردريك لم يستطيب دفع نفقات عميل فرنسي ولا تكاليف كتاب كان يسره أن يرشو العالم ليناله.
وغلب تأثير فردريك وليم الآن تعاليم الفيلسوف. وكلما حلت فرص(37/81)
السلطة وتبعات الحكم محل موسيقى صباه وشعره وهو بعد أمير، ازداد فردريك بروداً وقسوة، لا بل إن المعاملة السيئة التي كان أبوه يصبها عليه أغلظت جلده ومزاجه. وكان في كل يوم يرى أولئك العمالقة الـ 100. 000 الذين خلفهم له أبوه، وفي كل يوم كان عليه أن يطعمهم. فأي معنى لتركهم يصدأون ويبلون في السلم؟ أما من ظلم يستطيع هؤلاء العمالقة رفعه؛ أجل، هناك سيليزيا، التي تفصلها بوهيميا عن النمسا، والأقرب إلى برلين منها إلى فيينا؛ وكان نهر الأدور العظيم يجرى هابطاً من بروسيا إلى برزلا وعاصمة سليزيا التي لا تبعد عن برلين غير 183 ميلا إلى الجنوب الشرقي. فماذا يفعل النمساويون هناك؟ إن لبيت برندبنورج مطالب في سليزيا -في الإمارات السابقة- وهي بيجرندورف، وراتيبور، وأوبيلن، وليجنتس، ويرييج، وفولار؛ هذه كلها أخذتها النمسا أو تم التنازل لها عنها بمقتضى ترتيبات لم تكن قط مرضية لبروسيا. إذن فالآن، والوراثة النمساوية محل نزاع، وماريا تريزا صغيرة ضعيفة، وعلى العرش الروسي قيصر طفل هو إيقاع السادس-الآن هو الوقت الملائم للإلحاح على تلك المطالب القديمة، ولتصحيح تلك الأخطاء القديمة-ولإعطاء بروسيا وحدة وأساساً جغرافياً أعظم من ذي قبل.
وفي أول نوفمبر قال ليوديفيلز أحد مستشاريه: "حل لي هذه المسألة: إذا أتيحت لإنسان ميزة فهل ينتفع بها أو لا ينتفع؟ إنني مستعد بجيشي وبكل شئ آخر. فإذا لم أستعمله الآن كنت أملك في يدي أداة عديمة الجدوى رغم قوتها. وإذا استعملت جيشي قيل إنني أوتيت مهارة استغلال التفوق المتاح لي على جارتي". ورأى بوديفيلز أن هذا العمل سيعتبر عملاً غير أخلاقي. فرد فردريك: ومتى كانت الفضيلة معوقاً للملوك؟ (73) وهل في وسعه أن يمارس الوصايا العشر في عرين الذئاب ذاك الذي يسمى الدول العظمى؟ ولكن ألم يتعهد فردريك وليم بتأييد "الأمر العالي" الذي ضمن لماريا تريزا تلك الممتلكات التي خلفها لها أبوها؟ إن هذا التعهد على أية حال كان مشروطاً بتأييد الإمبراطور لمطالب بروسيا في يوليش وبيرج، وهذا التأييد لم يأت، بل على العكس بذل لمنافسي بروسياز فالآن يمكن الثأر لهذه الإهانة المؤلمة.(37/82)
وعليه ففي ديسمبر أرسل فردريك مبعوثاً إلى ماريا تريزا يعرض عليها حمايته إذا أقرت مطالبه في شطر من سيليزيا. وإذ توقع رفضها لهذا الغرض، فإنه أمر شطراً من جيشه يبلغ ثلاثين ألف مقاتل بالزحف. فعبر الحدود إلى سيليزيا في 23 ديسمبر قبل وصول مبعوث فردريك إلى فيينا بيومين. وهكذا بدأت الحرب السيليزية الأولى (1740 - 42)، وهي أولى مراحل حرب الوراثة النمساوية.
4 - حرب الوراثة النمساوية
1740 - 1748
لن نتتبع فردريك في كل تحركاته العسكرية، لأن هذا الكتاب تاريخ للحضارة. ولكن يهمنا طبيعة الإنسان وسياسة الدول كما تكشف عنهما أقوال فردريك وأفعاله، والسياسات المتقلبة للدول. ولعل حقائق سياسة القوة لم تقر في أي حرب مدونة بأوضح مما تعرت في هذه الحرب.
اخترق الجيش البروسي سيليزيا دون أن يلقى مقاومة تذكر. فأما النصف البروتستنتي من السكان، وهم الذين عانوا بعض الاضطهاد في ظل الحكم النمساوي، فقد رحبوا بفردريك محرراً لهم؛ (74) وأما الكاثوليك فقد تعهد لهم-وأوفى بعهده-بكامل الحرية في ممارسة دينهم. وفي 3 يناير 1741 استولى على برزلاو في هدوء. وهو يؤكد لنا أنه "لم ينهب بيت، ولم يهن مواطن، وقد أشرق النظام البروسي بكل بهائه" (75)؛ وكان هذا أرق وأرفق استيلاء على مدينة. وأمرت ماريا تريزا المرشال نايبيرج بأن يجمع جيشاً في مورافيا ويعبر إلى سيليزيا؛ وفي 10 أبريل اشتبك هذا الجيش بقوة فردريك السيليزية الرئيسية في مولفتش، على عشرين ميلا جنوبي برزلاو. وكانت عدة جيش نايبيرج 8. 600 فارس، و 11. 400 راجل، و 18 مدفعاً، وعدة فردريك 4. 000 فارس و 16. 000 راجل، وستين مدفعاً، وقد قررت هذه الفروق مراحل المعركة ونتائجها. فغلب الفرسان النمساويون الفرسان البروسيين الذين لاذوا بالفرار. وأقنع المرشال شفرين فردريك بأن يفر مع الفارين مخافة أن يؤسر ولا يفرج عنه إلا بفدية مدمرة. ولكن بعد أن ذهب الملك وفرسانه، صمد المشاة البروسيون لجميع الهجمات(37/83)
سواء من الفرسان أو المشاة، أما المدفعية البروسية فقد أعادت تعبئة مدافعها بمدكات حديدية وألحقت من الأذى البالغ بالنمساويين ما حمل نايبيرج على إصدار أمره بالتقهقر. فلما استدعى فردريك ثانية إلى ساحة القتال أبهجه وأخجله أن يجد أن جيشه كسب المعركة. وأحس أنه أذنب لا بالجبن فحسب بل بالاستراتيجية الناقصة؛ فلقد بعثر رجاله الثلاثين ألفاً في سيليزيا قبل أن يدعم غزوه، ولم ينقذ الموقف غير شجاعة مشاته وحسن تدريبهم. وجاء في مذكراته أنه "فكر كثيراً في الأخطاء التي ارتكبها، وحاول إصلاحها فيما تلا ذلك" (76). ولم يكن في بسالته قصور مرة أخرى بعد هذا، وندر أن أخطأ في التكتيك أو الاستراتيجية.
ونمى نبأ هزيمة الجيش النمساوي إلى ماريا تريزا وهي تستجم عقب ولادة طفلها. وبدا أن أملها الوحيد- في حالة الضعف الذي أصاب قوتها وماليتها- معقود على معونة من الخارج. فلجأت إلى الدول الكثيرة التي تعهدت من قبل بتأييدها للأمر العالي الخاص بحكمها. واستجابت إنجلترا بحذر؛ فهي في حاجة إلى نمسا قوية تثبت لفرنسا. ولكن جورج الثاني خاف على إمارته الهانوفرية إن خاض الحرب ضد جارته بروسيا. وأقر البرلمان البريطاني إعانة قدرها 300. 000 جنيه لماريا تريزا، ولكن المبعوثين البريطانيين حثوها على أن تتنزل عن سيليريا السفلى (الشمالية) لفردريك ثمناً للسلام. وكان فردريك راضياً بهذا الحل، ولكن الملكة رفضته. أما بولندا، وسافوي، والجمهورية الهولندية، فقد وعدت كلها بالمعونة، ولكنها أبطأت في إرسالها إبطاء أفقدها أثرها في النتيجة.
وكل ائتلاف يلد نقيضاً له. فما إن رأت فرنسا ذلك التقارب بين عدويها القديمين إنجلترا والنمسا حتى بادرت بالتحالف مع بافاريا، وبرويسا، وأسبانيا البوربورنية. وقد رأينا أن فرنسا كان لديها مكيافللها، وهو بيل - إيل، الذي اقترح هذه الآية من آيات اللصوصية السياسية. فعلى فرنسا التي تعهدت بتأييد الأمر العالي أن تسرع بالإفادة من مصيبة ماريا تريزا، وذلك بتأييد شارل ألبرت البافاري في مطالبته بالعرش الإمبراطوري عن طريق زوجته. وعلى فرنسا أن تقدم له المال والجند للمشاركة في الهجوم على النمسا،(37/84)
فإذا أفلحت الخطة قصر حكم ماريا تريزا على المجر، والنمسا السفلى، والأراضي المنخفضة النمساوية، وأصبح شارل إمبراطوراً يحكم بافاريا، والنمسا العليا، والتيرول، وبوهيميا، وجزءاً من سوابيا؛ أما الابن الثاني لملك إسبانيا فيأخذ ميلان، عارض فلوري الخطة، وتغلب بيل-ايل، وأرسل ليظفر بتأييد فردريك للمؤامرة. ووقعت فرنسا وبافاريا على تحالفهما في نمنبورج في 18 مايو 1741. وأحجم فردريك عن الانضمام فلم يكن في وسعه أن يسمح لفرنسا بأن تقوى شوكتها إلى هذا الحد، ولم يفقد الأمل في الوصول إلى تفاهم مع ماريا تريزا، ولكن لما لم تعرض عليه سوى تنازلات تافهة، فقد وقع ببرزلاو في 5 يونيو حلفاً مع فرنسا، وبافاريا، وأسبانيا؛ وأراد أن يشارك في الغنيمة بنصيب إن قسمت المملكات النمساوية. وتعهد كل طرف من الأطراف الموقعة على الحلف بألا تعقد حكومته صلحاً منفرداً سرياً. وضمنت فرنسا استيلاء فردريك على برزلاو وسيليزيا السفلى، ووعدت بأن تحث السويد على تعليق روسيا في حرب تشغلها، ووافقت على إرسال جيش فرنسي لمنع قوات إنجلتاه الهانوفرية من المشاركة في اللعبة.
أما وقد تركت ماريا تريزا بغير حليف تقريباً، فإنها صممت على الاستنجاد بنبلاء المجر العسكريين. وكان هؤلاء النبلاء، أو أسلافهم، قد عانوا الأمرين من حكم النمسا؛ فقد حرمهم ليوبولد الأول دستورهم القديم وحقوقهم الموروثة، فلم يكن لديهم إذن كبير مبرر لإغاثة حفيدته. ولكن حين ظهرت أمامهم في مجلسهم النيابي (الديت) في برسبورج (11 سبتمبر 1741) أثر فيهم جمالها ودموعها. وخطبت فيهم باللاتينية، واعترفت بأن حلفاءها تخلوا عنها، وأعلنت أن شرفها وعرشها يعتمدان الآن على بسالة وشهامة الفرسان المجريين والأسلحة المجرية وما يروي من أن النبلاء هتفوا باللاتينية "لنمت فداء مليكنا" (فهكذا سموا الملكة) إنما هو قصة جميلة هبطت الآن إلى مرتبة الأسطورة (78). فقد ساوموا كثيراً، واستلوا منها العديد من التنازلات السياسية؛ ولكن حين جاءهم زوجها فرانسيس ستيفن في 21 سبتمبر ومعه مرضع ترفع لهم بين يديها الطفل جوزيف ذا الشهور الستة، استجابوا للنداء بشهامة، وهتف كثيرون منهم(37/85)
بأن حياتهم ودماءهم فداء للملكة (76) وأقر المجلس التجنيد العفوي العام. ودعوة جميع الرجال للسلاح، وبعد تعطيل طويل ركبت قوة مجرية صوب الغرب للدفاع عن الملكة.
ولو أن شارل ألبرت واصل زحفه على فيينا لكان الوقت قد فات لتخليص هذه العاصمة. ولكن الذي حدث أثناء ذلك (19 سبتمبر) أن سكسونيا انضمت إلى الحلف المعادي للنمسا؛ فخشى شارل ألبرت أن يستولي أوغسطس الثالث على بوهيميا. ونصح فلوري الأمير البافاري بأن يستولي على بوهيميا قبل أن يستطيع السكسوني الوصول إليها. وحث فردريك شارل على مواصلة الزحف على فيينا. أما شارل الذي كانت فرنسا تموله فقد أطاع فرنسا. وخشي فرديك أن تصبح فرنسا بعد غلبة نفوذها في بافاريا وبوهيميا قوة خطرة على أمن بروسيا، فوقع هدنة سرية مع النمسا (9 أكتوبر 1741) وزلت له ماريا تريزا مؤقتاً عن سيليزيا السفلى لحرصها على إنقاذ بوهيميا.
وأحدقت ثلاثة جيوش الآن ببراغ: أحدها بقيادة ألبرت، والثاني جيش فرنسي بقيادة بيل-ايل، ثم عشرون ألف سكسوني. وسقطت العاصمة البوهيمية ذات الحامية الضعيفة بعد الهجمة الأولى (25 نوفمبر) ولكن النصر كان كارثة على شارل. ذلك أنه وقد استغرقته الحملة على بوهيميا ترك إمارته البافارية دون أن يدعمها بأسباب دفاع تذكر، ولم يدر بخلده قط أن تستطيع ماريا تريزا الهجوم عليها وهي مهددة بأخطار من هذه الجوانب الكثيرة، ولكن الملكة أبدت من مرونة الحركة وسهولة التكيف ما أوقع الفزع في قلوب أعدائها. فقد استدعت عشرة آلاف جندي نمساوي من إيطاليا، وأخذت الفرق المجرية تصل إلى فيينا، فأمرت على هذين الجيشين الكونت لودفج فون كيفنهولر، الذي تعلم فنون الحرب على يد أوجين أمير سافوي. أما وقد توفرت للجيشين القيادة القادرة، فقد فتحا بافاريا واجتاحاها دون مقاومة تذكر؛ وفي 12 فبراير 1742 استولى على ميونخ عاصمتها. وفي هذا اليوم نفسه في فرانكفورت-أم-مين،(37/86)
توج شارل ألبرت إمبراطوراً على الإمبراطورية الرومانية المقدسة باسم شارل السابع.
أما فردريك، الذي كان يتحول مع كل ريح من رياح القوة، فقد دخل الحرب من جديد خلال ذلك. لقد جعل الهدنة مشروطة بكتمان أمرها، ولكن ماريا تريزا كشفت أمرها لفرنسا، ووصلت إلى آذان فردريك هذه الهمسات الدبلوماسية، فبادر بالانضمام إلى حلفائه من جديد (ديسمبر 1741). واتفق معهم على خطة يقود بمقتضاها جيشاً يخترق مورافيا إلى النمسا السفلى، وهناك تلتقي به القوات السكسونية والفرنسية البافارية، ويزحف الجميع معاً إلى فيينا. ولكنه كان يقود الآن عملياته وسط سكان معادين له عداء نشيطاً، وكان الفرسان المجريون يغيرون على خطوط مواصلاته مع سيليزيا. فارتد ثانية ودخل بوهيميا. هناك، على مقربة من شوتوستز، هجم على مؤخرته جيش نمساوي بقيادة الأمير اللوريني شارل الكسندر (17 مايو 1742). وكان هذا الأمير، زوج أخت ماريا تريزا، شاباً في الثلاثين وواحداً من ألمع وأشجع أمراء أسرته، ولكنه لم يكن قريعاً لفردريك في تكتيكات المعركة. وكان لكل منهما جيش عدته نحو ثمانية وعشرين ألف مقاتل. وعادت طلائع فردريك إلى ساحة القتال في الوقت المناسب تماماً، فوجه قوتها الكاملة ضد جناح مكشوف للنمساويين، فتراجعوا في تقهقر منتظم. ولحقت بالجيش خسائر فادحة، ولكن النتيجة أقنعت ماريا تريزا بأنه ليس في استطاعتها أن تقاتل كل أعدائها في وقت واحد. فقبلت نصيحة المبعوثين الإنجليز الذين أشاروا عليها بإبرام صلح واضح محدد مع فردريك، وفي هذه المرة، وبمقتضى معاهدة برلين (28 يونيو 1742) نزلت له عن سليزيا كلها تقريباً. وهكذا وضعت الحرب السليزية الأولى أوزارها.
أما الجيشان النمساويان اللذان يقودهما كيفنهولر والأمير شارل الكسندر فقد زحفا الآن داخل بوهيميا. وواجهت الحامية الفرنسية في براغ التطويق والتجويع. ورغبة في تحاشي "قياس الخلف" هذا لأحلام بيل-إيل، أمرت فرنسا المرشال مايبوا بأن يقود إلى بوهيميا ذلك الجيش الذي كان يشاغل(37/87)
قوات جورج الثاني في هانوفر. وإذ تحررت إنجلترا على هذا النحو، فإنها دخلت الحرب بنشاط، وأقرضت ماريا تريزا 500,000 جنيه، وأرسلت ستة عشر ألف جندي إلى فلاندر النمساوية؛ ودفعت الأقاليم المتحدة 840. 000 فلورين مساهمة منها في نفقات الحرب. وأحالت الملكة المال جيوشاً. وسد أحد هذه الجيوش مايبوا في زحفه على بوهيميا. وتجمعت القوات النمساوية، التي ازداد عددها، غير مرة حول براغ. وفر بيل-إيل ومعظم جنوده إلى يجير بعد أن كلفهم هذا ثمناً عالياً. وأقبلت ماريا تريزا من فيينا إلى براغ، وهناك توجت أخيراً (12 مايو 1743) ملكة على بوهيميا.
وبدت الآن منتصرة في كل مكان. وفي شهر مايو هذا وافقت الأقاليم المتحدة على أن تعينها بعشرين ألف مقاتل. وبعد شهر هزم حلفاؤها الإنجليز أعداءها الفرنسيين في ديتنجن. وكان لسيطرة البحرية الإنجليزية على البحر المتوسط أثر في دعم قضيتها في إيطاليا، ففي 13 سبتمبر انضم ملك سردانيا شارل إيمانويل الأول إلى حلف من النمسا وإنجلترا، ونال شريحة من لمباردية من النمسا وتعهداً من إنجلترا بأن تدفع له 200. 000 جنيه كل عام نظير 45. 000 جندي؛ وهكذا اشترى الجند بالجملة، والملوك بالتجزئة. وداعبت الآن ماريا تريزا الأحلام، لا باسترداد سليزيا فحسب، بل بضم بافاريا، والإلزاس، واللورين، إلى إمبراطوريتها، إذ كانت عنيدة وقت الانتصار بقدر ما كانت باسلة وقت الشدة.
أما فردريك فقد داعب السلام برهة. ففتح دار أوبرا جديدة في برلين، وقرض الشعر، وعبثت أنامله بالفلوت. وجدد دعواته لفولتير، ورد فولتير بأنه ما زال وفياً لإميلي. ولكن حدث عند المنعطف أن الوزارة الفرنسية-التي راعها أن تجد فرنسا في حرب مع إنجلترا، والنمسا، والجمهورية الهولندية، وسافوي-سردانية-تذكرت أن عبقرية فردريك وعمالقته سيكونون عوناً مرحباً به؛ وأن انتهاكاته لمعاهداته التي أبرمها مع فرنسا يمكن اغتفارها إذا انتهك معاهدته مع النمسا؛ وأنه قد يمكن إقناعه بأن يرى في سطوة النمسا المنبعثة من جديد خطراً يتهدد سلطانه على سيليزيا(37/88)
بل على بروسيا. فمن يستطيع أن يوضح له هذا على أحسن وجه؟ لم لا يجرب فولتير، الذي بيده الآن دعوة من فردريك، والذي يتوق دائماً لأن يلعب دوراً في السياسة؟
وهكذا عاد فولتير داعية السلام يخترق ألمانيا في مركبة يثب داخلها ويتأرجح، وأنفق هناك ستة أسابيع (من 30 أغسطس لى 12 أكتوبر 1743) وهو يحاول إقناع فردريك بخوض الحرب. ولم يستطع الملك أن يلتزم بوعد، فصرف الفيلسوف خاوي الوفاض إلا من التحيات. ولكن تقدم حملات عام 1744 أدخل في قلبه الخوف على سلامته وعلى دوام مكاسبه. ففي 15 أغسطس بدأ الحرب السيليزية الثانية.
وأراد أن يفتح بوهيميا. ولما كانت سكسونيا تقع بين برلين وبراغ، فقد سير جنوده مخترقاً درسدن، فأسخط بذلك أوغسطس الثالث الغائب عن وطنه. وما وافى الثاني من سبتمبر حتى كان رجاله الثمانون ألفاً يدقون أبواب براغ، وفي 16 سبتمبر استسلمت الحامية النمساوية. وبعد أن ترك فردريك خمسة آلاف جندي لاحتلال العاصمة البوهيمية، زحف جنوباً وهدد فيينا من جديد. وردت ماريا تريزا بتحدي هذا الخطر، فركبت على عجل إلى برسبورج وطلبت من الديت المجري تجريدة أخرى من الجند، فجمع لها 44,000، وبعد قليل زادهم 30,000 آخرين. وأمرت الأمير شارل بالكف عن مهاجمة الألزاس وقيادة الجيش النمساوي الرئيسي شرقاً لاعتراض زحف البروسيين. وتوقع فردريك أن الفرنسيين سيطاردون النمساويين، ولكنهم لم يفعلوا. فحاول أن يكره شارل على القتال، غير أن الأمير تجنبه، ولكنه دعم جهود المغيرين لقطع خطوط اتصال البروسيين بسليزيا وبرلين. وأعاد التاريخ نفسه؛ فقد وجد فردريك جيشه معزولا وسط سكان من الكاثوليك المتحمسين لمذهبهم المعادين له عداء فيه دهاء وبراعة. وكانت الجنود المجرية في طريقها للانضمام إلى الأمير شارل. ونمى إلى فردريك أن سكسونيا دخلت صراحة في صف النمسا. وخاف فردريك أن يعزل عن عاصمته وعن مصادر تموينه، وأمر الحامية البروسية بالتخلي عن براغ؛ وفي 13 ديسمبر قفل راجعاً إلى برلين، دون زهو الماضي، بعد أن تعلم أن الخادع قد يخدع.(37/89)
وجرى تيار الحرب أشد ما يكون معاكسة له. ففي 8 يناير 1745 وقعت إنجلترا، والأقاليم المتحدة، وبولندا-سكسونيا، في وارسو ميثاقاً مع النمسا وعد جميع موقعيه بأن يرد لكل منهم كل ما كان يملكه في 1739 - ومعنى هذا أن تعاد سليزيا لماريا تريزا. ووعد أوغسطس الثالث بأن يقدم 30. 000 مقاتل نظير 150. 000 جنيه من إنجلتاه وهولندا، بواقع خمسة جنيهات لكل نفس. وفي 20 يناير مات شارل السابع بعد أن تقلد عرش الإمبراطورية برهة قصيرة جداً، وكان يبلغ الثامنة والأربعين، وقد أعب حين حضره المنية عن أسفه لما ألحقه بوطنه م خراب من جراء تطلعه لعرشي الإمبراطورية وبوهيميا، وطلب إلى مكسمليان جوزيف أن يقلد عن هذه الدعاوي ويسالم البيت المالك النمساوي، وامتثل الناخب الجديد للنصيحة رغم اعتراضات فرنسا؛ ففي 22 أبريل تخلى عن كل دعاوي في عرش الإمبراطورية، ووافق على تأييد الدوق فرنسيس ستيفن في مطالبته بالتاج الإمبراطوري. وسحبت الجنود النمساوية من بافاريا.
وفكرت الملكة الآن لا في استرداد سليزيا فحسب، بل في تقطيع أوصال بروسيا ضماناً لها من أطماع فردريك (80). وقد أقلقها مؤقتاً انتصار الفرنسيين على حلفائها الإنجليز في فومنتنوا (11 مايو 1745)، ولكنها في ذلك الشهر أرسلت جيشها الرئيسي إلى سيليزيا وأصدرت إليه الأمر بالدخول في المعركة. والتقى النمساويون الذين عززتهم فرقة سكسونية بفردريك في هوهنفريدبيرج (4 يونيو 1745). هنا أنقذته براعته التكتيكية، فقد نشر خيالته ليستولوا على تل استطاعت مدفعيته أن تقصف منه مشاة العدو. وبعد ساعات من التقتيل انسحب النمساويون والسكسون تاركين وراءهم أربعة آلاف أسير وكانت تلك المعركة الفاصلة في الحروب السليزية.
وعادت إنجلترا تطوع دبلوماسيتها لمقتضيات السلام. فقد أكرهتها غزوة 1745 الإستيوارتية على سحب خيرة جندها من فلاندر، واستولى المرشال دساكس على المدينة تلو المدينة لفرنسا، وحتى على القاعدة الإنجليزية الكبرى في أوستند، وخشى جورج الثاني أن يصل الفرنسيون(37/90)
المنتصرون إلى إمارته المحبوبة هانوفر. أما البرلمان البريطاني الذي خلع ولبول لحبه السلام فقد مل الآن حرباً كلفت الملايين من الدنانير الغالية، فضلا عن آلاف الرجال الذين يمكن تعويضهم، وناشد المبعوثون الإنجليز ماريا تريزا أن تصل إلى تفاهم مع فردريك تمكيناً للقوات النمساوية والإنجليزية من التركيز على فرنسا التي نفخ فيها العافية قائد كادت انتصاراته تعدل غرامياته. ولكن الملكة أبت، فهددتها إنجلترا بسحب كل معونة وإنهاء كل دعم مالي، ولكنها أصرت على الرفض. فدعت إنجلترا فردريك إلى مؤتمر في هانوفر، وهناك وقعت مع ممثليه صلحاً منفرداً (26 أغسطس 1745)، وقبلت إنجلترا بمقتضى هذا الصلح شروط معاهدة برلين، التي أكدت ملكية بروسيا لسيليزيا، ووافق فردريك على تأييد انتخاب الدوق فرانسس ستيفن إمبراطوراً. وفي 4 أكتوبر، في فرانكفورت، توج فرانسس إمبراطور، وأصبحت ماريا تريزا إمبراطورة.
وأمرت قوادها بأن يواصلوا الحرب. فقاتلوا البروسيين في زور بيوهيميا (30 سبتمبر) وفي هينير زدورف (24 نوفمبر)، وهزم النمساويون مرتين رغم تفوقهم العددي. وتقدم خلال ذلك جيش بروسي يقوده ليوبولد أمير أنهالت-دساو في سكسونيا، وعند كيسلدورف (15 ديسمبر) سحق القوات التي تحمي درسدن. ودخل فردريك درسدن قادماً إليها بعد النصر. دون مقاومة وفي شهامة وسماحة؛ فحظر أعمال النهب والسلب، وطمأن أبناء أوغسطس الثالث الذين فروا إلى براغ. وعرض الانسحاب من سكسونيا إذا انضم الملك الناخب إلى إنجلترا في الاعتراف بتملك لسليزيا وكف عن مساعداته لماريا تريزا، ووافق أوغسطس. ووجدت ماريا تريزا نفسها وحيدة بعد أن تخلت عنها إنجلترا وسكسونيا، فأبرمت معاهدة درسدن (25 ديسمبر 1745) التي نزلت فيها عن سيليزيا ومقاطعة جلاتز لبروسيا. وهكذا وضعت الحرب السيليزية الثانية أوزارها.
وفقدت حرب الوراثة النمساوية الآن معناها، ولكنها استمرت؛ فحاربت فرنسا النمسا وإنجلترا على السلطة في فلاندر؛ وحاربت فرنسا(37/91)
وأسبانيا والنمسا وسردينا على السلطة في إيطاليا. وكان لانتصارات النمساويين في إيطاليا ما يقابلها من انتصارات للفرنسيين في الأراضي المنخفضة. وأخيراً أكره الإعياء المالي، لا أي نفور من المذابح، المتخاصمين على الصلح. وانتهت حرب الوراثة النمساوية بنهاية مؤسفة بمقتضى معاهدة إكس لاشابل، بعد مفاوضات طالت من إبريل إلى نوفمبر 1748، وثبت بها استيلاء فردريك على سيليزيا، وكان هذا الكسب القيم الوحيد الذي استطاعت أي دولة من دول الظفر به لقاء ثمانية أعوام من التنافس في التدمير. فردت فرنسا الأراضي المنخفضة الجنوبية إلى النمسا رغم انتصارات ساكس؛ واعترفت بالأسرة الهانوفرية المالكة في انجلتره، ووافقت على طرد المطالب الشاب بالعرش من الأراضي الفرنسية.
واستراحت الدول ثمانية أعوام حتى يستطيع مخاض النساء أن يعوض النقص في الجيوش لجولة جديدة في لعبة الملوك.
5 - فردريك في أرض الوطن
1745 - 1750
قفل الملك الظافر الذي أدركه التعب إلى برلين (28 ديسمبر 1745) وأقسم أن "سيكون منذ اليوم سلام إلى آخر حياتي! " (81) ونددت به كل أوربا خارج بروسيا (ونددت به بعض الناس داخلها) لصاً غادراً، وأعجبت به لصاً ناجحاً. واستنكر فولير مذابحه ولقبه "الأكبر" (82) (أو العظيم). وكان فردريك قد رد في 1741 على احتجاجات الشاعر فقال:
تسألني كم من الزمن اتفق زملائي على أن يدمروا العالم فيه. وجوابي أنه ليس لي أدنى علم به، ولكن القتال أصبح فاشية هذا العصر، وفي ظني أن أمده سيطول. وقد أرسل لي الأبيه دسان-بيير، الذي يخصني بشرف مكاتبتي، كتاباً جميلا في طريقه رد السلام إلى ربوع أوربا والحفاظ عليه إلى الأبد ..
وكل ما ينقص الخطة لكي تنجح هو موافقة أوربا وبضعة توافه مماثلة (83).
وقد قدم لأوربا دفاعه في كتابه الذي نشر بعد موته باسم "تاريخ(37/92)
جيلي"، واعتنق فيه مبدأ مكيافللي الذي غلب فيه مصلحة الدولة على مبادئ فضيلة الفرد.
ربما رأت الأجيال القادمة بدهشة في هذه المذكرات روايات عن معاهدات أبرمت ثم نقضت. ومع أن لهذه التصرفات سوابق كثيرة، فإنها ما كانت تشفع للمؤلف لو لم يكن لديه مبررات أفضل يعتذر بها عن سلوكه. إن مصلحة الدولة يجب أن تقوم قانوناً للملوك. ويجوز نقض المحالفات لأي من هذه الأسباب:
1 - حين لا يوفى حليف ما بتعهداته؛ 2 - حين يبيت حليف خداعك، وحين لا يكون أمامك سبيل إلا أن تسبقه إلى خداعه؛ 3 - حين تفرض عليك قوة قاهرة تضطرك إلى نقض اتفاقاتك، 4 - حين تعوزك الوسائل لمواصلة الحرب .... ويبدو لي واضحاً جلياً أن الفرد الذي يتولى منصباً عاماً يجب عليه أن يوفي بوعده بكل أمانة ... فإذا خدع استطاع أن يطلب حماية القوانين له .. ولكن إلى أي محكمة يلجأ الملك إذا انتهك ملك آخر المواثيق التي بذلها له؟ إن كلمة فرد ما تنطوي على كارثة لرجل واحد فقط، ولكن كلمة ملك قد تجر كارثة شاملة على أمم برمتها. وهذا كله يمكن اختزاله إلى سؤال واحد هو: هل من الخير أن يهلك الشعب أم أن يخرق الملك معاهدة؟؟ وأي أبله متردد في الجواب القاطع عن هذا السؤال؟ (84)
وقد وافق فردريك اللاهوت المسيحي على أن الإنسان بطبيعته شرير. فلما أعرب مفتش تعليم يدعى زولتسر عن الرأي بأن "ميل البشر الفطري يتجه إلى الخير أكثر من الشر" رد الملك عليه قائلا "أواه يا عزيزي زولتسر، إنك لا تعرف هذا النوع الإنساني اللعين" (85). ولم يقتصر فردريك على مجرد تقبل تحليل لاروشفوكو طبيعة البشر على أنها أنانية خالصة، بل آمن بأن الإنسان لن يقر بأن قيد على الجري وراء مصلحته إن لم يكبحه الخوف من الشرطة فما دامت الدولة هي الفرد مضروباً في أعداد كثيرة، وليس هناك شرطة دولية يردعها عن أنانيتها الجماعية، فلا سبيل إذن إلى كبح جماحها إلا أن تخاف سطوة غيرها من الدول. ومن ثم كان أول واجبات "خادم الدولة الأول" (كما سمى فردريك نفسه) أن ينظم قوة الأمة على الدفاع،(37/93)
وهي تتضمن السبق بالهجوم - أي أن تفعل بالآخرين ما يبيتون أن يفعلوه بك. وهكذا كان الجيش في رأى فردريك، كما كان في رأى أبيه، أساس الدولة. لقد أرسى دعائم اقتصاد تشرف عليه الحكومة وتخططه بعناية، ورعى الصناعة والتجارة، وبعث عملاءه إلى جميع أرجاء أوربا ليجلبوا مهرة الصناع، والمخترعين، والصناعات، ولكنه أحس أن هذا كله لا غناء فيه آخر الأمر إن لم يصنع من جنوده أفضل جيوش أوربا تدريباً، وأضبطها نظاماً، وأجدرها بالثقة والاطمئنان.
أما وقد ملك هذا الجيش، ومعه بوليس حسن التنظيم، فإنه لم ير به حاجة إلى الدين معوناً على النظام الاجتماعي. فلما سأله وليم برنزويك ألا يرى أن الدين دعامة من أفضل دعائم سلطة الحاكم، أجاب "إنني أجد الكفاية في النظام والقوانين .... لقد كانت الدول تحكم حكماً جديراً بالإعجاب حين لم يكن لدينك وجود" (86) ولكنه قبل أي عون استطاع الدين بذله في غرس المشاعر الفاضلة التي تعين على "النظام". وحمى جميع الأديان في مملكته، ولكنه أصر على تعيين الأساقفة الكاثوليك لا سيما في سيليزيا. (كذلك أصر الملوك الكاثوليك على تعيين الأساقفة الكاثوليك، وعين الملوك الإنجليز الأساقفة الأنجليكان.) وقرر أن يكون لكل إنسان الحرية في أن يعبد كما يشاء، أو لا يعبد على الإطلاق. وشمل هذا الروم الكاثوليك، والمسلمين، والتوحيدين، والملحدين. على أنه كان هناك قيد واحد على هذه الحرية، فحين كان الجدل الديني ينقلب إلى السب أو العنف الشديدين، كان فردريك يخمده كما أي خطر يهدد السلام الداخلي. وفي سنواته الأخيرة كان أقل تسامحاً مع الهجمات على حكومته منه على الهجمات على الله.
فأي رجل كان، مرهب أوربا هذا ومعبود الفلاسفة؟ لم يزد طوله على خمسة أقدام وست بوصات، وليست هذه بالقامة الشامخة. وقد غلبت عليه السمنة في شبابه، ولكنه غدا الآن بعد عشر سنين من الحكم والحرب نحيلا، عصبياً، مشدوداً، وكأنه سلك من الحساسية والنشاط الكهربيين، له عينان حادتان فيهما ذكاء متشكك، وله قدرة على الفكاهة، ونكته الذكية لا تقل حدة عن نكت فولتير. كان في وسعه، كإنسان لا يعارضه(37/94)
أحد، أن يكون غاية في اللطف، ولكنه كملكاً كان صارماً، وندر أن خفف العدل بالرحمة، فكان يستطيع أن يناقش الفلسفة مع مساعديه وهو يرقب في هدوء جنوده وهم يعانون الجلد وكان لكلبيه لسان لاذع يجرح أصدقاءه أحياناً. وهو شديد الشح عادة، كريم بين الحين والحين. وإذ ألف أن يطاع، فقد أصبح مستبد الطبع، لا يكاد يطيق اعتراضاً، وندر أن يلتمس النصيحة، ولا يعمل بها إطلاقاً. فيه وفاء لأخصائه، ولكنه يحتقر النوع الإنساني. نادر الحديث مع زوجته، يضيق عليها في النفقة، ومزق في وجهها الكشف الذي دونت فيه احتياجاتها في مسكنة (87). وكان عادة ودوداً لشقيقته فلهلمينا، ولكنها هي أيضاً وجدته أحياناً متحفظاً فاتر العاطفة (88). أما غيرهن من النساء، باستثناء الأميرات من زواره، فقد باعد ما بينهن وبينه؛ ولم يكن به ميل للطائف الأنثى ومفاتنها، سواء الجسدية أو الخلقية، وقد أبغض ثرثرة الصالونات. وآثر الفلاسفة والشبان ملاح الوجوه، وكثيراً ما صحب هؤلاء إلا مسكتنه بعد العشاء (89). وربما كان حبه للكلاب أكثر حتى من حبه لهؤلاء. وكان أحب رفاقه إليه في أخريات عمره كلابه السلوقية التي كانت تنام في فراشه؛ وقد أمر بإقامة أنصاب على قبورها، وبأن يدفن بجوارها (90). لقد وجد أن من العسير عليه أن يكون قائداً ناجحاً محبوباً في وقت واحد.
وفي 1747 أصيب بنوبة قلبية فالج وظل فاقد الوعي نصف ساعة (91). بعد هذا قاوم ضعف صحته بالعادات الثابتة والحمية، ينام على حشية رقيقة فوق سرير بسيط قابل للطي، ويستجلب النوم بالقراءة. وكان يقنع في منتصف عمره هذا بالنوم خمس ساعات أو ستاً في اليوم، فيستيقظ في الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة صيفاً، وبعد ذلك شتاء. لا يقوم على خدمته غير خادم واحد - أهم واجباته أن يوقد له ناره ويحلق له لحيته؛ وكان يحتقر الملوك الذين لا يستغنون عن مساعدين يلبسونهم. ولم يعرف عنه نظافة الشخص أو أناقة الملبس، فكان ينفق نصف يومه وهو في روبه، ونصفه وهو في سترة الحارس. يبدأ فطوره بعدة أكواب من الماء، ثم عدة أقداح من القهوة، ثم يتناول بعض الكعك، ثم كثيراً من الفاكهة. وبعد الفطور يعزف على الفلوت، متأملا شئون السياسة والفلسفة وهو ينفخ آليته.(37/95)
وفي نحو الحادية عشرة من كل صباح يحضر تدريب جنده وعرضهم. وكانت وجبة الظهيرة الرئيسية تختلط عادة بالمداولات. ثم ينقلب بعد الظهر مؤلفاً، فينفق ساعة أو ساعتين في كتابة الشعر أو التاريخ؛ وسنجده مؤرخاً ممتازاً لأسرته ولجيله. فإذا فرغ ساعات للإدارة روح عن نفسه بالحديث مع العلماء، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين. وفي السابعة مساء قد يشارك في حفلة موسيقية عازفاً على الفلوت. وفي الثامنة والنصف يحل موعد حفلات عشاءه المشهورة في سانسوسي عادة (بعد مايو 1747)، يدعو إليها أخص أخصائه، وكبار زواره، وأقطاب أكاديمية برلين. وكان يطلب إليهم أن يكونوا على سجيتهم، وينسوا أنه ملك، ويتحدثوا دون خوف، وهو ما فعلوه في كل موضوع إلا السياسة. وكان فردريك نفسه يتكلم في إسهاب، وعلم، وذكاء. يقول أمير لين "كان حديثه موسوعياً، فالفنون الجميلة، والحرب، والطب، والأدب، والدين، والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ والتشريع، تعرض على بساط البحث كل في دوره" (92). ولم ينقص الحفل غير مفخرة واحد حتى يصبح مأدبة للفكر. وقد أقبل في 10 يوليو 1750.
6 - فولتير في ألمانيا
1750 - 1754
لقد رضى حتى هو عن استقباله. فقد اصطنع فردريك العادات الغالية في الترحيب به. كتب فولتير لريشليو يقول "تناول يدي ليقبلها، وقبلت أنا يده، وقلت إنني عبده" (93). وأفرد له مسكن أنيق في قصر سانسوسي، فوق الجناح الملكي مباشرة. ووضعت خيول الملكة ومركباته، وحوذيوه، ومطبخه، تحت تصرفه. وأحاط به أكثر من عشرة خدم يغالون في العناية به، وخطب وده عشرات الأمراء، والأميرات، والنبلاء، والملكة ذاتها. وقد عينه الملك كبيراً لأمنائه براتب قدره عشرون ألف فرنك في السنة، ولكن أهم واجباته كان تصحيح الفرنسية في شعر فردريك وكلامه. ولم يتقدمه في حفلات العشاء غير الملك. وذهب زائر ألماني إلى "أن مطارحاتها أطرف ألف مرة من أي كتاب" (94).(37/96)
وقد قال فولتير بعد ذلك مستحضراً هذه الأحاديث "لم يحظ مكان آخر في الدنيا بحرية أكبر في الحديث عن خرافات الإنسان" (95).
وقد انتشى طرباً بهذا كله. فكتب إلى دارجنتال (سبتمبر 1750) يقول:
إنني أجد مرفأ ألجأ إليه بعد ثلاثين عاماً من العواصف. أجد حماية ملك، وحديث فيلسوف، وخلالا لطيفة لإنسان محبوب، كلها مجتمعة في رجل ظل ستة عشر عاماً يتوق إلى تعزيتي عن عثرات حظي وتأميني من أعدائي ... هنا أطمئن إلى مصير هادئ إلى النهاية. وإذا جاز للإنسان أن يطمئن إلى أي شئ، فهو خلق ملك بروسيا (96).
وكتب إلى مدام دنيس يطلب إليها أن تحضر وتعيش معه في فردوسه. على أنها بحكمة آثرت باريس والعشاق الأصغر، فحذرته من إطالة المكث في بلين. وقالت في خطابها إن صحبة السلطان لا يؤمن جانبها، فهو يغير رأيه ويبدل محاسيبه، وعلى المرء أن يكون على حذر دائماً من أن يعارض مزاجه أو إرادته، وسيجد فولتير نفسه إن عاجلا أو آجلا خادماً وسجيناً أكثر منه صديقاً (97).
وأرسل الفيلسوف الأحمق الخطاب إلى فردريك فكتب له هذا الرد (23 أغسطس) وهو كاره أن يفقد الغنيمة التي تريد الظفر بها:
قرأت الخطاب الذي كتبه ابن أختك من باريس. وإني لأقدر لها الود الذي تكنه لك. ولو كنت مكان مدام دنيس لفكرت كما تفكر، أما وأنا ما أنا، فإني أفكر بطريقة أخرى. وإنه ليحزنني أن أكون سبباً في تعاسة عدو، فكيف إذن أبغي بلية رجل أقدره، وأحبه، يضحي من أجلي ببلده وكل ما هو عزيز على الإنسانية، لا يا عزيزي فولتير، لو أنني تبينت أن انتقال إلى هنا سيحلق بك أقل أذى لكنت أول من يثنيك عنه. وإني لأوثر سعادتك على سروري المفرط بتملكك. ولكنك فيلسوف، وكذلك أنا، فأي شئ إذن أكثر طبيعية، وبساطة، وتمشياً مع نظام الأشياء، من أن يمنح فلاسفة خلقوا ليعيشوا معاً، تربطهم دراسات واحدة، وميول واحدة،(37/97)
وطريقة تفكير مشابهة، يمنح بعضهم بعضاً هذا الإشباع لرغباتهم؟ ... إنني موقن بأنك ستكون سعيداً جداً هنا، وأنك ستعد أباً للأدب ولأصحاب الذوق، وأنك واجد في كل التعزيات التي يمكن أن يتوقعها رجل له كفايتك من رجل يقدره. مساء الخير (98).
ولم يقتضي تدمير هذا الفردوس من أكبر الفيلسوفين سناً أكثر من أربعة أشهر. لقد كان فولتير مليونيرا، ولكنه، لم يطق أن يفوت عليه فرصة قد تضخم ثروته. ذلك أن بنك سكسونيا كان قد أصدر أوراقاً سميت "شهادات إيراد"، هبطت إلى نصف قيمتها الأصلية. وقد اشترط فردريك في معاهدة درسدن دفع ثمن الأوراق التي اشتراها البروسيون، عند استحقاقها بقيمتها الاسمية ذهباً، واشترى بعض البروسيين الخبثاء بعض هذه الأوراق بثمن بخس في هولندا ثم صرفوا ثمنها كاملا في بروسيا. وفي مايو 1748 حظر فردريك هذا الاستيراد إنصافاً لسكسونيا. وفي 23 نوفمبر 1748 استدعى فولتير في بوتسدام مصرفياً يهودياً يدعى أبراهام هيرشي. وفي رواية هيرش أن فولتير طلب إليه أن يذهب إلى درسدن ويبتاع له بمبلغ 18,430 أيكوسا أوراقاً بسعر خمسة وثلاثين في المائة من قيمتها الاسمية. وزعم هيرش أنه نبه فولتير إلى أن هذه الأوراق المالية لا يمكن جلبها قانوناً إلى بروسيا، وأن فولتير وعده بأن يحميه، وأعطاه خطابات تحويل على باريس وليبزج. وضماناً لهذه المبالغ أودع هيرش لدى فولتير ماسات من قبل بمبلغ 18,430 أيكوسا. ولكن فولتير ندم على هذه الاتفاقات بعد رحيل عميله، وقرر هيرش بعد وصوله إلى درسدن ألا يمضي في تنفيذ العملية. وأوقف فولتير الدفع على خطابات التحويل، وعاد المصرفي إلى برلين. ويقول هيرش إن فولتير حاول أن يرشوه ليسكت، بشراء ماسات قيمتها ثلاثة آلاف أيكوس. وتنازعا على تقدير القيمة وأمسك فولتير برقية هيرش وصرعه (99)؛ فلما لم يتلق ترضية أكثر من هذا جعل السلطات تقبض عليه، وعرض النزاع على المحكمة علناً (30 ديسمبر). وفضح هيرش خطة فولتير لشراء الأوراق السكسنية، فأنكرها فولتير زاعماً أنه أرسل هيرش إلى درسدن لشراء فراء، ولكن أحداً لم يصدقه.(37/98)
فلما سمع فردريك بهذه الورطة بعث برسالة غاضبة من بوتسدام إلى فولتير في برلين (24 فبراير 1751):
لقد سرني أن أستقبلك في بيتي؛ وقدرت عبقريتك، ومواهبك، وعلمك، وكان لي ما يبرر اعتقادي بأن رجلا في مثل سنك أعياه النضال مع الكتاب والتعرض للعاطفة يجئ إلى هذا المكان ليحتمي به احتماءه بمرفأ آمن.
ولكنك حين وصلت انتزعت مني بصورة غريبة بعض الشيء أمراً بألا أكلف فريرون بكتابة الأنباء من باريس، وكان من الضعف ... ما جعلني أمنحك سؤلك، مع أنه ليس من حقك أن تقرر أي الأشخاص يجب أن أستخدم. وقد شعرت بأن باكولار دارنو (شاعر فرنسي في بلاط فردريك) أساء إليك، والرجل الكريم السمح كان يعفو عنه، أما المنتقم فيطارد أولئك الذين يطيب له أن يبغضهم ... ومع أن دارنو لم يسئ إلي بشئ، فإني طردته بسببك ... ثم كانت لك مع يهودي خصومة هي أقذر الخصومات في الدنيا، وقد أثارت فضيحة رهيبة في طول المدينة وعرضها. ومسألة شهادات الإيراد تلك معروفة جيدا في سكسونيا حتى لقد شكوا لي شكاوي مرة.
وإنني من جهتي كنت محافظاً على الهدوء والسلام في بيتي حتى وصلت؛ وإني أنذرت بأنك إن كنت مولعاً بالدس والتآمر فقد أخطأت اختيار من يعينك عليه. فإني أحب الناس المسالمين الهادئين الذين لا يشيعون في سلوكهم انفعالات الدراما المأساوية. فإن اعتزمت العيش عيشة الفلاسفة، فسيسرني أن ألقاك، أما إن أسلمت نفسك لكل سورات غضبك وانفعالك ودخلت في مشاجرات مع كل الناس، فإنك لن تحسن إلي بمجيئك هنا، وخير لك أن تبق في برلين.
وحكمت المحكمة لصالح فولتير. وأرسل إلى الملك اعتذارات ذليلة وعفا عنه فردريك، ولكنه نصحه بأن "يكف عن الشجار، سواء مع العهد القديم أو الجديد" (100). وبعدها أنزل فولتير بيتاً ريفياً لطيفاً(37/99)
يسمى "بيت المركيز" ويقع قرب سانسوسي. وأرسل له الملك تأكيدات باحترامه المجدد، ولكن حماقة فولتير لم تذهب به إلى حد الثقة بها. وبعث له الملك الشاعر قصائد يطلب إليه تهذيب فرنسيتها، وأضنى فولتير نفسه فيها كثيراً وأغضب كاتبها بإدخال تغيرات حادة عليها.
ونظم فولتير الآن قصيدته المسماة "في القانون الطبيعي"، وقد حاولت أن تجد الله في الطبيعة، مقتدية في ذلك بطريقة الكسندر بوب على الأخص. وأهم من هذه القصيدة مضموناً قصيدة "عصر لويس الرابع عشر" التي أكملها وصقلها خلال تلك الأشهر ثم نشرها في برلين (1751). وكان حريصاً على الفراغ من طبعها قبل أن يضطر لسبب ما إلى الرحيل عن ألمانيا لأنها لن تكون بمأمن من الرقابة على المطبوعات إلا في رعاية فردريك. كتب إلى ريشليو في 31 أغسطس" تعلم جيداً أنه ليس هناك (في باريس) رقيب صغير واحد للكتب لا يعتبر تشويه عملي أو مصادرته حسنة أو واجباً" (101). وحظر بيع الكتاب في فرنسا، وأصدر تجار الكتب في هولندا وإنجلترا طبعات مسروقة لم ينقذوا عليها شيئاً؛ فإذا عرفنا هذا فهمنا حبه للمال فهماً أفضل. لقد كان عليه أن يحارب "تجار الكتب الأوغاد" (102) لا رجال الدين والحكومات فحسب.
و"عصر لويس الرابع عشر" أكثر أعمال فولتير وأمانة في الإعداد فقد خطط له في 1732، وبدأت في 1734، ونحاه جانباً في 1738، ثم عاد إليه في 1750. وقد قرأ له مائتي مجلد، وتلالا من المذكرات غير المنشورة، واستشار عشرات الناس ممن بقوا على قيد الحياة بعد العصر العظيم، ودروس الأوراق الأصلية التي كتبها أبطال العصر أمثال لوفوا وكولبير، وحصل من الدوق دنواي على مخطوطات التي خلفها لويس الرابع عشر، ووجد وثائق هامة لم تستخدم إلى ذلك الحين في دار محفوظات اللوفر (103). ووازن بين الأدلة المتضاربة بحكمة وعناية، وحقق مرتبة عالية من الدقة. لقد حاول مع مادم دشاتليه أن يكون عالماً ففشل، والآن اتجه إلى كتابة التاريخ وكان نجاحه في ذلك ثورة.(37/100)
وقد أعرب قبل ذلك بزمن طويل عن هدفه في خطاب تاريخه 18 يناير 1739: " أن هدفي الأهم ليس التاريخ السياسي والحربي، بل تاريخ الآداب والفنون، تاريخ التجارة، تاريخ الحضارة - وبعبارة موجزة، تاريخ العقل الإنساني. "وأعرب عنه إعراباً أفضل حتى من هذا خطاب كتبه لتييريو في 1736. يقول:
حين طلبت حكايات ونوادر عن عصر لويس الرابع عشر لم أكن أقصد الملك ذاته بقدر ما أقصد الآداب والفنون التي ازدهرت في عهده. وإني لأوثر تفاصيل عن راسين وبوالو، وكينو ولولى، وموليير، ولوبرون، وبوسويه، وبوسان، وديكارت، وغيرهم، لاعن معركة ستنكركي. لم يبق من أولئك الذين قادوا الجيوش والأساطيل إلا اسمهم، ولا ثمر بجنيه النوع الإنساني من مائة معركة كسبت، أما الرجال العظماء الذين ذكرتهم فقد جهزوا مباهج صافية باقية لأجيال لم تولد. فقناة تربط بين بحرين، أو لوحة بريشة بوسان، أو مأساة رائعة، أو حقيقة يماط عنها اللثام، هذه كلها أشياء أثمن ألف مرة من جميع حوليات البلاط، وكل قصص الحرب. وأنت تعلم أن العظماء من الرجال هم الأوائل في نظري، أما "الأبطال" فهم الأواخر. والعظماء عندي هم كل الذين بزوا غيرهم في النافع المبهج. أما الذين يخرجون الأقطار فليسوا أكثر من أبطال (104).
وربما رفع فولتير الأبطال العسكريين من مكانهم في المؤخرة إذا أنقذت انتصاراتهم الحضارة من الهمجية؛ ولكن كان من الطبيعي أن يجد الفيلسوف الذي لم يعرف سلاحاً غير الألفاظ متعة في رفع اضرابه إلى مكان مرموق، واسمه خير بيان لنظريته لأنه لم يزل بعد قرنين من الزمان أبرز الأسماء في ذكرنا لعصره. وكانت نيته في الأصل أن يخصص الكتاب برمته التاريخ الثقافي. ثم أشارت عليه مدام دشاتليه بكتابة "تاريخ عام" للأمم؛ وعليه فقد ألف فصولا في السياسة، والحرب، والبلاط، ليجعل المجلد تتمة متجانسة لكتاب أكبر عنوانه "مقال في التاريخ العام" كان يتخلف تحت قلمه. ولعل هذا هو السبب في أن التاريخ الثقافي غير مندمج في بقية المجلد، فالنصف الأول من الكتاب مخصص للتاريخ السياسي والحربي، ثم تأتى أقسام(37/101)
عن العادات "خصائص ونوادر"، والحكومة، والتجارة، والعلوم، والأدب، والفن، والدين.
وتطلع الكاتب المطارد خلفه في إعجاب إلى العهد كان الملك فيه يكرم الشعراء (إذا لم يحيدوا عن الجادة)؛ وربما كان تشديده على دعم لويس الرابع عشر للآداب والفنون هجوماً جانبياً على عدم اكتراث لويس الخامس عشر بمثل هذه الرعاية. أما وقد برزت الآن عظمة العصر الماضي في هذه الذكرى المموهة "وأغفل ذكر استبداده وغارات خياليه على البيوت، فإن فولتير راح يضفي شيئاً من الكمال على الملك الشمس ويطرب لانتصارات القواد الفرنسيين - وإن وسم بالعار تدمير البلاتينات. ولكن النقد يخفي رأسه أمام هذه المحاولة الحديثة الأولى لكتابه التاريخ المتكامل. وقد أدرك المعاصرون الفطنون أن هذه بداية جديدة- فهي التاريخ يترجم للحضارة، التاريخ الذي حوله الفن والنظرة الصحيحة أدباً وفلسفة. فما انقضى عام على نشره حتى كتب إيرل تشسترفيلد لولده يقول:
لقد أرسل من فولتير إلى برلين كتابه "تاريخ عصر لويس الرابع عشر" وقد جاءني في أوانه، ذلك أن اللورد بولتبروك علمني مؤخراً كيف ينبغي أن يقرأ التاريخ. وها هو ذا فولتير يريني كيف أن يكتب ... إنه تاريخ الفهم الإنساني، بقلم عبقري لينتفع به الأذكياء من الناس ... وقد تحرر مؤلفه من الأهواء الدينية والفلسفية والسياسية والقومية أكثر من أي مؤرخ صادفته إطلاقاً، ومن ثم فهو يروي هذه الأمور كلها بصدق ونزاهة على قدر ما تسمح له بعض الاعتبارات التي لا مفر دائماً من مراعاتها (105).
وكان فولتير خلال جهوده الأدبية برما بوضعه القلق في بلاط فردريك. ذلك أن لامتري، الرجل المادي النزعة المرح الطبع الذي كان كثيراً ما يقرأ للملك، نقل في أغسطس 1751 إلى فولتير ملاحظة أبداها مضيفهما: "سأحتاج إليه (أي فولتير) سنة أخرى على الأكثر (مهذباً لفرنسية الملك)؛ إن الناس يعتصرون البرتقالة ثم يلقون قشرتها" (106). ويتشكك البعض في صحة نسبة هذه الملاحظة إلى فردريك، إذ لم يكن في طبعه أن يفضي بسره لأحد على هذا النحو، ولم يكن مستحيلاً على لامتري أن يتمنى إقصاء فولتير(37/102)
عن حظوته. كتب فولتير إلى مدام دنيس في 2 سبتمبر يقول "بذلت قصارى جهدي لكيلا أصدق لامتري، ولكني ما زلت حائراً. " ثم كتب إليها في 29 أكتوبر يقول "مازلت أحلم بقشرة البرتقالة تلك ... وما أشبهني بذلك الرجل الذي كان يسقط من برج فلما وجد نفسه مرتاحاً في الهواء قال لا بأس بهذا الوضع لو دام" (107).
وكان في ألمانيا رجل آخر شارك في المهزلة. وقال فردريك إنه لا بد من زوال واحد من رجلين فرنسيين في بلاط واحد (108) ذلك أن موبرتوي عميد أكاديمية برلين، كان لا يتقدم عليه مقاماً بين ضيوف الملك في سانسوسي غير فولتير؛ وكان كلا الرجلين ضيفاً بهذا الجوار؛ ولعل فولتير لم ينس أن مدام دشاتليه كانت يوماً ما مغرمة بموبرتوي. وفي أبريل 1751 أقام فولتير وليمة دعا إليها موبرتوي فلبى الدعوة. وقال له فولتير إن كتابك "عن السعادة" أمتعني كثيراً، باستثناء بضعة غوامض سنناقشها معاً ذات مساء. " وعبس موبرتوي وقال "غوامض"؟ قد يكون هناك غوامض بالنسبة لك يا سيدي. " ووضع فولتير يده على كتف العالم وقال "سيدي العميد، إنني أقدرك، فأنت رجل شجاع، تريد الحرب. فلتخوضها إذن، ولكن دعنا الآن نأكل شواء الملك" (109). وكتب إلى دارجنتال (4 مايو) يقول "لم يؤت موبرتوي من آداب السلوك ما يفتن كثيراً. إنه يقيس أبعادي بربعيته في خشونة؛ ويقولون أن معلوماته يخالطها الحسد ... إنه رجل فيه بعض الفظاظة، وليس اجتماعياً جداً. " ثم كتب إلى ابنة أخته دنيس في 24 يوليو يقول"لقد أشاع موبرتوى بدهاء أنني وجدت "أعمال" الملك رديئة جداً، وأنني قلت لبعضهم وأنا أتسلم بعض أشعار الملك (ألا يتعب إرسال غسيله القذر إلى لأغسله"؟ (110) وليس من المؤكد أن موبرتوي حمل هذه الشائعة إلى فردريك، ولكن فولتير ظنه مؤكداً، فعقد النية على الحرب.
وكان من إسهامات موبرتوي في العلم "مبدأ الحركة الدنيا"_ أي أن كل التماثيل في عالم الحركة تنجز بأقل قوة تكفي لأحداث النتيجة. وقد تعثر صموئيل كوينيج، الذي دان لموبرتوي بعضويته في أكاديمية برلين، على(37/103)
وثيقة قيل إنها نسخة من خطاب غير منشور كتبه ليبنتز، وسبق فيه إلى وضع هذا المبدأ. وكتب كوينيج مقالا عن هذا الكشف، ولكنه عرضه على موبرتوي قبل أن ينشره، وأبدى استعداده للعدول عن النشر إذا اعترض عليه العميد. غير أن موبرتوي وافق على نشره، ربما بعد أن اطلع عليه على عجل. وطبع مقال كوينيج في عدد مارس 1751 من مجلة "أكتا إيروديتورم" التي تصدر في ليبزج، فأثار نشره ضجة. وطلب موبرتوي إلى كوينيج أن يقدم خطاب ليبنتز إلى الأكاديمية، ورد كوينيج بأنه لم ير غير نسخة منه بين أوراق صديقه هنتسسي الذي شنق في 1749، وأنه نقل نسخة عن هذه النسخة، وهو مرسلها الآن إلى موبرتوي، ولكن هذاعاد فطالب بالأصل. واعترف كوينيج بأن الأصل لا يمكن العثور عليه الآن لأن أوراق هنتسي تبددت بعد موته. وعرض موبرتوي الأمر على الأكاديمية (7 أكتوبر 1751)، فأرسل سكرتيرها إلى كوينيج أمراً نهائياً أصل الخطاب، فلم يستطع. وعليه ففي 13 أبريل 1752 حكمت الأكاديمية بأن خطاب ليبنتز المزعوم مزيف. ولم يحضر موبرتوي هذه الجلسة لأنه شكا نزفاً سببته إصابة بالسل (111). وأرسل كوينيج استقالته من الأكاديمية، وأصدر "نداء إلى الشعب" (سبتمبر 1752).
وكان كوينيج قد أنفق مرة عامين في سيريه ضيفاً على فولتير ومدام دشاتليه. وقرر أن ييضرب ضربة دفاعاً عن صديقه القديم ضد عدوه الحالي. ففي عدد 18 سبتمبر من مجلة "المكتبة العقلانية" ظهر مقال بعنوان "رد عضو في أكاديمية برلين على عضو في أكاديمية باريس" دافع من جديد عن كوينيج وخلص إلى أن:
"السيد موبرتوي مذنب أمام الدوائر العلمية الأوربية لا بالانتحال والخطأ فحسب، بل باستغلال منصبه لمصادرة النقاش الحر، واضطهاد رجل شريف ... وقد احتج عدة أعضاء من أكاديمتنا على هذا الإجراء الفاضح، ولولا خشيتهم من إغضاب الملك لتركوا الأكاديمية" (112).
وكان المقال غفلا من الإمضاء، ولكن فردريك عرف لمسة فولتير(37/104)
الغادرة. وبدلا أن يقذفه بصاعقة ملكية، كتب رداً وصف فيه الرد المذكور بأنه "خبيث، جبان، دنئ" ووسم كاتبه بأنه "دجال لا يستحي"، "ولص قبيح" و "ملفق للطعون الغبية" (113). وكان هذا الرد أيضاً غفلا من التوقيع، ولكن صفحة الغلاف تحمل الأسلحة البروسية ومعها النسر، والصولجان، والتاج. وأحس فولتير أن كبرياءه قد جرحت، ولم يكن في طاقته قط أن يترك لعدو الكلمة الأخيرة، ولعله وطن النفس على أن يختصم الملك. وكتب لمدام دينس (18 أكتوبر 1752) يقول "لست أملك صولجاناً، ولكني أملك قلماً. " ثم استغل غاية الاستغلال نشر موبرتوي مؤخراً (درسدن، 1752) لسلسلة من "الرسائل" اقترح فيها حفر ثقب في الكرة الأرضية، إلى مركزها إن أمكن، لدراسة تركيبها، ونسف هرم من أهرام مصر للكشف عن أسرار هدفها وتصميمها، وبناء مدينة لا يتكلم الناس فيها غير اللاتينية حتى يقضي الطلاب فيها عاماً أو عامين ويتعلموا تلك اللغة كما تعلموا القومية، وألا ينقد الطبيب أجره إلا بعد شفاء المريض، وأن جرعة كافية من الأفيون قد تمكن متعاطيها من التنبؤ بالمستقبل، وأن العناية الصحيحة بالجسم قد تتيح لنا إطالة العمر إلى ما لا نهاية (114). وانقض فولتير على هذه الرسائل انقضاضه على فريسة سهلة، مغفلا بعناية أي فقرة فيها إدراك سليم أو أي لمحات من الفكاهة ثم قذف بالباقي في مرح على قرون دعابته الذكية. وهكذا كتب في نوفمبر 1752 "خطاب الدكتور أكاكيا، طبيب البابا المقيم. " وكامة Diatribe ( ومعناها الآن هجاء) كانت تعنى يومها خطاباً، أما akakia فكلمة يونانية معناها "غرارة أو غفلة". وقد بدأ الطبيب المزعوم في براءة ظاهرة بتشككه في أن يكون رجل عظيم كعميد أكاديمية برلين مؤلفاً لكتاب بهذا السخف. وعلى أي حال "ليس في عصرنا هذا ما هو أشيع وأعم من أن يزيف مؤلفون صغار جهل على العالم، تحت أسماء مشهورة، كتباً غير جديرة بالمؤلفين المزعومين. فلا بد أن هذه الرسائل هي من هذا الضرب من التزييف، لأنه مجال أن يكون العميد العلامة قد(37/105)
كتب هذا الهراء. وخص الدكتور أكاكيا بالاحتجاج على ذلك الاقتراح بعدم نقد الطبيب أجره إلا بعد شفاء المريض- وهو اقتراح ربما كان يمس وتراً متعاطفاً في صدر فولتير الموجع، ولكن "أينكر الموكل على محاميه أتعابه التي يستحقها لأنه خسر قضيته؟ إن الطبيب يعد مريضه بأن يعينه لا بأن يشفه. وهو يبذل ما في وسعه وينقد أجره على هذا الأساس"، وكيف يكون شعور عضو الأكاديمية إذا اقتطع قدر معين من الدوقاتيات من راتبه السنوي نظير كل غلطة ارتكبها، أو كل قول سخيف فاه به، خلال العام؟ وراح الطبيب يفصل ما اعتبره فولتير أغلاطاً أو سخافات في أعمال موبرتوي (115).
ولم يكن هجاؤه هذا بالبراعة التي يخالها الناس عموماً، فكثير منه معاد وبعض ما فيه من نبش عن الأخطاء تافه غير كريم؛ ونحن نخفي حقدنا في أيامنا هذه بأدب أكثر. ولكن فولتير سر بتمثيليته هذه سروراً لم يستطع معه أن يقاوم بهجة رؤيتها مطبوعة. فأرسل مخطوطة منها إلى ناشر في لاهاي، وأرى الملك في الوقت نفسه مخطوطة أخرى. واستمتع فردريك بقراءة الهجاء (أو هكذا قيل) وكان بينه وبين نفسه يوافق على أن موبرتوي فيه أحياناً غرور لا يطاق، ولكنه نهى فولتير عن نشره، وواضح أنه وجد في لنشر مساساً بكرامة أكاديمية برلين وسمعتها. وسمح له فولتير بأن يحتفظ بالمخطوطة، ولكن الهجاء نشر رغم ذلك في هولندا. وسرعان ما انبثت ثلاثون ألف نسخة منه في أرجاء باريس، وبروكسل، ولاهاي، وبرلين. ووصلت نسخة منها ليد فردريك، فأعرب عن غضبه بعبارات جعلت فولتير يفر إلى مسكن خاص في العاصمة. وفي 24 ديسمبر 1752 رأى من نافذته جلاد الدولة الرسمي يحرق كتابه على الملأ. وفي أول يناير 1753 رد لفردريك مفتاحه الذهبي بوصفه أميناً للقصر، وصليب الاستحقاق الذي خلعه عليه.
وكان الآن مريضاً حقاً، تلهب الحمرة جبينه، وترهق الدوزنتاريا أمعاءه، وتبرى الحمى جسده. فلزم فراشه في 2 فبراير ولم يبرحه طوال(37/106)
أسبوعين، وبدا عليه كما قال زائر عاده في مرضه "كل مظهر الهيكل العظمى" (116). ورق له قلب فردريك، فأوفد طبيبه الخاص ليرعى الشاعر. فلما تحسنت صحته كتب إلى الملك يستأذنه في زيارة بلومبيير، فلعل مياهها تشفى حمرته. وأمر فردريك سكرتيره بأن يرد عليه (16 مايو) "بأن في استطاعته أن يترك هذه الخدمة حين يشاء، وأنه لا حاجة به للاعتذار بمياه بلومبيير، ولكن عليه أن يتكرم قبل رحيله بأن يرد إلى ... مجلد القصائد الذي عهدت به إليه" (117). وفي الثامن عشر من الشهر دعا الملك فولتير للعودة إلى مسكنه القديم في سانسوسي. وأتى فولتير، ومكث ثمانية أيام، وبدا أنه أصلح ما بينه وبين الملك- ولكنه احتفظ بقصائد الملك. وفي 26 مارس ودع فردريك، وتظاهر كلاهما بأن الفراق إلى حين. وقال الملك "اعتن بصحتك قبل كل شئ، ولا تنس أنني أنتظر عودتك بعد استشفائك بالمياه ... رحلة طيبة! " (118) ولم يلتقيا بعدها قط.
وهكذا انتهت هذه الصداقة التاريخية، ولكن العداوات السخيفة استمرت. فقد انطلق فولتير مع سكرتيره ومتاعه يتأرجح في مركبته إلى الأمان في ليبزج السكسونية. هناك تلكأ ثلاثة أسابيع بحجة ضعف صحته، وأضاف مزيداً إلى "الخطاب". وفي 6 أبريل تلقى رسالة من موبرتوي يقول فيها:
تقول الجرائد إنك تخلفت في ليبزج لمرضك، ولكن معلوماتي الخاصة تؤكد لي أنك لا تمكث هناك إلا لطبع مزيد من القذف في .. إنني لم أسئ إليك قط، وما كتبت ضدك ولا قلت شيئاً قط. لقد كنت على الدوام أراه أمراً لا يليق بي أن أراد على السفاهات التي رحت تذيعها عني ... ولكن إذا صح أن في نيتك العودة إلى مهاجمتي في مسائل شخصية، ... فإنني أنذرك بأن في من العافية ما يمكنني من العثور عليك أنى كنت، وأصب جام غضبي وانتقامي عليك (119).
ورغم ذلك طبع فولتير "الخطاب" المنقح، وطبع معه رسالة موبوتوي. وأصبح الكتيب، الذي تضخم الآن حتى بلغ خمسين صفحة، حديث القصور والبلاطات في ألمانيا وفرنسا. وكتبت فلهلمينا من بايرويت إلى فردريك(37/107)
(24 أبريل 1753) تعترف بأنها لم تملك نفسها من الضحك على الخطاب. أما موبرتوي فلم ينقذ تهديده، كذلك لم يمت غيظاً وكمداً كما ظن البعض؛ فلقد عمر ست سنوات بعد الدكتور أكاكيا، ومات بالسل في بازل عام 1759.
وفي 19 أبريل رحل فولتير إلى جوتا، ونزل فندقاً عاماً بها، ولكن سرعان ما أقنعه دوق ودوقة ساكس-جوتا بالنزول ضيفاً عليهما قصرهما. ولما كان بلاطهما الصغير يهتم بالثقافة، فقد جمعت الدوقة الأعيان والأدباء، وقرأ لهم فولتير شيئاً من أعماله، حتى من قصيدة "لا بوسيل المرحة". ثم مضى إلى فرنكفورت -أم على -مين، وهناك أدركته إلهة الانتقام.
ذلك أن فردريك حين تبين أن فولتير يواصل الحرب التي شنها على موبرتوي، خامرته الظنون في أن الشاعر المستهتر قد يذيع على الناس القصائد التي كتبها الملك، والتي لم تزل نسخة منها-طبعت سراً- في حوزة فولتير وهي قصائد في بعضها خروج عن اللياقة، وبعضها يتهكم بالمسيحية، وبعضها يتحدث عن الأحياء من الملوك حديثاً فيه من الدعاية أكثر مما فيه من الاحترام، فمن شأنها أن تنفر منه قوى نافعة. وعليه فقد أرسل إلى فربتاج، المقيم البروسي في فرانكفورت، يأمره بحبس فولتير حتى يسلم "ذلك الهيكل العظمى، الشيطاني" قصائد الملك وشتى الأوسمة التي خلعها عليه إبان "شهر العسل". وكانت فرانكفورت "مدينة حرة"، ولكنها تعتمد على رضى فردريك اعتماداً لم تجرؤ معه على التدخل في هذه الأوامر؛ أضف إلى ذلك أن فولتير كان من الناحية الرسمية لا يزال في خدمة ملك بروسيا وفي إجازة ممنوحة منه. ومن ثم قصد فربتاج في أول يونيو فندق الأسد الذهبي الذي وصل إليه فولتير البارحة، وطلب إليه في أدب أن يسلمه الأوسمة والقصائد. وسمح فولتير للمقيم بأن يفتش متاعه ويأخذ الأوسمة الملكية، أما قصائد الملك فقال إنها على الأرجح في صندوق أرسله إلى همبورج. وأمر فربتاج بوضعه تحت الحراسة حتى يعاد الصندوق من همبورج. وفي 9 يونيو تعزى الفيلسوف المغيظ بوصول مدام دنيس،(37/108)
التي أعانته على التنفس عن غيظه. وقد راعها هزاله "كنت على يقين من أن هذا الرجل (فردريك) قاتلك! "وفي 18 يونيو وصل الصندوق، وعثر فيه على المجلد المحتوى على القصائد، وسلم للمقيم، ولكن في يوم ذاته وصل توجيه جديد من بوتسدام يأمر فربتاج بالاحتفاظ "بالوضع الراهن" لحين وصول أوامر أخرى. فحاول فولتير الهروب بعد أن عيل صبره، وفي 20 يونيو ترك حقائبه مع ابنة أخته وفر هو وسكرتيره خلسة من فرانكفورت.
ولكن فربتاج لحق بهما قبل أن يجتازا الحدود الإدارية للمدينة، وعاد بهما إليهما وأودعهما سجينين في فندق العنزة، لأن "صاحب فندق الأسد أبى أن يستبقي فولتير أطول مما بقي عنده بسبب شحه الذي لا يصدق" (120) (في رواية فربتاج). واستولى آسرو فولتير على نقوده كلها، وعلى ساعته، وبعض جواهره التي يتحلى بها، وصندوق نشوقه-الذي رد إليه سريعاً بناء على توسله لأنه قال إنه لا غنى لحياته عنه. وفي 21 يونيو وصل خطاب من فردريك يأمر بالإفراج عن فولتير، ولكن فربتاج رأى أن الأمانة في أداء الواجب تقتضيه أن ينبئ الملك بمحاولة فولتير الهروب، فهل يطلق سراحه رغم ذلك؟ وفي 5 يونيو وافق فردريك على الإفراج عنه، وأطلق سراحه بعد اعتقاله خمسة وثلاثين يوماً. وفي 7 يونيو غادر فرانكفورت إلى مينز، وعادت مدام دنيس إلى باريس، بأمل الحصول على إذن لفولتير بدخول فرنسا.
وكان نبأ اعتقاله قد ذاع، فاحتفل به القوم وأشادوا به حيثما ذهب، لأن فردريك لم يحبه أحد غير أخته فلهلمينا، أما فولتير فهو رغم شيطنته كلها كان أعظم الأحياء من الشعراء، والمسرحيين، والمؤرخين. وبعد أن قضى ثلاثة أسابيع في مينز رحل في بطانة كبطانات الأمراء إلى مانهايم وستراسبورج (15 أغسطس إلى 2 أكتوبر) حيث أمتع روحه بفكرة وجوده على أرض فرنسية. ثم مضى إلى كولمار (2 أكتوبر) حيث زارته فلهلمينا في طريقها إلى مونبليه وطيبت خاطره "بالأنعامات" واسترد من عافيته ما أوحى إليه ببعض رسائل ظريفة لمدام دنيس التي كانت تشكو ورماً في فخذيها:(37/109)
بالله يا طفلتي العزيزة ما الذي تريد ساقاك وساقاي أن تقول؟ لو أنها كانت معاً لما شكت مرضاً ... إن فخذيك لم يخلقا للألم. فهذان الفخذان اللذان سيقبلان بعد قليل يلقيان الآن معاملة مخزية (121).
وكتب في لهجة أكثر تواضعاً إلى مدام بمبادور يتوسل بنفوذها على لويس الخامس عشر ليسمح له بالعودة إلى باريس. ولكن ناشراً لصاً في لاهاي كان قد نشر طبعة مشوهة سماها "موجز التاريخ العام" اختصر منها كتاب "مقال التاريخ العام" أو "مقال في العزف" الذي لم يتمه فولتير، وقد احتوى نقداً جارحاً للمسيحية. وبيع الموجز بسرعة في باريس، قال لويس الخامس عشر لبومبادور "لست أريد أن يأتي فولتير إلى باريس" (122) وطالب اليسوعيون في كولمار بطرده من تلك المدينة، فحاول أن يسترضى أعداءه الكنسيين بتناوله القربان في عيد القيامة. وكانت النتيجة الوحيدة لهذا العمل أن انضم أصدقاؤه لليسوعيين في رميه بالنفاق. وكان تعقيب مونتسكيو "انظروا إلى فولتير الذي لا يعرف أين يضع رأسه" ثم أضاف "أن النفس الصالحة أغلى ثمناً من النفس الجميلة" (123).
وفكر الفيلسوف المشرد، بعد أن سدت في وجهه المسالك، في الرحيل عن أوربا والإقامة في فيلادلفيا. وكان معجباً بروح بن وجهود فرانكلن الذي وحد مؤخراً بين البرق والكهرباء "لولا أن البحر يسبب لي دواراً لا يطاق لقضيت بقية عمري بين كويكريي بنسلفانيا" (124). وفي 8 يونيو 1754 غادر كولمار ووجد ملجأ في دير سنون البندكتي بالورين. هناك علم أن دوم أوجستن كالميه رئيس للدير، وأن بمكتبة الدير اثنا عشر ألف مجلد؛ ووجد فولتير السلام وسط الرهبان ثلاثة أسابيع. وفي 2 يوليو رحل إلى بلومبيير، وشرب من مياهها في خاتمة المطاف. ولحقت به مدام دنيس هناك. وظلت منذ ذلك الحين سيدة ( Mistrest خليلة) بيته على الأقل. واستأنف تجواله، وعاد إلى كولمار، ولم يجد فيها راحته، فانطلق إلى ديجون ومكث فيها ليلة، ثم إلى ليون التي أقام فيها شهراً (11 نوفمبر إلى 10 ديسمبر). ونزل أسبوعاً ضيفاً على صديقه ومدينه القديم لدوق ريشليو، ثم انتقل إلى فندق الباليه رويال، ربما خوفاً من أن يؤذى سمعته. وذهب إلى أكاديمية(37/110)
ليون وتلقى كل ما خلعته عليه من تكريم. وأخرجت بعض تمثيلياته على المسرح المحلي، ورفع تصفيق الاستحسان معنوياته. وفكر في الإقامة في ليون، ولكن رئيس الأساقفة تنسان اعترض، فرحل فولتير عنها. وأيقن أنه قد يقبض عليه في أية لحظة لو مكث في فرنسا.
وعليه ففي ختام عام 1754، أو مطلع عام 1755، عبر جبال الجورا وألقى عصا التسيار في سويسرا.(37/111)
الفصل الرابع عشر
سويسرا وفولتير
1715 - 1758
1 - فيللا المباهج (ليدليس)
على طريق لبون، خارج أبواب جنيف مباشرة ولكن في حدودها الإدارية، وجد فولتير في خاتمة المطاف مكاناً يستطيع أن يرقد فيه آمناً مطمئناً، هو فيلا فسيحة تسمى سان- جان، ذات حدائق مدرجة تهبط إلى نهر الرون. ولما كانت قوانين الجمهورية تحرم بيع الأرض إلا للبروتستنت السويسريين، فقد قدم 87. 000 فرنك لشراء الملك (فبراير 1755) بواسطة وكالة لابا دجرانكور وجان روبير ترونشان (1) هو الآن (1965) متحف للفن، يضم مخلفات صغيرة لفولتير. @ جان روبير، المصرفي والمدير العام لجنيف، (2) باكوب، عضو المجلس، (3) فراسوا، المؤلف والمصور (4) تيودور، الطبيب. و"ترونشان" هنا يقصد به تيودور، ما لم ينص على غير هذا. ما زال البيت موجودا (1965)، وقد نقصت مساحته كثيرا، ولكن مدينة جنيف تحتفظ به معهداً ومتحفاً لفولتير. @. وبكل حماسة أهل المدن اشترى دجاجات وبقرة، وزرع حديقة خضر، وغرس الأشجار. لقد أنفق من عمره ستين عاماً حتى تعلم أننا "يجب أن نزرع حديقتنا". وخطر له أن في وسعه الآن أن ينسى فردريك، ولويس الخامس عشر، وبرلمان باريس، والأساقفة، واليسوعيين، ولم يبق إلا مغصه ونوبات صداعه. وبلغ ابتهاجه بيته الجديد مبلغاً جعله يسميه "ليدليس" أي المباهج وكتب إلى تيريو يقول: "إن بي من السعادة ما يخجلني" (1). ولما كانت استثماراته الذكية تأتيه بدخل مترف، فإنه أشبع رغبته في العيش المترف. فاحتفظ بستة جياد وأربع مركبات، وسائق، وجودي يمتطي أحد جياد العربة، وتابعين، وخادم خاص، وطاه فرنسي، وسكرتير، ونسناس- كان يحب أن يقارن بينه وبين الإنسان. وتربعت على عرش المؤسسة مدام دنيس، التي وصفها مدام دينيه حين زارت البيت في 1757 بهذه العبارات:
_________
(1) كان هناك أفراد كثيرون باسم ترونشان، أهمهم: %=(37/112)
"امرأة قصيرة سمينة، مدورة كالكرة، تناهز الخمسين، ... قبيحة، طيبة، كذابة دون قصد ودون خبث، ليس فيها ذكاء ومع ذلك تبدو وكأن لها نصيباً منه ... تكتب الشعر وتناقش في منطق وفي غير منطق ... دون كثير ادعاء أو غرور، وأهم من ذلك كله دون أن تسئ إلى أحد .. تعبد خالها، بوصفه خالا وبوصفه إنساناً، وفولتير يحبها، ويضحك عليها، ويعبدها. إن هذا البيت، باختصار يجمع بين النقائض، ومشهد بمتع المتفرجين (2) (1).
ووصف زائر آخر هو الشاعر مارنتيل، المالك الجديد فقال "كان في فراشه حين وصلنا. فمد ذراعيه وعانقني وبكى فرحاً ... ثم قال "هاأنت تجدني مشرفاً على الموت، فتعال وردني إلى الحياة، أو تلق آخر أنفاسي" ... وبعد لحظة قال "سأنهض وأتناول الغداء معك" (3).
وكان في فيللا المباهج هذه عيب واحد- وهو برودتها في الشتاء، وفولتير يحتاج إلى الحرارة لشدة هزاله. وعليه فقد وجد لوزان خلوة صغيرة تدعى مونريون يقيها موقعها من ريح الشمال، فاشتراها، وأنفق فيها بعض شهور الشتاء خلال 1755 - 57. وفي لوزان ذاتها اشترى (يونيو 1757) على نهر جران شين "بيتاً لو كان في إيطاليا لسمى قصراً" له خمس عشرة نافذة تطل على البحيرة. "هناك ودون أي معارضة من رجال الدين أخرج تمثيليات أكثرها من تأليفه. وكتب يقول "إن الهدوء شئ جميل. ولكن الملل ينتمي أرد عني هذا القريب القبيح أقمت مسرحاً (4).
هكذا، في غدوه وراحه، بين جنيف ولوزان عرف سويسرا.
2 - المقاطعات السويسرية (الكانتونات)
في 1742 تساءل صموئيل جونسن "بأي سياسة عجيبة، أو بأي توافق سعيد بين المصالح، أمكن تجنب الفتن العنيفة في دولة تتألف من شتى(37/113)
المجتمعات ومختلف الأديان، رغم أن في أهلها من الولع بالحرب ما يجعل من تقرير جيش ومن حشده شيئاً واحداً؟ (5).
هذا المركب الغريب من ثلاثة شعوب، وأربع لغات، ومذهبين، ظل في سلام مع العالم الخارجي منذ 1515. فبمقتضى ضرب من الميثاق المبرم بين اللصوص أمسكت الدول عن مهاجمته، ولقد كان مطمعاً غاية في الصغر (بلغ 227 ميلا في أقصى طوله، و137 في أقصى عرضه) فقيراً جداً في موارده الطبيعية، شديد الوعورة في أرضه، اتصف أهله بشجاعة تثبط همة المعتدى. واستمر السيسرون ينجبون خيرة الجنود في أوربا، ولكن الاحتفاظ بهم كان غالي الكلفة، لذلك كانوا يؤجرون لشتى الحكومات بسعر للجندي. وفي 1748 كان هناك ستون ألفاً من هؤلاء الجنود "الجوالين" في خدمة الدول الأجنبية. وقد أصبحوا في بعضها جزءاً دائماً من المؤسسة العسكرية؛ وكانوا أحب الحرس للبابوات والملوك الفرنسيين وأحوزهم لثقتهم؛ والعالم كله يعرف كيف قضى الحرس السويسري لآخر رجل منهم دفاعاً عن لويس السادس عشر في 10 أغسطس 1792.
وفي 1715 كانت ثلاثة عشرة مقاطعة تؤلف الاتحاد السويسري: أبنتسيل، وبازل، وجلاروز، وشافهاوزن، وزيورخ-وكانت في أغلبها ألمانية وبروتستنتية؛ ثم لوسرن، وشفيتس، وزولوتورن، وأونترفالدن، وأورى، وبتسوج-كلها ألمانية وكاثوليكية، ثم برن، وكانت ألمانية وفرنسية، بروتستنتية وكاثوليكية؛ ثم فريبورج، وكانت فرنسية وكاثوليكية. وفي 1803 ضم الاتحاد إليه مقاطعات أراجاو، وسانت جالين، وتورجاو (ألمانية بروتستنتية)، وتيتشينو (إيطالية وكاثوليكية)، وفو (فرنسية وبروتستنتية). وفي 1815 أضيفت ثلاث مقاطعات جديدة هي جنيف (فرنسية وبروتستنتية تنقلب الآن كاثوليكية بسرعة)، وفاليه (فرنسية، وألمانية، وكاثوليكية) والأقاليم المعروف للفرنسيين باسم جزيزون وللألمان باسم جراوبوندن تغلب عليه البروتستنتية، ويتكلم الألمانية أو الرومانش، وهي لاتينية أثرية.(37/114)
وكانت سويسرا جمهورية النظام، ولكنها لم تكن ديمقراطية بمعناها المعروف، ففي كل مقاطعة تنتخب أقلية من السكان الذكور البالغين، الذين ينتمون عادة للأسر العريقة، مجلساً صغيراً يتألف من أربعة وعشرين إلى أربعة وستين عضواً. وكان المجلس الصغير يعين مجلساً خاصاً أصغر منه وعمدته وهو أكبر موظفي المقاطعة. ولم يكن هناك فصل للسلطات، فالمجلس الصغير هو أيضاً المحكمة العليا. وقصرت المقاطعات الريفية (وهي أوري، وشفيتس، وأونتفالدن، وجلاروز، وتسوج وأبنتسيل) حق الانتخاب على الأسر الوطنية، أما غيرها من المقيمين بها، مهما طال مقامهم، فيحكمون بوصفهم طبقة تابعة (6). ومثل هذه الأولجركيات كانت شائعة في سويسرا. فلوسرن مثلا قصرت صلاحية التعيين في الوظائف الحكومية على تسع وعشرين أسرة، ولم تسمح لأسرة جديدة بدخول هذه الدائرة إلا إذا انقرضت إحدى الأسر القديمة (7). وفي برن كانت 243 أسرة صالحة للتعيين في الوظائف، ولكن نحو ثمان وستين منها فقط هي التي تقلدت المناصب بصفة دائمة. وفي 1789 لاحظ المؤرخ الروسي نيكولاي كارامزين أن مواطني زيورخ "يفخرون بلقبهم فخر ملك بتاجه" لأن "أحداً من الأجانب لم يحصل على حق المواطنة منذ نيف و150 سنة. " (8) (وعلينا أن نذكر أنفسنا بأن كل الديمقراطيات تقريباً أو الأولجركيات، لأن الأقليات يمكن تنظيمها للحركة والسلطة، أما الأغلبيات فلا).
وكان في حكومة المقاطعة نزوع إلى النظام الأبوي الذي يتطلب الطاعة لأولي الأمر. مثال ذلك أن المجالس في زيورخ أصدرت القوانين المنظمة للأكل، والشرب، والتدخين. وقيادة العربات، وحفلات الزفاف، واللباس، والتزين، وقص الشعر، وأجور العمل، ونوعية المنتجات، وأسعار الضروريات، وكانت هذه الأوامر من مخلفات القوانين البيئية أو النقابية القديمة، والواقع أن "معلمي" النقابات الحرفية الأثنى عشرة في زيورخ كانوا يكتسبون عضوية المجلس الصغير تلقائياً، بمعنى أن هذه المقاطعة كانت إلى حد كبير دولة نقابية. وقد كتب جوته في أخريات القرن(37/115)
أن شواطئ بحيرة زيورخ تعطي "فكرة جذابة مثالية عن أروع وأسمى حضارة" (9).
أما "مدينة وجمهورية" برن فكانت أكبر وأقوى المقاطعات. فهي تضم ثلث سويسرا، وتتمتع بأغنى اقتصاد، وحكومتها محط الإعجاب عموماً لما تتميز به من تدبير وطفاية؛ وقد شبهها مونتسكيو بروما في أزهى عصور الجمهورية. أما وليم كوكس، وهو قسيس بريطاني ومؤرخ عالم، فقد وصف المدينة كما رآها في 16 سبتمبر 1779 بهذه العبارات:
حين دخلت برن أدهشني ما تميزت به من نظافة وجمال. شوارعها الرئيسية عريضة طويلة، ليست مستقيمة، بل منعطفة انعطافاً هينا، وتكاد بيوتها تكون متماثلة، وهي مبنية بحجر تغلب عليه الشهبة ومن تحتها البواكي. ويجري وسط الشوارع نهير نشيط، ماؤه شديد الصفاء، في مجرى صخري، وهناك نافورات عديدة تضفي على المدينة جمالا يعدل نفعها لأهلها. ويكاد نهر آر يحيط بالمدينة، إذ يلتف مجراه فوق قاع صخري أوطأ كثيراً من مستوى الشوارع .. والريف المجاور غني بالزرع، فيه تنويع لطيف من تلال ومروج وغابات ومياه ... وترسم على الأفق البعيد سلسلة شديدة الانحدار من جبال الألب الوعرة المكللة بالثلوج (10) ".
أما الخطأ الفادح الذي ارتكبه نبلاء برن ففي معاملتهم لمقاطعة فو. فهذا الفردوس الأرضي كان يمتد بحذاء الضفة السويسرية لبحيرة جنيف من أرباض مدينة جنيف حتى لوزان (العاصمة) ويصل شمالا إلى بحيرة نيوشاتل. على هذه الضفاف الجميلة والتلال الزاخرة بالكروم استمتع فولتير وجيبون بحياة غاية في التحضر، وشب روسو وتعذب، واختار بيت جولي الفاضل (في كلارنس، قرب فيفي). وقد خضع الإقليم لسيادة برن في 1536، ففقد مواطنوه حقهم في تقلد المناصب الحكومية، واشتد تبرمهم بالحكم البعيد عنهم، وتكررت ثوراتهم دون جدوى.
وكانت المقاطعات شديدة الحرص على استقلالها الذاتي. كل منها تعتبر نفسها دولة ذات سيادة، لها الحرية في خوض الحرب أو إبرام الصلح(37/116)
أو الدخول في أحلاف أجنبية، مثال ذلك أن المقاطعات الكاثوليكية ارتبطت بفرنسا طوال حكم لويس الخامس عشر. ورغبة في التخفيف من الصراع بين المقاطعات كانت كل منها ترسل مندوبين عنها إلى مجلس سويسري (ديت) ينعقد في زيورخ. ولكن هذا المجلس الاتحادي (الكونجرس) كانت سلطاته محدودة جداً، فهو لا يستطيع فرض قراراته على أي مقاطعة ترفضها. ويجب أن توافق جميع المقاطعات على هذه القرارات لكي تكون قانونية. وكانت حرية التجارة مقبولة من حيث المبدأ، ولكن حروب المكوس بين المقاطعات انتهكت هذا المبدأ. ولم تكن هناك عملة مشتركة، ولا إدارة مشتركة للطرق التي تربط المقاطعات.
على أن الحياة الاقتصادية زكت رغم العوائق الطبيعية والحواجز التشريعية. وكان رق الأرض قد زال في بضع مناطق على الحدود الألمانية أو النمساوية، فملك الفلاحون كلهم تقريباً الأرض التي يزرعونها. وكان الفلاحون فقراء في "مقاطعات الغابات" (وهي أوري، وشفايتس، وأونترفالدن، ولوسرن) وذلك لظروف جغرافية؛ أما حول زيورخ فازدهرت أحوالهم، وفي برن جمع العديد من الفلاحين ثروات بالفلاحة التي اتسمت بالعناية والمثابرة. وقد اضطر كثير من السويسريين إلى الجمع بين الزراعة والصناعة لطول الشتاء وصعوبة النقل؛ فالأسرة التي تغزل القطن أو تصنع الساعات تزرع الحدائق أو تغرس الكروم. واشتهرت فريبورج بجبها الجروبير (جرافيرا)، وزيورخ بدنتللتها، وسانت جالين بقطنها، وجنيف بالساعات، ونيوشاتل بالدنتيللا، وسويسرا كلها بالأنبذة. وكانت المالية السويسرية حتى في ذلك الحين مثار حسد أوربا، والتجار السويسريون نشيطين في كل بلد. وأثرت بازل من الاتجار مع فرنسا وألمانيا، وزيورخ من الاتجار مع ألمانيا والنمسا. ونافست بازل وجنيف ولوزان، أمستردام ولاهاي مراكز للنشر. وبعد أن أشاد هاللير وروسو بجمال البحيرات السويسرية المتألق وجبال الألب السويسرية المهيب، أمدت السياحة الاقتصاد الاتحادي بدعم متزايد.(37/117)
أما مستوى الأخلاق فلعله كان في سويسرا أرقى منه في أي بلد آخر باستثناء إسكندناوة، حيث أنتجت الظروف المماثلة نتائج مماثلة. فكانت أسرة الفلاح مثالاً للجد، والعفة، والوحدة، والتدبير. وكان في المدن بعض الفساد في السياسة وبيع المناصب، ولكن حتى في هذه الأماكن أعانت الخشونة التي ولدها المناخ القاسي، والإقليم الجبلي، والآداب البروتستنتية، على الاستقرار الخلقي. وكان اللباس محتشما سواء عند الأغنياء أو الفقراء. وظلت قوانين الإنفاق صارمة مرعية الجانب في سويسرا (11).
أما الدين فكان نصف الحكم ونصف الصراع. فالحضور إلى الكنيسة إجباري، والمدن من الصغر بحيث يستحيل على الخوارج المتمردين أن يجدوا ملاذا في زحمة الجماهير. ويوم الأحد يوم تعبد لا هوادة فيه، ويروى إن الحانات في زيورخ كانت تهتز بالمزامير ترتل فيها في يوم الرب (12). ولكن المذهبين المتنافسين - الكلفني والكاثوليكي- ضربا أسوأ أمثلة السلوك، لأنهما أطلقا العنان للحقد والكراهية وقيدا العقل بالأغلال. وحظرت بعض المقاطعات الكاثوليكية كل عبارة إلا الكاثوليكية، وبعض المقاطعات البروتستنتية كل عبادة إلا البروتستنتية (13). وحرم القانون الخروج على الكنيسة الرسمية وتأليف مذاهب مستقلة. وفي لوسرن عذب ياكوب شمدلن في 1747 ثم شنق لمحاولته تنظيم حركة "تقوية" مستقلة عن الكنيسة. وكان حلف يمين الالتزام بالكلفنية شرطاً لشغل المناصب السياسية أو الكنسية أو التعليمية في لمقاطعات البروتستنتية (14). وفرضت الكنيسة والدولة رقابة شديدة على المطبوعات. وفي مقاطعات الغابات تضافر فقر الفلاحين، والعواصف، وإنزلاقات الأرض، وانهيارات الثلوج، وآفات الزرع، والفيضانات، والرهبة من الجبال المحيطة بالسكان- كلها اجتمعت تولد فيهم خوفاً خرافياً من الأرواح الشريرة الساكنة في القمم المحملة والرياح المدومة، ولكي يقهر الفلاحون المكروبون أعداءهم الخارقين للطبيعة كانوا يتوسلون إلى قساوستهم أن يخرجوا الأرواح النجسة ويمنحوا قطعانهم البركة في مراسم دينية. وقد انتهى حرق المتهمين بالسحر في جنيف عام 1652،(37/118)
وفي برن عام 1680، وفي زيورخ عام 1701، وفي المقاطعات الكاثوليكية عام 1752، ولكن امرأة في جلاروز قطع رأسها عام 1782 وكانت تهمتها أنها سحرت طفلاً (15).
وانبثق لنور وسط هذه الظلمة بفضل المدارس الحكومية والمكتبات العامة. وكانت جامعة بازل تعاني اضمحلالا من جراء التعصب الديني، فلم تكد تقدر منجزات يوهان وياكوب ودانيل برنويللي، وأكرهت ليونارد أويلر على الهروب إلى قاعات أكثر سماحة لضيوفها. ولكن سويسرا رغم هذا أنجبت الأدباء والشعراء والعلماء في تناسب كامل مع عدد سكانها. وقد ذكرنا من قبل العالمين الزيورخيين يوهان ياكوب بودمير ويوهان ياكوب برايتنجر، وقد كان لهما أثر دائم على الأدب الألماني لأنهما عارضا إعجاب جوتشيد المفرط ببوالو والأشكال الكلاسيكية؛ ودافعا عن حقوق الوجدان، والعناصر الغيبية، بل اللامعقولة، في الأدب والحياة؛ وأشادوا بالشعر الإنجليزي وفضلا على الفرنسي، وقدما شكسبير وملتن لقراء الألمانية، وبعثا الأغاني القديمة (1751) وشعراء العصر الوسيط الغنائيين الألمان minnesungers وانتقل مذهبهم إلى ليسنج، وكلوبشتوك، وشيلر، والشاب جوته، وفتح الطريق للحركة الرومانسية في ألمانيا ولإحياء الاهتمام بالعصور الوسطى. وسار على هذا الدرب شاعر زيورخي يدعى سالومون جسنر، وأصدر قصائد"رعوية" (1756) فيها من فتنة الريف ما جعل أوربا بأسرها تترجمها، وشعراء مثل فيلاند وجوته يحجون إلى بيته.
وأنبه سويسريي القرن الثامن عشر ذكراً بعد جان جاك روسو هو البريشت فون هاللر البرني، أعظم الشعراء والعلماء في بلده وعصره. درس في برن، وتوبنجن، وليدن، ولندن، وباريس، وبازل، القانون والطب والفسيولوجيا والنبات والرياضة. فلما عاد إلى برن اكتشف جبال الألب. وأحس بجمالها وجلال خطوطها، فتدفق شعراً. وأصدر وهو بعد في الحادية والعشرين (1729) مجلداً من الشعر الغنائي سماه "الألب" ذهب كوكس المتحمس له إلى أنه شامخ خالد كالجبال التي يتغنى بها (16). وكان الكتاب(37/119)
سبقاً لروسو في كل شئ تقريباً. دعا العالم للإعجاب بجبال الألب لما فيها من علو شاهق ملهم وشهادة بعظمة الله؛ وأزرى بالمدن لأنها أوكار للترف والكفر تقضي انحلال الجسم والخلق، وأشاد بالفلاحين وأهل الجبال لصلابة عودهم ومتانة أيمانهم واعتدال عاداتهم. وأهاب بالرجال والنساء والأطفال أن يتركوا المدن ليعيشوا في الخلاء عيشة أبسط وأعقل وأصح.
ولكن علم هاللر هو الذي أذاع شهرته في أوربا. ففي 1736 عرض عليه جورج الثاني أستاذية النبات والطب والجراحة في جامعة جوتنجن. وهناك ظل يدرس سبعة عشر عاماً، بكفاية حملت أكسفورد وهاللي على دعوته، وأراد فردريك الأكبر أن يخلف موبرتوي عميداً لأكاديمية برلين، وحاولت كاترين الثانية إغراءه بالذهاب إلى سانت بطرسبورج وأرادت جوتنجن أن تعينه عميداً لها. ولكنه بدلا من هذا كله قفل إلى برن واشتغل طبيباً، واقتصادياً، ورئيساً لمقاطعته، وعكف في مثابرة على رائعة من روائع القرن العلمية هو كتابه"الأصول الفسيولوجية لجسم الإنسان" الذي سنلتقي به ثانية في مكان لاحق.
وظل طوال هذه السنين، وطوال اشتغاله بهذه العلوم، محتفظاً بنقاء صادق في عقيدته الدينية ونزاهة صارمة في أخلاقه. فلما قدم فولتير ليعيش في سويسرا خيل لهاللر أن الشيطان رفع رايته فوق جنيف ولوزان. وقد زار كازانوفا كلا من هاللر وفولتير في 1760، وكان ينافس هاللر في تذوقه للجمال. فلنستمتع مرة أخرى برواية كازانوفا لمغامرته المزدوجة:
كان هاللر رجلا كبير الجسم والعقل، طوله ستة أقدام، عريضاً في أبعاده-فهو عملاق في الجسم والعقل. وقد هش للقائي كثيراً، وفتح لي عقله، وأجاب عن كل أسئلتي في دقة وتواضع .. فلما أخبرته أنني أتطلع إلى لقاء المسيو فولتير، قال إنني محق تماماً في تطلعي هذا، وأضاف دون مرارة "أن المسيو فولتير رجل يستحق أن يعرفه المرء، رغم أن كثيراً من الناس وجدوه أعظم عن بعد، وهذا يناقض قوانين الفيزياء".(37/120)
وبعد بضعة أيام زار كازانوفا فولتير في فيلته المباهج": قلت له: مسيو فولتير، هذا اليوم مفخرة حياتي الكبرى. لقد كنت تلميذك طوال عشرين عاماً، وإن قلبي ليطرب لروية معلمي.
وسألني من أين جئت.
قلت "من روش. إنني لم أرد أن أبرح سويسرة دون أن أرى هاللر .. ولقد احتفظت بك كأنك النقل أختم به طعامي. "
"هل سررت من هاللر؟ "
"لقد أنفقت معه ثلاثة من أسعد أيام حياتي. "
"إني أهنئك"
"يسرني أنك تنصفه. ويؤسفني أنه لا ينصفك إنصافك إياه". "
"أها! ربما كان كلانا مخطئاً" (17).
وفي 1775، نشر هاللر آخر كتبه وكأنه يذيع على العالم كلمته الأخيرة، واسم الكتاب "وسائل تتناول عدة محاولات أخيرة للفكر الحر .. ضد الوحي"، وهو محاولة جادة لمعارضة كتاب فولتير "أسئلة في الموسوعة. " وكتب رسالة مؤثرة للزنديق الرهيب، دعاه (وهو في الحادية والثمانين) إلى أن يستعيد "تلك السكينة التي تهرب حين تدنو العبقرية"، ولكنها تقبل على الإيمان الواثق؛ " عندها سيكون أشهر رجل في أوربا أسعدهم كذلك" (18). على أن هاللر نفسه لم يظفر بهذه السكينة قط. فقد كان برما في المرض لفرط إحساسه بالألم "كان في سنواته الأخيرة يدمن تعاطي الأفيون الذي لم يكن له من أثر إلا زيادة ضجره الفطري لأنه لم يكن سوى ملطف وقتي لألمه" (19). وكان يعاني من خوف الجحيم، ويلوم نفسه على فرط ما بذل "لنباتاتي وغيرها من الحماقات" (20). وقد أدرك السكينة في 12 ديسمبر 1777.
3 - جنيف
لم تكن جنيف في هذا القرن مقاطعة داخلة في الاتحاد، بل جمهورية قائمة بذاتها- المدينة وما وراء البحيرة - تتكلم الفرنسية وتدين بالمذهب(37/121)
الكلفني. وقد وصفها دالامبير في مقاله عنها في "الموسوعة" وصف معجب بها كما رآها في 1756:
من العجيب أن مدينة لا يزيد سكانها على 24. 000 نسمة وتشمل رقعتها أقل من ثلاثين قرية، قد حافظت على استقلالها، وهي من أكثر المجتمعات ازدهاراً في أوربا. وهي في غناها بحريتها وتجارتها ترى كل ما حولها يشعل دون أن يمسها من ذلك أذى. فالأزمات التي تضطرب بها أوربا ليست بالنسبة لها غير مشهد تتفرج عليه دون أن تشارك فيه. وهي مع ارتباطها بفرنسا برباط الحرية والتجارة، وبإنجلترا برباط التجارة والمذهب الديني، تبدي رأيها بإنصاف في الحروب التي تخوضها هاتان الأمتان الواحدة ضد الأخرى، ولكنها أحكم من أن تنحاز لإحداهما. وهي تصدر حكمها على جميع ملوك أوربا دون تملق، أو إساءة، أو خشية (21).
وكانت هجرة الهيجونوت من فرنسا نعمة على جنيف، لأنهم جلبوا إليها مدخراتهم ومهاراتهم، وجعلوا المدينة عاصمة صناعة الساعات في العالم بأسره. وقد قدرت مدام دبينيه عدد المشتغلين بتجارة المجوهرات بستة آلاف (22). فأصبح جاك نكير وزيراً لمالية لويس السادس عشر، وألبير جالاتان وزيراً لخزانة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جفرسن.
وكان الحكم في جنيف امتيازاً طبقياً شأنه في كل المقاطعات، فلا يقبل في الوظائف العامة غير السكان الذكور الذين ولدوا في جنيف لآبا وأجداد مواطنين. وتلي طبقة الأشراف هذه طبقة البورجوازية من أرباب الصناعات، والتجار، وأصحاب الحوانيت ومعلمي الحرف، وأعضاء المهن. وكان الأشراف والبورجوازيون، الذين قل أن جاوز عددهم ألفاً وخمسمائة (23)، يجتمعون كل سنة في كاتدرائية القديس بطرس لينتخبوا "مجلساً كبيراً" من مائتي عضو "ومجلساً صغيراً" من خمسة وعشرين عضواً. ويختار المجلسان أربعة مأمورين، كل منهم لعام واحد، رؤساء تنفيذيين للدولة. وهناك طبقة ثالثة مجردة من حق الانتخاب، هم "المستوطنون" المنحدرون من آباء أجانب، وطبقة رابعة هم "الأهالي" المولودون في جنيف لجنيفيين(37/122)
غير وطنيين هؤلاء "الأهالي" الذين ألفوا ثلاثة أرباع السكان لم يكن لهم من الحقوق المدنية غير دفع الضرائب، فهم لا يستطيعون الاشتغال بالأعمال التجارية أو المهن ولا بوظائف الجيش أو برآسة حرفة في نقاب. ولقد دار التاريخ السياسي لهذه الجمهورية حول الصراع البورجوازيين للحصول على حق شغل وظائف الدولة، وصراع الطبقتين الدينيتين للحصول على حق التصويت. وفي 1737 امتشق مواطنو المدينة الحسام ليقاتلوا طبقة الأشراف، وأكرهوها على قبول دستور جديد يقضي لجميع الناخبين بالحق في أن ينتخبوا أعضاء في المجلس الكبير، ولهذا المجلس حق إصدار القرارات النهائية في مسائل الحرب والسلم، والأحلاف والضرائب، وإن كان التشريع لا يقدم إلا من المجلس الصغير، أما"الأهالي" فقد سمح لهم بالاشتغال ببعض المهن مع بقائهم محرومين من التصويت. وظلت الحكومة أوليجاركية، ولكنها كانت تدار بكفاية، ومحصنة نسبياً ضد الفساد.
وكان يلي طبقة الأشراف في النفوذ مجمع القساوسة الكلفينين. فقد نظم هذا المجمع شئون التعليم، والأخلاق، والزواج، ولم يسمح بأي تدخل في سلطته من السلطة العلمانية. ولم يكن هنا أساقفة ولا رهبان. وقد أشاد الفيلسوف دالامبير بفضائل الأكليروس الجنيفي ووصف المدينة بأنها أشبه بجزيرة من الأدب والعفة، رآها النقيض للفوضى الخلقية التي فشت بين فرنسي الطبقة العليا. أما مدام دبينيه فبعد أن مارست العديد من العلاقات الغرامية، امتدحت "العادات الصارمة ... لشعب حر، هو عدو للترف (24).
ولكن رجال الدين زعموا أن شباب جنيف يفسد في لكباريهات، وأن الصلوات العائلية تتقلص، وأن الناس يثرثرون في الكنيسة، وأن بعض المصلين المتواجدين في المؤخرة يأخذون أنفاساً من "بيباتهم" ليستعينوا بها على ابتلاع العظة (25). وشكا الوعاظ من عجزهم عن توقيع العقوبات إلا الروحي منها، ومن إغفال تحذيراتهم وإنذاراتهم إغفالا متزايداً.
وقد أبهج فولتير أن يجد العديد من رجال الدين الجنيفيين متقدمين نوعاً ما في لاهوتهم. فقد أتوا ليستمعوا بضيافته في فيللا المباهج، واعترفوا له سراً(37/123)
بأنهم لا يحتفظون من عقيدة كلفن القائمة إلا بالقليل. وقد أشار أحدهم، وهو جاك فيرن، في كتابه "التعليم المسيحي" (1754) بأن يبني الدين على العقل حين يخاطب الكبار، أما "عامة الناس ... فمن المفيد أن تشرح لهم هذه الحقائق ببعض الطرق الشعبية ببراهين تصلح ... لإحداث أثر أكبر في عقول الجماهير" (26). وكتب فولتير إلى سيدفيل (12 أبريل 1756) يقول: "لم تعد جنيف هي جنيف كلفن-بل على العكس، فهي بلد يحفل بالفلاسفة. و"المسيحية المعقولة" التي نادى منها لوك هي دين كل القساوسة تقريباً، وعبادة كائن أعلى عبادة مقترنة بنسق أخلاقي، هي دين كل القضاة الآتية: في "مقال الأعراف" (1756).
"يبدو أن ترضية تقدم اليوم لرماد سرفيتوس، فإن رعاة الكنائس البروتستنتية المثقفين. قد اعتنقوا آراءه (التوحيدية) " (28).
أما دالامبير، فبعد أن زار جنيف وبيت فولتير (1756)، وبعد أن تحدث إلى بعض القساوسة، وتبادل الرأي مع فولتير، كتب للمجلد السابع (1757) من الموسوعة مقالا عن جنيف أثنى فيه على تحرر إكليروسها فقال:
"إن العددين منهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح الذي كان زعيمهم كلفن شديد الغيرة في الدفاع عنه والذي أمر بسببه بحرق سرفيتوس .. وجهنم التي هي أحد أركان إيماننا لم تعد كذلك عند الكثيرين من قساوسة جنيف. فهم يقولون أن من الإهانة لله أن نتصور أن هذا الكائن الذي يفيض طيبة وعدلا في طاقته أن يعاقب أخطاءنا بألوان من العذاب الأبدي ... وهم يعتقدون أم هناك عقوبات في حياة أخرى، ولكنها مؤقتة. فالمظهر الذي كان من أهم أسباب انفصال البروتسنت عن كنيسة روما، هو اليوم العقاب الوحيد الذي يسلم به كثير منهم للخاطئ بعد موته، وهذه لمسة جديدة تضاف إلى تاريخ تناقضات البشر.
والخلاصة أن الكثير من رعاة جنيف لا يدينون بغير السوسنيانية الخالصة، ويرفضون كل ما يسمى أسراراً، ويتصورون أن أول مبدأ للدين الحق هو(37/124)
ألا يطلب إلى الناس الإيمان بشيء يناقض العقل ... وهكذا نرى من الناحية العلمية أن الدين اختزل إلى عبادة إله واحد، على الأقل بين جميع الذين لا ينتمون إلى طبقات العوام" (29).
فلما قرأ رجال الدين الجنيفيون هذا المقال انزعجوا كلهم- المحافظون منهم لوجود أمثال هؤلاء المهرطقين على المنابر الكلفنية، والمتحررون لفضح هرطقاتهم الخاصة على هذا النحو. وقامت لجنة بفحص الرعاة المشبوهين فأنكروا بشدة مزاعم دالامبير، وأصدرت اللجنة تأكيداً رسمياً جديداً للسنية الكلفنية (30).
على أن كلفن نفسه كان من بواعث هذه الاستنارة الشائعة التي أطراها دالامبير، لأن الأكاديمية التي أسسها أصبحت الآن من أروع المؤسسات التعليمية في أوربا. لقد علمت طلابها المذهب الكلفني، ولكنها لم تغل في تعليميه، وزودتهم بدراسات ممتازة في الأدب الكلاسيكي، وأعدت معلمين أكفاء لمدارس جنيف-وتحملت الدولة جميع النفقات. وأعارت مكتبة تضم 25. 000 مجلد الكتب للجماهير، وقد وجد دالامبير "الشعب أفضل تعليما منه في أي بلد آخر" (31).
وأدهش كوكس أن يسمع تجاراً يناقشون الأدب والسياسة بذكاء. وفي هذا القرن أسهمت جنيف في العلوم بمنجزات شارل بونيه في الفسيولوجيا وعلم النفس، ومنجزات أوراس دسوسير في الأرصاد الجوية والجيولوجيا. أما في الفن أعطت العالم فنانها جان إتين ليوتار، بكل ما في كلمة العطاء من معنى. ذهب إلى روما بعد أن درس في جنيف وباريس، فصور هناك البابا كلمنت الثاني عشر وكرادلة كثيرين، ثم إلى الآستانة حيث عاش وعمل خمس سنوات، ثم إلى فيينا، وباريس، وإنجلترا، وهولندا، حيث كسب قوته من صنع اللوحات الشخصية، والصور بالباستل، وبالمينا، وبالمحفورات والصور على الزجاج. وقد رسم صورة أمينة غاية الأمانة لنفسه في شيخوخته (32) ظهر فيها أقرب من فولتير إلى القردة العليا.(37/125)
أما في ميدان الأدب فلم توفق جنيف توفيقاً يذكر. ذلك أن الرقابة اليقظة على المطبوعات فنقت الطموح والأصالة الأدبيين. فحظرت الدراما باعتبارها مباءة للفضائح. وحين أخرج فولتير مسرحيته "زائير" أول مرة في 1755 في قاعة الاستقبال بفيللا دليس، تذمر رجال الدين، ولكنهم تسامحوا ي الجريمة باعتبارها عيباً خاصاً في ضيف كبير. ولكن حين نظم فولتير فرقة من الممثلين من شباب جنيف، وعرض سلسلة من التمثليات، طالب المجمع الكنسي (31 يوليو 1752) المجلس الكبير بتطبيق مراسيم 1732و1739 التي تحظر كل عروض للمسرحيات عامة كانت أو خاصة، وأمر الرعاة بمنع رعاياهم من "تمثيل أدوار في المآسي ببيت السيد فولتير. " وأعلن فولتير توبته، ولكنه أخرج المسرحيات في بيته الشتوي بلوزان. ولعله هو الذي أوعز لدالامبير بأن يضمن المقال المذكور الذي كتبه عن جنيف نداء لرفع الحظر:
ليس السبب استهجان جنيف للمسرحيات في ذاتها، بل لأنها (كما يقولون) تخشى الميل إلى التبرج، والانحلال، والإباحية التي تنشرها الفرق المسرحية بين الشباب، ومع ذلك، أليس في الإمكان علاج هذه المساوئ بقوانين صارمة مرعية التنفيذ؟ ... إن الأدب في هذه الحالة ينهض دون أن يزيد الرذيلة وستجمع جنيف بين حكمة إسبرطة وثقافة أثينا.
ولم يستجيب المجمع الكنسي لهذا النداء، ولكن جان جاك روسو رد عليه (كما سنرى) في خطابه المشهور"خطاب إلى مسيو دالامبير عن المسرحيات" (1758). وبعد أن اشترى فولتير إقطاعية فيرنيه تخطى الحظر ببناء مسرح في شاتلين، على أرض فرنسية ولكن بجوار حدود جنيف. هناك أخرج التمثيليات، واستقدم لحفلة الافتتاح أكبر ممثلي باريس، هنري لوي لوكان. وحظر رعاة جنيف حضور التمثليات، ولكن الحفلات وجدت إقبالا شديداً من الجماهير حتى أن قاع المسرح كان يغص بالنظارة قبل بدء البرنامج بساعات في هذه المناسبات، حين يكون مقرراً أن يظهر لوكان على المسرح. وكسب المقاتل العجوز آخر الأمر معركته، ففي 1766 أنهى المجلس الكبير حظر جنيف لتمثيليات.(37/126)
4 - التاريخ الجديد
وصف شاهد عيان أداء لوكان دوره في مسرحية فولتير "سميراميس" ظهور لمؤلف في المسرح فقال:
كان فولتير جزءاً لا يستهان به في العرض، وهو جالس في صدر بنوار أول، في مواجهة جميع النظارة، يصفق كمن به مس، مبدياً استحسانه تارة بعصاه وتارة بعبارات الإعجاب "ليس في الإمكان أبدع مما كان! آه، رباه، ما كان أروع تمثيل هذا الجزء! " ... وبلغ من عجزه عن السيطرة على حماسته أنه ما أن ترك لوكان خشبة المسرح ... حتى جرى خلفه ... ولا يمكن تصور مفارقة أدعى للضحك من هذه، فقد أشبه فولتير واحداً من شيوخ الكوميديا-بجواربه المطوية على ركبتيه، والزي الذي يرتديه-زي "أيام زمان الحلوة" وهو لا يتماسك فوق ساقيه المرتعشتين إلا بالتوكؤ على عصاه، وكل أمارات الشيخوخة مرتسمة على محياه، فخداه غائران متغضنان، وأنفه مستطيل، وعيناه أوشكتا أن ينطفئ بريقهما" (33).
وبين المسرحيات والسياسة، والزوار، وفلاحة حديقته، وجد متسعاً من الوقت ليكمل في فيللته"دليس" عملين كبيرين وينشرهما. وقد ساءت سمعة الأول لما قيل عن خروجه عن للياقة، أما الثاني فقد فتح عهداً جديداً في كتابة التاريخ.
كان يحتفظ بقصيدته"لابوسيل"منذ 1730 باعتبارها ترفيهاً أدبياً: ويبدو أنه لم يكن في نيته أن ينشرها، لأنها لم تكتف بالتهكم بعذراء أورليان (جان دارك) البطلة، بل هاجمت عقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وجرائمها، وشعائرها، وأخبارها. وأضاف الأصدقاء والأعداء إلى مخطوطاتها المتداولة ينهم نتفاً فيها من البذاءة والمرح ما كان حتى فولتير ليكتبه. والآن، في 1755، بعد أن وجد الهدوء والسلام في جنيف، ظهرت في بازل طبعة مسروقة من القصيدة. فحرمها البابا، وأحرقها برلمان باريس، وصادرتها شرطة جنيف، وزج بناشر باريسي في سفينة الأسرى والعبيد لأنه أعاد إصدارها في 1757. وقد أنكر فولتير أنه كاتبها، وأرسل إلى ريشليو، ومدام بومبادور، وبعض موظفي الحكومة، نسخاً من نص مهذب نسبياً، وفي 1762 نشر هذا النص،(37/127)
فلم يناكده أحد بسببه. وحاول أن يكفر عن إساءته لجان دارك بتصويرها صورة أكثر إنصافاً وجداً في كتابه "مقال عن الأعراف" (34).
وقد قصد بهذا المقال أن يكون رائعته الكبرى، وكان أيضاً-بمعنى من المعاني-أثراً يخلد العشيقة التي استعاد ذكراها. ذلك أنه تقبل الاحتقار الذي صبته مدام دشاتليه على من عرفت من مؤرخين محدثين على أنه تحد له: قالت "ماذا يهمني، أنا المرأة الفرنسية التي تسكن ضيعتها هذه أن أعرف أن إيجل خلف هاكون على عرش السويد، وأن عثمان كان ابن أرطغرل؟ إنني قرأت بلذة تاريخ اليونان والرومان، ولقد قدموا لي صوراً رائعة اجتذبتني، ولكني لم أستطع إلى الآن أن أكمل قراءة أي تاريخ مطول لأممنا الحديثة. ولا أكاد أرى في هذه التواريخ شيئاً غير الخلط والتشويش: فهي حشد من الأحداث الصغيرة التي لا ترابط بينها ولا تسلسل، وألف معركة لم تحسم شيئاً. لقد زهدت في دراسة تغرق العقل دون أن تنيره (35).
ووافقها فولتير على هذا الرأي، ولنه كان يعرف أن هذا ليس إلا التاريخ "كما يكتب". ولقد أسف على مسخ الأهواء الحاضرة للماضي، ففي هذا المعنى "ليس التاريخ إلا مجموعة حيل ندخلها على الموتى (1) (36) ومع ذلك فإن إغفال التاريخ معناه أن تكرر إلي مالا نهاية أخطاءه، ومذابحه، وجرائمه. وهناك ثلاثة مسالك تفضي إلى هذا المنظور الفسيح السمح الذي يسمى الفلسفة: أولها دراسة البشر في الحياة عن طريق التجربة، الثاني دراسة الأشياء في المكان عن طريق العلم، الثالث دراسة الأحداث في الزمان عن طريق التاريخ. وحاول فولتير أن يسلك المسلك الثاني بدراسة نيوتن؛ ثم اتجه الآن إلى الثالث. ومنذ عام 1738 وضع هذا المبدأ الجديد "يجب أن يكتب المرء التاريخ مفلسفاً (38). وعليه فقد عرض على المركيزة ما يلي:
لو أنك تخيرت من بين هذا القدر الوافر من المادة الغفل التي لم تتشكل ما تبنين به صرحاً لاستعمالك الخاص، ولو أنك رغم إسقاطك كل تفاصيل الحروب ... وكل المفاوضات التافهة التي لم تكن سوى ألوان من الخبث
_________
(1) الظاهر أن فنيلون، لا فولتير، هو القائل إن "التاريخ ليس إلا خرافة متفقا عليها" (37). ولكن الاتفاق ليس واضحاً.(37/128)
واللؤم لا غناء فيها ... ولو أنك رغم احتفاظك بتلك التفاصيل التي تصور العادات، استطعت أن تؤلفي من تلك الفوضى صورة عامة واضحة المعالم؛ ولو أنك اكتشفت في الأحداث "تاريخ العقل البشري" أفتعتقدين عندها أنك ضيعت وقتك هباء؟ " (39).
وظل عاكفاً على مشروعه هذا على مراحل متقطعة مدى عشرين عاماً يقرأ بنهم، ويسجل المراجع، ويجمع الملاحظات، حتى إذا جاء عام 1739، وضع لمدام شاتليه "مجملا للتاريخ العام"؛ وفي 1745 - 46 طبعت أجزاء منه في صحيفة "لامركير دفرانس". وفي 1750 أصدر "تاريخ الحروب الصليبية"؛ وفي 1753، في لاهاي، ظهر "المجمل" في مجلدين، وفي 1754 في ثلاثة، وأخيراً نشر النص الكامل بجنيف في 1756 في سبعة مجلدات بعنوان "مقال في التاريخ العام"، وكان يشمل "عصر لويس الرابع عشر" وبعض فصول تمهيدية عن الحضارات الشرقية. وفي 1762 أضاف "خلاصة لعصر لويس الرابع عشر" وثبتت طبعة 1796 العنوان النهائي للكتاب كالآتي: "مقال في أعراف الأمم وروحها منذ شرلمان حتى أيامنا هذه "وكلمة الأعراف moeurs لم تكن العادات والأخلاق فحسب، بل التقاليد والأفكار والمعتقدات والقوانين. ولم يغط فولتير دائماً كل هذه المواضيع، ولا دون تاريخ الثقافة، أو العلم، أو الفلسفة، أو الفن؛ ولكن كتابه كان مجموعة تناولا جزيئاً لتاريخ الحضارة من أقدم العصور حتى زمانه. والأجزاء التي عالجت تاريخ المشرق مقدمات موجزة، أما القصة الأكمل فتبدأ بشرلمان، حيث توقف كتاب بوسويه "حديث في التاريخ العالمي" (1679). كتب فولتير يقول "أريد أن أعرف ما هي الخطوات التي انتقل بها البشر من الهمجية إلى المدينة"-وهو يعنى الانتقال من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة" (40).
وقد أثنى على بوسويه لمحاولته كتابة "تاريخ عالمي". ولكنه اعترض على تصور هذا التاريخ تاريخاً لليهود والمسيحيين، ولليونان والرومان(37/129)
في علاقاتهم بالمسيحية على الأخص. وهاجم إهمال الأسقف بوسويه للصين والهند، وفكرته عن العرب، أنهم مجرد زنادقة همج. وأقر بالجهد الفلسفي الذي بذله سلفه في البحث عن موضوع موحد أو عملية رابطة في التاريخ، ولكنه لم يستطيع موافقته على أن التاريخ يمكن تفسيره تدبيراً تسيره العناية الإلهية، أو برؤية يد الله في كل حدث كبير. فلقد رأى التاريخ -بدلا من هذا- المسيرة البطيئة المترددة التي خطا بها الإنسان، بفضل الأسباب الطبيعية والجهد البشري، من الجهل إلى المعرفة، ومن المعجزات إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل. ولم يستطيع رؤية أي خطة إلهية في دوامة الأحداث. وقد جعل من الدين المنظم شخصية "الشرير" في قصته، ربما انتفاضاً على بوسويه لأنه بدا له على العموم حليفاً للظلامية، ميالاً إلى الطغيان، مثيراً للحرب. وهكذا دفع فولتير حرصه على استنكار التعصب والاضطهاد إلى الغلو في تحميل قصته من جانب، غلو بوسويه في تحميلها من الجانب الآخر.
وفي منظوره العالمي الجديد الذي أتاحه له تقدم الجغرافيا بفضل تقارير الرواد، والمبعوثين الدينيين، والتجار، والرحالة، اتخذت أوربا مكاناً أكثر تواضعاً في لوحة التاريخ الواسعة. فقد أعجب فولتير بتلك "المجموعة من لمشاهدات الفلكية التي تجمعت خلال ألف وتسعمائة سنة متعاقبة في بابل، والتي نقلها الاسكندر إلى اليونان" (41) وخلص إلى أنه لا بد أن دجلة والفرات قد غنيا بحضارة راقية، لا تظفر عادة بأكثر من جملة أو جملتين في تواريخ كتاريخ بروسويه. وتأثر أكثر بعراقة الحضارة في الصين وانتشارها وتفوقها؛ ومع ذلك فإن هذه الأمة وأمة الهند، أقدم الدول الحية ... اللتين اخترعتا كل الآداب والفنون تقريباً قبل أن نعرف واحداً منها، كان نصيبها الإغفال حتى يومنا هذا في تواريخنا التي نزعم أنها عالمية. " (42) وقد طاب لهذا المقاتل عدو المسيحية أن يجد ويقدم للقراء الكثير من الحضارات العظيمة التي سبقت المسيحية بزمن طويل، والتي لم يكن لها أي علم بالكتاب المقدس، ومع ذلك أنجبت الفنانين، والشعراء، والحكماء، والقديسين،(37/130)
قبل مولد المسيح بأجيال كثيرة. وقد أبهج عدو السامية المرابي، الحانق، أن يختزل كثيراً ذلك الذي قامت به يهوذا في التاريخ.
على أنه بذل بعض الجهود لينصف المسيحيين. فليس كل البابوات في صفحاته أشراراً، ولا كل الرهبان طفيليين. ولم يضن على رجل كالبابا إسكندر الثالث بكلمة طيبة، فقد "ألغى العبودية الإقطاعية ... ورد حقوق الشعب، وعاقب لؤم الرؤوس المتوجة" (43). وأعجب بالشجاعة الهائلة "التي اتصف بها بوليوس الثاني، وعظمة آرائه" (44) وتعاطف مع الجهود البابوية لإقامة سلطة أخلاقية تكبح حروب الدول ومظالم الملوك. واعترف بأن أساقفة الكنيسة، بعد سقوط الدول الرومانية الغربية، كانوا أكفأ الحكام في ذلك العصر الذي كان يضم أوصاله بعدما أصابها من تفكك. ثم:
"في تلك العصور الهمجية، والناس غية في البؤس، كان من التعزيات الكبرى أن يجد المرء في الديورة ملاذاً آمناً من الظلم والطغيان (45) .... ولا نكران في أن الدير كان يضم فضائل عظمى، فلم يكد يوجد دير لم يحو أفراداً جديرين بالإعجاب يشرفون الطبيعة البشرية. وقد طاب للكثيرين جداً من الكتاب أن ينبشوا عن المفاسد والرذائل التي لوثت أحياناً بيوت التقوى والصلاح هذه" (46).
ولكن فولتير، الذي تورط مع الموسوعيين المتحفزين للمعركة في حرب مع الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، أكد بوجه عام على أخطاء المسيحية في التاريخ، وهون من اضطهاد روما للمسيحيين، وسبق جيبون إلى اعتبار هذا الاضطهاد أقل تكراراً من اضطهاد الكنيسة للمهرطقين. ثم سبق جيبون أيضاً إلى القول بأن الدين الجديد أضعف الدولة الرومانية. وذهب إلى أن القساوسة اغتصبوا السلطان ببث التعاليم السخيفة بين الجهال والسذج، وباستعمال قوة الطقوس المنومة لإماتة العقل وتقوية هذه الأوهام. ورمى البابوات بأنهم بسطوا نفوذهم وجمعوا الثروات باستعمال وثائق مثل "هبة قسطنطين" التي يسلم الناس عموماً الآن بأنها زائفة وصرح بأن محكمة التفتيش الإسبانية، ومذبحة الأليجنس المهرطقين، هما أحط ما وعى التاريخ من أحداث.(37/131)
وبدت له العصور الوسطى في العلم المسيحي فاصلا مقفراً بين جوليان ورابليه، ولكنه كان من أول من اعترفوا بدين الفكر الأوربي لعلم العرب وطبهم وفلسفتهم. وأشاد بلويس التاسع مثلا أعلى للملك المسيحي، ولكنه لم ير نبلاً في شرلمان، ولا فهماً في الفلسفة المدرسة (الكلامية)، ولا عظمة في الكاتدرائيات القوطية التي أنكرها لأنها "خليط غريب من الجلافة والتخريم" ولم يكن متوقعاً من روحه المطاردة أن تقدر دور العقيدة والكهانة المسيحيتين في تشكيل الخلق والفضائل وحفظ النظام والسلام في المجتمعات، وتشجيع كل الآداب والفنون تقريباً، وإلهام الموسيقى الرائعة، وتجميل حياة الفقراء بالمراسيم والأعياد والتراتيل والأمل. ولا عجب، فلقد كان إنساناً يخوض حرباً، ولا يستطيع إنسان أن يقاتل ما لم يتعلم الكراهية. والغالب وحده هو الذي يستطيع تقدير عدوه حق قدره.
أكان مصيباً في وقائعه؟ عموماً، ولكنه ارتكب أخطاء بالطبع، وقد نشر الأبيه نونوت مجلدين بعنوان "أغلاط فولتير"، وأضاف بعضاً من أغلاطه هو (47). ولكن روبرتسن، وهو مؤرخ كبير، أعجب بدقة فولتير عموماً في هذا الميدان الشاسع (48). ولما كان فولتير يغطي هذه المواضيع الكثيرة في هذه الأقطار الكثيرة خلال قرون كثيرة، فهو لم يدع أنه تقيد بالوثائق الأصلية أو المصادر المعاصرة، ولكنه استعمل مراجعه الثانوية بتمييز ووزن حكيم للشواهد. ورسم لنفسه قاعدة هي التشكك في أي شهادة تناقص "الحسن المشترك" أو الخبرة العامة للنوع الإنساني. ولا ريب في أنه كان معترفاً في أيامنا هذه بأن غرائب عصر ما قد تقبل في العصر الذي يليه على أنها أمور عادية، ولكنه وضع هذا المبدأ الهادئ، وهو "أن عدم التصديق هو الأساس لكل أنواع المعرفة" (49). وهكذا سبق بارتولد نيبور في رفضه الفصول الأولى لليفي لأنها من قبيل الأساطير، وسخر من قصة رومولوس، وريموس، والذئبة التي كانت لهما الأم الرؤم، وسخف مزاعم ليفي، واتهم تاسيتوس بالمبالغات الانتقامية في وصفه لرذائل طبباريوس، وكلوديوس، ونيرون، وكاليجولا؛ وارتاب في هيرودوت وسوتنيوس لأنهما مروجان للشائعات والأقاويل، وذهب إلى أن في بلوتارخ من الولع بالنوادر ما لا يجعله موضع الثقة الكاملة، ولكنه قبل تيوسبديدس، وزينوفون،(37/132)
ويوليبيوس، مؤرخين جديرين بالثقة. وتشكك في الأخبار التي كتبها الرهبان، ولكنه أثنى على دوكانج ونللمون "المدقق" ومابيون "العميق" ورفض أن يواصل التقليد القديم، تقليد الخطب الخيالية، أو التقليد الحديث، تقليد "اللوحات"التاريخية. وأنزل مكان الفرد في المجرى العام للأفكار والأحداث، وكان الأبطال الوحيدون الذين عبدهم هم أبطال العقل.
وقد ألمع فولتير في "المقال" وفي غيره إلى فلسفته في التاريخ دون أن يصوغها. وكتب "فلسفة للتاريخ" وقدم بها لطبعة من "المقال" في 1765. وكان ينفر من "مذاهب" الفكر، ومن كل المحاولات لاختزال الكون في صيغة أو قانون، ويعرف أن الحقائق أقسمت أن تكون خصماً أبدياً للتعليمات. ولعله أحس أن أي فلسفة للتاريخ ينبغي أن تلي سرد الأحداث وتنبع منه، لا أن تسبقه وتقرره. على أن استنتاجات عريضة انبعثت من روايته للتاريخ: فالحضارة سبقت "آدم" و"الخليقة" بآلاف السنين؛ والطبقة البشرية في جوهرها واحد في كل زمان ومكان، ولكن شتى العادات والتقاليد عدلتها تعديلا منوعاً، وأن المناخ والحكومة، والذين، هي العوامل الأساسية التي تقرر هذه الاختلافات، وأن دولة العادات والتقاليد أوسع كثيراً من دولة الطبيعة" (50) والاتفاق والمصادفة (في نطاق السلطات الشامل للقوانين لطبيعة (يلعبان دوراً هاماً في توليد الأحداث، والتاريخ لا تصنعه عبقرية الأفراد بقدر ما تصنعه الأفعال الغريزية التي تؤثر بها الجماهير البشرية في بيئتها؛ وهكذا تنتج، جزءاً فجزءاً، العادات، والأخلاق، والاقتصاديات، والقوانين، والعلوم، والفنون والآداب التي تصغ حضارة وتبعث روح العصر. "إن هدفي الرئيسي هو دائماً ملاحظة روح العصر، لأنه هو الذي يوجه أحداث العالم الكبرى" (51).
والتاريخ في جملته، كما فولتير في "تلخيصه"، قصة مرة محزنة (كما يكتب عموماً).
"لقد اجتزت الآن المشهد الضخم للثورات التي عرفها العالم منذ عهد شارلمان؛ فإلام كان اتجاهها؟ إلى الخراب، وخسارة ملايين الأنفس! فكل حدث كبير كان نكبة كبرى. ولم يحفظ لنا التاريخ وصفاً لعصور السلم(37/133)
والطمأنينة؛ فهو لا يروي غير الغارات المدمرة والكوارث ... والتاريخ كله بإجاز، ليس إلا سلسلة طويلة من أعمال القسوة العقيمة ... مجموعة من الجرائم، والحماقات، والنكبات، التقينا وسطها بين الحين والحين ببعض الفضائل، وبعض الأوقات السعيدة، أننا حين نرى أحياناً أكواخاً مبعثرة في صحراء مقفرة ... وبما أن الطبيعة ألقت في قلب الإنسان الأنانية والكبرياء وجميع الأهواء، فلا عجب إذن ... أن نلتقي بسلسلة من الجرائم والكوارث لا تكاد تنقطع" (52).
وهذه صورة مقبضة جداً وكأن صاحبها رسمها فيما بين أيامه النكدة في برلين، أو وسط ضروب الإهانة والقهر التي لقيها فرنكفورت. ولعل الصورة كانت تصبح أكثر إشراقاً لو أن فولتير أنفق صفحات أكثر على رواية تاريخ الأدب، والعلم، والفلسفة، والفن. أما والصورة قائمة إلى هذا الحد، فإنا نتساءل: ما باله قد جشم نفسه كل هذه المشقة ليرسمها بهذا الإسهاب الشديد؟ ولعله كان يجيب: لكي يصدم القارئ حتى يتنبه ضميره وفكره، ويهز الحكومات حتى تعيد صياغة التعليم والتشريع لتكون ناساً أفضل. صحيح أننا لا نستطيع أن نغير الطبيعة البشرية، ولكنا نستطيع أن نعدل تصرفاتها بتقاليد وعادات أصح وشرائع أحكم. وإذا كانت الأفكار قد غيرت العالم، فلم لا تصنع الأفكار الأفضل عالماً أفضل؟ وهكذا خفف فولتير في النهاية من تشاؤمه بالأمل في نشر التعقل عاملا صابراً من عوامل النهوض بالبشر.
وسرعان ما نقد الناقدون ما في "مقال الأعراف"؛ من عيوب. فلم يقتصر الأمر على نونوت، بل إن لارشير، وجينيه، وكثيرين غيرهم نددوا بأخطاء الحقائق التي وردت فيه، ولم يعسر على اليسوعيين كشف التحامل لذي شوهه. واتفق معهم مونتسكيو في الناحية فقال "إن فولتير يشبه الرهبان الذين لا يكتبون من أجل الموضوع الذي يعالجونه، بل لمجد طائفتهم؛ إنه يكتب من أجل ديره. " (53) ورد فولتير على نقاده بأنه أكد على أخطاء المسيحية لأن غيره ما زالوا يدافعون عنها؛ ثم استشهد(37/134)
بأقوال مؤلفين معاصرين امتدحوا الحروب التي شنت على الالبيجنس، وإعدام هس، بل مذبحة القديس برتلميو، فالعالم يحتاج ولا ريب إلى التاريخ يدمغ هذه الأفعال بالإجرام ضد الإنسانية والفضيلة (54). -وربما أخطأ فولتير في فهم وظيفة المؤرخ رغم كل فكرته المنيرة عن الكيفية التي ينبغي أن يكتب بها التاريخ، فلقد جلس في مجلس القضاء يحاكم كل شخص وكل حادث، ويصدر الأحكام كأنه "لجنة أمن عام" التزمت بحماية الثورة الفكرية ودفعها قدماً. وقد حكم الناس لا بلغة زمانهم الفاسد ومعرفتهم المحدودة، بل في ضؤ المعرفة الأوسع التي توافرت منذ أن ماتوا. وقد ألف فولتير "المقال" في أوقات متفرقة على مدى عشرين عاماً، وسط الكثير من المغامرات والشدائد التي شتتت انتباهه، لذلك افتقر هذا الكتاب إلى اتصال الرواية ووحدة الشكل، ولم يدمج أجزاءه تماماً في كل متماسك.
ولكن محاسن الكتاب لا تحصى. فرقعة معرفته هائلة، وهي شهادة ما بذله فيه مؤلفه من البحث الجاد المثابر. وأسلوبه المشرق، الذي أثقلته الفلسفة وخففته الفكاهة، رفعه إلى مرتبة دونها مرتبة أكثر كتب التاريخ فيما بين كاسيتوس وجيبون. وقد لطفت روحه الهامة من تحيزه، وما زال الكتاب ينبض بمحبة الحرية، والتسامح، والعدالة، والعقل. في هذا أيضاً أصبحت كتابة التاريخ فناً، بعد الكثير جداً من كتب الأخبار التي اتسمت بالغفلة وافتقرت إلى الحياة. وفي جيل واحد أحال ثلاثة كتب تاريخ أخر أحداث الماضي أدباً وفلسفة: "تاريخ إنجلترا" لهيوم، و"تاريخ حكم الإمبراطور شارل الخامس" لروبرتسن، و "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" لجيبون-وكلها مدينة لروح فولتير، ومن بعض الوجوه للمثال الذي ضربه. وقد نوه ميشليه بالكتاب فقال في عرفان بالجميل أنه. "التاريخ" الذي صنع فن كتابة التاريخ كله، والذي أنجبنا كلنا، نقاداً ورواة على السواء (55). وليت شعري ما الذي نفعله نحن هنا إلا السير على درب فولتير؟
عندما وضعت حرب السنين السبع فرنسا في صف أعداء فردريك، انبعث حب فولتير الكامل لوطنه من جديد، ربما ممزوجاً بذكريات قديمة(37/135)
فرانكفورت وارتياب جديد في جنيف. فبعد دالامبير، وتراجع أكليروس جنيف عن الآراء الجريئة التي ربطهم بها المقال، أحس فولتير بأن الخطر عليه في سويسرا لا يقل عنه في فرنسا. فمتى يستطيع العودة إلى وطنه؟
وحالفه الحظ هذه المرة. ذلك أن الدوق دشوازيل الذي أمتعته قراءة كتب هذا الطريد المنفي عن بلده تقلد وزارة الخارجية في 1758، وبلغت مدام دبومبادور ذروة نفوذها رغم اضمحلال جسدها، وكانت قد عفت عن حماقات فولتير؛ واستطاعت الحكومة الفرنسية الآن، والملك يلهو وسط حريمه، أن تغض عن عودة الزنديق الرهيب إلى فرنسا. ففي أكتوبر 1758، انتقل ثلاث أميال ونصفاً خارج سويسرة، وأصبح سيد فيرنيه. وكان في الرابعة والستين، لم يزل قريباً من الموت كما قال من قبل، ولكنه اختصم أقوى دوله في أوربا في أخطر صراعات القرن.(37/136)
الكتاب الرابع
تقدم العلم
1751 - 79
الفصل الخامس عشر
الأدباء
1 - البيئة الفكرية
تعطل نمو المعرفة نتيجة للجمود، والخرافة، والاضطهاد، والرقابة، وهيمنة الكنيسة على التعليم. حقيقة أن هذه المعوقات ضعفت عن ذي قبل، ولكنها ظلت أقوى كثيراً منها في حضارة صناعية يضطر فيها الناس، بسبب تنافس الأفراد، والجماعات، والأمم، إلى البحث عن أفكار وأساليب جديدة، عن وسائط جديدة لغايات قديمة. وكان أكثر الناس في القرن الثامن عشر يتحركون في بيئة بطيئة التغيّر، تكفي الاستجابات والأفكار التقليدية عادة لسد حاجات الحياة فيها. فإذا لم تسمح المواقف والأحداث الجديدة بالتفسيرات الطبيعية دون عناء، عزتها عقول العوام لأسباب خارقة ثم أخلدت إلى الراحة.
وبقيت مئات الخرافات جنباً إلى جنب مع الاستنارة المطردة. مثال ذلك أن نساء الطبقة العليا كن يرتعن إذا كانت طوالعهن نحوساً؟، أو يؤمن بأن في الإمكان إحياء طفل غريق إذا أضاءت امرأة فقيرة شمعة وعومتها في فنجان لتشعل النار في كوبري على السين. وقد وعدت أميرة كونتي الأبيه لورو بجاشية فخمة إذا عثر لها على حجر القلاسفة. واحتفظت جولي دلبسيناس بإيمانها بالأيام السعيدة والمشئومة رغم أنها عاشرت العالم الشاك دالامبير عدة سنين.(37/137)
وكان قارئوا البخت يعيشون على صيت شفافيتهم؛ من ذلك أن مدام دبومبادور، والابيه دبيرنيس، والدوق دشوازيل كانوا يستشيرون خفية مدام بونتان، التي تقرأ لهم البخت في تفل القهوة (1). ويقول مونتسكيو أن باريس تعج بالسحرة وغيرهم من الدجالين الذين يكفلون للناس التوفيق في دنياهم أو التمتع بشباب دائم. وقد أقنع الكونت سان جرمان لويس الخامس عشر أن في الإمكان إصلاح ماليات فرنسا التي فسدت بوسائل خفية لصنع الماس والذهب (2) وكان الدوق دريشليو يتسلى بالسحر والشعوذة-مستعيناً بالشيطان. أما أمير انهالت دساو العجوز، الذي كسب معارك كثيرة لبروسيا، وكفر بالله، فكان إذا التقى بثلاث عجائز في طريقة إلى الصيد قفل إلى بيته، لأن "اليوم نحس" (3). وكان آلاف الناس يحملون التمائم أو الطلاسم اتقاء الشرور. واستعملت مئات الوصفات السحرية علاجات طبية شعبية. واعتقد الناس أن في قدرة المخلفات الدينية أن تشفي كل عليل تقريباً، وكانوا يجدون مخلفات أو ذخائر القديسين في أي مكان-فقطعه من ثوبه في ترييه، وعباءته في تورين ولاون، ومسمار من مسامير الصليب الحقيقي في دير سان-دنيس. وقد تدعمت قضية المطالبين الإستيواريين بالعرش في إنجلترا بفضل فكرة آمن بها أكثر الناس، وهي أن في استطاعتهم شفاء الداء الخنازيري بلمسة منهم - وهي قوة حرم منها الملوك الهانوفريون لأنهم "غاصبون" لم يتباركوا بحق الملوك الإلهي. وكان أكثر الفلاحين على يقين من أنهم سعوا العفاريت أو الجنيات في الغابات. ومع أن الاعتقاد بوجود العفاريت كان في اضمحلال، فإن دوم أوجستن كالميه، البندكتي المثقف، كتب تاريخاً لمصاصي الدماء Vampires- وهي جثث تترك قبورها في الليل لتمتص دم الأحياء؛ وقد نشر هذا الكتاب بموافقة السوربون (4).
واختفت في هذا القرن شر الخرافات قاطبة، وهي الإيمان بالسحر، اللهم إلا بعض بقاياه المحلية. ففي 1736 اتخذ "أحبار الكنائس المسيحية المتحدة" الاسكتلندية قراراً يؤكد من جديد إيمانهم بالسحر (5)، وفي 1765 (وهو تاريخ متأخر) كتب أشهر الفقهاء الإنجليز، السر وليم(37/138)
بلاكستون في "تعليقاته" يقول: "إن إنكار إمكان السحر والمعرفة، لا بل وجودهما الفعلي، إنما هو تكذيب صريح لكلمة الله، فالشيء وذاته حقيقة شهدتها كل أمة في العالم بدورها". ولكن القانون الإنجليزي الذي جعل من السحر جناية كبرى ألغى في 1736 رغم بلاكستون والكتاب المقدس. ولم يرد ذكر لأي حكم بالإعدام عقاباً على تهمة السحر لا في فرنسا بعد 1718، ولا في إسكتلندة بعد 1722؛ وحكم الإعدام الذي نفذ في سويسرا عام 1782 هو آخر ما ورد من أحكام إعدام في القارة الأوربية (6). وكان لازدياد الثروة، وتكاثر المدن، وانتشار التعليم، وتجارب العلماء، ونداءات الأدباء والفلاسفة - كان لهذا أثره في الحد شيئاً فشيئاً من دور الشياطين والعفاريت في حياة الناس وتفكيرهم، ورفض القضاة الاستماع إلى تهم العرافة، متحدين في ذلك التعصب الجماهيري. وبدأت أوربا تنسى أنها ضحت بمائة ألف رجل، وامرأة، وفتاة، على مذبح خرافة واحدة فقط من خرافاتها الكثيرة (7).
وظل اضطهاد الكنيسة والدولة، والكاثوليك والبروتستنت، للمنشقين والخوارج يرهب الناس بأهواله ليحجب عن عقولهم أي أفكار قد تمس لمعتقدات الراسخة أو تزعج السلطات المقررة. وقد زعمت الكنيسة الكاثوليكية أن مؤسسها هو ابن الله، فهي إذن مستودع الحق الإلهي، والمفسر لشرعي الوحيد له، ولها إذن حق قمع الهرطقة. وقد انتهت إلى أنه لا خلاص لإنسان من الهلاك الأبدي خارج الكنيسة. ألم يقل المسيح "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن"؟ (8) ومن ثم فإن مجمع اللاتران المسكوني الرابع، المنعقد في 1215، جعل النص الآتي جزءاً من العقيدة النهائية التي يلزم بها كل كاثوليكي "هناك كنيسة جامعة واحدة للمؤمنين، لا خلاص خارجها لأحد على الإطلاق" (1)
_________
(1) أكد البابا بيوس التاسع هذه العقيدة من جديد في منشوره الذي أصدره في 10 أغسطس 1863، "أن العقيدة الكاثوليكية معروفة جيدا، وهي أنه لا يستطيع أحد أن يخلص بعيدا عن الكنيسة الكاثوليكية (الموسوعة الكاثوليكية، 3 - 753 ب).(37/139)
وقد قبل لويس الخامس عشر هذه العقيدة باعتبارها منطقياً مستقاة من نصوص الكتاب المقدس، نافعة في تشكيل عقل قومي موحد. وفي 1732 كانت ممارسة العبادة البروتستنتية علانية في فرنسا محرمة، وإلا كان التعذيب، أو التشغيل في مراكب الأسرى، أو الموت، عقاباً للمخالفين (9). على أن الأهالي الكاثوليك كانوا أكثر تسامحاً من قادتهم، فأنكروا هذه العقوبات الوحشية، واشتد التراخي في تطبيق المرسوم حتى جرؤ هيجونوت فرنسا في 1744 على عقد مجمع قومي لهم على أن السوربون، كلية اللاهوت في جامعة باريس، أكدت من جديد في 1767 الدعوى القديمة، "أن الملك تلقى السيف الزمني ليقمع به مذاهب المادية، والإلحاد، والربوبية، تمزق روابط المجتمع وتحرض على لجريمة؛ وليسحق أيضاً كل تعليم يهدد بزعزعة أسس الإيمان الكاثوليكي. " (10) وقد طبقت هذه السياسة بصرامة في أسبانيا والبرتغال؛ وفي إيطاليا طبقت تطبيقاً أكثر ليناً، وفي روسيا اشترطت الكنيسة الأرثوذكسية إجماعاً مماثلا.
ووافق الكثير من الدول البروتستنتية الكاثوليك على ضرورة الاضطهاد. ففي الدنمرك والسويد طالبت القوانين بالتزام المذهب اللوثري، ولكن غير اللوثريين من البروتستنت، بل الكاثوليك أيضاً، كانوا من الناحية العلمية في مأمن من الاضطهاد، وإن ظلوا محرومين من حق شغل مناصب الدولة. وفي سويسرا كانت كل مقاطعة حرة في اختيار مذهبها وفرضه على أهلها. وفي ألمانيا كانت القاعدة التي تقضي بأن يتبع الناس دين أميرهم تغفل باطراد.(37/140)
وفي الأقاليم المتحدة رفض رجال الدين البروتستنت التسامح باعتباره محرضاً على اللامبالاة الدينية، ولكن العلمانيين رفضوا الاقتداء برجال الدين في هذا الأمر، فأصبحت هولندا بفضل تحريرها النسبي من الاضطهاد ملاذاً للأفكار والمطبوعات غير التقليدية. وفي إنجلترا سمحت القوانين بالانشقاق الديني، ولكنها تعقبت المنشقين بالقيود الاجتماعية والسياسية. وقد صرح صموئيل جونسن في 1763 بأن "التعليم الباطل ينبغي قمعه بمجرد ظهوره؛ وينبغي أن تتكالف السلطة المدنية مع الكنيسة في عقاب من يجرؤن على مهاجمة الدين المقرر" (11). وأحرقت الحكومة الإنجليزية ين الحين والحين الكتب، أو وضعت في المشهرة مؤلفيها الذين تشككوا في أسس الإيمان المسيحي؛ مثال ذلك أن وولستن غرم وحبس في 1730، وفي 1762 حكم على بيتر آرنت بوضعه في المشهرة، ثم بالسجن سنة مع الأشغال الشاقة، بسبب تهجمه على المسيحية. وكانت القوانين التي شرعت ضد الكاثوليك تطبق في إنجلترا تطبيقاً غير دقيق، ولكنها نفذت بصرامة في إيرلندة، إلى أن رفض اللورد تشسترفيلد تطبيقها حين تولى حكم الإقليم في 1745؛ وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ألغي بعض اللوائح الصارمة. ويمكن القول بصفة عامة أن نظرية الاضطهاد كان يؤمن بها رجال الدين الكاثوليك والبروتستنت حتى سنة 1789، إلا حيث كان الكاثوليك أو البروتستنت أقلية، ولكن ممارسة الاضطهاد تضاءلت بظهور رأى عام جديد مع تطور الارتياب الديني. وانتقلت غريزة الاضطهاد من الدين إلى السياسة بحلول الدولة محل الكنيسة حارساً على الإجماع والنظام وهدفاً للانشقاق المبتدع.
أما الرقابة على الكلام والمطبوعات فكانت في الدول البروتستنتية بصفة عامة منها في الدول الكاثوليكية، وكانت أهون ما تكون في هولندا وإنجلترا. وكانت صارمة في أكثر المقاطعات السويسرية. وقد أحرق آباء المدينة في جنيف بعض الكتب الخارجة على السنة، ولكن ندر أن اتخذوا إجراء ضد مؤلفيها. وفي ألمانيا تعطلت الرقابة لتعدد الولايات التي كان لكل منها عقيدته الرسمية الخاصة؛ وكان في استطاعة الكاتب أن ينتقل عبر الحدود(37/141)
من بيئة معادية إلى بيئة صديقة أو محايدة. وفي بروسيا ألغي فردريك الأكبر الرقابة عملياً، ولكن خلفه أعادها في 1786. أما الدنمرك فإنها احتفظت بالرقابة على الكتب حتى عام 1749 باستثناء فاصل قصير في عهد شتروينزي. وأما السويد فقد حظرت نشر المواد التي انتقدت اللوثرية أو الحكومة، وفي 1764 أصدرت جامعة أوبسالا قائمة بالكتب المحرمة؛ ولكن في 1766 قررت السويد الحرية الكاملة للمطبوعات.
كانت الرقابة في فرنسا قد اتسعت من سابقة إلى سابقة منذ عهد فرنسوا الأول، ثم جددت بمسوم صدر في 1723 ينص على "ألا يطبع ناشرون أو غيرهم، أو يعيدوا طبع، أي كتب في أي مكان في المملكة، دون الحصول سلفاً على إذن بخطابات مختومة بالخاتم الكبير". وكان هناك ستة وسبعون رقيباً سمياً في 1741، بطلب إلى الرقيب منهم قبل أن يمنح الكتاب "إذن الملك وامتيازه" أن يشهد بأن الكتاب لا يحوي شيئاً ضد الدين، أو النظام العام، أو الخلق القويم. ويجوز لبرلمان باريس أو السوربون أن يشجبا الكتاب حتى بعد نشره بإذن الطبع الملكي. وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر لم تطبق الرقابة الملكية إلا تطبيقاً هيناً، فظهرت آلاف الكتب دون إذن ودون أن يمسها سؤ، وفي كثير من الحالات لا سيما حين مالزبرب رئاسة الرقابة (1750 - 63) كان المؤلف يحصل على "إذن ضمني"- وهو تعهد غير رسمي بأن الكتاب المراد نشره يصرح بطبعه دون خوف من محاكمة. فإذا صدر كتاب لم تصرح الحكومة بنشره جاز أن يحرقه جلاد الدولة بينما يظل المؤلف حراً طليقاً، فإذا زج به في الباستيل لم يسجن غير سجن قصير كريم (12).
على أن هذه الحقبة من التسامح النسبي انتهت بمحاولة داميان اغتيال لويس الخامس عشر (5 يناير 1757). ففي أبريل قضي مرسوم وحشي بالموت على "جميع من يدانون بكتابة أو طبع أي مؤلفات قصد بها التهجم على الدين أو العدوان على السلطة الملكية أو تكدير نظام المملكة وهدوئها". وفي 1764 حرم مرسوم آخر نشر الكتب التي تتناول مالية الدولة. وأخضعت الكتب، والنشرات، وحتى مقدمات المسرحيات، لأكثر ضروب الفحص(37/142)
والإشراف تفصيلاً. وفرضت أحكام تتفاوت بين الوضع في المشهرة والجلد، وبين التشغيل تسع سنين في سفن الأسرى والعبيد عقاباً على شراء أو بيع نسخ من قصيدة فولتير "لابوسيل" أو "قاموسه الفلسفي". وفي 1762 كتب دالامبير إلى فولتير يقول: "إنك لا تتصور مبلغ الهياج الذي بلغته محكمة التفتيش (في فرنسا). فإن مفتشي الفكر ... يحذفون من جميع الكتب ألفاظاً مثل "الخرافة" و"التسامح" و "الاضطهاد" (13). واشتدت الكراهية في طرفي الصراع بين الدين والفلسفة؛ وما بدأ حملة على الخرافة تصاعد حتى أصبح حرباً على المسيحية. وقد نشبت الثورة في فرنسا، لا في إنجلترا القرن الثامن عشر، من بعض الوجوه لأن رقابة الدولة أو الكنيسة، التي كانت معتدلة في إنجلترا، اشتدت في فرنسا إلى حد استحال معه على العقل الحبيس أن ينطلق إلا بتحطيم أغلاله تحطيما عنيفاً.
واحتج "الفلاسفة" (وهو اصطلاح يراد به الفلاسفة الفرنسيون الذين شاركوا في الهجوم على المسيحية) على الرقابة لأنها تحكم على الفكر الفرنسي بالعقم. ولكنهم هم أنفسهم كانوا أحياناً يطلبون إلى الرقيب أن يكبح جماح خصومهم. مثال ذلك أن دالامبير رجا مالزيرب أن يصادر مجلة فريرون المسماة "عدو الفيلسوف"، و"العام الأدبي". ولكن مالزيرب أبى رغم ميله للفلاسفة (14). وطلب فولتير إلى الملكة أن تحظر تمثيل تقليد ساخر لمسرحيته "سميراميس"، فلم تشأ حظرها، ولكن بومبادور حظرتها (15).
واحتال الفلاسفة أثناء ذلك بشتى الطرق لتفادي الرقابة فأرسلوا مخطوطاتهم إلى الناشرين الأجانب، عادة إلى أمستردام، أو لاهاي، أو جنيف؛ ومن هناك كانت كتبهم بالفرنسية تستورد بالجملة إلى فرنسا، فتصل كل يوم تقريباً بالمراكب إلى بوردو أو غيرها من الموانئ على الساحل أو الحدود الفرنسية. وكان الباعة يطوفون بها من شاع إلى شارع، ومن بلد إلى بلد، متخفية وراء عناوين بريئة. وسمح بعض النبلاء الذين لم يكونوا شديدي الإخلاص للحكومة الممركزة ببيع هذه الكتب في أرضهم (16). ونجت رسائل فولتير، التي وحدت الحملة الفلسفية من كثير من الرقابة لأن صديقه داميلافيل شغل حيناً منصباً في إدارة المالية، فاستطاع أن يصدق بختم الرقيب العام على رسائل فولتير وشركائه وطرودهم (17). وقرأ(37/143)
الكثير من موظفي الحكومة، وبعض رجال الدين، بلذة تلك الكتب التي شجبتها الحكومة أو الأكليروس. وندر أن وضع مؤلفو الكتب الفرنسيون المنشورة خارج فرنسا أسماءهم على الغلاف، فإذا اتهموا بتأليفها كذبوا بضمير جرئ، وكان هذا جزءاً من اللعبة باركته قوانين الحرب. ولم يكتف فولتير بإنكار تأليف العديد من كتبه، به أنه أحياناً نسب تأليفها إلى الموتى. وضلل الرقيب بنشره مقالات ينقد فيها كتبه أو يندد بها. واشتملت اللعبة على حيل في الصياغة أو التعبير أعانت على تشكيل ما في النثر الفرنسي من رقة ورهافة في تورياته، وحواراته، ورمزياته، وقصصه، ومفارقاته، ومبالغاته الشفافة، وفي ما يتسم به في مجموعة من ذكاء وظرف بلغا مبلغاً لم يضارعه فيها أدب قط. وقد عرف الأبيه جالياني البلاغة بأنها فن قول الشيء دون أن يزج بقائله في الباستيل.
وثمة عقبة أخرى في طريق التفكير الحر لم تفقها غير عقبة الرقابة، وهي هيمنة رجال الدين على التعليم. فقد كان القساوسة المحليون في فرنسا يعلمون أو يشرفون على التعليم في مدارس الأبرشيات. وكان التعليم الثانوي في قبضة اليسوعيين معلمين للغات والآداب الكلاسيكية، ولكنهم كانوا أقل عوناً في ميدان العلوم. وقد شحذ التعليم اليسوعي أذهان عدد كبير من "الفلاسفة". وكانت جامعة باريس تخضع لقساوسة أشد محافظة من اليسوعيين أما جامعة أورليان المشهورة بالقنون، وجامعة مونبليه المشهورة بالطب، فكانتا علمانيتين نسيباً. ومما له دلالة أنه لا مونتسكيو، ولا فولتير، ولا ديدورو، ولا موييرتوي، ولاهلفيتيوس، ولا بوفون، درسوا في جامعة فقد ازدهر العقل الفرنسي المناضل للتحرر من سلطان اللاهوتيين، لا في الجامعات، بل في الأكاديميات والصالونات.
وكانت الأكاديميات العلمية قد ظهرت في هذا القرن في برلين (1701) وأوبسالا (1710) وسانت بطرسبورج (1724) وكوبنهاجن (1743). وفي 1739 ألف لينيوس وخمسة أدباء سويديين آخرين "الكوليجيوم كوريوزم"، وفي 1741 تأسست من هذه الهيئة أكاديمية "كونجليجا زفنسكا فيتنسكابس"، التي أصبحت الأكاديمية الملكية السويدية. وكان في فرنسا(37/144)
أكاديميات أقليمية في أورليان، وبوردو، وتولوز، وأوجزير، ومتز، وبيزانسون، وديجون، ولبون، وكان، وروان، ومونتوبان، وأنجير، ونانسي، وأكس-أن-بروفانس. وتجنبت الأكاديميات الهرطقة، ولكنها شجعت العلم والتجربة، وتسامحت في النقاش وشجعته، ومسابقات الجوائز التي قدمتها أكاديمية ديجون في 1749و1754 هي التي أطلقت روسو على الدرب إلى الثورة الفرنسية. وفي باريس أيقظ انتخاب دوكلو (1746) ودالامبير (1754) أكاديمية الخالدين المحتضرين الفرنسية من غفواتها الدجماطيقية؛ وكان ارتقاء دوكلو إلى منصب استراتيجي في الأكاديمية، هو منصب "السكرتير الدائم" (1755) إيذاناً بسيطرة الفلاسفة على الأكاديمية.
وأضافت المجلات العلمية مزيداً من الحفز للحركة الفكرية. وكان من خيرة هذه المجلات "مذكرات للانتفاع بها في تاريخ العلوم والفنون الجميلة" التي رأس تحريرها اليسوعيون من 1701 إلى 1762، وتعرف بمجلة "تريفو" نسبة إلى دار النشر في تريفو، قرب ليون، وكانت أكثر المطبوعات الدينية تفقهاً وتحرراً. وكان في باريس وحدها ثلاث وسبعون مجلة وعلى رأسها "المركيز دفرانس" و"مجلة العلماء". ورأس اثنان من أقوى خصوم فولتير وأشدهم لدوداً تحرير مجلتين واسعتي النفوذ: فأسس ديفونتين "أخبار الأدب" في 1721، ونشر فريرون "العام الأدبي" من 1754 إلى 1774. ونسجت ألمانيا على هذا المنوال، فأصدرت "رسائل في الأدب الجديد" التي كان ليسنج وموسى مندلسون من بين من زودوها بمقالاتهم الكثيرة. وفي إيطاليا تناولت "مجلة الأدباء" المواضيع العلمية والأدبية والفنية، أما مجلة "كافية" فكانت صحيفة رأى على طريقة "الاسبكتاتور الإنجليزية" وفي السويد جعل أولوف فون دالين من صحيفة "سفنسكا آرجوس" رسولاً للتنوير. ولما كانت كل هذه الدوريات تقريباً اللغات القومية ولا تخضع لإشراف كنسي، فقد كانت بمثابة خميرة طالعة في حركة عصرها المضطربة.(37/145)
ومن سمات القرن الثامن عشر، كما أنه من سمات الحاضر، ذلك التشوف المنتشر إلى المعرفة - وهو بالضبط تلك الشهوة الفكرية التي أنكرتها العصور الوسطى باعتبارها خطيئة الغرور الأحمق. وقد استجاب الكتاب بحماسة ليجعلوا أوسع منالا وفهماً. فكثرت "الخلاصات"، وحاولت كتب مثل "الرياضة الميسرة" و"آراء بيل الأساسية" و "عقل مونتيني" و"عقل فونتيل" أن تضع العلم، والأدب، والفلسفة في متناول جميع الناس، وازداد باطراد عدد الأساتذة الذين يحاضرون باللغات الوطنية، ووصلت بذلك محاضراتهم إلى جماهير لا قبل لها بتعليم اللاتينية. وأخذت المكتبات والمتاحف تتسع وتفتح كنوزها للطلاب. ففي 1753 أوصى السير هانز سلون للأمة البريطانية بمجموعة البالغة خمسين ألف كتاب، وعدة آلاف من المخطوطات، وعدداً كبيراً من الصور، والعملات، والتحف الأثرية. وقرر البرلمان تعويض ورثته بعشرين ألف جنيه، وأصبحت المجموعة نواة للمتحف البريطاني، وأضيف إليها مجموعتا مخطوطات هارلي وكوطن، والمكتبات التي جمعها إنجلترا؛ وفي 1759 فتح المتحف العظيم للجمهور. وكان يقتني في 1928 نحو 3. 200. 000 مجلد مطبوع و 56. 000 مخطوط، تملأ أرففه البالغ طولها خمسة وخمسين ميلاً.
وأخيراً ظهرت الموسوعات لتجمع، وترتب، وتوصل للقراء ذخائر العلم الجديد لكل قادر على القراءة والتفكير. وقد عرفت العصور الوسطى موسوعات كتلك التي وضعها ايزيدور أسقف إشبيلية (حولي 600 - 626)، وفانسان البوفي (حوالي 1190 - 1264)؛ وفي القرن السابع عشر كان هناك موسوعة يوهان هنريش آلستيد (1630) و "القاموس التاريخي الكبير" لمورتيري (1674). وكان "القاموس النقدي" لبيل (1697) أقرب إلى تجميع لحقائق مقلقة، ونظريات موحية، منه إلى الموسوعة، ولكن تأثيره على فكر أوربا المثقفة فاق تأثير أي مؤلف مماثل آخر قبل ديدور. وفي لندن نشر أفرايم تشيمبرز عام 1728، في مجلدين "موسوعة أو قاموساً عاماً للآداب والعلوم". وقد أسقط منه التاريخ، والتراجم، والجغرفيا، ولكنه بفضل نظام الإحالات أو الاسنادات(37/146)
الترافقية الذي ابتكره، وبغير ذلك من الوسائل، فتح الطريق الذي سلكته "موسوعة" ديدرو ودالامبير الخطيرة (1751 وما بعدها). وفي 1771 ظهرت في ثلاثة مجلدات الطبعة الأولى من "الموسوعة البريطانية"، أو قاموس الآداب والعلوم- من وضع بعض السادة في اسكتلندة، ومطبوعة في أدنبرة وبلغت طبعة ثانية منها (1778) عشرة مجلدات، وتقدمت على سابقتها باحتوائها التاريخ والتراجم. وهكذا اطرد نموها من طبعة لأخرى خلال مائتي عام. وما أكثر الذين تزودوا منا من هذا المحصول، وسطوا على تلك الذخيرة، غير مرة كل يوم".
وما وافى عام 1789 حتى كانت الطبقات الوسطى في أوربا الغربية لا تقل ثقافة عن طبقتي الأشراف والأكليروس. لقد شقت الطباعة طريقها، تلك كانت الثورة الأساسية رغم كل ما يقال.
2 - إلهام الدراسات الكلاسيكية
كانت الدراسات الكلاسيكية تهبط في رفق من مكان القمة الذي تربعت عليه أيام جوليوس وجوزف سكاليجر، وكازوبون، وسالماسيوس، وبنتلي؛ ولكن نيكولا فريري واصل ما نهجوا عليه من تفان جدير بالعلماء، وما حققوه من نتائج بعيدة المدى. فقد قبل عضواً في الأكاديمية) الفرنسية الملكية للمأثورات والآداب البحتة وهو في السادسة والعشرين، وقرأ لها في ذلك العام (1714) بحثاً "في أصل الفرنجة" قلب الأسطورة الفخور التي زعمت أن الفرنجة رجال "أحرار" قدموا من اليونان أو طروادة، فقال إن الأصح أنهم كانوا همجاً من ألمان الجنوبيين. وأبلغ عنه الأبية فرتو الحكومة لأنه قذف في الملكية. فزج بالعالم الشاب في الباستيل فترة قصيرة، وبعدها قصر أبحاثه على بلاد غير فرنسا. ورسم 1,375 خريطة توضح الجغرافيا القديمة. وجمع البيانات المثيرة عن تاريخ العلوم والآداب الكلاسيكية، وعن أصول الأساطير اليونانية. وقد صححت مجلداته الثمانية عن التأريخ القديم (الكرونولوجيا) كتاب جوزف يوسطس سكاليجر الخطير، وأرسى التاريخ الصيني على أسس مقبولة في يومنا هذا، فكان هذا(37/147)
واحداً من مئات الوخزات العلمية التي أحدثت تقوياً في مفهوم الكتاب المقدس للتاريخ:
ووجهت ضربة مماثلة للخرافات الكلاسيكية حين قرأ بوبي على الأكاديمية (1722) بحثاً يتشكك في رواية ليفي للتاريخ الروماني القديم. وكان لورنتسو فاللا قد ألمع إلى هذه الشكوك عن هذه النقطة حوالي عام 1440، وقد طورها فيكو عام 1721، ولكن بحث بوبي المستفيض سخف بشكل قاطع قصص رومولوس وريموس، والهوراشين، والكورياتيين، باعتبارها مجرد أساطير؛ ومهد الطريق لعمل بارتولد نيبور في القرن التاسع عشر. ولا تدخل الكتب التالية تماماً في النطاق الزمني لهذا الفصل، مع انتمائها إلى القرن الثامن عشر، وهي كتاب "ملاحظات تمهيدية عن هومر" (1795) الذي فكك فيه فريدرش فولف الشاعر هومر إلى مدرسة وأسرة كاملة من المنشدين؛ وطبعات رتشارد بورسن المدققة لأسخيلوس ويوربيديس، وكتاب يوزف ايكيل "نظرية المسكوكات" (1792 - 98) الذي أسس علم المسكوكات والمعادن.
ولم يشعر عالم الدراسات الكلاسكية ثانية بنشوة إلهام كذلك الإلهام الذي جاءه من إنساني النهضة، إلا حين اكتشفت مدينة هركولانيوم. ففي 1738 كان عمال يضعون أساس بيت للصيد يبني لشارل الرابع ملك نابلي، فكشفوا بطريق الصدفة عن أطلال هركولانيوم، وفي 1748 أظهر فحص مبدئي بعض الأبنية المذهلة لمدينة يومبي التي طمرها هي أيضاً ثوران فيزوف في 79 م. وفي 1752 استنفذت المعابد الفخمة التي بناها المستعمرون اليونان في بيستوم في غياهب القرون المظلمة. وقد رسم الحفار الكبير بيرانيزي معابد بومبي وقصورها وتماثيلها التي أخرجتها الحفائر على محفورات وجدت النسخ المنقولة عنها إقبالاً من المشترين في كل أنحاء أوربا. وأسفرت هذه الكشوف عن إحياء حار لاهتمام القوم بالفن القديم، ودافع قوى للحركة الكلاسيكية الجديدة التي تزعمها فنكلمان، وإضافة هائلة للمعرفة الجديدة بأساليب الحياة القديمة.
ويجب أن نقف هنا هنيهة للإقرار بدين العلم للرهبان الذين استخدموا(37/148)
مكتباتهم ومجموعات مخطوطاتهم للقيام بأبحاث وتصنيف سجلات كانت معينة جداً للفكر الحديث. من ذلك أن رهبان القديس مور البندكتيين واصلوا عكوفهم القديم على الدراسات التاريخية. وأنشأ دوم برنار دمونفوكون علم الباليوغرافيا (الكتابات القديمة) بكتابه "الباليوغرافيا اليونانية" (1708)، ووضح التاريخ القديم بالفن القديم في كتابه "العلم القديم مشروحاً وممثلا بالصور" (عشرة مجلدات، 1719 - 24) ووجه دراساته المدققة لوطنه في خمسة مجلدات من القطع الكبير "آثار المملكة الفرنسية" (1729 - 33). وبدأ دوم أنطوان ريفيه دلاجرانج في 1733 التاريخ البندكتي المسمى "التاريخ الأدبي لفرنسا" الذي أصبح السلف والمعين الذي استمدت منه جميع التواريخ اللاحقة للأدب الفرنسي القديم. وكان أعظم علماء القرن الثامن عشر البندكتيين هؤلاء هو دوم أوجستن كالميه، الذي التجأ فولتير إلى ديره نصية على جميع أسفار العهدين القديم والجديد" (1707 - 16)، بل سطا عليه أحياناً. ورغم ما في هذه المجلدات الأربعة والعشرين من مآخذ (18) فقد امتدحها القراء باعتبارها أثراً شامخاً للتفقه في العلم. وقد ألف كالميه عدة كتب أخرى في تفسير الكتاب المقدس، وحذا حذو بوسويه في تصنيف "تاريخ للعالم" (1735)، وأنفق كل ساعات يقظته تقريباً في الدرس والصلاة. ومرة سأل فولتير في جهل سعيد "من تكون مدام دبومبادور هذه؟ " (19) ورفض منصب الأسقفية، وكتب قبريته التي قال فيها باللاتينية "هنا يرقد إنسان قرأ كثيراً، وكتب كثيراً، وصلى كثيراً فلعله أحسن عملا! آمين" (20).
وشارك بعض العلمانيين الأجرياء في نقد الكتاب المقدس مثال ذلك الطبيب جان آستروك، الذي درس الأسفار الخمسة، التي افترض أن موسى كاتبها، في كتابه "استقراءات حول السجلات الأصلية التي يبدو أن موسى اقتنع بها في كتابة سفر التكوين" (1753)؛ هنا ذكر لأول مرة أن استعمال اسمين مختلفين لله، وهما يهوه وأيلوهيم، يشير إلى قصتين أصليتين للخليفة، ربط بينهما في سفر التكوين ربطاً واهياً متكرراً. وحاول آخرون من دارسي الكتاب المقدس أن يحبسوا تاريخ الخليفة من واقع(37/149)
الأسفار الموسوية الخمسة، فخلصوا إلى مائتي نتيجة مختلفة. وأزعج المستشرقون المؤمنين المحافظين بذكرهم التأريخ المصري (الكرونولوجيا) الذي زعم أنه يرجع إلى ثلاث عشر ألف سنة، والحسابات الصينية التي قدرت الذين يعتقدون أن العالم عمر 326,669 عصرا، يحتوي كل منها على قرون كثيرة (21).
أما أجرأ وأخطر إسهام في دراسات الكتاب المقدس Biblcal Studies في القرن الثامن عشر فصاحبه أستاذا ألماني للغات الشرقية في أكاديمية هبورج، هو هرمان رايماروس. وقد ترك عند موته في 1768 مخطوطاً من أربعة آلاف صفحة عكف عليه عشرين عاماً، وعنوانه "دفاع عن عباد الله العقلانية". ولم يجرؤ أحد على نشره إلى أن نشر وعنوانه "دفاع عن عباد الله العقلانيين". ولم يجرؤ على نشره إلى أن نشر ليسنج (1774 - 78) سبع قطع مه وصفها بأنها "كسر من كتاب مجهول المؤلف وجد في فولفتبوتل" (حيث كان ليسنج أميناً للمكتبة). وهبت كل ألمانيا المثقفة تقريباً محتجة إلا فردريك الأكبر. لا بل أن يوهان زملر، العالم المتحرر، رمى ليسنج بالجنون لأنه احتضن مثل هذا النقد المدمر للمعتقدات السنية. ذلك أن رايماروس لم يكتف في الكسرة السابعة التي تناولت "هدف المسيح وتلاميذه" برفض معجزات المسيح وقيامته، بل صوره يهودياً شاباً، جاداً، لطيفاً مخدوعاً، ظل وفياً لليهودية إلى النهاية، وقبل معتقد بعض اليهود بأن العالم مشرف على الزوال، وأرسى مبادئه الأخلاقية على هذه المقدمة إعداداً للحدث. وذهب رايماروس إلى أن المسيح فسر عبارة "ملكوت السموات" بالمعنى المتعارف عليه بين قومه، وهو ملك آت لليهود المحررين من روما (22). وزعم أن صرخته اليائسة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني" كانت اعترافاً بناسوته وبهزيمته. وبهذا المعنى لم يكن مفتتح المسيحية هو المسيح بل الرسل. ويقول ألبرت شقايتسر، المفسر العلامة لكتاب رايماروس، "ربما كان كتابه أروع إنجاز في كل مسار البحث التاريخي في حياة المسيح، لأنه أول(37/150)
من أدرك أن حياة الفكر التي تحرك المسيح كانت في صميمها أخروية ( eschatatological) "- أي مبنية على نظرية نهاية وشيكة للعلم" (23).
ومن دراسة الآثار اليهودية انتقل العلماء في حذر إلى شعوب الشرق التي رفضت المسيح أو لم تسمح باسمه قط. فترجمة جالان الفرنسية لألف ليلة بورينيه "تاريخ الفلسفة الوثنية" (1724)، وكتاب بولانفلييه "حية محمد" (1730)، وترجمة سيل الإنجليزية للقرآن-هذه كلها أظهرت الإسلام، لا عالماً من الهمجية، بل ساحة لعقيدة منافسة قوية، ولنظام خلقي بدا موفقاً رغم تسامحه مع فطرة تعدد الزوجات في جنس الرجال. وفتح إبراهام هياسنت آنكتيل-دوبرون ميداناً ى خر بترجمته أسفار البرت المقدسة. وقد جذبته إليها قراءته مختارات من الزند أفستا في مكتبة بباريس، فعدل عن تحضيره للقسوسية، واعتزم أن يرتاد كتب الشرق المقدسة في أصولها. ولما كان أفقر من أن يدفع نفقات الرحلة، فقد انخرط وهو في الثالثة والعشرين (1754) في سلك الحملة الفرنسية إلى الهند. وما أن وصل إلى بوندتشيري حتى تعلم قراءة الفارسية الحديثة، وفي شاندرناجور درس السنسكريتية، وفي صورات أقنع كاهناً برتيا بأن يعلمه البهلوية والزندية. وفي 1762 عاد إلى باريس ومعه 180 مخطوطاً شرقياً عكف على ترجمتها؛ وكان خلال ذلك يعيش على الخبز والجبن والماء، ويتجنب الزواج لأنه ترف لا طاقة له به. وفي 1771 نشر ترجمته الفرنسية للزند-أفستا، وشذرات من كتب أخرى للبرت، وفي 1804 أصدر "الأوبانيشادات". وقد شارك الوعي بالديانات والنواميس الأخلاقية غير المسيحية، ببطئ، في تقويض دجماطيقية العقائد الأوربية.
وكان أبعد هذه الإلهامات العرقية أثراً إماطة المرسلين والرحالة والعلماء الأوربيين اللثام عن تاريخ الصين وفلسفتها. وكانت البداية هي عودة ماركو بولو إلى البندقية في 1295؛ وعززتها الترجمات الفرنسية والإنجليزية (1588) لكتاب الأب اليسوعي خوانذاليس دي مندوزا "تاريخ الصين" (لشبونة 1584)، وترجمة هاكلويت الإنجليزية، في كتابه(37/151)
"رحلات" (1589 - 1600)، لمقال لاتيني "عن مملكة الصين" (مكاو، 1590). وظهر الأثر الجديد في مقال مونتيني" في التجربة (1591) حيث يقول "الصين، التي تفضل حكومتها وآدابها وفنونها نظائرها عندنا في كثير من مواطن التفوق، دون أي علم منها بنظمنا. " (24) وفي 1615 نشر الأب اليسوعي نيكولاس تريجوت وصفه للبعثة المسيحية إلى الصين، وسرعان ما ترجم إلى الفرنسية، وإلى الإنجليزية في "حجاج برتشاش" (1625). وقد امتدح تويجوت وغيره النظام الصيني الذي قضى باشتراط التعليم المتخصص المفصل لتولي المناصب العامة، وبالسماح لجميع الطبقات من السكان الذكور بالامتحان للوظائف، وبإخضاع كل الهيئات الحكومية للتفتيش الدوري. ونشر يسوعي آخر هو أثناسيوس كيرشر، العلامة المدهش المتعدد المعارف، في عام 1670، موسوعة بمعنى الكلمة اسماها "الصين المصورة" امتدح فيها الحكومة الصينية لأن على رأسها ملوكاً -فلاسفة (25).
وأثنى اليسوعيون ثناء مستطاباً على ديانة الصين وفلسفتها. فقال تريجوت إن الصينيين المتعلمين يتصورون الله روح العالم، والعالم جسده؛ وكان في وسع سبينوزا، الذي قال بمثل هذا الرأي، أن يقرأ هذه الفكرة في كتاب نشر بأمستردام في 1649، يقتنيه في مكتبته فرانز فان دن إندن، الأستاذ الذي علمه اللاتينية (26)؛ وفي 1622 نشر اليسوعيون ترجمة لاتينية لكونفوشيوس "حكمة الصين" وفي خلاصة أخرى سموها "الفيلسوف الصيني كونفوشيوس" (1687) وصفوا النظام الأخلاقي الكونفوشي بأنه "أرقى فضيلة علمت للناس، فضيلة يجوز القول بأنها منبثقة من مدرسة المسيح" (27). وقد كتب الأب اليسوعي لوي لكونت في "مذكراته عن الصين" (1696) أن الشعب الصيني "حفظ معرفة الإله الحق مدى ألفي عام" وأنه "مارس أنقى ناموس للفضيلة في الوقت الذي كانت فيه أوربا لا تزال متردية في حماة الخطيئة والفساد" (28) وقد شجبت السوربون هذا الكتاب. وفي 1697 نشر ليبنتز الحذر سياسياً، المتيقظ لكل هبة نسيم في جو الفكر، كتابه "آخر الأنباء من الصين". وقد قدم فيه أوربا على الصين في العلوم والفلسفة، ولكن:(37/152)
"من كان يعتقد هناك شعباً يبزنا فيما يتبعه من مبادئ الحياة المدنية؟ فهذا الذي نراه في حالة الصينيين ... في الخلاق والسياسة. فمحال أن نصف الجمال الذي وجهت به كل الأشياء في قوانين الصينيين لتحقيق الطمأنينة والسلام أكثر من توجيهها في قوانين الشعوب الأخرى ... ويخيل إلى أن الوضع في شئوننا قد بلغ من السوء-بسبب انتشار الفساد بيننا بغير حدود-مبلغاً يكاد يكون فيه من الضروري أن يبعث إلينا مرسلون صينيون ليعلمونا فائدة الدين الطبيعي وممارسته، تماماً كما نبعث إليهم بالمرسلين ليعلموهم الدين السماوي. لذلك أعتقد أنه لو اختير حكيم ليصدر حكمه ... في فوق الشعوب، لأعطى قصب السبق للشعب الصيني -اللهم إلا في تمايزنا عليه بشيء سام واحد ولكه فوق الطبيعة البشرية، وأعني به العطية إلهية التي وهبناها، وهي الدين المسيحي. " (29)
وحث ليبنتز أكديمات أوربا على جمع المعلومات عن الصين، وساعد في إقناع الحكومة الفرنسية بإرسال العلماء اليسوعيين الأكفاء للانضمام إلى البعثة في الصين وتقديم التقارير الواقعية. وفي 1732 لخص جان باتيست دوهالد هذه التقارير من المعلومات في كتابه "وصف ... إمبراطورية الصين"، وبعد عام ترجم الكتاب إلى الإنجليزية، فكان له في فرنسا وإنجلترا تأثير بعيد المدى. وكان دوهالد أول من أذاع شهرة الفيلسوف الصيني مينسيوس في أوربا. وما انتصف القرن الثامن عشر حتى كان كتاب بوسويه في "تاريخ العالم" قد غص من قدرة ذلك الكشف عن حضارات قديمة، واسعة، مستنيرة، كاد تاريخه "العالمي" يغفلها تماماً، وأصبح الطريق ممهداً لمنظور فولتير الأوسع عن قصة الحضارة.
وظهرت نتائج هذه المبالغات الحماسية في التقاليد والفنون والعادات والآداب والفلسفة الأوربية. ففي 1739 نشر المركيز دارجنس سلسلة من "الرسائل الصينية" بقلم صيني وهمي، انتقد فيها النظم والعادات الأوربية، وفي 1757 أضحك هوراس ولبول إنجلترا بكتابه "رسالة من الفيلسوف الصيني كسوهو"، وفي 1760 لجأ جولدسمث إلى نفس الحيلة في كتابه "مواطن العالم". وحين كان الإمبراطور جوزيف الثاني يحرث بنفسه قطعة(37/153)
أرض كان يقلد عادة اتبعها الأباطرة الصينيون (30). وحين كانت سيدات باريس الراقيات يفتحن شماسيهن اتقاء الشمس، كن يعرضن بدعة جميلة أدخلها اليسوعيون إلى فرنسا من الصين (31)، وفي أخريات القرن الثامن عشر تطورت الشمسية pavasol إلى المطرية umbrella. وكان الخزف الصيني والاكيه الياباني قد أصبح في القرن السابع عشر مقتنيات غالية من البيوت الأوربية، واستهوى خيال الإنجليز حوالي عام 1700 ورق الجدران الصيني الذي تؤلف وحداته الصغيرة الموضوعة في مكانها الصحيح رسماً كبيراً واحداً. ودخل الأثاث الصيني البيوت الإنجليزية حوالي عام 1750. وطوال القرن الثامن عشر كان الولع بالصينيات Chinoisees وهي الأدوات الصينية الصنع أو الطراز - يميز الزخرفة الإنجليزية والفرنسية، وسرى إلى إيطاليا وألمانيا، واختلط بحلية الروكوك، واستبدت بدعته بالناس استبداداً حمل الكثير من النقاد على أن يهبوا لتحدى طغيانه. وأصبح الحرير الصيني رمزاً لعلو المكانة الاجتماعية، وانتشرت الحدائق الصينية في غرب أوربا، وأحرقت الألعاب النارية الصينية أباهم الأوربيين (32). وكانت "توراندوت" التي ألفها جوزي "فنتازيا" صينية. وظهر نيف وعشر مسرحيات بخلفية صينية على المسرح الإنجليزي، وطور فولتير مسرحيته "يتيم صيني" من دراما صينية في المجلد الثالث من كتاب دوهالد (33).
وكان التأثير الصيني في الفكر الغربي على أشده في فرنسا، حيث تلقفه أحرار الفكر سلاحاً آخر يشهرونه على المسيحية. وأبهجهم أن يجدوا أن كونفوشوس كان رجلاً حر التفكير لا يسوعياً مرحل عن وطنه. وصرحوا بأن نظام كونفوشوس الخلقي أثبت أن الناموس الخلقي الذي لا يعتمد على دين سماوي شئ ممكن عملياً (34). لاحظ بيل (1685) أن إمبراطوراً صينياً كان يمنح المرسلين الكاثوليك حرية العمل في الوقت الذي يفرض فيه لويس الرابع عشر، بعد إلغائه مرسوم نانت المتسامح الذي أصدره هنري الرابع، الامتثال لمذهب الدولة، مستعينا على ذلك بالعنف الهمجي الذي استعملته خيالاته في احتلالها بيوت الهيجونوت. وقد أخطأ بيل في تفسير عقيدة الكونفوشوسين فحسبهم ملحدين، ومن ثم استشهد بهم لدحض الحجة المستمدة من الإجماع العالمي على وجود الله (35). أما مونتسكيو(37/154)
فلم يستسلم للمد الشرقي، ووصف الأباطرة الصينيين بأنهم حكام مستبدون، وندد بالتجار الصينيين غير الأمناء، وفضح فقر الجماهير الصينية، وتنبأ بما سيسفر عنه تكاثر السكان في الصين من عواقب وخيمة (36). وحاول كزينيه الرد على مونتسكيو في كتابه "حكم الصين الاستبدادي" (1767)، فأثنى علة هذا الحكم لأنه "استبداد مستنير" واستشهد بنماذج صينية على إصلاحات لازمة في الاقتصاد والحكم الفرنسي. أما طرجو، المرتاب في مثالية الصين، فقد كلف كاهنين كاثوليكيين صينيين في فرنسا بأن يذهبا إلى الصين ويحاول الحصول على إجابات حقيقية عن اثنين وخمسين سؤالا، وقد شجع تقديرهما على تقييم أكثر واقعية لما في الحياة الصينية من خير وشر (37).
وقد قرأ فولتير عن الصين في إفاضة وشغف. وخص لحضارة الصينية بالفصول الثلاثة الأولى في "المقالة عن العرف"، ووصف الصين في قاموسه الفلسفي بأنها "أروع ممالك الأرض، وأقدمها، وأوسعها، وأحفلها بالسكان، وأحسنها تنظيما" (38).
وقد أسهم إعجابه بالحكومة الصينية في ميله إلى الاعتقاد بأن خير أمل في الإصلاح الاجتماعي معقود على "الاستبداد المستنير"، الذي عنى به الملكية المستنيرة. وكان كالعديد من الفرنسيين، وكالفيلسوف الألماني فولف، على استعداد لسلك كونفوشيوس في زمرة القديسيين، لأنه "علم الشعب مبادئ الفضيلة قبل تأسيس المسيحية بخمسمائة سنة" (39). وذهب فولتير، وهو الذي عرف عنه أدب السلوك، إلى أن ما تحلى به الصينيون من ذوق وضبط للنفس، ومسالمة هادئة، مثال ينبغي أن يقتدي به مواطنوه السريعوا الانفعال (40)، وربما أن يقتدي به هو نفسه. فلما ترجمت إلى الفرنسية قصيدتان من نظم تشين لونج (حكم 1736 - 96) إمبراطور الصين في تلك الفترة، استجاب فولتير لهما شعراً. فأهداه الإمبراطور زهرية من الخزف الصيني.
وكان علم الأوربيين بالأديان والأنظمة الأجنبية عاملا قوياً في إضعاف اللاهوت المسيحي. وأفضت الأنباء الواردة من فارس، والهند، ومصر، والصين، وأمريكا، إلى سلسلة لا آخر لها من الأسئلة المربكة. فتساءل(37/155)
مونتسكيو مثلا كيف يتأتى للمرء أن يختار الدين الحق من بين ألفي دين مختلفة (41)؟ وتساءل عشرات غيره كيف أمكن خلق العالم سنة 4004 ق. م، في حين أن الصين كان لها حضارة راقية سنة 4000 ق. م؟ ولم تحتفظ الصين بسجل أو تقليد متوارث لطوفان نوح الذي تقول التوارة- إنه أغرق الأرض كلها؟ ولم خص الله بوحيه الكتابي أمة صغيرة في غرب آسيا إن كان قد قصد به البشرية كلها؟ وكيف يستطيع إنسان أن يصدق بأنه لا خلاص بعيداً عن الكنيسة؟ - فهل كل تلك الملايين التي عاشت في الهند، والصين، واليابان، تصلى الآن نار جهنم؟ وطافح اللاهوتيون للإجابة عن هذه الأسئلة وأشباهها بتلال شروخ يوماً بعد اليوم، في الغالب نتيجة لتقارير البعثات الدينية، ولاح أحياناً أن اليسوعيين في الصين قد اعتنقوا الكونفوشيوسية بدلا من أن يهدوا الصينيين إلى المسيح.
وألم يكن العلم الذي جاء به هؤلاء اليسوعيون المثقفون، لا اللاهوت الذي علموه، هو صاحب الفضل في كسبهم الكثير جداً من الأصدقاء من بين الصينيين؟(37/156)
الفصل السادس عشر
التقدم العلمي (1)
1750 - 1789
1 - البحث المتسع
كان العلم أيضاً يزود الناس بإلهام جديد. ونمو العلم -نمو طلبه، وطرائقه، وكشوفه، وتنبؤاته، وثمراته الناجحة، وسلطانه، ومكانته-هذا النمو هو الجانب الإيجابي لذلك التطور الحديث الأساسي الذي كان جانبه السلبي هو اضمحلال الإيمان بالخوارق. ونشب الصراع بين كهانتين: الأولى كرست نفسها لتشكيل الخلق بطريق الدين، والثانية لتربية العقل بطريق العلم. والكهانة الأولى هي الغالبة في عصور الفقر أو الكوارث، حين يكون الناس شاكرين لفضل العزاء الروحي والنظام الخلقي، والثانية هي الغالبة في عصور الثروة المتصاعدة، حين يميل الناس إلى قصر آمالهم على هذه الدنيا.
ومن المألوف اعتبار القرن الثامن عشر دون السابع عشر في إنجازاته العلمية، لا شك أنه يخلو من الفحول الشوامخ أمثال جاليلو أو نيوتن، ومن المآثر التي يمكن أن تقاس باتساع العالم المعروف، أو الامتداد الكوني للجاذبية، أو صياغة حساب التفاضل والتكامل، أو كشف الدورة الدموية. ومع ذلك فأي كوكبة من النجوم يتألق بها المشهد العلمي في القرن الثامن عشر! -أويلر ولاجرانج في الرياضة، وهرشل ولابلاس في الفلك، ودالامبير وفرانكلن وجلفاني وفولتا في الفيزياء، وبريستلي ولافوازبيه في الكيمياء، ولنابيوس في النبات، وبوفون ولاماركفي الأحياء، وهالر في الفسيولوجيا، وجون هنتر في التشريح، وكوندياك في علم النفس، وجنر بوبرها في الطب-
_________
(1) هذا الفصل مدين بصفة خاصة أ. ولف A. Wolf: History of science Technology and Philosophy in the 18th Century ( تاريخ العلم والتكنولوجيا والفلسفة في القرن 18).(37/157)
وقد خصصت الأكاديميات المتكاثرة المزيد من وقتها ومالها للبحث العلمي. وأدخلت الجامعات العلوم بازدياد في برامجها، فأنشأت كمبردج بين عامي 1702و1750 كراسي في التشريح، والفلك، والنبات، والكيمياء، والجيولوجيا، و"الفلسفة التجريبية"-أي الفيزياء. وأصبحت الطريقة العلمية تجريبية بصورة أدق .. وهبطت الخصومة الوطنية، التي لوثت دولية الفكر بالجدل المحتدم بين نيوتن وليبنتز، وتكاتفت الكهانة الجديدة عبر الحدود، والحقائد اللاهوتية، والحروب، لترتاد المجهول المتعاظم. وجاء طلاب البحث من كل طبقة، من بريستلي الرقيق الحال ودالامبير اللقيط، إلى بوفون حامل لقب الشرف ولافوزييه المليونير. ودخل الملوك والأمراء ساحة البحث: فاشتغل جورج الثالث بالنبات، وجون الخامس بالفلك، ولويس السادس عشر بالفيزياء. وعكف الهواة أمثال مونتسكيو وفولتير، والنساء أمثال مدام دشاتليه والممثلة الآنسة كليرون، على العمل بجد في المختبرات أو تلهوا بها، وحاول العلماء اليسوعيون امثال بوسكوفش الجمع بين الإيمانين القديم والجديد.
ولم يتمتع العلم بمثل هذه الشعبية وهذا التشريف حتى جاء عصرنا الحاضر المتفجر. فقد رفع دوي كشوف نيوتن في الرياضة والميكانيكا والفلك هامات العلماء في كل بلد في أوربا. صحيح إنهم لم يستطيعوا الارتقاء حتى يصل أحدهم -كما وصل نيوتن- إلى منصب مدير دار المسكوكات، ولكنهم في القارة، بعد عام 1750، وجدوا الترحيب في المجتمع المعطر وغشوا المحافل جنباً إلى جنب مع اللوردات والأدواق. وفي باريس غصت قاعات المحاضرات العلمية بالمستمعين من الجنسين ومن جميع المراتب. كتب جولدسمث الذي زار باريس في 1755 يقول: "رأيت في المحاضرات روويل في الكيمياء من نجوم الجمال المتألقة ما هو خليق بأن يزين بلاط الملك في فرساي. " (1) وكانت نساء المجتمع العصريات يحتفظن بكتب العلوم على خزانات زينتهن، وترسم لهن الصور-كما صورت مدام بومبادور-وعند أقدامهن، المربعات والتلسكوبات. وفقد الناس الاهتمام باللاهوت، ونفضوا عنهم العالم الآخر مع حرصهم على خرافاتهم. وغدا العلم الأسلوب والمزاج لعصر يتحرك في نهر معقد من التغير المحموم إلى نهايته الوبيلة.(37/158)
2 - الرياضة
أ - أويلر
كان التغيير في الرياضة الآن أبطأ لأن الكثير جداً قد أنجز في ذلك الميدان طوال خمسة آلاف عام، بحيث بدا أن نيوتن لم يترك زيادة لمستزيد. وبعد موته (1727) حدث رد فعل، بعض الوقت، ضد فروض حساب التفاضل وابهاماته. فهاجمها الأسقف باركلي، في مقال نقدي قوي (المحلل، 1734)، لأنها تعادل تماماً غوامض الميتافيزيقا واللاهوت، ورمى أتباع العلم بـ"الخضوع للسلطان، وقبول الأشياء بالتسليم، والإيمان بنقاط لا يمكن تصورها" وهي بالضبط التهم التي اتهم بها من قبل أتباع الدين. وقد لقى الرياضيون وما زالوا يلقون من العنف في الرد في هذه النقطة ما يلقاه الماديون في تفنيد مثاليته.
على أن الرياضة بنت لها جسوراً، واستمر لبحث في الأرقام. فطور أبراهام ديموافر، ونيكولاس سوندرس، وبروك تيلر في إنجلترا، وكولن مكلورن في إسكتلندة، الشكل النيوتوني للتفاضل. ودفع ديموافر قدما رياضيات الصدفة ومعاشات مدى الحياة. وإذ كان فرنسي المولد، إنجليزي الموطن، فقد اختارته جمعية لندن الملكية (1712) حكماً في دعاوي نيوتن وليبنتز المتنافسة على أيهما سبق صاحبه إلى اختراع حساب التفاضل النهائي الصغر. أما سوندرس فقد كف بصره في عامه الأول، فتعلم حل المسائل الحسابية الطويلة العويصة عقلياً، وعين أستاذاً للرياضة في كمبردج في عامه الحادي والعشرين (1711)، وألف كتاباً في "الجبر" حاز الاستحسان الدولي. وسنرى كيف استهوت سيرته ديدرو. وترك تلور اسمه على النظريات الأساسية في حساب التفاضل، وأثبت مكلورين أن الكتلة السائلة التي تدور حول محورها تتخذ شكل القطع الناقص.
وفي بازل واصلت أسرة بونوللي إنجاب العلماء المبرزين طوال أجيال ثلاثة. وكانت هذه الأسرة البروتستنتية المذهب قد فرت من أنتورب (1583) اتقاء فظائع دوق ألفا. وينتمي اثنان من الرياضيين البرنولليين السبعة لعصر لويس الرابع عشر، وكان الثالث وهو يوهان الأول) 1667 -(37/159)
1748 (مخضرماً أدرك حكم ملكين) لويس 14و15) وأصبح دانيال (1700 - 82) أستاذاً للرياضة في سانت بطرسبورج وهو في الخامسة والعشرين، ولكنه عاد بعد ثمانية أعوام ليدرس التشريح، والنبات والفيزياء، وأخيراً الفلسفة، في جامعة بازل وترك مؤلفات في حساب التفاضل والتكامل، والصوتيات، والفلك، وأسس الفيزياء الرياضية تقريباً. وعلم أخوه يوهان الثاني (1710 - 90) البلاغة والرياضة، وترك بصمته على نظرية الحرارة والضوء. وقد نال دانيل جوائز من أكاديمية العلوم عشر مرات، ويوهان ثلاث مرات. وأصبح أحد أبناء يوهان، وهو يوهان الثالث (1744 - 1807)، فلكي الملك في أكاديمية برلين، وعلم ياكوب الثاني (1758 - 89) الفيزياء في بازل، والرياضة في سانت بطرسبورج. لقد امتدت هذه الأسرة العجيبة عبر المنهج، والقرن، والقارة الأوربية.
ويتميز ليونارد أويلر، تلميذ يوهان بونللي الأول والمنافس الصديق لدانيال، إماماً لرياضي عصره من حيث تعدد القدرات وغزارة الإنتاج. ولد في بازل عام 1707 ومات في بطرسبورج عام 1783، وبرز في الرياضة، والميكانيكا، والبصريات، والسمعيات، والديناميكا المائية، والفلك، والكيمياء، والطب، وحفظ نصف الأنيادة عن ظهر قلب، فكان بهذا كله خير بيان لفوائد التنوع ومدى قدرات العقل البشري. وفي ثلاث رسائل كبرى في التفاضل والتكامل حرر هذا العلم الجديد من العقد الهندسية التي ولد بها، وأرسى أسسه بوضعه تفاضلا جبرياً-"تحليلا". وأضاف إلى هذه الرسائل الكبرى. مؤلفات في الجبر، والميكانيكا، والفلك، والموسيقى؛ على أن مقاله عن "نظرية جديدة في الموسيقى" (1719) " احتوى من الهندسة فوق يسيغه الموسيقيون، ومن الموسيقى فوق ما يسيغه الهندسيون. " (2) وقد احتفظ رغم تبحره في العلم بإيمانه الديني إلى النهاية.
وحين انتقل دانيال برنوللي إلى سانت بطرسبورج وعد ليونارد بأن يحصل له على وظيفة في أكاديميتها. وذهب الشاب إليها وهو في العشرين، ولما غادر دانيال روسيا (1733) خلفه أويلر رئيساً لقسم الرياضة. وأدهش زملاءه الأكاديمين بأن حسب في ثلاثة أيام جداول فلكية قدر أنها تحتاج إلى عدة شهور وعكف على هذا العمل وغيره عكوفاً شديداً ليل نهار(37/160)
على ضوء ضعيف، حتى فقد بصر عينه اليمنى في 1735. ثم تزوج، وشرع على الفور يجمع ويضرب، بينما الموت يطرح، فقد مات ثمانية من أبنائه الثلاثة عشر أطفالا. ولم يأمن على حياته في عاصمة أنهكتها الدسائس والاغتيالات السياسية. وفي 1741 قبل دعوة من فردريك الأكبر للانضمام إلى أكاديمية برلين، وهناك، فيسنة 1759، خلف موبرتوي في الاضطلاع بالرياضة. وأحبته أم فردريك، ولكنها وجدته صموتاً بشكل غريب. وسألته "لم لا تتحدث إلي؟ " فأجاب "سيدتي، إنني قادم من بلد يشنق المرء فيه إن تكلم (3) ". على أن الروس كانوا قادرين على السلوك المهذب. فقد واصلوا صرف راتبه له بعد رحيله بزمن طويل، وحين نهب جيش روسي مزرعة أويلر أثناء غزوه برندنبورج سخا القائد الروسي في تعويضه عن خسارته، وأضافت الإمبراطورة إليزابث بتروفنا إلى التعويض مبلغاً من عندها.
وتاريخ العلم يكرم أويلر أولاً لما أنتجه في حساب التفاضل، لاسيما لتناوله النظامي لتفاضل التغيرات. وقد دفع الهندسة وحساب المثلثات إلى الأمام باعتبارهما فرعين من فروع التحليل. وكان أول من تصور في وضوح فكرة الوظيفة الرياضية التي هي الآن قلب الرياضة. وفي الميكانيكا صاغ المعادلات العامة التي ما زالت تحمل اسمه. وفي البصريات كان أول من طبق حساب التفاضل على ذبذبات الضوء وصاغ منحني التذبذبات باعتباره متوقفاً على المرونة والكثافة. واستنبط قوانين الانكسار تحليلياً وقام بدراسات في انتشار الضوء مهدت لصناعة العدسات الأكروماتية. وشارك في مشروع دولي هدفه إيجاد خط الطول في البحر برسم موقع الكواكب وأوجه القمر، وأعان حله التقريبي جون هاريسون على وضع جداول قمرية موفقه للبحرية البريطانية.
وفي 1766 طلبت كاترين الكبرى إلى أويلر أن يعود إلى سانت بطرسبورج. وقد عاد إليها، فاحتفظ به حفاوة بالغة. ولم يثبت بعد وصوله أن كف بصره تماماً، ولكن ذاكرته بلغت من الدقة، وسرعة حسابه بلغت من(37/161)
العظمة مبلغاً أتاح له أن يواصل الإنتاج بنشاط يقرب من نشاطه السابق. وأملي الآن كتابه "مقدمة كاملة للجبر" على خياط شاب لم يكن حين بدأ عمله هذا يعرف شيئاً عن الرياضة أكثر من الحساب البسيط؛ وقد أضفى هذا الكتاب على الجبر الشكل الذي احتفظ به إلى يومنا هذا. وفي 1771 دمرت نار بيت أويلر، وأنقذ مواطن سويسري من بازل يدعى بيتر جريم الرياضي الأعمى من النيران إذ حمله على كتفيه بعيداً عن الخطر. ومات أويلر عام 1783 وقد بلغ السادسة والسبعين بنوبه فالج أصابته وهو يلعب مع أحد حفدته.
ب- لجرانج
ولم يفقه غير رجل واحد في قرنه وعلمه، وهو الفتى الذي بسط عليه رعايته-جوزف لوي لجرانج. وكان واحداً من أحد عشر طفلا ولدوا لزوجين فرنسيين يقيمان في تورين، ولم يتجاوز الطفولة من هؤلاء كلهم غيره. وقد تحول عن الدراسات الكلاسيكية إلى العلم عند قراءته مذكرة وجهها هالي إلى جمعية لندن الملكية، فكرس نفسه للتو لدراسة الرياضة، وسرعان ما برز في تبريزا أوصله في سن الثامنة عشرة إلى منصب أستاذ الهندسة في أكاديمية المدفعية بتورين. وقد ألف من تلاميذه، وكلهم تقريباً أكبر منه سناً، جماعة بحث نمت حتى غدت أكاديمية تورين للعلوم. وفي التاسعة عشرة أرسل إلى أويلر طريقة جديدة لتناول حساب تفاضل التغيرات. ورد أويلر بأن الطريقة تذلل صعوبات لم يستطع هو نفسه تذليلها. وأجل السويسري الكريم إذاعة النتائج التي وصل إليها، حتى لا أحرمك من أي قسط من المجد الذي تستحقه. "وأذاع لجرانج طريقته في المجلد الأول الذي أصدرته أكاديمية ورين (1759) وشهد أويلر في مذكرته عن حساب تفاضل التغيرات بكل الفضل للفتى. وفي ذلك العام (1759) انتخب بنفوذه عضواً أجنبياً بأكاديمية برلين وهو لا يعدو الثالثة والعشرين ولما غادر أولر بروسيا زكى لجرانج خلفاً له في الأكاديمية، وأيد دالامبير هذا الاقتراح بحرارة، وفي 1766 انتقل لجرانج إلى برلين. وقد حيا(37/162)
فردريك الأكبر باعتباره "أعظم ملك في أوربا"، ورحب به فردريك "أعظم الرياضيين في أوربا" (5) وكان هذا سابقاً لأوانه، ولكنه صدق بعد قليل. والعلاقات الودية التي ربطت أئمة رياضي القرن الثامن عشر- أويلر، ولجرانج، وكليرو، ودالامبير، ولجاندر- تؤلف فصلا مبهجاً في تاريخ العلم.
وخلال العشرين السنة التي أقام فيها لجرانج ببرلين ألف تدريجياً أجزاء رائعته الكبرى "الميكانيكا التحليلية". وعلى هامش هذا المشروع الأساسي نقب في الفلك، وقدم نظرية عن توابع المشتري وتعليلاً لترجحات القمر، أي التغيرات في الأجزاء المنظورة منه. وفي 1786 مات فردريك الأكبر، وخلفه فردريك وليم الثاني، الذي لك يكن يعبأ كثيراً بالعلم. فقبل لجرانج دعوة من لويس السادس عشر للانضمام إلى أكاديمية العلوم الباريسية وأعطى سكناً مريحاً في اللوفر، وأصبح أثيراً لدى ماري أنطوانيت التي بذلت ما وسعها لتخفف عنه نوبات الاكتئاب التي كثيراً ما انتابته وجلب معه مخطوط "الميكانيكا التحليلية"، ولكنه لم يستطع العثور على ناشر يتصدى لمثل هذه المشكلة الطباعية العسيرة في مدينة تغلى مراجلها بالثورة. وأخيراً أقنع صديقاه أدريان لجاندر وألابيه ماري طابعاً بالاضطلاع بهذه المهمة، ولكنه لم يقتنع إلا بعد أن وعده ألابيه بأن يشتري جميع النسخ غير المباعة بعد تاريخ محدد. فلما وضع الكتاب الذي لخص جهد حياة لجرانج بين يديه (1788) لم يكترث بالنظر إليه، فقد كان في إحدى نوبات اكتئابه الدورية التي أفقدته كل اهتمام بالرياضة، بل بالحياة. وظل الكتاب مقفلا على مكتبه عامين كاملين.
وهناك إجماع على وضع "الميكانيكا التحليلية" في قمة رياضة القرن الثامن عشر. فهذا الكتاب الذي لم يفقه غير "الأصول" في الميدان الذي تناوله الكتابان، تقدم على كتاب نيوتن هذا باستعماله "التحليل"-التفاضل الجبري- بدلا من الهندسة في إيجاد الحلول وعرضها، وقد جاء في المقدمة "ليس في هذا الكتاب رسوم بيانية" وبهذه أن تستخلص منها معادلات نوعية(37/163)
لكل مسألة بعينها، وما زالت هذه المعادلات العامة تسود الميكانيكا وتحمل اسمه. ووصفها إرنست ماخ بأنها من أعظم الإسهامات في الاقتصاد في الفكر (6) وقد رفعت ألفرد نورث هوايتهيد إلى ذرى النشوة الدينية فقال "إن في هذه المعادلات من الجمال، ومن البساطة التي تكاد تبلغ القداسة، ما يجعل هذه الصيغ جديرة بأن تضارع تلك الرموز الغامضة التي آمن الناس في القديم بأنها تدل مباشرة على الكائن الأعلى الذي يكمن وراء كل الأشياء (7).
فلما نشبت الثورة بسقوط الباستيل (14 يوليو 1789) نصح لجرانج، المقرب إلى الملكية، بأن يعود إلى برلين، ولكنه أبى. فلقد كان على الدوام متعاطفاً مع المظلومين، ولكنه لم يؤمن بقدرة الثورة على النجاة ن نتائج عدم المساواة الطبيعي بين البشر. وهالته مذابح سبتمبر 1792، وإعدام صديقه لافوازييه، ولكن صمته المكتئب أنقذ رأسه من الجيلوتين. فلما فتحت مدرسة المعلمين (1795) نيط لجرانج بقسم الرياضة فيها، وحين أقفلت وأسست مدرسة الفنون والصنائع (1797) كان أول أساتذتها، والأساس والاتجاه الرياضيات الفرنسي هما بعض تأثير لجرانج الطويل الأمد.
وفي 1791 عينت لجنة لوضع نظام جديد للموازين والمقاييس. وكان لجرانج، ولافوازييه، ولابلاس، من أوائل أعضائها. وبعد ثلاثة أشهر "طهر" ابثنان من هذا الثالوث، وأصبح لجرانج العقل القائد في وضع النظام المتري. واختارت اللجنة أساساً للطول ربع الكرة الأرضية- ربع الدائرة العظمى التي تمر حول الأرض على مستوى البحر بطريق القطبين، وأخذ جزء على عشرة ملايين منه وحدة جديدة للطول وسمى متراً. واختارت لجنة فرعية الجرام وحدة جديدة للموازين: وهو وزن الماء المقطر في درجة الصفر المئوية، ويشغل مكعباً كل ضلع فيه سنتمتر واحد-أي جزء على مائة من المتر. وبهذه الطريقة بنيت جميع الأطوال والأوزان على ثابت فيزيائي واحد، وعلى العدد عشرة. وظل هناك مدافعون عن النظام الأثنى عشري، الذي اتخذ العدد عشر أساساً له، كما هو متبع في إنجلترا، وبوجه عام في تقديرنا للزمن. ولكن لجرانج أصر على النظام العشري، وكان له ما أراد. فقررت الحكومة الفرنسية هذا النظام في 25 نوفمبر 1792،(37/164)
وما زال، مع بعض التعديلات باقياً إلى يومنا هذا، ولعله أبقى نتائج الثورة الفرنسية.
وأضاءت تجربة رومانسية كهولة لجرانج. ذلك انه حين بلغ السادسة والخمسين أصرت فتاة في السابعة عشرة، كانت ابنة صديقه الفلكي لمونييه، على الزواج منه وتكريس نفسها للتخفيف من أوهامه ووساوسه. وأذعن لجرانج، وبلغ من عرفانه بصنيع حبها أنه يصحبها إلى المراقص والحفلات الموسيقية. وكان قد تعلم أن يحب الموسيقى-التي هي لعبة تحتال بها الرياضة على الأذن- لأنها "تعزلني. إنني أسمع الموازين الموسيقية الثلاثة الأولى، وفي الرابعة لا أعود أعي شيئاً، فأستسلم لأفكاري، ولا شيء يقطعها على، وبهذه الطريقة أحل من مسألة عويصة" (8).
فلما هبطت حمى الثورة، هنأت فرنسا لأنها أعفت إمام رياضي العصر من الجيلوتين. وفي 1796 أوفد تاليران إلى تورين ليزور بصفة رسمية والد لجرانج ويقول له "إن ابنك الذي تفخر بيدمونت بأنها أنجبته، وتفخر فرنسا بأنه مواطن فيها، وقد شرف البشر أجمعين بعبقريته" (9). وكان نابليون يحب فيما بين حملاته أن يتحدث إلى الرياضي الذي تحول إلى الفلسفة.
واستعاد الشيخ اهتمامه بالرياضة حين نفخ ووسع "الميكانيكا التحليلية" (1810 - 13) لإعداد طبعة ثانية من الكتاب. ولكنه أسرف في الجهد والسرعة كعادته؛ وأضعفته نوبات من الدوار، ومرة وجدته زوجته فاقد الوعي على أرض الحجرة، وقد نزف رأسه من قطع سببه سقوطه على حرف المائدة. وأدرك أن قواه البدنية آخذة في النضوب، ولكنه تقبل هذا التحلل البطيء على أنه طبيعي ومعقول. وقال لمونج ولغيره من عواده:
"كنت مريضاً جداً أمس أيها الأصدقاء، وأحسست أنني سأموت وأصاب الضعف بدني شيئاً فشيئاً، وانطفأت قواي العقلية والبدنية دون وعي مني. ولاحظت "متوالية" تناقض عافيتي، الحسنة التدرج، ووصلت إلى النهاية دون أسف، أو حسرات، وفي هبوط غاية في الرفق. يجب(37/165)
ألا تخشى الموت، وحين يأتي دون ألم، فإنه يكون وظيفة أخيرة ليست بالكريهة ... إن الموت هو الراحة الكبرى للجسد (10).
ومات في 10 أبريل 1813 وقد بلغ الخامسة والسبعين غير باك على شئ إلا اضطراره لترك زوجته الوفية عرضه لمخاطر ذلك العهد، حين بدا أن العالم كله قد امتشق الحسام لقتال فرنسا.
وحمل صديقاه جسبارمونج، وأدريان لجاندر، إلى القرن التاسع عشر تلك الأبحاث الرياضية التي كانت الأسس للتقدم الصناعي. وينتمي إنتاج لجاندر (1752 - 1833) إلى عصر ما بعد الثورة، وحسبنا أن نقرئه التحية في طريقنا. أما مونج فكان بابن بائع متجول وسنان سكاكين. ونحن نراجع فكرتنا عن الفقر الفرنسي حين نرى هذا العامل البسيط يوفر لثلاثة من أبنائه التعليم في الكلية. ونال جسبار كل ما أتيح من جوائز في المدرسة. وفي الرابعة عشرة صنع آلة لإطفاء الحريق، وفي السادسة عشرة رفض دعوة معلميه اليسوعيين إياه ينضم إلى طريقتهم، وبدلا من هذا أصبح أستاذ الفيزياء والرياضة في المدرسة الحرية بميزيير. وهناك صاغ أصول هندسته الوصفية- وهي طريقة لعرض شكل ثلاثي الأبعاد على مستوى وصفي واحد. وتبين عظم فائدة هذه الطريقة في تصميم الحصون وغيرها من المباني، حتى أن الجيش الفرنسي ظل خمسة عشر عاماً يحظر عليه البوح بسرها علناً، ثم سمح له (1794) بتدريسها في مدرسة المعلمين بباريس. وقد أخذ لجرانج العجب وهو يستمع إلى محاضراته فيها، شأن جوردان في مسرحية فولتير "قبل أن أستمع إلى مونج لم أعرف أنني أعرف الهندسة الوصفية" (11). وقد أبلى مونج بلاء حسناً في خدمة الجمهورية التي تعد نفسها للمعركة. وارتقى إلى منصب وزير البحرية. وعهد إليه نابليون بالكثير من المهام السرية. وبعد عودة البوربون إلى الملك عانى مونج من الفاقة والتعرض للخطر. فلما مات (1818) منع تلاميذه في مدرسة الفنون والصنائع من السير في مأتمه. وفي الغد ساروا إلى المدفن بيئتهم لكاملة، ووضعوا على قبره أكليلاً من الزهر.(37/166)
3 - الفيزياء
أ - المادة والحركة والحرارة والضوء
نمت الرياضة لأنها كانت الأساس والإدارة التي لا غنى عنها للعلوم كلها، إذ اختزلت الخبرة والتجربة إلى قوانين كمية أتاحت التنبؤ الدقيق والضبط العملي. وكانت الخطوة الأولى هي تطبيقها على المادة عموماً: بكشف الإطرادات ووضع "القوانين" للطاقة، والحركة، والصوت، والضؤ، والمغنطيسية، والكهرباء، وهنا كمن ما يكفي من الأسرار التي تتطلب الكشف عن خوافيها.
وقد ضحى بيير لوي مورو دموبرتوي بمستقبله في الجيش الفرنسي ليكرس نفسه للعلم. وسبق فولتير في تعريف فرنسا بنيوتن، وفي تقدير مفاتن مدام دوشاتليه وتعليمها. وفي 1736، كما سنرى، رأس بعثة إلى لايلاند لقياس درجة طولية. وفي 1740 قبل دعوة لزيارة فردريك الثاني، وتبع فردريك إلى معركة مولفتز (1741)، وأسره النمساويون، ثم أطلقوا سراحه بعد قليل. وفي 1745 انضم إلى أكاديمية برلين للعلوم، وبعد عام أصبح عميداً لها. وشرح المبدأ الذي توصل إليه لأكاديمية باريس للعلوم في 1744، ولأكاديمية برلين في 1746، وهو المبدأ القائل بأقل حركة: "حين يحدث أي تغيير في الطبيعة فإن كمية الحركة المستخدمة لهذا التغيير هي دائماً أقل ما يمكن. "وذهب إلى أن هذا يثبت وجود نظام منطقي في الطبيعة، وإذن وجود اله منطقي (12). وطور أويلر ولجرانج هذا المبدأ، وفي زماننا هذا لعب دوراً في نظرية الكم. وفي "مقال في علم الكون" (1750) أحيا موبرتوي بدعة لا يمكن القضاء عليها: فهو مع تنبيه قصداً في الطبيعة، إلا أنه اعترف بأنه يرى فيها أيضاً علامات الغباء أو الشر، وكأن شيطاناً ينافس إليها خيراً في تعريف شئون الكون (13). ولعل موبرتوي كان يوافق خصمه اللدود فولتير على أن القديس أوغسطين كان ينبغي أن يظل مانوياً.
وقد سبقت الإشارة إلى مولد دالامبير، ثمرة غير مقصودة لصلة عابرة بين ضابط مدفعية وراهبة سابقة. عثرت عليه شرطة باريس على سلم كنيسة(37/167)
سان جان لورون ولما تمض على مولده ساعات (1717)، فعمدوه باسم جان بانيست لورون، وأرسلوه إلى مرضع في الريف. وطالب به أبوه، الشفالييه ديتوش، وسماه دارامبير (لأسباب نجهلها)، ودفع أجراً لمدام روسو، وهي زوجة صانع زجاج، لتتبنى الطفل. وتبين أنها رابة مثالية، وأن جان غلام نابغة. فلما بلغ السابعة أراه أبوه في فخر لأمه، مدام دتانسان، ولكنها قررت أن مستقبلها خليلة وصاحبة صالون سيضار بقبول الطفل، ولم تسهم بشيء في إعالته على قدر علمنا، أما الشفالييه فقد ترك له قبل موته في 1726 معاشاً سنوياً قدره ألف ومائتا جنيه.
وتلقى جان تعليمه في الكوليج دكاتر ناسيون (كلية الأمم الأربع)، ثم في جامعة باريس، حيث نال درجة القانون. وهناك، حوالي عام 1738، غير اسمه من دارامبير إلى دالامبير. ثم اتجه إلى دراسة الطب بعد أن مل القانون، ولكن ميلاً عارضاً إلى الرياضة انقلب فيه غراماً مشبوباً. قال "كانت الرياضة لي أشبه بالخليلة للرجل" (14). وواصل السكنى مع مدام روسو حتى بلغ الثامنة والأربعين وهو يعتبرها في عرفانه بصنيعها أمه الوحيدة. وكان من رأيها أن مما يشين الرجل أن يسلم نفسه إلى حياة الدرس ولا يبدي أي شهوة للمال. فكانت تقول له في أسى "إنك لن تغدو أن تكون فيلسوفاً. وما الفيلسوف؟ مجنون يعذب نفسه طوال حياته ليتحدث الناس عنه بعد موته" (15).
ولعل دوافعه الملهمة لم تكن الرغبة في الشهرة بعد الموت، بل المنافسة الأبية مع العلماء الراسخين، وتلك الغريزة الشبيهة بغريزة القندس، التي تبتهج بالبناء، ويخلق النظام من فوضى المواد والأفكار. على أية حال فإنه في الثامنة والعشرين بدأ يقدم أبحاثاً لأكاديمية العلوم: أحدها في حساب التكامل (1739)، وآخر في انكسار الضوء (1741؛ وفي بحث الضوء هذا أقدم تعليل لانحناء أشعة الضوء وهي تنتقل من سائل إلى آخر أكبر كثافة، ومكافأة له على البحث قبلته الأكاديمية عضواً "ملحقاً"، وبعد عامين نشر أهم آثاره العلمية" رسالة في الديناميكا"، وقد حاول فيها أن يختزل كل مسائل المادة المتحركة إلى معادلات رياضية، وسبقت الرسالة رسالة(37/168)
لجرانج الأفضل منها "الميكانيكا التحليلية" باثنين وأربعين سنة، وهي تحتفظ بأهميتها التاريخية لأنها صاغت النظرية الأساسية المعروفة الآن باسم "مبدأ دالامبير"، وهي أعسر تخصصاً مما يحتمله هضمنا العام، ولكنها عون كبير على الحسابات الميكانيكية. وقد طبقها في "رسالة في توازن السوائل وحركتها" (1744)، وظفرت من الأكاديمية بإعجاب حملها على مكافأتها بمعاش من خمسمائة جنيه، لا بد أنه هدأ من ثائرة مدام روسو.
ومن مبدئه هذا من ناحية، ومن معادلة مبتكرة في حساب التفاضل، توصل دالامبير إلى صيغة لحركة الرياح. وأهدى كتابه "تأملات في السبب العام للرياح" (1747) إلى فردريك الأكبر، الذي استجاب بدعوته للإقامة في برلين، ولكن دالامبير رفض، فأبدى بذلك من الحكمة وهو في الثلاثين أكثر مما سيبديه فولتير وهو في السادسة والخمسين. وفي "مقال عن نظرية جديدة في المقاومة السوائل" (1752): حاول أن يجد صيغاً ميكانيكية لمقاومة الماء لجسم يتحرك فوقه، فأخفق؛ ولكن في 1775، وبتكليف من طورجو، أجرى هو وكوندورسيه والابيه بوسو تجارب أعانت على تقرير قوانين مقاومة السوائل للأجسام المتحركة على سطوحها. وفي أخريات عمره درس حركة الأوتار المتذبذبة، وأصدر (1779) "مبادئ الموسيقى النظرية والعلمية" متبعاً ومعدلا طريقة رامو؛ وقد ظفر هذا الكتاب بثناء عالم الموسيقى الشهير تشارلز بيرني. ويمكن القول أن دالامبير أوتي في مجموعة عقلا من أذكى وأرهب العقول في هذا القرن.
وعرض فردريك الأكبر وظيفة عميد أكاديمية برلين على دالامبير حين استقال موبرتبوس. وكان الرياضي-الفيزيائي-الفلكي-الموسوعي رجلا رقيق الحال ولكنه رفض المنصب في أدب، ذلك أنه كان يعتز بحريته، وبأصدقائه، وبباريس. واحترم فردريك بواعثه، وأرسل إليه معاشاً متواضعاً من ألف ومائتي جنيه بعد استئذان لويس الخامس عشر. وفي 1762 دعته كاترين الكبرى إلى روسيا وأكاديمية سانت بطرسبورج، فرفض الدعوة، لأنه كان الآن عاشقاً. وأصرت كاترين، ربما بعد علمها بهذا وطلبت إليه أن يحضر "ومعك كل أصدقائك"، وعرضت عليه راتباً(37/169)
من 100,000 فرنك في العام. وقبلت اعتذاراته في سماحة، وواصلت مراسلته، وناقشت معه أسلوب حكمها ومشاكله. وفي 1763 ناشده فردريك أن يزور بوتسدام على الأقل، فذهب دالامبير، وكان يتناول الطعام مع الملك شهرين. ورفض مرة أخرى عمادة أكاديمية برلين، وبدلا من ذلك اقتنع فردريك بأن يرفع راتب أويلر رب الأسرة الكبيرة (16). ونرجو أن نلتقي بدالامبير مرة أخرى.
وكان لآل برنوللي المدهشين مساهمات عارضة في الميكانيكا. فصاغ يوهان الأول (1717) مبدأ السرعات الافتراضية: "في كل توازن للقوى أياً كانت، وعلى أي صورة استخدمت، وفي أي اتجاهات يؤثر بعضها في بعض، بطريق مباشر أو غير مباشر، يكون مجموع الطاقات الموجبة معادلا لمجموع الطاقات السالبة إيجابياً". وأعلن يوهان وابنه دانيال (1735) أن مجموع "القوة الحية" في العالم ثابت دائماً؛ وقد أعيدت صياغة هذا المبدأ في القرن التاسع عشر باسم عدم فناء الطاقة. وطبق دانيال الفكرة تطبيقاً مثمراً في كتابة "الديناميكا المائية" (1738) وهو من عيوب الكتب الحديثة في ميدان بالغ الصعوبة. وفي ذلك المجلد أرسى أساس النظرية الحركية للغازات، فالغاز يتألف من ذرات ضئيلة تتحرك بسرعة كبيرة، وتحدث ضغطاً على الإناء بالصدمات المتكررة، والحرارة تزيد من سرعة الذرات، ومن ثم ضغط الغاز، ونقص الحجم (كما أثبت بويل من قبل) يزيد الضغط بنسبة النقص.
أما في فيزياء الحرارة فإن ألمع الأسماء في القرن الثامن عشر هو اسم جوزيف بلاك. ولد في بوردو لأب اسكتلندي مولود في بلفاست، ودرس الكيمياء في جامعة جلاسجو، وفي السادسة والعشرين (1754) أجرى تجارب فيما نسميه الآن التأكسد أو التآكل. وقد بينت هذه التجارب مفعول غاز ميزه عن الهواء العادي، وكشف عن هذا الغاز في الميزان، وسماه "الهواء الثابت" (ونسميه الآن ثاني أوكسيد الكربون)، وكان قد أوشك على الكشف عن الأوكسجين قبل ذلك. وفي 1756، حين كان محاضراً في الكيمياء، والتشريح، والطب في الجامعة، وبدأ ملاحظات هدته إلى نظريته(37/170)
في "الحرارة الكامنة": فحين تكون مادة ما بسبيلها إلى التغير من الحالة الجامدة إلى حالة السيولة أو من السيولة إلى الغازية، فإن المادة المتغيرة تمتص من الهواء كمية من الحرارة لا يمكن ملاحظتها كتغيير في درجة الحرارة، وهذه الحرارة الكامنة ترد إلى الهواء حين يتحول غاز إلى سائل أو سائل إلى جامد. وقد طبق جيمس وات هذه النظرية في تحسينه للآلة البخارية. وكان رأي بلاك في الحرارة كرأي جميع أسلاف بريستلي، إنها مادة تزداد أو تتناقص دفئاً، وظلت هذه الفكرة سائدة حتى أثبت بنيامين طومسن، كونت رمفورد، في 1798، أن الحرارة ليست مادة بل شكلا من أشكال الحركة، يفهم الآن على أنه حركة مكتسبة للأجزاء المكونة للجسم.
وفي هذه الأثناء توصل يوهان كارل فيلكي الإستوكهولمي إلى نظرية مماثلة في الحرارة الكامنة (1772) مستقلا عن بلاك. وفي سلسلة من التجارب رواها هذا العالم السويدي في 1777 أدخل اصطلاح "الحرارة المشعة" -أي الحرارة غير المنظورة التي تنبعث من المواد الساخنة، وقد ميز بينها وبين الضوء، ووصف خطوط حركتها وانعكاسها وتركيزها بواسطة المرايا، ومهد للربط الذي ربطه فيما بعد بين الحرارة والضوء باعتبارهما شكلين متشابهين من أشكال الإشعاع. وحدد فيلكي، وبلاك، ولافوازييه، ولابلاس، وغيرهم من الباحثين، القيمة التقريبية للصفر المطلق (وهو أدنى درجة حرارة ممكنة من حيث المبدأ). أما البريطانيون فكانت وحدة الحرارة التي اتخذوها هي الكمية التي ترفع درجة حرارة رطل من الماء درجة فهرنهيتية، أما الفرنسيون، وشعوب القارة عموماً، فقد فضلوا استعمال كمية الحرارة التي ترفع درجة حرارة كيلو جرام من الماء درجة مئوية واحدة.
أما نظرية الضوء فإن ما أحرزه القرن الثامن عشر من تقدم فيها كان ضئيلا، لأن جميع الفيزيائيين تقريباً قبلوا "فرض الجسيمات" الذي قال به نيوتن-وهو أن الضوء انبعاث كريات من الجسم إلى العين. وكان أويلر يتزعم أقلية تدافع عن نظرية الموجات. فافترض-كما افترض هويجنز- أن الفضاء "الخالي" بين الأجرام السماوية. وبين الأجسام المنظورة الأخرى،(37/171)
يملؤه "الأثير"، وهو مادة أرق من أن تدركها حواسنا أو آلاتنا، ولكن تلمع إليه الماعاً شديداً ظواهر الجاذبية، والمغنطيسية، والكهرباء. والضوء في رأى أويلر تموج في الأثير، كما أن الصوت تموج في الهواء. وقد ميز بين الألوان على أنها ترجع إلى فترات مختلفة من تذبذب في أمواج الضوء، وكان سباقاً إلى نظريتنا التي تنسب اللون الأزرق إلى أقصر فترة تذبذب، واللون الأحمر إلى أطوالها. وقد أثبت بيير بوجيه بالتجربة ما سبق أن توصل إليه كلير نظرياً، وهو أن شدة الضوء تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعده عن مصدره. وتوصل يوهان لامبرت إلى طرق لقياس شدة الضوء، وقرر أن ضياء الشمس يبلغ 277,000 ضعف ضياء القمر، وأن علينا أن نتقبل هذا بالإيمان كما تقبلنا اللاهوت الذي ألقي إلينا في طفولتنا.
ب- الكهرباء
حققت فيزياء القرن الثامن عشر أروع تقدم لها في ميدان الكهرباء. لقد عرف الناس كهرباء الاحتكاك منذ زمن طويل. وكان طاليس المليطي (600 ق. م) على علم بما للعنبر (الكهرمان)، والكهرمان الأسود، وغيرهما من المواد إذا حكت من قدرة على جذب الأجسام الخفيفة كالريش أو القش. وقد سمى وليم جلبرت، طبيب الملكة إليزابث، هذه القوة الجاذبة "إلكترون" (من كلمة Electron اليونانية بمعنى الكهرمان) وباللاتينية vis electrica. وكانت الخطوة التالية هي إيجاد وسيلة لتوصيل هذه الكهرباء الساكنة واستخدامها. وقد بحث جويريكي وهاوكسي عن مثل هذه الوسيلة في القرن السابع عشر، وبقي أن يظل الكشف الحاسم عليها سراً حتى يتم على يد ستيفن جراي (1729).
وكان جراي رجلاً متقاعداً حاد الطبع، نزيل ملجأ من ملاجئ لندن. وحين "كهرب" أنبوبة زجاجية، مسدودة بفلينتين عند طرفيها، بدعكها وجد أن الفلينتين وكذلك الأنبوبة تجذب ريشة طائر. فأدخل أحد طرفي قضيب خشبي في إحدى الفلينتين، والطرف الآخر في كرة من العاج، فلما دعك الأنبوبة، جذبت الكرة الريشة كما جذبتها الأنبوبة والفلينتان، وهكذا أمكن توصيل الكهرباء على طول القضيب. واستطاع باستعمال(37/172)
الدوبارة أو خيط القنب المتين بدلا من القضيب أن يوصل الكهرباء لمسافة 765 قدماً. فلما استخدم الشعر، أو الحرير، أو الراتنج، أو الزجاج، في الربط انعدام التوصيل؛ وهكذا لاحظ جراي الفرق بين الأجسام الموصلة وغير الموصلة، واكتشف أن الأجسام غير الموصلة يمكن استعمالها لحفظ الشحنات الكهربائية أو تخزينها. فلما علق 666 قدماً من الدوبارة الموصلة من سلسلة طويلة من الأعمدة المائلة، وأرسل "القوة أو الفضيلة" الكهربائية (كما سماها) خلال تلك المسافة، كان في الواقع سباقاً إلى ابتكار التلغراف.
وتبنت فرنسا البحث، فواصل جان ديزاجولييه (1736) تجارب جراي، وقسم المواد إلى موصلة وغير موصلة (سماها "كهربات قائمة بذاتها") ووجد أن هذه يمكن تغييرها إلى موصلات ببلها بالماء. وأجرى شارل روفيه أبحاثاً أنهاها إلى أكاديمية العلوم في 1733 - 37. وفي رسالة متواضعة إلى جمعية لندن الملكية (1734) صاغ أهم استنتاجاته على النحو الآتي:
"لقد ألقت الصدفة في طريقي بمبدأ آخر ... وهو أن هناك كهربائين متميزين، تختلفان الواحدة عن الأخرى اختلافاً كبيراً، أسمى إحداهما "الكهرباء الزجاجية" والأخرى "الكهرباء الراتنجية" والأولى هي كهرباء الزجاج، والبلور الصخري، والأحجار الكريمة، وشعر الحيوان والصوف، وأجسام كثيرة أخرى. والثانية كهرباء العنبر، والكوبال، والجملكة، والحرير، والخيط، والورق، وعدد هائل من المواد الأخرى. وطبيعة هاتين الكهربائين هي أن جسما من نوع الكهرباء الزجاجية ... يصد كل الأجسام التي من هذا النوع من الكهرباء، وبالعكس يجذب كل الأجسام التي من نوع الكهرباء الراتنجية (17).
إذن فإن جسمين مكهربين بالتماس مع نفس الجسم المكهرب يصد إحداهما الآخر وهو ما اكتشفه دوفيه، ويستطيع كل تلميذ أن يتذكر دهشته حين رأى كرتي بلسان معلقتين بواسطة مادتين غير موصلتين من نفس النقطة وموضوعتين بحيث تمس الواحدة منهما الأخرى، تنتقصان فجأة مبتعدتين الواحدة عن الأخرى حين يلمسها نفس القضيب الزجاجي المكهرب. وأظهرت تجارب لاحقة أن الأجسام "الزجاجية" قد تكتسب كهرباء راتنجية"، وأن الأجسام "الراتنجية" قد تكتسب كهرباء"زجاجية"(37/173)
ومن ثم غير فرانكلن مصطلحات دوفيه إلى "موجبة وسالبة". وروح دوفيه عن معاصريه بتعليقه رجلا بحبال غير موصلة، وشحنه بالكهرباء بتلامسه مع جسم مكهرب، ثم بعث الشرر من جسم الرجل المعلق دون أن يصيبه أذى (1).
وانتقل المشهد إلى ألمانيا. فسبق جورج بوزيه في ناحية فرانكلن بإلماعه إلى أن ظاهرة الفجر الكاذب مصدرها كهربائي. وفي 1744 أثبت كرستيان لودولف في أكاديمية برلين أن في استطاعة الشرارة كهربية أن تشعل سائلا قابلاً للالتهاب. وفجر بونيه البارود بهذه الطريقة، فأفتتح بذلك عصر استعمال الكهرباء في التفجير، وإطلاق المدفع، وعشرات الأغراض الأخرى. وفي نفس العام بدأ جوتليب كراتسنشتين استعمال الكهرباء في علاج الأمراض. وفي أكتوبر 1745 اكتشف قسيس بومراني يدعى أ. ج كلايست أن في الإمكان تخزين شحنة كهربية في أنبوبة زجاجية بملئها بسائل أدخل فيه مسماراً متصلا بآلة تحدث كهرباء احتكاكية، فلما قطعت الوصلة احتفظ السائل بشحنته عدة ساعات. وبعد بضعة شهور توصل إلى هذا الكشف ذاته أستاذ بجامعة ليدن بييتر فان موسشينيرويك، دون أن يعلم شيئاً عن تجارب كلايست، وتلقى من طاس مشحونة غير مفصولة صدمة بدا لحظة أنها قاضية عليه، ولم يفق منها إلا بعد يومين. وأثبت المزيد من التجارب في ليدن أن في الإمكان تخزين شحنة أثقل في قارورة فارغة إذا غلف سطحاها السفليان، الداخلي والخارجي، بورقة قصدير. وخطرت لدانيال جرالات فكرة ربط عدة "جرار ليدينية" معاً، ووجد أن إفراغ شحنتها الكهربية يقتل صغار الحيوان.
_________
(1) بدأ الآن قرن من الحيل الكهربية فدعا جيورج بوزيه، الأستاذ بجامعة ليبرج، عدة أصدقاء للغذاء ثم عزل المائدة خفية، ولكنه أوصل شتى الأجسام التي فوقها بآلة تحدث الكهرباء مخفاة في الحجرة المجاورة. فلما أقبل الضيوف على الطعام أشار لمساعد له بأن يدير الآلة، وتطاير الشرر من الأطباق، والأطعمة، والأزهار. ثم قدم للجماعة شابة جذابة عزلها حذاؤها عن أرض الحجرة، ولكن جسمها كان قد شحن كهرباء، ودعا الضيوف إلى تقبيلها. فأصيب المقبلون بصدمات كادت "تخلع أسنانهم" على حد قول الأستاذ.(37/174)
وعرض لوى جيوم في باريس عام 1746، ووليم واطسن في لندن عام 1747، ما بدأ واطسن بتسمية "دائرة". فقد مد واطسن سلكاً طوله نحو ألف ومائتي قدم عبر كوبري وستمنستر، وعلى إحدى ضفتي التيمز أمسك رجل بطرف السلك ولمس الماء؛ وعلى الضفة الأخرى أمسك آخر بالسلك وبجرة من الجرار الليدينية، فلما لمس ثالث الجرة بيد وقبض بالأخرى على سلك امتد داخل الماء أقفلت "الدائرة" وأصيب الرجال الثلاثة بصدمة. خلال فراغ جزئي، فينشأ عن ذلك ضؤ غير قليل.
ويوصلنا هذا العام -عام 1747 إلى بنيامين فرانكلن، الذي بدأ آنئذ تجاربه الكهربية التي جعلت اسمه وصيته يتذبذبان بين العلم والسياسة. هنا ذهن وقلب من أعظم ما وعى التاريخ، اتسعت رقعة فضوله الخلاق وتفاوتت من مقترحات كالتوقيت الموفر لنور النهار، والكراسي الهزازة، والنظارات المزدوجة البؤرة إلى مانعات الصواعق ونظرية السائل الواحد الكهربية. وقد اعترف عالم من أئمة علماء قرننا هذا، هو السير جوزيف طومسن، بأنه "دهش للتشابه بين بعض الآراء التي تهدينا إليها نتائج أحدث الأبحاث، والآراء التي قال بها فرانكلن في طفولة الموضوع (19).
كان من أول كشوف فرانكلن تأثير الأجسام المدببة في "جذب وقذف النار الكهربية" (20). فقد وجد أن إبرة طويلة رفيعة تستطيع جذب تيار من الكهرباء من كرة مكهربة على بعد ست بوصات أو ثمان، في حين أن جسما غير حاد اقتضى إحداث هذا الأثر فيه تقريبه إلى مسافة بوصة من الكرة. وكان فرانكلن يتحدث عن الكهرباء باعتبارها ناراً، ولكنه ذهب إلى النار نتيجة خلل بين توازن السائلين الناريين "الموجب والسالب"، اللذين طن أنهما الكهرباء. فكل الأجسام عنده تحوي هذا السائل الكهربي: فالجسم "الزائد" المحتوي على أكثر من كميته العادية، يكهرب إيجابياً ويميل إلى إفراغ فائضه في جسم يحوي كمية عادية أو أقل من العادية؛ والجسم "الناقص" المحتوي على أقل من كميته العادية، يكهرب سلبياً، ويجتذب(37/175)
الكهرباء من جسم يحوي كمية عادية أو أكثر. وعلى هذا الأساس طور فرانكلن بطارية مكونة من إحدى عشرة لوحة زجاجية كبيرة برقائق من الرصاص كهربت إلى درجة عالية؛ فلما قرب هذا الجهاز ليلمس أجساماً أخف شحنة، أطلق جانباً من شحنته بقوة عنها فرانكلن "أنها لا تعرف حدوداً "تفوق أحياناً" أشد ما نعرف من آثار البرق العادي" (21).
وكان العديد من الباحثين-وول، ونيوتن، وهوكسي، وجراي، وغيرهم- قد لاحظوا الشبه بين الشرر الكهربي والبرق؛ فأثبت فرنكلن أنهما واحد. وفي 1750 أرسل إلى جمعية لندن الملكية رسالة جاء فيها:
"ألا يجوز أن يفيدنا علمنا بقوة الأطراف المدببة هذه في وقاية البيوت والكنائس والسفن الخ. من الصواعق، وذلك بإرشادنا إلى أن نثبت فوق قمم المباني قضباناً مستقيمة من الحديد، يسن القضيب منها كالإبرة ويغشى بالذهب منعاً لصدئه، ومن أسفل هذه القضبان يمد سلك من خارج البناء هابطاً إلى الأرض، أو حول أحد حبال صاري المركب إلى جنبها حتى يصل إلى الماء؟ ألا يحتمل أن تجذب هذه القضبان المدببة النار الكهربائية في هدوء من السحابة قبل أن تقترب قرباً يتيح لها أن تصعق البناء، وبهذا نأمن ذلك الشر الفجائي المستطير؟ " (22):
ثم وصف تجربة يمكن ان تختبر بها هذه النظرية. أما الجمعية الملكية فقد رفضت الاقتراح لنه من قبيل الخيال، ورفضت أن تنشر رسالة فرانكلن. ولكن عالمين فرنسيين هما دلور وداليبار، وضعا نظرية فرانكلن موضع الاختبار، فأقاما في حديقة بماري (1752) قضيباً حديدياً مدبباً طوله خمسون قدماً، ونبها على حارس بأن يلمس القضيب بسلك نحاسي معزول إن مرت غيابهما سحب رعدية فوق رأسه. وجاءت السحب، ولمس الحارس القضيب لا بالسلك فقط بل بيده كذلك؟ وتطاير الشرر وطقطق، وصدم الحارس صدمة عنيفة. وأيد دلور وداليبار رواية الحارس بمزيد من الاختبارات، وأبلغا أكاديمية العلوم الباريسية أن "فكرة فرانكلن لم تعد حدساً بل حقيقة".
أما فرانكلن فلم يقنع بهذا، فقد أراد أن يوضح وحدة البرق والكهرباء في جلاء، وذلك بأن "يستخلص" البرق بشيء يرسل صعدا إلى السحابة(37/176)
المبرقة ذاتها. ففي يونيو 1752 حين بدأت عاصفة رعدية، طير على خيط قنب متين طيارة من الحرير (لأنه أصلح من الورق لحمل الريح والرطوبة، دون أن يتمزق)؛ وبرز سلك شديد التدبب على نحو اثنتي عشرة بوصة من قمة الطيارة، وعلى طرف الخيط الذي ينتهي عند المشاهد ربط مفتاح بشريط حريري؛ وبين فرانكلن نتائج التجربة في رسالة إلى إنجلترا (19 أكتوبر) ضمنها توجيهات لتكرارها:
"إذا بلل المطر خيط الطيارة بحيث يستطيع توصيل النار الكهربية دون معوق، ستجد أنها تنطلق بوفرة من المفتاح بمجرد أن تدنى منه مفصل اصبعك، وبهذا المفتاح يمكن شحن قنينة (أو جرة ليدينية)، ومن النار الكهربية التي يحصل عليها بهذه الطريقة يمكن إشعال المواد الكحولية وإجراء جميع التجارب الكهربية الأخرى التي تجري عادة بالاستعانة بكرة أو أنبوبة زجاجية محكوكة، وهكذا يتضح تماماً أن المادة الكهربية هي البرق شئ واحد" (23).
وكررت التجربة في فرنسا (1753) بطيارة أكبر وحبل طوله 780 قدماً ملفوف حول سلك حديدي، ينتهي عند المشاهد بأنبوبة معدنية كانت في التجربة تبعث شراراً طوله ثماني بوصات. وقد قتلت الصدمة الكهربية ج. و. وتشمان الأستاذ بجامعة سانت بطرسبورج وهو يجري تجربة مماثلة. فلما أرسلت مؤلفات فرانكلن إلى إنجلترا في 1751 - 54 أكسبته الانتخاب عضواً في الجمعية الملكية، ومدالية كوبلي. وجاءته ترجمتها إلى الفرنسية بخطاب تهنئة من لويس الخامس عشر، وثناء حار من ديدرو، الذي وصفها بأنها نماذج في تحرير التقارير العلمية. وقد مهدت هذه الترجمات للاستقبال الودي الذي لقيه فرانكلن حين قدم إلى فرنسا ملتمساً العون للمستعمرات الأمريكية إبان ثورتها فلما نجحت الثورة بمعونة فرنسا لخص دالامبير (أوطورجو) إنجاز فرانكلن في بيت محكم خليق بقيرحل أو لوكريتيوس:
"نه خطف البرق من السماء، والصولجان من الطغاة".(37/177)
وعجت أوربا كلها بالنظريات والتجارب الكهربية بعد عام 1750. ففتح جون كانتون (1753) وفيلكي العالم المتعدد القدرات (1757) الطريق لدراسة التوصيل الكهربي الاستاتيكي، الذي يتكهرب بواسطته موصل غير مشحون إذا وضع بقرب جسم مشحون. وبرهن فيلكي على أن في الإمكان شحن معظم المواد بالكهرباء الموجبة (أو السالبة) إذا حكت بجسم مشحون بشحنة أقل منها (أو أزيد). وأثبت أيبينوس (فرانتز أولريش هوخ) الذي كان يعمل مع فيلكي في برلين أن لوحتين معدنيتين لا يفصلهما إلا طبقة من الهواء تعملان عمل الجرة الليدينية. وحاول جوزف بريستلي قياس قوة الشحنة الكهربية وأقصى اتساع تمر عبره شرارة شحنه معينة. وقد قرر أنه حين عبرت شرارة فجوة لا تتجاوز حتى بوصتين بين قضيبين معدنيين في فراغ ظهر في الفجوة "ضؤ أزرق أو أرجواني خفيف". على أن أروع إسهام أسهم به بريستلي في النظرية الكهربية هو إلماعه إلى أن قوانين الكهرباء قد تكون شبيهة بقوانين الجاذبية ولأن القوة التي تؤثرها الواحدة على الأخرى بواسطة شحنات كهربية منفصلة تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بين مصدريهما. وقد جرب هنري كافندش (الذي يذكر كما يذكر بريستلي بفضل منجزاته في الكيمياء على الأخص) اقتراح بريستلي في سلسلة من التجارب الصابرة، وتوصل إلى تعديل طفيف ولكنه هام، زاده جيمس كلارك ماكسويل صقلا في 1878، والقانون يقبل اليوم بوضعه هذا. وبعد أن قام شارل أوجستن وكولومب بأعمال قيمة في ميدان توتر العوارض ومقاومة المعادن للالتواء، قدم لأكاديمية العلوم الباريسية تقارير عن تجارب (1785 - 86) استخدمت الميزان الالتوائي (إبرة تعتمد على شعرة رقيقة) في تقدير التأثيرات المغنطيسية والشحنات الكهربية، وفي كلتا الحالتين أثبت مادياً قانون المربعات العكسية.
وقد ترك إيطاليان، كما ترك كولومب، على اسميهما مصطلحات الكهرباء. فلم يقتصر لويجي جلفاني أستاذ التشريح في بولونيا على كشفه إمكان إحداث التقلصات العضلية في الحيوان الميت بالتماس الكهربي المباشر (وكان هذا معروفاً قبل ذلك بزمن طويل) بل زاد بأن هذه التقلصات تحدث إذا قربت ساق ضفدع ميت موصلة بالأرض من آلة تبعث شرارة كهربية. وأحدثت(37/178)
تقلصات مماثلة في سيقان الضفادع-الموصلة كذلك بالأرض والمربوطة بأسلاك حديدية طويلة- حين ومض البرق في الحجرة. وأدهش جلفاني أن يكتشف أن في إمكانه أن يقلص ساق ضفدع دون أي استعمال أو وجود لجهاز كهربي بمجرد تقريب عصب الضفدع وعضلته ليمسا معدنين مختلفين. وخلص من ذلك إلى أن في جسم الحيوان كهرباء طبيعية.
وكرر هذه التجارب أليساندرو فولتا، أستاذ الفيزياء في بافيا، ووافق أول الأمر على نظرية مواطنه في الكهرباء الحيوانية، ولكن المزيد من أبحاثه عدل آراءه. فبعد أن أعاد فولتا تجربة رواها ي. ج. زولتسر حوالي عام 1750 وجد أنه إذا وضع قطعة من القصدير على طرف لسانه، وقطعة من الفضة على ظهر لسانه شعر بطعم شديد الحموضة كلما وصل المعدنين بسلك. فلما وصل جبينه وسقف حلقه بهذين المعدنين المختلفين حصل على إحساس بالضوء. وفي 1792 أذاع النتيجة التي خلص إليها، وهي أن المعدنين، لا النسيج الحيواني، أحدثا الكهرباء بمجرد تفاعل الواحد مع الآخر ولمسهما مادة رطبة يحسن أن تكون محلول ملح. وأثبت المزيد من التجارب أن تماس معدنين مختلفين يحدث بهما شحنة كهربية-الواحد إيجاباً والآخر سلباً-دون تدخل من أي مادة رطبة، حيوانية كانت أو غير حيوانية. ولكن هذا التماس المباشر يحدث تفاعلا في الشحنات فقط، لا تدفقاً في التيار. ولكي يحدث فولتا تياراً صنع" رصيفاً كهربائياً" (فولطياً) بوضع عدة طبقات بعضها فوق بعض، يتألف كل منها من صفيحتين موصولتين من معدن نختلف، وصفيحة من الورق أو الخشب المبلل. وهكذا كونت في آخر سنة في القرن لثامن عشر أول بطارية ذات تيار كهربي. وفتح الطريق أمام الكهرباء لتعيد صنع وجه الأرض وليلها.
4 - الكيمياء
أ - البحث عن الأوكسجين
كتب إدوارد جيبون في 1761 يقول "إن الفيزياء والرياضة تتربعان الآن على العرش، تريان أخواتهما ملقيات على الأرض أمامهما، مغلولات إلى عربتهما، أو على الأكثر يزين موكب انتصارهما. ولعل الزمن لن(37/179)
يمهلهما كثيراً حتى يسقطها عن عرشهما" (24). وكانت تلك نبوءة مشئومة فالفيزياء الآن ملكة العلوم، والرياضة معينتها، ولكن ما من أحد يستطيع التنبؤ بما قد يسفر عنه اتحادهما.
ومع ذلك، ففي وسط جميع انتصارات رياضة القرن السابع عشر وفيزيائه وفلكه، كان علم صغير قد انبعث من أقمطة الكيمياء. وأوشك خطأ مؤسف أن يخنقه وهو بعد في المهد. ذلك أن جورج شتال أستاذ الطب والكيمياء في هاللي، عملا بنظرية اقترحها بوهان بيشر في 1669، علل الاختراق بأنه إطلاق "الفلوجستون" (اللاهوب) من المادة المحترقة إلى الهواء وكلمة Phlogiston هي المقابل اليوناني لكلمة inflammable أي قابل للاحتراق؛ وكلمة phlox هي المقابل اليوناني لكلمة flame أي اللهب، وتعني اليوم نباتاً تتلون أزهاره أحياناً باللون الأحمر المشتعل). وما وافى عام 1750 حتى قبل معظم الكيميائيين في غرب أوربا هذه النظرية التي تزعم أن الحرارة أو النار مادة منفصلة عن المادة المشتعلة. ولكن أحداً لم يستطع أن يفسر، إذا كان الأمر كذلك فما السر في أن المعادن تزن بعد احتراقها أكثر منها قبله.
وقد مهد لتعليلنا الراهن للاحتراق العمل الذي قام به هيلز، وبلاك، وشيليه في كيمياء الهواء. أما ستيفن هيلز فقد عبد الطريق باختراعه "الحوض الغازي" وهو وعاء هوائي يمكن أن تجمع فيه الغازات في إناء مقفل فوق الماء. وقرر أن الغازات (وقد سماها "الأهوية") تحتويها جوامد كثيرة، ووصف الهواء بأنه "سائل مطاط رقيق" له جزيئات ذات طبيعة مختلفة جداً تطفو فيه" (25).
وقد أنهى تحليل الهواء والماء إلى مواد منوعة الفكرة القديمة عن الهواء، والماء، والنار، والتراب، باعتبارها العناصر الرئيسية الأربعة. وفي الجيل التالي أثبتت تجارب جوزف بلاك (1756) أن من مكونات الهواء ما سماه اقتداء بهليز-"الهواء الثابت" أي الهواء المحتوي في المواد الجامدة أو السائلة والقابل للإزالة منها، ونحن نسميه الآن ثاني أوكسيد الكربون أو غاز حامض الكربونيك". وزاد بلاك بتمهيده الطريق للكشف عن الأوكسجين بإثباته(37/180)
بالتجربة أن هذا الغاز يحتويه زفير الإنسان. ولكنه ظل يؤمن بالفلوجستون، وظل الأوكسجين والهيدروجين والأزوت (النتروجين) أسراراً غامضة.
وقد أسهمت السويد بعطاء سخي في كيمياء القرن الثامن عشر فتوربيرن أولوف بيرجمان، الذي سنلتقي به ثانية رائداً في الجغرافيا الطبيعية، كان أولاً وقبل كل شيء كيميائياً، عرفه الناس وأحبوه أستاذاً لذلك العلم في جامعة أوبسالا. وهو أول من حصل على النيكل في حالة نقاء، وأول من أثبت أهمية الكربون في تحديد الخواص الطبيعية للمركبات الكربونية الحديدية. وقد درس في حياته القصيرة نسبياً-والتي لم تتجاوز تسعة وأربعين عاماً- الائتلافات الكيميائية لتسع وخمسين مادة، بعد أن أجرى عليها نيفاً وثلاثين ألف تجربة، ونشر كشوفه في كتابه "الإجتذابات الانتخابية" (1775) ومات قبل أن يكمل هذا العمل، ولكنه كان خلال ذلك قد أورث شيليه تفانيه في البحوث الكيميائية.
ويسلم مؤرخو العلم الإنجليزي الآن في شهامة بأن كيميائياً سويدياً-هو كارل فلهلم شيليه سبق (1772) كشف بريستلي (1774) لما سماه لافوزييه (1779) لأول مرة بالأكسجين. وقد قضى شيليه أكثر عمره الذي لم يتجاوز الثلاثة والأربعين عاماً فقيراً معدماً. بدأ صبياً لصيدلي في جوتبورج، ولم يرق إلى أكثر من صيدلي في مدينة كوبنج المتواضعة. وقد حصل له معلمه توربيرن بيرجمان-على معاش صغير من أكاديمية أستوكهولم للعلوم، فكان شيليه ينفق ثمانين في المائة منه على التجارب الكيميائية، يجرى أكثرها ليلا بعد الفراغ من عمل نهاره مستعيناً بأبسط الأجهزة المعملية. ومن هنا موته المبكر. ومع ذلك فقد غطى ميدان هذا العلم الجديد كله تقريباً، وعرفه ببساطته المعهودة فقال"إن هدف الكيمياء ومهمتها الرئيسية هي أن تفصل المواد بمهارة، وتردها إلى مكوناتها، وأن تكشف خواصها، وأن تركبها بطرق مختلفة" (26).
وفي 1775 أرسل إلى لمطبعة مخطوطة عنوانها "رسالة كيميائية في الهواء والنار"؛ وتأخر نشرها حتى 1777، ولكن كل التجارب التي وصفتها تقريباً كانت قد أجريت قبل 1773. ومع أن شيليه ظل حتى مماته متمسكاً(37/181)
بإيمانه باللاهوب، فإنه أرسى قضية أساسية هي أن الهواء غير الملوث يتألف من غازين، سمى أحدهما "هواء النار" وهو الأكسجين لأنه أهم عماد للنار وسمى الثاني "الهواء التالف" وهو الأزوت لأنه هواء فقد "هواء النار". وقد حضر الأكسجين بطرق عديدة، مزج في إحداهما حامض الكبريتيك المركز بالمنغنيز المطحون طحناً دقيقاً، وسخن المزيج في إنبيق، وجمع الغاز الناتج في كيس ضغط حتى خلا من الهواء تقريباً. ووجد أن الغاز الذي أنتج على هذا النحو إذا مرر على شمعة مشتعلة "بدأت تشتعل بلهيب أكبر، وبعثت نوراً ساطعاً يبهر العين" (27). وخلص إلى أن "هواء النار" هو الغاز الذي تعتمد عليه النار. ولا شك أنه استخرج هذا الغاز قبل أن يستخرجه بريستلي بسنتين (28).
ولم يكن هذا سوى قسط يسير من منجزات شيليه. ولعل سجله مكتشفاً لمواد جديدة لا ضريب له بين المكتشفين (29) فهو أول من عزل الكلورين، والباريوم، والمنغنيز، ومركبات جديدة مثل النشادر، والجلسرين، وأحماض الهيدروفلوريك، والتانيك، والبنزويك، والأوكساليك، والماليك، والطرطريك. وقد انتفع برتولليه في فرنسا، وجيمس وات في إنجلترا، انتفاعاً تجارياً بكشفه لتبييض الكلورين للثياب، والخضر، والزهر. وفي أبحاث أخرى اكتشف شيليه حمض البوليك بتحليل حصاة المثانة (1776). وفي 1777 حضر الهيدروجين المكبرت، وفي 1778 حمض المولبديك. وفي 1780 أثبت أن حموضة اللبن الحامض سببها حمض اللبنيك؛ وفي 1781 حصل على حمض التنجستيك من تنجستات الكلسيوم (ويعرف الآن بالشيلي). وفي 1783 اكتشف حمض البروسيك (الهيدروسيانيك) دون أن يدرك ما له من طبيعة سامة. كذلك استخراج غاز الأرسين (وهو مركب قتال من الزرنيخ (وصبغة الزرنيخ المعروفة الآن بأخضر شيليه (30). وقد أعان على تيسير التصوير الفوتوغرافي بإثباته أن ضؤ الشمس الأبيض لها تأثيرات على أملاح الفضة. وقد تبين أن الجهد الذي أنفق في هذا العمر القصير، وهو جهد مثمر إلى حد لا يصدق، ذو أهمية بالغة في التنميات الصناعية في القرن التاسع عشر.(37/182)
ب- بريستلي
ظل الفضل في اكتشاف الأكسجين ينسب طويلا إلى جوزف بريستلي لا إلى شيليه، لأنه اكتشفه مستقلا عن شيليه، وأذاع اكتشافه هذا في 1775 قبل عامين من نشر شيليه المتأخر لكشفه. ومع ذلك فنحن نكرمه لأن أبحاثه أتاحت للافوازييه أن يضفي على الكيمياء شكلها الحديث، ولأنه كان من الرواد في الدراسة العلمية للكهرباء، ولأنه أسهم بشجاعة في الفكر البريطاني عن الدين والحكومة حتى أن جماعة متعصبة من الغوغاء أحرقت بيته في برمنجهام وحملته على الالتجاء إلى أمريكا. وقد لمس تاريخ الحضارة في نقط كثيرة، وهو واحد من أعظم شخصياته إلهاماً.
ولد في يوركشير في 1733، لمشاط من المنشقين على الكنيسة الرسمية. وأكب بنهم على دراسة العلم، والفلسفة، واللاهوت، واللغات؛ فتعلم اللاتينية، واليونانية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والعربية، وحتى طرفاً من السريانية والكلدية. واشتغل أول الأمر واعظاً منقشاً في سافوك، ولكن عقده في لسانه انتقصت من تأثير بلاغته في السامعين. فلما بلغ الخامسة والعشرين نظم مدرسة خاصة بعث الحياة في منهاجها بتجارب في الفيزياء والكيمياء. وفي الثامنة والعشرين أصبح معلماً في أكاديمية للمنشقين في وارنجتن، وهناك علم خمس لغات، ووجد رغم ذلك الوقت ليجري أبحاثاً أكسبته زمالة في الجمعية الملكية (1776). في تلك السنة التقى بفرانكلن في لندن فشجعته على تأليف كتابه "تاريخ الكهرباء ووضعها الراهن" (1776) وهو مسح جدير بإعجاب للموضوع بأسره حتى جيله. وفي 1767 عين راعياً لكنيسة مل هل بليدز. وقد تذكر في تاريخ لاحق من حياته، إنه "نتيجة لسكناي حيناً بقرب مصنع عمومي للجعة أغريت بإجراء تجارب على الهواء الثابت (31). لأن عجين مصنع الجعة انبعث منه غاز ثاني أكسيد الكربون. وقد أذابه في الماء، وأعجبته نكهته الفوارة؛ وكان هذا أول "ماء صودا".
وفي 1772 أعفى من هموم الرزق بتعيينه أمين مكتبة للورد شلبيرن. وفي البيت الذي جهز له بكولن أجرى التجارب التي أكسبته شهرة دولية.(37/183)
وقد حسن "وعاء هيلز الغازي" بأن جمع فوق الزئبق، بدلا من الماء، الغازات التي ولدها بأنواع مختلفة من المزج. ففي 1772 عزل أكسيد النتريك، وأكسيد النتري (الغاز الضحاك) وكلوريد الهيدروجين؛ وفي 1773 النشادر (مستقلاً عن شيليه)؛ وفي 1774 ثاني أكسيد الكبريت؛ وفي 1776 بيروكسيد الأزوت. وفي 15 مارس 1775 أرسل إلى جمعية الملكية خطاباً أذاع فيه كشفه للأكسجين. وقد وصف طريقته في المجلد الثاني من كتابه تجارب ومشاهدات في مختلف أنواع الهواء (1775) فقال أنه باستعمال عدسة حارقة قوية: "شرعت ... بالاستعانة بها في أن أفحص نوع الهواء الذي تطلقه أنواع كثيرة جداً من المواد) حين تسخن بهذه الطريقة (بوضعها في ... أوان ... مملوءة بالزئبق ومقلوبة في حوض الزئبق ... وبهذا الجهاز ... ، في أول أغسطس 1774، حاولت استخراج الهواء من الزئبق المكلس وحده (أكسيد الزئبق) وسرعان ما وجدت أن الهواء يطرد منه بسرعة باستعمال هذه العدسة ... والذي أدهشني دهشة لا يمكنني التعبير عنها أن شمعة اشتعلت في هذا الهواء بلهب قوى جداً (32).
فلما لاحظ-كما لاحظ شيليه- أن في استطاعة فأر أن يعيش أطول في هذا الهواء المنزوع اللاهوب أو الفلوجستون (كما سمى الأكسجين) مما يعيش في الهواء العادي، خطر له أن يجرب بنفسه الهواء الجديد.
"لن يعجب القارئ لأنني بعد أن أكد لي عظم صلاحية الهواء المنزوع اللاهوب من حياة الفئران فيه، وبغير ذلك من التجارب التي سبق ذكرها، تطلعت إلى تذوقه بنفسي. فأشبعت فضولي باستنشاقه وسحبه من زجاجة سيفون؛ وبهذه الطريقة أحلت أبريقاً كبيراً مملوءاً به إلى مستوى الهواء العادي. ولم يكن إحساس رئتي به يختلف اختلافاً محسوساً عن إحساسهما بالهواء العادي. ولكن خيل إلي أن صدري ظل بعض الوقت بعدها يحس بأنه خفيف إلى درجة غريبة. ومن يدري، فلعل هذا الهواء النقي سيصبح يوماً ما أداة عصرية من أدوات الترف؟ أما إلى اليوم فإن أحداً لم يستمتع باستنشاقه سواي أنا وفأرين (33) ...(37/184)
وقد تنبأ ببعض صور هذا الترف المستقبل:
لنا أن نحزر-من قوة لهيب الشمعة المضاءة في هذا الهواء النقي وسطوعها الزائد-أنه قد يكون أصلح جداً للرئتين في حالات مرضية معينة، حين لا يكفي الهواء العادي إزالة الزفر الفلوجستي الفاسد (ثاني أكسيد الكربون) بالسرعة الكافية. ولكن ربما استنتجنا أيضاً من هذه التجارب أنه وإن كان الهواء المنزوع اللاهوب (الأكسجين) مفيداً جداً كدواء، فإنه قد لا يكون بمثل هذه الصلاحية لنا في حالة الصحة العادية للبدن، لأن الشمعة تشتعل في الهواء المنزوع اللاهوب بأسرع مما تشتعل في الهواء العادي، ومن ثم فقد نفني حياتنا بأسرع مما ينبغي وتستهلك فينا القوة الحيوانية على عجل في هذا النوع النقي من الهواء (34).
وقد تألفت تجارب بريستلي بالفروض المثمرة والإدراكات اليقظة، ولكن تفسيراته النظرية كان أكثرها تقليداً. فقد ظن كما ظن شتال وشيليه أنه في الاحتراق يخرج الجسم المشتعل مادة هي الفلوجستون (اللاهوب) وذهب إلى أن هذه المادة تتحد مع أحد مكونات الهواء ليكونا "الهواء التالف" أو "الهواء ذات اللاهوب" (وهو الأزوت) أما المكون الآخر فسماه"الهواء المنزوع اللاهوب" وهو ما سيطلق عليه لافوازييه اسم الأكسجين. وبينما كان لافوازييه يقول بأن الجسم في عملية الاحتراق يمتص الأكسجين من الهواء بدلا من أن يطرد الفلجستون فيه، ظل بريستلي إلى آخر حياته متمسكاً بالمفهوم القديم.
وفي 1774 سافر مع اللورد شلبيرن إلى القارة، وأخبره بتجارب الأكسجين. وفي 1780 أحاله شلبيرن إلى التقاعد بمعاش سنوي قدره 150 جنيهاً. واستقر بريستلي في برمجنهام قسيساً أصغر لجماعة كبيرة من المنشقين تدعى "المحفل الجديد". وانضم إلى جيمس وات، وجوسيا ودجوود، وارزمس داروين، وماثيوبولتن، وغيرهم في "جمعية قمرية" تناقش أحدث الأفكار في العلم، والتكنولوجيا، والفلسفة. وكان محبوباً من جميع الطبقات تقريباً وموضع الإعجاب لوجهه البشوش، وتواضعه، وسماحته، وطهارة حياته التي لا تشوبها شائبة (35). ولكن بعض جيرانه(37/185)
ارتابوا في مسيحيته. وفي كتابه "مقالات في المادة والروح" (1777) رد كل الأشياء، حتى النفس، إلى المادة وأصر على أن هذا الرأي شئ لا غبار عليه.
"فمعلوم جيداً لأهل العلم ... إن ما عناه القدماء بالكائن اللامادي إنما هو نوع مهذب مما ينبغي أن نسميه الآن مادة، شئ كالهواء أو النفس، زود الناس لأول مرة باسم للنفس ... ومن ثم لم يستعبد القدماء من العقل خاصية "الامتداد" والضغط المحلي. فقد كان لهم في رأيهم بعض الخواص المشتركة بينه وبين المادة، وكان في استطاعته أن يتحد معها، وأن يؤثر فيها ويتأثر بها ... وعليه فقد رؤي أن ... قوة الحس أو التفكير ... يمكن أن تنقل لأغلظ ضروب المادة ... وأن "النفس" "والجسم" لا بد أن يموتا معاً لأنهما في الواقع مادة واحدة (36).
وفي كتاب آخر نشره في نفس العام اسمه"شرح عقيدة الضرورية الفلسفية"، أنكر بريستلي بحماسه حرية الإرادة أسوة بهارتلي وهيوم. وفي كتابه "تاريخ تحريفات المسيحية" (1782) رفض المعجزات وسقوط آدم، وكفارة المسيح، وعقيد الثالوث. وذهب إلى أن هذه العقائد كلها تحريفات أدخلت أثناء تطور المسيحية؛ إذ لا وجود لها في تعاليم المسيح والرسل الأثنى عشر. ولم يبق من المسيحية في بريستلي غير الإيمان بالله المبني على شهادة للقصد الإلهي. ولم يكن راضياً تمام الرضى عن فكرة الخلود، فألمع إلى أن الله في يوم الحشر سيعيد خلق الأموات جميعاً. على أن رجاه الحقيقي لم يكن معقوداً على سماء في الآخرة بل على "بوتوبيا" تبنى على هذه الأرض بانتصار العلم على الخرافة والجهل. وندر أن عبر إنسان بحرارة كما عبر بريستلي عن دين القرن الثامن عشر، وعن التقدم، إذ يقول:
كل المعرفة ستقسم فروعاً وتوسع، ولما كانت المعرفة قوة كما لاحظ اللورد بيكون، فإن قوى البشر ستزداد في الواقع، فالطبيعة -مواردها وقوانينها- ستكون في متناول أكثر من ذي قبل، وسيجعل الناس وضعهم في هذا العالم أشد يسراً وراحة، وأغلب الظن أنهم سيطيلون وجودهم فوقه، وسيصبحون كل يوم أسعد حالاً، كل سعيد في ذاته، وأقدر(37/186)
(وأكثر ميلاً في ظني) على توصيل السعادة لغيره. ومن ثم، فأياً كانت بداية هذا العالم، فإن نهايته ستكون أمجد وأسعد مما يستطيع خيالنا الآن أن يتصوره ... (37) وطوبى للذين يسهمون في نشر النور النقي لهذا الإنجيل الخالد (38).
وفي رؤيا بريستلي أن بعض هذا التقدم المجيد سيكون سياسياً، وسيبنى على مبدأ إنساني بسيط "فتحقيق الخير والسعادة ... لأغلبية الناس في أي دولة، هو المعيار الذي يجب أن يقرر به نهائياً كل شئ يمت إلى تلك الدولة (39). ويقول بنتام أنه وجد هنا مصدراً من مصادر فلسفة المنفعة التي بشر بها. وعند بريستلي أن الحكومة العادلة الوحيدة هي التي تستهدف إسعاد مواطنيها. ومما يتفق تماماً مع المسيحية أن يطيح الشعب بالحكومة التي يتضح له ظلمها. وقد أجاب عن تحذير القديس بولس الذي قال فيه "إن السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. " بقوله "للسبب نفسه ستكون سلاطين المستقبل مرتبة من الله أيضاً (40).
وكان طبيعياً أن يتعاطف ثائر كهذا مع المستعمرات في احتجاجها على فرض الضرائب عليها دون أن يكون لها ممثلون في البرلمان البريطاني. وقد صفق للثورة الفرنسية بحرارة أشد حتى من حرارة تعاطفه مع المستعمرات. ولما ندد بها بيرك دافع عنها بريستلي فدمغه بيرك في البرلمان بالهرطقة. وكان بعض أصدقاء بريستلي يشاركونه آراءه المتطرفة. وفي 14 يوليو 1791 اجتمعت "جمعية برمنجهام الدستورية" في الفندق الملكي للاحتفال بالذكرى السنوية لسقوط الباستيل. ولم يحضر بريستلي الاحتفال. واحتشد جمع أمام الفندق واستمعوا إلى اتهامات زعمائهم للمهرطقين والخونة، ثم قذفوا نوافذ الفندق بالحجارة، ففر أصحاب المأدبة. وانطلق الجمع إلى بيت بريستلي فأحرقوه مبتهجين وأتوا على مختبره وأدواته ومكتبته ومخطوطاته. ثم ظلوا ثلاثة أيام يجوبون أنحاء برمنجهام وهم يقسمون أن يقتلوا جميع "الفلاسفة"؛ وراح المواطنون المروعون يخطون على زجاج نوافذهم عبارة "لا يوجد هنا فلاسفة". وفر بريستلي إلى ددلي، ثم لى لندن. ومنها وجه رسالة في 19 يوليو إلى أهل برمنجهام قال فيها:(37/187)
مواطني وجيراني الأسبقون.
بعد أن عشت معكم أحد عشر عاماً، خبرتم كلكم على السواء خلالها ذلك المسلك المسالم الذي كنت أسلكه في العكوف على الواجبات الهادئة لمهنتي وللفلسفة، لم أتوقع قط تلك الأضرار التي أوقعتموها مؤخراً بي وبأصدقائي ... وعقول الإنجليز لحسن الحظ تستبشع "القتل"، ومن ثم لم تفكروا فيه (وهو ما أرجوه). ولكن ما قيمة الحياة إذا ارتكب كل شئ لجعلها شقية تعسة؟ ..
لقد دمرتم أثمن وانفع جهاز حقاً من الأجهزة الأدوات الفلسفية ... لقد دمرتم مكتبة .... لا يمكن لمال أن يشتريها من جديد إلا بعد زمن طويل ولكن ما يحز في نفسي أكثر من هذا أنكم دمرتم مخطوطات هي ثمرة الدرس الكادح في سنوات كثيرة، ولن أستطع أبداً إعادة تأليفها من جديد؛ وقد فعلتم هذا بإنسان لم يؤذكم ولم يخطر له قط أن يؤذيكم.
وتخطئون إذا ظننتم أن مسلككم هذا قد يخدم قضيتكم أو يضر قضيتنا ... فلو أنكم قضيتم على كما قضيتم على بيتي، ومكتبي، وأجهزتي، فإن عشرة أشخاص آخرين لهم من الجرأة والكفاية ما يعادل مالي أو يفوقه سيظهرون على الفور. ولو قضي على هؤلاء العشرة لظهر بدلهم مائة ...
نحن في هذا الأمر أشبه بالحملان وأنتم بالذئاب. وسنتمسك بخلقنا، ونرجو أن تغيروا خلقكم. وأياً كان الأمر، فإننا نرد على لعناتكم بالبركات، ونرجو أن تثوبوا سريعاً إلى ما امتاز به أهل برمنجهام فيما مضى من جد واجتهاد وعادات رزينة.
وإنني المتمني لخيركم، المخلص،
ج. بريستلي (41)
ولكنه قاضى المدينة مطالباً بتعويض، وقدر خسارته بمبلغ 4,500 جنيه. وأعان قضيته تشارلز جيمس فوكس، ومنحته برمنجهام 2,502 جنيهاً. فحاول أن يستقر في مواطن جديد في إنجلترا ولكن رجال الكنيسة، وأنصار الملكية، وزملاءه في الجمعية لملكية، تجنبوا صحبته (42).(37/188)
وعرضت عليه الأكاديمية الفرنسية للعلوم عن طريق سكرتيرها كوندورسيه بيتاً ومختبراً في فرنسا. وفي 8 أبريل 1794 هاجر إلى أمريكا، وكان يومها في الحادية والستين، واختار بيته الجديد في مدينة نورثمبرلاند، في بنسلفانيا وطن فرانكلن، على ضفاف نهر سسكويهانا الجميل الذي سيحلم به بعد قليل كولردج وسوذي. ثم استأنف تجاربه واكتشف تركيب أول أكسيد الكربون. وقد احتفت به الجماعات العلمية وعرض عليه كرسي الكيمياء في جامعة بنسلفانيا. وفي 1796 ألقي على الجامعيين في فيلادلفيا سلسلة من الأحاديث عن "الشواهد على المسيحية" وكان من بين جمهور المستمعين جون آدمز نائب رئيس الجمهورية وكثيرون من أعضاء الكونجرس. ومن هذه الاجتماعات انبعثت جمعية للموحدين. وبعد عامين اقترح تيموثي بيكرنج، الوزير في حكومة الرئيس آدمز، ترحيل بريستلي بوصفه أجنبياً غير مرغوب فيه. ووضع انتخاب جفرسن (1800) نهاية لقلق بريستلي، فأتيحت له أربعة أعوام من السلام. وفي 1803 كتب آخر أبحاثه العلمية التي ظل يدافع فيها عن الفلوجستون ومات في نورتميرلاند في 6 فبراير 1804. وفي 1943 قررت الهيئة التشريعية البنسلفانية أن يكون بيته بيتاً تذكارياً قومياً.
وبينما اضطلع توماس بين بحملة بريستلي بوصفه مسيحياً متمرداً، واصل هنري كافندش أبحاثه في كيمياء الغازات. وكان كافندش ابن لورد، وابن أخي دوق، وقد ورث في الأربعين ثروة من أعظم الثروات في إنجلترا. كان خجولا متردداً في حديثه، مهملا في لباسه، فعاش عيشة النساك في مختبره بكلابهام كومن بلندن، ولم يسع إلى الشهرة. وتميزت أبحاثه بالتدقيق الشديد في قياس جميع الموارد ووزنها قبل التجربة وبعدها، وقد أعانت هذه المعايرات لافوازييه على أن يصوغ مبدأه القائل بأن كمية المادة تظل ثابتة في التغيرات الكيميائية.
وفي 1766 أنهى كافندش إلى الجمعية الملكية تجاربه على "الهواء الصناعي" أي الغاز المشتق من الجوامد. فقد توصل بإذابة الزنك أو القصدير في أحماض إلى استخراج ما سماه "الهواء القابل للاحتراق"؛ وقال أن هذا(37/189)
والفلوجستون شئ واحد، ونحن نسميه الآن الهيدروجين. وكان كافندش أول من أدرك أنه عنصر متميز، وعين وزنه النوعي. وفي 1783، وجد-وهو يتابع تجربة أجراها بريستلي- أنه إذا مررت شرارة كهربية في مزيج من الهواء العادي "والهواء القابل للاحتراق" تكاثف جزء من لمزيج وتحول إلى ندى. واستنتج من هذا التحليل الكهربي أن الماء مركب من 2. 014 حجماً من "الهواء القابل للاحتراق" إلى حجم واحد من هواء برستلي المنزوع الفلوجستون، أو كما نقول الآن (يد 2 ا). وكان هذا أول برهان قاطع على أن الماء مركب لا عنصر (وقد ألمع جيمس وات، مستقلا، إلى نفس التركيب للماء في نفس السنة 1783). وبعد أن مرر كافندش ثانية شرارة كهربية في مزيج من الهيدروجين والهواء العادي حصل على حمض النتريك، واستنتج أن الهواء النقي مركب من الأوكسجين والنتروجين (الأزوت). (وكان دانيال رذرفورد الأدنبري قد اكتشف النتروجين بوصفه عنصراً متميزاً في 1772). واعترف كافندش بوجود بقية صغيرة لم يستطع تعليلها، ولكنه قدرها فبلغت 0,83 من لكمية الأصلية. وقد ظل هذا سراً غامضاً حتى 1894، حين عزل رايلي ورامزي هذا الجزء الذي نسميه الآن الأرجون، بوصفه عنصراً قائماً بذاته، ووجدا أن وزنه 0. 94 من الهواء العادي. وهكذا أثبتت دقة موازين كافندش.
جـ - لافوازييه
في هذه الأثناء أتاحت مجموعة من الباحثين المتحمسين، عبر القنال الإنجليزي، لفرنسا مكان الريادة في هذا العلم الجديد، وأعطت الكيمياء الشكل الذي تبدو عليه اليوم في جوهرها. وقام في مكان المنبع منهم جيوم روويل، الذي تميز بجهوده في كيمياء الأملاح، لكنه اشتهر بدورات محاضراته التي علم الكيمياء فيها للأغنياء والفقراء، ولذيدرو وروسو، ولأعظم كيميائي فهيم أجمعين.
وقد كان لأنطوان لافوازييه ميزة أو معوق، هي أنه ولد غنياً (1743). أتاح أبوه-وكان محامياً في برلمان باريس- للصبي كل ما توفر من تعليم(37/190)
في ذلك الحين، وورثه 300. 000 جنيه وهو بعد في الثالثة والعشرين. وثروة كهذه كان يمكن أن تجهض مستقبلا في مهنة الأدب، ولكنها كانت عوناً لعلم تطلب أجهزة غالية وسنوات طويلة من الإعداد. وقد فر أنطوان من مدرسة الحقوق التي أرسل إليها، مؤثراً عليها دراسة الرياضة والفلك، وحضر محاضرات روويل في قاعة الجاردان دروا. ومع ذلك أتم دراساته القانونية، ثم رافق جان جتار في القيام برحلات ورسم خرائط تعدينية لفرنسا. وفي 1768 انتخب عضواً في أكاديمية العلوم، وكانت يومها تضم بوفون، وكزنيه، وطورجو، وكوندورسيه. وبعد عام انضم إلى هيئة الملتزمين العامة في عملية بغيضة هي جمع ضرائب الإنتاج لاستعاضة ما أنفقوه في إقراض الحكومة. فدفع 520. 000 جنيه ثمناً لثلث نصيب في أحد الأسهم الستين لهيئة الالتزام العامة، وفي 1770 رفعه إلى نصيب كامل. وفي 1771 تزوج ماري بولز، ابنة ملتزم عام غني، وأنفق الآن بعض وقته في رحلات للأقاليم، وفي تحصيل إيراداته، وجميع بيانات الضرائب، والعينات الجيولوجية. وقد مولت ثروته مختبراً عظيما وتجارب غالية التكاليف (1)، ولكنها قادته إلى الجيلوتين.
ثم شارك بدور إيجابي في الشئون العامة. فلما عين (1775) مأموراً للبارود، زاد إنتاج تلك المادة المتفجرة وحسن نوعها، فيسر بذلك تصديرها على نطاق واسع إلى المستعمرات الأمريكية، وانتصارات جيوش الثورة الفرنسية.
وقال لافوازييه "لقد أصبح البارود الفرنسي خير بارود في أوربا ... ويجوز لنا أن نقول أن أمريكا الشمالية تدين له بحريتها. " (43) وقد خدم في مختلف المجالس الرسمية، وقومية وبلدية، وعالج بذكائه المتعدد النواحي شتى مشكلات نظام الضرائب، والعملة، والمصارف، والزراعة العلمية،
_________
(1) في إحدى تجاربه الأولى أحرق ماستين ليثبت أن الناتج الوحيد من احتراقهما هو ثاني أوكسيد الكربون وبما أن الغاز كان كذلك الناتج الوحيد للفحم النباتي التام الاحتراق، فقد برهن لافوازييه بهذه الطريقة على الوحدة الكيمياوية للفحم النباتي والماس بوصفها شكلين من أشكال الكربون الخالص.(37/191)
وأعمال البر العام. وحين كان عضواً في الجمعية الإقليمية بأورليان (1787) جاهد في سبيل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم. وخلال نقص الطعام الخطير في 1788 أقرض ماله لكثير من المدن لتشتري به قمحاً. لقد كان رجلاً أحب خير المجتمع، وثابر على جمع المال.
على أنه في هذه الأنشطة كلها لم يكف عن الاشتغال بالعلم. فغدا مختبره أعقد وأوسع المختبرات السابقة للقرن التاسع عشر: قوامه 250 آلة، وثلاثة عشر ألف مخبار، وآلاف المستحضرات الكيميائية، وثلاثة موازين دقيقة أعانت فيما بعد على تقدير الجرام وحدة الموازين في النظام المتري. وكان الوزن والمعايرة نصف السر في كشوف لافوازييه، وبفضلهما غير الكيمياء من نظرية كيفية إلى علم كمي. وبالوزن الدقيق برهن على أن "فلوجستون" شتال ليس إلا خرافة مربكة افترضت وجود مادة غامضة تترك الجسم المشتعل في عملية الاحتراق وتدخل الهواء. ففي أول نوفمبر 1772 قدم لافوازييه إلى أكاديمية العلوم مذكرة هذا نصبها:
قبل ثمانية أيام اكتشفت أن الكبريت في احتراقه لا يفقد الوزن بل يكسبه، أي أننا قد نحصل من رطل الكبريت على أكثر من رطل من الحمض الكبريتي، مع أخذ رطوبة الهواء في حسابنا. وهذا ما يحدث أيضاً في الفوسفور. وزيادة الوزن تأتي من كمية الهواء الكبيرة التي تثبت (أي تمتصها المادة المحترقة) أثناء الاحتراق وتتحد مع الأبخرة (الكبريتية). وقد أقنعني هذا الكشف، الذي أثبته بتجارب أراها حاسمة، أن ما يلاحظ في احتراق الكبريت والفوسفور قد يحدث في جميع الأجسام التي تكتسب وزناً عند الاحتراق أو التكلس (44). فالجسم المحترق لا يعطي الهواء شيئاً بل يأخذ منه شيئاً. فما هذا الشيء؟
في خريف 1774 نشر لافوازييه وصفاً لمزيد من التجارب. فقد وضع كمية موزونة من القصدير في قنينة موزونة تتسع لقدر كبير من الهواء. ثم ختم القنينة، وسخن الكل حتى تأكسد القصدير تأكسداً جيداً. وبعد أن أتاح للجهاز وقتاً ليبرد، وجد أن وزنه ظل دون تغيير. ولكنه حين كسر الختم(37/192)
اندفع الهواء إلى القنينة، مما دل على أن فراغاً جزئياً قد حدث في القنينة .. فكيف حدث؟ لم يجد لافوازييه تعليلا إلا أن القصدير المحترق قد امتص جزءاً من هواء .. فما هذا الجزء؟
وفي أكتوبر 1774 التقى لافوازييه ببريستلي في لندن. وأخبره بريستلي بالتجارب التي أجراها في أغسطس، والتي ظل يفسرها بأنها دليل على أن الفلوجستون ينطلق من الجسم المحترق إلى الهواء. وفي 26 أبريل 1775 قرأ لافوازييه على الأكاديمية مذكرة روي فيها التجارب التي هدته إلى اعتبار الاحتراق امتصاص جسم محترق لعنصر غامض من الهواء، أطلق عليه مؤقتاً اسم "الهواء الشديد النقاء". لقد اكتشف الأكسجين كما اكتشفه بريستلي، ولكنه اختلف عنه لأنه نبذ خرافة الفلوجستون. ولم ينحت لفظ "الأكسجين" للدلالة على العنصر القابل للاشتعال في الهواء إلا عام 1779، وقد اشتقه من كلمتين يونانيتين معناهما "مولد الحمض" لأنه ظن خطأ أن الأكسجين مكون لا غنى عنه في جميع الأحماض.
ولاحظ لافوازييه كما لاحظ بريستلي أن نوع الهواء الذي تمتصه المعادن في الاحتراق هو نفس النوع الذي يدعم الحياة الحيوانية. ففي 3 مايو 1777 قدم للأكاديمية بحثاً في "تنفس الحيوان" قال فيه "إن خمسة أسداس الهواء الذي نستنشقه عاجزة عن دعم تنفس الحيوان، أو الاشتعال والاحتراق، ... فخمس حجم الهواء فقط هو الصالح للتنفس". ثم أضاف "هناك شبه كبير بين الهواء الذي استعمل لدعم هذه الوظيفة الحيوية وقتاً ما، والهواء الذي تكلست (تأكسدت) فيه المعادن، والعلم بـ (عملية) واحدة يمكن بالطبع أن يطبق على الأخرى". وعليه فقد أسس لافوازييه التحليل العضوي، بوصف التنفس بأنه اتحاد الأكسجين بالمادة العضوية. وفي هذه العملية لاحظ انطلاق حرارة، كما تنطلق في الاحتراق؛ ثم زاد تأكيد الشبه بين التنفس والاحتراق، بإثباته أن ثاني أكسيد الكربون والماء ينطلقان (كما في التنفس) من احتراق مواد عضوية مثل السكر والزيت والشمع. وحدثت الآن ثورة في علم الفسيولوجا بفضل التفسير المتزايد للعمليات العضوية بلغة فيزيا-كيميائية.(37/193)
واقتضى تكاثر التجارب، ونمو المعرفة الكيميائية، ونبذ نظرية الفلوجستون، صياغة جديدة، ووضع مصطلحات جديدة، لهذا العلم المتفتح. وعينت أكاديمية العلوم لافوازييه، وجيتون دمورفو، وفوركروا، وبرتولليه، لمحاولة إنجاز هذه المهمة. وفي 1787 نشروا "طريقة لوضع المصطلحات الكيميائية". فنبذت أسماء عتيقة مثل "مسحوق الألجاروت"، و"زبد الزرنيخ" و"أزهار الزنك"؛ وسمى الهواء المجرد من الفلوجستون "أوكسجينا" والهواء المحتوي على الفلوجستون "أزوتا"، ثم نتروجيناً، والغاز القابل للاشتعال هيدروجيناً، والهواء الثابت غاز حامض الكربون، والتكلس تأكسداً، واشتقت أسماء المركبات من مكوناتها. وعدد جدول للمواد البسيطة اثنين وثلاثين عنصراً معروفاً للافوازييه، ويعدد الكيميائيون اليوم من هذه العناصر ثمانية وتسعين. ومعظم الأسماء التي تقررت في كتاب "الطريقة" المذكور قياسية في علم المصطلحات الكيميائية في يومنا هذا. وقدم لافوازييه للمصطلحات الجديدة ولخص العلم الجديد، في "رسالة تمهيدية في الكيمياء" ظهرت عام 1789، وكانت علامة ثورة أخرى-هي نهاية فلوجستون شتال وعناصر أرسطو.
وكان لافوازييه نفسه ضحايا الثورة الفرنسية. فلقد شارك في الجهود المبذولة لتفاديها، وفي الشرور التي أفضت إليها. وفي العهد الذي هيأ للثورة عمل بهمة في لجان تدرس عيوب السجون والمستشفيات وتصلحها. وقدم إلى لوران دفيلدوي المراقب العام (1787) مذكرة عدد فيها تسعة عوامل مسئولة عن استغلال طبقة الفلاحين. وكان في كلامه ما يشرفه تشريفاً خاصاً، لأنه صادر من مالك أرض من أصحاب الملايين. قال:
"فليكن لنا من الشجاعة ما يحملنا على أن نقرر أنه ... إلى أن ارتقى لويس السادس عشر العرش لم يكن للشعب أي وزن في فرنسا، ولم يكن هناك اعتبار لغير قوة الدولة، وسلطانها، وثرواتها، أما سعادة الشعب، وأما حرية الفرد ورفاهيته، فتلك الكلمات لم تقرع قط آذان حكامنا الأسبقين، الذين لم يدركوا أن الهدف الحقيقي من الحكومة يجب أن يكون الاستكثار من أسباب الاستمتاع، والسعادة، والرفاهية، لكل رعاياها. إن المزارع(37/194)
المنكود الحظ يئن في كوخه، لا يمثله أحد ولا يدافع عنه أحد، ولا تعبأ بمصالحه أي إدارة من الإدارات الكبرى في الحكومة القومية (45) ".
وقد اختير لافوازييه لتمثيل الطبقة الثالثة العامة في المجلس الإقليمي الذي اجتمع بأورليان في 1787. وهناك تقدم بقانون لإلغاء السخرة ولصيانة الطرق، لا بتشغيل الفلاحين إلزامياً بل بضرائب تفرض على جميع الطبقات، ولكن النبلاء والأكليروس هزموا هذا الاقتراح. ثم أوصى بنظام للتأمين الاجتماعي يساهم فيه من يريد من الفرنسيين تأمين شيخوختهم، فهزم هذا أيضاً. وفي مذكرة وجهها إلى الحكومة عام 1785 وضع المبدأ القائل بأن مجلس طبقات الأمة القادم يجب أن يحول إلى سلطة تشريعية كاملة، فيكون الملك عامله المنفذ فقط، وأنه يجب دعوته للانعقاد بانتظام، وأن الضرائب يجب أن تفرض على الجميع، وأن تطلق حرية الصحافة والطباعة (46). لقد كان لافوازييه من أكثر أفراد البورجوازية الفرنسية استنارة ما في ذلك شك، ولعل اقتراحاته عبرت عن جزء من استراتيجيتها السياسية.
كذلك كان من كبار الأعضاء في هيئة الملتزمين العموميين، التي كانت هدفاً للسخط من الجميع تقريباً، وبين عامي 1786 و 1786 بلغ متوسط أرباحه من عملية الالتزام هذه 666. 667 جنيهاً في العام، وهو ما يساوي نسبة مئوية قدرها 8. 28% في السنة، وربما كان محقاً في اعتباره هذا العائد معقولا نظراً لما تتطلبه العملية من جهد ومخاطرات. وعملا باقتراح منه بنى كبير الوزراء كولون، في 1783 - 87، سوراً حول باريس لمنع المهربين الذين يتهربون من أداء المكوس، وقد كلف السور والجمارج والبوابات الجديدة ثلاثين مليوناً من الجنيهات، وأثار المشروع سخطاً عاماً، وصرح الدوق دنيفرنوا بأن صاحب فكرته يجب أن يشنق.
وأيد لافوازييه الثورة في 1789 وهي ما تزال تحت سيطرة الطبقات الوسطى. وبعد عام شعر بأنها تنزع إلى التطرف، والعنف، والحرب، فناشد القائمين بها الاعتدال وضبط النفس. وفي نوفمبر نشر بعض موظفي الالتزام العام نبذة اتهموا فيها الهيئة باختلاس صندوق معاشاتهم، وقالوا فيها(37/195)
"ارتعدوا يا من مصصتم دم التعساء" (47). وفي 1791 بدأ مارا حملة شخصية ضد لافوازييه. فقد كان "صديق الشعب" قد نشر في 1780 "أبحاثاً فيزيائية في النار" زعم فيها أنه أظهر للعيان العنصر الخفي في النار، وأبى لافوازييه أن يأخذ هذا الزعم مأخذ الجد. ولم ينس مارا له فعلته هذه. ففي عدد 27 يناير 1791 من مجلته "صديق الشعب" اتهم مارا الكيميائي -المالي بأنه دجال ضخم الموارد، رجل "سنده الوحيد في المطالبة بتقدير الشعب له أنه حبس باريس بمنعه الهواء النقي عنها بسور كلف الفقراء 33 مليون جنيه. فليته شنق على عمود المصباح" (48). وفي 20 مارس 1791 ألغت الجمعية التأسيسية هيئة الالتزام العام.
وجاء دور الهجوم الآن على أكاديمية العلوم، لأن جميع المؤسسات التي تخلفت عن النظام القديم اشتبه في تعاطفها مع أعداء الثورة. ودافع لافوازيبه عن الأكاديمية، فأصبح الهدف الأكبر للهجوم. وفي 8 أغسطس صدر الأمر بأن تحل الأكاديمية نفسها. وفي اجتماع لها وقع جدول الورديات فيمن وقع لاجرانج، ولافوازييه، ولالاند، ولامارك، وبرتولليه، ومونج. وانصرف كل منهم إلى حال سبيله مؤملا ألا تعثر عليه الجيلوتين.
في هذا الشهر قدم لافوازييه إلى المؤتمر مشروع نظام قومي للمدارس أوحت به إليه أفكار كوندورسيه، ويقضي بأن يكون التعليم الابتدائي مجاناً للجنسين "لأن هذا واجب مفروض على المجتمع نحو الطفل. " أما التعليم الثانوي، المباح أيضاً للجنسين، فيوسع بتأسيس الكليات الصناعية في جميع أرجاء فرنسا. وبعد شهر فتش عمال الحكومة مسكنه، وكان بين الخطابات التي وجدت به من أصدقاء لافوازييه خطابات نددت بالثورة، وتحدثت في أمل عن الجيوش الأجنبية التي ستطيح بها سريعاً، وأظهرت خطابات أخرى أن لافوازييه وزوجته يخططان للهروب إلى إسكتلنده (49). وفي 24 نوفمبر 1793 قبض على اثنين وثلاثين من الملتزمين العموميين السابقين، ومن بينهم لافوازييه. وقد حركت زوجته كل نفوذ ليفرج عنه، ففشلت، ولكن سمح لها بزيارته. وفي السجن واصل عمله في شرحه للكيمياء الجديدة. واتهم الماليون بأنهم تقاضوا رباً فاحشاً وغشوا التبغ بالماء، وابتزوا 130 مليون جنيه في أرباح غير مشروعة.(37/196)
وفي 5 مايو 1794 استدعوا للمثول أمام محكمة الثورة. وبرئ ثمانية منهم، وحكم على أربعة وعشرين بالإعدام، ومنهم لافوازييه. فلما طلب إلى القاضي الذي رأس المحكمة أن يخفف الحكم على أساس أن لافوازييه وبعض الآخرين علماء ذوو قيمة للدولة، كان رده فيما روى "ليس بالجمهورية حاجة إلى علماء" ولكن الرواية لا تستند إلى دليل مقنع (50). وأعدم لافوازييه بالجيلوتين في اليوم الذي صدر فيه الحكم، 8 مايو 1794، في المكان الذي يقوم فيه اليوم ميدان الكونكورد. ويقال أن لاجرانج علق على إعدامه بهذه العبارة "إن قطع رأسه لم يستغرق أكثر من لحظة، وقد لا تكفي مائة عام لنوهب رأساً نظيره" (51).
وصودرت كل أموال لافوازييه وأرملته لتساعد في الوفاء للجمهورية بمبلغ 130 مليوناً من الجنيهات ادعى أن الملتزمين العموميين مدينون به للدولة. أما مدام لافوازييه، المملقة، فقد عالها خادم قديم للأسرة. وفي 1795 استنكرت الحكومة الفرنسية إدانة لافوازييه، وردت إلى أرملته ثروتها، وقد عمرت حتى عام 1836. وفي أكتوبر 1795 أقامت ليسيه الآداب والفنون جنازاً لذكرى لافوازييه، وألقى فيه لاجرانج تأبيناً. وأزيح الستار عن تمثال نصفي يحمل هذه العبارة: "إن ضحية الطغيان، وصديق الآداب والفنون المبجل، لم يمت، ولم يزل يخدم الإنسانية بعبقريته (52).
5 - الفلك
أ - مقدمة في الأدوات الفلكية
إلى أي حد أثارت كشوف الرياضة والفيزياء والكيمياء قبة السماء؟ إن أجرأ ما اقتحم العلم من مغامرات محاولته أن يقذف بأدوات قياسية حول النجوم ويتجسس بالليل على أولئك الحسان المتألقات في كبد السماء، ويحلل مكوناتهن عبر بليون من الأميال، ويحدد حركاتهن بمنطق البشر وقوانينهم. إن العقل والسماوات هما قطبا دهشتنا ودراستنا، والعجب العجاب أن يشرع العقل القوانين للقبة الزرقاء.
كانت الأدوات المقربة للأبعاد قد اخترعت، والاكتشافات الكبرى قد تمت؛ فاضطلع القرن الثامن عشر بتحسين هذه الأدوات (جراهام، وهادلي، ودولاند)، وبالتوسع في تلك الكشوف (برادلي وهرشل)(37/197)
وبتطبيق أحدث الرياضيات على النجوم (دالامبير وكليرو)، وبترتيب النتائج في نسق جديد من الديناميكا الكونية (لابلاس).
وقد حسن التلسكوب وزيد حجمه. وصنعت "التلسكوبات الاستوائية" التي تدور حول محورين-أحدهما مواز لمستوى محور الأرض، والآخر عمودي عليه، واختيار هذين العمودين مكن الراصد من أن يبقي الجرم السماوي تحت بصره زمناً يكفي للدراسة المفصلة والقياس المكرومتري. وقد ثنى نيوتن عن استعمال التلسكوب الإنكساري اعتقاده بأن الضوء إذ تكسره العدسات لا بد أن يتحلل ألواناً فيشوش الرصد، ويئس من مشكلة إيجاد انكسار خال من الألوان، واتجه إلى التلسكوب العاكس. وفي 1733 قام هاو يدعى السيد تشستر مور هول بحل المشكلة، إذ جمع عدسات ذات وسائط عاكسة مختلفة تبطل تنوع اللون. ولم ينشر كشفه، وكان على جون دوبلاند أن يتوصل بجهده الخاص إلى مبادئ التلسكوب الأكرماتي وتركيبه، وقد أعلن عن كشفه هذا في "الأعمال الفلسفية لجمعية لندن الملكية" في 1758.
وفي 1725 صنع جورج جراهام، الساعاتي الكويكري، لدموند هالي في مرصد جرينتش آلة ربع جدارية- هي عبارة عن ربع دائرة ميكانيكي مقسم إلى درجات ودقائق ومثبت على جدار ليلتقط مرور نجم عبر الزوال. وصنع جراهام لهالي، وجيمس برادلي، وبيير لمونيه، أدوات التسجيل هذا المرور تجمع بين التلسكوب، والمحور، والساعة، والكرونوجراف، لتسجيل هذا المرور بدقة أعظم من ذي قبل. وفي 1730، وصف توماس جودفري، عضو جماعة فرانكلن الفكرية في فيلادولفيا، لأصدقائه آلة لقياس الزوايا والارتفاعات بالانعكاس المزدوج خلال مرايا متقابلة ترى في تلسكوب، ولكنه لم ينشر عن هذه الآلة حتى عام 1734. وفي 1730 صنع جون هادلي آلة مشابهة لها، وهي آلة الثمن- أي قوس مدرج من ثمن دائرة. وفي 1757 وسعت إلى السدس. وقد أتاحت "آلة السدس" هذه التي صنعها قياساً أضبط للزاوية التي تفصل بين جسمين، لأنها مكنت الملاح من أن يرى في وقت واحد، في التلسكوب(37/198)
العاكس، كلا من الأفق والشمس (أو النجم). ويفضل هذه الآلة، مضافاً إليها كرونومتر هاريسون البحري، أصبحت الملاحة علماً أقرب ما يكون إلى العلوم الدقيقة.
وكان على الملاح أن يحدد خط الطول والعرض إن أراد تحديد موقع سفينته في البحر. ولكي يعين خط الطول كان عليه أن يعين زمنه في المكان واللحظة بالرصد الفلكي، ويقارن بين هذا الزمن المحلي وبين ساعة ضبطت لتحتفظ بزمن قياسي (جرينيتش) أينما كانت الساعة. وكانت المشكلة هي صنع كرونومتر لا يتأثر بتغيرات درجة الحرارة أو حركات السفينة. وفي 1714 أعلنت الحكومة البريطانية عن جائزة قدرها عشرون ألف جنيه لمن يبتكر طريقة لإيجاد خط الطول في حدود نصف درجة. وعرض ساعاتي من يوركشير يدعى جون هاريسون على جورج جراهام (1728) تصميمات لكرونومتر بحري، وأقرضه جراهام المال لصنعه، وقد اكتمل صنعه في 1735، واستعمل ميزانين ضخمين متقابلين بدلا من البندول، وعادلت حركة السفينة أربعة زنبركات موازين، تتحرك ضد بعضها البعض؛ وأمكن إبطال مفعول التغيرات في درجة الحرارة بعدة قضبان مصنوعة من النحاس والصلب، تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وموصلة بالزنبركات. وأوفد "مجلس خطوط الطول" هاريسون بكرونومتره في رحلة إلى لشبونة لاختباره، وشجعت النتائج المجلس على توفير المال لتحسين ثان، وثالث، ورابع. وقد جرب هذا الكونومتر الرابع، الذي لم يزد عرضه على خمس بوصات، في رحلة إلى جزر الهند الغربية (1759)؛ ولم تؤخر الساعة في تلك الرحلة اكثر من خمس ثوان بالإضافة إلى تأخيرها العادي المحسوب سلفاً (حين تكون ثابتة على البر) ومقداره ثمانون ثانية في كل ثلاثين يوماُ. وبعد نزاعات حصل هاريسون على جائزة العشرين ألف جنيه كاملة. وبفضل هذه الآلة وغيرها من الآلات البحرية تهيأت البحرية البريطانية الآن (في ذروة حرب السنين السبع 1756 - 63) للسيطرة على البحار.
ب - النظرية الفلكية
تبارى البريطانيون والفرنسيون مباراة حامية في دراسة الفلك، ولم يكن(37/199)
الفلك بالعلم البعيد أو "البحت" بالنسبة لهم، فقد دخل في الصراع على سيادة البحار، ومن ثم على كل عالم المستعمرات والتجارة. وأسهمت في المباراة ألمانيا وروسيا بفضل أويلر، وأيطاليا بفضل بوسكوفش دون أن تحظيا بنصيب في المغانم.
وأعان أويلر، وكليرو، ودالامبير، الملاحة بدراساتهم للقمر، وجدولوا تغيرات موقعه وأوجهه بالنسبة للشمس والأرض، وتأثيره على المد والجزر. ومن سجلات أويلر وضع يوهان طوبياس ماير في جامعة جوتنجن جداول قمرية أتته بمنحة من مجلس خطوط الطول البريطاني. وفي 1738 أعلنت أكاديمية باريس للعلوم عن جائزة لمن يتوصل إلى نظرية في المد والجزر. ومنحت جوائز لأربعة مؤلفين: دانيال برتوللي، وأويلر، وكولن ماكلورن، وأ. كافاللري. وقد بنوا جميعهم -إلا الأخير- تعليلاتهم على تعليل نيوتن، وأضافوا دوران الأرض إلى جاذبية الشمس والقمر عاملا في إحداث المد والجزر. ودعت الأكاديمية في مناسبات عديدة المؤلفين لتقديم مقالات عن حركات الكواكب-عن انحرافاتها الحقيقية ومقال أويلر في 1756.
وشرف روجييرو جوزيبي بوسكوفش طائفته اليسوعية بكشوف منيرة في الفلك والفيزياء. وقد ولد في راجوزا، وتتلمذ للرهبنة بروما وهو في الرابعة عشرة، وأدهش معلميه في "الكلية الرومانية" بنبوغه المبكر في العلم، وعين أستاذاً لكرسي الرياضة هناك في التاسعة والعشرين. ومن ذلك التاريخ أصدر ستة وستين مؤلفاً، وشارك في تحديد المدار العام للمذنبات وقدم أول حل هندسي لإيجاد مدار الكوكب واستوائه. وفي رسالة عن "انقسام المادة" (1748) شرح رأيه في المادة، وهو أنها مكونة من نقط أو مجالات قوة، كل منها مركز يتبادل عليه الصد والجذب- وهي نظرية تذكرنا بمونادات لينتز وتسبق إلى تصوير نظريات عصرنا الذرية. ونظم اليسوعي المتعدد المواهب مشروعات عملية-كمسح الولايات البابوية وعمل خرائط لها، وبناء سدود على البحيرات التي هددت بإغراق لوكا، ووضع(37/200)
خطط لصرف المستنقعات البونتية، والمساعدة في تصميم مرصد بريرا في ميلان. وبفضل إلحاحه ألغي البابا بندكت الرابع عشر في 1757 الأمر الذي أصدرته لجنة الفهرس (للتحريمات) على النظام الكوبرنيقي. وقد أختير عضواً في أكاديمية باريس للعلوم وجمعية لندن الملكية. وفي 1761 - 62 استقبل بمظاهر التكريم في فرنسا، وإنجلترا، وبولندا، وتركيا. وفي 1772 قبل وظيفة مدير البصريات في البحرية الفرنسية التي عينه فيها لويس الخامس عشر. ثم عاد إلى إيطاليا في 1783، ومات بميلان في 1787 وهو في السادسة والسبعين، وخلف عدة مجلدات من الشعر.
أما ألمع نجم بين الفلكيين البريطانيين في النصف الأول من القرن الثامن عشر فهو جيمس برادلي. وكان خاله، جيمس باوند، القسيس بوانستد في إسكس، فلكياً هاوياً يمتلك مرصداً خاصاً، تعلم فيه الصبي أن للنجوم علماً كما أن لها فلسفة جمالية. وبعد أن نال بادلي درجة الأستاذية من أكسفورد عجل بالعودة إلى وانستد، وقام بأرصاد مبتكرة، وأبلغها إلى الجمعية الملكية، وانتخب عضواً بها وهو في السادسة والعشرين (1718). وبعد ثلاث سنوات أصبح أستاذاً "سافيليا" للفلك في أكسفورد. فلما مات هالي العظيم في 1742، عين برادلي خلفاً له في جرينتش فلكياً للملك. وظل يشغل هذه الوظيفة حتى مماته (1762).
وكان أول مشروعاته الكبرى تحديد "اختلاف المرأى" السنوي للنجم -أي الفرق في اتجاهه الظاهري كما يرى (1) من نقطة على سطح الأرض، (2) من نقطة وهمية في مركز الشمس. فإذا كانت الأرض تدور في فلكها حول الشمس كما افترض كوبرينق، فلابد من وجود هذا الفرق، ولكن أحداً لم يبرهن على وجود أي فرق، فلو أمكن البرهنة عليه لعزز ذلك نظرية كوبرينق. وكان روبرت هوك، المغامر في كل ميدان، قد حاول (1669) أن يببن هذا الاختلاف في مرأى النجم جما دراكونيس، ولكنه أخفق. وأستأنف المحاولة هاو ثري يدعى صموئيل مولينو عام 1725 في كيو، وانضم إليه برادلي هناك، وأسفرت النتائج التي تمخضت عنها محاولتهما عن تأييد جزئي فقط لنظرية كوبرنيق. وعاد برادلي إلى وانستد،(37/201)
وكلف جورج جراهام بأن يصنع له تلسكوب "قطاع أوج" يمكنه من رصد مائتي نجم، لا نجم واحد، في عبورها الزوال. وبعد أن أنفق برادلي ثلاثة عشر شهراً في الرصد والحساب، تمكن من أن يبرهن على دورة سنوية من الانحرافات المتجهة بالتناوب للجنوب والشمال في المواقع الظاهري للنجم، وفسر هذا التناوب بأنه راجع إلى حركة الأرض في مدارها. وفسر كشف "انحراف الضوء" (1729) مئات من المشاهدين والانحرافات التي كانت محيرة إلى ذلك الحين، وقد فرقت تفريقاً ثورياً الموقع المرصود والموقع "الحقيقي" أو المحسوب لأي نجم، واتفقت اتفاقاً حسناً مع كوبرنيق، لأنها اعتمدت على دوران الأرض حول الشمس. وبلغ من تأثيرها المنير على الفلك أن فلكياً-مؤرخاً فرنسياً يدعى جوزف دلامبر، اقترح أن يسلك برادلي في صف كيلر، لا بل في صف هيبارخوس ذاته (53).
وانتقل برادلي إلى كشفه الكبير الثاني-وهو ميل mutation ومعناها الحرفي إيماء-محور دوران الأرض كتذبذب النحلة المحوري. فالنجوم التي وصفت حركاتها الظاهرية بأنها تقوم بدورة سنوية نظراً إلى دوران الأرض حول الشمس، لا تعود- في مشاهدات برادلي- بعد سنة إلى نفس الواقع الظاهرية السابقة. وخطر له أن الفرق ربما نشأ عن ميل محور الأرض بسبب تغيرات دورية في العلاقة بين مدار القمر حول الأرض ومدار الأرض حول الشمس. فدرس هذه التغيرات طوال تسعة عشر عاماً (1728 - 47)، وفي نهاية العام التاسع عشر وجد أن النجوم عادت بالضبط إلى نفس المواقع الظاهرية التي كانت لها عند بدء العام الأول "وتأكد الآن أن ميل محور الأرض ناشئ عن الحركة الفلكية للقمر، وتأثيره على الأجزاء الاستوائية من الأرض. وكان تقريره عن هذه الكشوف حدثاً مثيراً في أعمال الجمعية الملكية لعام 1748. أن للصبر -كما للحرب- أبطاله.
وخلال اشتعال برادلي فلكياً للملك، استسلمت بريطانيا لجراحة مؤلمة: فبعد 170 عاماً من المقاومة قبلت التقويم الجريجوري، ولكنها سمته في عناد التقويم المصلح وأمر قانون برلماني (1750)، بأن تحذف الأحد عشر(37/202)
يوماً التالية لليوم التالي من سبتمبر 1752 من "نظام التقويم الجديد" وأن يسمى يوم 3 سبتمبر يوم 14 سبتمبر، وألا تبدأ السنة القضائية بعد ذلك في 25 مارس بل في أول يناير. وقد سبب هذا تعقيدات في المعاملات التجارية والعطلات الكنسية، وأثار هذا احتجاجات كثيرة، وتصايح البريطانيون الغاضبون قائلين "ردوا إلينا أيامنا الأحد عشر! " (54) -ولكن العلم انتصر في النهاية على مسك الدفاتر وعلى اللاهوت.
جـ- هرشل
بلغ الفلك الإنجليزي قمته حين أضاف وليم هرشل الكوكب أورانوس إلى قائمة الكواكب وهجر عمله موسيقياً. وكان أبوه (1) موسيقياً في الجيش الهانوفري، واتخذ الصبي المولود في 1738، والذي سمى فريدرش فلهلم، مهنة أبيه، وعمل موسيقياً في أول حملة في حرب السنين السبع، ولكن صحته كانت رقيقة فسرحه الجيش (ومع ذلك عمر إلى الرابعة والثمانين). وفي 1757 أرسل إلى إنجلترا ليلتمس رزقه في الموسيقى. وفي باث التي نافست آنذاك لندن مركزاً للمجتمع الراقي، ارتقى من عازف على الأوبرا، إلى قائد فرقة، إلى عازف على الأرغن في "الكنيسة المثمنة". وكان يؤلف الموسيقى، ويعلمها، ويعطي أحياناً خمسة وثلاثين درساً في الأسبوع. وفي الليل يروح عن نفسه بدراسة حساب التفاضل، ومنه انتقل إلى البصريات، وأخيراً إلى الفلك. واستقدم من ألمانيا أخاه ياكوب، وفي 1772 أخته كارولين، التي أدارت بيتهما، وتعلمت أن تمسك السجلات الفلكية، وأخيراً أصبحت فلكية بجهدها هي دون اعتماد على أحد.
_________
(1) أن اسم هرشل اسم يهودي نموذجي، وقد ظن أول مترجم للفلكي أ. س. هولدن، أن الأب، واسمه اسحاق، كان يهوديا. ولكن الدليل على هذا غير قاطع. وقد عمد الصبي في المسيحية في تاريخ مبكر. انظر The Jewish Encyclopedia VI 362 and Cecil Roth, The jewish Contribution to Civilization, 189.(37/203)
وكان هرشل يضطرم شوقاً إلى وضع الخرائط للسماء، فصنع تلسكوبه الخاص بمعاونة أخيه. وشحذ العدسات وصقلها بنفسه، وذات مرة واصل هذه العملية بلا انقطاع ست عشرة ساعة، وكارولين تطعمه وهو يشتغل، أو تخفف من سأمه بأن تقرأ له من سرفانتس، أو فيلدنج، أو ستيرن. وكان هذا الأول في عدة تلسكوبات صنعها هرشل بيده أو تحت إشرافه. وفي 1774، حين بلغ السادسة والثلاثين، أجرى أول أرصاده، ولكنه ظل سنين كثيرة لا يستطيع أن يعطي الفلك من وقته إلا يسمح به عمله موسيقياً. وقد درس كل جزء من أجزاء السماء أربع مرات. وفي الجولة الثانية من هذه الجولات، في 14 مارس 1781، كشف كشفه الخطير الذي بخس قدره بخساً شديداً. قال:
رأيت وأنا أفحص النجوم الصغيرة القريبة من هـ. جمينورم أنجما ظهر بوضوح أنه أكبر من غيره. وإذ أدهشني مظهره غير العادي، فقد قارنت بينه وبين هـ جمينورم والنجم الصغير الذي في الزاوية القائمة بين أوريجا وجميني، وإذ وجدته أكبر كثيراً من كل منهما، فقد اشتبهت في كونه مذنباً" (55).
ولم يكن النجم مذنباً؛ وقد ظهر الفحص المتصل أنه يدور حول الشمس في فلك يكاد يكون دائرياً، يكبر تسع عشرة مرة عن فلك الأرض، ومرتين عن فلك زحل، لقد كان كوكباً جديداً، وأول الكواكب التي ميزت على هذا النحو في سجلات الفلك المدونة. وهلل العالم المثقف بأسره للكشف الذي ضاعف قطر المجموعة الشمسية عما عرف من قبل. وكافأت الجمعية الملكية هرشل بزمالتها وبمدالية كويلي، وأقنعه جورج الثالث بأن يترك عمله موسيقياً ويصبح فلكياً للملك. وأطلق هرشل على الكوكب الجديد اسم جورجيوم سيدس (نجم الجورجيين)، ولكن الفلكيين اتفقوا بعد ذلك على تسمية "أورانوس"، فأنتزعوه بذلك من الملوك الهانوفرين وأسلموه لآلهة الوثنيين كما فعلوا بكل أخوته تقريباً.
وفي 1781 انتقل وليم كارولين إلى سلاو، وهي مدينة لطيفة على الطريق من لندن إلى وندسور. ولم يكف راتبه المتواضع البالغ مائتي جنيه(37/204)
في السنة حاجاته هو وأخته وأدواته، فأكمله بصنع التلسكوبات وبيعها. وزاد من حجم ما صنعه منها لنفسه، حتى بلغ طول أحدها الذي صنعه في 1785 أربعين قدماً، بمرآة قطرها أربعة أقدام وقد كتبت فني بيرني، ابنة الموسيقي المؤرخ التي نقلها عنها كثيراً، في يوميتها بتاريخ 30 ديسمبر 1786:
هذا الصباح حملني أبي (بمعنى أركبها عربته، فقد كانت إذ ذاك في السادسة والثلاثين) إلى الدكتور هرشل واستقبلنا هذا الرجل العظيم الغريب الأطوار جداً بحفاوة بالغة ... وبدعوة من المستر هرشل قمت بجولة .. داخل تلسكوبه! وقد احتواني هذا التلسكوب مستقيمة العود دون أدنى مضايقة؛ وكذلك كان يحتويني لو كنت ألبس ريشتي وطوقي - فمحيطه كبير إلى هذا الحد (56).
وفي 1787 اكتشف هرشل قمرين لأورانوس سماهما أوبرون وتيتانيا؛ وفي 1789 وجد قمري زحل (ساتورن) السادس والسابع. وفي 1788 تزوج بأرملة غنية؛ فلم يعد هناك ما يقلقه من جهة المال، ولكنه واصل أبحاثه بحماسة لم تفتر، وألف أن يعمل طوال الليالي التي تطلع فيها النجوم ولا يحجب ضوءها قمر زاه. وكان يجري أكثر أرصاده في الهواء الطلق من رصيف يصل إليه بسلم متنقل ارتفاعه خمسون قدماً. وكان البرد يشتد أحياناً حتى يتجمد الحبر في الزجاجة التي تأخذها كارولين معها لتسجل كشوفه.
وبعد أن واصل هرشل بأسلوب أكثر نظاماً وتيلسكوبات أفضل صنعاً عمل شارل مسييه ونيكولا دلاساي في تحديد مواقع السدم وعناقيد النجوم وعمل قوائم لها، قدم إلى الجمعية الملكية (1782 - 1802) قوائم حوت 2. 500 سديم وعنقود، و848 نجماً مزدوجاً. ومن هذه النجوم الأخيرة كان هو نفسه قد اكتشف 227 نجماً. وألمع إلى أنها قد تكون ازدوجت في جذب ودوران متبادلين-وهذا تطبيق منير لنظرية نيوتن على العلاقات بين النجوم. وفي كثير من الحالات تبين أن ما بدا كأنه نجم واحد إنما هو في الحقيقة عنقود من نجوم منفردة، وتبين أن بعض هذه العناقيد- حين رؤيت في التلسكوبات الكبيرة-هي نجوم قائمة بذاتها على مسافات من(37/205)
الأرض مختلفة أشد الاختلاف. وتحول "درب التبانه" في التكبير الجديد من سحابة من المادة المتأججة، إلى تجمع وتتابع هائلين من نجوم نيرة مفردة. وتبددت السماء الآن مكتظة بالنجوم قطرات الماء في المطر، بعد أن كانت تبيدو مرصعة بها فقط، وبينما لم تر العين المجردة غلا نجوماً من الدرجة الأولى إلى السادسة في كبر الحجم، كشفت تلسكوبات هرشل عن مزيد من النجوم أضعف ضوءاً 1,342 مرة من ألمعها. لقد بسط هرشل كما بسط جاليليو من قبل رقعة الكون المعروفة بسطاً هائلا. وإذا كان بسكال قد غشيته الرعدة أمام "لانهائية" السماوات المعروفة في زمانه، فماذا يكون شعوره أمام أعماق وراء أعماق لا آخر لها من نجوم لا تحصى، قدر هرشل بعد بعضها عن الأرض بنحو 11. 750. 000. 000. 000. 000. 000. 000 ميل؟ (75) وكان كثير من النجوم شموساً لها كواكب تدور حولها. أما شمسنا وما يدور حولها من كواكب وأقمار، فقد هبطت بجملتها إلى مقام الذرة في عالم من الضوء.
وكان من أذكى إلماعات هرشل ما اتصل بحركة مجموعتنا الشمسية في الفضاء، فقد دلت المشاهدات السابقة على أن بعض النجوم المتصلة قد زادت أو نقصت، في الزمن المدون، من تباعدها عن بعضها البعض. فتساءل هرشل: ألا يجوز أن يكون مرجع هذا الاختلاف تحرك المجموعة الشمسية بعيداً عن النجوم الملتقية - أو صوب النجوم المفترقة، كما يبدو مصباحان على جنبين متقابلين من الطريق ملتقيين أو مفترقين حين نبتعد أو تقترب منهما؟ وقد خلص إلى المجموعة الشمسية، بحملتها، تتحرك مبتعدة عن بعض النجوم، مقتربة من نجم في برج هرقول. ونشر فرضه هذا في 1783، ويعد شهور أذاع بيير بريفوست نظرية مشابهة. وكان فريقا الفلكيين الإنجليز والفرنسيين يعملان في تنافس غيور وتوافق وثيق.
وصف معاصر هرشل في عامه الثاني والثمانين فقال "شيخ جليل، بسيط، طيب، وبساطته، ولطفه، ونوادره، واستعداده لشرح مفاهيمه الرفيعة للكون، كلها جذابة إلى حد لا يوصف (58). وفي جهوده كلها شاركت كارولين في إخلاص رائع في أي رواية خيالية. فلم تكتف(37/206)
بتسجيل أرصاده بدقة وإجراء الحسابات الرياضية المعقدة لترشده، بل اكتشفت بنفسها ثلاثة سدم وثمانية مذنبات. وبعد موت وليم (1822) عادت لتعيش مع أقربائها في هانوفر؛ وهناك واصلت دراساتها وأعدت مزيداً من القوائم بكشوف أخيها. وفي 1828 نالت الميدالية الذهبية للجمعية الفلكية، وفي 1846 نالت ميدالية من ملك بروسيا. وماتت عام 1848 وقد بلغت الثامنة والتسعين.
د - بعض الفلكيين الفرنسيين
تجمعت حول مرصد باريس (الذي اكتمل بناؤه عام 1671) كوكبه من الراصدين، ألفت فيهم أسرة كاسيني، خلال أجيال أربعة، برجاً من الأنجم التي يتلو بعضها بعضاً. فكان جوفاني دومنيكو كاسيني مديراً للمرصد من 1671 إلى 1712. وبعد موته خلفه في إدارة المرصد ابنه جاك، الذي خلفه (1756) ابنه سيزار فرنسوا كاسيني دتوري، الذي خلفه هو الآخر (1784) ابنه جاك دومنيك، الذي مات بلقب كونت كاسيني في 1845 بعد أن عمر إلى السابعة والثمانين. هنا أسرة جديرة بأن يقرن اسمها باسمي أسرتي برنوللي وباخ.
أما جان لورون دالامبير فكان بغير أسرة، لا قبل مولده ولا بعده، ولكنه جمع العلوم من حوله كما يجمع الإنسان أطفاله. وقد طبق رياضته على الفلك، فقنن نظرية نيوتن في "استقبال" الاعتدالين، وفرض برادلي في الميل المحوري للأرض: يقول لابلاس "إن اكتشاف هذه النتائج كان في زمن نيوتن ممتنعاً على التحليل والميكانيكا ... وقد أرجئ شرف القيام بهذه المهمة دالامبير. فبعد عام ونصف من المؤلف الذي قدم فيه برادلي كشفه، قدم لدالامبير رسالته "أبحاث في استقبال الاعتدالين (1749)، وهي عمل رائع في تاريخ ميكانيكا ودنياميكا الأجرام السماوية، روعة عمل برادلي في حوليات الفلك (59) ".
وقد لوثت سجل دالامبير لطخة، هي أنه لم يغتبط بما أدركه منافسوه من نجاح-ومن منا قد سما به خلقه إلى الابتهاج المقدس؟ واشتدت(37/207)
حماسته في نقد عمل ألكسيس كليرو. وألكسيس هذا عرف حساب التفاضل المتناهي الصغر. وهو بعد في العاشرة؛ وحين بلغ الثانية عشرة قدم أول أبحاثه لأكاديمية العلوم: وفي الثامنة عشرة نشر كتاباً حوى الإضافات الهامة للهندسة ما حمل الأكاديمية على اختياره عضواً ملحقاً بها (1731) في سن يصغر ست سنوات عما يبلغه دالامبير عند نيله هذا الشرف ذاته عام 1741. وكان كليرو واحداً من العلماء الذين اختيروا لمرافقة موبرتوي في البعثة الموفدة إلى لابلاند (1736) لقياس قوس من أقواس الزوال. فلما عاد قدم إلى الأكاديمية مذكرات في الهندسة، والجبر، والقطاعات المخروطية، وحساب التفاضل. وفي 1743 نشر نظرية في شكل الأرض حسبت بمقتضى "نظرية كليرو"، وبأدق مما حسب نيوتن وماكلورن، ذلك الشكل الذي يتخذه ميكانيكاً جسم دائر على محوره من الجاذبية الطبيعية لجرائه. وقد اتصل بمدام "دشاتليه بفضل اهتمامه بنيوتن، فأعانها على ترجمتها لأصول نيوتن، وشارك فولتير شرف تحويل العلماء الفرنسيين من دوامات ديكارت إلى جاذبية نيوتن.
وفي 1736 - 49 عكف أويلر، وكليرو، ودالامبير، مستقلين بعضهم عن بعض على إيجاد أوج القمر، أي أقصى حد في البعد بينه وبين الأرض بطرق التفاضل الجديدة-نشر أويلر وكليرو نفس النتائج تقريباً، وتلاهما دالامبير بحساب أدق حتى من حسابهما. وفاز كليرو بجائزة قدمتها أكاديمية سانت بطرسبورج لتصوير حركة القمر، وكان قد نشر النتائج التي خلص إليها في كتابه "نظرية القمر" (1752) ثم طبق رياضته على حركات الأرض الناشئة عن الزهرة والقمر؛ ومن هذه الاختلافات قدر أن كتلة الزهرة 66. 7% وكتلة القمر 1. 49% من كتلة الأرض، وتقديراتنا الحالية هي 81. 5% و1. 82%.
وفي 1757 بدأ فلكيو أوربا في ترقب عودة المذنب التي تنبأ بها هالي ولكي يرشد كليرو اضطلع بحساب التقلبات التي كانت تطرأ على المذنب في مروره بزحل والمشتري. فحسب أن هذه التقلبات وغيرها عطلته 618 يوماً، وأشار على أكاديمية العلوم بأن المذنب سيكون في الحضيض(37/208)
(أقرب نقطة للشمس) حوالي 13 أبريل 1759. وتبينه راصد هاو في عيد الميلاد 1758، ومر بالحضيض في 12 مارس 1759، قبل الموعد الذي حسبه كليرو باثنين وثلاثين يوماً. ولكن حتى مع هذا الفارق فإن الحدث كان انتصاراً للعلم ولطمة عابرة للخرافة (1) وقدم كليرو دراسته عن موضوع في "نظرية حركة المذنبات" (1760) وقد جعلته انتصاراته وعظم جاذبيته الشخصية، مطمحاً تتنافس عليه الصالونات. وكان كثير الاختلافات إليها، ومات في الثانية والخمسين (1765) "ولم يستحق عالم فرنسي في هذا العهد صيتاً أبعد من صيته" (60).
وكان غير هؤلاء كثيرون ممن يجدر بالتاريخ أن يخلدهم، وإن كان سردهم جميعاً يفسد قصتنا. نذكر منهم جوزف دليل، الذي درس بقع الشمس وهالتها، وأنشأ مرصد سانت بطرسبورج؛ ... ونيكولا دوسيل، الذي ذهب إلى رأس الرجاء الصالح موفداً من أكاديمية العلوم، وأنفق عشر سنين (1750 - 60) يرسم الخرائط للأجواء الجنوبية، وقد مات في التاسعة والأربعين، وبيير لمونييه، الذي صاحب مويرتوي إلى لابلاند وهو في الحادية والعشرين، وأجرى دراسات على القمر طوال خمسين عاماً، وحلل حركات المشتري وزحل، ورصد وسجل أورانوس (1768 - 69) قبل أن يكشف هرشل أنه كوكب بسنين طويلة (1781)، وجوزف دلالاند، الذي مسح كتابه "رسالة في الفلك" كل فرع من فروع هذا العلم، والذي قام بتدريسه في الكوليج دفرانس ستة وأربعين عاماً، وأنشأ في 1802 جائزة لالاند، التي ما زالت تمنح سنوياً لأفضل بحث في الفلك، وجان باتيست دلامبر، الذي عين مدار أورانوس، وخلف لالاند في "الكوليج"، وأضاف عرض لالاند العالمي تاريخاً للفلك في ست مجلدات بذل فيها كل جهد وعناية (1817 - 27).
هـ - لابلاس
ولد (1749) باسم بيير سيمون لابلاس، لأسرة من الطبقة الوسطى في نورمانديا، ثم أصبح المركيز بيير سيمون دلابلاس، وحقق أول فوز له
_________
(1) ينتظر مذنب هالي مرة أخرى 1986.(37/209)
بمقالاته اللاهوتية الورعة في المدرسة، وغدا أشد الملحدين إمعاناً في إلحادهم في فرنسا النابوليونية. أوفد إلى باريس في الثامنة عشرة من عمره ومعه خطاب تعريف إلى دلامبير. ورفض دالامبير لقاءه، فقد كان يلتقي الكثير من أمثال هذا الخطاب ولا يعبأ بما حوت من مديح، ولكن لابلاس الذي لم تفل عزيمته أرسل إليه خطاباً في المبادئ العامة للميكانيكا. ورد عليه دلامبير قائلا "سيدي، أنت ترى أنني لم أعبأ كثيراً بالتوصيات. ولكنه لا حاجة لك بتوصية. فقد عرفتني بنفسك تعريفاً أفضل، هذا يكفيني. ومن حقك أن أساعدك" (61). وما لبث لابلاس، بفضل نفوذ دالامبير، أن عين مدرساً للرياضة في المدرسة الحربية. وقد حلل حبه المشبوب للرياضة في خطاب وجهه بعد ذلك إلى دالامبير، قال:
"لقد عكفت على الرياضة مدفوعاً دائماً بميلي لا بالرغبة في شهرة باطلة. وأعظم تسلية لي أن أدرس موكب المخترعين، وأرى عبقريتهم تصارع العقبات التي صادفوها وذللوها. ثم أضع نفسي مكانهم وأسلها كيف كنت فاعلا للتغلب على هذه العقبات ذاتها؛ ومع أن هذا البدل كان في الكثير الأغلب من الحالات مذلا لأنانيتي، فإن لذة الابتهاج بنجاحهم عوضتني عوضاً وافراً عن هذا الإذلال القليل. وإذا أتيح لي من الحظ ما أضيف به شيئاً لأعماهم، فإنني أعزو الفضل لجهودهم الأولى" (62).
ونحن نلمس شيئاً من الكبرياء في هذا التواضع الواعي. على أية حال كان طموح لابلاس أبعد الأشياء عن التواضع، لأنه اضطلع باختزال الكون كله إلى نسق رياضي واحد، بتطبيق نظرية الجاذبية النيوتينية على جميع الأجرام والظواهر السماوية. لقد ترك نيوتن الكون في وضع قلق؛ فظن أنه عرضة لشذوذات تتصاعد أحياناً، بحيث يلزم أن يتدخل الله من حين إلى حين ليقومه من جديد. ولم يقتنع كثير من العلماء-مثل أويلر-بأن العالم جهاز آلي، ولكن لابلاس أراد أن يثبت هذا ميكانيكاً.
وبدأ (1773) بمقال بين أن الاختلافات في متوسط أبعاد كل كوكب من الشمس تخضع لصياغة رياضية مضبوطة، تقريباً، فهي إذن دورية(37/210)
وميكانيكية، واختارته أكاديمية العلوم بفضل هذا المقال عضواً ملحقاً بها وهو بعد في الرابعة والعشرين. ومن ذلك التاريخ كرس لابلاس حياته، بوحدة وتوجيه وإصرار في الهدف، لاختزال عمليات الكون واحدة تلو الأخرى إلى معادلات رياضية. كتب يقول "إن كل تأثيرات الطبيعة ليست سوى نتائج رياضية لعدد قليل من القوانين الثابتة" (63).
ومع أن أعماله الكبرى لم تنشر إلا بعد الثورة، فإن إعداده لها بدأ قبل ذلك بكثير. وكان كتابه "عرض لنظام العالم". (1796) مقدمة مبسطة غير ميكانيكية لآرائه، تتسم بأسلوبها الصافي المتدفق، وتجسد نظريته الشهيرة (التي سبقه إليها كانت في 1755) عن أصل المجموعة الشمسية. وكان هدف لابلاس أن يفسر دوران الكواكب حول محاورها وحول الشمس، ودوران أقمارها، بافتراض وجود سديم أزلي من الغازات الحارة، أو غيرها من الذرات الدقيقة، يغلف الشمس ويمتد إلى آخر أطراف المجموعة الشمسية. وقد برد هذا السديم الدائر مع الشمس شيئاً فشيئاً، وانكمش مكوناً حلقات ربما كانت شبيهة بالحلقات التي ترى الآن حول زحل. فلما ازدادت البرودة والانكماش تكاثفت هذه الحلقات فكونت كواكب، وبمثل هذه الطريقة كونت الكواكب أقمارها؛ ولعل تكاثفاً شبيهاً بهذا السدم كون النجوم. وافترض لابلاس أن جميع الكواكب والأقمار تدور في نفس الاتجاه، وفي نفس المستوى عملياً، ولم يعرف وقتها أن أقمار أورانوس تتحرك في اتجاه مضاد. وهذه "النظرية السديمية" مرفوضة الآن كتفسير للمجموعة الشمسية، ولكنها مقبولة على نطاق واسع كتفسير لتكاثف النجوم من السدم. على أن لابلاس لم يعرضها إلا في كتابه الشعبي هذا، ولم يغل في أخذها مأخذ الجد: "هذه التكهنات حول تكون النجوم والمجموعة الشمسية .... أعرضها بكل التشكك الذي يجب أن توحي به جميع الأشياء التي ليست تنتجه للمشاهدة أو للحساب" (64).
وقد لخص لابلاس مشاهداته، ومعادلاته، ونظرياته-وتقريباً كل علم الفلك المعروف في زمانه-في الأسفار الخمسة الجليلة التي يتألف منها كتابه "ميكانيكا الأجرام السماوية (1799 - 1825)، والذي سماه جان باتيست(37/211)
فورييه "مجسطي" الفلك الحديث. وقد ذكر هدفه فيه ببساطة رائعة فقال "بناء على أجرام المجموعة الشمسية الثمانية عشر المعروفة، وعلى مواقعها وحركاتها في أي وقت، أريد استنباط مواقعها وحركاتها في أي وقت آخر، من جاذبيها المتبادلة .... بالحساب الرياضي، والبرهنة على أن هذه تتفق مع تلك التي شوهدت فعلا. "وتحقيقاً لهذه الخطة كان على لابلاس أن يدرس التقلبات التي تحدثها التأثيرات المتعارضة لأعضاء المجموعة -الشمس، والكواكب، والأقمار- ويختزلها إلى انتظام دوري يمكن التنبؤ به. وقد آمن بأن هذه التقلبات كلها يمكن أن تفسر برياضيات الجاذبية. وفي هذه المحاولة لإثبات ما تتمتع به المجموعة الشمسية وسائر الكون من ثبات واكتفاء ذاتي، اتخذ لابلاس رأياً يدين بالميكانيكية البحتة، وعبر عن الفلسفة الحتمية تعبيراً مشهوراً فقال:
"ينبغي أن ننظر إلى حالة الكون الراهنة على أنها نتيجة لحالته الماضية، وسبب لحالته المستقبلة. وإن ذكاء يحيط بجميع القوى العاملة في الطبيعة في لحظة معلومة، كما يحيط بالموقع الوقتية لجميع الأشياء في الكون، في استطاعته أن يدرك في صيغة واحدة حركات أكبر الأجرام وأخف الذرات في الكون، شريطة أن يكون عقله من القوة بحيث يخضع جميع المعطيات للتحليل، فلا شئ يغم على فهمه، وسيبصر المستقبل كما يبصر الماضي، (قارن مفهوم الفلاسفة السكولاستيين عن الله). والكمال الذي استطاع العقل البشري أن يوصل إليه علم الفلك يعطينا صورة عامة ضعيفة لهذا الذكاء. وقد أتاحت كشوف الميكانيكا والهندسة، مشفوعة بكشوف الجاذبية الكونية، للعقل أن يدرك في نفس الصيغ التحليلية الحالة الماضية والمستقبلة لنظام الكون. وكل جهود العقل بحثاً عن الحقيقة تنحو إلى القرب من الذكاء الذي تصورناه، وإن بقي إلى الأبد بعيداً عن هذا الذكاء بعداً سحيقاً" (65).
حين سأل نابليون لابلاس لم يرد ذكر الله في كتابه "ميكانيكا الأجرام السماوية" قيل إنه أجاب "لم يكن بي حاجة إلى ذلك الفوضى" (66) على أن(37/212)
لابلاس كانت له لحظاته المتواضعة. ففي كتابه "نظرية تحليلية للاحتمالات"، (1812) - وهي الأساس لكل ما جد بعد ذلك من عمل في هذا الميدان- جرد العلم من كل يقينيه فقال:
إذا توخينا الدقة في التعبير قلنا إن معرفتنا كلها تقريباً غير يقينية؛ وفي الأشياء التي نستطيع معرفتها يقيناً، حتى في العلوم الرياضية ذاتها، يقوم الاستنباط والقياس على الاحتمالات، وهما أهم السبل للكشف عن الحقية (67) (1) وكان للابلاس إسهامات نوعية، بالإضافة إلى صياغته الخطيرة الأثر للكشوف والفروض الفلكية المعروفة إلى وقته. فقد أنار كل فرع تقريباً من فروع الفيزياء بـ "معادلات لابلاس" عن "الجهد" التي يسرت التأكد من شدة الطاقة، أو سرعة الحركة، في أي نقطة في ميدان خطوط القوة. وحسب البيضية الديناميكية للأرض من تقلبات القمر التي كانت تعزي لشكل الكرة المفرطح، ووضع نظرية تحليلية للمد والجزر، واستنبط كتلة القمر من ظواهرهما. وابتكر طريقة محسنة لتحديد مدار المذنبات؛ واكتشف العلاقات العددية بين حركات أقمار المشتري. وحسب بدقته المعهودة السرعة "القرنية" المتوسطة حركة القمر. وأرست دراساته للقمر الأساس للجداول المحسنة لحركات القمر، التي وضعها تلميذه جان شارل بوركهارت عام 1812. وأخيراً ارتفع من العلم إلى الفلسفة- من المعرفة إلى الحكمة- في فيض من البلاغة جدير ببوفون:
"إن الفلك بحكم جلال موضوعه وكمال نظرياته، هو أبدع صرح من صروح الروح البشرية، وأنبل شهادة على الذكاء البشري. فالإنسان الذي أضلته أنانيته وأوهام حواسه ظل طويلا يعتبر نفسه المركز في حركات النجوم، وقد لقي غروره الكاذب عقاباً من الأهوال التي أوحت بها هذه النجوم.
_________
(1) إن برهان لابلاس، حتى في الميكانيكا القديمة (النيوتنية) عن ثبات المجموعة الشمسية، لم يعد حاسما ... فهو لم يعط جوابا دقيقا. فلوريان كاجوري عن كتاب نيوتن. Mathematical Principles of Natural Philosophy,p,678.(37/213)
ثم ألقى بنفسه فوق كوكب لا يكاد يدرك حجمه في المجموعة الشمسية، وامتداده الشاسع ليس إلا نقطة تافهة في اتساع الفضاء. والنتائج السامية التي قاده إليها هذا الكشف خليقة بأن تعزيه عن المرتبة التي وضعت فيها الأرض، لأنها تبصره بعظمته في كل ضآلة القاعدة التي يقيس منها النجوم. فعليه أن يصون بعناية نتائج هذه العلوم السامية التي هي بهجة للكائنات المفكرة، وأن يوسع رقعتها. وقد أدت تلك العلوم خدمات جلية للملاحة والجغرافيا، ولكن بركتها الكبرى هي تبديد المخاوف التي سببتها الظاهر الفلكية والقضاء على الأخطاء المنبعثة من الجهل بعلاقتنا الصحيحة بالطبيعة- وتلك أخطاء ومخاوف ستنبعث من جديد إذا قدر لمشعل العلم يوماً ما أن ينطفئ" (68).
وقد وجد لابلاس أن تكييف حياته وفق اضطرابات السياسة الفرنسية أيسر له من تكييف رياضياته لشذوذات النجوم. فلما أقبلت الثورة قوى عليها بكونه أعظم قيمة حياً منه ميتا، فاستخدمته مع لاجرانج لصنع ملح البارود للبارود، وحساب مسارات قذائف المدافع. وعين عضواً في لجنة الموازين والمقاييس التي وضعت النظام المتري. وفي 1785 كان قد امتحن وأجاز طالباً متقدماً لسلاح المدفعية، هو بونابرت الذي كان في السادسة عشرة من عمره؛ وفي 1798 أخذه الجنرال بونابرت إلى مصر ليدرس النجوم من الأهرام. وفي 1799 عينه القنصل الأول وزيراً للداخلية وبعد سبعة أسابيع عزله لأن "لابلاس يبحث عن الرقائق والدقائق في كل مكان .. وينقل إلى الإدارة روح اللانهائي الصغر" (69). ولكي يطيب بونابرت خاطره عينه في مجلس الشيوخ الجديد، وخلع عليه لقب الكونت. ورسم له ألان جاك أندريه نيجون صورة في ذهب رتبته الجديدة وزينتها: "وجه مليح شريف، وعينان محزونتان كأنهما شاعرتان بأن الموت يهزأ بكل عظمة وجلال، وبأن الفلك ما هو إلا تحسس في الظلام، وأن العلم ليس إلا نقطة ضؤ في بحر من الليل البهيم. وعندما حضرته المنية (1827) أما الذي نجهله فلا حدود له" (70).(37/214)
6 - في الأرض
درست أربعة علوم الأرض: فعلم الظواهر الجوية (المتيورولوجيا) ارتاد غلافها الجوي، وعلم المساحة التطبيقية (الجيوديسيا) قدر حجمها، وشكلها، وكثافتها، والمسافات التي تشمل انحناء سطحها؛ والجيولجيا نقبت في تكوينها، وأعماقها، وتاريخها، والجغرافيا رسمت الخرائط ليابسها ومائها.
أ - الميتورولوجيا
استعمل علم الجو أربع آلات للقياس بالإضافة إلى المقياس البسيط للمطر: الترمومتر لدرجة الحرارة، والبارومتر للضغط الجوي، والأنيمومتر للرياح، والهيجرومتر لرطوبة الهواء.
في عام 1721 أو قبله، وفق جابرييل دانييل فارنهايت، وهو صانع آلات ألماني في أمستردام، في تطوير الترمومتر الذي كان جاليليو قد اخترعه في 1603، واستعمل فارنهايت الزئبق بدلا من الماء سائلا متمدداً منكمشاً، وقسم المقياس إلى درجات مبنية على نقطة تجمد الماء (32 () ودرجة حرارة الفم لجسم الإنسان العادي (98. 6°). وفي 1730 أنهى رينيه دريامور إلى أكاديمية العلوم "قواعد لبناء الترمومترات بتدرجات قابلة للمقارنة"، واتخذ درجة تجمد الماء صفراً، ودرجة غليانه 80 (، ودرج المقياس بحيث يجعل الدرجات تتفق والزيادات المعادلة في صعود أو هبوط السائل الترمومتري الذي استعمل له الكحول. وحوالي عام 1742 أدخل أنديرس ملسيوس الأوبسالي تحسينات على ترمومتر دريامور بالعودة إلى استعمال الزئبق وتقسيم المقياس إلى مائة درجة "سنتجرادية أي مئوية" بين نقطتي تجمد الماء وغليانه. واستطاع جان أندريه دلوك الجنيفي في 1772 أن يعطى الترمومترين المتنافسين شكلهما الحالي: الشكل الفهرنهايتي للشعوب الناطقة بالانجليزية، والشكل المئوي لغيرها من الشعوب.
أما البارومتر فكان قد اخترعه توريتشيللي في 1743، ولكن قراءاته للضغط الجوي كانت تتأثر دقتها بعوامل لم يحسب لها حساب، كنوعية الزئبق،(37/215)
واتساع الأنبوبة، ودرجة حرارة الهواء. على أن شتى الأبحاث التي بلغت ذروتها في تجارب دلوك وحساباته (1717 - 1817) عالجت هذه العيوب) وأوصلت البارومتر الزئبقي إلى شكله الراهن.
وصنعت أنيمومترات بدائية متنوعة في القرن السابع عشر. من ذلك أن بيير أوويه أسقف أفرانش العالم، ترك عند موته في 1721 تصميما لانيمومتر (والكلمة من ابتكاره فيما يبدو) يقيس قوة الريح بتمريره في أنبوبة يرفع ضغطه فيها عموداً من الزئبق. ودخل على هذا الأنيمومتر تحسين بـ"مقياس الريح" (1775) الذي ابتكره الطبيب الاسكتلندي جيمس لند. وابتكر جون سميتن (حولي 1750) جهازاً لقياس سرعة الريح. وأفضل آلات قياس الرطوبة في القرن الثامن عشر هي هيجرومتر وراس دسوسير (1783) الجنيفي المتعدد القدرات، وقد بناه على تمدد وانكماش شعرة إنسان بفعل التغيرات في الرطوبة. وأرسى وليم كولن الأساس لنوع آخر من الهيجوومتر بملاحظة ما للسوائل من تأثير مبرد على البخر.
بهذه الأدوات وغيرها، كالإبرة المغنطيسية، حاول العلم أن يكشف عن الإنتظامات في تقلبات الجو. وكان أول ما يستلزمه هذا الكشف وجود السجلات الموثوق بها، وقد احتفظت ببعض هذه السجلات لفرنسا أكاديمية العلوم منذ 1788. ومن 1717 إلى 1727 احتفظ طبيب برزلاوي بسجلات يومية للتقارير الجوية التي كان يطلبها من أنحاء كثيرة في ألمانيا؛ وفي 1724 بدأت جمعية لندن الملكية في جمع التقارير المتيورولوجية، لا من بريطانيا وحدها بل من القارة الأوربية، والهند، وأمريكا الشمالية. ثم نظم ج. ج. هيمر في مانهايم، عام 1780، تنسيقاً أوسع وأنظم من هذا كله للتقارير اليومية تحت رعاية شارل تيودور أمير بالاتين الناخب، ولكنه توقف (1792) خلال حروب الثورة الفرنسية.
ومن الظواهر المتيورولوجية التي أطلقت الكثير من التكهنات ظاهرة الفجر الكاذب. وقد درس أدموند هالي بعناية تفجرات هذه "الأضواء الشمالية" في 16 - 17 مارس 1716، وعزاها إلى تأثيرات(37/216)
مغنطيسية منبعثة من الأرض. وفي 1741 لاحظ هيورتر وغيره من المشاهدين السكندناويين أن اختلافات غير منتظمة في إبرة البوصلة تحدث في وقت ظهور الأضواء. وفي 1793 قرر جون دولتين الكيميائي أن ألسنة الضوء موازية لإبرة الانحراف المغنطيسي، وأن سمتها، أو نقطة التقائها، تقع في الزوال المغنطيسي. إذن فقد أدرك القرن الثامن عشر الطبعة الكهربية سببه التأين الناشئ عن جزيئات تطلق من الشمس.
وبدأت مؤلفات القرن الثامن عشر في المتيورولوجيا بكتاب كرستيان فولف في "مقاييس الجو الأساسية" (1709)، الذي لخص المعلومات المعروفة إلى عهده واقتراح أدوات جديدة. وقد حاول دالامبير وضع صيغة رياضية لحركات الرياح في كتابه "تأملات في السبب العام للرياح" الذي نال جائزة قدمتها أكاديمية برلين في 1747. أما أبرز بحث في هذه الفترة فهو كتاب ضخم يسمى "رسالة في المتيورولوجيا" (1774) بقلم لوى كوت، أحد قساوسة مونمورنسى. وقد جمع كوت نتائج مشاهداته وغيرها وجدولها، ووصف الآلات، وطبق كشوفه على الزراعة، وعين وقت الأزهار والنضج لمختلف المحاصيل، والتواريخ التي تفد فيها عصافير الجنة وترحل، ومتى يتوقع أن يشدو البلبل بغنائه، واعتبر الرياح أهم أسباب التغيرات في الجو، وأخيراً اقترح صيغاً اجتهادية للتنبؤات الجوية، أما كتاب جان دلوك "أبحاث في تغيرات الجو" (1772) فقد سع تجارب بسكال (1648) وهالي (1686) في العلاقات بين الارتفاع والضغط الجوي، ووضع صيغة القانون الذي ينص على أنه "في درجة حرارة معينة تعطى الفروق بين لوغاريتمات ارتفاعات الزئبق (في البارومتر) فوراً، في أجزاء من القامة - الفرق في ارتفاعات الأماكن التي رصد فيها البارومتر" (71). واستطاع دلوك بإلحاق ميزان ماء ببارومتره، أن يقدر بارومترياً ارتفاع مختلف الشواخص، فقدر أن "المون بلان" يعلو 14,346 قداً عن السطح البحر. أما أوراس دسوسير، فبعد أن ارتقى الجبل وسجل قراءات عند قمته (1787)، خلص من قياسه إلى أنه يعلو 15,700 قدم.(37/217)
ب - الجيوديسيا
كان المعنى الحرفي للجيوديسيا هو "تقسيم الأرض". وللقيام بهذه المهمة بدقة كان من الضروري معرفة شكل الكرة الأرضية. وكان هناك اتفاق عام في 1700 على أن الأرض ليست تامة التكور بل لها شكل القطع الناقص -فهي مفرطحة بعض الشيء في نهايتيها. وذهب نيوتن إلى أنها مفرطحة عند القطبين، أما العلماء من آل كاسيني فذهبوا إلى أنها مفرطحة عند خط الاستواء. وللفصل في هذا الخلاف الدولي أوفدت أكاديمية علوم باريس بعثتين، ذهبت الأولى في 1735 وعلى رأسها شارل دلاكوندامين، وبييريوجيه، ولوى جودان، إلى ما كان بيرو يومها (وهو الآن أكوادور) لقياس درجة عرض فلكية على منحني من الزوال قرب الاستواء (1). وقد وجدوا أن البعد بين درجة عرض فلكية والدرجة التي تليها، على الزوال المار فوق مكان رصدهما، هو 362,800 قدم. وفي 1736 أوفدت بعثة كهذه إلى لابلاند وعلى رأسها نوبرنياس وكليرو، لقياس درجة عرض فلكية على منحني من الزوال عند مكان أقرب ما أمكن للدائرة القطبية. وقد قررت أن طول الدرجة هناك 376. 100 قدم - أي أكثر قليلاً من تسعة وستين ميلاً. ودلت هذه الكشوف على أن طول درجة العرض الفلكية، يزداد زيادة طفيفة كلما تحرك الراصد من الاستواء إلى القطب؛ وقد فسرت الزيادة بأنها راجعة لتفرطح الأرض عند القطبين. وسلمت أكاديمية العلوم بأن نيوتن كان على حق. واتخذت المقاييس التي حصلت عليها البعثتان بعد ذلك أساساً لتحديد المتر، والنظام المتري، والزمن الفكي المضبوط لمختلف الأماكن على سطح الأرض.
وقد عزا بوجيه انحرافات ميزان الاستقامة التي لاحظها في أرصاد بعثة بيرو إلى القوة الجاذبية لجبل شيمبورازو القريب. وبقياس الانحراف قدر كثافة الجبل، وعلى هذا الأساس حاول حساب كثافة الأرض. وواصل
_________
(1) العرض الفلكي هو البعد الزاوي بين الاستواء واتجاه ميزان للجاذبية في مكان معين. وزاول المكان هو الدائرة الكبرى التي تمر فوقه رأسا من القطب إلى القطب.(37/218)
هذا البحث نفيل ماسكلين، فلكي الملك وجورج الثالث (1774 - 78)، بإسقاطه ميزان الاستقامة تارة على جانب جبل جرانيتي في إسكتلندة وتارة على الجانب الآخر. وفي كلتا الحالتين انحرف الميزان نحو أثنتى عشرة ثانية زاوية نحو الجبل. واستنتج ماسكلين أن نسبة كثافة الأرض إلى كثافة الجبل هي نفس النسبة بين قوة جاذبية الأرض وانحراف الأثنتى عشرة ثانية، وعلى هذا الأساس قدر تشارلز هتن أن كثافة الأرض تقرب من 4,5 مرة من كثافة الماء - وهو رقم مقبول الآن عموماً، وقد توصل إليه نيوتن بما عهد فيه من حدس ذكي قبل قرن من الزمان.
جـ - الجيولوجيا
ظلت ضروب التحريم اللاهوتية تعرقل دراسة أصل الأرض، وعمرها، وتركيبها، والبحث في قشرتها وما دونها، وفي زلازلها، وبراكينها، وفوهاتها، وأحافيرها. وكانت الأحافير تفسر عموماً بأنها مخلفات كائنات بحرية تركتها على الأرض مياه انحسرت عقب طوفان نوح، الذي كان الاعتقاد أنه غطى الكرة الأرضية. وفي 1721 قرر أنطونيو فاللزنييري في كتابه عن الأجسام البحرية .... أن فيضاناً مؤقتاً لا يمكن أن يعلل راسباً من التكوينات البحرية بهذا الانتشار الواسع. ورأى أنطون مورو في كتابه "البندقية"، (1740) أن الأحافير قذفت بها ثورانات بركانية من البحر. فالأرض كانت في الأصل مغطاة بالماء، فدفعت النيران الباطنية اليابس الذي تحت الماء إلى فوق البحر الهابط، وكونت الجبال والقارات.
وقد خلف بنوا دماييه عند موته (1738) مخطوطة طبعت عام 1748 باسم "تياميد، أو لقاءات بين فيلسوف هندي ومراسل فرنسي" وقد ساق آراءه على لسان حكيم هندي، ولكن سرعان ما تبين أن "تياميد" ليس إلا "دمامية" مقلوباً، ولعل الزوبعة التي أثارها الكتاب قد صالحت بين مؤلفه وبين موته الذي أدركه في أوانه. ونظريته تزعم أن الأرض والجبال والأحافير لم تكونها الثورانات البركانية- بل الانحسار التدريجي للمياه التي غطت وجه الأرض فيما مضى من الزمان، وألمح ماييه إلى أن كل(37/219)
النباتات والحيوانات تطورت من كائنات بحرية مقابلة، لا بل الرجال والنساء تطوروا من أناسى البحر وعرائسه الذين فقدوا ذيولهم كما فقد الضفدع ذيله. وقد نشأ انحسار الماء عن البخر الذي هبط بمستوى البحر نحو ثلاثين قدماً كل ألف عام. وأنذر ماييه بأن المحيطات ستجف تماماً في النهاية، وستصعد النيران الباطنية إلى السطح وتفنى كل شئ حي.
ولعد "تياميد" بعام أصدر جورج لوى دبوفون أول مجلديه الرئيسيين اللذين أسهم بهما في علم وليد لم يزل مقمطاً في تكهنات لا سبيل إلى التثبيت من صحتها. وقد ألف "نظرية الأرض" (1749) وهو في الثانية والأربعين، " وحقب الطبيعة" (1779) وهو في الحادية والسبعين. وبدأ باحتياط على طريقة ديكارت، فسلم بدفعة أولى دفع الله بها العالم، وبعدها قدمت "النظرية" تفسيراً طبيعياً خالصاً للأحداث الكونية. وقد استبق آخر نظريات تكوين العالم بقرنين، إذ ذهب إلى أن الكواكب نشأت كشظايا انفصلت عن الشمس إثر مذنب قوي أو بفعل جذبه، فكل الكواكب إذن كانت في البداية كتلا منصهرة كالشمس الآن، ولكنها بالتدريج بردت وأظلمت في برد الفضاء. أما "الأيام" التي استغرقتها الخليقة في سفر التكوين فلا بد من تفسيرها على أنها حقب، قد نتبين منها سبعاً:
1 - اتخذت الأرض شكلها الكروي نتيجة لدورانها، ثم برد سطحها ببطئ (3. 000 سنة).
2 - تجمدت الأرض فأصبحت جسما جامداً (32. 000 سنة).
3 - تكاثفت الأبخرة التي غلفتها وكونت محيطاً عالمياً (25. 000 سنة).
4 - هبطت مياه هذا المحيط باختفائها في شقوق في قشرة الأرض، تاركة نباتاً على السطح، وأحافير على ارتفاعات شتى على اليابس (10. 000 سنة).
5 - ظهرت الحيوانات البرية (5. 000 سنة).
6 - فصل هبوط المحيط نصف الكرة الغربي عن نصفها الشرقي، وجرينلند عن أوربا، ونيوفوندلند عن أسبانيا، وترك الكثير من الجزر تبدو كأنها طالعة من البحر (5. 000 سنة).(37/220)
7 - تطور الإنسان (000ر5 سنة)
ولاحظ بوفون بجمع هذه الحقب معاً أن حاصلها 58. 000 سنة. ولعله كان يعجب لخيال الجيولوجيين الفائق في يومنا هذا، فهم يمدون عمر الأرض إلى أربعة بلايين سنة.
وقد أسس بوفون علم الأحافير (البليونتولوجي) بدراسته العظام المتحفزة واستنباطه الحقب المتعاقبة للحياة العضوية منها. ويتبين منظوره وأسلوبه من الأسطر الأولى التي استهل بها "حقب الطبيعة" إذ يقول:
"كما أننا في التاريخ المدني نرجع إلى ألقاب الناس، وندرس العملات والمداليات، ونفك رموز الكتابات القديمة، لنحدد عصور الثورات الإنسانية وتواريخ الأحداث في تاريخ المجتمع، فكذلك يجب علينا في التاريخ الطبيعي أن ننقب في محفوظات الدنيا، ونخرج من أحشاء الأرض الأثار القديمة، ونجمع بقاياها، ونحشد في مجموعة من الأدلة كل الإشارات على التغيرات الفيزيائية التي تتيح لنا الرجوع إلى مختلف عصور الطبيعة. وهذا سبيلنا الأوحد إلى تحديد بعض النقط في الفضاء الشاسع، ووضع عدد من الشواخص على الطريق الأبدي للزمن. وما أشبه الماضي بالمسافات فبصرنا به كان يتناقص بل يتلاشى لولا أن التاريخ والترتيب وضعا المعالم والمشاعل في أشد نقطه ظلاماً" (72).
ثم لأنه لم يتوصل إلى علم الأحافير إلا في شيخوخته كتب يقول:
"إنني أترك أسفاً هذه الأشياء الخلابة، هذه الآثار الثمينة التي خلفتها لنا الطبيعة القديمة، والتي لا تمهلني شيخوختي لفحصها فحصاً يكفي لأن أستخلص منها النتائج التي أتصورها، والتي ينبغي ألا تجد لها مكاناً في الكتاب لأنها لا تقوم إلا على الافتراض، في حين أنني جريت فيه على سنة، هي ألا أعرض فيه غير الحقائق المبنية على الواقع. وسيأتي من بعدي آخرون (73).
وكتابه "حقب الطبيعة" كان من أهم كتب القرن الثامن عشر. وقد أغدق عليه بوفون كل ما يملك من صنعة في الأسلوب، حتى أنه كتب بعض أجزائه(37/221)
من جديد سبع عشرة مرة (إذا صدقناه) (74). وسكب فيه كل قوة خياله حتى لقد بدا أنه يصف، عبر فجوة من ستين ألف عام، تصورات فكره وكأنها أحداث تنبسط أمام عينيه (1). وقد أشاد جريم بالكتاب لأنه "من أروع القصائد التي جرؤت الفلسفة على أن توحي بها" وقال كوفييه في حكمه عليه إنه "أذيع أعمال بوفون قاطبة، مكتوب بأسلوب رفيع حقاً" (76).
وفي هذه الأثناء حاول نفر من الدارسين أكثر تواضعا أن يرسموا خرائط لتوزيع المعادن في التربة. وقد ظفر جان جتار بثناء أكاديمية باريس للعلوم على كتابه "مذكرة وخريطة في علم المعادن" (1746) وبينما كان يبذل هذه المحاولة الأولى للقيام بمسح جيولوجي، اكتشف براكين خامدة في فرنسا، وعلل الرواسب المحيطة بها بأنها حمم متجمدة، والينابيع الحارة بأنها آخر مراحل هذه القوى البركانية. وحفز زلزال لشبونه جون متشل إلى إعداد "مقال في أسباب الزلازل وظواهرها" (1760)، وقد ذهب إلى أنها راجعة إلى الالتحام الفجائي بين النار والماء الباطنيين، مما أحدث بخراً متمدداً، وقد وجد هذا البخر منفذاً خلال البراكين والفوهات، ولكن إذا تعذرت هذه المخارج أحدثت اهتزازات في سطح الأرض. وهذه الأمواج الأرضية يمكن في رأي متشل رسمها لإيجاد بؤرة الزلزال. وهكذا تمخض علم الجيولوجيا الذي كان حدثاً بعد عن علم الزلازل.
كذلك اصبح علم طبقات الأرض فرعاً متخصصاً. فقد حار الناس في أصل طبقات القشرة الأرضية وتركيبها وتعاقبها. وأتاحت مناجم الفحم مفتاحاً لهذه الدراسات؛ ومن ثم قدم جون ستراتشي للجمعية الملكية (1709) "وصفاً غريباً للطبقات الأرضية لوحظ في مناجم فحم منديب بسمرستشير. " وفي 1762 أصدر جيورج كرستيان فوشزل أول خريطة جيولوجية مفصلة، ووصف "التكوينات" التسعة في تربة تورنجيا، وأرسى مفهوم "التكوين" باعتباره تعاقباً لطبقات تمثل في مجموعها حقبة جيولوجية.
_________
(1) عبر سانت-بوف عن هذا أروع تعبير: "قال الله لأيوب أين كنت حين أرسلت أساسات الأرض؟ " وكأني بمسيو ديوفون يقول لنا في غير انفعال "كنت هناك" (75).(37/222)
وتنازعت النظريات المتنافسة على أسباب هذه التكوينات. من ذلك أن أبراهام فرنر، الذي ظل اثنين وأربعين عاماً (1775 - 1817) يعلم في مدرسة المناجم بفرايبورج، جعل كرسي أستاذيته المقر الشعبي للرأي "النبتيوني"، وهو القائل بأن القارات، والجبال، والصخور، والطبقات قد نشأت كلها من فعل المياه، من هبوط محيط كان يوماً يغطي العالم-وهو هبوط بطئ أحياناً، مباغت أحياناً أخرى؛ فالصخور هي ترسب معادن تركها البحر جافة، والطبقات هي فترات هذا الانحسار ورواسبه.
وزاد هتن نار الجدل اشتعالا بتعليله تغيرات الأرض وتقلباتها. وقد أصبح هذا الرجل الذي ولد بأدنبرة في 1726، واحداً من ذلك الفريق الممتاز الذي ألف حركة التنوير الاسكتلندي-هيوم، وجون هوم، واللورد كيمس، وآدم سمت، وروبرتسن، وهتشسن، وماسكلين، ومكلورين، وجون بلايفير، وجوزف بلاك. تنقل من الطب إلى الكيمياء إلى الجيلوجيا، وما لبث أن تخلص إلى تاريخ كرتنا الأرضية استغرق أضعاف الآلاف الستة التي قال بها اللاهوتيون. ولاحظ أن الريح والمياه ينحران الجبال في بطئ ويرسبانها على السهول، وأن آلاف النهيرات تحمل إلى الأنهار، التي تحملها بعد ذلك إلى البحر، ولو استمرت هذه العملية إلى ما شاء الله لابتعلت المحيطات النهمة الثائرة قارات برمتها. ولعل جميع التكوينات الجيولوجيا نجمت عن هذه العمليات الطبيعية البطيئة كما نشهد اليوم في أي مزرعة تتعرى تربتها أو أي بحر يجور على اليابس، أو أي نهر قاعه في إصرار، تاركاً سجل مستوياته الهابطة على طبقات الصخور والتربة. وقد ذهب هتن إلى أن هذه التغيرات التدريجية هي الأسباب الأساسية لما يطرأ على أرضنا من تحول. وعنده أننا "في تفسيرنا للطبيعة، يجب ألا نستخدم قوي ليست من طبيعة الكرة الأرضية، وإلا نسلم بأي عمل إلا الأعمال التي نعرف مبدأها، وألا ندعى أي أحداث خارقة لنعلل بها ظاهرة شائعة" (77).
ولكن إذا سلمنا بأن هذا التحات ظل آلاف الآلاف من السنين، فلم لا تزال هناك على ظهر الأرض؛ ويرد هتن بأن السبب هو أن(37/223)
المواد التي أزالها التحات وتجمعت في قاع البحر تتعرض للضغط والحرارة، فهي تنصهر، وتتجمع، وتتمدد وتتصاعد، وتطلع من المياه لتكون الجزر والجبال، والقارات. إما أن هناك حرارة باطنية فالدليل عليه ثوران البراكين. فالتاريخ الجيولوجي إذن عملية دائرة، انقباض وانبساط شاسعان لا يفتآن يصبان القارات في البحار ويرفعان القارات الجديدة في قلب تلك البحار. وقد أطلق الدارسون الذين جاءوا بعد هتن على نظريته اسم "الفلكانية"، (نسبة لفلكان إله النار) لقيامها على تأثيرات الحرارة، أو "البلوتونية" نسبة إلى بلوتو الإله القديم للعالم السفلي.
وقد تردد هتن نفسه في نشر آرائه لأنه عرف أنها ستلقي المعارضة لا من المؤمنين بالعصمة الحرفية للكتاب المقدس فحسب، بل من "النبتيونيين" على نحو لا يقل حدة. وقد وجد هؤلاء مدافعاً متحمساً في روبرت جيمسن أستاذ الفلسفة الطبيعية في جامعة أدنبرة. وقد اقتصر هتن أول الأمر على شرح نظريته لنفر من أصدقائه، فلما ألحوا عليه قرأ بحثين في موضوعها على جمعية أدنبرة الملكية، الحديثة التشكيل، في 1785. وكان النقد الذي وجه إليها مهذباً حتى عام 1793، حين هاجمه عالم معادن دبلني بعبارات أثارت حنقه، فرد بنشره كتاباً من عيون الجيولوجيا عنوانه "نظرية الأرض" (1795). ومات بعد ذلك بسنتين. وبفضل كتاب جون بلايفير الواضح الأسلوب "إيضاحات لنظرية هتن" (1802)، انتقل مفهوم التغيرات العظمى الناجمة عن العمليات البطيئة إلى علوم أخرى غير الجيولوجيا، وأعد أوربا لتطبيق داروين لهذا المفهوم على أصل الأنواع وتسلسل الإنسان.
د - الجغرافيا
ولكن وجه الأرض أكثر استواء للدارسين من أحشائها. ولقد كان العرض المتصاعد لاختلافات البشر في العرق، والأنظمة، والأخلاق، والعقائد، عاملا قوياً في توسيع آفاق الذهن الحديث. ومضى ارتياد المجهولة برغبة في الاستطلاع وحب للتملك أكثر من أي عهد سبق،(37/224)
لا حبا في سواد عيون العلم، بل سعياً إلى المواد الخام، والذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، والطعام، والأسواق، والمستعمرات، وإلى رسم خرائط للبحار تضمن مزيداً من السلامة للملاحة في السلم والحرب. لا بل أن رحلة السفينة المتمردة "باونتي" (1789) كان هدفها الأصلي شتل شجرة فاكهة الخبز من بحار الجنوب إلى جزر الهند الغربية واشتد التنافس في هذه اللعبة بين الفرنسيين والهولنديين والإنجليز، وهم يعلمون أن السيادة على العالم رهن بنتيجة هذا التنافس.
وقد انبعثت من ذهن بطرس الأكبر رحلة من أجرأ رحلات الارتياد، إذ أنه قبل موته في 1725 كلف فينوس بيرنج، وكان قبطاناً دنمركياً في البحرية الروسية، بارتياد الساحل الشمالي لسيبيريا. وعينت أكاديمية سانت بطرسبورج فلكياً وطبيعياً ومؤرخاً لمرافقة البعثة وبعد أن سافر بيرنج إلى كمشاسكا براً، أبحر (1728) إلى خط عرض 67 (شمالا، واكتشف المضيق الذي يحمل اسمه، ثم عاد إلى سانت بطرسبورج. وفي رحلة ثانية بنى أسطولا في أوخوتسك وأبحر شرقاً حتى لمح أمريكا الشمالية (1741)؛ وهكذا اكتشف دنمركي تلك القارة من الغرب كما اكتشفها لايف إريكسن الإسكندنافي من الشرق. وفي رحلة العودة ضلت سفينة بيربج طريقها وسط ضباب كثيف، وأنفق الملاحون ستة أشهر على جزيرة لم يسبق أن سكنها أحد قرب كمشاسكا. وعلى هذه الجزيرة، التي تحمل هي أيضاً اسمه، مات الدنمركي العظيم من الأسقربوط (1741) وهو في الستين. واكتشف سفينته أخرى من سفن البعثة جزائر الوشيان. واستولت روسيا على ألسكا، وبعث المرسلون لتعريف الأسكيمو باللاهوت المسيحي ..
وحفز تقدم روسيا داخل أمريكا أمماً أخرى لارتياد المحيط الهادي فجردت إنجلترا في حربها مع أسبانيا (1740) أسطولا تحت إمرة جورج آنسن ليضيق الخناق على المستوطنات الإسبانية في أمريكا الجنوبية. وقد اهلك الأسقربوط أكثر ملاحيه، وحطمت الزوابع بعض مراكبه، ولكنه شق طريقه إلى المحيط الهادي الجنوبي، ووقف عند جزائر خوان فرنانديز،(37/225)
ووجد الدليل على أن ألكسندر سكرك (وهو روبنسن كروزو في رواية ديفو) كان هناك من قبل (1704 - 9). ثم عبر المحيط الهادي واستولى على غليون أسباني قرب الفلبين، وأخذ كنز الذهب والفضة الذي يحمله (1. 500. 000 دولار) وعبر المحيط الهندي ودار حول رأس الرجاء الصالح، وافلت من الأسطولين الأسباني والفرنسي اللذين حاولا اعتراضه. ثم وصل إلى إنجلترا في 15 يونيو 1744 بعد رحلة ثلاثة سنوات وتسعة أشهر. ونقلت غنيمة السبائك من سبتهيد إلى لندن في اثنتين وثلاثين عربة تصاحبها الموسيقى العسكرية. وصفقت إنجلترا كلها لآنسن ونفدت أربع طبعات من قصته في سنة واحدة.
وفي 1763 أوفدت الحكومة الفرنسية بعثة مماثلة على رأسها لوي أنطوان دبوجانفيل، تحمل تعليمات بإقامة مستوطنة فرنسية في جزر فوكلند؛ وقد أتاح لها موقعها على ثلاثمائة ميل شرقي مضيق مجللان قيمة حربية، لأنها تشرف على المعبر من الأطلنطي إلى الهادي. وقد أنجز مهمته وعاد إلى فرنسا. وفي 1765 أبحر ثانية، وعبر المضيق إلى المحيط الهادي ووصل إلى تاهيتي (1768). التي كان صموئيل واليس قد اكتشفها قبل ذلك بسنة-واستولى عليها لفرنسا، واكتشف مجموعة جزر ساموا وهيريد الجديدة، ودار حول رأس الرجاء الصالح، ووصل إلى فرنسا في 1769، وجلب معه من أقاليم الباسفيك المدارية نبات البوجانفليا المتعرش (الجهنمية). وقد ركزت روايته لرحلته على مناخ تاهيتي اللطيف، وما يتمتع به الأهالي من صحة سابغة، وطبيعة خيرة، وخلق أنيس: وسنلتقي بديدرو معقباً في حسد على هذا التقرير في كتابه "ملحق لرحلة بوجانفيل".
وفي 1764 كلفت الحكومة البريطانية الكابتن جون بايرون أن يضع يده على أرض تفيدها في البحار الجنوبية. فرسا على فورت إجمونت في جزر فوكلند، واستولى على الجزر الإنجليزية وهو لا يدري أن الفرنسيين كانوا هناك فعلا. وادعت أسبانيا أن لها حقاً أسبق في تملك الجزر، فأذعنت لها فرنسا، ثم أذعنت إسبانيا لإنجلترا (1771) وتطالب بها الأرجنتين اليوم.(37/226)
وواصل بايرون رحلته حول الكرة الأرضية، ولكنه لم يترك على التاريخ أكثر من هذه البصمة. وكان في رحلة سابقة، أثناء عمله ضابط صف تحت إمرة آنسن قد تحطمت فيه السفينة على ساحل شيلي (1741)، وقد استخدم حفيده اللورد بايرون روايته لهذا الحادث في قصيدته "دون جوان"
أما أبرز رائد في رواد القرن الثامن عشر في نظر الشعوب الناطقة بالإنجليزية فهو الكابتن جيمس كوك. كان ابن فلاح في مزرعة، ألحق وهو في الثانية عشر ببائع خردات، فلما لم يجد في بيع الملابس الداخلية ما يشبع شوقه للمغامرة التحق بالبحرية، وعمل "ملاحظا بحرياً" على طول سواحل نيوفوندلند، وذاعت شهرته رياضياً، وفلكياً، وملاحاً، وفي 1768، حين بلغ الخمسين، اختير لرآسة بعثة تسجل مرور كوكب الزهرة، وتقوم بأبحاث جغرافية في المحيط الهادي الجنوبي. فأبحر في 25 أغسطس على السفينة "إندفر" بصحبة عدة علماء، جهز أحدهم وهو السر جوزف بانكس السفينة من ماله الخاص (1). وشوهد مرور الزهرة في تاهيتي في 3 يونيو 1769. ومنها أبحر كوك باحثاً عن قارة كبرى (تيرا أوستراليس) زعم بعض الجغرافيين أنها تختبئ في بحار الجنوب. فلم يجد شيئاً، ولكنه ارتاد جزر سوسايتي وسواحل نيوزيلندة، ورسم لها خرائط بعناية: ثم واصل رحلته إلى استراليا (التي عرفت يومها بهولندا الجديدة)، واستولى على ساحلها الشرقي لبريطانيا العظمى، وأبحر حول أفريقيا، ووصل إلى إنجلترا في 12 يونيو 1771.
وفي 13 يوليو 1772، ركب البحر من جديد، ومعه السفينتان رزوليوس وإندفر، بحثاً عن القارة الجنوبية المزعومة. وقد حرث البحر شرقاً وجنوباً بين رأس الرجاء الصالح ونيوزيلندة، وعبر الدائرة القطبية الجنوبية إلى خط الطافية على العودة، وزار جزيرة إيستر وكتب وصفاً
_________
(1) عمل رئيسا لجمعية لندن الملكية من 1778 إلى 1820، وأوصى بمكتبته ومجموعاته المتحف البريطاني.(37/227)
لتماثيلها العملاقة. ورسم خرائط لجزر ماركيزا وتونجا، وسمى هذه "فرندلي" أي الجزيرة الصديقة لما خبر في أهلها من لطف ودماثة الخلق. واكتشف كلدونيا الجديدة، وجزيرة نورفوك، وجزيرة باينز (كوني). وعبر المحيط الهادي الجنوبي شرقاً إلى رأس هورن، وواصل الرحلة عبر الأطلنطي الجنوبي إلى رأس الرجاء الصالح، ثم أبحر شمالا إلى إنجلترا، فرسا على برها في 25 يوليو 1775 بعد رحلة قطع فيها نيفاً وستين ألف ميل و 1. 107 يوماً.
أما بعثته الثالثة فقد التمست طريقاً مائياً من ألسكا عبر أمريكا الشمالية إلى الأطلنطي. وقد أقلع من بليموث في 12 يوليو، ومعه السفينتان رزوايوشن وسكفري، وطاف حول رأس الرجاء الصالح، ووصل بر تاهيتي ثانية، ومضى شمالا بشرق، ووقع على أعظم كشوفه، هي جزر هاواي (فبراير 1778) التي كان الملاح الإسباني خوان جيتانو قد رآها في 1555، ولكن أوربا نسيتها أكثر من قرنين. وبعد أن واصل كوك الرحلة إلى الشمال الشرقي وصل إلى ما نسميه الآن بولاية أوريجون، ومسح ساحل أمريكا الشمالية إلى مضيق بيرنج ووراءه حتى الحدود الشمالية لألسكا. وعند عرض 70. 41 (شمالا عاق تقدمه جدار من الجليد يرتفع اثنى عشر قدماً فوق البحر ويمتد إلى آخر ما يصل إليه بصر الرقيب. وعاد كوك إلى هاواي بعد أن أخفق في بحثه عن ممر شمالي شرقي عبر أمريكا. وهناك لقي مصرعه حيث لقي من قبل ترحيباً ودياً. ذلك أن الأهالي كانوا لطفاء ولكنهم يميلون إلى السرقة، فسرقوا قارباً من قوارب السفينة "دسكفري"، وقاد كوك نفراً من رجاله ليسترده، فنجحوا في استرداد القارب، ولكن الأهالي الحانقين أحاطوا بكوك الذي أصر على أن يكون آخر من بيرج الساحل. فأوسعوه ضرباً حتى مات (14 فبراير 1779)، وكان في الحادية والخمسين من عمره. وتكرمه إنجلترا بوصفه أعظم روادها البحرين وأنبلهم، وباعتباره عالماً مهذباً، وقبطاناً شجاعاً محبوباً من جميع ملاحيه.
ولا تكاد تقل عن هذه البعثات بسالة تلك البعثة التي قادها جان فرانسوا دجالوب، وكونت لابيروز، الذي كلفته الحكومات الفرنسية بأن يتابع(37/228)
كشف كوك. فأبحر في 1785 حول أمريكا الجنوبية ثم مصعدا إلى ألسكا وعبر إلى آسيا، وكان أول أوربي يمر بالمضيق (الذي كان يحمل اسمه على عهد قريب) الواقع بين سخالين الروسية وهوكايدو اليابانية. ثم اتجه إلى الجنوب وارتاد ساحل استراليا وبلغ جزر سانتا كروز. ويبدو أن سفينته تحطمت هناك (1788) لأن أحداً لم يسمع بخبره قط.
وكان ارتياد اليابس هو أيضاً تحدياً لشهوة المغامرة والكسب. ففي 1716 وصل مراسل يسوعي إلى لحاسا-مدينة التبت "المحرمة" وارتاد كاستن بيبور ووصف جزيرة العرب، وفلسطين، وسوريا، وآسيا الصغرى، وفارس (1761). وجاب جيمس بروس شرق أفريقيا واكتشف من جديد منبع النيل الأزرق (1768). وفي أمريكا الشمالية أسس الرواد الفرنسيون نيو أورليان (1718) وتحركوا شمالا على طول المسسبي إلى المسوري. وفي كندا كافحوا ليصلوا إلى المحيط الهادي، ولكن جبال روكي كانت عقبة كؤودا. وفي هذه الأثناء تقدم المستعمرون الإنجليز في الداخل إلى نهر أوهايو، وفتح الرهبان الأسبان الطريق لمن بعدهم من المكسيك عبر كاليفورينا الشمالية أن تصبح إحدى المغانم التي يصطرع عليها المقاتلون في حرب السنين السبع. وفي أمريكا الجنوبية قاد لاكوندامين من منابع الأمازون قرب كيتو إلى مصبه عند الأطلنطي، على بعد أربعة آلاف ميل بعد أن قاس درجة عرضية عند خط الاستواء.
وعجز رسامو الخرائط الجغرافية عن اللحاق بالرواد. فخلال نصف قرن (1744 - 93) أصدر سيزار فرنسوا كاسيني وابنه حاك دومنيك في 184 فرخ متوال خريطة لفرنسا طولها 36 قدماً وعرضها 36 قدماً، تبين في تفصيل لم يسبق له نظير، جميع الطرق، والأنهار، والأديار، والمزارع، والمصانع، وحتى ما وضع على جانب الطرق من صلبان ومشانق. وفي 1766 نشر توربيرن ألوف بيرجمان، الذي لم يقنع واحداً من أعظم كيميائي القرن الثامن عشر، "وصفاً للعالم" لخص فيه الميتورولوجيا، والجيولوجيا، والجغرافيا الطبيعية في عصره. وذهب إلى أن كثيراً من الجزر هي قمم(37/229)
لسلاسل جبلية غمر أكثرها في الماء، فجزر الهند الغربية قد تكون مخلفات سلسلة ربطت يوماً ما فلوريدا بأمريكا الجنوبية. أما أوراس دسوسير، فبعد أن قضي أربعة وعشرين عاماً أستاذاً للفلسفة في جامعة جنيف، ارتقى جبل مور بلان (1787) وجبل كلاين ماترهورن (1792) ارتقائين مشهورين، وكتب دراسات ضخمة لجبال سويسرا من حيث أحوالها الجوية، وتكويناتها، وطبقاتها، وأحافيرها، ونباتاتها، فجمع بذلك جمعاً رائعاً بين الميتورولوجيا، والجيولوجيا، والجغرافيا، والنبات. لنتذكر حين يقال لنا أن التاريخ هو "تقويم نيوجيت"للأمم، أنه كذلك سجل لمئات من ضروب البطولة والشرف.
8 - النبات
أ- لينيوس
وهكذا نصل في قصتنا إلى الحياة! فبعد أن طور المكرسكوب المركب أصبح في الإمكان فحص تكوين النباتات فحصاً أدق، يصل إلى خفايا جنسها. وشب علم النبات عن الطوق فلم يعد تابعاً للطب، ورسم لينيوس عالم الحياة المكتظ بعناية راهب العلم وتفانيه.
وكان أبوه نيلز لينيه، راعياً لشعب لوثري في شتنبر وهولت بالسويد. ومن العسير جداً على قسيس أن يحتفظ بتقواه، ولكن كارل استطاع ذلك، ووجد في عالم النبات على الأخص أسباباً لا حصر لها تدعوه لشكر الخالق. والحق إن هناك لحظات تبدو فيها الحياة رائعة الجمال بحيث لا يمكن أن يكفر بالآلهة غير إنسان جحود.
وكان نيلز بستانياً متحمساً، أحب اقتناء الأشجار المنتقاة والأزهار النادرة وغرسها في التربة من حول مسكنه كأنها تسبيحة حية. وكانت هذه لعب كارل وأصفيائه في صباه، فشب (كما يروي لنا) وفي قلبه "حب للبنات لا يرتوي" (78). وما أكثر ما "زوغ" من المدرسة ليجمع عينات في الغابات والحقول. وكان أبوه تواقاً ولده قسيساً، لأن الصبي كان(37/230)
آية في الطيبة، وقد تعلم بالقدوة خيراً مما يعلم بالعقيدة، ولكن كارل مال إلى الطب لأنه رأى فيه المهنة الوحيدة التي يستطيع فيها الجمع بين الاشتغال بالنبات وكسب قوته. وعليه ففي 1727، حين كان في العشرين من عمره، قيد طالب طب في جامعة لوند. وبعد عام أرسل إلى أوبسالا حاملاً توصيات حارة من معلميه. ولم يستطع أن يتلقى الكثير من العون المادي من أبويه لأنه كان واحداً من خمسة أبناء لهما. وإذ أعجزه الفقر عن ترقيع حذائه فقد فرشه بالورق ليغطي ثقوبه ويتقي بعض البرد. أما وقد تهيأت له حوافز الدرس فإنه تقدم حثيثاً في دراسة النبات والطب. وفي 1731 عين محاضراً مساعداً في النبات ومدرساً خاصاً في بيت الأستاذ رودبيك، الذي كان أباً لأربعة وعشرين طفلا، فكتب يقول "إنني الآن بفضل الله أملك دخلا" (79).
فلما قررت جمعية أوبسالا العلمية إيفاد بعثة لدراسة نباتات لابلاند، أختير لينيوس لرآستها. وبدأ هو ومساعدوه الشبان الرحلة في 12 مايو 1732. وقد وصف رحيلهم بأسلوبه الزاهي بطبيعته فقال:
كان الجو مشرقاً لطيفاً، وأضفى نسيم عليل هب من الغرب على الهواء برودة منعشة ... وكانت براعم أشجار البتولا قد بدأت تتفتح، والأوراق على معظم الشجر متوافرة، ولم يبق عارياً غير الدردار والبلوط. وكانت القبرة تصدح في العلا. وبعد أن قطعنا ميلا أو نحوه جئنا إلى مدخل غابة، وهناك فارقتنا القبرة، ولكن على قمة شجرة الصنوبر راح الشحرور يتدفق بأغنية حبه" (80).
وهذا الوصف ينبئ بطبع لينيوس؛ فقد كان يقظاً أبداً بكل جوارحه لمشاهد الطبيعة، وأصواتها، وعبيرها؛ ولم يسلم قط بأي فرق بين علم النبات والشعر. وقد قاد جماعته فوق 1,440 ميلا من لابلاند، خلال عشرات المخاطر والمشاق، ثم عاد بهم سالمين إلى أوبسالا في 10 سبتمبر.
وإذ كان لا يزال رقيق الحال، فقد حاول أن يكسب قوته بالتدريس في الجامعة، ولكن غريماً له أفلح في حظر محاضراته بدعوى أن لينيوس لم يكمل بعد دراسته الطبية أو ينال درجته الجامعية. وكان كارل في هذه(37/231)
الأثناء قد وقع في غرام "ليزا" -وهي سارة إليزابث مورايا، ابنة طبيب محلي. فقدمت له مدخراتها، وأضاف إليها مدخراته، وإذ تهيأ له المال على هذا النحو فقد انطلق ميمماً هولندا (1735). وفي جامعة هاردرفيك فاز في امتحاناته ونال درجته الطبية. وبعد عام التقى في لندن بيوبرهافي العظيم، وكاد ينسى ليزا. وأصدر لينيوس كتاباً من أمهات كتب النبات بإلهام وعون من ذلك النبيل العالم، وهو "نظام الطبيعة". وقد طبع أثنتى عشرة مرة في حياته، وكان يتألف في الطبعة الأولى من أربعة عشر فرخاً فقط من القطع الكبير، أما في الطبعة الثانية عشرة فقد أزداد إلى 2. 300 صفحة، في ثلاث مجلدات من قطع الثمن، وعلى مقربة من أمستردام تزود بما نقصه من مال بإعادة تنظيم المجموعة النباتية التي يملكها جورج كليفورت وعمل قوائم بها، وكان كليفورت هذا مديراً لشركة الهند الشرقية. فأخرج في 1736، بهمة قعساء، "مكتبة النبات". وفي 1737 "أجناس النبات". وفي 1738 قصد باريس ليدرس الجاردان دووا. وهناك، دون أن يقدم نفسه، انضم إلى مجموعة من الطلاب كان برنار دجوسيو يحاضرهم باللاتينية في نباتات دخيلة: وقد حير الأستاذ نبات منها، واجترأ لينيوس على إبداء رأى فقال أن لهذا النبات مظهراً أمريكياً: ونظر إليه دجوسيو، وقال وهو يحزر هويته "أنت لينيوس"؛ واعترف كارل، وبأخوه العلم الرائعة رحب به دجوسيو ترحيباً حاراً (81). وعرض على لينيوس منصب الأستاذية في باريس، ولندن، وجوتنجن، ولكنه رأى أن قد آن الأوان ليعود إلى ليزا (1739). ولم تكن مثل هذه الخطبات الطويلة بالأمر الشاذ في تلك الأيام ولعلها عاونت في كثير من الحالات على استقرار الخلق ونضج الشخصية. وتزوجا، واستقر كارل في أستوكهولم طبيباً.
وظل حيناً يترقب عبثاً مجيء المرضى كما يفعل أي طبيب ناشئ. وذات يوم سمع وهو في حانة شاباً يشكو من أن أحداً لم يستطع شفاءه من السيلان. وشفاه لينيوس، ومالبث غيره من الشبان اشتد بهم الشوق لإثبات رجولتهم أن جاءوه ملتمسين الشفاء. وامتدت خبرة الطبيب إلى أمراض الرئتين وتعرف إليه الكونت كارل جوستاف تسين، رئيس مجلس النبلاء(37/232)
في الركزداج، وحصل له على وظيفة طبيب للبحرية (1739). في ذلك العام ساعد لينيوس في إنشاء أكاديمية العلوم الملكية، وأصبح أول عميد لها. وفي خريف 1741 اختير أستاذاً للتشريح في أوبسالا. وسرعان ما استبدل بكرسيه كرسي النبات، والمواد الطبية، والتاريخ الطبيعي (الجيولوجيا والأحياء)، وهكذا وضع الرجل المناسب في المكان المناسب أخيراً. وقد بث في تلاميذه تحمسه للنبات، وكان يعمل معهم في صداقة لا تكلف فيها، وأسعد أوقاته حين يأخذهم في جولة من جولات التاريخ الطبيعي. يقول:
كنا نقوم برحلات كثيرة بحثاً عن النبات، والحشرات، والطيور، ففي الأربعاء والسبت من كل أسبوع نجمع الأعشاب من الفجر إلى العشية ثم يعود التلاميذ إلى الميدان واضعين الأزهار على قبعاتهم، ويصحبون أستاذهم إلى حديقته، يتقدمهم موسيقيون بسطاء. ذلك منتهى الروعة في علمنا اللذيذ" (82).
وقد أوفد بعض طلابه إلى شتى بقاع الأرض ليأتوه بالنباتات الغريبة، وحصل لهؤلاء الرواد الصغار (الذين ضحى بعضهم بحياته في بحثهم هذا) على الإعفاء من أجرة الرحلة على سفن شركة الهند الشرقية الهولندية. وحفزهم بالأمل في إضافة أسمائهم للنباتات في نظام التسمية الكبير الذي كان بصدد إعداده. وقد لاحظوا أنه أطلق اسم "كاميليا" على الشجيرة المزهرة التي عثر عليها اليسوعي جورج كاميل في الفلبين.
وقد أقام بجهده المتصل تصنيفه الضخم للنبات في كتبه "نظام الطبيعة" و"أجناس النبات" و"زيت النبات" (1738)، و"فلسفة النبات" (1751) و"أنواع النبات" (1753) وقد سبقه نفر من علماء النبات إلى هذه المهمة، نخص بالذكر منهم بوهن وتورنفور، وكان ريفينوس قد اقترح (1690) طريقة ثنائية لتسمية النباتات. ولكن رغم هذه الجهود وجد لينيوس مجموعات عصره في حالة من الخلل عطلت الدراسة العلمية للنباتات تعطيلاً خطراً. فقد اكتشفت مئات الأنواع الجديدة التي(37/233)
أطلق عليها علماء النبات أسماء متضاربة. وأخذ لينيوس على عاتقه تصنيف جميع النباتات المعروفة أولا حسب طائفتها، وفي طائفتها حسب رتبتها، وفي رتبتها حسب جنسها، وفي جنسها حسب نوعها؛ وهكذا توصل إلى اسم لاتيني مقبول دولياً. واتخذ أساساً لتصنيفه وجود وطبيعة الأعضاء التناسلية الواضحة أو عدم وجودها، فقسم النباتات إلى "نباتات زهرية" وهي التي لها أعضاء تناسل ظاهرة (أزهارها) و"نباتات لا زهرية" ليس لها أزهار تخرج بروزاً وهياكلها التناسلية مخفاة أو غير واضحة (كما في الطحلب والسرخس).
وقد اعترضت بعض النفوس الخجولة على هذا التركيز على الجنس لأنه سيؤثر تأثيراً خطراً على خيال الشباب (83). ولكن نقاداً أصلب وأجرأ بينوا خلال الأعوام المائة التالية عيوباً أهم في تصنيف لينيوس، فقالوا إنه غلا في الاهتمام بإيجاد أركان وأسماء للنباتات غلواً جعله يحول علم النبات حيناً عن دراسة وظائف النباتات وأشكالها. ولما كان تغير الأنواع سيشوش النظام الذي وضعه، فضلا عن تناقضه مع سفر التكوين، لذلك وضع مبدأ مؤداه أن جميع الأنواع خلقها الله مباشرة وظلت دون تغيير طوال تاريخها. وقد عدل من هذا الموقف التقليدي في تاريخ لاحق (1762) بإلماعه إلى أن أنواعاً جديدة قد تظهر نتيجة لتهجين الأنواع المتقاربة. ومع أنه تناول الإنسان (الذي سماه في ثقة واطمئنان "هومو سابينز" أي الإنسان العاقل) بوصفه جزءاً من مملكة الحيوان، وصنفه نوعاً في رتبة الحيوانات العليا، جنباً إلى جنب مع القرد، فإن نظامه عطل نمو الأفكار التطورية.
وقد انتقد بوفون تصنيف لينيوس، على أساس أن الأجناس والأنواع ليست أشياء موضوعية، إنما هي مجرد أسماء لتقسيمات عقلية مريحة لواقع معقد، تذوب فيه جميع الرتب، عند أطرافها، بعضها في البعض، فلا شئ يوجد خارج الذهن، إلا الأفراد؛ هنا نجد جدل العصور الوسطى القديم بين الواقعية والاسمية. أما لينيوس فرد (مثبتاً أنه بشر) بأن بلاغة بوفون يجب ألا يسمح لها بأن تخدع العالم، ورفض أن يأكل في قاعة علقت فيها صورة بوفون مع صورته (85). على أنه سلم في لحظة أكثر سماحة أن(37/234)
ترتيبه ناقص، وأن تصنيف النباتات حسب الجهاز التناسلي ترك أطرافاً كثيرة غير محكمة؛ وفي كتابه "فلسفة علم النبات" اقترح نظاماً طبيعياً مبنياً على شكل أعضاء النبات وتطورها. وقد تبين أن نظام التسمية الذي وضعه لا التصنيف، مريح جداً، سواء في علمي النبات والحيوان، وما زال سائداً مع تعديلات أدخلت عليه.
وكرمت أوربا كلها لينيوس في شيخوخته أميراً لعلماء النبات. ففي 1761 خلع عليه الملك لقب الفروسية، فأصبح اسمه كارل فون لينيه. وبعد عشر سنوات تلقى خطاب حب من ثاني أشهر مؤلف في القرن وهو جان جاك روسو، الذي ترجم "فلسفة علم النبات"، ووجد في الاشتغال بالنبات دواء للفلسفة. قال "تقبل أيها السيد الكريم ولاء تلميذ من تلاميذك، جاهل جداً، متحمس جداً، يدين ديناً كبيراً للتأمل في كتاباتك في السكينة التي ينعم بها ... إنني أكرمك، وأحبك من كل قلبي (86).
ومات لينيوس، كروسو وفولتير، عام 1778. وباعت أرملته مكتبته ومجموعاته إلى جيمس إدوارد سمث، الذي اشترك مع آخرين (1788) في تأسيس "جمعية لينيوس اللندنية" للعناية بتراث لينيوس ومن ذلك المركز أذاعت سلسلة طويلة من المطبوعات جهود عالم النبات في جميع أرجاء أوربا وأمريكا وقد قرر جوته أن أعظم التأثيرات في حياته العقلية كان الفضل فيها لشكسبير، وسيينوزا ولينيوس (87).
ب - في الكرمة
واصل مئات من الدارسين المخلصين البحث في علم النبات. ففي فرنسا مثلا نجد أسرة من أسر الفحول التي يربط أعضاءها تكريس مشترك للحياة عبر القرون. وقد ارتقى رب هذه الأسرة، إنطوان دجوسيو، الذي وفد على باريس من ليون، ليصبح مدير للجاردان دوروا في 1708. وكان أخوه الأصغر برنار محاضراً و"معيداً" هناك؛ وقد رأيناه يرحب بلينيوس. وذهب أخ آخر يدعى جوزف إلى أمريكا الجنوبية في صحبة لاكوندامين، وأرسل نوعاً من عباد الشمس يسمى Heliotropium peruvianum(37/235)
شتله في أوربا. وفي 1789 نشر ابن أخ له يدعى أنطوان لوران دي جوسيو كتاباً بدأ محل النظام وضعه لينيوس واسمه Genera plantarum secundum ordines naturales disposita وقد صنفت النباتات مورفولوجياً (أي حسب أشكالها) بناء على وجود أوراق البزار أو عدم وجودها، أو عددها؛ فما ليس له أوراق عديم الفلقة، وما له ورقة واحدة سماه "وحيد الفلقة" وما له ورقتان "ثنائي الفلقة". وواصل ابنه أدريان عملهم في القرن التاسع عشر. وفي 1824 وضع أوجستن وكاندول خطوط التصنيف الذي يتقبله علماء النبات اليوم بعد أن أقامه على جهود أسرة جوسيو.
وقد اكتشف نحميا جرو جنسانية النباتات عام 1682 أو قبل ذلك، وأيد كاميراريوس هذا الكشف في 1691. وأنهى كوطن ماذر من بوسطن إلى جمعية لندن الملكية (1716) تجربة تهجين بطريق التلقيح بالريح.
زرع جاري خطاً من الكومات في حقل ذرة، وكان لون الحب أحمر وأزرق، أما باقي الحقل فزرعه ذرة من اللون الأعم وهو الأصفر. فعدى هذا الصف في الجانب الذي يواجه الريح أكثر من غيره، أربعة من الصفوف المجاورة ... ليلونها بلونيه (الأحمر والأزرق) اللذين ظهرا عليه. أما على الجانب المتجه مع الريح، فقد تلون بهذين اللونين مالا يقل عن سبعة خطوط أو ثمانية، وتأثرت الخطوط الأبعد تأثيراً أقل" (88).
وفي 1717 برهن رتشارد برادلي على ضرورة الإخصاب بتجربة أجراها على أزهار الطوليب (الحزامي). فقد نزع كل اللقاح من اثنتى عشرة زهرة منها "مكتملة الصحة"؛ فلم تحمل هذه أي برز طوال الصيف ... في حين أن كل زهرة من الأربعمائة التي تركها وشأنها أخرجت برزاً" (89) وقد درس التلقيح المختلط وتنبأ بنتائج خلابة له "فقد نستطيع بهذه المعرفة أن نغير خاصية أي فاكهة بلقاح أخرى من نفس الرتبة ولكن من نوع مختلف". يضاف إلى هذا أنه في قدرة شخص محب للاستطلاع أن يستعين بهذه المعرفة على إنتاج أنواع نادرة من النبات لم يسمع(37/236)
بها إلى الآن. وروى كيف أن توماس فيرتشايلد أنبت نوعاً جديداً "من حبة لقحت زهرة القرنفل الملتحي Sweet William وقد وجد أن هذه المجنات من الأنواع عقيمة، وشبهها بالبغال.
وفي 1721 روى فليب ملر أول وصف معروف لتلقيح النحل للنبات. فقد نزع "قمم" بعض الأزهار قبل أن تستطيع أن "تنفض غبارها"، ومع ذلك فإن برزة هذه الأزهار العنينة في الظاهر نضجت نضجاً سوياً. وقد تشكك الأصدقاء في روايته فكرر التجربة بمزيد من العناية، فحصل على النتيجة ذاتها. قال:
بعد يومين، وبينما كنت جالساً في حديقتي، شاهدت في حوض طوليب قريب مني بعض النحل تنشط نشاطاً شديداً وسط الأزهار؛ ورأيتها وأنا ألحظها تخرج وأرجلها وبطونها محملة بالغبار، وطار ذكر فيها إلى طوليبة كنت قد خصبتها، وعلى الفور تناولت مجهري وفحصت الطوليبة التي طار إليها، فوجدت أنه ترك من الغبار ما يكفي لتلقيح الطوليبة. فلما أخبرت أصدقائي بما حدث .... عادوا للاطمئنان إلى روايتي ... فما لم يتخذ احتياط لمنع الحشرات من الدخول إلى النباتات، فإن هذه النباتات تقبل التلقيح من حشرات أصغر كثيراً من النحل" (90).
وقد أجرى كولرويتر، أستاذ التاريخ الطبيعي في كارلسروهي، دراسة خاصة (1760 وما بعدها) للاخصاب المختلط وفيزيوكيميائية التلقيح، كان لتجاربه الخمس والستين أثر هائل على الزراعة في عدة قارات. فقد انتهى إلى أن التهجين لا يثمر إلا في النباتات الوثيقة التقارب؛ ولكنه إذا نجح نمت المهجنات بسرعة أكبر، وأزهرت أسرع، وعاشت أطول، وأخرجت براعم صغيرة أوفر من الأنواع الأصلية، ولا يضعفها إنماء الحب. وأثبت كونراند شرنجل (1793) أن الإخصاب المختلط- بواسطة الحشرات عادة، وأقل من ذلك بواسطة الريح -يعم داخل النوع، وزعم في اقتناع غائي حار أن شكل الأجزاء في كثير من الأزهار وترتيب هذه الأجزاء مقصود به الإخصاب الذاتي. وفتح يوهان هدفج ميداناً جديداً للبحث(37/237)
بدراسة عملية الإنسان في النباتات اللازهرية (1782) وفيما بين عامي 1788، 1791 أصدر يوزف جيرتز الأستاذ بجامعة فورتمبرج، على دفعتين، مسحه الموسوعي لفاكهة النباتات وبارها، وقد أصبح هذا المسح أساساً لعلم النبات في القرن التاسع عشر.
وفي 1759 أعلن كسبار فريدرش فولف في كتابه "نظرية الأجيال" نظرية في تطور النبات تعزى عادة إلى جوته.
"عندما أنظر إلى النبات بجملته، الذي نعجب لأجزائه لأنها تبدو لأول وهلة شديدة التنوع، لا أرى فيه وأميز نهائياً غير الأوراق والساق، لأن الجذر يمكن اعتباره ساقاً ... وكا أجزاء النبات، باستثناء الساق، أوراق معدلة" (91).
وخلال ذلك ارتاد خفايا تغذية النبات أحد أساطين العلم في القرن الثامن عشر، وهو ستيفن هيلز. وكان واحداً من أولئك القساوسة الإنجليكان الكثيرين الذين لم يجدوا في لاهوتهم الطيع ما يعوقهم عن الاشتغال بالعلم أو الدراسات القديمة. ومع أنه تقبل عقيدة القصد الإلهي، فإنه لم يستخدمها في تحقيقاته العلمية وفي 1727 نشر النتائج التي خلص إليها في كتاب من أمهات كتب النبات "استاتيكا النبات .... نحو تاريخ طبيعي للنبات". وقد شرحت المقدمة هدفه:
"قبل عشرين عاماً أجريت عدة تجارب شريانية على الكلاب، وبعد ستة أعوام كررت التجارب ذاتها على الخيل وغيرها من الحيوانات لكي أجد قوة الدم في الشرايين (وهو ما نعرفه بضغط الدم الانقباضي ( ... وتمنيت وقتها لو استطعت إجراء تجارب لاكتشاف قوة العصارة في الخضراوات، ولكني يئست من إمكان إجرائها إطلاقاً، إلى أن وقعت عليها مصادفة قبل سبع سنوات بينما كنت أحاول بشتى الطرق أن أقف نزف ساق كرمة قديمة (92) ".
وكان كشف هارفي للدورة الدموية في الحيوان قد أدى بعلماء النبات إلى افتراض حركة مماثلة للسوائل في النبات. وقد نقض هيلز هذا الفرض(37/238)
بتجارب بينت شجرة تمتص الماء في أطراف أغصانها ما تمتصه بجذورها؛ وقد تحرك الماء إلى الداخل من الأغصان إلى الجذع كما تحرك من الجذع إلى الأغصان؛ واستطاع قياس الامتصاص. على أن العصارة تحركت إلى أعلى من الجذور إلى الأوراق بفضل ضغط العصارة المنتشرة في الجذور. وامتصت الأوراق غذاءها من الهواء.
عند هذه النقطة أثار بريستلي الذكي المشكلة بكشف من ألمع كشوف القرن- هو تمثيل أكسيد الكربون الذي تخرجه الحيوانات في زفيرها، تمثيلا غذائياً، بواسطة كلورفيل النباتات في ضوء الشمس. وقد وصف هذا الشطر من عمله في المجلد الأول (1774) من كتابه "تجارب ومشاهدات" قال:
"أخذت كمية من الهواء فسدت فساداً تاماً نتيجة لتنفس الفئران وموتها فيها، وقسمتها قسمين، وضعت أحدهما في قنينة مغمورة في الماء، ووضعت في الآخر فرعاً من النعناع، وكان هذا القسم محتوى "في أبريق زجاجي قائم في الماء. كان هذا في بواكير أغسطس 1771، وبعد مضي ثمانية أيام أو تسعة وجدت أن فأراً يحيا في تمام الصحة في قسم الهواء الذي نما فيه فرع النعناع، ولكنه مات لحظة أن وضعته في القسم الآخر من نفس كمية الهواء الأصلية، والذي حفظته في نفس الوضع المكشوف ولكن دون أن ينمو فيه أي نبات".
وبعد عدة تجارب مشابهة خلص بريستلي إلى أن:
"الضرر الذي يلحق بالهواء باستمرار تنفس هذا العدد الكبير من الحيوانات، وتعفن هذه الكتل الكبيرة من المادة النباتية والحيوانية، تصلحه -جزئياً على الأقل- الكائنات النباتية. ورغم ضخامة كمية الهواء الذي يفسد يومياً من جراء الأسباب السالفة الذكر، فإننا إذا أخذنا في حسابنا المقدار الهائل من النباتات النامية على وجه الأرض .... لم يخامرنا شك في أنه هذا موازن كاف لذاك، وأن الدواء شاف من الداء" (93).(37/239)
وفي 1764 تعرف بان إنجنهوز إلى بريستلي، وكان عالم أحياء هولندياً يسكن لندن. وقد أعجبته نظرية تنقية النباتات للهواء بتمثيلها ثاني أوكسيد الكربون الذي تخرجه الحيوانات وترعرعها عليه. ولكن إنجنهوز وجد أن النباتات لا تؤدى هذه الوظيفة في الظلام. وقد بين في كتابه "تجارب على النبات" (1779) أن النباتات كالحيوانات تخرج ثاني أكسيد الكربون، وأن أوراقها وبراعمها الخضر تمتص هذا الغاز، وتخرج الأكسجين في رائعة النهار فقط. ولهذا السبب تخرج الأزهار من غرف المستشفيات ليلاً.
"إن ضوء الشمس، لا الدفء، هو السبب الأهم، إن لم يكن السبب الأوحد، الذي يجعل النباتات تخرج هواءها المجرد من الفلوجستين (أي الأكسجين) .... فالنبات ... الذي لا يستطيع ... البحث عن طعامه يجب أن يجد داخل ... الحيز الذي يشغله كل شئ يلزمه .... والأشجار تنشر في الهواء تلك المراوح الكثيرة وتوزعها ... بطريقة تقلل قدر الإمكان من تزاحمها على أن تمتص من الهواء المحيط بها كل ما تستطيع امتصاصه وأن تقدم ... هذه المادة ... إلى أشعة الشمس المباشرة، لكي تنال الخير الذي يستطيع هذا النجم العظيم أن يهبها إياه" (94).
ولم يكن هذا بالطبع إلا صورة جزئية لتغذية النبات. وقد أوضح راعي كنيسة في جنيف يدعى جان سنيبيه (1800) أن الأجزاء الخضر فقط من النباتات هي التي تستطيع تحليل ثاني أكسيد الكربون الذي في الهواء إلى كربون وأكسجين. وفي 1804 درس نيكولا تيورور دسوسور، ابن الرائد الألبي، الدور الذي تسهم به التربة، والماء والأملاح، في تغذية النبات. وكان لهذه الدراسات جميعها نتائج حيوية في التطوير الخطير لخصوبة التربة والإنتاج الزراعي في القرنين التاسع عشر والعشرين. هنا أثرت بصيرة العلماء وصبرهم مائدة كل أسرة تقريباً في العالم المسيحي.
9 - علم الحيوان
أ- بوفون
ولد أعظم عالم طبيعي من علماء القرن الثامن عشر بمونبار في برجنديه (1707) لمستشار في برلمان ديجون. وكانت ديجون آنذاك مركزاً مستقلا(37/240)
من مراكز الثقافة الفرنسية. والذي فتح منفذاً لثورة روسو على الحضارة وفولتير هو مسابقة اقترحتها أكاديمية ديجون. وقد درس جورج لوى لكليرك دبوفون في الكلية اليسوعية بديجون، وهناك تعلق بشاب إنجليزي يدعى اللورد كنجزتن، سافر معه عقب التخرج في رحلة إلى إيطاليا وإنجلترا. وفي 1832 ورث تركة كبيرة أتته بدخل سنوي قدره 300,000 جنيه، فأصبح الآن حراً في هجر القانون كان أبوه يعده للاشتغال به، وإشباع غرامه بالعلم، وبنى على تل في نهاية حديقته بمونبار، وعلى مائتي ياردة من منزله، حجرة للدارسة في برج قديم يسمى برج القديس بولس، هنا كان يعتكف من الساعة السادسة صباح كل يوم، وهنا ألف معظم كتبه. وقد انفعل بقصة أرخميدس الذي أحرق أسطول الأعداء في ميناء سيراكيوز بسلسلة من المرايا الحارقة، فأجرى ثماني تجارب، جمعت في النهاية 154 مرآة، أشعل بها النار في ألواح من الخشب على بعد 150 قدماً (95). وتردد حيناً بين التاريخ الطبيعي والفلك؛ وفي 1735 ترجم كتاب هيلز "استاتيكا النبات" وأسس نفسه في علم النبات؛ ولكن في 1740 ترجم كتاب نيوتن في "التدفقات" وأحس بإغراء الرياضة وانضم بذلك إقليدس إلى أرخميدس في مجمع أربابه.
وفي 1739 عين مديراً (ناظراً) للجاردان دورا، فانتقل إلى باريس. عندها فقط جعل علم الأحياء شغله الشاغل. فتحت إشرافه أغنت مئات النباتات الجديدة المجلوبة من كل أصقاع الدنيا هذه الحديقة النباتية الملكية. وسمح بوفون لجميع الدارسين المهتمين بالنبات بدخول الحديقة فجعل منها مدرسة للنبات. وبعد حين عاد إلى مونبار وبرج القديس لويس بعد أن ترك الحديقة في أيد أمينة، وشرع في تنظيم مشاهداته ليؤلف منها أشهر كتب القرن العلمية.
ونشرت المجلدات الثلاثة الأولى من كتابه هذا "التاريخ الطبيعي، العام والخاص" في 1749. وكانت باريس في مزاج يهيئها لدراسة العلم،(37/241)
وإذ وجدت الآن الجيولوجيا واليولوجيا مقدمتين لها في نثر صاف رصين، موضحتين بلوحات مغرية، فقد أقبلت على هذه المجلدات إقبالا يقرب من إقبالها على كتاب مونتسكيو "روح القوانين" الذي صدر قبل ذلك بعام فقط. ومضى بوفون -وبمساعدة الأخوين أنطوان وبرنار دجوسيو له في النبات، ولوى دوينتون وجينو دمونبليار وغيرهما له في الحيوان، يضيف المجلد تلو المجلد إلى رائعته الكبرى، فصدر اثنا عشر مجلداً جديداً قبيل 1767، وتسعة مجلدات أخرى عن الطيور في 1770 - 83؛ وخمسة عن المعادن في 1783 - 88، وسبعة عن موضوعات أخرى في 1774 - 89. وبعد موته (1788) أشرف إتيين دلاسيبيد على نشر مخطوطاته التي لم تنشر وأصدرها في ثمانية مجلدات (1788 - 1804). وبلغت جملة المجلدات الصادرة من كتاب "التاريخ الطبيعي" في النهاية أربعة وأربعين مجلداً استهلك إعدادها أكثر من حياة، واستغرق نشرها أكثر من نصف قرن. ودأب بوفون على أن، يستيقظ مبكراً ويمضي إلى برجه، ويقترب من هدفه خطوة فخطوة. ويبدو أنه -بعد أن أجتاز بسلام بعض الفلتات الجنسية في شبابه أقصى النساء عن حياته حتى عام 1752 حين تزوج ماري دسان- بيلون وهو في الخامسة والأربعين. ورغم أنه لم يدع الوفاء لرباط الزوجية (96)؛ فقد تعلم أن يحب زوجته، كما يفعل الكثير من الفرنسيين بعد حياة الزنا، وقد أظلم موتها في 1769 سني عمره الباقية.
وقد أخذ "التاريخ الطبيعي" على عاتقه وصف السماوات، والأرض، وكل المعروف من عالم النبات والحيوان، بما فيه الإنسان. وحاول بوفون أن يرد كل هذه المتاهة من الحقائق إلى نظام وقانون عن طريق أفكار الاستمرارية شظايا تحطمت عن الشمس إثر اصطدامها بمذنب، ونظريته في "حقب الطبيعة" التي رآها مراحل في تطور الكرة الأرضية. أما في عالم النبات فقد رفض تصنيف لينيوس للنباتات حسب أعضائها الجنسية لأنه شديد التعسف والنقص والصلابة. وقد قبل طريقة لينيوس في المصطلحات على مضض، واشترط أن توضع الأسماء على جنب في أسفل البطاقات الملحقة(37/242)
بالنباتات في حديقة الجاردان (97). وكان تصنيفه للحيوانات غير معقول، ولكنه اعترف بأنه مؤقت؛ فقد رتبها حسب نفعها للإنسان، ومن ثم بدأ بالحصان. وفي تاريخ لاحق، وبعد إلحاح من دوبنتون، وضع تصنيفاً جديداً لها حسب خصائصها المميزة. وضحك نقاده المتخصصون على تصنيفاته وتشككوا في تعميماته، ولكن قراءه طربوا لأوصافه الحية ولاتساع نظراته العظيم.
وقد ساعد على إرساء دعائم الأنثروبولوجيا (علم الجناس البشرية) بدراسة اختلافات النوع الإنساني تحت تأثير المناخ، والتربة، والأنظمة، والمعتقدات؛ ورأى أن هذه القوى قد نوعت لون الأجناس وملامحها، وولدت خلافاً في العادات، والأذواق، والأفكار. ومن أجرأ فروضه قوله بأنه ليس في الطبيعة أنواع ثابتة لا تقبل التغير، وأن النوع منها يذوب في النوع التالي، وأن في استطاعة العلم إذا نضج أن يصعد خطوة فخطوة من المعادن المفروض أنها ميتة، إلى الإنسان نفسه. ولم ير إلا فرقاً في الدرجة بين غير العضوي والعضوي.
وقد لاحظ أن صوراً جديدة من الحيوان تكونت بالانتخاب الطبيعي، وزعم أن في الإمكان إحداث نتائج مماثلة في الطبيعة بالهجرة والعزل الجغرافيين. وسبق ماثوس بملاحظته أن خصوبة أنواع النبات الحيوان التي لا رابط لها تلقي باستمرار عبئاً باهظاً على خصوبة التربة، مما قد يؤدى بالكثير من الأفراد والأنواع في الصراع على البقاء:
"لقد اختفت، أو ستختفي، أنواع أقل كما لا، وأضعف، وأثقل، وأقل نشاطاً، وأردأ تسليحاً (98). ... وهذبت أنواع كثيرة، أو انحطت، نتيجة لتغيرات كبيرة في اليابس أو الماء، ولرضى أو سخطها عليها، وللطعام، ولتأثيرات المناخ الطويلة الأمد، والمعاكسة أو المواتية ... فلم تعد اليوم كما كانت بالأمس" (99).
ومع أنه سلم بوجود نفس للإنسان، فقد تبين في جسم الإنسان أعضاء الحس والأعصاب، والعضلات، والعظام، ذاتها التي في الحيوانات العليا.(37/243)
ومن ثم فقد رد "الحب الرومانسي" إلى ذات الأساس الفسيولوجي الذي في جاذبية الحيوان الجنسية. لا بل أنه احتفظ بشعر الحب لأوصافه البليغة لتزاوج الطيور ورعايتها لصغارها. وتساءل "لم يسعد الحب جميع الكائنات الأخرى ويشقى الإنسان هذا الشقاء الكثير؟ لأن الجزء البدني من هذه العاطفة هو وحده الحسن، أما العناصر الأخلاقية فيها فلا قيمة لها" (100). (وقد وبخته مدام دبومبادور على هذه الفقرة ولكن في لطف كثير) (101) وخلص بوفون إلى أن الإنسان حيوان في كل نقطة "مادية" (102).
"ومتى سلمنا بأن هناك عائلات من النبات والحيوان، أي أن الحمار قد ينتمي لعائلة الحصان، وأن الواحد منها لا يختلف عن الآخر إلا في تسلسله المنحط من نفس الجد ... فقد نضطر إلى التسليم بأن القرد ينتمي لعائلة الإنسان، وأنه ليس إلا إنساناً منحطاً، وأنه هو والإنسان كان لهما جد واحد. وإذا تبين أنه كان بين الحيوانات والنباتات ... ولو نوع واحد أنتج خلال التسلسل المباشر من نوع آخر ... إذن فليس هناك حدود يمكن أن تقيد قوة الطبيعة، ولن نخطئ إن افترضنا أنه لو ترك لها الوقت الكافي لاستطاعت أن تطور جميع الأشكال العضوية الأخرى من نوع أصلي واحد".
ثم أضاف بوفون هذه العبارة بعد أن تذكر فجأة سفر التكوين وجامعة السوربون "ولكن لا. فالثابت من الوحي الإلهي أن جميع الحيوانات قد وهبت بالتساوي نعمة خلقها خلقاً مباشراً، وأن أول زوج من كل نوع خرج مكتمل الصورة من يدي الخالق" (103).
ولكن مدير السوربون، أو كلية اللاهوت في جامعة باريس، نبه بوفون رغم ذلك (15 يونيو 1751) إلى أن أجزاء من "تاريخه الطبيعي" تناقض تعاليم الدين، ويجب أن تسحب-لا سيما آرائه عن عمر الأرض الطويل، وانبعاث الكواكب من الشمس، وتأكيده بأن الحقيقة لا تستقى إلا من العلم. واعتذر المؤلف مبتسما:
"أقرر أنه لم يكن أي نية في مناقضة نص الكتاب المقدس، وإنني أومن أوطد الإيمان بكل ما حواه الكتاب خاصاً بالخليقة، سواء من حيث ترتيب الزمن أو الحقائق المتضمنة. وإني أعدل عن كل ما ورد في(37/244)
كتابي عن تكوين الأرض، وبصفة عامة عن كل ما قد يناقض رواية موسى" (104).
ولعل بوفون، الرجل الأرستقراطي، أحس أن من سوء الأدب أن يختلف جهراً مع إيمان الشعب، وأن "سوربونا" لم تهدأ تأثراتها قد تفسد عليه خطته الكبرى؛ وعلى أية حال؛ فإن كتابه إذا اكتمل سيكون تعقيباً منيراً على اعتذاره. وقد تبينت الطبقات المتعلمة الابتسامة فيسحب آراءه، ولاحظت أن مجلدات الكتاب التالية واصلت هرطقاته. ولكن بوفون أبى أن ينضم إلى فولتير وديدور في هجومهما على المسيحية. وقد رفض دعوى لامترى وغيره من الماديين باختزال الحياة والفكر إلى مادة في حركة ميكانيكية. أن النظام، والحياة، والنفس، هي وجودنا الحقيقي الصحيح؛ وما المادة إلا غلاف غريب لا نعرف صلته بالنفس، ووجوده عقبة (105).
ومع ذلك رحب به "الفلاسفة" حليفاً قوياً. ولاحظوا أن حماسته ونداءاته موجهة إلى طبيعة لا شخصية، خلاقة، خصبة، لا إلى إله شخصي. فالله عند بوفون كما هو عند فولتير بذر بذور الحياة ثم ترك للأسباب الطبيعة القيام بالباقي كله. وقد رفض بوفون فكرة القصد في الطبيعة، ومال إلى وحدة وجود اسبينوزية ورأى الحقيقة الواقعة كما رآها تورجنيف، مختبراً كونياً شاسعاً تتناول فيه الطبيعة بالتجربة، على مدى دهور طويلة، الشكل أو العضو أو النوع، الواحد تلو الآخر، وفي هذه الرؤية انتهى إلى نتيجة تبدو متناقضة مع نقده للينيوس: فالفرد هو الذي بدا الآن غير حقيقي، والنوع هو الحقيقة الباقية نسبياً. ولكن التناقض يمكن حله: فالنوع والجنس والعائلة والرتبة، لم تزل أفكاراً لا غير، يركبها الذهن ليعطي نظاماً ميسراً لخبرتنا بالوفرة المحيرة في الكائنات العضوية، والأفراد هم الحقائق الحية الوحيدة، ولكن أجلهم قصير قصراً يجعل الفيلسوف لا يرى فيهم غير بصمات عابرة بتركها شكل أكبر وأطول بقاء. وبهذا المعنى كان أفلاطون محقاً: فالإنسان "حقيقي"، أما "الناس" فلحظات عابرة في خيال ظل الحياة.
واستمتع قراء بوفون بهذه الرؤى التي تدير الرؤس، ولكن نقاده(37/245)
أخذوا عليه إنه ضيع نفسه بتهور شديد في التعميمات، مضحياً أحياناً بدقة التفاصيل. وضحك فولتير على تقبله فكرة التوالد الذاتي، واحتقر لينيوس مؤلفه في النباتات، ولم يحترم ريامور دراسته للنحل، واستخف علماء الحيوان بتصنيفه الحيوانات نفعها للإنسان. ولكن الناس جميعاً صفقوا لأسلوبه. ذلك أن بوفون ينتمي للأدب كما ينتمي للعلم، ولا يستطيع إنصافه إلا التاريخ المتكامل. فندر من العلماء من أفصح عن نفسه بمثل هذه البلاغة الرائعة. وقد قال فيه روسو، وهو أحد أساتذة الأساليب، "إنني لا أعرف له ضريباً في عالم الكتابة. فقلمه أول قلم في قرنه" (106). وفي هذا اتفق جريم الحكيم مع روسو رغم عدائه له. "يحق للمرء أن يدهش لقراءة أحاديث قد يبلغ الحديث منها مائة صفحة، كتبت دائماً من أول سطر إلى آخره، بأسلوب رفيع وحرارة مضطردة واحدة، وزينت بأروع تلون وأكثره طبيعية (107). لقد كتب بوفون كما يكتب رجل تحرر من أغلال العوز ووهب متسعاً من الوقت، فلم يكن في إنتاجه ما كتب على عجل كما نجد ذلك كثيراً في فولتير، وكان بألفاظه عنايته بعيناته. وغذ تبين في الأشياء قانون استمرارية لاينتسيا"، فقد أرسى نظرية في الأسلوب، فصقل كل الانتقالات، ورتب كل الأفكار في تسلسل جعل لغته تتدفق كأنها نهر عريض عميق. وبينما كل السر في أسلوب فولتير هو التعبير السريع الواضح عن الفكر الثاقب، كانت طريقة بوفون هي الترتيب المتأني لأفكار عريضة تنبض بالوجدان فلقد أحس بجلال الطبيعة وجعل من علمه أنشودة تسبيح.
وكان على وعي تام بنزعته الأدبية، يبهجه أن يقرأ لزواره فقرات عذبة من كتبه؛ وحين انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية لم يتخذ موضوعاً له يوم استقباله (25 أغسطس 1753) عجيبة من أعاجيب العلم، بل تحليلا للأسلوب. وحوى هذا الخطاب المشهور، كما قال كوفييه، "المبدأ والمثال جميعاً" (108)، لأنه هو نفسه كان درة من درر الأسلوب. وهو مخفي عن عين جميع الناس -إلا الفرنسيين- تحت أكداس مؤلفاته، ولم نكد نعرف منه غير حكمه الشهير، الجامع، الخفي المغزي، "الأسلوب هو الإنسان.(37/246)
فلنبسطه هنا إذن، ونتأمله على مهل. والترجمة تذهب ببعض روائه، ولكنه مع ذلك، ورغم ما تضطرنا إليه العجلة القبيحة من بتر لبعضه، فإنه خليق بأن الصحائف أياً كانت". قال بعد أن قدم لخطابه بتحية لجمهور ضم الكثيرين من أصحاب الأساليب:
"إن الناس لم يتقنوا الكتابة والحديث إلا في العصور المستنيرة. فالبلاغة الصادقة ... تختلف تماماً عن سهولة الحديث الطبيعية ... التي وهبت لكل صاحب عاطفة قوية ... وخيال سريع ... أما القلة من الناس الذين وهبوا الفكر المتزن، والذوق الرفيع، والحس المرهف -والذين لا يعبأون كثيراً، شأنكم أيها السادة، بنبر الكلمات، وإيماءاتها، ورنينها الأجوف- هؤلاء يتطلبون المضمون، والفكر، والتمييز، يتطلبون فن تقديم كل أولئك وتحديدها، وترتيبها، فلا يكفي قرع الآذان واسترعاء العيون، فلا بد للمرء أن يؤثر في النفس ويلمس القلب وهو يتحدث إلى الذهن ... وكلما ازدادت المادة والقوة اللتان نضفيهما على فكرنا بالتأمل، سهل بلوغهما في التعبير.
كل هذا ليس الأسلوب بعد، بل أساسه، أنه يدعم الأسلوب ويوجهه، وينظم حركته، ويخضعه للقوانين. فبدونه يضل خير الكتاب، ويتوه قلمه دون مرشد، ويقذف كيفما اتفق بالخطوط المبهمة والأشكال المتنافرة. ومهما كان بريق الألوان التي يستعملها، وأياً كانت المحسنات التي ينثرها في التفاضيل، فسيختنق بكثرة أفكاره، ولن يبعث فينا وجداناً، ولن يكون لكتابته هيكل أو بنيان ... ومن ثم يسئ الكتابة من يكتبون كما يتحدثون، مهما أجادوا الحديث، والذين يستسلمون لأول الهام حار من خيالهم يتخذون نبرة لا يستطيعون الإبقاء عليها ...
ما السر في كمال أعمال الطبيعة؟ هو أن أي عمل من هذه الأعمال كل متكامل: لأن الطبيعة تعمل وفق خطة سرمدية لا تنساها أبداً، فهي تعد في صمت بذور إنتاجها، وترسم بخطة فرشاة واحدة الشكل البدائي لكل شئ حي، ثم تطوره وتصقله بحركة متصلة وفي زمن مقرر ... وذهن الإنسان لا يستطيع أن يخلق شيئاً، أو ينتج شيئاً، إلا بعد أن تثريه التجربة(37/247)
والتأمل، وتجاربه هي بذار منتجاته. ولكن لو أن الإنسان حاكي الطبيعة في طريقته وفي جهوده، ولو أنه ارتقى بالتأمل إلى أسمى الحقائق، ولو أنه وحد بينها من جديد وربط بينها في سلسلة، وألف منها كلا واحداً، ونسقاً محسوباً، لو أنه فعل هذا كله لأقام على أسس راسخة صروحاً خالدة على الزمن.
وبسبب افتقار الكاتب إلى مخطط، معدم تفكيره في هدفه تفكيراً كافياً، يجد نفسه حائراً -حتى إذا كان من رجال الفكر- لا يعرف من أين يبدأ الكتابة؛ فهو يرى في وقت واحد عدداً كبيراً من الأفكار، ولأنه لم يوازن بينها، ولم يرتبها منظماً، فما من شئ يدعوه لتفضيل بعضها على بعض، ومن ثم يظل في حيرته. أما إذا وضع له مخططاً، وإذا جمع ورتب جميع الأفكار الأساسية في موضوعه، فسيرى للتو، وفي يسر، في أي نقطة يجدر به أن يتناول قلمه، وسيحسن بأفكاره تنضج في ذهنه، وسيبادر إلى إخراجها للنور، وسيستشعر لذة في الكتابة، وستتلو أفكاره بعضها بعضاً في غير عناء، وسيكون أسلوبه طبيعياً وسهلا، وسينبعث من هذه اللذة ضرب من الدفء ينبسط على عمله، ويضفي الحرارة على عبارته؛ وسيزداد النبض في كتابته ويعلو النبر، وتتخذ الأشياء لها لوناً، ويزداد الشعور وينتشر بعد التحامه بالنور، وينتقل من ذلك الذي نقوله إلى ذلك الذي نوشك أن نقوله؛ وسيصبح ممتعاً مشرقاً ...
ولن تنحدر إلى الأجيال القادمة غير الأعمال التي أجيدت كتابتها. ولن يكون ما حوت من غزارة في المعرفة، أو غرابة في الوقائع، أو حتى طرافة في الكشوف، ضماناً أكيداً للخلود. فلو أن الأعمال التي تحوي هذا كله اهتمت بموضوعات تافهة، أو كتبت دون تمييز أو سمو ... لكان مآلها إلى الزوال، ذلك أن المعرفة، والوقائع والكشوف، يسهل نقلها وسلبها، بل إنها تكون أوفر حظاً لو وضعت في أيد أقدر وأكفأ. فتلك الأشياء خارجة عن الإنسان، أما الأسلوب فهو الإنسان ذاته Le style est i'homme meme، إن الأسلوب لا يمكن سرقته، ولا حمله، ولا تغييره وتبديله، وإذا كان أسلوباً رفيعاً، نبيلا، سامياً، كان صاحبه موضع الإعجاب في جميع العصور على السواء؛ ذلك أن الحقيقة وحدها هي الباقية الخالدة" (109).(37/248)
يقول فيلمان "أن هذا الخطاب الذي أثار الإعجاب الشديد في ذلك الحين يبدو أسمى من كل ما خطر على الأفكار قبله في هذا الموضوع، ونحن نستشهد به حتى في يومنا هذا بوصفه قاعدة عامة جامعة". وربما وجبت بعض الاستثناءات من هذا الحكم. فوصف بوفون هذا يصدق على النثر خيراً مما يصدق على الشعر، وهو ينصف الأسلوب"الكلاسيكي" اكثر مما ينصف الأسلوب "الرومانسي"، وهو يتبع تقليد بوالو، ويرفع بحق من شأن العقل؛ ولكنه لا يترك متسعاً يذكر لفحول النثر الفرنسي من أمثال روسو، وشاتوبريان، وهوجو، ولا لفوضى رابليه ومونتيني اللذيذة، ولا لبساطة العهد الجديد المؤثرة البريئة من التكلف. ومن العسير عليه أن يدلنا على السر في أن "اعترافات" روسو، الشديدة الفقر في الفكر، الوافرة الغني في الوجدان، ما زالت من أروع كتب القرن الثامن عشر. فالحقيقة قد تكون واقع وجدان كما تكون بنيان فكر أو كمال صورة.
ولقد كان أسلوب بوفون هو الرجل، رداءاً وقوراً لنفس أرستقراطية. فهو لم ينس أنه إقطاعي كما كان عالماً وكاتباً إلا في دراساته. ولم تغير خطوه أسباب التشريف المتكاثرة التي توجت شيخوخته. فقد خلع عليه لويس الخامس عشر لقب الكونت دبوفون في 1771 ودعاه إلى فونتنبلو. ومنحته أكاديميات أوربا وأمريكا العلمية عضويتها الشرفية. وقد تفرس في هدوء واطمئنان في التمثال الذي أقامه له ابنه في الجاردان دورا وغدا يرجه في مونبار أبان حياته قبلة يحج إليها الزائرون كما يحجون إلى بيت فولتير في فرنيه، وفد عليه روسو، وركع على عتبته، وقبل الأرض (111). وزاره هنري أمير بروسيا، ومع أن كاترين الكبرى لم تسطع زيارته، إلا أنها أرسلت له كلمة تقول إنها تضعه في أعلى المراتب بعد نيوتن.
ولقد كان مهيب المظهر مليح الصورة في شيخوخته -"له جسم رياضي" كما قال فولتير "روح حكيم" (112) وكان في رأي هيوم لا يبدو رجل أدب بل قائداً من قواد فرنسا الحربيين (113). أما أهل مونبار فكانوا يعبدونه. وكان بوفون على وعي تام بهذا كله، يفخر بلياقته البدنية وبمظهره، ويرجل له شعره ويبدر مرتين في اليوم (114). وقد نعم(37/249)
بصحة سابغة حتى بلغ الثانية والسبعين. ثم بدأ يشكو الحصى، ولكنه واصل العمل، وأبى أن تجرى له جراحة. وأفسح له في الأجل تسع سنين أخر، ومات في 1788. ومشى في جنازته عشرون ألفاً. ولكن لم تكد تمضي سنة على موته حتى نبشت رفاته وذريت في الريح، وسوى تمثاله بالتراب، بأيدي الثوار الذين لم يستطيعوا أن يغفروا له أنه كان نبيلا، أما ابنه فقد أعدم بالجيلوتين (115).
ب- نحو التطور
بدأ علم الأحياء الذي تزعمه هذا الأستاذ الفذ في نظرته، وصبره، ونثره، في إغراء المزيد من الطلاب وتحويلهم عن الرياضة والفيزياء اللتين استأثرتا بمعظم العلماء في القرن السابع عشر. وقد أحسن ديدرو ببعض هذا التغير، وهو الذي تأثر بجميع تيارات عصره، فكتب في 1754 يقول "في هذه اللحظة نصل إلى ثورة كبرى في العلوم. وأنى إذ ألحظ الميل الذي تستشعره أفضل العقول لدراسة الفلسفة الأخلاقية، والأدب، والتاريخ الطبيعي، والفيزياء التجريبية، أجرؤ على التنبؤ بأنه قبل أن تنقضي مائة سنة أخرى لن يكون لدينا ثلاثة رياضيين كبار في أوربا" (116). وقد شهد عام 1759 ذروة البيولوجيا الحديثة.
وقد فت في عضد هذا العلم الجديد (الأحياء) معضلته الأولى -وهي أصل الحياة. وبذلت المحاولات الكثيرة لإثبات إمكان توليد الحياة ذاتياً من المادة غير الحية. ودبت الحياة من جديد في نظرية التولد الطبيعي أو الذاتي abiogenesis القديمة نظراً إلى كثرة ما وجد بالمجهر من كائنات دقيقة في قطرة ماء، وذلك برغم ما وضح من تفنيد ريدي لهذه النظرية في 1668. ففي 1748 أحيا النظرية جون نيدام، وكان قسيساً كاثوليكياً إنجليزياً يسكن القارة، بإعادته تجارب ريدي وحصوله على نتائج مختلفة عن نتائجه. فقد إلى بعض مرق الضأن في قوارير سدها فوراً بفلين وختم عليها. فلما فتح القوارير بعد أيام وجدها تعج بالكائنات الحية. ولما كان الغلي- في رأي نيدام- كفيلاً بقتل أي جراثيم حية في المرق، ولما كانت القوارير قد أحكم ختمها بالصمغ، فقد استنتج أن كائنات جديدة تولدت(37/250)
تلقائياً في السائل. وأعجبت الحجة بوفون، ولكن في 1765 كرر أستاذ في جامعة مودينا يدعى سباللانزانى تجارب نيدام وخرج منها بنتيجة عكسية. فقد وجد أن غلي شراب دقيقتين لم يقضي على كل الجراثيم، أما غليه خمساً وخمسين دقيقة قد قضى عليها، وفي هذه الحالة لم تظهر أي كائنات حية. ومضى الجدل حتى بدا أن شفان وباستير قد أنهياه في القرن التاسع عشر.
كذلك أحاطت بعمليات التناسل أسرار لا تقل عن هذا السر إثارة للحيرة. فقد حار جيمس لوجان، وشارل بونيه، وكاسبار فولف، في دوري عنصري الذكر والأنثى في التناسل، وتساءلوا كيف يمكن أن يحتوي العنصران المتحدان في ذاتيهما -كما يبدو أنهما يفعلان- التحديد المحتوم لجميع الأجزاء والهياكل في الكائن الناضج. واقترح بونيه نظرية مغرقة في الخيال سماها emboitement ( التكييس)، فالأنثى تحوي جراثيم أطفالها جميعاً، وهذه الجراثيم تحوي جراثيم الحفدة، وهكذا دواليك حتى يتمرد الخيال. ولا عجب فالعلم هو أيضاً يستطيع الانحراف إلى الخرافة. أما فولف، الذي يزين اسمه الفنوات الفولفية، فقد دافع عن نظرية هارفي في التوالد الخارجي epigenesis: فكل جنين يخلق من جديد بواسطة العناصر الأبوية. وسبق فولف نظرية تكوين الأعضاء التي قال بها فون باير في واضع الجراثيم، بكتابة "في تكوين الأحشاء". (1768)، الذي وصفه فون بابر بأنه "أعظم ما نملك من روائع الملاحظة العملية" (117).
وهل تجدد النسيج نوع من التناسل؟ لقد أدهش العالم الجنيفي إبراهام ترميلي العلمي في 1744 بتجارب كشفت عن إصرار "كثير الأرجل Polyp" الذي يعيش في الماء العذب على التجدد، فقد قطع واحداً منها إلى شطائر طولية أربعة، نما كل منها إلى كائن سوى كامل. وتردد هل يسمى كثير الأرجل هذا نباتاً أم حيواناً؛ فقد بدا له جذوراً كالنبات، ولكنه ينهش الطعام ويهضمه كما يفعل الحيوان؛ وهلل المتكهنون له باعتباره همزة الوصل بين عالمي النبات والحيوان في "سلسلة الوجود العظمى" (118) أما ترمبلي فقد انتهى إلى أنه حيوان، وهو رأى البيولوجيين فيه اليوم. وقد أطلق عليه ريامور لفظ " Polyp" أو كثير الأرجل بسبب قرون(37/251)
استشعاره المترعصة المتحسسة. ونحن نعرفه أيضاً باسم الهيدرا hydra نسبة إلى الوحش الخرافي (الافعوان) ذي الرؤوس التسعة (الذي كلما قطع هرقل رأساً منها نبت اثنان في مكانه. وقد استعمل "الهيدرا" في دنيا الأدب تشبيهاً له مائة ألف حياة.
ورينيه أنطوان دريامور هذا كان علما لا يبزه في بيولوجيا العصر الذي نحن بصدده غير بوفون، وكان يفوق بوفون كثيراً في دقة الملاحظة. هيأ لمهنة الطب، ولكنه هجرها حالما تحقق له الاستقلال المالي، وكرس نفسه للبحث العلمي. خبر إثنى عشر ميدان. ففي 1710 كلف بأن يمسح ويصف صناعات فرنسا وفنونها الصناعية، فقام بالمهمة بما عهد فيه من إتقان وقدم توصيات أفضت إلى إنشاء صناعات جديدة وإحياء أخرى أصابها الاضمحلال وابتكر طريقة لتصفيح الحديد ما زالت مستعملة. وبحث في الفروق الكيميائية بين الحديد والصلب. وأتته هذه الإسهامات وغيرها في علم المعادن بمعاش قدره اثنا عشر ألف جنيه من الحكومة، فأعطى المال لأكاديمية العلوم. وقد مر بنا بحثه في الترمومتر.
وفي غضون هذا راح يثري اليولوجيا. ففي 1712 أثبت أن في استطاعة جراد البحر (اللوبستر) أن يجدد طرفاً مبتوراً من أطرافه. وفي 1715 وصف الصدمة الكهربائية التي يحدثها السمك الرعاد-وصفاً صحيحاً. وفيما بين عامي 1734و1742 نشر رائعته "مذكرات ينتفع بها في تاريخ الحشرات" -وهي ستة مجلدات موضحة برسوم دقيقة، ومكتوبة بأسلوب ساحر ينبض بالحياة، جعل الحشرات قريبة في طرافتها من العشاق في روايات كريببون (الابن) الغرامية. ولقد استهواه كما استهوى قابر في أيامنا هذه:
"كل ما يمت إلى أخلاق الكثير من الحيوانات الصغيرة -إن جاز هذا التعبير- وعاداتها ومعيشتها. فلقد لاحظت طرق عيشتها المختلفة، وكيف تحصل على قوتها، والحيل التي يصطنعها بعضها للقبض على فريسته، وأسباب الحيطة التي يتخذها غيرها اتقاء للأعداء ... -وانتقاء الأماكن التي تضع فيه بيضها حتى تجد صغارها حين تفقس طعاماً صالحاً لها لحظة خروجها للحياة" (119).(37/252)
وقد وافق ريامور فولتير على أن في الإمكان تفسير سلوك الكائنات الحية وبنياتها دون افتراض قوة في الطبيعة، وكانت مجلداته ذخيرة استعان بها أولئك الذين قاوموا التيار الإلحاد الذي تدفق بعد حين في فرنسا. واحتقره ديدرو لإنفاقه الوقت الكثير على دراسة البق (120)، ولكن أمثال هذا العمل المدقق هي التي أرست الأسس الواقعية للبيولوجيا الحديثة.
ترى ماذا قال ديدرو بالضرورة حين سمع أن شارل بونيه، صديق ريامور، قد برهن على الولادة العذرية parthenogenesis في مملكة الحيوان؟ فلقد وجد بعزل من الأحاديث منّ حديث الولادة aphids ( وهو قمل الشجر الذي يعشق أشجار البرتقال) إن أنثى هذا النوع تستطيع إنسال ذرية مخصبة دون أن تضطر إلى تلقى العنصر الذكر المطلوب في الأخصاب عادة؟ إذن فهدف الجنس فيما يبدو ليس مجرد التناسل، بل إثراء الذرية بشتى الصفات التي يسهم بها أبوان مختلفا المواهب. وقد وصفت هذه التجارب التي أبلغت لأكاديمية العلوم في 1740 في كتاب بونيه "رسالة في علم الحشرات" (1745) وأشار بونيه في كتابة "أبحاث ... في النباتات" (1754) إلى أن لبعض النباتات قوى للحس، بل للتمييز والانتقاء، وإذن فقدرة على الحكم- وهذا سر الذكاء.
وبونيه هذا - الذي ولد بجنيف-أول من طبق اصطلاح "التطور envalution على البيولوجيا فيما يبدو (121)، وعنى به سلسلة الكائنات من الذرات إلى الإنسان. وفكرة التطور، بمعنى النمو الطبيعي لأنواع جديدة من أخرى قديمة، ظهرت مراراً في علم القرن الثامن عشر وفلسفته. ومن ذلك أن بنوا دماييه ألمع في كتابة "تياميد" الذي صدر بعد موته (1748) إلى أن جميع الحيوانات البرية تطورت من كائنات بحرية قريبة منها بطريق تغير النوع بتغير البيئة؛ وهكذا تولدت الطيور من السمك الطائر، والسباع من سباع البحر، والإنسان من أناسي البحر. وبعد ثلاث سنوات لم يكتف كتاب موبرتوي "نظام الطبيعة"بتصنيف القردة مع البشر نوعين متقاربين (122)، بل سبق -في خطوط عريضة- نظرية داروين في تطور الأنواع(37/253)
الجديدة بطريق الانتقاء البيئي لأشكال عارضة صالحة للبقاء. قال العالم المنكود الحظ الذي كتب عليه أن يقع بعد قليل فوق قلم فولتير السليط:
"أن كل جزئ من الجزيئات البدائية التي تؤلف الجنين مشتق من البيان الأبوي المقابل له، ويحتفظ بضرب من الذكرى لشكله الأسبق. ومن ثم نستطيع أن نعلل في غير عناء تكون الأنواع الجديدة ... إذا افترضنا أن الجزيئات البدائية قد لا تحتفظ دائماً بالترتيب الذي تكون عليه في الأبوين، بل تولد بالصدفة فروقاً تسفر بتكاثرها وتراكمها عن الأنواع التي لا حصر لها، والتي نشهدها اليوم" (123).
وهكذا يستطيع نموذج أصلي واحد إذا ترك له الوقت الكافي، أن يولد جميع الأنواع الحية (في رأي موبرتوي) -وهي قضية قبلها بوفون من قبيل الاجتهاد، ولقيت الاستحسان الحار من ديدرو.
وعاد جان باتيست روبينيه، في كتابه "عن الطبيعة" (1761) إلى فكرة أقدم عن التطور تقول بأنه "سلم من الكائنات": فالطبيعة كلها سلسلة من المحاولات لإنتاج كائنات أكثر وأكثر رقياً، وكل الكائنات- طبقاً لقانون لايبنتس في الاستمرارية (الذي لم يعترف بأي انفصام بين أحط الكائنات وأرقاها)، حتى الأحجار، ما هي إلا تجارب تشق بها الطبيعة طريقها صعدا خلال المعادن، والنباتات، والحيوانات، إلى الإنسان. وما الإنسان إلا مرحلة في هذه المغامرة الكبرى، سوف تحل محله يوماً ما كائنات أرقى منه" (124).
أما القاضي الاسكتلندي جيمس بيرنت، لورد مونبودو، فقد كان داروينياً قبل داروين بزهاء قرن. ففي كتابة "أصل اللغة وتقدمها" (1773 - 92) صور إنسان ما قبل التاريخ كائناً بغير لغة وبغير نظام اجتماعي، لا يتميز إطلاقاً عن القردة من حيث مدركاته العقلية أو طرقه المعيشية. فالإنسان والأورانجوتان (كما قال إدوارد تايزن في 1699) ينتميان لجنس واحد، والأورانجوتان (يقصد به مونبوده الغوريلا أو الشمبانزي) إنسان فشل في أن يتطور. ولم يتطور إنسان ما قبل التاريخ ليصبح الإنسان البدائي(37/254)
إلا بفضل اللغة والنظام الاجتماعي. فتاريخ البشر ليس هبوطاً من حالة الكمال الأصلية، كما جاء في سفر التكوين، بل صعود بطئ أليم (125) "
وقد لمس الشاعر جيته تاريخ العلم في نقاط عديدة. ففي 1786 اكتشف العظم البينفكي، وفي 1790 ألمع إلى أن الجمجمة مؤلفة من قفاز معدلة. وتوصل -دون اعتماد على كاسبار فولف- إلى النظرية القائلة بأن جميع أجزاء النبات تعديلات في الأوراق، وذهب إلى أن جميع النباتات انحدرت بالتطور العام من مثال أصلي واحد سماه Urpfanze.
وآخر العلماء في شجرة دارويني اقرن الثامن عشر هو جد داروين العظيم. وأرزمس داروين هذا شخصية طريفة طرافة تشارلز حفيده. ولد في 1731، وتلقى علومه في مكبردج وأدنبرة، وشرع في ممارسة الطب في توتنجهام، ثم في لتشفيلد، ثم في داربي، حيث توفي عام 1802. وكان يركب بانتظام من لتشفيلد إلى برمنجهام (خمسة عشر ميلا) ليحضر حفلات عشاء "الجمعية القمرية" التي كان روحها المحرك، التي أصبح بريستلي أشهر أعضائها. ومن الرسالة التالية التي بعث بها داروين الجد إلى ماثيو بولتن معتذراً عن غيابه عن اجتماع للجمعية تشرق شخصية ألمعية محببة للنفس. قال:
"يؤسفني أن منعتني الشياطين التي تصيب البشر بالأمراض ... من مشاهدة جميع رجالكم العظام في سوهو (برمنجهام) اليوم. ليت شعري أي إبداعات، وأي ذكاء، وأي بلاغة- ميتافيزيقية، وميكانيكية، وصاروخية- ستحلق في جو اجتماعكم، يتقاذفها كالمكوك لفيف فلاسفتكم؟ - بينما يقضى على أنا المسكين، حبيس مركبة البريد، بأن تخضني هذه المركبة، وترجني، وتهزني، وترضني، على طريق الملك، لكي أخوض حرباً مع وجع في معدة إنسان، أو حمى في جسده (126) ".
ووسط هذه الحياة الحافلة بالشواغل كتب كتاباً قيما سماه زونوميا (فسيولوجيا الحيوان) (1794 - 96) مزج فيه الطب بالفلسفة، وعدة مجلدات من شعر العلم: "الحديقة النباتية" (1788)، و"غراميات(37/255)
النباتات" (1788) و"هيكل الطبيعة" (1802). وقد أعرب هذا الكتاب الأخير عن أفكاره التطورية. فبدأ بتأكيده أن التوالد الذاتي هو أكثر النظريات احتمالا في أصل الحياة. قال شعراً:
"إذن بغير أبوين، وبالتوالد التلقائي، ظهرت أول ذرات الأرض النابضة بالحياة ... وولدت الحياة العضوية تحت الأمواج الطاغية وعذبت في كهوف المحيط اللؤلؤية؛ أولا تتحرك كائنات دقيقة لا ترى بالمجهر على الوحل، أو تخترق اليم؛ وبعد أن تتفتح منها أجيال متعاقبة، تكتسب قدرات جديدة، وتتخذ لها أطرافاً أكبر، ومن ثم تظهر مجاميع لا حصر لها من النبات، وممالك حية تتنفس من ذوات الزعانف والأرجل والأجنحة (127) ".
وهكذا تطورت الحياة من الكائنات البحرية إلى البرمائية في الطين، ثم إلى الأنواع التي لا تحصى في البحر والبر والجو. ونقل الشاعر عن بوفون وهلفتيوس آراءهما في خصائص تشريح الإنسان دليلا على أن الإنسان مشى في الماضي على أربع، وأنه لم يكمل بعد تكيفه لوضعه المنتصب. وقد ارتقى نوع من القردة باستعماله قوائمه الأمامية أيادي، وتطويره الإبهام قوة موازنة مفيدة للأصابع. وفي كل مراحل التطور صراع بين الحيوانات على الطعام والأزواج، وبين النباتات على التربة، والرطوبة، والضوء، والهواء. وفي هذا الصراع (في رأى إرزمس داروين) حدث الارتقاء بتطور الأعضاء نتيجة محاولات لتلبية الحاجات الجديدة (لا بالانتقاء الطبيعي لتغيرات مصادفة تساعد على البقاء كما سيقول تشارلز داروين)؛ والنباتات تنمو بجهودها للحصول على الهواء والضياء. وقد سبق هذا الطبيب في كتابة "زونوميا" لامارك بقوله: "من أن كل الحيوانات تمر بتغييرات تحدث جزئياً بجهودها الخاصة، استجابة للذة والألم، وكثير من هذه الأشكال أو الميول المكتسبة تتحد إلى ذراريها (128) ". ولسان الماشية الخشن لشد أوراق العشب، ومنقار الطائر لالتقاط الحب. وأضاف الطبيب إلى هذا كله نظرية التلوين الوقائي: "هناك أعضاء طورت لأغراض وقائية، تغير شكل الجسم ولونه للاستخفاء أو القتال" (129). ثم اختتم كلامه بلمحة جليلة اشتملت دهوراً طويلة.(37/256)
"فإذا تأملنا الحقب الصغيرة من الأزمنة التي حدث فيها الكثير من التغيرات سالفة الذكر، أيكون من الجرأة المسرفة أن نتصور-في الزمن السحيق الذي انقض منذ بدأت الأرض، ربما قبل بدء تاريخ الإنسان بملايين السنين- أن جميع الحيوانات ذوات الدم الحار نشأت من لقاح خبيط حي واحد، وهبته العلة العظمى الأولى ميزة الحيوانية، والقدرة على اكتساب أعضاء جديدة، تلازمها ميول جديدة، وتوجهها الانفعالات، والأحاسيس والإرادات، والارتباطات، فتملك بذلك قوة مواصلة التحسن بنشاطها الفطري الخاص، وتوريث تلك التحسينات لذراريها إلى آخر الدهر" (130)؟
كتب تشارلز داروين يقول "عجيب كيف سبق جدي ... نظرات لامارك والأسس الخاطئة لآرائه، في كتابة زونوميا" (131). ولعل الجد لا يرضي بالتسليم بأنه كان سائراً على الطريق الخطأ. وهو على أية حال بسط نظرية لم تمت بعد، وبطريقته اللطيفة أسهم بضربة في الدفاع عن فكرة التطور.
جـ - علم النفس
ومضى البحث العلمي قدماً من المعادن إلى النباتات إلى الحيوانات إلى الإنسان. وراحت رابطة متزايدة من الدارسين تتفحص جسم الإنسان وقد تسلحت بالمجهر وحفزتها حاجات الأطباء، فوجدت أعضاءه ووظائفه شبيهة شبهاً لا خلاف عليه بأعضاء الحيوانات الراقية ووظائفها. ولكن بدا أنه لا يزال هناك انفصال في سلسلة الكائنات. وأجمع الناس كلهم تقريباً على أن ذهن الإنسان يختلف عن ذهن الحيوان في النوع وفي الدرجة معاً.
وفي 1749 اقتحم قسيس إنجليزي، تحول إلى احتراف الطب، يدعى ديفد هارتلي، هذه الفجوة بتأسيسه علم النفس الفسيولوجي. وكان يجمع النباتات طوال ستة عشر عاماً (1730 - 46) ثم نشر في 1749 كتابه "ملاحظات حول الإنسان": ولما كان يطمع في إيجاد مبدأ يحكم العلاقات بين الأفكار كما اقترح نيوتن مبدأ الأجسام، فقد طبق ترابط الأفكار على تفسير العاطفة، والعقل، والحركة، والحس الخلقي،(37/257)
لا على تفسير الخيال والذاكرة فحسب كما فعل هوبز ولوك من قبل قصور الإحساس على أنه في بدايته تموج في جزيئات عصب يثيره جسم خارجي، ثم لى أنه انتقال هذا التموج على هذا العصب إلى المخ، على نحو "انتشار الأصوات الطليق على صفحة الماء" (132). وقال إن المخ كتلة من الخويطات العصبيه تموجاتها هي متلازمات الذكريات، يثير خويط أو أكثر منها تموج وافد مرتبط به في الخبرة الماضية؛ وهذا التموج هو الملازم الفسيولوجي للفكرة. فلكل حالة عقلية ملازم بدني، ولكل عملية بدنية مرافق عقلي أو عصبي؛ وترابط الأفكار هو الجانب العقلي لترابط التموجات العصبية الذي يحدثه تجاورها أو تعاقبها في خبرة ماضية. على أن الصورة الفسيولوجية التي رسمها هارتلي كانت بالطبع شديدة التبسيط، ولم تمس قط لغز الوعي، ولكنها شاركت في إقناع أقلية صغيرة من الإنجليز بفكرة فناء عقولهم.
تناول قسيس آخر يدعى إتيين بونو دكوندياك مشكلات الذهن من جانب سيكولوجي خاص. وقد ولد في جريوبل (1714)، وتعلم في مدرسة لاهوتية لليسوعيين بباريس، ورسم قسيساً. فلما سمح له بالاختلاف إلى صالوني مدام دتانسان ومدام حيوفران، التقى بروسو وديدرو، وفقد حماسته الدينية، وهجر كل وظائفه الكهنوتية، وكرس نفسه للعبة الأفكار. فدرس المذاهب التاريخية للفلسفة ورفضها في كتابه "رسالة في المذاهب" (1749) الذي نطق بروح "الفلاسفة" فقال إن كل هذه الصروح المتعالية من أنصاف الحقيقة إنما هي تفرعات كثيرة كلها أوهام انتشرت من معرفتنا المبتورة للكون؛ وفحص جزء من التجربة بالاستقراء خير من التدليل على الكل بالاستنباط.
وقد حذا كوندياك في كتابه "مقال في أصل المعارف البشرية" (1746) حذو لوك في تحليليه للعمليات العقلية، ولكنه في أنجح كتبه "مقال في الأحاسيس قبل رأياً أكثر تطرفاً-وهو أن "التأمل" الذي تبين فيه لوك مصدراً ثانياً للأفكار، هو مجموعة أحاسيس، هي المصدر الوحيد لكل الحالات العقلية. إن هناك عالماً خارجياً، لأن أهم حواسنا وهي اللمس تلقى مقاومة؛ ومع ذلك فإن كل ما تعرفه هو أحاسيسنا والأفكار التي تولدها.(37/258)
وقد وضح كوندياك هذه الدعوى بمقارنة مشهورة ربما نقلها عن بوفون، ولكنه نسب الفضل فيها إلى "مصدر وحيه" المتوفاة، وهي الآنسة فيران التي أوصت له بميراث طوقت به عنقه. فصور لنا تمثالا من الرخام" نظم باطنه على غرارنا، لكن يحركه عقل تجرد من جميع الأفكار" (133). وهو لا يملك غير حاسة واحدة هي حاسة الشم، وفي استطاعته التمييز بين اللذة والألم. ثم عمد إلى أن يبين كيف يمكن أن تستقى جميع ألوان التفكير من أحاسيس هذا التمثال. فالحكم، والتأمل، والرغبات، والانفعالات، الخ ليست غير أحاسيس تغيرت على أشكاله مختلفة (134). فالانتباه يولد مع الإحساس الأول، ويأتي الحكم مع الثاني، مما يولد المقارنة مع الأول. والتذكر إحساس ماض أحياه إحساس حاضر أو تذكر آخر. والخيال ذكرى تتصور أو تربط. والرغبة في الشيء أو النفور منه هي التذكر النشيط لإحساس لذيذ أو كريه. والتأمل هو تناوب الذكريات والرغبات. والإرادة رغبة قوية يرافقها فرض بأن الهدف ممكن بلوغه. والشخصية، أو الأنا، أو التنفس، لا وجود لها أول الأمر؛ فهي تتخذ لها شكلا بوصفها جماع ذكريات الفرد ورغباته (135). وهكذا، من حاسة الشم وحدها-أو من أي حاسة أخرى غيرها- يمكن أن تستنبط جميع عمليات الذهن تقريباً. فإذا أضفنا أربع حواس أخرى، كون التمثال له ذهناً معقداً.
كل هذا كان جهداً ضخماً طريفاً، أثار ضجة كبرى بين رجال الفكر في باريس. ولكن النقاد لم يعسر عليهم أن يثبتوا أن طريقة كوندياك كان فيها من الاستنباط والفروض ما في غيرها من مذاهب الفلسفة، وأنه تجاهل مشكلة الوعي تجاهلا تاماً؛ وأنه لم يبين لنا كيف نشأت الحساسية الأصلية. فالتمثال الحساس وإن اقتصرت حواسه على الشم، ليس بتمثال، إلا أن يكون ذلك الوجيه الذي قال ترجنيف في وصفه إنه يقف في كبرياء كأنه أثر لذكراه أقيم بالاكتتاب العام.
وفي 1767 عين كوندياك مدرساً خاصاً للطفل الذي أصبح فيما بعد دوق بارما. فأنفق السنين التسع التالية في إيطاليا وألف لتلميذه سبعة عشر مجلداً نشرت في 1769 - 73 باسم "خطط دراسية". وهي رفيعة المستوى،(37/259)
ولكن المجلدين اللذين تناولا التاريخ جديران بتحية خاصة لأنهما اشتملا على التاريخ الأفكار والعادات، والمذاهب الاقتصادية، والأخلاق، والفنون، والعلوم، والملاهي، والطرق-وهذا في مجموعة يؤلف سجلا للحضارة أو في مما سجله فولتير في كتابه "مقالة عن الأعراف". وفي 1780، بناء على طلب الأمير أجناسي بوتوكي، وضع كتاباً في "المنطق" لمدارس لتوانا. وكان هذا أيضاً كتاباً فذاً في بابه. وفي تلك السنة مات مؤلفه.
ودام تأثير كوندياك قرناً، فتجلى عام 1870 في كتاب تين "في الذكاء" وكانت سيكولوجية كوندياك أساساً في النظام التعليمي الذي وضعه المؤتمر الوطني الذي حكم فرنسا من 1792 إلى 1795. وقد اعترف له بفضل السبق مشرحون مثل فيك-دازير، وكيميائيون مثل لافوازييه، وفلكيون مثل لابلاس، وأحيائيون مثل لامارك، وأطباء عقليون مثل بينيل، وسيكولوجيون مثل بونيه وكاباني. وقد وصف بيير جان جورج كاباتي الدماغ في 1796 بأنه "عضو خاص وظيفته الهامة أن ينتج الفكر كما أن للمعدة وظيفة خاصة هي مواصلة عملية الهضم، والكبد وظيفته هي ترشيح الصفراء" (136). وقد تجاهل "الفلاسفة" الذين أحاطوا بكوندياك تصريحاته بالإيمان بالله، وحرية الإرادة، والروح الخالدة غير المادية، وزعموا أن فلسفة طبيعية، نصف مادية، مؤمنة بمذهب اللذة، كانت النتيجة لرده المعرفة كلها إلى الإحساس، والبواعث كلها إلى اللذة والألم. وقد خلص روسو وهلفتيوس إلى أنه ما دام ذهن الإنسان عند مولده عبارة عن قدرة على الاستقبال لا أكثر، إذن ففي استطاعته التعليم أن يصوغ الذكاء والخلق دون نظر إلى الفروق الوراثية في القدرة العقلية. هذا كان الأساس السيكولوجي لكثير من الفلسفات السياسية المتطرفة.
ولم يأت الانتفاض على السيكولوجية المادية في فرنسا إلا بعد أن قلم نابليون أظافر الثورة ووقع اتفاقية 1801 مع الكنيسة (الكونكوردا). وقد بكر هذا الانتفاض في ألمانيا، حيث كان التقليد المضاد للمذهب الحسي (وهو التقليد الموروث عن لايبنتس) لا يزال قوياً وهاجم رجال كيوهان نيكولاوس تيتنز الأستاذ بجامعة روستوك، مدرسة كوندياك زاعماً أن(37/260)
اتباعها مجرد منظرين لا علماء. فكل هذا الحديث عن "التموجات" و"السائل العصبي" إنما هو محض افتراض؛ فهل رأى أحد هذه الأشياء؟ وزعم تيتنز أن السيكولوجية العلمية تستهدف الملاحظة المباشرة للعمليات الفعلية، وتجعل الاستنباط أداتها الرئيسية، فتبنى بذلك سيكولوجية على أساس استقرائي بحق. وستجد بعد قليل أن "قوانين الترابط" التي صاغها هوبز، ولوك، وهارتلي، لا تتفق وخبرتنا الفعلية؛ وأن الخيال كثيراً ما يحيى أو يربط الأفكار في ترتيب يختلف تمام الاختلاف عن الترتيب الذي أعطاه إياه الإحساس، وأن حلقات في سلسلة الترابط تسقط أحياناً على نحو غريب جداً. ويبدو أن الرغبة هي الحقيقة المحايثة (الباطنة) للكائن الحي، وأنها لا تتفق غالباً مع القوانين الميكانيكا. والذهن قوة نشيطة مشكلة، لا "صفحة بيضاء"، يخط الإحساس عليها إرادته.
وهكذا هيأ المسرح لإيمانويل كانت.
10 - تأثير العلم على الحضارة
إذا كان هذا الفصل قد طال أكثر من العادة رغم ما يشوبه من نقص فليس السبب أننا اعتبرنا العلماء وعلمهم منتمين إلى التاريخ فحسب، بل إن تطور الأفكار أيضاً هو موضع اهتمامنا الأساسي، وأن الأفكار لعبت دوراً في القرن الثامن عشر لا يفوقه أهمية غير طبيعة الإنسان نفسه. وإذا كانت منجزات العلم في تلك الحقبة الثورية لا تبلغ في إدهاشها مبلغ نظائرها في القرن الذي سبقها من جاليليو إلى ديكارت إلى نيوتن وليبنتس، فإنها تغلغلت تغللاً أقوى في كل منحى تقريباً من مناحي التاريخ الأوربي. فبفضل فولتير وعشرات المفسرين الأقل منه شأناً نشرت نتائج البحث في الطبقتين الوسطى والعليا، وشاركت العلوم الجديدة -علوم الكيمياء، والجيولوجيا، والحيوان- في التأثير البطيء، العميق رغم بطئه، الذي أثرت به المعرفة المتسعة على الذهن المثقف، وكانت النتائج بغير نهاية.
والعجيب أن التأثير العلم كان أقله، وآخره، على التكنولوجيا. ذلك أن طرائق البشر في الزرع والحصاد، وفي التعدين والصناعة، وفي البناء والنقل،(37/261)
كلها تكونت خلال قرون من التجربة والخطأ، ولم تتقبل التقاليد والجمود التحسينات التي اقترحتها التجارب المعملية إلا على مضض. ولم يفلح العلم في التعجيل بالثورة الصناعية إلا في نهاية هذا العصر. وحتى مع هذا البطء فإن المراحل الأولى لتلك الثورة دانت ديناً كبيراً للأبحاث الكيميائية على الأصباغ؛ فقد أرسى برتولليه (1788) استعمال الكلورين في تبييض المنسوجات، وأدخل جيمس هتن ونيكولا ليلان تصنيع الصودا وملح النشادر. وشاركت دراسة بوبل وماريوت للغازات، ودراسة بلاك للحرارة، في تطوير الآلة البخارية-الذي كان أكبر الفضل فيه على أية حال للميكانيكيين المهتمين بالأمر آنئذ. وبتقدم القرن نمت علاقة أوثق بين الرجال العمليين الذين ينشدون الإنتاج، والعلماء الذين ينشدون الحقيقة. وأوفدت أكاديمية باريس للعلوم باحثين إلى الحقول، والمصانع، والورش، وأصدرت عشرين مجلداً في "أوصاف الفنون والصنائع" (1761 - 81). ولقاء هذا بدأت الصناعات الوليدة تلجأ إلى العلم طلباً للمعلومات والتجارب؛ وهكذا اختزل كولومب جهد العوارض إلى صيغ يعتمد عليها، وحفزت مشكلات الآلة البخارية العلم إلى أبحاث جديدة في العلاقة بين القوة والحرارة. وقد قدر لهذه العلاقات في القرن التاسع عشر أن تغير العالم الاقتصادي والفيزيائي.
أما الأثر الأكبر للعلم فكان بالطبع على الفلسفة، ذلك أن الفلسفة، وهي البحث عن الحكمة، لا بد أن تقوم على العلم، وهو البحث عن المعرفة. وقد بدا في كل خطوة أن العلم يزيد العالم تعقيداً واتساعاً، وكان لا بد من تكوين منظرات جديدة. ولم يكن بالتكيف اليسير ذلك الذي كان على العقل البشري أن يتكيفه بعد أن اكتشف أن الإنسان ليس مركز الكون، بل ذرة ولحظة في اتساعات الفضاء والزمان غير المحدودة والمحيرة؛ ولم يتم ذلك التكيف إلى الآن. وباستجابة متعالية، قديمة قدم كوبرنيف، كاد الإنسان يغلبه الغرور بعظمة كشفه عن ضآلته، وحجبت خيلاء العلم تواضع الفلسفة، وتخيل الناس عوالم مثالية جديدة بلغة العلم، وقدمت فكرة التقدم ديناً جديداً للنفس الحديثة.(37/262)
وبدا أن تأثير العلم على الدين-أو على الأصح على المسيحية-مميت. إن الناس كانوا سيمضون ولا ريب في تكوين، أو تحبيذ، مفاهيم عن العالم تمنح الأمل والعزاء، والمغزى والكرامة، للنفوس المعذبة القصيرة الأجل؛ ولكن كيف تستطيع ملحمة المسيحية عن الخليقة، والخطيئة، والفداء الإلهي، أن تثبت في منظور اختزل هذه الأرض إلى ذرة وسط مليون من النجوم؟ وما هو الإنسان حتى يذكره إله كون كهذا ويعنى به؟ وكيف يستطيع شعر سفر التكوين أن يثبت لكشوف الجيولوجيا؟ وما الرأي في الأديان العشرة أو تزيد، التي تدين بها أقطار كشفت عنها الجغرافيا؟ -أهي منحطة انحطاطاً لا ريب فيه عن المسيحية من حيث عقائدها ونواميسها ونتائجها الأخلاقية؟ وكيف يمكن التوفيق بين معجزات المسيح، فضلاً عن المعجزات التي ينسبها الكثيرون للقديسين والشيطان، وبين ما يبدو من سيادة ناموس الكون؟ وكيف يمكن أن تكون نفس الإنسان، أو عقله، خالداً إذا كان معتمداً هذا الاعتماد على الأعصاب وغيرها من الأنسجة الواضح أن مصيرها الفناء؟ وما الذي لا مناص من حدوثه للين الذي يتحداه على هذا النحو علم ينمو يوماً بعد يوم في رقعته ومنجزاته ومكانته؟ وما الذي لا مناص من حدوثه لحضارة قائمة على ناموس أخلاقي قائم على ذلك الدين؟(37/263)
الفصل السابع عشر
الطب
1715 - 1789
1 - التشريح والفسيولوجيا
ثم هناك أثر العلم في لطب. فقد ارتبط فن التطبيب بتحسن الميكروسكوب والترمتز، وظهور الكيمياء والأحياء، وأهم من ذلك كله المعرفة المتقدمة بتشريح وفسيولوجيا الإنسان والحيوان. وكان معظم الأبحاث في التشريح والفسيولوجيا من عمل الأطباء أنفسهم.
وكان جوفاني باتيستا مورجاني أنموذجاً من الأطباء الكثيرين الذين جعلوا من الطب علما باحتفاظهم بسجلات أكلينية للحالات التي جاءتهم للعلاج. ففحص سبعمائة من هذه الحالات خلال الفترة التي عمل فيها بإخلاص ممارساً للطب وأستاذاً له في بادوا. وفي عامه الثمانين (1761) روى ملاحظاته في سبعين رسالة أرست أساس التشريح الباثولوجي: "في مواطن العلل وأسبابها كما بحثها التشريح" هنا ساق أوصافا عملية لانسداد القلب، والضمور الأصفر للكبد، وعمل الكلى، وربط بين العلامات الأكلينكية للالتهاب الرئوي وتصلب الرئتين، وأضاف إضافات هامة لمبحث القلب يقول السر وليم أوزلر "مازال الجزء الخاص بالتمدد الوعائي للأورطى من أفضل ما كتب في هذا الباب. " "وهل من وصف أدق من وصفه للذبحة الصدرية؟ " (1) وحصر موطن دواء الآن بوضوح أكثر من أي وقت مضى، في تغيرات مرضية تعرو أعضاء بعينها. وأعجبت المستشفيات بعمل مورجاني، فزودته ومعاونيه-دون معارضة من الكنيسة أو الدولة-بجثث الموتى من جميع طبقات المجتمع، حتى النبلاء ورجال الكنيسة؛ وأعرب أفراد كثيرون حباً في النهوض بالعلم، عن رغبتهم في أن يفحص مورجاني بعد موتهم (2). وقد أجرى التجارب على الحيوانات، دون أن يلقي هنا أيضاً أي احتجاج من الكنيسة.(37/264)
وواصل التدريس حتى بلغ التسعين. وفي 1764، حين كان في الثانية والثمانين، روى أنه "ينعم بعافية ابن الخمسين، ولا يزال يعمل دون استعانة بنظارات. " (3) وقد لقبه طلابه في فخر برئيس المشرحين في أوربا كلها. وفي 1931 أقامت له بلدته "فورلى" نصبا تذكاريا في الميدان الذي يحمل اسمه.
وأصبح تلميذه أنطونيو سكاربا أستاذا للتشريح في مودينا وهو بعد في العشرين. فلما رقي لكرسي التشريح في بافيا حين بلغ السادسة والثلاثين (1783) شارك سباللانتسانى وفولتا في دفع تلك الجامعة إلى مكانة مرموقة بين جامعات أوربا. واكسبه الشهرة الدولية دراساته التشريحية على الأذن والأنف، والأقدام، والأعصاب، وظل كتابه "ملاحظات على أمراض العيون الرئيسية" (1801) عشرات السنين الكتاب الجامعي العمدة في الرمد.
أما فيلكس فيك دازير، الذي كان يصغر سكاريا بسنة واحدة فقط، فقد درس التشريح المقارن للطيور، وذوات الأربع، والإنسان. وأظهرت نتائجه تشابها غريبا مفصلا في بنية الأطراف في البشر والحيوانات، وأسهمت في وضع الإنسان في مكانه البيولوجي. وقد مات في السادسة والأربعين (1794) قبل أن يتم عملا أوصل تشريح الدماغ إلى ذروته في القرن الثامن عشر.
وفي بريطانيا العظمى أضفى الأخوان هنتر، والمولودان في إسكتلندة، مزيداً من البهاء على حركة التنوير الاسكتلندية بعملهما في التشريح والجراحة. فأحدثت محاضرات وليم ثورة في تدريس التشريح في لندن، حيث تعطلت هذه الدراسة طويلاً من جراء القيد المفروض على توافر الجثث. وقد ذاع صيته لكشفه الخطير (1758) للوظيفة الماصة للأوعية اللمفاوية، ولتأليفه كتابا من عيون يسمى "تشريح الرحم الحامل" (1774، ولطبعه الناري، الذي علله بأنه، وهو المشرح، قد ألف "خضوع الجثث له خضوعا سلبيا" (4) ومات في 1783 وقد بلغ الخامسة والستين إثر إعياء أصابه في إحدى محاضراته. وقد أوصى بمجموعته التشريحية الكبرى لجلاسجوا، حيث ما زال محتفظا بها في متحف هنتر.(37/265)
أما أخوة جون هنتر فالقد ولد بعده بعشر سنوات، ومات بعده بعشر أيضا. وحين بلغ الحادية والعشرين (1749) كان قد حصل من العلم ما أهله للاضطلاع بصف وليم في التشريح العملي. وبينما كان يعمل مع أخيه، حل مشكلة سقوط الخصيتين عند الجنين، وتتبع دورة المشيمة وتشبعات الأعصاب الأنفية والشمية، واكتشف القنوات الدمعية، وقام بدور رائد في عض وظائف القناة اللمفاوية. وفي السابعة والعشرين دخل أكسفورد، فلما وجد اللاتينية واليونانية أشد مواتا من جثث الموتى، ترك لكلية والتحق بالجيش جراحا. وتعلم الكثير في أثناء الخدمة العاملة في الخارج عن جراحة البارود، فخلف بعد موته رسالة قيمة في الموضوع. وقد مارس الجراحة وعلمها عند رجوعه إلى إنجلترا، وواصل أبحاثه في التشريح والفسيلوجيا. وفي 1767 أصيب بحادث مزق له "أربطة أخيل" (التي تربط عضلات سمانة الساق بالعقب). ومن مشاهداته عن نفسه آنئذ، ومن تجاربه على الكلاب، توصل إلى جراحة ناجحة للأقدام المشوهة وغيرها من التشوهات التي تصيب الأربطة فيما تصيب. وحدث أنه حقن نفسه بالزهري عن غير قصد، فأرجا علاجه ريثما يدرس المرض من خبرته الشخصية (5)، على أنه أخطأ في اعتباره الزهري والسيلان مرضا واحدا. وأثبت بالتجربة أن الهضم لا يحدث في الأفاعي والسحالي أثناء اسباتها. وجمع لأبحاثه في بيته ببرمتن معرضا غريبا للوحوش، فيه الديوك البرية، والحجل، وضفادع البر، والسمك، والأوز، والقنافذ، وديدان القز، والنحل، والدبابير الكبيرة والصغيرة، ونسر، وفهدان، وعجل. وكاد يفقد حياته في صراعه مع العجل ومحاولته القبض على الفهدين الهاربين. وقد شرح نيفا وخمسمائة نوع من الحيوان. ودرس آثار مختلف السموم، واعترف في 1780 بأنه "سمم بضعة آلاف من الحيوان".
وفي 1785 جلس إلى زينولدز ليرسمه، ولكنه كان كثير الحركة والتململ أول الأمر. وأوشك السر جوشوا أن يعدل عن تصويره، حين أخذت هنتر سنة من أحلام اليقظة عميقة ساكنة مكنت المصور من تخطيط اللوحة المعروضة الآنفي كلية الجراحين الملكية. وكان جون كأخيه صاحب(37/266)
طبع نزق عات. وقال حين وجد نفسه عرضة للذبحة الصدرية "أن حياتي في يد أي وغد يطيب له أن يضايقني ويغيضني" (6) وحدث أن أحد زملائه ناقضه، فاستشاط غضبا، ولم يلبث أن فارق الحياة بعد دقائق (1793)، ودفن في دير وستمنستر بجوار رفات بن جونسن. وقد حصل اتحاد الجراحين، بفضل منحة من الحكومة، على مجموعته المحتوية على ثلاثة عشر ألف عينة، وأصبحت المجموعة في 1836 متحف اللندني. و "الخطاب الهنتري" الذي يلقى في ذاكراه واقعة سنوية في عالم الطب الإنجليزي.
أما الفسيولوجيا فإن أعظم أعلامها في هذه الحقبة هو ألبرشت فون هاللر وقد التقيا به شاعراً في شبابه، وفي سنوات اللاحقة وضع نفسه على رأس علماء الفسيلوجيا بكتابه "أصول فسيولوجية جسم الإنسان" الذي صدر في ثمانية مجلدات بين عامي 1757و1766. ولم تقتصر هذه الأسفار على تسجيل ما توافر من علم بتشريح الإنسان وفسيولوجيته، بل شملت كذلك كشوفه عن دور الصفراء في هضم الدهنيات، وعن قابلية ألياف العضلات للتهيج أو التقلص مستقلة عن الأعصاب، لا بل عقب فصلها عن الجسد. وخلص ديدرو من هذه التجارب وأمثالها إلى أنه "إذا كانت الحياة باقية في أعضاء فصلت عن الجسد، فأين هي النفس إذن؟ وما الذي يحدث لوحدتها؟ ... ولعدم قابليتها للانقسام؟ " (7) وزعم بناء على هذه الشواهد أن جميع العمليات الفسيولوجية ميكانيكية. وخالفه هاللر، ففي رأيه أن قابلية النسيج العضوي للتهيج دليل مبدأ حيوي لا يوجد في المواد غير العضوية ولا يتفق والفلسفة الميكانيكية. وأظهر المزيد من دراسات هاللر أن "بنية عظام ذوات الأربع في جوهرها واحد هي وبنية الطيور" وأن "العظام في الإنسان لا تختلف في أي جزء من أجزاء بنيتها عن عظام ذوات الأربع" (8) وفي 1755 قام بأول ملاحظة مدونة لمرض التصلب السنبلي، أي تراكم الدهن في جدران الأوعية الدموية. يقول السر وليم فوستر "حين نفتح صفحات هاللر نشعر أننا انتقلنا إلى العصور الحديثة" (9).(37/267)
وأيدت أبحاث أخرى الرأي الميكانيكي. فتبين رورت هويت (1751) أن الأفعال المنعكسة لا تحتاج لأن يشارك فيها غير قطاع صغير من الحبل الشوكي. وبدا أن عمل برستلي، ولا فوزييه، ولا بلاس، ولا جرانج، يختزل النفس إلى عمليات كيميائية شبيهة بالاحتراق. وأثبت تجارب ريامور (1752) أن الهضم ينشأ عن الفعل الكيميائي للعصارات المعدية، وأثبت سباللانتساني (1782) أن هذا الفعل - فعل العصارات الهضمية - على الطعام يمكن أن يستمر حتى خارج المعدة، واكتشف جون هنتر أن هذه العصارات تبدأ بعد الموت في هضم جدار المعدة ذاته.
وكان سباللانتساني من أساطين فسيولوجية القرن الثامن عشر وقد رأينا تجاربه على التولد "الذاتي أو التلقائي"، ولم يكن اهتمامه بعملية الهضم يعرف حدودا. فقد اكتشف الوظيفة الهضمية للعاب. وأجرى التجارب على نفسه بالقيء المصطنع، وبابتلاع الأكياس والأنابيب، التي استعادها بصبر من برازه. وكان أول من بين أن التقلص الانقباضي للقلب يرسل الدم في أصغر الشعيرات. وبين أن العرق ليس شبيها بالتنفس، ولكنه يستطيع إلى حد ما أن يحل محل الشهيق. وأصبح حجة في الإخصاب رغم أنه رئيس دير. وقد وجد أنه إذا غطيت أعضاء الذكورة في ضفدع بقماش مغموس في الشمع ظلت أنثاه دون إخصاب بعد الجماع ولكن حين جمع سائل الذكر من القماش ووضعه ملتحما ببيض الأنثى أصبحت مخصبة. وحصل الإخصاب الصناعي في الثدييات بحقنه مني كلب في رحم كلبة (10). وقد قدر القرن العشرون في نهاية المطاف مدى تجاربه التي لم يعترها كلل، وأدرك مغزاها، واعترف به كاهناً من الصفوة المختارة في كهنوت العلم.
2 - دهاء المرض
ولكن، هل هزم نمو المعرفة سعة حيلة المرض؟ كلا. لقد قدر فولتير متوسط عمر الإنسان في عصره باثنتين وعشرين سنة (11) وكان من(37/268)
أثر الأحياء الفقيرة المزدحمة في المدن النامية ارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، حتى بلغت أحياناً خمسين في المائة (12). وفي لندن كان ثمانية وخمسون في المائة من جميع الأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة (13) وشاعت على نطاق واسع عادة ترك الأطفال حديثي الولادة. وفي السنوات الثمان بين عامي 1771 و 1777 أدخل قرابة 32,000 طفل إلى المستشفى اللقطاء بباريس- بمعدل تسعة وثمانين يوميا، ومن هؤلاء الرضع مات 25,476 (أي ثمانون في المائة) قبل أن يتموا ربيعهم الأول. وأعان على زيارة وفيات الأطفال في القرن الثامن عشر انتشار الرضاعة الجافة- أي إحلال البزازة محل ثدي الأم أو المرضع وقد قدر السر هانز سلون نسبة الوفيات في الرضاعة الصناعية بثلاثة أضعاف نسبتها في أطفال الرضاعة الطبيعي. وراجت الطريقة الجديدة على الأخص بين طبقات الراقية في فرنسا، إلى ن أشاع كتاب روسو "أميل" (1762) موضة الرضاعة من الثدي. واستمر الإجهاض ومنع الحمل. واستعمل القراب من القماش- الذي أوصى به فالبيو في 1564 للوقاية من عدوى الأمراض التناسلية - في القرن الثامن عشر لمنع الحمل (14). وقد ورد في كتاب الدكتور جان استروك "في الأمراض التناسلية" (1736) ذكر الزناة الذين "استعملوا حينا أكياس من نسيج رقيق من قطعة واحدة على شكل قراب. تسمى بالإنجليزية Condum (15) " وأصدرت امرأة تدعى المسز فلبس في 1776 إعلانات يدوية في لندن أذاعت أن في حانوتها كمية وافرة من "أسباب الأمان التي تكفل صحة زبائنها" (16). ولكن الأمراض التناسلية اقتضت الضحايا من كل طبقة رغم هذه "الآلات" كما كانت تسمى ... وقد كتب اللورد تشسترفلد إلى ولده محذرا منها "ففي الحب قد يضيع الرجل قلبه ويحتفظ بكرامته ... أما إذا ضيع أنفه فإنه يضيع معه سمعته" (17).
ويصعب علينا-نحن الذين نعيش بعد جنر- أن نتصور أي لعنة ابتلى بها الجدري البشر قبل أن يهدي هذا الطبيب العالم الغربي إلى التطعيم ولقد حسب فولتير أن "من بين مائة شخص يولدون، يصاب ستون على الأقل بالجدري، ومن هؤلاء الستين يموت عشرون ... وعشرون(37/269)
آخرون يحتفظون بندوب كريهة لهذا المرض القاسي تلازمهم مدى الحياة" (18) وبين عامي 1712 و1715 مات بالجدري ثلاثة من ورثة العرش الفرنسي. وقد ذهب الأمير دلين إلى أن 200. 000 من نزلاء أديرة النساء والرجال لجئوا إليها هربا من ذل التشوه الذي أصابهم به الجدري (19). واستفحل المرض حتى بلغ درجة الوباء في باريس في 1719، وفي السويد في 1749 - 65، وفي فيينا في 1763 و 1767، وفي تسكانيا في 1764، وفي لندن في 1766 و 1770.
وكانت الأوبئة الآن، بصفة عامة، أخف وطأة منها في القرون السابقة، ولكنها ظلت أحد الأخطار التي تهدد الحياة. وكانت أشد هولا في الريف منها في المدن، رغم ما في هذه من أحياء فقيرة مزدحمة، لأن الفلاحين كانوا أعجز من أن يدفعوا ثمن الرعاية الطبية. وقد قتلت أوبئة التيفوس، وحمى التيفود، واجدري، ثمانين ألف شخص في برتني في سنة واحدة (سنة 1741) (21). وفي 1709 قضى الطاعون الدملي على 300. 000 شخص في بروسيا، وعاد ظهوره بشكل أخف في أوكرانيا في 1737، وفي موسكو في 1789 وكانت الحمى القرمزية، والملاريا ( mal aria أي الهواء الفاسد) والدوزنتاريا أمراضا شاسعة، لا سيما بين الطبقات الدنيا، حيث أعانها على الانتشار الافتقار إلى حفظ الصحة للعامة والصحة الشخصية. وأصيبت باريس، ودبلن، وأبردين، وتورجاو، وبرن، بأوبئة من حمى النفاس المعدية. أما الأنفلونزة، التي سماها الفرنسيون La grippe ( الالتصاق) فقد بلغت مرحلة الوباء في فترات مختلفة في إيطاليا، والسويد، وألمانيا. وكانت بين الحين والحين تقضي إلى شلل الأطفال، كما حدث للصبي الذي أصبح فيما بعد السر ولتر سكوت. وأشرف الالتهاب الرئوي، والدفتريا، والحمرة، أحياناً على مستوى الأوبئة. وكان السعال الديكي، الذي يبدو الآن قليل الشأن، واسع الانتشار وخطراً، لا سيما في شمالي أوربا، ففي السويد مات به أربعون ألف طفل بين عامي 1749و1764. ووفدت الحمى الصفراء من أمريكا، وانتشرت حتى أصبحت وباء في لشبونة عام 1723. وإلى هذه العلل وعشرات غيرها أضافت نساء الطبقات(37/270)
العليا مرضا سموه " the vapors" وهو مزيج مضطرب من الإرهاق العصبي، والوهم، والأرق، والسأم، يتفاقم أحيانا حتى يبلغ درجة الهستريا.
ولمقاومة هذه الأعداء العامة اتخذت الحكومات بعض التدابير لحفظ الصحة. ولكن القمامة كانت لا تزال في أكثر الحالات تفرغ في الشوارع. وظهرت المراحيض في باريس في مطلع القرن، ولكن في بعض البيوت فقط، ولم تكن توجد إطلاقاً في غير باريس من أوربا. وكانت الحمامات ترفاً يختص به الأغنياء. ولعل الحمامات العامة كانت أقل عددا منها أيام النهضة الأوربية. وأحرز حفظ الصحة في الجيوش والبحريات تقدما أكثر منه في المدن. ونهض السر جون برنجل بالطب الحربي (1774)، وأحدث الاسكتلندي جيمس لند ثورة في حفظ الصحة البحرية (1757). وخلال بعثة آنسن سنة 1740 كان الأسقربوط أحيانا يعجز نحو خمسة وسبعين في المائة من الملاحين. وقرر لند في رسالة خطيرة عن هذا المرض (1754) أن عصير البرتقال أو الليمون تداوي به الهولنديون منه في 1565 واستعمله السر رتشارد هوكنز في 1593، وقد أدخل هذا الدواء الواقي بنفوذ لند إلى البحرية البريطانية (1757). ولم تكن في رحلة كوك الثانية التي امتدت أكثر من ثلاث سنين (1772 - 75)، إصابات مميتة بالأسقربوط غير إصابة واحدة. وفي 1795 تقرر استعمال العصير أو الفواكه الحمضية إجبارياً في البحرية البريطانية (ومن هنا إطلاق كلمة limey على الجندي أو البحار البريطاني)، وبعد هذا أختفى مرض الأسقربوط البحري.
وكان من معالم إنسانية القرن الثامن عشر البارزة، أن يضع فكتور ركيتي، مركيز مبرابوا، مبدأ (1756) مؤداه أن صحة الشعب مسئولية تقع على عاتق الدولة. وقد اقترح يوهان بيتر فرانك نظاماً كاملاً للخدمة الصحية العامة في كتابه "نظام كامل للرقابة الطبية العامة" (1777 - 78)، وكان قد بدأ حياته طفلاً فقيراً ملقى على عتبة بيت. وهذه المجلدات الأربعة -هذه"الذكرى النبيلة للولاء للإنسانية امتد طول العمر" (21) - وصفت(37/271)
التدابير التي ينبغي لأي مجتمع مدني أن يتخذها للتخلص من النفايات، وللحفاظ على نقاء الماء والطعام، ولصيانة الصحة في المدارس والمصانع، ولحماية صحة النساء في الصناعة. وزاد الطبيب على هذا أن أوصى بفرض الضرائب على العزاب، وبذل النصيحة للأزواج لحفظ صحتهم، وطالب بتعليم الأطفال مبادئ الصحة. وكان نابليون أحد الذين قدروا أفكار فرانك، فرجاه أن يأتي ويخدم في باريس، ولكن فرانك بقي في فيينا.
وأما المستشفيات فقد تخلفت كثيراً عن واجب الاهتمام المنظم بالمرض. فقد ازداد عددها. ولكن جودتها هبطت. وضاعفت إنجلترا على الأخص من مستشفياتها في القرن الثامن عشر، ولكن كلها كان يعتمد على التبرعات الخاصة دون منحة من الدولة (22). وفي باريس تلقى أكبر مستشفياتها المسمى الأوتيل ديو 251,178 مريضاً في السنوات الإحدى عشرة بين 1737 و 1748، مات منهم 61. 091. وقد أفضى التهافت على "منزل الله" هذا-كما سموه- إلى حشد ثلاثة أشخاص أو أربعة أو خمسة أو حتى ستة في فراش واحد، "فكان المحتضرون والناقهون يرقدون جنبا إلى جنب ... وكان الهواء ملوثاً بالإفرازات المنبعثة من هذا العدد العديد من الأجساد المريضة" (23). وكان من بين الأعمال الخيرة الكثيرة التي قام بها لويس السادس عشر في 1781 أمره بأن "يخصص سرير مستقل لكل من 2. 500 مريض، وأن ينام خمسمائة مريض على أسرة مزدوجة يفصلها حاجز"، وأن تخصص حجرات للناقهين (24). ومع ذلك لم يكن بالمستشفى بعد سبع سنوات من الأسرة المنفردة سوى 486، واحتوى 1. 220 سريراً أربعة مرضى أو أكثر، ورقد ثمانمائة مريض على القش (25). وفي فرانكفورت-على -المين وغيرها من المدن كان الهواء في المستشفيات من الوخم بحيث "رفض الأطباء الخدمة في المستشفيات باعتبارها معادلة لحكم بالإعدام" (26).(37/272)
3 - العلاج
واجترأ بعض الأطباء على تقويض مواردهم بنشر المعرفة بالطب الوقائي. من ذلك أن الدكتور جون آربثنوت اللندني زعم في "مقال عن طبيعة الأمراض"، (1731) أن نظام التغذية يفعل كل ما في وسع الطب أن يفعله. وقد تنبأ بأمراض المستقبل في رسالة تسمى "ثمن صيانة الصحة" (1744). وتحسن تعليم طلاب الطب تحسينا بطيئاً، مع احتفاظ الجامعات الإيطالية (بادوا، وبولينا، وبافيا، وروما) بمكان الصدارة، وفيينا، وباريس، ومونبليه، بالمكان التالي؛ ولكن حتى في هذه الجامعات لم يكن هناك أكثر من أربعة أساتذة أو خمسة. وكان كل مدرس يجمع المصروفات الجامعية للمقرر الذي يدرسه، ويصدر تذاكر دخول، أحيانا على ظهر ورق اللعب (27) وبدأت بعض لمستشفيات الآن تعلم الطب الأكلينيكي. وكانت الممارسة القانونية للطب أو التوليد تتطلب دبلوما من معهد معتمد.
وكما أن نظرية جيورج شتال عن النار باعتبارها "فلوجستونا" تسلطت على الكيمياء في القرن السابق للافوازييه، فكذلك تسلطت فكرته عن "حيوية المادة animism" على الطب. فقد رفض نظرة ديكارت إلى الجسم على أنه جهاز ميكانيكي، وصور النفس على أنها أصل لا مادي للحياة يشكل الجسم بوصفه أداته. وبناء عليه، رأى أن الطبيعة، في صورة قوة الحياة هذه، هي العامل الأهم في شفاء العلل، وما المرض إلا جهد من "الروح الحية anima" لاسترداد الصحة، والفعالية، والانسجام الطبيعي للأعضاء المضطربة؛ وارتفاع درجة الحرارة وسرعة النبض وسلتان تلجأ إليهما الطبيعة للتغلب على المرض، والطبيب الحكيم من يعتمد أول ما يعتمد على عمليات التخلص الذاتي من السموم، ويكره استعمال العقاقير. ولكن شتال ترك سؤالا بغير جواب، وهو ما السبب في الاضطراب. ومن الأجوبة جواب قدمه ماركوس أنطونيوس بلينكتس، الذي بعث في 1762 رأى أثناسيوس كيرشر في أن المرض راجع إلى عدوى بكائن دقيق. فقال إن لكل مرض كائناً مغيراً خاصاً به، له فترة حضانة محدودة.(37/273)
على أن هذه البصيرة الممتازة بنظرية الجراثيم لم تترك طابعاً على طب القرن الثامن عشر العلاجي، وكان لا بد من بعثها مرة ثانية في القرن التاسع عشر.
واقترحت بعض طرق التشخيص الجديدة، فدعا ستيفن هيلز إلى قياس ضغط الدم، وادخل ليوبولد أوينبروجر النقر على الصدر وسيلة لتبين السائل في القفص الصدري. وطور اسكتلنديان، هما جون مارتن وجيمس كري، استعمال الترومتر الأكلينيكي.
وتنافست العقاقير، والجراحة، والشعوذة، على مال المريض. وظل الفصد الدواء الذي يصلح لكل الأدواء، وقد قدر طبيب في 1754 أن أربعين ألف شخص يموتون كل عام في فرنسا من جراء الإفراط في الحجامة (28). وفي أخريات القرن تصاعدت الاحتجاجات على هذا الدواء ووجدت لها صوتا فعالا في كتاب ولشتين "تعليقات على الفصد" وتكاثرت العقاقير. وقد نبذت فارماكوبيا لندن الرسمية الصادرة في 1746 الوصفات المؤلفة من نسيج العنكبوت، وقرون الثور الوحشي، ولبن العذراء، ولكنها احتفظت بالترياق، وعيون السرطان، وقمل الصوف والأفاعي، واللآلئ، زعما منها أنها تؤلف مزائج شافية. وقد أعطت فارماكوبيا عام 1721 صفة رسمية لصبغ الأفيون الكافوري ( paregoric) وعرق الذهب المقيئ (الابيكاك)، ومقيئ الطرطير، وروح النشادر الطيار، وغيرها من العقاقير الجديدة؛ وأضافت طبعة 1746 الفالريانا، وروح النترات الطيب، و"البلسم" (صبغة الجاوي)؛ واعتمدت طبعة 1788 الاونيكا، والعشبة، والقشيرة، والمانزيا، وصبغة الأفيون ... وبدأ استعمال زيت الخروع في أوربا الحديثة حوالي 1764، والزرنيخ حوالي 1786، وادخل اللحلاح (الكولشيوم) علاجا للنقرس في 1763 وتعلم غلام من شروبشير يدعى وليم وذرنج من جدة عجوز أن كف الثعلب (الديجيتال) مفيد للاستسقاء. وقد ظفر بمكان مرموق في تاريخ الطب باكتشافه فائدته في أمراض القلب (1783). وكان كثير من مشاهير الأطباء يصنعون عقاقيرهم ويبيعونها، ويتقاضون الأتعاب على تذاكرهم(37/274)
الطبية لا على عيادتهم لمرضاهم. وأثرى أفراد من "الأدوية المملوكة لأصحابها"-المركبة من وصفات سرية مسجلة. وهكذا ابتلعت إنجلترا أطناناً من "إكسير ستوتن" و"زيوت بتن البريطانية" و"حبوب هوبر للنساء" و "أقراص الدود" لتشنج.
وكان دجاجلة الطب ومشعوذوه عنصرا محببا في المسرح الطبي. من ذلك أن "الكونت" اليساندرو دي كاليوسترو، واسمه الحقيقي جوزيبي بلساموا، كان يبيع إكسيرا يطيل العمر للحمقى الأغنياء في أقطار عديدة. وزعم الشفالييه تيلر، وهو مسلح بأبرة السد (الكتركته)، إنه يشفي أي مرض من العيون، وقد استمع إليه جيبون وهاندل والأمل يراودهما. وأقنعت جوانا ستيفنز البرلمان بأن يدفع لها خمسة آلاف جنيه لقاء الكشف عن سر علاجها الشافي من الحصى، فلما نشرت وصفتها (1739) اتضح أنها مركب من قشر البيض، والحلزونات، والحبوب، والصابون، وفي كل حالة من الحالات التي زعمت أنها شفتها وجد الحصى في المثانة بعد موت المريض.
وأما أشهر دجاجلة القرن الثامن عشر فهو فرانتز أنطون مزمير Mesmer وقد بعثت رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراه من فيينا (1766) الدعوى القديمة القائلة بتأثيرات النجوم على الإنسان، ففسرها بأنها أمواج مغنطيسية وحاول حينا أن يشفي الأمراض بتمرير المغنطيس على الأعضاء المريضة، ثم أقلع عن هذا العلاج بعد أن قابل قسيسا بدا أنه يشفي بمجرد وضع يديه على المريض، ولكنه أعلن أن قوة سحرية تسكنه، وأن في إمكانه نقلها للغير بحفز من المال. وافتتح مكتبا في فيينا، حيث عالج المرضى بلمسهم- كما كان يفعل الملوك مع مرضى الداء الخنازيري، وكما يفعل دعاة الشفاء بالإيمان اليوم. وأعلن البوليس إنه مشعوذ، وأمره بأن يبرح فيينا في ظرف ثمان وأربعين ساعة. فرحل إلى باريس (1778) وبدأ من جديد بنشر "مذكرة عن كشف المغنطيسية الحيوانية" (1779)، وأقبل إليه المرضى لينومهم mesmerize فكان يلمسهم بعصاه السحرية، أو يحملق في عيونهم(37/275)
حتى يخضعهم لإيحائه إخضاعاً أشبه بالتنويم؛ وكان قبح صورته معينا رهيبا في عملية التنويم هذه. وأقام أحواضاً مغنطيسية تحوي مزيجاً قوامه سلفيد الهيدروجين؛ ومزودة بنتوءات حديدية يمسها المرضى وأيديهم متشابكة؛ ولكي يجعل مزمير الشفاء مؤكدا كان يلمس كلا منهم بدوره. وكان بين مرضاه المركيز دلافماييت ودوقة بوربون، وأميرة لامبال، وغيرهم من الشخصيات البارزة في البلاط. وعرض عليه لويس السادس عشر عشرة آلاف فرنك أن كشف سره وأسس معهداً مغنطيسياً مباحاً للجميع، فرفض. وقد كسب خلال ستة أشهر 350. 000 فرنك (29) وفي 1784 عينت أكاديمية العلوم لجنة من أعضائها لافوازييه وفرانكلن لبحث طرق مزمير. وقد سلم تقريرها ببعض دعاواه وعلاجاته الشافية (لا سيما للأمراض العصبية الصغيرة)، ولكنه رفض نظرية المغنطيسية الحيوانية التي قال بها. ثم أدانته حكومة الثورة الفرنسية باعتباره نصاباً، وصادرت ثروته المغرية ونفته من فرنسا. وقد مات بسويسرا في 1815.
وفي لندن افتتح جيمس جراهام (1780) "معبد للصحة" على مبادئ مزمير مع تحسينات ادخلها عليه. فزوده بسرير عرس سحري للعروسين ضمن له كفالة النسل الجميل لهما؛ وكان يتقاضى مائة جنيه أجراً عنه لليلة (30). وكانت مساعدته "ربة الصحة" في إجراءاته هي إيما ليون، التي قدر لها حين أصبحت ليدي هاملتن أن تنوم اللورد نلسن ذاته.
واستغرق الجمهور ورجال الطب القرن الثامن عشر بطوله تقريباً لتقبل التطعيم الرقائفي لوناً مشروعا من ألوان الطب العلاجي بعد أن أختلط عليهم الأمر لكثرة أدعياء الطب وعلاجاته المعجزة. وكان قدماء الصينيين قد مارسوا نقل الفيروس الذي أضعفت قوته من إنسان مصاب بالجدري إلى آخر لتحصينه ضد الجدري (31). ولهذا الغرض نفسه كانت النسوة الشركسيات يخزن الجسم بأبر مست بسوائل الجدري. وفي 1714 وصفت رسالة من الدكتور ايمانويل تيموني، قرأت على جمعية لندن الملكية، "الحصول على الجدري بالحز أو التطعيم، كما مورس منذ زمن طويل(37/276)
في الأستانة (32). كتبت ليدي ماري ورتلي مونتاجيو من الأستانة في أول أبريل 1717:
"أن الجدري، ذلك المرض الشديد الفتك والانتشار بيننا (نحن البريطانيين) قد جعله اختراع التطعيم سليم العاقبة تماما ... وفي كل عام تجرى العملية لألوف الناس ... وليس هناك حالة واحدة لشخص مات منها. وقد تصدق أنني مطمئنة جداً لسلامة التجربة إذا علمت أنني أنوي تطبيقها على ولدي الصغير الحبيب (33).
وقد طعم الصبي البالغ من العمر ست سنوات في مارس 1718 بيد الدكتور تشارلز ميتلاند، وهو طبيب إنجليزي كان يومها في تركيا.
وفي 1721 انتشر وباء جدري في لندن وفتك بأهلها لا سيما الأطفال. وكانت ليدي ماري قد عادت من تركيا، فكفلت الكتور ميتلاند، الذي عاد هو أيضا إلى وطنه، بأن يطعم أبنتها البالغة من العمر أربعة أعوام. ودعا ثلاثة من أبرز الأطباء ليروا أن الفتاة (التي أصبحت فيما بعد ليدي بيوت) لم تزعجها النتائج إزعاجا يذكر. فأعجبوا بما رأوا، وسمح أحدهم بتطعيم أبنه. ونشرت ليدي ماري الفكرة في البلاط. ووافقت الأميرة كارولين على تجربة التطعيم على ستة مجرمين حكم عليهم بالإعدام، فارتضوا على وعد بأن يفرج عنهم إن ظلوا أحياء؛ وعانى أحدهم من إصابة خفيفة بالمرض، أما الباقون فلم يبد عليهم أي أذى، وأفرج عن الستة جميعاً. وفي 1722 أمرت الأميرة بأجراء العملية على الأطفال الأيتام في أبرشية- سانت جيمس، فتكللت بالنجاح التام، وفي أبريل أمرت بأجرائها على اثنين من بناتها. وانتشر قبول التطعيم في الأوساط الأرستقراطية البريطانية، ولكن موت شخصين مطعمين في بيتهما عطل الحركة وقوى المعارضة لها. وشكا أحد النقاد من أن "تجربة لم تمارسها غير قلة من النساء الجاهلات ... تسود فجأة، وبعد خبرة ضئيلة، على أمة من أكثر أمم الأرض أدبا وتهذيبا حتى وجدت طريقها إلى القصر الملكي (34). وأحست ليدي مارى بهذه الطعنة، فنشرت دون توقيع "بيانا واضحا عن التطعيم بالجدري بقلم تاجر تركي"وشجب معظم الأطباء الإنجليز التطعيم لما فيه من خطر،(37/277)
ولكن في 1760 أدخل روبرت ودانيال ستن التطعيم بالثقب، وقررا أن لم يمت من بين 30. 000 مطعم غير 1. 200 - أي أربعة في المائة. وظل قسيس إنجليزي يدعى إدوارد ماسي حتى عام 1772 يعظ ضد "عادة التطعيم الخطرة المدنية"، ويدافع بقوة عن الرأي اللاهوت القديم، الذي يرى أن الأمراض ترسلها العناية الإلهية عقاباً على الخطيئة (35). وربما أمكن صياغة هذا القول من جديد ككثير من التعاليم الدينية القديمة صياغة علمانية، وهي أن المرض كثيراً ما يكون عقاباً على الجهل والإهمال).
وتبنت الفكرة دول أخرى. ففي أمريكا طعم الدكتور زابديل بويلستن أبنه (1721) خلال وباء الجدري السادس الذي تفشى في بوسطن، وأجرى 246 تطعيما آخر رغم معارضة هائجة هددت بشنقه. ودافع عنه أكثر بينامين فرانكلين وبنيامين رش تأييدهما الفعال لحركة التطعيم في فيلادلفيا. وفي فرنسا ضرب الوصي على العرش، فيليب أورليان، بشجاعته المعهودة، المثل لغيره بتطعيم ولديه. وعارضت كلية الطب بجامعة باريس التطعيم حتى 1763. ولكن فولتير امتدح حملة ليدي ماري في "رسائله حول الإنجليز"، ولاحظ انتشار التطعيم بين الشراكسة، وعزاه إلى القيمة المالية للجمال: "إن الشراكسة قوم فقراء، ولكن لهم بنات جميلات، هن إذن أهم سلعة في تجارتهم الخارجية، فهن اللاتي يزودن بالحسان حريم السلطان وصوفي فارس وغيرهم ممن يتيح لهم ثراؤهم شراء هذه السلع الثمينة والاحتفاظ بها. " (37) وأذاع طبيب إيطالي يدعى أنجيلو جاتي تجربة التطعيم في فرنسا وأذاعها تيودور ترونشان في سويسرا. وتطعمت كاترين الكبرى والغراندوق بولس الروسي بناء على إلحاح فولتير (1768)، وفي ذلك العام طعم بان انجهنوز ثلاثة أعضاء من الأسرة الإمبراطورية في فينيا.
كل هذه التجارب التي استعملت مصل الجدري من الإنسان، كان فيها الكثير مما يبعث على الشكوى، لأن نسبة الوفيات من التطعيم وإن(37/278)
هبطت إلى أربعة في المائة كانت لا تزال مرتفعة ارتفاعا مؤذيا. ولاحظ جراح إنجليزي يدعى إدوارد جنر أن اللبانات اللاتي أصبن بجدري البقر (وهو مرض خفيف نسبيا) نادراً ما يصبن بالجدري الذي يفتك بالمرضى في غالب الأحيان. وحوالي 1778 خطرت له فكرة نقل المناعة ضد الجدري بالتطعيم بلقاح مصنوع من بقرة مصابة بالجدري ( vacca باللاتينية هي البقرة). وكان هذا التطعيم قد تم من قبل على يد مزارع من دورست يدعى بنيامين جستي، في 1774 - 89، دون أن يلفت اهتمام أهل الطب وفي مايو 1796 أجرى جنر عملية التطعيم بتلقيح جيمس فيلبس بصديد جدري البقر. وفي يوليو لقح الصبي ذاته بفيروس الجدري ولم يصب الصبي بالجدري، فاستنتج جنر أن لقح البقر يعطي حصانة ضد الجدري. وفي 1798 نشر كتابه الخطير "تحقيق في سبب ونتائج لقاح الفاريولا"، (والفاريولا كان الاسم الطبي للجدري)، الذي روى فيه قصة ثلاث وعشرين حالة كانت كلها ناجحة، وبلغ الاقتناع بالتجارب التي أعقبت هذا مبلغاً حمل البرلمان في 1802و1807 على منح جنر ثلاثين ألف جنيه ليوسع عمله ويحسن طريقته، وبعدها تناقصت سريعاً الإصابات بالجدري ذلك المرض الذي ظل قروناً سوطاً من أسواط العذاب الكبرى التي أشرعت على حياة البشر، حتى اقتصر حدوثه اليوم في أوربا وأمريكا في جميع الحالات تقريباً على عدوى الأشخاص الذين لم يطعموا من وفود الفيروس من أقطار لا يمارس فيها التطعيم.
4 - الأطباء المتخصصون
كان فن التطبيب يتعقد بنمو علم الطب تعقداً أنبت فروع الطب المتخصصة. ولم تكن أمراض النساء بعد ميداناً للدرس قائماً بذاته، أما التولد فكان الآن مهارة متميزة، وانتقل أكثر فأكثر إلى أيدي الرجال. وظل حياء النساء يؤثر المولدات المدربات أينما تيسرن، ولكن العديد من الأمهات في البيوت المالكة ضربن المثل في قبولهن الرجال مولدين لهن. وكان وليم سمبلي رائداً في إنجلترا بدراساته في نظام المخاض واستعمال الملقط-(37/279)
وهي دراسات جمعها بعد خبرة ثلاثين عاماً في كتابه القيم"فن التولد" (1752).
وأحرز الرمد تقدماً ذا بال بجراحات السد (الكتركته) التي أجراها وليم تشسلدين (1728) وجاك دافييل، وقد أبتكر ثانيهما (1752) العلاج الحديث للسد بانتزاع العدسة. وفي 1760 صنعت أول نظارة ذات بعدين لبنيامين فرانكلن وبناء على اقتراحه فيما يبدو. وسنلقي بديدرو يدرس سيكولوجية المكفوفين ويقترح إمكان تعليمهم القراءة باللمس، ولعل روسو (على ما يقال) اقترح بالتفاهم معه الطباعة البارزة للمكفوفين (38).
وتقدم طب الآذان بفضل استعمال القسطرة لتنظيف قناة يوستاكيوس (1724). وبفضل أول جراحة ناجحة للالتهاب الحلمي (1736)، وكشف سائل مرن في متاهة الأذن (1742). وقد انقطع جياكومو رودريجر بيربرا الأسباني، الذي شغف حباً بفتاة صماء بكماء، لوضع لغة إشارات تستخدم يداً واحدة فقط، وحسن ألابيه شارل ميشيل دليبيه طريقة الكلام الصامت بأبجدية تستعمل كلتا اليدين، وكرس حياته لتعليم تلاميذه لإعاشتهم.
وأصبح علاج العقول أكثر إنسانية باضمحلال النظرة اللاهوتية القديمة التي دان بها بوسويه وويسلي-والتي زعمت أن الجنون مس شيطاني سمح به الله عقاباً على الخطيئة الموروثة أو المكتسبة. فقد كان نزلاء النار نثروم (برج الحمقى) بفيينا يعرضون على المتفرجين لقاء رسم دخول شأن الحيوانات في معرض الوحوش. وكان مستشفى بيت لحم للمجاذيب ( Bedlam) من أماكن الفرجة في لندن، يستطيع الجمهور فيه لقاء أجر أن يتفرس في المخبولين وهم موثقون بسلسلة وطوق حديدي إلى الحائط. وكان المجانين في الأوتيل ديو بباريس يعاملون بقسوة أو إهمال على أيدي خدم مبخوسي الأجر مرهقين بالعمل. وأسوأ من هذا كانت المستشفيات الخاصة لمرضى العقول، التي كان في الإمكان إقناعها بقبول حبس أشخاص يسلمهم إليها أقرباؤهم المعادون لهم (39). واستعملت شتى(37/280)
العقاقير أو الحيل لعلاج الضحايا أو تهدئتهم -كالأفيون، أو الكافور، أو البلادونا (ست الحسن)، أو الفصد، أو الحقن الشرجية، أو لزقة الخردل على الرأس. وذهب بعض المتخصصين إلى أن "دوشا" فجائياً من الماء البارد يخفف من السوداء (المنخوليا)، وأوصى غيرهم بالزواج علاجاً للجنون. أما أول خطوة حديثة نحو علاج أرشد للجنون فقد اتخذها كويكريو بنسلفانيا الذين أسسوا مستشفيات يعالج فيها الجنون على أنه مرض. وفي عام 1774 أسس الغراندوق ليوبولد الأول أمير تسكانيا في فلورنسه الأوسبدالي بونيفاتسيو، حيث بدأ، باشراف فنتشنتسو كياروجي، تناول المشكلة تناولا علمياً. وفي 1788 عينت الحكومة الفرنسية لجنة لإصلاح رعاية المجانين، وكان رئيس اللجنة، فليب بينيل قد بدأ حياته تلميذاً للاهوت، ثم انتقل إلى الفلسفة، وتشرب المبادئ الإنسانية التي نادى بها فولتير، وديدور، وروسو. وفي 1791 نشر كتابه "رسالة طبية فلسفية في الغربة العقلية" وهو واحد من معالم الطب الحديث، وفي 1792 عين مديراً طبيا للبيسيتر، وكان من أكبر مستشفيات الأمراض العقلية في فرنسا. وبعد عامين رقي لمستشفى أكبر هو سالبتريير وبعد أن وجه النداءات الكثيرة لحكومة الثورة، سمح له بأن يحطم سلاسل مرضاه، وأن يطلقهم من زنزاناتهم ويعطيهم الهواء النقي وضؤ الشمس، والرياضة، والأعمال العقلية المتدرجة. وكان هذا واحداً من الانتصارات الكثيرة التي حققتها النزعة الإنسانية العلمانية في أشد القرون إمعاناً في اللا أدرية.
5 - الجراحات
كانت الجراحة أهم تقدم أحرزه طب القرن الثامن عشر باستثناء تطور التطعيم إلى التلقيح. وقد عمرت الرابطة القديمة بين الجراحة وفن الحلاق الصحي حتى عام 1745 في إنجلترا، أما في فرنسا فقد أنهاها لويس الرابع عشر. (وما زال شعار هذا الحلاق-وهو العمود المخطط بالأحمر والأبيض رمزاً للضمادة الملوثة بالدم -يذكرنا بماضيه الجراحي).(37/281)
وفي 1724 صدق لويس الخامس عشر على إنشاء خمسة كراسي للجراحة في كلية سان-كوم بباريس. واحتجت كلية الطب بجامعة باريس على رفع الجراحة إلى مثل هذا المقام الكريم، وزحف الأطباء-وهم يرفلون في أروابهم الجامعية الحمراء ويتقدمهم حامل صولجان ومناد-على سان كوم حيث كانت تلقى محاضرة في الجراحة، فلما وجدوا الباب مغلقا حاولوا فتحه عنوة وتصايحوا بالشتائم والسباب، ناعتين الجراحين بأنهم حلاقون محدثوا نعمة، ولكن الجمع الذي احتشد انقلب على الأطباء وطردهم من المكان. وفي 1731 حصل جورج اريشال وفرنسوا دلابيروني على براءة ملكية بتأسيس "أكاديمية الجراحة"، وفي 1743 أصدر الملك أمرا حرر جراحي فرنسا من ارتباطهم بطائفة الحلاقين، واشترط الحصول على درجة من الكلية لممارسة الجراحة. ومن يومها استطاع الجراح أن يواجه الطبيب في غير خجل ولا أحجام.
وحدث تطور مماثل لهذا في إنجلترا. ففي 1745 فصل الجراحين. رسميا عن الحلاقين، وتقرر اعتبار ممارسة الجراحة في لندن أو بقربها دون امتحان وإجازة تمنحها لجنة من كبار الجراحين جريمة يعاقب عليها القانون. على أن "كلية الجراحين الملكية" لم يصدر بها ترخيص رسمي إلا سنة 1800. أما في ألمانيا فقد كانت الجراحة عموما قبل فردريك الأكبر في أيدي الحلاقين والجلادين، والمتجولين من الممارسين غير المرخصين، الذين يجبرون العظام ويزيلون السد (الكتركته)، ويربطون الفتق، ويستأصلون الحصى. وكان الجراح في الجيش-وهو مفخرة بروسيا- يسمى"فيلدشيرر"، أي حلاق الميدان، لأن من وظائفه الحلاقة للضباط ولكن في 1724 فتحت في برلين كلية للطب والجراحة.
وكانت كثرة جراحي القرن الثامن عشر العظام من الفرنسيون. واخترع لوي بتي "المرقأة" (ضاعظة الشرايين) وأدخل تحسينات على عمليات البتر والعنق وقد أجرى ديدرو في كتابه "حلم دالامبير" على لسان الطبيب الشهير تيوفيل دبوردي دبور دي وصفا لجراحة على المخ يجريها لابيروني. وقد(37/282)
أسس جان أندريه فثيل الجنفي جراحة العظام (1780). وفي إنجلترا طور وليم تشزلدن الجراحة الجانبية للحصى (1727) إلى مرتبة لم تكد تجاوزها بعده (40)، وفاخر بأنه أجرى جراحة لاستخراج حصاة في الربع وخمسين ثانية. وأصبحت الجراحة الانجليزية علما حين أرساها جون هنتر على أساس من التشريح وللفسيولوجيا السليمين. وقد أجرى تجارب على الحيوان ليجد بدائل لجراحات كثيرا ما تؤدى بحياة الإنسان. ففي 1786، بعد أن اكتشف وهو يجرب على وعل أن في استطاعة الأوعية الدموية الفرعية أن تواصل دورتها إذا أوقف المرور من وعاء دموي رئيسي، أنقذ حياة رجل يشكو وروما شريانيا في الساق بربط الشريان الذي يعلو الورم والاعتماد على أجزاء الجسم المحيطة به في امتصاص محتويات الورم. وقد أنقذت هذه الجراحة عددا لا حصر له من الأطراف والأنفس.
كذلك يحتل اسم جون هنتر مكانا مرموقا في تطوير طب الأسنان. فقد كان هذا الفن في إنجلترا في القرن السابع عشر متروكاً أكثره لخالعي الأسنان، الذين كانوا يصيحون معلنين عن قدومهم ويعرضون على الجمهور حبالا من الأسنان كأنها شعار النبالة. وفي 1728 أعلن بيير فوشار في كتابه "جراح الأسنان" أن طب الأسنان فرع من الجراحة. ولكن هنتر كان أول منطبق الطرق العلمية على دراسة الأسنان. وقد أدخل تصنيفها إلى أنياب، وضواحك، وطواحن، وقواطع، وابتكر آلات لتقويم انطباق الأسنان. وكان أول من أوصى بإزالة لب الضرس تماماً قبل حشوه. وقد لخص أراءه في كتابه "التاريخ الطبيعي لأسنان الإنسان" (1721).
وكان أكثر الجراحات الصغيرة يجري دون مخدر. وقد استعمل القدماء من قبل شتى الأشربة المنومة - مثل "السلوى"، والأفيون، وقاتل الدجاج، واللقاح، والشوكران، إلخ، وفي سفر التكوين أن الله ذاته أوقع على آدم "سباتاً" قبل أن يأخذ منه ضلعا. وقد وصف ديوسكوريدس في القرن الأول الميلادي نبيذ اللقاح في العمليات الجراحية (41). واستعملت الهند القنب الهندي cannabis indica ( الحشيش)، وذكر أوريجانوس في(37/283)
القرن الثاني أشربه التنويم الجراحي، كما ذكرها القديس هيلاري-وموطنه بواتييه-في القرن الرابع. واستمر استعمال أكثر المنومات القديمة في العصور الوسطى، فكانت مدرسة سالرنو الشهيرة تحبذ استعمال "إسفنجة تخدير". أما في أوربا الحديثة، فإن المخدر المفضل كان السكر. ولم يكتشف السر همفري ديفي الخواص المخدرة لأول أكسيد النتروجين (الغاز المضحك) إلا في 1799. واكتشف الدكتور كروفورد لونج الطبيب بدانيالز فيل في جورجيا خواص الأثير المخدرة في 1839.
6 - الأطباء
كان من أثر ازدياد الثروة، ونمو الطبقات الوسطى عدداً وثراء، وتقدم علم الطب والتعليم، أن ارتفع مقام الأطباء ودخلهم إلى درجة لم يعهدوها من قبل وقد أثلج هذا صدر لامتري، وكان هو نفسه طبيباً، فقال "إن كل شئ يخلي السبيل أمام الفن العظيم، فن الطبيب الشافي ... فالطبيب هو الفيلسوف الوحيد الذي يستحق تقدير وطنه ... فمجرد رؤيته تعيد إلينا هدوءنا ... وتبعث الأمل الجديد" (42). أما فولتير فكان نقاداً للأدوية-"أن الحمية خير من الدواء" ومعظم الأطباء في رأيه مشعوذين "في كل مائة طبيب ثمانية وتسعون مشعوذين" ولكنه أضاف: "أن الرجال العاكفين على رد العافية لغيرهم من الناس بممارستهم المهارة والإنسانية معاً هم أولا عظماء هذه الأرض، لا بل أن نصيباً من صفات الله، لأن عملية المحافظة والتجديد تكاد تبلغ في سموها عملية الخلق" (43). وقد أثنى ديدرو على كلية الطب بجامعة باريس (44). الجامعة التي نغضت كلية لاهوتها عليه حياته، فقال: "ليس هناك كتب أطالعها بسرور كثر من كتب الطب، ولا رجال يمتعنا حديثهم من حديث الأطباء- ولكن حين أكون معافى "فقط" (45). وقد جعل الدكتور دبورديه الشخصية المحبوبة في قصة "حلم دالامبير" وسلط الهجاء على مهنة الطب كالعادة، كما ترى في مسرحياته جلدوني وصور شودوفيكي، وقصة سموليت "فرديناند كونت فاذوم". وكاريكانورات توماس رولاندسن اللذيذة.(37/284)
وقد رفعت الأتعاب والدخول الأعلى من مقام الأطباء الاجتماعي. وكان أكثرهم في إنجلترا يتقاضى جنيها نظير الكشف على مريض. وبلغ إيراد بعضهم ستة آلاف جنيه في العام. وقد أصبح السر هانز سلون، أول من رقي للبابوية من الأطباء رئيساً للجمعية الملكية، وخلع جوزف الثاني إمبراطور النمسا على جوزف فون كوارين لقب البارون. ولقي الأطباء الترحيب في خيرة أندية لندن وصالونات باريس، وخلعوا عنهم الروب الأسود (السواتن) الكابي، وتزيوا بأحدث أزياء الطبقة الوسطى الراقية فكانوا في إنجلترا يبدون في سترة من الساتان أو الحرير المطرز الأحمر، وسراويل للركبة، وأحذية ذات مشابك، وعصا ذات مقبض ذهبي، وسيف أحياناً، أما في فرنسا فكانوا يضارعون كبار رجال الكنيسة في فخامة زيهم.
وبعض هؤلاء الأطباء يطالبنا بتنويه خاص. منهم سيمون أندرية تيسو الذي اشتهر في لوزان بتزعمه الدعوة للتطعيم، وبكونه حجة في الصراع وقد جاهد لا ليشفي المرضى فحسب، بل ليحفظ الصحة على الأصحاء، وطبع كتابه "نصيحة للشعب في الصحة" (1760) عشر طبعات في ست سنوات، وترجم إلى كل لغة كبرى في أوربا. ومنهم ليوبولد أونبروجر الذي كان قطبا بين عظام الأطباء الذين شرفت بهم فيينا في عهد ماريا تريزا، وكان محبوبا لتواضعه وأمانته، ومحبته للناس، "مثل سام لخير ما في الخلق الألماني القديم من صادق القيمة والجاذبية" (46). ولم يكن الدكتور جوزف إجناس جيوتان محبوبا إلى هذا الحد، وكان أحد نواب مجلس طبقات الأمة في 1789، وحبذ عقوبة الإعدام، واقترح استعمال آلة لقطع الرؤوس (الجيلوتين) لتفادي ضربات الجلادين الخاطئة.
أما تيودور ترونشان فكان أشهر الأطباء في سويسرا. وكان تلميذاً أثيرا لدى بويرهافي في ليدن، ومارس الطب عشرين سنة في أمستردام، وتزوج حفيدة جان دويت، وعاد إلى مسقط رأسه في جنيف، وأدخل فيها التطعيم (1749) بادئاً بنفسه وأطفاله. وفي 1756(37/285)
دعاه دوق أورليان إلى باريس ليطعم ولده الدوق شارتر وابنته التي كانت يومها المدموازيل دمانبانسييه. وعجبت باريس لهذه الشجاعة، ولكن حين خرج المطعمان من هذه العملية دون أن ينالهم أذى، تقاطر صفوة الناس على مسكن ترونشان في البالية-رويال وكلهم شوق للتحصن من مرض ظل طويلا بنسبة عالية من الوفيات في فرنسا.
وقد أعطى نجاحه وزنا لآرائه في موضوعات أخرى. فسبق روسو في حض الأمهات على إرضاع أطفالهن. ونصح مرضاه بالإقلاع من الدواء والإكثار من الرياضة في الهواء الطلق، وبأكل الأطعمة البسيطة، والإكثار من السباحة، وبالإتسال في الماء البراد، وبخلع باروكاتهم، وطواقيهم، وستائر أسرتهم، وبالتبكير في النوم والاستيقاظ. وحفل البلاط في فرساي حين أمر تفتح نوافذ القصر- التي ظلت مقفلة دائماً-بعض ساعات النهار على الأقل، حتى في الشتاء. وأصبحت أفكاره من موضات العصر، فكانت النساء من علية القوم يتمشين في ساعات الصباح الباكرة، مرتديات الثياب القصار للتهوية، وسرعان ما سميت هذه الثياب "ترونشين" (47).
وحين استقر بفولتير المقام في جنيف وضع نفسه في رعاية ترونشانز يقول "إنه رجل طوله ستة أقدام، حكيم كأسكولابيوس، وسيم كأبوللو. " (48) ولم يبادله ترونشان هذا الثناء، ولكن ربما كان كلاهما مخطئا كما قال فولتير عن نفسه وعن هاللر. أما مدام ديبينيه التي قطعت الرحلة الطويلة من باريس إلى جنيف طلباً للعلاج من ترونشان فقد رسمت لنا صورة كلها المديح والإطراء" قالت:
سأنفق يومين أو ثلاثة في بيت فولتير مع السيد ترونشان. والحق أنني في كل يوم أكتشف في ترونشان صفات جديدة توحي باحترام وإجلال له لا حد لهما. فليس هناك ما يضارع حبه للخير، وتجرده من الأنانية، ومحبته لزوجته ورعايته لها. وأصارحك بعد أن عرفتها بأنها أشد نساء الأرض عبوساً وثقلاً (49).
ولكن من ذا الذي يصدق حديث امرأة عن أخرى؟(37/286)
هذا ولم يكن القرن الذي نحن بصدده فلذا في تاريخ الطب، فلم يزل جو الطب يخيم عليه ظلمات السرية، والشعوذة، والنظريات التي كان ينبغي أن تتوارى خجلاً منذ زمن نتيجة للخبرة، إلا أن تقدم التشريح والفسيولوجيا أرسيا الطب فوق أساس أسلم من ذي قبل، وكان تعليم الطب أشمل وأيسر، ومزاولة المهنة دون ترخيص في طريقها إلى الزوال، والتخصصات تزيد المعرفة وتحسن رعاية المرضى؛ وقد أطلقت الجراحة من عقالها، وأخذت العلاجات المعجزة تفقد سمعتها، وانتصارات الطب تقوم بدورها الهادئ في ذلك الصراع الأساسي بين الدين والعقل، وهو صراع راح يحتل مكان الصدارة في حياة الذهن ..(37/287)
الكتاب الخامس
الهجوم على المسيحية
1730 - 1774
الفصل الثامن عشر
الملحدون
1730 - 1751
1 - النشوة الفلسفية
لنبدأ بتحديد مصطلحاتنا. سوف نعني بلفظة فيلسوف. كل إنسان يحاول أن يصل إلى آراء مسببة مقنعة عقلانية في أي موضوع مهما يكن، إذا نظر إليه في أبعاده العريضة. وفي تحديد أكثر، سنطلق هذا المصطلح في الفصول التالية على أولئك الذين يسعون إلى نظرة عقلانية إلى أصل الكون وطبيعته ومغزاه ودلالته ومصيره، والحياة أو الإنسان. ويجدر ألا نفهم الفلسفة على أنها ضد الدين أو أنها تتعارض معه، وينبغي أن نفسح في النظرة الواسعة للحياة البشرية مجالاً للدين. ولكن لما كان كثير من فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر معادين للمسيحية كما عرفوها، فإن لفظة الفيلسوف اتخذت مفهوماً معادياً للمسيحية (1). وفي استعمالنا لهذا المصطلح الفرنسي فإنه سيتضمن هذا المفهوم عادة. وسينطلق على لامترى وفولتير وديدرو ودالمبيرث وجريم وهلفشيوس ودي هولباخ فلاسفة، ولكنا لن نعد روسو فيلسوفاً بهذا المعنى -على الرغم من أنه يجدر بنا أن نسميه فيلسوفاً، لأنه زودنا بحجة عقلانية دفاعاً عن الوجدان والإيمان. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الفيلسوف قد يعارض الديانات القائمة من حوله، ومع ذلك، مثل فولتير،
_________
(1) ذكر جويوم فرنسوا برتييه، المحرر اليسوعي اللامع للجورنال دي تريفو، في عدد يولية 1759: "جرت العادة على أن نطلق لفظة فلاسفة على أولئك الذين يهاجمون العقيدة الدينية الموحى بها، ويطلقون لفظة مضطهد على من يناضلون دفاعاً عنها" (1)(38/1)
يتمسك إلى النهاية بالإيمان بالله. إن الجدل الذي هاج مشاعر الطبقات المفكرة في نصف القرن الذي سبق الثورة الفرنسية لم يكن مجرد صراع بين الدين والفلسفة، بل كان بالدرجة الأولى بين الفلاسفة والمذهب الكاثوليكي المسيحي كما وجد في فرنسا آنذاك، إنه الغيظ المكظوم في قلوب الفرنسيين لقرون طويلة من جراء ما لطخت به الديانة سجلها من الوقوف في وجه التقدم والمعرفة والاضطهادات والمذابح. وبلغ رد الفعل أقصى مداه، ولكن كذلك كان الاسفاف في مذبحة سانت برثلميو (1572) ومقتل هنري الرابع (1610) واضطهاد الهيجونوت بعد ألغاء مرسوم نانت (1685).
ولم يكن ثمة مثل هذا العدد الكبير من الفلاسفة قط من قبل، وألمع هلفشيوس إلى "تذوق عصرنا للفلسفة وحبه لها" (2) وكتب دالمبير:
أطلق قرننا على نفسه قرن الفلسفة بغير منازع. فمن أصول العلوم الدنيوية الدنسة إلى أسس الوحي، ومن الميتافزيقا إلى مسائل الذوق، ومن الموسيقى إلى الأخلاق، ومن حقوق الأمراء والملوك إلى حقوق الشعوب. كل شئ كان موضع دراسة وتحليل ومثار نقاش وخلاف. وليس فينا من ينكر أن الفلسفة أحرزت بيننا تقدماً. إن العلوم الطبيعية تقدم لنا في كل يوم ذخراً جديداً ... وأتخذت كل ميادين المعرفة تقريباً أشكالاً جديدة (3).
وكان الفلاسفة الفرنسيون نتاجاً جديداً. فكانوا قبل كل شي واضحين ولم يكونوا جماعة منعزلة عن العالم تكسوهم المهابة والقداسة، يتحدثون إلى أنفسهم أو إلى نظراتهم أحاديث غامضة لا يفهمها إلا فئة معينة من الناس. وكانوا أدباء عرفوا كيف تتألق الأفكار والآراء في الألفاظ. وولوا ظهورهم نحو الميتافيزيقا باعتبارها ضالة ميئوساً منها، ونحو طرائق الفلسفة باعتبارها غروراً كاذباً عريضاً. ولم يكتبوا أبحاثاً مطولة معقدة جهدوا فيها في استنباط العالم من فكرة واحدة، ولكنهم كتبوا نسبياً موضوعات قصيرة، ومحاورات مسلية وقصصاً متبلة ببعض الفحش، وهجاء قتالاً من فرط السخرية، أو حكمة معبرة بطريقة بارعة توهم بالتناقض في سطر يحطم تحطيماً. وساق هؤلاء الفلاسفة حديثهم متناغماً مع رجال الصالونات وسيداتها، وفي كثير من الأحوال وجهوا كتبهم ومؤلفاتهم إلى شهيرات النساء، وكان لزاماً أن(38/2)
تكون مثل هذه الكتب واضحة جلية يسهل إدراك مراميها، وقد تضفي على الإلحاد سحراً وفتنة. ومن ثم أصبحت الفلسفة قوة اجتماعية انتقلت من المدارس إلى المجتمع والحكومة. وأسهمت في الصراع بين الدول، وكانت جزءاً من الأنباء. ولما كانت كل أوربا المتعلمة تتطلع إلى فرنسا لمعرفة النظرات والآراء، فإن مؤلفات الفلاسفة الفرنسيين وصلت إلى إنجلترا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وألمانيا والسويد وروسيا، وأصبحت أحداثاً في دنيا أوربا. وفاخر فردريك الأكبر وكترين قيصرة روسيا بأن يكونا من بين الفلاسفة، وربما لم يقلقهما تنبؤ الطبقة المحافظة الفرنسية بأن المفكرين الأحرار الفرنسيين كانوا يقوضون أساس أخلاق فرنسا ووحدتها وسلطانها وقوتها.
وكان لجوتنبرج أثره البارز: فإن الطباعة عملت على نشر العلوم والتاريخ ونقد الأسفار المقدسة وروائع الوثنيين، وأصبح الفلاسفة الآن أقدر على التحدث إلى جماهير أكبر عدداً وأكثر استعداداً من ذي قبل، ولم يستنكفوا أن يهبطوا من أبراجهم العاجية ليعملوا على تبسيط المعرفة. ولم يكن هذا لأنهم وثقوا كثيراً في "الرجل العادي" كما عرفوه في ذاك العصر، ولكنهم وثقوا في أن نشر "الحقيقة" قد يعمل على تحسين سلوك البشر وتوفير مزيد من السعادة لهم. وأعتبر دالمبير أن "فن تعليم الإنسان وتنويره أنبل مهمة وهبة في متناول البشر" (4)، وأصبح "التجاسر على المعرفة" شعاره الاستنارة الذي حققه عصر العقل وفاز به.
ذلك أن الإيمان الذي آذن بإنبلاج فجره فرنسيس بيكون قبل ذلك بقرن من الزمان أصبح أساس الفكر المتحرر وأداته -أي أن الفكر تحرر بهذا من أساطير الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة وبرز العقل متألقاً في عظمة وحي جديد، وطالب بالسيادة والسيطرة في كل مجال وميدان، وعرض إصلاح التعليم والدين والأخلاق والأدب والاقتصاد والحكومة بمفهومه المشرق. وأقر الفلاسفة بضعف العقل، مثله في ذلك مثل أي شئ بشري، وأدركوا أنه من الميسور تضليله بأي منطق فاسد أو تفسير خاطئ للخبرة. وما كان لهم أن ينتظروا شوبنهور لينبئهم بأن العقل عادة خادم للرغبة وأداة للإرادة. إن هيوم الذي هيمن على عصر العقل هذا في بريطانيا كان(38/3)
أقوى ناقد واجهه العقل، وربما باستثناء كانت. وأعترف فولتير من أن لآخر بحدود العقل. وأتفق ديدرو مع روسو في أن الوجدان أساسي أكثر من العقل. وأعترف كل فلاسفة القرن الثامن عشر تقريباً بأن غالبية الناس حتى في أعظم الأمم حضارة ومدينة مرهقون بالحاجيات الاقتصادية والكدح في سبيل العيش إلى درجة لا يجدون معها فسحة من الوقت لتنمية العقل، وأن جماهير البشر تتحرك وتتأثر بالأهواء والعواطف والحزازات أكثر من تأثرها بالعقل، ومع هذا ظل الأمل معقوداً على انتشار العقل وإمكان تحريره من الأنانية الضيقة والتعاليم المغرضة.
وهكذا برغم فترات التشاؤم التي مر بها الفلاسفة فقد سادت بينهم روح التفاؤل، ولم يكن الناس قط من قبل واثقين بقدرتهم، أن لم يكن على إعادة بناء أنفسهم، فعلى الأقل على إعادة بناء المجتمع. وبرغم كوارث السنين السبع، وفقدان كندا والهند واستيلاء إنجلترا عليهما، فقد سيطرت على ذهن فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حماسة وحيوية بدا أنهما ستعيدان إلى فرنسا العجوز المتوجعة قوتها وشبابها من جديد. ولم يحدث قط منذ أيام السفسطائيين الإغريق أن انتشرت مثل هذه الآراء والأفكار الكثيرة، أو أظهرت روح البحث والتحقيق والحوار والجدل المنعشة، فلا عجب أن يحس ديكلوس حوله "بشيء من اختمار العقل بميل إلى التطور والنمو في كل مكان" (5) وبما أن باريس كانت آنذاك عاصمة الفكر في أوربا، فإن حركة التنوير أصبحت حركة واسعة النطاق مثل حركة النهضة الأوربية وحركة الإصلاح الديني، والحق أن حركة التنوير هذه بدت وكأنها ذروة الحركات السابقة. وكانت النهضة قد ذهبت إلى ما وراء المسيحية لتكتشف الذهن الوثني، كما أن الإصلاح الديني كان قد كسر قيود السيادة المذهبية، وعلى الرغم منه تقريباً أطلق العنان لعمل العقل، وباتت مقدمتا العصر الحديث هاتين تكمل الواحدة الأخرى، وأصبح الآن في مقدور الإنسان في نهاية المطاف أن يحرر نفسه من معتقدات العصور الوسطى ومن أساطير الشرق. كما يقف على قدميه حراً طليقاً. حراً في أن يشك؛ وفي أن يحقق ويدقق. حراً في أن يفكر(38/4)
ويجمع ألوان المعرفة وينشرها. حراً في أن يقيم ديناً جديداً حول مذبح العقل لخدمة البشر، وكان ثملاً كريماً شريفاً.
2 - خليفة الثورة
ولكن كيف حدث كل هذا؟ ولماذا أنقلب كل هؤلاء الفلاسفة وبخاصة في فرنسا على المسيحية التي كانت فوق كل شئ قد مزجت الأمل بأهوالها ورعبها، والصدقات بجرائمها، والجمال بآثامها وخطاياها؟
إن الثورة التي قام بها الربوبيون في إنجلترا استطاعت أن تعبر عن نفسها مع تسامح نسبي حتى من جانب الكنيسة الرسمية، وربما كان هذا هو السبب في خمود لهيبها وفضلاً عن ذلك كانت الكنيسة الإنجليزية خاضعة للدولة فلم تعد تزعم زعماً فعالاً أنها -أي الكنيسة- سلطة منافسة مستقلة. أما الكنيسة في فرنسا فكانت هيئة قوية تملك نصيباً كبيراً من الثروة الوطنية وأرض الوطن، وهي مع ذلك مرتبطة بولاء أسمى مكانة بسلطة أجنبية. ويبدو أنها كانت تستنزف مزيداً من الثروة من أيدي العلمانيين إلى أيدي رجال الكنيسة عن طريق الوصية والتوريث، كما رفضت أن تدفع أية ضرائب أكثر من "المنح أو الهبات الاختيارية" واحتفظت بآلاف الفلاحين في أراضيها في استرقاق فعلي، واحتفظت بالرهبان فيما بدا أنه خمول عقيم. وكم أفادت الكنيسة من الوثائق الزائفة والمعجزات الكاذبة. وسيطرت على كل المدارس والجامعات تقريباً، وعن طريقها أشربت أذهان الشباب بالسخافات المخدرة المنافية للعقل، وأستنكرت، على أنه هرطقة، كل تعليم يتعارض مع تعليمها واستغلت الدولة في فرض رقابتها على حركة الكلام والصحافة، وبذلت الكنيسة غاية الجهد في خنق التنمية الفكرية في فرنسا. وحرضت لويس الرابع عشر على اضطهاد الهيجونوت غير الإنساني. والتخريب الخالي من الرحمة لبورت رويال، وارتكبت الكنيسة إثماً في الحملات الوحشية التي شنتها ضد الألبيجنسيين وإقرار المذابح الوحشية مثل مذبحة سانت برثلميو، وأشعلت نار الحروب الدينية التي دمرت فرنسا تقريباً. وفي وسط كل هذه الجرائم ضد الروح الإنسانية ادعت الكنيسة، وحملت(38/5)
الملايين من ذوي العقول الساذجة على الاعتقاد بأنها فوق العقل وفوق الريبة والمساءلة، وأنها ورثت وحياً إلهياً، وأنها ممثل الله على الأرض الملهم المعصوم من الخطأ. وأن جرائمها كانت، بإرادة الله مثل حسناتها.
وقدمت الكنيسة ردوداً كثيرة على هذه الاتهامات. ولسوف نعرض لها في الوقت المناسب. وفي الوقت نفسه أثارت هذه الاتهامات المتزايدة حفيظة آلاف الناس ودفعتهم إلى الأحتجاج، وأخيراً إلى العداوة المريرة. وتضاعف عدد المتشككين إلى حد أنهم لم يعودوا يخشون رجال الدين وأحرجوهم علناً بالأسئلة العويصة. وحين دعا الأب تورنمين غير المؤمنين حوالي 1730 إلى كلية "لويس الأكبر"، يقال "إن غرفته اكتظت بالمفكرين الأحرار والربوبيين وأنصار المذهب المادي، وما استطاع الأب الجليل أن يحول أحداً عن رأيه" (6). وجزع رجال الدين من كثرة عدد الفرنسيين والفرنسيات الذين فارقوا الحياة رافضين تناول الأسرار المقدسة للكنيسة. وهددت مدام دي بري بأن تأمر خدمها بإلتقاء راعي الكنيسة من النافذة حين ألح عليها في قبول مسحها بالزيت المقدس (7). وشكا أحد القساوسة من أنه "في اللحظة التي يظهرون فيها أمام الناس يجبرون على الدخول في مناقشة، فنحن مطلوب منا، وعلى سبيل المثال، أن نثبت فائدة الصلاة للإنسان الذي لا يؤمن بالله، وضرورة الصيام لإنسان أنكر طوال حياته خلود النفس، والمناقشة مزعجة إلى أقصى حد، على حين أن أولئك الذين يسخرون ويهزءون يقفون إلى جانبنا" (8).
وذكر باربييه في 1751 "قد نرى في هذه البلاد ثورة تؤيد البروتستانتية (9) وكان مخطئاً. فإن طرد الهيجونوت لم يترك طريقاً وسطاً بين الكاثوليكية وعدم الإيمان بصحة الكتب المقدسة. إن الفكر الفرنسي المتحرر تخطى الإصلاح الديني وقفز طفرة واحدة من عصر النهضة الأوربية إلى عصر الأستنارة، وهكذا في فرنسا فإن الذهن الفرنسي لم ينعطف بثورته نحو الجانسنيين إو إلى الفئة القليلة الباقية من البروتستانت، بل أنعطف إلى مونتاني وديكارث وجاسندي وبيل ومونتسكيو، ولما رجع المفكرون الأحرار الفرنسيون إلى ديكارت رفضوا كل آرائه تقريباً اللهم إلا "شكله المنهجي"(38/6)
وتفسيره الآلي للعالم الموضوعي. وكان بيل موضع إجلال وتقدير باعتباره أدق العقلانيين المتأملين، فقد ولدت شكوكه مزيداً من آلاف الشكوك. وكان "قاموسه" معيناً لا ينضب من الدروع التي يتسلح بها أعداء الكنيسة ضدها.
وكان ما حدث في إنجلترا مثالاً حافزاً مشجعاً للمفكرين الأحرار في فرنسا. وبدا أولاً أن دعوة فرنسيس بيكون إلى العلم الإستقرائي تبشر بثمار أكثر بكثير مما يبشر استنباط ديكارت السحري لله والخلود من وجود ديكارت. ثم كانت مادية هوبز الفظة التي لم تكف قط عن إثارة ديدرو. وهناك أيضاً نيوتن الذي بدا أنه هبط بالإله إلى مجرد ضاغط زرار في آلة العالم، ولم يكن الفرنسيون قد عرفوا بعد أن نيوتن أكثر إنتاجاً في اللاهوت منه في العلوم. ولا ننس الربوبيين الإنجليز الذين أمدوا فولتير بالشجاعة والقوة الدافعة. وأخيراً جاء لوك، لأن المتشككين الفرنسيين رأوا أن صرح الدين ينهار أمام القول بأن كل الأفكار مستمدة من الإحساس. وإذا كان الإحساس نتاج قوى خارجية فإن الذهن نتاج الخبرة، وليس هبة خالدة من لدن اله لا يراه أحد. وإذا كانت الخبرة تخلق الشخصية، فإن الشخصية يمكن تغييرها بتغيير طرق التعليم ومادته، وإصلاح النظم الأجتماعية، ومن هاتين القضيتين خلص رجال مثل ديدرو وهلفشيوس ودي هولياخ إلى نتائج ثورية. وتساءل فولتير مستحضراً لوك في ذهنه "هل يمكن أن يكون ثمة شئ أعظم من أن نثير العالم بأسره سياسياً واجتماعياً ببضع حجج ومناظرات" (10). (مات فولتير قبل 1789).
واستمع مرة أخرى إلى ما كتبه المركيز دارجستون اليقظ في 1753.
"قد يكون من الخطأ أن نعزو ضياع الدين في فرنسا إلى الفلسفة الإنجليزية التي لم تكتسب أكثر من نحو مائة فيلسوف في باريس، بدلاً من إرجاعه إلى الكراهية التي أضمرها الفرنسيون لرجال الدين إلى أقصى الحدود".
ثم يضيف دارجنسون بعد التنبؤ بالثورة، مما أسلفنا ذكره:
ستكون الثورة شيئاً مختلفاً كل الاختلاف عن الإصلاح الديني- وهو(38/7)
خليط مشوش من الخرافة والحرية جاءنا من ألمانيا في القرن السادس عشر. ولما كانت أمتنا وقرننا قد استنارا بطريقة متباينة كل التباين، فإنهما سيسيران إلى حيث ينبغي لهما أن يسيرا: سيطردان رجال الدين، ويلغيان مهنة القساوسة، ويتخلصان من كل الرحى وكل الأسرار الغامضة ... فلا يتحدث المرء في مصلحة رجال الدين ولا يساندهم في دوائر المجتمع وإلا كان موضع سخرية واستهزاء، وأعتبر جاسوساً لمحاكم التفتيش. ويشير القساوسة إلى أنه في هذا العام نقص عدد أعضاء الجماعات الدينية بمقدار الثلث، وهجر الناس الكلية اليسوعية، وانسحب 120 راهباً من هؤلاء الرهبان الذين ساءت سمعتهم إلى حد كبير (11).
وكان ثمة تأثيرات فكرية أخرى أضعفت عقيدة العصور الوسطى الدينية. وأنضم الفلاسفة إلى أصحاب المذهب الحافظ (الأرثوذكسي) في رفض سبينوزا، لأن هذا اليهودي الكبير دمغ بأنه ملحد، وكان من الخطر التحدث عنه دون اتهامه، كما حرص هيوم وفولتير على أن يفعلا. ولكنهم كانوا يقرءون سبينوزا سراً، وكانت "رسالته اللاهوتية السياسية" تثير نقد الأسفار المقدسة. وشرح كونت بولانفيليير سبينوزا بحجة تفنيده. إن هيوم الذي تأثر بفرنسا هو نفسه، كان يؤثر فيها كذلك، وكان البناؤون الأحرار (الماسونيون) يؤسسون لهم مراكز في فرنسا، حيث كانوا يمارسون سراً هرطقتهم الربوبية. وكانت الكشوف الجغرافية والتاريخ والدراسة المقارنة للأديان تضيف ناراً إلى البوتقة التي يجرى فيها اختبار المسيحية بما لم يعهد له مثيل قط من قبل. وكان كل علم من العلوم في نموه وتقدمه يزيد من درجة احترام العقل، ومن الإيمان بقانون كوني، ومن عدم الإيمان بالمعجزات، وبالذات بأعظمها شيوعياً وانتشاراً، ألا وهي تحويل خمسين ألف كاهن يومياً الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه.
وعملت القوى الاجتماعية على انحلال العقيدة. وكان كل ازدياد في الثروة يعجل في التسابق على اللذة والمتعة، كما كان يجعل القيود على الأخلاق المسيحية أكثر إزعاجاً يوماً بعد يوم، في باريس التي أحتفظ فيها أكثر الملوك مسيحية بمجموعة من الخليلات، والتي احتلت فيها مدام دي بمبادور مكان السيدة(38/8)
مريم العذراء. بل أن الانحلال الخلقي في ذاك العصر تحول إلى اتهام للمسيحية، فكيف يتأتى، بعد سبعة عشر قرناً من سيطرة المسيحية، ألا تكون أخلاق أوربا أحسن حالاً من متوحشي أمريكا أو "الوثنيين في الصين؟ ".
وكانت كل طبقة، عدا الفلاحين، تضم أقلية متشككة، واستاءت البيروقراطية الحكومية من استقلال الكنيسة وإعفاءها من الضرائب. والرباط الوثيق القديم بين الكنيسة و"ساعدها" الدنيوي العلماني وهو الدولة" بدأت تنقصم عراه. وكان هناك مفكرون أحرار، مثل مالشرب في مصلحة الرقابة، وكان يحمي بكل قواه ديدرو ودائرة المعارف. وأوثق صلة بالملك كانت مدام دي بمبادور التي كانت تكره اليسوعيين، والتي اعتبرها فولتير (واحداً منا). ورأت الأرستقراطية في الكنيسة دعماً لمركز أسرة البوربون التي كانت قد أطاحت بحكم هذه الأرستقراطية، ومن ثم لم تكن هذه الطبقة تعارض إضعاف رجال الدين، بل لقد هلل كثير من النبلاء وسروا بامتهان فولتير وعدم توقيره للكنيسة والنيل منها، وأبدى أفراد الطبقة الوسطى العليا ارتياحهم ورضاهم عن المفكرين الذين كانوا يحاربون رجل الدين. لأن هذه الطبقة لم تغفر للكنيسة استنكار الفائدة (الربا) وإيثارها ملاك الأرض على رجال المال، فلو أن هؤلاء الأساقفة المتعجرفين أذيقوا المذلة والهوان لصعدت البرجوازية إلى مراقي الشهرة والقوة والسلطان ومن ثم فإن رجال المال، من أمثال بويلنيير وهلفشيوس ودي هولباخ فتحوا أبوابهم وخزائنهم، بل حتى في بعض الحالات قلوبهم، للحرب ضد الكنيسة. وكان المحامون منذ زمن غير قصير يحقدون على رجال الدين ويحسدونهم، وكم تطلعوا إلى اليوم الذي يحكمون فيه الدولة. كما كانوا بالفعل يحكمون البرلمانات. وذهب أحد تقارير الشرطة في 1747 إلى أنه لا يكاد يوجد موظف في برلمان باريس لا يحتفظ بكتاب أو مخطوط مناف للدين في بيته (12). وعجت مقاهي باريس بالالحاد. وكان هجاء رجال الدين والسخرية منهم متعة ظرفاء المدن الذين أشاروا إلى الله بأنه "السيد وجود" وانتشرت المطبوعات المعادية لرجال الدين انتشاراً واسعاً حتى في الأقاليم، ووزع بعض الباعة المتجولين لقاء ربح وفير، ومن باب إلى باب، منشورات عنوانها "أشهر الدجالين(38/9)
الثلاثة" (1). ألم ينتقل إلى رجال الدين أنفسهم عدوى الشك الديني، بل هنا وهناك في كل مكان، عدوى الإلحاد الصريح غير المقنع؟ وإليك على سبيل المثال.
3 - جان مسلييه
1678 - 1733
كان جان راعي أبرشية أتربيني في شمبانيا. وكان في كل عام يمنح الفقراء كل ما تبقى بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير. وبعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضي نحبه وهو في الخامسة والخمسين، موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية، تاركاً نسخ من مخطوطة عنوانها "عهدي الجديد" وجهت إحداها إلى شعب الأبرشية، توسل فيها إليهم على المظروف الذي وضعت فيه المخطوطة، أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم. وواضح أنه فقد الإيمان بالدين قبل أن يرسموه كاهناً" إنني لم أتقلد عملاً يتعارض مع مشاعري بشكل صريح طمعاً في المال، بل أني امتثلت في هذا لأبوي (13) ونشر فولتير أجزاء من "العهد الجديد" 1762 وأصدر ديدروا ودي هولباخ خلاصة له في 1772 تحت عنوان "رجاحة عقل الكاهن مسلييه" ولم يطبع النص الكامل حتى 1861 - 1864 ونفدت طبعته منذ عهد بعيد. ويندر الحصول عليه. وفي كل الحملة ضد المسيحية من بيل إلى الثورة، لم يعد هجوم متطرف قاس لا يرحم مثل هجوم كاهن القرية هذا. ويبدو أنه بدأ شكوكه بدراسة الكتاب المقدس. وأظهرت نتيجة هذه الدراسة أن الكنيسة كانت حكيمة إلى حد ما في إبعاد الكتاب المقدس عن العامة. وكان يجدر بها أن تحتفظ به بعيداً عن متناول رجال الدين أيضاً. ووجد الأب يوحنا صعوبات كثيرة في الكتاب المقدس. لماذا أختلف نسب السيد المسيح في إنجيل متى اختلافاً كبيراً في إنجيل لوقا. إذا كان كلاهما
__________
(1) المخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس (وهو بهذا يقصد الأنبياء، مما لا تقره عليه).(38/10)
منزلا من عند الله؟ لماذا لم تنته سلسلتا النسب هاتان بيوسف إذا كان سيعفي سريعاً من إنجاب يسوع، لماذا يمتدح أبن الله بأنه أبن داود الذي كان زانياً بكل معنى الكلمة؟ وهل تنطبق نبوءات العهد القديم على المسيح، أم أن هذه التطبيقات مجرد للقوة اللاهوتية؟ وهل كانت معجزات العهد الجديد حيلاً أو خداعات ورعة، أم كانت عمليات طبيعية أسئ فهمها؟ وهل نصدق هذه لحكايات أم نتبع العقل؟ وصوت جان إلى جانب العقل وأيده:
"لن أضحي بعقلي، لأن عقلي وحده يمكنني من التمييز بين الخير والشر وبين الحق والضلال ... لن أتخلى عن الخبرة لأنها مرشد وهاد أفضل بكثير من الخيال، أو من سلطان المرشدين الذين أرادوا أن يزودوني به. لن أرتاب في حواسي. ولست أتجاهل أنها يمكن أحياناً تؤدي إلى الخطأ. ولكني من جهة أخرى أدرك أنها لن تضللني دائماً ... إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى اتخاذها (14).
ولم يجد جان في العقل مسوغاً للإيمان بالإرادة الحرة أو خلود النفس، ورأى أنه "يجدر بنا أن نكون شاكرين أن تهيأ لنا جميعاً نوم أبدى بعد نصب وصخب الحياة الدنيا التي تسبب المشقة أكثر مما تسبب اللذة لغالبيتنا ... عودوا جميعاً في سلام إلى المستقر العام الذي جئتم منه، ومروا دون ضجة أو تذمر مثل كل الكائنات التي حولكم" (15). وعلى أولئك الذين دافعوا عن فكرة الجنة، من قبيل العزاء، أجاب "بأن أقلية ضئيلة، على زعمها، حققت هذا الهدف، على حين كان مآل الأغلبية إلى الجحيم. فكيف إذن يمكن أن تكون فكرة الخلود عزاء؟ إن العقيدة التي تخلصني من المخاوف الرهيبة ... تبدو مرغوباً فيها أكثر من الشك الذي تركني مؤمناً باله يتحكم في عطفه فلا يمنحه إلا لذوي الحظوة لديه، ويهيئ للآخرين السبيل ليكونوا جديرين بالعذاب الأبدي، فكيف يمكن لأي إنسان متحضر أن يؤمن باله يحكم على المخلوقات بالخلود في الجحيم؟ ".(38/11)
هل هناك في الطبيعة إنسان بلغ من القسوة حداً يتعمد فيه تعذيب، لا أقول رفاقه من الكائنات، بل أي كائن واعٍ حساس أياً كان؟ فأقروا إذن يا رجال اللاهوت أن إلهكم طبقاً لمبادئكم، شرير أكثر بكثير من أي شرير من بني الإنسان. إن القساوسة ورجال الدين جعلوا من الإله كائناً خبيثاً ماكراً صارماً إلى حد أن فئة قليلة في هذه الدنيا هي التي لا تود أن يكون الإله موجوداً ... وأية أخلاق نتحلى بها إذ كنا نقلد هذا الإله (16).
ورأى فولتير في هذا شيئاً من التطرف، وبذل أقصى الجهد عند نشره "العهد الجديد" (الذي ألفه جان) في أن يلطف من الحاد الكاهن بالربوبية، ولكن مسلييه كان عنيداً متشدداً. وأستطرد قائلاً أن اله المسيحية هو منشئ كل الشرور، لأنه حيث أنه قادر على كل شئ يتم دون رضاه وموافقه، فإذا وهبنا الحياة فإنه كذلك كتب علينا الموت، وإذا وهبنا الصحة والثروة، فإنه يعوض منهما بالفقر والقحط والمصائب والحروب (17). إن في العالم دلائل كثيرة على تصميم بارع، ولكن هلا توجد فيه علامات كثيرة بنفس القدر على أن العناية الإلهية، إن وجدت، قادرة على إيقاع أشد أذى شيطاني؟
إن كل الكتب زاخرة بأشد المديح والثناء رياء ونفاقاً على العناية الإلهية التي أفرطوا في الثناء على رقابتها اليقظة، ومهما يكن من أمر فإننا إذا تفحصنا كل أجزاء الكرة الأرضية لوجدنا أن الإنسان المتحضر وغير المتحضر على السواء في صراع دائم مع العناية الإلهية. فهو مضطر إلى أن يصد الضربات التي تنزلها به في صورة أعاصير وعواصف وصقيع وبرد وفيضانات وجدب وغيرها من مختلف النازلات التي تجعل كد الإنسان وجده غير ذي جدوى. وفي إيجاز أرى أن البشر جميعاً مشغولون باستمرار في حماية أنفسهم من الحيل الشريرة الخبيثة التي تدبرها العناية الإلهية التي يقال إنها ساهرة على توفير السعادة لهم (18).
وفوق كل شئ هل وجد إله أغرب وأبعد عن التصديق من هذا؟ أنه لآلاف السنين ظل مختفياً عن أعين البشر، وأستمع دون استجابة واضحة بريئة(38/12)
لصلوات آلاف الملايين ودعواتهم وثنائهم عليه. والمفروض أنه حكيم بالغ الحكمة، ولكن ملكه يسوده الخلل والاضطراب والخراب. والمفروض أنه خير ولكنه يعاقب شيطان مجرد من الروح الإنسانية. والمفروض أنه عادل وهو يهيئ للأشرار سبل الرخاء والازدهار، على حين يتعذب القديسون حتى الموت. إنه منهمك دائماً في الخلق والتدمير (19).
وبدلاً من الاعتقاد مثل فولتير بأن الإيمان بالله أمر طبيعي عام، أكد مسلييه أن مثل هذا الإيمان أمر غير طبيعي، وأنه يجب أن يصب في أذهان المراهقين أن:
كل الأطفال ملحدون -ليس لديهم فكرة عن الإله ... ويؤمن الناس بالله بناء على كلام أولئك الذين لا يعرفون عنه أكثر مما يعرف الأولون، إن مربياتنا هن أول معلمي اللاهوت. إنهن يتحدثن إليهم عن الإله كما يتحدث عن آدميين تحولوا إلى ذئاب ... إن قلة قليلة من الناس كانت تتخذ إلهاً لولا ما يبذل من جهد في أن يجعلوا لهم إلهاً (20).
وعلى حين أعلن معظم الملحدين عن إعجابهم بيسوع، نرى مسلييه يشمل السيد المسيح نفسه في هدمه الغاضب الانفعالي للعقيدة الدينية. وقبل كل شئ، أي رجل عاقل يصدق أن الله، لكي يسترضى البشر ويستميلهم ... يمكن أن يضحي بإبنه البريء الذي لم يرتكب إثماً؟ (21) أما عن يسوع نفسه فيقول: -
إننا نرى فيه ... متعصباً مبغضاً للبشر، يعظ البائسين فينصحهم بأن يكونوا فقراء، ويكافحوا الطبيعة ويجمدوها، ويكرهوا اللذة ويلتمسوا الآلام والشقاء، ويحتقروا أنفسهم، ويطلب أن يتخلوا عن الأب والأم وكل أواصر الحياة ليتبعوه. أية أخلاق كريمة! ... لا بد أن تكون سماوية لأنها غير عملية بالنسبة للإنسان (22).
وينتقل مسلييه إلى مادية كاملة. وليس من الضروري أن نذهب إلى ما وراء المادة لنسأل عمن خلقها. ويمكن أن يتخلف لغز المنشأ خطوة إلى الوراء ليفسح مجالاً للسؤال الطبيعي للطفل: "من الذي خلق الله؟ " وأنا(38/13)
أقول لكم أن المادة تعمل من نفسها لنفسها ... واتركوا لرجال اللاهوت علتهم الأولى وليس للطبيعة من حاجة بهذا لإحداث كل الآثار والنتائج التي تراها (23) وإذا كان لزاماً أن تعبدوا أحداً، فاعبدوا الشمس، كما تفعل شعوب كثيرة، فإن الشمس هي الخالق الحقيقي لحياتنا وللصحة والضوء والدفء والبهجة والسرور. ولكن واحسرتاه! ويأسف مسلييه، لو أن الدين كان واضحاً لكان أقل جاذبية وفتنة لدى الجهال ... إن هؤلاء بحاجة إلى الغموض والأسرار والخرافات والمعجزات والأشياء التي لا يمكن تصديقها (24) ... إن القساوسة والمشرعين، بابتداع الأديان واختلاف الأسرار ... قد أرضوا أذواق الجهال، إنهم بهذه الطريقة يجتذبون المتحمسين والنساء والأميين (25).
وصفوة القول، في رأى مسلييه، أن الدين كان جزءاً من مؤامرة بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس إلى إذعان مريح للحكم المطلق (26). إن الكهنة "حرصوا كل الحرص على أن يجعلوا إلههم مرعباً متقلباً طاغية كثير النزوات والأهواء. وكان لزاماً يكون كذلك من أجلهم حتى يكون في خدمة مصالحهم المتنوعة" (27) وتقع تبعة هذه المؤامرة على رؤوس رجال الدين أكثر منها على الملوك، لأنهم يسيطرون على الأمير منذ طفولته، عن طريق كاهن الاعتراف، ويلقنونه الخرافات، ويشوهون عقله ويعوقون نموه ويقودونه إلى التعصب الديني والاضطهاد الوحشي (28) وبهذا:
زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات وأدت إلى الثورات ودمرت الملوك وخربت أوربا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزعات الحقيرة حتى في أنهار من الدماء. إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف والسلام أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقساوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين، في كل مرة يستثيرهم فيها معلموهم إلى تحطيم اخوتهم، وليس ثمة جريمة لم يرتكبها الناس في سبيل إرضاء الرب أو تسكين سورة غضبه (29) ... أو إقرار خداع الدجالين لحساب كائن لا يوجد إلا في خيالهم وحدهم (30).(38/14)