أداة سوقية بعد أن بلغت عنفوانها في لوثر، ولم يرق كاتب ألماني واحد إلى مقام الشهرة الدولية خلال هذا التكفير الطويل عن جيل من حرب التقتيل بين الاخوة. أما النبلاء الألمان، الذين احتقروا الحذلقة اللاتينية للجامعات، فقد أرسلوا أبناءهم إلى "مدارس الفرسان Ritterakademien" أو كلفوا معلمين خصوصيين ليعدوا الشباب العريق النسب لما تتطلبه القصور الأميرية من واجبات ولطائف. وفي الطرف الآخر من السلم الاجتماعي نظم أوجست فرانكي، التقوى، في هاله معاهدة التي سماها Stiftungen، وهي مؤسسات خيرية هزأ منها الساخرون ووصفوها بـ "المدارس المهلهلة"، وظل طوال اثنين وثلاثين عاماً (1695 - 1727) يطعم فيها أبناء الفقراء ويكسوهم ويعلمهم. ولم يلبث أن أضاف إليها مدرسة أعلى توفر التعليم الثانوي لألمع فتيانه ومدرسة نظيرها لألمع فتياته. وهذه المدارس كلها كانت تخصص نصف وقتها للدين.
ووجدت الروح العلمانية في ألمانيا معبراً عنها في شخص كرستيان توماسيوس. وسنشيد بذكره فيلسوفاً في موضع لاحق، أما الآن فنراه أعظم المعلمين الألمان في جيله. فبعد أن طرد من موطنه في ليبزج لهرطقاته، رحل إلى هاله في دولة براندنبورج-بروسيا الناهضة (1690)، وأدت محاضراته هناك إلى إنشاء الجامعة، وقد أصبح أشهر أساتذتها، والمناضل الذي جعل منها أول جامعة "حديثة". وقد هزأ بالسكولاستيه، وأحل الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم، وأصدر مجلة ألمانية، وأدخل البرامج العلمية في المنهج، وكافح في سبيل حرية المعلمين والطلاب في التفكير. ولقبه فردريك الأكبر أبا التنوير الألماني.
وجعل التعليم الأولي عاماً وإلزامياً للجنسين في دوقية فورتمبرج عام 1565، وفي الجمهورية الهولندية عام 1698، وفي دوقية فيمار في 1619، وفي إسكتلندة عام 1696، وفي فرنسا عام 1698، وفي إنجلترا عام 1876. وكان تخلف إنجلترا راجعاً إلى الانتشار الواسع للتعليم الأهلي بفضل الهيئات الدينية الخاصة، وإلى شعور الطبقات الحاكمة بأن تعليم الفقراء في النظام الاقتصادي السائد آنئذ غير ضروري بل ربما كان غير مرغوب فيه. وقد بدأت "جمعية تشجيع(33/169)
المعرفة المسيحية" في 1699 تنشئ "مدارس خيرية" للأطفال الفقراء، لنشر اللاهوت والتهذيب المسيحيين بصفة خاصة، واشترط أن يكون مدرسوها كلهم أعضاء في الكنيسة الإنجليزية، وأن يحصلوا على ترخيص من الأسقف. وندد بهذا المدارس بزنارد ماندفيل، الذي أحدث ضجة في 1714 بكتابه "خرافة النحل"، وقال أنها مضيعة للمال، وأن الآباء إذا كانوا أفقر من أن يدفعوا نفقات تعليم أبنائهم "فإن من الوقاحة أن يتطلعوا إلى ما فوق قدراتهم (17) ".
أما في فرنسا فقد عرض على كل أبرشية أن تمول مدرسة أولية. وكان المدرس عادة علمانياً، يختاره الأسقف ويشرف عليه، وكان التعليم كاثوليكياً لا تهاون فيه. أما "المدارس الصغيرة petites (coles التي أنشأها البور-رويال فلم تصل إلا لقلة منتقاة من الصبيان. وفي 1684 أسس جان باتيست دلاسال "اخوة المدارس المسيحية"، التي عرفت بعد قليل بالاخوة المسيحيين Fr (res Chr (ti (ns. وقد جعل لاسال، ذلك القس الزاهد، الدين جوهر التعليم الذي وفره هؤلاء "الاخوة المسيحيون" مجالنا لأبناء الفقراء. وخصص للممارسات الدينية أربع ساعات في اليوم، وأضيفت القراءة والكتابة والحساب، ولكن الهدف الذي لم يغب عنهم قط كان تدريب الكاثوليك الأوفياء، وتخليص النفوس من طيش الحياة الدنيا ومن النار الأبدية. ووجد أن الجلد نافع لهذه الأغراض. وكان المعلمون يحضون على التعليم بالقدوة أكثر من المبدأ. وفي 1685 افتتح الاخوة المسيحيون مؤسسة لعلها كانت أول مؤسسة حديثة لتدريب معلمي المدارس الأولية.
وظل التعليم الثانوي بفرنسا في أيدي اليسوعيين، وكان لا يزال خير تعليم في البلاد المسيحية، وغيرت كليتهم اليسوعية الواقعة وراء السوربون مباشرة اسمها إلى "كلية لويس الأكبر " Coll (ge Louis-le-Grand بعد أن حضر الملك مسرحية أخرجها هناك التلاميذ في 1674. وافتتح لويس الرابع عشر في 1686، تحت إلحاح مدام دمانتنون، في سان-سير (على ثلاثة أميال من فرساي) أول مدرسة داخلية فرنسية للبنات. وكانت الأديار توفر التعليم العالي لبنات الصفوة ممن يدفعن نفقاته، مع التركيز دائماً على الدين. وأجمعت السلطات الكاثوليكية(33/170)
والبروتستنتية على أن الطبيعة البشرية تتنافر أشد التنافر مع ضوابط الحضارة بحيث لم يكن سبيل لترويضها على الفضيلة والنظام إلا سبيل مخافة الله. وما زالت محاولة تهذيب الخلق دون معونة من الدين في مرحلتها التجريبية.
أما الجامعات فكانت الآن في دور الاضمحلال، وذلك باستثناء الجمهورية الهولندية، فالمذاهب الدينية المنتصرة تقوم بتطهيرها من المخالفين، والطلبة المشاغبون ينشرون فيها الفوضى، والخلافات اللاهوتية تسيطر عليها. وكانت الدرجات الجامعية في فرنسا وألمانيا تباع بالمال. ولم يكن بين أساتذتها أحد من أفذاذ فلاسفة العصر، إلا قلة من كبار العلماء، وكان هوبز، وليبنتز، وبيل، يتحدثون عن الأساتذة باحتقار لا يغتفر ضغوط الجماهير على الموظفين العموميين. وفتحت في هذه الفترة بعض الجامعات الجديدة: جامعة دويسبرج (1655)، ودرم (1675)، وكيل (1665)، ولند (1666)، وانسبروك (1673)، وهاله (1694)، وبرسلاو (1702). وكان أكثرها مؤسسات صغيرة قل أن زاد أساتذتها على العشرين وتلاميذها على الأربعمائة. وفي معظمها كان المنهج قد تجمد بمرور الزمن، واشتراطات السنية شلت حركة الطلاب والمعلمين على السواء، وقد شكا ملتن من أن الجامعات الإنجليزية "تسلب الشبان استعمال عقولهم بتعاويذ من الميتافيزيقا، والمعجزات، والتقاليد، والأسفار السخيفة". وقال أنه يشعر أنه ضيع شبابه في كمبردج محاولاً أن يهضم "وليمة حمير كلها أشواك وعليق فاسد" وغير ذلك من "الهراء السفسطائي (18) " وقد استمر قيد التقاليد هذا في أكسفورد وكمبردج إلى أن حفز مثال "الجمعية الملكية"، وأستاذية نيوتن بكلية ترنتي (1669 - 1702)، جامعة كمبردج على أن تفسح للعلم صدارة جريئة.
وكافح الشعراء والقساوسة، والصحافيون، والفلاسفة، ليبعثوا النشاط والحيوية في التعليم. ولقد لخصنا من قبل "رسالة ملتن إلى مستر هارتلب" (1644) عن المدرسة المثالية. ولكن لم يكن لوصفاته أي تأثير في التعليم الفعلي. أما في فرنسا فكان أمتع ما كتب في هذا الباب رسالة فنيلون "في تعليم البنات" (1678). وكانت مدام دبوفلييه قد طلبت إليه أن يجمل بعض المبادئ التي يهتدي بها في(33/171)
تعليم بناتها. وأكد الكاهن بالطبع تقوية الناموس الأخلاقي بالدين، ولكنه استنكر ما شاب التعليم الديري من تقشف وعزلة. وقال أنه يشعر أن أديار الراهبات "لا تهيئ للحياة في هذه الدنيا، وهي حياة تدخلها خريجة الدير وكأنها خرجت من كهف لتقابل ضوء النهار الساطع (19) " وطالب بالطرق اللينة في التعليم، فيجب أن يوائم التعليم بين نفسه وبين طبيعة الطفل وميوله وحساسيته، لا أن يخضع التلاميذ كلهم لقاعدة جامدة واحدة. فلنعلم بالطريقة التي تعلم بها الطبيعة-لا بالتجريدات، بل بهداية الطفل إلى لب الأشياء، ولتكن ألعابهم وميولهم الطبيعية وسيلة التعليم (هاهنا بيداجوجيه روسو، وتعليم القرن العشرين "التقدمي" يشرحه كاهن من كهنة القرن السابع عشر). ويريد فنيلون أن تقرأ البنات الآداب القديمة، بلغاتها الأصلية إن استطعن، وينبغي أن يتعلمن شيئاً من التاريخ، ومن القانون ما يكفي لإدارة ضيعة، ولكن لا شأن لهن بالعلم-فعلى الفتاة أن تبدي "بعض الحياء في العلم" ( une pudeur sur la sciemce) . لقد كان الكاهن الوسيم حساساً لمفاتن الأنثى، ولم يرد بهذه المفاتن أن تكتسي بعلم الجير، وما كان ليفهم قط غرام فولتير بمدام دوشاتليه، أستاذة الميكانيكا النيوتونية.
وبعد مقال فنيلون هذا بعشر سنوات، نشر ديفو دعوته لتعليم النساء تعليماً عالياً. فالبنات الإنجليزيات في القرن السابع عشر لم تتح لهن إلا فرص ضئيلة في التعليم الثانوي، إذا استثنينا البيوت الغنية. فكان عليهن أن يعتمدن على المدرسين الخصوصيين، كما كان شأن استر جونسن مع جوناثان سويفت، أو أن يختلسن المعرفة بجهدهن الخاص كما فعلت ابنة ايفلين الأثيرة لديه. وعند ماكولي أن "نساء ذلك الجيل (1685 - 1715) الإنجليزيات، حتى في أرقى الطبقات، كن قطعاً أسوأ تعليماً منهن في أي فترة أخرى منذ حركة إحياء العلوم" (20). وقد قدر سويفت أنه لا تكاد توجد امرأة راقية واحدة في كل ألف لقنت القراءة أو الهجاء (21)، ولكن ذلك الكاهن المتشائم كان يزكو على المبالغات. على أي حال كان رأي ديفو أن إهمال تعليم المرأة ظلم همجي "لست أعتقد أن الله تعالى جعل النساء مخلوقات غاية في الرقة والنبل، وجملهن بهذه المفاتن ... ليكن مجرد مدبرات لبيوتنا، وطاهيات، وإماء". لذلك اقترح أن يكون للبنات أكاديمية شبيهة بالمدارس الخاصة في إنجلترا، يتعلمن فيها-بالإضافة إلى الموسيقى والرقص-"اللغات،(33/172)
خصوصاً الفرنسية والإيطالية، وأنا أجرؤ على تقديم اقتراح مؤذ، هو تعليم المرأة أكثر من لسان واحد". وينبغي أن يتعلمن التاريخ، ويكتسبن كل آداب الحديث ولطائفه. واختم الروائي الغزل بقوله: إن امرأة أحسنت تربيتها وتعليمها، وزودت بفضائل إضافية من المعرفة والسلوك، لهي مخلوق لا نظير له. أبدع وأرق ما في خليقة الله"، وأن "الرجل الذي كانت مثل هذه المرأة من نصيبه ليس عليه إلا أن يغتبط بها ويكون شاكراً" (22).
كان كتاب جون لوك "خواطر في التعليم" (1693) (23)، إلى حد كبير، أعمق الأبحاث التي كتبت في النظرية التربوية في عصر لويس الرابع عشر وأعظمها نفوذاً، وقد كتبه المؤلف بعد أن مارس التعليم مدرساً خصوصياً عدة سنوات في أسرة ايرل شافتسبري الأول. واقترح الفيلسوف-مترسماً بإدارات مونتيني-أن يكون هدف المعلم أولاً صحة الجسد وعافيته، فالجسم السليم شرط لا غنى عند للعقل السليم. لذلك كان على تلاميذه أن يتناولوا الطعام البسيط، ويعودوا أنفسهم على اللباس القليل، والفراش القاسي، والجو البارد، والهواء الطلق، والرياضة الكثيرة، والنوم المنتظم، والامتناع عن النبيذ أو الخمر، وعلى "قليل جداً من الدواء أو لا دواء إطلاقاً". ويأتي بعد ذلك في الزمان ولكنه يتقدم عليه في الأهمية تكوين الأخلاق، فكل التعليم سواء الجسدي أو العقلي أو الخلقي يجب أن يكون تدريباً على الفضيلة. وكما أن الجسم يجب تدريبه على الصحة باحتمال المشاق، فكذلك يجب تشكيل الخلق بغرس نكران الذات في جميع الأشياء التي تتعارض مع العقل الناضج. "ينبغي أن يعود الأطفال على إخضاع رغباتهم، والاستغناء عن مشتهياتهم، حتى وهم في المهد". فضبط الشهوات أشبه بالعمود الفقري للخلق. ويجب أن يجعل هذا الضبط ساراً ما أمكن، ولكن لا بد من الإصرار عليه في مراحل التربية كلها. ولن تكفي في ذلك الأفعال الطيبة المفردة، إذ لا بد من تربية الطالب بتكرار الأفعال الطيبة لتكون "عادات" طيبة، لأن "العادات تعمل بثبات ويسر أكثر من العقل، الذي قل أن يستشار بنزاهة ونحن أحوج ما نكون إليه، وندر أن يطاع". ويتردد لوك بين أرسطو وروسو. فهو يؤثر تعليماً تحررياً على تعليم يتجاهل ميل الطفل وفرديته، وينبغي أن تجعل الدروس مشوقة، والنظام رحيماً، ولكنه يقبل الفكرة القائلة بأنه من المرغوب فيه بين(33/173)
الحين والحين توقيع العقوبات البدنية على سوء السلوك المعتمد. يضاف إلى هذا "أن تعويد الأطفال في لطف على تحمل درجات الألم دون أحجام سبيل لإكساب أذهانهم الثبات وإرساء أساس للشجاعة والعزيمة في مستقبل حياتهم".
وتربية العقل ينبغي أن تكون تدريباً على طرائق التفكير ومشقة الاستدلال، لا خلاصة للآداب القديمة أو تراشقاً باللغات. ويجب أن تعلم الفرنسية واللاتينية للأطفال في سن مبكرة، وبالحديث لا بالنحو. أما اليونانية والعبرية والعربية فتترك للدارسين المحترفين ويحسن أفراد وقت للجغرافيا والرياضة والفلك والتشريح، وفي مرحلة تالية للأخلاق والقانون، وأخيراً للفلسفة. "ليست مهمة التعليم أن يمكن الصغار من علم بعينه، بل أن يفتح أذهانهم ويشكلها بحيث يتيح لهم القدرة على إتقان أي علم حين يعكفون عليه في مستقبل أيامهم" وكما أن الفضيلة تعلم بالعادة فكذلك يعلم الفكر بالاستدلالات المتكررة:
"ولا سبيل إلى هذا خير من الرياضة، التي أرى بناء عليه وجوب تعليمها لكل من يتاح لهم الوقت والفرصة، لا لجعلهم رياضيين بل لجعلهم مخلوقات مفكرة ... فقد ولدنا لنكون-إذا شئنا-مخلوقات مفكرة، ولكن سبيلنا إلى هذا هي الممارسة والتمرين، والواقع أننا لن نتجاوز في هذا ما أوصلنا له جهدنا وعكوفنا ... وقد ذكرت الرياضة وسيلة لتقر في الذهن عادة الاستدلال بدقة وتسلسل، ... ، فإذا اكتسبوا طريقة الاستدلال التي توصل تلك الدراسة الذهن إليها، استطاعوا نقلها إلى ما يتاح لهم من أقسام أخرى من المعرفة (24) ".
وقد قصد لوك برسالته ضرباً من "التعليم المتحرر"-أي الذي يعني أساساً بالفنون والأدب والسلوك، والذي يهدف إلى إنتاج "الجنتلمان" أي الإنسان "الكريم" المولد، الذي لن يضطر أبداً لكسب قوته بعرق جبينه (1). ومع أن منهاجه يسمح ببعض العلوم، فإنه على العموم
_________
(1) كلمة "جنتلمان" أصلها اللاتيني gens، وهي العشيرة أو الأسرة من الأحرار. والتعليم الحر أو المتحرر liberal كان في الأصل التعليم الموضوع للرجال الأحرار ( liberi) .(33/174)
يلتزم "الإنسانيات"-وهي الدراسات التي حبذها إنسانيوا النهضة الأوربية. وقد اشتمل كذلك على الرقص وركوب الخيل، والمصارعة والمثاقفة، وحتى "حرفة يدوية، بل حرفتين أو ثلاثاً"، معاوناً على الصحة والخلق، لا سبباً للرزق. أما الفنون فتعلم على سبيل الترويح لا الاحتراف، وعلى الشباب ألا يأخذ هذه الأمور مأخذ الجد الشديد، عليه أن يستمتع بالشعر، ولا ينظمه إلا للتسلية، ويجب أن يعلم الاستمتاع بالموسيقى دون أن يحاول إتقان العزف على أية آلة، فهذا يقتضيه الكثير جداً من الوقت، كما أنه يلقي بالشاب في "صحبة غريبة جداً"، وهكذا كانت رسالة لوك تجمع بين المحافظة والتحرر، فهي في استنكارها الاستغراق السكولاستي في اللغات القديمة، وتقليلها من التركيز على الدين واللاهوت، واهتمامها بالصحة والخلق، وجهدها في إعداد الشباب العريق الأصل للحياة والخدمة العامتين، كانت تومئ إلى المستقبل، وكان لها تأثير هائل في إنجلترا وأمريكا. وقد شاركت في تكوين الجانب البدني والخلقي للتربية في المدارس الخاصة " Public" الإنجليزية. فلما ترجمت الرسالة إلى الفرنسية (1695) طبعت منها خمس طبعات في خمسين سنة، وأوحت إلى روسو بالكثير من الآراء. أما تلميذ لوك، ايرل شافتسبري الثالث، الذي سنلتقي به ثانية، فلقد شرف نظريات أستاذه وخلقه.
3 - الدارسون
واصل كبار الدارسين صياغة المستقبل بإنارة الماضي، وذلك برغم ما بدأ من انشغالهم باللغات المحتضرة والمناظرات الميتة، ووجد بعضهم أنفسهم مشتبكين في صراع المسيحية من الفكر الحر.
ومن صغار الأدباء والعلماء من يستحق منا لفتة إجلال عابرة. مثال ذلك شارل دوفريسن، سيد كانج، الذي أدهش معاصريه-وقد عرفوه محامياً في برلمان باريس-بإصداره (1678) قاموساً للاتينية الحديثة والوسيطة في ثلاث مجلدات، بلغت من دقة الدراسة مبلغاً يجعلها إلى اليوم الحجة في بابها. أما بيير أوويه فقد اكتشف وحقق مخطوطة هامة لأوريجانوس، وتعلم السريانية والعربية، والكيمياء، وأجرى ثمانمائة تشريح، وكتب الشعر والقصة، واشترك(33/175)
مع مدام داسييه العالمة في نشر الطبعة "الدلفية" الشهيرة ذات الستين مجلداً للآداب اللاتينية، وذلك لتعليم الدوفان (ولي العهد)، وقد عين رئيساً لأساقفة آفرانش، وحين مات خلف مكتبته التي هي الآن جزء ثمين من المكتبة القومية. وواصل أتباع بولاند من اليسوعيين نشر موسوعتهم المئينية Acta Sanctorum ( أعمال القديسين) وفي باريس، وتحت قيادة جان مابيون، صنف مجمع سان-مور البندكتي (1668 - 1702) تاريخاً من عشرين مجلداً للقديسين البندكتيين، وألقوا بهذا الضوء إلهام على حوليات فرنسا الوسيطة وآدابها. وأعطى مابيون نفسه شكلاً جديداً للطريقة القديمة لكتابة اللاتينية بمؤلفه De Re diplomatica (1681) ، الذي لم يكن كتيباً في الدبلوماسية بل رسالة في تاريخ المراسيم والمخطوطات القديمة وطبيعتها وحجيتها. كتب مابيون بعد أن أتم جزءاً من أجزائه الضخمة، "ليت الله لا يؤاخذني على أنني أنفقت هذه السنين الطوال في دراسة أعمال القديسين، دون أن أشابههم إلا قليلاً" (25).
أما عملاق التبحر في الدراسات القديمة في هذا العصر فكان رتشرد بنتلي-الناظر الصارم لكلية ترنتي (بكمبردج) طوال اثنين وأربعين عاماً. فلقد أفنى شبابه في استيعاب المكتبة البولدية، وكان وهو بعد في التاسعة والعشرين من أكبر علماء أوربا تفقها في الآداب اليونانية واللاتينية والعبرية وآثارها. وفي ذلك العام (1691) نشر رسالة في مائة صفحة Epistola ad Millium موجهة إلى "جون مل" سابق، بلغ من دقتها وعمقها العلميين أنها أذاعت صيته في طول أوربا وعرضها. واختبر في الثلاثين ليلقى أول سلسلة من المحاضرات التي دبر لها المال ووضع لها الاسم في وصية الكيميائي الورع روبرت بويل. وقد استجاب بتقديم الحجج القوية على أن النظام الكوني الذي كشف سره في كتاب نيوتن "المبادئ" ( Principia) الحديث الصدور يثبت وجود الله. وكان هذا عزاءً عظيماً لنيوتن الذي اتهم من قبل بالإلحاد. وعين بنتلي في وظيفة الأمين الملكي للمكتبة، وأعطى مسكناً في قصر سانت جيمس. وهناك كان يلتقي مراراً بنيوتن، وايفلين، ورن، ومن قلعته تلك خاص معركة من أشهر معارك العلم البريطاني.
أما المعركة فنجمت عن مشاركة الإنجليز في الجدل القائم حول(33/176)
مزايا الأدب القديم تجاه الجديد. بدأ السر وليم تمبل المعركة بمقالته "في العلم القديم والجديد" (1690) التي دافع فيها عن القديم. ولعل بنتلي كان مثنياً على المقالة لولا إشادتها بفالاريس مثالاً على علو كعب اليونان في الأدب. أما فالاريس هذا فكان دكتاتوراً حكم أجراجاس (أجريجنتو) في صقلية اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد. وقد وصفه التاريخ أو وصفته الأساطير بأنه كان يشوي أعداءه في بطن ثور نحاسي، ولكن التاريخ كرمه راعياً للأدب، وقد انحدر إلينا عبر القرون 148 خطايا قيل أنها بقلمه. ونشر هذه الخطابات عام 1695 طالب في كلية كرايست تشيرس بأكسفورد يدعى تشارلز بويل. وطالب وليمة وتون إلى بنتلي الفصل في حجية الخطابات، إذ كان يعد طبعة ثانية (1697) لكتابه "تأملات في العلم القديم والحديث" الذي عارض فيه تمبل. ورد بنتلي بأن نسبتها إلى فالاريس خطأ وأنها كتبت في القرن الثاني للميلاد، ثم أشار عرضاً إلى بعض الهفوات في طبعة تشارلز بويل، ونشر بويل ومعلموه دفاعاً حاراً عن صحة نسبة الخطابات لفالاريس. ودخل جوناثان سويفت، سكرتير تمبل، المعركة في صف أستاذه بأن هزأ ببنتلي في كتابه "معركة الكتب". وظاهر رأي الأدباء العام بويل، وحزن أصحاب بنتلي على ما بدا من انهيار سمعته. ولكن رده عليهم جدير بأن نتذكره: "إن أحداً من الناس لم تخسف سمعته إلا بيده" (26). وفي 1699 أصدر كتاباً مطولاً عنوانه "رسالة في خطابات فالاريس". ولم يثبت الكتاب صواب رأيه فحسب، بل ألقى من الضوء على تطور اللغة اليونانية ما جعل دنيا العلم والأدب تشيد به علامة جديراً بأن يقف على قدم المساواة مع كازويون وسلاماسيوس سكاليجر. وقال بنتلي أنه حتى أسلوب الخطابات ينم على القرن الذي كتبت فيه، وأضاف:
"كل لغة حية لا تكف عن الحركة والتغيير، شأنها في ذلك شأن أجسام الكائنات الحية التي تفرز العرق، فبعض الألفاظ تذبل وتصبح مهجورة، وغيرها يدخل اللغة ويزداد استعماله شيئاً فشيئاً، أو قد تحول ذات الكلمة إلى معنى ومفهوم جديدين، يحدثان بمضي الزمن من التغيير الملحوظ في جو اللغة وملامحهما ما يحدثه الزمن في خطوط الوجه وسحنته. وكل الناس يحسون هذا في لغاتهم القومية، حيث(33/177)
الاستعمال الدائم يجعل من كل إنسان ناقداً، فأي إنجليزي لا يأنس في نفسه، من مجرد صياغة الأسلوب وزيه، القدرة على التمييز بين الإنشاء الإنجليزي الجديد وإنشاء قديم انقضى عليه مائة عام؟ ومثل هذه الفروق الواقعية المحسوسة موجودة في عهود اللغة اليونانية العديدة ... ولكن القلة القليلة هي التي أتيح لها من التفقه والمرانة على تلك اللغة ما يبلغها تلك الرهافة في الذوق" (27).
هاهنا أديب قادر على كتابة الإنجليزية قدرته على قراءة اليونانية.
وفي 1699 رقى بنتلي إلى نظارة كلية ترنتي بكمبردج بإجماع الأساقفة الستة الذين عينهم وليم الثالث لترشيح من يشغل الوظيفة الشاغرة. فأحكم ضبط الطلبة، وأصلح المنهج، وبنى مختبراً للكيمياء ومرصداً للفلك. ولكنه نفر هيئة التدريس والآداب بالكلية بغطرسته وعتوه وولعه بالمال، حتى لقد حكم برفته مرتين، ولكنه ناضل للرجوع إلى وظيفته، واحتفظ بها إلى النهاية. ونشر خلال ذلك عدداً كبيراً من الدراسات اليونانية واللاتينية، وشجع ومول الطبعة الثانية من كتاب نيوتن "المبادئ" وهدم أنطوني كولنز في كتابه "ملاحظات على مقال حديث في الفكر الحر" (1713)، وغامر في تهور بالخروج من ميدانه، بأنه علق على قصيدة ملتن "الفردوس المفقود" بتصحيحات متقعرة لنحو ملتن ونصه. وجلب على نفسه عداء الشاعر ألكسندر بوب إذ قال في ترجمة بوب للألياذة "قصيدة جميلة يا مستر بوب، ولكن يجب ألا تسميها هومر". روى بنتلي أن "الشبل المنذر بالشر" لم يصفح عنه قط. وهزأ بوب في "ملحمة المغفلين" The Dunciad ( ابريل 1742) ببيتين من الشعر قال فيهما:
"المعلق الجبار، الذي سفهت تحقيقاته المضنية هوراس، وحقرت قوافي ملتن" (28).
وفي يوليو مات بنتلي بعد أن اصطلح عليه بوب وذات الجنب. لقد كان أعظم وأثقل أديب أنجبته إنجلترا.
وفي هذه الأثناء مد إنجليزي آخر يدعى توماس ستانلي آفاق(33/178)
الذهن البريطاني بأول كتاب إنجليزي في "تاريخ الفلسفة" (1655 - 62)، وأدهش قراءه بتخصيص آخر مجلداته الأربعة للفلسفة الكلدية (العربية). لقد أخذ العلم يجرؤ على تجاوز روما القديمة واليونان إلى الشرق الأدنى والأوسط، وكان لهذه الجرأة نتائج مزعجة. فاكتشف إدورد بوكوك وحقق أربع ترجمات سريانية لرسائل العهد الجديد (1630)، وأنشأت أكسفورد لأجله أول كرسي للغة العبرية فيها، وفتحت محاضراته فيها عيون الإنجليز على الحضارة الإسلامية. أما في فرنسا فإن الموسوعة التي أفنى فيها بارتلمي دير بيلو عمره، وهي "المكتبة الشرقية" الضخمة (1697) -التي وضع لها عنواناً فرعياً هو "قاموس عالمي شامل بصفة عامة لكل ما يتصل بمعرفة .... الشرق"-هذه المكتبة كانت كشفاً عن التاريخ والعلم العربيين، ولعبت دوراً في توسيع الأفاق الفكرية توسيعاً حطم كل القيود في حركة تنوير القرن الثامن عشر. وتعجب الطلاب من ذلك الغني في شعر العرب وتاريخهم وفلسفتهم، وعلومهم، ولاحظوا كيف حافظ العرب على علم اليونان وفلسفتهم في الوقت الذي طواهما فيه النسيان إبان عصور غربي أوربا المظلمة، وعرفوا أن محمداً لم يكن مجرد دجال أفاك بل كان حاكماً ذكياً وسياسياً أريباً، وحيرهم ألا يجدوا في العالم المسيحي جرائم أكثر ولا فضائل أقل مما في العالم المسيحي. وأصبحت نسبية الأخلاق واللاهوت خميرة مذيبة في الذهن المسيحية.
وكان من أثر الدراسات للتاريخ الشرقي-بما فيه المصري والصيني-تقويض الحساب اليهودي الذي أرخ خلق العالم بسنة 3761 قبل الميلاد، والحساب الذي وضعه جيمس أشر، رئيس الأساقفة الأنجليكاني لأرما-بإيرلندة- (1650) وقرر فيه أن الخلق حدث "في بداية الليلة السابقة ليوم الاثنين 23 أكتوبر 4004 ق. م (29) وكان سبينوزا-كما سنرى بعد قليل-يستهل (1670) حركة "النقد الأعلى) للكتاب المقدس-أي دراسته بوصفه إنتاجاً بشرياً، غنياً في العظمة والسمو، وفي الأخطاء والسخافات.
وقد جلب أعلم ناقد الكتاب المقدس في القرن السابع عشر على رأسه غضب بوسويه وسخطه في محاولته الرد على سبينوزا، لأنه سلم في النهاية بالكثير مما زعمه الفيلسوف. وهذا الناقد، واسمه ريشار(33/179)
سيمون، وأبوه كان حداداً، التحق بالمصلى في باريس، ورسم قسيساً (1670) وكتب في ذلك العام نشرة دافع فيها عن يهود متز الذين اتهموا بقتل طفل مسيحي. وفي 1678، بعد سنوات من البحث شملت دراسات مع عدة أحبار اليهود، أعد العدة لنشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد القديم". ورأي، في الطريق، أن يفند حجج سبينوزا ضد الوحي الإلهي للأسفار المقدسة. فسلم بأن أسفار العهد القديم ليست تماماً من عمل المؤلفين الذين نسبت لهم، وأنه لا يمكن أن يكون موسى قد كتب الأسفار الخمسة كلها (التي ورد فيها وصف لموت موسى)، وأن أسفار الكتاب عراها التغيير الكثير عن صورتها الأصلية بأقلام الكتبة والناشرين الذين نقلوها إلى الخلف. وناضل سيمون للاحتفاظ بسلامة عقيدته وبرخصة طبع كتابه، فزعم أن هؤلاء المراجعين كانوا هم أيضاً يعملون بالوحي الإلهي، ولكنه اعترف بأن جميع نسخ العهد القديم الموجودة شوهتها التكرارات والتناقضات والإلتباسات وغيرها من الصعوبات بحيث لا تتيح إلا أساساً واهياً للاهوت عقائدي. ورأى أن يهاجم البروتستنت بهذه النقطة، فقال أن إيمانهم بالوحي الشفوي للأسفار المقدسة يتركهم عاجزين أمام النقد النصي في حين يستطيع الكاثوليكي الموالي لكنيسته أن ينجو من أذى هذه الدراسة الناقدة بقبوله التفسير الذي وضعته كنيسة روما للنص. واختتم سيمون بالقول أن الوحي الإلهي للكتاب المقدس لا يصدق على أي حال إلا على أمور الإيمان.
ووافق رئيس المصلى على نشر كتاب سيمون. وبينما كانت أصوله في المطبعة وقعت بعض صفحات تجارب الطبع في يد أرنو "الكبير" رجل البور-رويال، فروعه ما قرأ. واطلع بوسويه على التجارب، فندد هذا على الفور بالكتاب باعتباره "نسيجاً من الكفريات ومعقلاً للإلحاد ... سيهدم سلطان الأسفار القانونية (30) " وناشد بوسويه السلطات الزمنية أن تمنع نشر الكتاب. فصادرت الطبعة بأكملها، وقوامها ألف وثلاثمائة نسخة، وعجنتها عجناً واعتكف سيمون خوريا مغموراً في نورمنديه، ولكنه وجد السبل لطبع مخطوطته في روتردام (1685) وبعد أربع سنوات نشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد الجديد" وأراد أن يتوج جهوده بترجمة جديدة للكتاب المقدس، وفرغ من ترجمة(33/180)
العهد الجديد، ولكن بوسويه الذي أفزعته الحرية التي تناول بها سميون النص المقدس أقنع المستشار بمصادرة الكتاب (1703). وتخلى سيمون عن مشروعه، وأحرق أوراقه، ومات (1712).
وأثارت ترجمته للعهد الجديد أربعين اعتراضاً تفند هذه الترجمة وتبين عصمته. على أنها ما زالت هي وكتاب سبينوزا "رسالة لاهوتية سياسية" من المعالم في الدراسة الحديث للكتاب المقدس. وقد حذر ليبنتز-بعد أن قرأ هذه الأبحاث النقدية الأولى-من هذا أن الاتجاه في التحقيق لو استمر سيدمر المسيحية (3). ولم يحن الوقت بعد للقول هل كان مصيباً أم مخطئاً في زعمه هذا.(33/181)
الفصل الثامن عشر
البحث العلمي
1648 - 1715
1 - دولية العلم
كان مزاج أوربا يتغير في بطء-سواء كان التغيير خيراً أو شراً-من الإيمان بالخوارق إلى النزعة العلمانية، ومن اللاهوت، ومن آمال الجنة ومخاوف الجحيم التي خطط توسيع المعرفة وتحسين حياة البشر. فأما الطبقات العليا التي واصلت أساليب حياتها الأبيقورية فلم تعترض كثيراً على إيمان ديني كانت تاره مفيداً للجماهير الشقية التي حرمت فردوس الحسب والنسب، ولكن كان هناك نفر، حتى من بين هذه القلة المميزة، ممن تلهوا بالعلم، ووازنوا المعادلات، وأحرقوا أصابعهم أو نشقوا بأنوفهم في المختبرات، أو تفرسوا بدهشة في النجوم المتكاثرة. ففي باريس مثلاً تزاحمت سيدات المجتمع العصريات على محاضرات ليميري في الكيمياء، وعلى شروح دوفرنية في التشريح، ودعا كونديه ليميري إلى صالونه الخاص جداً، وعين لويس الرابع عشر دوفرنيه ليساعد على تعليم الأمير الوارث للعرش. وفي إنجلترا كان لتشارلز الثاني "مختبر كيميائي" خاص به، وحاول البارونات، والأساقفة، والمحامون القيام بالتجارب، وأقبلت الخليلات الأنيقات في مركباتهن ليشهدن عجائب المغناطيسية، وهوى ايفلين الفيزياء، وأراد إنشاء معهد للبحث العلمي، ووجد بيبيس وقتاً-وسط شغله بالمراكب والنساء-لاستعمال المكرسكوب، ومضخة الهواء وسكين التشريح، وأصبح رئيساً للجمعية الملكية.
وتخلفت الجامعات عن الشعب في هذا الاهتمام الجديد، ولكن الأكاديميات الخاصة التقطته. ويلوح أن البادئ كان "أكاديمية أسرار الطبيعة" بنابلي (1560)، ثم أكاديمية "دي لنتشي" بروما (1603) التي كان جاليليو ينتمي إليها، ثم أكاديمية "ديل تشيمنتو"، التي أنشأها تلميذاه تفياني وتوريتشيللي في فلورنسة (1657). وقد(33/182)
كرس هذا المعهد بحكم اسمه للتجارب، واتخذ الشك الديكارتي منطلقاً له، فلا شيء يجب التسليم به بالإيمان، ولا بد من بحث كل مشكلة دون نظر إلى أي ملة أو فلسفة موجودة (1). ولم يعمر بعض هذه الأكاديميات طويلاً، ولكنها كانت تترك خلفاء لها بعد موتها. وأنشئت الأكاديميات في شفينفورت (1652)، وألتدورف (1672)، وأوبسالا (1710)، وفي 1700، وبعد ثلاثين سنة قضاها ليبنتز في الإلحاح، خرجت أكاديمية برلين إلى النور، كذلك يرجع الفضل إلى ليبنتز في إنشاء أكاديمية سانت بطرسبورج (1724).
وتطورت "أكاديمية العلوم" في فرنسا من اجتماعات (1631 - 38) مرسين، وروبرفال، وديزارج، وغيرهم من العلماء في بيت والد بسكال في باريس، أو في صومعة مرسين. وقد صاغت برنامجاً "للعمل على تحسين علوم الآداب، والبحث عموماً عن كل ما يمكن أن يجلب المنفعة أو الراحة للنوع الإنساني"، كذلك قررت أن "تحرر العالم من كل الأخطاء الشائعة التي انطلى زيفها على الناس منذ زمن طويل" ولكنها نصحت أعضاءها بأن يجتنبوا الخوض في الدين أو السياسة (2). وفي 1666 ظفرت الأكاديمية بمرسوم ملكي، وبحجرة في المكتبة الملكية، وفي فرساي ترى إلى اليوم لوحة كبيرة بريشة تيستيلان يقدم فيها لويس الرابع عشر هذا المرسوم لجماعة يرأسها كرستيان هويجنز وكلود بيرو. وكان كل عضو من أعضائها الواحد والعشرين يتلقى من الحكومة راتباً سنوياً، فضلاً عن مبلغ يغطي النفقات، وقد أصبحت الأكاديمية من الناحية الفعلية مصلحة من مصالح الدولة. وكان لويس يخص الفلكيين بعطفه. فدعا كاسيني من إيطاليا، ورويمير من الدنمرك، وهويجنز من هولندا، وشاد مرصداً فخماً. وحين التهمت النيران المكتبة الثمينة التي يقتنيها هيفيليوس الدانزجي، والذي تفرد بدراساته للقمر، نفحه الملك بعطاء سخي ليعوض خسارته (3). وقد نسب لابلاس الفضل للأكاديمية في معظم ما أحرزت فرنسا من تقدم علمي، ولكن اعتمادها على ملك وثيق التحالف مع الكنيسة كان ضاراً بتقدم العلم الفرنسي (4)، بينما مضي الإنجليز في هذا الطريق قدماً.
ومن سمات إنجلترا أن أكاديمياتها العلمية كانت مؤسسات أهلية لا تدين للحكومة إلا بفضل عارض، يقول جون واليس أنه حوالي عام(33/183)
1645، تعرف في لندن إلى "نفر من فضلاء القوم، المحبين للاستطلاع في الفلسفة الطبيعية وغيرها من فروع العلم الإنساني، لا سيما ... الفلسفة التجريبية (5) ". واتفقوا على الاجتماع مرة كل أسبوع لمناقشة الرياضة، والفلك، والمغنطيسية، والملاحة، والفيزياء، والميكانيكا، والكيمياء، والدورة الدموية، وغير ذلك من الموضوعات. وقد استوحت هذه "الكلية غير المنظورة"-كما كانت تسمى آنئذ-"بيت سليمان" الواردة في كتاب بيكون "آطلانطيس الجديدة" فلما انتقل واليس إلى أكسفورد أستاذاً للرياضة، انقسمت الجمعية قسمين، يجتمع أحدهما في مسكن روبرت بويل بالجامعة، والآخر في كلية جريشام بلندن، وكان رون وايفلين من أول الأعضاء هناك. وقطع هذه الاجتماعات اللندنية ما وقع من اضطراب سياسي بين موت كرمويل وعودة الملكية، ولكن سرعان ما استؤنفت عقب تولي تشارلز الثاني العرش، وفي 15 يوليو 1662 منح الملك "جمعية لندن الملكية لترقية المعرفة الطبيعية" براءة رسمية. وكان "الزملاء الأصليون" البالغ عددهم ثمانية وتسعين لا يشملون علماء من أمثال بويل وهوك فحسب، بل شعراء كدرايدن ووالر، ورن المعماري، وايفلين، وأربعة عشر نبيلاً، وعدة أساقفة. وفيما بين عامي 1663 و1686 ضم إليها نحو ثلاثمائة زميل إضافي. ولم يكن هناك فوارق طبقية تقسمهم، فكان الأدواق والعامة سواسية في هذا المشروع، وأعفى الأعضاء الفقراء من رسوم العضوية (6). وفي 1673 صرح ليبنتز، الذي سمح له بالعضوية، بأن الجمعية الملكية أعظم الهيئات الفكرية احتراماً في أوربا. وفي تاريخ باكر (1667) نشر توماس سبرات كتابه الممتاز "تاريخ الجمعية الملكية" وقد تأثر هو أيضاً، بالأنسام البيكونية التي كانت تهب على إنجلترا، وذلك برغم ترقيته أسقفاً لروتشستر.
وشكا بعض اللاهوتيين من أن المعهد الجديد سيقوض الاحترام للجامعات والكنيسة الرسمية، ولكن اعتدال الجمعية وحذرها لم يلبثا أن هدءاً من معرضة رجال الكنيسة وروحت تجاربها الغريبة عن الحاشية والملك، الذي ضحك حين سمع أنها تزن الهواء وتفكر في الطيران الميكانيكي. وقد هجاها سويفت في قصة "رحلات جليفرز" وسماها أكاديمية لاجادو العظمى، وجعل أعضاءها يضعون الخطط لاستنباط(33/184)
ضوء الشمس من الخيار، ولبناء البيوت ابتداء من الأسقف فما فوق، وذكر صموئيل بطلر، مؤلف "هوديبراس" كيف أن نادياً من العلماء هاج وماج لاكتشافه فيلاً في القمر، ثم تبين أنه فأر في تلسكوبهم (8). ولكن رعاية الجمعية الملكية هي صاحبة الفضل في تحسين ايفلين للزراعة الإنجليزية، وإرساء السير وليم بتي علم الإحصاء، وتقدم العلم والطب الإنجليزيين بخطى تجاوزت كل ما عرف في فرنسا أو ألمانيا المعاصرتين، وإنشاء علم الكيمياء تقريباً، وإحداث راي ثورة في علم النبات، وودوارد في الجيولوجيا، ونيوتين في الفلك. وأجرت الجمعية آلاف التجارب في الكيمياء والفيزياء، وكانت تتسلم جثث المجرمين الذين أعدموا وتشرحها وتدرسها، وأصبحت مستودعاً للتقارير الطبية تتلقاها من الأطباء في جميع أرجاء البلاد، وجمعت تقارير التطورات التكنولوجية، وكانت على صلة بالبحث العلمي في خارج إنجلترا. وسفه تأكيدها على العمليات الطبيعية والناموس الطبيعي الخرافة واضطهاد السحر.
وفي عام 1665 بدأ سكرتيرها هنري أولدنبرج إصدار مجلة "الأعمال الفلسفية للجمعية الملكية" التي استمرت إلى يومنا هذا. وقد طلبت وتلقت المقالات من خارج البلاد. وكانت من أوائل طابعي اكتشافات مالبيحي وليوفنهويك. أما أولدنبرج هذا فقد وفد على إنجلترا في 1653 ليفاوض في إبرام معاهدة تجارية لوطنه بريمن، فبقي بها، وأصبح صديقاً لملتن، وهوبز، ونيوتين، وبويل، وراسل بنشاط العلماء والفلاسفة في جميع أنحاء العالم. وقال أن أعضاء الجمعية الملكية "يمتحنون الكون كله (9) "، وكتب لسبينوزا يقول:
"إننا على ثقة من أن أشكال الأشياء وصفاتها يمكن تعليلها أفضل تعليل بأصول الميكانيكا، وأن كل آثار الطبيعة تحدثها الحركة والشكل، والنسيج، والارتباطات المختلفة لهذه كلها، وأنه لا حاجة بنا لأن نلجأ إلى الأشكال التي لا تفسير لها أو الصفحات السحرية ملاذاً من الجهل (10) ".
وبفضل هذه "الأعمال الفلسفية" الإنجليزية و"مجلة العلماء" الفرنسية، و"الجورنالي دي لتيراتي" الإيطالية،(33/185)
و"الأكتا ايروديتورم" الألمانية استطاع العلماء والدارسون الأوربيون أن يتغلبوا على الحدود القومية، ويكونوا على اتصال بأعمال بعضهم البعض وكشوفهم، ويؤلفوا جيشاً متحداً يزحف في مغامرة خلاقة هائلة. وكانوا وهم عاكفون بمنأى عن الأنظار في مكاتبهم، ومختبراتهم، وبعثاتهم، متجاهلين أو منتصرين على جلبة السياسة، وزحف الجيوش، وطنين العقائد الدينية، وضباب الخرافة، وعملاء الرقابة المدنية أو الكنسية المتطفلين-كانوا وسط هذا كله يكبون على النصوص، وأنابيب الاختبار، والمكرسكوبات، ويخلطون المواد الكيميائية في فضول، ويقيسون القوى والأحجام، ويضعون المعادلات والرسوم البيانية، ويتفحصون أسرار الخلية، وينبشون طبقات الأرض، ويرسمون حركات النجوم، حتى بدت حركات المادة وكأنها تنتظم في قانون، وبدت ضخامة الكون الهائلة وكأنها تتمثل للذهن البشري المذهل. ففي فرنسا كان فيرما، وبسكال، وروبرفال، وماريوت، وبيرو، وفروع بأكملها من آل كاسيني وفي سويسرا كان آل برنويي، وفي ألمانيا كان جويريكي، وليبنتز، وتشرنهاوس، وفارنهايت، وفي هولندا كان هويجنز وليوفنهويك، وفي إيطاليا كان فيفياني وتورب تشيللي، وفي الدنمرك كان ستينو، وفي إسكتلندة كان جيمس وديفد جريجوري، وفي إنجلترا كان واليس، ولستر، وبويل، وهوك، وفلامستيد، وهالي، ونيوتن: هؤلاء كلهم وغيرهم كثيرون، كانوا في هذه الحقبة القصيرة من تاريخ أوربا من 1648 إلى 1715، يكدون فرادي وجماعات منعزلين ومتعاونين، ليبنوا يوماً فيوماً، وليلة فليلة، صرح الرياضة، والفلك، والجيولوجيا، والجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتشريح، والفسيولوجيا-هذه العلوم التي قدر لها أن تحدث ثورة مصيرية في النفس الحديثة، أما أولدنبرج، الذي أحس دولية العلم هذه، ولم يخطر بباله قط أن القومية قد تجعل العلم نفسه أداة حزبية ومدمرة، فقد رأى في هذا التعاون الملهم بشيراً بحياة أفضل. وكتب لهويجنز يقول "أرجو أن يأتي الوقت الذي تتعانق فيه كل الأمم، حتى المتخلفة في الحضارة، عناق الرفاق الأعزاء، وأن تتضافر قواها الفكرية والمادية لإقصاء الجهل، وتغليب الفلسفة الصحيحة النافعة (11) ". وما زال هذا رجاء العالم إلى اليوم.(33/186)
2 - الرياضيات
بدأت الدولية الجديدة بشحذ أدواتها. فطور بسكال وهوك وجويريكي البارومتر، واستطلعت مضخة جويريكي الهوائية إمكان إحداث الفراغ، وصنع جريجوري ونيوتن وغيرهما تلسكوبات أفضل من تلسكوبات كبلر وجليليو، واخترع نيوتن آلة السدس، وحسن هوك الميكروسكوب المركب، الذي أحدث انقلاباً في دراسة الخلية، وأصبح الترمومتر أوثق وأدق على يد جويريكي وأمونتونز، وفي عام 1714 أعطاه فارنهايت شكله الإنجليزي-الأمريكي باستخدامه الزئبق بدلاً من الكحول وسيطاً متمدداً، وقسم مقياسه عند الصفر، و32 درجة و96 درجة (التي افترض أنها حرارة جسم الإنسان الطبيعية).
أما أعظم الأدوات قاطبة فكانت الرياضيات، لأنها أضفت على التجربة شكلاً كمياً ومعياراً، ومكنتها بمئات الطرق من التنبؤ بالمستقبل بل السيطرة عليه. قال بويل "إن الطبيعة تلعب دور الرياضي" وضاف ليبنتز "أن العلم الطبيعي ليس إلا الرياضة التطبيقية (12) ". ويشيد مؤرخو الرياضيات بالقرن السابع عشر لأنه كان وافر الثمر في ميدانهم على الأخص، فهو قرن ديكارت، ونابيير، وكافالييري، وفيرما، وبسكال، ونيوتن، وليبنتز، وديزارج. وكانت السيدات المعطرات بالنبالة يختلفن إلى محاضرات الرياضة، وقالت "صحيفة العلماء" مازحة أن بعضهن جعلن تربيع الدائرة الجواز الوحيد لرضائهن (13)، ولعل هذا أن يفسر جهود هوبز الملحة في حل تلك المعضلة المحيرة.
وأنجب بيير دفيرما النظرية الحديثة للأعداد (دراسة أنواعها، وخصائصها، وعلاقاتها) وتخيل الهندسة التحليلية مستقلاً عن ديكارت-وربما قبله، واخترع حساب الاحتمالات مستقلاً عن بسكال، وسبق نيوتن وليبنتز إلى حساب التفاضل. ومع ذلك عاش مغموراً بعض الشيء في عضويته ببرلمان تولوز، ولم يدل بإسهاماته في الرياضة إلا في خطابات لأصدقائه-لم تنشر إلا سنة 1679، بعد موته بأربعة عشر عاماً. وفي أحد هذه الخطابات نستشف انتشاءه(33/187)
بالرياضة. "لقد عثرت على عدد كبير جداً من النظريات الجميلة جداً (14) " وكان يطرب لكل حيلة جديدة أو انتظام مدهش في الأعداد. وقد تحدى رياضي العالم "أن يقسموا المكعب إلى مكعبين، وربع القوة إلى ربعي القوة"، الخ، وكتب يقول "لقد اكتشفت برهاناً عجيباً حقاً لما يعرف الآن بـ "آخر نظريات فيرما"، ولكن لا برهانه ولا أي برهان قاطع عليها قد وجد إلى الآن. وفي عام 1908 أوصى أستاذ ألماني بمائة ألف مارك لأول شخص يبرهن على فرض فيرما، ولم يطالب أحد إلى الآن بالجائزة، وربما ثبط همته هبوط قيمة المارك.
وكان كرستيان هويجنز أبرز علماء هذا العصر، باستثناء عالم واحد فقط، فكان التالي مباشرة لنيوتن. وكان أبوه قسطنطين هويجنز من ألمع شعراء هولندا وساستها. ولد كرستيان في 1629، وبدأ في الثانية والعشرين نشر الأبحاث الرياضية. وما لبثت كشوفه في الفلك والفيزياء أن أذاعت شهرته في أوربا، فانتخب زميلاً للجمعية الملكية بلندن في 1663، وفي 1665 دعاه كولبير للانضمام إلى أكاديمية العلوم بباريس، فانتقل إلى العاصمة الفرنسية، وتلقى معاشاً سخياً، ومكث بها حتى 1681، ثم عاد إلى هولندة لضيقه بالحياة في ظل ملك تحول مضطهداً للبروتستنت. وكان تراسله بست لغات مع ديكارت، وروبرفال، وميرسين، وبسكال، ونيوتن، وبويل، وكثير غيرهم، دليلاً على الوحدة المتزايدة التي تربط الأخوة العلمية. قال "إن العالم وطني، والنهوض بالعلم الديني (15) ". ومن عجائب زمانه عقله السليم في جسمه السقيم-فقد كان جسمه عليلاً أبداً، وعقله خلاقاً حتى موته في السادسة والستين. وكان إنتاجه في الرياضة أقل جزء في إنجازاته، ومع ذلك فإن الهندسة، واللوغارتيمات، وحساب التفاضل والتكامل-كلها أفادت من جهوده. وفي 1673 أثبت "قانون المربعات العكسية" (أي أن جذب الأجسام بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها) وهو القانون الذي أصبح بالغ الأهمية لفلك نيوتن.
وكان نيوتن الآن بالطبع أسطع نجم تكبد سماء العلم البريطاني، وهو جدير بأن نفرد له فصلاً خاصاً، ولكن كان لنجمه أقمار توابع.(33/188)
ومنهم صديقه جون واليس، القسيس الأنجليكاني، الذي أصبح أستاذاً "سافيلياً" للهندسة في أكسفورد عام 1649 وهو في الثالثة والثلاثين، وشغل ذلك الكرسي أربعة وخمسين عاماً. وقد صرف النحو والمنطق واللاهوت قلمه عن العلم، ومع ذلك فإنه كتب بحوثاً ذات أثر في الرياضة والميكانيكا، والسمعيات والفلك، والمد والجزر، والنبات والفسيولوجيا، والجيولوجيا، والموسيقى، ولم يعوزه سوى بعض الحب والحرب لتكتمل شخصيته. ورسالته "في تاريخ الجبر وممارسته" (1673) لم تسهم بأفكار أصيلة في ذلك العلم فحسب، بل كانت أول محاولة جدية في إنجلترا لكتابة تاريخ الرياضة. وقد ابتهج معاصروه بالجدل الطويل بينه وبين هوبز حول حساب تربيع الدائرة، وانتصر واليس، ولكن الفيلسوف العجوز واصل الكفاح إلى نهاية سنيه الواحدة والتسعين. ويذكر التاريخ واليس على الأخص بكتابه "حساب اللانهائيات" (1655) الذي طبق طريقة كافالييري في اللامنقسمات على حساب تربيع المنحنيات، وبهذا مهد لحساب التفاضل المتناهي الصغر.
أما كلمة calculus فكانت تعني أصلاً أجراً صغيراً استعمله الرومان القدامى في العد، ولكن لا يستطيع تعريف حساب التفاضل على وجه الصحيح الآن غير الراسخين فيه (1). وقد لمحه أرخميدس من بعيد، واقترب منه كبلر، واكتشفه فيرما ولكنه لم ينشر كشوفه، وحمل كافالييري وتوريتشيللي في إيطاليا، وبسكال وروبرفال في فرنسا، وجون واليس وإسحاق بارو في إنجلترا، وجيمس وديفد جريجوري في
_________
(1) أما بالنسبة لنا نحن غير الخبيرين به، فيمكن وصفه بأنه حساب المقادير القابلة للتغير، كمقادير الوزن، أو المسافة، الزمن، فمنسوب الماء الذي يسكب بسرعة متماثلة في مخروط مقلوب يرتفع بسرعة أقل فأقل، وحساب التفاصيل يحدد مبلغ ارتفاع المنسوب في أي وحدة زمنية معلومة. فالجسم الساقط في "وسط خال من المقاومة" يزيد من سرعة سقوطه مع كل زيادة في الزمن، وحساب التفاضل بين مدى سقوطه في أي فترة معينة. وأشكال هذا الحساب الأكثر تعقيداً تتناول إنشاء المماسات للمنحنيات، والمساحات المحاطة بمنحني، وتقريب الخطوط المستقيمة المضاعفة لا نهائياً إلى الدائرة. وحساب التفاضل المتناهي الصغر بحسب مقداراً قابلاً للتغير باختزاله دون حد إلى جزء دقيق جداً بحيث يمكن إهمال معدل التغير. وحساب التكامل يحسب مقداراً ما من واقع العلم بسرعة تغييره. وقد تبين أن جميع طرق الحساب هذه بالغة الفائدة للأعمال الهندسية.(33/189)
إسكتلندة-هؤلاء كلهم حملوا لبنات للبناء في تعاون القارة المدهش هذا. وأوصل نيوتن وليبنتز العمل إلى التمام.
واقترح لفظة calculus على ليبنتز رجل يدعى يوهان برنويي أحد أفراد أسرة تفردت بوراثة النبوغ الاجتماعية تفرد آل باخ، وبروجل وكوبرين. وكان نيقولاوس برنويي (1623 - 1708) كأسلافه تاجراً. وارتقى الحساب التجاري عند ولده يعقوب برنويي الأول (1654 - 1705) إلى أشكال أرقى من الحساب. واتخذ يعقوب هذا شعاراً له القول المأثور "أنني أدرس النجوم مخالفاً إرادة أبي"، فهو الفلك، وأسهم في الهندسة التحليلية، وحسن حساب التغييرات، وأصبح أستاذاً للرياضيين في جامعة بازل. وقد آتت دراساته للمنحنيات الكتينية (وهي المنحنيات التي ترسم بسلسلة منتظمة معلقة بين نقطتين) -هذه الدراسات آتت أكلها في فترة لاحقة في تصميم الكباري المعلقة وخطوط النقل العالية الفولت. واتخذ أخوه يوهان (1667، 1748) الطب مهنته-مخالفاً خطط أبيه هو أيضاً-ثم الرياضة، وخلف يعقوب أستاذاً في بازل، وأسهم في الفيزياء، والبصريات، والكيمياء والفلك، ونظرية المد والجزر، ورياضة القلوع، وابتكر حساب التفاضل الأسي، وأنشأ أول نظام لحساب التكامل، وأدخل استعمال كلمة integral بهذا المعنى. ونال أخ آخر لهما يدعى نيقولاوس الأول (1662 - 1716) درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بعد في السادسة عشرة، وفي القانون وهو في العشرين، ودرس القانون في برن والرياضة في سانت بطرسبورج. وسنلتقي بستة رياضيين آخرين من آل برنويي في القرن الثامن عشر، وكان منهم اثنان آخران في القرن التاسع عشر، وهنا كفت البطاريات البرنويية من عملها.
ومن مآثر هذا العصر إرساء الإحصاء علماً أو ما يشبه العلم. ذلك أن خردجيا يدعى جرونت كان يتسلى بجمع سجلات الدفن المحفوظة بأبرشيات لندن ودراستها. وكانت هذه السجلات تذكر عادة السبب المتناقل لموت الميت، مثل "مات جوعاً في الشارع" و "أعدم وعصر حتى الموت" و "داء الملك" (الخنازيري) و "مات جوعاً عند مرضعته" و "قتلوا أنفسهم (16) " وفي 1662 نشر جرونت كتاباً سماه "ملاحظات طبيعية وسياسية ... على سجلات الوفيات"،(33/190)
والكتاب بداية علم الإحصاء الحديث، وقد خلص من جداوله إلى أن ستة وثلاثين في المائة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم السادسة، وأربعة وعشرين في المائة في العشر السنوات التالية، وخمسة عشر في المائة في العشر التالية. الخ (17)، وتبدو نسبة الوفيات في الأطفال مغالى فيها كثيراً هنا، ولكنها تومئ إلى جهد الحب في ملاحقة ملاك الموت. قال جرونت "من الوفيات العديدة ما يحمل نسبة ثابتة إلى جملة المدفونين، وأعني الوفاة بالأمراض المزمنة، والأمراض التي يعظم تعرض المدينة لها، كالسل، والاستسقاء، واليرقان، الخ (18) "، ومعنى هذا أن أمراضاً معينة، وظواهر اجتماعية أخرى، وإن تعذر التنبؤ بها في الأفراد، إلا أنها يمكن حسابها مسبقاً بدقة نسبية في الجماعات الكبيرة وهذا المبدأ الذي صاغه جرونت هنا أصح أساساً للتنبؤ الإحصائي. وقد لاحظ أن وقائع الدفن في لندن في سنوات كثيرة فاقت وقائع العماد، وانتهى إلى أن لندن تتميز بوفرة احتمالات الموت، كالموت من هموم العمل، و "الدخان، والروائح العفنة، والهواء الفاسد" و "الإفراط في الطعام" ولكن بما أن سكان لندن كانوا يتزايدون رغم هذا، فإن جرونت عزا الزيادة إلى وفود المهاجرين من الريف والمدن الصغيرة-وقدر سكان العاصمة في عام 1662 بنحو 384. 000 نسمة.
وطبق السر وليم بتي، صديق جرونت، الإحصاء على السياسة. وهنا أيضاً مثال آخر على تعدد في القدرات يستحيل العثور عليه اليوم في فرد واحد، فإن بتي بعد أن تلقى العلم في كان، وأوترخت، وليدن، وأمستردام، وباريس، درس التشريح في أكسفورد، والموسيقى في كلية جريشام بلندن، وجمع ثروة ونال لقب الفروسية باشتغاله طبيباً للجيش الملكي بإيرلندة (1). وفي 1676 ألف كتاباً هو العمدة الثاني في علم الإحصاء الإنجليزي، وهو "الحساب السياسي" فالسياسة في رأي بتي لا يمكن أن تصبح علماً أو كالعلم إلا إذا بنت استنتاجاتها على قياسات كمية. لذلك طالب بتعداد دوري يسجل الميلاد، والجنس، والحالة
_________
(1) يقول أوبري أنه في أسكفورد "كان يحتفظ بالجثة .. مخللة أو مملحة" وكانت إحدى الجثث التي جيء بها إليه لتشريحها جثة نان جرين، التي قتلت ابنها غير الشرعي، ووجدها بتي لا تزال تتنفس، وردها إلى الحياة ثانية (19).(33/191)
الزوجية، والألقاب، والمهنة، والدين، الخ. لكل شخص يسكن إنجلترا. واعتماداً على قوائم الوفيات، وعدد البيوت، وزيادة المواليد على الوفيات سنوياً، قدر أن سكان لندن في 1682 يبلغون 696. 000، وسكان باريس 488. 000، وسكان أمستردام 187. 000، وسكان روما 125. 000. ورأى بتي ما رأى جوفاني بوتيرو في 1589 وتوماس مالثوس في 1798، وهو أن عدد السكان ينحو إلى الزيادة بأسرع من موارد الرزق، وأن هذا يفضي إلى أن الحرب، وأنه لن تحل سنة 3682 حتى تكتظ الأرض الصالحة للسكنى بأهلها اكتظاظاً خطراً، إذ يعيش شخص في كل فدانين (20).
وأفادت شركات التأمين من الإحصاء فحولت عملها فناً وعلماً أخذاً في حسابهما كل شيء إلا التضخم. ومن واقع تقارير الوفيات في برسلاو أعد أدموند هالي (1693) جدولاً بالوفيات المتوقعة في جميع الأعمار من عمر سنة إلى أربع وثمانين، وعلى أساس الجدول حسب احتمالات وفاة الأفراد في سن معينة خلال السنة الشمسية، واستخرج السعر المنطقي لبوليصة التأمين. وانتفعت أولى شركات التأمين على الحياة التي أسست بلندن في القرن الثامن عشر بجداول هالي، وأحالت الرياضة ذهباً.
3 - الفلك
أخضعت النجوم للعلم في عشرات الأقطار. ففي إيطاليا اكتشف الفلكي اليسوعي ريتشولي (1650) أول نجم مزدوج-أي نجم يبدو للعين المجردة واحداً ولكنه يرى بالتلسكوب نجمين واضح أنهما يدوران الواحد حول الآخر. وفي دنزج بني يوهان هيفيليوس مرصداً في بيته، وصنع آلاته الخاصة، وصنف 1. 564 نجماً، واكتشف أربعة مذنبات، ورصد مرور المشتري، ولاحظ ترجحات القمر، (وهي التناوبات الدورية في رؤية أجزائه)، ورسم سطحه، وسمى عدداً من تضاريسه بأسماء ما زالت تظهر على خرائط القمر إلى رومنا هذا. فلما أذاع على راصدي النجوم في أوربا أن في استطاعته تمييز مواقع النجوم باستعمال "ديوبتر" (رصد يستعمل عدسة واحدة أو منشوراً واحداً) بنفس الدقة التي يميز بها هذه المواقع باستعمال تلسكوب مركب، تحدى روبرت هوك(33/192)
دعواه هذه، وسافر هالي من لندن إلى دنزج ليحقق الأمر، ثم قرر أن هيفيليوس صادق (21).
ووفر لويس الرابع عشر المال لبناء وتجهيز مرصد في باريس (1667 - 72) بعد أن تبين أهمية الفلك للملاحة. ومن ذلك المركز قاد جان بيكار البعثات أو أرسلها لدراسة السماء من نقط مختلفة على الأرض. وذهب إلى أورانيبورج ليلاحظ الموقع المضبوط الذي رسم منه تيكو براهي خريطته المشهورة للنجوم، واستطاع بمختلف الرصود التي امتدت من باريس إلى أميان أن يقيس درجة طولية بدقة عظيمة (لا تختلف إلا بضع ياردات على الرقم الحالي وهو 69. 5 ميلاً) حتى أنه من المعتقد أن نيوتن استخدم نتائج بيكار ليقدر كتلة الأرض ويتحقق من نظرية الجاذبية. وبأرصاد مماثلة حسب بيكار القطر الاستوائي للأرض فكان 7. 801 ميلاً-وهو تقدير غير بعيد من تقديرنا الحالي وهو 7. 913 (22). وقد يسرت هذه الكشوف للمراكب في عرض البحر أن تحدد مواقعها بدقة لم يسبق لها نظير. وهكذا حفز توسع أوربا التجاري وتطورها الصناعي الثورة العلمية وانتفعا بها.
وعملاً باقتراح من بيكار دعا لويس الرابع عشر إلى فرنسا الفلكي الإيطالي جوفاني دومنيكو كاسيني، الذي ذاع صيته في أوربا بفضل اكتشافه شكل المشتري الكرواني، ودوران المشتري والمريخ الدوري. فلما وصل إلى باريس (1669) استقبله الملك كأنه أمير من أمراء العلم (23). وفي 1672 أوفد، هو وبيكار، جان ريشيه إلى كايين بأمريكا الجنوبية ليرصد المريخ في أقصى "مواجهة" له مع الشمس وقرب من الأرض، ورصد كاسيني نفس المواجهة من باريس. وقد أعطت المقارنة بين هذين الرصدين الآتيين من نقطتين منفصلتين قيماً جديدة وأكثر دقة لاختلاف منظر المريخ والشمس وبعدهما عن الأرض، وكشفت عن أبعاد في المجموعة الشمسية أعظم مما قدر من قبل. وبما أن الفلكيين تبينوا أن بندولاً في كايين يبطئ عن نظيره في باريس، فقد انتهوا إلى أن الجاذبية قرب الاستواء أخف منها في العروض العليا، وأوحى هذا بأن الأرض ليست دائرة كاملة، ورأى كاسيني أنها تفلطحت عند خط الاستواء، ورأى نيوتن أنها تفلطحت عند القطبين، وأيد المزيد من البحث رأى نيوتن، واكتشف كاسيني أثناء ذلك أربعة أقمار(33/193)
جديدة لزحل (ساتورن)، وانقسام حلقة زحل إلى قسمين (وهو الانقسام الذي يطلق عليه اسم كاسيني الآن). وبعد موته عام 1712 خلفه في مرصد باريس ابنه جاك، الذي قاس قوس الزوال كمن دنكرك إلى بربنيان، ونشر أول جداول لأقمار زحل.
وقد أسهم كرستيان هويجنز في لهاي إسهامات هامة في الفلك قبل أن ينضم إلى فريق العلماء العالمي في باريس. فوفق هو وأخوه قسطنطين إلى طريقة جديدة لشحذ العدسات وصقلها، واستعان بها في تركيب تلسكوبات أقوى وأصفى من أي تلسكوبات عرفت من قبل، وبفضلها اكتشف (1655) القمر السادس لزحل، وحلقة هذا الكوكب الغامضة. وبعد عام قام بأول تحديد للمنطقة اللامعة (التي تحمل اسمه الآن (في سديم أوريون وكشف عن الطابع المتعدد لنجمه النووي.
أما أعظم منافس لفلكيي باريس فهو الفريق الممتاز تجمع أكثره حول هالي ونيوتن في إنجلترا. وقد قدم جيمس جريجوري الأدنبري المعونة من بعيد بتصميمه أول تلسكوب عاكس (1663) -أي التلسكوب الذي تركز فيه أشعة الضوء المنبعثة من الجسم بوساطة مرآة منحنية بدلاً من العدسة، وقد حسنه نيوتن في 1668. وفي 1675 وجه جول فلامستيد وآخرون إلى تشارلز الثاني مذكرة يلتمسون فيها تمويل بناء مرصد قومي، حتى تهتدي السفن الإنجليزية التي تمخر عباب البحر بطرق أفضل لحساب خطوط الطول. ودبر الملك المال للبناء، الذي شيد في بلدة جرينيتش قرب القسم الجنوبي الشرقي من لندن، واستعمل هذا نقطة لطول الصفر والزمن القياسي. وقدم تشارلز لفلامستيد راتباً صغيراً على عمله مديراً، ولكنه لم يقدم مالاً تدفع منه رواتب مساعديه أو ثمن الآلات، أما فلامستيد، الهزيل العليل، فقد بذل حياته لذلك المرصد. فقبل تلاميذ يعلمهم، واشترى الآلات من جيبه الخاص، وتلقى المال هدية من أصدقائه، وعكف في صبر على رسم الخرائط للسماء كما ترى من جرينيتش. وقبل أن يموت (1719) كان قد أتم أوسع وأدق قائمة نجوم عرفت من قبل، وقد أدخلت تحسينات كثيرة على القائمة التي تركها تيكوبراهي لكبلر في 1601. وكان فلامستيد يشقى بالافتقار إلى المساعدين، ويضطر للقيام(33/194)
نفسه بأعداد الأوراق التي تترك عادة للمساعدين، فأغضب هالي ونيوتن بتعطيله حساب نتائجه وإذاعتها، وأخيراً نشرها هالي دون إذن من فلامستيد، فثار الفلكي العليل ثورة عارمة هزت النجوم في أفلاكها.
ومع ذلك فإن أدموند هالي كان أعظم أفراد الفريق تهذيباً. كان تلميذاً متحمساً لدراسة السماء، فنشر في العشرين بحثاً عن أفلاك الكواكب، وفي تلك السنة (1676) خرج في رحلة ليتبين كيف تبدو السماء من نصف الكرة الجنوبي. ومن جزيرة القديسة هيلانة رسم خرائط تبين مسلك 341 نجماً. وعشية عيد ميلاده الحادي والعشرين قام بأول رصد كامل لعبور عطارد. فلما عاد إلى إنجلترا انتخب زميلاً بالكلية الملكية وهو لم يجاوز الثانية والعشرين. وقد تبين عبقرية نيوتن، ومول الطبعة الأولى من كتابه "المبادئ" الغالي النفقة، وقد له بتقريظ في شعر لاتيني رائع آخره بيت يقول "غير مسموح بأي بشر فان بأن يقترب من الآلهة" (24). وحقق هالي النص اليوناني لكتاب أبللونيوس البرجاوي "المخاريط"، وتعلم العربية ليترجم الأحداث اليونانية المخطوطة في العربية دون سواها.
وقد سجل اسمه في قبة السماء بنبوءة من أنجح النبوءات في التاريخ. وكان بوريللي قد مهد لها الطريق باكتشافه الشكل القطعي المكافئ لمسالك المذنبات (1665). فلما ظهر مذنب في 1682 وجد هالي في مسلكه نظائر مع مذنبات سجلت في 1456، و1531، و1607، وقد لاحظ أن هذا الظهور حدث في فترات من نحو خمسة وسبعين عاماً، وتنبأ بظهور آخر في 1758. ولم يفسح له في الأجل ليرى تحقيق نبوءته، ولكن حين عاد المذنب إلى الظهور أطلق عليه اسمه، وأضاف إلى مكانة العلم المتزايدة. وكان الرأي في المذنبات حتى أخريات القرن السابع عشر أنها من فعل الله مباشرة، وإنذار للنوع الإنساني بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن مقالات بيل وفونتنيل، ونبوءة هالي، قضت على هذه الخرافة. وطابق هالي بين مذنب آخر شوهد في 1680 ومذنب شوهد في السنة التي مات فيها المسيح، وتتبع تكرار ظهوره كل 575 سنة، ومن هذا الانتظام الدوري حسب(33/195)
فلكه وسرعته حول الشمس. وتعقيباً على هذه الحسابات، خلص نيوتن إلى أن "أجسام المذنبات صلبة، متماسكة، ثابتة، متينة، كأجسام الكواكب" وأنها ليست "أبخرة، أو دخاناً من الأرض، والشمس، والكواكب، وغيرها (25) " (1).
وفي 1691 حيل بين هالي والكرسي السافيلي للفلك بأكسفورد للظن بأنه مادي النزعة (26). وفي 1698، بتكليف من وليم الثالث، أبحر موغلا في الأطلنطي الجنوبي، ودرس اختلافات البوصلة، ورسم خرائط للنجوم كما ترى في القارة القطبية الجنوبية (قال فولتير: إن رحلة ملاحي سفينة جاسون (الأرجونوت، الباحثين عن الفروة الذهبية) إذا قيست بهذه الرحلة لم تكن أكثر من عبور مركب من ضفة نهر إلى أخرى) (27). وفي 1718 قرر هالي أن عدة نجوم من المفروض أنها "ثابتة" قد غيرت مواقعها منذ أيام اليونان، وأن نجماً منها وهو الشعري اليمانية Sirius، قد تغير منذ أيام براهي، وبعد أن أخذ أخطاء الرصد في حسابه، خلص إلى أن النجوم تغير مواقعها بالنسبة لبعضها البعض في فترات كبرى، وهذه "الحركات الخاصة" تقبل الآن على أنها حقيقية. وفي 1721 عين خلفاً لفلامستيد في منصب فلكي الملك، ولكن فلامستيد كان قد مات في فقر مدقع، فاستولى دائنوه على أن آلات رصده، وودد هالي أن عمله يعطل نقص الأجهزة وتناقص نشاطه، ومع ذلك بدأ وهو في الرابعة والستين يرصد ويسجل ظواهر القمر خلال دورته الكاملة ذات الثمانية عشر عاماً. ومات في 1742 وقد بلغ السادسة والثمانين، بعد أن شرب بحكم قدحاً من النبيذ مخالفاً أوامر طبيبه. فالحياة، كالنبيذ سواء بسواء، يجب ألا يسرف في تعاطيها.
_________
(1) قبيل ذلك كان داريدن في قصته الشعرية "أبشالوم وأخيتوفل" (1681) قد وصف المذنبات بأنها "تنبعث من الأبخرة الأرضية قبل أن تشع في السماوات".(33/196)
4 - الأرض
كان هالي في ولعه بالعلم قد غامر بالخوض في مجاهل الأرصاد الجوية بمقال (1697) في الرياح التجارية، وخريطة رسمت لأول مرة حركات الهواء. وقد عزا هذه الحركات لفروق في درجات حرارة الجو وضغطه، فالشمس في حركتها الظاهرية إلى الغرب تحمل الحرارة معها، لا سيما على طول مناطق العالم الاستوائية، والهواء الذي تخلخل بفعل هذه الحرارة يجتذب هواء أقل تخلخلاً من الشرق ويحدث الرياح الاستوائية السائدة التي اعتمد عليها كولمبس في إبحاره من الشرق إلى الغرب. وكان فرانسس بيكون قد أومأ إلى تفسير شبيه بهذا. وسيطوره جورج هالي في 1735 بإضافة هذا الرأي وهو أن السرعة الأكبر لدوران الأرض إلى الشرق عند خط الاستواء تحدث تدفقاً عكسياً للهواء نحو الغرب.
وقد جعل تطور البارومتر والترمومتر من الأرصاد الجوية علماً. فبارومتر جويريكي تنبأ تنبؤاً صحيحاً بعاصفة شديدة في 1660. واخترعت "مراطيب" مختلفة في القرن السادس عشر لقياس الرطوبة. واستعملت "الأكاديميا ديل تشيمنتو" إناءً مدرجاً يتلقى الرطوبة المتساقطة من خارج مخروط معدني مملوء بالثلج. ووصل هوك فرشاة حبوب، أو "لحية"-تنتفخ وتنحني مع زيادة الرطوبة في الهواء-بإبرة مؤشرة تتحرك عند انتفاخ الفرشاة. كذلك اخترع هوك مقياساً للريح، وبارومتراً ذا عجلة، وساعة جوية. وهذه الساعة التي صممها بناء على تكليف من الجمعية الملكية (1678) كانت تقيس وتسجل سرعة الريح واتجاهه، وضغط الجو ورطوبته، ودرجة حرارة الهواء، وكمية المطر، وتبين الوقت فوق ذلك. وشرعت المحطات في مختلف المدن، بعد أن سلحت بالآلات المحسنة، تسجل وتقارن بين أرصادها الآنية، كما حدث بين باريس واستوكهولم في 1649. وأرسل الدوق الأكبر فرديناند الثاني أمير توسكانيا، وراعي أكاديمية التشيمنتو، البارومترات، والترمومترات، والمراطيب، إلى راصدين مختارين في باريس، ووارسو، وانزبروك، وغيرها، ومعها تعليمات بتسجيل البيانات الرصدية يومياً، وإرسال نسخة منها إلى فلورنسة(33/197)
للمقارنة. وأقنع ليبتز المحطات الجوية في هانوفر وكيل بأن تحتفظ بسجلات يومية من 1679 إلى 1714.
أما هوك، الذكي الذي لم يحسم عملاً، فقد فتح عشرات من مسالك البحث المبشرة بالنجاح، ولكن افتقاره إلى المال والصبر أعجزه عن المضي فيها إلى نهايات مشهورة. فنحن نجده في كل مكان في تاريخ العلم البريطاني في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان ابن وزير "مات بتعليق نفسه (28) "، وأرهص بتنوع مواهبه ذلك التنوع المتذبذب، فرسم الصور، وعزف على الأرغن، وابتكر ثلاثين طريقة مختلفة للطيران، وفي أكسفورد انصرف لدراسة الكيمياء، وعمل مساعداً لروبرت بويل. وفي 1662 عين "أميناً للتجارب" في الجمعية الملكية، وفي 1665 كان أستاذاً للهندسة بكلية جريشام، وفي 1666، بعد حريق لندن الكبير، اشتغل بالعمارة وصمم عدة مبان كبيرة-كبيت مونتاجيو، وكلية الأطباء، ومستشفى بيت لحم ("بدلام"). وبعد أطول إكباب على الميكروسكوبات، نشر رائعته "ميكروجرافيا" (1665) الذي احتوى على عدد من الأفكار الموحية في علم الأحياء. وعرض نظرية في الأمواج الضوئية، وساعد نيوتن في البصريات، وكان سباقاً إلى قانون المربعات العكسية ونظرية الجاذبية. وكشف النجم الخامس في أوريون، وقام بأول محاولات ليحدد بالتلسكوب اختلاف منظر نجم ثابت. ثم عرض نظرية حركية للغازات في 1678، ووصف نظاماً للتلغراف في 1684. وكان من أوائل من استعملوا الزنبرك في ضبط الساعات، وأرسى مبدأ آلة السدس لقياس أبعاد الزاوية، وصنع اثنتي عشرة آلة علمية. وأغلب الظن أنه كان أعظم العقول أصالة في كوكبة العباقرة التي جعلت من الجمعية الملكية حيناً محدد الخطوة للعلم الأوربي، ولكن طبيعته المكتئبة العصبية حالت بينه وبين ما كان جديراً به من ثناء ومديح.
وقد كان له حتى في الجيولوجيا لحظة صدق. فقد زعم أن المتحفرات تدل على قدم الأرض والحياة قدماً يتعارض تماماً مع سفر التكوين، وتنبأ بأن تاريخ الحياة على الأرض سيحسب يوماً ما على أساس المتحفرات المختلفة في الطبقات المتعاقبة. وكان أكثر كتاب القرن السابع عشر لا يزالون يقبلون قصة الخلق الكتابية، وكافح(33/198)
بعضهم للتوفيق بين سفر التكوين وكشف الجيولوجيا المتفرقة. وفي مقال "نحو تاريخ طبيعي للأرض" (1695)، أعاد جون وودوارد، بعد دراسة طويلة لمجموعته الكبيرة من المتحفرات، تفسير ليوناردو دافتشي لها بأنها بقايا نباتات أو حيوانات عاشت يوماً ما على الأرض، ولكنه هو أيضاً ذهب إلى أن توزيع المتحفرات نتيجة لطوفان نوح. ثم اقترح قسيس أنجليكاني يدعى توماس بيرنيت (1680) التوفيق بين سفر التكوين والجيولوجيا بمدة "أيام" أسطورة الخليقة كما وردت في سفر التكوين إلى حقب، وتقبل الناس هذه الحيلة، ولكن حين استجمع توماس أطراف شجاعته وراح يفسر قصة آدم على أنها رمز، وجد نفسه محروماً من الترقية للمناصب الكنسية.
وكان أثناسيوس كيرشر يسوعياً تقياً وعالماً فذاً، وسنراه يلمع في ميادين عديدة. وقد رسم كتابه، عالم ما تحت الأرض " (1665) خرائط لتيارات المحيط، ورأى أن المجاري الباطنية يغذيها البحر، وعزا ثوران البراكين والعيون الساخنة لنيران باطنية، وبدا هذا تأكيداً للاعتقاد الشائع بأن الجحيم في مركز الأرض. أما بيير بيرو (1674) فقد رفض الفكرة القائلة بأن العيون والأنهار لها منابع باطنية، وقال بالرأي المقبول الآن، وهو أنها نتاج الأمطار والثلوج. وعلل مارتن لستر ثوران البراكين بأنه نتيجة سخونة الكبريت في كبريتور الحديد والانفجار المترتب على السخونة، وأظهرت التجربة أن خليطاً من برادة الحديد، والكبريت، والماء، مدفوناً في الأرض، أصبح ساخناً وشقق الأرض من فوقه، ثم تنفجر لهيباً.
أما ألمع العلماء في جيولوجية ذلك العصر فقد عرفته الدنمرك باسم نيلز ستينسن، وعرفته دولية العلم باسم نيقولاوس ستينو. ولد في كوبنهاجن، ودرس الطب فيها وفي ليدن، حيث سلك سبينوزا في زمرة أصدقائه (29). ثم هاجر إلى إيطاليا، واعتنق الكاثوليكية وأصبح طبيب البلاط لفرديناند الثاني في فلورنسة. وفي 1669 نشر مجلداً صغيراً اسمه Desolido intra solidum naturaliter contento عده أحد الطلبة "أهم وثيقة جيولوجية في ذلك القرن (30) " وكان هدفه تأكيد الرأي الجديد في المتحفرات، ولكن على سبيل التمهيد له(33/199)
وضع ستينو لأول مرة أسساً تشرح تطور القشرة الأرضية. وقد وجد بدراسة جيولوجية توسكانيا ست طبقات متعاقبة. وحلل تركيبها ومحتوياتها، وتكوين الجبال والأودية، وأسباب البراكين والزلازل، وشواهد المتحفرات على مستويات الأنهار والبحار التي كانت أعلى فيما سبق من الأزمنة. وكان في الشهرة التي حظي بها الكتاب، وفي الدراسات التشريحية التي قام بها ستينو، ما حمل الملك كرستيان الرابع على أن يعرض عليه كرسي التشريح في جامعة كوبنهاجن. فقبله، ولكن كاثوليكيته الغيور أحدثت شيئاً من الاحتكاك، فعاد إلى فلورنسة، وانتقل من العلم إلى الدين، واختتم حياته أسقفاً لتيتوبوليس ونائباً رسولياً لشمالي أوربا.
وكانت الجغرافيا خلال ذلك تنمو، عادة بوصفها نتاجاً جانبياً للمشروعات التبشيرية أو العسكرية أو التجارية، وقد أخلص اليسوعيين للعلم إخلاصهم للدين أو السياسة تقريباً، وكان كثير منهم ينتمون إلى جماعات علمية رحبت بتقاريرهم الجغرافية والأثنوغرافية. وقد تغلغلوا في بعثاتهم الدينية في كندا والمكسيك والبرازيل والتبت ومنغوليا والصين وجمعوا وأرسلوا الكثير من المعارف العلمية، ورسموا أفضل الخرائط للمناطق التي زاروها. وفي 1651 نشر مارتينو مارتيني "الأطلس الصيني" وهو أرقى وصف جغرافي للصين طبع إلى ذلك التاريخ، وفي 1667 أصدر أثناسيوس كيرشر كتابه الرائع "الصين المصورة". وأوفد لويس الرابع عشر علماء يسوعيين مزودين بأحدث الآلات لرسم خريطة الصين ثانية، وفي 1718 أصدروا خريطة هائلة في 120 فرخاً تغطي الصين ومنشوريا ومنغوليا والتبت، وقد ظلت مدن قرنين الأساس لكل ما تلاها من خرائط لتلك المناطق. أما أعجوبة العصر الخرائطية فهي الخريطة التي بلغ قطرها أربعة عشرين قدماً، والتي رسمها جوفاني كاسيني ومساعده بالجير على أرضية مرصد باريس (حوالي 1690)، وبينوا عليها بالضبط مواقع جميع الأماكن الهامة على الكرة الأرضية بخطوط العرض والطول (31).
وينتمي لهذه الفترة بعض مشاهير الرحالة. وقد ألمن من قبل(33/200)
بكتاب تافرنييه "ست رحلات من أوربا لآسيا" (1670) وكتاب شاردان "رحلات في فارس" (1686). كتب تافرنييه يقول "في رحلاتي الست، وأثناء سفري بطرق مختلفة، أتيح لي من الفراغ والفرص ما مكنني من مشاهدة تركيا كلها، وفارس كلها، والهند كلها ... وفي المرات الثلاث الأخيرة جاوزت نهر الجنج إلى جزيرة جاوة، وهكذا قطعت في أربعين عاماً أكثر من ستين ألف فرسخ بالبر (32) ". أما شاردان فقد سبق بعبارة واحدة "روح قوانين" مونتسكيو. قال: "إن مناخ كل جنس ... هو دائماً السبب في ميول شعبه وعاداته (33) ". وفي 1670 - 71 نشر فرانسوا برنيبه وصفاً لرحلاته ودراساته في الهند، وقد اتهم بأنه نفض عنه مسيحيته في الطريق (34). وغامر وليم دامبييه بالرحلة في عشرات الأقطار والبحار، وكتب "رحلة جديدة حول العالم" (1697) وأعطى إشارة البدء لديفو حين روى كيف قاد في إحدى رحلاته الأخيرة السفينة التي أنقذت ألكسندر سيلكرك من جزيرة لا يسكنها غيره (1709).
ولعبت الجغرافيا دورها في الغض من اللاهوت المسيحي. فكلما تجمعت الأخبار عن القارات الأخرى لم تملك الطبقات الأوربية المتعلمة إلا العجب من اختلاف الأديان على ظهر الأرض، والتشابه بين الخرافات الدينية، ووثوق كل دين من صدق عقيدته، والمستوى الخلقي للمجتمعات الإسلامية أو البوذية، ذلك المستوى الذي أخزى من بعض الوجوه تلك الحروب الدامية وذلك التعصب القتال الذي يشين شعوباً وهبت الإيمان المسيحي. وروى البارون دلاهونتان أنه في رحلته في كندا عام 1683 لقد عنتا من جراء نقد الوطنيين اليهود للمسيحية (35)، واستشهد بيل المرة بعد المرة بعادات الصينيين أو اليابانيين وأفكارهم في نقده المعتقدات وأساليب العيش الأوربية. وأصبحت نسبية الأخلاق من البديهيات في فلسفة القرن الثامن عشر، ووصف أحد الظرفاء أسفار "جاك سيدان" الخنثي، الذي ابتهج حين وجد بلداً كل أهله لوطيون، ينظرون إلى الأوربيين الذين يشتهون الجنس الآخر نظرتهم إلى هولات فاسقة مقززة.(33/201)
5 - الفيزياء
كان اصطدام الفيزياء والكيمياء بالعقيدة القديمة أقل ظهوراً من اصطدام الجغرافيا والأحياء بها، لأنهما تتناولان الجوامد والسوائل والغازات التي تبدو أنها لا علاقة لها باللاهوت، ولكن تقدم العلم-حتى في ذلك المضمار المادي-كان ينشر حكم القانون ويضعف الإيمان بالمعجزات. واعتمدت دراسة الفيزياء على الحاجات التجارية والصناعية لا على الاهتمامات الفلسفية.
وبعد أن أقنع الملاحون الفلكيين برسم خرائط للسماء بدقة أكثر، عرضوا الآن المكافآت على من يضع ساعة تعين على إيجاد خط الطول رغم اضطرابات البحر. وكان في الإمكان تحديد خط الطول في البحر بمقارنة لحظة شروق الشمس أو الزوال بالزمن الذي تظهره في تلك اللحظة ساعة ضبطت على وقت جرينتش أو باريس، ولكن ما لم تكن الساعة دقيقة فإن الحساب يخطئ خطأً خطراً. وفي 1675 توصل هويجنز إلى صنع ساعة يعتمد عليها بوصل بندول بترس شاكوش مسنن، ولكن ساعة كهذه عديمة النفع في مركب يعلو ويهبط (1). وبعد محاولات كثيرة، ركب هويجنز ساعة بحرية ناجحة بإحلاله محل البندول ترس توازن يديره زنبركان. وكانت الفكرة من بين الاقتراحات المنيرة التي فصلها في كتاب من عيون العلم الحديث "ساعة البندول"، وقد نشره في باريس عام 1673. وبعد ثلاث سنوات اخترع هوك شاكوش الساعات الكبيرة المثبت، واستعمل الزنبرك اللولبي على ترس توازن الساعات، وشرح حركة الزنبرك على أساس مبدأ "كما يكون الشد تكون القوة" وما زال هذا يسمى قانون هوك. وأمكن الآن أن تصنع ساعات الجيب صناعة أكفأ وأرخص من ذي قبل.
وقد درس هويجنز في كتاب "ساعة البندول Horologium
_________
(1) رسم ليوناردو دافتشي حوالي عام 1500 رسوماً لبندول وشاكوش ساعة ووضع جاليليو بعض قوانين البندول، وتصور فكرة ساعة البندول في 1641، ولكنه مات قبل أن يطبق الفكرة عملياً. وفي 1656 صنع كاميريني ساعة صغيرة ببندول قبل هويجنز ببضعة شهور قط.(33/202)
وفي كتيب خاص قانون القوة المركزية الطاردة-ومؤداه أن كل جزيء في جسم دائر لا يقع في محور الدوران معرض لقوة طرد مركزية تزداد مع بعده عن المحور ومع سرعة الدوران. وصنع كرة من طفل تدور بسرعة، ووجد أنها تتخذ شكلاً كروانياً مفرطحاً عند طرفي المحور. وعلى مبدأ الطرد المركزي هذا فسر فرطحة المشتري عند قطبيه، وقياساً على ذلك استنتج أن الأرض أيضاً لا بد أن تكون مفرطحة فرطحة طفيفة عند القطبين.
وواصل كتاب هويجنز Tractatus de Motu Corporum ex Percussione (1703) الذي نشر بعد موته بثماني سنوات، الدراسات التي قام بها جاليليو، وديكارت، وواليس في مشكلات التصادم ( impact) التي تناولت أسراراً مثيرة للفضول، من لعب البليارد إلى تصادم النجوم. فكيف تنتقل القوة من جسم متحرك إلى جسم يضربه، ولم يحل هويجنز اللغز، ولكنه قرر مبادئ أساسية:
1 - إذا كان هناك جسم ساكن وصدمه جسم مساو له، فإن هذا ينتهي إلى السكون بعد الصدمة، في حين يكتسب الجسم الذي كان في البدء ساكناً سرعة الجسم الذي صدمه.
2 - إذا اصطدم جسمان متساويان بسرعتين مختلفتين، فإنهما يتحركان بعد الصدمة بسرعتين متبادلتين.
11 - إذا تصادم جسمان فإن مجموع حاصل ضرب الكتلتين في مربعي سرعتيهما واحد قبل الصدمة وبعدها.
وقد عبرت هذه القضايا التي صاغها هويجنز في 1669 تعبيراً جزئياً عن أشمل أساس من أسس الفيزياء الحديثة، وهو عدم فناء الطاقة. على أنها كانت صادقة من الناحية المثالية أو النظرية فقط، لأنها افترضت المرونة التامة في الأجسام. ولما لم يكن في الطبيعة جسم مرن مرونة كاملة، فإن السرعة النسبية للأجسام الصادمة تتناقض حسب المادة التي تتألف منها. وقد حدد نيوتين معدل التناقض هذا في الخشب، والفلين، والصلب، والزجاج، في التعليق التمهيدي للجزء الأول من كتابه "المبادئ" (1687).(33/203)
وتدفق نهر آخر من أنهار البحث العلمي من التجارب التي أجراها توريتشللي وبسكال على الضغط الجوي، فقد أعلن بسكال في 1647 أن "أي إناء مهما كان كبره، يمكن إفراغه من كل مادة معروفة في الطبيعة ومدركة بالحواس (37) " وقد ظلت الفلسفة الأوربية مئات السنين تعلن أن "الطبيعة تكره الفراغ"، وحتى الآن أخبر أستاذ باريسي بسكال أن الملائكة ذاتها لا تستطيع أن تحدث فراغاً، وقال ديكارت بازدراء أن الفراغ الوحيد الموجود هو في رأس بسكال. ولكن حدث حوالي عام 1650 أن أوتو فون جويريكي ركب في مجدبورج مضخة هوائية أحدثت فراغاً كاملاً تقريباً، حتى لقد أدهش كبار مواطنيه وأقطاب العلم بتجربة شهيرة اسمها "نصفاً كرة مجدبورج" (1654). ففي حضرة الإمبراطور فرديناند الثالث والديت الإمبراطوري في راتزيون قرب محارتين نصف كرويتين من البرونز الواحدة من الأخرى بحيث أحكم ختمها دون أن يوصلاً آلياً عند حافتيهما وضخ كل الهواء تقريباً من داخليهما الملتصقين، ثم أرى الحاضرين أن القوة المجتمعة لستة عشر حصاناً-ثمانية منها تشد في اتجاه، وثمانية في اتجاه مضاد-لا تستطيع فصل نصفي الكرة، ولكن حين فتح بحبس في أحد النصفين فأدخل الهواء، أمكن فصل المحارتين باليد.
وكان جويريكي شغوفاً بتبسيط الفيزياء للأباطرة. فاستطاع بتفريغ كرة نحاسية من الماء والهواء أن يجعلها تسقط بفرقعة عالية مفزعة، وبهذه الطريقة أوضح ضغط الهواء. ووازن بين كرتين متساويتين، وأسقط إحداهما بتفريغه الهواء من الأخرى، وهكذا أثبت أن للهواء وزناً، واعترف بأن كل الفراغات ناقصة، ولكنه أثبت أن في فراغاته الناقصة تلك تنطفئ الشعلة، وتختنق الحيوانات، وتسكت الساعة الدقاقة، وهكذا مهد للكشف عن الأوكسجين، وبين أن الهواء ناقل الصوت. واستعمل امتصاص الفراغ لضخ الماء ورفع الثقال، وأسهم في التمهيد للآلة البخارية. فلما أصبح عمدة مجدبورج آخر نشر كشوفه حتى عام 1672، ولكنه أبلغها لكاسبار شوت أستاذ الفيزياء اليسوعي بفورتزبورج، الذي طبع وصفاً لها في 1657. وهذا المطبوع هو الذي حفز بويل إلى بحوثه التي أفضت إلى قانون الضغط الجوي.(33/204)
أما روبرت بويل فكان عاملاً هاماً في ازدهار العلم الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان أبوه رتشرد بويل، ايرل كورك، قد أقتني ضيعة كبيرة في إيرلندة، ورث روبرت معظمها وهو في السابعة عشرة (1644)، وفي زياراته المتكررة للندن تعرف إلى واليس، وهوك، ورن، وغيرهم من أعضاء "الكلية غير المنظورة"، فلما افتتن بجهودهم وتطلعاتهم انتقل إلى أكسفورد وبنى بها مختبراً (1654). وكان رجلاً ذا حماسات حارة وورع لا قبل لعلم من العلوم بتدميره. فقد رفض أن يمضي في الاتصال بسبينوزا (عن طريق أولدنبورج) حين علم أن الفيلسوف يعبد "الجوهر" باعتباره الله، ولكنه وضع قدراً كبيراً من ثروته في خدمة العلم وأعان الكثيرين من أصحابه. كان طويلاً، نحيلاً، هزيلاً معتلاً أكثر الوقت، ولكنه أوقف الموت على مبعدة منه بالحمية والتقشف الصارمين، وقد وجد في مختبره "ماء نهر النسيان، ذلك الماء الذي ينسيني كل شيء إلا بهجة إجراء التجارب (38) ".
وبعد أن سمع بويل بمضخة جويريكي الهوائية، صمم بمساعدة هوك (1657) "آلة هوائية" لدراسة خواص الغلاف الغازي. وبهذه الآلة وما تلاها من مضخات أثبت أن عمود الزئبق في البارومتر يسنده الضغط الجوي، وقاس بالتقريب كثافة الهواء. وزاد على تجربة جاليليو المزعومة في بيزا بإثباته أن حزمة الريش تسقط بنفس سرعة سقوط الحجر، حتى في فراغ غير كامل. وبرهن على أن الضوء لا يتأثر بالفراغ، وإذن فهو لا يستعمل الهواء كما يستعمله الصوت وسيطاً لانتقاله، وأيد برهان جويريكي على أن الهواء لا غنى عنه للحياة "فحين أغمي على فأر في الحجرة المفرغة، أوقف التجربة وأنعشه بإدخال الهواء). ونحن نرى دولية العلم في تحركها حين نعلم أن جويريكي حفزته جهود بويل ليصمم مضخة هوائية أفضل ويستأنف دراساته العلمية، وأن هويجنز، بعد زيارته لبويل عام 1661، أغرى بصنع آلات شبيهة والقيام باختبارات مماثلة.
ومضى بويل في أبحاثه الخلاقة في الانكسار، والبلورات، والأوزان النوعية، والهيدروستاتيكا، والحرارة. وتوج إسهاماته في الفيزياء بصياغة القانون الذي يحمل اسمه: وهو أن ضغط الهواء أو(33/205)
أي غاز يتناسب تناسباً عكسياً مع حجمه-أو أن ضغط الغاز مضروباً في حجمه يكون ثابتاً عند درجة حرارة ثابتة. وقد أذاع هذا المبدأ أول مرة في 1662، وفي سماحة وكرم نسب الفضل فيه إلى تلميذه وتشرد تاونلي. وكان هوك قد توصل إلى الصيغة ذاتها في 1660 بتجارب مستقلة، ولكنه لم يذعها إلا في 1665. وتوصل قس فرنسي يدعى ادمي ماريوت في نحو الوقت الذي توصل فيه بويل إلى نتيجة مماثلة، وهي "أن الهواء ينضغط حسب الثقل الواقع عليه"، ونشر هذا في 1676، واسمه لا اسم بويل هو المرتبط في القارة بقانون الضغط الجوي. وأياً كان صاحب الفضل في القانون، فإنه كان من أسلاف الآلة البخارية والثورة الصناعية.
وتابع بويل وهوك رأي بيكون في أن "الحرارة حركة تمدد لا في الجسم كله بشكل منتظم، بل في أجزائه الصغرى (39) ". وقد وصف هوك الحرارة بأنها "خاصية تنشأ في جسم ما من حركة أجزائه أو هيجانها"، وميز بينها وبين النار واللهب، اللذين نسبهما إلى فعل الهواء في الأجسام المحماة. قال "كل الأجسام لها درجة ما من الحرارة فيها" وذلك لأن "أجزاء جميع الأجسام وإن لم تكن شديدة الصلابة إلا أنها تتذبذب قطعاً (40) "، أما البرودة فليست إلا مفهوماً سلبياً. وسلي ماريوت أصحابه حين أراهم أن "البرودة" يمكن أن تحترق، فبلوح مقعر من الثلج ركز ضوء الشمس على البارود فانفجر. وقد أذاب الكونت ايرنفريد فالتر فون تشيرنهاوس، صديق سبينوزا، الخزف الصيني والريالات الفضية بتركيزه ضوء الشمس عليها.
وفي فيزياء الصوت برهن إنجليزيان-هما وليم نوبل وتوماس بيجوت-كل على حدة (نحو 1673) على أن أجزاء مختلفة من الوتر، لا الوتر كله فحسب، قد تتذبذب بنغمات توافقية، تجاوباً مع وتر قريب ومتصل، ينقر أو يضرب أو يثني. وقد اقترح ديكارت هذا على ميوسين، وعملاً بهذه الفكرة توصل جوزف سوفير، مستقلاً إلى نتائج شبيهة بما توصل إليه الإنجليزيان (1700)، ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن سوفير، الذي كان أول من استعمل كلمة acoustics " السمعيات"، كان أصم وأبكم منذ ولادته (41). وفي 1711 اخترع(33/206)
جون شور الشوكة الرنانة. وقام بوريللي، وففياني، وبيكار، وكاسيني، وهويجنز، وفلامستيد، وبويل، وهالي، ونيوتن، بمحاولات في هذه الفترة لإيجاد سرعة الصوت. وكان أقرب تقدير لتقديرنا الحالي هو تقدير بويل، الذي قرر أنها تبلغ 1. 126 قدماً في الثانية. وقرر وليم ديرام (1708) أن هذه المعرفة يمكن الانتفاع بها في حساب بعد العاصفة بملاحظة الفترة بين وميض البرق والصاعقة.
ولعل النصف الثاني من القرن السابع عشر أزهى فترة في تاريخ فيزياء الضوء، فأولاً، ما هذا الضوء؟ لقد غامر هوك، وهو المستعد دائماً للتنقيب عن الصعوبات، برأي يزعم أن الضوء "ليس إلا حركة خاصة لأجزاء الجسم المضيء (42) "-أي أن الضوء لا يختلف عن الحرارة إلا في الحركة الأسرع التي تتحركها الجزيئات (1) المكونة للجسم. ثانياً، ما مدى سرعة تحركه؟ لقد افترض العلماء إلى ذلك الحين أن سرعة الضوء غير محدودة، وحتى هوك المغامر قال أنها على أية حال أكبر من أن تقاس. وفي 1675 برهن فلكي دنمركي يدعى أولاوس رويمر، استقدمه بيكار إلى باريس، على سرعة الضوء المحدودة، إذا لاحظ أن فترة خسوف أقرب التوابع إلى قلب المشتري تتفاوت حسب اقتراب الأرض أو ابتعادها من ذلك الكوكب. وقد أثبت بحسابات مبنية على زمن دورة التابع وقطر فلك الأرض، أن التفاوت في زمن الخسوف الملحوظ راجع إلى الزمن الذي يستغرقه الضوء من التابع ليقطع فلك الأرض، وعلى هذا الأساس الهزيل حسب سرعة الضوء بنحو 120. 000 ميل في الثانية (وتقديرنا الحالي يبلغ 186. 000 ميل).
ولكن كيف ينتقل الضوء؟ أيتحرك في خطوط مستقيمة، إذا كان الأمر كذلك فكيف يدور حول الزوايا؟ لقد اكتشف فرنانشسكو جريمالدي، الأستاذ اليسوعي ببولونيا، (1665) ظاهرة الانحراف
_________
(1) قارن المفهوم الحالي للضوء، وهو أنه طاقة مشعة مرئية. فكل الأجسام يفترض أنها ترسل باستمرار طاقة مشعة. والإشعاع من أجسام أدفأ من جسم الإنسان يحس بها الجلد حرارة، ولكن إذا زيدت درجة حرارة الجسم زيادة كافية أصبح مضيئاً-أي أن بعض إشعاعه المنبعث تحسه العين ضوءاً.(33/207)
وسماها-وهي أن أشعة الضوء المارة من ثقب صغير إلى حجرة مظلمة تنشر على الحائط المواجه باتساع أكبر مما تنتجه الخطوط المستقيمة من المصدر إلى الحائط، وأن أشعة الضوء تنحرف انحرافاً طفيفاً عن الخط المستقيم حين تمر بأطراف جسم معتم، وقد أفضت هذه الكشوف وغيرها بجريمالدي إلى قبول الرأي الذي ألمع إليه ليوناردو دافنشي، وهو أن الضوء يتحرك في موجات متسعة. ووافق هوك، ولكن هويجنز هو الذي أثبت نظرية الموجات التي ما زالت شائعة بين الفيزيائيين. وفي كتاب آخر من عيون العلم الحديثة يدعى "رسالة في الضوء" (1690) أورد هويجنز النتائج التي توصل إليها من دراسة بدأت قبل اثنتي عشرة سنة: وهي أن الضوء تنقله مادة افتراضية سماها "الأثير" (عن المرادف اليوناني للسماء)، وتصور أنها تتألف من أجسام صغيرة، قاسية، مرنة، تنقل الضوء في موجات دائرية متعاقبة تنشر خارجة من المصدر المضيء. وعلى هذه النظرية أسس قوانين الانعكاس، والانكسار المزدوج، وعزا للحركة المغلفة للأمواج قدرة الضوء على الحركة حول الأركان والأجسام المعتمة، وفسر الشفافية بأن افترض أن جزيئات الأثير من الدقة بحيث تستطيع(33/208)
أن تسافر حول الجزيئات التي تؤلف السوائل والجوامد الشفافة وبينها. ولكنه اعترف بعجزه عن تعليل الاستقطاب، وهذا من أسباب رفض نيوتن لفرض الموجات وتفضيله نظرية الجريئات الضوئية.
ولم يحرز القرن السابع عشر غير تقدم كتواضع في دراسة الكهرباء بعد العمل الذي قام به جلبرت وكيرشر في ميدان المغناطيسية، وكابيو في التنافر الكهربي. وقد درس هالي تأثير المغنطيسية الأرضية في إبر البوصلة، وكان أول من تبين الصلة بين مغنطيسية الأرض والفجر الكاذب، aurora borealis (1692) . ووصف جويريكي في 1672 بعض تجاربه في كهرباء الاحتكاك. فالكرة من الكبريت، بعد أن أديرت على يده، جذبت الورق، والريش، وغيرهما من الأجسام الخفيفة، وحملتها معها في دورانها، وقد ربط بين هذا وبين حركة الأرض إذ تحمل معها الأجسام التي على سطحها أو بقربه. وتحقق من التنافر الكهربي إذا أثبتت أن الريشة إذا وضعت بين الكرة المكهربة وأرضية الحجرة تقفز إلى أعلى وأسفل من الواحدة إلى الأخرى. وكان رائداً في دراسة التوصيل، إذ برهن على أن الشحنة الكهربية تستطيع أن تسافر على خيط من الكتان، وأن الأجسام يمكن أن تتكهرب بتقريبها من الكرة المكهربة. وقد ابتكر فرانسس هوكسبي، عضو الجمعية الملكية (1705 - 9) طريقة أفضل لتوليد الكهرباء بإدارته كرة زجاجية مفرغة دوراناً سريعاً، ثم وضعها على يده، وقد انبعث من الاحتكاكات شر طوله بوصة أحدث ضوءاً يكفي للقراءة. وشبه إنجليزي آخر يدعى وول، صوت وضوء شرر مماثل أحدثه، بالرعد والبرق (1708). وعقد نيوتن نفس المقارنة في1716، وأكد فرانكلن العلاقة في 1749. وهكذا نرى الكون الهائل المستغلق، سنة بعد سنة، وعقلاً بعد عقل، يفضي بنتفه مغرية من سره المكنون.
6 - الكيمياء
شهد هذا القرن الرائع علم الكيمياء يتطور من تجارب الخيمياء وأوهامها. وكانت الصناعة منذ زمن تجمع المعرفة الكيميائية عن طريق عمليات صهر الحديد، ودبغ الجلود، ومزج الأصباغ، وتخمير الجعة، ولكن فحص المواد في تركيبها، واتحادها، وتحولها، كان في أغلبه متروكاً للمشتغلين بالخيمياء الباحثين عن الذهب، أو للصيادلة المجهزين للعقاقير. أو للفلاسفة-من ديموقريطس إلى ديكارت-الحائرين في تركيب المادة. وقد حاول اندرياس ليبافيوس في 1597، وجان فان هيلمونت في 1640، الدخول إلى علم الكيمياء، ولكن كلا الرجلين شارك الخيميائيين أملهم في تحويل المعادن "الخسيسة" ذهباً. وقام بويل نفسه بتجارب بهذا الهدف. ففي 1689 حصل على إلغاء لقانون إنجليزي قديم ضد "تكثير الذهب والفضة (43) "، وعند وفاته (1691) خلف لمنفذي وصيته كمية من التراب الأحمر وتعليمات بمحاولة تحويلها إلى ذهب (44). والآن وقد أصبح تحويل المعادن "كلشيها" للكيمياء، فإن في وسعنا أن نشيد بالعلم الذي انطوت عليه الخيمياء بما ندين اللهفة على الذهب ونخيفها.
وكانت أعظم لطمة وجهت إلى الخيمياء هي نشر كتاب بويل "الكيميائي الشكاك" (1661) وهو أول كتاب من عيون تاريخ(33/209)
الكيمياء. وقد اعتذر فيه عن "السماح" لبحثه هذا "بأن يذاع وهو مبتور ناقص على هذا النحو (45) ". ولكنه-وهو يعاني من علل كثيرة-عديم الثقة في أنه سيعمر طويلاً. على أن مما يعزيه "أن يلحظ أن الكيمياء بدأت أخيراً تحظى بما هي جديرة به حقاً من رعاية العلماء الذين كانوا من قبل يحتقرونها (46) ". ووصف كيمياءه بأنها شكاكة لأن من رأيه رفض جميع التفسيرات الغيبية والخصائص السحرية لأنها "محراب الجهل" وهو مصمم على الاعتماد على "التجارب لا الأقيسة المنطقية (47) ". وقد هجر ذلك التقسيم التقليدي للمادة إلى العناصر الأربعة، الهواء، والنار، والماء، والتراب: وقال إن هذه مركبات لا عناصر، أما العناصر الحقيقية فهي على الأصح "أجسام معينة بدائية وبسيطة، أو غير مختلطة إطلاقاً، ولأنها ليست مؤلفة من أي أجسام أخرى أو من بعضها البعض" فهي المكونات لجميع المركبات، ويمكن أن تحلل إليها كل المركبات. ولم يقصد أن العناصر هي المكونات النهائية للمادة، فهذه العناصر الطبيعية المتناهية الصغر هي في رأيه جزيئات دقيقة لا ترى بالعين المجردة، مختلفة شكلاً وحجماً، كذرات لوكيبوس. ومن تنوع هذه الجزيئات وتحركها، ومن اتحادها في "كريات"، تنشأ كل الأجسام، وكل صفاتها وأحوالها، كاللون، والمغنطيسية، والحرارة، والنار، وذلك بطرق وقوانين ميكانيكية خالصة.
وقد استهوت النار العلماء استهواءها للحالمين عند المدافئ. فما الذي يجعل المادة تحترق؟ وما تفسير هذه الألسنة الدائمة التغير من اللهب الجميل، العاتي، الرهيب؟ في سنة 1669 رد كيميائي ألمانييدعى يوهان بيشير كل "العناصر" إلى عنصرين-الماء والتراب، وسمى شكلاً من أشكال التراب، "التراب الزيتي"، الذي اعتقد بوجوده في جميع الأجسام القابلة للاشتعال، وهذا هو الذي يحترق. وفي القرن الثامن عشر سنرى جيورج شتال-الذي اتبع هذا الرأي الخاطئ-ينحرف بالكيمياء عشرات السنين بنظرية مماثلة هي نظرية اللاهوب Phlogiston. على أن بويل سلك مسلكاً آخر. فقد لاحظ أن مواد محترقة مختلفة تكف عن الاحتراق في الفراغ، فاستنتج أن "في الهواء جوهراً حيوياً صغيراً ... يعين(33/210)
على إنعاش حيويتنا واسترجاعها (48) ". وتقدم معاصره الأصغر جون مايوو، وكان هو أيضاً ينتمي للجمعية الملكية، (1547) صوب نظريتنا الحالية عن النار بأن افترض أن من بين مكونات الهواء مادة تتحد بالمعادن حين تتكلس (تتأكسد)، واعتقد أن مادة مماثلة تدخل أجسامنا فتغير الدم الوريدي إلى دم شرياني. وكان لا بد أن تنقضي مائة عام قبل أن يكتشف شيل وبريستلي الأوكسجين نهائياً.
وحوالي عام 1670 اكتشف كيميائي ألماني يدعى هينيج براند أن في استطاعته أن يحصل من بول الإنسان على مادة كيميائية تتوهج في الظلام دون تعريض تمهيدي للضوء. وعرض كيميائي من درسدن يدعى كرافت هذا النتاج الجديد أمام تشارلز الثاني بلندن في 1677. ولم يستطع بويل أن يستخلص من كرافت المتكتم إلا الاعتراف بأن المادة المضيئة "شيء ينتمي إلى جسم الإنسان (49) ". وكان في الإشارة ما يكفي، فسرعان ما حصل بويل على كميته من الفوسفور، وأثبت بسلسلة من التجارب كل ما نعرفه إلى الآن عن توهج ذلك العنصر. وكان النتاج الجديد يكلف المشترين ست جنيهات (315 دولاراً؟) للأوقية رغم وفرة مصدره.
7 - التكنولوجيا
كانت الصناعة-إلى القرن التاسع عشر-تحفز العلم أكثر مما يحفز العلم الصناعة، وكانت المخترعات إلى القرن العشرين تخترع في المختبر أقل مما تخترع في المتجر أو الحقل. ولعل العمليتين سارتا جنباً إلى جنب في أهم الحالات جميعاً، وهي تطوير الآلة البخارية
وقد صنع هيرو الاسكندري، في القرن الثالث الميلادي أو قبله، عدة آلات بخارية، ولكنها على قدر علمنا كانت تستعمل لعباً أو عجائب تسلي الجماهير أكثر منها أجهزة تحل محل الطاقة البشرية. وفي أوائل القرن السادس عشر وصف ليوناردو دافنتشي بندقية تستطيع بضغط البخار أن تدفع مسماراً حديدياً مسافة ألف ومائتي ياردة، ولكن مخطوطاته العلمية لم تنشر إلا عام 1880. وقد ترجمت بعض كتابات هيرو اليونانية إلى اللاتينية في 1757، وإلى الإيطالية في 1589.(33/211)
وذكر جيروم كاردان (1550) وجامباتستا ديللا بورتا (1601) أن في الإمكان إحداث فراغ بتكثيف البخار، ووصف بورتا آلة لاستخدام ضغط البخار لرفع عمود الماء. ومثل هذه الاستخدامات للبخار المتمدد اقترحها سالومون دكاوس بباريس في 1615 وبرانكا بروما في 1630. وحصل ديفد رامسي من تشارلز الأول ملك إنجلترا على براءة بآلات "لرفع الماء من الحفر المنخفضة بالنار ... وتشغيل أي نوع من المصانع على المياه الساكنة بالحركة المستمرة، دون مساعدة من الرياح أو الأثقال أو الخيل (50) ". وفي 1663 حصل إدوارد سومرست، مركيز ورستر، من البرلمان على احتكار مدته تسعة وتسعون عاماً لـ "أعجب عمل في العالم كله"-وهو "آلة تتحكم في الماء" ترفع الماء لارتفاع أربعين قدماً (51)، وبهذه الآلة أراد أن يشغل المصانع المائية لجزء كبير من لندن، ولكنه مات قبل أن ينفذ خطته. وحوالي 1675 اخترع صموئيل مورلاند، كبير ميكانيكية تشارلز الثاني، المضخة الكابسة، وفي 1685 نشر أول وصف دقيق لقوة تمدد البخار. وفي 1680 صنع هوبجنز أول آلة غازية باسطوانة ومكبس تدار بالقوة الممدة للبارود المتفجر.
وذهب دنيبابان، المساعد الفرنسي لهويجنز، إلى إنجلترا واشتغل مع بويل، ونشر عام 1681 وصفاً لـ "مهتضمة digester"- وهي حلة ضغط لتطرية العظم بماء يغلي في إناء مقفل. ولكي يمنع انفجار الإناء وصل بقمته أنبوبة مكن أن تفتح إذا بلغ الضغط نقطة معينة، وقد لعب "صمام الأمن" الأول هذا دوراً منقذاً في تطوير الآلة البخارية. وزاد بابان على ذلك بأن ثبت أن قوة البخار يمكن نقلها غازياً بأنبوبة من مكان لآخر. ولما انتقل إلى ماربورج بألمانيا عرض (1690) أول آلة استعمل فيها تكثيف البخار، الذي يحدث فراغاً، لدفع مكبس. وقد ألمع إلى قدرات هذه الآلة على قذف القنابل، ورفع المياه من المناجم، ودفع المراكب بعجلات تغديف، وفي 1707 (أي قبل قرن بالضبط من إبحار سفينة فولتون "كليرمون" مصعدة على نهر هدسون) استخدم آلته البخارية في تسيير زورق بدولاب تغديف على نهر فولدا بكاسل (52). ولكن الزورق تحطم، وثبط الحكام الألمان تطوير القوة المكنية لاطمئنانهم إلى الأوضاع الراهنة آنئذ، وربما لخوفهم من انتشار البطالة.(33/212)
وعرض توماس سافوي على مجلس البحرية بإنجلترا جهازاً مماثلاً حوالي عام 1700، ولكن الجهاز رفض بهذا التعليق-فيما روى-"أي شأن للمتطفلين الذين لا صلة لهم بنا بتصميم أو اختراع أشياء لنا؟ (54) " وقدم سافوي عرضاً لاختراعه على نهر التايمز، ولكن البحرية رفضته ثانية. وفي 1698 سجل أول آلة بخارية استعملت فعلاً في ضخ الماء من المناجم. وفي 1699 منح براءة خولت له لمدة أربعة عشر عاماً "احتكار استعمال اختراع جديد ... لرفع الماء وإحداث الحركة بقوة النار الضاغطة، سيكون ذا فائدة كبرى في نزاح المناجم، وتوفير المياه للمدن، وتشغيل المصانع بجميع أنواعها (55) " على أنه تبين أن آلات سافوي غالية وخطرة. فقد كان لها صنابير للقياس ولكن لم يكن لها صمامات أمن، وكانت عرضة لانفجارات الغلايات، ومع أنها استخدمت في بعض المناجم لنزح الماء منها، إلا أن أصحاب المناجم عادوا سريعاً إلى استخدام الخيل في هذه المهمة.
عند هذه النقطة من القصة نلتقي مرة أخرى بروبرت هوك. ويروي معاصر موثوق بروايته أنه حوالي 1702 كان يتبادل الرسائل مع تاجر حديد وحداد يدعى توماس نيوكومن حول إمكان استخدام مبدأ المضخة الهوائية في إحداث القوة المكنية. كتب يقول "إذا استطعت أن تحدث فراغاً سريعاً تحت اسطوانتك الثانية انتهى عملك (56) " ويلوح أن نيوكومن كما يجري تجارب على آلة بخارية، هنا اتصل العلم والصناعة اتصالاً مرئياً. ولكن هوك كان شكاكاً، فتخلى عن التجربة، وفاتته فرصة مرة أخرى. وانضم نيوكومن إلى سمكري يدعى جون كولي في صنع آلة بخارية (1712) -بذراع متذبذب، ومكبس، وصمام أمن-يمكن الركون إليها في القيام بعمل شاق دون خطر الانفجار، وبقدرة كاملة على التحكم الذاتي. واستمر نيوكومن حتى وفاته (1729) في تحسين آلته، ولكن في وسعنا أن نؤرخ-من براءة سافوي في 1699، وآلة نيوكومن في 1712 - ، بداية الثورة الصناعية التي ستغير في القرنين التاليين وجه الدنيا وهواءها.
8 - الأحياء
مدت جماعة الباحثين الممتازة التي صنعت مجد الجمعية الملكية(33/213)
أبحاثها إلى علوم الحياة. فأوضح هوك بالتجربة ما قرره من قبل السر كينيلم ديجبي-ذلك "المشعوذ الكبير" كما دعاه ايفلين (52): وهو أن النباتات تحتاج إلى الهواء لتحيا. فعرض بذرة خس في التربة في العراء، وفي نفس الوقت بذرة مماثلة في تربة مماثلة في حجرة مفرغة، ونمت البذرة الأولى بوصة ونصفاً في ثمانية أيام، أما الثانية فلم تنم على الإطلاق. ووجد هوك بين جزء الهواء المستعمل في الاحتراق وبين الجزء المستعمل في تنفس النبات والحيوان، ووصف هذا الجزء المستهلك بأنه نتري الطبيعة (1665). وأوضح أن الحيوانات التي توقف تنفسها مكن الإبقاء على حياتها بنفخ الهواء في رئاتها بمنفاخ. واكتشف البناء الخلوي للنسيج الحي، واخترع لفظ "الخلية cell" لدلالة على مركباته العضوية. ورأى أعضاء الجمعية من خلال مكرسكوبه في ابتهاج خلايا الفلين الذي قدر هوك أن البوصة المكعبة منه تحوي 1. 200. 000. 000 خلية. ودرس هستولوجيا (علم الأنسجة) الحشرات والنباتات، وعر رسوماً طريفة لها في كتابه "ميكروجرافيا"ز لقد وقف هوك دائماً قاب قوسين أو أدنى من جاليليو ونيوتن.
وأسهم عضو آخر في الجمعية هو جون راي في إضفاء الشكل الحديث على علم النبات. وكان ابن حداد، ولكنه شق طريقه إلى كمبردج، وأصبح زميلاً لكلية ترنتي، ورسم قساً أنجليكانياً. وقد أخلص للدين والعلم على السواء، شأنه في ذلك شأن بويل. واستقال من زمالته لأنه أبى التوقيع على "قانون التوافق" (1662) الذي يتعهد موقعه بعدم مقاومة تشارلز الثاني، وانطلق من تلميذه فرانسس ويلاجبي في رحلة يجوبان فيها أوربا لجميع البيانات اللازمة لوصف منظم لمملكتي الحيوان والنبات. واضطلع يلاجبي بعلم الحيوان، ولكنه مات بعد أن أكمل الفصول الخاصة بالطيور والأسماك. وفي 1670 أصدر راي " Catalogus Plantarum Angliae قائمة بنبات إنجلترا" أصبحت إطار علم النبات الإنجليزي. واقترح راي "طريقة جديدة لتقسيم النبات"-مستعيناً في ذلك بما وضعه يواقيم يونجيوس في 1678 من مصطلحات محسنة وتصنيف منقح، فقسم كل الزهريات إلى ثنائية الفلقة dicotyledons وأحادية الفلقة monocotyledons(33/214)
حسب ورقيتها أو ورقتها الجنبية المرافقة للبذور. وأكمل مهمته الكبرى في رائعة من روائع العلم الحديث، هي كتابة الضخم ذو المجلدات الثلاثة " Historia Generalis Palantarum تاريخ النبات العام" (1682 - 1704)، الذي وصف 18. 625 نوعاً من أنواع النبات. وكان راي أول من استعمل كلمة "نوع species" بمعناها البيولوجي، وهو مجموعة من الكائنات الحية مشتقة من والدين مماثلين وقادرة على توليد نوعها. وهذا التعريف، مضافاً إليه ما أتى به لينايوس بعد ذلك من تصنيف (1751)، هيأ للجدل حول أصل الأنواع وقابليتها للتغير، وفي غضون ذلك نشر وحقق مخطوطات ويلاجبي عن علم الأسماك ichthylogy وعلم الطيور ornithology وأضاف موجزاً منهجياً عن ذوات الأربع (1693) فأتاح لعلم الحيوان الحديث أول تصنيف علمي حقيقي للحيوان (58). لقد كان النظام أول القوانين عند راي.
وقد تبين علماء النبات، حتى في العصور القديمة، أن بعض النباتات يجوز أن توصف بأنها مؤنثة لأنها تحمل ثمراً، وبعضها مذكرة لأنها لا تثمر، ولاحظ تيوفراستوس في القرن الثالث قبل المسيح أن نخلة البلح لا تثمر إلا إذا هز فوقها طلع الذكر، ولكن هذه الأفكار كانت قد نسيت تقريباً. وفي 1682 أضاف نحميا جرو عضو الجمعية الملكية سحراً جديداً للزهور بتأكيد جنسانية النباتات تأكيداً قاطعاً. ذلك أنه في دراسته نسيج النبات تحت المكروسكوب، لاحظ المسام التي في السطح الأعلى للأوراق، وألمح إلى أن الأوراق أعضاء التنفس. ووصف الأزهار بأنها أعضاء التناسل، فالمدفة Pistil مؤنثة، والسداة stamen مذكر، واللقاح Pollen بزرة. وافترض خطأ أن جميع النباتات خنثوية hermaphrodites، تجمع بنيتي الذكر والأنثى في كائن حي واحد. وفي 1691 أثبت ردولف كاميراريوس، أستاذ النبات في توبنجن، بشكل قاطع جنسانية النباتات ( sexuality) إذ أثبت أنها لا تثمر بعد إزالة المئبر anther وهو جزء السداه المحتوي على اللقاح.
وفي نفس اليوم (7 ديسمبر 1671) الذي تلقت فيه الجمعية الملكية اللندنية أول مقالات جرو "بداية تشريح الخضر"، تلقت أيضاً(33/215)
مخطوطاً من مارتشيللو ملبيجي البولوني، نشرته (1675) باسم لاتيني Anatomes Plantarum Idea، وكان استعمال اللاتينية ما زال ييسر دولية العلم. وقد اقتسم مالبيجي مع جرو شرف إرساء دعائم هستولوجيا النبات، ولكن إسهامه الكبير كان في علم الحيوان. وفي 1676 أثبت ماريوت-بتحليله الكيميائي لمخلفات النباتات والتربة التي نمت فيها-أنها تتشرب العناصر الغذائية في الماء الذي تمتصه من التربة. ولم يتبين ماريوت، ولا جرو، ولا مالبيجي، قدرة النباتات على أن تأخذ غذاءها من الهواء، ولكن عمليتي التغذية والتناسل اللتين اكتشفتا الآن كانتا تقدماً هائلاً على تعليل أرسطو الغامض لنمو النباتات بما لـ "النفس النباتية" من تطلعات إلى التمدد.
وفي عام 1668 أصيبت فكرة قديمة شائعة بأن صدمة من صدمات عديدة، حين نشر فرانشسكو ريدي الاريتسوي كتابه "تجارب في توالد الحشرات"-وهي تجارب تنحو إلى نفي التولد الذاتي abiogenesis وهو التولد التلقائي للكائنات الحية من المادة غير الحية. فإلى النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت الفكرة التي آمن بها الجميع تقريباً (فيما عدا استثناءً بارزاً هو وليم هارفي) هي أن في الإمكان توالد الحيوانات والنباتات الدقيقة في القذر أو الوحل، لا سيما في اللحم المتحلل، وهذه الفكرة تكمن وراء عبارة شكسبير "الشمس التي تولد الدود في الكلاب الميتة (59) ". وقد أثبت ريدي أن الدود لا يتكون على اللحم المحمي من الحشرات، بل على اللحم المكشوف. وقد صاغ النتيجة التي خلص إليها في عبارته " Omne vivum ex ovo" كل حي يخرج من بيضة أو بزرة". ولما اكتشفت الأوليات (البرزويات Protozoa) ، انبعثت حجج القائلين بالتولد التلقائي من جديد، وقد رد عليهم سباللانزاني في 1767، ثم باستير في 1861.
كان الكشف عن تلك الكائنات ذات الخلية الواحدة التي سميت فيما بعد بالبروتوزوا أهم إسهام أسهم به هذا العصر في علم الحيوان. وكان انطون فان ليوفينهويك هولندياً من ديلفت، ولكنه أنهى-عن طريق الجمعية الملكية بلندن-النتائج العلمية التي توصل إليها خلال أربعين سنة من سني عمره الواحدة والتسعين. كان سليل أسرة من صناع الجعة الأثرياء، فاستطاع أن يقنع بوظائف أتاحت له من الفراغ(33/216)
أكثر مما أعطته من راتب، وانقطع لدراسة عالم الحياة الجديد كما كشف عنه المكروسكوب، بإصرار من افتتن بهذا العلم. وكان يملك 247 مكروسكوباً، صنع معظمها بنفسه، وكان مختبره يتألق بعدسات بلغت 419، ربما شحذ بعضها سبينوزا، الذي ولد في نفس سنة مولده (1632) وفي نفسه وطنه. وقد حرص بطرس الأكبر وهو بديلفت في 1698 على أن يحدق في الكائنات خلال مكروسكوبات ليوفينهويك. فلما وجه هذا العالم (1675) أحدها لدراسة بعض ماء المطر الذي سقط في قدر قبل أيام، راعه أن يرى "حيوانات صغيرة بدت لي أصغر عشرة آلاف مرة من تلك التي وصفها المسيو سوامردام والتي سماها براغيث الماء أو قمل الماء، والتي يمكن أن ترى في الماء بالعين المجردة (60) "، ثم وصف كائناً نعرفه الآن باسم الجيبون الناقوسي ( Vorticella) bell animalecule. ويلوح أن هذا كان أول وصفه للبروتوزون. وفي 1683 اكتشف ليوفينهويك كائنات أصغر حتى من تلك-وهي البكتريا. وجدها أولاً على أسنانه، وقال مستدركاً "مع أنني أحافظ عادة على نظافة أسناني التامة"، وأذهل بعض جيرانه حين فحص بصاقهم وأراهم تحت المكروسكوب "عدداً عظيماً من المخلوقات الحية" فيه (61). وفي 1677 اكتشف البزيرات المنوية في ماء الذكر: وتعجب من إسراف الطبيعة في جهاز الإنسان: فقد قدر هناك ألف بزيرة في كمية صغيرة من منى الرجل، وحسب أن هناك 150 بليوناً من البزيرات في لقاح سمكة واحدة من سمك الكود-وهو ما يزيد عشرة أضعاف على عدد السكان الذين يحتويهم العالم لو كانت كل أقاليمه غاصة بالسكان كالأراضي المنخفضة.
وكان جان سوامردام أصغر من ليوفينهوك بخمس سنوات، ولكنه سبقه إلى القبر بثلاث وأربعين سنة. كان رجلاً ذا جرأة، ورغبات مشبوبة، وعلل، وأهداف متقلبة، كف عن جهوده العلمية في السادسة والثلاثين، وأفنى عمره وهو في الثالثة والأربعين (1680). نذر خادماً للدين، ولكنه هجر اللاهوت إلى الطب. فلما نال درجة الطب انقطع للتشريح. وقد أولع بالنحل، لا سيما بأمعائه، وكان ينفق نهاره في تشريحه، وليله في كتابة التقارير ورسم الرسوم عن كشوفه. فلما فرغ من بحثه القيم في النحل (1673) انهار بدنياً،(33/217)
وما لبث أن طلق العلم لأنه مطلب مسرف في الدنيوية، وعاد إلى الدين. وبعد موته بسبع وخمسين سنة جمعت مخطوطاته ونشرت باسم Biblia Naturae ( كتاب الطبيعة المقدس). وقد احتوى الكتاب في تفصيل دقيق غاية الدقة على وصف لحياة اثنتي عشرة حشرة نموذجية، منها ذبابة مايو ونحلة العسل، ودراسات مكروسكوبية للحبار squid والحلزون، والبطلينوس clam والضفدعة. كذلك وردت في الكتاب أوصاف للتجارب التي أثبت بها سوامردام أن العضلات في الأنسجة المقطوعة من جسم حيوان يمكن جعلها تتقلص بإثارة العصب الرابط. وقد رفض نظرية التولد التلقائي كما رفضها ريدي، وزاد بأن بين أن اللحم المتحلل لا يحدث الكائنات الدقيقة، بل أن هذه الكائنات هي التي تحدث التحلل في المادة العضوية. وقد أسس سوامردام في حياته القصيرة علم الحشرات الحديث، وأرسى لنفسه مكانة رجل من أدق الملاحظين في تاريخ العلم. ورجوعه من العلم إلى الدين تشخيص لتردد الإنسان الحديث بين بحث عن الحقيقة يسخر من الأمل، وانتكاس إلى الآمال التي تجفل من الحقيقة.
9 - التشريح والفسيولوجيا
أسلم جسم الإنسان بعد إخضاعه للمكروسكوب بعض أسراره الدفينة لجيش العلم الزاحف. ففي عام 1651 تتبع جان باكيه سير الأوعية اللبنية، وفي 1653 كشف أولوف روربيك، وموطنه أوبسالا، الجهاز اللنفاوي، ووصف هذا الجهاز توماس مارتولين، وموطنه كوبنهاجن، وفي 1664 اكتشف سوامردام الصمامات اللنفاوية وفي ذلك العام أوضح صديقه رينيه دجراف وظيفة البنكرياس والصفراء وعملهما. وفي 1661 اكتشف صديق آخر هو نيقولاوس ستينو قناة (لا تزال تحمل اسمه) هي قناة الغدة النكفية، ويعد سنة القنوات الدمعية للعين، وخص جراف بدراسته تشريح الخصيتين والمبايض، وفي 1672 وصف لأول مرة تلك الأكياس حاملة البيض التي أطلق عليها هالر تكريماً له حويصلات جراف. وترك بارتولين بطاقته على جسمين بيضاويين ملاصقين للمهبل، واكتشف وليم كوبر (الطبيب لا الشاعر) في 1702 الغدد التي تفرغ إفرازها في مجرى البول وأطلق عليها اسمه. كذلك ترك فرنشسكوس سيلفيوس توقيعه على شق في المخ (1663) (وكان المعلم(33/218)
المحبوب لجراف، وسوامردام، وستينو، وويليس في ليدن). ونشر توماس ويليس، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، في عام 1664 كتابه Cerebri Anatome" تشريح المخ" الذي كان أكمل وصف للجهاز العصبي إلى ذلك التاريخ، ولا تزال تحمل اسمه "دائرة ويليس"، وهي شبكة سداسية من الشرايين في قاع المخ.
أما ألمع مشرحي العصر فهو مارتشيللو مالبيجي، الذي ولد قرب بولونيا في 1628 ونال درجته الطبية منها، وبعد أن عمل أستاذاً عدة سنوات في بيزا ومسينا عاد إلى بولونيا، ودرس الطب في جامعتها خمسة وعشرين عاماً. وبعد أن اشتغل بالتشريح المكروسكوبي للنبات، ركز عدساته على دودة القز، وسجل كشوفه في دراسة ممتازة. وفي هذا البحث أوشك أن يفقد بصره، ومع ذلك كتب يقول "خلال قيامي بهذه البحوث تكشف أمام عيني الكثير جداً من معجزات الطبيعة حتى استشعرت لذة باطنية لا قدرة لقلمي على وصفها (62) ". ولا بد أن قد خالجه ما خالج الشاعر الإنجليزي كيتس وهو يطالع لأول وهلة ترجمة تشابن لهوميروس، حين رأى (1661) في رئتي الضفدعة كيف ينتقل الدم من الشرايين إلى الأوردة في أوعية سماها "الشعيرات" لدقتها المتناهية، وقد وجد شبكة من هذه الشعيرات حيثما تحول الدم الشرياني إلى دم وريدي، وكذا وضح الجهاز الدوري لأول مرة أثناء دورته.
على أن هذا لم يكن سوى جزء من إسهامات مالبيجي في التشريح، وإن كان أهم أجزائها. فقد كان أول من أثبت أن حلمات اللسان أعضاء للتذوق، وألو من ميز الكرات الحمراء في الدم (ولكنه ظنها خطأ كريات من الشحم)، وأول من وصف بدقة الدورتين العصبية والدموية في الجنين، وأول من وصف هستولوجيا قشرة المخ والحبل الشوكي، وأول من أتاح الوصول إلى نظرية عملية للتنفس بوصفه الدقيق للبناء الحويصلي للرئتين. واسمه منتشر بحق على أجسادنا في "الحزم المالبيجية" أو حلقات من الشعريات، في الكلى، وفي "الكريات المالبيجية" في الطحال، وفي "الطبقة المالبيجية" في الجلد. وكثير من كشوفه وتفسيراه تحداه معاصروه، ولكنه دافع عن نفسه بقوة، وانتصر في معاركه وإن كلف هذا النصر أعصابه عنتاً. وقد أرسل(33/219)
إلى الجمعية الملكية بلندن تقريراً عن جهوده، وكشوفه، وجدلياته، وكأنه كان يعرض هذه كلها على محكمة العلم العليا في جيله، ونشرت الجمعية هذا التقرير سيرة ذاتية بقلمه. وفي 1691 عين طبيباً خاصاً للبابا إنوسنت الثاني عشر، ولكنه توفي عام 1694 من إصابة بالفالج، وكشف للشعيرات من المعالم في تاريخ التشريح، وعمله في جملته أرسى دعائم علم الهستولوجيا.
وإذ تقدم البحث في التشريح أماط اللثام عن أوجه شبه كثيرة جداً بين أعضاء الإنسان والحيوان، حتى لقد اقترب بعض الطلاب من نظرية التطور. ففي عام 1699 نشر إدوارد يزون (الذي أطلق اسمه على الغدد الدهنية للبشرة) كتاباً عن "الأورنج-أوتانج، إنسان الغابات". وقد قارن بين تشريح الإنسان وتشريح النسناس، ورأى أن الشمبانزي وسط بينهما. ولم يمنع علم الأحياء من أن يسبق داروين في القرن السابع عشر غير الخوف من إحداث زلزال لاهوتي.
وانتقلت الأبحاث من التشريح والبنية إلى الفسيولوجيا والوظيفة. وكان التنفس إلى عام 1660 يفسر بأنه عملية تبريد، أما الآن فقد شبهه أصحاب التجارب العلمية بالاحتراق. فبرهن هوك على أن سر التنفس هو تعرض الدم الوريدي للهواء النظيف في الرئتين. وأثبت عضو آخر في الجمعية الملكية هو رتشرد لوور (1669) أن الدم الوريدي يمكن تحويله إلى دم شرياني بالتهوية، وأن الدم الشرياني يتحول وريدياً إذا منع باستمرار من الاتصال بالهواء. ورأى أن أهم عامل في التهوية هو "روح نتري" في الهواء. وجرياً على هذه المبادرات وصف جون مايو، صديق لوور هذا العالم النشيط بأنه "جزيئات نترية-هوائية" وفي التنفس تمتص الجزيئات النترية-في رأيه-من الهواء إلى الدم، ومن هنا كان الهواء في الزفير أخف وزناً وأقل حجماً منه في الشهيق. والحرارة الحيوانية سببها اتحاد الجزيئات النترية بالعناصر القابلة للاحتراق في الدم، والحرارة المتزايدة عقب الرياضة تنشأ من فائض الممتص من الجزيئات النترية بسبب التنفس الزائد. يقول مايو أن هذه الجزيئات النترية تلعب دوراً رئيسياً في حياة الحيوان والنبات.
وقد أفضي تفسير العمليات الحيوية إلى جدل من أبقى ما وعاه تاريخ العلم الحديث. ذلك أنه كلما أوغلت الفسيولوجيا بمزيد من(33/220)
الفضول في تشريح الإنسان، بدا أن الوظيفة تلو الوظيفة من وظائف الجسم تخضع لتفسير آلي بلغة الفيزياء والكيمياء. فلاح أن التنفس اتحاد بين التمدد، والتهوية، والانقباض، وأن وظائف اللعاب، والصفراء، والعصارة البنكرياسية، كيميائية لا خفاء فيها، وأن جان ألفونسو بوريللي قد استكمل (1679) التحليل الآلي للحركة العضلية. واعتنق ستينو، الكاثوليكي الغيور، الرأي الآلي في العمليات الفسيولوجية، ورفض عبارات جالينوس الغامضة من أمثال "الأرواح الحيوانية" لأنه "مجرد ألفاظ لا تعني شيئاً". وبدا الآن مفهوم ديكارت للجسم على أنه آلة مبرراً كل التبرير.
ومع ذلك أحس معظم العلماء أن تلك الأجهزة البدنية ما هي إلا أدوات لمبدأ حيوي يتجاوز التحليل بلغة الكيمياء والفسيولوجيا. فعزا فرانسس جليسون، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، للمادة الحية كلها "تهيجية" تتميز بها-وهي استهداف للإثارة-قال أنها لا توجد في المادة غير الحية. وكما أن نيوتن، بعد أن رد الكون إلى الآلية، عزا إلى الله الدفع المبدئي لآلة العالم، فكذلك افترض بوريللي في جسم الإنسان نفساً هي المصدر لكل حركة حيوانية، وذلك بعد أن فسر العمليات العضلية تفسيراً آلياً (63). ورأى كلود بيرو، المعماري والطبيب، (1680) أن الأفعال الفسيولوجية التي تبدو الآن آلية كانت من قبل إرادية، تهتدي بإرشاد نفس، ولكنها أصبحت آلية بفعل التكرار الكثير، وذلك أشبه بتكون العادات، بل ربما كان القلب ذاته خاضعاً لتحكم الإرادة فيما مضى (64). وزعم جيورج شتال (1702) أن التغيرات الكيميائية في النسيج الحي تختلف عن تلك التي ترى في المختبرات، لأن التغيرات الكيميائية-في زعمه-التي تعرو الحيوانات الحية تحكمها "حساسية حيوانية " anima sensitiva تنتشر في جميع أجزاء الجسم. والنفس كما يقول شتال تدير كل وظيفة فسيولوجية، حتى الهضم والتنفس، وهي تبني كل عضو، بل الجسم كله، بوصفه أداة للرغبة (65). وخيل له أن الأمراض طرق تحاول بها النفس التخلص من عائق يعوق عملياتها، وسبق نظرية "سيكوسوماتية" (أي جسدية نفسها من نظريات القرن(33/221)
العشرين بالقول بأن اضطرابات "النفس الحساسة" قد تحدث عللاً بدنية (66).
وظلت المفاهيم الحيوية، بشكل أو بآخر، تحتل مكان الصدارة في العلم حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم استسلمت فترة أمام المكانة الصاعدة للفيزياء الميكانيكية، ثم بعثت من جديد، في ثوب أدبي فتان، في كتاب برجسون "التطور الخلاق" (1906). وسيمضي الجدل إلى ما شاء الله حتى يقيض للجزء أن يفهم الكل.
10 - الطب
جاء أقوى دافع لعلوم الأحياء من حاجات الطب. لقد كان علم النبات، قبل راي، أداة الصيدلة. وكانت الصحة "الخير الأعظم"، وتوسل الرجال والنساء والأطفال إليها بالصلوات، والنجوم، والملوك، والضفادع، والعلم. يقول أوبري (67) أن أحد الأطباء كان قبل أن يصف الدواء للمريض يمضي إلى مخدعه ليصلي حتى "تقرنت ركبتاه" في النهاية من كثرة الصلوات وكان التنجيم لا يزال يتدخل في الطب. فقد نصح الجراح القائم على علاج لويس الرابع عشر بألا يحجم الملك إلا في ربعي القمر الأول والأخير "حتى تكون الأمزجة قد تراجعت في هذا الوقت إلى مركز الجسم" (68). وفي رأي ديفو أن المال الذي أنفق على المشعوذين كان كفيلاً بالوفاء بالدين القومي (69). وقد سافر فلامستيد، فلكي الملك، أميالاً لكي يربت ظهره المشعوذ المشهور فالنتين جريتراكس، الذي زعم بكل بساطة أنه يشفى من الداء الخنازيري، وربما كان فلامستيد واحداً من 100. 000 لمسهم تشارلز الثاني ليشفيهم من هذا الداء الخنازيري ( scorfula) المسمى "داء الملك King's evil" ( وهو سل الغدد اللنفاوية وبخاصة في العنق). وفي سنة واحدة (1682) لمس هذا الحاكم اللطيف 8. 500 مريض مصاب بهذا المرض، وفي 1684 بلغ التزاحم للوصول إليه حداً ديس معه ستة من المرضى تحت الأقدام حتى ماتوا. ورفض(33/222)
وليم الثالث أن يواصل التمثيلية. وقال حين حاصر جمع قصره "إنها خرافة غبية، فأعطوا هؤلاء المساكين بعض النقود واصرفوهم". وفي مناسبة أخرى حين كثر الإلحاح عليه ليضع يده على مريض أذعن قائلاً "وهبك الله صحة أفضل وعقلاً أرجح". وقد اتهمه الشعب بالكفر (70).
وتضافرت عيوب هناية الأفراد بصحتهم ونقائص النظافة الصحية العامة مع ذكاء المرض القادر على التكيف. ونشر البغاء الزهري في المدن والمعسكرات. وقد استشرى بصفة خاصة بين الممثلين والممثلات، كما نستنتج منقصة مستورة في مدام دسفنييه عن "مثل اعتزم الزواج برغم أنه يعاني من مرض خطير معين، فقال له أحد أصحابه: ويحك ألا تستطيع الانتظار حتى تشفى؟ إنك ستجر البلاء علينا جميعاً (71) "، وقد مثل القائد الفرنسي فاندوم في البلاط الملكي بغير أنف، لأنه أعطها قرباناً لبكتريا الزهري (72). وكان السرطان يمضي في طريقه قدماً، وتصف لنا مدام دموتفيل سرطان الثدي (73) وقد وصفت الحمى الصفراء أول مرة عام 1694. وانتشر الجدري على الأخص انتشاراً واسعاً في إنجلترا، ولم يكن هناك علاج معروف له، وقد ماتت به الملكة ماري، وابن ملبرة. وابتليت أقطار بأسرها بالأوبئة لا سيما وباء الملاريا. وذكر توماس ويليس أن إنجلترا كلها تقريباً كانت في 1657 أشبه بمستشفى يعالج حمى الملاريا (74). واجتاح الطاعون لندن في 1665 (75). وقتل في فيينا سنة 1679 100. 000 أل و83. 000 في براغ سنة 1681. وازدادت الأمراض المهنية بانتشار الصناعة، وفي 1700 أصدر برناردينو راماتزيني، أستاذ الطب في جامعة بادوا، رسالة ممتازة، De morbis artificum عن الضرر الذي يصيب النقاشين من المواد الكيميائية في طلائهم، والعاملين في الزجاج المعشق من الانتيمون، والبنائين وعمال المناجم من السل، والخزافين من الدوار، والطباعين من أمراض العيون، والأطباء من الزئبق الذي يستعملونه.(33/223)
وكان تقدم علم الطب بطيئاً في جو الجهل والفقر. وعطل المهنة شره الأطباء للمال، فكان بعض الأطباء الذين قاموا بعلاجات ناجحة يرفضون الكشف لغيرهم من الأطباء عن العلاج الذي استخدموه (76). على أن الأطباء من أعضاء الجمعية الملكية ارتفعوا فوق هذا الشره، وأشركوا زملاءهم بحماسة في كشوفهم. وكان هناك الآن مدارس طبية جيدة وفي مقدمتها مدارس ليدن، وبولونيا، ومونبلييه، وعلى العموم كان الحصول على درجة من معهد معترف به شرطاً لممارسة الطب قانونياً في غربي أوربا. واستمر مدرسو الطب على انقسامهم إلى مدرستين من مدارس العلاج. فدافع بوريللي عن طريقة العلاج الطبي ( iartophysical) ورأى تناول الأمراض على أنها اضطرابات في آلية الجسم. أما سيلفيوس، الذي طور حجج باراسيلسوس وهيلمونت فقد دافع عن الطريقة الكيميائية ( iatrochemical) - وهي طريقة استعمال العقاقير لمقاومة الاضطرابات في "أمزجة" الجسم، ومعظمها في رأيه راجع لزيادة في الحموضة. وكان أنفع من هذه النظريات العامة تلك الكشوف في أسباب أمراض معينة، فوصف سيلفيوس مثلاً لأول مرة الدرينات في الرئتين، وعزا هذه الأورام المرضية إلى السل.
ومن أهم كشوف هذا العصر الجهد الذي قام به ذلك اليسوعي الممتاز، أثناسيوس كيرشر الفولداوي، وكان رياضياً، وفيزيائياً، ومستشرقاً، وموسيقياً، وطبيباً، ويبدو أنه أول من استخدم المكروسكوب في فحص المرض (77). وبهذه الوسيلة وجد أن دم ضحايا الطاعون يحتوي على "ديدان" لا حصر لها لا ترى بالعين المجردة. ورأى حيوانات مماثلة في المادة المتعفنة، وعزا التعفن وكثيراً من الأمراض لنشاطها. وكتب تقريراً عن كشوفه في "البحث في الأمراض الوبائية " Scrutinium Pestis ( روما 1658) بين بعبارات صريحة واضحة لأول مرة ما لم يذكره فراكاستورو إلا تلميحاً في 1546 - وهو النظرية القائلة بأن انتقال الكائنات الحية الضارة من شخص أو حيوان إلى آخر هو سبب المرض المعدي (78).(33/224)
وتخلف العلاج الطبي عن البحث الطبي، لأن الذين نبغوا في البحث جنحوا إلى تأليف طبقة متميزة عن ممارسي الطب، وكان الاتصال بين الفريقين ناقصاً. وكانت بعض علاجات العصور الوسطى ما زالت توصف للمرضى. وقد سجل أوبري نجاحاً جاء في غير محله. قال "إن امرأة حاولت أن تسمم زوجها (وكان مريضاً بالاستسقاء) بسلق ضفدعة في حسائه، الأمر الذي شفاه من مرضه، وكان هذا هو الظرف الذي عثر فيه على الدواء (79) " ودخلت بعض العقاقير الجديدة الفارماكوبيا في النصف الثاني من القرن السابع عشر: عرق الذهب ipecacuanha والكسكارة، والنعناع ... ووصف الأطباء الهونديون الشاي دواء لكل الأدواء تقريباً ترويجاً للتجارة الهولندية (80).
وكان اثنان من الهولنديين أعظم معلمي الطب في هذا العصر، وهما سيلفيوس وبويرهافي، وكلاهما في ليدن. وقد علم هيرمان بويرهافي الكيمياء، والفيزياء، والنبات أيضاً، وأقبل عليه الطلاب من شمالي أوربا كلها، وقد رفع مقام الطب الأكلينيكي باصطحابه تلاميذه الأكثر نضجاً في جولاته اليومية على أسرة المستشفى، وتعليمهم بالملاحظة المباشرة والعلاج النوعي لكل حالة بمفردها. وقد ترجمت مؤلفاته إلى كل اللغات الأوربية الكبرى، وحتى إلى التركية، وطبقت شهرته الآفاق حتى بلغت الصين ذاتها.
ووجد الطب الاكلينيكي في إنجلترا أبرع ممثل له في توماس سيدنهام. قضى في أكسفورد فترتين تفصلهما فترات خدمة في الجيش، ثم استقر في لندن ممارساً عاماً. وانتهى بالقليل من النظريات والكثير من الخبرة إلى فلسفته في المرض، الذي عرفته بأنه "جهد من الطبيعة التي تكافح بكل قوتها لترد إلى المريض عافيته بالتخلص من المادة المرضية (81) ". وميز بين الأعراض "الجوهرية" التي تحدها المادة الدخيلة، والأعراض "العرضية" التي تحدثها مقاومة الجسم لها، فالحمى مثلاً ليست مرضاً بل حيلة يتوسل بها الكائن الحي للدفاع عن نفسه. ومشكلة الطبيب أن يعين عملة الدفاع هذه. ومن ثم فقد امتدح سيدنهام أبقراط لأن "أبا الطب":(33/225)
"لم يتطلب من فن الطب أكثر معاونة الطبيعة إذا وهنت، وكبحها إذا ازداد عنف هودها ... ذلك أن هذا المراقب الحكيم وجد أن الطبيعة وحدها هي التي تنهي اختلال الصحة، وتعمل على الشفاء مستعينة بعقاقير بسيطة، وأحياناً دون عقاقير على الإطلاق (82) ".
وبراعة سيدنهام في أنه تبين أن لكل مرض كبير صوراً مختلفة، وكان يدرس كل حالة بتاريخها الأكلينيكي ليشخص نوع المرض الذي تنطوي عليه، ويوائم بين العلاج والاختلافات النوعية للمرض. ولهذا نراه يميز الحمى القرمزية عن الحصبة ويعطيها اسمها الحالي. وكان معروفاً بين الأطباء بلقب "أبقراط الإنجليزي" لأنه أخضع النظرية للملاحظة، والأفكار العامة للحالات الخاصة، والعقاقير للعلاجات الطبيعية. وقد ظل كتابه Processus Integri طوال قرن من الزمان المرشد للممارس الإنجليزي في العلاج.
وواصلت الجراحة نضالها لتحظى بالاعتراف بها علماً محترماً. ووجد أكفأ ممثليها أنفسهم بين نارين، عداء الأطباء وحسد الحلاقين-الذين ما زالوا يجرون بعض الجراحات الصغيرة، ومنها جراحة الأسنان. ولم يستطع جي باتان، عميد كلية الطب بجامعة باريس، أن يغتفر للجراحين اتخاذهم زي الأطباء ومسلكهم، ورمى الجراحين جميعاً بأنهم "سلالة من الحمقى، والمغرورين، اللئام، المسرفين، الذين يطلقون شواربهم ويلوحون بأمواسهم (83) ". ولكن في عام 1686 أجرى الجراح فيلكس جراحة ناجحة على ناسور لويس الرابع عشر، وسر الملك سروراً عظيماً فنفح فيلكس بخمسة عشر ألف جنيه ذهبي، وخلع عليه ضيعة في الريف ولقب النبالة. ورفعت هذه الترقية من مكانة الجراحين الاجتماعية في فرنسا. وفي 1699 صدر قانون جعل الجراحة فناً من الفنون الحرة، وبدأ ممثلوها يحتلون مكاناً مرموقاً في المجتمع الفرنسي. وقد وصف فولتير الجراحة بأنها "أنفع الفنون قاطبة" وأنها "الفن الذي بز فيه الفرنسيون سائر أمم الأرض (84) ".
على أن الجراحة الإنجليزية كان لها في هذا العصر مفخرتان على الأقل. ففي 1662 قام ج. د. ميجر بحق الإنسان أول حقنة وريدية ناجحة، وفي 1665 - 67 نجح رتشرد لوور في نقل الدم من(33/226)
حيوان إلى أوردة حيوان آخر. وقد سجل بيبيس هذا في يوميته (85). ويستفاد من جريدة القيل والقال تلك أن الجراحات كانت تجري عادة بمخدر ضعيف أو دون مخدر، فلما أجريت لبيبيس جراحة لإزالة حصاة في مثانته لم يعط كلوروفورما ولا مطهرات، واكتفى بإعطائه "جرعة مهدئة (86) ".
واستمر الناس يهجون الطبيب كما يهجونه في كل جيل. فقد ساءهم منه أتعابه، وفخامة مظهره في عباءته وشعره المستعار وقبعته المخروطية، وغرور حديثه، وأخطاؤه القتالة أحياناً. وروى بويل أن كثيرين كانوا يخشون الطبيب أكثر مما يخشون المرض (87). وكانت سخريات موليير بالمهنة العظيمة في أكثرها مزاحاً لطيفاً من رجل كان حريصاً رغم ذلك على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع طبيبه. وبقى-بعد أن رشقت السهام كلها-أن القرن السابع عشر شهد تقدماً مشكوراً في علم الطب بفضل عشرات الكشوف في التشريح، والفسيولوجيا، والكيمياء، وأن التبادل الدولي للمعرفة الطبية كان في ازدياد، وأن كبار الأساتذة كانوا يبعثون تلاميذهم الأكفاء إلى جميع أرجاء أوربا الغربية، وأن الجراحة كانت تحسن طرقها وترفع مكانتها، وأن الأخصائيين كانوا يزدادون معرفة ومهارة، وأن مزيداًُ من التدابير كان يتخذ للنهوض بالصحة العامة. وشرعت الحكومات البلدية القوانين التي تكفل النظافة الصحية. وفي 1656، حين ظهر الطاعون في روما، حتم المونسنيور جاستالدي، المأمور البابوي للصحة، تنظيف الشوارع والمجاري، وتفتيش السقايات بانتظام، وتوفير الإمكانات العامة لتطهير الملابس، وتقديم الشهادات الصحية من جميع الأشخاص الذين يدخلون المدينة (88)، وبازدياد الثروة بنى الناس بيوتاً أمتن تستطيع أن تبعد الفئران إلى مسافة محترمة فتقلل من انتشار الطاعون. وقد يسرت إمدادات أفضل من المياه-وهي أول ضرورات الحضارة-النظافة للأجسام الراغبة فيها. وأخذ التحضر يصبح-بدنياً-في متناول مزيد من الناس.
11 - النتائج
كان القرن السابع عشر في جملته إحدى القمم في تاريخ العلم.(33/227)
أنظر إليه في سلمه الصاعد، ابتداءً من بيكون يدعو الناس للكفاح في سبيل ترقية المعرفة، وديكارت يزاوج بين الجبر والهندسة، مروراً بتحسين التلسكوبات، والمكروسكوبات، والبارومترات، والترمومترات والمضخات الهوائية والعلوم الرياضية، وبقوانين كبلر الكوكبية، وقبة جاليليو السماوية المتعاظمة، ورسم هارفي لخريطة الدم، ونصفي كرة جيوريكي المحكمتين، وكيمياء بويل الشكاكة، وفيزياء هويجنز المتعددة الصور، ومحاولات هوك الكثيرة الأشكال، وتنبؤات هالي الكونية، ثم انتهاء بحساب ليبنتز التفاضلي التنوتي ونسق نيوتن الكوني، انظر إلى كل أولئك واسأل: أي قرن سابق أنجز مآثر هذا القرن؟ يقول ألفريد فورت هوايتهيد أن الذهن الحديث "يعيش إلى اليوم على ذخيرة الأفكار المتجمعة التي وفرتها له عبقرية القرن السابع عشر "في العلم، والأدب، والفلسفة (89) ".
وانتشر تأثير العلم في أقواس متسعة. أثر في الصناعة بتوفيره الفيزياء والكيمياء اللتين كفلتا المغامرات الجديدة في التكنولوجيا. وفي التعليم ألزم بتخفيف التركيز على العلوم الإنسانية-على الأدب، والتاريخ، والفلسفة، لأن تطوير الصناعة والتجارة والملاحة تطلب المعرفة والأذهان العملية. وأحس الأدب ذاته التأثير الجديد: فسعى العالم وراء النظام والدقة والوضوح أوحى بفضائل مماثلة في الشعر والنثر، وانسجم مع الأسلوب الكلاسيكي الذي يمثله موليير وبوالو وراسين، كما يمثله أديسون وسويفت وبوب. واشترطت الجماعية الملكية-كما يقول مؤرخها-على أعضائها، أسلوباً في الحديث طبيعياً عادياً، محكماً. يقرب كل الأشياء قدر الإمكان من الوضوح الرياضي (90) ".
وتأثرت الفلسفة والدين بانتصارات الرياضة والفيزياء، التي حددت للمذنبات ميقاتاً ووضعت للنجوم قوانين. وتقبل ديكارت وسبينوزا الهندسة مثلاً أعلى للفلسفة والعرض. ولم يعد بعد ذلك من حاجة لأن يفترض في الكون شيء غير المادة والحركة. ورأى ديكارت العالم كله آلة، باستثناء العقل البشري والإلهي، وتحدى هوبز هذا الاستثناء، وصاغ مادية يكون حتى الدين فيها أداة للدولة تستعين بها على تسيير الآلات البشرية. ولاح أن علوم الفيزياء والكيمياء والفلك(33/228)
الجديدة "تكشف عن كون يعمل طبقاً لقوانين لا تتغير، وهو كون لا يسمح بمعجزات، وإذن فلا يستجيب لصلوات، وإذن فلا يحتاج لإله. وربما جاز الإبقاء عليه ليعطي آلة العالم دفعة مبدئية، ولكنه بعد هذا له أن ينسحب ليكون رباً أبيقورياً-لوكريتياً، لا يعبأ بالعالم ولا بالناس. وروي أن هالي أكد لصديق لباركلي أن "عقائد المسيحية" أصبحت الآن "لا يمكن تصورها (91) ". على أن بويل رأى في كشوف العلم دليلاً جديداً على وجود الله. وكتب يقول "أن العالم يسلك وكأن الكون يشيع فيه كله كائن ذكي". وأضاف في عبارة تعيد بسكال إلى الذاكرة "إن أنفس الإنسان كائن أنبل وأثمن من العالم المادي بأسره (92) ". ولما مات خلف مالاً ينفق منه على محاضرات تظهر صدق المسيحية إزاء "مشهوري الكفار، وهم الملحدون، والقائلون بوجود آلهة، والوثنيون واليهود، والمسلمون" وأضاف شرطاً هو أن المحاضرات يجب ألا تخوض في المجادلات الناشبة بين المسيحيين (93).
ووافق علماء كثيرون على رأي بويل، وشارك كثير من المسيحيين المؤمنين في الإشادة بالعلم. كتب داريدن في ختام القرن يقول "في هذه السنين المائة الأخيرة كشف لنا القناع عن طبيعة جديدة تقريباً-ارتكب من الأخطاء، وأجرى من التجارب المفيدة، وأميط اللثام عن أسراراً رفيعة في البصريات، والطب، والتشريح، والفلك-أكثر مما حدث في جميع تلك العصور الخرفة الساذجة، ابتداءً أرسطو إلى يومنا هذا (94) "، وتلك مبالغة مفرطة ولكنها ذات دلالة، تكشف لنا عن اقتناع "المحدثين" بأنهم كسبوا معركة الكتب ضد "القدامى" على أية حال لم يملك الناس إلا أن يروا أن العلوم تزيد المعرفة الإنسانية، بينما الأديان تصطرع والساسة يقتتلون. وسما العلم الآن إلى مقام جديد من الشرف بين مغامرات الإنسان، لا بل أن هذا العهد لم يؤذن بالنهاية إلا والناس يرحبون بالعلم بشيراً بمجيء المجتمع المثالي ومخلصاً للنوع الإنساني. كتب فونتنيل في 1702 يقول "إن تطبيق العلم على الطبيعة سينمو بإطراد في مداه وقوته، وسنمضي قدماً من عجيبة إلى عجيبة. وسوف يأتي اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يطير بأجنحة تحفظه في الهواء، وسينمو هذا الفن ... حتى نستطيع يوماً أن نظيراًَ إله القمر (95) ". لقد كان كل شيء يتقدم، إلا الإنسان.(33/229)
الفصل التاسع عشر
إسحاق نيوتن
1642 - 1727
1 - الرياضي
ولد في مزرعة صغيرة بوولزثورب، في مقاطعة لنكولن، في 25 ديسمبر 1642 (حسب التقويم القديم، أي اليولياني) وهو العام الذي مات فيه جاليليو، وكانت الزعامة الثقافية، كالزعامة الاقتصادية، في سبيلها من الجنوب إلى الشمال. وكان عند ميلاده صغير الحجم جداً بحيث كان في الإمكان وضعه في كوز سعته ربع جالون (كما أخبرته أمه فيما بعد)، وضعيفاً جداً بحيث لم يخطر ببال أحد أنه سيعيش أكثر من أيام (1) معدودات. وكفلته أمه وخاله لأن أباه كان قد مات قبل ولادته بشهور.
وحين بلغ الثانية عشرة أرسل إلى المدرسة الخاصة في جرانثام، فلم يحالفه التوفيق فيها. وجاء في التقارير عنه أنه "خامل" و "غير ملتفت"، وأنه يهمل الدراسات المقررة ويقبل على الموضوعات التي تستهويه، وينفق الوقت الكثير على المخترعات الميكانيكية كالمزاول، والسواقي، والساعات البيتية الصنع. وبعد أن قضى عامين في جرانثام أخذ من المدرسة ليساعد أمه في المزرعة. ولكنه عاد إلى إهمال واجباته ليقرأ الكتب ويحل المسائل الرياضية. وتبين خال آخر كفايته، فأعاده إلى المدرسة، وعمل الترتيبات لقبول نيوتن بكلية ترنتي في كمبردج (1661) طالباً يكسب مصروفاته بمختلف الخدمات ( subsizar) . وحصل على درجته الجامعية بعد أربع سنوات، وبعدها بقليل انتخب زميلاً بالكلية. وخص باهتمامه الرياضة، والبصريات، والفلك، والتنجيم، وقد احتفظ بميله لدراسة التنجيم إلى فترة متأخرة من حياته.
وفي 1669 استقال أستاذه في الرياضة إسحاق بارو، وعين نيوتن خلفاً له بناءً على توصية منه، وصف فيها نيوتن بأنه "عبقري لا نظير له"، وقد احتفظ بكرسيه في ترنتي أربعة وثلاثين عاماً. ولم(33/230)
يكن بالمعلم الناجح. كتب سكرتيره عن ذكريات ذلك العهد يقول "كان الذين يذهبون للاستماع إليه قليلين، والذين يفهمونه أقل، حتى أنه في أحياناً كثيرة وكأنه يقرأ للحيطان بسبب قلة السامعين (2) ". وفي بعض المناسبات لم يكن يجد مستمعين إطلاقاً فيعود إلى حجرته كاسف البال. وبنى فيه مختبراً-كان الوحيد في كمبردج آنئذ. وقام بالكثير من التجارب، لا سيما في الخيمياء "وهدفه الأكبر تحويل المعادن (3) "، ولكنه اهتم أيضاً بـ "اكسير الحياة" و "حجر الفلاسفة (4) " وواصل دراساته الخيميائية من 1661 إلى 1692، وحتى وهو يكتب كتابه "المبادئ (5) " ترك مخطوطات عن الخيمياء دون نشر بلغ مجموع كلماتها نيفاً و100. 000 "لا قيمة لها إطلاقاً (6) " وكان بويل وغيره من أعضاء الجمعية الملكية مشغولين شغلاً محموماً بهذا البحث نفسه عن صنع الذهب. ولم يكن هدف نيوتن تجارياً بشكل واضح، فهو لم يبد قط أي حرص على المكاسب المادية، ولعله كان يبحث عن قانون أو عملية يمكن أن تفسر بها العناصر على أنها أشكال مغايرة، قابلة للتحويل، لمادة أساسية واحدة. ولا سبيل لنا إلى التأكد من أنه كان مخطئاً.
وكان له حديقة صغيرة خارج مسكنه بكمبردج، يتمشى فيها فترات قصيرة سرعان ما تقطعها فكرة يهرع إلى مكتبه ليسجلها. كان قليل الجلوس، يؤثر أن يذرع حجرته كثيراً (في رواية سكرتيره) "حتى لتخاله ... واحداً من جماعة أرسطو" المشائين (7). وكان مقلاً في الطعام، وكثيراً ما فوت وجبة، ونسى أنه فوتها. وكان ضنيناً بالوقت الذي لا بد من إنفاقها في الأكل والنوم. "ونادراً ما ذهب لتناول الطعام في القاعة، فإذا فعل فإنه-ما لم ينبه-يذهب في هيئة زرية، حذاؤه بالي الكعبين، وجواربه بلا رباط ... ورأسه غير ممشط إلا فيما ندر (8) ". وقد رويت، واخترعت القصص الكثيرة عن شرود ذهنه. ويؤكدون أنه قد يجلس الساعات بعد استيقاظه من النوم على فراشه دون أن يرتدي ثيابه وقد استغرقه الفكر (9). وكان أحياناً إذا جاءه زائرون يختفي في حجرة أخرى، ويخط أفكاراً على عجل، وينسى أصحابه تماماً (10).
لقد كان راهباً من رهبان العلم في هذه السنين الخمس والثلاثين(33/231)
بكمبردج. وقد وضع "قواعد للتفلسف"-أعني الطريقة والبحث العلميين. ورفض القواعد التي وضعها ديكارت في "مقاله" كمبادئ قابلية تستنتج منها كل الحقائق الكبرى بالاستدلال. وحين قال نيوتن "أنا لا أخترع فروضاً (11) " كان يعني أنه لا يقدم نظريات حول أي شيء يتجاوز ملاحظة الظواهر، فهو إذن لا يغامر بأي تخمين عن طبيعة الجاذبية، بل يكتفي بوصف مسلكها وصياغة قوانينها. ولم يزعم أنه يتجنب الفروض باعتبارها مفاتيح للتجارب، فإن مختبره على العكس خصص لاختبار مئات الأفكار والإمكانات، وسجله يزخر بالفروض التي جربت ثم رفضت. كذلك لم يرفض الاستدلال، إنما أصر على أنه يجب أن ينطلق من الوقائع ويفضي إلى المبادئ. وكانت طريقته أن يتصور الحلول الممكنة للمشكلة، ويستنبط متضمناتها الرياضية، ويختبر هذه بالحساب والتجربة. وكتب يقول "يبدو أن مهمة الفلسفة (الطبيعية) كلها تكمن في هذا-البحث من ظواهر الحركات في قوى الطبيعة، ثم إيضاح الظواهر الأخرى من هذه القوى (12) ". لقد كان مزيجاً من الرياضة والخيال، ولن يستطيع فهمه إلا من يملكهما جميعاً.
ولكن لنمض في طريقنا رغم هذا. إن لشهرته بؤرتين-حساب التفاضل، والجاذبية. بدأ عمله في حساب التفاضل عام 1665 بإيجاد مماس ونصف قطر الانحناء عند أي نقطة على منحني. ولم يسم طريقته حساب التفاضل بل الفروق المستمرة " Fluxions وفسر هذا المصطلح تفسيراً لا يمكننا أن نصل إلى خير منه:
"إن الخطوط ترسم، وبهذا الرسم تولد، لا بضم الأجزاء بعضها إلى بعض، بل بالتحرك المستمر بالنقط، والسطوح بتحرك الخطوط، والمجسمات بتحرك السطوح، والزوايا بدوران الجوانب، وأجزاء الزمن بالفيض المستمر، وهكذا في غير ذلك من الكميات. وعلى ذلك فبما أن الكميات، التي تزداد في أزمان متساوية، وبالزيادة تولد، أصبحت أكبر أو أقل حسب السرعة الأكبر أو الأقل التي تزداد أو تولد بها، فإنني بحثت عن طريقة لتحديد الكميات من سرعات الحركات أو الزيادات التي تولد بها، وإذا أطلقت على سرعات الحركات أو الزيادات لفظ "الفروق " Fluxions، والكميات المولودة "المتغيرات"، فقد اهتديت شيئاً فشيئاً إلى طريقة الفروق في عامي 1665 و1666 (13) "(33/232)
وقد وصف نيوتن طريقته في خطاب كتبه لبارو عام 1669، وأشار إليها في خطاب لجون كولنز في 1672. ولعله استخدم هذه الطريقة في التوصل إلى بعض النتائج المتضمنة في كتابه "المبادئ" (1687)، ولكن عرضه لها فيه جري على الصيغ الهندسية المقبولة ربما مراعاة لم يناسب قراءه. وقد أسهم ببيان لطريقته في الفروق-ولكن دون أن يخفي اسمه-في كتاب واليس "الجبر" عام 1693. ولم ينشر الوصف الذي اقتبسناه فيما سبق إلا عام 1704، في ملحق لكتابه "البصريات". وكان في طبع نيوتن أن يؤخر نشر نظرياته، وربما أراد أولاً أن يحل الصعوبات التي أوحت بها. وعليه فقد انتظر حتى سنة 1676 لينشر نظرية "ذات الحدين" التي خلص إليها. ولو أنه صاغها على الأرجح في 1665 (1).
هذه التأجيلات زجت برياضي أوربا في جدل معيب مزق دولية العلم جيلاً بأسره. ذلك أنه في الفترة بين إبلاغ نيوتن نظريته في "الفروق" لأصحابه في 1669 ونشر الطريقة الجديدة في 1704، وضع ليبنتز نظاماً منافساً لها في ماينز وباريس. ففي 1671 أرسل إلى أكاديمية العلوم بحثاً يحوي جرثومة حساب التفاضل (14)، وقابل ليبنتز أولدبورج في زيارة للندن، من يناير إلى مارس 1673، وكان قد تبادل الرسائل معه ومع بويل. وقد ظن أصحاب نيوتن فيما بعد أن لبنتز في رحلته هذه تلقى إلماعاً لفروق نيوتن-ولكن المؤرخين يتشككون في هذا الآن. وفي يونيو 1676، بناء على طلب أولدنبرج وكولنز، كتب نيوتن خطاباً ليبلغ إلى لبنتز، شارحاً فيه طريقته في التحليل. وفي أغسطس رد لبنتز على أولدنبرج، وضمن الرد بعض الأمثلة من شغله في حساب التفاضل، وفي يونيو 1677، في خطاب آخر لأولدنبرج، وصف نوع حساب التفاضيل الذي توصل إليه، وطريقته في التنويت notation أي التدوين بمجموعة من الرموز)، وهما يختلفان عن حساب نيوتن وطريقته. ثم عاد في مجلة Acta Eruditorun عدد أكتوبر 1684 يشرح حساب التفاضل،
_________
(1) وطبقاً لهذه النظرية فإن أي قوة ذات حدين (وهو تعبير جبري مؤلف من حدين تربطهما علامة زائد أو ناقص) يمكن إيجادها بصيغة جبرية بدلاً من إيجادها بالضرب. وقد سبق نيوتن جزئياً إلى هذه النظرية فييت وبسكال.(33/233)
وفي 1686 نشر طريقته في حساب التكامل. وفي الطبعة الأولى من "المبادئ" (1687) قبل نيوتن بشكل واضح اكتشاف ليبنتز لحساب التفاضل مستقلاً. قال:
"في رسائل تبادلتها مع عالم الهندسة الألمعي ج. و. ليبنتز، قبل عشر سنوات، حين أشرت إلى أنني أعرف طريقة لإيجاد الحدود القصوى والدنيا، ورسم المماسات، وما إلى ذلك ... رد السيد المبجل بأنه اهتدى هو أيضاً إلى طريقة من نفس النوع، وأنهى إلى طريقته، التي لم تكد تختلف عن طريقتي ... إلا في أشكال ألفاظه ورموزه (16) ".
وكان خليقاً بهذا الاعتراف المهذب أن يمنع الجدل. ولكن في 1699 أشار رياضي سويسري في رسالة للجمعية الملكية إلى أن لبنتز استعار حساب تفاضله من نيوتن. وفي 1705 ذكر ليبنتز تضميناً، في نقد غفل من التوقيع لكتاب نيوتن "البصريات" أن فروق نيوتن تحوير لحساب التفاضل اللبنتزي. وفي 1712عينت الجمعية الملكية لجنة فحص الوثائق المتصلة بالموضوع. وقبل أن ينصرم العام نشرت الجمعية تقريراً Commercium Epistolicum أكد أسبقية نيوتن، دون أن تخوض في موضع أصالة لبنتز. وفي رسالة كتبها لبنتز بتاريخ 9 أبريل 1716 إلى قسيس إيطالي بلندن اعترض بقوله أن تعليق نيوتن قد حسم الأمر. ومات لبنتز في 14 نوفمبر 1716. وبعد موته بقليل نفى نيوتن أن التعليق" أقر له-أي للبنتز باختراع حساب التفاضل مستقلاً عن اختراعي" وفي الطبعة الثالثة من "المبادئ" (1726) حذف التعليق (17). ولم يكن النزاع مما يليق بالفلاسفة، لأن كلا المدعيين كان يصح أن ينحني احتراماً لفيرما لأنه كان رائداً لهما في هذا المضمار.
2 - الفيزيائي
على أن الرياضة، على ما فيها من عجب، لم تكن سوى أداة لحساب الكميات، فهي لم تزعم أنها تفقه الحقيقة أو تصفها. فلما تحول نيوتن من الأداة إلى البحث الجوهري، عكف أولاً على استكناه سر الضوء. وتناولت محاضراته الأولى في كمبردج الضوء، واللون،(33/234)
والرؤية، وعلى عاداته لم ينشر كتابه "البصريات" إلا بعد خمس وثلاثين سنة، في 1704، فقد كان بريئاً من شهوة النشر.
وفي عام 1666 اشترى منشوراً من سوق ستوربردج وبدأ التجارب وبدأ التجارب في البصريات. وفي عام 1668 فصاعداً صنع سلسلة من التلسكوبات. فصنع بيديه، على أساس النظريات التي شرحها مرسين (1639) وجيمس جريجوري (1662)، تلسكوباً عاكساً ليتفادى بعض العيوب الملازمة للتلسكوب الكاسر، وقدمه للجمعية الملكية بناء على طلبها عام 1671. وفي 11 يناير 1672 انتخب لعضوية الجمعية.
وكان قد توصل (1666) إلى أحد كشوفه الأساسية حتى قبل أن يصنع التلسكوبات-وهو أن الضوء الأبيض، أو ضوء الشمس، ليس بسيطاً أو متجانساً، بل هو مركب من الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي. فلما مرر شعاعاً صغيراً من ضوء الشمس خلال منشور شفاف وجد أن الضوء الذي يبدو أحادي اللون انقسم إلى كل ألوان الطيف هذه، وأن كل لون مكون خرج من المنشور عند زاويته أو درجته أو انكساره الخاص، وأن الألوان نظمت نفسها في صف الحزم، مؤلفه طيفاً مستمراً، في أحد طرفيه اللون الأحمر وفي الآخر البنفسجي. وقد أثبت الباحثون اللاحقون أن المواد المختلفة، إذا جعلت مضيئة بحرقها، تعطي أطيافاً مختلفة. وبمقارنة هذه الأطياف بالطيف الذي يحدثه نجم معين، أصبح في الإمكان تحليل مكونات النجم الكيميائية إلى حد ما. ثم دلت الملاحظات الأدق لطيف النجم على السرعة التقريبية لتحركه نحو الأرض أو بعيداً عنها، ومن هذه الحسابات استنبط نظرياً بعد النجم. وهكذا تمخض كشف نيوتن لتكوين الضوء، وانكساره في الطيف، عن نتائج كونية تقريباً في ميدان الفلك.
ولم تتكشف هذه النتائج لنيوتن في ذلك الحين، ولكنه أحس (كما كتب لأولدنبرج) أنه توصل "إلى أغرب كشف إلى الآن أن لم يكن أهم كشف في عمليات الطبيعة (18) " فأرسل إلى الجمعية الملكية في بواكير عام 1672 بحثاً عنوانه "نظرية جديدة في الضوء واللون". وقرئ البحث على الأعضاء في 8 فبراير، فأثار جدلاً عبر المانش إلى القارة. وكان هوك قد وصف في كتابه "ميكروجرافيا"(33/235)
(1664) تجربة شبيهة بتجربة نيوتن بالمنشور، ولم يكن قد استنتج منها نظرية ناجحة في اللون، ولكنه أحس بأن في أفعال نيوتن لفضله السابق غضاً من قدره، فانضم غلى بعض أعضاء الجمعية في نقد النتائج التي خلص إليها نيوتن، واستمر النزاع ثلاثة أعوام. كتب نيوتن المرهف الحس يقول "إنني مضطهد بالجدل الذي أثارته نظريتي في الضوء اضطهاداً جعلني ألوم حماقتي لأنني ضحيت بنعمة عظمي، نعمة هدوء البال، جرياً وراء سراب (19) " وحدثته نفسه حيناً بأن "أطلق الفلسفة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، إلا ما أفعله إرضاء لذاتي (20) ".
وثارت نقطة أخرى من نقط الجدل مع هوك حول ناقل الضوء. وكان هوك قد اعتنق نظرية هويجنز، التي زعم فيها أن الضوء ينتقل على موجات "أثير". ورد نيوتن بأن هذه النظرية لا تفر مسار الضوء في خطوط مستقيمة. واقترح بدلاً منها "نظرية الجسيمات أو الدقائق " corpuscular theory: فالضوء سببه إطلاق الجسم المضيء جزيئات دقيقة لا حصر لا، تسير في خطوط مستقيمة خلال الفضاء بسرعة 190. 000 ميل في الثانية. ورفض نظرية الأثير ناقلاً للضوء، ولكنه قبله بعد ذلك وسيطاً لقوة الجاذبية (1). وجمع نيوتن مناقشاته حول الضوء في كتابه (البصريات Opticks في 1704. ووما له دلالة أنه كتبه بالإنجليزية (في حين كان كتاب المبادئ Psincipia باللاتينية)، ووجهه "إلى القراء الحاضري الذكاء والفهم، الذين لم يتضلعوا بعد في البصريات". وفي نهاية الكتاب وضع قائمة لواحد وثلاثين سؤالاً تتطلب مزيداً من البحث. وكان السؤال الأول إرهاصاً بهذه النبوءة "ألا تؤثر الأجسام في الضوء عن بعد، فتنحني أشعته بهذا التأثير، وألا يكون هذا
_________
(1) فضل الفيزيائيون اللاحقون نظرية التموجات التي قال بها هويجنز على أساس أن فرض الجسيمات الذي به نيوتن لا يعلل تعليلاً مرضياً ظواهر الانحراف، والتداخل، والاستقطاب. ويميل الفيزيائيون المعاصرون إلى الجمع بين الرأيين تفسيراً لظواهر تبدو أنها تشتمل على الجسيمات والأمواج معاً. والفوتونات أو الكمات التي يقول بها الفيزيائيون اليوم تعيد إلى الذاكرة جسيمات نيوتن، أما الأثير فقد الآن اعتباره.(33/236)
التأثير على أشده في أدنى الأبعاد (1)؟ " والسؤال الثلاثون "لم لا تغير الطبيعة الأجسام إلى ضوء والضوء إلى أجسام؟ ".
3 - أصل نظرية الجاذبية
كانت سنة 1666 سنة جنينية لنيوتن. شهدت بداية جهوده في البصريات، ولكنه كذلك يقول عن ذكرياته أن شهر مايو "كان مدخلي إلى الطريقة العكسية للفروق المستمرة، وفي نفس السنة بدأت أفكر في امتداد الجاذبية إلى مدار القمر .. .. بعد أن قارنت بين القوة اللازمة لحفظ القمر في مداره، وقوة الجاذبية على سطح الأرض، ووجدتهما متفقتين تماماً تقريباً ... في تلك السنين كانت في ربيع عمري (21) ".
وفي عام 1666 وصل الطاعون إلى كمبردج، فعاد نيوتن إلى موطنه وولزثورب طلباً للسلامة. وهنا نلتقي بقصة لطيفة. كتب فولتير في كتابه "فلسفة نيوتن" (1738):
"ذات يوم من أيام 1666، حين كان نيوتن معتكفاً في الريف رأى ثمرة تسقط من شجرة كما أخبرتني بنت أخته السيدة كوندويت، فاستغرق في تفكير عميق في السبب الذي يجذب جميع الأجسام في خط إذا مد مر قريباً جداً من مركز الأرض (22) ".
وهذا أقدم ما نعرفه من ذكر لقصة التفاحة. وهي لا ترد في كتب مترجمي نيوتن القدامى، ولا في روايته لكيفية اهتدائه لفكرة الجاذبية الكونية، والفكرة السائدة اليوم عن القصة أنها أسطورة. وأرجح منها قصة أخرى رواها فولتير، وهي أن غريباً سأل نيوتن كيف اكتشف قوانين الجاذبية، فأجاب "بإدمان التفكير فيها (23) " ومما لا ريب فيه أنه بحلول عام 1666 كان نيوتن قد حسب قوة الجذب التي تحفظ الكواكب في أفلاكها وانتهى إلى أنها تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعدها عن الشمس (24). ولكنه لم يستطع إلى ذلك الوقت التوفيق بين النظرية وحساباته الرياضية، فنحاها جانباً، ولم ينشر عنها شيئاً طوال الأعوام الثمانية عشر التالية.
_________
(1) فضل الفيزيائيون اللاحقون نظرية التموجات التي قال بها هويجنز على أساس أن فرض الجسيمات الذي به نيوتن لا يعلل تعليلاً مرضياً ظواهر الانحراف، والتداخل، والاستقطاب. ويميل الفيزيائيون المعاصرون إلى الجمع بين الرأيين تفسيراً لظواهر تبدو أنها تشتمل على الجسيمات والأمواج معاً. والفوتونات أو الكمات التي يقول بها الفيزيائيون اليوم تعيد إلى الذاكرة جسيمات نيوتن، أما الأثير فقد الآن اعتباره.(33/237)
ولم تكن فكرة الجاذبية بين النجوم جديدة قط على نيوتن. فقد ذهب بعض فلكيي القرن الخامس عشر إلى أن السماوات تؤثر في الأرض بقوة تشبه قوة تأثير المغنطيس في الحديد، وما دامت الأرض تنجذب بالتساوي من جميع الاتجاهات فإنها تبقى معلقة في مجموع هذه القوة (25). وقد نبه كتاب جلبرت "المغنطيس" (1600) أذهاناً كثيرة إلى التفكير في التأثيرات المغنطيسية المحيطة بكل إنسان، وقد كتب هو نفسه في كتاب لم ينشر إلا بعد موته بثمانية وأربعين عاماً (1651) يقول:
"إن القوة المنبعثة من القمر تصل إلى الأرض، وبالمثل فإن القوة المغنطيسية للأرض تعم منطقة القمر، وكلتاهما تتجاوب وتتآلف بتأثيرهما المشترك، حسب تناسب الحركات وتطابقها، ولكن تأثير الأرض أكبر نتيجة لكبر كتلتها (26) ".
وكان اسماعيلس بوريار قد قر في كتابه " Astronomia Philolacia" (1645) أن جذب الكواكب بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما (27)، وذهب ألفونسو بوريللي في كتابه "نظريات الكواكب المديشية" (1666) إلى أن "كل كوكب وتابع يدور حول كرة كبرى في الكون بوصفها مصدراً للقوة، تجذب الكوكب وتابعه وتمسكهما بحيث لا يمكن إطلاقاً أن ينفصلا عنها، بل يضطران لإتباعهما أينما ذهبت، في دورات ثابتة مستمرة"، وقد فسر مدارات هذه الكواكب والتوابع بأنها نتيجة القوة المركزية الطاردة لدورانها ("كما نجد في العجلة أو الحجر يدوم في مقلاع") تقابلها قوة شمسها الجاذبة (28). وذهب كبلر إلى أن الجاذبية ملازمة لجميع الأجرام السماوية، وقدر في فترة من حياته أن قوتها تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها، وكان هذا خليقاً بأن يكون سبقاً واضحاً لنيوتن، ولكنه عاد فرفض هذه الصيغة، وافترض أن الجذب يتناقص تناقصاً طردياً مع زيادة المسافة (29). على أن هذه المداخل إلى نظرية في الجاذبية حرفتها عن طريقها نظرية ديكارت في الدوامات التي تكونت في كتلة بدائية، ثم عينت عمل كل جزء ومداره.
وقد فكر كثير من المستفسرين اليقظين في الجمعية الملكية تفكيراً(33/238)
عميقاً في رياضيات الجاذبية. وفي 1674 سبق هوك بكتابه "محاولة لإثبات حركة الأرض السنوية" "إعلان" نيوتن لنظرية الجاذبية بأحد عشر عاماً. قال هوك:
"سأشرح نظاماً للكون مختلفاً في تفاصيل كثيرة عن أي نظام عرف إلى الآن، متفقاً في جميع الأشياء مع القواعد الشائعة للحركات الميكانيكية. وهو يعتمد على فروض ثلاثة: (أولها) أن كل الأجرام السماوية أياً كانت ذوات قوة جاذبة إلى مراكزها، لا تجذب بها أجزاءها فحسب وتحفظها من أن تتطاير منها ... بل تجذب كذلك سائر الأجرام السماوية الواقعة في مجال نشاطها ... (وثانيها) أن جميع الأجسام أياً كانت، التي تحرك حركة طردية وبسيطة، تستمر في الحركة قدماً في خط مستقيم إلى أن تحرفها عن طريقها قوة فعالة أخرى ... (وثالثها) أن قوى الجذب هذه يشتد فعلها بقدر قرب الجسم الواقع تحت جاذبيتها من مراكزها" (30).
ولم يحسب هوك في بحثه هذا أن الجذب يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة، ولكنه أنهى هذا المبدأ إلى نيوتن-إذا صدقنا رواية أوبري-بعد أن توصل إليه مستقلاً (31). وفي يناير 1684 شرح هوك صيغة المربعات العكسية لرن وهالي، اللذين كانا قبلاها من قبل. فذكر لهوك أن الحاجة ليست إلى مجرد فرض، بل إلى إيضاح رياضي يثبت أن مبدأ الجاذبية يفسر مسارات الكواكب. وعرض رن على هوك وهالي جائزة قدرها أربعون شلناً (100 دولار) أن أتاه أحدهما ببرهان رياضي على الجاذبية. ولم يأته البرهان على قدر علمنا (32).
وفي أحد أيام أغسطس 1684 ذهب هالي إلى كمبردج وسأل نيوتن ماذا يكون مدار كوكب ما إذا تناسب جذب الشمس له تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما. وأجاب نيوتن أنه يكون قطعاً ناقصاً (اهليلجاً) ز ولما كان كبلر قد استخلص من دراسته الرياضية لمشاهدات تيكو براهي أن مدارات الكوكب اهليلجية، فقد بدا أن الفلك الآن تأيد بالرياضة، والعكس بالعكس. وأضاف نيوتن أنه أجرى الحسابات تفصيلاً في 1679، ولكنه نحاها جانباً، من جهة(33/239)
لأنها لم تتفق تماماً مع التقديرات السائدة يومها لقطر الأرض والبعد بين الأرض والقمر، وأرجح من هذا السبب أنه لم يكن واثقاً من أنه يستطيع تناول الشمس، والكواكب، والقمر على أنها نقط مفردة في قياس قوتها الجاذبة. ولكن في عام 1671 أذاع بيكار قياسه الجديد لنصف قطر الأرض ولدرجة من درجات خطوط الطول، التي حسب أخيراً أنها تبلغ 69. 1 ميلاً قانونياً إنجليزياً، وفي عام 1672 تمكن بيكار بفضل بعثته إلى سايين من حساب بعد الشمس عن الأرض فقرر أنه 87. 000. 000 ميل (والرقم الحالي 92. 000. 000) واتفقت هذه التقديرات الجديدة اتفاقاً طيباً مع رياضة نيوتن في الجاذبية، وأقنعه المزيد من الحسابات في 1685 بأن الكرة تجذب الأجسام وكأن كتلة هذه الكرة كلها تجمعت في مركزها. وشعر الآن بمزيد من الثقة في فرضه.
ثم قارن سرعة حجر على الأرض بسرعة سقوط القمر على الأرض إذا نقصت قوة جذب الأرض له بمربع المسافة بينهما. فوجد أن نتائجه تتفق وآخر البيانات الفلكية. فخلص من هذا إلى أن القوة التي تسقط الحجر، والقوة الجاذبة للقمر نحو الأرض رغم قوة طرد القمر المركزية، هما قوة واحدة. وسر الإنجاز الذي حققه هنا كامن في تطبيقه هذه النتيجة التي انتهى إليها على جميع الأجسام التي في الفضاء، وفي تصوره أن جميع الأجرام السماوية مترابطة في شبكة من التأثيرات الجذبية، وفي بيانه كيف أن حساباته الرياضية والميكانيكية تتفق وملاحظات الفلكيين، لا سيما قوانين كبلر الكوكبية (1).
وبدأ نيوتن إجراء حساباته من جديد، وأنهاها إلى هالي في نوفمبر 1684. وأدرك هالي أهميتها فحثه على تقديمها للجمعية
_________
(1) قوانين كبلر (1609، 1619): (1) إن الكواكب ترسم مدارات اهليلجية، فيها الشمس بؤرة واحدة (2) إن الخط الذي يربط كوكباً بالشمس ينتشر فوق مساحات متساوية في أوقات متساوية. (3) إن مربع فترة دوران الكوكب يتناسب مع مكعب متوسط بعده عن الشمس. وهذه الصيغة أفضت إلى قانون المربعات العكسية.(33/240)
الملكية فوافق، وأرسل إلى الجمعية رسالة في "قضايا الحركة" (فبراير 1685)، لخص فيها آراء في الحركة والجاذبية. وفي مارس 1686 قدم للجمعية مخطوط الكتاب الأول من كتب الحركة، عن المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية. وللتو لفت هوك النظر إلى أنه سبق نيوتن في 1674. ورد نيوتن في رسالة إلى هالي أن هوك أخذ فكرة المربعات العكسية عن بوريللي وبويار. وتفاقم الخلاف حتى أصبح سخطاً من الطرفين، وحاول هالي أن يصلح ذات البين، وهدأ نيوتن ثائرة هوك بتضمين مخطوطته حاشية، تحت القضية الرابعة، أقر فيها بفضل "أصدقائنا رن، وهوك، وهالي"، في أنهم "استنتجوا من قبل" قانون المربعات العكسية. ولكنه ضاق بالنزاع أشد الضيق حتى أنه حين أعلن لهالي (20 يونيو 1678) أن الكتاب الثاني جاهز، أضاف قائلاً "في نيتي الآن أن أوقف الكتاب الثالث. فالفلسفة أشبه بامرأة مشاكسة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضايا أمام المحاكم". وأقنعه هالي بأن يواصل الكتاب. وفي سبتمبر 1687 نشر المؤلف كله برعاية الجمعية الملكية ورئيسها آنئذ، صموئيل بيبيس. ولما كانت الجمعية في ضائقة مالية، فقد أنفق هالي على النشر بأكمله من جيبه الخاص، مع أنه لم يكن بالرجل الميسور. وهكذا، وبعد عشرين عاماً من الإعداد، ظهر أهم كتاب في علم القرن السابع عشر، كتاب لا يضارعه في عظم تأثيره في ذهن أوربا المثقفة سوى كتاب كوبرنيق في الدورات (1543)، وكتاب دارون في أصل الأنواع (1859). هذه الكتب الثلاثة هي أهم الأحداث في تاريخ أوربا الحديثة.
4 - كتاب المبادئ "برنكيبا"
Principia
فسرت عنوان الكتاب مقدمته:
"بما أن القدماء (كما يخبرنا بابوس) علقوا أهمية عظمى على علم الميكانيكا في بحثهم في الأشياء الطبيعية، وبما أن المحدثين، بعد أن نحو أشكال المادة (التي قال بها السكولاستيون) والصفات الغيبية، حاولوا إخضاع الظواهر الطبيعية لقوانين الرياضة، فقد(33/241)
طورت الرياضة في هذا البحث على قدر اتصالها بالفلسفة (الطبيعية) ... وعليه فإنا نقدم هذا المؤلف على أنه المبادئ الرياضية للفلسفة، ذلك لأن كل معضلة الفلسفة هي في بحث قوى الطبيعة من ظواهر الحركة، ثم توضيح الظواهر الأخرى من هذه القوى".
أما وجهة نظر الكتاب فستكون ميكانيكية خالصة:
"وددت لو استطعنا استخلاص باقي الظواهر الطبيعية بنفس نوع الاستدلال من الأسس الميكانيكية، لأن مبررات كثيرة تحملني على الظن بأنها ربما كانت كلها تتوقف على قوى معينة تدفع بواسطتها جزيئات الأجسام بأسباب مجهولة إلى الآن بعضها نحو البعض، وتتماسك في أشكال منتظمة، أو تصد وتتراجع بعضها عن البعض، وإذ كانت هذه القوى مجهولة، فقد حاول الفلاسفة إلى الآن البحث في الطبيعة عبثاً، ولكني أرجو أن تلقي المبادئ الموضوعية هنا بعض الضوء على تلك الطريقة، أو على طريقة أصح، من طرق الفلسفة".
وبعد أن وضع نيوتن بعض التعاريف والبديهيات، صاغ ثلاثة قوانين للحركة:
1 - كل جسم يبقى على حالته من حيث السكون أو الحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم يضطر إلى تغيير تلك الحالة بقوى واقعة عليه.
2 - تغيير الحركة يتناسب مع القوة المحركة الواقعة، ويتم في اتجاه الخط المستقيم الذي تقع فيه تلك القوة.
3 - كل فعل يقابله دائماً رد فعل مساو له.
أما وقد تسلح نيوتن بهذه القوانين، وبقانون التربيع العكسي فقد تقدم إلى صياغة مبدأ الجاذبية. وصورة المبدأ الحالية، وهي أن كل جزيء من المادة يجذب كل جزيء بقوة تتناسب تناسباً طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وتناسباً عكسياً مع مربع البعد بينهما، هذه الصورة لا نجدها بهذا النص في أي موضوع في كتاب المبادئ، ولكن نيوتن أعرب عن الفكرة في التعقيب العام الذي ختم به الكتاب الثاني: "إن الجاذبية ... تعمل ... حسب كمية المادة الجامدة التي تحتويها (الشمس والكواكب)، وتنتشر قوتها على جميع الجهات ... متناقضة(33/242)
أبداً بما يتناسب مع المربع العكسي للمسافات (33) ". وقد طبق هذا المبدأ، وقوانينه في الحركة، على مدارات الكواكب، ووجد أن تقديراته الحسابية تتفق والمدارات الاهليلجية التي استنتجتها كبلر. وزعم أن الكواكب تحول عن حركاتها المستقيمة، وتحفظ في مداراتها، بقوة تميل صوب الشمس وتتناسب تناسباً عكسياً مع مربع أبعادها عن مركز الشمس. وعنى أساس مبادئ مماثلة فسر جذب المشتري لتوابعه، والأرض للقمر. وبين أن نظرية ديكارت في الدوامات باعتبارها الشكل الأول للكون لا يمكن التوفيق بينها وبين قوانين كبلر. وحسب كتلة كل كوكب، وقدر كثافة الأرض من خمسة إلى ستة أمثال كثافة الماء. (والرقم الحالي 5. 5). وعلل رياضياً تفرطح الأرض عند القطبين، وعزا إنبعاجها عند الاستواء إلى قوة الشمس الجاذبة، ووضع رياضيات المد والجزر باعتبارهما راجعين إلى جذب الشمس والقمر الموحد للبحار، ويمثل هذا الفعل القمري-الشمسي فسر مبادرة نقطتي الاعتدالين، ورد مسارات المذنبات إلى مدارات منتظمة، وبهذا أيد نبوءة هالي. وقد صور كوناً أعظم تعقيداً من الناحية الميكانيكية مما ظن من قبل، لأنه نسب لجميع الكواكب والنجوم صفة الجذب، فأصبح الآن كل كوكب أو نجم بنظر إليه على أنه متأثر بكل كوكب أو نجم آخر. ولكن في هذا الحشد المعقد من الأجرام السماوية وضع نيوتن قانوناً يحكمه: فأبعد النجوم يخضع لذات الميكانيكا والرياضة اللتين يخضع لها أصغر الجزيئات على الأرض. إن رؤية الإنسان للقانون لم تغامر قط بالتحليق في الفضاء إلى مثل هذا البعد، ولا بمثل هذه الجرأة.
ونفدت الطبعة الأولى من "المبادئ" سريعاً، ولكن لم تظهر طبعة ثانية إلا في 1713. وعزت نسخه حتى أن عالماً نسخ الكتاب كله بيده (34). واعترف القراء بأنه عمل فكري من أرفع طراز، ولكن بعض ملاحظات النقد كدرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنسا النظام النيوتني لتشبثها بدوامات ديكارت، إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضاً ملؤه الإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بأن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبية تضاف إلى القوى الماضية، وقالا أن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماوية، ولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية، التي ظلت سراً خفياً كسر الله. وقال ليبنتز بأنه(33/243)
ما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها، خلال فضاء يبدو فارغاً، في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال، فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيء أكثر من مجرد كلمة (35).
ولم تحظ النظرية الجديدة بالقبول السريع حتى في إنجلترا. وزعم فولتير أن المرء كان بالجهد يجد عشرين عالماً يرضون عنها بعد أن نشرت لأول مرة بأربعين عاماً. وبينما شكا النقاد في فرنسا من أن النظرية ليست ميكانيكية بالقدر الكافي إذا قيست بدوامات ديكارت البدائية، كانت الاعتراضات عليها في إنجلترة في أغلبها دينية، فأسف جورج باركلي في كتابه "مبادئ المعرفة الإنسانية" (1710) لأن نيوتن يرى الفضاء والزمان والحركة مطلقة، سرمدية فيما يبدو، وموجودة مستقلة عن المساندة الإلهية. فالميكانيكية تطغى على النظام النيوتوني طغياناً لا يترك فيه مكاناً لله.
فلما وافق نيوتن بعد ما عهد فيه من تسويفات على أن يعد طبعه ثانية الكتاب، حاول أن يهدئ من ثائرة نقاده. فأكد لليبنتز والفرنسيين أنه لا يفترض قوة تعمل عن بعد خلال الفضاء الفارغ، وأنه يعتقد بوجود ناقل متخلل، رغم أنه لن يحاول وصفه صم اعترف بصراحة أنه لا يفقه طبيعة الجاذبية. وبهذه المناسبة كتب في الطبعة الثانية كلماته التي كثيراً ما ياء فهمها، وهي أنه "لا يضع فرضاً (36) " وأضاف "يجب أن تتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة، ولكني أترك لقرائي النظر في هل هذا العامل مادي أو غير مادي (37) ".
ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضات الدينية ألحق بالطبعة الثانية تعقيباً عاماً عن دور الله في نسقه. فقصر تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي، ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطة إلهية، فالآلة الكبرى تتطلب مصدراً أول لحركتها، لا بد أن يكون هو الله، ثم إن في النظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دورياً كلما ظهرت (38). ولكي يفسح نيوتن مجالاً لهذه التدخلات الخارقة نزل عن مبدأ عدم فناء الطاقة. وافترض الآن أن آلة العالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت، وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد لها(33/244)
قوتها (39). واختتم بهذه العبارة "إن هذا النظام البديع، نظام الشمس، والكواكب، والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه (40) ". وأخيراً تحرك صوب الفلسفة يمكن أن تفسر بمعنى حيوي، أو تفسر بمعنى ميكانيكي قال:
"وقد نضيف الآن شيئاً يتصل بروح غاية في الدقة، روح تنتشر وتختفي في جميع الأجسام الكبيرة، وبقوتها وفعلها تتجاذب جزيئات الأجسام في المسافات القريبة، وتتماسك إذا تجاوزت، وتعمل الأجسام الكهربية إلى أبعاد أعظم، فتصد وتجذب الجزيئات المجاورة، ويرسل الضوء، ويعكس، ويكسر، ويثني، ويسخن الأجسام، وكل إحساس يثار، وتتحرك أعضاء الأجسام الحيوانية بأمر الإرادة، أعني بتموجات هذه الروح، مبثوثة بالتبادل على خيوط الأعصاب المتينة، من أعصاب الحس الخارجة إلى المخ، ومن المخ إلى العضلات. على أن هذه أشياء لا يمكن تفسيرها في بضع كلمات، ثم أننا لم نزود بما يكفي من التجارب التي يتطلبها التقرير والإيضاح الدقيقان للقوانين التي تعمل وفقاً لها هذه الروح الكهربية المرنة (41) ".
ترى ماذا كان إيمانه الديني الحقيقي؟ لقد تطلبت أستاذيته في كمبردج الولاء للكنيسة الرسمية، وكان يختلف بانتظام إلى الخدمات الكنسية الأنجليكانية. أما صلواته الخاصة فيقول فيها سكرتيره "لا أستطيع أن أقول عنها شيئاً، وأميل إلى الاعتقاد بأن دراساته المفرطة حرمته من النصيب الأفضل (42) ". ومع ذلك فقد درس الكتاب المقدس بنفس الغيرة التي درس بها الكون. وقد أثنى عليه رئيس أساقفة بقوله "إنك تعرف من اللاهوت أكثر مما نعرف كلنا مجتمعين (43) " وقال لوك عن معرفته بالأسفار المقدسة "لست أعرف من أمثاله إلا القليلين (44) " وقد خلف كتابات لاهوتية يفوق حجمها كل مؤلفاته العلمية.
وقادته دراساته إلى نتائج أشبه بالأريوسية، وهي قريبة الشبه بنتائج ملتن، ومجملها أن المسيح وإن كان ابن الله إلا أنه ليس مساوياً لله الآب في الزمن أو القوة (45). وفيما عدا ذلك كان نيوتن، أو أصبح، مستقيم العقيدة تماماً. ويبدو أنه آمن بكل كلمة من كلمات(33/245)
الكتاب المقدس على أنها كلمة الله، وأنه قبل سفري دانيال ورؤيا يوحنا على أنهما الحقيقة بحذافيرها. لقد كان أعظم علماء عصره صوفيا نسخ في شغف فقرات طويلة من يعقوب بومي، وطلب إلى لوك أن يناقش معه معنى "الحصان الأبيض" الوارد في سفر الرؤيا. وقد شجع صديقه جون كريج على كتابه "الأسس الرياضية للاهوت المسيحي" (1699) الذي حاول أن يثبت بالرياضة تاريخ مجيء المسيح الثاني، والنسبة بين أقصى ما يمكن بلوغه من السعادة الأرضية وسعادة المؤمن التي يجزي بها في الفردوس (48). وقد كتب تعليقاً على سفر الرؤيا، وزعم أن المسيح الكاذب المتنبأ به في السفر هو بابا روما. لقد كان ذهن نيوتن مزيجاً جمع بين ميكانيكا جاليليو وقوانين كبلر وبين لاهوت بومي. ولن يطالعنا الزمان بمثله عن قريب.
5 - الأصيل
لقد كان بمعنى آخر مزيجاً شاذاً، رجلاً مستغرقاً بشكل واضح في النظرية الرياضية والصوفية، وهو مع ذلك ذو مقدرة عملية وفطرة سليمة اختارته جامعة كمبردج عام 1687 ليذهب مع آخرين للاحتجاج لدى جيمس الثاني على محاولة هذا الملك أن يفرض على الجامعة أن تمنح راهباً بندكتياً درجة جامعية دون أن يحلف الإيمان العادية التي يستحيل على الكاثوليكية أن يقبلها. وفشلت البعثة في ثني الملك عن قراره، ولكن لا بد أن الجامعة رضيت عن رئاسة نيوتن لها، لأنه اختير عضواً ممثلاً لكمبردج في برلمان 1689. وظل عضواً حتى حل البرلمان عام 1690، ثم أعيد انتخابه عام 1701، ولكنه لم يشارك في السياسة بدور مذكور.
وتخللت حياته العملية عام 1692 سنتان من المرض الجسمي والعقلي. فقد كتب إلى بيبيس ولوك رسائل يشكو فيها من الأرق والسوداء، ويعرب على مخاوف الاضطهاد، ويتحسر على فقده "تماسك ذهنه القديم (47) ". وفي 16 سبتمبر 1693 كتب إلى لوك يقول:
سيدي: إن ظني أنك حاولت توريطي في علاقات نسائية وبطرق(33/246)
أخرى أثر في نفسي تأثيراً شديداً، حتى أنني أجبت حين أخبرني أحدهم بأنك مريض ولن تعيش، بأن من الخير أن تموت. وأود أن تغتفر لي هذه القسوة لأنني الآن مقتنع بأن ما فعلته صواب، وأسألك الصفح عن إساءتي الظن بك في هذا الأمر، وعن قولي أنك أصبت الفضيلة في الصميم بمبدأ وضعته في كتاب "الأفكار" الذي ألفته، ونويت أن تواصله في كتابه آخر، وعن أنني حسبتك خطأ من أنصار هوبز. كذلك أسألك الصفح عن قولي أو ظني بأن هناك خطة لبيعي منصباً، أو لتوريطي ...
وأني خادمك الخاضع المنكود الحظ
إسحاق نيوتن (48)
وذكر بيبيس في خطاب تاريخه 26 سبتمبر 1693 "اضطراباً في ... الرأس أو العقل" تدل عليه رسالة تلقاها من نيوتن. وقد خلف هويجنز عند وفاته (1695) مخطوطة فيها دون فيها تحت يوم 29 مايو 1694 أن "مستر كولين، وهو رجل اسكتلندي، أنبأني أن عالم الهندسة الشهير إسحاق نيوتن أصابه لوثة قبل ثمانية عشر شهراً" ولكنه استعاد صحته فبدأ يفهم كتابه "المبادئ". وأرسل هويجنز التقرير إلى ليبنتز في رسالة مؤرخة 8 يونيو 1694 قال فيها: "إن الرجل الطيب المستر نيوتن أصيب بنوبة من الخبل لازمته ثمانية عشر شهراً، وقيل أن أصحابه شفوه منها بالعقاقير وإبقائه محبوساً (49) " وظن البعض أن هذا الانهيار العصبي صرف نيوتن عن العلم إلى سفر الرؤيا، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وقيل "أنه لم يركز قط كما ألف أن يركز، ولم يقم بأي جهد جديد (50) " ومع ذلك ففي 1696 حل على الفور تقريباً مسألة حسابية اقترحها يوهان برنوللي "على أذكى الرياضيين في العالم"، وكذلك فعل بمسألة وضعها ليبنتز عام 1716 (51). وقد أرسل رده على برنوللي غفلاً من الاسم بطريق الجمعية الملكية، ولكن برنوللي حزر على الفور أن صاحبه نيوتن، إذ تبين "الأسد من مخلبه" على حد قوله. وفي عام 1700 اكتشف نظرية آلة السدس، ولم يكتشف النقاب عنها إلا بخطاب لهالي، ووجب أن يعاد اختراعها عام 1730. ويبدو أنه شرف المناصب العسيرة التي بادرت الدولة بتعيينه فيها.(33/247)
وكان لوك، وبيبيس، وغيرهما من أصدقاء نيوتن قد فاوضوا حيناً للحصول له على منصب حكومي يخرجه من سجن حجرته ومختبره في كمبردج. وفي عام 1695 أقنعوا اللورد هاليفاكس بأن يعرض عليه وظيفة أمين دار سك النقود. ولم تكن الوظيفة شرفية ولا صدقة، إذ أرادت الحكومة أن تفيد من علم نيوتن بالكيمياء والمعادن في ضرب عملة جديدة. ففي 1695 انتقل إلى لندن، حيث عاش مع ابنة أخته كاترين بارتون، خليلة هاليفاكس (52). وقد خيل إلى فولتير أن افتتان هاليفاكس ببنت الأخت هذه حمل هاليفاكس وهو وزير للخزانة على أن يعين نيوتن مديراً لدار سك النقود في 1699 (53)، ولكن هذه الشائعة لا تكاد تفسر استمرار نيوتن في شغل ذلك المنصب طوال الثمانية والعشرين عاماً الباقية له في أجله، وشغله على نحو حاز الرضاء العام.
وكان خليقاً بشيخوخته أن تكون سعيدة. فقد كرمته الدولة بوصفه أعظم العلماء الأحياء، ولم يحظ رجل من رجال العلم حتى وقتنا هذا بمثل ما حظي به من ثناء عريض. وقد انتخب رئيساً للجمعية الملكية عام 1703، وظل ينتخب سنوياً بعد ذلك حتى وفاته. وفي عام 1705 خلعت عليه الملكة آن لقب الفروسية. وحين ركب عربته مخترقاً شوارع لندن تفرس الناس برهبة في وجهه الوردي، وقد فاض جلالاً وطيبة تحت لمة من الشعر الأبيض. ولم يستطيعوا طوال الوقت أن يلحظوا أنه قد عرض بأكثر مما يتناسب مع طوله المتواضع. وكان يستمتع براتي طيب بلغ 1. 200 جنيه في العام، وقد استثمر مدخراته بحكمة حتى أنه خلف عند وفاته 32. 000 جنيه (54)، رغم سخائه في الهدايا والصدقات. وقد أفاق من خسارته في انهيار شركة "ساوث سي". على أنه كان منقلب المزاج، وأحياناً سريع الغضب سيئ الظن، كتوماً، ودائماً شديد التهيب رغم كبريائه (55). كان يجب اعتزال الناس ولا يصنع الأدقاء بسهولة. وفي عام 1700 عرض الزواج على أرملة غنية، ولكن العرض لم يسفر عن نتيجة، ولم يتزوج قط. وإذ كان عصبي المزاج. حساساً بشكل مرضي، فقد كان لا يطيق النقد إلا متألماً، ويغتاظ منه غيظاً شديداً، ويرد الصاع صاعين في الجدل. وكان يعرف قدر عمله وكفايته، ولكنه عاش عيشاً متواضعاً إلى أن أتاح له راتبه(33/248)
ومدخراته أن يستخدم ستة خدم ويستمتع بمكان مرموق في المجتمع اللندني.
فلما بلغ التاسعة والسبعين بدأ يرد دينه للطبيعة. فأصابته الأمراض التي لا تقيم للعبقرية وزناً-حصاة المثانة وسلس البول، وحين بلغ الثالثة والثمانين أصيب بالنقرس، وفي الرابعة والثمانين بالبواسير. وفي 19 مارس 1727 اشتدت به آلام الحصاة حتى فقد وعيه. ولم يفق قط، ومات في الغد وقد بلغ الخامسة والثمانين، ودفن في كنيسة وستمنستر بعد أن شيع بجنازة تصدرها رجال الدولة والنبلاء والفلاسفة، وقد سجى في نعش حمله الأدواق والايرلات. وأغرقه الشعراء بمراثيهم، وألف بوب قبرية شهيرة قال فيها: "إن الطبيعة وقوانينها كان يلفها ظلام الليل، وقال الله ليكن نيوتن، فأصبح الكل ضياء" ولم يملك فولتير عواطفه، حتى في شيخوخته، وهو يروي كيف شاهد، أثناء منفاه في إنجلترا، رياضياً يدفن بمظاهر تكريم الملوك (56).
وبلغ صيت نيوتن ذرى أشرفت على السخف. فقد ليبنتز أن إسهامات منافسه في الرياضة تعدل في قيمتها كل المؤلفات السابقة في ذلك العلم (57). وذهب هيوم إلى أن نيوتن "أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه (58) " ووافقه فولتير في تواضع (59). ووصف لجرانج كتاب المبادئ بأنه "أعظم إنتاج أنتجه الذهن البشري"، وضمن له لابلاس إلى الأبد "مكان الصدارة على جميع إنتاجات العقل البشري"، وأضاف أن نيوتن أوفر الناس حظاً، لأنه ليس هناك سوى كون واحد، وليس سوى مبدأ مطلق واحد له، وقد اكتشف نيوتن ذلك المبدأ (60). ومثل هذه الأحكام لا ثبات لها، لأن "الحقيقة" حتى في العلم، تذبل كالزهرة.
ولو أننا قسنا عظمة إنسان بأقل المقاييس ذاتية، وهو انتشار تأثيره وطول بقاء هذا التأثير، لما وجدنا لنيوتن نظيراً إلا في مؤسسي الأديان العالمية والفلسفات المحورية. لقد كان تأثيره على الرياضة الإنجليزية-حيناً-تأثيراً ضاراً، لأن "فروقه وتنويتها كانا أقل يسراً من حساب التفاضل والتنويت اللذين هيمن بهما ليبنتز على القارة. ويبدو أن نظريته في جسيمات الضوء عاقت تقدم البصريات قرناً، وإن وجد بعض(33/249)
الطلاب الآن عوناً كبيراً في نظرية نيوتن (61). أما في الميكانيكا فقد أثبت عمله أنه خلاق إلى غير حدود. كتب ارنسنت ماخ يقول: "إن كل ما أنجز في الميكانيكا منذ أيامه لا يعدو أن يكون تطويراً إستنتاجياً، شكلياً، رياضياً ... على أساس قوانين نيوتن (62) ".
وقد خشي اللاهوتيين لأول وهلة من تأثير كتاب "المبادئ" على الدين، ولكن محاضرات بويل التي ألقاها بنتلي (1692)، بتشجيع من نيوتن، حولت النظرة الجديدة إلى العالم إلى تأييد الإيمان، لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله. على أن هذا النسق النيوتوني ذاته قبله الربوبيون على أنه يدعم إيمانهم، وهو القبول البسيط لإله واحد، أو حتى اعتبار الله واحداً هو والطبيعة وقوانينها، بدلاً من اللاهوت المسيحي. وأغلب الظن أن تأثير نيوتن النهائي في الدين كان ضاراً، فقد افترض أحرار الفكر أنه برغم تأكيداته، وملايين الكلمات التي احتوتها كتاباته اللاهوتية، أنه تصور عالماً قائماً بنفسه، وأنه أدخل الإله فيه فكرة لاحقة معزية. وفي فرنسا على الأخص شجعت كونيات نيوتن، رغم عرض فولتير لها عرضاً ربوبياً، إلحاد الكثيرين من "الفلاسفة" إلحاداً يقوم على ميكانيكية الكون.
وفي الفترة بين اضمحلال نظرية ديكارت في نشأة الكون في فرنسا (حوالي 1740) وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم في القرن العشرين، لم يصادف "نسق العالم" النيوتوني أي تحد خطير، وبدا مؤيداً من كل تقدم أو كشف في الفيزياء أو الفلك. والخلافات الرئيسية بين الفيزيائيين المعاصرين وميكانيكا نيوتن، على قدر ما يستطيع غير المتخصص فهم هذه الألغاز، هي:
1 - ذهب نيوتن إلى أن المكان والبعد، والزمان والحركة، أشياء مطفلة-أي أنها لا تختلف كما باختلاف أي شيء خارجها (63). أما أينشتين فقد اعتبرها نسبية-تختلف باختلاف موقع وحركة المشاهد في المكان والزمان.
2 - افترض أول قوانين نيوتن للحركة، في وضوح، أن الجسم قد "يستمر في حالة سكون، أو حركة منتظمة في خط مستقيم" ولكن(33/250)
"السكون" نسبي دائماً، كسكون مسافر في طائرة مسرعة، وكل الأشياء تتحرك، ولا تتحرك أبداً في خط مستقيم، لأن كل خط أو حركة أو فعل تحرفه الأجسام المحيطة (كما أدرك نيوتن).
3 - كانت فكرة نيوتن عن الكتلة أنها من الثوابت، وفكرة بعض الفيزيائيين المعاصرين عنها أنها تختلف باختلاف السرعة النسبية للمشاهد والشيء.
4 - النظرة السائدة الآن إلى "القوة" هي أنها فكرة ميسرة. ولكنها ليست ضرورية في العلم، الذي يهدف إلى الاكتفاء بوصف التتابعات، والعلاقات، والنتائج. فلسنا نعلم، ولا حاجة بنا إلى أن نعلم (كما يقول لنا العلماء) ما هو "هذا" الذي يسري من جسم متحرك إلى آخر يصدمه ذلك الجسم، فالحاجة فقط لتسجيل التتابعات، والعلاقات، والنتائج، وللافتراض (دون أي يقينية مطلقة) بأن هذه ستكون في المستقبل ما بدته في الماضي. والجاذبية وفقاً لهذا الرأي ليست قوة، بل نظام علاقات بين الأحداث في الزمان والمكان.
ومما يعزينا أن نعلم أن هذه وغيرها من التنقيحات الطارئة على ميكانيا نيوتن لا أهمية لها إلا في ميادين (كالظواهر الكهربية-المغنطيسية) لا تبدو الجزيئات فيها تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء، وفي غير هذا فالفرق بين الفيزياء القديمة والحديثة يمكن أن نتجاهله مطمئنين. وللفلاسفة-الذي شفاهم التاريخ من اليقينية-أن يحتفظوا بارتيابة متواضعة من نحو الأفكار المعاصرة، بما في ذلك أفكارهم هم، وسوف يحسون نسبية متدفقة في صيغ النسبية، وسوف يذكرون كل المنقبين في الذرات والنجوم بتقدير نيوتن النهائي لإنجازه الخطير:
"لست أعلم كيف أبدو للعالم، ولكني أبدو لنفسي وكأنني صبي يلعب على شاطئ البحر، ألهو بين الحين والحين بالعثور على حصاة أملس أو صدفة أجمل من العادة، بينما ينبسط محيط الحقيقة العظيم مغلق الأسرار أمامي (64) ".(33/251)
الفصل العشرون
الفلسفة الإنجليزية
1648 - 1715
1 - توماس هوبز
1588 - 1679
أ - المؤثرات التي شكلت شخصيته
ولد هوبز في 5 إبريل 1588، ولما يكتمل المدة المقررة للحمل، وتعزو أمه ولادته المبتسرة قبل الأوان إلى فزعها من مجيء الأسطول الأسباني "الأرمادا"، ومن الخطر الذي يتهدد إنجلترا بغزو ساحق على أيدي الوثنيين السفاحين. أما الفيلسوف فينسب إلى خروجه غير المرتقب قبل الأوان إلى الحياة نزعة الجبن التي تملكته وغلبت عليه، ولكنه كان أجرأ الهراطقة في عصره. وربما ورث الوالد- وكان قسيساً أنجليكانياً في مامز بري في ولتشير- ابنه بعض نزوع إلى المشاكسة، فان هذا الوالد اشتبك يوماً في شجار على باب كنيسته ثم اختفى، تاركاً أبناءه الثلاثة ليتولى تربيتهم أخ له.
وأثرى هذا الخ وأيسر، والتحق توماس بكلية مجدلن في أكسفورد، هياباً جباناً، ولا ريب، مثله في ذلك مثل أي شاب يجرؤ على اقتحام المغارات المخصصة لأصنام العشيرة. ولم يجد في الفلسفة التي تدرس هناك إلا قليلاً مما يروقه، فتسلى بقراءات خارج المنهج المقرر، وتعرف بطريق مباشر على الآداب الإغريقية واللاتينية. ولما تخرج في سن العشرين أسعده الحظ ليكون معلماً خاصاً لوليم كافندش الذي أصبح أرل ديفو نشير الثاني. وقد ثبت أن الحماية التي بسطتها عليه هذه الأسرة كانت ذات قيمة كبيرة له أيام هرطقته. وفي 1610 طاف في صحبة تلميذه بأرجاء القارة. وعند عودته أشتغل لبعض الوقت سكرتير لفرنسيس بيكون، وربما أسهمت هذه الخبرة المثيرة في تكوين فلسفته التجريبية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ويروي أوبري أنه حوالي هذه الفترة "كان مستر بنجامين جونسون شاعر التاج صديقه الحميم الذي يكثر التردد عليه (1) وكان أغزر علماً من هوبز. ولم(34/3)
يكن قد أشتد عوده بعد، وسرعان ما عاد هوبز إلى أسرة كافندش، واحتفظ بصلته بها طيلة ثلاثة أجيال، ومن الجائز أن الفيلسوف اقتبس من هؤلاء الحماة الكرام ذوي المنعة والقوة الآراء المتعلقة بالنظام الملكي والكنيسة التقليدية، وتلك الآراء هي التي غفرت له ميتافيزيقيته المادية وخلصته من الموت حرقاً.
وكان اكتشافه لإقليدس نقطة تحول في حياته العقلية. ذلك أنه وهو في سن الأربعين، وقع بصره في مكتبة خاصة، على كتاب "العناصر" مفتوحاً على المسألة رقم 47 من القسم الأول. وما أن قرأها حتى صاح "يا إلهي، هذا مستحيل" وأشار شرحها إلى أنها برهان على مسألة سابقة، وهذه على أخرى، وهكذا، حتى رجع إلى التعاريف الأولية والبديهيات. وابتهج بهذا البناء المنطقي، وأغرم بعلم الهندسة (2) ولكن أوبري بضيف "أنه كان منصرفاً- إنصرافاً كبيراً إلى الموسيقى ومارس العزف على الكمان الكبير". وفي 1629 نشر ترجمة لتيوكيديدس (المؤرخ اليوناني في القرن الرابع ق. م) وكان غرضه السافر المزعوم من ذلك هو أن يحذر إنجلترا من أخطار الديموقراطية. وفي تلك السنة أستأنف رحلاته، معلماً آنذاك لأبن أول تلاميذه، أرل ديفونشير الثالث. وربما قوت زيارته لجاليليو (1636) من نزوعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية.
وعاد إلى إنجلترا في 1637، ولما أشتد الصراع بين البرلمان والملك شارل الأول، كتب رسالة بعنوان "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي"، دافع فيها عن السلطة المطلقة للملك، بوصفها أمراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وجرى تداول هذه الرسالة مخطوطة، وربما- كانت تؤدي إلى القبض على المؤلف لولا أن شارل حل البرلمان. وعندما احتدم النزاع فقد رأى هوبز أنه من الحكمة أن يعود أدراجه إلى القارة (1640)، وبقى هناك، ومعظم وقته في باريس، طيلة الأحد عشر عاماً التالية. وفي باريس كسب صداقة مرسن وجاسندي، ولكن جلب على نفسه عداوة ديكارت. فإن مرسن دعاه إلى تدوين بعض التعليقات على "تأملات" ديكارت، فاستجاب هوبز في شيء من الكياسة ولكن في كثير من الحدة، ولم يغتفر له ديكارت هذا قط. وعندما نشبت الحرب الأهلية في إنجلترا(34/4)
(1642) أسس المهاجرون الملكيون لأنفسهم مستعمرة في فرنسا، وربما أخذ هوبز عنهم مزيداً من التعاطف مع الملكية، فإنه لمدة عامين (1646 slash1748) اشتغل بتدريس الرياضيات لأمير ويلز المنفي، الملك شارل الثاني فيما بعد. وجاءت حركة الفروند ضد لويس الرابع عشر في فرنسا- وكانت مثل الثورة في إنجلترا، تهدف إلى الحد من سلطة الملك- فأكدت اقتناعه بأن الملكية المطلقة وحدها هي التي يمكن أن تحافظ على الاستقرار والأمن الداخلي.
وفي بطء شديد وصل هوبز إلى صياغة محددة واضحة لفلسفته. ويقول أوبري: "أنه سار طويلاً وأعمل الفكر وتأمل، وكان في رأس عصاه قلم ومحبرة، وكان يحمل في جيبه دائماً كراسة، حتى إذا عرضت له فكرة، فسرعان ما كان يدونها على الفور حتى لا تضيع (3) " وأصدر سلسلة من التأليف الأقل قيمة (1)، التي ليس لها الآن ذكر، ولكنه- في 1651 جمع كل أفكاره في كتاب يجمع بين طرافة الفكر والأسلوب وعدم المبالاة، هو "لواياثان" (التنين) أو "المادة والشكل"، و "سلطة الدولة دينية ومدنية" (التنين) أو "المادة في تاريخ الفلسفة، وجدير بنا أن نتوقف عنده في شيء من التروي.
ب - المنطق وعلم النفس
يكاد أسلوب هوبز يقارب أسلوب بيكون في الجودة، ولكنه ليس غنياً بالصور الوضاءة مثله، ولكنه قوي متميز فعال صريح مثله تماماً، مع شيء من التهكم اللاذع بين الحين والحين. وليس فيه زخرف ولا تظاهر بالبلاغة والفصاحة، فما هو إلا تعبير واضح عن فكر واضح، مع اقتصاد حكيم في الوسائل اللفظية. يقول هوبز "إن الكلمات بالنسبة للعقلاء ليست سوى أنضاد "فيشات" أي وسائط للعد
_________
(1) أهمها "المواطن" (1642 slash1647) و "مبادئ القانون" الذي طبع 1650 في جزأين: "الطبيعة الإنسانية" و "الهيئة السياسية"، ومبادئ "الفلسفة" (1651)، "الأصول الفلسفية" 1655 slash1658 وهي ثلاثية استنباطية عن الجسم والإنسان والمجتمع هذا إلى جانب شذرات كثيرة في الرياضيات، وترجمة للالياذة والاوديسية. ثم "بهيموث" (1670) وهو عبارة عن تاريخ الحرب الأهلية مفسراً على ضوء آرائه عن الإنسان والمجتمع، ثم تاريخ حياته شعراً باللاتينية.(34/5)
والحساب، ولكنها ثروة الأغبياء، التي تضفي قيمة وقدراً، استناداً إلى أرسطو شيشرون أو توما الأكويني (4) ". وبهذا السلاح الجديد- قضي هوبز على كثير من الكلام الطنان الرنان الأجوف الذي لا يحمل معنى. وعندما وقع بصره على تعريف توما الأكويني "للأبدية" بأنها "الحاضر الخالد" هم كتفيه استهجاناً لهذا التعريف على أنه "من البسيط جداً أن يقال، ولكن على الرغم من أني قد أسر به، فأني لم أستطع أن أفهمه قط، وأولئك الذين يستطيعون فهمه أسعد مني حظاً". وعلى كذلك كان هوبز "اسمياً صريحاً" (مذهب الاسمين: مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة أو الكليات ليس لها وجود حقيقي، وأنها مجرد أسماء ليس غير): فالإنماء أو الأسماء المجردة مثل "الرجل، الفضيلة" هي مجرد أسماء لأفكار تعميمية، ولا تمثل شيئاً مدركاً بالحواس، فكل الأشياء لها وجود فردي- أعمال فاضلة فردية، ورجال فرديون ....
إنه يحدد مصطلحاته وألفاظه تحديداً دقيقاً. وعلى الصفحة الأولى من كتابه يعرف "لواياثان" بأنه مصلحة مشتركة أو رابطة أو دولة. إنه وجد اللفظ في التوراة (سفر أيوب- الإصحاح 41) حيث استعملها الرب اسماً لحيوان بحري هائل غير ذي نوع محدد، رمزاً للقوة الإلهية، واقترح هوبز أن يجعل من الدولة نظاماً ضخماً عليه أن يستوعب كل النشاط الإنساني ويوجهه. ولكنه قبل أن يصل إلى قضيته الأساسية ألقى نظرة شاملة على المنطق وعلم النفس بيد لا ترحم.
إن هوبز فهم الفلسفة على أنها ما نسميه الآن علماً: "معرفة الآثار والظواهر المكتسبة من معرفة الأسباب، أو بالعكس معرفة العلل أو الأسباب الممكنة كما تدلنا عليها معرفة آثارها المعروفة لدينا (5) ". وتبع بيكون في توقعه أن يجني من وراء هذه الدراسة أو هذا- المنهج فوائد عملية عظيمة للحياة الإنسانية. ولكنه تجاهل دعوة بيكون إلى التعليل الاستقرائي، وأخذ "بالاستدلال المنطقي" أي الاستنتاج من التجربة. وفي إعجابه بالرياضيات أضاف "أن الاستدلال المنطقي هو بعينه من الجمع والطرح" أي الجمع بين الصور والأفكار، أو الفصل بينهما. وذهب إلى أننا لا نفتقر إلى التجربة، ولكن الذي نفتقر إليه هو التعليل الصحيح لها، أننا إذا استطعنا أن نقضي على خبث(34/6)
الألفاظ الخالية من المعنى في الميتافيزيقا، وعلى التحيزات التي نقلناها بحكم العادة أو التعليم أو روح التشيع والتحزب، إننا إذا استطعنا هذا فأي عبء نطرحه على كواهلنا، والعقل على أية حال ليس معصوماً من الخطأ! ولا يمكن إلا في الرياضيات، أن يزودنا بالحقيقة اليقينية التي لا ريب فيها. "إن معرفة النتيجة، التي قلت من قبل أنها تسمى العلم، ليست مطلقة، بل هي مشروطة. ولا يستطيع أحد أن يعرف عن طريق التعليل أن هذا الشيء أو ذاك كان أو يكون أو سيكون، مما يعرف بشكل مطلق، بل يعرف أنه حين يكون هذا يكون ذاك، وإذا كان هذا كان ذاك، وحين سيكون هذا سيكون ذاك، أي أن هذا الشيء أو ذاك يعرف مشروطاً" (6).
وكما سبقت هذه العبارة حجة هيوم في أننا نعرف النتائج فقط دون الأسباب، فأن هوبز كذلك سبق لوك في علم النفس الحسي. أن كل المعرفة تبدأ بالحس "ليس ثمة فكرة في عقل الإنسان إلا تولدت بادئ ذي بدء، تامة أو على دفعات، في أعضاء الحس (7) ". وهذا علن نفس مادي صريح: لا يوجد شيء خارجنا أو داخلنا- إلا المادة والحركة، وكل الصفات المحسوسة "أو حسية (الضوء، اللون، الشكل، الصلابة، النعومة، الصوت، الرائحة، الطعم، الحرارة، البرودة، هي في الشيء الذي يسببها أو يحدثها ليست إلا عدة حركات كثيرة للمادة تؤثر بها على أعضائنا بأشكال مختلفة، كما أنها، فينا نحن الذين تأثرنا بها، ليست إلا حركات مختلفة، لأن الحركة لا تنتج إلا حركة (8) "، فالحركة في شكل تغيير أمر ضروري للحس- إن إحساسك- بنفس الشيء دائماً يساوي أنك لا تحس بشيء مطلقاً (9). (وهكذا فأن الرجل الأبيض أو الرجل الملون لا يتنبه أي منهما إلى رائحته لأنها دائماً تحت أنفه).
ومن الحس يتابع هوبز سيره ليستخلص التصور والذاكرة عن طريق تطبيق فريد لما صار قانون الحركة الأول عند نيوتن:
أنه إذا بقي جسم ساكناً ما لم يحركه شيء آخر، فإنه يظل ساكناً إلى الأبد، فتلك حقيقة لا يشك فيها أحد. أما إذا كان الجسم متحركاً، فإنه يظل إلى الأبد إلا إذا أوقفه شيء آخر، فإنه على الرغم من أن(34/7)
السبب واحد في الحالين (وهو على التحديد أن أي شيء لا يمكنه التغيير بذاته) فهذا أمر لا يمكن التسليم به بسهولة ..
إذا تحرك الجسم مرة، فإنه يظل يتحرك إلى الأبد (إلا إذا عاق حركته شيء آخر (، وهذا الذي يعطل حركته، أياً كان، لا يستطيع أن يعطلها دفعة واحدة إنما يعطل حركته تماماً في الوقت المناسب وشيئاً فشيئاً. وكما نرى في الماء، فقد تسكن الريح ولكن الأمواج لا تهدأ إلا بعد فترة طويلة من سكون الريح. وهذا ما يحدث للحركة التي تتم داخل الأجزاء الداخلية في الإنسان، ثم حين يرى أو يحلم .... الخ، حيث أنه عندما يزول ويختفي الشيء أو تغلق العين، فإننا نظل نستبقي صورة الأشياء التي رأيت، ولو أنها تكون أكثر غموضاً منها حين كنا نراها. وهذا ما يسميه اللاتينيون "خيالاً" .... وهو على هذا الأساس ليس إلا "حساً يضعف"، فإذا عبرنا عن هذا الضعف، فما يدل على أن الحس يتضاءل وأنه قديم، وأنه غابر، فإن هذا يسمى "الذاكرة" ...... والذاكرة العامرة، أو تذكر أشياء كثيرة يسمى "الخبرة أو التجربة (10) ".
والأفكار عبارة عن تصورات ينتجها الحس أو الذاكرة. والفكر هو نتيجة لمثل هذه التصورات. ولا تتحكم الإرادة الحرة في هذه النتيجة، بل إنها تخضع لقوانين ميكانيكية تحكم توارد الخواطر.
إن الأفكار أو الخواطر لا يعقب الواحد منها الآخر اعتباطاً، ولكن يحدث إننا لا يكون لدينا تصور لما لن نكن قد أحسسنا به جملة أو تفصيلاً من قبل، فإننا كذلك لن ننتقل من تصور إلى تصور ليس لدينا عهد به في حواسنا من قبل. وهذا هو السبب: إن كل التصورات (الأخيلة والأفكار) إنما هي حركات في داخلنا، وهي بقايا ما تم في حواسنا. وهذه الحركات التي تعاقبت الواحدة منها بعد الأخرى في الحس تستمر أيضاً مجتمعة بعد الحس .... ولكن بما أنه في الحس بالنسبة لشيء واحد بعينه يدرك، قد يأتي أحياناً شيء. وأحياناً يأتي شيء آخر، فقد يحدث عاجلاً أو آجلاً، في تصور شيء ما، ألا نكون على يقين من أننا سنتصور شيئاً بعده. وهذا مؤكداً فقط إذا كان ثمة شيء قد أعقب مثيلاً له من قبل في وقت من الأوقات (11).
وقد تكون هذه السلسة من الأفكار مشوشة أو غير موجهة، كما(34/8)
هو الحال في الأحلام، وقد تكون "مضبوطة أو محددة طبقاً لرغبة أو هدف أو خطة ما". وفي حالة الأحلام نجد أن الصور الساكنة الهاجعة في المخ "توقظها أو تهيجها أية إثارة في الأجزاء الداخلية في جسم الإنسان". لأن كل أجزاء الجسم مترابطة، بطريقة ما، بأجزاء معينة في المخ. "أعتقد أن هناك تبادلاً في الحركة من المخ إلى الأجزاء الحيوية، ومنها ثانية إلى المخ، بهذا لا يولد التصور حركة في تلك الأجزاء فحسب، بل أن الحركة في تلك الأجزاء كذلك تولد تصوراً شبيهاً بهذا الذي أنتجها (12) ". وأحلامنا هي شكل معكوس لتصوراتنا في اليقظة: الحركة ونحن متيقظون بادئة بطرف، وبادئة بالطرف الآخر حين نحلم (13) " والتسلسل المنطقي للصور في الأحلام يرجع إلى عدم وجود أي إحساس خارجي يضبطها أو أي غرض يوجهها.
وليس للإرادة الحرة أي مكان في علم النفس عند هوبز. والإرادة نفسها ليست موهبة أو وجوداً مستقلاً، بل هي مجرد الرغبة الأخيرة أو النفور الأخير في عملية التدبر (حركتان جسميتان أساسيتان هما الاشتهاء أو الحركة نحو الأشياء والنفور أو الحركة بعيداً عن الأشياء)، والتدبر تناوب بين حالات الرغبة أو النفور، وهو ينتهي عندما يمكث أحد الدوافع وقتاً كافياً ليتحول إلى عمل أو تصرف ما. "في التدبر نجد أن الأشياء أو النفور الخير الذي يقترن في الحال بالعمل أو بالإغفال الناتج عنه (عن الاشتهاء أو النفور) هو ما نسميه الإرادة (14) " "إن الشهوة والخوف والأمل وغيرهما من الانفعالات لا تسمى اختيارية، لأنها لا تنبع من الإرادة، بل هي الإرادة نفسها، والإرادة ليست اختيارية (15) " "لأن كل فعل من أفعال إرادة الإنسان وكل رغبة وكل ميل، إنما ينتج عن سبب ما، وهذا السبب ينتج عن سبب آخر، وهكذا في سلسلة متصلة (حلقتها الأولى في يد الله أول كل الأسباب) وكلها تنبع من الضرورة. وعلى هذا فإن الذي يستطيع أن يدرك الصلة بين تلك الأسباب، قد تبدو له واضحة جلية "ضرورة" إلى كل أفعال الإنسان الاختيارية (16) ". وهناك في الكون بأسره سلسلة متصلة الحلقات من الأسباب والنتائج أو الآثار. وليس هناك شيء طارئ غير متوقع، أو خارق معجز، أو من قبيل الصدفة.(34/9)
والعالم كله آلة من المادة، متحركة طبقاً لقانون، والإنسان نفسه آلة شبيهة بهذه. والأحاسيس تدخل إليه كأنها حركات، وتولد صوراً وأفكاراً وكل فكرة هي بداية حركة، وتصبح فعلاً إذا لم تعقها فكرة أخرى (17). وكل فكرة، مهما تكن مجردة، تحرك الجسم بدرجة ما، مهما تكن غير منظورة. والجهاز العصبي عبارة عن تركيب آلي لتحويل الحركات الحسية إلى حركة عضلية. والأرواح موجودة ولكنها مجرد أشكال دقيقة للمادة (18). والنفس والعقل ليسا غير ماديين، ولكنهما اسمان للعمليات الحيوية للجسم ولأعمال المخ. ولا يحاول هوبز أن يفسر السبب في أن الوعي ينمو بمثل هذه العملية الميكانيكية من الحس إلى الفكرة إلى الاستجابة. إنه باختزال كل الصفات المدركة للأشياء إلى صور في "الذهن"، يقترب كثيراً من الموقف الذي اتخذه باركلي فيما بعد في دحض المادية- إن كل الحقيقة المعروفة لنا إدراك حسي، وذهني.
جـ - الأخلاق والسياسة
إن هوبز مثل ديكارت قبله، وسبينوزا بعده، تولى تحليل الانفعالات، لأنه يرى فيها مصدر كل أفعال الإنسان، ويستخدم الفلاسفة الثلاثة جميعهم لفظة "الانفعال" على نطاق واسع لتشمل أية غريزة أو وجدان أو عاطفة- وبصفة أساسية، الاشتهاء (الرغبة) والنفور، الحب والكراهية، الفزع والخوف، ووراء هذه كلها اللذة والألم- العمليات النفسية التي ترفع أو تخفض من حيوية الكائن الحي. والاشتهاء بداية حركة نحو شيء يبشر باللذة. والحب ضرب من الاشتهاء، موجه نحو شخص. وكل الإندفاعات (كما كان يقول لاروشفوكولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً) هي أشكال من حب الذات، وكلها تنبع من غريزة المحافظة على الذات. فالإشفاق هو تصور المصائب تنزل بنا في المستقبل، يثيره علمنا بمصائب الغير، والصدقة إرضاء للشعور بالقوة في مساعدتنا للآخرين. والاعتراف بالفضل ينطوي أحياناً على شيء من العداء "أن حصولنا ممن نرى أنه مساو لنا على فوائد أو منفعة أعظم مما كنا نأمل منه، ينزع بنا إلى التظاهر بالحب، والحق أنه بغض خفي، وهو يضع المرء في موقف المدين اليائس، حتى(34/10)
أنه في حالة تصنعه عن رؤية دائنه، إنما يرغب ضمناً في أن يذهب هذا الدائن إلى حيث لا يراه المدين أبداً. لأن المنفعة التي حصل عليها منه طوق بها عنقه، وفي هذه المنة أو الفضل عبودية (19) ". والنفور الأساسي هو الخوف. والاشتهاء الأساسي هو اشتهاء السلطة. "إني أرى في البشر جميعاً نزعة عامة. هي الرغبة الدائمة التي لا تهدأ في السلطة فوق السلطة، وتلك الرغبة لا يخمد أوارها إلا عند الموت (20) ". إننا نرغب في الثراء والمعرفة بوصفها وسائل للسلطة. وفي الأوسمة ومظاهر الحفاوة والتكريم، لأنها دليل على السلطة، ونحن نريد السلطة لأننا نخشى التعرض للخطر. والضحك تعبير على التفوق والسمو والسلطة.
إن الانفعال بالضحك ليس إلا تألقاً أو اعتزازاً مفاجئاً (رضي ذاتياً) ينشأ عن إدراك مفاجئ لبعض السمو والرفعة فينا، بالمقارنة بوهن الآخرين وعجزهم، أو بوهننا وعجزنا فيما مضى، لأن الناس يضحكون من حماقاتهم السابقة عندما تخطر ببالهم فجأة، إلا إذا استحضروا معها شيئاً من مواطن الخزي والعار في حاضرهم .... ويكون الضحك أكثر ما يكون عارضاً لأولئك الذين يكونون على وعي تام بقدراتهم البالغة الضآلة، الذين يضطرون إلى التماس شيء من الراحة في ملاحظة نقائص الآخرين. ومن ثم فإن كثرة الضحك من عيوب الناس دليل على ضعة النفس. فإن من أروع الأعمال التي ينهض بها ذوو العقول الكبيرة أن يساعدوا الآخرين ويحرروهم من الذل والازدراء، وألا يقارنوا أنفسهم إلا بأقدر الناس (21).
والخير والشر مصطلحان ذاتيان يختلفان في المضمون، لا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان فحسب، بل من شخص إلى شخص أيضاً. "إن الإنسان يسمي موضوع شهوته أو رغبته خيراً، وموضوع كراهيته أو نفوره شراً، لأن هاتين الكلمتين تستعملان دائماً في ما يتعلق بالشخص الذي يستخدمها، لأنه ليس ثمة خير أو شر بسيط أو مطلق، وليس هناك قاعدة عامة للخير أو الشر يمكن استنباطها من طبيعة الأشياء ذاتها (22) ". وقد تكون الانفعالات خيراً، وقد تؤدي إلى العظمة. "وهذا الذي ليس لديه رغبة قوية .... وفي السيطرة أو(34/11)
الثروة أو المعرفة أو الشرف والمهابة. لا يمكن أن يكون لديه خيال واسع أو عقل راجع". إن ضعف الانفعال غباء، وقوته بشكل غير طبيعي جنون وانعدام الرغبات موت (23).
إن بهجة هذه الحياة لا تكمن في هجوع الذهن في حالة من الرضي والاكتفاء. لأنه ليس هناك ما يسمونه "الغرض الأسمى" و "الخير الأسمى" كما تحدثت عنهما كتب الفلاسفة الأخلاقيين القدامى .... فالبهجة هي تقدم الرغبة المستمر من هدف إلى هدف، وتحقيق الهدف السابق يظل طريقاً لتحقيق ما بعده (24).
إن حكم رجال هكذا تكوينهم وميلهم إلى الكسب، والمنافسة وحدة الأهواء والانفعالات فيهم، ونزعتهم إلى النضال والكفاح، نقول أن مثل هذا الحكم هو أشد مهام البشر تعقيداً ومشقة، ويجدر بنا أن نهيئ لمن يتولونه كل عون أو سلاح من علم النفس ومن القوة والسلطان. وعلى الرغم من أن إرادة الإنسان غير حرة فإن للمجتمع ما يبرر تشجيعه لبعض الأعمال ويطلق عليها "أعمالاً فاضلة" ويثيب عليها، على حين يندد بأعمال أخرى، ويقول بأنها "أعمال مرذولة" ويعاقب عليها. وليس ثمة تناقض هنا مع "الحتمية"، فإن هذه الاستحسانات والتنديدات الاجتماعية تضاف، من أجل خير الجماعة ومصالحها، إلى الدوافع الني تؤثر في السلوك. "إن العالم يحكمه الرأي (25) "، فالحكومة والدين والقانون الأخلاقي، هي إلى حد كبير تلاعب بالرأي، للتخفيف من الضرورة ونطاق القوة.
إن الحكومة ضرورية، لا لأن الإنسان شر بالطبيعة- لأن "الرغبات وسائر الانفعالات ليست آثمة في حد ذاتها (26) "- بل لأن الإنسان بطبيعته أكثر نزوعاً إلى الفردية منه إلى الروح الاجتماعية، إن هوبز هنا لم يتفق مع أرسطو في أن الإنسان "حيوان سياسي"، أي مخلوق مهيأ بالطبيعة للاجتماع. إنه على النقيض من ذلك أدرك "حالة طبيعية" أصلية (وهي على ذلك الطبيعة الأصلية للإنسان)، على أنها حالة تنافس وعدوان متبادلين لا يوقفهما إلا الخوف، لا القانون. ويمكننا (كما يقول هوبز) أن نتصور هذه الحالة الافتراضية إذا لاحظنا العلاقات الدولية في زمننا هذا، فإن الأمم(34/12)
لا تزال إلى حد كبير في "حالة من الطبيعة"، ولم تخضع بعد لقانون أو سلطة مفروضة عليها.
إن الملوك وأصحاب السلطان في كل الأزمان، بسبب استقلالهم، يعيشون وسط الأحقاد والحذر، يقفون وقفة المصارعين والمجادلين دائماً، أسلحتهم مشروعة، وعيونهم مثبتة كل منهم على الآخر- أي قلاعهم وحامياتهم ومدافعهم على حدود ممالكهم- يبثون العيون والأرصاد على جيرانهم، وتلك هي وقفة الحرب، لا توجد سلطة عامة، لا يوجد قانون ولا يوجد ظلم ولا جور. والقوة والخداع هما في الحرب فضيلتان أساسيتان (27).
وهكذا أعتقد هوبز أن الأفراد والأسرات كانت قبل ظهور التنظيم الاجتماعي، تعيش في حالة حرب دائمة، فعلية أو محتملة، "كل إنسان ضد الآخر (28) ". ولا تقتصر الحرب على الالتحام في المعركة فقط، بل قد يأتي وقت يبدو فيه بشكل واضح، عزم الإنسان على الاشتباك في معركة (29). ونبذ نظرية فقهاء الرومان وفلاسفة المسيحية في أن هناك، أو كان هناك إطلاقاً، "قانون طبيعي" بمعنى قوانين الصواب والخطأ، مؤسسة على طبيعة الإنسان بوصفه "حيواناً عاقلاً". وسلم بأن الإنسان كان عقلانياً في بعض الأحيان، ولكنه أدرك أنه "مخلوق ذو انفعالات وأهواء- ورغبة السلطان والقوة فوق كل شيء- يستخدم العقل أداة للرغبة أو الاشتهاء، ولا يحكمه إلا الخوف من القوة. والحياة البدائية- أي الحياة قبل التنظيم الاجتماعي- كانت بلا قانون، عنيفة مخيفة، "قذرة كريهة وحشية فقيرة (30) ".
وفي تصور هوبز أنه من "حالة طبيعية" المفترضة هذه، خرج الناس باتفاق ضمني بين بعضهم بعضاً، على أن يخضعوا جميعاً لسلطة عامة. وتلك هي نظرية "العقد الاجتماعي التي أصبحت مألوفة شائعة يفضل رسالة روسو التي تحمل هذا الاسم (1762). ولكنها كانت بالفعل قديمة مطروقة في أيام هوبز. فإن ملتون في رسالته "ولاية الملك والحكام" (1649) كان قد فسر العقد بأنه اتفاق بين ملك ورعاياه- على أنهم يطيعونه، وعلى أنه سيقوم بمهام منصبه(34/13)
على خير وجه، فإذا أخفق هذا، كما قال ملتون (مثل ما قال بوكانان وماريانا وكثيرون غيرهما)، كان للشعب الحق في خلعه. واعترض هوبز على النظرية بهذه الصيغة، على أساس أنها لم تؤسس سلطة مخولة أن تنفذ العقد، أو تحدد كيف ومتى نقض. وآثر القول بأن هذا الاتفاق مبرم، لا بين الحاكم والمحكومين، بل بين المحكومين الذين اتفقوا فيما بينهم:
إنهم منحوا كل سلطانهم وقوتهم (أي حقهم في استخدام القوة بعضهم ضد بعض) لرجل واحد أو لجماعة من الرجال .... فإذا تم هذا، أتحد الجميع في رجل واحد يسمى الدولة. وهذا هو منشأ اللواياثان الكبير .... بل على الأرجح منشأ "الرب الفاني" الذي ندين له، في ظل "الإله الحي الباقي" بسلامنا والدفاع عنا لأنه بمقتضى هذه السلطة التي خولها إياه كل فرد في الدولة، له الحق في أن يستخدم كثيراً من السلطات والقوة اللتين منحتا له، ومن ثم فإنه بالإرهاب يكون قادراً على تشكيل إرادة الناس جميعاً .... غايته من ذلك أن يستخدم كل قوتهم وكل ما يملكون من وسائل. كلما وجد الضرورة تدعو إلى ذلك، من أجل سلامهم والدفاع المشترك عنهم. وهذا الذي يمثل هذا "الشخص" ويحمل هذا العبء يسمى ملكاً، ويقال أن له سلطة ملكية، وكل من عداه من رعاياه (31).
وفي شيء من الطيش افترضت النظرية ف هؤلاء الهمج "القذرين المتوحشين" الذين سبق ذكرهم، درجة من النظام والعقلانية والاتضاع، وهي درجة تسمح بتنازلهم عن سلطاتهم. وأجاز هوبز في شيء من الحكمة، أن تنشأ الدولة على أصول بديلة: -
ويكمن الوصول إلى هذه السلطة الملكية الحاكمة عن طريقين، أولهما القوة الطبيعية، كما هو الحال حين يعمد رجل ما إلى إخضاع بنيه وذرياتهم لحكومته، لأنه قادر على تدميرهم والقضاء عليهم إذا أبو عليه ذلك، أو يخضع أعداءه لإرادته عن طريق الحرب. أما ثانيهما فهو حين يتفق الناس فيما بينهم على الخضوع طواعية واختياراً لرجل أو جماعة من الرجال، ثقة من الناس بأن هذا الرجل أو جماعة الرجال سيتولون حمايتهم ضد الآخرين. ويمكن أن يطلق على هذا "رابطة سياسية" (32) (الدولة).(34/14)
ومهما كان الأساس الذي قام عليه الحاكم، فإنه لكي يكون حاكماً وملكاً حقاً، لا بد أن يكون ذا سلطة مطلقة، فإنه بدونها لا يستطيع أن يحقق أمن الفرد أو سلام الجماعة. ومقاومته إنما تعني نقض العقد الاجتماعي الذي أقره ضمناً كل فرد في الجماعة بقبوله حماية رأس الدولة له. وقد تسلم هذه "الاستبدادية المطلقة" النظرية ببعض قيود وحدود عملية. فيمكن مثلاً الوقوف في وجه الملك إذا أمر إنساناً بأن يقتل نفسه أو يبتر عضواً من جسمه ليعطله أو يشوهه، أو يعترف بجريمة لم يرتكبها، أو إذا لم يعد الحاكم قادراً على حماية رعاياه. "المفهوم إن التزام الرعايا نحو الملك يبقى ما بقيت سلطته التي يستطيع بها حمايتهم، ولا بقاء لهذا الالتزام إذا فقد السلطان (33) ". والثورة دائماً جريمة إلا إذا حققت نجاحاً. إنها دائماً غير مشروعة وغير عادلة، لأن القانون والعدالة كلتيهما يحددهما ويحكمهما الملك، ولكن إذا أقامت الثورة حكومة مستقرة فعالة، فإن على المواطن أن يلتزم بطاعة السلطة الجديدة.
ولا يحكم هذا الملك بمقتضى الحق الإلهي، حيث أنه يستمد سلطته من الشعب، ولكن يجب أن تقيد سلطته جمعية شعبية أو قانون الكنيسة. ويجدر أن تمتد هذه السلطة إلى الملكية، فيجب على الملك أن يحدد حقوق الملكية (التملك)، وعليه أن يعيد توزيع الممتلكات الخاصة، حيثما يقدر أن هذا يحقق المصلحة العامة (34). "والحكم المطلق" ضروري، لأنه إذا كانت السلطة شركة، بين الملك والبرلمان مثلاً، فسرعان ما ينشب النزاع، ثم الحرب الإلهية، فتعم الفوضى وتتعرض الحياة والممتلكات للخطر. وحيث أن الأمن والسلام هما الضرورتان الأساسيتان للمجتمع، فإنه لا ينبغي أن يكون هناك فصل، بل وحدة كاملة وتركيز تام في السلطات الحكومية. وحيثما توزعت السلطات لا يكون هناك ملك، وحيثما لا يكون ملك، لا تكون هناك دولة (35).
وبناء على هذا يكون الشكل المنطقي للحكومة هو الملكية. ولا بد أن تكون وراثية، لأن حق اختيار الخلف جزء من سيادة الملك، ونكرر القول بأن البديل لهذا هو الفوضى (36). وقد تصلح الحكومة عن طريق الجمعية ولكن شريطة أن تكون سلطتها مطلقة، غير(34/15)
خاضعة لرغبات متقلبة لدى شعب غير متعلم. "إن الديموقراطية لا تعدو أن تكون أرستقراطية خطباء (37) " فما أسهل أن يهيج زعماء الدهماء مشاعر الشعب، ومن ثم كان لزاماً أن تمارس الحكومة الرقابة على الخطابة والصحافة، وينبغي أن تكون هناك رقابة صادقة على المطبوعات والواردات وقراءة الكتب (38). ولا يجوز أن يكون هناك جدل عقيم حول الحرية الفردية والآراء الخاصة والضمير. وينبغي أن يقتلع من الجذور كل ما يهدد سيادة الملك، ومن ثم السلام العام (39). فكيف يتسنى حكم دولة أو حماية علاقاتها الخارجية إذا بقى كل فرد حراً في طاعة القانون أو مخالفته وفقاً لرأيه الخاص؟
د - الدين والدولة
وكذلك يجب على الملك أن يحكم دين شعبه، لأن الدين يمكن أن يكون قوة مدمرة متفجرة إذا تشدد فيه الناس. ويقدم هوبز تعريفاً موجزاً: "إن الخوف من القوة الخفية التي يلفقها العقل أو تصورها الأقاصيص، إذا سمح بانتشاره فهو "الدين".
وإذا لم يسمح فهو "الخرافة" (40). وهذا يهبط بالدين إلى مجرد الخوف والخيال والادعاء، ولكن في مواضع أخرى نرى هوبز يعزوه إلى التسائل الملهوف عن علل الأشياء والحوادث وبداياتها (41). وتقود ملاحقة الأسباب هذه في النهاية إلى الاعتقاد (كما أعترف الفلاسفة الوثنيون) "بأنه لا بد أن يكون هناك "محرك" واحد، أي سبب واحد لكل الأشياء، وهو ما يعنيه الناس بقولهم الله (42) " وذهب الناس بشكل طبيعي إلى أن هذا "السبب الأول" كان مثلهم: شخصاً ونفساً وإرادة، ولكنه فقط أقوى منهم بكثير. ونسبوا إلى هذا "السبب" كل الأحداث التي لم يستطيعوا تبين محدداتها الطبيعية بعد، ورأوا في الأحداث العجيبة معجزات ونبوءات للإرادة الإلهية.
في هذه الأشياء الأربعة: فكرة الأرواح، والجهل بالأسباب الثانوية، والتفاني فيما يخشاه الناس، وأخذ الأشياء الطارئة على أنها نذر أو بشائر، تنطوي البذور الطبيعية للدين، التي نمت بسبب(34/16)
مختلف أوهام الكثير من الناس وأحكامهم وأهوائهم، نقول نمت حتى أصبحت طقوساً متباينة إلى حد أن ما يقوم به فرد، يعتبر في معظم الأحوال سخيفاً مرذولاً عند الآخر (43).
كان هوبز "ربوبياً" لا ملحداً. فأعترف "بكائن أسمى (44) " ذكي، ولكنه أضاف "قد يعرف الناس ... بالطبيعة أن الله موجود، ولو أنهم لا يدركون ما هو (45). "ويجب ألا ندرك أن لله شكلاً، لأن كل شكل محدود، أوله أجزاء، أو له مكان ما هنا أو هناك، "لأن أي شيء له مكان، لا بد أن يكون مقيداً محدوداً"، أو أنه يتحرك أو يظل في مكانه، لأن هذا مكانه، لأن هذا ينسب له مكان، كما يجب ألا نقول إلا عن طريق المجاز بأنه يمارس الحزن والندم والغضب والرحمة والحاجة والشهوة والأمل أو أية رغبة أخرى (46). وخلص هوبز إلى أن "طبيعة الله خافية لا يمكن فهمها (47) " وقد لا يصفه هوبز بأنه روحي غير مادي، لأننا لا نستطيع أن ندرك شيئاً بلا جسم، ويحتمل أن كل "روح" جسدية ولكن بشكل دقيق (48).
وبعد أن حدد هوبز لكل من الدين والرب مكانه، عرض أن يستخدمهما أداتين للحكومة ليكونا في خدمتها، ومن أجل هذا أورد سوابق ذوات شأن خطير.
إن المؤسسين والمشرعين الأولين للدول بين "الأمميين (غير اليهود) الذين كانت غاياتهم الإبقاء على طاعة الناس وعلى السلام، عنوا في كل مكان:
أولاً: بأن يطبعوا في أذهان الناس أن تلك التعاليم التي جاءوا به بها فيما يتعلق بالدين، لا يجوز الظن بأنها جاءت من عندياتهم، بل أنها جاءت بأمر من بعض الآلهة أو الأرواح، وإلا كانوا (المؤسسون والمشرعون من الطبيعة أسمى وأرقى من مجرد بشر معرضين للفناء، حتى يمكن تقبل قوانينهم في كثير من اليسر. وهكذا زعم "توما بومبليوس" (ثاني كلوك روما) أنه تلقى الطقوس التي أقامها بين الرومان من الحورية اجريا، كما زعم مؤسس بيرو وأول ملوكها أنه وزوجته من أبناء الشمس.(34/17)
ثانياً: أن يشيعوا الاعتقاد بأن الأشياء التي تغضب الآلهة هي نفسها الأشياء التي حرمها القانون (49).
ولكيلا يستنتج أحد أن موسى أستخدم وسائل شبيهة بهذه في نسبة شرائعه لله، يضيف هوبز، في نفور خاص من النار، أن "الرب بنفسه، بوحي خارق، أقام الدين" بين اليهود.
ولكنه يشعر بأنه على حق، بالأمثلة التاريخية، في أن يوصي بأن يصبح الدين أداة للحكومة، وبناء على هذا الغرض يفرض الملك مبادئ الدين وتعاليمه. وإذا كانت الكنيسة مستقلة فإنه يكون هناك ملكان، ومن ثم لا يكون ملك أبداً، وتكون الرعية موزعة بين السيدين.
إذا انتحلت السلطة الروحية حق الحكم بأن هذا أو تلك أثم، فإنها تنتحل، نتيجة لذلك، حق الحكم بأن هذا هو القانون (لأن الإثم ليس إلا مخالفة القانون) .... وإذا كانت هاتان السلطتان (الكنيسة والدولة) تناوئ الواحدة منهما الأخرى فإن الدولة تتعرض لخطر كبير هو خطر الحرب الأهلية والتمزق (50).
وفي مثل هذا الصراع يكون للكنيسة اليد العليا "لأن أي إنسان وهو في كامل وعيه ورشده لا بد أن يدين في كل الأمور. بالطاعة المطلقة، للرجل الذي يعتقد أن حكمه عليه سينجيه أو يقضي عليه". وحين تثير السلطة الروحية نفوس الرعايا "بالخوف من العقاب أو الأمل في الثواب" من هذا النوع الخارق للطبيعة"، وتخنق تفكيرهم وتعطل عقولهم بالكلمات الغريبة القاسية، فلا بد أنها بذلك توقع الشعب في حيرة، وأما أن ترهق البلاد بالظلم والجور، وأما أن تلقي بها في أتون حرب أهلية (51). ويرى هوبز أن المخرج الوحيد من مثل هذا المأزق الحرج أن تكون الكنيسة خاضعة للدولة. ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى في هذا رأياً آخر، فإن هوبز، في الجزء الرابع من "لواياثان" يهاجمها على أنها ألد وأقوى عدو لفلسفته.
ثم يورد هوبز "نقداً أشد" للكتاب المقدس- يرتاب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى من التوراة، ويؤرخ "الأسفار(34/18)
التاريخية" في زمان متأخر عما هو وارد في النواميس التقليدية. ويرى ألا تتطلب المسيحية من معتنقيها إلا الإيمان "بيسوع المسيح" أما بالنسبة لبقية أركان العقيدة، فيجدر بها أن تجيز اختلاف الرأي بين الناي في نطاق الحدود الآمنة للنظام العام. ولمثل هذه العقيدة البسيطة المطهرة لا يوفر هوبز مجرد تأييد الحكومة فحسب. بل كل قوة الدولة لنشرها ما وسعها الجهد. ويتفق مع البابا في أن يكون للدولة دين واحد (52). ويشير على المواطنين بأن يتقبلوا لاهوت مليكهم دون تردد محرج، لأن هذا واجب أخلاقي، كما هو واجب الدولة. "لأن الحال بالنسبة لأسرار ديانتنا هي الحال بالنسبة للأقراص الصحية هند المرضى، إذا بلعت دفعة واحدة كان لها فضل الشفاء، أما إذا مضغت، فإنها في معظم الأحوال تلفظ ثانية ولا يكون لها أي تأثير (53) ". وانتهى أشد هجوم شنه إنجليزي على المسيحية، بمسيحية قامت وكأنها قانون لا مفر منه لدولة استبدادية مطلقة.
هـ - اصطياد الدب
جاء في الفقرة الأخيرة من "لواياثان": "وهكذا أختم دون تحيز، حديثي عن الحكومة المدنية والدينية التي تضطرب بفوضى العصر الحاضر ... وليس لي من هدف إلا أن أضع تحت أنظار الناس العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة".
ولم يتحقق الناس من عدم التحيز على نطاق واسع. فإن المهاجرين الذين تجمعوا حول شارل الثاني في فرنسا رحبوا بدفاع هوبز من النظام الملكي، ولكنهم استنكروا ماديته على أنها حمق وطيش إن لم تكن تجديفاً، وعراهم الأسى والأسف لما استنفد فيلسوفهم العنيد من صفحات في مهاجمة الكنيسة الكاثوليكية، على حين كانوا لفورهم يلتمسون العون من ملك كاثوليكي. أما رجال الدين الأنجليكانيون الذين كانوا بين اللاجئين إلى فرنسا من وجه البيوريتانيين المنتصرين، فقد تعالت صيحاتهم ضد الكتاب إلى حد أن هوبز "أمر ألا يعود إلى بلاط شارل الثاني (54) ". ولما ألفى هوبز أنه بات بلا صديق ولا صاحب، وبلا حماية في فرنسا، قرر أن(34/19)
يتصالح مع كرومول ويعود إلى إنجلترا. وطبقاً لما رواه الأسقف بيرنت، أدخل هوبز بعض تعديلات على نصوص اللواياثان "إرضاء للجمهوريين (55) " وليس هذا مؤكداً، ولكن المؤكد، على أية حال، أن نظرية الثورة غير ذات الأصل الشرعي، والتي بررها نجاحها، التأمت بشكل مبتور وكأنها ترقيع، مع نظرية الطاعة المطلقة لحاكم مطلق. إن كتاب "العرض والنتيجة" النهائيتان الذي يبدو وكأنه تفسير متأخر جاء بعد أوانه، شرح الظروف التي يمكن فيها لمواطن كان يدين بالولاء لملك من قبل، أن يخضع في الوقت المناسب، وفي لباقة، للنظام الجديد الذي كان قد أطاح بالملك. ونشر الكتاب في لندن في 1651 بينما كان هوبز في باريس. وفي آخر هذا العام، وسط شتاء قاس، عبر البحر إلى إنجلترا، حيث أوى إلى ملاذ طيب عند أرل ديفونشير الذي كان قد استسلم منذ أمد طويل لبرلمان الثورة. وأعلن هوبز ولاءه وخضوعه للحكم القائم، فلقي قبولاً، ومن ثم أنتقل الفيلسوف إلى دار في لندن، مستعيناً بمعاش ضئيل أجراه عليه أرل ديفونشير، "لأن الافتقار إلى حديث العلم والعلماء كان أشد ما يضايق الفيلسوف في الريف (56) ". وكان آنذاك في الثالثة والستين من العمر.
وشيئاً فشيئاً، كلما وجد الكتاب قراء، تكاثر النقاد على المؤلف أسراباً. فإنبرى رجال الدين الواحد تلو الآخر للدفاع عن المسيحية، وتساءلوا: من هو "وحش مامزبري" الذي قام يتحدى أرسطو وأكسفورد والبرلمان والله؟. وكان هوبز جباناً ولكنه مقاتل، وفي 1655 أثبت من جديد في "أصول الفلسفة" آراءه في المادية والحتمية. وفي كتاب "اصطياد اللواياثان (1658) نصب جون برامهول، أسقف دري العلامة، شراكه لهوبز وسدد الضربات إليه جديداً، وقال أسقف آخر "أن هوبز لا يزال في الشرك (57) ". واستمرت الهجمات في كل عام تقريباً حتى قضى الفيلسوف نحبه. ولما اعتزل أرل كلارندون منصبه (وكان قاضي القضاة) تسلي في منفاه بنشر "رأى وعرض موجزان للأخطاء الخطيرة المؤذية في الكنيسة والدولة في كتاب مستر هوبز- لواياثان" (1676). وفي 322 صحيفة تابع تقنين المجلدات بشكل منتظم، وهو يقرع الحجة بالحجة في نثر مشرق رفيع. وتحدث(34/20)
كلاوندون بوصفه رجلاً ذا خبرة طويلة في المناصب السياسية، وسخر من فلسفة هوبز على أنه رجل لم يسبق له أن تقلد مناصب ذات مسئولية، حتى يلطف من نظرياته عن طريق الممارسة والتجربة، وتمنى لو أن "مستر هوبز أتيح له أن يتبوأ مقعداً في البرلمان أو في المجلس، أو في دور القضاء أو أية وحكمة أخرى، حيث كان يحتمل أن يتبين أن تأملاته في عزلته، مهما تكن عميقة، واتزانه المتعجرف الزائد عن الحد ببعض أفكار فلسفية، بل حتى ببعض قواعد الهندسة، نقول يتبين أن هذا كله قد ضلله وحاد به عن جادة الصواب في بحثه في السياسة (58).
ولم تكن كل الحملات على هذا النسق من الهدوء والاعتدال. وفي 1666 أمر مجلس العموم إحدى لجانه "بكتابة تقارير عن الكتب التي تنزع إلى الإلحاد والتجديف وانتهاك حرمة المقدسات أو تتناول بالتعريض لسمة الله وصفاته. وبخاصة الكتاب الذي نشر باسم "هوايت" (قسيس كاثوليكي سابق إرتاب في خلود النفس)، وكتاب هوبز، "لواياثان (59) ". يقول أوبري "كان هناك تقريراً (صحيح يقيناً) بأن بعض الأساقفة في البرلمان قدموا اقتراحاً بإحراق الرجل الطيب العجوز بجريمة الهرطقة (60) ". وأعدم هوبز كل ما كان يمكن أن يورطه أو يدينه بعد ذلك من أبحاثه التي لم تنشر، ثم كتب ثلاث محاورات حاول فيها أن يبرهن بأسلوب العالم المتفقة على أن أية محكمة في إنجلترا لا تستطيع أن تحاكمه بتهمة الهرطقة.
وهك الملك الذي أستعاد عرشه لإنقاذ الفيلسوف. ذلك أن شارل الثاني بعد وصوله إلى لندن بزمن قصير، رأى هوبز في الشارع، وعرف فيه معلمه السابق، ورحب به في البلاط. وكان بلاط عودة الملكية ينزع بالفعل إلى شيء من التشكك الديني ويدافع عن الملكية المطلقة، ومن ثم وجد في فلسفة هوبز بعض العناصر التي تتمشى مع الأفكار السائدة في هذا البلاط. ولكن رأسه الأصلع وشعره الأشيب وزيه الشبيه بزي اللبيوريتانيين، كل أولئك مدعاة للسخرية. وأطلق عليه الملك شارل نفسه أسم الدب، وكلما اقترب منه قال: "ها قد جاء الدب لنقدم له الطعم ونغويه (61) ". ومع ذلك استساغ الملك إجاباته البارعة وسرعة بديهيته، وأمر برسم صورة للفيلسوف العجوز، وتعليقها في حجراته الخاصة، وخصص له معاشاً(34/21)
سنوياً قدره مائة جنيه، ولم يكن الراتب يدفع بانتظام، ولكنه مع ذلك، بالإضافة إلى خمسين جنيهاً أخرى في السنة من أسرى كافندش، كان كافياً لسد حاجيات الفيلسوف البسيطة.
وبصفة أوبري بأنه كان عليلاً في شبابه، موفور الصحة نشيطاً في شيخوخته، ومارس لعب التنس حتى بلغ الخامسة والسبعين. فإذا لم يتيسر ملعب التنس، عمد إلى المشي لفترة طويلة في خفة وسرعة، حتى "يتصبب منه العرق، وعندئذ ينقد الخادم بعض النقود لتدليكه". وكان معتدلاً في أكله وشربه، وامتنع عن أكل اللحم وشرب الخمر بعد السبعين. وكان يفاخر بأنه "كان قد أفرط في حياته مائة مرة" ولكن أوبري حسب أن هذا الإفراط لم يحدث لأكثر من مرة في كل عام، ولذلك لم يكن شيئاً فظيعاً. ولم يتزوج الفيلسوف قط، ولكن يبدو أنه كان له ابنة غير شرعية وفر لها سبل العيش الكريم بسخاء (62). وكان يقرأ قليلاً في سنيه الأخيرة، "وتعود أن يقول أنه إذا كان قد قرأ قدر الآخرون لما عرف أكثر مما عرفوا". وفي الليل عندما كان يأوي إلى الفراش، والأبواب موصدة، وهو واثق أن أحداً لا يسمعه، كان يغني بصوت عال (لا لأن صوته رخيم ولكن من أجل صحته)، حيث أعتقد بأن الغناء يفيد رئتيه ويؤدي إلى إطالة العمر (63). ومهما يكن من أمر، فإنه أصيب منذ 1650 بشلل ارتجافي في يديه، واشتدت به هذه العلة حتى كادت كتابته في 1666 أن تكون غير مقروءة.
وعلى الرغم من هذا استمر هوبز يكتب. وتحول من الفلسفة إلى الرياضيات، وهنا انزلق في غير ما حرص ولا حذر، إلى خلاف من عالم خبير هو جون واليس الذي انتقص من قيمة ادعاء الرجل العجوز بأنه كشف تربيع الدائرة. وفي 1670، وهو في الثانية بعد الثمانين نشر كتابه "بهيموث" وهو عبارة عن تاريخ الحرب الأهلية في إنجلترا، كما كتب عدة ردود على ناقديه، وترجم إلى اللاتينية كتابه "لواياثان" ترجمة رائعة. وفي 1675 كتب سيرة حياته نظماً باللاتينية، كما نظم في نفس العام الألياذة والأوديسية شعراً بالإنجليزية، حيث "لم أجد عملاً أؤديه أفضل من هذا".
وفي تلك السنة، حيث بلغ السابعة والثمانين، عاد من لندن(34/22)
إلى الريف حيث قضي أيام حياته في ضيعة آل كافندشي في دربيشير. وفي تلك الأثناء اشتد عليه الشلل، كما عانى من عسر البول. ولما انتقل أرل كافندشي آنذاك من تساتسورت إلى هاردويك هول أصر هوبز على مرافقته. وثبت أن الرحلة مرهقة، وبعدها بأسبوع انتشر الشلل في جسمه ولم يعد قادراً على الكلام. وفي 4 ديسمبر 1679 فاضت روحه بعد أن تناول الأسرار المقدسة، أنجليكانياً مخلصاً، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاماً إلا أربعة أشهر.
والنتائج
كان علم النفس الذي جاء به هوبز رائعة الاستنتاج من مقدمات غير وافية، وقد يبدو منطقياً لأول وهلة، ولكنه مفكك الأوصال مهلهل بما فيه من فروض غير دقيقة وبما صوب منها مزيد من التحقيق والتمحيص والحتمية منطقية، ولكن قد يحددها طراز منطقناً ويشكلها معالجتنا للأشياء لا الأفكار. ووجد هوبز مشقة في أن يتصور أن أي شيء غير مادي، ويبدو أنه من الصعب بنفس القدر الذي نتصور أن الفكر والشعور ماديان، ومع ذلك فإن هذه هي الحقائق المعروفة لنا بطريق مباشر- وكل ما عداه فرضيات. وانتقل هوبز من الشيء المدرك بالحواس إلى الإحساس إلى الفكرة دون أن يلقي ضوءاً كافياً أو يوضح تماماً العملية الخفية التي يولد بها الشيء المادي ظاهرياً الفكر غير المادي ظاهرياً. إن علم النفس الميكانيكي يترنح أمام الوعي.
وعلى الرغم من ذلك فإنه في مجال علم النفس أسهم هوبز أكثر ما أسهم في تراثنا. فقضي على "الأرواح" الميتافيزيقية مثل "الملكات" التي جاءت بها المذاهب السكولاسية (مذاهب العصور الوسطى) ولو أن هذه يمكن على الفور تفسيرها، لا على أنها كيانات عقلية. بل مظاهر للنشاط العقلي. وأرسى قواعد المبادئ الأكثر وضوحاً في تداعي المعاني والخواطر، ولكنه انتقص من قيمة الفرض والانتباه في تحديد انتقاء الأفكار وتسلسلها وتشبثها. وأود وصفاً ناجحاً للتروي والاختيار. ولكن تحليله للانفعالات ودفاعه عنها خلاصة رائعة، ردت(34/23)
إلى سبينوزا الفضل الذي كانت مدينة به لديكارت. ويفضل أبحاث علم النفس هذه، طور لوك كتابه الأكثر دقة وتفصيلاً "رسالة في العقل البشري". وفي الرد على هوبز، (لافلمر)، كان تطوير لوك لرسالته عن الحكومة.
وأعادت فلسفة هوبز السياسية صياغة ميكيافللي بلغة شارل الأول، ونبعث هذه الفلسفة من الاستبدادية المطلقة الموفقة التي انتهجها هنري الثامن وإليزابث في إنجلترا، وهنري الرابع وريشيليو في فرنسا، كما أنه لا ريب في أنها استمدت بعض القوة من مخالطته لأصدقائه الأدواق والملكيين المهاجرين. ومن حيث الأثر المباشر بدا أن لهذه الفلسفة ما يبررها، في العودة السعيدة لملك من آل ستيوارت ما زال يدعى ويطالب بسلطان مطلق غير محدود، وينهي فترة من الفوضى المدمرة. ولكن بعض الإنجليز النابهين أحسوا بأنه إذا كانت موافق الهمجيين "القذرين المتوحشين" كافية لإقامة حكومة، فإنه موافقة الناس، وهم في حالة يفترض أنها أكثر تقدماً ورقياً، قد يكون من شانها أن تكبح جماح هذه الحكومة أو تطيح بها. وهكذا نجد في الثورة الجليلة 1688 أن فلسفة الحكم الاستبدادي المطلق سقطت أمام إعادة البرلمان توكيد سيادته، وسرعان ما حل مكانها تحررية "ليبرالية" لوك التي تدعو إلى تحديد السلطات والفصل بينها. وبعد ديمقراطية القرن التاسع عشر النسبية، التي نمت في إنجلترا التي يحرسها القنال، وفي أمريكا التي تحميها البحار، عادت استبدادية مطلقة معدلة في دول دكتاتورية تمارس رقابة حكومية على الحياة والممتلكات والصناعة والدين والتعليم والمطبوعات والفكر. وتخطت الاختراعات الجبال والخنادق، واختفت الحدود، وتلاشت العزلة القومية والأمن القومي. إن نظام الحكم المطلق ابن الحرب، والديمقراطية ترف السلم.
ولسنا ندري هل كان "لحالة الطبيعة" التي قال بها هوبز، وجود يوماً ما، فربما كان النظام الاجتماعي سابقاً للإنسان، فالقبيلة سبقت الدولة، والعرف أقدم وأوسع وأعمق من القانون. والأسرة هي أساس بيولوجي لا يثار ينمي الذات (الأنا) وولاداتها. وربما أصبح "علم الأخلاق" الذي جاء به هوبز أكثر ملائمة لو أنه عمد إلى تنشئة أسرة، أما أن يترك للدولة تحديد الأخلاقيات (ولو أن هذا انتقل إلى(34/24)
النظم الدكتاتورية) فمعناه تدخير إحدى القوى التي تعمل على تحسين الدولة والأخذ بيدها. إن الحس الخلقي يوسع في بعض الحيان دائرة التعاون أو الإخلاص والحب الشديد، ثم يستحث القانون على توسيع مجال حمايته تبعاً لذلك. وفي المستقبل البعيد قد يتسنى لدولة أن تكون مسيحية، كما كان الحال يوماً مع أشوكا الذي كان بوذياً.
وبرز أقوى تأثير لفلسفة هوبز في "ماديته". وسرت "أفكار هوبز" من الجماعات المفكرة إلى طبقات المهنيين ورجال الأعمال. وفي هذا قال بنتلي الغضوب 1693 "لقد زخرت بها الحانات والمقاهي بل وستمنسر هول (البرلمان) والكنائس ذاتها كذلك (64) ". وتقبلها كثير من رجال الحكومة فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم في العلن حجبوها باحترام أبدوه للكنيسة الرسمية على أنها شكل مفيد للانضباط الاجتماعي لا يقوم على تدميره إلا الحمقى والأغبياء. وأثرت هذه الفلسفة المادية في فرنسا في تشكك بيل، وأتت عليها تطورات أشد جرأة عند لامتري ودي هولباخ وديدرو.
وكان بيل بعد هوبز من أعظم عباقرة القرن السابع عشر (65). ومهما أصاب من مدح أو قدح فقد اعترفوا بأنه أقوى فيلسوف أنجبنه إنجلترا منذ عهد بيكون، وأول إنجليزي يعرض بحثاً منهجياً أساسياً في النظرية السياسية. وإنا لندين له بفضل واضح، ذلك أنه صاغ فلسفته في ترتيب منطقي وف ينثر مشرق. وإننا إذ نقرأ هوبز وبيكون ولوك، أو فونتفل وبل وفلتير لندرك من جديد ما أنسانا الألمان إياه، من أنه ليس من الضروري أن يكون الغموض هو العلامة المميزة للفيلسوف، وأنه يجدر بكل فن أن يتقبل الالتزام الأدبي والأخلاقي واضحاً أو خامداً.
2 - يوتوبيا هارنجتون
في الوقت الذي دافع فيه هوبز عن ملكية مزعجة موجعة، اقترح جيمس هارنجتون يوتوبيا ديموقراطية، والآن وقد كانت الكشوف الجغرافية والتجارة تفتح آفاقاً سحيقة من الكرة الأرضية، وجاءت الأساطير إلى أوربا مع كل بضاعة من وراء البحار، فقد كان من اليسير(34/25)
على أرباب الخيال والقلم أن يسبحوا في الخيال إلى ركن سعيد على الخريطة-إلى القمر أو إلى الشمس مثل سيرانو دي برجراك وتوماسو كمانللا-ركن قد تخزي أعرافه السياسية والاجتماعية طغيان الناس الذين تظلهم "المدنية" وبؤسهم. إن إعجاب عصر النهضة بالقديم قد أفسح المجال لقصص خيالية عن دول مثالية بشكل أو بآخر في أرض بعيدة لم يعتريها فساد. وهكذا قدم هارنجتون في 1656 إلى مقاهي لندن "الاقيانوسة".
ولد هارنجتون في بيت كريم، وكان طبيعياً أن ينحاز إلى فلسفة سياسية تناصر صغار مالكي الأرض في إنجلترا. وبعد تخرجه في أكسفورد طاف بإرجاء القارة، وأعجب بجمهورية الأراضي الوطيئة، وخدم في جيشها، وزار البندقية، وتأثر بنظمها الجمهورية، ورأى البابا وأبى أن يقبل إصبع قدمه، ولما عاد إلى إنجلترا اغتفرت له كل خطاياه حين ذكر لشارل الأول إنه لم يستطع أن يفكر تقبيل قدم أي سيد أجنبي بعد أن سبق له تقبيل يد ملك إنجلترا. وعندما شارل عين هارنجتون لملازمته. فأحب السجين البائس، ولكنه أوضح له أن "الجمهورية" أمر مرغوب فيه. ولازمه حتى النهاية، وكان على المنصة ساعة إعدام شارل، ويقولون أنه كاد يموت جزعاً وحزناً (66). وهدأ من روعه مولد "الجمهورية الإنجليزية"، فأنصرف إلى شرح آرائه الجمهورية في شكل روائي. ولكن بينما كان هرنجتون يكتب، غير كرومول الجمهورية الجديد إلى حامية شبه ملكية، وحين كانت "دولة الأوقيانوسة" في طريقها إلى طبع أمر "الحامي" بوقف العمل فيها. وهنا تدخلت ابنة كرومول الأثيرة لديه، السيدة كلايبول، من أجل الكتاب، وأهداه المؤلف إلى أبيها، وخرج إلى النور في 1656.
إن "الأوقيانوسة" هي إنجلترا بالشكل الذي كان المؤلف يأمل من كرومول أن يعيد تشكيلها فيه. إنه يضع مبدأ فصل تفصيلاً بعد قرنين من الزمان ليصبح التفسير الاقتصادي للتاريخ. ويقول هرنجتون بأن السيطرة السياسية تتبع، بشكل طبيعي وبحق، السيطرة الاقتصادية، وبهذا الانسجام وحده يمكن لأية دولة أن تنعم بالاستقرار. "على قدر ما يكون التناسب في ملكية الأرض تكون طبيعة الإمبراطورية-(34/26)
أي الحكومة (67) ". فإذا امتلك فرد واحد الأرض كلها (كما هو أقلية لأصبحت الحكومة "ملكية مختلطة" تؤيدها كما تحد من سلطانها الأرستقراطية. "وإذا كان كل الناس ملاكاً للأرض، أو إذا وزعت الأرض بينهم، بحيث لا يطغى فرد أو مجموعة أفراد، فإن الإمبراطورية أي الحكومة (دون فرض بالقوة) تكون دولة جمهورية (68) " ورد هانجتون على هوبز الذي ذهب إلى أن كل الحكومات تستند إلى القوة، رد عليه بأنه لا بد من إطعام الجيوش وتسليحها، ومن ثم تنتقل السلطة إلى أولئك الذين يوفرون المال اللازم لهذا وذاك (69). أن أي تغيير في توزيع الملكية. وعلى هذا الأساس فسر هارنجتون انتصار البرلمان الطويل، حيث كان يمثل صغار الملاك على الملك الذي كان يمثل كبارهم.
وللحيلولة دون أن تصبح الحكومة أوليجاركية من ذوي الضياع الكبير، اقترح هارنجتون قانوناً "لإعادة توزيع الأراضي توزيعاً عادلاً" يحدد للفرد الواحد أرضاً لا تدر أكثر من ألفي جنيه في العام. إن الديموقراطية الفعلية تتطلب التوسع في توزيع الملكية، وخير ديموقراطية هي التي يكون فيها لكل مالك أرض دورة عمل في الحكومة وفي الجمهورية الإنجليزية الحقة يمكن للمواطنين أن يرسلوا ملاك الأراضي ليعملوا في جمعية شعبية وسناتو (مجلس الشيوخ). والسناتو وحده يقترح القوانين، والجمعية وحدها تقرها أو ترفضها. ويسمى أعضاء السناتو المرشحين للوظائف العامة، وينتخب المواطنون من هذه القائمة الحكام بالاقتراع السري (70). وفي كل عام يحل محل ثلث أعضاء الجمعية والسناتو والحكام أفراد آخرون في انتخاب جديد. وفي هذه الدورة يتسنى لكل ملاك الأرض أن يكون لهم في النهاية دور للعمل في الحكومة. أن هذا الانتخاب الشعبي يحمي المجتمع من المحامين الذين يخدمون المصالح الخاصة، ومن رجال الدين-"وهم الأعداء السافرون الألداء لسلطة الشعب (71) ". ولسوف يكون هناك تعليم عام شامل وفي مدارس وكليات وطنية، وحرية تامة مطلقة في العقيدة الدينية.(34/27)
"وكانت النظرية أخاذة جذابة جداً. "كما قال أوبري. وسرعان ما وجدت مؤيدون متحمسين لها. وجمع هارنجتون بعضهم (ومن بينهم أوبري) في أحد نوادي "روتا" Rota (1659) حيث أهاجوا الشعور العام للمطالبة بتشريع برلماني يقر هذه الجمهورية الدورية التي أقترحها هارنجتون الذي نسب الانهيار الذي أصاب الدولة آنذاك إلى عجزها عن مصادرة الضياع الكبيرة وإعادة توزيع الأرض على بمساحات أصغر، وكان هذا سبباً في احتفاظ النبلاء بقوتهم وسلطانهم. وبقاء الشعب على حاله من الفقر والضعف، على أساس أن ملكية الأرض هي التي تفرض الحكومة، وأن عودة الملكية الأوليجاركية أمر لا مفر منه إذا لم يقر البرلمان قانون "إعادة توزيع الأراضي". ويقول أوبري: "ولكن القسم الأكبر من رجال البرلمان كانوا يمقتون كل المقت مشروع "دورة العمل بالاقتراع العام، لأنهم كانوا طغاة ملعونين مولعين بسلطتهم وقوتهم (72) "، وآثروا أن يستدعوا شارل الثاني. وحيث استمر هارنجتون بنشر دعوته، حتى بعد عودة الملكية، فإن الملك أمر بإيداعه برج لندن (السجن) بتهمة التآمر (1661). ولما بذلت المساعي لإخلاء سبيله بمقتضى "التحقيق في قانونية حبس المتهم"، نقلوه إلى معتقل أكثر تضييقاً وأحكاماً في جزيرة بعيدة عن بليموث، وهناك أصابته نوبات من الجنون. وأطلق سراحه ولكنه لم يسترد صحته قط.
وكانت "اليوتوبيا" التي نادى بها هارنجتون عملية أكثر من معظم "المدن الفاضلة المثالية"، وتحقق قدر كبير منها. وربما كانت إحدى نقاط الضعف فيها أنها افترضت أن الأرض هي الشكل الوحيد للثروة. إن هارنجتون ذكر سلطان المال في التجارة والصناعة، ولكنه لم يتوقع أو لم ينبأ بتبوئه السلطة السياسية، وربما كان قد أحس بأنه حتى الثروة التجارية والصناعية لا بد خاضعة في خاتمة المطاف لملاك الأرض. وكان التوسع في حق الانتخاب وفي الاقتراع السري يتفق مع آماله المرجوة، وعلى الرغم من أن بريطانيا رفضت فكرته في "دورة العمل والوظائف"، على أنها تبديد سنوي للخبرة والتجربة فإن الولايات المتحدة أخذت في التجديد الدوري لجزء من الكونجرس الأمريكي، ووافق لوك ومنتسكيو وأمريكا على نظريته في الفصل بين السلطات في الحكومة. فلا تيأسوا أيها الحالمون، فلعل(34/28)
الزمان يفاجئكم بتحقيق أحلامكم ويحول شعركم إلى نثر، أو وهمكم إلى واقع ملموس.
3 - الربوبيون
وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.
وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية وانتشارها إلى ارتفاع موجة التشكك. وفي كل يوم، كان أحد السائحين أو المؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر أن كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية. كما بدا أن النظرة الميكانيكية إلى العالم التي رسمها ديكارت التقي الورع، ونيوتن العالم البصير، نقول بدا أن هذه النظرة تصرف النظر عن دور العناية الإلهية" في تسيير الكون، وكان اكتشاف القانون في الطبيعة يجعل من المعجزات أمراً غير مستساغ غير مقبول. وأسهم الانتصار البطيء الذي أحرزه كوبرنيكس، والمحاكمة المثير التي عانى منها جاليليو، في تزعزع الإيمان وتقويض أركانه. بل أن المحاولة الجريئة التي قام بها كثير من رجال اللاهوت المسيحيين لشرح العقيدة على أساس من العقل، أضعفت العقيدة. ويقول أنطوني كولنز: لم يكن ثمة أحد يشك في وجود الله، حتى جاءت "محاضرات بويل" وأخذت على عاتقها إثبات وجوده (73).
إن تفنيد الإلحاد كان شاهداً على انتشاره. وفي 1672 كتب سيروليم تمبل "عن أولئك الذين يبدون أنهم أذكياء لأنهم يذكرون أشياء قالها الجاهل في نفسه، كما جاء على لسان داود (74) " وفي نفس العام قال سير تشارلز ولزلي "إن المروق عن الدين كان أمراً واقعاً(34/29)
في كل عصر، ولكن يبدو أن الدفاع عنه صراحة وعلانية من خصائص هذا العصر (75) ".
ويقول رئيس الشمامسة صمويل باركر 1681:
...... إن الجهال وغير المتفقهين منا أصبحوا أكبر المتظاهرين بالتشكك والكفر ... وأصبح الإلحاد والمرق عن الدين في النهاية شائعين شيوع الرذيلة والفسوق. وفلسف الأجلاف والميكانيكيون لأنفسهم مبادئ بعيدة عن التقوى، وقرأوا دروسهم في الإلحاد على الناس في الشوارع والطرقات العامة، وإنهم لقادرون على أن يستخلصوا من كتاب "لواياثان" أنه ليس هناك إله (76) ".
وبين الطبقات المتعلمة التمس الشك حلاً وسطاً في التوحيد-الدين الطبيعي-والربوبية. وأرتاب التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب، ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس نصوصاً إلهية. وآثر المدافعون عن الدين الطبيعي عقيدة مستقلة عن الأسفار المقدسة ومحصورة في المعتقدات التي رأوا أنها شاملة كلية-في الله وفي الخلود. أما الربوبيون، الذين قاموا بحركتهم أساساً في إنجلترا، فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله الذي اعتبره أحياناً مفهوماً تجريدياً غير مشخص، مرادفاً للطبيعة، أو "الدافع الأصلي" لإله الدنيا التي قال بها ديكارت ونيوتن. وبرزت لفظة "ربوبي" Deist في 1627 في "رسالة إلى ربوبي" لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت، ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت لورد هربرت شربري "الحقيقة" 1624.
وتابع تشارلز بلونت، أحد مريدي لورد هربرت، رسالته في كتاب "النفس البشرية" (1679). وكانت حجته أن كل ديانة أسست إنما كانت من خلق أو ابتداع دجالين أفاكين سعوا إلى السلطة السياسية أو الكسب المادي، وأن الجنة والجحيم كانت من بين المخترعات البارعة التي اصطنعوها للتحكم في الأهالي واستغلالهم. إن الروح تموت مع الجسد. إن الإنسان والحيوان متشابهان إلى حد أنه "من رأى بعض الكتاب أن الإنسان ليس إلا قرداً مصقولاً". وفي "عظمة ديانا آلهة أهل أفسوس" أو "منشأ الوثنية" (1680) جعل بلونت من القساوسة(34/30)
أدوات في أيدي الطبقات الغنية التي سمنت واكتنزت بفضل كدح الشعب الصابر وسذاجته. وفي دقة ماكرة مؤذية ترجم بلونت كتاب فيلوستراتوسي "حياة أبوللنيوس أوف تيانا"، وحدد أوجه الشبه بين المعجزات المنسوبة إلى صانع الأعاجيب الوثني والمعجزات المنسوبة إلى المسيحيين، وأوحى برفق إلى التشكك فيها وعدم تصديقها جميعاً على حد سواء. وفي "بيان موجز عن ديانة الربوبيين- (1686) اقترح بلونت ديانة خالية من أي عبادة أو طقوس، اللهم إلا عبادة الله بحياة فاضلة قائمة على الأخلاق". وفي "وحي العقل" (1693) أوضح بلونت أن اللاهوت المسيحي قام أول الأمر على توقيع خاطئ لانتهاء العالم في وقت قريب أو مبكر، وسخر من قصص الكتاب المقدس عن الخليقة، ومن مولد حواء من ضلع آدم، ومن الخطيئة الأصلية، ومن إيقاف يشوع الشمس، على أنها جميعاً سخافات صبيانية. وأومأ إلى أن "الاعتقاد بأن أرضنا الحديثة (جسم مظلم تافه في الكون، أصغر شأناً من النجوم الثابتة في الحجم والمنزلة معاً) هي قلب هذا الكون الشاسع الهائل وأعظم أجزائه سمواً وحيوية، إنما هو اعتقاد غير منطقي وغير عقلاني، يتعارض مع طبيعة الأشياء". وحاول كتاب آخر غفل من اسم المؤلف، منسوب إلى بلونت بصفة غير مؤكدة، عنوانه "معجزات لا خرق لقوانين الطبيعة (1683) "، حاول تفسير كثير من قصص المعجزات بأنها أفكار خاطئة راودت العقول البسيطة عن الأسباب والأحداث الطبيعية، وأضاف الكتاب نفسه أن الكتاب المقدس إنما كتب "ليثير مشاعر التقى والورع"، لا ليعلم الفيزياء، وينبغي تفسيره على هذا الأساس: "إن كل ما هو مناف للعقل، وكل ما هو مناف للعقل سخيف يدعو إلى السخرية وينبغي رفضه (77) " على أن بلونت نفسه لم يعبد العقل إلى النهاية، إذا صدقنا ما يروى من أنه قتل نفسه (1693) لأن القانون الإنجليزي لم يكن ليجيز له الزواج من أخت زوجته المتوفاة.
وتابع جون تولاند الحملة. وبحكم مولده في إيرلندة نشأ كاثوليكياً، ولكنه أرتد إلى البروتستانتية في شبابه. ودرس في جلاسجو وليدن وأكسفورد. وفي سن السادسة والعشرين أصدر كتاباً غفلا من اسم المؤلف "المسيحية لا تكتنفها أسرار" (1696) وصفه بأنه "رسالة(34/31)
توضح أنه ليس في الإنجيل شيء ينافي العقل "أو يسمو فوق العقل". ومذ تقبل بقبول حسن كتاب لوك الحديث "بحث في العقل البشري" حيث أثبت أن الإحساس هو أصل كل المعرفة، فإنه أي جون تولاند، خرج منه بعقلانية متطرفة.
أنا أعتقد أن "العقل" هو الأساس الوحيد لكل حقيقة يقينية، ولا يستثنى من مجال بحث هذا العقل أي وحي أكثر مما يستثنى الظواهر العادية للطبيعة " ..... إن الاعتقاد بألوهية الأسفار المقدسة أو معنى أية قطعة فيها، دون برهان عقلاني أو حجة دامغة قوية، إنما هو سذاجة أو سرعة تصديق جديرة باللوم ... ومن المألوف أن يميل بعض الناس إلى سرعة التصديق عن جهل وعن عمد، لكن الأكثر من هذا أن ما يتوقعون من نفع هو الذي يدفعهم إلى سرعة التصديق (78).
وكان هذا بمثابة إعلان للحرب. ولكن تولاند في سياق حديثه بعد ذلك رفع غصن الزيتون، حيث أردف أن المبادئ المسيحية الأساسية عقلانية باستثناء تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وعلى الرغم من ذلك لم يسكتوا على هذا التحدي، فقد اجتمع كبار المحلفين في مدلسكس ودبلن عبر بحر أيرلندة ليستنكروا الكتاب، فأحرق بصفة رسمية أمام أبواب البرلمان الأيرلندي، وحكم على تولاند بالسجن، ولكنه هرب إلى إنجلترا، ولما عجز عن إيجاد عمل له فيها، هاجر إلى القارة. ولبعض الوقت لقي ترحيباً لدى صوفيا هانوفر وابنتها صوفيا شارلوت ملكة بروسيا.
وإلى صوفيا شارلوت هذه وجه تولاند "رسائل إلى سيرينا" (1714). وفي إحداها حاول أن يتعقب أصل عقيدة الخلود ونموها، وكانت هذه إحدى المحاولات الأولى في التاريخ الطبيعي للمعتقدات الخارقة للطبيعة. وفي رسالة ثانية عارض تولاند الرأي القائل بأن المادة في حد ذاتها جامدة لا حركة فيها، وقال أن الحركة صفة أساسية للمادة ملازمة لها، وليس ثمة جسم في سكون مطلق. وكل الظواهر المدركة بالحواس إن هي إلا حركات في المادة، بما في(34/32)
ذلك الأفعال التي يأتيها الحيوان، وقد يصدق هذا على الإنسان كذلك (79). ومهما يكن من أمر فإن تولاند عرض نفسه هنا للخطر، فإن مثل هذه الأفكار ينبغي أن لا تنشر علانية، حيث يجب ترك الجمهور غير المتعلم على معتقداته التقليدية دون إزعاج أو تشويش، باعتبار أن هذا وسيلة للسيطرة عليه أو التحكم فيه من الناحيتين السياسية والاجتماعية. ويجدر أن يكون التفكير الحر واجب الأقلية المتعلمة وامتيازاً مقصوراً عليها، وينبغي ألا يكون ثمة رقابة على هذه الأقلية "فلندع كل الناس يتحدثون بما يفكرون فيه كما يحلو لهم، دون أن يوصموا بالعار أو يعاقبوا إلا على ما يأتون من أعمال سيئة ضارة (80) ". وظاهر أن تولاني هو الذي ابتكر مصطلحي "المفكر الحر" و "المؤمن بوحدة الوجود" (81) (القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا نظاهر للذات الإلهية).
ويوحي بحثه "ابن الناصرة" (1718) بأن المسيح لم يكن يقصد الفصل بين أتباعه وبين اليهودية، وأن المسيحيين اليهود الذين ظلوا يتبعون شريعة موسى وكانوا يمثلون "الخطة الأصلية الحقة للمسيحية" وهناك رسالة صغيرة "الإيمان بوحدة الوجود" شرح فيها مذهب وطقوس جمعية سرية وهمية. وربما كان تولاند عضواً في Mother Grand Dlodge الماسونيين الأحرار التي أسست في لندن 1717. إن هذه الجمعية كما وصفها تولاند نبذت كل الوحي الخارق للطبيعة، وقدمت ديناً جديداً يتفق مع الفلسفة، وقالت بالتماثل بين الله والكون، واستبدلت بالقديسين في التقويم المسيحي أبطال الحرية والفكر. وأجازت الجمعية لأعضائها القيام بالعبادات العامة المألوفة ما داموا، عن طريق نفوذهم السياسي يستطيعون الحيلولة دون أن يكون التعصب أمراً مؤذياً ضارياً (82).
وزاول تولاند أعمال مختلفة لفترات متقطعة، وركن تولاند إلى حياة الفقر والعوز، لم ينقذه منها من الموت جوعاً إلا لورد مولزورث والفيلسوف شافتسبري. واحتمل في صبر وجلد حملات التفنيد التي شنت على كتبه (54 مرة في ستين عاماً). وزعم أن الفلسفة أسبغت(34/33)
عليه "هدوءاً تاماً"، وحررته من "فزع الموت (83). وفي سن الثانية والخمسين أصيب بداء عضال يستعصي البرء منه (1722) وكتب بنفسه عبارة قصيرة ملؤها الزهو والفخر لتنقش على قبره:
هنا يرقد جون تولاند الذي ولد .. بالقرب من لندندري .... نهل من مختلف الآداب والمعارف، وكان ملماً بأكثر من عشر لغات، وكان نصير الحق والمدافع عن الحرية، لم يربط نفسه بإنسان، ولم يتملق إي إنسان، ولم يحد تحت تأثير التهديد أو تحت ضغط البؤس والفاقة عن نهجه المرسوم الذي سار عليه حتى النهاية، مضحياً بمصلحته في سبيل السعي وراء الخير العام، إن نفسه متحدة مع الأب الذي في السماء الذي جاء منه في البداية، وليس ثمة أدنى شك أنه سيحيا ثانية في الخلود، ومع ذلك فإنه لن يكون هناك تولاند آخر .... لأن سائر الناس سوف يسترشدون بكتاباته (84).
وحمل أنطوني كولنز أمانة مذهب الربوبية بعد تولاند، في براعة وتواضع أكثر. وكان خير عون له في مهمته أنه كان ثرياً، وأن له بيتاً في الريف وآخر في المدينة، فلم يكن لينبذ لأنه معدم يتضور جوعاً. وكان ذا سلوك قويم، وخلق ليس فيه مطعن. كتب إليه لوك الذي عرفه كل المعرفة: "إن حب الحق من أجل الحق وحده هو الجانب الأساسي في الكمال الإنساني في هذه الدنيا، ومنبت كل الفضائل، وإذا لم أكن مخطئاً، فإنك جمعت منها قدر ما وجدته في أي إنسان (85) ". إن كتاب كولنز "بحث في التفكير الحر" (1713) أحسن شرح للربوبية في هذا العصر.
إنه عرف التفكير الحر بأنه "استخدم الفهم في إيجاد معنى لأية قضية أياً كانت، والتأمل في طبيعة الدليل، لها أو ضدها، والحكم عليها وفقاً لنقاط القوة أو الضعف الظاهرة في الدليل" "وليس ثمة وسيلة أخرى للكشف عن الحقيقة (86) ". إن تباين المذاهب والتفسيرات المتناقضة لنصوص الكتاب المقدس لتضطرنا إلى قبول حكم العقل، فلمن نتحكم بعده اذن، اللهم إلا أن نحتكم إلى القوة؟. وكيف يتسنى إلا طريق البينة والتأمل والاستنتاج، أن نقرر أي(34/34)
الأسفار في الكتاب المقدس حجة موثوقة، وأيها يطرح جانباً على أنها مشكوك في صحتها. وينقلا كولنز عن أحد رجال الدين أن أحصي ثلاثين ألف قراءة مختلفة اقترحها العلماء لنصوص العهد الجديد (الإنجيل) وحده. ويشير إلى ريتشارد سيمون ونقده المتعلق بنصوص الأسفار المقدسة (87).
ويحاول كولنز أن يرد على الاعتراضات التي آثارها المحاذرون من الرجال ضد الفكر الحر: حيث ذهبوا إلى أن معظم الناس لم يؤتوا القدرة على أن يفكروا تفكيراً حراً لا يضر ولا يؤذي في أمهات المسائل الأساسية، وأن مثل هذه الحرية قد تؤدي إلى انقسامات لا نهاية لها في الرأي وفي الشيع والمذاهب، ومن ثم تؤدي إلى الخلل والاضطراب في المجتمع، وأن حرية التفكير قد تفضي إلى الإلحاد في الدين والفجور والخلاعة في الخلق. ويضرب كولنز اليونان القديمة وتركيا الحديثة مثلاً للنظام الاجتماعي الذي يحتفظان به على الرغم من حرية الرأي واختلاف الأديان. وينكر أن حرية الفكر تؤدي إلى الإلحاد. ويقتبس عن بيكون قوله المأثور بأن الفكر الضيق ينزع بنا إلى الإلحاد، وبأن التفكير الواسع يصرفنا عنه، ويؤيد كولنز حكمة بيكون، ثم يضيف في إخلاص واضح، أن الجهل "هو أساس الإلحاد، والتفكير الحر هو علاجه (88) ". ويعدد المفكرون الأحرار الذين كانوا "أفضل الناس في كل العصور": سقراط، أفلاطون، أرسطو، ابيقور، بلوتارك، فارو، كاتو الوقيب، كاتو أوتيكا، شيشرون، سنكا، سليمان، الرسل، أوريجن ارازمز، مونتاني، بيكون، هوبز، ملتون، تللوستون، ولوك. وهنا وعند تولاند أيضاً، نجد نموذجاً لقائمة أوجست كونت عن أعلام مذهب الوضعية، ويرى كولنز أنه في الإمكان وضع قائمة أخرى تضم أعداء الأفكار الحرة الذين جلبوا الخزي والعار على الإنسانية بقساوتهم الوحشية بحجة تمجيد الله.
وأنيرت له المنابر والجامعات وأمطرته وابلاً من الردود، وقالت أن كولنز رأى أن التعقل يتطلب الترحال. أنه ربما تأثر أثناء إقامته في هولندا بآراء سبينوزا وبيل، ولدى عودته إلى إنجلترا أثار عاصفة أخرى بكتابه "بحث في الحرية الإنسانية" (1715) الذي بسط فيه ببيان قوي واضح موضوع "الجبرية" أو الإيمان بالقضاء والقدر،(34/35)
حيث وجد كولنز نفسه مفكراً حراً عباً لإرادة غير حرة. وبعد ذلك بتسع سنين أثار جو اللاهوت برسالته "بحث في أسس الدين المسيحي وتفسيره". واقتبس عن الرسل وعن بسكال ما بنوا به شرحهم للمسيحية على نبوءات العهد القديم التي حققتها الشريعة الجديدة فيما يبدو، وجادل في أن هذه النبوءات لم تتضمن أية إشارة إلى المسيحية والمسيح. ورد عليه خمسة وثلاثون من رجال اللاهوت في خمس وثلاثون رسالة. وكان الخلاف ما زال محتد ما حين وصل فولتير إلى إنجلترا 1726، وطابت به نفسه في عبث مزعج، ونقله إلى فرنسا حيث وجد طريقه إلى "الاستنارة" المتشككة.
وواصل حركة الربوبية في إنجلترا وليم هويستون، ماتيو تندال، توماس تشب وكونيرز مدلتون، وانتقلت عن طريق بولنريك والفيلسوف شافتسبري إلى جيبون وهيوم. ولم تعد مقبولة عند الطبقات الحاكمة مذ ارتابوا في إنها تشجع الأفكار الديموقراطية، ولكن أثرها المباشر كان ملموساً في تزعزع عابر في العقيدة الدينية. وفي 1711 رفع إلى مجلس اللوردات تقرير رسمي عن هذا الموضوع. من المجلس الكنسي والإنجيلي في مقاطعة كنتربري. ويصف التقرير سعة انتشار الكفر والدنس، والشكوك في الخلود، وانتقاص من قدرة القساوسة على أنهم دجالون (89). وفي مطلع القرن الثامن عشر في إنجلترا "هبط الدين إلى الربوبية (90) "، وهنا في هذه الأزمة هب نفر من ذوي العقول الجبارة في بريطانيا في قوة ونشاط للدفاع عن المسيحية.
4 - المدافعون عن العقيدة
كان معظم هؤلاء المدافعين مستعدين لمواجهة مهاجميهم على أساس من العقل والعلم والتاريخ، وقد كشف هذا في حد ذاته عن روح العصر.
وقاد تشارلز لزلي الدفاع برسالته "منهج قصير سهل مع الربوبين" (1697) قصد به في الأصل أن يكون ردأ على بلونت. وحاول أن يدلل على أن شواهد صحة قصص الكتاب المقدس هي من نفس طبيعة الشواهد على أعمال الإسكندر وقيصر، وأنها مقنعة مثلها تماماً. كما أن المعجزات ثبتت ببيانات كثيرة موثوقة يعتد بها، قدر(34/36)
ما تعتبره المحاكم الإنجليزية أدلة كافية، وما كان الكهنة ليقنعوا الناس بمعجزات مثل "انشقاق ماء البحر الأحمر" لو لم يؤيدهم في ذلك كثير من شهود العيان. وأنهى لزلي بحثه بتصوير اليهودية بأنها ميثاق بدائي نسخه ظهور المسيح، والوثنية بأنها مجموعة من الخرافات الصبيانية إلى حد لا يقبله العقل. والمسيحية وحدها هي التي صمدت أمام البينات والعقل (1).
أما صمويل كلارك الذي ألم بقدر كبير من الرياضيات والفيزياء، يكفي للدفاع عن نيوتن ضد ليبنز، فإنه أخذ على عاتقه إثبات الدين المسيحي ببراهين في دقة الهندسة وقساوتها. وفي محاضرات بويل للدفاع عن المسيحية في 1704، صاغ كلارك سلسلة من اثنتي عشرة قضية تثبت، في تقديره، وجود الله في كل زمان ومكان، وأنه قدير عليم كريم. وأن سلسلة الكائنات والأسباب المحتملة أو المعتمدة على غيرها لتفرض علينا أن نعتبر أمراً مفروغاً منه وجود كائن مستقل لا غنى عنه هو السبب الأول لكل الأسباب. ولا بد أن يكون الله متحلياً بالذكاء لأن الذكاء من صفات المخلوقات، وأن يكون الخالق أعظم كمالاً من المخلوق، ولا بد أن يكون الله حراً، وإلا كان ذكاؤه عبودية لا معنى لها. كل هذا بطبيعة الحال، لم يضف جديداً إلى الفلسفة القديمة أو فلسفة العصور الوسطى. ولكن في السلسلة الثانية من محاضراته، عرض كلارك أن يثبت "صدق الوحي المسيحي وأنه حقيقة لا ريب فيها". فقال بأن المبادئ الأخلاقية مطلقة مثل قوانين الطبيعة، وأن طبيعة الإنسان المنحرفة يمكن على أية حال توجيهها إلى الامتثال لقواعد الأخلاق عن طريق واحد هو غرس المعتقدات الدينية، ومن ثم كان لزاماً أن ينزل الله علينا الكتاب المقدس وفكرة الجنة والنار. ويضيف التاريخ، بسخريته المألوفة أن الملكة آن فصلت كلارك، وكان الكاهن الخاص لها، بتهمة ارتيابه في التثليث. وفي العهد التالي لحكم آن، كما يقول الشيطان الماكر فولتير، حيل بين كلارك وبين الوصول إلى منصب رئيس أساقفة كنتربري لأن أحد الأساقفة وشي به عند الأميرة كارولين، حين قال بأن كلارك أعلم الرجال في إنجلترا، ولكن به عيباً واحداً، ذلك أنه غير مسيحي (91).
_________
(1) هنا تعرض المؤلف للإسلام بما آثرنا حذفه.(34/37)
وكان بنتلي الأوسع علماً قد أوضح بالفعل "حماقة الإلحاد وبعده عن التعقل" في "محاضرات بويل" 1692 slash1693. وبعد ذلك بعشرين عاماً أثاره كتاب كولنز فأصدر "بعض ملاحظات على البحث الأخير في حرية التفكير". وتضمن هذا الكتاب بالدرجة الأولى عرضاً لأخطاء في بحث كولنز. وبدت الحجة دامغة والجدل عنيفاً، وقرر مجلس جامعة كمبردج بالإجماع تقديم الشكر إلى بنتلي. ورأى جوناتان سويفت الذي كان آنذاك ملتحقاً بخدمة بولنبروك وهو "ربوبي"، أن كولنز يستحق مزيداً من العقاب لأنه كشف سراً يحتفظ به كل أفاضل الرجال لأنفسهم ووقع عليه هذا العقاب في مقال بعنوان "بحث مستر كولنز في حرية التفكير بسط في لغة إنجليزية سهلة ... ليستخدمه الفقراء" وسخر من الحجج التي ساقها كولنز في مبالغات فكاهية، وأضاف قوله: حيث أن معظم الناس حمقى أغبياء فأنه لما يجلب الكوارث أن نتركهم أحراراً في التفكير، "إن معظم بني الإنسان مؤهلون للطيران قدر أهليتهم للتفكير (92) "-وتلك عملية متوقعة في أيامنا هذه أكثر مما كان يقصد سويفت. واتفق مع هوبز في أن الدكتاتورية حتى في الروحانيات هي البديل الوحيد عن الفوضى. وقد رأينا أن الأنجليكانيين الأيرلنديين ذهبوا إلى أن الكاهن العابس المكتئب يمكن أن يكون مطراناً ممتازاً إذا آمن بالله.
أما أفلاطنيو كمبردج فقد دافعوا عن المسيحية بأسلوب أقل براعة وأشد إخلاصاً. إنهم ارتدوا إلى أفلاطون وفلوطين يلتمسون جسراً بين العقل وبين الله، ولم يستعينوا على إيضاح إيمانهم والتعبير عنه بالحجج والجدل قدر استعانتهم بالنزاهة والتقوى في حياتهم. وغمرهم إحساس قوي بالفضيلة والقدسية في أسمى مراتبها، حتى بدا هذا لهم أبلغ دليل وأقربه على العقل. ومن ثم زعم أول زعمائهم بنجامين هوتشكوت "أن العقل صوت الله (93) ".
ذهب هنري مور العضو البارز في هذه الجماعة التي ذاع صيتها حيناً، إلى ما رواء فلسفات أوربا، إلى فكرة هندية تقريباً عن الفراغ، أو التفاهة الواقعية للمعرفة الحسية، وعدم قدرتها على إشباع تطلع النفس المنفردة المنعزلة إلى بعض الرفقة أو المغزى في الكون. ولم يرتح هنري مور إلى ميكانيكة الكون التي قال بها ديكارت. ولكن(34/38)
أشبعت حاجته الأفلاطونية الحديثة والمتصوفون اليهود وجاكوب بوم. وتساءل "هل معرفة الأشياء هي حقاً أسمى مصدر لسعادة الإنسان، أي شيء آخر أعظم وأقدس، أو إذا افترضنا أنه كذلك، فهل تلتمس السعادة في التلهف والإقبال على قراءة الكتب، أو التأمل وإمعان النظر في الأشياء، أو في تطهير العقل من كل ألوان الرذيلة. أياً كانت (94) ". وعقد العزم على تطهير نفسه من كل أنانية أو انشغال بأمور الدنيا، أو فضول عقلي. "فلما خمدت عندي هكذا هذه الرغبة الجامحة في معرفة الأشياء، ولم تتق نفسي إلا إلى هذه الطهارة والبساطة في العقل وحدها، أشرقت كل يوم بين جوانحي ثقة أعظم مما توقعت يوماً ما، حتى في الأشياء التي كنت أرغب أشد الرغبة في معرفتها من قبل (95) ". ويقول هنري مور أنه مذ طهر نفسه جسماً وروحاً بهذا الشكل، فقد فاحت من جسمه في فصل الربيع رائحة زكية، وأن البول عنده كان له عبير البنفسج (96).
ومذ تطهير هنري على هذا النحو، فقدا بدا أنه يحس بحقيقة الروح في نفسه على أنها أعظم اختبار ممكن إقناعاً للإنسان، ومن هذا الاقتناع انتقل على الفور إلى الاعتقاد بأن العالم معمور بأرواح أخرى على درجات تصاعدية، من أدناها إلى الله سبحانه وتعالى. وذهب إلى أن كل حركة في المادة هي من عمل نوع من الأرواح. وبدلاً من الحيز المادي الذي قال به هوبز، جاء هنري مور بكون روحاني ليست المادة فيه إلا وسيلة أو أداة للروح. وانتشرت بين آن وآخر هذه "الروح" المفعمة بالحيوية فيما وراء مستقرها، وإلا كيف يمكن بغير هذا تفسير المغناطيسية والكهرباء والجاذبية؟ وتابع مور بحثه، وارتضى فكرة وجود الشياطين والسحرة والأشباح. وكان رجلاً لطيفاً غير أناني، رفض كل المناصب الرفيعة الدنيوية التي عرضت عليه، وظل على علاقته الودية بهوبز الذي يدين بالمادية، والذي قال أنه إذا وجد يوماً أن آراءه الخاصة يتعذر الدفاع عنها فإنها "لا بد أن يعتنق فلسفة الدكتور مور (97) ".
أما رالف كودورث، أعلم الأفلاطونيين في كمبردج، فإنه أخذ على عاتقه أن يثبت أن آراء هوبز هشة يسهل دحضها. إن رسالة "الجهاز العقلي الحقيقي للكون" (1378) تحدث هوبز أن يفسر لماذا، بالإضافة إلى مختلف الحركات الحسية والعضلية التي اختزل إليها كل عمليات(34/39)
الذهن، هناك أيضاً، في أحوال كثيرة، إدراك لهذه الحركات، وكيف تجد أي فلسفة مادية مجالاً أو وظيفة للوعي أو الشعور؟ وإذا كان كل شيء مادة متحركة، فلماذا لا يخدم الجهاز العصبي كل شيء عن طريق الإحساس والاستجابة، كما هو الحال في الأفعال المنعكسة اللاإرادية، ولا يزعجه الشعور الزائد أو غير الضروري؟ كيف يمكن أن ننكر حقيقة الشعور وواقعه-بل أولويته وأهميته-وهو الذي لا يتسنى بدونه معرفة أية حقيقية كانت؟ ليست المعرفة وعاء سلبياً غير فعال للأحاسيس، إنها تحول نشيط فعال للأحاسيس إلى أفكار (98). وهنا في كلام كودورث نرى أنه يستبق بزمن طويل، رد باكلي وكانت على هوبز وهيوم.
ولم يكن جوزيف جلانفيل، كاهن شارل الثاني، من الناحية الجغرافية، واحداً من الأفلاطونيين في كمبردج، ولكنه أتفق معهم اتفاقاً قوياً. وفي "غرور الدوجماتية" (التمسك برأي دون دليل كاف) 13661 ألصق جوزيف جريمة الدوجماتية بالعلم والفلسفة، محتجاً بأنهما أقاماً نظماً تتسم بالتكلف والمبالغة الحمقاء لوضع النظريات والمبادئ، على أسس مزعزعة غير آمنة. وعلى هذا فإن فكرة العلة أو السبب (التي ظنها جلانفيل أساسية لا غنى عنها للعلوم) افتراض غير معقول ولا مبرر له. فنحن نعرف التعاقبات والعلاقات والمناسبات، ولكن ليست لنا أي فكرة عما هو الحال في شيء يحدث أثراً في نفسه أو في شيء آخر (هاجس آخر لهيوم). ويقول جلانفيل: تصور مدى جهلنا بالأشياء الأساسية جداً-طبيعة النفس ونشأتها، وعلاقتها بالجسم "كيف يتحد الفكر مع كومة من الطين؟ إن تجمد الكلمات في المناطق الشمالية، وحدوث هذا الاتحاد العجيب، أمران لا يمكن تخيلهما أو تصديقهما، سواء بسواء. إن تعليق بعض الأثقال في أجنحة الريح يبدو أمراً أيسر كثير أن يدركه العقل (99) ". واستبق جلانفيل بيرجسون في أنه يسم العقل بأنه ذو بنية مادية ألف التعامل مع المادة إلى حد فقدان القدرة على التفكير في حقائق أخرى لا "بالرجوع إلى الصور المادية (100) ". إلى أي حد نجد حواسنا عرضة للخطأ: إنها تظهر الأرض وكأنما هي ساكنة في الفضاء، على حين يؤكد لنا العلماء المحدثون أنها مشوشة الذهن بمجموعة مختلفة من الحركات المتزامنة. وحتى من افتراض أن حواسنا قد خدعتنا، فما أكثر(34/40)
ما نخطئ في الاستنتاج من مقدمات صحيحة. إن مشاعرنا تضللنا المرة بعد المرة. "وما أسهل أن نؤمن بما ترغب فيه". وغالباً ما تسيطر بيئتنا العقلية على تفكيرنا:
إن للأفكار أجواءها وتنوعاتها الوطنية .... إن هؤلاء الذين لم يختلسوا النظر قط إلى ما وراء المعتقدات العامة التي أشرتها أفهامهم البسيطة منذ البداية، موقنون يقيناً راسخاً بصدق ما تلقوه وتفوقه نسبياً على غيره .... أما النفوس الكبيرة التي جاست خلال أجواء الفكر المختلفة (وهنا ولدت عبارة مشهورة) فإنهم أشد حرصاً وأكبر محاذرة فيما يتخذون من قرارات وأكثر اقتصاداً وتريثاً في الفصل في الأمور (101).
وعلى الرغم من هذه التحذيرات للعلوم، كان جلانفيل عضواً غيوراً في الجمعية الملكية ودافع عنها ضد اتهاماتها بالمرق عن الدين، وأثنى على منجزاتها، وتطلع إلى عالم زاخر بالأعاجيب يأتي به البحث العلمي:
لا يخامرني شك في أن أعقابنا سيجدون أشياء كثيرة هي الآن مجرد إشاعات قد تأكد لهم حقائق عملية. وبعد عدة أجيال من الآن، قد لا تبدو رحلة إلى الأقاليم الجنوبية المجهولة، لا بل إلى القمر، أشد غرابة من رحلة إلى أمريكا. وسوف يكون أمراً عادياً لمن يأتون بعدنا أن يشتروا جناحين ليطيروا إلى المناطق النائية مثلما نشتري اليوم حذاء عالي الساق للركوب في رحلة. كما يكون التشاور مع أقاليم الأنديز البعيدة بوسائل مريحة أمراً مألوفاً للأجيال القادمة مثلما هو مألوف لدينا الآن أن نتبادل الرسائل الأدبية. إن إعادة الشعر الأشيب لليافعين وتجديد الحيوية المستنزفة قد يكون من الميسور على مر الزمن تحقيقهما دون معجزة، كما أن ليس من المستبعد في زراعة المستقبل أن تتحول الأرض القفر الآن إلى جنة (102).
ويجدر بنا أن نضيف إلى ما سبق أن جلانفيل، مثل كودورث(34/41)
وهنري مور آمن بالسحرة. إن هؤلاء احتجوا بأنه إذا كان هناك عالم روحي وعالم مادي سواء بسواء، فلا بد من وجود الأرواح والأجسام في الكون. وبناء على الخطر الكامن في الأشياء فلا بد أن تكون بعض هذه الرواح شيطانية شريرة. وإذا كان الأتقياء الورعون يتصلون بالله أو القديسين أو الملائكة، فلماذا لا يتصل الأشرار بالشيطان وعفاريته؟ وقال جلانفيل إن آخر خدعة للشيطان أن ينشر الاعتقاد بعدم وجوده. "إن هؤلاء الذين لا يتجرأون على القول بصراحة بأنه لا يوجد إله، يقنعون (كخطوة مقبولة أو نقطة بداية) بأن ينكروا أن هناك أرواحاً وسحرة (103) " إن الشيطان يجب إنقاذه من أجل الله.
5 - جون لوك
1632 - 1704
أ - سيرة حياته
ولد أعظم فلاسفة العصر أثراً في رنجتون بالقرب من برستول، في نفس العام الذي ولد في سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً بفضل أبيه في تعويده على الرصانة الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً ليدي ماشام عن والد لوك أنه: -
سلك معه في صغره نهجاً تحدث عنها الابن فيما بعد في استحسان بالغ. ذلك أنه كان قاسياً عليه بإبقائه في رعب شديد منه، وعلى أبعد منه، حين كان صبياً. ولكنه كان يخفف من هذه القسوة شيئاً فشيئاً حتى استوى جون رجلاً، آنس منه رشداً ومقدرة فعاش مع صديقاً حميماً (104).
ولم يقر لوك لمعلميه بمثل هذا الفضل. وفي مدرسة وستمنستر(34/42)
أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام شارل الأول (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة تركت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وهناك درس أرسطو مصوغاً في قوالب سكولاسية باللاتينية، كما درس مزيداً من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيراً من المنطق وعلم الأخلاق، لفظ معظمها فيما بعد، على انها عتيقة مهجورة موضوعاً. غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً. وبعد حصوله على درجة الماجستير (1658) بقي بكليته باحثاً في الدراسة العليا، يدرس ويحاضر. ووقع لبعض الوقت في غرام "سلبني عقلي (105) "، ثم استرد عقله وخسر عشيقته. ولم يتزوج لوك قط، مثله في ذلك مثل كل فلاسفة هذا العصر تقريباً- ماليرانش، بل، فونتنل، هوبز، سبينوزا، ليبنتز. ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه تردد وقال: "إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد (106) ".
وفي 1661 مات والده بالسل، تاركاً له ثروة ضئيلة ورئتين ضعيفتين. ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وأحس بسحر الفلسفة حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج العلمي. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر أكستر ليكون طبيباً خاصاً لأنطوني آشيلي كوبر الذي سرعان ما أصبح أرل شافتسبري الأول، وعضو الوزارة أيام شارل الثاني، ومنذ هذا التاريخ إلى ما بعده، وعلى الرغم من احتفاظه رسمياً بمنصبه في أكسفورد حتى 1683، وجد لوك نفسه غارقاً في خضم السياسة الإنجليزية حيث شكلت أحداثها ورجالاتها أفكاره.
وأنقذ لوك، الطبيب، حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث (1668). وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف(34/43)
على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:
مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل مل يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى أن يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع (107).
ولمدة عامين (1673 - 1675) اشتغل لوك سكرتيراً لمجلس التجارة والزراعة (المستعمرات) الذي كان يرأسه شافتسبري. وساعده على وضع دستور لكارولينا التي أسسها شافتسبري وكان أكبر ملاك الأرض فيها. ولم تطبق هذه "النظم الأساسية" في المستعمرة بصفة عامة، ولكن حرية الضمير التي تضمنتها هذه النظم لقيت قبولاً حسناً إلى حد كبير لدى المستوطنين الجدد (108).
ولما تخلى شافتسبري عن مهامه السياسية 1675 جال ولك ودرس في فرنسا حيث التقى هناك بفرانسوا برنييه الذي أظهره على فلسفة جاسندي التي وجد فيها رفضاً معقولاً "للأفكار الفطرية" وهي مقارنة عقل الطفل الذي لم يولد باللوح النظيف الخالي من أي شيء، والجملة المأثورة التي نقلت فيما بعد عبر القنال الإنجليزي: "ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجوداً أولاً في الحواس".
وفي 1679 عاد لوك إلى إنجلترا وإلى شافتسبري، ولكن الأرل زج بنفسه أكثر فأكثر في غمار الثورة، فآوى لوك إلى أكسفورد حيث أستأنف الدرس والبحث. وأثار القبض على شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا شبهات الملكيين حول أصدقائه. وانبث الجواسيس في أكسفورد للقبض على لوك متلبساً بما يمكن أن يكون أساساً لتقديمه إلى المحاكمة (109). فلما أحس بالخطر وتنبأ باعتلاء(34/44)
عدوه جيمس الثاني عرش إنجلترا، فإنه كذلك لجأ إلى هولندا (1683). على أن ثورة دوق مونموث القصيرة الأجل التي ماتت في مهدها (1681) استنفرت الملك جيمس الثاني إلى أن يطلب من الحكومة الهولنديه تسليم خمسة وثمانين لاجئاً إنجليزياً بتهمة اشتراكهم في المؤامرة لقلب عرش الملك الجديد. وكان من بينهم لوك، فاختبأ وأتخذ اسماً زائفاً. وبعد سنة أرسل إليه جيمس عرضاً بالعفو عنه ولكنه آثر البقاء في هولندا. وأقام في أوترخت وامستردام وروتردام، حيث لم يستمتع بصداقة الإنجليز اللاجئين فحسب، بل سعد كذلك بصداقة العلماء الهولنديين مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ، وكلاهما من زعماء اللاهوت الأرميني المتحرر. وفي هذا الوسط وجد لوك تشجيعاً كبيراً لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وهناك كتب "بحث في العقل الإنساني"، والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني.
وفي 1687 اشترك في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا (110). فلما نجحت حملة نائب الملك في هذه المغامرة أبحر لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقلت الملكة المقبلة ماري (111). وقبل مغادرة هولندا كتب باللاتينية إلى لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف. مما يدحض أو يصبح ما ظن من أن اعتداله المألوف نبع من برودة طبعه:
إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن كل شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت(34/45)
وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا العديد من السنين في رحابك (112).
وفي إنجلترا التي تولى فيها أصدقاء لوك مقاليد الحكم، تقل الفيلسوف عدة مناصب رسمية. ففي 1690 كان مفوض الاستئناف، وفيما بين 1696 - 1700 كان مفوض التجارة والزراعة، وكان صديقاً حميماً لجون سومرز النائب العام، وشارل مونتاجو أرل هاليفاكس الأول، وايزاك نيوتن الذي ساعده لوك في إصلاح العملة. وبعد 1691 قضى معظم وقته في أوتس مور في أسكس مع سير فرانسيس ماشام وقرينته ليدي داماريس ماشام إحدى بنات رالف كودورث. وظل في هذا الركن الهادئ يكتب وينقح ما كتب حتى وافته المنية.
ب - الحكومة والملكية
كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمقال" في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك (1688) ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "برسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديموقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقاً إلى تزويد "الثورة الجليلة 1688 slash1689 بأساس فلسفي. وقد أثبت هذا الهدف صراحة في مقدمة المقال الأول "لتثبيت عرش منقذنا العظيم مليكنا الحالي وليم الثالث، وتدعيم حقه الشرعي أمام الناس .... وأبرز عمل الشعب الإنجليزي في نظر العالم، ذلك الشعب الذي أنقذ حبه(34/46)
لحقوقه الطبيعية العادلة وتصميمه على المحافظة عليها، أنقذ الأمة التي كانت شفا العبودية والدمار (113) ".
وكان المقال الأول والأصغر رداً على "دفاع عن السلطة الطبيعية للملك" الذي كان سير روبرت فيلمر قد ألفه حوالي 1642 تدعيماً لحقوق شارل الإلهية، والذي لم يكن قد وصل إلى المطبعة إلا مؤخراً (1680) في ذروة حكم شارل الثاني المطلق المنتصر. ولم يكن هذا الكتاب أحسن ما دبج قلم سير روبرت، فإنه نشر في 1648 دون أن يذكر أسمه، "فوضى الحكم المختلط المحدد" الذي استبق به آراء هوبز. وعلى الرغم من إيداع فيلمر السجن لدفاعه عن قضية خاسرة فإنه دافع عنها ثانية في "ملاحظات على كتاب السياسية لأرسطو" الذي نشر غفلاً من اسم المؤلف في 1652، قبل وفاته بعام واحد.
صور فيلمر الحكومة بأنها امتداد للأسرة. وأودع الله السيادة في الأسرة الإنسانية الأولى، في آدم الذي أنحدر من الآباء. وعلى أولئك الذين (مثل خصوم فيلمر) يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله، أن يسلموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب. أقرهما الله. وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك. وكان الملوك الأوائل آباء، وكان سلطانهم شكلاً من حكم الآباء، مشتقاً منه، فالملكية إذن ترجع إلى آدم، ومن ثم إلى الله. وسيادة الملوك، إلا إذا أمروا بخرق صريح للقانون الإلهي، مقدسة مطلقة. والتمرد عليها خطيئة وجريمة في وقت معاً (114).
وعلى نقيض النظرية التي تقول بأن الإنسان ولد حراً، يقول فيلمر بأن الإنسان ولد خاضعاً لعادات الجماعة وقوانينها، وللحقوق الطبيعية والشرعية للوالدين على أولادهم. "إن الحرية الطبيعية" خرافة رومانسية. وأنها لخرافة أيضاً أن الحكومة قامت برضا أفراد الشعب واتفاقهم. "والحكومة النيابية" خرافة أخرى. فالممثل لا يختاره إلا أقلية ضئيلة نشيطة في كل دائرة انتخابية (115). وكل حكومة هي من أغلبية عن طريق أقلية. ومن طبيعة الحكومة أن تكون فوق القانون. فللهيئة التشريعية، بمقتضى تعريفها، سلطة سن القوانين وتغييرها أو إلغائها. "وأنا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يوماً في(34/47)
أن تحكمنا سلطة غير استبدادية (116) " وإذا كان للحكومة أن تعتمد على إرادة المحكومين، فسرعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة البتة، فإن كل فرد أو مجموعة أفراد ستزعم لنفسها الحق في العصيان والتمرد وفقاً لما يمليه "الضمير". وتلك هي الفوضى أو حكم الرعاع". وليس هناك طغيان يمكن أن يقاس بطغيان الجماهير (117) ".
وأحس لوك أن مهمته الأولى، وهو المدافع عن الثورة الجليلة أن يدحض حجج فيلمر. وقال "أنه لم يكن هناك يوماً مثل هذا الهراء المرتجل دون ترو بمثل هذه الكثرة في لغة إنجليزية رنانة" كما جاء في مقالات سير روبرت (118). ليس لي أن أتحدث بمثل هذه الصراحة على رجل لم يعد يستطيع أن يرد"، لو لم يعتنق المنبر السنين الخوالي علانية نظريته ويجعل منها عقيدة مقدسة رائجة في هذا العصر"- يعني لو لم يعتنق رجال الكنيسة الأنجليكانية نظرية حقوق الملوك الإلهية حتى في عهد الملك الكاثوليكي جيمس الثاني، وانتقل لوك، في تهكم هازل، لاذع أحياناً، ليفترض على أن فيلمر أرجع سلطة الملك إلى ما افترض من سلطة آدم وآباء التوراة، ولسنا في حاجة إلى تتبعه في طول دحضه للكتاب المقدس. ونحن اليوم نبرر خلافاتنا السياسية بوسائل أخرى غير الأسفار المقدسة أن شائناً من تفكير فليمر لا يزال باقياً بعد أن تناوله لوك بهذه الطريقة الخشنة- المحاولة مهما كانت خاطئة في تفصيلها لإلقاء الضوء على طبيعة الحكومة بالتماس أصولها في التاريخ، حتى في البيولوجيا. ومن المحتمل أن فليمر ولوك كليهما انتقصا من قدر الدور الذي لعبه الغزو والقوة في إقامة الدول.
وفي المقال الثاني من "الحكم المدني" تحول لوك إلى مهمة البحث لحكم وليم الثالث في إنجلترا عن سند أقوى من الحق الإلهي الذي يعيد لسوء الحظ السلطة إلى جيمس الثاني. إن لوك حين اسندج ارتقاء وليم العرش من رضا المحكومين افترض أكثر مما استطاع إثباته بالتاريخ: إن الشعب لم يكن قد أعلن قبوله غزو وليم لإنجلترا، كما أن النبلاء أو أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا قد وضعوا الخطة لهذا الغزو لم يكونوا فكروا في الحصول على موافقة الشعب، ولم يفكروا إلا في تجنب مقاومته، ومع ذلك فإن لوك في التماسه سنداً من الفلسفة(34/48)
لسلطة وليم، أتى بدفاع مؤثر عن سيادة الشعب. وفي سبيل دفاعه عن الملك الحاكم بسط نظرية الحكومة النيابية، وفي سياق عرضه الأساسي المنطقي لحركة الأحرار (الهويجز) والمدافعين عن حق التملك، صاغ إنجيل الحرية السياسية، وأنهى هيمنة هوبز على الفلسفة السياسية الإنجليزية.
وحذا لوك حذو هوبز في افتراض "حالة طبيعية" بدائية. قبل نشوء الدول. وشكل- مثل هوبز وفليمر- التاريخ وفقاً لأغراضه ولكنه على عكس هوبز، تصور أن الأفراد في "الحالة الطبيعية" كانوا أحراراً متساوين، واستخدم هذه اللفظة، كما استخدمها جفرسون حين نسج من منواله، لتعني أنه ليس لأحد بالطبيعة "حقوق" أكثر مما لسواه، وهو يبيح للإنسان في "الحالة الطبيعية" غرائز معينة بمثابة إعداد سايكولوجي للمجتمع، ويأتي لوك أحياناً بافتراضات لطيفة "من حيث أن كل إنسان حر بالطبيعة، فليس في إمكان أي شيء أن يخضعه لأية سلطة دنيوية إلا برضاه وموافقته ... (119) " ولم يكن "الطور الطبيعي" في هذه النظرية- كما صوره هوبز- حرباً بين الناس بعضهم بعضاً، لأن "سنة أو قانون الطبيعة" أيد حقوقهم بوصفهم حيوانات عاقلة. وذهب لوك إلى أنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق "عقد اجتماعي"، الواحد منهم مع الآخر تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب، لا لملك، بل للجماعة ككل. وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي، وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها (120). ويمكن أن يسمى ملكاً، ولكنه مثل أي مواطن آخر ملتزم بطاعة القوانين التي تسنها الجماعة. فإذا سعى (مثل جيمس الثاني) إلى خرقها أو المراوغة في تطبيقها، كان للجماعة الحق في سحب السلطة التي منحاه إياه.
والحق أن لوك لم يكن يدافع عن وليم ضد جيمس، بل عن البرلمان (المنتصر الآن) ضد أي ملك، إن أعلى سلطة في الدولة ينبغي أن تكون السلطة التشريعية، التي يجب أن تختارها الأصوات الحرة غير المشتراة. ويجدر أن توقع القوانين أشد العقوبة على كل محاولة(34/49)
لشراء أصوات المواطنين أو المشرعين. ولم يتنبأ لوك بأن وليم الثالث الذي أعجب الفيلسوف به قد يضطر إلى شراء أصوات أعضاء البرلمان، وأن الأسرات القوية قد تستمر لمائة وأربعين عاماً بعده تتحكم في أصوات "المدن الفاسدة القابلة للرشوة" أو تقرر مصيرها. وينبغي أن تكون السلطة التشريعية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية، وأن يكون كل من جهازي الحكومة هذين رقيباً على الآخر.
ويقول لوك "ليس للحكومة من هدف إلا صيانة الملكية (حق التملك) (121) " لقد كانت هناك شيوعية بدائية، حين نما الطعام دون زراعة، واستطاع الإنسان أن يعيش دون كد ولا كدح، ولكن عندما بدأ العمل انتهت الشيوعية، لأن الإنسان أخذ لنفسه، ملكاً خاصاً به، أي شيء ذا قيمة أضفاها عليه جهده هو. فالعمل إذن هو مصدر "99%" من كل القيم المادية (122). (وهنا قدم لوك للاشتراكية الحديثة على غير قصد منه إطلاقاً، أحد مبادئها الأساسية). إن المدنية تنمو عن طريق العمل، ومن ثم عن طريق نظم الملكية بوصفها نتاج العمل. ومن الناحية النظرية ليس لإنسان لأن يمتلك أكثر مما يستطيع استخدامه (123). ولكن اختراع النقود مكنه من بيع فائض نتاج عمله، مما لم يستطع الانتفاع به، وعن هذا الطريق ساد التفاوت الكبير أو عدم المساواة في الملكية بين الناس- وربما كنا نتوقع، عند هذه النقطة، من لوك أن ينتقد تركيز الثروة، ولكنه بدلاً من ذلك نظر إلى الملكية مهما كان سوء توزيعها، على أنها أمر طبيعي مقدس، فاستمرار النظام الاجتماعي والمدنية يستلزم أن تكون حماية الملكية أسمى غرض للدولة. "وليس في مقدور السلطة العليا أن تستولي على أي جزء من أملاك الإنسان إلا بموافقته ورضاه (124) ".
وعلى هذا الأساس لم يقر أية ثورة تنطوي على التجريد من الملكية. ولكنه بوصفه نبي الثورة الجليلة وصوتها لم يستطع أن ينكر "الحق في قلب الحكومة (125) ". إن الشعب في حل من الطاعة إذا كان ثمة محاولات غير مشروعة للاعتداء على حرياته وممتلكاته، "لأن" هدف الحكومة هو الصالح العام للبشر. وأيهما أفضل لبني الإنسان: تعرض الناس دائماً للرغبة الجامحة في الطغيان، أو أن(34/50)
يتعرض الحكام أحياناً للمقاومة إذا أسرفوا في استخدام سلطتهم واستغلالها في القضاء على ممتلكات الشعب، لا في المحافظة عليها (126)؟ " وعلى حين أجاز بعض الهيجونوت والفلاسفة اليسوعيين الثورة لحماية الدين الحق الواحد، نجد لوك لا يقرها إلا لحماية الممتلكات. إن النزعة الدنيوية كانت تغير من مركز القداسة وتعريفها.
وظل تأثير لوك على الفكر السياسي مسيطراً حتى ظهور كارل ماركس. وكانت فلسفته عن الدولة ملائمة لحكم الأحرار (الهويجز) وللخلق الإنجليزي إلى حد تجاهل أخطائها طيلة قرن من الزمان باعتبارها هنات هينات في عهد أعظم (مجنا كارتا) جليل الشأن للبرجوازية. إنها لم تضف هالة على 1689 فحسب، بل، مع سبق مشهود، كذلك على 1776 و1789 - أعني المراحل الثلاث لثورة العمل ضد المحتد. والمال ضد الأرض. ويسخر النقاد اليوم من لوك اشتقاقه للحكومة من رضا الأفراد الأحرار وموافقتهم في الطور الطبيعي، كما سخر هو من فليمر اشتقاقه الحكومة من الآباء ومن آدم ومن الله. إن "الحقوق الطبيعية" مشبوهة ونظرية، والحق الطبيعي الوحيد في المجتمع ليس فيه قانون هو القوة المتفوقة، كما هو حادث الآن بين الدول. أما في المدنية فالحق هو الحرية التي يرغب فيها الفرد ولا تكون ضارة بالجماعة "وقد يوجد حكم الأغلبية في الجماعات الصغيرة في الأمور غير الحيوية" وتمارس الحكم عادة أقلية منظمة. والحكومات الآن تضطلع بالتزامات أكبر من مجرد حماية الملكية.
ومع ذلك فإن تحقيق هذه الرسالة الثانية يظل إنجازاً عظيماً. إنه وسع من قيمة انتصار البرلمان و "الأحرار Whigs على "المحافظين" Tories، حتى صاغ من هذا الانتصار نظرية الحكومة النيابية المسئولة. تلك النظرية التي ألهبت مشاعر الشعوب الواحد منها بعد الآخر في تسلمها مراقي الحرية. ونبذت إنجلترا فكرة السلطات التي جاء بها لوك، وأخضعت الحكومة بأسرها للسلطة التشريعية، ولكن نظريته كانت تهدف إلى الحد من قوة السلطة التنفيذية. وقد تحقق هذا الهدف تحقيقاً كاملاً. أن كثيراً من ثقته في(34/51)
حصافة الناس ولباقتهم، واعتداله في تطبيق النظرية على الممارسة أو العلم على العمل، أصبح منهجاً قياسياً ذا قيمة معترف بها في السياسة الإنجليزية، جعل الثورة أمراً تدريجياً دقيقاً لا يكاد يدرك، بينما هي حقيقة واقعة.
وانتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في 1729، واعتنقها مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا 1729 slash1731، وكان لها صدى عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت باحلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية 1789. وعندما ثار مستعمرو أمريكا في وجه جورج الثالث حين استعاد قوة الملك وسلطانه، نراهم اقتبسوا آراء لوك وصيغه بل ألفاظه تقريباً في "إعلان الاستقلال" الذي أصدروه. كما أن الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها منتسكيو لتشمل السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية، كما أخذت عنايته البالغة بالملكية طريقها إلى التشريع الأمريكي، وأثرت مقالاته عن التسامح في الآباء المؤسسين في فصل الكنيسة عن الدولة وإقرار الحرية الدينية ويندر أن نجد في تاريخ الفلسفة السياسية رجلاً بمفرده كان له مثل هذا الأثر الخالد الباقي.
جـ - الذهن والمادة
كان تأثير لوك شاملاً وعميقاً في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني. وظل يكتب رسالته عن "العقل الإنساني" منذ 1670 ويتميز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عاماً قضاها في مراجعته وتنقيحه، ثم تسلم عن هذه التحفة الرائعة في علم نفس التحليلي ثلاثين جنيهاً. ويعزو لوك نفسه مشروعه في هذا البحث إلى مناقشة جرت في لندن 1670:
اجتمع في حجرتي خمسة أو ستة من الأصدقاء، وكنا نناقش موضوعاً بعيداً عن هذا كل البعد، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في مأزق نتيجة الصعوبات التي اعترضتنا من كل النواحي، وبعد أن تملكتنا الحيرة لبعض الوقت دون(34/52)
الوصول إلى حل قريب لهذه الشكوك ... خطر ببالي أننا نهجنا نهجاً خاطئاً. وأننا قبل أن نشرع في التحقيق في طبيعة هذا الموضوع، كان لزاماً علينا أن نختبر قدراتنا نحن، ونرى أن "الموضوعات" تصلح، أو لا تصلح أفهامنا لمعالجتها، وعرضت هذا على الرفاق الذين وافقوا جميعاً من فورهم، ومن ثم اتفقنا على أن يكون هذا أول ما نبحث فيه. وكانت بعض الأفكار السريعة المهوشة التي عرضتها في اجتماعنا التالي، هي المدخل الأول لهذا المبحث (127).
ومن الواضح أن الذي حفز لوك إلى كتابة "مقال عن العقل الإنساني" هو الخلاف الذي نشب بين الأفلاطونيين في كمبردج من الذين حذوا هنا حذو الفلاسفة السكولاسيين- في أننا نستمد أفكارنا من الله ومن المثل الأخلاقية العليا، لا من التجربة والخبرة، بل من الاستبطان، وأن هذه الأفكار فطرية أصيلة فينا، وجزء من جهازنا العقلي، مهما كنا غير واعين عند الولادة. وهذه الفكرة، لا بيانات ديكارت الثانوية عن "الأفكار الفطرية"، هي التي أدت بلوك إلى النظر في مسألة هل هناك أية أفكار لم تكن وليدة تأثيرات العالم الخارجي (128). وخلص لوك إلى القول بأن كل المعرفة بما في ذلك أفكارنا عن الله وعن الصواب والخطأ مستمدة من الخبرة، وليست جزءاً من التركيب الفطري للعقل. وعرف أنه في محاولته للبرهنة على هذه النظرية التجريبية قد يسئ إلى كثير من معاصريه الذين أحسوا بأن الأخلاق تتطلب مساندة الدين لها، وأن الأخلاق والدين كليهما ينهار ويضعف إذا نبعت أفكارها الأساسية من منبع أقل شرفاً من الله سبحانه وتعالى. وطلب إلى قرائه أن يتجملوا بشيء من الصبر معه، أما هو من جانبه فقد كان قاب قوسين أو أدنى من منزلق المناقشة الخطيرة، في روح من الشك المتواضع. "أنا لا أزعم أني ألقي درساً، بل أنا أسأل (129) ". وفي إيجاز، اعترف بأنه كان "كسولاً مشغولاً إلى حد بالغ (130) ".
ولكنه على الأقل استطاع أن يحدد مصطلحاته، وهو يعترض على "الغموض المتكلف عند بعض الفلاسفة (131) ". إن معرفتنا الدقيقة بما تدل عليه وتعنيه ألفاظنا قد ينهي .... النزاع ... في كثير من(34/53)
الأحوال (132) ". وينبغي التسليم بأن مذهب لوك في هذه النقطة يفضل ممارسته له. أنه يعرف "العقل" بأنه "قوة الإدراك الحسي"، ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليشمل: (1) إدراك الأفكار في عقولنا. (2) وإدراك معاني الألفاظ، (3) وإدراك التوافق أو التنافر بين الأفكار (133). ولكن ما هي الفكرة؟ إن لوك يستخدم هذا الاصطلاح ليعني: (1) تأثير الأشياء الخارجية على حواسنا (وهو ما يجب أن نسميه الإحساس)، أو (2) الوعي الداخلي بهذا التأثير (وهو ما يجب أن نسميه الإدراك الحسي)، أو (3) صورة الفكرة أو الذكرى المتصلة بها (وهو ما يجب أن نسميه الفكرة)، أو (4) "الحركة التي تجمع صوراً منفردة كثيرة لتكون مفهوماً عاماً أو مجرداً أو شاملاً لمجموعة من الأشياء المتشابهة. إن لوك لا يوضح دائماً في أي معنى يستخدم اصطلاحه المزعج (1) ".
لكن لوك يبدأ بنبذ "المبادئ الفطرية". أن هناك رأياً ثابتاً لدى الناس بأن هناك في العقل بعض "مبادئ فطرية معينة، أو بعض مفاهيم غامضة أولية مطبوعة في ذهن الإنسان تتلقاها النفس منذ بداية نشأتها، وتأتي بها معها إلى الدنيا". ويأخذ في إيضاح "بطلان هذه الفرضية (135) ". أنه لا ينكر "النزعات" الفطيرة0التي سميت فيما بعد الانتحاء (النزعة إلى الحركة استجابة لمنبه ما) أو الأفعال المنعكسة اللاإرادية أو الغرائز، ولكن هذه في رأيه عادات سيكولولجية، وليس أفكاراً. وحذا حذو هوبز فوصف مثل هذه العمليات بأنها "سلاسل من الحركات في روح الحيوانات، إذا انطلقت استمرت في الخطوات التي اعتادت عليها، والتي تصبح بعد كثرة ارتيادها طريقاً ممهداً، كما تصبح الحركة فيه سهلة، وكأنها طبيعية" أو فطرية (136).
_________
(1) إن لوك- في دراسته لذاتية الأفكار العامة أو المندرجة في طائفة واحدة- يوضح أن اصطلاح "النوع" كما هو مطبق على الكائنات. هو تركيب عقلي، وملاءمة عقلية، وأن العالم الموضوعي لا يحتوي على أنواع مستقلة، بل مجرد أفراد مستقلين، تنحدر كلها "في خطوات يسيرة، وفي سلسلة مستمرة من الأشياء التي يختلف الواحد منها عن سائرها قليلاً في كل انتقال. حتى نأتي إلى أحقر جزيئات المادة وأقلها حيوية .... والحدود أو الفوارق بين الأنواع، والتي يصنفها الإنسان بمقتضاها، إنما هي من صنع الإنسان (134) ".(34/54)
وهو يميل إلى أن يجوز توارد الخواطر في أنها طرق سيكولوجية. وكان ديكارت فقد ذهب إلى أن فكرة الله فطرية أصيلة فينا، ولكن لوك ينكر هذا الرأي. فإن بعض القبائل وجدت دون أن تكون لديها فكرة عدالة، كما إن بعض الذين يعتنقونها تتباين لديهم المفاهيم أو الصور عن الآلهة إلى حد يكون معه من الحكمة أن نرفض فكرة "نشوئها بالفطرة أو بالسليقة"، وأن نبني إيماننا بالله على "لآيات البينات على كمال حكمته وقدرته ... فيما خلق وأبدع (137) "- أعني الخبرة. وبالمثل ليس هناك "مبادئ عملية فطرية"- ليس هناك مفاهيم فطرية عما هو صواب وما هو خطأ. فالتاريخ يوضح لنا مجموعة متباينة، عظيمة أحياناً متناقضة أحياناً أخرى، من الأحكام الخلقية، مما لا يمكن معه اعتبارها جزءاً من التراث الطبيعي للإنسان، بل هي تراث اجتماعي يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان (138).
وبعد أن تخلى لوك عن "الأفكار الفطرية" جاء ليتساءل: كيف تولد أو تنشأ الأفكار؟ "فلنفترض أن العقل (عند الولادة)، كما يمكن أن يقال، صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نقش، ومن أية أفكار، فكيف يتأتى تزويده؟ .... وعلى هذا السؤال نجيب بكلمة واحدة، من الخبرة، وعليها تبنى كل المعرفة، ومنها تستمد في النهاية (139) ". فكل الأفكار مستمدة أما من الإحساس والانعكاس على نتاج إحساسنا. والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو "أولى مواهب العقل" (140).
ولم يجد لوك سبباً للارتياب في إمكان حصولنا على معرفة حقيقية صحيحة عن العالم الخارجي، ولكنه قبل الرأي الذي أستقر منذ أمد طويل، ألا وهو التمييز بين الصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء المدركة. أما الصفات الأولية "وهي التي لا يمكن فصلها عن الجسم إطلاقاً، في أية حالة مهما كانت" مثل: الصلابة، الامتداد، الشكل، العدد، والحركة أو السكون. أما الصفات الثانوية "فليست شيئاً في هذه الأشياء نفسها، بل مجرد قوى تحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية". فالألوان والأصوات والطعوم والروائح صفات ثانوية تحدث فينا بكتلة هذه الأشياء وشكلها ونسيجها أو حركتها. أما الأشياء نفسها فليس لها لون ولا وزن ولا طعم ولا رائحة ولا صوت ولا حرارة. وكان هذا(34/55)
التمييز قد ظهر منذ البرتوس ماجنوس وتوما الأكويني (القرن 13)، وقد قبله ديكارت وجاليليو وهوبز وبويل ونيوتن، ولكن عرض لوك لفكرة التمييز هذه وتوكيده لها هيأ لها انتشاراً واسعاً من جديد. فقد تصور العلم الآن أن العالم الخارجي محايد صامت غير متحيز، فقدت أزهاره وثماره عطرها ونكهتها. وربما هبط هذا المفهوم بالشعر إلى الشعر المنثور في "العصر الأوجستي"- أوائل القرن الثامن عشر في إنجلترا، عهد الملكة آن، ولكنه اكتشف في آخر الأمر أن الصفات المحسة حقيقة مثل الأجسام نفسها، وثارت الرومانسية لنفسها من الكلاسيكية حيث جعلت المشاعر أسمى حقيقة.
وأدى تحليل الشيء أو الجسم إلى صفات، على هذا النحو، إلى هذا السؤال: ما هو الجوهر الذي يبدو أن الصفات الأولية تلازمه باعتبارها جزءاً منه؟ وأعترف لوك بأننا لا نعرف من هذا الجوهر الخفي الغامض شيئاً إلا صفاته، فإذا نزعت هذه الصفات فإن الجوهر- أي الأساس الضمني أو المفهوم ضمنا لهذه الصفات- يفقد كل معنى له، وظاهراً أيضاً أنه يفقد وجوده (141). وهنا يتدخل باركلي: إذا كنا لا نعرف إلا صفات الأشياء أو الأجسام، ونعرف أن هذه الصفات هي مجرد أفكار، فكل الحقيقة اذن إدراك حسي، وعندئذ يصبح لوك، بطل التجريبية العظيم- الخبرة هي مصدر كل المعرفة- يصبح مثالياً يحيل المادة إلى فكرة: أضف إلى ذلك أن "العقل" افتراضي مثل الجوهر أو الجسم أو المادة تماماً. وفي فقرة مشهورة يتجاوز لزك باركلي ويسبق هيوم:
ونفس الشيء يحدث فيما يتعلق بعمليات الذهن، مثل التفكير والاستنتاج والخوف وغيرهما، التي لا نخلص إلى القول بأنها توجد من نفسها ولا نعي كيف تتبع الجسم أو كيف يمكن أن يحدثها الجسم، ولكنا نميل إلى الظن بأنها نشاط جوهر ما نسميه الروح، بواسطتها، ولو أنه من الواضح أنه ليس لدينا فكرة أو مفهوم آخر من المادة إلا أنها شيء توجد هذه الصفات المحسوسة التي تؤثر على حواسنا، فأنه كذلك بافتراض جوهر فيه التفكير والمعرفة والشك والقدرة على الحركة وغيرها، فيكون لدينا فكرة واضحة عن الروح كما هو الحال بالنسبة للجسم: الأولى يفترض (دون أن نعرف(34/56)
ماهيتها)، إنها جوهر لتلك الأفكار البسيطة التي نستمدها من الخارج، والآخر يفترض (مع نفس القدر من الجهل بماهيته) أنه جوهر لهذه العمليات التي نمارسها في داخل أنفسنا (142).
وحيث أقر حينئذ "بأن فكرتنا عن الجوهر غامضة، أو ليس لدينا فكرة إطلاقا عنه في "العالمين" (الخارجي والداخلي) كليهما، وأن الأمر لا يعدو" أن يكون افتراض الجهل بما يدعم هذه الأفكار التي نسميها أحداثاً، فإن لوك يخلص إلى أنه في كلتا الحالتين يسوغ لنا الاعتقاد بوجود جوهر، على الرغم من أننا لا يمكن أن نعرفه: في مادة وراء الصفات المحسوسة أو أنها تبعثها، وفي عقل وراء الأفكار أو يحتويها- عامل روحي يؤدي مختلف عمليات الإدراك والتفكير والشعور والإرادة (143).
ومهما يكن من أمر العقل، فإن عملياته كلها من نوع واحد- حركة الأفكار أو نشاطها. ويرفض لوك فكرة السكولاسية عن "المواهب" في العقل، مثل التفكير والشعور والإرادة. فالتفكير هو اتحاد الأفكار أو الجمع بينها، والشعور هو ترجيح فكرة سيكولوجية أو صداها، والإرادة فكرة تنطلق إلى العمل أو التصرف، مثلما تنزع كل الأفكار إلى العمل إلا إذا عوقتها فكرة أخرى (1). ولكن كيف يمكن أن تصبح العملية "الروحية" عملية فسيولوجية وحركة مادية؟ إن لوك يقبل كارهاً ثنائية الجسم المادي والعقل غير المادي، ولكنه في فترة من فترات الطيش يوحي بأن العقل يمكن أن يكون شكلاً من "المادة". وهناك في هذا الصدد عبارة مأثورة عن لوك:
من الممكن أنه لن يكون في مقدورنا أبداً أن نعرف أن مجرد كائن مادي يفكر أو لا يفكر، وحيث أنه يستحيل علينا، بالتأمل في أفكارنا نحن، دون وحي أو إلهام، أن
_________
(1) في الطبعة الأولى من مقال العقل الإنساني لم يسلم لوك بوجود "إرادة حرة" إلا في حالة التحرر من أي قيد أو كبت خارجي. وفي الطبعات الأخيرة عدل عن هذه "الجبرية" ليجيز القول بأن العقل يمكن أن يؤجل أو يوقف مؤقتاً تنفيذ رغباته أو إشباعها (144).(34/57)
نكتشف هل زودت القدرة الإلهية بعض أنواع المادة المالية بطبعها، بالقدرة على الإدراك والتفكير، أو أنها (أي القدرة الإلهية) ضمت إلى المادة الميالة على هذا النحو، أو ثبتت فيها جوهراً مفكراً غير مادي، فإنه بالنسبة لأفكارنا، ليس يبعد عن الفهم أن ندرك أن الله قادر إذا شاء أن يضيف إلى المادة "موهبة للتفكير"، أكثر من أنه سبحانه وتعالى يمكن أن يضيف إليها جوهراً آخر فيه موهبة للتفكير .. إن من يرى كيف أنه من الصعب، في أفكارنا، توافق الإحساس مع المادة الممتدة، أو توافق الوجود مع شيء ليس له امتداد إطلاقاً، سوف يقر ويعترف بأنه بعيد كل البعد عن معرفة ماهية نفسه على وجه اليقين ... وهذا الذي يطلق لنفسه العنان ليتأمل في حرية ... يندر أن يجد في عقله القدرة على تحديد موقفه تحديداً تاماً من "مادية النفس" سلباً أو إيجابياً (145).
وعلى الرغم من أن لوك كان قد تغلب بالفعل على الجانب المادي من المعضلة، فإن الإيحاء باحتمال صدقه أو حقيقته، بالنسبة لتيار الفكر في ذاك العصر، أساء إلى الدين القويم إلى حد أن مائة من المدافعين عن الديانة هاجموه بتهمة أنه أيد "في طيش وتهور" آراء الملحدين. ولم يلقوا بالاً لاحترامه وإجلاله للوحي، ولبيانه القديم "أن الرأي الأرجح والأكثر احتمالاً هو ان الشعور مرتبط بجوهر فرد غير مادي، وهو حب هذا الجوهر والتعلق به (146) "، وربما تنبأ هؤلاء المدافعون بأن لامتري وهولباخ وديدرو وغيرهم من فلاسفة المادية قد يرون في كلام لوك نزوعاً خفياً إلى وجهة نظرهم .. واتهمه الأسقف ستللنجفليت بمثل هذه النزعة المادية على وجه التحديد، وأنذره بأنها تعرض اللاهوت المسيحي كله للخطر. وتناسى لوك حرصه العهود، وأكد من جديد وبقوة، احتمال صدق الفرضية المادية وظل على خلاف بشأنها مع ستللنجفليت وغيره حتى 1697.
على أن مقال "العقل الإنساني "على الرغم من نقاده وما فيه من تناقضات وغموض وإبهام، وغير ذلك من الأخطاء، تزايدت قيمته وأهميته وأثره عاماً بعد عام. وتهافت الناس على طبعاته الأربع في(34/58)
الأربعة عشر عاماً التي انقضت بين ظهوره ووفاة مؤلفه لوك. وظهرت له الطبعة بالفرنسية في عام 1700، وتقبلوه هناك في إعجاب حماسي. وأصبح حديث الناس في قاعات الاستقبال في إنجلترا. وأكد ترسترام شاندي لسامعيه أن الرجوع إلى "المقال" يمكن أي إنسان من "الابتعاد بنفسه عن التفكير في الميتافيزقيا (147) ". وكان تأثيره على باركلي وهيوم عظيماً إلى حد أننا نستطيع أن نؤرخ بظهوره تحول الفلسفة البريطانية من الميتافيزقيا إلى المعرفة. وربما كان لوك ماثلاً في ذهن بوب حين كتب "أن الدراسة الصحيحة للجنس البشري هي الإنسان".
وفي 1700 ظهرت طبعة بالفرنسية للمقال، ولقيت هناك ترحيباً حماسياً بالغاً. وكتب فولتير يقول: "بعد أن صاغ بعض السادة المفكرين أسطورة رومانسية عن النفس، ظهر رجل واحد حكيم حقاً، وأمدنا بتاريخها الصحيح في أعظم حالة من التواضع يمكن تصورها. إن مستر لوك قد كشف للإنسان تشريح النفس، كما لو أن بعض علماء التشريح يشرحون الجسم (148) ". ونعود فنقول "إن لوك وحده" بسط العقل الإنساني في كتاب لا يضم إلا حقائق وهو كتاب بلغ حد الكمال والإتقان- لأن هذه الحقائق مبسوطة فيه بأحلى بيان (149) " وبات المقال الإنجيل السيكولوجي لعصر الاستنارة في فرنسا. وتبنى كونديللاك "المذهب الحسي الذي جاء به لوك وتوسع فيه وذهب إلى أن شيئاً لم يستجد في علم النفس فيما بين أرسطو ولوك (150) - وهذا إجحاف واضح بالفلاسفة السكولاسيين (العصور الوسطى) وهوبز وينسب دالمبرت، في "بحث تمهيدي في دائرة المعارف" إلى لوك الفضل في خلق الفلسفة العلمية، كما خلق (في رأيه) نيوتن الفيزياء العلمية. وعلى الرغم من مجاهرات المقال بالمعتقد القويم، فإنه مهد لتجريبية عقلانية، سرعان ما نبذت النفس باعتبارها فرضية غير ضرورية، وانطلقت إلى تطبيق نفس التفكير بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
د - الدين والتسامح
لم يتعاطف لوك نفسه مع مثل هذا التطرف، ومهما يكن من أمر شكوكه الخاصة، فإنه أحس، كأي رجل إنجليزي مهذب، بأن السلوك(34/59)
القويم والخلق الكريم يتطلبان من الكنيسة المسيحية دعماً شاملاً. وإذا كانت الفلسفة تنزع عن الناس إيمانهم بعدل الهي كامن وراء جور الحياة وشقائها، فماذا عساها تقدم لتقوية آمال الناس والإبقاء على شجاعتهم؟ تقدم بطيء نحو يوتوبيا ديموقراطية؟ ولكن في مثل هذه اليوتوبيا هلا يبتدع الجشع الطبيعي في الناس وعدم المساواة بينهم وسائل جديدة ليستخدم الدهاة والأقوياء غيرهم من البسطاء والضعفاء أو يسيئوا استغلالهم؟.
وكان أول همه أن "يضع المقاييس والحدود بين العقيدة والعقل". وعمد إلى تحقيق هذا في الفصل الثامن عشر من الباب الرابع من المقال. "إني أجد كل شيعة تحاول جهدها، بقدر ما يسعفها العقل، أن تفيد منه عن طيب خاطر، وحيثما يخفق العقل تصرخ وتصيح بأعلى صوت: تلك مسألة إيمان وعقيدة فوق العقل (151) ". إن كل ما أوحى به الله حق على وجه اليقين (152) ". ولكن التأمل وحده في الدليل المتاح هو الذي ينبئنا إذا كانت الأسفار المقدسة هي كلمة الله، "وليس ثمة قضية يمكن تقبلها على أنها وحي إلهي، إذا كانت تناقض معرفتنا الأكيدة البديهية (153) ". وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معرفتنا تسمو على أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً. ومهما يكن من أمر "فهناك أشياء كثيرة لدينا عنها أفكار غامضة ناقصة، أو ليس لدينا عنها أفكار البتة، وثمة أشياء أخرى لا نستطيع بالاستخدام الطبيعي لمواهبنا، الوصول إلى معرفة شيء عن وجودها في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، مطلقاً، ولكزنها فوق العقل، فإنها إذا كشفت، تكون "المادة الصحيحة للعقيدة والإيمان (154) ". ويخلص لوك إلى القول: "ليس هناك شيء يناقض أوامر العقل الواضحة البديهية أو لا يلتئم معها، يحق له أن يشجع أو يؤكد على أنه مسألة عقيدة لا دخل للعقل فيها (155) " "وثمة أمارة لا تخطئ" على حب الحق. "ألا نهلل ونرحب بأية قضية في توكيد أكبر مما تجيزه الأدلة التي تقوم عليها القضية (156) ". "وينبغي أن يكون العقل أول حكم ومرشد لنا في كل شيء (157) ".(34/60)
ومن ثم نشر لوك في 1695 "معقولية المسيحية كما تنقلها الأسفار المقدسة". وأعاد قراءة العهد الجديد، كما يمكن أن يقرأ الإنسان كتاباً جديداً، طارحاً كل التعاليم والتعليقات جانباً (كما قال). وسيطر عليه نبل السيد المسيح المحبب إلى النفس، وجمال كل تعاليمه تقريباً، باعتبارها خير آمال الإنسان وأكثرها إشراقاً. وإذا كان ثمة شيء يمكن أن يكون رسالة إلهية فإن هذه القصص وذاك المذهب تبدو وكأنهما من عند الله. ورأى لوك أن يتقبلها جميعاً على أنها مقدسة، بل أن يقرها أيضاً، في كل أساسياتها، باعتبارها متفقة كل الاتفاق مع العقل.
ولكن بدا له أن هذه الأساسيات أكثر اعتدالاً وبساطة من اللاهوت المعقد في المواد التسع والثلاثين، أو اعتراف وستمنستر أو مذهب أثناسيوس. واقتبس من الإنجيل فقرة بعد فقرة، لا تطلب كلها من المسيحي إلا أن يؤمن بالله وبأن المسيح رسول من عند الله. وهنا- كما يقول لوك ديانة بسيطة صريحة واضحة، صالحة لكل إنسان، لا تعتمد على أي فقه أو لاهوت. وفيما يتعلق بوجود الله، فقد شعر لوك "بأن أعمال الطبيعة بكل دقائقها أوفى دليل على وجود الله (158) " وحاول لوك من وجوده هو نفسه أن يبرهن على "سبب أول"، وانتهى إلى أن مثل هذه الخصائص لا بد أن تنسب أيضاً إلى الله، والله "عقل سرمدي خالد (159) " وحينما شكا نقاد لوك من أنه أغفل بعض التعاليم الحيوية مثل خلود النفس والعذاب المقيم والنعيم المقيم، أجاب بأنه في الاعتراف بالمسيح ارتضى تعاليمه التي شملت تلك الآراء والتعاليم. ومن ثم خرج لوك من الباب الذي دخل منه.
ومهما يكن من أمر، فإن لوك ألح على أن تتمتع بالحرية الكاملة في إنجلترا كل المذاهب المسيحية فيما خلا الكثلكة. وكان قد كتب مقالاً عن التسامح في 1666. وعندما ارتحل إلى هولندا 1683 وجد هناك من حرية العبادة أكثر مما كان في إنجلترا. ولا بد أنه قرأ أثناء أقامته في هولندا دفاع بيل القوي عن التسامح الديني (1686). وحركت مشاعره هجرة الهيجونوت واضطهادهم (1685) فكتب إلى صديقه لمبروخ رسالة استحث نشرها. فطبعت باللاتينية 1689 تحت عنوان(34/61)
"رسالة في التسامح" وظهرت ترجمتها إلى الإنجليزية قبل نهاية العام. واستنكرها أحد أساتذة أكسفورد، فدافع عنها لوك، وكان آنذاك في إنجلترا، في رسالة ثانية وثالثة" عن التسامح في 1690 slash1692. ولم يحقق قانون التسامح الذي صدر في 1689 من مقترحات لوك إلا قليلاً جداً، ذلك أن القانون استبعد الكاثوليك والتوحيديين واليهود والوثنيين وحظر تولي الشئون العامة على المخالفين. إن لوك أيضاً أتى باستثناءات فلم يكن ليتسامح مع الملحدين حيث رأى أنهم غير أهل للثقة ما داموا لا يخشون إلهاً ولا ديانة توقع عذاباً مادياً، بالتضحية بالإنسان مثلاً، ولم يتسامح مع مذهب يتطلب الولاء لسلطة أجنبية، ومفهوم أنه كان يعني الكثلكة (160). ودعا صراحة إلى التسامح مع المشيخيين والمستقلين، وأنصار تجديد العماد، والأرمينيين والكويكرز. ولم يتجاسر على القول بالتسامح مع التوحيديين ولو أن أرل شافتسبري الأول الذي قضي نحبه في أمستردام 1683 كان قد ذكر أنه قد استقى مذهب الأرمينيين والتوحيديين من سكرتيره لوك (161).
وقال لوك بأن القانون ينبغي أن يهتم فقط بالحافظة على النظام الاجتماعي. فإن القانون الحق في القضاء على كل ما من شأنه العمل على التخريب في الدولة، ولكن ليس له ولاية ولا سلطان على نفوس الناس، وليس لآية الكنيسة سلطة لإرغام الناس على مشايعتها .. فما أسخف أن يعاقب الناس في الدنمرك لأنهم غير لوثريين، أو في جنيف لأنهم لا يتبعون مذهب كلفن، أو في فيينا لأنهم لا يعتنقون المذهب الكاثوليكي. وفوق كل شيء، أي فرد أو أية جماعة أتيح لها إدراك الحقيقة كاملة عن حياة البشر ومصير الإنسان؟ ولحظ لوك أن معظم الديانات تنادي بالتسامح في أيان ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها .. ورأى أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة، والحقد المقنع في ثياب الغيرة الدينية. والاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق، وكيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالبر والإحسان ومحبة الناس؟
وواصل لوك حملته من أجل التسامح حتى غابت شمس حياته.(34/62)
وكان منهمكاً في كتابة رسالة رابعة في نفس الموضوع حين وافته المنية. وعاجله الموت 1704 بينما كان جالساً يصغي إلى ليدي ماشام تتلو المزامير.
وحتى قبل موته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى مكانة لم يسم عليها إلى نيوتن في ميدان العلوم. وتحدثت عنه بالفعل بأنه "الفيلسوف" وعلى حين ختم حياته على تقوى قوية تقليدية تقريباً، فإن كتبه التي لم تكن لتتغير مع الزمن، انتقلت عن طريق الطبعات والترجمات العديدة إلى فكر أوربا المتعلمة المثقفة. قال شبنجلر: "إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كلا عقلانية القارة من لوك (162) ". وليست كلها بطبيعة الحال. ولكن فيمن يمكن للمرء الآن أن يغامر بمثل هذه المبالغة أو الإغراق؟.
6 - شافتسبري
1671 - 1713
كان أنطوني آشلي كوبر، أرل شافتسبري الثالث، تلميذ لوك. مفخرة معلمه. لا لأن لوك كان مسئولاً عن أسلوبه، فإن العالم النفساني البحاثة كتب نثراً مبتذلاً، بسيطاً واضحاً عادة (وهنا يكمن الخطر)، ولكنه قلما كان نثراً جميلاً، فإن شافتسبري ذا الفراغ والجدة، كتب في تهذيب واثق، ودعابة متسامحة، ورشاقة غالية (فرنسية) تقريباً-فقد تنازل السيد الإقطاعي الإنجليزي أن يكون فيلسوفاً. ويجدر بنا أن نقف عنده قليلاً لأنه يكون مؤسس علم الجمال في الفلسفة الحديثة، وبإنقاذه الوجدان والتعاطف من أيدي هوبز ولوك، غذى فيض العاطفة الذي بلاغ ذروته عند روسو.
وتحت إشراف لوك، وعلى نهجه في تعليم اللغة بالمحادثة، مكنت اليزابث بيرش التي كانت تحذق اليونانية واللاتينية، أنطوني من قراءة كلتا اللغتين بسهولة وهو في سن الحادية عشرة، ثم التحق بمدرسة ونشستر، وتجول لمدة ثلاثة أعوام تعلم في أثنائها الفرنسية وأساليب الحياة الفرنسية، ومال إلى الفن ميلاً لا بد أنه بدا غير لائق بلورد إنجليزي. ودخل البرلمان لمدة عام واحد-وهذا كاف جداً ليظهره على "جور وفساد الحزبين كليهما (163) ". ولكن دخان لندن زاد من وطأة(34/63)
الربو عليه فعاد أدراجه إلى هولندا، حيث وجد الجو الفكري نابضاً بفلسفة سبينوزا وبيل، ومذ حصل على لقب أرل 1690 فإنه قضي بقية أيام حياته في ضيعته الريفية. وتزوج قبل وفاته بأربع سنوات، وكم كانت دهشته حين وجد أنه سعيد كما كان من قبل (164). وفي 1711 نشرة مجموعة مقالاته تحت عنوان شامل "خصائص الإنسان، العادات، الآراء، العصر الحاضر. ولم يمتد به الأجل لأكثر من اثنين وارعين عاماً، حيث فارق الحياة في 1713.
ولم يكن متوقعاً من رجل ورث هذا الثراء العريض على الأرض أن يعنى بأمر السماء أو يقلق باله من أجلها. إنه استنكر "الغيرة"-التي كان زمانه يعني بها التعصب-غيرة الإنجليز الذين ظنوا إنهم إنما ينطلقون بالوحي الإلهي. إن أية عاطفة جامحة أو كلام عنيف في رأي شافتسبري دلالة على سوء التربية، ولكنه رأى أنه من الحكمة أن يسخر منهم أكثر من أن يعذبهم. والحق أنه بدا له أن الظرف والدعابة اللتين جعلهما موضوع رسالته الأصلية الخلاقة، هما خير مدخل لأي شيء، حتى اللاهوت. واتفق مع بيل على أن الملحدين مواطنون مهذبون، وأنهم أساءوا إلى الدين والأخلاق أقل مما فعلت وحشية العقائد التي سيطرت واستغلت نفوذها. واعترض على "عبادة وحب اله قلب حول شديد الغيظ، عرضة للحنق والغضب، مهتاج محب للانتقام ... يشجع الخداع والخيانة بين الناس، يرضى على قلة من الناس ويقسو على سائر الناس (166) ". وعجب مما كان لمثل هذا المفهوم عن المعبود من أثر على خلق الإنسان وسلوكه. وذهب إلى أنه من الخسة والجبن ألا يتحلى الإنسان بالفضيلة إلا أملاً في الثواب أو خوفاً من العقاب. فالفضيلة لا تكون حقيقية صادقة إلا إذا تحلى بها المرء من أجلها هي. ومهما يكن من أمر، وما دام الإنسان هو على ما هو عليه، فمن الضروري أن يغرس في نفسه الإيمان بمثل هذا الثواب والعقاب في المستقبل (167). "إنه من صادق الإنسانية والشفقة إخفاء الحقائق الهامة عن القلوب الواهنة .... وقد يكون لزاماً ألا يتحدث العقلاء إلا رمزاً (168) "، وهكذا دافع شافتسبري عن الكنيسة رسمية، وحاول أن يوفق بين الإيمان بوجود إله واحد في الفلسفة متفائلة أوجزت الرذيلة في أنها هوى إنساني (169). ومع(34/64)
ذلك فإن الكساندر بوب رأى أن كتاب "خواص الإنسان" أساء إلى الديانة المنزلة في إنجلترا أكثر مما أساءت كل مؤلفات الكفار السافرين غير المتحفظين (170).
واتفق شافتسبري مع أرسطو ولوك على ان السعادة هي الهدف المشروع لأفعال الإنسان، وعرف الفلسفة بأنها "دراسة السعادة (171) ". ولكنه عارض الهبوط بكل الدوافع الإنسانية إلى مجرد أنانية أو مصلحة شخصية، وطبقاً لهذا التحليل (الذي بسطه هوبز ولاروشفوكول حديثاً):
يكون التلطف والكرم الإنساني تجاه الغرباء أو الناس في وقت الشدة، مجرد أنانية أكثر تعمداً. والقلب المخلص الأمين قلب أشد مكراً، والأمانة والود مجرد حب للذات، ولكنه حب أحسن تنظيماً وضبطاً. وحب الأقارب والأبناء والذرية إنما هو حب خالص للنفس وللدم المباشر للإنسان ... والشهامة والشجاعة، لا ريب، تكيف أو تعديل لحب النفس الشامل هذا (172).
وعلى عكس هذا الرأي، زعم شافتسبري أن الطبيعة الإنسانية مزودة بشكل مضاعف بغرائز للنفع الشخصي، وغرائز للعيش في جماعة. وأتعقد أن المجتمع والدولة ما نشأتا عن العقد الاجتماعي. بل عن "مبدأ القطيع" أو نزعة التزامل ... وهي نزعة طبيعية قوية في معظم البشر (173) وهناك "عواطف طبيعية قائمة في حب الجنس البشري. وفي محاولة إرضائه، والشعور الودي نحوه والتعاطف معه .... وتوافر هذه العواطف في بالغ قوتها معناه توافر الوسائل الأساسية للمتعة الذاتية، أما الافتقار إليها فهو التعاسة والسقم المحققان (174) ". وكون المرء "طيباً صالحاً" معناه توجيه كل ميوله ونزعاته توجيهاً مستقيماً ثابتاً نحو خير الجماعة، وكلما كبرت الجماعة التي توحي بهذه المشاعر وتبثها، حسنت حال النسا فيها. والشعور بهذا التعاطف الاجتماعي هو الوعي الأخلاقي. وهذا شيء فطري، لا من حيث المتطلبات النوعية (التي تختلف من جماعة إلى جماعة) ولكن من حيث أساسه الغريزي، "الإحساس بالصواب(34/65)
والخطأ، وهو فنياً أمر طبيعي مثل الميل الطبيعي نفسه، وهو من أول المبادئ في تكويننا (175) ".
وانتقل شافتسبري من علم الأخلاق إلى علم الجمال بالمطابقة بينهما. فالطيب والجميل شيء واحد، فالخلق الحسن "هو تذوق الجمال واستساغة كل ما هو مهذب محتشم"، ومن ثم نتحدث عن أعمال معادية لمصلحة المجتمع بأنها قبيحة، حيث أنها تسيء إلى هذا التناسق بين الجزء والكل، وهو صلاح وجمال معاً. ويستطيع المرء أن يجعل من حياته عملاً من أعمال الفن-من الوحدة والتناسق-بتنمية إحساس جمالي ستكون الأخلاقيات فيه أحد العناصر، والرجل "الذي نشأ خير تنشئة" (هكذا اعتقد الأرستقراطي شافتسبري) يفعل هذا. وهو بحكم تربيته وتدريبه "لا يقبل أن يأتي عملاً نكراً أو وحشياً (176) " إن ما تشكل لديه من ذوق طيب لا بد أن يوجهه في السلوك وفي الفن معاً. والحق أيضاً لون من الجمال فهو تناسق أجزاء المعرفة مع الكل. ومن هنا نحا شافتسبري نحو الكلاسيكية في الفن. وبدأ له الشكل والوحدة والتناسق أساسيات التفوق في الشعر والعمارة والنحت، وهي أقل ضرورة وامتياز في الرسم بالألوان منها في الرسم العادي. وكان في العصر الحديث أول من جعل الجمال مسألة أساسية في الفلسفة، وهو الذي بدأ البحث الذي بلغ ذروته، في أواخر القرن الثامن عشر بلورد كامس وبيرك.
كان هذا جانباً من تأثير شافتسبري، وهناك جوانب أخرى كثيرة. إن توكيده على الوجدان أثر على الحركة الرومانتيكية، وبخاصة في ألمانيا، عن طريق لسنج وشيلر وجوته وهردر-الذين أسموه "أفلاطون أوربا المحبوب (177) " وظهر هذا الأثر في فرنسا في ديدرو كما ظهر في روسو. أما تفسيره للدين بأنه ضعيف من الناحية النظرية، ولكنه أمر لا يستغني عنه من الناحية الأخلاقية، فقد كان له أثر في أفكار كانت العملية. وظهر توكيده على التعاطف مرة ثانية باعتباره أساس الأخلاق، عند هيوم وآدم سميث. وأسهمت أفكاره عن الفن في تشكيل نشوة ونكلمان الأصيلة الممتازة. إنه بدأ حياته تلميذاً لجون لوك المفكر والذي لم يعن كثيراً بالجماليات فأصبح (وربما بحكم المقاومة الطبيعية في كل جيل لمنشئه) فيلسوف الوجدان والعاطفة(34/66)
والجمال. وحيث كان يحب الأسلوب الكلاسيكي في الفن، فقد أصبح مصدر إحياء الرومانتيكية في قارة أوربا، ولو أن الشعر والعمارة في إنجلترا تبعتا نزعته الكلاسيكة. وكان له الفضل والفخر في أنه جعل الفلسفة تشرق برقة الأسلوب ورشاقته مما أعاد إلى الذاكرة أفلاطون، ولم ينافسه في هذا بعد ذلك إلا باركلي.
7 - جورج باركلي
1685 - 1753
ولد في ديرت كاسل في مقاطعة كيلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بكلية ترنتي في دبلن. وفي سن العشرين أسس نادياً لدراسة "الفلسفة الجديدة"، ويقصد بها لوك. وفي الحادية والعشرين بدأ في "الكتاب العادي" وتلك فكرة كان يأمل من ورائها أن يقضي على "المادية" إلى الأبد: أي أنه ليس ثمة شيء موجود إلا إذا كان مدركاً بالحواس، ومن ثم فإن العقل هو الحقيقة الواقعة، والمادة أسطورة أو خرافة:
كما كان مذهب المادة أو الجوهر المادي، السند والدعامة الأساسيتان للتشكك، فإنه على نفس الركيزة أقيمت المبادئ البعيدة عن التقى والورع في الإلحاد والمروق عن الدين .... وكم كان الجوهر المادي صديقاً حميماً للملحدين في كل العصور، ممن لسنا في حاجة لذكرهم. أن كل نظمهم الرهيبة البشعة تعتمد عليه اعتماداً سافراً أساسياً، حتى إذا ما انهارت يوماً هذه الركيزة، أو حجر الزاوية في مذهبهم، فإن كل الكيان لم يلبث أن أنهار، مما لا يستحق معه أن نلقي نظرة خاصة إلى حماقات كل شيعة من هؤلاء الملحدين (178).
وهكذا في السنين السبع التالية، وقبل أن يتم التاسعة والعشرين أصدر بارلكي أهم أعماله: "بحث عن نظرية جديدة للرؤية" (1709)، رسالة عن أصول العقل البشري (1710)، "ثلاث محاورات بين هيلاسي وفيلونوس في معارضة المتشككين والملحدين" (1713). وكانت الرسالة الأولى إضافة رائعة إلى علم النفس والبصريات، كما هزت الرسالتان الخيرتان الفلسفة من الأعماق.(34/67)
ونبعث رسالة الرؤية من قطعة لجون لوك يروي فيها كيف أن وليم مولينكس (مدرس في كلية ترنتي، دبلن) أثار أمامه مسألة: هل يستطيع إنسان ولد أعمى، أن يميز بعد استرداد بصره، بالبصر وحده، بين جسم كروي وآخر مكعب إذا كان كلاهما من نفس المادة وفي نفس الحجم. واتفق رأي مولينكس ولوك سلباً. واتفق باركلي معهما وأضاف تحليله الخاص. إن البصر لا يهيئ لنا إدراكاً حسياً للبعد والحجم والمواقع أو الحركات النسبية للأجسام، إلا بعد التصحيحات التي تجريها حاسة اللمس، وعن طريق التجارب المتكررة يصبح هذا التصحيح لحظياً تقريباً، وعندئذ يزودنا البصر بمثل هذا الحكم على شكل الأجسام المرئية وبعدها ومكانها وحركتها، كما لو أننا لمسناها:
إن الإنسان الذي ولد أعمى، ثم أعيد إليه بصره، لن يكون لديه في أول الأمر فكرة عن البعد عن طريق البصر فإن الشمس والنجوم، وأبعد الأجسام وأقربها على حد سواء، تبدو في عينه، بل في عقله، فالأجسام التي تدخل عن طريق البصر، لا تبدو له (كما هي في الحقيقة) إلا مجرد طائفة جديدة من الأفكار والأحاسيس، كل منها قريب الإحساس بالألم واللذة أو أشد الأحاسيس الداخلية في النفس .. أما حكمنا على الأجسام المدركة بالبصر، على أي بعد، أو بدون العقل، فإنه حكم مبني تماماً على التجربة (180).
فالفضاء حينئذ تركيب عقلي، إنه أسلوب للعلاقات التي تبنى عن طريق الخبرة للتوفيق بين مدركاتنا بالبصر وباللمس. وأكدت العمليات التي وردت في تقارير الجمعية الملكية (1709 - 1728) وجهة النظر هذه: فإن فرداً مولوداً أعمى، أعيد إليه بصره عن طريق جراحة أجريت له، كان في أول الأمر "أبعد ما يكون عن الحكم على الأبعاد، إلى حد أنه ظن أن كل الأجسام أياً كانت لمست عينيه ... ولم يدرك شكل أي شيء، ولم يميز بين الأشياء، مهما اختلفت في الشكل أو الحجم (181) ".
وكان كتاب "أصول المعرفة الإنسانية" نتاجاً رائعاً جديراً بالذكر(34/68)
لفتى في الخامسة والعشرين. ومرة أخرى تعرض باركلي لمقال لوك. إذا كانت كل المعرفة تأتي عن طريق الحواس، وليس ثمة شيء له حقيقية واقعة لدينا إلا إذا كنا ندركه أو قد أدركناه إدراكاً حسياً، "موجود أي أنه مدرك". وكان لوك كان قد ذهب إلى أن المدركات قد أحدثتها أشياء خارجية تضغط على أعضاء الحس فينا. وهنا تساءل باركلي: كيف تعرف أن مثل هذه الأشياء (الخارجية) موجودة؟ ألسنا نرى في أحلامنا أفكاراً واضحة مشرقة. وضوح وإشراق ما نراه منها في اليقظة. أن لوك حاول أن ينقذ استقلال الحقيقة الواقعة للأشياء بالتمييز بين صفاتها الأولية والثانوية، فهذه الخيرة ذاتية "في العقل"، والصفات الأخرى-الامتداد، الصلابة، الشكل، العدد، الحركة، السكون-موضوعية، توجد في جوهر خفي غامض اعترف لوك بأنه لا يعرف عنه شيئاً، ولكنه، هو والعالم بأسره، جعلوه "والمادة" شيئاً واحداً. والآن أعلن باركلي أن الصفات الأولية ذاتية مثل الثانوية تماماً، وأننا لا نعرف امتداد الأشياء وصلابتها وشكلها وعددها وحركتها وسكونها، إلا عن طريق الإدراك الحسي، وأن الصفات الأولية، بناء على ذلك، ذاتي أيضاً، أي أنها أفكار. والعالم بالنسبة لنا طائفة من المدركات الحسية، "إن العقل هو الذي يشكل هذه المجموعة المتنوعة من الأجسام التي يتألف منها العالم المرئي، ولا يتأتى لأي منها أن يكون موجوداً لفترة أطول مما هو مدرك (182) انزع عن "المادة" صفاتها الأولية والثانوية معاً، تصبح المادة عدماً لا معنى له. وعندئذ يترك "المادي" ليلعق عدماً (183).
وكان باركلي على وعي تام بأن آخرين، فضلاً على الماديين قد يعترضون على تبخر العالم الخارجي بمثل هذه البراعة الخادعة. ولم يعجز عن الرد حين سئل: هل يتوقف وجود أثاث المنزل في حجراتنا إذا لم يوجد من يدركه أو يراه (184). إنه لم ينكر حقيقة عالم خارجي لمدركاتنا (185)، وكل ما أنكره هو "مادية" العالم. ويمكن أن تستمر الأشياء الخارجية موجودة ولو لم ندركها أو نراها، وما ذاك إلا لأنها موجودة باعتبارها مدركات في عقل الله (186)، واستطرد يقول إن احساساتنا في الحقيقة تسببها، لا المادة الخارجية، بل القوة الإلهية التي تؤثر في حواسنا. والروح(34/69)
فقط هي التي تؤثر في الروح. والله هو المصدر الوحيد لكل أحاسيسنا وأفكارنا (187) (1).
وذهب معاصرو باركلي إلى أن هذا لهو إيرلندي، وكتب لورد تشسترفيلد إلى ابنه: -
أن الدكتور باركلي الرجل الفاضل العبقري العالم، ألف كتاباً ليثبت أنه ليس هناك شيء مما يسمونه المادة، وأنه لا يوجد شيء إلا فكرة ... وحججه مفحمة، بكل معنى الكلمة، ولكني أبعد ما أكون عن الاقتناع بها، إلى حد أني مصمم على أن آكل وأشرب وأمشي وأركب، حتى أحفظ تلك "المادة" التي أتصور خطأ، في الوقت الحاضر، أن جسمي يتكون منها، على أحسن حالة ممكنة (188).
وكل العالم يعرف ما بذل دكتور جونسون من جهد عظيم في الرد على دكتور باركلي:
يقول بوزول: بعد خروجنا من الكنيسة، وقفنا لبعض الوقت معاً نتحدث عن سفسطة الأسقف باركلي أو مغالطته البارعة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل شيء في الكون مجرد أفكار، ولاحظت أنه على الرغم من أننا قانعون بأنها غير صحيحة، فإنه من المتعذ1ر دحضها. وأن أنسي لن أنسي اندفاع جونسون في الرد، وهو يضرب بقدمه وبقوة شديدة حجراً كبيراً حتى أزاحه فارتد وسمع له صوت، وقال: "إني أدحضها هكذا (189) ".
وربما كان من الجائر بطبيعة الحال أن يوضح باركلي للرجل العظيم (دكتور جونسون) أن كل ما عرف عن الحجر، بما في ذلك الألم الذي أصاب إصبع قدمه، كان ذاتياً: مجموعة من المدركات الحسية تسمى حجراً، مختلطة مع طائفة أخرى من الأحاسيس السمعية تسمى بوزول، ومجموعة من الأفكار التي تعلمتها والتي أشرب بها تسمى
_________
(1) في أحدث فيزياء، إن أحاسيسنا لا تسببها أية "مادية" معروفة، ولكن تسببها طاقات دقيقة، جوهرها المادي غير معروف. وهو افتراضي.(34/70)
فلسفة، ولدت كلها استجابة أنتجت طاقة أخرى من الأحاسيس. واتفق هيوم مع بوزول وتشسترفيلد في أن حجج باركلي "لا تدع مجالاً لأي رد، ولا تؤدي إلى اقتناع" (190).
ورأى هيوم أن لغز باركلي ساحر، ولكنه استخلص منه نتيجة مدمرة. وسلم بأن "المادة" تتلاشى عندما نسلبها صفاتها التي تنسبها إليها مدركاتنا الحسية ولكنه أوحى بأن نفس الشيء قد يقال عن "العقل". ولقد رأينا عرض لوك المسبق لهذه النقطة. لكن باركلي تنبأ بها أيضاً. فإنه في المحاورة الثالثة جعل هيلاس يتحدى فيلونوس:
أنت تعرف، حقاً بأنك ليس لديك أية فكرة عن نفسك .... وتسلم مع ذلك بأن هناك جوهراً روحياً، وعلى الرغم من أنه ليس لديك أية فكرة عنه، بينما تنكر إمكان وجود جوهر مادي، لأنه ليس لديك أي مفهوم أو فكرة عنه. فهل هذا من الإنصاف في شيء؟ .... أما أنا فيبدو لي، طبقاً لطريقة تفكيرك، وبناء على مبادئك، أن هذا يستتبع أنك مجرد جهاز من أفكار عائمة، دون جوهر يساندها. أن الكلمات لا يمكن استخدامها دون معنى وحيث أنه ليس في الجوهر الروحي معنى أكثر مما هو في الجوهر المادي، فيجب تسفيه كليهما سواء بسواء (191). ويرد فيلونوس (نصير العقل) على هيلاس (الذي يمثل المادة):
كم من مرة يجب أن أعيد وأكرر أني اعرف أو أني أعي وجودي وجوهري، وإني أنا نفسي، لا أفكاري، بل شيء آخر عنصر مفكر فعال يدرك بالحواس، ويعرف، ويريد، ويعمل حول الأفكار. أنا أعرف أني بالذات، أدرك الألوان والأصوات، وأن اللون لا يدرك الصوت، ولا الصوت يدرك اللون، وأني لذلك عنصر فرد، متميز عن اللون والصوت (192).
ولم يقتنع هيوم بهذا الجواب، وانتهي إلى أن باركلي، طوعاً(34/71)
أو كرهاً، دمر المادة والروح كلتيهما، وأن كتابات الأسقف اللامع الذي تطلع إلى الدفاع عن الدين، "تشكل أحسن دروس التشكك التي يمكن العثور عليها عند الفلاسفة القدامى والمحدثين على حد سواء، ودون استثناء بيل (193) ".
وعمر باركلي أربعين عاماً بعد نشر رسائله الثلاث. وفي 1724 عين رئيساً لكاتدرائية دري. وفي 1728 أبحر، بناء على وعد من الحكومة بإمداده بمعونة مالية، إلى برمودا لينشئ فيها كلية "لتقويم عادات الإنجليز في مزارعنا في الغرب-المستعمرات-، ونشر الإنجيل بين الأمريكيين الهمجيين- (194). ووصل إلى نيوبورت في رود أيلند ينتظر ورود المنحة الموعودة وقدرها عشرون ألفاً من الجنيهات التي لم يصل منها شيء. وهناك ألف كتاب "الفيلسوف الصغير" ليضع حداً لكل الشكوك الدينية. وترك بصماته على ذهن جوناثان ادواردز، وكتب بيتاً مشهوراً "أن الإمبراطورية تشق طريقهما غرباً". وبعد ثلاث سنوات من توقعات لا طائل تحتها عاد إلى إنجلترا. وفي 1734 عين أسقفاً في كلوين. وقد رأينا كيف أن فانيسا صديقة سوبفت جعلته أحد منفذي وصيتها وتركت له نصف ثروتها. وفي 1744 نشر رسالة غريبة "مزايا ماء القطران" الذي قدمه إليه هؤلاء الهمجيون الذين سبق ذكرهم، والذي أوصى به الآن علاجاً للجدري. وقضي نحيه في أكسفورد في 1753 بعد حياة دامت ثمانية وستين عاماً.
ولم يبزه أحد في إثبات عدم واقعية الواقع. وفي جهوده لاستعادة الإيمان الديني وتطهيره البلاد من مادية هوبز التي كانت تلوث إنجلترا وتفسدها، قلب الفلسفة رأساً على عقب، وجعل "كل طبقات السماء وكل ما على الأرض .... كل تلك الأجسام التي تؤلف هيكل الجبار للعالم بأسره (195) "، موجودة بالنسبة للإنسان، باعتبارها مجرد أفكار في عقله. وكانت مغامرة محفوظة بالمخاطر، وربما ارتاع باركلي نفسه إذا وجد هيوم وكانت يقتبسان من مبادئه التقية الورعة نقداً للعقل لم يترك أية تعاليم أساسية في صرح الدينة المسيحية العريقة الحبيبة إلا زعزع أركانها. أننا لنعجب بدقة نسيج العنكبوت الذي جاء به، ونسلم بأنه منذ أفلاطون لم يكتب أحد مثل هذا الهراء الخلاب. وسنرى أثره في كل مكان من بريطانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وكان الأثر أقل في(34/72)
فرنسا، ولكنه تعاظم في تعويذة نظرية المعروفة غير المفهومة عند أتباع كانت في القرن التاسع عشر. وحتى في يومنا هذا لم تقرر الفلسفة الأوربية بعد قراراً حاسماً وجود العالم الخارجي. وحتى توطن هذه الفلسفة نفسها على أقصي احتمال في هذا المجال، وتواجه مشاكل الحياة والموت، فإن العالم سوف يغفلها ويتغاضى عنها.
أن هذه الفترة كانت في حقيقتها أزهى فترات الفلسفة الإنجليزية. أن الناقوس الذي كان فرانسيس بيكون قد دقه لدعوة المفكرين للعمل بعضهم مع بعض، كان قد سمع بعد أن خمد أوار الحرب الأهلية. وكان هوبز جسراً فوق هذا الفراغ الغبي، وكان نيوتن الرافعة التي حرك عليها نيوتن اللاهوت. وكان لوك القمة التي تحدرت منها مسائل الفلسفة الحديثة في رؤية صافية واضحة. ومن هذا الرباعي الإنجليزي الذي سرعان ما أغراه هيوم الحكيم الغريب بالإثم، دخل إلى فرنسا وألمانيا تأثير قوي. ولم يكن المفكرون الفرنسيون في تلك الفترة على نفس القدر من العمق والأصالة مثل الإنجليز، ولكنهم أكثر لمعاناً وإشراقاً، من ناحية لأنهم "غاليون"، ومن ناحية أخرى لأن الرقابة الأشد صرامة أرغمتهم على إفراغ همهم في الشكل، ووضع حكمتهم في الرقة والظرف. ثم جاء فولتير إلى إنجلترا 1726، فلما عاد حمل في جعبته أفكار نيوتن ولوك بعد ذلك علم إنجلترا وفلسفتها أسلحة لتمحو ضلالة الخرافة والغموض والجهل. إن قابلة إنجليزية سهرت على ولادة الاستنارة الفرنسية.(34/73)
الفصل الحادي والعشرون
الدين والعقل في فرنسا
1648 - 1715
1 - تقلبات الديكارتية
في 1694 عرف قاموس الأكاديمية الفرنسية الفيلسوف:
بأنه رجل توفر على البحث في مختلف العلوم، واستقصاء آثارها ونتائجها سعياً للوصول إلى أسبابها وأصولها ومبادئها، ويطلق الفيلسوف كذلك على رجل يحيا حياة عادية منعزلة، بعيداً عن صخب الدنيا ومتاعبها. ولقد يطلق أحياناً على الرجل الهوش الذهن الذي يعتبر نفسه فوق مسئوليات الحياة المدنية وتبعاتها (1).
ومن الفقرة الأولى من هذا التعريف يتبين أنه لم يكن بعد ثمة تمييز بين الفلسفة والعلم، فالعلم باعتباره "فلسفة طبيعية" يمكن أن يكون فرعاً من الفلسفة، حتى القرن التاسع عشر. ومن العبارة الأخيرة من هذا التعريف نستنتج أن "الأربعين الخالدين" في عهد لويس الرابع عشر قد اشتموا رائحة الثورة في جو الفلسفة، وكأن المبشرين بعصر الاستنارة أو رواده الأوائل كانوا قد افتتحوا بخطاب تمهيدي.
وبين التفريعات الثلاثة لهذا التعريف تذبذب التراث العقلي لرينييه ديكارت بين ذيوع الصيت والإنكار. وكان للتراث نفسه ثلاثة أبواق، ردد أحدها صوت الشك أساساً واستهلالاً لكل فلسفة، وأعلن الثاني عن الآلية الشاملة للعالم الخارجي، وأما الثالث فقد عزف ألحان الترحيب بالعقيدة التقليدية، وأخرج الله والإرادة الحرة والخلود من دوامة العالم. وكان ديكارت قد بدأ بالشك وانتهى بالتقوى، واستطاع خلفاؤه أن يتناولوه على أي من الوجهين. إن نساء الندوة القديمة-(34/74)
السيدات المثقفات-اللائى هجاهن موليير 1672 - وجدن بعض الراحة المثيرة من المسبحة في دوامة الكوزمولوجيا الجديدة (علم الكونيات) وقالت مدام سيفيني عن فلسفة ديكارت بأنها موضوع حديث ما بعد العشاء في ندوتها، وأنها، ومدام جرينان، ومام دي سابلي، ومدام دب لافاييت كن جميعاً من نصيرات الديكارتية .. وكانت النساء البارزات في المجتمع تشهدن المحاضرات التي يلقيها أتباع ديكارت في باريس (2). وتبنى كبار النبلاء النهج الفلسفي. وكانت الندوات الديكارتية تعقد أسبوعياً في قصر دوق دي لوين، وف يقصر الأمير دي كونديه في باريس، "وفي أفخم فنادق العاصمة (3). وعلمت الطوائف الدينية-الوعاظ-والبندكت والأوغسطيون-الفلسفة الجديدة في مدارسها. وأصبحت أسلوباً جديداً لتمجيد العقل في العلم والشؤون الإنسانية، مع إخضاعه بدقة، في الدين، للوحي الإلهي كما فسرته الكنيسة الكاثوليكية. وتقبل أنصار جانيسن وكنيسة يورت رويال الديكارتية باعتبارها توفيقاً رائعاً بين الدين والفلسفة.
ولكن ألمع المرتدين فيهم، بليزبسكال استنكر الديكارتية مدخلاً للإلحاد، وقال "لن لأغفر لديكارت، ربما كان مغتبطاً، وفي كل فلسفته، بالاستغناء عن الله، ولكنه ما كان في مقدوره أن يتحاشى السماح له بنقرة بطرف الإصبع ليحرك العالم، بعد أن في غير حاجته إلى الله (4) ". وفي هذه النقطة اتفق اليسوعيون مع بسكال، وبعد 1650 نبذوا الديكارتية باعتبارها وسيلة ماكرة خبيثة لتقويض أركان العقيدة الدينية. وأرادت السوربون حرمان ديكارت من حماية القانون، فدافع عنه بوالو، وحرض نينودي لنلكوس وغيره موليير على هجاء السوربون، فأذعنت للنقد وتوقفت (5). أما العلامة هيوت الذي ناصر الديكارتية لأمد طويل. فإنه انقلب عليها لأنها لم تقف من المسيحية موقفاً ثابتاً، تناولها بالمديح تارة وبالتجريح تارة أخرى. وتزايد انزعاج رجال اللاهوت لصعوبة التوفيق بين تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وبين وجهة مظر ديكارت في "المادة" باعتبارها امتداداً خالصاً. وفي 1665 حرم لويس الرابع عشر تدريس الفلسفة في الكلية الملكية، وفي 1671 امتد هذا الحظر إلى جامعة باريس، وفي 1687 اشترك بوسويه في الهجوم على الديكارتية.(34/75)
وأثارت هذه الاتهامات وتلك الإدانة الاهتمام بالديكارتية من جديد. وجذبت الأنظار إلى مذهب الشك الذي أدخله "بحث في المنهج"، وانتشر الشك الأولى الذي جاء به هذا المقال خفية، أما ملحقاته أو ذيوله القويمة المستقيمة فقد ذبلت وانطفأت جذوتها. وما كان يبقى في القرن الثامن عشر شيء من هذا "المنهج" الذي كان يوماً ظافراً منتصراً اللهم إلا محاولته الهبوط بالعالم إلى مجرد آلة "ماكينة" تذعن لقوانين الفيزياء والكيمياء. وبدا أن كل اكتشاف جديد في العلوم يؤيد "آلية" ديكارت، ويضعف الثقة في لاهوت ديكارت. ولم يوجد مكان لرب إبراهيم واسحق ويعقوب في الصورة التي وضعها ديكارت للكون، كما أن المسيح لم يكن ماثلاً فيها. ولم يبق إلا رب عملاق أعطى العالم دفعة أولية، ثم تقاعس، اللهم إلا بوصفه كفيلاً وضامناً لأحداس ديكارت، وهذا لم يكن الرب المهيب الرهيب الذي ورد ذكره في العهد القديم، ولا الأب الرحيم الذي ورد ذكره في العهد الجديد، أنه كان رب "الربوبيين"، غير مشخص ولا عمل له، جدير بالإهمال، تخضع لمختلف القوانين، فمن ذا الذي يفكر في الصلاة من أجل هذا العبث الأبيقوري؟ وبالفعل في عامي 1669 و1678 شرحت كتب غليوم لامي الأستاذ بكلية الطب في جامعة باريس، علم نفس ميكانيكي تماماً، واستبقت بذلك كتب كوندياك "في الأحاسيس" (1704) كما شرحت فلسفة مادية استبقت كتاب لامتري "الإنسان آلي" (1748). وفي غمرة هذا العراك قام سيرانو دي برجراك برحلاته المخزية إلى القمر والشمس.
2 - سيرانو دي برجراك
1619 - 1655
سيرانو بالنسبة لمعظمنا هو العاشق الولهان الذي قلده الروائي روستان ساخراً، والذي خسر في كل سباق مع ربات الجمال وهو على وشك الفوز بالوصول. ولكن سيرانو الحقيقي لم يخب رجاؤه إلى هذا الحد، بل تنعم بالحياة وبالحب، وقضى وقت مستمتعاً كل المتعة. وإلى التعليم المألوف الذي يتلقاه كل فتى كريم المحتد، أضاف سيرانو (مع موليير) الاستماع في شغف ولهف إلى محاضرات بيير جاسندي القسيس المحبوب الذي أولع بأبيقور المادي ولوكريشس الملحد. وأصبح سيرانو روحاً قوية بشكل خاص، فاسقاً بما تحمل هذه الكلمة(34/76)
من معنيين، منكراً حراً يحيا حياة خليعة مطلقة من كل قيد. وانضم في باريس إلى جماعة دأبت على الصخب والعربدة وتدنيس المقدسات، وذاع صيته في المبارزة. وخد في الجيش، وأقعدته جراحة لبعض الوقت من العمل. ثم انصرف عن الملذات الجنسية إلى فلسفة. وكتب أول رواية فلسفية فرنسية، وفتح الطريق أمام سويفت بالسخرية من بني الإنسان في رحلات إلى أجزاء من العالم لم تطأها قدم. وسخر من القديسين أوغسطين الوقور "الشخصية العظيمة" الذي يؤكد لنا، على الرغم من أن الروح القدس أنار جوانب عقله، أن الأرض كانت على عهد مسطحة مثل التنور، عائمة على الماء مثل نصف برتقالة (6).
وجرب سيرانو قلمه في كل ألوان الأدب تقريباً، وقلما كان يأخذ أي لون مأخذ الجد، ولكنه كان عادة يضرب على الوتر الحساس-وبدت ملهاته "المتحذلق اللعوب" في نظر موليير صالحة لأن يسرق منها مشهداً أو مشهدين، أما مأساته "موت أوجربين" فقد مثلت مرة في 1640، حتى تصل خشبة المسرح ثانية في 1660، ولكنها نشرت في 1654، وسرعان ما تغنى شباب باريس الطائش المتهور بأبيات الإلحاد التي وردت على لسان سيجان:
"ماذا يكون هؤلاء الأرباب إذن؟ نتاج مخاوفنا وهرائنا التافه، نعيها دون أن ندرك لهذا سبباً .... أرباب لم يصنعهم إنسان، ولم يصنعوا هم إنساناً قط". ثم الأبيات تتحدث عن الخلود: "بعد ساعة واحدة من الموت تعود نفوسنا التي زالت من الوجود، سيرتها قبل الخروج إلى الحياة بساعة".
وبعد طبع هذه الرواية سرعان ما سقطت على أم رأسه عارضة أودت بحياته وهو في سن السادسة والثلاثين، وترك وراءه مخطوطة طبعت في جزأين تحت عنوان "التاريخ الهزلي لدول وإمبراطوريات القمر" (1657) "والتاريخ الهزلي لدول وإمبراطوريات الشمس" (1662)، وكانتا نوعاً من القصص العلمي، المبني على "كونيات" ديكارت، مستمداً الكواكب من دواماتها التي كونتها الإهاجة الثورية(34/77)
في المادة البدائية. وذهب سيرانو إلى أن الكواكب كانت يوماً متوهجة مثل الشمس ولكن،
بمرور الزمن فقدت كثيراً من ضوئها وحرارتها بفعل الانبعاث المستمر لخلاياها التي تحدث مثل هذه الظاهرة، حتى أصبحت باردة معتمة، ولباباً واهناً تقريباً. إننا نرى حتى البقع الشمسية يكبر حجمها يوماً بعد يوماً. وما يدرينا الآن أن هذه البقع ليست إلا قشرة على سطح الشمس كتلتها التي تبرد تبعاً لفقدان الضوء، أن الشمس لن تصبح كرة معتمة مثل الأرض (7)؟
ودفعته الصواريخ فغادر الأرض حتى وصل بسرعة إلى القمر. ولحظ أنه طيلة ثلاثة أرباع المسافة، كان يحس بأن الأرض تشده إلى الوراء، وفي المربع الأخير أحس بجاذبية القمر. "فقلت في نفسي أن هذا راجع إلى أن كتلة القمر أصغر من كتلة الأرض، ومن ثم يكون محيط تأثيره أصغر من حيث المسافة (8). وعندما هبط وقد أصابه الدوار، وجد نفسه في جنة عدن، ويدخل في مناقشة مع الياهو (الله) حول الخطيئة الأولى، فيطرد من الجنة إلى القفاز البدائية في القمر. وهناك يواجه قبيلة من الحيوان طول الواحد منها تسعة أذرع، في زي الرجال، ولكنها تمشي إلى أربع. ولما كان أحدهم الروح الحارسة لسقراط أو شيطانه في أثينا من قبل، فإنه تحدث بلغة يونانية فلسفية، ويقول لسيرانو أن المشي على أربع هو الطريقة الطبيعية الصحية، وأن هؤلاء السادة القمريين لديهم مائة حاسة لا خمساً أو ستاً فقط، وأنهم يدركون من الحقائق ما لا يحصى ولا يعد، مما يخفى على بني البشر (وقد تلاعب فونتيا وفولتير وديدرو بهذه الأفكار). ويجمح خيال سيرانو: أن هؤلاء القمريين-يتغذون على الأبخرة التي تتصاعد من الأطعمة لا على الأطعمة ذاتها، ومن ثم يتخلصون من متاعب الهضم ومضايقاته، ومن مهانة خروج الفضلات من الجسم ومفارقاته. وقوانين القمر يسنها الشبان الذين يجلهم ويحترمهم الشيوخ، وأهل القمر هؤلاء يستنكرون العزوبة والتبتل والعفة، ويمتدحون الانتحار وإحراق جثث الموتى والأنوف الكبيرة. ويوضح شيطان سقراط سالف الذكر أن الدنيا لم تخلق، بل(34/78)
أزلية، وأن الخلق من الهدم (تعلم هذا عن الفلاسفة السكولاسيين) أمر لا يمكن تصوره، وأن أزلية الكون فكرة ليست أصعب تقبلاً من أزلية الإله، والحق أن فرضية وجود إله ليست ضرورية على أية حال، حيث أن العالم آلة تندفع وتستمر بذاتها. ويجادل سيرانو في أنه لا دب أن يكون هناك إله لأنه رأى بعيني رأسه علاجات خارقة معجزة، فيسخر الشيطان من هذا كله باعتباره ضرباً من الإيحاء أو التخيل، ويثأر أثيوبي قوي جبار للعقيدة القويمة، حيث يمسك بسيرانو بإحدى يديه، وبالشيطان باليد الأخرى، ويلقي بالشيطان في الجحيم، وفي الطريق يقذف بسيرانو في إيطاليا، حيث تنبح كل الكلاب من حوله حين اشتمت منه رائحة القمر. وكذلك انجذب انتباه جوناتان سويفت.
3 - مالبرانش
1638 - 1715
في مقابل افنتاج الموصوم بالكفر والمروق عند جاسندي وديكارت، وجد الإيمان سنداً قوياً، لا في باسكال وبوسيوييه وفنيلون فحسب، بل في واحد من أدق وأبرع الميتافيزيقيين في العصور الحديثة كذلك.
كاد نيقولا مالبرانش أن يكون معاصراً للويس الرابع تماماً، فقد ولد قبله بشهر، ومات بعده بشهر. ولم يكن ثمة شبه بينهما إلا هذا. وكان نيقولا وديع النفس طاهر الذيل، ومذ كان أبوه سكرتير لويس الثالث عشر، وعمه نائب الملك في كندا، فقد اجتمع له كرم المحتد وحسن التنشئة، اللهم إلا صحته، فقد كان جسمه ضعيفاً مشوهاً. وليس ثمة ما يفسر أنه عمر حتى السابعة والسبعين إلا التزامه بساطة العيش وهدوء الحياة في الدير. وفي الثانية والعشرين من عمره انضم إلى "جماعة المصلى" وهي طائفة دينية تفرغت للتأمل والوعظ، ورسم قسيساً في السادسة والعشرين.
وفي العام نفسه وقع على كتاب ديكارت "رسالة عن الإنسان"، وابتهج رطيقة المناقشة والأسلوب معاً، وأصبح ديكارتياً ذا إيمان راسخ بالعقل. وعقد العزم لفوره على أن يبرهن بالعقل على المذهب الكاثوليكي الذي نبتت فيه جذور حياته ووضع فيه كل آماله، وكانت هذه خطوة جريئة، ارتداداً من بسكال إلى توما الأكويني. وهي خطوة كشفت عن الثقة العميقة في الشباب، ولكنها عرضت حصون(34/79)
الإيمان لغارات العقل. وبعد عشر سنوات من الدرس والكتابة أصدر مالبرانش في أربعة مجلدات (1674) تحفة من روائع الفلسفة الفرنسية تحت عنوان "البحث عن الحقيقة". وهنا، كما هو الحال في كل فلاسفة فرنسا، كان وضوح الالتزام الخلقي وإدراكه أمراً مقبولاً، وأصبحت الفلسفة أدباً.
ولم يكن ديكارت قد بدأ دراساته المضنية عن النفس فحسب، بل كان قد وضع مثل هذه اللهو بين الجسم مادياً وميكانيكياً وبين العقل روحياً وحراً، بحيث لا يمكن تصور أي تفاعل بينهما. ومع ذلك بدا هذا التفاعل أمراً لا نزاع فيه: إن فكرة قد تحرك ذراعاً أو جيشاً، مخدراً قد يشوش الذهن. وكان نصف حيرة خلفاء ديكارت في عبور الهوة بين الجسم والفكر.
إن فيلسوفاً فلمنكياً هو أرنولد جيلنكس مهد الطريق أما مالبرانش-وسبينوزا وليبنتز-بإنكاره التفاعل. إن الجسم المادي لا يؤثر في العقل غير المادي، والعكس بالعكس، وإذا بدا أن أحدهما يؤثر في الآخر، فما ذلك غلا لأن الله قد خلق الحقيقة في مجريين متميزين للأحداث، أحدهما مادي والآخر عقلي، وتزامنهما أشبه بتزامن ساعتي حائط على نفس الوقت والسرعة، تدقان نفس الساعات في وقت واحد، ولكنهما الواحدة منهما مستقلة عن الأخرى، اللهم إلا أن كلتيهما من مصدر واحد-الذكاء الذي وضعهما وبدأهما. ومن ثم يكون الله هو المصدر الوحيد لكل من سلسلتي الأسباب والنتائج المادية والعقلية. والحالة العقلية هي الفرصة المناسبة، لا السبب، للحركة المادية الناشئة ظاهرياً، والحركة المادية-عملاً أو إحساساً-هي مجرد فرصة للحالة العقلية التي تبدو أنها تسببها، والله، في كل حالة، هو وحده العلة أو السبب (1). وعند هذه النقطة نقض جلينكس، الذي
_________
(1) أن التنقيح الذي أدخله سبينوزا على "نظرية التوازي في علم النفس البدني" قد يساعدنا على فهم جيلنكس. أن الله أو الطبيعة تعمل في ناحيتين أو مجريين متزامنين: التعاقبات المادية للعالم الموضوعي، بما في ذلك أجسامنا، والتعاقبات العقلية للعالم الذاتي، بما في ذلك مشاعرنا وأفكارنا ورغباتنا. ولا يسبب أحد هذين المجريين المجرى الآخر، لأن كليهما مجرد جانبين-الخارجي والداخلي-لعملية واحدة-وجرى واحد مزدوج للأحداث.(34/80)
كأنه يخشى الجبرية، منهجه، حيث أجاز القول بأنه في العمال الإرادية يمكن أن تكون الإرادة الإنسانية المتعاونة مع الله، سبباً حقيقياً للنتائج المادية.
وأكمل مالبرانش من مذهب "الاتفاقية" المتردد هذا. فالله دائماً هو سبب كل من العمل المادي والحالة العقلية، وتفاعلها صوري، ولا يتفاعل أي منهما مع الآخر (1). "أن الله وحده يرد الهواء الذي جعلني هو أتنفسه ... لست أنا الذي أتنفس، أنني أتنفس على الرغم مني. لست أنا أتحدث إليك، وكل ما هنالك أني أرغب في التحدث إليك (9) ". أن الله (الطاقة الكلية للكون) هو القوة الوحيدة. وكل ما يتحرك ويفكر، إنما يفعل هذا لأن القوة الإلهية تعمل من خلال العمليات المادية (البدنية) أو العقلية. والحركة هي الله يعمل في أشكال مادية، والتفكير هو الله يفكر في داخلنا.
إن هذه الفلسفة الجبرية بشكل واضح تكتنفها صعاب لا تحصى حاول مالبرانش أن يتغلب عليها في رسائل لاحقة. وحاول جاهداً التنسيق بين درجة من الإرادة الحرة في الإنسان وبين قوة الله الشاملة للكون، والتوفيق بين الشر والشقاء والنزعات الشيطانية المتعددة، وبين السببية أو العلية الوحيدة الموجودة في كل الوجود لنزعة خيرة عليمة قديرة، ولن نتعقبه في هذه المتاهات، ولكنه في أثناء جولاته وصولاته يترك لنا قبساً معيناً في علم النفس. فهو يرى أن الأحاسيس في الجسم لا في العقل. وفي العقل أفكار، وهو يعرف الأشياء باعتبارها فقط طوائف من الأفكار-من التركيب، والحجم واللون والرائحة والصلابة والصوت والحرارة والطعم. ومكبات الأفكار هذه ليست في الشيء نفسه، وكثير من أحكامنا على شيء-أنه كبير أو صغير، منير أو مظلم ثقيل أو خفيف، حار أو بارد، يتحرك بسرعة أو ببطء-تصف موقع المشاهد وحالته ووضعه، لا صفات الشيء الذي يشاهده. ونحن لا نعرف الأشياء. وكل ما نعرفه هو مدركاتنا وأفكارنا المتحيزة المتحولة. (وكل هذا قبل لوك باركلي بجيل واحد).
_________
(1) قارن هذا العرض اللاهوتي بنظرية القضاء والقدر التي تقول بأن كل حركة في المادة وكل حالة عقلية، تسببها القبلية (الماضي) الكلية، وأن العوامل المادية والنفس والإرادة الحرة، كلها أدوات القوة الكلية أو الطاقة الكونية التي تعمل عن طريق المادة والعقل.(34/81)
وعلى الرغم من الخلفية الروحانية عند مالبرانش فإنه، بعد ديكارت وهوبز، يمدنا بتفسير فسيولوجي للعادة والذاكرة وتوارد الخواطر فالمادة هي خفة أو رشاقة تفيض بها الأرواح الحيوانية، نتيجة للخبرات أو الأفعال المتشابهة التي غالباً ما تتكرر، إلى أخاديد أو قنوات معينة في الجسم. والذاكرة هي استعادة نشاط الخواطر التي نشأت في الخبرة، فإن الخواطر تميل إلى الترابط تبعاً لتسلسلها أو امتدادها المتصل السابق، وقوة الشخصية وقوة الإرادة هما قوة الروح الحيوانية التي تتدفق في أنسجة المخ، فتعمل على تعميق مجاري الترابط، وزيادة نشاط الخيال والتصور.
وعلى الرغم من تمسك مالبرانش بأهداب التقوى فقد كان في فلسفته عناصر كثيرة أزعجت بنين بوسويه الحارس اليقظ الأمين على العقيدة التقليدية القويمة. وفي حركة بارعة لتحويل أنطوان أرنولد ذي القلم اللاذع عن المنطق الجانسيني إلى نجدة العقيدة القويمة، نجد بوسيويه يحرض أرنولد هذا على تأنيب مالبرانش لهرطقته المستترة. ودافع الفيلسوف عن نفسه في عدة رسائل فصيحة لا تصدق مثل الرسالة الأولى، واستمر الجدال من 1683 - 1697، وجلب بوسيويه مدفعية فنليون الخفيفة إلى ساحة المعمعة. ولما رأت مدام سفيني Sevigne الفيران تلتهم محصولاتها، ويرقات الفراشات تلتهم أشجارها، شكت من أنها لم تجد إلا قليلاً من العزاء في وجهة نظر مالبرانش من أن البشر عنصر ضروري في أحسن ما يمكن من العوالم (10).
وكان لمالبرانش أصدقاء غيورون كثيرين يمكن أن يتوازنوا مع هؤلاء النقاد، فقد وجد الشباب وعجائز النساء في نظريته عن الله عاملاً وحيداً في كل الأفعال، سروراً باطنياً في الاستسلام لأمر الله والاتحاد مع الله. وشق الفرنسيون والأجانب طريقهم إلى صومعته. وقال أحد الإنجليز أنه ما قدم إلى فرنسا إلا ليرى اثنين طبقت شهرتهما الآفاق: لويس الرابع عشر ومالبرانش (11).
وجاء باركلي، وقدم لفيلسوفنا كل إجلال واحترام ودخل مع الكاهن العجوز في نقاش طويل. وسرعان ما دب الضعف إلى مالبرانش بعد ذلك، وكان في السابعة والسبعين، وأخذ في الذبول والنحول(34/82)
يوماً بعد يوم، حتى لم يكد عقله يجد في جسمه مجالاً أو حيزاً لتفكيره. وفي 13 أكتوبر 1715 فاضت روحه وهو نائم.
وخبت جذوة شهرته وشيكاً بعد موته، لأن فلسفته الدينية لم تنسجم مع تشكك وصاية العرش وعربدتها، كما أنها كانت أقل انسجاماً مع النزعة الناشئة عند الفلاسفة لإحلال "ماكينة" العالم محل العناية الإلهية. ولكن تأثيره ظهر في محاولة ليبنتز لإظهار أن الواقع هو أفضل عالم ممكن، من وجهة نظر باركلي أن الأشياء موجودة فقط في إدراكنا الحسي أو في أدراك الله، وفي تحليل هيوم المدمر لسبب أو العلة باعتبارها صفة خفية مستترة، وفي توكيد كانت على العناصر الذاتية في تكوين المعرفة، حتى في نظرية الجبرية في عصر الاستنارة. فإن القول بأن الله هو السبب الوحيد في كل الحركات والرغبات والأفكار، لا يختلف كثيراً عن القول بأن كل تغيير في المادة أو في العقل نتيجة لا مناص منها للقوى التي تعمل في الكون تلك اللحظة. وفي ساعة نشوة كان مالبراش قد اقترب-ولو أنه أنكر ذلك-من جبرية جعلت من الإنسان آلة ذاتية الحركة (إنساناً أوتوماتيكياً).
إن مذهب الاتفاقية كان، فوق كل شيء حلاً وسطاً بين ديكارت وسبينوزا. رأى ديكارت الآلية أو الميكانيكية في المادة. ولكن الحرية في العقل. ورأى مالبرانش أن الله هو السبب الوحيد في كل عمل في كل عقل. واتفق سبينوزا، وهو ثمل بنشوة الوجد الإلهي "مثل أي راهب، مع مالبرانش في أن سلسلتي الأعمال العقلية والمادية كلتيهما هما نتاج متواز لقوة خلاقة واحدة. أن العابد المتأمل الورع مذ رأى الله موجوداً في كل الوجود، كان قد لقن، عن غير عمد منه، حتى المؤمنين، "وحدة وجود" (الله والطبيعة شيء واحد، الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية)، لم ينقصها إلا عبارة "الله أو الطبيعة" لتصبح فلسفة سبينوزا أو فلسفة عصر الاستنارة.
4 - بييربيل
1647 - 1706
كان "أبو الاستنارة" ابن قسيس من الهيجونوت يعمل في مدينة كارلا في مقاطعة فوا في سفح البرانس، حيث قضي بيير هناك الاثنين والعشرين عاماً الأولى من عمره، يتعلم اليونانية واللاتينية والكلفنية.(34/83)
وكان شاباً رقيق الشعور سريع التأثر. وفي 1669 أرسل إلى الكلية صأثر. وفي 1669 اليسوعية في تولوز ليتلقى أحسن تعليم كلاسيكي يمكن أن توفره له أسرته ومواردها، فأحب أساتذته حباً جماً، وسرعان ما تحول إلى الكثلثكة في حماسة بلغت به إلى درجة محاولته تحويل أبيه وأخيه إليها. فاحتملاه في صبر وجلد، وبعد ذلك بسبعة عشر شهراً عاد إلى مذهب أبيه. ولكنه بات الآن هرطيقاً مرتداً. فكان عرضة لملاحقة الكنيسة الكاثوليكية له. فأرسله أبوه حماية له منها، إلى الجامعة الكلفنية في جنيف (1670)، أملاً في أن يلتحق بيير بخدمة الكنيسة البروتستانتية وهناك على أية حال وقع بيل على مؤلفات ديكارت، وبدأ يتسرب إلى نفسه الشك في كل أشكال المسيحية.
وبعد استكمال دراسته أقام في جنيف وروان وباريس مشتغلاً بالتدريس، ثم ارتقى إلى أستاذ للفلسفة في معهد الهيجونوت في سيدان (1675). ولكن المعهد أغلق في 1681 بأمر من لويس الرابع عشر كجزء من حرب الاستنزاف ضد مرسوم نانت، ووجد بيير له ملجأ في روتردام، والتحق بوظيفة أستاذ للتاريخ والفلسفة في "المدرسة الكبيرة"، أكاديمية البلدية. وكان من أوائل المفكرين المهاجرين الكثيرين الذين اتخذوا من الجمهورية الهولندية في ذاك الزمان قلعة للفكر المستقل.
وكان راتبه ضئيلاً، ولكنه قنع بالعيش البسيط ما دام في مقدوره الحصول على الكتب. ولم يتزوج قط، مؤثراً المكتبة على الزوجة. ولم يكن غير مدرك لمفاتن النساء وأفضالهن، وربما شكر لأية سيدة فاضلة كريم عنايتها به، ولكنه عانى طوال حياته من الصداع، ومن "دوار نصفي" أو انقباض في الصدر واكتئاب يلازمه، ولا ريب في أنه تردد في إشراك قرينة له فيما يعانيه من علل وأمراض. ومهما يكن من أمر فقد كانت تمر به لحظات ينزع فيها إلى السخرية، ذلك أنه عندما حاول الأب ميمبورج اليسوعي الفرنسي في كتابه "تاريخ الكلفنية" أن يبرهن على أن القساوسة الكاثوليك كانوا قد قبلوا التحول إلى البروتستانتية رغبة في الزواج، تساءل بيل: كيف يمكن أن يكون هذا، "فأية محنة أكبر من الزواج؟ (12) ".
وعرض بيل كتاب ميمبورج في مجلد من الرسائل ظهر في(34/84)
1682. وعجب كيف يتسنى لرجل التزم التزاماً قوياً بمذهب معين، أن يكتب تاريخاً صادقاً نزيهاً غير متحيز. كيف يمكن أن يوثق في مؤرخ مثل ميمبورج نعت معاملة لويس الرابع عشر لهيجونوت (قبل 1682) بأنها معاملة "عادلة رقيقة كريمة؟ " ووجه الخطاب إلى لويس الرابع عشر، فكتب من هولندا التي كانت فرنسا قد اجتاحتها حديثاً بشكل وحشي أثيم، متسائلاً: أي حق لملك في فرض مذهبه الديني على رعاياه؟ وإذا كان له هذا الحق، لكان للأباطرة الرومان ما يبرر اضطهادهم المسيحية. وذهب بيل إلى أن الضمير هو وحده الذي يحكم عقيدة المرء. ورد ميمبورج على ذلك رداً حاسماً بالحصول على أمر من لويس الرابع عشر بإحراق أية نسخة توجد في فرنسا من كتاب بيل بواسطة السلطات المختصة.
وفي العام نفسه، 1682، أصدر بيل أول أعماله الهامة "آراء شتى حول المذنب" وهو النجم المذنب الذي كان قد عبر السماء في ديسمبر 1680. وتولى الفزع أوربا بأسرها لهذا النجم الذي بدا أن النار في ذنبه تنذر بإحراق العالم. أننا إذا رجعنا إلى الوراء لنشارك ذاك العصر خوفه وجزعه-حين فسر الكاثوليك والبروتستانت على السواء هذه الظاهرة بأنها نذر إلهية، واعتقدوا أن الله سيرسل صاعقة من السماء على الأرض الخاطئة الآثمة في أية لحظة، فإننا عندئذ فقط نستطيع أن ندرك مدى الرعب الذي انتاب الناس عند ظهور هذا اللهب على غير انتظار، أو أن نقدر مدى الشجاعة والحكمة في تعليقات بيل عليه. إن العلامة ملتون نفسه كان قد قال حديثاً "أن النجم المذنب ينشر من شعره المروع الطاعون والحرب" (13). أن بيل أسس بحثه على الدراسات الحديثة التي أجراها الفلكيون (ولكن لم يكن نجم هالي 1682 قد ظهر بعد)، ومن ثم أكد لقرائه أن النجوم المذنبة تتحرك في السموات طبقاً لقوانين ثابتة وليس لها أي علاقة بشقاء البشر أو سعادتهم. ورأى لانتشار الخرافات وإلحاحها على عقول الناس. "أن الذي يقفو زلات العباد ملتمساً أسبابها لن ينتهي من ذلك أبداً (14) ". ونبذ الإيمان بكل المعجزات إلا ما ورد منها في العهد الجديد "الإنجيل"، (ولولا هذا الاستثناء، لما سمح بطبع الكتاب في هولندا). "في الفلسفة الصحيحة، ليست الطبيعة إلا الله نفسه،(34/85)
يعمل وفق قوانين معينة استنها سبحانه وتعالى بمحض إرادته. ومن ثم فإن أعمال الطبيعة هي من آثار قدرة الله وقوته مثل المعجزات سواء بسواء، كما أن هذه العمال تدل على وجود قدرة عظمى مثل تلك التي تدل عليها المعجزات. وأن خلق إنسان وفق قوانين التناسل الطبيعية، لا يقل صعوبة عن قيامة إنسان من بين الأموات (معجزة المسيح) (15).
وانتقل بيل في جرأة إلى واحدة من أكثر مسائل التاريخ تعقيداً: هل يمكن أن يكون هناك علم أخلاق طبيعي-هل يمكن الاحتفاظ بقانون أخلاقي دون عون من معتقد خارق للطبيعة؟ هل أدى الإلحاد إلى إفساد الأخلاق؟ يقول بيل: إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن نستنتج من الجريمة والفساد وسوء الخلق السائد في أوربا أن معظم المسيحيون ملحدون في قرارة أنفسهم. أن اليهود والمسلمين والمسيحيين والكفار يختلفون في عقائدهم الدينية، لا في أفعالهم وتصرفاتهم. وظاهر أن المعتقد الديني-والأفكار بصفة عامة-ليس لها إلا تأثير ضئيل على السلوك، فهذا السلوك ينبع من الرغبات والانفعالات، وهي عادة أقوى من المعتقدات. وأي تأثير كان لتعاليم المسيح على مفهوم الأوربيين للشجاعة والشرف؟ -ذلك المفهوم الذي أختص بأعظم المديح والثناء الإنسان الذي يثأر في عنف وقوة للإساءة والأذى، والذي يبرع في فنون الحرب باختراع ما لا يحصى من الآلات حتى يكون الحصار أشد فتكاً وإرهاباً وإزعاجاً. أن الكفار يتعلمون منا أن مجتمعاً من الملحدين قد لا يكون أسوأ خلقاً من مجتمع من المسيحيين. ليس الذي يحمل معظمنا على التمام جادة الصواب والنظام هو الخشية من الجحيم، وهذا أمر بعيد غير يقيني، قدر خوفنا من رجل الشرطة ومن القانون، ومن إدانة المجتمع لنا. ومن العار الذي يلحق بنا، ومن الجلاد، خل بيننا وبين هذه العوائق تعم الفوضى فإذا تمسكت بها لأمكن أنه يقوم مجتمع من الملحدين والحق أنه قد يضم رجالاً كثيرين على درجة رفيعة من الشرف ونساء كثيرات طاهرات عفيفات (17). وإنا لنسمع عن نماذج من هؤلاء الملحدين في الأزمنة القديمة، مثل أبيقور وبليني الأكبر وبليني الأصغر، وفي العصور الحديثة مثل ميشيل دي لوبيتال وسبينوزا، (أما انحطاط أخلاق الفرد العادي عما هي عليه إذا لم تكمل الديانة القانون، فتلك مسألة لم يتعرض لها بيل).(34/86)
ونشر موضوع "النجم المذنب" غفلاً من اسم المؤلف. واتخذ بيل نفس الحيطة حين افتتح واحدة من أكبر الدوريات في ذلك العصر: "أنباء جمهورية الأدب". وظهر العدد الأول منها في مائة وأربع صفحات، في أمستردام في مارس 1684 وعرضت المجلة أن تزود قراءها بكل التطورات الهامة في الأدب والعلوم والفلسفة والبحوث والكشوف والتاريخ الرسمي. ومبلغ علمنا أن بيل نفسه كتب محتويات المجلة شهراً بعد شهر لمدة ثلاثة أعوام. وقد ندرك مبلغ الجهد الذي استلزمه هذا العمل. وسرعان ما أصبح استعراضه للكتب ذخيرة قوية في دنيا الأدب. وفي 1685 جمع أطراف شجاعته وأهلن أنه المؤلف. وبعد ذلك بعامين تدهورت صحته فترك تحرير المجلة لآخرين غيره.
وفي تلك الأثناء وقع أربعة من أسرة بيل فريسة اضطهاد الهيجونوت في فرنسا. وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعنف اضطهاد القوات الفرنسية للبروتستانت، ماتت أمه في 1681، ومات أبوه في 1685، وفي نفس العام سجن أخوه ثم قضى نحبه نتيجة للتعذيب والقسوة. وبعد ذلك بستة أيام ألغى مرسوم نانت. وصعق بيل لهذه التطورات، ولم يكن له، مثل فولتير، من سلاح غير قلمه، وفي 1686 تحدى الطغاة المستبدين بإحدى الروائع في أدب التسامح الديني.
وكان عنوان هذه الرسالة "تعليق فلسفي على كلمات يسوع المسيح": أخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول. (لوقا 14 - 23).
وكان هؤلاء الطغاة الوحشيون قد التمسوا سنداً لإجراءاتهم التعسفية في القصة التي رواها المسيح عن الرجل الذي قال لعهده، حين لم تلب ضيوفه دعوته إلى عشاء عظيم أعده لهم "أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل إلى هنا المساكين والجدع. والعرج والعمي .... وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي (18) " (إنجيل لوقا-14: 16 - 23). ولم يجد بيل مشقة في إيضاح أن هذا الكلام ليس له علاقة بإرغام الناس على أتباع دين أو مذهب واحد، بل العكس، وجدنا فرض نعتقد ديني موحد قد خضب نصف أوربا بالدماء، وأن تباين المذاهب الدينية في الدولة حال دون(34/87)
وصول أحدهما إلى درجة من القوة تمكنه من الاضطهاد. وفضلاً عن هذا: من منا يثق بأنه على حق إلى حد يستند إليه في إيذاء من يخالفونه؟ واستنكر بيل اضطهاد البروتستانت للكاثوليك، والمسيحيين لغير المسيحيين، والعكس بالعكس سواء بسواء. وعلى النقيض من لوك، اقترح بيل أن تمتد حرية العبادة أو اللاعبادة إلى اليهود والمسلمين والمفكرين الأحرار. ونسي ما ذهب إليه من قبل من أن الملحدين يحتمل أن يكونوا مواطنين صالحين مثل المسيحيين، فنصح بعدم التسامح مع الطوائف التي لا تؤمن بالعناية الإلهية وبوجود إله يحاسب ويعاقب، فإن هؤلاء لا تطهر من نفوسهم خشية الله ومن ثم قد يجعلون من الصعب تطبيق القانون (19). أما بالنسبة للآخرين فلا يجوز التسامح مع المتعصبين منهم. فهل يجوز لدولة بروتستانتية أن تتسامح في أن تقوم فيها كاثوليكية دافعت عن التعصب على اعتبار أن الكثلكة وحدها هي العقيدة الحقة الصحيحة؟. ورأى بيل أن الكاثوليك في مثل هذه الحالات-"يجب أن يسلبوا سلطة إلحاق الأذى والضرر بغيرهم ... ومع ذلك فأما لا أقر تعرضهم ممارستهم لديانتهم، ولا أقر حرمانهم من اللجوء إلى القانون (20).
ولم يكن البروتستانت أكثر ارتياحاً من الكاثوليك لبرنامج التسامح هذا، من ذلك أن بيير جوريو-الذي كان صديق بيل وزميله في العمل في سيدان، وكان الآن راعياً لأبرشية كلفنية في روتردام-هاجمه في بحث بعنوان: "حقوق السيدين في أمور الدين-الضمير والأمير-. (1687) وذهب جوريو إلى هدم نظرية عدم الاهتمام بالأديان، وفكرة التسامح العام والشامل، معارضاً كتاباً بعنوان "تعليقات فلسفية". واتفق مع البابوات في أن للحكام أو الملوك الحق في القضاء على أية عقيدة زائفة، وقد روعه بخاصة التسامح مع اليهود والمسلمين والسوسنيين والوثنيين. وفي 1691 أهاب جوريو بعمد مدينة روتردام أن يفصلوا بيل من عمله، فرفضوا. ولكن في 1693 جاءت الانتخابات بهيئة حكام جديدة، وجدد جوريو حملته متهماً بيل بالإلحاد، فطرد مكن وظيفته، فقال الفيلسوف "اللهم أنقذنا من محكمة التفتيش البروتستانتية، فلن تنقضي خمس أو ست سنوات حتى تشتد(34/88)
وطأتها إلى درجة يتطلع الناس معها إلى عودة محاكم التفتيش الكاثوليكية (21).
وسرعان ما أسترد بيل هدوء نفسه وعاد إلى طبيعته، فتكيف مع الظروف، وكان له كل العزاء والسلوى أنه استطاع أن يخصص كل ساعات عمله لإنجاز "قاموس" العصر الذي كان قد شرع في تأليفه فعلاً. وراض نفسه على العيش على مدخراته، وعلى بعض مكافآت شرفية من ناشري كتبه. وتلقى عروضاً بالرعاية من سفير فرنسا في هولندا ومن ثلاثة من النبلاء الإنجليز يحملون لقب أرل، ولكنه رفض في لطف وكياسة، بل أنه رفض مائتي جنيه عرضها عليه أرل شروزبري نظير إهداء القاموس إليه. وكان له أصدقاء، ولكنه لم يكن له من وسائل اللهو والتسلية إلا القليل. "لم أهتم بالملاهي العامة أو الألعاب أو الرحلات الريفية ... أو غيرهما من سباب الترفيه والمتعة، ولم أضيع وقتي فيها ولا في المهام المنزلية، ولم أطمع قط في منصب ... إني أجد كل الحلاوة والراحة في الدراسات التي شغلت نفسي بها، وهي كل متعتي وبهجتي إني سأغني لنفسي وللموزيات (ربات الشعر والفنون والعلوم (22) ".
وهكذا قبع هادئاً في حجرته يعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، يضيف صحيفة إلى صحيفة في المجلدات الغريبة التي أصبحت منبع "الاستنارة". وظهر المجلدان الضخمان في 2600 صحيفة في روتردام في 1697 تحت اسم "قاموس تاريخي نقدي"، ولم يكن معجم مفردات، بل دراسة نقدية للأشخاص والأماكن والآراء، وفي التاريخ والجغرافيا وعلم الأساطير واللاهوت والأخلاق والأدب والفلسفة وصاح وهو يدفع بالتجارب النهائية إلى المطبعة "سبق السيف العذل" وكان هذا العمل مقامرة ثقيلة بالحياة وبالحرية. لأنه أحتوى على هرطقات أكثر مما ضم أي كتاب آخر في هذا القرن، وربما أكثر من حفيده، "موسوعة" ديدرو ودالمبرت (1751).
وكان بيل قد بدأ وأمامه هدف محدود هو تصحيح الأخطاء وسد النقص في "القاموس التاريخي الكبير" الذي كان موريري قد أصدره في 1674 من وجهة النظر الكاثوليكية التقليدية، ولكن الهدف اتسع(34/89)
مع تقدم العمل. ولم يزعم قط أنه كتب دائرة معارف، فلم يتعرض لشيء ليس لديه ما يقول عنه. ومن ثم يتضمن "القاموس" أية مقالات عن شيشرون، بيكون، مونتاني، جاليليو هوراس، نيوتن، توماس مور، وأغفل العلم والفن إلى حد كبير، ومن ناحية أخرى كانت هناك مقالات عن الأفذاذ غير البارزين مثل أكيبا، وأوربيل اكوستا، وايزاك أبرابانل. ولم تخصص المساحات الكبيرة طبقاً للأهمية التاريخية، بل تبعاً لرغبة وهوى بيل نفسه، وعلى هذا فإن ارزم الذي خصص له موربري صحيفة واحدة، أفرد له بيل خمس عشرة صحيفة، كما أفرد لأبيلارد ثمان عشرة. وكان الترتيب أبجدياً، ولكنه أشبه بترتيب التلمود، وكانت الحقائق الأساسية مثبتة في النص، ولكن في كثير من الأحيان أضاف بيل حاشية في حروف صغيرة، أطلق فيها لنفسه العنان للدخول "في متاهة من البراهين والمناقشات .. بل في بعض الأحيان مجموعة كبيرة من تأملات فلسفية". وفي وسط هذه الحروف الصغيرة الدقيقة ستر بيل هرطقاته عن النظرة العامة. وأثبت مراجعه في الهوامش، وهذه في جملتها تنبوء عن سعة إطلاع ودرس يندر أن تتسع لهما حياة فرد. وتضمنت بعض الحواشي التي كتبها بيل بعض النوادر المكشوفة البعيدة عن الاحتشام، أملاً في أن يزيد هذا من مبيعات الكتاب. ولكن لا ريب في أنه وجد فيها هي نفسها متعة لشخصه وهو وحيد عاكف على الدرس والبحث. وأولع القراء مقدرين شاكرين، بأسلوبه اللاذع الأنيق المتجول بين أبواب المعرفة، وعرضه الماكر لنقاط الضعف في المذاهب الدينية السائدة، واعترافاته الصريحة الجريئة بالعقيدة الكلفنية الصحيحة. وبيعت الطبعة الأصلية وعددها ألف نسخة عن آخرها في أربعة أشهر.
وكانت طريقة بيل هي أن يوازن بين المراجع، ويتتبع الحقائق ويشرح الآراء المعارضة والمتناقضة، وكان يتمشى مع العقل إلى آخر الشوط حتى إذا لم تلتئم النتائج التي يتوصل إليها مع العقيدة الصحيحة أو أساءت إليها نبذ النتائج في تقي وورع. انحيازاً إلى جانب الأسفار المقدسة والإيمان. وتساءل جوريو غاضباً "إذا عرضت عبارة أو لفظة تؤيد الإيمان ضد العقل. فهل لها أن تحمل الناس على التخلي عن الاعتراضات التي قال بيل بأنه لا سبيل إلى دحضها (23) ". وفيما(34/90)
عدا هذا فإن ترتيب القاموس هزيل. وتندرج بعض أبحاثه الكبرى تحت موضوعات تافهة أو عناوين مضللة. "أنا لا أستطيع أن أطيل التأمل في موضوع واحد بانتظام شديد، فأنا مولع أشد الولع بالتغيير، وغالباً ما أتحول عن الموضوع، وأقفز إلى مواضع قد يكون من الصعب تلمس الخروج منها (24). وكانت المناقشة عادة مهذبة متواضعة بعيدة عن التزمت ودية، ومهما يكن من أمر، فإن بيل كان من حين لآخر، لاذعاً حاد اللسان، ومن ذلك أن مقاله عن القديس أوغسطين لم يغفر للكلفني العظيم طول انصرافه عن العفة ولاهوته الكئيب وتعصبه الديني. وأعلن بيل ارتضاءه الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، ولكنه أشار في خبث إلى أنه يجدر بنا ألا نؤمن إطلاقاً ببعض قصص المعجزات إلا إذا صدرت عن شخصية ممتازة. ووضع بعض الأساطير الوثنية-إبتلاع الحوت لهركيوليز مثلاً-جنباً إلى جنب مع القصص المماثلة في الكتاب المقدس، ثم ترك القارئ في حيرة: لماذا نرفض قصة ونقبل أخرى. وفي واحدة من أشهر مقالاته أنكر مذابح الملك داود وخياناته واغتصابه للنساء. وترك القارئ يعجب ويتساءل: لماذا يمجد المسيحيون مثل هذا الوغد المتوج بأنه من أجداد المسيح.
ووجد بيل أنه من الأيسر عليه أن يبتلع يونس والحوت معاً (أن يصدق القصة) عن أن يقبل سقوط آدم وحواء. كيف يتسنى لرب قدير أن يخلقهما وهو يعلم سلفاً أنهما سيلطخان الجنس البشري كله بخطيئتهما الأولى ويلحقان به من البؤس والشقاء ما لا يحصى ولا يقدر:
إذا كان الإنسان مخلوقاً من أصل غاية الطيبة، بالغ القداسة، قديراً غاية القدرة، فهل يمكن أن يتعرض للأمراض، للحر والبرد، للجوع والعطش، للألم والحزن؟ وهل يمكن أن يكون لديه مثل هذه النزعات السيئة الكثيرة؟ وهل للقداسة الكاملة أن تنتج مخلوقاً مجرماً؟ وهل لهذا الخير التام أن ينجب مخلوقاً تعساً؟ هلا يتسنى لهذه القدرة؟ مع الخير الذي لا حدود له، أن تزود خلقها بأفضل الأشياء في وفرة وسخاء وتباعد بينه وبين كل عدوان أو إزعاج وإساءة (25)؟.(34/91)
أن إله سفر التكوين أما أن يكون قاسياً أو ذا قدرة محدودة. وعلى هذا شرح بيل في كثير من التعاطف والقوة مفهوم المانوية من الهين، للخير والشر (النور والظلام) يتصارعان للسيطرة على العالم وعلى الناس. وبما أن "البابويين والبروتستانت متفقون على أن قلة ضئيلة من الناس هي التي تنجو من العقاب السرمدي "فقد يبدو أن الشيطان سيكسب المعركة ضد المسيح، وفوق ذلك، فإن انتصاراته أبدية لأن رجال اللاهوت يؤكدون لنا أنه لا منجاة من النار. وحيث أنه عناك، أو سيكون هناك، في الجحيم عدد من الأنفس أكبر مما هو في الجنة، "فإن الذين في الجحيم سيلعنون دوماً اسم الرب، فإن المخلوقات التي تكره الرب ستكون أكثر ممن يحبونه:. وانتهي بيل، في خبث، إلى القول "ينبغي ألا نركن إلى المانوية حتى نقر أولاً مبدأ الرفع من شأن الإيمان والعقيدة والانتقاص من قدر العقل (26).
وعبرت مقالة بيل عن "بيرهو" عن الشكوك في التثليث، "لأن الشيئين اللذين لا يختلفان عن ثالث، لا يفترق الواحد منهما عن الآخر (27). أما بالنسبة لتحويل الخبز والنبيذ-لا يمكن أن ودمه، فإن أحوال المادة-ومن ثم ظهور الخبز والنبيذ-لا يمكن أن توجد بدون المادة التي تعدل منها (28). وبالنسبة لتراث كل الناس في خطيئة آدم وحواء، يقول بيل: "ما دام المخلوق غير موجود فلا يمكن لأن يكون شريكاً في عمل خاطئ (29). ولكنه وضع كل هذه الشكوك على ألسنة آخرين غيره، ثم استنكرها هو باسم الدين. واقتبس بيل "باعتبار أن هذا من أشد ما قال المارقون زيفاً" أن "الدين ليس إلا مجرد بدعة من عمل الإنسان، ابتدعها الملوك ليلزموا رعاياهم بالطاعة والإذعان لهم (30). وفي المقال الذي كتبه عن سبينوزا تعمد أن يتهم اليهودي الذي يعتنق مذهب وحدة الوجود بالإلحاد، ومع ذلك فإنه لا بد أنه عثر عند هذا الفيلسوف على شيء يسحر لبه ويستوقف نظره، لأن هذا أطول مقال في القاموس. وزعم بيل أنه يؤكد لرجال اللاهوت من جديد أن كل هذه الشكوك التي أوردها في كتابه لا تهدم العقيدة الدينية-لأن هذه مسائل فوق مستوى عقول الناس (31).
وذهب فاجويه إلى أن بيل "ملحد بغير جدال (32) ولكن قد(34/92)
يكون أكثر إنصافاً أن ندرجه في عداد الشكاكين، وأنه كان كذلك يشك في مذهب الشك. ومن حيث أن الصفات الثانوية للحس ذاتية إلى حد كبي، فإن العالم الموضوعي (الخارجي) يختلف كل الاختلاف عما يبدو لنا. "إن الطبيعة المطلقة للأشياء غير معروفة لنا، وكل ما نعرفه هو بعض علاقات بعضها ببعض (33). وفي 2600 صحيفة من الاستنتاج والحجج والبراهين اعترف بضعف العقل، فإن العقل، مثل الحواس التي يعتمد عليها، قد يخدعنا. لأنه غالباً ما يتغشاه الانفعال. والرغبة والهوى، لا العقل، هما اللذان يحددان سلوكنا. فالعقل يمكن أن يعلمنا أن نشك ولكنه قليلاً ما يحركنا للعمل.
إن أسباب الشك مشكوك فيها هي الأخرى. ومن ثم يجب على الإنسان أن يشك فيما إذا كان ينبغي له أن يشك. أية فوضى. وأي عذاب للذهن ... إن عقلنا يؤدي بنا إلى أن نتيه ونهيم على وجوهنا على غير هدى. لأنه حين يكشف عن أكبر قدر من حدة الذهن والدقة، يلقي بنا في الهاوية ... أن العقل البشري أداة هدم، لا أداة بناء، إنه لا يصلح إلا ليبدأ الشك، ويجول وينتقل هنا وهناك ليديم الصراع (34).
وبناء على هذا أشار بيل على الفلاسفة ألا يقيموا للفلسفة وزناً كبيراً، ونصح المصلحين بالا يتوقعوا كثيراً من الإصلاح. وحيث أنه واضح أن الطبيعة الإنسانية هي هي على مر القرون، فإنها بفعل الجشع وحب المشاكسة والشهوة الجنسية، ستظل تثير من المشاكل ما يفسد المجتمعات ويؤدي إلى فناء أية مدينة فاضلة (يوتوبيا) في مهدها. أن الناس لا يتعلمون من التاريخ، وكل جيل يتمخض عن نفس الأهواء والأوهام الخادعة والجرائم. ومن ثم فإن الديموقراطية خطأ في التقدير قدر ما هي حقيقية، فالسماح للدهماء المشغولين المضللين المتهورين باختيار الحكام ورسم السياسة هو انتحار للدولة. وأي نوع من الملكية أمر ضروري، حتى في ظل أشكال ديموقراطية (35). والتقدم أيضاً وهم وخداع، إننا خطأ نحسب الحركة تقدماً، ولكن يحتمل أنها مجرد تذبذب (36). أن خير ما نأمل(34/93)
فيه، هو حكومة يمكنها، على الرغم من أنها مزودة برجال شيمتهم الفساد ويعوزهم الكمال، أن تسن لنا من القوانين ما يكفل لنا أن نزرع حدائقنا في أمان وننصرف إلى دراستنا وهوياتنا في هدوء وسلام.
ولم يستمتع بيل بمثل هذا الهدوء في السنوات التسع التي بقيت له في حياته، وحين انتقل قراؤه من متن الكتاب إلى حواشيه المطبوعة بحروف صغيرة جداً ثارت موجة من الاستياء بينهم. ودعا مجلس كنيسة والون في روتردام بيل-وهو عضو في مجمعها-للمثول أمامه ليرد على الاتهامات الموجهة إليه بأن قاموسه تضمن "تعبيرات ومسائل غير لائقة، وكثيراً جداً من الاقتباسات الفاجرة، وملاحظات عدائية عن الإلحاد وأبيقور، وبخاصة مقالات كريهة مثيرة للاعتراض على داود وبيرهو والمانويين. ووعد بيل "بمزيد من التأمل في مذهب المانوية حتى إذا عثر على أية ردود، أو أمده قساوسة المجلس بشيء منها، فإنه "يسعده أن يضعها في أحسن صيغة ممكنة (37) ". وفي الطبعة الثانية من القاموس (1702) أعاد كتابة المقال الوارد عن داود وخفف من حدته. ولم يهدأ روع جوريو، وجدد الحملة على بيل، وشن عليه في 1706 هجوماً عنيفاً تحت عنوان "اتهام فيلسوف روتردام ومهاجمته وإدانته".
وانهارت صحة بيل بعد هذه الطبعة الثانية. وعانى مثل سبينوزا من السل. وفي تلك السنوات لازمه السعال بشكل دائم تقريباً، وانتابته الحمى الراجعة، وزاد الصداع من اكتئابه وجزعه. واقتنع بالا أمل في البرء من علته، استسلم للموت، وزاد اعتكافه في حجرته، واشتغل ليل نهار في إعداد رده على ناقديه. وفي 27 ديسمبر 1706 أرسل الصيغة النهائية إلى المطبعة. وفي صباح اليوم التالي وجده أصدقاؤه ميتاً في فراشه.
وانتشر تأثيره طوال القرن الثامن عشر. وأعيد طبع قاموسه عدة مرات، حتى أصبح مصدر ابتهاج خفي لآلاف العقول الثائرة. وما وافى علم 1750 حتى كان القاموس قد طبع تسع مرات باللغة الفرنسية، وثلاث مرات بالإنجليزية ومرة بالألمانية. وحاول المعجبون(34/94)
به في روتردام أن يقيموا له تمثالاً إلى جوار تمثال ارزم (38)، وأغروا الناشرين بطبع المقال الأصلي عن داود. وعلى مدى عشر سنين من وفاته كان الطلاب يقفون صفوفاً في مكتبة مازاران في باريس حتى يأتي دورهم في قراءة القاموس (39). وجاء في تقرير عن المكتبات الخاصة أن الطلب عليه كان أكثر من كلب أي كتاب آخر (40). وقد أحس بتأثيره كل مفكر ذي شأن تقريباً. وكان معظم كتاب ليبنتز "الفلسفة الإلهية" أو تبرير حكمة العدالة الإلهية في وجود الشر، محاولة صريحة للرد على بيل. كذلك نبع منه كتابات لسنج عن تحرير العقل ودفاعه عن التسامح-ويحتمل أن فردريك الأكبر استمد تشككه أصلاً من بيل، لا فولتير، وأطلق على القاموس "عصارة الإحساس السليم" (41). واقتنى أربع مجموعات منه في مكتبته، وأشرف على إصدار طبعة رخيصة موجزة منه في مجلدين ليجذب عدداً أكبر من القراء (42). وكان تأثير بيل على شافتسبري ولوك أخف، وعرفه كلاهما في هولندا، وسار لوك في "رسالة التسامح" (1689) على خطى بيل في "التعليقات" (1686).
ولكن أعظم تأثير لبيل كان بطبيعة الحال على فلاسفة الاستنارة وكان فطامهم على القاموس. ومن الجائز أن مونتسكيو وفولتير أخذا عنه أسلوب الاستشهاد بالمقارنات والنقد الآسيوي للنظم الأوربية. ولم تكن "دائرة المعارف" (1715)، كما حكم فاجويه "مجرد طبعة منقحة مزيدة قليلاً من قاموس بيل (43). ولكن كثيراً من وجهة نظرها وآرائها التوجيهية نبعت من هذين المجلدين، كما أن المقال الذي كتب في دائرة المعارف عن التسامح كثيراً ما أحال القارئ على قاموس بيل على اعتبار أنه "وفى الموضوع حقه". كما أن ديدرو أعترف في صراحته المعهودة، بفضل بيل عليه، وحياه بأنه "أعظم شارح مهيب لمذهب الشك في العصور القديمة والحديثة معاً (44). أما فولتير فكان بيل ولد من جديد، مع رئتين أصح ومزيد من النشاط والطاقة والسنين والثراء والذكاء. وأطلق بحق على "القاموس الفلسفي" أنه ترديد لقاموس بيل (45). وكثيراً ما اختلف قرد فرني الفاتن عن بيل، مثال ذلك أن فولتير ذهب إلى أن الدين كان قد ساعد على تشجيع الأخلاق ورعايتها، وأنه لو أن بيل كان لديه خمسمائة أو(34/95)
ستمائة فلاح ليحكمهم. ولما تردد في أن هناك إلهاً يعاقب ويكافئ (46)، ولكنه اعتبر بيل "أعظم منطيق جدلي ألف (47) " وجملة القول. كانت فلسفة فرنسا في القرن الثامن عشر هي بيل في تكاثر متفجر. إن القرن السابع عشر بدأ، بهوبز وسبينوزا، وبيل وفونتيل، الحرب الطويلة المريرة بين المسيحية والفلسفة، تلك الحرب التي بلغت ذروتها في سقوط الباستيل وعيد آلهة العقل.
5 - فونتنيل
1657 - 1757
في السنوات الأربعة الأولى من حياته التي امتدت مائة عام، شن برنارد لي بوفييه دي فونتنيل، حرب الفلسفة، مستقلاً عن بيل، وأحياناً قبله، وواصل الحرب، بلا هوادة، طيلة نصف قرن بعد وفاة بيل. وهو إحدى ظواهر طول العمر، وملأ الفراغ بين بوسويه وديدرو، ونقل إلى معترك الحياة العقلية في القرن الثامن عشر شكوكية القرن السابع عشر الأكثر اعتدالاً وحرصاً.
ولد في روان في 11 فبراير 1657، ضئيلاً هزيلاً إلى حد أنهم عمدوه فور ولادته خشية أن يموت قبل أن ينقضي عليه اليوم. وظل على هذه الحال من الضعف طوال حياته، كانت رئتاه عليلتين وكان يبصق دماً إذا أجهد نفسه حتى في لعب "البليارد"، ولكن بالقصد والاعتدال في استخدام قواه إلا بمقدار والامتناع عن الزواج، وكبح جماح شهواته وأهوائه، والإغراق في النوم، استطاع أن يعمر بعد كل معاصريه، وتذكر موليير حين كان يتحدث مع فولتير.
وكان به بعض الميل إلى الأدب مثل ابن شقيق مورني. وكذلك كان يحلم هو الآخر بالمسرحيات، ولكن الروايات والأوبرات التي ألفها، وأناشيده الرعوية وقصائده الغزلية ومقطوعاته، كانت تعوزها العاطفة فماتت من البرودة. وكان الأدب الفرنسي يفقد الفن ويكسب الأفكار. ولم يجد فونتنيل نفسه إلا حين وجد أن العلم يمكن أن يكون رؤيا أكثر إدهاشاً من سفر الرؤيا، وأن الفلسفة معركة تثير الأسى، وتفوق كل الحروب. ولم يكن ذلك لأنه محارب، فقد كان رقيقاً إلى حد لا يقوى معه على الصراع، شغوفاً بالدنيا لا يحب أن يفقد صبره أو يتملكه الغضب في المناقشة، وواعياً(34/96)
كل الوعي لنسبية الحقيقة فلا بد يقيد فكره المطلق. ومع ذلك أشعل نيران الحرب (48). وحيثما سار في محادثاته المختلفة مع مركيزته الوهمية، هب جيش الاستنارة بفرسان فولتير الخفيفة السريعة الاندفاع ومشاة دولباخ الثقيلة، ومهندسي دائرة المعارف العسكريين الخبراء في بث الألغام، بالإضافة إلى مدفعية ديدرو.
وكان أول اقتحامه مجال الفلسفة رسالة من خمس عشرة صحيفة "أصل الخرافات" والحق أنها كانت استقصاء سيولوجيا (اجتماعياً) عن نشأة الآلهة. ونحن لا نكاد نصدق كاتب سيرة حياته في أن الموضوع كتب وهو في سن الثالثة والعشرين، ولو أن مخطوطته تركت في حرص وحذر، حتى خفت وطأة الرقابة قي 1724. وتكاد تكون هذه الرسالة "عصرية" في روحها، تعقبت الأساطير، لا إلى مجرد اختراع الكهنة لها، بل إلى تخيلها البدائي، فوق كل شيء، إلى استعادة العقول البسيطة لتجسيد العمليات، فإن نهراً فاض لأن إلهاً صب ماءه، فكل عمليا ت الطبيعة من عمل الأرباب.
اعتقد الناس أن كثيراً من العجائب فوق قدرتهم: حلول الصواعق وقصف الرعود، وهبوب الرياح وإثارة الأمواج .... وتخيل الناس كائنات أقوى منهم، قادرة على أحداث هذه الآثار. وكان لا بد لهذه الكائنات الأسمى أن تتخذ شكلاً آدمياً، فأي شكل آخر يمكن تصوره؟ ... وعلى هذا كان الأرباب آدميين، ولكن أسبغت عليهم قدرة عليا .... وما كان في كقدور الناس البدائيين أن يدركوا صفة أدعى إلى الإعجاب من القوة المادية. ولم يكونوا قد أدركوا بعد الحكمة والعدالة، ولم يكن لديهم أسماء لهما (49).
وقبل ورسو بنصف قرن نبذ فونتنيل ما قاله روسو عن مثالية الهمج غير المتمدنين، ففي رأيه أنهم كانوا أغبياء، متوحشين. ولكنه أضاف "كل الناس متشابهون شبهاً كبيراً، وليس ثمة جنس أو عرق، لا نرتعد نحن فزعاً من حماقاته وسخافاته (50) ". وكان حريصاً على أن يضيف أن تفسيره للأرباب، ذلك التفسير المبني على المذهب الطبيعي، لم يطبق على آلهة المسيحيين أو اليهود.(34/97)
ووضع هذه الرسالة جانباً انتظاراً لوقت أكثر أمناً واطمئناناً. وأمسك بالقرطاس واستعار عنواناً من لوشيان، ونشر في يناير 1683 كتاباً صغيراً أسماه "محاورات الموتى". واكتسب هذه المناقشات الخيالية بين مشاهير الموتى شعبية إلى حد اشتد معه الطلب على طبعة ثانية في مارس، وثالثة وشيكاً بعدها. وامتدحها بيل في صحيفته "الأخبار"، وقبل أن ينصرم العام، ترجمت الرسالة إلى الإيطالية والإنجليزية، وذاع صيت فونتنيل وهو في سن السادسة والعشرين، في كل أوربا، وكانت الرسالة ميسرة في متناول الجميع في عالم يعج بالرقباء، وكادت كل فكرة يعبر عنها أحد المتكلمين، يدحضها آخر ويبرأ منه المؤلف، وكان فونتنيل على أية حال أميل إلى الدعاية منه إلى الهرطقة. وكانت الأفكار التي ناقشها معتدلة، ولم تمس أي كاهن بسوء. فإن ميلو لاعب كروتونا الرياضي النباتي يتباهى بأنه قد حمل ثوراً على كتفيه في الألعاب الأولمبية، فيعيره سمنديريد من سيباريس المجاورة-بأنه ينمي عضلاته على حساب عقله، ولكن السسياريثي يعترف بأن الحياة الأبيقورية (الانغماس في الملذات) عقيمة كذلك، حيث تصبح اللذة مملة بالتكرار، وتضاعف من مصادر اللم ودرجاته. ويثني هومر على عيسوب لتعليمه مع الخرافات، ولكنه يحذره من أن الحقيقة هي آخر ما يرغب به البشر". إن روح الإنسان تتعاطف مع الباطل إلى أبعد حد .... وينبغي أن تلبس الحقيقة ثوب الباطل حتى يتقبلها البشر بارتياح (51) ". وقال فونتنيل "لو أن الحقيقة كلها بين يدي فلا بد من أن أحرص على ألا أفتحها (52) "، ولكن ربما كان هذا من قبيل العطف والإشفاق على البشر بقدر ما هو من قبيل الحب الطائش للمطاردة.
وفي ألطف المحاورات يلتقي مونتاني بسقراط، في الجحيم لا ريب، ويناقش فكرة التقدم، مونتاني-أهذا أنت، سقراط المقدس؟ ما أسعدني بلقائك لقد جئت لفوري إلى هذا المكان، ومنذ تلك اللحظة كنت أبحث عنك. وأخيراً وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبامتداحك وبالثناء عليك، أستطيع أن أتحدث إليك.
سقراط-أني سعيد أن أرى إنساناً ميتاً يبدو أنه كان فيلسوفاً، ولكن حيث أنك جئت من هناك أخيراً ... دعني أسألك عن الأخبار كيف حال الدنيا؟ ألم تتغير كثيراً؟(34/98)
مونتاني حقاً-تغيرت كثيراً. قد لا تعرفها.
سقراط-كم ابتهج بسماع هذا. أنا لم أشك قط في أنها ستصبح أحسن أو أعقل مما كانت في زماني.
مونتاني-ماذا تقول؟ إنها أشد خبلاً وفساداً من أي وقت مضى. وهذا هو التغيير الذي أردت أن أناقشه معك. وكنت مترقباً أن أسمع منك أبياتاً عن العصر الذي عشت فيه، والذي ساده كثير من الأمانة والعدل.
سقراط-وأنا، على العكس، كنت أنتظر لأعرف منك عجائب العصر الذي عشت فيه منذ أمد قصير. ماذا؟ ألم يصلح الناس من الأخطاء والحماقات القديمة؟ .... كنت أؤمل أن تتجه الأمور نحو العقل، وأن يستفيد الناس من خبرة السنين الطوال.
مونتاني-ماذا تقول؟ يستفيد الناس من الخبرة؟ إنهم مثل الطيور التي كثيراً ما تركت نفسها نهياً للشراك التي وقع فيها بالفعل مئات الآلاف من نفس النوع. إن كل فرد يدخل جديداً إلى الحياة، وتقع أخطاء الآباء على الأبناء .... وللناس على مر القرون نفس الميول والنعات التي لا سيطرة للعقل عليها. ومن فإنه حيثما وجد الناس وجدت الحماقات والأخطاء، بل هي هي نفسها ....
سقراط-إنك أضفيت مثالية على العصور القديمة لأنك غاضب على عصرك .... إننا في حياتنا كنا نقدر أسلافنا أكثر مما كانوا يستحقون. والآن يمجدنا أعقابنا فوق ما نستحق. ولكن أسلافنا وأنفسنا وذريتنا كلهم سواء.
مونتاني: ولكن أليست هناك أزمان أفضل وأزمان أسوأ؟.
سقراط-ليس هذا بالضرورة. فالملابس تتغير، ولكن هذا لا يعني أن شكل الجسم يتغير كذلك. فالتهذيب والفظاظة والمعرفة والجهل .... ليست إلا خارج الإنسان، وهي التي تتغير، ولكن القلب لا يتغير بأية حال، وكل الإنسان هو في القلب .... وبين الجمهور الغفير من الناس الذين يولدون على مدى مائة من السنين،(34/99)
تنثر الطبيعة هنا وهناك نفراً قليلاً لا يتجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين. ممن يتمتعون بعقول راجحة (53).
وبعد بضع سنين من هذه الخاتمة المتشائمة، مال فونتينل إلى نظرة أكثر تفاؤلاً إلى حد ما في "استطراد القدامى والحديثين (يناير 1688) "، وهنا أوضح المؤلف فارقاً بيناً صغيراً. وفي الشعر والفن لم يكن ثمة تقدم ملموس، لأن هذين يعتمدان على الشعور والخيال اللذين لا يكادان يتغيران من جيل إلى جيل. أما من حيث العلوم والمعرفة والثقافة التي تعتمد على تراكم المعرفة تراكماً بطيئاً، فقد نتوقع التفوق على القدماء. وذهب فونتنيل إلى أن كل أمة تمر بمراحل، مثل الفرد، ففي عهد الطفولة تعكف على مواجهة حاجياتها المادية، وفي شبابها تضيف الخيال والشعر والفن، أما في مرحلة النضج فإنها قد تدرك العلوم والفلسفة (54). وقال فونتينل بأنه رأى الحقائق تبرز وتنمو من خلال عملية التخلص التدريجي من الأفكار الخاطئة. "نحن مدينون للقدامى لأنهم لم يبقوا على شيء من النظريات الزائفة التي كان يمكن تكوينها، تقريباً"-أي أن ننسى أن بكل حقيقة عدداً لا يحصى من الأخطاء الممكنة. ورأى أن ديكارت قد وفق إلى طريقة جديدة أفضل للتفكير والاستنتاج-الطريقة الرياضية، وتمنى للعلم الآن أن يتقدم بخطوات سريعة.
حين نرى التقدم الذي أحرزته العلوم في المائة عام الأخيرة، على الرغم من الأهواء والعقبات وقلة عدد الأفراد العلميين، فقد يغرينا هذا إلى حد كبير بأن نؤمل كثيراً في المستقبل، ولسوف نرى علوماً جديدة تنبع من لا شيء، على حين أن ما عندنا منها لا يزال في المهد (55).
وهكذا صاغ فونتنيل نظرية التقدم "تقدم الأشياء" وتصور، مثل كوندرسيه، أنه ليس لهذا التقدم حدود معينة يقف عندها في المستقبل، وهنا كان "بلوغ البشر حد الكمال بلا حدود". لقد وضعت النظرية القديمة قدمها على الطريق تماماً، وسارت بخطى ثابتة طيلة القرن الثامن عشر لتصبح أداة من أصلح أدوات الفكر الحديث.
وأنا لنجد، في تلك الأثناء، أن فونتنيل الذي كان خياله الرائع(34/100)
يسبح محاذراً غاية الحذر، قد بات قاب قوسين أو أدنى من سجن الباستيل. ذلك أنه حوالي 1685 نشر رسالة مختصرة "علاقة جزيرة بورنيو"، وهي رحلة وهمية، صورها الكاتب في صورة واقعية (استبق به شبيهاتها عند ديفو وسويفت) إلى حد أن بيل طبعها في "الأخبار" على أنها تاريخ فعلى. ولكن الصراع الذي وصفته هذه الرسالة بين أنيجو ومريو كان هجاء سافراً للصراع الديني بين جنيف وروما. ولما اطلعت السلطات الفرنسية على الجناس التصحيفي (تغيير ترتيب الحروف في الكلمة) بدا أن اعتقال فونتنيل أمر لا مفر منه، لأن الملاحظة الساخرة بدت وكأنها تنطبق على إلغاء مرسوم نانت تماماً. فأسرع في نشر قصيدة يمتدح فيها "انتصار الدين في عهد لويس العظيم". وقبل اعتذاره. ومن تلك اللحظة حرص فونتنيل على أن تكون فلسفته غامضة يصعب على الحكومات إدراك مراميها.
وعاد إلى العلوم، وجعل من نفسه مبشراً بها في المجتمع الفرنسي. وكان شديد الكلف بالدعة والراحة، فلم يعكف بطريق مباشر على التجارب والأبحاث، ولكنه وعي العلوم وعياً حسناً، فقدمها لجمهور مستمعيه المتزايد، في جرعات صغيرة مغلفة بفن الأدب. ورغبة منه في تقريب فلك كوبرنيكس إلى الأذهان وجعله في متناول الناس، ألف "محادثات في تعدد العوالم" (1686). وعلى الرغم من أن مائة وثلاثة وأربعين عاماً كانت قد انقضت على ظهور كتاب كوبرنيكس فإن قلة من الناس في فرنسا، حتى بين المتخرجين في الجامعات، كانت قد قبلت نظرية أن الشمس هي مركز العالم، وأدانت الكنيسة جاليليو لأنه اعتبر أمراً مفروغاً منه أن هذه الفرضية حقيقية، وما يجرؤ ديكارت على نشر رسالته "العالم" التي اعتبر فيها أن نظرية كوبرنيكس قضية مسلم بها.
وتناول فونتنيل الموضوع في كياسة تبعد عن النقمة، فتصور أنه يناقشه مع مركيزة مليحة يتحرك شكلها-غير مرئي ولكنه محسوس-أثناء الحوار بصورة مغرية فاتنة، لأن الجمال إذا اتخذ لقب البطولة أمكنه أن يكسف النجوم. وكانت "المحادثات" الست أمسيات. وكان المشهد في حديقة قصر المركيزة بالقرب من روان. وكان الهدف من ذلك هو أن يفهم الناس في فرنسا-أو على الأقل سيدات المجتمع-حركة(34/101)
الأرض وتعاقب دوراتها، ونظرية ديكارت في الدوامات. وزيادة في الإغراء أثار فونتنيل مسألة أخرى: هل القمر وسائر الكواكب مسكونة؟. وكان ميالاً إلى أن يعتقد هذا. ولكنه تذكر أن بعض القراء قد تزعجهم فكرة أن في العالم نساء ورجالاً لم ينحدروا من آدم وحواء، ومن ثم أوضح في حزم ولباقة أن سكان القمر والكواكب لم يكونوا بشراً حقيقيين. ومهما يكن من أمر فإنه أوحى بأنه قد يكون لهم حواس أخرى، ربما كانت أدق من حواسنا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم قد يرون الأشياء مختلفة عما نراها نحن، فهلا تكون الحقيقة عندئذ نسبية؟. وقد يقلب هذا كل شيء رأساً على عقب، حتى أكثر مما فعل كوبرنيكس. وأنقذ فونتنيل الموقف بالإشارة إلى جمال الكون ونظامه، مقارناً إياه بساعة، مستدلاً بميكانيكية الكون على صانع بارع ذي ذكاء خارق.
ولما كانت الرغبة في التعليم من أقوى الرغبات فينا، فإن فونتنيل عاود المخاطرة بالاقتراب من الباستيل بإصداره في ديسمبر 1688 رسالة غفلاً من اسم المؤلف، هي أجرأ رسائله الصغيرة تحت عنوان "تاريخ الوحي". واعترف بأنه اقتبس مادتها من كتاب "الوحي" الذي ألفه أحد الباحثين الهولنديين، فان وايل، ولكنه حورها بأسلوبه الواضح الرشيق. وقال أحد القراء: "أنه يتملقنا لمعرفة الحقيقة" وهكذا قارن الرياضيين بالعاشقين. "ضع أمام الرياضي أقل قاعدة أو مبدأ، ولسوف يستنتج منه نتيجة، ويجدر بك أن تسلم له بها، ومن هذه النتيجة أخرى وهكذا .... (56). إن رجال اللاهوت كانوا قد قبلوا بعض الوحي الوثني باعتباره صحيحاً صادقاً، ولكنهم كانوا قد نسوا دقته المعارضة إلى أحياء شيطاني، واعتبروا برهانهم على قدسية أصل الكنيسة، أن هذا الوحي انقطع منذ مجيء السيد المسيح، ولكن فونتنيل أوضح أن الوحي استمر حتى القرن الخامس الميلادي. وبرأ الشيطان من أنه صانعه، فالإيحاءات كانت حيلاً من الكهنة الوثنيين الذين تحركوا في المعابد ليأتوا بمعجزات ظاهرة، أو ليستولوا على الطعام المقدم من العابدين للآلهة. وادعى أنه ما تحدث إلا عن الوحي الوثني، وأنه استثنى صراحة الوحي والكهنة المسيحيين من هذا التحليل. ولم يكن هذا المقال ومقال "أصل الأساطير" مجرد ضربتين إيذاناً بعصر الاستنارة، بل كانتا كذلك، مثلين لمدخل جديد إلى المسائل اللاهوتية-(34/102)
تفسير للمنابع البشرية للمعتقدات الدينية، وبهذا يضفي الحالة الطبيعية على كل ما هو خارق للطبيعة.
وكان "تاريخ الوحي" آخر العمليات التي استنزفت حيوية فونتنيل. وفي 1691 انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية برغم معارضة راسين وبوالو. وفي 1697 أصبح، وبقي لمدة اثنين وأربعين عاماً، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم. وكتب تاريخها، وأطنب في امتداح من فارقوا الحياة من الأعضاء. وهذا يشكل سجلاً وعرضاً وضاءين للعلوم في فرنسا لمدة نصف قرن تقريباً. وبمثل هذه الجلسات العلمية استطاع فونتنيل أن ينفذ-بمثل القدر من الغبطة والسرور إلى الصالونات-صالون مدام دالمبرت أولاً، ومدام دي تنسين، ثم مدام دي جيوفرين. وكان موضع الترحيب، لا لمجرد شهرته باعتباره كاتباً، بل لأن روح الكياسة واللطف والمجاملة لم تفتر فيه قط. أنه مزج الحقيقة بالتعقل، واستنكف أن يعكر جو المناقشة بالخلافات، ولم يكن ذكاؤه لاذعاً. "لم يكن في عصره من هو أكثر منه تفتحاً في الذهن أو تجرداً من الحقد والضغينة والتحيز (57) " واتهمته في حمق مدام دي تنسين، التي كانت سريعة الانفعال والغضب، بأن له مخاً آخر لا بد أنه كان يحتفظ فيه بقلبه (58). ولم يستطع الشباب قتلة الآلهة الذين كانوا يتكاثرون حوله أن يفهموا اعتداله أكثر مما استساغ هو تعصبهم وعنفهم. "أني لتزعجني الحقائق التي تسيطر من حولي (59) ". ولم ير شراً محضاً في ضعف سمعه حين تقدمت به السنون.
وظاهر أنه في نحو الخمسين من العمر اعتزم ألا يقدم بعد ذلك إلا خدمات أفلاطونية للسيدات، ولكن كياسته لن تتداع. وعندما قدموه إلى سيدة جميلة، وهو في سن التسعين، قال: "آه: لو أني الآن في الثمانين فقط! (60) " وفي سن التاسعة والثمانين تقريباً افتتح حفل عام جديد بالرقص مع ابنة هلفيشيوسي البالغة من العمر عاماً ونصف العام (61). ولما قالت مدام جريموذ متعجبة، وكانت في مثل سنه تقريباً "حسناً. ها نحن كلانا حي يرزق" وضع إصبعه على شفتيه وهمس "صه يا سيدتي، إن الموت قد نسينا (62) ".
ولكن الموت عثر عليه أخيراً في 9 يناير 1757، واختطفه في سكون، ولم يكن قد مرض إلا يوماً واحداً. وأوضح لأصحابه أنه كان(34/103)
"يعاني من وجوده" وربما كان قد أحس بأنه قد بلغ من العمر أرذله. وبقي له ثلاثة وثلاثون يوماً ليتم من العمر قرناً كاملاً. لقد كان مولده قبل أن يتسلم لويس الرابع عشر دفة الحكم، وشب وسط انتصارات بوسويه، وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد البروتستانت. وعاش ليرى "دائرة المعارف"، وليستمع فولتير وهو يدعو الفلاسفة لشن الحرب على الموبقات.(34/104)
الفصل الثاني والعشرون
سبينوزا
1632 - 1677
1 - الهرطيق الصغير
إن هذه الشخصية الغريبة المحببة التي بذلت في التاريخ الحديث أجرأ محاولة للعثور على فلسفة يمكن أن تحل محل عقيدة دينية ذائعة، ولدت في أمستردام في 24 نوفمبر 1632. ويمكن تتبع أسلافه إلى مدينة سبينوزا بالقرب من برجوس في مقاطعة ليون الأسبانية. وكانوا يهوداً، ثم ارتدوا إلى المسيحية فكان منهم العلماء والقساوسة، وكان منهم كاردينال دييجو، كبير المحققين يوماً (1). وهاجر جزء من الأسرة إلى البرتغال، والمفروض أنهم لجئوا إلى الهجرة هرباً من محاكم التفتيش الأسبانية. وبعد فترة من الإقامة هناك في فيديجويرا بالقرب من باجه، انتقل جد الفيلسوف ووالده إلى نانت في فرنسا. ومنها في 1593 إلى أمستردام، كانا من أوائل اليهود الذين استوطنوا هذه المدينة، تلهفاً على التمتع بالحرية الدينية التي كفلها "اتحاد أوترخت" في 1579. وما جاءت سنة 1628 حتى أعتبر الجد زعيم الجالية الصفردية "اليهودية" في أمستردام، وكان الوالد في فترات مختلفة ناظراً للمدرسة اليهودية، ورئيساً لصندوق الصدقات المنتظمة للجالية اليهودية البرتغالية. وقدمت الأم: حنه ديبورا دي سبينوزا من لشبونه إلى أمستردام. وماتت عندما كان ابنها باروخ في السادسة من عمره. وأورثته السل. وتولى تربيته والده زوجة ثالثة. ولما كانت لفظة باروخ تعنى في العبرية "المبارك" فقد سمي الصبي فيما بعد "بندكت" في الوثائق الرسمية اللاتينية.
وفي مدرسة الجالية اليهودية تلقى باروخ التعليم الديني المألوف المبنى على التوراة والتلمود، كما تلقى بعض الدراسات للفلاسفة الحبرانيين وعلى الأخص إبراهام بن عزرا، وموسى بن ميمون وهاسداي(34/105)
كرسا، وربما كان إلى جانب هذا بعض إطلاع يسير على "القبالة" وكان من بين أساتذته من ذوي المكانة العالية والمقدرة في الجالية: شاءول مورتيرا، ومنشه بن إسرائيل. وتلقى باروخ، بالإسبانية خارج المدرسة، قدراً لا بأس به من العلوم الدنيوية، لأن والده رغب أن يعده ليكون رجل أعمال. وبالإضافة إلى اللغتين الإسبانية والعبرية تعلم البرتغالية والهولندية واللاتينية مع قدر يسير من الإيطالية والفرنسية فيما بعد. ونما في نفسه ولع بالرياضيات. وجعل الهندسة المثل الأعلى لمنهجه الفلسفي والفكري.
وكان طبيعياً أن شاباً بمثل هذا الذهن المتوقد بشكل فذ أن يثير بعض المشاكل حول النظريات والمبادئ التي تلقاها في المدرسة اليهودية، بل أنه ربما سمع في تلك المدرسة عن هرطقات عبرية. وكان ابن عزرا قد أشار منذ أمد طويل إلى الصعاب التي تنطوي عليها نسبة الأجزاء المتأخرة من أسفار موسى الخمسة إليه. وكان أتباع ابن ميمون قد اقترحوا تفسيراً مجازياً لغير هذه الأجزاء من الكتاب المقدس (2). وأثاروا شيئاً من الشكوك حول الخلود الشخصي (3)، وحول الخلق باعتباره مناقضاً لأزلية العالم (4). وكان كريسكاسي قد نسب الامتداد إلى الله، واستنكر كل المحاولات التي قامت لتثبت بالعقل حرية الإرادة وبقاء الروح بعد الموت، بل حتى وجود الله. وبالإضافة إلى هؤلاء اليهود التقليديين إلى حد كبير، لا بد أن سبينوزا قرأ ليفي بن جيرسون الذي كان قد هبط بمعجزات الكتاب المقدس إلى مجرد أسباب طبيعية، وأخضع الإيمان للعقل قائلاً "أن التوراة لا يمكن أن تحول دون أن نعتبر حقاً كل ما يستحثنا عقلنا على أن نؤمن به أو نصدقه (5) " وحديثاً جداً في جالية أمستردام اليهودية هذه، كان أوريل أكوستا قد تحدى الاعتقاد في الخلود، فحز في نفسه إصدار حكم الحرمان عقاباً له وأطلق النار على نفسه (1647). ولا بد أن الذكرى الغامضة لهذه المأساة زادت من حدة الثورة التي تعتمل في ذهن سبينوزا حين أحس بأن لاهوت عشيرته وأسرته العتيد يفلت منه.
ومات أبوه في 1654. وطالبت أخت له بكل الضيعة والثروة، فقاضاها سبينوزا أمام المحكمة وكسب القضية، ثم عاد ونزل لها عن كل التركة إلا سريراً واحداً. واعتمد الآن على نفسه فكسب عيشه بالاشتغال(34/106)
بشحذ العدسات وصقلها من أجل النظارات والمجهر والمقراب. وبالإضافة إلى القيام بتعليم بعض تلاميذ خصوصيين اشتغل بالتدريس في مدرسة فرانس فان دن اند اللاتينية، وهو يسوعي سابق، حر التفكير كاتب روائي ثائر (1). وهناك أتقن سبينوزا اللاتينية، وربما حفزه فان دن اند إلى كراسة ديكارت وبيكون وهوبز، وربما أطلع الآن على "المجموعة اللاهوتية" لتوما الأكويني. ويبدو أنه وقع في غرام مع ابنة الناظر التي آثرت خطيباً أكثر ثراء، ومبلغ علمنا أن سبينوزا لم يخط خطوة أخرى نحو الزواج.
وكان في تلك الأثناء قد بدأ بفقد إيمانه. ويحتمل أنه قبل سن العشرين، وبكل الألم والذعر اللذين تجلبهما التغيرات في مثل هذه السن إلى الأرواح المرهفة الحس، كان قد قامر ببعض الأفكار المثيرة-أن المادة قد تكون جسم الله، وقد تكون الملائكة أوهام الخيال، وأن الكتاب المقدس لم يذكر شيئاً عن الخلود، وأن النفس متماثلة مع الحياة (7). وربما احتفظ بهذه الهرطقات المغرورة لنفسه لو أن أباه بقي على قيد الحياة، بل ربما التزم الصمت حتى بعد موت أبيه، لولا أن بعض أصدقائه أزعجوه بالأسئلة، وبعد كثير من التردد اعترف لهم باهتزازات عقيدته وإيمانه، فوشوا به إلى الكنيس.
وينبغي ألا يغيب عن الأذهان ما كثرت الإشارة إليه من أن زعماء الجالية اليهودية في أمستردام كانوا يجدون حرجاً في معالجة الهرطقات التي تهاجم أساسيات المسيحية واليهودية على حد سواء. أن اليهود في الجمهورية الهولندية نعموا بتسامح ديني أنكرته عليهم سائر الأقطار المسيحية، ولكن كان من الميسور حرمانهم منه، إذا تسامحوا فيما بينهم في أفكار تزعزع الأساس الديني للأخلاق والنظام الاجتماعي .. وطبقاً لما جاء في سيرة حيان سبينوزا التي كتبها في السنة التي مات فيها أحد اللاجئين الفرنسيين في هولندا، وهو جين مكسميليان لوكاس، وأضاف الطلبة الذي أبلغوا عن شكوك باروخ-أضافوا كذباً وبهتاناً اتهامه بأنه أبدى احتقاره للشعب اليهودي لاعتقاده بأنه شعب الله المختار بصفة خاصة وأن الله هو مؤلف شريعة موسى (8). ولسنا ندري إلى أي حد
_________
(1) عمل فان دن اند أخيراً جاسوساً خاصاً للهولنديين في باريس، وقبضت عليه الحكومة الفرنسية وأعدم شنقاً (1676) (6).(34/107)
يمكن تصديق هذا الكلام. وعلى أية حال، فلا بد أن زعماء اليهود كرهوا أي تمزق في العقيدة التي كانت في ذروة القوة كما كانت معيناً لا ينضب من العزاء والسلوى لليهود طوال قرون الشقاء المرير.
واستدعى الأحبار سبينوزا وسلقوه بألسنة حداد لأنه خيب الآمال الكبار التي كان معلموه قد عقدوها على مستقبله في الجالية اليهودية وكان أحد هؤلاء المعلمين، وهو مشنه بن إسرائيل، متغيباً في لندن. أما المعلم الآخر، وهو شاءول مورتيرا، فقد توسل إلى الشاب أن يتخلى عن هرطقاته. وإنصافاً للأحبار، يجدر بنا أن نذكر أن لوكاس، برغم تعاطفه الشديد مع سبينوزا يسجل أنه عندما استرجع مورتيرا ذكرى العناية الفائقة التي أولاها تلميذه الأثير لديه في تعليمه اللغة العبرية، "رد باروخ بأنه يسعده الآن، مقابل ما بذله معلمه مورتيرا من جهد، أن يعلمه كيف يصدر قرار الحرم (الحرمان الديني) (9) " ويبدو هذا منافياً إلى أبعد حد لما نسمع عن طباع سبينوزا، ولكن ينبغي ألا نترك لعواطفنا اختيار الدليل، (وخلافاً لما قال شيشرون) يندر أن يكون ثمة شيء بالغ غاية الحمق إلا أمكنك أن تجده في حياة الفلاسفة.
وقيل أن زعماء الكنيس عرضوا على سبينوزا معاشاً سنوياً قدره ألف جولدن إذا هو وعد ألا يتخذ خطوة عدائية ضد اليهودية، وحضر إلى الكنيس من وقت لآخر (10)، ويبدو أن الأحبار أصدروا ضده في بداية الأمر قرار "الحرم الأصغر" فقط، وهو مجرد حرمانه من الاتصال بالجالية اليهودية لمدة ثلاثين يوماً فقط (11). وقيل أنه قبل هذا الحكم عن طيب خاطر قائلاً "حسناً، إنهم أرغموني على ألا أفعل شيئاً ما كنت لأفعله بمحض إرادتي (12) "، وربما كان بالفعل يعيش آنذاك خارج الحي اليهودي بالمدينة. وحاول أحد المتعصبين أن يقتله، ولكن السلاح لم يصب إلا سترته. وفي 24 يوليه 1656 أعلنت السلطات الدينية والمدنية في الجالية اليهودية من فوق منبر الكنيس البرتغالي، في مهابة وكآبة، "الحرم التام" لباروخ سبينوزا، بما يقترن بذلك من اللعنات والمحظورات المعتادة: ألا يتحدث إليه أحد ولا يكتب إليه، ولا يؤدى له أية خدمة، ولا يقرأ كتاباته، أو يقترب منه على مسافة أربعة أذرع (13). وقصد مورتيرا إلى السلطات الرسمية في أمستردام، وأبلغها بالاتهامات وقرار الحكم، وطلب إليها طرد سبينوزا من المدينة،(34/108)
فأصدرت حكمها بنفي سبينوزا لبضعة أشهر (14)، فذهب إلى قرية أودركيرك القريبة، ولكنه سرعان ما عاد إلى أمستردام.
وأكسبته معرفته باللاتينية عدة صداقات في دائرة محدودة من الطلبة تزعمهم لودفيك ميير وسيمون دي فريس، وكان ميير حاصلاً على درجات جامعية في الفلسفة والطب، ونشر في 1666 "فلسفة تفسير الأسفار المقدسة". وفيه أخضع الكتاب المقدس للعقل. وربما عكس هذا الكتاب آراء سبينوزا-أو أثر عليها. أما دي فريس فكان تاجراً ثرياً ناجحاَ، شديد الولع بسبينوزا إلى حد أنه رغب في منحه ألفي فلورين ولكن الفيلسوف أبى. فلما أحس التاجر بدنو الأجل (1667) وكان غير متزوج، فإنه عرض أن يكون سبينوزا وريثاً، ولكنه أقنعه بأن يترك كل ثروته لأخ له. وقدم الأخ الشكور المعترف بجميل سبينوزا منحة سنوية قدرها 500 فلورين، ولكن سبينوزا اكتفى بثلاثمائة (15). وكتب صديق آخر من أمستردام، هو جوهان بوفميستر إليه "أحبني لأني أحبك من كل قلبي" (16). وإلى جانب الفلسفة كانت الصداقة هي الأساس الرئيسي في دعم حياة سبينوزا. وكتب في إحدى رسائله: -
من بين كل الأشياء التي فوق طاقتي لا أقدر شيئاً أكثر من تقديري لأن يكون لي شرف عقد أواصر الصداقة مع أناس يحبون الحقيقة في إخلاص، فإنه من بين الأشياء التي فوق طاقتنا، ليس في العالم شيء يمكن أن نحبه في هدوء إلا مثل هؤلاء الرجال (17).
ولم يكن سبينوزا منعزلاً متقشفاً زاهداً كل العزلة والتقشف والزهد، بل أنه استحسن "جيد الطعام والشراب، والتمتع بالجمال وتربية الأزهار والاستماع إلى الموسيقى والتردد على المسرح (18) " وفي إحدى هذه الزيارات كانت محاولة قتله. وكان عليه أن يظل يخشى اغتياله. ونقشت على خاتمه كلمة واحدة "حذار 19" ولكنه أحب، أكثر كثيراً من تلك المتع والتسلية، بل حتى أكثر من الصداقات، أحب العزلة والدراسة وهدوء الحياة البسيطة. ويقول بيل: "إن زيارات أصدقائه له كانت تفسد عليه تأملاته كثيراً (20) ". ومن أجل هجر أمستردام ليقيم في قرية هادئة "وينزبرج"- (مدينة على الراين) -(34/109)
على مسافة ستة أميال من ليدن. واتخذت شيعة من أتباع ابن ميمون (وهي تشبه الكويكرز) مقراً لها في تلك القرية. ولقي سبينوزا ترحيباً بين إحدى أسرات هذه الجماعة.
وفي هذا المنزل المتواضع، الذي يحتفظون به الآن باعتباره "متحف سبينوزا" كتب الفيلسوف عدة رسائل صغيرة والجزء الأول من "الأخلاق". وفي 1622 كتب "رسالة موجزة عن الله والإنسان وسعادته:، ولكنها كانت إلى حد كبير انعكاساً لديكارت. والأكثر منها إمتاعاً وتشويقاً رسالته عن "إصلاح العقل" التي طرحت جانباً دون إتمامها في تلك السنة نفسها. وأنا لنجد في صفحاتها الأربعين عرضاً مسبقاً لفلسفة سبينوزا. وأنا لنحس من أول عبارة فيها وحشة الرجل المنبوذ من المجتمع.
بعد أن علمتني التجربة أن كل الأشياء التي يكثر وقوعها في الحياة العادية عقيمة غير ذات جدوى، وحين رأيت أن كل الأشياء التي كنت أخشاها، والتي خوفتني، ليس فيها في حد ذاتها شيء حسن أو سيئ إلا بقدر ما يتأثر الذهن بها، فإني اعتزمت آخر الأمر أن أتحرى هل يمكن أن يوجد شيء حسن حقاً، وقادر على أن ينقل حسنه وخيره، ويمكن أن يتأثر به الذهن إلى حد استبعاد سائر الأشياء.
وأحس سبينوزا بأنه لا الثراء ولا الشهرة ولا الملذات الجسمية يمكن أن تفعل هذا، وغالباً ما يختلط الاهتياج والأسى بهذه المباهج"، وليس إلا حب شيء خالد لا متناه هو الذي يغذي الذهن باللذة والمتعة .... مجردة من كل ألم (21)، وربما أمكن أن يكتب هذا بقلم توماس كمبيس أو جاكوب يوم، والحق إنه بقي دائماً في سبينوزا إثارة أو حالة من التصوف ربما جاءته من القبالة، والآن غذتها عزلته وزادتها قوة، أن الخير الخالد اللامتناهي "في ذهنه يمكن أن يسمى "الله" ولكن فقط في تعريف سبينوزا الأخير للإله باعتباره ذا طبيعة لها قدرتها الخلاقة وقوانينها. ويقول كتاب "إصلاح العقل": "الخير الأعظم هو معرفة اتحاد الذهن مع الطبيعة بأسرها ...(34/110)
وكلما زاد الذهن فهماً لنظام الطبيعة، ازدادت قدرته على التحرر من الأشياء العقيمة غير المجدية (22) ". وهنا نجد أول التعبير لسبينوزا عن "الحب العقلي لله"-التوفيق بين الفرد وبين طبيعة الأشياء وقوانين الكون.
وهذه الرسالة البليغة الموجزة تبين كذلك هدف تفكير سبينوزا وفهمه للعلم والفلسفة"، بودي أن أوجه كل العلوم إلى وجهة واحدة أو غاية واحدة بالذات، الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الكمال الإنساني، ومن ثم ينبغي نبذ أي شيء في العلوم بلا يسعى لهذه الغاية، باعتباره عقيماً غير مجد (23) ". وهنا نجد اتجاهاً مختلفاً كل الاختلاف عما سمعنا من فرانسيس بيكون، أن تقدم العلوم يكون وهماً وخداعاً إذا أدت إلى مجرد زيادة سيطرة الإنسان على الأشياء، دون تحسين أخلاقه ورغباته. وهذا هو السبب في تسمية "تحفة" الفلسفة الحديثة "بالأخلاق" على الرغم من مقدمتها الميتافيزقية الطويلة، وأن كثيراً منها سوف يحلل استرقاق رغبات الإنسان له، ونحرره عن طريق العقل.
2 - اللاهوت والسياسة
ترامى إلى أسماع الطلبة الشبان الذين تركهم سبينوزا وراءه في أمستردام، أنه كان قد شرع، من أجل تلميذ في راينزبرج، في ترجمة هندسية لكتاب ديكارت "المبادئ الفلسفية". وألحوا عليه في إكمالها وإرسالها إليهم، ففعل، ودفعوا هم نفقات طبعها (1663) بعنوان "عرض المبادئ الفلسفية لديكارت على أساس هندسي". ويهمنا أن نذكر عنها ثلاث نقاط: أنها عبرت عن آراء ديكارت (في الإرادة الحرة مثلاً) لا عن آراء سبينوزا، وأنها الكتاب الوحيد الذي طبع في حياة سبينوزا حاملاً اسمه. وأنه في جزء ملحق بها "تفكير ميتافيزيقي"، قال سبينوزا بأن الزمن ليس حقيقة موضوعية بل طريقة تفكير (24)، وهذا واحد من عناصر "كانت" في فلسفة سبينوزا.
وكسب سبينوزا في راينزبرج أصدقاء جدد، فقد تعرف عليه هناك عالم التشريح العظيم ستينو. وكان هنري أولدنبرج عضو(34/111)
الجمعية الملكية قاصداً إلى ليدن 1661، فحاد عن طريقه المرسوم ليزور سبينوزا، وكان لذلك وقع شديد في نفسه، ولدى عودته إلى لندن بدأت مراسلات طويلة بينه وبين الفيلسوف الذي لم تكن مؤلفاته قد طبعت بعد، بيد أنه كان ذا شهرة واسعة. وثمة صديق آخر من رايزنبرج أورليان كورباج، استدعي للمثول أمام إحدى محاكم أمستردام (1668) بتهمة دأبه على معارضة اللاهوت السائد، وسعى أحد القضاة إلى توريط سبينوزا في القضية باعتباره مصدر هرطقة كورباج، ولكن هذا أنكر أية علاقة لسبينوزا بالأمر، فأنقذ الفيلسوف. ولكن حكم على المهرطق الشاب بالسجن عشر سنين، حيث قضى نحبه بعد أن أمضى فيه خمسة عشر شهراً. ومن هنا ندرك لماذا لم يتعجل سبينوزا طبع مؤلفاته.
وفي يونيه 1663 انتقل إلى فوربورج قرب لاهاي. وأقام لمدة ستة أعوام في بيت أحد الفنانين يصقل العدسات، ويؤلف "الأخلاق". وكانت المقاطعات المتحدة في حرب دفاعية مستميتة ضد لويس الرابع عشر، وقد أزعج هذا الحكومة الهولندية ودعاها إلى فرض قيود أشد صرامة على حرية التعبير عن الآراء. ومع ذلك نشر سبينوزا في 1670، دون أن يفصح عن اسمه "رسالة اللاهوت والسياسة" أصبحت حدثاً أو معلماً هاماً من معالم نقد الأسفار المقدسة. وأوضحت صحيفة العنوان في رسالة اللاهوت والسياسة "الغرض منها": وهو إيضاح أنه يمكن منح حرية الفكر والكلام دون تحيز للدين والسلام العام، كما أنه يمكن كذلك عدم كبت هذه الحرية دون تعريض الدين والسلام العام للخطر". وتنصل سبينوزا من الإلحاد وأنكره، وأيد أساسيات العقيدة الدينية. ولكنه أخذ على عاتقه إظهار قابلية الإنسان للخطأ في هذه الأسفار المقدسة، وهي ما بنى عليه رجال الدين الكلفنيون لاهوتهم تعصبهم، وكان رجال الدين في هولندا يستخدمون نفوذهم ونصوص الكتب المقدسة لمناهضة الجماعة التي تزعمها "دي ويت" والتي أيدت الفكر المتحرر ومفاوضات السلام، وكان سبينوزا مخلصاً أشد الإخلاص لهذه الجماعة ولجان دي ويت:
مذ رأيت الخلافات الحادة التي نشبت بين الفلاسفة في الكنيسة والدولة، وهي مصدر الكراهية المريرة والانشقاق ...(34/112)
فإني اعتزمت أن أتناول بالبحث من جديد، الكتاب المقدس، بدقة وروح غير متحيزة، طليقة غير مقيدة، دون أن أضع افتراضات أو نظريات لا أرى بوضوح أنها موجودة فيه. ومع هذه الاحتياطات وضعت طريقة لتفسير الأسفار المقدسة (26).
إن سبينوزا تنبه إلى صعوبة فهم لغة العهد القديم العبرية وضرب لذلك أمثلة، فإن النص المازوري-الذي زود بالحروف اللينة وحركات النطق التي أهملها ناسخو التوراة الأصليون كان حدساً وتخميناً إلى حد ما، ولا يكاد يوفر نموذجاً أصلياً موثوقاً لا يقبل الجدل، واستفاد في الفصول الأولى من هذه الرسالة كثيراً من رسالة ابن ميمون "دليل الحيران". وحذا حذو إبراهام بن عزرا وآخرين في الارتياب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى. وأنكر أن يشوع هو الذي ألف سفر يشوع، ونسب الأجزاء التاريخية في العهد القديم إلى القسيس الكاتب عزرا في القرن الخامس قبل الميلاد. أما سفر أيوب فقد ذهب إلى أنه من عمل الأمميين (الكفار) ثم ترجم إلى العبرية. ولم تلق كل هذه النتائج قبولاً لدى الباحثين المتأخرين، ولكنها كانت خطوة جريئة نحو التعرف على ريتشارد سيمون 1678 تحت عنوان "نقد العهد القديم". وأوضح سبينوزا أنه في حالات كثيرة، تكررت نفس القصة أو القطعة في مواضع مختلفة من الكتاب المقدس، بنفس الألفاظ أو في روايات محرفة، توحي إحداها بالاقتباس العادي من مخطوطة قديمة، وتثير أخرى التساؤل عن بيان "كلمة الله (27) " وكانت هناك استحالات وتناقضات من حيث التوقيت الزمني، وفي رسالة بولس الرسول إلى الرومان (3: 20 - 28) لقنهم أن خلاص الإنسان يمكن أن يكون بالإيمان وحده لا بالعمل، ولكن رسالة بولس جيمس (2: 24) أوردت نقيض هذا على خط مستقيم، فأيهما تتفق مع "كلمة الله وتوجيهه"؟ وأشار الفيلسوف إلى أن مثل هذه النصوص المتباينة قد خلقت بين رجال اللاهوت صراعات مريرة أشد المرارة، بل دامية، بدلاً من السلوك القويم الذي يحث عليه الدين.
وهل أنبياء العهد القديم صوت الله؟. واضح أنهم لم يتفوقوا(34/113)
من حيث المعرفة على الطبقات المثقفة في زمانهم، فإن يشوع، على سبيل المثال، كان يسلم تسليماً جازماً بأن الشمس، حتى "أوقفها" يشوع، كانت تدور حول الأرض (28). ولم يتفق هؤلاء الأنبياء في العلم، بل برزوا في قوة الخيال والحماسة والغيرة والشعور، كانوا شعراء وخطباء عظاماً. ومن الجائز أن الوحي نزل عليهم من عند الله وإذا كان الأمر كذلكـ فإن عملية الوحي قد تكون تمت بطريقة اعترف سبينوزا بعجزه عن إدراكها (29). وربما حلموا بأنهم رأوا الله، وربما اعتقدوا في صحة أحلامهم. فإنا نقرأ "أبيمالك" أن الله جاء إليه في حلم الليل" سفر التكوين 20: 6). إن العنصر الإلهي في الأنبياء ليس نبوءاتهم، بل حياتهم الفاضلة، والفكرة الرئيسية في عظاتهم هي أن الدين يكمن في السلوك القويم، لا في الطقوس المرهقة.
وهل كانت المعجزات التي دونت في الكتاب المقدس اضطرابات حقيقية في مجرى الطبيعة العادي؟ وهل أدت خطايا البشر إلى الحريق والفيضان؟ وهل أتت صلواتهم ودعواتهم بخصوبة الأرض؟ ذهب سبينوزا إلى أن مثل هذه القصص استخدمها مؤلفو الأسفار المقدسة لينفذوا إلى أفهام البسطاء من النسا ويحثوهم على الفضيلة والتقوى، ويجدر بنا ألا نأخذها بحروفها:
ومن ثم، فإننا، حين يقول الكتاب المقدس بأن الأرض مجدبة بسبب خطايا البشر، أو أن الإيمان يبرئ الأعمى، يجدر بنا ألا نعير هذا التفاتاً أكثر من التفاتنا إلى قوله، أي الكتاب المقدس، بأن الرب غاضب على خطايا البشر. وأنه حزين وأنه نادم على وعد أو فعل من خير، أو أنه عند رؤية علامة يتذكر شيئاً كان قد وعد به، فإن هذه التعبيرات وأضرابها أما أنها ألقيت إلقاءً شاعرياً، أي من قبيل خيال الشعراء، أو رويت وفقاً لآراء الكتاب وأهوائهم. وينبغي أن نكون على يقين، كل اليقين من أن كل شيء وصفته الأسفار المقدسة وصفاً صادقاً حقيقياً، حدث حتماً-مثل سائر الأشياء-وفقاً للقانون الطبيعي، وأن شيئاً دون فيها مما يمكن إثباته على أسس موضوعة تتنافى مع نظام الطبيعة أو يتعذر استنتاجه منها، فإنه يجدر بنا أن نؤمن(34/114)
بأنه مدسوس إلى الأسفار المقدسة عن طريق أيد مارقة عن الدين. فإن أي شيء مناقض للطبيعة مناقض للعقل، وأي شيء مناف للعقل سخيف مضحك (30).
وربما كان هذا أصرح إعلان لاستقلال العقل وضعه فيلسوف حديث بعد. وبقدر ما حاز هذا الإعلان قبولاً، فإنه انطوى على ثورة ذات معنى ونتائج أعمق من كل حروب ذاك العصر وسياسته.
بأي معنى إذن يكون الكتاب المقدس "كلمة الله؟ ". وبهذا المعنى وحده، وهو أنه يحتوي على قانون أخلاقي يربط الناس بالفضيلة. إنه يحتوي كذلك على أشياء كثيرة أدت إلى نزعة شديدة إلى الشر في الإنسان-أو هيأت لها، وبالنسبة للكثرة الكثيرة من الناس المرهقين إلى حد كبير بمشاغلهم اليومية إلى درجة أنهم لا يجدون فراغاً أو قدرة على تنمية عقولهم، يمكن أن تكون قصص الكتاب المقدس خير عون لهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة. ولكن التعليم الديني يجب أن يتركز على السلوك لا على العقيدة. ويكفي أن تقتصر العقيدة على الإيمان "بوجود الله، كائن أسمى يحب العدل والإحسان"، وخير عبادة له هي معاملة الجار بالعدل والانصاف وحبه. ولا ضرورة لمبدأ آخر (31).
وإلى جانب هذا المبدأ ينبغي لأن يكون الفكر حراً، أن الكتاب المقدس لم يقصد به أن يكون كتاباً مدرسياً للعلوم أو الفلسفة، فهذه العلوم والفلسفة مكشوفة أمام أعيننا في الطبيعة، وهذا الوحي الطبيعي هو أصدق وأشمل صوت الله.
ليس بين العقيدة أو اللاهوت وبين الفلسفة .... أية علاقة أو صلة نسب ... وليس للفلسفة غاية تصبو إليها إلا الحقيقة، أما العقيدة ... فلا تفتش إلا عن الطاعة والامتثال والتقوى. فالعقيدة إذن تهيئ أعظم مدى للتأمل الفلسفي، وتسمح لنا دون عتب أو ملام أن نفكر كيف نشاء، ولا تتهم بالهرطقة والانشقاق إلا أولئك الذين يميلون إلى إثارة الكراهية والغضب والنزاع (32).
وهكذا نرى سبينوزا في تحوله المتفائل قد جدد تمييز بومبوناتزي(34/115)
بين حقيقتين: اللاهوتية والفلسفية ويمكن أن تتهيأ كل منهما، برغم تناقضهما، لشخص بعينه في حالة كونه مواطناً، ثم في حالة كونه فيلسوفاً وقد يجيز سبينوزا للموظفين الرسميين المدنيين حق فرض طاعة القوانين، كما أن الدولة، شأنها شأن الفرد، الحق في حماية ذاتها، ولكنه يضيف:
إن الأمر بالنسبة للدين يختلف اختلافاً كبيراً، فمن حيث لأنه لا يتألف من عمل ظاهري بقدر ما يتألف من بساطة الخلق وصدقه، فإنه يقف خارج نطاق القانون والسلطة العامة. أن بساطة الخلق والصدق فيه لا تنتجهما قيود القوانين ولا سلطة الدولة، وليس ثمة فرد العالم بأسره يمكن أن يفرض عليه التنعم بالسعادة الروحية أو تسن له القوانين من أجلها. والوسيلة المطلوبة لتحقيق هذا هي النصح المخلص الأخوي والتعليم الصحيح، وفوق كل شيء الاستخدام الحر للحكم أو الرأي الشخصي .... إن في مقدور كل إنسان أن يستخدم بنجاح حقه العظيم في حرية الرأي والحكم، ويستخدم سلطته في ذلك .... وأن يشرح ويفسر الدين لنفسه (33).
وينبغي أن تخضع الممارسة العلنية للدين لرقابة الدولة. ذلك أنه على الرغم من أن الدين قد يكون عنصراً حيوياً في تشكيل الأخلاق، فإن الدولة يجب أن تكون صاحبة السلطان الأعلى في كل الأمور التي تؤثر في السلوك العام. وكان سبينوزا أرسطوسياً (يقول بأن الدولة السلطة العليا في الشئون الكنسية) عتيداً مثل هوبز، وحذا حذوه في إخضاع الكنيسة للدولة، ولكنه حذر قراءة قائلاً: "إني أتحدث هنا عن الشعائر الظاهرية فحسب .... لا عن .... العبادة الباطنية (34) ". وكان ناقماً أشد النقمة (وربما تمثل في خاطره لويس الرابع عشر) حينما استنمر استخدام الدولة للدين في أغراض تتنافى مع مفهومه عن الديانة الأساسية العدل وعمل الخير.
إذا كان اللغز للغز الرهيب الأساسي في الدولة الاستبدادية هو التغرير بالرعايا وتقنيع الخوف الذي يكبح جماحهم بلباس(34/116)
خداع من الدين، حتى يقاتل الناس من أجل العبودية بمثل البسالة التي يناضلون بها من أجل أمنهم وسلامتهم، ولا يعتبرونه عاراً بل شرفاً كبيراً أن يبذلوا دماءهم وحياتهم رخيصة من أجل زهو وخيلاء وعظمة جوفاء ينعم بها طاغية جبار، فإنه في الدولة الحرة يتعذر تدبير وسائل نفعية شريرة، أو محاولة اللجوء إليها، وأن ليتعارض مع الحرية العامة كل التعارض، أن ينفذ القانون إلى مجال الفكر المتأمل وتتعرض الآراء للتحقيق والمساءلة، وتوضع موضع الاتهام والعقاب مثل الجرائم سواء بسواء، على حين يضحي بالمدافعين عنها وبأتباعها، لا من أجل الأمن والسلامة العامة، بها على مذبح كراهية خصومها وقساوتهم. ولو أمكن اتخاذ العمال وحدها أساساً لتوجيه الاتهام بالجرائم، وأطلقت حرية القول ... لتجرد التحريض على الفتنة من أية شبهة لتبريره، لأمكن الفصل بينه وبين مجرد الخلاف فصلاً شديداً (35).
وواجه سبينوزا أثناء دراسته الكتاب المقدس قضية الخلاف الأساسية بين المسيحيين واليهود. هل كانت المسيحية غير مخلصة للمسيح أو خائنة لعهده حين نبذت شريعة موسى؟ ومن رأيه أن تلك الشريعة سنت لليهود في نطاق دولتهم هم، لا لأية أمم أخرى، حتى ولا لليهود أنفسهم إذا كانوا يقيمون في مجتمع غريب عنهم، والقوانين الأخلاقية وحدها في شريعة موسى (مثل الوصايا العشر) هي التي تتمتع بصلاحية أبدية عامة لكل زمان ومكان (36). وتنم بعض الأجزاء في سبينوزا في اليهودية عن استياء شديد من صدور قرار "الحرم" ضده، وعلى حرص شديد منه على تبرير نبذه لتعاليم الكنيس، ولكنه انضم إلى اليهود فيما يراودهم من أمل في عودة عاجلة إلى دولة مستقلة. "قد أذهب بعيداً إلى حد الاعتقاد بأنهم ... سيقيمون دولتهم من جديد، وأن الله سيختارهم للمرة الثانية (37) ".
وتناول المسيحية عدت مرات، وواضح أنه قرأ العهد الجديد في إعجاب متزايد بالمسيح. ونبذ فكرة قيامة المسيح بجسده من بين الأموات (38). ولكنه ألفى نفسه يتعاطف تعاطفاً شديداً مع موعظة(34/117)
يسوع إلى حد أنه أقر بأن وحياً خاصاً نزل عليه من عند الله:
إن إنساناً يستطيع بفطرته النقية أن يدرك أفكاراً ليست موجودة، كما لا يمكن استنتاجها من أساس معرفتنا الطبيعية، لا بد أنه بالضرورة يتمتع بعقل أسمى بكثير من عقول رفاقه، بل إني لا أعتقد أن أحداً اختص بهذا غير المسيح، وقد أوحيت إليه مباشرة اوامر الله التي تؤدي إلى الخلاص، بغير كلمات ولا رؤى. ومن ثم فإن الله كشف عن ذاته للرسل عن طريق عقل المسيح، كما فعل من قبل مع موسى عن طريق الصوت الخارق للطبيعة. وبهذا المعنى يمكن أن يسمى صوت المسيح، مثل الصوت الذي سمعه موسى-صوت الله-، وقد يقال بأن حكمة الله (وهي أسمى من حكمة البشر (1)) ظهرت في طبيعة المسيح البشرية، وأن المسيح كان طريق الخلاص. وعند هذه النقطة لا بد لي أن أعلن أن هذه النظريات، التي تقدمها بعض الكنائس فيما يتعلق بالمسيح، ليس في وسعي أن أؤكدها أو أنفيها لأني أعترف بكل صراحة أني لا أفهمها ... أن المسيح اتصل بالله عقلاً لعقل وبناء على هذا يمكن أن نستخلص أنه لا أحد غير المسيح تلقى الوحي من الله، دون عون من الخيال في الكلمات أو الرؤى (39).
أن غصن الزيتون هذا، الذي قدم إلى الزعماء المسيحيين، لم يكن ليخفي عنهم أن "الرسالة اللاهوتية السياسية" مانت من أجرأ ما صدر من بينات وآراء في الصراع بين الدين والفلسفة. وما أن ظهرت الرسالة حتى احتج مجلس كنيسة أمستردام (30 يونيه 1670) لدى رئيس الدولة في هولندا على السماح بتداول مثل هذا الكتاب المملوء بالهرطقة في دولة مسيحية. وتوسل إليه أحد المجامع الكنسية في لاهاس أن يلعن ويصادر "مثل هذه الكتب التي تعمل على تخريب النفوس (40) ". وانضم النقاد العلمانيون إلى الهجوم على سبينوزا. وسماه أحدهم "شيطاناً مجسداً (41) ". ووصفه جان لي كلرك بأنه
_________
(1) انظر "كتاب الحكمة"، و "الكلمة-لوجوس" في الإنجيل الرابع.(34/118)
"أشهر ملحد في زماننا (42) ". واتهمه لامبرت فا فلتسون بأنه "يحتال في مكر ودهاء على بث الإلحاد ... وتقويض أركان العبادة والديانة من أساسها (43) ". ومن حسن حظ سبينوزا أن جان دي ويت رئيس الدولة كان من المعجبين به. وكان لفوره قد أجرى عليه معاشاً ضئيلاً، وما دام دي ويت حياً متربعاً في دست الحكم، فإن سبينوزا كان في مقدوره أن يعتمد على حمايته له. ولم تدم هذه الحماية لأكثر من عامين فقط.
3 - الفيلسوف
في مايو 1670، بعد نشر الرسالة اللاهوتية السياسية بقليل، انتقل سبينوزا إلى لاهاي، ربما ليكون على مقربة من دي ويت وغيره من الأصدقاء ذوي النفوذ. وأقام لمدة عام في بيت "الأرملة فان فيلين"، ثم انتقل إلى دار هندريك فان درسبيك على بافليونجراشت، وفي 1927 اشترت لجنة دولية هذا المبنى، واحتفظ به على أنه "مسكن سبينوزا"، وبقي فيه إلى آخر حياته. وشغل منه حجرة واحدة في الطابق الأعلى، ونام على سرير يمكن أثناء النهار أن يطوى إلى حائط (44). ويقول بيل "وفي بعض الأحيان كان يقبع في عقر الدار لا يخطو خارجها لمدة ثلاثة أشهر بأكملها"، وربما أخافته رئتاه المسلولتان من رطوبة الشتاء. ولكن كان زواره كثيرين، ومرة أخرى يقول بيل أنه بين الحين والحين "كان يقصد إلى زيارة نفر من ذوي المكانة والنفوذ ... للتحدث معهم في شئون الدولة التي كان يفهمها جيداً (45) ". واستمر يشتغل بصقل العدسات، وأطرى العالم الفيزيائي الرياضي كريستيان هيجينز درجة اتقائها (46). واحتفظ الفيلسوف ببيان عن نفقاته، ومنه نعلم أنه عاش على نحو خمسة وعشرين سنتاً في اليوم، وأصر أصدقاءه على مد يد المعونة له، حيث لا بد أنهم رأوا أن اعتكافه في الدار والغبار الذي ينتج عن صقل العدسات كانا يضاعفان من علته.
وانتهت الحماية التي بسطها دي ويت على سبينوزا حين اغتال بعض الرعاع الآخوين دي ويت في شوارع لاهاي (أغسطس 1672). ولما سمع بنبأ اغتيالهما رغب في مغادرة الدار ليعلن إلى هؤلاء الرعاع(34/119)
استنكاره لفعلتهم باعتبارهم "أحط المتوحشين"، ولكن صاحب الدار غلق الأبواب ومنعه من مغادرة الدار (47). وترك جان دي ويت لسبينوزا في وصيته راتباً سنوياً قدره مائتا فرنك (48) (1). وبعد موت دي ويت انتقلت السلطة المدنية إلى الأمير وليم هنري الذي كان في حاجة إلى تأييد رجال الدين الكلفنيين. ولما صدرت الطبعة الثانية من "الرسالة اللاهوتية السياسية 1674، أصدر الأمير ومجلس هولندا مرسوماً يحظر بيع الكتاب، وفي 1675 أذاع مجلس الكلفنيين في لاهاي بياناً يأمر فيه كل المواطنين بالإبلاغ فوراً عن أية محاولة لطبع أية مؤلفات لسبينوزا (49). وفيما بين عامي 1650 و1680 - صدر من سلطات الكنيسة نحو 50 مرسوماً بتحريم قراءة مؤلفات الفيلسوف أو تداولها (50).
وربما ساعدت قرارات الحظر هذه على ذيوع شهرته في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. وفي 16 فبراير 1673 كتب جوهان فابريشيوسي الأستاذ بجامعة هيدلبرج "إلى الفيلسوف الألمعي المشهور بندكت سبينوزا، باسم ناخب البالاتينات المتحرر، الأمير شارل لويس:
طلب إلى صاحب العظمة الأمير، أن أكتب إليكم .. لأسألكم إذا كنتم ترغبون في قبول منصب الأستاذية العادية للفلسفة في جامعته الشهيرة. وسيعطيك الراتب السنوي الذي يتقاضاه الأساتذة العاديون الآن. إنك لن تجد في أي مكان آخر أميراً أشد إيثاراً وأكثر عطفاً على العباقرة المرموقين الذين يعدك واحداً منهم. وسيكون لك مطلق الحرية في اتخاذ أي اتجاه فلسفي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامه في الفساد جو الديانة الرسمية علانية ....
وأجاب سبينوزا في 30 مارس:
السيد الجليل،
إذا كانت قد راودتني الرغبة يوماً في شغل منصب
_________
(1) يرتاب بعض الباحثين في معرفة سبينوزا بجان دي ويت. راجع كلارك-"القرن السابع عشر" ص: 223.(34/120)
الأستاذية في أية كلية، لما رغبت في منصب غير هذا الذي عرضه على ناخب البلاتينات المعظم عن طريقكم. ولما كنت على أية حال، لم أفكر قط في الاشتغال بالتعليم العام، فإنه يصعب أن أقنع نفسي باغتنام هذه الفرصة العظيمة ... أولاً لأني أعتقد إذا أردت أن أوفر الوقت اللازم لتعليم الشباب فلا بد أن أتخلى عن تنمية فلسفتي وتطويرها. ثانياً-لست أدري ما هي حدود الفكر الفلسفي التي يجب أن أعمل في نطاقها، حتى أتجنب ظهور أية رغبة في تعكير جو الديانة الرسمية المعلنة. فإن الإنشقاقات والخلافات لا تثور نتيجة للحب الشديد للدين أكثر منها بسبب الميول والنزاعات المتباينة في الناس أو حب المعارضة والمخالفة في الرأي ... ولقد خبرت هذه الأشياء بالفعل بينما كنت أعيش عيشة خاصة منعزلة، ولا بد أن أكون أشد خشية من حدوثها، إذا رقيت إلى هذه المرتبة العظيمة (الأستاذية). وهكذا ترى يا سيدي الجليل أني لا أحجم، أملاً في مال أكثر، أو حظ أوفر، ولكنه حب الهدوء والرغبة في السلام (51).
وكان سبينوزا سعيد الحظ في رفضه هذا المنصب، فان المارشال الفرنسي تورين اجتاح البلاتينات في العام التالي وأغلقت أبواب الجامعة.
وفي مايو 1673، وفي غمرة الهجوم الذي شنه جيش فرنسي على المقاطعات المتحدة تلقى سبينوزا دعوة من زعيم في هذا الجيش لزيارة كوندية الكبير في أوترخت. واستشار سبينوزا في أمر هذه الزيارة السلطات الهولندية التي ربما رأت فيها فرصة لفتح باب المفاوضات لعقد هدنة تدعو إليها الحاجة الملحة. وأمن له الطرفان كلاهما سبل الانتقال، وشق الفيلسوف طريقه إلى أوترخت. وفي تلك الأثناء كان لويس الرابع عشر قد أرسل كونديه إلى جهة أخرى. فبعث إلى سبينوزا (كما يروي لوكاس) (52) برسالة يطلب إليه فيها أن ينتظره، وبعد بضعة أسابيع وصلت رسالة أخرى تقول أنه سيتأخر إلى أجل غير مسمى. والظاهر(34/121)
أن مارشال دي لكسمبورج نصحه إذ ذاك أن يهدي إلى الملك لويس كتاباً مؤكداً له سيلقي من الملك استجابة تتسم بالتحرر (53). ولم يؤد الاقتراح إلى نتيجة. وعاد سبينوزا أدراجه إلى لاهاي ليجد كثيراً من المواطنين يشتبهون في أنه خائن. وتجمع حشد معاد حول بيته يكيلون السباب ويقذفون الأحجار. وقال لصاحب البيت "لا تنزعج، فأنا برئ، وهناك كثيرون من ذوي المناصب العالية يعرفون لماذا ذهبت إلى أوترخت. وحالما تسمع أي صخب أو شغب عند الباب، فسأخرج أنا إلى الناس حتى ولو كانوا سيفعلون بي مثل ما فعلوا بجان دي ويت الطيب. أنا جمهوري مخلص أمين، وهدفي خير الجمهورية (54) ولم يدعه صاحب الدار يخرج. وتفرق الجمهور.
وكان سبينوزا آنذاك في الحادية بعد الأربعين. وهناك في مسكن سبينوزا في لاهاي صورة تمثله نمطاً دقيقاً ليهودي سفردي، ذي شعر أسود متدل، وحاجبين كثيفين، وعينين سوداوين براقتين مكتئبتين قليلاً، وأنف مستطيل مستقيم، ووجه تغلب عليه الوسامة في جملته، إذا قورن فقط بالصورة التي رسمها هالس لديكارت. ويقول لوكاس: "كان أنيقاً غاية الأناقة في مظهره، ولم يغادر قط بيته دون أن يرتدي من الثياب ما يميز السيد المهذب الماجد عن المتحذلق (55). واتسم سلوكه بالرزانة والوقار مع الظرف والرقة. وقال أولدنبرج "أن علمه الراسخ اقترن بالروح الإنسانية والدماثة (56) ". وكتب بيل "أن كل الذين تعرفوا على سبينوزا يقولون بأنه كان اجتماعياً لطيف المعشر، أميناً، ودوداً حسن الخلق (57) ". ولم يتحدث إلى جيرانه بأية هرطقة، بل على العكس شجعهم على الاستمرار في الذهاب إلى الكنيسة، ورافقهم من آن لآخر ليستمع إلى موعظة (58). وكان أكثر من أي فيلسوف حديث آخر يتمتع بالهدوء الناجم عن ضبط النفس. وقلما رد على النقد، وتناول في رده الأفكار والآراء، لا الأمور الشخصية. وعلى الرغم من اعتناقه مذهب الجبرية، واقتلاعه من بين قومه، ومرضه، كان أبعد ما يكون عن التشاؤم، وقال "تصرف تصرفاً حسناً، وابتهج وقر عيناً (59) " وربما كان شعار تفكيره أن يعرف أسوأ الأشياء، ويؤمن بأحسنها.
وتردد الأصدقاء والمعجبون به على داره. وأقنعه والترفون(34/122)
تشيرنهو بأن يطلعه على مخطوطة "الأخلاق". وكتب إليه هذا العالم الرياضي الفيزيائي: "أرجو أن تساعدني بلطفك المعهود حيثما أعجز عن فهم ما تقصد إليه فهماً صحيحاً (60). وربما تم وصول ليبنتز إلى سبينوزا عن طريق هذا التلميذ المتلهف (1676) ومن الجائز كذلك وصوله إلى الرائعة التي لم تكن قد نشرت بعد. وقدم لرؤيته الأعضاء الباقون على قيد الحياة من ندوة دكتور ميير في أمستردام أو كانوا يتبادلون معه الرسائل وألقت رسائله من والى العلماء والباحثون في أوربا ضوءاً غير متوقع على المناخ العقلي في ذاك العصر. وحثه هوجوموكسلي مراراً وتكراراً على التسليم بحقيقة وجود الأرواح الشريرة والأشباح. وفي 1675 أرسل إليه من فلورنسا عالم التشريح ستينو نداءاً مؤثراً ليتحول إلى الكثلكة:
إني آخذ على عاتقي عن طيب خاطر، إذا أردت أنت، مهمة هدايتك إلى الطريق .... وعلى الرغم من أن علمك يفوق علمنا، فإني أود لو أنك تقدمت إلى الله فبرئت من أخطائك ونبذتها، حتى إذا كانت كتاباتك السابقة قد صرفت ألفاً من الأنفس عن المعرفة الحقيقية لله، فإن رد هذه النفوس إلى الطريق الحق على أن تكون أنت قدوة تشد من أزرها، قد يعيد إلى الله ألف ألف معك، كما لو كنت أوغسطين آخر أرجو من كل قلبي أن تحل بك هذه البركة والنعمة. وداعاً (62).
كذلك سحرت فتنة الكثلكة لب ألبرت بيرج ابن صديق سبينوزا كنراد بيرج وزير مالية المقاطعات المتحدة. وكان ألبرت، مثل ستينو، قد تحول إلى الكاثوليكية أثناء رحلته في إيطاليا. وفي سبتمبر 1675 كتب إلى سبينوزا متحدياً، أكثر منه متوسلاً، إياه أن يعتنق المذهب الكاثوليكي:
من أين لك أن تعرف أن فلسفتك هي أفضل التعاليم التي لقنت في العالم فيما مضى، أو أنها أفضل ما يتلقاه العالم الآن بالفعل، أو ما سيتلقاه في المستقبل؟ هل درست كل الفلسفات قديمها وحديثها، مما يتعلمه الناس هنا وفي الهند وفي سائر أصقاع المعمورة؟ حتى إذا كنت(34/123)
درستها جميعاً .. كيف يتسنى لك أن تدرك أنك اخترت أحسنها؟ .... وإذا كنت، على أية حال، لا تؤمن بالمسيح فإنك أيأس وأجدر بالازدراء مما يمكن أن أتصور لك. ولكن العلاج الميسور: أرجع عن خطاياك، وتحقق من الغطرسة القاتلة التي ينطوي عليها تفكيرك الحقير المجنون .... هل تجسر أيها الرجل الحقير، يا حشرة الأرض الدنيئة .... في تجديفك الذي لا يصح أن يوصف، أن تضع نفسك فوق "الحكمة المتجسدة اللامتناهية"؟ .... إنك بقواعدك زمبادئك لا تستطيع أن تفسر تفسيراً كاملاً حتى واحداً من هذه الأشياء التي يأتي بها السحرة .... كما أنك لا تستطيع أن تفسر أياً من الظواهر المذهلة بين الذين يتملكهم الشياطين، مما رأيت منه بعيني رأسي أمثلة كثيرة منه أو سمعت صدق الأدلة اليقينية عليه (62).
وفي ديسمبر 1675 رد سبينوزا رداً جزئياً:
أخيراً فهمت من كتابك ما لم أكن أصدقه حين رواه لي آخرون ... وهو أنك لم تصبح عضواً في الكنيسة الكاثوليكية فحسب .... بل أنك كذلك كم أشد أنصارها وحماتها غيرة وحماسة، وأنك تعلمت الآن كيف تصب لعنتك وجام غضبك في وقاحة على خصومك ومخالفيك. ولم أكن أعتزم الرد على رسالتك ... ولكن جماعة بعينها من الأصدقاء، ممن علقوا أكبر الآمال على مواهبك الطبيعية ألحوا علي في الرجاء ألا أقصر في حق صديق، وأن أفكر فيما كنت عليه منذ فترة وجيزة لا فيما أنت عليه الآن ... وأقنعتني تلك الحجج بكتابة هذه السطور إليك، راجياً كل الرجاء أن تتفضل بقراءتها بنفس هادئة.
ولن أعدد لك هنا من جديد مساوئ القساوسة والباباوات، لأصرفك عنهم، كما أعتاد أعداء الكنيسة الكاثوليكية أن يفعلوا. لأنهم عادة ينشرون هذه المساوئ بداعي الحقد والغضب، ورغبة في الإزعاج لا التقويم والتعليم. والحق إني أقر بأنه يوجد في الكنيسة الكاثوليكية(34/124)
رجال على قدر كبير من العلم والمعرفة واستقامة الحياة أكثر مما يوجد منهم في أية كنيسة مسيحية أخرى، فإنه حيثما توافر عدد أكبر من أتباع الكنيسة، فلا بد أن يوجد عدد اكبر من الرجال من كل صنف. وهناك في كل كنيسة كثيرون من الأمناء المخلصين غاية الأمانة والإخلاص، ممن يعبدون الله في عدل وإحسان، ... لأن العدل والإحسان أصدق أمارات المذهب الكاثوليكي الحق ... وحيثما يوجد هؤلاء، يوجد المسيح حقاً وصدقاً، وحيثما يفتقدون، يفتقد المسيح كذلك. لأن روح المسيح وحده هي التي يمكن أن تقودنا إلى حب العدل والإحسان. وإذا كنت قد اعتزمت عزماً أكيداً من قبل، التفكير ملياً بينك وبين نفسك في هذه الحقائق، لما ضللت، ولما سببت لأبويك أشد الحزن والأسى .... إنك سألتني كيف أدرك أن فلسفتي أفضل الفلسفات التي ظهرت في العالم من قبل، والتي تلقن الآن، أو ستلقن في المستقبل. والواقع أن لي حق أكبر في أن أسألك هذا السؤال. لأني لا أزعم إني وقعت على أفضل فلسفة. ولكني أدرك أني أظنها الفلسفة الحقة .... ولكنكم أنتم الذين تزعمون أنكم وجدتم آخر الأمر أحسن ديانة، أو على الأرجح أفضل رجال واسرعتم إلى تصديقها كيف تعرفون أنهم أفضل من علم سائر الديانات، أو يعلمونها الآن، أو سيقومون بتلقينها في المستقبل؟ هل درستم كل تلك الديانات قديمها وحديثها تلك التي تلقن هنا وفي الهند وفي سائر أنحاء العالم؟ وحتى لو كنتم درستموها حق الدرس، كيف تعرفون أنكم اخترتم أحسنها؟ هل تعتبرونه عجرفة وغروراً أن أستخدم عقلي في الإذعان لكلمة الله الموجودة في العقل، ولا يمكن بأية حال افسادها أو تحريفها؟ أنأوا بأنفسكم عن هذه الخرافة المهلكة، واعترفوا بالعقل الذي حباكم الله إياه، وتعهدوه إذا لم تكونا في عداد البهائم .... إنكم إذا أمعنتم النظر في تاريخ الكنيسة (وأني لأدرك أنكم على أكبر درجة من الجهل به) لتدركوا مدى زيف كثير من(34/125)
التقاليد البابوية، ولكي تعرفوا ... بأية حيل وأفانين استطاع البابا الروماني، بعد ستمائة سنة من ميلاد المسيح أن يسيطر على الكنيسة، فإني لا أشك لحظة في أنكم آخر الأمر ستفيقون من غفلتكم. وإني لأود من صميم قلبي أن يتم لك هذا، وداعاً (63).
والتحق بيرج بطائفة الفرنسيسكان، وقضى نحبه في أحد الأديار في روما.
ومعظم رسائل سبينوزا الباقية كانت مع أولدنبيرج. وأننا لتتولانا الدهشة أن نجد أن كثيراً منها عالج العلوم، وأن سبينوزا قام بتجارب في الفيزياء والكيمياء، وأن رسائله كانت موضحة بالرسوم البيانية والتخطيطية، وانقطعت هذه الرسائل في 1665، فقد اعتقل أولدنبيرج في 1667 وسجن في برج لندن للاشتباه في اتصاله بدولة أجنبية، وأنصرف إلى الدين عند اخلاء سبيله، وعندما استأنف مكاتبة سبينوزا (1675) انضم إلى المساعي المبذولة لضمه إلى أية فرقة من فرق المسيحية الصحيحة، ورجاه أن يأخذ قصة قيامة المسيح حرفياً لا رمزاً ولا مجازاً. وقال "أن العقيدة المسيحية بأسرها وحقيقتها ترتكزان على موضوع القيامة، فإذا نحن استبعدناه، إنهارت كل رسالة المسيح وتعاليمه السماوية (64) ". وفي خاتمة المطاف تخلى عن سبينوزا باعتباره نفساً ضالة ضائعة، وانقطع عن مراسلته (1677).
وطوال الوقت ابتداء من عام 1663 كان سبينوزا يعمل في كتاب "الأخلاق". وفي إبريل 1662 كتب إلى أولدنبيرج أنه كان يفكر في نشره ولكنه "كان من الطبيعي أن يخشى من رجال اللاهوت أن تأخذهم العزة بالاثم، فيشنون عليه الهجوم بكراهيتهم المعهودة، وأنا أنفر من الشجار والنزاع كل النفور (65) ". ولكن أولدنبيرج استحثه على النشر "مهما يكن من أمر تذمر رجال اللاهوت المشعوذين ونباحهم (66) ". ولكن سبينوزا ظل بين الأحجام والإقدام. ورخص لبعض أصدقائه في قراءة بعض أجزاء من المخطوطة، وربما أفاد من بعض تعليقاتهم لأنه أعاد مراجعة الرسالة عدة مرات. أن الضجة التي أثارتها "الرسالة اللاهوتية السياسية" كانت تبرر ما تذرع به من(34/126)
حرص وحذر، كما ضايقه أكثر من ذلك قتل الأخوين دي ويت، والشبهات التي حامت حوله بعد زيارته للجيش الفرنسي، ولم يشرع في اتخاذ أية خطوة أخرى لطبع "الأخلاق" إلا في 1675، وأبلغ النتائج إلى أولدنبيرج:
في الوقت الذي تسلمت فيه رسالتك المؤرخة في 23 يوليه كنت على وشك الرحيل إلى أمستردام بغية البدء في طبع الكتاب الذي كتبت إليك عنه. وبينما كنت مشغولاً بهذا الأمر انتشرت في كل مكان شائعة تقول بأن في المطبعة كتاباً لي عن "الله"، وأني حاولت فيه أن أبين أنه ليس هناك إله. واعتقد كثيرون في صحة هذه الشائعة. ومن ثم انتهز بعض رجال الدين الفرصة ليتقدموا بالشكوى ضدي إلى الأمير والقضاة ... وعندما ترامى هذا إلى سمعي ... قررت تأجيل النشر الذي كنت أعد له العدة (67).
وطرح المخطوطة جانباً، وانصرف إلى كتابة رسالة عن الدولة "الرسالة السياسية"، ولكن المنية عاجلته قبل الانتهاء منها.
وفي 6 فبراير 1677 كتب الطبيب الشاب جورج هرمان شوللر إلى ليبنتز "أخشى أن يفارقنا مستر بندكت سبينوزا وشيكاً، حيث يبدو أن حالة السل عنده تزداد سوءاً يوماً بعد يوم (68)، وبعد ذلك بأسبوعين، وحين كان سائر أهل البيت متغيبين عنه، دخل الفيلسوف في النزع الأخير. وكان شوللر وحده (لامبير كما كان مظنوناً من قبل) معه في تلك الفترة. وترك سبينوزا تعليمات ببيع أمتعته المتواضعة لتسديد ديونه، وبنشر مؤلفاته التي لم يسبق له إحراقها، غفلاً من اسمه. وقضى نحبه في 20 فبراير 1677 دون أية طقوس كهنوتية (69). ودفن في مقبرة في كنيسة لاهاي الجديدة بالقرب من مقبرة جان دي ويت. أما المخطوطات-وبخاصة "الأخلاق" و "الرسالة السياسية" و "رسالة في إصلاح العقل" فقد أعدها للمطبعة ميير وشوللر وغيرهما، وطبعت في أمستردام في أواخر 1677.
وهكذا نأتي في خاتمة المطاف إلى الكتاب الذي صب فيه سبينوزا عصارة حياته ونفسه التي إنزوى بها عن الناس.(34/127)
4 - الله
إن سبينوزا سمى هذا الكتاب "الأخلاق العادية وعرض هندسي"، أولاً لأنه ذهب إلى أن الفلسفة هي إعداد السلوك الصحيح والحياة الحكيمة، وثانياً، لأنه مثل ديكارت، حسد الزهد العقلي والتسلسل المنطقي في الهندسة، وراوده الأمل في أن يبني على غرار أقليدس، كياناً للتفكير، تتعقب كل منه بصورة منطقية ما سبقها من براهين, وهذه تشتق آخر الأمر بشكل لا يمكن دحضه من بديهيات أو حقائق مقررة يتقبلها الناس جميعاً. وأدرك سبينوزا أن هذا مثل أعلى، وكان من العسير عليه أن يتصوره حائلاً دون خطأ، لأنه كان بطريقة شبيهة بهذه شرح فلسفة ديكارت التي لم يوافق عليها.
إن المخطط الهندسي قد يؤدي على الأقل إلى الوضوح، وقد يحول دون اضطراب العقل بالانفعال، وإخفاء المغالطة والسفسطة بالفصاحة والبلاغة. ورأى أن يناقش سلوك الإنسان، بل حتى طبيعة الله، في هدوء وموضوعية، كما لو كان يتناول الدوائر والمثلثات والمربعات. ولم يخل نهجه من أخطاء، ولكنه أدى به إلى ابتناء صرح للعقل مهيب في عظمته الهندسية ووحدته. وهذا المنهج استنتاجي، وربما عبس له وجه فرانسيس بيكون، ولكنه زعم أنه كان متناسقاً مع كل الخبرة.
وبدأ سبينوزا بتعريفات مأخوذة في معظمها من فلسفة العصور الوسطى. وغيرت الألفاظ التي استخدمها معانيها منذ ذلك اليوم، وبعضها الآن يكسو فكره بالغموض والإبهام. والتعريف الثالث الأساسي: حيث عرف الجوهر بأنه "ما هو في ذاته ومتصور بذاته، أعني أن تصوره لا يعتمد على تصور شيء آخر لا بد أن يكون مكوناً منه". وهو لا يقصد الجوهر بالمعنى الحديث أي المقومات والمكونات المادية، واستخدامنا لهذه اللفظة بمعنى الماهية والأهمية الأساسية أقرب إلى ما قصد إليه هو. وإذا أخذنا اللفظة اللاتينية Subslansia استخدمها بمعناها الحرفي، فإنها تعني "يقع تحت، يشكل الأساس، يدعم". وفي مراسلاته (70) يتحدث سبينوزا عن "الجوهر أو الكينونة" أي أنه يعادل الجوهر بالوجود أو الحقيقة. ومن ثم يمكن(34/128)
أن يقول "إن الوجود يتعلق بطبيعة الجوهر" أي أنه في الجوهر تكون ماهية الشيء أو طبيعته الأساسية ووجوده شيئاً واحداً (71). وقد نخلص من هذا أن الجوهر عند سبينوزا يعني الحقيقة الأساسية التي تشكل أساس كل الأشياء.
ونحن ندرك هذا الواقع في شكلين: الامتداد أو المادة ثم الفكر أو الذهن، وهاتان "صفتان مميزتان" للجوهر، لا صفتان به قائمتان فيه. بل هما نفس الحقيقة التي ندركها خارجياً بحواسنا باعتبارهما مادة، والحقيقة التي ندركها بشعورنا باعتبارها فكراً. وسبينوزا "واحدى" تماماً يقول بأن الحقيقة كل واحد، فإن جانبي الحقيقة هذان-المادة والفكر-ليسا وجودين متميزين مستقلين الواحد منهما عن الآخر، بل هما جانبان، الخارجي والداخلي لحقيقة واحدة، وهكذا الجسم والذهن، وهكذا الأحداث الفسيولوجية (الجسدية) والحالة العقلية المناظرة لها. والحقيقة التي لا مراء فيها أن سبينوزا كان يدين بالمثالية قدر ابتعاده عن المذهب المادي، إنه يعرف الصفة بأنها "ما يدركه العقل عن الجوهر كما لو كان يؤلف ماهيته (72) " ويسلم سبينوزا (قبل مولد باركلي بزمن طويل) بأننا نعرف الحقيقة، أما مادة أو فكراً، عن طريق الإدراك الحسي أو الفكرة فقط. ويعتقد بأن الحقيقة تعبر عن نفسها في مظاهر لانهاية لها، عن طريق "عدد لا متناه من الصفات" التي لا ندرك منها، نحن الكائنات الناقصة، إلا اثنتين. وعند هذا الحد، يكون الجوهر أو الحقيقة، هو كل ما يظهر لنا من مادة أو ذهناً، والجوهر وصفاته شيء واحد: والحقيقة إتحاد من المادة والذهن، وهذان متميزان فقط في الشكل الذي ندرك به الجوهر. ونتحلل قليلاً من صيغة سبينوزا، ونقول بأن المادة هي حقيقة مدركة خارجياً والذهن حقيقة مدركة داخلياً. فإذا استطعنا أن ندرك كل الأشياء بطريقة مزدوجة-خارجياً وداخلياً-كما ندرك أنفسنا، فإننا نجد، كما يعتقد سبينوزا، "أن كل الأشياء حية نشيطة بشكل ما (73) ". فهناك شكل أو درجة من الذهن أو الحياة في كل شيء. والجوهر دائماً حي أو نشيط: والمادة في حركة دائمة، والذهن دائماً يدرك أو يحس أو يفكر أو يرغب أو يتخيل ويتذكر، في اليقظة أو النوم. والعالم في كل جزء من أجزائه حي.(34/129)
ويعادل سبينوزا بين الله وبين الجوهر، فهو الحقيقة التي تشكل أساس المادة والذهن وتوحد بينهما. والله لا يتعادل مع المادة (فلهذا لا يدين سبينوزا بالمذهب المادي) ولكن المادة صفة ملازمة متأصلة أساسية، أو مظهر من الله (وهنا تظهر من جديد إحدى هرطقات سبينوزا في شبابه). ولا يتعادل الله مع الذهن (ومن ثم لا يدين سبينوزا بالروحية) ولكن الذهن صفة أو مظهر ملازم متأصل أساسي لله. والله والجوهر متعادلان مع الطبيعة والمجموع الكلي للكينونة أو الوجود (ولهذا كان سبينوزا يقول بوحدة الوجود: إن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية).
وللطبيعة مظهران. فباعتبارهما القدرة على الحركة في الأجسام، والقدرة على التوالد والنمو والإحساس في الكائنات الحية، فإنها طبيعة "خالقة" أو ولودة. وباعتبارها جماع كل الأشياء والأجسام والنبات والحيوان والإنسان. فهي طبيعة "محدثة أو مخلوقة". وهذه "الموجودات الفردية" في الطبيعة المخلوقة يسميها سبينوزا حالات-أو تعديلات أو تجسيدات طارئة في الجوهر، والحقيقة والمادة والعقل والله. وهي جزء من الجوهر، ولكننا نميزها في إدراكنا الحسي، باعتبارها أشكالاً عابرة سريعة الزوال لكل داخلي. فهذا الحجر وهذه الشجرة، وهذا الإنسان أو الكوكب أو النجم-هذا المشهد المتغير العجيب من الأشكال الفردية التي تظهر وتتلاشى-تؤلف كلها "النظام المؤقت" الذي قابله سبينوزا في "رسالة إصلاح العقل" "بالنظام الأزلي" وهو بمعنى أدق الحقيقة والله المفهومان ضمناً:
لا أفهم من سلسلة العلل والموجودات الحقيقية ... سلسلة من الأشياء الفردية المتحولة، بل سلسلة من الأشياء الثابتة الأزلية. لأنه قد يكون من المتعذر على الضعف البشري أن يتتبع سلسلة الأشياء الفردية المتحولة (كل حجر، وزهرة وإنسان). إن وجودها ليس له علاقة بماهيتها (قد توجد، ولكن ليس لها ثمة ضرورة لأن توجد)، أو أن وجودها ليس حقيقة أزلية ... وهذه الماهية يمكن التماسها من الأشياء الثابتة الأزلية، ومن القوانين المنقوشة في هذه الأشياء وكأنها(34/130)
دستورها الذي بمقتضاه صنعت ورتبت، بل أن هذه الأشياء الفردية المتحولة تعتمد اعتماداً وثيقاً أساسياً (هكذا يقال) على هذه الأشياء الثابتة، وبدونها لا يمكن وجودها ولا إدراكها (74).
وهكذا يكون مثلث واحداً بعينه "حالة"، وقد لا يكون ثمة ضرورة لوجوده، ولكن إذا وجد يكون لزاماً عليه أن يطيع القوانين-وسيكون لديه كل صلاحيات-المثلث بصفة عامة، والرجل بعينه حالة. وقد يوجد أو لا يوجد، ولكن إذا وجد، فإنه سيشارك في ماهية وقدرة المادة-الذهن، ويكون عليه أن يطيع القوانين التي تحكم عمليات الأجسام والأفكار، وهذه القدرات والقوانين تؤلف نظام الطبيعة باعتبارها طبيعة "خالقة"، وهي تشكل في لغة اللاهوت "إرادة الله". وحالات المادة هي في مجموعها جسم الله، وحالات الذهن في مجموعها هي ذهن الله، والجوهر أو الحقيقة. في كل حالاتها وصفاتها هي الله. "كل ما يوجد هو في الله (57) ".
ويتفق سبينوزا مع الفلاسفة السكولاسيين في أن الماهية والوجود في الله شيء واحد، إن وجوده متضمن في تصورنا الماهية لأنه يتصور أن الله هو كل الوجود نفسه يحتوي على الوجود كله. ويتفق مع السكولاسيين في أن "الله علة ذاته" حيث لا يوجد شيء خارج عنه. ويتفق معهم في أننا نستطيع أن نعرف وجود الله، ولكنا لا نعرف طبيعته الحقيقية. ويتفق مع توما الأكويني في أن استخدام ضمائر المذكر للدلالة على الله سخيف مضحك ولكنه مريح (1). ويتفق مع اتباع ابن ميمون في أن معظم الصفات التي ننسبها إلى الله يمكن تصورها عن طريق القياس الضعيف مع صفات الإنسان.
يوصف الله بأنه واضع القوانين أو الأمير أو الملك ويوصف بأنه عادل رحيم ... الخ، لمجرد الاعتراف أو
_________
(1) أن اللغة تؤنث "الطبيعة" وتذكر "الله" وبإحداث التعادل بينهما كان سبينوزا أكثر إنصافاً للأنثى أو الأصل المنتج في الحقيقة. وربما كان "تذكير" الله جزءاً من الإخضاع الأبوي للمرأة، وهي فوق كل شيء المجرى الرئيسي للحقيقة البشرية.(34/131)
التسليم بالفهم العادي ونقص المعرفة العادي (77) ... والله مجرد من الانفعالات، ولا يتأثر بأية عواطف من الفرح أو الحزن (78) .... أن أولئك الذين يخلطون بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، إنما ينسبون بساطة الانفعالات الإنسانية إلى الله، وبخاصة إذا كانوا لا يعرفون كيف تحدث الانفعالات في الذهن (79).
وليس الله شخصاً، لأن هذا يعني عقلاً مفرداً خاصاً محدوداً متناهياً، ولكن الله هو مجموع كل عقل (كل الحيوية والنشاط والإحساس والفكر) -بقدر ما هو كل المادة-الموجود (80). العقل البشري جزء من عقل معين غير متناه لا حدود له (81) (مثل التقليد الأرسطي-السكندري). ولكن "إذا كان العقل والإرادة تتعلقان بالماهية الأزلية لله، فإن شيئاً آخر بعيداً يجب أن يفهم من هاتين الصفتين أكثر مما يفهمه الناس عامة (82) ". "فالعقل الفعلي ... مع الإرادة والرغبة والحب، الخ، يجب إرجاعها إلى الطبيعة المخلوقة لا الطبيعة الخالقة (83) " أي أن العقول الفردية برغباتها وعواطفها واختياراتها، هي حالات أو تعديلات موجودة في الله باعتباره جماع كل الأشياء، ولكنه لا تتعلق به باعتباره قانون وحياة العالم. فهناك في الله إرادة، ولكن بمعنى القوانين التي تعمل في كل مكان. فإن إرادته قانون.
وليس الله أباً ملتحياً يجلس على سحابة، يحكم الكون. إنه "العلة المقيمة الكامنة، غير العابرة، لكل الأشياء (84) ". وليس يوجد "خلق" إلا بمعنى الحقيقة غير المتناهية-المادة الذهن-تتخذ دوماً أشكال أو حالات جديدة فردية. وليس الله في مكان واحد، ولكنه في كل مكان تبعاً لماهيته (85). والحق أن لفظة "الهلة" هنا غير ملائمة. وأن الله هو الهلة الشاملة العامة، لا بمعنى علة سابقة على نتيجتها، ولكن فقط بمعنى أن سلوك أي شيء ينبع بالضرورة من طبيعته. والله هو علة كل الأحداث، بنفس الطريقة التي تكون بها طبيعة المثلث هي علة خواصه وسلوكه. والله حر، فقط بمعنى أنه غير خاضع لأية علة أو قوة خارجية، وأنه غير محكوم إلا بماهيته أو طبيعته(34/132)
الخاصة، ولكنه "لا يتصرف عن حرية الإرادة (86) "، وكل أفعاله تحددها وتحكمها ماهيته-وهذا يعني أن الطبيعة المتأصلة الملازمة للأشياء وخواصها هي التي تحكم كل الأحداث. وليس في الطبيعة خطة بمعنى أن الله يرغب في غاية أو هدف بعينه، فليس لديه رغبات أو خطط ومشروعات، اللهم إلا أن جماع الأشياء تحتوي رغبات وخطط كل الحالات، ومن ثم خطط ورغبات كل الكائنات الحية. وليس في الطبيعة إلا نتائج، تتبع بالضرورة عللاً سابقة لها وخواصاً متأصلة. وليس هناك معجزات، لأن إرادة الله و "نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير" شيء واحد (87)، وأي خرق أو اضطراب في "سلسلة الأحداث الطبيعية" يكون تناقضاً ذاتياً.
والإنسان مجرد جزء صغير من الكون. والطبيعة تقف على الحياد بين الإنسان وسائر الأشكال. وينبغي ألا نطلق على الطبيعة أو الله ألفاظاً مثل الخير أو الشر، جميل أو قبيح، فتلك مصطلحات ذاتية، مثل ساخن أو بارد وإنما يحددها إسهام العالم الخارجي في منفعتنا أو إستيائنا.
إن الحكم على كمال الأشياء يكون بطبيعتها وقدرتها فحسب، فهي ليست أكثر أو أقل كمالاً بسبب أنها تسر أو تسيء إلى حواس الإنسان، ولا يسبب أنها نافعة أو ضارة للطبيعة البشرية (88) ... وبناء على ذلك، فإنه إذا كان في الطبيعة شيء يبدو لنا سخيفاً أو مضحكاً أو شراً، فما ذاك إلا لأننا لا ندرك إلا القليل، بل نكاد نجهل كل الجهل، نظام الطبيعة واتكالها بعضها على بعض ككل، كذلك لأننا نريد أن يكون كل شيء وفقاً لم يمليه عقلنا البشري. والواقع أن ما يعتبره العقل شراً، ليس شراً بالنسبة لنظام الطبيعة وقوانينها ككل، بل بالنسبة لقوانين عقلنا فقط (89).
وبالمثل لا يوجد في الطبيعة جمال أو قبح.
ليس الجمال ... إلى حد كبير صفة في الشيء المرئي، تحدث أثراً في الرائي. وإذا كان أبصارنا أطول أو أقصر، وإذا كانت بنياتنا متفاوتة، فإن ما نراه الآن جميلاً، يجب(34/133)
أن نظنه قبيحاً. أن أجمل يد بالمجهر ستبدو مخيفة (90) ... أنا لا أنسب إلى الطبيعة الجمال أو التشويه ولا النظام أو الفوضى والاضطراب. وبالنسبة لخيالنا أو تصورنا فقط، يمكن أن توصف الأشياء بأنها جميلة أو قبيحة، حسنة الترتيب أو مهوشة (91).
والنظام موضوع بمعنى واحد، هو أن كل الأشياء تتحد في نهج واحد من القانون ولكن في هذا النظام تكون العاصفة المدمرة طبيعية، بقدر ما تكون روعة غروب الشمس أو رهبة البحر الطبيعية.
وهل نحن على حق، على أساس هذا "اللاهوت" إذا نعتنا سبينوزا بالإلحاد؟ لقد رأينا أنه لم يكن مادياً، لأنه لم يعادل بين الله والمادة، فإنه يقول في وضوح بأن أولئك الذين يذهبون إلى أن "الرسالة باللاهوتية والسياسية" قائمة على تعادل بين الله مع الطبيعة آخذين الطبيعة على أنها كتلة معينة من مادة عينية-مخطئون غاية الخطأ (92). "إنه تصور الله ذهناً ومادة على حد سواء. ولم يختزل الذهن إلى مادة واعترف بأن الذهن هو الحقيقة الوحيدة المعروفة المباشرة. وذهب إلى أن ثمة شيئاً مجانساً للذهن. يختلط بكل مادة، وكان من هذه الناحية ممن يقولون بوحدة الوجود، كان مؤمناً بوحدة الوجود، حيث يرى الله في كل الأشياء، ويرى كل الأشياء في الله. واعتبره بيل وهيوم، وغيرهما (93) ملحداً. وقد يبدو ما يبرر هذا الوصف في إنكار سبينوزا للشعور والرغبة أو الفرض عند الله (94). إنه هو نفسه على أية حال، اعتراض على "رأي العامة في حيث لا يكفون عن اتهامي خطأ بأني ملحد (95) " والظاهر أنه شعر بأن نسبته ذهناً وذكاء إلى الله غفرت له تهمة الإلحاد. ويجب التسليم بأنه تحدث مراراً وتكراراً عن ربه في عبارة تتسم بالإجلال الديني، مما يتفق تمام الاتفاق مع مفهوم الله عند ابن ميمون أو توما الأكويني، بل قد يسميه نوفاليس "الرجل الثمل بحب الله".
والواقع أنه كان نشواناً بنظام الطبيعة بأسره، ذلك النظام الذي بدا له في تماسكه وحركته الأزليتيت مثيراً للإعجاب مهيباً. وفي الكتاب الأول من "الأخلاق" كتب عن نهج للاهوت وميتافيزيقا العلوم معاً. وفي دنيا القانون أحس بوحي إلهي، أعظم من أي كتاب مهما كان(34/134)
كريماً وجميلاً. وأن الفرد العلمي الذي يدرس ذلك القانون، حتى في أتفه تفاصيله وأصغرها شأناً، إنما يفك مغاليق هذا الوحي لأننا "كلما ازددنا فهماً للأشياء الفردية ازددنا فهماً لله (96) " (وقد هزت هذه الجملة مشاعر جوته باعتبارها أعمق عبارة في الأدب كله.). وبدا لسبينوزا أنه قبل وواجه في أمانة وإخلاص التحدي الضمني في كوبرنيكس-ليعيد تصور الإله على أساس جدير بالكون الذي يتكشف يوماً بعد يوم. ولم يعد ثمة صراع بين العلم والدين عند سبينوزا، فهما شيء واحد.
5 - الذهن
إن أكبر لغز في الفلسفة والعلم، بعد طبيعة الكون وعمله، هو طبيعة الذهن وعمله. وإذا كان من الصعب التوفيق بين نزعة خيرة بالغة القدرة وبين حياد الطبيعة وحتمية المعاناة والألم، فإنه يبدو من الصعوبة بنفس القدر أن نفهم كيف يستطيع شيء ظاهر أنه خارجي مادي محدود ذو حيز أن يولد فكرة واضح أنها غير مادية وغير محدودة بحيز، وكيف تصبح فكرة في الذهن حركة في الجسم، أو كيف تستطيع فكرة أن تدقق التأمل في فكرة أخرى في غياهب الوعي.
ويتفادى سبينوزا بعض هذه المشاكل بنبذه فرضية ديكارت القائلة بأن الجسم والذهن جوهران مختلفان. ويعتقد أن الجسم والذهن شيء واحد، وأنهما نفس الحقيقة، وأنهما يدركان في مظهرين أو صفتين مختلفتين مثلما أن الامتداد والفكر شيء واحد في الله-ومن ثم لا تكون هناك مشكلة في كيفية تأثير الجسم في الذهن أو العكس بالعكس. وكل حدث هو العملية المتزامنة الموحدة للجسم والذهن كليهما. ويعرف سبينوزا الذهن بأنه "فكرة الجسم (97) " أي العمل السيكولوجي (وليس بالضرورة عملاً واعياً) المتلازم والمرتبط بأية عملية فسيولوجية. فالذهن هو الجسم نحس به من الداخل، والجسم هو الذهن نراه من الخارج والحالة الذهنية هي المظهر الداخلي أو الباطني لأي عمل جسمي. وأي عمل "للإرادة" هو المرافق الذهني لأية رغبة جسدية تتحول إلى تعبير بدني. وليس هناك عمل "للإرادة" في الجسم، ولكن هناك عمل واحد للكائن السيكوفسيولوجي(34/135)
(الذهني المادي)، وليست "الإرادة" هي العلة، بل هي وعي الحدث أو العمل. "إن قرار الذهن، ورغبة الجسم وتصميمه ... شيء واحد ليس إلا، إذا أدرجناه تحت صفة الفكر نسميه قراراً، وإذا اعتبرناه من صفا الامتداد، واستنتجناه من قوانين الحركة والسكون نسميه تصميماً "فعلاً منتهياً (98) ". ومن ثم فإن "نظام أفعال وانفعالات أو حركات جسمنا متزامنة مع نظام وانفعالات أو حركات الذهن (99) ". وفي كل أحوال التفاعل المفروض بين الذهن والجسم، ليست العملية الواقعية تفاعلاً بين حقيقتين أو جوهرين أو عاملين متميزين، بل هي عمل جوهر واحد، إذا رئي من الخارج سميناه جسماً، وإذا رئي من الداخل سميناه ذهناً. ولكل عملية في الجسم إلا أدركه الذهن (100) " ولكن هذا المتلازم الذهني قد لا يكون فكراً، بل قد يكون شعوراً، وقد لا يكون بالضرورة واعياً، وهكذا يأتي الذي يمشي وهو نائم بسلسلة من الأفعال وهو "غير واع (101) " وهذه النظرية تسمى "التوازي السيكوفسيولوجي"، وهي تفرض عمليات متوازية، لا في وجودين مختلفين، بل في وحدة سيكوفسيولوجية (عقلية جسدية) ترى رؤية مزدوجة.
وعلى هذا الأساس ينتقل سبينوزا إلى وصف ميكانيكي لعملية المعرفة. ومن المحتمل أنه حذا حذو هوبز في تعريف الإحساس والذاكرة والتصور على أسس بدنية (102). ويستدل على هذا بأن معظم المعرفة ينشأ من تأثيرات تحدثها فينا أشياء خارجية. ولكنه يسلم بما يذهب إليه المثالي من أن "الذهن البشري لا يدرك أن جسماً خارجياً موجود بالفعل إلا عن طريق أفكار عن تعديلات في جسمه (103) ". فالإدراك الحسي والعقلي، وهما شكلان للمعرفة، مشتقان من الإحساس. ولكن هناك شكل ثالث أسمى "المعرفة البديهية"، ولا يستمد (هكذا يعتقد سبينوزا) من الإحساس، بل من وعي واضح متميز مباشر شامل لفكرة أو حادث باعتباره جزءاً من نظام كوني له قانون.
واستبق سبينوزا لوك وهيوم حيث نبذ فكرة أن الذهن قوة أو وجود له أفكار، "فالذهن" تعبير عام أو مجرد عن تسلسل المدركات الحسية والذاكرات والتصورات والمشاعر وغيرها من الحالات العقلية.(34/136)
"وفكرة الذهن، والذهن نفسه" في أية لحظة "شيء واحد بعينه (104) ". كما أنه ليس هناك "ملكات" متميزة، مثل العقل أو الإرادة، فهذه أيضاً تعبيرات مجردة عن مجموع المدركات والاختبارات. إن للعقل أو الإرادة صله بهذه الفكرة أو تلك، وبهذه الرغبة أو تلك، بنفس أسلوب الصلة بين الحجرية وهذا الحجر أو ذاك، أو الرجل بيتير أو بول (105). كما أن الفكرة والرغبة لا تختلفان. فالرغبة وعمل "الإرادة" هي مجرد فكرة "أكدت نفسها (106) " (أي أنها طال على بقائها من الوقت ما يكفي لاستكمال نفسها أو تحقيقها في فعل-كما تفعل الأفكار تلقائياً إذا لم يقف في طريقها عائق). "وليس قرار الذهن .... إلا مجرد توكيد تنطوي عليه الفكرة بقدر ما هي فكرة (107) .... والإرادة والفكر شيء واحد بعينه (108) ".
وثمة وجهة نظر أخرى، تلك هي أن ما نسميه إرادة هو ببساطة ذروة الرغبات ونشاطها، "أنا أفهم الرغبة ... على أنها كل محاولات الإنسان وإندفاعاته وشهواته واختياراته التي لا يندر أن يتعارض بعضها مع بعض، إلى حد أنه يتخبط هنا وهناك، وهو لا يدري أية جهة يتجه (109) ". والتروي هو تعاقب سيطرة الرغبات المتصارعة على الجسم والفكر. وهذا ينتهي عندما تثبت رغبة ما أنها بلغت من القوة مبلغاً تحتفظ معه بالحالة العقلية بها وقتاً كافياً لتنتقل إلى فعل. ويقول سبينوزا بأنه واضح أنه لا توجد "إرادة حرة"، فالإرادة في أية لحظة ليست إلا أقوى الرغبات. فنحن أحرار بقدر ما يجاز لنا أن نعبر عن طبيعتنا أو عن رغباتنا دون عائق خارجي، ولسنا أحراراً في اختيار طبيعتنا او رغباتنا، إنما نحن رغباتنا. وليس الذهن إرادة مطلقة أو حرة ولكن الذهن محكوم عليه بأن يريد هذه أو ذاك لعلة هي نفسها بدورها محكومة بعلة أخرى، وهذه بعلة ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية (110) ". ويظن الناس أنفسهم أحراراً لأنهم يعون اختياراتهم ورغباتهم، ولكنهم يجهلون العلل التي تؤدي بهم إلى أن يتخيروا ويرغبوا (111)، ومثل هذا مثل حجر يقذف به في الفضاء فيظن أنه يتحرك ويهوي بمحض إرادته (112).
ومن الجائز أن الجبرية الكلفنية في "جو الرأي" الذي عاش(34/137)
فيه ديكارت وسبينوزا أثناء إقامتهما في هولندا، قد أسهمت مع ميكانيكا جاليليو (ولم تكن قاعدة نيوتن قد ظهرت بعد) في تشكيل النظرية الميكانيكية عند ديكارت، وعلم النفس الجبري عند سبينوزا. والجبرية هي الإيمان بالقضاء والقدر دون لاهوت. وهي تحل محل الدوامة أو السديم البدائي لله، وتتبع سبينوزا منطق الميكانيكا إلى نهايته المريرة، فإنه مثل ديكارت لم يقصره على الأجسام والحيوانات، بل طبقه على الأذهان كذلك، وكان لزاماً أن يفعل ذلك، حيث أن الذهن والجسم عنده شيء واحد. وخلص إلى أن الجسم آلة (113). ولكنه أنكر أن الجبرية تجعل الأخلاق عقيمة منافقة، إن عظات رجال الأخلاق والمثل العليا عند الفلاسفة، ووصمة عار الاستنكار العام وعقوبات المحاكم لا تزال ضرورية ذات قيمة، وإنها لتدخل في تراث وخبرات الفرد الذي يكبر وينمو، ومن ثم في العوامل التي تشكل رغباته وتحدد إرادته وتحكمها.
6 - الإنسان
يدخل سبينوزا في فلسفته التي يظهر أنها جامدة عاملين فعالين، أولهما وبصفة عامة، هو أن المادة والذهن متحدان في كل مكان، وأن كل الأشياء مفعمة بالحيوية والنشاط، وأن فيها شيئاً مماثلاً لما نسمعه في أنفسنا بالذهن أو الإرادة، والثاني، وعلى وجه التخصيص، هو أن هذا العنصر الحيوي يشتمل في كل شيء على "محاولة للإبقاء على الذات". أن كل شيء بقدر ما هو في نفسه يسعى للمحافظة على وجوده هو نفسه. و "قدرة أي شيء أو سعيه ... للإصرار على وجوده، ليس إلا ... مجرد ماهية ذاك الشيء (114) ". ومثل الفلاسفة السكولاسيين الذين قالوا "أن تكون هو أن تعمل"، وأن الله "نشاط محض"، ومثل شوبنهور الذي رأى في الإرادة ماهية كل الأشياء، ومثل الفيزيائيين الحديثين الذين يختزلون المادة إلى طاقة يعرف سبينوزا ماهية كل كائن عن طريق قدراته على الفعل أو العمل. "وقدرة الله هي من نفس ماهيته (115) "، وفي هذه الناحية "يكون الله طاقة (ويمكن أن تسمى الطاقة، بالإضافة إلى المادة والذهن، صفة ثالثة ندرك أنها تؤلف ماهية الجوهر أو الحقيقة) ". ويحذو سبينوزا حذو هوبز في تصنيف الوجودات حسب قدرتها على الفعل(34/138)
وتأثيرها. "ويقدر كمال الأشياء حسب طبيعتها وقدرتها فحسب (116) " ولكن "كامل" عند سبينوزا معناه "تام".
ونتيجة لهذا يعرف سبينوزا الفضيلة بأنها القدرة على التصرف والفعل، "أني أفهم من الفضيلة والقدرة نفس الشيء (117) ". ولكنا سنرى أن هذه القدرة تعني القدرة على أنفسنا، حتى أكثر من القدرة على الآخرين (118) كلما ازداد المرء سعياً وراء ما فيه نفعه-سعياً وراء المحافظة على وجوده-ازداد تنعمه بالفضيلة ... فالسعي للمحافظة على الذات هو الأساس الوحيد للفضيلة (119). فالفضيلة عند سبينوزا حيوية (بيولوجية)، داروينية على الأغلب، إنها أية صفة تعمل على البقاء. وبهذا المعنى، على الأقل، تكون الفضيلة جزاء الفضيلة. "فهي مرغوب فيها من أجلها هي وحدها، وليس ثمة شيء أكثر امتيازاً أو نفعاً لنا .... من أجله ينبغي أن تكون الفضيلة مرغوباً فيها (120) ".
ولما كان السعي للمحافظة على الذات (التنازع من أجل البقاء) هو الماهية الفعالة لكل شيء. فإن كل الدوافع تنبع منه، وهذه الدوافع في أساسها أنانية. ومن حيث أن العقل لا يطالب بشيء ضد الطبيعة، فهو يطالب، لذلك، بأن يحب كل إنسان نفسه، ويلتمس ما هو مفيد له-أعني ما هو حقاً له-ويرغب في كل ما يؤدي بالإنسان حقاً إلى حالة كمال أعظم، وأخيراً أنه يجب على كل إنسان أن يسعى جاهداً للمحافظة على وجوده قدر استطاعته (121). وليس ضرورياً أن تكون هذه الرغبات واعية، فقد تكون شهوات لا واعية قائمة في الجسد. وهي تؤلف في جملتها ماهية الإنسان (122). ونحن نحكم على كل الأشياء على أساس رغباتنا. نحن لا نناضل من أجل أي شيء أو نريده أو نتلمسه ونرغب فيه لأننا نظن أنه خير، بل نحكم على شيء بأنه خير ... لأننا نرغب فيه (123). "أني أفهم أن الخير هو ما نعلم علم اليقين أنه نافع لنا (124) " (وهنا نجد، في جملة واحدة، مذهب المنفعة عند بنتام).
وكل رغباتنا تهدف إلى اللذة أو تجنب الألم. "اللذة هي انتقال الإنسان من حالة كمال أدنى (125) " واللذة تصاحب أية ممارسة(34/139)
وشعور يعزز ويزيد من قيمة النشاط أو التقدم الذاتي الجسدية العقلية (126). ويتمثل الفرح في أن قدرة المرء تزداد (127) " (1). وكل شعور يوهن من حيوتنا إنما هو ضعف لا فضيلة. وما أسرع ما يتخلص الرجل السليم من مشاعر الحزن والندم والاتضاع والأسف (129)، وهو على أية حال أكثر من الرجل الضعيف استعداداً لمد يد المساعدة، لأن الكرم فائض القوة الواثقة. وأية لذة تكون مشروعة إذا لم تعوق لذة أعظم أو أبقى، ويمتدح سبينوزا، مثل أبيقور، اللذات العقلية باعتبارها أو فضلها، ولكنه يسوق كلمة طيبة في تشكيلة كبيرة من اللذات:
لا يمكن أن يكون ثمة مرح بالغ .... وليس هناك ما يحرم الضحك إلا الخرافة الكئيبة .... والإفادة من كل الأشياء والابتهاج بها قدر الإمكان (لا إلى حد التخمة حقاً، لأن هذه ليست ابتهاجاً) جزء من الرجل الحكيم العاقل .. فيتناول المعتدل الطيب من الطعام والشراب، ويستمتع بالعطور والحدائق والثياب والموسيقى والألعاب والمسارح (130).
أن المشكلة في مفهوم اللذة باعتبارها تحقيقاً للرغبات، تكمن في أن الرغبات قد تتصارع، فإن الرغبات لا تنتظم في تسلسل متناسق منسجم إلا عند الإنسان العاقل الحكيم. والرغبة عادة هي المتلازم الواعي لشهوة متأصلة في الجسم، وقد يبقى قدر كبير من الشهوة غير واع، إلى حد أننا لا يكون لدينا إلا مجرد "أفكار مشوشة غير وافية" عن عللها ونتائجها. ومثل هذه الرغبات المشوشة يسميها سبينوزا عواطف أو انفعالات. ويعرفها بأنها "تعديلات في الجسم تزيد أو تنقص بها قدرة الجسم على العمل .... وفي نفس الوقت أفكار هذه التعديلات (131) " وهو تعريف يسلم تسليماً غامضاً بدور الإفرازات الباطنية في العواطف، يستبق بشكل ملحوظ نظرية س. ج. لانج ووليم جيمس التي تقول بأن التعبير الجسدي عن العاطفة هو النتيجة المباشرة الغريزية للعلة، وأن الشعور الواعي مصاحب أو نتيجة، لا علة، لتعبير الجسم أو استجابته. ويقترح سبينوزا دراسة العواطف-الحب والبغض والغضب والخوف الخ-وسيطرة العقل
_________
(1) يردد نيتشه هذه التعاريف: "ما هو الخير؟ " هو كل ما يعزز الإحساس بالقدرة .... ما هي السعادة؟ .... هي الإحساس بأن القدرة تتزايد (128) ".(34/140)
عليها "بنفس الطريقة ... كما لو كنت أعالج الخطوط والسطوح والأجسام (132) " لا لأمتدحها ولا لأنتقص منها، لا لأفهمها، لأننا "كلما ازددنا معرفة بالعاطفة ازدادت سيطرتنا عليها، وأصبح الذهن أقل سلبية بالنسبة لها (133) ". ودان تحليل العواطف الناتج عن هذه الدراسة ببعض الفضل لديكارت، وربما بفضل أكبر لهوبز، ولكنه بزهما، حتى أن جوهانس موللر، عندما عالج موضوع العواطف في كتابه الممتاز "فسيولوجية العواطف" (1840) كتب يقول "بالنسبة لعلاقات العواطف بعضها ببعض، بعيداً عن ظروفها الفسيولوجية، فإنه يتعذر الإداء ببيان أوفى مما ذكره سبينوزا في براعة لا تفوقها براعة (134) "-وأخذ يقتبس كثيراً من كتاب "الأخلاق".
وتصبح العاطفة هوى أو انفعالاً، إذا كانت علتها الخارجية-بسبب أفكارنا المهوشة الناقصة عن منشئها ومغزاها-تفرض علينا شعورنا واستجابتنا، كما هو الحال في البغض أو الغضب أو الخوف". أن الذهن يخضع بشكل أو بآخر للأهواء والانفعالات، تبعاً لما لديه بنفس القدر من أفكار كافية أو ناقصة (135). والإنسان ذو المقدرة الضعيفة على الإدراك الحسي والفكري خاضع بصفة خاصة للأهواء. ومثل هذه الحياة يصفها سبينوزا في كتابه الفذ، الجزء الرابع، "استرقاق الإنسان"، فإن هذا الإنسان مهما كان تصرفه عنيفاً، سلبي بليد، مسوق بمؤثر خارجي، بدلاً من أن يتماسك ويثبت ويعمل فكره. "إن أسباباً خارجية تقودنا على غير هدى في دروب متشعبة كثيرة، وكما تسوق الرياح الهوج غير المواتية الأمواج سوقاً، فإننا نضطرب ونتردد على غير وعي بالعاقبة ولا بالمصير (136) ".
ترى هل نستطيع فكاكاً من هذا الاسترقاق، ونصبح بدرجة ما سادة أنفسنا وحياتنا؟.
7 - العقل
لن تكون لنا سيادة تامة على أنفسنا أبداً، لأننا سنبقى جزءاً من الطبيعة، خاضعين (كما كان يقول نابليون) "لطبيعة الأشياء". وحيث أن العواطف هي قوتنا الدافعة، والعقل مجرد ضوء، وليس(34/141)
لهيباً، "فإن أية عاطفة لا يمكن تعويقها أو القضاء عليها إلا بعاطفة أخرى متعارضة وأشد قوة (137) ". ومن هنا كان المجتمع بحق يحاول جاهداً أن يلطف من انفعالاتنا وأهوائنا باللجوء إلى حبنا للثناء وحسن الجزاء وخوفنا من العتاب والعقاب (138). كما يسعى المجتمع جاهداً بحق ليغرس فينا الشعور بالصواب والخطأ وسيلة أخرى لكبح جماح الأهواء والانفعالات. والضمير، بطبيعة الحال، نتاج اجتماعي، وليس هبة أو منحة فطرية إلهية (139).
ولكن في استخدام الثواب والعقاب الوهميين في الحياة بعد الموت، حوافز على الخلق القويم، تشجيعاً على الخرافة، لا يليق أبداً بمجتمع ناضج. وينبغي أن تكون الفضيلة-وهي فعلاً كذلك-جزاء نفسها، إذا عرفناها، مثل الرجال، بأنها المقدرة والذكاء، والقوة، لا مثل الجبناء، بأنها الإذعان والطاعة والتواضع والخوف. واشمأز سبينوزا من النظرة المسيحية إلى الحياة بأنها واد من الدموع، وإلى الموت بوصفه مدخلاً للنعيم أو الجحيم، وقد أحس بأن هذا يلقي حجاباً كثيفاً من الكآبة على نشاط البشر، ويغشي بفكرة الخطيئة آمال الناس وأمنياتهم ومسراتهم المشروعة بالظلام والقتام. إن التفكير في الموت ليل نهار سبة في جبين الحياة وامتهان لها "أن أقل ما يفكر فيه الإنسان الحر هو الموت، وأنه ليفرغ كل حكمته وعقله في التأمل في الحياة، لا في الموت (140) ".
وعلى الرغم من ذلك كان سبينوزا يبدو في بعض الأحايين وكأنه يحوم حول فكرة الخلود أن نظريته في الذهن والجسم باعتبارهما جانبين لنفس الحقيقة أدت به منطقياً إلى أن يرى فناءها متزامناً. وهو يؤكد هذا في وضوح تام: "أن الوجود الراهن للذهن، وقدرته على التصور تزولان بمجرد أن يكف الذهن عن توكيد الوجود الراهن للجسم (141) ". ثم "أن الذهن لا يمكن أن يتصور شيئاً، ولا أن يتذكر شيئاً مضى إلا حين يكون الجسم موجوداً (142) ". وتظهر في الجزء الخامس بعض فروق غامضة: "أننا إذا نظرنا إلى الرأي السائد بين الناس لرأينا أنهم يعون حقاً خلود أذهانهم، ولكنهم يخلطون بين هذا وبين البقاء أو الدوام، وينسبونه إلى التصور والذاكرة اللتين يعتقدون أنهما تبقيان بعد الموت (143) ". وما دام الذهن عبارة(34/142)
عن سلسلة من الأفكار والذكريات والتصورات المؤقتة المرتبطة بجسم معين، فإنه ينقطع وجوده عندما يفنى الجسم، وهذا هو "البقاء الفاني" الذهن. ولكن ما دام الذهن البشري يدرك الأشياء في علاقاتها الأبدية، باعتبارها جزءاً من المنهج الشامل الذي لا يتغير للقانون الطبيعي، فإنه يرى الأشياء كأنها في الله، ويصبح جزءاً من الذهن الإلهي ويكون خالداً:
أننا نتصور الأشياء واقعية بطريقتين: أما بقدر ما نتصور وجودها بالنسبة لزمان ومكان معينية، أو بقدر ما نراها متضمنة في الله (وفي النظام والقوانين الأزلية) وأنها تنشأ عن ضرورة الطبيعة الإلهية (أي تلك القوانين). ولكن الأشياء التي ترى في الحالة الثانية على أنها صادقة أو حقيقية إنما نتصورها نوعاً معيناً من الأزلية (في جانبها الأزلي). وأفكارها تتضمن ماهية الله الأزلية اللامتناهية (144).
وعندما نرى الأشياء بهذه الحالة السرمدية، فإننا نراها كما يراها الله، وعند هذا الحد تصبح أذهاننا جزءاً من الذهن الإلهي، وتشارك في الأزلية.
أننا لا ننسب إلى ذهن الإنسان بقاء يحدد بزمن. ولكن حيث أن هناك، على الرغم من ذلك، شيئاً آخر يتصور في ظل ضرورة أزلية معينة، عن طريق ماهية الله، فإن هذا الشيء الآخر سيكون بالضرورة الجزء الأزلي الذي يتعلق بالذهن (145) .... ونحن على يقين من أن الذهن أزلي طالما أنه يتصور الأشياء في ظل الأبدية (146).
ولنفترض أنه في التأمل في التسلسل المهيب للعلة والنتيجة الظاهرتين طبقاً لقوانين واضح أنها أبدية، أحس سبينوزا أنه قد هرب، مثل بوذي بلا خطيئة، من أغلال الزمن، وشارك في وجهة نظر الذهن الأزلي وهدوئه.(34/143)
وعلى الرغم من الوصول الظاهري للقمر، خصص سبينوزا معظم ختام الجزء الخامس "الحرية الإنسانية" لصياغة علم أخلاق طبيعي، ينبوع ومنهج الأخلاق، مستقلين عن الحياة بعد الموت، ولو أن استخدم في ولع شديد تعبيرات دينية، وأن جملة واحدة لتكشف عن نقطة البداية. "أن العاطفة التي تكون انفعالاً أو هوى لا تعود انفعالاً ولا هوى إذا نحن كونا عنها فكرة واضحة متميزة (147) "-أي أن العاطفة التي تثيرها أحداث خارجية يمكن الهبوط بها من الانفعال إلى شعور منضبط إذا هيأنا لمعرفتنا أن نحتال عليها حتى تصبح علتها وطبيعتها واضحتين، كما يصبح التنبؤ بعاقبة التصرف أمراً ممكناً من خلال الخبرة المختزنة في الذاكرة. وثمة طريقة لإيضاح الحالة العاطفية، تلك هي أن نرى الأحداث التي أنشاتها، بوصفها جزءاً من سلسلة من علل طبيعية ونتائج ضرورية لها. "وبقدر ما يفهم الذهن كل الأشياء على أنها ضرورية لازمة، يكون اكثر سيطرة على العواطف، وأقل سلبية نحوها (148) "-أي أقل نهباً للانفعالات والأهواء. ولن يصبح أي إنسان انفعالياً لما يعتبره طبيعياً لازماً. ويمكن التخفيف من حدة الغضب لأية إساءة، إذا نظرنا إلى المسيء باعتباره نتاج الظروف التي لم يستطع التحكم فيها. كما يمكن التخفيف من الحزن على فقد والدين مسنين بتذكر أن الموت أمر طبيعي. "ومحاولة الفهم هي الأساس الأول الوحيد للفضيلة (149) "، بمعنى هذه الكلمة عند سبينوزا، لأنها تنقص من خضوعنا للعوامل الخارجية، وتزيد من قدرتنا على ضبط أنفسنا والمحافظة عليها. والمعرفة قدرة أو قوة، ولكن أفضل وأنفع شكل لهذه القمة هو سيطرتنا على أنفسنا.
وهكذا يطبق سبينوزا طريقته الرياضية (طريقة إقليدس) علي حياة العقل. ويسترجع الأنواع الثلاثة التي وضعها للمعرفة، فيصف المعرفة الحسية، بأنها تتركنا عرضة إلى حد كبير للمؤثرات الخارجية، والمعرفة العقلانية (المكتسبة عن طريق التفكير والتأمل) بأنها تحررنا تدريجياً من استرقاق الانفعالات حيث تمكننا من رؤية العلل المحتومة غير الشخصية للأحداث، وأخيراً المعرفة البديهية أو الحدسية-الوعي المباشر بنظام الكون-ويصفها بأنها تجعلنا نحس أنفسنا جزءاً من ذاك(34/144)
النظام، "ومتحدين مع الله". وينبغي ان نتوقع ونحتمل وجهي الحظ كليهما بنفس الذهن، لأن كل الأشياء تنشأ من القانون الأبدي لله، بنفس الطريقة التي ينشأ بها من ماهية المثلث أن زواياه الثلاث تشكل زاويتين قائمتين (150). أن هذا الهروب من التفكير الطائش هو الحرية الحقيقية الوحيدة (151). وهذا الذي يستطيع بلوغها، يملان-كما اعتاد الرواقيون أن يقولوا-أن يكون حراً في كل الظروف في كل حالة تقريباً. أن أكبر هبة يمكن أن تمنحنا إياها المعرفة هي أن نرى أنفسنا كما يرانا العقل.
وعلى هذا الأساس من المذهب الطبيعي يصل سبينوزا إلى بعض نتائج أخلاقية، مثل تلك التي وصل إليها المسيح، بشكل يدعو إلى الدهشة:
أن الذي يعرف بحق أن كل الأشياء تنشأ من ضرورة الطبيعة الإلهية، وتسير وفق قوانين أزلية طبيعية منتظمة، لن يجد إطلاقاً شيئاً جديراً بالكراهية، أو السخرية أو الازدراء، كما أنه لن يرثى لأحد، ولكنه، بقدر ما تسمح الفضيلة البشرية، سيسعى جهده ليعمل صالحاً .... ويبتهج (152) .... أن الذين يعترضون على الناس ويؤثرون استنكار الرذائل، لا غرس الفضائل ... مصدر ازعاج لأنفسهم وللآخرين معاً (153) .... أن الرجل القوي لا يبغض أحداً، ولا يثير غضبه أحد، ولا يحسد أحداً، ولا ينقم على أحد، وليس بأية حال مغروراً (154). أن الذي يعيش على هدى من العقل، يحاول قدر طاقته أن يقابل الكراهية والغضب والاحتقار ... الخ، بالحب والكرم ... وهذا الذي يرغب في الانتقام للأدى بالكراهية المتبادلة، إنما يعيش حليف البؤس والشقاء. فالكراهية تتفاقم إذا كانت متبادلة، وعلى العكس يمكن القضاء عليها بالحب (155) .... والناس، بهدى من العقل، .... لا يرجون لأنفسهم شيئاً لا يحبونه لسائر البشر (156). (أحب لأخيك ما تحب لنفسك).(34/145)
وهل ضبط العاطفة بالعقل على هذا النحو، يتعارض كما يطن بعضهم (157)، مع تسليم سبينوزا بأنه ليس ثمة إلا عاطفة يمكن أن تقهر عاطفة؟. من الجائز أن يكون هذا إلا إذا كان من الميسور أن يرتفع التزام جادة العقل إلى مستوى عاطفي وتحمس. أن المعرفة الحقة بالخير والشر لا يمكن أن تكبح جماح أية عاطفة بقدر ما تكون المعرفة حقة، بل يقدر ما تعتبر هذه المعرفة عاطفة (158). إن تلك الحاجة، وربما الرغبة في الهاب العقل وأثارته بعبارات تكللها التقوى والزمن بالتبجيل والاحترام، هي التي أدت بسبينوزا إلى الفكر الأخير الذي توج به عمله-وهو أن "الحب العقلي لله" يجب أن يلهم حياة العقل ويرفع من شأنها. وحيث أن "الله" في رأي سبينوزا، هو الحقيقة الأساسية، والقانون الثابت الذي لا يتغير للكون نفسه، فإن هذا الحب العقلي لله ليس مجرد استرضاء مذل لسلطان جالس على طبيعة الأشياء ونظام العالم. إن احترام إرادة الله، والامتثال الواعي لقوانين الطبيعة شيء واحد. وبقدر ما يجد العالم الرياضي من رهبة ونشوة في أن يرى العالم خاضعاً لقواعد قياسية رياضية، قد يجد الفيلسوف أعمق سرور في تأمل عظمة الكون يسير رابط الجأش في تواتر القانون الكوني الشامل. وحيث أن "الحب لذة مصحوبة بفكرة علة خارجية (159)، فإن الحب الذي نستمده من رؤية نظام الكون-وتكييف أنفسنا معه-يسمو إلى حب الله الذي هو حياة ونظام الكل. وحينئذ يغمر حب الكائن السرمدي اللامتناهي، يغمر الذهن تماماً بالفرح والبهجة (160) ". أن هذا التأمل في العالم، كنتيجة لازمة لطبيعته-طبيعة الله-هو المصدر الآخر للرضا والاطمئنان في ذهن الإنسان العاقل، وهو يوفر له هدوء التفكير والارتياح إلى قيود أو الحدود المعترف بها للحق المحبوب المقبول. "أن أعظم خير للذهن هو معرفة الله، وأسمى فضيلة في الذهن هي معرفة الله (161) ".
وهكذا زواج سبينوزا في نفسه بين العالم الرياضي والمتصوف. وأبى أن يرى في ربه روحاً قادرة على مقابلة حب الإنسان أو مكافأة الابتهالات والصلوات بالمعجزات، ولكنه خص ربه بالعبارات الرقيقة التي ألهمت لآلاف السنين أبسط المتدينين المتحمسين وأعمق المتصوفين(34/146)
في البوذية واليهودية والمسيحية والإسلام، ووجدوا فيها السلوى والراحة. ومذ قبع سبينوزا واهناً مقروراً وحيداً في علياء فلسفته، تواقاً إلى أن يعثر في الكون على شيء يتقبل عبادته وثقته، فإن المهرطق الوديع، الذي كان قد أبصر الكون رسماً هندسياً، انتهى برؤية كل الأشياء في الله وفقدانها في الله، حيث أصبح "الملحد" النشوان بحب الله. مما أدى إلى أرتابك الأجيال القادمة وحيرتها. أن الدافع الذي لا يقاوم للعثور على معنى في الكون جعل النأي عن كل عقيدة يختم محاولته برؤية إله قدير، وبإحساس مثير رفيع بأنه كان قد بلغ الأبدية، ولو للحظة واحدة.
8 - الدولة
إن سبينوزا، بعد أن كان قد انتهى من كتاب "الأخلاق" ربما أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان "حيواناً سياسياً"، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات "الرسالة السياسية"، موطداً العزم، كما فعل في تحليل الانفعالات، على أن يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أو الفيزياء:
رغبة في بحث مادة هذا العلم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أو أرثى لها، بل على أن أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو (162).
ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة علم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي أن تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا أن نتصور الإنسان قبل أن يعدل(34/147)
التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر أن تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في "حالة الطبيعة" إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في "اللواياثان" تقريباً. وفي "جنة الشر" هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أو ظلم، صواب أو خطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا "كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً .. ولا تقاوم الصراع أو الكراهية أو الغضب أو الخيانة أو بصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة (163) ". وبمقتضى "حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أو الاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أو لغذائه (165).
ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، ربما كان يعيش بالفعل في جماعات اجتماعية. ومن حيث أن الخوف من الوحدة كان في كل الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي (166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما حدث هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أو قوتها من "الحق الطبيعي" للفرد أو من قوته. ولا ريب في أن الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل "النزوع للمحافظة(34/148)
على الذات (167) "- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليشمل أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. أن التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، كل هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها.
ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:
دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، فعلى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه ... والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون (168).
ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم "لا قانون"-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:
إن العقل يستطيع حقاً أن يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا .... أن الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً أن يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة الذهبية الوارد ذكرها في الأشعار، أو برواية مسرحية (169).
وينبغي أن يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من أن يحيوا حياة العقل:
ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات(34/149)
(كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه .... أن غاية الدولة حقاً هي الحرية (170).
ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أو على الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل أن تحدد الدولة أي المذهب الدينية يلقن للناس.
وينتقل سبينوزا إلى بحث الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزو لويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:
المظنون أن التجارب تعلمنا أن وضع السلطة في يد رجل واحد مدعاة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يكتب له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام التركي، على حين أن أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أو الديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة ... إن الاسترقاق. لا السلام، هو الذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها (171).
وقد تكون الأرستقراطية "حكومة الصفوة" ممتازة، لو لم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أو الأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أو الأشراف من كل الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن أن تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تعلمنا علم اليقين أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي أن الأمور تجري على عكس ما نريد (172).(34/150)
وهكذا شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهو على سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. أن الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أو أولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على كل شيء، وما أيسر أن يفسدها الجشع والترف (173). ومع ذلك "أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية (174) " واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم (175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا "أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح (176) ". وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره (177). وما ينبغي أن يكون هناك إلا ضريبة واحدة:
الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها أن تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين مقابل إيجار سنوي ... وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم (178).
وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.
9 - سلسلة من التأثيرات
في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم(34/151)
الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا أن ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بين جيرسون وأورييل أكوستا. ولا بد أن دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة "الأخلاق" معبداً ممتازاً للعقل. قال سبينوزا "أن بعض الناس" يبدءون فلسفتهم من الأشياء المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله (179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.
إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التقاليد على أشد الاعجاب بهم ولو أنه في تمييزه بين عالم الأشياء العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو "الأخلاق" عند نيقوماخوس (180). ولكنه قال لأحد أصدقائه "لم يكن أفلاطون وأرسطو وسقراط كبيرون عندي (181) ". أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً كل الإنسجام مع أبيقور.
أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في "الرسالة الجامعة" الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. أن قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما قال به هو تعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.
وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو (كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانو بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير(34/152)
والفكرة عن كتاب برونو "المحافظة على الذات (182) " وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم المعرفة الأسمى، بمعنى رؤية كل الأشياء في الله-ولو أن المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.
وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت أن يجعل الفلسفة تتمشى مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في أن أية فكرة لا بد أن تكون صادقة، إذا كانت "واضحة متميزة". وقبل وعمم رأي ديكارت في أن العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات (183).
وواضح أن "لواياثان" هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. أن الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهو قابل لمجرد خلود غير ذاتي، أو لا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في "لواياثان" تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشتركة "للحالة الطبيعية" و "الميثاق الاجتماعي" انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من "دوائره الملكية" إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هو الذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه "الفلورنسي البالغ الذكاء"، ومرة أخرى بأنه "أعظم عبقري ... بعيد النظر (184) " ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في "حالة طبيعية" وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.
وخفف سبينوزا من كل هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض(34/153)
تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق (185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مفصل يتسم بالدقة الألمانية (186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولو أنه مبني على خبرة شخصية، عبارة عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إن وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التوقع الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أو الحقيقة الأساسية أو القانون الكوني، وكم من مرة أعلن عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق كل شك أو جدل أو غموض أو لبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان كل المنطلق وسيلة عقلية أو آلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم؟ وهكذا يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أو آلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يبدو حقيقياً، أو شيء يبدو مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد أن قال المنطق كلمته.
وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من كل معنى ورحمة وأمل، بل أن المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في أن كل الأشياء وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أو العلة الواحدة أو الله، وحينئذ-كما قال بيل-فإن الله هو العامل الحقيقي في كل الأفعال، والعلة الحقيقية في كل الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هو الذي قتل نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على أن هذا "أسخف وأبشع فرضية (187) " وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676 - 1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. أن نظرية "الجواهر الروحية(34/154)
المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية) " قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعلن لبينتز يوماً أن شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أو تدابير العناية الإلهية في عملية الكون (188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد "الحاد" سبينوزا انضم إليها ليبنتز "حماية لشخصه".
أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكاد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بمذهب الجبرية عنده، "وبأخلاقه" القائمة على المذهب الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أو المذهب الباطني البارز في كتاب "الأخلاق"، وقد نتخيل رد الفعل في فولتير أو ديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هو لباخ، لعبارات مثل "أن الحب الروحي العقلي لله هو نفس الحب الذي يحب به الله نفسه (189) ".
وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه "لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا (190) " أن التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على مذهب وحدة الوجود، هو بالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد أن جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل "فلسفة الوجدان" الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هو نوفاليس، أطلق على سبينوزا "الثمل بحب الله". وقال هردر بأنه "وجد في رسالة الأخلاق" التوفيق بين الدين والفلسفة. وكتب شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن "سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس (191) " و "وارتد" جيته الشاب عندما قرأ "الأخلاق" لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جو الهدوء في كتاب "الأخلاق"، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان(34/155)
المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه "لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول أن تكون سبينوزياً"، وعبر من جديد عن إله سبينوزا بأنه "العقل المطلق" وربما تسرب شيء من "نزعة المحافظة على الذات" عند سبينوزا إلى "إرادة الحياة" عند شوبنهور، و "إرادة القوة" عند نيتشه.
ولمدة قرن من الزمان عرفت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة "مؤلفاً متأخراً أسمع منه أن تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد". وكتب الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن "حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة". وتحدث سيرجون ايفليف عن "الرسالة اللاهوتية السياسية" بأنها "كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة" أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، قال أنه "زعيم كبير للكفرة الحديثين (192) ". وفي 1739 ارتاع هيوم-وهو من أتباع مذهب اللاأدرية-في حذر من "الفرضية البشعة" التي جاء بها "ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في كل الأنحاء (193) ". ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من "الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في "ملكة الأحلام كوين ساب" وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. ووقع جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فقال عنها "تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً". وترجم جورج اليوت "الأخلاق" بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيو آرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدو أن الدين والفلسفة أثبت كل نتاج الإنسان على مر الزمان. أن بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.
أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك(34/156)
قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما كتبها. أن الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته كل الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة أن يصور الله على أسس يمكن أن يسيغها العلم. أن نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على أن نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في كل جيل، وفي كل مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في مقابل هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال العلم والفلاسفة والقديسين. أن ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هو الذي كتب روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون "وقواعد" نيوتن. و "أخلاق" سبينوزا، وهو الذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهو الذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولو أنه صلبه، أن الإنسان فعل كل هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.(34/157)
الفصل الثالث والعشرون
ليبنتز
1646 - 1716
1 - فيلسوف القانون
كان ثمة هوة في الشخصية والخلق والفكر تفصل بين سبينوزا وليبنتز، فهناك اليهودي المنعزل، الذي لفظته اليهودية، والذي لم يتقبل المسيحية، الذي عاش في أحضان الفقر في حجرة متواضعة، وأنجز كتابين أثنين، وأخرج في أناة فلسفة أصيلة جريئة يمكن أن تنفر منها كل الديانات، والذي قضى نحبه متأثراً بالسل في الرابعة والأربعين، إلى جانب الألماني رجل الدنيا المشغول برجال الدولة والبلاط، الذي جال في كل أنحاء أوربا الغربية تقريباً، الذي دس بأنفه في روسيا والصين، وقبل البروتستانتية والكاثوليكية، ورحب بعديد من مناهج الفكر واستخدمها. وكتب خمسين رسالة، وأحب الله كما أحب الدنيا، في تفاؤل شديد، وعمر سبعين عاماً، وليس بينه وبين سلفه من وجه شبه إلا أن جنازة كل منهما كانت موحشة. وهنا في جيل واحد ظهر النقيضان في الفلسفة الحديثة.
ولكن قبل أن نتناول الصورة المتقلبة والمتعددة الألوان لرجل، فلنتعرف ببعض فضل يسير للفكر الألماني. فقد بدأ صمويل فون بوفندورف مسيرته في 1632، وهو نفس العام الذي بدأ فيه سبينوزا ولوك. وبعد أن درس في ليبزج ويينا قصد إلى كوبنهاجن معلماً في أسرة أحد الدبلوماسيين السويديين، واعتقل معه عندما أعلنت السويد الحرب على الدنمرك، وخفف من ضجر السجن بوضع نهج للقانون الدولي، فلما أطلق سراحه رحل إلى ليدن حيث نشر نتائج بحثه تحت عنوان "عناصر القانون الدولي" (1661)، الذي سر به شارل لويس ناخب البلاتينات (وهو نفس الأمير الذي دعا سبينوزا فيما بعد) إلى حد أن الناخب استدعى المؤلف إلى هيدلبرج، وأنشأ له كرسي الأستاذية(34/158)
في القانون الطبيعي والقانون الدولي-وهو أول كرسي من نوعه في التاريخ. وهناك وضع دراسة عن "مملكة ألمانيا" أزعجت ليوبولد الأول، لمهاجمتها الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأباطرتها. وهاجر بوفندورف إلى السويد وجامعة لوند (1670) حيث نشر أروع أعماله "القانون الطبيعي والناس" (1672). وفي محاولته اتخاذ موقف وسط بين هوبز وجروتيوس، لم يطابق "القانون الطبيعي" وبين صراع الأفراد بعضهم بعضاَ، بل طابق بينه وبين "العقل الصحيح" وأضفى "الحقوق الطبيعية" (وهي حقوق كل الكائنات العقلانية) على قدم المساواة. وسبق جان جاك روسو بنحو قرن من الزمان، حين أعلن أن إرادة الدولة، هي، وينبغي أن تكون، جماع إرادات الأفراد الذين تتألف منهم الدولة. ولكنه ذهب إلى أن العبودية أمر مرغوب فيه، وسيلة لإنقاص عدد المتسولين والأفاقين واللصوص (1).
وظن بعض القساوسة السويديين أن هذه النظريات لم تقم كبير وزن لله والكتاب المقدس في الفلسفة السياسية، وحرضوا على وجوب إعادة بوفندورف إلى ألمانيا. ولكن شالر الحادي عشر دعاه إلى ستوكهلم وقلده منصب المؤرخ الملكي. وقابل الأستاذ حسن الصنيع بأن كتب سيرة حياة الملك، وتاريخاً للسويد. وفي 1687، وربما تطلعاً إلى التجوال أهدى بوفندورف إلى ناخب براندنبيرج الأكبر، رسالة عن "العلاقة بين العقيدة المسيحية والحياة البدنية" يدافع فيها عن التسامح. وسرعان ما قبل دعوة إلى برلين، وأصبح مؤرخاً لفردريك وليم، وعين باروناً، وقضى نحبه (1694). وظلت كتاباته لمدة نصف قرن أبرز الأعمال وأكثرها أثراً وانتشاراً في الفلسفة السياسية والقانونية في أوربا البروتستانتية، وساعد تحليلها الواقعي للعلاقات الاجتماعية في الأحداث التي عملت على انكماش نظرية حقوق الملوك الإلهية.
وبرز تدهور التفسيرات اللاهوتية لأعمال البشر في أنشطة بلثازار بكر Bkker وكريستيان توماسيوس. وكان بكر كاهناً يتولى المهام الدينية لجماعة من الناس في فريزلند، أفسد عقيدته بقراءة ديكارت، فاقترح تطبيق العقل على الأسفار المقدسة، وفسر الشياطين(34/159)
التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس بأنها أوهام شعبية أو مجازات، زتتبع فكرة الشيطان في تاريخ ما قبل المسيحية وكان من رأيه أنها فكرة مدسوسة على المسيحية، وانتهى إلى أن الشيطان خرافة، ونفى وجوده في بيان باللغة الهولندية، "العالم المسحور" (1691). ووجهت الكنيسة أعنف اللوم والتقريع إلى بكر، إحساساً منها بأن الخوف من الشيطان بداية العقل والحكمة، وعانى الشيطان بعض الخسارة في مكانته لا في أتباعه.
وواصل توماسيوس المعركة. وعلى حين ظل يتقبل الأسفار المقدسة هادياً إلى العقيدة والخلاص، تاقت نفسه إلى اتباع منهج العقل لمجرد الوصول إلى الدليل، ولتشجيع التسامح الديني. ولما كان أستاذ القانون الطبيعي في ليبزج (1684 - 1690) فإنه أساء إلى الكلية والكنيسة بأصالة آرائه وأساليبه ولغته. وهاجم خرافات عصره في سخرية ألمانية عنيفة. واتفق مع بكر في استبعاد "الشيطان" من الديانة، وشجب الاعتقاد في السحر باعتباره جهالة فاضحة، وتعذيب السحرة باعتباره وحشية إجرامية. وبفضل تأثيره ونفوذه، وضع حد لمحاكمات السحرة والمشعوذين في ألمانيا. وليزيد الطين بلة حاضر تلاميذه بالألمانية بدلاً من اللاتينية، منتقصاً نصف جلال أصول التدريس. وفي 1688 بدأ ينشر عرضاً أوريا للكتب والأفكار، وربما كان لزاماً علينا أن نسميه أول صحيفة جادة في ألمانيا، ولكنها عرضت ألوان المعرفة في شيء من اليسر، وغلفت البحث الجاد بالدعابة، وسميت "أفكار هازلة وجادة، عقلانية وسخيفة حول كل أنواع الكتب والقضايا السارة والنافعة". وأزعج دفاعه عن "التقويين" (التقوية حركة دينية ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر أكدت على دراسة الكتاب المقدس والخبرة الدينية الشخصية) ضد رجال السلطات إلى حد أنهم حظروا عليه كتابة أو إلقاء المحاضرات، وأمروا في النهاية باعتقاله (1690). فهرب إلى برلين، وعينه الناخب فردريك الثالث أستاذ في هالي، وأسهم في تنظيم الجامعة هناك، وسرعان ما جعلها أقوى مراكز للفكر في ألمانيا. وفي 1709 دعته ليبزج للعودة ولكنه أبى، وبقي في هالي أربعة وثلاثين عاماً حتى آخر حياته، وافتتح عصر الاستنارة الذي أنجب لسنج وفردريك الأكبر.(34/160)
وتابع بعض المتحمسين ثورتهم إلى أقصى درجات الإلحاد، فنبذ ماتياس كنوتزن من هولشتين أي معتقد خارق للطبيعة "أننا فوق كل شيء ننكر الله (2) ". واقترح أن يستبدل بالمسيحية وكنائسها وكهنتها "ديانة وضيعة" "ديانة الإنسانية" مستبقاً بذلك أوجست كومت، وأن يؤسس الخلاق على تربية الضمير تربية قائمة على المذهب الطبيعي فقط (1674) وقيل أنه كان له 700 من الأتباع، وربما كان في هذا مبالغة، ولكنا نلاحظ أنه فيما بين عامي 1662، 1713 نشر على الأقل اثنان وعشرون كتاباً في ألمانيا، وهدفها نشر الإلحاد أو تفنيده (3).
ورثى ليبنتز "لانتصار المفكرين الأحرار الواضح"، فكتب حوالي عام 1700 "في أيامنا هذه"، يبدي كثير من الناس قليلاً من الاحترام والإجلال للوحي ... أو المعجزات (4) ". وأضاف في 1715: أن الديانة الطبيعية ينتابها كثير من الضعف، ويعتقدون كثيرون أن النفوس جسدية، وآخرون أن الله نفسه جسدي. ويرتاب مستر لوك وأتباعه في أن النفوس غير مادية ومآلها الهلاك بشكل طبيعي (5). ولم يكن ليبنتز راسخ العقيدة إلى حد كبير، ولكنه رجل الدنيا ورجل البلاط، فتساءل إلى أين تنتهي العقلانية المتصاعدة، وماذا عساها أن تفعل بالكنائس والأخلاق والعروش. وهل من المستطاع الرد على العقلانيين بلغتهم وإنقاذ عقيدة الآباء والأجداد من أجل سلامة الأبناء؟.
2 - سني العمل الجاد
كان جوتفريد ولهلم ليبنتز في الثانية من العمر حين وضعت حرب الثلاثين عاماً أوزارها. ونشأ في فترة من أكثر فترات التاريخ الألماني عقماً وشقاء. ولكن تهيأت له، كل فرص التعليم المتاحة آنذاك، لأن أباه كان أستاذاً لفلسفة الأخلاق في جامعة ليبزج، وكان جوتفريد فتى ذكياً متلهفاً على المعرفة، ولوعاً بالكتب. وكانت مكتبه أبيه مفتوحة الأبواب أمامه تدعوه ليأخذ ويقرأ. وبدأ دراسة اللاتينية في سن الثامنة، واليونانية في الثانية عشرة. والتهم التاريخ فأصبح متعدد جوانب العلم والمعرفة. وفي سن الخامسة عشرة التحق بالجامعة حيث(34/161)
كان توماسيوس المثير من بين معلميه. وغي سن العشرين تقدم لنيل درجة الدكتوراه في القانون، ولكن جامعة ليبزج رفضت لصغر سنه. ولكنه سرعان ما حصل عليها من جامعة نورمبرج في ألتدورف. وكان لرسالة الدكتوراه التي قدمها هناك دوي كبير إلى حد أنهم عرضوا عليه في الحال منصب الأستاذية، ولكنه أبى محتجاً بأن "في مخيلته أشياء مختلفة"، أن قليلاً جداً من كبار الفلاسفة شغلوا كراسي الجامعة.
ونراه الآن، وهو آمن ميسور الحال من الناحية المادية، حر منطلق من الناحية الفكرية، يغمس يديه في كل الحركات والفلسفات التي كانت تهيج ألمانيا التي بعثت من جديد، وكان قد درس مناهج فلاسفة السكولاسية في ليبزج، واحتفظ بمصطلحاتهم الفنية وكثير من أفكارهم، مثل برهانهم الأونطولوجي (أونطولوجيا: علم الوجود) على وجود الله، وتشرب تعاليم ديكارت تماماً، ولكنه ليجعلها سائغة أضاف إليها شيئاً من الملح من اعتراضات جاسندي ومذهبه الذري. وانتقل إلى هوبز وامتدحه بأنه مدقق. وغازل المذهب المادي (6). وأقام حيناً من الزمن في نورمبرج (1666 - 1667) حيث اختبر التصوف أو المذهب الباطني عند أخوة الصليب الوردي "التي كان قد أسسها المشتغلون بالكيمياء القديمة والأطباء ورجال الدين حوالي عام 1654، وأصبح سكرتيراً لها، وأخذ ينقب في الكيمياء القديمة، وهو في هذا كثير الشبه بما كان يفعل منافسه اللاحق نيوتن في كمبردج. ولم يترك فكرة إلا جربها واقتبسها. وقبل بلوغه الثانية والعشرين من عمره كان قد كتب عدة رسائل ذات مجال ضيق، ولكنه تفيض بالثقة.
ولفتت إحدى هذه الرسائل "طريقة جديدة لتعليم القانون ودراسته" نظر أحد الدبلوماسيين المقيمين في نورمبرج آنذاك، هو جوهان فون بوينبرج، الذي أشار على المؤلف الشاب بإهدائها إلى الأسقف ناخب مينز، ورتب أن تقدم إليه شخصياً. ونجحت الخطة، وفي 1667 التحق ليبنتز بخدمة الناخب، في أول الأمر، مساعداً في مراجعة القوانين، ثم عضواً في المجلس. وبقي في ميبنز خمس سنين اعتاد فيها على رجال الدين واللاهوت والطقوس الكاثوليكية، وبدأ يراوده حلم إعادة توحيد المذاهب المسيحية الممزقة، ومهما يكن من أمر فإن الناخب كان أكثر اهتماماً بلويس الرابع عشر منه بلوثر، لأن الملك(34/162)
المنهوم الذي لا يشبع كان يسير جيوشه إلى الأراضي الوطيئة واللورين، وهي جد ملاصقة لألمانيا، وكان واضحاً أن الملك متلهف على ابتلاع أراضي الراين. فكيف يتسنى وقفه؟
وكان لدى ليبنتز خطة لهذا-وفي الحق خطتان، بلغتا حد البراعة من شاب في الرابعة والعشرين. وكانت الخطة الأولى هي توحيد ولايات ألمانيا الغربية في "اتحاد الراين" للدفاع المتبادل (1670). أما الثانية فكانت تعتمد على صرف نظر لويس الرابع عشر عن ألمانيا بإغرائه بالاستيلاء على مصر التي كانت آنذاك تحت حكم الأتراك. وكانت العلاقات آنذاك متوترة بين فرنسا وتركيا. فإذا قدر الملك لويس أن يرسل حملة لفتح مصر (فيسبق بذلك نابليون بمائة وثمانية وعشرين عاماً) فإنه ستكون له السيطرة على التجارة-بما في ذلك تجارة هولندا-التي تمر عبر مصر إلى الشرق، ولأبعد الحرب عن أرض فرنسا، ووضع نهاية لتهديدات تركيا للعالم المسيحي، ولأصبح المنقذ الذي ترنو إليه الأبصار بالتبجيل والإجلال بدلاً من السوط الذي تخشاه أوربا، وكتب بوينبرج بهذا إلى الملك لويس الرابع عشر، وطوى كتابه على مخطط للمشروع بقلم ليبنتز نفسه (1). فدعا سيمون أرنولد دي بومبون وزير الخارجية الفرنسية، ليبنتز (فبراير 1672) ليجيء ليعرض المشروع على الملك. وفي مارس شخص رجل الدولة ذو الستة والعشرين ربيعاً إلى باريس.
ولكن القادة أحبطوا مشروع ليبنتز كما دمروا أنفسهم. ذلك أنه لدى وصوله إلى باريس كان لويس قد سوى نزاعه مع الأتراك، وقرر مهاجمة هولندا، وفي 6 إبريل أعلن الحرب. وأبلغ بومبون ليبنتز أن الحرب الصليبية لم تعد ملائمة لهذا العصر، ورفض السماح له بالمثول بين يدي الملك. فكتب الفيلسوف الذي ظل يراوده الأمل، مذكرة إلى الحكومة الفرنسية، أرسل خلاصة لها "مشروع مصر" إلى بوبنبرج.
_________
(1) قال شبنجلر "ولو كان هذا سابقاً لأوانه، فإن ليبنتز وضع المبدأ الذي تعلق به نابليون بشكل أكثر وضوحاً، بعد وجرام، أي أن أية مكاسب على الراين أو في بلجيكا لن تعمل بصفة دائمة على تحسين موقف فرنسا، وأن عنق السويس لا بد يوماً أن يكون مفتاح السيطرة على العالم (7).(34/163)
ولو تم تنفيذ الاقتراح بنجاح، لاستولت فرنسا-لا إنجلترا- على الهند، ولكانت لها السيادة على البحار. وقال الجنرال ماهان: "إن قرار لويس، ذلك القرار الذي أودى بحياة كولبير وقضى على رخاء فرنسا وازدهارها، أحس الناس به جيلاً بعد جيل من خلال نتائجه (8).
ومات بوينبيرج قبل أن يصله "المشروع". وحزن ليبنتز لفقدان صديق يؤثر المصلحة العامة، غير أناني. ولهذا السبب، من ناحية، لم يعد إلى مينز. أضف إلى ذلك أن التيارات الفكرية في باريس أسرت لبه، حيث وجدها أكثر إثارة من جاذبية تلك التي أحاطت حتى بالناخب المتحرر المستنير. وهناك التقى بإنطوان أرنولد أوف بورث رويال، ومالبرانش، وكريستيان هوجنز، وبوسويه. وجذبه هوجنز إلى الرياضة العالية، وبدأ ليبنتز "حساب اللامتناهيات في الصغر" الذي أفضى به إلى "التفاضل والتكامل".
وفي يناير 1673 عبر المانش إلى إنجلترا في بعثة أوفدها ناخب مينز إلى شارل الثاني. وفي لندن تعرف على أولدنبيرج وبويل، وأحس بفتنة العلم المستيقظ. ولما عاد إلى باريس في مارس خصص جزءاً أكبر فأكبر من وقته للرياضيات. واخترع آلة حاسبة أدخلت بعض التحسينات على آلة بسكال، إذ زاد بها على الجمع والطرح، عمليات الضرب والقسمة. وفي إبريل انتخب، غيابياً، عضواً في الجمعية الملكية. وما وافت سنة 1675 حتى كان قد أكتشف التفاضل، وسنة 1676 حساب المتناهيات في الصغر، كما كان قد بلور طريقته الناجحة في استخدام الرموز. ولم يعد أحد يتهم ليبنتز بأنه انتحل لنفسه وضع "حساب اللامتناهيات في الصغر" بدلاً من نيوتن (9). والظاهر أن نيوتن أجرى اكتشافه 1666، ولكن لم ينشره إلا في 1692. ونشر ليبنتز "حساب التفاضل" في 1684، و "التكامل" في 1686 (10) وليس ثمة شك في أن نيوتن كان أول من أكتشف، وأن ليبنتز توصل إلى اكتشافه مستقلاً عنه، وأنه سبق نيوتن إلى نشر الاكتشاف وأن طريقة ليبنتز في "الرموز" ثبت أنها أفضل من طريقة نيوتن (11).
وقضى أسقف مينز في مارس 1673 تاركاً ليبنتز بلا وظيفة رسمية، وسرعان ما وقع اتفاقاً للالتحاق بخدمة دوق روما جون فردريك(34/164)
أوف برونزويك-لونبرج، أميناً لمكتبته في هانوفر. وظل مفتوناً بباريس، فبقى بها حتى 1676، ثم ارتحل على مهل إلى هانوفر عبر لندن، وأمستردام ولاهاي. وفي أمستردام تحدث مع تلاميذ سبينوزا، وفي لاهاي التقى بالفيلسوف نفسه. وتردد سبينوزا في أن يوليه ثقته، لأن ليبنتز عرض التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية، مما قد يساعد على خنق حرية الفكر (12). وتغلب ليبنتز على هذه الشبهات، وسمح له سبينوزا بقراءة-بل بنسخ بعض أجزاء من مخطوطة "كتاب الأخلاق" (13) -وجرت بين الرجلين أحاديث طويلة. وبعد وفاة سبينوزا لقي ليبنتز مشقة كبيرة في إخفاء تأثيره العميق بالقديس اليهودي.
ووصل إلى هانوفر في أواخر 1676، وبقي في خدمة أمراء برنزويك المتعاقبين طوال الأربعين عاماً الباقية من عمره. وكان يأمل في تعيينه مستشاراً للدولة، ولكن الأدواق خصصوه لتولي شئون مكتباتهم وكتابة تاريخ أسرتهم. ونهض بهذه المهام بشكل متقطع على خير وجه. وزين التاريخ الضخم الذي كتبه في عدة مجلدات، وملأه بوثائق أصيلة بذل جهداً كبيراً في الحصول عليها. وأثبتت أبحاثه المتعلقة بسلسلة الأنساب في إيطاليا، الأصل المشترك لأسرتي أست وبرونزويك. وعلى الرغم من موضوع هذا الكتاب كان مقيداً بشكل مزعج لهذه العبقرية الطموحة، فقد أمتد به الأجل ليرى بيت برونزويك يرث إنجلترا. وحاول جاهداً أن يكون وطنياً محباً لألمانيا. وكم ناشد الألمان أن يستخدموا لغتهم الوطنية في القانون، ولكنه كتب رسائله وأبحاثه باللاتينية أو الفرنسية وكان نموذجاً لامعاً "للأوربي الصالح" و "الذهن العالي". وحذر الأمراء الألمان من أن الأحقاد التي تمزقهم، وتعمدهم إضعاف سلطان الإمبراطورية، كل أولئك حكم على ألمانيا بأن تكون فريسة الدول الأكثر تماسكاً ومركزية. وميداناً للحروب التي يتكرر نشوبها بين فرنسا وإنجلترا وأسبانيا (14).
وكان أمله الذي يطويه بين جوانحه، أن يخدم الإمبراطور والإمبراطورية، لا أمراء الولايات المشتتة. وكان لديه مائة مشروع للإصلاح السياسي والاقتصادي والديني والتعليمي. واتفق مع فولتير في أنه من الأيسر إصلاح الدولة بهداية حاكمها، منه بتعليم الجماهير في(34/165)
بطئ، وهم مرهقون بالتماس أسباب العيش فلا يجدون فسحة من الوقت للتفكير (15). وعندما مات أمين المكتبة الإمبراطورية في 1680، تقدم ليبنتز لشغل المنصب، ولكنه أضاف بأنه لا يريد أن يشغله إلا إذا عين معه عضواً في المجلس الإمبراطوري الخاص. ورفض طلبه، عاد إلى هانوفر حيث وجد بعض السلوى والعزاء في صداقة الناخبة صوفيا، وبعد ذلك في صداقة ابنتها صوفيا شارلوت التي ألحقته بالبلاط البروسي، وساعدته في تأسيس أكاديمية برلين (1700)، وأوحت إليه بكتابة "التيوديسية"، وكرم في بقية أيام حياته، مركزه المتواضع بتبادل الرسائل مع زعماء الفكر في أوربا، وبإسهاماته الضخمة في الفلسفة، وتقديمه خطة جريئة لإعادة التوحيد الديني للعالم المسيحي.
3 - ليبنتز والمسيحية
هل كان ليبنتز مسيحياً؟ الجواب الإيجاب "ظاهرياً" بطبيعة الحال، فإن رجلاً بمثل حماسته وتلهفه على العبور من الفلسفة إل فن الحكم وسياسة الدولة كان لزاماً عليه أن يلبس لاهوت الزمان والمكان اللذين عاش فيهما. وقال في مقدمة "التيوديسية": "لقد حاولت في كل الأشياء لأدرس الحاجة إلى التنوير والتهذيب (16) ". وكانت كل الكتابات التي نشرها في حياته أمثلة تحتذى في إخلاصها للعقيدة فقد دافعت عن التثليث والمعجزات والنعمة الإلهية، والإرادة الحرة، والخلود، كما هاجمت مفكري العصر الأحرار لانتقاصهم من قيمة الأسس الأخلاقية للنظام الاجتماعي على أنه "ذهب إلى الكنيسة قليلاً، ... ولم يتناول القربان المقدس لسنوات كثيرة (17) ". ولقبه البسطاء من الناس في هانوفر "لوفينكس الذي لا يؤمن بشيء (18) ". ونسب إليه بعض الطلبة فلسفتين متعارضتين، واحد ة للاستهلاك العام وتسلية الأميرات، والأخرى "توكيد واضح المعالم لكل مبادئ سبينوزا (19). "أن ليبنتز كان يلجأ إلى سبينوزا كلما سمح لنفسه أن يكون منطقياً. وفي كتبه المنشورة حرص، تبعاً لذلك، على أن يكون غير منطقي (20) ".
إن مساعيه للتوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية جعلته عرضة للاتهام بعدم التفريق بين الأديان أو الإيمان بأنها جميعاً متساوية في(34/166)
صحتها (21). إن رغبته الملحة في الوحدة والتوفيق سيطرت على لاهوته. وعلى حين تجنب الوعاظ حاول جاهداً أن يؤلف بينهم. أنه قلل من شأن الفروق السطحية لأن نظرته كانت عميقة. ولو كانت المسيحية شكلاً من أشكال الحكومة، فإن تنوعاتها المذهبية لم تبد له أدوات للتقوى والغيرة والحماسة، بل عقبات في طريق النظام والسلام.
وفي 1677 أرسل الإمبراطور ليوبولد الأول كريستوفر روجا دي سبينولا أسقف تينا في كرواتيا، إلى بلاط هانوفر ليقترح على الدوق جون فردريك، وكان مرتداً إلى الكاثوليكية أن ينضم إلى حملة لإعادة توحيد البروتستانت مع روما. وربما كان لهذه الخطة ذيول سياسية: فإن الناخب رغب إذ ذاك في دعم الإمبراطور له، كما أن ليوبولد راوده الأمل في وحدة وروح ألمانيتين أقوى لمواجهة الأتراك. وتنقل سبينولا لفترة من الوقت بين فينينا وهانوفر، وأحرز المشروع تقدماً. وعندما وضع بوسويه في 1682 "الإعلان الفاليكاني" (الفاليكانية حركة نشأت في فرنسا تنادي بالاستقلال الإداري للكنائس في البلدان الكاثوليكية عن سيطرة البابا). الذي تحدى فيه رجال الدين الفرنسيون البابا، ربما راود ليبنتز بعض الملل في انضماما فرنسا إلى ألمانيا كثلكة مستقلة عن البابوية إلى حد يخفف من عداء الباروتستانتية للمذهب العتيق وفي 1683، عندما كان الأتراك يتقدمون لحصار فيينا، عقد سبينولا في هانوفر مؤتمراً يضم رجال اللاهوت البروتستانت والكاثوليك، وقدم إليهم "قواعد التوحيد الكنسي لكل المسيحيين".
وربما كان من أجل الاجتماع (22) أن ليبنتز كتب، غفلاً من اسمه أغرب الوثائق العديدة التي وجدت بين أوراقه بعد وفاته، وكان عنوانها "منهج لاهوتي"، وفهمت على أنها بيان للمذهب الكاثوليكي يمكن أن تقبله أي بروتستانتي حسن النية. وفي 1819 نشرها ناشر كاثوليكي دليلاً على أن ليبنتز كان قد ارتد سراً، والأرجح أنها كانت محاولة دبلوماسية لتضييق هوة الخلاف الديني بين الفريقين. ولكن كان للناشر عذره في اعتبار الوثيقة كاثوليكية إلى أبعد حد، واتسم مطلعها بالتجرد أو عدم التحيز لأي من المذهبين في إيجاز:(34/167)
بعد التماس العون من الله، بالابتهالات والصلوات الطويلة الخاشعة، طارحاً جانباً، قدر ما يطيق الإنسان، كل روح حزبية، ناظراً إلى الخلافات الدينية نظرة رجل قدم من كوكب آخر، تلميذ مبتدئاً متواضعاً، لا يدري شيئاً هن أي من الفرق المختلفة، غير مقيد بأية التزامات، انتهيت بعد دراسة وافية إلى النتائج التي أدونها هنا. لقد قدرت أنه لزام على أن أعتنقها جميعاً لأن الكتاب المقدس والتقليد الديني العريق، وما يفرضه العقل، والشواهد الأكيدة للحقائق، يبدو لي أنها جميعاً تتضافر في إقرارها في ذهن أي إنسان غير متحيز (23).
وتلا ذلك اعتراف بالإيمان بالله، وبالخلق والخطيئة الأصلية، والمطهر، وتحول الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه، ونذور الأديار والتشفع بالقديسين واستخدام البخور والصور الدينية والأردية الكهنوتية وإخضاع الدولة للكنيسة (24). وربما ألقى كرم الكاثوليكية ظلالاً من الشك في الوثيقة، ولكن صحة صدورها من ليبنتز أمر مقبول اليوم بصفة عامة (25)، وربما جاش صدره بالأمل في الحصول على وظيفة ملائمة في بلاط الإمبراطور الكاثوليكي في فيينا بتأييده لوجهة النظر الكاثوليكية على هذا النحو. وأعجب ليبنتز، مثل أي متشكك فاضل، بمنظر الطقوس الكاثوليكية وأنغامها وعبيقها.
وهكذا فإن ألحان الموسيقى، وتناغم الأصوات العذب، وشعر الترانيم وجمال الطقوس الدينية وتلألأ الأضواء، وعبق العطور، والملابس الفاخرة، والأواني المقدسة المزدانة بالأحجار الكريمة، والهدايا الثمينة، والتماثيل واللوحات التي توقظ الشعور الديني، والنتاج المبدع للعبقرية الفنية، .... وجلال المواكب العامة وروعتها، والستائر والأغطية الثمينة التي تزين الطرقات، وموسيقى النواقيس، وصفوة القول كل الهدايا والهبات وعلائم التكريم والإجلال التي يغدقها الناس في سخاء بحكم غرائز التقوى فيهم، كل أولئك، فيما أحسب، لا تثير في ذهن الله من الازدراء ما تريدنا البساطة الصارخة عند بعض(34/168)
المعاصرين أن نعتقد أنها مثيرة له. وهذا في كل الأحوال ما يؤكده العقل والتجربة على السواء (26).
وأخفقت كل هذه الحجج في أن تحرك مشاعر البروتستانت. وأفسد لويس الرابع عشر الخطة ومزق معالم الزينة بإلغاء مرسوم نانت، وشن حرب وحشية على البروتستانت في فرنسا، ووضع ليبنتز مشروعه جانباً انتظاراً لفرصة ملائمة.
وفي 1687 قام ليبنتز بثلاث جولات فيربوع ألمانيا والنمسا وإيطاليا، ليبحث في السجلات والمحفوظات المتناثرة هنا وهناك عن حوليات أسرة برنزويك. وفي روما، وعلى إفتراض أنه قد يقبل الارتداد إلى الكاثوليكية، عرضت عليه السلطات هناك أن يكون أميناً لمكتبة الفاتيكان، ولكنه رفض هذا المنصب. وقام بمسعى جريء بغية إلغاء المراسيم الكنسية التي صدرت عند كوبرنيكس وجاليليو (27). وبعد رجوعه إلى هانوفر، بدأ في 1691 ثلاث سنين من المراسلات مع بوسويه أملاً في إحياء حركة توحيد العالم المسيحي من جديد. هل يمكن أن توجه الكنيسة الكاثوليكية الدعوة لعقد مجلس عالمي بالمعنى الصحيح يشهده البروتستانت والكاثوليك ليعيدوا النظر في القرار الذي اتخذه مجلس ترنت ودمغ فيه البروتستنات بالهرطقة ويلغيه؟. أن الأسقف الذي كان لفوره قذف هؤلاء "المهرطقين" بمقاله "خلافات الكنائس البروتستانتية" (1688)، رد رداً لا يبشر بالوصول إلى تسوية: إذا رغب البروتستانت في العودة إلى حظيرة الكنيسة المقدسة، فإن عليهم أن يرتدوا إلى الكثلكة ويضعوا حداً للحوار. وتوسل إليه ليبنتز أن يعيد النظر في موقعه. وساند بوسويه هذا الأمل وقال: إني أنضم إلى المشروع ... ستسمع عما قريب ما يجول بخاطري (28). وفي 1691 كتب ليبنتز إلى مدام برينون في تفاؤله المعهود:
إن الإمبراطور يقف موقفاً ودياً. كما أن البابا أنوسنت الحادي عشر ونفراً من الكاردينالات والقواد، وطوائف الرهبان وكثيراً من رجال الدين الوقورين الذين درسوا الموضوع بعناية، قد أدلوا بآرائهم بطريقة مشجعة غاية التشجيع .. وليس من المبالغة في شيء أن أقول بأنه لو أن ملك(34/169)
فرنسا والقساوسة الذين يستمع إليهم الملك في هذا الشأن، اتخذوا إجراء مناسباً متفقاً عليه، فإن الأمر لن يكون مجرد احتمال، بل يكون في حكم المنتهي (29).
ولما وصل رد بوسويه كان مخيباً لكل رجاء: ليس من سبيل للرجوع عن قرارات مجلس ترنت، أنها كانت على صواب في دفع البروتستانت بالهرطقة، والكنيسة معصومة من الخطأ، ولن يصل أي مؤتمر يضم زعماء الكاثوليك والبروتستانت إلى نتائج بناءة ما لم يوافق البروتستانت سلفاً على قبول قرارات الكنيسة في المسائل التي هي موضوع النزاع (30). وأجاب ليبنتز بأن الكنيسة كثيراً ما غيرت آراءها وتعاليمها، وناقضت نفسها، وأدانت أناساً وحرمتهم دون سبب عادل. وأعلن "أنه نفض يده من أية مسؤولية عن أية مصاعب أو اضطرابات قد يسببها في المستقبل الشقاق القائم في الكنيسة المسيحية (31) ". وولى شطره نحو المهمة التي بدت أكثراً أملاً، وهي التوفيق بين جناحي البروتستانتية، وهما اللوثرية والكلفنية، ولكنه واجه في هذا السبيل عناء وتصلباً أشد وأقسى من عناد بوسويه وتصلبه، وأخيراً، تمنى، بينه وبين نفسه أن يحل الطاعون بكل المذاهب المتنافسة، وصرح بأنه ليس ثمة كتب ذات قيمة إلا نوعان منها: تلك التي تتناول الظواهر والتجارب العلمية، ثم التي تتناول التاريخ والسياسة والجغرافيا (32). وظل، ظاهرياً وبشكل غامض لوثرياً حتى انتهى أجله.
4 - نظرة عامة في فلسفة لوك
كان نصف نتاج ليبنتز "أبحاث وتعليقات" قام بع عرضاً تقريباً لدراسة أفكار بعض الكتاب. وأعظم كتبه الذي بلغ 590 صفحة بدأ في 1696 بعرض في سبع صفحات لمقال لوك عن العقل الإنساني (1690) الذي لم يعرفه ليبنتز آنذاك إلا عن طريق خلاصة له أعدها لكرك في "المكتبة العالمية" وعندما ظهرت ترجمة فرنسية لهذا المقال (1700) كتب ليبنتز من جديد نقداً له لمجلة ألمانية. وبادر فأعرب عن أهمية تحليل لوك وأطنب في امتداح أسلوبه. وفي 1703 عقد العزم على التعليق عليه فصلاً فصلاً. وهذه التعليقات هي التي يتألف منها كتاب(34/170)
ليبنتز "أبحاث جديدة في العقل الإنساني". وإذ علم بوفاة لوك 1704 لم يتق التغليق، ولم ينشر إلا في 1765، فتأخر ظهوره، فلم يكن له دخل في تأثير لوك العميق على فولتير وغيره من النجوم اللامعة في عصر الاستنارة في فرنسا، ولكنه جاء في الوقت المناسب ليسهم في تشكيل الفتح الجديد في كتاب كانت "نقد العقل الخالص". وهو من أهم مؤلفات في تاريخ علم النفس.
إنه من حيث الشكل حوار بين "فلاليثس Philalethes ( حبيب الحق) الذي يمثل لوك، "وثيوفيلوس Theophilus ( حبيب الله) الذي يمثل ليبنتز. والحوار رصين مفعم بالحيوية، لا يزال تطيب قراءته لكل من أوتي ذهناً حاداً وفراغاً بغير حدود. وتظهر المقدمة ليبنتز في أعظم حالاته النفسية دماثة وكياسة، مصرحاً في تواضع بأنه يكسب قراءّ بالتزامه البحث في "مقال في العق الإنساني" الذي كتبه رجل إنجليزي لامع، وهو من اجمل المؤلفات التي حظيت بأعظم التقدير في هذه الفترة. والمسألة المطروحة للبحث، مبسوطة بوضوح جدير بالثناء: نريد أن نعرف هل النفس في حد ذاتها خالية تماماً، مثل الألواح الت يلم يكتب عليها شيء بعد، طبقاً لما قال به أرسطو وكاتب المقال، وهل كل ما يمكن تبعه بعد ذلك، يأتي فقط من الحواس والخبرة، أو هل تحتوي النفس أساساً على أصول كثير من الأفكار والمبادئ التي توقظها الأشياء الخارجية مجرد إيقاظ في المناسبات، كما اعتقد أنا ويعتقد أفلاطون (1) (33). ومن رأي ليبنتز أن الذهن ليس وعاء سلبياً للخبرة، بل هو عضو مركب يحول بمقتضى تركيبه ووظائفه معطيات الإحساس، مثلما أن الجهاز الهضمي ليس مجرد كيس فارغ، بل جهاز أعضاء لهضم الطعام وتحويله إلى متطلبات الجسم وأعضائه. وفي عبارة شهيرة معبرة بارعة لخص ليبنتز كلام لوك ونقحه، ليس في الذهن شيء لم يكن في الحواس إلا الذهن نفسه (36) ". أن لوك، كما لحظ ليبنتز، كان قد اعترف بأن الأفكار قد تأتي من "التفكير" الإستبطاني، مثلما قد تأتي من الإحساس الخارجي، ولكنه كان قد نسب إلى أصل حسي كل
_________
(1) كتب لوك أن الذهن عند الولادة عبارة عن "ورقة بيضاء خالية" (34). ولكنه لم يستخدم عبارة "لوح نظيف". وهي ترجمة توما الأكويني لقطعة من أرسطو في موضوع "النفس" (35).(34/171)
العناصر الداخلية في التفكير. وعلى النقيض من ذلك، جادل ليبنتز في أن الذهن من نفسه يمد بأصول أو ألوان معينة من الفكر، مثل "الوجو، الجوهر، الوحدة، الهوية، العلة، الإدراك الحسي، العقل، وانطباعات كثيرة أخرى لا يمكن أن تعطيها الحواس (37) "، وأن أدوات العقل هذه، أو أعضاء الهضم العقلي "فطرية"، لا بمعنى أننا على وعي بها عند الولادة، أو أننا دائماً على وعي بها عند استخدامها، بل بمعنى أنها جزء من التركيب أو الكيان الأصلي، أو "الاستعدادات الطبيعية" للذهن. وأحس لوك بأن هذه الأصول المفترض أنها فطرية تجري تنميتها وتطويرها تدريجياً بتفاعل الأفكار الحسية أصلاً، في الفكر، ولكن بدون مثل هذه الأصول، كما قال ليبنتز منازعاً، لن يكون هناك أفكار، بل مجرد تعاقبات مهوشة من الأحاسيس، تماماً مثلما أنه بدون عمل المعدة وعصاراتها الهضمية لا يغذينا الطعام، ولن يكون طعاماً. وعند هذا الحد أضاف في جرأة: أن كل الأفكار فطرية-أي أثر عملية التحويل في الذهن على الأحاسيس. ولكنه سلم بأن الأصول الفطرسية عند الولادة مهوشة وغير متميزة، ولا تصبح واضحة إلا عن طريق الخبرة والاستخدام.
والأصول الفطرية، في رأي ليبنتز، تشمل كل "الحقائق الضرورية، مثل تلك الموجودة في الرياضة البحتة (38)، لأن الذهن، لا الإحساس، هو الذي يزود بأصل الحاجة والضرورة، وكل شيء حسي هو فردي طارئ أو أحتمالي، ويمدنا، على أحسن الفروض، بتعاقب متكرر، لا بتعاقب ضروري أو علة ضرورية (39). (وكان لوك قد سلم بهذا (40)). واعتبر ليبنتز أن كل غرائزنا وإيثارنا اللذة على الألم وكل قوانين العقل، فطرية (41) -ولو أنها جميعاً لا تصبح واضحة إلا بالخبرة: مبدأ التناقض-فالبيانات المتناقضة لا يمكن أن تكون صحيحة في وقت واحد. "إذا كانت أدائرة، فهي ليست مربعاً"، ومبدأ السبب الكافي-"لا يحدث شيء دون سبب لحدوثه على النحو الذي حدث عليه" لا على نحو آخر (42) "وذهب ليبنتز إلى أن الذكاء البشري يختلف عما لدى الحيوان من معرفة، في أنه يستنتج أفكاراً عامة من خبرات معينة، عن طريق استخدام أصول العقل الفطرية، أما الحيوانات فهي تعتمد كل الاعتماد على الخبرة العملية،(34/172)
توجه نفسها عن طريق الأمثلة فحسب"، فهي، بقدر ما نستطيع الحكم عليها، لا يمكن أن تصل أبداً إلى تشكيل القضايا أو الافتراضات الضرورية (43).
أن مبدأ "السبب الكافي" بكفي "لإقامة الدليل على وجود الله وكل أجزاء الميتافيزيقا الأخرى أو اللاهوت الطبيعي (44) ". وبهذا المعنى تكون فكرتنا عن الله فطرية، ولو أن الفكرة في بعض الأذهان أو عند بعض القبائل لا واعية أو مهوشة، ويمكن أن نقول مثل هذا على فكرة الخلود (45) -والإحساس الخلقي فطري، لا في مضمونه النوعي أو الخاص، أو في أحكامه التي قد تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، بل بوصفه وعياً للفرق بين الصواب والخطأ. وهذا الوعي عام شامل (46).
والذهن، في علم النفس عند ليبنتز، فعال نشيط، لا لمجرد أنه يدخل بمقتضى تركيبه وعمله في تكوين كل فكرة فحسب، بل كذلك في استمرار نشاطه دون انقطاع. وحيث أن ليبنتز استخدم لفظة "يفكر" بمعناها الواسع عند ديكارت، بمعنى أنها تشمل كل العمليات العقلية، فإنه اتفق مع الديكارتيين في أن الذهن يفكر دائماً. سواء أكان مستيقظاً أم غير واع أو نائماً. "أن أية حالة بلا تفكير في النفس ولا راحة مطلقة في الجسم، تبدو لي مناقضة للطبيعة، ولا مثيل لها في الدنيا، بقدر سواء (47) ". وبعض العمليات العقلية تتم فيما وراء نطاق العقل (في العقل الباطن) "من الخطأ البين الاعتقاد بأنه ليس في النفس مدركات إلى جانب تلك المدركات الحسية التي تعيها (48) ". وبمثل هذه القضايا التي أوردها ليبنتز، بدأ علم النفس الحديث جهوده في التنقيب عما أسماه بعض الباحثين الذهن اللاواعي، وما اعتبرته الأرواح القوية متعلقاً بالمخ، أو عمليات أخرى جسدية لم تثر الوعي.
ولدى ليبنتز الشيء الكثير مما يمكن أن يقول عن العلاقة بين الجسم والنفس، ولكنه هناك يترك علم النفس، ويحلق في الميتافيزيقا، ويطلب إلينا أن ننظر إلى العالم بأسره على أنه مونادات نفسية بدنية، ذوات صفات عقلية وبدنية معاً.(34/173)
5 - المونادات
التقى ليبنتز عندما كان في فيينا في 1714 بالأمير يوجين من سلفوي، الذي كان هو ومالبورو قد أنقذا أوربا من ربقة الخضوع للملك لويس الرابع عشر، وطلب الأمير الفيلسوف أن يعد له بياناً موجزاً عن فلسفته بشكل يتيسر معه على القائد العسكري قراءته. واستجاب ليبنتز لهذا الطلب بإعداد رسالة محكمة موجزة من تسعين فقرة، تركها بين أوراقه عند مماته. ونشرت لها ترجمة ألمانية في 1720. ولم يطبع النص الأصلي الفرنسي إلا في 1839، والمحرر هو الذي أسماه "المونادلوجيا" (علم الجواهر الروحية) وربما أخذ ليبنتز اصطلاح موناد عن جيورانو برونو (49)، أو عن فرانس فان هلمونت (ابن الكيميائي ج، ب) (50)، الذي استخدم اللفظة لوصف "البذور" الدقيقة جداً، التي خلقها الله هي وحدها مباشرة، والتي تورطت إلى كل أشكال المادة والحياة. وكان أحد الأطباء الإنجليز، فرانسيس جليسون قد نسب، لا القوة وحدها، بل كذلك الغريزة والأفكار إلى كل الجواهر (1672). وكانت نظرية شبيهة بهذه قد نبتت في ذهن ليبنتز المتفتح الدؤوب منذ 1686. وربما تأثر بعمل الميكروسكوبيين الحديثين الذين عرضوا الحياة النابضة في أصغر الخلايا. وخلص ليبنتز إلى أن "هناك عالماً من الكائنات المخلوقة-الأشياء الحية، والحيوانات .... والأنفس .... ، في أصغر جزء من المادة- (151) ". وكل جزء من المادة يمكن تصوره على أنه الأسماك الميكروسكوبية، إنما هي بركة أخرى مملوءة بالسمك، وهكذا إلى ما لا نهاية-لقد هزت مشاعره-كما كانت قد روعت بسكال-قابلية القسمة اللامتناهية لأي شيء ممتد.
وأوحى ليبنتز بأن قابلية القسمة التي لا نهاية لها، لغز ناشئ عن مفهومنا للحقيقة بأنها مادة، ومن ثم فهي ممتدة وقابلية للقسمة إلى حد الغثيان. أننا إذا اعتبرنا الحقيقة النهائية طاقة وتصورنا العالم مكوناً من مراكز قوة، لاختفى سر أو لغز قابلية القسمة، لأن القوة مثل الفكر لا تنطوي ضمناً على امتداد. وعلى هذا رفض ذرات ديكارت على أنها المكونات النهائية للكون، وأحل محلها المونادات، وهي وحدات غير(34/174)
ممتدة من القوة. وعرف الجوهر، لا بأنه مادة، بل طاقة. (إلى هذه النقطة كان مفهوم ليبنتز متفقاً تمام الاتفاق مع فيزياء القرن العشرين)، "المادة" أينما وجدت مشحونة بالحركة والنشاط والحياة. وكل موناد يحس ويدرك، أن له ذهناً أولياً أو بدائياً، بمعنى أنه حساس-ويستجيب-للتغيرات الخارجية.
وقد نفهم المونادات فهماً أفضل إذا فكرنا فيها "بطريقة تشبه الانطباعية التي لدينا عن الأنفس (52) " وكما أن كل نفس "عبارة عن شخص بسيط مستقل (53) "، ذات منعزلة تشق طريقها مناضلة بإرادتها الباطنية ضد كل ما هو خارج عنها، فإن كل موناد كذلك وحيد، مركز قوة منفصل مستقل ضد كل مراكز القوة الأخرى. والحقيقة كون من القوى الفردية، موحد ومنسجم بفضل قوانين الكل أو المجتمع أو الله فقط. وكما أن كل نفس تختلف عن سائر الأنفس، فإن كل موناد كذلك فريد. وليس في الكون بأسره كائنان متشابهان كل الشبه، لأن الفروق بينهما تشكل فرديتهما، أن شيئين لهما نفس الصفات، لا بد أن يكونا واحداً متطابقاً يتعذر تمييزه ("قانون الأشياء التي يتعذر تمييزها") (54) وكما أن كل نفس تحس أو تدرك الحقيقة المحيطة بها، ويقل هذا وذاك وضوحاً كلما كانت الحقيقة بعيدة عنها، ولكنها تشعر بالحقيقة بدرجة ما، فإن كل موناد يشعر بالكون كله، مهما كان الشعور مهوشاً أو غير واع. وهو بهذه الطريقة مرآة تعكس وتمثل العالم بدرجة أو بأخرى من الغموض. وكما أن أي ذهن فردي لا يستطيع بحق أن ينعم النظر في ذهن آخر، فكذلك لا يستطيع موناد واحد أن ينعم النظر في موناد آخر. فليس فيه أية نافذة أو فتحة لمثل هذا الاتصال المباشر، ومن ثم فإنه لا يستطيع مباشرة إحداث أي تغيير في أي موناد آخر.
والمونادات تتغير لأن التغيير أساسي لحياتها-ولكن التغييرات تأتي من كفاحها الداخلي (55). فكما أن كل نفس هي رغبة واردة، فكذلك كل موناد يحتوي على-أو هو-غرض داخلي وإرادة، سعى للنمو والتطور. وتلك هي "الفعلية" التي قال عنها أرسطو بأنها لب كل حياة. وبهذا المعنى (كما كان يقول شوبنهور) فإن القوة والإرادة شكلان أو درجتان من نفس الحقيقة الأساسية (56). وفي الطبيعة غائية(34/175)
متأصلة: فهناك في كل شيء سعى أو "محاولة" أو "اشتهاء"، أو غرض موجه يحدد قالبه، حتى ولو كان ذاك الغرض أو تلك الإرادة تعمل في حدود القانون الآلي أو عن طريقه. وكما أن الحركة الجسمية فينا هي تعبير مرئي ميكانيكي عن رغبة أو إرادة باطنة، فكذلك في المونادات، فإن العملية الميكانيكية التي نراها من الخارج، هي مجرد الشكل أو الهيكل لقوة داخلية: "وهذا الذي يظهر بشكل آلي أو بالامتداد، في المادة يتركز بشكل دينامي أو فعال، وبشكل عضوي (أو مونادي) في "الفعلية" (أو السعي الداخلي) نفسها (57). ونحن في إدراكنا المشوش المضطرب نعادل الأشياء الخارجة "بالمادة" لأننا نرى آليتها الخارجية فقط، ولا نرى-كما هو الحال في الاستبطان، الحيوية الداخلية ذات الأثر الفعال في التكوين. وفي هذه الفلسفة تفسح الذرات العاجزة غير الفعالة عند الماديين، مكاناً للمونادات أو الوحدات التي هي مراكز حية للفردية والقوة. ولا يعود العالم آلة ميتة ويصبح مسرحاً لحياة نابضة متنوعة.
وأهم المعالم في هذا التنوع هي درجة الوعي في "ذهن" الموناد. فإن لكل المونادات أذهاناً، بمعنى الحساسية والاستجابة، ولكن ليس كل ذهن واعياً. وحتى نحس الكائنات البشرية العجيبة، نمر بعمليات عقلية كثيرة دون وعي، كما هو الحال في الأحلام، أو حين نكون مستغرقين في أشد الانتباه إلى جوانب معينة من موقف ما، فإننا لا نعي أننا ندرك عناصر أخرى كثيرة في هذا المشهد-وهي عناصر قد تكون على أية حال مختزنة في الذاكرة، وقد تدخل إلى أحلامنا، وقد تنبثق من زوايا خفية في الذهن إلى الوعي الذي يحدث فيما بعد، أو حين نكون على وعي بزئير الأمواج المنكسرة على الشاطئ أو هسيسها، فإننا لا نتحقق من أن كل موجة، أو كل جزء صغير من كل موجة، يطرق أذننا ليحدث ألفاً من الآثار الفردية، التي تشكل أو تصبح هي سماعنا للبحر. وعلى ذلك فإن أبسط المونادات تحس وتدرك كل شيء حولها، ولكن بشكل مهوش مضطرب إلى حد اللاوعي. والمشاعر في النبات تصبح أوضح وأكثر تخصصاً وتؤدي إلى استجابات أكثر تحديداً. وفي الموناد، أي نفس الحيوان تصبح المدركات المرددة للصدى ذكريات يولد تفاعلها وعياً. والإنسان عبارة عن مستعمرة من المونادات (الخلايا؟) لكل منها جوعه وحاجياته وأغراضه، ولكن هذه(34/176)
الجزيئات تصبح جماعة موحدة من كائنات حية بتوجيه من موناد مسيطر، وهو "فعلية" الإنسان ونفسه (58). وإذا ارتفعت النفي إلى مستوى العقل فأنها .... تعتبر ذهناً (59) وتسمو في المرتبة تبعاً لدرجة إدراكها للعلاقات الضرورية والحقائق الباطنية، وعندما تدرك نظام الكون وذهنه تصبح مرآة الله. والله، الموناد الرئيسي، ذهن خالص واع تماماً الوعي، مجرد من كل آلية وجسم (60).
وأشق جانباً في هذه الفلسفة هو نظرية ليبنتز في "التناسق الأزلي". ما هي العلاقة بين حياة الموناد الداخلية، ومظهره الخارجي أو هيكله المادي؟ وكيف نفسر التفاعل في الجسم المادي والذهن الروحي في الإنسان؟ وكان ديكارت قد نسب هذه المسألة عجزاً إلى الغدة الصنوبرية. ورد عليها سبينوزا بإنكار أي انفصال أو تفاعل بين المادة والذهن، حيث كان هذان، في رأيه، مجرد المظهرين الخارجي والداخلي لعملية وحقيقة واحدة. وجدد ليبنتز المشكلة بالقول بأن العمليات الجسمية والعقلية إلى تواطؤ مستمر رتبه الله ترتيباً أزلياً بشكل عجيب:
أن النفس تتبع قوانينها الخاصة بها، وكذلك الجسم يتبع قوانينه الخاصة به، وهي تتلاءم وتتفق بفضل "التناسق الأزلي بين الجواهر، حيث أنها كلها تمثل كوناً واحداً (61) .... وتعمل الأجسام كما لو أنه ليس هناك نفوس، وتعمل النفوس كما لو أنه ليس هناك أجسام، ويعمل كلاهما كما لو أنه يؤثر في الآخر .... (62) ويسألونني كيف يحدث أن الله غير راض عن إنتاج كل أفكار وتكيفاتها بغير هذه الأجسام العديمة الفائدة التي لا تستطيع النفس (كما يقولون) أن تحركها أو تعرفها. والجواب سهل: أن إرادة الله هي التي اقتضت أن يكون هناك عدد أكبر، لا عدد أقل، من الجواهر، كما وجد، سبحانه، أنه من الخير أن تقابل هذه التكيفات شيئاً خارجياً (63).
وارتياباً في أن الاستغلال اللطيف للإله بديلاً عن الفكر قد لا يلقى(34/177)
استحساناً عاماً، وعمد ليبنتز إلى زخرفته بفرضية جلينكس وساعاته: فالجسم والذهن يعمل كل منهما مستقلاً عن الآخر، ومع ذلك يعملان في تناسق محير، مثل ساعتين صنعتا وملئتا ثم بدأتا، في حذق وبراعة إلى درجة أنهما تسجلان الثواني وتدقان الساعات في توافق تام، دون تفاعل أو تأثير متبادل، وهكذا العمليات الجسدية والنفسانية، على الرغم من استقلالهما، دون أن تؤثر إحداهما في الأخرى، فإنهما تتوافقان عن طريق "تناسق وجد منذ الأزل بوسيلة إلهية بارعة توقعية" (64).
ولنفترض أن الذي جال بخاطر ليبنتز، ولكنه لم يهتم بذكره، هو أن العمليات التي هي في الظاهر منفصلة ولكنها متزامنة، عمليات الآلية والحياة، عمليات الفعل والفكر، هي عملية واحدة بعينها، نراها من الخارج مادة ومن الداخل ذهناً. ولو أنه ذكر هذا لكان تكراراً لسبينوزا، ومشاركة في مصيره.
6 - هل كان الله عادلاً؟
أن هذه الحاجة إلى ستر عرى الفلسفة بأغطية لاهوتية، هي التي أدت بليبنتز إلى تأليف الكتاب الذي أثار حنق فولتير وسخريته، وكاد يضيع مفكراً عميقاً حقاً في صورة الأستاذ بانجلوس الهزلية، دفاعاً عن أحسن العوالم الممكنة. أن العمل الفلسفي الكامل الوحيد الذي نشر في حياة ليبنتز هو "مقال الثيويديسية عن طبيعة الله وحرية الإنسان وأصل الشر"، (1710) -وهو تقريباً سند مشجع مثل كتاب ديكارت "مبادئ الفلسفة الأولى، التي توضح وجود الله وخلود النفس" (1641). والثيودريسية معناها عدالة الله أو تبريره (أو الفلسفة الإلهية).
فلهذا الكتاب، مثل سائر الكتب أصل عرضي. وفي مقال عن القديس جيروم، في "القاموس التاريخي النقدي" نجد بيل، على حين يبدي إعجابه الشديد بليبنتز، يعرض رأي الفيلسوف بأنه يمكن التوفيق بين العقل والدين، أو بين حرية الإنسان وقدرة الله، أو بين الشر الدنيوي والطيبة والقوة الإلهيتين. وخير لنا-كما يقول بيل، أن نتخلى عن فكرة إثبات المذاهب الدينية، فإن هذا لا يعني إلا إبراز(34/178)
المتاعب والصعوبات. وأجاب ليبنتز (1698) في مقال كتب لصحيفة جاك باسناج "تاريخ أعمال العلماء". وأضاف بيل في الطبعة الثانية لقاموسه إلى المقال الذي كتبه عن القديس جيروم ملاحظة هامة يحي فيها ليبنتز "ذلك الفيلسوف العظيم" ولكنه أشار إلى غوامض أخرى، وبخاصة في نظرية التناسق الأزلي. وأرسل ليبنتز رده إلى بيل مباشرة، ولكنه لم يطبعه. وفي العام نفسه كتب ثانية إلى عالم روتردام يمتدح "تأملاته الأخاذة" و "أبحاثه التي لا حد لها (65) ". ولم يتسم إلا القليل من فترات تاريخ الفلسفة بمثل ما اتسمت به من الرقة واللطف تلك المجاملة المتبادلة بين بيل وليبنتز في تبادل الأفكار. وأبدت صوفيا شارلوت رغبتها في الاطلاع على جواب ليبنتز على شكوك بيل. وكان بالفعل يعد مثل هذا البيان حين ترامت إليه الأنباء بوفاة بيل. وراجع ردوده وتوسع فيها ونشرها تحت عنوان "التيوديسية". وكان آنذاك في الرابعة بعد الستين من العمر، وأحس بدنو الأجل، وربما هفت نفسه إلى الإيمان بعدالة الله مع الإنسان. كيف يتأتى أن يتلوث عالم خلقه العلي القدير الخير بمثل هذه المذابح العسكرية والفساد السياسي والقساوة البشرية والشقاء والزلازل والمجاعات والفقر والمرض؟
أن "الرسالة التمهيدية عن مواجهة الإيمان بالعقل" وصفت العقل والكتاب المقدس بأن كليهما وحي من عند الله، ومن ثم كان التناقض بينهما أمراً بعيد الاحتمال.
ويتساءل بيل كيف أن الإله الطيب الخير المطلع سلفاً "على كل ما هنالك من ثمار" يمكن أن يجيز إغراء حواء، فرد ليبنتز على هذا بأن الله، لكي يؤهل الإنسان للمبادئ الأخلاقية، خلق له إرادة حرة، ومن ثم حرية الخطيئة، وحقاً أن الإرادة الحرة تبدو غير ملتئمة مع العلم واللاهوت كليهما، فالعلم يرى في كل مكان حكم قانون لا يتغير، والحرية الإنسانية مضيعة في سباق علم الله وحتمية كل الأحداث قضاء وقدراً. ولكننا، كما قال ليبنتز، واعون في عناد وإصرار وبشكل مباشر أننا أحرار غير مقيدين. أننا، على الرغم من عدم قدرتنا على البرهنة على هذه الحرية، يجدر بنا أن نقبلها شرطاً أساسياً لأي معنى من معاني المسئولية الأخلاقية، بديلاً وحيداً لاعتبار الإنسان آلة سيولوجية عاجزة بشكل سخيف مضحك.(34/179)
أما بالنسبة لوجود الله، فإن ليبنتز مقتنع بالحجج التقليدية السكولاسية. نحن نتصور كائناً كاملاً، وحيث أن الوجود عنصر ضروري في الكمال، فالكائن الكامل لا بد أن يكون مزدوجاً. ولا بد أن يكون هناك عنصر ضروري وكائن موجود بذاته (غير مخلق) وراء كل العلل القريبة والأحداث المحتملة الوقوع. وليس من مفهوم أن يكون لعظمة الطبيعة ونظامها أي مصدر إلا "ذكاء أسمى". ولا بد أن يكون للخالق في ذاته، وبدرجة غير متناهية، كل القوة والعلم والمعرفة والإرادة التي كشفت في مخلوقاته. والتدبير الإلهي والآلية الكونية غير متعارضتين. فالعناية الإلهية تستخدم الآلية لإنجاز عجائبها، ويستطيع الله أن يربك أو يوقف آلة العالم من آن إلى آن، ليظهر معجزة أو معجزتين (66).
والنفس بطبيعة الحال، خالدة، والموت، مثل الولادة، هو مجرد تغيير في الشكل في مجموعة من المونادات، وتبقى النفس والطاقة المتأصلتان. وفيما عدا الله تكون النفس دائماً ملازمة للجسم، والجسم ملازم للنفس، ولكن سيكون هناك بعث للجسم، كما سيكون هناك بعث للنفس (67) (وليبنتز هنا كاثوليكي فاضل) وفيما دون الإنسان يكون خلود النفس غير شخصي (مجرد إعادة توزيع للطاقة)، والنفس العقلانية في الإنسان وحدها هي التي تتمتع بخلود واع.
والخير والشر اصطلاحان من صنع الإنسان نحددهما تبعاً للذتنا أو ألمنا، ولا يمكن تطبيقهما على الكون دون افتراض أن للإنسان من العلم ما لا يجوز إلا لله. وقد يكون النقص في الجزء مطلوباً لكمال أعظم في الكل (68). وعلى هذا فالخطيئة شر، ولكنها نتيجة الإرادة الحرة التي هي خير. وحتى خطيئة آدم وحواء كانت من بعض النواحي "خطيئة سعيدة" حيث كان من نتيجتها مجيء المسيح (69) "وليس في الكون .. فوضى ولا اضطراب إلا من حيث المظهر (70) ". إن آلام الناس ونوائبهم "تسهم في الخير الأعظم عند من يعانون منها (71) ". وحتى:
لو تمسكنا .... بالرأي السائد بأن عدد الناس المقدر عليهم الشقاء الأبدي، سيكون أكبر بشكل لا يقارن، من(34/180)
الذين كتب لهم الخلاص، فيجدر بنا أن نذكر أن الشر لا يمكن أن يبدو ضئيلاً إلى حد العدم بالمقارنة مع الخير، إذا تأمل المرء السعة الحقيقية "لمدينة الله" (للجنة) .... وحيث أن هذا الجزء من الكون الذي نعرفه ليس إلا شيئاً لا يذكر إلى جانب الجزء الذي لا نعرف عنه شيئاً .... فقد يكون كل الشر ضئيلاً إلى حد العدم تقريباً، إذا قورن بالأشياء الطيبة الموجودة في الكون (72) .... ولسنا بحاجة حتى إلى الموافقة على أن في الجنس البشري شراً أكثر مما فيه من خير، فإنه من الممكن، بل أنه لشيء معقول أن تكون سعادة غير المغضوب عليهم وكمالهم أعظم بكثير من شقاء المغضوب عليهم ونقصهم (73).
وهذه الدنيا، مهما بدا من نقصها أمام أعيننا المشبعة بالأنانية هي أحسن ما كان يمكن أن يخلقه الله، حيث ترك البشر أناسي وأحراراً. وإذا كانت ثمة دنيا أحسن في حيز الإمكان فلنكن على يقين من أن الله يمكن أن يخلقها.
أن الكمال الأسمى لله يستتبع أنه في خلق الكون، اختار (سبحانه) أفضل خطة ممكنة، بما فيها أعظم تنوع مع أعظم نظام، وأفضل وضع ومكان وزمان ترتيباً، وأعظم النتائج توفرها أبسط الوسائل وأعظم قوة وأعظم معرفة وأعظم سعادة وأعظم خير في الأشياء المخلوقة التي سلم بها الكون أو أفسح لها مجالاً, وبما أن كل الأشياء الممكن وجودها تطالب بحق الوجود في عقل الله بنسبة درجة كمالها، فإن نتيجة كل هذه المطالبات لا بد أن تكون أكمل دنيا ممكنة فعلاً (74).
ولا يمكن أن نوصي اليوم بقراءة شيء أكثر من ذلك في "ثيودوسية" ليبنتز، اللهم إلا الذين يقدرون لأعظم تقدير سخرية "كانديد" المريرة.(34/181)
7 - اهتمامات فكرية متنوعة
ومهما يكن من امر فإن "الثيوديسية" أصبحت أوسع كتب ليبنتز انتشاراً وأكثر ما أقبل الناس على قراءته منها، وعرفه الناس بأنه "رجل أفضل العوالم الممكن وجودها". وإذا كان لنا أن نأسف لهذا السخف الذي يهذب ويثقف في هذا العمل العظيم، فإن إجلالنا للمؤلف يحيا ويتجدد إذا أجلنا الطرف في التنوع الغزير لاهتماماته الفكرية. وقد افتتن بالعلم ولو أنه كان جانباً من فكره. وقال ليبنتز لبيل يوماً لو أنه عاش حياة ثانية لأصبح عالماً بيولوجياً (75). وكان من أعمق الرياضيين في عصر زخر بهم. ونبذ ديكارت في صياغة "مقياس القوة (1) ". أما تصوره للمادة على أنها طاقة فكان في نظر عصره لحناً ميتافيزيقياً، ولكنه الآن في أيامنا هذه أمر مألوف في الفيزياء. ووصف المادة بأنها إدراكنا المهوش أو المضطرب لعمليات القوة. ونبذ، مثل معاصرينا من أصحاب النظريات "الحركة المطلقة" التي افترضها نيوتن، وقال بأن "الحركة هي مجرد تغيير في الأوضاع النسبية للأجسام، ومن ثم ليست شيئاً مطلقاً، بل متضمنة في علاقة (76) ". واستبق كانت في تفسير المكان والزمان، لا على أنهما حقائق موضوعية، بل علاقات مدركة حسياً: المكان مدرك حسياً على أنه تصاحب في التواجد، والزمان مدرك حسياً على أنه تعاقب-وهي آراء تتبناها اليوم نظريات النسبية. وفي عامه الأخير (1715) دخل ليبنتز في مراسلات طويلة مع صمويل كلارك عن الجاذبية الأرضية، التي بدت له صفة خاصة تكتنفها الأسرار، تعمل على مسافات هائلة جداً عبر فراغ ظاهر، واعترض ليبنتز بأنها قد تكون معجزة متصلة لا تنقطع، فأجاب كلارك بأنها ليست اعظم من "التناسق الأزلي (77) "، وأبدى ليبنتز خوفه من أن تؤدي نظرية نيوتن في الآلية الكونية إلى كثير من الإلحاد، فأجاب كلارك، على العكس، أن النظام المهيب الذي كشف نيوتن غوامضه قد يقوي الإيمان بالله (78). وبررت الأحداث اللاحقة رأي ليبنتز.
_________
(1) كانت صيغة ديكارت ك س-مقدار الحركة الكتلة مضروباً في السرعة. فعدلها ليبنتز على كتاب جاليليو إلى ك س2. والقانون السائد الآن: 2 slash1 ك س2.(34/182)
وفي علم الحياة (البيولوجيا) تصور ليبنتز "التطور" بشكل غامض. ورأى، مثل كثير من المفكرين قبله وبعده "قانون الاستمرار" نافذاً في العالم العضوي، ولكنه امتد بالفكرة كذلك إلى العالم المظنون أنه غير عضوي: فكل شيء نقطة أو طور في سلسلة لا نهاية لها، مرتبط بكل شيء غيره عن طريق عدد غير محدود من أشكال وسيطة (79)، فهناك كما يقال، حساب اللامتناهيات في الصغر يجري في الحقيقة.
ليس ثمة شيء يتم على الفور. ومن حكمي البليغة ... أن الطبيعة لا تقوم بقفزات .... ويعلن قانون الاستمرار أننا ننتقل من الأصغر إلى الأكبر والعكس بالعكس عبر الوسط، درجة درجة، وجزءاً جزءاً على حد سواء (80). (وينازع في هذا كثير من الفيزيائيين اليوم) ... والناس مترابطون مع الحيوانات. والحيوانات مترابطة مع النبات، وهذه ثانية مع الأحافير والمستحدثات، وهي بدورها مرتبطة بتلك الأجسام التي يصورها لنا الإحساس والخيال ميتة وغير عضوية تماماً (81).
وفي هذا "الاستمرار" المهيب تذوب كل التناقضات، عن طريق سلسلة ضخمة من فوارق توجد ونادراً ما يتيسر إدراكها إدراكاً حسياً، من أبسط المواد إلى أكثرها تعقيداً، ومن أصغر الحيوانات الدنيا التي ترى بالمجهر إلى أعظم حاكم أو عبقري أو قديس.
ويبدو أن ذهن ليبنتز قاس كل هذا الاستمرار الذي وصفه، وكان حسن الاطلاع على كل علم، وعرف تاريخ الأمم والفلسفة. وكم مس مساً رقيقاً الشئون العالمية للكثير من الدول، كما كان على علم تام بالذات وبالله. وفي 1693 نشر بحثاً عن نشأة الأرض وبدايتها متجاهلاً سفر التكوين تجاهلاً تاماً. وطور أفكاره الجيولوجية وتوسع فيها في رسالة "بروتوجيا" نشرت 1749 بعد وفاته. وذهب إلى أن كوكبنا كان يوماً كرة ملتهبة، ثم بردت شيئاً فشيئاً، كونت قشرة، وعندما بردت تكاثف البخار بها إلى مياه ومحيطات-وأصبح الماء ملحاً بذوبان ما في القشرة من معادن. وكانت التغييرات الجيولوجية، التي تلت ذلك، أما نتيجة لفعل المياه التي فاضت على السطح تاركة تكوينات رسوبية، أو نتيجة(34/183)
انفجار الغازات التي تحت الأرض، مخلفة صخوراً بركانية. وأوردت نفس الرسالة تفسيراً بارعاً للأحافير أو المستحاثات (82)، وخطت نحو نظرية للتطور. وبدا له "جديراً بالاعتقاد، أنه من خلال هذه التغييرات البعيدة المدى" في القشرة الأرضية"، "تحولت مرات ومرات حتى أجناس الحيوان (83) ". وقال بأنه من المحتمل أن أقدم الحيوانات الأولى كانت بحرية، انحدرت منها البرمائيات والحيوانات البرية (84). ورأى ليبنتز-مثل بعض المتفائلين في القرن التاسع عشر-، في هذا التحول التطوري، أساساً للاعتقاد "بتقدم الكون تقدماً متصلاً لا يعوقه شيء .... لن يقف التقدم عند حد أبداً (85) ".
وانتقل ليبنتز من علم الحياة (البيولوجيا) إلى القانون الروماني، ومنه إلى فلسفة الصين. وأفادت رسالته "آخر الأخبار من الصين" 1697 في لهف شديد، من تقارير التي كان يرسلها المبشرون والتجار من "المملكة الوسطى". ورأى أنه من الجائز أن يكون الصينيون قد وصلوا في الفلسفة والرياضة والطب إلى كشوف يكون فيها أكبر العون للحضارة الغريبة. وحث على إقامة روابط ثقافية مع روسيا، لتكون من ناحية، وسيلة لبدء الاتصال الثقافي مع الشرق. وتبادل ليبنتز الرسائل مع الباحثين ورجال العلوم ورجال السياسة والحكم في عشرين بلداً بثلاث لغات. وكتب نحو ثلاثمائة رسالة في العام. و 15 ألفاً منها محفوظة (86). وقد تنافسه رسائل فولتير من حيث الكم، لا من حيث التنوع الفكري. واقترح ليبنتز ندوة عالمية ثقافية يتبادل رجال العلم والمعرفة عن طريقها، أفكارهم وآراءهم ويعرضونها للبحث والمقارنة (87)، وعمل على إيجاد لغة عالمية-"حروف عالمية" يكون فيها لكل فكرة في الفلسفة والعلوم رمزاً وحرف خاص، حتى يتمكن المفكرون من معالجة هذه الأفكار بهذه المجموعة من الرموز، مثلما استخدم الرياضيون العلامات للكميات. وبهذا اقترب من تأسيس المنطق الرياضي والرمزي (88). وبشيء من هذا العبث اللطيف وزع ليبنتز نفسه بين مجالات كثيرة إلى حد أنه لم يكن يترك وراءه إلا قصاصات أو شذرات.
ولم يجد فيلسوفنا الشغوف بالعلم المتعدد جوانب المعروفة فسحة من الوقت للزواج. وأخيراً وهو في سن الخمسين فكر في الزواج،(34/184)
ولكن، كما يقول فونتنيل "أمهلته السيدة التي طلب يدها، لتدبر الأمر، وحيث تهيأت له فرصة لإعادة النظر في الموضوع، فإنه لم يتزوج قط (89) ". وبعد جولاته وتحليقاته في الدبلوماسية طوى نفسه على دراساته معتزاً بالعكوف عليها في عزلة. أن الرجل الذي كان قد نقب بذهنه في نصف العالم، باعد الآن بينه وبين أصدقائه. وتفرغ للقراءة والكتابة، حتى أثناء الليل. وقلما تنبه لأيام الآحاد أو العطلة. ولم يكن لديه خادم، وكان يبعث في طلب وجبات الطعام من الخارج، وتناولها وحيداً في غرفته (90). فإذا غادرها يوماً، كان ذلك من أجل القيام ببعض الأحداث، أو لمتابعة مشروعاته من أجل النهوض بالمعرفة أو العلوم أو خلق جو من التفاهم.
وراوده حلم إنشاء أكاديميات في العواصم الكبرى، ونجح في واحدة منها، فأسست أكاديمية برلين (1700) بناء على مبادرته، وانتخبته أول رئيس لها. وقابل بطرس الأكبر في تورجو
(1712)، ثم في كار لسباد وبيرمونت، واقترح أكاديمية مماثلة في سانت بطرسبرج، وحمله القيصر بالهدايا، وتبنى اقتراحه في حكم روسيا عن طريق "وحدات" إدارية، ولكن ليبنتز، لم يعمر حتى يرى أكاديمية سانت بطرسبرج صرحاً قائماً في 1724. ونلتقي به في 1712 في فيينا متلهفاً للحصول على منصب إمبراطوري، حاملاً معه مشروع أكاديمية أخرى. وقدم لشارل السادس خطة لإنشاء معهد لا يقتصر على العلوم، بل يضم التربية والزراعة والصناعة، وعرض خدماته لإدارة المعهد. ورفعه الإمبراطور إلى مرتبة النبلاء، وعينه عضواً في المجلس الإمبراطوري (1712).
وأغضب طول تغيبه عن هانوفر الناخب الجديد جورج. وقطع راتبه فترة من الزمن وأنذر بأنه قد آن الأوان بعد مضي ربع قرن من التعويق والتسويف، للانتهاء من كتابه عن تاريخ أسرة برنزويك. وعند وفاة الملكة آن غادر جورج هانوفر ليتسلم عرش إنجلترا. وبعد ثلاثة أيام من هذا الرحيل، وصل ليبنتز من فيينا 1714. وكان يأمل في أن يذهبوا به إلى لندن حيث ينعم هناك بمنصب أرفع ورواتب أكبر، وبعث إلى الملك الجديد برسائل يسترضيه فيها. ولكن جورج رد بأنه من الخير أن يبقى ليبنتز في هانوفر حتى ينجز الحوليات (91).(34/185)
ناهيك بأن إنجلترا لم تكن غفرت له نزاعه مع نيوتن حول أيهما وضع حساب التفاضل والتكامل.
واستبد به اليأس والوحدة، وعاش عامين آخرين كافح فيهما من أجل الإيمان بحسن نية الكون ومقاصده، أن الرجل الذي عرفوه في القرن الثامن عشر بأنه رسول التفاؤل قضى نحبه متأثراً بداء النقرس وحصاة الكلى في هانوفر، وفي 14 نوفمبر 1716. ولم تحفل بموته أكاديمية برلين، ولا رجال الحاشية الألمان في لندن، ولا أي من أصدقائه في البلد، ولم يحضر أحد من رجال الدين للقيام بالطقوس الدينية للفيلسوف الذي كان يدافع عن الدين ضد الفلسفة. ولم يشيع جنازته إلا رجل واحد، هو سكرتيره السابق، وكتب اسكتلندي كان آنذاك في هانوفر "ووري ليبنتز التراب أقرب شبهاً بلص، منه بما كان عليه حقاً: درة في جبين بلاده ومفخرة لها (92) ".
وجدير بنا ألا نشغل الصفحات ببيان أوجه الخلل والنقص في هذا الركام المتعدد الأشكال من الأفكار، فقد قام الزمن منذ عهد بعيد بهذه المهمة الثقيلة. واتهم النقاد ليبنتز بسرقات كثيرة واضحة في كل ما كتبه أو قال به. وعثروا على علم النفس الذي جاء به أفلاطون، والعدل الإلهي عند الفلاسفة السكولاسيين، والمونادات عند برونو، والميتافيزيقيا والأخلاق وعلاقة الذهن بالجسم عند سبينوزا، ولكن من الذي يستطيع أن يقول عن هذه المسائل شيئاً غير ما قيل منذ مائة عام. أن لأيسر أن يكون المرء أصيلاً وأحمق من أن يكون أصيلاً وحكيماً. وهناك ألف من الأخطاء المحتملة في كل حقيقة ولم يستنفذ الجنس البشري بعد كل الإمكانات مع ما بذل من جهود ومحاولات. وهناك هراء كثير في ليبنتز، ولكنا لا نستطيع الجزم بأنه كان هراء أميناً، أو أنه كان تغييراً وقائياً في اللون، أنه يقول لنا بأنه الله حين خلق الدنيا رأى سبحانه في ومضة، كل ما كان سيحدث في أدق تفاصيله (93). وقال "أنا دائماً أبداً فيلسوفاً، ولكني دائماً انتهي رجلاً من رجال اللاهوت (94) ". أي أنه أحس أن الفلسفة تخطئ هدفها إذا لم تؤد إلى الفضيلة والتقوى.
وهيأ له حواره الطويل الذكي مع جون لوك واحداً من ادعاءاته(34/186)
الكثيرة، إلا وهو ادعاء الفكر الثاقب ذي القيمة والأهمية. وربما بالع في الفطرية "الأفكار الفطرية"، ولكنه سلم بأنها قدرات أو مواهب أو استعدادات، وليست أفكاراً وأفلح في إظهار أن المذهب الحسي عند لوك كان قد بالغ في تبسيط عملية المعرفة، وأن "الذهن" بطبيعته-إذا كان خالياً فجاً عند الولادة-إنما هو عضو للاستقبال الفعال للأحاسيس ومعالجتها وتحويلها، وهنا، يقف ليبنتز، كما يقف في آرائه عن المكان والزمان، شامخاً، مبشراً بكانت. واكتنفت الصعوبات نظرية المونادات (إذا لم تكن ممتدة، فكيف يتسنى لأي عدد منها أن يحدث امتداداً؟ وإذا كانت "تدرك" الكون إدراكاً حسياً فكيف يكون لديها مناعة ضد أي تأثير خارجي؟)، ولكنها كانت محاولة بارعة أن يجتاز الهوة بين الذهن والمادة، حين جعل المادة عقلية، ولم يجعل الذهن مادياً، وأخفق ليبنتز بطبيعة الحال في التوفيق بين الآلية والتدبير في الطبيعة، أو بين الآلية في الجسم والحرية في الإرادة. وكان فصله بين الذهن والجسم من جديد، بعد أن كان سبينوزا قد وحد بينهما في عملية ذات جانبين، خطوة إلى الوراء في الفلسفة. وكان زعمه أن هذا أفضل العوالم الممكنة مسعى حميداً مشجعاً مفعماً بالأمل، من جانب رجل البلاط، للتسرية عن ملكة، أن أعلم الفلاسفة (أكاديمية بأسرها في شخصه-كما قال عنه فردريك الأكبر) كتب لاهوتاً، كأن شيئاً لم يحدث في تاريخ الفكر منذ سانت أوغسطين. ولكن مع كل مواطن الضعف فيه كانت إنجازاته في العلوم والفلسفة ضخمة. وكان محباً لوطنه ومع ذلك "أوربياً صالحاً"، فأعاد إلى ألمانيا مكاناً مرموقاً في تنمية الحضارة الأوربية وتطويرها. وكتب فردريك الثاني "من كل الذين رفعوا من شأن ألمانيا، قام توماسيوس وليبنتز بأجل الخدمات للروح الإنسانية (95) ".
وضعف تأثير ليبنتز عندما قلت قيمة لاهوته أمام الوعي الأخلاقي عند الناس، وعلى مدى جيل بعد وفاته أعاد كريستيان فون ولف صياغة فلسفته صياغة مرتبة. وفي هذا الشكل المعدل أصبحت النمط الفكري السائد في الجامعات الألمانية. وكان أثره خارج ألمانيا يسيراً. ولو أن معظم كتاباته كانت باللغة الفرنسية، فإنها كانت عبارة عن قصاصات لا تشكل عملاً قوياً متماسكاً أو مركزاً. ولم تظهر حتى 1868 أية طبعة تجمعها، بل أنه في تلك السنة أيضاً استبعدت بعض الفقرات(34/187)
الهامة، ولكنها كانت مشوبة بالهرطقة، وكان لزاماً أن تنتظر حتى 1901 لتطبع. وكتب الفوز للرموز التي وضعها لحساب التفاضل والتكامل، ولكن لمدة نصف قرن حمل منافساه نيوتن ولوك كل شيء أمامهما، وأصبحا معبودي عصر الاستنارة في فرنسا. ولكن حتى وسط نشوة العقل هذه، قدر بوفون أن ليبنتز أعظم عبقرية في عصره (96). أما المفكر الألماني اللامع في القرن العشرين أوزوالد شبنجلر فقد اعتبر ليبنتز "أعظم عقل في الفلسفة الغربية بلا منازع (97) ".
ولكي تنظم هذه الذرى جميعاً في عقد واحد، يمكن القول في جملة واحدة بأن القرن السابع عشر كان أخصب حقبة في تاريخ الفكر الحديث. فهنا في بيكون وديكارت وهوبز وسبينوزا ولوك وبيل وليبنتز، كانت سلسلة متعاقبة من رجال حميت صدورهم بخمرة العقل، واثقين ابتهاج بأنهم (أو معظمهم) استطاعوا أن يفهموا الكون، حتى إلى حد تكوين فكرات "واضحة متميزة" عن الله، وإلى حد أنهم جميعاً-فيما عدا الأخير-قادوا تلك الاستنارة الذكية العارمة التي كان لزاماً أن تهز الدين والحكومة كلتيهما معاً هزاً عنيفاً في الثورة الفرنسية. وتنبأ ليبنتز بهذه النهاية، وعلى حين ظل الآخر لحظة يدافع عن حرية الكلام (98). فإنه حث المفكرين الأحرار على التفكير في أثر كلماتهم الملفوظة أو المكتوبة على أخلاق الناس وروحهم وفي "الأبحاث الجديدة" حوالي سنة 1700 كتب تحذيراً رائعاً:
إذا كان الإنصاف يقتضي الإبقاء على المفكرين الأحرار، فإن التقوى تقتضي إبراز الآثار السيئة لمبادئهم وتعاليمهم، كلما أمكن ذلك، إذا كانت تتعارض مع الإيمان بتدبير إله بالغ الكمال في الحكمة والخير والعدل، وتتعارض مع خلود الأنفس، ذلك الإيمان الذي يجعلهم سريعي التأثر والحساسية لآثار عدالته، فلا يتحدثون عن آراء خطرة بالنسبة للأخلاق والشرطة. وإني لأعلم أن رجالاً ممتازين يتسمون بحسن النية يرون أن لمثل هذه الآراء النظرية على السلوك والممارسة أثراً أقل مما يظن. كما أعلم أيضاً أن هناك أشخاصاً ذوي ميول طيبة فلا تحدوهم مثل هذه الآراء إلى الإتيان بأي شيء غير جدير بهم ... وقد يقال بأن أبيقور(34/188)
وسبينوزا عاشا حياة مثالية تماماً، ولكن هذه الدواعي غلباً ما تنقطع في تلاميذهم ومقلديهم الذين يطلقون، اعتقاداً منهم بأنهم تخلصوا من الخوف المزعج من عناية إلهية متربصة مراقبة، ومن الخوف من المستقبل ينذر بالويل والثبور-يطلقون العنان لشهواتهم البهيمية وأهوائهم الوحشية، ويصرفون أذهانهم إلى إغواء الآخرين وإفسادهم. وإذا استبد بهم الطموح والطمع، أو كانوا ذوي ميول جافية نوعاً ما، فقد يسوغون لأنفسهم، رغبة في البهجة والسرور أو التقدم والرقي، أن يشعلوا النار في أربعة أركان المعمورة. لقد عرفت هذا من طبيعة وخلق بعض من طواهم الردى، وإني لأجد كذلك آراء شبيهة، تندس، شيئاً فشيئاً إلى أذهان رجال من ذوي المكانة الرفيعة المتلافين الذين يحكمون الناس ويتحكمون في مصائر الأمور، كما تندس في الكتب العصرية، وهي آراء تنزع بكل شيء إلى الثورة العامة التي تهدد أوربا (99).
وإنا لنلمح في ثنايا هذه السطور روح القلق الموسوم بالإخلاص، وينبغي أن ننظر بالتقدير والإجلال إلى نصيحة التحذير التي تعبر عنها. ومع ذلك فإنه بعد أن محقت الاستنارة كل المذاهب الدينية، وأشعلت الثورة الفرنسية النار بشكل عابر، استطاع مؤرخ كبير أن ينظر إلى الوراء، إلى هذا العصر الأول من عصور العلوم والفلسفة الحديثة، ويرى في المغامرين فيه، لا مدمرين للحضارة، بل محررين للجنس البشري، قال لكي Leeky
هكذا درب معلمو القرن السابع عشر العظام ... أذهان الناس ونظموها من أجل البحث والتحقيق المجردين غير المتحيزين، وفجروا، بعد أن حطموا التعويذة التي شلت حركتهم زمناً طويلاً، ينبوعاً من الحب الخالص للحقيقة التي أحدثت ثورة وتغييراً في كل جوانب المعرفة. وإلى هذا الدافع الذي انتقل آنذاك، يمكننا أن نتعقب حركة حاسمة كبيرة جددت كل التاريخ. وكل العلوم،(34/189)
وكل اللاهوت-وهي حركة نفذت إلى أخفى الأعماق، مدمرة الحزازات القديمة، مبددة الأوهام، معيدة ترتيب .... معرفتنا، مغيرة كل مدى وطبيعة تعاطفاتنا واهتماماتنا وربما كان ضرباً من المحال أن يتم كل هذا لولا انتشار روح عقلانية (100).
وهكذا من حسن الحظ أو لسوء الحظ، وضع القرن السابع عشر أسس الفكر الحديث. ولقد كانت النهضة مقيدة بالآراء القديمة التقليدية والطقوس الكاثوليكية والفن الكاثوليكي. وكان الإصلاح الديني مرتبطاً بالمسيحية البدائية وعقيدة العصور الوسطى. أما هذه الحقبة الغنية الحاسمة، من جاليليو إلى نيوتن، ومن ديكارت إلى بيل، ومن بيكون إلى لوك، فقد ولت وجهها شطراً مستقبل غير معلوم بشر بكل أخطار الحرية، وهي حقبة استحقت ربما حتى أكثر من القرن الثامن عشر أن تسمى "عصر العقل، لأنها على الرغم من أن المفكرين فيها ظلوا أقلية ضئيلة، فإنهم أظهروا اعتدالاً أحكم، وسبراً أعمق لأغوار العقل والحرية، وما يكتنفهما من مشاق، من أبطال الاستنارة الفرنسية الذين فك وثاقهم. ومهما يكن من أمر فإن المسرحية الكبرى في التاريخ الحديث، كانت قد مثلت فصلها الثاني، وقاربت نهايتها.(34/190)
الكتاب الخامس
فرنسا تواجه أوربا
1683 - 1715(34/192)
الفصل الرابع والعشرون
غروب الشمس
1 - مدام دي مينتنون
بعد وفاة "ماري تريز" (30 يوليه 1683) كانت الملكة المتوجة لفرنسا "الأرملة سكارون" المركيزة دي مينتنون، مربية أبناء الملك غير الشرعيين، وسرعان ما أصبحت (يناير 1684؟) زوجته غير المتكافئة والتي لا ترث عرشه، وكانت منذ ذلك التاريخ ذات أكبر نفوذ شخصي طيلة حكمه.
ومن العسير اليوم أن نعرف حقيقة خلقها، ولا يزال المؤرخون يختلفون عليه. وكان لها أعداء كثيرون كرهوا صعودها وقوتها. وكتب بعضهم التاريخ وأسلمها إلينا وغداً أنانياً ماكراً مدبراً للمكائد. ومهما يكن من أمر، فإنها حين كان من الميسور لها أن تحل محل مدام مونتسبان "خليلة الملك"-بكل ما يأتي به هذا من نفوذ وسيطرة-أبت، وبدلاً من ذلك، حرضت الملكة آنذاك في الثانية والأربعين من العمر، أصغر من دي مينتنون بثلاثة أعوام، ولم يكن ثمة ما يبر توقع موتها الباكر. وظاهر أن المركيزة، في هذه الآونة، آثرت الفضيلة على السيطرة والنفوذ، وعندما اختطفت يد المنون الملكة ظلت المربية على رفضها أن تكون خليلة، وسعت وراء أهداف عليا، مغامرة بوظيفتها الحالية. وإذا كانت فضيلتها طموحاً فإنها لم تتلطخ به أكثر ما تلطخ به تواضع عانس متعلقة ليس لها أمناً إلا مفاتنها تساوم بها من أجل حياتها، وتظن أن مضاجعة ليلة واحدة أقل أمناً من خاتم العرس. ولما تزوج لويس من مينتنون كان عمرها ثمانية وأربعين عاماً. ورسمها مينارد عقيلة لطيفة جاوزت مرحلة الإغراء أو الفتنة الجسدية، وكانت في أحسن الأحوال تقية مخلصة في تقواها، وفي أسوأ الأحوال قامرت مقامرة جريئة وكتب لها الفوز.(34/193)
وخصص لها آنذاك مسكناً قريباً من مسكن الملك، فعاشت في قصر فرساي في بساطة برجوازية تقريباً. "كانت حياة البلاط تضايقها، ولم تجد لذة في التباهي والتفاخر (1) ". ولم تجمع ثروة، وحتى في قمة سعود نجمها لم تكن تملك إلا القليل إلى جانب قصر مينتنون الذي تركته غير مؤثث ولم يستخدم. ويقال أن لويس، في أعوامها الأخيرة، قال لها يوماً "ولكنك يا سيدتي لا تملكين شيئاً، وإذا ما مت فستكونين فقيرة خاوية الوفاض، خبريني ماذا يمكن أن أفعل من أجلك؟ ". فطلبت بعض الامتيازات والرعاية المتواضعة لذوي قرباها، ومبالغ كبيرة من المال لمشروعها الأثير لديها: الكلية التي أسست 1686 في سان سير لبنات الأسرات الكريمة اللاتي أفنى عليها الدهر. ولم يكن خيلاؤها بل خيلاء الملك هو الذي جند الرجال وخصص الأموال لقناة الماء التي لم يتم بناؤها، والتي حملت أسمها.
وكانت دي مينتنون، من نواح كثيرة، زوجة صالحة. وكان شغلها الشاغل في يوم حافل أن تقف حائلاً بين الملك وبين العالم، وأن تحافظ على السلام والهدوء، وسط أطماع أفراد البلاط ودسائسهم، وتلاطف سرباً من الطامعين في المناصب، وتعمل خالة عطوفة لحفدة زوجها، وتفي بمتطلباتهم بوصفه رجلاً، وتواسيه في إخفاقه وهزائمه. وترفه "عن الرجل الذي من أصعب الصعب الترفيه عنه في مملكة بأسرها (3) "، وتخلق جواً من الهدوء المنزلي، في حياة كان لزاماً في كل ساعة تقريباً أن تتخذ فيها قرارات يتأثر بها مليون حياة. وفي أوراقها الخاصة التي وجدت بعد وفاتها، عثر على هذا الدعاء، وظاهر أنه كتب فور زواجها:
يا إلهي، لقد بوأتني هذا المكان الذي أنا فيه الآن، وإني لأترك نفسي رهن تدبيرك وعنايتك دون قيد أو شرط، امنحني النعمة الإلهية، حتى أستطيع، كمسيحية، أن أحتمل الآلام، وأقدس المسرة، والتمس في كل شيء مجدك، و .... أعاون على خلاص الملك، وحل بيني وبين الاستسلام لتهيجات ذهن قلق. ولتكن مشيئتك يا إلهي، مشيئتي، فإن السعادة كل السعادة، في هذه الدنيا وفي الآخرة هي موضوع لمشيئتك أنت دون تحفظ.(34/194)
اغمر نفسي بهذه الحكمة، وبسائر الهبات الروحية اللازمة لتلك المنزلة العالية التي وضعتني فيها. ولتجعلها مثمرة تلك القدرات التي طاب لك أن تمنحني إياها. يا إلهي، أنت يا من تمسك بين يديك قلوب الملوك، افتح قلب الملك حتى أصب فيه من الخير ما تشاء أنت سبحانك. أوعزني أن أسعده وأسره وأواسيه وأشجعه، بل حتى أن أزعجه وأحلب عليه الحزن إذا اقتضى الأمر تمجيداً لك. هيئ لي ألا أخفي عنه شيئاً يجدر أن يعلمه مني، مما لا يجد الآخرون في أنفسهم الشجاعة ليبلغوه إياه. هيئ لي أن أنقذ نفسي وأنقذه معي، وأن أحبه فيك ومن أجلك يا إلهي. وهيئ له أن يحبني بنفس الطريقة. هب لنا أن نسير معاً في ملكوتك دون لوم أو خزي حتى يوم قدومك (4).
وهذا الدعاء جميل قدر جمال أية رسالة من ألواز إلى أبيلارد، ونأمل أن يكون أصح وأصدق. ومثل هذا الدعاء يمكن أن يمنح القوة، بصرف النظر عن أية استجابة خارجية، وربما كانت ثمة إرادة خفية للسيطرة والسلطة في ثنايا الرغبة في إصلاح الآخرين وهدايتهم، ولكن السنوات الباقية من عمر مينتنون أثبتت أصدق تقواها وضيق أفق هذه التقوى معاً. يقول سان سيمون "لقد وجدت ملكاً يعتقد في نفسه أنه رسول أو حواري لأنه طيلة حياته يضطهد الجانسينة .... وهذا أوحى إليها بنوع الحب الذي تبذر به الحقل لتجني أعظم حصاد (5) ". (عرفت من أين تؤكل الكتف).
هو شجعت مينتنون على اضطهاد الهيجونوت؟ وهكذا يظن سان سيمون (6)، ولكن التحقيقات اللاحقة تميل إلى تبرئتها من هذه الوحشية التي كان بطلها عدوها اللدود لوفوا. ورأى فيها لورد أكتون، وهو مؤرخ كاثوليكي، نادراً ما كان مناصراً للكاثوليكية:
أعظم امرأة ثقافة وتفكيراً وإدراكاً. وكانت بروتستانتية من قبل. واحتفظت لأمد طويل بحماسة المرتدة وغيرتها. وكانت تعارض الجانسنية معارضة شديدة، وكانت تحظى بثقة أفاضل رجال الدين إلى حد كبير، وساد(34/195)
الاعتقاد بأنها شجعت الاضطهاد وحرضت الملك على إلغاء مرسوم نانت. وأبرزت رسائلها شواهد على ذلك. ولكن رسائلها كانت قد حرفت بواسطة محرر كان مزيفاً مشوهاً (7) (1).
أن مينتنون-مثل فنيلون، ومدام دي سفيني ومعظم الكاثوليك في ذاك العصر. أقرت إلغاء مرسوم نانت، ولكنها استخدمت نفوذها-بنجاح غالباً، كما يروي البروتستانتي ميشيليه-في وقف قساوة الاضطهاد أو الحد منها (8).
وحتى لا تطغي النزعة الرومانتيكية على إضفاء المثالية على المرأة، فتلون الصورة بألوان وردية زاهية، فلننظر إلى المركيزة من خلال آراء أخرى فيها تحامل عليها. أن كبرياء سان سيمون النابعة من لقب الدوق أو الدوقة، لم تكن لتغفر صعود البرجوازية الوضيعة إلى مرتبة سيدة فرنسا:
أن العوز والفقر اللذين عاشت في براثنهما لفترة طويلة قد ضيقا من أفق تفكيرها، وهبطا إلى الحضيض بقلبها وعواطفها. أن مشاعرها وأفكارها كانت محدودة، إلى درجة أنها كانت دائماً في الحقيقة أقل حتى من مدام سكارون ... وليس ثمة شيء أشد إثارة للنفور والاشمئزاز من منبت وضيع يتبوأ مكاناً متألقاً إلى هذا الحد (9).
ولكن الدوق نفسه وجد بعض المزايا والفضائل وسط أخطائها وعيوبها:
_________
(1) انظر جاك بولنجيه "القرن السابع عشر" نيويورك 1910 - ص243 من الواضح يكن لها أية علاقة بإلغاء مرسوم نانت"، ودائرة المعارف البريطانية بالمجلد 14 - 693 "لقد نسب إليها ظلماً وعدواناً إلغاء مرسوم نانت وحملات الاضطهاد والتعذيب الوحشية" وخلص فولتير منذ أمد بعيد إلى مثل هذا الرأي "أعمال فولتير"-نيويورك 1927 - الفصل 2 أ-ص 260.(34/196)
كانت مدام دي مينتنون امرأة على جانب كبير من الذكاء الذي احتملته الرفقة الطيبة التي عاشت بين ظهرانيها أولاً، ولكن تألقت فيها سريعاً، وصقلتها كثيراً وزودتها بزينة المعرفة الدنيوية، التي جعلتها الكياسة البالغة من أكثر ألوان المعرفة استساغة وقبولاً. وجعلتها المناصب المختلفة التي شغلتها مداهنة متملقة راضية تسعى دائماً إلى إرضاء الناس. أن حاجتها إلى الدسائس، وأولئك الذين التقت بهم من كل الأنماط، واختلطت بهم من أجل شخصها ومن أجل الآخرين، أضفوا عليها ذوقهم وعاداتهم. أن كياسة لا تضاهى وسلوكاً هيناً ليناً رضياً، ولكنه كدروس، يدعو إلى الاحترام، وكأنه نتيجة لطول خمول ذكرها قد أصبح أمراً طبيعياً بالنسبة لها، كل أولئك ساعد على تنمية مواهبها بشكل عجيب، إلى جانب لغة مهذبة محكمة حسنة للتعبير، فصيحة موجزة بشكل طبيعي. أما أسعد أيامها، حيث كانت تكبر الملك بثلاث أو أربع سنوات، فكانت فترة التودد ومطارحة الغرام والمغازلة الرقيقة .... وبعدها أحاطت نفسها بهالة من الأهمية وجلال الشأن. وتقلص ظل هذه تدريجياً لتحل محلها هالة من التقوى أحاطت بها نفسها بطريقة تدعو إلى الإعجاب. ولم تكن نزاعة إلى الخداع والغدر، ولكن الحاجة ألجأتها إلى أن تكون كذلك. وجعلها طيشها الطبيعي تبدو مخادعة ضعف ما هي عليه في حقيقة الأمر (10).
وأثار بعد الشقة في نفس ماكولي شيئاً من الشفقة، فنظر إلى مدام دي مينتنون نظرة أكثر اتساماً بالشهامة والاحترام، وربما أحس بأنه يمكن أن يغتفر الكثير لسيدة كانت "تمتاز بالفصاحة والإيجاز معاً:
أنها حين جذبت انتباه مليكها، لم تكن في وضع تستطيع معه أن تتيه عجباً بشبابها أو بجمالها، ولكنها، وبدرجة غير عادية، كانت تتمتع بتلك المفاتن الأبقى على الزمن، والتي يقدرها أعظم التقدير الرجال الذين يتحلون بحسن(34/197)
الإدراك في شريكة الحياة ... كانت دي مينتنون تتميز بعقل منصف، ومعين لا ينضب، ولكنه غير ممل إطلاقاً، من حديث عقلاني رقيق مرح، ومزاج لا يتكدر صفوه أبداً، ولباقة فاقت لباقة بنات جنسها، بقدر ما فاقت لباقة جنسها لباقة جنسنا نحن. تلك هي المناقب التي جعلت من أرملة المهرج في أول الأمر صديقة جديرة بالثقة، ثم زوجة لأقوى ملوك أوربا وأكثرهم غطرسة وغروراً (11).
وأخيراً نراها من خلال قلم هنري مارتن، وهو مؤرخ فرنسي غير مشهود له بالبراعة كثيراً:
كان ثمة توافق في الذهن والطباع بين الاثنين (المركيزة والملك)، وهو توافق قدر له أن يزداد على مر الأيام، كما أن جمالها الناعم المتناسق الرزين الذي زاد منه وقار طبيعي نادر، كان هو الجمال الذي يرضي لويس أساساً. وأحبت هي التأمل والبحث، وأحب هو العظمة والمجد. وكانت مثله متحفظة حذرة، ومع ذلك تفيض جاذبية ورقة. ولحديثها نفس السحر والفتنة، اللتين دعمتهما طويلاً بفضل خيال أخصب وتعليم ذي جوانب أكثر تعدداً. وكانت ذات شخصية تتميز بالأنانية واتخاذ التدابير القوية، ومع ذلك كانت أهلاً لعواطف متينة ثابتة وإن لم تكن حارة، وكانت في نفس الوقت أقل انفعالاً وأشد ثباتاً من الملك الذي لم يكن مخلصاً حقاً في الصداقة وفي الحب، إلا لها وحدها. ولكنها لم تعرف قط بم تضحي من أجل عواطفها، بمصالحها أو بهدوئها, وعلى النقيض من لويس الرابع عشر، كانت تهتم بالبسيط من الأمور، ولا تتسامح في عظائمها. أن طبيعتها الهادئة المفطورة على التأمل والتفكير، البعيدة عن الانفعالات والأوهام، ساعدتها على الدفاع عن الفضيلة غالباً كانت محصورة (12).
ومهما يكن من أمر، فلا بد أن هذه السيدة تحلت بمناقب جديرة بالإعجاب، حدث بملك مستبد إلى أن يختارها زوجة له، ويعهد إليها بالنظر في أدق شئون الدولة. وكان عادة يلتقي بوزرائه في حجرتها الخاصة، تحت سمعها وبصرها، وعلى الرغم من أنها كانت تجلس(34/198)
على مسافة معقولة منهم، تلتزم الصمت، حكمة وحزماً منها، منهمكة في أشغال الإبرة، كان لويس "أحياناً يتجه إليها ويسألها رأيها (13) " وأطلق عليها المتشككون "سيدة اللحظات الراهنة" مقدرين أنها لن تلبث حتى ينضم إليها المنافسات أو يجلينها عن مكانتها ليحللن محلها، ولكن على النقيض من ذلك، ظل الملك الزوج المحب الوفي لها حتى وفاته.
وعظم نفوذها عاماً بعد عام. وكان مقروناً بالخير والإحسان قدر ما سمحت به تقواها. وحاولت أن تحد من إسراف الملك وتبذيره، وأن تصرفه عن الحرب. ومن هنا كان عداء لوفوا لها. ووفرت دي مينتنون إعانات ملكية للصدقات والمستشفيات والأديار، ومساعدة النبلاء المفلسين، ومهور البنات (14) ولم يحظ بالترشيح للوظائف من جانبها إلا الكاثوليك الأخيار، وكست التماثيل العارية والصور الزيتية العادية التي ازدان بها قصر فرساي بالأستار أو النباتات المعترشة (15). وحولت كنيسة سان سير إلى دير (1693) أغلقت أبوابه بعد ذلك أمام العالم. وأصبحت هي نفسها راهبة في قصر، "كانت قعيدة القصر تقضي الساعات وحيدة، ومن ثم بدت وكأن لها قدماً في الدير (16) ".
وبدأ الملك بالسخرية من تقواها، وانتهى بتقليدها في هذا التواضع. وابتهج القساوسة المحيطون به ليروا مداومته على تأدية طقوس العبادة، ولكن زوجته كانت تفهمه فهماً جيداً، فقالت "أن الملك لا يخطأ موضعاً في الصليب، أو موقفاً للكفارة أبداً، ولكنه لا يستطيع أن يدرك الحاجة إلى الخشوع أو إلى إذلال نفسه حتى تتجلى فيه الروح الحقيقية للتوبة والندم (17) ". وكان البابا اسكندر الثامن راضياً على أية حال، وهنا مدام دي مينتنون على هداية الرجل الفرنسي الذي كان يوماً معادياً للبابوية، وربما زاد من تقوى الملك اعتلال صحته وضعف جسمه بعد 1680، ومعاناته من ناسور في الشرج، حيث ذكره هذا كله بأنه فان. وفي 18 نوفمبر 1686 استسلم لعملية أليمة، احتملها في شجاعة أملاها عليه وعيه الطبقي أو إدراكه أنه ملك لا ينبغي أن يخور أو يضعف. ولفترة من الوقت ابتهج الائتلاف المعادي لفرنسا للشائعات التي راجت بأنه على وشك أن يقضي نحبه (18). ولكنه بقي على قيد الحياة. وعندما قصد كنيسة نوتردام (30 يناير(34/199)
1687) ليقدم الشكر لله على شفائه، حيته كل فرنسا الكاثوليكية وابتهجت لإبلاله من مرضه وكأنه يوم عيد.
قال فولتير "ومنذ ذلك الوقت لم يذهب الملك إلى المسرح قط (19)، أن المرح المقرون بالوقار والعظمة، والذي كان يميز النصف الأول من حكمه، وقد ولى ليحل محله وقار ورزانة قاربتا أحياناً الصرامة القاتمة والتزمت، ولكنه سمح بين الحين والحين بشيء من الإفراط في النوم والطعام (20). وقد أضناه الإرهاق والتعب، وحيث شجعته مينتنون، فإنه أنقص من حفلات البلاط وعروضه، وأوى إلى حياة أكثر انعزالاً، قانعاً بألفة الحياة الأسرية التي عودته إياها زوجته. وظل مسرفاً في الإنفاق على القصور والحدائق، وظل مزهواً أبياً مثل صولجانه، حساساً مثل فكيه. وفي مارس 1686 أجاز لرجل متذلل خنوع من رجال الحاشية، فرنسوا دي أوبيسون دوق دي لافياد فيما بعد، أن يقيم له في "ميدان الانتصارات" تمثالاً يرمز إلى أنه "الرجل الخالد". على أننا يجب أن نضيف أنه عندما أراد أوبيسون أن يضع، وفاء بنذر، أمام التمثال مصباحاً يضاء ليل نهار، حظر عليه الملك افتراض الألوهية والقداسة بهذا الشكل المبتسر غير الجائز.
وضربت جماعة محدودة من الأرستقراطيين المخلصين، على رأسهم دوق ودوقة شفريز، ودوقتي بوفليير ومورتمار، وبنات كولبير الثلاث، ضربت حول الملك وزوجته "نطاقاً كريماً من الأتقياء" وكان كثير منهم متمسكين بأهداب الدين حقاً، كما نقل بعضهم عن مدام جويون طمأنينتها المتصوفة. وحوالي هذا الوقت ألف شاعر فرنسي غير معروف الترنيمة الذائعة الصيت والمعروفة باسم "المؤمنون الأخيار" وشارك بقية أفراد البلاط، الملك مزاجه الجديد، ظاهرياً فقط. وتخلوا عن اللهو والعبث، وكثيراً ما حضروا القداس وتناولوا القربان المقدس، وقل شيئاً فشيئاً ذهابهم إلى الأوبرا والمسرح اللذين هبطا آنذاك بسرعة من عليائهما على عهد للي ومليير، واستمر الصيد والقنص والمآدب الباذخة وحفلات الرقص، ولعب الورق بمبالغ ضخمة، ولكن في جو من الاعتدال تشوبه مسحة من الكآبة. وأخفى المعربدون الصاخبون والمفكرون الأحرار في باريس رؤوسهم، انتظار للثأر في ظل وصي(34/200)
يرقبون مجيئه بفارغ الصبر. ولكن شعب فرنسا ابتهج لقداسة مليكه، واحتمل الصمت، في الموت وفي الضرائب، أعباء الحرب المتزايدة.
2 - الحلف الأعظم
1689 - 1697
زادت الضرائب حتى بعد هبوط مستوى الرخاء والازدهار. وكان مشروع كولبير لتنظيم التجارة والصناعة بواسطة الحكومة، قد بدأ ينهار قبل موته (1683). لقد مات المشروع، من ناحية نتيجة لسوق الرجال من المزارع والمصانع إلى المعسكرات وميادين القتال، ولكنه انهار أساساً نتيجة الاختناق الذاتي: ذلك أن التنظيمات الحكومية عوقت النمو الذي كان يمكن أن يؤتي ثماره في ظل رقابة وقيود أخف، وفي ظل مزيد من الحرية للتنفس والتجريب والخطأ. ووجد حب العمل والمغامرة أنه مقيد بمتاهة من الأوامر والعقوبات. وضجت وتعثرت الكثرة من الناس والجشع المبدع الخلاق عند فئة قليلة منهم، تحت ضغط عبء ثقيل من القواعد، حتى هددت هذه الآلة بالتوقف. وما وافى عام 1685 حتى ترددت صيحة "أتركه يعمل"، قبل ظهور فرانسواكساني وترجو بخمسة وستين عاماً، وقبل ظهور آدم سميث بواحد وتسعين عاماً. وقال أحد أتباع لويس الرابع عشر "أن السر الأعظم يكمن في الطلاق الحرية الكاملة للتجارة. أن أصحاب المصانع لم يصابوا قط بمثل هذا الخراب والدمار في هذه المملكة إلا منذ فكرنا أن ندعمهم بقوانين من الدولة (21) ". وثمة عوامل أخرى أسهمت في هذا الانهيار. وذلك أن الهيجونوت الذين فروا من الاضطهاد، حملوا معهم مهاراتهم الاقتصادية، وفي بعض الأحيان مدخراتهم أيضاً. وعانت التجارة من رغبة الملك في الغزو والفتح، لا الاتجار. وعوقت الرسوم الأجنبية صادرات فرنسا انتقاماً من رسوم الواردات الفرنسية. وأثبت الإنجليز والهولنديون أنهم رجال بحر واستعمار من الغاليين (الفرنسيين) المتغطرسين النافذي الصبر. وأخفقت شركة الهند، وعوقت الضرائب الزراعة. وأفسدت العملة المزيفة مرفق المال، وشلت حركته وأحدثت فيه الاضطراب.(34/201)
ولم يكن ثمة وجه للمقارنة بين الوزراء الذين حملوا لويس الرابع عشر بعد وفاة كولبير. وبين أولئك الذين ورثهم عن ريشليو ومازاران. وتولى ابن كولبير، جان بابتست، مركيز سينلي وزارتي التجارة والبحرية، وتولى كلود بلتييه الشئون المالية، ولكن سرعان ما خلفه فيها لويس فيليبو سنيور دي بونتشارتران. أما لوفوا فقد بقي وزيراً للحربية. ولكن أرهب الوزراء الجدد ما جمع لويس الرابع عشر من مجد وسلطان، فقعد بهم الخوف عن اتخاذ أي قرار، واعتمد دولاب الحكومة على ذهن الملك المكدود المرهق. ولم يكن يتصرف بمحض إرادته إلا لوفوا، من أجل الحرب-ضد الهيجونوت، وضد الأراضي الوطيئة، وضد أي أمير أو شعب اعترض طريق فرنسا المتوسعة. وكان لوفوا قد أنشأ أحسن جيش في أوربا، ودربه على النظام والانضباط والبسالة، وزوده بأحدث الأسلحة، وعلمه الفن الرشيق في استخدام الحراب (1). فكيف يتيسر إطعام مثل هذه القوات والمحافظة على روحها المعنوية إلا إذا حاربت وانتصرت؟
ونظرت فرنسا إلى الجيش بعين الإعجاب والفخر، على حين استشاطت أوربا غضباً وارتعدت فزعاً لدى سماعها به. وفي مايو 1685، عندما طالب لويس الرابع عشر بجزء من أملاك ناخب البالاتين، ميراثاً يستحقه عن أخت الناخب المتوفاة شارلوت اليزابيث، دوقة أورليان آنذاك، تساءل أمراء الإمبراطور عجباً: ماذا عسى أن تكون كطالب الملك المغامر المعتدي بعد ذلك. وزادت حدة التوتر عندما ربط لويس بالفعل، كولون وهلدشيم ومنستر بفرنسا، بضمان انتخاب مرشحيه حكاماً أسقفيين لهذه البلاد (1686). وفي 6 يوليه انضم الإمبراطور الكاثوليكي ليوبولد الأول، والناخب الكاثوليكي مكسيمليان الثاني وأمانويل أمير بافاريا، إلى ناخب براندنبرج الأعظم البروتستانتي، وفي تكوين عصبة أوجزبرج للدفاع ضد أي هجوم على أراضيهم أو عدوان على دولهم, وكان الإمبراطور مشغولاً مع الأتراك
_________
(1) صنعت الحربة في مدينة بايون (جنوب فرنسا) في عام 1500. ولكن يبدو أنها استخدمت على نطاق واسع لأول مرة في ايبر (شمال غرب بلجيكا) 1647 (22).(34/202)
المتقهقرين، ولكن هزيمتهم في "موهاكز" الثانية (1687) وفي بلغراد (1688) أطلقت يد القوات الإمبراطورية للعمل على الجبهة الغربية للإمبراطورية.
وارتكب ملك فرنسا آنذاك أكبر خطأ في سجل حياته العسكرية. وكان حاكم هولندا يتوقع منه أن يجدد هجومه على هولندا، ولكن لويس، بدلاً من ذلك، قرر غزو ألمانيا قبل أن تتمكن القوات الإمبراطورية من الاحتشاد على جبهته. وفي 22 ديسمبر 1688 تقدمت قواته الرئيسية نحو الراين. ومع توجيه خاص متميز إلى الدوفين ذي السبعة والعشرين ربيعاً: "أي بني، إني إذ أبعث بك لتتولى إمرة جيوشي، إنما أهيئ لك كل الفرص لتثبت جدارتك، فاكشف عنها لكل أوربا، حتى إذا حان أجلي، لا يشعر أحد بأن الملك قد قضى نحبه (23) ". وفي 25 سبتمبر اجتاح الجيش الفرنسي ألمانيا. وفي غضون شهر واحد استولى على كايزرسلوترن، ونيوستاد، وورمز وبنجن ومينز وهيدلبرج. وفي 29 أكتوبر سقطت قلعة فيليبسبرج المنيعة، وفي 4 نوفمبر تقدم الدوفين المنتصر لمهاجمة مانهيم.
وربما كان في هذه الانتصارات بداية سقوط الملك، لأنها ورطت الملك في حرب طويلة الأجل ضد عدد متزايد من العداء، لقد حرروا هولندا من الخوف من غزو مبكر، وأقنعوا برلمان المقاطعات المتحدة بالموافقة على أن يغزو وليم الثالث إنجلترا ويعاونه على أعمال الغزو. وما أن وثق وليم من قوته حتى حول إنجلترا من بلد تابع لفرنسا إلى عدو لها. وعاهد رعاياه الجدد على الوقوف إلى جانبهم في الدفاع عن أوربا السياسية والدينية. وتردد برلمان إنجلترا، مرتاباً في أن وليم معني في الدرجة الأولى بإنقاذ هولندا، وهي أكبر منافس تجاري لإنجلترا، ولكن انتصارات فرنسا قوت من جديد حجة وليم.
وكان لوفوا قد استحث لويس على السماح له باكتساح البالاتينات وتخريبها حتى يحرم العدو المقترب من أية معونة محلية، ووافق لويس على كره منه. وفي مارس 1689 أعمل الجيش الفرنسي السلب والنهب وأحرق هيدلبرج ومانهيم ثم سبير، وورمز وأوينهايم وأجزاء من أسقفية ترييه ومنطقة بادن، حتى دمرت كل أراضي الراين الألمانية(34/203)
تقريباً. ووصف فولتير هذه الفظائع حيث استيقظ فيه ضمير "الرجل الأوربي الطيب":
كنا في قلب الشتاء. وما كان ينبغي للقواد الفرنسيين إلا أن يمتثلوا وبناء على ذلك أعلنوا لمواطني هذه المدن المزدهرة المنظمة أحس نظام، ولسكان القرى، ولأصحاب أكثر من خمسين قصراً، أن عليهم أن يغادروا مساكنهم التي سيعملون فيها النار والسيف، فأسرع الرجال والنساء والشيوخ والأطفال إلى الرحيل. وهام بعضهم على وجوههم في الريف، والتمس بعضهم مأوى في الأراضي المجاورة، على حين نهب الجنود المنطقة وأحرقوها، وبدءوا بمدينتي هيدلبرج ومانهيم، ومقار الناخبين، ودمرت قصورهم وبيوت المواطنين العاديين على السواء. وللمرة الثانية اجتاحت جيوش لويس الرابع عشر هذه البلاد الجميلة وخربتها, ولكن السنة النيران في المدينتين والعشرين قرية التي أحرقها تورين عندما اجتاح البالاتينات 1674، كانت شيئاً لا يذكر أو شرراً بسيطاً إلى جانب الحرائق في هذه المرة (24).
وتعالت الصيحات تطالب بالانتقام من ملك فرنسا في كل أنحاء ألمانيا والأراضي الوطيئة وإنجلترا ووصم الكتاب الألمان الجنود الفرنسيين بأنهم متوحشون (هون) مجردون من أية مشاعر إنسانية. ونعتوا لويس بأنه مسخ كافر مجدف همجي بالغ الهمجية. وعير المؤرخون الألمان الشعب الفرنسي بأنه تلقى حضارته من الفرنجة (أي الألمان) وأنه نقل جامعاته عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (أي الألمان كذلك) (25). وكان بيير جوريرو، أحد المنفيين في هولندا قد نشر هناك لفوره نقداً ساخراً عنيفاً تحت عنوان "منظر فرنسا المستعبدة"، ودمغ فيه لويس بأنه طاغية شديد التعصب، وأهاب بالشعب الفرنسي أن يطيح به، ويشكل ملكية دستورية. وردت الصحافة الفرنسية بتوجيه النداء إلى المواطنين ليقذفوا بهذه الشتائم فيوجه العدو، ويهبوا إلى إنقاذ مليكهم الشجاع المحبوب المحاصر. وفي 12 مايو 1689 انضمت إنجلترا إلى الإمبراطورية وأسبانيا والمقاطعات(34/204)
المتحدة والدنمرك وسافوي، في الحلف العظم الأول، الذي تعهد بالدفاع عن أي من أعضائه ضد أي عدوان خارجي. وكانت الحرب آنذاك حرب أوربا ضد فرنسا.
فكان جواب لويس على ذلك أنه زاد عدد جنوده إلى أربعمائة وخمسين ألفاً، وبحريته إلى مائة ألف، ولم تشهد أوربا قط من قبل مثل هذه القوات المسلحة. وصهر الملك كل ما لديه من أدوات فضية ليعاون الضرائب على دفع نفقات هذه الحشود الضخمة، وأصدر أوامره إلى كل الأفراد المرموقين وإلى كثير من الكنائس ليفعلوا مثل ما فعل، وأجاز لبوبنتشارتران أن يعيد سك الفضة وينقص قيمة العملة بمقدار 10%. وخلق الوزير مناصب جديدة، وأعاد وظائف قديمة كانت قد ألغيت، وباعها لطلاب الوظائف المفتونين بالألقاب، وقال للملك: "كلما خلقتم جلالتكم وظيفة خلق الله مغفلاً يشتريها (26) ".
وأشار سينلي على الملك بأن يأمر أسطوله بسلخ ايرلندا عن إنجلترا. وكان من الجائز أن يتم ذلك، ففي 30 يونيه 1690 هزم أمير البحر تورفيل بخمس وسبعين سفينة، أسطولاً إنجليزياً وهولندياً في بيتشي هيد بالقرب من شاطئ سسكس الغربي. ولكن لويس لم يرسل سوى ألفي جندي لمساندة جيمس الثاني في أيرلندا. وكان من المحتمل أن تكسب قوة أكبر معركة بوين (أول يوليه 1690)، وأن تشغل إنجلترا ومليكها الهولندي في أيرلندا، إلى حد يصعب معه الاشتراك في القتال في القارة. ولكن انتصار وليم الثالث مكنه من الذهاب إلى هولندا ليقود قوات إنجليزية وهولندية ضد الفرنسيين (1691)، وحاول لويس في 1692 غزو إنجلترا، وصدرت الأوامر إلى أسطول في تولون بالإبحار شمالاً لينضم إلى أسطول تحت إمرة تورفيل في برست وكان عليهما أن يقضيا على كل مقاومة من جانب الإنجليز، ويحملا ثلاثين ألف جندي عبر القنال الإنجليزي. ولكن عاصفة في جبل طارق عطلت مسيرة أسطول طولون، فأخفق في اللحاق بتورفيل الذي كان عليه أن يواجه وحده الأسطولين الإنجليزي والهولندي مجتمعين، وهزم في التحام حاسم عند لاهوج بالقرب من شربورج (19 مايو 1692). وتوقف غزو إنجلترا. وظلت إنجلترا سيدة البحار بعد هذه المعركة، ومطلقة اليد في الاستيلاء على مستعمرات(34/205)
فرنسا الواحدة تلو الأخرى. وحمى القنال إنجلترا حتى يومنا هذا.
وتابع الفرنسيون انتصارهم في البر، ولكن بأبهض التكاليف في العتاد والرجال. وفي إبريل 1691 استبد بهم الزهو والغرور إلى حد الجنون أمام مليكهم حين حاصروا واستولوا على هونز الحصينة. وقضى لوفوا نحبه في 7 يوليه، ولكن الملك لم يأسف كثيراً على تخليصه من وزير حربيته الذي كان ينتهج سياسة العدوان، ورأى منذ ذلك الوقت أن يتولى توجيه السياسة العسكرية بنفسه. واتبع تقليداً فرنسياً قديماً حين عهد بمنصب لوفوا إلى ابنه، وكان شاباً لطيفاً سهل الانقياد في الرابعة والعشرين من العمر-مركيز باربيزييه. وفي يونيه 1692 قاد لويس قواته بنفسه للاستيلاء على نامور. ثم ترك القيادة لدوق دي لكسمبرج وعاد ليرشف خمرة المجد والنصر في فرساي. وفاجأ وليم الثلاث الدوق في ستينكرك في يوليه، ودارت الدائرة على الفرنسيين في أول الأمر، ولكنهم أعادوا تنظيم صفوفهم واستعادوا شجاعتهم بفضل توجيه قائدهم الذي كان قدوة حسنة لهم، وكان مريضاً ولكنه كان لا يقهر، فكانت الغلبة للفرنسيين مرة أخرى، ولو لأنهم حققوها بثمن غال، وهناك قاتل في طليعة الجيش فيليب الثاني دي أورليان الوصي على عرش فرنسا في المستقبل، والذي لم يبلغ آنذاك الخامسة عشرة من العمر، فأصيب بجرح ثم عاد فاستأنف القتال. وهناك أظهر لويس الشاب، ودوق دي بوربون كونديه (حفيد كونديه الأكبر) الذي عرك الحرب في ثلاثة حصارات، وفرانسوا لويس دي بوربون وأمير كونتي، ولويس جوزيف دوق فندوم (ابن حفيد هنري الرابع) وكثير غيرهم من نبلاء الفرنسيين-أظهر هؤلاء جميعاً من ضروب البسالة والشجاعة والشهامة ما جعلهم، على الرغم من حياتهم المترفة الخاملة زمن السلم، معبودات في نظر شعبهم زمن الحرب، ونماذج حتى لأعدائهم، حتى لقد تساءل متعجباً أحد أسراهم وهو الكونت سالم: "أية أمة أنتم: أشد الأعداء بأساً ورهبة في الحرب، وأكرم الأصدقاء عند النصر (27) ".
وبعد ذلك بعام واحد هزم نفس الجيش تحت إمرة نفس القائد، وليم في نيروندن بالقرب من بروكسل، وهنا أيضاً كان عدد القتلى ضخماً0عشرون ألفاً من الحلفاء وثمانية آلاف من الفرنسيين. ومهما(34/206)
يكن من أمر الهزائم التي مني بها وليم، فإنه ظهر على رأس جيش جديد وتوافرت لديه أموال جديدة. فاسترد نامور في أغسطس 1694، واكتشفت فرنسا أنها بعد خمس سنوات أريقت فيها الدماء، عجزت عن غزو حتى الأراضي الوطيئة الأسبانية. وانتصرت جيوش فرنسية أخرى في أسبانيا، ولكنها وجدت من العسير عليها الاحتفاظ بثمرات انتصاراتها أمام أعداء خرجوا عليها من كل جانب، وقد استكملوا ما ظهر لديهم من نقص في العتاد والرجال، وفي يوليه 1694 أبحر أسطول إنجليزي لمهاجمة برست. وكان بعض الأصدقاء في إنجلترا (من بينهم كما يقال مالبرو نفسه (28)) قد أبلغوا جيمس الثاني عن هذه الخطة سراً، ومن ثم فإن الفرنسيين الذين أنذروا بها من قبل، نصبوا المدافع على الشاطئ عند برست، وصدوا الإنجليز عنها بعد أن تكبدوا خسائر فادحة.
وفي يناير 1695 قضى مارشال دي لوكسمبرج نحبه، فلم يعد مع لويس الرابع عشر إلا قواد من الدرجة الثانية، أن الحلفاء نادراً ما وطئت أقدامهم أرض فرنسا، ولكن فرنسا نفسها كانت تحس بوطأة حرب من نوع جديد، لم يكن يحارب فيها مرتزقة مأجورون، بل أمم بأسرها جندت لينافس بعضها بعضاً في القتل والتنكيل. وحتى في الوقت الذي كان الشعب الفرنسي يهتف لقواده وأبطاله ويهلل لهم ويحي انتصاراتهم، فإنه، وقد أثقلت الضرائب كاهله بشكل لم يسبق له مثيل، قارب حد الاستنزاف جسداً وروحاً. وانضم القحط إلى الفقر والعوز في 1694 فكان ضغثاً على إبالة. وفي أبرشية واحدة مات 450 شخصاً جوعاً (29) وكان الاقتصاد القومي على شفا الانهيار. وعمت الفوضى وسائل النقل، حيث توقف تقريباً إصلاح الجسور والطرق أثناء الحرب. واختنقت التجارة الداخلة نتيجة المكوس التي كانت تجبى في مائة موقع عبر الأنهار أو في البر. وكانت التجارة الخارجية قد شلت حركتها نتيجة لرسوم الصادرات والواردات. وكادت الآن تكون متعذرة تماماً لوجود أساطيل الأعداء والقرصان. وساءت أحوال أولئك الذين كانوا يعتمدون على صيد الأسماك والتجارة على الشواطئ. ونضبت موارد مئات من المدن بما كانت تقدم من معونة ومؤونة للفرق العسكرية التي تنزل بها، وهبط الفقر والقحط والمرض والحرب بعدد سكان فرنسا من نحو 23(34/207)
مليوناً في 1670 إلى نحو 19 مليوناً في 1700 (30). وفقدت محافظة تورين ربع سكانها. ولم يبق من سكان العاصمة تور إلا 33 ألفاً من 80 ألفاً كانوا يقطنونها في عهد كولبير. وهاك نموذجاً من تقارير المحافظين والحكام من مختلف أقاليم فرنسا في أخريات القرن السابع عشر:
أن هذه المدينة التي كانت ف يسابق أيامها غنية مزدهرة، باتت الآن بلا صناعة ... وكان في هذا الإقليم مصانع كثيرة، ولكنها اليوم هجرت .... وكانت الأرض تدر في سابق الأيام أكثر مما تفعل الآن، ومنذ عشرين عاماً كانت الزراعة أكثر ازدهاراً بشكل غير محدود. وتناقص السكان بمقدار الخمس في السنين الثلاثين الأخيرة (31) ...
وفي 1694 وجه فنيلون، الذي سيصبح عما قريب رئيس أساقفة كمبراي، إلى لويس الرابع عشر خطاباً غفلاً من التوقيع، يعد أبلغ تعبير عن الروح الفرنسية:
مولاي، أن هذا الذي يسمح لنفسه أن يكتب إليك هذه الرسالة، ليس له مصلحة دنيوية، ولا يكتب بدافع اليأس ولا الطمع، ولا بدافع الرغبة في التدخل في أمهات المسائل. أنه يحبك دون أن يكون معروفاً لديك، ويرى الله في شخصك .... أنه لا يبالي بأي أذى يحتمله عن طيب خاطر، في سبيل إدراكك للحقائق الضرورية لخلاصك. ولا تدهش إذا وجه إليك حديثاً شديد اللهجة، فما ذاك إلا لأن الحق حر وفوي، ولو أنك لم تألف سماعه. ويخطئ الذين تعودوا الملق والنفاق، فيظنون الحق الصراح الخالص استياءً أو مرارة أو إفراطاً ومبالغاً. وقد يكون خيانة للحق أن نحجبه عنك. والله خير شاهد على أن الذي يحدثك الآن، إنما يفعل ذلك بقلب عامر بالغيرة والحماسة وبالإجلال والثقة والإخلاص، لكل ما فيه مصلحتك الحقيقية ...
أن كبار وزرائك، طيلة الثلاثين عاماً الماضية، قلبوا المبادئ الأساسية والقواعد العامة في الدولة، حتى يرفعوا(34/208)
من شأنك ويزيدوا من سلطانك إلى أقصى حد، لأن هذه السلطة كانت في أيديهم. ولم يرتفع صوت بالكلام عن الدولة وقوانينها، بل تحدث الجميع عن الملك ووسائل إرضائه. وزادوا في مواردك وفي نفقاتك بغير حدود، أنهم رفعوك إلى السماءين حتى تمحو، كما يقولوا، آثار عظمة أسلافك مجتمعين. ولكنهم في الواقع أفقروا فرنسا بأسرها، ليمتعوا البلاط بترف رهيب لا شفاء منه. أن هؤلاء الوزراء أرادوا أن يرفعوك على أنقاض كل طبقة في الدولة، وكأنما يمكن أن تكون عظيماً حين تدمر كل رعاياك الذين يعتمد عليهم مجدك وعظمتك. إنك حقاً حريص على الاحتفاظ بسلطانك .. ولكن الواقع أن كل وزير سيد متصرف في نطاق اختصاصه، وكانوا قساة متغطرسين ظالمين غلاظاً ضعيفي الإيمان. ولم يعرفوا في الشئون الداخلية والخارجية إلا مبدأ واحداً، هو التهديد والوعيد، أو القضاء على كل ما يقف في طريقهم وتدميره. لقد عودوك على أن تتلقى دوماً أعظم المدح والثناء، مما يقارب عبادة الأوثان تأليهاً لك، ما كان يجدر بك أن تأباه سخطاً وازدراء، من أجل شرفك وكرامتك أنت. ولقد جعلوا اسمك كريهاً بغيضاً. والأمة الفرنسية بأسرها غير محتملة لدى الشعوب المجاورة. ولم يحتفظوا بأي من حلفائك القدامى، لأنهم لم يريدوا إلا عبيداً أرقاء. وكانوا طيلة عشرين عاماً، سبباً للحروب الدامية-التي لم يكن من دافع لها إلا المجد والانتقام .... أن كل التوسع الذي أتت به الحروب كان غصباً وظلماً. أنك أردت دوماً أن تملي الصلح وتفرض الشروط، بدلاً من تسوية الأمور في شيء من الاعتدال. وهذا هو السبب الذي من أجله لم يدم أي صلح طويلاً. ولم يكن أعداؤك الذين هزمتهم ولطختهم بالعار والخزي، يفكرون إلا في شيء واحد، هو أن ينهضوا من جديد، ويوحدوا أنفسهم ضدك. هل في هذا ما يدهش؟ أنك لم تتمهل قط في نطاق شروط الصلح التي أمليتها في زهو وخيلاء، وفي زمن السلم قمت بحروب وفتوحات هائلة .. ومثل هذا التصرف(34/209)
أثار كل أوربا ووحدها ضدك.
وفي نفس الوقت، فإن شعبك الذي كان يجدر بك أن تحبه حبك لأبنائك، والذي ظل حتى هذه اللحظة مخلصاً لك، يموت جوعاً. لقد تخلوا تقريباً عن زراعة الأرض. وهبط عدد السكان في المدن والريف، وانحطت الصناعة فلم تعد تفي بحاجيات العمال. وانهارت التجارة بأسرها. إنك استنزفت نصف ثروة الأمة وحيويتها للقيام بفتوحات عقيمة في الخارج والدفاع عنها. أن كل فرنسا عبارة عن مستشفى ضخم مقفر بائس تنقصه المؤن. والحكام مرهقون محتقرون، وتتزايد الثورات الشعبية التي لم نعهدها منذ زمن طويل، ولا يستثنى من ذلك باريس القريبة منك جداً. ولزام على موظفيها أن يحتملوا وقاحة العصاة والثائرين. وينثروا عليهم الأموال ليهدئوا من روعهم. لقد انحط بك الحال إلى النتيجة المؤسفة المخزية، وهي التراخي في عقاب الفتن، وبذلك تتفاقم، أو قتل أناسي بلا شفقة ولا رحمة، زرعت أنت في قلوبهم اليأس، حين اختطفت من أفواههم، بفعل ضريبة الحرب، الخبز الذي كدحوا للحصول عليه بعرق الجبين ....
لقد كان سيف الله مسلطاً فوق رأسك منذ أمد طويل، ولكنه سبحانه تمهل في أن يهوي به عليك، لأنه يرثي لأمير أحيط طيلة حياته بمتملقين أذلاء، وكذلك لأن أعداءك هم أعداؤه .... أنك لا تحب الله، ولكنك تخافه فقط، خوفاً حقيراً من قبيل التقليد والمحاكاة. ولا تقوم ديانتك إلا على الخرافات، وعلى بعض طقوس تافها سطحية ... إنك لا تحب إلا عظمتك ومكاسبك، وترد كل شيء إلى ذاتك، وكأنما أنت إله هذه الأرض، وكأنما خلقت كل الأشياء للتضحية بها من أجلك. ولكن الأمر على النقيض من ذلك، فإن الله قد أقامك في هذه الدنيا من أجل شعبك ....(34/210)
لقد راودنا يا مولاي الأمل في أن يردك مجلسك عن الطريق غير المستقيم. ولكن لم يكن لديه القوة والجرأة. وكان من الجائز أن تستغل مدام دي مينتنون، ومسيو بوفيلييه، على الأقل، الثقة التي أوليتها إياها ليمحضاك النصح دون خداع ولا تضليل، ولكن ضعفهما وجبنهما خزي وعار وسبة لنا أمام العالم أجمع. وربما تساءلت يا مولاي:
ماذا عساهما أن يفعلا .. والجواب بأنه كان عليهما أن يرشداك إلى أن تذل وتخشع بين يدي الله القوي القدير، إذا أردت ألا يفرض عليك سبحانه وتعالى الذلة والهوان، وأنه يجدر بك أن تطلب الصلح، وتكفر بهذا الخشوع والتواضع عن العظمة التي جعلت منها معبوداً لك. وأنه من أجل إنقاذ الدولة ينبغي عليك بأسرع ما يمكن أن ترد إلى أعدائك ما لا يحق لك أن تحتفظ به عدلاً وإنصافاً.
مولاي: أن هذا الذي يبسط لك هذه الحقائق، وهو أبعد ما يكون عن الوقوف في وجه مصالحك، مستعد أن يضحي بحياته في سبيل أن يراك كما يريد الله لك أن تكون، ولن يكف عن الدعاء لك والصلاة من أجلك (1).
ولم يجرؤ فنليون على إرسال هذه الرسالة مباشرة إلى الملك، فرتب أمر تسليمها إلى مدام دي مينتنون، وربما كان يأمل في أنها قد تتأثر بها، حتى ولو لم تطلع لويس عليها، باعتبار أن الرسالة تعكس حالة الشعب، فتستخدم السيدة نفوذها من أجل الصلح والسلام، ولكنها حولتها إلى رئيس الأساقفة دي نواي، مع تعليق منها نصه: "لقد أحسن الكاتب، ولكن مثل هذه الحقائق قد تهيج الملك أو تفت في عضده .... وينبغي علينا أن نوجهه برفق في الطريق الذي يجب أن
_________
(1) عن الأصل الفرنسي في كتاب Fellows and Torrey " عصر الاستنارة" ص 91 - 95. ونشرت الرسالة لأول مرة في دالمبرت 1787. وبقيت مشكوكاً في صحتها حتى 1825. حين وجدت نسخة منها بخط فنليون نفسه (32).(34/211)
يسلكه (33) ". وكانت قد كتبت في 1692. "أن الملك يدرك ما يعانيه شعبه، وهو يتلمس كل الوسائل للتخفيف عنه (34) "، ومما لا شك فيه أنها كانت تعرف ما كان يمكن أن يرد به الملك على فنيلون: أن مبادئ المسيحية لا يمكن أن تستخدم في إدارة شئون الدول، وأنه يمكن عدلاً التضحية بجيل من الفرنسيين، إذا كان في هذه التضحية تأمين لمستقبل فرنسا، بفضل حدود طبيعية يسهل الدفاع عنها، وأن أية محاولة للوصول إلى الصلح والسلام من أعداء متحالفين متعطشين إلى الانتقام، قد تعرض فرنسا للغزو والتمزيق. وإذ وقعت السيدة مينتنون في صراع بين دين الأخوة وبين فلسفة الحرب، فقد كثر ترددها على سان سير، والتمست في رفقة الراهبات الشابات السعادة التي فقدتها في الجاه والسلطان (35).
وقبيل انتهاء الحرب قدم بييرلي بيزان، حاكم بواجلبرت، وقائد المنطقة المحيطة بروان، إلى وزير المالية بونتشارتران مشروعاً لتخفيف الفوضى الاقتصادية والضائقة العامة: "أصغ إلي في شيء من الصبر، إنك ستحسبني أول الأمر مجنوناً، ثم تتبين فيما بعد أني استحق أن تعيرني انتباهك، وسترضيك آخر الأمر أفكاري". ولكن بونتشارتران سخر منه وطرده. ونشر الحاكم الغاضب مخطوطته المرفوضة بعنوان "مشكلة فرنسا" (1697) واستنكرت هذه الرسالة تعدد الضرائب التي يقع العبء الأكبر فيها على عاتق الفقراء، ولا يصيب الأغنياء منها إلا النزر اليسير، واتهمت الكنيسة بابتزاز الكثير من الأرض والثروة، وأنحى بأشد اللائمة على مديري المال الذين تمتد أصابعهم البغيضة إلى الضرائب التي يجمعونها للملك (36). وأضعف من حجة الرسالة ما جاء بها من مبالغات وإحصاءات غير مدروسة، وآراء خاطئة عن تاريخ الاقتصاد الفرنسي قبل كولبير، ولكن زاد من قيمة الرسالة ما تضمنته من آراء ثاقبة ليست على استعداد لفهمها أي حكومة تعودت تقنين كا شيء وتحديده. وكان بواجلبرت من أوائل من رفضوا تضليل "المركنتلية" (نظام اقتصادي قائم على تنظيم حكومي استغلالي صارم)، بأن المعادن النفيسة تشكل في حد ذاتها ثروة، وأن الغرض من التجارة هو تكديس الذهب. وكان من رأيه أن الثروة هي توافر السلع والقدرة على أنتجاها، وأن الثروة الأساسية هي الأرض، وأن الفلاح عماد الاقتصاد، وأن دمار هذا الفلاح يعني دمار الجميع، حيث(34/212)
أن كل الطبقات في النهاية، مرتبطة بمجتمع ذي مصالح. وكل منتج مستهلك، وأية فائدة يجنيها بوصفه منتجاً لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يفقدها نتيجة لما يلحقه من خسارة باعتباره مستهلكاً. وكان نظام كولبير في التقنين والتحديد، نظاماً خاطئاً، لأنه عوق الإنتاج وسد منافذ التجارة. وأحكم أسلوب هو ترك الناس أحراراً ينتجون ويبيعون ويشترون، دون قيود في نطاق الدولة، دعوا الطموح وحب الكسب الطبيعيين في الناس يعملان عملهما بحد أدنى من القيود المشروعة. فإنهم حين يتحررون على هذا النحو، سيبتدعون أساليب ومشروعات واستخدامات وأدوات جديدة، وسيضاعفون من خصوبة الأرض، ومنتجات الصناعة، ومدى التجارة ونشاطها، وهذه الزيادة الناتجة في الثروة ستوفر للدولة دخلاً جديداً. ولا بد أن ينشأ عن هذا بعض المظالم والجور، ولكن العملية الاقتصادية ستعالجها جميعاً. وهنا نجد مرة أخرى "اتركه يعمل" قبل أن تبلغ حرية العمل الرأسمالي ذروتها في عالم الغرب، بقرنين من الزمان.
وقد يغتفر للملك ووزرائه، إذا أحسوا أن الحرب ضد نصف أوربا لم تكن وقتاً ملائماً لمحاولة القيام بانقلاب اقتصادي بعيد المدى، فزادوا من الضرائب بدلاً من إصلاح الاقتصاد. وفي 1695 فرضت ضريبة الرءوس، وكان المفروض أن تكون على كل ذكر في فرنسا، وبررها بأنها مؤقتة، ولكنها استمرت حتى 1789. وكان النبلاء ورجال الدين والحكام خاضعين لها من الوجهة النظرية، ولكن من الوجهة العملية اشترى رجال الدين الإعفاء منها نظير إعانة متواضعة، على حين وجد النبلاء والماليون ثغرات في القانون ينفذون منها إلى الإعفاء. ولجئوا إلى كل وسائل الابتزاز المال من الشعب. ونظم "اليانصيب" وبيعت على عقد قروض للدولة. واحتفى الملك نفس برجل من أصحاب المصارف، هو صمويل برنارد، وتقاضى من الملايين بعد أن بهرته هالة العظمة التي أحاط بها الملك نفسه، وفقد وعيه بسحر الملك وفتنته، وعلى الرغم من كل الضرائب ووسائل الابتزاز، قديمها وجديدها. بلغ مجموع دخل الدولة في 1697، 81 مليوناً من الجنيهات، على حين بلغت المصروفات 219 مليوناً.(34/213)
واعترف لويس آخر الأمر بأن انتصاراته استنزفت حياة فرنسا، فأصدر أوامره إلى سفرائه ومبعوثيه بمحاولة الوصول إلى تفاهم مع أعدائه. وقد أنقذته براعتهم، إلى حد ما. فأقنعوا دوق سافوي في 1696 بعقد صلح منفرد مع لويس. وسمح بتناثر الأنباء بأنه سيكف عن تأييده لآل ستيوارت، ويعترف بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا. وكان وليم نفسه يرى أن المال أغلى من الدماء، وشكا من أن "فقره أمر لا يصدق". واشتدت معارضة البرلمان لاعتماد الأموال اللازمة لقواته. وطالب، تمهيداً لعقد الصلح، بطرد جيمس الثاني من فرنسا، ولكن لويس رفض. إلا أنه عرض أن يعيد تقريباً كل المدن والأراضي التي كسبتها قواته أثناء الحرب. وفي 20 سبتمبر 1697 أنهى صلح ريزويك (بالقرب من لاهاي) "حرب البالاتينات" مع إنجلترا وهولندا وأسبانيا. واحتفظت فرنسا بستراسبورج وفرانش كرمتيه، واستردت بوندشيري في الهند، ونوفاسكوشيا في أمريكا، ولكن الرسوم الجمركية الفرنسية خفضت على تجارة هولندا، وفي 30 أكتوبر وقع صلح تكميلي مع الإمبراطورية. وتوقع الإمبراطور والملك كلاهما قرب وفاة شارل الثاني ملك أسبانيا. وأدرك كا رجال السياسة في أوربا تمام الإدراك أن ما وقع لم يكن إلا مجرد هدنة، استعداداً لحرب أكبر كانت جائزة المنتصر فيها أغنى إمبراطورية في العالم.
3 - المسألة الإسبانية
1698 - 1700
دنا أجل شارل الثاني دون عقب، فمن ذا الذي يرث ممتلكاته التي تمتد من الفيليبينات عبر إيطاليا وصقلية إلى شمال أمريكا وجنوبها؟. لقد طالب بها لويس، لا باعتبارها ابن كبرى بنات فيليب الثالث ملك أسبانيا فحسب، بل كذلك بمقتضى حق زوجته المتوفاة ماري تريز كبرى بنات فيليب الرابع. والحق كل الحق أن ماري تريز تخلت، عند زواجها، عن أي حق لها في عرش أسبانيا. ولكن هذا التخلي كان مشروطاً بأن تدفع الحكومة الإسبانية لفرنسا صداقاً قدره خمسمائة ألف كراون ذهباً. ولكن أسبانيا لم تدفع شيئاً من هذا الصداق، لأنها كانت مفلسة.
وكان للإمبراطور ليوبولد مزاعم مضادة: فهو ابن ماريا آنا صغرى بنات فيليب الثالث. وكان قد تزوج في 1666 من مرجريت تريزا(34/214)
صغرى بنات فيليب الرابع، ولم تتخل أي من هاتين السيدتين عن حقوقها في احتمال ارتقاء عرش أسبانيا. ولما كان الأتراك يزعجون ليوبولد دائماً بغاراتهم المتكررة، فإنه رغبة منه في الإبقاء على السلام مع فرنسا، عمد إلى حل وسط بالنسبة لمطالبه، بتوقيع معاهدة سرية مع لويس الرابع عشر، (في 19 يناير 1668)، نص فيها على التقسيم النهائي للإمبراطورية الأسبانية. ويقول مؤرخ إنجليزي أنه بمقتضى هذه المعاهدة "سلم فعلاً بقوة الحجة التي تذرع بها لويس الرابع عشر ببطلان تخلى ملكة فرنسا عن حقوقها في عرش أسبانيا (37) " ولما تزوج ليوبولد للمرة الثانية، وأنجب له هذا الزواج ابناً ثانياً، حدد مطالبه، ولكنه عرض أن يتنازل عنها للأرشيدوق كارل الجديد.
ونظرت إنجلترا والمقاطعات المتحدة والولايات الألمانية بعين الفزع إلى احتمال أن تؤول مملكة أسبانيا المترامية الأطراف إلى فرنسا أو إلى النمسا، وفي كلتا الحالتين إخلال بتوازن القوى، فلو أن لويس ربح في هذه الجولة لسيطر على أوربا وعرض البروتستانتية للخطر، ولو أنها كانت من نصيب ليوبولد، لهدد الإمبراطور، بحكم استيلائه على الأراضي الوطيئة الأسبانية، جمهورية هولندا، وزعزع استقلال الولايات الألمانية. وتدخلت المصالح الاقتصادية إلى جانب مصالح الأسرات الحاكمة: فالمصدرون الإنجليز والهولنديون كانوا يزودون معظم أسواق أسبانيا ومستعمراتها بالمنتجات الصناعية، ويحصلون منها في مقابل ذلك على كميات هائلة من الذهب والفضة، فكانوا يكرهون أن تصبح هذه التجارة احتكار لفرنسا. وذكرت الحكومة البريطانية في 1716 "أن الاحتفاظ بالتجارة بين مملكو بريطانيا العظمى وأسبانيا كان من أهم الدوافع التي حفزت ملكينا السابقين إلى دخول الحرب الأخيرة الطويلة الأجل الباهظة التكاليف (38) ".
ورغبة من وليم الثالث في إرضاء التجار في موطنه الأول وفي البلاد التي آلت إليه، وفي المحافظة على توازن القوى في القارة، اقترح على لويس أن تتخلى فرنسا عن دعواها، وتتفق مع إنجلترا على ترك أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون أمير بافاريا الناخب، حفيد ليوبولد، وعلى أن يحصل الدوفين ولي عهد فرنسا على ثغور تسكانيا وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية. على حين(34/215)
يمكن تسكين من روع الأرشيدوق كارل وإرضاؤه بدوقية ميلان. وقبل لويس الاقتراح، ووقع في 11 أكتوبر 1698 مع وليم "معاهدة تقسيم أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون الإمبراطورية الأسبانية من هذه التجزئة والتفتيت، أعد شارل الثاني في 14 نوفمبر 1698 وصيته التي جعل أمير بافاريا الناخب بمقتضاها وريثه الوحيد. ولكن موت الأمير في 5 فبراير أحدث ارتباكاً وتعقيداً في الموقف.
وعرض لويس إلى وليم تقسيماً جديداً: يحصل ولي عهد فرنسا بمقتضاه على ثغور تسكانيا، وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية، ودوقية اللورين، ويعوض دوق اللورين بميلان، ويؤول باقي الإمبراطورية الأسبانية، بما في ذلك أمريكا والأراضي الوطيئة الأسبانية، إلى الأرشيدوق كارل، ووقع لويس ووليم اتفاقية التقسيم الثانية في 11 يونيه 1699، ووافقت عليها المقاطعات المتحدة. ولكن شارل الثاني احتج على أي تفتيت لممتلكاته، كما أن الإمبراطور، أملاً منه في الحصول على كل شيء لابنه، أيد موقف أسبانيا ورفض الموافقة على التقسيم، على أن شارل، باعتباره من آل هبسبرج، كان ميالاً إلى ترك كل شيء للأرشيدوق، وبوصفه أسبانياً، على أية حال، كان يكره النمساويين، وباعتباره لاتينياً كان يؤثر الفرنسيين، ومذ كان شارل كلثوليكياً غيوراً، فإنه التمس النصح والمشورة من البابا. فأجاب إنوسنت الثاني عشر في 27 سبتمبر 1700 بأن خير طريقة هي التوصية بكل الإمبراطورية الأسبانية لأمير بوربوني شريطة تخليه عن أي حق في عرش فرنسا، وبذلك تحتفظ أسبانيا بوحدتها. وواضح أن الدبلوماسيين الفرنسيين كانوا يفوقون النمساويين حيلة ودهاء، وفي مدريد وفي روما على حد سواء. ونفر الرأي العام في أسبانيا من غطرسة مليكتهم الألمانية، فوافق على مشروع البابا، وذكر السفير الإنجليزي في مدريد "أن الاتجاه العام فرنسي تماماً (39) ". وفي أول أكتوبر وقع شارل الوصية المشئومة، التي أوصى فيها بكل أسبانيا وممتلكاتها لفيليب ذي السبعة عشر ربيعاً، ودوق أنجو، الابن الثاني للدوفين، شريطة ألا يجتمع تاجا فرنسا وأسبانيا لملك واحد، وقضى شارل نحبه في أول نوفمبر.
ولما ترامت أنباء هذه الوصية إلى باريس، سر بها لويس، ولكنه(34/216)
كان متردداً. فقد أدرك أن انتقال أسبانيا من أيدي آل هبسبرج إلى أسرة البوربون، لا بد أن يلقى معارضة شديدة من الإمبراطور، وأن إنجلترا وهولندا لا بد أن تنضما إلى صف المعارضة. وأثنى أحد المؤرخين الألمان على هذه الإلتفاتة من جانب لويس نحو الأهداف السلمية:
قد لا يكون من الإنصاف القول بأن لويس الرابع عقد العزم منذ البداية على نقض معاهدة التقسيم، بمجرد الحصول على وصية ملائمة لأسرته، وحتى وهو على يقين من مثل هذه الوصية، وكان شارل لا يزال على قيد الحياة، أمر لويس سفيره في هولندا، أن يؤكد لحاكمها أنه يعتزم التمسك بالتزاماته، ولا يقبل أية عروض تقدم له. وبالإضافة إلى هذا، واصل مساعيه للحصول على انضمام بلاط فيينا إلى معاهدة التقسيم (40).
وفي 6 أكتوبر أرسل لويس نداءاً عاجلاً إلى الإمبراطور ليقبل معاهدة التقسيم الثانية (41). ورفض ليوبولد. ومن ثم اعتبر لويس أن المعاهدة لاغية.
وفور وفاة شارل، أوفد مجلس الوصاية الأسباني إلى باريس رسولاً ليبلغ الملك لويس أن حفيده سيكون ملكاً على أسبانيا بمجرد قدومه وتأديته اليمين بمراعاة قوانين المملكة. وصدرت التعليمات إلى السفير الأسباني في باريس بأنه في حالة إي رفض من جانب فرنسا، عليه أن يأمر الرسول بالإسراع إلى فيينا ليقدم نفس العرض إلى الأرشيدوق (42). وينبغي ألا تجزأ الإمبراطورية الأسبانية على أية حال. وفي 9 نوفمبر دعا لويس الأمير ولي العهد، ومستشاره بونتشارتران ودوق دي بوفيلييه ومركيز دي تورسي وزير الخارجية إلى اجتماع في جناح مدام دي مينتنون، وسألهم الرأي والمشورة. ورأى بوفيلييه أن يرفض العرض الأسباني، لأنه يؤدي قطعاً إلى الحرب مع الإمبراطورية وإنجلترا والمقاطعات المتحدة، وذكر الملك بأن فرنسا ليست في ظروف تهيئ لها مواجهة مثل هذا الائتلاف، أما تورسي فقد دافع عن فكرة القبول، حيث اعتقد بأن الحرب لا محالة واقعة على(34/217)
أية حال، ولا بد أن الإمبراطور ليوبولد سيعارض معاهدة التقسيم والوصية كلتيهما. هذا فضلاً عن أنه رفض الملك لويس العرض الأسباني، فإنه من المؤكد أن يرحب به الإمبراطور، وتطوق فرنسا من جديد بنفس النطاق الذي كان مضروباً حولها-أسبانيا، شمال إيطاليا، النمسا، الأراضي الوطيئة الإسبانية والذي كلف فرنسا طيلة المائتي عام الأخيرة كثيراً من الدماء لتحطيمه. خير لنا أن ندخل في حرب بسبب عادل-الوصية-من أن نحاول فرض تقسيم أسبانيا بالقوة ضد رغبة حكومتها وشعبها (43).
وبعد ثلاثة أيام قضوها في مزيد من المشاورات والمداولات، أعلن لويس إلى المبعوثين قبوله الوصية. وفي 16 نوفمبر 1700 قدم دوق أنجو إلى الحاشية المجتمعة في فرساي قائلاً: "أيها السادة، إنكم ترون هنا ملك أسبانيا. أن النسب الذي تحدر منه دعاه إلى حمل ذاك التاج، بهذا أمر الملك الراحل في وصيته، وهذا ما رغبت فيه الأمة الأسبانية بأسرها، وتوسلت إليّ توسلاً جدياً أن أقبله. وتلك إرادة الله، حققها في غبطة وسرور، ثم أضاف موجهاً الحديث إلى الملك الشاب "كن أسبانياً" صالحاً-فهذا هو الآن واجبك الأول، ولكن تذكر أنك ولدت فرنسياً، وحافظ على الوحدة بين الأمتين، فهذا هو الطريق لإسعادهما، وللمحافظة على السلام في أوربا (44) " ونادى مجلس الوصاية الأسباني بفيليب ملكاً في مدريد، وأسرعت كل قطاعات أسبانيا وممتلكاتها بإعلان موافقتها، واعترفت الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، بالملك الجديد: سافوي، الدنمرك، البرتغال، المقاطعات المتحدة، إنجلترا، وعدة ولايات إيطالية وألمانية، بل أن ناخب بافاريا الذي ظن أن الإمبراطور دس السم لابنه-كان من أول الأمراء الذين قدموا اعترافهم. وبدا أن الأزمة قد تم التغلب عليها، وأن العداوة التي استعر أوارها طيلة قرن من الزمان بين فرنسا وأسبانيا قد خمدت بطريقة سلمية، وجثا السفير الأسباني في فرساي بين يدي مليكه الجديد إجلالاً وولاء، ونطق بعبارته المشهورة "لا برانس بعد اليوم (45) ".
4 - الحلف الأعظم
1701 - 1702
وكتب لورد تشستر فيلد "أن أسبانيا استقبلت في هدوء وابتهاج فيليب الخامس الذي استهل عهد البوربون الأسبان، واعترفت به ملكاً(34/218)
معظم الدول التي انضمت فيما بعد في تحالف لخلعه (46) " ولكن الإمبراطور ليوبولد أحس بأن هذا الاتحاد الفعلي بين فرنسا وأسبانيا، لا بد أن يكون، إذا تهيأت له أسباب البقاء والاستمرار، كارثة على أسرة هبسبرج التي ألفت منذ أمد طويل أن تحكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإمبراطورية الأسبانية كلتيهما. وعكس الكتاب استياءه فأهاجوا الرأي العام في النمسا وعبروا عنه، مرددين أن شارل الثاني لم يكن في كامل قواه العقلية حين أوصى بأسبانيا لعدوتها القديمة، وزعموا أن تشريح جثة الملك أظهر حقاً أن قلبه ومخه كانا مصابين بشكل خطير، ومن ثم تكون وصيته باطلة لاغية، وتكون ممتلكات أسبانيا تابعة للإمبراطور ليوبولد، بمقتضى حقوق أمه وزوجته التي لم يحدث أي تخل أو تنازل عنها. واستحث ليوبولد حليفيه السابقين هولندا وإنجلترا إلى إنكار أو سحب اعترافهما بفيليب الخامس. حتى ولو كان هذا يعني حرباً.
وكان زعيم المقاطعات المتحدة في هذا الوقت أنطونيوس هينسيوس الذي كان قد اختير حاكماً بعد رحيل وليم إلى إنجلترا، وكان في سابق أيامه مبعوثاً هولندياً إلى فرنسا، وهدده لوفوا بإلقاء القبض عليه، خرقاً للحصانة الدبلوماسية، ولم ينس قط هذه الإساءة، وأقام الآن، وقد بلغ التاسعة والخمسين، في دار متواضعة في لاهاي، وأحب المكتب، وسار يومياً على قدميه إلى مكتبه، واشتغل عشر ساعات في اليوم، وكان بمثابة تحد صارخ من جانب البساطة البرجوازية والحكومية الجمهورية للأرستقراطيين المترفين والملوك المستبدين. وفي نوفمبر 1700، وبتوجيه من الجمعية الوطنية الهولندية، أرسل أنطونيوس هذا إلى الملك لويس الرابع عشر مذكرة يرجوه فيها رفض وصية شارل الثاني باعتبارها ضارة أبلغ الضرر بالإمبراطور، والعودة إلى سياسة التقسيم. ضرورياً حتمياً هو تكرار رفض الإمبراطور لأي مشروع للتقسيم، وتأكد فرنسا من أن الإمبراطور سيقبل العرض الأسباني إذا هي رفضته.
وزادت تصرفات لويس من خوف أوربا من قوة فرنسا. ففي أول فبراير 1701 حمل برلمان باريس على تسجيل مرسوم ملكي ينص على المحافظة على الحقوق التي يمكن أن تنشأ لفيليب وأعقابه في تاج فرنسا.(34/219)
وهذا لا يعني بالضرورة أن لويس تطلع إلى وحدة فرنسا وأسبانيا تحت حكم ملك واحد، وربما قصد به تأمين نظام لارتقاء عرش فرنسا في حالة وفاة الورثة السابقين، ففي مثل الضرورة الطارئة يمكن لفيليب أن يتخلى عن تاج أسبانيا ليرتقي العرش في وطنه الأول، وبذلك يستمر التاج في أسرة البوربون دون انقطاع. ولكن إجراء آخر اتخذه الملك برر أن يفسر عمله تفسيراً غير ودي. ذلك أنه كانت هناك كعاهدة مع أسبانيا تثبت حق الهولنديين في حماية هولندا ضد الغزو، بالاحتفاظ بحاميات مسلحة في بعض "مدن الحدود" في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وفي فبراير، بناء على تفاهم بين لويس وناخب بافاريا الذي تولى حكم الأراضي الوطيئة الإسبانية آنذاك، دخلت القوات الفرنسية مدن الحدود هذه، وأمرت الحاميات الهولندية بمغادرتها. وأبلغ السفير الأسباني في لاهاي الجمعية الوطنية بأن هذا العمل تم بناء على رغبة الحكومة الأسبانية. واحتجت الجمعية الوطنية ثم استسلمت، ولكن هينسيوس اتفق مع وليم الثالث على ضرورة تجديد الحلف الأعظم ضد فرنسا.
أن وليم ارتكز في موقفه على أن معاهدة التقسيم الثانية كانت اتفاقاً بينه وبين لويس، وأنها ظلت سارية المفعول شواء وقعها أو لم يوقعها ليوبولد، وأن قبول فرنسا للوصية الإسبانية كان نقضاً لهذا الميثاق القانوني المقدس. وكان البرلمان على أية حال يكره استئناف النزاع الباهظ التكاليف مع فرنسا. وعندما أبلغت الحكومة الفرنسية إنجلترا بنبأ ارتقاء فيليب الخامس عرش أسبانيا، راض وليم نفسه على تهنئة "أخيه العزيز ملك أسبانيا بهذه المناسبة السعيدة، مناسبة ارتقائه العرش (47) ". وبهذا قدم اعترافاً رسمياً بنظام الحكم الجديد (17 أبريل 1701 (48)). ولكن عندما تجلت النتائج الخطيرة للاتحاد الفرنسي الأسباني للعيان بشكل أوضح، حيث أن احتلال القوات الفرنسية للفلاندرز جعلت لويس قاب قوسين أو أدنى من هولندا، وأن امتلاكه لثغر أنتورب مكنه من التحكم في التجارة
الإنجليزية التي تستخدم هذا الثغر-فإن الإنجليز بدءوا يدركون أن المشكلة لم تكن مجرد مشكلة بين البوربون وآل هبسبرج، ولا هي مشكلة كاثوليكية تستعيد نشاطها وبروتستانيتة يتهددها الخطر، ولكنها قضية الصراع بين إنجلترا وفرنسا حول السيادة على البحار، والسيطرة على المستعمرات الأوربية وعلى تجارة العالم، وفي يونيه 1701، ودون(34/220)
إعلان الحرب، تعهد البرلمان بتأييد وليم في أية أحلاف قد يدخل فيها بهدف الحد من سيطرة فرنسا المتزايدة. وتحقيقاً لهذا الهدف أقر تجنيد ثلاثين ألفاً من جنود البحر واعتمد مبلغ مليونين وسبعمائة ألف جنيه. واستجابة لنداء من الجمعية الوطنية الهولندية أمر وليم عشرين سفينة وعشرة آلاف جندي بالإبحار إلى هولندا. وفي يوليه عبر هو نفسه البحر إلى لاهاي.
وكان الإمبراطور الذي يطالب بأراضي الإمبراطورية الأسبانية بأسرها، بالفعل في حرب. وفي مايو 1701 أرسل جيشاً مكوناً من ستة آلاف من الفرسان وستة عشر ألفاً من المشاة للاستيلاء على ممتلكات أسبانيا في شمال إيطاليا، وعهد بقيادة هذا الجيش إلى أمير شاب، قدر له أن ينافس مالبرو نفسه باعتباره قائداً-هو ويجين سافوي.
وكان جده شارل أمانويل دوق سافوي، أما والده الأمير يوجين موريس فقد استقر به المقام في فرنسا بلقب كونت دي سواسون. أما والدته فهي أولمب مانسيني إحدى بنات أخي مازاران الفاتنات. وطلب يوجين نفسه في 1683، وهو في سن العشرين، من لويس الرابع عشر أن يويله قيادة فوج من الجنود، فأبى عليه ذلك نظراً لصغر سنه، فهجر فرنسا والتحق بخدمة الإمبراطور، واشترك مع سوبسكي في تخليص فيينا وتعقب الأتراك، وجرح في الاستيلاء على بودا، وجرح ثانية في حصار بلجراد، وقاد القوات الإمبراطورية إلى الانتصار الحاسم على الأتراك في سنتا 1697، وتحلى يوجين بكل المزايا اللهم إلا جمال الوجه والجسم. ووصفه فرنسي عدو له بأنه "هذا الرجل القبيح الضئيل الجسم الذي ينقلب أنفه فوق شفة عالية قصيرة إلى حد أنها لا تغطي أسنانه (49) "، على حين تبين فيه فولتير "صفات البطل في الحرب، ومناقب الرجل العظيم زمن السلم، وذهناً مشرباً بروح العدل والإنصاف والاعتداد بالنفس، وشجاعة لا تلين ولا تهن في قيادة الجيوش (50) ". والآن وهو في الثامنة والثلاثين قاد قواته فوق الألب، وتفوق على الكتائب الفرنسية هناك، ومع توالي انتصاراته على كاتينا وفيلروا، كسب الإمبراطور كل دوقية مانتوا تقريباً (سبتمبر 1701)، قبل إعلان حرب الوراثة الأسبانية بزمن طويل.
وفي الوقت عينه كانت الدبلوماسية قد مهدت لعشر سنين من(34/221)
المذابح. ففي أغسطس منحت أسبانيا فرنسا "عقداً" يدر ربحاً وفيراً، لتزويد المستعمرات الأسبانية في أمريكا بالعبيد. وواضح أن فرنسا قصدت أن تستخدم نفوذها الطاغي في أسبانيا، للاستيلاء على تجارة ممتلكاتها في قارات ثلاث. وفي 7 سبتمبر وقع مندوبو إنجلترا والمقاطعات المتحدة والإمبراطورية معاهدة لاهاي بتكوين حلف أعظم ثان. ونصت المادة الثانية منها على أنه من الضروري لإقرار السلام في أوربا أن تراعي حقوق الإمبراطوري في الوراثة الأسبانية، وأن تكون إنجلترا والمقاطعات المتحدة آمنتين في ممتلكاتهما وفي تجولهما في البحار وفي تجارتهما، ووعدت المعاهدة الإمبراطور بممتلكات أسبانيا في
شمال إيطاليا والأراضي الوطيئة، ولكنها تركت الباب مفتوحاً أمام احتمال الاعتراف بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا، وتعهدت الأطراف المتعاقدة بعدم القيام بأية مفاوضات منفصلة، أو توقيع أي صلح منفرد، والحيلولة دون توحيد تاجي فرنسا وأسبانيا. واعترض طريق التجارة الفرنسية مع المستعمرات الأسبانية والدفاع عن أية فتوحات تقوم بها إنجلترا والمقاطعات المتحدة في الأنديز الإسبانية والمحافظة عليها (51). ومنحت فرنسا مهلة مدتها شهران للموافقة على هذه الشروط، فإذا لم تتم الموافقة، كان للدول الموقعة أن تعلن الحرب.
وقابل لويس هذا التحدي بكبرياء شديدة متميزة، فأعلن أنه مرتبط رباطاً شريفاً بالدفاع عن وصية شارل الثاني وتصميم الشعب الأسباني على عدم تمزيق إمبراطوريته، ولثقته التامة في قوة قضيته وعدالتها، ظهر إلى جان سرير جيمس الثاني الذي كان يعان يمن سكرا الموت، وواسى الملك المحتضر بوعده أنه سيعترف بجيمس الثالث ملكاً على إنجلترا ويسانده. ولما قضى الوالد نحبه حافظ لويس على عهده، ولسنا ندري إذا كان هذا "عملاً جليلاً يتسم بالشهامة"، (كما قال عنه مؤرخ إنجليزي شهم (52)) أو أنه استسلام لتوسلات الأرملة الباكية (53)، أو أن خطة عسكرية لتقسيم إنجلترا إلى معسكرين: فريق يناصر وليم، وفريق يناصر جيمس، ويدعو إلى عودة آل ستيوارت إلى العرش من جديد. وعلى أية حال كانت حرب الوراثة الأسبانية حرباً للوراثة الإنجليزية أيضاً، بل حرب الكيان الإنجليزي كله، فإن عودة ملك من أسرة ستيوارت قد يعني استئناف المحاولة لتحويل إنجلترا إلى(34/222)
الكاثوليكية، وعلى الرغم من أن فرنسا أحست بأن تصرف الحلفاء نقض الاعتراف الذي كانت قد أعلنته كل دولة بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا. فإن معظم إنجلترا أحست بأن لويس قد نقض معاهدة روزيك التي كان قد اعترف فيها بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا، واستنكرت الاعتراف بجيمس الثالث على أنه تدخل وقح في شئون إنجلترا. وأضيفت إلى شروط الحلف الأعظم فقرة تلزم الموقعين بألا يعقدوا صلحاً مع فرنسا، حتى يتلقى وليم ترضية عن الإساءة التي ألحقها به التصرف لويس. وفي يناير 1702 جرد البرلمان جيمس الثالث من حقوقه المدنية-أي أعلن أنه خائن خارج عن القانون. وفي نفس الوقت أقر بأغلبية صوت واحد، "قانون القسم" الذي يتطلب من كل إنجليزي أن يبرأ من "المطالب بالعرش" ويقسم يمين الولاء لوليم الثالث وورثته. وفي 8 مارس 1702 توفي وليم الثالث في سن الثانية والخمسين. في وقت مبكر جداً لم يستطع أن يتبين فيه أنه قام بتوثيق عرى تحالف قد يحدد خريطة أوربا لمدة نصف قرن. وفي 15 مايو أعلن الإمبراطور والمقاطعات
المتحدة وبرلمان إنجلترا الحرب على فرنسا في وقت واحد.
5 - حرب الوراثة الإسبانية
1702 - 1713
كانت كل أوربا غربي بولندا والإمبراطورية العثمانية، من الناحية العلمية، مشغولة بهذه الحرب. وانضم إلى التحالف الدنمرك وبروسيا وهانوفر وأسقفية مونستر، وناخباً مينز والبلاتينات وبعض الولايات الألمانية الصغيرة. وانضم إلى هؤلاء في 1703 سافوي والبرتغال، وحشدوا جميعاً 250 ألف جندي، وجمعوا قوة بحرية تفوق كثيراً القوة البحرية الفرنسية عدداً وعتاداً وقيادة. وكان لفرنسا آنئذ مائتا ألف جندي، ولكن هذه القوات كانت موزعة على جبهات مختلفة في إقليم الراين وإيطاليا وأسبانيا. وكان الحلفاء الوحيدون لها أسبانيا وبافاريا وكولون، ثم سافوي لمدة عام واحد. وكانت أسبانيا عبئاً عليها، تريد من الجيوش الفرنسية أن تدافع عنها، كما كانت المستعمرات الأسبانية تحت رحمة الأساطيل الهولندية والإنجليزية.
ويجدر بنا ألا نضل في متاهات اللعبة الملكية، الشطرنج البشري،(34/223)
التي أعقبت ذلك، وكانت لعبة دامية إلى حد لم يسبق له مثيل تقريباً. والآن جاءت حملات مالبرو ويوجين سافوي البارعة المثيرة الملطخة بالدماء. وربما لم تجتمع منذ عهد قيصر عبقرية الحرب وفن الدبلوماسية مثل ما اجتمعا في مالبرو: كان بارعاً في استراتيجية تخطيط العمليات وتحريك الجيوش، وفي أساليب استخدام المشاة والخيالة والمدفعية، مع سرعة في تقدير الموقف واتخاذ القرار، وفق متطلبات المعركة، ومع ذلك فهو أيضاً صبور لبق في التعامل مع الحكومات من ورائه، والشخصيات من حوله، حتى مع العداء اللذين اعتبروه رجل دولة يدرك الحقائق، ذا وزن وقوة ونفوذ. وكان في بعض الأحيان قاسياً لا يرحم، وفي أغلب الأحيان مجرداً من المبادئ الخلقية والإنسانية. وسفك من دماء جنوده أي قدر لازم لتحقيق النجاح، واتصل بجيمس الثاني وجيمس الثالث ليضمن لنفسه نصيراً باسماً مشرقاً إذا عاد آل ستيوارت إلى الحكم. ولكنه كان منظم وصانع النصر.
وحيث أدرك لويس الرابع عشر أن كل عظمة عصره معلقة في كفة الميزان، وأن النزاع حول أسبانيا بات صراعاً من أجل قارات، فإنه هاب بفرنسا أن تبعث إليه بأبنائها وذهبها. وما وافى عام 1704 حتى كان لديه 450 ألف رجل مسلحين-قدر ما لدى أعدائه مجتمعين (54). وأملاً منه في التبكير بحسم هذا الصراع الباهظ التكاليف، أصدر أوامره إلى قواته الرئيسية بالتقدم عبر بافاريا الصديقة، ومهاجمة قلعة العدو الأخيرة، ألا وهي فيينا التي عجزت الحشود التركية نفسها عن الاستيلاء عليها. وانشغلت القوات الإمبراطورية في الشرق بعصيان مسلح وقع في المجر، وتركت عاصمتها مجردة من وسائل الدفاع تقريباً. وعلى حين كان مفروضاً أن يضيق جيش فرنسي بقيادة فيلروا الخناق على مالبرو في الأراضي الوطيئة، فإن القوات الفرنسية بقيادة مارسان وتللارد انضمت إلى قوات ناخب بافاريا، وأسرعت في التقدم إلى النمسا. ومرة أخرى هرب الإمبراطور من فيينا، كما حدث في 1683، إدراكاً منه بأن وقوعه في أيدي الأعداء لا بد أن يكون كارثة على موقف الحلفاء.
وفي هذه الأزمة، وعلى الرغم من توسلات الجمعية الوطنية الهولندية، ولكن بموافقة سرية من جانب هينسيوس، قرر مارلبرو أن يغامر بوقوع هولندا في يد فليروا، ويجد السير ليلاً ونهاراً من بحر(34/224)
الشمال إلى الدانوب (مايو-يونيه 1704) لينقذ فيينا. وتظاهر بأنه يسعى لعبور الموزل، فسار جنوباً في محاذاة النهر، مغرياً فليروا بحركة موازية على الجانب الآخر. وفجأة عند كوبلنز انعطف شرقاً وعبر الراين على جسر عائم، وسار إلى مينز، وعبر المين إلى هيدلبرج، وعبر نهر نكر إلى راستاد، فأحدث الآن نقاط اتصال هامة مع الإمدادات القادمة من هولندا، ومع جيش إمبراطوري بقيادة يوجين سافوي، ومع جيش آخر بقيادة الحاكم العسكري لمنطقة بادن بادن-لويس وليم الأول-ودهش الفرنسيون والبافاريون ليجدوا مالبرو بعيداً عن المواقع التي كان من المتوقع أن يطبق عليه فليروا فيها. وجمع مارسان وتللارد وناخب بافاريا، 35 ألفاً من المشاة و18 ألفاً من الفرسان بين لوتزنجين وبلنهيم، على الضفة اليسرى للدانوب. وهناك في 13 أغسطس 1704 اشتبك معهم مارلبرو ويوجين بثلاثة وثلاثين ألفاً من المشاة وتسعة وعشرين ألفاً من الخيالة فيما تحاول فرنسا أن تنسى فيه معركة هوستاد وما تحتفل به إنجلترا باعتباره النصر في بلنهيم. واخترقت خيالة مارلبرو المتفوقة قلب القوات الفرنسية وساقت جيش تللارد المنهزم إلى بلنهيم، حيث استسلم الأثني عشر ألفاً الباقون منه على قيد الحياة، وأسر تللارد نفسه. ثم أسرع فرسان مارلبرو لنجدة يوجين، وكان في مأزق، إلى اليمين، وعاونوه حتى أجبر مارسان على التقهقر بانتظام، وكانت الخسارة في الأرواح جسيمة، اثني عشر ألفاً من الحلفاء، و14 ألفاً من الفرنسيين والبافاريين. وحطم استسلام سبع وعشرين كتيبة من المشاة واثنتي عشرة سرية من الخيالة سمعة القوات المسلحة الفرنسية. وفر ناخب بافاريا إلى بروكسل. واحتل الجيش الإمبراطوري بافاريا، وأخلى نحو ثلاثمائة ميل مربع تقريباً من الأرض من القوات الفرنسية، وعاد ليوبولد في أمان إلى عاصمته.
وفي 4 أغسطس سجل أسطول إنجليزي هولندي يوماً مشهوداً آخر في التاريخ باحتلاله صخرة جبل طارق المقفرة. وقد حولها الإنجليز إلى قلعة ضمنت لهم السيادة على البحر المتوسط لمدة قرنين من الزمان واستمرت الحرب تسع سنوات أخرى، دون أن يفطن أحد إلى أن هذين الإنتصارين قد حددا مصيرها. وفي 9 أكتوبر 1705 استولى(34/225)
أسطول إنجليزي على برشلونة، وساند أحد جيوش الحلفاء ثورة قامت في قطالونيا ضد فيليب الخامس، وأقام الأرشيدوق كارل في مدريد ملكاً تحت اسم شارل الثالث (25 يونيه 1706). ولكن منظر النمساويين والإنجليز يحكمون البلاد أيقظ الأسبان من سباتهم الروحي، بل أن رجال الدين أنفسهم حرضوهم على المقاومة. وسلح الفلاحون أنفسهم بأحسن ما وصلت إليه أيديهم، وقطعوا خط مواصلات الحلفاء بين برشلونة ومدرية. وقاد دوق برويك الإنجليزي، وجيمس فتز جيمس الابن الشرعي لجيمس الثاني قوة فرنسية أسبانية من الغرب. استردت مدريد لفيليب الخامس (22 سبتمبر) وردت الأرشيدوق ومن معه من المهرطقين الإنجليز إلى قاطالونيا.
وفي تلك الأثناء، وبعد أن تغلب مالبرو على بعض العقبات السياسية في لندن ولاهاي، جمع هذا القائد جيشاً قوامه ستون ألفاً من الإنجليز والهولنديين والدنمركيين، وتقدم بالجيش الفرنسي الرئيسي المؤلف من 58 ألف جندي بقيادة فليروا عند رامييه بالقرب من نامور. وفي اشتداد وطيس المعركة، ناسياً أنه يجدر بالقواد أن يموتوا في فراشهم، اندفع إلى مقدمة الصفوف، فأسقط عن جواده. وبينما كان الضابط المرافق له يعاونه على امتطاء ظهر الجواد ثانية، اخترقت رأس الضابط قذيفة، واسترد مالبرو عافيته وأعاد تنظيم قواته، وقادها إلى نصر دام آخر. وبلغت الخسائر في جيشه خمسة آلاف رجل، وفي جيش الفرنسيين خمسة عشر ألفاً. وتقدم وسط مقاومة لا تذكر للاستيلاء على أنتورب وبروجز وأوستند. وهناك توفر له خط مواصلات مباشر مع إنجلترا، وكان على مسافة عشرين ميلاً فقط من فرنسا. وآوى فيلروا، وكان آنذاك في الثانية والستين، إلى ضيعته محزوناً، ولكن دون تأنيب من الملك الذي قال له في أسى وأسف "لن يواتينا الحظ بعد ذلك (55) ".
وفي كل مكان، باستثناء أسبانيا، كان الفرنسيون الآن في خطر، أو كانوا يتقهقرون. وفي فيينا خلف جوزيف الأول، وكان في السابعة والعشرين، أباه على عرش الإمبراطورية (1705)، وشد من أزر قواده بدرجة كبيرة. ورد يوجين سافوي الفرنسيين عن تورين(34/226)
(1706) وعن إيطاليا (1707). وبمقتضى اتفاق ميلان أصبحت دوقيتا ميلان ومانتوا جزاءاً من إمبراطورية النمسا، وانتهى حكم "جونزاجات مانتوا" الذي كان قد بدأ 1328. أما مملكة نابلي التي كان يحكمها نائب الملك الأسباني منذ عهد طويل، فقد ارتمت بدورها في أحضان النمسا، ولو أنها استمرت من الوجهة الشكلية ولاية بابوية، واحتفظت الولايات البابوية بأوضاعها بإذن من الإمبراطور الذي اخترقتها قواته الألمانية ضد إرادة البابا الذي لا حول له ولا قوة (56). واحتفظت فينيسيا وتسكانيا باستقلال مزعزع الأركان.
وكان لويس الرابع عشر رجلاً قد تغير. وكان غرور السلطان قد زال عنه تقريباً، ولكنه احتفظ بالوقار الهادئ لدولته. وفي 1706 عرض على الحلفاء شروطاً للصلح كان يمكن أن يتقبلوها فرحين مسرورين قبل خمس سنين، وبمقتضاها تترك أسبانيا للأرشيدوق كارل، ويكتفي فيليب بميلان ونابلي وصقلية، وتعاد مد الحدود والحصون إلى السيطرة الهولندية في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وكان الهولنديين ميالين إلى التفاوض، ولكن الإنجليز والإمبراطور أبوا. وتولى لويس السأم والضجر، واتجه إلى تجنيد جيوش جديدة وفرض ضرائب جديدة، حتى التعميد والزيجات لا بد أن يدفع عنها ضريبة حتى تصبح قانونية. فلجأ الفرنسيون الذين أضناهم الفقر إلى تعميد أبنائهم وإلى الزواج دون طقوس دينية، ولو أن نتاج مثل هذا القران دمغ بأنه غير شرعي من الوجهة الرسمية (57).
وقامت الثورة في كاهور، وفي كرسي، وفي بريجور. واستولت جموع الفلاحين على الحكم في المدن، وعلى قصور الإقطاعيين. وصاحت الهياكل العظمية الحية أي أهالي الذين يتضورون من الجوع، عند أبواب قصر فرساي، مطالبين بالخبز، فصدهم الحرس السويسري. وظهرت اللافتات على الجدران في باريس منذرة لويس بأنه لا يزال في فرنسا رجال يريدون قتل الملك (58). ومنعت الضرائب الجديدة.
وفي أوائل 1707 نشر مركيز دي فوبان الذي كانت هندسته العسكرية عنصراً أساسياً في الانتصارات الفرنسية في الجيل الماضي،(34/227)
نشر وهو في الرابعة والسبعين، "اقتراحاً بضريبة أعدل". وصف المركيز شقاء فرنسا وبؤسها: "أن عشر السكان تقريباً انحطوا إلى درجة التسول، أما غالبية التسعة الأعشار الباقية منهم فهم أقرب إلى تلقي الصدقات منهم إلى بذلها ... يقيناً أن السوء قد بلغ أقصى مداه. فإذا لم يتخذ أي علاج فلسوف يقع الشعب في براثن فقر لا فكاك له منها أبداً". وذكر الملك بأن "الطبقة الدنيا من الشعب هي التي تثري الملك ومملكته بكدها وجدها، وإسهاماتها في الخزانة الملكية" ومع ذلك فإن "هذه الطبقة، نتيجة لمطالب الحرب وفرض الضرائب على مدخراتها، هي التي تعيش الآن في أسمال بالية وأكواخ متداعية، على حين توقفت الزراعة في أراضيها" لتغيب أبنائها الذين جندوا للحرب (59). ولإنقاذ هؤلاء الناس، وهم أعظم الطبقات إنتاجاً، اقتبس فوبان بعض أفكار بواجلبرت، فاقترح إلغاء كل الضرائب القائمة، والاستعاضة عنها بضريبة دخل تصاعدية لا تعفي منها أية طبقة، فيدفع ملاك الأرض ما بين 5 و10% ويدفع العمال ما لا يزيد عن 2 slash1 3%. وتحتفظ الدولة باحتكار المح، وتفرض الرسوم الجمركية عند الحدود الوطنية فقط (60).
ويصف سان سيمون هذا الكتاب، وكيف استقبله الناس، فيقول:
كان الكتاب زاخراً بالمعلومات والأرقام، مرتبة بأقصى درجة من الوضوح والبساطة والدقة. ولكنه وقع في خطأ جسيم ذلك أن يبسط منهجاً لو اتبع لكان فيه دمار الجيش من الرأسماليين والكتبة والموظفين من كل الأنواع، ولأرغمهم على أن يعيشوا على حسابهم بدلاً من العيش على حساب الشعب، وقوض أساس هذه الثورات الضخمة التي نراها تنمو وتزداد في وقت قصير. وكان هذا شبباً كافياً لسقوط هذا الكتاب .. وتعالت الصيحات من جانب أولئك الذين يهمهم معارضته ... ولا عجب إذن، في أن الملك الذي يلتف حوله هؤلاء الناس، أصغى إلى حججهم، واستقبل المارشال فوبان أسوأ استقبال حين قدم إليه كتابه (61).
وأنبه لويس بأنه رجل حالم، قد يقلب مشروعه مالية البلاد رأساً(34/228)
على عقب، وسط أزمة الحرب. وفي 14 فبراير 1707 صدر قرار من المجلس بمصادرة الكتاب وعرضه في مشهرة. وبعد ستة أسابيع مات المارشال العجوز، وقذفت في عضده وأحزانه ما أصاب من خزي وعار. وتفوه الملك ببعض كلمات عن أسف جاء متأخراً "فقدت رجلاً كان يحبني حباً شديداً كما يحب الدولة (62) ".
واستمرت الضرائب والحروب. وفي أغسطس 1707 انضم فكتور أماديس الثاني دوق سافوي-الذي كان قد بدأ حليفاً لفرنسا-إلى يوجين سافوي وأسطول إنجليزي في حصار طولون. براً وبحراً، حتى إذا سقطت في أيديهم عمدوا إلى مهاجمة مسيليا، فإذا سقطت هذه أيضاً لأصبحت فرنسا معزولة عن البحر المتوسط. وأعد جيش فرنسي جديد وأرسل ليصد الغزاة، وألح في صدهم، ولكن في هذه الحملة بات معظم أراضي بروفانس خراباً بلقعاً. وفي 1706 حشد الملك جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً تحت قيادة مارشال فندوم. ودوق برجندي المحبوب ابن الدوفين. وسيره ليوقف تقدم الحلفاء في الفلاندرز فقابله سارلبرو ويوجين بجيش مماثل في العدد في أودينارد على نهر شلدت (11 يوليه 1708)، ودارت الدائرة على الفرنسيين وخسروا 20 ألفاً بين قتيل وجريح، كما أسر منهم سبعة آلاف. وأراد مارلبرو التقدم إلى باريس، ولكن يوجين أقنعه بمحاصرة ليل أولاً، حتى لا تقطع حاميتها خط مواصلات الحلفاء وإمداداتهم. وسقطت ليل بعد حصار دام شهرين، بخسارة في الأرواح قدرها خمسة عشر ألفاً.
وأحس لويس بأن فرنسا لم تعد قادرة على مواصلة القتال. وزاد من بؤس الشعب وشقائه أن شتاء 1708 slash1709 كاد أقسى شتاء وعته الذاكرة، وتجمدت النهار طيلة شهرين، بل تجمدت مياه البحر على طول الشواطئ، إلى أن العربات ثقيلة الأحمال كان تسير في أمان فوق جليد المحيطات (63). وهلكت كل المزروعات بما في ذلك أقدر أشجار الفاكهة على احتمال قسوة المناخ، وكل الحبوب في الأرض. كما مات في هذا الفصل القاسي معظم الأطفال الحديثي الولادة (64). باستثناء ابن حفيد الملك، لويس الخامس عشر فيما بعد، الذي ولد لدوق ارجندي في 15 فبراير 1709. وفي أعقاب ذلك جاءت المجاعة في الربيع والصيف، واختزن المحتكرون الخبز واحتفظوا له بسعر(34/229)
عال. ويذكر سان سيمون، وهو عادة لا يحب الملك، أن لويس نفسه كان متهماً باقتسام مغانم الاحتكارات (65). ولكن هنري مارتن يقول "أن التاريخ يروي كثيراً إلى حد أنه لا يسلم بالوصف البغيض الكئيب الذي أورده سان سيمون دون شيء من الريبة" (66). وأنقذ الموقف باستيراد 12 مليون كيلو جرام من الحبوب من دول المغرب العربي وغيرها، وزراعة الشعير بمجرد ذوبان الثلوج وعودة الدفء إلى الأرض (67).
وأحس لويس الرابع عشر بالذلة والهوان بسبب هزائم جيوشه ونكبات شعبه، فأرسل في 22 مايو 1709 المركيز دي تورس إلى لاهاي، يطلب الصلح. وكان دي تورسي مزوداً بالتعليمات ليعرض النزول عن كل الإمبراطورية الأسبانية إلى الحلفاء، وعن نيوفونلند إلى إنجلترا، وإعادة مدن الحدود إلى الهولنديين، والتخلي عن تأييد حق آل ستيورات في العرش. وحاول المركيز أن يرشو مالبرو، فأخفق (68). وفي 28 مايو قدم الحلفاء إلى دي تورسي إنذاراً نهائياً يطالبون فيه، لا بمجرد التنازل عن كل أسبانيا وممتلكاتها للأرشيدوق، بل كذلك يطالبون بانضمام الجيش الفرنسي إلى قوات الحلفاء في طرد فيليب من أسبانيا إذا لم يكن قد غادرها في بحر شهرين، وإلا، (كما قدروا) تركت فرنسا حرة في إعادة تنظيم قواتها الضاربة أثناء انشغالهم في شبه الجزيرة. وأجاب لويس بأنه يعز عليه أن يطلب منه استخدام القوة لطرد حفيده من أسبانيا التي كانت قد هبت من فورها لمساندة فيليب. وقال "إذا كان لا بد من مواصلة القتال، فل أقاتل أعدائي، لا أبنائي (96) ".
وأثارت مطالب الحلفاء شعور الاستياء في فرسنا. وانضم الرجال عن طيب خاطر إلى القوات المسلحة، وكان كل همهم أن يجدوا الطعام، وأرسل النبلاء ما لديهم من فضة إلى دار سك العملة، وراوغت السفن الفرنسية الإنجليز الهولنديين، وأحضرت من أمريكا سبائك تقدر قيمتها بثلاثين ملويناً من الفرنكات. وحشد جيش جديد قواته تسعون ألفاً، وضع تحت إمرة فللار الذي لم يتمكن الحلفاء من هزيمته من قبل. وفي الوقت نفسه جمع مالبرو مائة وعشرة آلاف جندي. والتقى الجمعان في مالبلاكيه (على الحدود المواجهة لبلجيكا) في أعنف(34/230)
معركة في القرن الثامن عشر. وفقد مارلبرو 22 ألف رجل في انتصاره الأخير، وخسر الفرنسيون 12 ألفاً، من بينهم فللار الباسل، الذي كان في السادسة والخمسين، واندفع على رأس قواته، ثم حملوه من الميدان وقد بترت إحدى ركبتيه قذيفة مدفع. وتقهقر الفرنسيون بانتظام واتجه الحلفاء للاستيلاء على مونز. وكتب مارلبرو إلى زوجته يقول "الحمد لله والشكر لله، أن في مقدورنا الآن أن نحصل على الصلح الذي نريده (70) ".
ويبدو أن الأمر كان كذلك. فمن الواضح أن فرنسا كانت قد بذلت أقصى ما في جعبتها، فمن أين لها بجيش ثان من بين أسراتها المنهوكة التي استنزفت دماء أبنائها، وكيف تطعمه وحقولها مهجورة مقفرة؟. لقد عمت الفوضى الزراعة والصناعة والنقل والتجارة والمالية-لقد أصاب كل هذا المرافق دمار وانحلال، يهيئان للأعداء المتقدمين احتلال فرنسا وتمزيق أوصالها. أن الملك الذي كان يوماً معبود الشعب "الذي بعثه الله إليهم" بدأ يفقد حبهم بل احترامهم له. أنه كان ينأى بنفسه عن باريس، لأنه لن تغب عن ذاكرته جماعة الفروند المعادية، واستاءت المدينة لطول نفوره منها وتباعده عنها، وما أشد ما استهجنت النكات والشتائم والنشرات واللافتات كبرياءه الاستبدادية استهجاناً لاذعاً (71). وتساءل الناس متعجبين، كيف تكتظ قاعات فرساي، وسط إملاق فرنسا وعوزها، برجال الحاشية المقامرين الخاملين المترفين، على حين أن الملك وزوجته قد ركنا إلى شيء من التقوى وكبح جماح النفس. "ولم تخفض نفقات الحاشية ولم ينقص عدد موظفيها حتى النهاية (72) ". وأنشد بعض الباريسيين الذين لا يجدون الخبز رواية معدلة من "دعاء الرب"، لم يستثنوا فيها لويس ولا زوجته ولا وزير خارجيته وماليته الجديد:
يا إلهنا الذي في فرساي، لم يعد أسمك يقدس، ولم تعد مملكتك عظيمة، ولم تعد مشيئتك تنفذ في البر والبحر، أعطنا الخبز الذي نفتقد في كل مكان، اغفر لأعدائنا الذين قهرونا، لا لقوادك الذين هيئوا لهم لأن يفعلوا ذلك. لا تستسلم لكل إغواءات لامينتنون، ولكن خلصنا من شاميللارد (73).(34/231)
وقالت مدام مينتنون ترثى لحال الملك: "أنهم يلومونه ويؤنبونه بسبب نفقاته، أنهم يودون الاستغناء عن جياده وكلابه وخدمه .... أنهم يريدون أن يرجموني بالحجارة لأنهم يتصورون أني لا أبلغه شيئاً كريهاً خشية إيلامه (74) ".
وكان النبلاء لا يزالون على ولائهم للملك الذي أكرمهم وحماهم، ولكن وطنيتهم تزعزت، حين طالب الملك، كآخر سهم في جعبته، بعشر دخولهم (1710). أن الضريبة العامة التي اقترحها فوبان قبل ذلك بثلاثة أعوام لتحل محل كل الضرائب الأخرى، أضيفت الآن إلى سائر الضرائب. وكان للفقراء بعض العزاء في أن يروا جباة الضرائب الكريهون يدخلون بيوت الأغنياء لفحص حساباتهم. وكره الملك أن يقحم الخزائن السرية الخاصة، ولكن قسيس اعترافه، الأب تلييه، أكد له أن من رأي أساتذة السوربون "أن كل ثروة رعاياه ثروته، فإذا أخذها فكأنما يستولي على شيء يخصه (75) ". وبالمثل عانت الطبقات الوسطى العليا شيئاً من الخلخلة في الحماسة العسكرية، حيث أنقطع دفع الفوائد عن السندات الحكومية. وقال سان سيمون: "أن إعادة سك العملة وتخفيض قيمتها: أتاحا للملك بعض الأرباح، ولكنهما جلبا الدمار على أناس بعينهم، كما أديا إلى الخلل في التجارة مما كان فيه توقفها التام (76) ". وأعلن كبار رجال المصارف، مثل صمويل برنارد، الإفلاس، فأدى ذلك إلى تعطل كل العمال في ليون. "كان كل شيء ينهار شيئاً فشيئاً، واستنزفت المملكة بأسرها، ولم تدفع للجند رواتبهم، على أن أحداً لم يكن يتصور ماذا فعل بالملايين التي وصل إلى خزائن الملك (77) ".
وفي مارس 1710 عاد لويس فطلب إلى الحلفاء عقد الصلح، وعرض أن يعترف بالأرشيدوق ملكاً على أسبانيا، وألا يقدم أي عون لفيليب، بل أن يدفع بعض الأموال للعمل على خلعه، وأن يتخلى للحلفاء عن ستراسبورج، وبريزاخ، والالزاس وليل وتورني وايبر ومينن، وفورن ومبرج، ولكنهم لم يعرضوا عليه صلحاً، بل هدنة مدتها شهران، وكان على لويس بقواته الفرنسية وحدها دون أية مساعدة من أي جانب آخر، أن يطرد فيليب من أسبانيا، فإذا عجز عن تحقيق ذلك في فترة شهرين، استأنف الحلفاء القتال (78).(34/232)
ونشر لويس هذه الشروط على شعبه الذي اتفقت كلمته على أنها شروط يستحيل قبولها.
وحشدت فرنسا، بطريقة ما جيوشاً جديدة، وعندما غزا الأرشيدوق أسبانيا مرة ثانية بقوات إنجليزية ونمساوية، وشق طريقه لإخراج فيليب من مدريد مرة أخرى، أرسل لويس لحفيده خمسة وعشرين ألف جندي بقيادة دوق فندوم. واستطاع الدوق بمساعدة المتطوعين الأسبان أن يهزم الغزاة في بريهوجا وفللافيكيوزا (ديسمبر 1710). وبهذا أعاد فيليب بشكل قاطع إلى عرشه، وبقيت أسبانيا تحت حكم البوربون حتى عام 1931.
وفي نفس الوقت كانت ريح السياسة تغير اتجاهها في إنجلترا. وكانت الملكة قد كتبت في 1706 "لست أطمع في شيء .. إلا أن أرى صلحاً مشرفاً، حتى إذا اقتضت مشيئة الله أن أفارق الحياة، وجدت كل الارتياح والطمأنينة في أن اترك بلدي المسكين وكل أصدقائي في سلام وهدوء (79) ". وكانت الملكة آن تلتزم سياسة الحرب تحت تأثير دوقة مارلبرو العنيفة الملتهبة حماسة، ولكن ضعف هذا التأثير الآن، وعزلت الملكة الدوقة (ساره) من خدمتها (1710)، وانحازت صراحة إلى "المحافظين"، وكان التجار والصناع والرأسماليين قد أفادوا من الحرب (80)، وأيدوا "الأحرار" صانعي الحرب. أما ملاك الأراضي فقد خسروا لأن الحرب أدت إلى زيادة في الضرائب وتضخم غي العملة، ومن ثم شجعوا الملكة في تطلعها إلى السلام. وفي 8 أغسطس عزلت جودولفين، مساعد مارلبرو الأيمن، ورأس هارلي وزارة من المحافظين. ومالت إنجلترا نحو السلام.
وفي يناير 1711 أرسلت الحكومة الإنجليزية إلى باريس سراً، قسيساً فرنسياً، هو الأب جولثييه الذي كان قد أقام في لندن زمناً طويلاً، وقصد إلى تورسي في فرساي، وسأله "هل تريد السلام؟ لقد جئتك بوسائل تحقيقه، مستقلاً عن الهولنديين (81) ". وتقدمت المفاوضات ببطء، وفجأة، وفي سن مبكرة بشكل يثير الدهشة، سن الثانية والثلاثين توفي جوزيف الأول (17 إبريل 1711) وأصبح الأرشيدوق إمبراطوراً يحمل أسم شارل السادس، ووجد الإنجليز والهولنديين الذين كانوا قد وعدوه بأسبانيا كلها، أنهم يواجهون، نتيجة لانتصاراتهم الباهظة(34/233)
التكاليف، إمبراطورية هبسبرجية مترامية الأطراف، تهدد بالخطر الشعوب البروتستنانتية وحريتها، مثلها في هذا وذاك مثل إمبراطورية شارل الخامس. وهنا عرضت الحكومة الإنجليزية على لويس الاعتراف بفيليب ملكاً على أسبانيا ومستعمراتها الأمريكية، مع بعض شروط معتدلة نسبياً: منها الضمانات ضد اتحاد فرنسا وأسبانيا تحت تاج واحد، وحصون على الحدود لحماية المقاطعات المتحدة وألمانية من غزو فرنسا لها في المستقبل، وإعادة الفتوحات الفرنسية إلى وضعها السابق، والاعتراف بحق ارتقاء الملوك البروتستانت إلى العرش في إنجلترا، وطرد جيمس الثالث من فرنسا وتجريد دنكرك من السلاح، وتثبيت ملكية إنجلترا لجبل طارق ونيوفوندلند ومنطقة خليج هدسن، ونقل حق بيع الرقيق للمستعمرات الأسبانية في أمريكا، من فرنسا إلى إنجلترا. ووافق لويس على هذه الشروط مع تعديلات طفيفة. وأبلغت إنجلترا لاهاي أنها تحبذ عقد الصلح على هذه الأسس. ووافق الهولنديين عليها، أساساً صالحاً للمفاوضات، واتخذت الترتيبات لعقد مؤتمر للسلام في أوترخت. وعزل مارلبرو الذي كان يرى الحرب أكثر ربحاً (31 ديسمبر 1711) وعين مكانه جيمس بتلر، دوق أورمن الثاني، الذي زود بتعليمات تقضي بعدم الاشتباك في أي قتال إلا عند تلقي أوامر جديدة.
وعلى حين أنعقد المؤتمر في أوترخت (أول يناير 1712)، واصل القتال يوجين الذي اعتبر الشروط الإنجليزية للصلح خيانة لقضية الإمبراطورية. وتقدم يوماً بعد يوم ليهاجم خط الدفاع الذي أقامه فيللار المجد النشيط. وفي 16 يوليه أبلغت لندن أورمند أن إنجلترا وفرنسا وقعتا هدنة، وأنه يجب بناء على ذلك انسحاب قواته الإنجليزية إلى دنكرك. وامتثلت هذه القوات للأمر، ولكن الكتائب التي كانت تحت إمرة أورمند في القارة، اتهمت الإنجليز بأنهم آبقون هاربون من الجندية، ووضعت نفسها تحت قيادة يوجين. وكان لدى الأمير آنذاك نحو مائة وثلاثين ألفاً، ولدى فللار نحو تسعين ألفاً. ولكن في 24 يوليه انقض المارشال اليقظ على كتيبة قوامها اثني عشر ألفاً من الهولنديين عند دنين (بالقرب من ليل) وأبادها قبل أن يمكن يوجين من القدوم لنجدتها. وتراجع الأمير عبر الشلدت ليعيد(34/234)
تنظيم جيشه الصعب الانقياد، وتقدم فيللار للاستيلاء على دواي ولي كزنوي، وبوشان، وتشجع لويس وفرنسا، لأن هذه كانت الانتصارات الفرنسية الوحيدة على الجبهة الشمالية، ولكنها، بالإضافة إلى انتصارات فندوم في أسبانيا أضفت قوة جديدة على المفاوضين الفرنسيين في أوترخت.
وبعد خمسة عشر شهراً من المراسم والشكليات والمناقشات، وقع أطراف النزاع، فيما عدا الإمبراطور، صلح أوترخت (11 إبريل 1713) وتنازلت فرنسا لبريطانيا عن كل ما وعدت به من قبل في المفاوضات التمهيدية، بما في ذلك احتكار تجارة الرقيق الرائجة، التي تعتبر وصمة عار ذلك العصر. وقدم العدوان القديمان تنازلات متبادلة عن رسوم الواردات، وأعاد الهولنديون لفرنسا ليل واير وبيتون، ولكنهم احتفظوا بالسيادة على كل الأراضي الوطيئة حتى يتم عقد الصلح مع الإمبراطورية، على حين يستولي ناخب بافاريا على شارلروا ولكسمبرج ونامور، وأعيدت نامور إلى دوق سافوي. واحتفظ فيليب الخامس بأسبانيا وأمريكا الأسبانية. ورفض ثم عاد فوافق (13 يوليه) على التخلي عن جبل طارق ومينو رقة لإنجلترا. وواصل يوجين سافوي القتال ضد البريطانيين لشعوره بالمرارة نحوهم لتوقيعهم صلحاً منفرداً. ولكن خزانة الإمبراطورية أصبحت خاوية، ونقص جيشه إلى 40 ألفاً، على حين كان فيللار يتقدم نحوه بمائة وعشرين ألفاً. وأخيراً قبل دعوة لويس الرابع عشر له للقاء فيللار لوضع شروط للصلح. وبمقتضى معاهدة راستات (6 مارس 1714) احتفظت فرنسا بالألزاس وستراسبورج، ولكنها أعادت إلى الإمبراطورية كل الفتوحات الفرنسية على الضفة اليمنى لنهر الراين، واعترفت بحلول النمسا محل أسبانيا في حكم إيطاليا وبلجيكا.
وبذلك حققت معاهدتا أوترخت وراستات أكثر قليلاً مما كان يمكن أن تحققه الدبلوماسية بالوسائل السلمية في 1701. وبعد ثلاثة عشر عاماً من القتل والإبادة والفقر والتخريب. ثبتت هاتان المعاهدتان خريطة أوربا لمدة ستة وعشرين عاماً، كما ثبتتها معاهدات وستفاليا لمدة جيل واحد بعد حرب الثلاثين عاماً. وكانت المهمة في كلتا الحالتين إقامة توازن القوى بين أسرتي هبسبرج والبوربون. وقد تم هذا بالفعل. وقام شبيه لهذا التوازن بين فرنسا وإنجلترا في أمريكا واستمر حتى نشوب حرب(34/235)
السنين السبع (1756 - 1763).
وأهم الخاسرين في هذا النزاع الدموي حول الوراثة الأسبانية هما هولندا وفرنسا، لقد كسبت الجمهورية الهولندية أرضاً، ولكنها خسرت سيادة البحر، فلم تعد قادرة على مباراة لإنجلترا في حمولة السفن أو في فن الملاحة أو في الموارد أو في الحرب، أن انتصارها استنزفها وأنهكها، فبدأت تضمحل. كذلك ضعفت فرنسا إلى حد يكاد يكون خطيراً. لقد بقت على مرشحها لعرش أسبانيا، ولكنها أخفقت في الإبقاء على إمبراطوريته سليمة لم تمس، ودفعت ثمناً لهذا النصر القاتم الذي فقد بريقه، حياة مليون من أبنائها بالإضافة إلى ضياع سيادتها على البحار، وانهيار حياتها الاقتصادية بصفة مؤقتة. ولم تكن فرنسا لتفيق وتلتقط أنفاسها من عصر لويس الرابع عشر، قبل ظهور نابليون، ولكن لمجرد أن تعيد مأساة لويس.
أما الفائزان في الحرب فهما النمسا داخل القارة، وإنجلترا في كل مكان خارجها. فقد استولت النمسا آنذاك على ميلان ونابلي وصقلية وبلجيكا، وأصبحت أعظم قوة في أوربا حتى ارتقاء فردريك الأكبر العرش (1740). وفكرت إنجلترا في السيادة على البحار أكثر مما فكرت في التوسع في الأرض. وحصلت على نيوفوندلند ونوفا سكوشيا، ولكن كان تحكمها في طرق التجارة أكبر قيمة لديها. وأرغمت فرنسا على تخفيض رسومها الجمركية، وعلى أن تجرد من السلاح قلعة دنكرك وثغرها اللذين كانا يشكلان خطراً على السفن الإنجليزية. ويفضل جبل طارق في أسبانيا، وبورت ماهون في مينورقة استطاعت إنجلترا أن تسيطر على البحر المتوسط. ولم يكن لهذه المكاسب مشهد مثير في 1713، ولكن كان لا بد أن تدون نتائجها في تاريخ القرن الثامن عشر. وفي نفس الوقت أمنت العقيدة البروتستانتية وارتقاء البروتستانت إلى العرش شر العوادي، اللهم إلا نسبة المواليد.
وثمة نتيجة هامة للحرب، تلك هي اشتداد الروح القومية، وروح الكراهية بين الدول، حيث نسيت كل أمة مكاسبها وتذكرت جراحها. فما كان لألمانيا أن تغفر اجتياح البالاتينات وتخريبها مرتين. ولم تكن فرنسا لتنسى بسرعة المذابح التي لم يسبق لها مثيل في انتصارات(34/236)
مارلبرو، وكانت أسبانيا تعاني كل يوم عار وقوع جبل طارق في أيد أجنبية. وباتت كل أمة ترقب أن تحين الفرصة للانتقام.
أن بعض ذوي النفوس الكريمة الذين اعتقدوا أن أوربا قارة المسيحيين راودهم حلم الوصول إلى بديل عن الحرب. وكان شارل كاسل، من رهبان كنيسة القديس بطرس قد رافق الوفد الفرنسي إلى وترخت، فلما عاد نشر خطة لتثبيت دعائم السلام الجديد، وتمنى لو أن أمم أوربا أتيح لها أن تتحد في "عصبة أمم" مع مؤتمر دائم من المندوبين عنها، ومجلس للتحكيم في النزاع، ونظام لقانون دولي، وقوة مسلحة مختلطة للوقوف في وجه أية دولة متمردة، وتخفيض أي جيش وطني إلى ستة آلاف رجل، وإيجاد مقاييس وعملة موحدة تستخدم في كل أنحاء أوربا (82). وقدم الراهب مشروعه إلى ليبنتز، الذي لم يعد يثق بأن هذا أفضل العوالم الممكنة، فذكر الراهب "بأن ثمة قدراً مشئوماً يعترض دوماً طريق الإنسان إلى تحقيق سعادته (83) " فالإنسان حيوان نزاع إلى المنافسة، وخلقه هو قدره.
6 - أفول نجم الإله
1713 - 1715
أن لويس الرابع عشر، لو حكمنا عليه بمعايير عصره، لم يكن الغول البشع، الذي صوره المؤرخون المعادون، وكل الذي أقترفه هذا الملك هو أنه طبق على نطاق أوسع، ولفترة من الزمن، مع نجاح بغيض، نفس أساليب الحكم المطلق والتوسع الإقليمي، والغزو العسكري التي تميز بها سلوك أعدائه ومطامعهم، بل أن وحشية جيوشه في البالاتينات كانت لها سابقة في أعمال السلب والنهب في مجدبرج (1631)، وخاتمة في مذابح مارلبرو. على حين أن لويس تميز بأنه قد امتد به الأجل حتى تثأر منه في شخصه، لا في أبنائه، "ربات الانتقام" لكل ما جنى عليه غروره وصلفه وسلطانه من آثام.
ولم يبخسه التاريخ حقه في شيء من الإعجاب بما أبدى من شجاعة ووقار عند هزيمته، كما استشعر شيئاً من الإشفاق عليه في الكوارث التي دمرت تقريباً أبنائه وجيوشه وأساطيله في وقت معاً. وفي 1711 مات ابنه الشرعي الوحيد "الدوفين الأكبر" لويس، تاركاً وراءه الملك وحفيدين صغيرين لويس دوق برجندي، وشارل دوق بري. وتحلى(34/237)
لويس الأصغر بمناقب عظيمة بفضل رعاية فنليون وسهره على تربيته وتهذيبه، وأصبح عزاء الملك وسلواه في شيخوخته. وفي 1697 تزوج لويس الأصغر من ماري أدليد سافوي، التي ذكر جمالها وذكاؤها ومفاتنها، الملك بمدام هنريتا وشبابه السعيد معها. ولكن في 12 فبراير 1712 أودت الحمى المتقطعة بهذه الروح المرحة في سن السادسة والعشرين. وأبى زوجها المخلص أن يتخلى عن سير مرضها، فانتقلت إليه العدوى، ومات بنفس المرض في 18 فبراير وهو في سن التاسعة والعشرين، بعد وفاة أبيه بعام واحد. وانتقلت العدوى منهما إلى طفليهما، ومات أحدهما في 8 مارس في سن الثامنة، أما الأصغر فقد بقي على قيد الحياة، في حالة من الضعف والهزال لم يكن أحد يحلم معها بأنه سيعيش ليحكم فرنسا حتى 1774 باسم لويس الخامس عشر. ولو أن هذا الصبي الهزيل قضى نحبه لكان وريث العرش شارل دوق بري، ولكن شارل توفي 1714.
وكان ثمة خليفة آخر يمكن أن يوؤل إليه العرش-هو فيليب الخامس ملك أسبانيا الابن الأصغر للدولفين الأكبر، ولكن نصف أوربا تعهد بالحيلولة بينه وبين الجمع بين التاجين. وكان يليه في ترتيب الوراثة، فيليب دوق أورليان حفيد لويس الثالث عشر، وابن أخي الملك وزوج ابنته. ولكن فيليب هذا كان له معمل واصل فيه تجاربه في الكيمياء. ولذلك تناقل الناس اتهامه بدس السم لدوق ودوقة برجندي وابنهما الأكبر. وقد اختلف الأطباء حول استخدام السم، واستشاط فيليب غضباً لهذه الشبهات، وطلب إلى الملك أن يقدمه لمحاكمة علنية، واعتقد لويس أنه بريء، وأبى تعريضه للمحاكمة والتعذيب حتى تثبت براءته أو إدانته، وأن يلحق به هذا العار.
وكان ثمة ملجأ أو حل أخير، إذا أخفقت فروع الوراثة هذه. وذلك أن الملك كان قد أضفى الشرعية على ابنيه غير الشرعيين دوق مين وكونت وف تولوز. وفي ذاك الوقت (يوليه 1714) أصدر الملك مرسوماً سجله برلمان باريس دون معارضة، ينص على أنه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي، يكون لهذين الابنين غير الشرعيين سابقاً حق وراثة العرش. وبعد سنة من ذلك، أصدر(34/238)
مرسوماً آخر بمساواتهما في الرتبة من الوجهة القانونية بالأمراء الشرعيين، وكان لهذا القرار وقع الصاعقة على سان سيمون والنبلاء الآخرين (84)، وكانت أمهما مدام دي مونتسبان قد ماتت، ولكن أمهما بالتنشئة، زوجة الملك، أحبتهما مثل أولادها. واستخدمت نفوذها للنهوض بهما في مراقي الشرف والسلطة والجاه.
وفي غمرة هذه المشاكل وفقدان الأولاد، واجه لويس الأزمة الأخيرة في الحرب. وعندما كان يودع فيللار الذي كان في طريقه لملاقاة يوجين الذي كان يتقدم إلى جبهة بلجيكا، انهارت فجأة قوى الملك الذي كان آنذاك في الرابعة والسبعين، وهو يقول "أنت ترى الآن حالي أيها المارشال، ليس ثمة إلا أمثلة قليلة لما أصابني-أفقد في نفس الشهر حفيدي وحفيدتي وابنهما وكانوا جميعاً واعدين مبشرين بحسن المستقبل، وكم كنت أحبهم. أن الله يعاقبني، وأنا استحق العقاب، سيخف عذابي في الدار الآخرة". ولما أفاق استطرد يقول: "فلنطرح جانباً المآسي والنوائب المنزلية، لنرى كيف نتفادى كوارث المملكة. أني أعهد إليك بقوات الدولة وبتخليصها. قد لا يحالفك الحظ، فإذا حلت الكارثة بالجيش الذي تتولى قيادته، فماذا في رأيك هي الخطة التي انتهجها أنا شخصياً؟ " ولم ينبس فيللارد ببنت شفة. فقال الملك "لا يدهشني ألا تجيبيني على الفور. وفيما انتظر أن تفصح لي عن رأيك، أبلغك أنا رأيي. أني أعرف تفكير رجال حاشيتي، إنهم جميعاً تقريباً يريدونني أن آوى إلى بلوا (مدينة في أواسط فرنسا على نهر اللوار) إذا حلت الهزيمة بجيشي. أما بالنسبة لي، فأنا أعلم، أن جيوشاً بمثل هذه الضخامة لا يمكن أبداً أن تنهزم إلى الحد الذي لا يستطيع معه الجزء الأكبر منها أن يرتد إلى السوم. وهو نهر من الصعب عبوره، وينبغي أن أذهب إلى بيرون أو سانت كنتان، وأجمع هناك كل ما أستطيع جمعه من قوات، وأبذل معك محاولة أخيرة، فأما هلكنا معاً أو أنقذنا الدولة (85) ".
وخدع انتصار فيللار في معركة دنين الملك بالأمل في ميتة بطولة. ولكنه بقي على قيد الحياة بعد المعركة بثلاثة أعوام، وبعد الصلح بعامين. وفيما عدا الناصور الشرجي الذي شفي منه منذ فترة طويلة، ظل الملك يتمتع بالصحة إلى حد معقول لمدة سبعين عاماً. ولم(34/239)
يعتدل في مأكله، ولكنه لم يصبح بديناً قط. ولم يسرف في الشراب، ولم يهمل القيام بتمرينات رياضية قوية في الهواء الطلق، إلا لأيام قلائل، حتى في الشتاء القارس 1708 - 1709. ومن العسير أن نجزم بأنه كان يمكن أن يعمر أطول مما عاش، إذا كان عدد أطبائه أقل مما كان عليه، أو أن الأدوية المسهلة والفصد وامتصاص العرق وغير ذلك مما استخدموا في علاجه، كانت أسوأ أثراً من الأمراض التي قصدوا إلى إنقاذه منها. وفي 1688 أعطاه أحد الأطباء دواء مسهلاً قوياً إلى حد أن مفعوله ظهر إحدى عشرة مرة في ثمان ساعات، أحس بعدها بشيء من التعب، كما قالوا (86). وعندما رسم ريجو في 1701 الصورة المتألقة في اللوفر، فإنه أبرز لويس وكأنه لا يزال متغطرساً مزهواً بالقوة والنصر والغلبة والملابس الرسمية، والشعر الأسود المستعار الذي يخفي المشيب، والوجنات المنتفخة التي تنم على الشهوة، وبعد ذلك بسبع سنين أبرزه كويسفوكس في التمثال الضخم في نوتردام، راكعاً يصلي، ولكن لا يزال أشد شعوراً بالملكية منه بالموت، وربما كساه الفنانون بزهو واعتداد بالنفس أكثر كمما أحس هو به، لأنه كان قد تعلم في سنوات الخيبة والإخفاق والمحن المتفاقمة، أن يتقبل اللوم والعتاب في شيء من التواضع والخضوع، على الأقل من مينتنون (87). وأصبح كالطفل بين يدي يسوعي متعصب هو تلييه الذي كان قد خلف الأب لاشيز "كاهن الاعتراف للملك" في 1709. "أن خليفة شارلمان طلب الصفح عن خطاياه من ابن أحد الفلاحين (88) " وارتفعت إلى السطح المبادئ القوية للكثلكة والتقوى التي كان قد تلقاها من أمه، حين انحسرت الآن الأهواء والعواطف، وفقدت العظمة بريقها. وراجت شائعة بأن الملك في موجة تبتله كان قد انتسب إلى جماعة اليسوعيين في 1705، وأضافت أنه في مرضه الأخير أخذ على نفسه العهد الرابع أن يكون عضواً كامل العضوية في "جماعة يسوع (89) ".
وفي يناير 1715 فقد الملك شهيته المعهودة، واشتد توجعه بشكل واضح إلى حد المراهنة في هولندا وإنجلترا على أنه لن يعيش عامه (90) فلما قرأ قصاصات الأنباء عن هذا الرهان سخر منها وظل على منهجه المعتاد في حضور المؤتمرات واستقبال السفراء وعرض الجند والصيد،(34/240)
وكان يختم يومه مع زوجته المخلصة المنهوكة مينتنون، وهي آنذاك في التاسعة والسبعين. وفي 2 أغسطس كتب وصية عين بمقتضاها دوق مين وصياً على لويس الخامس عشر، وعين الدوق رئيساً لمجلس وصاية يتولى حكم فرنسا حتى يبلغ الصبي رشده. وفي 12 أغسطس انتشرت القروح في ساقه وتسممت (أصيبت بالغنغرينا) وأصبحت كريهة الرائحة، وانتابته الحمى ولزم الفراش وفي 25 أغسطس كتب ملحقاً للوصية عين فيه فيليب أورليان رئيساً لمجلس الوصاية. على أن يكون له الصوت المرجح عند انقسام الآراء. وقال لاثنين من القضاة تسلما الوثيقة: "لقد كتبت وصية، أنهم- (ربما كان يقصد مينتون ودوق ودوقة مين وأنصارهم) ألحوا عليّ في كتاباتهم، وكان لزاماً أن اشتري راحتي. ولكن لن يكون لها أية قيمة بمجرد أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. أنني أعلم جيداً ماذا كان من أمر وصية والدي (91) ". وقدر لهذه الوصية المضطربة أن تكتب فصلاً في التاريخ الفرنسي.
ومات لويس "ملكاً" تكلله كل مظاهر الملكية. وبعد تناول الأسرار المقدسة وجه إلى رجال الدين الذين أحاطوا بسريره، اعترافاً إضافياً لم يقابلوه بالترحيب:
يؤسفني أن أترك شئون الكنيسة في وضعها الراهن. أني أجهل الموضوع جهلاً تاماً كما تعلمون. وأني لأدعوكم لتكونوا شهداء على أني لم أفعل إلا ما أردتم أنتم، وأني فعلت كل ما أردتم، وستقفون أنتم بين يدي الله لتجيبوا عن كل ما تم عمله. أني أحملكم مسئولية هذا أمام الله. أن لي ضميراً نقياً. وما أنا إلا جهول أسلمت نفسي لتوجيهكم (92). ثم وجه الحديث إلى رجال حاشيته:
أيها السادة، أسألكم الصفح عن المثل السيئ الذي ضربته لكم. وينبغي أن أقدم لكم أجزل الشكر على الطريقة التي خدمتموني بها، على الإخلاص الذي ظهرتموه دائماً. وأرجوكم أن تقدموا نفس الغيرة والإخلاص اللذين منحتموني إياها لحفيدي، أنه صبي قد يكون أمامه أن يعاني كثيراً. وكل أملي أن تعملوا جميعاً من أجل الاتحاد. فإذا قصر أحد في هذا فعليكم أن تحاولوا رده إلى جادة الصواب والواجب. أني الحظ أني أترك لمشاعري العنان فتستبد بي، أني أسبب لكم شيئاً من الضيق، فاغفروا لي هذا كله. وداعا(34/241)
أيها السادة، أنا واثق أنكم ستذكرونني أحياناً (93).
وطلب إلى دوقة فنتادور إحضار حفيده وكان في سن الخامسة، فقال له، طبقاً لرواية الدوقة: -
أي بني، انك ستصبح ملكاً عظيماً، لا تتبع مسلكي في البناء أو في الحرب، حاول، على العكس، أن تكون في سلام مع جيرانك. اترك ما لله لله، ووف بالتزاماتك نحو الله، واحمل رعاياك على تقديسه وطاعته، وحاول أن تخفف عن شعبك، وهذا ما لم أفعله أنا، لسوء الحظ. ولدي العزيز، أني أمنحك بركتي من كل قلبي (94).
والتفت إلى اثنين من الخدم رآهما يذرفان الدمع وقال "لماذا تبكيان، هل ظننتما أني مخلد (95)؟. ثم اتجه إلى مدام مينتنون ليعيد إليها شيئاً من الطمأنينة وقال: "لقد ظننت أن الموت أصعب من ذلك. أؤكد لك أنه ليس عملية فظيعة، أنه لا يبدو لي شاقاً مطلقاً (96) ". وطلب إليها أن تتركه، وكأنما كان يدرك أنها ستصبح بعد موته نفساً ضائعة وسط الوعي الطبقي السائد بين أفراد حاشيته. فآوت إلى جناحها، ووزعت أثاثها بين مرافقيها وخدمها، ورحلت إلى سان سير التي لم تبرحه حتى وفاتها 1719.
وكان الملك يتحدث في ثقة بالغة، ثم قضى ليلة طويلة في كرب شديد يعاني سكرات الموت وهو في النزاع الأخير، حتى وافاه الأجل في أول سبتمبر 1715، ومن سنوات عمره السبع والسبعين، قضى اثنين وسبعين عاماً على العرش، وهذا أطول حكم في تاريخ أوربا. أما رجال الحاشية القلقون على وظائفهم، فإنهم حتى قبل أن تحين اللحظة الأخيرة هجروه ليقدموا ولاءهم وإجلالهم إلى فيليب أورليان ودوق مين. واجتمع بعض اليسوعيين حول جثمانه ليقيموا بالطقوس المعهودة لمن مات من أبناء طائفتهم (97). وتلقى أهالي باريس نبأ موت الملك على أنه خلاص مبارك من حكم طال أكثر مما ينبغي، ورأى عظمته يلطخها البؤس والهزيمة. ولم يوفروا إلا القليل من مظاهر الأبهة والعظمة للجنازة التي سارت بجثمان أشهر ملك في تاريخ فرنسا إلى سان دنيس في 9 سبتمبر. قال فولتير "على طول الطريق رأيت خياماً صغيرة منصوبة يشرب فيها الناس ويغنون ويسمرون (98) " وكان دوكلاس آنذاك في الحادية عشرة، ولكنه تذكر فيما بعد "أن كثيراً من الناس بلغ من حقارتهم أنهم كانوا يصبون اللعنات والشتائم عند مرور النعش بهم (99) ".(34/242)
وفي تلك اللحظة تذكر الباريسيون أخطاء الملك الراحل، وبدت لهم في وضح غطى على ما عداها. وأحسوا أن حبه للجاه والسلطان والعظمة قاد فرنسا إلى حافلة الخراب. وكرهوا غطرسته واعتداده بنفسه اللذين دمرا الحكم الذاتي المحلي، وركزا كل الحكم في إرادة واحدة لا يستطيع أحد أن يتحداها. ورثوا لملايين الفرنكات التي أنفقت وآلاف الأرواح التي أزهقت في تجميل فرساي، وصبوا اللعنات على إهمال الملك شأن عاصمته المشاغبة المتمردة. وأبهجت فئة قليلة لأن اضطهاد الجانسنيين قد يتوقف بعد موته، على أن أغلبية كبيرة ظلت تمتدح طرد الهيجونوت. وفي استرجاع الأحداث الماضية والتأمل فيها، كان واضحاً أن غزو هولندا في 1672، وغزو ألمانيا 1688، والتسرع في الاستيلاء على مدن الحدود في 1701، كانت كلها أخطاء جسيمة جلبت على فرنسا عداوة الكثيرين من كل جانب. ولكن كم من الفرنسيين كانوا قد استنكروا هذه الفتوحات، ونطقوا بكلمة حق في اجتياح البالاتينات؟ لقد كانت الأمة آثمة مدانة قدر إثم مليكها وإدانته، أنها لم تأخذ عليه جرائمه بل هزائمه. أنها، باستثناء بعض القساوسة، لم تشجب فسقه وفجوره وزناه. ولم تظهر تحمساً لإصلاحه الخلقي، أو تقواه أو إخلاصه لزوجته غير المتكافئة معه، ونسيت الآن أنه كان لعدة سنين قد زين سلطانه من اللطف والكياسة والإنسانية (100). وأنه إلى أن ركبه شيطان الحرب، كان يؤيد كولبير في تنمية الصناعة والتجارة في فرنسا، وأنه كان قد حمى موليير من المتعصبين، وراسين من عصابات المتآمرين، وأن إسرافه في الإنفاق لم يكن لحساب ترفه وبذخه فحسب، بل أنه كذلك هيأ به لفرنسا تراثاً ضخماً من الفن.
أن ما اختلج في أعماق الشعب بشكل أوقع وأعدل، هو ما كانوا قد دفعوه من دمائهم وأموالهم، ثمناً لمجد تقوضت أركانه بموت الملك وإفقار فرنسا وخرابها. فندر أن وجدت في الأمة أسرة لم تفقد أحد أبنائها في الحروب، ونقص عدد السكان إلى حد باتت معه الحكومة تقدم جوائز للوالدين الذين لديهم عشرة أبناء. وكانت الضرائب قد خنقت الحافز الاقتصادي، كما سدت الحرب منافذ التجارة، وأغلقت الأسواق الأجنبية في وجه البضائع الفرنسية، ولك تكن الدولة مفلسة فحسب، بل كانت كذلك مدينة بنحو ثلاثة آلاف مليون من الفرنكات (101). وضاع ما كان للنبلاء من نفع وأثر، حين انصرفوا عن الإدارة المحلية إلى التسكع في أروقة البلاط، ولم يتألقوا إلا في ملابسهم الثمينة وبسالتهم العسكرية. وظهرت طبقة جديدة من النبلاء(34/243)
عن طريق بيع الألقاب بالجملة لعامة الناس. وفي سنة واحدة منح الملك لقب النبالة لخمسمائة شخص مقابل ستة آلاف جنيه دفعها كل منهم، وبذلك أصبح أبناء البيوتات العريقة أتباعاً لأبناء رقيق الأرض. وما لم تعد الحرب صراعاً بعيداً بين المرتزقة والمجادلين، بل اختباراً مضنياً مزعجاً للموارد والاقتصاديات ورجل الدين، وازدهر الرأسماليين وسط الاضمحلال العام. ذلك أنك تجد في الدول الحديثة أن الرجال الذين يستطيعون أن يسوسوا الناس، لا يسوسون إلا من يستطيعون أن يدبروا الأمور، وأن يستطيعون تدبير المال يسوسون الجميع.
وفي حكمنا على لويس الرابع عشر ينبغي أن نتذكر قولة جوتة المأثورة الإنسانية، بأن رذائل المرء هي من تأثير عصره. على حين أن فضائله نابعة منه، أو كما أوردها الرومان في إيجاز متميز "الرذائل هي رذائل الزمان لا رذائل الإنسان (102) " أن حكمه الاستبدادي المطلق، والتعصب الذي حدا به إلى الاضطهاد والتعذيب، والتلهف على السلطة والميل للحروب، ركبت كلها فيه باعتباره ابناً لعصره ولكنيسته. أما كرمه وسخاؤه وشهامته وكياسته، وتقديره وتشجيعه للأدب والفن، وقدرته على احتمال أعباء حكومة مركزية بعيدة المدى، فهي كلها صفاته الشخصية التي جعلت منه ملكاً بكل معاني الكلمة. وكتب جوتة: أن الطبيعة أبدعت في لويس الرابع عشر نوعاً كاملاً من الطراز الأول للنمط الملكي، وبهذا أنهكت نفسها وحطمت القياس (103). وقال نابليون "كان لويس الرابع عشر ملكاً عظيماً، وهو الذي رفع فرنسا إلى المرتبة الأولى بين الأمم. وأي ملك من ملوك فرنسا منذ عهد شارلمان يمكن أن يقارن به في كل نواحيه؟ (104) ". ومن رأي لورد أكتون أنه "كان إلى أبعد حد، أقدر من ولد في العصور الحديثة على درجات سلم أي عرش (105) ". لقد شن حروباً مدمرة، وسخر كبرياءه في إسراف في البناء والترف، وخنق الفلسفة، وأثقل كاهل شعبه بالضرائب إلى حد الإملاق والعوز، ولكنه هيأ لفرنسا حكومة منظمة، ووحدة وطنية، وعظمة ثقافية، بلغت بها مرتبة الزعامة التي لا نزاع فيها على العالم الغربي. وأصبح علماً على أسمى عهد زاهر لبلاده ورمزاً له. أما فرنسا التي تعيش على المجد والعظمة، فقد تعلمت أن تغفر له تدميره لها في سبيل أن يجعلها عظيمة.(34/244)
المجلد التاسع
عصر فولتير
تاريخ الحضارة في أوروبا الغربية من 1715 إلى 1756
مع التنويه الخاص بالصراع بين الدين والفلسفة
مقدمة
كلمة اعتذار
يجب أن يُلقَى اللوم لطول هذا المجلد على المولفَيْن اللذين أغراهما بالإسهاب الشديد افتتانهما بموضوعه المحوري-ونعني به الصراع الغالب، المتصل، بين الدين والعلم، مضافاً إليه الفلسفة، ذلك الصراع الذي استحال إلى مسرحية حية في القرن الثامن عشر، وتمخض عن علمانية عصرنا المستترة. فكيف حدث أن شطراً كبيراً من الطبقات المتعلمة في أوربا وأمريكا فقد الإيمان بلاهوت ظل خمسة عشر قرناً يقدم خوارق الدعائم والأسانيد للقانون الأخلاقي القلق، المتنافر، الذي أرسيت فوقه الحضارة الغربية؟ وأي آثار-في الأخلاق والأدب، والسياسة-سيسفر عنها هذا التغيير، الأساسي رغم صمته؟
لقد ازداد التفصيل في كل مجلد بتكاثر أحداث الماضي وشخصياته التي لا تزال اليوم حية في تأثيرها وتشويقها. ولعل هذا التكاثر، بالإضافة إلى تعدد الموضوعات-التي تنتظم جميع مناحي الحضارة في أوربا الغربية من 1715 إلى 1756 - ينهض عذراً عن طول القصة وتشعبها. وهكذا فجر "عصر فولتير" ضفافه وفاض بجزء عاشر نووي إصداره عن "روسو والثورة" يبلغ بالقصة عام 1789. وسيتناول هذا الجزء العاشر التغيير الذي أحدثته حرب السنوات السبع في خريطة العالم، والسنين الأخيرة التي اختتمت بها حياة لويس الخامس عشر، 1756 - 74، وعصر جونسون ورينولدز في إنجلترا، وتطور الثورة الصناعية وازدهار الأدب الألماني من لسنج غلى جوته، والفلسفة الألمانية من هردر إلى كانت، والموسيقى الألمانية من جلوك إلى موتسارت، وانهيار الإقطاع في فرنسا لويس السادس عشر، وتاريخ تلك الأمم المحيطة بالقارة-وهي السويد، والدنمرك، وبولندة، وروسيا، وتركيا، وإيطاليا، والبرتغال، وأسبانيا-التي أرجأنا تناولها في هذا المجلد قصداً في المساحة من جهة، ولعدم تورطها مباشرة في الصراع العظيم بين العقل والإيمان من جهة أخرى (إلا عن طريق البابوية). وسينظر هذا المجلد الختامي في مراحل ذلك الصراع(35/7)
اللاحقة، متمثلة في ثورة روسو على العقلانية، وجهد ايمانول كانت البطولي لإنقاذ اللاهوت المسيحي عن طريق الأخلاق المسيحية. وسوف تستكمل لوحة عصر فولتير في ذلك الجزء العاشر من قصة الحضارة" وتعرض خاتمة هذا المجلد التاسع الدفاع عن الدين، أما خاتمة "روسو والثورة" التي تلقي نظرة محيطة على المجلدات العشرة كلها، فستتصدى لسؤال يبلغ بموضوع الكتاب ذروته: ما هي عظات التاريخ وعبره؟.
ولقد حاولنا أن نصور الواقع بالمزج بين التاريخ والسير. وستثير هذه التجربة نقد الناقدين-ولا ضير في هذا، ولكنها تحقق هدف "التاريخ المتكامل". ذلك أن الأحداث والأشخاص تسير جنباً إلى جنب خلال الزمن دون اعتبار لأيها كانت الأسباب وأيها النتائج، والتاريخ يتكلم في الأحداث، ولكن خلال الأفراد. وليس هذا المجلد سيرة لفولتير، إنما هو يستخدم حياته الجوالة الثائرة نسيجاً يربط بين الأمم والأجيال، ويقبله بوصف أعظم الأعلام دلالة وأكثر إيضاحاً في الفترة بين موت لويس الرابع عشر وسقوط الباستيل. فمن من بين جميع الرجال والنساء الذي عاشوا في تلك الحقبة المضطربة أنصع من فولتير صورة في ذاكرة الناس، وأحظى بقراءتهم الكثيرة لأعماله، وأبقى تأثيراً فيهم اليوم؟ يقول جيورج برانديس "إن فولتير خلاصة قرن من الزمان (1) ". ويقول فكتور كوزان "إن الملك الحقيقي للقرن الثامن عشر هو فولتير (2) ". فلنسر إذن خلف ذلك اللهب المتوهج خلال القرن الذي عاش فيه.(35/8)
الفصل الأول
فرنسا الوصاية
1715 - 1723
1 - فولتير الشاب
1694 - 1715
لم يكن اسمه بعد فولتير، بل كان حتى إطلاق سراحه من الباستيل في 1718 يدعى فرانسوا ماري آرويه. وقد ولد بباريس في 21 نوفمبر 1694، وأصبح خلاصتها المصفاة حتى 1778. أما الرجل الذي يفترض أنه أبوه، واسمه فرانسوا آرويه، فكان محمياً ميسور الحال، عرف الشاعر بوالو والغانية نينون دلانكلو، وكتب وصيتهما، وعرف المسرحي بيير كورني، ووصفه بأنه "أثقل من لقي من الناس ظلاً (1) ". وأما أمه، ماري مارجريت دومار، فكان يجري في عروقها قدر طفيف من الدم النبيل، وكانت ابنه موظف في "البرلمان" وأخت المراقب العام للحرس الملكي، ومن طريقهما استطاعت الوصول إلى بلاط لويس الرابع عشر. وقد جعلت حيويتهما وذكاؤها المرح من بيتها صالوناً صغيراً. وذهب فولتير إلى أنها ملكت كل ما وهبت أسرته من ذكاء، كما ملك أبوه كل ما أوتيت من دراية مالية، وقد استوعب الابن الموهبتين جميعاً فيما ورثه. وماتت أمه في الأربعين وهو لم يجاوز السابعة. وكان أكبر أبنائها الخمسة أرمان، الذي كان غيوراً على لاهوت الجانسنيين حريصاً على ميراث الأسرة. أما أصغر الأبناء فرانسوا ماري، فكان معتلاً في عامه الأول، حتى أن أحداً لم يصدق أن ستكتب له الحياة. وقد ظل حتى الرابعة والثمانين يتوقع موته المبكر ويذيعه على الناس.
وكان من بين أصدقاء الأسرة عدة "آباء" abb (s وهو لقب كان يخلع على أي كنسي علماني، سواء كان قسيساً مرسوماً أو لم يكن. وقد أصبح كثير من هؤلاء الآباء رجال دنيا لا دين، لمعوا في المجتمع رغم تمسكهم برداء الكهنوت، ومنهم من ألفوا المشاركة المسافرة في(35/9)
مجالس خلت من الوقار، ومنهم من عاش كما يشتهي متستراً وإن حافظ على مظهر لقبه. مثال ذلك الأبيه دشاتو نوف، آخر عشاق نينون دلانكلو وأول معلم لفولتير. وكان رجلاً واسع الثقافة، رحب الأفق، وقد أشرب تلميذه وثنية نينون وارتيابه مونتيني. وفي رواية قديمة مشكوك فيها أنه قدم للصبي ملحمة هازلة تدعى "الملحمة الموسوية" كانت تتداول في مخطوطات سرية، ومؤداها أن الدين، إذا استثنينا الإيمان بكائن أعظم، ليس إلا ذريعة يتذرع بها الحكام لإخضاع المحكومين وإرهابهم (2).
بدأ تعليم فولتير حين اصطحبه معلمه "الأبيه" في زيارة لنينون، وكانت الغانية الشهيرة يومها (1704) في الرابعة والثمانين. ووجدها فرانسوا "يابسة كالمومياء" ولكنها ما زالت فياضة برقة المرأة وعطفها. وقد تذكر في تاريخ لاحق صنيعها فقال "لقد طاب لها أن تذكرني في وصيتها، فتركت لي ألفي فرنك لأشترى بها كتباً (13) ". وماتت بعد ذلك بقليل.
ورغبة في موازنة هذا الغذاء ألحق الصبي وهو في العاشرة طالباً مقيماً بكلية لوي-لجران اليسوعية على شاطئ باريس الأيسر، التي اشتهرت بأنها أفضل مدرسة في فرنسا. وكانت تضم بين تلاميذها الألفين من أبناء الأشراف كل من أطاق أن يتعلم، وفي السنوات السبع التي أنفقها فولتير في مدرسته صنع الكثير من الأصدقاء الأرستقراطيين الذين احتفظ طوال حياته بالألفة الطبيعية معهم. وقد تلقى تدريبات حسناً في الدراسات الكلاسيكية، والأدب، ولا سيما المسرحية، ومثل في مسرحيات عرضت هناك، وكتب هو نفسه تمثيلية وهو بعد في الثانية عشرة. وكان متقدماً في دراسته، وظفر بجوائز كثيرة وأبهج معلميه وأفزعهم. فلقد أعرب عن عدم إيمانه بالجحيم، وسمى السماء "عنبر نوم الدنيا الكبير (4) ". وتنبأ أحد معلميه في حزن بأن هذا الفكر الصغير سيحمل لواء الربوبية الفرنسية-أي الدين الذي يرفض كل لاهوت تقريباً فيما عدا الأيمان بالله. على أنهم احتملوه بما عهد فيهم من صبر وأناة، وبادلهم هذا الصنيع باحتفاظه-طوال هرطقاته كلها-باحترام وعرفان بالجميل(35/10)
دافئين لليسوعيين الذين راضوا عقله على الوضوح ودربوه على النظام كتب وهو في الثانية والخمسين يقول:
"تلقيت العام سبع سنين على يد رجال بذلوا جهود مضنية لم ينالوا عليها جزاء ليربوا عقول الشباب وأخلاقهم ... ولقد أشربوني ميلاً إلى الأدب، وعواطف ستكون عزاء لي إلى نهاية عمري. وما من شيء سيمحو من قلبي ذكرى الأب بوريه، الذي هو عزيز بالمثل على كل من أخذوا عنه العلم. فإن أحداً من المعلمين لم يحبب تلاميذه في الدرس والفضيلة كما فعل ذلك الأب ... وقد أسعدني الحظ بتلقي العلم على أكثر من أب يسوعي جملته أخلاق الأب بوريه .. فما الذي رأيته خلال السنين السبع التي قضيتها مع اليسوعيين؟ أكثر ضروب الحياة جداً وقصداً وتنظيماً، أوقاتهم كلها قسمة بين رعاية يبذلونها لنا وممارسات لمهنتهم الشاقة. وأني لأستشهد بالآلاف الذين علموهم كما علموني وليس بين هؤلاء فرد يكذبني (5) ".
وبعد أن تخرج فرانسوا نوى أن يجعل الأدب مهنته، ولكن أباه أصر على أن يدرس القانون، محذراً أياه من احتراف الأدب الذي هو كلمة المرور السحرية إلى الفقر والعوز. وظل فرانسوا ثلاث سنين "يدرس قوانين تيودوسيوس وجستنيان سبيلاً لمعرفة مهنة المحاماة الباريسية" على حد قوله. وقد كره "كثرة الأشياء عديمة الجدوى التي أرادوا أن يشحنوا بها ذهني؛ إن شعاري هو: التركيز على صميم الموضوع (6) ". وبدلاً من أن يستغرق في مجموعات القوانين والسوابق القانونية، سعى لصحبة جماعة من شكاك الأبيقوريين كانوا يجتمعون في التأميل-وهو بناء تخلف من دير قديم لفرسان الهيكل (الداوية) في باريس. وكان أمامهم فيليب دفاندوم، كبير رؤساء أديار فرنسا، صاحب الموارد الكنسية الضخمة والإيمان الديني الهزيل، ومعه الآباء سيرفيان، ودبوسي، ودشوليو، ومركيز دلافار، وأمير كونتي، وغيرهم من الأعيان الذين يتمتعون بدخل ميسر وحياة مرحة ... وكان الأبيه دشوليو يجهر بأن الخمر والنساء أطيب النعم التي جادت بها على الإنسان طبيعة حكيمة خيرة (7). وقد لائم فولتير بين نفسه وبين هذا النظام دون عناء، وصدم أباه بالسهر خارج(35/11)
البيت مع أمثال هؤلاء السمار المعربدين حتى العاشرة مساءً، وكانت تعد يومها ساعة متأخرة تأخيراً منكراً.
وعين فولتير ملحقاً للسفير الفرنسي بلاهاي (1713)، ربما بناءً على طلب الأب. ويعرف العالم كله كيف وقع الفتى البالغ الحساسية في غرام أوليمب دنواييه، وكيف لاحقها بأشعاره، وقطع لها العهد بعبادتها إلى الأبد. كتب لها يقول: "لم يوجد حب يعدل حبي، لأنه لم يوجد إنسان أجدر بالحب منك (8) ". وأبلغ السفير آرويه الأب بأن فرانسوا لم يخلق للدبلوماسية. فاستدعى ولده إلى وطنه، وحرمه من ميراثه، وهدد بنفيه على مركب إلى جزر الهند الغربية. وكتب فرانسوا من باريس إلى "بامبيت" بأنه قاتل نفسه إن لم تبادر بالحضور إليه. وإذ كانت أعقل منه بسنتين اثنتين، وبجنس واحد، فقد ردت عليه بأن من الخير له أن يصالح أباه، ويصبح محامياً فالحاً. وصفح عنه أبوه شريطة أن يدخل مكتب محام ويقيم معه، فوافق. أما بامبيت فتزوجت كونتا. ويبدو أنها كانت آخر مغامرات فولتير الغرامية. لقد كان إنساناً مرهف الشعور كأي شاعر، كله أعصاب وحساسية، ولكنه لم يكن عارم الشهوة، وسوف يقع بعد ذلك في غرام مشهور، ولكنه لن يكون تجاذباً بين جسدين بقدر ما هو تآلف بين عقلين. لقد فاضت طاقته من خلال قلمه. كتب إلى المركيزة ديمور وهو لم يجاوز الخامسة والعشرين يقول "إن الصداقة أثمن ألف مرة من الحب. ويخيل إليَّ أنني لم أخلق قط للغرام. فأنني أجد في الحب شيئاً سخيفاً نوعاً ما .. وقد قررت أن أطلقه إلى الأبد (9) ".
وفي أول سبتمبر 1715 مات لويس الرابع عشر، فتنفست أوربا البروتستنتية وفرنسا الكاثوليكية الصعداء. لقد كان موته خاتمة مُلك ونهاية عصر: مُلك اتصل اثنتين وسبعين سنة، وعصر-عصر القرن العظيم-بدأ بأمجاد الانتصارات الحربية، وبهاء الروائع الأدبية، وفخامة فن الباروك، وانتهى بانحلال الفنون والآداب، وإرهاق الشعب وإفقاره، وهزيمة فرنسا وإذلالها. وتطلع الجميع في أمل وشك إلى الحكومة التي ستخلف الملك المهيب الذي راح غير مبكى عليه.
2 - الصراع على الوصاية
1715
كان هناك ملك جديد، هو لويس الخامس عشر، ابن حفيد(35/12)
لويس الرابع عشر، ولكنه لم يكن قد جاوز الخامسة. مات جده، وأبوه، وأمه، وأخوته، وأخواته، وأخيراً جد أبيه. فمن يكون وصياً عليه؟.
لقد سبق وليان للعهد الملك الشمس إلى الموت: ابنه لويس الذي مات في 1711، وحفيده دوق برجنديا الذي مات في 1712. وقبل حفيد آخر باسم فيليب الخامس ملكاً على أسبانيا، شريطة تنازله عن جميع حقوقه في عرش فرنسا، وبقي على قيد الحياة بعد موت الملك الشيخ ابنان غير شرعيين، وكان قد اعترف ببنوتهما شرعاً، وأصدر مرسوماً بأن يرثا تاجه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي. أما أكبرهما وهو لوي أوجست، دوق مين، البالغ آنئذ الخامسة والأربعين، فكان رجلاً هزيل الجسم لطيف المعشر زادت قدمه المشوهة من حيائه وجبنه، ولعله كان يقنع بما تتيح له ضيعته الكائنة بضاحية سو (خارج باريس مباشرة)، والتي بلغ ثمنها 900. 000 جنيه، من ترف ودعة، لولا أن زوجته الطموح كانت تحثه على أن ينافس غيره من الساعين للوصاية إلى العرش. ذلك أن دوقة مين لم تنس قط أنها حفيدته كونديه الكبير، فاحتفظت في سو ببلاط أشبه ببلاطات الملوك، بسطت في رعايتها على الفنانين والشعراء (ومنهم فولتير)، وأحاطت نفسها بحاشية مرحة وفية تمهيداً للملك وسبيلاً للوثب إليه، وكان لها مفاتنها، امرأة لا عيب في جسمها ولا شائبة في هندامها، شديدة القصر والنحافة حتى ليخالها الناظر صبية، ذكية ماهرة، تلقت تعليماً كلاسيكياً طيباً، وأوتين بديهة حاضرة وحيوية لا تعيا وأن أعيت غيرها. وكانت واثقة أن زوجها سيكون وصياً رائعاً ما دام خاضعاً لسلطانها. وبلغت بإلحاحها من إقناع القوى المحيطة بالملك المحتضر مبلغاً كفى لاستخلاص وصية منه (12 أغسطس 1715) تركت لدوق مين الأشراف على شخص الصبي لويس، وتعليمه، وعلى جنود القصر، ومنحته كرسياً في مجلس الوصاية. ولكن ملحقاً للوصية (25 أغسطس) عن فيليب الثاني، دوق أورليان، رئيساً للمجلس.
وأما فيليب هذا فكان ابن فيليب الأول (المسيو) الأخ الخنثوي للملك الشيخ من زوجته ثانية-هي شاررلوت إليزابث أميرة البالاتين(35/13)
الخشنة الواقعية النزعة. وكان تعليم الفتى قد نيط بأب ديني تصفه "مذكرات" سان-سيمون، كما تصفه "المذكرات السرية لفترة الوصاية" "لدكلو" بأنه "بالوعة نتنة" من الرذائل. فلقد كان جيوم دبوا هذا ابناً لصيدلاني إقليمي، بذل جهداً كثيراً في الدرس، وكسب قوته بالاشتغال مدرساً خصوصياً، وتزوج، ثم ترك زوجته برضاها ليلتحق بكلية سان-ميشيل بباريس، حيث كان يدفع نفقات تعليمه بأداء الأعمال الحقيرة بهمة لا تفتر. فلما تخرج قبل وظيفة مساعد لسان-لوران، ضابط بيت "المسيو" وجز شعر أسه ليترهب، ورسم كاهناً صغيراً، ناسياً فيما يبدو زوجته. فلما مات سان-لوران عين دبوا مدرساً خصوصياً للوصي المستقبل. يقول دكلو-الذي قل أن توخى النزاهة وعدم التحامل "أن الأبيه أحس أن تلميذه سيحتقره عما قليل ما لم يفسد أخلاقه، فلم يدخر وسعاً في تحقيق هذا الهدف، وأفلح في هذا فوق ما دبر لسوء الحظ (10) ". أما سان-سيمون الذي كان يكره الموهبة المجردة من عراقة الأصل، فكان يجد متعة في وصف دبوا، قال فيه:
"رجل قصير القامة، حقير الهيئة، ذابل الوجه، مخلوع القلب، يلبس باروكة صفراء باهتة، له وجه عرسة يضيئه بعض الذكاء. لقد كان-في كلمتين مألوفتين-وغدا أصيلاً. اصطرعت في داخله دون هوادة كل الرذائل لتظفر بالسيادة، حتى ملأ ذهنه الضجيج المتصل-آلهته الحرص والفجور والطمع، ووسائله الغدر والملق والتذلل، ودينه الفسوق المطلق، ورأيه الذي كان به كأنه المبدأ العظيم هو أن الاستقامة والأمانة من الأوهام التي يتجمل بها الناس دون أن يكون لها وجود ... كان فيه ذكاء، وعلم ودراية بشئون الدنيا، ورغبة شديدة في إرضاء الناس والتودد إليهم، ولكن هذا كله أفسدته رائحة كذب وزيف انبعثت رغم إرادته من مسام جسده كلها ... شرير ... خائن، عاق، خبير بأخبث الخبائث، صفيق أشد الصفاقة حين يكشف أمره. يشتهي كل شيء، ويحسد كل شيء، ويود أن يظفر بكل شيء (11) ".
وكان سان-سيمون وثيق الصلة بأسرة فيليب، وعلينا ألا نتعجل(35/14)
في تكذيبه، ولكن لا بد أن نضيف أن هذا الأبيه كان دارساً كفئاً، ومساعداً قديراً، ودبلوماسياً حكيماً موفقاً، وأن فيليب لخبرته بالرجل ظل وفياً له إلى النهاية.
أما التلميذ، الذي ربما كان نسبه من ناحية الأب قد أفسده، فقد تلقف تعليمات أستاذه وبزها عقلاً ورذيلة. أبهج معلمه بذاكرته القوية، وفطنته العقلية، وذكائه الثاقب، وفهمه وتذوق للأدب والفن. وأتاه دبوا بفونتنيل ليعلمه أصول العلوم، وبهومبيرج ليعلمه أصول الكيمياء، وسيكون لفيليب فيما بعد مختبره الخاص كما كان لتشارلز الثاني ملك إنجلترا ولفولتير في سيريه، وسيلتمس في التجارب الكيميائية بعض الراحة من حياة الزنا والفجور. وكان يرسم صوراً لا بأس بها، ويعزف على القيثارة، ويحفر الرسوم للكتب، ويجمع التحف جمع ذواقة خبير ولم يتعمق واحداً من هذه الميادين، فقد اهتماماته شديدة التنوع، وملاهيه تستأثر بوقته. وكان بريئاً كل البراءة من الإيمان الديني، وحتى أمام الناس "تظاهر باستهتار مخز بالدين (12) " وفي هذا، كما في إباحته الجنسية، كان رمزاً وحافزاً لبلده وللقرن الذي عاش فيه.
لقد كان كأكثرنا خليطاً مضطرباً من الشخصيات. يكذب في يسر وفي ابتهاج خبيث عند الحاجة أو للنزوة الطارئة، وينفق ملايين الفرنكات المنتزعة من شعب مملق على ملاهيه وهواياته الشخصية؛ على أنه كان جواداً عطوفاً، بشوشاً متسامحاً، "بطبيعته طيب القلب عطوف، رءوف (كما قال سان-سيمون (13)) أكثر وفاء لأصدقائه منه لخليلاته. وكان يثمل بالشراب كأن السكر شعيرة يؤديها كل ليلة قبل أن يمضي إلى فراشه (14). فإذا وبخته أمه أجابها "من السادسة صباحاً حتى الليل يفرض على العمل الطويل المضني، ولولا أني ألهو بعد ذلك لما أطقته، ولمت كمداً (15) ".
وربما كان له من إجهاض حبه الأول عذر في إسرافه في الجنس. ذلك أنه شغف حباً بالآنسة سيري، وكانت وصيفة شرف لأمه، عريقة المولد. فراح ينظم لها القوافي، ويغني لها، ويزورها مرتين في(35/15)
اليوم، وأراد أن يتزوجها. ولكن لويس الرابع عشر عبس، وزكى له ابنته غير الشرعية، دوقة بلوا، تزكية قوية. وأطاع فيليب (1692)، ولكنه واصل تعلقه الشديد بالآنسة سيري حتى ولدت له ابناً. فنفاها الملك الغاضب من باريس. وبعث لها فيليب بالمال الكثير، ولكنه حاول أن يكون وفياً لزوجته، دون أن يوفق في ذلك طويلاً. ومنحته ابنة، هي دوقة بيري المستقبلة، التي أصبحت أغلى حب له وأمر مأساة في حياته.
وبعد موت أبيه (1701) خلفه فيليب على لقب الدوقية وثروة الأسرة، دون أن يلتزم بشيء، إلا أن يستمتع بحياته في السلم ويخاطر بها في الحرب. وكان قد قاتل قبل ذلك ببسالة ضد الحلف الأعظم (1692 - 97)، وأصابته من جراء ذلك جراح كبيرة. ثم نال الآن مزيداً من الامتياز ببسالته المستهترة في حرب الوراثة الأسبانية (1702 - 13). فلما نجا من الموت كافأ نفسه بوليمة من البغايا. وكان في آثامه كلها، وفي غير استهتاره الديني، يحتفظ بلطف في السلوك وتهذيب وأدب في الحديث يذكر الناس بشباب "الملك الشمس" الحالم.
ولم يخطر ببال فيليب أن من حقه أن يطالب بالوصاية على العرش إلا بعد أن أزيح جميع الورثة المباشرين من الطريق، أما بالموت وأما بالمعاهدة. واتهمته الشائعات بأنه سمم أمراء البيت المالك ليخلو له الطريق إلى الملك، ولكن الأجيال التالية وافقت لويس الرابع عشر على رفضه هذه الفرية. وبدأت عدة جماعات ترى فيه شراً أهون من دوق مين ودوقتها. فالبروتستنت الفرنسيون الذين قبلوا اعتناق الكاثوليكية تحت الإكراه بالتهديد تمنوا ارتقائه إلى منصب الوصي لما توسموا فيه من ميل ملحوظ إلى التسامح. كذلك الجانسنيون الذين قاسوا من الاضطهاد الملكي والمراسيم البابوية، وكذلك أصحاب "العقول القوية" أو أحرار الفكر الذين أبهجتهم فكرة حكم رجل حر الفكر لفرنسا، وكذلك جمهور باريس الذي سئم صرامة الملك المتوفى وتزمته الذي جاء متأخراً، وكذلك جورج الأول ملك إنجلترا، الذي عرض على فيليب المعونة المالية فرفضها، وأهم من هؤلاء جميعاً أن "نبلاء السيف"-(35/16)
أي الأسر النبيلة التي أنزلت عن سلطانها القديم بأمر ريشليو ولويس الرابع عشر ليصبح أفرادها طفيليات تعيش عالة على البلاط-هذه الأسر راودها الأمل بأنها عن طريق فيليب ستثأر لنفسها من الإهانة الملكية، إهانة الخضوع للأبناء غير الشرعيين في الحكم، وللتجار في الإدارة. وحث سان-سيمون فيليب على التخلي عن تبطله وفجوره، وعلى الكفاح في سبيل حقه في الوصاية، وكان هو نفسه واحداً من أكبر النبلاء مقاماً.
وأما فيليب فكان يحب اللهو أكثر من السلطة، ولعله كان يؤثر أن يترك وشأنه. أما وقد راح أصحابه يحضونه، فقد همز همته لتفور فورة قصيرة، فاشترى هو-أو هم-تأييد جنود القصر الملكي (تحت بصر دوق مين)، وكسبوا كبار السياسيين والعسكريين بوعدهم بالوظائف، واسترضوا البرلمان بآمال رد امتيازاته السابقة. وفي 2 سبتمبر 1715 - غداة موت لويس الرابع عشر-دعا فيليب برلمان باريس، وقادة النبلاء، وكبار موظفي الدولة، للاجتماع في قصر العدالة. وذهب دوق مين مؤملاً الظفر بمنصب الوصي، ولكن جسارة دوق أورلين، وكذبه، وفصاحته، كلها غلبته في هذه اللعبة. قال فيليب في معرض بذل الوعود "لن يكون لي هدف غير التخفيف من آلام الشعب، وتوطيد النظام الحسن من جديد في مالية الدولة، والمحافظة على السلام في الوطن وفي الخارج، وإعادة الوحدة والهدوء إلى الكنيسة، وسيعينني على هذا اعتراضات هذا المحفل الجليل الحكيمة، وهأنذا ألتمسها سلفاً (16) ". أي أنه عرض أن يرد للبرلمان "حق الاعتراض" (على المراسيم الملكية) الذي أنكره الملك السابق وأغفله. وتحقق النصر لهذه الحركة البارعة، وبايع البرلمان فيليب بالإجماع تقريباً وصياً على العرش وأعطاه الإشراف الكامل على مجلس الوصاية. واحتج دوق مين بأن هذه الترتيبات تخالف وصية الملك الراحل، وأنه والحالة هذه لا يمكن أن يظل بعد ذلك مسئولاً عن شخص الملك الصبي، وأنه مضطر إلى طلب إعفائه من ذلك الواجب. فأخذه فيليب والبرلمان عند كلمته، وانكفأ مين ساخطاً عاجزاً إلى ضيعته في سو، وإلى تقريعات زوجته العنيفة. وأصبح فيليب أورليان وصياً على عرش فرنسا ثمانية أعوام، وكان يومها في الثانية والأربعين.(35/17)
3 - ازدهار ثم انهيار
1716 - 1720
كانت مهمته الأولى إعادة النظام والاستقرار الماليين إلى الدولة. لقد ورث حكومة مفلسة، بلغ دينها 2. 400. 000. 000 جنيه، أضيف إليه دين قصير الأجل بلغ 590 مليون جنيه على شكل "سندات على الدولة"-وهي كمبيالات ملكية تتداولها الأمة، ولم تكد تساوي آنئذ ثلث قيمتها الأسمية. وكان صافي إيرادات الحكومة عام 1715 لا يتجاوز 69 مليون جنيه، ومصروفاتها 147 مليوناً. وكان أكثر الدخل المنتظر في 1716 قد أنفق مقدماً (17).
وأشار سان-سيمون بأن تشهر الحكومة إفلاسها. ولكن الدوق أدريان موريس دنواي احتج. ووفق الوصي بين الرأيين بإجراءات اقتصاد وإصلاح معتدلة. فخفض الجيش إلى 25. 000 مقاتل، وأعفى الجنود المسرحون من الضرائب ست سنوات، وأعفى آباء الأطفال الثمانية إعفاءً دائماً. وخفضت ضرائب "التاي"، والجاييل، والرءوس، وغيرها من الضرائب. وندد بالفساد الذي استشرى في جميعها، وعولج بعض هذا الفساد، ورفت مئات من شاغلي الوظائف الحكومية الزائدين عن الحاجة-ومنهم 2. 400 في باريس وحدها. وأنشئت "غرفة عدالة" (مارس 1716) دعى للمثول أمامها كل الماليين، والتجار، وأصحاب مصانع الذخيرة، وغيرهم ممن اشتبه في أنهم غشوا الحكومة. وهنا أقام نواي، الذي ألف الإجراءات العسكرية، حكم إرهاب حقيقياً، فوعد بالرأفة كل من يكشف عن زملائه من المذنبين، ووعد المبلغون بخمس المبالغ التي تسترد بفضل مساعدتهم. وشرعت عقوبة الإعدام لكل من يعوق عمل المبلغين، وتقررت مصادرة الأملاك والحكم بالتشغيل على سفن الأسرى والعبيد مدى الحياة عقاباً لمن يدلون بشهادة زور عن وضعهم المالي. وشنق بعض من حكم عليهم، ووضع البعض الآخر في المشهرات أمام جمهور مبتهج، وانتحر بعض رجال المال بعد أن يئسوا من تبرئة أنفسهم. على أن النتائج لم تكن متناسبة مع هذه الوسائل. ذلك أن أكثر المذنبين اشتروا الإعفاء من الفحص أو الإدانة برشوة موظفي الغرفة، أو أصدقاء الوصي، أو خليلاته. وتفاقم الفساد حتى بلغ حداً كان أفراد الحاشية(35/18)
يسعون فيه إلى الرشوة بدلاً من أن يعرضها المذنبون عليهم، من ذلك أن أحد رجال المال حكم عليه بغرامة قدرها 1. 200. 000 فرنك، فوعده أحد رجال البلاط برفع الغرامة لقاء مبلغ 300. 000 جنيه. قال له رجل المال "سيدي الكونت العزيز، لقد تأخرت كثيراً، لأني أبرمت للتو اتفاقاً مماثلاً مع زوجتك لقاء نصف هذا المبلغ (18) ". وأعلن المرسوم الذي ألغى غرفة العدالة (مارس 1717)، في صراحة ندر أن تتحلى بها الحكومات، أن "الفساد استشرى حتى وصلت عدواه إلى جميع الطبقات تقريباً، بحيث لا يمكن توقيع العقوبات العادلة على مثل هذا العدد الغفير من المذنبين دون الإخلال الخطر بالتجارة والنظام العام والدولة". وكان صافي ربح الحكومة حين انتهى التحقيق نحو سبعين مليون فرنك (19).
فلما خاب أمل الوصي في هذه النتائج، استمع إلى رجل اسكتلندي ممتاز اقترح عليه نظاماً جديداً للمالية. واسم الرجل جون لو، وقد ولد لمصرفي من أدنبرة في 1671، ودرس علم المصارف في لندن، وشهد افتتاح بنك إنجلترا في 1694، واشترك في مبارزة بسبب الحب، وقتل غريمه، ثم فر إلى القارة يحمل على رأسه حكماً بالإعدام. وكان وسيماً، بشوشاً، مولعاً بالعلوم الرياضية، ضارب بنجاح في سوق النقد الأجنبي، وأعانته قدرته على حساب ارتباطات أوراق اللعب وتذكرها على كسب قوته في مختلف الأقطار. وقد راقب الطرق التي تعمل بها المصارف في أمستردام، وهامبورج، والبندقية، وجنوة. وفي أمستردام على الأخص أخذ بسحر نظام الائتمان، الذي أتاح للمصرف أن يصدر أوراقاً نقدية بأضعاف القيمة الذهبية لرصيده، بحيث شغل عشرة جولدنات بغطاء جولدن واحد، وبهذه الطريقة حفز الأنشطة الصناعية والتجارية، ويسرها، وضاعفها. ورأى هناك كيف يمكن، في مصرف يثق به رجال الأعمال، إجراء المعاملات بمجرد نقل الأرصدة المصرفية، دون عناء حمل الفضة أو الذهب أو مبادلتهما. وساءل نفسه: لم لا يمكن إنشاء مصرف قومي ونظام ائتمان كهذين في فرنسا؟ وراح يفكر في وضع "نظامه"-وهو الاسم الذي أطلق عليه بعد ذلك.
وكان محور فكرته زيادة توظيف الناس والمواد بإصدار أوراق النقد، بضمان الحكومة، لمثلي قيمة الاحتياطيات القومية من الفضة والذهب(35/19)
والأرض، ويخفض معدل الفائدة، تشجيعاً لرجال الأعمال على اقتراض المال للمشروعات والطرق الجديدة في الصناعة والتجارة. وبهذه الطريقة تخلق النقود الأعمال، وتزيد الأعمال من التوظيف والإنتاج، وتزداد الإيرادات والاحتياطيات القومية، ويتيسر إصدار المزيد من النقود، ويتصاعد الخير والنفع. ولو أمكن إقناع الشعب-عن طريق المدفوعات من الفوائد-بإيداع مدخراته في مصرف قومي بدلاً من اختزان المعدنين النفيسين، لأضيفت هذه المدخرات إلى الاحتياطيات، وأصدر المزيد من العملة، وهكذا يشغل المال العاطل، ويزداد رخاء البلاد.
وفي عام 1708 شرح لو أفكاره للحكومة الفرنسية، فرفضها لويس الرابع عشر. فلما أصبح فيليب أورليان وصياً، عرض لو أن ينقذ بنظامه هذا مالية فرنسا المفلسة. وتساءل: لم تنفرد فرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، دون سائر دول أوربا الكبرى بخلوها إلى ذلك الحين من المصارف القومية؟ ولم تردت فرنسا في مهاوي الركود الاقتصادي برغم ما تميزت به تربتها من خصب وأهلها من ذكاء؟ ووافق فيليب على السماح له بأن يؤسس "مصرفاً عاماً" (1716) على أن يكون هذا مشروعاً أهلياً. وقبل المصرف الودائع، ودفع الفوائد، وأقرض القروض، وأصدر أوراق نقد-من فئات عشرة ومائة وألف فرنك-سرعان ما أصبحت وسيطاً مفضلاً في المبادلة بفضل قيمتها الثابتة، المربوطة بوزن ثابت من الفضة. وكانت هذه الأوراق النقدية أول نقود ورقية قانونية، وهكذا وضع مصرف لو، وفروعه الإقليمية، أول طرق الائتمان المنتظمة في فرنسا. وفي أبريل 1717 تقرر قبول أوراق المصرف سداداً للضرائب.
وفي سبتمبر تقدم لو إلى مرحلة من أفكاره أشد مغامرة. ذلك أنه حصل من الوصي على امتاز شركة جديدة سماها "شركة الغرب" لاستغلال حوض المسسبي بأكمله، وكان يومها خاضعاً لفرنسا. وباع للجمهور 200. 000 سهم في شركة الغرب هذه سعر السهم منها 500 جنيه، وكان الثمن عالياً، ولكن يجوز دفع ثلاثة أرباعه سندات حكومية بقيمتها الاسمية، التي بلغت ثلاثة أمثال قيمتها الفعلية.(35/20)
وبادر الجمهور إلى شراء الأسهم كلها مغتبطاً بهذه الفرصة التي أتاحت له أن يستبدل بالأوراق المنخفضة القيمة أسهماً في مشروع يرجى من ورائه الربح. وأصدر لو-في تفاؤل متزايد-تعليماته لمصرفه بأن يشتري الاحتكار الملكي للتبغ، وجميع الشركات الفرنسية التي تشتغل بالتجارة الخارجية، ثم ضم هذه الشركات إلى شركة الغرب فألف منها "شركة جزر الهند" التي ستحتكر كل التجارة الخارجية. وبدا لبعض رجال الأعمال أن الاشتراكية في التجارة الخارجية نذير بالاشتراكية في الإنتاج والتوزيع الداخليين، فبدأت تختمر حركة معارضة للو.
وفي 4 ديسمبر 1718 أعيد تأسيس مصرف لو باسم "المصرف الملكي"، واعترف بأوراقه أوراقاً نقدية قانونية، وأعطى الإشراف الكامل تقريباً على مالية الأمة. وأصدر لو إصداراً جديداً من الأسهم في شركة الهند بسعر السهم منها 550 جنيهاً. وسرعان ما تم الاكتتاب. وزاد توقع الناس للأرباح المرتفعة في تقديرهم لقيمة الأسهم، فتبادلوها بأسعار مطردة الزيادة في موجة مضاربة، حتى طلبت بسعر 5. 000 جنيه، أي بتسعة أو عشرة أمثال قيمتها الاسمية. وتصادف أن مرت بباريس في 1718 الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، فابتسمت لرؤية فرنسا تترك التصرف في حياتها الاقتصادية لرجل بريطاني. وسمح لو نفسه لخياله بأن يشطح متجاوزاً صواب حكمه. فلم يكتف المصرف الملكي الجديد بتسلم دار سك النقود وكل جبايات الضرائب، بل تلقى الدين القومي بإعطائه حصة في شركة جزر الهند نظير كل قيمة اسمية قدرها 5. 000 جنيه في تعهدات الحكومة، وخيل إليه أن رأس المال العاطل سيصبح بهذه الطريقة عاملاً في مشروعاته المنوعة. ثم عرض قدرة المصرف على الوفاء بديونه لمزيد من الخطر بإعطائه منحة للوصي قدرها 2400 سهم.
وظلت ثقة الناس به كاملة برغم هذه المغامرات الطائشة، واشتدت حماستهم للشركة، وزايد المشترون بأسعار أعلى وأعلى على أسهمها. وزاد المزيفون هذه الضجة بإنزال شهادات أسهم مزيفة إلى السوق. وظل شارع كانكمبوا، الضيق القذر، الذي اختار "النظام" فيه مكانه، مدى عامين المركز المالي الرئيسي لباريس (أشبه بوول ستريت في(35/21)
نيويورك). وتجمع فيه المشترون والبائعون من جميع الطبقات، والدوقات والمومسات، والباريسيون والريفيون والأجانب، في أعداد مطردة وانفعال اشتد يوماً بعد يوم. ومات البعض تحت الأقدام وسط الزحام، أو داستهم مركبات النبلاء. وكان المريشال الشيخ "دفيلار" يمر بالمكان راكباً، فتوقف ليحاضر الجمع المحتشد عن جشعه المفرط. وكانت الأكشاك الصغيرة المقامة في هذا الزقاق تغل كل شهر إيجاراً أكثر مما تغله البيوت في عشرين عاماً. وشكا السكان من شدة الضجيج الذي لا يحتمل. ومع ذلك لم يتوقف المشترون عن المزايدة بأصوات مرتفعة، وكان سعر السهم يزداد كل يوم تقريباً، بل أحياناً كل ساعة، فبيع بعض الأسهم في نهاية عام 1719 بمبلغ 12. 000 جنيه، وبلغت القيمة السوقية لكل الأسهم المعروضة آنئذ ثمانين ضعف قيمة كل الذهب والفضة المعروفين في فرنسا (20). وإذ كان المطلوب دفعه من ثمن السهم لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمته الاسمية، فإن نقل الأسهم من مالك لآخر كان سريعاً، وحقق البعض ثروات في يوم واحد. فكسب مصرف 100 مليون جنيه، وخادم في فندق ثلاثين مليوناً (21). وسمع الناس لأول مرة كلمة "المليونير (22) ".
وكان لو رجل الساعة. ففي 1720 عين مراقباً عاماً للمالية. وكان أساطين النبلاء والنبيلات يذرعن حجرة انتظاره ملتمسين نصحه في شئون المال أو تأييده في دسائس البلاط. وقد كتب فولتير مستعيداً ذكرى ذلك العهد فقال "رأيته يعيني يخترق أبهاء الباليه-رويال ومن ورائه الأدواق والأشراف-ومارشيلات فرسا، وأساقفة الكنيسة (23) ". وقبلت إحدى الدوقات يده في تذلل.
بيد أنه لم يبد عليه أن انتصار أفكاره الظاهرة أفسده، أو أن استفحال سلطانه الشخصي أطغاه، والواقع أنه ربع للقيمة المفرطة التي أوصل جشع الجمهور أسهم الشركة إليها (24). ولم يستغل مركزه ليثرى. وقد صرح سان-سيمون، الذي كان يعارض هذا "النظام" بقوله:
"لم يكن في طبعه جشع ولا لؤم. فلقد كان رجلاً رقيقاً طيباً(35/22)
محترماً، لم تفسده زيادة الثقة وكثرة المال، ولم يكن في مسلكه، ولا في بطانته، ولا في مائدة طعامه، ولا في أثاثه، ما يصدم الناس. وقد احتمل بصبر وثبات عجيبين كل المضايقات التي سببتها عملياته، حتى إذا قارب النهاية .. .. أصبح سريع الغضب حاد الطبع".
ولكن بعض النبلاء لم يرضوا عنه لأنه أجنبي وبروتستنتي، ولاحظوا أنه هو وزوجته والإنجليزية لم يكونا متزوجين زواجاً شرعياً رغم ما بدا من إخلاصهما الواحد لصاحبه. ورغبة منه في التخفيف من هذا العداء، قبل المواطنة الفرنسية والمذهب الكاثوليكي الروماني.
واستعمل سلطانه مهمازاً يحفز به رضاء وطنه الثاني، فخفض الضرائب، وأنهى النظام السقيم الفاسد الذي كانت الوكالات الأهلية تتبعه في جميع الضرائب، وأظهر نحو جماهير الشعب عطفاً لم يعهد في رجال المال. وقسم ضياعاً كبيرة ملكاً للكنيسة أو النقابات ليزرعها الفلاحون، لا بل اقترح عقب تعيينه مراقباً عاماً إلزام الكنيسة ببيع جميع الأملاك التي اقتنتها بعد عام 1600 - أعني نصف جميع ممتلكاتها الفرنسية (25) -وسبق طورجو بإلغائه الرسوم المفروضة على نقل الأغذية والسلع داخل فرنسا، ونظم بناء الطرق والكباري والقنوات أو ترميمها، واستقدم مهرة الصناع من الخارج ليؤسسوا صناعات جديدة، وشجع التوسع الصناعي بتخفيضه نسبة الفائدة على القروض، وزادت المشروعات الفرنسية ستين في المائة في مدى العامين (1719 - 20) اللذين بلغ فيهما قمة سلطته، وأحيا البحرية التجارية وضاعفها بالتوسع في التجارة مع آسيا وأفريقيا، وأمريكا، وكانت السفن الفرنسية التي تحمل التجارة الخارجية، تبلغ ست عشرة في مارس 1719، فأصبحت 300 في يونيو 1720، وعادت التجارة الخارجية الفرنسية في عهد لو إلى الأوج الذي أدركته تحت كولبير. وأقنع النبلاء الفرنسيين بتمويل إنتاج البن والتبغ في لويزيانا، ومول هو نفسه تطوير منطقة نهر أركنساس. وفي 1718 أسست نيو أورليانز، واتخذت لها اسماً من اسم أسرة الوصي.
على أن المشروع الأمريكي لم يكتب له التوفيق رغم جهود لو(35/23)
وفيليب المتعددة النواحي. فلقد كان شطر كبير من وادي المسسبي لا يزال برية لم تفتح، وعرض لو مهور العرائس و450 فداناً على الأسر المهاجرة إلى الوادي. فلما تبين أن الهجرة أقل إغراء من المضاربة، رحل المسجونون والمتشردون والبغايا في لويزيانا، ودفع الشبان والشابات (أمثال مانون ليسكو في رواية بروست) إلى هذه المغامرة بالحيلة أو القوة. وكان هؤلاء الضحايا يطعمون أسوأ الطعام حتى مات كثير منهم في الطريق. وأوقفت مراسيم مايو 1720 هذا الإكراه الهمجي. أما في المستعمرة ذاتها فإن التجهيز الرديء، والإدارة السيئة، والتمرد كلها عوقت النهوض بالاقتصاد، وجعلت أرباح "شركة المسسبي" (كما سماها الناس) أقل كثيراً مما افترضه المضاربون. واتضح أن آمال استخراج الذهب أو الأحجار الكريمة من أرض المستعمرة وهم في وهم، رغم أن لو نفسه راوده هذا الحلم.
ولا بد أن نبأ هذه الصعوبات قد وصل إلى فرنسا. وحكم أذكى المضاربين أن أسهم الشركة قد بلغت قمتها، أما غيرهم ممن لم يلقوا عن هؤلاء جشعاً وإن افتقروا إلى المعلومات أو الحكم الصائب، فقد حل بهم الخراب لأنهم تأخروا في بيع أسهمهم. وفي ديسمبر 1719 أصبح التهافت والتنافس على البيع أكثر مما كان على الشراء. ففي بحر شهر واحد باع الدوق بوربون أسهماً بعشرين مليون جنيه، وأمير كونديه بأربعة عشر مليوناً، وتطلب الأمر تخصيص ثلاث عربات لحمل الذهب الذي لم يجرؤ لو على الامتناع عن دفعه ثمناً لأوراقه النقدية وأسهم الشركة (26). وأفرغ مضارب بروسي ما يملكه منها، ثم مضي بثلاثين مليوناً من الجنيهات ذهباً. وصرف غير هؤلاء ثمن أسهمهم ليشتروا أرضاً أو بيوتاً أو حلياً أو أشياء أخرى مما تستند قيمته على أساس مكين من حاجة البشر وغرورهم. أما المليون الذين عاقبتهم غرفة العدالة فقد انتقموا لأنفسهم بصرف ثمن أوراقهم وإرسال الذهب خارج فرنسا. وحاول لو أن يقف تدفق الذهب من الخزانة، فحصل من الوصي على مراسيم تحرم على الشعب تملك المعادن النفيسة أو الاتجار فيها أو تصديرها، وتحتم تسليم كل الذهب والفضة مما تزيد قيمته على خمسمائة فرنك إلى المصرف الملكي. وخول لمندوبي المصرف أن يدخلوا البيوت ويفتشوا عن المعدن النفيس المخبوء، ومثل هذا(35/24)
العدوان على حرمة البيوت لم يجرؤ عليه أحد قط حتى لويس الرابع عشر. يقول سان-سيمون "لقد أخفى الكثيرون أموالهم في تكتم شديد حتى أنهم-بعد أن ماتوا دون الإفضاء بمكمن كنوزهم الصغيرة-ظلت هذه مدفونة وضاعت على ورثتهم (27) ".
فلما واصل سعر الأسهم هبوطه حاول لو أن يدعمه بعرضه 9. 000 جنيه (بأوراق النقد) ثمناً للسهم، ولكن الزيادة المطردة في أوراق النقد خفضت من قيمتها ورفعت من سعر البضائع. فلم يحل مايو 1720 حتى كانت الأسعار قد ارتفعت مائة في المائة، والأجور خمسة وسبعين في المائة بالمقارنة بسنة 1716، وفي يوليو كان زوج الجوارب الحريرية الطويلة يباع بأربعين جنيهاً. وبدأ الذعر من التضخم، فاندفع الناس إلى تغيير أوراق النقد وشهادات الأسهم والبضائع، فجمع دوق دلافورس المقادير الكبيرة من الشموع، وكدس المريشال ديستري كميات ضخمة من البن والكاكاو. ولكي يحد لو من هذا الهروب من النقود إلى السلع، أعلن (21 مايو) تخفيض 50% في القيمة الرسمية لأوراق النقد وأسهم الشركة. وكان هذا خطأً كبيراً-ربما كان السبب فيه ضغط الوصي المرتاع على لو، وكان هو ذاته يشعر بالضغط عليه من خصوم لو من النبلاء والكهنة (28)، وحاول فيليب تخفيف الأزمة برد كل أسهمه في الشركة إلى المصرف (29).
ومع ذلك استمرت موجة البيع. ففي يوليو اضطر المصرف إلى وقف الدفع على أية ورقة نقدية تزيد على عشرة فرنكات وحاصر حملة الأوراق المصرف. وطالبوا في صخب وضجيج برد قيمة أوراقهم ذهباً أو فضة. وفي باريس اشتد تزاحم القوم حتى ديست عشر نساء تحت الأقدام وسط الفوضى، وحملت بعد ذلك ثلاث من جثثهن في موكب غاضب تحت نوافذ الوصي. واعتبر الشعب لو مسئولاً عن جميع الصعوبات مع أن مضاربتهم المجنونة هي التي سببت انهيار "النظام". وحاول بعضهم القبض عليه وقتله، فلما فشلت المحاولات هشمت مركبته تهشيماً في فناء الباليه-رويال-وأعربت حوادث الشغب المتكررة عن شعور الشعب بأنه كان ضحية الخدع المالية، وبأن الطبقات العليا كسبت على حساب جمهرة الأمة. وشارك البرلمان في الحملات(35/25)
على لو، فنفى فيليب البرلمان إلى بونتواز (20 يوليو)، ودافع الشعب عن البرلمان.
وفي أغسطس هبطت أسهم شركة المسسبي إلى 2. 000 جنيه بعد أن بلغت في أوج ارتفاعها 12. 000 جنيه، أما الأوراق النقدية فهبطت إلى عشرة في المائة من قيمتها الأصلية. وفي أكتوبر تسرب نبأ-سري من فم إلى فم-بأن الوصي سحب من المصرف الملكي أبان ازدهاره أوراقاً بلغت قيمتها الاسمية ثلاث بلايين من الفرنكات، أنفق أكثرها على الهدايا السخية للأصدقاء والمحظيات وحوالي هذا التاريخ هرب أحد صيارفة المصرف إلى بروسيا حاملاً كمية ضخمة من الذهب. فهبطت أسهم شركة المسسبي إلى 200 جنيه. وفي ديسمبر ألغى الوصي المصرف، وطرد لو، وأعاد البرلمان. وفي الرابع عشر من أكتوبر غادر لو فرنسا مع ابنه. وكان قد وظف ثروته في شركة جزر الهند الخاسرة، وشارك مصير معظم حملة الأسهم، ولم يكن قد أودع مالاً في الخارج، فلم يأخذ الآن معه سوى ألفي جنيه وبعض الجواهر غير القيمة. وفي بروكسل تلقى من بطرس الأكبر دعوة بالحضور إلى روسيا والاضطلاع بشئون ماليتها، فرفض، واعتكف في البندقية، حيث لحقت به زوجته وابنته، وعاش مغموراً فقيراً، وهناك مات في 1729.
لقد كانت المبادئ التي أقام عليها مصرفه سليمة نظرياً، ولولا جشع المضاربين المفرط وإسراف الوصي لجعلت فرنسا قادرة على الوفاء بالتزاماتها ولحققت لها الرخاء. وحين فحصت حسابات لو الخاصة وجدت سليمة لا غبار عليها. وترك الاقتصاد الفرنسي مؤقتاً خرباً في ظاهر الأمر، فحملة الأسهم والأوراق النقدية يطالبون بدفع قيمتها والدفع مستحيل، وتداول النقود أصابه الشلل تقريباً، والصناعة محجمة، والتجارة الخارجية أصابها الركود، والأسعار فوق طاقة الشعب. ودعا الوصي أخوان "باريس" ليشيعوا شيئاً من النظام وسط هذه الفوضى. فطلبوا جميع أوراق النقد وعوضوا فئاتها المنوعة بحقوق على الدخل القومي، بخسارة على أصحابها تفاوتت من ستة عشر إلى خمسة وتسعين في المائة، أما الجمهور الذي استنفد سورة غضبه فقد أذعن لهذا الإفلاس العملي في صبر واحتمال.(35/26)
على أن شيئاً بقي بعد هذا الانهيار. فالزراعة أفادت من ارتفاع قيمة محاصيلها وهبوط العملة. وأفاقت الصناعة سريعاً لأنها وجدت حافزاً من انخفاض الفائدة وارتفاع الأسعار، وظهرت المشاريع الجديدة في كل مكان. وانتفعت التجارة الداخلية من خفض الرسوم الداخلية، واستأنفت التجارة الخارجية توسعها فيما وراء البحار بعد انحسار الفوضى. وخرجت الطبقات الوسطى سليمة كبيرة-وسعيها وراء الكسب كالعهد بها طبيعي وضروري. وتضاعف عدد الماليين وازدادوا قوة على قوة. وكسب النبلاء لأنهم دفعوا ديونهم بعملة أرخص، ولكنهم ظهروا بمظهر مخز لأنهم أبدوا وسط حمى المضاربة شهوة ملحة للكسب لا تقل افتضاحاً عنها في أي طبقة. وظلت الوصاية ملوثة بالنكول عن التزاماتها المالية وبترفها الموصول وسط الخراب الشامل. وقال ناقد مجهول الاسم في معرض الشكوى من الحال "لا بد من انقضاء قرون حتى يمكن استئصال الشر الذي يسأل عنه لو، لأنه عود الناس الدعة والترف، وجعلهم غير قانعين بحالهم، ورفع ثمن الطعام والعمل اليدوي، وجعل جميع طبقات التجار تتطلع إلى أرباح باهظة (30) " ولكن تلك الروح التجارية ذاتها حفزت اقتصاد فرنسا وفكرها، رغم هبوطها بالجو الأخلاقي للمجتمع الفرنسي. فما حل عام 1722 حتى انتعش الاقتصاد الفرنسي بقدر أتاح للوصي على العرش أن يعود، باطمئنان ضمير الحاكم، إلى أساليبه المعهودة من الحكم العطوف، والفجور الفاضح.
4 - الوصي
لقد نبهته أمه الألمانية إلى ضرورة الحد من لطفه مع الناس، فقالت له "إن العطف خير من القسوة، ولكن العدالة تقوم بالعقاب كما تقوم بالثواب، ومن المؤكد أن من لا يجبر الفرنسيين على خشيته سيخشاهم بعد قليل، لأنهم يحتقرون من لا يخيفونهم (31) ". أما فليب، الذي شكله مونتيني، فكان يعجب بالحرية الإنجليزية، ويتكلم بتفاؤل على حكمه رعية لا تطيعه طاعة عمياء، بل تكون من الذكاء بحيث تدعه يشرح لها الدواعي التي تبرر قوانينه. ورمز لروح نظامه بتركه فرساي وسكنى الباليه-رويال، في قلب باريس ومعمعائها.(35/27)
وكان يكره مراسم حياة البلاط والإعلان عنها، فترك ذلك كله وراء ظهره. ورغبة في المزيد من التيسير والخلوة رتب ألا يسكن الملك الصبي فرساي بل القصر الريفي في ضاحية فانسين. وبدلاً من أن يدس له فليب السم كما أرجفت الشائعات، عامله أرق معاملة، وأبدى نحوه كل الخضوع الواجب له، واحتفظ لويس الخامس عشر طوال حياته بذكرى شاكرة للرعاية التي أغدقها عليه الوصي (32).
بعد أن دفن لويس الرابع عشر بيومين أمر فيليب بالإفراج عن جميع المسجونين في الباستيل فيما عدا أولئك الذين عرف عنهم ارتكابهم جرائم خطيرة ضد المجتمع. وكانت مئات من هؤلاء الرجال قد سجنوا بمقتضى أوامر القبض المختومة lettres de cachet التي أصدرها الملك الراحل، وأكثرهم جانسنيون لم تكن تهمتهم سوى الانشقاق الديني، ومنهم من طال العهد بهم في السجن حتى لم يعرف أحد، حتى ولا هم أنفسهم، السبب في سجنهم. مثال ذلك أن رجلاً قبض عليه قبل خمسة وثلاثين عاماً لم يحاكم قط أو ينبأ بسبب سجنه، فلما أفرج عنه وهو شيخ وجد نفسه حائراً مذهولاً، فهو لا يعرف إنساناً في باريس، ولا يملك فلساً واحداً، وعليه فقد التمس أن يبقى في الباستيل إلى آخر عمره، وأجيب إلى ملتمسه.
ونفى من باريس ميشيل لوتلييه، كاهن الملك الذي تعقب الجانسنيين من قبل. ونصح الوصي على العرش الحزبيين المتخاصمين في الكنيسة بأن يهدئا من خلافاتهما. وأغضي عن البروتستنت المتسترين، وعين عدداً منهم في وظائف إدارية. وأراد أن يجدد مرسوم نانت السمح، ولكن اليسوعيين والجانسنيين اتحدا في التنديد بمثل هذا التسامح، كذلك ثناه عن ذلك وزيره دوبوا الذي كان يحتال للظفر بقبعة الكردينالية (33). "ولم ينل البروتستنت الإنصاف الذي أنكره عليهم الحزبان المتنافسان في الكنيسة إلا بفضل الفلسفة (34) " فلقد كان الوصي فولتيرياً قبل فولتير. ولم يكن له عقيدة دينية واضحة، وكان على عهد لويس الرابع عشر التقى ومونتسكيو، بنشر كتب لو صدرت قبل بضع سنوات لحرم تداولها في فرنسا لما تنطوي عليه من تهديد للإيمان المسيحي.(35/28)
وكان فيليب-من الناحية السياسية-حاكماً متحرراً مستنيراً حتى حين زج بفولتير في السجن. وكان يفسر قوانينه للشعب بعبارات بلغت من الاعتدال والإخلاص مبلغاً حداً بميشليه إلى أن يرى فيها أرهاصاً بجمعية 1789 التأسيسية (36). وامتلأت مكاتب الحكومة بالرجال الأكفاء دون نظر إلى عدائهم للوصي ذاته، فعين رجل كان قد هدده بالاغتيال رئيساً لمجلس المالية (37)، أما فيليب، الذي كان بطبعته أبيقورياً-فكان يظل رواقياً حتى الخامسة مساءً، يقول سان-سيمون أنه كان إلى تلك الساعة "ينصرف بكليته إلى أعمال الدولة، واستقبال الوزراء والمجالس الخ. ولا يتناول طعامه أبداً خلال ذلك النهار، بل يكتفي بتناول الكاكاو بين الثانية والثالثة، حين يسمح للجميع بدخول غرفته ... وقد أبهجت الناس جداً ألفته وسهولة الوصول إليه، ولكنهم أساءوا استعمالهما (38) ". وكان فليب أورليان، دون سلائل هنري الرابع جميعاً، أي جميع البوربون، في رأي فولتير "أشبههم بذلك الملك في شجاعته، وطيبة قلبه، وصراحته، ومرحه، وبشاشته، وسهولة الوصول إليه، مع فهم أكثر تهذيباً وصقلاً (39) ". وكان يربك السفراء والمستشارين بمعارفه الواسعة، وفكره الثاقب، وحكمه الصائب (40). ولكنه شارك الفلاسفة ضعفهم-وهو القدرة والرغبة في رؤية جوانب كثيرة جداً للموضوع الواحد، بحيث يضيع الوقت في النقاش ويؤجل العمل الحاسم.
ولم يكن على سماحته يطيق أي اختزال للسلطة الملكية التقليدية. فلما رفض البرلمان-الذي أراد استخدام حق الاعتراض الذي وعده به- أن يسجل بعض مراسيمه (أي أن يعتبرها ضمن قوانين البلاد المعترف بها)، دعاه (25 أغسطس 1718) إلى "سرير عدالة" مشهور- وهي جلسة يمارس فيها الملك وهو جالس على "سرير" القضاء سلطته في الإلزام بتسجيل مرسول ملكي. ومضي القضاة البالغ عددهم 153، وقورين مهيين في عباءاتهم القرمزية، إلى التويلري سيراً على الأقدام. وإتباعاً لتعليمات فليب، أمرهم الملك الصبي بتسجيل مراسيم الوصي، ففعلوا. وانتهز فرصة مواصلة دوق ودوقة مين معارضته سواء في المجلس الملكي أو بالتآمر عليه، فحرم أبناء الملك وحفدته غير الشرعيين من وضعهم كأمراء من الدم الملكي. ورد(35/29)
الأدواق الشرعيون إلى سابق ترتيبهم وحقوقهم، الأمر الذي أبهج الدوق سان- سيمون، الذي رأس في هذه الخطوة أعظم إنجاز للوصاية، وكانت أسمى اللحظات في "مذكراته".
على أن دوقة مين لم تقبل الهزيمة. فمولت بعض الظرفاء الذين راحوا يخزون الوصي بأهاجيهم اللاذعة. واحتمل هذه السهام بصبر القديس سبستيان، اللهم إلا "الفليبيات" وأهاجي "الأشياء التي شاهدتها" المنسوبة لفولتير. وفي ديسمبر 1718 اشتركت الدوقة في مؤامرة مع كيلامار، السفير الأسباني، وألبيروني رئيس الوزراء الأسباني، والكردينال ملشيور دبولنياك، للإطاحة بالوصي وتنصيب فليب الخامس الأسباني ملكاً على فرنسا، على أن يكون الدوق مين كبير وزرائه. وكشف أمر المؤامرة، وطرد السفير، وزج بالدوق والدوقة في سجنين منفصلين، وأفرج عنهما في 1721. وادعى الدوق أنه يجهل أمر المؤامرة. وعادت الدوقة إلى بلاطها ومؤامرتها في سو.
في وسط هذه المضايقات، وفي نطاق التقاليد وعلى قدر ما سمح به خلقه الشخصي، قام فليب ببعض الإصلاحات المعتدلة. فشق في حكمه القصير من الطرق أكثر مما شق في نصف القرن الذي حكمه لويس الرابع عشر. ووفر ملايين الفرنكات بتركه قصري مارلي وفرساي، واحتفاظه بحاشية متواضعة العدد. وقد بقي الكثير من ابتكارات "لو" ممثلاً في جباية للضرائب أشد قصراً وأكثر رحمة، وفي طرد الجباة المتهمين بالفساد أو التبديد. وفكر فليب في ضريبة دخل تصاعدية: وجربها في نورمندية، وفي باريس، وفي لاروشيل، ولكنها أبطلت بموته المبكر. وقد جاهد ليبقي فرنسا بنجوة من الحرب، فسرح آلاف الجند، ووطنهم في الأراضي غير المزروعة. وأسكن الباقين في ثكنات بدلاً من أن يسكنهم في بيوت الشعب. وبنظرة سمحة فتح أبواب جامعة باريس والمكتبة لجميع الطلبة المؤهلين دون أجر، ودفعت الدولة مصروفات تعليمهم (41). وأعان بمال الدولة الأكاديمية الملكية للعلوم، والأكاديمية الملكية للمأثورات والآداب البحتة، والأكاديمية الملكية للعمارة، ومول نشر المؤلفات العلمية، وأنشأ في اللوفر أكاديمية للفنون الميكانيكية نهوضاً بالاختراع والفنون الصناعية (42). وأجرى(35/30)
المعاشات على الفنانين والعلماء والأدباء، وهيأ لهم غرفاً في القصور الملكية، وكان يحب أن يتكلم مع هؤلاء الرجال على مهنهم المختلفة. ولم تؤت تدابيره وإصلاحاته ثمارها كاملة من جراء كبوس الدين وانهيار ثورة لو المالية من جهة، وعيوب الوصي البدنية والخلقية من جهة أخرى.
ومن أفجع المآسي في تاريخ فرنسا أن هذا الرجل الذي وهب الكثير من فضائل الذهن والقلب لوثه وأضعفه فجور طبقته وفسق جيله. فهذا الابن الذي أنجب أب منحرفاً جنسياً، ورباه رجل فاجر من رجال الكنيسة، شب وهو يكاد أن يكون عاجزاً عن كبح جماح شهوة الجنس التي انغمس فيها. أقول دكلوا "كان يمكن أن تكون له فضائل إذا كانت الفضائل ميسورة لإنسان بغير مبادئ (43) ". وإذ كان قد أكره على الزواج من ابنة غير شرعية للويس الرابع عشر، وافتقد الحب أو السلوى في زوجته، فإنه أولع بالسكر الكثير، وبمعاشرة الخليلات في إسراف لم يعدله فيه حاكم خارج حريم السلاطين. واختار أصدقاءه من بين المعربدين الذين كان يصفهم بكلمة nou (s ( أي الفاسقين)، والذين كانوا ينفقون الثروات على الفجور، ويؤثثون بيوتهم بالفن الغالي ويزودونها بالمثيرات الجنسية (44). وكان فليب يلحق بأصحابه في الباليه-رويال، أو في فللته في سان-كلو، ومعظمهم من شباب الأشراف، وفيهم أيضاً بعض الإنجليز المثقفين أمثال اللوردين ستير وستانهوب-في حفلات عشاء صغيرة تختلط فيها النساء المثقفات كمدام دوديفان بالممثلات ومغنيات الأوبرا، والخليلات، في توفير إثارة الأنثى لذكاء الرجل. يقول سان-سيمون، ربما في شيء من التلوين المنافق:
"في هذه الحفلات كانت تعرض أخلاق كل إنسان، الوزراء وأصحاب الحظوة كغيرهم سواء بسواء، بحرية هي الإباحة المطلقة: غزليات البلاط والمدينة في الماضي والحاضر، وكل قديم من القصص والخصومات والفكاهات والسخافات ينبش من مكامنه، ولم يعف من هذا النبش أحد، وكان الدوق أورليان يدلي برأيه كالباقين؟. ولكن نادراً جداً ما كانت هذه الأحاديث تؤثر فيه أقل تأثير. وكان هؤلاء الأصحاب يسكرون ما شاء لهم السكر، ويلهبون أنفسهم، ويتكلمون بأقذر الأشياء(35/31)
دون تحرج، ويتنافسون في التفوه بأفحش العبارات، حتى إذا فرغوا من أحداث الكثير من الضجيج وثملوا بالخمر، مضوا إلى فراشهم ليعاودوا اللعبة ذاتها في الغد (45) ".
وقد أفحصت روح فليب القلقة المنزوعة الجذور عن نفسها في قصر تسلط محظياته عليه، فندر أن سيطرت عليه أحداهن أكثر من شهر، ولكن المبعدات منهن كن يترقبن الفرصة حتى يعود دورهن مرة أخرى. وكان خدمه الخصوصيون، وحتى أصدقاؤه، يجلبون له العشيقات الجديدات في غير توقف. فنساء الطبقة العليا، كالكونتيسة بارابير، والنساء المغامرات كمدام تنسان، والمغنيات والراقصات من الأوبرا، والموديلات البارعات الجمال كمدام سابران (التي أثار "سمتها الرائع" و "وجهها الذي لا يدانيه في الحسن وجه في العالم" حتى مشاعر رجل فاضل كسان-سيمون) -هؤلاء كلهن وهبن أنفسهن للوصي لقاء برهة من السلطان، أو لقاء الرواتب أو الإعانات أو المجوهرات، وكان يغدق العطايا عليهن من دخله الخاص أو من الخزانة التي على شفا الإفلاس. على أنه برغم إهماله لم يسمح قط لهؤلاء النسوة بأن ينتزعن من أسرار الدولة، أو أن يناقشن شئونها، فلما حاولت ذلك مدام سابران جعلها تنظر إلى صورتها في المرآة ثم سألها، "أيمكن للإنسان أن يتحدث حديثاً جاداً إلى مثل هذا الوجه الجميل؟ إنني لا أحب ذلك أبداً (46) ". وما لبث سلطانها عليه أن زال.
هذا العربيد ذاته كان يحب أمه، فيزورها مرتين كل يوم، ويحتمل توبيخها الحزين في حلم. ومع أنه لم يحب زوجته، فإنه بذل لها العناية والمجاملة، ووجد الوقت لينجب منها خمسة أطفال. وكان يحب أبناءه، وحزن حين لجأت صغرى بناته للدير، ولم يمر به يوم دون أن يزور في قصر اللكسمبورج كبرى بناته، التي كانت حياتها فضيحة محزنة تكاد تعدل فضيحة حياته هو.
ذلك أن زواجها بشارل، دوق بيري، سرعان ما غدا تأرجحاً بين الحرب والهدنة. فبعد أن أمسكته متلبساً بين أحضان امرأة، وافقت على أن ترضى عن خياناته شريطة أن يغض عن خياناتها، ويضيف تاريخ إخباري معاصر أنهما "تعهدا" بأن يحمي الواحد صاحبه (47) "(35/32)
هذه الحفيدة-حفيدة "المسيو"، "اللوطي"-وسليلة أسرة بافارية ورثت الجنون في دمها، وجدت أن ثبات الذهن واستقرار الخلق أمر يفوق طاقتها، وزاد وعيها بعيوبها وأخطائها من حدة طبعاعات أرعب كل من كان لهم صلة بحياتها. وقد استغلت نبالة أصلها استغلالاً كاملاً، فكانت تركب عربتها مخترقة باريس كأنها ملكة، وتحتفظ في اللكسمبورج بقصر مترف يخدمها فيه أحياناً ثمانمائة خادم (48). فلما مات زوجها (1714) راحت تستضيف سلسلة من العشاق. وصدمت كل إنسان بسكرها وفجورها، ولغتها النابية، وعجبها وغطرستها، وكانت تختلف عليها نوبات من التقوى، ومن الهجمات الشكاكة على الدين.
ويبدو أنها لم تحب إنساناً قط محبتها لأبيها، وأنه لم يحب إنساناً قط محبته لها. ولقد شاركته ذكاءه، ورهافة حسه وظرفه كما شاركته خلقه، وكان حسنها في شبابها يضارع حسن أجمل خليلاته. واتهمتهما شائعات باريس-التي لا قلب لها ولا حرمة-بسفاح القربى، لا بل زادت بأنه اقترف هذه الخطيئة مع بناته الثلاث جميعاً (49). وأغلب الظن أن بعض هذه الشائعات أطلقتها "شلة" مدام مين (50). وقد رفضها سان-سيمون، وهو أقرب الناس إلى الموقف، لأنها افتراءات قاسية وضيعة. أما فليب ذاته فلم يعبأ بنفيها. وخلوه التام من الغيرة من عشاق ابنته (151)، وعدم غيرتها من خليلاته (52)، لا يكادان يتفقان وطبيعة الحب المستأثرة (53).
ولم يقو على فصلها عن أبيها سوى رجل واحد-هو الكبتن ريون الضابط بحرس قصرها، الذي سلبت فحولته لبها حتى خضعت له خضوع الإماء. ففي 1719 حبست نفسها في اللكسمبورج مع بعض أتباعها، وولدت ابنة للكبتن. ثم ما لبثت أن تزوجته سراً. وتوسلت إلى أبيها أن يأذن لها بإعلان هذا الزواج، فرفض، فانقلب حبها له غيظاً مجنوناً. ومرضت، وأهملت نفسها، فأصابتها حمى أنذرت بالخطر، وماتت وهي في الرابعة والعشرين اثر مسها أعطاها إياه طبيبها (21 يوليو 1719). وقد كشف تشريح جثتها عن تشوهات في مخها. ولم يرض أي أسقف بالصلاة عليها في جنازتها، وكان فليب(35/33)
شاكراً أعمق الشكر حين سمح رهبان سان-دني بإيداع جثمانها في المدافن الملكية في كنيسة ديرهم. أما الأم فقد اغتبطت بموت ابنتها، وأما الأب فقد دفن نفسه في فراغ السلطة.
5 - المجتمع في عهد الوصاية
كان ازدياد الثروة في فرنسا في الفترة بين صدور مرسوم نانت (1598) وإلغائه (1685)، وانتشار حياة الحضر، واضمحلال العقيدة الدينية عقب الحروب الدينية والخلافات الجانسنية-كان هذا كله قد جر على طبقة الأشراف تحللاً في الأخلاق رمز له لويس الرابع عشر في شباب حكمه. وكان زواج الملك من مدام دمانتينون (1685)، واهتداؤه إلى القناعة بامرأة واحدة وإلى حياة الفضيلة، وما أحدثته الكوارث الحربية من تأثير منبه، كان أولئك أكره بلاطه على أن يغير على الأقل من سلوكه الخارجي، وكانت إصلاحات الأكليروس الذاتية قد أوقفت ضعف الكنيسة جيلاً، وفرض أحرار الفكر الرقابة على مؤلفاتهم، وستر الأبيقوريون لهوهم الصاخب عن أنظار الناس. ولكن حين جاء بعد الملك الصارم التائب هذا الوصي الشاك الإباحي المتسامح، تداعت هذه الضوابط، وتفجر غيظ الغرائز المكبوتة في موجة من الزندقة والاستغراق في اللذات شبيهة بالفورة الشهوانية التي أصابت المجتمع الإنجليزي عند عودة الملكية عقب جيل من تسلط البيورتان (1642 - 60). وأصبح التحلل من الأخلاق شارة التحرر ورقي الثقافة، وغدا الفجور نوعاً من "الاتيكيت (54) ".
كانت المسيحية آخذة في الاضمحلال قبل أن تهاجمها "الموسوعة" بزمن طويل، لا بل قبل أن يصوب إليها فولتير أول سهام قلمه. ففي 1717 شكا دبوي من كثرة الماديين في باريس (55)، وقال ماسيون في 1718 "يكاد الكفر اليوم يضفي على أصحابه مظهر التميز والفخار، أنه فضيلة توصل إلى العظماء ... وتجلب للمغمورين شرف الألفة بأمير الشعب (56) " وقد كتبت أم ذلك الأمير قبيل موتها في 1722 تقول "لست أعتقد أن في باريس، سواء بين رجال الدين أو الدنيا، مائة شخص يدينون بإيمان مسيحي صادق ويؤمنون حقيقة بمخلصنا، وهذا يجعلني أرتعد فرقاً (57) " وقل من أفراد الجيل الأصغر من فكر(35/34)
في التحول عن الكاثوليكية إلى البروتستنتية، فقد تحولوا إلى الإلحاد، الذي كان أسلم لهم. وكان مقهى بروكوب، ومقهى جرادو، شأنهما شأن التامبل، ملتقيات للمفكرين الملحدين.
وإذا كان المروق عن الدين قد شارك في إطلاق الاستهتار الخلقي في الطبقة العليا، فإن الفقر تعاون مع جموح الناس الطبيعي على أحداث الفوضى الخلقية بين دهماء باريس. وقد حسب العالم لاكروا أن "الأشخاص الخطرين، والمتسولين، والمتشردين، واللصوص، والنصابين من شتى الأنواع، ربما ألفوا سدس مجموع الشعب (58) ". ولنا أن نفترض أن الزنا كان يلطف من عناء الكدح بين فقراء المدن، شأنه بين أغنيائها. وأفرخت الجريمة في شتى أشكالها، من النشالين في باريس إلى قطاع الطريق العام. حقاً كان لباريس شرطة منظمة، ولكنها لم تستطع ملاحقة الجريمة، وكان رجالها أحياناً يقنعون بشطر من الغنيمة (59). وفي 1721 نجحت وزارة الحرب على الأقل في القبض على كارتوتن، قاطع الطريق الفرنسي الأشهر (قريع جاك شبرد الإنجليزي) وحاصرت خمسمائة من رجال عصابته التي جعلت السفر خطراً حتى على الملوك ولم يبق على الاستقرار الخلقي للحياة الفرنسية غير طبقة الفلاحين والطبقات الوسطى.
أما في طبقة الأشراف بباريس، وبين أعيان المدن الطليقين، ومدمني الأدب أو الفن، ورجال المال ورؤساء الدين ذوي الخليلات، فقد بدا أن المبادئ الأخلاقية باتت نسياً منسياً، ولم تذكر المسيحية إلا ساعة يلتقي فيها الناس في الكنائس أيام الآحاد. فإذا وفدت الزوجات على باريس أو فرساي تركن وراء ظهورهن ذلك المعيار الخلقي المنافق، الذي حاول أن يحمي ميراث الأملاك بجعل خيانة الزوجة لزوجها جريمة أخط كثيراً من خيانة الزوج لزوجته، هناك كانت الزوجة التي تقصر وصالها على زوجها تعد من الطراز القديم، وهناك نافست النساء الرجال في ربط الروابط وفكها. وكان الزواج يقبل للحفاظ على الأسرة، وأملاكها، واسمها، أما بعد هذا فلا يطالب عرف العصر والطبقة لا الزوج ولا الزوجة بالوفاء (60). لقد كان الزواج في العصور الوسطى يعتمد عليه في أن يقود إلى الحب، أما الآن فنادراً ما كان(35/35)
الزواج يقود إلى الحب أو الحب إلى الزواج، وحتى في الزنا لم يكن هناك كبير ادعاء للحب. على أن العهد لم يخل من زوجين وفيين يتألقان كأنهما استثناء جريء للقاعدة وسط هذا الحشد الفاسق، مثال ذلك دوق ودوقة سان-سيمون، وكونت وكونتيسة تولوز، ومسيو ومدام لون، ومسيو ومدام بونشارتران، ومسيو ومدام بيل-ايل. وتحولت الكثيرات من الزوجات المستهترات إلى جدات هادئات مثاليات وأنكفأ بعضهن، بعد أن بليت مفاتنهن من كثرة التداول، إلى أديرة مريحة حيث يفرغن لأعمال البر ويعلمن الحكمة للراهبات.
ومن أجرأ نساء عصر الوصاية كلورين الكساندرين دتنسان، التي أطلقت فجأة من الدير وهي في الثانية والثلاثين إلى سلسلة متلاحقة من العلاقات الغرامية. وكان لها أعذارها: فأبوها زير نساء موفق ورئيس برلمان جرينويل، وأمها لعوب طائشة، وكلودين ذاتها كانت واعية بجمالها الذي يتلهف على أن يباع. وكانت أختها الأكبر منها، مدام دجروليه، لا تقل عنها كثيراً في فوضى علاقاتها الغرامية، وقد قالت في اعترافها على فراش الموت حين بلغت السابعة والثمانين معللة مسلكها "كنت شابة، وكنت جميلة، وكان الرجال يقولون لي ذلك فأصدقهم، وعليكم أن تحزروا الباقي بعد هذا (61) ". ورسم أخو كلودين الأكبر منها قسيساً، وشق طريقه إلى قبعة الكردينالية وإلى منصب رئيس أساقفة ليون متوسلاً إلى هدفه بالعديد من النساء، أما الأب فأدخل كلودين ديراً في منفلوري ليوفر مهرها. هنالك ظلت متبرمة ستة عشر عاماً في حياة تقوى فرضت عليها كرهاً. وفي 1713، حين بلغت الثانية والثلاثين، هربت واختبأت في حجرة الشفالييه ديتوش، وهو ضابط في المدفعية، أصبحت بمعونته (1717) أم الفيلسوف دالمبير. على أنها لم تتوقع انبعاث "الموسوعة" من هذا الوليد، فتركته على سلم كنيسة سان-جاك-لرون بباريس. وانتقلت إلى ماتيو برايور واللورد بولنبروك ومارك رينيه دفواييه دارجنسون، وبعد أن جلست إلى مثال ينحت لها تمثالاً عارياً (62) فيما روى ارتمت بين أحضان الوصي نفسه. وكان مقامها هناك قصيراً، وقد حاولت أن تحوّل قبلاتها إلى وظيفة كهنوتية ذات إيراد لأخيها المحبوب، وأجاب فليب أنه لا يحب الغواني اللاتي يتحدثن في شئون العمل(35/36)
في الفراش (63)، وأمر بأن توصد أبوابه في وجهها. ثم نهضت من كبوتها تلك وغزت قلب دبوا. وسنلتقي بها مرة أخرى.
وفي وسط هذا التقلب الأخلاقي السريع واصلت بعض نساء باريس تلك الفضيلة الفرسية الميزة، فضيلة الجمع بين أصحاب الألقاب، والذكاء، والجمال، في الصالونات. وكان أكثر المجتمعات تهذيباً في العاصمة يلتئم شمله في مبنى الأوتيل دصلي الرائع العمارة، هناك كان يحضر الساسة والماليون والشعراء-فونتنيل في ستيناته الصامتة، وفولتير في عشريناته المندفعة. وكانت جماعة أكثر جذلاً تجتمع في الأوتيل دبويون، الذي خلده لساج في لحظة غضب، ذلك أنه دعى هناك ليقرأ مسرحيته "توكاريه"، فوصل متأخراً، فوبخته الدوقة في خيلاء قائلة "لقد ضيعت علينا ساعة"، فأجاب "سأجعلكم تكسبون ضعفي هذا الوقت" ثم غادر المنزل (64). وقد مر بنا من قبل صالون مدام دمين في سو، وكانت مرجريت جان كوردييه دلونيه، التي ستصبح البارونة دستال فيما بعد، تخدم الدوقة وصيفة شرف، وقد كتبت "مذكرات" بارعة (نشرت في 1755) تصف المهازل، والنزوات، والمهرجانات الليلية، والحفلات التنكرية التي لم تترك مكاناً يذكر للأحاديث التي تخللت "ملاهي سو".
ولكن الحديث كان يغلب على الصالون الذي أدارته آن تيريز دكورسيل، ماركيزة دلامبير، في الأوتيل دنفير (وتشغله اليوم المكتبة الأهلية). وقد واصلت هذه المرأة الغنية الصارمة، خلال عصر الوصاية الصاخب، تلك العادات الرزينة الجليلة التي سادت سنوات لويس الرابع عشر الأخيرة. فلم تشجع لعب الورق، ولا الشطرنج، ولا حتى الموسيقى، بل كانت بجملتها نصيراً للفكر. وقد أولعت، كالمركيزة دشاتليه، بالعلم والفلسفة، وكانت أحياناً (كما يقول فولتير) تتكلم فوق ما يفقهه رأسها، ولكن الرأس كان جميلاً يحمل لقباً نبيلاً، ويحرك مشاعر أي ميتافيزيقي، وكانت في كل ثلاثاء تستضيف العلماء والنبلاء، وفي كل أربعاء الكتاب والفنانين والأدباء ومنهم فونتنيل ومونتسكيو وماريفو. وفي اجتماعاتها تلك كان العلماء يلقون المحاضرات والمؤلفون يقرءون ما يزمعون إصداره من كتب، والشهرة الأدبية(35/37)
تكتسب، ومن "ندوة العقل" تلك، قامت هذه المضيفة الكريمة الطموح بنحو عشرين حملة ناجحة لإدخال من بسطت عليهم حمايتها في عضوية الأكاديمية الفرنسية. لقد كانت واحدة من مئات النساء المهذبات، المثقفات، المتحضرات، اللائي يجعلن تاريخ فرنسا أكثر القصص فتنة في العالم.
6 - فاتّو والفنون
عكست ثورة في الفن ذلك التغيير الذي طرأ على السياسة والأخلاق فبعد أن انهارت سياسة لويس الرابع عشر الإمبريالية في حرب الوراثة الأسبانية (1702 - 13)، تحولت روح فرسا من دماء المجد الحربي إلى مباهج السلام. فلم يجد مزاج العصر حاجة لكنائس الجديدة، بل وجد الحاجة أكثر للقصور المدنية كالأوتيل ماتينيون وقصر بوربون (1721 - 22). وإذا استثنينا هذه العمائر الضخمة، وجدنا أن المساكن والحجرات أصبحت الآن أصغر حجماً، وحليتها أكثر رقة وصقلاً. وبدأ الباروك يتحول إلى الروكوك (1)، أي أن طراز الأشكال غير المنتظمة والحلية الكثيرة غلبت عليه أناقة تكاد تكون هشة، تصل إلى حد الخيال الجامع العابث الذي لا يمكن التنبؤ به. وأصبح الولع بالصقل البديع، والألوان الزاهية، وتطويرات التصميم المدهشة، طابعاً لطراز الوصاية. وتلاشت الطرز الكلاسيكية تحت فرحة الثنايا الأنيقة، وأخفيت الأركان، ونقشت الحلي والقوالب المعمارية في إسراف. وهجر النحت فخامة فرساي الأولمبية إلى صور أصغر، صور الحركة الرشيقة والإغراء العاطفي. وتجنب الأثاث الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة، واستهدف الراحة أكثر من الوقار. فظهر الآن مقعد الشخصين ذو المسندين، وهو المقعد المصمم للصديقين والحبيبين اللذين يكرهان عاطف البعد. وأرسي شارل كرسان كبيران نجاري الوصي، طراز أثاث عصر الوصاية بما حوى من مقاعد، وموائد، ومكاتب وخزائن ذات أدراج ومرايا، تسطع بتطعيم الصدف وتشرق بالجمال المتّعمد.
_________
(1) ربما كانت هذه الكلمة rococo أصلها rocaille وهو لفظ استعمل في فرنسا في القرن السابع عشر للدلالة على بناء المغارات أو تجميلها بالصخور والأصداف.(35/38)
ولقد رمز فليب ذاته، في شخصه وعاداته وميوله، إلى الانتقال إلى الركوك. فحين نقل الحكومة من فرساي إلى باريس أنزل الفن من وقار لويس الرابع عشر الكلاسيكي غلى روح العاصمة الأكثر خفة، ووجه ثروة الطبقة البرجوازية إلى رعاية الفن. وكان راعياً للفن بحكم منصبه وبتفرده في هذا المضمار، فهو غني بثروته أصلاً، سخي في البذل للفنانين. ولم يكن يسيغ الفخامة أو الضخامة، ولا مواضيع التصوير التقليدية-مواضيع الدين أو الأساطير أو التاريخ، بل الروائع الصغيرة ذات الصنعة المتقنة التي تغري الأصابع وتفتح العيون، أمثال علب الحلي المرصعة بالجواهر، والآنية الفضية، والطاسات الذهبية، والخزفيات الصينية الغريبة الأشكال، ورسوم النساء الفاتنات اللاتي يلبسهن روبنز أو تتزاينو رداء الطبيعة أو يرفلن في أرواب فيرونيزي الفاخرة. وقد فتح أبواب مجموعته الخاصة في الباليه-رويال على مصاريعها لجميع الزوار المسئولين، ولولا خليلاته اللاتي يطلبن وينلن ما يطلبن منها لضارعت مجموعته أفضل نظائرها. ووفد الفنانون على قاعاته للدرس والنسخ، وذهب فليب إلى مراسمهم لينظر ويتعلم. تحدث إلى كبير مصوريه، شارل أنطوان كوابيل، في أدب وتواضع تميز بهما فقال: "إنني يا سيدي لسعيد وفخور بأن أتلقى نصيحتك وأنتفع بدروسك (65) ". ولولا ما عانى من ظمأ للجمال وتذوق عات له لكان رجلاً رفيع التحضر.
وأفصحت روح العصر عن نفسها بأجلى بيان في التصوير. فقد نبذ الفنانون أمثال فاتو، وباتير، ولانكريه، وليموان، القواعد التي وضعها لبرون في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بعد أن حررهم الوصي ورعاتهم الجدد. واستجابوا عن طيب خاطر للطلب على الصور التي تعكس فهم الوصي للجمال والمتعة، وحسن نساء عهد الوصاية الفياض بالحيوية والمرح، والألوان الدافئة لأثاث الوصاية وسجفها، والحفلات المرحة في غابة بولونيا، والألعاب والتنكريات في قصر سو، والأخلاق المتراخية التي اتسم بها الممثلون والممثلات ومغنيات الأوبرا والراقصات. وحلّت الأساطير الوثنية محل قصص القديسين القاتمة المتجهمة، وسمحت الأشكال العجيبة المستوردة من الصين، أو تركيا، أو فارس، أو الهند، للعقل الذي أطلق من عقاله بأن(35/39)
يجوب في حرية خلال أحلام غريبة ودخيلة، وأخذت الرعويات الحالمة مكان "التواريخ" البطولية، وحلت صور أشخاص المشترين محل صور مآثر الملوك وجلائل أعمالهم.
وواصل بعض الرسامين الذين اشتهروا في عصر لويس الرابع ازدهارهم في عصر الوصاية، ومنهم أنطوان كوابيل، فبعد أن زخرف فرساي بالطراز نفسه الذي زين به القصر القديم، رسم في الباليه-رويال نساء في أثواب طويلة فضفاضة ساحرة. أما نيكولا دلارجليير، الذي كان يبلغ التاسعة والخمسين عند موت الملك العظيم، فقد واصل الرسم ثلاثين سنة أخرى، وصورته معلقة في اللوفر الذي لا تنصب صوره، وهو يبدو في خيلائه وفي باروكته، بصحبة زوجته وابنته. وراح الكساندر فرانسوا ديبورت، الذي مات عام 1743 وهو في الثامنة والثمانين، يرسم الآن مشاهد طبيعية عريضة، كلوحة "منظر الايل دفرانس" المحفوظة بمتحف كومبيين. وزخرف فرانسوا لموان، الذي انتحر في التاسعة والأربعين (1737)، كنيسة سان-سوليبيس بروح الخشوع والورع، ثم أشاع الدفء في صالون هرقول بفرساي بأجساد شهوانية سيقلدها بوشيه من بعده. وأدخل كلود جيو، مصمم مناظر المسرح وملابسه، ونقاش المناظر الطبيعية واللوحات المسرحية، أسلوب "المهرجانات الريفية" الذي يرتبط عندنا بتلميذه أنطوان فاتو.
وأنطون هذا فلمنكي، ولد لصانع بلاط في فالنسيين (1684)، وشكلته أول الأمر التأثيرات الفلمنكية-صور روبنز، وأوستاد، وتنييه، وتعليم مصور محلي يدعى جاك جيران. فلما مات جيران (1702) يمم فاتو شطر باريس وهو لا يملك شروى نقير. وكسب قوته بمساعدة رسام للمناظر، ثم بالعمل في مصنع ينتج بالجملة لوحات صغيرة وصوراً دينية. وكان أجره ثلاث فرنكات في الأسبوع مضافاً إليها من الطعام ما يمسك رمقه يفضي لأصابته بالسل. ولكن حمى أخرى كانت تعتمل في صدره وتكويه كياً-وتلك هي الجوع للعظمة والشهرة. فكرس أمسياته وعطلاته لرسم الأشخاص والأماكن من الطبيعة. واستهوى أحد هذه الرسوم التخطيطية جيو، الذي كان يرسم لوحات لمسرح الكوميدي-ايتاليين، فدعا فاتو للانضمام إليه. وجاء أنطوان، ووقع في غرام الممثلين، فرسم أحداثاً(35/40)
من حياتهم البطولية، وغرامياتهم المتقبلة الطائشة، وألعابهم ونزهاتهم الخلوية، وفزعهم الأكبر حين قصرتهم مدام دمانتنون على البانتوميم (التمثيل الإيمائي) بعد أن ساءها هجاؤهم. والتقط فاتو ما في قلقهم وعدم استقرارها من أسي، والتعبيرات المضحكة المرتسمة على وجوههم، وطيات ثيابهم الغريبة، ثم أضفى على هذه الصور نسيجاً ذا ومض لعله أثار بعض الغيرة في نفس جيو. على أية حال تشاجر الأستاذ والتلميذ وافترقا، وانتقل أنطوان إلى مرسم كلود أودران في اللكسمبورج. وهناك درس في رهبة صور روبنز التي مجد بها ماري مديتشي، ووجد في الحدائق مناظر من الشجر والغيوم فتنت قله أو ريشته.
تلك كانت سنوات مرة يساق فيها الغلمان الفرنسيون على عجل إلى المعركة تلو المعركة في حرب الوراثة الأسبانية الطويلة. وكان يقدم لتضحيتهم على هذا النحو بما ينبغي من العروض الوطنية وحفلات الوداع المثيرة للأسي. وقد وصفها فاتو في لوحته؟ "رحيل الجنود" برقة في الشعور والأسلوب جعلت أودران هو الآخر يوجس من تفوق فاتو عليه. ودخل أنطوان مسابقة نظمتها الأكاديمية الملكية للتصوير والنحت في 1709 أملاً في نيل "جائزة روما". فلم ينل الجائزة الثانية، ولكن الأكاديمية ألحقته عضواً بها في 1712. وبعد جهود صغيرة كثيرة بلغ قمة مجده بلوحته "الأبحار إلى جزيرة سيتير (1717) " وهي اليوم من أروع كنوز اللوفر. وصفقت لها باريس كلها، وعينه الوصي المغتبط مصوراً رسمياً للملك، وكلفته الدوقة بيري بزخرفة قصرها الريفي "لاموييت". وراح يعمل كالمحموم، وكأنه أدرك أن لن يفسح له في الأجل سوى أربع سنين آخر. وقدّم أنطوان كروزا، منافس فليب ذاته في رعاية الفن، إلى فاتو المأكل والمسكن في قصره المترف. هناك درس أنطوان المصور "أصغر الأنطوانين سناً) أروع مجموعة جمعها مواطن إلى ذلك الحين. ورسم لكروزا أربع لوحات زخرفية، سماها "الفصول". وسرعان ما ذاق ذرعاً بالترف، فراح يتنقل من مكان إلى مكان، حتى إلى لندن (1719)، ولكن غبار الفحم والضباب رداه إلى باريس، حيث سكن فترة مع تاجر التحف جرسان. ورسم له أنطوان في ثمانية أصباح جانبي لافتة ظهر فيها باريسيون عصريون يفحصون صوراً في حانوت، وفوق النزعة(35/41)
الواقعية العرضية ألقت طيات رقيقة لثوب امرأة ذلك الضوء الواهن الذي تميز به فاتو. وكان سعال سله يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فاتخذ بيتاً في نوجن، قرب فانسين، معللاً نفسه بأن هواء الريف سيعينه على البرء. وهناك، بين أحضان جيرسان والكنيسة، مات (18 يوليو 1721) غير متجاوز السابعة والثلاثين.
وقد سرت عدوى مرضه الطويل إلى خلقه وفنه. وكان، وهو الرجل النحيل الممروض العصبي الحييّ، السريع الإعياء، النادر الابتسام، القليل المرح-يقصي حزنه على فنه، فصور الحياة كما رأتها أحلامه وأمانيه-مشهداً عريضاً من الممثلين المرحين والنساء اللدنات، وأغنية للفرح الملهوف. وإذ كان أضعف من أن يجري وراء شهوات الحس، فإنه احتفظ وسط إباحية عهد الوصاية بلياقة في الخلق انعكست في مزاج إنتاجه. صحيح إنه رسم بعض النسوة العاريات، ولكنهن خلون من إغراء اللحم، وفيما عدا هؤلاء كانت نساؤه يرتدين ثياباً مشرقة تخطر في خفة وحذر خلال دهاليز الحب. وتنقلت فرشاته بين تقلبات الممثلين، ومراسم الغزل، ومشاكل الجو. فأضفى على شخص "غير المكترث (66) " أغلى وأشف ما استطاع تخيله من ثياب. وصور "الكوميديين الفرنسيين (67) " في مشهد درامي، والتقط صورة الممثل الإيطالي جوزيبي باليتي في دور المهرج جيل (68)، غارقاً في التفكير مرتدياً سراويل بيضاء. وفاجأ "عازف جيتار (69) " في لحظة اكتئاب غرامي، ورأى "حفلة موسيقية (70) " مسحورة بعزف العود. وقد وضع شخصياته أمام خلفيات حالمة، من نوافير عابثة، وأشجار متمايلة، وغيوم سابحة، يتخللها هنا وهناك تمثال وثني يردد به صدى بوسان، كما نلحظ في "مهرجان الحب (71) " أو "الفراديس السعيدة (71) " كان يحب النساء على بعد متهيب، بكل أشواق رجل أوهن من أن يلتمس ودهن، وقد انفعل بأعطافهن الدافئة أقل من انفعاله ببهاء شعورهن وانسياب أثوابهن المتموج. فألقى على ثيابهن كل سحر ألوانه، وكان يعرف أن المرأة باتت بفضل هذا اللباس هذا السر الغامض الذي بعث نصف ذكاء العالم، وشعره، وإعجابه الشديد، فضلاً عن إنجابه النوع الإنساني.(35/42)
ومن ثم سكب روحه في أشهر صورة قاطبة، وهي "الإبحار إلى جزيرة سيتير" وفيها نساء رشيقات استسلمن لإثارة الرجال فركبن السفينة مع عشاقهن إلى جزيرة صغيرة قيل أن لفينوس فيها معبداً، وأنها طلعت هناك من البحر وهي تقطر جمالاً. هنا يكاد الرجال يكسفون النساء في بهاء ملبسهم، ولكن الشيء الذي فتن الأكاديمية في اللوحة هو جلال الأشجار المتدلي، والقمة الثلجية للجزيرة البعيدة تصبغها الشمس، والغيوم الملامسة لها. وقد أحب فاتو هذا الموضوع الدقيق حباً أغراه برسمه في ثلاثة مناظر متنوعة-واستجابت باريس باختيارها فاتو ليحمل راية عصر الوصاية، ويحيي مباهج الحياة في نظام حكم سيموت حالما يسلخ شبابه. وغدا بلقبه الرسمي "مصور الأعياد المرحة"، رسام العشاق من أهل المدن يتنزهون نزهات حالمة في ريف هادئ مطمئن، ويمزجون بين "ايروس" (إله الحب) و "بان" (إله المراعي والغابات) في الدين الوحيد الذي دان به العهد. على أن نسمة اكتئاب تهب على هذه المشاهد التي توهم بخلو البال، فهؤلاء الفتيات الناعمات الطيعات ما كان يمكن أن يصبحن بهذه الرقة لولا أنهن خبرن شيئاً من الألم، أو ربما لم يساورهن الظن في قصر برهة الهيام بهن. تلك هي ميزة فاتو-الترجمة المرهفة للحظات الكمال التي لا بد أن تنقضي.
وعاجله الموت قبل أن ينعم بشهرته. وبعد موته اكتشف الخبراء رسومه القلمية والطباشيرية، وفضلها بعضهم على لوحاته الزيتية، لأن الطباشير أو القلم بلغ هنا دقة في تفصيل الأيدي والشعر، ورهافة تمييز في رسم العيون والوقفة والمروحة المعابثة لم تكشف عنها قط ألوان الزيت كل الكشف (73). وأغرمت نساء باريس غراماً شديداً بأنفسهن كما رأيناها في أشوق الفنان الميت. وألبست "دنيا المجتمع الراقي" نفسها بأسلوب فاتو (ألا فاتو)، ومشت واتكأت بأسلوب فاتو، وزينت مخادعها وصالوناتها كما زينت هذه في أشكال خياله وألوانه. ودخل طراز فاتو في تصميم الأثاث، وفي حدات الزخرفة الريفية و "أرابسك" الركوك الرشيق. وتلقف الفنانون أمثال لانكريه وباتير تخصص فاتو، وصورا المهرجانات الريفية، وأحاديث الغزل، وحفلات الموسيقى في المنتزهات وحفلات الرقص على الخضرة،(35/43)
والمكاشفات بين العشاق بخلود الحب. أن نصف تصوير فرنسا خلال المائة السنة التالية كان ذكرى لفاتو. وقد استمر تأثيره حتى بوشيه، ثم فراجونار، ثم ديلاكروا، ثم مينوار، ووجد التأثريون في أسلوبه إرهاصات موحية بنظرياتهم في الضوء والظل والمزاج. لقد كان كما قال جونكور المفتون به "الشاعر العظيم للقرن الثامن عشر (74) ".
7 - المؤلفون
زكا الأدب في ظل أخلاقيات عصر الوصاية الهينة اللينة وما ساده من تسامح، ووجدت الهرطقة موطئاً لقدمها لم تجل عنه قط بعدها. وأفاقت المسارح والأوبرا من عبسات الملك الراحل ومدام دمانتنون، وكان فليب، أو بعض أهل بيته، يختلفون كل مساء تقريباً إلى الأوبرا، أو الأوبرا-الهزلية، أو "المسرح الفرنسي، أو مسرح الإيطاليين. واحتفل المسرح الفرنسي بتمثيليات كورنيي، وراسين، وموليير، ولكنه فتح أبوابه لتمثيليات جديدة كمسرحية فولتير "أوديب"، التي سمع فيها صوت عصر جديد متمرد.
ونحن إذا استثنينا فولتير وجدنا أعظم كتاب هذا العصر محافظين شكلوا في ظل الملك العظيم. فكان الآن رينيه لساج المولود عام 1668، ينتمي روحاً وأسلوباً للقرن السابع عشر وإن عاش حتى 1747. وفد على باريس بعد أن تلقى العلم على يد اليسوعيين في فان، فدرس فيها القانون-وكانت خليلته تدفع له نفقات تعليمه (75). وبعد أن قضي في خدمة جاب للضرائب فترة بغضته في رجال المال، تكفّل بإعالة زوجته وأبنائه بتأليف الكتب، ولعله كان يموت جوعاً لولا أن رئيساً دينيا عطوفاً أجرى عليه معاشاً قدره ستمائة جنيه في السنة. وقد ترجم بعض التمثيليات عن الأسبانية، والتتمة التي كتبتها أفيلانيدا لرواية "دون كخوته". ثم استوحى قصة "الشيطان الأعرج" لفيليت دي جويفارا، فوفق كل التوفيق في قصته "الشيطان الأعرج" (1707) التي صورت شيطاناً مؤذياً يدعى اسمودوس، يحط على قمة جبل في باريس، ويرفع أسقف البيوت كما يشاء بعصاه السحرية، ويكشف لصاحبه عن الحياة الخاصة والغراميات المحرمة للقطان الغافلين. والحصيلة فضح مرح لمكائد البشر القذرة، ونفاقهم، ورذائلهم،(35/44)
وحيلهم. فترى مثلاً سيدة تفاجأ بزوجها في الفراش مع خادمه الخاص فتحل الكثير من المشاكل جملة بصياحها بأن الخادم يعتدي على عفافها، ويقتل الزوج الخادم، وتنقذ السيدة عرضها وحياتها، والموتى لا يتكلمون. واندفع كل إنسان تقريباً لشراء الكتاب أو استعارته، وقد أبهجه أن يرى افتضاح غيره من الناس. كتبت مجلة فردان في عدد ديسمبر 1707 تقول "أن سيدين من رجال الحاشية اقتتلا بالسيوف في دكان باربان للحصول على آخر نسخة من الطبعة الثانية (76) ". وقد وجد سانت-بوف شبه خلاص للعهد في ملاحظة قالها أسمودوس عن شيطان من أخوانه تشاجر معه "لقد تعانقنا، ومن وقتها ونحن خصمان لدودان (77) ".
وبعد عامين كاد لساج يسمو إلى مستوى موليير بهزلية تهجو رجال المال. وقد نمى إلى بعض هؤلاء نبأ "توركاريه" هذه سلفاً فحاولوا منع تمثيلها، وقد صورتهم قصة-ولعلها أسطورة-وهم يعرضون على المؤلف 100. 000 فرنك ليسحب المسرحية (78)، وأمر الدوفان، ابن لويس الرابع عشر، بإخراجها. وتوركاريه هذا مقاول وتاجر ومراب يحيا حياة الترف وسط الفاقة التي جرّتها الحرب. وهو لا يسخو إلا على خليلته التي تبتز ماله بنفس المثابرة التي يبتز بها الناس. يقول الخادم فرونتان "عجباً لمسار حياة البشر. نحن نلتقط مغناجاً، والمغتاح تلتهم رجال أعمال، ورجل الأعمال ينهب غيره، وهذا كله يؤلف أمتع سلسلة من الخدع الدنيئة يمكن تخليلها (79) ".
وربما كان الهجو هنا ظالماً مرهقاً بشهوة الانتقام. وقد وفق لساج، في أشهر روايات القرن الثامن عشر الفرنسية، في رسم شخصية أكثر تعقيداً، وبموضوعية أكبر. وروايته هذه "مغامرات جيل بلاس دي سانتللاني" التي نسج فيها أيضاً على منوال الروايات الأسبانية، تتحرك-بأسلوب روايات التشرد-خلال عالم من اللصوصية، ونوبات السكر، وخطف الناس، وإغواء الناس، والسياسة-عالم الذكاء فيه هو الفضيلة العظمى، والنجاح يغتفر كل شيء. و "جيل" هذا يستهل حياته فتى بريئاً، رقيقاً، مثالياً، محباً للناس، ولكنه ساذج، ثرثار، مغرور. يقبض عليه اللصوص، فينضم إلى عصابتهم ويتعلم حيلهم(35/45)
وأساليبهم، ويشق طريقه إلى البلاط الأسباني، ويخدم دوق ليرما مساعداً وقواداً. يقول "قبل أن التحق بالقصر كانت طبيعتي مترفقة عطوفاً، ولكن رقة القلب ضعف يعدونه هناك صفة عتيقة، لذلك أصبح قلبي أقسى من أي صخر. فهنا مدرسة ممتازة لتصحيح الأحاسيس الرومانسية للصداقة (80) ". ويولي ظهره لأبويه ويرفض أن يعينهما. ويتعثر حظه، فيودع السجن، ويعتزم إصلاح ذاته، ثم يفرج عنه، فينزوي في الريف، ويتزوج، ويحاول أن يكون مواطناً صالحاً. ولكنه يجد هذا عبئاً لا يطاق، فيعود إلى القصر وناموسه، ويخلع عليه لقب الفروسية، ويتزوج ثانية، ويدهش لفضيلة زوجته ولسعادته بأطفالها "الذين أومن مخلصاً بأنني أبوهم (81) ".
وأصبحت "جيل بلاس" أحب الروايات للقراء الفرنسيين، إلى أن تحدّت "بؤساء" هوجو (1862) ضخامتها وتفوقها. وأحب لساج كتابه حباً جعله يواصل العمل فيه عشرين سنة فظهر المجلدان الأولان في 1715، الثالث في 1724، والرابع في 1735، وكان آخر مجلداته لا يقل جودة عن أولها. وقد استعان على معاشه في شيخوخته بكتابة هزليات صغيرة لمسرح شعبي يدعى "مسرح السوق" وفي 1738 أصدر رواية أخرى تسمى "أعزب سلمنقة"، وأطال الكتاب بسرقات صغيرة لم يعترف بها، وهي عادة درج عليها كتاب ذلك العصر وكان قد أصبح تقريباً في الأربعين، ولكن كان في قدرته أن يسمع ببوق، فيا له من رجل محظوظ يستطيع أن يصم أذنيه حين يشاء كما نغمض أعيننا. وقرب نهاية حياته القدرة على استعمال مواهبه العقلية "إلا في منتصف النهار" بحيث "بدا أن ذهنه يشرق ويغرب مع الشمس (82) "، كما قال أصدقاؤه. ومات عام 1747 شيخاً في الثمانين.
وقصة لساج "جيل بلاس" تجد اليوم قراء أقل مما تجده "مذكرات" لوي دروفروا، دوق سان-سيمون. وما من إنسان يحب هذا الدوق الآن، لأنه يفتقد قدرة الرجل المتواضع على إخفاء غروره. فهو لم ينس قط أنه كان واحداً من "أدواق ونبلاء" فرنسا، الذين لا يبزهم فخامة غير أعضاء الأسرة المالكة ذاتها، ولم يغتفر قط للويس(35/46)
الرابع عشر الرابع عشر تفضيله كفاية البرجوازيين على عجز الإشراف في إدارة الحكومة، ولا رفعه الأبناء والحفدة الملكيين غير الشرعيين فوق "الأدواق والنبلاء" في مراسم البلاط وولاية العرش. يقول لنا في أول سبتمبر 1715:
"نمى إليَّ نبأ موت الملك حيث استيقظت. فذهبت من فوري لتقديم احترامي للملك الجديد .. ومن هناك ذهبت إلى دوق أورليان، وذكرته بوعد قطعه على نفسه، وهو أن يسمح للأدواق بأن يحتفظوا بقبعاتهم على رءوسهم حين يطلب إليهم التصويت (83) ".
وقد أخلص في حب الوصي، وخدمه في مجلس الدولة، ونصحه بالاعتدال في أمر خليلاته، وواساه في أحزانه وهزائمه. وإذ كان على كثب من الأحداث مدى خمسين عاماً، فقد بدأ تسجيلها في 1694 - من زاوية طبقته-منذ مولده عام 1675 إلى وفاة الوصي عام 1723. أما هو فقد مد في أجله إلى عام 1755، حتى أدرك عهداً لا يوافق طبيعته. وقد حكمت عليه المركيزة كريكي بأنه "غراب مريض هرم، يحرقه الحسد ويأكله الغرور (84) ". ولكنها كانت تكتب مذكرات مثله، ولم تطق تشبثه بالحياة.
فأما الدوق الثرثار فكان دائماً متحيزاً، وكثيراً ما كان ظالماً في أحكامه، ومرات مهملاً في التاريخ (85)، وأحياناً غير دقيق الرواية عن وعي (86)، كان يتجاهل كل شيء إلا السياسة، ويتوه بين الحين والحين في ثرثرة لا غناء فيها عن الأرستقراطية، ولكن مجلداته العشرين سجلّ مفصّل نفيس لكاتب ذي عين لماحة ثاقبة وقلم سيال، فهي تمكننا من أن نرى مدام دمانتنون، فنيلون، وفليب أورليان، وسان-سيمون، رؤية ناصعة نابضة بالحياة، وسان-سيمون يقرب في هذا من بوريين إذ يتيح لنا رؤية نابليون. ورغبة في إطلاق العنان لتحيزه، حاول أن يخفي مذكرته، ومنع نشرها قبل أن ينقضي قرن على موته، ولم يصل منها شيء للمطبعة حتى عام 1781، وكثير منها لم يصلها قبل عام 1830. ومن بين جميع المذكرات التي تنير لنا تاريخ فرنسا تقف هذه المذكرات على القمة دون منازع.(35/47)
8 - الكردينال العجيب
لو صدقنا سان-سيمون لكانت سيرة جيوم دبوا النقيض لأعظم مبادئ شبابنا إلهاماً. فقد جمع كل رذيلة، وحقق كل نجاح إلا "نجاح الاحترام". فلنستمع مرة أخرى إلى سان-سيمون يقول في زميله عضو المجلس:
"كان ذكاؤه من النوع العادي جداً، ومعارفه من أكثر المعارف شيوعاً، وكفايته صفراً، مظهره مظهر العرسة، مظهر الرجال المتحذلق، حديثه ثقيل، متقطع، غامض أبداً، زيفه مكتوب على قسمات وجهه، ... ما من شيء في رأيه جدير بالتقديس ... يجهر باحتقاره للإيمان، والعهود، والشرف، والاستقامة، والصدق، ويلذه أن يهزأ بهذه الأشياء كلها، تستوي فيه الشهوة والطمع .. .. وإلى هذا كله كان ناعماً، ذليلاً، ليناً، منافقاً، كاذباً في إعجابه، يتخذ كل لبوس بيسر كثير ... حكمه معوج برغم إرادته ... ومن عجب أنه لم يستطع، وفيه هذه النقائض، أن يغوي من الناس إنساناً إلا دوق أورليان، الذي أوتي نصيباً موفوراً من الذكاء واتزان العقل، ووهب الكثير من الإدراك الواضح السريع لأخلاق الناس (87) ".
وكان هذا خليقاً بأن يؤدي المؤلف القاسي إلى التشكك في صواب غيرته. على أننا يحب أن نعترف بأن دكلو يتفق مع سان-سيمون (88).
كان دبوا في عامه الستين حين قلدته الوصاية السلطة، متهدماً بعض الشيء بعد أن أصيب بعدة أمراض تناسلية (89)، ولكنه كان قادراً على الترفيه عن مدام دتنسان حين وقعت من أحضان فليب. على أية حال لا بد أن أوتي شيئاً من الفطنة العقلية، لأنه أدار الشئون الخارجية إدارة لا بأس بها. وقد أخذ رشوة ضخمة من بريطانيا ليصنع ما ظنه خيراً لفرنسا. ذلك أن حزب الأحرار في إنجلترا، والإمبراطور شارل السادس في النمسا، كانا يتآمران للتنكر لمعاهدة أوترخت واستئناف الحرب ضد فرنسا. وكان فليب الخامس يتحرق شوقاً لعرش فرنسا غير قانع بعرش أسبانيا، وخيل إليه أن إبرام اتفاق مع إنجلترا سيزيح العقبات عن طريقه. فلو أن إنجلترا، وأسبانيا، والنمسا(35/48)
والأراضي المنخفضة النمساوية (بلجيكا) اتحدت في حلف أعظم جديد. لطوقت فرنسا بالأعداء من جديد، ولأبطلت كل سياسات ريشليو ولويس الرابع عشر وانتصاراتهما. ومنعاً لمثل هذا الاتحاد أبرم دبوا وفليب اتفاقاً مع إنجلترا والأقاليم المتحدة (هولندا) في 4 يناير 1717. وكان هذا الاتفاق نعمة لفرنسا، ولتوازن القوي الأوربي، ولبريطانيا؛ فلو أن فرنسا وأسبانيا تملك عليهما ملك واحد لتحدي أسطولهما الموحد سيطرة إنجلترا على البحار. كذلك كان نعمة للملكية الهانوفرية الجديدة غير الآمنة في إنجلترا، لأن فرنسا تعهدت الآن بألا تبذل مزيداً من العون للمطالبين الاستيوارتيين بالتاج الإنجليزي.
وغُلبت الحكومة الأسبانية على أمرها، ولم ترقها هذه الهزيمة فاشترك البيروني، وزيرها الحاكم، في مؤامرة كيلامار ودوقة مين للإطاحة بالوصي وجعل فليب الخامس ملكاً على فرنسا. واكتشف دبوا المؤامرة، وأقنع الوصي على كره منه بأن يحذو حذو إنجلترا في إعلانها الحرب على أسبانيا (1718). وأنهت معاهدة لاهاي (1720) هذا الصراع. ورغبة في دعم السلام رتب دبوا زواج ابنة الملك فليب بلويس الخامس عشر، وبنات الوصي بأبناء فليب. وعقدت الزيجات على جزيرة بيداسو الواقعة على الحدود (9 يناير 1722) واحتفل بها في حفل لإحراق المهرطقين (90). ولما كانت الأميرة الأسبانية ماريا آنا فكتوريا لا تتجاوز الثالثة من عمرها، فلا بد أن ينقضي زمن قبل أن ينجب منها لويس الخامس عشر وريثاً للعرش، فإذا حدث أن مات الملك الصبي خلال هذه الفترة، فإن الوصي يصبح ملكاً على فرنسا، ويصبح دبوا وزيره الدائم.
وتسلق بدهاء خطوة فخطوة. ففي 1720 عُين رئيس أساقفة على كمبري، وبمفارقة مضحكة من مفارقات التاريخ طلب ملك بروتستنتي هو جورج الأول، إلى الوصي الشاك أن يقنع البابا بأن يخلع على دبوا هذا الكرسي الرياسي الشهير، الذي شرفه قبل ذلك فنيلون، وشارك أساقفة فرنسا بما فيهم التقي الورع ماسيون في الاحتفالات التي أضفت هذا الشرف على رجل كان يرى فيه الكثير من(35/49)
الفرنسيين جماع الرذائل. أما دبوا فأحس بأنه لم يكافأ بما يكفي جزاء على خدماته لفرنسا، واستخدم المال الفرنسي ليُجلِس على عرش البابوية مرشحاً تعهد بأن يبعث إليه بقبعة حمراء (أي قبعة الكردينال). وأوفى إنوسنت الثالث عشر بوعده وهو آسف، وأصبح رئيس الأساقفة الكردينال دبوا (16 يوليو 1721). وبعد سنة عين وزيراً أول للملكة براتب قدره 100. 000 جنيه. وإذا كان يتقاضى إيراداً قدره 120. 000 جنيه من منصب رئيس الأساقفة، و204. 000 من سبعة أديرة، و100. 000 من نظارته على البريد، ومعاشاً إنجليزياً قدّره سيمون بمبلغ 960. 000، فقد بلغ إيراده السنوي الآن نحو 1. 500. 000 جنيه (91). ولم يكن له من هم إلا خوفه من أن ترفض زوجته-التي كانت لا تزال على قيد الحياة-ما يبعثه إليها من الرشا، وتكشف عن وجودها، وتبطل بذلك مناصبه الكنسية (92).
ولكن الزمن أدركه. ففي 5 فبراير 1723 بلغ لويس الخامس عشر سن الرشد وانتهى عهد الوصاية. وحين كان الملك لا يتجاوز الثالثة عشرة، وكان ينعم بالعيش في فرساي، طلب إلى فليب أن يواصل حكمه للمملكة، وظل دبوا أكبر مساعدي فليب. ولكن حدث في أول أغسطس أن انفجرت مثانة الكردينال، ومات فجأة وهو مثقل بأمواله. واضطلع فليب بالإدارة، ولكن فسحة أجله هو أيضاً انتهت. ذلك أنه بعد أن أتخم بالنساء، وتخدّر بإدمان السكر، وكف بصره، وفقد حتى عاداته المهذبة، تقبل في نصف وعي، ازدراء الناس لذلك النظام الذي بدأ في جو شامل من الود والارتياح، وقارب نهايته في انحدار رسمي واحتقار شعبي. وأنذره الأطباء بأن أسلوب حياته سيقضي عليه، ولكنه لم يكترث، فلقد أترع بخمر الحياة حتى الثمالة، ومات بنوبة فالج في 2 ديسمبر 1723، وتلقفته ذراعاً خليلته مؤقتاً. وكان يومها في التاسعة والأربعين.
على أن فليب أورليان لا يقع من نفوسنا موقع الرجل الشرير برغم تعدد آثامه. فرذائله رذائل الجسد لا النفس: كان متلافاً سكيراً فاسقاً، ولكنه لم يكن أنانياً، ولا قاسياً، ولا خسيساً، بل كان رحيماً، شجاعاً، لطيفاً. كسب مملكة بمقامرة، وتركها بقلب خلي ويد مبسوطة. وقد(35/50)
أتاح له ثراؤه كل الفرص، ولم تتح له سلطته أي انضباط. أنه لمنظر محزن حقاً-منظر رجل لامع الذكاء، سمح الرأي، يكافح لإصلاح ما أفسده في فرنسا تعصّب الملك العظيم، ثم يترك الأهداف السامية تغرق في سكر لا معنى له، ويضيّع الحب في دوامة من الفسق.
كانت فترة الوصاية، من الناحية الأخلاقية، أشد الفترات خزياً وعاراً في تاريخ فرنسا. فالدين الذي كان نافعاً في القرى جلب على نفسه العار في القمة لأنه شرّف رجالاً من أمثال دبوا وتنسان، ففقد بذلك احترام الفكر الذي أطلق عقاله، وقد حظي الذهن الفرنسي بحرية نسبية، ولكنه لم يستخدمها لنشر الذكاء الرحيم المتسامح بقدر ما استخدمها لإطلاق الغرائز البشرية من ضوابط الهيمنة الاجتماعية التي تتطلبها الحضارة، ونسيت الإرتيابية فلسفة أبيقور، وانصرفت إلى اللذات الأبيقورية (أي الحسية). ولقد كانت الحكومة فاسدة، ولكنها حفظت السلام فترة كفت للسماح لفرنسا بأن تفيق من عهد مدمر، عهد الفخامة والحرب. وقد انهار "نظام" لو وانتهى بالإفلاس، ولكنه أعطى الاقتصاد الفرنسي حافزاً قوياً. وشهدت تلك السنوات الثمان انتشار التعليم المجاني، وتحرر الأدب والفن من الوصاية والسيطرة الملكيتين؛ لقد كانت سنوات "الإبحار إلى سيتيرا"، و "جيل بلاس" و "أوديب" و "رسائل موتسكيو الفارسية". ولقد زجت الوصاية بفولتير في السجن، ولكنها أعطته من الحرية والتسامح ما لن يعرفه أبداً في فرنسا حتى في ساعة انتصاره وموته.
9 - فولتير والباستيل
1517 - 1526
في مذكرات سان-سيمون فقرة مميزة تصف شاباً محدثاً أثار ضجيجاً كثيراً أيام الوصاية:(35/51)
"نفى آرويه، وهو ابن موّثق كنا نعامله أنا وأبي حتى توفي .. إلى تل في ذلك الحين (1716) لنظمه أبياتاً من الشعر فيها هجو شديد ووقاحة بالغة. وما كنت لألهو بتدوين هذا الحدث التافه لولا أن آرويه هذا، الذي أصبح شاعراً وأكاديمياً كبيراً باسم فولتير، قد أصبح كذلك .. .. شخصية في دولة الأب، لا بل بلغ شيئاً من الأهمية بين بعض الناس (93) ".
هذا الشاب المحدث، الذي بلغ الآن الحادية والعشرين، وصف نفسه بأنه "نحيل، طويل، لا لحم فيه ولا أرداف (94) " ولعله سبب هذا العيب كان يثب من مضيف (أو مضيفة) إلى آخر، ويجد الترحيب حتى في الدوائر العليا، بفضل شعره المتألق وذكائه الحاضر، يتشرب الهرطقة وينشرها، ويمثل دور زير النساء. وإذ لمع في قصر سو على الأخص، فإنه أثلج صدر دوقة مين بهجوه للوصي. وكان فليب قد اختزال إلى النصف خيوط المرابط الملكية، فعلق آرويه على هذا بأنه كان خيراً له أن يطرد نصف الحمير الذين يزحمون بلاط سموّه. وأسوأ من ذلك أنه فيما يبدو أذاع أبياتاً عن أخلاق دوقة بيري (ابنة الوصي) وأنكر فولتير أنه كاتبها، ولكن الأبيات نشر بعد ذلك في "أعماله" وقد واصل خطة الإنكار هذه إلى قرب ختام حياته، باعتبارها حماية مغتفرة من رقابة مصلته على أصحاب الأقلام. أما الوصي فكان في وسعه أن يغتفر الهجائيات اللاذعة الموجهة لشخصه، لأنها كثيراً ما كانت كاذبة، ولكنه كان يجرح جرحاً عميقاً من السخريات الموجهة لابنته، لأنها كانت صادقة في أغلبها. وعليه ففي 5 مايو 1716 أصدر أمراً "بإرسال السيد آرويه الابن إلى تل"-وهي مدينة على ثلاثمائة ميل جنوب باريس، اشتهرت بمدابغها الكريهة الرائحة، ولم تكن قد اشتهرت بعد بالنسيج الرقيق "التل" الذي نسب إليها في تاريخ لاحق. وأقنع الأب آرويه الوصي بأن يغير المنفى من تل إلى صلى-سير-لوار، على مائة ميل من العاصمة. وذهب إليها آرويه، واستقبله هناك الدوق صاحب لقب صلى آنئذ، سليل الوزير الأكبر لهنري الرابع، ضيفاً في بيته.
وقد استمتع هناك بكل شيء إلا الحرية. وما لبث أن وجه شعراً "رسالة للدوق أورليان" يؤكد فيه براءته ويلتمس إطلاق سراحه. واستجاب الوصي، وما وافى ختام العام حتى كان قد عاد إلى باريس وراح يتنقل في أرجائها تنقل الطائر وينظم الشعر، في بذاءة حيناً وفي سطحية في كثير من الأحيان، وفي ذكاء دائماً-حتى نسب إليه كل هجو بارع يسري على موائد المقاهي دون معرفة كاتبه. وفي مطلع عام 1717 ظهر هجاء لاذع جداً، بدأت كل جملة فيه بكلمة "رأيت Jai vu" مثال ذلك:(35/52)
"رأيت الباستيل وألف سجن آخر مملوءة بمواطنين شجعان ورعايا أوفياء. رأيت الناس أشقياء يرسفون في عبودية قاسية. رأيت الجند يهلكون جوعاً، وعطشاً ... وسخطاً، رأيت شيطاناً في زي امرأة ... يحكم المملكة ... رأيت البور-رويال وقد هدم ... رأيت -وهذا ينتظم كل ما رأيت-يسوعياً يعبد ... رأيت كل هذه الشرور، وأنا لم أجاوز العشرين بعد (95) ".
وواضح أن هذه الأبيات كانت تعرض بلويس الرابع عشر ومدام دمانتنون، ولا بد أن كاتبها عدو جانسني لليسوعيين لا شاك مستهتر لا يزال يحتفظ ببعض الحب في قلبه لجماعة اليسوعيين. أما الكاتب الحقيقي فهو أ. ل. لبورن، الذي التمس بعد ذلك الصفح من فولتير لأنه تركه يتحمل تبعة كتاباتها (96). ولكن السن المتقولين امتدحت آرويه على القصيدة، وألحت عليه الجماعات الأدبية في إلقائها، ولم يصدق أحد إنكاره تأليفها (إلا صاحبها). واتهمته الشائعات التي نقلت إلى الوصي بكتابة عبارة لاتينية-وبحق فيما يبدو-فضلاً عن قصيدة "رأيت" المذكورة، ومطلعها Puero regnante.. .. يقول كاتبها ما ترجمته "صبي (لويس الخامس عشر) يملك، ورجل مشهور بتسميم خصومه وغشيان المحارم يحكم، .. .. وثقة الشعب تنتهك (إفلاس مصرف لو) .. .. والبلاد يضحي بها طمعاً في تاج، وميراث-يعجل ميقاته بخسه، وفرنسا على شفا الدمار (97) ". وفي 16 مايو 1717 أمر خطاب ملكي مختوم بأن "يقبض على السيد آرويه ويودع الباستيل". وفوجئ الشاعر في مسكنه، ولم يسمح له بأن يأخذ غير الثياب التي يرتديها.
ولم يتسع وقته لوداع خليلته آنذاك، واسمها سوزان دليفريه، واتخذ صديقه لفيفر دجنونفيل مكانه على صدرها، واغتفر لها آرويه خيانتهما في تفلسف-"علينا أن نحتمل هذه التواقه (98) " وبعد سنوات مات لفيفر فنظم فولتير في ذكراه أبياتاً تبين موهبة الثائر الشاب في قرض الشعر الجميل، والعواطف الرقيقة التي كانت دائماً أعمق في نفسه من الشكوك: "إنه يتذكرك، أنت والجميلة إيجيري (سوزان) في أيام حياتنا الحلوة، حين كنا ثلاثتنا يحب بعضنا بعضاً. فالفكر(35/53)
والطيش، والحب، وسحر الأخطاء الرقيقة، كل أولئك ربط بين قلوبنا الثلاثة. ألا ما كان أسعدنا، إذا لم يقو على تكدير صفونا حتى الفقر، رفيق السعادة الحزين. كنا شباباً، مرحين، قنوعين، خالين من الهموم، لا يشغلنا التفكير في المستقبل، رغباتنا كلها تحدّها مباهجنا الراهنة-فأي حاجة بنا بعد هذا لثراء لا غناء فيه؟ لقد كنا نملك شيئاً أفضل منه جداً، كنا نملك السعادة (99) ".
وتزوجت سوزان رجلاً غنياً يدعى المركيز جوفرينه، وأبت أن تدخل فولتير بيتها حين أتى لزيارتها. وعزى نفسه بهذه الفكرة، وهي أن "كل الماسات واللآلئ التي تزينها الآن لا تعدل قبلة من قبلاتها في الأيام الخالية (100) ". ولم يرها ثانية حتى عاد إلى باريس بعد إحدى وخمسين سنة ليموت، عندها أصر وهو في الثالثة والثمانين على زيارة المركيزة الأرملة، وكانت قد بلغت الرابعة والثمانين. لقد كان يسكن فولتير هذا شيطان، ولكن كان يسكنه أيضاً أرق قلب في الوجود.
على أنه لم يجد الباستيل سجناً لا يطاق. فقد سمح له بأن يرسل في طلب الكتب، والأثاث، والثياب الداخلية، وطاقية النوم، والعطر، وأن يدفع ثمن هذا كله، وكثيراً ما كان يتناول طعامه مع مأمور السجن ويلعب البليارد والبولنج مع السجناء والحراس، وقد كتب فيه ملحمة "الهنريادة". لقد كانت الألياذة من الكتب التي أرسل في طلبها، وساءل نفسه: لم لا ينافس هومر؟ ولم تقصر الملاحم على الأساطير؟ إن في التاريخ الحي رجلاً هو هنري الرابع، إنسان مرح، جسور، بطل، فاسق، متسامح، كريم، فلم لا تصلح تلك الحياة المغامرة الفاجعة لشعر الملاحم؟ ولم يكن مسموحاً للسجين بورق الكتابة لأنه قد يستحيل في يده سلاحاً فتاكاً، لذلك كتب النصف الأول من ملحمته بين سطور الكتب المطبوعة.
وأفرج عنه في 11 أبريل 1718، ولكنه منع من البقاء في باريس ومن شاتينه القريبة من سو كتب إلى الوصي رسائل يلتمس فيها الصفح، ولانت قناة الوصي ثانية، وفي 12 أكتوبر أصدر إذناً "للسيد آرويه دفولتير بالمجيء إلى باريس حين يشاء (101) ".(35/54)
ولكن متى وكيف جاءه هذا الاسم الجديد؟ الظاهر أن هذا كان حوالي فترة سجنه في الباستيل، فنحن نلقاه أول مرة في المرسوم الذي ذكرناه آنفاً. وظن بعضهم (102) إنه جناس تصحيفي anagram أي تغيير في ترتيب أحرف كلمة Arovet L (e) J (eune) باعتبار الـ U هي حرف V والـ I هي حرف J- أما المركيزة دكريكي (103) فردته إلى كلمة "فوتير"، وهي مزرعة صغيرة على مقربة من باريس ورثها فولتير عن أحد أبناء عمومته، ولم يرث معها أي حقوق سيادية، ولكن آرويه، كبلزاك، اتخذ الإضافة التي يلحقها السادة بأسمائهم " de" بحق العبقرية، ووقع-كما في إهداء تمثيليته الأولى-بهذا الاسم "آرويه دفولتير") ولكنه عما قليل لن يحتاج لغير اسم واحد للدلالة على نفسه في أي بلد في أوربا.
وكانت تلك التمثيلية-أوديب-حدثاً في تاريخ فرنسا الأدبي. لقد كانت وقاحة صارخة من فتى في الرابعة والعشرين ألا يكتفي بتحدي كورنيي، الذي أخرج تمثيلية "أوديب" في 1659، بل يتحدى سوفوكليس أيضاً، الذي ظهرت مسرحيته "أوديب ملكاً" في 330 ق. م. أضف إلى ذلك أن قصة فولتير كانت قصة سفاح للمحارم، يمكن أن تحمل على محمل التعريض بالعلاقات بين الوصي وابنته-وهي بالضبط التهمة التي سجن بسببها آرويه. وقد فسرتها هذا التفسير دوقة مين واغتبطت بها، وكان الشاعر قد فكر في تمثيليته أثناء وجوده في قصرها. وطلب فولتير بجرأته المألوفة إلى الوصي أن يأذن له بإهدائه التمثيلية، وتردد الوصي، ولكنه أذن بإهدائها لأمه. وأعلن أن حفلة الافتتاح ستكون في 18 نوفمبر 1718. وتكون حزبان من رواد مسارح باريس-أنصار الوصي، وأنصار دوقة مين، وتوقع الناس أن مباراة الفريقين في صيحات الاستهجان وهتاف الاستحسان ستجعل من التمثيل مهزلة صاخبة. ولكن المؤلف الذكي كان قد ضمن مسرحيته أبياتاً تسر أحد الفريقين، وأخرى تسر الفريق الآخر. فأرضت الفريق المناصر للوصي فقرة تصف كيف طرد الملك لايوس حرس القصر الغالي النفقة (كما فعل فليب)، وأرضى اليسوعيين أن يروا كيف أحسن تلميذهم الإفادة من المسرحيات التي كانوا يخرجونها في كلية لوي-لجران؛ أما أحرار الفكر فقد صفقوا بحماسة لبيتين من الشعر ورداً في المشهد(35/55)
الأول من الفصل الرابع، بيتين سيصبحان الأنشودة التي تتردد في حياة فولتير. "ليس كهنتنا ما يحسبه جمهور غافل، فسذاجتنا هي التي تصنع علمهم كله" وصفق كل فريق بدوره، وفي النهايات ظفرت المسرحية باستحسان الجميع. وتقول رواية قديمة أن والد فولتير ذهب وهو على وشك الموت ليشهد التمثيلية في أولى ليالي عرضها، وكان لا يزال يتميز سخطاً على ولده الحقير السيئ السمعة، ولكنه بكى اعتزازاً بروعة الشعر وانتصار التمثيلية.
وحققت أوديب فترة عرض لم يسبق لها مثيل، بلغت خمسة وأربعين يوماً. وأطراها حتى فونتنيل المكتهل، ابن أخت كورنيي، وأن أبدى لفولتير أن بعض أبياتها "بالغة الشدة تضطرم ناراً". وأجاب الفتى المندفع بتورية فظة: "لكي أهذب نفسي سأقرأ رعوياتك (104) " وأصرت باريس على أن ترى في أوديب (المذنب بغشيان المحارم) شخص الوصي، وفي جوكستا شخص ابنته. وتصدت دوقة بري (ابنة الوصي) للشائعات بشجاعة، فحضرت التمثيلية عدة ليال. أما الوصي فأمر بإخراجها في مسرح قصره، ورحب بالمؤلف في بلاطه.
وبعد بضعة أشهر نشر شاعر أفاك، لم يعلن عن اسمه، قصائد سماها " Les Philiooigues الفليبيات"، وهي هجائيات اتهمت فليب بأنه يبيت تسميم الملك الصبي واغتصاب العرش. واشتبه الكثيرون في فولتير مؤلفاً للقصائد، فأكد براءته، ولكنه كان قد كذب في حالات كهذه كذباً صارخاً فلم يصدقه الآن أحد إلا المؤلف. وبرأه فليب لعدم كفاية الأدلة على التهمة، واكتفى بنصحه بأن يغيب حيناً عن نعيم باريس. فعاد إلى شاتو صلى (مايو 1719). وبعد سنة سمح له بالعودة إلى العاصمة، وهناك ظل فتى الأرستقراطية المدلل فترة من الزمان.
وإذ كان مؤمناً بأن المال حجر الفلاسفة، فقد استخدم ذكاءه الحاد في فهم مشكلات المالية وحيلها. وسعى لمصادقة المصرفيين، وأجيز بمكافأة سخية للمعونة التي قدمها لأخوان باريس "للحصول على عقود(35/56)
بتوريد مؤن وذخائر للجيش (105) ". وكان بطلنا من استغلاليي الحرب. وظل بعيداً عن "نظام" لو، واستثمر ثروته بحكمة، وأقرض النقود بالربا. وفي 1722 مات أبوه، واحتكم فولتير إلى القضاء في أمر الوراثة وثابر على دعواه بعزيمة ماضية، ففاز بوراثة دخل سنوي قدره 4. 250فرنكاً. وفي تلك السنة ذاتها أجرى عليه الوصي معاشاً قدره 2. 000 جنيه، وغدا الآن رجلاً موسراً. وعما قليل سيصبح مليونيراً، وعلينا ألا نفكر فيه ثائراً، إلا فيما يتصل بالدين.
وقد أعن على تربيته وتهذيبه سقوط مسرحيته الثانية-آرتمير- (15 فبراير 1720). فجرى من مقصورته إلى خشية المسرح وناقش النظارة في مزايا المسرحية، وصفقوا لخطابه ولكنهم ظلوا على استنكارهم لها، وبعد أن مثلت ثماني مرات سحبها من المسرح، وفي تاريخ لاحق من تلك السنة قرأ قسماً من "الهنريادة" على نفر في اجتماع، ووجه إليها بعض النقد، وبحركة فرجيلية ألقى بالمخطوطة في النار، وخطف اينو الأوراق من اللهب، وشبه نفسه بأوغسطس وهو يستنقذ إنيادة فرجيل، وقال أن فولتير مدين له الآن بملحمة و "طوقي كم لطيفين (106) ". واستعاد الشاعر كبرياءه في غير مشقة حين استمع الوصي نفسه إلى قراءة من القصيدة. وكان حيثما ذهب يقرأ جزء منها. وفي 1723 زار اللورد بولنبروك وزوجته الفرنسية في فللتهما، لاسورس قرب أورليان، فأكدا له أن ملحمته تبز "جميع الأعمال الشعرية التي صدرت في فرنسا (107) ". وتظاهر بأنه يشك في صدق هذا الزعم.
وتبادل خلال ذلك الفلسفات مع ذلك الشال النبيل، وسمع بالربوبيين الذين يكدرون صفو المسيحية في بريطانيا. وخامرته الظنون بأن إنجلترا سبقت فرنسا في العلم والفلسفة. ولكنه كان قد انتهى إلى هرطقات بولنبروك قبل أن يلتقي به أو يقرأ للربوبيين الإنجليز. وفي 1722 قبل دعوة من الكونتيسة ماري دروبلموند بأن يصحبها إلى الأراضي المنخفضة. وكانت أرملة في الثامنة والثلاثين، من نساء الفكر، ولكنها جميلة، وقد قبل دعوتها وهو في الثامنة والعشرين. وفي بروكسل التقى بشاعر منافس يدعى جان باتيست روسو، أثنى على "أوديب" ولكنه وبخ فولتير على استهتاره الديني.(35/57)
أما فولتير، الذي قلّما كان يطيق النقد، فقد علق على قصيدة لروسو عنوانها "قصيدة غنائية للأجيال القادمة" بقوله "أتعلم يا سيدي أنني لا أعتقد أن هذه القصيدة ستصل أبداً إلى من وجهت إليهم؟ (108) " وقد ظلا ينهش أحدهما الآخر حتى وفاة روسو. وبينما كان فولتير وكونتيسته يواصلان رحلتهما إلى هولندا كشفت له عن شكوكها الدينية، وسألته عن آرائه. وإذ كان فولتير جياشاً بالشعر، فقد رد بقصيدة شهيرة سماها "رسالة إلى أوراني" لم تنشر إلا سنة 1732، ولم يعترف بها فولتير إلا بعد أربعين سنة. وكل شاب مسيحي مرهف الحس سيتبين فيها مرحلة في تطوره. يقول فولتير "إذن أنت تودين أيتها الجميلة أوراني (اسم لأفروديت) وقد بعثت بأمرك في هيئة لوكريتيوس جديد، أن أمزق أمام عينيك بيد جريئة القناع عن الخرافات، وأن أعرض عليك ذلك المشهد الخطر، مشهد الأكاذيب المقدسة التي تزخر بها الأرض، وأن تعلمك فلسفتي ازدراء أهوال القبر ومخاوف الحياة الآخرة".
ويسير الشاعر بـ "خطى ملؤها الاحترام". فيقول "إني أريد أن أحب الله، وألتمس فيه أبي"، ولكن أي نوع من الإله يقمه لنا اللاهوت المسيحي؟ "طاغية ينبغي أن نكرهه. خلق البشر "على صورته" ليجعلهم حقراء، وأعطانا قلوباً آثمة ليكون له حق عقابنا. جعلنا نحب اللذة لكي يعذبنا بآلام رهيبة ... أبدية". وما أن خلقنا حتى فكر في إهلاكنا. فأمر المياه بأن تغرق الأرض. وأرسل ابنه ليفكر عن خطايانا، لقد مات المسيح، ولكنه مات عبثاً فيما يبدو، إذ يقال لنا أننا ما زلنا ملوثين بجريمة آدم وحواء، وابن الله الذي يمتدح كثيراً على رحمته، يمثل لنا وكأنه ينتظر بروح الثأر أن يقذف بأكثرنا إلى الجحيم، بما فينا أناس لا حصر لهم لم يسمعوا به قط "لست أتبين في هذه الصورة المخزية الإله الذي على أن أعبده، وسأشينه بمثل هذه الإهانة والولاء". ومع ذلك ترى الشاعر يحس النبل والإلهام الحي في الفكرة المسيحية عن المخلص:
"انظري إلى المسيح، القوي المجيد .. يدوس الموت تحت قدميه الظافرتين، ويخرج منتصراً من أبواب الجحيم. إن مثله(35/58)
مقدس، وفضيلته إلهية. ويعزى سراً تلك القلوب التي يضيئها بنوره، وفي أفدح الكوارث يهبها العون، وإذا كان قد أقام تعليمه على وهم وخداع، فإن من النعم أن نخدع معه".
وفي الختام يدعو الشارع أوراني أن تستقر على رأيي في الدين واثقة كل الثقة بأن الله "الذي وضع الدين الطبيعي في قلبك، لن يسوءه العقل البسيط الصريح. ثقي أن نفس الإنسان البار ثمينة أمام عرشه، في كل زمان ومكان. ثقي أن الراهب البوذي المتواضع، والولي المسلم المعطف، يجدان نعمة في عينيه أكثر مما يجده جانسني (قدري) صارم، أو بابا يلوث الطمع روحه".
ولما عاد فولتير إلى باريس أقام في الأوتيل دبيرنيير بشارع بون وطريق فولتير الحالي (1723). وفي نوفمبر ذهب إلى اجتماع للأعيان في الشاتودميزون (على تسعة أميال من باريس)، حيث كانت أعظم ممثلات العصر آدريين لكوفرير ستقرأ تمثيليته الجديدة "ماريان" ولكن قبل أن يحل موعد الحفل أصيب بالجدري، وكان في تلك الأيام يفتك بنسبة عالية من ضحاياه. وكتب وصيته، واعترف، وراح ينتظر الموت. وهرب الضيوف الآخرون، ولكن المركيز دميزون استدعى الكتور جريفيه من باريس "وبدلاً من المنبهات التي تعطى عادة في هذا المرض، جعلني أشرب مائتي باينت من عصر الليمون (109) " ولعله كان لهذه الأكواب المائتين الفضل في "إنقاذ حياتي". ولم يتماثل للشفاء إلا بعد شهور كثيرة، والواقع أنه بعد هذا كان يعالج نفسه علاج عليل عاجز، يمرض تلك الحياة المتقطعة التي يحياها ذلك البدن الهش الذي فرض عليه أن يؤوي نار صاحبه الأكلة.
وفي 1724 بدأ تداول ملحمة الهنريادة سراً بين الصفوة المثقفة. لقد كانت إذاعة سياسية على مستوي ملحمي. واتخذت الملحمة مذبحة القديس برتلميو نصاً لها، وتتبعت الجراثم الدينية خلال العصور؛ الأمهات يقدمن أبناءهن محرقات على مذابح الإله ملخ، وأغا ممنون يتهيأ لتقديم ابنته قرباناً للآلهة التماساً لقليل من الريح، والمسيحيون يضطهدهم الرومان، والمهرطقون يضطهدهم المسيحيون، والمتعصبون(35/59)
"يدعون الرب وهم يذبحون اخوتهم"؛ والأتقياء يوحي إليهم قتل الملوك الفرنسيين. وأشادت القصيدة باليزابيث لتقديمها المعونة لهنري نافار، ووصفت معركة أفريه، وشفقة هنري، وعشقه لجابرييل ديستريه، وحصاره لباريس، وامتدحت تحوله للكاثوليكية، ولكنها انتقدت للبابوية لأنها "قوة لا ترحم المغلوبين، ويلين جانبها للغالبين، على استعداد للغفران أو الإدانة حسبما تمليه المصلحة".
وكان فولتير يأمل أن تقبل الهنريادة ملحمة قومية لفرنسا، ولكن الكاثوليكية كانت أعز على مواطنيه من أن تجعلهم يستقبلون القصيدة ملحمة لروحهم. ثم أن أخطاءها كانت تثب إلى العين الدارسة. فالتقليدات الواضحة لهومر وفرجيل-في مشاهد القتال، وفي زيارة البطل للجحيم، وفي إدخال التجريدات المجسدة في الحركة على غرار الآلهة الهومرية-كل أولئك ضحى بمفاتن الابتكار والأصالة، ومع أن الأسلوب كان أسلوب النثر الجيد، فقد افتقد أخيلة الشعر المنيرة. أما المؤلف، الذي أسكره مداد المطبعة، فلم يخامره ظن في هذا. فكتب إلى تييريو يقول "إن شعر الملاحم موطن قوتي، وإلا كنت واهماً جداً (110) " ولقد كان واهماً جداً.
ومع ذلك بدأ أن المديح الذي ظفر به يبرر افتخاره بملحمته. فقد صرح ناقد فرنسي بأنها تسمو على الأنيادة، وذهب فردريك الأكبر إلى "أن أي إنسان تحرر من الهوى سيفضل الهنريادة على قصيدة هومر (111) ". ونفدت الطبعة الأولى سريعاً، ونشرت طبعة منتحلة في هولندا وصدرت إلى فرنسا، وحظر البوليس الكتاب، ولكن جميع الناس اشتروه. وترجم إلى سبع لغات، وسنراه يحدث ضجة في إنجلترا. وقد لعب دوراً في إحياء شعبية هنري الرابع. وجعل فرنسا تخجل من حروبها الدينية، وتنقذ النظريات اللاهوتية التي أشعلت في الناس نيران هذه القسوة الضارية.
واستمتع الآن فولتير حيناً بالشهرة والمال دون أن يكدرهما مكدر. فقد اعترف به الناس أعظم شاعر حي في فرنسا، واستقبل في بلاط لويس الخامس عشر، وبكت الملكة من تمثيلياته، ونفحته بألف وخمسمائة جنيه من جيبها الخاص (1725). وكتب أكثر من عشرة(35/60)
خطابات يشكو حياته عضواً في الحاشية ويفاخر بهذه الحياة. وراح يتحدث في ألفة طبيعية من النبلاء، سواء منهم الشريف والخسيس. ولا شك أنه أسرف في الحديث، وهذا أيسر شيء في الوجود. وحدث ذات ليلة وهو في الأوبرا (ديسمبر 1725) أن الشفالييه دروهان-شابو سمعه يسترسل في الحديث في بهو الانتظار فسأله في خيلاء شديدة "مسيو فولتير، مسيو آرويه-ما اسمك؟ " ولا علم لنا بم أجاب الشاعر. وبعد يومين التقيا في الكوميدي-فرانسيز، وأعاد روهان سؤاله. ويختلف الرواة في الجواب الذي أجابه به فولتير، قالت رواية أنه أجاب "إنسان لا يتجرجر وراء اسم عظيم، بل يعرف أن يشرف الاسم الذي يحمله (112) "، وتقول رواية أخرى أنه أجابه "إن اسمي يبدأ بي، واسمك ينتهي بك (113) ". ورفع السيد النبيل عصاه ليضربه، وأتى الشاعر بحركته ليستهل سيفه. وكانت آدريين لكوفرير تشهد المعركة، وكان لها ن حضور البديهة ما جعلها تقع مغشية عليها، وتهادن الخصمان.
وفي 4 فبراير كان فولتير يتغدى في بيت الدوق صلي، وإذا رسالة تنبئه أن باب القصر من يريد أن يراه، فذهب، وإذا ستة فتاك ينقضون عليه ويضربونه في شيء من الترفق. وحذرهم روهان الذي كان يدير العملية من مركبته قائلاً "لا تضربوا رأسه، فعسى أن يخرج منه شيء صالح (114) ". واندفع فولتير عائداً إلى البيت، وطلب إلى صلي أن يعينه على اتخاذ إجراء قانوني ضد روهان. ولكن صلي أبى. فاعتكف الشاعر في ضاحية أخذ يتدرب فيها على المثاقفة. ثم ظهر في فرساي، مصمماً على المطالبة بـ "ترضية" من الشفالييه. وكان القانون يعد المبارزة جريمة كبرى. وصدر أمر ملكي للشرطة بأن تراقبه، ورفض روهان لقاءه. في تلك الليلة قبضت الشرطة على الشاعر، مما أراح كل من له صلة بالأمر، ووجد فولتير نفسه نزيل الباستيل ثانية. وقال القائد العام لشرطة باريس في تقريره "إن أسرة السجين أثنت بالإجماع ... على حكمة الأمر بمنع الشاب من ارتكاب حماقة جديدة (115) " وكتب فولتير للسلطات يدافع عن مسلكه، وعرض أن ينفي نفسه في إنجلترا مختاراً إذا أفرج عنه. وقد عومل كما عومل من قبل. فوفرت له كل أسباب الراحة والرعاية.(35/61)
وقبل اقتراحه، وأفرج عنه بعد خمسة عشر يوماً، ولكن حارساً أمر أن يوصله إلى كاليه. وأعطاه أعضاء الحكومة خطابات تعريف وتوصية لبعض الإنجليز البارزين، وواصلت الملكة دفع معاشه. وفي كاليه استضافه أصدقاؤه ريثما يقلع المركب التالي. وفي 10 مايو ركب البحر، مسلحاً بالكتب لدراسة الإنجليزية، راغباً في رؤية البلد الذي سمع أن الناس والعقول فيه أحرار. فلنر ماذا وجد فيه.(35/62)
الكتاب الأول
إنجلترة
(1714 - 1756)(35/64)
الفصل الثاني
الشعب
1714 - 1756
كانت إنجلترا التي وجدها فولتير أمة تتمتع بربع قرن من السلام النسبي عقب جيل من انتصاراتها الغالية على فرنسا، أمة غدت الآن سيدة البحار، وإذن فسيدة التجارة، وإذن فسيدة المال، ممسكة برافعة القوى وميزانها فوق حكومات القارة، منتصرة في كبرياء على أسرة من الاستيوارتيين حاولت أن تفرض عليها الكثلكة، وعلى ملوك هانوفريين كانوا خداماً لجيب البرلمان المنتفخ. تلك هي إنجلترا التي أحرزت قبل ذلك التفوق العالمي في العلم بفضل نيوتن، وأنجبت لوك الثائر دون عمد منه، والتي كانت تقوض المسيحية بالربوبية، والتي ستحل الشاعر الكسندر "بوب" (= بابا) محل بابوات روما أجمعين، والتي سترقب بعد قليل في قلق عمليات ديفد هيوم العقلية المدمرة. إنها إنجلترا التي أحبها الفنان هوجارت وشجبها بقوة في محفوراته، إنجلترا التي وجد فيها هندل وطناً وجمهوراً مستمعاً، وحجب فيها ضوء كل موسيقار من آل باخ إذ غدا أعظم "مايسترو" أنجبه العصر. ثم هنا، في هذه "القلعة التي ابتنتها الطبيعة لنفسها ضد الغارات .. هذه البقعة المباركة .. في إنجلترا هذه (1) "- بدأت الثورة الصناعية تغير وتبدل كل شيء إلا الإنسان.
1 - التمهيد للثورة الصناعية
أ - المؤيدون
رسم ديفو، بعد أن جاب أرجاء إنجلترا في 1722، صورة مفعمة بمشاعر الوطنية لـ "أكثر بلاد الدنيا ازدهاراً وثراءً"، صورة الحقول الخضراء والمحاصيل الوفيرة، والمراعي تهيم فيها الخراف الذهبية الفراء، والعشب النضر الغزير يتحول أبقاراً سماناً، والفلاحين يضجون في ألعابهم الريفية، وكبار الملاك في الريف ينظمون شئون(35/65)
الفلاحين، والنبلاء ينظمون شئون الملاك، وكبار حكام الأقاليم يتولون القضاء ويقرون النظام في القرى، ثم هي إلى ذلك بلد يلوذ به بين الحين والحين الشعراء والفلاسفة (2). إن تجار الكلام ينزعون إلى تصوير الريف بصورة مثالية إذا أعفوا من مضايقات هذا الريف، وملله، وحشراته، وكده وكدحه.
لقد كانت الحياة الريفية في إنجلترا سنة 1715 شديدة الشبه بما كانته منذ ألف سنة. كل قرية- بل كل بيت تقريباً- وحدة مكتفية بذاتها، تزرع طعامها، وتصنع ثيابها، وتقطع أخشابها للبناء والوقود من الغابات المجاورة. وكل أسرة تخبز خبزها، وتصيد غزلانها، وتملح لحومها، وتصنع زبدها وهلامها وجبنها، وتغزل وتنسج وتخيط وتدبغ الجلد وترقع الأحذية، وتصنع أكثر آنيتها وأدواتها وآلاتها. وهكذا وجد الأب والأم والأبناء والتعبير عن ذواتهم لا في حقول الصيف فحسب، بل في أمسيات الشتاء الطويلة أيضاً، وكان البيت مركزاً للصناعة والزراعة على السواء. فالزوجة هي الخبير المكرم بفنون كثيرة، من تمريض الزوج وتربية نحو اثني عشر طفلاً، إلى حياكة الفساتين وصنع الجعة. وهي تحفظ وتصرف الأدوية المنزلية، وتعني بالحديقة والخنازير والطيور. والزواج هو اتحاد بين رفيقين متعاونين والأسرة كائن حي اقتصادي كما أنها كائن حي اجتماعي، وبهذا توافر لها مبرر قوي وأساس مكين لوحدتها وتكاثرها واستمرارها.
ولو قد ترك الفلاحون أحراراً في الإبقاء على أساليبهم القديمة في الحقول لقنعوا بما في بيوتهم من حيوية منوعة. لقد تذكروا أياماً كان مالك الأرض فيها يسمح لهم، أو لأسلافهم، بأن يطلقوا قطعانهم لترعى في حقول المنطقة المشاعة، وبأن يصطادوا السمك كما يشاءون في غدرانها، وأن يقطعوا الخشب في غاباتها، أما الآن، واثر عملية بدئ بها في القرن السادس عشر، فقد سور الملاك معظم الأراضي المشاعة، ووجد الفلاحون عنها في العيش على قدر دخولهم. صحيح أنه لم يكن هناك أثر لرق الأرض، ولا لضرائب إقطاع رسمية، ولكن الملاك المغامرين وتجار المدن الذين استثمروا مالهم في الأرض كانوا يزرعون على نطاق أوسع، برأسمال أكبر، وبأدوات أفضل، ومهارة(35/66)
أعظم، وأسواق أوسع مما أتيح لصغار الزراع الذين يزرعون مساحاتهم الضيقة. وقد قدر جريجوري كنج أنه كان بإنجلترا في 1688 نحو 180. 000 من هؤلاء الملاك الأحرار. وذكر فولتير حوالي 1730 أن "في إنجلترا عدداً كبيراً من الفلاحين ممن تبلغ قيمة ملكية الواحد منهم 200. 000 فرنك، ولا يأنفون من أن يواصلوا فلاحة الأرض التي أغنتهم، والتي يعيشون فيها أحراراً"، ولكن ربما كان قوله هذا من قبيل الدعاية، حفزاً لهمم الفرنسيين، أياً كان الأمر، فإنه بحلول سنة 1750 كان عدد الملاك الأحرار قد تناقص (3). فالملاك السمان يشترون المساحات العجاف، والبيت الصغير وما حوله من أرض، المقصود به إعالة الأسرة أو الأسواق المحلية، يخلي مكانه لمزارع أكبر قادرة على الإفادة من الوسائل والآلات المحسنة. والمزارع يصبح مستأجراً أو "يداً" أجيرة، أضف إلى ذلك أن نظام الفلاحة الذي ساد إنجلترا عام 1715 قسم أرض القرية إلى مناطق مختلفة حسب خصوبتها وسهولة الوصول إليها، وتسلم كل مزارع شريطاً أو أكثر في النواحي المنفصلة، وكان التعاون ضروريا، وأحبطت المبادرة الفردية، وتخلف الإنتاج. وكانت حجة مسوري الأراضي أن التشغيل الواسع النطاق تحت ملكية موحدة من شأنه أن يزيد الإنتاج الزراعي، وييسر رعي الأغنام، ويتيح ناتجاً مربحاً من الصوف، ولا ريب أنهم كانوا على حق. وأغمض التقدم الاقتصادي عيناً واحدة على الأقل عما أصاب الناس من اضطراب شديد في حياتهم نتيجة الارتحال والانتقال.
وتركز التقدم في التكنولوجيا الزراعية على المزارع الموسعة. فاستصلح حافز الكسب الأراضي البور وزرعها، ودرب العمال على كفاية أعظم، وشجع اختراع الآلات والوسائل الجديدة وحفز إجراء التجارب على تربية الحيوان، ودعم الجهد المبذول في صرف المستنقعات والحد من تعرية التربة وتطهير الغابات. وأضيف بين عامي 1696 و1795 نحو مليوني فدان إلى المساحة المزروعة في إنجلترا وويلز. وفي 1730 أدخل تشارلز تاونشند النظام الرباعي لدورة المحاصيل بدلاً من الخطة المسرفة التي كان يترك بمقتضاها ثلث الأرض بوراً كل سنة؛ فزرع القمح أو الشوفان في السنة الأولى، والشعير أو الشوفان في الثانية، والبرسيم والجاودار والنباتات العلفية واللفت الأصفر والكرنب في(35/67)
الثالثة، واللفت في الرابعة. ثم جاء بالأغنام لتأكل اللفت أو تدوس عليه فتدفعه داخل الأرض بينما يخصب روثها التربة، وبذلك أعدت الأرض لمحصول وفير من القمح في السنة الثانية. وسخر منه جيرانه، وأطلقوا عليه لقباً هو "تيرنب تاونشند" (أي تاونشند اللفت)، إلى أن حملهم على تقليده زيادة في محاصيله بلغت 30%. وإذ كان تاونشند فيكونتا، فقد حذا حذوه نفر آخر من الطبقة الأرستقراطية في تحسين أرضهم، وشاع بين أشراف الإنجليز أن يهتم الواحد منهم اهتماماً شخصياً بالزراعة، وانتقل حيث الضياع من الصيد والكلاب إلى اللفت والسماد (4).
وكان جثرو تل محامياً، اعتلت صحته فعاد مزرعة أبيه، واستهوت ذهنه المرهف معجزة النماء وأرباح الزرع، ولكن صدمه ما رأي من طرق الفلاحة المسرفة، - فالمزارعون ينثرون تسعة أو عشرة أرطال من البذار على الفدان بإهمال شديد يترك "ثلثي الأرض خالية من الزرع، في تكتظ البذار في الباقي اكتظاظاً يمنع الزرع من أن يزكو (5) ". ودرس أساليب الزراعة أثناء رحلاته في فرنسا وإيطاليا، فلما عاد إلى وطنه اشترى مزرعة، وأذهل جيرانه بمخترعات ضاعفت من الإنتاج. وقد بدأ (حوالي 1730) بصنع محراث ذي أربعة قواطع يقتلع الحشائش ويدفنها في التربة بدلاً من مجرد إزاحتها جانباً. ولكن أكثر مخترعاته حسماً (حوالي 1733) كان آلة حفر تجرها الخيل، تنثر الحب خلال أنابيب مسننة على مسافات وأعماق معينة في خطين متوازيين، ثم تغطي الحب بمسحاة متصلة بالحفار. ووفرت الآلة الحب والعمال، وأتاحت زرع التربة المحصورة بين الخطين المبذورين وتهويتها وريها وتنقيتها من الحشائش. وقد شارك هذا التغير في بذر الحب، الذي يبدو تافهاً، وتحسين المحراث، في أحداث ما سمي بعد ذلك بالثورة الزراعية، التي يمكن أن تقاس نتائجها (حتى مع أخذ التضخم في حسابنا) بارتفاع قيمة الأراضي التي استخدمت فيها الوسائل الجديدة عشر أضعاف خلال القرن الثامن عشر. ومكنت الزيادة في إنتاجية التربة المزارع من أن تطعم المزيد من الصناع في المدن، وأتاحت ذلك العدد النامي من سكان المدن، الذي لولاه لاستحالت الثورة الصناعية.(35/68)
على أنه لا الفلاحون ولا عمال المدن كان لهم نصيب من الثروة النامية. فالملاك الفلاحون أمكن ضغطهم والتخلص منهم بالمنافسة الواسعة النطاق، والعمال الفلاحون تقاضوا من الأجور البخسة القدر الضئيل الذي أكرههم خوف التعطل على قبوله. فلنستمع إلى ما يقوله العلامة الرفيع المقام تريفيليان:
"كان الثمن الاجتماعي الذي دفع النظير الكسب الاقتصادي هو تناقص عدد الزراع المستقلين، وازدياد عدد العمال الذين لا يملكون أرضاً، وكان هذا إلى حد كبير شراً لا بد منه، ولو وزع الربح الزائد الذي حققته دنيا الزراعة توزيعاً عادلاً لخف الضرر. ولكن بينما ارتفع إيجار المالك، وعشور القسيس، وأرباح المزارع المالك والوسيط ارتفاعاً سريعاً، فإن فاعل الحق، الذي حرم حقوقه الصغيرة في الأرض المشاع وحقوق أسرته بتشغيلها في الصناعة إلى جانب الزراعة، لم يجز الجزاء الواجب بأجر أعلى، وكثيراً ما انحدر في المقاطعات الجنوبية إلى درك التبعية والفاقة (6) ".
ومما خفف إلى حد ما من التركز الطبيعي للثروة دفع الضرائب والإحسان المنتظم. ذلك أن أغنياء الإنجليز، بعكس النبلاء الفرنسيين كانوا يدفعون النصيب الأكبر من الضرائب التي أعالت الحكومة. فقد ألزمت "قوانين إعانة الفقراء" التي بدأت في 1536 كل أبرشية بإنقاذ الأشخاص الذين في خطر الموت جوعاً. وكان المتعطلون من القادرين صحياً يرسلون إلى الإصلاحيات، والعجزة إلى الملاجئ، والأطفال يشغلون صبياناً لمن يرغبون في إيوائهم وإطعامهم لقاء خدماتهم. وكانت نفقات هذا النظام تؤدي من ضريبة تفرض على أسر الأبرشية. وقد ذكرت لجنة برلمانية في تقرير لها أنه لم يبق على قيد الحياة من جميع الأطفال المولودين من الإصلاحيات، أو الذين استقبلتهم في حداثة سنهم، في الأعوام 1763 - 65، إلا سبعة في المائة في 1766 (7). حقاً لقد كان قرناً قاسياً.
ب - الصناعة
عطل البيت الريفي المكتفي بذاته تخصص العمل والثورة الصناعية(35/69)
سواء كان هذا التعطيل خيراً أو شراً. فلم يمول الرجل حديث العهد برأس المال مصنعاً ما دام في قدرته أن يجعل مائة أسرة تغزل وتنسج له تحت أسقفهم ووفق نظام المنافسة الأوتوماتي؟ لقد أنتجت هذه الصناعة البيتية في قسم "وست رايدنج" بيوركشير 100. 000 قطعة قماش للسوق في 1740، و140. 000 قطعة في 1750، وغلى عام 1856 لم يرد من المصانع سوى نصف إنتاج الصوف، أما النصف الثاني فظل يرد من البيوت (8). على أن تلك البيوت الشاغية بالحركة كانت في الواقع مصانع وليدة، فرب البيت يدعو الخدم والغرباء ليشاركوا في العمل، والحجرات الإضافية تجهز بدواليب الغزل وأنوال النسيج. فلما ازداد حجم تلك العمليات البيتية واتسعت السوق بفضل الطرق المحسنة والسيطرة على البحار، خلقت الصناعات البيتية ذاتها الطلب على آلات أفضل وكانت الاختراعات الأولى أدوات أكثر منها مكناً. وكان في الإمكان تركيبها في المنزل، مثل مكوك "كي" الطائر، ولم يحل نظام المصنع محل الصناعة المنزلية إلا حين صنع المخترعون آلات تتطلب القوة الميكانيكية.
وكان الانتقال تدريجياً، فقد اقتضى قرناً تقريباً (1730 - 1830)، وربما كانت كلمة "ثورة" لفظاً أعنف مما يحتمله تغيير بطيء كهذا. ولم يكن الانتقاض على الماضي حاداً بالدرجة التي أوحت بها في الماضي النزعة الروائية في كتابة التاريخ، فالصناعة قديمة قدم الحضارة، وقد تقدم الاختراع بسرعة متزايدة منذ القرن الثالث عشر، وكانت المصانع في فلورنسة على عهد دانتي كثيرة كثرة الشعراء، والرأسماليون في هولندا أيام رمبرانت كثيرين كثرة المصورين. ولكن التغيير الصناعي الذي طرأ في القرنين الأخيرين (1760 - 1960) إذا نظرنا إليه في مراحله المتصاعدة، من البخار إلى الكهرباء إلى النفط إلى الإلكترونيات والطاقة الذرية، بالقياس إلى معدل التغيير الاقتصادي في أوربا قبل كولمبس- هذا التغيير يشكل ثورة حقيقية لم تغير الزراعة والنقل والمواصلات والصناعة فحسب تغييراً أساسياً، بل غيرت كذلك السياسية والعادات والأخلاق والدين والفلسفة والفن.
وقد تضافرت عوامل عديدة على فرض التغيير الصناعي. فالحروب التي أعقبت سقوط وزارة ولبول (1742) حثت على زيادة سرعة(35/70)
الإنتاج والتوزيع. ونمو السكان نتيجة لازدياد موارد الطعام أتاح سوقاً داخلية متضخمة للزراعة والصناعة، وشجع على صنع آلات أحسن وشق طرق أفضل. وقد تطلبت الآلات المهارات، مما أفضي إلى تخصص وتقسيم للعمل نهضاً بالقوة الإنتاجية. وقد جلب الهيجونوت وغيرهم من المهاجرين إلى إنجلترا ما استنقذوه من مدخراتهم كما جلبوا إليها حرفهم، ومخترع أول آلة للنسيج (1738) كان سليلاً للهيجونوت. وكان لتقرير البرلمان تعريفات جمركية حامية (كقانون الكاليكوت- أي الشيت- الصادر في 1721، والذي حرم استعمال الشيت المطبوع المستورد) الفضل في الحد من المنافسة الأجنبية، وإتاحة السيطرة الكاملة لصناعة النسيج الإنجليزية على السوق الداخلية، في حين أعان نفوذ التجار المتزايد في التشريع على توسيع الاقتصاد البريطاني. وشجعت التقاليد البيورتانية- التي ستدعمها بعد قليل حركة المثوديين- فضائل الجد والإقدام والاقتصاد في الطبقات الوسطى والدنيا وتراكم رأس المال، وأجيز الإثراء، وبدا أن الله اختص البورجوازية بنعمته.
وأتاح تطوير التعدين في الوقت ذاته موارد متزايدة من الفحم وقوداً للصناعة. وكان الخشب إلى ذلك الحين هو الوقود الأهم للبيوت والمتاجر، ولكن الغابات كانت تتضاءل حتى أوشكت على الانقراض، فمن بين تسع وستين غابة كبيرة عرفتها إنجلترا الوسيطة، اختفت خمس وستون بحلول القرن الثامن عشر (9). واقتضى الحال استيراد الخشب من إسكندناوة أو أمريكا، وكان يكلف أكثر فأكثر، وظهر الطلب على وقود أرخص. ولكن تعدين الفحم كان لا يزال عملية بدائية، وكانت المناجم ضحلة، والتهوية رديئة، والميثان وغاز الكربون يخنقان المعدّنين، وظلت مشكلة ضخ المياه من المناجم بلا حل حتى جاءت آلات سافري ونيكومن البخارية. والواقع أن هذه المشكلة كانت أكبر حافز لتطوير هذه الآلات. على إنتاج الفحم تصاعد وانتشر رغم هذه الصعوبات، فما وافى عام 1750 حتى كان الفحم الذي يشعل في البيوت والمصانع يحجب سماء لندن (10).
كانت أهمية الفحم للثورة الصناعية تكمن بوجه خاص في استعماله(35/71)
لتنقية خام الحديد ليصبح حديداً أقوى وأصفى وأطوع بفصل الفلز عن المواد المعدنية العالقة به. والتنقية استلزمت الصهر، الذي استلزم درجة عالية من الحرارة؛ وكانت هذه الحرارة منذ القرن الرابع عشر تنتج بإشعال الفحم النباتي (وهو الخشب المتفحم) في أفران عالية تسلط عليها تيارات قوية من الهواء؛ ولكن الفحم النباتي أصبح الآن أغلى ثمناً بسبب تناقص موارد الخشب. وفي 1612 أشار سيمون ستورتفانت باستخدام الفحم الحجري وقوداً صاهراً. وزعم "دَ د" دَ دلي (أي الفاشل) في 1619 أنه خفض تكاليف صهر الحديد بهذه الوسائل إلى النصف، ولكن منافسيه الذين استخدموا الفحم النباتي تضافروا لإقصائه عن هذه الصناعة. وأخيراً (حوالي 1709) وفق أبراهام داربي الأول، الذي استوطن كولبروكديل حيث الفحم كثير، في صهر خام الحديد بنجاح وبتكاليف قليلة، وذلك بتسخينه فحم الكوك- أي الفحم المحرق بقدر يكفي لتخليصه من عناصره الطيارة. أما الكوك فكان معروفاً منذ عام 1590. وطور أبراهام داربي الثاني استعمال الفحم أو الكوك في الصهر، وحسن الأفران العالية بمنفاخ يشغله دولاب مائي، وسرعان ما استطاع أن يفوق في مبيعاته كل أصحاب مصانع الحديد في إنجلترا وفي 1728 أنشئ أول مصنع إنجليزي للحديد لتمرير الحديد بين سلسلة من الأسطوانات تضغطه لإخراج الأشكال المطلوبة. وفي 1740 اخترع بنيامين هنتسمان طريقة البوتقة التي كان ينتج بها الصلب العالي الرتبة بتسخين المعدن وتنقيته في قدور من الفخار. هذه التطورات في المزاوجة بين الفحم والحديد هي التي يسرت اختراع آلات الثورة الصناعية.
جـ - الاختراع
لم يشهد النصف الأول من القرن الثامن عشر زيادة لافتة للأنظار في سرعة الاختراع بالقياس إلى القرنين السابقين، وقد نحتاج إلى نصف مجلد لتعدد الاختراعات التي ورثها هذا العصر من سابقه. مثال ذلك أن الساعة الكبيرة، التي لا غنى عنها في العلم والصناعة والملاحة، أبلغت مرتبة الكمال تقريباً في القرن السابع عشر، وبحلول عام 1758 وصلت إلى درجة من الدقة (لا يعدو الانحراف فيها دقيقة كل ستمائة(35/72)
يوم) لم تتجاوز إلا في 1877 (11). وكان العمال أنفسهم يثبطون المخترعات، وإن كانوا في كثير من الأحيان مصدرها، خشية أن تهددهم بالتعطل التكنولوجي، وهكذا فرض عداء العمال هجر أول منشرة خشب إنجليزية (1663)، ولم تجدد المحاولة بنجاح إلا سنة 1767. وزادت الطرق الرديئة من تعطيل الاختراع الصناعي، ولم يكن هناك كبير حافز على زيادة الإنتاج ما دامت صعوبات النقل تفوق توسيع السوق. على أن النقل البحري كان آخذاً في التحسن، وكانت المستعمرات، التي غلبتها الزراعة، تتهافت على طلب المنتجات المصنوعة، هنا وجد حافز متزايد على الاختراع. وقد أعان عليه دافع الربح، ومنح البرلمان حقوق امتياز تمتد أربع عشرة سنة. وجاء حافز آخر من المنافسة الأجنبية في تجارة الصادر، فحثت منسوجات الهند، التي أنتجتها عمال مهرة منخفضوا الأجور أصحاب المصانع الإنجليز على الاقتصاد في الإنتاج باستعمال الأجهزة المكنية المحسنة. فصناعة النسيج إذن هي التي افتتح الاختراع في ميدانها ذلك التغيير العظيم.
كان "المكوك الطائر" الذي ابتكره جون كي (1733) أول اختراع بارز في إنتاج المنسوجات، ولنا أن نعتبر هذا التاريخ بداية للثورة الصناعية فمن قبله كان عرض القماش المراد نسجه محدوداً بطول ذراعي النساج باستثناءات صغيرة- إذ كان عليه أن يقذف بالمكوك (وهو الأداة التي تمرر خيوط اللحام خلال خيوط السدى) من أحد جانبي النول بيد، ويلقفه باليد الأخرى في الجانب المقابل. ورتب كي جهازاً من العجلات، والمطارق، والعصي، يتيح لدقة حادة باليد أن تجعل المكوك يمرق من أحد الجانبين إلى وقفة أوتوماتيكية عند أي عرض محدد سلفاً، مما ينجم عنه وفر كبير في الوقت. فلما حاول تركيب اختراعه في مصنع بكولتشستر اتهمه النساجون بأنه يحاول حرمانهم من قوتهم القومي. ففر غلى ليدز (1738) وعرض اختراعه المسجل على أصحاب مصانع القماش لقاء رسم، فأخذوا اختراعه، ولكنهم قبضوا عنه إتاوته، فرفع أمره إلى القضاء، واستنزفت مصاريف التقاضي كل ماله. فذهب إلى وطنه في بري، ولكن الأهالي هاجوا عليه هناك (1753)، ونهبوا بيته، وهددوه بالقتل. غير أن امرأة رحبت بآلته في حماسة وصاحت قائلة بلهجتها العامية "حسناً، حسناً،(35/73)
أن أعمال الله عجيبة، ولكن حيل الإنسان تغلبه تعالى في النهاية (12) " وجد كي قبولاً أكثر من فرنسا، التي تبنت حكومتها اختراعه وكافأته بمعاش. ولم يتغلب المكوك الطائر على كل معارضة ويعم استعماله إلا عام 1760.
وعطل صناعة النسيج أن النساجين كانوا يستطيعون نسج الخيوط بأسرع مما يستطيع الغزالون غزلها وإمدادهم بها. وكان الغزل إلى سنة 1738 غزلاً يدوياً، على دواليب ما زالت تجمل البيوت التي تمجد الماضي. في ذلك العام سجل لويس بول، وهو ابن مهاجر هيجونوتي، آلة غزل يبدو أنها مبنية على أسس اقترحها جون فيات، وهي مجموعة من البكر تسحب للخارج حبال القطن أو الصوف المشدودة لتصبح خيوطاً بأي رفع مطلوب، وتغزلها على مغازل، وذلك كله بأقل جهد. وباع بول وفيات براءة الاختراع إلى أدوارد كيف، صديق الدكتور جونسون، وأقام كيف خمس آلات بمصنع نورثامبتن في 1742 - وهو الأول في سلسلة طويلة من مصانع الغزل في إنجلترا القديمة والجديدة.
أما وقد تيسر الآن الحديد لصنع الآلات القوية، وتطلبت الأحوال الاقتصادية الإنتاج الواسع النطاق، فقد بقيت مشكلة العثور على قوة ميكانيكية يستعاض بها، بثمن رخيص، عن عضلات الرجال وصبر النساء. وأقدم الحلول استخدم القوة المائية. ففي مائة قطر كان الدولاب المائي العظيم، الذي يدور على مهل مع جريان للأنهار، يسير منذ زمن سحيق المضخات، والمنافيخ، والبكر، والمطارق، لا بل الآلات الحديدية الثقيلة منذ عام 1500. وظل المصدر الأهم للطاقة الميكانيكية خلال القرن الثامن عشر. وقد عاش إلى القرن العشرين، وما التركيبات الهيدروليكية في زماننا سوى قوة مائية حولت إلى كهرباء قابلة للنقل. ولا يمكن الركون إلى القوة المحركة للرياح بهذا القدر، ولم ينتفع بها إلا انتفاعاً قليلاً نسبياً في بلاد الجنوب الهادئة الريح، ولكن في العروض الشمالية سخرت التيارات الهوائية في إدارة طواحين هواء توجه "قلوعها" إلى "عين الريح" بونش في أسفلها يدار باليد. وقد بلغت هذه الآلة الثقيلة، التي لا يركن إليها، أوجهاً في الأقاليم المتحدة في القرن الثامن عشر، ثم بدأت اضمحلالها الرائع.(35/74)
وكان المخترعون خلال ذلك يجاهدون ليبلغوا بالآلة البخارية درجة الكفاءة المجزية. وكانت قد قطعت قبل ذلك شوطاً طويلاً، من أبواب ولعب "هيرو" التي يشغلها البخار في القرن الثالث الميلادي، مرورا بجيروم كاردان (1550)، وجامباتستا ديللابورتا (1601)، وسالومون دي كاوس (1615)، وجوفاني برانكا (1629)، ومركيز ورستر (1663)، وصموئيل مورلاند (1675) وكرستيان هويجنز (1680)، ودني بابان (1681)، وتوماس سافري (1698)، إلى آلة توماس نيوكومن البخارية في 1712؛ تلك قصة رويت ألف مرة. وهنا أيضاً، أي في عام 1712، يمكن أن يبدأ تاريخ الثورة الصناعية، لأن آلة نيوكومن "النارية" كانت مجهزة بمكبس، وذراع متذبذب، وصمام أمن، واستخدمت بنجاح في نزح الماء في المناجم العميقة. وقد ظلت النموذج الأساسي للطلمبات مدى ثلاثة أرباع القرن.
د - رأس المال والعمال
حين ازدادت الآلات حجماً وتكلفة، وتطلب تشغيلها القوة الميكانيكية، وجد نفر من المغامرين أنه أربح لهم أن يستبدلوا بالصناعة في البيوت مصانع تجمع الرجال والنساء في أبنية يحسن اختيار مواقعها قرب أنهار توفر الطاقة والنقل معاً. والمصانع، كما سلف، لم تكن بدعاً، فقد كان منها مئات في إنجلترا اليزابيث وفرنسة كولبير. غير أن "نظام" المصانع- إذا عرفناه بأنه اقتصاد صناعي يتم فيه الإنتاج بصفة رئيسية في مصانع- لم يكد يوجد في أي مكان قبل القرن التاسع عشر. ولكن بعد اختراعات كي وبول بدأت مصانع المنسوجات تقوم بالمزيد من الغزل والنسيج الذي كان يتم في البيوت، وفي 1717 أنشأ توماس لوم في داربي مصنع نسيج طوله 660 قدماً، يشغل ثلاثمائة عامل يقومون على 26. 000 دولاب. وسرعان ما قامت منشآت مماثلة الضخامة في ستوكبورت، وليك، وبرمنجهام، وليومنستر، ونرثامتن.
وشراء الآلات وإيواؤها، والحصول على الخامات، واستئجار العمال والإدارة، ونقل النتائج وتسويقه، كل هذا يتطلب رأس المال. كذلك كان الرأسمالي- مقدم رأس المال أو مديره- ظاهرة قديمة، ولكن بزيادة الطلب على رأس المال ازدادت الأهمية الاقتصادية والقوة السياسية(35/75)
للرجال الراغبين في المخاطرة بتقديمه. وقاومت الطوائف الحرفية، التي كانت من الناحية النظرية لا تزال تحكم معظم الصناعة الأوربية، التنظيم الرأسمالي للإنتاج والتوزيع. ولكن نظام الطوائف الحرفية بنى عليها الحرف اليدوية لا الآلات، وقد هيئ لتلبية الحاجات المحلية لا السوق القومية فضلاً عن السوق الدولية، ولم يستطع تلبية المطالب المتزايدة للجيوش، والمدن، والمستعمرات، وقد عوقه الولاء للوسائل والقواعد التقليدية، وأخذ ينحدر إلى درك "الشلل" من معلمي الحرف الذين يستغلون الصبيان وعمال اليومية. وكان الرأسمالي أقدر على تنظيم الإنتاج الكبير والتوزيع البعيد؛ فلقد كان عليماً بذلك الفن البالغ الرهافة، فن جعل المال يلد المال؛ وظاهره برلمان تواق لأن تمون الكفاية الصناعية التجارة المترامية والحروب.
وبانتشار المصانع والرأسمالية تغيرت علاقة العامل بعمله. فلم يعد يملك أدوات حرفية، ولا يحدّد ساعات كده وظروفه. ولم يكن له غير نصيب صغير في تقرير معدّل أجوره أو نوعية ناتجة. ولم يعد حانوته مدخلاً إلى بيته، ولا صناعته جزءاً من حياته الأسرية. ولم يعد عمله ذلك التشكيل الفخور لأداة في جميع مراحلها، بل أصبح بحكم تقسيم العمل- الذي سيعجب آدم سمث كثيراً- التكرار اللا شخصي، الممل، لجزء من عملية لم يعد ناتجها المصقول يعبر عن حذقه وتفننه؛ إنه لم يعد صانعاً ماهراً، بل "يداً" أجيرة. وقد حدد أجره جوع رجال ينافسون النساء والأطفال على العمالة. فإذا كان عاملاً في منجم فمتوسط أجره شلن وستة بنسات في اليوم، وإذا كان فاعلاً في البناء تقاضي شلنين، وسمكرياً ثلاثة شلنات، وقد اختلفت هذه المعادلات اختلافاً يسيراً بين عامي 1700 و1770 (13). وكان النساج يتقاضي حوالي سنة 1750 ستة شلنات في الأسبوع، والنساجة خمسة شلنات وستة بنسات، والطفل شلنين وستة بنسات. أما النساء الغزالات فمن شلنين إلى خمسة في الأسبوع، وأما البنات من السادسة إلى الثانية عشرة فشلن ونصف (14). على أن الأسعار كانت منخفضة، وظلت ثابتة حتى 1760 (15). وكان يضاف إلى هذه الأجور أحياناً علاوة للخبز والجعة أثناء العمل، وكان معظم عمال المناجم يعطون الفحم مجاناً.(35/76)
وكانت حجة أصحاب العمل أن عمالهم لا يستحقون أكثر من هذه الأجور، لأنهم أدمنوا الكسل والسكر والاستهتار والفجور. وزعم أحدهم (1739) أن السبيل الوحيد لجعل العمال عيوفين مجدّين "أن تفرض عليهم ضرورة الكد طوال الوقت الذي يستطيعون اقتطاعه من الراحة والنوم ليحصلوا على الضروريات العادية للحياة (16) ". وقال كاتب في 1714 "ليس للفقراء ما يحفزهم للخدمة النافعة سوى الحاجة، وهذه حال من الحكمة تخفيفها، ولكن من الحماقة شفاؤها (17) " أما يوم العمل العادي فيمتد من إحدى عشرة ساعة إلى ثلاث عشرة، ستة أيام في الأسبوع، ويهوّن من طول هذه الفترة ساعة ونصف لتناول الوجبات، ولكن المتباطئين بلا مبرر في تناولها يفقدون ربع أجر اليوم (18). وشكا أصحاب العمل من أن عمالهم يتوقفون عن العمل ليختلفوا إلى المهرجانات، أو مباريات الملاكمة التكسبية، أو مشاهد الشنق، أو الاحتفالات بأعياد القديسين الشفعاء. ورغبة في حماية أنفسهم من هذه المخالفات وأشباهها كان أصحاب العمل يحبون أن يكون لديهم رصيد من العمال المتعطلين في المنطقة، يستطيعون أن يعتمدوا عليه في الطوارئ أو أوقات الطلب المتزايد (19). فإذا كسدت الأحوال كان في الإمكان تسريح العمال وتركهم ليعيشوا على قروض من التجار المحليين.
ونشأت في المدن ببطء برولتاريا تابعة. وكانت تجمعات الطبقة العاملة محظورة بمقتضى قانون قديم أصدره أدوارد السادس، فجدد البرلمان هذا الحظر في 1720. ولكن عمال اليومية مضوا في تنظيم أنفسهم، ولجئوا إلى البرلمان لتحسين أجورهم، وأصبحت اتحادات هؤلاء العمال- لا الطوائف الحرفية- هي الرائدة لحركة النقابات العمالية التي تشكلت في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر. وفي 1756، بناءً على التماس من عمال النسيج في جلوسترشير، أمر مجلس العموم قضاة الصلح بالمحافظة على الحد الأدنى القانوني للأجر، ويمنع تخفيض الأجور في الصناعة، ولكن هذا المر سحب بعد عام، واتخذ البرلمان سياسة ترك تحديد الأجور للعرض والطلب على العمل (20). لقد بدأ عهد "المشروع الحر" وسياسة "عدم التدخل Laissez- Faire".(35/77)
هـ - النقل والتجارة
توقف نمو الاقتصاد على التحسينات في المواصلات والنقل. وكانت إنجلترا تتمتع بميزة ساحلها البحري وأنهارها، وكان نصف السكان يعيشون على أبعاد معقولة من البحر، ويستطيعون استخدامه في نقل السلع؛ وتغلغلت الأنهار مسافات بعيدة من الداخل، فأتاحت بذلك طرقاً مائية طبيعية. ولكن حال الطرق الإنجليزية كانت دائماً قذى في عين الحياة الإنجليزية. فتربة هذه الطرق لينة، وأخاديد صلبة يغمرها الماء، وكثير منها حولته أمطار الربيع أو الصيف إلى نهيرات أو بالوعات من الوحل كان المرور عليها عسيراً بحيث اقتضى إخراج المركبات من فوقها استخدام أعداد إضافية من الخيل والثيران، وكان على المسافرين على الأقدام أن يتحولوا إلى الحقول والغابات القريبة. ولم تتكفل الحكومة، لأغراض حربية، ببناء مجموعة من الطرق الرئيسية "صالحة لمرور الجنود والخيل والمركبات على مدار السنة (21) " (1751) إلا بعد أن قاد "الأمير تشارلي الجميل" رجاله الاسكتلنديين الثائرين وأوغل جنوباً حتى داربي في 1745، لأن حالة الطرق عرقلت مسيرة القوات الملكية الموجهة ضده. ومع ذلك ظل اللصوص يعيشون فساداً في الطرق، وكانت تكاليف النقل غالية.
وكان الناس يسافرون على ظهور الخيل أو في مركباتهم الخاصة إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وكان في إمكانهم استئجار الخيل الجديدة في نقط أو مواقع على الطريق Posts في الرحلات الطويلة، وانتشرت هذه البيوت Post- houses في جميع أرجاء أوربا الغربية. ثم استخدمت كلمة "بوست" (البوسطة) للدلالة على نقل البريد، لأنه في مثل هذه النقط كان حاملو البريد يستطيعون تسليم البريد أو تسلمه وتغيير الخيل؛ وبفضل هذا النظام أمكنهم أن يقطعوا 120 ميلاً في اليوم. ومع ذلك كتب تشسترفيلد (1749) يشكو الحال "إن رسائلنا على أحسن تقدير تنقل نقلاً مضطرباً، وكثيراً ما تضيع تماماً (22) ". وذهب إلى أن من "السرعة غير المألوفة" أن يستغرق خطاب مرسل من فيرونا ثمانية أيام ليصل إلى لندن. وكان أكثر السفر بالمركبات العامة يجرها جوادان أو أربعة ولها سائق وحارس(35/78)
مسلح خارجها، وبداخلها ستة ركاب يترنحون. وكانت المركبات تغادر لندن بجدول منتظم صباحين أو ثلاثة في الأسبوع قاصدة كبريات مدن جنوبي إنجلترا، ومعدل سرعتها سبعة أميال في الساعة، ورحلتها من لندن إلى نيوكاسل تستغرق ستة أيام.
وظلت التجارة الداخلية بهذه الطرق المعوقة بدائية على نحو جدير بالتصوير. فكان تاجر الجميلة يرافق عادة جياد الحمل التي تنقل بضاعته من بلد إلى بلد، والباعة الجوالون يسرحون بسلعهم منم بيت إلى بيت. أما الحوانيت فتميز عن البيوت بعلامات أهمها اللافتات الحافلة بالألوان، وتحفظ السلع بداخلها، وليس هناك عادة "أي عرض في الفترينات". وكل متجر تقريباً متجر عام لمختلف السلع، مثال ذلك أن "الخردجي" كان يبيع الثياب، والعقاقير، والمصنوعات الحديدية، والبدال سمي باسم grocer لأنه يبيع بالجملة gross؛ فالبدال هنري كوارد مثلاً كان يبيع كل شيء من السكر إلى المسامير. وكان لكل مدينة يوم ساق يعرضه فالتجار- إذا سمح الجو- عينات من بضائعهم. ولكن المراكز الكبرى للتجارة الداخلية كانت الأسواق السنوية التي تنعقد في لندن، ولين، وبوسطن، وجينزيورو، وبفرلي، وأهم منها كلها ستوربردج. في هذه الأسواق، في أغسطس وسبتمبر من كل عام، كانت تقوم مدينة حقيقية لها حكومتها وشرطتها ومحاكمها، تتوفر فيها كل منتجات الصناعة الإنجليزية تقريباً، ويلتقي فيها رجال الصناعة من جميع أرجاء الجزيرة ليتبادلوا الحديث عن الأسعار والنوعيات والكوارث.
وكانت التجارة الخارجية بسبيلها إلى التوسع لأن بريطانيا تسلطت على البحار. وزادت الصادرات إلى أكثر من مثيلها قيمة وكمية في النصف الأول من القرن، وارتفعت حمولة السفن المبحرة من الثغور الإنجليزية من 317. 000 طن في عام 1700 إلى 661. 000 في عام 1751 إلى 1. 405. 000 في عام 1787 (23). وضاعفت لفربول حجمها وأرصفتها كل عشرين سنة. وأقبلت الواردات من عشرات الأقطار لتداعب أحلام الأغنياء أو بطونهم، أو تزين تسريحات كرائم السيدات بالعطور ومساحيق التجميل التي تخلب الألباب. وبلغت(35/79)
أرباح شركة الهند الشرقية من شراء السلع رخيصة في الهند، وبيعها غالية في أوربا، حداً أتاح لها أن تغري بالانضمام إلى مساهميها خمسة عشر دوقاً أو ايرلاً، واثنتي عشرة كونتيسة، واثنين وثمانين فارساً، وستة وعشرين قساً وطبيباً (24). ولم تنظر الطبقة الأرستقراطية في إنجلترا إلى التجارة نظرة استعلاء والازدراء كما فعلت في فرنسا، ولكنها ساعدت على تمويلها وشاركت في رخائها. وقد أبهج رجلاً من الطبقة الوسطى كفولتير أن يجد نبلاء الإنجليز يهتمون اهتماماً نشيطاً بالتجارة. قال موجهاً حديثه إلى فرنسا في 1734 "أن لولع الإنجليز بالتجارة وحده الفضل في أن بزت لندن باريس حجماً وسكاناً، وفي أن إنجلترا استطاعت أن تملك مائتي بارجة وتعين بالمال الملوك من حلفائها (25) ".
وأصبح كبار التجار ينافسون الأرستقراطية القديمة المالكة للأرض ثراءً وسلطاناً، فيقررون العلاقات مع الدول الأجنبية، ويثيرون ويمولون الحروب في سبيل الأسواق والموارد والطرق التجارية. وسيطر القائمون على التجارة الإنجليزية في السكر، والتبغ، والعبيد، على حياة برستول، وحكم أصحاب السفن لفربول، وساد أصحاب مناجم الفحم على نيوكاسل. وكانت ثروة السير جوسيا تشايلد التاجر صاحب 50. 000 سهم في شركة الهند الشرقية، تعدل ثروة الكثير من اللوردات وحدائقه في وانستد من أشهر مشاهد إنجلترا. كتب هيوم في 1748 يقول "في معظم أقطار أوربا ترى أملاك الأسرة- أي الأملاك الوراثية- التي تميزها الألقاب والشارات التي يخلعها عليها الملك، هي أهم أسباب التمايز. أما في إنجلترا فإن الاعتبار الأكبر للثراء الراهن (26) ". وحدث قدر كبير من التبادل والامتزاج بين الطبقتين العليا والوسطى، فتزوجت بنات التجار الأغنياء بأبناء النبلاء ملاك الأرض، واشترى أبناء التجار ضياعاً من الأرستقراطيين الذين افتقروا ودخل عليه القوم ميادين التجارة والقضاء والإدارة. لقد كانت الأرستقراطية تتحول إلى بلوتوقراطية (أي حكومة الأغنياء)، والمال يحل محل النسب سبيلاً شرعياً إلى السلطان.
والمال
كان المصرفيون الأوربيون الآن يؤدون جميع الخدمات المالية(35/80)
تقريباً، يتسلمون الودائع، ويحمونها من الحريق والسرقة، ويرتبون المدفوعات بين المودعين بمجرد النقل من حساب الواحد إلى حساب الآخر، ويصدرون أوراق النقد التي يمكن أن يستبدل بها الذهب أو الفضة عند الطلب. وإذ لم يكن من المتوقع أن يطلب جميع حملة هذه العملة الورقية هذا الاستبدال في وقت واحد، فقد كان في استطاعة المصارف أن تصدر أوراقاً بلغت من خمسة إلى عشرة أضعاف قيمة احتياطياتها المشتركة. وأتاح تداول النقود المتكاثرة على هذا النحو رأس مال إضافياً للمشروعات التجارية، وشارك في توسيع الاقتصاد الأوربي. وحفز المصرفيون الصناعة بإقراض النقود بضمان الأرض أو المباني أو المواد، أو بمجرد التسليف على مسئولية شخص ما. ويسرت التجارة بخطابات تبادل أو ضمان مكنت رأس المال من الانتقال بمجرد نقل الوزن المصرفي حتى عبر حدود معادية.
وتألفت في إنجلترا شركات محاصة كما حدث في هولندا وإيطاليا وفرنسا. ونظم مؤسسوها، الذين كانوا وقتها يسمون "أصحاب المشروعات" الاتحادات الصناعية أو التجارية، وأصدروا أسهماً، ووعدوا بدفع أرباحها، وأمكن تحويل شهادات الأسهم أو السندات من شخص إلى آخر، ولهذا الغرض أسست في لندن سوق للأوراق المالية (بورصة) في 1698. وشهد مطلع القرن الثامن عشر نمواً سريعاً في المضاربة بأسهم الشركات، وسماسرة للأوراق المالية يتلاعبون في أسعار السوق رفعاً وخفضاً. وقد وصف ديفو في 1719 واحداً من هؤلاء المتلاعبين فقال:
"لو خطر للسير جوسيا تشايلد أن يشتري، فإن أول ما يفعله هو أن يكلف سماسرته بأن يتكلفوا العبوس والتهجم، ويهزوا رءوسهم، ويلمحوا بأن هناك أخباراً سيئة من الهند .. وربما باعوا فعلاً بعشرة آلاف أو ربما بعشرين ألف جنيه. وللتو ترى السوق .. وقد امتلأت بالبائعين، ولا أحد يشتري ولو بشلن، حتى تهبط الأسهم ستة، أو سبعة، أو ثمانية، أو عشرة في المائة، وأحيناً أكثر. هنا يكون لدى السمسار الخبيث طاقم آخر منهم يستخدمه .. في الشراء، ولكن في(35/81)
تكتم، وتحوط، حتى يشتري- بعد أن باع بعشرة آلاف جنيه بخسارة أربعة أو خمسة في المائة- أسهماً بمائة ألف جنيه، بأقل من السعر بعشرة أو اثنتي عشرة في المائة. وفي ظرف أسابيع، بعكس هذه الطريقة لا أكثر، يدفعهم جميعاً للتهافت على الشراء، فيبيعهم أسهمهم ثانية بربح يبلغ عشرة أو اثنتي عشرة في المائة (27) ".
ولم تكد تفتتح أسواق الأوراق المالية، حتى كان حرص الجمهور على تحقيق كسب دون عرق يثير موجات من المضاربة والانكماش. وقد جاء تضخم "فقاعة" بحر الجنوب (أي مشروعه الوهمي) في إنجلترا، ثم انهيار المشروع تالياً، في اتفاق غير عادي، لظهور وسقوط "فقاعة المسسبي" وصاحبها جون لو في فرنسا. ذلك أن الحكومة الإنجليزية، التي تأثرت بشكاوي بولنبروك، وسويفت، وغيرهما من أن الدين القومي- البالغ 52. 000. 000 جنيه في عام 1714 - يفرض على الدولة عبئاً سنوياً مدمراً قدره 3. 500. 000 جنيه من الفائدة- فكرت في خطة لتحويل 31. 000. 000 جنيه من الدين إلى شركة بحر الجنوب. وكانت الشركة قد أسست في 1711 بمنحها احتكاراً للتجارة الإنجليزية مع المستعمرات الأسبانية في أمريكا وجزر المحيط الهادي. ودعى حملة الأوراق الحكومية ليستبدلوا بها أسهماً في الشركة. وأصبح الملك جورج الأول "محافظاً لها"، وبذلت كل الجهود لنشر الاعتقاد بأن مرسوم احتكارها يعد بأرباح عالية. وسرت العدوى من النجاح الظاهري لنظام لو في فرنسا المعاصرة إلى إنجلترا، فاعترتها حمى مضاربة مماثلة. وما مضت ستة أيام على عرض الشركة قبولها الأوراق الحكومية ثمناً لأسهمها حتى قبل الاقتراح ثلثا حملة الأوراق واشترى كثيرون غيرهم أسهماً ارتفعت في ظرف شهر واحد من 77 جنيهاً إلى 123. 5 (1719). ولكي يضمن مديرو الشركة استمرار التعاون الحكومي قرروا تقديم هدايا سخية من الأسهم لأعضاء الوزارة ولاثنتين من خليلات الملك (28). وقد حذر روبرت ولبول، ولم يكن قد تولى منصب الوزارة بعد، مجلس العموم من المشروع لأنه "مضاربة ... مؤذية"، وقال إن المشروع يستهدف رفع قيمة الأسهم رفعاً مفتعلاً بإثارة تهافت الناس عليها والإبقاء عليه، وبالوعد بأرباح من أموال لن تفي بالغرض، وتنبأ، في دقة عجيبة، بأن المشروع سيفشل، وأنه لو ترك(35/82)
ليورط جماهير الشعب لجر فشله سخطاً شاملاً وخطراً (29). وقال إنه ينبغي وضع حد ما على الأقل لارتفاع أسهم الشركة. ولكن مجلس العموم أبى الاستماع إلى تحذيره. وفي 7 أبريل 1720 وافق كلا مجلسي البرلمان على اقتراحات الشركة.
وفي 12 أبريل أصدرت الشركة أسهماً جديدة بسعر 300 جنيه للسهم، فتم الاكتتاب فيها على الفور. وفي 21 أبريل أعلنت، وهي منتعشة ناضرة بفضل دفع الحكومة فائدة على الأوراق الحكومية التي أصبحت الآن ملكاً للشركة، أنها ستدفع أرباحاً صغيرة تبلغ عشرة في المائة، واستغلت الحماسة التي أثارها هذا الإعلان لطرح إصدار آخر من الأسهم بسعر 400 جنيه (23 أبريل). فلم تمض ساعات حتى تم الاكتتاب فيه. ورفع التهافت على شراء الأسهم ثمنها إلى 550 جنيهاً في 28 مايو، وإلى 890 جنيهاً في 2 يونيو، وفي يوليو بيع إصدار جديد بسعر 1. 000جنيه للسهم. وتهافت المجتمع الراقي كله على الاكتتاب، الأدواق والقساوسة والسياسيون والموسيقيون والشعراء، فأصبح شارع البورصة مشهداً لمنافسة هائجة مائجة على الشراء لم ير لها نظير إلا في شارع كانكمبوا بباريس في الفترة ذاتها تقريباً؛ فلقد كشفت طبيعة البشر عن نفسها عبر الحدود. وكان الناس يعقدون صفقات الأسهم في الحانات، ومشارب القهوة، ودكاكين صانعات القبعات، وفي لك ليلة يحسب الرجال والنساء أي ثراء أصابوا، وما كان يمكن أن يصيبوا من مزيد لو أنهم اشتروا في تاريخ سابق، أو قدراً أكبر من الأسهم.
وبلغت لهفة المال العام على المضاربة مبلغاً أغرى الشركة بطرح إصدارات صغيرة بلغت ستة وثمانين إصداراً. وبيعت أسهم أصدرتها شركات أنشئت لتحويل المعادن إلى فضة، ولتشييد المستشفيات للأطفال غير الشرعيين، ولاستخراج الزيت من الفجل، ولإحداث الحركة الدائمة، ولاستيراد الحمير من أسبانيا. وأعلن مؤسس عن "شركة لمواصلة مشروع عظيم النفع، ولكن أحداً لن يعرف كنهه" إلا فيما بعد، فتلقى ألف اكتتاب كل منها بجنيهين قبل أن ينتصف النهار، ثم اختفى بعد الظهر (30).(35/83)
وكان شطط بعض هذه "الفقاعات" الصغرى (وهو الصف الذي وصفهم بعد ذلك العهد) بداية رد الفعل ضد مشروع بحر الجنوب. وجدد ولبول وغيره تحذيراتهم وباعوا أسهمهم. وفي 11 يونيو حرم الملك جميع إصدارات الأسهم إلا للشركات التي رخص لها البرلمان بذلك. وسرعان ما انهارت المشروعات الصغرى، فهدأ فشلها من حمى المضاربة. وانتشرت شائعة بأن الحكومة الأسبانية أخذت تضيق تجارة الشركة في المستعمرات الأمريكية تضييقاً شديداً. وفي يوليو وصل نبأ بأن مشروع لو أو "فقاعة المسسبي" قد انفجرت في باريس. وباع السير جون بلاونت وغيره من مديري شركة بحر الجنوب أسهمهم سراً بربح كبير. وخلال أغسطس كله توالى هبوط الأسهم حتى إذا جاء 2 سبتمبر لم يتجاوز سعرها سبعمائة جنيه.
هذا استحال التهافت على البيع ضرباً من الهلع والذعر الجماعي، فازدحمت مدخل شارع البورصة ازدحاماً خانقاً. وهبطت الأسهم إلى 570 جنيهاً، ثم إلى 400 جنيه، ثم إلى 150 جنيهاً، ثم إلى 135 جنيهاً (29 سبتمبر). وخسرت مئات الأسر الإنجليزية مدخراتها في هذا الانهيار. وسرت بين الناس قصص الإفلاس والانتحار (31). وأفلست المصارف التي كانت قد أقرضت المال بضمان شهادات أسهم شركة بحر الجنوب. وطالبت الاجتماعات العامة في جميع أرجاء إنجلترا بعقاب المديرين، ولكنها غفرت للجمهور غروره وجشعه. وعجل الملك بالعودة من هانوفر ودعا البرلمان للانعقاد. وفر أمين صندوق الشركة إلى فرنسا مصطحباً الكثير من السجلات التي كانت ستدين المديرين وفي يناير 1721 وجدت لجنة برلمانية بعد فحصها دفاتر الشركة، "صورة للظلم والفساد (32) "مذهلة حتى بمقاييس ذلك العهد، حين كان التشريع عن طريق إفساد البرلمان كأنه جزء من دستور إنجلترا. والظاهر أن المديرين كانوا قد أنفقوا 574. 000 جنيه في رشوة كبار رجال الحكومة.
وطالب بعض أعضاء البرلمان بعقوبات عنيفة، وأقترح أحدهم بأن يخاط المديرون المذنبون في زكيبة ويلقوا أحياء في التيمز (33). وحمى وطيس الجدل حتى تحدى الأعضاء بعضهم بعضاً للمبارزة،(35/84)
وأصيب عضو منهم بأزمة ضغط مرتفع ومات في الغد. ودعا المديرون ووزراء الحكومة إلى المحاكمة أمام المجلس. فحكم على جون ايزلابي، وزير الخزانة، بالسجن في برج لندن، وصودرت ممتلكات المديرين- منهم إدوارد جبون، جد المؤرخ- فلم يترك لهم سوى عشرة في المائة من ثروتهم. ولوحظ أن السير جون بلاونت، الذي كان من أوائل منظمي الشركة، ومن أول من بدأوا ببيع أسهمهم، كان رجلاً "ذا مسلك غاية في التقوى" وكان "دائماً يهاجم ما يشين العصر من سرقة وفساد" ويندد بجشع الأغنياء (34).
أما روبرت ولبول الذي برر الحدث تنبؤاته، فقد أشار بالاعتدال في روح الثأر الذي اتسم به رد الفعل، وخفف من انهيار الشركة بإقناع مصرف إنجلترا وشركة الهند الشرقية بامتصاص نحو 18. 000. 000 جنيه من الأسهم الخاسرة. وقد وجد في شركة بحر الجنوب من الاحتياطيات ما يسمح بدفع ثلاثة وثلاثين في المائة لحملة أسهمها في وقت مبكر. وجردت الشركة من امتيازاتها وسحرها، ولكنها كانت تكسب من بيع العبيد، فظلت على قيد الحياة، في حيوية هابطة حتى عام 1853.
2 - مظاهر الحياة في لندن
يقدر الإحصائيون الأجرياء سكان أوربا بنحو 100 مليون نسمة في 1650، و140 في 1750. وقد قدر فولتير في 1750 سكان فرنسا بعشرين مليوناً، وألمانيا والنمسا باثنين وعشرين، وبريطانيا العظمى وأيرلندة بعشرة، وروسيا الأوربية بعشرة، وأسبانيا والبرتغال بثمانية، وبولندة بستة، وخص كلاً من تركيا وأوربا، والسويد، والدنمرك (مضافاً إليها النرويج) والأقاليم المتحدة، بثلاثة ملايين (35). وذهب قانوني ألماني إلى أن الزيادة في سكان شمالي أوربا مردها إلى حد كبير انتقال الرهبان والراهبات من حياة العزوبة إلى الأبوة والأمومة نتيجة لحركة الإصلاح البروتستنتي، وحض على "إقامة تمثال للوثر بوصفه حافظ النوع الإنساني" (36). ولكن علينا ألا نغالي في عفة رهبان العصر الوسيط. وأغلب الظن أن زيادة(35/85)
السكان مرجعها تحسينات الزراعة والنقل التي زادت من كميات الطعام وتوزيعه، وخطوات النهوض بالصحة العامة والعلاج الطبي التي خفضت نسبة الوفيات في الأطفال والبالغين. ويبدو أن سكان إنجلترا وويلز الذين نيفوا على ثلاثة ملايين في 1500، بلغوا أربعة في 1600 وستة في 1700، وتسعة في 1800 (37). وكل الزيادة تقريباً كانت من نصيب المدن التي غذت الصناعة والتجارة وتغذت منهما. وفي عام 1740 فاخرت لندن بنحو 725. 000 من الأهالي، فأصبحت الآن الحفل مدن العالم بالسكان، وندد بها ديفو في 1722 لأنها "تضخمت" (38) وتلتها باريس التي بلغ سكانها 675. 000 في 1750، ثم أمستردام وفينا، ونابلي، وبلرمو، وروما. وبلغ سكان لندن عشرة أضعاف سكان برستول، التي كانت ثاني أكبر المدن الإنجليزية، وثمانية عشر ضعف سكان نورتش، ثالث أكبر المدن الإنجليزية. وكانت مراكز العواصم تجمع في يدها خيوط الحياة الاقتصادية للأمة، وتحول كدّ الحقول والمناجم والمتاجر ومنتجاتها إلى أرباح المال اللطيفة الرقيقة.
وأعان لندن موقعها على النمو من نمو التجارة والمستعمرات الإنجليزية. فكان في استطاعة السفن عابرة المحيط أن تبحر مصعدة في التيمز، ومع أن أرصفة الميناء (حتى 1794) لم يكن في طاقتها أن تؤويها، فإن جيشاً من عمال التفريغ والشحن والغلاظ، يستخدم أسطولاً من ثلاثمائة صندل، كان مهيأ لنقل البضائع من السفينة إلى الساحل أو غلى سفينة أخرى، وهكذا غدت لندن مركز توزيع شاغياً بالحركة لإعادة تصدير الواردات من وراء البحار إلى القارة. ولم يكن شاطئ النهر أنيقاً كما نجده الآن، فقد كان يزخر بعمال الشحن المفتولي العضل، والملاحين المتعطشين للجنس، والنساء المتحللات ملبساً وخلقاً، القذرات مظهراً ولفظاً، الساكنات الأكواخ والحانات، المنافسات للبحارة في السكر والعنف (39). أما النهر نفسه فكان عجيب المنظر، فيه خليط من السفن التي تتفاوت من قوارب الصيد الشراعية إلى البوارج الضخمة، بينما تعبر المعديات الصغيرة النهر غدواً ورواحاً. وكان الملك، وعمدة لندن، ونفر من الأعيان، يملكون "ذهبيات" أنيقة، ويستخدمونها للرحلة صعداً إلى ونزور أو غيرها من البلاد-وظل كوبري لندن حتى 1750 الطريق الوحيد لاختراق المدينة على الأقدام(35/86)
من شمالها إلى جنوبها، ولكن في ذلك العام تم بناء كوبري وستمنستر، وفي 1757 أزيل عن كوبري لندن عبء البيوت والمتاجر الذي كان يثقله. وقد أعجب الرسام البندقي أنطونيو كاناليتو، الذي زار لندن في 1746 و1751، بمشاهد الحركة التي يعج بها الماء فخلف لنا بعض الصور الشهيرة التي ترينا التيمز كما عرفه وأحبه بوب وجونسون.
ولعل جونسون أحب شوارع لندن أكثر حتى من حبه لنهرها، مع أنها كانت لا تزال سيئة الإضاءة رديئة الصرف، لا ينظفها في الغالب سوى ماء المطر الهاطل عليها. وكان قد تقرر في 1684 نظام لإضاءة الشوارع يقام بمقتضاه مصباح مضاء بالشمع عند كل عاشر بيت، ولكن المصابيح لم تضاء إلا في الليالي التي يحتجب فيها القمر، وحتى منتصف الليل فقط، ومن عيد الملاك ميخائيل (29 سبتمبر) إلى عيد السيدة العذراء فقط (25 مارس). وفي 1736 وافقت سلطات المدينة على إقامة خمسة عشر ألف مصباح زيتي في أنحاء لندن كلها، تظل مضيئة من غروب الشمس إلى شروقها، وكان هذا حدثاً مشهوداً في حياة العاصمة حسن كثيراً من أمن شوارعها في الليل.
كان أكثر الشوارع منذ حريق 1666 الكبير مرصوفاً بالحجارة الصغيرة المدوّرة، وظل الرصف بهذه الطريقة قاعدة متبعة إلى القرن التاسع عشر. وكانت تجري في وسط كل شارع قناة تتلقى الكثير من النفاية وتصرف المطر. ولم يكن هناك أفاريز بل صف من الشواخص حدد طريقاً للمشاة عرضه ستة أقدام. وكانت الشوارع تعج بأصوات عربات النقل، وخيول الجر، والحناطير، والمركبات الخاصة، وكلها تجرها الخيل التي تقعقع حوافرها على أحجار الرصف، كذلك كان هناك الباعة الجوالون-وكثير منهم نساء-يسرحون بعشرات الأطعمة أو الثياب، والصناع المهرة المتنقلون يعرضون إصلاح ما فسد، وسائقو العربات يتشاجرون والكلاب تنبح، والمتسولون يستجدون، ومغنو الشوارع يصيحون بالأغاني الشعبية، والأراغن تقفز بألحانها من جدار إلى جدار. وكان الناس يشكون من هذه الضوضاء ولكنهم يحبونها، فهي السبيل الذي لا غنى عنهم إلى معاشهم. ولم يعمل الناس في صمت سوى النشالين والمومسات.(35/87)
وبدأ تثبيت أرقام الشوارع على البيوت في سنة 1708. وكان أكثرها في سنة 1750 مزوداً بالمياه الجارية. وأخذت وسائل النظافة تتحسن. وكان القانون يطالب رب كل أسرة بأن يحتفظ برصيف الشارع نظيفاً أمام بيته، ولكل حي زبال ينظم جمع القمامة. أما المراحيض فكانت عادة مراحيض خارجية توضع وتستر في الحديقة أو الحوش. وكان لبعض المناطق مجار، ولكن لم يتح لندن نظام مجار عام إلا سنة 1860. أما المداخن فيطهرها منظفو المداخن، الذين يتسلقونها بضغط كيعانهم وركبهم على جدرانها الداخلية المصنوعة من الطوب أو الحجر، واستمر هذا التشويه القاسي لأجسام الأطفال حتى عام 1817.
وكان شطر كبير من السكان يحشرون في أحياء فقيرة مزدحمة تلوثها القمامة والفضلات فتولد عشرات الأمراض (40). وفي حيين من أحياء لندن-هما وابنح ولايمهاوس-كان واحد من كل اثنين من السكان تقريباً يعيش عيش الكفاف، معتمداً على الإحسان، أو السرقة، أو البغاء، في الحصول على المسكن والطعام. أما الأطفال فيجرون حفاة قذرين شعثاً في الشوارع لا تسترهم غير أسمال ولا يتعلمون غير الإجرام. في هذه الشوارع الفقيرة ندر أن اهتم الرجال والنساء بالزواج فالعلاقات الجنسية حدث عابر، وسلعة تسوق دون احتفال أو قانون. ولم يكد يوجد في هذه الأحياء كنائس على الإطلاق، أما دكاكين الجعة والحانات فكثيرة. وفيها أيضاً كانت بؤر اللصوص، والنشالين، وقطاع الطرق، والقتلة المحترفين. وكان كثير من المجرمين ينتظمون في عصابات. فإذا تعرض لهم الحراس جدعوا أنوفهم. وألفت جماعة منهم يدعون "الموهوك" أن يخرجوا إلى الشوارع سكارى، ويخزوا المارة بالسيوف، ويكرهوا النساء على الوقوف على رءوسهن، ويسلموا عيون من يقاومونهم من ضحاياهم. أما لصوص العصابات الأقل ضراوة فكانوا يقنعون بكسر نوافذ الدكاكين والبيوت. ذكر سموليت في 1730 "أن اللصوص والسارقين أصبحوا الآن أشد استهتاراً وضراوة مما كانوا في أي عهد منذ عرف البشر الحضارة (41) ". وفي 1744 حرر عمدة لندن وحاكمها خطاباً للملك قراراً فيه أن "عصابات شتى قوامها أعداد كبيرة من الأشخاص ذوي النزعة الشريرة، المسلحين بالهراوات، والطبنجات، والسيوف، وغيرها من الأسلحة الخطرة، يعيثون فساداً(35/88)
لا في الأزقة والممرات الخاصة فحسب، بل في الشوارع العامة وأماكن الاحتشاد العادية، ويقترفون أخطر الاعتداءات على أشخاص رعايا جلالتكم (42) ". وقال هوراس ولبول في 1752: "إن المرء ليضطر إلى السفر، حتى في الظهيرة، وكأنه ماض إلى ساحة قتال (43) ".
وكانت العاصمة الكبرى بالطبع شيئاً أكثر كثيراً من هذه الحصيلة المتكاثرة من الفقر والجريمة، فلقد كانت إلى ذلك بلد البرلمان والقصور الملكية، ووطن ألف محام وتاجر وصحفي وشاعر روائي وفنان وموسيقى ومعلم وكاهن ورجل بلاط. ويجب ونحن ماضون في طريقنا أن نضيف غلى رؤيتنا للندن القرن الثامن عشر بيوت الطبقات المتعلمة الفخمة وأخلاقها وعاداتها، وجمهور المصلين في الكنائس، والشكاك، والعلماء، والفلاسفة، وظرفاء "المجتمع الراقي" وحسانه وعشاقه، وحدائق اللهو في فوكسهول ورينلاج، والمتنزهين في الحدائق العامة وشارع بل مل، وسباقات الزوارق والمهرجانات والذهبيات على نهر التيمز، والأحاديث المتداولة في مشارب القهوة والنوادي، ودكاكين الحرفيين، وتجار الملابس، والجواهرية، وأسباب الترويج في البيت والرياضة في الخلاء، والجموع المحتشدة في معارك الديكة، ومباريات الملاكمة التكسبية، وعروض الدمى، والمسارح، والأوبرا-عندها فقط تكون رؤيتنا للحياة اللندنية منصفة كاملة إلى حد معقول، تتيح لنا أن نحس التاريخ في كل نواحيه ينساب خلال أجساد وأرواح جيلين و700.000 نفس.
3 - المدارس
كانت الحياة في إنجلترا كما في غيرها من الأقطار في هذه الحقبة تبدأ بنسبة عالية من وفيات الأطفال، يموت 59% من مجموع الأطفال المولودين بلندن قبل أن يبلغوا الخامسة، و64% قبل العاشرة (44). وكان كثير من الأطفال يلقون خارجاً عقب ولادتهم، ومن بقي من هؤلاء اللقطاء على قيد الحياة يربون على نفقة الدولة ثم يوضعون في إصلاحيات للأحداث. ونجم الكثير من التشوهات الجسمية عن إهمال المولدات والأمهات.(35/89)
فإذا كان الأبوان فقيرين لم ينل الطفل حظاً من التعليم في المدرسة إطلاقاً. وكان هناك "مدارس خيرية" تقدم التعليم الأولي للجنسين ولجميع الطبقات مجاناً، ولكن حملة الملتحقين بها لم يتجاوز 28. 000 في 1759، وكانت لا تقبل المنشقين عن الكنيسة الأنجليكانية، ولا تصل إلا لنسبة ضئيلة من الفلاحين، ولا تكاد تصل إلى فقراء المدن إطلاقاً. يقول حجة إنجليزي "إن الكثرة العظمى من الإنجليز كانوا يمضون إلى قبورهم دون تعليم" (45). أما في طبقة الصناع فالتلمذة الصناعية تعد خير تعليم. وأما أطفال الطبقة الوسطى فيجدون مدارس يقوم عليها عادة "رجال محطمو الأعصاب، أو مفلسون، أو مطرودون من وظائف أخرى" (46) وإلى ذلك "مدارس نسوية" تعلم فيها المعلمات المتواضعات مبادئ القراءة والكتابة والحساب والكثير من الدين للصبيان والبنات الذين يستطيع آباؤهم دفع مصروفاتهم. وفي جميع المدارس كان التركيز على تعليم الطلاب القناعة بمرتبتهم التي ولدوا فيها، وإبداء الخضوع الواجب للطبقات العليا.
وكانت قلة قليلة تدخل المدارس الثانوية حيث يستطيع الصبيان أن يضيفوا شيئاً من اللاتينية واليونانية إلى مبادئ القراءة والكتابة والحساب، لقاء رسوم متواضعة تبصر المعلمين بمكانهم الوضيع في السلم الاجتماعي. وكان النظام صارماً، وساعات الدرس طويلة تمتد من السادسة إلى الحادية عشرة والنصف صباحاً، ومن الواحدة إلى الخامسة والنصف مساءً. وأجود من هذه المدارس، المدارس الخاصة، وأشهرها ايتون، ووستمنستر، وونشستر، وشروزبري، وهارو، ورجبي-حيث يستطيع الشباب من الصفوة التحضير للجامعة نظير ستة وعشرين جنيهاً أو نحوها في العام، وادخار شارات كلاسيكية يتفاخرون بها في المستقبل. وإذ كانت هذه المدارس الخاصة لا تقبل غير صبيان الكنيسة الأنجليكانية، فإن المنشقين على هذه الكنيسة-من معمدانيين، ومشيخيين، ومستقلين، وتوحيديين، وكويكريين، ومجمعيين، ومثوديين-هؤلاء أنشئوا أكاديميات لشبابهم قل التركيز فيها على الكلاسيكيات القديمة، وازداد على اللغات الحديثة،(35/90)
والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والملاحة-وهو تعليم أنسب لأبناء الطبقة الوسطى.
وحرم المنشقون من دخول الجامعات. وكان أكثرها طلاباً ينتمون إلى أسر موسرة، ولكن بعض الصبيان رقيقي الحال تلقوا منحاً دراسية من المحسنين أو المؤسسات الخيرية، وبعض الطلاب الذين يقومون بخدمات للجامعة لقاء مكافآت (ويسمون servtitors أو sizars) مثل نيوتن، شقوا طريقهم خلال قاعات الدرس الواعية بالفوارق الطبقية. وقد عانت أكسفورد وكمبردج من الركود في هذه الفترة بسبب النزعة المحافظة في المناهج والطرق والأفكار. وأبدت كمبردج استعداداً أكبر للتوسع في الدراسات العلمية على حساب الدراسات الكلاسيكية واللاهوت، ومع ذلك وصفها تشسترفيلد بأنها "غارقة في أحلك الظلمات". أما أكسفورد فقد تشبثت باللاهوت القديم وبأسرة ستيوارت الساقطة، ولم تسمح لملوك أسرة هانوفر الغشم بزيارتها. وقال آدم سمث، الذي كان يطلب العلم بأكسفورد في 1745، إنه لم يتعلم فيها إلا القليل، أما جبون الذي درس فيها في 1752، فقد ندّد بمدرسيها لأنهم سكيرون جهلة، وندم على السنين التي ضيعها في الجامعة. وآثر الكثير من الأسر استخدام المدرسين الخصوصيين (47).
أما البنات فكن يتلقين تعليماً أولياً في مدارس القرية أو المدارس الخيرية-فيتعلمن القراءة والكتابة، والخياطة، وأشغال الإبرة، والغزل، وقليلاً من الحساب، وكثيراً من الدين. وتلقى بعضهن التعليم على يد معلمين خصوصيين، ومنهن من درس اللغات والآداب الكلاسيكية خفية كما فعلت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو. قالت الليدي ماري "إن بنات جنسي تحظر عليهن عادة دراسات من هذا النوع، والجهل يعد مجالنا المناسب لنا، بحيث أي إسراف فيه من جانبنا يغتفر لنا أكثر مما يغتفر أقل تظاهر بمعرفة القراءة أو بالإدراك السليم ... وليس في الوجود مخلوق ... أشد تعرضاً للسخرية العامة من المرأة المثقفة". وكانت تميل إلى الظن بأن الرجال كانوا يبقون النساء في جهلهن ليستطيعوا إغواءهن بتكلفة أقل (48). وإذا كان لنا أن نحكم من دخول محظيات الملك، فإن النساء وفقن كل التوفيق بغير(35/91)
الدراسات الكلاسيكية، ولم يكن بهن حاجة إلى شاعر كأوفيد ليعلمهن لعبة الحب.
4 - الأخلاق
لعل العلاقات السابقة على الزواج كانت بين النساء أقل شيوعاً في ذلك العهد مما هي عليه اليوم (1965)، ولكن البغاء ازدهر إلى حد لم يكد يعرف ثانية حتى يومنا هذا. وقد قدر مراقب أجنبي عدد المومسات بخمسين ألف في لندن، يوجدن في حانات المدينة، وفي الفنادق الصغيرة على الطرق، وفي حدائق المدينة، وفي المراقص العامة، وحفلات الموسيقى، والمسارح، وكن في شارع اكستر وحي ستراند يجلسن إلى النوافذ تشجيعاً للمترددين من الزبائن. وفي "دروري لين" (شارع المسارح بلندن) -كما تغنى الشاعر جون جاي في تمثيليته "تريفيا": هي التي تمشي في الليل بخطى وئيدة، لا يضم جسدها اللدن مشد قاس، وتحت المصباح تتوهج شرائطها المبهرجة، والمعطف حديث التنظيف، وسيماء المومس ... وبأصوات التملق تستميل الأذن الساذجة قائلة "يا فارسي الهمام! يا فاتني! يا حبيبي! يا عزيزي! " (49).
ولم تأخذ القانون بهن رحمة. فإذا أمسكت إحداهن وهي تتحرش برجل، زج بها في السجن وضربت بالسوط ووضعت في المشهرة (آلة التعذيب). وقد وصفت "مجلة جرب ستريت" في عدد 6 مايو 1731 مصير إحدى هؤلاء "المدامات" فقالت "وقفت أمس الأم نيدهام في المشهرة ببارك بليس قرب شارع سانت جيمس، ونكل بها الجمهور تنكيلاً شديداً. وقد اشتد بها الإعياء حتى استلقت بطول المشهرة، ورغم ذلك ظلوا يحصبونها بقسوة، ويظن أنها ستموت بعد يوم أو يومين (50).
ولكن لم يكن يصل غلى المشهرة غير أفقر البغايا. فقد كن يتفادين القانون عادة بالرشا، أو يخرجهن صاحبهن بكفالة، وأحسّ بعض حفظة القانون-ربما لأنهم تعرفوا فيهن على "مضيفات" سابقات لهم-بعض العطف على نساء عاقبتهن القوانين على فسق الرجال.(35/92)
وأغلب الظن أنه لم يأت إلى فراش الزوجية محتفظاً بعفته عشرة من كل مائة ذكر من أهل لندن. لقد ندد القوم بالرذيلة علانية، ولكنهم احتقروا الفضيلة سراً .. وكتاب جون كليلاند المسمى "مذكرات غانية" (1749)، والذي عرف فيما بعد باسم "فاني هل"، وهو سلسلة من الأغواءات المفصلة، كان (وما زال) من أفحش كتب ذلك القرن وأكثرها شعبية.
وألف بعض الرجال جماعات للاستمتاع المتبادل فيما بينهم. وروت جريدة لندن في عددي 23 و30 أبريل 1725 نبأ القبض على سبعة لوطيين، وفي 14 مايو سجلت نبأ شنق ثلاثة آخرين بتهمة اللواط، ثم أضافت "نمى إلينا أنهم (أي الشرطة) اكتشفوا عشرين بيتاً أو نادياً يجتمع فيها اللوطيون، وهم يراقبون أيضاً منتديات ليلية يلتقي فيها هؤلاء الوحوش في جمع كبير". وفي 7 يوليو روت الجريدة أدانة "روبرت هويل ويورك هورنر بفتحها بيوتاً في وستمنستر يستقبلان فيها هواة هذه الرذيلة المنكرة". وفي23 يوليو أعلنت أن: "مرجريت كلاب، التي أدينت بفتحها بيتاً سرياً يستخدمه اللوطيون ... حكم عليها بوضعها في المشهرة، وبدفع غرامة قدرها تسعون ماركاً، وبالسجن سنتين" (51).
وينبئنا مصدر وثيق بأن "نسبة كبيرة جداً من أهل لندن كانوا يعاشرون النساء حراماً دون زواج (52) ". وكانت زيجات الحب في ازدياد، على الأقل في روايات رتشردسن وفيلدنج، ولكن معظم الزيجات كان يرتبها الآباء بعد الوزن الدقيق لمهر العروس بالقياس إلى دخل العريس الفعلي أو المنتظر. وقد حرم قانون صدر في 1753 على الأشخاص دون الحادية والعشرين الزواج بغير موافقة والديهم أو الأوصياء عليهم. ولما كان هذا القانون لا ينطبق إلا على إنجلترا، فإن كثيرين من العشاق الفارين من آبائهم كانوا يعبرون الحدود إلى إسكتلنده، حيث يتبع القساوسة في قرية جريتنا جرين قانوناً أكثر يسراً. وكان هناك مزيد من التيسيرات على العاشقين المتلهفين يوفرها رجال الدين الجشعون الذين يعقدون الزيجات السرية في الحانات أو المواخير أو العليات أو غير ذلك من الأماكن في شارع فليت أو على(35/93)
مقربة منه (وفي الشارع سجن للمدينتين). وكان في كل حانة تقريباً في تلك المنطقة كاهن من هذا النوع على استعداد لتزويج أي إنسان لقاء رسم، دون أن توجه إليه أسئلة أو يطالب بترخيص. وشاع عن أحد هؤلاء القساوسة أنه كان يعقد ستة آلاف قران في السنة. وكانت الزيجات تبرم في عاطفة مشبوبة، ثم تفسخ وقد ذابت حرارتها؛ وكان آلاف النساء يهجرن رجالهن، وكان البحارة يتزوجون وهم يقضون يوماً على البر، ويحبون، ثم يرحلون. ورغبة في القضاء على هذا المنكر أصدر البرلمان قانوناً (1753) بألا يعتبر أي زواج شرعياً، باستثناء زيجات الكويكرز أو اليهود، ما لم يعقده قسيس أنجليكاني في كنيسة أبرشية، بعد نشر إعلان بالزواج في الكنيسة على مدى ثلاثة آحاد متعاقبة؛ وكل مخالف لهذا القانون يعاقب بالنفي إلى المستعمرات.
ولم يكن الطلاق مسموحاً به في إنجلترا (قبل 1857) دون الحصول على قانون خاص من البرلمان (53)، وكانت تكاليف هذا الإجراء تجعل منه ترفاً مقتصراً على الأغنياء. وفشا الفسق في جميع الطبقات إلا الوسطى، وضرب جورج الأول والثاني مثالاً في ذلك-والناس على دين ملوكهم. ففي عام 1700 كتب كونجريف يقول "كل إنسان في هذا المجتمع ولد بقرون طالعة (54) ". ولم تتغير الحال إلا قليلاً في 1728، حين جعل الكاتب المسرحي "جاي" السيدة بيتشم في "أوبرا الشحاذ" تسأل زوجها عن ابنتها "بالله لم يجب أن تشذ ابنتنا بوللي عن بنات جنسها فتقصر حبها على زوجها؟ .. كل الرجال لصوص في الحب، ويزداد عشقهم للمرأة إن كانت ملك رجل آخر (55) ". على أنه يمكن القول عموماً بأن أخلاق النساء كانت في إنجلترا خير منها في فرنسا، وأنه في الطبقات الوسطى، التي ظلت التقاليد البيورتانية فيها قوية، أوشكت العفة أن تكون إفراطاً في الاحتشام، وقد تجد من النساء زوجات من الطراز الذي يحلم به الرجال-صبورات، مجدات، وفيات. وكان المعيار ذو الوجهين مفروضاً ومقبولاً. فكانت النساء المهذبات يسمعن الكثير من الحديث النابي ويقرأن فيلدنج وسموليت، ولكن كان ينتظر منهن أن تحمر وجوههن خفراً مغرياً، وأن يغشي عليهن في لمح البصر.(35/94)
وكان ينظر إلى المرأة في جميع الطبقات على أنها أدنى من الرجل بحكم الطبيعة وبقضاء لا سبيل إلى رده. ولقد ارتضت هذه النظرة حتى الليدي ماري المتكبرة المتمردة، ولو ساخرة كارهة:
"لست أحاول الآن المطالبة بمساواة الجنسين، إذ لا شك في أن الله والطبيعة قد ألقيا بنا في مرتبة أحط، فنحن جزء أدنى من الخليقة، وعلينا إطاعة الجنس الأعلى والإذعان له، وكل امرأة تسمح لغرورها وحماقتها أن ينكرا ذلك إنما تتمرد على ناموس الخالق ونظام الطبيعة الذي لا ينازع (56) ".
وكانت فترة حكم البيورتان قد أنزلت المرأة عن مقامها الذي ارتقت إليه أيام اليزابيث. وحكم أحد الطلاب بأنه "حوالي عام 1750 كانت النساء في إنجلترا قد نزلن إلى مستوى منحط جديد لم يكد يفضل وضعهن في القرن الثاني عشر (57) ".
وتردت الفضائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى الدرك الأسفل. فالقمار الذي قاومته الملكة آن من قبل رد إلى الخطوة الملكية بفضل جورج الأول والثاني. وكان موظف خاص يسمى "الحاجب" منوطاً بالإشراف على القمار في البلاط الملكي. وكان لعب الورق التسلية المفضلة للأغنياء والفقراء، وندر أن برئ من المراهنة، وكثيراً ما شابه الغش. ولم يكن من غير المألوف للمتبطل المتلاف من أبناء الطبقة العليا أن يكسب أو يخسر مائتي جنيه في جلسة واحدة، وقد خسر دوق ديفونشير ضيعته في لعبة واحدة؛ وكان اللورد تشسترفيلد يقامر باستهتار فيما بين المحاضرات التي يلقيها على ابنه، وأصبح القمار شهوة سيطرت على الناس أجمعين في عهد جورج الأول إلى درجة لعلها لم تضارع بعده. وفتحت ملاعب القمار في نادي هوايت، وفي تشيرنج كروس، وفي لستر فيلدز، وفي جولندز سكوير، وفي باث. وفي محفورة للمصور هوجارت سماها "رحلة الفاجر" نرى رجالاً ونساء يقامرون في نادي هوايت، ولا يعبأون بإنذار ينبئهم بأن المبنى يحترق، فلا بد من مواصلة معركة اللعبة إلى نهايتها الحاسمة (1). وقد
_________
(1) احترق النادي الشهير عام 1733، ولكنه رمم سريعاً.(35/95)
حظر جورج القاني هذا القمار المنظم، ولكنه اعتمد يانصيب الحكومة الذي كان قد تقرر في 1569 وعمر حتى 1826. وكانت تذاكر اليانصيب تباع للجمهور بكل وسيلة من وسائل الترويج، واشتد الانفعال والتحمس لها إلى حد أغرى الخدم بسرقة سادتهم، والكتبة بسرقة أرباب عملهم، طمعاً في نصيب من الغنيمة (58).
ولعل السكر كان أكثر انتشاراً من القمار. وكانت الجعة بنوعيها (البيرة والمزر ale) هي الشراب الوطني. وكان الرجل اللندني يستهلك مائة جالون منها في السنة، أو ربع جالون في اليوم، باعتبارها أسلم وألطف مذاقاً من الماء. وخلق المناخ الرطب طلباً على الروم، والبنش، والبرندي، والجن، والكورديال، والوسكي، وكان النبيذ دواء مفضلاً. وانتشرت الحانات ومخازن الخمور في كل مكان، وكان 1. 350 بيتاً من بين 7. 066 في أبرشية هوبورن تبيع الخمر. وأغضي ملاك الأرض-والبرلمان إذن-عن تجارة الوسكي، لأنها فتحت سوقاً إضافية لشعيرهم وقمحهم (59)، وكان ثلث الأرض المنزرعة في إنجلترا تقريباً يزرع شعيراً. وأخذ الوسكي يحل عند علية القوم محل النبيذ لأن الحروب المتكررة مع فرنسا عاقت التجارة مع بوردو وأوبورتو، وأدخل الهولنديون والألمان إلى البلاد تفضيل الخمور القوية. وهنا، كما في القمار، ضربت الحكومة المثل للشعب. فقد روي عن هارلي، رئيس وزراء المملكة آن، إنه كان يمثل بين يدي الملكة مخموراً. وكان بولنبروك يسهر أحياناً الليل كله وهو يحتسي الخمر، أما روبرت ولبول فقد علمه السكر أبوه، الذي عقد النية على ألا يراه مخموراً ابن له صاح (60).
وأزعج الحكومة ولع الجماهير بشراب الجن. فقد زادت الخمور المقطرة في بريطانيا من 527. 000 جالون في 1684 إلى 5. 394. 000 في 1735، دون ارتفاع مقابل في عدد السكان؛ لا بل أن الأطباء أنذروا الحكومة بأن شرب الجن قد زاد معدل الوفيات بسرعة في لندن؛ وعزت هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس الكثير من فقر العاصمة وجرائمها إلى ذلك المسكر. وعلق باعة الجن بالتجزئة لافتات تعهدوا فيها لزبائنهم بأن يسكروهم نظير بنس، وعرضوا عليهم النوم على حصر من القش مجاناً في قبو المؤونة.(35/96)
وحاول الحكام المرتاعون حظر شرب الجن بفرض الضرائب. ففرض قانون أصدره البرلمان في 1736 رسماً على الجن قدره عشرون شلناً للجالون، واشترط دفع خمسين جنيهاً في العام نظير الترخيص ببيعه. وقام الفقراء الظامئون باضطرابات عنيفة. وأفضي الحظر، كما تنبأ ولبول، إلى تهريبه وتقطيره خفية والاتجار به سراً. وارتفع عدد دكاكين بيع الجن إلى سبعة عشر ألفاً، وعدد الجالونات المقطرة إلى نيف وسبعة ملايين، واستشرت الجريمة. فتخلت الحكومة عن التجربة، وخفض رسم الرخصة إلى عشرين جنيهاً، والضريبة إلى بنس للجالون؛ واغتبط الشعب وراح يشرب ما شاء. وفي 151 أفضت سلسلة من التدابير المعتدلة الذكية (كجعل الديون الصغيرة لتجار الخمر غير قابلة للإلغاء أمام القضاء) إلى تحسين خفيف (61). وأنار الفيلسوف باركلي الموقف بتنديده بالطبقات العليا لما ضربوا لجماهير الشعب من مثل سيئ، وبإنذاره إياهم بأن "أمة تشتعل عند طرفيها لا بد أن تحترق سريعاً (62) ".
كذلك كان المستوى الخلقي منحطاً في ميدان المال والأعمال، فجنى بعضهم أموالاً طائلة من التهريب، والقرصنة، واقتناص العبيد أو بيعهم. وشكا الناس من تلوث مياه التيمز بالأقذار والنفايات التجارية والبشرية، ومن غش النبيذ بعصير التفاح وأرواح الحبوب، ومن خلط الخبز بالشب والجير، ومن تنضير بشرة اللحوم الكبيرة السن بالكيمياويات الخطرة على الصحة والحياة. فلما بذلت محاولات للحد من هذه الأعمال تصايح أبطال التجارة مطالبين بالحرية وبحق "كل إنسان. في العيش على طريقته دون قيد (63) ".
وتدخلت الحكومة في الحريات، ولكن تدخلها كان أكثره لإكراه الرجال على الخدمات العسكرية. فلما أخفقت مختلف المرغبات المالية في تزويد البحرية بالرجال، جردت الدولة (من 174 فصاعداً) "كتائب تجنيد" لاقتناص الرجال أو تخديرهم، أو لإقناعهم بالانخراط في سفن صاحب الجلالة. وكان أيسر هذه الوسائل إسكار الضحية، إذ كان في الإمكان وهو على هذه الحال أن يحمل على النزول(35/97)
عن سنة أو أكثر من حياته. ذكر الأميرال فيرنون (1746) أن هؤلاء الرجال، بعد أن يؤتى بهم إلى السفينة، كانوا في الواقع محكوماً عليهم بالموت، إذ لا يسمح لهم بتتاً بأن تطأ أقدامهم البرّ ثانية، ولكنهم ينقلون من سفينة إلى أخرى .. دون أي اعتبار للمشاق التي يتكبدونها (64) ". ويقول صموئيل جونسون "لا يرضي رجل بأن يكون بحاراً إذا كان له من الحيلة ما يكفي لأن يدخل نفسه السجن .. فالسجين يحظى بمكان وطعام أحسن وبرفقة أفضل عادة (65) ". وكان أكثر البحارة الذين يجندون كرهاً ضعاف الأجسام والعقول، ولكن النظام الصارم والانتقام القاسي بامتحان النار والجلد (كما هو موصوف ومبالغ فيه بلا شك في قصة سموليت "رودريك راندوم") جعلاً الباقين منهم على قيد الحياة أصعب المقاتلين في البحر مراساً وأشدهم اعتداداً بأنفسهم.
وكانت القرصنة لا تزال تلقى الإغضاء عنها بوصفها ضرباً من التجارة، ولكنها أخذت تضمحل بازدياد قوة البحريات. أما تجارة العبيد فقد زكت، وتنافست السفن الإنجليزية والفرنسية والهولندية والبرتغالية على امتياز بين الزنوج الأفريقيين للمسيحيين الأمريكيين. وبمقتضى معاهدة أوترخت (1713) نقلت أسبانيا عقد "الأزينتو"، الذي تمد بمقتضاه المستعمرات الأسبانية سنوياً بـ 4. 800 عبد، من فرنسا إلى إنجلترا. ومن بين 74. 000 عبد نقلوا إلى أمريكا في سنة واحدة (1790) نقل الفرنسيون 20. 000، والهولنديون 4. 000، والدنمركيون 2. 000، والبرتغاليون 10. 000، والبريطانيون 38. 000 - وهو أكثر من نصف المجموع (66). يقول مصدر إنجليزي وثيق "إن الإنجليز وحدهم، على أقل تقدير، حملوا أكثر من مليوني زنجي إلى أمريكا في الفترة بين 1680 و1786 (67) ". واقتنت بعض الأسر الإنجليزية عبيداً من الزنوج للخدمة في البيوت. واشتملت الصحف على وعود بدفع مكافآت لمن يعيد العبيد الآبقين، وعرض إعلان "صبياً زنجياً يناهز الثانية عشرة .. للبيع (68) "، وكان العبيد يباعون في باريس حتى سنة 1762، وحتى البابوات كانوا يقتنون عبيداً من سفن تشغيل العبيد التركية من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر (69). وفي 1727 بدأ الكويكرز حركة لإنهاء مشاركة بريطانيا في تجارة العبيد. وناصرهم ستيل وبوب، ودعم المثوديون هذه الحرب(35/98)
الدينية، ولكن الحملة لإلغاء الرق لم تتقدم تقدماً يذكر قبل 1772.
كانت الأخلاق في دنيا السياسة تعكس انتصار النزعة التجارية المتحجرة. فلم يكد عمل ينجز دون رشوة ولكل موظف تقريباً ثمنه، والمناصب تباع، والأصوات في البرلمان تشترى كالسلع سواء بسواء. وقد باع أعضاء البرلمان امتياز إعفاء رسائلهم من أجرة البريد، وباع كبار النبلاء المناصب في بيوتهم (70)، و "وضعوا العراقيل أمام محاولات الحد من شراء الترشيحات للبرلمان، أو شراء أعضاء مجلس العموم (71) ". وأرسلت الدوائر الانتخابية الفاسدة أو العفنة rotten boroughs التي لا يسكنها غير حفنة من الأهالي إلى البرلمان عدداً من الممثلين يعدل العدد الذي أرسلته أقاليم تزخر بالسكان والصناعة وأرسلت "أولد سارم" التي لا يسكنها إنسان واحد، ممثلين لها، وكانت أمثال هذه الدوائر يتحكم فيها بسهولة ذوو الحسب والمال. وكان رجال الأعمال، توسلاً لنفوذ سياسي مكافئ لسلطانهم الاقتصادي، يشترون الترشيحات أو المرشحين للبرلمان بنحو 1. 500 جنيه للمرشح (72). ويمكن القول على الجملة بأن نصف القرن الذي نحن بصدده كان أقسى العهود في التاريخ الإنجليزي، ومن العسير على المؤرخ أن يفسر كيف استطاعت بريطانيا أن تنهض من فساد ذلك العصر-حتى بلغت ذلك الصيت الذائع بأمانة رجال أعمالها ونزاهة حكومتها.
على أنه كان هناك الكثير من لمسات العاطفة الرحيمة يتخلل انحطاط الأخلاق والسياسة. فهناك ملاجئ-وإن كانت سيئة الإدارة-للشيوخ والعجزة والفقراء؛ وهناك طوائف حرفية كان المعلمون فيها آباء رحماء على صبيانهم، وهناك أسر تؤوى الأيتام وتربيهم؛ وهناك جمعيات-تسمى "أندية الصندوق"-للمعونة المتبادلة في أيام العسرة. وضربت إنجلترا مثلاً رائعاً-هو الأول في التاريخ الحديث-للبر الدولي حين اكتتبت بمائة ألف جنيه للبرتغال، حليفتها الاقتصادية إغاثة منكوبي زلزال لشبونة الذي وقع في 1755 (73)، وقد فتح في الفترة بين 1700 و1825 مائة وأربعة وخمسون مستشفى ومستوصف جدد في بريطانيا، منها أربعة في لندن في جيل واحد(35/99)
(1700 - 45). وكان أكثر هذه المؤسسات تموله التبرعات الخاصة. وخير ما أسس منها في النصف الأول من القرن الثامن عشر مستشفى اللقاء الذي نظمه الكابتن توماس كورام، وقد صور هوجارث هذا الكابتن عام 1740 صورة أهداها إلى المستشفى، رجلاً ممتلئ البدن، أبيض الشعر، لطيفاً، يمسك بيمناه المرسوم الملكي، وعند قدميه كرة أرضية، ذلك أن كورام جمع ثروته ضابطاً في البحرية التجارية. فلما تقاعد هاله ارتفاع نسبة وفيات الأطفال في لندن، وكثرة الأطفال الذين يلقون في العراء أو تهجرهم أمهاتهم دون مال للعناية بهم أو اسم أب يطلق عليهم، وأقنع كورام بعض نساء الطبقة العليا بتوقيع ملتمس بإنشاء مستشفى للقطاء، وحصل من جورج الثاني على مرسوم وألفي جنيه، ولقي النداء الذي ناشد فيه الناس التبرع للمستشفى سخاء غير متوقع، وتبرع هندل العظيم بأرغن وبموسيقى لحنه "المِسَيّا" التي عظمت قيمته الآن، وأدار حفلات موسيقية غلت عشرة آلاف جنيه، وفي 1739 عهد الأوصياء إلى تيودور جاكوبسن بتصميم مجموعة فسيحة من المباني والملاعب أصبحت من أروع مشاهد لندن.
5 - الجريمة والعقاب
كان أهل إنجلترا في القرن الثامن عشر سلالة صلبة تمرست بالمشاق وألفت العنف، سلالة قادرة على مغالبة كل صعب عسير إلا الموت. ومن الأمثلة على هذه الصفات أن عريفين اقتتلا بغير سلاح حتى مات كلاهما؛ وأن رقيبين تبارزا حتى أصيب كلاهما بجراح مميتة؛ وأن جندياً استأذن في الزواج من إحدى مومسات الجيش فعوقب بمائة جلدة. ثم مثل في الغد وظهره كله مثخن بالجراح أمام الضابط نفسه وأعاد الطلب، فأجيب إليه هذه المرة. وفاخر قارع طبل بأنه جلد 26. 000 جلدة في الأعوام الأربعة عشر التي خدم فيها الجيش، ثم جلد أربعة آلاف أخرى في عام واحد (1727) وأفاق منها وهو مبتهج، وقيل في وصف حالته بعد قليل أنه "صحيح معافى، لا يكدره مكدر على الإطلاق (74) ".
وكانت العقوبات الوحشية التي وقعت علناً مشجعاً على انتشار(35/100)
الوحشية بين الشعب. مثال ذلك أن قانوناً ألغي في 1790 كان يقضي على المرأة التي تدان بخيانة وطنها أو بقتل زوجها بالحرق حية، ولكن العرف كان يبيح خنقها قبل أن تحرق (75). أما الرجال المدانون بخيانة الوطن فيجذبون من على المشنقة وهم بعد أحياء، وتخرج أمعاؤهم وتحرق أمام أعينهم، ثم تفصل رءوسهم ويقطعون أرباعاً. وعلقت المشانق في كل أحياء لندن، وكانت الأجساد تترك على كثير منها لتتغذى عليها الطير. وقد يظل الرجل مشنوقاً نصف ساعة قبل أن يموت. على أنه كان من المألوف أن تخدر بالبرندي حواس المحكوم بإعدامه، وإذا كان الجلاد عطوفاً شاد ساقيه المتدليتين ليعجل بموته.
وأضفت قسوة المتفرجين والمجرمين على مناظر الشنق طابع المهرجان، فالناس يصطفون على جانبي الطريق ليشهدوا المحكوم عليهم يركبون العربات إلى تيبيرن، وتبيع الأكشاك والباعة المتجولون الجن والخبز المخلوط بالزنجبيل والجوز والتفاح للجمهور المحتشد؛ وينشد المغنون الجوالون الأغاني الشعبية دون أن يجيدوا إجادة الكابتن مكبث في "أوبرا الشحاذ". وكانت الجماهير، التي لم تتحمس قط للقوانين أو الشرطة، ترفع غلى مقام البطولة المجرمين الذين حالفهم التوفيق في مغامراتهم، أو الذين أمسكوا واجهوا المحاكمة والموت بالازدراء أو الابتسامات. فجاك شبرد، و "روب روي" (وهو روبرت ماكجريجور)، ودك تيربن، وجوناثان وايلد-هؤلاء كلهم ترعرعوا وازدهروا في هذه الفترة. أما جاك فقد وشي به جوناثان وايلد للشرطة بعد أن كان يمارس السرقة في لندن أو قربها كل يوم تقريباً، ففر، وقبض عليه من جديد، ثم فر ثانية، وقبض عليه وهو يعاقر الخمر، وشنق وهو بعد في الثانية والعشرين على مرأى جمهور من آلاف مؤلفة يتوقعون منه أن يهرب حتى وحبل المشنقة يطوق عنقه. وقد روى ديفو واينزورث قصته في روايات عادت عليهما بالربح، ورسم السير جيمس ثورنها صورته. أما تيربن فوزع النقود على المشيعين ليسيروا خلف عربته إلى المشنقة في موكب مهيب، ولكن ما أذاع صيته هو الرواية الخيالية التي كتبها اينزورث عن رحلة دك تيربن الشديدة الخطر على جواده من لندن إلى يورك. كذلك خلد كتاب فيلدنج "حياة مستر جوناثان وايلد العظيم" ذكرى هذا الوغد على مر القرون. ومعظم(35/101)
ذلك الهجو الشديد مكتوب على صورة قصص خيالية، ولكن الخيال هنا ليس أطراف من الواقع. فقد كان لجوناثان وجهان مثل جانوس، ينظم اللصوص ويدير شئونهم ويستغلهم، ويشتري بضائعهم المسروقة بالثمن الذي يفرضه، ثم يشي بهم للقضاء إذا تمرد عليه شركاؤه. وفتح في الوقت ذاته مكتباً لطيفاً يستقبل فيه ضحايا السرقات، وكان يعدهم لقاء مكافأة كبيرة بأن يرد لهم بضائعهم أو مالهم، ومن حصيلة هذا كله يحتفظ بعدة خليلات ويعيش في ترف قرابة خمسة عشر عاماً. ولكن ثراءه فاق حكمته، فقبض عليه بتهمة الاتجار في بضائع مسروقة، وشنق، فابتهج جمهور غفير بشنقه (1725). وربما كان هو المثال الذي نسج على منواله مستر بيتشم في "أوبرا الشحاذ".
وساد العبث بالقانون المجتمع كله علوا وسفلاً، من النشال المهذب إلى التاجر المهرب إلى المبارز الحامل لقب النبالة. وكان هناك مئات المبارزات، جرى بعضها على قارعة الطريق، وبعضها في هايد بارك أو حدائق كنزنجتن، ولكن أكثرها في "حقل الأربعين خطوة" خلف قصر مونتاجيو (المتحف البريطاني الآن). وندر أن كانت المبارزات قتالة، لأن المسدسات كانت رديئة الصنع، وقل من الرجال من استطاع تصويبها بدقة على ثلاثين خطوة، وأغلب الظن أن كثيراً من المقاتلين حرصوا على إطلاقها فوق رأس الغريم؛ على أية حال كان الصلح يتم عادة بعد أول جرح. وكانت المبارزات غير مشروعة، ولكن يغضي عنهما بحجة أنها تشجع على التأدب في الحديث. وندر أن اعتقل مبارز إلا في الإصابات المميتة، وإذا استطاع الخصم الحي أن يثبت أنه اتبع قواعد اللعبة كان يفرج عنه بعد قضائه فترة قصيرة في السجن.
وفي سنة 1751 نشر فيلدنج، وكان يومها قاضياً، "تحقيقاً في أسباب الزيادة الأخيرة في عدد اللصوص، الخ، مشفوعاً ببعض المقترحات لعلاج هذا الشر المتفاقم". ولم يعز الزيادة في أكثرها إلى الفقر بل إلى ظهور "الترف" بين الطبقات الدنيا؛ فعامة الشعب لديهم الآن من المال ما يتيح لهم ارتياد الحانات، وحدائق اللهو، والمسارح، والمراقص التنكرية، والأوبرات، وهناك يلقون بأشخاص خبروا الفجور وحذقوا(35/102)
الجريمة. أما السبب الثاني في رأي الروائي العظيم فهو الزيادة في استهلاك الجن. يقول:
"إن شراب الجن هو القوت الرئيسي (إن جاز لنا أن نسميه كذلك) الأكثر من مائة ألف شخص في هذه العاصمة. وكثير من هؤلاء التعساء يترعون عدة أكواب من هذا السم خلال أربعة وعشرين ساعة، ومن سوء حظي أنني أرى وأشم أيضاً كل يوم ما يخلفه هذا من آثار رهيبة (76) ".
وأما السبب الثالث هو القمار، والرابع قصور القوانين، فقد ترك مهمة القبض على المجرمين لحراس أو خفراء:
"يختارون من بين أنس فقراء، شيوخ، عجزة ... يطلب إليهم وهم لا يحملون من السلاح غير عمود لا يكاد يقوى بعضهم على رفعه، أن يؤمنوا أشخاص رعايا صاحب الجلالة وبيوتهم من هجمات عصابات أوغاد صغار السن، شجعان، أشداء، مستهترين، مدججين بالسلاح (77) ".
وحتى إذا لم يرهب الحارس عنف اللصوص، فإن في الإمكان رشوته، وكذلك الضابط الذي يرفع إليه بلاغاته، وكذلك القاضي الذي يأتيه الضابط بمجرم. وكانت واجبات الشرطة في لندن موكولة إلى 1. 000 ضابط، و474 معاوناً، و747 حارساً. وبين القبض والإدانة قام 2. 214 محامياً بلندن بعضهم ذوو ثقافة قانونية ونزاهة معقولة، وبعضهم لم يبلغوا هذا المبلغ تماماً. قال الدكتور جونسون في رجل برح الغرفة لتوه، إنه "لا يحب أن يغتاب إنساناً، ولكنه يعتقد أن الرجل محام (78) ".
ولم يوافق فيلدنج على رأي كوك الذي ذهب غلى أن "حكمة جميع الحكماء في العالم، لو اجتمعوا معاً في وقت واحد، ما كانت لتعدل" فضائل الدستور الإنجليزي. ولعله كان يسلم بأن ذلك الدستور(35/103)
كما لاحظ فولتير ومونتسكبو قبيل ذلك، دبر بطريقة تدعو إلى الإعجاب حماية الفرد وممتلكاته من طغيان أي ملك، ولعله كان يثني على "الهابياس كوربس"، ومحاكمة المتهمين على يد محلفين، وعلى مدارس الحقوق العظيمة في جمعيات لندن القانونية. ولم يكن بالأمر الهين حقاً أن يحرم اعتقال أي شخص إنجليزي دون إذن قانوني، أو سجنه دون محاكمة، أو عقابه دون إدانة من محلفين من نظرائه، وألا تفرض عليه ضرائب دون موافقة البرلمان، وأن يكون في استطاعته أن يجتمع مع زملائه شريطة ألا يخل بالنظام، وأن من حقه أن يقول ما يشاء، إلا أن يكون ذلك تحريضاً، أو قذفاً، أو فحشاً، أو تجديفاً. ولكن مشرعي إنجلترا كانوا من الحرص الشديد على حماية الفرد من الدولة بحيث أخفقوا في حماية المجتمع من الفرد. لذلك كان جهاز تنفيذ القانون ينهار أمام تفشي الجريمة وتنظيمها.
وكان يقوم على تنفيذ القانون العام قضاة صلح، يمكن أن تستأنف قراراتهم أمام قضاة يقضون في وستمنستر أو يسافرون ستة أشهر في السنة ليعقدوا جلسات دورية في مدن المقاطعات. وكان هؤلاء القضاة يتمتعون بمناصب مدى الحياة، ويبدون مستوى معقولاً من النزاهة. وبقيت المحاكم الكنسية على قيد الحياة وإن اقتصرت على نظر القضايا غير الجنائية التي يتهم فيها الكهنة فقط، أو الفصل في صحة الزيجات، أو تنفيذ الوصايا. وكان لمحكمة الأميرالية اختصاص على القضايا البحرية دون غيرها. وفوق هذه المحاكم كانت تقوم المحكمة العليا التي يرأسها قاضي القضاة. أما المحكمة العليا للبلاد فهي البرلمان ذاته، يحاكم مجلس العموم عامة الناس ومجلس اللوردات النبلاء. وكانت المساواة أمام القانون لا تزال ناقصة، لأن النبلاء كانوا عادة ينجون من العقاب. فقد اعدم إيرل فرز الرابع عام 1760 لقتله وكيله، ولكن حوكمت دوقة كنجتزن أمام مجلس اللوردات في 1776 وأدينت بتهمة الزواج برجلين في وقت واحد، أطلق سراحها دون عقاب سوى تغريمها الرسوم. وظلت اللاتينية لغة المحاكم حتى سنة 1730 حين حلت الإنجليزية محلها، الأمر الذي تألم له بلاكستن أشد الألم.
وفي محاكمات الجنايات الكبرى (ومعظم الجنايات كانت كبرى)(35/104)
كان يسمح للمتهم بأن يوكل محامياً إذا كان ميسور الحال، وللمحامي أن يستجوب شهود الادعاء، ولكن لم يكن مسموحاً له أن يوجه خطابه إلى المحكمة، فهذا متروك للسجين، الذي كثيراً ما كان ضعف بدنه أو عقله يعجزه عن تقديم دفاعه. فإذا برئ رد إلى السجن حتى يدفع كل "البقاشيش" التي يفرضها عليه الحراس لقاء خدماتهم، وقبل أن يلغي هذا النظام في 1774 كانت هناك عدة حالات لرجال ماتوا في السجن بعد أن برئت ساحتهم. أما إذا أدين السجين فإنه يواجه قانون عقوبات من أقسى ما عرف في تاريخ القضاء.
لقد كان هذا القانون يفضل ما سبقه، كما يفضل الإجراءات المتبعة في القارة الأوربية، بتحريمه التعذيب والعقاب على الدولاب، ولم يعد يجدع الأنوف أو يصلم الآذان. ولكن فيما عدا ذلك كان يتسم بكل الوحشية التي كان الإنجليز الشديدو المراس يومها يرونها ضرورية للسيطرة على جموح الإنسان الفطري. فإذا كانت العقوبة هي الجلد في ذيل عربة تجر في الشوارع، كان منفذها أحياناً يتلقى مبلغاً إضافياً، يجمع من المتفرجين، لكي يضاعف من شدة ضربات سوطه (79). وكان السجين الذي يرفض الإجابة في تهمة كبرى يطرح بحكم القانون على ظهره عارياً في حجرة مظلمة، وتوضع أثقال من الحجر أو الحديد على صدره إلى أن يعصر عصراً أو تزهق روحه (80)، على أن هذا القانون لم ينفذ بعد 1721، ثم ألغي في 1772.
وطوال القرن الثامن عشر أضافت قوانين أصدرها البرلمان إلى عدد الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالموت. ففي 1689 كان عددها خمسين، وفي 1820 ارتفع إلى 160. فالقتل، والخيانة، والتزييف وحرق الممتلكات عمداً، وهتاك العرض، واللواط، والقرصنة، والتهريب المسلح، والتزوير، وتدمير السفن أو إشعال النار فيها، والتفليس بالتدليس، وقطع الطريق، والسطو على المنازل، وسرقة أكثر من أربعين شلناً، وسرقة سلع من المتاجر تزيد قيمتها على خمسة شلنات، وتشويه الماشية أو سرقتها، وإطلاق النار على موظف الضرائب، وقطع الأشجار في شارع أو متنزه، وإحراق غيط غلال، وإرسال خطابات التهديد، وإخفاء موت زوج أو طفل، والاشتراك في(35/105)
حادث شغب، وإطلاق النار على الأرانب، وهدم بوابة طريق رئيسية والفرار من السجن، وتدنيس المقدسات-هذه كلها، وعشرات غيرها، كانت عد جرائم كبرى أيام جورج الأول والثاني والثالث. وقد عكست هذه القوانين تصميم البرلمان على حماية الملكية. وربما كانت إلى حد ما النتيجة-والسبب-لما شاع بين الناس من تمرد على القانون ووحشية ولعلها أعانت على تكوين ما يتصف به الشعب البريطاني اليوم من عادات التزام القانون. وخفف من صرامة القانون رفض القضاة أو المحلفين غير مرة أن يدينوا المتهمين، أو إبطال الاتهام لخطأ فني، أو تحديد قيمة سلعة مسروقة تحديداً تعسفياً بأقل من المبلغ الذي يجعل السرقة جناية كبرى. وفي وقت الحرب قد يصدر عفو عن المذنبين شريطة أن ينخرطوا في الجيش أو البحرية.
أما عقاب الجرائم الأقل خطراً فكان السجن، أو المشهرة، أو الجلد، أو الأشغال الشاقة في الإصلاحيات، أو النفي إلى المستعمرات. وقضي قانون صادر في 1718 ببيع المسجونين المحكوم عليهم إلى متعهد يشحنهم بالمراكب على نفقته إلى ميريلاند وفرجينيا عموماً، ويبيعهم بالمزاد عادة "إلى زراع التبغ نظير قضائهم المدة المحكوم بها عليهم" وأسفر سوء حال السجناء وهم في الطريق عن نسبة عالية من الوفيات، وعن إنهاك الباقين منهم إنهاكاً يعجزهم عن العمل حيناً. وقرر أحد هؤلاء المتعهدين بأنه يخسر سبع شحنته البشرية في الرحلة المتوسطة (81). ولم يقض على هذه التجارة غير حرب الاستقلال الأمريكية.
وكثيراً ما كان ترحيل المذنب يفضل على سجنه، لأن السجون كانت سيئة السمعة بسبب قسوتها وقذارتها. فقد كان السجين الجديد يكبل بمجرد دخوله بالأغلال التي تتفاوت ثقلاً بتفاوت ما يدفعه للحارس. أما فراشه فمن القش. وأما طعامه فرطل من الخبز في اليوم، إلا إذا استطاع استكماله بالهدايا من الخارج. وإذا استثنينا سجن نيوجيت، وجدنا أنه لم تبذل محاولات تذكر لتنظيف السجون. فكانت الأوساخ والجراثيم تتراكم فيها فتعدى كل سجين تقريباً بما سمي "حمى السجن"-وهي في الغالب التيفوس أو الجدري. وذهب جونسون إلى أن 25% من السجناء كانوا يموتون بـ "حميات عفنة". وبلغ نتن العفونة والمرض مبلغاً كان يحمل القضاة(35/106)
والمحلفين والشهود والمتفرجين على أن ينشقوا مراراً نشقات من الكافور أو الخل أو الأعشاب العطرية لتغلب على الرائحة الخبيثة. وفي مايو 1750 جيء بمائة سجين من نيوجيت ليحاكموا في "الأولد بيلي" وهي محكمة جنايات لندن الكبرى. وبلغ من خبث الحمى التي أفشوها أن أربعة قضاة من الستة الذين نظروا القضية ماتوا، ومات من المحلفين وصغار الموظفين أربعون، وأمرت المحكمة بعد هذا الدرس بأن يغسل جميع السجناء القادمين للمحاكمة بالخل، وأن توضع أعشاب زكية الرائحة في قفص المتهمين (82).
وكان الرجل الذي يقاضي بسبب الدين، ويدان، ويعجز عن الوفاء بدينه أو لا يرغب في الفراء به، يودع مثل هذا السجن حتى يوفي الدين أو حتى يسحب دائنه الدعوى. وكان الدائن ملزماً بحكم القانون بدفع أربعة بنسات في اليوم مساهمة في إعاشة سجينه، ولكنه إذا لم يفعل لم يكن أمام المدين سبيل إلا مقاضاته-وهذا يلفه مالاً. على أنه إذا استطاع الحصول على نقود من خارج السجن كان في إمكانه رشوة الحارس وغيره ليسمحوا له بالتمتع بفراش وطعام أفضل، وبحريات أرحب، وبالائتناس بزوجته، لا بل بقضاء إجازة في المدينة بين الحين والحين. أما المدين المفلس فقد يموت جوعاً موتاً بطيئاً من ضآلة جرايته من الخبز إذا عجز عن شراء الطعام. وقد قدر صموئيل جونسون أن خمسة آلاف سجين من كل عشرين ألف مفلس يسجنون في السنة في المتوسط، يموتون من الحرمان (83). وهكذا لم تجد إنجلترا وسيلة أكثر رفقاً لحماية طبقة رجال الأعمال الصاعدة من الاقتراض المستهتر أو الإفلاس بالتدليس.
وارتفعت بعض الاحتجاجات الخفيفة على صرامة قانون العقوبات. ولاحظ جونسون، الذي لم يكن بالرجل العاطفي، في 1751 خطر اعتبار هذا العدد الغفير من الجرائم جرائم كبرى فقال: "إن تسوية السرقة بالقتل ... معناها التحريض على اقتراف جريمة أكبر منعاً لاكتشاف جريمة أحقر (84) ". وظهرت أقوى الانتقادات لإدارة السجون في روايات فيلدنج وسموليت وفي رسوم هوجارث. وقد لطف من قسوة هذا النظام تلطيفاً متواضعاً جيمس أوجثلورب، الذي تكشف حياته العملية المنوعة النشيطة عن الجانب الأنبل لجون بول. ففي 1714 ترك الكلية وهو(35/107)
في الثامنة عشرة لينخرط في جيش يوجين أمير سافوي، وقاتل في عدة معارك ضد الترك. فلما عاد إلى إنجلترا انتخب عضواً في البرلمان. وإذ كان له صديق سجن بسبب الدين ومات في سجنه بالجدري الذي أصابه فيه، فقد أقنع مجلس العموم بتعيين لجنة-عين على رأسها-للتحقيق في أحوال سجون لندن. وأفزع القذر والمرض والفساد والظلم الذي أماط التحقيق اللثام عنه ضمير إنجلترا لحظة. فرفت بعض الحراس الذين وجه إليهم أكثر اللوم، وخففت بعض اللوائح الجديدة من المفاسد القديمة، ولكن معظم المساوئ بقي على حاله، وكان على الإصلاح الحقيقي للسجون أن ينتظر مجيء جون هوارد والربع الأخير من القرن الثامن عشر. واتجه أوجثلورب إلى الهجرة وسيلة لتخفيف وطأة الفقر في إنجلترا. ففي 1733 أسس مستعمرة جورجيا، وعمل فترة والياً عليها، فحظر استيراد العبيد، ورحب بالمورافيين، وجون ويسلي، واللاجئين البروتستنت من النمسا. ولما عاد إلى إنجلترا والبرلمان، حصل على قانون يعفي المورافيين الإنجليز من حلف اليمين أو حمل السلاح. وأصبح الصديق الحميم لجونسون، وجولدسمث، وبيرك، وعمر إلى التاسعة والثمانين. وتوج الشاعر بوب هامته بيتين فقال فيهما "إن إنساناً يدفعه حب الخير الشديد سيطير مثل أوجثلورب من قطب إلى قطب (85) ".
6 - آداب السلوك
ظل الرجال الذين يتنزهون في الحدائق العامة أو في بل مل-كما كانوا أيام اليزابيث أو عودة الملكية-هم الجنس الأفخم هنداماً. يرتدون-في غير العمل أو البيت-قبعات مثلثة الأركان ممالة، تزهو غالباً بالشراريب أو الأشرطة أو العقد، ويعقصون غدائرهم بـ "فيونكات" جميلة خلف العنق، أو يغطون رءوسهم بباروكة مبدرة. وكانت ستراتهم الجميلة التي تحدث حفيفاً حول ركبهم تزهو بأزرار قصد بها أن تبهر الناظر أكثر مما تربط السترة، وكانت الأكمام المصنوعة من القماش المقصب الفاخر تعلن عن ثراء لابسها أو طبقته. واجتذبت صداريهم المزوقة الأنظار بألوانها الفاقعة-الصفراء أو البرتقالية أو القرمزية أو القرنفلية أو الزرقاء-وتدلت منها دلاية ساعة من الذهب على سلسلة ذهبية.(35/108)
وكانت قمصانهم المصنوعة من الكتان الرفيع تغطي حواشيها بأهداب تخفي ملابس داخلية من الفانلا، وكانوا يطوقون أعناقهم في تأنق بالأربطة (الكرافتات) المصنوعة من شاش "اللون" (وهو قماش مستورد من لاون بفرنسا)، ويثبتون بنطلونات الركوب القصيرة بمشابك عند ركبهم وبثلاثة أزرار في الخصر، وثلاثة مخفاة في لسان يغطيها. أما جواربهم الطويلة فهي عادة حمراء اللون، ولكنها قد تكون من الحرير الأبيض في المحافل الرسمية. واقتضى الزر في 1730 أن تكون أحذيتهم حمراء عند الأصابع والكعب. على أن فتى العصر كان برغم هذا الجهاز كله يحس أنه عريان إذا لم يتقلد سيفاً. فلما صعدت الطبقات الوسطى في سلم المجتمع استبدلت بالسيوف العصي التي كانت تتوج عادة بمعدن نفيس وتنقش نقشاً بديعاً، ولكن بما أن الشوارع كانت لا تزال محفوفة بالخطر، فإن العصا كثيراً ما احتوت سيفاً. وكانت المظلات قد دخلت الصورة في أواخر القرن السابع عشر، ولكنها لم تعم حتى ختام الثامن عشر. واقتضى الركوب في الحدائق العامة أو خلال الصيد بالكلاب ارتداء أزياء خاصة طبعاً، وقد حاول الشبان المغالون في التأنق (وكانوا يسمون المكروني) جاهدين لفت الأنظار بالإسراف في الزينة أو التلون. وفريق آخر سمي "سلوفينز" غالوا في الظهور بعادات رثة وثياب مهملة، فنكشوا شعورهم بعناية متمردة وتركوا بنطلوناتهم دون ربطها بالمشابك، وتباهوا بالوحل على أحذيتهم، إعلاناً لاستقلالهم ودليلاً على أصالة التفكير.
أما النساء فكن إذا طلعن على الناس يلبسن كما نتخيلهن في شبابنا الدهش، حين كان جسد الأنثى سراً غامضاً مبهراً عزيز الرؤية. وكانت تنوراتهن الكثيرة الوبر تنفخها عادة أطواق ترفعها في خفة من خطوة إلى خطوة وتكشف كشفاً خاطفاً عن كعوب متلألئة وأقدام رشيقة. وكانت الأطواق التي قد تتمتع تسع ياردات حول الجسم سدوداً، والمشدات تروساً، فتطلبت غزوات الحب كل حماسة الفارس ينفذ إلى الدروع ويتسلق الأسوار، وكان هذا الوضع أحفز لخيال الشعراء. وضاع بعض ما لشعر المرأة من بريق وبهاء في الطبقات المقواة التي علت فوق رأسها علواً اقتضى حمايتها من أن تحرقها الثريات. وأخفيت وجوه النساء وراء الغسولات والطلاءات ولصوق التجميل والمساحيق والحواجب(35/109)
المتحركة؛ وجندت كل جواهر الشرق لتزين شعورهن وآذانهن ونحورهن وأذرعتهن وثيابهن وأحذيتهن. وكانت المرأة العصرية، من قبعتها الشامخة وغدائرها المعطرة حتى حذائها الحريري المرصع بالأحجار الكريمة، تلبس لتطيح بأي تردد من جانب الذكور المحدقين بها. وفي عام 1770 كانت فنوج التبرج قد بلغت من السحر حداً حمل البرلمان في نوبة مرح على إقرار قانون قصد به حماية الجنس الطائش المتهور:
"كل النساء-أياً كان عمرهن أو مقامهن أو مهنتهن أو طبقتهن، وسواء كن عذارى أو صبايا وأرامل، اللاتي يخدعن أو يغوين أو يوقعن في الزواج-ابتداء من هذا القانون وبعده-أيذكر من رعايا صاحب الجلالة بالعطور أو الطلاء أو دهانات التجميل أو الأسنان الصناعية أو الشعر المستعار أو الصوف الأسباني أو الكورسيهات الحديدية أو الأطواق أو الأحذية العالية الكعوب الخ، يقعن تحت طائلة العقاب بمقتضى قانون الذي يطبق الآن على السحر وما أشبه من جنح، ويصبح الزواج بمجرد إدانتهن باطلاً (86) ".
وحاولت القوانين المنظمة للأنفاق جاهدة أن تحد من الغلو في الإنفاق على اللباس، ولكن العرف قضى على جميع البريطانيين المخلصين بارتداء ثوب جديد في عيد ميلاد الملكة كارولين، التي لبست عند تتويجها ثوباً تكلف 2. 400. 000 جنيه-أكثرها أحجار كريمة مستعارة.
وكان البيت مكاناً يستطيع المرء فيه أن يخلع كل ملبس عسير يقتضيه الظهور، فيرتدي فيه أي شيء أو أقل القليل من الثياب. ولم تكن النوافذ معينة على الفضول لأن عددها خفضه قانون إلى خمس، وفرض على المزيد ضريبة باعتباره ترفاً. وكان داخل البيوت مظلماً كتماً لم يصمم ليساعد على التنفس. أما الإضاءة فبالشموع، وهي عادة لا تزيد على شمعة في وقت واحد لكل أسرة؛ ولكن الأغنياء كانوا ينورون غرفهم بالثريات المتألقة وبالمشاعل الزيتية. وفي قصور الموسرين كانت الجدران تجلد بخشب القرو، والسلالم تصنع من الخشب الضخم والداربزينات المتينة، والمدفآت من الرخام الفاخر، والكراسي تحشي الشعر، وتنجد بالجلد. أما الأثاث فمصمم بالطراز(35/110)
"الجورجي" الثقيل، تشابك فيه النقوش ويتلألأ بالتغشية بالذهب. وحوالي 1720 أدخل خشب "المجنة" من جزر الهند الغربية، وكان أصلب من أن تنفذ فيه الأدوات المستعملة آنذاك، فصنعت أدوات أحد، وسرعان ما أبدع الخشب الجديد أروع قطع الأثاث في البيوت الإنجليزية.
وكانت البيوت تدفأ بحرق الفحم في المواقد والأفران المكشوفة أو حرق الخشب في مدفآت واسعة. وكان هواء لندن غائماً بالدخان. وأصبح تنظيف البيوت مهمة عسيرة ولكن لا مناص منها بسبب ما يتهددها دائماً من غبار وسناج. واعتبر الفرنسيون أعداءهم الإنجليز أحفل الشعوب بنظافة بيوتهم بعد الهولنديين. كتب نيكولا دسوسير في 1726 يقول:
"لا يمضي أسبوع إلا والبيوت المعتنى بها تغسل مرتين في الأيام السبعة علواً وسفلاً، لا بل تدعك معظم المطابخ والسلالم والمداخل كل صباح. وينال الأثاث كله، خصوصاً آنية المطبخ جميعها، أعظم قدر من النظافة. وحتى المطارق الكبيرة والإقفال التي على الأبواب تدعك حتى تلمع (87) ".
وهذا برغم غلاء الصابون وقلة الماء. أما غرف الاستحمام فكانت ترفاً لا يستمتع به غير الأقلين، وكان أكثر الناس يستحمون بالوقوف في حوض ورش الماء على أجسادهم.
وكان العامة ينفقون أكثر ساعات البيت وأوقات الصحو في المطبخ يلوذون فيه بالموقد الكبير، فيأكلون ويتجاذبون الأحاديث وأحياناً ينامون في المطبخ لأنها واسعة جداً. أما حجرات الطعام فللمناسبات الخاصة. والغداء عند جميع الطبقات يكون بعد الظهر، فهو عند الطبقات الوسطى في الساعة الثانية أو الثالثة، وعند الأغنياء في الخامسة أو السادسة، فالحال يومها هي الحال اليوم، كلما كثر مالك طال انتظارك للغداء. وكانت النساء في البيوت العصرية يبرحن القاعة إذا فرغن من الطعام، لأن الرجال يبدءون عندها الشراب والتدخين وشرب الأنخاب وقص الحكايات. وكان الغداء وافراً، ولكنه كان أول ما يتناوله بريطاني المدينة من طعام بعد الفطور وتصبيره في الحادية عشرة صباحاً. وقد أدهش الفرنسيين مقدار الطعام(35/111)
الذي يأكله الإنجليزي في جلسة واحدة. وكان معظم الطعام في الطبقتين العليا والوسطى من اللحم، أما الخضر فزخرف لا يؤبه به؛ والبودنج الدسم هو التحلية المفضلة والشاي شراب الجميع وإن كان ثمن الرطل منه عشرة شلنات. وكن عشاء التاسعة مساء مسك الختام لمنجزات اليوم.
وكان أكثر الإنجليز يلوذون بأمان بيوتهم في الليل، ويتسلون بالحديث والشرب والشجار والقراءة والموسيقى والرقص والشطرنج والداما والبليارد والورق. قالت دوقة ملبره "بربك لا تحدثني عن الكتب فكا ما أعرف من كتب هم الرجال والورق (88) ". وكان الأساقفة والقساوسة، وحتى الوعاظ المتزمتون من أتباع المذاهب المنشقة على الأنجليكانية، يلعبون الورق، وكذلك الفلاسفة، فندر أن مضى هيوم إلى فراشه دون أن يلعب دوراً من الهويست (وهو البردج الآن). وفي 1742 نسق أدموند هويل قوانين الهويست في "رسالة موجزة" وبعدها وجب أن تلعب اللعبة "وفق قوانين هويل"، وذلك حتى عام 1864. وكانت الحيوانات البيتية الأليفة ضرورة في الأسرة، ولا تقتصر على الكلاب والقطط، بل قد تجد هنا وهناك نسناساً أو اثنين (89). وكل امرأة تقريباً تربي الأزهار، ولكل بيت تقريباً حديقة.
وجعلت إنجلترا من تصميم الحدائق غراماً قومياً، وهي التي أغدقت عليها الطبيعة نعمة المطر حتى ضاقت به. ففي عهد تشارلز الثاني كانت الحدائق الإنجليزية تنسج على منوال النماذج الفرنسية-لا سيما فرساي-، فتصمم الحدائق "النظامية" على خطوط هندسية، سواء المستقيمة أو المستطيلة أو نصف القطرية أو الدائرية، ويوفر لها الأفق الجميل والمنظور الرائع (وقد دخلت هذه الألفاظ الثلاثة perspective, vista, picturesque اللغة الإنجليزية في القرن السابع عشر)، والأشجار ومنابت الشجيرات، والسياجات المقلمة في خط منسق، والتماثيل الكلاسيكية الموزعة توزيعاً متناسقاً. وكانت حدائق اللهو بفوكسهول ورينلاج تصمم على هذا النحو، ونستطيع أن نجد عينة من هذا الطراز النظامي اليوم في هامتن كورت. ومع أن الطراز كان منسجماً مع أدب "العصر الأوغسطي" الكلاسيكي الجديد، فإن خير(35/112)
ممثلي ذلك العصر من الأدباء، وهما أديسون وبوب، تمرداً على الحديقة النظامية، وألحا بأدب في المطالبة بـ "حديقة طبيعية"، تترك على الأقل جزءاً من سخاء الطبيعة وخصبها دون تشذيب أو تهذيب، وتولد المفاجآت البهيجة باحتفاظها بشذوذات الطبيعة غير المتوقعة. وشاركت التأثيرات الصينية في هذا التمرد، فحلت هياكل الباجودا محل التماثيل في بعض الحدائق، وبنى دوق كنت في حدائقه بكيو بيتا لكونفوشيوس. وكامنت الحديقة الطبيعية انعكاساً لطومسن وكولنز العاطفيين أكثر من أديسون المحتشم وبوب المتأنق المرتب؛ وشاركت هذه الحديقة "شعراء الوجدان" في سوبرانو "رومانسي" لباص كلاسيكي. واتفق بوب وطومسن في إطراء الحدائق التي صممت على ضيعة "ستو" التي يملكها رتشرد تمبل، فيكونت كوبم. وكان تشارلز بردجمان قد بدأها على تصميم نظامي. فأعاد وليم كنت ولانسلوت "كيبابليتي" براون تشكيلها وفق نمط طبيعي، فأصبحت حديث هوادة فلاحة البساتين في إنجلترا وفرنسا، وظفرت بثناء جان جاك روسو.
ومن وراء الحدائق انسابت النهيرات يجدف فيها ركاب الزوارق ويحلم عندها هواة الصيد الكسالي باقتناص السمك، والغابات يطلق فيها الرجال رصاصهم على الديوك البرية أو القطا أو الحجل أو الدجاج البري، أو يتبع فيها الصيادون ذوو الأردية القرمزية كلابهم ليلحقوا بالثعلب المحاصر في ركن أو الأرنب البري المرهق. أما البريطانيون الأقل يساراً فيتسلون بالكريكت والتنس والفايف (كرة اليد) والبولنج (الكرات الخشبية) وسباق الخيل، وقتال الديكة، وتحريش الكلاب بالدببة، ومباريات الملاكمة-بين النساء أو بين الرجال على السواء. وكان المتكسبون بالملاكمة أمثال فج وبايبر معبودي كل الطبقات، يجتذبون إلى الحلبة الحشود الكبيرة، ويتلاكمون-إلى عام 1743 - بقبضاتهم عارية بغير قفازات؛ ثم أدخل استعمال قفازات الملاكمة، ولكن سنين كثيرة انقضت قبل أن يغير المتفرجون رأيهم فيها، وهي أنها ليست سوى وسيلة مخنثة لا تليق بجون بول. وكان من الملاهي التي أعلن عنها في لندن في 1729 - 30(35/113)
"ثور هائج ترشق فيه الصواريخ ويطلق حراً" في حلبة، و "كلب ترشق فيه الصواريخ من فوقه، ودب يطلق في الوقت ذاته، وقد يربط إلى ذيل الثور (90) ". وفي لعبة سموها "قذف الديوك" كان ديك يربط إلى عمود، ثم يقذف بالعصي من بعيد حتى يموت. وكانت أحب مباريات الديكة إلى الشعب تلك التي تطلق فيها مجموعة منها تصل إلى ستة عشر ديكاً على مجموعة أخرى معادلة حتى يقتل كل الديكة في أحد الجانبين، ثم تقسم الديكة المنتصرة إلى معسكرين متقاتلين، يقتتلان حتى يفنى جميع الديكة في أحدهما، وهكذا دواليك حتى يموت الجميع إلا ديكاً واحداً. وكانت الأقاليم والمدن والقرى تحرش ديوكها بعضها ببعض وطنية رفيعة، وقد أطرى كاتب لطيف هذه الرياضات باعتبارها معادلاً أخلاقياً للحرب (91). وكانت كل الرياضات تقريباً تشفع بالمراهنات.
أما الذين لم ترقهم هذه المناظر فكان في وسعهم أن يلتمسوا التسلية في فوكسهول أو رينلاج، ففي حدائقهما الظليلة يستطيعون لقاء شلن أن يستمتعوا بما تستشعره الجماهير من دعة وأمان شريطة أن يحرصوا على جيوبهم، هناك يستطيعون أن يرقصوا أو يشاركوا في الحفلات التنكرية، ويجلسوا تحت أغصان مضاءة بالمصابيح، أو يرشفوا الشاي ويرقبوا سيدات المجتمع وفتيان العصر ونجوم المسرح العابرين بهم، ويتطلعوا إلى الصواريخ النارية أو الألعاب البهلوانية، ويستمعوا إلى الموسيقى الشعبية، ويتناولوا الطعام في أبهة رسمية، أو يلتمسوا المغامرات في أزقة العشاق المتوارية عن الأنظار في شكر وعرفان. وفي رينلاج، تحت سقف قاعة "الروتندا" الكبرى، كانوا يستطيعون أن يرقوا بأنفسهم إلى موسيقى أسمى في وسط قوم من طبقة أوجه. كتب هوراس ولبول في 1744 يقول "في كل ليلة أذهب إلى رينلاج التي هزمت فوكسهول هزيمة ساحقة، فما من إنسان يذهب إلى غيرها، وكل الناس يذهبون هناك (92) ". وكانت فوكسهول ورينلاج تغلقان أبوابهما شتاء، ولكن الأنهار قد تتجمد، وهنا تزده رياضات الشتاء. وحدث في عيد ميلاد 1739 أن تجمدت الأنهار حتى التيمز، وأبدى اللندنيون روحهم العالية بتنظيم كرنفال من الرقص والأكل على الجليد، واستمتع بعضهم بنشوة ركوب العربات على النهر من لامبث إلى كوبري لندن (93). وأخيراً كان هناك المهرجانات الكبيرة حيث يلتقي المرء(35/114)
بكل العالم من غير أصحاب الألقاب، ويستمتع بشتى المشاهد من صندوق الدنيا إلى الرجال الطائرين.
أما آداب السلوك، فإننا إذا استثنينا بعض النساء المثقفات، وجدنا فيها الخشونة وفحش الكلام. وسيرينا المصور هوجارث حياة العامة، ولكنه لن يرينا حديثهم. فالعاهرات، والفساق، وسائقو عربات الجر، والمراكبية، والجنود والبحارة، كلهم كانوا أساتذة في اللعن وفحش القول، وقد خلد باعة السمك في بلنجزجيت (واللفظ معناه لغة السوقة) ذكرى سوقهم بذاءتهم التي لا مثيل لها. وكان الحديث في الفنادق والحانات أقل مرحاً ولكنه متحرر إلى حد البذاءة وكان الرجال حتى في بيوتهم يروعون النساء بقصصهم وسبابهم وأنخابهم. ولم تكن السيدات أنفسهن يترفعن عن الشتيمة العنيفة أو يتورعن عن القباحة المرحة.
أما في مشارب القهوة والأندية فاللغة أكثر تهذيباً. وقد كتب ستيل وسويفت وفيلدنج وكوبر وجونسون عن الحديث، بوصفه فناً مهذباً. وفي وسعنا أن نتصور الرجال في اجتماعاتهم التي يحرصون على إقصاء النساء عنها، يرشفون قهوتهم أو جعتهم، ويترعون خمرهم، ويدخنون بيباتهم، ويتجادلون حول المناقشات البرلمانية، وحول شراء روبرت ولبول للأصوات، والسياسة المنكرة التي ينتهجها أولئك "الكلاب الفرنسيون" وراء المانش. وكان الضحك عميقاً في البطون، عالياً في الحناجر، رغم مناشدات الأخلاقيين أمثال شافتسبري وغيرهم ممن لا نزعة أخلاقية تميزهم مثل تشستر فيلد، بوجوب ترك الضحك للوضعاء، وبأن يخفف حتى يصل إلى مجرد الابتسامة (94). أما تعاطي النشوق أو السوط، الذي ورد ذكره أول مرة في 1589، فكان قد بات شعيرة مرعية عند الجنسين، وقد ظن القوم أن للنشوق (وهو التبغ المسحوق) قيمة دوائية كالقهوة، فالعطس الذي يحدثه يطهر المسالك الأنفية، ويشفى من الصداع، والبرد، والصمم، والخمول، ويهدئ الأعصاب، ويصلح الدماغ. ولم ير شخص، رجلاً كان أو امرأة كامل الهندام بغير علبة النشوق، وعلى تلك الحاشية الملحقة(35/115)
بصاحبها (أي العلبة) أفرغ الصائغ والجواهري، وصانع المينا، ورسام المنمنمات، أرق ما جاد به فنهم.
وكانت مشارب القهوة الثلاثمائة في لندن مراكز للقراءة كما كانت منتديات للسمر. فقد اشتركت في الجرائد والمجلات، وأدارتها على زبائنها، ووفرت الأقلام والورق والحبر، وتسلمت الخطابات لإرسالها بالبريد، وقبلت أن تحفظ البريد المرسل إلى عناوينها. وتطورت بعض مشارب القهوة أو الكاكاو، مثل مشرب هوايت، في هذه الفترة إلى أندية خاصة يطمئن الرجال إلى أن يجدوا فيها الصحبة التي يؤثرونها على غيرها، ويستطيعون أن يلعبوا القمار بمنأى عن عيون الرقباء. وما اختتم القرن الثاني عشر حتى كان عدد الأندية مماثلاً لما كان عليه عدد مشارب القهوة في بدايته. ويبدو أن الماسون (البنائين الأحرار) بدءوا تاريخهم الإنجليزي على هيئة ناد سموه "المحفل الكبير"-نظم بلندن في 1717. وشجعت الأندية الشرب والقمار والدس السياسي، ولكنها علمت الرجال على الأقل نصف فن الحديث. أما النصف الآخر من هذا الفن فكان مفقوداً، لأن الأندية كانت خلوات للعزاب، ولم يجد الأدب الأرفع والفكاهة الأرق اللذان يتطلبهما وجود النساء ما يحفزهما هناك. فلقد كانت إنجلترا بلد الرجال، أما النساء فلم يكن لهن في حياتها الثقافية إلا حظ ضئيل، ولم يكن بها صالونات، فلما حاولت الليدي ماري مونتاجيو أن تقيم صالوناً نظر القوم إليها كأنها مخلوق غريب الأطوار لا يعرف أين مكانه (95).
واستطاعت النساء في الطبقات العليا أن يستخدمن مهاراتهن في الاستقبالات، والمراقص، وحفلات الموسيقى في البلاط أو في بيوتهن. وكانت نهاية الأسبوع في بيوت الريف حدثاً جميلاً في الحياة الإنجليزية لا يكدره بعض الشيء غير تلك "البقاشيش" الكبيرة التي ينتظر الخدم أن ينفحوا بها، وكان على الضيف وهو يغادر البيت أن يغامر بالمرور وسط الأتباع، والسقاة، والخدم، والقهرمانات، والبوابين، والخادمات، والطباخين وغيرهم من الخدم والحشم يقفون في صفين عند الباب، في حين ينتظر سائق المركبة وسائس الخيل خارجاً في عبوس وتجهم. وما ذاع عن ولاء الخدم البريطانيين لسادتهم لم يكن(35/116)
له كبير سند من الواقع في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فقد كانوا في كثير من الحالات عديمي المبالاة، وقحين، متمردين، لا يترددون في التنقل من بيت إلى بيت لقاء أجر أفضل. وكان كثير منهم يسرقون رب البيت وربته والضيوف إذا استطاعوا، ويشربون خمر مولاهم، وتلبس الخادمات حلي سيداتهن أو ملابسهن.
وكانت قمة انتماء شخص ما إلى المجتمع العصري، بعد أن يقبل في البلاط الملكي، أن يلم بمنتجع للمياه المعدنية، يشرب فيه المياه الطبية، أو يستحم مع صفوة القوم بعيداً عن البحر المختلط. واشتهرت تنبردج بينابيعها، ولكن روادها كانوا أخلاطاً. أما عيون ابسوم فكانت تقدم لروادها الموسيقى، ورقصات المريسة، والكلاب المؤدية للألعاب، والمياه المسهلة وإن لم تجمع بعد معادنها في "أملاح ابسوم". ولم يكن الاستحمام في البحر رياضة محببة، وإن لحظ تشسترفيلد شيئاً منه في سكاربرو، ولكن في 1753 تدفقت إلى البحر موجة بشرية بفضل كتاب الدكتور رتشرد رسل "في سل الغدد وفائدة مياه البحر في أمراض الغدد"، وتفتحت قرى ساحلية مثل برايتون لتزدهر منتجعات للاستحمام، مع أنها لم تعرف من قبل غير أسر صيادي السمك المتواضعة.
أما الأرستقراطيون ففضلوا مدينة باث. فهناك، وسط أرقى البريطانيين من ذوي الأسقام، يشرب الرواد-ويستحمون في مياه خبيثة الرائحة موصوفة لشفاء أوصاب من أتخموا بالغذاء الطيب. وكانت مدينة الينابيع الصغيرة قد فتحت أول غرفة ذات مضخة في 1704، وأول مسارحها في 1707، وبعد عام أول "غرف اجتماعاتها" التي نوهت بها قصص فيلدنج وسموليت. وفي 1755 اكتشف الحمام الروماني الكبير. وأعاد جون وود وابنه بناء المدينة بالطراز الكلاسيكي كما سنرى. وفي 1705، أصبح ناش "الجميل"، وكان محامياً ومقامراً، دكتاتور حياتها الاجتماعية. فحظر السيوف في أماكن اللهو العامة، ووفق في أن يجعل المبارزات-في باث-عملاً ضاراً بالسمعة. وأقنع الرجال بأن يلبسوا الأحذية المكشوفة بدلاً من الطويلة. وكان هو ذاته يلبس قبعة بيضاء هائلة، وسترة كثيرة الوشي(35/117)
غنية التطريز، ويركب عربة تجرها ستة خيول يتحتم أن تكون شهياء، ويعلن عن قدومه بنفير فرنسي مرح. وقد أصلح من شأن الطرق والمباني، وخطط الحدائق الجميلة، ووفر الموسيقى، وسحر الجميع إلا قلة منهم بلطفه وظرفه. وتوافد نبلاء الإنجليز على مملكته، لأنه وفر لهم موائد القمار كما وفر الحمامات، فلما سنت قوانين تحرم القمار ابتكر ألعاب حظ جديدة تتفادى القوانين. وأخيراً وفد على باث جورج الثاني، والملكة كارولين، والأمير فردريك لويس، وغدت باث حيناً بلاطاً ثانياً. ولا ريب في أن ايرل تشسترفيلد الذي كان يعشق المدينة كان مطبقاً على صفوفها ذلك الوصف الذي وصف به جميع البلاطات بقوله أنها أماكن "يجب أن تتوقع أنك ستلقى فيها بارتباطات دون صداقة، وعداوات دون ضغينة، ونبالة دون فضيلة، ومظاهر تنقَذ وحقائق تضحَى؛ آداب حسنة مشفوعة بأخلاق سيئة، وكل الرذائل والفضائل مقنعة، حتى أن كل من كان يميز بينها بعقله فقط لن يتبين الواحدة من الأخرى حين يلقاها أول مرة في البلاط (96) ".
7 - تشسترفيلد
فلننفق نصف ساعة مع هذا النبيل المرهف الحس. فقد تمثلت فيه خصائص أرستقراطية العصر الإنجليزية، اللهم إلا تأليفه كتاباً حسناً. ذلك أن هذا الكتاب "رسائل لولده"، الذي درج الناس على الغض من قدره، هو خزانة من الحكمة في نثر مشرق، ومرشد محكم لعادات طبقته ومثله العليا، وإعلان جذاب عن ذكاء مرهف مهذب.
كان اسمه بالعماد (1694) فليب درومر ستانهوب، بن فليب ستانهوب، ايرل تشسترفيلد الثالث، والليدي اليزابث سافيل، ابنة جورج سافيل، مركيز هاليفاكس، المساير الماكر للعهود الملكية السابقة. ماتت أمه في طفولته، وأهمله أبوه، فكفلته مركيزة هاليفاكس. وحذق تعلم الكلاسيكيات واللغة الفرنسية على يد معلم خاص، فأصبحت ثقافة روما وفرنسا إبان نضجهما جزءاً من عقله. وأنفق سنة في كمبردج، ثم انطلق في 1714 في الرحلة الكبرى. وفي لاهاي قامر بمبالغ كبيرة، وفي باريس جرب عينات من النساء تجربة(35/118)
الفاسق الذواقة للنساء، ومن باريس كتب (7 ديسمبر 1714) يقول:
"لن أبدي لك رأيي في الفرنسيين، فكثيراً جداً ما يخالني الناس واحداً منهم، وقد حياني العديدون منهم بأسمى تحية يمكن-في اعتقادهم-أن يحيوا بها إنساناً، وهي: "سيدي، إنك على شاكلتنا تماماً" حسبي أن أقول إنني وقح، كثير الكلام، عالي الصوت، آمر ناه، أغني وأرقص أثناء سيري، وأهم من هذا كله أنني أنفق مبلغاً باهظاً على شعري، ومساحيقي، وريشي، وقفازي الأبيض (97) ".
فلما عاد إلى إنجلترا عين وصيفاً لمخدع أمير ويلز وقتها (الذي أصبح جورج الثاني). وكان جيمس ستانهوب، الوزير الأثير لدى جورج الأول، قريباً لفليب. وعثر له على دائرة يمثلها في البرلمان، فظل أحد عشر عاماً عضواً من أعضاء حزب الأحرار في مجلس العموم. فلما أصبح ايرل تشسترفيلد الرابع بعد موت أبيه (1726) نقل إلى مجلس اللوردات، الذي قال في وصفه فيما بعد أنه "مجلس ذوي الأمراض المستعصية". وحين أوفد إلى لاهاي سفيراً (1728) قام بمهمته خير قيام، فخلع عليه وسام ربطة ساق الفروسية وعين وكيلاً أكبر للبيت الملكي. وفي 1732 أنجبت له خليلة تدعى الآنسة بوشيه ولداً هو فليب ستانهوب، الذي وجهت إليه فيما بعد "الرسائل" التي كتبها أبوه. وبعد عام تزوج الكونتيسة ولزنجهام، ابنة جورج الأول غير الشرعية من دوقة كندال. ولعل توقع أن تأتيه بمهر ملكي، ولكنها لم تفعل، فكان زواجاً شقياً شقاءً أرستقراطياً.
وكان من الجائز أن يرتقي إلى منصب أرفع لولا معارضته مشروع قانون لولبول بفرض ضريبة إنتاج على التبغ والنبيذ. وقد عاون على هزيمة القانون، وما لبث أن طرد من الحكومة (1733). وكافح ليسقط ولبول، وضيع صحته، واعتكف في القارة (1741)، وزار فولتير في بروكسل، واختلط بفونتنيل ومونتسكيو في باريس. فلما قفل إلى إنجلترا واصل سياسة المعارضة للحكومة. وقد أبهجت المقالات التي كتبها تحت اسم "جفري برودبوتوم" لصحيفة جديدة تدعى "إنجلترا القديمة" سارة، دوقة ملبره، فأوصت له بعشرين ألف جنيه. وفي 1744 فاز حزبه، حزب "البرودبوتوم" (الأحرار). وانضم(35/119)
إلى بلام في الوزارة، وأوفد إلى لاهاي ليقنع الهولنديين بالانضمام إلى إنجلترا في حرب الوراثة النمساوية. فأدى المهمة بلباقة وحذق، ورقى إلى منصب نائب الملك في إيرلندة (1745) وكانت السنة الوحيدة التي قضاها في إيرلندة أنجح سني حياته. فقد أنشأ المدارس والصناعات وطهر الحكومة من الفساد والرشوة، وصرف شئون الحكم بكفاية ونزاهة. وأنهى اضطهاد الكاثوليك، ورق العديدين منهم إلى مناصب الحكومة وبلغ من اكتسابه احترام السكان الكاثوليك له أنهم حين غزل المطالب الشاب بالعرش الإنجليزي إنجلترا من إسكتلندة، وتوقعت إنجلترا ثورة في إيرلندة تنشب في الوقت ذاته، رفضوا أن يثوروا على تشسترفيلد.
ورد إلى إنجلترا وزيراً (1746). ولكن أستاذ الرقة واللباقة اقترف غلطة مدمرة. ذلك أنه تودد إلى خليلة الملك لا إلى الملكة، فنجحت كارولين في تدبير سقوطه. وفي 1748 طلق الحياة العامة، وانكفأ كما قال إلى "حصاني، وكتبي، وأصحابي (98) " وعرض عليه جورج الثاني لقب الدوقية، ولكنه رفضه. وفي 1751 قاد حركة تبنى التقويم الجويجوري، وتحمل وطأة استياء الشعب من "السرقة البابوية" لأحد عشر يوماً من الشعب الإنجليزي. وفي 1755 سلط عليه جونسون ناره بمناسبة إهداء المعجم الذي ألفه، ونلقى نظرة على هذه المعركة الصاخبة في موضع لاحق.
وكان خلال ذلك يكتب الرسائل لولده منذ 1737. وينم حبه لهذه الثمرة الجانبية لسفارته الأولى في هولنده على الحنان الذي أخفاه عن الجماهير خلال أكثر حياته. قال للفتى: "منذ رأت عيناك نور الحياة أصبح شغلي الشاغل، المحبب إلى نفسي، أن أكمل ما يسمح به قصور الطبيعة البشرية (99) ". وقد خطط تعليم فليب، لا ليجعله مسيحياً مثالياً، بل ليعده للسياسة والدبلوماسية. وبدأ الغلام في الخامسة بخطابات عن الأساطير الكلاسيكية والتاريخ القديم. وبعد عامين راح يعزف النغمة التي لن يفتأ يلح عليها في رسائله. يقول:
"في خطابي الأخير كتبت لك عن أدب المجتمع العصري،(35/120)
كأولئك الذين ألفوا ارتياد القصور، وهم القطا الأنيق من النوع الإنساني. وأدبهم عفوي طبيعي، وعليك أن تميز بينه وبين تأدب الدهماء والريفيين، وهو تأدب مقيّد أو مزعج دائماً .. فالرجل المهذب يبدي رغبة دائمة في أن يسر من يتحدث إليه، ويحرص على ألا تكون تحياته مزعجة. وقل من الإنجليز من يتصفون بالأدب الكامل فهم أما خجلون وأما وقحون، في حين تجد معظم الفرنسيين طبيعيين مؤدبين في سلوكهم. وبما أنك بحكم النصف الأفضل فرنسي صغير، فإني أرجو أن تكون على الأقل "نصف" مهذب. وستكون أميز وأبرز في بلد ليس الأدب فيه فضيلة غالية (100) ".
وعليه فحين بلغ فليب الرابعة عشرة أرسله أبوه إلى باريس باعتبارها المدرسة التي تنتهي صقل عاداته وإن كان عليماً بأنها ستنهي فضائله أيضاً. وكان على الفتى أن يتعلم أساليب الحياة أن أراد أن ينفع حكومته. والدراسة المناسبة لرجل الدولة هي دراسة الإنسان، فبعد أن علم الوالد ولده العلوم الكلاسيكية وفنون الأدب عن طريق المعلمين الخصوصيين والرسائل، رده الايرل-الذي كان خبيراً بهذه العلوم والفنون-من الكتب إلى البشر. قال:
"يا صديقي العزيز، إن قلة قليلة من المفاوضين المشهورين هم الذين برزوا بفضل علمهم ... فدوق ملبره الراحل، الذي كانت كفايته مفاوضاً تعدل على الأقل كفايته قائداً حربياً، كان جاهلاً جهلاً مطبقاً بالكتب، ولكنه كان خبيراً بالرجال، في حين ظهر أن جروتيوس العلامة كان وزيراً خائباً غاية الخيبة، سواء في السويد أو في فرنسا (101) ".
فإذا شاء فليب أن يلتحق بالحكومة فينبغي له أولاً أن يدرس الطبقات الحاكمة، بيئتهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، وغاياتهم، ووسائطهم؛ وألا يقرأ غير أجود الأدب ليكتسب أسلوباً حسناً في الكتابة، لأن هذا أيضاً جزء من فن الحكم؛ وأن يلم بالموسيقى والفنون، ولكن، حذار أن يتطلع لأن يكون مؤلفاً أو موسيقياً (102). وينبغي له أن يدرس بعناية تاريخ الدول الأوربية الحديث، ملوكها ووزرائها، قوانينها ودساتيرها، مالياتها ودبلوماسياتها، وليقرأ ما كتبه لاروشفوكو ولابرويير(35/121)
عن طبائع البشر، إنهما حقاً "كلبيان"، ولكنك لن تخطئ خطأً كبيراً، في السياسة على الأقل، إن أنت توقعت من كل إنسان أن يسعى لتحقيق مصلحته كما يراها، ولنسيء الظن بأي سياسي يتظاهر بغير هذا. ولا نتوقع من الناس أن يكونوا معقولين، بل خذ في حسابك أهواءهم. "إن أهواءنا هي خليلاتنا، أما العقل فهو الحليلة على أحسن تقدير، يُسمَع كثيراً جداً بلا ريب، ولكن نادراً ما يعبأ به (103) " تعلم أن تتملق، لأنه لا يمتنع عن الملق سوى أحكم الحكماء وأقدس القديسين، ولكن كلما صعدت وجب أن يكون تملقك أرهف وأحوط. وأدرس أنساب أهم الأسر، لأن البشر أكثر افتخاراً بأنسابهم منهم بفضائلهم (104). وتودد للنساء، أولاً لتحصل على معونتهن، فحتى الحكام الأقوياء يتأثرون بالنساء الضعيفات، لا سيما إذا لم يكن أزواجهم.
أما في مسائل الجنس، فإن نصيحة تشسترفيلد لولده أضحكت الفرنسيين وروعت الإنجليز. فقد ذهب إلى أن طرفاً من العلاقات الغرامية الحرام إعداد ممتاز للزواج والنضج. واكتفى بالإصرار على أن تكون خليلات فليب نساء مهذبات، حتى يصقلنه وهن يأثمن معه. وزكى له مدام دوبان لما كانت عليه من "حسن التربية ورقة الطبع (105) " ولقن ابنه فن الإغواء. فعليه ألا يقبل أي تمنع وهو مستسلم، لأن:
"أكثر النساء فضيلة لن يسوءها أن يبوح لها رجل بحبه، بل إن ذلك يشبع غرورها شريطة أن يكون بأسلوب مؤدب لطيف. فإذا استمعت إليك، وسمعت لك أن تفصح ثانية عن حبك، فثق أنك إن لم تغامر بالباقي كله سخرت منك .. فإذا لم تلق منها أذناً مصغية فحاول ثانية، وثالثة، ورابعة. وثق، إذا لم يكن المكان قد احتل من قبل، إن في الإمكان غزوه (106) ".
قد أفضى الايرل، الذي لم يكن محظوظاً في الزواج ولا مولعاً به، إلى ولده برأيه في النساء، وهو رأي لم يكن بالحسن جداً:
"في هذا الموضوع سأفضي إليك ببعض الأسرار التي سيفيدك جداً أن تلم بها، ولكن عليك أن تحرص أشد الحرص على إخفائها وعلى ألا تبدو(35/122)
ملماً بها. فاعلم إذن أن النساء ما هن إلا أطفال كبار، فيهن ثرثرة مسلية، وأحياناً ذكاء، أما من حيث التفكير الرصين والإدراك السليم، فما عرفت في حياتي امرأة أتيح لها هذان، أو فكرت أو تصرفت منطقياً ولو أربعاً وعشرين ساعة كاملة .. والرجل الفطن إنما يلهو بهن، ويلعب معهن، ويلاطفهن، ويتملقهن .. ولكنه لا يستشيرهن أبداً في الخطير من الأمور ولا يأتمنهن عليها وإن موّه عليهن كثيراً بأن يفعل الاثنين، وهو أشد ما يفخرون به في هذه الدنيا، لأنهن ولوعات بالتسلي بالتجارة (التي يفسدنها دائماً) .. وليس هناك ملق يرينه فوق ما يستأهلن أو دونه، إنهن يبتلعن أبلغ الملق في شراهة، ويقبلن أقله في شكر وعرفان، وفي وسعك أن تتملق أي امرأة مطمئناً، بادئاً بقوة ذكائها ومنتهياً بذوق مروحتها الرفيع. وخير ما تتملق به النساء الجميلات والقبيحات جمالاً أو قبحاً غير منازع هو الإشادة بذكائهن (107).
وقال الأيرل أن النساء في فرنسا يجب تملقهن في مثابرة وكياسة لسببين: فإن في استطاعتهن أن يقررن مصير الرجل في بلاط الملك، وأن يعلمنه لطائف الحياة وفنونها. فالنساء يحتفظن بسحرهن برشاقة الحركة والسلوك والحديث لا بجمالهن، فالجمال بغير الرشاقة لا يجتذب أي رجل، وأما الرشاقة بغير الجمال فما زالت لها القدرة على الفتنة. "إن النساء هن المهذب الأوحد لكفاية الرجال. صحيح أنهن لا يستطعن إضافة وزن لها، ولكنهن يصقلنها ويضفين عليها بريقاً (108) ". وحذر الأيرل ولده من الكلام بسوء عن النساء، فهذا أمر مبتذل، سوقي، أحمق، ظالم، لأن النساء اقترفن في هذه الدنيا من الأذى أقل كثيراً مما اقترفه الرجال. ثم إنه ليس من الحكمة أبداً مهاجمة "فئات بجملتها" أو طبقات أو جماعات، "فقد يصفح الأفراد، أما الهيئات والجماعات فلا (109) ".
ولم يمل تشسترفيلد من تلقين ولده أصول السلوك المهذب. "فالعادات المهذبة هي الوسيط الثابت المستقر للحياة الاقتصادية، كما أن نوع السلعة هو الوسيط المقرر في دنيا التجارة. والناس يتوقعون عائداً في الحالين على السواء، وهم لا يقدمون احترامهم لإنسان فظ، أكثر مما يقرضون مالهم لإنسان مفلس (110) ".(35/123)
ومما يعين في هذا المجال أستاذ رقص قدير، فهو يعلمنا على الأقل كيف نقعد، أو نقوم، أو نمشي دون تبديد في الجهد والطاقة. وإذ كان الأيرل أرستقراطياً، فقد سمي السلوك المهذب "تربية طيبة"، فلقد تبين دون وعي منه، وربما محقاً، كيف يصعب على إنسان اكتساب العادات المهذبة دون أن يكون قد ربي في أسرة وتحرك في محيط لهما هذه العادات. "إن من سمات الرجل الطيب النشأة أن يتحدث إلى من هم أدنى منه دون صلف، وإلى من هم أعلى منه باحترام ويسر (111) " فعلى المرء ألا يستغل علواً في المقام جاء وليد الصدفة.
"لا تستطيع أن تحسب، وأنا واثق أنك لا تحسب، أنك أرقى بحكم الطبيعة من ذلك السافواوي الذي ينظف حجرتك، أو الخادم الذي ينظف حذاءك، ولكن لك أن تغتبط، وبحق، لما حباك به الحظ دون غيرك. فاستمتع بتلك المزايا، ولكن دون إهانة أولئك الذين قضى القدر بحرمانهم منها، أو حتى الأتيان دون موجب بأي عمل قد يذكرهم بذلك الحرمان. وأقول لك عن نفسي أنني أشد حرصاً على سلوكي نحو خدمي وغيرهم ممن يدعون أدنى مني، مني نحو نظرائي، مخافة أن أتهم بتلك العاطفة القبيحة الوضيعة، وهي الرغبة في أشعار غيري بذلك الفارق الذي أوجده الحظ بيننا، ربما دون استحقاق على الإطلاق (112) ".
والسلوك المهذب يصدق على العقل كما يصدق على الجسم، وكلا النوعين يتأثر بعشائرنا.
"هناك نوعان من الخلطاء المهذبين، الأول وهو المسمى المجتمع الراقي " beau monde"، وهم أصحاب الصدارة في قصور الملوك وفي الجوانب المرحة من الحياة، والثاني هم أولئك الذين يتميزون بكفاية خاصة، أو يتفوقون في فن أو علم خاص عظيم القدر. أما عن نفسي فقد ألفت أن أراني وأنا جالس إلى (الكاتب) أديسون أو (الشاعر) بوب في صحبة أشخاص يعلون عني علو جميع ملوك أوربا وأمرائها لو جلست إليهم (113) ".(35/124)
ومن الحكمة أن يسلك المرء في كلتا الصحبتين بشيء من التحفظ، فلا يسرف في الكلام ولا يغالي في الصراحة، وأن يكون "من الحذق بحيث يخفي حقيقة دون أن يكذب"، وأن يبدو صريحاً وهو متحفظ:
"تظاهر بأنك مرتاب حتى حيث تكون على يقين من الأمر ... وإن شئت أن تقنع غيرك فليبد عليك استعدادك للاقتناع. وأودع علمك كما تودع ساعتك جيباً خاصاً فلا تبرزه .. لمجرد الإعلان عن نفسك (114). وهم من هذا كله، احذر الحديث عن نفسك ما استطعت (115).
"وأمسك عن الحديث في الدين، فلو أنك أطريته لابتسم أصحاب الثقافة والحكمة، ولو ذممته لحزن الشيوخ الناضجون. وسوف يفيدك أن تقرأ تواريخ فولتير، ولكن احترس من جماعة "الفلاسفة" الذين يهاجمون الدين.
"لا يبد عليك أنك توافق على تلك الأفكار الإباحية التي تهاجم الأديان على السواء، أو أنك تشجعها أو تصفق لها، والتي هي الحديث الحقير المهلهل الذي يخوض فيه أنصاف العقلاء وصغار الفلاسفة. وحتى أولئك الذين بهم من الحمق ما يجعلهم يضحكون على نكاتهم، لهم وزعم ذلك من الحكمة ما يشككهم ويبغضهم في أخلاقهم، ذلك أننا حتى لو وضعنا الفضائل الخلقية في أسمى مكان لها، والدين في أدناه، فلا بد رغم ذلك من أن نعترف للدين بأنه ضمان إضافي على الأقل للفضيلة، وكل إنسان حصيف يؤثر الركون إلى ضمانين خيراً من ضمان واحد. لذلك فأينما اتفقوجودك في صحبة أصحاب "العقول القوية" المزعومة هذه، أو في صحبة إباحيين عديمي التروي ممن يسخرون بالدين كله إعلاناً عن ذكائهم وظرفهم، فلا تدع كلمة أو نظرة تبدر منك دليلاً على أقل استحسان لما يقولون، بل على العكس من هذا فلتفصح رزانتك الصامتة عن كرهك له، ولكن لا تخض في الموضوع واجتنب مثل هذه المجادلات العقيمة النابية (116) ".(35/125)
وفي 1752 تبين تشسترفيلد في التهجم على الدين أول مراحل الثورة الاجتماعية، "أتنبأ أنه قبل أن ينقضي هذا القرن لن تبلغ صناعة الملك والقسيس نصف ما بلغته من احترام إلى الآن (117) ". وفي 1753، بعد ظهور "الموسوعة" المعادية لرجال الدين بعامين، كتب إلى ابنه يقول:
"إن أحوال فرنسا .. .. تزداد خطورة، وفي ظني أنها ستمضي في هذا قُدماً كل يوم. فالملك محتقر ... والأمة الفرنسية تفكر في أمور الدين والحكم بغير قيود، وهو ما لم تفعله قط من قبل، وقد بدأت تصبح "محايدة" في هذه الأمور؛ كذلك يفعل الموظفون، وباختصار توجد الآن في فرنسا، وتزداد كل يوم، جميع الأعراض التي صادفتها دائماً في التاريخ قبل وقوع التغييرات والثورات الكبرى في الحكم (118) ".
وقد كون اثنان من قرائه، بعد دراسة ممتعة لصفحات تشسترفيلد الثمانمائة، رأياً ممتازاً عن عقله، إن لم يكن عن أخلاقياته. أما معاصروه الإنجليز فكانوا لعدم قراءتهم رسائله أميل إلى أن يسلكوه، دون ترو، في زمرة الأدباء الظرفاء لا الفلاسفة. وطابت لهم ملاحظته في مجلس اللوردات حين قال "من حقنا يا سادتي اللوردات أن نشكر السماء لأن لدينا شيئاً نركن إليه خيراً من أدمغتنا (119) ". ورأوه يقامر مقامرة المستهترين أو الحمقى، وعرفوا أنه لم يكن مثالاً يحتذي في العفة (وهو ما اعترف به لولده). وقد وصف جونسون الغضوب "الرسائل" بأنها تغرس في النفس "أخلاق عاهرة وسلوك معلم رقص (120) ". وفي هذا الحكم، كما في الكثير جداً من أحكام هذا "الخان الأكبر" بعض القصور والتحامل، فلقد كان تشسترفيلد يعلم الفتى أخلاق جيله وطبقته، وعادات المجتمع السياسي المتأدب، وعلينا أن نتذكر أنه كان يهيئ ولده للدبلوماسية، وما من دبلوماسي يجرؤ على تطبيق المسيحية وراء حدود بلاده.
غير أن الكثير من التعليم الخلقي الذي محضه فليب كان رغم هذا ممتازاً. "لقد طالما أخبرتك في رسائلي الماضية (وهو حق بكل تأكيد)(35/126)
أنه ما من شيء يكسبك احترام البشر وتقديرهم غير أشد ضروب الشرف والفضيلة صرامة وتدقيقاً (121) ". وأغلب الظن أن نصيحته له في أمر الخليلات كانت محاولة لصرف الفتن عن الفوضى الجنسية. لاحظ هذا التحذير "أما عن الجري وراء النساء، فإن نتائج تلك الرذيلة إنما هي فقدان المرء أنفه، والتدمير الشامل لصحته، وطعنات السلاح تصيبه في حالات غير قليلة (122) ". وقد ذهب جونسون نفسه، في لحظة غافرة، إلى أن "رسائل اللورد تشسترفيلد لولده قد يخرج منها كتاب لطيف جداً، وإذا انتزعت منه الجانب اللا أخلاقي، وجب أن يوضع في يد كل شاب مهذب (123) ". وربما كان في "الرسائل" قصور في غرس مبادئ الشرف واللياقة والشجاعة والوفاء. ولكن ليس صحيحاً أن تشسترفيلد حسب الثراء أو المنصب فضيلة أو حكمة. وقد امتدح ملتن، ونيوتن، ولوك أكثر كثيراً مما امتدح سياسيّ زمانه، ورأيناه ينشد صداقة خيرة كتاب عصره. وقد أوتي تقديراً حاراً للأدب الجيد، حتى ولو لم يفتنه معجم من معاجم اللغة. وقد كتب هو نفسه إنجليزية لم يبزها كاتب في النثر المعاصر له، لغة بسيطة، قوية، واضحة، فيها من الخفة والمرح القدر الذي يكفي لتعويم الفكر الذي يثقله. وقد آثر الألفاظ الأنجلو-سكسونية القصيرة المفعمة بالحيوية رغم إحاطته بالكثير من اللغات، وغزارة علمه بالكلاسيكيات. وفي رأي فولتير أن الرسائل "أفضل ما كتب إطلاقاً في التربية (124) ". ووصفها سانت-بوف بأنها "كتاب غني، لا تقرأ فيه صفحة دون تحملك قراءتها على أن تتذكر ملاحظة سعيدة (125) ".
ولو حكمنا على عمل ما بثمراته المباشرة لقلنا أن الرسائل فشلت. ذلك أن الفتى فليب ستانهوب لم يتغلب قط على روحه البليدة، وعاداته الرثة، وأسلوبه المتثاقل، وحديثه المتردد، فبعد كل هذا الحث والحض، كما تقول فاني بيرني، "كان حظه من حسن التربية ضئيلاً كأي رجل لقيته (126) ". ويبدو أن انحرافاً سببه مولد الفتى أو ظرفه أبطل فعل خمسة أرطال من التعاليم. لقد كان فليب يعاني من معوق هو أن له أباً غنياً ومكاناً مضموناً ومريحاً، فلا خوف الجوع ولا كره الخضوع حفزاه إلى الطموح والمغامرة؛ لقد افتقد الدفعة الحية للروح " vivide vis animi" كما قال له أبوه المغلوب على أمره(35/127)
"تلك القوة التي تهمز الشباب وتثيرهم للإرضاء، والتألق، والتفوق (127) ". ومن المؤثر أن نرى الأيرل المسن يغدق كل هذه النصائح الحكيمة والحب الأبوي فلا يجني غير هذه الثمرة الهزيلة. كتب لولده حين كان في الرابعة عشرة "ثق أنني سأحبك حباً جماً ما دمت تستأهله، ولكن لن أحبك لحظة واحدة بعد هذا (128) "، على أن رسالته الأخيرة لولده بعد اثنتين وعشرين عاماً فيها حرارة المحبة والتوسل (129). ولم يمض عليها شهر حتى مات فليب في باريس (1768) وهو في السادسة والثلاثين تاركاً أرملة وولدين. فلقد تزوج دون علم أبيه، ولكن تشسترفيلد غفر له، وراح الايرل الآن يكتب للزوجة الثكلى رسائل هي نماذج في المجاملة والاحترام (130).
أما هو فكان في تلك الفترة كثير التردد على باث بعد أن أقعده النقرس وأصابه الصمم إلى حد محزن. "إنني أزحف في هذا المكان على أرجلي الثلاث، ولكن يعزيني عن محنتي هذه إخواني الزاحفون معي؛ إن نهاية لغز أبي الهول تقترب، وسأختم حياتي بعد قليل كما بدأتها، على أربع (131) ". وقد اهتم بتربية حفيديه، ولا غرو فالأمل لا يخبو أبداً في الصدر العجوز. فلما عاد إلى ضيعته في بلاكهيث اتبع نصيحة فولتير وزرع حديقته فخوراً بشمامه وتفاحه، وقال إنه قانع بأن "يحيا حياة راكدة في صحبتهما (132) ". وكتب له فولتير رسائل معزية، مذكراً إياه بأن الهضم الجيد (الذي احتفظ به الإيرل) أجلب للذة من الآذان السليمة. وقابل النهاية بمرح لم يفتر. قال عن نفسه وعن صديقه اللورد تيرولي، وكان مثله شيخاً مقعداً، (وربما كان في قوله هذا متذكر فونتنيل) "لقد كنت وتيرولي ميتين في السنتين الأخيرتين، ولكنا لا نود أن يعرف عنا هذا (133) ". ومات في 24 مارس 1973 بالغاً التاسعة والسبعين، غير عالم أن رسائله التي منع نشرها قد احتفظ بها ابنه وتركها في وصيته، وأنها بعد طبعها في العام التالي ستسلكه في عداد أساطين الحكمة الدنيوية وفحول النثر الإنجليزي.(35/128)
الفصل الثالث
الحكام
1 - جورج الأول
1714 - 1727
كان الإنجليز أكثر حذقاً من الفرنسيين في شئون الحكم، كما سيتبين ذلك عما قليل فولتير ومونتسيكو. فبعد أن قطعوا رأس ملك، وأرسلوا آخر يهرول رعباً عبر المانش، استوردوا الآن ملكاً خلف قلبه وعقله وراءه في ألمانيا، ملكاً يقضي الإجازات الطويلة في وطنه هانوفر، ولا يصعب أن يهيمن عليه برلمان لم يوفق هذا الملك قط في فهم أساليبه ولغته.
كان بيت هانوفر يمد جذوره في ألمانيا الوسيطة، ويرجع بنسبه الملكي إلى أدواق برونزيك-لونبورج، ثم إلى هنري الأسد (1129 - 95)، ومن قبله إلى أجداده الولف أو الجويلف. وقد أصبحت هانوفر نفسها إمارة ناخبة للإمبراطورية الرومانية المقدسة في 1692. وتزوج ناخبها الأول، ارنست أوغسطس، من صوفيا حفيدة جيمس الأول ملك إنجلترا. وبعد موت ارنست أصبحت أرملته وريثة للعرش الإنجليزي بقانون تسوية الوراثة الذي أصدره البرلمان في 1701.
ولكن ولدها جورج لويس، ناخب هانوفر الثاني، كدر هناءة هذا الميراث السعيد بزواج تعس. ذلك أن زوجته صوفيا دوروثيا قد استنكرت خياناته، فدبرت أن تهرب مع الكونت فليب فون كوينجز مارك، قائد الحرس الجميل. واكتشف جورج المؤامرة، ولم يسمع بخبر للكونت بعدها قط، وأغلب الظن أنه أعدم (1694). وقبض على صوفيا دوروثيا وحوكمت، وأبطل زواجها، وزج بها في السجن طوال الأعوام الاثنين والثلاثين الباقية من عمرها في قلعة آلدن. وكانت قد ولدت لزوجها بنتاً أصبحت أم فردريك الأكبر، وولداً أصبح جورج الثاني ملك إنجلترا.(35/129)
وماتت صوفيا، ناخبة هانوفر الأرملة، وفي 1714، قبل أن تموت الملكة آن، ففقدت بذلك منصب الملك، ولكن ولدها نودي به على الفور ملكاً لبريطانيا العظمى وإيرلندة باسم جورج الأول. وفي سبتمبر وصل إلى إنجلترا، بادئاً عهداً جديداً في التاريخ الإنجليزي. وجلب معه ابنه وزوجة ابنه، وعدداً من المساعدين الألمان، وخليلتين، شارلوت فون كيلمانريجي، التي خلع عليها لقب كونتيسة دارلنجتن، والكونتيسة ميلوزينا فون در شولبورج، التي خلع عليها لقب كونتيسة كندال، وربما تزوجها. ولعل إنجلترا كانت متقبلة هذا الترتيب باعتباره متفقاً وأخلاقيات ذلك الزمان، لولا أن كلتا السيدتين كانت في عيون البريطانيين قبيحة غالية التكلفة، فميلوزينا تبيع نفوذها بأثمان باهظة، حتى أن ولبول شكا منها وهو رب الفساد والرشوة، وكان جواب جورج أن سأل ولبول: ألا يتقاضى هو نفسه أتعاباً لقاء توصياته على طلاب المناصب (1)؟
في 1714 كان جورج الأول في الحادية والخمسين من عمره، فارع الطويل عسكري السمت، "رجلاً بسيطاً فظاً". لا يكترث مثقال ذرة للكتب، ولكنه كان قد أثبت بسالته في أكثر من ساحل قتال. وقد قالت الليدي ماري مونتاجيو في وصفه أنه "رجل أبله أمين (2) "، ولكنه لم يكن بالغباء الذي يبدو عليه، وقد اعترفت بأنه "كان طيباً على نحو سلبي، يود أن يستمتع الناس جميعاً بالهدوء لو أنهم تركوه يفعل ذلك (3) ". وما كان أحد يتوقع أن هذا الرجل سيشعر بالاطمئنان واليسر في بيئة غريبة عليه كهذه البيئة، ومنصب قلق كهذا المنصب. فلقد استأجرته أولجاركية بريطانية ليحول دون رجوع الملكية الإستيوارتية مرة أخرى؛ ثم رأى أن هؤلاء الإنجليز المسيطرين، الذين هيمنوا على البرلمان، مصممون على الهيمنة عليه هو أيضاً؛ ولم يستطع أن يغتفر لهم تحدثهم الإنجليزية. واعتقد أنهم أدنى من عشرائه الهانوفريين. فاعتكف في خلوات قصر سانت جيمس، وهرب إلى هانوفر كل سنة تقريباً، وبذل ما وسعه من جهد ليوجه الأموال والسياسة الإنجليزية لحمايته إمارته المحبوبة.
وضاعف من محنته كره ابنه له لأنه اعتبره قاتلاً. ذلك أن جورج(35/130)
أوغسطس، الذي أصبح الآن أمير ويلز (ولي العهد)، ندد بسجن أمه المتصل، وتمرد على سطوة خليلات الملك وغطرستهن، وتشاجر مع وزراء الملك، وأفصح عن آرائه في صراحة حملت أباه على إقصائه من القصر. واعتزل الأمير وزوجته كارولين، اللذان فصلهما أمر ملكي عن أبنائهما، ليفتتحا بلاطاً منافساً في قصر لستر (1717). ووفد عليهما نيوتن، وتشسترفيلد، وهرفي، وسويفت، وبوب، وسيدات المجتمع المغرور الأكثر حيوية ومرحاً، فوجدوا الأمير أشد فظاظة وغباء حتى من الملك.
وكان هذا التصدع في الأسرة المالكة منسجماً في عمومه مع انقسام الأقلية الحاكمة والبرلمان إلى حزبي التوري (المحافظين) والهويجز (الأحرار). وقد قدر فولتير أن نحو ثمانمائة رجل هيمنوا على الحكم في المجالس البلدية، والانتخابات البرلمانية، والتشريع القومي، والإدارة والقضاء (4). وتوقف كل حديث مزعج عن الديمقراطية، كذلك الذي أثاره "مستقلو" كرومويل "والمسوون". وكان التصويت للبرلمان وفقاً على أصحاب الملكيات-وهم لم يتجاوزوا 160. 000 في هذه الحقبة (5) - وهؤلاء كانوا عادة يقبلون المرشح الذي يزكيه المالك الرئيسي للأرض أو اللورد (6) المحلي. وانتمى الساسة لأحد الحزبيين حسب تأييدهم أما النبلاء أصحاب الألقاب، وأما للأعيان وأصحاب المصالح التجارية. فأما "رجال الكنيسة الأنجليكانية" فاتبعوا مذهب المحافظين، وأما المنشقون عن الكنيسة فأيدو الأحرار. وكان المحافظون قد عارضوا في أن يخضع الملك للبرلمان، وتشبثوا مع الكنيسة الرسمية بنظرته حق الملوك الإلهي، وفكروا قبيل وفاة الملكة آن في رد الاستيوارتيين المنفيين إلى السلطة؛ أما وقد تربع بيت هانوفر الآن على العرش فقد كان طبيعياً أن يزيحهم الأحرار المعادون لأسرة استيوارت، وبينما كانت الوزارة إلى ذلك الحين تضم عادة رجالاً من كلا الحزبين، نرى ورج الأول يقصر المناصب العليا على الأحرار، وهكذا أرسي نظام الحكم بواسطة الحزب عن طريق مجلس للوزراء. فلما توقف الملك بعد قليل عن رآسة اجتماعات الوزارة لعدم فهمه الإنجليزية، أصبح العضو المهيمن "وزيراً أول" أو رئيساً للوزارة، وتقلد شيئاً فشيئاً المزيد من وظائف الملك وسلطاته.(35/131)
ورأس الوزارة جيمس ستانهوب سبع سنين. ومن أول قوانينه وأكثرها شعبية رده جون تشرشل، دوق ملبره-الذي اتهمه المحافظون من قبل-لجميع مناصبه السابقة، خصوصاً القيادة العامة للجيش. وبعد عودة الدوق من منفاه اعتكف في قصر بلنهيم، وهناك عانى آلام المرض الطويل، ومات في 16 يونيو 1722، أما الأمة التي اغتفرت له مقتنياته وتذكرت انتصاراته المتعاقبة، فقد قبلت هذا الحكم الذي أصدره عليه بولنبروك-"لقد كان رجلاً عظيماً إلى حد لا أتذكر معه هل كانت له أخطاء أو لم تكن (7) ". وأما أرملته، وهي سارة تشرشل التي ظلت عشر سنوات تحكم حكم الملكات، فقد أنفقت اثنتين وعشرين سنة تقدس ذكراه وتذود عنها. فلما طلب الدوق سمرست يدها أجابت "لو أنني عدت صبية وجميلة كما كنت، لا عجوزاً ذابلة كما أنا الآن، ولو كان في وسعك أن تطرح ملك الدنيا بأسرها تحت قدمي، لما استطعت أبداً أن تقتسم قلباً ويداً كانا في يوم من الأيام ملكاً لجون تشرشل (8) ". وفي 1743، قبل وفاتها في الرابعة والثمانين بعام، فكرت في إحراق رسائلها الغرامية القديمة، ولكنها حين أعادت قراءتها شعرت "بأنني لم أستطع أن أحرقها"، فتركتها لتعيش (9). ولا بد أنه كان هناك خير كثير في امرأة استطاعت أن تحب بهذا القدر من الوفاء، وفي رجل استطاع أن يظفر بمثل هذا الحب من امرأة عصية إلى هذا الحد.
وحل بولنبروك محل ملبره في المنفى. ذلك أنه بعد أن طرده جورج الأول من الحكومة، وهدد بقديمه إلى المحاكمة بتهمة التفاوض سراً مع الأسرة المالكة التي سقطت، وكرهه الأحرار والمنشقون عن الكنيسة الذين وخزهم بسخريته وخزاً موجعاً، واجتنبه رجال الكنيسة لازدرائه اللاهوت المسيحي-بعد هذا كله فر إلى فرنسا (مارس 1715)؛ وانضم إلى جيمس الثالث، وأصبح وزير دولة لدولته التي لا وجود لها، وعاون على تنظيم تمرد استيوارتي في إنجلترا، واقترح غزوها من فرنسا. فأعلن البرلمان إدانته بالخيانة، وصادر ثروته، وحكم عليه بالإعدام.
وأوشكت حركة رد الاستيوارتيين أن تطيح بعرش جورج الأول،(35/132)
فالمحافظون الكارهون للهانوفريين لأنهم أحلاف غاصبون؛ وعامة الناس في إنجلترا، الراسخون في الولاءات القديمة، والتواقون سراً للأسرة المنفية؛ وطبقات إسكتلندة العليا والدنيا، الفخورة بأنها أعطت إنجلترا ملكاً اسكتلندياً، الضيقة أشد الضيق بقانون الاتحاد (1707) الذي قضى على البرلمان الاسكتلندي-كل أولئك كانوا على استعداد للتحريض على غزوة يقودها الشاب الذي اعترف به لويس الرابع عشر ملكاً شرعياً أوحد على إنجلترا.
وكان جيمس فرانسس ستيوارت قد بلغ الآن (1715) السابعة والعشرين، وإن عرفه التاريخ باسم "المطالب المسنّ بالعرش". كان قد ربي في فرنسا، وأشربه المذهب الكاثوليكي معلموه الرهبان ومعاناة أبيه جيمس الثاني إشراباً رفض معه حجة بولنبروك الذي زعم له أنه سيقوى الميل لأسرته في إنجلترا إذا هو وعد باعتناق البروتستنتية. قال له بولنبروك وهو يحاوره، كيف يمكن حمل الاسكتلنديين المشيخيين (أتباع كلفن)، والأنجليكان المحافظين، على تأييد رجل يأتي إلى عرشهم بالمذهب الذي قاتلوا للإطاحة به وال قرن حافل بأشد الاضطراب؟ ولكن جيمس كان صلباً لا يلين، فصرح أنه يؤثر أن يكون كاثوليكياً بغير عرش، على أن يكون ملكاً بروتستنتياً. أما بولنبروك، البريء من الإيمان والمبادئ، فقد حكم على جيمس بأنه أصلح للرهبنة منه للملك (10). وكان البرلمان خلال ذلك (أغسطس 1714) قد عرض دفع 100. 000 جنيه مكافأة لمن يقبض على جيمس الثالث إذا وطئ تراب بريطانيا.
ثم بدا أن عاملاً شخصياً يحول الأحداث إلى خدمة قضية المطالب بالعرش، ذلك أن جون ايرسكين، ايرل مار، كان وزيراً لشئون إسكتلندة في السنوات الأخيرة للملكة آن. فلما طرده جورج الأول، وضع الخطط لثورة استيوارتية في إنجلترا، ثم أبحر إلى إسكتلندة واستنفر الاسكتلنديين لينضووا تحت لواء ثورته (6 سبتمبر 1715) وظاهره نفر من النبلاء، فارتفع عدد قواته إلى ستة آلاف راجل وستمائة خيال؛ ولكن أدنبره وجلاسجو والسهول الجنوبية ظلت موالية للملك الهانوفري. وقررت الحكومة البريطانية الإعدام عقاباً للخيانة(35/133)
ومصادرة الملكية لجميع العصاة. وعبأت ثلاثة عشر ألف رجل، ودعت ستة آلاف آخرين للأسطول، ثم أمرت دوق آرجيل قائد حاميتي أدنبره وستيرلنج بأن يخمد التمرد. فالتقى بقوات مار عند شريفموير (13 نوفمبر 1715) في معركة لم يستطع أي الفريقين أن يدعى لنفسه فيها نصراً حاسماً. وتقدمت قوة اسكتلندية أخرى في تهور إلى ثلاثين ميلاً من ليفربول بدلاً من أن تنضم إلى مار، مؤملة عبثاً أن تثير وتحمي حركات التمرد الاستيوارتية في المدن الإنجليزية. وفي برستون طوقها جيش حكومي وأكرهها على التسليم دون قيد أو شرط (14 نوفمبر).
ولا بد أن جيمس الثالث كان على علم بهذه الأحداث قبل أن يقلع من دنكرك في 27 ديسمبر. وكان بولنبروك قد أنذره بأن ثورة استيوارتية لن تنشب في إنجلترا. ولكن المطالب بالعرش دفعة للمضي في هذه المغامرة إيمانه بالشرعية الإلهية لقضيته، مضافاً إليه 100. 000 كراون من الحكومة الفرنسية وثلاثين أفلاً من الفاتيكان. فلما رسا على أرض إسكتلندة انضم إلى جيش مار في بيرث، ووضع الخطط لحفل تتويج مهيب في "سكون". ولكن صمته واكتئابه، وشكواه من أنه خدع في مدى انتشار التمرد، كل أولئك لم يضف شيئاً إلى حماسة الاسكتلنديين، فشكوا بدورهم من أنهم لم يروه قط يبتسم، ونادراً ما سمعوه يتكلم (11). أضف إلى ذلك أنه كان يرتعد من الملاريا، ولم يحتمل شتاء الشمال. ورأى مار أن جنده لا يصلحون للمعركة، فأمرهم بالتقهقر إلى مونتروز، وبحرق جميع المدن والقرى والمحاصيل في أثرهم لتعطيل آرجيل عن مطاردته. وأسف جيمس على هذا التدمير، وترك نقوداً ليعوض بعض ما خسر أولئك الذين تضررت أملاكهم. فلما اقترب جيش آرجيل الذي كان متفوقاً جداً من مونتروز فر جيمس، ومار، وغيرهما من قادة الثورة مسرعين إلى الساحل، وأبحروا إلى فرنسا (4 فبراير 1716). واستسلمت القوات الثائرة أو تفرقت في كل مكان.
ورحل معظم الأسرى ليخدموا عبيداً في المستعمرات، وأعدم سبعة وخمسون، وتقرر إعدام اثني عشر نبيلاً اسكتلندياً التجأوا إلى فرنسا، إذا عادوا منها. وكان جيمس قد راوده الأمل في أن يرسل فليب أورليان(35/134)
جنوداً يخفون لنجدته في إسكتلندة، ولكن فرنسا كانت الآن تفكر في التحالف مع إنجلترا، فحث جيمس على أن يرحل عن أرض فرنسا. ومن ثم أقام حيناً في أفنيون البابوية، ثم في روما.
وبقي ولنبروك في فرنسا حتى 1723، وإذ كان يجيد الفرنسية فإنه انطلق على سجيته في الصالونات بين الفلاسفة. وكان يحذق كل شيء إلا السياسة، فاشترى أسهماً في مشروع لو، ثم باعها بربح كبير قبل أن تنفجر "الفقاعة". وإذ كان قد ترك زوجته في إنجلترا، فإنه اتصل اتصالاً كاد يكون شريفاً بماري ديشان دمارسيي، وهي مركيزة فيليت الأرملة. وكانت في الأربعين، وهو في الثامنة والثلاثين. وكانت ككثيرات جداً من النساء الفرنسيات قد احتفظت بجاذبيتها مع أنها فقدت بعض جمالها، ولعل تهذيبها وحيويتها وذكاءها هو ما جذبه إليها، فعشقها، ولما ماتت الليدي بولنبروك تزوج المركيزة، وذهب ليعيش معها في لاسورس. وهناك زاره فولتير كما سبق القول (1721)، قال الفيلسوف الشاب "وجدت في هذا الإنجليزي الشهير كل علم أمته، وكل أدب أمتنا (13) ".
على أن قمع الثورة كان قد أطاح برءوس بعض النبلاء، ولكنه لم ينتقص من العطف على الاستيوارتيين في بريطانيا. وقد قضت القوانين الثلاثية الأعوام التي صدرت في 1641 و1694 بألا يستمر أي برلمان أكثر من ثلاث سنين. ومن ثم واجه أول برلمان لجورج الأول في 1717 احتمال انتخابات قد تعود أغلبية فيها للمحافظين والمتشيعين للاستيوارتيين. وتفادياً لهذا الخطر قرر البرلمان، بمقتضى قانون السبع السنين الذي أصدره في 1716، أن يمد في عمره أربع سنوات أخرى، وقضى بأنه يجوز بعد ذلك لجميع البرلمانات أن تستمر سبع سنين. قال ألمع حفده ملبره "كان هذا أجراً وأكمل تأكيد لسيادة البرلمان عرفته إنجلترا إلى ذلك الحين (13) ". وصدق جورج الأول على القانون الجديد لخشيته هو أيضاً من فوز المحافظين، وكان معنى هذا فعلاً أن الهانوفريين اضطروا للتخلي عن سلطتهم لكي يملكوا.
ورغبة في المزيد من الحماية للأسرة المالكة الجديدة أبرم ستانهوب(35/135)
مع فرنسا وهولندا (1717) حلفاً ثلاثياً أنهى التأييد الفرنسي لمطالب أسرة ستيوارت، والتأييد الإنجليزي لأسبانيا ضد فرنسا. وفي 1720 وقعت فرنسا صلحاً ينطوي على الخضوع، واستطاع جورج الأول أن يتربع على عرشه الأجنبي في السنين السبع الباقية له من أجله بقدر أكبر من الاطمئنان. وفي 1726 أرسلت إليه زوجته التي ما زالت حبيسة خطاباً مراً، وتحدته أن يلقاها بعد عام أمام كرسي قضاء الله. وما لبثت أن ماتت بالحمى المخية. وتقول رواية أن عرافاً تنبأ بأن جورج الأول لن يعمر أكثر من عام بعد زوجته. ففي 1727 بدأت صحة الملك تتدهور. وفي يوليو غادر إنجلترا ليزور بلده الحبيب هانوفر. وقرب أوزنابروك ألقيت في عربته ورقة مطوية، وكانت تحوي لعنة تركتها له زوجته وهي في النزع. فلما قرأها الملك اضطرب اضطراباً شديداً، وما لبث أن قضى نحبه في 11 يونيو (14).
2 - جورج الثاني والملكة كارولين
وتلقى ابنه وعدوه النبأ كأنه القصاص العادل الذي أصدرته العناية الإلهية وأمهلت تنفيذه إهمالاً غير معقول. وحين قدم رئيس أساقفة كنتبري لجورج أوغسطس وصية الملك الراحل حشاها في جيبه ولم يذعها قط. وقال بعضهم إنه تكتم أمرها لأنها اقترحت الفصل بين تاجي هانوفر وإنجلترا، وزعم آخرون أنها تركت لحفيده فردريك لويس، ولخليلته أو زوجته دوقة كندال، ولابنته ملكة بروسيا، مبالغ كبيرة كانت كفيلة بالانتقاص من ثروة الملك (15). ولكن التاريخ يجهل الحقيقة.
كان جورج الثاني كأبيه جندياً باسلاً، ففي الخامسة والعشرين أبلى بلاءً حسناً تحت قيادة يوجين وملبره في معركة أودينارد (1708)؛ وفي الستين سيقود جنده إلى النصر في ديتنجن (1743). وكثيراً ما كان ينقل عادات المعسكر إلى البلاد، فيصيح غاضباً، ويغدق على وزرائه نعوتاً مثل "الأوغاد" و "الشديدي الغباء" و "المهرجين (16) " ولكنه جاهد ليتقن صناعة الملك، وتكلم الإنجليزية دون خطأ وإن شابتها لكنه وستفالية ثقيلة (17)، ولاحظ في ضيق ولكنه في حذر تلك القيود(35/136)
التي فرضها البرلمان على سلطاته ودخله، وظل ثلاثة عشر عاماً يساند ولبول في جهوده لتمكين جون بول من إيفاء ديونه ونشر السلام في ربوعه. وكان كأبيه كثير التردد على هانوفر، الأمر الذي أبهج كل من يعنيهم الأمر. ثم تشاجر كأبيه مع أمير ويلز (ولي العهد) لأنه "كان من بعض تقاليد الأسرة الموروثة كراهية الابن البكر (18) " كما قال هوراس ولبول. وكان له كأبيه خليلات، ولو لمجاراة المجتمع العصري، ولكنه على عكس أبيه أحب زوجته حباً جماً.
كانت كارولين، ابنة الحاكم جون فردريك أمير برندنبورج-آنزباخ، قد نشأت في بلاط شارلوتنبورج، وهو بلاط أخت جورج الأول، صوفياً شارلوت، أول ملكة على بروسيا. وهناك التقت بليبنتز واستمتعت بمناقشات الفلاسفة، واليسوعيين، واللاهوتيين البروتستنت، وبلغت درجة فاضحة من التحرر والتسامح الدينيين. وقد عرض عليها شارل السادس، الإمبراطور "الروماني المقدس" يده وعقيدته، فرفضتهما جميعاً، وتزوجت (1705) من جورج أوغسطس، أمير هانوفر الناخب "القصير القامة الأحمر الوجه (19) "، وظلت وفية مخلصة له غلى النهاية رغم حدة طبعه وطبعها، وخلال كل عثراته وخليلاته. وكان جورج يعنف في معاملتها، ويكتب لها الرسائل الطويلة عن علاقاته الغرامية، ولكنه كان يحترم عقلها وخلقها احتراماً كفى لتركها تحكم إنجلترة (بمساعدة ولبول) خلال فترات غيابه الطويلة، وتوجه سياساته حين يعود.
ولم يكن لها-فيما عدا شبابها البض النضر-من مفاتن الجسد التي تسيطر بها على زوجاه غير يدين حلوتين، وبعض لطائف في السلوك والحديث؛ ولكنه كان معجباً بتكوين صدرها، وأمرها أن تعرضه عرضاً مقنعاً (20). وازدادت بدانة مع كل حمل، وترك الجدري في وجهها ندوباً، وكان صوتها عالياً صادراً من الحنجرة، وكانت تحب الدس وتولع بالسلطة. ولكن الإنجليز بدءوا شيئاً فشيئاً يحبون دعابتها الصادرة من القلب، وأدركوا آخر الأمر أي تضحية من صحتها وسعادتها كانت تبذل لتكون زوجة وملكة صالحة؛ ورأى مفكرو إنجلترا في دهشة أن هذه البرندنبورجية الجلفة كانت تملك ذهنا وأذناً يتذوقان(35/137)
أدب العصر، وعلمه، وفلسفته، وموسيقاه.
وكان بلاطها يستحيل صالوناً. فقد استقبلت فيه نيوتن، وكلارك وباركلي، وبطلر، وبوب، وتشسترفيلد، وجاي، والليدي ماري مونتاجيو. وأيدت المبادرة التي اتخذتها الليدي ماري في التطعيم ضد الجدري. وانتشلت ابنة لملتن من وهدة الفقر، وناصرت هندل طوال نزوات الجمهور والملك. وتبرعت من جيبها الخاص بالمال اللازم لتشجيع المواهب الشابة التي تفتقر إلى المال (21)، وأنقذت المهرطق هويستن بمعاش أجرته عليه، وأمنت الحرية الدينية للاسكتلنديين المتشيعين لأسرة ستيوارت ودبرت تعيين الأساقفة الأنجليكان على أساس علهم لا سلامة عقيدتهم. وكانت هي نفسها من القائلين بالربوبية المتشككين في الخلود (22)؛ ولكنها رأت أن الكنيسة الرسمية يجب أن تمولها الدولة باعتبارها معيناً للشعب على الفضيلة والهدوء (23). قال فولتير "لا شك أن هذه الأميرة ولدت لتشجيع الفنون ولخير النوع الإنساني .. إنها فيلسوفة لطيفة تتربع على عرش (24) ".
وكان لها من الفلسفة حظ بصرها بالجانب الفكه في مآسي الحياة، حتى في ساعة احتضارها. وكانت مصابة إصابة قاتلة بفتق أخفته طويلاً عن الجميع إلا الملك، فنصحته وهو يومها في الخمسين بأن يتزوج ثانية بعد موتها. وكشف جوابه، وهو مخلص في حزنه، عن طبيعة عصره "لا، سأتخذ خليلات" قالت "رباه، هذا لا يمنعك من الزواج (25) " وقد بكاها في عاطفة لم تعهد فيه فقال "لم أر قط امرأة تستحق أن تربط حذاءها (26) ". وبعد ثلاثة وعشرين عاماً، وتنفيذاً لوصيته، فتح نعشها في كنيسة وستمنستر لترقد عظامه إلى جوارها.
3 - روبرت ولبول
لقد كان لانتصارها الباسل لولبول أمام عصابة من الأعداء طلاب المناصب وتجار الحروب الفضل في تمكينه من أن يعطي إنجلترا عشرين عاماً من الرخاء والسلام. ولم يكن ولبول "بالوليّ" أو القديس، ولعله كان أفسد وزير عرفته إنجلترا في تاريخها، ولكنه كان أيضاً من خيرة(35/138)
وزرائها ففي ذلك العصر الفاسد ما كان للحكم أن تحكم إلا عن طريق الرشوة والفساد.
كان روبرت قد نذر للكنيسة باعتباره أصغر الأبناء في أسرة نورفوكية عريقة، وفي ايتن التي زامل فيها غريمه المستقبل بولنبروك كان هذا هدف دراسته. ولكن موت اخوته الكبار جعله الوريث لثروة الأسرة؛ ولما كانت الأسرة تسيطر على ثلاث دوائر انتخابية، فإنه لم يجد عناء في التحول بنجاح من اللاهوت إلى السياسة. وحين بلغ الخامسة والعشرين دخل مجلس العموم عضواً في حزب الأحرار (1701)، وعين وزيراً للحرب (1708) بفضل اتصالاته، وماله، وذكائه الحاضر، وتمكنه من المالية الإدارية. وفي 1712 عزله المحافظون الفائزون، وزجوا به في برج لندن بتهمة الفساد، ولكن رائحة الذهب كانت قد غدت من الثبات وقوة السلطان بحيث أحدثت تبدلاً في الأنوف فلم يلبث أن أفرج عنه، وأعيد انتخابه، وعين وزيراً للخزانة (715). وحملته تعقيدات السياسة على الاستقالة في 1717. وفي 1720 أقنع انهيار شركة بحر الجنوب وتبرير إنذاراته الجميع حتى خصومه بأنه أصلح الرجال لرد إنجلترا إلى حالة الاستقرار المالي. فلما عاد إلى منصب وزير الخزانة (1721) أوقف حالة الذعر كما سبق القول، بوضعه مصرف إنجلترا ظهيراً لالتزامات الشكة، وسدد بالتدريج كل دين الشركة للشعب وقدره 7. 000. 000 جنيه (27). وكافأ المقامرون الشاكرون ولبول باثنين وعشرين عاماً من السلطة.
وقطع اعتلاء جورج الثاني العرش سلطان ولبول برهة. ذلك أن الملك الجديد قد أقسم ليكونن خصماً لدوداً لكل من خدموا أباه؛ فعزل ولبول، وطلب إلى السير سبنسر كونتن أن يشكل وزارة جديدة. ولكن سرعان ما أظهر كونتن قصور مواهبه واعترف به. فنصحت كارولين زوجها بأن يرد ولبول الذي دعم حجتها بوعده الملك والملكة براتب أكبر. وقبل السير سبنسر لقب الأيرل شاكراً، واستعاد ولبول حكمه. وكان أول من أطلق عليه لقب "الوزير الأول"، على سبيل التحقير (كما كانت الحال في ألفاظ "المسيحي"، و"البيورتاني"(35/139)
و"المثودي"). وكان أول رئيس للوزراء يتخذ داوننج ستريت قصراً رسمياً له.
ويلقي خلقه بعض الضوء على فن النجاح السياسي. فهو لم ينفق في الجامعة غير سنة، وكان ضعيفاً من حيث الإعداد التعليمي المعهود في رؤساء الوزارات البريطانيين. ولم يكن في سلوكه أو كلامه كبير تأنق. يقول ماكولي إنه "إذا كف عن حديث السياسة لم يستطع أن يتحدث إلا عن النساء، وكان يفيض في موضوعه المحبب بحرية صدمت حتى ذلك الجيل الذي لم يتحرج في ألفاظه (28) ". ولم ير ابنه هوراس أن فيه قصوراً لأنه لم يقرأ من الكتب إلا القليل، "فلقد عرف البشر، لا كتاباتهم، واسترشد بمصالحهم لا بنظمهم (29) ". وكان ملماً بقدر من اللاتينية يكفي لاستعمالها وسيط تفاهم بينه وبين جورج الأول، لأن ذلك الملك كان يجهل الإنجليزية، وولبول لم يعرف لا الألمانية ولا الفرنسية. وكانت له صفات جون بول، اللهم إلا المشاكسة، فهو بدين، صريح، مخلص، ودود، عملي، يستمتع بالولائم والشراب، ولكنه يكد ويكدح إذا دعاه داعي العمل؛ وربما كان فيه أيضاً من أوجه الشبه بجون بول أنه آثر خشخشة كيسه على صليل سيفه.
أما الأخلاق فلم يكد يملك منها أي حظ. فقد عاش سنين في زنا مفضوح دون أن يبدي كبير احترام للياقة المهذبة التي تراعيها الأرستقراطية في رذيلتها. وكان يمزح مع الملكة كارولين عن خليلات زوجها، فلما ماتت نصح بناتها بدعوة وصيفات الشرف ليسرين عن الملك المحزون. وكان يسخر من الدين، وحين دنت منية كارولين أرسل في طلب رئيس أساقفة كنتربري قائلاً "لا بأس بتمثيل هذه المهزلة، وإن رئيس الأساقفة لكفيل بحسن تمثيلها. ولكم أن تطلبوه بأسرع ما تريدون. فلن يضر الملكة، ولن ينفعها، وسيرضي هذا جميع المغفلين العقلاء الطيبين، الذين سينعتوننا بالكفر إذا لم نتظاهر بأننا مثلهم من كبار المغفلين (30) ". ولم يكترث للدوافع النبيلة أو إدعاءات التجرد من الأنانية. وقد توسل بمنصب الدولة لجمع ثروة خاصة كما فعل ملبره. ووجد المناصب السياسية المجزية لولده هوراس وغيره من ذوي قرباه. وأنفق(35/140)
200. 000 جنيه ليشيد بيوتاً فخمة في ضيعة بهوتون، وزينها بلوحات قدرها هوراس بمبلغ 40. 000 جنيه، وكان بيته فيها مفتوحاً لأهل نورفوك جميعاً (31). وكان في سخاء جون بول لأنه (إذا صدقنا خصومه) لم يستطع أن يفرق تفريقاً واضحاً بين مال جون بول وماله الخاص.
واستعمل المال ليشتري أعضاء البرلمان كما استعمله ريشليو ليشتري الجيوش، وهنري الرابع ليسكت الأعداء. وكان ولبول يستخدمه ملاذاً أخيراً بعد أن تعييه الجج الأكثر ليناً. ذلك أن الفساد البرلماني الذي ظهر في عهد تشارلز الثاني بلغ النقطة التي لم يمكن عندها التعامل مع البرلمان، خيراً كان الهدف أم شراً، إلا "بالتشحيم" على نطاق واسع. واحتفظ ولبول باحتياطي سري-وحتى بحجرة خاصة-لشراء الكراسي والأصوات ومحرري الصحف، وقيل أنه أنفق 50. 000 جنيه كل عام لإعانة الدوريات لتشرح وجهة نظره (32). وفي 1725 حث جورج الأول على إنشاء "وسام الحمام الأسمى" الذي يتألف من الملك، ورئيس أكبر، وستة وثلاثين فارساً من الزملاء، فقد رأى لولبول، كما رأى نابليون من بعده، أن حكم الرجال بالأوشحة أقل تكلفة من حكمهم بالمال.
وقد استخدم هذه الأساليب الفاسدة ليحتفظ لإنجلترا بالرخاء والهدوء. ولم تبرر غاياته وسائطه، ولكنها كشفت عن الجانب الأفضل في خلقه. فلقد كان رجلاً حسن النية، عقد العزم على أن يحفظ لبلده الاستقرار والثبات رغم كل زعازع السياسة الحزبية، وأنواء المصالح الطبقية، وصيحات غلاة الوطنية المطالبين بالحرب. وقال إن شعاره أن يترك الشرّ نائماً. وإذا كان هذا المبدأ قد ترك حكمه غير متميز بفتوح أو إصلاحات، فإنه اكتسب ثناء المنصفين. واضطر خصومه إلى الاعتراف بأنه لم يكن محباً للثأر ولا حقوداً، وأنه كان أجدر بالثقة، لا بل أكثر إيماناً، في صداقاته مما ينتظر من إنسان خبر جوانب البشر الأكثر انحطاطاً (23). ولم يكن لديه خطط بعيدة للمجد والعظمة، ولكنه عالج كل مشكلة حين تعرض له بالكثير من الدهاء والتسامح واللياقة، حتى اغتفرت له إنجلترا في النهاية كل أخطائه إلا حبه للسلام.
وقد وفق تشريعه الاقتصادي بين الأعيان وملاك الأرض وطبقة(35/141)
رجال الأعمال. فحاول أن يخفض الضرائب على الأرض، وأيد العقوبات الصارمة على العدوان على الملكية. ثم رحب في الوقت ذاته بظهور الرأسمالية. وخص التجار ورجال الصناعة بمنح التصدير ورسوم الاستيراد، وبدا غير مكترث لفقر العمال المحرومين من الأرض في القرى، والبرولتاريا المتكاثرة في المدن؛ والظاهر أنه أحس أن سوء توزيع الثروة نتيجة لا مفر منها لسوء توزيع الطبيعة للكفايات. وإذا استثنينا تلك المنح والرسوم فإنه نادى بسياسة حرية التجارة قبل الفزيوقراطيين الفرنسيين وآدم سمث بزمن طويل؛ وقد خفض الضرائب على 106 سلعة تصدير في سنة واحدة، وعلى ثمان وثلاثين سلعة استيراد، وأزال الكثير من القيود على تجارة المستعمرات الأمريكية، وكان رأيه أن الاقتصاد الإنجليزي يزكو في ظل أقل القليل من التشريع الحكومي. وقد برر الزمن رأيه، فنمت الثروة القومية بسرعة رغم ما شابها من سوء توزيع، وزادت إيرادات الحكومة، وبفضل التصرف فيها بقصد وكفاية كسب ولبول الثناء عليه باعتباره "خير وزير للتجارة أنجبته البلاد (34) ".
على أن مشروع قانونه الخاص بضريبة الإنتاج مني بأفدح الهزائم (1733). ذلك أن مهربي التبغ والنبيذ كانوا يحرمون الخزانة من الرسوم الجمركية، ويحملون الملكيات بأكثر من نصيبها في الضرائب. وتفادياً لهذا الضرب من المشروعات الحرة اقترح ولبول ضريبة إنتاج (وهي شريحة "تجنب" للحكومة) تفرض على هذه السلع حيثما اختزنت أو بيعت في إنجلترا. وخول لموظفي الضرائب ("رجال الإنتاج") أن يفتشوا أي بيت في أي وقت، وكان الأشخاص الذين يتضح أنهم أخفوا سلعاً خاضعة للضريبة يعاقبون بالغرامة أو السجن. وهبّ إلى الاحتجاج كل من له صلة باستيراد التبغ أو النبيذ أو تهريبهما أو بيعهما أو استهلاكهما. وندد خصوم ولبول في مجلس العموم بالضريبة، وطريقة تنفيذها، قائلين إنها إجراء تعسفي من طاغية مستبد، وعدوان فظيع على الحرية البريطانية. "لقد أخبر أعضاء البرلمان ولبول بأنهم لا يرون يأساً في أن ينقدهم أجراً على شرورهم العادية، أما هذا الاقتراح فهو يتجاوز حدود فسادهم (35) " كما أوضح فردريك الأكبر-أو لعلهم أملوا أن يحلوا محله في الإشراف على(35/142)
المال العام. وراحت النشرات من آلاف النسخ تسب الوزير بلغة سوقية مفعمة بالحماسة. وتقاطرت الحشود حول وستمنستر هول، وأحرقوا دمى تصور ولبول في عشرات الحرائق، وحاول تمزيقه إرباً وهو يغادر كنيسة القديس ستيفن؛ لقد استثيرت الأمة إلى شفا الثورة. وخافت الملكة كارولين على ولاء الجيش، وارتعدت فرقاً على سلامة الأسرة المالكة الجديدة. وسحب ولبول القانون مسلماً بالهزيمة، ومن هذه اللحظة اضمحل سلطانه. وتكتل خصومه ليجهزوا عليه.
4 - بولنبروك
وكانوا خصوماً كثيرين متنوعين. فتآمرت جماعة منهم ما زالت متشيعة لأسرة ستيوارت، مع المطالب بالعرش، وسنراها بعد قليل تنتشي بمغامرة "الأمير الجميل الشاب تشارلي " Bonnie Prince Charlie". و "شلة" أخرى راحت ترقص حول فردريك لويس، أمير ويلز (ولي العهد)، عدو الملك ووريثه. وكان أعظم كتاب العصر الإنجليز يناوئون الوزير-سويفت، وبوب، وفيلدنج، وآربتنوت، وطومسن، وأكينسايد، وجاي؛ تهكموا بسلوكه، وفضحوا أخلاقه، وعابوا سياساته، ولاموه على قطع تلك المعونة السخية التي كانت تغدق على المؤلفين والتي تفردت بها الحكومة في عهد وليم الثالث والملكة آن. أما المحافظون المتعطشون لرحيق المنصب فقد استعدوا عليه أصحاب السلطان سراً، واستعانوا بالشعراء وأثاروا ثائرة البرلمان في عزمهم على أن يخلفوا هذا الوزير الشبيه بفولستاف على مزود الوزارة. وعبر وليم بلتني، وتشسترفيلد، وبت الصاعد، بأصواتهم عن قضيتهم، ودافع عنها بولنبروك في غير هوادة بقلمه القتال.
وكان بولنبروك قد نال في 1723 عفواً ملكياً يسمح له بالعودة إلى إنجلترا واستعادة أملاكه، ولكنه أبعد بنفوذ ولبول عن ناصب الدولة وعن عضوية البرلمان باعتباره رجلاً تعددت خياناته وشك في ولائه. على أن هذا لم ينتقص من سلطانه. ففي بيته بلندن التقت صفوة إنجلترا، مفتونة بوسامته وألمعيته وعبير اسمه. هناك، وفي بيته الريفي، راح يتراشق بالسخريات مع سويفت، وبالهرطقات مع(35/143)
بوب، وبالأغاني الشعبية مع جاي؛ وهناك أفضل ناضل ليوحد بين المحفظين الجياع وبين الأحرار الذين لم يظفرهم بما يشبعهم من الرشا، في معارضة متكتلة ضد ولبول؛ وهناك نظم محرري وبرنامج مجلة-سميت أولاً (1726) "السيد الريفي" ثم "الفنان"-راحت تكيل اللطمات، أسبوعاً بعد أسبوع، لكل شيء صنعه ولبول أو أراد أن يصنعه. وكتب بولنبروك بقلمه أشد المقالات أذى، وهي أروع نثر سياسي شهده العصر بعد اضمحلال سويفت. وقد أهدى سلسلة من تسعة عشر خطاباً (1733 - 34) "رسالة في الأحزاب"-إلى ولبول تهكماً منه. كتب تشسترفيلد لابنه يقول "لم أكن أعرف مبلغ قوة اللغة الإنجليزية حتى قرأتها (36) ".
أما آفة بولنبروك فكانت خلقه. فلقد كان أدبه الجم (وهو ناموسه الخلقي الوحيد) يفارقه إذا أحبطت مشيئته أو عورضت آراؤه. وفي يونيو 1735 تشاجر مع بلنتي الزعيم الأسمى للمعارضة وعاد غاضباً إلى فرنسا. وهناك استقر مع مركزيته قرب فونتنبلو وواسى جراحه بالفلسفة. وفي كتابه "رسائل في دراسة التاريخ وفائدته" (الذي ألفه في 1735) وصف التاريخ بأنه معمل هائل أجرت فيه الأحداث تجارب لا حصر لها على الرجال، والاقتصاد، والدول، ومن ثم كان خير مرشد إلى طبيعة البشر، وأذن فالي تفسير الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. "إن التاريخ هو الفلسفة التي تعلم بالمثال ... فنحن نرى الرجال بطولهم الكامل في التاريخ (37) ". وينبغي "أن نعكف عليه بروح فلسفية" وألا يقتصر همنا على فهم الأسباب والآثار والنتائج المتماثلة، بل نجاوز هذا إلى الطرق التي تبين إلى الآن أنها معينة على تطور البشر وسعادتهم (38). والعقبة في مثل هذه الدراسات هي "أن قليلاً من كتب التاريخ يخلو من الأكاذيب، وليس بينها كتاب يخلو من الأخطاء .. ولقد سرت روح الكذب من المؤرخين الكنسيين إلى غيرهم (39) ". ولكن قد يستطيع الطالب القوي العزم بمواجهة كاذب بآخر أن يشق طريقه بينهما إلى الحقيقة. وفي 1736 عاد بولنبروك إلى حلبة السياسة بكتابه "رسائل في الروح الوطنية" الذي هاجم فساد حكومة ولبول ودعا إلى روح جديدة من الولاء المنكر للذات في السياسة الإنجليزية.(35/144)
"لا مونتيني وهو يكتب "مقالاته"، ولا ديكارت وهو بني عوالم جديدة، ولا ... نيوتن وهو يكتشف ويرسي القوانين الصحيحة للطبيعة على التجربة وعلى هندسة رفيعة، لا أحد من هؤلاء شعر بابتهاج عقلي أكثر من الوطني الصادق الذي يسخر كل قوة فهمه، ويوجه كل أفكاره وأفعاله، لخير وطنه (40) ".
وتطلع أمله إلى الجيل الأصغر. فلما زار إنجلترا في 1738 سعى إلى صداقة الأمير فردريك لويس، ولي العهد، الذي كان الآن يقود حركة المعارضة لولبول. ووجه بولنبروك إلى سكرتير فردريك الخاص أشهر كتبه وهو "مفهوم الملك الوطني". وقد مات فردريك في 1751، ولكن ابنه، وهو الذي سيصبح جورج الثالث، استقى من هذه الصفحات بعض مواد عقيدته السياسية (41). وكان المقال في جوهره دعوة لنظام ملكي خير كذلك سيحلم به فولتير و "الفلاسفة" في الجيل التالي. فقد زعم بولنبروك أن إنجلترا قد تردت في هوة لا يقوى على انتشالها منها سوى ملك يرتفع فوق الشيع والأحزاب، لا بل فوق البرلمان، ملك يقبض على زمام السلطة، ويعاقب الرشوة، ويحكم كما يملك. ولكن الملك الوطني سينظر إلى سلطته لا على أنها حق إلهي بل أمانة عامة؛ لا مطلقة، بل مقيدة بالقانون الطبيعي وحريات رعاياه وحرية الصحافة وتقاليد المملكة؛ وسيحكم على جميع المسالك حسب تأثيرها في رخاء الشعب وسعادته (42). سيشجع التجارة باعتبارها أهم مصدر لثروة الأمة؛ وسيقي البحرية في بريطانيا باعتبارها الحارس للاستقلال القومي ولتوازن القوى في القارة.
كان "مفهوم الملك الوطني" محاولة لبناء حزب جديد من المحافظين يلبس مبادئ الأحرار ويتألف من المحافظين الذين أقصوا عن الحكم والأحرار الساخطين؛ حزب يرفض الولاء للاستيوارتيين، يستهدف التوفيق بين الأرض والتجارة، وبين الإمبراطورية والحية، وبين الخدمة العامة والثروة الخاصة (1). فلما نشر المقال (1749) أصبح
_________
(1) قارن عبارة اللورد بيركهند التي أجملت فكرة بولنبروك: "ذهب الأحرار للاستحمام، فسرق بولنبروك ملابسهم (43) ".(35/145)
الصيحة التي احتشد حولها الشباب المتحمس الذين تطلعوا إلى الملكية بوصفهم "أصدقاء الملك" لتطهر حكومة إنجلترا. وقد شكل الفلسفة السياسية لصموئيل جونسن وبت الأب والابن. وأوحى بالمحافظة اللبرالية التي دان بها بنيامين دزرايلي، الذي أشاد كتابه "دفاع عن الدستور الإنجليزي" (1835) ببولنبروك أباً للديمقراطية المحافظة، والرجل الذي أرسي بإعادة تنظيمه العقل العام تنظيماً كاملاً الأساس لعودة المحافظين على الحكم (44) ". لقد كان تأثير بولنبروك ودزرايلي هو الذي صب من جديد حزب التورى المهزوم ليخرج منه حزب "المحافظين" التقدمي في إنجلترا اليوم.
5 - كيف تنزلق الدول إلى الحرب
وخلال ذلك تعاونت دعاية بولنبروك مع تلك الروح المقاتلة، التي اتسم بها برلمان تسلط المال على تفكيره، على إنهاء حكم ولبول الطويل وكان الوزير الحذر، الذي أقم سلطته على صون السلام، ينفر من التورط في خصومات مع الدول الأجنبية، فاتفق مع الكردينال فلوري-الذي كان يحكم فرنسا وفق مبادئ مماثلة-على الاحتفاظ أطول ما يستطاع بالسلام الذي أرسته معاهدة أوترخت، وترك فيما عدا ذلك إدارة العلاقات الخارجية لأخيه الكفء أوراتيو. ولكن احتفاظ إنجلترا بجبل طارق، وتنافس إنجلترا وأسبانيا على السيطرة على أمريكا والبحار، ولدا عنفاً أشد بمضي الزمن. وكان جورج الأول ووزيره ستانهوب قد أكدا لفليب الخامس ملك أسبانيا في يناير ويونيو 1721 أن إنجلترا ستتخلى عن جبل طارق حالما تسمح بذلك مالية بريطانيا ويرتضيه مزاج البرلمان. ولكن الشعب البريطاني أبى أن يرتضي هذا الاستسلام (45). فلنتابع الآن الرواية الإنجليزية في كيفية انزلاق إنجلترا إلى الحرب، فهي تبين غلو الجماهير في وطنيتهم ونزاهة المؤرخين البريطانيين (46).
تقول الرواية أن شركة بحر الجنوب "استغلت استغلالاً فاضحاً" ذلك الامتياز الذي منحته أسبانيا لإنجلترة، وهو السماح لها بإرسال سفينة تجارية واحدة في السنة إلى الممتلكات الأسبانية في الدنيا(35/146)
الجديدة، وأن "تجارة كبيرة غير مشروعة قامت"، تدير الشركة بعضها، وتغضي عن بعضها الآخر. وكان رد أسبانيا على هذا تفتيش السفن الإنجليزية المشتبه في قياها بالتهريب. وزعم روبرت جنكنز أنه في أحد هذه التفاتيش (731) فقد إحدى أذنيه، وقد احتفظ بها، وعرضها على الناس في بريطانيا، وطالب عالياً بالانتقام. وصادر الأسبان بعض السفن الإنجليزية المشتغلة بالتجارة المشروعة، وأبقوا الأسرى الإنجليز راسفين في الأغلال، وقبض القراصنة الإنجليز على بعض الأسبان وباعوهم رقيقاً في المستعمرات البريطانية. واستمر التهريب، واحتجت الحكومة الأسبانية، وتباطأ ولبول الذي كان يكره الانتقاص من دخل شركة بحر الجنوب المكافحة للبقاء، رغم أنه اشتد في عقاب التهريب على السواحل الإنجليزية. وحبذت طبقة التجار الإنجليز الحرب، واثقين من التفوق البحري، آمنين من الغزو، متطلعين إلى أسواق جديدة وتجارة متسعة. وأثارت ثائرة الشعب قصص الوحشية الأسبانية، الصحيح منها والباطل. وكان الإنجليز المطالبون باتخاذ إجراء في الأمر يشاد بهم وطنيين بواسل، أما الذين نصحوا بالاعتدال فرموا بالجبن والخور. وعرض جنكنز على البرلمان أذنه في زجاجة (مارس 1738)، فألقى بلتني، وبت، وغيرهما من المعارضين لولبول خطباً حماسية عن شرف إنجلترا (1). وفي لحن عسكري معارض نددت جماهير الشعب الأسباني بالإنجليز كلاباً مهرطقين، وانطلت عليها قصة زعمت أن ضابطاً إنجليزياً أكره أسبانيا نبيلاً على جدع أنفه وأكله.
أما الحكومتان فقد تصرفتا تصرفاً معقولاً. فنشر لاكوادرا، كبير الوزراء الأسبان، للاستهلاك الجماهيري خطاباً ساخناً وجهه إلى ولبول، ولكنه أخبره سراً بأن أسبانيا ترحب بتسوية النزاع بعد المفاوضة. ثم وقعت الحكومة البريطانية-في تحد لهذه الصورة
_________
(1) يقول هوراس ولبول أنه حين مات جنكنز تبين أن له أذنين سليمتين تماماً. وتحدث بيرك عن "خرافة أذني جنكنز (47) ". ونسبت رواية أخرى صلم الأذن لقرصان عاقبته بعد ذلك الحكومة الأسبانية (48).(35/147)
الجماهيرية الصاخبة-اتفاقية ألباردو مع أسبانيا (14 يناير 1739) وفيها نزل كل من الجانبين عن أشياء، وشكلت لجنة لتسوية كل الشكاوي المعلقة. وقبل نصف الشعب الأسباني المعاهدة، ولكن إنجلترا بأكملها تقريباً أعلنت سخطها عليها. وشكت شركة بحر الجنوب من أن المعاهدة ستنتقص من دخلها وأرباحها انتقاصا شديداً، وكان السفير الإنجليزي بمدريد وكيلاً للشركة أيضاً. يضاف إلى هذا أن "الأزينتو" الذي سمحت أسبانيا بمقتضاه لإنجلترا بإمداد أمريكا الأسبانية بالعبيد الزنوج انتهى أجله في 6 مايو 1739، ورفض فليب الخامس تجديد العقد (45). ومع ذلك استدعى ولبول الأسطول الإنجليزي من البحر المتوسط مواصلاً سياسته السليمة، ثم ألغى الأمر بعد أن اشتبه خطأ في أن أسبانيا تبرم حلفاً سرياً مع فرنسا، وأمر الأسطول بحماية جبل طارق. واحتج لاكوادرا، وقطع ولبول المفاوضات مستسلماً لنوبة الحرب التي أصابت البرلمان والشعب، وفي 19 أكتوبر 1739 أعلنت إنجلترا الحرب على أسبانيا. واغتبط الشعب الذي كان لا يزال ينعت ولبول بالجبن، وراحت أجراس الكنائس تقرع في إنجلترا طولاً وعرضاً. وكتب الآن جيمس طومسن أغنيته الشعبية المثيرة "احكمي يا بريطانيا" التي أقسمت أن "البريطانيين لن يذلوا أبداً".
وما من شيء يشد من أزر الحكومة عادة أكثر من إعلان الحرب، فعندها تكمم المعارضة المخلصة للوطن مدافعها. بيد أن وزارة ولبول كانت استثناء للقاعدة. فلقد أحس خصومه بحق أن وزارته غير متحمسة للجيوش الزاحفة أو للأساطيل التي تنفث النيران؛ وحملوا سوء إدارته تبعة الهزائم العسكرية كلها، وعزوا كل الفضل في انتصار بحري عند بورتو بيللو (على برزخ بنما) لعبقرية الأميرال فيرنون الذي كان أحد أعضاء المعارضة. وفي فبراير 1741 اقترح صموئيل سانديز على البرلمان أن ينصح الملك بإقالة رئيس وزرائه. وهزم الاقتراح، ولكنه لم يهزم إلا بفضل استجداء ولبول لأصوات الاستيوارتيين. وأفسح له في الوزارة عاماً آخر، غير أنه أدرك أنه قد حان حينه؛ وأن البلاد تريد تغييراً.
ثم أنه أرهق. كتب ابنه يقول "هذا الذي كان في السنين الماضية(35/148)
يستغرق في النوم حالماً يمس رأسه الوسادة .. لا ينام الآن أبداً أكثر من ساعة دون أن يصحو؛ والذي كان على المائدة ينسى دائماً أنه وزير، وكان أكثر مرحاً وخلواً من الهموم من جميع رفاقه، يجلس الآن دون كلام، وعيناه جامدتان، ساعة بطولها (50) ". وجاءت الانتخابات الجديدة ببرلمان معاد له عداء ساحقاً، فهزمه في أمر قليل الشأن، وفي 13 فبراير 1742 استقال. وإذ كان أعجز من أن يواجه صخب مجلس العموم، فإنه لم يجد مشقة في إقناع جورج الثاني بأن يمنحه لقب ايرل أكسفورد، ويوصفه هذا هبط صعداً إلى مجلس اللوردات. وكان قد جمع ثروة طائلة تحسباً ليوم سقوطه.
ومات في 18 مارس 1745 بالغاً الثانية والستين، بعد أن تجلد لمرض طويل مؤلم. وودعت إنجلترا السلام، وانطلقت لتغزو العالم بزعامة "بت" بعد "بت".
6 - أرلندة
1714 - 1756
لم يعرف التاريخ أمة ظلمت كما ظلم الإيرلنديون، إلا فيما ندر. فطوال الانتصارات المتكررة التي أحرزتها الجيوش الإنجليزية على الثورات الوطنية، شُرّعت مجموعة من القوانين قيدت الإيرلنديين بالأغلال جسداً وروحاً. فصودرت أرضهم حتى لم يبق غير حفنة من الملاك الكاثوليك، وامتلكتها كلها تقريباً بروتستنت عاملوا فلاحيهم معاملة العبيد. يقول تشسترفيلد "إن الفقراء في إيرلندة يلقون من الملاك والسادة معاملة أسوأ مما يلقاه الزنوج (51) ". ويقول ليكي "لم يكن من الغريب في إيرلندة أن يكون للكبار ملاك الأراضي سجون دائمة في بيوتهم لعقاب الطبقات الدنيا عقاباً عاجلاً (52) ". وكان كثير من الملاك يعيشون في إنجلترا، وينفقون فيها (حسب تقدير سويفت) ثلث الإيجارات التي يدفعها المستأجرون الإيرلنديون (53). أما المستأجرون-الذين طحنتهم الإيجارات التي يؤدونها للمالك، والعشور التي يؤدونها للكنيسة الرسمية التي يمقتونها، والفروض التي يؤدونها لقساوستهم-فكانوا يسكنون أكواخاً من الطين يرشح الماء من سقوفها، ويمشون نصف عراة، ويتضورون جوعاً في أكثر(35/149)
الأحايين، وذهب سويفت إلى أن "المستأجرين الإيرلنديين يعيشون حياة أسوأ من حياة المتسولين الإنجليز (54) ". وأما الملاك الذين ظلوا يقطنون إيرلندة، ووكلاء الملاك الغائبين، فكانوا يستعينون على همجية بيئتهم وعدائها بحفلات الطعام والشراب الصاخبة المخمورة، والضيافة المسرفية، والشجار والمبارزة، والمقامرة على رهانات كبيرة.
ولما كان للبرلمان البريطاني مطلق السلطان على إيرلندة، فإنه خنق أي صناعة تنافس إنجلترا. وقد رأينا في غير هذا الموضع كيف قضي قانون صدر في 1699 على الصناعات الصوفية الوليدة بحظره تصدير الأصواف الإيرلندية إلى أي بلد كائناً ما كان. وبالمثل خنقت القوانين الإنجليزية بغير رحمة كل ما احتفظت به إيرلندة من تجارة خارجية وسط زعازع السياسة وخراب الحروب. فأثقلت الصادرات الإيرلندية برسوم التصدير التي عزلتها عن جميع الأسواق تقريباً إلا إنجلترا (55)، وكان كثير من الإيرلنديين يعيشون على تربية الماشية وتصديرها لإنجلترا، ولكن قوانين 1665 و1680 حظرت استيراد إنجلترا لماشية إيرلندة أو أغنامها أو خنازيرها، أو لحم البقر أو الضأن أو الخنزير، حتى الزبد أو الجبن. وكانت إيرلندة تصدر حاصلاتها للمستعمرات الإنجليزية، فاشترط قانون صدر في 1663 ألا تستورد سلع أوربية للمستعمرات الإنجليزية، باستثناءات قليلة، إلا من إنجلترا، في مراكب إنجليزية، بحارتها إنجليز. وماتت البحرية التجارية الإيرلندية. يقول سويفت "إن مزايا الموانئ والمرافئ التي سخت بها الطبيعة على هذه المملكة، ليست أكثر فائدة لنا من حلم جميل يراود رجلاً حبس في زنزانة (56) ".
وأرهقت القوانين التي شرعتها إنجلترا لرعاياها الإيرلنديين البروتستنت كما أرهقت الكاثوليك؛ وفي مناسبة مشهودة انضموا إلى الكاثوليك في التمرد على الحكم البريطاني. وكان تصدير مال الإيجارات للملاك الغائبين عن إيرلندة قد خلق عجزاً في العملة المعدنية بإيرلندة في 1722. وعرض ولبول تخفيف هذا العجز بإصدار عملة نحاسية. وكانت الخطة معقولة، ولكن لوثها الفساد المألوف، فقد مُنِحت دوقة كندال امتياز سك النقود الجديدة، فباعته لوليم وود صاحب مصانع الحديد نظير 10. 000 جنيه؛ ولكي يجمع وليم هذا المبلغ مضافاً إليه ربحه(35/150)
اقترح أن يسك 100. 800 جنيه أنصاف بنسات أو أرباعها. ولما كانت جملة عملة إيرلندة المعدنية آنئذ لا تتجاوز 400. 000 جنيه، فقد احتج الإيرلنديون بأن سيكون ضرورياً استعمال النقود النحاسية في المدفوعات وفي الصرافة، ودفع الحسابات الأجنبية بما فيها إيجارات الملاك الغائبين بالفضة أو العملة الورقية، وأن العملات الأرخص ستحمل الناس على اختزان العملات الأفضل أو تصديرها، وأنه لن يكون في إيرلندة عمل قليل عملة غير النقود النحاسية المزعجة. ورغبة في علاج هذه الشكاوي وافقت الحكومة البريطانية على خفض الإصدار الجديد إلى 40. 000 جنيه وقدمت تقريراً من إسحاق نيوتن، مدير دار سك النقود، يقرر أن أنصاف بنسات وود وافية من حيث محتواها المعدني بشروط الامتياز، وأنها أفضل كثيراً من العملات الموروثة عن العهود السابقة.
عند هذا المنعطف دخل الجدل جوناثان سويفت، الناظر الأنجليكاني لكاتدرائية القديس باتريك بدبلن، بنشره سلسلة من الرسائل تحت اسم مستعار هو م. ب. درابير، هاجم فيها العملة الجديدة بكل ما في روحه من عنف وما في جعبته من هجو، لأنها محاولة لغش الشعب الإيرلندي. وزعم أن العملة التي أرسلت إلى نيوتن لاختبارها سكت خصيصاً لهذا الغرض، وأن الكثرة الغالبة من أنصاف بنسات وود تساوي أقل كثيراً من قيمتها الاسمية؛ والواقع أن بعض الاقتصاديين أيدوا دعواه بأن قدروا أن إيرلندة ستخسر 60. 480 جنيهاً بالإصدار الذي اقترح أولاً (57). وفي الرسالة الرابعة انتقل سويفت إلى اتهام قوي للحكم الإنجليزي كله في إيرلندة، ووضع هذا المبدأ "إن كل حكم بغير رضي المحكومين ما هو إلا العبودية بعينها (58) ". واستجاب الارلنديون، بما فيهم أغلبية البروتستنت لهذه النغمة الجريئة في لهفة، وراح الناس يغنون في الشوارع أغاني شعبية تحض على مقاومة إنجلترا. ووجدت الحكومة الإنجليزية نفسها تتقهقر أمام قلم واحد، وهي التي تَحدّت شعباً بأكمله قروناً طوالاً. وقدمت مكافأة من ثلاثمائة جنيه للقبض على الكاتب، ولكن أحداً لم يجرؤ على اتخاذ إجراء ضد الناظر العابس وإن عرفه المئات منهم. كذلك لم يجرؤ أي إيرلندي على أن يواجه غضب الشعب بقبوله العملة الجديدة. وسلم ولبول بالهزيمة، وألغى الإصدار، وعوض(35/151)
وود بمبلغ 24. 000 جنيه نظير مصروفاته التي أنفقتها عبثاً ومكاسبه التي تبخرت.
وقد استحالت كل مقاومة للسيطرة الإنجليزية إلا أن تكون من فعل الغوغاء أو عنف الأفراد، وذلك بسبب بنيان السياسة الإيرلندية. ذلك أن البرلمان الإيرلندي بعد 1692 كان كله من البروتستنت، لأن شرط المنصب كان الولاء للكنيسة الإنجليزية (59)، وكان الآن خاضعاً كل الخضوع لإنجلترا. وفي 1719 أكد البرلمان الإنجليزي من جديد حقه الأعلى في التشريع لإيرلندة. فالقوانين التي حمت الحرية البرلمانية أو الفردية في إنجلترا، كقانون هابياس كوريس وقانون الحقوق، لم تطبق على إيرلندة؛ أما الحرية النسبية للصحافة، التي كانت تتمتع بها إنجلترا، فلم يكن لها وجود في إيرلندة. ولم يكن بين البرلمانيين شبه إلا في فساد ناخبيهما وأعضائهما. وكان بينهما خلاف آخر في غلبة نفوذ الأساقفة الأنجليكان في مجلس اللوردات الإيرلندي.
كانت الكنيسة الرسمية تضم نحو سبع السكان بين أتباعها، ولكنها تعتمد على العشور التي تجنى من الفلاحين، وكل هؤلاء تقريباً كاثوليك. واتبعت نسبة صغيرة من السكان المذهب المشيخي (الكلفني) أو غيره من المذاهب المنشقة، ونالت قسطاً من التسامح، إلا حقها في مناصب الدولة. ولم يقتصر حرمان الكاثوليك على مناصب الدولة فقط بل تجاوزه إلى كل المهن الراقية إلا الطب، وكل سبيل تقريباً إلى التعليم العالي، أو الثروة، أو النفوذ (60). وحظر عليهم شراء الأرض، أو الاستثمار في رهون على الأرض، أو حيازة أي إيجار طويل الأجل أو ذي قيمة. وحظر عليهم أن يكونوا محلفين إلا عند الافتقار إلى محلفين بروتستنت. ولم يكن في استطاعتهم التعليم في المدارس، ولا التصويت للمناصب البلدية أو القومية، ولا الزواج زواجاً شرعياً من بروتستنتية (61). وكان شرط عبادتهم أن يقوم بها كاهن سجل اسمه في الحكومة وأقسم يمين التخلي التي تنبذ الولاء لأسرة ستيوارت. أما غير هؤلاء من الكهنة فعاقبهم السجن. ولكن هذا القانون نادراً ما طبق بعد 1725؛ وفي 1732 ذكرت لجنة في البرلمان الإيرلندي في تقرير لها أن في إيرلندة 1. 445 كاهناً، و229 كنيسة كاثوليكية،(35/152)
و549 مدرسة كاثوليكية. وبعد 1753 خفف الإنجليز من غلوائهم وتحسنت حال الكاثوليك في إيرلندة.
وتضافر اضطراب الحياة الدينية، وفقر الشعب، واليأس من التقدم الاجتماعي، ليهبط كل أولئك بمعنويات الحياة الإيرلندية. فهاجر إلى فرنسا أو أسبانيا أو أمريكا أكثر الكاثوليك كفاية وجرأة، ممن كانوا قادرين على النهوض بمستوى الكفاية والذكاء والأخلاق الإيرلندية. وانحدر الكثير من الإيرلنديين إلى درك التسول أو الجريمة اتقاء الموت جوعاً. واختبأت عصابات اللصوص في الريف، واتخذ المهربون ولصوص السفن الغارقة من السواحل ممكناً، واحتفظ ببعض أصحاب الملكيات "ببلطجية" وصل عددهم أحياناً إلى الثمانين لتنفيذ أوامرهم، ضاربين بالقانون عرض الحائط. وذبحت العصابات الجوابة آلاف الماشية والأغنام، انتقاماً كاثوليكياً-على ما يبدو-من الملاك البروتستنت. وكان عسيراً على شعب أن يحترم القوانين التي يصدرها برلمان إيرلندي طالما تحدث عن الكاثوليك-وهم ثلاثة أرباع السكان-بوصفهم "العدو المشترك".
على أن الحياة الإيرلندية لم تخل من عناصر أكثر إشراقاً. فقد بقي للشعب مزاجه البشوش، الهادئ، الضحوك، خلال شدائده كلها، وأحاطت خرافاته وأساطيره حياته بالسحر والشعر دون أن تفضي به إلى عنف كذلك الذي اتسمت به اضطهادات السحرة والساحرات في إسكتلندة وألمانيا. وكان بين الأكليروس الأنجليكاني في إيرلندة علماء أفذاذ (كالأسقف آشر، أسقف أرما)، وفيلسوف نابه (هو جورج باركلي أسقف كلوين)، وأعظم كتاب الإنجليزية قاطبة في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وهو جوناثان سويفت، ناظر كاتدرائية القديس باتريك. وجاهدت جمعية دبلن المؤسسة في 1731 لتحسن التكنولوجيا في الزراعة والصناعة، وتحفز الاختراع، وتشجع الفن. وكان هناك أمثلة كثيرة لأفراد من البروتستنت مدوا يد المعونة للكاثوليك الفقراء، وقضاة لانوا في تطبيق اللوائح الوحشية التي تضمنها قانون العقوبات.(35/153)
ولكن صورة الحياة الإيرلندية كانت في جملتها من أشد ما حواه التاريخ خزياً وعاراً. فقر مذل، وتمرد فوضوي على القانون، وإملاق مترحل، و34. 000 متسول، وعدد لا حصر له من اللصوص، وطبقة عليا تعيش في إسراف مخمور بين فلاحين يتضورون جوعاً، وكل إخفاق في المحصول يجر مجاعة واسعة الانتشار-"فالشيوخ والمرضي يموتون وينتنون من البرد والمجاعة والقذارة والحشرات (62) "-على حد قول سويفت. هذه الصورة الرهيبة يجب أن تجد مكاناً في مفهومنا عن الإنسان. وبعد الصقيع الطويل القاسي الذي أصاب إيرلندة في 1739 جاءت مجاعة 1740 - 41 القاسية، التي هلك فيها حسب أحد التقديرات عشرون في المائة من السكان، مخلفين الكثير من القرى المهجورة. ففي مقاطعة كري هبط عند دافعي الضرائب من 14. 346 في عام 1733 إلى 9. 372 في عام 1744. وقدر باركلي أن "الأمة في أغلب الظن لن تعوض هذه الخسارة بعد قرن (63) " ولكنه أخطأ التقدير. فما لبثت النساء أن ولدن الأطفال في صبر ليعوضن مَن فُقِد من الموتى. وفترت الحماسة الدينية بين البروتستنت بانتشار التعليم، واشتدت بين الكاثوليك كلما وحد الدين بينه وبين صراع الأمة في سبيل الحرية. وسرعان ما عوضت النسبة العالية للمواليد، التي حبذتها الكنيسة الكاثوليكية سلاحاً سرياً لها ضد معارضة، عما سلبته المجاعة والوباء والحرب؛ فما حلت سنة 1750 حتى ارتفع سكان إيرلندة من قرابة 2. 000. 000 في 1700 إلى نحو 2. 370. 000 وفي نهاية الشوط غلب إيمان المظلومين وخصوبتهم سلاح الغزاة وجشعهم.
7 - اسكتلندة
1714 - 1756
لم كان حظ إسكتلندة مختلفاً أشد الاختلاف عن حظ إيرلندة؟ أولاً لأن إسكتلندة لم تقهر قط، بل إنها على العكس من ذلك أعطت إنجلترا ملكاً اسكتلندياً. وكان لها في شيوخ قبائل مرتفعاتها (الهايلاندز) الذين لم يذلوا بعد، طبقة من المقاتلين قادت الاسكتلنديين المرة بعد المرة في غزوات لإنجلترا. وكان أهل سهولها سلالة أنجلو-سكسونية، ينتمون أساساً إلى الأصل الذي ينتمي إليه الإنجليز. أما تربتها فظلت(35/154)
في قبضة أهلها الشديد المراس. وأما دينها، شأنه شأن الأنجليكانية، فكان نتاج حركة الإصلاح البروتستنتي، لا تركة موروثة عن الكنيسة الوسيطة، وقد وحد صفوف الأمة بدلاً من أن يقسمها، وبعد قانون الاتحاد (1707) شاركت إسكتلندة بنسبة السكان في انتخاب البرلمان الذي أصبح الآن يسمى البرلمان البريطاني (أي الإنجليزي-الويلزي-الاسكتلندي)، وأذعنت لأن تحكم من لندن، ولكن بعد أن انتزعت تنازلات تجارية أثرت الشعب الاسكتلندي. وحاولت كل أبرشية في إسكتلندة أن تنشئ مدرسة لأطفالها، ووفرت أربع جامعات بها أفضل ما وجد في الجزر البريطانية آنئذ من تعليم عال. وقد ازدهر هذا النشاط التعليمي خلال القرن الثامن عشر في حركة "تنوير اسكتلندي" دفعت الفكر الإنجليزي دفعة قوية-أبطالها هيوم، وهتشسن، ورايد، وروبرتسن، وآدم سميث.
على أن هذا الإنجاز الرائع اقتضى تحقيقه الكفاح الطويل، وانقضت خمسون عاماً قبل أن يؤتى الاتحاد أكله. فقد كانت إسكتلندة في 1714 لا تزال إقطاعية النظام. كل إقليم فيها خارج المدن يحكمه نبيل كبير بوساطة أتباعه المقطعين، والأرض تفلحها طبقة من المستأجرين الفلاحين، موالين لسادتهم، ولاحظ لهم من التعليم. ولكن الاتحاد السياسي مع إنجلترا أخذ الآن يقوض ذلك البناء. كان النبلاء يسيطرون على البرلمان الاسكتلندي، فلما اختتم عهد ذلك البرلمان وجد الممثلون الاسكتلنديون في البرلمان البريطاني أنفسهم في بيئة ينافس فيها نفوذ التجارة والصناعة نفوذ الأرض؛ فتبنوا الأفكار والتكنولوجيا الإنجليزية، وما وافت سنة 1750 حتى كان أصحاب صناعات إسكتلندة وتجارها يتحدّون الزعامة القومية التي احتكرها الأرجيليون، والأثوليون، والهاملتونيون، والماربون. وكانت مغامرة 1745 الاستيوارتية آخر انتفاضة من انتفاضات السلطة الإقطاعية الاسكتلندية، فلما أخفقت اندمجت حياة إسكتلندة الاقتصادية في الاقتصاد الإنجليزي، وبدأ حكم الطبقات الوسطى. وفتح الاتحاد المستعمرات الإنجليزية للتجارة الاسكتلندية، وفي 1718 أطلقت جلاسجو أول سفينة اسكتلندية لتعبر الأطلنطي، وما لبث التجار الاسكتلنديون أن انتشروا في كل مكان. وتحسنت التكنولوجيا الزراعية(35/155)
ووسائل النظافة الصحية في المدن، وهبطت نسبة الوفيات، وزاد السكان من 1. 000. 000 في 1700 إلى 1. 652. 000 في ختام القرن وكانت أدنبرة بسكانها البالغين خمسين ألفاً في 1751 ثالثة أكبر المدن في بريطانيا العظمى، فلم يفقها غير لندن وبرستول.
وظلت الكنيسة المشيخية على ولائها للاهوت الكلفني ولاء يقرب من التعصب. ففي كل أحد يمشي الناس-أحياناً ميلين أو ثلاثة-ليختلفوا إلى كنائس عطلت من الزينة عطلاً صارماً، ويستمعوا الساعات إلى عظات وصلوات تؤكد حتمية الجبر وأهوال الجحيم. وكان الكتاب المقدس الإلهام اليومي لكل أسرة اسكتلندية. وقدّر هيوم، حتى سنة 1763، في مبالغة مُرة، إن لكل رجل وامرأة وطفل في إسكتلندة كتابين مقدسين (64)؛ أما الوعاظ فقليلو الحظ من التعليم ولكن فيهم تقوى صادقة وورعاً مؤثراً، يعيشون في بساطة متقشفة، وتدعم قدوتهم وتعاليمهم من ثبات الخلق الاسكتلندي ونزاهته. وكان شيوخ كل كنيسة وراعيها يراقبون في تشدد كثير سلوك الرعية وكلامهم، يوزعون العقوبات على الحلف، والنميمة، والشجار، والسحر، والفسوق، والزنا، وأي كسر ليوم الرب (الأحد)، وأي انحراف عن عقيدتهم الرهيبة. وأداة الرعان الرقص، وحفلات الزفاف، والتفرج على المسرح. واستمروا يعقدون المحاكمات بتهمة السحر وإن أخذت أحكام الإعدام بسببها تقل. ففي 1727 أدينت أم وابنتها بهذه التهمة، وفرّت البنت، ولكن الأم أحرقت كل الموت في برميل من القار (65). فلما ألغى البرلمان الإنجليزي (1736) القانون الذي يعاقب السحر بالموت، ندد شيوخ الكنائس الاسكتلندية بالإلغاء لأنه انتهاك لأمر صريح أصدره الكتاب المقدس (66).
وكانت مدارس الأبرشيات التي تتفق عليها الكنيسة الاسكتلندية، ومدارس الحضر التي تعينها المدن، تعد الطلاب للجامعات. فوفد على أدنبرة وأبردين وسانت أندروز وجلاسجو شبان تواقون للعلم من كل طبقة-من المزارع والمصانع ومن قصور الإقطاعيين وقاعات البارونات على السواء، يدفعهم الشوق إلى المعرفة، ويتحملون في سبيلها كل عناء؛ يعيش كثير منهم في حجرات باردة على السطوح، ويصيبون(35/156)
أكثر غذائهم من زكيبة من الشوفان يحملونها دورياً من مزارع آبائهم. وكذلك كان الأساتذة قوماً ذوي جلد وزهد، ندر أن تقاضي أحدهم أكثر من ستين جنيهاً في العام. وكاد اللاهوت في الجامعات أن يكون لب المنهج-كما كان في مدارس الأبرشيات. ولكن الآداب الكلاسيكية كانت تدرس ومعها قليل من العلوم؛ وتأثر الذهن الاسكتلندي بفكر أوربا العلماني. من ذلك أن فرانسس هتشسن، الذي شغل كرسي الفلسفة الأخلاقية في جلاسجو (1729 - 46)، نّحى الدجل الدجماطيقي، وأرسى علم الأخلاق على أسس طبيعية. وشابت الهرطقة الأريوسية عقيدة الطلاب والأساتذة على السواء-وهي التي زعمت أن المسيح، رغم ألوهيته، لم يكن معادلاً لله الآب أو مساوياً له في أزليته. وذكر مؤلف اسكتلندي في 1714 "الرواج الشديد بين شباب الأعيان والطلاب" لأفكار هوبز وسبينوزا (67). وكوّنت جماعات صغيرة من الشبان الذين ثملوا بخمر التحرر أندية-مثل "الجمعية الكبريتية" و "نار الجحيم" و "الفرسان سيئي السمعة"-تبشر بالإلحاد في تفاخر؛ ولعلهم اختلطوا بالساخطين الاستيوارتيين. ذلك أن إسكتلندة-إذا استثنينا طبقات التجار التي ارتبطت بالاقتصاد الإنجليزي-كانت لا تزال تنتشي بذكرى أسرة ستيوارت، وتحلم باليوم الذي يقود فيه جيمس الثالث، أو ابنه، الاسكتلنديين مرة أخرى عبر الحدود ليرد أسرة اسكتلندية إلى العرش البريطاني.
8 - الأمير تشارلي الجميل
1745
سكان جيمس الثالث قد أفنى نفسه في محاولات عقيمة لقيادة حملة على إنجلترا أو إسكتلندة. وفي 1719 تزوج ماريا كلمنتينا سوبيسكا، حفيدة أشهر ملوك بولندة، وكان الزواج تعساً، ولكنه أعطى جيمس ولداً كان وجهه الحلو وطبعه المرح-اللذان ربما ارتدا إلى ماري ملكة الاسكتلنديين-مفخرة ومشكلة لأبويه. وأطلقت إنجلترا على تشارلز أدرود ستيوارت هذا لقب "المطالب الشاب""، أما إسكتلندة فسمته "الأمير تشارلي الجميل". وشب تشارلز دون أن ينال من التعليم حظاً كبيراً لأنه نشأ في بيت يسوده الشقاق، وتعلم مذهبين متناقضين على يد مهذبيه الكاثوليك والبروتستنت، ولكنه وُهب كل مفاتن الشباب(35/157)
الرياضي، وكل حماسة الرأس الملهوف على تاج. وقد افتتن دون ليريا بما كان عليه الغلام من "جمال رائع"، بعينيه العسليتين المرحتين، وشعره البني الفاتح؛ فهو راكب جريء، وهداف ماهر، ذو قوام فارع طوله ستة أقدام خلق للحرب، و "لاعب جولف جبار"، وموسيقي ماهر، وراقص رشيق-وقال الدوق أن هذا "على الجملة أكمل أمير لقيته (69) " وكان تشارلز عليما بفضائله، وهو ما جعله صعب المراس أحياناً. وفي 1734، حين كان غماً بعد لا يجاوز الرابعة عشرة، سُمح له بأن يذوق طعم الحرب في الجيش الأسباني في جاييتا، فلما أيقظ روحه خوض أول معاركه، راح يترقب الفرصة على أحر من الجمر للاستيلاء على إنجلترا. وبدت الفرصة مواتية حين بدأ البرلمان البريطاني، رغم معارضة ولبول، الاشتباكات مع أسبانيا (1739). واستفحل هجوم فردريك الأكبر على سيليسيا (1740) حتى أفضي إلى حروب الوراثة النمساوية. وأرسلت إنجلترا جيشها الرئيسي إلى القارة، فأي وقت أنسب من هذا ليضرب فيه الاستيوارتيين ضربة سريعة أخرى للظفر بالعرش الإنجليزي؟ ومن ثم كونوا في إسكتلندة "الرابطة" (1736) التي التزمت بتلك المغامرة، وأوفدوا المبعوثين إلى إنجلترا ليحرضوا على قيام ثورة استيوارتية، وأرسلوا النداءات إلى فرنسا طالبين المال، والسلاح، والجنود. وأمر لويس الرابع عشر سبع سفن حربية وإحدى وعشرين ناقلة جنود بالتجمع في برست والاستعداد لنقل عشرة آلاف مقاتل تحت إمرة المريشال دساكس من دنكرك إلى إنجلترا. وانتظر الأمير تشارلز في إيطاليا بفارغ الصبر دعوة من باريس لينضم إلى الحملة. ولكن الدعوة لم تصل، فغادر روما في 10 يناير 1744، وركب ليل نهار إلى فراسكاتي، وليريتشي، وجنوة واستقل سفينة إلى آنتيب، وركب كالمجنون إلى باريس. أما أبوه المسن فظل في روما، ولم تقع عليه عيناه بعد ذلك قط. واستقبل الملك تشارلز بالترحيب، وأمده بمعونة مالية معتدلة. فمضي إلى جرافلين، وانتظر بصبر نافد الأوامر بالإبحار مع المرشال دساكس، الذي انتظر الأسطول الفرنسي هو الآخر بصبر نافد.
وحالفت الرياح والأمواج إنجلترا كالعادة. فصادف الأسطول الفرنسي بعد إقلاعه من برست (6 فبراير) "بحراً رهيباً" و "ريحاً(35/158)
معاكسة كل يوم". واصطدمت مراكبه، وتحطمت صواريه، وعمت الفوضى حين وصل النبأ بأن أسطولاً إنجليزياً من اثنتين وخمسين سفينة يقترب. وفر الفرنسيون رجوعاً إلى برست، ولكن كثيراً من سفنهم فقد، وأصيب الباقي بضرر بليغ من الأنواء. ومن هذا النبأ المثبط وصل فرنسا نبأ بأن الاستيوارتيين الإنجليز مختلو النظام خائرو العزيمة، وأنه لا أمل في معونة منهم إذا وصل الفرنسيون. وأخبر لويس ساكس بوجوب الإقلاع عن مشروع الغزو. أما إنجلترا، التي لم تدخل بعد الحرب مع فرنسا رسمياً، فشكت من أن وجود تشارلز على أرض فرنسا انتهاك لالتزامات المعاهدة. وأما تشارلز فقد اختبأ في باريس متنكراً، وأقسم لأصحابه أنه سيغزو إنجلترا ولو اضطر إلى الذهاب وحيداً في زورق مكشوف. وأسل له أبوه رجاء بأن يحذر الاندفاع "الذي قد ينتهي بدمارك ودمار كل من يشاركونك فيه (70) ". وفي أثناء ذلك كان مؤيدو تشارلز يدس بعضهم لبعض سعياً وراء النفوذ والمنح، ويتهم بعضهم بعضاً عنده، حتى كتب يائساً "لقد ابتليت بلاء يزهدني في الحياة") 16نوفمبر 1744).
وأخيراً، ورغم كل التحذيرات، ودون استشارة البلاط الفرنسي، قرر أن "يجرب حظه" و "يغزو أو يموت" وأرسل عملاء إلى إسكتلندة ليثير العشائر، وبلغ عدم استعداد هؤلاء مبلغاً جعلهم يفكرون في منعه من المجيء، وكان المتشيعون من الإنجليز لأسرة ستيوارت، يلتمسون التراضي مع جورج الثاني، محتذين في ذلك حذو بولنبروك. ورغم ذلك اقترض تشارلز 180. 000 جنيه، وقبل عرضاً بسفينتين مسلحتين، وأبحر إلى إسكتلندة (15 يوليو 1745). وعلى مقربة من "لاندز اند" التقت القافلة الصغيرة ببارجة بريطانية، ولحق بإحدى سفينتي تشارلز من العطب ما حملها على العودة إلى برست. وانطلق هو في الأخرى شمالاً إلى غربي إنجلترا، وفي 3 أغسطس رسا على أرض إسكتلندة عند اريسكا، في جزر الهبريد الخارجة. ونصحه زعيم عشيرة بأن يعود إلى وطنه. فأجاب الأمير "إنني في وطني". وأنذِر بأن الحكومة البريطانية قد أعلنت في أول أغسطس عن مكافأة تبلغ 30. 000 جنيه لمن يأتي به أسيراً، حياً أو ميتاً. وكان جواب تشارلز أن صرف السفينة التي أقلته، وهكذا قطع على نفسه خط(35/159)
الرجعة. وفي 19 أغسطس رفع رايته في جلينفينان بإقليم المرتفعات، ودعا كل أنصار أسرته ليعينوه.
وظل معظم زعماء العشائر متحفظين، وتآمر بعض من زعموا أنهم أتباع له ليشوا به، وأعلن ستة أشراف انضمامهم إليه، وكان ألف ومائتان من بين رجاله الألفين من عشيرتي مكدونلد وكمرون. وقاد تشارلز جماعته جنوباً متحاشياً قوات الحكومة التي يقودها السر جون كوب. وفي 17 سبتمبر دخل أدنبرة، واستولى على الحرس والبابوات، وثبت رئيسهما في قصر هوليرود، الذي كان يوماً ما القصر الملكي الذي جادلت فيه ماري ستيوارت جون نوكس، ونسي فيه جيمس السادس والأول أمه. وكان مظهر الأمير البالغ من العمر آنئذ خمسة وعشرين ربيعاً يأخذ بالألباب في بزة أهل المرتفعات، بسراويله المخملية الحمراء وقلنسوته المخملية الخضراء، وعقدة شريطها البيضاء. وركع كثير من الاسكتلنديين الذين ظنوا أن مجد أمتهم قد عاد من جديد في شخص ذلك الفتى المليح وقبلوا يده، وصلّت كل النساء من أجله وهفت قلوبهن إليه. وما كاد يذوق حلاوة استقباله حتى نمى إليه نبأ اقتراب كوب من أدنبرة في ألفين من جنوده. وفي 21 سبتمبر قاد تشارلز رجاله الذين بلغوا الآن ثلاثة آلاف، والتقى بجيش كوب برستونبانز، ودحره، وأسر أسرى كثيرين، وترفق بهم، ثم عاد إلى هوليرود مكللاً بالغار، وبدأ أنه قد ظفر بإسكتلندة.
وأمر تشارلز وهو مطمئن شهراً بعد المعركة بالطعام والثياب لجنده، ورحب بانضمام عشائر أخرى إليه. وبعث له لويس الخامس عشر بالمال والسلاح من فرنسا. وفي 8 نوفمبر عبر الأمير السعيد الحدود راجلاً إلى إنجلترا على رأس 4. 500 مقاتل، وحاصر كرليل واستولى عليها، ولقي الترحيب في مانشستر، ثم سار حثيثياً إلى داربي، آملاً بتقدمه المثير أن يحمل إنجلترا على استقباله ملكاً شرعياً لها. وأذاع منشوراً تعهد فيه بأنه لن يصيب الأنجليكان والمشيخيين بعد اليوم منه، وهو الكاثوليكي الروماني، أذى أكثر مما أصابهم على يد جورج الأول اللوثري (72). غير أن إنجلترا لم تصدقه، وكرهت أن تعاود من جديد ذلك الصراع المضني الذي خاضه المذهب الجديد ضد القديم.(35/160)
ومع أن أحداً في إنجلترا لم يكد يهبّ ليقاوم تشارلز، فإن حفنة من الجند الإنجليز فقط هي التي خفت لنجدته. واتخذ الإنجليز المتشيعون لأسرة ستيوارت موقف الحذر والسلامة.
وكان جورج الثاني قد هرع عائداً من هانوفر ليحمي عرشه المهدد وأمر ثلاثة جيوش إنجليزية بالتجمع في داربي. وكان رأي تشارلز أن يتجاهلها ويندفع في طريقه إلى لندن بآلافه الستة، ولكن زعماء عشائره الاسكتلنديين أبوا أن يتبعوه. ونبهوه إلى أن كل جيش من جيوش الحكومة الثلاثة عدته عشرة آلاف مقاتل، وأن هؤلاء إذا لحقوا بمؤخرة جيشه ضيقوا عليه الخناق وتكاثروا عليه بعد قليل، وأن الانتفاضة الإستيوارتية التي وعدهم بها لا أثر لها، وأصروا على العودة إلى إسكتلندة حيث يتاح لهم أن يثيروا مزيداً من العشائر ويتلقوا الإمداد من فرنسا. وأذعن تشارلز، وقاد التقهقر الأليم من داربي إلى جلاسجو. وعند فالكرك القريبة منها هزم بتسعة آلاف مقاتل قوة إنجليزية عدتها عشرة آلاف بقيادة هولي (17 يناير 1746). ولكنه كان نصراً باهظ الثمن، فقد أضعفت جيشه الخسائر وهروب الجنود منه، وكانت إمداده آخذة في النضوب، ورواتبه تدفع دقيقاً، وقواده يتشاجرون شجار العشائر. وعادوا ينصحونه بالتقهقر، ودافع الأمير عن رأيه بالصمود، فهو لم ير في المزيد من التقهقر غير التفكك والدمار، فلم يهربون من عدو ليس أقوى من ذلك الذي هزموه من قبل؟ ثم أذعن مرة أخرى، ولكنه أيقن الآن أنه مغلوب. وعاد الجيش الاسكتلندي متجهاً إلى إقليم المرتفعات. وسرى تشاؤم قواته بقوة في صفوف الجند، فبلغ الهاربون منه ألوفاً، وما بقي كان أقرب إلى الحشد المختل اليائس منه إلى الجيش.
وخلال ذلك دخلت القوة الإنجليزية الرئيسية بقيادة دوق كمبرلاند إسكتلندة، وسيطرت على الساحل الشرقي، وتلقت عند ليث تعزيزاً من خمسمائة هسي جلبهم جورج الثاني من النمسا. وزحف كمبرلاند بجيش عده 8. 800 مقاتل شمالاً مخترقاً مقاطعة انفرنيس. وهناك التقى به تشارلز عند كلودن مور في 6 أبريل 1746، بسبعة آلاف مقاتل(35/161)
سيئي السلاح والغذاء والقيادة، قاتلوا ببسالة اسكتلندية، ولكن بطشت بهم مدفعية كمبرلاند المتفوقة التي قذفت قنابل الشظايا (كما قال شاعر اسكتلندي) "أكياساً من الرصاص حصدتهم حصداً، أجل بالعشرات، كما يتساقط العشب أمام المنجل (73) ". وركب تشارلز هائجاً، وحاول جمع شتات رجاله المتقهقرين، ولكنهم لاذوا بالفرار منطلقين فرادي، وأرغمه مساعدوه على الانسحاب من المعركة بالقبض على عنان جواده. فر في نفر من أصحابه وقد تحطمت روحه، وهام على وجهه مختبئاً من ملجأ إلى آخر، مكرراً مأساة تشارلز الثاني، بعد أن فارقه المجد. وأخيراً (20 سبتمبر) وجد مركباً أقله لفرنسا. وطارد كمبرلاند أعداءه المنحورين وأصدر أوامره لجيشه "بألا تأخذ بهم رحمة". فكل اسكتلندي ثائر يجب قتله فوراً. وفتشت البيوت، وضرب بالنار على عجل كل الاسكتلنديين الذي عثر على سلاح معهم. وأطلقت العشائر الموالية لجورج الثاني على تلك التي انضمت إلى الثورة، وأحرقت مئات المنازل (74). وقال الدوق "إن الإجراءات المعتدلة لن تجدي، وكل الخير الذي صنعناه ليس إلا فَصداً ضئيلاً لم يَشفِ من الجنون وإن خففه (75) ". وألحق أن العشائر المتمردة حاولت المرة بعد المرة أن تجدد التمرد. وظل دعاة الاستيوارتية الاسكتلنديون يتغنون ويحلمون بهزائم الماضي وانتصارات المستقبل، إلى أن تحطم إيمانهم بالانحلال الذي أصاب من كان يوماً أميرهم الجميل في روما.
ذلك معاهدة اكس-لا-شايل (1748) المبرمة بين إنجلترا وفرنسا اشترطت طرد تشارلز من الأرض الفرنسية. ولكنه رفض الرحيل، فأكرهته عليه الجنود الفرنسية، وعاد متنكراً إلى باريس، لا بل إلى لندن في 1750، وعبثاً حاول أن ينفخ روحاً جديدة في قضية الاستيوارتيين، وأن يعد بالتخلي عن المذهب الكاثوليكي (76). وأخيراً، وبعد أن سلم بالهزيمة، تردّى في مهاوي السكر والفسق تردياً حمل كل القوى الكاثوليكية الكبرى على التنكر له. ومات في روما عام 1788، بالغاً الثامنة والستين. وكان فولتير قبل ذلك(35/162)
بثلاثين عاماً قد كتب قبرية منصفة للثورة الاستيوارتية الثانية قال فيها:
"وهكذا، (برجوع تشارلز إلى فرنسا في 1746) انتهت مغامرة كان من الجائز أن توفق في أيام الفروسية الجوالة بحثاً عن المغامرات، ولكن ما كان يمكن أن تنجح في عصر يقرر فيه الانضباط العسكري، والمدفعية، وأهم من ذلك المال، كل شيء في نهاية الأمر (77) ".
9 - صعود وليم بت
1708 - 1756
أسلم سقوط ولبول إنجلترا إلى سلسلة من الوزارات الصغيرة التي تخبطت في فوضى سياسية وحروب غير حاسمة. فحكم اللورد ولمنجتن بوصفه وزير الخزانة (1742 - 43) في أرض الوطن بينما كان جورج الثاني يقاتل ببطولة مسرحية، ولكنها حقيقية، في معركتين ديتنجن (27 يونيو 1743). كتب فردريك الأكبر يقول "لزم ملك إنجلترا مكانه على رأس كتيبته الهانوفرية طوال المعركة، وقدمه اليسرى إلى الخلف، وسيفه في يده وذراعه مبسوطة، أشبه ما يكون بمعلم المثاقفة (78) "، ولكنه على أي حال ألهم رجاله بشجاعته، في حين أطاع بتواضع أوامر قواده. وأعادت وزارة هنري بلام (1743 - 54) إنجلترا إلى حظيرة السلام، ولكنها واصلت طريقة الحكم بشراء الأصوات في الدوائر والبرلمان. وحدّد أخوه دوق نيوكاسل تسعية لساسة إنجلترا، ضمّنها-لدواعي الموازنة-جدولاً بسعر السوق الحالي لكل نفس (79) وأبقى مأثرة لهاتين الوزارتين أنهما ضمتا الرجل الذي صنع الإمبراطورية البريطانية، والذي برز في زمانه المضطرب ذلك شخصية من أقوى شخصيات التاريخ.
ولد وليم بيت (1708) ابناً للمال، لأن جده توماس بت كان جمع ثروة طائلة في الهند. وكان توماس نفسه رجلاً يحسب له حساب. فقد عمل بحاراً في سفينة تجارية واستقر في البنغال، واشتغل بالتجارة في منافسة مشروعة لشركة الهند الشرقية التي كان البرلمان قد منحها احتكاراً. وقد غرم 1. 000 جنيه، وواصل منافسته للشركة، وأكرهها على الصلح، ثم انضم إليها، وظل اثنتي عشرة سنة حاكماً على(35/163)
مدارس. فما حل عام 1701 حتى كان قطباً مالياً يملك من المال ما مكنه من شراء "ماسة بت" الشهيرة بعشرين ألفاً من الجنيهات، ومن الذكاء ما مكنه من بيعها لفليب أورليان، الوصي على عرش فرنسا، بمبلغ 135. 000 جنيه، وهي محفوظة الآن-بعد أن ارتفعت قيمتها إلى 480. 000 جنيه، بين مجوهرات الدولة الفرنسية في متحف اللوفر شاهداً متأقلاً على هبوط العملات. واستثمر توماس مكاسبه في العقارات الإنجليزية، واشترى مقعداً في البرلمان، ومثل فيه دائرة أولد ساروم "العفنة" من 1710 إلى 1715. وأوصي بممتلكاته لروبرت بت، أكبر أبنائه الذي تزوج هاربيت فليبه، التي أنجبت له سبعة أطفال، كان وليم بت ثاني ولد فيهم.
واحتج وليم على النظام المفروض على الطلاب وهو في إيتن، وذهب إلى تسخير كبارهم لصغارهم يحطم روح الطلبة؛ على أنه لم يحطم روحه .. وقد اشتهر في أكسفورد بمعاناته من النقرس وهو في الثامنة عشرة. وإذ راوده الأمل في البرء من هذا الداء إذا عاش في مناخ أدفأ، فإنه ترك الجامعة دون أن يحصل على درجة منها وسافر إلى فرنسا وإيطاليا، ولكن النقرس ظل صليبه الذي حمله طوال انتصاراته. ومع ذلك انخرط في الجيش، وخدم فيه أربع سنين، ولم يشهد معركة، ولكنه خرج مقتنعاً بأن الحرب هي فيصل التاريخ وقَدَر الدول. وفي 1735 اشترت له أسرته أصوات دائرة أولد ساروم، رغم أنها تركته في فقر نسبي باعتباره ابناً أصغر، وهكذا بدأ سيرته في البرلمان.
وسرعان ما أسع الناس صوته هناك، لأنه كان أبلغ خطيب عرفه كهف الجدل والمناظرة ذاك إطلاقاً. فلقد سكب في خطبه كل قوة خلقه العاطفي المشبوب، وكل تصميمه على الوصول إلى السلطة، وعزمه على خلع ولبول، وعلى السيطرة على البرلمان والملك، وأخيراً إعادة تشكيل أوربا على هواه. وتحقيقاً لهذه الأهداف توسل بالمنطق، والدراما، والخيال، والحماسة، والشعر، والعبارة الطنانة، والقدح والتهكم، والهجو واستنفار الروح الوطنية، واستثارة المصلحة والمجد الشخصيين والقوميين. وبمضي السنين طور براعته الخطابية حتى(35/164)
استوعبت كل أفانين الخطباء المفوهين كديموستين أو شيشرون؛ فكان في وسعه أن يحطم خصماً بعبارة واحدة. وقد اتبع قاعدة ديموستين فجعل الحركة حياة الخطاب، فكان لكل سطر إيماءته، وكانت كل عاطفة تشكل وجهه الشبيه بوجه الصقر وتتقد في عينيه الغائرتين، حتى لينفعل بدنه كله وكأن الكلمة صارت جسداً. لقد كان أعظم ممثل اجتنب خشبة المسرح.
ولم يكن ولياً ولا قديساً. فالطمع كان صاري خلقه والريح التي تدفع في قلوعه. ولكن هذا الطمع كفر عن نفسه بانتظامه إنجلترا بأسرها، وأفنى نفسه بجِرّه إنجلترا، رضيت أو كرهت، فوق البحار الإمبراطورية لبلوغ السيادة على العالم. وإذ شعر وليم بأنه الصوت المعبر عن الدولة أكثر من أي صوت حَلْقِي هانوفري، أو أي رشا ولبولية، فقد اتخذ لنفسه مبدأ الحكومات الخُلُقي-وهو أن كل ما ينفع الدولة فهو خير؛ وإذ كان قد توسل بالخديعة، والافتراء، والتخويف، والدس، ونكران الجميل، والحنث باليمين، والغدر، فإن تلك بضاعة رجل الدولة، ولا يحكم عليها الوعاظ بل الملوك. وكان في كل خطوة تقريباً في صعوده يتنكر لموقف دافع عنه قبيل ذلك بكل سمو العاطفة الخلقية (80)، وندر أن توقف ليُفَسِر أو يعتذر، بل كان يركب كل مركب يُبلِغه هدفه، وقد أضفى نجاحه-الذي كان نجاحاً لإنجلترا-القداسة على ذنوبه وطوق رأسه بهالة المجد والفخار. وكان في كبريائه شي جليل؛ فقد كان يحتقر شراء الترقي بالتذلّل، واحتفظ بنظافة يده وسط الفساد والرشوة، وحقق غاياته بقوة شخصية عاتية لا يقف في طريقها عائق.
وقد طارد ولبول لأنه رأى بائعاً يتجر بالسلام، وإنساناً جباناً لا يجرؤ على خوض حرب ضد أسبانيا، شديد الخنوع لملك يبدي-في رأي بت-"نحو هانوفر تحيزاً سخيفاً ناكراً للجميل غادراً"، ملك "لا يعتبر إنجلترا غير إقليم من أقاليم إمارة حقيرة (81) ". ولقد واصل الخطيب الغيور سياسته الحربية في قوة وحدة حملت دوقة ملبره وهي على فراش الموت سنة 1744 على أن توصي لبت بعشرة آلاف جنيه، ولا غرو فقد ورثت سارة ولع زوجها الدوق الراحل بالحرب.(35/165)
فلما تقلد بلام الوزارة طلب إلى الملك تعيين بت وزيراً للحرب، ورفض جورج الثاني وكان لا يزال محترفاً بنار بت، ولكن بلام ألح، ووصف بت بأنه "أكفأ وأنفع رجل بيننا، شريف حقاً وأمين بكل ما في الكلمة من معنى (82) "، وأذعن الملك، وفي 1746 دخل بت الوزارة، أولاً بوصفه مناوياً لوزير الخزانة الإيرلندية، ثم خاناً للقوات المسلحة. وكان هذا المنصب قد أصبح بحكم التقاليد منجم ثروة لمن يتقلده، فالخازن يأخذ لنفسه نصفاً في المائة من جميع الأعانات التي يقررها البرلمان للأمراء الأجانب ويستثمر بالفائدة-التي يحتفظ بها لنفسه-الرصيد السائل الكبير المتروك لديه لدفع رواتب الجند. وأبى بت أن يأخذ غير راتبه الرسمي، فلما ألح عليه ملك سردانيا في أن يقبل هدية تعادل الاستقطاع العادي من إعانته رفض الهدية. وصفقت إنجلترا لنزاهة بت الشاذة، وهي التي طالما اعتبرت مثل هذه المنح إشباعاً عادياً لطبيعة الإنسان، وأصغت في شوق إلى مرافعاته المطالبة ببريطانيا شامخة الرأس فوق العالم بأسره.
وفي يناير 1755، ودون إعلان الحرب، نشب القتال بين إنجلترا وفرنسا في أمريكا. وفي يناير 1756 وقعت إنجلترا معاهدة مع بروسيا. وفي مايو أبرمت فرنسا حلفاً دفاعياً في النمسا. وفي نوفمبر أصبح بت، وزير الخارجية الآن، صوت إنجلترا وذراعها في حرب السنوات السبع تلك التي ستقرر خريطة أوربا حتى الثورة الفرنسية.(35/166)
الفصل الرابع
الدين والفلسفة
1 - الموقف الديني
كان لقصة القرن الثامن عشر في غرب أوربا موضوع ذو شقين، انهيار النظام الإقطاعي القديم، والانهيار الوشيك للدين المسيحي الذي أضفى على ذلك النظام سنده الروحي والاجتماعي. فقد كانت الدولة والدين مرتبطين برباط المعونة المتبادلة، وبدا أن سقوط الواحد يجر الآخر إلى مأساة مشتركة.
وقد لعبت إنجلترا الفصل الأول في كلتا ناحيتي هذا التغيير العظيم. في المسرح السياسي سبقت حربها الأهلية (1642 - 49) الثورة الفرنسية بمائة وسبعة وأربعين عاماً في خلع أرستقراطية إقطاعية وضرب عنق الملك. أما في مجال الدين فإن نقد الربوبيين للمسيحية سبق الحملة الفولتيرية في فرنسا بنصف قرن، وسبقت مادية هوبز مادية لامتري بقرن، وسبقت رسالة هيوم "في الطبيعة البشرية" (1739) ومقالة "في المعجزات" (1748) هجوم "الفلاسفة" الفرنسيين على المسيحية في "الموسوعة" (1751). وكان فولتير قد تعلم شكوكيته في فرنسا-وبعضها أخذه عن بولنبروك الإنجليزي المبعد عن وطنه-قبل أن يحضر إلى إنجلترا ولكن السنوات الثلاث التي قضاها في إنجلترا (1726 - 28) روعته بمشهد السنية وقد أصابها الانحلال والكاثوليكية وقد ذلت، والبروتستنتية وقد تفرقت شيعاً مستضعفة، والربوبيين يتحدون كل شيء في المسيحية إلا الإيمان بالله-وهو بالضبط التحدي الذي سيحمله فولتير إلى فرنسا. يقول فولتير "في فرنسا ينظر الناس إليّ على أنني مقلّ في الدين، وفي إنجلترا على أنني مُسرِف فيه (1) ".
وقد كتب مونتسكيو بعد أن زار إنجلترا في 1731 يقول "ليس(35/167)
في إنجلترا دين (2) ". وهذا بالطبع تدريب على المبالغة اللافتة للأنظار، لأنه في تلك الفترة بعينها كان جون وتشارلز وسلي يؤسسان الحركة المثودية في أكسفورد. ولكن مونتسكيو، وهو رجل أرستقراطي، تنقّل أكثر ما تنقل بين أقطاب النبالة أو العلم، وهو يخبرنا أنه في هذه الجماعات "إذا ذكر الدين ضحك الجميع (3) ". وهذا أيضاً يبدو غلواً في القول؛ ولكن لنستمع إلى اللورد هرفي، الذي كان يعرف تقريباً كل رجل وامرأة ومنحرف بين علية القوم:
"إن خرافة المسيحية هذه ... قد نسفت الآن (1718) في إنجلترا، حتى ليكاد أي رجل عصري أو ذي مكانة يخجل من الاعتراف بمسيحيته خجله في الماضي من الجهر بتجرده من أي دين. وحتى النساء اللائي كن يفخرن بذكائهن حرصن على أن يفهمن الناس أن الميول المسيحية هي ما يحتقرن الالتزام به (4) ".
في تلك الطبقات أو العقول الرفيعة كان الدين يعني أما نعاس صلاة القداس الأنجليكاني أو "حماسة" المذاهب المنشقة، وعما قليل سيعرف الدكتور جونسن الحماسة بأنها "إيمان مغرور بالإلهام الخاص"-وبالمعنى الحرفي "إله في باطن الإنسان". وكانت الكنيسة الرسمية قد فقدت كرامتها ونفوذها بمساندتها الاستيوارتيين ضد الهانوفريين وحزب الأحرار المنتصر؛ وخضعت الآن للدولة، وغدا قساوستها أتباعاً أذلاء للطبقة الحاكمة. وكان القسيس الريفي هو الهدف المفضل لهجو الأدباء أو سخرية السوقة، وقد كرم فيلدنج من شذوا عن هذه القاعدة في شخص القس آدمز. وغلبت الفوارق الطبقية في الكنائس، فكان للأغنياء مقاعد خاصة قرب المنبر، وجلس عامة الناس أو وقفوا في المؤخرة، فإذا قضيت الصلاة لزم العامة أماكنهم ريثما يخرج صف الكبراء في وقار بطيء (5). وفي بعض كنائس لندن، حيث يكثر عدد الفقراء القادمين للعبادة، كان المصلون من أصحاب البواريك يهربون بعد أن يقفلوا مقاعدهم خلفهم (6)، ملتمسين هواء أكثر نقاء.
وكان بعض الأساقفة الأنجليكان أمثال بطلر، وباركلي، ووربرتون، رجالاً متبحرين في العلم؛ وكان اثنان من هؤلاء على خلق عظيم، ولكن(35/168)
أكثر كبار الأكليروس كانوا في مناوراتهم للترقي يشاركون في لعبة السياسة شكّاك البلاط ومحظياته، ويفنون في حياة الترف دخول كثير من الأبرشيات. وقد روي أن الأسقف تشاندلر دفع 9. 000 جنيه لترقيته من لتشفيلد إلى درم، أما ويليز أسقف ونشستر، وبوتر رئيس أساقفة كنتربري، وجبسن وشرلوك أسقفا لندن، هؤلاء جميعاً ماتوا "أغنياء غنى مخزياً" وبلغت ثروة بعضهم 100. 000 جنيه (7). ولم يكن ثكرى يطيقهم، فقال:
"قرأت أن الليدي يارموث (خليلة جورج الثاني) باعت أسقفية لكاهن بمبلغ 5. 000 جنيه ... أكان هو الحبر الوحيد في عصره الذي قادته أيد كهذه إلى المحراب؟ إنني إذ أختلس النظر إلى داخل قصر سانت جيمس الذي يقطنه جورج الثاني، أرى الثياب الكهنوتية الكثيرة تحدث حفيفاً وهي تصعد السلم الخلفي لسيدات البلاط؛ قساوسة متسترين يدسون أكياس النقود في حجورهن، وذلك الملك العجوز الفاجر يتثاءب تحت مظلته في المصلى الملكي أثناء عظة القسيس، الواقف أمامه، (أو) يثرثر بالألمانية ... بصوت يبلغ من علوه أن القسيس ... انفجر صارخاً في منبره لأن حامي الإيمان وموزع الأسقفيات لا يريد الإصغاء إليه! (8) ".
وكان من سمات العصر أن الكنيسة الرسمية أصبحت شديدة التسامح مع عقائد أعضائها وطقوسهم المختلفة، وقد وصفها بت بأنها "عقيدة كلفنية، وطقوس بابوية، وأكليروس أرمنيوسي (9) " أي أن العقيدة الرسمية كانت جبرية، والطقوس شبيهة بطقوس روما الكاثوليكية، ولكن روحاً متحررة سمحت للقساوسة الأنجليكان برفض حتمية كلفن واعتناق تعليم المهرطق الهولندي أرمينيو القائل بحرية الإرادة. لقد ازداد التسامح لأن الإيمان اضمحل، وآية ذلك أن هرطقات كهرطقة هيوم، كانت تروع إنجلترا القرن السابع عشر لو جهر بها إنسان، لم تُحدث غير موجة طفيفة على نهر الفكر البريطاني. وقد وصف هيوم نفسه إنجلترا بأنها استكانت إلى حال من عدم الاكتراث الهادئ بأمور الدين لا تجدها في أية أمة أخرى من أمم الأرض (10) ".(35/169)
وكان كل الإنجليز ملزمين بالعبادة الأنجليكانية حسب نص القانون. فكل متخلف عن صلوات الأحد عرضة لتغريمه شلناً عن كل تهرب، وكل من يسمح لهذا المتخلف بمساكنته يعاقب بغرامة عشرين جنيهاً في الشهر (11)؛ على أن هذه القوانين ندر أن طبقت. وكانت العبادة الكاثوليكية محرمة، قانوناً أيضاً لا تطبيقاً. فالقس الكاثوليكي الذي يؤدي وظيفة كهنوتية عقابه الحبس المؤبد. ومثل هذه العقوبة فرضت لثني أي كاثوليكي عن فتح مدرسة؛ وحرم على الوالدين إرسال أبنائهم إلى الخارج ليتعلموا تعليماً كاثوليكياً وإلا غرموا 100 جنيه. ولا يحق شراء الأرض أو ورثها إلا للمواطنين الذين أقسموا يميني الولاء والسيادة (اللتين تعترفان بملك إنجلترا رأساً للكنيسة) وقرروا رفضهم لعقيدة التحول. وكل كاثوليكي يرفض أداء هاتين اليمينين يحرم من المناصب المدنية أو العسكرية، ومن ممارسة المحاماة، ومن إقامة أي دعوى أمام القضاء، ومن العيش في نطاق عشرة أميال من لندن؛ يضاف إلى هذا أن هذا الكاثوليكي يجوز في أي وقت نفيه من إنجلترا والحكم عليه بالإعدام إذا عاد إليها. على أن الذي حدث فعلاً أيام جورج الأول والثاني هو أن الكاثوليك كانوا يورثون ثروتهم وعقيدتهم بانتظام لأبنائهم، ويستطيعون الاستماع إلى القداس في كنائسهم الصغيرة وبيوتهم دون معوق، وأن الكثيرين منهم أدوا اليمينين المطلوبتين مع تحفظ بينهم وبين أنفسهم (12).
وكان كل البروتستنت الإنجليز الغيورين الآن يتبعون المذاهب المنشقة على الكنيسة الرسمية. وقد ضحك فولتير واغتبط لكثرة عددهم: مستقلون (بيورتان)، ومشيخيون، ومعمدانيون، ومجمعيون، وكويكريون، وتوحيديون. فأما المشيخيون (البرزبتيريون) فكانوا في طريقهم إلى التسامح بعد أن فقدوا سلطتهم السياسية، ولم يأخذوا عقيدة الجبر مأخذ الجد الشديد، وكان كثير منهم قانعاً في صمت بمسيح بشري (13). وفي 1719 قرر مجمع للقساوسة المشيخيين بأغلبية 77 إلى 69 أن التعهد بالتزام عقيدة الثالوث التقليدية ينبغي ألا يكون شرطاً يفرض على المرشحين رعاة للكنيسة (14). وأما الكويكريون فكانوا في نمو لا في العدد بل في الثراء، وكلما ارتقوا في مدارج المجتمع أصبحوا أكثر تقبلاً لأساليب حياة البشر وذنوبهم. على أن ميلاً إلى الاكتئاب(35/170)
أصاب كل المنشقين تقريباً حتى وهم ينعمون بالثراء، وبينما كانت طبقات المجتمع العليا تجعل من يوم الأحد يوم جذل كانت الطبقة الوسيطة الدنيا-حيث يتكاثر المنشقون-تواصل "الأحد العبوس" الذي ورثته عن البيورتان. في ذلك اليوم كانت الأسرة عقب صلوات الصباح في البيت تمضي إلى قاعة الاجتماع لحضور خدمة دينية تمتد ساعتين، فإذا عادت إلى البيت قرأ الأب الكتاب المقدس أو الكتب التقوية على زوجته وأبنائه الذين قد يجلسون على وسائد فوق أرض عطلت من الأبسطة. وكانوا عادة يذهبون ثانية إلى خدمات دينية تقام عصراً ومساءً، ويصلون جماعة، ويسمعون عظة أخرى، ويجدون بعض اللذة في ترتيل الترانيم الجَهْورية. ولم يكن مسموحاً بأي غناء في ذلك اليوم المقدس، ولا بلعب الورق، ولا بأي تسلية من أي نوع كانت بصفة عامة. ويجتنب السفر في يوم الرب، فيعطي قطاع الطرق بهذه الطريقة يوم راحة.
ووجد فولتير في معرض وصفه للمشهد الديني في إنجلترا الكثير مما يصلح درساً لفرنسا التي ما زال التعصب يحكمها. قال:
"انظر إلى بورصة الأوراق المالية الملكية بلندن ... هناك يُجري اليهودي والمسلم والمسيحي معاملاتهم معاً وكأنهم من دين واحد، ولا ينعتون بالكفر غير المفلسين. هناك يثق المشيخي بالقائل بعماد الكبار، ويعتمد الأنجليكاني على كلمة الكويكري. فإذا انفض هذا الجمع الحر مضي بعضه إلى مجمع اليهود، وبعضه ليشرب كأساً من الخمر. هذا الرجل يذهب وبعمّد في حوض هائل باسم الآب والابن والروح القدس؛ وذلك يأمر بختان ولده وبتمتمة طائفة من الكلمات العبرية التي يجهل كل الجهل معناها فوق الطفل؛ وآخرون (الكويكريون) يمضون إلى كنائسهم-حيث ينتظرون الوحي وقبعاتهم على رءوسهم؛ والكل راضون.
"ولو أن إنجلترا لم تسمح بغير دين واحد، لأصبحت الحكومة في أغلب الظن مستبدة؛ ولو كان هناك دينان فقط لذبح الناس بعضهم بعضاً؛ أما والأديان بهذه الكثرة، فإنهم جميعاً يعيشون في سعادة وسلام (15) ".(35/171)
2 - التحدي الربوبي
تضافرت عوامل كثيرة على تقويض صرح العقيدة المسيحية في إنجلترا: ارتباط الكنيسة بصعود الأحزاب السياسية وسقوطها؛ وازدياد الثروة ومطالب اللذة في طبقات المجتمع العليا، ودولية الأفكار بفضل التجارة والسفر، والإلمام المتزايد بالأديان والشعوب غير المسيحية، وتكاثر الملل وتبادل النقد فيما بينها، وتطور العلم، وازدياد الإيمان بالأسباب الطبيعية والقوانين الثابتة، والدراسة التاريخية والنقدية للكتاب المقدس، واستيراد أو ترجمة كتب خطيرة مثل "معجم" بيل و "الرسالة اللاهوتية السياسية لسبينوزا"، والكف عن رقابة الدولة على المطبوعات (1694)، ومكانة العقل الصاعدة، والمحاولات الجديدة للفلسفة، في أعمال بيكون، وهوبز، ولوك، لتفسير العالم والإنسان تفسيرات طبيعية وتلخيصاً لكثير من هذه العوامل-حملة الربوبيين (المؤلهة) Deists لاختزال المسيحية إلى مجرد الإيمان بالله والخلود.
وكانت تلك الحركة قد بدأت بكتاب "الحقيقة لهربرت" لورد تشربري في 1624، ونمت خلال القرن السابع عشر ومطلع الثامن عشر بتشارلز بلاونت، وجون تولاند، وأنتوني كولنز، وواصلت الآن سيرها بأثر متراكم في أعمال هويستن، وولستن، وتندال، ومدلتن، وتشب، وآنت، وبولنبروك. وقد طرد وليم هويستن الذي خلف نيوتن أستاذاً "لوكازياً" للرياضة في كمبردج من منصبه ذاك (1710) لأعرابه عن بعض الشكوك في الثالوث، فدافع عن أريوسيته في كتاب "أحياء المسيحية البدائية" (1712)، وأجهد نفسه ليثبت أن تنبؤات العهد القديم لا تشير إلى المسيح. فلما أقلع المدافعون عن المسيحية عن اتخاذ الحجج من التنبؤات، وبنوا ألوهية المسيح على المعجزات المروية في العهد الجديد، أطلق توماس وولستن سورته التي خلت من التوقير للمسيحية في "ستة أحاديث عن معجزات مخلصنا" (1727 - 30). يقول فولتير "لم يهاجم المسيحية قط مسيحي بمثل هذه الجرأة (16) ". وقد زعم وولستن أن بعض المعجزات لا تصدق، وبعضها غير معقول. ووجد أن مما لا يصدقه(35/172)
العقل أن يلعن المسيح شجرة تين لأنها لم تثمر تيناً في وقت مبكر من العام كوقت الفصح. وتساءل ماذا كان مربو الأغنام لصوفها فاعلين بيسوع لو أنه دفع أغنامهم إلى الموت كما فعل بخنازير الجدريين؛ إنهم كانوا "يستصدرون حكماً بإعدامه شنقاً"، لأن القانون الإنجليزي يعتبر هذا العمل جناية كبرى (17). وذهب وولستن إلى أن قصة قيامة المسيح خدعة مفتعلة خدع بها الرسل سامعيهم. وغطى هذا كله بتأكيدات زعم فيها أنه ما زال مسيحياً "قوياً كالصخرة". ومع ذلك أهدى كل حديث إلى أسقف مختلف، مع التنديد بكبرهم وجشعهم تنديداً حملهم على رفع دعوى القذف والتجديف عليه (1729). وحكمت عليه المحكمة بدفع غرامة قدرها مائة جنيه، وبتقديم ضمان لسلوكه سلوكاً حميداً في المستقبل. فلما عجز عن جمع المبالغ المطلوبة زج به في السجن. وقدم فولتير ثلث المبلغ، وجمع الباقي، وأفرج عن وولستن. ولا شك أن المحاكمة كانت إعلاناً عن "الأحاديث"، فبيع منها ستون ألف نسخة في بضع سنوات (18). روت "سيرة لوولستن" بقلم كاتب مجهول (1733) كيف أنه وهو سائر في سانت جورجز فيلدز، "لقيته شابة وسيمة وخاطبته بهذه الكلمات ... أيها الوغد العجوز، ألم تشنق بعد؟ " فأجابها وولستن "أيتها المرأة الطيبة، أنا لا أعرفك. فقولي لي من فضلك بما أسأت إليك"؛ فأجابت المرأة "لقد هاجمت مخلصي، فما الذي يحدث لنفسي الخاطئة المسكينة، لولا مخلصي الحبيب؟ -مخلصي الذي مات من أجل الخطاة الأشرار أمثالي (19) ".
وبلغت الدعوى الربوبية ذروتها في ماثيو تندال، زميل كلية جميع النفوس بأكسفورد. فبعد حياة هادئة محترمة كان أهم ما ميزها اعتناقه الكاثوليكية ثم تحوله عنها، نشر وهو في الثالثة والسبعين أول مجلد من كتابه "المسيحية قديمة قدم الخليقة" (1730). وخلف عند موته بعد ثلاث سنوات مخطوطة مجلد ثان وقع في يد أسقف فأتلفه. وفي وسعنا أن نقدر وقع المجلد الأول من الردود التي حاولت مناقضته وعددها 150، وهذا الكتاب هو الذي ابتعث كتاب الأسقف بطلر "أوجه الشبه بين الدين والطبيعة" وكتاب الأسقف باركلي "ألسيفرون" (أو الفيلسوف الصغير).(35/173)
وقد طوف تندال في غير ترفق بكل أوهام اللاهوت. فتساءل لم أعطى الله وحيه لشعب صغير واحد هم اليهود، وجعله حكراً عليهم أربعة آلاف سنة، ثم أ؟ رسل إليهم ابنه بوحي آخر ما زال بعد ألف وسبعمائة سنة مقتصراً على أقلية من الجنس البشري. فأي نوع من الآلهة يمكن أن يكون هذا الإله الذي استعمل هذه الطرق السقيمة بمثل هذه النتائج البطيئة الناقصة؛ وأي إله رهيب هذا الذي عاقب آدم وحواء على طلب المعرفة، ثم عاقب كل ذراريهم لمجرد أنهم ولدوا؟ يقول لنا أن السخافات التي يتضمنها الكتاب المقدس سببها أن الله وفق كلامه لغة سامعيه وأفكارهم. فيا له من هراء! لم لم يستطع أن يحدثهم بالحقيقة البسيطة بصورة مفهومة؟ ولم استخدم الكهنة وسطاء له بدلاً من أي يتحدث مباشرة إلى نفس كل إنسان. ولم سمح بأن يصبح دينه الموحي لشعب بعينه أداة اضطهاد، وإرهاب، وحرب، لا يخرج منه البشر بعد قرون من هذا التدبير الإلهي أكثر فضيلة منهم عن ذي قبل؟ -بل جعلهم في الواقع أشد ضراوة وقسوة مما كانوا في ظل العبادات الوثنية! أليس في كونفوشيوس أو شيشرون فضيلة أرفع مما في مسيحية التاريخ؟ إن الوحي الحقيقي موجود في الطبيعة ذاتها، وفي عقل الإنسان الممنوح من الله؛ والإله الحقيقي هو الإله الذي كشف عنه نيوتن، المهندس لعالم عجيب يعمل بعظمة وجلال وفق قانون ثابت؛ والفضيلة الحقة هي حياة العقل في انسجام مع الطبيعة، "فكل من ينظم ميوله الفطرية بحيث تؤدي إلى أقصى حد لاستخدام عقله، وصحة جسده، ولذات حواسه، مجتمعة كلها معاً (لأن في هذا سعادته) -له أن يثق بأنه لا يمكن أن يُغضِب خالقه الذي إذ يحكم كل الأشياء حسب طبائعها فهو لا بد يتوقع من مخلوقاته العاقلة أن تسلك وفق هذه الطبائع (20) ". تلك هي الفضيلة الحقة، تلك هي المسيحية الحقة "القديمة قدم الخليقة".
وواصل كونيَرز مدلتن الهجوم من الزاوية التاريخية. فبعد أن تخرج في كلية ترنتي بكمبردج رسم قسيساً، وبينما كان يكيل الضربة تلو الضربة للأيمان السني، واصل الممارسات الخارجية للعبادة المسيحية. وقد كتب طرفاً من أفضل النثر في عصره، وكتابه "سيرة شيشرون" (1741) ما زال إلى اليوم سيرة رائعة رغم كثرة(35/174)
ما استعارة من سير شيشرون التي سبقته. وقد أبهج زملاءه القساوسة حين أرسل إلى إنجلترا "رسائل من روما" (1739)، التي بين فيها بتفصيل ينم عن علم ودراية رواسب الطقوس الوثنية المتخلفة في مجموعة الطقوس الكاثوليكية-البخور، والماء المقدس، وآثار القديسين، والمعجزات، والقرابين المنذورة والأنوار القائمة أمام المزارات المقدسة، و "كبير الأحبار Pontifex Maximus" القديم الذي أصبح كبير أحبار روما Pontiff. وصفقت إنجلترا البروتستنتية للرسائل، ولكنها سرعان ما تبينت أن ولع مدلتن بالتاريخ يمكن أن يكدر صفو اللاهوت البروتستنتي كالكاثوليكي سواء بسواء. فلما دافع دانيال ووترلاند عن حرفية صدق الكتاب المقدس ووحيه رداً على تندال، أنذر مدلتن في "رسالة الدكتور ووترلاند" (1731) اللاهوتيين البروتستنت بأن تشبثهم بكل أساطير الكتاب المقدس باعتبارها تاريخاً فعلياً ليس إلا عملاً انتحارياً، لأن تقدم المعرفة سوف ينبذ أن عاجلاً أو آجلاً مثل هذه الخرافات ويُكره المدافعين المسيحيين على التقهقر في خجل إلى موقف أكثر تواضعاً. ثم لجأ مدلتن إلى حجة فضحت ما كان لدراسته للتاريخ من أثر في إيمانه الديني فقال: "حتى ولو كان اللاهوت المسيحي لا يصدق، فإن المواطن الصالح سيساند المسيحية والكنيسة المسيحية باعتبارهما درعاً للنظام الاجتماعي يوفر روادع ممتازة للهمجية الكامنة في طبيعة البشر (21) ".
وأخيراً أصدر مدلتن أهم أعماله، تحقيق حر في القوى الأعجازية المزعون أنها وجدت في الكنيسة المسيحية خلال العصور المتعاقبة" (1748) -وهو كتاب عدّه هيوم بعد ذلك أسمى من مقالة المعاصر "في المعجزات" (1748). وقد بدأ بالتسليم بحجية المعجزات المنسوبة في الأسفار القانونية من العهد الجديد إلى المسيح أو رسله، وأراد أن يظهر فقط أن المعجزات المنسوبة إلى آباء الكنيسة وقديسيها وشهدائها بعد القرن الميلادي الأول غير جديرة بالتصديق، ومجرد سرد تلك القصص يكفي للكشف عن سخفها. وقد أمّن بعض آباء الكنيسة على مثل هذه القصص وهم يعلمون زيفها؛ ونقل مدلتن عن موزهايم، المؤرخ الكنسي العلامة، تصريحه بالخوف من أن "الذين يبحثون بشيء من العناية كتابات أعظم وأقدس لاهوتيي القرن الرابع(35/175)
سيجدونهم كلهم وبلا استثناء ميالين إلى الخداع والكذب كلما اقتضت ذلك مصلحة الدين (22) ".
وفي كتاب مدلتن عيوب كثيرة. فقد فاته أنه هو أيضاً زكى الخداع بالجملة دعماً للمسيحية، وغفل عن أن من التجارب الغريبة، كإخراج "المس الشيطاني"، أو كسماع القديس أنطونيوس للشيطان واقفاً ببابه، ما يمكن أن ينشأ عن قوة الإيحاء أو الخيال، وربما بدت هذه التجارب من قبيل المعجزات لمن رووها بأمانة. على أي حال كان من أثر هذا "التحقيق الحر" أنه سلّط على معجزات العهد القديم ثم على معجزات العهد الجديد، طرق النقد ذاتها التي طبقتها مدلتن على عصر آباء الكنيسة، وكان خصومه الكاثوليك محقين تماماً حين زعموا أن حججه من شأنها إضعاف كل الأساس الإعجازي للإيمان المسيحي. ولعل مدلتن قد قصد إلى هذا. ولكنه احتفظ بترقياته الكنسية إلى النهاية.
كان اعتناق بولنبروك للربوبية سراً مخفي وعدوى متفشية في الطبقة الأرستقراطية. ففي كتاباته التي حبسها عن النشر في حياته صوّب قدحه المفعم بالازدراء إلى جميع الفلاسفة تقريباً فيما عدا بيكون ولوك. فلقب أفلاطون بأبي الكذب اللاهوتي، وسمي القديس بولس "حالماً متعصباً" وليبنتز "مشعوذاً كيميائياً (23) " والميتافيزيقيين "مجانين مثقفين" ووصف كل القائلين بتميز النفس عن الجسد بأنهم (24) "معتوهون روحيون" وسخر من العهد القديم لأنه خليط من الهراء والأكاذيب (25). ولقد صرح بإيمانه بالله، ولكنه رفض ما بقي من العقيدة المسيحية. فكل المعرفة عنده نسبية وغير يقينية. يقول: "ينبغي لنا دائماً أن نكون غير مؤمنين ... ففي الدين، والحكم، والفلسفة، ينبغي أن نتشكك في كل شيء مقرر (26) " وألقى وراء ظهره بآخر تعزيات الشكاك وهي الإيمان بالتقدم؛ فكل المجتمعات تمر بدورات "من النشوء إلى الفساد، ومن الفساد إلى النشوء (27) ".
وفي 1744 ورث بولنبروك ضيعة الأسرة في باترسي، وغادر(35/176)
فرنسا لينفق هناك آخر سني صراعه مع المرض واليأس. وهجره أصحابه القدامى لانهيار نفوذه السياسي وحدة طبعه. وأنهى موت زوجته الثانية (1750) اهتمامه بشئون البشر، "في كل سنة ازداد عزلة في هذه الدنيا (28) " وهذا عقاب الأنانية. وفي 1751 ابتلى بالسرطان الذي انتشر في وجهه فأملي وصية تتسم بالتقوى، ولكنه رفض أن يسمح لأي قسيس بالاهتمام بروحه (29). ومات في 12 ديسمبر بعد ستة شهور من العذاب، بغير أمل لا لنفسه ولا للبشر. لقد أخذ اضمحلال الإيمان الديني يولد ذلك التشاؤم الذي سيصبح العلة الخفية التي تبتلي بها النفس العصرية.
3 - الدفع الديني
أما المدافعون عن المسيحية فلم يقابلوا الهجوم الربوبي بأي استسلام أو هزيمة، بل إنهم على العكس من ذلك ردوا الهجوم بكل ما أوتي تندال أو مدلتن أو بولنبروك من قوة عارمة، وعلم واسع، وأسلوب مقذع. واعتمد المدافعون الأضعف شأناً، مثل تشاندلر أسقف لتشفيلد، ونيوتن أسقف لندن، على الحجج البالية، وهي أن اليهود كانوا ينتظرون في حرارة وشوق مجيء "المسيا" حين أتى المسيح، وإن كثيراً من النبوءات اليهودية تحققت على يديه؛ أو رجعوا-كما فعل شرلوك أسقف لندن وبيرس أسقف روتشستر-إلى الشواهد الكثيرة على قيامة المسيح. وركز شرلوك وغيره على أن الأدلة على معجزات المسيح غامرة ساحقة، وفيها كفاية لدعم ألوهية المسيح والمسيحية. وقال شرلوك إن رفض حدث توافرت الأدلة على صدقة لأنه يناقض تجربتنا عمل شديد الخطر، فعلى الأساس نفسه رفض سكان المدارين أن يؤمنوا بحقيقة الثلج. فإذا زعمنا أن الأشياء لا يمكن أن تكون غير ما عرفناها، "تجاوزنا أعلام حواسنا، وقامت النتيجة على الهوى لا على العقل (30) ". وليس في إمكاننا التأكد من أن الإنسان لن يقوم من الأموات برغم تجربتنا الواسعة، الضيقة في حقيقتها. فانظر كم من العجائب التي نقبلها الآن على أنها أحداث عادية في حياتنا كنا من قبل نظنها بعيدة التصور!(35/177)
أما جورج باركلي، الذي ترك بصمته على الفلسفة في السنوات 1709 - 13، فقد أدلى بدلوه في الجدل من جزيرة رود بكتاب "ألسيفرون" أو الفيلسوف الصغير (1733)، وهو حوار يتألق بالتفكير الجريء والأسلوب المرح. والسيفرون هذا يصف نفسه بأنه رجل حر التفكير، تقدم من التسامح الديني إلى الربوبية إلى الإلحاد، وهو الآن يرفض الدين كله باعتباره خداعاً يموه به الكهان والحكام على الناس؛ وهو يأبى الإيمان بأي شيء غير الحواس، والعواطف، والميول الفطرية؛ ويندز بوفرانور (لسان حال باركلي) الربوبيين بأن عقيدتهم مفضية إلى الإلحاد، وأن الإلحاد سيفضي إلى انهيار الفضيلة. قد يكون هناك بعض الملحدين الأفاضل، ولكن ألا تولد عقيدتهم، إذا ما قبلتها الجماهير، الإباحية والتمرد على القانون؟ وهؤلاء المتشككون في الدين ينبغي أن يتشككوا في العلم أيضاً، لأن كثيراً من دعاوي العلماء-كما هي الحال في الرياضة العليا-تتجاوز تماماً شهادة حواسنا أو تناول فهمنا. وما من شك في أن عقيدة التثليث ليست أعصى على الفهم من الجذر التربيعي لناقص واحد.
وأما وليم وربرتن فلم يكن بالرجل الذي يرسي إيمانه أو موارده الكنيسة على أساس واه كجذور باركلي الصماء. فبعد أن دُربّ لممارسة المحاماة، ورُسم قساً أنجليكانياً، شق طريقة وسط غابة اللاهوت بكل ما أوتي الذهن القانوني من براعة يقظة. ولعله كان أصلح للجيش منه للمحاماة أو لرداء الكهنوت، فقد كان يستطيب العراك، وما كان يستطيع النوم في الليل إلا إذا أردى خصماً في النهار. وقد وصف حياته بأنها "حرب على الأرض، أي على المتعصبين والمنحلين، الذين أعلنت عليهم الحرب الأبدية كما فعل هانيبال أمام المذبح (31) ". واتسع مرمى سهامه وبعد، فإذا أخطأت الخصوم قتلت الأصدقاء. وقد وصف معاصريه بأوصاف محكمة. فجونسن "بلطجي" خبيث وقح، وجاريك "إذا انحرف مرة وتكلم كلاماً له بمعنى كان أقرب إلى الهراء"، وسموليت "اسكتلندي متشرد" يكتب "لغواً مضروباً في عشرة آلاف"، وفولتير "وغد" يتمرغ في "أقذر بالوعات التفكير الحر (32) ".(35/178)
وقد ظهرت رائعته الضخمة ذات المجلدين في 1737 - 41 بعنوان "رسالة موسى الإلهية مفسرة طبقاً لمبادئ ربوبي ديني" وكانت حجتها مبتكرة وفذة. فالأيمان بحالة مستقبلة من الثواب والعقاب لا غنى عنه للنظام الاجتماعي (وهو ما وافق عليه الكثير من الربوبيين)، ولكن موسى وفق في تنظيم الحياة اليهودية وأبلاغها حالة من الرخاء والفضيلة بغير ذلك الإيمان، ولا تفسير لهذه المعجزة إلا بالإرشاد الإلهي لموسى واليهود، ومن ثم فرسالة موسى ونواميسه الهية، والكتاب المقدس كلمة الله. وأحس وربرتن أن هذا الإيضاح "قريب كل القرب من اليقين الرياضي (33) " ولم يكن زملاؤه اللاهوتيون سعداء كل السعادة برأيه في أن الله أرشد اليهود خلال 613 قانون وأربعة آلاف سنة دون أن يعلمهم أن نفوسهم خالدة. ولكن المؤلف القوي ملأ صفحاته ببحوث علمية-عن طبيعة الفضيلة، وعن التحالف الضروري بين الكنيسة والدولة، وعن ديانات الأسرار والشعائر في العصور القديمة، وعن أصل الكتابة، وعن معنى الرموز الهيروغليفية، وعن التاريخ المصري، وعن تاريخ سفر أيوب، وعن أخطاء أحرار الفكر، والآثريين، والعلماء، والمؤرخين، والتوحيديين والأتراك، واليهود-حتى لقد ذهلت إنجلترا بأسرها لثقل علمه واتساع مداه. وتقد وربرتن من معركة إلى معركة-ضد كروساز، وثيوبورلد، وبولنبروك، ومدلتن، ووسلي، وهيوم-حتى بلغ أسقفية جلوستر المريحة المجزية.
وأما جوزيف بطلر فكان ألين عوداً ولكنه أكثر رهافة وتهذيباً، رجلاً بالغ الرقة والتواضع والإحسان، حَزّ في نفسه كثيراً أن يرى الدين الذي أعان على فطن الحضارة الأوربية من الهمجية، يواجه امتحاناً من أجل حياته. وقد صدمه الإقبال الذي لقيته مادية هوبز في الطبقات العليا. فلما عرضت عليه (1747) رآسه أسقفية كنتربري-وهي أعلى منصب كنسي في إنجلترا-رفضها معتذراً بأنه قد "فات وقت محاولة دعم كنيسة متداعية (34) ". وفي 1751 أعرب عن فزعه "لما أصاب الدين من انحلال شامل في هذه الأمة .. فتأثيره يبلي أكثر فأكثر في أذهان الناس ... وعدد الذين يجهرون بالكفر في ازدياد، وتحمسهم للكفر يزداد بتزايد عددهم (35) ". وقد أدهش(35/179)
صديقه "دين تكر" بسؤاله: ألا يجوز أن تصاب الأمة كما يصاب الفرد بالجنون؟ وكأنه شعر أن شعباً من الشعوب قد يصاب بفقد الذاكرة الروحي إذا تخلى عن تراثه الديني والخلقي.
ومع ذلك كرس حياته في محاولة لرد اعتبار عقلي للإيمان المسيحي. فنشر وهو ما زال قسيساً شاباً في الرابعة والثلاثين "خمس عشر عظه" (1726) لطف فيها من تحليل هوبز المتشائم للطبيعة البشرية، فزعم أن الإنسان وإن كان في نواح كثيرة شريراً بطبيعته، إلا أنه بطبيعته أيضاً كائن اجتماعي أخلاقي، فيه إحساس فطري بالحق والباطل. وقال إن العناصر الأسمى في كيان الإنسان تدين بأصلها لله، الذي هي صوته، وعلى هذا الأساس أقام نظرية عامة تقول بأن هناك قصداً إلهياً يتخلل العالم. وأعجبت كارولين بحجته، وفي 1736 عين بطلر كاهناً خاصاً للملكة.
في ذلك العام نشر كتاباً ظل طوال قرن أهم حصن لحجج المسيحية ضد الإلحاد، واسمه "وجه الشبه بين الدين الطبيعي والموحي، وبين تكوين الطبيعة ومسلكها" وقد كشفت مقدمة الكتاب عن مزاج العصر:
"لقد انتهينا-ولا أدري كيف انتهينا-إلى حال أصبح فيها من القضايا المسلمة عند الكثيرين، إن المسيحية ليست موضوعاً يكثر فيه البحث والتحقيق إلا لأنه قد تبين آخر الأمر أنها ديانة زائفة. ومن ثم يتناولونها وكأن هذا بات الآن نقطة يجمع عليها كل أصحاب الفطنة والتمييز، فلم يبق إلا أن يجعلوا منها هدفاً رئيسياً للهزء والسخرية، وكأنهم يعاقبونها لأنها قطعت على الناس لذات الدنيا هذا الزمان الطويل (36) ".
وإذ قصد بالكتاب أن يكون رداً على الربوبيين، فإنه افترض وجود الله. وكان "الدين الطبيعي" الذي يدين به الربوبيون يقبل "إله الطبيعة"، مخطط العالم وصانعه الأعظم، ولكنه يرفض الإله الذي صوره الكتاب المقدس، وهو إله ظالم ظلماً بيناً، لأنه لا يتفق أبداً وهذا المفهوم السامي. وأراد بطلر أن يبين أم في الطبيعة من علامات الظلم(35/180)
والقسوة ما لا يقل عما في "يهْوه" كما صوره العهد القديم؛ وأنه لا تناقض بين إله الطبيعة وإله الوحي، وأن الذين قبلوا أحدهما ينبغي منطقياً أن يقبلوا الآخر. ويبدو أن كاهن الملكة الخاص، الطيب، لم يدر بخلده قط أن بعض الشكاك الوقحين قد يخلصون من هذه الحجة (كما خلص جيمس مل) إلى أنه لا هذا الإله ولا ذاك جدير بأن يعبده المتحضرون.
وأقام بطلر حجته في وجود الإلهين، وفي أنهما واحد، على الترجيح والاحتمال. فقال إن عقولنا ناقصة، وأنها عريضة لكل ضروب الخطأ، فليس في إمكاننا أن نصل إلى اليقينية لا في مر الله ولا في أمر الطبيعة؛ وحسبنا الترجيح، والترجيح يؤيد الإيمان بالله والإيمان بالخلود. وواضح أن النفس أسمى من الجسد، لأن أعضاء الجسد أدوات النفس وخدامها. والنفس، التي من الواضح أنها جوهر الإنسان، لا داعي لفنائها مع الجسد، وأغلب الظن أنها عند الموت تبحث عن أدوات جديدة في مرحلة أعلى. وليس من المريح للطبيعة أن يتغير كائن من صورة أدنى إلى صورة أعلى-كتغير الكائنات الزاحفة مثلاً إلى كائنات مجنحة، أو تغير الخادرة إلى فراشة؛ وقياس آخر يرجح أنه سيكون في حياة النفس بعد موت الجسد ألوان من الثواب والعقاب-مع الافتراض دائماً بأن الله موجود. فكما أننا نعاقب المجرمين على جرائمهم ضد المجتمع، كذلك تعاقب الطبيعة في معظم الحالات الناس على ما اقترفوا من آثام؛ ولكن بما أن هناك أمثلة كثيرة لا تلقى فيها الرذيلة عقاباً واضحاً، في هذه الحياة، لذلك كان مما لا يصدق أن الله لن يعيد، في حياة أخرى، علاقة أكثر إنصافاً بين السلوك والمصير. وضميرنا، حسنا الخلقي، لا يمكن أن يكون قد جاءنا إلا من لدن إله عادل.
وأكثر ما لحجج بطلر من أهمية في عصرنا هذا مرجعه أنها توضح مرحلة في تطور العقل العصري. ونحن إذا نظرنا إليها باعتبارها موجهة أصلاً ضد الربوبيين وجدنا فيها فكرة لا يستهان بها؛ فالذين قبلوا شهادة القصد الإلهي في الطبيعة، لا مبرر لهم في فرض الكتاب المقدس بسبب الإله القاسي المعلن عنه في العهد القديم، لأن إله الطبيعة(35/181)
لا يقل عنه قسوة. لقد كانت طريقة غاية في الأصالة في الدفاع عن المسيحية. والظاهر أن بطلر لم يتوجس من أن هذه الحجة قد لا تفضي إلى المسيحية، بل إلى شيء أشد دفعاً من اليأس إلى الكفر-إلى النتيجة التي خلص إليها توماس هنري هكسلي، وهي أن القوى المطلقة في الكون أو وراءه غير أخلاقية، تتناقض أشد التناقض مع ذلك الإحساس بالحق والباطل الذي بنى عليه بطلر، كما بنى عليه كانط، الكثير من لاهوته. على أية حال كان كتاب "وجه الشبه" خطوة إلى الأمام ولو في هدوئه ولطفه، فهنا لا توجد كراهية لاهوتية، ولا قدحاً دينياً، بل محاولة جادة من الكاتب للتأدب حتى مع أولئك الذين بدوا أنهم يدمرون أعز آمال البشر. ورحبت الملكة كارولين بالكتاب لأنها رأت فيه أفضل دفاع ظهر إلى ذلك الحين عن العقيدة المسيحية. وأوصت وهي على فراش الموت بترقية بطلر، فعينه جورج الثاني أسقفاً على برستل، ثم ناظراً على كتدرائية القديس بولس، وأخيراً أسقفاً على درم. وهناك ضرب بطلر المثل لزملائه بالعيشة البسيطة والتصدق على الفقراء بجانب كبير من دخله.
وقد ترك كتابه للكفر منافذ كثيرة حتى إن كثيراً من رجال الكنيسة أشاروا بالكف عن هذا الجدل، وآثروا أن يرسوا إيمانهم عن الحاجات والعواطف الدينية بعيداً عن سهام العقل. مثال ذلك إن كتاب هنري دودويل "المسيحية دون أساس من الجدل" (1742) يرفض الجدل العقلي في المسائل الروحية، لأنه لا يهدي إلى الحقيقة، وأقل من ذلك إلى السعادة، إنما هو رقصة موهنة ترقص فيها الحجج المؤيدة والمعارضة، وما من إنسان يقيم إيمانه على مثل هذه الأسس المائعة. وذهب دودويل إلى أن حجج كلارك، ووربرتن، وبطلر، وغيرهم من المدافعين المسيحيين، قد هزت من الإيمان الديني أكثر مما قوت، وربما لم يكن هناك إلحاد لولا أن المحاضرين في محاضرات بويل التذكارية دأبوا كل عام على تنفيذ الإلحاد. إن المسيح لم يجادل، بل علم كمن له سلطان. فانظر إلى أي شخص متدين حقاً، تجد فيه اقتناعاً باطنياً، لا استنتاجاً عقلياً؛ فالإيمان للنفس البسيطة يجب أن يكون تقليداً مقبولاً، وللروح الناضجة يجب أن يكون شعوراً مباشراً بواقع فوق الطبيعة.(35/182)
أما وليم لو، فبعد أن ترك بصمته على الجدل مع الربوبيين، دفعته قراءة يعقوب بومي إلى التحول من الجدل إلى الصوفية؛ وفي نصف القرن الذي نحن بصدده، والمتسم بالمادية والكلبية الظافرتين، كتب عن الوجود الباطن للمسيح ومحبته الفادية بحرارة وثقة كأنه توماس أكمبيس مولوداً من جديد دون أن يطرأ على تغيير. وقد ضحّى بكل المطامع الدنيوية برفضه حلف اليمين التي تعترف بجورج الأول رأساً للكنيسة الإنجليزية؛ فحرم زمالته بكمبردج، واستُردت درجاته الجامعية. ثم أصبح معلماً خاصاً لأبي إدوارد جيبون، ومكث مع تلك الأسرة ردحاً كفى لأن يذكره المؤرخ (جيبون). قال هذا الشاك "لقد ترك في أسرتنا سمعة الرجل الفاضل التقي الذي يؤمن بكل ما يصرح به، ويمارس كل ما يأمر به (37) " وقد أثنى جونيسن على كتاب لو "دعوة جادة إلى حياة تقية مقدسة" (1729) وقال أنه "أروع قطعة من اللاهوت الوعظى في أي لغة (38) " فمن المؤكد أن صوفية الكتاب أصح من تلك التي تتوه في رؤى خارقة، سماوية كانت أو جهنمية. كتب لو يقول: ليس هناك شيء خارق للطبيعة في نظام فدائنا كله، فكل جزء فيه له أساس في أعمال الطبيعة وقواها، وكل فدائنا إنما هو الطبيعة مصححة. "وليست الجحيم مكاناً، بل هي حالة النفس المضطربة، ولا الجنة مكاناً، ولا "حالة غريبة، منفصلة، مفروضة"، بل هي سعادة نفس في نظام وسلام (39). ومع أن لو كان عضواً مخلصاً في الكنيسة الإنجليزية، فإنه كان يحلم برهبنة مجددة بروتستنتية. يقول:
"أذن لو أن أشخاصاً من الجنسين ... تواقين إلى الكمال، تجمعوا في جماعات صغيرة، تنذر الفقر الاختياري، والتبتل، والعزلة، والعبادة، حتى تخفف صدقاتهم حاجة البعض، ويتبارك الجميع بصلواتهم وينتفعوا بقدوتهم ... هؤلاء لا يتعرضون للاتهام بأي ميل للخرافة أو تعبّد أعمى ... بل يمكن أن يقال حقاً وصدقاً أنهم يستعيدون تلك التقوى التي كانت فخر الكنيسة ومجدها على حياة قديسيها العظام (40) ".
وقد أثرت مثل لو العليا ونثره الرائع في عمة جيبون، هستر جيبون،(35/183)
تأثيراً حملها هي وأرملة غنية على الذهاب للعيش بقربه في مسقط رأسه كنجزكليف بنورثمتونشير، وكرستا أكثر دخلهما لأعمال البر تحت إشرافه. وقد وجد هذا الرجل سعادته في توزيع الطعام والثياب والعظات على الفقراء والمرضى والمحرومين، وهو الذي كان في يوم ما طالب علم شغوفاً بالبحث، محباً للصحبة المثقفة المهذبة. فأنكر جميع لذات الدنيا تقريباً، وجدد الحملة البيورتانية على المسرح باعتباره "بيت الشيطان" أو على الأقل "شرفة الجحيم (41) ". ولم يكن الخلق الإنجليزي، ولا مزاج العصر، حفيين بصوفية لو، وبدا أنه مختتم حياته في خمول ذكر عقيم، وإذا جون وسلي يأتي ليجلس عند قدميه.
4 - جون وسلي
1703 - 1791
إذا أردنا أن نفهم مكانه في التاريخ وجب أن نذكر أنفسنا ثانية بأنه حين أسس هو وأخوه تشارلز الحركة المثودية Methodism في أكسفورد (1729) كان الدين في إنجلترا أحط منزلة مما كان في أي فترة من فترات التاريخ الحديث. فلم يكن يختلف إلى الكنيسة من أعضاء مجلس العموم أكثر من خمسة أو ستة (42). وكان رجال الأكليروس الأنجليكاني قد غالوا في قبولهم العقلانية غلوا جعلهم يبنون كل كتاباتهم تقريباً على الجدل العقلي. وندر أن ذكروا الجنة أو النار، وكانوا يؤكدون على الفضائل الاجتماعية دون الغيبيات. والعظة الإنجليزية كما وصفها فولتير كانت "رسالة جدية ولكنها جافة أحياناً، يقرؤها رجل على الشعب دون إيماءة ودون أن يرفع صوته رفعاً ملحوظاً (43) ". ولم يكن الدين نشيطاً حاراً إلا في المذاهب المنشقة التي تتبعها الطبقة الوسطى. وكان عمال المدن مهملين إهمالاً كلياً تقريباً من الأكليروس الأنجليكاني، "كان هناك فرقة ضخمة تتألف من أدنى الطبقات، أفرادها بعيدون عن متناول التعليم أو الدين، لا دين لهم، ولم يعلموا ديناً على الإطلاق (44) "، وقد أسلموا إلى فقر لا يضيئه نور الأمل الديني إلا قليلاً. في هذه الخلفية أحيا جون وسلي وجورج هوايتفيلد العقائد والآداب البيورتانية أحياء قوياً وأسساً الكنيسة المثودية.(35/184)
كان اللاهوت والثورة يجريان في عروق آباء وسلي. فجده الأكبر برتلميو وستلي طرد من وظائف القسوسية في دورست لأنه واصل العبادة المنشقة بعد أن رُدّ الاحتكار الكنسي في إنجلترا للكنيسة الأنجليكانية. وأصبح جد جون، جون وستلي، قسيساً في دوريست، وسجن لرفضه أن يستعمل كتاب الصلاة العامة، وطرد من القسوسية، وأصبح راعياً منشقاً في بول. وأسقط والد جون، واسمه صموئيل وسلي، حرف التاء من اسمه، وشق طريقه إلى أكسفورد، وهجر المنشقين، ورسم قسيساً أنجليكانياً، وتزوج سوزانا آنزلي (وكانت بنت واعظ) وأصبح قسيس ايبورث في لنكولنشير، ومات من أبنائه التسعة عشرة ثمانية في طفولتهم-وفي هذا بيان لشقاء النساء، وفحولة القساوسة المستهترة، ونوعية الطب في إنجلترا القرن الثامن عشر. وكان الأب مؤدّباً صارماً في البيت وعلى المنبر، نشّأ أبناءه على الخوف من إله منتقم، وأدان إحدى رعايا أبرشيته بالزنا، وأجبرها على السير في الشارع في مسوح التوبة (45). وكانت زوجته ضريباً له في الصرامة والتقوى. فلما بلغ ابنها الأشهر التاسعة والعشرين شرحت له فلسفتها في التربية الخلقية فقالت:
"إنني أصر على قهر إرادة الأطفال في وقت مبكر، لأن هذا هو الأساس القوي والمعقول الوحيد للتربية الدينية، الذي بدونه لا يكون للتعاليم ولا للقدوى جدوى. ولكن متى قهرت هذه الإرادة قهراً تاماً أصبح في الإمكان أن يحكم الطفل بعقل أبويه وتقواهما، إلى أن يبلغ فهمه درجة النضج ... فإذا بلغ الطفل عاماً كانوا (أي أطفالها) يعلمون أن يخافوا العصا ويبكوا بصوت خافت، وبهذه الطريقة وفروا على أنفسهم الكثير من العقاب الذي كان يصيبهم إن لم يفعلوا (46) ".
وأصبح أكبر أبنائها، صموئيل وسلي الثاني، شاعراً وعالماً وقسيساً أنجليكانياً أنكر على أخويه مذهبهما المثودي. وكان الطفل الثامن عشر هو تشارلز وسلي، الذي دعم مواعظ أخيه جون دعماً قوياً بترانيم بلغ(35/185)
عددها 6. 500. أما جون فكان الخامس عشر، وهو مولود بايبورث في 1703. فلما بلغ السادسة احترق بيت القسيس، وتركته الأسرة وسط النيران ظناً منها أنها قضت عليه، ولكنه أطل من شبك في الطابق الثاني، فأنقذه جار وقف على كتفي آخر، وسمى نفسه بعد ذلك "جمرة اختطفت من بين المحترقين" ولم يتغلب قط على خوفه الشديد من الجحيم. وفي بيت أبيه كانت أي ضوضاء غير واضحة السبب، تفسر على أنها وجود خارق للطبيعة، شيطاني أو إلهي.
وحين بلغ جون الحادية عشرة أرسل إلى مدرسة تشارتر هاوس الحرة، وفي السابعة عشرة إلى كرايست تشيرش بأكسفورد. وقد تغلب على ضعف صحته بإدمان المشي والركوب والسباحة، فعمرّ حتى بلغ الثامنة والثمانين. وقرأ كثيراً، واحتفظ بمذكرات ومقتطفات من قراءته توخى فيها التدقيق والعناية. وكان أحب الكتب إليه كتاب جيرمي تيلر "الحياة المقدسة والموت المقدس"، وكتاب توماس أكمبس "محاكاة المسيح". وبدأ-حتى في أيام دراسته بالكلية-تلك اليومية التي هي إحدى آيات الأدب الإنجليزي والتقوى البروتستنتية. وقد كتب بعضها بالشفرة والاختزال. وفي 1726 عين زميلاً بكلية لنكولن، وفي 1728 رسم قسيساً أنجليكانياً.
وأخوه تشارلز هو الذي بدأ بجمع في أكسفورد جماعة صغيرة من نحو خمسة عشر طالباً ومعلماً اعتزموا ممارسة المسيحية بدقة منهجية. وأعداؤهم هم الذين خلعوا عليهم تهكماً وازدراء أسمى "النادي المقدس" و "المثوديين". وكانوا يقرءون معاً العهد الجديد اليوناني والآداب القديمة، ويصومون كل أربعاء وجمعة، ويتناولون العشاء الرباني كل أسبوع، ويتفقدون المسجونين والمرضى ليقدموا لهم العزاء والأمل الديني، ويرافقون المحكوم بإعدامهم إلى المشنقة. ووصل جون وسلي إلى تزعم الجماعة بفضل شدة حماسته وتقواه، فكان يستيقظ كل يوم في الرابعة-وهي عادة احتفظ بها حتى وهو طاعن في السن،(35/186)
ويخطط منهجياً في كل صباح الأعمال التي تؤدى في كل ساعة من ساعات اليوم. وكان يعيش على ثمانية وعشرين جنيهاً في العام، ويوزع باقي دخله على أعمال البر. وقد أكثر من الصوم حتى بدا مرة أنه قد دمر صحته تدميراً لا برء منه. وكان يحج راجلاً إلى وليم لو يلتمس منه النصيحة، وأصبح كتاب لو "دعوة جادة إلى حياة تقية مقدسة" مرشده الروحي. تقول يومياته أنه من هذا الكتاب "فاض النور على نفسي بقوة حتى ظهر كل شيء في صورة جديدة (47) ".
وفي 1735 دعا الجنرال أوجثلورب جون وتشارلز ليرافقاه مبعوثين دينيين إلى جورجيا. وإذ كان أبوهما قد مات فإنهما التمسا مشورة أمهما. فقال لهما "لو كان لي عشرون ولداً لأبهجني أن إلى يُدعَوا إلى مثل هذا، حتى ولو لم أرهم بعد ذلك أبداً (48) ". فليت شعري أني لنا نحن المجردين من التقوى أي نفهم هذه التقوى؟ وأرجئت جلسات "النادي المقدس" إلى أجل غير مسمى، وفي 14 أكتوبر أبحر جون وتشارلز و "مثوديان" آخران على السفينة سيموندز" قاصدين سافانا. وفي السفينة أثرت فيهم التقوى المرحة التي آنسوها في بعض "الأخوة المورافيين" الذين قدموا من ألمانيا ليستوطنوا أمريكا، فلما هاجمت عاصفة هوجاء المركب الصغير لم يبد على المورافيين أثر لخوف، وقارعوا رياح العاصفة بترانيمهم القوية، وأحس الوسليان أن هذا إيمان يفوق إيمانهما قوة.
فلما بلغا جورجيا (5 فبراير 1736) اتخذا منصبين مختلفين، فأصبح تشارلز سكرتيراً للحاكم أوجثلورب، وجون راعياً للجالية الجديدة، ومرسلاً بين الحين والحين للهنود الحمر المجاورين. وأثنى أول الأمر على الهنود لشوقهم إلى تقبل الإنجيل، ولكنه وصفهم بعد عامين بأنهم "شرهون، لصوص، مراءون، كذابون، قتلة لآبائهم، قتلة لأمهاتهم، قتلة لأبنائهم"، وقيل إنه "لم يوفق مع الهنود (49) ". أما السكان البيض، الذين كانوا يضمون مئات من(35/187)
المجرمين المنفيين، فقد أنكروا لهجته الأكسفوردية وروحه الآمرة الناهية وإصراره على أدق قواعد الطقوس والنظام. ففي العماد اشترط التغطيس الكامل ثلاث مرات، فإذا اعترض والد رفض أن يعمد الطفل. وإذ كان لا يزال "كنسياً طقسياً من النوع الشديد التزمت (50) ". فإنه أقصي عن تناول القربان رجلاً كريماً اعترف بأنه من المنشقين، وأبى أن يقرأ صلاة الجنازة على مستعمر لم ينكر مذهبه المنشق قبل موته، وحرم على النساء من رعيته أن يلبسن الملابس الغالية أو الحلي الذهبية، وأقنع الحاكم أن يحرم صيد السمك وقنص الحيوان في يوم الأحد-وهو اليوم الوحيد الذي كان يتاح فيه لرعيته فراغ من الوقت للصيد أو القنص. وقد افتتن بصوفيا هوبكي، ابنة أخت كبير قضاة سافانا البالغة من العمر ثمانية عشر ربيعاً. ولكن أصحابه المورافيين لم يرضوا عنها. فلما سئمت تردده تزوجت رجلاً يعى ولكنسون. وحين تقدمت لتناول القربان أبى أن يناولها السر بحجة أنها لم تتناول سوى ثلاث مرات في الشهور الثلاثة الأخيرة، وأنها أهملت أن تطلب إلى راعيها إذاعة إعلان زواجها. فرفع زوجها عليه الدعوى لتشهيره بخلق زوجته، وأدانت المحكمة سلوك وسلي خطيباً وخدماته كاهناً، فرفض الاعتراف بحقها في محاكمته، وتفاقم عداء الشعب له، ففر غلى تشارلزتن واستقل سفينة إلى إنجلترا (22 ديسمبر 1737).
وفي لندن استأنف تقشفاته أملاً في أن ترد إليه ثقته بنفسه، ولكن بيتر بولر، وكان واعظاً مورافياً في طريقه إلى أمريكا، أكد له أن إيمانه ما زال ناقصاً، وأنه مهما كانت فضائله كاملة وتقواه وطقسيته حارتين، فسيظل في حالة الهلاك الأبدي، حتى يدرك-بومضة إلهية من الإشراق واليقين، مختلفة كل الاختلاف عن أي عملية استدلال عقلي-أن المسيح قد مات لأجله هو، وأنه كفر عن خطاياه هو؛ فبعد هذا التغير دون سواه يكون الإنسان في مأمن من ارتكاب الخطايا وعلى ثقة من الخلاص. وقد خلد وسلي في يوميته ذلك "اليهود المشهود" 24 مايو 1738 الذي وافته فيه هدايته النهائية، قال:(35/188)
"ذهبت في المساء على مضض شديد إلى جمعية في شارع أولدرزجيت، حيث كان أحدهم يقرأ مقدمة لوثر لرسالة بولس إلى أهل رومية. وفي نحو التاسعة إلا ربعاً، بينما كان يصف التغيير الذي يحدثه الله في القلب بالإيمان بالمسيح، شعرت بقلبي يدفأ على نحو عجيب. شعرت بأنني فعلاً أثق بالمسيح، والمسيح وحده، للخلاص، وأعطيت تأكيداً بأنه نزع خطاياي، خطاياي أنا، وخلصني من ناموس الخطية والموت. وبدأت أصلي بكل ما أوتيت من قوة لأجل أولئك الذين أساءوا إليَّ واضطهدوني أشد من غيرهم. ثم شهدت علانية لجميع الحاضرين بما شعرت به الآن في قلبي لأول مرة (51) ".
ويمكن القول بإيجاز أنه لخص تطور المسيحية من الخلاص بالإيمان والأعمال، إلى الخلاص بالإيمان وحده (لوثر)، إلى الخلاص بإشراق شخصي وإلهي (الكويكرز). وعبر وسلي البحر إلى ألمانيا في صيف 1738 وهو عارف بصنيع بولر، وأنفق عدة أسابيع في هرنوت، القرية السكسونية التي أنشئت فيها مستعمرة للاخوة المورافيين على ضياع كونت زنزندورف.
وكان تشارلز وسلي خلال ذلك قد جاز بتغيير مماثل عند عودته إلى إنجلترا، وبدأ بطريقته الأكثر رقة في وعظ المسجونين في نيوجيت والوعظ من كل منبر يسمح له بارتقائه، وأهم حتى من هذا أن شخصية لا يبزها قوة غير شخصية جون وسلي كانت في طريقها إلى الصدارة في الحركة المثودية، وهي شخصية جورج هوايتفيلد. وقد ولد لصاحب نزل بجلوستر في 1714. وعمل سنة أو أكثر ساقي خمر لضيوف أبيه. ثم شق طريقه إلى كلية بومبروك بأكسفورد، وكان من الرعيل الأول في "النادي المقدس". وتبع الوسليين إلى جورجيا في 1738 ولكنه عاد إلى إنجلترا في خريف ذلك العام ليرسم قسيساً أنجليكانياً. وإذ كان غير قانع بالفرصة المتاحة له في المنابر، تواقاً لأن يبث الهام إيمانه في جماهير الشعب، فقد بدأ في فبراير 1739، في الخلاء(35/189)
قرب برستل، وعظ عمال مناجم الفحم الذين ندر أن جرءوا على دخول كنيسة أو اهتموا بدخولها. وكان في صوته من الوضوح والقوة ما مكنه من الوصول إلى أسماع عشرين ألف مستمع، وأثرت مقدرته الخطابية المشبوبة في هؤلاء الرجال المتحجرين، المرهقين، تأثيراً جعله يرى (كما قال) "المسارب البيضاء التي أحدثتها دموعهم التي هطلت بغزارة على خدودهم السوداء (52) " وأثارت خيال إنجلترا سمعة الواعظ الجديد، وأخبار عظاته في الهواء الطلق. فكانت الحشود الهائلة تتجمع أينما ذهب لتستمع إليه.
ولم يكن وعظه بالشيء الذي ينسي. فهو لم يدع لنفسه تبحراً في العلم، ولكنه ادعى أنه يتكلم كلاماً حميماً مع الله (53). ويقول وسلي أن لغته كانت تميل إلى "الحلاوة والحب" وأنه يستعمل فيها بعض الأخيلة المذهلة؛ من ذلك أنه كان يقول عن المسيح أنه "كالمشوي بغضب الأب، ومن ثم يوصف بحق بأنه حمل الله (54) ". وكما فعل بت في البرلمان كذلك فعل هوايتفيلد في الحقول، إذ استعان في خطبه بفنون التمثيل، فكان في قدرته أن يبكي في التو والساعة بكاء من الواضح أنه اقترن بعاطفة صادقة؛ وكان في قدرته أن يشعر سامعيه بالإحساس بالخطيئة، ورهبة الجحيم، ومحبة المسيح، إحساساً قوياً فورياً. وقد اعترف بقوته الخطباء أمثال بولنبروك وتشسترفيلد، والشكاك أمثال فرانكلين وهيوم، والممثلون أمثال جاريك. وإذ كان يلقى الترحيب أينما حل، فإنه جعل إنجلترا، وويلز، وإسكتلندة، وإيرلندة، وأمريكا، أبرشيته. فعبر المحيط إلى أمريكا ثلاث عشرة مرة، واخترق إسكتلندة اثنتي عشرة مرة. ولم يكن غريباً عليه أن يعظ أربعين ساعة في الأسبوع. فما بلغ الخمسين حتى حل به الإرهاق، وخفض برنامجه بعد فوات الوقت إلى "الحد الدقيق المسموح به"-أي أنه اكتفى بالوعظ مرة واحدة كل يوم من أيام الأسبوع، وثلاث مرات فقط يوم الأحد. وفي 1769 قام بزيارته السابعة للمستعمرات، ومات في نيوبريبورت بولاية ماساتشوستس في العام التالي.(35/190)
وحين عاد جون وسلي من هيرنوت، لم يستطع أن يوافق تماماً على طريقة هوايتفيلد الخطابية، وتردد في الاقتداء به في الخطابة في الخلاء. قال: "إذ كنت طوال حياتي (إلى عهد قريب جداً) شديد التمسك بكل قواعد اللياقة والنظام، ... فقد كان المفروض أن أرى في تخليص النفوس شيئاً يكاد يبلغ مبلغ الخطيئة إذا لم يتم في الكنيسة (55) ". على أنه تغلب على نفوره هذا، وحمل رسالته إلى الحقول والشوارع، "وسلمت بأن أكون أكثر نزولاً إلى العامة في الخلاء" (أبريل 1739). وكانت خطابته أقل حرارة من خطابة هوايتفيلد، ولغته لغة العالم والجنتلمان، ولكنه هو أيضاً خاطب عواطف سامعيه، وجعل الحياة اليومية لبسطاء الناس تبدو كأنها جزء من مسرحية هائلة، نبيلة، نفوسهم فيها ساحة معركة بين الشيطان والمسيح، فتحركوا في عالم من العجائب والمعجزات، وسمعوا فيه (أي في وسلي) -كما زعم-صوت الله. وبينما ألف هوايتفيلد أن يعظ الجميع ثم ينصرف عنه، راح وسلي ينظم أتباعه في "جماعات صغيرة" في المدينة تلو المدينة، ويرشدهم إلى الثبات والاستمرار. وكانت اجتماعاتهم أحياء للقاءات المحبة التي استنها المسيحيون الأولون-أعياد من الفرحة الدينية ومحبة الجماعة، يعترف بعضهم لبعض بخطاياهم، ويخضعون لفحص حياتهم الخلقية، ويشتركون في الصلاة وترتيل التراتيل الورعة. وكان جون قد ألف أو ترجم بعض الترانيم المؤثرة، وكان تشارلز قد بدأ مجموعة تراتيله الضخمة. وفي 1740 كتب تشارلز أشهر ترانيمه الرائعة الكثيرة "يسوع يا حبيب روحي".
في هذه الجماعات المتحمسة درب جون وسلي وعاظاً علمانيين حملوا البشارة الجديدة إلى حيث لا يستطيع القادة البقاء. فقد انتشر هؤلاء "المساعدون"-دون رسامة، ودون أي أبرشيات محددة، بمنبر أو بغير منبر-في أرجاء إنجلترا، وإسكتلندة، وويلز، وأوصلوا مخاوف وآمال اللاهوت البروتستنتي للطبقات العاملة، وحضروا لزيارات الإنعاشية التي سيقوم بها وسلي وهوايتفيلد. وكان(35/191)
وسلي نفسه يسافر-إلى أقصى أركان إنجلترا راكباً جواداً أو مركبة أو رجلاً-وكثيراً ما كان يقطع ستين ميلاً في اليوم، وبلغ متوسط ما قطعه أربعة آلاف ميل في السنة على مدى أربعين عاماً. وكان يعظ في كل فرصة. في السجون للمسجونين، وفي المركبات لرفاقه الركاب، وفي الفنادق للمسافرين، وفي السفن العابرة البحر إلى إيرلندة أو من ثغر إلى ثغر. وفي ايبويرت، حين منع من الوقوف على منبر أبيه، وعظ في فناء الكنيسة واقفاً فوق قبر أبيه.
فماذا كان يعظ؟ العقيدة البيورتانية أساساً، تلك التي خيل إلى الناس أن الفوضى الخلقية التي صاحبت عودة الملكة الاستيوارتية عصفت بها عصفاً مميتاً. لقد رفض الجبرية (التي قبلها هوايتفليد)، وأصر على ما دان به الجناح الأرمنيوسي من الكنيسة الرسمية، وهو أن للإنسان من حرية الإرادة ما يكفيه لتقرير ما يختاره أو يرفضه من النعمة الإلهية. ورفض كل لجوء إلى العقل، وأحس أن الدين يصل إلى أبعد مما يصل إليه المنطق الذي صنعه الإنسان، وأنه يعتمد على الوحي الإلهي والاقتناع الباطن، ولكنه ابتعد عن الصوفية بحجة أنها تترك كل شيء لله ولا تحفز الإنسان إلى التقوى النشيطة. وشارك طبقته وزمانه معظم خرافاتهما: فكان يؤمن بالأشباح، وبالأصل الشيطاني للأصوات الغريبة، وبحقيقة السحر وإجرامه؛ وقال إن التخلي عن الإيمان بوجود السحر معناه التخلي عن الإيمان بالكتاب المقدس. ولم يساوره شك في المعجزات، وذهب إلى أنها تحدث كل يوم بين أتباعه. فكان الصداع، أو الورم المؤلم، أو الفتق الشديد، أو الساق المكسورة، تشفى بصلواته أو صلوات الجماعة المثودية؛ وحكى عن فتاة كاثوليكية كانت تفقد بصرها كلما قرأت كتاب القداس الكاثوليكي، ولكنها تستعيده دائماً حين تقرأ العهد الجديد. وقد قبل روايات النساء اللاتي زعمن أنهن رأين الملائكة أو المسيح أو الجنة أو النار، وسجل في يوميته عدداً من الحالات التي عوقب فيها خصوم المثودية بعقوبات خارقة (56).(35/192)
وقد بلغ وعظه من الحيوية مبلغاً أفضى بالكثيرين من جمهوره إلى الهستريا والتشنجات. وتنبئنا اليومية عن خطاة غلبهم الألم البدني بعد سماعه فراحوا يتقلبون على الأرض من فرط العذاب، بينما ركع مؤمنون آخرون إلى جوارهم وصلوا لخلاصهم من مس الشيطان (57). ويصف وسلي اجتماعاً في شارع بلدوين بلندن في 1739 فنقول:
"لم يكد صوتي يسمع وسط أنين البعض وصراخ الآخرين .. وساء كويكريا واقفاً يتفرج ... أن يسقط هو نفسه على الأرض كأنه المصعوق. وكان الكرب الذي يعانيه رهيباً حتى لمن يشهده. وقد تضرعنا إلى الله ألا يؤاخذه بالحماقة والجهل، وسرعان ما رفع رأسه وصاح "الآن أعرف أنك نبي من أنبياء الرب (58) ".
ويصف شاهد عيان نقل عنه وسلي اجتماعاً للمثوديين بفارتن في 1759 كما يلي:
"كان بعضهم يصرخون، وبعضهم يجأرون ... وأكثر ما سمع كان شهيقاً عالياً كذلك الذي يصدر عن قوم نصف مخنوقين يلهثون طلباً للحياة؛ أن الصيحات كلها تقريباً كانت كصيحات مخلوقات آدمية تعالج سكرات الموت الأليم. وكان الكثيرون يبكون دون ضجيج، وغيرهم سقطوا كالأموات ... ووقفت على مقعد كما فعل شاب في المقعد المقابل، وكان ريفياً قوياً نضراً صحيح البدن، ولكن حين بدا أنه لم يخطر له شيء آخر خر على الأرض في عنف لا يتصوره الإنسان .. وسمعت خبط أقدامه يكاد يحطم الألواح الخشبية وهو راقد يتشنج تشنجات شديدة في أسفل المقعد ... وأكثر الذين وضع الله عليهم يده احمرت وجوههم احمراراً شديداً أو كادت تسود .. وسقط وراءه على الجدار رجل غريب حسن الهندام كان يقف أمامي، ثم خر على ركبتيه وهو يعصر يديه ويهدر كالثور .. ثم قام وراح يخبط الحائط حتى أمسك به مستر كبلنج ورجل آخر. وصرخ قائلاً "أواه ماذا أصنع، ماذا أصنع؟ أواه، ليت لي قطرة واحدة من دم المسيح! "وبينما كان يتكلم حرر الله روحه، فعلم أن خطاياه مُحيت، وبدا أن نشوة الفرح التي غمرته أعظم من أن تحتملها الطبيعة البشرية (59) ".(35/193)
ولعل هذه التفجرات الهستيرية سببتها أحوال أثرت في الضحايا قبل الاجتماع المثودي، فجاءت كعظة عن نار الجحيم وكانت مجرد تتويج لذروة لا يمكن السيطرة عليها. أما وسلي فقد فسر هذه التشنجات بأنها مس شيطاني أعقبه شفاء إلهي. وذهب إلى أنها أحياناً لم تأت بإصلاح دائم للسلوك أو الخلق، ولكنه أحس بأنها في كثير من الحالات طهرت النفس من الخطيئة وافتتحت حياة جديدة.
وقد حققت المثودية أعظم نجاح لها بين الفقراء. فقد كان الوعاظ أنفسهم رجالاً ذوي ثقافة متواضعة، بسطاء في مشاعرهم وحديثهم، ولم يقم حاجز طبقي أو ثقافي بينهم وبين جمهورهم. وقد حملوا رسالتهم، رسالة الخطيئة والتوبة، إلى الفلاحين وعمال المناجم والمجرمين؛ ومع أنهم بشروا بإيمان قام على الخوف أكثر مما قام على المحبة، فإنهم أعطوا غير المتعلمين ناموساً أخلاقياً شارك بنصيب في رد اعتبار الأخلاق إلى إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. هذه الأخلاق البيورتانية هي التي انتقض عليها عصرنا انتقاضاً متطرفاً. لقد كان وسلي عدواً لكل ألوان الترفيه تقريباً. صحيح أنه سمع بلعب الورق، ولكنه رأى إن من الإثم الذهاب إلى المهرجانات، ولبس الحلي أو الملابس الغالية، والاختلاف إلى المسرح أو المرقص. ولم يخصص أي وقت للعب في المدرسة التي أنشأها في كنجزوود، لأن "من يلعب وهو طفل سوف يلعب وهو رجل (60) ". ولكن الأخلاق البيورتانية انسجمت مع الخلق الإنجليزي، واستطاع أن يتحملها الرجال الأشداء والنساء الصبورات، وقد منحت الطبقات العامة الإنجليزية إحساساً فخوراً بالاختيار سندها في الفقر وجعلها عدواً لأي ثورة تتشكك في المسيحية. وأحس المحافظون بعد حين بعرفان الجميل لوسلي لأنه أنقذ الفقراء البريطانيين من الربوبية والإلحاد، وحوّل تطلعاتهم من الثورة الاجتماعية إلى الخلاص الفردي، ومن عالم مثالي على هذه الأرض إلى فردوس بعد الممات (61).
وكان وسلي نفسه يميل إلى المحافظة في السياسة. وقد تقدم طبقته في المطالعة ببعض الإصلاحات التي طال تأخرها: فندد بنظام "الدوائر العفنة"، وبتفاوت التمثيل النيابي في البرلمان، وبفساد(35/194)
السياسة الإنجليزية الصارخ، وبوحشية الرق، وبأهوال السجون البريطانية. ولكنه تقبل الهيكل الطبقي للمجتمع باعتباره طبيعياً وعادلاً، وعارض أي انفراج في القوانين الموجهة ضد الكاثوليك، وكانت ميوله كلها مع جورج الثالث في ثورة المستعمرات الأمريكية.
وقد ظل أنجليكانياً بالعقيدة، ولكنه رفض الرأي الأنجليكاني القائل بأن رسامة القسيس لا تكون قانونية إلا على يد أسقف في سلسلة الأساقفة الرسوليين؛ ورسم هو بنفسه قساوسة لإسكتلندة وأمريكا. وحين قال "إن العالم أبرشيتي (62) " كان يقصد أنه سيعظ حيثما شاء، دون إذن أو تعيين أسقفي، وإلى هذا الحد كان انشقاقه على الكنيسة الرسمية. ولكنه حض أتباعه على حضور الخدمات الأنجليكانية، وتجنب الاجتماعات والعقائد المنشقة على هذه الكنيسة، والامتناع عن مخاصمة الأكليروس الأنجليكاني. وفتحت أول الأمر بعض المنابر الأنجليكانية للقساوسة المثوديين، ولكن اتخذ وعاظ وسلي العلمانيون لأنفسهم حق منازلة القربان، وارتدت العقيدة المثودية إلى توكيد العصر الوسيط على الجحيم والانشغال البيورتاني بالخطيئة، سحب الكهنة الأنجليكانيون تأييدهم، تماماً كما انسحب ارزم مع لوثر، وآنروا تطوراً منظماً، وأقصوا المثوديين عن المنابر الأنجليكانية.
وكان الاضطهاد الذي ابتلى به المذهب الجديد على يد الكنيسة الرسمية أقل كثيراً من ذلك الذي جاءه من العامة البسطاء الذين لم يطيقوا الطرق الجديدة في التبشير بالأفكار القديمة. ففي المدينة بعد المدينة هوجم وعاظ الهواء الطلق-كما سيهاجم نظراؤهم اللاحقون الذين سيبشرون بإنجيل اجتماعي جديد-من غوغاء أسعدهم أن يكونوا قساة دون خوف ولا لوم. ففي مونموت ضُرب واعظ علماني على رأسه بصخرة فمات من الضربة. وفي ودنزبري حطم جَمْع بيوت المثوديين، وآذى نساءهم، وضرب رجالهم. فلما ظهر وسلي طالب الجميع بدمه، وصفق للذين ضربوه بالهراوات، وصلى هو بصوت عال، فأطلق الجمع سراحه. وفي بولتن أغار جمع غاضب على البيت الذي كان يعظ فيه، وواصل هو عظته إلى النهاية وسط وابل من الحجارة والبلاط الأبيض. وفي ديفيزيه صوبت طلمبة مائية على مسكن تشارلز وسلي، وأطلقت الكلاب البولدوج على(35/195)
أتباعه. وفي اكستر رُجم هوايتفيلد حتى كاد يلقى حتفه. وفي هوكستن دُفع ثور بمهماز إلى محفل مثودي، وفي بنسفورد سِيق عجل هاجه تحريش الكلاب به إلى المائدة التي كان جون وسلي يعظ عندها. وراقت شجاعة الوعاظ الخلق الإنجليزي، وأكسبتهم التسامح والتأييد.
كان وسلي رجلاً قصير القامة، طوله خمسة أقدام وثلاث بوصات، ووزنه 128 رطلاً. وكان في شيخوخته يقع من نفوس ناظريه وقعاً طيباً بشعره الأبيض، ولكنه كان من قبل في كهولته يسترعي الاهتمام بقسماته الدقيقة المتقشفة وعينيه المسيطرتين. وكان من القضايا المسلمة عنده أنه خلق ليَحكُم؛ ووضعه نشاطه العصبي وقوته الذهنية في مكان الزعامة بحكم الطبيعة، واشتطت به أحياناً ثقته بنفسه ثقة لا يتشكك فيها إلى اعتداء بالنفس، رأى فيه أسقف مثودي "غطرسة" شديدة (63). ولم يكن بالرجل الذي يسهل الانسجام معه، لأنه كان يفكر ويتحرك بسرعة لا يستطيع الآخرون أن يجاروه فيها. وتزوج في 1751، بعد أن أحب كما نحب كلنا الممرضة التي اعتنت به في مرضه. وسافرت معه زوجته في جولاته المحمومة طوال عامين، ثم انهارت صحتها وأعصابها فتركته كما يقفز إنسان من فوق ظهر حصان جموح. وكان يعزو الفضل في صحته وحيويته لرحلاته المتصلة راكباً أو راجلاً، وقد نضيف أن الخطابة رياضة تُهوّي الرئتين. وفي 1735 أصبح نباتياً، وبعد عام قرر هو صديق له أن يعيشا على الخبز القفار دون غيره، وأن "يجربا إمكان الحياة بلون واحد من الطعام كما هي ممكنة بمختلف ألوانه ... ولم نكن أشد قوة وعافية منا حين لم نذق طعاماً آخر (64) "، ولكنهما سرعان ما انتكسا إلى التنويع في الطعام.
ماذا كانت نتائج الوعظ المثودي؟ في جيل واحد أصبح الدين، الذي لاح من قبل أنه يموت من أثر الوقار الأنجليكاني والشكوك الربوبية عنصراً مدّوياً في الحياة الإنجليزية، لا يعلو عليه إلا السياسة والحرب. فلما مات وسلي (1791) كان أتباعه يعدون 79. 000 في إنجلترا، 40. 000 في أمريكا الشمالية، وفي 1957 كان هناك 2. 250. 0000 مثودي في بريطانيا العظمى، و12. 000. 000 في الولايات المتحدة و40. 000. 000 في العالم (65). وفضلاً عن تكاثر أتباع المذهب كان(35/196)
له تأثير في المذاهب الأخرى؛ مثال ذلك ما حدث في الكنيسة الأنجليكانية التي رفضت المثودية، إذ بعثت المثل المثودية العليا الحركة "الإنجيلية" في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولعلها دخلت في حركة أكسفورد في القرن التاسع عشر. أما من الناحية السياسية فإن النتائج كانت استسلاماً محافظاً بين الطبقات العاملة حتى 1848. وأما من الناحية الخلقية فإن المثودية حسنت السلوك الشخصي والحياة العائلية بين الفقراء وشاركت في تقليل الفساد الانتخابي والرسمي، وأخزت الكثيرين من طبقة السادة فأقلعوا عن الطيش والرذيلة، وهيأت لنفور الإنجليز من تجارة الرقيق. وأما من الناحية الثقافية فإن الحركة كانت سلبية. لقد أعطت الشعب ترانيم مقدسة، ولكنها واصلت العداء البيورتاني للفن. وأما من الناحية الفكرية فإنها كانت خطوة إلى الوراء فقد أرست عقيدتها على الخوف، وشعائرها على العاطفة، وأدانت العقل بوصفه فخاً للإنسان. وفي الصراع الكبير بين الإيمان والعقل علقت كل آمالها على الإيمان، ولم تضع أي ثقة في تقدم المعرفة والعلم، وتجاهلت أو احتقرت "التنوير" الذي أخذ يشعل النار في فرنسا. وشعرت أن هدف الحياة ومعناها الوحيد هو الهروب من الهلاك الأبدي، وأن الشيء الوحيد المطلوب لهذه الغاية هو الإيمان بالموت الفادي الذي ماته المسيح.
وفي يناير 1790، حين بلغ وسلي السادسة والثمانين، كتب في يوميته يقول "بتّ الآن شيخاً متهدماً من رأسي إلى قدمي. عيناي معتمتان، ويمناي تهتز بشدة، وفمي ساخن جاف كل صباح، وتنتابني حمى طويلة كل يوم تقريباً. ولكني بفضل الله لا أخفف من جهدي. ففي استطاعتي أن أعظ وأكتب إلى الآن (66) ". وبعد شهرين بدأ جولة خطابية اتصلت خمسة أشهر وجابت به أرجاء إنجلترا وإسكتلندة. وقضى نحبه في العام التالي (2 مارس 1791). ولو حكمنا على عظمة الأفراد بمدى تأثيرهم لقلنا أنه-باستثناء بت-كان أعظم الإنجليز في زمانه.(35/197)
5 - في النحل والبشر
هناك شخصيتان أقل شأناً توقفاننا في طريقنا إلى ديفد هيوم. أولهما برنارد ماندفيل، وكان طبيباً لندنيا من أصل فرنسي ومولد هولندي، نشر في 1705 كراسة في عشر صفحات تباع بست بنسات، مكتوبة بشعر مرح عنوانها "الخلية المتذمرة". وموضوعها مفارقة مؤداها أن رخاء الخلية راجع إلى رذائل أفرادها من النحل-إلى جشعها الأناني ونشوتها التناسلية ومشاكستها الجماعية. وبتطبيق هذا التناقض على الخلية الإنسانية، ذهب الطبيب الخبيث إلى أن ثروة الدولة وقوتها لا تعتمدان على فضائل مواطنيها بل على الرذائل التي يندد بها الأخلاقيون المتذمرون بحماقة. فلنتصور ما يحدث لو كفت فجأة كل ضروب حب التملك والغرور والخيانة والمشاغبة-لو لم يأكل الرجال والنساء من الطعام إلا بقدر ما يحتاجون إليه، ولم يلبسوا من الثياب إلا ما يقيم القر والحر، ولم يغشوا أو يؤذوا بعضهم بعضاً، ولم يتشاجروا، وأدوا ديونهم دائماً، واحتقروا أسباب الترف، وكانوا أوفياء لأزواجهم. لو حدث هذا لتوقف المجتمع كله فجأة، فترى المحامين يتضورون جوعاً، والقضاة يتركون بغير قضايا أو رشا، والأطباء يذوون لانعدام المرضى، وزراع الكروم يفلسون، والحانات تغلق أبوابها لانعدام شاربي الخمر، وملايين الصناع المهرة الذين ينتجون الغريب من الأطعمة أو الحلي أو الملابس أو البيوت يتعطلون؛ ولن يرغب أحد في أن يكون جندياً؛ وما يلبث المجتمع أن يقهر ويستعبد.
وعطل تأثير الخلية المتذمرة صياغتها في شعر هزلي محطم الوزن، وغاظ هذا الطبيب المغرور، الجشع، المشاغب، فأعاد إصدارها في 1714، وثالثة في 1723، باسم "خرافة النحل" موسعاً إياها المرة بعد المرة بالمقدمات، والملاحظات، والتعليقات التي بلغت بالصفحات العشر مجلدين. وأصغت إنجلترة وفرنسا هذه المرة، لأن هذه الملاحق كانت ن أقذع ما كتب من تحليلات للطبيعة البشرية.
واتخذ ماندفيل من ايرل شافتسبري الثالث هدفاً رئيسياً لكتابه بكل معنى الهدف. ذلك أن الأيرل كان قد فسر الطبيعة البشرية ببلاغة(35/198)
متفائلة، فافترض في الإنسان "إحساساً باطنياً بالصواب والخطأ ... فطرياً فيناً كالمحبة الفطرية، وهو مبدأ أول في كياننا". ورد ماندفيل على بأنه هراء بديع؛ فالطبيعة البشرية قبل التربية والتدريب الخلقي لا تميز بين الفضيلة والرذيلة، إنما تحكم المصالح الذاتية دون غيرها. وقد وافق اللاهوتيون على أن الإنسان بطبيعته "شرير" (متمرد على القانون)، ولكنه بدلاً من أن يهدد الناس بالجحيم، هنأهم على الملائمة البارعة بين رذيلة الفرد وخير المجتمع. فالبغاء السري مثلاً يحمي العفة العامة، والنهم للإنتاج والخدمات يحفز الاختراع، ويدعم الصناعة والتجارة؛ والثروات الكبيرة تتيح البر بالناس والفن الضخم. وبينما بشر اللاهوتيون بالتقشف، دافع ماندفيل عن الترف، وحجته أن الرغبة في الكماليات (وهي أن شيء خلاف الضروريات المجردة للحياة) هي أصل الصناعة والحضارة؛ فلو أزلنا الترف كله عدنا همجاً. وبينما يُفترض في الأخلاقيين أن يدينوا الحرب قال ماندفيل أن الأمم عاشت بفضل قدرتها على شن الحرب، لأن معظم الدول وحوش ضارية.
ولم ير في الطبيعة أي فضيلة. فالخير والشر كلمتان تصدقان على الأفعال الاجتماعية أو المعادية لمصلحة المجتمع في الإنسان، أما الطبيعة نفسها فلا تأبه بكلماتنا أو عظاتنا، وهي تحدد الفضيلة بأنها أي صفة تعين على البقاء؛ وعالم الطبيعة في عباراتنا المتحيزة مسرح للجشع والشهوة والقسوة والقتل والتبديد الذي لا معنى له. ومع ذلك فمن ذلك الصراع الرهيب، كما يقول ماندفيل، طور الإنسان اللغة والنظام الاجتماعي والنواميس الأخلاقية أدوات للتماسك الاجتماعي وبقاء المجتمع. والثناء واللوم لا تبررهما الطبيعة، ولكنهما مبرران باعتبارهما وسائل نستعين بها-لأنها تروق غرور الإنسان وخوفه وكبرياءه، -على أن نشجع في غيرنا ألواناً من العلم مفيدة لنا أو للجماعة.
ومعظم الذين سمعوا بماندفيل رموه بالنزعة المادية الكلبية، ولكن فولتير اتفق معه على نفع الكماليات، وصفق فيزوقراطيو فرنسا القائلون بسياسة "عدم التدخل" لرأبه في أن عدم التدخل في طمع الإنسان(35/199)
كفيل بأن يجعل عجلات الصناعة تدور. وأغلب الظن أن الطبيب الكثير النزوات كان مسلماً بأن فارقته هذه، "الرذائل الخاصة هي فضائل عامة" كانت إلى حد كبير لعباً بألفاظ فضفاضة التعريف. إن "الرذائل" كحب الاقتناء، والعشق الجنسي، والمشاغبة، والكبرياء، كانت يوماً ما "فضائل" في الصراع البدائي للبقاء. ولم تصبح رذائل إلا حين مورست في المجتمع ممارسة تجاوزت الخير الاجتماعي؛ وقد أصبحت منافع عامة بفضل التحكم فيها بالتعليم، والرأي العام، والدين، والقانون.
وشتان بين فرانسس هتشسن وبين هذا الطبيب المفتري. وقد ولد هتشسن في إيرلندة لقس مشيخي، ثم انحرف عن جادة أبيه وفتح معهداً خاصاً في دبلن. وإذ كان شديد الوعي بالتزامه بأن يجعل من المتوحشين الصغار مواطنين، فقد كتب من معهده "تحقيقاً في الخير والشر الأخلاقيين" (1725) عرّف فيه المواطن الصالح بأنه ذلك الذي يعزّز الخير العام، ووصف فيه الخير العام (بعبارة سبقت بحذافيرها صيغة بنتام في مذهب المنفعة) فقال إنه "أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس (69) " فلما رقي إلى كرسي الفلسفة الأخلاقية في جامعة جلاسجو، أزعج المشيخيين بدفاعه عن حق الفرد في إصدار حكمه على الأشياء، وعن مشروعية اللذة، وعن "الفنون الإبداعية كالموسيقى والنحت والتصوير، وحتى الملاهي الرجولية" (70)، ولم يشارك ماندفيل فكرته المتشائمة عن الطبيعة البشرية. وقد سلم بأخطاء الناس وذنوبهم، وبشهواتهم الجامحة وجرائمهم العنيفة، "ولكن الجانب الأكبر من حياتهم يستخدم في القيام بمهام من المودة الطبيعية، أو الصداقة، أو حب الذات البريء، أو حب الوطن". ثم أضاف تحذيراً نافعاً للمؤرخين فقال:
"إن الناس ميالون إلى إطلاق العنان لخيالاتهم في أمر جميع ما سمعوا عنه أو قرءوا في التاريخ من سرقات، وقرصنات، وجرائم قتل، وأيمان كاذبة، وتزويرات، ومذابح، واغتيالات، فيستنتجون من هذا كله أن النوع الإنساني كله شرير جداً، وكأن دار القضاء هي المكان الصحيح لتقييم أخلاق البشر، أو المستشفى لتقييم ملاءمة المناخ(35/200)
للصحة. أفلا يجدر بهم أن يروا أن عدد المواطنين والمزارعين الشرفاء يفوق كثيراً عدد كل أنواع المجرمين في أي دولة ... وأن ندرة الجرائم بالقياس إلى الأفعال البريئة أو الخيرة هي التي تلفت انتباهنا لها، وتبعث على تسجيلها في التاريخ، في حين تغفل أفعال شريفة سمحة مألوفة، تفوقها بما لا يقاس، لا لشيء إلا أنها عادية جداً؛ وما أشبه هذا بخطر جسيم واحد، أو شهر يقضي في المرض، فيصبح قصة تتردد كثيراً، خلال حياة طويلة من الصحة والسلامة".
ذلك عقل سليم!
6 - ديفيد هيوم
1711 - 1776
أ- الفيلسوف الشاب
كان هتشسن جزءاً متواضعاً من حركة "التنوير الاسكتلندي"، أما هيوم فكان ألمع كواكبها. وهو يروي لنا في ترجمته الذاتية البسيطة، ذات الصفحات الست، أنه ولد بأدنبرة في 26 أبريل 1711، "لأسرة طيبة أباً وأما، فأسرة أبي فرع من إيرل Home أو Hume (1) وكانت أمي ابنة السر ديفد فوكنر عميد كلية الحقوق". ومات الأب في 1712، تاركاً ممتلكاته لشقيق ديفد الأكبر، جون هيوم، ولديفد دخلاً يبلغ ثمانين جنيهاً في السنة- يكفي لمعيشة متقشفة. أما الأسرة التي كانت كلها تدين بالمذهب المشيخي، فقد أشربت الصبي اللاهوت الكلفني اشراباً قوياً تخلّف على شكل الحتمية في فلسفة ديفد. كان في بكرة كل أحد يختلف إلى صلاة في الكنيسة تتصل ثلاث ساعات، منها ساعتان من الوعظ؛ ثم يعود عشية كل أحد إلى الكنيسة ساعة؛ يضاف إلى هذا صلوات الصباح في البيت (72). ولم يكن مندوحة من أن ينتقض ديفد على هذا كله بالانحراف إلى الهرطقة ما دام فيه ذرة من صلابة الخلق.
وحين بلغ الثانية عشرة دخل جامعة أدنبرة. ثم تركها بعد ثلاث
_________
(1) كان سليل لذلك الايرل رئيس وزراء لبريطانيا العظمى في 1964. والاسم Home وكان ما زال يلفظ Hume " هيوم".(35/201)
سنوات دون درجة، عازماً على أن يفرغ بكليته للأدب والفلسفة. وفي السادسة عشرة كتب إلى صديق يلوم نفسه.
"لأن سلامي العقلي لا تدعمه الفلسفة دعماً يكفي للثبات للطمات القدر. فعظمة النفس وسموها هذا لا سبيل إليه إلا في الدرس والتأمل .. .. فاسمح لي بأن أتكلم هكذا كفيلسوف، فذلك موضوع أطيل التفكر فيه ولا يعييني الحديث فيه اليوم كله (73) ".
وسرعان ما تبخر إيمانه الديني:
"وجدت ضرباً من جرأة الطبع يتملكني، وهي جرأة لا تميل إلى الخضوع لأي سلطة في هذين الموضوعيين (الفلسفة والأدب) ... فلما ناهزت الثامنة عشرة بدا كأنه قد انفتح أمامي مشهد جديد من الفكرة، أطربني منتهى الطرب، وحملني بحماسة الشباب الطبيعية على أن أنبذ كل لذة أو شغل آخر لأعكف عليه العكوف كله (74) ".
وقال في فترة لاحقة أنه "لم يشعر بأي إيمان بالدين منذ بدأ قراءة لوك وكلارك (75) ". فما أن بلغ السابعة عشرة حتى كان قد خطط لرسالة في الفلسفة.
وألح عليه أقرباؤه في أن الفلسفة وثمانين جنيهاً في العام لن يتيحاً له سوى عيش ضنك، وأن عليه أن يقنع بضرورة التكسب. فهل في استطاعته أن يدرس القانون؟ وحاول ذلك طوال ثلاث سنوات مؤلمة (1726 - 29). وانهارت صحته، وأوشكت روحه أيضاً أن تنهار، وفقد اهتمامه بالأفكار فترة. "رأيت دراسة القانون شيئاً يثير في "الغثيان" (76)، فطلقها، وعاد إلى الفلسفة، ربما بانحراف واحد. ففي أواخر فبراير 1734 رحل عن أدنبرة غلى لندن "لأبذل محاولة هزيلة جداً لولوج مجال من الحياة أكثر نشاطاً (77) ". وفي 5 مارس مثلت آجنس جلبريث أمام القس جورج هيوم (عم ديفد) واعترفت بأنها حبلى. فلما جيء بها أمام جلسة لمجلس الكنيسة المشيخية صرحت بأن "المستر ديفد هيوم ... هو أبو الطفل" وارتاب المجلس في صدقها فأحالها إلى الاجتماع التالي للمجلس المشيخي(35/202)
المحلي؛ وأمام هذا المجلس في 25 يونيو، كررت التهمة. وقد جاء في محضر مجلس تشيرنسايد:
"إن رئيس الجلسة ... ناشدها أن تقول الصدق وتعترف هل أذنب معها شخص آخر ... وبعد أن نظر المجلس في الأمر، وأحيط أعضاؤه علماً بأن ديفد هيوم المذكور خرج من المملكة، أحالوها إلى دائرة مجلس تشيرنسايد امتثالاً لقواعد الكنيسة (78) ".
وهذا يتطلب مثولها في المسرح أمام الكنيسة وعرضها في المشهرة ثلاثة آحاد. وفي 1739 أدينت آجنيس مرة أخرى بالزنا. س
ومضي هيوم إلى برستل بعد أن توقف في لندن، واشتغل في مكتب تاجر "ولم تمض عليّ شهور حتى وجدت ذلك الجو لا يلائمني إطلاقاً" فعبر البحر إلى فرنسا، حيث المعيشة أرخص منها في إنجلترا. ومكث فترة في رانس، ثم رحل إلى لافليش (على نحو 150 ميلاً جنوب غربي باريس)، لأن كلية اليسوعيين فيها كانت تملك مكتبة كبيرة، واتصل الاسكتلندي المدبّر اتصالاً ودياً بالكهنة فسمحوا له باستعمال كتبهم. وقد وصفه أحد الآباء في نظرة لاحقة بأنه "كان شديد الاعتداد بنفسه .... في روحه حيوية أكثر مما فيها من التماسك وفي خياله توقد أكثر مما فيه من العمق، وقلبه أشد انغماساً في الأشياء المادية والعجب الروحي من أن يتغلغل إلى الخفايا المقدسة للحقائق الإلهية (79) ".
وفي ظل اليسوعيين ألف هيوم أول جزئين من رائعته الشكوكية "رسالة في الطبيعة البشرية". وفي سبتمبر 1737، عاد إلى إنجلترا مثقلاً بمخطوطته. وقد لقي عنتاً مع الناشرين، لأنه كتب في ديسمبر إلى هنري هيوم يقول: "إنني الآن أجب كتابي، أي اقتطع منه أجزاءه الممتازة، محاولاً أن أقلل ما استطعت من إيذائه لشعور الناس (80) ". وكان أهم ما حذف منه "مناقشات حول المعجزات فنحاها لاستعمالها في أوقات أسلم. أما الباقي، الذي ضمن أنه يدق على أفهام المتشبثين بالقديم، فقد نشره جون نون اللندني غفلاً من اسم المؤلف في مجلدين في يناير 1739. وباع هيوم المجلدين إجمالاً(35/203)
بخمسين جنيهاً واثنتي عشرة نسخة- وهي صفقة ليست خاسرة جداً بالنسبة لكتاب في المنطق ونظرية المعرفة بقلم شاب مغمور في السابعة والعشرين. على أنه كان قمم من قمم الفلسفة الحديثة.
ب- الغض من شأن العقل
كشف "الإعلان" الذي تصدّر الكتاب عن ثقة هيوم في قدراته. فقد قال فيه أنه يستهدف دراسة الطبيعة البشرية من حيث الفهم والانفعالات، ثم في مجلد ثالث قادم من حيث الأخلاق والسياسة. وشرع في تحليل "الانطباع" (الإحساس)، والإدراك الحسي، والذاكرة، والخيال، والفكر، والعقل، والاعتقاد. وهذا البحث في كيفية وصولنا إلى أن "نعرف" بحث أساسي، لأن صحة العلم والفلسفة والدين والتاريخ تتوقف على طبيعة المعرفة، وأصلها، وإمكان وثوقنا بها. وهو فرع من الدراسة عسير، لأنه يتناول الأفكار المجردة لا الأشياء المحسة، والفكر آخر شيء يحاول الفكر أن يفهمه.
وبدأ هيوم بقبوله تجريبية لوك نقطة انطلاق لبحثه، فكل الأفكار مستقاة في النهاية من التجربة بطريق الانطباعات. وهذا أما أحاسيس خارجية كالضوء والصوت والحرارة والضغط والروائح والذوق؛ وأما داخلية كالخدر والجوع واللذة والألم. والإدراك الحسي إحساس مفسر؛ "فالضوضاء" إحساس، ولكن "نقرة على الباب" إدراك حسي (وهيوم ليس دقيقاً أو ثابتاً دائماً في استعماله هذين المصطلحين). والمولود أعمى أو أصم ليس لديه "فكرة" عن الضوء أو الصوت، لأنه لم يكن لديه إحساس بأحدهما. وفكرتا المكان والزمان نابعتان من التجربة، فالأولى "فكرة نقاط مرئية أو محسوسة موزعة بنظام معين"، والثانية إدراك التعاقب في انطباعاتنا (81) ولا تختلف الأفكار عن الانطباعات إلا في ضعف "القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن (82) ". والاعتقاد "ليس إلا فهماً أكثر حيوية وحدة لأي فكرة ... إنه شيء يشعر به الذهن، يميز أفكار الحكم عن خرافات الخيال (83) ".
ويبدو أن هيوم في تعريفاته هذه يرى في "الذهن" كياناً أو أداة(35/204)
حقيقة تمارس الانطباعات أو الأفكار، أو تمتلكها، أو تتذكرها، أو تحكم عليها. على أنه إذ يمضي في البحث ينكر وجود أي ذهن ملحق بالحالات النفسية- الإحساس، أو الإدراك الحسي، أو الفكرة، أو الشعور، أو الرغبة التي تشغل الوعي في لحظة بعينها يقول:
"إن ما نسميه "الذهن" لي إلا كومة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية توحدت معاً بشتى الارتباطات، ويفترض فيها- وإن كان الفرض خطأ- أنها وهبت غاية البساطة والتطابق ... أما أنا فإنني حين أتغلغل فيما أسميه "نفسي" أعثر دائماً على إدراك حسي معين أو آخر، للحرارة أو البرودة، للضوء أو الظل، للحب أو الكره، للألم أو اللذة. ولا أستطيع إطلاقاً أن ألحظ شيئاً غير الإدراك الحسي. فإذا زالت عني إدراكاتي الحسية أي فترة، كما يحدث بالنوم العميق، فإنني طوال هذه الفترة أكون عادم الحس "بنفسي"، ويمكن القول حقاً إنني غير موجود. وإذا زالت إدراكاتي الحسية كلها بالموت، فعجزت عن التفكير والشعور والإبصار والحب والكره بعد تحلل جسمي، فإنني أمحق محقاً، ولست أتصور ما يلزم بعد ذلك لجعلي عدما في عدم ... وإذا ضربنا صفحاً عن بعض الميتافيزيقيين .. فقد أجرؤ على التأكيد بأن باقي البشر ليسوا سوى حزمة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية التي يعقب بعضها بعضاً بسرعة فائقة، والتي تتدفق تدفقاً دائماً ... وهذه الإدراكات الحسية المتعاقبة ... تشكل الذهن (84) ".
وهكذا بضرة واحدة من هذا الفتى المتهور سقطت ثلاث فلسفات: الفلسفة المادية، لأننا (كما أثبت باركلي) لا ندرك "المادة" أبداً، ولا نعرف غير عالمنا العقلي عالم الأفكار والمشاعر؛ والفلسفة الروحانية، لأننا لا ندرك أبداً "روحاً" ملحقة بمشاعرنا وأفكارنا الخاصة؛ وفلسفة الخلود، لأنه ليس هناك "ذهن" يبقى حياً بعد الحالات الذهنية العابرة. وكان باركلي قد هدم المادية برده المادة ذهناً، فضاعف هيوم التدمير برده الذهن أفكاراً. فلا "المادة" ولا "الذهن" موجودان. لا لوم على ظرفاء العصر أذن أن "يرفضوا الفيلسوفين جميعاً بهذه(35/205)
العبارة" No matter, never mind ( وفيها تورية، لا يهم (لا مادة)، لا بأس (ولا ذهن)).
وحرية الإرادة في هذه النظرة المدمرة مستحيلة، فليس هناك ذهن يختار بين الأفكار أو الاستجابات، وتعاقب الحالات النفسية يقرره ترتيب الأحاسيس، وترابط الأفكار، وتناوب الرغبات؛ إن "الإرادة" ليست سوى فكرة تنساب فتصبح حركة، والهوية الشخصية هي شعور الاستمرار حين تستحضر حالة نفسية حالات سابقة وتربط بينها بفكرة العلة. س
ولكن العلة أيضاً ليست سوى فكرة؛ فليس في قدرتنا أن نثبت أنها واقع موضوعي. فإذا أدركنا أن: أ (اللهب مثلاً) تعقبه بانتظام ب (الحرارة)، استنتجنا أن أكانت العلة في ب، ولكن كل ما لاحظناه هو تعاقب الأحداث، لا عملية علية، فليس في استطاعتنا أن نعرف أن ب ستعقب أدائماً. "كل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة لا مصدر لها غير العادة (58) ". وليست "قوانين الطبيعة" التي نتحدث عنها إلا تعاقبات مألوفة في تجربتنا؛ لا روابط ثابتة وضرورية في الأحداث، ولا ضمان أنها ستصدق غداً. فالعلم إذن تراكم للاحتمالات المعرضة للتغيير دون إنذار. والميتافيزيقيا مستحيلة إذا زعمت أنها نسق من الحقائق حول واقع مطلق، لأنه لا سبيل إلى معرفة "الأسباب" الكامنة وراء النتائج، ولا "المادة" الكامنة وراء الأحاسيس، ولا "الذهن" الذي يقال أنه كامن وراء الأفكار. وما دمنا نبني إيماننا بالله على سلسلة من الأسباب والنتائج يفترض أنها ترتد إلى "محرك أول لا يتحرك"، فإن علينا أن نتخلى عن تلك السفسطة الأرسطاطالية. إن الأشياء كلها تتدفق، وما اليقينية إلا حلم من الأحلام.
وبعد أن ينشر هيوم الدمار من حوله بسيف عقله البتار، يتوقف لحظة تواضع فيقول "حين أتأمل القصور الفطري في حكمي، تقل ثقتي بآرائي عنها حين أتأمل الأشياء التي أتناولها بالاستدلال (86) " فهو يعلم مثلنا أن اليقينية ليست ضرورية للحياة، ولا للدين، ولا حتى للعلم؛ وإن درجة كبيرة من الاحتمال تكفي لعبور شارع أو بناء(35/206)
كتدرائية أو لتخليص نفوسنا. ويسلم في تذييل للكتاب بأنه قد يكون هناك رغم ذلك نفس وراء الأفكار، وواقع وراء الأحاسيس، وعلاقة علية وراء التعاقبات المتصلة. وهو ثابت على موقفه نظرياً "لم يسعدني الحظ إلى الآن بأن اكتشف أي أخطاء جسيمة في الاستدلالات المعروضة في المجلدين السابقين (87) ". ولكنه يتعرف في لطف أنه، عملياً، يتخلى عن شكوكيته حالما يضع قلمه.
"لو سئلت هل أوافق مخلصاً على هذه الحجة الذي بذلت هذا الجهد في إقرارها، وهل أنا حقاً واحد من هؤلاء الشكاك الذين يذهبون إلى أن كل الأشياء غير يقينية ... لأجبت ... أنني لا أنا لا أي شخص آخر دان بهذا الرأي في أي وقت بإخلاص وثبات (88) ... إنني أتناول غذائي، وألعب النرد، وأتحدث وأسمر مع أصحابي، فإذا عددت بعد ثلاثة أربع ساعات من الترويح إلى هذه التأملات، بدت لي باردة مفتعلة سخيفة جداً بحيث لا أستطيع أن أجد في صميم نفسي ما يدفعني لمزيد من الإيغال فيها (89) ... وهكذا يواصل الشاك استدلاله العقلي واعتقاده، وأن أكد أنه لا يستطيع الدفاع عن استدلاله العقلي بالعقل؛ وعلى هذه القاعدة نفسها يجب أن يوافق على مبدأ وجود الجسد وأن عجز عن الادعاء بأي حجج من الفلسفة بأنه أثبت صحته (90) ".
وأخيراً يتنكر هيوم للجدل العقلي باعتباره هادياً للحياة ويضع ثقته في الإيمان الحيواني، في الاعتقاد القائم على العرف بأن الواقع عقلاني تتخلله العلية. وحين يؤكد هيوم أن "الاعتقاد هو على الأصح فعل من أفعال الجانب الحساس لا الجانب العارف من طبائعنا (91) " فإنه- وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره- يلقى بجان جاك روسو، ذي الستة والعشرين، في الشباب والنظرية، كما قدر له أن يلتقي به بعد ذلك في الصداقة والمأساة. ولم يقتصر أبرع المجادلين العقليين في عصر العقل على اتهام المبدأ العلي للعقل، بل أنه فتح باباً لرد الفعل الرومانسي الذي سينزل العقل عن عرشه ويجعل من الوجدان إلهاً له.
و"الكتاب" والمجلد الثاني من "الرسالة" يواصل إنزال العقل(35/207)
عن عرشه. فنرى هيوم يرفض محاولات الفلاسفة بناء مبدأ أخلاقي على تحكم العقل في العاطفة. وهو يعني بكلمة العاطفة الرغبة الوجدانية. "لكي أثبت مغالطة هذه الفلسفة بأكملها، سأحاول أن أثبت أولاً أن العقل وحده لا يمكن أن يكون دافعاً لأي فعل من أفعال الإرادة؛ ثانياً إنه لا يستطيع إطلاقاً معارضة العاطفة في اتجاه (ضد قوة) الإرادة (92) ". "فلا شيء يستطيع مقاومة أو تعطيل دافع العاطفة إلا عاطفة مضادة" (أهذا صدى لسبينوزا؟). ويضيف هيوم إمعاناً منه في ترويع المتشبثين بالقديم "إن العقل عبد، وينبغي أن يكون عبداً، للعواطف (الأداة المنيرة والمنسقة للرغبات) ولا يمكن أن يزعم لنفسه أي وظيفة أخرى سوى خدمتها وطاعتها (93) ".
ثم يمضي إلى تحليل دقيق للعواطف- وأهمها الحب، والكره، والعطف، والغضب، والطمع، والحسد، والكبرياء. "إن العلاقة التي تُحدث في الكثير الغالب عاطفة الكبرياء هي علاقة الملكية (94) ". وكل العواطف تقوم على اللذة والألم، وتميزاتنا الأخلاقية تنبع في النهاية من هذا المنبع الخفي ذاته "إننا نميل إلى إطلاق اسم الفضيلة على أي صفة في الآخرين تعطينا اللذة لأنها تعين على نفعنا، وإلى إطلاق اسم الرذيلة على أي صفة بشرية تعطينا الألم (95) ". وحتى مفاهيم الجمال والقبح مشتقة من اللذة والألم. يقول:
"لو تأملنا جميع الفروض التي وضعت ... لتفسير الفرق بين الجمال والقبح، لوجدناها كلها تنحل إلى هذا، وهو أن الجمال نظام وتركيب للأجزاء، مهيأ لإعطاء اللذة والرضي للنفس، أما بسبب التكوين الفطري لطبائعنا (كما نرى في جمال الجسم البشري) أو بسبب العرف (كما نرى في الإعجاب بنحافة القوام في النساء) أو بسبب النزوة العارضة (كما نرى في إضفاء الكمال على أوهام الرغبة المعاقة) ... فاللذة والألم إذن ليسا مرافقين ضروريين فحسب للجمال والقبح، ولكنهما يكوّنان جوهرهما ذاته، ... وما الجمال إلا شكل يحدث اللذة، كما أن القبح بناء للأجزاء يحدث الألم (96) ".
والحب بين الجنسين يتركب من هذا الإحساس بالجمال، مضافاً إليه "الرغبة الجسمية في التناسل ورقة ومودة سمحتان (97) ".(35/208)
وفي مارس 1739 عاد هيوم إلى أدنبرة. وراح يقلب الدوريات في لهفة بحثاً عن نقد لمجلديه، وعانى من نتائج تقليبها. قال "لم تلق محاولة أدبية قط حظاً أعثر مما لقيت "رسالتي في الطبيعة البشرية" فلقد ولدت ميتة من المطبعة، ولم تحظ حتى بإثارة دمدمة سخط بين المتعصبين (98) " ولكنه حين كتب هذا في شيخوخته كان قد نسي، ربما بسبب الرغبة في نسيان الذكريات الكريهة، أن عدة مقالات نقدية ظهرت خلال سنة بعد نشر كتابه. وقد شكت كلها تقريباً من أنه عسير الفهم، وأن المؤلف سمح لشبابه بالإعلان عن ذاته بتكرار الإشارة إلى نفسه وإلى الجدة الخطيرة التي تنطوي عليها أفكاره. قال ناقد نموذجي من أعدائه: "إن ما يؤذي القارئ أشد الأذى هو تلك الثقة التي يسوق بها مفارقاته .. فما عهدنا شاكاً أشد من هذا قطعاً بآرائه ... وأمثال لوك وكلارك ليسوا في الغالب في نظره سوى مجادلين تافهين سطحيين بالقياس إليه (99) ".
وأعد هيوم للمطبعة، في عزيمة صادقة رغم حزنه، المجلد الثالث من رسالته، المحتوي على الكتاب الثالث "في الأخلاق". وقد ظهر في 5نوفمبر 1740. وساء تحليله للفضيلة العقلانيين بقدر ما ساء اللاهوتيين. فهو يزعم أن قواعد الفضيلة ليست إلهامات خارقة، ولكنها أيضاً ليست استنتاجات خلص إليها العقل، وذلك- كما يكرر هيوم القول "لأن العقل ليس له تأثير على عواطفنا أو أفعالنا (100) ". وحسنا الخلقي ليس مصدره السماء بل التعاطف- شعور الزمالة مع إخواننا من البشر، وهذا الشعور جزء من الغريزة الاجتماعية التي بها نلتمس الارتباط بالغير لخشيتنا من العزلة. "إن أول حالة وموقف للإنسان يمكن أن يوصفا بحق بأنهما اجتماعيان"؛ و "الحالة الطبيعية" التي عاش فيها الناس دون تنظيم اجتماعي "يجب اعتبارها حديث خرافة (101) "، فالمجتمع قديم قدم الإنسان. وإذ كان الناس أعضاء في جماعة، فإنهم سرعان ما تعلموا أن يمتدحوا التصرفات(35/209)
النافعة للجماعة، ويذموا الضارة بها. ثم إن مبدأ التعاطف جعلهم يميلون إلى تقبل أو محاكاة الآراء التي سمعوها من حولهم؛ وبهذه الطريقة اكتسبوا معايير وعادات الثناء واللوم، وطبقوا هذه الأحكام بوعي أو بلا وعي على سلوكهم. هذا في رأي هيوم أصل الضمير، لا صوت الله (كما سيتصور روسو وكانت). ويقول هيوم إن قانون التعاطف هذا، قانون التجاذب الجماعي، هو عام ومنير في العالم الأخلاقي شأن قانون الجاذبية في الكون المادي، ثم يختم بهذه العبارة "وهكذا يحدوني على الجملة الأمل بأنه لا ينقصنا شيء للبرهان الصحيح على هذا النسق من الأخلاق (102) ".
وكان المجلد الثالث أقل لفتاً للأنظار حتى من المجلدين السابقين. وظلت بقايا النسخ الألف والمائة، وهي مجموع نسخ الطبع الأولى للرسالة، إلى سنة 1756، مكدسة على رفوف الناشر، ولم يعش هيوم ليرى طبعة ثانية من كتابه.
جـ- الأخلاق والمعجزات
كان واضحاً أنه لا يستطيع كسب قوته بقلمه. وفي 1744 بذل محاولة فاشلة للوصول إلى كرسي الأستاذية بجامعة ادنبره. ولا شك أنه قبل في شيء من الإحساس بالهوان (أبريل 1745) وظيفة معلم خاص لمركيز أنانديل الصغير لقاء راتب قدره 300 جنيه في العام. أما المركيز فقد اختلط عقله، وتبين هيوم أنهم يتوقعون منه أن يكون حارساً لمجنون؛ ونشبت المشاجرات، فطرد (أبريل 1746) واضطر إلى رفع دعوى مطالباً براتيه. ثم اشتغل سنة (1746 - 47) سكرتيراً للجنرال جيمس سانت كلير، وكان يتقاضى راتباً طيباً، ويتناول طعاماً طيباً. وفي يوليو 1747 عاد هيوم إلى أدنبرة وهو يملك ويزن من الجنيهات أكثر كثيراً منه حين غادرها. وفي 1748 أعاد الجنرال استخدامه سكرتيراً وياوراً في بعثة إلى تورين، واكنسي ديفد الآن سترة قرمزية متوهجة.(35/210)
وأعجب جيمس كولفيلد (ايرل تشارلمونت فيما بعد) وكان يومها طالباً بتورين، بذكاء هيوم وخلقه، ولكن أفزعته سمنته. قال:
"إن سحنته حيرت علم الفراسة وأعيت قدراته ... في الكشف عن أقل أثر لمواهبه العقلية في ملامح وجهه التي تخلو من المعنى. كان وجهه عريضاً سميناً، وفمه واسعاً، بغير أي تعبير غير تعبير البلاهة ... وكانت بدانة جسمه كله أجدر بأن توحي للناظر بفكره العمدة آكل الترسة، لا الفيلسوف المهذب (103) ".
ويدعى كولفيلد هذا أنه رأى هيوم (وهو في السابعة والثلاثين) جاثياً على ركبتيه أمام كونتيسة متزوجة (في الرابعة والعشرين)، يبثها غرامه ويعاني عذاب الحب المحتقر؛ أما السيدة فرفضت أن تبادله هذا الغرام قائلة إنه ليس إلا "عملية طبيعية في نسقك الفلسفي". ويقول المصدر نفسه أن هيوم أصيب بالحمى وحاول الانتحار لولا أن منعه الخدم، ويروي اسكتلندي آخر أن هيوم "تناول القربان الأخير" أثناء مرضه على يد كاهن كاثوليكي. وقيل إن هيوم اعتذر عن مطارحة الغرام وعن تناول القربان الأخير قائلاً "إن نظام دماغي كان مختلاً، وكنت مجنوناً لأي نزيل لمستشفى المجاذيب (104) " وفي ديسمبر 1748 عاد إلى لندن وفرغ للفلسفة بعد أن بلغت ثروته ألف جنيه.
واعتزم أن يجدد أذناً مصغية من جديد لأفكار "الرسالة"، فنشر في 1748 "تحقيقاً عن الفهم البشري"، وفي 1751 "تحقيقاً عن مبادئ الأخلاق". وفي "إعلان" قدم به لطبعه لهذين التحقيقين صدرت بعد وفاته (1773) تنكر للرسالة باعتبارها "عملاً صبيانياً" ورجا أن "تعتبر المقالات التالية وحدها هي المحتوية على آرائه ومبادئه الفلسفية (105) ". أما تلاميذ هيوم فقد وجدوا عموماً في أعمال هيوم الأولى من الدسم أكثر مما وجدوا في أعماله الأخيرة، فهذه تغطي الأرض نفسها ربما بأسلوب أقل عدواناً وقطعاً، ولكنها تخلص إلى النتائج ذاتها.(35/211)
وبعد أن أعاد هيوم تحليله الشكي للعقل قدم القسم العاشر من التحقيق الأول، وهو مقالة "في المعجزات" الذي رفض الناشر من قبل أن يطبعه ضمن الرسالة. واستهله باعتداده العادي بنفسه، "إني أغبط نفسي على أنني عثرت على حجة ... إذا صدقت كانت للعقلاء والمثقفين رادعاً دائماً لكل ضروب الوهم الخرافي وستكون إذن نافعة أبد الدهر". ثم يطلق أشهر فقراته فيقول:
"ما من شهادة تكفي لإثبات معجزة، إلا إذا كانت الشهادة من يكون فيه كذبها أكثر إعجازاً من الواقعة التي تحاول إثباتها ... فإذا أنبأني إنسان بأنه رأى ميتاً يبعث، سألت نفسي للتو أيهما أكثر احتمالاً، أن يكون هذا الشخص خادعاً ومخدوعاً، أو أن الواقعة التي يرويها وقعت فعلاً. فأوازن بين المعجزتين، وطبقاً لرجحان إحداهما ... أرفض المعجزة الأكبر. ولن تجد في التاريخ كله معجزة شهد عليهما عدد كاف من الناس، أوتوا من صادق الإدراك والتعليم والثقافة ما يؤمننا أي انخداع قد ينخدعون به، ومن النزاهة التي لا ريب فيها ما يرفعهم فوق أي شبهات من أي قصد في خديعة غيرهم، ومن الثقة وحسن السمعة في أعين البشر ما يجعلهم يخسرون الكثير إذا ضبطوا متلبسين بأي كذبة؛ ويشهدون في الوقت نفسه على وقائع وقعت علانية، وفي جزء مشهور من العالم، مما يجعل الضبط أمراً لا يمكن تجنبه؛ وهذه الظروف كلها لازمة لإعطائنا الثقة الكاملة في الشهادة البشر ..
"إن القانون الذي نهتدي به عادة في استدلالاتنا العقلية هو أن الأشياء التي لا خبرة لنا بها تشبه تلك التي لنا بها خبرة؛ وأن ما وجدناه أكثر الأشياء عادية هو دائماً أكثرها احتمالاً؛ وأنه حيث يكون هناك تعارض في الحجج ينبغي لنا أن نفضل تلك القائمة على أكبر عدد من الملاحظات الماضية .. وأنها لقرينه قوية ضد جميع العلاقات الخارجة والإعجازية ما يلاحظ من أنها تكثر على الأخص بين الأمم الجاهلة(35/212)
والهمجية، ... ومن الغريب أن مثل هذه العجائب لا تحدث أبداً في أيامنا. ولكن لا غرابة ... في أن يكذب الناس في جميع العصور (106) ".
واسترسل هيوم في ادعاء عقبات أخرى في طريق الإيمان المسيحي: حياد الطبيعة الهادئ إزاء الإنسان ومنافسيه على الأرض؛ وتنوع الشرور المتكاثر في الحياة والتاريخ؛ ومسئولية الله الواضحة عن خطيئة آدم، وعن جميع الخطايا، في عالم لا يمكن أن يقع فيه شيء- طبقاً لفرض المسيحي- إلا برضي الله. ودرءاً لتهمة الكفر عنه، أجرى هيوم على لسان "صديق يحب المفارقات الشكية" "لا أستطيع أبداً الموافقة" على مبادئه، دفاعاً عن تخيل أبيقور أن الآلهة موجودة ولكنها لا تعبأ بالبشر. ويتساءل الصديق لم لا يمكن أن يتفق الدين والفلسفة على ألا يزعج أحدهما الآخر كما اتفقا- فيما يظن- في الحضارة الهلنستية:
"بعد أن انتهى الفزَع الأول الذي نجم عن مفارقات ومبادئ الفلاسفة الجديدة، يبدو أن هؤلاء المعلمين عاشوا طوال العصور القديمة في انسجام عظيم من الخرافة المقررة، وقسموا البشر قسمة عادلة بينهما: فالقسم الأول يدعى لنفسه جميع العلماء والحكماء، والثاني جميع السوقة والأميين (107) ".
فيا له من أسلوب للمهادنة!
وفي 1749 عاد هيوم إلى إسكتلندة ليعيش مع أخيه وأخته في ضيعتهما بناينويلز. وبعد عامين تزوج جون هيوم، وانتقل ديفيد إلى أدنبرة، وأرسل إلى المطبعة الآن "التحقيق في مبادئ الأخلاق" الذي أما أن يحل محل المجلد الثالث من الرسالة، وأكد من جديد أن الحس الأخلاقي مشتق ن التعاطف أو المشاعر الاجتماعية؛ ورفض ما ذهب إليه سقراط من أن الفضيلة والذكاء شيء واحد؛ واستنكر استنكاراً قاطعاً فكرة لأرشفوكو القائلة بأن الأفعال "الغيرية" مدفوعة أنانياً بأمل اللذة الحاصلة من التقدير الاجتماعي الذي يتوقع أن تحظى به. فاللذة(35/213)
التي نستشعرها في مثل هذه الأفعال، في رأي هيوم، ليست سبباً لها بل مرافقاً ونتيجة لها؛ أما الأفعال ذاتها فهي عملية من عمليات غرائزنا الاجتماعية (108).
ولكن أبرز ملامح هذا التحقيق الثاني هو تفصيله لمبدأ منفعة أخلاقي. فبعد هتشسن بثلاثة وعشرين عاماً، وقبل بنتام بثمانية وثلاثين، عرف هيوم الفضيلة بأنها "كل صفة في العقل نافعة أو لذيذة للشخص نفسه أو لغيره (109) ". وعلى هذا الأساس برر الذات الصحية للحياة باعتبارها نافعة للفرد، والمعيار المزدوج للفضيلة باعتباره نافعاً للمجتمع. يقول:
"إن طفولة الإنسان الطويلة العاجزة تقتضي تضافر الوالدين للإبقاء على حياة صغارهما، وهذا التضافر يحتاج إلى فضيلة العفة أو الوفاء للفراش الزوجي .. والخيانة من هذا النوع أشد أذى في المرأة منها في الرجل. ومن ثم كانت قوانين العفة أشد صرامة على أحد الجنسين منها على الآخر (110) ".
وقد كتب المؤلف المفتون بكتابه عن هذا التحقيق في مبادئ الأخلاق يقول: "في رأيي (أنا الذي ينبغي ألا أكون حكماً في هذا الموضوع) أنه من بين جميع مؤلفاتي .. .. أفضلها بما لا يقاس" وأضاف "لقد ولد غير ملحوظ ولا مرموق في هذه الدنيا (111) ".
د- الداروينية والمسيحية
وفي 1751 ألف "حوارات في الدين الطبيعي". وهو أشد ما أخرج مزاجه الشيطاني تخريباً وعدواناً على المقدسات. هنا يتحدث ثلاثة أشخاص، ديميا الذي يدافع عن السنية، وكليانثيس الربوبي، وفيلو الذي هو هيوم لا يخطئه النظر. ويزعم ديميا أنه ما لم نفترض وجود عقل أعلى وراء ظواهر الطبيعة فإن العالم يصبح غير مفهوم إلى(35/214)
حد لا يطاق، ولكنه يسلم أن إلهه غير مفهوم بتاتاً للعقل البشري (112). ويلوم كليانثيس ديميا على محاولته تفسير غير المفهوم بغير المفهوم، ويؤثر أن يثبت وجود الله بأدلة القصد في الطبيعة. أما فيلو فيسخر من الحجتين، ويزعم أن العقل لا يمكن أبداً أن يفسر العالم أو يثبت وجود الله. "فأي امتياز خاص تمتاز به حركة الدماغ الصغيرة هذه التي نسميها الفكر، حتى يتحتم علينا أن نجعلها نموذجاً للكون كله؟ (113) ". وأما عن القصد، فإن تكييف الأعضاء لتلائم الأغراض ربما لم ينشأ عن إرشاد إلهي، بل عن تجارب الطبيعة، البطيئة المتخبطة، خلال آلاف السنين (114). (هنا نجد "الانتخاب الطبيعي" بعد 1. 800 سنة من لوكرينيوس، وقبل 108 سنة من داروين). وحتى لو سلمنا بالقصد فوق الطبيعي، فإن قصور التكييفات وعيوبها، وآلاف الآلام في دنيا الإنسان والحيوان، تكشف لنا- على أحسن الفروض- عن إله محدود القدرات والذكاء، أو إله غير مكترث للبشر بتاتاً. "فحياة الإنسان في النهاية ليست أعظم أهمية للكون عن حياة المحارة (115) " يقول:
"يخيل للمرء أن هذا الإنتاج الفخم لم يتلق آخر اللمسات من خالقه، فكل جزء فيه ناقص الصقل جداً، والخطوط التي نُفذ بها غاية في الخشونة. فالرياح مثلاً تساعد الناس على الملاحة، ولكن وما أكثر أن تصبح مؤذية حين تنقلب زوابع وأعاصير! والأمطار ضرورية لتغذية جميع نباتات الأرض وحيواناتها، ولكن ما أكثر ما تكون شحيحة وما أكثر ما تكون مسرفة! ... ليس في الكون شيء كثير النفع إلا انقلب المرة بعد المرة مؤذياً لإفراطه أو قصوره، ثم أن الطبيعة لم تتخذ حيطتها بالدقة المطلوبة من جميع ألوان الخلل أو الفوضى (116) ".
وأسوأ من هذا أن الأمر لا يقتصر على وجود الخلل وسط النظام (إذا نظرنا إلى العالم على أنه مخطط)، بل إن في وسط الحياة الزاخرة صراعاً عقيماً على الدوام مع الموت.(35/215)
"إن حرباً لا يخمد لها أوار تستعر بين جميع الكائنات الحية. فالضرورة، والجوع، والعوز- تحفز الأقوياء والشجعان، والخوف، والقلق، والرعب، تقلق الضعفاء والعاجزين. وأول مدخل للوليد إلى الحياة فيه ألم مبرح له ولأمه المسكينة، والضعف والعجز والضيق رفقاء كل مرحلة من مراحل تلك الحياة، ثم يختم آخر الأمر بالعذاب والرعب .. لاحظ أيضاً .. حيل الطبيعة العجيبة، لتكدر حياة كل كائن حي .. .. تأمل ذلك الجيش العرمرم من الحشرات التي تتربى على جسم كل حيوان، أو تغرز حمتها فيه وهي تطير من حوله ... فكل حيوان يحدق به أعداء يسعون على الدوام إلى إشقائه وتدميره .. ولإنسان ألد خصوم الإنسان. فالقهر، والظلم، والاحتقار والإهانة، والعنف، والإغواء، والحرب، والافتراء، والغدر، والتزييف؛ بهذه يعذب الناس بعضهم بعضاً (117).
"انظر إلى هذا الكون نظرة محيطة. يا لها من وفرة هائلة في الكائنات، الحية المنظمة، الحساسة النشيطة! إنك لتعجب بهذا التنوع الضخم وهذه الخصوبة الهائلة. ولكن افحص بتدقيق أكثر هذه الكائنات الحية ... ما أشد عداءها وتدميرها بعضها لبعض! ... والكل لا يمثل سوى فكرة الطبيعة العمياء، التي تزخر بمبدأ محي عظيم، ويتدفق من حجرها دون تمييز أو رعاية أبوية أطفالها الشائهون المجهضون (118) ".
وتوحي الأدلة المتضاربة على الخير والشر في العالم إلى فيلو بثنائية الآلهة المتنافسين أو تعددهم، بعضهم "أخيار" وبعضهم "أشرار"، وربما كانوا مختلفي الجنس. وهو يلمع في خبث إلى أن العالم:
"لم يكن سوى المحاولة الفجة الأولى لإله طفل أقلع عنها بعد ذلك خجلاً من إنجازه الأعرج .. أو أنه نتاج الشيخوخة والخرف في إله طعن في السن، وبعد موته واصل العالم مسيرته مغامراً، مدفوعاً بالدفعة والقوة الفعالة الأولى التي تلقاها منه (119) ".(35/216)
ولعل العالم كما أكد البراهمة "نشأ عن عنكبوت لا نهائي غزل خيوطه المعقدة كلها من أمعائه ... فلم لا يغزل نسق منظم من البطن كما يغزل من الدماغ؟ (120) ". فتكون الخليقة والحالة هذه أنسالاً. أو ربما "كان العالم حيواناً والإله روح العالم التي تحركه وتتحرك به (121) ".
وبعد هذا المزاح كله يعود فيلو إلى القصد، فيسلم بأن "علة النظام أو علله في الكون فيها على الأرجح بعض الشبه بالذكاء الإنساني (122) ". ثم يعتذر عن آرائه المخزية عن الكون:
"يجب أن أعترف أنني أقل حذراً في موضوع الدين الطبيعي مني في أي موضوع آخر ... وأنك على الأخص يا كليانثيس، أنت الذي أعيش معه في علاقة حميمة بغير قيود، تدرك أنني رغم تحور حديثي، وحبي للحجج الغريبة، فليس هناك من طبع ذهنه بإحساس بالدين أعمق من إحساسي، أو من يعبد الكاهن الإلهي عبادة أعمق إذ يكتشف في نفسه أنه يناقش أساليب الطبيعة وحيلها التي لا يمكن تفسيرها. فالقصد، أو النية، أو التخطيط، يسترعي في كل مكان نظر أشد المفكرين غفلة وغباء، وما من رجل يمكن أن يتجمد في المذاهب الفلسفة السخيفة تجمداً يجعله يرفض هذا القصد على طول الخط (123) ".
على أن أصحاب هيوم ناشدوه ألا ينشر الحوارات رغم هذا العرض بالمصالحة. فأذعن، وحبس المخطوطة في مكتبه، فلم تر النور إلا في عام 179، بعد موته بثلاث سنوات. ولكن افتتانه بالدين أغراه بالعودة إلى الموضوع، وفي 1757 نشر "أربع مقالات" تناولت إحداها "تاريخاً طبيعياً للدين". وسحب مقالين آخرين بناء على إلحاح ناشره، وقد طبعا حين كان أبعد من أن يناله خوف أو لوم؛ وأحد المقالين عن الخلود، والآخر تبرير للانتحار حين يصبح الشخص عبئاً على إخوانه.(35/217)
ومقال "التاريخ الطبيعي للدين" هذا يجمع بين اهتمام هيوم القديم بالدين، واهتمامه الجديد بالتاريخ. فقد فات مرحلة الهجوم على المعتقدات القديمة إلى مرحلة التساؤل عن كيفية توصل الإنسان إلى اعتناقها. ولكنه لا يميل إلى البحث الصابر المستأني، حتى بين المواد الشحيحة المتاحة آنئذ عن الأصول الاجتماعية، بل يؤثر أن يتناول المشكلة بالتحليل السيكولوجي والاستنباط العقلي. فعقل الإنسان البدائي فسر العلية كلها قياساً على إرادته وسلوكه، فوراء أعمال الطبيعة وأشكالها- كالأنهار والمحيطات والجبال والعواصف والأوبئة والعجائب الخ- تصور هذا الإنسان أعمالاً إرادية يقوم بها أشخاص مختفون ذوو قدرة خارقة؛ ومن هنا كان الشرك أول ضروب الإيمان الديني. وإذ كانت قوى أو أحداث كثيرة مؤذية للإنسان، فقد كان لخوف نصيب موفور في أساطيره وعباداته، فجسد هذه القوى الشريرة والشياطين وحاول أن يسترضيها. ولعل الإله لذي آمن به كلفن كان شيطاناً قاسياً، خبيثاً، مستبداً، صعب الإرضاء (وهذه إشارة خبيثة من هيوم) (124). وإذ تصور الإنسان الآلهة الخيرة على شكل البشر- إلا من حيث القوة والدوام، فإنه افترض أنها تمنح العون والراحة بقاء الهدايا والزلفى، ومن ثم كانت طقوس القرابين، والضحايا، والعبادة، وصلاة التضرع. وبازدياد التنظيم الاجتماعي حجماً واتساعاً، وبخضوع الحكام المحليين لملوك أعظم، موت دنيا اللاهوت بتغيير مشابه، فعزا الإنسان في الخيال إلى الآلهة نظاماً هرمياً تسوده الطاعة، وانبعث التوحيد من الشرك، وبينما كانت الجماهير لا تزال تجثو للآلهة أو القديسين المحليين، عبد المثقفون زيوس، أو جوبتر، أو الله.
ولسوء الحظ أصبح الدين أكثر تعصباً كلما غدا أكثر توحيداً. فالشرك سمح بألوان كثيرة من العقيدة الدينية، أما التوحيد فقد طالب بالتماثل. وانتشر الاضطهاد، وغدت الصيحة المطالبة بالعقيدة السنية "أعنف العواطف الإنسانية وأعتاها جميعاً (125) ". وأكرهت الفلسفة على أن تكون خادماً لإيمان الجماهير ومدافعاً عنه بعد أن كانت مطلقة(35/218)
نسبياً بين القدامى باعتبارها دين الصفوة. وفي هذه العقائد التوحيدية- اليهودية والمسيحية والإسلام- فصل الاستحقاق و "الخلاص" أكثر فأكثر عن الفضيلة، وربط بحفظ الشعائر والإيمان الأعمى. وترتب على هذا أن المتعلمين أصبحوا أما شهداء وأما منافقين، وبما أنهم قلّما اختاروا الاستشهاد، فإن حياة البشر لوثها النفاق وعدم الإخلاص.
على أن هيوم كان يغضي عن قدر من النفاق، وذلك في نوباته الأقل ولعاً بالقتال. مثال ذلك أنه حين استشاره قسيس شاب فقد إيمانه أيبقى في الكنيسة ويقبل وظائفها، أجاب ديفد، ابق:
"إن الوظائف المدنية الصالحة للمثقفين نادرة ... ومن المغالاة في احترام العامة ونزعاتهم الخرافية أن يعتز المرء بإخلاصه معهم. فهل حدث مرة أن التزم إنسان بشرفه بأن يقول الصدق للأطفال أو المجانين؟ ... والوظيفة الكنسية إنما تضيف القليل إلى الخداع أو قل التظاهر- البريء- الذي يبدونه يستحيل على المرء أن يشق طريقه في هذه الدنيا (126) ".
هـ- الشيوعية والديمقراطية
اتجه هيوم في أخريات عمره أكثر فأكثر إلى السياسة والتاريخ بعد أن أعياه الجدل حول مسائل يقررها الوجدان- في رأيه أكثر مما يقررها العقل. ففي 1752 نشر "أحاديث سياسية". وقد أدهشته إقبال القراء عليها. وأبهج إنجلترا أن تنسي نزعته لاهوته المدمرة في النزعة المحافظة لسياسته.
كان يتعاطف بعض الشيء مع التطلعات إلى مساواة شيوعية:
"لا بد في الحق من الاعتراف بأن الطبيعة سخت على الإنسان سخاء يتيح لكل فرد أن يتمتع بجميع ضروريات الحياة، بل أكثر كمالياتها، لو أن عطاياها كلها قسمت بالقسط بين الأنواع، وحسنت(35/219)
بالفن والصناعة، .. كذلك لا بد من الاعتراف بأننا أينما خرجنا على هذه المساواة سلبنا من الفقراء رضي أكثر مما نضيف إلى الأغنياء، وبأن الإشباع الطفيف لغرور طائش في فرد واحد، كثيراً ما كلف أكثر مما يكلفه الخبز لكثير من الأسر بل الأقاليم".
ولكنه أحس أن الطبيعة البشرية تجعل حلم المدينة الفاضلة التي تسودها المساواة ضرباً من المحال:
"إن المؤرخين ينبئوننا، لا بل الفطرة السلمية تنبئنا، بأن هذه الأفكار عن المساواة "التامة" مهما بدت قيمة إلا أنها في صميمها "غير ممكنة عملياً"، وألا لألحقت أشد الأذى بالمجتمع الإنساني. فلو أنك سوبت تسوية كاملة بين الملكيات، لحطمت درجات الناس ومراتبهم المختلفة من حيث الصنعة والعناية والجد تلك المساواة فوراً. أو لو فرضت الرقابة على هذه الفضائل ... لأحتجت إلى أكثر محاكم التفتيش صرامة لمراقبة أي ضرب من عدم مساواة بمجرد ظهوره، وأشد السلطات القضائية صرامة لعقابه وإصلاحه .. .. فمثل هذا السلطان المفرط لا بد أن ينحدر سريعاً إلى درك الطغيان (127) ".
ونالت الديمقراطية من هيوم، كما نالت الشيوعية، رفضه المتعاطف. فالمبدأ في رأيه "مبدأ ... نبيل في ذاته ... ولكن تكذبه كل التجارب، أن الناس هم الأصل في كل ضروب الحكم العادل (128) ". ورفض النظرية (التي سيحييها روسو بعد قليل) القائلة بأن الحكومة نشأت أصلاً من "تعاقد اجتماعي" بين الناس، أو بين الشعب والحاكم، لأنها نظرية صبيانية:
"فكل الحكومات الموجودة الآن تقريباً، أو التي خلفت لنا أي سجل في التاريخ، أسست أصلاً إما على الاغتصاب، أو على الغزو، أو عليهما جميعاً، دون أن تزعم بأنها حظيت بموافقة الشعب، أو(35/220)
بخضوعه الاختياري. وأغلب الظن أن أول سيطرة الإنسان على الجماهير بدأت في حالة الحرب .. .. وكان من أثر استمرار تلك الحالة طويلاً ... وهو أمر مألوف لدى القبائل المتوحشة، أن الشعب تعود الخضوع (129) ".
وهكذا أصبحت الملكية أكثر أشكال الحكم انتشاراً، ودواماً، وأذن فأكثرها عملية على الأرجح. "إن الأمير الوراثي، والنبلاء دون أتباعهم، والشعب الذي يصوت بواسطة ممثليه، يؤلفون خير ملكية، وأرستقراطية، وديمقراطية (130) ".
وبالإضافة إلى تفنيد هيوم لروسو سلفاً، استخدم أسلوبه "الأديسوني" لينبذ سلفاً نظرية مونتسكيو التي تزعم أن مناخ البلد يقرر طبع أهله. كتب يقول في "مقالات أخلاقية وسياسية" ظهرت طبعته الثانية في آن واحد تقريباً (1748) مع "روح القوانين": "أما عن الأسباب الطبيعية فإني أميل إلى الشك في مفعولها في هذا المجال. كذلك لا أظن أن الناس يدينون بأي شيء في طبعهم أو نبوغهم للهواء أو الغذاء أو المناخ (131) ". فالخلق القومي يترتب على الحدود القومية لا المناطق المناخية، وأهم ما يقرره هو القوانين والحكومة وهيكل المجتمع وأعمال السكان ومحاكاة الجيران أو الرؤساء.
في ظل هذه العوامل المختلفة المحلية تكون الطبيعة البشرية أساساً طبيعة واحدة في كل زمان ومكان؛ فالدوافع والغرائز ذاتها، التي تفرضها دواعي البقاء، تنتج أساساً، في جميع العصور والأقطار، الأفعال والنتائج ذاتها.
"فالطموح والجشع ومحبة الذات والغرور والصداقة والكرم وروح الجماعة- هذه العواطف، المختلطة بدرجات متفاوتة، والموزعة بين أفراد المجتمع، كانت منذ أن وجدت الدنيا وما زالت مصدر جميع(35/221)
الأفعال والمشروعات التي لوحظت بين بني البشر. أتريد أن تعرف عواطف اليونان والرومان وميولهم وسير حياتهم؟ إذن فادرس جيداً طبائع الفرنسيين والإنجليز وأفعالهم، فلن تخطئ كثيراً أن طبقت على الأولين معظم الملاحظات التي لاحظتها على الآخرين- فالبشر شيديو التشابه في كل زمان ومكان حتى إن التاريخ لا يضيف إلى علمنا جديداً أو غريباً في هذا الباب. وأهم فائدة له أن يكشف عن المبادئ الثابتة والعامة للطبيعة البشرية بعرضه البشر في شتى الظروف والمواقف، ويمدنا بالمواد التي نكون منها ملاحظاتنا ونحيط منها علماً بالمنابع المنتظمة لأفعال البشر وسلوكهم. فهذه السجلات للحروب والدسائس والأحزاب والثورات هي مجموعات كبيرة من التجارب يستعين بها فيلسوف السياسة أو الأخلاق على تحديد مبادئ علمه (132) ".
وقد أضاف هيوم إضافات قيمة للفكر الاقتصادي في كتابيه "أحاديث سياسية" و "مقالات ورسائل في موضوعات مختلفة" (1753). ذلك أنه رفض رأي الفيزوقراطيين الفرنسيين القائل بأن جميع الضرائب تقع في النهاية على الأرض. وذهب إلى أنها تقع في النهاية على العمل، لأن "كل شيء في العالم يشترى بالعمل (133) " (وهو هنا مردد صدى لوك). وحتى قبل أن تتشكل الثورة الصناعية تنبأ بأن العمال "سيرفعون أجورهم بالتكتل"، وندد بتمويل المصروفات والمشروعات الحكومية بالضرائب المرتفعة والإصدارات المتكررة للسندات، وتنبأ بأن مثل هذه الإجراءات الضريبية ستجر "الحكومات الحرة" إلى "حالة العبودية التي ترزخ تحتها جميع الأمم المحيطة بنا" (134). والنقود ليست هي الثروة، وسك مقادير تزيد على متطلبات التجارة منها إنما يرفع الأسعار ويعرقل التجارة الخارجية. والنظرية "المركنتلية" الخاطئة التي ما زالت تحمل الدول الأوربية على التركيز على الصادرات، ومنع الواردات، وتجميع(35/222)
الذهب، ستحرم أوربا من المنافع الدولية الناشئة عن قدرة كل أمة على إنتاج سلع نوعية بفضل التربة والمناخ والمهارات الخاصة بأدنى تكلفة وأعلى جودة. ثم جرؤ على أن يصلي:
"لا بوصفي إنساناً فحسب، بل أحد الرعايا البريطانيين، .. لأجل التجارة المزدهرة لألمانيا، وأسبانيا، وإيطاليا، بل وفرنسا ذاتها. وإني على الأقل واثق أن بريطانيا العظمى وهذه الأمم جميعاً سيزيد ازدهارها لو أن ملوكها ووزراءها اعتنقوا هذه الآراء السمحة الخيرة نحو بعضهم البعض ... فازدياد الثروة والتجارة في أي أمة لا يؤذي وإنما على العكس من ذلك يدعم عادة ثروة وتجارة جيرانها جميعاً (135) ".
هذه الأفكار، التي ربما كانت متأثرة بمذهب "عدم التدخل" الذي نادى به الفيزيوقراطيون، أثرت بدورها في آدم سمث، صديق هيوم، ولعبت دوراً في تطوير سياسة بريطانية تقول بحرية التجارة، وهي تجد تحقيقها في أوربا الغربية في عصرنا هذا.
والتاريخ
في 1752 بعد حملة شنها عليه الحزب السني الذي اتهمه بأنه زنديق وقح، انتخب هيوم أميناً لمكتبة كلية المحامين بأدنبرة. وكان المنصب كبير المعنى في نظره رغم تواضع راتبه الذي لم يزد على أربعين جنيهاً في العام، لأنه جعله السيد المتصرف في ثلاثين ألف مجلد. وبفضل وجود هذه المكتبة في متناوله استطاع أن يؤلف كتابه "تاريخ إنجلترا". وكان في عام 1748 قد اعترف إلى صديق له بهذه الكلمات "لقد طالما نويت أن أؤلف كتاب تاريخ في سني حياتي الأكثر نضجاً (136) ". وكان يسمى التاريخ "الخليلة العظمى للحكمة (137) "، ويؤمل أن يجدد فيه أسباب نهوض الأمم وسقوطها، يضاف إلى هذا:(35/223)
"أن نرى النوع الإنساني كله يمر بنا وكأنه في عرض أمامنا. بادياً على سجيته، دون أي من هذه الاستخفاءات التي طالما شوشت حكم المتفرجين على هؤلاء الناس أثناء حياتهم- فأي مشهد آخر يمكن أن تتصوره بهذا البهاء والتنويع والتشويق؟ وأي متعة للحواس أو الخيال يمكن أن تقارن به؟ (138) ".
إن مظاهر القرن الثامن عشر أنه أنجب في جيل واحد ثلاثة من أعظم مؤرخي العالم؛ فولتير، وهيوم، وجبون، وكلهم مؤسس في الفلسفة، محاول أن يعيد تفسير التاريخ بلغة غير اللاهوت، وفي أعرض منظور للمعرفة حشده زمانه. ولم يملّ جبون من الثناء على هيوم والإقرار بفضل تأثيره، وكان يقدر إطراء هيوم للمجلد الأول ممن "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1776) فوق كل إطراء آخر. فهل كان هيوم بدوره مديناً بالكثير لفولتير؟ كان قد توصل إلى فلسفته وصاغها كباحث مدين للربوبيين الإنجليز لا للشكاك الفرنسيين. "والرسالة في الطبيعة البشرية" سبقت كل الأعمال الكبرى التي كتبها فولتير وديدرو ومونتسكيو. ولكن ربما كان كتاب هيوم "تاريخ إنجلترا" (1754 - 62) مديناً بشيء لكتاب فولتير "عصر لويس الرابع عشر" (1751)، وحتى لكتاب "مقال في العرف" الذي طبعت أجزاء منه في 1745 و1755. هؤلاء المؤرخون الثلاثة كلهم أجمعوا على فضح الخرافة، ورفض التفسيرات الخارقة، والتوحيد بين التقدم وتطور المعرفة والعادات والفنون.
وكتب هيوم تاريخه إلى الخلف. فغطى مجلده الأول الصادر في (1754) عهدي جيمس الأول وتشارلز الأول- السنوات 1603 - 49، والثاني (الصادر في 1756) امتد من 1649 إلى 1688، والثالث والرابع (الصادران في 1759) من 1485 إلى 1603، والخامس والسادس (الصادران في 1761) من غزو يوليوس قيصر لإنجلترا إلى ارتقاء هنري السابع العرش في 1485.(35/224)
وقد أدهشه عنف النقد الذي هوجم به المجلد الأول. كان يؤمن بأن تسلط حزب الأحرار على إنجلترا منذ استقدموا وليم الثالث في 1688، وخوفهم من الثورتين الأستيوارتيتين الناشبتين في 1715 و1745، قد لوثا كتابة التاريخ الرسمي الإنجليزي بالعداء لأسرة ستيوارت، ثم زعم أنه بريء من النزعات المضادة. "رأيتني المؤرخ الوحيد الذي أهمل في وقت واحد الحكومة والمصلحة والسلطة الراهنة من جهة، وصيحة التحيز الجماهيري من جهة أخرى (136) ". ولكنه نسي أنه اسكتلندي، وأن إسكتلندة ما زالت تبكي سراً أميرها الجميل تشارلي، وأن الاسكتلنديين، وأغلب الظن أن هيوم لم يشذ عنهم، لم يغفروا قط لإنجلترا قتلها تشارلز الأول نصف الاسكتلندي، واستقدامها أولاً رجلاً هولندياً، ثم آخر ألمانياً، لحكم إنجلترا وإسكتلندة وويلز. فبينما نراه يسلم بأن تشارلز الأول جاوز حدود الامتيازات الملكية واستحق أن يخلع، نجده بصور البرلمان متجاوزاً بالمثل حقه، ومذنباً بالمثل في أمر الحرب الأهلية. ولقد سلم بحق لامة في خلع الملك الصالح، ولكنه تمنى لو أن أحداً لم يدفع هذا الحق قط إلى نهايته، وخاف من "هياج الشعب وظلمه" وأحس أن إعدام تشارلز "الرجل المعتدل الكريم النفس" قد زعزع بشكل خطر عادات الشعب في احترام الحكومة. واحتقر البيورتان لأنهم "منافقون متظاهرون بالتقوى "لوثوا" لغتهم "برطانه" غامضة و "ووشوا آثامهم بالصلوات (140) ". وحكم على فترة الكومونولث (جمهورية كرومويل) بأنها فترة تقوى قاتلة، وطغيان عسكري، وفوضى اجتماعية، لم تبرأ البلاد منها إلا بعودة أسرة ستيوارت إلى العرش. وقد ذهب فولتير في عرضه لتاريخ هيوم إلى أنه منصف تمام الإنصاف: ا
"إن المستر هيوم ... غير متحيز للبرلمان ولا للملكية، ولا هو أنجليكاني ولا مشيخي، إنما هو رجل منصف لا أكثر. فلقد طالما حرم جنون الحزبية إنجلترا من المؤرخ النزيه كما حرمها من الحكومة الصالحة. فما كتبه محافظ كان يرفضه الأحرار، الذين يكذبهم المحافظون بدورهم ... ولكننا نجد في المؤرخ الجديد ذهناً يسمو فوق مظانه،(35/225)
يتحدث عن مواطن الضعف وعن الأخطاء الجسمية وأفعال القسوة حيث الطبيب عن الأوبئة (141) ".
أما النقاد البريطانيون فلم يوافقوا فولتير. فهو لم يأخذوا على هيوم إنه قل أن رجع إلى المصادر الأصلية، بل (كما ذكر فيما بعد) "هوجم بصيحة واحدة كلها لوم واستنكار، بل بغض وكراهية. فالإنجليز، والاسكتلنديون، والإيرلنديون، والأحرار، والمحافظون، ورجال الكنيسة الأنجليكانية وأتباع المذاهب المنشقة، وأحرار الفكر المتدينون، والوطنيون والحاشية- كل أولئك أجمعوا على السخط على الرجل الذي جرؤ على أن يذرف دمعة كريمة على مصير تشارلز الأول وايرل سترافورد. وبعد أن همدت السورة الأولى لغضبتهم، كان أشد خزياً ما بدأ من أن الكتاب طوى في زوايا النسيان. وقد أخبرني المستر ملر أنه لم يبع خلال اثني عشر شهراً إلا خمسة وأربعين نسخة منه (142) ".
وقد فت هذا في عضده حتى لقد حدثته نفسه حيناً بأن يرحل كما رحل في شبابه إلى مدينة من مدن الأقاليم في فرنسا، حيث يستطيع العيش باسم منتحل. ولكن فرنسا وإنجلترا كانتا تقتتلان، وقد أوشك المجلد الثاني على نهايته، فاعتزم أن يواصل العمل. وازداد تحيزه بسبب ما لقي من معارضة، ففي تنقيحه للمجلد الأول أدخل "نيفا ومائة تغيير". ولكنه يقول بكل البهجة الخبيثة التي يستشعرها عفريت ضخم "جعلتها كلها في صف المحافظين (143) " ومع ذلك بيع من المجلدات التالية عدد لا بأس به، ورحب به المحافظون الآن محامياً شديد المرس، وسلم بعض الأحرار بسحر أسلوبه البسيط، الواضح، البتار، الصريح، الذي سبق أحياناً وقار جبون الحصيف. فوصفه للصراع المثير بين هنري الثاني وتوماس أبيكيت يضارع رواية جبون لاستيلاء العثمانيين على القسطنطينية. ورفع تأثير المجلدات الستة المتراكم صيت هيوم إلى ذروته. وفي 1762 ذهب بوزويل في تقديره له إلى أنه "أعظم الكتاب في بريطانيا (144) "- ولكن بوزويل كان اسكتلندياً. وفي 1764 صرح فولتير في تواضع بأن الكتاب "ربما كان أفضل تاريخ كتب في أي لغة إطلاقاً (145) " وقد زاحه جبون وماكولي إلى الظل، ووازن ماكولي تحيزه بتحيز معادل، ولا ينصحنا(35/226)
المؤرخون بقراءة كتاب هيوم اليوم، لأن تسجيله للوقائع قد طرأت عليه تحسينات منذ أمد بعيد، ولكن قارئاً بدأ قراءته باعتباره واجباً فوجده فيه الإنارة والمتعة.
ز- الفيلسوف العجوز
في 1755 بدأت حركة يقودها بعض رجال الدين الاسكتلنديين لاتهام هيوم أمام مجمع الكنيسة العامة بتهمة الزندقة، وكان "التنوير الاسكتلندي" قد أنجب حركة متحررة بين شباب القساوسة، فاستطاعوا أن يحولوا دون أي إدانة علنية للفيلسوف- المؤرخ؛ ولكن الهجمات الكنيسة اتصلت هذه، ولدغته لدغات جعلته يعود إلى التفكير في الفرار. وواتته فرصته حين دعاه ايرل هرتفورد (1763) ليكون نائب سكرتير له في سفارة لفرنسا، وحصل له على معاش قدره 200 جنيه مدى الحياة.
وكان منذ أمد بعيد معجباً بالفكر الفرنسي، وقد تأثر بالرعيل الأول من كتاب "التنوير"الفرنسي، وراسل مونتسكيو وفولتير. وكانت أعماله تحظى في فرنسا بثناء يفوق كثيراً ما حظيت به في إنجلترا. وعشقته الكونتيسة دبوفليه من قراءة كتبه، وكتبت له تتملقه، وجاءت لندن إلى لتراه، فأفلت منها. ولكن حين وصل باريس بسطت عليه رعايتها، وجعلته بطل صالونها، وناضلت لتوقظ صدره عاطفة الرجولة، ولكنه وجدته أثبت وأرسي من أن تجرفه رياح الغرام. وكان يدعى للمآدب في الاجتماع تلو الاجتماع. قالت مدام دبينيه "لاتكتمل بدونه". وفتحت له الأرستقراطية ذراعيها، ورفت من حوله عظيمات النساء- حتى بومبادور العليلة. وكتب يقول: "إني واثق أن لويس الرابع عشر لم يكابد قط في أي ثلاثة أسابيع من حياته مثل هذا التملق الكثير". والتقى بطورجو ودالمبير ودولباخ وديدرو، ودعاه فولتير من عرشه النائي في فرنيه "يا قديسي ديفد". وأدهش ايرل هرتفورد أن يجد الناس يسعون وراء سكرتيره وينحنون له أكثر كثيراً مما يفعلون معه. ولكن هوراس ولبول غاظه هذا كله، وسخر بعض "الفلاسفة" من بدانة هيوم غيرة منه. وفي(35/227)
إحدى الحفلات بعد أن دخل هيوم عقب دالمبير بآية من الإنجيل الرابع (يوحنا) "والكلمة صار جسداً" وقيل إن إحدى السيدات المعجبات بهيوم ردت عنها على الملاحظة بحضور بديهة عجيب "والكلمة صار محبوباً (146) ". لا عجب أن يكتب هيوم، الذي ناكده خصومه في أدنبرة، وكرهون في لندن، "إن الحياة في باريس تبعث على الرضي الحقيقي لوفرة مجتمع الأشخاص المعقولين الأذكياء المهذبين، الذين تزخر بهم المدينة (147) ".
وفي نوفمبر 1965 أقبل سفير بريطاني جديد، فأنهى استخدام هيوم فعاد إلى أدنبرة، ولكن في 1767 قبل وظيفة وكيل في وزارة الخارجية بلندن. في هذه الفترة أتى بروسو إلى إنجلترا، فخلق له متاعب مشهورة، ولا بد من إرجاء هذه القصة الآن. وفي أغسطس 1769، حين بلغ الثانية والخمسين، عاد نهائياً إلى أدنبرة، وقد غدا الآن "غنياً جداً (لأنني كنت أملك دخلاً قدره ألف جنيه في العام) صحيح البدن، أتوقع- رغم أني طعنت في السن بعض الشيء- أن استمتع طويلاً بالراحة، وأن أرى شهرتي في اتساع (148) ".
وأصبح بيته في شارع سانت ديفد صالوناً يجتمع فيه من حوله آدم سمث ووليم روبرتسن وغيرهما من مشاهير الاسكتلنديين كأنه ملكهم المعترف به. ولم يحبوه لرجاحة ذهنه فحسب، فقد رأوا أنه رغم استدلالات العقلية المحطمة للمقدسات، محدث ظريف بشوش معتدل في الجدل متسامح مع الآراء المعارضة، لا يسمح للخلاف في الأفكار بالانتقاص من حرارة صداقاته. ويبدو أنه (كمونتيني وفولتير) كان يضع الصداقة فوق الحب. "إن الصداقة بهجة الحياة الإنسانية الكبرى (149) ". ومع ذلك كان محبوباً من النساء، ربما لأنه لم يكن متزوجاً. وكان الضيف الأثير في بيوت كثيرة، وإذا كانت سمنته تتلف المقاعد (150)، فإن خفة روحه عوضت عن ثقل بدنه، وقد اقترح ضريبة على السمنة، ولكنه توقع أن "بعض القساوسة قد يدعون أن الكنيسة في خطر"، وكان يبارك ذكرى يوليوس قيصر لأنه آثر السمان من الرجال- قال آدم سمث: "كنت على الجملة أعده دائماً .. أقرب ما تسمح به طبيعة الضعف البشري من فكرة عن الرجل الكامل الحكمة والفضيلة (151) ".(35/228)
وإذا لم يكن بد من البحث عن نقائص في هذا الخلق الذي بلغ غاية اللطف، أو عن بقعة معتمة في هذا الذهن الألمعي، فإن أكبر أخطائه التي يصعب اغتفارها له هي إشاراته إلى "الفرض البشع" الذي افترضه سبينوزا "الكافر" (152)، وهي إشارات لا بد أن الهدف منها كان تغيير لون جلده ليحمي نفسه. ولقد كانت سيكولوجية هيوم أكثر سيكولوجيات زمانه نفاذاً، ولكنها لم تعلل تماماً الإحساس بالهوية الشخصية؛ فإن حالة نفسية ما لا تستدعي حالة نفسية أخرى فحسب، بل قد تستدعيها باعتبارها حالتي "أنا"، وإحلال "التتابع المنتظم" محل "العلة" لا يتطلب سوى تغيير في العبارة؛ و "التتابع المنتظم" كاف للعلم والفلسفة؛ وكتابه "تاريخ إنجلترا" لا يفتأ يحاول تفسير الأحداث بالأسباب (153) ". وإن شكوكيه تخلى عنها صاحبه صراحة في الحياة العملية، لا بد أن تكون خاطئة من حيث نظريتها، لأن الممارسة هي المحك النهائي للنظرية. ومن الغريب أن هيوم مع ردّه العلة إلى العرف، والفضيلة إلى شعور التعاطف، لم يعط وزناً يذكر للعرف والشعور في تفسيره للدين، وأبدى أقل التعاطف مع وظائف الدين الملحة في التاريخ. وكان عديم الإحساس بتعزيات الإيمان، والراحة التي كان يمسح بها على النفوس المقشعرة أمام سر الوجود وضخامته، أو وحشة الزن، أو حتمية الهزة القاسية. لقد كان نجاح وسلي رد التاريخ على هيوم.
على أننا برغم هذه الاعتراضات التافهة نعود إلى الإقرار بما اتسم به ذهن هيوم النفاذ من رهافة بتارة. لقد كان هو وحده "التنوير للجزر البريطانية، ونحن إذا استثنينا مجال الرؤية السياسية، وجدنا أن أثر هيوم أساساً كان في بريطانيا معادلاً لأثر نيف وعشرة فلاسفة في فرنسا .. ومع أنه كان يشعر بالتأثير الفرنسي شعوراً عميقاً، فإنه توصل إلى أفكار التنوير، وكان بعض لطماته البالغة الشدة قبل أن يجرد "الفلاسفة"- بل فولتير- مخالبهم على "العار" l'inf (me، لقد كانوا مدينين له بقدر دينه لهم. كتب إليه ديدرو يقول: "إني أحييك، إني أحبك، إني أجلك (154) " وفي إنجلترا أنهى مذهب الربوبية بتحديه قدرة العقل لا إلى أسوار العقيدة القديمة فحسب، بل إلى(35/229)
قلعته الحصينة. وكان جبون سليل هيوم في الفلسفة، وتلميذه الذي بزه في التاريخ. وفي ألمانيا أيقظ كتابه "تحقيق في الفهم البشري" كانت من "سباته الدجماطيقي" بما بدا من تقويضه لكل العلم والميتافيزيقا واللاهوت عن طريق تشككه في موضوعية العلة. وبعد أن قرأ كانت مخطوطة الترجمة التي قام بها هامان لكتاب "الحوارات حول الدين الطبيعي "أدمج في إعداده النهائي لكتابه "نقد العقل الخاص" (1781) انتقادات هيوم للحجة القائمة على القصد، واعتبر هذه الانتقادات مستعصية على الرد (155).
وقد كتب هيوم يقول "أتمنى أن يكون حظي- لأجلي ولأجل أصدقائي جميعاً- أن أقف دون عتبة الشيخوخة فلا أوغل في ذلك الإقليم الكئيب (156). واستجاب له الحظ. تقول ترجمته الذاتية:
"في ربيع 1775 أصبت باضطراب في أمعائي لم يفزعني في لأول وهلة، ولكنه أصبح بعد ذلك، كما خشيت، قتالاً لا شفاء منه. وإني الآن أعلق أملي على الانحلال السريع. لقد عانيت ألماً طفيفاً جداً من اضطرابي هذا، وأعجب من ذلك أنني برغم التدهور الشديد الذي ألم ببدني، لم أعان قط ولو للحظة واحدة أي هبوط في معنوياتي، بحيث لو طلب إلى أن أسمي فترة حياتي التي أوثر أن أعيشها من جديد فربما أغربت بأي أسمى هذه الفترة الأخيرة. فعندي الحماسة ذاتها التي ألفتها في الدرس، والمرح في صحبة الإخوان، ثم أنني أحسب أن الرجل إذا مات وهو في الخامسة والستين إنما يوفر على نفسه بضع سنين من العلل والإسقام (157) ".
وائتمر عليه الإسهال، ذلك الانتقام الأثير إلى الآلهة من عظماء البشر، مع النزيف الداخلي، فهبطا بوزنه سبعين رطلاً في عام واحد (1775). وكتب إلى الكونتيسة بوفليه يقول "إني أرى الموت يدنو شيئاً فشيئاً دون أن أشعر بقلق أو أسى. أحييك بكثير من الود والاحترام لآخر مرة (158) " وذهب لاستشفاء بالمياه المعدنية في باث، فلم تجد فتيلاً في التهاب المعي الغليظ المقرح المزمن. ولكن ذهنه ظل هادئاً صافياً.(35/230)
وعاد إلى أدنبرة في 4 يوليو واستعد للموت "بالسرعة التي يشتهيها أعدائي إن كان لي أعداء، واليسر والبشاشة اللذين يتمناهما لي أصدقائي (159) " فلما قرأ في كتاب لوكان "حوارات الموتى" مختلف الأعذار التي تذرعيها المحتضرون لشارون حتى لا يستقلوا تجاربه من فورهم ليعبر بهم نهر الجحيم إلى الأبدية، لاحظ أنه لا يستطيع أن يجد عذراً مناسب حالته إلا بأنه قد يكون متوسلاً "قليلاً من الصبر أي شارون الطيب. لقد كنت أحاول فتح عيون الجماهير. فلو عشت بضع سنين أخر لطبت نفساً بأن أرى سقوط بعض مذاهب الخرافة السائدة". ولكن شارون أجاب "أيها الوغد المتلكئ، لن يحدث هذا ولو بعد مئات السنين. أتتوهم أنني مانحك فسحة طوال هذه السنين؟ فادخل الزورق إذن من فورك".
أما بوزويل، الملحاح الوقح، فقد أصر على توجيه هذا السؤال إلى الرجل المحتضر- أيؤمن الآن بحياة آخرة؟ وأجاب هيوم "إنه لوهم غير معقول للغاية أن نعيش إلى الأبد". وثابر بوزويل على إلحاحه قائلاً "ولكن من المؤكد أن فكرة الحياة المستقبلة تسر النفس؟ " وأجاب هيوم "أبداً، إنها فكرة كئيبة جداً". وأقلبت النساء ورجونه أن يؤمن، فصرفهن عن الموضوع بمزاحه (161).
ومات في هدوء، "بغير ألم كثير" (كما قال طبيبه) في 27 أغسطس 1776. ومشي ف جنازته جمع غفير برغم هطول المطر الغزير. وسمع صوت يقول "كان كافراً"، وأجاب صوت آخر "لا يهم، فلقد كان رجلاً أميناً (162) ".(35/231)
الفصل الخامس
الأدب والمسرح
1714 - 1756
1 - دولة القلم
كانت إنجلترا تشغى بالطباعة على الأقل إن لم تشغ بالأدب. ففضلاً عن زيادة سكانها، لا سيما في المدن وخصوصاً في لندن، كان الإلمام بالقراءة قد انتشر بينهم باعتباره ضرورة للتجارة والصناعة وحياة المدينة. وعكفت البورجوازية المزدهرة على قراءة الكتب تميزاً وترويحاً، وعكفت النساء على الكتب فوفرن القراء والحوافز لرتشاردسن والرواية. وزاد من جمهور القراء المكتبات الدائرة، التي أنشئ أول مكتبة فيها يعيها التاريخ المدون في 1740، وسرعان ما أصبح عددها اثنتين وعشرين في لندن وحدها. وبدأت الطبقة الوسطى الجماعية تحل محل الطبقة الأرستقراطية الفردية بوصفها راعية للأدب، وهكذا استطاع جونسن أن يهزأ بتشسترفيلد. ولم تعد الإعانات الحكومية تتحكم في كبار الأقلام بالمغريات السياسية-كما حدث من قبل مع أديسون وسويفت وديفو.
وشحذت شهية الجمهور للأخبار تلك الصراعات المرة بين الأحرار والمحافظين، وبين الهانوفريين والاستيوارتيين، وتورط إنجلترا المتزايد في الشئون الأوربية والاستعمارية، وأصبحت الجريدة قوة يعتد بها في تاريخ بريطانيا. ففي 1714 كان هناك إحدى عشرة جريدة تصدر بانتظام في لندن، وأكثرها أسبوعي، وفي 1733 زادت إلى سبع عشرة، وفي 1776 إلى ثلاث وخمسين. وكان كثير منها تعنيه الأحزاب السياسية، فكلما رفع الشعب صوته اشترت الأقليات الموسرة الجرائد لتملي أفكارها. واشتملت كل الجرائد تقريباً على إعلانات. وخصصت "الديلي أدفرتيزر" التي أسست في 1730 أول الأمر(35/232)
للإعلانات دون سواها، ولكنها سرعان ما أضافت عنصراً مثيراً من الأنباء، كما تفعل جرائدنا الصباحية العملاقة، لدعم توزيعها وزيادة أجور إعلاناتها. وولدت في هذه الفترة بعض المجلات الهامة مثل "الكرافتسمان" (1726) وهي السوط الذي راح بولنبروك يسوط به ولبول، ومجلة "جراب ستريت" (1730 - 37)، وهي لسان بوب الحاد، ومجلة "الجنتلمان" (1731) التي أعطت جونسون وظيفة فيها، ومجلة "أدنبرة" (1755) التي ماتت إلى أجل فقط في 1756. وكثير من الجرائد والمجلات الإنجليزية ما زال حياً بعد مضي مائتي عام على صدوره.
هذه الدوريات كلها-اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية-أعطت المطبعة قوة أضافت إلى مخاطر الحياة البريطانية وحيويتها. ومع أن روبرت ولبول حظر نشر المناقشات البرلمانية، فقد أباح للصحفيين أن يهاجموه بكل ما في أدب القرن الثامن عش من قسوة وخبث. وقد عجب مونتسكيو القادم من فرنسا التي فرضت عليها رقابة المطبوعات، لتلك الحرية التي كانت صحيفة "جراب ستريت" تقذف بها داوننج ستريت (مقر الحكومة) بالمداد المسموم (1). وشكا عضو في البرلمان إلى مجلس العموم في 1738 من أن: "شعب بريطانيا العظمى تحكمه قوة لم يسمع بها قط من قبل، باعتبارها السلطان الأعلى، في أي عصر أو بلد. وهذه القوة يا سيدي لا تكمن في إرادة الملك المطلقة، ولا في توجيه البرلمان، ولا في قوة الجيش، ولا في نفوذ الأكليروس، إنها حكومة الصحافة. فالبضاعة التي تحفل بها صحفنا الأسبوعية يتقبلها الشعب باحترام يفوق احترامه لقوانين البرلمان، وآراء هؤلاء الكتاب التافهين لها عند الجماهير وزن أثقل مما لرأي خيرة السياسيين في المملكة (2) ".
ورح الطباعون يعملون بحماسة جديدة ليلبوا الطلب المتزايد فككان في لندن 150 منهم، وفي إنجلترا كلها ثلاثمائة، اثنان منهم في هذا العهد-وهما وليم كاسلون وجون باسكرفيل-خلفاً أسميهما على طقم حروف طباعية. وظل الطبع والنشر وبيع الكتب في معظم الحالات موحداً في شركة واحدة. ومن الشركات الباقية إلى يومنا شركة لونجمان التي ولدت في 1724. وكانت كلمة " publishere(35/233)
الناشر" تدل على عائدة المؤلف، أما الذي يخرج الكتاب فهو بائع الكتب أو تاجرها bookseller. وألف بعض باعة الكتب، كأبي جونسن، أن يحملوا بضاعتهم إلى الأسواق، أو يسرحوا بها من مدينة إلى مدينة، ويفتحوا كشكاً في أيام السوق، وكان الثمن الذي يطلبوه عن كتاب مجلد يتفاوت بين شلنين وخمسة، ولكن الشلن عام 1750 كان يساوي دولاراً وربعاً تقريباً. وكان البرلمان قد أقر قانوناً بحقوق الطبع في 1710، وكفل للمؤلف أو من يخصصهم حقوق الملكية في كتابه أربعة عشر عاماً، تمتد إلى ثمانية وعشرين عاماً إذا عمر بعد الفترة الأولى. على أن هذا القانون لم يحمه إلا في المملكة المتحدة، وكان في استطاعة الطباعين في إيرلندة وهولندا أن ينشروا طبعات مسروقة ويبيعوها (حتى 1739) في إنجلترا منافسين بذلك بائع الكتب الذي دفع الثمن الكتاب.
في هذه الظروف المنطوية على المجازفة تشدد باعة الكتب في مساوماتهم مع المؤلفين. وكان الكتاب يبيع حقه في الكتاب عادة بمبلغ محدد، فإذا راج الكتاب على غير توقع فقد ينفح البائع المؤلف بمبلغ إضافي، ولكن هذا لم يكن لزاماً عليه. أما ثمن الكتاب الذي يؤلفه مؤلف معروف فكان يتفاوت بين مائة ومائتي جنيه. وقد تسلم هيوم خمسمائة جنيه ثمناً للمجلد من كتابه "تاريخ إنجلترا" وهو ثمن مرتفع ارتفاعاً استثنائياً. وكان للمؤلف الحق في قبول الاكتتابات لكتابه، كما فعل بوب في ترجمة للألياذة؛ وفي هذه الحالات كان المكتتب يدفع عادة نصف ثمن الشراء سلفاً، والنصف الثاني عند تسلمه الكتاب، وكان المؤلف يتولى الدفع للطابع.
وعاشت الكثرة العظمى من المؤلفين في فقر مسخط. من ذلك أن سيمون أوكلي، الذي ظل عاكفاً عشر سنوات على تأليف كتابه "تاريخ المسلمين" (1708 - 57)، اضطر إلى استكماله في سجن المدينين؛ وكان رتشرد سفدج يتسكع في الشوارع ليلاً لافتقاره إلى مسكن، وظل جونسون ثلاثين عاماً يعاني مرارة الفقر قبل أن يصبح أمير الأدب الإنجليزي. وكان شارع جراب (شارع ملتن الآن) الموطن التاريخي "للشعر والفقر" (كما قال جونسن)، حيث الكتاب المأجورون-(35/234)
من صحفيين، ومترجمين، ومصنفين، وقراء تجارب الطبع، وكتاب المقالات للمجالات، ومحققين-ينامون ثلاثة في فراش واحد ويرتدون البطاطين لافتقارهم إلى غيرها من الملابس. ولم تكن العلة في هذا الفقر شح باعة الكتب وعدم اكتراث ولبول بقدر ما كانت إتخام السوق الأدبية إتخاما لم يسبق له نظير بأصحاب المواهب الهزيلة ينافس بعضهم بعضاً في قبول الأجور المنحطة. وشارك طغيان حالات الإخفاق على حالات الفلاح في المال والأعمال، مع انسلاخ الأدب عن الحماية الأرستقراطية، على الحط من المكانة الاجتماعية للمؤلفين. وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء والفلاسفة والمؤرخون في فرنسا يستقبلون بالترحيب في أروع البيوت والصدور، كانوا في إنجلترا-باستثنائين أو ثلاثة-يقصون عن "المجتمع المهذب" باعتبارهم بوهيميين غير مغتسلين. وربما كان هذا هو السبب في أن كونجريف رجل فولتير ألا يدرجه في زمرة الكتاب. وقد تحدى الكسندر بوب تحيزات عصره بادعائه إنه شاعر وجنتلمان معاً. وقد عنى بكلمة جنتلمان الرجل "الكريم المولد" لا الرجل الكريم السلوك. ولكن الأمر كان على النقيض!.
2 - ألكسندر بوب
1688 - 1744
يستهل جونسن، الذي كان يحتقر الترجمات التي تبدأ بنسب صاحبها وتنتهي بمأتمه، ترجمته الممتازة لبوب بأنبائنا أن "الكسندر بوب ولد بلندن في 22 مايو 1668، لأبوين لم يتحقق لأحد قط من مرتبتهما أو مركزهما (3) ". أما أبوه فتاجر كتان جمع ثروة متواضعة ثم اعتزل في بنفيلد قرب غابة ونزر. وكان أبواه كلاهما يتبعان المذهب الكاثوليكي الروماني، والسنة التي ولد فيها بوب كانت أيضاً السنة التي حطم فيها خلع جيمس الثاني آمال الكاثوليكية في تخفيف القوانين المعادية للكاثوليك. وخصت الأم الصبي الذي كان وحيدها بكثير من الترفق، وقد ورث عنها استعداداً للصداع، وعن أبيه تقوساً شديداً في عموده الفقري، فلم يزد طوله على أربعة أقدام ونصف.
وقد عهد بتعليمه الأول إلى القساوسة الكاثوليك، فأعانوه على إجادة اللاتينية، واليونانية بقدر أقل، وعلمه معلمون خصوصيون(35/235)
آخرون الفرنسية والإيطالية، وإذ أقفلت في وجهه الجامعات والمهن الراقية بسبب مذهبه، فقد واصل دراساته في البيت، فلما عاقه جسمه المحدودب وصحته الهشة عن العمل النشيط، ترك أبواه العنان لولعه بكتابة الشعر. يقول:
"كنت وأنا بعد طفل، لم تغرر بي الشهرة بعد،
ألثغ ببحور الشعر، لأن بحوره وافتني طوعاً (4) ".
وحين بلغ الثانية عشرة أتيحت له نظرة خاطفة إلى دريدن يحتل مكان الصدارة في مقهى ولز، وأثار المنظر فيه رغبة عارمة في المجد الأدبي. فلما بلغ السادسة عشرة كتب بعض "الرعويات" التي تناولها الناس مخطوطة وحظيت بثناء أدار رأسه، وقبلت للنشر في 1709. وفي 1711، وبكل الحكمة الناضجة التي احتوتها سنوه الثلاث والعشرون، أدهش أدباء لندن بقصيدته "مقال في النقد" نراه- حتى وهو يحذر المؤلفين من أن:
"العلم القليل شيء خطر؛
فأنهلوا من الأعماق، وألا فلا تذوقوا ينبوع الشعر (5) ".
يضع بحسم القاضي قواعد الفن الأدبي. هنا هضم الشاعر "فن الشعر" لهوراس، و "الفن الشعري" لبوالو في 744 بيتاً جيدة المعاني هضماً عجيباً، نظمت نظماً رائعاً، بألفاظ لا يزيد كثير منها على مقطع واحد- "أفكار طالما خطرت بالبال، ولكن لم يعبر عنها بمثل هذه الروعة (6) ".
وكان للفتى ولع "بالابجرام"، وبضغط جوامع الحكمة في بيت واحد، ولقف كل فكرة بقافية. وقد أخذ مذهبه في النظم عن داريدن، ونظيته عن بوالو. وإذ كان لديه من الفراغ ما يتسع لصقل شعره، فإنه لم يتردد في قبول النصيحة الكلاسيكية، نصيحة تهذيب الشكل وصقله، وجعل الكأس أثمن نبيذها. ومع أنه ظل يجهر بكثلكته، فإنه اعتنق مبدأ بوالو القائل بأن الأدب ينبغي أن يكون العقل مفرغاً في ثوب لائق. أما الطبيعة فنعم، ولكنها الطبيعة التي روضها(35/236)
الإنسان؛ وأما الوجدان فنعم، ولكن الوجدان الذي هذبه وصفاه الذكاء. وأي مرشد أهدى إلى مثل هذا الفن المحكوم المنحوت من أعمال قدامى الشعراء والخطباء، وتصميمهم على أن يكونوا عقلانيين، وعلى أن يجعلوا كل جزء من عمل أدبي عنصراً منظماً مدمجاً في كل متناغم؟ هنا التقليد الكلاسيكي، المنحدر بطريق إيطاليا وفرنسا، بطريق بترارك وكورنيي، والذي يغزو الآن إنجلترا ويقهرها على يد الكسندر بوب، كما قهر شكسبير بمسرحية أديسون "كاتو" (في زعم فولتير)، وكما كست العمارة الكلاسيكية المنحدرة عن طريق بالاديو وسيرليو، وعن طريق بأرو ورن، الخيالات القوطية والشطحات الجامحة أو غلبتها بقواصر رزينة وصفوف أعمدة هادئة. وهكذا تكون مفهوم الشاعر الشاب عن العقل الكلاسيكي الذي يعمل في ناقد مثالي:
"ولكن أين هو الرجل الذي يستطيع أن يمحض النصح،
الذي مازال يغتبط بأن يعلم، ومع ذلك لا يطغيه علمه؟.
رجل لا يحرفه رضي ولا يميله حقد، لا هو متحيز في غباوة ولا مستقيم في عمى،
مهذب رغم علمه، مخلص مع تهذيبه،
جريء في تواضع، صارم في إنسانية،
يبصر الصديق بعيوبه في غير تحرج
ويطري العدو على فضائله وهو مبتهج،
رجل أوتي ذوقاً مدققاً دون تزمت،
ووهب العلم بالكتب والبشر جميعاً، محدث سمح، ونفس
تنزهت عن الكبرياء،
يحب أن يثني ثناء يؤيده فيه العقل (7)؟ "
وقد وجد نفر من أمثال هذا الناقد، على استعداد للترحيب بمثل هذا الشعر وهذه الفضيلة المحسوبة من فتى في الثالثة والعشرين؛ وعلى ذلك خلع أديسون، الذي لا بد قد شعر أنه المقصود بهذه الأبيات، على الشاعر في العدد 253 من صحيفته "اسبكتيتور" ثناءً عظيماً لم يلبث أن ينسي في معارك الكلام. أما الشاعر جون دنيس، مؤلف مسرحية(35/237)
"أبيوس وفرجينيا" فقد خيل إليه أنه المذموم في أبيات بوب الطائشة:
"ولكن أبيوس يحمر لكل كلمة تقولها
ويحملق حملقة رهيبة بعين مهددة
وكأنه طاغية متوحش مرسوم على قطعة نسيج قديمة (8) "
فرد عليها بكتابة "تأملات نقدية وهجائية" (1711). وقد انتقى عيوباً حقيقية في فكر بوب وأسلوبه، وعرضها في إطار مقذع. فوصف بوب بالمنافق القبيح الذي خلق على شكل قوس كيوبيد أو ضفدع أحدب، وهنأه على أنه لم يولد في اليونان القديمة، وألا لألقت به عارياً بعد ولادته لقبحه (9). ولعق بوب جراحه وترقب فرصته.
ثم تابع نجاحه بنشر قصيدته "اغتصاب خصلة شعر" (1712) وكانت تقليداً سافراً لقصيدة بوالو Le Lutrin المقرأ (1674)، ولكن الناس أجمعوا على أنها فاقت أصلها. وخلاصة الموضوع أن اللورد روبرت بيتر أعرب عن تحمسه للمسز فيرمر بقصة خصلة من شعرها الجميل وهروبه بها، وتلا ذلك فتور بين الغاصب والمغتصبة. واقترح رجل يدعى كاريل على بويل أن أرابلاً قد يهدأ سخطها إذا قص الشاعر القصة في شعر مازح وقدم لها القصيدة. وهكذا فعل، وهكذا انتهى الأمر. فصفحت المسز فيرمر عن اللورد، ووافقت على نشر القصيدة. ولكن بوب وسع الخطة، مخالفاً نصيحة أديسون، وكدسها بعدة من الشعر الملحمي- الهزلي ضمت الكائنات الخرافية: السيلفات، والسمندلات، والحوريات، والأقزام المشاركة في الملحمة؛ وراقت هذه "المليشيا الخيفة للسماء السفلى" خيالات العصر وميوله، ولقيت قصيدة "الاغتصاب" المعدلة استحسان الجميع إلا الشاعر دنيس. وتوقف جورج باركلي في حملته على المادة ليهنئ المؤلف على لدونة ربة شعره. ولباقة بوب النظمية كلها، ومعين أخيلته وعباراته الذي لا ينضب، يجعلان القصيدة تتألق تألق الأحجار الكريمة التي رصعت بها الحسناء "بليندا" شعرها. وهو يصف بخبرة النساء مستحضرات التجميل التي يسلح بها أحد الجان البطلة لحروب الغرام، ويعدد في مرادفات تهكمية ما سيحفل به يومها من جلائل الأمور:(35/238)
"ترى هل تحطم الحورية (بليندا- أرابيلا) قانون ديانا (قانون العفة)،
أم أن قارورة هشة من الصين سيصيبها شرخ،
أتراها تلوث شرفها، أم ثوبها الموشي الجديد؟
أتنسي أن تتلو صلواتها، أم يفوتها عرض بالأقنعة،
أتضيع قلبها، أم قلادتها، في حفل راقص ... (1) "
وتشارك بليندا في ثرثرات جماعة الأشراف، وقمارهم في هامتن كورت، حيث:
"تموت سمعة عند كل كلمة (11) "؛
ويحشد الشاعر براعته الفنية ليصف لعبة ورق. فإذا انحنت بليندا لتشرب، قصّ البارون القوي خصلتها وهرب (وهذا السيل المتدفق) من البحر العمبقي "الأيامبي iambic" يأخذ بالألباب). فتطارده وقد أخذ الغضب منها كل مأخذ، وتعثر عليه، وتلقي قبضة من النشوق في وجهه؛
"وبغتة تفيض كل عين بالدموع المنهلة
وتردد قبة السماء صدى عطسه (12) "
وفي هذه الأثناء يغتصب الأقزام أو السيلفات أو السمندلات الخصلة ويجرونها وفي أثرها سحب الفخر إلى السماوات حيث تصبح نجماً مذنباً يفوق بريقه تلألؤ شعر بليندا.
وقد أبهج هذا كله نبلاء لندن ونبيلاتها، وأنديتها ومقاهيها. ووجد بوب نفسه رجلاً يشيد به الناس أبرع شاعر في إنجلترا، وغدا كل من عداه من الشعراء خصوماً له. ولم يضف جديداً لشهرته بالأبيات المملة التي وصف بها غابة ونزر (1713)، كذلك لم ينس له الأحرار بعد انتصارهم في 1714 أنه في تلك القصيدة كشف عن ميوله الكاثوليكية نحو الأسرة المالكة التي سقطت (13). ولكنه عاد فأسر جمهوره في 1717 بنظمه في مقطوعات من بيتين(35/239)
مقفيين couplets رسائل هلويز وأبيلار المختلفة. فنرى "الويزا" التي حبست نفسها في دير للراهبات تطلب إلى أبيلار المخصي أن يضرب بقوانين الكنيسة والدولة عرض الحائط ويأتي إلى حضنها:
"تعال إن جرؤت بكل ما فيك من فتنة!
تحد السماء، وطلبت بقلبي،
تعال، وبنظرة واحدة من تلك العيون المضلة
امح كل فكرة ذكية من أفكار السماء ...
اخطفني، وأنت تهمّ بامتطاء جوادك، من مسكني المبارك، أعن الأصدقاء، وانتزعني من إلهي! "
وفي نزوة أخرى تقول له:
"لا أبعد عني بعد المشرقين،
لترتفع جبال الألب حاجزاً بيننا، ولتهدر محيطات بأسرها!
أواه، لا تأت، ولا تكتب، ولا تفكر في ولو مرة،
ولا تشاركني وخزة واحدة من وخزات الألم الذي ذقنه لأجلك (14) ".
ومع ذلك تثق أنه آت إليها في ساعة احتضارها، لا عاشقاً بل كاهناً:
"ليتك تقف في ثياب مقدسة
والمشعل المقدس يرتعش في يدك
وتمد الصليب أمام عيني التي تهفو إليك،
وتعلمني وتعلم مني الموت (15) ".
وكان بوب يحلم ككل شاعر في زمانه بأن ينظم ملحمة، وقد بدأ كتابة ملحمة وهو بعد في الثانية عشرة. فلما شب ودرس هومر خطر له أن يترجم الألياذة إلى ذلك المقطوعات ذات البيتين المقفيين التي كانت تكون منطقه الذي فطر عليه. واستشار أصدقاءه فأمنوا على الفكرة. وقدمه أحدهم وهو جوناثان سويفت إلى هارلي وبلونبروك وغيرهما من كبار رجال الحكومة آملاً في أن يحصل له على وظيفة شرفية يرتزق منها. فلما أخفق في هذا تكفل في أن يجمع له اكتتابات تعول "الكسندر" الجديد وهو يطفر بشعره فوق طروادة. وإذ كان سويفت في موقع(35/240)
استراتيجي بين طلاب الوظائف والكهنوت، فقد أعلن أنه "أفضل شعراء إنجلترا هو المستر بوب، بابوي بدأ ترجمة لهومر بالشعر الإنجليزي، لا بد له أن يكملها من أن يكتتبوا فيها جميعاً، لأن المؤلف لن يبدأ الطبع حتى أجمع له ألف جنيه! (16) ". واقترح بوب أن يترجم الألياذة في ست مجلدات من قطع الربع، ثمن كل المجموعة منها ستة جنيهات (180 دولاراً؟). وقبلت الاكتتابات تترى رغم هذا الثمن الغالي، واشتدت الحماسة للمشروع حتى أن برنارد لنتو تاجر الكتب وافق على أن ينقد بوب مائتي جنيه لقاء كل مجلد، وأن يقدم له نسخاً مجانية لمكتتبيه. وبما أن المكتتبين (وعددهم 575) أخذوا 654 مجموعة، فإن بوب كسب 5320 جنيهاً (148. 960 دولاراً؟) ثمناً للأياذة، وهو مبلغ لم يظفر بمثله مؤلف في إنجلترا إلى ذلك الحين. وظهر المجلد الأول المحتوي على أربعة أقسام في 1715. وقد لقى منافسه غير متوقعة بسبب نشر ترجمة في اليوم ذاته للقسم الأول بقلم توماس تيكل. وأثنى أديسون على ترجمة تيكل، التي اعتقد بوب أنها ليست في الحقيقة إلا بقلم أديسون، وأحس أن نشرها في آن واحد مع ترجمته عمل غير ودي، فأضاف أديسون إلى قائمة أعدائه.
ولو كان التفقه في العلم هو المحك الوحيد لما استحقت ترجمة بوب ثناء يذكر. فعلمه باليونانية متواضع، وقد اضطر إلى الاستعانة بالشراح المدرسين، وأنجز أكثر مهمته بالمضاهاة بين الترجمات السابقة وإعادة صياغتها بالأبيات الزوجية المقفاة من البحر الأيامبي (العمبقي) الخماسي التفاعيل iambic- pentameter couplets التي برع فيها. فأما بنتلي، أمير علماء الدراسات اليونانية الأحياء يومها، فقد أصاب في حكمه على هذا الأداء: "قصيدة لطيفة يا مستر بوب ولكن يجب ألا تسميها هومر (17) " فالأبيات الزوجية ونقر قوافيها الشبيه بنقر الطبل، والعبارات والفقرات والطباقات المتوازنة، هذه كلها عطلت أسلوب الشعر الإغريقي السداسي التفاعيل، الأسلوب السريع المتدفق. ومع ذلك كان هناك فخامة زاحفة، ومعين زاخر من اللغة، في تلك الأبيات التي ساقها الشاعر على نحو معجز، عبراً بها- رغم اعتراضات بنتلي- إلى القرنين الثامن والتاسع عشر، كأحب(35/241)
ترجمة للألياذة. قال فيها جونسن "إنها أسمى ترجمة للشعر شهدها العالم إلى اليوم (18) " وقال جراي إنه لن تضارعها أية ترجمة أخرى (19). كذلك كان رأي إنجلترا إلى أن أجال كيتس بصره في ترجمة تشامبن لهومر، واستمطر وردزورت اللعنة على الأسلوب المصطنع الطنان الذي أبهج الكثيرين جداً في عصر إنجلترا الأوغسطي.
ونشرت ألياذة بوب في 1715 - 20، وأتى نجاحها بتجار الكتب المتنافسين إلى بابه. ورجاه أحدهم أن يعلق على طبعه حديثه لمسرحيات شكسبير، فوافق بغباوة، غافلاً عن الهوة التي تفصله عن شكسبير عقلاً وفناً. وراح يكد ويكدح بصبر ذاهب في تلك المهمة التي لا تلائمه، وظهرت الطبعة في 1725، وما لبث لويس ثيوبولد، أقدر المتخصصين في دراسة شكسبير يومها، أن أوسعها طعناً لقصورها، فصلبه في بوب في قصيدته "الدنسيادة" (أي ملحمة المغفلين).
وأقنعه لنتوت أثناء ذلك بأن يترجم الأوديسة، عارضاً عليه مائة جنيه ثمناً لكل مجلد من مجلداتها الخمسة، وأخذ المكتتبون 819 مجموعة، ولكن بوب، وقد افتقد الآن حافز الشباب والحاجة، سئم نحت مقطوعاته، وعهد بنصف العمل إلى دارسين كمبردج لم يطل بهما الوقت حتى تعلما محاكاة أسلوبه. وكان قد نبه المكتتبين سلفاً إلى أنه سيستخدم معاونين له، ولكنه حين نشر الأوديسة (1725 - 26) - التي قصرت كثيراً عن ألياذته- نسب إلى مساعديه هذين الفضل في خمسة كتب من الكتب الأربعة والعشرين، في حين أنهما ترجما اثني عشر كتاباً في الواقع (20). ونقدهما 770 جنيهاً، أما هو فبلغ صافي ربحه 3. 500 جنيه، إذ شعر بحق أن اسمه هو الذي باع الكتاب. وكفلت له الترجمتان الاستقلال المالي، فقال إن في وسعه الآن "بفضل هومر أن يعيش ويزكو غير مدين لإنسان أميراً كان أو نبيلاً (21) ".
وفي 1718 اشترى فيللا في تويكنهام وحديقة مساحتها خمسة أفدنة تنحدر إلى نهر التيمز. وصمم الحديقة بالطراز الطبيعي، متحاشياً الرقابة الكلاسيكية التي مارسها في شعره. وقال "إن الشجرة شيء أنبل من الملك في ثيابه تتويجه (22) ". وحفر له من بيته نفق(35/242)
تحت شارع معترض ليخرج منه إلى الحديقة؛ وزين هذه "المغارة" زينه حالمة فيها الأصداف، والبلورات، والمرجان، والمتحجرات، والمرايا، والمسلات الصغيرة. في هذه الخلوة اللطيفة الجو استضاف الكثير من الأصدقاء المشهورين- سويفت، وجراي، وكونجريف، وبولنبروك، وآربثنوت، والليدي ماري ورتلي مونتاجيو، والأميرة كارولين، وفولتير. وكانت الليدي ماري جارته في حي أطلقا عليه اسم "تويتنام"؛ وكان بولنبروك يسكن دولي على مقربة منه، ولندن لا تبعد أكثر من أحد عشر ميلاً في نزهة لطيفة بالقارب على التيمز، وأقرب منها القصور الملكية في رتشموند، وهامتن كورت، ووكيو.
وانضم الدكتور جون آربتنوت، الذي أضفى كتابه "تاريخ جون بول" (1712) على إنجلترا شخصية واسماً، إلى سويفت، وكونجريف وجراي، وبوب، في نادي سكربليروس الشهير (1713 - 15)، الذي كرس للتهكم على كل ضروب الدجل والعجز. وأضيف كل ضحاياهم إلى القائمة المتعاظمة من خصوم بوب. وكان له مع الليدي ماري مغامرة اختلط فيها الواقع بالأدب وانتهت بعداوة مرة. وساكنه سويفت أحياناً، كما حدث أيام نشره "رحلات جلفر" (1726)، وتبادل الاثنان بغضهما للبشر، وبعض الرسائل التي كشفت عن رقة مخبؤه تحت دروعهما القاسية (23). أما معرفة بوب ببولنبروك فقد بدأت حوالي 1713، وتطورت إلى تأثير فلسفي. وقد أثنى الواحد منهما على صاحبه ثناء يبعث على الغثيان لغلوه، فقال بوب "أعتقد حقيقة أن في ذلك الرجل العظيم شيئاً يبدو أنه وضع هنا خطأ من عالم أعلى"، وقال بولنبروك وبوب يحتضر "لقد عرفته هذه السنين الثلاثين، ويزيد تقديرك لنفسي بسبب حبي لهذا الرجل"- وهنا خانه صوته كما تقول القصة (24).
ولا بد أنه كان هناك شيء يحب في هذا الشاعر الذي صورته الرواية المتواترة، بل صوره قلمه هو أحياناً، إنساناً مشاغباً خداعاً خسيساً مغروراً. وينبغي أن نذكر دائماً أنه كان ممروراً- وله العذر- بسبب ما استشعره كل يوم من مذلة عجزه البدني. لقد كان في صباه جميل الصورة، لطيف الطبع، وقد ظل وجهه دائماً جذاباً، ولو(35/243)
لمجرد توقد عينيه. ولكنه كلما شب أصبح تقوس عموده الفقري سافراً بصورة أكثر إيلاماً له. وقد وصف نفسه بأنه "مخلوق قصير، كله حيوية، طويل الساقين والذراعين، لا تخطئ إذا رمزت له بالعنكبوت، وقد حسبه البعض على بعد طاحونة هواء صغيرة (25) ". (ويذكرنا هذا بسكارون المسكين). فإذا جلس إلى المائدة وجب أن يسند على مقعد عال كالطفل ليحاذي غيره. وكان يحتاج إلى من يخدمه طوال الوقت تقريباً. وما كان في استطاعته أن يمضي إلى فراشه أو ينهض منه دون أن يعان عليه، ولا أن يرتدي ثيابه أو يخلعها بنفسه، وكان يجد مشقة في الاحتفاظ بنظافة جسمه. فإذا نهض لم يستطع أن ينصب عوده حتى يشده خادمه إلى صدار من القنب المقوي، وبلغ من نحافة ساقيه أنه كان يلبس ثلاثة جوارب طويلة ليضخمهما ويدفئهما، وكان بسبب حساسيته الشديدة للبرد يرتدي "نوعاً من الصدرة الضيقة المصنوعة من الفراء"، تحت قميص من الكتان الثقيل الخشن. وقل أن عرف لذة العافية. وقد قال عنه اللورد باثورست أنه كان يشكو الصداع أربعة أيام في الأسبوع، ويمرض في الثلاثة الباقية. ومن المعجز أن استطاع جوناثان رتشردسن أن يرسم لبوب لوحة بمثل هذه الطلعة الحسنة (26) - كلها تيقظ وحساسية، ولكنا نستطيع في التمثال النصفي الذي صنعه له روبياك أن نتبين الجسم المعذب يعذب العقل.
ومن القسوة أن نتوقع من رجل كهذا أن يكون هادئ الطبع، أو لطيفاً، أو بشوشاً، أو رقيقاً. فلقد أصبح شأن كل عليل نزقاً، كثير المطالب، نكد المزاج. وندر أن نتجاوز في ضحكه الابتسامة، وإذ حرم كل فتنة الجسد، فقد عزى نفسه بكبرياء المقام وغرور الفكر. وكما يفعل حيوان ضعيف أو جريح، وكما يسلك فرد من أقلية مظلومة، تعلم المكر والمراوغة والدهاء، وما لبث أن تعلم الكذب، لا بل ممارسة الخيانة مع أصدقائه. وتملق النبلاء، ولكنه ترفع عن كتابات الإهداءات التي تستهدف الكسب. وكان فيه من الشجاعة ما حمله على رفض معاش عرضته عليه حكومة يحتقرها.
ونحن نرى في حياته الخاصة بعض الخلال الجديرة بالحب. قال سويفت عنه إنه "أعظم من عرفت أو سمعت عنه من الأبناء قياماً(35/244)
بواجبهم نحو آبائهم (28) ". فلقد كان حبه لأمه أطهر عاطفة وأبقاها من عواطف روحه المضطربة. كتب في عامها الحادي والتسعين يقول إن صحبتها اليومية جعلته لا يحس أي افتقار إلى علاقات عائلية أخرى. وكانت أخلاقياته الجنسية أفضل تطبيقاً منها كلاماً؛ ولم يكن هيكله يصلح للزنا، ولكن لسانه وقلمه كان في وسعهما أن يكونا إباحيين إلى حد مقزز (29). وحتى في رسائله للمرأتين اللتين ظن أنه يعشقهما كان يكتب بتحرر مفرط لا تطيقه اليوم سوى بغي. ومع ذلك فإن إحداهما، وهي مرتا بلاونت، أحبت الشاعر العاجز حباً حسبه المتقولون علاقة آثمة. وفي 1730 وصفها بأنها "صديقة ... كنت أتفق معها كل يوم ثلاث ساعات أو أربعة طوال هذه السنين الخمس عشرة (30) ". وبات في شيخوخته المبكرة معتمداً على محبتها، وأوصى لها بكل تركته الكبيرة تقريباً.
وإذ كان دائم الوعي بعيوبه البدنية، فقد كانت تكويه كياً كل كلمة تنقد خلقه أو شعره. لقد كان العصر عصراً يغلب عليه حب الثأر في معاركه الأدبية، وكان بوب يرد على السباب بسباب لا يصح طبعه أحياناً. وفي 1728 حشد خصومه ونقاده في زريبة شعره، وأطلق عليهم كل سهام غضبه في أقوى أعمالهم الأدبية وأبلغها إيذاءً. ولم ينشر اسمه عليه، ولكن كل لندن القارئة استشفت توقيعه في أسلوب الكتاب. وسيراً على الطريق الوعر الذي سلكته من قبل قصيدة دريدن "ماك فلكنو" (1628)، أشادت قصيدة بوب "الدنسيادة" بكتبة جراب ستريت أقطاباً للمغفلين في بلاط الغباء الذي يتربع ثيوبولد على عرشه. وقد بكى على موت رن وجراي، وعلى إقصاء سويفت في منفاه الإيرلندي، حيث يموت "كفأر مسموم في جحر" يعني كتدرائية دبلن. أما عن الباقين فلم ير من حوله إلا عجزة فاسدين لا طعم لهم ولا مذاق. وتلقى ثيوبولد، ودنيس، وبلاكمور، وأوزبورن، وكرل، وكيبر، وأولدمكسون، وسميدلي، وآرنل- كل في دوره جزاءهم من الجلد والتهكم والقذر- ولا غرو فقد كان لشاعر ولع بالقذارة، ربما لأن هذه صفة تلازم العجز البدني (31).
وفي طبعة لاحقة ذكر بوب في ابتهاج، على لسان الشاعر سفدج، كيف أن حشداً من الكتاب حاصروا تاجر الكتب في تاريخ نشر القصيدة(35/245)
لأول مرة، وهددوه باستعمال العنف معه إذا نشرها، وكيف أن هذا جعل الجمهور أشد تهافتاً على النسخ، وكيف أن الطبعة تلو الطبعة كانت تطلب وتنفد، وكيف أن الضحايا ألفوا أندية ليكتلوا الثأر من بوب، وصنعوا دمية على صورته وأحرقوها. وجاء ابن دنيس بهراوة ليضرب بوب، ولكن اللورد باثورست صرفه عنه، وبعدها ظل بوب يأخذ معه في جولاته مسدسين وكلبه الدنمركي الضخم. ورد عليه عدد من ضحاياه بكتيبات، وبدأ بوب وأصحابه (1730) "مجلة جراب ستريت" ليواصلوا الحرب. وفي 1742 أصدر جزءاً رابعاً من "ملحمة المغفلين"، هاجم فيه المربين وأحرار الفكر تعطشاً لخصوم جدد- هؤلاء الذين يفخرون قائلين:
"إننا نتخذ في فخر ذلك الطريق الأعلى
ونجادل هابطين حتى نشك في الله،
ونجعل الطبيعة تعدو على قصده،
وندفعه إلى أبعد ما نستطيع .. ..
أو، بوثبة واحدة تقفز فوق كل قوانينه،
نجعل الله صورة للإنسان، والإنسان العلة النهائية،
ونجد الفضيلة شيئاً محدوداً، ونحتقر كل الصلات،
نرى الكل في أنفسنا، وأننا لم نولد إلا لأنفسنا،
لا نوقن بشيء يقيننا بعقولنا،
ولا نتشكك في شيء تشككنا في الروح والإرادة (32) ".
وواضح أن بوب كان ينقب في الفلسفة، وليس مع بولنبروك وحده؛ فقد صدرت رسالة هيوم "في الطبيعة البشرية" في 1739، قبل هذا الجزء الرابع من "ملحمة المغفلين" بثلاث سنوات. وهناك بعض الأدلة على أن الفيكونت كان قد نقل إلى الشاعر ربوبية شافتسبري مشحوذة بحكمة الدنيا (33). وقال له بولنبروك، حسبك هجاء وسفاسف، ووجه ربة شعرك وجهة الفلسفة الدينية. يقول جوزف وارتن "لقد أكد لي اللورد باثورست غير مرة أنه قرأ كل خطة "مقال عن الإنسان" مكتوبة بخط بولنبروك، ومفصلة في سلسلة من القضايا كان على بوب أن ينظمها شعراً ويوضحها (34) ". ويبدو(35/246)
أن بوب فعل هذا، إلى درجة استعماله عبارات بعينها من وضع المتشكك الكبير (35)، ولكنه أضاف بعض البقايا المنقذة التي تخلفت عن عقيدته المسيحية. وهكذا أصدر "مقالة عن الإنسان" فصدرت الرسالة الأولى في فبراير 1733، والثانية والثالثة في تاريخ لاحق من تلك السنة، والرسالة الرابعة في 1734. وسرعان ما ترجم المقال إلى الفرنسية، وأشاد به أكثر من عشرة فرنسيين باعتباره من ألمع ما ألف من جوامع الشعر والفلسفة معاً.
واليوم يذكر هذا المقال أولاً لما حوي من أبيات يعرفها كل إنسان، فلننصب بوب في رؤيتها في إطار فنه وفكره. وهو يستهلها بمناجاة لبولنبروك:
"استيقظ يا قديسي جون: واترك كل التوافه
للطمع الدنيء وكبرياء الملوك.
وما دامت الحياة لا تستطيع أن تهبنا
غير نظرة فيما حولنا يعقبها الموت،
فطوف ببصرك حراً فوق هذا المشهد كله، مشهد الإنسان،
يا له من متاهة هائلة، ولكنها ليست بغير خطة، ..
فلنضرب معاً في هذا الحقل الفسيح،
ولنضحك حيث يجب الضحك، ونتصارح حيث نستطيع المصارحة، ولكن لنبرر طرق الله مع الإنسان (36) ".
"فهل يستطيع الجزء أن يحتوي الكل؟ " فلنكن شاكرين لأن عقلنا حدود ومستقبلنا مجهول:
"فذلك الحمل الذي قضي استهتارك بذبحه اليوم،
لو أوتي عقلك، أكان يطفر ويلهو؟
إنه في ابتهاجه إلى النهاية يقضم طعامه اليانع
ويلعق التي رفعت لتريق دمه (38) ".(35/247)
هاهنا تشاؤم خفي، فالرجاء لا يمكن أن يبقى حياً إلا بالجهل:
"فارج في تواضع إذن، وحلق بجناحين مرتعشين،
وانتظر الموت، ذلك المعلم العظيم، وأعبد الله.
إنه لا يهبك العلم بالنعيم الآتي،
ولكنه يسمح بأن يكون ذلك الرجاء بركتك الآن.
فالرجاء ينبعث أبداً في صدر الإنسان،
وهو لا ينعم بالسعادة بل لا يفتأ يرجوها أبداً (39) ".
ولا قدرة لنا على رؤية المبرر لما يبدو في الحياة من مظالم؛ وعلينا أن ندرك أن الطبيعة لم تخلق الإنسان، وأن الله لا بد يرتب كل الأشياء لكل الأشياء، لا للإنسان وحده. ويصف بوب "سلسلة الوجود الشاسعة" ابتداء من أدنأ المخلوقات ومروراُ بالإنسان والملاك إلى الله، ويحتفظ بإيمانه في نظام إلهي وإن خفي عن علمنا:
"إن الطبيعة كلها ليست إلا فناً لا علم لك به؛
وكل المصادفات توجيه لا تستطيع رؤيته؛
وكل تنافر تناغم غير مفهوم؛
وكل شر جزئي خير كلي؛
ورغم ما حقد في العقل الضال من كبرياء،
فإن هناك حقيقة واحدة واضحة، وهي أن كل الوجود صواب (40) ".
أما الدرس الأول فهو التواضع العقلي. ثم هذه الأبيات المذكرة تذكيراً رائعاً ببسكال:
"فاعرف نفسك إذن، ولا تجسر على فحص الله،
فالدراسة الصحيحة للبشر هي الإنسان.
هذا الذي وضع هذا البرزخ في حالة وسط،
كائن حكيم في غموض، عظيم في فجاجة ...
حكم أوحد في أمر الحقيقة، مدفوع إلى أخطاء لا تنتهي،
مفخرة الدنيا، وأضحوكتها، ولغزها المحير! (41) ".(35/248)
فلنوافق في إطار هذه الحدود البشرية على أن "محبة الذات، منبع الحركة، تحفز الروح"، ولكن لا بد للعقل أيضاً أن يدخل ليبث النظام والتوازن في عواطفنا وينقذنا من الرذيلة. لأن"
"الرذيلة مخلوقة متوحشة رهيبة السحنة،
نكرها حالماً نراها،
ولكنا لكثرة ما نراها نألف وجهها،
ونحتملها أولاً، ثم نرثي لها، ثم نعانقها (42) ".
هذه العواطف وإن كانت كلها ألواناً من محبة الذات إلا أنها جوانب من المخطط الإلهي، وقد تفضي إلى نهاية طيبة حتى لبصرنا الأعمى. فشهوة الجسد تبقى على النوع، وتبادل المصلحة ولد المجتمع. والنظام الاجتماعي والإيمان الديني نعمتان واضحتان، رغم أن الملوك وأصحاب المذاهب لطخوا التاريخ بدماء البشر:
"ليختلف الحمقى حول أشكال الحكم
فأصلحها هو أفضلها إدارة وتصريفاً
وليقتتل المتعصبون الثقلاء حول ضروب الإيمان،
فلن يخطئ من عاش حياة فاضلة (43) ".
أما الرسالة الرابعة من مقال الإنسان فتنظر في السعادة، وتحاول جاهدة أن تسوي بينها وبين الفضيلة. فإذا رأيت الرجل الصالح يبتلي بالكوارث، والأشرار يفلحون أحياناً، فإنما السبب أن:
"العلة الكونية
لا تعمل وفق قوانين جزئية بل كلية (44)؛ "
والله ينظم بالكل، ولكنه يترك الأجزاء لقوانين الطبيعة ولإرادة الإنسان الحرة. وقد يأسي البعض لفوارق الملكية باعتبارها مصدراً للشقاء، ولكن الفوارق الطبقية ضرورية للحكم:
"فالنظام أول قوانين السماء، وإذا سلمنا بهذا
كان البعض، ولا بد أن يكونوا، أعظم من الباقين (45) ".(35/249)
وليس هذا واضحاً وضح النهار، ولكن أي كلام آخر يمكن أن يقال للفيكونت بولنبروك، (أو يقوله بولنبروك)؟ والسعادة موزعة بالقسط رغم عدم المساواة في العطايا الطبيعية والمكتسبة؛ فالفقير سعيد سعادة الأمير. وليس سعيداً ذلك الوغد الغني؛ فهو يحتضن أمواله ولكنه يشعر باحتقار العالم له، أما البار فتنعم روحه بالسلام حتى في الظلم.
أما ما يسترعي نظرنا لأول وهلة في مقال الإنسان، فهو هذا الأسلوب المحكم الذي لا يضارع في إيجازه. يقول بوب "لقد اخترت الشعر لأنني رأيتني قادراً على التعبير عن هذه الأفكار بالشعر بأوجز مما بالنثر (46) ". ولم يبلغ شاعر، حتى شكسبير نفسه، ما بلغه بوب من مقدرة على حشد ذخائر لا حصر لها- وحشد المعنى الكبير على الأقل- في حيز ضيق. فهنا في 652 بيتاً زوجياً، هي أدعى لأن تعيها الذاكرة من نظيرها في أي ميدان أدنى معادل غير العهد الجديد. وكان بوب عليماً بحدود قدراته، فقد أنكر صراحة أصالة أفكاره، وأراد أن يصوغ من جديد فلسفة ربوبية متفائلة بفن موجز، ووفق فيما أراد. وفي هذه القصيدة نحى عقيدته الكاثوليكية ولو إلى الحين. ورأى في الله علة أولى فقط، لا يعني "عناية إلهية خاصة" ليقي الرجل الفاضل من خبث الأشرار. وليس في هذا النسق معجزات، ولا أسفار مقدسة موحاة من الله، ولا آدم ساقط أو مسيح مكفر، إنما هو رجاء مبهم في الجنة، ولكن لا ذكر للنار إطلاقاً.
وقد هاجم نقاد كثيرون القصيدة باعتبارها فلسفة "إنسانية أو بشرية" منظومة. فالقول بأن "دراسة البشر الصحيحة هي الإنسان" عرف وجهاً من وجوه هذه الفلسفة، وبدأ أنه يغرق اللاهوت كله. فلما ترجم المقال إلى الفرنسية انقض عليه قسيس سويسري يدعى جان كروزاز، فزعم أن بوب قد ترك الله في طريق جانبي في قصيدة مفروض فيها أنها تبرر طرق الله للإنسان. ولم يخف للدفاع عن بوب أمام هذا الهجوم من الخارج رجل غير وليم وربرتون الفحل، فقد شهد أسقف المستقبل أن القصيدة عملاً من أعمال التقوى المسيحية التي لا شائبة فيها. ورغبة في تهدئة رجال الدين نشر بوب في 1738 ترنيمة(35/250)
حلوة سماها "الصلاة العالمية". ولم يقتنع السنيون تماماً، ولكن العاصفة هدأت. أما في القارة فقد استقبلت القصيدة بعواطف مسرفة. فقال فولتير في حكمه عليها "إنها في رأيي أبدع وأنفع وأسمى قصيدة وعظية نظمت في أي لغة (47) ".
وفي 1735 كتب بوب مقدمة لمجلد من الهجائيات سماها "رسالة إلى الدكتور آربتنوت" دافع فيها عن حياته وأعماله، وقتل خصوماً جدداً. هنا وردت صورته الشهيرة لأديسون الذي سماه "أتيكوس"، وفضيحته القتالة للورد هرفي المخنث الذي كان قد زل فوصف بوب بأنه "قاس كقلبك"، مجهول كأصلك (48) ". وطعنه بوب طعنات نجلاء تحت اسم "سبوراس" في أبيات يتجلى فيها الشاعر في أروع صورة وأسوئها. قال:
"ماذا؟ ذلك الشيء المصنوع من الحرير،
سبوراس، ذلك الخثارة البيضاء من لبن الحمير،
وا أسفاه! لا يجدي معه هجاء ولا كلام معقول! أيستطيع سبوراس أن يحس،
وهو الذي يحطم فراشة على دولاب التعذيب،
ولكن دعوني أصفع هذه البقة المذهبة الأجنحة،
ابن القذر هذا المزوق، الذي ينتن ويلدغ ...
وسواء تكلم وهو عاجز عجزاً فاضحاً
وزيق كالدمية حين ينفخ فيها الملقن؛
3أو جلس إلى إذن حواء، كأنه الضفدع الأليف،
ينفث حديثاً نصفه زبد ونصفه سم،
في توريات أو أحاديث سياسية، أو حكايات، أو أكاذيب،
أو غل أو سناج أو قوافي أو كفريات.
ذكاؤه متأرجح كله هنا وهناك،
صاعد حيناً، هابط حيناً، سيد مرة وفتاة مرة،
وهو ذاته تناقض حقير.
شيء ذو وجهين، يلعب كلا الدورين،
الرأس التافه، أو القلب الفاسد؛(35/251)
غندور في زينته، متملق في مجلسه،
يخطر آناً كالنساء، ويتبختر آناً كالسادة (49) ".
وكان بوب فخوراً ببراعته في هذه الهجمات القتالة-
"أجل إني فخور، ويجب أن أفخر برؤية
الرجال الذين لا يخشون الله يخشونني (50) ".
وقد اعتذر عن مرارته بأن العصر يتهدده انتصار الغباوة، وأنه في حاجة إلى عقرب يلدغه ليفيق ويعقل، ولكنه انتهى في 1743 إلى أنه خسر المعركة. ففي آخر تنقيح لملحمة المغفلين رسم صورة قوية- هي نذر الشاعر "دون" بالويل والثبور صاغها بلهجة ملتن ونبراته للدين، والأخلاق، والنظام، والفن، وقد لفها كلها ظلام واضمحلال شاملان. فإلاهة الغباء المتوجة تتثاءب فوق عالم محتضر:
"إنها قادمة، إنها قادمة، تأمل العرش الأسود،
عرش الظلمة الأزلية والفوضى القديمة!
أمامها تتبدد كل سحب الخيال الذهبية،
وتلاشى كل أقواسه القزحية .. ..
بينما تأفل النجوم الذابلة نجماً بعد نجم
من الأفق الأثيري، عند سماع لحن ميديا الرهيبة
وهكذا عند الإحساس بدنوها، وخشية جبروتها الخفي،
ينطفئ الفن تلو الفن، وتمسي الدنيا ظلاماً في ظلام.
فانظر إلى الحقيقة وقد هربت متسللة إلى كهفها القديم،
وفوق رأسها أهيلت جبال من الفتاوي!
والفلسفة التي كانت من قبل تستند إلى السماء،
تنكمش إلى علتها الثانية ثم تموت.
والطبيعة (العلوم) تسأل ما بعد الطبيعة الدفاع (ضد هيوم؟)
وما بعد الطبيعة يستنجد بالحس الطبيعي (لوك؟)!
وترى الأسرار الخفية تلجأ إلى الرياضيات (نيوتن؟)!
ولكن عبثاً تحاول! فهي تحملق، وتترنح، وتهذي، ثم تموت.
ويستر الدين نيرانه المقدسة وقد احمر وجهه خجلاً،(35/252)
وتذوي الفضيلة دون أن تدري ...
فهناك دولتك الرهيبة وقد عادت أيتها الفوضى،
والنور ينطفئ أمام كلمتك القاتلة،
ويدك أيتها الفوضى الجبارة تنزل الستار
فإذا الظلام الدامس يلف كل شيء (51) ".
ولعله حسب انحلاله هو انهياراً للكون كله. فقد كان وهو بعد في الخامسة والخمسين يموت من الهرم. وأصبح المشي عسيراً عليه لإصابته بالاستسقاء، والتنفس مؤلماً لإصابته بالربو. وفي 6 مايو 1744 أصابه هذيان كان يفيق منه فترات، وأعرب في إحداها عن إيمانه بحياة بعد الموت. وسأله صديق كاثوليكي أيستدعي له كاهناً فأجاب بوب "لست أراه ضرورياً ولكنه سيكون عين الصواب، وشكراً لأنك ذكرتني بهذا" (52). ومات في 30 مايو، "هادئاً رابط الجأش" (إذا صدقنا جونسن)، "حتى أن خدمه لم يتبينوا بالضبط وقت وفاته". ولم يكن من حقه أن يدفن في دير وستمنستر لأنه كاثوليكي، فووري التراب إلى جوار أبيه وأمه في تويكنهام.
أكان جنتلماناً؟ لا، فإن أحقاده الفياضة بالقدح والذم شاركت في تسميم هواء إنجلترا الأدبي في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وقد أخرجت آلامه الجسدية أحماضاً لاذعة وحرمته العافية التي تفيض بالحب والود على من حولها. أكان عبقرياً؟ بالطبع، لا في الفكر الذي استعاره، بل في الشكل الذي بلغ به مرتبة الكمال في النوع الأدبي الذي اختاره. وقد وصفه ثاكري بأنه "أعظم فنان أدبي شهده العالم (53) ". ففي لباقة الكلام، وإيجاز التعبير، وخصب العبارة، كان أمام عصره غير منازع. وحتى الفرنسيون قبلوا أعظم شاعر في جيله، وتطلع إليه فولتير مثلاً له وقلده، كما نرى في "أحاديثه عن الإنسان". ولقد ظل ثلاثين عاماً- أطول من أس شاعر آخر- أمير الشعر الإنجليزي، وثلاثين عاماً آخر نموذجاً يحتذيه الشعراء الإنجليز، إلى أن جاء وردزورت بشيراً بعصر جديد.
ونحن الذين نهرول ف حياتنا اليوم رغم فراغنا كله، نرى في مقطوعات بوب، في تشطيرها الآلي، أو في صعودها وهبوطها(35/253)
"كالأرجوحة" (54) على القدرة والتنويم، فلا توقظنا إلا بين الحين والحين بالإجرامات، وحتى مقاله البارع عن الإنسان، ليس شعراً إلا في أوزانه وقوافيه. والصنعة فيه ظاهرة فوق ما ينبغي، فلقد نسي الفنان نصيحة هوراس له بستر فنه. كذلك غفل عما نبه إليه هوراس من أن الشاعر لا بد أن يملك الشعور قبل أن يستطيع نقله؛ وقد شعر بوب، ولكن غالباً ليحتقر ويسب؛ وقد افتقد الإحساس بالجمال نحو الأفعال النبيلة أو اللطف الأنثوي. واستنفد خياله في العثور على ألفاظ رقيقة، بتارة، مركزة، لأفكار قديمة؛ فلم يتطاول ليمسك بالأشكال المثالية التي تلهم عظماء الشعراء والفلاسفة. ولم تعطه الأجنحة سوى أحقاده.
وهو لم يزل إلى اليوم الرمز الشعري الأكبر لعصر إنجلترا الأوغسطي- الذي يجوز أن نرسم حدوده بعمره، 1688 - 1744. فمعرفة الذهن الإنجليزي المتزايدة بعيون الأدب اليوناني والروماني، وبمسرحية "القرن العظيم" الفرنسية؛ وتأثير الأرستقراطية- تأثير الطبقة المسيطرة على الكثرة- في الحديث، والعادات، والألفاظ المهذبة، ويسر السلوك ولطفه؛ وانتقاض العقل والواقعية على الشطط الاليزابيثي وعلى التدين البيورتاني المتزمت، وانتقال المعايير الفرنسية إلى إنجلترا مع عودة الملكية، والمكانة الجديدة للعلم والفلسفة- كل أولئك تضافر لإخضاع أشكال الشعر الإنجليزي السائدة لقواعد هوراس وبوالو الكلاسيكية. وجاء عصر من النقد بعد عصر الخيال، فبينما غزا الشعب في إنجلترا الإليزابيثية النثر ولونه، نرى النثر في إنجلترا الأوغسطية يحط من قدر الشعر ويغير لونه. وكان أثر هذا الأدب "الكلاسيكي الجديد" على اللغة الإنجليزية حسناً وسيئاً: فقد أعطاها دقة ووضوحاً ورشاقة جديدة، ولكنها خسرت حيوية الكلام الإليزابيثي وقوته ودفئه. وخضعت فورة الشخصية والتعبير وفردانيتهما القديمة لنظام مفروض من فوق، ألزم بالتطابق في الحياة، وبالشكل في الأدب. وهكذا استحال الشباب كهولة.
على أن الأسلوب الكلاسيكي الجديد لم يعبر إلا عن شطر من الحياة الإنجليزية، فلم يكن فيه متسع للتمرد ولا للعاطفة ولا للحب.(35/254)
وقام شعراء بريطانيون، حتى أيام سلطان بوب، نددوا بالصنعة والمنطق، وتحولوا من العقد إلى الطبيعة، ووجدوا صوتاً يعبر عن الوجدان، والدهشة، والخيال، والاكتئاب المتفكر، والأمل المحزون. فبدأت ذلك الحركة الرومانسية في ذروة عصر إنجلترا الكلاسيكي.
3 - أصوات الوجدان
لم يكد الشعر الكلاسيكي الجديد يتأمل شيئاً غير عالم الكتب. فقد رأى هومر وهوراس، وأديسون وبوب، رؤية أوضح من رؤيته للرجال والنساء الذين يمرون في الشوارع، أو الطقس والمناظر الطبيعية التي تنفعل بها أمزجة الناس كل يوم. ولكن الأدب كشف الآن من جديد ما كان الفلاسفة يزعمونه طويلاً، وهو أن "الإنسان" فكرة عامة غامضة؛ وأنه لا وجود إلا "للناس"، المعتزين بفرديتهم الحريصين على واقعهم. وعمق الشعراء ذواتهم بلمس الأرض، وشعورهم بالحقول والتلال والبحر والسماء واستجابتهم لها، وبتغلغلهم إلى ما وراء الأفكار ليصلوا إلى المشاعر الدفينة التي يعلنها الكلام أقل مما يخفيها. فلم يبالوا كثير بالكلام واعتزموا الغناء، وعادت القصيدة الغنائية وذوت الملحمة. وغلب الشوق إلى العزاء المنبعث من الإيمان بما فوق الطبيعة، وإلى الانبهار الصوفي الذي يوسع الحياة، هجوم الربوبية على المعجزات، والتمس بازدياد، في أساطير العصور الوسطى، ورومانسيات الشرق، والأشكار القوطية، شيئاً من الهروب من الواقع القاسي لهذه الحياة الدنيا.
وبالطبع لم يخل عصر من أصوات الوجدان. ألم يشد "البطل المسيحي" للكاتب ستيل (1701) بالإيمان القديم والعاطفة الرقيقة؟ وألم تركز "السمات المميزة" لشافتسبري (1710) حياة البشر في "العاطفة" و "المحبة"؟ وألن يشتق المتشكك هيوم والاقتصادي سمث كل الفضيلة من شعور الأخوة والتعاطف؟ ولكن جيمس طومسن هو الذي ضرب أول ضربة واضحة جلية دفاعاً عن قضية الإحساس ورقة الشعور.
وكان ابن قسيس فقير في تلال إسكتلندة. نزل إلى أدنبرة ليدرس للقسوسية، ولكن عاقه من غايته إدانة الأساتذة لأسلوبه لأنه شعري(35/255)
بصورة لا تتفق ولغة الدين. فهاجر إلى لندن، وسرق ماله في الطريق، وأشرف على الهلاك جوعاً، وباع قصيدته "الشتاء" (1726) ليشتري حذاء (55). على أن إهداءه إياها إلى السر سبنسر كونتن أتاه بعشرين جنيهاً ثمناً لثنائه؛ ولا غرابة فإن النبلاء الإنجليز لم يكونوا صماً أو بخلاء بالقدر الذي خاله جونسون. وتصور طومسن في قصيدته صوت النعال وهي تطحن قشرة الجليد، وكيف:
"سمع الرياح تزأر والسيل العميق يهدر،
أو رأي العاصفة العميقة الثوران تتجمع
في سماء المساء الكالحة؛ "
وكيف راقب من الشاطئ الرياح وهي تحرث البحر، وتقلب "اليوم من قاعه وقد تغير لونه"، وتمزق المراكب من مراسيها، وترفعها رفعاً خطراً فوق موجة تهوي بهاهوياً منذراً تحت أخرى، وتقذف بها فوق "صخر مدبب أو مياه ضحضاحة غادرة" ثم تبددها "شظايا متناثرة ... تطفو في حركة دائرة". وصور الفلاح وقد اقتنصته عاصفة من الثلج الذي يعمي العيون، تغوص قدماه المتجمدتان في الثلوج العميقة وهو يكافح في سيره، حتى يعجز عن رفع حذائه، فيقع منهوكاً فريسة للموت متجمداً.
"أواه، ما أقل ما يخطر ببال المستكبرين، المستبيحين المرحين، كم من الناس يحسون في هذه اللحظة بالموت
وكل ضروب الألم الحزينة .. ..
وكم يذوون في الفاقة وغياهب السجون محرومين مما ينعم به الخلق كلهم من تنسم الهواء
وتحريك الأطراف، وكم يتجرعون كأس
الحزن القاتل، أو يأكلون خبز الضيق المر، وقد اخترمت أجسامهم رياح الشتاء،
وكم ينكمشون في ذلك الكوخ القذر،
كوخ الفقر التعس".
هنا نغمة جديدة من الشفقة تخزي "بل مل" وداوننج سترتت،(35/256)
وعودة تنعش النفس إلى شعر ملتن المرسل عقب ما وصف به طومسن قوافي بوب من "بهرجة تافهة".
وشهد عام آخر، وراع جديد لطومسن، طبع قصيدته "الصيف (1727)؛ وفي ذلك العام شارك بقصيدة شهيرة في صيحة الحرب على أسبانيا:
"حين انبعثت بريطانيا أول مرة
بأمر السماء من اليم الأزرق،
كان هذا دستور أرضها،
وتغنت ملائكتها الحارسة بهذا اللحن.
احكمي يا بريطانيا، تسلطي على الأمواج؛
إن البريطانيين لن يستعبدوا أبداً.
ومن لندن راح يجول الأيام والأسابيع في الريف، مستوعباً بحواس الشاعر المرهفة "كل مشهد ريفي، وكل صوت ريفي"، يحب "رائحة الألبان" المنبعثة من المزارع، وينتشي بمنظر الشمس منتصرة عقب المطر، أو يسبق كيتس في اكتئابه لمرأى الخريف. وهكذا نشر قصيدته "الربيع" في 1728، وبإضافة قصيدة "الخريف" ومطلعها ("حين تبدأ الورقة المسمومة في الالتواء") جمع القصائد الأربع كلها في ديوان "الفصول" (1730). وقد كوفئ بجولة في القارة رفيقاً لتشارلز تالبوت، ابن وزير الخزانة في ذلك الحين، فلما عاد عاش في دعة ونظم الشعر الرديء إلى أن مات الوزير (1737). وبعد أن صاحب الفقر فترة أخرى قدموه إلى ولي العهد (أمير ويلز) الذي سأله عن أحواله، فأجاب "إنها في وضع أكثر شاعرية من ذي قبل". وتلقى معاشاً قدره مائة جنيه مكافأة على ملاحظته الساخرة هذه. ثم قضى عليه برد أصيب به على التيمز، ومات غير متجاوز الثامنة والأربعين.
وقد قررت "الفصول" أسلوباً جديداً في شعر إنجلترا الأقل شأناً، ووجدت أتباعاً في فرنسا؛ هناك نظم جان فرانسوا دسان-لامبير،(35/257)
الذي سرق أميلي من فولتير، قصيدته "الفصول" (1769). وبينما كانت مقاطع الشعر الملحمي تختال عبر القرن، كان إدوارد ينج، ووليم كولنز، ووليم شنستون، ومارك أكينسايد، وتوماس جراي، يوسعون الطريق الرومانسي المفضي غلى وردزورث وتشاترتن. أما ينج فبعد أن ظل ينظم الشعر التافه المرح حتى الستين من عمره، عمل لآخرته بديوان شعر اسمه "خواطر ليلية في الحياة والموت والخلود" (1742 - 44). وقد شجب فولتير هذا النتاج الليلي لأنه "مزيج مهوش من الشعر الطنان والتوافه الغامضة"، ولكن ربما كان دافعه إلى هذا الحكم أن ينج كان قد وخزه ببيتين لاذعين قال فيهما:
"إنك مسرف في الذكاء، والخلاعة، والنحول،
حتى لنحسبك ملتن، الموت، والخطيئة، مجتمعة كلها في رجل واحد (56) ".
وأما وليم كولنز فعاش نصف عمر ينج، وكتب أقل مما كتب ينج وأجود منه مرتين. هرب من دعوة لاحتراف القسوسية، وأنفق آخر دراهمه في صقل الأبيات الألف والخمسمائة التي نظمها قبل أن يجن ويموت (1759) وهو بعد في الثامنة والثلاثين. وأجمل من قصيدته "نشيد المساء" التي ظفرت بالتقريظ القبرية التي كتبها رثاء للجنود البريطانيين صرعى المعركة في 1745:
"كيف ينام الشجعان الذين يسقطون ليرقدوا
وقد باركتهم كل دعوات وطنهم!
حين يعود الربيع الذي بلل الندى أصابعه الباردة
ليجمل ترابهم المقدس،
هنالك يكسو بالعشب ثري أعطر
مما وطئته أقدام الخيال.
أجراسهم تدقها أيدي الجان
ولحن الموت ترتله أفواه لا ترى،
هنالك يحضر "الشرف"، حاجاً أشيب الشعر،(35/258)
ليبارك العشب الذي يكسو ثراهم،
وتذهب "الحرية" برهة
لتقيم كالناسك الباكي على قبورهم".
وأكثر مما يذكر من شعراء الوجدان هؤلاء ذلك الروح الغريب الذي أسبغ على اكتئاب الشباب كثيراً من العبارات الرقيقة. ذلك هو توماس جراي، الذي كان أحد اثني عشر طفلاً ولدوا لكاتب عمومي لندني، مات منهم أحد عشر في طفولتهم. ولم يتخط توماس هذه السن الخطرة إلا لأن أمه استعملت مقصها لتفتح وريده بعد أن رأته يتشنج. فلما بلغ الحادية عشرة ذهب غلى ايتن، حيث بدأت صداقاته المشئومة مع هوراس ولبول ورتشرد وست ثم مضي إلى كمبردج، التي وجدها "مملؤة بالمخلوقات المكتئبة والمعلمين المجدبين". وأراد أن يدرس القانون، ولكنه انزلق إلى دراسة الحشرات وقرض الشعر، وانتهى إلى التبحر في اللغات والعلوم والتاريخ إلى حد خنق العلم فيه شعره.
وفي 1739 جاب أوربا مع هوراس ولبول. فلما عبر جبال الألب في الشتاء كتب يقول "ما من جرف، ولا سيل ولا منحدر فيها ألا وهو مفعم بالدين والشعر"، وفي 1740 حين كتب من روما أدخل إلى اللغة الإنجليزية كلمة جديدة هي picturesque ( أي الشبيه بالصورة الرائعة). ولم يكن قاموس جونسن يعرف هذه الكلمة حتى في 1755. وفي ريدجو ايميليا تشاجر مع ولبول، فقد كان هوراس شديد الوعي بنبالته، وتوماس شديد الفخر بفقره، ووشي "صديق للطرفين" لكل منها برأي الآخر المستتر فيه، فافترقا، وواصل جراي رحلته منفرداً إلى البندقية وجرينوبل ولندن.
وبغضه في الحياة موت صديقه وست (1742) في السادسة والعشرين من عمره. فاعتكف في بيت عم له في ستوك بوجز، وهناك، وسط دراساته المتصلة، كتب (1742) "قصيدة غنائية في نظرة من بعيد لكلية ايتن". إذ نظر من مسافة مأمونة إلى هذه المشاهد المدرسية، فقد تذكر صديقه الذي قصف الموت عمره قبل الأوان، ووراء ألعاب هؤلاء الشباب ومرحهم رأى ببصر مكتئب مصائرهم الشقية:
"هؤلاء ستمزقهم الانفعالات والعواطف الجامحة،(35/259)
ونسور العقل الجارحة،
والغضب المفعم بالاحتقار، والخوف الشاحب الوجه،
والخجل الذي يتوارى مختبئاً؛
أو يفني الحب المعذب شبابهم،
أو الغيرة المكشرة عن نابها،
التي تقرض القلب في شغافه
والحسد الشاحب، والهم الذابل،
واليأس المتجهم الذي لا يقبل العزاء،
وسهم الحزن الذي يخترم النفس.
انظر، في وادي الحياة أسفلك
تر رهطاً رهيباً،
هم أسرة الموت المؤلمة،
الأبشع منظراً من ملكتهم.
فهذا يحطم المفاصل، وهذا يلهب الأوردة،
وذاك يوجع كل عضلة مجهدة،
وأولئك يحدثون ثورة في الأحشاء الدفينة.
ثم هاهو الفقر أقبل ليكمل الفرقة،
الفقر الذي يخدل الروح بيده الباردة،
والهرم الذي يبري الناس على مهل.
لكل إنسان آلامه، والكل بشر،
قضي عليهم كلهم بالأنين،
فالحنون يئن لألم غيره،
والقاسي يئن لألم نفسه،
ولكن واهاً لهم! فلم يبصرون بحظوظهم،
ما دام الحزن لا يبطئ مجيئه أبداً،
والسعادة سريعة الهروب؛
إن التفكير كفيل بأن يدمر فردوسهم،
فأمسك، لأنه حيث يكون الجهل نعيماً
فمن الحماقة أن تكون حكيماً".
وفي أواخر 1742 قفل جراي إلى كمبردج ليستأنف دراساته.(35/260)
وأرسل إلى ولبول، بعد أن اصطلحا، (1750) "مرثية مكتوبة في فناء كنيسة ريفية". وداولها ولبول بين أخصائه وطبعها ناشر لص وحرفها .. وحماية لشعره سمح جراي لددسلي بأن يصدر نسخة أفضل وإن شابها النقص هي أيضاً (1751)، في هذه القصيدة التي تعد من أروع قصائد القرن ألبس جراي الاكتتاب الرومانسي لبوساً كلاسيكياً دقيق النحت، مستبدلاً بمقطوعات بوب الزوجية العالية الرنين رباعيات هادئة تتحرك في وقار شجي التي خاتمتها الحزينة.
وفي 1753 ماتت أمه، فكتب لها قبرية رقيقة، ودفن همومه في الشعر. وفي قصيدة غنائية عن "تقدم الشعر" حياً انتقال ربات الفن والأدب من اليونان والرومان إلى "ألبيون"، واعترف بتطلعات صباه إلى مباراة الشاعر بندار، والتمس من الشعر أن يهبه عطية "العقل الذي لا يقهر". وفي قصيدة غنائية أكثر شموخاً حتى من هذه، واسمها "الشاعر"، رأى جراي في الشعراء ضرباً من التكفير عن سيئات الحياة البريطانية يفضح الرذيلة والطغيان. هاتان "القصيدتان الغنائيتان البنداريتان"، اللتان نشرتهما مطبعة ولبول في ستروبري هل، بلغتا في افتعال الشكل والازدحام بالشواهد القديمة والوسيطة مبلغاً جعل فهمها عسيراً على القراء إلا الراسخين منهم في الأدب. وقد لف جراي نزوعه هذه للعزلة في ثوب من الكبرياء فقال "ما كنت لأصيف حاشية (تفسيرية) أخرى لأنقذ أرواح جمع البوم الذين في لندن. إن الوضع الراهن حسد جداً-فلا أحد يفهمني، وأنا راض بهذا تمام الرضي. وكان اليوم معتاداً على مثل هذا الصفير في الظلام.
وإذا انكفأ مكتئباً إلى غرفته ببيتر هاوس في كمبردج يعاني من فقر وتهيب منعاه من الزواج، ومن حساسية شديدة قعدت به عن النضال الحياة، فقد أمسي إنساناً منطوياً حزيناً؛ وروعه بعض الطلاب ذات ليلة، وقد ساءهم منه عزوفه ووقاره، وعرفوا فيه الخوف من النار، فصاحوا تحت نافذته بأن الردهة تحترق. وفي رواية مختلف عليها أنه أدلى نفسه من النافذة وهو في قميص النوم وانزلق على حبل-ليقع في حوض ماء وضعه العابثون ليتلقاه (58). وفي 1769 جاب إقليم البحيرات الإنجليزية، وفي اليومية التي كتبها (بخط غاية في الجمال) جعل إنجلترا تدرك لأول مرة جمال ذلك الإقليم. وفي جولة أخرى(35/261)
بمالفيرن تلقى نسخة من قصيدة "القرية المهجورة" (لجولدسمث) فقال "هذا الرجل شاعر" ثم وضع النقرس نهاية لرحلاته، ثم لحياته بعد قليل (1771).
وطبقت شهرته الآفاق حيناً. فانعقد الإجماع في 1757 على أنه يقف على قمة الشعراء الإنجليز، وعرضت عليه إمارة الشعر فرفضها. وقال فيه كوبر متخطياً ملتن "إنه الشاعر الوحيد بعد شكسبير الذي يحق له أن ينعت شعره بالسمو". أما آدم سمث فأضاف متخطياً شكسبير "إن جراي يضيف إلى سمو ملتن أناقة بوب وتناغمه، ولا ينقصه شيء ليكون-ربما-أول شاعر في اللغة الإنجليزية، ألا يكون قد نظم شعراً أكثر قليلاً مما فعل (59) ". وأعجب جونسن بالمرثية، ولكنه كان يملك من العلم ما عله يجد عشرات العيوب في القصائد الغنائية. "إن لجراي ضرباً من الوقار المختال، وأني لأعترف أنني أتأمل شعره برضي أقل مما أتأمل حياته (60) ".
ونستطيع أن نقلب هذه الحكمة مطمئنين. فقد كانت حياة جراي تعسة لا إغراء فيها، من شجاره مع ولبول إلى قصة الحوض. وكانت أنبل أحداثها ثلاث قصائد أو أربعاً ستظل أجيالاً كثيرة من أدمغ البراهين على "تقدم الشعر من اليونان والرومان إلى آلبيون.
4 - المسرح
ماذا كانت مسارح لندن تصنع في نصف القرن هذا الذي نحن بصدده؟ كان أهمها مسرح دروري لين. ثم (من 1733) كوفنت جاردن؛ وكان هناك مسارح صغيرة في لنكولنز أن فيلدز وجودمانز فيلدز، وكان في هييماركت "مسرح صغير" للتمثيليات الهزلية، "ومسرح جلالة الملك" للأوبرا؛ وبلغت جملة المسارح في لندن مثلي عددها في باريس. وكانت حفلات التمثيل تبدأ في السادسة مساء. أما النظارة فقد غيروا طابعهم منذ أيام عودة الملكية، فتحول "المجتمع الراقي" الآن على المسرح إلى الأوبرا. وكان المتفرجون المحظوظون أو الأثرياء لا يزالون يجلسون على خشبة المسرح. واتسع(35/262)
"قاع" المسرح وأعلاه قرابة ألفي شخص جالسين؛ هنالك غلبت الطبقة الوسطى، وقررت بتصفيق الإحسان استقبال التمثيليات ونوعيتها؛ ومن هنا ازدياد المنافسة بين الموضوعات البورجوازية والرومانسية. واستولت النساء على كل الأدوار النسائية وعلى كثير من قلوب الرجال؛ وبدأ الآن سلطان الممثلات الشهيرات من أمثال كتي كلايف، وبج ووفنجتن- التي رسمها هوجارت، وحاك تشارلز ريد رواية حولها.
ولقد قال جاريك، بما أن "هواية الممثلين الأولي، والعظمى، والمسيطرة، هي الأكل (61) " فإنهم فضلوا التمثيليات المتبلة بالجنس. وقال آدمز، القسيس الذي رسمه الروائي فيلدنج: لم أسمع قط بتمثيليات تصلح لأن يقرأها مسيحي إلا تمثيليات أديسون، ورواية ستيل "العشاق الواعون". على أن فيلدنج ذاته كتب هزليات فاجرة (62). وقد وصف فولتير المسارح في إنجلترا بأنها "مجردة من اللياقة". وناشد السرجون برنارد مجلس العموم في 1735 بأن يكبح شيئاً من جماح المسارح، وزعم أن "الأمة البريطانية ... أصبحت شديدة الإدمان على الملاهي الداعرة العاطلة ... لقد أدهش أوربا كلها أن يتقاضى السنيورات والخصيان الإيطاليون رواتب تعادل رواتب وزراء الخزانة (63) ". ولم يفعل أحد شيئاً في أمر الناظر والعبارات الخليعة، ولكن حين سخر فيلدنج وجاي المسرح للهجو السياسي فهاجما روبرت ولبول وجورج الثاني، استصدر الوزير، المتسامح عادة مع المعارضة، بطريق البرلمان قانون الرخص (1737)، الذي وجه أمين البلاط إلى المزيد من التشدد في منح الأذن بالحفلات المسرحية (1).
وقد غالى ديدور في "موسوعته" في الثناء على مسرحية "التاجر اللندني"، التي أخرجت بلندن في 1731، والتي أثارت اهتمامه لأنها المسرحية التي أدخلت مأساة الطبقة الوسطى إلى المسرح البريطاني. وكانت الدراما الكلاسيكية الفرنسية قد أرست مبدأ مؤداه أن المأساة وقف على الأرستقراطية، وأنها تفقد مقامها ووقارها أن هي نزلت
_________
(1) هذا القانون بصيغته المعدلة في 1843 ما زال قانوناً بريطانياً، ولكنه يطبق بتساهل كبير.(35/263)
لى المشاهد البورجوازية. وقام جورج ليللو بمغامرة مزدوجة؛ أنزل المأساة إلى بيت تاجر، وكتبها نثراً. فترى فيها التاجر الأمين ثوروجود يعتز "بكرامة مهنتنا" ويثق بأنه "لما كان اسم التاجر لا يشين الجنتلمان أبداً، فهو إذن لا يقضيه إطلاقاً عن المجتمع الراقي". والفكرة في المسرحية هي تدمير حياة صبي تاجر على يد غانية أغوته، والموضوع موشي بالحض على مكارم الأخلاق وملفوف في العاطفة الرقيقة. وقد صفقت للمسرحية طبقة وسطى أبهجها أن ترى فضائلها ومثلها العليا معروضة على مسرح بريطاني. ورحب بها ديدرو وحكاها في حملته لإدخال "المأساة البيتية والبورجوازية" في المسرح الفرنسي. ونقل لسنج نبرتها في "الآنسة سارا سامبسن" (1755). وهكذا راحت الطبقات الوسطى تؤكد ذاتها في الأدب كما تؤكدها في السياسة.
أما في إسكتلندة، فقد أجج النار تحت قدر الدراما جون هيوم، الذي أغضب زملاءه رجال الدين بكتابته وإخراجه تمثيلية "دجلاس" (1756)، وهي أنجح مأساة في زمانها. وقد حياه ابن عمه ديفد هيوم في نوبة من الحماسة المتدفقة لا تكاد تليق بفيلسوف شاك، فقال أنه "تلميذ صادق لسوفوكليس وراسين قد يوفق في الوقت المناسب لتبرئة المسرح الإنجليزي من تهمة الهمجية (64) ". فلما رفض جاريك المسرحية، رتب هيوم، ولورد كيمس (هنري هيوم)، و "المعتدلون" من رجال الدين الاسكتلنديين إخراجها في أدنبرة، وقام ديفد ببيع التذاكر. وكان الحدث نصراً لآل هيوم جميعاً ولباقي إسكتلندة، لأن جون هيوم حول أغنية شعبية اسكتلندية قديمة إلى دراما وطنية ملأت عيون الاسكتلنديين بدموع الفرح، اللهم إلا هيئة شيوخ الكنيسة بأدنبرة، التي نددت بخيوم لأنه جلب العار على ردائه، وذكرته "بالرأي الذي كانت الكنيسة المسيحية تراه دائماً في تمثيليات وممثلي المسرح لأضرارهم بالدين والفضيلة (65) ". قد صدرت اتهامات رسمية لهيوم وقسيس آخر يدعى الكسندر كاريل لحضوره التمثيل. أما ديفد هيوم الذي اضطرم بالغيرة على قريبه فقد أهدى "المقالات الأربع" لابن عمه، وكتب اتهاماً حاراً للتعصب. واستقال جون من قسوسيته، وذهب إلى لندن، وشهد مسرحيته "دجلاس" تخرج، وعلى رأس ممثلاتها بج ووفنجتن (1757). هناك أيضاً انتصرت المسرحية، واحتشد(35/264)
الاسكتلنديون الساكنون لندن ليصفقوا لها، وفي نهاية هذه الحفلة الافتتاحية في لندن هتف اسكتلندي من أعلى المسرح "اخسأوا يا قوم: فما قولكم الآن في ويلي شكسبيركم (66)؟ " وظلت التمثيلية تتردد على المسرح جيلاً بأكمله، مع أنها اليوم ميتة موت تمثيلية أديسون "كاتو". وحين مثلتها المسز سيدونز بأدنبرة في 1784، اضطر المجمع العام للكنيسة "إلى توقيت الاجتماع لأعماله الهامة بالتناوب مع أوقات تمثيلها، بحيث يجتمع في الأيام التي لا تمثل فيها (67) ".
أما أطرب نجاح حققه المسرح اللندني في هذه الفترة فكان "أوبرا الشحاذ". وقد بدأ مؤلفها جون جاي حياته صبياً في متجر، وارتقى حتى أصبح سكرتيراً لأيرل كلارندن، وواحداً من أكثر أعضاء نادي "سكربليروس" حيوية ومرحاً. وقد وصفه بوب بأنه:
"دمث الطبع، رقيق العاطفة،
في ذكائه رجل، وفي بساطته طفل؛
مفطور على مرح يخفف من غضبته للحق،
مخلوق ليبهج العصر ويسوطه معاً (68) ".
وقد وضع جاي بصمته على المسرح عام 1716 بتمثيلية "تريفيا أو فن التسكع في شوارع لندن". فقعقعة عجلات المركبات على أحجار الرصف، والسائقون يستحثون خيلهم بالسوط واللسان، و "الصبية الموحلة" تحمل السمك إلى بلنجزجيت، وهدوء "بل مل" بسيداته المعطرات يتكئن على أذرع العشاق، والسائق يشق طريقه الملتوي وسط مباراة في كرة القدم تسد الشارع، واللصوص المهذبون "يخففون جيبك من أثقاله بأصابع لا تحس"، والحارس الضخم يهدي خطاك المضطربة بمصباحه المرشد إلى طريقه الأمين "ويقودك إلى بايك؛ كل هذا وأكثر منه يجده في تريفيا من يريد أن يتصور لندن في 1716.
وفي 1720 نشرت "قصائد" جاي بنظام الاكتتاب، فوافته بألف من الجنيهات خسرها في انهيار شركة بحر الجنوب. وخف بوب وغيره لنجدته، ولكنه أدرك الثراء من جديد عام 1728 بتأليفه "أوبرا الشحاذ". وتقد لنا مقدمتها الشحاذ، الذي يقدم لنا بدوره أوبراه.(35/265)
وتبدأ بأغنية شعبية يغنيها بيتشوم، الذي يتظاهر (كما تظاهر جوناثان وايلد) بخدمة القانون بالإبلاغ عن النصوص (إذا رفضوا خدمته)؛، ولكنه في حقيقة الأمر يتجر في البضائع المسروقة. ويصف نفسه بالرجل الأمين لأن "كل أصحاب المهن الراقية يحتال بعضهم على بعض"، ويحدوهم الجشع للربح. ويفسد عليه أمره أن ابنته بولي وقعت في غرام قاطع الطريق الوسيم الأنيق الكابتن ماكهيث، وربما تزوجته، ومن شأن هذا الغرام أن يعطل تسخيره مفاتن بولي في ملاطفة المشترين والبائعين ورجال الشرطة. وتطمئنه المسز بيتشوم قائلة:
"بحقك لم يجب أن تختلف ابنتنا بولي عن غيرها من بنات جنسها، فلا تحب إلا زوجها، ولم يجب أن يقلل زواجها من ملاحقة الرجال الآخرين لها، على عكس ما نلحظه في مل مكان؟ كل الرجال لصوص في الحب، ويزيد من حبهم للمرأة أن تكون ملكاً لغيرهم (69) ". على أن الأم تحذر ابنتها قائلة:
"لست أعارض يا بولي، كما تعلمين، في أن تعبثي قليلاً مع زبون خدمة للعمل، أو سبيلاً لاستخلاص سر أو نحوه، ولكني سأقطع رقبتك لو وجدتك تصرفت كالحمقى، وتزوجت. أيتها اللعوب".
وتعتذر بولي عن زواجها في أغنية شعبية:
"أيمكن أن تحكم النصيحة الغرام؟
أيطيع كيوبيد أمهاتنا؟
لو كان قلبي بارداً كالثلج
لذاب من لهيب ناره.
حين قبلني ضمني بشدة
وكان عناقه حلواً فلم أملك غير الامتثال،
ورأيته أسلم وأفضل
أن أتزوج مخافة لومك وتقريعك (70) ".
ويشتعل غضب بيتشوم، وهو يخشى أن يقتله ماكهيث ويقتل زوجته ليرث ثروتهما عن طريق بولي. فيبيت أن يشي بماكهيث لرجال القانون(35/266)
ليشنقوه دون ريب. ويظهر ماكهيت على المسرح، ويهدئ روع بولي بعناقه، ويؤكد لها أنه منذ الآن سيكون ملكاً لها دون غيرها من النساء:
"لقد كان قلبي طليقاً
يتنقل كالنحلة،
حتى سلبت بولي لبي
كنت أشف رحيق كل زهرة،
وأتقلب كل ساعة،
ولكن هنا اجتمعت كل الزهور في واحدة".
وتضرع إليه أن يقسم أن يأخذها معه إذا نقل. فيقسم قائلاً "في استطاعة أي قوة ... أن تنتزعني منك؟ أيسر من هذا أن تنتزعي راتباً من رجل بلاط، أو أتعاباً من محام، أو امرأة جميلة من مرآة" ثم يشتركان في ثنائية جميلة:
"هو ... لو ألقيت على شاطئ جرينلند،
واحتضنت فتاتي بين ذراعي،
دافئة الجسد وسط صقيع لا ينقضي
لا نقضي سريعاً ليل نصف العام.
هي ... لو باعوني في أرض الهند
لاستطعت عقب انقضاء النهار المحرق
أن أهزأ بالكدح في القيظ الشديد
ما دمت أستريح على صدر فاتني.
هو ... ولأحببتك اليوم كله،
هي ... ولتعانقنا ولعبنا كل ليلة،
هو ... لو سرحت معي في هيام
هي ... فوق التلال، بعيداً جداً".
وتبوح له بأن أباها يدبر تسليمه للقانون، وتطلب إليه في أسي أن يختلف برهة. فينصرف، ولكنه يتوقف في حانة ليعطي أعوانه تعليماته بشأن إحدى سرقاته. فإذا انصرفوا رقص وعبث مع فتيات(35/267)
الحانة، وكان بيتشوم قد رشاهن ليشين به، فيسرقن مسدسيه وهن يدللنه، ثم يستدعين الشرطة، ونراه في سجن نيوجيت في المنظر التالي. هناك تتنافس عليه بولي وإحدى زوجاته، وتحررانه من السجن، ولكن يقبض عليه من جديد ويرسل إلى المشنقة، وفي طريقه إليها يعزي نساءه بهذه الأغنية:
"وداعاً إذن يا حبي- وداعاً يا ساحراتي العزيزات!
إني أموت راضياً- وهذا خير لكن.
هنا ينتهي كل نزاع طوال ما بقي لنا من حياة،
لأنني بهذا أرضي زوجاتي أجمعين (71) ".
ويظهر الآن الشحاذ المؤلف، وبفخر بأنه جعل الرذيلة تلقى ما تستحقه من عقاب، كما هي الحال في جميع التمثيليات اللائقة، ولكن ممثلاً يعترض بأن "الأوبرا يجب أن تنتهي نهاية سعيدة" (لشد ما تتغير العادات!). ويذعن الشحاذ، وينقذ ماكهيث من حبل المشنقة ويحيط عنقه بحبل آخر هو بولي، ويرقص الجميع حولهما، بينما يتساءل الكابتن، أتراه لقي مصيراً شراً من الموت.
وكان من حسن حظ جاي أن أفاد من خدمات يوهان بوش، وهو مؤلف موسيقي ألماني يقطن إنجلترا، واختار يبوش موسيقى لأغاني جاي من الألحان الإنجليزية القديمة، وكانت النتيجة رائعة. فقد استجاب الجمهور بحماسة في حفلة الافتتاح بمسرح لنكولنز إن فيلدز (29 يناير 1728) رغم ما جاء في المسرحية من هجو للرشوة والنفاق. واستمر عرضها ثلاث وستين ليلة متوالية، وفاقت في هذا كل ما سبقها من تمثيليات، وعرضها عروضاً طويلة في كبرى المدن البريطانية؛ وما زالت تشغل المسرح في قارتين، وقد حولت إلى فلم من أبهج الأفلام في عصرنا. أا الممثلة التي قامت بدور بولي فقد أصبحت معبودة الفتيان الطائشين المرحين، وتزوجت دوقاً. ولكن رجلاً من رجال الكنيسة الشديدة الاحتفال بالطقوس ندد بجاي لأنه جعل قاطع طريق بطلاً لتمثيليتهن ولأنه تركه يفلت من العقاب. فلما حاول جاي أن يخرج تتمة للتمثيلية سماها "بولي" رفض كبير الأمناء الترخيص(35/268)
بها. فنشرها جاي، وراجت، وتصاعدت حصيلة "أوبرا الشحاذ" تصاعداً ساراً، حتى قال ظريف إن التمثيلية جعلت جاي غنياً ( rich) وجعلت رتش (المدير) مبتهجاً ( gay) . وبعد أربع سنوات من انتصار الشاعر أصيب بمغص أودى بحياته.
5 - الرواية
كان الحدث البارز في التاريخ الأدبي لهذه الحقبة هو ظهور الرواية الحديثة. فروايتا "كلاريسا" و "توم جونز" من الناحية التاريخية أهم من أي قصيدة أو مسرحية إنجليزية في ذلك العهد. ومنذ عام 1740، باتساع مجال الحياة العامة وامتداده من البلاط إلى الشعب، ومن الأفعال إلى الأحاسيس، حلت الرواية محل الدراما صوتاً ومرآة لإنجلترا.
أما القصص فكانت قديمة قدم الكتابة، فللهند حكاياتها وخرافاتها؛ واليهودية ضمنت أدبها أساطير لراعوث واستير وأيوب؛ واليونان الهلنستية والأقطار المسيحية الوسيطة أخرجت رومانسيات مغامرة وحب، وإيطالية النهضة أنتجت آلاف "النوفللي " movelle ( أي المستحدثات الصغيرة)، كما في بوكاتشو وبانديللو، وأسبانية النهضة وإنجلترا الاليزابيثية كتبتا حكايات تشرد لأوغاد رائعين، وفرنسة القرن السابع عشر أثقلت الدنيا بقصص حب أطول كثيراً من الحب. وقص لساج قصة جيل بلاس، وجود ديفو حكاية المغامرة بياناً لشجاعة الإنسان؛ وسخر سويفت قصة الرحلات ليسلخ بها جلد البشر.
ولكن أكانت هذه الآثار روايات بمعناها الحالي؟ لقد أشبهت قصص القرن الثامن عشر في كونها حكايات خيالية، وامتاز بعضها بميزة الطول الذي لا شك فيه، وصور بعضها الشخوص بجهد يحاول تجسيد الواقع؛ ولكنها "ربما باستثناء كروسو) افتقدت الحبكة التي تربط بين الأحداث والشخوص في كل متطور. لقد كان في قصة "الأورونوكو" للسيدة أفرا بن (1688)، وهي قصة عبد أفريقي، حبكة رابط، وكذلك قصص ديفو "الكابتن سنجلتون" (1720)،(35/269)
و "مول فلاندرز" (1722)، و "روكسانا" (1724)، ولكن هذه كلها كانت لا تزال سلسلة من الأحداث المترابطة أكثر منها وحدة بنائية يعمل كل جزء فيها على تقديم موضوع يوحد بينها. فلما ملك رتشاردسن وفيلدنج ناصية فن التطوير هذا، وصورا الشخصية وهي تنمو خلال الأحداث، وجعلا رواياتهما تصور العادات في عصرنا، كان هذا استهلالاً للرواية الحديثة.
أ- صموئيل رتشردسن
1689 - 1761
كان الرجل الذي استهل عصر الرواية الجديدة ابن نجار من داربيشير انتقل إلى لندن عقب مولد صموئيل. وكانت الأسرة ترجو أن تجعل الصبي قسيساً، ولكن الفقر عاقها عن تأهيله التأهيل المدرسي المطلوب؛ على أنه وفق في أن يضمن كتبه شيئاً من الوعظ. وكان الوسط الذي شب فيه يحتفظ بالفضيلة البيورتانية. وألحق صبياً لطباع، وأعانه اشتهاره بجمال الخط على زيادة دخله بتدبيجه ال سئل للفتيات الأميات اللاتي أضناهن الحب، وقد قررت هذه المصادفة الشكل الذي اتخذته رواياته أعني شكل الرسائل، وما أفاضت فيه هذه الروايات من ريادة لسيكولوجية المرأة وسبر لعواطفها. وأفاده جده واقتصاده، فأنشأ مطبعة خاصة به، وتزوج ابنة مخدومه السابق (1721)، وأنجب منها ستة أطفال، مات منهم خمسة في حداثتهم. كذلك ماتت أمهم (1730) وهي ما تزال صغيرة السن محبوبة، وأعانت هذه الأحزان على خلق مزاجه الذي تغلب عليه الكآبة. وتزوج ثانية، وأنجب ستة أطفال آخرين، واكتوى بمزيد من الأحزان، ثم ارتقى لوظيفة طباع مجلس العموم. وبلغ الخمسين من عمره قبل أن ينشر كتاباً.
وفي 1739 كلفه صديقان طباعان بكتابة مجلد صغير من نماذج للرسائل مرشداً "للقراء الريفيين الذين لا قدرة لهم على التحرير بأنفسهم"، ومعلماً في "التفكير والتصرف بصواب وحكمة في الشئون العادية لحياة الإنسان (72) ". وبينما كان رتشاردسن يعد هذا الكتاب-وهنا اغتنمت العبقرية فرصة الظرف-خطر له أن ينسج سلسلة من الرسائل في قصة حب تشرح الفضيلة الحكيمة في بطلتها العذراء. ولعل(35/270)