فإذا توقف بصرنا عند هذا الحد، فليجاوزه الخيال ... فكل هذا العالم المرئي ليس إلا عنصراً لا يدرك في صدر الطبيعة العظيم. ولا يستطيع أي تفكير أن يمتد إلى هذا المدى ... إنها كرة لانهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها في غير مكان (42). هذا أكثر مظهر قابل للإدراك من مظاهر قدرة الله، حتى أن خيالنا يتوه في هذا الخاطر".
ثم يضيف بسكال في سطر شهير مطبوع بحساسيته الفلسفية، "أن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني (43) ".
ولكن هناك لانهائية أخرى- وتلك هي لانهائية صغر الذرة "التي لا تقبل الانشطار، وقبولها النظري للانقسام قبولاً لا حد له، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء، فإننا لا نملك إلا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه. وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود، والدقيق غير المحدود.
"إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه، وإذا أدرك أنه معلق ... بين هاويتين اللانهائية والعدم، ارتعد فرقاً ... وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور. فما الإنسان في الطبيعة، بعد كل شيء ... ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم، إنه وسط العدم والكل. وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها، يلقهما سر لا سبيل إلى استكناهه، وهو عاجز على السوء عند رؤية العدم الذي أخذ منه، واللانهائي الذي يغمره (44) (1).
_________
(1) يقول سانت ييف "ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لا نظير لها" (45).(31/100)
فالعلم إذن ما هو إلا ادعاء غبي. فهو مبني على العقل، المبني على الحواس، التي تخدعنا بعشرات الطرق. وهو محدود بالحدود الضيقة التي تعمل حواسنا داخلها، وبقصر عمر الجسد قصراً قابلاً للفساد. وإذا ترك العقل لذاته لم يستطع أن يفهم- أو يعطي أساساً مكيناً للفضيلة، أو الأسرة، أو الدولة، فكيف بإدراك الطبيعة العالم ونظامه الحقيقيين، فضلاً عن فهمه لله. والعرف، لا بل الخيال والأسطورة، حكمة اكثر مما في العقل و "أحكم العقول يتخذ تلك المبادئ، التي أدخلها خيال الإنسان بتعجل في كل مكان، مبادئ له (46) " وهناك نوعان من الحكمة: حكمة الجماهير البسيطة "الجاهلة"، التي تعيش بحكمة التقاليد الموروثة والخيال (أي الطقوس والأساطير)، وحكمة الحكيم الذي نفذ إلى صميم العلم والفلسفة ليدرك جهله (47). إذن "لاشيء أروح للعقل من أن بنبذ العقل" و "الاستخفاف بالفلسفة ملاك الفيلسوف الأصيل (48) ".
ومن ثم رأى بسكال أنه ليس من الحكمة إقامة الدين على العقل، كما حاول حتى بعض الجانسنيين، أن يفعلوا. بالعقل لا يستطيع أن يثبت وجود الله، ولا الخلود، لأن الأدلة في الحالين شديدة التناقض. كذلك لا يصلح الكتاب المقدس أساساً نهائياً الإيمان، لأنه حافل بالفقرات الملتبسة أو الغامضة، وربما كان للنبوءات التي يفسرها الأتقياء على أنها تشير إلى المسيح دلالة مختلفة (49). أضف إلى ذلك أن الله في الكتاب المقدس يتكلم بالأرقام، التي يضللنا مدلولها الحرفي، والتي لا يدرك معناها الحقيقي إلا من وهبوا النعمة الإلهية. "أننا لن نفهم شيئاً من أعمال الله ما لم نؤمن بهذا المبدأ، وهو أنه تعالى يشاء أن يعمي البعض وينير بصائر البعض (50). (وهنا يبدو أن بسكال يقبل حرفياً قصة يهوه وهو يقسي قلب فرعون).
ولو اعتمدنا على العقل لوجدنا غير المفهوم أينما تلفتنا. فمنذا الذي يستطيع أن يفهم، في الإنسان، ذلك الاتحاد والتفاعل بين جسد واضح(31/101)
المادية وذهن واضح اللامادية؟ "فليس هناك شيء أشد استحالة على التصور من أن تعي المادة نفسها (51) ". إنهم الفلاسفة الذين ملكوا أهواءهم- "وأي مادة تستطيع أن تفعل هذا (52)؟ ". وطبيعة الإنسان، التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجاً شديداً (53)، تكرر التناقض بين العقل والجسد، وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الأساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان.
"يا لهذا الإنسان من كمير! ياله من بدعة، ووحش، وفوضى، وتناقض، ومعجزة! هذا الحكم في كل الأشياء، ونموذج الغباء في الأرض؛ مستودع الحق، وبالوعة الظلال والشك؛ مفخرة الكون ونفايته. فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد (54)؟ ".
إن الإنسان- من الناحية الخلقية- لغز غامض. فكل ضروب اللؤم تبدو مستترة فيه. "ما الإنسان إلا مخلوق خداع المظهر، كذوب، منافق، مع نفسه ومع غيره (55) ". "كل الناس بطبيعتهم يكره بعضهم بعضاً، ولن تجد أربعة أصدقاء في العالم (56) ". "ما أفرغ قلب الإنسان وما أحفله بالقذر" (57) ثم يا لغروره الذي لا قرار له ولا شبع، "ما كنا لنركب البحر أبداً لولا حلمنا بأننا سوف نوري قصتنا ... أننا نفقد الحياة مغتبطين شريطة أن يتحدث الناس بما فعلنا ... وكل الناس، حتى الفلاسفة، يتمنون أن يكون لهم معجبون (58) ". ومع ذلك فإن من جوانب عظمة الإنسان أنه من شره، وكرهه، وغروره، أنشأ دستوراً من القوانين والأخلاق ليسيطر على شره، واشتق من شهوته مثلاً أعلى في الحب (59).
وشقاء الإنسان لغز آخر. فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعاً من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته، كثير التعرض للألم في كل عصب، وللحزن في كل حب، وللموت في كل حياة؟ ومع ذلك فإن "جلال الإنسان عظيم في معرفته أنه شقي (60) ".
"ما الإنسان إلا قصبة، وهي أوهى ما في الطبيعة، ولكنه قصبة مفكرة.(31/102)
والكون كله لا حاجة به لأن يتسلح لكي يسحقه، فنفخة بخار، أو قطرة ماء، تكفي لقتله- ولكنه، بعد أن يسحقه الكون، لا يزال أنبل من هذا الذي يقتله، لأنه لا يعرف أنه مفارق الحياة، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الإنسان (61) ".
وليس من هذه الألغاز لغز يجد في العقل جواباً له. ولو ركنا إلى العقل وحده لحكمنا على أنفسنا بـ"ببروية" تتشكك في كل شيء إلا الألم والموت، والفلسفة لا تستطيع على أحسن الفروض إلا أن تكون تبريراً عقلانياً للهزيمة. ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بأن قدر الإنسان هو كما يراه العقل- أن يكافح، ويتعذب، ويموت، بعد أن ينجب آخرين ليكافحوا، ويتعذبوا، ويموتوا، جيلاً بعد جيل، في افتقار للهدف، وغباوة، وحقارة هائلة. فنحن في قرارة نفوسنا نشعر بأن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبأنه تجديف ما بعده تجديف أن نظن أن الحياة والكون بلا معنى. فالله ومعنى الحياة يجب أن يشعر بهما القلب لا العقل. "فإن للقلب مبرراته التي لا يعرفها العقل (62). "، وأخيراً نفعل أن أصغينا إلى قلوبنا، وإن "وضعنا إيماننا في الوجدان (63) ". ذلك أن كل إيمان، حتى بالأمور العملية، إنما هو ضرب من الإرادة، وتوجيه للانتباه والرغبة (إرادة الإيمان). والتجربة الصوفية أعمق من شهادة الحواس أو حجج العقل.
أي جواب إذن عند الوجدان يجيب به عن الغاز الحياة والفكر؟ الجواب هو الدين. فالدين وحده يستطيع أن يرد للحياة معناها، وللإنسان نبله، وبدونه نتخبط أعمق حتى من تخبطنا الأول في إحباط عقلي وعقم مميت. فالدين يعطينا كتاباً مقدساً، والكتاب ينبئنا بسقوط الإنسان من النعمة، وهو الخطيئة الأصلية هي دون غيرها التي تستطيع أن تفسر ذلك الجمع الغريب في الطبيعة بين الكره والحب، وبين الشر الوحشي واشتياقنا للخلاص ولله. فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نؤمن (مهما بدت سخافة(31/103)
هذا الإيمان للفلاسفة) بأن الإنسان بدأ بالنعمة الإلهية، وأنه فقدها بالخطيئة، وأنه لا خلاص له إلا بالنعمة الإلهية عن طريق المسيح المصلوب، وجدنا بعد هذا سلاماً عقلياً لا يوهب الفلاسفة أبداً. والذي لا يستطيع الإيمان ملعون، لأنه يعلن بكفره أن الله لم يشأ أن يمنحه النعمة.
والإيمان رهان حكيم. وهب أن الإيمان لا يمكن إثباته، فأي ضمير إن قامرت على حقيقته ثم اتضح بطلانه؟ "لزام عليك أن تراهن، وليس لك في هذا خيار ... فلتوازن بين المكسب والخسارة في الرهان على وجود الله ... أنك إن كسبت كل شيء، وإن خسرت لم تخسر شيئاً. فراهن إذن دون تردد على إنه تعالى موجود (64) ". فإذا وجدت أول الأمر أن الإيمان صعب عليك فاتبع عادات وطقوس الكنيسة كأنك تؤمن حقاً. "تبرك بالماء المقدس، وأطلب تلاوة القداديس، وهلم جرا، وهذا كفيل بأن يجعلك تؤمن بطريقة بسيطة طبيعية، وبأن يهدئك"- سيهدئ من عقلك المغتر بقدرته النقادة (65). واعترف وتناول القربان، وستجد في هذا راحة قوية (66).
ونحن نظلم هذا الدفاع التاريخي إذا تركناه يختتم على هذه النغمة غير البطولية. فلنا أن نثق بأن بسكال حين آمن لم يؤمن كأنه مقامر بل كنفس حيرتها ودوختها الحياة، وكإنسان أدرك في تواضع أن عقله الذي أذهل ذكاؤه الصديق والعدو، ليس كفواً للكون، ووجد في الإيمان السبيل الوحيد ليضفي على ألمه المعنى والمغفرة. ويقول سانت- بيف "إن بسكال رجل مريض، وعلينا أن نذكر هذا على الدوام ونحن نقرؤه (67) " ولكن بسكال لو ووجه بهذا الرأي لأجاب: ألسنا كلنا مرضى؟ فليرفض الإيمان كل من اكتملت له السعادة. ليرفضه كل من لم يقنع بمعنى الحياة أكثر من أنها مسار عاجز من ميلاد قذر إلى موت أليم.
"تصور نفراً من الناس يرسفون في الأغلال وقد حكم عليهم جميعاً(31/104)
بالموت، وفي كل يوم يشنق بعضهم على مرأى من الباقين، والباقون يتبينون حالهم في حال زملائهم، ويتبادلون نظرات الحسرة واليأس، وينتظر كل منهم دوره. هذه صورة لحالة الإنسان (68) ".
فكيف السبيل إلى التعويض عن هذه المذبحة البشعة التي نسميها التاريخ إلا بالإيمان بأن الله سيصحح الأخطاء كلها في النهاية، سواء استند هذا الإيمان إلى دليل أو لم يستند؟. وقد تحمس بسكال في محاجته لأنه لم يفق قط إفاقة حقيقية من الشكوك التي أوحى بها إليه موتتيني، وملحدو "السنوات التي قضاها في العالم"، وحياد الطبيعة القاسي بين "الشر" و "الخير".
"ذلك ما أراه وما يقض مضجعي. فأينما تلفت لم أجد غير الغموض والإبهام. ولا تقدم لي الطبيعة إلا ما يحتمل الشك والقلق. فلو أنني لم أر علامات على وجود إله لثبت علي الإنكار. ولو رأيت آثار الخالق في كل مكان لسكنت إلى الإيمان في هدوء وسلام. ولكني في حالة يرثى لها أنني أرى أكثر كثيراً مما يبرر إنكار وجوده تعالى، وأقل كثيراً مما يطمئنني على وجوده. ولقد طالما تمنيت أن تعلن الطبيعة عن وجود دون لبس أو غموض ما دام هذا الإله حافظها (69) ".
وحالة القلق العميق هذه، والقدرة المعطلة على رؤية الجانبين، هي التي تجعل بسكال يستهوي المؤمنين والشكاكين على السواء. فلقد شعر هذا الرجل بغيظ الملحد من الشر، وبثقة المؤمن في انتصار الخير، ولقد عبر من تدويمات موتتيني وشارون الذهنية إلى التواضع المغتبط الذي أحس به القديسان فرانسيس الأسيسي وتوماس أكمبيس. وهذه الصرخة المنبعثة من أعماق الشك، وهذه الصياغة لإيمان ضد الموت، هما اللذان يجعلان "خواطر" بسكال أبلغ الكتب قاطبة في النثر الفرنسي. لقد أصبحت الفلسفة أدباً للمرة الثالثة في القرن السابع عشر، لا في تركيز بيكون الهادئ،(31/105)
ولا في ألفة ديكارت السارة، بل في القوة العاطفية لشاعر يحس بالفلسفة، ويكتب لقلبه بدمه. في قمة العصر الكلاسيكي علا هذا النداء الرومانسي، وبلغ من القوة ما أتاح له أن يعمر بعد بوالو وفولتير، وأن يسمعه عبر قرن من الزمان روسو وشاتوبريان. فهنا، في صبيحة عصر العقل، وفي عقود هوبز وسبينوزا ذاتها، وجد العقل منازلاً له في رجل محتضر.
روت مدام بيرييه، شقيقة بسكال، أنه كان في سنيه الأخيرة يعاني من "علل مستديمة متفاقمة (70) " وانتهى به الأمر إلى الرأي بأن "المرض هو الحالة الطبيعية للمسيحيين (71) ". وكان أحياناً يرحب بآلامه لأنها تصرفه عن المغريات. قال "إن ساعة من الألم تعلم أفضل من كل الفلاسفة مجتمعين (72) ". وقد هجر كل اللذات، وعكف على ممارسة النسك، وجلد نفسه بحزام ثبتت فيه مسامير من حديد (73). ووبخ مدام بيرييه لأنها تسمح لأبنائها بعناقها. وعارض في زواج ابنتها قائلاً: "إن حالة الزوجية ليست خيراً من الوثنية في نظر الله (74) ". ولم يسمح لإنسان في حضرته أن يتحدث عن جمال المرأة.
وفي عام 1662، آوى أسرة فقيرة في بيته صدقة من صدقاته الكثيرة. فلما أصيب أحد الأطفال بالجدري انتقل بسكال إلى بيت شقيقته بدلاً من أن يطلب إلى الأسرة أن تغادر بيته. ولم يمضِ وقت طويل حتى لزم فراشه وقد حطمته الآلام المعوية. وكتب وصيته، فترك نصف ثروته تقريباً للفقراء، واعترف لكاهن، وتناول القربان الأخير، ثم لفظ أنفاسه إثر تقلصات عنيفة، في 19 أغسطس 1662 وهو لا يجاوز الأربعين. ولما شرحت جثته وجد أن معدته وكبده مريضتان، وأن في أمعائه قرحاً (75). وقال الأطباء أن مخه "ضخم الحجم جداً، وأن مادته جامدة مكثفة" ولكن خطاً واحداً فقط من خطوط الاتصال بين عظام الجمجمة هو الذي كان مقفلاً قفلاً سليماً، ولعل هذا هو السر في نوبات الصداع الرهيبة التي ابتلي بها.(31/106)
ووجد على لحاء المخ منخفضان "كبيران كأنهما صنعا بأصابع وضعت في الشمع" (76) وقد دفن في كنيسة أبرشيه سانت اتيين- دومون.
5 - ألبور رويال
1656 - 1715
شددت "الرسائل الإقليمية" من عزم اليسوعيين والأساقفة على قمع الجانسنية باعتبارها بروتستنتية مقنعة. فأصدر البابا الإسكندر السابع (16 أكتوبر 1656) استجابة لإلحاح الأساقفة الفرنسيين مرسوماً بابوياً يلزم جميع رجال الكنيسة الفرنسيين بالتوقيع على الصيغة التالية:
"إني أخضع بإخلاص لدستور البابا أنوسنت العاشر، المؤرخ 31 مايو 1653، حسب معناه الحقيقي الذي حدده دستور أبينا الأقدس البابا الإسكندر السابع المؤرخ 6 أكتوبر 1656، وأقر بأنني ملتزم في ضميري بطاعة هذين الدستورين، وأدين بقلبي وفمي التعليم الوارد في قضايا كورنيلس جانسن الخمس المحتواة في كتابه المعنون "أوغسطينوس".
وامتنع مازاران عن فرض التوقيع على هذه الصيغة، ولكن في 13 إبريل 1661، عقب موت مازاران، أذاع لويس الرابع عشر الأمر، وقدم وكيل أسقفية من أصدقاء الجماعة لهذه الصيغة ببيان توفيقي، فوقعها آرنو والمتوحدون في هذه الصورة، ونصحوا راهبات البور-رويال بالحذو حذوهم، ولكن الأم أنجليك-التي كانت طريحة الفراش لإصابتها بالاستسقاء-رفضت التوقيع وثبتت على الرفض إلى أن ماتت في السبعين في 6 أغسطس 1661، وكذلك رفص بسكال وشقيقته جاكلين، التي أصبحت وكيلة الدير. وقالت جاكلين: مادام الأساقفة لا يملكون من الشجاعة إلا شجاعة الفتيات، فلابد أن يكون للفتيات شجاعة الأساقفة (77) " وأخيراً وقعت كل الراهبات الباقيات على قيد الحياة، ولكن جاكلين(31/107)
التي أضنتها مقاومتها الطولية ماتت في 4 أكتوبر وهي لا تجاوز السادسة والثلاثين، وتلاها بسكال بعد عام واحد.
واستنكر الملك خلال ذلك الديباجة الموفقة وأصر على أن يوقع الراهبات الصيغة دون أي إضافة أو تغيير، ونقل القليلات اللاتي وقعن إلى البور-رويال في باريس، ولكن أغلبية الراهبات، تتزعمهن الأم آنييس، صرحن بأنهن ليس في وسعهن التوقيع بضمير خالص على وثيقة تناقض معتقداتهن أشد مناقضة. وفي أغسطس 1665 حرم رئيس الأساقفة الراهبات السبعين وأخواتهن العلمانيات الأربعة عشرة من تناول الأسرار المقدسة، وحظر عليهن أي اتصال بالعالم الخارجي. وخلال السنوات الثلاثة التالية، كان أحد الكهنة المتعاطفين مع الراهبات يتسلق أسوار البور-رويال-دي-شان ليناول الراهبات المحتضرات قربانهن الأخير. وفي 1666 قبض على ساسي، ولوميتر، وثلاثة من المتوحدين بأمر الملك، أما آرنو الذي تنكر وراء شعر مستعار وسيف، فقد آوته لونجفيل، التي كانت تخدمه بنفسها أثناء اختبائه (78). وتبنت هي وغيرها من النبيلات قضية الراهبات، وأقنعن لويس بأن يلين؛ وفي 1668 أصدر البابا كلمنت التاسع مرسوماً جديداً صيغ في لبس حكيم يسمح لجميع الأطراف بقبوله، وأفرج عن السجناء، وردت الراهبات المنشقات إلى البور-رويال-دي شان، وعادت الأجراس تدق في الدير بعد أن صمتت ثلاث سنين. واستقبل الملك آرنو استقبالاً ودياً، وكتعب هذا كتاباً ضد الكلفنين، ولكن نيكولا كتب كتاباً آخر ضد اليسوعيين.
ودام "سلام الكنيسة" أحد عشر عاماً، ثم ماتت مدام لو نجفيل، ومات معها السلام. وإذ بدأ الملك يشيخ، وانقلبت انتصاراته هزائم، واستحال دينه خليطاً من التعصب والخوف، وساءل نفسه، أكان الله يعاقبه على تسامحه مع الهرطقة؟ واتخذ بغضه للجانسنية طابعاً شخصياً، ومن الأمثلة على هذا(31/108)
التحول أن لويس رفض تعيين رجل يدعى فونببرتوي في إحدى الوظائف لشبهته في أنه جانسني، ولكنه وافق على التعيين حين أكدوا له أن الرجل ملحد فقط (79). ولم يستطع قط أن يغتفر للراهبات تحديهن لأمره بالتوقيع على الصيغة المشددة. وضماناً للقضاء على مركز سخطه هذا في وقت مبكر حظر عليه قبول أعضاء جدد. ووجه نداء للبابا كلمنت الحادي عشر لكي يصدر إدانة صريحة للجانسنية. وبعد عامين من الإلحاح أطلق البابا مرسوم Vineam Domini (1705) ولم يكن باقياً على قيد الحياة في البور-رويال آنئذ سوى خمس وعشرين راهبة، أصغرهن في الستين. وترقب الملك موتهن بفارغ الصبر.
وفي عام 1709 خلف الأب اليسوعي ميشيل تيلييه البالغ من العمر ستة وستين عاماً، الأب لاشيز، كاهن اعتراف للملك. فأقر في ذهن لويس-وكان الملك قد بلغ الحادية والسبعين-أن مصير روحه الأبدي رهن بالإبادة الناجزة الكاملة للبور-رويال. وقد احتج كثيرون من الأكليروس العلمانيين على هذه العجلة وفيهم أنطوان دنواي، رئيس أساقفة باريس، ولكن الملك تغلب على معارضتهم. وفي 29 أغسطس 1709 أحاط الجند بالدير، وأطلع الراهبات على رسالة ملكية مختومة تأمر بتفريقهن فوراً، وسمح لهن بخمس عشر دقيقة يجمعن فيها أمتعتهن. ولم يجد بكاؤهن ولا دموعهن. فدفعن داخل مركبات وشتتن في مختلف الأديار الممتثلة التي تبعد من ستين إلى مائة وخمسين ميلاً. وفي 1710 هدمت مباني الدير الشهير وسويت بالتراب.
ولكن الجانسنية عاشت. لقد مات آرنو ونيكول في منفاهما بفلاندر (1694 - 95)، ولكن كاهناً في مصلى باريس يدعى باسكييه كينيل، دافع عام 1687 عن اللاهوت الجانسني في كتابه "تأملات أخلاقية في العهد الجديد". وقد زج به في السجن (1703). ولكنه هرب إلى أمستردام(31/109)
حيث أسس كنيسة جانسنية. وإذ أكتسب كتابه التأييد الكثير من الأيكروس العلماني الفرنسي، فقد أقنع لويس البابا كامنت الحادي عشر بأن يصدر مرسوم Unigenitus (8 سبتمبر 1713) الذي أدان 104 قضية نسبت إلى كينيل. وقد استاء كثير من الأحبار الفرنسيين من المرسوم لأنه تدخل بابوي في شئون الكنيسة، واتحدت الجانسنية مع أحياء للحركة الغالية. فلما مات لويس الرابع عشر، كان في فرنسا من الجانسنيين أكثر مما كان فيها في أي عهد مضى (80).
ويصعب علينا اليوم أن نفهم لم انقسمت أمة، وثارت ثائرة ملك، حول مشاكل عويصة تتصل بالنعمة الإلهية، والجبرية، وحرية الإرادة، ولكننا ننسى أن الدين كان له يومها ما للسياسة الآن من أهمية وخطر. وكانت الجانسنية الجهد الأخير الذي بذلته النهضة الأوربية في فرنسا، والانتفاضة الأخيرة للعصور الوسطى. ونحن إذا تأملناها في منظور التاريخ بدت لنا رجعية لا تقدماً. بيد أن تأثيرها في عدة نواحٍ كان تقدمياً. فقد كافحت حيناً في سبيل قسط من الحرية-وإن كنا سنجدها في أيام فولتير أشد تعصباً من البابوية (81). وحدت من شطط الإفتاء الديني. وكانت غيرتها على الأخلاق ثقلاً نافعاً أمام سياسة التراخي في أمور الاعتراف، تلك السياسة التي ربما شاركت في تدهور الأخلاق الفرنسية. كذلك كان تأثيرها التعليمي طيباً، وكانت "المدارس الصغيرة" التي أسستها خير المدارس في زمانها. وظهر تأثيرها الأدبي لا في بسكال وحده بل في كورنبي باعتدال، وفي راسين بحيوية، وهو تلميذ البور-رويال ومؤرخه. أما تأثيرها الفلسفي فكان غير مباشر وغير مقصود، ففكرتها عن الله قاضياً بالعذاب الأبدي على الشطر الأكبر من النوع الإنساني-بما فيهم جميع الأطفال غير المعمدين، وجميع المسلمين وجميع اليهود-لعل هذه الفكرة شاركت في دفع رجال كفولتير وديدرو إلى التمرد على اللاهوت المسيحي بأسره.(31/110)
6 - الملك والهيجونوت
1643 - 1715
لم يكن الملك قد خلص روحه بعد، فقد بقي في فرنسا 1. 500. 000 من البروتستانت. وكان مازاران قد واصل وطور سياسة ريشليو في حماية حرية الهيجونوت الدينية ما داموا مطيعين سياسياً. أما كولبير فقد أدرك قيمتهم في تجارة فرنسا وصناعتها. وفي 1652 أكد لويس مرسوم نانت (1598) الذي أصدره جده الرابع، وفي 1666 أعرب عن تقديره لولاء الهيجونوت خلال حرب الفروند، ولكن كان يحزنه ألا تتحقق وحدة فرنسا الدينية كما تحققت وحدتها السياسية، وحوالي 1670 كتب في مذكراته فقرة تنذر بالسوء:
"أما عن ذلك العدد الكبير من رعاياي الذين يدينون بما يسمونه المذهب الإصلاحي، وهو شر ... أنظر إليه بحزن ... فيخيل إلي أن أولئك الذي أرادوا استعمال ضروب عنيفة من العلاج لم يفطنوا إلى طبيعة هذا الشر، الذي نجم بعضه عن حرارة في العقول، والذي يجب أن يترك ليذوي ويموت دون أن يحس به أحد، بدلاً من أثارته من جديد بمثل هذه المقاومات العنيفة ... وقد آمنت بأن خير سبيل للخفض من عدد الهيجونت في مملكتي تدريجياً هو أولاً عدم الضغط عليهم إطلاقاً بأي قيد صارم جديد، والأمر بمراعاة ما حصلوا عليه من أسلافي دون منحهم أكثر منه، وحتى قصر تنفيذه داخل أضيق الحدود التي تجيزها العدالة واللياقة (28) ".
وفي هذه الفقرة رائحة التعصب المخلص. وهذا رأي ملك مطلق السلطة، أخذ عن بوسويه شعار "ملك واحد، وقانون واحد، وعقيدة واحدة". فلم يعد ذلك التسامح الذي دان به ريشليو الذي كان يعين لمناصب الدولة الرجال الأكفاء أياً كانت عقيدتهم. ويواصل لويس حديثه فيقول إنه لن يعين في هذه المناصب سوى الكاثوليك الصالحين، آملاً بذلك أنه سيشجع المرتدين على الرجوع إلى حظيرة الكاثوليكية.(31/111)
أما الكنيسة نفسها فلم تكون قد وافقت قط على التسامح الذي نقله مرسوم نانت، ففي 1655 طالب مجمع اكليريكي بتفسير أشد صرامة للمرسوم. وفي 1660 طلب مجمعهم إلى الملك أن يغلق جميع الكليات والمستشفيات الهيجونوتية، وأن يحرم الهيجونت من الوظائف العامة، وفي 1670 أوصى المجمع بأن يعتبر الأطفال الذين بلغوا السابعة من عمرهم قادرين قانونياً على إنكار الهرطقة الهيجونوتية، وأن الذين ينكرونها على هذا النحو ينبغي فصلهم عن آبائهم، وفي 1675 طالب المجمع بأن يعلن بطلان الزيجات المختلطة، وأن يعتبر نسل هذه الزيجات غير شرعي (83). وكان رأي بعض رجال الدين الورعين اللطفاء مثل الكاردينال دبيرول أن استخدام الدولة لوسائل المنع بالإكراه هو السبيل العملي الوحيد في التعامل مع البروتستنتية (84)، وألح الحبر تلو الحبر على الملك بهذه الحجة، وهي أن استقرار حكومته يرتكز على النظام الاجتماعي، الذي يرتكز على الفضيلة، التي تنهار إذا لم يدعمها دين الدولة. وشارك العلمانيون الكاثوليك في هذه الحجة، وأبلغ القضاة الحكومة عن صدمات مكدرة للأمن بين المذهبين المتنافسين في المدن-هجمات كاثوليكية على المدارس والجنازات والبيوت البروتستنتية، وأعمال انتقام بروتستنتية من نفس النوع.
وشيئاً فشيئاً أذعن لويس لهذه الحملة مخالفاً في ذلك فطرته الأميل إلى الخير، وإذ كان على الدوام في حاجة للمال ينفقه على الحرب والأناقة، فقد وجد رجال الدين يقدمون له منحاً كبيرة شريطة أن يقبل آراءهم. ودفعته عوامل أخرى في نفس الاتجاه، فلقد كان يشجع-بل يرشو-تشارلز الثاني لكي يحول إنجلترا إلى الكاثوليكية، فكيف يتأنى في الوقت ذاته أن يسمح بالبروتستنتية في فرنسا؟ ألم يوافق البروتستنت في صلح أوجزبورج (1555) وبعده على المبدأ القائل بأن دين الحاكم يجب أن يفرض على رعاياه؟ وألم ينفِ الحكام البروتستنت في ألمانيا وفي الأقاليم المتحدة الأسر التي رفضت ديانة الأمير؟(31/112)
وكان لويس، منذ أن بدأ حكمه الفعلي قد أصدر-أو أصدر وزراؤه بموافقته-سلسلة من المراسيم التي اتجهت إلى إلغاء مرسوم التسامح إلغاءً تاماً. ففي 1661 حرم على البروتستنت العبادة في معظم مقاطعة جكس، قرب الحدود السويسرية، بحجة أن جكس ضمت إلى فرنسا بعد صدور المرسوم، وكان يعيش في هذا الإقليم سبعة عشر ألف بروتستنتي، وأربعمائة كاثوليكي فقط (85). وفي 1664 جعلت الترقية إلى طبقة معلمي الحرف في الطوائف الصناعية عسيرة إلا على الكاثوليك (86)، وفي 1665 سمح للصبيان في الرابعة عشر والبنات في الثانية عشر بقبول اعتناق الكاثوليكية وترك آبائهم، الذين يلزمون عندها بأن يدفعوا لهم راتباً سنوياً لإعالتهم (87). وفي 1666 حظر على الهيجونت إنشاء كليات جديدة، أو الاحتفاظ بمعاهد لتعليم أبناء الأشراف، وفي 1669 تقرر اعتبار هجرة الهيجونوت جريمة يعاقب عليها المهاجر بالاعتقال إذا وقع في قبضة السلطات ومصادرة بضائعه (88). وكان كل من ساعد هيجونوتياً على الهجرة عرضة للحكم بتشغيله في سفن الأسرى مدى الحياة (89). وفي 1677 سمح لويس بوقف "صندوق للمهتدين" تصرف منه مبالغ، متوسطها ستة جنيهات للفرد، لكل هيجونوتي يقبل اعتناق الكاثوليكية. وضماناً لثبات المهتدين على الكاثوليكية أصدر مرسوماً (1679) يقضي بنفي جميع المرتدين ومصادرة أملاكهم (90). ثم قطع هذا السبيل من التحريمات احتجاج ناخب براندنبورج وشكاوى كولبير مما تحدثه هذه القوانين بالتجارة من كساد، واشتغال الملك بحملاته الحربية، ولكن تصالحه في 1681 مع الكاثوليكية، الآمرة بالاقتصار على امرأة واحدة، رده من جديد إلى الحرب المقدسة على الهيجونوت؛ فقال أحد مساعديه إنه يشعر "بالتزام لا مناص منه بهداية جميع رعاياه واستئصال شأفة الهرطقة (91) ". وفي 1682 أصدر خطاباً-وأمر جميع الرعاة البروتستنت بأن يقرءوه على شعبهم-يهدد فيه الهيجونوت "بويلات لا تقاس بما سبقها هولاً وفتكاً (92) ". وخلال السنوات الثلاث(31/113)
التالية أغلقت 570 كنيسة من كنائس الهيجونوت البالغ عددها 815، وهدم الكثير منها، وحين حاول الهيجونوت العبادة على أنقاض كنائسهم المهدمة عوقبوا باعتبارهم عصاة متمردين على الدولة.
وكانت حملات الخيالة Dragonnades قد بدأت خلال هذا، فقد كان من العادات القديمة في فرنسا أن يسكن الجنود في الكومونات أو البيوت وعلى حسابها. واقترح لوفوا وزير الحرب على الملك (11 إبريل 1681) إعفاء معتنقي الكاثوليكية الجدد عامين من هذا الإيواء للجند، فأصدر الملك الأمر، وعلى هذا أمر لوفوا المديرين العسكريين لإقليمي بواتو وليموزان بأن ينزلوا خيالتهم مساكن الهيجونوت، لا سيما الأثرياء منهم. وفي بواتو سمح المرشال مارياك لجنوده بأن يفهموا أنه لم يسوءه أن يعاملوا مضيفيهم البواسل بشيء من الغيرة الرسولية، وراح الجند يسرقون الهيجونوت ويضربونهم ويهتكون أعراضهم، فلما سمع لويس بهذا الشطط وبخ مارياك، ولما استمر طرده من وظيفته (93). وفي 19 مايو أمر بوقف هداية الهيجونوت بطريق إيواء الخيالة، وشجب أعمال العنف التي ارتكبت في بعض الأماكن ضد دعاة الإصلاح البروتستنتي (94). وأبلغ لوفوا المديرين الإقليميين بأن لهم أن يواصلوا حملات الخيالة، ولكنه نبههم إلى ضرورة حجب كل معلومات عن هذا الأمر عن الملك. وانتشرت حملات الخيالة في أرجاء كثيرة من فرنسا، فأدخلت في الكاثوليكية آلافاً من المهتدين. وأنكرت مدن وأقاليم-كمونبيلييه، ونيم، ووبيان-مذهبها الكالفني على بكرة أبيها، وتظاهر أغلب الهيجونوت باعتناق الكاثوليكية بعد أن أرهبهم الأمر، ولكن الألوف هجروا بيوتهم وأملاكهم وهربوا عبر الحدود أو وراء البحر متحدين القوانين. وأبلغ لويس لأنه لم يبق بفرنسا غير قلة قليلة من الهيجونوت، وأن مرسوم نانت أصبح بلا معنى. وفي 1684 التمست الجمعية العامة للاكليروس من الملك إلغاء المرسوم كلية، و"توطيد ملك يسوع المسيح غير منازع من جديد في فرنسا" (95).(31/114)
وفي 17 أكتوبر 1685 ألغى الملك مرسوم ثابت باعتباره مرسوماً لا لزوم له في فرنسا التي تدين كلها بالكثلكة. فحظر منذ ذلك التاريخ على الهيجونوت إقامة شعائرهم أو فتح مدارسهم، وصدر الأمر بهدم كل أمكنة العبادة الهيجونوتية وتحويلها كنائس كاثوليكية، وأمر رجال الدين الهيجونوت بالرحيل عن فرنسا في ظرف أربعة عشر يوماً، ولكن هجرة غيرهم من الهيجونوت حرمت وإلا كان عقاب المهاجرين تشغيلهم في سفن الأسرى مدى الحياة. ووعد المخبرون بنصف بضائع المهاجرين العلمانيين (96). وقضى بأن يعمد جميع الأطفال المولودين في فرنسا بواسطة القساوسة الكاثوليك وأن يربوا على المذهب الكاثوليكي، ووعدت فقرة أخيرة بالسماح للقلة الباقية من الهيجونوت بأن يسكنوا بعض المد آمنين. ونفذت المادة من باريس وضواحيها، وحمى رئيس الشرطة التجار الهيجونوت هناك وطمأنهم، ولم يكن هناك حملات خيالة في باريس أو قربها، وكان في وسع المراقص أن تمضي في فرساي، وفي وسع الملك أن ينام مطمئناً مرتاح الضمير، ولكن حملات الخيالة استمرت في كثير من الأقاليم بتحريض من لوفوا (97)، وتعرض الهيجونوت المعاندون للنهب والتعذيب. يقول الحجة الفرنسي الأكبر في إلغاء مرسوم نانت:
"لقد أذن للجنود أن يقترفوا كل جريمة إلا القتل. فكانوا يكرهون الهيجونوت على الرقص حتى يدركهم الإعياء، ويقذفون بهم في البطاطين إلى أعلى، ويصبون الماء المغلي في حلوقهم ... ، ويضربون أقدامهم، وينتفون لحاهم ... ، ويحرقون أذرع مضيفيهم وسيقانهم بلهيب الشموع ... ، ويكرهونهم بأن يقبضوا على الجمر الملتهب بأيديهم ... ، ويحرقون أرجل الكثيرين بإمساكها طويلاً أمام نار كبيرة ... ويلزمون النساء بأن يقفن عرايا في الطريق يحتمان هزء المارة وإهاناتهم. وقد أوثقوا مرة أماً مرضعاً إلى عمود سرير وأمسكوا برضيعها بعيداً عنها وهو يصرخ في طلب ثديها، فلما فتحت فاها لتتوسل إليهم بصقوا فيه (98) ".(31/115)
ويرى ميشليه أن إرهاب 1685 المقدس هذا كان أشنع كثيراً من إرهاب عصر الثورة في 1793 (99). وقد أكره نحو 4000. 000 من "المهتدين" على حضور القداس وتناول القربان، وحكم على الذين بصقوا قطع القربان المكرسة بعد مغادرتهم الكنيسة بالحرق أحياء (100). وزج بالذكور من الهيجونوت المعاندين في سجون تحت الأرض أو زنزانات غير مدفأة. أما نساء الهيجونوت الممعنات في العناد فقد حبسن في الأديار حيث لقين على غير توقع المعاملة الرحيمة من الراهبات (101).
على أن إقليمين قاوما الإرهاب ببسالة ملحوظة. وسنسمع أنباء الفودوا في الدوفينيه الفرنسية وبيدمونت السافووية في مكان لاحق من هذا الكتاب. وفي أودية سلسلة جبال السيفين في اللانجدوك احتفظ الألوف من الهيجونوت "المهتدين" بإيمانهم سراً، مترقبين الوقت والفرصة للتحرر. وقد أكد لهم "أنبياءهم" الذين ادعوا الوحي الإلهي بأن الوقت قد اقترب، فلما بدا أن حرب الوراثة الأسبانية تستوعب الأسلحة الفرنسية، شكل الفلاحون جماعات متمردة من "الكاميزا Camisars" الذين ارتدوا القمصان البيض ليميز بعضهم بعضاً في الليل. وفي إحدى المعارك قتلوا الأب شيلا الذي كان يضطهدهم بغيرة شديدة، ففاجأهم فوج من الجند وذبحهم دون تمييز، وهدم بيوتهم وخرب محاصيلهم (1702). وردت بقية منهم على هذا الهجوم بضراوة، إلى أن أقنعتهم بالصلح وسائل فيلار النوفيقية.
ومن بين الهيجونوت الذين سكنوا فرنسا في 1660 والبالغ عددهم 1. 500. 000، فرنحو 400. 000 في العقد الذي تخلله إلغاء مرسوم نانت عبر الحدود المخفورة مغامرين بحياتهم. وعاشت مئات قصص البطولة قرناً بأكمله بعد تلك السنين اليائسة. ورحبت الدول البروتستنتية بالمهاجرين فأفسحت جنيف مكاناً لأربعة آلاف من الهيجونوت برغم أن سكانها لم يزيدوا على ستة عشر ألفاً. وقدم تشالز الثاني وجيمس الثاني المعونة المادية(31/116)
للهيجونوت على الرغم من كثلكتهما، وسهلا استيعابهم في الحياة السياسية والاقتصادية الإنجليزية. واستقبلهم ناخب براندنبورج استقبالاً ودياً حتى أن أكثر من خمس سكان برلين في 1697 كانوا فرنسيين وفتحت لهم هولندا أبوابها وبنت مئات البيوت لإيواء الوافدين وأقرضتهم المال ليقيموا مصالحهم وكفلت لهم كل حقوق المواطنة، وانظم الكاثوليك الهولنديون إلى البروتستنت واليهود في جمع المال إعانة الهيجونوت. ولم يكتف اللاجئون الشاكرون بإثراء الصناعة والتجارة في الأقاليم المتحدة، بل إنهم تطوعوا في الجيوش الهولندية والإنجليزية التي خاضت القتال ضد فرنسا، ورافق بعضهم وليم الثالث أو تبعه إلى إنجلترا ليساعدوه على جيمس الثاني. أما المرشال شومبيرج الكلفني الفرنسي الذي أحرز انتصارات للويس الرابع عشر من قبل فقاد جيشاً إنجليزياً ضد الفرنسيين ومات وهو يهزمهم في معركة البوين (1960). وفي كل بلد من هذه البلاد المضيافة جلب الهيجونوت مهاراتهم في الحرف والتجارة والمال، وأفادت أوربا البروتستنتية كلها من انتصار الكاثوليكية في فرنسا. وشغل صناع الحرير الفرنسيون حياً بأكمله من أحياء لندن، وأصبح المنفيون الهيوجونوت في إنجلترا شراح الفكر الإنجليزي ومترجميه لفرنسا، فمهدوا بذلك لغزو بيكون ونيوتن ولوك للعقل الفرنسي.
واستنكرت قلة من الكاثوليك الفرنسيين سراً تلك المذابح التي رافقت إلغاء المرسوم، وأمدوا كثيراً من الضحايا بالمعونة وقدوا لهم الملجأ خفية. ولكن الكثرة العظمى هللت للقضاء على الهيجونت باعتباره قمة إنجازات الملك، وقالوا أن فرنسا أصبحت الآن، في النهاية، بلداً كاثوليكياً موحداً. وأثنى كبار الكتاب أمثال بوسيه وفنيلون ولافونتين ولابروبير، حتى الأب الجانسني آرنو، على شجاعة الملك في تنفيذ ما خالوه إرادة الأمة. وكتبت مدام دسفينييه تقول "ليس هناك أبدع ولا أروع. ولم يصنع(31/117)
ملك ولن يصنع شيئاً أخلد من هذا (102) ". أما لويس نفسه فأسعده أن يكمل-كما خيل إليه-عملاً ثقيلاً ولكنه مقدس. يقول سان سيمون: -
"لقد آمن أنه جدد عهد تبشير الرسل الأولين. وكتب الأساقفة المدائح التي تشيد به، وجعل اليسوعيون المنابر تتغنى بالثناء عليه ... ولم يكن يسمع غير الإطراء بينما كان الكاثوليك والأساقفة الأتقياء الصادقون يئنون بالروح إذ يرون الكاثوليك السنيين ينحرفون إلى الخطأ، والمهرطقين يسلكون مسلك الطغاة الخوارج، والوثنيين يحاربون الحق والمؤمنين المجاهدين بإيمانهم والشهداء. ولم يستطيعوا أن يطيقوا هذا السيل من الحنث وتدنيس المقدسات (103) ".
وكان سان-سيمون وفوبان من الفرنسيين القلائل الذين أدركوا منذ البداية تلك الخسارة الاقتصادية التي ألحقها بفرنسا نزوح هذا العدد الكبير من المواطنين الكادحين. وفقدت كان صناعة نسيجها، وتور ثلاثة أرباع أنوال الحرير فيها. ومن بين الستين مصنعاً للورق في إقليم أنجوموا لم يبقَ سوى ستة عشر، ومن بين 109 متجراً في مدينة ميزيير لم يبق سوى ثمانية، ومن بين أربعمائة مصبغة في تور لم يبق سوى أربع وخمسين (104). واضمحلت ثغور كمرسيليان لفقدها الأسواق في بلاد أصبحت الآن بفضل جهود الهيجونوت وإرشادهم تنتج ما كانت من قبل تستورده من فرنسا. وقضى جزئياً على حركة التعمير الكبرى التي أدخلها كولبير على الاقتصاد الفرنسي، ونزحت الصناعات التي جاهد في سبيل تنميتها في فرنسا لتغذي منافسيها. ولما هبطت إيرادات الدولة من الصناعة هبوطاً حاداً وقعت الحكومة من جديد في أيدي المرابين الذين أنقذها كولبير من براثنهم. وفقدت البحرية الفرنسية تسعة آلاف بحار، والجيش ستمائة ضابط واثني عشر ألف جندي، ولعل نضوب البحرية والجيش على هذا النحو كان من عوامل الهزائم التي أوشكت أن تحطم فرنسا في حرب الوراثة الأسبانية.(31/118)
كذلك شددت همجية الاضطهاد الرهيبة واستغاثات المهاجرين من عزيمة أوربا البروتستنتية على الاتحاد ضد فرنسا.
على أن إلغاء المرسوم ربما كان معيناً غير مباشر للفنون والعادات ولطائف الحياة في فرنسا. ذلك أن الروح الكلفنية المتشككة في الزينة الصور المنحوتة والمرح الطائش ثبط الفن والأناقة والظرف. ولو أن فرنسا أصبحت بيوريتانية لكانت شذوذاً وخطأ. ولكن إلغاء المرسوم كان كارثة على الدين الفرنسي. لقد لاحظ بيكون من قبل أن مشهد الحروب الدينية كان خليقاً بأن يجعل لوكرتيوس-لو رآه-"سبعة أضعاف ما كان أبيقورية" وإلحاداً (105). "فماذا تراه كان قائلاً الآن؟ لم تبق نقطة توقف للعقل الغالي بين الكاثوليكية والإلحاد. وبينما أفادت البروتستنتية في سويسرا وألمانيا وهولندا وإنجلترا في الإعراب عن التمرد على الكنيسة، لم يبق في فرنسا أداة استنكار كهذه. فوجدت حركة الانتقاض على الرومانية أنه أيسر لها أن تكون شكاكة خالصة من أن تكون بروتستانتية سافرة. وانتقلت النهضة الفرنسية، غير المعوقة من البروتستنتية، رأساً إلى حركة التنوير بعد موت الملك.
7 - بوسويه
1627 - 1688
بيد أن الكنيسة الفرنسية كانت ظافرة ولو مؤقتاً، وتربعت على عرش بهائها وسلطانها. وكانت رغم ما شاب روحها الجماعية من تعصب، وما عاب سلطتها من قسوة، تضم أرقى نخبة من الرجال في أوربا تعليماً، وكان قديسوها ينافسون طغاتها. وكان من أساقفتها نفر ذوو نزعة إنسانية، عاكفون في إخلاص على الخير العام كما رأوه. ودخل اثنان منهم الأدب الفرنسي دخولاً شارف في سنائه دخول يسكال، وكان في زمانهما أكثر بروزاً. وقلما تجد بين رجال الكنيسة الفرنسيين من ضارع في سمعته بوسيويه، أو فنيلون في شعبيته.(31/119)
أما جاك بنين بوسويه (واسمه الأوسط B (nigne- أي اللطيف-كان أنسب لفنيلون) فقد ولد في أسرة ثرية لمحام بارز وعضو في برلمان ديجون (1627). نذره أبوه للقسوسية، وجز شعر رأسه في الثامنة، وحين بلغ الثالثة عشرة عين كاهناً في كاتدرائية متز. وفي الخامسة عشرة أرسل إلى كلية نافار بباريس. وفي السادسة عشرة كان قد بلغ من الفصاحة منزلة حملت نساء الأوتيل درامبوبيه المثقفات على إقناعه بأن يلقي عليهن عظة في منتصف سهرة الصالون رغم ما طبع عليه من كبرياء مقترنة بالخجل. وبعد أن تخرج بمرتبة الشرف عاد إلى متز ورسم قسيساً وتقدم بعد قليل لنيل درجة الدكتوراه في اللاهوت. وقد راعه أن يجد أن عشرة آلاف من بين الثلاثين ألف نفس في متز كانوا من البروتستانت الهالكين. ودخل في جدل مهذب مع بول فيري الزعيم الهيجونوتي، وقد سلم له ببعض المفاسد في الممارسات الكاثوليكية، ولكنه زعم أن الانشقاق رغم ذلك شر أعظم. وظل على علاقات ودية مع فيري اثنتي عشر سنة، تماماً كما سنراه في فترة لاحقة يجاهد جهاداً حبياً مع ليبنتز في سبيل إعادة توحيد العالم المسيحي. ولما سمعته آن النمساوية يعظ في متز خيل إليها إنه أرقى من تلك البيئة التي لا تليق بمواهبه، وأقنعت الملك بأن يدعوه إلى باريس، فانتقل إليها في 1659.
ووعظ أول الأمر جماهير بسيطة في دير سان لازار برعاية فانسان دبول. وفي 1660 وعظ جمهوراً عصرياً في كنيسة "لي مينيم" قرب البلاس رويال. وسمعه الملك، فتبين في الخطيب الشاب مزيجاً متوازناً من البلاغة، واستقامة العقيدة، وقوة الخلق. فدعاه لإلقاء عظات الصوم الكبير في 1662 باللوفر، واختلف إلى هذه الخطب في تقوى واضحة، اللهم إلا في ذلك الأحد الذي انطلق فيه على جواده مسرعاً ليسترد لويز دلا فاليير من الدير. وحفز حضور الملك هذه العظات بوسويه على أن ينفي أسلوبه من الجلافات الريفية، والإستشهادات السكولاستية، والحجج الجدلية.(31/120)
ذلك أن أناقة البلاط انتقلت إلى كبار الأكليروس، فأثمرت عهداً من البلاغة المنبرية ينافس البلاغة القانونية التي أشتهر بها ديموستين وشيشرون. وفي أثناء السنوات الثمانية التالية وفق بوسويه في أن يكون الخطيب المفضل في كنائس القصر، ثم أصبح المرشد الروحي لعدد من كبريات النبيلات مثل هنربيتا "مدام" دورليان؛ ومدام دلونجفيل، ومدموازيل دمونباسيه (106) وكان في بعض عظاته يوجه الخطاب إلى الملك مباشرة، مغالياً في تملقه عادة، ولكنه دعاه مرة بحرارة إلى أن يهجر زناه وفجوره ويعود إلى زوجته. ففقد برهة رضاء الملك، ولكنه استرده حين هدى تورين إلى الكاثوليكية. وفي 1667 اختاره لويس ليؤبن آن النمساوية في مأتمها، وبعد عامين ألقى عظة فوق جثمان هنربيتا ماريا ملكة إنجلترا الأرملة، وفي 1670 أضطلع بواجب أليم هو تأبين هنربيتا الصغرى، تائبته المحبوبة التي فاضت روحها بين ذراعيه في فتنة صباها التي لم يكتب لها بقاء طويل.
والمظتان اللتان أبن بهما تشارلز الثاني ملك إنجلترا وأخته هما أشهر العظات قاطبة في الأدب الفرنسي-لأن خطاب البابا أوربان الثاني الذي ما زال يفوقهما شهرة، والذي استنفر فيه أوربا إلى الحرب الصليبية الأولى (1095) -هذا الخطاب كان باللاتينية وإن ألقي على أرض فرنسية. وأستهل بوسويه أول هذين التأبينين بموضوعه الجريء المفضل، وهو أن على الملوك أن يتعلموا من دروس التاريخ، وأن الانتقام الإلهي سوف يحل بهم إن لم يستعملوا سلطتهم لخير الشعب، ولكنه بدلاً من أن يرى في تشارلز الأول ملك إنجلترا مثالاً على هذا العقاب، لم يجد فيه عيباً سوى فرط رأفته، ولم يجد عيباً على الإطلاق في زوجته الوفية، فصور الملكة المتوفاة قديسة جاهدت لتهدي زوجها وإنجلترا إلى الكاثوليكية. ثم أستطرد بإسهاب في موضوع آخر محبب إلى نفسه، وهو تكاثر الملل النحل البروتستنتية التي لا حصر لها، وفوضى الأخلاق المنبعثة من اضطراب العقيدة، وقال: إن "التمرد الكبير" كان عقاباُ إلهياً على مروق إنجلترا(31/121)
من كنيسة روما، ولكن ما كان أروع سلوك الملكة بعد إعدام زوجها علة هذا النحو الإجرامي الرهيب! لقد تقبلت أحزانها كفارة وبركة، وحمدت الله عليها وعاشت أحد عشر عاماً في صلاة متواضعة صابرة، وأخيراً أثيبت على تعبها، فرد إلى عرشه، وكان في وسع الملكة الأم أن تسكن القصور من جديد، ولكنها آثرت عليها دبراً في فرنساً، ولم تستعمل ثروتها الجديدة إلا في الاستكثار من أعمال البر.
وكان أشد من هذه تأثيراً وأوثق قرباً للتاريخ وللذكريات الفرنسية تلك العظة التي ألقاها بوسويه بعد عشرة شهور فوق جثمان هنرييتا آن. وكان قد رسم قبيل ذلك أسقفاً لكوندوم في جنوب غربي فرنسا، ومن أجل هذا الخطاب جاء إلى كنيسة دير سان-دنى في كل بهائه الأسقفي، يتقدمه المنادون، وعلى رأسه تاج الأسقفية، وفي إصبعه تتألق الزمردة الكبيرة التي أهدته إياها الأميرة المتوفاة. وفي مثل هذه العظات كان يحد من انفعال الخطيب تفكيره في الموت في صورة عامة، أما الآن فقد كان الموت موت واحدة كانت حتى الأمس القريب مسرة الملك وبهاء البلاط، وأجهش الحبر الجليل بالبكاء وهو يذكر كيف فوجئ القوم مفاجئة أليمة بهذه اللطمة التي جعلت فرنسا كلها تنوح وتتعجب من طرق الله. ثم وصف هنربيتا لا بموضوعية فاترة، بل بتحيز المحبة-"لقد كانت على الدوام لطيفة مسالمة سمحة خيرة (107) "-واكتفى بالإلماع في إيجاز حكيم إلى أن سعادتها لم تتكافأ مع فضائلها. ثم تجاسر حتى هذا الأسقف الأريب ركن السنية الركين وحارسها الأمين-تجاسر لحظة على أن يسأل الله لم يزدهر كل هذا الشر والظلم على الأرض (108). ثم عزى نفسه وجمهوره بذكرى تقوى هنريتا في احتضارها، وبالأسرار المقدسة التي طهرتها من كل علاقاتها الأرضية، غلا ريب إذن أن روحاً رقيقة مطهرة كروحها تستحق الخلاص، بل إنها لتزين الفردوس نفسه!
وبسبب خطأ نادر في الحكم على الأخلاق عين لويس بوسويه (1670)(31/122)
معلماً للدوفان، متأثراً في ذلك ببلاغته تلك-وعهد إليه بتدريب ذلك الصبي المتخلف، المتبلد الحس، على المعرفة والخلق اللازمين لحكم فرنسا. وأنصرف بوسويه مخلصاً لهذه المهمة. فاستقال من أسقفيته ليكون قريباً من تلميذه القاصر ومن البلاط، وكتب للويس الصغير كتيبات جادة في تاريخ العالم والمنطق والإيمان المسيحي والحكم وواجبات المل، مما كان خليقاً بأن يجعل من الصبي هولة من الكمال والقوة.
وفي إحدى هذه المقالات المسماة "السياسة مستقاة من كلام الأسفار المقدسة" (1679 - 1709) دافع بوسويه عن الملكية المطلقة وحق الملوك الإلهي بغيرة فاقت غيرة الكردينال بيرلارمين في تأييده لسياسة الباباوات. ألم يكتب في العهد القديم أن "الله أعطى لكل شعب حاكمه" (109) وفي العهد الجديد بكل سلطان القديس بولس "إن السلاطين مرتبة من الله (110) "، أجل، ولقد أضاف الرسول قوله "إذن فكل من يقاوم السلطة يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة". واضح إذن أن كل من يقبل الكتاب المقدس كلمة الله يجب أن يكرم الملك باعتباره خليفة لله، أو كما قال أشعيا النبي عن كورش إنه "مسيح الرب (111) ". إذن فشخص الملك مقدس، وسلطة الملك مقدسة ومطلقة، والملك لا يسأل إلا أمام الله. ولكن هذه المسئولية تضع على عاتقه التزامات قاسية. فعليه في كل لفظ وعمل أن يطيع قوانين الله، ومن حسن حظ لويس أن إله التوراة كان عطوفاً على تعدد الزوجات.
كذلك كتب بوسويه للدوفان (1679) كتابه الشهير "حديث عن تاريخ العالم". ذلك أنه حين روعه إلماع ديكارت إلى أن جميع الأحداث في العالم الموضوعي-إذا افترضنا لها دفعة مبدئية من الله-يمكن أن تفسر آلياً بأنها منبعثة من قوانين الطبيعة ودستورها، رد عليه بأن كل حدث كبير في التاريخ إنما هو-على النقيض من ذلك-جزء(31/123)
من خطة إلهية، وعمل من أعمال العناية الإلهية أفضى إلى ذبيحة المسيح ونمو المسيحية لتصبح "مدينة متسعة لله". وتناول الكتاب المقدس ثانية باعتباره موحى من الله، فركز التاريخ كله على سيرة يهود العهد القديم والأمم التي أنارتها المسيحية. "لقد أستخدم الله الآشوريين والبابليين ليعاقب شعبه المختار، والفرس ليردهم إلى وطنهم، والإسكندر ليحميهم، وأنطيوخس ليمتحنهم، والرومان ليصونوا حرية اليهود ضد ملوك سوريا". فإذا بدا لنا من هذا الرأي حماقة، فإن علينا أن نذكر أنه كان أيضاً رأى كتاب التوراة الذين وحد بوسويه بينهم وبين الله في ثقة. ومن ثم فقد بدأ بخلاصة لتاريخ العهد القديم، وقام بهذه المهمة بما عرف عنه من ولع بالنظام والإيجاز وقوة البلاغة. واعتمد ترتيبه الزمني على تقويم أوشير رئيس الأساقفة، فأرخَ الخليقة بسنة 4004 ومر بوسويه مرور الكرام بتلك الأمم التي لم يشر إليها الكتاب المقدس، ولكنه وصفها وصفاً مجملاً ينم على بصيرة وقوة ملحوظتين، وأبدا فهماً عطوفاً للفضائل والإنجازات الوثنية. وقد رأى بعض التقدم خلال مشاكل الإمبراطوريات الصاعدة الساقطة؛ واتخذت فكرة التقدم جسداً ولحماً في كتاباته، وكذلك في كتابات شارل بيرو وغيره من المدافعين المعاصرين عن المحدثين ضد القدامى، ومهدت الطريق من بعيد لطورجو وكوندرسيه. وخلق الكتاب رغم كل عيوبه الفلسفة الحديثة للتاريخ وحسب رجل واحد أن يحقق إنجازاً كهذا.
على أن الأمير تلميذ بوسويه لم يقدر شرف تأليف الكتب العظيمة لتعليمه. فقد كان في روح بوسويه من الجد والصرامة ما لا يجعله المعلم اللطيف المرضي. وكان أنسب لطبيعته أن يرشد في رفق لويز دلافاليير لتهرب من حياة الونا إلى الدير، وقد ألقى العظة حين قطعت على نفسها عهد الرهبنة. وفي ذلك العام (1675) جاهر ثانية بلوم الملك الزير، واستمع إليه لويس في صبر نافذ، ولكنه أعاده لمنصب الأسقفية وعينه أسقفاً على مو (1681)(31/124)
على قرب من فرساي يتيح له أن يتذوق فخامة البلاط وبهائه. وكان طوال ذلك الجيل المتكبر، والشارح والقائد العمدة للأكليروس الفرنسي. وقد وضع لأجلهم "المواد الأربع" التي أكدت من جديد "الحريات الغالية" للكنيسة الفرنسية إزاء السيطرة البابوية. ولقد أفقده عملة هذا قبعة الكردينالية، ولكنه أصبح بابا فرنسا.
ولم يكن بالبابا السيئ. فهو مع إصراره على كرامة الأسقفية ورعاية مراسمها ظل رحيماً لطيفاً، وبسط عباءته فوق ألواناً كثيرة من المعتقد الكاثوليكي. وقد وافق بسكال على إدانة الشطط الذي تورط فيه الإفتاء الديني دون أن يغتفر له السخط والاحتقار اللذين ألهبا رسائله الإقليمية. ففي 1700 أقنع جمعية الأكليروس العامة باستنكار 127 قضية أخذت من فتاوى المفتين اليسوعيين، وقد ظل على علاقات ودية مع آرنو وغيره من الجانسنيين. وذاع عنه أنه كان متسامحاً في كرسي الاعتراف، وأنه أستنكر مظاهر التقشف في العلمانيين، ولكنه أطرى بحرارة نسك رانسيه، وكان يختلف بين الحين والحين إلى خلوة في التراب، ويتمنا أحياناً أن يظفر بسلام صومعة الراهب. ولكن بريق البلاط غلب طموحه للقداسة، ولوث لاهوته بأطماع الارتقاء في مراتب الكنيسة والدولة. وقد توسل مرة إلى رئيسة الدير في مو قائلاً: "صلي لأجلي لكي لا أحب العالم (112) ". وقد أصبح أشد صرامة في أخريات أيامه. وعلينا أن نغتفر له تنديده بالمسرحية وبموليير في كتابه "حقائق عامة عن الملهاة" (1694) لأن موليير لم يعرض الدين إلا في صورته المتزمتة المنافقة، ولم ينصف رجالاً مثل فانسان ديول.
كان بوسويه أشد تعصباً نظرياً منه عملياً. فقد رأى أن من السخف أن يظن أي ذهن فردي مهما عظم ذكاؤه أنه يستطيع أن يكتسب في عمر واحد من المعرفة والحكمة ما يؤهله للجلوس في كرسي القضاء ليحكم على(31/125)
تقاليد ومعتقدات الأسرة والمجتمع والدولة والكنيسة. فالحس المشترك " Sens Commun" أجدر بالثقة من التفكير الفردي، ولا يعني الحس أو الإدراك المشترك فكر الأشخاص العاديين، بل الذكاء الجماعي لأجيال علمتها قرون من الخبرة، الذكاء الذي يتمثل في أعراف النوع الإنساني ومعتقداته. فمنذا الذي يستطيع أن يزعم أنه يعرف خيراً من هؤلاء جميعاً حاجات النفس البشرية والإجابات عن الأسئلة التي لا تستطيع المعرفة وحدها أن تجيب عنها؟ ويترتب على هذا أن الذهن البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه السلام، والتفكير الحر لا يستطيع إلا أن يدمر ذلك السلام، والمجتمع البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه الأخلاق، ولكن التفكير الحر بتشككه في المصدر الإلهي للقانون الخلقي إنما يهدم النظام الأخلاقي برمته. فالهرطقة إذن خيانة للمجتمع والدولة كما أنها خيانة للكنيسة، و"الذين يؤمنون بأن الملك ينبغي ألا يستعمل القوة في أمور الدين ... يرتكبون خطأ مجانباً للتقوى (113) " ولقد آثر الأسقف الإقناع على الإكراه في هداية المهرطقين، ولكنه دافع عن الإكراه باعتباره الملاذ الأخير، ورحب بإلغاء مرسوم نانت لأنه "المرسوم الورع الذي سيكيل للهرطقة الضربة القاضية، ونفذ القانون في إقليمه بكثير من التسامح، حتى لقد كتب الناظر الملكي يقول "ليس في الإمكان عمل شيء في أسقفية مو، لأن ضعف الأسقف يقف عقبة في سبيل هداية الهيجونوت (114) ". وقد ثبت معظم الهيجونوت في تلك المنطقة على مذهبهم.
وكان إلى النهاية يعلل نفسه بأن الحجة قادرة أن تكسب حتى هولندا وألمانيا وإنجلترا وتردها للإيمان القديم. وسنراه يفاوض لايبنتز سنوات عديدة على خطة الفيلسوف التي اقترحها لإعادة توحيد القطاعات المنشقة من المسيحية. وفي 1688 كتب رائعته "تاريخ ملل الكنائس البروتستنتية"-وهو الذي قال "بكل" إنه "ربما كان أخطر كتاب وجه ضد البروتستنتية (115). وقد تميزت مجلداته الأربعة بالدراسة الشاقة، وكانت كل صفحة فيها تدعم بالمراجع، وهو لون من الأمانة كان بدأ يتجسد.(31/126)
وبذل الأسقف في كتابه محاولة ليكون منصفاً. فسلم بمفاسد الكنيسة التي تمرد عليها لوثر، ورأى الكثير مما يستحق الإعجاب في خلق لوثر، ولكنه لم يستطع أن يسيغ الفظاظة المبتهجة التي اختاطت في لوثر بالبسالة الوطنية والتقوى الرجولية. ثم صور ملانكتون بصورة تكاد تكون صورة الحب. غير أنه كان يأمل في تفكيك ولا أتباع هؤلاء المصلحين لهم بإظهار مواطن ضعفهم الشخصي وخلافاتهم اللاهوتية وقد هزأ بالفكرة التي زعمت أن لكل إنسان الحرية في تفسير الكتاب المقدس لنفسه وتأسيس دين جديد على قراءة جديدة له، فكل من خبر الطبيعة البشرية يستطيع أن يتنبأ بأنه لو ترك لهؤلاء الحبل على الغارب لأسفر هذا عن تفتيت المسيحية إلى متاهة من الملل والنحل، وتفتيت الأخلاق إلى فردية لا تستطيع أن يكبح جماح غرائز الغاب فيها سوى الاستكثار من الشرطة استكثاراً لانهاية له. فمن لوثر إلى كلفن إلى سوكينوس-من رفض البابوية، إلى رفض سر القربان إلى رفض المسيح-ثم من التوحيد (رفض التثليث) إلى الإلحاد، تلك هي الدرجات الهابطة شيئاً فشيئاً إلى انحلال الإيمان. ومن الثورة الدينية إلى الثورة الاجتماعية، ومن رسائل لوثر إلى حرب الفلاحين، ومن كلفن إلى كرمويل "المسوين" إلى قتل الملك؛ تلك درجات منزلقة فتحلل النظام الاجتماعي والسلام. ولا يستطيع سوى دين ذي سلطان أن يعطي الوازع للأخلاق، ويمنح الاستقرار للدولة، ويسلح الروح البشرية بالقوة التي تواجه الحيرة وفقد الأحباء والموت.
لقد كان الكتاب حجة قوية، شديدة التأثير بما حوت من ثقافة وبلاغة، محتوية على صفحات لا ضريب لها في نثر ذلك العصر الفرنسي إلا في جدليات بسكال العنيفة و"خواطره" ولولا أن التجاءه للعقل قد أحبطه التجاءه للقوة في فظاعات إلغاء المرسوم نجاحاً أعظم. فقد ظهرت في الدول البروتستنتية عشرات الردود المفندة لحجج الكتاب تشجب بقوة ذلك(31/127)
التظاهر بالاحتكام إلى العقل في رجل حبذ النهب والسلب والنفي والمصادرة والاسترقاق في سفن تشغيل الأسرى للدفاع عن المسيحية الكاثوليكية. وتساءل أصحاب الردود ألم يكن هناك ملل مختلفة في الكاثوليكية أيضاً؟ وأي قرن خلا من الانقسامات في الكنيسة-من الكاثوليك الرومان، والكاثوليك اليونان، والكاثوليك الأرمن، والكاثوليك الشرقيين؟ وألم يكن جانسنيو البور-رويال في تلك اللحظة يقتتلون مع إخوانهم من الكاثوليك أعضاء جماعة يسوع؟ وألم يكن الأكليروس الغالي بزعامة بوسويه نفسه في نزاع مر مع دعاة سلطان البابوية المطلق كاد يبلغ حد الانشقاق على روما؟ ألم يكن بوسويه يقاتل فنيلون؟
8 - فنيلون
1651 - 1715
كان فرانسوا دسالنيك دلا موت-فنيلون، النبيل المولد، الثلاثي الاسم، كبوسويه سنياً طموحاً، أسقفاً ورجل بلاط، ومعلماً لأمير من البيت المالك، وكتاباً من فحول النثر. ولكنه في غير ذلك كان بينه وبين بوسويه ما بين السماء والأرض من تباين. كتب سان-سيمون معرباً عن إعجابه بالرجل يقول:
"رجل فارع القوام نحيل الجسد قوي البنية شاحب الوجه كبير الأنف له عينان تقدحان الشرر والذكاء. في سحنته ما يوحي بأنها تتألف من متناقضات، ومع ذلك فإن هذه المتناقضات على نحو ما لا تؤدي الناظر. فوجهه أنيق وقور، رزين مرح، يطالعك منه اللاهوتي والأسقف والنبيل على السواء، وفي هيئته كما في شخصه يرى الناظر قبل كل شيء رقة وتواضعاً وقدراً فائقاً من رفعة الذهن. لقد كان عسيراً على الناظر إليه أن يحول عينيه عن وجهه (116) ".
وعند مييشليه أن "فيه شيئاً من الشيخوخة منذ ولادته (117) "-(31/128)
لأنه كان ثمرة الازدهار الأخير لإقطاعي مكتهل في بيريجوز تزوج آنسة نبيلة رغم فقرها. ضارباً صفحاً عن تذمر أبنائه الكبار، وأقصى الابن الجديد عن المال بنذره للكنيسة. وربته أمه، فشب على أناقة في الحديث ورهافة في الحس أشبه بأناقة حديث النساء ورهافة حسنهن. وقد أحسن تثقيفه في الآداب القديمة على يد معلم خاص ويسوعي باريس، فأصبح أديباً لا قسيساً فحسب. وكان في استطاعته أن يباري أي مهرطق في الاستشهاد بأقوال الوثنيين، ويكتب الفرنسية بأسلوب حساس مرهف مهذب هو نقيض أسلوب بوسويه الخطابي، والفحل، الجزل.
رسم كاهناً في الرابعة والعشرين (1675)، وسرعان ما رقي رئيساً لدير "الكاثوليك الجدد". وهنا أضطلع بمهمة شاقة هي رد الشابات اللاتي أبعدن عن البروتستنتية حديثاً إلى حظيرة الإيمان الكاثوليكي. وقد استمعن إليه أول الأمر على مضض، ثم في استسلام، ثم في محبة، لأنه كان يسيراً على المرء أن يقع في غرام فنيلون، ثم أنه الرجل الوحيد المتاح لهن. وفي 1686 أرسل إلى إقليم لاروشل ليعاون على هداية الهيجونوت. وقد حبذ مرسوم الإلغاء، ولكنه استنكر العنف، وأنذر وزراء الملك بأن هداية الناس بالإكراه لن تكون إلا سطحية ومؤقتة. ولما عاد إلى الدير بباريس نشر (1687) "رسالة في تعليم البنات" تكاد تستشف فيها روح روسو في دفاعها عن الوسائل اللينة في التربية. ولما عين الملك الدوق دبوفيلييه مربياً لحفيده دوق برجنديه، البالغ من العمر ثمانية أعوام، طلب إلى فنيلون أن يتولى تعليم الصبي (1689).
أما الدوق الصغير فكان متكبراً عنيداً مشبوب العاطفة، في طبعه أحياناً شراسة وقسوة، ولكنه أوتي ذهناً متألقاً وذكاء متوقداً. وأحس فنيلون أن الدين وحده هو الكفيل بترويضه، فأشربه مخافة الله ومحبته معاً، واكتسب في الوقت نفسه احترام تلميذه بأخذه بنظام حازم خفف(31/129)
من شدته فهم عطوف لدور المراهقة. وقد راودته الأحلام بإصلاح فرنسا عن طريق تربية ملكها المستقبل. فعلم الغلام سخافة الحرب، وضرورة النهوض بالزراعة بدلاً من تثبيط همم الفلاحين بالضرائب تجبى لبناء المدن الباذخة ولتمويل الحروب العدوانية. وفي كتابه "حوارات الموتى" الذي ألفه لتلميذه، وسم بالهمجية "تلك الحكومة التي لا قوانين فيها غير إرادة رجل واحد ... فالحاكم ينبغي أولاً وقبل كل شيء أن يكون مطيعاً للقانون، فإذا ابتعد عن القانون لم يعد لشخصه قيمة". وكل الحروب حروب أهلية، لأن الناس جميعاً أخوة، يدين كل منهم للنوع الإنساني-وهو الدولة الكبرى-بدين أعظم كثيراً من دينه للبلد الذي ول فيه (118) ". أما الملك، الذي لم يكن ضالعاً في هذا التعليم الذي لا تفهمه غير القلة، والذي رأى تحسناً عجيباً في خلق حفيده، فقد كافأ فنيلون برئاسة أسقفية كامبريه (1695). وأخجل فنيلون أحباراً كثيرين بإقامته تسعة أشهر من كل عام في مقر رئاسته الدينية. أما الشهور الباقية فكان ينفقها في البلاط تواقاً للتأثير في السياسة، مواصلاً أحياناً تعليم الدوق.
وخلال ذلك كان قد التقى بالمرأة التي قدر لها أن تكون "المرأة القاضية عليه" بمعنى الكلمة. هذه المرأة، واسمها مدام جان ماري دلاموت-جويون، التي تزوجت في السادسة عشرة، وترملت في الثامنة والعشرين وهي جميلة غنية، تهافت الخطاب على طلب يدها، ولكنها كانت قد تلقت تدريباً دينياً مكثفاً ليحصنها ضد الرجال الطامعين، ولم تجد لتقواها منصرفاً كافياً في المراعاة الصورية لشعائر العبادة الكاثوليكية، فاستمعت في تجاوب لمتصوفة زمانها الذين وعدوا بسلام النفس-لا بالاعتراف والتناول والقداس بقدر ما هو بالاستغراق في تأمل إله كلي الوجود، وفي استسلام النفس لله استسلاماً كاملاً محباً. في مثل المحبة الإلهية لم يعد لأمور الدنيا وزن، وفي مثل هذا التسامي الروحي يجوز للمرء أن يهمل كل الطقوس(31/130)
الدينية ومع ذلك يرقى إلى السماء، لا بعد الموت فحسب بل في الحياة أيضاً. وكانت محكمة التفتيش قد أدانت القس الأسباني ميجويل دي مولينوس (1687) لأنه بشر بـ"هدوئية" كهذه في إيطاليا، ولكن الحركة كانت تنتشر في جميع أرجاء أوربا-في "تقوية" ألمانيا والأراضي المنخفضة، وبين الكويكرز وأفلاطوني كمبردج بإنجلترا، وبين "المنذورين" في فرنسا.
وقد بسطت مدام جويون آراءها في عدة كتب ببلاغة مؤثرة. فزعمت أن النفوس أشبه بالسيول التي انبثقت من عند الله وأنها لن تجد الراحة حتى تفني نفسها فيه تعالى كأنها الأنهار يبتلعها البحر، فإذا الفردية تتلاشى، وإذا الوعي بالذات أو بالعالم، بل الوعي كله، ينتهي ولا يبقى غير الاندماج في الله. في مثل هذه الحال تكون النفس معصومة، لا ينال منها خير ولا شر، ولا فضيلة ولا خطيئة. فمهما فعلت ففعلها صواب، ولا تستطيع قوة أن تؤذيها. وقالت مدام جويون لبوسويه "أنها لا تستطيع أن تطلب المغفرة على ذنوبها، لأنه لا ذنوب في عالم الوجد الصوفي الذي تعيش فيه (119) ". ورأت بعض نساء الطبقة الأرستقراطية في هذه الصوفية لوناً رفيعاً من التقوى. وكان من بين مريدتها السيدات بوفيلييه، وشوفروز، وبورتمار، بل-إلى حد ما-مدام دمانتنون. واستهوى فنيلون نفسه هذا المزيج الساحر من التقوى والثراء والحسن. وكان خلقه هو ذاته مزيجاً معقداً من الصوفية والطموح والعاطفة الرقيقة. فأقنع مدام دمانتنون بأن تسمح لمدام جويون بالتدريس في المدرسة التي أسستها زوجة الملك السرية في سان سير، وطلبت مانتنون إلى الكاهن اعترافها أن ينصحها في أمر مدام جوريون، فاستشار بوسويه، ودعا بوسويه المتصوفة لتشرح له تعاليمها، ففعلت. وتوجس الأسقف الحذر فيها خطراً يتهدد لاهوت الكنيسة وممارساتها، لأنها لم تستغن عن الأسرار المقدسة والكاهن(31/131)
فحسب، بل عن الأناجيل والمسيح أيضاً، فوبخها، وناولها القربان، وطلب إليها أن ترحل عن باريس وتكف عن التعاليم. فوافقت أول الأمر، ولكنها عدلت بع ذلك. واستطاع بوسويه أن يحمل السلطات على حبسها في دير ثمانية أعوام (1695 - 1703) أفرج عنها بعدها شريطة أن تعيش في هدوء على ضيعة ابنها قرب بلوا، وهناك ماتت عام 1717.
وأراد بوسويه أن يرسم الحدود للتصوف المباح، فألف كتاباً سماه "تعليم عن حالات الصلاة" (1696) وأطلع فنيلون على نسخة من المخطوطة وطلب إليه أن يوافق عليها. وتردد فنيلون، وكتب كتاباً معارضاً سماه "تفسير أقوال القديسين المأثورة عن الحياة الباطنة" (1697). وأصبح الكتابان اللذان نشرا في وقت واحد تقريباً مثار نقاش واسع، احتدم احتدام النقاش حول البور-رويال. أما الملك الذي كان يضع ثقته في بوسويه فقد عزل فنيلون من وظيفة معلماً لدوق برجنديه، وأمره بأن يلزم أسقفيته في كامبري. وطلب وليس إلى البابا بتحريض من بوسويه أن يشجب كتاب فنيلون. ولكن إنوسنت الثاني عشر تردد، فهو لم ينس نزعة بوسويه الغالية، ودفاع فنيلون عن سلطة البابا المطلقة. وضغط لويس على البابا، فأذعن، ولكنه توخى غاية الاعتدال في إدانته لكتاب " الأقوال المأثورة" (مارس 1699). وأذعن فنيلون للحكم في هدوء.
ثم راح يؤدي واجباته في كامبري بإخلاص وضمير أكسباه احترام فرنسا، ولعلهما كانا خليقين باسترضاء بوسويه والملك لولا أن طابعاً نشر (إبريل 1699) برضى فنيلون رواية كان ألفها لتلميذه الأمير ووضع لها عنواناً بريئاً في ظاهرة "تتمة لأوديسة هوميروس" وهي معروفة لنا باسم (مغامرات تيليماك بن أوليس). هنا، وفي أسلوب يفيض رشاقة ونعومة ورقة أنثوية تقريباً، شرح المعلم مرة أخرى فلسفته السياسية المثالية. فترى لسان حاله (منتور) يحذر الملوك بعد أن أقنعهم بسياسة السلام قائلاً:(31/132)
"منذ الآن تكونون كلكم شعباً واحداً تحت أسماء شتى ورؤساء مختلفين ... فما النوع الإنساني كله غير أسرة واحدة ... وكل الشعوب أخوة ... وما أتعس القوم الفجار الذين ينشدون المجد القاسي في دماء إخوانهم المسفوكة ... إن الحرب ضرورية أحياناً، ولكنها معرة الإنسانية. فلا تزعموا لي أيها الملوك إن على المرء أن يبتغي الحرب إن أراد المجد ... فكل من يؤثر مجده على مشاعر الإنسانية ليس إنساناً بل هو وحش تملؤه الكبرياء، ولن يكسب غير المجد الزائف، لأن المجد الحقيقي لا يكون إلا في الاعتدال والصلاح ... ويجب ألا يرى الناس فيه رأياً طيباً، لأنه لم يقم لهم وزناً في فكره، وأراق دماءهم في سفه ليرضي غروراً وحشياً (120) ".
وقد سلم فنيلون بحق الملوك الإلهي، ولكن بوصفه قوة منحتهم إياها العناية الإلهية ليسعدوا الناس، وحقاً تحده القوانين:
"إن السلطة المطلقة تهوي بالرعية جميعاً إلى درك العبودية. فهم يتملقون الطاغية إلى حد العبادة. وكلهم يرتعدون فرقاً لنظرة منه، ولكن ما إن تهب أضعف نسمة من نسمات التمرد عليه حتى ينهار هذا السلطان القبيح نتيجة شططه. ذلك أنه لم يستمد أي قوة من محبة الشعب (121) ".
في هذه الأسطر رأى لويس الرابع عش نفسه موصوفاً، وحروبه مدانة. وبادر أصدقاء فنيلون بالاختفاء من البلاط، وقبض على طابع "تيليماك"، وأبلغت الشرطة بمصادرة جميع نسخه. ولكنه طبعه ثانية في هولندا، وسرعان ما تداولته الأيدي في جميع أرجاء العالم القارئ للفرنسية، وظل أوسع الكتب الفرنسية قراءة وأحبها إلى القراء طوال قرن من الزمان (122) وأكد فنيلون أن لويس لم يكن في ذهنه في هذه الفقرات الناقدة، ولكن أحداً لم يصدقه. وانقضت سنتان قبل أن يجرؤ دوق برجنديا على الكتابة لمعلمه الأسبق. ثم لانت قناة الملك، وسمح له بأن يزور فنيلون في كامبري.(31/133)
وعاش رئيس الأساقفة يعلل نفسه بأن تلميذه سيرث العرش عما قليل، وعنها يدعوه ليكون وزيره كما كان ريشليو وزيراً للويس الثالث عشر. ولكن الحفيد مات قبل أن يموت الجد بثلاث سنين، ثم سبق فنيلون نفسه لويس إلى القبر بتسعة أشهر (7 يناير 1715).
أما بوسويه فكان قد سبقهما بزمان. لقد كان تعساً في أخريات أيامه، حقاً إنه انتصر على فنيلون، وعلى دعاة السلطة البابوية المطلقة، وعلى المتصوفة، ورأى الكنيسة منتصرة على الهيجونوت، ولكن هذه الانتصارات كلها لم تيسر له قذف الحصى من مثانته. وقد برح به الألم تبريحاً جعل من العسير عليه أن يحتمل الجلوس في المكان الذي أولع بالجلوس فيه في احتفالات البلاط، وتساءل الساخرون القساة، لم لا يستطيع أن يذهب إلى مو ويموت في هدوء. وقد رأى من حوله ظهور الإرتيابية، ونقد الكتاب الكمقدس، والجدليات الروتستنتية العنيفة التي صوبت في غير تقوى إلى رأسه. فها هو على سبيل المثال ذلك الهيجونوتي المنفي جوريو يخبر العالم بأنه هو، بوسويه، أسقف الأساقفة، والصورة المجسمة للفضيلة والاستقامة، كذاب أشر يعاشر المحظيات (122). وقد بدأ تأليف كتب جديدة للرد على هؤلاء الخصوم السفهاء، ولكن الحياة كانت تنحسر عنه وهو يكتب، وفي 12 إبريل 1704 وضع الموت حداً لآلامه.
ويبدوا لأول وهلة أن بوسويه يعين أوج الكاثوليكية في فرنسا الحديثة. فقد لاح أن المذهب القديم قد استرد كل الأرض التي استولى عليها لوثر وكالفن. وكان الرجال الأكليروس يصلحون من أخلاقهم، وراسين يخصص مسرحياته الأخيرة للدين. وكان بسكال قد أدار دوائر الإرتيابية على المرتابين، والدولة جعلت نفسها وكيلاً مطيعاً للكنيسة، والملك أوشك أن يكون يسوعياً.
ومع ذلك لم يكن الموقف بالغ الكمال. فاليسوعيون لم ينقشع من(31/134)
فوق رءوسهم بعد ذلك الغبار الذي أثارته عليهم رسائل بسكال الإقليمية، والجانسنية مازالت بخير، واللاجئون الهيجونوت يؤلبون نصف أوربا على الملك الورع، والناس يقرؤون مونتيني أكثر مما يقرؤون بسكال، وهويز وسبينوزا وبيل يكيلون اللطمات الهائلة لصرح الإيمان. يقول القديس فانسان دبول (1648)، "يشكو عدة رعاة من أن عدد من يتناولون القربان قد تقلص، ففي سان-سولبيس نقص العدد 3000، ووجد راعي سان-نيكولا-دو-شاردونيه أن 1. 500 من رعايا أبرشيته تخلفوا عن قربان القيامة (124) ". وقال بيل في 1686 "إن العصر الذي نعيش فيه يحفل بأحرار الفكر والربوبيين، ويدهش الناس لكثرة عددهم (125) " "ويسود عدم المبالاة الرهيب بالدين في كل مكان (126) " وقد عزا هذا إلى حروب العالم المسيحي وجدلياته. وقال نيكولا: "ليكن معلوماً أن الهرطقة الكبرى في العالم ليست الكالفنية ولا اللوثرية، بل الإلحاد (127) ". وقالت الأميرة بالاتين في 1699 "قل أن يجد المرء الآن شاباً لا يشتهي أن يكون ملحداً (128) " وروى لايبنتز أن في باريس (1703) "تفشت بدعة من يسمونهم العقول القوية، ويسخر الناس هناك من التقوى ... وتحت حكم ملك تقي صارم مطلق السلطة، تجاوزت فوضى الدين كل الحدود التي شهدناها من قبل في العالم المسيحي (129) ". وبين ذوي العقول القوية-وهي قوية إلى درجة تكفي للتشكك في كل شيء تقريباً-نجد سان إفريمون، ونينون دلانكاو، ورنييه ملخص فلسفة جاسندي، ودوقي نيفير وبوبون. وأصبح "التآميل" الذي كان يوماً مقراً لفرسان المعبد (الداوية) في باريس، مركزاً لجماعة صغيرة من أحرار الفكر-شولييه وسيرفيان، ولافاز، الخ-الذين أسلموا تهكمهم بالدين إلى عهد الوصاية. أما فونتنيل، الذي قارب المائة وتحدى الفناء وأفسح له في الأجل حتى تبادل النكت مع الموسوعيين، فكان في 1687 ينشر كتابه (تاريخ النبؤات) ويقوض في خبث أساس المسيحية المعجز. وهكذا مهد لويس في نشوة تقواه وورعه الطريق لفولتير.(31/135)
الفصل الثالِث
الملك والفنون
1643 - 1715
1 - تنظيم الفنون
لم يشهد التاريخ من قبل ولا من بعد، ربما باستثناء عهد بركليس، حكومة شجعت الفن، أو غذته، أو هيمنت عليه، كما فعلت حكومة لويس الرابع عشر.
كان ذوق ريشليو الرفيع ومشترياته المختارة بحكمة قد أعانت الفن الفرنسي على أن يفيق من الحروب الدينية. وفي عهد وصاية آن النمساوية كان جماعوا التحف الأهليون-من الأشراف ورجال المال-قد بدأوا يتنافسون في جمع أثار الفن. فاقتنى ببير كروزا المصرفي مائة صورة بريشة تيشان. ومائة أخرى بريشة فيرنوزي، ومائتين بريشة روبنز، وأكثر من مائة فانديك. أما فوكيه فقد جمع قصر فو كما رأينا صوراً وتماثيل، وتحفاً فنية أقل شأناً، وكان في جمعه من التمييز أكثر مما كان فيه من الحكمة والحذر. وورث لويس مقتنياته بعد أن أجهز عليه، وما لبث العديد من المجموعات الخاصة الأخرى أن جمع في اللوفر أو فرساي. وكان مازاران قد آثر وضع شطر من ثروته في الفن دون النقود تجنباً لهبوط قيمة العملة. وقد أسهم ذوقه الإيطالي الرفيع في تكوين انحياز الملك إلى الفن الكلاسيكي. وأغلب الظن أنه هو الذي علم لويس الرابع عشر أن مما يعزز مجد الحاكم أن يجمع الفن ويعرضه ويحتضنه. وقد هيأت هذه المجموعات المثل الحافزة والقواعد الموطدة لتعليم الفن وتطويره في فرنسا.(31/136)
وكانت الخطوة التالية هي تنظيم الفنانين. وهنا أيضاً كان مازاران سباقاً. ففي 1648 أسس أكاديمية التصوير والنحت، وفي 1655 أصدر الملك مرسوماً بهذه الأكاديمية فأصبحت الأولى في سلسلة من الأكاديميات التي قصد بها تدريب الفنانين وتوجيههم إلى خدمة الدولة وتجميلها. والتقط كولبير الخيط حيث تركه مازاران، وبلغ بهذه المركزية للفن الفرنسي القمة. وكان يتطلع إلى "جعل الفنون تزدهر في فرنسا أكثر من ازدهارها في أي بلد آخر (1) " رغم أنه لم يدع لنفسه ملكة الحكم في أمور الفن. وبدأ بأن اشترى للملك مصنع جوبلان للنسيج المرسوم (1662) وفي 1664 حصل على منصف المشرف على العمائر، فأتاح له هذا المنصب هيمنة على المعمار والفنون الملحقة به. وفي ذلك العام أعاد تنظيم أكاديمية التصوير والنحت، وسماها الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة. وكان هنري الرابع قد أسكن اللوفر طائفة من مهرة الصناع بيزينوا القصور الملكية. فجعل كولبير من هؤلاء الرجال نواة للمصنع الملكي لأثاث التاج (1667). وفي 1671 أنشأ الأكاديمية الملكية للعمارة، حيث أغرى الفنانون بالبناء والزخرفة بـ"الذوق الرفيع" الذي يحبذه الملك. وفي هذه الجماعات كلها وضع مهرة الصناع تحت إشراف الفنانين، وهؤلاء تحت إرشاد سياسة وطراز موحدين.
ورغبة في دعم الاتجاه الكلاسيكي الذي تلقاه الفن الفرنسي إبان عهد فرنسوا الأول، وتنقيته من التأثيرات الفلمنكية، أنشأ كولبير وشارل لبرون أكاديمية فرنسا الملكية في روما (1666). وكان الطلاب الحائزون على جائزة روما في أكاديمية باريس يبعثون إلى إيطاليا ويعالون خمس سنين على حساب الحكومة الفرنسية. وفرض عليهم أن يستيقظوا في الخامسة صباحاً ويمضوا إلى الفراش في العاشرة مساءاً. وقد دربوا على نسخ النماذج الكلاسيكية ونماذج النهضة ومحاكاتها، وكان ينتظر من كل من هم أن ينتج "رائعة" (بالمعنى المصطلح عليه في نظام الطوائف) مرة كل ثلاثة أشهر، فإذا عادوا إلى فرنسا كان للدولة الحق المقدم في خدماتهم.(31/137)
وكانت ثمرة هذه الرعاية والتأمين للفن إنتاجاً رائعاً ضخماً للقصور، والكنائس، والتماثيل، والصور، وقطع النسيج المرسوم، والخزف، والمداليات، والمحفورات، والنقود، وكلها مطبوع بكبرياء "الملك الشمس" وذوقه، وبقسمات وجهه أحياناً كثيرة. ولم يكن هذا إخضاع الفن الفرنسي لروما كما شكا البعض، بل إخضاع فن روما للويس الرابع عشر. وقد استهدف الأسلوب أن يكون كلاسيكياً، لأن ذلك الأسلوب يتفق وعظمة الدول وجلال الملوك. وتدفقت الأموال الفرنسية إلى إيطاليا بأمر كولبير لشراء آثار الفن الكلاسيكي أو فن النهضة، وبذل كل شيء لنقل مجد الأباطرة الرومان إلى ملك فرنسا وعاصمتها، وكانت النتيجة مذهلة للعالم.
وأصبح لويس الرابع عشر أعظم رعاة الفن الذين عرفهم التاريخ. فقد "بذل للفنون من التشجيع قدراً أعظم من جميع نظرائه من الملوك مجتمعين" (في رأي فولتير) (2). وكان بالطبع أسخى جماعي الفنون، فزاد عدد الصور في قاعاته من مائتين إلى ألفين وخمسمائة، وكان كثير منها من إنتاج فنانين فرنسيين كلفهم الملك برسمها. واشترى الكثير جداً من المنحوتات الكلاسيكية وتماثيل عصر النهضة، حتى لقد خشيت إيطاليا أن تنزح آثارها الفنية، وحظر البابا المزيد من تصدير هذه الآثار. واستخدم لويس رجالاً موهوبين مثل جيراردون أو كوازيفوكس لنقل نسخ من التماثيل التي لم يستطع شراءها، وقل أن نافست نسخ أصولها كما نافستها هذه النسخ. وملئت قصور باريس وفرساي ومارلي وحدائقها وبساتينها بالتماثيل، وكان أوثق سبيل إلأى قلب الملك إهداؤه أثراً ذا جمال غير منازع أو شهرة راسخة. مثال ذلك أن مدينة آرل أهدته تمثالها الشهير "فينوس" في 1683. ولم يكن لويس بالرجل الشحيح. وقد قدر فولتير أنه كان يشتري في كل عام من آثار الفنانين الفرنسيين ما قيمته 800. 000 جنيه ويهديها للمدن والمؤسسات والأصدقاء (3) بهدف مساعدة الفنانين وبث ملكة الجمال والإحساس الفني في الوقت نفسه. وكان ذوق الملك سليماً أسدى إلى الفن(31/138)
الفرنسي أيادي بيضاء، ولكنه كان كلاسيكياً إلى حد ضيق. فحين أروه بعض الصور التي رسمها تنييه الابن قال آمراً "ابعدوا عني هذه الأشياء البشعة" (4) وقد ارتقى الفنانون بفضل رعايته كثيراً، سواء في أرباحهم أو مكانتهم الاجتماعية. وقد ضرب المثل بتكريمه إياهم شخصياً، وحين شكا البعض من ألقاب الشرف التي خلعها على المصور لبرون والمعماري جول-آردوان-مانسار أجاب في شيء من الحدة "في وسعي أن أصنع عشرين دوقاً أو نبيلاً في ربع ساعة، ولكن صنع فنان كمانسار يقتضي قروناً" (5). وبلغ راتب مانسار 80. 000 جنيه في العام، أما لبرون فكان يتقلب في نعيم قصوره بباريس وفرساي ومونمورنسي. وتقاضى لاجلبير وريجو ستمائة جنيه أجراً عن كل لوحة. "ولم يترك فنان كفء في عوز" (6).
وقلدت الأقاليم العاصمة في تكريم الفن وإثابته، واقتدى النبلاء بمليكهم. فطورت المد ن مدارس فنية خاصة بها-في روان، وبوفيه، وبلوا، وأورليان، وتور، وليون، وإكس-أن-بروفانس، وتو لوز، وبوردو وواصل النبلاء دورهم رعاة للفن وإن تقلص لأن الدولة استوعبت المواهب المتاحة، وأسهم الذوق المدرب الذي نشئت عليه أرقى أرستقراطية في أوربا في توطيد الطراز الرفيع الذي اتسمت به منتجات الفن في عهد لويس الرابع عشر. واكتسب الرجال والنساء الذين ولدوا في نعيم الامتيازات والثراء وشبوا على العادات المهذبة وسط محيط جميل وأشياء بديعة-نقول إنهم اكتسبوا معايير وأذواقاً ممن يكبرونهم سناً كما اكتسبوها من بيئتهم، وكان على الفنانين أن يلبوا مطالب تلك المعايير ويشبعوا تلك الأذواق. ولما كان الاعتدال، وضبط النفس، والتعبير الأنيق، والحركة الرشيقة، والشكل المصقول، لما كانت هذه كلها مثل الأرستقراطية الفرنسية في هذا العهد، فقد تطلبت هذه الصفات في الفن، وحبذ النظام الاجتماعي الطراز الكلاسيكي. وأفاد الفن من هذه المؤثرات والهيمنات، ولكنه دفع ثمنها. ذلك أنه فقد اتصاله بأفراد الشعب، ولم يستطع أن يعبر عنهم كما(31/139)
استطاع الفن الهولندي والفلمنكي أن يعبر عن الأراضي المنخفضة، وأصبح الفن صوت طبقة، وصوت الدولة والملك، لا صوت الأمة. فأنت لا تجد في فن هذه الحقبة الكثير من دفء الوجدان أو عمقه، ولا تجد ألوان روبنز الفنية وأجساده المكتنزة، ولا تجد الظلال العميقة التي تلف حاخامات رمبرانت وقديسيه ومالييه، ولا ترى فلاحين ولا عمالاً، ولا متسولين، بل السعادة الجميلة ترتع فيها صفوة البشر.
وأبهج كولبير ومولاه أن يجدا في شارل لبرون رجلاً يستطيع أن يكون في وقت واحد خادماً غيوراً للحكومة وقاضياً متسلطاً في هذا الطراز الكلاسيكي، ففي 1666 عين لبرون بتوصية كولبير كبيراً لمصوري الملك ومديراً لأكاديمية الفنون الجميلة، وبعد عام عهد إليه بمصنع جوبلان، ووكل بالإشراف على تعليم الفنانين وتشغيلهم لينمي في أعماله تناسقاً في الأسلوب مميزاً للعهد وممثلاً له. وبمعاونة مساعدين على شاكلته في التفكير أنشأ لبرون في الأكاديمية نظام "المحاضرات" (1667) التي غرست بفضلها أصول الأسلوب الكلاسيكي بتعاليم وأمثلة وسلطان. واختير رفائيل من بين الفنانين الإيطاليين، وبوسان من بين الفنانين الفرنسيين، نموذجين مفضلين على غيرهما، وكانت كل لوحة يحكم عليها بمعايير مستقاة من فنها. وقد صاغ لبرون وسباستيان بوردون هذه القواعد، فرفعا الخط فوق اللون، والانضباط فوق الأصالة، والنظام فوق الحرية، ولم تعد مهمة الفنان أن ينقل الطبيعة بل أن يجملها، ولا أن يعكس فوضاها وعيوبها وبشاعتها كما يعكس جمالها العارض، بل أن ينتقي من بين سماتها تلك التي تتيح للنفس الإنسانية الإفصاح عن أعمق مشاعرها وأرفع مثلها. وكان على المعماريين والمصورين والنحاتين والخزافين وصناع المشغولات الخشبية والمعدنية والزجاجية والنقاشين، أن ينطقوا في صوت متناسق واحد بتطلعات فرنسا وبعظمة الملك.(31/140)
2 - العمارة
على أن هؤلاء الفنانين الفرنسيين "المنطليين" كانوا قد عادوا من روما وقد اكتسبوا طلاءً "باروكياً" على غير وعي منهم. وقد وصفنا من قبل ذلك الطراز-طراز الباروك-الذي عم الآن وانتشر. وخلاصته أنه يحل محل البساطة الهادئة التي تميزت بها الأشكال الكرسيكية إسرافاً في الوجدان والزخرف، بينما نرى المثل الكلاسيكي-وعلى الأخص الهلنستي-قد حوكي في نحت هذا "القرن العظيم" وتصويره وأدبه، نجد العمارة والزخرفة قد أخذتا عن الطرز الأنيقة المنمقة التي عقد لها لواء النصر في إيطاليا بعد وفاة ميكل أنجيلو (1564). فلقد استهدف بناءو الملك الطراز الكلاسيكي، ولكنهم حققوا الباروكي-الباروكي الكامل في فرساي، ومزيجاً موفقاً من الباروكي والكلاسيكي في واجهات اللوفر.
أما أول الروائع المعمارية في هذا العهد فهي كنيسة فال-دجراس بباريس. وكانت آن النمساوية قد نذرت نذراً ببناء معبد جميل إذا وهبها الله ولويس الثالث عشر غلاماً. فلما أتاحت لها وصايتها على العرش المال كلفت فرنسوا مانسار بوضع تصميمات الكنيسة. وأرسى لويس الرابع عشر الحجر الأول في 1645 وكان يومها في السابعة. ونفذ تصميم مانسار على يد لومر سييه بالطراز الكلاسيكي، وتوج بقبة مازالت محط إعجاب المعماريين. وشيد لبرال كنيسة سان-لوي-ديزا نفاليد (1670) لقدامى المحاربين الذين يأويهم الأوتيل ديزثفاليد. وفي 1676 كلف لوفوا المعماري جول اردوان مانسار (حفيد أخي فرنسوا مانسار) بأن يكمل الكنيسة بخورس وقبة. والقبة في جمالها الرشيق رائعة العهد المعمارية. وقد حقق أردوان مانسار انتصاراً آخر في تصميم الكنيسة الملحقة بفرساي (1699). وقد أكمل عمله هنا في الأنفاليد صهره روبيردكوت(31/141)
زخرفة مترفة، وهو الذي أقام كذلك الأوتيل دفيل في ليون، ودير سان دني، وواجهة سان-روش.
وحلتا العمارة الملكية محل العمارة الكنسية حين تفوقت الدولة على الكنيسة ثراءً ومكانةً، فأصبحت المشكلة الآن هي التعبير عن القوة لا عن الورع. وكان للوفر في تلبية هذه الحاجة ميزة تميز بها على غيره من العمائر، هي ما أحاط به من تقاليد موروثة. فقد شهد نموه أجيال كثيرة، وترك ملوك كثيرون بصماتهم على تاريخه. فشيد لومرسييه الواجهة الغربية للجناح الرئيسي بتكليف من مازاران، وبدأ الجناح الشمالي على طول شارع ريفولي الحالي. وأتم هذا الجناح خلفه لوفو، وأعاد بناء واجهة الجناح الجنوبي (المواجه لنهر السين)، وأرسى أساسات الجناح الشرقي. في هذه الفترة الهامة أصبح كولبير المشرف على العمائر. وإذ رفض تصميمات فو للجناح الشرقي، فقد فكر في مشروع مد اللوفر غرباً لتلتقي بالتويلري في قصر واحد. فأذاع على معماريي فرنسا وإيطاليا مسابقة في تصميم واجهة جديدة. ورغبة في منه في الحصول على أفضل التصميمات، وأقنع الملك بأن يرسل دعوة خاصة إلى جوفاني لورنتزو برنيني (1665) وهو يومها أمير الفنانين الأوربيين غير منازع، ليأتي إلى باريس على نفقة الملك ويقدم تصميمه. وأتى برنيني بأبهته الكبرى، وأغضب الفنانين الفرنسيين باحتقاره لعملهم، ووضع تصميماً ضخماً باهظ التكلفة يقتضي هدم مل اللوفر القائم تقريباً. ووجد كولبير قي التصميم عيوباً تتصل بأنابيب المياه وغيرها من مرافق المعيشة، واستشاط برنيني غضباً وقال إن "المسيو كولبير يعاملني كأنني غلام صغير، بكل لغوه عن المراحيض والقنوات السفلية (7) " وأمكن الوصول إلى حل وسط. فقد وضع الملك الحجر الأساسي لتصميم برنيني، وبعد أن أقام الفنان ستة أشهر في باريس رد إلى إيطاليا محملاً بالمال وأسباب التشريف، وقد حاول أن يرد على هذا بتمثال نصفي للويس الرابع عشر يقوم الآن بفرساي، وبتمثال للويس راكباً جواده في "جاليريا(31/142)
بورجيزي" بروما أما تصميمه للوفر فتخلى عنه، واحتفظ بالمبنى القائم وكوفئ شارل بيرو بتكليفه ببناء الواجهة الشرقية. وارتفع صف أعمدة اللوفر الشهير، الذي أثارت عيوبه الواضحة سيلاً من النقد (8)، ولكننا نتقبله الآن على أنه من أعظم واجهات العمائر في العالم.
وكان كولبير يؤمل أن ينتقل الملك من مسكنه الضيق إلى في سان-جيرمان إلى اللوفر بعد تجديده. ولكن لويس لو ينس كيف أكره هو وأمه على الفرار من الجماهير الباريسية خلال حرب الفروند. وكان رأيه في صوت الشعب أنه صوت العنف، فلم يشأ أن يعرض نفسه لمثل هذه الكوابح لحكمه المطلق. وعليه قرر أن يبني فرساي، وروع القرار كولبير.
وكان لويس الثالث عشر قد شيد استراحة متواضعة للصيد في 1624. ورأى أندريه لنوتر في منحدر هذا الموضع الذي كان يرتفع في رفق، وفي أحراجه الغنية، فرصة مغرية للتفنن في تنسيق الحدائق. ففي 1662 قدم لويس الرابع عشر تصميماً عاماً للمنطقة، وإذا كانت المباني اليوم منخفضة عن المروج والبحيرة؛ وعن الأزهار والشجيرات ومختلف الأشجار، فلعل هذا هو الوضع الذي تصورها عليه لنوتر. فهو لم يقصد بالقصر أن يكون آية من آيات المعمار بقدر ما يكون دعوة إلى الحياة خارجه بين أحضان طبيعة روضها الفن وجملها، دعوة لتنشيق عبير الزهر والشجر، ولإشباع العين واللمسة المتخيلة من الأجساد الكلاسيكية النحت، ولمطاردة الفرائس والنساء في الغابات، للرقص وتناول الطعام على العشب، ولركوب الزوارق على القناة والبحيرة، وللاستماع إلى لولي ومليير تحت القبة الزرقاء. فهاهنا جنة من جنان الآلهة، بنيت بدراهم عشرين مليوناً من الفرنسيين لن يروها إلا لماماً، ولكنهم يعتزون بعز مليكهم. ومما يسر أن نعرف أن بستان فرساي كان مفتوحاً للشعب إلا في المناسبات الملكية.
وكان فن إنشاء الحدائق المنسقة البهية وافداً من إيطاليا ككثرة غيره(31/143)
من الفنون، وقد جلب معه عشرات الحيل والمفاجآت، كالتعاريش، والشعريات، والمغارات، والكهوف، والأشكال الغريبة (الجروتسك)، والأحجار الملونة، وبيوت الطير، والتماثيل، والزهريات، والغدران، والنوافير، والميازيب، وحتى الأرغن تعزف إلى جوار الماء الجاري. وكان لنوتر قد صمم من قبل حدائق نو لوفوكيه، وبعد قليل سيصمم حدائق التويلري للملكة، وحدائق سان كلو لمدام هنرنيتا، وحدائق شاتسي لكونيه الكبير. وأطلق وليس يده في فرساي من 1662 فصاعداً، وروعت كولبير التكاليف التي أنفقت على تحويل برية شعثاء إلى فراديس غناء. وتعلق قلب الملك بلنوتر الذي لم يأبه للمال بال للجمال فقط، والذي كان فناناً صادقاً لا غش فيه (9). لقد كان في مثابة "بوالو" الحدائق، المصمم على أن يغير "فوضى" الطبيعة إلى نظام وتناسق وشكل معقول مفهوم. ولعله كان مسرفاً في إصراره على الكلاسيكية، ولكن الحدائق التي أبدعها ما زالت بعد ثلاثمائة سنة كعبة يؤمها البشر فيما يؤمون.
كان لويس لا يزال يحسد فوكيه، فأتى بلوفو معماري قصر فو ليوسع استراحة الصيد ويجعل منها قصراً ملكياً. وتسلم جول أردوان مانسار إدارة المشروع في 1670. وبدأ تشييد غرف السكن والقاعات وغرف الاستقبال وصالات الرقص وحجرات الدراسة والمكاتب الإدارية-كل هذه الأبنية الشاسعة التي نشهدها اليوم في فرساي. وما وافى عام 1685 حتى كان يكدح في المشروع 36. 000 رجل و 6. 000 حصان في نوبات بالليل والنهار. وكان كولبير منذ زمن طوبل قد حذر الملك من أن معماراً كهذا، مضافاً إلى الحرب يخوضها بعد الحرب، سينتهي بإفلاس الخزانة، ولكن في 1679 بنى لويس قصراً آخر في مارلي، ملاذاً يلجأ إليه من زحام فرساي، وفي 1687 أضاف الجران تريانون ليكون خلوة لمدام دمانتنون. وأمر جيشاً من الرجال فيهم الكثير من الجنود النظاميين بتحويل نهر أور ونقل مياهه خلال تسعين ميلاً من "قناة مانتنون"(31/144)
لتزويد بحيرات فرساي ونهيراته ونافورته وحماماته، وفي 1688 هجر هذا المشروع بعد أن أنفقت عليه الأموال الطائلة حين دعا داعي الحرب. وقد كلف فرساي فرنسا حتى عام 1690 مبلغاً جملته 200. 000. 000 فرنك (500. 000. 000 دولار؟ (10)) وفرساي، من الناحية المعمارية، فيه من التعقيد والجزافية ما ينأى به عن الكمال. أما الكنيسة فرائعة، ولكن هذا الزهو بالزخرف لا يكاد يتفق وتذلل العبادة. وبعض أجزاء القصر جميل، والسلم المفضي إلى الحدائق فخم، ولكن إلزام مصمميه بأن يتركوا استراحة الصيد دون أن يمسوها في تصميمهم، ويكتفوا بإضافة أجنحة وزخارف، كل هذا أضر بمظهر البناء في مجموعه. وقد تترك هذه المجموعة المتكاثرة من الأبنية في النفس انطباع الرتابة الباردة والتكرار المتاهي-فالحجرة تقفو الحجرة على امتداد 1320 قدماً من الواجهة. ويبدو أن تنظيم القصر من داخله تجاهل الراحة الفسيولوجية لنزلائه ورواده، وأفترض قوة ضبط هائلة في الأمعاء النبيلة، فكان على من يريد إزالة ضرورة أن يعبر ست حجرات. لا عجب إذن أن سمعنا بأن السلالم والطرقات كانت تستخدم في مثل هذا الغرض. أما الحجرات ذاتها فتبدوا أصغر من أن تسمح بالراحة. وليس هناك حجرة فسيحة سوى القاعة الكبرى التي تمتد 320 قدماً على طول واجهة الحديقة، هناك نشر المزخرفون كل مهاراتهم-فعلقوا قطع نسيج جوبلان وبوفيه المرسومة، وبثوا المنحوتات على الجدران، وبلغوا بكل قطعة أثاث الكمال المحبب، وعكسوا كل البهاء في تلك المرايا الكبيرة التي أعطت الحجرة اسمها الثاني، وهو "قاعة المرايا". وعلى السقف صور لبرون الذي ارتفع إلى ذروة فنه، خلال خمس سنوات (1679 - 84)، وبرموز أسطورية، انتصارات حكم لويس الطويل، وسجل مأساته دون وعي منه، لأن هذه الانتصارات المصورة على أسبانيا وهولندا وألمانيا أزمعت أن تثير أرواح النقمة على الملك الشغوف بالحرب.(31/145)
وعاش لويس في فرساي على نحو متقطع منذ 1671 وأنفق بعض وقته في مارلي، وسان-جرمان، وفونتنبلو، وبعد 1682 أصبح فرساي مقره الدائم. ولكنا نظلمه إذا ظننا أن فرساي كان مسكنه وملهاه، فهو لم يشغل سوى جزء متواضع من المبنى، أما الباقي فقد سكنته زوجه، وأبناءه، وأحفاده، وخليلاته، والمفوضيات الأجنبية وكبار الإداريين، وأفراد الحاشية، وكل الخدم والحشم الذين تطلبهم البيت المالك. ولا ريب في أن بعض هذا البهاء كان له هدف سياسي-هو إدخال الرهبة في قلوب السفراء الذين توقع منهم لويس أن يحكموا من هذا البذخ على موارد الدولة وسطوتها. وقد وقع هذا من نفوسهم ونفوس غيرهم من الزوار فأذاعوا في أرجاء أوربا من الأنباء عن بهاء فرساي ما جعله البلاط المحسود، والمثل الذي يحتذيه الكثير من البلاطات والقصور في القارة الأوربية بأسرها. أما في عقابيل هذا العهد فقد بدت هذه الكتلة الضخمة من المباني رمزاً وقحاً للاستبداد وتحدياً مستهتراً من كبرياء الإنسان لمصير الإنسان غير المتغير.
3 - الزخرفة
لم تعرف فنون الزخرفة قط، حتى على عهد باباوات النهضة، مثل هذا التشجيع والعرض. فقد كانت الأرضيات المكسوة بالبسط السميكة، والأعمدة الزينية، والموائد ورفوف المستوقدات الزخرفية الضخمة، والزهريات من الخزف الصيني، والشمعدانات الفضية والثريات البلورية، والساعات الجدارية الرخامية المطعمة بالأحجار الكريمة، والجدران ذات الحشوات الخشبية أو الرسوم الجصية أو الصور أو قطع النسيج المرسوم، والكراميش المصبوبة صباً أنيقاً، والأسقف ذات الزخارف الغائرة أو الصور، هذه كلها وكثير غيرها من ألوان الفن في فرساي وفونتنبلو ومارلي واللوفر،(31/146)
وحتى في قصور الأهالي، جعلت من كل حجرة تقريباً متحفاً لأشياء تخلب العيون والألباب بسر الكمال الخفي. وعن رفائيل ومساعديه-جوليو رومانو، وبيرينو ديل فاجا، وجوفاني دا أوربيني-وعن قاعات الفاتيكان، نقل لبرون ومساعديه مجموعة الأرباب والربات والكوبيدات وتذكارات النصر والشعارات والنقوش العربية، وأكاليل الزهر وورق الشجر، والحليات القرنية لثمار الأرض، يزينون بها سجل انتصارات الملك على النساء والدول.
وكان الأثاث بطراز لويس الرابع عشر مترفاً فاخراً؛ هنا أذعنت البساطة الكلاسيكية للزخرفة الباروكية. فالمقاعد مسرفة في النقش والتنجيد والتدبب إسرافاً أبعد عنها الإعجاز خشية إلا أرقها. أما الموائد فكنت تجد بينها الثقيل المتين إلى حد يبدو معه غير قابل للحركة. وكانت مناضد الكتابة والمكاتب المزودة برفوف للكتب غاية في الأناقة بحيث تغري القلم بالكتابة في إيجاز لاروشفوكو المحكم أو في حيوية مدام دسفينييه المتدفقة. وكثيراً ما كانت الصناديق وخزانات النفائس تنقش بعناية فائقة أو تطعم برسوم من معدن أو أحجار كريمة. وقد أعطى أندريه شارل بول اسمه ( Buhlwork) لفنه الخاص، فن تطعيم الأثاث، لا سيما الأبونسي، بالمعدن المحفور، وصدف السلاحف، واللؤلؤ الخ، مضيفاً حليات درجية تمثل النبات أو الحيوان ذات رسوم غاية في الرشاقة، وكان يقيم في اللوفر (1672) بوصفه نجار الأثاث الأثير لدى لويس الرابع عشر. ولقد بيعت إحدى خزاناته المطعمة بمبلغ 3. 000 جنيه إنجليزي في 1882، وربما كان هذا المبلغ يعادل 50. 000 دولار في 1960 (11). ولكن بول مات في فقر مدقع بعد أن بلغ التسعين في 1732. وقد يكون أوفق لأذواقنا تلك الأكشاك المنقوشة التي أقيمت في هذه الفترة في كاتدرائية نوتردام دباري.
وأصبح النسيج المرسوم الآن فناً اختص به الملك. ولم يقنع كولبير(31/147)
بإخضاع مصنعي جوبلان وأوبوسون لإشراف الملك، فأقنعه بأن يتسلم أيضاً مصنع النسيج المرسوم في بوفيه وكانت هذه القطع المرسومة لا تزال الحلية المفضلة لجدران القصور وسجفها في المدن والريف، والمهرجانات، والمباريات، والاحتفالات الرسمية، والأعياد الدينية. وقد صمم المصور الفلمنكي آدم فاندرمولر في بوفيه سلسلة رائعة من الرسوم سماها "فتح لويس العظيم"، وأعد الفنان لها نفسه بأن تبع لويس إلى حروبه ورسم بالقلم أو صور بالألوان على الطبيعة المواقع والحصون والقرى التي كانت مسرحاً لحملاته الحربية. وكان مصنع جوبلان يستخدم 800 من مهرة الصناع الذين لم يكتفوا بصنع قطع النسيج المرسوم، بل المنسوجات الرفيعة وأشغال الخشب والفضة والمعادن والتطعيم بالرخام. وهناك نسجت تحت إشراف لبرون قطع النسيج المرسوم العظيمة نقلاً عن الرسوم التخطيطية التي حفلت بها صور رفائيل الجصية الضخمة في قاعات الفاتيكان. وليس أقل من هذه شهرة السلاسل العديدة التي صممها لبرون ذاته؛ فصور قوى الطبيعة، والفصول، وتاريخ الإسكندر، ومساكن الملك، وتاريخ الملك. والمجموعة الأخيرة كانت تعد سبع عشر قطعة، واستغرق الفنان في صنعها عشر سنين، وما زال نموذج رائع منها معروضاً في حجرات عرض قطع الجوبلان-فيها ترى الأجسام متميزة إلى حد مذهل، والتفاصيل متخيلة تخيلاً كاملاً، حتى صورة المنظر الطبيعي التي على الجدران، وكل هذا بخيوط ملونة نسجتها في صبر وأناة أيدِ صناع تحت عيون مجهدة. وندر أن كرس مثل هذا الجهد البشري الضخم للزلفى لرجل واحد. وقد أعتذر لويس عن هذا بأن زعم لكولبير أن أسباب التمجيد هذه تتيح العمالة والدخل للصباغين والنساجين، وتوفو هدايا ذات وقع جميل في عملية "تشحيم" الدبلوماسية.
وترعرعت كل الفنون الصغيرة تحت اليد الملكية السخية. فصنعت الأبسطة الفاخرة في لاسافو نيري قرب باريس. وأنتج القاشاني البديع في(31/148)
روان موستييه، والخزف الإيطالي (الميوليق) الجيد في نيفير، والصيني اللين العجينة في روان وسان كلو. وفي أخريات القرن السابع عشر تعلم الصناع الفرنسيون بتحريض كولبير أسرار البنادقة في صب بللور المرايا الكبيرة وتسويته وصقله، وهكذا صنعت مرايا "قاعة المرايا" الرائعة (12). ونظم كولبير ولبرون الصاغة أمثال جوليان دفونتيين وفانسان بتي وأسكناه في اللوفر، فصنعوا للملك وللأغنياء مئات التحف من الفضة أو الذهب-إلى أن صهر لويس والأغنياء هذه الحلي لتمويل الحرب. وقطعت الأحجار الكريمة والمداليات: وضربت العملة، ونقشت بتصميمات كانت المثل الذي تحتذيه أوربا كلها فيما عدا إيطاليا. ولم يصل فن صنع المداليات منذ عصر النهضة إلى مثل هذا الإبداع الذي حققه الآن على يد أنطوان بنوا وجان موجيه. أما كولبير، الذي لم يترك حجراً دون نقش، فقد أسس في 1662 أكاديمية المداليات والنقوش، ليخلد أعمال الملك ... بمداليات تضرب تكريماً له (13) وذلك كان أسلوب الوزير الكبير في تجنيد الغرور الذي يملك المال في خدمة الفن الغالي النفقة. وفي 1667 أنشئت مدرسة للصور المحفورة في اللوفر، ورسمت مناقيش روبير نانتوي وسبستيان لكلير وروبير بونار وجان لبوتر في رهافة بالغة التدقيق شخصيات العهد وأحداثه. وحتى رسم المنمنمات ظل على قيد الحياة-وإن هبط عن سابق مقامه في العصر الوسيط-في كتاب "ساعات الصلاة" الذي أهداه إلى الملك متقاعدوه في الأنفاليد. إن الفنون الصغيرة، دون سائر الفنون، هي التي تظهر ذوق "القرن العظيم" وبراعته الفنية.
4 - التصوير
إن نجمين من نجوم التصوير ذوي المرتبة الثاني يقعان في الفلك الخارجي لهذا العصر، وهما فيليب دشامبين، وأوستاش لوسويير. أما فيليب فقد وفد(31/149)
من بروكسل وهو في التاسعة عشر (1621)، وشارك في زخرفة قصر اللكسمبورج، ولم يكتفِ برسم صورة ريشليو بقامته الكاملة، وهي المحفوظة في اللوفر بل صنع أيضاً تمثالاً نصفياً للكردينال، وصوره صوراً جانبية محفوظة بمتحف الفنون القومي بلندن. وقد أتاه ميله المتعاطف لتصوير الأشخاص بزبائن من نصف زعماء فرنسا في الجيل الذي تلا ريشليو، كمازاران وتورين وكولبير ولمرسييه ... وكان قبل قدومه إلى فرنسا قد صور جانس وأعتنق الجانسنية، وأحب البور-رويال ورسم صوراً للأم أنجليك وروبير آرنو وسان-سيران. ورسم للبور-رويال أروع صورة "الراهبات" باللوفر، وترى قيها الأم أنييس مكتئبة ولكنها لطيفة، ومعها سوزان ابنة المصور الراهبة. وكان مجال شامبين محدوداً، ولكن فنه يدفئ قلوبنا بما فيه من وجدان وإخلاص.
أما أوستاش لوسويير فكان متديناً كصاحبه ولكنه أكثر سنية قي إيمانه، مما جعله قلقاً في جيل سيطر على التصوير فيه منافسه لبرون، وتسلطت على هذا الفن فيه أساطير وثنية كرست لتأليه ملك لم يكن قد ثاب إلى تقواه بعد. وقد درس المصوران (لوسيير ولبرون) معاً على فويه، ورسما معاً في قبو واحد، واستخدما نفس النموذج، وأثنى عليهما على السواء بوسان في زيارته لباريس. وتبع لبرون بوسان إلى روما وتشرب الروح الكلاسيكية. أما لوسويير فلزم باريس مربوطاً بزوجة مخصبة ولم يستطع الفكاك من الفقر إلا نادراً. وحوالي 1644 رسم خمس صور تصف حوادث في حياة إله الحب لسقف "حجرة الحب" في قصر ولي نعمته لامبير ديتوريني، وفي حجرة أخرى من حجرات قصر لامبير هذا نفذ رسماً جصياً كبيراً يسمى "فيتون يطلب أن يقود مركبة الشمس" وفي 1645 تورط لوسوبير في مبارزة قتل فيها خصمه ثم اختبأ في دير للكارتوزيين، وهناك رسم اثنتين وعشرين صورة من حياة القديس برونو مؤسس الطريقة(31/150)
الكارتوزية، وفي هذه الصور بلغ الفنان أوجه. وفي 1776 اشتريت هذه السلسلة من الرهبات الكارتوزيين بمبلغ 132. 000 جنيه فرنسي، وهي اليوم تشغل غرفة خاصة باللوفر. ولما عاد لبرون من إيطاليا (1647) أكتسح أمامه كل شيء. وانتكس لوسويير إلى فقره، ثم مات في 1655 ولما يجاوز الثامنة والثلاثين.
أما شارل لبرون فقد تسلط على الفنون في باريس وفرساي، لأنه أوتي قدرة التنسيق والإدارة كما أوتي قدرة التصور والتنفيذ. وإذ كان ابن نحات له أصدقاء من المصورين، فقد شب في بيئة تعلم فيها الرسم كما يتعلم غيره من الأطفال الكتابة. ورسم في الخامسة عشرة-وعينه لا تغفل عن ترقب فرصته الكبرى-صورة رمزية لحياة ريشليو ونجاحه، والتقط الوزير الطعم، فكلفه برسم موضوعات أسطورية لقصر الكردينال. وحين أخذه بوسان إلى روما أغرق نفسه في أساطير وزخارف رفائيل، وجوليو رومانو، وبييترو دا كورتونا. فلما عاد إلى باريس كان أسلوب الزخرفة المترفة المنمقة الذي انتهجه قد أكتمل نضجه. وهنا أيضاً كان فوكيه أسبق من لويس في استخدامه لبرون ليصور في قصره بفو. وقد استهوت مازاران وكولبير والملك براعة ما أنتج من صور جصية، وذلك الجمال الشهواني الذي اتسمت به أجساد النساء والتفاصيل الغنية من كرانيش ومصبوبات. ولم يأتي عام 1660 حتى كان لبرون يرسم صوراً جصية من حياة الإسكندر للقصر الملكي بفونتنبلو. وقد أبهج لويس أن يتبين ملامحه تحت خوذة الإسكندر، فكان يأتي كل يوم ليراقب الفنان وهو يرسم معركة أربل، وأسرة دارا عند قدمي الإسكندر. وكلتا الصورتين في اللوفر. وكافأه الملك بلوحة ملكية مرصعة بالماس، وجعله مصوره الأول، وأجرى عليه معاشاً بلغ 12. 000 جنيه في العام.
ولم تفتر للبرون همة. ففي 1661 دمرت النيران قاعة اللوفر الوسطى، فصمم ترميماً لها، وصور السقف والكرانيش بمناظر من أساطير أبوللو،(31/151)
ئ
ومن هنا الاسم الذي أطلق عليها "قاعة أبوللو". وخلال ذلك درس الفنان الطموح العمارة والنحت وأشغال المعادن والخشب ورسم النسيج ومختلف الفنون التي جندت الآن لتزيين قصور العظماء. وانصهرت هذه الفنون جميعها في مهاراته المنوعة حتى لقد بدا أن الحظ أعده ليجمع فناني فرنسا في جهد موحد لينتجوا طراز لويس الرابع عشر.
وقد أطلق لويس يده منحه ما شاء من مال ليزين فرساي، حتى قبل أن يعينه مديراً لأكاديمية الفنون الجميلة. وهناك عمل بجد طوال سبعة عشر عاماً (1664 - 81) فنسق الأعمال الفنية وصمم "سلم السفير"، ورسم بنفسه في قاعات الحرب والسلام، وفي القاعة الكبرى، سبعاً وعشرين صورة جصية تصف أمجاد الملك منذ صلح البرانس (1659) حتى معاهدة نيميجن (1679). وقد أظهر لويس في الحرب والسلم وسط حشد من الأرباب والربات، والسحب والأنهار، والخيل والمركبات، يقذف الصواعق، ويعبر الراين، ويحاصر غنت، ولكنه إلى ذلك يجري العدالة ويصرف شؤون المال، يطعم الفقراء في المجاعة، وينشئ المستشفيات، ويشجع الفن. ولو أننا أخذنا هذه الصور فرادا لما عددناها من الروائع، فأساسها الكلاسيكي طغى عليه سيل من الزخارف الباروكية، ولكننا إذا أخذناها في جملتها وجدناها تؤلف أروع عمل قام به الرسامون الفرنسيون في هذا العصر. ويغيظنا تمجيده للملك لأنه يكشف عن داء الغرور، ولكن تملق الأمراء والملوك على هذا النحو كان سنة العصر. لا عجب إذن أن يقول لويس لمصوريه وهو يرى بعض صوره بجوار أخرى رسمها فيرونيري وبوسان "إن أعمالك تثبت للمقارنة بأعمال كبار الفنانين، ولا ينقصها إلا موت صاحبها لكي يقدرها الناس أكثر مما يقدرونها الآن، ولكنا نرجو ألا تتاح لها هذه الميزة سريعاً (14) " وقد سانده الملك خلال جميع المكائد التي أحدقت به من حساده بعد قليل، كما ساند موليير الذي ضايقه خصومه. ولم يكن غريباً(31/152)
على طبع لويس-إذ نمى إليه أثناء حضوره اجتماعاً إدارياً أن لبرون جاء ليريه أخر صوره "رفع الصليب" (15) - أن يستأذن الحاضرين ليذهب ويرى الصورة ويعرب عن سروره، ثم يدعو كل المجتمعين ليأتوا ويشاركوه في مشاهدتها (16). وهكذا سارت الحكومة والفن في هذا العهد جنباً إلى جنب، وشارك الفنانون القواد العسكريين مكافآتهم ومدائحهم.
كانت صنعة لبرون شيئاً جديداً وإن انبثقت من الزخرفة الإيطالية. لقد كانت مزيجاً زخرفياً جمع فنوناً عديدة ليؤلف منها كلاً جمالياً واحداً. فلما حاول أن يجرب تصوير لوحات فردية انزلق إلى مرتبة وسط. وإذ استحالت انتصارات الملك إلى هزائم، وأخلت محظياته مكانهن للكهان، تغير مزاج العهد ولم يعد لزخارف لبرون البهيجة محل. ولما خلف لوفوا كولبير مشرفاً على العمائر فقد لبرون دوره زعيماً للفنون، وإن ظل رئيساً للأكاديمية. ومات في 1690 رمزاً لمجد ولى.
وأغتبط فنانون كثيرون بتحررهم من سيطرته، ومن هؤلاء على الأخص بيير منيار الذي ساءته هذه السيطرة. وإذ كان يكبر لبرون بتسع سنوات فقد سبقه في الحج إلى روما بلوحة ألوانه، وتعلق قلبه بالمدينة الخالدة كما تعلق بها بوسان، حتى لقد استقر رأيه على العيش فيها طوال حياته. وقد عاس فيهل فعلاً اثنتين وعشرين سنة (1635 - 57) وأغتبط زبائنه باللوحات التي رسمها لهم اغتباطاً حمل في النهاية البابا إنوسنت العاشر، الذي ربما ساءه الوجه الذي خلعه عليه فيلاسكويز من قبل، على أن يجلس إلى منيار الذي أضفى عليه طلعة ألطف. وفي 1646، حين بلغ منيار الرابعة والثلاثين، تزوج حسناء إيطالية، ولكنه ما إن سكن إلى الأبوة الشرعية حتى تلقى دعوة من فرنسا ليذهب ويخدم الملك، فذهب على مضض. وفي باريس تمرد على قبول التوجيهات من لبرون، ورفض الانضمام إلى الأكاديمية، وحز في نفسه أن يرى زميله الأصغر يحصد الأنواط والأموال. وأوصى(31/153)
مولبير كولبير به، ولكن لعل الوزير أنصف في إيثاره لبرون، فما كان منيار ليرضى أن يرتفع إلى مستوى الفخامة المتكلفة التي تطلبها القرن العظيم. على أية حال، كان لويس الذي بلغ العشرين آنئذ في حاجة إلى صورة فاتنة له يغوي بها عروساً من أسبانيا. وارتضى منيار أن يرسمها، وأفتتن لويس وماريا تريزا بها، وغدا منيار أنجح رسام للأشخاص في هذا العهد. فرسم لوحات لمعاصريه الواحد تلو الآخر: مازاران، وكولبير، ورتز، وديكارت، ولافونتين، وموليير، وراسين، وبوسويه، وتورين، ونينون دلا نكلو، ولويز دلا فاليير، والسيدات مونتسبان، ومانتينون، ولافاييت، وسفينييه، وقد أنصف يدي آن النمساوية اللتين عدهما الناس أجمل الأيدي في العالم، فكافأته بمهمة تزيين قبو القبة في كنيسة فال-دجراس، وكان هذا الرسم الجصي رائعته الكبرى التي أشاد بها موليير في إحدى قصائده. وقد صور الملك غير مرة، وأشهر صوره لوحته المعروضة في فرساي والتي يرى فيها راكباً جواده، ولكنا نجده هناك على أروعه في اللوحة البديعة المسماة "دوقة مين في طفولتها". وبعد موت كولبير انتصر منيار في النهاية على لبرون، فخلف غريمه مصوراً للقصر في 1690، وعين عضواً في الأكاديمية بمرسوم ملكي، وبعد خمس سنوات مات في الخامسة والثمانين وهو لا يفتأ يرسم ويناضل.
وجاهد رهط من المصورين غير من ذكرنا في خدمة الملك الذي استوعب الفنانين جميعاً. فشارل دوفرينوا، وسبستيان بوردون، ونويل كوابيل وابنه أنطوان، وجان فرانسوا دتروا، وجان جوفنيه، وجان باتيست سانتير، والكساندر فرانسوا ديبورت-هؤلاء كلهم يلتمسون أن يسلكوا في زمرة الحاضرين هذه الوليمة الملكية. وهناك فنانان آخران يبرزان بقوة في نهاية العهد-وأولهما نيكولا دلا رجليير الذي خلف منيار مصوراً أثيراً للأرستقراطية لا في فرنسا وحدها بل في إنجلترا أيضاً بعض الوقت(31/154)
(1774 - 78). وقد اكتسب حب لبرون باللوحة الرائعة التي رسمها له والمعروضة الآن في اللوفر. وألوانه الرمزية ولمسته الخفيفة تبين الانتقال من اضمحلال لويس الرابع عشر المعتم إلى عصر آخر مرح، وهو عصر الوصاية والفنان فاتو.
أما الثاني وهو ياسينت ريجو، فكان أصلب عوداً. وقد كسب هو أيضاً قوته برسم الأشخاص (أنظر صورته البديعة لبوسويه في اللوفر)، ولكنه لم يكسبه بالتملق. ومع أن صورته التي أظهر فيها لويس الرابع شامخاً مسيطراً، والتي ترتفع في مؤخرة قاعة اللوفر الكبرى، تبدو من بعيد وكأنها إشادة بالملك، فإننا نلاحظ إذا تأملناها عن كثب ملامح الملك جامدة منتفخة، وهو واقف على قمة سلطته وعلى حافة قدره (1701). وكانت أغلى صور العصر ثمناً كما أنها أفضلها عرضاً، فقد نقد لويس ريجو فيها 40. 000 فرنك (100. 000 دولار؟) -وربما كان هذا الأجر معادلاً لما دفعه لويس ثمناً للثياب الرائعة التي زينت هنا انحلاله.
5 - النحت
كان المثالون أقل حظوة وثواباً في هذا العهد من المصورين. ومع ذلك فالمنحوتات المرمرية القديمة هي التي اشتهى لبرون أن تصاغ على غرارها جميع الفنون. وقد أنفقت الأموال الطائلة وسخرت المواهب الكثيرة في شراء أو نسخ التماثيل التي بقيت على قيد الحياة بعد انهيار العالم القديم. ولم يقنع لويس بالنسخ طبعاً. وإذ كان يذكر حدائق سالوست وهادريان الرومانية، فقد استخدم لفيفاً من المثالين الأكفاء لينفخوا بتماثيلهم الحياة في بستان فرساي. وأقيمت الزهريات الضخمة كزهرية الحرب التي صنعها كوازيفوكس في حوض نبتيون، وعلى شرفة القصر؛ ونحت الشقيقان جاسبار وبلتازار دمارسي "حوض باخوس" العظيم، وأبرز جان باتست(31/155)
من البحيرة تمثاله الرائع "مركبة أبوللو" والإله الشمس فيه يرمز للملك، ونحت فرنسوا جيراردون في الحجر من "الحوريات المستحمات" ما لم يكن برا كستليز ذاته ليأنف من نسبته إليه.
وتطلع جيراردون قرناً إلى الخلف ليرى كيف صور بريماتتشو وجوجون جسد الأنثى في صورة كاملة. وعاد إليه ذلك الحسن الانسيابي الذي اتسم به الفن الهيليني، ربما في إسراف، ومهما بحثنا وفتشنا فإننا لم نجد إلى الآن إناثاً كاملات الأجساد كأولئك اللاتي نجدهن في تمثالي "اغتصاب بروزيربين (17) ". ولكنه كان قادراً على التعبير عن حالات نفسية أقوى من هذه. وقد صنع لميدان فاندوم تمثالاً للويس الرابع عشر محفوظاً الآن في اللوفر، ونحت لكنيسة السوربون مقبرة فخمة لريشليو. وقد أحبه لبرون لأنه تجاوب في لطف مع ذوق الأكاديمية وأهدافها. وخلف لبرون كبيراً لمثالي الملك، ورأس الأكاديمية بعد وفاة منيار. ومع أنه ولد قبل لويس بعشرة أعوام إلا أنه عمر بعده شهوراً، ومات في 1715 وهو في السابعة والثمانين.
أما أنطوان كوازيفوكس فكان إنساناً أرق من اسمه، محبباً إلى الناس كتمثاله "دوقة برجندية". ولد بليون، وكان ينحت لنفسه مكاناً بين المثالين حين دعاه لبرون ليساعد في زخرفة فرساي. وقد بدأ بصنع نسخ أو مقتبسات رائعة من التماثيل القديمة. فنحت عن تمثال رخامي قديم في فيللا بورجيزي "حورية المحارة"، وعن تمثال في قصر مديتشي بفلورنسة نقل "فينوس الجاثمة" وكلا التمثالين محفوظ في مستودع الفن المحظوظ الذي نسميه اللوفر. وما زال في مكانه بفرساي تمثاله "كاستور وبولكس" الذي نقله عن مجموعة بحدائق لودوفيزي بروما. وما لبث أن أنتج أعمالاً أصيلة فيها قوة لا يستهان بها. فنحت لبستان فرساي تماثيل كبيرة تمثل نهري الجارون والدوردون، ولساحة قصر مارلي رمزين شبيهين بهذين لنهري السين والمارن.(31/156)
وفي حدائق التويلزي اليوم أربعة تماثيل رخامية نحتها لمارلي، وهي فلورا (ربة الزهر) -والشهرة، وحوريات الغابات، وعطارد راكباً بيجاسوس. وقد خرج من تحت إزميله الكثير من الزخارف المنحوتة في حجرات فرساي الكبرى.
وظل يكدح في فرساي ثمانية أعوام، وقضى خمسة وخمسين عاماً في خدمة الملك. فنحت له اثني عشر تمثالاً، أشهرها تمثاله النصفي في فرساي، وأصبح في النحت ما كان منيار في التصوير-أحب نحاتي الوجوه إلى الناس في فرنسا. وبدلاً من أن يتشاجر مع منافسيه نحتهم في الرخام أو صبهم في البرونز، فوفر عليهم غرورهم ونقودهم. وحين تلقى 1500 جنيه أجراً لتمثال النصفي الذي صنعه لكولبير، رأى الأجر مغالى فيه فرد منه سبعمائة جنيه (18). وقد ترك لنا تماثيل كاملة الشبه بلبرون، ولنوتر، وآرنو، وفوبان، ومازارن، وبوسويه، وترك لنفسه ترجمة بسيطة لوجه أمين أشعث مضطرب (19)، ولكونديه العظيم تمثالين نصفيين أحدهما في اللوفر، والآخر في شانتبي، يتميزان بصدق وفحولة لا مراء فيهما. ثم نحت بأسلوب مختلف تماماً تمثالاً رشيقاً لدوقة برجندية في صورة ديانا (20)، والتمثال النصفي الجميل لنفس الأميرة في فرساي. وصمم مقابر رائعة لمازاران (21) وكولبير، وفوبان، ولبرون. ولأعماله ملمس الروح الباروكية في عاطفيتها المسرحية ومبالغتها العارضة، ولكنها في أحسن صورها تعبر تعبيراً حسناً عن المثل الكلاسيكي الذي استهدفه الملك والبلاط، فهي رأسين متمثلاً في الرخام والبرونز.
وحوله وحول جيراردون تجمع سباعي من المثالين، فرانسوا أنجييه وأخوه ميشيل، وفليب كوفييه وابنه فرانسوا، ومارتان ديجاردان، وبيير لجرو، وجيوم كوستو، الذي ما زالت "خيل مارلي" التي نحتها تثب في الهواء بميدان الكونكورد.(31/157)
وفضلاً عن هؤلاء المثالين جميعاً، وعلى مبعدة منهم، وفي تحدٍ لمثالية النحت الرسمي الناعمة، أنطق بيير بوجيه إزميله بغضب فرنسا وبؤسها. وقد ولد في مارسيليا (1622) وبدأ حياته الفنية حفاراً في الخشب، ولكن نفسه تاقت كما تاقت نفس معبوده ميكل أنجيلو من قبل لأن يصبح في وقت واحد مصوراً ومثالاً ومعمارياً. وقد أحس أن الفنان العظيم ينبغي أن يسيطر على هذه الفنون جميعاً. وإذ كان يحلم بأفذاذ الفنانين الإيطاليين فقد سار من مرسيليا إلى جنوة إلى فلورنسة إلى روما. وتتلمذ في حماسة لبييترودا كورتونا في زخرفة قصر بارباريني، وتشرب كل صدى وأثر لبوناروتي، وحسد برنيني على شهرته المتعددة الجوانب. فلما عاد إلى جنوة نحت تمثال القديس سبستيان الذي أذاع اسمه لأول مرة، فلكفه فوكيه، الذي سبق لويس الرابع عشر في تبين مواهب هذا الفنان أيضاَ، بأن ينحت تمثال "هرقول (22) " لقصر فو، ولكن فوكيه سقط، فهرع بيير إلى الجنوب ليعتكف في فقره ويجتر همومه. ولما كلف بنحت مجموعة "أطلانطيس"-وهي تماثيل رخامية لأطلس، ليجمل بها شرفة "الأوتيل دفيل"، صاغ التماثيل على غرار الحمالين الكادحين في أرصفة الشحن، وكان ينطق عضلاتهم المكدودة ووجوههم التي شوهها الألم بصرخة الثورة- ثورة المطحونين الذين يحملون العالم على أكتافهم. ولكن فناً كهذاً ما كان ليعجب فرساي.
ومع ذلك فأن كولبير الذي فتح ذراعيه للمواهب طلب إليه أن ينحت تماثيل يؤثر أن تكون ذات مسحة أسطورية بريئة. فأرسل إليه بوجيه ثلاث قطع محفوظة الآن باللوفر: نحتاً قليل الغور لطيفاً يمثل الإسكندر وديوجين، وتمثالاً فيه جهد وإسراف لبيرسيوس وأندوميدا، وتمثالاً عنيفاً لميلوكورتونا-ذلك النباتي الجبار يحاول الخلاص من فكي أسد عنيد ومخالبه.(31/158)
وفي 1688 زار بوجيه باريس، ولكنه وجد طبعه المتكبر وإزميله الغضوب يتنافران مع ظرف البلاط وفنه، فقفل راجعاً إلى مرسيليا، وهناك صمم "الميرة" و"سوق السمك"-ولا عجب ففي فرنسا حتى سوق السمك يمكن أن يكون عملاً فنياً. ولعل أعظم تماثيله قصد به أن يكون تعليقاً على مغامرات الملك الحربية، وهو تمثال للإسكندر راكباً يبدو فيه وسيماً مشرقاً، يحمل خنجره في يده، ويدوس ضحايا الحرب (23) في غير اكتراث تحت سنابك جواده. وقد أفلت بوجيه من رسمية لبرون وفرساي، ولكنه أفلت أيضاً من انضباطهما. وأفضى به طموحه لمنافسة برميني، وحتى ميكل أنجيلو، إلى مبالغات في تصوير عضلات الجسد وتعبيرات الوجه، ومن ذلك "رأس ميدوزا" الرهيب المحفوظ باللوفر. ولكنه كان على الجملة أقوى نحات في وطنه وفي جيله.
وإذ قارب العهد العظيم نهايته، وجرت الهزائم فرنسا إلى حال من اليأس الشديد، انصرفت كبرياء الملك إلى التقوى، وأنتقل الفن من غرور فرساي إلى التواضع الذي يطالعنا في تمثال كواز فوكس لويس الرابع عشر راكعاً في النوتردام-هنا نرى الملك وقد بلغ السابعة والسبعين، مزهواً إلى الآن بأثوابه الملكية، ولكنه يضع تاجه في تواضع عند قدمي العذراء. في هذه السنوات الأخيرة تقلص الإنفاق على فرساي ومالي، ولكن خورس النوتردام رمم وجمل. أما عبادة الفن القديم فقد فترت نتيجة لشططها؛ وبدأ الطبيعي يجور على الكلاسيكي، وقضى على دفعة الفن الوثنية إلغاء مرسوم نانت. وتسلط مدام دمانتنون وتلييه على الملك وشددت الموضوعات الزخرفية الجديدة على الدين لا على المجد، فلقد عرف لويس ربه أخيراً.
إن تاريخ الفن إبان حكم الملك العظيم يعذبنا بأسئلة عويصة. فهل كان تأمين الفنون نعمة أو نقمة؟ وهل حول تأثير كولبير ولبرون والملك تطور(31/159)
فرنسا من الاتجاه الأصيل والطبيعي، إلى محاكاة موهنة لفن هلنستي حل به الضعف، محاكاة شوشها إسراف باروكي في الزخرفة؟ وهل تثبت هذه السنوات الأربعون من "طراز لويس الرابع عشر" أن الفن يزداد ازدهاراً في ظل ملكية ترعاه بالثروة المركزة، وتوجه المواهب في وحدة متسقة؟ -أم في ظل أرستقراطية تصون، وتوصل، وتعدل في حذر، معايير الجودة والذوق، وأصول النظام والانضباط؟ -أم في ظل ديمقراطية تفتح الطريق أمام كل موهبة وتطلق الكفايات من ربقة التقاليد، وتلزم الفن بأن يعرض إنتاجه على الشعب ويكفيه وفق رأيه؟ وهل كان ممكناً أن تغدو إيطاليا وفرنسا الوطنين المحظوظين للفن والجمال اليوم لولا أنهما جملتا بأموال وأذواق الكنيسة والنبلاء والملوك؟ وهل كان ممكناً أن يوجد فن عظيم دون تركيز الثروة؟.
إن الجواب المتواضع المفيد عن هذه الأسئلة يقتضي حكمة عالمية، وأي جواب من هذا القبيل لابد أن تجعله التفريقات والشكوك جواباً غامضاً غير حاسم. ولعل الفن فقد شيئاً في طبيعته ومبادرته ونشاطه نتيجةً لما بسطته عليه القوة المركزية من حماية وتوجيه وهيمنة. صحيح أن فن لويس الرابع عشر كان فناً منظماً، أكاديمياً، جليلاً ببهائه المنسق، لا يفوقه فن في صقله الفني، ولكن السلطة عطلت قدرته على الابتكار، وقد قصر دون ذل الالتحام بالشعب الذي أضفى الدفء والعمق على الفن القوطي. لقد كان اتساق الفنون في عهد لويس رائعاً، ولكنه كثيراً ما كان يعزف على نفس الوتر، حتى لقد أصبح في النهاية تعبيراً لا عن جيل وأمة بل عن ذات وبلاط. صحيح إن الثروة لا غنى عنها للفن، ولكن الثروة تكون عاراً، والفن يكون بغيضاً، إذا ازدهرا على حساب فقر شامل واعتقاد بالخرافات مذل، فالجميل لا يمكن فصله طويلاً عن الخبر. وقد تكن الأرستقراطية حارساً وناقلاً مفيداً للعادات والمعايير والأذواق(31/160)
إذا تيسرت الأسباب لفتحها أمام المواهب الجديدة، ولمنعها من أن تكون أداة للامتياز الطبقي وللترف الكاذب. كذلك تستطيع الديمقراطيات أن تجمع الثروة وتضفي عليها الكرامة بتغذيتها للمعرفة والأدب والبر والفن، ومشكلات الديمقراطيات في معاداة الحرية غير الناضجة للنظام والانضباط، وفي نمو الذوق نمواً بطيئاً في المجتمعات الناشئة، وفي ميل الكفايات غير المحكومة لأن تبدد نفسها في تجارب شاذة تخطئ الابتكار فتحسبه عبقرية، والطرافة فتحسبها جمالاً.
على أية حال كان رأي أرستقراطيات أوربا في صف الفن الفرنسي دون ما تردد. فأنتشر معمار القصور والنحت الكلاسيكي والأسلوب الأدبي والزخرفة الباروكية للأثاث والثياب-انتشر هذا كله من فرنسا إلى كل طبقة حاكمة تقريباً في غرب أوربا حتى إلى إيطاليا وأسبانيا. وتطلعت قصور لندن وبروكسل وكولون ومينز ودرسدن وبرلين وكاسل وهيدلبرج وتورين ومدريد إلى فرساي مثلاً تحتذيه في السلوك والفن. وكلف المعماريون الفرنسيون بتصميم القصور حتى مورافيا شرقاً، وصمم لنوتر الحدائق في وندزور وكاسل، ووفد رن وغيره من المعماريين الأجانب على باريس لينقلوا عنها الأفكار، وانبث النحاتوت الفرنسيون في جميع أرجاء أوربا، حتى أصبح لكل أمير تقريباً تمثال راكب كتمثال ملك فرنسا. وظهرت قصص لبرون الرمزية الأسطورية في السويد، والدنمرك، وأسبانيا، وهامتن كورت. والتمس الملوك الأجانب أن يجلسوا إلى ريجو ليصورهم فإن لم يتيسر فإلى أحد تلاميذه. وأوصى حاكم سويدي بقطع من نسيج بوفيه المرسوم تخليداً انتصاراته. إن التاريخ لم يشهد منذ انتشار الثقافة اللاتينية القديمة في غرب أوربا غزواً ثقافياً أنجز بمثل هذه السرعة وهذا الكمال.(31/161)
الفصل الرابع
موليير
1622 - 1673
1 - المسرح الفرنسي
بقي الآن أن تخضع المسرحية والشعر الفرنسيان أوربا لسلطانهما.
ولقد شاء هوى التاريخ أن ينصرف الأدب الفرنسي في هذا العصر إلى المسرح، وأن يشجع الكردينال ريشليو المسرحية التي ظلت الكنيسة تحرمها طويلاً، وأن يستورد الكردينال مازاران الملهاة الإيطالية إلى فرنسا، وأن يرث لويس الرابع عشر حب المسرح من هذين الكاهنين اللذين مهدا لسلطته أو حفظاها.
كانت المسرحية الحديثة قد بلغت الشكل الأدبي في إيطاليا برعاية باباوات النهضة الرفيعي الثقافة، وكان ليو العاشر يحضر التمثيليات دون أن يطالب بأن تكون صالحاً للعذارى. ولكن الإصلاح البروتستنتي ومجمع ترنت المترتب عليه وضعاً حداً لهذا التساهل الكنسي. وقال بنديكت الرابع عشر إن المسرحية لم يستمر السماح بها في إيطاليا إلا درءاً لشرور أفدح، وفي أسبانيا إلا لأنها تخدم الكنيسة. وأما في فرنسا فإن رجال الأكليروس، الذين صدمتهم الحرية الجنسية التي تمتع بها المسرح الهزلي، نددوا بالمسرح عدواً للآداب العامة. وقضت سلسلة طويلة من الأساقفة واللاهوتيين بأن الممثلين محرومون بحكم طبيعة الحالة، أي بحكم مهنتهم ذاتها، وأنكر عليهم قساوسة باريس، الذين عبر عنهم صوت بوسويه الآمر، حق تناول الأسرار أو الدفن في أرض مكرسة إلا إذا تابوا وأقلعوا عن مهنتهم. وإذ حرموا من مراسم(31/162)
سر الزواج يقوم بها الكاهن، فقد كان عليهم أن يقنعوا بزيجات عرفية بالغة القلق وعدم الاستقرار، كذلك رسم القانون الفرنسي الممثلين وأقصاهم عن كل وظيفة شريفة، وحظر على القضاة حضور الحفلات التمثيلية.
ومن ملامح التاريخ الحديث البارزة أن المسرح استطاع التغلب على هذه المقاومة. ذلك أن المطلب الشعبي للتظاهر والادعاء تخففا وثأراً من الواقع أنجب العدد العديد من الهزليات والملاهي، وكان للآلام التي فرضها على الرجال الاقتصار على زوجة واحدة الفضل في إقبال جمهور سخي العطاء على مسرحيات الحب الحلال أو الحرام. ويلوح أن ريشليو وافق ليو العاشر على أن أيسر سبيل للهيمنة على المسرح هو رعاية أفضل المسرحيات لا رفضها كلها، وبهذه الطريقة قد يتيح القدوة للذوق العام، والعيش للفرق المسرحية المهذبة. وليلاحظ القارئ تقرير فولتير الآتي: "منذ أدخل الكردينال ريشليو الأداء المنتظم للتمثيليات في البلاط، الأمر الذي جعل باريس الآن منافسة لأثينا، لم يقتصر الأمر على تخصيص مقعد يجلس عليه رجال الأكاديمية التي تضم نفراً من القساوسة، بل خصص مقعداً آخر للأساقفة (1) ". وفي 1641، ربما بناء على طلب الكردينال، بسط لويس الثالث عشر رعايته على فريق من الممثلين عرفوا بعدها بالفرقة الملكية أو الكوميديين الملكيين، وأجرى عليهم معاشاً قدره ألف جنيه في العام، وأصدر مرسوماً يعترف بالمسرح لوناً مباحاً من ألوان الترفيه، وأعرب عن رغبته الملك في ألا تعتبر مهنة الممثل بعدها ضارة بمركزه في المجتمع (2). وأقامت الفرقة مسرحها في "الأوتيل دبورجون" وحظيت برعاية لويس الرابع عشر الرسمية، واحتفظت طوال حكمه بتفوقها في إخراج المآسي.
ورغبة في رفع مستوى الملهاة الفرنسية، دعا مازاران نفراً من الممثلين الإيطاليين إلى باريس، ومنهم تيبيريو فيوريللي، الذي أصبح أثيراً لدى جاريس والبلاط بأدائه دور المهرج الفشار "سكاراموتشا". ولعله هو(31/163)
وزملاؤه شاركوا في بعث حمى المسرح في أوصال جان بوكلان الرابع، وفي تعليمه فنون المسرح الهزلي (3). فلما عاد "سكاراموش" إلى إيطاليا (1659) أصبح جان بوكلان، الذي عرفه المسرح والعالم باسم موليير، الممثل الهزلي الأول للملك، وعدها بقليل-في رأي بوالو المولع به-أكبر كتاب العصر.
2 - تلمذته
على المبنى رقم 96 بشارع سانت- أونوريه كتابه بحروف من ذهب هذا نصها: -
شيد هذا البيت فوق موضع البيت الذي ولد فيه موليير
في 15 يناير، 1622
وكان البيت بيت جان باتست بوكلان الثالث-منجد الأثاث والمزخرف. وكنت زوجة ماري كريسيه قد أتته بمهر قدره 2. 200 جنيه، وأنجبت له ستة أطفال، ثم ماتت بعد زواجهم بعشر سنوات، ولم يكن طفلها الأول- جان باتست بوكلان الرابع- يتذكرها في وضوح، ولم يذكرها قط في تمثيلياته. وتزوج الأب ثانية (1633) ولكن زوجة الأب ماتت في 1637، فكان على الأب أن يحمل عبء عبقرية ولده، ويوجه تعليمه، ويفكر في تشكيل مجرى حياته. وفي 1631 أصبح جان بوكلان الثالث "المشرف على تنجيد أثاث حجرة الملك" ومنح امتياز إعداد السرير الملكي والسكني في البيت الملكي، لقاء راتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه، وهو مبلغ متواضع، ولكنه لم يلزم الحضور في أي عام أكثر من ثلاثة أشهر. وكان الأب قد اشترى الوظيفة من أخيه، وأراد أن يورثها ابنه. وفي 1637 أقر لويس(31/164)
الرابع عشر حق جان بوكلان الرابع في وراثة الوظيفة؛ ولو أن تطلعات الأب تحققت لعرف التاريخ موليير-إن عرفه إطلاقاً- بأنه الرجل الذي كان يعد سرير الملك. على أن جداً للصبي أولع بالمسرح، فكان يصطحبه إلى حفلات التمثيل بي الحين والحين.
وأعداداً لجان الرابع لتهيئة سرير الملك، أرسل إلى كلية اليسوعيين في كليرمون، وكانت الأم الحانية على المهرطقين. وهناك تعلم الكثير من اللاتينية، وقرأ تيرنس وأفاد منه، ولا شك أنه اهتم، وربما شارك، في المسرحيات التي عرضها اليسوعيون أداة لتعليم تلاميذهم اللاتينية والأدب والكلام ويقول فولتير إن جان تلقى كذلك تعليماً عن الفيلسوف جاسندي الذي كان قد عين معلماً خاصاً لزميل في فصل جان. على أية حال تعلم جان الكثير عن أبيقور، وترجم شطراً كبيراً من ملحمة لوكريتيوس الأبيقورية De Rerum Natura ( وبعض سطور مسرحيته "مبغض الشر (4) ". تكاد تكون ترجمة لفقرة في لوكريتيوس (5)). والراجح أن جان فقد إيمانه قبل أن يختتم صباه (6).
وبعد أن قضى خمس سنين في الكلية درس القانون، ويبدو أنه مارسه حقبة قصيرة في المحاكم. ثم أتخذ مهنة أبيه بضعة أشهر (1642). وفي ذلك العام التقى بمادلين بيجار، وكانت وقتها سيدة مرحة في الرابعة والعشرين. وقبل ذلك بخمس سنين كانت خليلة للكونت دمودين، الذي اعترف في سماحة بالطفل الذي ولدته له، وأذن لابنه في أن يقف عراباً له عند عماده. وفتنت مادلين جان- وكان قد بلغ العشرين- وسحرته بجمالها وطبعها البشوش اللطيف. وأغلب الظن أنها قبلته عشيقاً وقد حمله عشقها للمسرح، مع عوامل أخرى، على اتخاذ قرار بأن يولي لتنجيد الأثاث ظهره، وأن ينزل عن حقه في أن يخلف أباه مشرفاً على تنجيد حجرة الملك لقاء 630 جنيهاً، وأن يلقي بنفسه في خضم التمثيل (1643). وذهب ليقيم في بيت مادلين(31/165)
بيجار (7). ثم دخل معها ومع أخويها وآخرين في تعاقد رسمي أنشئوا بمقتضاه "المسرح الشهير" (30 يونية 1643). ويعتبر الكوميدي فرانسيز ذلك العقد بداية لتاريخه الطويل الممتاز. وأتخذ جان الآن اسماً مسرحياً جرياً على عادة الممثلين، فأصبح يسمى موليير.
واستأجرت الفرقة الجديدة ملعباً للتنس مسرحاً لها، وقدمت مختلف التمثيليات، ثم أفلست؛ وفي 1645 قبض على موليير ثلاث مرات بسبب الدين ودفع أبوه عنه ديونه وحصل على أمر بالإفراج عنه معللاً نفسه بأن الفتى قد برئ من حمى المسرح. ولكن موليير أعاد تأليف "المسرح الشهير" وأنطلق في جولة بالأقاليم. ومنح الدوق ديبيرنون حاكم جيين الفرقة تأييده. وتثقلت الفرقة في سلسلة مضنية من النجاح والفشل بين ناربون، وتولوز، وألبي، وكاركاسون، ونانت، وآجن، وجرينوبل، وليون، ومونبلييه، وبوردو، وبيزييه، وديجون، وأفنيون، وروان. وارتقى موليير حتى أصبح مديراً لها (1650)، ووفق بعشرات الحيل في أن يحفظ للفرقة قدرتها على إيفاء ديونها ويكفل لها طعامها. وفي 1653 أعار الأمير ديكونتي، زميله المدرسي القديم، اسمه للفرقة وقدم لها المعونة، ربما لإعجاب سكرتيره بالممثلة الآنسة دوبارك. ولكن الأمير أصابته نوبة شلل ديني في 1655، فأخبر الفرقة بأن ضميره يمنعه من الاتصال بالمسرح، وما لبث بعد ذلك أن ندد علانية بالمسرح، وبوليير بصفة خاصة، مفسداً للشباب وعدواً للفضيلة المسيحية.
ووسط هذه التقلبات نهضت الفرقة شيئاً فشيئاً بكفايتها ودخلها وذخيرتها من المسرحيات. وتعلم موليير فن المسرح وحيله. فما وافى عام 1655 حتى كان يكتب التمثيليات كما يمثلها. وفي 1658 آنس في نفسه من القوة ما يكفي لتحدي فرقتين احتلتا المسرح الباريسي، فرقة ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، وفرقة خاصة تمثل في مسرح ماريه. وحضر هو ومادلين بيجار(31/166)
من روان إلى باريس ليمهدا الطريق أمام فرقتهما. وزاره أباه، وظفر بعفو عن ذنوبه ومهنته. ثم أقنع فيليب الأول دوق أورليان بأن يبسط حمايته على الفرقة وأن يحصل لها على إذن بإقامة حفلة تمثيلية بالبلاط.
وفي اكتوبر 1658 مثلت "فرقة المسيو" هذه أمام الملك في قاعة الحرس باللوفر مأساة كورني "نيكوميد"، ومثل موليير الدور الرئيسي دون توفيق كبير، لأنه كما يقول فولتير كان يعاني "من ضرب من الفواق لا يلائم البتة الأدوار الجادة، ولكنه يعين على جعل تمثيله في الملهاة أكثر إمتاعاً" (8). وقد أنقذ الحفلة بأن أتبع المأساة بملهاة فقدت الآن معالمها، ومثل بحيوية ومرح، وحاجب مرفوع وفم مثرثر جعل الجمهور يتساءل لم يمثل المأساة إطلاقاً. وكان الملك من الصبا ما جعله يستمتع بهذا الهزل، ومن الرجولة ما جعله يقدر شجاعة موليير. فأصدر تعليماته بأن تشارك فرقة المسيو فرقة سكاراموش الإيطالية في قاعة البتي بوربون، وهناك أيضاً أخفق الممثلون الوافدون حين حاولوا تمثيل المآسي التي قصروا في أدائها دون ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، ووفقوا في التمثيليات الهزلية، لا سيما التي ألفها موليير. ومع ذلك واصلوا إخراج المآسي. ذلك أن كبار الممثلات كن يشعرن بأنهن يتألقن أكثر في الدراما الجادة، ولم يكن موليير نفسه راضياً قط بأن يكون كوميدياً، لأن صراعات الحياة وسخافاتها أورثته مسحة من الحزن، وقد وجده أمراً فاجعاً له أن يكون على الدوام مضحكاً. يضاف إلى هذا أنه سئم هزليات المكائد الغرامية والشخصيات المبتذلة وكباش الفداء المألوفة؛ وأكثرها أصداء لإيطاليا. وتلفت حوله في باريس فرأى فيها أشياء لا تقل إضحاكاً عن بوليشينيل وسكاراموش. وروي عنه قوله "لم يعد بي حاجة إلى اتخاذ بلوتس وتيرنس أساتذة لفني أو إلى السطو على ميناندر. فما علي إلا أن أدرس هذه الدنيا" (9).(31/167)
3 - موليير ونساء المجتمع
مثال ذلك "الأوتيل درامبوييه" حيث كان الرجال والنساء يمجدون الآداب الرقيقة والحديث المعطر. فكتب موليير تمثيلية "المتحذلقات المضحكات". وكان إخراجها (18 نوفمبر 1659) فاتحة ملهاة العادات الفرنسية وبداية لحظ موليير وشهرته. وكانت الملهاة من القصر بحيث لم يستغرق تمثيلها أكثر من ساعة، وقيها من الحدة ما خلف لذعة طويلة الإيلام. استمع إلى ابنتي العم، مادلون وكاتوس، اللتين تلفهما سبعة أقنعة من التظرف، تحتجان على تلهف الكبار، الواقعيين، المفلسين، على تزويجهما.
جرجيبوس: أي عيب تريان فيها؟
مادلون: يالها من كياسة رائعة منهما حقاً! أنبدأ فوراً بالزواج! ... لو كلن الناس جميعاً مثلك لقضي للتو على الرومانس ... إن الزواج ينبغي ألا يتم أبداً إلا بعد مغامرات أخرى. فعلى العاشق إن أراد قبولاً أن يفهم كيف يعبر عن العواطف المهذبة، وكيف يتأوه بالحديث الناعم، الرقيق، المشبوب، ويجب أن يكون حديثه مطابقاً للقواعد. فعليه بادئ ذي بدء أن يرى في الكنيسة أو في الحديقة أة في حفل عام تلك التي يشغف بها حباً، وإلا زجب تقديمه إليها التقديم المحتوم بواسطة قريب أو صديق، ثم عليه أن ينصرف عنها مكتئباً متأملاً. ثم يخفي عاطفته حيناً عن موضع حبه، ولكنه يزورها مرات، لا يعدم فيها طرح بعض الحديث عن مغازلة النساء على البساط تدريباً لعقول الجماعة كلها ... ثم يأتي اليوم الذي يبوح فيه بحبه، وينبغي أن يتم هذا عادة في ممشى حديقة بينما الجماعة على بعد منهما. وهذا التصريح نقابله عادة بالاستياء، الذي يبدو في احمرار وجوهنا، والذي يقصي العاشق عنا زمناً، ثم يجد الوسيلة لمصلحتنا بعد حين، ولتعويدنا أن نسمع حديث غرامه دون أن نتألم، واستلال ذلك الاعتراف الذي يسبب لنا حرجاً شديداً.(31/168)
ثم تتلوا ذلك المغامرات: المزاحمون الذين يحبطون ميلاً رسخ، واضطهادات الآباء، والغيرة المنبعثة من المظاهر الكاذبة، والشكاوى، واليأس، والهروب مع الحبيب، وما يسفر عنه من عواقب. هكذا ينبغي أن تجري الأمور بأسلوب جميل، وتلك القواعد التي لا غنى عنها للتودد المهذب الأنيق. أما الاندفاع رأساً إلى الرباط الزوجي، وأما عدم مطارحة الغرام إلا بعقد الزواج، والإمساك بالمغامرة الرومانسية من ذيلها-فمرة أخرى أقول لك يا أبي العزيز إنه ما من شيء أكثر آلية من تصرف كهذا، ومجرد التفكير فيه يشعرني بالغثيان.
كاتوس: أما أنا يا عماه فكل ما أستطيع أن أقوله هو إنني أرى الزواج شيئاً مروعاً جداً. فكيف أطيق فكرة الرقاد مع رجل عريان حقاً (10)؟
ويستعير خادما الخطيبين ملابس سيديهما ويتنكران كمركيز وجنرال، ويتوددان إلى السيدتين بكل ما يصاحب التودد من تظرف ومزاح. ويفاجئهما السيدان، ويجردانهما من ملابسهما المزيفة، ويتركان الشابتين أمام الحقيقة العارية تقريباً. وفي هذه الملهاة، كما في جميع ملاهي موليير الجنسية، عبارات نابية وبعض المزاح الرخيص، ولكن فيها هجواً لاذعاً للحماقات الاجتماعية، بلغ من حدته أن تأثيره أصبح حدثاً في تاريخ عادات المجتمع. وقد نسبت رواية غير مؤكدة لامرأة من النظارة أنها وقفت وسط الجمهور وصاحت "تشجع! تشجع! هذه ملهاة حسنة يا موليير" (11) وروى أن أحداً من رواد صالون مدام درامبوييه قال بعد خروجه من التمثيلية "بالأمس أعجبنا بكل السخافات التي نقدت نقداً رقيقاً معقولاً جداً؛ ولكن علينا الآن-كما قال القديس ريمي لكلوفيس-أن نحرق ما عبدنا، ونعبد ما أحرقنا (12). " وقابلت المركيزة درامبوييه الهجوم بعبقرية، إذ اتفقت مع موليير على إحياء حفلة يخصص إيرادها لصالونها، وقد رد على مجاملتها بمقدمة زعم فيها أنه لم يهجُ صالونها بل مقلديه. على أية(31/169)
حال انتهى ملك "المتحذلقات". وقد أشار بوالو في هجائيته العاشرة إلى تلك "العقول الجميلة التي كانت بالأمس ذائعة الصيت، والتي فرغها موليير بضربة واحدة من فنه".
وقد نجحت المسرحية نجاحاً ضوعف معه أجر مشاهدتها عقب حفلة الافتتاح. وقد مثلت في عامها الأول أربعاً وأربعين مرة، وأمر الملك بإحياء ثلاث حفلات للبلاط، حضرها جميعاً، ونفح الفرقة بثلاثة آلاف جنيه. وما وافى فبراير 1660 حتى كانت الفرقة الشاكرة قد دفعت 999 جنيهاً جعالة للمؤلف. ولكنه كان قد ارتكب غلطة إذ ضمن المسرحية إشارة هجا بها ممثلي المسرح الملكي "فما من إنسان قادر على أن يشهر شيئاً إلا هم، أما غيرهم فقوم جهلاء يمثلون أدوارهم كأنهم يتحدثون. هؤلاء لا يفقهون كيف يجعلون أبيات الشعر تجلجل، أو كيف يقفون عند فقرة جميلة. فكيف تعرف الأبيات الرائعة إذا لم يقف الممثل عندها ويخبرك بهذه الطريقة أن تصفق استحساناً (13)؟ ".
وأعربت فرقة الأوتيل دبوربون عن احتقارها السافر لموليير لعجزه عم إخراج المأساة، ولقدرته على الملهاة الرخيصة دون غيرها. وعزز موليير حجتهم بتأليفه وعرضه مسلاة "فارص" متوسطة الجودة سماها "الديوث بالوهم" ولو أن الملك سر بأن يشهدها تسع مرات.
وكانت التغييرات تجري خلال ذلك في مبنى اللوفر القديم، فهدمت صالة البتي بوربون في استهتار، ولاح حيناً أن "فرقة المسيو" التي يرأسها موليير لن تجد لها مسرحاً. ولكن الملك العطوف دائماً بادر إلى إنقاذه بأن خصص له في الباليه-رويال "الصالة" التي خصصها ريشليو لعرض التمثيليات. وهناك ظلت فرقة موليير حتى مماته وكأنها جزء من جسم البلاط. وكان أول عرض له في هذا المأوى الجديد آخر محاولاته في المأساة، وهي "دون جراسي". وكان رأيه-وله فيه بعض العذر-(31/170)
أن أسلوب المأساة الخطابي الفخم كما طوره كورنبي، ومثلته فرقة الأوتيل ديورجون، أسلوب غير طبيعي، وكان يتطلع إلى أسلوب أبسط وأكثر طبيعية. ولو سمح له تسلط النزعة الكلاسيكية على المسرح (وفواقه) لجاز أن ينتج مزيجاً موفقاً من المأساة والملهاة كما فعل شكسبير، فإن في أعظم ملاهيه والحق يقال مسحة من المأساة. ولكن "دون جراسي" سقطت، برغم جهود الملك لدعمها بحضوره ثلاث حفلات، لقد كان قدر موليير أن يكابد المأساة لا أن يمثلها.
وعليه فقد عاد إلى الملهاة. ولقيت "مدرسة الأزواج" نجاحاً طيب خاطره إذ عرضت يومياً من 24 يونيو إلى 11 سبتمبر 1661. وقد آذنت بزواج موليير الوشيك، وكان وقتها في التاسعة والثلاثين من أرماند بيجار، ذات الثمانية عشر ربيعاً، ومشكلة المسرحية هي: كيف ينبغي أن يروض الشابة على أن تكون زوجة صالحة أمينة؟ فالشقيقان أريست وسجاناريل محظوظان لكونها الوصيين على الفتاتين اللتين ينويان الزواج منهما أما أريست، البالغ من العمر ستين عاماً، فيعامل فتاته القاصر ليونور، ذات الثمانية عشرة، بغاية اللين:
"لم أنظر إلى تجاوزاتها الصغيرة على أنها جرائم. ولقد لبيت على الدوام رغباتها الشابة، ولست ولله الحمد آسفاً على ذلك. فقد أذنت لها أن تخالط الأصحاب الطيبين، وتشهد الملاهي، والتمثيليات، والمراقص، فهذه أشياء أراها على الدوام صالحة لتربية عقول الشباب، وما الدنيا إلا مدرسة أحسبها تعلم طريقة العيش خيراً من أي كتاب. إنها نحب أن تنفق المال على الثياب، والقمصان، والأزياء الجديدة ... وأنا أحاول أن أشبع رغباتها، فهذه لذات ينبغي أن نتيحها للشابات متى استطعنا توفيرها لهن (14) ".
وأما الأخ الأصغر سجاناريل فيحتقر أريست لأنه إنسان أحمق ضللته أحدث الأوهام. وهو يأسف على زوال الفضائل القديمة وعلى انحلال الأخلاق(31/171)
الجديدة، وعلى وقاحة الشباب المتحرر. وهو ينوي أن يأخذ فتاته القاصر إيزابيل بنظام صارم ليرضيها على أن تكون زوجة مطيعة:
"لا بد أن ترتدي الملابس اللائقة ... فإذا لزمت بيتها كما تلزمه المرأة العاقلة انصرفت نجمعها إلى شؤون الزوجية، فترفو الثياب في ساعات فراغها أو تحبك الجوارب لتتسلى بها. ولن تخطو خطوة خارج البيت إلا إذا قام عليها رقيب ... إنني لن ألبس قروناً إذا استطعت إلى ذلك سبيلاً".
وبعد دسيسة بعيدة الاحتمال (منقولة عن ملهاة أسبانية) تهرب إيزابيل مع عاشق ذكي، في حين تتزوج ليونور من أريست وتظل وفية له إلى آخر التمثيلية.
وواضح أن موليير كان يحاور نفسه. ففي 20 فبراير 1662، وهو في الأربعين، تزوج بامرأة تصغره بنصف عمره. أضف إلى ذلك أن عروسه هذه-أرماند بيجار-كانت ابنة مادلين بيجار، التي كان موليير يعاشرها قبل عشرين عاماً. وقد اتهمه خصومه بالزواج من ابنته غير الشرعية. وكتب مونفلوري، رئيس فرقة دبورجون المنافسة، إلى لويس ينبئه بهذا في 1663، وكان جواب لويس أن جعل نفسه عراباً لأول طفل ولدته أرماند لموليير. أما مادلين، حين لقيها موليير، فكانت أشد احتفالاً بشخصها من أن تتيح لنا أي معرفة يقينية ينسب أرماند. ويبدو أن موليير لم يعتقد أنه أبو الفتاة، ولتا أن نفترض لأن معلوماته في هذه النقطة كانت أفضل قليلاً مما يمكن أن تكون عليه معلوماتنا نحن.
كانت أرماند قد شبت كأنها حيوان الفرقة المدلل. وكان موليير يراها كل يوم تقريباً، وقد أحبها طفلة قبل أن يعرفها امرأة بزمن طويل. وكانت الآن قد أصبحت ممثلة مكتملة النضج. أما وقد نشأت في هذا الجو فإنها لم تخلق لتكون زوجة لرجل واحد، لا سيما رجل قد أبلى روح الشباب.(31/172)
لقد أحبت لذات الحياة واستغرقت في معابثات فسرها الكثيرون على أنها خيانات للزوج، وعانى موليير من جراء ذلك، وكان أصدقاءه وأعداؤه يلوكون الشائعات عنه. وبعد زواجه بعشرة أشهر حاول أن يهدئ جراحه ينقد غيرة الرجال والدفاع عن تحرر النساء. لقد حاول أن يكون أريست، ولكن أرماند لم تستطع أن تكون ليونور. ولعله أخفق في أن يكون أريست لأنه كان نافذ الصبر شأنه شأن أي مخرج مسرحي. وفي "تمثيلية فرساي المرتجلة" (أكتوبر 1663) وصفه نفسه إذ يقول لزوجته "اسكتي أيتها الزوجة، فما أنت إلا حمارة" فتجيب "شكراً لك أيها الزوج الطيب. أنظر ما صار إليه أمرنا. أن الزواج يغير الناس تغييراً عجيباً، فما كنت لتقول هذا قبل سنة ونصف (15) ".
وواصل تأملاته في الغيرة والحرية في مسرحيته "مدرسة الزوجات" التي عرضت أول مرة في 16 ديسمبر 1662. ومنذ بدايتها تقريباً تراها تضرب على هذا الوتر-الزوج الديوث. فترى آرنولف الذي لعب موليير دوره هنا أيضاً طاغية من الطراز العتيق، يؤمن بأن المرأة المتحررة امرأة فاسقة، وأن السبيل الأوحد لضمان وفاء الزوجة هو ترويضها على الخدمة المتواضعة، وعلى فرض الرقابة الصارمة عليها وإغفال تعليمها. وتشب أنييس، القاصر التي كان وصياً عليها وعروسه المستقبلة، في براءة حلوة، حتى أنها تسأل آرنولف في عبارة تردد صداها في طول فرنسا وعرضها، "أيولد الأطفال من الأذن (16)؟ ". ولما كان آرنولف لم يتحدث إليها بشيء عن الحب، فأنها ترحب في سرور برئ بتودد هوراس الذي يجد طريقه إليها أثناء غيبة قصيرة للوصي. فإذا عاد آرنولف قصت عليه وصفاً موضوعياً لمسلك هوراس:
آرنولف: حسناً، ولكن ماذا صنع حين انفرد بك؟
آنييس: قال إنه يحبني حباً حاراً لا نظير له. وقال لي بألطف لغة في(31/173)
الدنيا أشياء لا يمكن أن يعدلها شيء. وقد أبهجني لطف حديثه كلما استمعت إليه، وأثار فيّ شيئاً لا أعرفه، عاطفة سحرتني تماماً.
آرنولف: (جانباً) ياله من تحقيق معذب في سر قتال، يعاني فيه المحقق كل الألم! (بصوت عال) ولكن علاوة على هذا الحديث كله، وهذه الأساليب اللطيفة كلها، ألم يقبلك بعض القبلات أيضاً؟
أنييس: أوه! إلى هذا الحد! لقد تناول يدي وذراعي ولم يتعب قط من تقبيلها.
آرنولف: ألم يأخذ شيئاً آخر منك يا أنييس؟ (ملاحظاً حيرتها) ها؟
أنييس: بلى، لقد.
آرنولف: ماذا؟
أنييس: أخذ.
آرنولف: كيف؟
أنييس: الـ.
آرنولف: ماذا تعنين؟
أنييس: لا أجرؤ على إخبارك، لأنك قد تغضب مني.
آرنولف: لا.
أنييس: نعم، ولكنك ستغضب.
آرنولف: يا للهول، لن أغضب.
أنييس: احلف إذن.
آرنولف: أحلف.
أنييس: أخذ- سيثور غضبك.(31/174)
آرنولف: لا.
أبييس: نعم.
آرنولف: لا، لا، لا، لا، بحق الشيطان ما هو هذا السر؟ ماذا أخذ منك؟
أنييس: أنه-
أرنولف: (جانباً) إني أقاسي عذاب الجحيم.
أنييس: أخذ الوشاح الذي أعطيتني، أصدقك القول أنني لم أستطع منعه.
آرنولف: (متمالكاً نفسه): لا بأس بالوشاح. ولكني أريد أن أعلم ألم يفعل شيئاً غير تقبيل يديك؟
أنييس: أيفعل الناس أشياء أخرى؟
آرنولف: لا، لا ... ولكني باختصار لابد أن أخبرك أن قبول علب الجواهر والاستماع إلى القصص العاطلة يقصها هؤلاء الغنادير المتبرجون، والسماح لهم وأنت مسترخية بتقبيل يديك وفتنة قلبك بهذه الطريقة-هذا كله خطيئة مميتة، بل أفظع خطيئة يمكن أن ترتكبيها.
أنييس: تقول خطيئة! والسبب من فضلك؟
آرنولف: السبب؟ لأنه مكتوب صراحة أن السماء تغضبها أفعال كهذه.
أنييس: تغضبها؟ ولكن لم تغضب السماء؟ وا أسفاه؟ إنه شيء حلو لذيذ، تعجبني البهجة التي أجدها فيه، ولم أعرف من قبل هذه الأشياء.
آرنولف: نعم، هناك الكثير من اللذة في هذه العواطف الرقيقة، وهذه الأحاديث اللطيفة، وهذه القبل الحارة، ولكن ينبغي تذوقها بطريقة شريفة، والزواج كفيل بأن يمحو عنها الخطيئة.
أنييس: أفلا تعد خطيئة إذا كان الإنسان متزوجاً؟(31/175)
آرنولف: نعم.
أنييس: أرجوك إذن أن تتزوجني حالاً (17).
وتهرب أنييس إلى هوراس بعد قليل طبعاً. ولكن آرنولف يقتنصها من جديد ويوشك أن يضربها حين يوهن من عزيمته حلاوة صوتها وجمال جسدها، وربما كان موليير يفكر في أرماند وهو يكتب عبارات آرنولف التالية:
"أن ذلك الحديث وتلك النظرة يجردان غضبي من سلاحه، ويعيدان إليّ الحنان الذي يمحو ذنبها كله. فما أعجب أن يحب الإنسان! وأن يكون الرجال عرضة لمثل هذا الضعف أمام هؤلاء الخائنات! فكلنا يعرف نقصهن، فما هن إلا التبذير والحماقة، وذهنهن شرير وفهمهن ضعيف، وما من شيء أوهن منهن، ولا أقل ثباتاً، ولا أكذب، ومع ذلك كله فالرجل يصنع كل شيء في الدنيا من أجل هؤلاء الحيوانات (18) ".
وفي النهاية تهرب منه وتتزوج هوراس. أما آرنولف فيعزيه صديقه كريسالد بفكرة أن امتناع الرجل عن الزواج هو الطريقة الأكيدة الوحيدة التي تقيه من أن يطلع له قرناً في رأسه.
وأبهجت التمثيلية جمهورها، فمثلت إحدى وثلاثين مرة في الأسابيع العشرة الأولى، وكان في الملك من الشباب ما سمح له بالاستمتاع بخلاعها، ولكن عناصر البلاط الأشد محافظة انتقدوا الملهاة لما فيها من مجافاة للفضيلة، وكرهت السيدات فكرة الولادة من الأذن، وندد الأمير كونتي بمنظر الفصل الثاني الذي سقنا حواره من قبل بين آرنولف وأنييس زاعماً أنه أفضح ما عرض على خشبة المسرح. ولعن بوسويه التمثيلية برمتها، ودعا بعض القضاة إلى حظرها باعتبارها خطراً على الأخلاق والدين، وسخرت الفرقة المنافسة من ابتذال الحوار وتناقضات رسم الأشخاص وشطحات الحبكة المتعجلة. وظلت التمثيلية حيناً "حديث كل بيت في باريس (19) ".(31/176)
وكان في موليير من حب النضال ما لا يدعه يترك هذا النقد كله دون تعليق منه. ففي تمثيلية ذات فصل واحد مثلت في الباليه رويال في أول يونيو 1663، واسمها "نقد مدرسة الزوجات" عرض لنا لقاء بين نقاده وتركهم يعربون بعنف عن اعتراضاتهم، ولم يكد يرد عليها إلا بأن يدع النقد يضعف ذاته بمبالغته، وأن يجزيه على ألسنة شخصيات مثيرة للسخرية. وواصل الأوتيل دبورجون "الحرب الكوميدية" بإخراجه هزلية قصيرة سماها "الناقد المعارض"، وهجا موليير الفرقة الملكية في "تمثيلية فرساي المرتجلة" (17 أكتوبر 1663). وساند الملك موليير في وفاء، ودعاه إلى العشاء (20)، ومنحه الآن معاشاً سنوياً قدره ألف جنيه، لا بوصفه "ممثلاً كوميدياً" بل "شاعراً فذاً (21) ". كذلك نصر الزمن موليير، فمدرسة الزوجات تعتبر اليوم أول ملهاة عظيمة في المسرح الفرنسي.
4 - غرام طوطوف
ولكن موليير دفع ثمن حظوته لدى الملك. فلقد أحب لويس ظرفه وشجاعته، فجعله من كبار المنظمين للملاهي في فرساي وسان-جرمان. وقد ملأ أحد هذه المهرجانات المسمى "مباهج الجزيرة المسحورة" أسبوعاً (7 - 13 مايو 1664) بألعاب السيف والولائم والموسيقى والباليه والرقص والدراما-وكلها أقيم في حديقة فرساي وقصره تحت أضواء المشاعل والشمعدانات التي تحمل أربعة آلاف شمعة. وكوفئ موليير على جهوده في هذا المهرجان بستة آلاف جنيه. وقد أسف بعض الأدباء لإسراف الملك في استغلال عبقرية موليير لكي يوفر هذا اللهو الخفيف في البلاط، وتصوروا تلك الروائع التي كان من الجائز أن يكتمل نضجها لو أن الشاعر الكامن في الكوميدي أتيح له مزيد من الوقت للتفكير والكتابة. غير أنه كان واقعاً تحت ضغط من فرقته أيضاً، وما كانت شواغله ومسئولياته(31/177)
مديراً للفرقة وممثلاً بها لتسمح له على أية حال بالاعتكاف في أي برج عاجي. وما أكثر المؤلفين الذين يكتبون تحت ضغط ملح خيراً مما يكتبون في الفراغ، فالفراغ يرخي الذهن، والإلحاد يشحذه. ولقد أخرج موليير أعظم تمثيلياته أول مرة في 12 مايو 1664، في قمة "مباهج الجزيرة المسحورة"، وكانت جزءاً من المهرجان.
في هذا العرض الأول لم تكن "طرطوف" بالتمثيلية المناسبة تماماً للمهرجان، لأنها فضحت في غير رحمة ذلك النفاق الذي يتخفى خلف رداء من التقوى والفضيلة. وكانت جماعة دينية من الأخوة العلمانيين تدعى "جمعية السر المقدس"، وعرفت فيما بعد بـ"عصبة الورعين" قد قطعت العهود على أعضائها بأن يعملوا على حظر التمثيلية. أما الملك الذي كانت علاقته الغرامية بلافاليير قد أثارت كثيراً من نقد هؤلاء الورعين، فقد كان مزاجه يدعوه للاتفاق مع موليير، ولكنه بعد أن شاهد الملهاة في عرضها الخاص بفرساي أوقف الأذن بعرضها على نظارة باريس في الباليه-رويال. وطيب خاطر موليير بدعوته ليقرأ "طرطوف" في فونتنبلو على نخبة مختارة تضم ممثلاً للبابا لم يذكر التاريخ أنه اعترض عليها (21 يوليو 1664). في ذلك الشهر مثلت المسرحية في بيت دوق أورليان ودوقتها (هنرييتا آن)، في حضرة الملكة، والملكة الأم، والملك. وبينما كان يجري التمهيد لعرضها على الجماهير أذاع كاهن سان- برتلمي، بيير روليه، في أغسطس ثناء على الملك لحظره التمثيلية، واغتنم هذه الفرصة ليرمي موليير بأنه "رجل، بل شيطان متجسد في ثوب رجل، وأشتهر مخلوق فاسق منحل عاش إلى الآن". ثم قال الأب روليه إن جزاء موليير على تأليف طرطوف "أن يحرق على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم (22) ". ووبخ الملك روليه، ولكنه ظل يحبس الإذن بعرض طرطوف علناً. ولكي يظهر حقيقة موقفه رفع معاش موليير السنوي إلى ستة آلاف جنيه، وتلقى(31/178)
عن "المسيو" حماية فرقة موليير، فأصبحت منذ الآن "فرقة الملك".
وظل الجدل مضطرماً تحت الرماد عامين. ثم قرأ موليير على الملك نسخة منقحة من التمثيلية، أضاف إليها سطوراً تذكر أن الهجاء موجهاً ضد الإيمان الصادق بل ضد الرياء. وأيدت مدام هنربيتا التماس المؤلف الإذن بعرض المسرحية. ووافق لويس موافقة شفوية، وبينما كان منطلقاً إلى الحربفي فلاندر عرضت طرطوف لأول مرة على مسرح الباليه- رويال في 5 أغسطس 1667 بعد مرور ثلاث سنين على أول عرض لها في البلاط. وفي الغد أمر رئيس باريس، وكان ينتمي لجماعة السر المقدس، بغلق المسرح وتمزيق كل لافتاته. وفي 11 أغسطس حظر رئيس أساقفة باريس قراءة الملهاة أو سماعها أو تمثيلها سراً أو علانية، وإلا كان الحرم جزاء المخالف. وأعلن موليير أنه سيعتزل المسرح إذا استمر انتصار "الطراطيف" هذا. أم الملك الذي عاد إلى باريس فقد أمر الكاتب المسرحي الغاضب بأن يتذرع بالصبر، ففعل، وأثيب في النهاية برفع الحظر الملكي. وفي 5 فبراير 1669 بدأت التمثيلية فترة عرض ناجحة اتصلت ثمانية وعشرين مرة. وبلغ من كثرة الراغبين في دخول المسرح وتهافتهم عليه في أول حفلة علنية أن الكثيرين كادوا يختنقون. لقد كانت "أشهر مسرحية" في حياة موليير المسرحية. وقد حظيت دون جميع الدرامات الكلاسيكية الفرنسية بأكبر عدد من العروض-بلغت 2. 657 (حتى سنة 1960) في مسرح الكوميدي-فرانسيز وحده.
ولكن إلى أي حد تعلل محتويات التمثيلية تأجيلها الطويل، وشعبيتها المتصلة؟ أنها تعلل التأجيل بهجومها الصريح على التظاهر بالتقوى؛ وتعلل الشعبية بقوة هجائها وبراعته. وكل ما في ذلك الهجاء مبالغ فيه بالطبع. فقلما يكون الرياء مستهتراً كاملاً في طرطوف، وقلما يكون الغباء مفرطاً كما كان في أرجون، ليس هناك خادمة نجحت في وقاحتها كما نجحت(31/179)
دورين. وحل عقدة التمثيلية لا يصدق، كما هي الحال عند موليير دائماً تقريباً، ولكن هذا لم يقلقه، فبعد أن يقدم صورته واتهامه للنفاق، تكفي أي حيلة مسرحية-كتدخل الإله أو الملك-لحل العقدة بانتصار الفضيلة وعقاب الرذيلة. وأغلب الظن أن الهجاء قصد به جماعة السر المقدس الذين أخذ أعضاؤه على عاتقهم أن يوجهوا ضمائر الناس، حتى ولو كانوا علمانيين، ويبلغوا الخطايا السرية للسلطات العامة ويتدخلوا في شؤون العائلات لزيادة الولاء والإخلاص للدين. وقد أشارت التمثيلية مرتين إلى "عصبة" (في السطرين 397 و1705)، وواضح أن هذا تلميح إلى عصبة الورعين. وعقب العرض الأول للتمثيلية حلت جماعة السر المقدس.
أما أورجون، البرجوازي الغني، فيرى طرطوف لأول مرة في الكنيسة فينبهر لمرآه.
"آه لو رأيته ... إذاً لأحببته كما أحبه ... كان يأتي كل يوم إلى الكنيسة هادئ الهيئة ثم يركع بجواري. وقد لفت أنظار المصلين جميعاً بحرارة الابتهالات التي رفعها إلى السماء. كان يتأوه ويئن أنيناً شديداً، وفي كل لحظة يقبل الأرض في تذلل. فإذا شرعت في الخروج تقدمني ليقدم إليّ الماء المقدس عند الباب. وإذا أدركت .. رقة حاله .. كنت أهديه الهدايا، ولكنه كان على الدوام يعرض أن يرد إليّ بعضها .. وأخيراً حفزتني السماء على أن آخذه إلى بيتي، وبدا لي منذ تلك اللحظة أن كل شيء يزكو. وأنا أراه يلوم دون تفرقة بين الناس، وألحظ أنه، حتى فيما يتصل بزوجتي، شديد الحرص على عرضي. فهو ينبئني عمن يرمقها بنظرات الهيام (23) ".
ولكن طرطوف لا يروع زوجة أورجون وأبناءه كما راعه. ذلك أن شهيته الطيبة، وولعه بأطايب الطعام، وكرشه المكور، ووجهه المتورد(31/180)
كل أولئك يذهب في نظرهم بأثر عظاتهم. ويرجو كليانت زوج أخته أورجون أن يميز بين الرياء والدين:
"كما أنني لا أعرف في الحياة خلقاً أعظم ولا أجل من التقوى الصادقة، ولا شيء أنبل ولا أجمل من حرارة الورع المخلص، فإنني لا أرى شيئاً أشد نكراً من طلاء الغيرة الزائفة، ومن هؤلاء الدجالين، هؤلاء الأتقياء مظهراً ... الذين يتجرون بالتقوى، ويريدون أن يشتروا أسباب التكريم وحسن الأحدوثة برفع العيون إلى السماء في رياء، وبانتشاءات القداسة المفتعلة".
ولكن أورجون يمضي في تصديق مزاعم طرطوف، ويخضع لإرشاده، ويطلب له المعونة من الله إذا تشجأ، ويقترح تزويجه من ابنته ماريان التي تؤثر عليه فاليير في عنف، أما بطلة التمثيلية الحقيقية فهي دورين، خادمة ماريان، التي تبدو-كما في كل الملاهي الكلاسيكية-أنها تثبت أن العناية الإلهية وزعت العبقرية توزيعاً يتناسب تناسباً عكسياً مع المال. وما أبهج استقبالها لطرطوف عند دخوله المسرح أول مرة:
طرطوف: (يكلم خدمه بصوت عالٍ حين يرى دورين). يالورنس، أقفل على وشاحي الوبري وصوتي، والتمس من السماء أن تنيرك بالنعمة دائماً. وإذا جاء أحد لزيارتي فقل إني ذهبت إلى السجون لأوزع صدقاتي.
دورين: (جانباً) أي تصنع وأي لؤم!
طرطوف: ماذا تريدين؟
دورين: أن أقول لك-
طرطوف: (وهو يسحب منديلاً من جيبه) أوه. يا للهول. أرجوكِ أن تأخذي هذا المنديل مني قبل أن تتكلمي.(31/181)
دورين: ولم؟
طرطوف: غطي ذلك الصدر الذي لا أطيق رؤيته. مثل هذه الأشياء تؤذي النفس وتغري بالأفكار الآثمة.
دورين: ادنُ فأنت تذوب ذوباناً أمام التجربة، ومنظر الجسد يؤثر في حواسك تأثيراً شديداً؟ الحق أنني لا أعرف أي حرارة تلهبك، ولكني عن نفسي لست عرضة مثلك لهذا التلهف على الجسد. ففي وسعي الآن أن أراك عارياً تماماً من رأسك إلى قدمك، دون أن يغريني جلدك هذا كله أي إغراء (24).
والمنظر التالي لب الملهاة. ترى فيه طرطوف يطارح زوجة أورجون-ايلمير-الغرام، ويستعمل لغة التقى في توسلاته. وينبأ أورجون بخيانته، ولكن يأبى أن يصدق، وإظهاراً لثقته بطرطوف ينزل له عن أملاكه كلها. ويستسلم طرطوف لقبولها قائلاً "لتكن مشيئة السماء في كل شيء (25) " وتحل ايلمير الموقف إذ تخبئ زوجها تحت مائدة، وترسل في طلب طرطوف، وتلوح له ببارقة تشجيع، ثم توقعه في محاولات للاستطلاع الغرامي. وتتظاهر بالرضى، ولكنها تزعم أنها تحس وخزات الضمير، فيتناول طرطوف هذا الزعم بفتوى الخبير، وواضح أن موليير قرأ من قبل رسائل بسكال الريفية واستطابها:
"طرطوف: إذا لم يكن غير السماء عقبة في طريق رغباتي، فما أيسر أن أزيح هذه العقبة-صحيح أن السماء تنهى عن لذات معينة، ولكن هناك طرق لتسوية تلك الأمور. فشد أوتار الضمير وفق مقتضيات الحال، وتصحيح فساد الفعل بطهارة النية-ذلك علم أي علم (26) ".
ويظهر أورجون من مخبئه، ويأمر طرطوف غاضباً بأن يخرج من بيته، ولكن طرطوف يبين له أن البيت أصبح ملكاً له بحكم العقد الذي وقعه أورجون مؤخراً. ويقطع موليير هذه العقدة، دون كبير براعة، بأن يجعل(31/182)
عمال الملك يكتشفون في اللحظة المناسبة أن طرطوف مجرم تبحث عنه العدالة منذ زمن طويل. ويستعيد أورجون أملاكه، ويظفر فالير بمريان، وتختتم التمثيلية بنشيد شكر شجي يشيد بعدل الملك وإحسانه.
5 - الملحد العاشق
ولكن إحسان الملك لابد قد أرهقته تمثيلية موليير الجريئة التالية. ففي ذروة الحرب المحتدمة حول "طرطروف"، وبينما كانت جماعة الورعين لا يزالون منتصرين في أمر حظر التمثيلية، وعرض موليير في الباليه-رويال (15 فبراير 1665) مسرحية "وليمة التمثال الحجري" التي قص فيها بنثر يطفر مرحاً قصة دون جوان القديمة المكررة، وجعل فيها ذلك الزير المستهتر ملحداً مغروراً. وقد أخذ شكلها الظاهر عن تيرسودي مولينا وغيرهم، ولكنه ملأها بدراسة رائعة لرجل يلتذ الشر لذاته وتحدياً لله. والمسرحية صدى مدهش لذلك الجدل الكبير الذي تورط فيه الدين مع الفلسفة.
ودون جوان تينوريو مركيز يسلم بالتزاماته قبل طبقته، ولكنه فيما عدا ذلك يريد أن يستمتع بما يشتهي من لذات. ويحصي تابعه سجاناريل عدد النساء اللاتي أغواهن مولاه ثم هجرهن فيجدهن 1. 003. يقول جوان "إن الوفاء صفة لا تصلح إلا للحمقى .. فليس في وسعي أن أحرم قلبي من أي مخلوقة جميلة أراها (27) " ومثل هذا الخلق يتوق إلى لاهوت يلائمه، ومن ثم يصبح جوان ملحداً ابتغاء راحته. ويحاول خادمه أن يناقش الأمر معه:
سجاناريل: أممكن أنك لا تؤمن بالجنة؟
جوان: انسَ الموضوع.
سجاناريل: أي أنك لا تؤمن. وما رأيك في جهنم؟(31/183)
جوان: أه!
سجاناريل: كإيمانك بالجنة. وما رأيك في الشيطان من فضلك؟
جوان: نعم، نعم.
سجاناريل: قليلاً جداً كذلك. أن ألا تؤمن بحياة أخرى على الإطلاق؟
جوان: ها، ها، ها.
سجاناريل: هذا رجل سيشق عليّ هدايته. ولكن قل لي، لا بد أنك تؤمن بـ"الراهب الفظ (1) ".
جوان: تباً للأحمق.
سجاناريل: أما هذا فلا أطيقه، لأن ليس هناك كائن وجوده مؤكد كهذا الراهب الفظ، وقاتلني الله إن لم يكن وجوده حقيقياً. ولكن المرء يجب أن يؤمن بشيء. فبأي شيء تؤمن؟ ...
جوان: أؤمن بأن اثنين واثنين يساوي أربعة، وأربعة وأربعة يساويان ثمانية.
سجاناريل: يا لها من عقيدة جميلة ومواد إيمان رائعة! إذن فدينك-على قد ما أفهم-هو الحساب؟ أما أنا يا مولاي ... فأفهم جيداً أن هذا العالم ليس شيئاً كالفطر نما في ليلة واحدة. أريد أن أسألك منذا الذي صنع هذه الأشجار والصخور والأرض والسماء من فوقنا؟ أهذا كله بنى نفسه بنفسه؟ أنظر إلى نفسك مثلاً، فها أنتذا موجود، أصنعت نفسك، وألم يكن لزاماً أن يغشى أبوك أمك ليصنعك؟ أتستطيع أن ترى كل المخترعات التي تتألف منها الآلة البشري دون أن تعجب كيف يشغل الجزء منها جزءاً أخر؟ ومهما قلت، فإن هناك شيئاً معجزاً في الإنسان لم يستطيع كل المتنطعين في العلم أن يفسروه. أليس عجيباً أن تراني هنا، وأن في رأسي
_________
(1) شبح مزعوم يخوف به المربيات والأمهات الأطفال.(31/184)
شيئاً يفكر في مائة شيء مختلف في لحظة ويأمر بدني بأن يصنع ما أريد؟ أريد أن أصفق بيدي، وأرفع ذراعي، وأنظر بعيني إلى السماء، وأخفض رأسي، وأحرك قدمي، وأمشي يميناً، ويساراً، وأماماً، وخلفاً، وأدور (يقع على الأرض وهو يدور).
جوان: هذا حسن! أن لحجتك أنفاً مكسوراً (28).
وفي المشهد التالي تتخذ الخصومة بين جوان والدين صورة أخرى. فهو يلتقي بشحاذ يزعم أنه يصلي كل يوم من أجل المحسنين إليه، فيقول جوان: "أن رجلاً يصلي كل يوم لابد أن يكون غنياً جداً" ويجيب الشحاذ إن الأمر على العكس من ذلك "ففي أكثر الأحيان لا أجد حتى كسرة خبز" ويعرض عليه جوان جنيهاً ذهبياً شريطة أن يجدف، ولكن الشحاذ يرفض "إني أفضل الموت جوعاً" ويذهل جوان قليلاً لهذه الصلابة فيعطيه قطعة النقود وهو يقول "حباً في الإنسانية (29) " ويعرف كل رواد الأوبرات نهاية القصة، إذ يصادف جوان تمثالاً للقائد الذي أغوى ابنته وأودى بحياته. فيدعوه التمثال إلى العشاء، فيحضر، ويناوله يده، فيقوده إلى الجحيم. ويظهر الجهاز الشيطاني المعهود في المسرح الوسيط، "فينقض الرعد والبرق بضوضاء عظيمة على دون جوان، وتفغر الأرض فاها وتبتلعه، وتندلع نار هادئة من المكان الذي سقط فيه".
وقد صدم الجمهور في أول ليلة لما رأي من فضح موليير لكفر جوان. ولعل هذا الجمهور لم يكن يرى بأساً بأن يفضح سفالة جوان وافتقاره إلى اللاهوت، وبأنه أماط اللثام عنه وحشاً لا ضمير له ولا حنو، ينشر الخداع والحزن أينما ذهب، ولعله لاحظ أن المؤلف عرض ضحايا الوغد بكل ما فيه من عطف، ولكنه لاحظ أن الرد على الكفر جاء على لسان أحمق يؤمن بالعفاريت إيماناً أرسخ من إيمانه بالله، ولم يخفف من وقع هذا الكفر إلقاء جوان في الجحيم أخيراً، لأن الجمهور رآه يهبط إلى الجحيم(31/185)
دون كلمة ندم أو خوف. وبعد العرض الأول خفف موليير من حدة أكثر الفقرات إيذاءً، ولكن هذا لم يهدئ ثائرة الرأي العام. ففي 18 إبريل 1665 نشر سيد روشمون، المحامي في البرلمان، "ملاحظات حول مسرحية لموليير" فيها وليمة التمثال الحجري بأنها "شيطانية حقاً .. لم يظهر قط أفسق منها حتى في العهود الوثنية" ثم أهاب بالملك أن يحضر التمثيلية:
"فبينما يحرص هذا الملك النبيل الحرص كله على صون الدين، نرى موليير يعمل على هدمه .. فليس في وسع إنسان مهما قل علمه بتعاليم الدين أن يؤكد بعد رؤية التمثيلية أن موليير أهل للمشاركة في تناول الأسرار المقدسة مادام سادراً في عرضها، أو يستحق أن تقبل توبته دون عقاب علني (30) ".
ولكن لويس واصل رضاءه عن موليير. ومثلت "وليمة التمثال الحجري" ثلاثة أيام كل أسبوع من 15 فبراير إلى أحد السعف. ثم سحبت، ولم تعد إلى خشبة المسرح إلا بعد موت مؤلفها بأربع سنوات، ولم تعد إلا على صورة اقتباس شعري بقلم توما كورنبي الذي حذف المشهد الفاضح الذي نقلناه. أما النسخة الأصلية فقد اختفت، ثم اكتشفت ثانية في 1813 طبعة مسروقة نشرت بأمستردام في 1680. وظلت نسخة كورنبي تحتكر المسرح حتى 1841، وهي لا تزال تحتل مكان الأصل في بعض طبعات أعمال موليير (31).
6 - موليير في أوجهِ
وكأن موليير لم يكفه ما أثار عليه من خصوم، فراح يهاجم مهنة الطب. وكان قد صور دون جوان بأنه "فاجر في الطب" ورأى أن الطب "من اكبر كبائر الإنسانية (32) " وكان قد خبر بنفسه ما في أطباء القرن السابع عشر من قصور وغرور. وخيل إليه أن الأطباء قتلوا ابنه وصفوا له حجر الكحل (الأنتيمون)، ورآهم يقفون موقف العاجز من تدرنه(31/186)
الذي يسير بخطى حثيثة (33). كذلك كان الملك ساخطاً على ما يعطونه من مسهلات وما يصفدون من دمه كل أسبوع. ويقول موليير إن لويس هو الذي أغراه بوضع الأطباء على السفود. وعليه فقد كتب في خمسة أيام تمثيلية "الحب خير طبيب" مستعيراً من الملاهي القديمة في هذا الموضوع القديم. وقد أخرجت بفرساي في 15 سبتمبر 1665 في حضرة الملك الذي "ضحك لها من قلبه" ولقيت الترحيب الحار حين مثلت بعد أسبوع في الباليه-رويال. وهي تحكي قصة مريضة يدعى لفحصها أربعة أطباء. فيختلون للمداولة، ولكنهم لا يناقشون إلا شئونهم الخاصة. فإذا أصر والد المريضة على قرار وعلاج، وصف أحدهم لها حقنة شرجية، وأقسم الآخر أن الحقنة ستقتلها لا محالة. ثم تتعافى المريضة بغير دواء، الأمر الذي يثير سخط الأطباء، فيصيح الدكتور باييز "خير لها أن تموت طبقاً للقواعد من أن تشفى مخالفة لها (34) ".
وفي 6 أغسطس 1666 عرض موليير مسرحية قصيرة أخرى هي "الطبيب برغم أنفه" مقدمة مسرحية لمسرحيته "مبغض البشر" قصد بها أن يخفف من كآبة هذه التمثيلية التي تتغنى بالتشاؤم. وهي لا تجزي جهد قارئها اليوم بأن موليير لم يقصد أن تؤخذ هجائياته للطب مأخذ الجد. ويلاحظ أنه ظل على علاقات طيبة جداً مع طبيبه الخاص، المسيو دموفلان، وأنه توسط لدى الملك ليجد وظيفة شرفية لابن هذا الطبيب (1669) وقد شرح مرة كيف كان هو وموفلان منسجمين تمام الانسجام فقال "إننا نناقش الأمر، ويصف هو العقاقير، وأنا أغفل تعاطيها، ثم أشفى (35) ".
وبينما كان موليير لا يزال في وطيس المعركة حول طرطوف، قدم في 4 يونيو 1666 هجائية أخرى لم يقصد بها أن يسر الجمهور ولا الحاشية وإذا كانت الحركة روح المسرحية، فإن هذه المسرحية "مبغض البش" أقرب إلى الحوار الفلسفي منها إلى التمثيلية، وتكفي جملة واحدة لتلخيص القصة؛ فألسيست، الذي يطالب نفسه وغيره بالفضيلة الصارمة والصراحة(31/187)
الكاملة يحب سيليمين التي تؤثره، ولكن يطيب لها أن ترى العدد العديد من الخطاب وتسمع الكثير من المديح. ويجد موليير في هذا مجرد ذريعة لدراسة الفضيلة. فهل من واجبنا أن نقول الصدق دائماً، أم نحل المجاملة محل الصدق لكي نتقدم في هذه الدنيا؟ أما ألسيست فيرفض أنصاف الحلول التي يتراضى بها المجتمع مع الصدق، ويندد برياء البلاط، حيث يتظاهر كل إنسان بأسمى العواطف و"أحر التحيات" في حين يكيد كلٌ لغيره سراً تحقيقاً لمصلحته الشخصية، ويغتابهم جميعاً، ويستعين بالتملق على نيل الحظوة أو السلطة. وألسيست يحتقر هذا كله، ويريد أن يكون صادقاً ولو أفضى به الصدق إلى الانتحار. ويصر شويعر من رجال البلاط يدعى أورونت على قراءة أشعاره على ألسيست، ويطلب إليه أن ينقدها نقداً مخلصاً؛ وينال ما طلب، فيهدد ويتوعد بالانتقام. وتغازل سيليمين الرجال، فيوبخها ألسيست، فتصفه بأنه إنسان متزمت مغرور، ونكاد نسمع موليير يوبخ زوجته المرحة، والواقع أنه هو الذي لعب دور ألسيست، وهي التي مثلت سيليمين:
ألسيست: سيدتي، أتسمحين لي أن أكون صريحاً معك؟ إنني لشديد الاستياء من تصرفاته .. أنا لا أتشاجر معكِ، ولكن مسلككِ يا سيدتي يفتح لأول وافد سبيل إلى قلبك. إن لك عدد هائلاً من العشاق الذين نراهم يحاصرونكِ، ونفسي لا تستطيع الرضى بهذا.
سيليمين: أتلومني لأنني أجذب العشاق؟ أهو ذنبي أن الناس يجدونني جديرة بالحب؟ وإذا بذلوا المحاولات اللطيفة لرؤيتي أفآخذ عصا وأطردهم خارجاً؟.
ألسيست: لا، ليست العصا هي ما يجب أن تستعمليه، بل روحاً أقل استسلاماً وذوباناً أمام عهودهم. أعرف أن جمالك يتبعك في كل مكان ولكن ترحيبك يزيد من تجتذبه عيناك تعلقاً بك، وتلطفك مع جميع من يستسلمون لك يكمل في قلوبهم فعل مفاتنك (36).(31/188)
والنقيض الفلسفي لألسيست هو صديقه فيلانت، الذي ينصحه بأن يلائم في لطف بين نفسه وبين ما في البشر من نقائض فطرية وأن يعترف باللطف ميسراً للحياة. وسحر المسيحية في قسمة موليير عواطفه بين ألسيست وفيلانت. فألسيست هو موليير الزوج الذي يخشى أن يكون ديوثاً، ومنجد حجرة الملك الذي عليه-لكي يعد سرير الملك-أن يتصدى لمائة نبيل يفاخرون بنسبهم مفاخرته بعبقريته. وفيلانت هو موليير الفيلسوف، الذي يأمر نفسه بأن يكون معقولاً متسامحاً في الحكم على البشر. يقول فيلانت-موليير لموليير-ألسيست في فقرة لنا أن نعتبرها نموذجاً من موليير الشاعر:
"رباه: فلنقلل من ضيقنا بعادات العصر، ولنتسامح قليلاً مع الطبيعة البشرية، ولا نفحصها بصرامة شديدة، بل ننظر إلى عيوبها بشيء من التساهل. فالحياة في هذه الدنيا تتطلب فضيلة مرنة طيعة، وقد يخطئ المرء بغلوه في الحكمة، فالعقل الكامل يتجنب كل تطرف، ويريدنا أن نكون حكماء في اعتدال. إن التزمت الشديد في فضائل القدماء يصدم كثيراً عصرنا والعرف السائد بيننا، فهو ينشد في البشر كمالاً مفرطاً؛ علينا أن نلين للزمن دون تصلب، والحماقة كل الحماقة في أن نورط أنفسنا في تقويم أخطاء العالم. أني ألحظ كما تلحظ كل يوم عشرات الأشياء التي كان يمكن أن تكون خيراً مما هي لو أنها سلكت طريقاً غير طريقها، ولكن مهما تكشف لي في كل خطوة، فإن الناس لا يروني ساخطاً مثلك. أنني لأتقبل الناس على علاتهم في هدوء كثير، وأروض نفسي على التجاوز عما يفعلون، وأعتقد أن في برودة طبعي من الفلسفة ما في مرارة طبعك، سواء كنت في البلاط أو في المدينة" (37).
وفي رأي نابليون أن حجة فيلانت هي الأرجح، أما جان دارك روسو فرأيه أن فيلانت كذاب، وهو يحب فضيلة ألسيست الصارمة (38). وفي النهاية يهجر ألسيست العالم كما هجره جان دارك ويعتكف في عزلة معقمة.(31/189)
ولم تحقق التمثيلية من النجاح إلا قدراً معتدلاً. فالحاشية لم تسغ هجو تظرفها، وجمهور الصالة لم يتحمسوا لرجل كألسيست يحقر كل شيء صراحة إلا نفسها. ولكن النقاد-الذين لا هم من جمهور الصالة ولا من الحاشية-صفقوا للمسرحية استحساناً، وقالوا إنها محاولة جريئة لتأليف مسرحية الأفكار، أما النقاد المحدثون فيرونها أكمل عمل كتبه موليير. وبمضي الزمن، وبعد أن مات جيلها الذي شهرت به، لقيت قبولاً عاماً، ففيما بين عام 1680 و1954 مثلت 1571 مرة في الكوميدي فرانسيز-ولم يفقها في حفلات تمثيلها سوى طرطوف والبخيل.
ولما عجز موليير عن العيش في سلام مع زوجة شابة بدا لها الاقتصار على زوج واحد، والجمال، أمرين متناقضين، هجرها (أغسطس 1667) وذهب ليعيش مع صديقه شابلان في أونوى بالطرف الغربي لباريس. وقد استخف به شابلان في رفق لأنه يأخذ الحب مأخذ الجد إلى هذا الحد، ولكن موليير كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً. وقد اعترف بهذا (إذا صدقنا شاعراً يروي عن آخر):
"لقد صممت على أن أعيش معها كأنها ليست زوجتي، ولكن لو علمت ما أكابد لأشفقت عليّ. فلقد بلغ بي الغرام بها مبلغاً يجعله يتغلغل بعطف في كل اهتماماتها. وحين أتأمل استحالة تغلبي على ما أحس به نحوها، أقول لنفسي إنها ربما تكابد نفس المشقة في التغلب على ميلها لأن تكون لعوباً، وعندها أجد نفسي أميل للشفقة عليها مني للومها. ستقول لي ولا ريب إن الرجل لابد أن يكون شاعراً لكي يحس بهذا، ولكني شخصياً أحس أنه ليس هناك سوى نوع واحد من الحب، وأن أولئك الذين لم يحسوا بهذه الخلجات لم يحبوا حباً صادقاً قط. فكل الأشياء في الدنيا مرتبطة بها في قلبي ... وحين أراها يجردني من كل قدرة على التفكير ضرب من الانفعال، بل نشوات تحس ولا توصف، فلا تعود لي عينان(31/190)
تبصران سوءاتها، ولا أرى غير كل جميل محبب فيها. أليس هذا منتهى الجنون (39)؟ ".
وقد حاول أن يسلوها بإغراق نفسه بعمله. ففي 1667 شغل نفسه بتنظيم حفلات الترفيه للملك في سان-جرمان. وأحيت ملهاته "أمفيتريون" (13 يناير 1668) من جديد غراميات جوبيتر الذي يغوي الكمين زوجة أمفيتريون. وحين قال لها جوبيتر "إن مقاسمة المرأة جوبيتر فراشها ليس فيها أي غض من شرفها" فسر كثير من السامعين العبارة بأنها تصفح عن غرام الملك بمدام دمونتسبان، فإذا كان هذا التفسير صحيحاً فهو تملق غاية في السخاء، لأن موليير لم يكن مزاجه آنذاك يسمح له بالتعاطف مع من يغوون الزوجات. لقد كان ككل إنسان آخر يداهن الملك بعبارات الزلفى كما فعل في خاتمة طرطوف. وفي ملهاة أخرى مثلت أمام البلاط في 15 يوليو، واسمها "جورج داندان، أو الزوج المبلبل" تطالعنا مرة أخرى قصة الزوج المبلبل، الذي يتهم زوجته بالزنا ولكنه لا يستطيع إثبات التهمة فيأكل قلبه بالشك والغيرة؛ لقد كان موليير يسكب الملح في جراحه.
وكان عاماً حافلاً بالعمل، فبعد بضعة أشهر لا أكثر (9 سبتمبر) أخرج واحد من أشهر تمثيلياته وهي "البخيل". وقد اتخذت موضوعها وجزءاً من حبكتها من مسرحية بلوتوس "أولولاريا" ولكن بلوتوس كان قد نقل مسرحيته عن "الملهاة الجديدة" عند اليونان. وأغلب الظن أن البخيل وهجوه القديمان قدم المال، ولكن أحداً لم يتناول هذا الموضوع بحيوية وقوة أكثر من موليير. فترى آرباجون يتعلق بماله تعلقاً يحمله على ترك خيله تتضور جوعاً وتسير بغير حوافر، وهو يكره العطاء كراهية تجعله لا "يعطيك" نهاراً سعيداً (أن يقرئك التحية) بل "يقرضك نهاراً سعيداً". وحين يرى شمعتين موقدتين استعداداً للعشاء يطفئ إحداهما.(31/191)
وهو يرفض أن يمنح ابنته مهراً، ويثق أن ابنه وابنته سيموتان قبله (40). والهجو هنا، كما هو في موليير عادة، يقرب من الكاريكاتور. ولم يسغ الجمهور الصورة، وبعد أن مثلت المسرحية ثمان مرات سحبت، ولكن ثناء بولو عليها أعان على فتح الحياة فيها، فعرضت يبعاً وأربعين مرة في سنواتها الأربع الأولى، ولا يفوقها في عدد عروضها غير طرطوف.
أما مسرحية "البرجوازي مدعي النبل" فكانت أقل جودة وأكثر توفيقاً. وقصتها أنه في ديسمبر 1669 قدم إلى فرنسا سفير تركي. وأتخذ البلاط كل أبهته ليقع في نفس السفير، ولكن السفير استجاب في جمود وصلف. وبعد رحيله دعا لويس وموليير ولولي إلى تأليف كوميديا تجمع بين الباليه والملهاة وتحاكي الأتراك محاكاة ساخرة. ووسع موليير الخطة فجعلها هجائية تذم العدد المتعاظم من فرنسيي الطبقة الوسطى الذين يجاهدون للبس والحديث كما يلبس ويتحدث الأرستقراطيين بالمولد. ومثلت الملهاة أول مرة أمام الملك والبلاط بشامبور في 14 أكتوبر 1670. ولما عرضت بالباليه-وريال في نوفمبر، عوضت الخسارة المالية التي ألحقها بالفرقة عروض "البخيل". ومثل موليير دو مسيو جوردان، ومثل دور المفتي. ورغبة في خلع النبالة على مظهره، يستأجر مسيو جوردان معلماً للموسيقى، وآخر للرقص، وثالثاً للمبارزة، ورابعاً للفلسفة. ويتعارك هؤلاء ويتضاربون على أهمية فنونهم-فأيها أهم، تحقيق الغنائم، أم الخطو الموقع، أم القدرة على القتل المحكم، أم الحديث بالفرنسية الرشيقة؟ ونلحظ في مزاعم معلم الموسيقى غمزة خبيثة قصد بها لولي المتفاخر المتسلق. ويعرب نصف العالم ذلك المشهد الذي يتعلم فيه جوردان أن اللغة كلها إما نثر وإما شعر:
مسيو جوردان: ماذا؟ إذا قلت "إتيني نحفي يانيكول"، و"ناولني طاقيتي" أيكون هذا نثراً؟
معلم الفلسفة: نعم يا سيدي.(31/192)
مسيو جوردان: يميناً، لقد ظللت أربعين سنة أتكلم النثر وأنا لا أدري. إنني والحق مدين لك جداً بإنبائي بهذا (41).
على أن بعض رجال الحاشية الذين كانوا غير بعيدي العهد بالتخرج من التجارة إلى النبالة أحسوا انهم المقصودون بهذا الهجاء، فسخروا بالتمثيلية زاعمون أنها لغو فارغ، ولكن الملك قال لموليير مؤكداً "أنك لم تكتب في حياتك شيئاً أمتعني كهذا". يقول جيزو "إن البلاط تملكته نوبة من الإعجاب بمجرد سماعه هذا الثناء (42) ".
وتعاون موليير ولولي ثانية ومثلا أمام البلاط (يناير 1671) "بسيشيه"، وهي مزيج من الباليه والمأساة، شارك بيير كولمبي وكنو بأكثر أبياتها. وكان لولي يكسب المعركة ضد موليير، فالملهاة تخلي مكانها للأوبرا، والحوار للآلات، وكان لزاماً إنزال الأرباب والربات من السماء أو رفعهم من الجحيم، واقتضى الأمر إعادة بناء المسرح في الباليه-رويال لهذه التمثيلية، وكلف هذا 1. 989 جنيهاً. ولكن الإخراج حقق نجاحاً مالياً.
بيد أن الرومانس لم تكن أقوى جوانب موليير، وكان أكثر انطلاقاً ويسراً حين يهزأ بسخافات جيله. وقد خيل إليه المرأة المتعلمة شذوذ متعب وعقبة في طريق الزواج. ولقد سمع هؤلاء النسوة يشذبن الألفاظ، ويناقش دقائق النحو، ويقتبسن من الآداب القديمة، ويتكلمن الفلسفة، ووقر هذا في إذن موليير وكأنه انحراف جنسي، أضف إلى ذلك أن رجلين-هما الأب كوتان والشاعر ميناج-كانا يهاجمان بعنف مسرحيات موليير، فها هي ذي الفرصة قد لاحت لوخزهما. وعليه ففي 11 مارس 1672 قدم مسرحية "النساء العالمات". ففيلامن تطرد خادمة لاستعمالها لفظاً رفضه المجتمع اللغوي، وابنتها أرماند ترفض الزواج لأنه اتصال مقزز بين الأجساد لا امتزاج بين العقول؛ ويقرأ تريسوتان شعره الكريه على هاتين(31/193)
المرأتين المتكلفتين المعجبتين. ويملأ فلديوس الشعر بالألغاز والمعميات، ويقرأ المزيد من شعره وشعر تريسوتان. ويدافع موليير عن هنرييت ضد هؤلاء جميعاً، لأنها تستهجن أبيات الشعر (السداسية) وتريد زوجاً يمنحها الأبناء لا الإبجرامات. ترى هل أصبحت أرمند بيجار إحدى المتحذلقات؟ أم أن موليير كان يعرض عصره؟
7 - ستار
إنه لم يجاوز الخمسين الآن، ولكن حياته المحمومة، وتدرنه، وزواجه، وأحزانه لفقد أحبائه، استنزفت حيويته. إن مينار رسمه في ريعان شبابه: أنف كبير وشفتان شهوانيتان وحاجبان مرفوعان بشكل مضحك، ولكن له إلى جانب هذا جبهة متجعدة وعينين حزينتين. ذلك أن انهماكه في دوامة المسرح من بلد إلى بلد، يوماً بعد يوم، وتعامله مع الممثلات الأوليات المتوترات الأعصاب، ومع زوجة منعمة بالحياة، ومع ملك حساس، ورؤيته اثنين من أطفاله الثلاثة يموتان-كل هذا لم يكن طريقاً مفروشاً بالرياحين إلى التفاؤل، بل طريقاً عريضاً لسوء الهضم والموت المبكر. لا عجب إذن أن يصبح موليير "بركاناً يلتهم ذاته (43) "، إنساناً مكتئباً، حاد الطبع، نقاداً في غير مجاملة، ولكنه رغم ذلك كريم النفس عطوف. وقد فهمته فرقته وأخلصت له الود، موقنة أنه يفني نفسه ليوفر لها القوت ويكفل لها النجاح. وكان أصدقاؤه على استعداد دائم لخوض المعركة دفاعاً عنه-لا سيما بوالو، ولا فونتين، اللذين كتبا مع موليير، بمشاركة راسين أحياناً، "الأصدقاء الأربعة" المشهورة. ولقد وجدوا فيه التعليم الحسن والإطلاع الواسع، وعرفوه ذكياً ظريفاً وإن قل مرحه؛ لقد كان المهرج الساخر على خشبة المسرح، ولكنه في حياته الخاصة أشد حزناً من جاك (في مسرحية شكسبير "كما تشاء").(31/194)
وبعد أن انفصل عن زوجته أربع سنوات ونصفاً عاد إليها (1671). ومات الطفل الذي أثمره هذا التصالح بعد شهر من ولادته. وكان يعيش في أوتوي قبل ذلك على اللبن كما أوصاه طبيبه، فعاد الآن إلى شرب النبيذ على عادته، وحضر سهرات العشاء المتأخر إرضاء لأرماند. وقرر أن يمثل الدور الأول برغم تفاقم سعاله، دور أرجان، في آخر تمثيلياته "المريض بالوهم" (10 فبراير 1673).
وأرجان هذا يتوهم بأنه مصاب بالعديد من الأمراض، وينفق نصف ثروته على الأطباء والعقاقير. ويحتقر أخوه بيرالد:
"أرجان: فما الذي يجب أن نصنعه حين نمرض؟
بيرالد: لا شيء يا أخي ... علبنا أن نحتفظ بهدوئنا لا أكثر.
والطبعة ذاتها إذا تركناها وشأنها، كفيلة بأن تخلص نفسها بلطف من الخلل الذي وقعت فيه. إن الذي يفسد كل شيء هو نكراننا لصنيعها ونفاد صبرنا، وكل الناس تقريباً يموتون بالدواء لا بالداء (44) ".
ولمزيد من السخرية بمهنة الطب يقال لأرجان إن في استطاعته هو نفسه أن يصبح طبيباً بإجراء مختصر، وأن يجتاز بسهولة الامتحان للحصول على الإجازة الطبية. ويلي ذلك الامتحان المزيف الذي تسأل فيه اللجنة أرجان (1) ,
وكاد موت موليير أن يكون جزءاً من هذه التمثيلية. ففي 17 فبراير
_________
(1) يحاول بيرالد في هذا الفصل الأخير من الملهاة أن يسلي الأسرة، فيكلف أصحابه الممثلين بفاصل يمثل قبول أرجان طبيباً في الفيزياء على أنغام الموسيقى والرقص، ويقترح اشتراك الجميع في المهزلة، وأن يمثل أرجان الجور الرئيسي فيها. ويدخل موكب الصيادلة والجراحين والأطباء، ويجلس أرجان عند قدمي الرئيس الذي يخاطب لجنة الامتحان بخليط لغوي هازل طالباً إليهم أن يوجهوا أسئلتهم لأرجان. فيسألونه عن العقاقير والأمراض وعلاجها، وعقب كل جواب يبدي الخورس استحسانه وجدارة أرجان بالمهنة، فيحلفه الرئيس ويجيزه، ويهتف الخورس بحياته داعياً له بطول العمر. (المترجم)(31/195)
1673 طلب إليه أرماند وغيرها، حين رأوا إعياءه، أن يغلق المسرح أياماً حتى يتمالك صحته. فسألهم، "ولكن كيف أصنع هذا؟ إن هناك خمسين عاملاً فقيراً ينقدون أجرهم يوماً بيوم، فماذا هم فاعلون إذا توقفنا عن التمثيل؟ إنني لألوم نفسي على أنني أهملت توفير القوت لهم يوماً واحداً مادام في طاقتي أن أمثل (45) ". وفي الفصل الأخير من التمثيلية، وبينما كان كوليير، في دور أرجان (الذي تظاهر بالموت مرتين) يلفظ كلمة Juro ( أحلف) وهو بقسم يمين المهنة، أخذته نوبة سعال مقترنة بتقلصات. فداراها بضحكة كاذبة وأنهى التمثيلية. وهرعت به زوجته والممثل الشاب ميشيل بارون إلى بيته. وطلب كاهناً، ولكن أحداً لم يحضر. واشتد سعاله، وانفجر فيه عرق، فاختنق بالدم في حلقه ومات.
وقضى آرلي نفالون رئيس أساقفة باريس بأنه يستحيل دفن موليير في أرض مسيحية مادام لم يتب توبته النهائية ويتلقى غفران الكنيسة. أما أرماند، التي كانت تحبه على الدوام حتى وهي تخدعه، فذهبت إلى فرساي، وارتمت عند قدمي الملك، وقالت في غير حكمة، ولكن في شجاعة وصدق "إذا كان زوجي مجرماً، فإن جلالتكم باركتم جرائمه بشخصكم (46) ". وبعث لويس بكلمة إلى رئيس الأساقفة سراً، ولان آرلي، وأمر بألا يؤخذ جثمانه إلى كنيسة لإجراء الشعائر المسيحية، ولكنه سمح بدفنه في هدوء بعد الغروب في ركن قصي من جبانة سان-جوزيف في شارع مونمارتر.
ومازال موليير بإجماع الناس علماً من أعظم أعلام الأدب الفرنسي، لا بكمال تكنيكه المسرحي ولا بأي روعة تميز بها شعره. فأكثر حبكاته مستعارة، ومعظم نهاياتها مفتعلة وغير معقولة، وجل شخوصه صفات مجسدة، والعديد منها كأرباجون مبالغ فيه إلى حد الكاريكاتور، وكثيراً ما تهبط ملاهيه إبلا درك الفارص (الهزلية الصاخبة المهرجة).(31/196)
وقد قيل إن الحاشية والجمهور أحبوه أكثر ما أحبوه حين يغرق في هذا الفارص، ولم يستطيبوا أهاجيه اللاذعة للمثالب التي يشارك فيها الناس عموماً. وأغلب الظن أنه مفضلاً هذا اللون من الهزلية لولا شعوره بأنه مضطر إلى الحفاظ على قدرة فرقته على الوفاء بديونها.
وكما أسف سكشبير على اضطراره أن يجعل من نفسه مهرجاً للناظرين كتب موليير يقول: "أرى أن من العوبة الفادحة في الفنون الحرة أن يعلن الفنان عن نفسه للحمقى وأن نعرض ثمرات أقلامنا للحكم الهمجي الذي يحكم به على الأغبياء (47) ". وقد حز في نفسه أن يطالب على الدوام بإضحاك الناس، فهذا كما قال أحد شخوصه "مطلب غريب (48) ". وكان يتطلع لكتابة المآسي، ومع أنه قصر دون هذا الهدف، فإنه وفق في أن يضفي على أعظم ملاهيه مغزى وعمقاً مأساويين.
إذن فالفلسفة التي تنطوي عليها تمثيلياته، وفكاهتها وهجوها اللاذع-هذه هي التي تجعل كل قارئ تقريباً يقرأ موليير (49). وهي في صميمها فلسفة عقلانية، أبهجت قلوب "فلاسفة" القرن الثامن عشر. "فليس في موليير أثر لمسيحية الخوارق" و"الدين الذي عرضه لسان حاله كليانت (في طرطوف) يمكن أن يصدق عليه فولتير (50) ". إنه لم يهاجم قط العقيدة المسيحية، وقد سلم بفضل الدين في حياة الكثيرين جداً، واحترم التقوى الصادقة المخلصة، ولكنه احتقر الورع السطحي الذي يخفي أنانية أيام ستة وراء نفاق اليوم السابع (يوم الأحد).
وكانت فلسفته الأخلاقية وثنية بمعنى أنها أباحت اللذة ولم يكن فيها إحساس بالخطيئة. وكان فيها رائحة أبيقور وسنيكا لا القديس بولس أو أوغسطين، وقد انسجمت مع تحلل الملك أكثر من انسجامها مع زهد البور-رويال. وكان يستنكر الغلو حتى في الفضيلة. كان يعجب بـ"الرجل الفاضل"، رجل الدنيا المعقول الذي يسلك باعتدال عاقل(31/197)
وسط السخافات المتعارضة، ويوائم في غير ضجة بين نفسه وبين نقائص البشر.
ولم يبلغ موليير ذاته ذلك المستوى من الاعتدال. فقد أكرهته مهنته مسرحياً هازلاً على الهجو، وعلى المبالغة أحياناً كثيرة. وقد عنف على النساء المتعلمات، وغلا في هجومه على الأطباء دون تفريق، ولعله كان يخلق به أن يبدي احتراماً أكثر للحقن الشرجية. ولكن الغلو كائن في دم الهجو، وقل أن تبلغ المسرحيات هدفها بدونه، ولعل موليير يكون أجل وأعظم قدراً لو أنه وجد سبيلاً لهجو الشر الأساسي الذي لوث ذلك العهد-ونعني ذلك الجشع الحربي والاستبداد المدمر الذي ابتلي به لويس الرابع عشر؛ ولكن هذا المستبد المنعم هو الذي حماه من أعدائه ويسر له أن يشن الحرب على التعصب. وما أسعده لأنه مات قبل أن يصبح سيده أشد هؤلاء المتعصبين كلهم تدميراً!
إن فرنسا تحب موليير، وما زالت تمثل مسرحياته، كما تحب إنجلترا شكسبير وتمثل مسرحياته، ولا نستطيع كما يريد بعض الغليين (الفرنسيين) المتحمسين أن نسوي بينه وبين شاعر إنجلترا، فلقد كان جزءاً فقط من شكسبير، الذي كان جزاءه الآخران راسين ومونتيني. كذلك لا نستطيع كما يفعل الكثيرون أن نضعه على قمة الأدب الفرنسي. لا بل إننا لسنا على يقين من أن بوالو كان على حق حين قال للويس الرابع عشر إن موليير كان أعظم شعراء عهده، فحين قال بوالو هذا لم يكن راسين قد كتب "فيدر" ولا "آتالي". ولكن في موليير، ليس الكاتب فقط هو الذي ينتمي لتاريخ فرنسا، بل الإنسان: مدير الفرقة المرهق الوفي، والزوج المخدوع الصفوح، والمسرحي الذي يخفي أحزانه بالضحك، والممثل العليل الذي يواصل حتى الموت حربه على الفقر، والتعصب، والخرافة، والنفاق.(31/198)
الفصل الخامِس
أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي
1643 - 1715
1 - جو الكلاسيكية
لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661 - 67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667) -هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران.
ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662 - 63) -أي قبل هذه الآثار(31/199)
الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية (1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويجنس، والرياضي الفلورنسي فيفياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286. 000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145. 000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي (2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.
ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي (3) ". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه(31/200)
متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.
وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.
واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G (4) ".
كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتيني، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على(31/201)
الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو-كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.
ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.
2 - تذييل لكورني
1643 - 1684
بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.
أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) واندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة(31/202)
عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر (5). " وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653 - 59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.
وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667) -هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر:
"بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف! " وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)،(31/203)
ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.
وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.
3 - راسين
1639 - 1699
ولد مثل موليير في أسرة متوسطة. وكان أبوه مراقباً لاحتكار الدولة للملح في لافيرتي-ميلون، على نحو خمسين ميلاً شمال شرقي باريس، وكانت أمه ابنة محام في فيلييه-كوتريه. وقد ماتت عام 1641 وجان لم يبلغ الثانية بعد؛ وبعد سنة مات أبوه، فكفل الصبي جده لأبيه. وكان في الأسرة نزوع قوي إلى الجانسنية، فقد التحقت جدة وعمة لراسين بأخوات البو-رويال، وأرسل جان نفسه حين ناهز السادسة عشرة إلى "المدرسة الصغيرة" التي يديرها "المتوحدون" وقد تلقى عنهم تعليماً مركزاً في الدين واليونانية-وهما مؤثران قدر لهما أن يسيطرا الواحد بعد الآخر على حياته. واستهوته تمثيليات سوفوكليس ويوريبيديس فترجم بعضها بنفسه. ثم تعلم شيئاً من الفلسفة ومزيداً من الثقافة الكلاسيكية في كلية آركور بباريس، وأكتشف المفاتن الخفية للأنوثة الشابة، الجديد منها(31/204)
والمستعمل. وعاش عامين على شاطئ الجزانز أوجستان مع ابن عمه نيكولا فيتار، الذي كان يتردد بين البور-رويال والمسرح. واستمع راسين إلى عدة تمثيليات، وكتب تمثيلية، وعرضها على موليير. ولم تكن من الجودة بحيث تستحق الإخراج، ولكن موليير نفحه بمائة جنيه ذهبي، وشجعه على أن يعيد الكرة. واستقر رأي راسين على اتخاذ الأدب حرفة له.
وهال هذا الجنون أقرباءه، وراعهم ما نمى إليهم من أنباء غرامياته، فأرسلوه إلى أوزيس بجنوبي فرنسا (1659) مساعداً لعم له كان كاهنا لكتدارئية، فوعده بوظيفة كنسية ذات وقف إن هو درس اللاهوت ورسم قساً. أما الشاعر الشاب، الذي ما زال باطنه يضطرم بنار باريس، فقد طل عاماً يسدل على هذه النار عباءة سوداء، وقرأ القديس توما الأكويني-وقليلاً من أريوستو ويوريبيديس بجانبه. وكتب الآن إلى لفونتين يقول:
"كل النساء رائعات ... لحم غض طري، ولكن بما أن أول شيء قيل لي هو أن آخذ حذري، فلست أريد أن أقول المزيد عنهن. أضف إلى ذلك أنه سيكون امتهاناً لبيت كاهن ذي وقف أعيش فيه أن أخوض في حديث طويل عن هذا الموضوع، "بيتي بيت الصلاة يدعى" ... لقد قيل لي "كن أعمى" فإذا لم أستطع أن أكون ذلك كلية، فإني أستطيع على الأقل أن أكون أبكم ... لأن على المرء أن يكون راهباً مع الرهبان، كما كنت ذئباً معك من ذئاب قطيعك (6) ".
ولقي الكاهن شدائد وأصبحت الوظيفة الكهنوتية الموعودة أملاً بعيداً وتبين راسين أنه لا يملك موهبة القسوسة. فبدل ثوبه، وطوى كتاب "خلاصة اللاهوت" وعاد إلى باريس (1663).
فلما أبلغها نشر نشيداً أتاه بمائة جنيه من جيب الملك. واقترح عليه موليير موضوعاً حوله راسين إلى تمثيليته الثانية "طيبة" (التيباييد). وأخرجها(31/205)
موليير في 20 يونيو 1664، ولكنه اضطر لسحبها بعد أربعة عروض. على أنها أحدثت من الضجة ما يكفي لسماعها في البور-رويال-دوشان. وأرسلت إليه عمته من هناك رسالة تستحق أن نوردها باعتبارها جزءاً من دراما تعدل في بلاغتها وتأثيرها في النفس أي شيء كتبه راسين:
"حين نمى إلى أنك تنوي الحضور إلينا طلبت إلى أمنا الإذن لي برؤيتك ... ولكنني سمعت مؤخراً خبراً أثار فيّ أشجاناً عميقة. وإني أكتب إليك في مرارة قلبي، وأذرف الدمع الذي أرجو أن أكسبه غزيراً أمام الله لأنال منه خلاصه الذي أتوق إليه أشد مما أتوق لأي شيء آخر في العالم. فقد علمت بالأسف أنك تخالط أكثر من أي وقت مضى معشراً اسمهم بحق رجس عن كل من له أي نصيب من تقوى، لأنهم محرومون من دخول الكنيسة، أو تناول الأسرار المقدسة ... فانظر الآن يا ابن أخي إلى أي حال صرت، لأنك لابد عليم بما أشعر به نحوك من حنان، وبأنه لم يكن لي من سؤال إلا أن تتبع الله في وظيفة شريفة. لذلك أتوسل إليك يا ابن أخي العزيز أن ترحم نفسك، وتفحص قلبك، وتتأمل بجد أي هوة ترديت فيها. أنني لأرجو ألا يكون صحيحاً ما أنبئت به، ولكن إذا كان سوء طالعك قد بلغ مبلغاً يحملك على مواصلة تجارة تشينك أما الله والناس، فعليك ألا تفكر في المجيء لرؤيتنا، لأنك تفهم جيداً أنني لن أستطيع في هذه الحالة أن أكلمك لعلمي بأنك في حالة مؤسفة جداً، مناقضة كل المناقضة للمسيحية. ولن أكف في الوقت نفسه عن التضرع لله ليرحمك، فيرحمني إياك، لأن خلاصك عزيز جداً (7) ".
فهاهنا عالم شديد الاختلاف عن ذلك الذي تسجله صفحاتنا عادة-عالم من الإيمان العميق بالعقيدة المسيحية، والولاء المحب لدستورها الأخلاقي. ونحن لا نملك غير التعاطف مع امرأة استطاعت أن تكتب بمثل هذا الإخلاص في العاطفة، ولم تخل من العذر لرأيها في المسيحية الفرنسية كما(31/206)
كانت في شبابها. ولم تبلغ عبارة نيكول العلنية التالية هذا المبلغ من الرقة والحنو، وكان قد علم راسين في البور-رويال:
"كل الناس يعرفون أن هذا السيد قد كتب .. تمثيليات للمسرح ... وهذه المهنة في نظر ذوي العقول الراجحة ليست في ذاتها مهنة شريفة جداً، ولكن إذا نظرنا إليها في ضوء الدين المسيحي وتعليم المسيح كانت في الحق مهنة رهيبة. فالروائيون تجار سموم يقتلون نفوس الناس لا أجسادهم (8) ".
وأجاب كل من كورنيي وموليير وراسين على هذا الاتهام على حده، وكان في جواب راسين من العنف الغضب مل جعله يندم عليه أشد الندم في سنوات لاحقة.
وتلا خصامه مع البور-رويال خصام مع موليير بعد قليل. ففي ديسمبر 1665 قدمت فرقة موليير تمثيلية راسين الثالثة "الإسكندر"، وكان موليير كريماً كعادته، فهو عليم بأن راسين لم يعجب به ممثلاً تراجيدياً، وأن المؤلف الشاب يهيم بأجمل ممثلاته وإن لم تكن أكفأهن، لذلك أخرج نفسه والمرأتين بيجار من شخصيات المسرحية، وأعطى الدور النسائي الأول لتريز دبارك، ولم يظن بمال على الإخراج. وقد لقيت استقبالاً حسناً، ولكن راسين لم يرض عن التمثيل. فرتب حفلة خاصة مثلت الفرقة الملكية فيها المسرحية، وحمله سروره بهذا التمثيل على سحبها من موليير وإعطائها لهذه الفرقة المنافسة. وأقنع الآنسة دبارك التي أصبحت عشيقته بأن تترك فرقة موليير وتنضم إلى الفرقة الأقدم، وعرضت المسرحية في مكانها الجديد بالأوتيل دبورجون ثلاثين مرة في أكثر قليلاً من شهرين. ولم تكن من روائع راسين، ولكنها وطدت مكانته خلفاً لكورنيي، وأكسبته صداقة الناقد بوالو المرشدة. فحين قال له راسين مفاخراً "إنني أنظم شعري في يسر مدهش "أجابه بوالو" أريد أن أعلمك كيف تنظمه في عسر (9) ". ومنذ ذلك الحين علم الناقد العظيم الشاعر قواعد الفن الكلاسيكي.(31/207)
ولا علم لنا بمدى العصر الذي نظم به راسين "أندروماك"؛ على أية حال بلغ فيها أوج قوته المسرحية وأسلوبه الشعري. وهو يذكر في إهدائه المسرحية إلى مدام هنرييتا أنه قرأها عليها، وأنها بكت. ومع ذلك فهي مسرحية رعب لا مسرحية عاطفة، وفيها كل الكارثة المحتومة التي نتوقعها في إسخيلوس أو سوفوكليس. والحبكة شبكة معقدة من العلاقات الغرامية. فأوريست يحب هرميون، التي تحب بيروس، الذي يحب أندروماك، التي تحب هكتور، الذي مات. وقد منح بيروس بن أخيل ثلاث جوائز لما أبلى في انتصار اليونان على طروادة: منح أبيروس مملكة له، وأندروماك (أرملة هكتور) أسيرة له، وهرميون (ابنة منيلاوس وهيلانه) زوجة له. أما أندروماك فلا تزال شابة وجميلة، وإن لم تكف عن البكاء، وهي لا تحيا إلا لتذكر زوجها النبيل، وتخاف على طفلهما أستياناكس، الذي ينقذه راسين-بانحراف مسرحي عن القاعدة-م الموت الذي كان نصيبه في يوريبيديس ليستعمله هنا أداة في يد القدر. ويفد أوريست- بن كلينمنسترا وقاتلها- على إبيروس مبعوثاً من اليونان ليطلب إلى بيروس تسليم استياناكس وموته باعتباره المنتقم المحتمل لطروادة في المستقبل. ويرفض بيروس الاقتراح في فقرة تمتنع موسيقاها على الترجمة. يقول ما معناه:
"إنهم يخشون أن تولد طروادة بهكتور من جديد، وأن ابنه قد ينتزع مني الحياة التي حفظتها عليه. سيدي، إن الإفراط في التدبر يجر إفراطاً في الحذر. إنني لا أستطيع أن أبصر المكاره من هذا البعد الكبير. وأنا أفكر فيما كانت عليه هذه المدينة (طروادة) فيما مضى، جبارة في حضوتها، شديدة الخصوبة في أبطالها، سيدة على آسيا. ثم أتأمل في النهاية ما صارت إليه وما انتهى إليه حظها-فلا أرى غير أبراج غطاها الرماد، ونهر صبغت مياهه الدماء. وحقول هجرت، وطفل مقيد بالأغلال، ولست أظن أن طروادة تقوى على الثأر وهي على هذه الحال. آه، لو كان ابن(31/208)
هكتور قد قدر عليه الموت، فلم أبقينا عليه عاماً كاملاً؟ ألم نكن قادرين على تقديمه قرباناً على صدر يريام؟ كان يجب أن يسحق تحت مئات القتلى في طروادة؛ يومها كان كل شيء مباحاً، وعبثاً كانت تحتج الشيخوخة والطفولة بضعفهما في الدفاع عن نفسيهما، فالنصر والقدرة، وهما أشد منا قسوة، حرضانا على القتل وأفقدانا التمييز في ضرباتنا. إن غضبي على المغلوبين جاوز حد الصرامة، ولكن أيجب أن تبقى قسوتي بعد غضبي؟ أينبغي أن أغتسل متلبثاً في دم طفل برغم ما يتملكني من شفقة عليه؟ لا يا سيدي، فليبحث اليونان عن فريسة أخرى، وليلاحقوا ما بقي من طروادة في غير هذا المكان. لقد بلغت نهاية الشوط في عدائي. إن أبيروس ستنقذ ما أبقت عليه طروادة" (10).
هنا مأخذ واحد، ذلك أن بيروس، وربما راسين، لا يدركان مبلغ ما تدين به شفقة الفاتح لغرامه بأم الطفل-إلى حد عرضه الزواج منها (مع أنه كان يستطيع أن يتخذها جارية له)، واتخاذه أستياناكس ولداً ووريثاً له. ولكنها ترفضه، فهي لا تستطيع أن تنسى هكتور، الذي قتله أبو بيروس. وهو يهدد بأن يسلم الطفل لليونان، فيروعها تهديده، وترضى بالزواج منه، ولكن هرميون-وهي في تصور راسين لها تضارع الليدي مكبث قوة-، تشتعل غضباً لأنها نبذت، فيه تعتزم قتل بيروس رغم أنها لا تزال تحبه، وتقبل ما يعرضه أوريست من حب وولاء، شريطة أن يقتل بيروس. فيوافق كارهاً. وفي كل خطوة وكل شخص من شخوص هذه المسرحية صراع في الدوافع يرقى إلى أدق العقد النفسية المعروفة في الأدب. ويقتحم الجند اليونان الهيكل ويقتلون بيروس عند المذبح الذي يتبادل فيه عهود الزواج مع أندروماك. وتحتقر هرمون أوريست، وتجري إلى المذبح، وتغمد مدية في جسد بيروس الميت، ثم تطعن نفسها وتموت. هذه أعظم مسرحيات راسين، وهي خليقة بأن تثبت للمقارنة مع شكسبير(31/209)
أو يوريبيديس: حبكة متينة البناء، وشخوص كشف عنها في عمق، ومشاعر مدروسة في كل تعقيدها وحدتها (1)، وشعر فيه من الروعة والتناغم ما لم تسمعه فرنسا منذ رونسار.
واعترف الناس بأندروماك للتو رائعة من روائع الأدب، فوطدت مقام راسين خليفة لكورنيي وربما متفوقاً عليه. ودخل الآن أسعد عقد في عمره، متنقلاً من نصر إلى نصر، بل متحدياً موليير بملهاة من قلمه. والملهاة، واسمها "المتخاصمون"، وهي تقليد ساخر (برلسك) للمحامين الجشعين، وشهود الزور، والقضاة الفاسدين-هذه الملهاة كانت صدى لتجربة راسين مع القانون. ذلك أنه التمس رهنا على دخل دير وحصل عليه؛ ولكن راهباً نازعه دعواه، وتلا ذلك دعوى قضائية امتد بها الأجل حتى ضاق بها راسين ذرعاً فتخلى عنها وثأر لنفسه بكتابة المسرحية. ولم تسر النظارة في أول عرض لها، ولكن حين مثلت في البلاط ضحك لويس الرابع عشر من قلبه على نكتها ضحكاً جعل الجمهور يغر رأيه، وأدت هذه الملهاة المتوسطة الجودة في ملء جيب راسين.
على أن نغمة صغيرة قطعت هناءه. ذلك أن خليلته دبارك ماتت في ظروف غامضة-سنفصلها في موضع لاحق-في 11 ديسمبر سنة 1668. وبعد أن توقف فترة مناسبة اتخذ ممثلة أخرى تدعى ماري شانمسليه. وكان لها زوج يقظ وصوت ساحر، وتحاشى راسين الأول واستسلم للآخر. واتصل هذا الغرام من برينيس حتى فيدر، وبعد ذلك انتزعها الكونت دكليرمون-تونر من جذورها ( D (racin (e أي من راسين) كما قال أحد الظرفاء.
ومسرحية راسين "بريتانيكوس" (1669) في رأيه أكثر أعماله اتقاناً، وكثيراً ما تفضل على اندروماك، شأنها شأن "فيدر" و"اتالي".
_________
(1) انفجر عرق في مونغلوري وهو يمثلها ومات بعد قليل.(31/210)
على أن القارئ العصري لن يلتذها في أغلب الظن مهما كان غارقاً في تاسيتوس ففيها أجربين السليطة، وبريتانيكوس الشكاء وبوروس المتخبط، ونارسيس القذر، ونيرون الممتلئ شراً-فما من شخص هنا يظهر لنا تعقيداً أو تطوراً، أو يبدي لنا أثراً من نبل خليق بأن يخفف في موضع ما من أي مأساة جديرة بقلم شاعر.
وكما أن بريتانيكوس فتشت عن قصتها في "قاعة الفظائع" التي ذكرها تاسيتوس، فكذلك أخذت برينيس (1670) قصة غرام إمبراطور عن سطر موجز لسويتون يقول فيه "فأرسل لتوه كارهاً برينيس الكارهة من المدينة (12) " وتفصيل المسرحية أن تيطس الذي كان يحاصر أورشليم (70م) كان قد أغرم بالأميرة اليهودية. ومع أنها تزوجت من قبل ثلاث مرات، إلا أنها تتبعه إلى روما خليلة له، ولكنه حين يرث العرش يدرك أن الإمبراطورية لن تسمح بملكة أجنبية، فيصرفها بعبارات ملكية متدفقة تتميز بالإدراك السليم. وقد حفلت المسرحية بالعاطفة الحارة وحظيت برضاء الجمهور والملك، الذي لابد قد استشف بسرور بلاطه وانتصاراته في وصف برينيس لعظمة الإمبراطور الشاب:
"أرأيت بهاء هذه الليلة؟ ألا تمتلئ عيناك بعظمتها وأبهتها؟ هذه المشاعل، وهذا الحطب، وهذا الليل ذو اللهب المقدس، وهاتيك النسور، وتلك الشعارات، وهذا الجمع من الناس، وهذا الجيش، وذلك الحشد من الملوك، هؤلاء القناصل، وهذا السناتور-أولئك الذين قبسوا نورهم الساطع من حبيبي، وهذا الأرجوان والذهب الذي يزداد تألقاً بمجده، وهذا الغار الذي مازال شاهداً على انتصاره، وهذه العيون التي نراها قادمة من كل فج لتلتقي فيه وحدة نظراتها الملهوفة؛ هذه الطلعة الجليلة، وهذه الحضرة الحلوة. وحق السماء! بأي إجلال وبأي رضى تؤكد له كل القلوب سراً ثقتها به! تكلم: أيستطيع إنسان أن يراه دون أن يخطر له(31/211)
كما يخطر لي، أنه لو كان القدر قضى بأن يولد مغموراً لتبين فيه العالم سيده بمجرد النظر إليه (13) ".
أمن العجب إذن أن نرى رأسين، وهو على هذا الحذق في الزلفى، ينال الحظوة السريعة عند الملك؟
ونمر في احترام ببعض مسرحياته الأقل شأناً، وكلها ما يزال يحتل خشبة المسرح الفرنسي: بايريد (1672)، وتردات (1673) التي فضلها لويس على كل مسرحياته، وإفجيني (1674)، التي وضعها فولتير في صف واحد مع أتالي باعتبارها من أروع ما كتب من الشعر (14). وقد عرضت أجيني أول مرة في حدائق فرساي على ضوء الشمعدانات البلورية المعلقة في أشجار البرتقال والرمان، وعزف العازفون على الكمان وانعطفت قلوب نصف النخبة المتفرجة، وتقدم راسين ليشكر النظارة على أغلى تصفيق لقيه في حياته. وحين أخرجت في باريس امتد عرضها أربعين مرة في شهور ثلاثة. وكان قد انتخب أثناء ذلك عضواً في الأكاديمية الفرنسية (1673). وبدا أن سعادته قد اكتملت.
على أن السعادة لم تكتب إلى الآن للشعراء، إلا أن يكون الجمال فرحة لا تنتهي، والثناء لا يقطعه صوت ناشز. قال راسين لابنه "لقد طالما أبهجني جداً ذلك الاستحسان الذي قوبلت به، ولكن أقل لوم ناقد ... كان يسبب لي دائماً من الضيق قدراً أكبر من كل السرور الذي يدخله على المديح (15) ". فهو لم يكن شديد الحساسية فحسب، كما لم يكن بد من أن يكون، بل ضيق الخلق، يرد على كل كلمة نابية. وفي ذروة نجاحه وجد نصف باريس تنتقده، لا بل تعمل على إسقاطه. كان كورنبي قد عمر فوق ما ينبغي، ولكن مريديه تذكروا ما اتسمت به مآسيه الأولى من نبرة بطولية وموضوعات ملحمية، وما شاع في بلاغته من نبل، وذلك المستوى السامي الذي رفع إليه دواعي الشرف والدولة، فوق أهواء القلب. واتهموا راسين بتلويث المأساة بعواطف نصف مجنونة تنفعل بها مخلوقات خسيسة،(31/212)
وبإدخال مغازلات حب القصور إلى المسرح، وإغراقه بدموع بطلاته، فصمموا على إسقاطه.
فلما عرف أنه يكتب "فيدر" أقنع فريقاً من خصومه نيكولا برادون بأن يكتب مسرحية منافسة في الموضوع نفسه. وكان للمسرحيتين نفس العنوان في الأصل-فيدر وهيبوليت-وانبثقتا من أسطورة رواها يوربيديس من قبل بما عهد فيه من قصد كلاسيكي في العاطفة. ففيدر، زوجة تسيوس، وتولع ولعاً شديداً بهيبوليت بن ثيسيوس من زوجة سابقة، ولكنها تجده بارد العاطفة نحو النساء فتشنق نفسها بعد أن تترك خطاباً اتهمته فيه بمحاولة الاعتداء على عفافها انتقاماً منه، ونفى ثيسيوس ابنه البريء، الذي لم يلبث أن قتل وهو يسوق الخيل على شواطئ تروزين. ولكن راسين غير ترتيب الأحداث، فجعل فيدر تتجرع السم بعد سماعها بموت هبوليت. ومثلت مسرحية راسين في الأوتيل دبورجون في أول يناير سنة 1677، ومثلت مسرحية برادون بعد يومين على مسرح جينيجو. ولقيت التمثيليتان نجاحاً متكافئاً إلى حين، ولكن تمثيلية برادون طواها النسيان، في حين تمثيلية راسن عادة رائعته الكبرى؛ ودور فيدر تصبوا إلى تمثيله كل الممثلات الفرنسيات، كما يستهوي دور هاملت المثلين التراجيديين في المسرح الإنجليزي) (1). ولقد بارى راسين الرومانسيين مع أنه المثل المحتذى في الأسلوب الكلاسيكي، في عاطفية غرام فيدر، وجعل هبوليت يتحرق شوقاً للأميرة أريسيا (وهذا مناقض الأسطورة). وتعلم فيدر بنبأ هذا الغرام، ويعطينا راسين في تفصيل منفعل دراسة للمرأة إذا ازدريت. وهو يخفف من هذه التحليقات الرومانسية بوصف قوي لخيل هيوليت المذعورة وهي تجره حتى يلقى حتفه.
وفي المقدمة التي يصدر بها راسين تمثيليته فيدر (إذ بدأ يشتد فيه
_________
(1) عند آدم سميث أن فيدر "ربما كانت أروع مأساة في أي لغة" (16).(31/213)
الحافز الديني كلما ضعف الحافز الجنسي) يلوح بغصن الزيتون للبور-رويال فيقول:
"لست أجرؤ على أن أؤكد لنفسي أن هذه ... خير مآسي ... ولكني وأثق أنني لم أكتب مأساة عرضت فيها الفضيلة في ضوء أفضل. فأتفه الذنوب تعاقب هنا عقاباً صارماً، ومجرد التفكير في الجريمة ينظر إليه هنا نظرة الاستهجان التي ينظر بها إلى الجريمة ذاتها، وعثرات الحب ينظر إليها هنا كأنها عثرات حقيقية، والعواطف المشبوبة لا تعرض على الأنظار إلا لترى الخلل التي هي السبب فيه، والرذيلة مصورة في المسرحية كلها بألوان تتيح لنا أن نراها ونكره شكلها الشائه. وتلك هي الغاية الصحيحة التي ينبغي أن يستهدفها كل من يعمل لجمهور الشعب. ولعل هذه أن تكون وسيلة المصلحة بين الدراما المأساوية، وكثيرين من الأشخاص المعروفين بتقواهم وتعاليمهم، والذين أدانوها مؤخراً، ولكنهم سيحكمون عليها حكماً أكثر عطفاً لوعني المؤلفون بتعليم جمهوره النظارة عنايتهم بالترفيه عنهم، ولو ترسموا في هذا التعليم القصد الصحيح من المأساة (17) ".
ورحب آرنو، المعروف بتقواه وتعاليمه، بهذه النغمة الجديدة، وأعلن رضاءه عن فيدر. ولعل راسين وهو يكتب المقدمة، وقد بلغ الثامنة والثلاثين، كان يتطلع إلى حياة من الاستقرار يسكن فيها إلى امرأة واحدة بدل النساء الكثيرات. ففي أول يونيو سنة 1677 تزوج زوجة أقنه بمهر كبير. وقد أكتشف ما في الحياة العائلية من أسباب الراحة، ووجد من البهجة في ابنه البكر أكثر مما وجد في أكثر مسرحياته توفيقاً. وكانت غيرة مزاحميه ودسائسهم قد نفرته من المسرح، فألقى جانباً الخطط والمذكرات التي كان قد أعدها لأربع مسرحيات، واقتصر طوال اثني عشر عاماً على كتابة الشعر والنثر بين الحين والحين؛ لا سيما تأليف تاريخ للبور-رويال طابعه التبجيل والولاء البنوي.
ونغص عليه هذا الهدوء المثالي حادث مؤسف أليم. ذلك أن المحكمة(31/214)
الخاصة التي كانت تحقيق عام 1679 في تهم التسميم الموجهة ضد كاتيرين مونفوازان استلمت منها اتهاماً لراسين بأنه سمم خليلته تريز دبارك. وأدلت "لفوازان" بتفاصيل الاتهام ولكن لم يكن هناك ما يعززه. وإذ كانت واثقة من أنه سيحكم عليها بالإعدام، فأنها لن تكن تخسر شيئاً باتهام غيرها زوراً، وقد لوحظ أن إحدى زبائنها وصديقاتها هي الكونتيسة سواسون، وكانت عضواً في العصبة التي قاومت راسين في "غرام فيدر (18) ". ومع ذلك كتب لوفوا في أول يناير سنة 1680 إلى المفوض بازان دبيزون يقول "إن الأمر الملكي بالقبض على السيد راسين سيرسل إليك حالما تطلبه" ولكن حين تقدم التحقيق وبدا أنه سيورط مدام دمونتسبان، أمر الملك بحضر نشر سجل المحاكمة، ولم يتخذ أي إجراء ضد راسين (19).
وأظهر لويس ثقته المستمرة في الكاتب المسرحي. ففي سنة 1664 رتب له معاشاً؛ وفي سنة 1674 خلع عليه وظيفة شرفية تغل له 2. 400 جنيه في العام في إدارة المالية؛ وفي سنة 1670 عين راسين وبوالو مؤرخين رسميين للبلاط؛ وفي سنة 1690 أصبح الشاعر موظفاً دائماً في معية الملك، فأتته الوظيفة بمود إضافي قدره ألفان من الجنيهات. وفي سنة 1696 بلغ من الثراء مبلغاً أتاح له شراء وظيفة سكرتير الملك.
وقد أعان أداؤه النشيط لواجباته مؤرخاً ملكياً على سحبه من المسرح. وكان يرافق الملك في حملاته ليسجل الأحداث تسجيلاً أدق. وفيما عدا ذلك كان يلزم داره شاغلاً نفسه بتربية ولديه وبناته الخمس، وكان يود أحياناً، وسط صخبهم وضجيجهم، لو أنه كان راهباً. وما كان ليكتب أي مسرحية أخرى لولا أن مدام دمانتون لجأت إليه في أن يكتب مسرحية دينية بريئة من كل ما يتصل بالغرام، تمثلها الفتيات اللائى جمعتهن في أكاديمية سان-سير. وكانت أندروماك قد مثلت هناك من قبل، ولكن دمانتون الفاضلة لاحظت أن الفتيات استمتعن بالفقرات الغرامية الحارة. ورغبة في ردهن إلى التقوى كتب راسين مسرحيته "إستير".(31/215)
ولم يكن قد اقتبس موضوعاً من الكتاب المقدس من قبل، ولكنه درس الكتاب أربعين سنة، وأحاط بكل التاريخ المعقد المدون في العهد القديم. وقام هو نفسه بتدريب الفتيات على أدوارهن، وتبرع الملك بمائة ألف فرنك لتوفير الملابس الفارسية المطلوبة. فلما أخرجت (25 يناير سنة 1689) كان لويس أحد الرجال القليلين الذين شهدوها بين النظارة. وأشتد الطلب على مشاهدتها، من الكهنة أولاً، ثم من الحاشية، وعرضتها أكاديمية سان-سير اثنتي عشرة مرة أخرى. ولم تصل إستير إلى جماهير المتفرجين إلا سنة 1721 بعد موت الملك بست سنين؛ وعندها (بعد أن فقد الدين الرعاية الملكية) لم تلقَ إلا نجاحاً متوسطاً.
وفي 5 يناير 1691 أخرجت سان-سير أحدث مسرحيات راسين وهي "أتالي". وأتاليا هي الملكة الشريرة التي ظلت سنوات تقود يهوداً كثيرين إلى عبادة البعل الوثنية، حتى عزلتها ثورة قام بها الكهان (20) وجعل راسين من القصة مسرحية لا يشعر بقوتها غير أولئك الذين يشهدونها وهم على علم بقصة الكتاب المقدس، يدفئ صدورهم الإيمان اليهودي أو المسيحي الأصيل، أما غيرهم فسيجدون أحاديثها الطويلة وروحها القاتمة مثبطة لهم. وقد بدا أن التمثيلية صفقت لطرد الهيجوتوت وانتصار الكهنوت الكاثوليكي، ولكنها من جهة أخرى حوت-في إنذار رئيس الكهنة للملك الشاب جود-تنديداً قوياً بالحكم المطلق:
"وقد نشئت بعيداً عن العرش لم تشعر بفتنته السامة، إنك لا تعرف الانتشاء بالسلطان المطلق، وسحر المتملقين الجبناء. عما قليل سيقولون لك إن أقدس القوانين ... ينبغي أن تطيع الملك، وأنه لا ضابط للملك غير مشيئته، وأنه يجب أن يضحي بكل شيء في سبيل مجده الأعلى ... وا أسفاه! لقد ظللوا أحكم الملوك (21) ".
وقد ظفرت هذه الأبيات بالاستحسان الكثير إبان القرن الثامن عشر،(31/216)
ولعلها حدت بفولتير وغيره (23) إلى اعتبار أتالي أعظم الدرامات الفرنسية. على أن الأبيات التالية لهذه توحي بأن رئيس الكهنة إنما كان يحاج دفاعاً عن خضوع الملوك للكهنة.
أما لويس، الذي بز الآن راسين في تقواه وورعه، فلم يرَ بالتمثيلية بأساً. وواصل استقبال راسين في القصر رغم ما عرف عن الشاعر من تعاطف مع البور-رويال. ولكن في سنة 1698 حجب الملك رضاءه. ذلك أن راسين، بناء على طلب مدام دمانتون، وضع بياناً بألوان العذاب الذي ابتلى بها الشعب الفرنسي في أواخر الحكم. وفاجئها الملك وهي تقرأ الوثيقة، وأخذها منها، وانتزع منها اسم كاتبها، وأخذته سورة الغضب وقال "ألكونه شاعراً فحلاً يحسب أنه يعرف كل شيء! ألا أنه شاعر كبير يريد أن يكون وزيراً لأيضاً! " أما مانتنون فقد أكدت لراسين وهي تفيض في الاعتذار له أن الزوبعة ستمر سريعاً. ولقد مرت؛ وما لبث راسين أن عاد إلى البلاط واستقبل استقبالاً كريماً، وإن بدا له أقل حرارة من ذي قبل (23) (1).
أما الذي قتل الشاعر فلم يكن نظرة فاترة من الملك بل خراجاً من الكبد. وقد أجريت له جراحة، وخف ألمه فترة، ولكنه لم يكن واهماً حين قال: لقد أرسل الموت إلى كشف حسابه (26) وجاء بوالو، وهو يشكو المرض، ليلازم صديقه العليل. وقال راسين "إني مغتبط لأنه سمح لي أن
_________
(1) يقول ابن راسين: "لقد عاد إلى القصر غير مرة، وكان على الدوام يتشرف بالحديث إلى جلالته (24) " أما سان-سيمون فيروي قصة غير هذه: فهو يزعم أن راسين فقد الحظوة لأنه انتقد ملاهي سكارون في حضرة مدام دمانتون والملك "وهنا احمر وجه الأرملة المسكينة، لا للنيل من سمعة الرجل المشلول، بل لسماعها اسمه ينطق به في حضرة خلفه. كذلك ارتبك الملك ... وانتهى المر بأن صرف الملك راسين أنه زاعماً ذاهب إلى عمله ... ولم يكلم الملك ولا مدام دمانتون بعدها راسين حتى ولا نظرا إليه". وهذا التحليل لسخط الملك على راسين مرفوض الآن عموماً (25).(31/217)
أموت قبلك (27) " وكتب وصية بسيطة كان أهم فقرة فيها هذا الرجاء إلى البور-رويال:
"أود أن تحمل جثتي إلى البور-رويال-دي-شان، وأن تدفن في مقبرته .. إنني بكل تواضع ألتمس من الأم الرئيسة والراهبات أن يمنحنني هذا الشرف، وإن كنت عليماً بأنني لا أستحقه، سواء لما شاب حياتي الماضية من مخازٍ، أو لتقصيري في الإفادة من ذلك التعليم من ذلك التعليم الممتاز الذي تلقيته من قبل في ذلك الدير، وما رأيت فيه من مثل رائعة في التقوى والتوبة ... ولكن كلما ازدادت حاجتي لصلوات هذه الجماعة العظيمة الورع (28) ".
ومات في 21 إبريل سنة 1699 وقد بلغ التاسعة والخمسين. وأجرى الملك معاشاً على أرملته وأبناءه حتى مات أخرهم.
وتضع فرنسا راسين في صف أعظم شعرائها، لأنه هو وكورنيي يمثلان أرقى ما وصلت إليه الدراما الكلاسيكية الحديثة من تطور. ولقد تقبل-بناء على حض والو-تفسيراً دقيقاً للوحدات الثلاث: فبلغ بذلك تركيزاً لا يبارى للوجدان والقوة من خلال عمل واحد يقع في مكان واحد ويكمل في يوم واحد. وقد تجنب تطفل الحبكات الثانوية-وكل مزج بين المأساة والملهاة، وأخرج العامة من مآسيه، ولم يتناول عادة غير الأمراء والأميرات والملوك والملكات. وقد نقى لغته من كل الألفاظ التي قد تعد نابية في الصالونات أو البلاط، أو تكون محل استنكار في الأكاديمية الفرنسية. وشكا من أنه لا يجرؤ على أن يورد في تمثيلياته عملية مبتذلة كعملية تناول الطعام، وإن حفل بها شعر "هوميروس (29) " وكان الهدف هو بلوغ أسلوب يعكس في الأدب حديث الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها. وقد حدت هذه القيود من مجال راسين. وكانت كل درامة من دراناته قبل إستير، على شاكلة سابقاتها-وفي كل منها كانت العواطف واحدة.(31/218)
على أن راسن شارف الرومانسية في طابع للشاعر التي عبر عنها وفي حدتها، وذلك رغم الفكرة الكلاسيكية، فكرة العقل يطغى على الحياة ويضبط العاطفة والحديث. وبينما نجد العاطفة في كورنبي تؤكد على الشرف، والوطنية، والنبالة، نجدها في راسين تتركز إلى حد كبير حول الحب أو العاطفة المشبوبة؛ ونح نحس فيه تأثير رومانسيات دورفيه، ومدام دسكوديري، ومدام دلافاييت. وكان سوفوكليس أكثر من يعجب بهم من المسرحيين قاطبة، ولكنه يذكرنا أكثر بيوربيديس، الذي تحول فيه قصد سوفوكليس وجلال عبارته بين الحين والحين إلى إفراط في الحماسة والوجدان. وفي هاملت أو مكبث إلى القصد في الحديث أكثر مما في أندرو ماك أو فيدر. وقد أعرب راسين صراحة عن رأيه في أن "أول قاعدة" للدراما "هي أن تسر وأن تمس القلب (30) " وقد فعل هذا بتعامله مع القلب، وباختياره شخوصه الرئيسيين من بين أفراد-كانوا عادة من النساء-مرهفي العاطفة، وتحويله تمثيلياته إلى سيكلوجية العاطفة.
وقد وافق على الحظر الكلاسيكسي للحركة العنيفة على المسرح، ومن ثم أخذ نفسه بالتعبير عن العاطفة بالكلام فقط. وألقى هذا عبئاً ثقيلاً على أسلوبه، فأصبحت المسرحية سلسلة من الخطب، وكان استرساله في الأبيات الإسكندرية المتتابعة-وهي ذات المقاطع الاثني عشر والقوافي المزدوجة-هذا الاسترسال أشرف بشعره على الرتابة المملة؛ فنحن نفتقد في راسين وكورنبي ما يطالعنا في الشعر الإليزابيثي المرسل من مرونة، وطبيعية، وتنوع لا آخر له. وياله من جهد عبقري ذلك الذي اقتضاه رفع هذا الشكل الضيق من تماثله الممل، بقوة الأسلوب وجماله! أن راسين وكورنبي ينبغ ألا يقرأ، بل يجب أن يسمعا، وحبذا أن يكون ذلك ليلاً في فناء الأنفاليد أو اللوفر.
والمفاضلة بين راسين وكورنبي هواية قديمة لدى الفرنسيين. أما مدام دسفينييه، فأنها بعد أن شهدت "بايزيد" وقبل أن تمثل-إفجيني(31/219)
أو فيدر-انحازت إلى كورنبي بحماستها المألوفة. وقد تنبأت في تهور، ولكن ربما بحق، بأن:
"راسين لن يستطيع أبداً أن يتجاوز .. أندروماك ... فتمثيلياته مكتوبة للآنسة شانمسلييه .. وسوف يتضح حين يكبر، ويكف عن الحب، هل أخطأت الحكم أم أصبت. إذن فليعش صديقنا كورنبي طويلاً، ولنغتفر له الأبيات الرديئة التي نصادفها في شعره من أجل تلك الفقرات الإلهية التي كثيراً ما ننتشي بها" ...
وهذا على العموم رأي كل ذي ذوق سليم (31). ولكن فولتير الذي اضطلع بنشر أعمال كورنبي والتعليق عليها، صدم الأكاديمية الفرنسية بنقده لأخطاء المسرحي الكبير وفجاجاته ولغته الطنانة. كتب يقول "أعترف أنني بنشر كورنبي أصبحت من عباد راسين (32) " وقد أقر الزمن بهذه الأخطاء، وأغتفرها لرجل لم يحظ بما حظى به راسين من ميزة المجيء بعد كورنبي. فالارتفاع بالدراما الفرنسية من مستةاها السابق إلى مكانة "السيد" "وبوليوكت" كان إنجازاً شق من بلوغ النشوات المشبوبة والجمال المنغوم الذي نجده في "أندروماك" "وفيدر". إن كورنبي وراسين هما الموضوعان الذكر والأنثى في شعر القرن العظيم-التعبير القوي عن الشرف والحب .. وعلينا أن نأخذهما معاً إن أردنا أن نحس باتساع الدراما الكلاسيكية الفرنسية وقوتها، تماماً كما يجب أن نأخذ ميكلانجلو ورفائيل معاُ إن أردنا أن نحكم على النهضة الإيطالية؛ أو بتهوفن وموتسارت إن أردنا أن نفهم الموسيقى الألمانية في ختام القرن الثامن عشر.
قال ديفد هيوم، وكان اسكتلندياً حكيماً، ضليعاً في لغة الفرنسيين وآدابهم، "في المسرح تفوق الفرنسيون حتى على اليونان، الذين تفوقوا كثيراً على الإنجليز (32) " وذلك حكم كان خليقاً بأن يدهش راسين ذاته، الذي عبد سوفوكليس باعتباره الكمال مجسماً، وإن جرؤ على منافسة(31/220)
يوربديس. وفي هذا نجح، وهو ما يستحق عليه الثناء حقاً. فلقد احتفظ بالدراما الحديثة على مستوى لم يبلغه سوى شكسبير وكورنبي، ولا يدنو منه إنسان بعد ذلك سوى جوته.
4 - لافونتين
1621 - 1695
في ذلك العصر، عصر الخصومات الأدبية الصارخة، يطيب للمرء أن يسمع بتلك الصداقة المشهورة، نصف الأسطورية، بين بوالو، وموليير، وراسين، ولافونتين-"شلة" الأصدقاء الأربعة.
أما جان دلافونتين فكان العضو المغمور بين الجماعة. ولد كأضحابه لأسرة متوسطة؛ ولا غرور فالأرستقراطية في شغل بفن الحياة عن الفن. وكان مسقط رأسه شاتو-تييري في شمبانيا، وابوه المدير المحلي للمياه والغابات، لذلك شب جزءاً حساساً من الطبيعة المحيطة به، وعشق الحقول، والغابات، والأشجار، والأنهار، وكل ساكنيها، وتعلم عادات العشرات من أنواع الحيوان، وتكهن في تعاطف بغاياتها، وهمومها، وأفكارها، فكان كل ما عليه أن يفعله وهو يكتب أن يجري الكلام على ألسنه هؤلاء الفلاسفة متعددي الأرجل، وأصبح "إيزوبا" آخر مذاباً بقصصه الخرافية في ذاكرة الملايين.
وكانت نية أبويه أن يعداه للكهانة، ولكن لم يكن به ميل للخوارق. وحاول أن يمارس القانون، ولكنه وجد الشعر أيسر فهماً. وتزوج فتاة غنية (1647) وأنجب منها ولداً. ثم اتفق مع زوجته على الانفصال (1658) وذهب إلى باريس، وأبهج فوكيه، وتلقى من ذلك المختلس اللطيف معاشاً قدره ألف جنيه، شريطة أن يتحفه بأشعاره أربع دفعات في السنة. فلما سقط فوكيه وجه لافونتين إلى الملك التماساً شجاعاً يرجوه فيه الصفح عن رجل المال. وكانت النتيجة أنه لم يصطل قط بعدها في شمس الملك. فلما جرد من(31/221)
معاشه ولم يكن لديه أي فكرة عن كسب قوته، آوته وأطعمته الدوقة دبوين التي التقينا بها من قبل في صفوف الفرونديات. وأصدر وهو مستظل بجناحها (1664) أول كتاب في "حكاياته" وهو مجموعة من الأقاصيص الشعرية، مكشوفة على الطريقة البوكاشية، ولكنها مروية في بساطة ساحرة ما لبثت أن جعلت نصف فرنسا، حتى العذارى الخجولات، يقرأنها (1).
وبعد قليل أسكنته مارجريت اللورينية، دوقة أورليان الأرملة؛ قصر اللكسمبورج بوصفه وصيفاً لها. وهناك كتب مزيداً من حكاياته، ومن هناك دفع إلى المطبعة بالكتب الستة الأولى من قصصه الخرافية (1668). وقد زعم أنها صياغة جديدة لخرافات إيزورب أو فيدروس، وكذلك كان بعضها، وبعضها أخذ عن قصص الهند الأسطورية Bidpoi وبعضها من خرافات فرنسا، ولكن أكثرها خلق من جديد في ذلك الغدير الذي يتدفق في ذهن لافونتين وشعره. وكانت أول قصة خرافية تلخيصاً غير مقصود لحياته الخالية الطروب:
"بعد أن أنفقت الجرادة الصيف كله غناء، ألفت نفسها حين أقبل الشتاء مملقة لا تملك ذبابة ضئيلة ولا دودة حقيرة، فمضت تشكو جوعها لجارتها النملة وتسألها إن أقرضتها شيئاً من الحب تقتات به حتى يقبل الموسم الجديد. وقالت "سأرد لك ديني قبل الحصاد، وأقسم على ذلك بدين الحيوان ومصلحته ومبدئه". أما النملة فلم تكن ممن يقرضون، وهذا أقل عيوبها. لذلك قالت للسائلة "وماذا كنت تفعلين في الصيف؟ "
_________
(1) خذ مثلاً قصة "صانع الآذان". فالسير وليم يذهب لقضاء مصلحة في المدينة ويترك زوجته أليكس حبلى. وينذرها قريبها أندريه بأنه يستنتج من لون وجهها أن طفلها سيولد ناقصاً إذناً. ويعرض عليها أن يكون جراحاً لها، ويفهمها أن نوبة غرام كفيلة بتزويد الطفل بالآذان الناقصة. وتقبل الوصفة، وتتناول منها عدة جرعات، حتى ليخطر لها أن الطفل سيكون له من الأذان أكثر من اثنتين. فإذا عاد وليم صحح التوازن الأخلاقي بإغواء زوجة أندريه (34).(31/222)
"كنت أغني ليل نهار لكل وافد، فلا يسؤك هذا". "كنت تغنين: يسعدني أن أسمع هذا. عليك إذن أن ترقصي الآن".
كان لافونتين أحكم من ديكارت، الذي ظن أن كل الحيوانات كائنات آلية لا تفكر، فقد أحبها الشاعر، وأحس بتفكيرها، ووجد فيها كلها دروس الفلسفة العلمية. وافتتنت فرنسا بتلقي الحكمة في جرعات سهلة الهضم كهذه. وأصبح كاتب هذه الخرافات أكثر المؤلفين قراء في بلاده. واتفق النقاد مرة في حياتهم مع الشعب، وأثنوا عليه فيمن أثنوا، ذلك أنه برغم بساطته الخالصة كان عليماً بالفرنسية في لونها الريفي ورائحتها الترابية، وقد خلع على شعره من الرشاقة الطيعة، وطرق التعبير الحلوة، والصورة الحية المحكمة، ما جعل كل البروجوازيين مدعى النبل في فرنسا يغتبطون لأن حيواناتهم، بل حشراتهم، تنطق بالشعر طوال الوقت. قال فونتين "إني استخدم الحيوانات لتعليم الناس (35) ".
وفي 1673 ماتت مرجريت اللورينية وألفى الشاعر نفسه غارقاً في الديون، وهو الذي كان يغني في غير تدبر للمستقبل، ولم يحسن التصرف في الأجور المتواضعة التي أتت بها كتبه. على أنه كان أكثر حظاً من جرادته، لأن مدام دلاسابليير، المرأة المثقفة العطوف، آوته وأطعمته ورعته بحدب الأم الرءوم في بيتها بشارع سانت-أوثورية، وهناك عاش قناعة هادئة إلى أن ماتت في 1693. يقول إن وقته كان قسمة بين شطرين: أولهما ينام فيه، والآخر لا يعمل فيه شيئاً. ووصفه لابرويبر بأنه رجل يستطيع أن ينطق الحيوان والشجر بكلام رشيق أنيق، ولكنه (36) هو نفسه كان "متبلداً، ثقيلاً"، غبياً في الحديث (37). على أن هناك روايات مناقضة زعمت أن في وسعه أن يكون محدثاً مرحاً إذا وجد آذاناً تلائم مزاجه (38). وقد أذاعت شرود ذهنه عشرات النوادر، الأسطورية إلى حد كبير. من ذلك أنه قال مرة معتذراً عن وصوله إلى العشاء متأخراً "عدت لتوي من جنازة(31/223)
نملة، وقد سرت وراء الموكب حتى المقبرة، ثم رافقت الأسرة في رجوعها للبيت (39) ".
وقد قاوم لويس الرابع عشر انتخابه عضواً في الأكاديمية بحجة أن حياة الشاعر وحكاياته لم تكن بالمثل الذي يحتذى، ثم لانت قناته في النهاية (1684)، وقال أن لافونتين وعد بأن يصلح من سلوكه. ولكن الشاعر الهرم لم يعرف فرقاً بين الفضيلة والخطيئة، إنما عرف الفرق بين الطبيعي وغير الطبيعي، فقد تعلم أخلاقياته في الغابات. وكان كموليير لا يشعر بأي انجذاب للبور-رويال، هؤلاء "المجادلون البارعون" كما وصفهم، الذين "تبدو لي دروسهم باعثة على الغم بعض الشيء (40) " وانضم حيناً إلى "شلة" أحرار الفكر في "التامبل"، ولكن حين أصيب بنقطة كادت توقعه على الطريق، لاح له أن قد آن الأوان ليصلح ما بينه وبين الكنيسة، ومع ذلك فقد تساءل "أكان القديس أوغسطين حكيماً حكمة رابليه (41)؟ " ومات في 1695 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وكانت ممرضته على ثقة من خلاصه الأبدي، لأنه على حد قولها "كان فيه من البساطة ما يجعل الله يتردد في الحكم عليه بالهلاك (42) ".
5 - بوالو
1636 - 1711
في اللقاءات التي جمعت الأصدقاء الأربعة في شارع فيو كولومبييه كان نيقولا بوالو المسيطر عادة على الحديث، وهو الذي وضع قواعد الأدب والأخلاق بكل سلطان الدكتور حونسون وثقته في حانة "رأس التركي" بحي سوهو. وكان كجونسون محدثاً أهم منه مؤلفاً؛ وخير أعماله شعر وسط، ولكن أحكامه كان لها في ميدان الأدب أثر أبقى مما كان لأحكام لويس الرابع عشر في السياسة. وقد أعانت صداقته وتقريظه الناقد لموليير وراسين على التغلب على مكائد الجماعات المعادية لهما.(31/224)
كان الطفل الرابع عشر لكاتب برلمان باريس. وإذ كان منذور للكهانة فقد درس اللاهوت في السوربون. ولكنه تمرد، ودرس القانون وكان على وشك الاشتغال بالمحاماة حين مات أبوه (1657)، مخلفاً له ميراثاً يكفيه وهو يقرض الشعر. وأنفق عشر سنين يشحذ قلمه، ثم راح يصدر أحكامه على زملائه في اثنتي عشرة أهجية (1666 وما بعدها). ذلك أن هذا الحشد الرهيب من النظامين الجياع (43) روعه، فهاجمه كأنه جيش من الجراد، وسمى بعضهم بأسمائهم، فخلق له أعداء بقوافيه. وجر على رأسه أيضاً سخط النساء بسخريته من القصص الرومانسية التي كانت السيدتان سكوديري ولافاييت تضيعان بهما ورق فرنسا ووقتها. وقد امتدح القدامى، وامتدح منبين المحدثين ماليرب وراكان، وموليير وراسين. قال "أحسبه من حقنا أن نسمي الشعر الرديء رديئاً دون أن نؤذي الضمير أو الدولة، وأن يكون لنا مطلق الحق أن نستشعر الضجر من قراءة كتاب غبي (44) ". على أن هذه الأهاجي تضجرنا هي الأخرى لأن هدفها قد تحقق: فالشعراء الذين أدانتهم هدموا هدماً لم يبقِ على أثر لهم في ذاكرتنا أو في اهتمامنا؛ يضاف إلى هذا أن أصحاب العقول الغضة منا، ولا سيما إذا كنا مؤلفين، يؤثرون النقاد الذين يرشدوننا إلى الطيب على أولئك الذين يسخرون من الخبيث.
وبعد أن ذهب بوالو في أهاجيه مذهب جوفينال الصارم، خفف من غلوانه بالتزام مذهب هوراس الأكثر اعتدالاً، ووصل إلى أسلوب ألين في سلسلة من الرسائل (1669 - 95). وهذه الرسائل الشعرية هي التي أغرت لويس بدعوته إلى البلاط. وسأله الملك ما أفضل شعره في ظنه. أما بوالو الذي كان يترقب فرصته الكبرى فلم يقرأ شيئاً من شعره المنشور، ولكنه تلا بعض شعره بمدح الملك العظيم، وكان أبياتاً لم تطبع بعد قال عنها إنها أقل شعره رداءه. وأجازه لويس بمعاش قدره ألفان من الجنيهات (45)، وأصبح شخصاً "مرضياً عنه" في البلاط. قال لويس "أحب بوالو لأنه سوط تأديب ضروري نصلته على ذوق كتاب الدرجة(31/225)
الثاني السقيم (46) ". وكما أن لويس ساند موليير في حملته على المتعصبين. كذلك لم يفه بأي احتجاج حين نشر بوالو ملحمة ساخرة سماها "لوتران" (1674)، هزأ فيها برجال الكنيسة الغافلين النهمين. وفي 1677 عبن الشاعر الهجاء مؤرخاً رسمياً مع راسين، وفي 1684 قبل نهائياً في الأكاديمية بأمر صريح من الملك، ورغم احتجاجات أولئك الذين سلخ جلودهم.
أما القصيدة التي طفت به فوق دوامات الزمن فهي "فن الشعر" (1674) التي ضارعت في تأثيرها النموذج الذي نسجت على منواله، وهو كتاب هوراس Arspoetiea، ويستهل بوالو قصيدته بتنبيه شباب الشعراء إلى أن "بارناس" جبل وعر، فليستوثقوا إذن قبل أن يشرعوا في ارتفاء جبل ربات الشعر والفن أن لديهم شيئاً يستحق أن يقال، شيئاً يعزز الحقيقة ويعين على الإدراك والذوق السليمين. وهو يقول لهم ناصحاً: نوعوا حديثكم، فإن أسلوباً بالغ التكافؤ شديد التماثيل (كأسلوب بوالو) يحملنا على النوم، و "حبذا الشاعر الذي ينتقل، بلمسة رقيقة، من الخطير إلى الخفيف، ومن السار إلى العنيف (47) ". "وأرهفوا آذانكم لإيقاع ألفاظكم. واتبعوا قواعد ماليرب في اللغة والأسلوب. وادرسوا القدامى لا المحدثين: هومر وفرجل في شعر الملاحم، وسفوكليس في المأساة، وتيرانس في الملهاة، وهوراس في الهجاء، وتيوقريطس في شعر الرعاة". "أسرعوا في بطء، وضعوا إنتاجكم على السندان عشرين مرة دون أن يفت ذلك من عضدكم ... وأضيفوا إليه قليلاً، واحذفوا منه (48) كثيرً. أحبوا من ينتقدونكم، وصححوا أخطاءكم دون تذمر وأنتم تنحنون لحكم العقل (49). وأعملوا للمجد، ولا تجعلوا الكسل الخسيس هدفاً لجهدكم (50). فإذا كتبتم درامات فراعوا الوحدات، واجعلوا الفعل الواحد، المكتمل في مكان واحد ويوم واحد، يبقى المسرح ممتلئاً بجمهوره إلى النهاية (51). أدرسوا البلاط وتعرفوا على المدينة(31/226)
فكلاهما غني بالنماذج، ولعل هذا هو السر في الفوز الذي حققه موليير لفنه (52) ".
وانضم بوالو إلى موليير في السخرية من "المتحذلقات" واحتقر شعر الحب المتكلف الذي أضعف الشعر الفرنسي، وقابل بين هذه العاطفة الكاذبة وبين تمجيد ديكارت للعقل وغرس الآداب القديمة لضبط المشاعر. وصاغ مبادئ الأسلوب الكلاسيكي، وأجملها في بيتين شهيرين "أحبوا العقل إذن، ولتقبس كتاباتكم منه بهائها وقيمتها (53) " فلا زيف في العاطفة، ولا انفعال، ولا كلام طنان، لا تحذلق، لا تكلف، ولا غموض التباهي والغرور. فالمثل الأعلى في الأدب، كما في الحياة، هو ضبط رواقي للنفس، و"لا تزيد أو إفراط".
وقد أحب بوالو موليير، ولكنه أسف على هبوطه إلى درك المسلاة "الفارص". وأحب راسي، ولكن يبدو أنه لم يفطن إلى تمجيده الرومانسي للوجدان، ولم يلحظ بطلاته المتفجرات بالانفعالات-هرميون، وبرينيس، وفيدر. والمقاتل لابد مبالغ في نصيبه من الحقيقة. ولقد كان في بوالو من قوة المحارب ما أعجزه عن فهم ما قاله بسكال من إن للقلب دواعيه التي لا يفهمه الدماغ، وأن الأدب بغير وجدان قد يكون له ملاسة الرخام وبرودته. لقد سمح هوراس بالوجدان فقال "إن أردتن أن أبكي" أي أن أحس مما تكتب، "فعليك أن تبكي أنت أولاً" أي عليك أن تحس أنت بالأمر. إن فن العصور الوسطى وأدبها ظلا محجوبين عن عين بوالو.
وكان أثر تعليمه هائلاً. فقد حاول الشعر والنثر الفرنسيان التزام قواعد الكلاسيكية طوال قرون ثلاثة. وشاركت هذه القواعد في تشكيل أسلوب الأدب الإنجليزي في "العصر الأغسطي" الذي قلد شاعره بوب في صراحة "فن الشعر" في كتابه "مقال في النقد". وكان تأثير بوالو ضاراً ونافعاً. فهو باستنكاره الخيال والوجدان، وضع صماماً(31/227)
على الشعر في فرنسا بعد راسين، وفي إنجلترا بعد درايدن. واتخذ الشعر في أفضل نماذجه شكل النحت بالإزميل، ولكنه فقد دفء التصوير ولونه. ومع ذلك كان من الخير أن يدخل هدف العقل إلى ساحة الأدب المحض، فقد كتب الكثير جداً من اللغو عن الحب والرعاة، واحتاجت أوربا إلى احتقار بوالو الغاضب حتى تطهر ذلك الجو الأدبي، جو السخف والتكلف والعاطفة السطحية. وربما كان الفضل لبوالو في ارتفاع موليير من "الفارص" إلى الفلسفة، وفي محاولة راسين البلوغ بفنه إلى مرتبة الكمال.
وكان مما يتلاءم وطبيعة بوالو تماماً مسلكه بعد أن اشترى بيتاً وحديقة في أتوى بفضل نفحة من نفحات الملك (1687)، فهو لم يذكر شيئاً في كتاباته عن الطبيعة المحيطة به اللهم إلى أنه من تلك الحقول اتخذ الآن اسم "دسبريو". هناك عاش أكثر ما بقي له من أجل في هدوء بسيط، لا يزور البلاط إطلاقاً، ويرحب ترحيباً حاراً بأصدقائه. وقد لاحظ الناس أن "له أصدقاء كثيرين رغم أنه تكلم بسوء عن كل إنسان (54) ". وكان فيه من الشجاعة ما حمله على الإعراب عن عطفة على البور رويال، وعلى أن يخبر يسوعياً بأن رسائل بسكال الإقليمية إحدى ورائع النثر الفرنسي. وقد عمر بعد موت جميع أفراد الجماعة التي كان منظرها المرموق: فموليير لقي ربه منذ أمد بعيد، ثم لحق به لافونتيين في 1693، ثم راسين في 1699، وتحدث الهجاء العجوز العليل بتأثر عن "الأعزاء الذين فقدناهم، والذين اختفوا كأنهم حلم إنسان استيقظ من نومه (55) " وحين دنت منيته غادر أوتوى وذهب ليموت (1711) في مسكن كاهن اعترافه بصومعة النوتردام، مؤملاً أن لا يجرؤ الشيطان على أن يمسه بسوء هناك.(31/228)
6 - الاحتجاج الرومانسي
لم تقبل سيدات المجتمع على القواعد الكلاسيكية-قواعد العقل، والاعتدال، وضبط النفس-إقبال كورنبي العجوز وراسين الشاب. ذلك أن عالمهن كان عالم الوجدان والرومانس، وقد حفزت "زيجات المصلحة" التي كن يعقدن أوهام الغرام أكثر مما صدتها. ومن ثم نرى الرواية الرومانسية تنمو-جنباً إلى جنب مع الدراما الكلاسيكية- حتى تتضخم حجماً وتلقى استحساناً واسعاً وتؤثر تأثيراً دولياً. ولم تكن سيدات المجتمع في فرنسا ليشبعن من هذه الروايات، ولكن يجدنها مفرطة في الطول، وآية ذلك أنه حين توقف "جوتييه دلا كالبرونيد" عن المضي في روايته "كليوبطرة" بعد أن كتب فيها عشرة أجزاء (1656)، رفضت خطيبته أن تتزوجه إلا إذا ختمها بجزأين آخرين (56).
وقد استرقت الآنسة مادلين دسكوديري قلوب نصف فرنسا بوايتها "آرتامين أو كورش الكبير" (1649 - 53)، و"كليلي" (1654 - 60) ولكتاهما في عشرة مجلدات. وأشبع غرور المجتمع الفرنسي أن يجد الشخوص في هذا الإنتاج الرومانسي الغزير، تحت أسماء مستعارة، تصف أعلام العصر وأقطابه المشهورين وتميط اللثام عنهم. وما لبثت سيدات الصالونات وسادته أن أطلقوا على أنفسهم أسماء من هذه الروايات، وتعلموا فنون التنهد والإنكار شأن أبطالهم وبطلاتهم، وأصبحت الآنسة دسكوديري نفسها تسمى "سافو"، وكذلك كانت تنادي في الصالونات إلى نهاية عمرها الذي بلغ أربعة وتسعين عاماً. وقد كتبت لتسر أخاها جورج، ونشرت كتبها تحت اسمه؛ وآثرت أن ترعاه على أن تتزوج. وظل سلطانها على النساء المثقفات والرجال المعطرين إلى أن غيرت مسرحيتا موليير "المتحذلقات المضحكات" و"النساء العالمات" من اتجاه الأذواق العالمية، وهنا حبست مادلين في شجاعة آخر مجلد من مجلداتها التسعين عن النشر. والذين يشكون(31/229)
الفراغ قد يجدون إلى اليوم في صفحات "كورش الكبير" الخمس عشرة ألف، أو صفحات "كليلي"، العشرة الآلاف، فقرات تتميز برقة العاطفة، أو تنفرد بتحليل الخلق. كذلك تستحق لاسكوديري أن تتذكرها لما قامت به من جهد في سبيل النهوض بتعليم النساء في فرنسا.
وأما "ماري مادلين بيوش لافيرن"، التي أصبح اسمها بعد الزواج الكونتيسة لافاييت، فهي شخصية أكثر فتنة، لأنها لم تكتب قصة رومانسية شهيرة فحسب، بل عاشت أيضاً قصة أشهر. وقد أتيح لها تعليم مكتمل على غير العادة، ثم ذهبت لتعيش في أوفرن بعد زواجها (1655). ولكنها حين وجدت الحياة هناك مملة اتفقت مع زوجها على الانفصال (1659)، وذهبت إلى باريس، وانضمت إلى الجماعة التي تلتقي في قصر رامبوييه. ثم أصبحت وصيفة الشرف لمدام هنربيتا، وخلدتها بعد حين في مذكرات تفيض محبة. وكانت قريبة وصديقة لمدام دسفينييه التي كتبت تقول فيها بعد عشرة أربعين عاماً "لم تحجب سماء صداقتنا أقل سحابة، ولا أبلى طول الألفة من فضائلها في نظري، فقد كان شذاها على الدوام نظراً جديداً (57) ". وتلك تحية للطرفين قل أن تجد لها نظيراً، لأن الصداقات تبلى كالحب الرومانسي. وسنلتقي بمزيج نادر من الحب والصداقة في علاقات مدام دلافاييت بلاروشفوكو.
وقد وقعت على الجديد الثوري حين قررت أن تبارز بقلمها الآنسة دسكوديري. ذلك أنها كتبت رواية في مجلد واجد لا يزيد طولها على مائتي صفحة. واعتنقت مبدأ مؤداه أنه إذا تساوت كل الاعتبارات الأخرى فإن خير الكتب ما حذف أكثر ما في نصه الأصلي، فكل جملة تحذف تضيف جنيهاً ذهبياً لقيمة الكتاب، وكل كلمة تحذف نضيف عشرين فلساً. وبعد أن نشرت أعملاً صغيرة ألفت (1672) ونشرت (1678) رائعتها المسماة "أمير كليف". وحبكة الرواية (إن شئنا أن نخلط بين الاستعارات) هي(31/230)
مثلث ذو مماس. فالآنسة شارتر فتاة بارعة الجمال ولكن في تواضع يجعل من أمير كليف عبداً لها لأول نظرة. وتتزوجه عملاً بنصيحة أمها، ولكنها لا تشعر نحوه شعوراً أحر من الاحترام. وما يلبث دوق نيمور أن يراها فيهيم بها لتوه، وتصده هي في إحساس بالفضيلة، ولكن إلحاحه المحموم يمس قلبها، وشيئاً فشيئاً تتحول الشفقة فيها حباً. وتعترف بهذا التطور لزوجها، وتتوسل إليه أن يبعدها عن القصر وعن التجربة، ولكنه لا يستطيع أن يصدق أنها وفية له، فيخترمه الهم حتى يقتله، وكأن قرنيه الوهميين خرقا حلقه. أما الأميرة فتصد الدوق وضميرها يبكتها على موت الأمير، وتكرس ما بقي لها من عمر لأعمال البر. وقد علق "بيل" الشكاك على القصة بقوله: لو أن امرأة بهذا الطهر والوفاء وجدت في فرنسا لمشى ألفا ومائتي ميل ليرها (58).
ونشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلفة، ولكن سرعان ما أستقر رأي الأوساط الأدبية على أنه إحدى ثمرات علاقة حميمة مشهورة آنذاك. قالت الآنسة سكوديري: (لقد كتب مسيو دلاروشفوكو ومدام دلافاييت رواية ... قيل لي أنها كتبت على نحو يثير الإعجاب (59))، ولكنها أضافت "أنهما لم يعودا في سن تسمح لهما بالاشتراك معاً في أي عمل غير هذا (60) ". ولكن كلا المؤلفين المزعومين أنكرا تأليف الرواية. وكتبت لاسكوديري تقول "إن الأميرة كليف أرملة مسكينة تبرأ منها أبوها وأمها". أياً كان الأمر، فقد أجمع الكل على أنها أروع رواية كتبت في فرنسا إلى ذلك الحين. واعترف فونتنيل بأن قرأها أربع مرات، وكان رأي بوالو، عدو الرومانس، في مدام دلافايين أنها "أبدع عقل وأفضل كاتبة بين نساء فرنسا". ويقر التاريخ لأميرة كليف بأنها من أول الروايات السيكولوجية وما زالت من أفضلها. وهي الرواية الفرنسية الوحيدة من روايات ذلك العصر التي ما زال في الإمكان قراءتها دون ما ألم.(31/231)
7 - مدام دسفينييه
1626 - 1696
ولكن بقي من آثار ذلك العصر عشرة مجلدات-من تأليف امرأة أيضاً-في الإمكان قراءتها في بهجة مستسلمة حتى في نبض زماننا السريع. والمؤلفة، وهي واري درابوتان-شانتال، فقدت أبويها في طفولتها وورثت ثروتهما الكبيرة. وقد شارك في تعليمها نفر من خيرة العقول في فرنسا، ونشأتها خيرة الأسر في فرنسا على فنون الحياة. فلما بلغت الثامنة عشرة تزوجت هنري، مركيز دسفينييه، ولكن هذا الزير كان يحب مالها أكثر من شخصها، وبدد بعضه على خليلاته، وبارز خصماً بسبب إحداهن، وقتل في المبارزة (1651). وحاولت ماري أن تنساه، ولكنها لم تتزوج بعده، بل فرغت لتربية ابنها وابنتها. ولعلها كما ألمح ابن عمها الحقود بوسي-رابوتان كانت "ذات مزاج بارد" (61) أو لعلها تعلمت أن الجنس يستنزف الذات أما الأمومة فتحققها. وخطاباتها تفيض سعادة، كلها تقريباً سعادة الأمومة.
ولقد أحبت المجتمع بقدر ما تشككت في الزواج. وكان لها، وهي الأرملة الشابة التي تملك ثروة بلغت 350. 000 جنيه (62)، خطاب كثيرون من النبلاء-تورين، وروهان، وبوسي ... ولم ترَ معنى لطردهم جميعاً إلا واحداً، ومع ذلك لم تلوث سمعتها كلمة فضيحة أو علاقة محرمة واحدة. وكان أصدقاؤها يحبونها بإخلاص أكثر صدقاً-ومنهم دريتز، ولاروشفوكو، ومدام دلافاييت، وفوكيه. أما الأول والثاني فقد أقصيا عن القصر لاشتراكهما في حرب الفروند، وأما الأخير فلثروته التي لم يستطع تعليلها، ولم تلقَ مدام دسفينيه، الوفية وفاءاً حاراً للأربعة على السواء، ترحيباً في الرحاب الملكية المقدسة وإمالة كلمات متفضلة من الملك في حفلة مثلت فيها مسرحية إستير بسان-سير. أما في خارج البلاط فكانت دوائر كثيرة(31/232)
تبتهج بصحبتها، لأنها كانت تملك كل مفاتن المرأة المثقفة، كانت تتكلم بنفس الحيوية التي تكتب بها، وذلك إطراء يناقض إطراء ألفناه أكثر منه؛ فطالما يسدي إلينا النصح، ربما في غير تبصر، بأن نكتب كما نتكلم.
وقد بق من رسائلها أكثر من ألف وخمسمائة، وجلها موجه لابنتها، فرنسواز مارجريت. التي تزوجت الكونت دجرينيان (1669)، وسرعان ما رحلت إلى بروفانس لتعيش معه، وكان نائباً لحاكمها. فظلت الأم من 1671 إلى 1690 تبعث بخطاب مع كل بريد تقريباً-وأحياناً مرتين في اليوم-إلى هذه الزوجة الشابة التي فصلتها عنه أرض فرنسا كلها طولاً. كتبت تقول لها "إن مراسلتي لك هي عافيتي، ولذة حياتي الوحيدة، وكل اعتبار آخر يتضاءل بالقياس إلى هذا (63) ". ذلك أن الحب الذي لم يجد رجلاً يشبعه أصبح غراماً مشبوباً بابنة أحست أنها غير جديرة به، لأن فرانسواز كانت ذات خلق أكثر تحفظاً، ولم تعرف كيف تعرب عن مشاعرها بحرارة. ثم كان لها زوج وأطفال يتطلبون العناية بهم، وكانت أحياناً تصبح ضيقة الخلق أو مكتئبة المزاج، ومع ذلك ظلت طوال خمسة وعشرين سنة، إلا في فترات مرضها، تكتب لأمها مرتين في الأسبوع، لا يفوتها بريد إلا نادراً، حتى لقد أقلق الأم المتينة بها أن تكون قد جارت على وقت ابنتها.
وأبلغ ما في هذه الرسائل تأثيراً على النفس ما روى حياة طفلة مدام جربنيان البكر ونهاية هذه الحياة في الدبر. ذلك أنها قدمت باريس لتلد في كنف أمها. وما لبثت أن أرسلت إلى زوجها اعتذاراً لأنها ولدت بنتاً-لابد من تربيتها بجهد أليم، ومهرها بمهر غالٍ، ثم فقدها؛ ولما عادت فرنسواز إلى بروفانس تركت ماري بلانش الصغيرة حيناً مع جدتها التي افتتنت بها. وكتبت مدام دسفنييه للأب تقول "إن كنت تريد ولداً فاعكف على صنعه (64) " كتبت للوالدين اللذين لم يقدرا طفلتهما تفاصيل نشوانة عن العجيبة التي أنجباها كارهين:(31/233)
"إن ابنتكما الصغيرة تغدو محببة للنفس ... بيضاء كالثلج، ضاحكة على الدوام ... ولون بشرتها، وعنقها، وجسدها الصغير-كلها عجيب. وهي تقوم بعشرات الحركات الصغيرة-تثرثر، وتلاطف، وتضرب، وترسم علامة الصليب، وتطلب العفو، وتنحني، وتقبل يدها، وتهز كتفيها، وترقص، وتتملق، وتشد الأذن ... وأنا ألهو معها ساعات بطولها (65) ".
وقد ذرفت الجدة دموعاً كثيرة لتدع هذه العجيبة الريانة البدن تذهب إلى بوفانس، ودموعاً أكثر حين أودعها الأبوان ديراً وهي لم تتجاوز الخامسة، ولم تعد الطفلة بعدها، ففي الخامسة عشرة قطعت على نفسها عهد الرهبنة واختفت من العالم.
وكان نائب الحاكم رجلاً متلافاً، يولم الولائم فوق ما يسمح به مركزه. وكانت زوجته تنبئ أمها بانتظام بما تتوقعه من قرب إفلاسهما، أما الأم فكانت توبخهما في محبة وترسل لهما المبالغ الكبيرة من المال "كيف، بحق محبة الله والناس، يستطيع إنسان أن يحتفظ بهذا القدر الكبير من الذهب والفضة والحلي والأثاث وسط الفقر المدقع الذي ابتلي به من يحيط بنا من الفقراء في هذه الأيام (66) ". ورغبة في الاحتفاظ بقدرتها المالية بعد هذه الاستقطاعات، كانت مدام دسفينييه تعنى بتفقد أملاكها في لي روشيه بإقليم بريتني لتستوثق من أنها تلقى الرعاية الواجبة، ومن أن ريعها يصلها بعد اختلاسات معقولة. ووجدت سعادة جديدة في الحقول، والغابات، وفلاحي بريتني، وكتبت عنهم بنفس الحيوية التي كتبت بها عن المجتمع الباريسي الذي كانت له أشبه برسالة نصف أسبوعية لابنتها.
وكان ابنها مشكلاً من نوع آخر. فهي شديدة التعلق به لأنه فتى طيب، يملك كما قالت "معيناً من الذكاء وروح الفكاهة ... وقد ألف أن يقرأ علينا فصولاً من رابليه يكاد يموت السامع من الضحك عليها" (67). وكان شارل ابناً مثالياً، إلا إذا استثنينا ترسمه خطى أبيه في التنقل من إغراء إلى إغراء، إلى أن-ولكن لندع مدام دسفينيه، وهي تكتب(31/234)
لابنتها، تتحمل تبعة باقي القصة، فلا شيء أكثر إيضاحاً لطابع العصر:
"بقيت كلمة أو كلمتان عن شقيقكِ ... فبالأمس أراد أن يقص عليّ نبأ حادث مروع وقع له. ذلك أنه صادف لحظة سعيدة، ولكن حين وصل إلى بيت القصيد-كان شيئاً عجيباً! فإن الفتاة المسكينة لم يرفه عنها أحد في حياتها قط بمثل هذا، أما الفارس فقد تقهقر بعد أن هزم شر هزيمة، وظن أن سحراً ألقي عليه، وألطف ما في القصة أنه لم يشعر بالراحة إلا بعد أن أنبأني بكارثته. وضحكنا عليه حتى استلقينا، وقلت له أنني مغتبطة جداً لأنه عوقب حين أثم ..... لقد كان منظراً يستحق أن يسجله موليير (68) ".
وأصيب الفتى بالزهري، فعنفته؛ ولكنها مرضته في حب. وحاولت أن تبث فيه شيئاً من الدين، ولكن نصيبها من الدين كان من الضآلة بحيث لم تستطع أن تعطيه الكثير منه. وقد تأثرت بمواعظ بوردالو، وخبرت دفقات فجائية من التقوى، ولكنها كانت تبتسم حين ترى المواكب الدينية التي أبهجت أهل المساكن الفقيرة. وقرأت آرنو، ونيكول، وبسكال، وتعاطفت مع ألبور-رويال، ولكن صدها تركيزهم على تجنب الهلاك الأبدي، ذلك أنها لم تستطع أن تقنع نفسها بالإيمان بالجحيم (60). وكانت على العموم تجفل من التفكير الجاد، فمثل هذه الأمور ليست للنساء، ومن شأنها أن تعكر جمال الحياة الوادعة. ومع ذلك كانت ذواقة في قراءاتها-تقرأ فيرجل وناسيتوس والقديس أوغسطين باللاتينية، ومونتيني بالفرنسية، وتعرف مسرحيات كورنبي وراسين معرفة وثيقة. أما فكاهتها فكانت أعمق وأبهج من فكاهة موليير. فلنستمع إليها تتحدث عن صديق مدمن للتأمل الشارد:
"انقلب برانكا قبل أيام في مصرف وجد نفسه فيه مرتاحاً جداً حتى لقد سأل من سارعوا ليخرجوه منه أبهم حاجة إلى خدماته. وقد كسرت نظارته، ولولا أن حظه كان خيراً لكسر رأسه أيضاً، ولكن هذا كله لم يقطع تأملاته قط. وقد أرسلت له كلمة هذا الصباح ... أنبئه(31/235)
فيها أنه انقلب وكاد عنقه يدق، لأنني اعتقد أنه الشخص الوحيد الذي لم يسمع بالحادث في باريس (70) ".
وهذه الرسائل في مجموعها تؤلف صورة من أكثر الصور كشفاً في الدب، لأن المركيزة تسجل فيها أخطاءها وفضائلها دون تحفظ. فهي الأم المحبة، التي تجد نفسها على سجيتها سواء في صالونات العاصمة أو في حقول بريتني، وهي تكتب لابنتها عن أتفه أحاديث الأرستقراطية وقيلها وقالها، ولكنها تقول أيضاً "إن البلبل، والوقواق، والهزاز-كلها بدأت تصدح في ربيع الغابات"، وندر أن تفوه بكلمة سوء عن مئات الأشخاص الذي يرفون خلال صفحاتها الألفين، وهي على الدوام مستعدة لمديد المعونة للمكروبين، مجملة حديثها بالرقيق من التحية والمجاملة، مذنبة بين الحين والحين بالمرح القاسي (كضحكها على شنق بعض المتمردين المساكين في برتني)، ولكنها مرهفة الإحساس بآلام الفقراء، وهي تغضي عن فساد زمانها وطبقتها، ولكنها بلا لوم في سيرتها الشخصية؛ إنها روح تفيض بالنية الطيبة وحب الحياة، فيها من التواضع ما يمنعها من نشر كتاب، ولكنها تكتب أفضل فرنسية في عصر أفضل فرنسية كتبت على الإطلاق.
ترى هل خطر ببالها أن رسائلها قد تنشر في يوم ما؟ كانت أحياناً تسترسل في تحليقات من البلاغة كأنها تشم مداد المطابع، غير أن رسائلها حافلة بتفاصيل العمل، وبالمصارحات العاطفية، والمكاشفات المحرجة التي لا يمكن أن تكون قصدت على القراء. كانت تعلم أن ابنتها تطلع أصدقاءها على رسائلها، ولكن مثل هذه المشاركة كانت كثيرة في تلك الأيام، حين كادت المراسلة أن تكون وسيلة الاتصال الوحيدة بين المسافات الطويلة، وقد ورثت وحفظت الرسائل حفيدتها بولين، التي منعتها من أن تدخل ديراً كما فعلت شقيقتها بلانش ماري، ولكنها لم تنشر إلا عام 1726، بعد موت المركيزة بثلاثين عاماً. وهي اليوم من أغلى عيون الأدب الفرنسي، وكأنها باقة زهر غنية يزداد عبيرها انتشاراً على الأيام.(31/236)
وازداد تفكيرها في الدين كلما دنت نهايتها، وقد اعترفت بخوفها من الموت والحساب. وبين ضباب بريتني ومطر باريس أصابها الروماتزم، ففقدت فرحتها بالحياة، وأدركت أنها بشر فانٍ.
"لقد ولجت الحياة دون رضاي، ويجب أن أخرج منها؛ هذه الفكرة تطغى علي .. وكيف أخرج؟ ... ومتى؟ .. إنني أدفن نفسي في هذه الأفكار، وأجد الموت شديد الرهبة حتى لأبغض الحياة لأنها تفضي بي إلى الموت أكثر من بغضي لها لما يملؤها من أشواك. ستقولين أنني أريد أن أحيا إلى الأبد. ليس الأمر كذلك مطلقاً، ولكن لو أخذ رأيي لآثرت أن أموت بين ذراعي مربيتي، فقد كان هذا خليقاً بأن يوفر علي اضطرابات الروح ويكفل لي الجنة في كل يقين ويسر (71) ".
وليس صحيحاً أنها بغضت الحياة لأنها تفضي بالموت، إنما هي أبغضت الموت لأنها استمتعت بالحياة استمتاعاً شديداً قرابة سبعين عاماً. وإذ كانت أمنيتها أن تموت في بيت ابنتها الحبيبة، فإنها عبرت فرنسا خلال أربعمائة ميل في رحلة عذاب إلى شاتو جرينيان. فلما أقبل الموت لقيته بشجاعة أدهشتها، ووجدت العزاء في تناول الأسرار المقدسة، وعللت نفسها بالخلود. ولقد وهب لها الخلود حقاً.
8 - لاروشفوكو
1613 - 1680
شتان ما بين هذا الروح، وروح أشهر الكلبيين المحدثين، وأقسى من مزق القناع عن نقائصنا، ذلك العليل المكتئب الذي شوه سمعة النساء وافترى على الحب، والذي أحبته ثلاث نساء حتى الموت.
كان النبيل السادس المسمى فرانسوا دلاروشفوكو، سليل أسلاف كثيرين من الأمراء والكونتات، والابن البكر للرئيس الأكبر لإدارة الملابس والحلي للملكة والوصية ماري دمديتشي.(31/237)
وكان اسمه الأمير مارسياك إلى أن ورث لقب الدوقية عند وفاة أبيه (1650). وقد تلقى التعليم في اللاتينية والرياضيات والموسيقى والرقص والمبارزة والأنساب والأتكيت. فلما ناهز الرابعة عشرة تزوج بتدبير أبيه من أندريه دفيفون، الابنة الوحيدة والوريثة لبازبار فرنسا الكبير المتوفى. وحين بلغ الخامسة عشرة أمر على فوج من الفرسان، وفي السادسة عشرة اشترى رتبة الكولونيل. وكان يختلف إلى صالون مدام درامبوييه الذي هذب عاداته وصقل أسلوبه. ومع كل مثالية الشباب وإثارة للنساء الناضجات نراه يعشق الملكة، ومدام دشفروز، والآنسة دهوتفور. وحين تآمرت آن النمساوية على ريشليو استخدمت فرانسوا، ثم كشف أمره، وأودع الباستيل أسبوعاً (1636). فلما أفرج عنه سريعاً نفي إلى ضيعة أسرته بفيرتوي. وراضَ نفسه حيناً عل العيش مع زوجته، ولاعب ولديه الصغيرين فرانسوا وشارل، وتعلم أن للريف مباهج لا تستطيع فهمها غير المدينة. وفي تلك الأيام لم يكن ممكناً فصم عرى الزواج الشرعي بين الطبقات العليا الفرنسية، ولكم كان من الممكن تجاهلها. وبعد أن قضى الأمير عشر سنوات في زواج المرأة الواحدة الذي أضجره، انطلق للمغامرة في الحب والحرب. وحين استهدفت عيناه مدام دلونجفيل (1646) لم يعد دافعه إلى ذلك حب مثالي، بل تصميم على الاستيلاء على قلعة منيعة مشهورة، لأنه مما يرفع من قدره أن يغوي زوجة لدوق وأختاً لكونديه العظيم. أما هي فلعلها ارتضته لأسباب سياسة، فقد يكون حليفا، نافعاً في التمرد الأرستقراطي الذي اعتزمت أن تلعب فيه دوراً نشيطاً. ولما أخبرته أنها حبلت منه (72)، منح كل تأييده للفروند. وفي 1652 نبذته واتخذت الدوق نيمور عشيقاً، وحاول لاروشفوكو إقناع نفسه بأن ذلك ما كان يصبوا إليه، وكما قال بعد ذلك "حين نحب إنساناً إلى درجة الملل ... فإننا نرحب أشد الترحيب ... بفعل من أفعال الخيانة يبرر تحللنا من ذلك الحب (73) " في ذلك العام، وفيما كان يحارب في صفوف الفروند في ضاحية(31/238)
سانت أنطوان، أصابه رش بندقية في عينيه وخلف به عمى جزئياً. فانكفأ راجعاً إلى فيرتوى.
وكان الآن في الأربعين، يحس بوادر النقرس، ويشعر المرارة من كوارث أكثرها من صنعه. أما مثاليته فماتت في إثر مدام دلونجفيل، وفي مؤامرات الفروند الخداعة والنهاية الحقيرة التي انتهت إليها. وقد أزجى فراغه ودافع عن سيرته في "مذكرات" (1662) دل فيها على عظيم تمكنه من الأسلوب الكلاسيكي. وفي 1661 سمح له بالعودة إلى البلاط، ومنذ ذلك التاريخ قسم وقته بين زوجته في فيرتوى وأصحابه في صالونات باريس.
وكان أحب الصالونات إليه صالون مدام دسابليه. هناك كانت هي وضيوفها يلعبون أحياناً لعبة "العبارات". يعلق أحدهم بعبارة على الطبيعة البشرية أو سلوك الإنسان، فتتقاذف الجماعة العبارة فيما بينها تأييداً واعتراضاً. وكانت مدام دسابليه جارة وصديقة مخلصة للبور-رويال-دباري، فاعتنقت رأيه في شر الإنسان الفطري وخواء الحياة الدنيوية، ولعل تشاؤم لاروشفوكو الناجم عن خيبته في الحب والحرب، وعن الخيانه السياسية والألم البدني، وعن خدعه غيره وانخداعه بالغير-نقول لعل هذا التشاؤم وجد مساندة قليلة من جانسنيه مضيفته. وكان يجد لذة قاتمة في تهذيب عباراته وعبارات غيره وغربلتها على مهل، وسمح لمدام دسابليه وغيرها من الأصدقاء بأن يقرؤوا هذا الحكم، وأن يعدلوا فيها أحياناً. وقد نسخها أحد هؤلاء، وطبع ناشر لص هولندي 179 منها، غفلاً من اسم المؤلف، حوالي سنة 1663، وتبين فيها رواد الصالونات حكم لاروشفوكو، ثم أصدر المؤلف نفسه طبعة أفضل أضاف إليها 317 مثلاً عام 1665 تحت عنوان "عبارات وأمثال أخلاقية". وأصبح هذا الكتيب الذي اختزل الناس اسمه بعد قليل إلى "الأمثال"، من عيون الأدب للتو تقريباً. ولم يعجب القراء بأسلوبه الدقيق المحكم الأنيق فحسب، بل أنهم استمتعوا بما حوى(31/239)
من فضح لأثرة الغير. ولم يفطنوا إلى أن القصة إنما تروى عنهم، إلا فيما ندر.
ووجهة نظر لاروشفوكو أوردها ثاني أمثاله: "إن حب الذات هو حب الإنسان لنفسه، ولأي شيء آخر لأجله. وحياة الإنسان كلها ليست إلا ممارسة متصلة لهذا الحب وتحريضاً قوياً له" وليس الغرور إلا شكلاً من الأشكال الكثيرة التي يتخذها حب الذات، ولكن حتى هذا الشكل يدخل في كل فعل وفكر تقريباً، وقد تنام شهواتنا أحياناً، ولكن غرورنا لا يهدأ أبداً "إن الذي يرفض الثناء أول مرة يرفضه أنه يريد سماعه ثانية (74) ". والتلهف على استحسان الناس لنا هو الأصل لكل الأدب والبطولات الواعية. "وكل الناس يستوون كبرياء، والفرق الوحيد هو أنهم لا يتبعون كلهم نفس الطرق في إبدائها (75) ". "إن الفضائل تضيع في المصلحة الذاتية كما تضيع الأنهار في البحر (76) ". "ولو تأملنا أفكارنا الخفية لوجدنا في صدورنا بذرة كل الرذائل التي نستنكرها في غيرنا" ولاستطعنا أن نحكم من الواقع فسادنا الشخصي على الفساد المتأصل في الإنسان (77). وما نحن إلا عبيد شهواتنا، وإذا قهرت شهوة منها فقاهرها ليس العقل بل شهوة أخرى (78)، "والعقل يستغفله الوجدان دائماً"، "والناس لا يشتهون شيئاً بلهفة إذا طلبوه انصياعا لأوامر العقل فقط (79) "، "وأبسط الناس إذا أعانته العاطفة المشبوبة سينتصر أكثر من أفصح الناس بدونها (80) ".
وفن الحياة يكمن في إخفائنا حب ذواتنا بقدر يكفي لتجنب إغضاب حب الغير لذواتهم. وعلينا أن نتظاهر بقدر من الإيثار "إن النفاق ضرب من الاحترام الذي تقدمه الرذيلة للفضيلة (81) ". واحتقار الفيلسوف المزعوم للثراء أو عراقة النسب ليس إلا طريقته في الترويج لبضاعته. وما الصداقة "إلا تجارة لا يفتأ حب الذات يطلب الكسب من ورائها (82) " وقد نقيس إخلاصها إذا لاحظنا أننا نجد في نكبات أصدقائنا شيئاً ليس كله(31/240)
مسيئاً (83). ونحن نبادر إلى الصفح عمن أساءوا إلينا بأسرع من صفحنا عمن أسأنا إليهم، أو عمن تفضلوا علينا-فألزمونا-بخدماتهم (84). والمجتمع حرب بين الفرد والكل. "والحب الصادق أشبه بالأشباح-شيء يتحدث عنه كل إنسان ولكن نادراً ما رآه أحد (85) "، و"ما كنا لنقع في الحب قط لولا سمعنا الناس يتكلمون في الحب (86) ". ومع ذلك فالحب إذا كان صادقاً تجربة فيها من العمق ما يجعل النساء اللاتي عرفن الحب مرة ضعيفات القدرة على الصداقة، لأنهن يجدنها باردة غثة بالقياس إلى الحب (87) ومن هنا لم يكن للنساء وجود تقريباً إلا وهن في الحب "قد تلقى نساء لم يسبق لهن غرام غط، ولكن من العسير جداً أن تجد نساء لم يقعن إلا في غرام واحد لا أكثر (88) ". "وأكثر النساء المحصنات كالكنوز المخفاة، التي لم تكن في مأمن إلا لأن أحداً لم يفتش عنها (89) ".
وكان هذا الكلبي العليل عليماً بأن هذه الحكم البارعة ليست وصفاً منصفاً للبشر. لذلك راح يتجنب الجزم في الكثير منها بألفاظ مثل "تكاد" أو "تقريباً" إلى غير ذلك من التحفظات الفلسفية، وقد اعترف أنه "أسهل أن يعرف المرء النوع الإنساني عموماً من أن يعرف إنساناً واحداً بالذات (90) "، وسلمت المقدمة بأن أمثاله لا تصدق على "المحظوظين القلائل، الذين سرت السماء بأن تحفظهم ... بنعمة خاصة (91) ". ولابد أنه سلك نفسه في زمرة هؤلاء القلائل، لأنه كتب: "إنني أخلص لأصدقائي إخلاصاً لا أتردد معه لحظة في التضحية بمصالحي في سبيل مصالحهم (92) ". -ولو أنه كان بلا شك يفسر هذا بأنه راجع لأنه يجد في بذل مثل هذه التضحية لذة أكثر مما يجده في منعها. وقد تحدث بين الحين والحين عن "عرفان الجميل، فضيلة العقول الحكيمة السمحة (93) "، و"الحب، النقي الذي لا تشوبه شهوة (إذا وجد إطلاقاً)، الذي يكمن في أعماق قلوبنا (94) " و"مع أنه يمكن القول، بقدر كبير من الصدق .. ، أن الناس لا يفعلون شيئاً دون(31/241)
مراعاة لمصلحتهم، إلا أنه لا يستتبع هذا أن كل ما يفعلوه فاسد، وأنه لم يبق في الدنيا شيء اسمه العدالة أو الأمانة. فالناس قد يحكمون أنفسهم بوسائل شريفة، ويختطون (لأنفسهم) مصالح كلها الخير والنبل (95) ".
وقد ألانت الشيخوخة جانب لاروشفوكو، حتى وهي تزيده شجناً على شجن. ففي 1670 ماتت زوجته ثلاثة وأربعين عاماً من الوفاء الصابر، وبعد أن أنجبت له ثمانية أطفال، وقامت على تمريضه طوال الأعوام الثمانية عشر الأخيرة. وفي 1672 ماتت أمه، وقد اعترف أن حياتها كانت معجزة طويلة من المحبة. وفي تلك السنة جرح اثنان من أبنائه في غزوة هولندا، ومات أحدهما من جروحه. كذلك سقط في نفس الحرب الفاجرة ابنه غير الشرعي الذي ولدته له مدام دلونجفيل، والذي لم يؤذن له بأن يطالب به ابناً برغم أنه أحبه حباً عميقاً. روت مدام دسفينييه "رأيت لاروشفوكو يبكي في حنان جعلني أعبده (96) ". ترى أكان حبه لأمه وأولاده حباً لذاته؟ أجل، إذا نظرنا إليهم على أنهم جزء من ذاته وامتدادها لها. وهذا هو التصالح بين الإيثار والأثرة-فلإيثار توزيع للذات، ولمحبة الذات، للأسرة، أو الأصدقاء، أو الجماعة. وفي وسع المجتمع أن يقنع بمثل هذه الأنانية السمحة الشاملة.
ومن أكثر ملاحظات لاروشفوكو سطحية قوله "أن فضل القليل من النساء يدوم أطول من جمالهن (97) ". لقد كانت أمه وزوجته استثنائين، ولم يكن الكرم تجاهل آلاف النساء اللاتي ضيعن جمالهن الجسدي في خدمة الرجل والأطفال. وفي 1665 بذلت امرأة ثالثة معظم حياتها. ولا شك في أن مدام دلافاييت أرضت قلبها هي وهي تحاول أن تسري عنه. فلقد كان يومها في الثانية والخمسين، يشكو النقرس ونصف العمى، أما هي فكانت في الثالثة والثلاثين، محتفظة بجمالها، ولكنها عليلة تشكو حمى الملاريا. ولقد روعها ما في أمثاله من كلبية، ولعل فكرة سارة بإصلاح هذا الرجل الشقي والتسرية عنه خالطت رأيها فيه، فدعته إلى بيتها في باريس،(31/242)
فجاء محمولاً على محفة، فعصبت قدمه الموجوعة ووسدتها، وأتت بأصحابها، ومنهم مدام دسفينييه المتدفقة العاطفة ليساعدنها في الترويح عنه. وعاد إليها ثانية، وكثرت زياراته حتى لغطت بها باريس. ولا علم لنا هل دخلت في هذه الزيارات الألفة الجنسية، ولكنها على أية حال كانت جزءاً صغيراً في علاقة أصبحت تبادلاً بين الأرواح. قالت "لقد أعطاني الفهم، ولكنني أصلحت قلبه (98) ". ولعله ساعدها في روايتها "أميرة كليف" وإن بعدت رقتها وحنانها عن قسوة "أمثاله" بعد السماء عن الأرض.
وبعد أن ماتت مدام دلاروشفوكو أصبحت هذه الصداقة التاريخية ضرباً من الزواج الروحي، وفي الأدب الفرنسي صور كثيرة لهذه المرأة القصيرة الضعيفة الجسد، تجلس في هدوء إلى جوار الفيلسوف العجوز الذي أقعده الألم عن الحركة. قالت مدام دسفينييه "لا شيء يمكن أن يقارن بسحر صداقتهما وثقتها (99) ". وقال بعضهم إن المسيحية تبدأ حيث ينتهي لاروشفوكو (100)، وقد تبينت صحة القول في هذه الحالة، ولعل مدام دلافاييت الصادقة الورعة أقنعته بأن الدين هو الكفيل بالإجابة عن مشكلات الفلسفة. ولما شعر بدنو أجله طلب إلى الأسقف بوسويه أن يناوله الأسرار المقدسة الأخيرة (1680). وقد عمرت صديقته بعده ثلاثة عشر عاماً حافلة بالألم.
9 - لابرويير
1645 - 1696
بعد موت لاروشفوكو بثمانية أعوام أكد جان دلابرويير تحليله الساخر للآدميين من أهل باريس. وكان جان ابن موظف صغير في الحكومة. درس القانون، واشترى وظيفة حكومية صغيرة، وأصبح معلماً خاصاً لحفيد كونديه العظيم، وخدم أسرة كونديه وصيفاً، وتبعها إلى شانتبي وفرساي. وقد ظل أعزب إلى نهاية حياته.
وقد عذبته حدة الفوارق الطبقية في فرنسا لما فطر عليه من حساسية(31/243)
وحياء، ولم يستطع الاستعانة بمظاهر الغرور اللطيفة التي ربما كانت تيسر له طريقه بين النبلاء وفي البلاط، وذلك رغم انتمائه إلى الطبقة الوسطى. وقد لاحظ معرض الوحوش الملكي بعين معادية نفاذة، وانتقم منها بوصفها في كتاب صب فيه كل عصارته الفكرية تقريباً، وقد سماه "الأخلاق لتيوفراست مترجمة عن الإغريقية، مع أخلاق أو عادات هذا العصر". وأصبح الكتاب حديث باريس. لأنه صور تحت أقنعة شفافة أشخاصاً مشهورين في المدينة أو البلاط، وجعل كلاً منهم يجد المتعة البالغة في فضح الباقين. ونشرت "مفاتيح" للكتاب تزعم أنها تطابق الصور مع أصولها، وأحتج لابرويير بأن أو أوجه الشبه عارضة، ولكن أحداً لم يصدق، وذاع صيته، ونفدت ثماني طبعات قبل موت المؤلف في 1696، وقد أضاف إلى كل طبعة "أخلاقاً" جديدة تبينت فيها باريس مرآة العصر.
ونحن الذين فقدنا اليوم مفتاح متحف الصور هذا تبدو لنا مادته هزيلة بعض الشيء، وأفكاره قديمة مبتذلة، وروحه يشوبها بعض الحسد، وهجاؤه سطحياً جداً، كهجائه لمينالكاس الرجل الشارد الذهن (101). ولا يطلب لابرويير أي تغيير في دين فرنسا أو حكومتها. وقد رأى أن من الخير أن يكون هناك فقراء، وإلا لكان العثور على الخدم عسيراً، ولما وجد أحد يستخرج المعادن أو يفلح الأرض، والخوف من الفقر لا غنى عنه لإنتاج الثروة (102). وكان يسلك بوسويه في عداد أصدقاءه مفاخراً بذلك، وقد أعاد في القسم الخير من كتابه "في أحرار الفكر" الحجج التي أعرب عنها الواعظ العظيم بحكم أفضل ونثر أرفع، وردد البراهين التي ساقها ديكارت عن الله والخلود، واستشهد بشيء من الحذق، في رده على اللاأدريين في زمانه بنظام السماوات وجلالها، وعلامات الهدف المرسوم في الكائنات الحية، والإحساس بتقرير المصير في الإرادة وباللامادية في الذهن. وهاجم غرور النبلاء، وجشع رجال المال(31/244)
وخنوع الحاشية الذين صورهم ينظرون إلى لويس لا إلى المذبح في كنيسة فرساي؛ ولكنه حرص على أن يقدم للملك باقات زهر يتقي بها غضبه (103). وفي فقرة واحدة على الأقل أزاح الحذر جانباً وتسامى في جرأة ليصف درك البهيمية الذي تردى فيه فلاحو فرنسا من جراء حروب الحكم وضرائبه. يقول: "انتشرت في أرجاء الريف حيوانات ضارية، ذكور وإناث، سوداء، ممتقعة، أحرقتها الشمس تماماً، والتصقت بالأرض التي تحفرها وتقلبها في إصرار لا يقهر، ولها ما يشبه الصوت المنطوق، فإذا انتصبت على قوائمها بدت في سحنة البش، والواقع أنها فاس من الناس (104) ".
وما زالت هذه الصفحة من أبلغ ما كتب في عصر فرنسا الكلاسيكي.
10 - مزيد من الأدباء
هل نحشد الآن بغير نظام، بعد أن أصابنا الإعياء، في ملحق هياب بعض الخالدين الذين بدئوا يموتون؟
هناك جان شابلان، الذي أعان على تنظيم الأكاديمية الفرنسية، واعتبر في زمانه (1595 - 1674) أشعر شعراء فرنسا. وهناك جان باتيست روسو، الذي كتب شعراً ينسى، ولكنه كتب أيضاً إبجرامات مقذعة جرت عليه النفي من فرنسا (1712) عقاباً على تشهيره بالأشخاص. وقد كتب معظم النبلاء الذين اشتغلوا بالسياسة مذكرات، فرأينا مذكرات دريتز ولاروشفوكو، وسنرى في موضع لاحق مذكرات سان-سيمون. ويلي أولئك مرتبة تلك المجلدات الثلاثة التي سجلت فيها مدام دموتفيل بتواضع خلاب وقائع سنيها الاثنتين والعشرين التي قضتها في بلاط آن النمساوية. ونلاحظ أنها وافقت لاروشفوكو على رأيه إذ كتبت "إن تجربتي القاسية في صداقة البشر الزائفة أكرهتني على الإيمان بأنه ليس في الدنيا شيء أندر من الأمانة والاستقامة، أو من(31/245)
القلب الطيب القادر على عرفان الجميل (105) ". لقد كانت هي هذا الإنسان النادر الوجود.
وقد حقق روجيه درابوتان، كونت بوسي، نجاحاً في دنيا الفضائح بكتابه "تاريخ غراميات الغاليين" (1665) الذي وصف غراميات معاصريه مستخفية وراء قدامى الغاليين. وغضب الملك لكونه سخر فيها من مدام هنربيتا، فزج به في الباستيل، ثم أفرج عنه بعد سنة شريطة أن يعتكف في ضيعته، وهناك ألف "مذكراته" النابضة بالحياة، والغيظ يبريه إلى نهاية حياته. وأقل من هذا الكتاب جدارة بالتصديق كتاب "الأقاصيص" الذي رسم فيه تالمان دي ريو صوراً موجزة خبيثة لشخصيات شهيرة في الأدب أو الغرام. وقد جاهد كلود فلوري، بكتابه الأمين "التاريخ الكنسي" (1691)، وسباستبان تيلمون بكتابه "تاريخ الأباطرة" (1690 وما بعدها)، وكتابه "مذكرات ينتفع بها في التاريخ الكنسي للقرون الستة الأولى" (1693) ذي الستة عشر مجلداً-هذان جاهدا في معاناة، ودون وعي منهما، ليمهدا الطريق وينقياه لكتاب جيبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1776 وما بعدها).
ثم هناك أخيراً شارل دماركتيل شريف سانت-افريمون الذي كان ألطف تلك "العقول القوية" التي صدت الكاثوليك والهيجونوت، واليسوعيين والجانسيين على السواء، بالتشكك في التعاليم الأساسية لإيمانهم المشترك. وكانت حياته العسكرية الحافلة بالمغامرات تقوده إلى عصى المارشالية حين غضب عليه الملك لأنه كان صديقاً لفوكيه وناقداً لمازاران. فلما نمى إليه أن قد تقرر القبض عليه فر إلى هولندا، ثم إلى إنجلترا (1662). وقد جعلته عاداته المهذبة وذكاؤه الشكاك أثيراً في صالون هورتنزي مانشيني بلندن، وفي بلاط تشالز الثاني. وكان كالماريشال دوكنكور، في واحد من أكثر حواراته مرحاً (106)، يحب الحرب أولاً، ثم النساء، ثم الفلسفة. وإذ رشف كل المباهج التي في مونتيني، ودرس أبيقور مع جاسندي، فقد(31/246)
خلص مع الإغريقي المفترى عليه إلى أن لذة الحس طيبة، ولكن لذة الفكر أطيب، وأنه لا داع يدعونا لشغل أنفسنا بالآلهة أكثر مما تشغل أنفسها بنا. وقد بدا له الأكل الطيب والكتابة الجيدة مزيجاً معقولاً. وفي 1666 زار هولندا ثاني، والتقى بسبينوزا وتأثر تأثراً عميقاً بالحياة المسيحية التي كان يحياها اليهودي القائل بوحدة الوجود (107). وقد أتاح له معاش أجرته عليه الحكومة الإنجليزية، بالإضافة إلى ما استنقذه من فضلات ثروته، أن يكتب سلسلة طويلة من الكتب الصغيرة، كلها بأسلوب خفيف رشيق شارك في تكوين فولتير. وقد أعان كتابه "تأملات في مختلف أجناس الشعب الروماني" مونتسكييه، وشاركت رسائله إلى نينون دلانكلو بجزء من ذلك العبير الذي يتضوع خلال الرسائل الفرنسية. ولما بلغ الثامنة والخمسين، ودون وعي منه بأنه سيعمر اثنتين وثلاثين سنة أخرى، وصف نفسه بأنه مقلقل بصورة لا شفاء له منها. "إنني لولا فلسفة ميسود ديكارت التي تقول أنا أفكر فإذن أنا موجود لما صدقت إنني موجود، وهذا كل ما أفدت من دراسة ذلك الرجل الشهير (108) " لقد كاد ينافس فونتنيل في طول عمره، إذ لم يمت إلا عام 1703 بعد أن بلغ التسعين، وقد نال تشريفاً ندر أن حظي به فرنسي، وذلك هو دفنه في دير وستمنستر.
كتب فردريك الأكبر إلى فولتير: "بعد قرون سيترجمون الكتاب المجيدين في عصر لويس الرابع عشر كما نترجم نحن كتاب عصر بركليز وأوغسطس". وقبل أن يموت الملك بسنين طويلة شبه الكثيرون من الفرنسيين فن العصر وأدبه بخير ما أنتج القدماء في الفنون والآداب. وفي 1687 قرأ شارل بيرو (أخو كلود بيرو الذي صمم من قبل واجهة اللوفر الشرقية) على الأكاديمية الفرنسية قصيدة سماها "قرن لويس العظيم" رفع فيها العهد فوق أي حقبة في تاريخ اليونان أو الرومان. ولكن بوالو الناقد العجوز انبرى للدفاع عن القدامى رغم أن بيرو سلكه في زمرة المعاصرين(31/247)
الذين فضلهم على نظرائهم القدامى، فقال للأكاديمية أن من العار الاستماع إلى هذا اللغو. وحاول راسين أن يخمد النار بزعمه أن بيرو كان (110) يمزح، ولك نبيرو أحس أن لديه موضوعاً مجزياً. فعاد إلى المعركة في 1688 بكتابه "نظائر القدامى والمحدثين" وهو حوار طويل حيث يؤيد تفوق المحدثين في العمارة والتصوير والخطابة والشعر-وذلك باستثناء الإنياذة، التي هي في رأييه أروع من الإلياذة والأوديسة أو أي ملحمة أخرى. وقد ناصره فونتيل بذكاء وبراعة، أما لابرويير ولافونتين وفينيلون فوقفوا في صف بوالو.
لقد كان شجاراً صحياً، عين نهاية نظرية "الانحطاط" المسيحية الوسيطة، ونهاية تواضع النهضة والحركة الإنسانية أمام الشعر والفلسفة والفنون القديمة. وكان هناك اتفاق عام على أن العلم قد تقدم متجاوزاً أي مرحلة أدركها اليونان أو الرومان، وحتى بوالو اعترف بهذا، وسلم بلاط لويس الرابع عشر في غير تردد بأن فن الحياة لم يطور قط من قبل بمثل هذا الجمال الذي طور به في مارلي وفرساي. ولن نزعم أننا فاصلون في هذه المشكلة، فلنتركها الآن حتى نعرف كل جوانب هذا العصر في أوربا بأسرها. ولا حاجة بنا إلى الإيمان بأن كورنبي كان متفوقاً على سوفوكليس، أو راسين على يوربيديس، أو بوسويه على ديموستينيس، أو بوالوا على هوراس؛ وما ينبغي أن نسوي بين اللوفر والبارثينون، أو بين جيراردون وكوازفوكس وبين فيدياس وبراكستيليس. ولكن من اللطيف أن نعرف أن هذه المفاضلات تقبل المناقشة، وأن تلك النماذج القديمة لا تمتنع على المنافسة.
لقد وصف فولتير عصر لويس الرابع عشر بأنه "أكثر العصور التي شهدها العالم استنارة (111) " دون أن يتوقع أن عصره هو سيسمى "عصر التنوير". ولكن ينبغي أن نخفف من غلو هذا الإطراء. فالعصر من الناحية الرسمية كان عصر ظلامية وتعصب بلغا أوجهما في إلغاء مرسوم نانت الرحيم، و"التنوير" كان وقفاً على قلة قليلة لم يرضَ عنها البلاط وعابها سرفها الأبيقوري أحياناً. والتعليم كان يهيمن عليه أكليروس ملتزم بعقيدة العصر(31/248)
الوسيط، وأما حرية الطباعة والنشر فلم يكد أحد يحلم بها، وحرية الكلام كانت مغامرة سرية وسط رقابة شاملة. لقد كان في عهد ريشليو من المبادرة والجرأة ومن مولد العبقرية قسط أكبر مما كان في عهد الملك العظيم. إن العصر لم يكن له ضريب في الرعاية الملكية للأدب والفن، وفي خضوعهما البليغ للملك. وقد بلغ الفن والأدب كلاهما العظمة والجلال كما يشهد بذلك صف أعمدة اللوفر ومسرحية اندروماك، ولكنهما انحدرا أحياناً إلى المبلغة في الفخامة والأبهة كما نرى في قصر فيرساي أو في بلاغة كورنبي في آخر إنتاجه. وكان يشوب المأساة والفنون الكبرى في هذا العهد بعض التكلف والافتعال، فقد أفرطا في الإتكاء على النماذج اليونانية أو الرومانية أو نماذج النهضة. واتخذا موضوعاتهما من عصر قديم دخيل لا من تاريخ فرنسا ودينها وطابعهما، وعبرا عن التعليم الكلاسيكي الذي حظيت به طبقة خاصة لا عن حياة الشعب وروحه. ومن ثم نجد موليير ولافونتين العاميين يفيضان اليوم حياة وسط هذا الحشد المزوق، لأنهما نسيا اليونان والرومان وتذكرا فرنسا. صحيح أن العصر الكلاسيكي نقى اللغة، وصقل الأدب، وهذب الحديث، وعلم العاطفة المشوبة أن تفكر، ولكنه إلى ذلك فرض على الشعر الفرنسي (والإنجليزي) برودة امتدت قرابة قرن بعد هذا العهد العظيم.
ومع ذلك كان عهداً عظيماً. فلم يشهد التاريخ من قبل حاكماً سخا مثل هذا السخاء على العلوم والآداب والفنون. لقد اضطهد لويس الرابع عشر الجانسنيين والهيجونوت، ولكن في عهده كتب بسكال، ووعظ بوسويه، وعلم فينيلون، ولقد جند الفن ليخدم به مآربه ومجده، ولكن هذا الفن منح فرنسا بفضل تشجيعه روائع في العمارة والنحت والتصوير. ولقد حمى موليير من جيش من الخصوم، وآزر راسين من مأساة إلى مأساة. ولم تكتب فرنسا من قبل مسرحية أفضل، ولا رسائل أفضل، ولا نثراً أفضل، مما كتبت في عهده. وقد أعانت عادات الملك المهذبة، وضبطه(31/249)
لنفسه، وصبره، واحترامه للنساء-أعانت كلها على انتشار الآداب المحببة والمجاملات اللطيفة في البلاط، وعنه إلى باريس وفرنسا وأوربا ولقد أساء استعمال بعض النساء، ولكن تحت حكمه بلغت النساء في الأدب والحياة مقاماً أضفى على فرنسا ثقافة ثنائية الجنس يفوق جمالها أي ثقافة أخرى في العالم. وبعد كل التحفظات، وبعد الإعراب عن أسفنا لأن هذا الجمال الكثير لوثته هذه القسوة الكثيرة، يحق لنا أن نضم صوتنا إلى أصوات الفرنسيين في الإشادة بعصر لويس الرابع عشر بوصفه عصراً يقف على قدم المساواة مع اليونان في أيام بركليز، والرومان في أيام أوغسطس، وإيطاليا في أيام النهضة، وإنجلترا في أيام أليزابيث وجيمس الأول-يقف مع هؤلاء جميعاً قمة شامخة بين الشوامخ في مسار الإنسانية المتعثر.(31/250)
الفصل السادِس
مأساة في الأراضي المنخفضة
1649 - 1715 (1)
شهد القرن الممتد من 1555 إلى 1648 الدفاع البطولي الذي قامت به الأراضي المنخفضة ضد إمبراطورية أسبانيا العالمية، أما الفترة من 1648 إلى 1715 فقد شهدت دفاع الجمهورية الهولندية الرائع ضد بحرية إنجلترا وجيوش فرنسا التي لم يسبق لها مثيل. وفي كلتا الحالتين صمدت هذه الدولة الصغيرة بشجاعة ونجاح من حقهما أن يتبوأا مكاناً مرموقاً في التاريخ. وقد واصلت وسط هذه الأعباء والهجمات تطويرها للتجارة والعلوم والفنون، وكانت مدنها ملاذاً للفكر المضطهد، وتحدت نظمها الجمهورية الملكيات القوية المحدقة بها تحدياً ملهماً.
1 - الأراضي المنخفضة الأسبانية
ظلت الأراضي المنخفضة الجنوبية، أو الأسبانية، حتى 1713 خاضعة للحكم الأسباني وكانت شعوبها المختلفة سلالياً يدين معظمها بالكاثوليكية وقد آثرت أن تخضع لأسبانيا النائية التي حل بها الضعف، عن أن تخضع للبروتستانت الذين في شمالها، أو لجارتها فرنسا التي هددت بابتلاعها في أي لحظة. وقد أعطى صلح البرانس (1659) معظم أرتوا لفرنسا، وأعطاها صلح إكس لاشابل (1668) دويه وتورنيه، وصلح نيميجن (1678) فالنسين وموبوج وكمبري وسانت أومير وابير. ولم تكن الجمهورية
_________
(1) أرجأنا تاريخ الأراضي المنخفضة السياسي والحربي بعد 1688 إلى فص تالٍ (الفصل 24).(31/251)
الهولندية أقل قسوة من الملكية الفرنسية. وبمقتضى معاهدة وستفاليا (1648) لم تكتف أسبانيا، في حرصها على إطلاق يد جيوشها لتفرغ للحرب المتصلة مع فرنسا- لم تكتف بأن تنزل للأقاليم المتحدة عن المناطق التي استولت عليها في فلاندر، وليمبورج، وبرابانت، ولكنها وافقت كذلك على قفل نهر الشلت في وجه التجارة الأجنبية. فأصاب هذا الإذلال الخانق أنتورب وكل اقتصاد الأراضي المنخفضة الأسبانية بالشلل. "إن السياسة لا قلب لها" كما يقولون.
وفي داخل هذه الأسوار المعادية اعتزت هذه البلاد التي نعرفها اليوم باسم بلجيكا بثقافتها المتوارثة، ورحبت باليسوعيين، وتبعت قيادة لوفان الفكرية. ولما قصف الفرنسيون بروكسل بمدافعهم (1695) تحول قسم كبير من المدينة أطلالاً، ودمر كل المعمار البديع الذي ازدان به الميدان الكبير، اللهم إلا قاعة للحرفيين والأوتيل دفيل البديع، وقد أعيد بناء "الميزون دورا" (الذي كان يقرأ فيه الخطاب الملكي على مجلس الطبقات) بطراز قوطي كثير الزخرف (1696)، وهو والأوتيل دفيل من أجمل العمائر في أوربا اليوم. وقد أفاض النحاتون من فنهم على تجميل واجهات الكنائس والمباني المدنية، والمنابر، ومقاصير الاعتراف، والمقابر التي بداخل الكنائس. وواصلت بروكسل صنع النسيج المرسوم البديع (1).
واضمحل التصوير الفلمنكي اضمحلالاً حاداً بعد روبنز وفانديك، وكأن حياة هذين الفنانين قد استنفدت العبقرية التصويرية لقرن كامل. واجتذب نهوض الفن في فرنسا وازدياد ثرائها الكثير من الرسامين الفلمنك أمثال فيليب دشامبين. ولكن فناناً أعظم منه، وهو دافيد تنييه الابن، مكث في بلده. وكان أبوه قد تولى تعليمه، فأصبح "معلماً" في طائفة القديس لوقا الحرفية حيث بلغ الثالثة والعشرين، وبعد أربع سنوات (1627) ضمن نجاحه بالزواج من آن بنت جان روجن "المخملي"،(31/252)
والقاصر الموضوعة تحت وصاية روبنز ذاته. وفي 1651 دعاه الأرشيدوق ليوبولد وليم من أنتوب إلى بروكسل ليكون مصور البلاط وأمين المتحف الملكي، وترينا إحدى لوحات تنييه الأرشيدوق والمصور بين صور هذا المتحف (2). وقد صور في براعة مترددة موضوعات قديمة كالابن الضال (3) وتجربة القديس أنطونيوس (4). ولكنه كمعاصريه الهولنديين آثر أن يلتقط داخل إطارات صغيرة حياة الفلاحين، لا هابطاً بهم إلى درك الأنعام كما فعل بيتر بروجن، بل مشاركاً إياهم في رباضتهم وأعيادهم. وأظهرت لوحته "داخل كاباريه" إلمامه بتفاصيل موضوعه (5)، لكنه كان يستطيع أيضاً أن يرسم المناظر الطبيعية الريفية التي تغير هيئتها سماء لا تكف عن التغير. وقد أحب الضوء كما أحب رمبرانت الظل، والتقطه على فرشاته برقة حساسة لم تفها رقة.
2 - الجمهورية الهولندية
كانت الأقاليم الهولندية السبعة قد توحدت الآن في جمهورية عزيزة ظافرة أثار غناها وتوسعها عجب جيرانها وحسدهم. فهنا أمة شذت على العرف، إذ لم يكن لها ملك، وكانت كل مدينة يحكمها في استقلال تقريباً مجلس من أعيانها، وكل مجلس بلدي يوفد مندوبين لمجلس إقليمي، وكل مجلس إقليمي يوفد ممثلين للمجلس التشريعي الذي يهيمن على ما بين الأقاليم من علاقات وعلى شؤونها الخارجية. وكانت إلى ذلك الحد حكومة مثالية لأقطاب التجارة الذين كانت ثرواتهم تتضخم بنمو التجارة الهولندية. ولكن قوة أرستقراطية واحدة وقفت أمام أولجركية التجار هذه: ذرية وليم الأول (والصامت) أمير أورنج وناسو، الذي قاد البلاد في أحلك أيام كفاحها ضد أسبانيا، وكان المجلس التشريعي قد كافأه بلقب رئيس الدولة وبقيادة جيوشها، واستطاع أن يورث ذريته ذلك اللقب وتلك القيادة، وكانت الهيمنة على رجال الجيش قوة لا تفتأ تهدد بتحويل الجمهورية الأولجركية إلى ملكية(31/253)
أرستقراطية. وفي يوليو 1650 حاول وليم الثالث أمير أورنج، بوصفه رئيساً للدولة وقائداً عاماً أن يبسط سلطانه المطلق على جميع الأقاليم المتحدة بانقلاب. فقاومه عدة زعماء إقليميين، وأودع وليم وجنده ستة منهم في السجون، ومنهم يعقوب دي ويت عمدة دوردريشت. ولكن الجدري هزم وليم في انتصاره، فمات في 6 نوفمر 1650 غير متجاوز الرابعة والعشرين: وبعد أسبوع ولدت أرملته ماري ستيوارت (ابنة حفيدة آخر ملكة للأسكتلنديين) الطفل وليم أورنج الثالث، الذي قدر له أن يحقق فوق ما حلم به أبوه، أي أصبح ملكاً على إنجلترا.
أما الزراع وصيادو الأسماك الأدنى من هذه الطبقات الحاكمة المتنافسة، هؤلاء الذين كانوا يطعمون الشعب، فلن يشاركوا إلا في فضلات ثرائها التي لم يعبأ بالتهامها التجار ورجال الصناعة وملاك الأرض. وإذا صدقنا الرسامين الهولنديين تبين لنا أن الحرب والاستغلال قد طحنا الفلاحين بفقر كاد يقربهم من حياة البهائم، فقر خففت منه الأعياد وخدره الشراب. وكان الحرفيون في حوانيتهم، والعمال في مصانع أمستردام وهارلم وليدن، أعلى أجوراً من نظرائهم في إنجلترا (6)، ولكنهم قاموا بإضراب عنيف في 1672. وأثرى المهاجمون الهيجونوت الوافدون من فرنسا الصناعة الهولندية بمدخراتهم ومهاراتهم. فلم تأتِ سنة 1700 حتى حلت الأقاليم المتحدة محل فرنسا بوصفها الأمة الصناعية القائدة في العالم.
أما أعظم الثروات فجادت بها التجارة مع أقطار ما وراء البحار وتطويرها. ففي 1652 استوطن الهولنديين أول مستعمرة لهم في رأس الرجاء الصالح وأسسوا مدينة الكاب. وكانت شركة الهند الشرقية الهولندية تدفع أرباحاً لمساهميها بلغت نسبتها في الموسط 18% طوال 198 عاماً (7). وكان الوطنيون في المستعمرات الهولندية يباعون أو يشتغلون عبيداً، أما المستثمرون في أرض الوطن فلم يسمعوا بهذا إلا قليلاً، وأخذوا أرباح أسهمهم بهدوء هولندي. وظلت التجارة(31/254)
الخارجية الهولندية حتى 1740 تفوق تجارة أي أمة أخرى (8)، ومن بين عشرين ألف سفينة كانت تنقل تجارة أوربا في 1665، كانت خمسة عشر ألف هولندية (9). وأجمع الناس على أن تجار هولندا ومالييها أكفأ من أنجبه ذلك العصر. وكان بنك امستردام قد استنبط عملياً كل تقنيات المالية العصرية، وقدرت ودائعه بما يعادل الآن مائة مليون دولار (10)، وكان في الإمكان أن تسوى في حسابات تصل إلى الملايين في ساعة واحدة، وبلغت الثقة بقدرة الهولنديين المالية وإمكان الاعتماد عليهم مبلغاً يسر للجمهورية الهولندية أن تقترض المال بفائدة أقل من أي حكومة أخرى، وقد تهبط الفائدة أحياناً إلى 4% (11). ولعل امستردام كانت أكثر مدن أوربا في هذا العصر جمالاً وتحضراً. وقد رأينا ثناء ديكارت عليها. وكذلك تحدث عنها سبينوزا (12). ويمثل هذه الحماسة تحدثت بيبيس عن لاهاي "مدينة غاية في النظافة من جميع الوجوه، بيوتها أنظف ما يستطاع في كل أماكنها ومحتوياتها (13) ".
ولولا طبيعة البشر لكانت هذه الأقاليم الرخية جنة في الأرض ذلك أن ثراءها أغرى إنجلترا وفرنسا بالهجوم عليها، وقد أفضى الصراع على السلطة في الداخل إلى مأساة جان دي ويت، ومزقت المنافسة بين العقائد الدينية شعباً لطيفاً في غير هذا، وبعثت الخصومات العنيفة. ومنع الكلفنيون الغالبون ممارسة الشعائر الكاثوليكية حيثما استطاعوا منعها. وفي 1682، وضع مجمع دورت (الدوردريشت) اعترافاً بالكلفنية القديمة-ربما انتقاماً من إلغاء مرسوم نانت وألزم كل راع بالتوقيع عليه والاطراد، وعين بيير جورجيو وهو هيجونوتي فرنسي سابق-ليرأس محكمة تفتيش كلفنية، واستدعى المهرطقين، وحاكمهم، وحرمهم، وأهاب بـ"الدراع الدنيوية" (السلطة الزمنية) أن تزج بهم السجون. ولكن هرطقة أرمينيوس نمت رغم ذلك، واجترأ الشجعان من الرجال على الاعتقاد بأن الله لم يقدر على الكثرة من بني البشر الهلاك في النار(31/255)
الأبدية، ووجدت المذاهب المنشقة-مينونيين، وكليين (ممن آووا سبينوزا) ولو سيائييس، وتقويين، حتى التوحيديين-هؤلاء جميعاً وجدوا أن في إمكانهم العيش في هولندا بين ثغرات القانون وغفواته. وكان السوسينيون قد التمسوا الأقاليم المتحدة ملاذاً من الاضطهاد في هولندا، ولكن عبادة التوحيديين حرمت بقانون هولندا في 1653. ونشر دانيال زفيكر بأمستردام في 1658 رسالة تشككت في ألوهية المسيح، وأخضعت الكتاب المقدس لـ"عقل البشرية العام"، ومع ذلك استطاع أن يموت في هدوء وسلام كما يموت الجنرالات. على أن رجلاً يدعى كيرباد حكم عليه 1668 بالسجن عشر سنوات لأنه أفصح عن أفكار كهذه، ومات في سجنه. وقد سجن أوريان بيفرلاند لإعلامه إلى أن خطيئة آدم وحواء الأصلية كانت الاتصال الجنسي ولم تمت للتفاح بسبب.
وازداد التسامح الدين قرب ختام القرن السابع عشر. ذلك أن الهولنديين الذين كانوا يتعاملون مع دول كثيرة ذات ثقافات مختلفة، ويفتحون موانيهم وسوقهم المالية لتجار يدينون بديانات كثيرة أولاً يدينون بأي دين، هؤلاء الهولنديين وجدوا من الأنفع لهم أن يمارسوا ضرباً من التسامح كان، رغم ما شابه من نقص، أرحب بكثير منه في أي بلد مسيحي. ومع أن الكلفنيين كانوا الغالبين سياسياً، إلا أن الكاثوليك بلغوا من الكثرة مبلغاً جعل فمعهم أمراً غير ممكن عملياً. أضف إلى ذلك أن السيطرة الاجتماعية والسياسية التي كانت تتمتع بها الطبقات التجارية والصناعية جعلت الإكليروس-كما قال السير وليم تمبل-أقل نفوذاً بكثير من الاكليروس في الدول الأخرى. وطالب المهاجرون من أقطار أخرى، الذين أسهموا بقسط في الاقتصاد أو الثقافة، بقدر محدود من الحرية الدينية وظفروا به. وحين استولى كرومويل على السلطة في إنجلترا التمس أنصار الملكية فيها السلامة في هولندا؛ ولما رد تشارلز الثاني إلى العرش، التجأ الجمهوريون الإنجليز إلى الجمهورية الهولندية. ولما اضطهد لويس الرابع عشر الهيجونت فر بعضهم إلى الأقاليم(31/256)
المتحدة، ولما خشي لوك وكولنز وبيل الاضطهاد في إنجلترا أو فرنسا، وجدوا الملاذ في هولندا؛ ولما حرم مجمع أمستردام البرتغالي (اليهودي) سبينوزا، رحب به العلماء الهولنديون وقدموا له العون، ورتب له جان دي ويت معاشاً. وأصبحت هولندا الصغيرة "مدرسة أوربا (15) "في التجارة والمال والعلم والفلسفة.
ولولا ما أتيح لهذه الحضارة من حرية دينية، ومن علم وأدب وفن، لأصبحت حضارة مادية إلى حد محزن. وسنلتقي في فصل لاحق بهويجنس وغيره من العلماء الهولنديين. وكان هناك شعراء ومسرحيون ومؤرخون هولنديون، ولكن لغتهم حدت من شهرتهم. وقد حلفت المدن الهولندية بالكتب والناشرين. وبينما لم يكن في إنجلترا سوى مركزين اثنين للنشر هما لندن وأكسفورد، وفي فرنسا باريس وليون، وكان في الأقاليم المتحدة مركزاً في أمستردام وروتردام وليدن وأوترخت ولاهاي، تطبع الكتب باللاتينية واليونانية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والعبرية كما تطبعها بالهولندية. وكانت أمستردام وحدها تملك أربعمائة دار تطبع الكتب وتنشرها وتبيعها (16).
ونافس الولع بالفن الغرام بالمال والمساومة على الخلاص الأبدي. وخلع ساكنو المدن الهولنديون، الذين عروا كنائسهم البروتستنتية من الزخرف، خلعوا 'لى نسائهم وبيوتهم الزينة انتزعوها من بيوت الرب. فاسترضوا زوجاتهم بالمخمل والحرير والجواهر، ونشروا على موائدهم صحاف الذهب والفضة، وزينوا بالنسيج المرسوم، ورفوفهم أو صواوينهم بالخزف أو الزجاج المحفور. وفي ديلفت كان الخزافون الهولنديون بعد عام 1650، الذين استوحوا الخزف الصيني والياباني، يصنعون فخاراً مزججاً، أكثره أزرق على قاعدة بيضاء، أضفى الجمال المشرق على بيوت كانت من قبل عارية عرى التزمت الصارم. وقل أن وجدت أسرة هولندية لم تملك على الأقل واحدة من تلك الصور(31/257)
الصغيرة التي جعلت حلم المسكن الهادئ النظيف، وبهجة الأشجار والأزهار والجداول، فريبي المنال على جدران البيوت.
3 - ازدهار صور الحياة اليومية
كان العصر البطولي للتصوير الهولندي قد ولى. فالزبائن الجدد أكثر نفراً ولكنهم أقل مالاً، لذلك طلبوا صوراً صغيرة تتيح لهم أن يشهدوا حياتهم اليومية في خلاصة مقطرة مهذبة، منفولة بواقعية تبعث لذة التعرف، أو ملموسة بعاطفة رقيقة ولكنها مألوفة، أو مغرية للنفس باستشراف مشهد محرر من مشاهد الطبيعة. وقد لبى المصورون الهولنديون هذا الطلب في رهافة خط وضوء ولون حشدت الصنعة الشديدة التدقيق في حيز صغير. وهؤلاء الفنانون معروفون في جميع أرجاء أوربا وأمريكا، لأن التنافس اليائس فيما بينهم حملهم على أن يطلقوا سيلاً متدفقاً سريعاً من الصور الصغيرة بثمن رخيص، وهي صور لا تخلوا اليوم منها جدران متحف. ونحن إذ نترك الشهادة على وفرة هؤلاء الرسامين لهامش سريع (1)، نراه لزاماً أن ننظر نظرة أكثر تريثاً إلى جان ستين، المرح رغم حظه العاثر، وإلى أعظم مصوري الحياة اليومية جان فرمير، وإلى أعظم مصوري الطبيعة الهولنديين، يعقوب فان رويسدان.
_________
(1) نيقولا بيرشيم: القلعة في الغابة (درسدن) فرديناند بول: يعقوب أمام فرعون (درسدن)، جيرارد دو: عجوز في النافذة (فيينا). بارينت فابريتوس: يعقوب وبنيامين (شيكاغو). بارتليموس فان درهليست: عمدة هولندي، (نيويورك). بييتردي هوخ: داخل بيت هولندي (لندن). فيليب دي كونينك: منظر طبيعي (فرانكفورت). نيقولا مابيس: عجوز تغزل (امستردام). جابرييل ميتسو: سوق الخضر (لندن). فرانس فان ميريس الأول: صورة ذاتية مع زوجته (لاهاي). وليم فان ميريس: التعرف على برسوزا (درسدن). ايرت فان درنبر: منظر مقمر (برلين). جيرار تربورش: عشاق الموسيقى (لندن). أدريان فان درفلد: المزرعة (برلين). وليم فان درفلد الثاني. زويدرزي (برلين) جان فينكس الثاني: منظر صيد (لندن). أدريان فان درفيرف: طرد هاجر (درسدن). فيليب فوفرمان: وقفة جماعة صيد (دولسفش).(31/258)
أما ستين فكان ابن صانع جعة في ليدن؛ واشتغل في لاهاي، وديلفت، وهارلم، وأصبح آخر المطاف صاحب حانة في ليدن، وخلال هذه الفترات استطاع أن يجعل من نفسه أفضل مصور للأشخاص في الفن الهولندي باستثناء رمبرانت. وحين بلغ الثالثة والعشرين (1649) تزوج مارجريت ابنة المصور جان فان جوين؛ ولم تملك من المهر غير وجهها وقوامها، ولكنها أفاده بعض الوقت نموذجين ملهمين. وكان ينقد أجراً حقيراً على صوره حتى أن صيدلياً حجز (1670) على كل الصور التي استطاع أن يجدها في بيت ستين وباعها في المزاد وفاء لدين قدره عشرة جولدينات. وصوره الأولى تسجل لذات السكر أو عقوباته. وصورته "الحياة المنحلة (17) "، وهي مثال ممتاز من صوره، فيها امرأة نعسانة وأخرى نائمة من الشراب، وطفل ينتهز الفرصة فيسرق من صوان، وكلب يأكل من المائدة، وراهبة تنطلق بعد دخولها الحانة في عظة عن خطيئة شرب الروم، وكل شيء في الصورة مكون ومرسوم بنظام الفن وانسجامه رغم أنه يصور الفوضى. وموضوع أجمل من هذا يبعث الحياة في صورة أخرى أسيئت تسميتها بـ"معرض الوحوش (18) "، يرى فيها فتاة صغيرة تطعم حملاً باللبن، ودجاج الحديقة يثب هنا وهناك، وطاووس يدلي ذيله من شجرة ذابلة، والحمام يحط في أعلاها، ويمامة تحلق قادمة من الطريق. هذا كله لحن رعوي يجعل جميع معضلات الفلسفة تبدو تافهة لا معنى لها. أنه الحياة، وكل جزء له مبرره الكافي الذي يتجاهل المطلقات. وبعد أن تجاوز ستين فترة الحانة رسم مشاهد مشرقة للحضارة الهولندية: باطن بيوت مبهجة، ودروس موسيقى، وحفلات موسيقى، ومهرجانات، وأسر سعيدة، وفنان نفسه، يدخن في "الصحبة المرحة (19) "، أو يعزف على العود (20). فلما فتت في عضده الأجور البخسة التي نقدها على عمله، عاد إلى بيع الجعة، وراح يشرب لينسى، ثم مات في الثالثة والخمسين مخلفاً أربعمائة صورة بائرة.(31/259)
ونظرة إلى صورة واحدة رسمها جان فرميرا وسمها "رأس فتاة" (21) تكشف عن عالم وفن يكادان يناقضان عالم ستين وفنه. وهذه اللؤلؤة التي يفوق ثمنها اللآلئ بيعت في المزاد عام 1882 بجولدنين ونصف، ويقدر ناقد قدير في أيامنا هذه أنها "واحدة من اثنتي عشرة صورة هي أروع صور العالم (22) " وواضح أن الفتاة من بيت طيب وأسرة كريمة، عيناها خاليتان من الخوف، لا يخشاهما حتى دهش الشباب الطبيعي، فهي سعيدة في هدوء، متيقظة لموسيقى الحياة؛ وقد قدمها الفنان لنا بصنعة دقيقة في اللون والخط والضوء تجعل من الفرشاة أداة مدهشة للفهم والتعاطف.
وقد ولد فرمير في ديلفت عام 1632؛ وعاش هناك على قدر علمنا طوال حياته ومات فيها (1675) بالغاً الثالثة والأربعين، وكاد يكون معاصراً لسبينوزا تماماً (1632 - 77). تزوج في العشرين، وأنجب ثمانية أطفال، وكان يتقاضى ثمناً طيباً على صوره، ولكنه عكف عليها في عناية مستنفدة للوقت، وأنفق المال الكثير على شراء الصور، حتى أنه مات مديناً، واضطرت أرملته إلى التماس المعونة من محكمة التفاليس. غير أن الأربع والثلاثين صورة التي بقيت من صوره توحي بجو من رفاهية الطبقة الوسطى. وتظهره إحداها (23) في مرسمه لابساً طاقية رقيقة خفيفة، "وجركينة" متعددة الألوان، وجوارب طويلة متجعدة ولكنها حريرية، وقد انتفخ ردفاه من النعمة. ولا ريب في أنه سكن حياً راقياً في ديلفت، ربما في مشارفها حيث استطاع أن يلقي "نظرة على ديلفت (24) " وفي هذه الصورة الشهيرة نحس بحبه الجم بموطنه. ويبدو أنه راض نفسه على البقاء في بيته بقناعة أكثر مما نلحظه في مصوري زماننا. فحب البيت يتجلى في أكثر التصوير الهولندي، ولكن البيت في فن فرمير يصبح معبداً صغيراً، والزوجة معتزة بالخدمات التي تؤديها. وفي لوحته "المسيح مع مريم ومرثا" (25) تشارك مرثا مريم في الجلوس على المنصة. ولم تعد نساؤه تلك الحزم الثقيلة من اللحم التي نراها أحياناً في الفن الهولندي، ففيهن شيء(31/260)
من التهذيب والحساسية. بل لقد تجدهن-كما ترى في السيدة الجالسة في صورة "السيدة والخادمة" (26) -غاليات اللباس، رقيقات القسمات، مصففات الشعر في عناية، أو غنيات بالحرير وآلات الموسيقى، كما في صورة "السيدة الجالسة إلى العذراوية" (27) (آلة موسيقية). إن فرمير يصنع من الحياة العائلية ملحمة، أو قصيدة غنائية ذات لحظات عائلية بسيطة طبيعية؛ لا مشاهد جماعية ذات نشاط مختلط متعدد، بل-في أفضل ما رسم من لوحات-امرأة واحدة فقط، تقرأ رسالة في هدوء (28)، أو تكب على خياطتها (29) أو تتحلى بقلادة، أو تنام على خياطتها (30)، أو مجرد صبية وابتسامتها (31). لقد سجل فرمير بفن كامل شكرانه لامرأة طيبة وبيت سعيد. ولكنه أوشك أن يكون نسياً منسياً في القرن الثامن عشر، ونسبت روائعه الصغير إلى دي هوخ، أو تير بورخ، أو رمبرانت، ولم يبعث من مثواه إلا في 1858. واليوم لا يعلو على اسمه غير اسم رمبرانت وهالس في التصوير الهولندي.
بقي شيء واحد تفتقده في هؤلاء المصورين للحياة اليومية-هو حياة الطبيعة التي أحاطت بالمدن المتطفلة عليها. فإيطاليا، وبوسان في إيطاليا، كانا قد التقطا شيئاً من الهواء النقي والحقول الطلقة، وستكتشفها إنجلترا في القرن التالي، أما المصورون الهولنديون فقد تركوا الآن برهة بيوتهم وباطنها النظيف أو المرح، ووضعوا حواملهم ليقتنصوا سحر الغدران المترقرقة، وطواحين الهواء الساكنة الوادعة، والمزارع المزهرة، والأشجار التي تخجل تعجلنا المحموم، والمراكب الغريبة تتهادى في الثغور المزدحمة، والسحب التي تلون السماء بشتى الأشكال. والعالم كله يعرف لوحة "طريق ميدلهارنس" التي رسمها ماينديرت هوبيما-وهي منظور يتلاشى في فضاء لا نهاية له، ولكن أجمل منها بكثير لوحته "طاحونة الماء ذات السقف الأحمر الكبير (32) ". وقد وجد ألبرت كوين الإلهام في الأبقار السمينة تخوض المستنقعات الوافرة الخضرة (33)، والخيل تقف ظامئة عن خان، وفلوع(31/261)
المراكب تختفي فوق البحر (34). تعجب سليمان فان رويسدال من ارتعاش المياه التي تعكس وتقلب صورة الزوارق والأشجار (القناة والمعدية) (35)، وعلم ابن أخيه أن يتفوق عليه.
أما ابن أخيه هذا، واسمه يعقوب فان روسدال، فقد ترعرع في هارلم، وترك لنا "منظر الهارلم (36) " لا يقل وقعاً في نفس الناظر عن لوحة فرمير "ديلفت"، ويفضلها نقلاً تعقد المدينة الكبيرة بما فيه من اتساع وزحمة. ثم انتقل إلى أمستردام وأصبح عضواً في الإخوان المينونيين، ولعل تصوفهم أعان فقره على إشعاره بالجانب المأساوي للطبيعة التي أحب أن يفنى بها. وعرف أن تلك الحقول والغابات، والسماوات التي تعد بالسلام، تستطيع كذلك أن تدمر، وأن للطبيعة نزوات من الغضب قد تقلع فيها الرياح المجنونة حتى اعتى الأشجار وأصلبها وتمزقها من جذورها، وأن الشقوق المهلكة قد تتكون في الأرض الطيبة، وأن البرق قد ينفث ناره القتالة على كل شكل من أشكال الحياة في لا مبالاة عابثة. فصورته "مسقط الماء على الجرف (37) " ليست أنشودة رعوية إنما هي ثورة البحر الغاضبة على صخور أقسم أن يحطمها ويغرقها أو يبر بها، ولوحة "العاصفة (38) " هي البحر يلطم عدوه اليابس في غضب، ولوحة "الشاطئ (39) " لا تصور شاطئاً للهو بل ساحلاً كدرته أمواج عالية تحت سماء مكفهرة، ولوحة "الشتاء (40) " لا تعرض مرح التزحلق، بل كوخاً حقيراً يرتجف تحت غيوم منذرة، وحفره الرائع "أشجار البلوط" يجردها من وقارها ليرى أغصانها شعثاء أو عارية وسيقانها وقد أتخنها الزمن القاسي بالجروح وشوه شكلها. ولوحة "جبانة اليهود (41) " هي ذاتها صورة للموت-أسوار متهدمة، وشجرة تموت، ومياه فيضان تجري فوق القبور. وليس مرد هذا كله أن رويسدال كان دائماً مكتئباً، ففي لوحة "حقل القمح (42) " نقل بإحساس عميق هدوء طريق ريفي، وبركة المحاصيل الوفيرة، وفرحة الفضاء المترامي. ويبدو أن الهولنديين أحسوا أن أرضهم ومناخهم قد افترت عليهما صور رويسدال، فلم ينقدوه عليها إلا أجراً بخساً،(31/262)
وتركوا صاحبها يموت في ملجأ للفقراء. واليوم يضعه بعضهم في مكان لا يفضله فيه غير بوسان بين مصوري الطبيعة في جميع العصور (43).
ثروة لا حد لها في حجرة صغيرة-رمبرانت وهالس، فرمير ورويسدال، سبينوزا وهويجنس، ترومب ودرويتر، جالن دي ويت ووليم الثالث، كلهم في زمن واحد داخل حدود ضيقة، يكدحون غير آمنين خلف الكثبان، يصونون فنون السلم وسط نذر الحرب. تلك هي هولندا في القرن السابع عشر. و"ليست العبرة بكبر الحجم".
4 - جان دي ويت
1625 - 1672
بعد أن ظفرت الأقاليم المتحدة باستقلالها عكفت عقب معاهدة وستفاليا على طلب المال واللهو والحرب. كان أهلها أقل أمم الأرض اكتفاءً بأنفسهم، فمحاصيل أرضها لا تقيم أكثر من ثمن سكانها، وحياة البلاد تعتمد على التجارة الخارجية واستغلال المستعمرات، وهذان يعتمدان على بحرية قادرة على حماية السفن والمستوطنات الهولندية. وكان تفوق أسبانيا البحري قد ولى بهزيمة الأرمادا الأسبانية، ونشرت البحرية الإنجليزية التي ازدهاها النصر قلوعها فوق أرجاء مترامية من المحيط. وما لبث التوسع التجاري الإنجليزي أن اصطدم بالسفن الهولندية والمستوطنات الهولندية في الهند وجزر الهند الشرقية، وأفريقيا، وحتى في "امستردام الجديدة" التي ستصبح نيويورك. وأحس بعض الإنجليز، الذين لم تهدأ فيهم بعد حمية هوكنز ودريك، أن هؤلاء الهولنديين الجبابرة ينبغي أن يحل محلهم بريطانيون جبابرة، وأن هذا ميسور بنصر أو نصرين بحريين. وقد ذكر إيرل كلارندون في تقرير له "أن التجار ألفوا الحديث عن الفائدة الكبرى التي يجنونها من حرب سافرة مع الهولنديين، وعن سهولة قهرهم، وعن حجم التجارة التي يمكن أن ينقلها الإنجليز بعد ذلك" (44) وراقت كرومويل الفكرة.(31/263)
ففي 1651 أقر البرلمان الإنجليزي قانوناً للملاحة يحظر على السفن الأجنبية أن تجلب لإنجلترا أي بضاعة إلا ما ينتجه بلدها. وكان الهولنديون يشحنون إلى إنجلترا حاصلات مستعمراتهم، فتوقفت الآن هذه التجارة الرابحة. وأرسلوا بعثة إلى لندن للحصول على بعض التعديل في القانون، فلم يكتفِ الإنجليز برفض الطلب، بل طالبوا بأن تخفض المراكب الهولندية أعلامها إذا التقت بالمراكب الإنجليزية في "المياه الإنجليزية" (أي جميع المياه بين إنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة) اعترافاً بسيادة الإنجليز على تلك البحار. وعاد المبعوثون الهولنديون بخفي حنين إلى لاهاي. وفي فبراير 1652 استولى الإنجليز على سبعين سفينة تجارية هولندية وجدوها في "المياه الإنجليزية". وفي 19 مايو التقى أسطول إنجليزي بقيادة روبرت بليك بأسطول هولندي بقيادة مارتن ترومب، ورفض ترمب خفض علمه، فهاجمه بليك، وانسحب ترومب. وهكذا بدأت "الحرب الهولندية الأولى".
وأوشكت انفصالية الأقاليم، المفروض أنها متحدة، أن تجر عليها الدمار. ذلك أن الزعامة الحربية الموحدة التي أتاحها لها من قبل أمراء أورنج كانت قد انقطعت، وأصبح المجلس التشريعي للولايات جمعية للمناقشة والجدل بدلاً من أن يصبح دولة. أما الإنجليز فكانوا يملكون حكومة قوية ممركزة يرأسها رجل شديد البأس هو كرومويل، وكان لهم بحرية أفضل، وقد أوتوا جميع الميزات التي حبتهم بها الجغرافيا والرياح الغربية السائدة. فدمروا أساطيل الصيد الهولندية، واستولوا على المراكب التجارية الهولندية، وهزموا أمير البحر الهولندي درويتر تجاه ساحل كنت. وانتصر ترومب على بليك تجاه دنجينيس (30 نوفمبر 1652)، ولكنه مات في المعركة في يوليو التالي. وكانت نتيجة سنة واحدة من الحرب إثبات تفوق إنجلترا بالبرهان الدامغ. وكاد حصار الإنجليز للساحل الهولندي يشل الحياة الاقتصادية في الأقاليم المتحدة. وأشرف الألوف من سكانها على الهلاك جوعاً وهددوا بالتمرد.(31/264)
في هذه المرحلة الحاسمة التعسة اضطلع جان دي ويت بزعامة البلاد، وكان ينتمي إلى أسرة بعيدة العهد بالتفوق في التجارة والسياسة الهولنديتين. وقد انتخب أبوه يعقوب دي ويت عمدة على درودشت ست مرات. أما جان فقد تلقى كل التعليم الميسور، وجاب أرجاء فرنسا مع أخيه الأكبر كورنيليس، والتقى بكرومويل في إنجلترا، ثم استقر في لاهاي محامياً (1647). وبعد ثلاث سنوات كان أبوه واحداً من الزعماء الجمهوريين الذين أودعهم السجن وليم الثاني أمير أورنج، رئيس الدولة، رغبة في توطيد سلطته السياسية والحربية على جميع الأقاليم. فلما مات وليم الثاني (1650) رفض المجلس التشريعي قبول ابنه الذي ولد عقب وفاته خلفاً له، ربما متأثراً في ذلك بإقامة إنجلترا حكومة جمهورية فيها (1649) بصورة بدا أن التوفيق حالفها، وألغى منصب رئيس الدولة. وأصبحت المسرحية الداخلية للأقاليم المتحدة صراعاً بين الروح التجارية الجمهورية المسالمة التي يمثلها دي ويت، والروح الأرستقراطية العسكرية التي أزمع أن يحييها بعد قليل الشاب المتحمس وليم الثالث.
وفي 21 ديسمبر 1650، انتخب جان دي ويت-وهو لا يزال في الخامسة والعشرين-كبيراً لولاة درودرشت، وممثلاً لها في المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة. وفي فبراير 1653 عينه المجلس حاكماً أعلى للجمهورية، وناط به مهمة عسيرة هي مفاوضة إنجلترا المنتصرة على الصلح. وكان كرومويل قاسياً لا يرحم، فطالب بأن يعترف الهولنديون بالسيادة الإنجليزية ويحيوا العلم الإنجليزي في القنال الإنجليزي، وبأن يسلموا بحق القباطنة الإنجليز في تفتيش السفن الهولندية في البحر، وبأن يؤدوا رسوماً نظير امتياز الصيد في المياه الإنجليزية، وبأن يدفعوا تعويضاً عن قتل الهولنديين للإنجليز في أمبوبنا عام 1623، وبأن ينحوا بصفة دائمة عن الوظائف أو السلطة جميع أفراد بيت أورنج-الذي قطع على نفسه عهداً بأن يرد أسرة ستيوارت إلى عرش إنجلترا لما بينه وبينها من مصاهرة. وحذف(31/265)
دي ويت هذا البند الأخير من المعاهدة كما قدمت للمجلس التشريعي وكما تصدق عليها منه (22 إبريل 1654)، ثم أقنع المجلس التشريعي لإقليم واحد-هو إقليم هولندا-بقبول المعاهدة بما فيها هذا البند. ولم يغتفر له وليم الثالث فعلته هذه قط.
ثم وطد دي ويت مركزه بالزواج من وينديلا بيكر الغنية، وأصبح عن طرقها صهراً لأمراء التجارة في امستردام، وبتأييدهم شغل أهم المناصب في هولندا هو وأبوه، وأخوه، وبنو عمومته، وأصدقاؤه؛ وسرعان ما قبض على زمام الحكم كله في الإقليم. وقبلت أقاليم أخرى زعامته على مضض، لأن هولندا التي أغنتها موانيها كانت تدفع سبعة وخمسين في المائة من نفقات الاتحاد، وتقدم معظم الأسطول الهولندي، ولم يكن محبوباً من جماهير الشعب. ولكن حكمه كان مستنيراً وكفؤاً. فقد حد من النفقات الباهظة، وخفض الفائدة على الدين الفدرالي، وأجرى فحصاً شاملاً للأسطول، وبنى سفناً أفضل، ودرب عاملين جدداً في البحرية. وإذ كان يعكس مشاعر التجار، فإنه كافح في سبيل السلام ولكنه استعد للحرب. وفي 1658، ثم في 1663، أعيد انتخابه حاكماً أعلى للأقاليم المتحدة. وقد وقع من نفوس المراقبين بإخلاصه لمهام الحكم، وببساطة مسلكه وتواضعه، وبنقاء حياته العائلية. ويسرت له ثروة زوجته العيش في منزل فخم يستطيع أن يستقبل فيه المبعوثين الأجانب في جو مهيب، ولكن ذلك المنزل كان مركزاً للثقافة الهولندية أكثر منه مركزاً للمظهر المترف، فقد امتزج فيه الشعر بالسياسة، ونوقش العلم والفلسفة ربما بحرية لا يطيقها ناخبو دي ويت الكلفنيون. وحتى سبينوزا، ذلك المهرطق المرهوب، وجد صديقاً وفياً وحامياً له في الحاكم الأعلى.
لقد كانت مأساته دائماً أنه أحب السلام أكثر من الحرب، بينما كان جيران الجمهورية الغنية يكتلون قواهم للقضاء عليها. وفي 1660 رد تشارلز(31/266)
الثاني إلى عرش إنجلترا، فأوصى جان دي ويت مشدداً بأن يرضى عن ابن أخته وليم أورنج الثالث، وبعد قليل طالب بإلغاء "قانون الإبعاد" الذي أقصى بمقتضاه وليم عن المناصب، ووافق دي ويت وهكذا مهد الملك الاستيوارتي لسقوط أسرة ستيوارت على غير قصد منه. وفي اكتوبر 1664، استولت حملة إنجليزية على مستعمرة نيو امستردام الهولندية، وأطلقت عليها اسماً آخر هو نيويورك تكريماً لدوق يورك (جيمس الثاني مستقبلاً) وكان يومها قائد البحريو الإنجليزية. واحتج المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة، ولم تعبأ إنجلترا بالاحتجاج، وفي مارس 1665 بدأت الحرب الهولندية الثانية.
وقد برر الموقف ما سبق أن اتخذه دي ويت من استعدادات. ذلك أن ضعف القيادة قد أنتقل من المجلس التشريعي إلى حكومة تشارلز الثاني الغافلة العاجزة، وبينما كان الملك المرح يراقص خليلته، ظفر دي ويت بالثناء حتى من أعدائه على الهمة والإخلاص اللذين بذلهما لكل نواحي التنظيم الحربي وتفاصيله. فقد أبحر غير مرة مع الأسطول، وعرض نفسه لكل مخاطر المعركة، وألهم الملاحين بشجاعته وغيرته. ولم تكن البحرية الهولندية إلى ذلك الحين كفؤاً للبحرية الإنجليزية في السفن أو الرجال أو النظام، فأوقعت البحرية الإنجليزية بقيادة دوق يورك هزيمة حاسمة بالبحرية الهولندية في أول لقاء كبير في الحرب (لوفستوفت، 13 يونيو 1665). على أن المواطنين الهولنديين الصابرين أعادوا بناء أسطولهم وولا عليه رجلاً من أقدر وأجرأ أمراء البحر الذين عرفهم التاريخ. وفي ينويو 1667 قاد هذا الرجل، وهو ميشيل أدريانسزون درويتر، ستاً وستين سفينة إلى نهر التيمز، واستولى على قلعة شيرنيس (على نحو أربعين ميلاً شرقي في لندن)، وحطم الحواجز التي تعترض الدخول في نهر ميدواي (الذي يصب في التيمز عند شيرنس) وأخذ، أو حرق، أو أغرق ست عشرة سفينة حربية كانت راسية هناك دون تأهب لمثل هذا الزائر الوقح (12 يونيو 1667). وإذ(31/267)
لم يكن بتشارلز الثاني ولع بالحرب، فقد أمر دبلوماسييه أن يعرضوا على الهولنديين صالحاً مقبولاً. وفي 21 يوليو 1667 وقعت الدولتان معاهدة بريدا، وبمقتضاها نزل الهولنديون لإنجلترا عن نيويورك التي خالوها غير هامة، ووافقوا على أن يحيوا العلم الإنجليزي في المياه الإنجليزية، ونزلت إنجلترا للهولنديين عن مستعمرة سورينام (جيانا الهولندية في أمريكا الجنوبية) وعدلت قانون الملاحة لصالح التجارة الهولندية. وكانت المعاهدة نصراً معتدلاً لدى وبث وبلغت به قمة نجاحه.
غير أنه ارتكب الآن سلسلة من الأخطاء القاتلة، فقد زاد من تنفير مؤيدي وليم الثالث بأن أجاز في المجلس الإقليمي لهولندا (5 أغسطس 1667) "مرسوماً دائماً" يمنع أي حاكم لأي إقليم من تولى قيادة الجيش أو البحرية العليا للاتحاد. فاستقال على إثر ذلك أتباع الأمير الشاب من الجيش وتركوه خلواً من القواد المحنكين. ولسوء الحظ وقع هذا الحدث، الناجم عن المنافسة بين أسرتين، بينما كانت فرنسا تغزو الأراضي المنخفضة الأسبانية، فهددت بذلك المصالح الحيوية الأقاليم المتحدة. فلو أن فرنسا هيمنت على الأقاليم الجنونية لأسرعت بفتح الشلت للتجارة الأجنبية من جديد، فإذا انتعشت بذلك تحدت السيادة التجارية لأمستردام، وأصبح اقتصاد الأقاليم الشمالية كله في خطر. ثم كم من الزمن سيقف لويس الرابع عشر عند الحدود الهولندية لا يتجاوزها؟ لو أن رأيه استقر على أن يلتهم الأقاليم المتحدة، ويستولي على مصاب الراين، لما بقي للبلد في الواقع وجود، ولقضي على البروتستنتية الهولندية قضاءً مبرماً.
وعرض دي ويت على الملك المتعدي سلسلة من الحلول الوسط، ولكنه رفضها. فاتفق مع إنجلترا (23 يناير 1668)، ثم مع السويد، على حلف ثلاثي للدفاع المشترك ضد التوسع الفرنسي. ووافق لويس في لباقة على إنهاء "حرب الأيلولة" (الوراثة الأسبانية) شريطة أن يستبقي نطاقاً من المدن(31/268)
والحصون التي استولى عليها في فلاندر وإينو. وارتضت هذه الشروط إنجلترا والسويد، ثم الأقاليم المتحدة، في معاهدة إكس-لا-شلبل (2 مايو 1668). وبدا أن دبلوماسية دي ويت جنبت البلاد الخطر، وفي يوليو انتخب للمرة الرابعة ليشغل منصب الحاكم الأعلى للجمهورية فترة خمس سنوات أخرى.
ولكنه أخطأ استقراء سياسات ملكي فرنسا وإنجلترا. ذلك أن لويس لم يغتفر للهولنديين قط في غزوه الأراضي المنخفضة الأسبانية. فأقسم أنه "إن ضايقته هولندا كما ضايقت الأسبان فسيرسل رجاله بالمجارف والمعاول ليقذفوا بها في البحر (45) "، ربما بفتح الجسور البحرية عليها. كانت تغيظه الجمهورية، وكان يطمع في الراين، فعقد النية على تدمير تلك، والسيطرة على هذا. وزادت الصراع شدة حرب التعريفات الجمركية التي نشبت بين الخصمين؛ فقد فرض مولبير رسوماً مانعة على البضائع الهولندية التي تدخل فرنسا، ورد الهولنديون عليها بمثلها. ولكن الذخيرة الحربية استثنيت استثناءً بارعاً من هذه القيود؛ ذلك أن لوفوا، وزير الحربية الفرنسي، أقنع رجال الصناعة الهولنديين بأن يبيعوه مقادير هائلة من العتاد الحربي (46)، وفي الوقت نفسه امتنع رجال الأعمال الهولنديون عن الموافقة على الضرائب التي أراد دي ويت فرضها لتزويد الجيش بالإمداد والمؤن. وأثبت السلك الدبلوماسي الفرنسي حذقه، أو ثراءه، بعزلة إنجلترا والسويد عن تحالفهما مع الأقاليم المتحدة. فوافق تشارلز الثاني في معاهدة دوفر السرية (1 يونيو 1670) على التخلي عن الحلف الثلاثي والانضمام إلى لويس في حربه مع الهولنديين. أما السويد فقد انسحبت من الحلف في 1672 لحاجتها للمعونة الفرنسية ضد الدنمرك وألمانيا، ووعدت أسبانيا، والإمبراطورية، وبراندنبورج، الجمهورية بالمساعدة، ولكن ما كان تحت تصرفها من قوات كان أضأل أو أبعد من أن يكون له كبير وزن أمام(31/269)
القوات المجندة الضخمة التي أطلقت الآن على الأقاليم المتحدة براً وبحراً. وعاد دي ويت يعرض التنازلات والحلول الوسط، فرفضها لويس.
وفي 23 مارس 1672 بدأت إنجلترا الهجوم على الجمهورية الهولندية، وفي 6 إبريل أعلنت فرنسا عليها الحرب. وسرعان ما زحف نحو 130. 000 مقاتل على الدولة الصغيرة يقودهم تورين، وكونديه، ولكسمبور، وفوبان، ولويس نفسه. يقول فولتير "لم يشهد الناس من قبل جيشاً فخماً كهذا الجيش (74) "، واخترقت القوة الفرنسية الرئيسية، باستراتيجية بارعة وغير متوقعه، الأراضي الألمانية-مهدئة ثائرة القرى بـ"الهدايا"-لتهاجم النقط الأضعف تحصيناً. وفي 12 يونيو، وتحت نيران الهولنديين وبصر الملك، عبر الفرنسيون الراين، وهم يسبحون عرض الأقدام الستين التي لم يسمح لهم عمقها أن يخوضوها؛ وأصبح هذا حدثاً محبباً تتناوله الصور والأيقونات الملكية. وزحفت الجيوش الملكية شمالاً إلى قلب الأقاليم المتحدة، فاستولت بسهولة على المدينة تلو المدينة. واستسلمت أوترخت دون مقاومة. وأذعن إقليما أوفريسيل وجلدر لاند، ولم يبق بعد قليل غير أمستردام ولاهاي. ولم تجد كثيراً تلك الهزيمة التي أوقعها درويتر في 6 يونيو بالأسطولين الإنجليزي والفرنسي مجتمعين في خليج ساوثوولد. وطلب دي ويت الصلح، فطالب لويس بتعويض ضخم، وبسيطرة الفرنسيين على جميع الطرق الهولندية البرية والبحرية، وبرد الكاثوليك إلى جميع أرجاء الجمهورية. ورفض الهولنديون هذه الشروط لأنها لا تفضل العبودية، فلجئوا إلى دفاعهم الأخير: وفتحوا الجسور، وأدخلوا البحر عدوهم القديم صديقاً منقذاً، وما لبثت المياه أن تدفقت على اليابس، وتقهقر الفرنسيون عاجزين أما هذا الفيضان الذي أخذهم على غرة.
ومع هذا فقد حربت البلاد، فكانت جيوش أسقف مونستر وناخب كولونيا، المتحالفين مع لويس، تزحف دون عائق على إقليم أوفريسيل،(31/270)
والسفن الفرنسية والإنجليزية تغير على التجارة الهولندية رغم أنف درويتر، وأشرفت الحياة الاقتصادية للدولة المحاصرة على الانهيار. أما دي ويت فقد كافح خلال هذه الشهور القاسية كما لم يكافح أي رجل قبله في تاريخ هولندا-فجمع الأموال، وجهز الأسطول وزوده، ووقف إلى جوار درويتر في معركة خليج ساوثوولد، وحاول بالبعثة تلو البعثة أن يفاوض على صلح ينقذ وطنه. وفي يونيو 1672 عرض لويس أن ينزل له عن ماسترشت وأجزاء من برابانت الهولندية، وأن يدفع كل نفقات الحرب. ولكن لويس أزدرى هذا العرض أيضاً، ولما سمع مواطنوه بأمر العرض نددوا به رجلاً يبيت استسلام الخيانة للويس (48). وألقى عليه الشعب الآن كل تبعة ما أصابهم من نكبات. واتهموه بالنقه الساذجة المستهترة في وعود تشارلز الثاني ولويس الرابع عشر، ورموه بتعيين أقاربه في أكثر من عشر وظائف مجزية، وفوق هذا كله لم يستطيعوا أن يغتفروا له حرمان بيت أورنج من امتيازاته الحربية والسياسية التي حفظت على الأقاليم الهولندية حريتها طوال قرن من الزمان. ثم لاموه على عجز قواده البورجوازيين وجبنهم. ورماء القساوسة الكلفنيون بأنه ملحد مقنع، وتابع لديكارت وصديق لسبينوزا (49). وحتى طبقات التجار التي كانت من قبل سنده الأكبر انقلبت عليه الآن واتهمته بأنه منظم الهزيمة.
وشاركه أخوه كورنيليس في تلقي بعض الجماهير وشتائمها، وهو الذي قاسمه من قبل مكافآت المنصب وأعباء الحرب ومخاطرها. وفي 21 يونيو 1672 بدلت محاولة فاشلة لاغتيال جان، وبعد يومين تلتها محاولة أخرى لقتل كورنيليس. وفي 24 يوليو قبض موظفو لاهاي على كورنيليس بتهمة التآمر على أمير أورنج. وفي 4 أغسطس استقال جان من منصبه حاكماً أعلى. وفي 19 أوغسطس عذب كورنيليس وحكم عليه بالنفي. وشق جان طريقه خلال المدينة المادية إلى سجن الجيفانجينبورن ليرى أخاه رغم أنه حذر بأنه يعرض حياته للخطر. وما لبث جمع من(31/271)
الغوغاء أن احتشد خارج السجن يحرضه رئيس شرطة وصائغ وحلاق. وكان هناك حارس مدني كلف برد الغوغاء ولكنه شاركهم حقدهم على الأخوين دي ويت، فلم يبد أي مقاومة حين حطموا أبواب السجن واندفعوا إلى داخله. وقبضوا على جان وكورنيليس، وجروهما إلى الميدان، وضربوهما حتى الموت، وعلقوا جثتميهما على عمود نور ورأساهما منكسان (20 أغسطس 1672). وماتت الجمهورية الهولندية بموتها، وعاد بيت أورنج إلى السلطة من جديد.
5 - وليم أورنج الثالث
نشأت ماري ستيوارت ولدها على لون مكتئب من ضبط النفس يترقب في صمت فرصته حتى يأتي التجلد بالنصر، وذلك بعد أن حطم روحها إعدام أبيها تشارلز الأول (1649)، وموت زوجها الشاب وليم أورنج الثاني (1650)، وإلغاء منصب رئاسة الدولة، وإقصاء بيت أورنج عن الوظائف. هذا الصبي الهزيل الجسد، الذي أحدق به في نموه الأعداء المكلفون بحراسته، والذي ورث رغم ذلك عن وليم أورنج الأول شعاره "سأقاوم"-نقول إنه شب فتى عليلاً يخفي وراء وجهه الجامد ناراً مستعرة من العزيمة والثأر. وإذ كان صارماً، مؤدباً، مجاملاً في برود، فقد زهد في اللهو والمرح، ومارس الرياضات الخلوية علاجاً لصداعه المتكرر ولتعرضه لنوبات الإغماء. لقد كان إناء ضعيفاً لتلك الروح التي ستستولي على عرش إنجلترا وتؤدب ملك فرنسا.
وذهبت أمه إلى إنجلترا في 1660 لبتهاجاً يتتويج أخيها، وماتت هناك بالجدري في ليلة عيد الميلاد. وفي 1666 أعلنت حكومة إقليم هولندا الأمير ذا الستة عشر عاماً قاصراً تحت وصاية الدولة، واستبدل جان دي ويت بأوصيائه ومعلميه المحبوبين أشخاصاً أكثر استجابة لسياسة المجلس(31/272)
الإقليمي (50). وكان كره وليم لدي ويت يزداد على الأيام. وفي قمة سلطان جان، أفلت الأمير من رقابة أوصيائه الجدد وركب جواده من لاهاي إلى بيرجن أوب-زوم (1668)، ثم استقل زورقاً إلى زيلنده، وكانت أكثر الأقاليم ولاء لأجداده. وحياه سكان عاصمته مدلبورج بمظاهرات كبيرة تفيض حباً وإخلاصاً. فتولى دون تردد أو مقاومة رئاسة المجلس الإقليمي لزيلندة. فلما عاد إلى لاهاي أعلن أنه بلغ الآن رشده في عيد ميلاده الثامن عشر (4 نوفمبر 1668)، وأنه من الآن سيستغني عن الأوصياء الذين عينهم له مجلس هولندا، ولكن المجلس رفض سحبهم، فطردهم، ولكنهم بقوا. وترقب وليم فرصته.
وقد واتته حين اكتسحت الجيوش الفرنسية والألمانية الأقاليم الهولندية، واستسلمت الجيوش الهولندية بلداً بعد بلد، وبدا أن لاهاي ذاتها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وعين المجلس التشريعي وليم قائداً عاماً للاتحاد (25 فبراير 1672)، مذعناً لمطالب العسكريين، مؤملاً أن تعود إلى الأمة وحدتها ومعنوياتها برد بيت أورنج إلى مكان القيادة. وفي 2 يوليو انتخب مجلس زيلندة وليم حاكماً لأقاليمهم، ضارباً بالمرسوم الدائم عرض الحائط، وفي 4 يوليو حذا مجلس هولندا حذوه، وفي 8 يوليو عين قائداً أعلى لقوات الاتحاد المسلحة في البر والبحر. وقد ظهر معدنه حين عرض ملك فرنسا الصلح نظير تعويض بلغ ستة عشر مليون فلورين، والنزول عن مساحات كبيرة لفرنسا، ومنستر، وكولونيا، وقدم عرض سري بالاعتراف بوليم ملكاً على الباقي. واتجه إليه مجلس هولندا يطلب النصيحة فأجاب، "خير لنا أن نقطع إرباً من أن نقبل هذه الشروط (51) ". وحين حضر دوق بكنجهام الثاني من إنجلترا ليحث وليم على الصلح وقال له "ألا ترى أن وطنك قد ضاع؟ " أجاب "إن وطني في خطر عظيم، ولكن هناك سبيل مؤكد لمنعه من الضياع، وهو الموت في آخر خندق (52) ". ومع ذلك ففي حكمة تستغرب من فتى في الثانية والعشرين، أشار بالمفاوضات الصابرة المجاملة مع الإنجليز، ولعله رأى آنئذ أن في التعاون(31/273)
بيت الإنجليز والهولنديين الأمل الوحيد لكبح اعتداءات فرنسا. واتخذ من التدابير ما يكفل الروابط بين الأقاليم المتحدة، والإمبراطورية، وبراند نبورج. وكانت الخطوط العريضة للحلف الأعظم تتشكل في ذهنه.
ومضى إلى المقر الرئيسي للجيش، لذلك كان غائباً عن لاهاي حين قتل الأخوان دي ويت. والظاهر أنه لم يكن ضالعاً في تدبير هذه الفعلة، التي ربما لم يدبرها أحد، ولكنه لم يخف ارتياحه حين سمع بنبئها؛ وحمى الرجال الذين قادوا الغوغاء ورتب له معاشاً (53). ثم حاول الآن أن يكون قائداً كفؤاً، فلم يوفق قط في محاولته، غير أن المقاتلين المحنكين الذي انضووا تحت لوائه في حماسة أعادوا تنظيم الجيش والبحرية، وبدأت الانتصارات ترجح الهزائم، وتفوق درويتر وكورنيليس ترومب (بن مارتن) على الأسطولين الإنجليزي والفرنسي في شونفيلت وكيكدون (1673)، وصد الغزاة الألمان عند جروننجن، واستولى وليم على فاردن، وطهرت أقاليم جلدرلاند وأوترخت، واوفريسل، من العدو. وراح الفرنسيون يتقهقرون في كل مكان تقريباً، وأنقذت الأقاليم المتحدة، مؤقتاً على الأقل، فهللت لوليم منقذاً لها.
ثم أضاف إلى هذه الانتصارات انتصارات دبلوماسية. ففي 19 فبراير 1674 أقنع إنجلترا بأن تبرم معه صلحاً منفرداً إذ وافق على أن يدفع لها تعويضات حربية قدرها مليونا فلورين؛ وفي 22 إبريل و11 مايو وقع معاهدتين مع مونستر وكولين، ثم أكد التحالف القائم بين الأقاليم المتحدة، وأسبانيا، وبران نبورج، الدنمرك، والإمبراطورية، ضد فرنسا التي أصبحت الآن معزولة. وكانت الضربة الأخيرة ظفره بيد ماري، كبرى بنات جيمس دوق يورك وشقيق ملك إنجلترا. وتقاربت الآن الدولتان البروتستانتيتان الكبريان، وراحت الشبكة تحكم خيوطها حول فرنسا، ولم يكن أمراً هيناً أن يكون لماري حق في وراثة العرش الإنجليزي لا يتقدم عليه غير حق أبيها فيه. وندر في التاريخ أن دبر حاكم صغير السن كوليم مثل هذه الخطط البعيدة النظر، ولا حقق لها نجاحاً كهذا النجاح.(31/274)
على أن الفرنسيين جددوا هجومهم خلال ذلك، فاستولوا على إيبر وغنت، وزحفوا نحو الحدود الهولندية. وهزم أسطول فرنسي درويتر تجاه شاطئ صقلية (22 إبريل 1676)، وبعد أسبوع مات درويتر متأثراً بجراحه. وعرض لويس الصلح على الأقاليم المتحدة بشروط مغرية: أن يرد كل الأراضي الهولندية التي استولى عليها الفرنسيون، شريطة أن توافق الأقاليم المتحدة على احتفاظه بفرانش-كونتيه واللورين. واحتج الإمبراطور، وبراندنبورج، والدنمرك على هذا الصلح، وأيدهم وليم، ولكن المجلس التشريعي الذي غلبت عليه المصالح التجارية تغلب على رأيه، وتخلى عن حلفائه، ووقع مع فرنسا صلح نيميجن المنفصل (10 أغسطس 1667).
أما وليم فقد نظر إلى الصلح على أنه مجرد هدنة، وكافح طوال السنوات العشر التالية ليعيد بناء الحلف وكبح التجار الهولنديون طبعه العسكري، محتجين بأن الأقاليم المنهكة في حاجة لأن تستريح من النضال، وأن الرخاء في طريقه إليها. على أن حدثين وقعا عام 1685 فاستغلهما وليم ذلك أن لويس ألغى مرسوم نانت، فاحتشد الهيجونوت المضطهدون في الأقاليم المتحدة، وتزعموا دعوة نشيطة لتوحيد الدول البروتستانتية ضد فرنسا. وفي إنجلترا كشف جيمس الثاني، بعد أن تولى عرشها، عن أمله غي رد الأمة إلى الكثلكة، فدبر البروتستانت الإنجليز عزلهم، وبذلك يحل حق ماري زوجة وليم في العرش. وكان وليم قد عشق اليزابيث فيلييه، صديقة ماري (54) الحميمة، ولكن ماري غفرت له، ووافقت على طاعة زوجها بوصفه ملكاً أن هي أصبحت ملكة على إنجلترا وفي 1686 أفلح وليم في تنظيم حلف مع الإمبراطورية، وبراندنبورج، وأسبانيا، والسويد، للدفاع المشترك. وفي 30 يونيو 1688 دعا الزعماء البروتستانت الإنجليز وليم وماري إلى دخول إنجلترا بقوات مسلحة ومساعدتهم على خلع ملكهم الكاثوليكي. وتردد وليم، لأن لويس الرابع عشر كان تحت يده جيش عرمرم ينتظر قرار الملك ليهاجم الأراضي المنخفضة أو الإمبراطورية. وأرسل لويس الأمر للجيش بأن يزحف على ألمانيا، فأطلق بذلك يد وليم. وفي 1 نوفمبر 1688 أبحر بأربعة عشر ألف رجل ليكسب عرش إنجلترا.(31/275)
الكتاب الثاني
إنجلترا
1649 - 1714
الفصل السابع
كرومول
1649 - 1660
1 - الثورة الاشتراكية
بعد أن أطاح البيوريتانيون (المتطهرون) برأس الملك شارك الأول، في 30 يناير 1649، واجهوا مشاكل إقامة حكومة جديدة واستعادة أمن الناس على حياتهم وممتلكاتهم، في إنجلترا التي أشاعت فيها الفوضى والاضطرابات الحرب الأهلية التي دامت سبع منين. ونادى " البرلمان المبتور " Rump. P- وهم الأعضاء الستة والخمسون النشطون الذين بقوا من البرلمان الطويل بعد " حركة تطهير برايد " (1648) - بأن لمجلس العموم السيادة والمقام الأول، وان فيه الكفاية، وألغى مجلس اللوردات (6 فبراير 1649)، كما ألغى الملكية، وعين بمثابة جهاز تنفيذ له " مجلسا للدولة " يتألف من ثلاثة لواءات وثلاثة نبلاء وثلاثة قضاة وثلاثين من أعضاء مجلس العموم، كلهم مستقلون- أي بيوريتانيون جمهوريون. وفي 19 مايو أقام مجلس العموم، بصفة رسمية، الجمهورية الإنجليزية: " ولسوف يتولى الحكم في إنجلترا منذ الآن، بوصفها جمهورية أو دولة حرة، السلطة العليا للأمة، وهم ممثلو الشعب في البرلمان، ومن يعينونهم إلى جانبهم من وزراء، لخير الشعب (1) ". ولم تكن الجمهورية ديموقراطية. لقد طالب البرلمان بإقامة أساس ديموقراطي، ولكن طرد الأعضاء الملكين أثناء الحرب، والمشيخيين (البرسبتريان) في حركة التطهير، كان كما قال كرومول، " قد شتت البرلمان وغربله واختزله إلى مجرد حفنة من الرجال (2).(32/5)
أن الملاك وحدهم هم الذين كانوا ينتخبون البرلمان في الأصل، أما الآن فان مقاطعات برمتها باتت وليس لها ممثلون في " البرلمان المبتور " ولم تستند سلطة هذا البرلمان المبتور إلى الشعب بل إلى الجيش. فان الجيش وحده هو الذي استطاع أن يحميه من الثوار الملكيين في إنجلترا، والثوار الكاثوليك في إيرلندة، والثوار المشيخين في إسكتلندة، والثوار المتطرفين في الجيش نفسه.
ولمواجهة نفقات الحكومة ومتأخرات رواتب الجند اشتط هذا البرلمان في فرض الضرائب قدر ما فعل الملك الراحل. واقترح مصادرة أملاك كل من حمل السلاح دفاعا عن شارل، ولكنه في معظم الحالات ارتضى تسوية الأمر بحل وسط، هو تقاضى غرامة تعادل جزءا يتراوح بين العشر والنصف من القيمة الأساسية للضيعة. من اجل هذا عمد كثير من صغار النبلاء الذين عانوا الفقر والعوز في إنجلترا إلى الهجرة إلى أمريكا حيث كونوا أسرات أرستقراطية، مثل آل: وشنطن، وآل راندولف، وآل ماديسون وآل لي (1). واعدم بعض زعماء الملكين، وأودع بعضهم السجن. ومع ذلك بقيت حركة الملكيين تقض مضاجع الحكومة، لان روح التعاطف مع الملكية سيطرت على الشعب، فان إعدام الملك حوله من جابي ضرائب إلي شهيد. وبعد عشرة أيام من موت شارل ظهر كتاب عنوانه " صورة ملكية " لمؤلفه القسيس المشيخي جون جودن، ولكنه يوهم بأنه أفكار ومشاعر شارل كما دونها هو بيده قبل موته بزمن وجيز. وربما صيغ بعض هذا الكتاب من مذكرات تركها الملك (3). ومهما يكن من أمره، فان الصورة التي عرضها الكتاب هي صورة حاكم طيب القلب كان في واقع الأمر يدافع عن إنجلترا ضد طغيان أقلية حاكمة (أوليجاركية) غليظة القلب
_________
(1) جددت الحرب الأهلية الأمريكية الحرب الأهلية الإنجليزية حيث حرضت أبناء الأرستقراطيين الإنجليز في الجنوب على أبناء البيوريتانيين الإنحليز في الشمال.(32/6)
لا ترحم. وطبع الكتاب ستا وثلاثين مرة وترجم إلى خمس لغات في سنة واحدة، ولم تفلح الضجة التي أثارها كتاب ملتون " تحطيم الصور المقدسة " (1649) في محو اثر كتاب جون جودن هذا، واسهم الكتاب في إثارة الرأي العام ضد الحكومة الجديدة. وشجع وكلاء الملكيين الذين شرعوا لفورهم في كل مقاطعة في إنجلترا يهيجون الشعور العام لإعادة أسرة ستيوارت. وقابل مجلس الدولة هذه الحركة ببث العيون والأرصاد على أوسع نطاق، والإسراع في القبض على الزعماء الذين يحتمل انهم كانوا يقومون بتنظيم ثورة.
وفي الناحية الأخرى كانت هناك أقلية من الأهالي وقس كبير من الجيش، يطالبون بديموقراطية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى. كما طالب بعضهم بديموقراطية اشتراكية. وأمطرت السماء نشرات متطرفة. واصدر الكولونيل جون للبيرن وحده مائة منها. ولم يكن ملتون في تلك الحقبة شاعرا بل مؤلف نشرات وكتيبات. وهاجم للبيرن كرومول على انه طاغية مرتد منافق. وشكا أحد الكتاب من" انك قلما تحدثت إلى كرومول في أي موضوع ألا وضع يده على صدره ورفع عينيه وقال اللهم فاشهد. انه سوف يبكي ويصرخ ويبدي الندم، حتى وهو يسدد إليك ضربة تصيب من مقتلا (4). " وفي إحدى النشرات تساءل كاتب أخر: " كان يحكمنا من قبل الملك واللوردات والنواب، أما الآن فيتولى الحكم فينا قائد الجيش والمحكمة العسكرية والنواب، فقل لنا بربك، ما هو الفرق؟ " (5) وأحست الحكومة الجديدة بأنها مضطرة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمنابر. وفي أبريل 1649 قبض على للبيرن وثلاثة آخرين لإصدارهم نشرتين تصفان إنجلترا وهي " مكبلة في أغلال جديدة ". وهاج الجيش مطالبا بالإفراج عنهم. وتوعد نساؤهم كرومول بالويل والثبور إذا مس المعتقلون بأذى. وأرسل للبيرن من سجنه إلى طابع نشراته، متحديا، أنها ما بالخيانة العظمى " موجها ضد كرومول وابرتون ". وفي أكتوبر قدم الكتاب الأربعة إلى المحاكمة في قضية أثارت اهتمام الرأي(32/7)
العام وشدت الآلاف من الناس إلى المحكمة. وتحدى للبيرن القضاة، وطالب بعرض القضية على هيئة المحلفين. فلما صدر الحكم ببراءة الكتاب الأربعة جميعهم انطلقت من الجمع الحاشد صيحة مدوية جماعية، يعتقد انه لم يسمع مثلها قط في دار البلدية، استمرت نحو نصف ساعة بلا انقطاع، حتى على الشحوب وجوه القضاة من شدة الفزع (6) وظل للبيرن لمدة عامين بطل الجيش. ونفى في 1652 ثم عاد في 1653 فقبض عليه ثانية، ثم برئ (أغسطس 1653)، ولكنه ظل مع ذلك سجينا. وفي 1655 افرج عنه وقضى نحبه 1657، وهو في الثالثة والأربعين من العمر.
وذهب بعض "أنصار المساواة" (حزب نشأ في البرلمان الطويل 1647 يدعو إلى إزالة الفوارق بين الناس) إلى ابعد مما ذهب إليه للبيرن والديمقراطية، فدعوا إلى توزيع السلع توزيعا اقرب إلى المساواة. انهم تساءلوا: لم يكون هناك أغنياء وفقراء؟ لماذا يتضور بعض الناس جوعا على حين يحتكر الأغنياء الأرض؟. وفي أبريل 1649 ظهر " نبي " يدعى وليم افرارد Everard، وقاد أربعة من الرجال إلى تل سان جورج في سرى، ووضعوا أيديهم على بعض الأرض غير المشغولة، وفلحوها، ونثروا فيها البذور، ودعوا الناس إليها. فانضم إليهم ثلاثون آخرون من جماعة "الحفارين" (وهو اسم أطلق عليهم). وانهم- كما جاء في تقرير إلى مجلس الدولة، ليهددون الجيران بأنهم سيحملون الجماعة كلها على القدوم وشيكا إلى التلال للعمل فيها (7). "ولما سبق افرارد للمثول أمام نقيب الجيش سير توماس هيرفاكس، أوضح له أن اتباعه قد اعتزموا احترام الأملاك الخاصة، "وأنهم لن يقربوا ألا الأراضي العامة غير المفلوحة ليعملوا فيها حتى تؤتى ثمارها، "وأنهم يأملون" في أن يحين فجأة الوقت الذي يأتي فيه كل الناس طائعين مختارين وينزلون عن أراضيهم وضياعهم ويذعنون لجماعة الأخيار هذه (8) ". فما كان من هير فاكس ألا أن أخلى سبيل الرجال على انهم أفراد متعصبون لا يخشى منهم أي أذى. وتابع أحدهم- وهو(32/8)
جيرارد ونستانلى- الحركة ببيان أصدره في 26 أبريل 1649، تحت عنوان "لواء نصير المساواة الصادق يتقدم إلى الأمام": "في البدء جعل العقل (الخالق العظيم) الأرض ملكاً عاماً مشتركاً للحيوان والإنسان "، ولكن الإنسان فيما بعد عميت بصيرته فأصبح عبدا اكثر خضوعا لبنى جنسه من خضوع حيوانات الحقل لشخصه هو، وجرى التصرف في الأرض بالبيع والشراء، وأحاطها الحكام بالحواجز والأسياج، وبقيت في حوزة فئة قليلة من الناس. وكل ملاك الأرض لصوص ولن تنقطع الجريمة والكراهية والبغضاء ما لم تسترد الملكية العامة المشتركة (9). وفي " قانون الحرية " (1652) توسل ونستانلى إلى الجمهورية أن تقيم مجتمعا لا يوجد فيه بيع ولا شراء، ولا محامون، ولا أغنياء ولا فقراء، يجبر فيه الجميع على العمل حتى سن الأربعين، وبعد ذلك يعفون من الكدح. ويباح حق الانتخاب لكل البالغين من الذكور، ويكون الزواج أجراء مدنيا، والطلاق حراً مباحاً (10). وتخلى " الحفارون " عن مشروعهم، ولكن دعايتهم نفذت إلى عقول الفقراء الإنجليز، وربما عبرت القنال إلى فرنسا، وعبرت المحيط إلى أمريكا.
أن كرومول نفسه، وهو من ملاك الأرض، وهو الشديد الخبرة بطبيعة الانسان، لم يثق في هذه المثل العليا في الملكية العامة، بل لم يثق حتى في حق الاقتراع للبالغين. وفي فترة الفوضى التي لا معدي عنها، عقب قلب أية حكومة، تدعو الحاجة إلى شيء من سلطة مركزة في بعض الأيدي، وقد تمثلت في كرومول، وأن كثير ممن أوغر صدورهم منه إعدام الملك، رحبوا لبعض الوقت بدكتاتورية بدت البديل الوحيد للانحلال الاقتصادي والسياسي بل أن الجيش نفسه، حين ترامت إليه أنباء الثورة المضادة التي تدبر في إيرلندة واسكتلندة، غمره الفرح إذ أيقن أن يد كرومول الحديدية على أتم استعداد لقيادته ضد العصاة والثوار الذين(32/9)
لم يسعوا وراء " يوتوبيا " أو دنيا مثالية ديمقراطية، بل وراء عودة ملكية تثأر وتنتقم.
2 - ثورة إيرلندة
في إيرلندة وحد رد الفعل ضد الثورة الكبرى، بشكل عابر، بين البروتستانت في إقليم ( The Pale) في شرق إيرلندة حول دبلن والكاثوليك فيه وفيما وراءه. فقد حدث حتى قبل إعدام شارل الأول، أن وقع إرل اورموند جيمس بتلر، بوصفه نائب الحاكم في إيرلندة، معاهدة مع اتحاد الكاثوليك في كلكنى Kilkenny (17 يناير 1649) وافقوا بمقتضاها، وفي مقابل الحركة الدينية وبرلمان إيرلندي مستقل، على تزويده بخمسة عشر ألفاً من المشاة وخمسمائة من الجياد. وبعث أورموند برسالة إلى أمير ويلز، الذي اعترف أورموند لفوره بأنه شارل الثاني، بدعوة فيها للقدوم إلى إيرلندة ليقود جيشاً مشتركاً من البروتستانت والكاثوليك. وآثر شارل الذهاب إلى إسكتلندة، ولكن كرومول اعتزم أن يواجه تهديدات إيرلندة أولا.
وحين حط كرومول رحاله في إيرلندة في اغسطس، كانت القوات الموالية للجمهورية قد هزمت بالفعل أورموند في رانميز، وتراجع هو مع ما تبقى من قواته (2300 جندي) إلى مدينة دروجيدا المحصنة، الواقعة على نهر بوين. فحاصرها كرومول بعشرة آلاف جندي واقتحمها واستولى عليها عنوة (10 سبتمبر 1649) وأمر بقتل من بقى حاميتها على قيد الحياة (11). ولم يفلت من المذبحة بعض المدنيين، وقتل كل قسيس في المدينة (12)، حتى بلغ عدد ضحايا المذبحة المنتصرة نحو 2300. واشترك كرومول في شرف النصر مع الله: "أرجو أن تنسب القلوب الطاهرة هذا المجد إلى الله الذي يرجع أليه الفضل في هذه الرحمة حقاً (13) "وتمنى"(32/10)
أن تساعد هذه المحنة كثيرا على حقن الدماء بفضل كرم الله (14) ". وأنا لنشاركه رجاءه المخلص في أن تضع مثل هذه الضربة الواحدة من الإرهاب حدا للثورة، وتنقذ حياة الكثيرين من الجانبين.
ولكن الحرب استمرت ثلاثة أعوام آخر، فان كرومول تقدم من دروجيدا لحصار وكسفورد، واستولى عليها، ولقي 1500 من المدافعين عنها ومن سكانها مصرعهم. وقال كرومول " ان الله، بشيء من عناية إلهية غير متوقعة، في عدله القويم، قد انزل بهم حكما عادلا .... حيث كفروا بدمائهم عن أعمال القسوة الوحشية التي اقترفوها ضد حياة الكثيرين من البروتستانت المساكين (15) ". ولكن سياسة المذابح أخفقت فان مدينتي دنكانون وووترفورد تحدتا حصار كرمول. واستسلمت كلكنى لمجرد أنها تلقت شروطا كانت مرفوضة في أي مكان آخر، وتم الاستيلاء على كلونمل ولكن بعد فقد آلفي رجل. وما أن ترامى إلى كرومول نبأ وصول شار الثاني إلى إسكتلندة حتى ترك مواصلة الحرب في إيرلندة لصهره هنري ايرتون، وابحر هو إلى إنجلترا (24 مايو 1650).
وكان ايرتون قائداً قديراً، ولكنه مات بالطاعون في 26 نوفمبر 1651. ونبذت سياسة المذابح، وصدر العفو عن الثوار، وبمقتضى معاهدة كلنكنى (12 مايو 1652) استسلموا جميعاً تقريبا، شريطة السماح لهم بالهجرة دون عائق. وفي 12 أغسطس صدر " قانون التسوية في إيرلندة"، الذي ينص على مصادرة كل ممتلكات الايرلنديين أو بعضها - أيا كان مذهبهم - ممن يعجزون عن أثباب أنهم كانوا موالين للجمهورية، وبهذه الطريقة انتقلت ملكية نحو مليونين وخمسمائة ألف فدان (أيكر) من أراضى أيرلندة إلى جنود أو مدنيين إنجليز أو ايرلنديين كانوا يناصرون كرومول في إيرلندة. وبهذا انتقل ثلثا ارض إيرلندة إلى أيدي الإنجليز (16). وانضمت مقاطعات كلدار ودبلن وكارلو وكلو ووكفورد(32/11)
لتشكل" pale" أو إقليماً إنجليزياً جديداً في إيرلندة، وبذلت محاولات لإقصاء كل ملاك الأرض الايرلنديين أياً كانوا، ثم المواطنين الإيرلنديين عن هذه المقاطعات. وجردت آلاف الأسر الايرلندية من أملاكها، وأعطوا مهلة نهايتها أول مارس 1655 ليجدوا لأنفسهم وطنا آخر. وشحن المئات منهم على ظهور السفن إلى بربادوس، (جزر الهند الغربية) أو أماكن أخرى بتهمة التشرد.
وقد يسير وليم ربتى انه من بين سكان إيرلندة البالغ عددهم 000ر466ر1 في1641، كان فد هلك حتى 1652 نحو000ر616 بسبب الحرب أو الموت جوعا أو الطاعون، وقال أحد الضباط الإنجليز: في بعض المقاطعات "قد يسير المرء عشرين أو ثلاثين ميل دون أن يجد مخلوقا على قيد الحياة، إنسانا أو حيواناً أو طائراً" وقال آخر: " أن الشمس لم تشرق قط على أمة أشد تعاسة من هذه (17) ". وحرم المذهب الكاثوليكي بحكم القانون وصدرت الأوامر إلى رجال الدين الكاثوليك بمغادرة إيرلندة في بحر عشرين يوما، وكان الموت عقوبة من يخفى أياً منهم، وفرضت عقوبات صارمة على التخلف عن حضور الطقوس البروتستانتية يوم الأحد. ومنح القضاة والحكام سلطة جمع أطفال الكاثوليك وإرسالهم إلى إنجلترا لتلقي أصول المذهب البروتستانتي (18). أن كل الوحشية التي لقيها البروتستانت على يد الكاثوليك في فرنسا بين 1680 - 1890، صبها البروتستانت على رؤوس الكاثوليك في إيرلندة بين 1650 - 1660. وأصبحت الكثلكة جزءا لا يتجزأ من الروح الوطنية الايرلندية، لان الكنيسة والشعب قذف بهما في بحران من المعاناة والشقاء. وعلقت هذه السنين المريرة بذا كرة إيرلندة وكأنها تراث من البغضاء لا يفنى.(32/12)
3 - ثورة اسكتلندة
صعق الاسكتلنديون بإعدام شارل الأول الذي كانوا هم أنفسهم قد أسلموه إلى البرلمان الانجليزي، وعاد إلى ذاكرتهم فجأة أن والده كان اسكتلنديا. ورأوا في "تطهير برايد" الذي اخرج المشيخيين (البرسبتريانز: كنيسة بروتستانتية يدير شؤونها شيوخ منتخبون يتمتعون جميعا بمنزلة متساوية) من البرلمان الطويل، نقضا "للعصبة المقدسة والميثاق المقدس" الذي اقسم فيه ذلك البرلمان يمين الإخلاص لإسكتلندة والمذهب المشيخي، وأوجسوا خيفة من أن يحاول البيوريتانيون المنتصرون فرض مذهبهم البروتستانتي على إسكتلندة كما فرضوه على إنجلترا. وفي 5 فبراير 1649، أي بعد مضي اقل من أسبوع على إعدام شارل الأول، نادى البرلمان الاسكتلندي (مجلس الطبقات) بابنه شارل الثاني، الذي كان آنذاك في الأراضي الوطيئة، ليكون الملك الشرعي على بريطانيا العظمى وفرنسا وأيرلندة.
وقبل أن يجيز الاسكتلنديون لشارل الثاني الدخول إلى إسكتلندة طلبوا أليه أن يوقع الميثاق الوطني وعهد العصبة المقدسة والميثاق المقدس، ويقسم يمين الحفاظ على المذهب المشيخي او أقامته كل أرجاء ملكه وفي بيته. على إن شارل الذي كان يدين بالفعل بمزيج من الكاثوليكية والتشكك، لم يكن يروقه مذهب المشيخية، في الوقت الذي كان يتوق فيه أيما توق إلى العرش، فوقع على كره منه، كل هذه المطالب في "بريدا " في أول مايو 1650. وقاد مونتروز، أنبل الاسكتلنديين في ذاك العصر - قوة صغيرة من جزر أوركى إلى إسكتلندة، أملا في أن يجمع لشارل جيشا مستقلا عن الميثاقين المشيخيين، ولكنه هزم وأسر وأعدم شنقا (11 مايو 1650). وفي 23 يونية حط شارل رحاله في اسكتلندة، وهو يتلهف على أن يكون على رأس جيش يغزو به الجمهورية البيوريتانية التي أطاحت برأس(32/13)
ابيه، وقبل أن يهب الاسكتلنديون لنجدته، استحثوه على إصدار بيان يرغب فيه " أن يركع في ذل وخشوع أمام الله تكفيرا عن معارضة أبيه للعصبة المقدسة والميثاق المقدس، ومن اجل خطيئة أمه بسبب عقيدتها الوثنية (أي اعتناقها الكثلكة) (19). "وللتكفير عن خطيئات شارل الأول والثاني فرض رجال الكنيسة الاسكتلندية على الجيش والشعب صوما جاداً رهيباً، وأكدوا للجيش انه لن يقهر (20)، لان الملك الشاب قد أرضى السماء. وتحت إلحاح القساوسة طهر الجيش من الضباط الذين وضعوا ولاءهم للملك فوق ولائهم للميثاق والكنيسة الاسكتلندية، وبهذه الطريقة طرد ثمانون من اقدر القواد.
واقترح كرومول على البرلمان الإنجليزي غزو إسكتلندة في الحال، دون انتظار هجوم من جانبها. واعتزل فيرفاكس آنذاك القيادة العليا لجيوش الجمهورية، وكان قد رفض الاشتراك في محاكمة شارل الاول، وعين كرومول خلفا له، فنظم قواته بعزيمته وعجلته المعهودتين، وعبر إلى إسكتلندة (22 يولية 1650)، على رأس 16 آلف رجل. وفي 3 اغطس أرسل إلى لجنة الجمعية العامة للكنيسة الاسكتلندية رسالة زاخرة بالشجاعة والثبات والقدرة على الاحتمال: "هل كل ما تقولون يلتئم التئاما لا شبهة فيه مع كلمة الله؟ أتوسل إليكم، بحق أحشاء المسيح، أن تفكروا في أنكم قد تكونون مخطئين (21) ". وفي دنبار (3 سبتمبر) أوقع بالجيوش الاسكتلندية الرئيسية هزيمة منكرة واسر عشرة آلاف رجل، وسرعان ما استولى على إدنبرة وليث. وانهارت مكانة الوعاظ الاسكتلنديين، وتبدد زعمهم بأنهم معصومون من الخطأ. واستدعى الضباط المطرودون على عجل، وتوج شارل الثاني رسميا في "سكون Scone". أما كرومول فقد انتابه المرض في ادنبره، وتوقف القتال بضعة شهور.
ثم تقدم الجيش الاسكتلندي بعد إعادة تنظيمه، وعلى رأسه شارل،(32/14)
إلى إنجلترا، أملا في أن ينضم إلى لواء الشرعية والحق، كل الملكيين والمشيخيين المخلصين. فتعقبهم كرومول، حيث كان يحشد أثناء مروره بالمدن الإنجليزية كل قوات الطوارئ، والمواطنين الصالحين للجندية، وفي ووستر، في 3 سبتمبر 1651، دارت رحى المعركة التي أبقت على الجمهورية، وحكمت على شارل بأن يلوذ بالمنفى مرة أخرى. وفيها، بفضل الاستراتيجية الفائقة البسالة، استطاعت قوات كرومول الأقل عددا، أن تهزم ثلاثين ألفا من الاسكتلنديين. وكان شارل شجاعا ولكنه لم يكن قائدا. انه بذل أقصى الجهد في أن يستحث ويلم شعث جنوده الذين اختل نظامهم، ولكن يبدو انهم ذعروا وارتعدوا فزعا من سمعة كرومول محاربا لم يخسر قط معركة، فألقى كثير منهم السلاح ولاذ بالفرار. وتوسل شارل إلى ضباطه أن يطلقوا عليه الرصاص فأبوا. واقتاده نفر من اشد اتباعه إخلاصا إلى مكان آمن مؤقت في مقر أحد الملكيين. وهناك تجرد من شعر رأسه إلى حد كبير، وغير لون يديه ووجهه واستبدل بملابسه ثياب أحد العمال، وبدأ مسيرة طويلة، على ظهر جواد، وعلى قدميه، متسللا من مخبأ إلى مخبأ. ينام تحت سطوح المنازل أو في الحظائر والغابات. ونام مرة في إحدى أشجار " رويال اوك " في بوسكوبل، على حين كان جنود الجمهورية يفتشون عنه تحتها. وكثيرا ما عرفه الناس، ولكنهم لم يغدروا به أو يكشفوا أمره. وبعد أربعين يوما من الفرار، وجد هو ومرافقوه، في شورهام في سسكس، قارباً ارتضى ربانه، مخاطراً بحياته، أن ينقلهم إلى فرنسا (15 أكتوبر).
وعهد كرومول إلى القائد جورج مونك بالضرب على أيدي الثوار الاسكتلنديين بصفة نهائية، وتم هذا في فبراير 1652. وأخضعت إسكتلندة لإنجلترا، وحل برلمانها المستقل، ولكن أجيز لها إرسال ثلاثين نائبا عنها إلى برلمان لندن. وعوقبت الكنيسة الاسكتلندية بحظر(32/15)
انعقاد جمعياتها العامة، وإقرار التسامح الديني مع كل الشيع البروتستانتية المسالمة. ومن الناحية الاقتصادية أفادت إسكتلندة من الحرية الجديدة في الاتجار مع إنجلترا. أما من الناحية السياحية فقد ظلت ترقب عودة أسرة ستيوارت وتدعو الله أن يحقق هذا الرجاء.
4 - أوليفر حاكما مطلقاً
عاد كرومول إلى إنجلترا منتصرا انتصارا يكلله التواضع. وأذ رأى الجموع التي احتشدت لتشهد مقدمه، فقد جال بخاطرة أن جمهورا اكبر من هذا كان يمكن أن يحتشد ليشهد مصرعه على حبل المشنقة (22). ومنحه البرلمان الألمبتور راتباً سنوياً قدره أربعة آلاف جنية، وخصص له قصرا كان يوما ملكيا في هامبتون كورت. واعتقد البرلمان انه سيقنع بالبقاء في منصب القيادة العامة. كما اقترح أجراء انتخابات جديدة، لزيادة عدد أعضائه إلى 400، على أن يحتفظ الأعضاء الحاليون بمقاعدهم دون الدخول في الانتخابات الجديدة، وكان عليهم أن يحددوا شروط حق الانتخاب وصحة الأصوات. وحمى البرلمان نفسه ضد حملات النقد بالحد من حرية الصحافة والخطابة بشكل صارم: "لن يسمح باسم حرية الخطابة أو حرية الوعظ، بأي شئ يعكر صفو الحكومة أو يسئ إلى كرامتها (23) ". وحرم رجال الكنيسة الأنجليكانية الرسمية من أرزاقهم وحكم بمصادرة ثلثي ممتلكات من يعتنقون المذهب الكاثوليكي، بصفة غرامة. وقدمت الجوائز لمن يقبضون على القساوسة الكاثوليك (24).
أن كرومول، على الرغم من بطئه في اتخاذ قرار، كان حازماً متأهباً لسرعة التصرف إذا اعتزم أمرا. وقد احتمل في صبر نافد المناقشات التي أفسدت السياسة في البرلمان وعوقت الإدارة. انه اتفق مع شارل الأول على أن تكون السلطة التنفيذية متميزة ومستقلة عن السلطة التشريعية.(32/16)
ثم بدأ يتساءل: ألم يكن خيرا وبركة أن يكون كرومول ملكا. ولمح بهذه الفكرة (ديسمبر 1652) إلى صديقه هوايتاوك الذي فقد صداقته باعتراضه عليها (25). وفي صبيحة يوم 20 أبريل 1653، عندما علم أن البرلمان المبتور كان على وشك أن ينصب نفسه سيداً غير منتخب على البرلمان الجديد، جمع حفنة من الجنود اتخذوا مواقعهم على باب مجلس العموم، ودخل هو أليه، وإلى جانبه اللواء توماس هاريسون، وأصغى لبعض الوقت إلى المناقشة في صمت رهيب. وعندما بدا اخذ الأصوات على موضوع البحث، نهض كرومول، وتحدث أول الأمر في اعتدال، وما لبث حتى تحدث في عنف، فنعى على البرلمان المبتور أن يكون أوليجاركية (أقلية حاكمة) تخلد نفسها بنفسها، لا تصلح لحكم إنجلترا. ثم صاح: " أيها السكارى" متجهاً إلى عضو بعينه، ثم صرخ في عضو آخر "أيها الداعر الفاجر" "أنتم لستم برلماناً. أقول أنكم لستم برلماناً, ولسوف أضع حداً لاجتماعاتكم". ثم التفت إلى هاريسون وأمره: "استدع الجنود، استدعهم إلى هنا". ودخل الجنود إلى القاعة. وأمرهم كرومول بإخلائها، وغادرها الأعضاء محتجين قائلين:
"ليس هذا من الأمانة في شيء". ووضعت الأقفال على القاعة الخالية، وفي اليوم التالي وجد معلقا عليها لافتة" بيت للإيجار، غير مؤثث الآن (26). ثم ذهب كرومول بصحبة اثنين من القواد إلى حيث يجتمع مجلس الدولة، وقال لأعضائه "إذا كنتم تجتمعون الآن بصفتكم الشخصية فلا بأس، ولا يزعجنكم أحد - أما إذا كنتم مجتمعين كمجلس للدولة، فلا مكان لكم هنا ... وأرجو أن تعلموا أن البرلمان قد حل (27) ". وهكذا كانت النهاية المخزية المزرية للبرلمان الطويل الذي كان قد اجتمع في وستمنستر، بكامل هيئته أو بشكله المبتور، منذ 1640، والذي كان قد حول دستور إنجلترا وحكومتها. ولم يعد هناك الآن دستور، بل جيش وملك غير ذي لقب أو ملك غير متوج.(32/17)
وكان الشعب بصفة عامة فرحاً بالتخلص من برلمان قد جر إنجلترا إلى حافة الهاوية. وعلى حد قول كرومول، لم يكن هناك "مجرد نباح كلب، ولا تذمر ظاهر لحله (28) ". وتقبل البيوريتانيون الغيورون المتحمسون حل البرلمان على انه إفساح الطريق "للملكية الخامسة " أي مجيء المسيح المنتظر وحكمه وتشجع الملكيون وتهامسوا بأن كرومول سوف يستدعى الآن شارل الثاني، ويقنع هو بدوقية أو بمنصب نائب الملك في إيرلندة. ولكن أوليفر لم يكن بالرجل الذي يرتضى أن يكون رهن مشيئته رجل آخر. فأصدر توجيهاته إلى معاونيه العسكريين أن يختاروا - بصفة أساسية من المجامع البيوريتانية في إنجلترا - 140 رجلا، من بينهم خمسة من إسكتلندة وستة من ايرلندة، ليجتمعوا على هيئة "برلمان معين ". ولما انعقد هذا البرلمان في هويتهول في 4 يوليه 1653 اعترف كرومول بأن الجيش هو الذي اختارهم، ولكنه رحب بهم باعتبار انهم يبدأون فترة يحكم فيها القديسون حكماً صحيحاً تحت رياسة يسوع المسيح (29)، واقترح أن يخولهم السلطة العليا، ويكل إليهم مهمة وضع دستور جديد - وظل هذا البرلمان طيلة خمسة اشهر يبذل أقصى الجهد في إنجاز هذه المهمة، ولكنه ضل الطريق في متاهات المناقشة، الطويلة. وانشق الأعضاء على أنفسهم، يأسا وعجزا، في موضوعات الدين والتسامح الديني. وأطلق ظرفاء لندن عليه اسم "برلمان باربيون"، نسبة إلى أحد أعضائه Barebone، وهو احد القديسين في "الملكية الخامسة" سالفة الذكر. وضاق الجيش ذرعا بهؤلاء الأعضاء، كما ضاق من قبل ذرعا بمن طردهم في أبريل. وعرض الضباط - وهم يمثلون دور أنطونيو - على كرومول أن ينصب نفسه ملكاً، وتردد قيصر واعترض في رفق، ولكن ثمانين من أعضاء البرلمان، بإيحاء محدد من الجيش، أعلنوا إلى كرومول في 12 ديسمبر أن الجمعية الجديدة لم تصل إلى اتفاق، وأنها تقترع على حلها. وعرضت " وثيقة حكومية " أعدها زعماء الجيش، على كرومول أن يكون "حامي(32/18)
جمهورية إنجلترا وإسكتلندة وإيرلندة"، وأن ينتخب برلمان جديد على أساس نصاب من الثروة يخول حق الاقتراع، مع استبعاد الملكيين والكاثوليك، وان تكون السلطة التنفيذية في يد مجلس من ثمانية من المدنيين وسبعة من ضباط الجيش، يختارون لمدى الحياة، على ان يعمل هذا المجلس بمثابة هيئة استشارية " لحامي حمى الجمهورية " وللبرلمان كليهما. ووافق كرومول ووقع هذه الوثيقة، وهي "أول وآخر دستور إنجليزي مسطور (30) "، وفي 16 ديسمبر 1653 أقسم اليمين بوصفه "حامي الحمى". وبذلك انتهت الجمهورية، وبدأت الحماية - اسمان لأوليفر كرومول.
هل كان كرومول طاغية مستبداً؟ من الواضح انه استساغ السيطرة والسلطان. ولكن تلك نزعة عامة، وهي أمر طبيعي إلى ابعد حد في الموهبة الواعية. لقد فكر من قبل في تنصيب نفسه ملكا، وتأسيس أسرة ملكية جديدة (31). ويبدو انه كان مخلصاً حين عرض أن ينزل عن سلطته "للبرلمان المعين". ولكن عجز هذا البرلمان أقنعه بأن سلطته التنفيذية هو نفسه هي آنذاك البديل الوحيد عن الفوضى فإذا تخلى هو، فقد كان يبدو انه ليس ثمة رجل آخر يحظى بتأييد كاف للمحافظة على النظام. واستنكر المتطرفون في الجيش هذه " الحماية " باعتبارها مجرد "ملكية أخرى". واتهموا كرومول بأنه "وغد منافق كذاب" وتوعدوه "بمصير أسوا من المصير الذي لقيه الطاغية السابق (32) ". وأرسل كرومول بعض هؤلاء المتمردين إلى السجن "برج لندن" ومن بينهم اللواء هاريسون الذي تولى قيادة الجنود عند طرد أعضاء البرلمان المبتور. أن خوف كرومول على سلامته هو نفسه أدى به شيئا فشيئا إلى المزيد من الاستبداد، لأنه أدرك أن نصف الأمة كان يمكن أن يهلل لقتله. انه أحس، مثل سائر الحكام، بالحاجة إلى إحاطة نفسه بمظاهر الفخامة والوقار التي تثير الرهبة في النفوس، فانتقل إلى قصر هويتهول (1654) وأعاد تأثيثه بأفخر(32/19)
الرياش، واتخذ لشخصه كل الجلال وكل العظمة الملكية (32). ولكن مما لا ريب فيه ان كثيرا من هذه المظاهر كان لابد أن يخلق انطباعاً قوياً في نفس السفراء، ويثير الفزع في نفوس الأهالي.
وفيما يتعلق كرومول الخاصة، فانه كان رجلا غير ميال إلى المظاهر والأبهة، يعيش عيشة طابعها البساطة والإخلاص مع أمه وزوجته وأولاده. وأحبته أمه حباً ممزوجاً بالخوف عليه، ترتعد فرقاً على حياته لكل طلقة نسمعها، وعند وفاتها في الثالثة والتسعين (1654) قالت: " ولدي العزيز أني أترك قلبي معك (34) ". انه هو نفسه، في أواسط الخمسينات من عمره، كان يدب أليه الهرم بسرعة، أن ما واجهه من أزمة تلو أزمة كان يهد من أعصابه التي قيل أنها حديدية. أن حملات إيرلندة وإسكتلندة زادت الحمى على داء النقرس، ولم يمر عليه يوم دون نصب او قلق ورسم له المصور إلى في 1650 لوحة مشهورة. وان كل إنسان ليعرف تحذير كرومول للمصور حيث قال له: " مستر للى، بودي أن تستغل كل ما أوتيت من مهارة في رسم صورة حقيقية مثل شخص تماما، ولا تتملقني على الإطلاق، بل يجب أن تبرز هذه الخشونة والبثور والنتوءات وكل شىء، والا، فلن أنقدك فلسا واحدا (35) ". وقبض للي أجره، ورسم "حامى الحمى" في صورة مصقولة إلى حد بعيد، ومع ذلك ابرز الوجه الصارم القوي، والإرادة الحديدية كما أبرز روحاً عصبية متوترة إلى حد الانفجار. ووجه النقد إلى كرومول من أجل البساطة الكئيبة في لباسه العادي - سترة وبذلة بسيطتان سوداوان -، ولكنه كان في المناسبات الرسمية يرتدي سترة موشاة بالذهب. انه بين الناس كان يحتفظ بوقار لا اثر فيه للتكلف أو التظاهر، ولكن في حياته الخاصة كان ينصرف إلى ألوان التسلية والدعاية والمزاح، بل إلى مزحات عملية وهزل ماجن طارئ (36).(32/20)
واحب الموسيقى وعزف على الأرغن عزفا جيداً (37). وأوضح أنه كان، حسب ما يبديه، مخلصا في ورعه وتقواه (38)، ولكنه كثيرا ما استخدم اسم الله
(لا عبثاً) لتدعيم أهدافه، إلى حد اتهمه معه الكثيرون بالنفاق. ويحتمل انه كان ثمة بعض الرياء في تقواه العلنية، وقليل منه في تقواه الخاصة، مما شهد به كل من عرفوه. وكانت رسائله وخطه نصف مواعظ، ولا نزاع في انه اعتبر، بكل طيب خاطر أن الله هو ساعده الأيمن ... ولم تكن أخلاقياته الخاصة تشوبها شائبة، على حين أن أخلاقياته العامة لم تكن تفضل أخلاقيات الحكام الاخرين، فاستخدم الخداع أو القوة حيثما رآهما ضروريين لأهدافه الكبرى. إن أحداً لم يوفق بعد بين المسيحية والحكم.
أن كرومول الناحية الفنية، لم يكن حاكما مطلقا. فانه تنفيذا لوثيقة الحكومة " التي أسلفنا ذكرها شكل " مجلس الدولة " وأنتخب برلماناً. "وعلى الرغم من كل مساعي حامي الحمى والجيش لضمان عودة النواب الذين تميزوا بالكياسة ولين العريكة، ضم مجلس العموم الذي اجتمع في 3 سبتمبر 1654 بعض الجمهوريين المزعجين، بل كذلك بعض الملكيين وثار النزاع حول من يسيطر على الجيش: حامي الحمى أو البرلمان. واقترح البرلمان إنقاص عدد الجنود وعطياتهم، فتمردوا وحرضوا كرومول على حله (22 يناير 1655). والواقع إن حكومة إنجلترا أصبحت دكتاتورية عسكرية منذ طهر برايد البرلمان في 1648.
وسيق كرومول آنذاك إلى الحكم طبق للأحكام العرفية وحدها دون سواها، وفي صيف 1655 قسم إنجلترا إلى خمسة أقسام عسكرية. ووضع على رأس كل منها هيئة من الجند يرأسها ضابط برتبة لواء وللوفاء بنفقات هذه التجهيزات فرض ضريبة قدرها 10% على ضياع الملكيين. واحتج الناس، وانتشر النقد والتمرد، وسمعت أصوات تنادي بعودة شارل الثاني. وأجاب كرومول على هذا كله بتشديد الرقابة والتوسع في أعمال التجسس(32/21)
والاعتقالات التعسفية وإجراءات قاعة النجم التي أغفلت المحلفين وقانونية الاعتقال. وكان "سير هاري فين Vane" من الثوريين السابقين الذين اقتيدوا إلى السجن. إن الثورات تأكل آباءها.
ولما كان كرومول في حاجة إلى مزيد من المال اكثر مما استطاع تحصيله عن طريق ما فرض من ضرائب أخرى مباشرة، فانه دعا برلماناً آخر. ولما التأم عقده في 17 سبتمبر 1656، وضع مجلس الدولة على باب مجلس العموم بعضاً من ضباط الجيش، ومنع دخول 103 من الأعضاء الذين انتخبوا انتخاباً صحيحاً، ولكن يشتبه في إن لهم ميولا جمهورية أو ملكية أو مشيخية أو كاثوليكية. فقدم الأعضاء المبعدون احتجاجا استنكروا فيه إبعادهم بأنه انتهاك صارخ لإرادة ناخبيهم التي عبروا عنها، ودمغوا بأشد النفاق "تصرف الطاغية واستخدامه اسم الله والدين والصوم والصلوات الشكلية ليستر قتام الحقيقة الواقعة ومرارتها (40) ". ومن بين الأعضاء البالغ عددهم 352 الذين اجتازوا تمحيص المجلس ودقته كان هناك 175 عضو أمن رجال الجيش أو من المعينين أو من أقرباء كرومول. وفي 31 مارس 1657 قدم البرلمان المختزل المنقوص الخاضع المذعن إلى "حامى الحمى" توسلا ونصيحة متواضعين يطلب إليه فيها أن يتخذ لنفسه لقب "ملك". ولكنه كان يشم رائحة المعارضة من جانب الجيش لهذا العمل، فأبى. ولكن ثمة حل وسط أعطاه الحق في تعيين خلفه "حامي الحمى" وفي يناير 1658 وافق إعادة الأعضاء المبعدين إلى مقاعدهم في مجلس العموم. وفي نفس الوقت اختار تسعة من النبلاء و61 من العامة ليشكلوا المجلس الثاني (مجلس اللوردات). ورفض كثير من ضباط الجيش تأييد هذه الحركة. وعندما عقدوا اتفاقا مع الجمهوريين في مجلس العموم للحد من سلطات المجلس الثاني، غضب كرومول غضباً شديداً واقتحم قصر وستمنستر وطرد البرلمان (في فبراير 1657). وآنذاك من الوجهة القانونية، ومن حيث الأمر الواقع، انتهت الجمهورية الإنجليزية وأعيدت الملكية. وكأن التاريخ(32/22)
بهذا قد ضرب مثلا جديدا للتعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره افلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية (41).
5 - ذروة البيوريتانية
لقد انطوى انتصار البيوريتانية على ثورة دينية. وتحطمت الكنيسة الإنجليزية في 1634 بالغاء الحكومة الأسقفية في الكنيسة، وصادر مذهب البروتستانتية المشيخية (البرسبتريان) حيث كان يحكم مجامع الكنيسة قساوسة يوجههم مجلس (سنودس) في كل قسم، وتخضع مجالس السنودس هذه للجمعية العمومية - نقول أن مذهب الكنيسة المشيخية هذا جعل المذهب الرسمي للدولة في 1646، ولكن سيطرة مذهب المشيخية انتهت بعد عامين اثنين، حين طهر " برايد " البرلمان من اتباع هذا المذهب. وبدا لبعض الوقت إن الديانة يجدر تركها حرة طليقة من أية رقابة أو إعانة مالية من جانب الدولة. ولكن كرومول (الذي حدث انه اتفق في كل شيء تقريبا مع الملك الذي كان قد أودى بحياته) آمن بأن كنيسة معانة من قبل الدولة أمر لا غنى عنه من اجل التربية والتعليم والأخلاق. وفي 1654 شكل "لجنة من الفاحصين" لتختبر صلاحية رجال الدين للتعيين في رتب كنيسية والحصول على رواتب. ولم يكن أهلاً لذلك سوى المستقلين (البيوريتانيين) وأنصار التعميد والبرسبتريانز. وأجيز لكل أبرشية أن تختار بين التنظيم المشيخي او نظام الكنيسة المستقلة - وفيه يحكم كل مجمع نفسه. واختار البيوريتانوين نظام الكنيسة المستقلة. أما التنظيم المشيخي الذي ساد في اسكتلندة، فقد اقتصر في إنجلترا إلى حد بعيد، على لندن ولنكشير. أما رجال الدين الأنجليكانيون. الذين بلغوا يوماً حداً كبيراً من القوة، فقد حرموا من رواتبهم، وباتوا يخدمون اتباعهم أي يقومون لهم بالمراسم في أماكن خفية، مثل الكهنة الكاثوليك. وفي 1657 اعتقل جون أفلين بسبب(32/23)
حضوره الصلوات الأنجليكانية (42). وكانت الكاثوليكية لا تزال خروجا على القانون. وأعدم قسيسان شنقاً (1650 - 1654) بتهمة "تضليل الشعب"، وفي 1657 أصدر برلمان البيوريتانيين، بموافقة كرومول، قانونا يقضي بمصادرة ثلثي ممتلكات أي فرد جاوز السادسة عشرة، لم يتنصل من الكاثوليكية ويبرأ منها (43). وفي 1650 كانت العقيدة الدينية قد أصبحت أساساً لوضع اجتماعي طبقي: فكان الفقراء يتحيزون للمذاهب المعارضة - أنصار العماد، الكويكرز، أصحاب فكرة الملكية الخامسة، وغيرها، أو الكاثوليك. أما الطبقات الوسطى فكانت البيوريتانية غالبة فيها. على حين أن الأرستقراطية ومعظم ذوي الحسب والنسب (ملاك الأرض الذين لا ألقاب لهم) كانوا يشايعون الكنيسة الأنجليكانية التي لم تعد الدولة تعترف بها.
وانعكس التعصب الديني رأساً على عقب، اكثر مما تناقص أو خفت حدته. ذلك انه بدلا من اضطهاد الأنجليكانيين للكاثوليك المنشقين والبيورينانيين الذين تعالت صيحاتهم من قبل طلبا للتسامح، باتوا الآن يضطهدون الكاثوليك والمنشقين والأنجليكانيين. وحرموا استعمال "كتاب الصلوات العامة" ولو سراً في المنازل. وقصر برلمان البيوريتانيين التسامح على أولئك البريطانيين الذين ارتضوا التثليث وإصلاح الديني والكتاب المقدس باعتباره كلمة الله، كما ارتضوا نبذ الأساقفة. أما اتباع سوسينوس أو التوحيديون فلم يشملهم التسامح بناء على ذلك. وفرضت عقوبات صارمة على أي نقد يوجه إلى العقيدة أو الطقوس الكلفنية (44). وكان كرومول اكثر تسامحا من برلماناته، فتغاضى عن بعض الصلوات الانجليكانية، ورخص لجماعة صغيرة من اليهود بالإقامة في لندن، بل وبناء معبد لهم، واتهمه اثنان من الوعاظ من أنصار عدم تجديد العماد بأنه "وحش سفر الرؤيا" (النبي الكذاب)، ولكنه احتمل هجومهما صابراً (45).(32/24)
واستخدم نفوذه في وقف اضطهاد الهيجونوت في فرنسا وأتباع والدونى بيد مونت. ولكنه عندما طالبه مازاران، في مقابل ذلك، بمزيد في التسامح مع الكاثوليك في إنجلترا، تذرع بعجزة عن الحد من حماسة البيوريتانيين (46).
ومن الجائز القول بأن الدين لعب دورا هاما وتغلغل في الحياة اليومية عند اليهود وحدهم، كما فعل عند البيوريتانيين. والحق أن البيوريتانية اتفقت مع اليهود في كل شيء تقريبا، فيما عدا ألوهية المسيح. وشجعت معرفة القراءة والكتابة حتى يقبل الجميع على قراءة الكتاب المقدس. وكان ثمة ولع شديد بالتوراة (العهد القديم) لأنه يقدم نموذجا لمجتمع تسيطر عليه الديانة. وكان الشغل الشاغل في الحياة هو الخلاص من نار جهنم. والشيطان موجود حقا وفي كل مكان. وبنعمة الله وحدها يمكن لفئة قليلة مختارة أن تفوز بالخلاص وتضمن كلام البيوريتانيين وأقوالهم عبارات من الكتاب المقدس ومجازاته. واشرق في عقولهم التفكير في الله وفي المسيح أو تجلياتهما لهم، وملأتهم خشية ورهبة ولكن لم يفكروا قط في السيدة مريم. واتسمت ملابسهم بالبساطة والكآبة، وخلت من أية زينة أو زخرف، كما اتسم كلامهم بالوقار والرزانة مع البطئ. وكان منتظر منهم أن ينأوا بأنفسهم عن اللهو والدنس واللذة الحسية. وكانت المسارح قد أغلقت في 1642 بسبب الحرب، فظلت مغلقة حتى 1656 بسبب شجب البيوريتانز واستنكارهم لها. وحرم سباق الخيل ومصارعة الديكة ومباريات المصارعة، ومطاردة الدببة أو الثيران، إلى حد ان الضباط (الكولونيل) البيوريتاني نيوسن قتل كل الدببة في لندن ليتأكد أنها لن تطارد بعد الآن (47). واقتلعت كل أعمدة مايو (كانت تزدان بالأشرطة والزهور وتقام في أول مايو). وكان الجمال شبهة، واحترموا النساء بوصفهن زوجات مخلصات وأمهات صالحات، وفيما عدا ذلك لم يتمتعن يحسن السمعة لدى البيويتانيين لأنهن مصدر غواية واغراء، وانهن سبب طرد الإنسان من الجنة. ونقروا من الموسيقى، ماعدا في التراتيل الدينية.(32/25)
وقضوا على الفن في الكنائس ولم يسمحوا بإخراج جديد منه، اللهم إلا بعض اللوحات الممتازة من عمل صمويل كوبر، وبيتر للى، وكان هولنديا.
وربما كانت محاولة البيوريتانز تقنين الأخلاق أجل عمل منذ شريعة موسى. واعترفوا بصلاحية الزواج المدني، وأبيح الطلاق، لكن الزنى كان جريمة عقوبتها الإعدام. على إنه بعد تنفيذ حكم الإعدام مرتين عقاباً على هذه الجريمة، لم يكن المحلفون يحكمون بالإدانة. وكانت عقوبة الأيمان تتدرج وفقا للسلم الاجتماعي، فكان اليمين يكلف الدوق ضعف ما يكلف البارون، وثلاثة امثال ما يكلف الذي لا يحمل لقبا، وعشرة امثال ما يدفع الرجل العادي، بصفة غرامة، ودفع رجل واحد الغرامة لأنه قال: "الله شهيد علي (48) ". وكان الأربعاء يوم صوم إجباري عن اللحم حتى ولو وقع فيه عيد الميلاد المجيد. وكان من حق الجنود اقتحام البيوت للتأكد من صوم الأهالي. ولم يكن مسموحا بفتح الحوانيت يوم الاحد، كذلك كانت الألعاب والرياضة والأعمال الدنيوية محظورة فيه. ولم يسمح فيه بأية رحلة أو سفر يمكن اجتنابه، كما كان محظورا "التسكع أو المشي الدنس لا هدف (49) ". وعلى الرغم من عودة الملكية وما صحبها من انتكاس في الأخلاق، ظل يوم الأحد قاسيا متزمتا حتى أيامنا هذه.
ان كثيرا من هذه المحرمات القانونية أو الاجتماعية أثبت أنه أقسى مما تحتمل الطبيعة البشرية، وقيل أن نسبة كبيرة من السكان لجأت إلى النفاق، فكانوا يفترقون الآثام كما هي العادة، ويجرون وراء المال والنساء والسلطة، ولكن دائما تعروهم الكآبة ويخرجون أصواتا من أنوفهم وتنساب من أفواههم العبارات الدينية. ومع ذلك يبدو أن عددا كبيرا من البيوريتانيين التزموا بإنجليهم في إخلاص وشجاعة. ولسوف نرى ألفين من الوعاظ البيوريتانيين بعد عودة الملكية يؤثرون العوز والفاقة على التخلي على مبادئهم. إن نظام البيوريتانية ضيق العقل ولكنه قوى الإرادة(32/26)
والخلق. أنه ساعد الأنجليز على حكم أنفسهم. وإذا كان الفزع من نار جهنم والطقوس البيوريتانية قد أشاعت في البيت الكآبة والظلمة. فان حياة الأسرة عند عامة الناس قد أسبغ عليها نظام ونقاوة بقيتا بعد الانحلال الذي تميزت به صفوة المجتمع في عهد شارل الثاني.
وجملة القول أن النظام البيوريتاني ربما أحدث إصلاحا خلقيا جددته ودعمته حركة المنهجية في القرن الثامن عشر (الميثودية حركة إصلاح ديني قادها تشارلز وجون ويزلي في أكسفورد 1792 لإحياء كنيسة إنجلترا) - وإليه يرجع أكبر الفضل في الأخلاقيات العالية نسبيا التي تتميز بها الأمة البريطانية اليوم.
6 - الكويكرز
تألقت في الكريكرز كل فضائل البيوريتانيين، وهم فرع منهم، ولو أخفاها لبعض الوقت الخيال الجامح والتعصب الأعمى. وكانت خشية الله والخوف من الشيطان قويين جدا فبهم إلى حد يصيب أجسامهم برعدة. وقال واحد منهم هو روبرت باركلي 1679.
أن قوة الله سوف تقتحم الاجتماع الشامل، ومن ثم سوف يكون هناك جهد باطني، حين يحاول كل فرد أن يقهر قوى الشر في النفوس، إلى حد أنه بأعمال هاتين القوتين المتعارضتين، وكأنهما تياران متضادان، بجهد الإنسان وكأنه في يوم المعركة، ومن هذا يكون اهتزاز الجسم وحركته في معظم الناس إن لم يكن كلهم وهي هزات وحركات، تنتهي بعد أن تسود قوة الحق، من الوخزات والأنات، بصوت رخيم من الشكر والحمد. ومن هنا أطلق اسم الكويكرز، أي المهتزين علينا، وكان هذا من باب اللوم والتأنيب والسخرية في بداية الأمر (50).
وتفسير مؤسس الطائفة جورج فوكس يختلف اختلافاً يسيراً عن هذا(32/27)
إن القاضي بنت دن دربي هو أول من أطلق علينا هذا الاسم، لأننا كنا نأمرهم بالاهتزاز عند ذكر كلمة الله. وهذا كان في 1650 (51) أما الاسم الذي أطلقوه هم أنفسهم على طائفتهم فكان "أنصار الحق". وبعد ذلك أكثر تواضعا، فقالوا "مجتمع الأصحاب".
وواضح أنهم كانوا في بداية الأمر بيوريتانيين، مع اقتناع شديد بصفة خاصة بأن ترددهم بين الفضيلة والخطيئة لم يكن إلا صراعا، في عقولهم وأجسامهم، بين قوتين روحيتين، قوة الخير وقوة الشر، تحاول كل منهما أن تسيطر عليهم هنا، وإلى مالا نهاية. إنهم تقبلوا المبادئ الأساسية عند البيوريتانيين: نزول الأسفار المقدسة عن طريق الوحي الالهي، خطيئة آدم وحواء، كون الإنسان خطاء بطبيعته، موت المسيح بن الله لتخليص البشر، إمكان نزول الروح القدس من السماء لتنوير نفس الإنسان وتشريفها. أن إدراك هذا "النور الباطن"، والإحساس به والترحيب بإرشاده وتوجهيه، كان جوهر الدين عند الكويكرز. وإذا نهج الإنسان سنن ذاك "النور" لم تعد به حاجة إلى واعظ أو كنيسة. فان إذا "النور" أسمى من العقل البشري، بل من الكتاب المقدس نفسه، لأنه صوت مباشر من عند الله إلى النفس.
لم يتلق جورج فوكس من التعليم إلا أيسره ولكن "مذكراته" التي دبجها من الآثار الأدبية في الانجليزية، التي تكشف عن القوة الأدبية في الكلام غير الأدبي، إذا كان بسيطا جادا مخلصا وكان جورج ابن أحد النساجين، والتحق للعمل بمصنع أحذية، ثم ترك سيده وأقرباؤه، "بأمر من الله" وبدأ في سن الثالثة والعشرين (1647)، الوعظ المتجول الذي لم يتوقف إلا بوفاته (1691). وفي سنيه الأولى حيرته وأقضت مضجعه المغربات فراح يلتمس النصح والمشورة لدى رجال الدين، فأشار عليه أحدهم بالدواء وفصد الدم، وأوصاه آخر بالتدخين وتلاوة الترانيم(32/28)
الدينية (52). وفقد جورج ثقته بالقساوسة، ولكنه وجد السلوى والعزاء حيثما فتح الكتاب المقدس.
غالبا ما حملت الكتاب المقدس وقصدت لآخذ مكاني في إحدى الأشجار المجوفة في مكان منعزل حتى يرخى الليل سدوله، وكثيراً ما سرت في الليل محزونا وحدي، لأني كنت رجلا مثقلاً بالأحزان في أيام أعمال الله الأولى في نفسي .. ثم وجهني الله إلى الطريق، ويسر لي إدراك حبه، وهو حب خالد لا نهاية له، يفوق كل معرفة تتيسر للناس في حالتهم الطبيعية أو يمكنهم الحصول عليها من صفحات من التاريخ أو من بطون الكتب (53).
وسرعان ما أحس بأن الحب الإلهي قد اختاره ليبشر الجميع بالنور الباطن ويعظهم. وفي اجتماع الأنصار العماد في لبسترشير "حل الله عقدة لساني فأعلنت لهم جميعا الحقيقة الخالدة، وظللتهم جميعا قوة الله (54) "وذاع عنه أنه يتمتع "بروح بصيرة"، ومن ثم جاء الناس أفواجا ليستمعوا إليه. "حلت قوة الله وكان لها إيحاءات وإلهامات وتنبؤات عظيمة (55) ". بينما كنت أسير في الحقول قال لي الله: اسمك مكتوب في سجل الحياة لدى المسيح، الذي وجد قبل خلق العالم (56). أي أن جورج قر الآن عينا بما وقر في نفسه من أنه بين القلة التي اختارها الله قبل الخليقة، لتتلقى نعمته ورحمته وبركته الأبدية. وأحس آنذاك أنه مساو لأي إنسان. ومنعه زهوه بهذا الاصطفاء الإلهي من "أن أخلع قبعتي لأي من كان: حقيراً أو أميراً، وأنتم في حاجة إلى، أيها الرجال والنساء، دون اعتبار لغني أو فقير، وعظيم أو حقير (57) ".
وإذا اقتنع بأن الدين الحق لا يوجد في الكنائس بل في القلب المستنيرة، فإنه دلف إلى كنيسة في نوتنجهام وقاطع الموعظة صائحا بأن الاختبار الحق ليس في الأشعار المقدسة بل في "النور الباطن". وقبض عليه في(32/29)
1649، ولكن عمدة البلدة أطلق سراحه، وصارت زوجة هذه العمدة من أول المعتنقين. وأستأنف فوكس جولاته التبشيرية ودخل كنيسة أخرى وهناك كما قال "دفعت لأعلن الحق للكاهن والناس، ولكنهم انهالوا علي "في غضب شديد وطرحوني على الأرض. وضربوني ضربا مبرحاً وآذوني إيذاء شديدا بأيدهم وكتبهم المقدسة وعصيهم" فاعتقل مرة ثانية، وأخلى الحاكم سبيله، ولكن الأهالي قذفوه بالحجارة إلى الخارج البلدة (58). وفي دربي تحدث مهاجما الكنائس والأسرار المقدسة على أنها تقرب لإغناء فيه إلى الله. فحكم عليه بالإقامة في الإصلاحية لمدة ستة شهور (1650)، وعرضوا عليه إخلاء سبيله شريطة الالتحاق بخدمة الجيش، فكان جوابه مهاجمة فكرة الحرب. عند ذلك أودعه سجانوه معتقلا قذرا كريه الرائحة غائرا في الأرض، ليس فيه فراش، مع ثلاثين من المجرمين، "حيت قضيت قرابة نصف عام (59). ومن سجنه كتب إلى القضاة وبالحكام معترضا على عقوبة الإعدام. وربما ساعدت شفاعته على إنقاذ امرأة شابة محكوم عليها بالإعدام بتهمة السرقة من حبل المشنقة.
وبعد عام قضاه في السجن استأنف التجوال لنشر تعاليمه. وفي ويكفيلد حول جيمس نايلر، وفي بفرلي دخل كنيسة، وجلس منصتا حتى انتهت الموعظة ثم سأل الواعظ: هل لم يشعر بالخجل "حين يتقاضى ثلاثمائة جنيه سنويا ليبشر بالأسفار المقدسة (60)؟ "وفي بلدة أخرى دعاء القسيس لإلقاء عظة في الكنيسة فأبى، ولكنه تحدث في فنائها إلى جمع من الناس.
أعلنت إلى الناس أني لم أحضر لأعترض سبيل معابدهم الوثنية ولا قساوستهم، ولا عشورهم ... ولا احتفالاتهم وتقاليدهم اليهودية الوثنية لأني أنكرت هذا كله. وقلت لهم أن هذا المكان ليس أكثر قدسية من أي مكان آخر .. لذلك نصحت الناس أن ينبذوا كل هذه(32/30)
الأشياء، وأرشدهم إلى روح الله ونعمته فيهم أنفسهم، وإلى نور المسيح في قلوبهم (61).
وفي سوورثمور في يوركشير حول إلى مذهبه مرجريت فل، ثم زوجها القاضي توماس فل، وأصبحت دارهما، قاعة سوورثمور، أول مركز أساسي لاجتماع الكويكرز، وهو إلى يومنا هذا مزار يحج إليه الأصحاب.
وليس علينا أن نتبع قصة فوكس إلى أبعد من هذا. وكانت أساليبه فجة غير ناضجة ولكنه عوض بما تذرع به من صبر وجلد في ملاقاة سلسلة الإعتقالات والصدمات العنيفة، وهاجمه البيوريتانيون والمشيخيون والأنجليكانيون، لأنه نبذ الأسرار المقدسة والكنائس والقساوسة. وأرسل الحكام الكويكرز إلى السجون، لا لأنهم انتهكوا حرمة العبادات العامة وأغروا الجنود بالكف عن الاشتراك في الحرب، فحسب، بل كذلك لأنهم رفضوا تأدية يمين الولاء للحكومة. واحتج الكويكرز بأن اليمين أيا كانت عمل غير أخلاقي، ويكفي القول (بنعم) أو (لا). وتعاطف كرومول مع الكويكرز، واجتمع مع فوكس في لقاء ودي (1654) وقال له عند انصرافه: "تعال إلي ثانية أننا، أنت وأنا، لو اجتمعنا ساعة من نهار، لاقترب الواحد منا من الآخر" (62). في 1657 أصدر (حامي الحمى) توجيهاته بالإفراج عن المسجونين من الكويكرز، كما أصدر تعليماته إلى القضاة بأن يعاملوا هؤلاء الوعاظ الذين لا كنائس لهم على انهم (أشخاص واقعون تحت تأثير وهم شديد) (63). إن أسوأ اضطهاد وأشده هو ما أصاب شيعه جيمس تايلر الذي بلغ به الأيمان بنظرية النور الباطن، حد الاعتقاد أو الادعاء بأنه هو المسيح مجسدا من جديد، وأنبه فوكس على هذا ولكن بعض أتباعه المخلصين الغيورين عبدوهن وأكدت إحدى النسوة أنه أعادها إلى الحياة بعد أن ظلت يومين في عداد الموتى: وعندما ركب تايلر إلى بريستول، ألقت(32/31)
النسوة بأوشحتهن أمام جواده وأنشدن: "مقدس، مقدس، مقدس رب القربان المقدس" وقبض عليه بتهمة التجديف. ولما سألوه عن دعاواه أو الدعاوى التي نسبوها إليه، لم يكن جوابه سوى جواب المسيح "أنت قلت" وعرض البرلمان إذ ذاك، وكان البيوريتانيون يسيطرون عليه لقضية تايلر (1656) وظل أحد عشر ويما يناقش موضوع إعدامه. وسقط القرار بأغلبية 96 ضد 82 صوتا. ولكن سادت روح تنادي بحل وسط إنساني فحكم عليه يقف ساعتين كاملتين وعنقه في آلة التعذيب (المشهرة)، ويجلد 130 جلدة، وتدمغ جبهته بالحرف الأول من لفظة مجدف ( B في الإنجليزية)، وأن يثقب لسانه بقضيب من الحديد المحمي، واحتمل هذه الفظائع بشجاعة. وحياه أتباعه على أنه شهيد، وقبلوا جراحه وامتصوها واحتجزوه وحيدا في معتقل لا قلم ولا ورق ولا تدفئة ولا ضوء فيه وانهارت روحه المعنوي يوما بعد يوم، فاعترف بأنه غرر به، فأفرج عنه في 1659، وقضى نحبه فقيرا معدما في 1660 (64).
ولقد تميز الكويكرز بما بدا لبعض معاصريهم بأنه أشياء غريبة تثير المتاعب. إنهم لم يجيزوا أي أثر للزخرف والتبرج في ملابسهم. وأبوا أن يخلعوا قبعاتهم لأي إنسان مهما كانت مكانته، حتى في الكنيسة أو القصر أو المحكمة. ولم يخاطبوا أي فرد بغير ضمير المفرد (أنت) بدلا من ضمير الجمع (أنتم) الذي يوحي أصلا بالتشريف والتكريم. ونبذوا الأسماء الوثنية لأيام الأسبوع وشهور السنة، فكانوا يقولون على سبيل المثال: "اليوم الأول من الشهر السادس" وأقاموا الصلوات في العراء أو بين الجدران بنفس السهولة واليسر وطيب النفس، وكان كل فرد من المصلين يدعى ليخبر بما أوحي به إليه الروح القدس أن يقول، ثم يروج الجميع بعد ذلك في صمت رهيب يكلله الجلال والوقار، وكأنما هذا الصمت عقار مهدئ مسكن بعد نوبة الحماس والغيرة - وهو صمت يعني في أساسه عندهم "إحساس بروح خيرة في أعماقهم". ورخص للنساء في الصلاة(32/32)
الزوجية فوق أي لوم أو أية شائبة. وحد تكاثرهم ما تواضعوا عليه من الزواج بعضهم من بعض، وعلى الرغم من ذلك بلغ عدد الكويكرز في 1660 في إنجلترا ستين ألف "صاحب" إن ما اشتهروا من أمانة وكياسة وجد وبعد عن الإسراف، ارتفع بهم من المراتب الوضيعة التي ظهروا فيها أول ما ظهروا إلى القبعات الوسطى التي ينتسب معظمهم الآن إليها.
7 - الموت والضرائب
أن الطبقات الوسطى هي التي تمتعت بأعظم الازدهار، في عهد كرومول وفوق كل شيء انصرف التجار إلى التجارة الخارجية، وضم البرلمان آنذاك أفراد يمثلون المصالح الاقتصادية أو يمتلكونها. ومن أجلهم قضى قانون الملاحة الصادر في 1651 بنقل الواردات من المستعمرات إلى بريطانيا على مراكب إنجليزية - ومن الواضح أن هذا إجراء إلى الهولنديين وراودت كرومول في بعض الأحيان فكرة التحالف مع المقاطعات المتحدة ابتغاء حماية البروتستانتية وتعزيزها، ولكن تجار لندن آثروا الربح على التقوى والورع. وسرعان ما وجد كرومول نفسه (1652) متورطا في الحرب الهولندية الأولى. وكانت النتائج مشجعة كما رأينا.
واستعرت حمى الإمبريالية بنمو البحرية. وأوحت ذكرى هو كنز ودريك إلى التجار وإلى كرومول نفسه بإمكان كسر شوكة الأسبان وسيطرتهم في الأمريكتين، واستيلاء إنجلترا على تجارة الرقيق الرابحة وتوجيه المعادن النفيسة من الدنيا الجديدة إلى لندن، وفوق ذلك كله، كما أوضح كرومول، فان غزو جزر الهند الغربية يمكن المبشرين والوعاظ الإنجليز من تحويل هذه الجزر من الكاثوليكية إلى البروتستانتية (65).(32/33)
وفي 5 أغسطس 1654 بعث كرومول إلى فيليب الرابع ملك أسبانيا بتوكيدات الصداقة بينهما. وفي 6 أكتوبر أرسل إلى البحر المتوسط أسطولا بقيادة بليك. وفي ديسمبر أتبعه بأسطول آخر تحت إمرة وليم بن (والد أحد أعضاء الكويكرز) وروبرت فينابل، للاستيلاء على جزيرة خسبانيولا (إحدى جزر الهند الغربية) من أسبانيا وأخفقت هذه المحاولة الأخيرة، ولكن بن استولى على جمايكا لإنجلترا (1655).
وفي 30 نوفمبر 1655 وقع كرومول ومازاران "وكلاهما يخضع الدين للسياسة" تحالفاً إنجليزياً فرنسياً ضد أسبانيا. إن الحرب التي كانت أسبانيا قد استمرت تشنها على فرنسا بعد معاهدة وستغاليا 1648 كانت قد شغلت هاتين الدولتين أيما شغل عن التدخل في شأن كرومول واستيلائه على مقاليد الحكم في إنجلترا، أما الآن فإنها هيأت لسياسته الخارجية نجاحا رائعا، وإن كان عابرا. وتربص بليك لوقت غير قصير، لأسطول الفضة القادم من أمريكا، حتى عثر عليه في ميناء سانتا كروز في جزر كاناري، ودمره عن آخره (20 أبريل 1657). وأخذ الجنود الإنجليز زمام المبادرة في هزيمة الجيش الأسباني في معركته تلال الدونز (بالقرب من دنكرك) في 4 يونيه 1658. ولما انتهت الحرب بصلح البرانس (1659) تخلت فرنسا عن دنكرك لإنجلترا، وبدا كرومول وكأنه عوض عن فقدان ماري تيودور لثغر كالية قبل ذلك بقرن من الزمان. أنه فكر في أن يقضي على اسم الإنجليز من العظمة ما كان للرومان من قبل، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفه، فقد أصبح لإنجلترا السيادة على البحار، ومن ثم كانت المسألة مسألة وقت حتى تسيطر على أمريكا الشمالية، وتمد حكمها وسلطانها في آسيا. ونظرت أوربا كلها بعين الفزع الى البيوريتاني الذي كان يسبح الله ولكنه ابتنى بحرية، وألقى المواعظ ولكنه كسب معركة، والذي أسس الإمبراطورية البريطانية بالقوة العسكرية وهو يردد اسم المسيح. أن الرؤوس التي تعلوها(32/34)
التيجان، والتي حسبته محدث نعمة دعيا مغرورا، بدأت الآن تخطب وده وتلتمس التحالف معه دون أن تعير اللاهوت اهتماما.
ولكن جون ثورلو سكرتير مجلس الدولة أنذر كرومول بأنه كان من الخطأ أن يساعد فرنسا ضد أسبانيا، لأن فرنسا آخذة في الصعود على حين أن أسبانيا كانت آيلة للاضمحلال، وأن سياسة إنجلترا في تدعيم توازن القوى في القارة، إن لم تتطلب مساعدة أسبانيا، تقتضي يقينا عدم مساعدة فرنسا. والآن 1659 كان لفرنسا السيادة في البر، وكان الطريق أمامها مفتوحا للتوسع في الأراضي الوطيئة وفرانش كونتية واللورين. وكم من رجل إنجليزي كان يجود بحياته لوقف أطماع لويس الرابع عشر العدوانية.
وفي نفس الوقت ازدهرت أحوال أمراء التجارة بسبب الحروب، وأعيد في 1657 تنظيم شركة الهند الشرقية بوصفها مشروعا برأس مال مشترك، "وأقرضت" كرومول ستين ألف جنيه، حتى تتجنب تدقيق الحكومة في فحص شئونها (66). وكانت هذه الشركة الآن من أقوى العوامل في اقتصاد إنجلترا وفي سياستها. وواجهت الحكومات نفقات الحرب برفع الضرائب إلى حد لم تبلغه في عهد شارل الأول وشارل الثاني. وباعت معظم أراضي التاج وأراضي الكنيسة الإنجليكانية، وضياع كثير من الملكيين، ونصف أراضي إيرلندة، وبرغم ذلك كله بلغ متوسط العجز السنوي 450 ألف جنيه بعد 1654. ولم ينتفع المواطن العادي إلا قليلا. وطرحت جانبا كل الأهداف التي ناضلت من أجلها الثورة الكبرى فيما بين 1642 - 1649. ولم يقل فظاعة عن ذي قبل فرض الضرائب دون موافقة البرلمان، والاعتقال غير القانوني، والمحاكمة دون محلفين، وبات حكم الجيش وحكم القوة دون تستر أشد إزعاجا وظلما عن ذي قبل، مذ أضفوا عليه مسحة من الدين. وأضحى حكم كرومول بغيضا ليس له مثيل، لا من قبل، ولا من بعد (67).(32/35)
وكانت إنجلترا ترقب موت حامي الحمى بصبر نافذ. وكم من مؤامرة دبرت لاغتياله، وكان عليه دوما أن يأخذ حذره، وزاد الآن عدد حرسه إلى 160 رجلاً، واستخدم ضابط متطرف سابق (برتبة مقدم) يدعى سكسبي Sexby، أحد السفاحين لقتله. وكشفت المؤامرة (يناير 1657) واعتقل السفاح ومات في السجن. وفي شهر مايو نشر سكسبي كتيبا بعنوان "قتل ليس بقتل"، كان دعوة صريحة للإطاحة برأس كرومول، وعثر على سكسبي ومات هو أيضا في السجن، ودبرت المؤامرات في الجيش وفي دوائر الملكيين، حيث ازداد أملهم بشكل جنوني في عودة أسرة ستيوارت إلى الحكم. واعتنقت ابنة كرومول الكبرى، زوجة اللواء المتطرف شارل فليتوود المبادئ الجمهورية، ونعت على والدها دكتاتوريته (68).
وحطمت الهموم والمخاوف وفقدان الأهل والولد روح الرجل الحديدي. إنه مثل كثير ممن بلغوا ذروة السيطرة والسلطان، استشعر الأسف أحيانا لأنه تخلى عن حياة الدعة والهدوء في أيامه الأولى يوم كان من مالكي الأرض في الريف. "إني أقول، وأشهد الله على ما أقول" لو أني عشت في ظل تعريشة ورعيت قطيعا من الغنم، لكان خيرا من أن أتولى حكومة مثل هذه (69) " وفي أغسطس 1658 ماتت إليزابث أحب بناته إليه، بعد مرض طويل أليم، وبعد تشييع جنازتها بفترة وجيزة لزم كرومول فراشه وقد انتابه حمى متقطعة، وربما أفاد الكينين في شفائه، ولكن طبيبه أبى أن يستخدمه لأنه علاج حديث أتى به الجزويت الوثنيون إلى أوربا (70). وبدا أن كرومول أبل من مرضه، وتحدث في جرأة وشجاعة إلى زوجته قائلا: "لا تظني أني سأفارق الحياة، أني واثق من عكس هذا (71) ". وطلب إليه أن يعين من يخلفه فأجاب "ريتشارد" أي ابنه الأكبر. وفي الثاني من سبتمبر أصيب بنكسة، وأحس باقتراب(32/36)
منيته. ودعا الله أن يغفر له خطاياه ويحفظ البيوريتانيين. وبعد ظهر اليوم التالي فارق الحياة. وكتب السكرتير ثورلو: "لقد صعد إلى السماء مضمخاً بدموع شعبه، على أجنحة صلوات القديسين ودعواتهم (72) " ولما وصلت أنباء موت كرومول إلى أمستردام "أضيئت المدينة أيما إضاءة، وكأنما طلقت من عقالها، ومضى الأطفال في القنوات هاتفين متهللين فرحا لموت الشيطان (73).
8 - طريق العودة
1658 - 1660
لم يمتلك الشيطان نفس ريتشارد بن كرومول. كما أنه لم يكن لديه من الصلابة والإرادة الحديدية ما يمكن أن يقيد به إنجلترا في الأغلال التي صنعتها القوة والتقوى. وكان ريتشارد يشارك أخته، رقة العقل مما جعلها ينظر أن في فزع خفي إلى سياسة الخدم والحديد التي انتهجها والدهما. لقد جثا ريتشارد من قبل على ركبتيه أمام أبيه، ضارعاً إليه أن يبقى على حياة شارل الأول. وطيلة عهد الجمهورية والحماية، عاش في هدوء وسلام في الريف على الضيعة التي حصل عليها بالزواج ولم يسكن به من طموح في أن يصبح في 4 سبتمبر 1658، بناء على وصية والده، "حامي الحمى" إنجلترا ووصفته لوسي هتشنسون بأنه "وديع مهذب فاضل، ولكنه فلاح بطبيعته، ولم تكن تليق له العظمة (74) ".
وأفلتت الآن، في جرأة أكثر، كل العناصر التي كان أوليفر قد كبح جماحها، عندما أدركت وهن نسيج ريتشارد. من ذلك أن الجيش الذي كره فيه خلفيته المدنية، والذي رغب في أن يحتفظ بالسلطة التي كانت على عهد والده عسكرية بشكل صريح، نقول إن هذا الجيش ألتمس منه أن يتخلى عن إدارة الجيش إلى فليتوود، فأبى، ولكنه هدأ من روع زوج أخته(32/37)
بتعيينه قائدا. ولما كانت الخزانة خاوية مثقلة بالديون، فإنه دعا برلمانا اجتمع في 27 يناير 1959، وراجت الشائعات بأنه يدبر عودة أسرة ستيورات إلى العرش. فجاء ضباط الجيش تتبعهم زمر من الجنود إلى ريتشارد وطلبوا إليه فض البرلمان، فأرسل إلى حرسه ليتولوا حمايته فتجاهلوا أوامره. واستسلم ريتشارد للقوة ووقع أمرا بحل البرلمان (22 أبريل)، وأصبح الآن تحت رحمة الجيش. ودعا الجمهوريون المتحمسون في الجيش يتزعمهم اللواء جون لمبرت، أعضاء البرلمان الطويل الباقين على قيد الحياة للاجتماع من جديد، وممارسة السلطة التي كانت لهم، كما كانت للبرلمان المبتور، حتى مجيء كرومول، وطرده إياهم بمعونة الجمهوريين المتحمسين في الجيش 1653. والتأم عقد هذا البرلمان المبتور الجديد في وستمنستر في مايو 1659. ولكن ريتشارد الذي لقي من السياسة نصيباً، أرسل استقالته إلى هذا البرلمان في 25 مايو. واعتزل الحياة العامة، وفي 1660 آوى إلى فرنسا حيث عاش في عزلة تحت اسم مستعار هو جون كلارك. وعاد إلى إنجلترا في 1680، حيث وافته منيته في 1712 وهو في السادسة والثمانين من العمر.
وكتب أحد الملكيين في 3 يونية 1659 يقول: "أن الفوضى كانت تعتبر كمالا، إذا قيست إلى نظامنا الراهن وحكومتنا الحاضرة (75) واستمر الصراع على السلطة بين الجيش والبرلمان، ولكن قطاعاته المقيمة في إسكتلندة وإيرلندة أيدت البرلمان. وكان ثمة حزب ملكي قوى في البرلمان الذي كانت غالبيته من الجمهوريين. وفي 13 أكتوبر حشد لمبرت جنوده عند مدخل قصر وستمنستر وطرد البرلمان، وأعلن أن الجيش سيتولى مقاليد الحكومة. وبدأ أن تعاقب الأحداث التي بدأت بحركة برايد في التطهير، سوف تتكرر مع كرومول آخر هو لمبرت.
وفال ملتون عن "انقلاب" لمبرت "أنه عمل أبعد ما يكون عن(32/38)
الشرعية، ومن أشد الأعمال خزيا وعارا .. إني لأخشى أن أكون واحدا في مجتمع همجي متبربر ... وإلا فكيف يجرؤ جيش مأجور أن يخضع لسلطانه هو السلطة العليا التي أقامته، على هذا النحو (76) "ولكن الشاعر كان عاجزا لا حول له ولا قوة. أن القوة الوحيدة في بريطانيا، التي كان في مقدورها أن تقف في وجه الدكتاتورية العسكرية هي جيش آخر، أو العشرة آلاف جندي الذي خصصهم البرلمان من قبل للجنرال جورج مونك لإقرار سيادته في إسكتلندة. ولسنا ندري إذا كانت ثمة أطماع شخصية خفية وراء اعتزام مونك تحدى الجيش في لندن ومقاومة اغتصابه السلطة. فأعلن مونك: "أن الضمير والشرف يقضيان على بأن أحرر إنجلترا من حكومة السيف التي كبلتها في أغلال العبودية التي لا تحتمل". وأثار بيانه الحماسة والحمية في عناصر مختلفة معارضة للحكم العسكري. ورفض الأهالي دفع الضرائب وأعلن الجيش في أيرلندة والأسطول وصبيان الحرفيين، انضمامهم إلى البرلمان. ورفض صرافو لندن أن يدفعوا للقادة المغتصبين القروض التي اعتمدوا عليها في دفع الرواتب للجند. وأحست الآن طبقات التجار والصناع الذين كانوا قد أقروا من قبل خلع شارل الأول، أن الفوضى التي تنتشر ويتفاقم خطرها، تهدد الحياة الاقتصادية في إنجلترا، وبدءوا يعجبون ويتساءلون: هل من المستطاع استعادة الاستقرار السياسي أو الاقتصادي دون ملك، تهدئ شرعية مركزة من روع الناس، وتوفر الضرائب وتسكن العاصفة؟ وفي 5 ديسمبر قاد مونك قواته إلى إنجلترا. وأرسل قادة الجيش قوات لاعتراض طريقه، ولكنها رفضت القتال ضد مونك، وسلم الضباط المغتصبون بالهزيمة وأعادوا البرلمان، واستسلموا له، وصاروا تحت رحمته (14 ديسمبر).
وكان عدد أعضاء البرلمان المنتصر 36 عضوا، ولا يزال يميل إلى النظام الجمهوري. وكان من أول القرارات التي اتخذها، قرار يتطلب من الأعضاء(32/39)
الحاضرين وممن ينضمون إليهم في المستقبل، أن يتعهدوا بالتخلي عن أسرة ستيورات. كما رفض هذا البرلمان عودة المشيخيين الذين بقوا على قيد الحياة من أعضاء البرلمان المبتور السابق، على أساس أنهم يحبذون عودة شارل الثاني. وازدرى الناس هذا البرلمان على أنه مجرد أحياء لبركان مبتور لا يمثل إنجلترا، وعبروا من مشاعر الاحتقار "بشواء ردف البقرة" على هيئة تمثال يلقى به في النيران الكثيرة المشتعلة في الهواء الطلق، حتى بلغ عدد هذه الحرائق 31 في شارع واحد في لندن. وأما الجنرال مونك الذي كان جيشه قد وصل إلى لندن في 3 فبراير 1660 فقد أنذر البرلمان القائم بأنه إذا لم يدع إلى انتخابات جديدة موسعة، ويحل نفسه في موعد غايته 6 مايو، فإنه - أي مونك - لن يتولى حمايته بعد ذلك. كما أشار على البرلمان بإعادة الأعضاء المشيخين الذين سبق إبعادهم، ففعل. وأعاد مجلس العموم الموسع (ازداد عدد أعضائه) إقرار مذهب المشيخية (البرسبتريانز) في إنجلترا، وأصدر الدعوة إلى انتخابات جديدة، وأعلن حل نفسه. وعند ذلك كانت النهاية الرسمية الشرعية للبرلمان الطويل (16 مارس 1660).
وفي اليوم نفسه محا أحد العمال؛ أو لطخ بالطلاء، عبارات "أخرج أيها الطاغية، هذا آخر ملك، التي كانت الجمهورية قد علقتها في "بورصة لندن". ثم ألقى العامل بقبعته وهتف "فليبارك الله الملك شارل الثاني" وعندئذ، كما يروى، "انضم كل من كان في المكان يهتفون بأصوات مدوية (78). وفي اليوم التالي التقى مونك سراً برسول شارل، سيرجون جرينفل، الذي أسرع في الذهاب إلى بروكسل يحمل رسالة مونك إلى الملك غير ذي العرش.(32/40)
9 - ويعود الملك
1660
منذ غادر شارل الثاني إنجلترا في 1650 هاربا لاقى في هربه عنتا ومشقة، عاش متشردا قلقاً في القارة. واستقبلته أمه هنريتا ماريا في باريس، ولكن الفرنسيون كانوا قد أفقروها. وقضى شارل وحاشيته بعض الوقت في أشد العوز، عالة على الإعانات، حتى أن مستشاره المخلص، فيما بعد، إدوراد هايد كان يعيش على وجبة واحدة في اليوم. أما شارل نفسه الذي لم يكن لديه ما يسد الرمق في البيت، فكان يتناول الطعام في الحانات معظم الأحوال نسيئة، على حساب تطلعاته. ولما عاد لويس الرابع عشر إلى أيام الوفرة والرخاء أجرى شارل معاشاً سنوياً قدره ستة آلاف فرنك، ومن ثم بدأ شارل يستمتع بحياة رغدة طليقة إلى أبعد حد، حتى يدخل السرور على قلب أمه.
وتعلم في أيام باريس هذه كيف يحب أخته هنريتا آن أعمق حب وأخلصه وجهدت الأم والأخت كلتاهما في ضمه إلى الكاثوليكية، كما أن الكاثوليك الإنجليز المهاجرين إلى فرنسا لم يألوا جهداً في تذكيره، حتى لا ينسى ما فعلوه من قبل لنصرة أبيه. ووعده مبعوثو المهاجرين المشيخين بالمساعدة على عودته إذا ارتضى حماية مذهبهم. واستمع لكلا الجانبين في لطف وكياسة، ولكنه عبر عن تصميمه على التزام مذهب الكنيسة الأنجليكانية الذي قاسى أبوه من أجله ما قاسى (79)، وربما نزع به الجدل الذي حاصروه به، إلى الشك في الدين كله. ولكن يبدو أن العبادة الكاثوليكية التي رآها حوله في فرنسا، كان لها أثر قوى عليه، وبات سراً مكتوما في حاشيته الصغيرة أنه لو أطلقت يداه لانحاز إلى الكنيسة الكاثوليكية (80) وفي 1651 كتب إلى البابا إنوسنت العاشر يعده بأنه لو عاد إلى عرش إنجلترا فلسوف يبطل كل القوانين التي صدرت ضد الكاثوليك. ولم يجب البابا بشيء. ولكن جماعة الجزويت أبلغوا شارل أن الفاتيكيان لا يمكن أن يؤيد أميرا هرطيقاً (81).(32/41)
وعندما شرع مازاران في التفاوض لعقد تحالف مع كرومول أقنع شارل مستشاروه بمغادرة فرنسا. ووافق الكاردينال مازاران على الاستمرار في صرف المعاش لشارل، فانتقل إلى كولون ومنها إلى بروكسل. وهناك في 26 مارس 1660 حمل إليه جرينفيل رسالة مونك: إذا وعد شارل بعفو عام، باستثناء مالا يزيد عن أربعة أشخاص، ومنح، حرية الفكر، وثبت الملاك الحاليين للممتلكات المصادرة، فإن مونك يلتزم بمساعدته. وفي نفس الوقت، حيث أن إنجلترا مازالت في حرب مع أسبانيا، فيحسن بشارل أن يترك الأراضي الوطيئة الأسبانية. "فانتقل شارل إلى بريدا في إقليم برامانت الهولندي، وهناك في 14 أبريل وقع اتفاقا قبل فيه شروط مونك من حيث المبدأ، تاركا التفاصيل الدقيقة للبرلمان الجديد.
وجاءت الانتخابات بمجلس عموم ذي أغلبية ساحقة من الملكيين، واتخذ اثنان وأربعون من صغار النبلاء مقاعدهم في مجلس اللوردات الجديد وفي أول مايو تليت في المجلسين كليهما الرسائل التي حملها جرينفيل من شارل وفي "إعلان بريدا" قدم الملك الشاب عفوا عاما فيما عدا الأفراد الذين يستثنيهم البرلمان فيما بعد"، وترك للبرلمان تسوية موضوع الأملاك المصادرة ووعد "بألا يزعج شخصاً أو يستدعيه لمساءلته لخلاف في الرأي في أمور العقيدة، وألا يعكر صفو الأمن في المملكة". ثم أضاف بياناً حكيما أعده له المستشار هايد:
أنا نؤكد لكم، تحت كلمتنا الملكية أن بعض أسلافنا
كانوا يقدرون البرلمان أكثر مما نقدره نحن. وإنا لنؤمن
بأن هذه كله جزء حيوي من دستور المملكة، ضروري
لحكومتها، إلى حد أننا ندرك تمام الإدراك أنه ليس ثمة
شعب أو أمير يمكن أن يحيا حياة سعيدة إلى درجة مقبولة
بدونه، ولسوف ننظر دوما إلى نصائحهم على أنها أفضل
تراث منهم، ولسوف نكون معتزين بمآثرهم مهتمين بالمحافظة(32/42)
عليها وحمايتها، قدر اعتزازنا واهتمامنا بأقرب شيء إلى
أنفسهم، وألزم شيء لصيانتنا والحفاظ علينا.
وسر البرلمان لهذا، وفي 8 مايو نادى بشارل الثاني ملكا على إنجلترا، مؤرخا لقبه من يوم وفاة والده، غير مستند في ذلك إلى أي قرار برلماني، بل إلى حق المولد الوراثي. كما أقر إرسال مبلغ خمسين ألفا من الجنيهات إلى شارل مع دعوته إلى القدوم فوراً لاعتلاء عرشه.
وابتهجت إنجلترا كلها تقريبا بانتهاء عقدين من السنين سادهما العنف، بعودة النظام دون إراقة قطرة من الدماء. ودقت النواقيس في طول البلاد وعرضها. وفي لندن جثا الناس في الشوارع وشربوا نخب الملك (82). وهللت كل الرؤوس المتوجة في أوربا لانتصار الشرعية، حتى المقاطعات المتحدة، وهي جمهورية بشكل قوي، كرمت شارل طوال رحلته من بريدا إلى لاهاي، وقدمت له الجمعية التشريعية التي كانت قد تجاهلته حتى الآن، مبلغ ثلاثين ألف جنيه لنفقاته، عربونا للنيات الطيبة في المستقبل. وجاء إلى لاهاي أسطول إنجليزي ترفرف عليه الأعلام مزدانة بالحروف الأولى من "الملك شارل" وحمله إلى إنجلترا في 23 مايو.
وفي 25 مايو وصل الأسطول إلى دوفر، وإحتشد على الشاطئ عشرون ألفا لاستقبال الملك. ولما اقتربت السفينة من الشاطئ سجد الجميع، كما سجد الملك عندما وطئت قدماه الأرض، شكرا لله. وكتب فولتير: "أنبأني العجائز الذين كانوا هناك أن معظم العيون أغرورقت بالدموع". وربما لم يحدث من قبل مشهد مؤثر إلى هذا الحد (83). وعلى طول الطريق الذي احتشدت فيه الجموع السعيدة على مسافات قريبة، ركب شارل ومرافقوه، تتبعهم مئات الناس، إلى كنتربرى، ثم روشستر ومنها إلى لندن. وهناك خرج (120 ألفاً للترحيب به، حتى الجيش الذي حارب ضده، انضم الآن إلى قوات مونك، في هذا العرض. وانتظره أعضاء مجلسي(32/43)
البرلمان في قصر هويتهول. وقال رئيس مجلس اللوردات: "أيها الملك المهيب، أنت مناط رغبة ثلاث ممالك، وقوة لمختلف طبقات الشعب وسند لها، في تخفيف الانفعالات والآلام، وتسوية الخلافات .... واستعادة شرف هذه الأمم المنهار (84) ". وتقبل شارل كل هذه التحية والإطراء في لطف وتملكه شعور خاص، وعندما آوى إلى شيء من الراحة بعد أن أرهقه الانتصار، قال لأحد أصدقائه: "لا بد أنه كان من الخطأ أني لم أحضر من قبل، فإني لم ألتق بفرد واحد لم يحتج بأنه كان دوما راغبا في عودتي (85) ".(32/44)
الفصل الثامن
ملتون
1608 - 1674
1 - جون بنيان
1628 - 1688
في غمرة التحمس للدين والأخلاق لم يحس البيوريتانيون بالحاجة إلى أدب دنيوي. وكان في إنجيل الملك جيمس الأول (أي الذي ترجم إلى الإنجليزية في عهده) زاد كاف لهم من الأدب. وبدأ كل شيء فيما عداه، تقريباً، وتافهاً أو خبثاً آثماً. وفي 1653 اقترح أعضاء البرلمان ألا يدرس في الجامعات سوى الأسفار المقدسة و "كتاب يوم وما يماثله (1) ". وقد يبدو هذا الأمر مزعجاً محزناً، ولكن يجدر أن نلاحظ أنه في ذروة هيمنة البيورتانيين (1653) نشر توماس اركهارت ترجمته الرائعة لرابليه (1)، مؤثراً الأدب الداعر المكشوف على الإيمان بالبعث والحساب. وفي العام نفسه أخرج إيزاك والتون كتابه صياد السمك المثالي Compleat Angler كشف فيه عما في الماء من أسماك، وحتى في أيامنا هذه التي نقفز فيها قفزات حكيمة من نوع من السمك إلى آخر، نجد هذا الكتاب ممتعاً في بساطته وعذوبة أسلوبه، كما أنه يذكرنا بأنه على حين كانت إنجلترا تمر بثورة لا تقل عنفاً عن ثورة 1789، فإن الناس كانوا يستطيعون أن يقصدوا في هدوء إلى القنوات في الريف ليصيدوا ويوقعوا في شراكهم مخلوقاً حذراً يقظاً.
_________
(1) الكتابان الأول والثاني 1653؛ والثالث 1963. وأكمل بيير موتيه الترجمة في 1708.(32/45)
انحرف قليلاً عن الطريق أيها العالم الجليل، أعرج بنا عن الطريق قليلاً حيث يمكن أن نجلس ونغني عند هذا السياج من الشجيرات الغنية برحيق الأزهار، حتى تفرغ هذه السحابة ماءها على الأرض التي تنبت الزرع (2) ".
وحافظ أندرو مارفل على حياته بحكمة وتعقل، طيلة التعديل المستمر في الحكومات من يوم مولده في 1621 إلى يوم وفاته في 1678، ورحب بعودة كرومول من أيرلندا في قصيدة غنائية قوية عذبة، ولكنه تجرأ فيها على التعاطف مع الملك الفتيل شارل الأول:
أنه لم يأت يأمر مبتذل أو دنيء، في هذا المنظر المشهود، بل تفحص ببصره الحاد نصل البلطة، كما أنه ما أهاب بالآلهة في حنق بذئ لتدافع عن حقه اليائس، ولكنه حتى رأسه الوسيم، وكأنه بحنيه على الفراش (3).
وأصبح مارفل مساعداً لملتون في وظيفة سكريتير لكرومول للغة اللاتينية. وانتخب عضواً في برلمان 1659، وساعد على إنقاذ ملتون من انتقام الملكيين المنتصرين، وعاش 18 عاماً في ظل الملكية العائدة، واستنكر مباذلها وفسادها وعجزها، في قصائد هجاء أحجم في حرص شديد عن نشرها.
وكتبت روائع جون بنيان، مثلها في ذلك مثل ملاحم ملتون، بعد عودة الملكية. ولكن الرجلين كليهما تشكلا في ظل النظام البيوريتاني. وهو يقول: "كان منبتي وضيعاً حقيراً، وكان بيت أبي من أحط البيوت أبي من أحط البيوت مكانة، وكان موضع أشد الازدراء من الأسرات ممن حولنا (4) ". وكان أبوه (سمكرياً) يصلح القدور والغلايات في قرية الستو بالقرب من بدفورد. وحصل الوالد، توماس بنيان، من مهنته على ما يكفي لإرسال ابنه جوب إلى مدرسة بدفورد حيث تعلم من القراءة والكتابة قدراً كافياً على الأقل "ليتفحص الأسفار المقدسة"، ويكتب أشهر الكتب الإنجليزية.(32/46)
وفي القرية اشتغل صبياً لوالده الذي لقنه تعليماً شفوياً بطريقة السؤال والجواب في أمسيات أيام الأحد. وعن أولاد المدينة تعلم الكذب والتجديف في الدين. وهو يؤكد لنا "أنه لم يضارعه إلا القليل في هذه الأفانين" (5). وأكثر من هذا أنه أدين بالرقص وممارسة الألعاب وتناول قدح من الجعة في إحدى الحانات. وكلها أمور يحاسب عليها البيوريتانيون الذين لم يكونوا قد استولوا بعد على مقاليد الأمور، في سني شبابه (1628 - 1648). وهو يقول عن نفسه "كنت أتزعم أعمال الرذيلة والشر والفسوق (6) " ومثل هذه الاعترافات بالخطايا الجسيمة كانت أمراً شائعاً مألوفاً بين البيوريتانيين، حيث عملوا على جذب أشد الانتباه إلى إصلاحهم الديني، وأظهروا قدرة الله على أن يهبهم نعمة الخلاص. ولما انتشرت التعاليم البيوريتانية من حوله، أغض مضجعه وحد من نزعة الشر عنده، تفكيره في الموت وفي يوم الحساب وفي الجحيم. ورأى مرة فيما يرى النائم أن السماء كلها فوقه تضطرم بالنيران وأن الأرض نحته تزلزلت، فنهض من نومه مذعوراً، وأزعج الأسرة بصرخاته: "يا إلهي، أسألك الرحمة بي، وقعت الواقعة، ولم أعد نفسي ليوم الحساب (7) ".
وفي سن السادسة عشرة سيق إلى جيش البرلمان حيث خدم لمدة ثلاثين شهراً في الحرب الأهلية. وهو يقول عن فترة الجندية "لم أكف عن الخطيئة والإثم، وأزداد تمردي على الله، وعدم اكتراثي بالخلاص (8) ". وبعد تسريحه من الجيش تزوج من فتاة يتيمة (1648) كان كل صداقها اثنين من الكتب الدينية، وذكرياتها التي لا تفتأ ترددها عن تقى أبيها وورعه. ومذ خلف جون أباه في الحانوت، فأنه استطاع أن يعولها "بالسمكرة". وازدهرت أحواله، وتردد على الكنيسة بانتظام، وتخلى عن نزوات شبابه شيئاً فشيئاً. وكان يقرأ الكتاب كل يوم تقريباً، حتى صارت لغته الإنجليزية البسيطة هي لغة بنيان نفسه. وتحدثت قرية الستو عنه على أنه مواطن نموذجي.(32/47)
ولكن الشوك اللاهوتية أرهقه، كما يقول. ولم يكن على ثقة من أن رحمة الله قد وسعته، وبدون هذه وبدن هذه الرحمة سيلاقي أشد العذاب. وارتاب في أن معظم أهل الستو وبدفورد سيكون مصيرهم بالفعل إلى نار الجحيم. وأزعجه تفكيره في أن معتقداته المسيحية كانت مجرد حدث جغرافي. وتساءل فيما بينه وبين نفسه: "ماذا نقول إلا أن الأتراك لديهم كتاب مقدس عظيم، مثل كتابنا، ويثبت أن رسولهم (محمداً) سوف يكون شفيعاً لهم، كما يجب أن نثبت نحن أن المسيح مخلصاً (9)؟ " "لقد غرقت روحي في بحرين من التجديف على الله والمسيح والأسفار المقدسة ... وثارت في نفسي التساؤلات عن حقيقة وجود الله وابنه الوحيد الحبيب. وهل يوجد حقاً إله أو مسيح؟؟. وهل كانت الأسفار المقدسة إلا خرافة أو قصة بارعة أكثر منها كلمة الله المقدسة الخالصة؟ (10) وانتهى إلى أن هذه الشكوك أثارتها شيطان يسكن بين جنبيه. "إني لحظت الكلب والضفدعة وحسبت ما أعد الله لهما مما جعلهما في حالة أفضل من حالي بكثير ... لأنهما ليس لهما نفس ترزخ تحت وطأة عذاب النار أو الخطيئة، كما هو محتمل أن تفعل نفسي (11) ".
وبينما كان يوماً في طريقه إلى الريف مستغرقاً في التأمل في شرور قلبه تذكر كلمات القديس بولس: "صنع السلام بما سفك من الدم على صليبه (12).
"وقويت في ذهنه فكرة أن المسيح مات من أجله ومن أجل الآخرين"، حتى كنت مستعداً أن أغرق في نشوة ... من الحبور والهدوء الحقيقيين (13) ". وانظم إلى كنيسة معمدانية (1653) في بدفورد، وعمد، وقضى عامين في حياة تسودها السعادة والهدوء الروحيين، وفي 1655 انتقل إلى بدفورد وعين شماساً في هذه الكنيسة، وفي 1657 كلف بالوعظ، وكان موضوعه هو رسالة لوثر: ما لم يؤمن المرء إيماناً راسخاً بأنه قد تخلص من جنونه إلى الإثم بالطبيعة، بسبب موت المسيح بن الله،(32/48)
فإنه لابد بصرف النظر عن فضائله-لا حق بالأكثرية العظمى من البشر الذي يحشرون في نار جهنم. إن تضحية المسيح المقدسة بنفسه، وهي وحدها التي يمكن أن تعدل جسامة خطيئات الإنسان. وكان من رأيه أن يلقن الأطفال هذا الأمر في وضوح تام:
في اعتقادي أن الناس يسلكون طريقاً في تعليم أبنائها العبادة ويبدوا لي أنه من الأفضل أن ينبئ الناس أطفالهم، في وقت مبكر، وقبل فوات الأوان، أية مخلوقات بغيضة لعينه هم، وكيف أنهم يبوؤون بغضب من الله، بسبب الخطيئة الأولى الأصلية الفعلية، كما يظهرونهم على طبيعة غضب الله، وخلود البؤس والشقاء (14).
ووسط هذه النصائح والتحذيرات، ضمت مواعظ بنيان كثيراً من الآراء الحكيمة في تنشئة الأطفال ومعاملة المستخدمين، وكان مثل غيره من الوعاظ، عرضة لتحديات الكويكرز، الذين قالوا إنه ليست الأسفار المقدسة، بال النور الداخلي هو الذي يهيئ المعرفة والخلاص. وفي 1656 وضع كتابين هاجم فيها الطائفة الجديدة المزعجة. فكان جوابهم أنهم اتهموه بأنه يسوعي، قاطع طريق، زان ساحر (15). أما أسوأ الشدائد فقد حلت عليه بعود الملكية، فقد جدد القانون القديم الذي صدر في عهد اليزابيث والذي قضى بحضور كل الإنجليز الصلوات الأنجليكانية دون غيرها، وأذعن بنيان إلى حد إغلاق مكان اجتماعاته الخاص في بدفورد، والتقى بجمهور المصلين في أماكن خفية وألقى عليهم مواعظه، فاعتقل، وعرض عليه إطلاق سراحه إذا وعد بألا يعظ علانية. فرفض وأودع سجن بدفوود (نوفمبر 1660)، وهناك قضى اثني عشر عاماً، مع بعض فترات تمتع فيها بحرية محدودة. وتجدد في أوقات متفرعة عرض الإفراج عنه، بنفس الشروط، مثيراً نفس الرد: "إذا أطلقتم سراحي اليوم فسأشرع في الوعظ غداً (16) ".(32/49)
وربما أصبحت حياة الأسرة عبئاً ثقيلاً، لقد توفيت زوجته الأولى في 1658 تاركاً له أربعة أطفال أحدهم أعمى، وكنت الثانية حاملاً. وعاون الجيران في إقامة أود الأسرة، وأسهم بنيان في نفقتها بصنع بعض المحرمات في السجن وتدبير أمر بيعها، وأجيز لزوجته وأولاده أن يزوروه كل يوم كما أجيز لجيرانه أن يعظ رفاق السجن، وأن يغادر السجن متى شاء، حتى للسفر إلأى لندن (17). ولكنه استأنف الوعظ سراً فضيقوا عليه الخناق في السجن. وفي المعتقل قرأ الكتاب المقدس المرة تلو المرة، كما قرأ كتاب فوكس "سجل الشهداء"، وأذكى حرارة الإيمان عنده بمحارق الأبطال البروتستانت، ووجد متعة عظيمة في رؤى سفر الرؤيا، ولا بد أنه كان مزوداً بالقلم والقرطاس، لأنه في السنوات الست الأولى من احتجازه كتب ست قطع دينية، كما وضع مؤلفه العظيم "الرحمة تتسع لكبير الخطائين". وهو سيرة حياته الروحية، وهو رؤيا تكاد تكون مفرغة من رؤى العقل البيوريتاني.
وفي 1666، وفي ظل "الإعلان الأول للتسامح" الذي أصدره شارل الثاني، أطلق سراح بنيان فعاود الوعظ فأعيد إلى السجن. وفي 1672 أجاز "الإعلان الثاني للتسامح" الذي أصدره شارل الثاني، للقساوسة المنشقين أن يلقوا المواعظ، فأفرج عن بنيان، وانتخب على الفور راعياً للكنيسة القديمة. وفي 1673 أبطل العمل بإعلان التسامح، وتجدد تحريم الوعظ على المنشقين، فلم يتمثل بنيان له، وأعيد إلى السجن (1675)، ولكن سرعان ما أخلى سبيله.
وفي هذه المرحلة الثالثة والأخيرة كتب بنيان الجزء الأول من "انطلاق الحجيج من هذه الدنيا إلى العالم الثاني"، وقد نشر هذا الجزء في 1678 وأعقبه الجزء الثاني في 1684. (في مقدمة شعرية مضحكة رديئة غير معقولة زعم بنيان أنه كان قد وضع هذا الكتاب ملهاة وتسلية لنفسه دون أن يفكر في نشره) وعرض القصة، في لطف، في صيغة وهم أو(32/50)
خيال جامح.
"بينما كنت أضرب في فيافي هذا العالم، جئت إلى مكان معين حيث كانت ثمة "خلوة" فتمددت في هذا المكان لأنام، وإذ غلبني النعاس رأيت فيما يرى النائم حلماً (18) ".
إن كريستيان استبد به في هذه الرؤويا. التفكير في أنه يجب عليه أن يتخلى عن كلي شيء وينسني كل شيء، وألا يلتمس سوى المسيح والجنة. فيهجرون زوجته وأولاده، ويبدأ رحلته إلى "المدينة السماوية". ويلحق به "الموحى بالأمل Hopaful" الذي يعبر عن العقيدة البيوريتانية في إحكام بارع:
كنت يوماً في حزن شديد، أحسب أنه أشد ما لقيت في حياتي. ونتج هذا الحزن عن رؤية صادفة لجسامة آثامي وفظاعتها، ولما كنت آنذاك لا أفكر في شيء إلا الجحيم والعذاب المقيم. فإني فجأة، وأنا غارق في التفكير، رأيت يسوع المسيح ينظر إلي من علياء السماء، قائلاً: "آمن بيسوع المسيح وسيكتب لك الخلاص (19) ". ولكني أجبته: إني خطأ كبير خطأ كبير جداً، فأجاب "رحمتي تتسع لك" ... وهنا غمرني الفرح (20).
وبعد شيء كبير من المحنة والنزاع يصل الحجيج إلى "المدينة السماوية" فندرك هذا الذي كانوا يأملون فيه في حماسة بالغة:
ومن عجب أنهم حين دخلوا، تغيرت هيئتهم وأحاطت بهم هالة من الجلال، وأرتدوا ملابس بدت وكأنها من ذهب. كما كان هناك من قابلهم بالقيثارات والتيجان وأعطاهم إياها-القيثارات-لترتيل آيات المدح والثناء والتيجان رمز للتكريم والتشريف، وأنظر، أن "المدينة السماوية" يتألق نورها وكأنه ضياء الشمس، والشوارع مكسوة أرضيها بالذهب، وفيها سار خلق كثير تعلو رؤوسهم التيجان ويمسكون بأغصان الغار في أيديهم، ومعهم قيثارات من الذهب ينشدون عليها ترانيم الثناء والشكر (21).(32/51)
أما "الجهل المسكين" الذي تبعهم، متعثراً في عرجه، دون أن يتزود بالإيمان الصادق، فأنه يأتي إلى أبواب "المدينة السماوية"، ويطرقها، فيسأل عن جواز مروره فلا يجده، فيلقي به الجحيم (22) -إن القصة تروي بشكل جذاب، ولكنا نعطف أحياناً على "العنيد" الذي يقول عن المسيحي ورفاقه، "هناك فئة من هؤلاء المخبولين المغرورين الذين، حين يمسكون بطرف من الخيال، يظنون أنهم أعقل حتى ممن يستطيعون تحكيم عقولهم (23) ".
أن فكر حج النفس من نطاق المغريات الدنيوية إلى نعيم الآخرة، فكرة قديمة، وتلك كانت صفتها المجازية في العصور الوسطى، ويحتمل أن بنيان كان قد قرأ من هذه الكتب (24). وجر النسيان ذيوله الآن عليها في غمرة النجاح الخارق الذي لاقته القصة الجديدة، حيث صدر منها تسع وخمسون طبعة في المائة العام الأول من ظهورها، وبيع منها مائة ألف نسخة قبل وفاة بنيان. وبيع منها ملايين من النسخ منذ هذا الوقت، وترجمت إلى 108 من لغات أمريكا البيوريتانية. وكانت تقتني في كل بيت تقريباً. ودخلت منها إلى الحديث الدارج عبارات كثيرة- (سلخ) التخلص من الجزع، غرور الدنيا رجل الدنيا الحكيم. وفي القرن العشرين فقد الكتاب شعبيته بسرعة، حيث لم يعد للخلق البيوريتاني وجود، ولم يعد هناك إيمان بما جاء في الكتب ولم يعد يقتنى، ولكنه لا زال فيضاً من اللغة الإنجليزية البسيطة العذبة الواضحة.
وضع بنيان نحو ستين كتاباً، وليس ثمة ما يدعو اليوم إلى قراءتها. وبعد إطلاق سراحه للمرة الأخيرة 1675 أصبح واحداً من ألمع الوعاظ في عصره، والزعيم المعترف به لطائفة المعمدانيين في إنجلترا. وأبدى إعجابه بشارل الثاني. وأمر أتباعه بالولاء والإخلاص لملك أسرة ستيورات بوصفه درع إنجلترا وحاميها ضد البابا (25). وبعد انقضاء ثلاث سنوات على إعلان شارل الثاني اعتناقه الكثلكة وهو على فراش الموت، أنهى(32/52)
جنيان رسالته، ومن الغريب أن نهايته كانت مثل لوثر. ذلك أنه حدث في ريدنج (مدينة في وسط إنجلترا) نزاع باعد بين والد وولد كان ينيان مولعاً بهما، فسافر إليها على ظهر جواد من بدفورد. فأصلح بين الفريقين المتخاصمين، ولكنه عندما قفل راجعاً على ظهر جواده، فاجأته العاصفة وبللته قبل أن يعثر على مأوى يعصمه منها، وانتابته حمى لم يبل منا قط. وروى التراب في مقبرة للمنشقين في بنهل فيلدز ( Bunhill Fields) حيث يرقد حتى اليوم مع شاهد حجري على قبره.
2 - الشاعر الشاب
1608 - 1640
كان جد ملتون كاثوليكياً حكم عليه في 1601 بدفع غرامة قدرها ستون جنيهاً لتغيبه عن الصلوات الأنجليكانية، وحرم ابنه من الميراث لأنه تخلى عن الكنيسة الرومانية. أما جون ملتون، الذي تبرءوا منه وأنكروه فقد حصل على قدر لا بأس به من المال بوصفه كاتباً عمومياً في لندن، صاحب قلم برع في كتابة أو نسخ المخطوطات والوثائق والمستندات القانونية. وأولع بالموسيقى، ونظم القصائد الغزلية القصيرة، واحتفظ في داره بكثير من الآلات الموسيقية ومن بينها أرغن، وانتقل هذا الانعطاف نحو الموسيقى إلى الشاعر الذي ربما أقر بأن المرء لكي يجيد الكتابة، لابد أن تتغلغل الموسيقى في نفسه، وأن تكون له أذن موسيقية واعية. أما الأم، سارة جفري، فكانت ابنة خياط تاجر، أنجبت لزوجها ستة أبناء كان صاحبنا جون ثالثهم. أما أخوه الأصغر فأصبح ملكياً يدين بالولاء لأسرة ستيوارت، وواحد من رجال الكنيسة التقليدية. على حين أن جون أصبح جمهورياً بيوريتانياً من أنصار كرومول. وكان البيت في "برد سترت" مؤسسة بيوريتانية تقية مخلصة، ولكن غير متزمتة، فإن حب الجمال الذي ساد عصر النهضة، امتزج هنا بالنزوع إلى الخير والفضيلة، الذي أتى به الإصلاح الديني.(32/53)
واشترى جون الأكبر عقاراً، وأثرى، واستخدم معلمين (بيوريتانيين) من أجل جون الأصغر، وأرسله في سن الحادية عشر إلى المدرسة إلى مدرسة سانت بول. وهناك تعلم الصبي اللاتينية واليونانية والفرنسية والإيطالية وبعض العبرية، وقرأ شكسبير ولكنه آثر عليه سبنسر. وأنا لنلحظ، عابرين، أنه تأثر كثيراً بالترجمة الإنجليزية لكتاب "الأسبوع" لمؤلفه دي بارتاس (1578)، وهو عبارة عن ملحمة تصف خلق الدنيا في سبعة أيام:
كان بي نهم شديد إلى العلم والمعرفة، إلى حد أني، منذ بلغت الثانية عشر كدت لا أترك الكتاب أبداً، ولا آوي إلى النوم قبل منتصف الليل. وهذا أدى في الأساس إلى فقد بصري. وكانت عيناي (مثل عيني أمه) ضعيفتين بطبيعتهما، وكنت عرضة للإصابة بالصداع كثيراً، ولكن هذا على أية حال لم ينقص من حبي للإطلاع، ولم يعوق تقدمي في التحصيل (26).
وفي سن السادسة عشرة انتقل إلى كريست كولدج في كمبردج. وهناك أدى نزاعه مع أحد المدرسين إلى التضارب والتلاكم بالأيدي. وأحس صمويل جونسون "بالخجل حين أروي ما أخشى أن يكون حقيقة، وهي أن ملتون كان من أواخر من وقعت عليهم العقوبة البدنية من طلبة الجامعتين كلتيهما" (27). وطرد لمدة فصل دراسي واحد ثم سمح له بالعودة، وكان بالفعل ينظم شعراً جيداً. وفي 1629، وهو في الحادية والعشرين، نظم قصيدة غنائية في الاحتفال "بصبيحة عيد الميلاد". وبعد ذلك بعام واحد، نظم قصيدة من ستة عشر بيتاً، أحياء لذكرى شكسبير ولتنقش على قبره، وقد ووفق بعد ذلك على نشرها في الطبعة الثانية لإعمال شكسبير:
ما حاجة شكسبير العزيز إلى جهد جيل في إقامة أحجار مكومة لعظامها لمكرمة، أو لإخفاء رفاته المقدسة تحت هرم يشير إلى النجوم؟
أيها العزيز الذي لا يغيب عن الذاكرة، أيها العظيم سليل الشهرة، ماذا(32/54)
يريد من شاهد هزيل على اسمك الرنان (1).
وقضى ملتون في كمبردج ثمان سنوات، وحصل على درجة البكالوريوس في 1628، والماجستير 1632. ثم تركها دون أن يحس بالولع المعهود في المتخرجين بحضور يوم الكلية التي تخرجوا منها. وكان أبوه يتوقع أن ينخرط في سلك الكهنوتية. ولكن الشاب المغرور أبى أن يقسم يمين الولاء للمذهب الأنجليكاني وطقوسه الدينية:
ومذ رأيت كيف غزا الطغيان الكنيسة-بمعنى أن الذي يرسم قسيساً يجب أن يتعهد بأن يكون عبداً رقيقاً، وفوق ذلك يقسم اليمين الذي لو لم يلتزم إلتزاماً يبعث على الضجر فإنه أما أن يحنث في يمينه أو يرائي في إيمانه-فأني وجدت من الأفضل إيثار الصمت البريء أمام الوظيفة المقدسة، وظيفة الكلام والوعظ، التي تشتري بالعبودية والقسم الكاذب (29).
وآوى ملتون إلى البيت والده الريفي في هورتون بالقرب من وندسور، ومن الواضح أن والده تولى الإنفاق عليه هناك، وتابع هو دراساته، القديمة بصفة أساسية، إلى أن ألم حتى بأصغر المؤلفين اللاتينيين شأناً. وكتب قصائد باللغة اللاتينية، اثنى عليها كاردينال كاثوليكي. وسرعان ما جعل دفاعه باللاتينية عن سياسة كرومول يرن صداه في أنحاء أوربا. وحتى حين كتب نثراً بالإنجليزية، فأنه كتب باللاتينية حيث كان يخضع الإنجليزية لتقديم وتأخير وتعقيدات والتواءات كلاسيكية، ولكنه كان يكتب في لغة غريبة ساحرة رنانة.
ويحتمل أنه في هورتون وسط الحقول المورقة والخضرة في الريف الإنجليزي، كتب القطع المزدوجة، التي خلدت ذكرى الابتهاج الخالي من
_________
(1) يؤسفنا أن نضيف أنه لما وكل إلى ملتون مهمة الدفاع عن إعدام شارل الأول، ذكر من بين المساوئ التي تلطخ ذكرى هذا الملك اعتزازه وولعه بشكسبير (28).(32/55)
الهم، ونوبات الكآبة في شبابه العابر، سواء بسواء. إن كل سطر من " Allegro" يطالب بأن يتغنى به الناس. و"اللجرو" هي "الابنة الجميلة، الممتلئة الجسم، المرحة اللطيفة، والمولودة من "زفير" الريح الغربية العليلة وهي تداعب أورورا الفجر" أن كل شيء في مشهد الريف يدخل الآن البهجة على قلب الشاعر: القنبرة تشق سكون الليل، الديك يختال في مشيته أمام دجاجاته، الكلاب تقفز عند سماعها بوق الصياد، شروق الشمس "في أشعة وضاءة في لون الكهرمان" (أصفر ضارب للحمرة). بائعة اللبن التي تغني والقطعان التي تلوك غذاؤها، ورقص الشبان والشابات على الحشائش، والأمسيات بجوار المدفأة أو في المسرح:
إذا مثل بن جونسون إحدى تمثيلياته الراقية أو صدح شكسبير الشاعر العذب القوي الخيال بألحان الغابة الشعبية الفطرية الموسيقى.
وتفك الأغلال التي تقيد روح التأليف والانسجام الخفية، إنك إذا استطعت أيها المرح أن توفر لي هذه المباهج كلها، فإني أود أن أحيا معك.
وحتى الآن لم يكن ثمة بيوريتاني متهجم عبوس مكتئب، بل شاب إنجليزي مفعم بالصحة يجري في عروقه بعض دم شعراء عصر اليزابث.
ولكن طرأ بين الحين والحين مزاح آخر، حتى بدت هذه المسرات تافهة للعقل المفكر، حين يتذكر المأساة (التراجيديا)، ويفتش عن مغزى، ولا يجد في الفلسفة إجابات، بل تساؤلات للم يحس بها من قبل. عندئذ يأتي " Penseroso" المفكر: يسير دون أن يراه أحد:
حيث يرى القمر المتجول، راكباً قرب الظهيرة، وكأنه رجل ضل الطريق، عبر السموات المترامية الأرجاء الخالية من المسالك.
أو يجلس وحيداً إلى جانب المدفأة:
حيث الجمرات المتوهجة في الغرفة تعلم الضوء كيف يكتسي بالظلمة بعيداً عن أي مصدر للابتهاج والفرح، اللهم إلا صرار الليل على الموقد.(32/56)
أو أنه قابع "في برج عال منعزل"، تغلبت عليه النجوم، يقلب صفحات أفلاطون، ويساءل أين المساء.
أية عوالم وأية أقطار شاسعة تتسع لهذا العقل الخالد الذي تخلى عن قصره في زواية من جسده.
أو هو يتذكر مآسي العشاق والميتات الحزينة للملوك. وخير من هذه الفلسفة الصارمة هناك "صحن الدير الذي يعج بالجهد والجد في العمل والدرس" في الكاتدرائية الكبرى، ونوافذها التي تروي مشاهد التاريخ وضوئها المظلل:
فليعرف الأرغن المجلجل، للمرتلين ذوي الأصوات الممتلئة أدناه، في أصوات عالية وترنيمات صافية، فلربما غمرتني عذوبة الأنغام في أذني بنشوة، وأبرزت كل السموات أمام ناظري".
تلك هي المتعة والمسرات التي يجدها "الرجل المفكر"، وإذا بدت مرتبطة بالمكآبة، فإن الشاعر سيقضي حياته مع الكآبة. ففي هاتين القصيديتين البهيجتين، يكشف ملتون عن ذاته وهو في الرابعة والعشرين، شاباً تتحرك مشاعره لكل ما في الحياة من جمال، ولا يجد حرجاً في المسرات والملذات، كما وجد التفكير المحير في الحياة والموت طريقه إلى نفسه فتأثر به، كما أحس بالصراع بين الدين والفلسفة يحتدم بين جوانبه.
وحانت أول فرصة ليبرز فيها الشاعر ويذيع صيته في 1634 حين كلف بكتابه مسرحية ريفية يمثلها ممثلون مقنعون في الاحتفالات بتولية أرل يرد جووتر رئيساً "لمجلس الغرب". ولحن هنري لاوس الموسيقي التصويرية. أما شعر ملتون فكان مجهولاً أسم مؤلفه تواضعاً. وكان موضع ثناء وإطراء، إلى حد أنه حمل على الاعتراف بأنه مؤلفه. وأطراه سير هنري وتون قائلاً: في أغانيك وقصائدك رفة دورية (نسبة إلى الدورين الذين غزواً بلاد الإغريق في القرن 12 ق. م.) لم أر لها مثيلاً في لغتنا حتى اليوم (30)(32/57)
"وكان عنوان القطعة في الأصل" مسرحية في قصر لدلو (في شروبشير) أما اليوم فهي تسمى "كومس Comus" ( المسرحية) وقد مثلها اثنان من صغار النبلاء مع شقيقتهما، وكانت فتاة في ربيعها السابع عشر، من وصيفات الملكة هنريتا ماريا. وعلى الرغم من أن معظم المسرحيات كان شعراً مرسلاً غير مقفى، محشواً بالأساطير، فقد كانت زاخرة بالغناء العاطفي المرح والأناقة الرائعة الشجية: وتميزت ببراعة لم تتكرر في شعر ملتون فيما بعد وكانت الفكرة الرئيسية فكرة تقليدية: عذراء فاتنة، تتجول في الغابات على غير هدى، وهي تشدو: "بأغنيات ربما خلقت نفساً من تحت براثن الموت".
ويدنو منها الساحر "كومس" ويقرأ عليها تعويذة حتى تتخلى عن عفتها، ويتوسل إليها أن تلهو معه، وقد تألقت نضارة وشباباً، فتدافع الفتاة، في فصاحة بالغة عن الفضيلة وضبط النفس و "الفلسفة السماوية"، وجرت كل الأبيات على خير وجه. فيما عدا قطعة ربما كانت مشئومة، إشارات إلى "الجمهورية"، كان من المحتمل أن يؤدي بهذا الجمع الحاشد المسرف النفور والاستياء:
إذا كان لكل رجل منصف، يصيبه الآن الهزل والنحول تحت وطأة العوز قدر متواضع يليق به، من هذا الترف الفاخر الذي تنعم به الآن فئه قليلة في إسراف بالغ، لتوزعت كل خيرات الطبيعية توزيعاً عادلاً في أنصبة متساوية غير زائدة عن الحاجة، ولما اختزنت الطبيعة مثقال ذرة هذه الخيرات (31).
وفي 1637 اعتل مزاج الشاعر وتكدر صفو حياته بغرق صديقه الشاب ورفيقه الشاعر إدوارد كنج. وأسهم ملتون في كتاب تذكاري عن كنج، بقصيدة رثاء "ليسيداس Lycidas" منظومة في شكل رعوي مصطنع محشوة بالآلهة الموتى، ولكنها غنية بالأبيات التي لا تزال تحلق فيها الذكرى الحبيبة.(32/58)
وا أسفاه ماذا يحملنا على أن نرهق أنفسنا بهذا الهم المقيم، في النهوض بصنعة الراعي (نظم الشعر) البسيطة المحتقرة، وللتأمل بكل ما أوتينا من قوة في ربة الشعر الجحود؟. أما كان من الخير، كما يفعل الآخرون، أن يلهو ويلعب مع الراعية أما ريللس في الظل، أو يعبث بخصلات شعر "نيرا". أن الشهرة هي الحافز الذي يثير الروح الصافية وهي آخر الوهن في (العقل الرفيع)، ليزدري بالمباهج، ويكد ويشقى طوال أيامه. ولكن حين نأمل في الحصول على الجزاء الوفاق. وتفكر في الانطلاق إلى الوهج الخاطف تأتي "الروح العمياء" (ملك الموت) بآلهتها البغيضة، لنقضي على الحياة الواهنة الخيوط.
ويبدو أن جون ملتون الأكبر (الوالد) أحس بأن ست سنوات من الانصراف إلى العمل في رواية وأناة في هورتون كانت جزاء وفاقاً للموهبة التي ابتدعت مثل هذه القطع الغنائية. وليكمل حسن صنيعه أرسل ابنه ليتجول في أنحاء القارة مع دفع كل النفقات. وغادر ملتون إنجلترا في إبريل 1632 يرافقه خادم. وقضى بضعة أيام في باريس (وكانت آنذاك تحت قبضة ريشليو العسكرية)، وأسرع إلى إيطاليا، حيث أقام شهرين في فلورنسة، زار خلالها جاليليو الكفيف نصف السجين، والتقى برجال الأدب، وجلس إلى الجامعيين، وتبادل معهم التحية في شعر باللاتينية، ونظم بالإيطالية قصائد السونيت، وكأنه نشأ وترعرع على ضفاف نهر أرنو أو نهر بو. وفي نابلي استقبله ورحب به وكرمه نفس المركيز مانسو الذي صادق وناصر تاسو وماريني من قبل وقضى في روما أربعة أشهر التقى فيها ببعض الكاردينالات المثقفين وأحبهم، ولكنه أعلن بصراحة مذهبه البروتستانتي. ثم عاد إلى فلورنسة، ثم تصد إلى البندقية عبر بولونيا وفيرار، ثم ذهب إلى فينبس عبوراً بمدينة فيرونا وميلان ثم قفل راجعاً إلى لندن مروراً بجنيف وليون وباريس (أغسطس 1639).
وفي كتاباته الأخيرة دون قطعتين مشهورتين عن رحلته في إيطاليا.(32/59)
وكتب رداً على تعريض أحد الخصوم به: "أشهد الله أنه في كل تلك الأماكن التي لا تليق فيها الرذيلة إلا أيسر الاستنكار والتثبيط، وترتكب في أقل خجل وأيسره، لم أحد أنا قط عن جادة الفضيلة والنزاهة (32) ". وبتذكر كيف امتدح النقاد الإيطاليون شعره:
وهكذا بدأت أوافق كل الموافقة على ما ذكره هؤلاء النقاد الإيطاليون أو يقول نفر من أصدقائي هنا في بلدي، كما استمع بنفس القوة إلى اسحثاث داخلي ينمو بين جوانجي كل يوم، من أنه بالعمل الجاد والانكباب على الدرس (وهذا ما اعتبره قدري في هذه الحياة) بالإضافة إلى الميل الطبيعي، بهذا كله يمكن أن أخلف شيئاً مكتوباً للأجيال القادمة، وقد لا يرتضون أن يفنى (بل يبقى ويخلد على الزمن) (33).
وبدأ ملتون الآن يخطط لملحمة تخلد ذكر وطنه وعقيدته، وتخلد اسمه على مر القرون. وكان لزاماً أن تمضي عشرون سنة قبل أن يتمكن من البدء فيها، وتسع وعشرون سنة قبل أن يتمكن من نشرها. وفيما بين فترتي نظمه الشعر: الفترة الأولى (1630 - 1640) والثانية (1658 - 1668)، لعب دوراً في الثورة الكبرى، وسخر قلمه للحرب والنشر.
3 - المصلح
1640 - 1642
في 1639 استأجر ملتون مسكناً لرجل أعزب في "سانت بريد تشير شيارد" في لندن، حيث تولى التدريس لأبناء أخته. وبعد سنة واحدة انتقل معهم إلى أولد رزجيت ستريت"، وهناك (1643) أستقبل عددا آخر من التلاميذ بين سن العشرة إلى سن السادسة عشرة آواهم وعلمهم، وحصل من ذلك على دخل متواضع يكمل به المبلغ الذي خصصه له والده. وفي كتاب إلى "مستر هارتلب (1644) صاغ ملتون آراءه في التعليم. فأتى لهذه اللفظة بتعريف قوي رائع: "أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة(32/60)
والعامة، في السلم والحرب، سواء بسواء (34) " وأول واجب على المعلم هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، "ويصلح ما أفسده آباؤنا الأولون"-أي أن يقهر نزعة الشر الطبيعية في الإنسان (الخطيئة الأولى) -أو (كما يجدر بنا أن نذكر الآن) أن يعيد تكييف الخلق القومي الذي سبق تشكيله وفقاً لحاجات مرحلة الصيد، نقول تكييفه تبعاً لمتطلبات حياة المدينة الحالية". وأحس ملتون أن هذا يمكن تحقيقه على خير وجه بأن نغرس في الذهن الناشئ إيماناً قوياً باله واحد بصير، وأن نعوده على ضبط النفس وفقاً لنظام واقي (التحرر من الانفعال، عدم التأثير بالفرح أو الترح، الخضوع دون تذمر لحكم الضرورة) وضرب لتلاميذه مثلاً يحتذونه: "الدراسة الشاقة والطعام اليسير". فقلما أجاز لنفسه يوماً "اللهو والمتعة (35) وبعد الدين والأخلاق، يجب أن تأتي الدراسات اللاتينية والإغريقية القديمة، والتي لم يستخدمها ملتون مجرد نماذج للأدب، بل وسائل لدراسة العلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ والقانون والأخلاق والفسيولوجيا والطب والزراعة وهندسة العمارة، والخطابة والشعر والفلسفة واللاهوت. وإذا كان هذا التوفيق الفريد بين العلم والإنسانيات قد أفترض أن النزر اليسير قد أضيف إلى العلم منذ سقوط روما، فيجب أن نلاحظ أن هذا حقيقي فعلاً، اللهم إلا بالنسبة لجاليليو، بل أن كوبرنيكس نفسه كان له سلفه الإغريقي في شخص أرستارخوس. وفوق ذلك، اقترح ملتون تعريف تلاميذه كذلك ببعض النصوص الحديثة في العلوم والتاريخ، بل حتى ببعض النماذج الحية في الفنون العملية، وكان يأمل في أن يستقدم إلى حجرات الدراسة صيادين وبحارين وبساتين ومشتغلين بالتشريح وصيدليين ومهندسين ومعماريين، لينتقلوا إلى التلاميذ أحدث ألوان المعرفة في هذه المجالات (36) وخصص وقتاً كافياً للموسيقى والتمثيل، وساعة ونصف الساعة يومياً للرياضة البدنية والتدريب العسكري. ويمكن أن يطوف طلابه أرجاء البلاد في جماعات على صهوات الجياد، يرافقهم أدلاء معروفون(32/61)
بالرزانة والحصافة، لتعلموا ويلاحظوا، "أو" يلتحقون بالبحرية بعض الوقت ليتعلموا الملاحة ومصارعة البحر، وأخيراً وبعد بلوغهم سن الثالثة والعشرين، يمكنهم أن يسيحوا خارج إنجلترا. وهذا برنامج شاق، ليس لدينا دليل على تطبيقه تطبيقاً كاملاً في مدرسة ملتون، وربما كان في حيز الإمكان تطبيقه أو أن التلاميذ اقتبسوا من معلمهم شيئاً من غيرته وجده.
وراوده أحياناً حلم إنشاء أكاديمية تنافس أكاديمية أفلاطون وأرسطو. ولكنه افتتن بأحداث العصر البارزة والشغل بها. من ذلك أن التئام البرلمان الطويل (1640) كان نقطة تحول في حياته، بل يكاد يكون تحولاً عنيفاً غير طبيعي عن الشعر والتعليم إلى السياسة والإصلاح. وفي 11 ديسمبر قدم حزب "الجذر والفرع" البيوريتاني الذي انتسب إليه بعض أصدقائه قدم إلى البرلمان عريضة صارخة ممهورة بخمسة عشر ألف توقيع (يحتمل أن يكون من بينهم ملتون) يلتمسون فيها إقصاء الأساقفة عن الكنيسة الإنجليزية. ورد جوزيف هول أسقف أكستر على العريضة "باحتجاج متواضع إلى المحكمة العليا في البرلمان" (يناير 1641)، دافع فيه عن النظام الأسقفي بأنه مأخوذ عن "عصر الرسل الأبرار بلا انقطاع ... حتى العصر الحاضر (38) " فاستل خمسة من الكهنة المشيخيين أقلامهم في "الرد على الاحتجاج المتواضع" (مارس 1641) وقعوه باسم مستعار مكون من الأحرف الأولى من أسمائهم (1). ورد الأسقف هول وبعض الأسقفيين الآخرين، وأقر مجلس العموم الاقتراح، ورفضه اللوردات. واشتد الجدل على المنبر وفي الصحب وفي البرلمان، وانضم ملتون إلى المعمعة بكتيب من تسعين صحيفة "إصلاح يمس نظام الكنيسة في إنجلترا (بونيه 1641).
وفي عبارات قوية لاهثة، استوعب بعضها نصف صفحة، عزا ملتون تدهور الكنيسة الرسمية إلى سببين: الإبقاء على الطقوس الكاثوليكية،
_________
(1) هم ستيفن مارشال، ادموند كالامي، توماس ينج، ماتيو نيوكومن، وليم سيرستو.(32/62)
واحتكار الأساقفة لسلطة تعيين القساوسة. وهزأ ملتون "بهذه الطقوس الفارغة التي لا معنى لها، والتي تحتفظ بها الكنيسة لمجرد أنها علامة خطيرة للانزلاق نحو روما، والتي لا تستخدم إلا كمجرد مسرحية تعرض أبهة الأساقفة (39) ". إن الأساقفة-كانوا يتسللون خلسة إلى الكاثوليكية في طقوسهم-وتلك طعنة صريحة لرئيس الأساقفة لود الذي كان قد قدمت له قبعة الكاردينالية. وأنكر ملتون ما زعمه جيمس الأول وشارل الأول من أن الأساقفة ضرورة لا زعامة لحكومة الكنيسة وللنظم الملكية. وأهاب بالاسكتلنديين المشيخيين أن يواصلوا حربهم ضد النظام الأسقفي، وتضرع إلى الثالوث الأقدس أن يرعى المصلحة العامة:
يا إلهي: أولِ عنايتك لكنيستك البائسة التي كادت تنهار وتلفظ أنفاسها الأخيرة، لا تتركها هكذا فريسة لتلك الذئاب المزعجة التي تتربص وتفكر طويلاً لتلتهم قطيعك الوديع، تلك الخنازير البرية التي سطت على كرمنك، وتركت بصمات حوافرها المدنسة على نفوس عبادك. لا تدعهم ينفذون خططهم اللعينة التي تقف الآن على مدخل الهاوية غير ذات القرار، مترقبة أن يفتح الحارس ويطلق الجراد والعقارب الفتاكة، لتحتوينا في ظلام جهنم الدامس، حيث لن تشرق علينا شمس حقيقتك، ولن نعود نأمل في بزوغ الفجر البهيج، أو نسمع زقزقة العصافير في الصباح (40).
واختتم هذه العبارة بإلقاء جماعة الطقوس التقليدية في الجحيم: ولكن أولئك الذين يتوقون إلى مناصب الحكم الرفيعة والارتقاء هنا في هذه الدنيا، على حساب إفساد عقيديتهم الحقة والانتقاص منها، وعلى حساب كروب بلدهم واستعباده، لابد أنهم، بعد خاتمة مزرية في هذه الحياة (التي وهبهم الله إياها)، سيلقي بهم في الدرك الأسفل من النار، وهناك يتلقاهم من سبقهم من المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي، فيتحكمون فيهم في حقد وحسد، ويطأونهم بأقدامهم ويزدرونهم، وفي حمأة تعذيبهم، لن يجدوا الراحة إلا في ممارسة أشد ألوان الطغيان عسفاً ووحشية، معهم(32/63)
بوصفهم أرقاءاً وعبيداً لهم، وسيبقون على هذه الحال إلى الأبد، مخلدين في أحط وأسفل مهاوي الهلاك الأبدي وأشدها كآبة واحتقاراً واضطهاداً (41).
وعندما رد الأسقف هول على القساوسة الخمسة المشيخيين وهاجمهم بعنف، انبرى ملتون لنصرتهم في بيان عاصف لابد أنه أخرج الأسقف وهو في الخامسة والستين من ردائه الكهنوتي: "نقد لاذع لدفاع المحتج على بيان المشيخيين"، ظهر، مجهولاً كاتبه، في يوليه 1641. واعتذر ملتون في المقدمة عن عنفه فقال:
في الكشف عن إنسان سيئ السمعة عدو للحق، ولسلام بلاده وإدانته وبخاصة إذا اغتر بأن له لساناً ذرياً منطلقاً مؤثراً، فإنه لا يتنافى مع اعتدال المسيحية وتواضعها أن ترد على مثل هذا الرجل بأسلوب أعنف وأشد من أسلوبه، وأن تشيع غطرسته إلى مثواها مضمخة بمائه المقدس (42).
وأعاد الأسقف وابنه الكرة ببيان عنوانه "حجة داحضة متواضعة جديدة" (يناير 1642) هاجما فيه كاتب "النقد اللاذع" بحدة تميز بها هذا العصر المغيظ المحنق (43). فرد ملتون كيد الأسقف في نحره ببيان عنوانه "دفاع ضد الحجة الداحضة المتواضعة" (إبريل) اعتذر فيه مرة أخرى عن سوء معاملته للأسقف هول، وشجب الفريد العريضة "التي أوردها هول" وهي اتهام ملتون بأنه طرد من كمبردج، وأكد ملتون للعالم بأسره بأن زملاءه في "كريست كولدج" دعوه، بعد تخرجه، للإقامة معهم، وأكد من جديد طهارته التي لا مطعن فيها:
على الرغم من أني لم ألقن إلا قدراً يسيراً من المسيحية، فإن شيئاً من التحفظ والنزعة الطبيعية والقواعد الخلقية، واستقيته من أنبل فلسفة، كان كافياً ليجعلني أحتقر من ألوان الفجور ما هو أقل كثيراً مما يجري في المواخير. ولكني قد عرفت مبدأ الأسفار المقدسة التي تكشف عن الأسرار السامية الطاهرة ... التي تقول بأن "الجسد للرب، والرب للجسد(32/64)
"فإني كذلك سألت نفسي: إذا كان التجرد عن العفة في المرأة التي ينعتها القديس بولص بأنها فخر الرجل، فضيحة وخزياً وعاراً، فالأمر يقيناً كذلك في الرجل الذي هو صورة الله وفخره معاً، فإنه لا بد أن يكون أشد فساداً وعاراً، لأنه يقترف الإثم ضد جسده، وهو الجنس الأكمل، وضد فخره الذي يكمن في المرأة، والأنكى من ذلك ضد صورة الرب وفخره ماثلين في شخصه هو (44).
ومن ثم نجد ملتون يرثي لأخلاق كثير من الشعراء القدامى، ويؤثر عليهم دانتي وبترارك، اللذين لم يكتبا قط إلا تكريماً وتشريفاً منهما لأولئك الذين نذرا لهم أشعارهما التي عرضا فيها أفكاراً سامية نقية، دون تأثيم وانتهاك للحرمات. ولم ألبث إلا قليلاً حتى تأكد عندي هذا الرأي: إن هذا الذي لا يمكن أن يخيب أمله في أن يكتب كتابة جيدة، ويجدر أن يكون هو نفسه قصيدة صادقة، أي مركباً مكوناً من أفضل الأشياء وأشرفها، لا يقدم على أن يكون قصيدة عقود مدح وثناء للرجال البطوليين أو المدائن المشهورة، إلا إذا أوتي من التجربة والخبرة والمران على كل ما هو أهل للثناء والإطراء (45).
وبعد هذا المثال الذي اقتبسناه، انتقل ملتون إلى الحديث عن قدمي الأسقف وحوربه الذي يبعث "برائحة منتنة إلى السماء". وإذا بدت هذه اللغة غير لائقة باللاهوت فإنه دافع عنها "بقواعد أعظم البلغاء" وبأنه يحذو حذو لوثر، وذكر قراءه بأن "المسيح نفسه وهو يتحدث عن التقاليد البغيضة لا يتردد في استعمال ألفاظ مثل الغائط والمرحاض" (46).
والآن نكتفي بهذا القدر من النزاع الكريه الكئيب، الذي سقناه لأنه يلقي ضوءاً على شخصية ملتون وعلى آداب السلوك في ذاك العصر، ولأنه وسط هذا الهراء القاسي وفوضى الأجرومية والجمل الطويلة، كانت هناك قطع نثرية ذات جرس موسيقي، مشرقة تهز المشاعر مثل شعر ملتون(32/65)
وفي نفس الوقت (مارس 1642)، وكان قد نشر باسمه كتيباً أكثر موضوعية: "إثارة تفكير حكومة الكنيسة في حظر السلطة الأسقفية": "هذا النير البغيض الذي لا يمكن أن يزدهر أي عقل حر أو موهبة ممتازة تحت وطأة ما يفرضه من غباء وعداء تعسفي وطغيان" (47). وسلم بالحاجة إلى نظام أخلاقي واجتماعي. والحق أن ملتون أدرك أن في نهوض النظام وسقوطه مفتاح ارتقاء الدول وانهيارها:
ليس في هذا العالم شيء أعظم أهمية وأشد إلحاحاً وخطراً في كل حياة الإنسان بأسرها من النظام. وهل أنا في حاجة إلى ضرب مثل على ما أقول؟ إن كل من قرأ في تبصر وتدبر عن الأمم والدول ... لابد أن يقر على الفور بأن ازدهار المجتمعات المتحضرة واضمحلالها، وكل تحركات الأحداث البشرية وتحولاتها، إنما تروح وتجيء وكأنها على محور عجلة النظام. وأنه ليس ثمة كمال اجتماعي في هذه الدنيا، مدني أو ديني، يمكن أن يسمو فوق النظام وقواعد الانضباط. لأن النظام هو الذي، بفضل أوتاره الموسيقية يحافظ على كل أجزاء الحياة ويمسك بها متضامة بعضها إلى بعض (48).
ومثل هذا النظام، على أية حال يجب ألا يستقي من أية هيئة كهنوتية متسلسلة في رتب الكنيسة، بل من إدراك أن كل إنسان بذاته يمكن أن يكون كاهناً.
وفي كل المراحل كان ملتون يعي ويدرك كل قدراته ومواهبه. أنه قدم للجزء الثاني من رسالته بقطعة عن سيرة حياته، وأبدى فيها حزنه لأن النزاع قد باعد بينه وبين إخراج عمل عظيم شغل باله طويلاً: إن هذا الذي أداه أعظم العباقرة وصفوتهم في أثينا وروما أو إيطاليا الحديثة، والعبرانيون القدامى، لبلادهم، يمكن أن أقوم به أنا لبلدي، بدوري، ويقدر حظي من الحياة والعمل، هذا بالإضافة إلى أني فوق كل شيء مسيحي (49). "وروى ملتون كيف أنه كان بالفعل يعد الموضوعات التي يضمنها مثل هذا(32/66)
الكتاب. ولكنه أراده عملاً يستطيع من خلاله "أن يصور نابضاً بالحياة وبصف ... سجل الطهر والفضيلة بأسره"، و "كل ما هو سام ومقدس في العقيدة الدينية" (50)، "وكأنما كان يتنبأ بأن الأعوام الستة عشر قد تنقض قبل أن تدع له الثورة الكبرى فرصة للشروع في الكتابة: فقال يعتذر عن تأخره:
لست أخجل من الاتفاق مع قارئ فطن ذي دراية، على أنه في بضع سنين يتعهد بدفع ديوني الحالية، لأنه عمل ليس نتاجاً لنزوة الشباب أو لعب الخمر بالعقل، مثل هذا الذي يسيل به "قلم عاشق شرس" بذئ في أوقات الضياع، أو شاعر متطفل في فوره حقده. كما أنه عمل لا يمكن إنجازه بالتضرع وقراءة التعاويذ للذاكرة وبناتها المغويات (بنات الأفكار)، بل بالدعوات والصلوات المخلصة الخاشعة "للروح الأبدي الخالد الذي يستطيع إثراءنا بالتعبير والمعرفة، ويبعث إلينا بأحد ملائكته (وحارس عرشه) ساروفيم، مع نار مذبحة المقدسة، ليمس ويطهر شفتي من يشاء. ويجدر أن يضاف إلى هذا، دأب على القراءة الجادة المنتقاة، ومثابرة على الملاحظة الدقيقةـ وتبصير بالفنون والمسائل العامة الجذابة والواسعة، حتى إذا تم العمل، إلى حد ما تحت مسئوليتي وبجهدي الخاص، فإني عندئذ لا أرفض أن أزكى هذا الأمل المنشود عند كثير ممن لا ينفرون من المغامرة بالوثوق إلى هذا الحد بما أقطع على نفسي لهم من تعهدات أو وعود (51).
4 - زواج وطلاق
1634 - 1648
في "الحجة الداحضة المتواضعة" كان الأسقف هول قد اتهم ملتون بأنه يسمى لشهرة أدبية، ويعلن عن مواهبه وقدراته وتجاربه وثقافته وبيئته السابقة، أملاً في الفوز "بأرملة ذات ثراء" أو أية جائزة أخرى. وفي "الرد" عليه عمد ملتون إلى تسفيه هذه الفكرة والتنديد بها، وقال أنه على النقيض من ذلك، "نشأ في بحبوبة من العيش" واتفق في الرأي مع "أولئك الذي يؤثرون في حكمه وتبصر وبروح طيبة، عذراء غير ذات(32/67)
ثراء عريض، وذات أصل كريم، على أغنى الأرامل" (52). وبينما انساقت إنجلترا إلى الحرب الأهلية (1642)، انطلق ملتون إلى الزواج (1643).
لم ينضم ملتون إلى جيش البرلمان، وعندما اقتربت القوات الملكية من لندن (12 نوفمبر 1642) نظم قصيدة (سونيت) يشير فيها على قادتها أن يحموا بيت الشاعر وشخصه؛ كما فعل الإسكندر الأكبر مع الشاعر بندرا من قبل، واعدا إياهم بأن ينشر على الملأ شعراً "حسن صنيعهم (53) ". على أن القوات الملكية ردت على أعقابها. ولم يمس بيت ملتون بأذى، وبقي ليستقبل زوجته.
وكان ملتون قد التقى بماري باول Powall في فورست هل في أكسفورد شير، حيث كان والدها قاضي الصلح. وهذا الوالد، ريتشارد باول كان قد اعترف من قبل، في 1627، بأنه مدين لملتون، وكان آنذاك في كمبردج، بمبلغ 500 جنيه، خفف فيما بعد إلى 312، ولكن لم يسدد بعد. والظاهر أن الشاعر قضى عند أسرة باول شهراً (مايو-يونية 1643) ولسنا ندري ليسترد الدين أو يحظى بزوجة. وربما أحس جون وهو في الرابعة والثلاثين، بأنه قد آن الأوان للزواج والنسل، وواضح أن ماري كانت تتحلى بالعذرية التي ينشدها. وفاجأ أبناء أخته بعودته إلى لندن متأبط ذراع زوجته.
ولم تدم السعادة طويلاً لأحد. فقد كره أبناء الأخت ماري كدخيلة عليهم، وكرهت هي كتب ملتون، وافتقدت أمها و "القدر الكبير من الصحبة والأنس والبهجة والرقص ... " الذي كانت تنعم به في فورست هل. ويقول أوبري "كثيراً ما كانت تسمع أبناء الأخت هؤلاء يضربون فيتعالى صراخهم (54) مذ رأى ملتون أن ماري محدودة التفكير ضيقة الأفق ليس لديها سوى النزر اليسير من الأفكار، التي هي في جملتها ملكية، فإنه انصرف ثانية إلى كتبه. وتحدث فيما بعد عن "شريكة حياة بكماء(32/68)
جامدة كئيبة لا روح فيها"، ورثى "للإنسان الذي يجد نفسه مرتبطاً بأوثق رباط بهيكل من طين وبلغم، كان يأمل منه أن يكون شريك مجتمع تملؤه السعادة والبهجة والسرور (50) " ويعتقد بعض الباحثين في الزواج غير المتكافئ أن ماري أبت عليه البناء بها (56). وبعد شهر طلبت السماح لها بزيارة والديها، فوافق ملتون، مع التفاهم بينهما على عودتهما. ولكنها ذهبت ولم ترجع. وبعث إليها برسائل تجاهلها، ولما لم يجد أي متنفس آخر لمشاعره، كتب ونشر دون توقيع "مبدأ الطلاق ونظامه" (أغسطس 1643)، وأهداه إلى "برلمان إنجلترا والجمعية" أي جمعية وستمنستر التي كانت تصوغ آنذاك اعترافاً بالمذهب المشيخي. وتقدم إلى البرلمان برجاء أن يتحلل من أغلال التقاليد، ويسير بالإصلاح قدماً، بإقرار أسس أو شروط أخرى للطلاق، غير الزنى، وعرض أن يوضح:
أن التصور، وعدم الأهلية أو تنافر العقول الناشئ عن سبب طبيعي لا يتسنى تغييره، مما عوق، والأرجح أنه كثيراً ما يعوق إلى الأبد، مزايا الحياة الزوجية، وهب السلوى والبهجة والهدوء والطمأنينة، نقول أن هذا سبب للطلاق أقوى من البرودة الزوجية الطبيعية، لا سيما إذا لم يكن هناك أطفال، وكانت هناك موافقة من الطرفين (57).
واقتبس ملتون القانون اليهودي القديم الذي ورد في التوراة (سفر التثنية 24 - 1) "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء. وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته". وأوضح أن السيد المسيح رفض هذا الجزء من شريعة موسى. فقد جاء في إنجيل متي (5 - 31، 32) "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم أن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني"، واحتج ماتون بأنه "المسيح لم يقصد أن يؤخذ كلامه بمعناه الحرفي، كلمة بكلمة" (58)، وكثيراً ما أعلن أنه لم يأت ليغير مقدار ذرة من شريعة موسى. وكافح ملتون حتى يجعل تفسيره الواسع يشمل(32/69)
قضيته الشخصية، حتى أنه ذهب إلى حد تبرير الطلاق لعدم القدرة على الإسهام في حديث مناسب معقول. "لأن عدم الصلاحية والتخلف في العقلية التي تنفر من الزواج، يمكن أن تهبط بالزواج إلى "حالة أسوأ من حياة الوحدة الموحشة" حيث تكون النفس النابضة بالحياة مربوطة إلى مجرد جثة (59).
ونفد الكتاب الصغير بسرعة، لأنه قوبل باستنكار عام. وفي فبراير 1644 نشر ملتون طبعة مزبدة منقحة ظهر اسمه في جرأة وشجاعة. ورد على ناقديه في أسلوب العالم المتفقه، في " Ttwtrochordon" ثم في أسلوب أخف في Colasterion ( صدر كلاهما في 4 مارس 1645)، تناولهم فيهما بأقسى القدح والألفاظ المقذعة-كتلة من الطين، خنزير، خنزير بري، ذو أنف بشع، محام له مخ الديك، حمار صفيق، بغيض، كريه الرائحة (60) لقد استطاع ملتون في الصحيفة الواحدة أن يقفز من مرتفعات بارناسوس إلى أحط مهاوي السفاهة والبذاءة.
وحيث أخفق في أن يحصل من البرلمان على تعديل في قانون الطلاق، اعتزم أن يتحدى القانون، ويتخذ زوجة ثانية، وكان يفضل مسن دافيز التي لا يعرف عنها شيئاً إلا أنها رفضته. ولما ترامت شائعات هذه الخطبة إلى مسامع ماري باول قررت أن تستعيد زوجها، على أي الأحوال، حلوها أو مرها، قبل فوات الأوان. وذات يوم بينما كان ملتون في زيارة لصديق فاجأته ماري وجثت بين يديه وتوسلت إليه أن يعيدها إلى مخدعه وبيته. وتردد هو، ولكن أصدقاءه ناصروا قضيتها، فقبل عودتها إليه. وانتقل الآن إلى بيت أوسع في باربيكا ستريت، ضمها كما ضم أباه وتلاميذه. وسرعان ما جاء أبواها أيضاً مع الشاعر، بعد أن تدهورت حالهما بهزيمة الملكية، مما جعل هذا البيت أقرب ما يكون إلى دار للمجانين، أو الفلسفة. وزاد الأمر ضغثاً على أبالة في 1646، مولد طفلة ملتون الأولى آن. وخفف من هذه الفوضى موت ريتشارد باول في يولية، كما أن جون(32/70)
ملتون الأكبر (الوالد) اختتم حياته المديدة الكريمة في مارس التالي. ومن ثم أصبح الشاعر وريثاً لمنزلين أو ثلاثة في لندن، ولبعض المال، وربما لبعض العقارات في الريف. وفي 1647 فض ملتون مدرسته وانتقل مع زوجته وابنته واثنين من أبناء أخته إلى "هاي هلبورن ستريت" وفي 1648 ولدت له ابنته الثانية ماري.
5 - حرية الصحافة
1643 - 1649
في 13 أغسطس 1644، تحدث الكاهن المشيخي هربرت بالمر أمام مجلس البرلمان، واقترح علناً رسالة ملتون عن الطلاق. ولم تحرق الرسالة؛ ولكن شكوى بالمر ربما أدت "بشركة المكتبات" التي تضم كل باعة الكتب الإنجليز، إلى لفت نظر مجلس العموم (24 أغسطس) إلى أن الكتب والنشرات تخالف القانون الذي يتطلب تسجيلها وإجازتها بمعرفة الشركة. وكان هذا القانون قد صدر في عهد اليزابث، كما أن البرلمان كان قد جدد العمل به في 14 يونيه 1643، بإصداره أمراً ينص على:
أنه لا يطبع كتاب أو نشرة أو ورقة، أو أي جزء من شيء من هذا القبيل، أو يعرض للبيع، قبل التصديق على نسخة منه وإجازته، من أشخاص يعينهم لهذا الغرض أحد المجلسين أو كلاهما معاً، وقبل أن يسجل في السجل المعد لذلك في شركة المكتبات، طبقاً لما جرى عليه العرف من زمن بعيد (61).
ويعاقب أي خرق لهذا القانون بالقبض على من تولوا التأليف والطبع.
وكان ملتون يهمل دوماً تسجيل ما ينشره نثراً. وعلى الرغم من أن كتابه "مبدأ الطلاق ونظامه" ظهر بعد صدور الأمر سالف الذكر بشهرين، فإنه تجاهل ما يقضي به. وربما كان شاعرنا ذا حظوة لدى البرلمان لأنه ناصره في صراعه مع الملك، على أن البرلمان على أية حال، تغاضى عنه وحده ولكن الأمر ظل سيفاً مسلطاً على رأسه وعلى رؤوس سائر المؤلفين في بريطانيا. وبد لملتون ضرباً من المحال أن يزدهر الأدب في ظل(32/71)
مثل هذه الرقابة. فماذا يجدي خلع ملك وتحطيم نظام أسقفي استبدادي قاسٍ، إذا استمر البرلمان والكنيسة على التدقيق والتحقيق في كل كلمة يتفوه بها الإنجليز؟. وفي 24 نوفمبر 1643 أخرج درن تسجيل أو إجازة أروع أعماله النثرية "أريوباجيتيكا: حديث من جون ملتون عن حرية المطبوعات دون إجازة، إلى برلمان إنجلترا" (1) وليس في هذا الحديث قذف ولا طعن ولا نقد لاذع، بل كان على مستوى عالٍ من اللغة والفكر وفيه يطلب إلى البرلمان بكل إجلال واحترام، أن يعيد النظر في قانون الرقابة، من حيث أنه ينزع إلى "تثبيط الهمم في سبيل العلم والمعرفة، ويعوق بل يقضي على أي إبداع واكتشاف يمكن أن يخرج في المستقبل إلى حيز الوجود في مجال الحكمة الدينية والمدنية كليهما. " ثم يستطرد في قطعة مشهورة قيمة:
لست أنكر أنه من أعظم صلاحيات الكنيسة والدولة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدار الناس، ومن ثم يحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر لأن الكتب ليست أشباه ميتة إطلاقاً، بل أن فيها من الفعالية والحيوية مل يجعلها نشيطة في مثل نشاط النفس التي أنتجتها. ليس هذا فحسب، بل أنها كذلك، تحفظ، وكأنما تحفظ في قنينة، أبقى عصارة ودقة مؤثرة للفكر الحي الذي نماها وأبدعها. وإني لأدرك أنها نشيطة قوية الإنتاج مثل أسنان التنين الخرافية إذا نثرت على الأرض هنا وهناك انبعث منها رجال مسلحون (هكذا تقول الخرافة). ومن جهة أخرى، فإنه إذا لم يكن ثمة حيطة وحذر، فأن قتل الإنسان يعدل تقريباً قتل الكتاب الجيد. إن من يقتل رجلاً يقتل مخلوقاً عاقلاً على صورة الله، على حين أن من يدمر الكتاب الجيد، يقتل العقل نفسه، بل يقتل صورة الله، في صميمها. وكم من إنسان
_________
(1) Areopagitica- يقصد بها المسائل المتعلقة بالمحكمة العليا في أثينا، واسمها أريوباجوس، نسبة إلى الجبل الذي كانت تجتمع عليه. واقتبس ملتون هذا العنوان من رسالة وجهها آيزوقراط 355 ق. م. إلى هذه المحكمة.(32/72)
يعيش حملاً ثقيلاً على الأرض، ولكن الكتاب الجيد هو دم الحياة الغالي للروح السامية يصان ويختزن، قصداً لحياة وراء الحياة. حقاً أن أي عصر لن يستطيع استعادة الحياة، وقد لا يكون في هذا خسارة، ولا تعوض ثورات العصور في الغالب عن فقدان حقيقة منبوذة، ساءت حال أمم بأكملها من أجل افتقارها إليها.
وينبغي لذلك أن نكون حذرين يقظين لأي اضطهاد نصبه على الأعمال الحية لمشاهير الرجال البارزين، وكيف نبدد حياة الرجل الناضج المحفوظة المختزنة في كتاب. فإذا رأينا عملاً من أعمال القتل يرتكب على هذه الصورة، وهو في بعض الأحيان استشهاد، إذا امتد هذا إلى كل الإنتاج حتى ينتهي الأمر إلى مذبحة، فمن ثم لا ينتهي الإعدام عند خنق الحياة الفطرية، بل ينفذ إلى الجوهر السماوي الخامس البالغ الرقة، أي روح العقل ذاته، فيقضي على الخلود أكثر ما يقضي على مجرد حياة (62).
ويستشهد ملتون بالنشاط الفكري في أثينا القديمة، حيث لم تفرض الرقابة إلا على الكتابات التي تتضمن إلحاداً أو قذفاً، وهكذا حكم قضاة محكمة أريوباجوس العليا بإحراق كتب بروتاجوراس، وبنفيه خارج البلاد، لمقالة بدأها بالاعتراف بأنه لا يدري "إذا كان هناك آلهة أم لا". ويمتدح ملتون حكومة روما القديمة لإتاحتها قدراً كبيراً من الحرية للكتاب، ثم يصف نمو الرقابة في روما الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية. ويحس ملتون بأن قانون الرقابة هذا تشتم من رائحة "البابوية" "وما فائدة أن تكون رجلاً: لا مجرد تلميذ في مدرسة، إذا كنا فقط هربنا عن الدرة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة (للطباعة) (63) "؟ إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن:(32/73)
إني لا أستطيع أن امتدح فضيلة مفروضة عليها الحماية والرقابة، لا يمارسها أحد ولا ينشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها، بل تتسلل بمعزل عن الناس (64). أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فوق كل الحريات (65) .. ومع أن كل رياج المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تنهزم في معركة حرة مفتوحة (66)؟.
ومهما يكن من أمر فإن ملتون لا يطالب بالحرية المطلقة للمطبوعات، فهو يؤمن بأن الإلحاد والتشهير والفحش يجب أن يحرمها القانون، ويرفض التسامح مع الكاثوليكية لأنها عدو للدولة، ولأنها هي نفسها موصومة بالتعصب (67). وفيما عدا ذلك، فإن الدولة التي تسود فيها حرية الفكر والكلام لابد أن ترقى وتنمو فيها سائر الأشياء سواء بسواء.
يخيل إلي أني أرى بعين البصيرة أمة كريمة قوية تستيقظ وتنفض النوم عن جفونها، مثل رجل قوي يفيق من سباته، وتهز خصلات شعرها. ويبدو لي أني أراها مثل نسر، يجدد شبابه ويفتح عينيه الحادتين (68) في وقت الظهيرة.
ولم يلتفت البرلمان لدفع ملتون أو حجته، بل على النقيض من ذلك، سن قوانين تصاعدت صرامتها (1647، 1649، 1653) ضد إصدار مطبوعات غير مرخصة. وشكا أعضاء شركة المكتبات من أن ملتون لم يكن قد سجل "الأريوباجيتيكا". وعين مجلس اللوردات اثنين من رجال القضاء لمساءلته، ولسنا نعرف النتيجة. ولكن من الواضح أنهم لم يزعجوه، لأنه كان صوتاً ذا نفع وقيمة للبيوريتانيين المنتصرين.
وفي فبراير 1649، أي بعد إعدام شارل الأول بأسبوعين اثنين، نشر ملتون رسالة عن "ولاية الملك والحكام"، ارتضى فيها نظرية العقد(32/74)
الاجتماعي التي تقول بأن سلطة الحكومة مستمدة من سيادة الشعب، وأنه من حق من يملكون السيادة أن يحاسبوا أي طاغية أو ملك شرير، وعزله وإعدامه، بعد إدانته إدانة عادلة (69) ". وبعد شهر واحد دعاه مجلس الدولة في الحكومة الثورية ليكون "سكرتير المجلس للغات الأجنبية". فنحي ملحمته جانباً، ليتفرغ لمدة أحد عشر عاماً، لخدمة جمهورية البيوريتانيين وحكومة "الحماية" على عهد كرومول.
6 - سكرتير اللغة اللاتينية
1649 - 1659
كان النظام الجديد في حاجة إلى من يتقن اللغة اللاتينية، ليحرر المراسلات الأجنبية، وكان ملتون المرشح البارز لهذا العمل. حيث كان يستطيع الكتابة باللغات اللاتينية والإيطالية والفرنسية كأحد أبناء روما القديمة أو فلورنسة أو باريس، كما أنه كان قد أثبت في أشد أوقات الحرج أنه مخلص لقضية البرلمان في نزاعه ضد الأساقفة والملك. وكان مجلس الدولة لا "كرومول" هو الذي استخدمه لهذا العمل. ولم يكن له صلة وثيقة بالحاكم الجديد، ولكنه لا بد أن يكون قد رآه كثيراً، وأنه قد أحس في تفكيره وفي كتاباته، بالتقارب مع هذه الشخصية المرعبة. ولم يستخدم المجلس ملتون لمجرد ترجمة رسائله الأجنبية إلى اللاتينية، بل كذلك، ليبرز للحكومات الأجنبية، في نشرات لاتينية، وجه العدالة والحق في السياسة الداخلية التي ينتهجها المجلس، كما يبرز، فوق ذلك كيف كان من الحكمة وسداد الرأي الإطاحة برأس الملك.
وفي إبريل 1649، فور تقليده منصبه، انضم ملتون إلى موظفين آخرين في المجلس في وقف نشرات الملكيين وأنصاره المساواة ضد نظام الحكم الجديد (70). وكانت الرقابة على المطبوعات آنذاك أشد صرامة منها في أي وقت مضى في تاريخ إنجلترا، متعبة في ذلك القاعدة العامة التي تقول بأن الرقابة تشتد بتزعزع مركز الحكومة. إن الرجل الذي كان قد دبج بأفصح بيان النداء الذي لم يكن له نظير من قبل، من أجل حرية الصحافة(32/75)
بات الآن ينظر إلى الرقابة من وجهة نظر السلطة الحاكمة. على أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن ملتون قال من قبل الأريوباجيتيكا: إنه من أهم صلاحيات الكنيسة والدلوة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدر الناس ومن ثم تحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر" (71).
ومذ كان جون للبيرن بصفة خاصة كاتباً مزعجاً من أنصار المساواة، فإن المجلس أصدر تعليماته إلى ملتون ليتولى الرد على كتابه المتطرف "اكتشاف أغلال جديدة". ولسنا ندري هل قام ملتون بهذه المهمة أو لم يقم. ولكنه يروي هو نفسه (72) أنه "أمر" أن يرد على "صورة الملك" وامتثل لهذا الأمر فنشر في 6 أكتوبر 1649 كتاباً من 242 صفحة تحت عنوان "محطم الصورة". وارتياباً، ولكن اعتراضاً من بأن "صورة الملك" هو ما أوهم بأنه من تأليف شارل الأول نفسه، فإنه-أي ملتون تناول حجة الملكية فقرة فقرة، وانبرى لتنفيذها بكل مل أوتي من قوة ومن خلال ذلك دافع عن سياسة كرومول، وبرر إعدام الملك، وأبدى احتقاره "لتلك الشرذمة من الغوغاء المتقلبين الذين يعوزهم التفكير السليم المولعين بالصور، .. قطيع ساذج عاجز تربى على الذل والخنوع .... يفتتن بالطغيان (73) ".
واستبد الغيظ والحنق بشارل الثاني، وهو يتجول في القارة، فاستأجر أعظم علماء أوربا كلود سوميز ليتولى الدفاع عن الملك الميت، وسرعان ما أصدر "سالماسيوس" "دفاعه عن الملك السابق شارل الأول"، في ليدن (نوفمبر 1649)، نعت فيه كرومول وأتباعه بأنهم "أوغاد متعصبون ... وأنهم العدو المشترك للبشرية" وأهاب بكل الملوك، من أجلهم هم أنفسهم؛ أن يجهزوا الجيوش للقضاء على هذا الوباء ... يقيناً أن دم الملك العظيم يستصرخ كل الملوك والأمراء في العالم المسيحي للثأر له. ولا يمكن أن يقوموا بعمل فيه هدوء روحه وسكونها خيراً من أن يعيدوا لوريثه(32/76)
الشرعي كل حقوقه كاملة، ويستردوا له عرش أبيه .... وأن يذبحوا، كضحايا على جدث الميت المقدس، هذه الوحوش البالغة الضراوة، الذين تآمروا على قتل هذا الملك العظيم (24).
وخشي كرومول أن-تزيد حملات مثل هذا العالم الذائع الصيت في أوربا من الاستياء السائد في القارة ضد حكومته، فطلب إلى ملتون الرد على سالماسيوس. وجهد السكرتير اللاتيني في إنجاز هذه المهمة قرابة عام كامل، في ضوء الشموع، على الرغم من تحذير طبيبه له بأنه يفقد بصره تدريجياً، وأنه مهدد بالعمى. وكانت إحدى العينين عاطلة بالفعل، وفي 31 ديسمبر ظهر "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه ضد دفاع سالماسيوس عن الملكية-لجون ملتون"، بدأ بالسخرية من سالماسيوس لبيعه خدماته لشارل الثاني، واستطرد ليظهر أن سالماسيوس قبل أربع سنوات فقط كتب يهاجم النظام الأسقفي الذي يدافع عنه الآن:
أيها العميل الفاسد المرتشي المأجور ... أيها الجبان المحتقر المرتد الخارج على مبادئك ... يا أشد الحمقى سذاجة وبلاهة .... أنت جدير بعكازة المهرج، حين تظن أنك تغزي الملوك والأمراء بالحرب، بمثل هذه الحجج الصبيانية الواهية ... هل تتخيل إذن، أيها المتلعثم المحامي الصغير الحقير، الذي لم يولد إلا لينسخ ويقلد كبار الكتاب، الذي لم يؤت أية موهبة أو ذكاء أو عبقرية، أنك ستنتج شيئاً تكتب له الحياة من عندياتك؟ صدقني أنك وكتاباتك العقيمة معاً، ستلقي في زوايا النسيان في الجيل القادم. لولا أن "دفاعك عن الملك" سيدين ببعض الفضل للرد عليه، بمحض الصدفة، وعلى الرغم من أنه قد أغفل وطرح جانباً لبعض الوقت، فإنه لذلك سيبعث من جديد (75).
وهذا هو ما حدث على وجه الدقة. أن سالماسيوس كان قد أضفى على شارل الأول صورة مثالية. ولكن ملتون يحط من قدره. ويشتبه في أن شارل حرض دوق بكنجهام على دس السم لوالده جيمس الأول، ويتهم(32/77)
الملك الميت بكل "ضروب الفساد الخلقي والإثم مع الدوق المذكور، ويتهم شارل بتقبيل النسوة في المسرح، وبمداعبته أثداء العذارى والعقيلات علناً (76) ". وكان سالماسيوس قد أطلق على ملتون أسماء كثيرة، فثأر ملتون بأن نعت سالماسيوس بأنه، غبي، خنفساء، حمار، كذاب، قذاف مغتر، مرتد، معتوه، جهول، متشرد، عبد ذليل، ويسخر من سالماسيوس لسيطرة زوجته عليه، ويعنف على أخطائه اللاتينية. ويدعوه إلى أن يشنق نفسه، ويضمن له الدخول إلى الجحيم (77). ونظر توماس هويز إلى هذه الكتب المتنافسة من علياء فلسفته، فأعلن أنه عاجز عن أن يقرر أي الفريقين أقوى لغة وأيهما أضعف حجة (78). على أن مجلس الدولة قدم الشكر لملتون.
تلقى سالماسيوس نسخة من "دفاع" ملتون أثناء وجوده في بلاط الملكة كريستينا في ستكهلم، ووعد بالرد عليه، ولكنه أبطأ. وفي والوقت نفسه أنصرف ملتون عن الشؤون الخارجية إلى شؤون بيته. ففي 1649 انتقل إلى دار في "شيرنج كروس" ليكون قريباً من عمله. وهناك وضعت زوجته ولداً، لم يلبث أن مات، وفي 1652 وضعت بنتاً "ديبورا" كلفته ولادتها حياة أمها. وفي تلك السنة فقد ملتون بصره تماماً. وعندئذ نظم قصيدة من أروع قصائده (السونيت) "عندما أتدبر كيف فقدت نور عيني". وأبقى عليه المجلس سكرتيراً لاتينياً، وخصص له كاتباً ليدون له مل يمليه عليه.
ومني، وهو رهين العمى، بخسارة أخرى، ففي عام 1653 انهارت الجمهورية التي طالما هلل لها ورحب بها، إلى "ملكية عسكرية" وأصبح فيها "حامي الحمى" كرومول، في واقع الأمر ملكاً. وراض ملتون نفسه على هذه التطورات بقوله: "أن أساليب العناية الإلهية يحوطها الغموض والإبهام (79) ". وظل على إعجابه بكرومول وامتدحه بأنه "أعظم بني الوطن وأكثرهم تألقاً وامتيازاً ... أنه أبو البلاد"، وأكد له "أن في ائتلاف(32/78)
المجتمع الإنساني ليس ثمة شيء أحب إلى الله، أو أكثر التئاماً مع القليل من أن يتولى أسمى العقول السلطة العليا (28) ".
وسرعان ما طلب إليه أن يتولى الدفاع عن "حامي الحمى" في اتهام خطير. ذلك أنه في 1652 ظهر كتاب يشكل عنوانه نفسه صيحة الحرب "صرخة الدم الملكي" إلى السموات ضد الإنجليز الذين قتلوا أباهم" وبدأ الكتاب بأن نعت ملتون بأنه "حيوان شرير بشع، قبيح المنظر، ضخم الجسم، مكفوف البصر .... جلاد ... يستحق الشنق". وقرن الكتاب إعدام شارل الأول بصلب المسيح، واعتبر قتل الملك كبرى الجرائم (81) وسخر من جهر "الغاصبين" بإيمانهم بالدين:
أن لغة وثائقهم العامة محشوة بالتقى والورع وكان لزاماً أن يجاريها أسلوب كرومول ومن يدافعون عنه، وأنه لمما يثير الاشمئزاز، كما يثير السخرية المريرة، إلى أي حد من الوقاحة والصفاقة يخفي هؤلاء الأوغاد الخفيون واللصوص الظاهرون حقيقة شرورهم بذريعة أوستار من الدين (82).
وكما فعل سالماسيوس، أهاب المؤلف المجهول بدول القارة أن تغزو إنجلترا وتعيد آل ستيوارت إلى العرش. وختم الكتاب بتوجيهه إلى الحارس القذر المتوحش، جون ملتون، المدافع عن قتل الآباء وقتلتهم، مع الأمل في أن يلقى وشيكاً شر الجزاء فيضرب بالسياط:
حول هذا الرأس الحانث سدد الضربات جيداً، وشوه كل بوصة فيه بآثار العصا، إلى أن تصبح الجثة كتلة هلامية واحدة. هل توقفت؟ اضرب حتى تتفجر الصفراء من كبده من خلال عينيه الداميتين (83).
واستحث مجلس الدولة ملتون للرد على هذا العنف، ولكنه تمهل توقعاً لحملة من سالماسيوس، أملاً في أن يرد على الخصمين في رسالة واحدة. ولكن سالماسيوس قضى نحبه (1653) دون أن يتم رده. وخدع ملتون في اعتقاده بأن كاتب "صرخة الدم الملكي" هو الكساندر مورس-(32/79)
Morus، وهو قسيس عالم في مدلبرج فطلب إلى مراسليه في المقاطعات المتحدة موافاته ببيانات عن حياة موريس العامة والخاصة (84). وكتب أوريان أولاك، طابع الكتاب، إلى هارتاب، صديق ملتون، مؤكداً أن موريس ليس هو المؤلف (85). ولكن ملتون أبى أن يصدق هذا، وأيده في هذا، ما يتناقله الناس في امستردام. وفي إبريل 1654 كتب جون دروري إلى ملتون، محذراً إياه بأنه مخطئ في نسبه "صرخة الدم الملكي" إلى موريس، ولكن ملتون تجاهل هذا التحذير، وفي 30 مايو كتب الدفاع الثاني للشعب الإنجليزي"-جون ملتون.
وكان سحر البيان في هذا الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته 173، أمراً مشهوداً، حيث أملاه باللاتينية رجل كف بصره تماماً. وعزا أعداؤه ما أصابه من عمى إلى العقاب الإلهي جزاء خطاياه الفادحة. وأجاب ملتون على هذا بأنه لا يمكن أن يكون، لأن حياته كانت مثالية، وهو يشعر بالفرح والابتهاج لأن الدفاع الأول:
هكذا أصاب غريمي بهزيمة ساحقة .... إلى حد أنه أستسلم من فوره وقد تحطمت روحه وانهارت سمعته، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية من حياته، ولو أنه كان يهدد ويرغى ويزيد كثيراً. فإنه لم يعد يزعجنا، فيما عدا أنه استعان بالجهد التافه لشخص جدير بكل الازدراء، حرضه بما لست أدري من الملق القبيح المسرف، على أن يرقعا قدر الإمكان بمديحهما، ما حل بشخصه مؤخراً من دمار غير متوقع (86).
ثم يعرج ملتون على عدوه الجديد، فيذكر أن "موريس" تعني بالإغريقية "مغفل" ويتهمه بالهرطقة والتهتك والزنى، وبأن خادمة سالماً سالماسيوس حملت منه سفاحاً، ثم هجرها. بل أن طابع "صرخة الدم الملكي" نفسه يجلد بالسوط، وكل إنسان يعرف أنه غشاش مفلس سيئ السمعة (87).
وفي ظرف ومرح أكثر، ويستعرض ملتون أعمال كرومول، ويدافع عن حملاته غب أيرلندة، وعن حل البرلمان، وعن استيلاء على السلطة،(32/80)
ويوجه الحديث إلى "حامي الحمى":
إننا جميعاً نقدرك حق قدرك ونقر بفضلك الذي لا يدانيه فضل، فأمض في طريقك القويم، ياكرومول، ... يامحرر بلادك، ويا من أرسى دعائم الحرية فيها، ويا من تفوقت بأعمالك المجيدة، لا على إنجازات الملوك فحسب، بل على مغامرات أبطالنا الأسطورية أيضاً (88).
ولكن بعد عبارات الإجلال والإكبار هذه، لم يتردد ملتون في أن يمحض كرومول النصح في أمر السياسة. فأشار عليه بأن يحيط نفسه برجال من أمثال فليتوود ولمبرت (وهما من المتطرفين)، وأن يدعم حرية الصحافة وأن يترك الدين منفصلاً تمام الانفصال عن الدولة. كما ينبغي ألا تجمع أية عشور لرجال الدين، فإنهم بالفعل متخمون، (وكل ما فيهم سمين، حتى عقولهم دون استثناء (89) ". ويسترسل ملتون فيحذر كرومول من أنه "ونحن نعده، دوننا جميعاً، أعدل وأقدس وأفضل رجل" إذا أقدم على قمع الحرية التي دافع عنها، فلن تكون النتيجة إلا وبالاً ودماراً، لا لشخصه فحسب، بل كذلك لكل متطلبات الفضيلة والتقوى (90). ويوضح ملتون بأجلى بيان أنه لا يقصد "بالحرية" الديمقراطية، وهو يسأل الناس:
لماذا يؤكد لكم أي إنسان حقكم في الاقتراع العام، أو قدرتكم على انتخاب من تريدون للبرلمان؟ هل من أجل أن تتمكنوا من انتخاب رجال من حزبكم في المدن، وفي الأقاليم، تنتخبون الرجل الذي مد لكم الموائد في بذخ بالغ، أو أسرف في تقديم الشراب برجال الريف والفلاحين السذج، سواء كان جديراً أو غير جدير بالانتخاب؟ ومن ثم لا يجتمع لنا في البرلمان أعضاء اتسموا بالحصافة والحكمة والخبرة والثقة، بل أعضاء صنعتهم الحزبية وموائد الطعام!!. وبعبارة أخرى تحصل على أعضاء من تجار الخمور والباعة المتجولين، من الحانات في المدن، ومن الرعاة ومربي الماشية في الريف، فهل يجدر بأي إنسان أن يكل أمور الجمهور لأمثال هؤلاء الذين لا يثق أحد أن يعهد إليهم بشأن من شئونه الخاصة (91)؟.(32/81)
كلا، إن مثل هذا الاقتراع العام لا يعتبر حرية:
فلأن أن تكون حراً، هو بالضبط أن تكون تقياً عاقلاً عادلاً معتدلاً مكتفياً بذاتك، لا تمد يديك إلى ما بأيدي الناس، وقصارى القول، أن تكون شهماً رحب الصدر شجاعاً. أما إذا تجردت من هذا كله أو كنت على نقيضه، فإنك لن تعدو أن تكون عبداً رقيقاً. وقد حكم الله على الأمة التي لا تستطيع أن تحكم نفسها وتدبر أمورها بنفسها، والتي استعبدتها شهواتها، بأنها لابد أن تستسلم لسلطان غيرها، فتقع في ذل العبودية بإرادتها وضد إرادتها معاً (92).
وفي أكتوبر 1654 أعاد أولاك طبع "الدفاع الثاني" لملتون، في لاهاي، مع رد عليه بقلم موريس بعنوان "دليل دامغ". وفي المقدمة أكد الطابع أن موريس ليس مؤلف "صرخة الدم الملكي"، وأنه، أي أولاك، تسلم مخطوطته من سلماسيوس الذي أبى أن يميط اللثام عن أسم المؤلف. وأنكر مورس إنكاراً تاماً أنه المؤلف، وأكد أن ملتون قد أبلغ بهذا الأمر مراراً وتكراراً، واتهمه بأنه قد رفض من قبل تغيير "دفاعه"، لأنه لن يتبقى من شيء يذكر إذا حذف من السباب الذي وجهه إلى موريس. وفي أغسطس 1655 أصدر ملتون كتاباً من مائتين وأربع صفحات "دفاع عن النفس" ورفض أن يصدق إنكار مورس، وأورد من جديد فعلته الشائنة مع خادمه سالماسيوس، وأضاف أنها، في شجار مشروع أوسعت مورس ضرباً وطرحته أرضاً، وكادت أن تفقأ عينيه (93). ولكن تبين في خاتمة المطاف أن أحد رجال اللاهوت البروتستانت، واسمه بيير دي مولان، هو الذي كتب "صرخة الدم الملكي"، وأن مورس هو الذي نشره وكتب إهداءه (94). ولما دعي مورس ليكون راعياً لإحدى كنائس الإصلاح قرب باريس، أرسل شاعرنا عدة نسخ من "الدفاع الثاني" إلى الأبرشية لمنع تعيينه (95). ولكن مجلس الأبرشية عينه على الرغم من ذلك كله، وختم مورس سيرته التي اكتنفتها المضايقات (1670) وهو أنصح(32/82)
الوعاظ البروتستانت بياناً في باريس أو فيما حولها.
ويبدو ملتون في مظهر أرق في قصيدة السونيت "مذبحة بيد مونت" (1655) (1). ويحتمل أنه هو الذي دون الرسائل التي أهاب فيها كرومول بدوق سافوي ليضع حداً لاضطهاد "الفدوا Vaudois" ( أتباع بيتر فالدو-بيوريتانيون منشقون في جنوب فرنسا)، وإلى مزران وحكام السويد والدنمرك والمقاطعات المتحدة ومقاطعات سويسرا، ليتوسطوا لدى الدوق.
وفي 1656، بعد أربع سنوات من حياة العزوبة، تزوج ملتون من كاترين وودكرك التي لم تكتحل عيناه بمرآها، بطبيعة الحال ولكنها أثبتت أنها بركة ونعمة عليه، فكانت ممرضة صابرة متجلدة لزوج مكفوف عنيف، وأما لبناته الثلاث، ولكنها قضت نحبها (1658)، أثناء وضع طفل لم يعمر. وكانت تلك سنة عصيبة على ملتون، حيث رحل عن الوجود وكرومول أيضاً، فكان لزاماً على السكرتير اللاتيني أن يحافظ على منصبه، قدر طاقته، في غمرة فوضى الأحزاب التي انحدرت بريتشارد كرومول إلى مجرد رجل عاجز تافه محب للخير. وعلى الرغم من أن ملتون لابد كان يدرك أن إنجلترا سائرة في طريق استعادة ملكية آل ستيوراث، فإنه أصدر في أكتوبر 1658 طبعة جديدة من "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه" في أسلوب يغري بالاستشهاد. وفي مقدمة رائعة وصف ملتون "الدفاع الأول" بأنه "أثر ... تتعذر إزالته بسهولة"، وزعم أنه من وحي السماء ووضعه في المرتبة التالية لمآثر كرومول، الذي أنقذ حرية إنجلترا (96).
وقاوم في شجاعة عمياء حركة إعادة شارل الثاني، وعندما وصل جيش مونك إلى لندن، وتردد البرلمان بين الجمهورية والملكية، نشر ملتون في فبراير 1660 رسالة موجهة إلى البرلمان، تقع في 18 صحيفة، "الطريق الممهد السهل لإقامة جمهورية حرة، ومزاياه المرتقبة بالمقارنة إلى مساوئ ومخاطر
_________
(1) أنظر الفصل السادس عشر-الفقرة الأولى.(32/83)
إعادة الملكية في هذه الأمة". ومهرها في جرأة وبسالة باسمه (بقلم جون ملتون) وفيها ناشد البرلمان:
ألا يلوث ويهزأ بدم آلاف الإنجليز المخلصين البواسل الذين خلفوا لنا هذه الحرية، التي اشترت بحياتنا نحن. وماذا عسى أن يقول جيراننا عنا وعن اسم إنجلترا عامة، إلا أنهم على أحسن الفروض، سيسخرون منا، قدر السخرية بهذا الرجل الغبي، الذي أورد (مخلصنا) ذكره، والذي بدأ يبني صرحاً وعجز عن إتمام البناء؟ أين صرح الجمهورية الشامخ الذي تباهي الإنجليز بأنهم سيقيمونه ليتقلص ظل الملوك، وتصبح إنجلترا روما أخرى في الغرب؟ .... ما هذا الجنون الذي اعترى هؤلاء الذي يستطيعون في شرف وكرامة أن يدبروا شئونها بأنفسهم، حتى يحولوا كل هذه السلطات إلى شخص رجل واحد! يا للجبن والنذالة أن نحسب أن مثل هذا الفرد هو مناط حياتنا، ونعلق عليه كل سعادتنا وأمتنا وسلامتنا وخيرنا، وبدونه لا يكون لنا وجود، أو نكون مجرد أفراد كسالى بلداء أو أطفال! إنه ليجدر بنا أن نعتمد على الله وحده، وعلى أنفسنا نحن، وعلى فضائلنا العملية وعملنا الجاد (97).
وتنبأ ملتون بأن كل (الاعتداءات القديمة) التي ارتكبتها الملكية ضد حرية الشعب سوف تعود وشيكاً بعودة الملكية. واقترح أن يحل محل البرلمان (مجلس عام) يضم أقدر الرجال الذين ينتخبهم الشعب للعمل حتى الموت، ولا يخضعون للعزل إلا عند الإدانة بإحدى الجرائم، ويجدد المجلس بانتخابات دورية. وعلى هذا المجلس، على أية حال أن يوفر أكبر قدر ممكن من حرية الكلام والعبادة والحكم المحلي. واختتم ملتون رسالته بقوله: "أرجو أن أكون تحدثت إلى حد الإقناع إلى مجموعة كبيرة من الرجال الواعين المخلصين، أو إلى بعض من قد يقيمهم الله من هذه المقاعد الحجرية ليصبحوا "أبناء الحرية"، ويوقفهم ويجمعهم على قرارات حكيمة تقيم ما أعوج من أمورنا، وتصلح ما أفسد من أحوالنا، وتعالج هذه الخلل العام(32/84)
المتفشي في الجمهور الذي أسيء استغلاله وأعوزه من يوجهه ويرشده (98) ".
وتجاهل البرلمان هذا الالتماس الذي ينطوي على القضاء عليه. وظهرت النشرات المطبوعة التي تهاجم ملتون، وحبذت إحداها شنقه وأصدر مجلس الدولة، وهو آنئذ ملكي النزعة، أمراً بالقبض على طابع رسالة ملتون، وفصله من منصبه (السكرتير اللاتيني للمجلس) فكان جوابه على ذلك إنه أصدر طبعة ثانية مزيدة من الرسالة "الطريق الممهد السهل" (إبريل 1660) وحذر البرلمان من أن الوعود التي يقطعها الآن شارل من اليسير أن تنقض بمجرد تثبيت دعائم السلطة الملكية الجديدة. وسلم بأن غالبية الشعب ترغب في عودة شارل الثاني، ولكنه دفع بأن الأغلبية ليس لها الحق في استعباد الأقلية أو التحكم فيها. إنه لمن الأعدل .... إذا وصل الأمر إلى حد الفرض بالقوة، أن ترغم الأقلية مجموعة أكبر مجموعة أكبر منها على أن تعيد إليها حريتها. من أن تفرض الأغلبية على أقلية من الناس من بني وطنهم أن يكونوا عبيداً أرقاء لهم، بشكل يسيء إليهم أبلغ إساءة (99). وتكاثرت الهجمات والحملات على ملتون وناشدت إحداها الملك شارل الثاني، وكان آنذاك في بريداً أن يتذكر جيداً الإهانات التي وجهها ملتون من قبل في رسالة "محطم الصور" وغيرها، إلى والده شارل الأول. واقترحت أن يضم ملتون إلى قائمة قتلة الملك الفعليين، لأنه يستحق الإعدام (100).
وقبل أن تصل هذه النشرة إلى شارل الثاني، كان قد أبحر هو بالفعل إلى إنجلترا، وفي 7 مايو، ودع ملتون أولاده وآوى إلى مخبأ مع أحد الأصدقاء. ولكن كشف أمره وأودع السجن، وبات مصيره لمدة ثلاثة أشهر مرهوناً بما يقرره البرلمان الملكي ورأى كثير من الأعضاء أنه إذا كان ثمة من يستحق الإعدام، فهو ملتون. وكان هذا متوقعاً. ولكن مارفل دافينانت وبعض الأعضاء الآخرين توصلوا إلى البرلمان أن يرحم شيخوخته وبصره المكفوف فاكتفى البرلمان بالأمر بإحراق بعض كتب بعينها من مؤلفاته، حيثما وجدت. وأطلق سراحه في 15 ديسمبر، فاتخذ داراً(32/85)
في هلبورن، انتقل إليها هو وأولاده، حيث انصرف-بعد أحد عشر عاماً صاخباً عصبياً مضطرباً، عن النشر، إلى الفترة الثانية من نظم الشعر، وهي فترة بالغة الروعة والعظمة.
7 - الشاعر العجوز
1660 - 1667
وجد ملتون بعض السلوى والعزاء في العزف على الأرغن وفي الغناء، ويقول أوبري "كان صوته رخيماً رقيقاً (101) " وفي 1661 انتقل إلى دار أخرى، وفي 1664 استقربه المقام نهائياً في بيت في Artillery Wolk، فيه حديقة صغيرة استطاع أن يتمشى فيها دون أن يقوده أحد سوى يديه وقدميه. وكثيراً ما أقدم إليه أبناء أخته لزيارته ومعاونته، وقد نسوا ما كال لهم من ضرب في سابق الأيام، كما جاء إليه الأصدقاء ليقرئوا له، أو يكتبوا ما يمليه عليهم. وتولى بناته الثلاث خدمته بصبر نافد وجهد جهيد. وكانت كبراهن-آن-عرجاء شوهاء لكناء. وكانت ديبورا تتولى له الكتابة، وتعلمت هي وأختها ماري قراءة اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإيطالية والأسبانية، ولو أنهما لم تكونا تفهمان ما تقرآن (102). والحق أن أياً منهما لم تذهب قط إلى مدرسة، ولكنهن تلقين بعض الدروس الخاصة. ولكن لم يحظين من التعاليم إلا بأقل نصيب، على أحسن الفروض وباع ملتون معظم مكتبته قبل وفاته، لأن بناته لم تعنين بالكتب إلا قليلاً. وشكا من أنهن بعين الكتب خفية، وأنهن أهملن شأنه في وقت الحاجة والشدة، وأنهن تأمرن مع الخدم على مغالطته وسلبه عند شراء حاجيات المنزل (102)، ولم تشعر البنات بالسعادة في هذا البيت الكئيب، مع والد قاسٍ كثير المطالب سريع الغضب. ولما سمعت ابنته ماري بأنه يرتب لزواج جديد قالت: "ليس ثمة أنباء تستحق أن تسمع عن زفافه، ولكن النبأ الجدير بالاستماع هو نبأ وفاته" (104). واتخذ ملتون في 1663، وهو آنذاك في الخامسة والخمسين، زوجة ثالثة، هي اليزابث منشول Munshull، وكانت في الرابعة والعشرين من العمر. وتولت خدمته(32/86)
بإخلاص وأمانة حتى آخر أيام حياته. وبعد سبع سنوات مع زوجة الأب التي وصفها أوبري بأنها "وديعة مسالمة مرحة مقبولة" (105) هجر البنات الثلاث منزل والدهن، ليتعلمن، على نفقة ملتون بعض الحرف.
وكانت عودة الملك قد كلفته كثيراً، وكادت أن تكلفه حياته، ولكنها مهدت الطريق لنظم "الفردوس المفقود". فلولاها ربما أفنى ملتون نفسه في التراشق بالنشر في المعركة، لأن "المقاتل" كان في مثل قوة "الشاعر" في شخصه. وبرغم هذا كله، لم يودع ملتون قط الأمل في أن يكتب لإنجلترا شيئاً تتغنى به لقرون قادمة. وفي 1640 أعد بياناً بموضوعات يمكن أن تكون ملحمة أو دراما، كان من بينها موضوع خطيئة آدم (خروجه من الجنة)، وأساطير الملك آرثر (ملك بريطانيا الذي يفترض أنه عاش في القرن السادس ق. م.، وبطل المائدة المستديرة) وتأرجح بين اللاتينية والإنجليزية، بأيتهما يكتب، وحتى حين قر قراره على "الفردوس المفقود"، موضوعاً له، فكر في أن يكتبه على شكل مأساة إغريقية، أو رواية دينية، على غرار روايات العصور الوسطى، وفي أوقات مختلفة نظم بعض أبيات أو مقطوعات أدخلت فيما بعد في القصيدة. ولم يتسن له إلا بعد وفاة كرومول، أن يجد فسحة من الوقت يومياً، ليكتب الملحمة، وفي 1658 فقد بصره تماماً.
في الأيام السود، وألسن السوء، ولو أنها ولت، فقد لفنا الظلام واكتنفتنا الأخطار من كل جانب (106).
وتواردت على ذهنه الأبيات، حين كان يرقد عاجزاً أرقاً، ويكاد ينفجر بها. فينادي على من يكتب له قائلاً: "إنه يحتاج إلى من يحلبه (107) ". وكانت تنتابه حمى الشعر، فيملي أربعين بيتاً "في نفس واحد"، ثم يجد في تصحيحها عندما تعاد تلاوتها عليه. ويحتمل ألا تكون ثمة قصيدة نظمت بمثل هذا الجد والكد والشجاعة والجراءة. وداخل ملتون شعور قوي بأنه يمثل لإنجلترا هوميروس واشعيا معاً، حيث اعتقد بأن الشاعر(32/87)
صوت الله، وأنه نبي أوحي إليه أن يعلم الناس.
وفي 1665، حين انتشر الطاعون بلندن، اتخذ التدابير صديق سجين من الكويكرز، هو توماس الوود، لنقل ملتون ليقيم في "كوخه المكون من عشة حجرات في "كالفونت سانت شيل في بنكجهام مشير". وهناك في هذه "المقصورة الجميلة" أكمل الشاعر "الفردوس المفقود" ولكن من ذا الذي يقدم على نشرها؟ لقد كانت لندن في اضطراب بالغ في 1665 - 1666 بسبب الحريق الذي جاء في أعقاب الطاعون، وإذا كان ثمة شيء من الفرح والمرح باق، فهو عودة الملكية في صخبها وعربدتها. وفي حالة نفسية ليس معها مجال لملحمة من 10558 بيتاً الخطيئة الأولى. لقد حصل ملتون من قبل على ألف من الجنيهات عن رسالته "دفاع الشعب الإنجليزي" أما الآن، في 27 إبريل 1667، فقد باع كل حقوقه في "الفردوس المفقود" إلى الناشر صمويل سيمونز لقاء خمسة جنيهات نقداً، مع الاتفاق على دفعات أخرى قيمة كل منها خمسة جنيهات، يتوقف تسديدها على ما يباع من الكتاب، فكان كل ما حصل عليه هو 18 جنيهاً (108). ونشرت القصيدة في أغسطس 1667. وبيع منها العامين الأولين 1300 نسخة، وفي الأحد عشر عاماً الأولى بيع 3000 نسخة. وربما لا يقبل على القراءة القصيدة بأكملها مثل هذا العدد من القراء في أية سنة من أيامنا هذه، فليس لدينا فراغ كبير، حتى لقد اخترعنا كثيراً من الأدوات التي توفر الجهد. وتشترك "الفردوس المفقود" مع "انياذة فرجيل"، فيما أصاب كلتيهما من نكسة وتعويق، لظهورهما بعد الياذة هوميروس، فإن مشاهد المعركة والمحاربين الخارقين للطبيعة يفقدون قوتهم وسحرهم، ولكنهم تقليداً ومحاكاة. ولا ريب في أن هوميروس قلد نماذج قديمة، ولكنا نسيناها ولم نعد نذكرها، وذهب جونسون إلى أن "الفردوس المفقود"، بطبيعة موضوعها، تمتاز على ما عداها، بأنها ممتعة مشوقة للجميع دائماً "ولكنه(32/88)
اعترف بأن" أحد لم تساوره الرغبة في أن تكون أطل مما هي (109). أن موضوع "الخطيئة الأولى للإنسان. وثمار الشجرة المحرمة التي جلب مذاقها القاتل الموت والفناء على العالم، وجلب علينا كل الكروب والويلات"، كان موضوعاً مناسباً إلى حد كبير، لأيام شباب ملتون، حين كان يتلقى سفر التكوين على أنه تاريخ، وحين كانت الجنة والنار، والملائكة والشياطين، هي نسيج التفكير اليومي. أما اليوم فإن موضوع القصيدة أكبر عائق في سبيلها، إنها قصة خرافية تروي للشبان في أحد عشر قسماً، وأن الاستمرار في مشاهدة مثل هذا العرض الطويل اللاهوت من البداية حتى النهاية جاف قاس عتيق، ليتطلب اليوم جهداً شاقاً متصلاً. وما كان الهراء ليسي عليه يوماً مثل السمو والرفعة قط. إن عظمة المشهد وجلاله، ومعانقة الجنة والنار والأرض، والانسياب الفخم المهيب للشعر المرسل، ومعالجة الموضوع المعقد ببراعة فائقة، والوصف الرقيق الجديد للطبيعة، والمحاولة الموفقة لإسباغ الواقعية والشخصية على آدم وحواء، وكثرة القطع الشعرية البالغة الروعة والقوة، كل أولئك بعض الأسباب التي جعلت من "الفردوس المفقود" أعظم قصيدة في اللغة الإنجليزية.
وتبدأ القصة في جهنم حيث الشيطان على هيئة طائر "ضخم الجسم"، ذي جناحين مبسوطين، ينصح ملائكته الهابطين بألا ييأسوا:
لم يضع كل شيء، فإن الإرادة التي لا تقهر، وتدبر للأخذ بالثأر والكراهية التي لا يخبوا أوارها أبداً، والشجاعة التي لا تخضع ولا تستسلم، أما أن تنثني متوسلة للرحمة، على ركبتين ضارعتين، وتعظم من سلطانه ... فهذا أمر دنئ حقاً هذا خزي وعار أنكى من هذا السقوط ويبقى العقل والروح ولا سبيل إلى قهرهما (110) ...
وكأني بهذه الأبيات تردد صدى كرومول وهو يتحدى شارل الأول، وصدى ملتون وهو يتحدى شارل الثاني؛ وثمة عدة قطع في وصف الشيطان تذكرنا بملتون:(32/89)
عقل لا يغير منه زمان أو مكان، فالعقل راسخ في مكانه، يستطيع في نفسه أن يجعل من الجنة جحيماً، ومن الجحيم جنة (111).
وفي الأجزاء القديمة من القصيدة نجد أن فصاحة ملتون أغرته بأن يرسم لإبليس صورة تكاد تتسم بالود والعطف، وكأنه زعيم ثورة ضد السلطة الرسمية الاستبدادية. وتخلص الشاعر من أن يجعل الشيطان بطل الملحمة بتصويره، فيما بعد، بأنه "أبو الأكاذيب" الذي "يجثم مثل ضفدع الطين" أو كالأفعى التي تنزلق ملتوية فوق الوحل (112). ولكن في هذا القسم من الملحمة نفسه ينهض الشيطان مدافعاً عن المعرفة:
المعرفة محرمة محظورة؟ لماذا ينفس عليهما ربهما ذلك؟ هل تكون المعرفة إثماً؟ أو تكون فناء؟ هل يعيشان (آدم وحواء) على الجهل وحده؟ أو أن حالتهما السعيدة هي دليل طاعتهما وإيمانهما؟ سأثير في عقليهما مزيداً من الرغبة في المعرفة (113) ...
ومن ثم يحاور حواء وكأنه كنيسة عقلانية تحمل على كنيسة جامدة تعيش في ظلام الجهل، تقف عقبه كأداة في طريق انتشار المعرفة:
لماذا إذن كان هذا التحريم؟. لماذا كان، إلا ليرهب عباده ويبقيهم على حالة من الانحطاط والجهل، إنه يعلم أنه في اليوم الذي تأكلان من تلكما الشجرة، فإن أعينكما التي تبدو الآن صافية ولكنها كليلة، سوف تنفتح وتصفو تمام الانفتاح والصفاء، ومن ثم تكونان مثل الآلهة (114).
ويأمر روفائيل، وهو أحد الملائكة، آدم، بأن يكبت من حبه لاستطاع الكون، فليس من الحكمة أن يتطلع الإنسان إلى معرفة ما وراء نطاقه الفاني (115) فالإيمان أعقل من المعرفة.
وكان لنا أن نتوقع ألا يفسر ملتون "الخطيئة الأولى" بأنها رغبة في المعرفة، بل أنها علاقة جنسية. أنه على النقيض من ذلك، ينشد تسبيحة غير بيوريتانية إطلاقاً، من أجل مشروعية اللذة الجنسية، في حدود الزواج، ويصور آدم وحواء منغمسين في مثل هذه القيم المادية، مع(32/90)
بقائهما على "حالة البراءة" (116)، ولكن بعد "الخطيئة" أي أكل الفاكهة المحرمة من شجرة المعرفة-بدأ يستشعران الخزي والعار في الاتصال الجنسي (117). وهنا ينظر آدم إلى حواء على أنها مصدر كل الشر، "ضلع أعوج بالطبيعة" ويرثي لأن الله خلق المرأة:
لماذا خلق الله في النهاية هذه البدعة على الأرض، هذه العلة الجميلة في الطبيعة، ولم يملأ العالم على الفور، برجال مثل الملائكة، دون أثاث، أو يجد طريقة أخرى لتوالد بني البشر (118)؟.
ومن ثم فإن الإنسان الأول، في تاريخ الزواج في الكتاب المقدس، سرعان ما اصطنع ذريعة ليطلق الرجل زوجته في سهولة ويسر، وهنا نجد ملتون ينسي آدم، ويكرر شعراً ما سبق أن ذكره نثراً، عن خضوع المرأة خضوعاً حقيقياً تاماً للرجل (119). وسيعود إلى هذه اللازمة في قصيدة " Samson Agoniates (120) ". فهي حلمه الأثير الحبيب إلى نفسه. وفي رسالته السرية "العقيدة المسيحية" دافع عن إعادة "تعدد الزوجات"، ألم يجره العهد القديم. ألم يترك العهد الجديد هذا القانون الحكيم الشجاع دون إلغاء أو تعطيل؟ (121).
ومهما فسرت "مخالفة الإنسان الأول لأمر ربه" (الخطيئة الأولى)، فقد ثبت أنها موضوع أصغر من أن يملأ اثني عشر قسماً، لأن الملحمة تتطلب سلسلة من الأحداث والأعمال، ولكن حيث أن ثورة الملائكة انتهت حين بدأت القصة. فإن المسرحية لا تدخل إلى القصيدة إلا عن طريق الذكريات أو العودة إلى الماضي، وهو صدى آخذ في الذبول والزوال. ومشاهد المعركة موصوفة وصفاً جيداً، بما في ذلك التصارع المناسب بالسلاح، وشج الرؤوس وتقطيع الأوصال، ولكن من العسير أن تشعر بالألم أو بنشوة الابتهاج لهذه الضربات الخيالية. وعلى غرار الكتاب المسرحيين الفرنسيين يطلق ملتون لنفسه العنان للخطابة، فالجميع ابتداء من "الله" إلى حواء يخطبون، ولم يجد الشيطان في سمير جهنم ما يحول بينه وبين البلاغة وأنه(32/91)
لمن المزعج حقاً أن نعلم أنه حتى في الجحيم سنكون مضطرين إلى الاستماع إلى محاضرات".
"والرب" في هذه القصيدة ليس هو التألق الذي يجل عن الوصف الذي تحس به في "جنة دانتي" فهو في القصيدة فيلسوف سكولاس (فيلسوف نصراني من العصور الوسطى)، يدلي بأسباب مطولة غير مقنعة، لأنه وهو القادر على كل شيء، يجيز للشيطان أن يوجد، وإن يغوي الإنسان، متنبئاً، طوال الوقت، بأن هذا الإنسان سيبذل ويخضع، ويجلب على البشرية يأسرها قروناً من الخطيئة والشقاء والتعاسة. ويحاج بأنه بدون الإثم لا تكون الفضيلة، وبدون التجربة لا توجد الحكمة والتعقل، ويرى أنه من الأفضل أن يواجه الإنسان الإغراء ويقاومه، من عدم التعرض للإغراء إطلاقاً، دون أن يتوقع أبداً أن الصلوات سوف تتوسل إلى الله ألا يقود الإنسان إلى الغواية والإغراء. ومن ذا الذي يطبق التعاطف مع تمرد الشيطان على هذا السادي الذي لا يصدق؟ (السادية: الابتهاج بالقسوة المفرطة).
وهل كان ملتون يؤمن حقاً بهذا الهول الجبري المقدر؟. من الواضح أنه كان كذلك، لأنه بسط الكلام فيه، لا في "الفردوس المفقود" فحسب، بل في رسالته السرية "العقيدة المسيحية" كذلك (122). أي أن الله، قبل خلق الإنسان بزمن طويل، قدر أي الأرواح يكتب لها الخلاص، وأيها قدر عليها العذاب المقيم. وانطوت هذه الرسالة، على أية حال، على شيء من الهرطقة. ولم ينشرها ملتون قط، ولم يكشف أمرها إلا في 1823، ولم تصل إلى المطبعة إلا في 1825.
إن هذه الرسالة وثيقة جديرة بالذكر، فهي تبدأ في إطار من التقوى، ودون جدل أو لجاجة، بافتراض أن كل كلمة في الكتاب المقدس هي وحي من عند الله. وسلم ملتون بأن نصوص الكتاب المقدس قد طرأ عليها "التزييف والتشويه والتبديل" ولكنها حتى في صيغتها الراهنة، من صنع(32/92)
الله. وهو لايجيز غير التفسير الحرفي الأمين. فإذا جاءت الأسفار بأن "الرب"، استراح، أو خاف، أو خاف، أو ندم، أو كان غاضباً، أو حزينا، فإنه ينبغي أن تؤخذ هذه الألفاظ بمعناها الظاهري، ألا تخفف على أنها مجازات، بل كذلك أجزاء الجسم والصفات الجسدية التي تنسب إلى "الله" يجب قبولها على أنها حقيقية من الوجهة المادية (123). ولكن "الله" بالإضافة إلى هذا الكشف الظاهري الذي جاءت به الأسفار المقدسة والذي يكشف به عن كنهه فإنه، زودنا بوحي داخلي، هو الروح القدس الذي يتحدث في داخل قلوبنا. وهذا الوحي الداخلي "الملك الخاص لكل مؤمن، أسمى بكثير ... ومرشد أصدق، من الأسفار المقدسة (124). ومهما يكن من أمر، فإن ملتون يقتبس من الكتاب المقدس، ما يؤيد ما يسوق من حجج، على أنه البرهان الحاسم الدامغ.
وعلى أساس من الأسفار المقدسة، ينبذ ملتون نظرية الثالوث الأقدس التقليدية، ويؤثر عليها هرطقة آريوس (الذي بقول بأن المسيح ليس من مادة الله، بل هو خير خليقة فقط)، فالمسيح بكل معنى الكلمة، أبن الله، ولكن الأب ولده في زمن ما، ومن ثم فهو غير معاصر للأب وليس متساويا معه أبداً. فالمسيح هو الوسيط الذي خلقه الله على أنه "اللوجوس أي الكلمة" الذي سيخلق منها كل من عداه. ولا يسلم ملتون "بالخلق من العدم"، فعالم المادة، مثل عالم الروح؛ انبثاق أو فيض سرمدي من المادة الإلهية. وحتى الروح نفسها، فهي مادة رقيقة جداً أثيرية، ولا يجوز تمييزها تمييزاً حاداً عن المادة. وفي النهاية، المادة والروح، والجسم والنفس في الإنسان، شيء واحد (125). وثمة شبه كبير يستحق الملاحظة بين هذه الآراء، وآراء هوبز (1588 - 1689) وسبينوزا (1632 - 1677)، وقد نرى أنهما فارقا الحياة في نفس العقد من السنين الذي مات فيه ملتون (1608 - 1674). وربما أطلع ملتون على مؤلفات هوبز التي لها دوي ملحوظ في بلاط شارل الثاني.(32/93)
وظلت عقيدة ملتون خليطاً غريباً من التوحيد والمادية، ومن مذهب حرية الإرادة عند جاكوب أرمينيوس (لاهوتي بروتستانتي هولندي 1506 - 1609)، ومن مذهب الجبرية أو القضاء والقدر عند كلفن. ويبدو في كتاباته أنه كان رجلاً متعمقاً في أمور الدين. ومع ذلك لم يذهب قط إلى الكنيسة حتى قبل فقد بصره، ولم يقم الشعائر الدينية في بيته (126). وكتب دكتور جونسون: "في توزيع ساعاته لم يخصص وقتاً للصلاة، وحده، أو مع أهل بيته. وحذف الصلوات العامة، لقد حذف الصلوات جميعاً (127) ". وازدرى رجال الدين، ونعني على كرومول احتفاظه بعدد من رجال الدين تدفع الدولة رواتبهم، على أنه لون من "عبادة الأوثان"، يؤذي الدولة والكنيسة معاً (128). وفي أحد بياناته الأخيرة "بحث في العقيدة الحقة، والهرطقة والانشقاق عن الكنيسة والتسامح، وأمثل الطرق للحيلولة دون نمو البابوية" (1633) عارض بطريق مباشر الإعلان الثاني الذي أصدره شارل الثاني عن التسامح (1672)، محذرا إنجلترا من التسامح مع الكاثوليك وأنصار التوحيد، أو أية شيعة أخرى لا تعترف بالكتاب لمقدس أساساً وحيداً لمذهبها.
أن هذا الرجل الذي تفوح منه رائحة الهرطقة، عرف عنه مقاومة رجال الدين وتدخلهم في الشؤون العامة والخروج على الكنيسة، هو نفس الرجل الذي أخرج للعقيدة المسيحية أكرم شرح حديث لها.
8 - السنوات الأخيرة
1667 - 1674
احتفظ ملتون مع دخوله في العقد السابع من العمر، فيما خلا فقد البصر، بصحبة جسمه واعتداده بنفسه، وهما اللذان دعماه وسانداه في كل الصراعات الدينية والسياسية التي خاضها. ويصفه أوبري بأنه "نحيل ... متوسط القامة" ... فهو جسم جميل متناسب الأجزاء، وبشرته فوق المتوسطة ... صحيح الجسم، لا يشكو علة، قلما يتناول الدواء، كل ما في الأمر أن النقرس انتابه في أخريات أيامه (129) ". وكان شعره الذي فرقه(32/94)
في الوسط يتدلى على كتفيه في حليقات أو عقصات. ولم تنبئ عيناه عن فقد بصره. وظلت مشيته ثابتة منتصبة. وكان إذا غادر بيته بدا على زيه شدة الحساسية والكلف بملابسه، وتمنطق بسيف، لأنه كان فخوراً ببراعته في المبارزة واللعب بالسيف (130). وأضفت عليه الثقة الزائدة عن الحد وقاراً، وعزوفاً عن المرح. ولكنه كان مع ذلك حلو الحديث إلا إذا لقي معارضة. ولم يكن بيوريتانياً بكل معنى الكلمة: كان عنده شعور البيوريتانيين بالإثم، والجحيم والإصطفاء والأسفار المقدسة التي لا تخطئ، ولكنه استساغ الجمال واستمتع بالموسيقى، وألف رواية، واحتاج إلى عدة زوجات، وتخلفت أثاره من حيوية عصر اليزابث وسطر زانته الخالية من المرح. وكان أنانياً، أو أنه كشف عن أنانيته الطبيعية إلى حد الإفراط غير المألوف. إنه كما قال أنطوني رود: "لم يكن يجهل مواهبه (131) "، وكما قال جونسن "قل من الرجال من كتب كثيراً وامتدح قليلاً من الناس، مثله (132) "، وربما تطلبت العبقرية أنانية يدعمها اعتداد داخلي بالنفس، حتى تقف في ثبات في وجه الجمهور. إن أثقل ما يمكن قبوله في ملتون هو طاقة الكراهية والبغضاء عنده، وإساءته المفرطة لمن اختلفوا عنه وذهب إلى أنه ينبغي علينا أن نصلي من أجل أعدائنا، ولكن ينبغي أيضاً أن نستنزل اللعنات جهاراً على أعداء الله وأعداء الكنيسة، وكذلك على الأخوان المضللين الزائفين، أو من يقترفون الآثام الفظيعة ضد الله، أو حتى ضد أنفسهم (133) ". أما الوجه الآخر لهذه العاطفة المشبوبة، فهو شجاعة النبي في استنكار زمانه، فإنه بدلاً من أن يكمم فاه ما اقترن بعودة الملكية من شغف وصخب، هاجم في عنف، غراميات البلاط "في عهد شارل الثاني"، "والشهوات والاغتصاب" في القصور، و "البسمات المشتراة على شفاه بنات الهوى" و "المسرحيات الخليعة أو حفلات الرقص في منتصف الليل (134) ".
وكأنما كان ملتون يقذف بآخر سهم في جعبته تحدياً للعصر المظلم،(32/95)
حين نشر في يوم واحد (20 سبتمبر 1670) في غير ما شفقة ولا رحمة، اثنين من أعماله: "الفردوس المستعاد" و "شمشون الجبار". في 1665 بعد أن انتهى توماس الوود من قراءة ملحمة ملتون الأولى تحداه قائلاً: "لقد تحدثت هنا كثيراً عن الفردوس المفقود، فماذا عساك تقول الآن عن الفردوس الذي وجد؟ (135) "، وطرقت الفكرة ذهنه بشدة، ولكنه تسائل: كيف يعرض استعادة الفردوس في أية مرحلة في التاريخ، فإن موت المسيح نفسه لم يطهر الإنسان من الجريمة والشهوة والحرب ولكنه فكر أنه رأى في مقاومة المسيح لإغراء الشيطان، وعداً بأن جانب الله في الإنسان لابد يوماً أن يقهر جانب الشيطان في الإنسان نفسه، ويهيئه للحياة تحت حكم المسيح والعدالة على الأرض.
ومن ثم فإن ملتون في الأقسام الأربعة من "الفردوس المسترد"، لم يركز في حياة المسيح على الصلب، بل على "تجربة الإغراء في البرية"، حيث يقدم الشيطان للمسيح "ولداناً ... أجمل من سقاة الآلهة"، ثم "الحور والعذارى الفاتنات، وسيدات من حدائق التفاح الذهبي" ثم يعرض عليه المال والثراء-ولكن أولئك دون جدوى. ثم يريه الشيطان روما الإمبراطورية تحت حكم تيبريوس المنهوك المكروه الذي لم يعقب، فهلا يريد المسيح أن يقود ثورة بعون من الشيطان، وينصب نفسه إمبراطوراً على العالم؟ ولما لم يرق هذا في عيني يسوع، ولم يستهو قلبه فإن الشيطان، أراه أثينا بلد أرسطو وأفلاطون، فهلا رغب في اللحاق بهما ليكون فيلسوفاً؟ ثم يدخل المسيح والشيطان في حوار غريب حول مزايا الأدب اليوناني والعبري. فينحاز المسيح إلى جانب أنبياء وشعراء بني إسرائيل على أنهم أسمى بكثير من اليونانيين:
أخذت اليونان عنا هذه الفنون، ولم تحسن تقليدها (137).
وبعد قسمين من الملحمة استغرقهما الحوار، أقر الشيطان بهزيمته، وبسط جناحيه وطار، على حين تتجمع فرقة من الملائكة حول المسيح(32/96)
المنتصر، وتنشد:
الآن انتقمت لآدم المغدور به، وبالتغلب على الإغراء استعدت الفردوس المفقود (138).
ولم يروِ ملتون لنا القصة بمثل الروعة الفياضة الرنانة التي تجلت في الملحمة الأولى الكبرى، ولكن بمثل براعته في الشعر، وميله إلى الحاجة، وهما أمران معهودان فيه، كما كشف في القصة حتى حادث صلب المسيح، وربما كان مرد ذلك إلى أنه لم يتفق مع القائلين بأن موت المسيح هو الذي فتح أبواب الجنة من جديد. فالفضيلة وضبط النفس وحدهما اللذان يجلبان السعادة. ولم يدرك ملتون قط لما رفضت إنجلترا أن تأخذ بمأخذ الجد، إعادة كتابة الأناجيل على هذا الشكل المضحك، وذهب إلى القول بأن الملحمة الثانية ليست أقل من الملحمة الأولى، اللهم إلا من حيث مداها (139). وكان لا يطيق أن يسمع أن "الفردوس المفقود" تفضل "الفردوس المسترد" (140).
وتألقت عبقرية ملتون لآخر مرة في "شمشون أجونست-الجبار". إنه بعد أن تحدى هوميروس وفرجيل ودانتي، بملحمته، نراه الآن يتحدى أخيللس وسوفوكليس برواية ارتضت كل القيود المأساة (التراجيديا) اليونانية. وهو في المقدمة يطلب إلى القارئ أن يلحظ أن المسرحية (الدراما) تخضع للوحدات التقليدية القديمة، وتتجنب "خطأ الشاعر في خلط المادة الهزلية (الكوميدية) بأحزان المأساة ووقارها ورهبتها، أو في إدخال شخوص تافهين مبتذلين. وهنا نجد ملتون يولي ظهره لعصر اليزابث، ويشق طريقه إلى اليونان ولا يبعد كثيراً عن النماذج اليونانية. إن شمشون الذي فارقته قوته بعد أن حلقت دليلة سبع خصلات من شعر رأسه، وقلع من أوثقوه من الفلسطينيين عينيه، نقول أن شمشون هذا لا يحكي فقط، أوديب المكفوف في كولونس، بل أنه يحكي ملتون نفسه يعيش في عالم بغيضاً يرى منه أثراً:(32/97)
"ضريرين أعداء، أواه هذا شيء أسوأ من الأغلال أو الزنزانة أو التسول، أو العجز بفعل الهرم، فالضياء، وهو فاتحة صنع الله، منطفئ أمامي، ولا أملك من مباهجه شيئاً. ربما كان يهدي من آلامي وأحزاني، آه، أنه الظلام والقتام والحكمة وسط وهج النور عند الظهيرة، ينشر كسوفاً كليلاً لا خلاص منه، دون أي أمل في بزوغ النهار (141) ".
والحق أن الرواية كلها يمكن تفسيرها بأنها قصة رمزية متناغمة متماسكة: فملتون هو شمشون يناضل ويتعذب في محنته، وبنو إسرائيل المقهورون هم البيوريتانيون، أي الشعب المختار حطمته عودة الملكية، والفلسطينيون هو الملكيون الوثنيون المنتصرون، وهدم هيكلهم يكاد يكون تنبؤاً "بالثورة الجليلة" التي أطاحت بآل ستيوارت "الوثنيين" في 1788. أما دليلة فهي المرأة الخائنة ماري باول، Powell. وتكرر فرقة الموسيقى (الكورس) حجج ملتون وناقشاته من أجل الطلاق (143). ويكاد ملتون يكون قد تخلص من غضبه وحقده بترديد تلك الحجج والناقشات على لسان شمشون الذي يتقبل نهايته التي لابد آتية:
"سوف تمضي سلالة المجد، أما سلالة الخزي والعار التي ستبقى فسألحق بها وشيكاً (143) ". وفي يوليه 1674 أحس ملتون بأنه يضعف وتنحط قواه، ولأسباب لا نعلمها أهمل تدوين وصيته. وبدلاً من ذلك وجه إلى أخيه كريستوفر وصية "شفوية" تكاد تكون غير مسطورة، نقلها كريستوفر على وجه الآتي:
"أخي، إني أترك نصيبي من تركة مستر باول Powell والد زوجتي السابقة، لأولادي العاقين، ولكني لم أتسلم شيئاً منه ووصيتي ومقصودي ألا يستولوا على أي جزء آخر من ضيعتي أكثر من الجزء المذكور، ومما ضيعت من أجلهم، غيره، لأنهم قصروا أشد التقصير في القيام بواجباتهم نحوي، أما بقية ضيعتي فأني أضعها تحت تصرف زوجتي الحبيبة اليزابث" (144) وأعاد ملتون هذه الوصية الشفوية على أسماع زوجته وأناس غيرها في أوقات مختلفة.(32/98)
وتشبث ملتون بالحياة في عزيمة قوية. ولكن آلام النقرس اشتدت عليه يوماً بعد يوم حتى شلت يداه وقدماه. وفي 8 نوفمبر 1674 وأنهكت الحمى قواه، وفارق الحياة في تلك الليلة. وعاش ملتون خمساً وستين سنة وسبعة أشهر. ودفن في مقبرة كنيسة الأبرشية، في سانت جيل كربلجيت، بجوار والده.
وكان القانون الإنجليزي يعترف بالوصايا الشفوية حتى 1677، ولكن المحاكم كانت تدقق قيها تدقيقاً شديداً. واعترض البنات على وصية أبيهم، ورفضها القاضي، وأعطى ثلثي المال للزوجة، والثلث الباقي، وقدره 300 جنيه للبنات. أما الحصة في أموال باول فلم يدفع منها شيء قط.
وأنا لنعلم عن ملتون أكثر كثيراً مما نعلم عن شكسبير، ولا بد من تدوين الكثير عنه حتى نخرج له صورة حقيقية أو نصفه وصفاً كاملاً. ولكنا لا نزال نجهل ما يكفي للحكم عليه-إذا كان هذا ممكناً بالنسبة لأي رجل. فنحن لا نعلم، بشكل كاف، لماذا أثار بناته استياءه إلى هذا الحد، ولا كيف عاملن زوجته الثالثة التي واسته وأراحته في سني شيخوخته، ولكنا نستطيع فقط أن نبدي الأسف على أنه عجز عن كسب حبهم. ولسنا ندري بالتفصيل لماذا ارتضى أن يكون رقيباً على الصحافة أيام كرومول، بعد دفاعه المجيد عن "حرية المطبوعات". ويمكن أن نعزو كثيراً من تعسفه وبذائته في الخصومة إلى أحول العصر ومعاييره. وقد نغتفر غروره وأنانيته باعتبارهما الركيزة التي تستند إليها العبقرية إذا لم تجد إلى القليل من ثناء الدنيا وإطرائها. ولسنا بحاجة إلى الاستماع به رجلاً. والإعجاب به شاعراً، وواحداً من أعظم الناشرين الإنجليز.
إن الذين يعتزمون قراءة الفردوس المفقود من البداية إلى النهاية، سيتولاهم الدهش إذ يجدون أنها غالباً ما تحلق في آفاق عالية من الخيال والبيان، حتى ليغتفرون إن عاجلاً أو آجلاً، الصفحات المملة المحشوة بالنقاش أو العلوم أو الجغرافيا، وكأنها بمثابة فترات لالتقاط الأنفاس من فرط الثأر والتحليق. وأنه لمن الحمق أن نتوقع أن تبقى هذه التحليقات(32/99)
المفرطة في التناغم والعاطفة بصفة مستمرة، فقد يكون هذا في القصائد القصيرة. وهناك في نثر ملتون وبخاصة في "الأريوباجيتيكا"، قطع، لا يسمو عليها، في قوتها وروعتها، وفكرها وموسيقاها، شيء من سلسلة الأدب الدنيوي في العالم.
وأضفى عليه معاصروه شهرة يشوبها الحسد والتذمر، وفي الفترة التي صعد فيها حزبه إلى منصة الحكم، كان مناضلاً ثائراً، ونسيت قصائده الغنائية الأولى. ونشر ملتون قصائده الكبرى في عهد عودة الملكية، ذلك العهد الذي احتقر شيعته، ورضي له البقاء على قيد الحياة، على كره منه. وعندما طلب لويس الرابع عشر من سفيره في لندن أن يعدد له أحسن الكتاب الإنجليز الأحياء، كان جواب السفير: لا يوجد منهم من يستحق الذكر إلا ملتون الذي دافع من قبل، من سوء الحظ، عن قتل الملوك الذين كانوا آنذاك يشنقون أحياء أو أمواتاً. وحتى في هذا العصر المستهتر المشاغب، على أية حال، نجد أن أشهر شعرائه، جون دريدن، الذي قال عنه ملتون من قبل أنه "ناظم قواف جيد، وليس بشاعر (145) ". نقول أن دريدن هذا، اعتبر "الفردوس المفقود" "من أعظم وأروع وأسمى ما أبدع هذا العصر وهذه الأمة من قصائد (146) ". وبعد أن دالت دولة أسرة ستيوارت عاد إلى ملتون مجده ومكانته الرفيعة. وأطنب أديسون في مداحه في مجلة "سبكتاتور". ومنذ ذلك الوقت ازدادت صورة ملتون رفعة وقداسة في ضمير بريطانيا (147) حتى ناجاه وردزوث في 1802:
"أي ملتون، ما كنا أجدرك أن تكون حياً بيننا في هذه الساعة .. ، أن روحك مثل نجم رحل عنا بعيداً، لقد كان لك صوت يهدر كالبحر، صاف مثل السموات المكشوفة، صوت كريم حر".
أن نفسه كانت مثل أثر باق، قام بعيداً عن أقرب الناس إليه، ولكن عقله حلق مثل السموات العلى، فوق كل هموم البشر، وصوته يدوي في الاستماع مثل "البحر المتلاطم الأمواج" عند هوميروس.(32/100)
الفصل التاسع
عودة الملكية
1660 - 1685
1 - الملك السعيد
دخل الملك شارل الثاني لندن في اليوم التاسع والعشرين من مايو 1660، أي بعد ثلاثين سنة كاملة من مولده، وسط مظاهر فرح وابتهاج، تفوق كل ما تعيه ذاكرة إنجلترا من مثلها، يواكبه عشرون ألفاً من حرس المدينة، ترفرف أعلامهم اعتزازاً وزهواً، ويلوحون بأسيافهم وسط شوارع انتشرت فيها الأزهار، تتدلى فيها البسط المزدانة بالرسوم والصور، تدوي فيها الطبول والنواقيس وهتافات الترحيب، وتكتظ بنصف سكان المدينة. وكتب ايفلين: "وقفت على الشاطئ، ورأيت هذا المشهد وحمدت الله (1) ". وهو مشهد كشف عن مزاج إنجلترا، وخيبة البيوريتانيين وإخفاقهم، فقد اقتضى خلع شارل الأول ست سنوات من الحروب والاضطرابات، على حين لم ترق نقطة دم واحدة في سبيل عودة ابنه إلى العرش. وتقاطر الإنجليز على قصر هويتهول لتحية الملك، طوال هذا الصيف الذي غمرته البهجة. وقال أحد شهود العيان: "كان تلهف الرجال والنساء والأطفال على رؤية جلالته وتقبيل يده، شديد إلى حد أنه لم يكد يجد فسحة من الوقت لتناول الطعام لعدة أيام ... ولما كان الملك راغباً كل الرغبة في إرضاء نفوسهم، فإنه لم يرد عنه أحداً، ولم يغلق الأبواب من دون أي من الناس (2) " وصرح بأنه يريد أن يكون كل شعبه سعيداً مثله.
ولو أن الملك أخذ أي مشكلة مأخذ الجد في أيام الظفر هذه، لجللت(32/101)
الشدائد والمصاعب التي ورثها شهر العسل بالسواد والقتام. فقد بلغ رصيد الخزانة 11 جنيهاً و28 شلناً و10 بنسات، وكانت الحكومة مدينة بمليوني جنيه. ولم تسدد رواتب الجيش والبحرية لعدة سنوات، وكانت إنجلترا في حرب مع أسبانيا. وأخذت مينا دنكرك، بشكل غير مستقر، لقاء مائة ألف جنيه سنوياً، وطالب بالتعويض آلاف من الفرسان الذين حاربوا من قبل في صفوف شارل فسلبهم كرومول أموالهم. ثم أن عشرات الآلاف من الرجال الوطنيين قدموا ظلامات يلتمسون فيها إلحاقهم بالوظائف ذوات الرواتب الكبيرة والعمل اليسير، وأجاب شارل على كل هذا بالإيجاب، في غير اكتراث، تراوده الثقة في أن يوفر البرلمان الاعتمادات.
وكان البرلمان، بدوره سعيداً، سيطرت عليه للوهلة الأولى، نزعة الامتثال الموسوم بالابتهاج للملك العائد: إننا وأبناءنا من بعدنا نضع أنفسنا تحت تصرف جلالتكم ونلتزم بطاعتكم إلى الأبد (3) "وقرر مجلس العموم "أن أعضاءه أنفسهم وشعب إنجلترا بأسره لن يبرءوا من الجريمة البشعة، جريمة الثورة الأخيرة غير الطبيعية، ولن ينجوا من العقوبات المترتبة على هذا الجريمة إلا إذا حظوا بصفح صاحب الجلالة وعفوه وبناءاً على ذلك قصد إليه البرلمان بكامل هيئته وجثوا أمام الملك الضاحك المبتهج، لينالوا غفرانه (4). وأحس مجلس العموم بمزيد من الإثم لأنه اجتمع دون دعوة من الملك، أو دون موافقته، ولذلك أطلق المجلس على نفسه تواضعاً أسم "اجتماع أو مؤتمر"، حتى تطيب نفس الملك، فيعلن أنه برلمان شرعي (5). وبعد انتهاء هذه المراسم، ألغي البرلمان كل التشريعات التي أصدرها البرلمان ولم يكن قد وافق عليها شارل الأول، ولكنه أكد على الامتيازات التي كان ذلك المجلس قد منحها للبرلمان، بما في ذلك سيادة البرلمان في كل ما يتعلق بالضرائب، وثبت شارل الثاني هذه الامتيازات. وشارك البرلمان الملك الانتصار الحاسم الذي أحرزته السلطة المدنية على(32/102)
السلطة العسكرية، فدفعت الرواتب المتأخرة للجيش الذي حكم إنجلترا لمدة عقدين من السنين، وسرح الجنود البالغ عددهم أربعين ألفاً، وانصرفوا إلى بيوتهم.
وكان شارل قد وافق على الصفح عن كل أعدائه، فيما عدا من يستثنيهم البرلمان من العفو العام. وقضى البرلمان عدة أسابيع في جدل حول من يسلمهم إلى يد الجلاد، ومن يبقي على حياتهم. وفي 27 يوليو 1660، شخص الملك إلى مجلس اللوردات، مناشداً إياهم أن يصدروا قراراً سريعاً حكيماً:
"أيها اللوردات، إنكم إذا لم تشاركوني في القضاء على الخوف الذي استولى على قلوب الناس وأرقهم، ... فإنكم بذلك تحولون بيني وبين الوفاء بالوعد الذي قطعنه على نفسي، وأنا مقتنع بأنه لما كنا، لا أنا ولا أنتم هنا الآن ... ولقد أدركت جيداً أن هناك أناساً لا يمكن أن يغفروا لأنفسهم ما اقترفوه، ولا أن نغفر لهم نحن ذلك .. وإني لأشكر لكم عدالتكم مع هؤلاء -القتلة المباشرون لوالدي-، ولكني- وسأكون صادقاً معكم- لم أفكر قط في استثناء أحد غيرهم في العفو العام. أن هذه الرحمة، وهذا التسامح هما خير وسيلة تجعل الناس يستشعرون خالص الندم. وتجهلهم رعايا صالحين مخلصين، كما تجعلهم أصدقاء وجيراناً صالحين لكم أنتم (6) ".
ورغب البرلمان في التوسع في عملية الانتقام، ولكن شارل أصر على ألا يستثني من العفو إلا من وقعوا الحكم بإعدام والده (7). وكان ثلث هؤلاء قد فارقوا الحياة، كما لاذ الثلث الثاني بالهروب، وقبض على 28 وحوكموا، وحكم على 15 بالسجن مدى الحياة، وشنق 13 ثم مزقوا أرباً (13، 17 أكتوبر 1660). ويقول شاهد العيان بيبز: أن توماس هاريسون، وهو أول من نفذ فيه الحكم، "كان يبدو مرحاً، كما يمكن أن يفعل أي رجل في مثل هذا الموقف" وتحدث بشجاعة من فوق المشنقة(32/103)
قائلاً أن دوره في الاقتراع على إعدام شارل الأول أملاه الله عليه (8). ويضيف بيبز: وفي الحال مزق أرباً، وعرض رأسه وقلبه على الجمهور، فتعالت صيحات الفرح (9) وفي 8 ديسمبر أصدر البرلمان أمراً بإخراج جثث كرمول وأيرتون وجون برادشو من كنيسة وستمنستر، وتعليقها على أعواد المشانق. وتم ذلك بالفعل غي 30 يناير 1661، وكأنما كان هذا لوناً من الاحتفال بذكرى موت شارل الأول، وعرضت رؤوسهم طيلة يوم كامل في أعلى قاعة وستمنستر (حيث اجتمع البرلمان). ودفنت الأشلاء في حفرة مشنقة تبيرن، كل أولئك جعل جون ايفلين يبتهج ويهلل "لحكم الله، وهو حكم هائل تحار فيه الألباب (10) ". وثمة ضحية أخرى، هاري فين، الذي كان يوماً محافظاً لمستعمرة خليج ماساشوست، فقد شنق في 1662، لأنه كان أداة فعالة في تدبير إعدام سترافورد. وفي هذه القضية أغمضت رحمة الله جفونها، فقد وعد من قبل بالإبقاء على "سير هاري" الرجل الشعبي المحبوب، ولكن جراءة السجين وشجاعته أثناء المحاكمة أوغرت صدر الملك فتحجر قلبه.
وفي 29 ديسمبر 1660 حل "المؤتمر" (البرلمان) نفسه، حتى يمهد الطريق لانتخاب أعضاء أكثر تمثيلاً للشعب، وفي غضون ذلك واجهت الحكومة أول مظاهرة عدائية تنازع في شعبيتها العاصمة. أن هذه الحكومة لم تفعل شيئاً لإسكات الشيع الدينية التي ظلت تأمل في نظام جمهوري: فكان المشيخيون وأنصار تجديد العماد والمستقلون وأصحاب مذهب الملكية الخامسة يخطبون ضد الملكية، وتنبأوا بأن الانتقام الإلهي سيحل بها سريعاً، فيرسل الزلازل والذم والضفادع تنقض على بيوت موظفي الملك. وفي 6 يناير 1661، وبينما كان الملك في تورتسموث يودع أخته الحبيبة هنريتا في طريقها إلى فرنسا، نادي بالتمرد والعصيان أحد المشتغلين بصناعة دنان النبيذ في مجمع "لقديسي الملكية الخامسة"، وعندئذ سلح سامعوه المهتاجون أنفسهم، وأسرعوا إلى الشوارع يرددون أن المسيح(32/104)
وحده هو الذي ينبغي أن يكون ملكاً، ويعملون القتل في كل من أعترض سبيلهم، وعاشت المدينة في ظل الإرهاب طيلة نهارين وليلتين، وانتشر "القديسون" في كل مكان يقتلون الناس في حماسة بالغة، حتى تمكنت آخر الأمر فرقة صغيرة من الحرس كانت الحكومة الواثقة من نفسها تعتمد عليها في حفظ الأمن، من تطويق المشاغبين واقتيادهم إلى حبل المشنقة. وعاد شارل مسرعاً إلى العاصمة، ونظم فرقاً جديدة من الشرطة للمحافظة على الأمن فيها.
وفي 23 أبريل، في يوم عيد سانت جورج راعي إنجلترا وحاميها، توج الملك السعيد في كنيسة وستمنستر، في كل مظاهر العظمة والجلال، ذات القيمة الكبرى لدى الملوك والتي يعتز بها الشعب، وحرص رجال الكنيسة الأنجليكانية التي استعادت مكانتها، وهم يمسحون الملك الداعر بالزيت المقدس، على التوكيد على تعهد الملك والتزامه بالدفاع عن العقيدة وعن الكنيسة. وفي مايو اجتمع "برلمان الفرسان" الذي سمي كذلك لأن غالبية أعضائه كانوا ملكيين أكثر من الملك، متلهفين على الانتقام من البيوريتانيين. ووجد شارل مشقة في أن يثنيهم عن الاسترسال في إعدام أعداء والده، واسترد البرلمان، من الوجهة النظرية، كثيراً من الامتيازات التي كان قد فقدها شارل الأول: من ذلك أنه لا يصبح أي تشريع نافذ المفعول إلا بعد أن يوافق عليه المجلسان كلاهما، والملك. وكانت للملك السلطة العليا على القوات الإنجليزية المسلحة في البر والبحر، وأعاد البرلمان تنظيم مجلس اللوردات، وأعاد إليه أساقفة الكنيسة الرسمية، ولكنه رفض تجديد قاعة النجم أو محكمة اللجنة العليا وأبقى على حق التحقق في قانونية القبض على المسجونين بغير محاكمة، وأعيدت إلى الفرسان أملاكهم التي صادروها كرومول من قبل، مع تعويض ضئيل لمن اشتروها، واسترجعت الأرستقراطية القديمة ثراءها ونفوذها. وانقلبت الأسرات التي جردت من أملاكها على ملوك آل ستيوارت، وانضمت فيما بعد إلى صغار النبلاء وأبناء(32/105)
الطبقات الوسطى ليشكلوا "الأحرار" ضد "المحافظين" .. إن شارل في النصف الأول من حكمه بلغ من الضعف والوهن حداً لم يستطع معه أن يفرض أي قدر من السلطة المطلقة، من ذلك أنه أجاز "لبرلمان الفرسان" أن يستمر لمدة سبعة عشر عاماً، على الرغم من حقه الشرعي في حله. أنه كان من الناحية العملية ملكاً دستورياً. فإن النتيجة الجوهرية لثورة 1642 - 1649، وانتقال السلطة العليا من يد الملك إلى البرلمان، ثم من مجلس اللوردات إلى مجلس العموم، كل أولئك عاش بعد عودة الملكية، على الرغم من قيام الملكية المطلقة من الوجهة النظرية.
وكان من حسن حظ البرلمان أن شارل كان عزوفاً عن الحكم، وكأنه بعد أربعة عشر عاماً من التشرد والشقاء، قد منحته العناية الإلهية الحق في السعادة والهناءة، وأدخل جنات عدن التي وعد بها المسلمون. وكان الملك أحياناً ينهمك بجد وكد في شؤون الدولة، وقد بولغ في إهماله لها (11). وقبيل نهاية حكمه دهشت الأمة إذ رأته يأخذ كل شيء على عاتقه، وينصرف بكليته إلى إدارة شئون البلاد في كفاية وعزيمة صادقة. ولكنه في أعوام العسل كان قد فوض إلى إرل كلارندون في 1661، إدارة دفة الحكم، بل تقرير السياسة.
وتسربت شخصية الملك، بشكل مؤثر على عادات العصر وأخلاقه وسياسته وغلب الطابع الفرنسي على أصله وتعليمه. فأمه فرنسية، وأبوه ابن حفيدة ماري جيز أو اللورين، أضف إلى هذا جداً اسكتلندياً ودنمركياً وإيطالياً، ومن ذلك نجد خليطاً ضافياً ولكنه غير راسخ. أنه عاش من سن السادسة إلى سن الثلاثين في القارة، حيث تعلم الأساليب الفرنسية ثم رآها في أبهى صورها في أخته هنريتا آن. وكان عره الأسود وجلده الأسمر يذكران بجدته الإيطالية ماري دي مديتشي، وكان مزاجه لاتينياً مثل والدة جدته لأمه ماري ملكة إسكتلندة، وربما ورث عن جده الغسقوني هنري نافار، شفتيه الشهوانيتين وعينيه البارقتين وأنفه المتطفل،(32/106)
بل وربما ميله إلى النساء كذلك.
أما فيما يتعلق بالناحية الجنسية، فقد كان شارل الثاني أخزى قادة زمانه، وأسوأهم، فإن تصرفاته كانت أسوأ مثال تحتذيه حاشيته والمجتمع الإنجليزي والمسرح بعد عودة الملكية، فانفلت الزمام للفجور والخلاعة في هذه كلها، وآن لنعرف أسماء ثلاث عشرة من خليلاته، أنه وهو في الثامنة عشرة، حين جاء كمن هولندا إلى إنجلترا ليقاتل من أجل والده، وجد فسحة من الوقت لينجب من "السمراء الجميلة الجريئة" لوسي وولتر، واداً كبر وترعرع تحت أسم جيمس سكوت، أعترف شارل ببنوته فيما بعد، وعينه دوق موغوث. ولحقت لوسي بشارل في القارة، وخدمته بإخلاص، والواضح أنه كان معها مساعدون آخرون لا نعرف الآن أسماؤهم. وفور أن أستقر به المقام في القصر الملكي، دعا بربارا بالمر لتسري عنه همومه وتخفف عنه متاعبه. وكانت بربارا هذه -مثل بربارا فلييرز- قد أقامت لندن وأقعدتها بجمالها. وفي سن الثامنة عشر (1659) تزوجت من روجر بالمر الذي أصبح إرل كاسلمين. وفي سن التاسعة عشر وجدت طريقها إلى مخدع الملك، ومن ثم سيطرت على روحه الوادعة، إلى حد أنه خصص لها جناحاً في قصر هويتهول، وأنفق عليها أموالاً طائلة وأجاز لها بيع المناصب السياسية، والتحكم في مصائر الوزراء. وولدت له ثلاث أبناء وابنتين أعترف ببنوتهم جميعاً، وساورته الشكوك على أية حال، لأنها وسط حبها الشديد للملك، لم تتورع عن الاتصال برجال آخرين (12)، وازدادت تفوهاً بازدياد علاقاتها غي المشروعة. وفي 1663 - أعلنت تحولها إلى الكاثوليكية. وألتمس أقاربها من الملك أن يثنيها عن عزمها، فأجابهم بأنه لم يتدخل قط في "نفوس" السيدات (13).
وفي 1661 فكر شارل في أنه قد حان الوقت للزواج، ومن بين المرشحات أختار كاترين براجنزا ابنة جون الرابع ملك البرتغال التي قدمت إليه مع صداق هيأته الإلهية ليفي بحاجات ملك مبذر ودولة تاجرة:(32/107)
000ر500 جنيه نقدا"، وميناء طنجة، وجزيرة (والمدينة الصغيرة فيما بعد) بومباي، وحرية الاتجار مع كل ممتلكات البرتغال في آسيا وأمريكا وتعهدت إنجلترا في مقابل ذلك، بمساعدة البرتغال في المحافظة على استقلالها ولما وصلت الأميرة العروس الغالية إلى بورتسموث كان شارل في استقبالها للترحيب بها، وتزوجا في 21 مايو وفقاً للطقوس الكاثوليكية أولاً ثم الأنجليكانية، وكتب شارل إلى والدتها يقول أنه "أسعد إنسان في العالم" وأحسن معاملة حاشيتها من السيدات ذوات "التنورات" الواسعة المطوقة، ومن الرهبان الوقورين، ووقعت الأميرة في غرامه لأول نظرة، وسارت الأمور سيراً حسناً لعدة أسابيع، ولكن في يوليو وضعت كاسلمين ولداً شهد شارل تعميده على أنه "العراب" (أبوه في العماد) -وتلك مناسبة أخرى يستخدم فيها أسم الله عبثاً ولغواً. ومنذ هجرت باربارا زوجها، أصبحت الآن تعتمد كل الاعتماد على الملك، وتوسلت إليه ألا يتخلى عنها، فاستسلم لرجائها، وسرعان ما استأنف علاقته بها، وفي إخلاص موصوم بأشد الخسة والعار. ونسي الملك قواعد السلوك القويمة المألوفة، فقدم باربارا علانية إلى زوجته. فنزفت أنف كاترين دماً وانتابها إغماءه، من فرط الشعور بالمهانة والإذلال، وحُملت إلى خارج القاعة وبناء على إلحاح من الملك، أوضح لها كلارندون أن عملية الزنى امتياز ملكي معترف به للملوك في أعرق أسرات أوربا، وبمرور الوقت كيفت الملكة نفسها مع أساليب زجها الشرقية، ولمنها كانت تزوره ذات يوم، فوقعت عيناها على "شبشب" صغير بجوار سريره، فانسحبت في رفق وتلطف "حتى لا تصاب الحمقاء الجميلة الصغيرة المختفية وراء الستائر بالبرد (14) "، وكانت هذه المرة الممثلة -هول دافيز. هذا في الوقت الذي حاولت فيه كاترين كثيراً أن تنجب لشارل طفلاً، ولكنها -مثل كاترين أراجون مع ملك سابق- أجهضت عدة مرات. وفي 1670 أقر البرلمان قانوناً بالتوسع في أحكام الطلاق. وأشار بعض رجال البلاط المتلهفين على وريث بروتستانتي، على(32/108)
شارل بأن يطلق كاترين، ولكنه أبى، حيث كان قد عرف آنذاك كيف يحبها حباً عميقاً على طريقته الخاصة.
ويصف بيبز البلاط في 27 يوليو 1667 فيقول:
"يقص على فن Fenn أن الملك وسيدتي كاسلمين قد حدثت بينهما فجوة شديدة، وأنها ستفارقه، ولكن بين جنبيها جنين، إن الملك لابد معترف ببنوته، وغلا فإنها ستحمل الوليد إلى قصر هويتهول، وتهشم رأسه أمام عيني الملك. ثم يضيف أن الملك والحاشية لم يكونوا في أي زمان في العالم بأسره أسوأ منهم الآن، بسبب اللهو والدعارة والفجور والسكر والعربدة، وغيرها من أحط الرذائل البغيضة، مما لم ير العالم مثيلها، وهذا أمر يجر الهلاك والدمار على الجميع، لا محالة (15) ".
وضاق شارل ذرعاً بغضبات كاسلمين، وفي إحدى زياراته الأخيرة لها، فاجأ عندها جون تشرشل -دوق مالبرو فيما بعد-، الذي قفز من النافذة حتى يتجنب لقاء الملك (16)، كما يروي الأسقف بيرت. على أن شارل خلع على كاسلمين لقب دوقة كليلند، ورتب لها مخصصات من الأموال العامة مدى الحياة.
وقد يشوقنا أن نقص كيف أن امرأة واحدة بعينها خيبت علانية أمل الملك المغرور المختال وصدته: تلك هي فرانسيس ستيوارت التي قيل إنها ربما كانت أجمل وجه وقعت عليه العين (17) ويقول أنطواني هاملتون "يندر أن يتيسر العثور على امرأة أقل ذكاء أو أكثر جمالاً (18) ". وظل الملك يلحف في الوصول إليها حتى بعد زواجها من دوق وتشموند ويصف بيبز الملك وهو يجدف وحده في الليل إلى قصر سومرست، "وهناك حيث وجد باب الحديقة موصداً تسلق الجدران ليزور هذه المرأة وتلك فضيحة مخزية فظيعة (19) ".
وفي 1668 رأى شارل "نل جوين" وهي تمثل في "مسرح دروري لين"، وهي التي نشأت في فقر مدقع، وكانت تسلي رواد الحانة بأغنياتها،(32/109)
وتبيع البرتقال في المسرح، وتقوم بالأدوار الصغرى أو الأدوار الرئيسية في الروايات الهزلية، واحتفظت طوال عملها، تلقائياً بروح طيبة وإرادة طبية، مما سحر لب الملك الذي لا يبالي بشيء، والذي سئم اللذات، ولم تقم الممثلة أية عقبات في سبيل أن تكون عشيقة لجلالته. واستنزفت مبالغ طائلة من كيسه الذي يشكو خلو الوفاض، ولكنها أنفقت القدر الأكبر منها في أعمال البر والإحسان. ولكن سرعان ما كان عليها أن تنافس امرأة مغوية خطر موفدة من فرنسا (1671) لتثبت شارل على العقيدة الكاثوليكية والتقاليد الفرنسية، تلك هي لويز كيرووال التي قلدت نل مظاهرها الأرستقراطية تقليداً ساخراً شيطانياً. وكل العالم يعرف، كيف أنه، حيث حسب سكان لندن خطأ أن نل هي منافستها الكاثوليكية، فسخروا منها، أخرجت رأسها الصغير من نافذة العربة وصاحت بهم "صه أيها الشعب الطيب، أنا البغي البروتستانتية (20) " وظلت تحظى بعطف شارل إلى آخر حياته، ولم تبرح مخيلته حتى ساعة احتضاره. أما كيرووال التي عينت على الفور دوقة بورتسموث، فقد أثارت حفيظة لندن، حيث نظروا إليها هناك على أنها عميلة فرنسية باهظة التكاليف تبتز من الملك كل عام 40 ألف جنيه، لتقتني المجوهرات وتعيش في ترف باذخ اهاج معدة جون ايفلين (21) وتقلص ظل سلطانها في 1676 حين اكتشف شارل هورتنس مانسيني ابنة شقيق الكاردينال مازاران المرحة المفعمة بالحيوية والنشاط.
وكان لشارل سقطات أخرى، أنه في أيام شبابه التعس فقد كل الثقة في البشر، وحكم على الرجال والنساء جميعاً بأنهم كما وصفهم "لاروشفو كول" ومن ثم فإنه قلما استطاع أن يكون مخلصاً لأحد -اللهم إلا أخته- وضيع نفسه في أهوائه وغرامياته، ولم تكن ثمة ود خالص مقيم يلقى ضياء حقيقياً على البريق الأجوف في حياته. وباع بلاده بنفس اليسر الذي اشترى به النساء. وضرب لحاشيته أكبر المثل في المقامرة بمبالغ طائلة. وعلى الرغم(32/110)
من الجمال الطائش في سلوكه وعاداته، فانه أبدى في بعض الأحيان افتقاره إلى الرقة والكياسة اللتين كان من العسير التماسهما عند والده. من ذلك، على سبيل المثال، أنه لفت نظر جرامونت إلى خدمه يؤدون عملهم وهم راكعون (22). ولم يكن كثير الإدمان على الخمر في أغلب الأحيان، ولكنه أدمن بشكل مخيف لعدة أيام عقب صدور قانون ضد تعاطي المسكرات (23). وكان عادة يتقبل النقد بصدر رحب، ولكن حين جاوز سيرجون كوفنتري حده، وتساءل في البرلمان علانية "هل يجد الملك متعة بين الرجال أو بين النساء؟ ". أمر شارل رجال حرسه أن "يجعلوا منه عبرة" فكمنوا له وهاجموه وهشموا أنفه (24).
على أن فئة قليلة من الناس كانوا لا يملكون إلا أن يحيوه، ومنذ شباب هنري الثامن لم يوجد في إنجلترا ملك في مثل شعبية شارل بين حاشيته، وكانت حيويته الجسمية تبعث على الرضا والسرور، ولم يكن به شح أو بخل، بل كان يرعى الحقوق، عطوفاً كريماً. بعد أن ينقد رجال حاشيته رواتبهم، كان يجد الوسيلة للبر والإحسان والصدقات. وجعل من المتنزه الخاص به مرتعاً لمختلف الحيوانات، ولم يلحقها أي أذى. وكانت كلبته المدللة تنام، ويفترسها رفيقها وتلد وترضع صغارها في حجرة نوم الملك (25). وكان شارل بعيداً عن التكلف، أنيساً، حلو المعاشرة، يسهل الوصول إليه أو التحدث معه، سرعان ما يهدى من روع محدثيه ويطمئن بالهم. وذكر كل الذين تحدثوا عن شارل -فيما عدا كوفنتري، أنه "ملك ودود طلق المحيا (26) "، وعده جرامونت "من ألطف الرجال وأرقهم وأكثرهم وداعة (27) "، وقال عنه أوبري "إنه نموذج فذ في المجاملة (28) " وكان شارل قد صقل عاداته وسلوكه في فرنسا، وكان، مثل لويس الرابع عشر يرفع قبعته لأية سيدة، حتى ولو كانت من أحط الطبقات وكان يفضل شعبه بكثير في التسامح مع أية آراء أو مذاهب دينية معارضة إلى حد أنه شرب نخب خصومة السياسيين، وسر كثيراً بالهجاء حتى(32/111)
ولو كان موجهاً إلى شخصه. وكان حُسن التقدير فيه، مبعث ابتهاج لدى حاشيته. ووصفه بيبز بأنه كان يقود الحلقة في رقصة ريفية قديمة cuckold All Awry. وما كان يقطع عليه مرحه ولهوه الصاخب -لفترات قصار، إلا أنباء الطاعون أو الحريق أو الإفلاس أو الحرب.
ولم يكن الملك شارل الثاني عميق التفكير، ولكنه لم يتعلق بتوافه الأمور إلى حد كبير، وتخلص يوماً من رجل زعم أنه يتنبأ بالطالع، بأن أخذه إلى سباق الخيل، ولحظ أنه يخسر ثلاثة أشواط متتالية. وأولع ولعاً شديداً بالعلوم، وأجرى التجارب، وأصدر براءة تشكيل "الجمعية الملكية" وأغدق عليها الهبات والمنح، وشهد كثيراً من اجتماعاتها. ولم يهتم كثيراً بالأدب، ولكنه أولى الفنون عناية كبيرة، واعتز برافائيل وتيشيان وهولبين وجمع أعمالهم. وتجلى في حديثه كثير من الحيوية والتنوع اللذين تميزت بهما الجماعات المثقفة في فرنسا. فتحدث جيداً عن الشعر مع دريدن، وعن الموسيقى مع بورسل (الملحن)، وعن هندسة العمارة مع رن. وكان حامياً ونصيراً حسن التمييز في كل هذه المجالات، ولابد أنه كان ثمة قدر كبير من مناقب ومآثر حميدة محببة تحلى بها رجل قالت عنه أخته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة "إني أحببته أكثر من حبي للحياة نفسها. وليس ثمة شيء آسف عليه في موتي، إلا إني أفارقه" (29).
2 - مرجل الدين
هل تمسك الملك بأية عقيدة دينية؟ أن حياته من هذه الناحية توحي بنفس النزعة التي سادت كثيراً من الفرنسيين المعاصرين الذين عاشوا ملحدين وماتوا كاثوليكيين. ويبدو أن هذا يسر الفوز بمتاع الدنيا والآخرة معاً، كما أنه كان أفضل كثيراً من "رهبان" بسكال. ويقول بيرنت "أن إحساسه الديني كان ضعيفاً، إلى درجة أنه لم يكثر من التظاهر ولكن بسلوكه الموصوم بالتهاون في الصلوات وفي الأسرار المقدسة، كان لأي(32/112)
إنسان يراه أن يدرك كيف وقر في ذهن الملك أنه لا علاقة له بهذه الأمور (30). وقال أحد الوعاظ مرة لنبيل غلبه النعاس وهو جالس بين جماعة المصلين "سيدي: إنك تغط في نومك بصوت عال، وقد توقظ الملك (31) ". وقال عنه سانت إيفر موند الذي كان يعرفه حق المعرفة أنه كان "روبوياً (32) "-وهو الذي كان يؤمن بوجود كائن أسمي غير مجسم تقريباً، ويفسر بقية المذاهب الدينية بأنها شعر شعبي. واتفق أرل بكنجهام ومركيز هاليفا كسي مع سانت إيفر موند في هذا الرأي (33) ويروي بيرمنت "قال لي الملك ذات مرة، أنه ليس ملحداً، ولكنه لا يظن أن الله يعذب الإنسان لأخذه بشيء من أسباب المتعة واللذة عرضاً أو خطأ (34) ". ورحب الملك بصداقة هوبز الذي يدين بالمادية، وتولى حمايته من رجال اللاهوت الذين طالبوا بتقديمه للقضاء بتهمة الهرطقة. ويرى فولتير أن "لامبالاة الملك المطلقة" بكل الصراعات الدينية التي تفرق بين الناس عادةً، أسهمت بدرجة غير يسيرة، في حكمه السلمي (35).
ويحتمل أن شارل كان متشككاً، مع شيء من الانعطاف نحو الكثلكة، بمعنى أنه كان يشك في اللاهوتيات، ويؤثر الكاثوليكية، لطقوسها النابضة بالحياة، وتعلقها بالفنون، وتساهلها مع الجسد، وتأييدها للملكية. وربما غاب عن ذاكرته أن العصبة الكاثوليكية وبعض الآباء اليسوعيين قد أقروا من قبل قتل الملك. ولكنه تذكر أن الكاثوليك الإنجليز دافعوا عن أبيه، وأن ثلث النبلاء الذين ماتوا في سبيل النضال عن شارل الأول كانوا من الكاثوليك (36)، وأن الكاثوليك الأيرلنديين بقوا على ولائهم لأسرة ستيوارت، وأن حكومة كاثوليكية كانت تمد له يد العون في منقاة الطويل الأمد -إن روح التعاطف التي تملكته بصفة عامة، جنحة به إلى الرغبة في التخفيف بعض الشيء من القوانين التي صدرت في إنجلترا ضد الكاثوليك، وهي في تقدير "هللام" قوانين "صارمة غاية الصرامة، بل هي في بعض الأحيان، دموية أو متعطشة للدم (37). ولم(32/113)
يشارك الملك البروتستانت الإنجليز فيما علق بأذهانهم من ذكرى "مؤامرة البارود "160"، أو الخوف من محاكم التفتيش أو البابا في رومه. ولم يغضب لالتزام أخيه العلني بالمذهب الكاثوليكي -والمفروض أنه وريث العرش. وقد يجوز لنا أن نحكم، من تحوله إلى الكثلكة وهو على فراش الموت، أنه كان من الجائز أن يعترف هو أيضاً بها، لو أن الاعتراف بها كان أمراً عملياً من الوجهة السياسية.
وهكذا فإن شارل، وهو السياسي اللطيف الودود، قبل الكنيسة الأنجليكانية ودعمها إنها قد دانت بالولاء لوالده، وفنيت بالدفاع عنه، وعانت ما عانت في أيام كرومول، وكافحت كفاحاً شديداً في سبيل عودة الملكية. واعتبر شارل أنه من القضايا المسلم بها أن تكون هناك عقيدة دينية تحظى بموافقة الدولة ومعونتها، على أنها وسيلة لنشر التعليم وإقرار النظام الاجتماعي. إنه، أساساً، كانت تزعجه البيوريتانية، فوق أنها أتيحت لها من قبل فرصة الحكم، فكانت صارمة بغيضة إلى حد بالغ. ولم ينسى قط أن البرسبتيريانز سجنوا أباه وأن البيوريتانز أطاحوا برأسه، وأنه هو نفسه أرغم على قبول مذهبهم والاعتذار عن أخطاء آبائه. ووقع القانون الذي أصدره "البرلمان المؤتمر"، بإعادة الكهنة الأنجليكانيين إلى أبرشياتهم، التي كانت "الجمهورية" قد جردتهم منها، وكان وجه العدالة والإنصاف واضع في هذا القانون. وعلى الرغم من ذلك، كان قد وعد "بالحرية لذوي الضمائر الواهنة"، وألا يضار أي إنسان بسب الخلافات الدينية مادامت مسالمة. واقترح شارل في أكتوبر 1660 تسامحاً شاملاً مع كل الفرق المسيحية، بل كذلك تخفيف القوانين المعادية للكاثوليكية. ولكن البرسبتيريانز والبيوريتانز الذين خشوا مغبة هذا التراخي، انضموا إلى الأنجليكانيين في رفض هذا المشروع. ورغبة في المصالحة بين البرسبتيريانز والأنجليكانيين عرض الملك طقوساً تكون حلاً وسطاً بين الطائفتين ونظاماً أسقفياً محدوداً يتولى بمقتضاه بعض المشايخ المنتخبين(32/114)
تقديم العون والمشورة للأساقفة. ولكن البرلمان عارض هذه الفكرة. وأبلغ "مؤتمر سافوي" المكون من أثنى عشر أسقفاً، ومثلهم من المشايخ -أبلغ الملك "أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى اتفاق (38) ".
وتلك الفرصة ضُيعت، لأن البرلمان الجديد كان أنجليكانياً بأغلبية ساحقة. فنكأ الجراح القديمة بإعادة النظام الأسقفي في اسكتلندا وأيرلندا، وأعاد المحاكم الكنسية للمعاقبة على "التجديف"، والتخلف عن دفع العشور للكنيسة الأنجليكانية، وجعل "كتاب الصلوات العامة الأنجليكاني" إلزامياً على جميع الإنجليز، وبمقتضى "قانون التوحيد" (20 نوفمبر 1661) حرمت المناصب العامة على كل الأشخاص اللذين لم يتلقوا الأسرار المقدسة وفقاً للطقوس الأنجليكانية قبل الانتخابات، وبمقتضى "مرسوم التنسيق" (19 مايو 1662) طلب إلى كل رجال الدين والمعلمين أن يقسموا اليمين على ألا يقاوموا الملك، وأن يعلنوا موافقتهم التامة على كتاب الصلوات العامة. وكان على رجال الدين الذين رفضوا هذه الشروط أن يتخلوا عن مراكزهم في موعد غايته 24 أغسطس ورفضها نحو 1200 منهم فطردوا. وهؤلاء بالإضافة إلى 1800 آخرين أخرجوا عند عودة الأنجليكانيين، انضموا جميعاً، مع مجموعة كبيرة من المجامع، إلى العدد المتزايد من "الشيع" أو "المنشقين"، الذين أرغموا أولى الأمر في النهاية على إصدار قانون التسامح 1689.
وحاول شارل أن يعدل من "مرسوم التنسيق" فطلب من البرلمان أن يستثني من العزل أولئك القساوسة الذين لم يعترضوا إلا على ارتداء اللباس الكهنوتي الأبيض، أو استخدام الصليب في التعميد، فوافق اللوردات ورفض النواب. وسعى الملك من أثر اللطمة، بتأجيل تنفيذ المرسوم لمدة ثلاثة أشهر، ولكن أحبطت هذه المساعي كذلك. فأصدر في 26 ديسمبر 1662 بياناً أعلن فيه عن عزمه على أن يستثني من العقوبات التي نص عليها القانون الأشخاص المسالمين الذين أبت عليهم ضمائرهم(32/115)
أداء القسم المطلوب، ولكن البرلمان، ارتاب في هذا الأجراء ورفضه، باعتبار أنه ينطوي ضمناً على سلطة الملك في الإعفاء من إطاعة القوانين. وعبر الملك عن مشاعره بالإفراج عن الكويكرز المعتقلين (22 أغسطس 1662) وبالتوكيد على التسامح الديني في المواثيق التي منحها لجزيرة رود وكارولينا، وفي التعليمات التي وجهها إلى حاكمي جمايكا وفرجينيا.
وأحس البرلمان أنه ليس ثمة متسع لهذا التسامح في إنجلترا. ولكي يمنع اجتماعات الكويكرز السرية للعبادة، قال أنها تضم أكثر من خمسة أشخاص بالإضافة إلى أفراد البيت، وحكم 1662 على كل شخص يحضرها بدفع غرامة قدرها خمسة جنيهات، أو بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، للمخالفة الأولى، ومضاعفة العقوبة (10 جنيهات غرامة أو ستة أشهر في السجن) للثانية، والنفي إلى مستعمرات المجرمين، للثالثة، أما المخالفون الذين يعجزون عن دفع نفقات انتقالهم إلى المستعمرات فكان عليهم أن يخدموا لمدة خمسة سنوات، عمالاً لا بعقود خاصة. أما المدانون أو المخالفون المرحلون الذين يهربون أو يعودون إلى إنجلترا قبل انقضاء، المدة المحكوم بها، فتكون عقوبتهم الإعدام، وفي 1664 امتدت هذه الإجراءات إلى البرسبتيريانز والمستقلين. وحظر "قانون الأميال الخمسة" (1665) على القساوسة الذين امتنعوا على حلف اليمين، أن يقيموا في نطاق خمسة أميال في أي مدينة ذات مجلس بلدي، أو يقوموا بالتدريس، في أية مدرسة خاصة أو عامة. وأطلق على هذه القوانين "تشريع كلارندون" لأن الذي فرضها هو كبير وزراء الملك ضد إرادة الملك أو رغباته الصريحة، وقبل شارل هذه التشريعات الصارمة لأنه كان يناشد البرلمان إقرار الاعتمادات التي طلبها. ولكنه لم يغفر قط لكلارندون، كما فقد ثقته بالأساقفة وقل احترامه لهم، لأنهم ما لبثوا أن أعيدوا حتى بدءوا ينتقمون أشد الانتقام، ويقبضون أيديهم عن البر والإحسان. وانتهى شارل إلى "أن المشيخة ليست مذهباً يليق بالرجل الماجد المهذب، وأن الأنجليكانية ليست(32/116)
مذهباً يليق بالرجل المسيحي (39) ".
وإذ أدركت الكنيسة الأنجليكانية اعتمادها على الملكية، فإنها أكدت من جديد، وبشكل أكثر إيجابية عن ذي قبل "حق الملم الإلهي" والإثم العظيم الذي يؤدي إلى الهلاك، في مناهضة حكومة ملكية قائمة. وفي 1680 نشر كتاب سير روبرت فلمر "سلطة الملوك الطبيعية المعترف بها" بعد موت المؤلف بسبعة وعشرين عاماً، وأصبح الدفاع القياسي عن النظرية. وفي كتاب أكسفورد "القضاء والقانون" (1683) أعلن زعماء الكنيسة الأنجليكانية أنه "زيف وتحريض على الفتنة، بل هو هرطقة وتجديف "ومن ثم جريمة عقوبتها الإعدام" "أن يتمسك امرؤ" بأن السلطة مستمدة من الشعب، وأن الحكام الشرعيين يفقدوا الحق في الحكم إذا أصبحوا طغاة، وأن الملك ليس له الحق إلا حق مناظر لحق السلطتين الأخرين: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وأضاف الكتاب "أن الطاعة العمياء هي سمة كنيسة إنجلترا وخصيصتها (40) ". وتلك نظرية كانت تثير القلق والمتاعب، عندما حاول جيمس الثاني، بعد عامين منة هذا التاريخ، أن يجول إنجلترا إلى الكاثوليكية.
إن الكنيسة الأنجليكانية، التي استعادت مكانتها، على الرغم من تعصبها، تجلت في صفات تدعوا إلى الإعجاب، فقد أباحت آفاقاً رحبة للتفكير اللاهوتي بين أعضائها، ابتداء من "اللودبين" (الذين عرفوا فيما بعد بأنهم الذين يؤكدون على الطقوس التقليدية High Churchmen) الذين اقتربوا من المذهب والطقوس الكاثوليكية، إلى "المتحررين(32/117)
المتسامحين" (الذين عرفوا فيما بعد باسم ذوي الأفق الواسع - Brood Churchmen) وهم الذين جنحوا إلى لاهوت متحرر، وأكدوا على الجانب الأخلاقي، لا على الجانب المذهبي أو العقائدي، في المسيحية، ووقفوا في وجه الاضطهاد، وسعوا إلى المصالحة وتسوية الخلاف بين اللبيوريتانيين والمشيخيين والأنجليكانيين. وساعد شارل هؤلاء المتحررين المتسامحين وقدر لهم الإيجاز النسبي في عظاتهم (41). وكان أعظم هؤلاء المتحررين، جون تللوتسون، الذي عينه شارل قسيس القصر، ثم عينه وليم الثالث رئيس أساقفة كنتربري (1691). وكان رجلاً "راجح العقل حلو الشمائل (42) "، ناهض "البابوية" والإلحاد والاضطهاد بنفس القدر من الحماسة والغيرة، وتجاسر فبنى المسيحية على العقل. وكان يقول "لسنا في حاجة إلى دليل على خطأ إنسان أقوى من أن نسمعه يتهم العقل ويحط من قيمته، ومن ثم يرى أن العقل ضده (43) ومال صغار رجال الدين الأنجليكانيين "الكهنة" إلى أن بكون الخدم الروحيين للوردات المحليين، بل حتى لبعض مالكي الأرض، حتى قاربوا أن ينحدروا إلى وضع العامة (1). ولكن في المدن والمناصب الكنسية ذوات الرواتب الأكبر، أشتهر كثير من رجال الدين الأنجليكانيين بسعة الإطلاع والمقدرة الأدبية حتى أنهم أخرجوا فيما بعد بعض من أفضل كتب التاريخ الرسمي في أوربا. وبصفة عامة سادت روح الإعتدال المذهبي في الكنيسة الأنجليكانية، أكثر منها بين المنشقين الذين زاد الاضطهاد من تعصبهم لمذهبهم وتزمتهم.
ولم يعان البيوريتانيون آنذاك من الاضطهاد السياسي وحده، بل أنهم كذلك كانوا موضع سخرية وازدراء من أولئك الذين أحسوا بالضيق والانزعاج أيام الحكم البيوريتاني بسبب أخلاقياتهم الهينة اللينة الخالية من التزمت. ولكن البيوريتانيين احتملوا في جلد وشجاعة دوران عجلة الزمن. وهاجر بعضهم إلى أمريكا، وأدى كثير منهم القسم المطلوب. وكان ريتشارد باكستر ألمع شخصية بينهم في ذاك العصر، وكان رجلاً ذا اتجاه معقول، مستعد لقبول أية تسوية لا تخل بلاهوته المتقدم. فإنه على الرغم من إخلاصه الشديد البيوريتاني حتى النهاية، أستنكر إعدام شارل
_________
(1) هناك وصف مبالغ فيه لهذا الموضوع في كتاب ماكولي "تاريخ إنجلترا" (1: 253 - 255) أنظر لكي "تاريخ إنجلترا في القرن الثامن عشر" (2: 75 - 79).(32/118)
الأول، وحكم كرومول حكماً استبدادياً مطلقاً، وحبذ عودة الملكية. ومنع عام 1662 من الوعظ، وأعتقل مراراً وتكراراً لمخالفته أمر الحظر. وكان من أكثر البيورتانيين استنارة، ولكنه مع ذلك أستحسن إحراق السحرة في سالم ومساشوست، وفكر في ربه على أساس جعل "مولوخ" (اله سامي كان يعبد عن طريق تضحية الأطفال على مذبحه) بجانبه ودوداً لطيفاً من هم الذين كتب لهم الخلاص؟ ويجيب باكستر: "إنهم فئة قليلة من البشر الضائع، فدر لهم الله منذ الأزل هذه الراحة (44). وأكد في عظاته على عذاب الجحيم التي "أوجدها الرب بنفسه" .. إن تعذيب الملعونين المحكوم عليهم بالهلاك ينبغي أن يكون شديداً، لأنه مظهر الانتقام الإلهي .. إن العقاب رهيب، ولكن الانتقام أمر لا سبيل إلى التخفيف منه (45) " وحرم باكستر الاتصال الجنسي إلا بقصد الإنجاب مع حليلة شرعية. ومنذ رأى أن هذا التقليد يتطلب ضبط النفس على طريقة الرواقيين، لأنه أوصى بالحمام البارد والتغذي على الخضراوات، لتخفيف من الشهوة الجنسية (46) وقد نغتفر له لاهوته إذا رأيناه، وهو في السبعين من العمر (1685) واقفاً في قفص الاتهام أمام القاضي الوحشي الغليظ القلب "جفري"، لأنه تفوه ببضع كلمات ضد مزاعم الأنجليكانيين ولم تتح له أية فرصة للدفاع عن نفسه أو تفسير آرائه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 500 جنيه، أو السجن حتى يدفع المبلغ كاملاً (47). وأفرج عنه بعد 18 شهراً، ولكنه لم يسترد عافيته بعد ذلك قط.
وظل الكويكرز يعانون الاعتقال ومصادرة الممتلكات لرفضهم تأدية القسم أو لتخلفهم عن الصلوات الأنجليكانية، أو عقد الاجتماعات الغير مشروعة. وفي 1662 كان في السجون الإنجليزية أكثر من 4200 منهم: "وحشر بعضهم في السجن حشراً لا يدع مجالاً للجلوس وحرموا من فرش القش ليرقدوا عليها، وكثيراً ما منع عنهم الطعام (48). ولكن جلدهم ومثابرتهم وتشبثهم أكسبهم آخر الأمر، وخفت حدة الاضطهاد عملياً،
إن(32/119)
لم يكن قانونياً، وفي 1672 أطلق شارل سراح 1200 رجل منهم (49)، وفي 1682 منح أخوه جيمس دوق يورك براءة مقاطعة جرسي الشرقية في أمريكا، إلى روبرت باركلي وهو كويكري اسكتلندي، و"الصاخب" الكويكري الغني ليم بن، وبعض زملائهم الآخرين.
وكان بن وهو ابن أمير البحر وليم بن الذي استولى على جاميكا لإنجلترا. قد مر وهو صبي في الثانية عشرة بأطوار مختلفة من الانفعال الديني الذي فوجئ في أثنائه لفوره براحة في أعماق نفسه، وبهالة متألقة في الغرفة، إلى حد أنه قال عدة مرات بأنه منذ تلك اللحظة ختم بخاتم القداسة والخلود. "الإيمان الراسخ" بأن هناك إلهاً وأن نفس الإنسان يمكن أن تنعم بهذا الاتصال الإلهي (50). وفي 1661 طرد من أكسفورد وحكم عليه بدفع غرامة لأنه رفض حضور الصلوات الأنجليكانية. ولما عاد ال أبيه أوسعه ضرباً بالسياط، وطرده من المنزل لإعلانه اعتناق مذهب الكويكرز. ثم رق قلب الوالد فبعث بابنه إلى فرنسا ليتعلم "المرح الباريسي"، وربما أكتسب من هناك بعض الكياسة والأساليب المصقولة التي تحلى بها، وفي 1666 ارتضى لنفسه الخدمة في الجيش الإنجليزي الذي يعمل في ايرلندا، ولكن بعد عام واحد شهد اجتماعاً للكويكرز في كورك، والتهب حماسه من جديد، فطرد جندياً ضايقه بكثرة الأسئلة فاقتيد إلى السجن، ومنه كتب إلى حاكم مونستر يلتمس إباحة حرية العبادة. وبعد عودته إلى إنجلترا أحرق مراكبه من خلفه، وأصبح واعظاً كويكرياً، وقبض عليه مرة بعد المرة، ولعبت محاكمته 1669 دوراً في تاريخ القانون الإنجليزي. ذلك أن هيئة المحلفين برأته، فحكم القاضي على المحلفين بالسجن والغرامة بتهمة إهانة المحكمة وازدرائها. فاستأنف المحلفون أمام المحكمة الدعاوى المشتركة، التي أعلنت عدم شرعية القبض عليهم، وكان في هذا تثبيت لحق هيئة المحلفين وسلطتهم في إنجلترا. ولكن بن أودع السجن، على أية حال، لأنه رفض أن يخلع قبعته في المحكمة. وأخلي سبيله في الوقت(32/120)
المناسب ليحضر وفاة أبيه (1670)، وقد ترك له دخلاً يقدر بألف وخمسمائة جنيه في العام. وديناً على التاج قدره 16 ألفاً من الجنيهات أقرضه أبوه لشارل الثاني وأعيد إلى السجن لقيامه بإلقاء العظات، وفيه كُتب أبلغ دفاع عن التسامح تحت عنوان "القضية الكبرى لحرية الضمير"، (1671)، وفي إحدى الفترات التي تمتع فيها بالحرية تزوج من امرأة ثرية، واشترى حصة من النصف الغربي لما يعرف الآن بولاية نيوجرسي. وصاغ لهذه المستعمرة دستوراً يؤكد فيه على التسامح الديني وسلطة المحلفين في التحقيق والحكومة الشعبية، ولكن الزمام أفلت من يده، ولم تطبق مواد هذا الدستور.
وفي 1667 عبر بن وجورج فوكس وروبرت باركلي وجورج كيث القنال الإنجليزي ليبشروا بمذهب الكويكرز في القارة، وأسس جماعة من "كرهم" ممن حولهم بن إلى مذهبه، مدينة "جرمان تون"، في بنسلفانيا، وكانوا أول من أعلن أنه من الخطأ أن يكون للمسيحين رقيق. ورجع بن إلى إنجلترا، وأخذ زمام المبادرة في منع الكويكرز من الانضمام إلى حركة اضطهاد الكاثوليك" من أجل ما يسمى "بالمؤامرة البابوية". وكان "خطابه إلى البروتستانت من جميع المذاهب" (1679) نداءاً قوياً للتسامح الديني في أكمل صورة. وفي 1681 قبل التاج اقتراح بن التنازل عن حقه في المطالبة بالدين، لفاء منحه ما يعرف الآن باسم بنسلفانيا. أن بن اقترح اسم "سلفانيا" للجزء المترامي الأطراف الكثيف الأحراش، فألحق شارل الثاني مقطع "بن" بهذه اللفظة، تخليداً لذكرى أمير البحر. وعلى الرغم من الخضوع التام للملك، فإن حكومة المستعمرة الجديدة كانت ديموقراطية، وكانت العلاقة مع الهنود ودية قائمة على العدل والإنصاف، كما أطلق الكويكرز، وهم يشكلون غالبية المستوطنين، الحرية الدينية. وعمل بن في هذه المستعمرة بجد لمدة عامين، ولكنه في 1684 سمع بنبأ اضطهاد جديد عنيف تتعرض له طائفته. فأسرع بالعودة إلى لندن. وهناك بعد عام واحد أصبح صديقه، دوق يورك ملكاً على إنجلترا، وهو جيمس الثاني، كما صار بن من ذوي(32/121)
النفوذ والمكانة في الحكومة. ولنا معه لقاء آخر.
أن طريقة المقاومة السلبية الذي انتهجه الكويكرز ضد الاضطهاد كان أكبر قوة فعالة ساعدت على التسامح الديني في عصر التعصب، وقدر أحد المنشقين أنه كان هناك ستون ألف حالة اعتقال بسبب الخلاف الديني بين عامي 1660، 1688، وأن خمسة آلاف ممن اعتقلوا قضوا نحبهم في السجن (51). وكان تعصب البرلمان أسوأ من فجور البلاط والمسرح. وذكر مؤرخ كتب التاريخ مثل ما صنعه تقريباً "في هذه الفترة الدقيقة الحرجة" كاد الملك أن يكون الصوت الوحيد الرحيم الذي ينادي بآراء عصرية حديثة ودأب طوال حكمه على النضال من أجل التسامح (52) وفي 1669 عندما صدر الحكم على ثلاثة أشخاص بدفع غرامة كبيرة للتاج، بناء على قانون قديم صدر في عهد الملكة اليزابيث، لتخلفهم عن حضور الصلوات الأنجليكانية، أعفاهم شارل من دفعها، وأعلن أنه لن يسمح بتطبيق هذا القانون بعد اليوم "لأنه من رأيه وقناعته الخاصة أنه لا يجوز أن يضار أحد بسبب تفكيره وما يمليه عليه ضميره (53) ".
وكان من المحتمل أن يقرر وجهة نظر الملك في تسامح عدد متزايد من الإنجليز، لولا أنهم كانوا يرتابون في رغبته في التخفيف من ويلات الكاثوليك في إنجلترا التي كانت لا تزال تخشى سيطرة البابا، ومحاكم التفتيش الأسبانية وحكومة القساوسة، إلى حد أن البرسبتيريانز والبيوريتانيين آثروا تحريم عبادتهم على السماح بالعبادة الكاثوليكية في إنجلترا. وكان الإنجليز الكاثوليك يشكلون آنذاك نحو 5% من السكان (54). وكانوا من الناحية السياسية ضعافاً عاجزين. ولكن الملكة كانت كاثوليكية، كما أن شقيق الملك لم يبذل إلا أيسر الجهد في إخفاء تحوله إلى الكثلكة (1668) وكان في إنجلترا حينذاك 266 من اليوسعيين. كان أحدهم ابناً غير شرعي للملك، وبدءوا يظهرون علناً في جرأة وثقة. على الرغم من القوانين البالغة التشدد. وكانت المدارس الكاثوليكية تقام في الدور الخاصة.(32/122)
وأرهقت إنجلترا، وأقام البروتستانت في كل عام تظاهروا فيه ضد البابوية، وحملوا إلى "سميفيلد" تماثيل للبابا والكرادلة، أحرقوها هناك. إنهم لن ينسوا "جي فوكس". ولكن الكاثوليك صبروا وصابروا ولم يفقدوا الأمل، فمن الجائز الآن أن يرقى كاثوليكي عرش إنجلترا في أية لحظة.
3 - الاقتصاد الإنجليزي
1660 - 1702
قدر عدد سكان إنجلترا وويلز غي 1660 بنحو خمسة ملايين نسمة (55) ربما ازداد إلى خمسة ملايين ونصف المليون في 1700 (56)، أي أنه لا يكاد يبلغ ربع عدد سكان فرنسا وألمانيا، وأقل من ربع سكان إيطاليا أو أسبانيا (57). وكان سبع السكان من طائفة "اليومن"، أي صغار مالكي الأرض الأحرار الذين يملكون الأرض التي يفلحونها، وشكل المزارعون المستأجرون الذين يعملون في الأراضي النبلاء وذوي احسب والنسب، نحو سبع آخر من السكان. أما بقية السكان فكانوا يقيمون في المدن.
وبازدياد السكان قل نصيب الأسرة من الخشب، وتزايد استخدام الفحم في البيوت والحوانيت، وتطور على المعادن واستخراجها من المناجم وأصبحت شفيلد مركزاً لصناعة الحديد. وسرت في إنجلترا حمى الإنتاج وجمع الثروات. وتوسل أصحاب المصانع إلى البرلمان أن يصدر تشريعات ترغم العاطلين الكسالى على مزاولة العمل. وتزايد تشغيل الأولاد في الصناعات المحلية، وبخاصة النسيج. وتهلل وابتهج ديفو لأنه في" كولشستر وتونتون": "لم يكن ولد فوق الخامسة من العمر، في المدينة أو فيما حولها من القرى، أهمله والده أو لم يتلق تعليماً، الا واستطاع أن يكسب قوته" وبالمثل حول "وست رايدنج": "لا يكاد يوجد ولد جاوز الرابعة إلا كفته يداه مؤونة العيش (58) ".
وكان معظم الصناعة يتم في البيت أو في حوانيت الأسرة. وحدث(32/123)
توسع في نظام المصانع في النسيج والحديد. وتذكر نشرة ظهرت في 1685 كيف أن "أصحاب المصانع يشيدون بتكاليف باهظة، دوراً ضخمة تضم كل القائمين بعمليات صناعة الصوف، من فرز وتمشيط وغزل ونسج وكبس بل وصباغة، في صعيد واحد". وقيل أنه كان هناك مصنع من هذا القبيل يعمل فيه 340 شخصاً. وكان في جلاسجو في 1700 مصنع نسيج يضم 1400 عامل (59). وكان تقسيم العمل والتخصص فيه آخذين في التقدم، وكتب سير وليم بتي في 1683 "في صناعة الساعة"، إذا قام فرد بعمل التروس، وآخر بصنع الزنبرك، فثمة ثالث يحفر القرص المدرج، ورابع يتولى صناعة الأغلفة ومن ثم تخرج الساعة أحسن وأرخص مما لو كلف بالعمل كله فرد واحد (60).
وظلت أجور الأعمال الزراعية يحددها الحكام المحليون وفقاً لقانون الغلمان المهنيين "الذي صدر في 1585 في عهد اليزابيث، فإذا دفع رب العمل، أو أخذ العامل، أكثر من الأجر المحدد، تعرض كلاهما للعقاب. وتراوحت أجور العمال الزراعية في تلك الفترة بين خمسة وسبعة شلنات في الأسبوع مع الإقامة والطعام (61). أما الصناعة فكانت الأجور فيها أعلى قليلاً. فكان الأجر اليومي شلناً في المتوسط، وربما كان هذا، من حيث القيمة الشرائية، يعادل، دولارين ونصف دولار في 1960. أما أجور المساكن فكانت منخفضة نسبياً، حيث كان إيجار البيت المتوسط في لندن يبلغ نحو 30 جنيهاً في السنة (62). وكانت البيرة رخيصة الثمن، أما السكر والملح والفحم والصابون والأحذية والملابس، فكانت أثمانها في 1685 تعادل أثمانها في 1848 (63). وازدادت أسعار الحبوب إلى خمسة أمثالها بين عامي 1500 و1700 (64). وأكلت طبقات العمال خبز الجاودار والشعير والشوفان، أما خبز القمح فكان ترفاً ينعم به ذو اليسار، ونادراً ما ذاق الفقراء اللحم. واعتبر الفقر الذي كان عليه جمهور الشعب أمراً عادياً, وربما كان أشد منه في أخريات العصور الوسطى (65). ويقول ثورولد روجرز:(32/124)
"سعى مالكو الأرض طوال القرن السابع أن يحصلوا من مستأجري الأرض على أكبر ما يستطيعون من إيجار، وبأقصى ما يمكن من قوة فرضوا على العمال أجور تؤدي بهم إلى الجوع والعوز، وبذلوا قصارى جهدهم في استغلال التشريع ليحصلوا من المستهلك على أسعار عالية تقرب الناس من حافة المجاعة والقحط. والتاريخ زاهر بالشواهد الكثيرة على تفاقم الحال يوماً بعد يوم (66) ".
وفي 1696 قدر جريجوري كنج أن ربع سكان إنجلترا كان يعيش على الصدقات، وأن الأموال التي تجمع لإعانة الفقراء كانت تعادل ربع تجارة الصادرات (67). وقهر الأغنياء الفقراء وغلبوهم على أمرهم إلى حد بات معه الأُجراء والفلاحون أضعف من أن يثوروا ويتمردوا، ولمدة نصف قرن خمد صراع الطبقات في إنجلترا (68).
أما الكنيسة الأنجليكانية التي كانت قد تجاسرت أيام شارل الأول على أن تدفع عن الفقراء من وقت لآخر، فقد خلصت الآن، نتيجة للثورة البيوريتانية، إلى أن مصالحها تحقق على أحسن وجه، إذا ربطتها بمصالح طبقات الملاك ربطاً تاماً (69). وكان البرلمان من ائتلاف بين مالكي الأرض وأصحاب المصانع والتجار والرأسماليين. ومن ثم أصغى، بحكم شعور الزمالة المتبادل، إلى صيحات طبقة أرباب العمل ليخلصهم من القوانين التي تعوق انطلاق القوى الاقتصادية للعمل دون قيود. وقبل نهاية القرن السابع عشر، وقبل ظهور آدم سميث بزمن طويل، سمعت إنجلترا بصيحة رب العمل"أتركه يعمل" (سياسة عدم التدخل) من أجل الحرية الاقتصادية، وتخلص أرباب العمل من العوائق الاقتصادية والإقطاعية والنقابية، في تشغيل العمال والإنتاج والتجارة (70)، وتجاوزوا القيود النقابية وانهارت النظم المهنية، وبطل العمل بتحديد الأجور عن طريق الحكام المحليين، بفعل القوة النسبية للمساومة بين أرباب العمل الأثرياء والعمال الجياع (71). إن الأيديولوجية الحديثة للحرية، بدأت هنا الآن، حين طالب المقاولون(32/125)
والملتزمون المغامرون، في صخب وغضب، بالتحرر من القيود القانونية والأخلاقية.
وباتت التجارة الآن عنصراً هاماً فعالاً في الاقتصاد الإنجليزي، وعاملاً حيوياً في حصول البرلمان على الاعتمادات التي يقررها، إلى حد أنها، أي التجارة، شقت طريقها لتفعل ما تشاء مع الحكومة يسيطر عليها مالكو الأرض. وأصبح التشريع الإنجليزي في التجارة، يحابي الإنجليز لا على حساب الهولنديين وحدهم، بل على حساب الايرلنديين والاسكتلنديين كذلك، وحرم اتيراد الماشية والأغنام والخنازير من ايرلندا واستبعد الغلال الاسكتلندي، وفرضت ضرائب ثقيلة على واردات اسكتلندا، إن الرغبة في التوسع في التجارة الإنجليزية وتفير الحماية العسكرية لها، هي التي حثت على التحالف مع البرتغال، وزواج شارل الثاني من كاترين براجانزا، وعلى تجدد الحرب مع المقاطعات المتحدة، والتصميم على الاحتفاظ بجبل طارق. وتضاعف حجم تجارة إنجلترا بين عامي 1660 و1688، بسبب الانتصار على الهولنديين، إلى جانب أسباب أخرى (72)، وكتب شارل الثاني إلى أخته يقول: "إن أقرب شيء إلى قلب هذه الأمة هو التجارة وكل ما يتعلق بها (73) ". وبات ثراء التجارة ينافس الآن اقتناء الأراضي الواسعة الطيبة.
ومدت المشروعات المغامرة الإنجليزية أذرعها في كل اتجاه، فاتسعت للمشروعات الجديدة في نيويورك ونيوجرسي ومنسلفانيا وكارولينا وكندا، ومُنحت شركة الهند الشرقية كل الحقوق فيما تستطيع أن تضع يدها عليه في الهند، وكان لهذه الشركة أسطولها وجيشها وحصونها وعملتها وقوانينها، وكانت تعلن الحرب وتفاوض لعقد الصلح، وتم الاستيلاء على بومباي بالمصاهرة في 1661، وعلى منهاتن (في نيويورك) بحق الفتح في 1664. وفي العام نفسه استولى الإنجليز على الممتلكات الهولندية على الساحل الغربي لأفريقية. ومن أجل تزويد هذه المستعمرات بالأيدي العاملة نشأت عادة "الإكراه" وهي إغراء الشبان الإنجليز بالعمل في هذه "المزارع" بتقديم الخمر لهم أو ضربهم حتى يفقدوا وعيهم، وعندئذ يحملونهم إلى ظهر سفينة(32/126)
على وشك الإقلاع، ثم يوضحون لهم أنهم كانوا قد وقعوا عقداً للعمل (74). إن القانون قد حرم هذا الإجراء، ولكنه لم ينفذ. وكان موقف البرلمان واضحاً، فإنه على حين انتهت ثورتا 1642 - 1649 و1688 - 1689 إلى تغلب البرلمان على الملك، حدثت في نفس الوقت ثورة اقتصادية متزامنة انتهت بسيطرة التجارة والصناعة والمال على البرلمان.
وكان في إنجلترا في تلك الأيام مئات من "الصائغين أصحاب المصارف" (مقرضو النقود) الذين يدفعوا 6% أرباحاً على الودائع، ويتقاضون 8% على القروض (75). وكان شارل الثاني يلتمس أي منفذ لتجنب سلطة البرلمان على الخزانة، فلجأ إلى الإستدانه كثيراً من أصحاب المصارف هؤلاء، حتى بلغت ديونه منهم في 2 يناير 1672، 1328526 جنيهاً (76)، وفي هذا التاريخ كان مجلس الملك على وشك أن يشن الحرب على المقاطعات المتحدة فأحدث في مجتمع المال هزة عنيفة "بإغلاق خزانة الدولة" أي منع تسديد فوائد ديون الدولة لمدة عام. فساد الذعر، ورفض أصحاب المصارف الوفاء بالتزاماتهم تجاه أصحاب الودائع، أو تنفيذ اتفاقاتهم مع التجار، وعمل المجلس بوعود قاطعة باستئناف الدفع في نهاية العام. واستأنف الدفع في 1674، وسدد رأس المال عن طريق تعهدات والتزامات حكومة جديدة. والواقع أنه في 2 يناير 1672 تحددت بداية الدين الوطني في إنجلترا، وتلك حيلة جديدة في تمويل الدولة.
ومذ باتت لندن موطن أصحاب المصارف وأمراء التجارة ومركز الثورة المجموعة عن طريق نظام الأسعار، من منتجي الطعام والسلع، فإنها كانت الآن أكثر مدن أوربا اكتظاظاً بالسكان، فنافست قصور الرجال الأعمال الأرستقراطية في البذخ والترف، إن لم يكن في الذوق. وكانت فيها مجموعة من المخازن بشعاراتها الفاتنة ولافتاتها المزخرفة ونوافذها ذات الأعمدة الحجرية، تعرض منتجات العالم (1) أمام أنظار الأقلية، ورصفت
_________
(1) حوالي هذه الفترة بدأت النوافذ الزجاجية تحل محل النوافذ القديمة ذات الإطارات الخشبية، لأن الزجاج يسمح بنفاذ قدر أكبر من الضوء.(32/127)
الشوارع الرئيسية وحدها بالحصى عادةً وحوالي 1684 أضيئت بنور ضعيف حتى منتصف الليل في الليالي غير المقمرة بقناديل يعلق الواحد منها كل عشرة أبواب. ولم يكن للشوارع أرصفة للمشاة، وكانت نهاراً تعج بالحركة الصاخبة من الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في سلاسل أو عربات يد، أو عجلات يد، وبالمنادين الذين يعرضزن القيام بخدمات منزلية مثل "قتل الفئران والجرذان (27) ". وكان هناك المتسولون واللصوص في كل شارع، كما وجد أيضاً المغنون الذين يرفعون عقيرتهم بالأغنيات من أجل الحصول على بنس. وكان حي الأعمال يسمى "السيتي". وكان يحكمه العمدة وهيئة البلدية ومجلس أرباب البيوت في الأحياء أعضاءه. والى القرب من هذا الحي، كان يقع "الحي السياسي" وستمنستر، وفيه الكنيسة والقصر اللذان يحملان هذا الاسم (وكان القصر مقر البرلمان)، وفيه القصران الملكيان هويتهول وسان جيمس، وخارج هذين القسمين من المدينة كانت أحياء الأكواخ التي تعج بالفقراء الكثيري التناسل. ولم تكن الشوارع فيها مرصوفة فكانت العربات ترش، مزهوة، ماء المطر أو الوحل على المشاة، وهي تصطدم بالجدران في الأزقة الضيقة. وكانت المنازل ضيقة جداً بعضها من بعض، والأدوار العليا متلاصقة متقابلة، مما لا يدع مجالاً لضوء الشمس المتقطع أن ينفذ إليها. ولم يكن نظام المجاري الحالي معروفاً في لندن آنذاك، بل كانت مراحيض خارجية وبالوعات، وكانت العربات تحمل الفضلات وتقذف بها خارج حدود المدينة، أو في نهر التيمز بطريق خفيفة غير مشروعة.
وكان تلوث الهواء آنذاك بالفعل مشكلة وبناء على طلب الملك أعد جون افلين ونشر 1661 خطة لتبديد الدخان الذي علق بسماء لندن، قال:
"إن الإسراف في استخدام الفحم يعرض لندن لأسوأ الإزعاج والخزي(32/128)
والعار، وليس هذا ناشئاً من نيران المطابخ التي لا يكاد يرى لها أثر، بل من بعض مداخن معينة في مصانع البيرة ومحال الصباغة وإحراق الجير، ومصانع الملح وغلي الصابون وبعض مصانع أخرى، تكفي فوهة إحدى المداخن فيها، وحدها وبشكل واضح، لتلويث الهواء وإزعاج لندن أكثر مما تفعل مداخل المدينة مجتمعة ... إن لندن تكون أقرب شبهاً ببركان اتنه أو بضواحي جهنم، منها بمجتمع تعيش فيه مخلوقات عالقة، حين تفتح هذه المداخن أفواهها وتنفث القتام والسخام ... أن السائح المنهوك سرعان ما يشم، من مسافة عدة أميال، رائحة المدينة التي يقصد إليها، قبل أن يراها ... أن هذا الدخان الأسود الكريه ... يقرح الرئتين، وهذا داء لا شفاء منه، إلى حد أنه يقضي على أعداد كبيرة من الناس، نتيجة السل المنهك الخطير، كما ينبئ بذلك نشرات الوفيات الأسبوعية (78) ".
وأعد ايفلين مشروع قانون للبرلمان الذي كان أقرب منالاً لرجال الصناعة الأثرياء منه للجمهور الذي يعوزه التنظيم، ومن ثم لم يحرك هذا البرلمان ساكناً. وبعد ثلاثة عشر عاماً سوياً رفع سير توماس براون صوت الطب عالياً، يحذر من: -
"الروائح الكريهة التي تنفثها البالوعات العامة، والأماكن المنتنة وفضلات المواد المغلية التي تستخدمها المصانع القذرة غير الصحية كما أن الضباب والسديم يعوقان دخان الفحم من أن يهبط ويتبدد، ومن ثم يمتزج بالسديم ويتنفسه الناس، ولكل هذا آثار سيئة، حيث يلوث الدم ويعرض السكان إلى النزلات الشعبية والسعال (79) ".
إن الهواء الفاسد، وضعف الرعاية الصحية وسوء التغذية كان يهدد بانتشار الأوبئة في كل عام وما أن تجئ فترة تتجمع فيها ظروف غير مواتية، حتى تنزل كارثة الطاعون. وفي 31 أكتوبر 1663 دون بيبز في مذكراته: "أن الطاعون منتشر في أمستردام، ونحن في فزع منه هنا". وكانت السفن القادمة من هولندا تخضع للحجر الصحي، وفي ديسمبر 1664 مات شخص واحد بالطاعون في لندن، واثنان في أبريل 1665،(32/129)
وفي مايو 43 شخصاً، وهكذا تفاقم الحال حتى حل الصيف الحار مع مطر قليل يساعد على تنظيف الشوارع، فكان ضغثاً على إبالة، وأيقنت لندن التي ملأها الفزع والجزع، أنها تواجه شيئاً شبيهاً بالموت الأسود 1348 الذي لا تزال ذكراه عالقة بالأذهان. وكان ديفو آنذاك صبياً في السادسة، ولكنه استطاع أن يعي قدراً كبيراً مما تردد في هاتيك الأيام عن الطاعون، فكتب قطعة خيالية بعنوان "صحيفة عام الطاعون" تكاد نتكون في منزلة التاريخ (80):
"منذ الأسبوع الأول من يونيو انتشرت العدوى بصورة الرهيبة، وارتفعت أرقام الوفيات، وعمد الناس إلى إخفاء قلقهم قدر الطاقة، حتى يحولون دون ابتعاد جيرانهم عنهم، أو دون إغلاق الحكومة لبيوتهم. وفي يونيو تزاحم الأغنياء على مغادرة المدينة، وفي هويتشا بل ما كان يمكن أن ترى إلا العربات، وعربات اليد تحمل البضائع والنسوة والأطفال وغيرهم، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الرجال على ظهور الخيل .. وهو منظر رهيب وكئيب (81) ".
وزادت النذر والتنبؤات عن المصير المشئوم من الرعب، وأغلقت المسارح وحلبات الرقص والمدارس ودور المحاكم. وانتقل الملك وحاشيته في يونيو إلى أكسفورد "حتى يحوطهم الله برعايته إن شاء" دون أن يمسهم سوء، ولو أن صيحات التأنيب تعالت ضدهم لأنهم هم الذين جلبوا هذا البلاء، عقاباً من عند الله، على فسادهم وفجورهم، وبقي رئيس أساقفة كنتربري في مقره في لامبث، ينفق في كل أسبوع عدة مئات من الجنيهات عوناً للمرضى والأموات. وبقي موظفوا المدينة فيها يقومون بأعمال بطولية. وأرسل الملك ألف جنيه ورجال الأعمال في "السيتي" ستمائة جنيه أسبوعياً، وهرب كثير من الأطباء ورجال الدين، وبقي آخرون وقضى كثيرون نحبهم متأثرين بالعدوى. وجرب الناس الأدوية والعلاجات على أختلاف أنواعها، فلما أخفقت لجأوا إلى التمائم والتعاويذ التي قد تصنع(32/130)
المعجزات. وفي 31 أغسطس 1665 قال بيبز "في هذا الأسبوع مات 7496 شخصاً منهم 1602 بالطاعون". وكان حفارو القبور يحملون من يموتون في الشوارع على عربات اليد، ويدفنونهم في مقابر عامة. وبلغت جملة من ماتوا بالطاعون من أهالي لندن 1665، نحو سبعين ألفاً، وهذا سبع السكان. وخف الوباء في ديسمبر، وعاد الناس لمزاولة أعمالهم شيئاً فشيئاً. وفي فبراير 1666 عادت الحاشية إلى العاصمة.
وما كاد السكان الباقون على قيد الحياة يروضون أنفسهم على احتمال ما كلفهم الطاعون من خسائر حتى داهمت المدينة كارثة أخرى. وكانت كارثة حقاً، ذلك أنه في يونيو 1666 أبحر الهولنديون في جرأة إلى التيمز ودمروا المراكب الإنجليزية فيه بمدافع سمع صوتها في لندن. ولكن في الساعة الثالثة من صباح الأحد 3 سبتمبر، في حانوت خباز في بودنج لين، شب حريق، أتى في ثلاثة أيام على معظم الجزء من لندن الواقع شمال النهر، ومرة أخرى تآمرت الظروف وتجمعت المصائب: صيف جاف، وبيوت كلها تقريباً مبنية من الخشب، متلاصقة، كثير منها خال من السكان الذين يقضون عطلة نهاية الأسبوع في الريف، مخازن ملآى بالزيت والقار والقنب والكتان والخمور وغيرها من المواد القابلة للاحتراق في الحال، ثم هبت رياح عاصفة حملت النار من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، أضف إلى ذلك سوء التنظيم وعدم الاستعداد لمواجهة مثل هذا الحريق في مثل هذا الوقت من الليل. ومن حسن حظ ايفلين أنه كان في سوثوارك، فأسرع إلى شاطئ النهر.
"حيث شهدنا المدينة بأسرها وقد أندلع فيها اللهب الرهيب بالقرب من الماء، في كل الدور من جسر لندن، وفي شارع التيمز، صعداً نحو تشيسيد ... وامتدت النيران في كل مكان، وعرت الدهشة الناس، إلى حد أننا لم ندر منذ البداية، ماذا تولاهم من قنوط وجزع حتى أنهم بشق النفس تحركوا لإخمادها، فلم نكن نسمع أنرى إلا الصرخات والعويل والنواح(32/131)
وهم يجرون هنا وهناك، ذاهلين مخبولين، كذلك أحرقت النار الكنائس والقطاعات العامة، وسوق الأوراق المالية والمستشفيات والآثار والزخارف والبيوت والأثاث كما أنها أتلفت كل شيء .. . "
وهنا رأينا النهر مغطى بالبضائع الطافية فوق الماء والزوارق والقوارب محملة بالضائع التي وجد بعض الناس فسحة من الوقت وأوتوا شيئاً من الشجاعة لإنقاذها. كما كان هناك على الجانب الآخر العربات وغيرها، تنقل إلى الحقول، التي انتشرت لعدة أميال كل من كل نوع ... كما نصبت الخيام ليأوى إليها الناس وما استطاعوا أن يستخلصوه من بضاعة ومتاع. يا لهول المنظر الأليم المفجع الذي لم تصادف الدنيا مثله منذ بدء الخليقة. وغطت ألسنة النيران وجه السماء، فبدت وكأنها أتون ملتهب ... إني أرجو الله ألا يقع عيناي ثانية على مثل هذا المنظر، منظر أكثر من عشرة آلاف بيت تحترق كلها في لحظة واحدة وكان صوت اللهب المندلع وفرقعته ورعده، وصراخ النساء والأطفال، وهرولة الناس، وسقوط الأبراج والمنازل والكنائس، أشبه شيء بعاصفة هوجاء، وكان الهواء ساخناً إلى حد أن الناس اضطروا إلى الوقوف جامدين، تاركين النار يشتد أوارها، وتمتد ألسنتها لمسافة تقرب من ميلين طولاً وميل عرضاً (82) ".
وأبلى الملم وأخوه المكروه جيمس، كلاهما، بلاء حسناً في هذه الأزمة، وجدوا في العمل بأيدهم مع مكافحي النيران، وأشرفوا على أعمال الإغاثة ومولها وهيئوا المأوى والطعام لمن يأتوا بلا مأوى، وأصروا، برغم المعارضة الشديدة، على هدم البيوت ليحولوا دون امتداد الحريق، مما كان له الأثر في إنقاذ جزء من المدينة في شمال التيمز (83) وكاد الحي التجاري أن يمحى عن آخره، أما حي السياسة "وستمنستر"، فقد أنقذ، ودمر ثلثا مدينة لندن، بما في ذلك 13200 منزل، 89 كنيسة بما فيها كنيسة سانت بول العتيقة، ولقي ستة أشخاص فقط مصرعهم، ولكن مائتي ألف شخص فقدوا مساكنهم (84). ودمرت معظم المكتبات واحترق من الكتب(32/132)
ما قيمته 150 ألف جنيه. وقدر مجوع الخسائر والأضرار بنحو 10730000 جنيه (85)، وهو ما ربما يعادل اليوم 500 مليون دولار.
وبعد الكارثة نظم المجلس البلدي في لندن إدارة للمطافئ، وركبت خراطيم الماء في أنابيب الماء الرئيسية. وكان على كل شركة أن تعين بعض أعضائها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتشغيلها لدى سماع أي إنذار، وكان على كل العمال أن يذوهم إذا استدعاهم عمدة المدينة. وأعيد بناء لندن في شيء من التمهل، على طراز أمتن وأقوى، وإن لم يكن أجمل من ذي قبل. وبأمر من الملك حول الطوب والحجر محل الخشب، واختفت الطوابق العليا الناتئة، وأصبحت الشوارع أوسع وأكثر استقامة، ورصفت بالحجر السلس الأملس، وخصصت الطوارات للمشاة. وتحسنت الرعاية الصحية. وقضت النيران على كثير من الأقذار والفئران والجراثيم فتخلصت لندن من الطاعون، وجدد المهندس المعماري "رن" بناء كنيسة سانت بول.
4 - الفن والموسيقى
1660 - 1702
ولد كرستوفر رن Wren في أحضان الدين، ورضع لبان العلم، وتوجه بالفن. كان أبوه كبير كهنة وندرسون، وعمه أسقف الي Ely، والتحق بمدرسة وستمنستر، ثم كلية وادهام في "أكسفورد" وفي 1653 حصل وهو في الحادية والعشرين على منحة لمتابعة الدراسة في كلية "جميع النفوس". ثم أصبح في سن الخامسة والعشرين أستاذاً للفلك في كلية جريشام في لندن، وفي سن التاسعة والعشرين شغل "كرسي" "سافيل" للفلك في أكسفورد. وبدا أنه وهب نفسه للعلم، فقد سحرت لبه الرياضيات والميكانيكا والبصريات والأرصاد الجوية والفلك. فقوم السيكلويد (وجد أن الخط المستقيم مكافئ لانحناء السيكلويد). وشرح قوانين التصادم، ونسب إليه نيوتن كثيراً من التجارب التي أدت إلى وضع قوانين الحركة الثلاثة (86). وعمل بجد على تحسين التلسكوب وصقل(32/133)
العدسات وبحث في دوائر زحل. وابتكر طريقة إلى تحويل الماء المالح إلى ماء عذب، وأدى من أجل بويل أول عملية حقن سائل في مجرى الدم في الحيوان. وأثبت أن الحيوان يمكن أن يعيش بسهولة بعد إزالة طحاله. واشترك مع توماس ولس Willis في تشريح المخ. وأعد الرسوم اللازمة "لتشريح ولس المشهور" وكان من أوائل أعضاء "الجمعية الملكية" وهو الذي كتب مقدمة ميثاقها. وما كان لأحد أن يعلم أنه سيخلد في التاريخ على أنه أعظم مهندس معماري لإنجليزي.
إن الظروف قد تغير مجرى الحياة. وربما كانت مهارة رن في الرسم هي التي حدت بشارل الثاني إلى تعينه مساعد لسير جون دنهام (1661) رئيس المساحة في الأشغال العامة. وسرعان ما وجد في العمارة ذلك التزاوج بين العلم والفن، أي إضفاء الجمال على الحقيقة، وهذا هو ما كان يشغل كل تفكيره. وكتب يقول: "هناك لونان من الجمال: الجمال الطبيعي والجمال المألوف أو العادي المتعارف عليه. والجمال الطبيعي تأتي لنا به الهندسة، أما الثاني، الجمال المألوف، فإنه يأتي من ترويض حواسنا على الأشياء التي تبعث السرور والبهجة عادة ... في نفوسنا ولكن المعيار الحقيقي دائماً هو الجمال الطبيعي أو الجمال الهندسي (87) ". فالشيء الصحيح هندسياً، كما يرى رن، يسرنا هو نفسه، ويكون جميلاً (أحد الجسور الكبرى في العالم مثلاً). ومن هذه الزاوية أثر العمارة الكلاسيكية على العمارة الموطية. وفي تصميماته الأولى ترسم خطى اينجو جونز.
وفب 1663 وضع تصميم مسرح شلدون في أكسفورد للأسقف جلبرت شلدون، وهنا منذ البداية، أتبع مبادئ كلاسيكية. فرفع الصرح الدائري الضخم، على نفس الطراز الذي وضعه فتروفيوس في قديم الزمان وفينولا في عصر النهضة. وساعدت إقامته الطويلة في فرنسا 1664 - 1666 على ترسيخ ميوله الكلاسيكية. ولكن إعجابه بكنيسة فرنسوا مانسارت في فال-دي-جراس، جنح به إلى إضافة شيء من زخارف الباروك إلى(32/134)
واجهات مبانيه. كما انه قد تذكر قبة فال-دي-جراس، وهو يعيد بناء كنيسة سانت بول.
وعاد رن إلى لندن في مارس 1666. وفي أبريل، بناء على طلب الأسقف شلدون وضع خطة لإصلاح الكاتدرائية المتداعية، التي شاخت من العمر آنذاك نحو 600 عام وفي أغسطس وافقت لجنة إصلاح كنيسة سانت بول على مشروع رن. ولم يمض على ذلك أسبوعان حتى دمر حريق لندن التاريخي الكنيسة، وجرى الرصاص الذي أذابته النيران من سقفها الشوارع.
إن هذا الحريق الذي أتى على ثلثي العاصمة هيأ للعمارة فرصة لم تتح لها منذ حريق رومه. وكانت النيران لا تزال كامنة تنفث الدخان حين عرض رن على شارل الثاني مشروعه الرائع إعادة بناء المدينة. وقبل الملك المشروع، ولكن أعوزه المال اللازم له، كما أن المشروع تعارض مع حقوق الملكية القوية. وشغل رن نفسه بمشروعات أخرى، وأعد في 1673 تصميماً لكنيسة سانت بول جديدة. ولكن رجال الكاتدرائية اعترضوا بأن التصميم عليه سيماء معبد وثني، وحثوا رن على التزام الطراز القوطي في الكنيسة العتيقة، ووافق كارهاً على حل وسط، بحيث يكون الداخل عبارة عن أقواس وجناح من الكنيسة ومكان خاص بالمرتلين، وكلها على الطراز القوطي، على أن تكون الواجهة من طراز عصر النهضة: مدخل ذو رواق معمد وقوصرة كلاسيكية وبرجان من طراز الباروك. وكانت النتيجة خليط كريه المنظر من الطراز، ولو أن رن أصلح منه بعض الشيء بتتويج الجزء الداخلي بقبة تنافس قبة برونلسكي في فلورنسة وميكل أنجلو في رومه وستظل سانت بول أروع كنيسة شادها البروتستانت.
وعل حين مضى هذا المشروع في طريق التنفيذ لمدة خمسة وثلاثين عاماً، فإن رن الذي خلف دنهام في تولي شؤون المساحة العامة، وضع تصميماً،(32/135)
لثلاث وخمسين كنيسة أخرى. أشتهر كثير منها بأبراجها وقممها المستدقة التي جمعت بين حاسة الجمال وبين نزعته الرياضية. أضف إلى هذا دار الجمارك في لندن، والمستشفى في كل من جرينتش وشلس، والكنائس الصغيرة في كلية بمبورك في كمبردج وترنيتي كولدج في أوكسفورد، ومكتبة ترنيتي كولدج في كمبردج والجناح الشرقي الكلاسيكي في قصر مبتون كورت، وستاً وثلاثين داراً نقابية، وعدداً من الدور الخاصة بل يبدو أنه في الأربعين عاماً الأخيرة من القرن السابع عشر. لم يشيد مبنى له قيمته وأهميته، إلا كان رن هو المهندس الذي تولاه (88). واحتفظ رن بمنصبه في المساحة طوال حكم شارل الثاني، وجيمس الثاني، ووليم وماري، وآن. وتقاعد عن العمل في سن السادسة والثمانين، ولكنه ظل لخمسة سنوات أخرى يشرف على العمل في كنيسة وستمنستر، وينسب بعضهم إليه الفضل إقامة أبراجها، وفارق الحياة في سن الحادية والتسعين، ودفن في كنيسة سانت بول.
وكان فن النحت لا يزال يتيماً في إنجلترا. ولكن الحفر على الخشب كان فناً رفيعاً. وكان جرنلنج جيبونز معاوناً له قيمته للمهندس رن، قام بحفر المقاعد في المكان المخصص للمرتلين وصندوق الأرغن الفخم في كنيسة سانت بول، والزخارف في قصر وندرسون وقصر كنسنجتن وهامبتون كورت.
واستمر فن الرسم في إنجلترا على أن يستقدم الأساتذة ويثبط من همم بنيه. وعلى الرغم من ذلك، كان بعضهم يعد جون ريلي أعظم رسام لصور الأشخاص في فترة عودة الكنيسة الملكية وأدرك جون أن الوجه المدروس الذي يرسم في رؤية، هو في ذاته سيرة حياة، فاستطاع أن يقرأ خطوطه، وفي بصيرة نافذة كشف في ثناياه عن خفاياه وأسراره وأبرزها في شجاعة غير مريحة. وكاد تعليق شارل الثاني على صورة رسمها له ريلي يكون سبباً في انهيار الفنان ودماره، حين قال الملك: "أهذه صورتي؟ يا لخيبة الأمل،(32/136)
اذن أنا رجل قبيح المنظر" ومضى زمن طويل قبل أن تدرك الحاشية أن هذا كان مجرد تحية عفوية لأمانة الفنان. وبنفس الدقة والأمانة أخرج ريلي صور الملك الأحمق جيمس الثاني، وادموند ولإلر الشاعر المرتد، وارل آروندل الأرستقراطي التافه المختال. ولكنه حين رسم كرستوفر رن وروبرت بويل، وقع على العبقرية ووضع يده على إمارتها في الوجه، وبريقها في العينين. قال هوراس وولبول "ربما كان في مقدور ريلي، بربع غرور سير جودفري نللر، أن يقنع العالم بتفوقه وسموه (89). وفارق الحياة 1691 وهو في سن الخامسة والأربعين.
وكان للي الهولندي ونللي الألماني فارسي الحلبة المرموقين في الرسم الأشخاص في عصر أل ستيوارت الثاني. وكان والد للي جندياً هولندياً اسمه فان درفاس. واشتق لقبه هذا (للي) من زنبقة كانت مرسومة على داره. وانحدر اللقب إلى الابن. ولد بيتر في وستفاليا 1618، ودرس الفن في هارلم، وعبر البحر إلى إنجلترا (1641) حين سمع أن شارل الأول أوتي الذوق والمال، ووفق في أن يختلف فانديك بوصفه مصور الأشخاص الذي يبتغيه الناس، وظل محتفظاً بمكانته هذه على عهد كرومول وشارل الثاني، وأقتبس للي أسلوب فانديك في إضفاء الأناقة والرشاقة على الجالسين أمامه (لرسمهم). ولو في اللباس فقط. وحاصرته ربات الجمال في الحاشية، من ذلك أننا نرى في قاعة المتحف الوطني لوحة نل جون ريانة فاتنة الدعارة. وكونتس شروزبري التي ساءت سمعتها، بمغامراتها الغرامية كما كما نرى على جدران قصر هامبتون كورت ليدي كاسلمين ولويزدي كيرووال، تزدهيان بحلمات أثدائهما. وأجمل من ذلك جون تشرشل وهو طفل مع أخته (89) أزابللا (90) ومن الذي كان يتوقع أن يصبح هذا الطفل الملائكي والطفلة الملائكية دون مالبرو القوى الجبار، والعشيقة التي تصعب زحزحتها لجيمس دوق يورك؟. وعن طريق مثل هذه اللوحات حصل للي على لقب فارس، وجمع ثورة، فقد جلس أمامه شارل الثاني وسة من الأدواق(32/137)
لرسمهم. ورأى بيبز أنه جبار معتد بنفسه .. يحظى بمنزلة رفيعة (91)، وكان يعيش "عيشة مترفة باذخة (92) " وحدد له موعداً للقائه بعد ثلاثة أسابيع.
وفي 1674، أي قبل وفاة للي بست سنوات، قدم إلى لندن رجل ألماني عقد العزم على لن يخلف سير بيتر (للي) في رسم الأشخاص وفي كسب المال وفي الفروسية، وحقق الرجل برنامجه وكان الرجل، وهو جوتفريد فون نللر، آنذاك في الثامنة والعشرين، وعينه شارل الثاني "مصور البلاط" واحتفظ نللر بهذا المنصب في عهد جيمس الثاني ووليم الثالث الذي منحه لقب فارس، ورسم سير جودفري لوحات لثلاثة وأربعين من أعضاء "نادي كيت كات" ذي المكانة السياسية البارزة (93) ولعشر من النساء الخطيرات المغويات في بلاط وليم (94). وغطى على شهرة ديدرن ولوك. ومثلما يتلهف أي إنسان على الخلود، حول نللر مرسمه الفخم إلى مصنع ينتج بالجملة، بهيئة لم يسبق لها مثيل من المساعدين، يختص كل منهم في شيء معين: الأيدي، الثياب الأشرطة والخطوط الملونة. وفي بعض الأحيان جلس أمامه أربعة عشر شخصاً في يوم واحد. وشيد قصراً في الريف، وتنقل بينه وبين بيته في المدينة في عربة تجرها ستة جياد. واحتفظ بحياته في كل التقلبات السياسية. وفاضت روحه وهو في فراشه معززاً مكرماً في سن السابعة والسبعين (1723) وفي تلك السنة ولد ربنولدز، وكان هو جارت في السادسة والعشرين من العمر، وبدأ الرسم الوطني يترعرع ويشق طريقه.
وقضى البيوريتانيون تقريباً على الفن، ولكنهم لم يخرسوا الموسيقى. ولم يَخلُ من الآلات الموسيقية إلا أحقر البيوت، ولحظ بيبز وجود العذراوية (آلة تشبه البيان الصغير بدون قوائم) في كل قارب من ثلاثة القوارب التي تحمل المنقذة في التيمز أثناء الحريق (95)، وكتب يقول: "لا بد أن أُفسح المجال للموسيقى والنساء مهما كنت مشغولاً".(32/138)
وكان يورد ذكر صفارته ومزهره وعوده وقيثارته. قدر ما يذكر أسلحته (96) وكل إنسان ورد ذكره في مذكراته، كان يعزف ويغني. وكان من القضايا المسلم بها عنده أن أصدقاءه كان في مقدورهم أن يشاركوا في الغناء (97)، وأنه هو وزوجته وخادمتهما كانوا يغنون في حديقته غناءً متناغماً، بشكل مقبول إلى حد أن جيرانهم كانوا يفتحون النوافذ ليستمعوا إليهم.
وفي الابتهاج بعودة الملكية صدحت الموسيقى من كل شكل ولون. واستقدم شارل الموسيقيين من فرنسا. وسرعان ما جعل الناس يدركون أنه كان يحبذ الألحان الرخيمة المبهجة الواضحة التي لا تحسب الرياضيات تناسقاً أو تناغماً. ووضعت آلات الأرغن من جديد ولعلعت في الكنائس الرسمية. وكان الأرغن الذي صمم لكنيسة سانت جورج في وندسور، وللكتدرائية في أكستر، من بين عجائب الدنيا التي أحدثت دوياً في ذاك العصر. ولكن حتى في جماعة المنشدين في الكنيسة حل محل الوقار والرهبة، عروض مسرحية من فناني والآلات المنشدين المنفردين. وأمر شارل الثاني وجيمس الثاني بإعداد الموسيقى للشعر الغنائي وحلبات الرقص التي تقام احتفالاً بالمناسبات الملكية. واستخدمت الكنائس الموسيقى لقاء أجر، وجازفت المسارح بالأوبرا، وبدأ الملحنون والعازفون الإنجليز يرتزقون من جديد.
وفي 1656 أقنع سير وليم دافنانت حكومة الحماية لترخص له في إعادة افتتاح مسرح، على أساس أنه سيخرج أوبرا، لا رواية وفي "حفلة الأيام الأولى" التي مثلها لم يكن هناك أوبرا بقدر ما كان هناك سلسلة من الحوارات سبقتها وتخللتها وأعقبتها الموسيقى. ولكن في العام نفسهعرض دافنانت في مسرحه الخاص "رتلند هاوس" أول أوبرا لإنجليزية "حصار رودس (98) " ولكن إغلاق المسارح بسبب الطاعون والحريق، عوق هذه التجارب. على أنه في 1667 عرض دافنانت المغامر، في صورة(32/139)
موسيقية معدلة "العاصفة"التي زعم أنها من عمل أبيه. وحددت أوبرا بورسل "ديدو وإينياس" بداية الأوبرا الكاملة في إنجلترا.
وكما هو الحال غالباً في تاريخ الموسيقى، فإن عبقرية هنري بورسل كانت في معظمها نتاج وراثة اجتماعية -أي بيئة سن المراهقة. فكان أبوه رئيس المرتلين في وستمنستر، وكان عمه يشغل وظيفة "ملحن القيثارات لصاحب الجلالة". وكان أخوه ملحناً وكاتباً مسرحياً. وتابع أبنه وحفيده عمله في العزف على الأرغن في الكنيسة. أما هو فلم يمتد به الأجل لأكثر من سبعة وثلاثين عاماً (1658 - 1695)، وتولى الترتيل في الكنيسة الملكية وهو لا يزال صبياً، حتى ضعف صوته. وألف في شبابه ترانيم دينيه ظلت تسمع في الكاتدرائيات الإنجليزية على مدى قرن من الزمان: وألحنه الإثنى عشر من نوع السوناته (1683) لقيثارتين أو لأرغن وبيان قيثاري، هي التي جلبت شكل السوناته من إيطاليا إلى إنجلترا، ويقول بيرني أن أغانيه وترانيمه والكانتاتا (قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى من غير تمثيل) وموسيقى الفرقة التي ألفها "فاقت إلى حد بعيد كل ما أنتجته أو استوردته بلادنا من قبل، إلى حد يبدو أن سائر الألحان الموسيقية باءت بالاحتقار أو لاذت بزوايا النسيان (99) ".
ولما كان بروسل منهمكاً في عمله، عازفاً على الأرغن وملحناً، فإنه لم يتيسر له أن يخرج "ديدو وإينياس (1) قبل 1689، لنخبه مختارة من المتفرجين، في إحدى مدارس البنات في لندن. وتبدو الموسيقى لنا الآن، حتى الاستهلال المشهور، هزيلة نحيلة، ولكن يجب أن نتذكر أن الأوبرا كانت في المهد، وأن جمهور المستمعين آنذاك لم يولع بالضوضاء والصخب مثلنا اليوم أما اللحن الأخير -عويل ديدو ونواحها: "عندما
_________
(1) في الأساطير الرومانية -ديدو أميرة صور إلى أسست قرطاجه وأصبحت ملكة عليها، وتقول انيادة فرجيل، أنها رحبت باينياس حين قدم إلى قرطاجه بعد سقوط تروادة، ووقعت في شراك غرامه، ثم قتلت نفسها حين غادرها.(32/140)
أتوسد الثرى" فإنه من أكثر ما يهز المشاعر ويؤثر في النفوس، من ألحان في تاريخ الأوبرا بأسره".
أما "الملك آرثر" (1691) التي كتب كلماتها دريدن ووضع موسيقاها بورسل، فليست أوبرا بالمعنى الكامل، حيث يبدو أن الموسيقى لم تكن مرتبطة إلا ارتباطاً يسيراً بجو الرواية أو أحداثها، مثلما أن الرواية بم يكن صلة وثيقة بعصر آرثر كما نراه في مالوري وتنيسون. وبعد ذلك بعم واحد، أحرز بورسل تقدماً أكثر في موسيقى ثانوية لرواية "فيري كوين: الملكة الجنية"، وتكييف مجهول الاسم "لحلم ليلة منتصف الصيف". ولم يمتد به الأجل ليشهد إخراجه، وضاعت الألحان، ولم تكتشف إلا في 1901 وهي الآن تعد من أحسن ما أنتج بورسل.
وفي 1693 وضع أكثر قصائده الغنائية الكثيرة، أحكاماً واتقاناً، في الاحتفال بيوم سانت سيسيليا. ولكن أرق هذه القصائد هي "تسبيحه الشكر والابتهاج" المرحة 1694. وكانت تعزف سنوياً في الاحتفال "بأبناء رجال الكنيسة" حتى 1713، حتى اشتركت في هذا الشرف مع مقطوعة هاندل "تسبيحه الشكر من أوترخت"، فكانت تعزفان بالتبادل سنوياً حتى 1743. من أجل جنازة الملكة ماري 1695، ألف بورسل ترتيلة مشهورة "يا ربنا: أنت أعلم بخفايا قلوبنا". وفي سنواته الأخيرة اسهم في الموسيقى الثانوية لرواية دريدن "الملكة الهولندية" ومن الواضح أنه مرض قبل أن يتمها لأن موسيقى الخاتمة وضعها أخوه دانيل. وحانت منيته، ربما بسبب السل، في 21 نوفمبر 1695.
وعلى الرغم مما امتلأت به فترة عودة الملكية من حيوية ونشاط، فإن الموسيقى الإنجليزية لم تكن قد أفاقت بعد من نكستها على يد البيوريتانيين بعد عهد اليزابيث. وبدلاً من ترسيخ جذورها ثانية في التربة الإنجليزية، حذت حذو الملك، فانحنت إجلالاً وإكباراً أمام الأساليب(32/141)
الفرنسية والآلات الإيطالية. وبعد أوبرا "ديدو واينياس" غزت الأوبرا الإيطالية مسرح الأوبرا الإنجليزية، يقدمها مغنون إيطاليون. كتب بورسل في 1690 "أن الموسيقى الإنجليزية لم تبلغ بعد سن الرشد إنها طفل تواق إلى طموح يبشر بما يمكن أن يكون عليه في المستقبل ... إذا وجد أساتذته مزيداً من التشجيع (100) ".
5 - الأخلاق
فلنبدأ لفورنا هنا بالتفريق بين عامة الشعب وأبناء الطبقات العليا، فالاستهتار الجنسي الذي ساد فترة عودة الملكية، سرى عن طريق الحاشية إلى الطبقة الوسطى العليا وسكان المدن وما حولها الذين ترددوا على المسارح وربما كانت أخلاق العامة المغمورين أفضل منها في عصر اليزابيث، لأن النظام الاقتصادي أبقاهم على اعتدالهم وبعدهم عن السرف، فلم يكونوا يملكون الوسائل التي يتردون بها إلى مهاوي الرذيلة والشر، وطلوا يحسون بوازع من عقيدتهم البيوريتانية. في الحاشية الملكية، فإن التحلل من القيود البيوريتانية ورد الفعل النتاج عن ذلك، أديا إلى اتصال جنسي غير مشروع ومرح صاخب غير بريء. أما الشباب الأرستقراطي الذي خلع من أرض الوطن وأطلق لنفسه العنان في فرنسا، فقد ترك أخلاقه وراءه في المنفى، وأتى معه لدى عودته بضروب من الفوضى الموسومة بالرشاقة والظرف، وانتقاماً منهم للسنوات التي عانوا فيها عنت الظلم والحرمان والسلب والنهب، شنوا بكل ما أتوا من قوة وذكاء، الحرب على زي البيوريتانيين وحديثهم ولاهوتهم ومبادئ الأخلاق عندهم، إلى حد لم يجرؤ معه أحد من أبناء طبقتهم أن ينبس ببنت شفه من أجل الحشمة والوقار. وباتت الفضيلة والتقوى والأمانة الزوجية كلها ألواناً من البراءة أو السذاجة الريفية وأصبح الزاني الذي يوافق كل التوفيق غي هذه الرذيلة، هو بطل عصره وفريد زمانه، (كما هو الحال في رواية وتشر لي: الزوجة الريفية) والواقع أن الديانة فقدت مكانتها(32/142)
واعتبارها بين الناس، ولم يبق لها شيء من هذا إلا عند الحرفيين والفلاحين، وصار الواعظ موضع احتقار والازدراء على أنهم منافقون كئيبون أغبياء مزعجون مملون ثقال الظل. وأصبحت الديانة الوحيدة الصالحة للسيد الماجد هي الأنجليكانية المهذبة التي يحضر فيها المولى (رب العمل أو مالك الأرض) صلاة الأحد لتدعيم مركز القسيس الذي زرع الخوف من نار الجحيم في نفوس القرويين، ويسبح بالحمد والشكر، وفي إيجاز مناسب، من جانب المنصة التي يجلس إليها المولى أو سيد القرية. وأصبح أقرب إلى طابع العصر أن يكون المرء مادياً على مذهب هوبز، لا مسيحياً مثل ملتون، الأحمق العجوز الأعمى الذي نظر إلى سفر التكوين على أنه تاريخ، وفقدت نار الجحيم التي بولغ فيها في العشرين سنة الماضية، رهبتها وهيبتها لدى طبقات المالكين. أما الجنة في رأيهم، فهي مائلة دوماً في مجتمع متحرر من الثورة الاجتماعية والكبت الخلقي في ظل حاشية وملك ضرب المثل وتقدما الركب في الفسق والفجور والميسر واللهو والعبث.
وكان ثمة عدة رجال أفاضل ونساء فضليات بين أفراد البلاط الملكي، وكان كلاردند مثلاً رجلاً ذا المبادئ وسلوك قديم حتى سارت ابنته في طريق الغاوية فاهتاج وفقد صوابه، وأوصى بقتلها وتحلى أرل سوثمبتون الرابع ودوق أورمند الرابع بالحشمة والوقار، وكان من بين رجال الدين الأنجليكانيين نفر من المخلصين الأتقياء، حتى من الأساقفة أو ذوي المراتب الكنيسة العالية. وصدقت عزيمة الملكة وليدي فانشو والآنسة هملتون، والسيدة جودولفين فيما بعد، في التمسك بأهداب الفضيلة. ويقيناً كان هناك أفراد غير هؤلاء وهؤلاء، ضاعت ذكراهم في ثنايا التاريخ لأن الفضيلة لا تعلن عن نفسها.
وكلما علت المكانة انحطت الأخلاق. فهناك جيمس، دوق يورك، شقيق الملك، الذي يبدوا أنه بز الملك في حصته من الخليلات العشيقات (101). وبينما هو في المنفى تسلل إلى مخدع آن هايد ابنة قاضي القضاة، فلما حملت(32/143)
منه توسلت أن يتزوجها ولكنه كان يماطل، وأخيراً وقبل أن تضع وليدها بسبعة أيام (22 أكتوبر 1660) أتخذ منها زوجة شرعية سراً. وعندما سمع أبوها (كلارندون) بنبأ هذا الزواج، كما تروي سيرة حياته (102) احتج لدى الملك بأنه لم يعلم شيئاً عن هذا الاتفاق، وأنه "كان يؤثر أن تكون ابنة خليله الدوق لا زوجته، وأنهما إذا حقاً كان قد تزوجا "فينبغي على الملك أن يزج بالمرأة في السجن فوراً"، وأن يصدر في الحال قرار من البرلمان بقطع رأسها، وأنه لن يوافق على هذا القرار فحسب، بل سيكون عن طيب خاطر أول من يقترحه". وهز الملك كتفيه استهجاناً للموضوع على أنه هراء لا غناء فيه، وكان يسمع جعجعة ولا يرى طحناً، وربما أدرك قاض القضاة أن الملك لن يلزمه بكلمته. وتحدث في صراحة وتجهم، على الطريقة الرومانية، ليعوض عما أثار من ريبة من أنه رتب أمر الزواج من قبل، ليجعل من أبنته ملكة على أن أبنته آن ماتت بالسرطان في 1671، في سن الرابعة والثلاثين.
واتخذ جيمس، بينما كانت زوجته (آن) تعاني من مشاكل الأمومة، من أرابللا عشيقة له، وهي التي أرتضى أخوها هذا الوضع حتى يحظى بالترف في مناصب الجيش. ورغبة في معاونة آن وأرابللا والتخفيف عنهما اتخذ الدوق بضع خليلات لمضاجعته واستاء إيفلين بصفة خاصة من سلوكه الشائن مع ليدي دنهام (1666) (103). ولم يغير تحول جيمس إلى الكثلكة من خلقه شيئاً. فكان كلما كتب بيرنت "دائم التنقل من غرام إلى غرام دون أن يحسن الاختيار، حتى قال الملك يوماً أنه يعتقد أن القساوسة هم الذين يقدمون له العشيقات عقوبة يكفر بها عن ذنوبه (104) " ودامت علاقته بأرابللا نغمة عذبة من الأرغن، وسط هذا التنقل بين مطارح الهوى، وبقيت بعد موت آن، وبعد زواج جيمس (1673) من ماري مودينا.
وينبغي علينا أن نضيف إلى ما ذكرنا، أن دوق يورك نفسه كان يتحلى بمناقب تدعو إلى الإعجاب، فإنه- وهو أمير البحر(32/144)
(1660 - 1673)، بذل أقصى الجهد في التغلب على سوء النظام والفساد في البحرية، نتيجة لضآلة الأجور والمؤن التي تصرف لرجال البحر وتدريبهم الهزيل، وأبدى مهارة وشجاعة في اشتباكاته مع الهولنديين. ونهض بمهام الإدارة في مقدرة وإخلاص. ولم تشب أية شائبة قط إخلاصه العميق لأخيه الملك، بل أنتظر صابراً طيلة ربع قرن من الزمان قبل أن يخلفه على العرش. وكان صريحاً مخلصاً يسهل الوصول إليه، ولكنه كان شديد التكلف بمكانته وسلطانه إلى حد لم يكن معه شعبياً، وكان صديقاً يقيم على الود، وعدواً عنيداً لا يغتفر الإساءة. وكان ذا جلد على العمل الشاق ولكنه لم يكن متوقد الذكاء. وكان يأنبى النصح والمشورة أيما إباء.
وكان يحتل المركز الثاني في البلاط، جورج فليبر دوق بكنجهام الثاني. وكان ابن محظية جيمس الأول التي لقيت حتفها، ومن ثم قاتل إلى جانب شارل الأول في الحرب الأهلية، ومع شارل الثاني في وورسستر، وعينه الملك الذي أسترد العرش عضوا في مجلسه الخاص وكان بارعاً ذكياً أنيساً كريماً، ولذلك سيطر في البلاط بسحره وفتنته لبعض الوقت، وكتب "ملهاة" رائعة. "التجربة"، وتلهى بالكيمياء القديمة والعزف على القيثارة إلى حد ما. ولكن وجهه وثراءه جلب عليه الدمار. أنه تنقل من امرأة إلى أخرى، وانغمس في عبث مخز شائن. وبدد ضيعته الهائلة. وكان يتوق إلى الظفر بكونتيس شروزبري، فتحدى زوجها لمبارزته، وتنكرت هي في زي خادم، وأمسكت بجواد بكنجهام أثناء المبارزة، وصرع بكنجهام الكونت، وعانقت الأرملة السعيدة الدوق المنتصر الذي كان لا يزال مضجراً بدم زوجها، وعادا ظافرين إلى قصر الفريسة (105). وعزل بكنجهام عن منصبه (1674)، وانصرف إلى اللهو والعبث، ومات فقيراً معدماً يجلله الخزي والعار.
وكان ينافس بكنجهام في المكانة والذكاء والقصف والعربدة والانحلال(32/145)
جون ولموت أرل روشستر الثاني، حصل جون على درجة الأستاذية من أكسفور في سن الرابعة عشر (1661) وهو أمر لا يصدق، والتحق بالبلاط في سن السابعة عشر. وأصبح المشرف على حجرة الملك. وكان في حاجة إلى المال وهو في سن التاسعة عشرة، فتودد إلى وريثة ثرية تباطأت في تحقيق بغيته، فاختطفها، ومن أجل ذلك زج به في السجن، فرق قلبها له، ثم حظي بالزواج منها، ثم بثروتها، وكم من مرة أبعده شارل عن الحاشية وأعاده إليها، مستسيغاً فطنته وذكاءه. وكان روشستر - مثل بكنجهام- خبيراً في التقيد والمحاكاة، وكان يسر بالتنكر في زي حمال أو متسول أو تاجر أو طبيب ألماني، وكان يوفق في هذا التمثيل والمحاكاة إلى حد ضلل أو خدع معه أوثق أصدقاء صلة به. وزعم بوصفه طبيباً أنه يبرئ من الأدواء المستعصية عن طريق علمه بالتنجيم. وجذب إليه مئات من المرضى، وشفى عدداً منهم، وسرعان ما قصدت إليه سيدات البلاط لعلاجهن، وعجز أولئك الذين عرفوه حق المعرفة، عن التعرف عليه (106) وفي كل هذه التكرات تقريباً كان يطارد السيدات، دون أي اعتبار إلى مكانتهم. وكن هن يتعقبنه كذلك. وتسلى جون بكتابة قطع من الهجاء البذيء الداعر. وقضى على حياته بالخمر والفجور. وكان يفخر بأنه كان ثملاً مخموراً لمدة خمسة سنوات بلا انقطاع -ومات فقيراً نادماً في السن الثالثة والثلاثين.
وكان في الحاشية رجال كثيرون من أمثال ولموت، حتى أن بيبز نفسه، وهو غيرها وللزنى تسائل: "ماذا تكون نهاية كل هذا الشراب وهذا السباب وهذه العلاقات الغرامية الفاجرة (107) " وعبر بوب عن هذه الحالة في "بحث في النقد"، ولكنه لم ينصف الملك كل الإنصاف، فهو يقول:
"إذا كانت المهمة الهينة اللينة للملك عي العشق والغرام، فقلما نراه في مجلس الحكم، ولا نراه أبداً في ساحة الوغى، فإن الدولة يحكمها النساء الحانثات بالعهد اللائى ينتقلن من حب إلى حب، أما رجال الدولة والسياسة فيكتبون المسرحيات الهزلية والساخرة ولا ستفاد بذوي المواهب،(32/146)
واللوردات الشبان اليافعون خلو من الذكاء والفطنة، .... ولم تعد المروحة المتواضعة المتحشمة ترفع، وعلت الابتسامة وجوه العذارى لما كانت وجناتهن تحمر له حياء وخجلاً من قبل (108).
وكان من الأمور المسلم بها أن الزوجات -مثل الأزواج- تعوزهن الأمانة والإخلاص، فإن الرجال لم يطلبوا الأمانة والإخلاص إلا في عشيقاتهم (109). إن مذكرات كونت فيليبرت دي جرامونت التي دونها بالفرنسية أخو زوجته، أنطوني هملتون، كانت، أحياناً، عبارة عن قائمة بالمغرورين المختالين، أو سلسلة من الديوثين الذين لا يغارون على زوجاتهم وهم يعملون أنهن يأتين الفاحشة، كما رآهم الكونت في منفاه السعيد في بلاط شارل الثاني.
وكم كانت الساعات تقضى وتخصص للرقص وسباقات الخيل وصراع الديكة ولعب البليارد والورق والشطرنج، والألعاب الرياضية والحفلات التنكرية المرحة، ثم كما يقول بيرنت "يطوف الملك والملكة وكل أفراد البلاط، وهم جميعاً متنكرون، بالبيوت الغير معروفة، حيث يرقصون ويلعبون ويلهون في صخب فاجر (110) " وكانت المراهنات على مبالغ طائلة. يقول ايفلين "في هذه الليلة، افتتح جلالة الملك الحلبة، كما هي العادة، فألقى "الزهر" بنفسه في القاعة الخاصة، ... وخمس مائة جنيه. (وكان قد كسب في العام الماضي 1500 جنيه). وأقبلت السيدات على اللعب إقبالاً شديداً (111) "وحذت الطبقات العليا حذو الحاشية في القمار والدعارة. وتحدث ايفلين عن شباب إنجلترا الفاسق الفاجر الذي فاقت إلى حد كبير دعارته سائر الأمم المتحضرة مهما كانت (112). وانتشر اللواط، وبخاصة في الجيش. وكتب روشستر رواية عنوانها "سودومي" (نسبة إلى سودوم قرية قوم لوط) مثلت أمام الحاشية، والظاهر أنه كان في إنجلترا عدداً من المواخير لهذا الاختلاط الجنسي الشاذ (113).(32/147)
وكان عدد الزيجات القائمة على الحب يتزايد، وهناك أمثلة رائعة، منها زواج دوروتي أو زيورن من وليم تمبل، الذي ثبت أنه زواج سعيد، ولو أن دوروتي كتبت تقول: "ليس الزواج القائم على الحب تصرفاً معيباً ملوماً، إذ كنا لم نر من بين ألف من الزوجين الحبيبين الذين يقدمون عليه، زواجاً واحد يمكن أن يتخذ مثلاً على أن يكون إتمامه دون ندم عليه في المستقبل (114) ". وكتب سويفت إلى سيدة شابة في موضوع زواجها فتحدث عن الشخص الذي اختاره أبوها ليكون زوجا لها. وأضاف "أن زواجك كان قائماً على الحكمة والحصافة والتدبير والشعور والطيب المتبادل، خالياً من عوائق الانفعال السخيف في حب الرومانتيك (115) ". ويذكر كلارندون: "إن رغبتي الأولى في الزواج لم تتعلق إلا بضيعة ملائمة مريحة (116) ".
ومن الناحية النظرية كان للزوج كل السيطرة على زوجته، كما يتحكم حتى في الصداق الذي أتت به إليه. وفي كل الطبقات كانت مشيئة الزوج قانوناً. وفي الطبقات الدنيا أستعمل الزوج حقوقه المشروعة في ضرب زوجته، ولكن القانون حرم عليه استعمال عصا يجاوز سُمكها سُمك إبهامه (117). وكان انضباط الأسرة أو نظامها انضباطاً قوياً، اللهم إلا في الطبقات العليا في لندن، حيث شكا كلارندون من أن الوالدين ليس لهما لأي سلطان على الأبناء، كما أن هؤلاء لا يذعنون للآباء ولا يطيعونهم. بل "أن كل إنسان يتصرف كما يحلو له" (118). وكان الطلاق نادراً، ولكن يمكن إجازته بقرار من البرلمان. ورأى الأسقف بيرنت -مثل لوثر وملتون- أنه يمكن السماح يتعدد الزوجات في حالات معينة، وعرض هذه الفكرة على شارل الثاني، بسبب عقم الملكة، ولكن الملك رفضها، تحاشياً للتمادي في إذلال زوجته (119).
وهددت الجريمة الأرواح والممتلكات بشكل مستمر. وكان اللصوص والنشالون يجتمعون في عصابات ويسطون في جنح الليل، وكانت المبارزة(32/148)
محرمة بحكم القانون، ولكنها بقيت امتيازاً للسادة الاماجد، فإذا صرع مبارز غريمة وفقاً للقواعد، نجا المنتصر عادةً بسجن قصير مريح. وسعى القانون جاهداً ليكافح الجريمة عن طريق ما يبدو الآن من عقوبات وحشية. ولكن ربما كانت الإجراءات الصارمة لازمة لغزو العقول المتحجرة أو المتبلدة. وكان التعذيب والموت عقوبة الخيانة العظمى. وكان الشنق عقوبة القتل أو الجناية أو تزييف العملة، وكانت الزوجة التي تقتل زوجها تحرق حية. أما السرقات الخفيفة فكانت عقوبتها الجلد، أو قطع إحدى الأذنين، وضرب أي فرد من حاشية الملك يعاقب بقطع اليد اليمنى. أما التزوير والخداع وغش الموازيين والمقاييس فكانت عقوبتها التعذيب في المشهرة، أحياناً مع دق الأذنين كلتيهما بالمسامير في آلة التعذيب، أو ثقب اللسان بقضيب من الحديد المحمي (120). وكان الناس عادة يستمتعون بمشاهدة مثل هذه العقوبات (121)، ويحتشدون، وكأنهم في يوم عطلة، ليشهدوا سجيناً على حبل المشنقة. وضمت السجون في عهد الملك السعيد عشرة آلاف سجين من أجل الديون، وكانت السجون قذرة، ولكن كان من الممكن أن يقدم الحراس بعض التيسيرات مقابل رشوة. كانت العقوبة أشد صرامة وقسوة منها في فرنسا المعاصرة، ولكن القانون كان أكثر تحرراً. ولم تكن في إنجلترا "أوامر مختومة" (لا لقاء أي شخص في السجن دون محاكمته)، بل كان فيها نظام التحقيق في قانونية الاعتقال. إلى جانب نظام المحلفين.
وشاركت الأخلاقيات الاجتماعية في الانحلال العام. وتزايدت أعمال البر. ولكن ربما كان الواحد والأربعون ملجأ في إنجلترا مجرد وجه آخر لجشع الأقوياء، وكان كل فرد تقريباً يعمد إلى الغش أثناء لعب الورق (122) ودب الفساد في كل الطبقات بمعدل أكبر من المستوى العادي. ومن مذكرات بيز تفوح رائحة الفساد في مختلف الأعمال، في السياسة وفي البحرية وفي بيبز نفسه. من ذلك أن المؤسسات والمصانع زادت في أسهمها دون زيادة مقابلة في رأس المال، وزورت في حساباتها، وتقاضت من(32/149)
الحكومة أثماناً فادحة (123). وكانت الاعتمادات التي يقرها البرلمان للجيوش أو الأسطول يتحول جزء منها إلى جيوب الموظفين ورجال البلاط. وباع موظفي الدولة -حتى ولو كانت رواتبهم كافية تدفع بانتظام- الألقاب والعقود والبراءات والتعيينات وأوامر العفو، إلى حد بات معه الراتب الأصلي يشكل الجزء الأصغر مما يدخل إلى جيوبهم (124) ". وأثري كبار رجال الحكومة مثل كلارندون ودانبي وسندرلند -أثروا في سنوات قليلة واشتروا أو بنوا ضياعاً لا تتناسب قط مع رواتبهم. وباع أعضاء البرلمان أصواتهم للوزراء، بل حتى للحكومات الأجنبية (125) وفي القرارات انتزع مائتا عضو من صفوف المعارضة، نتيجة لأن الوزراء اشتروا أصواتهم (126). وفي 1675 قدر أن ثلثي أعضاء مجلس العموم كانوا مأجورين من قبل شارل الثاني، والثلث الباقي من قبل لويس الرابع عشر (127) حيث وجد العاهل الفرنسي أنه من الميسور أن يرشوا الأعضاء ليصوتوا ضد شارل إذا حاد بشكل مزعج عن سياسة البوربون. أما شارل نفسه فكم من مرة تسلم أموال طائلة من لويس، حتى يلتزم الدوران في فلك فرنسا في السياسة أو الدين أو الحرب، وهكذا كان المجتمع الإنجليزي أكثر المجتمعات استهتاراً وفساداً في التاريخ.
6 - العادات
حاولت العادات أو أساليب الحياة هنا أن تعوض عن النقص في الآداب -كما في فرنسا-، وأن تضفي كياسة متكلفة على الملابس المزركشة الأنيقة والأدب الفاجر، والحديث الدنس. وكان شارل نفسه مثلاً لأسلوب الحياة وتسرب إلى الطبقات العليا ما تجمل به الملك من ظرف ولطف ومجاملة وسحر وفتنة، وترك كل أولئك بصماته على الحياة في إنجلترا. فتبادل الرجال القبلات عند اللقاء. وقبلوا يد المرأة إذا قدموا إليها. وفي لندن -كما كان في باريس- استقبلت السيدات الرجال في الفراش، فكان هناك صراحة(32/150)
منعشة واحتقار في الأدب وفي المسرح وفي البلاط. ولكن الصراحة أطلقت فيضاً من الخشونة عل المسرح وفي الحديث اليومي. وكانت البذاءة في إنجلترا بغير مثال. وفي هذا كان شارل من بين الشواذ الخارجين على القاعدة، حيث كان لا يتجاوز في السباب "عبارته المفضلة Odds Fish" وكان البيوريتانيون الباقون ينأون بأنفسهم عن فحش القول إلا إذا هاجموا خصومهم وسخروا منهم. أما الكويكرز فامتنعوا عن الحلف.
وبز الرجال النساء في الملابس الغربية، من الشعر المستعار المضمخ بالمساحيق لأجل التبرج، إلى الجوارب الحريرية والأحذية ذات "الإبزيم" وكان الشعر المستعار بدعه أخرى مستوردة من فرنسا. وكان الفرسان والمختالون وغيرهم، ممن كان شعرهم قصيراً، أو ممن يخافون أن يخطئهم الناس على أنهم من البيوريتانيين ذوي الرؤوس المستديرة الذين كانوا يقصون شعورهم قصاً قصيراً جداً، نقول أن هؤلاء وهؤلاء كانوا يغطون قص شعرهم بشعور أجنبية مستعارة. أما الرجال الذين أبيض شعرهم أو مال إلى الشيب فقد وجدوا في الشعر المستعار وسيلة ناجحة لإخفاء أعمارهم. وكان كل الرجال تقريباً يحلقون اللحى آنذاك. وكان هذا الشعر المستعار يصلح من شأن بشرة الملك الأسبانية وأنفه الضخم. وجعل بيبز من أول شعر مستعار وضعه مسألة خطيرة، وربى لشعره المحبب إليه الذي كان لزماً أن يقص ليفسح الطريق "الباروكة -الشعر المستعار" ويزود بالشعر رأس إنسان آخر (128)، وكان لزماً أن يتم تنظيف شعره المستعار من القمل في أوقات منتظمة (129) -واختفى الآن طوق الرقية المكشكش المتيبس الذي كان سائداً في عهد اليزابيث وجيمس الأول. كما اختفت السترة الضيقة والعباءة الطويلة ليحل محلها الصدرية والمعطف. ووصلت الصدرية على أية حال إلى ربلة الساق. وكانت تشد إلى الجسم بحزام. وتوقفت "بنطلونات" الركوب عند الركبتين وتدلت السيوف إلى جوانب الأرستقراطيين أو الأغنياء. وساعد المخملات والمخرمات والأشرطة، والأهداب وكشكشة الثياب(32/151)
على استكمال الظرف والكياسة، وربما أستخدم الناس لتدفئة اليدين في الشتاء، "الموقه" وهي غطاء أنبوبي طويل مكسو بالفراء، بعلق في العنق.
أما نساء الطبقات العليا الأنيقات (طبقا لآخر طراز) فكن يضمخن شعورهن بالمساحيق والعطور، ويمشطنها في خصلات فوق جباههن، وزدن عليهن خصلات مستعارة مرفوعة على أسلاك خفية، وكسون قبعاتهن بالريش النادر، ووضعن على خدودهن أو جباههن أو أذقانهن "لصوقات تجميلية" (وهي قطع صغيرة جداً من الحرير الأسود يلصقها النساء كوسيلة لإخفاء العيوب أو التبرج)، زيادة في إغراء الرجال بمطاردتهن. وكشف عن أكتافهن وعن أجزاء كبيرة من نهودهن، لويز كيروول أمام الرسام للي ليصورها وأحد نهديها عار تماماً، وبزتها نل جوين في ذلك. وكانت النساء تحجبن سيقانهن بشكل مغر. وتزايد الطلب على أدوات التجميل الأنيقة. فكانت المرأة بالفعل شيئاً معقداً أستخدم الإنسان براعته في تشكيله وتصنعه، حتى صورتها إحدى الروايات في فترة عودة الملكية، في شيء من المغالاة والإغراق في الوصف.
"صنعت أسنانها عند ناظم اللالي (في بارك فرايرز)، وحواجبها من خيوط وأسلاك مجدولة (في استراند)، وشعرها في شارع "الفضة"، فإذا أوت إلى الفراش نزعت عن نفسها كل ما عليها لتضعه في عشرين صندوقاً، حتى إذا نهضت من نومها في اليوم التالي، رَكَبت كل شيء في مكانه على جسمها من جديد. وكأنها ساعة حائط ألمانية ضخمة (130) ".
وكان التبذير واجباً حتمياً، لقد أصبحت الحياة وظهرية متكلفة من جديد، ومن ثم اقتضت تجهيزات معقدة مفصلة. وكان لازماً استئجار عدد كبير من الخدم. فكان منهم لدى والد ايفلين نحو خمسين وكان لدى بيبز طباخ ومديرة ووصيفة وخادمة، وكانت واجبات الطعام مروعة(32/152)
أنظر إلى غداء بيبز في 26 يناير 1660 قبل أيام الطيش والغرارة بزمن طويل:
"أعدت زوجتي غداءً شهياً جداً: من "عظام النخاع"، وفخذ من الضأن، وقطعة من لحم العجل، وصحناً من الطيور، وثلاث دجاجات، واثني عشر زوجاً من القنبر في طبق واحد، وكعكة ضخمة محشوة بالمربى والفاكهة المطبوخة (تورتة)، ولسان بقرة، وطبقاً من السمك الغير "الأنشوجة"، وطبقاً من القريدس (الجمبري) والجبن".
وكانوا يتناولون الوجبة الرئيسية في الساعة الواحدة. وكان المطبخ إنجليزياً. وعندما أوضح شارل الثاني لجرامونت أن الخدم كانوا يقدمون الطعام للملك، وهم ركوع، رمزاً للاحترام والإجلال، قال جرامونت (أو روي أنه قال): "أشكر لجلالتكم هذا الإيضاح، فقد ذهب تفكيري إنما كانوا يلتمسون المغفرة لتقديمهم طعاماً رديئاً (131) ".
ولم يكن تناول المشروبات الروحية نجرد مظهر اجتماعي. فقلما كان الناس، حتى الأطفال، يشربون الماء (132)، وكانت "البيرة" أيسر منالاً من الماء الصالح للشرب. ومن ثم تناول مختلف الناس من مختلف الأسنان، البيرة، وأضاف الموسرون إليها الويسكي ااستوردوا النبيذ. وتردد معظم الناس على الحانات مرة واحة في اليوم، وتناول كل الأفراد من جميع الطبقات الخمر من حين إلى آخر.
ودخل البن من تركيا حوالي 1650. وحتى 1700 كان معظم البن يستورد من إقليم مخا في اليمن. وفي القرن الثامن عشر نقل الهولنديون زراعته إلى جاوة والبرتغاليون إلى سيلان والبرازيل، والإنجليز إلى جاميكا. وساعد استخدام القهوة في التغلب على الخمول والكسل وفي شحذ الذهن، على انتشارها وإقبال الناس عليها. وافتتحت لند أول مقهى فيها في 1652، وما أوفى عام 1700 حتى كان بها 3000 مقهى (133) واتخذ كل فرد مهما كانت مكانته، أحد المقاهي محلاً مختاراً لمقابلاته بانتظام، حيث يلتقي بأصدقائه(32/153)
ويستمع إلى آخر الأنباء والمخازي. وحاول شارل الثاني أن يحد من انتشار المقاهي ومن نشاطها باعتبارها مركز لإهاجة المشاعر السياسية والمؤامرات، لكن شهوة الحديث والشراب والاستمتاع برائحة التبغ أحبطت مساعيه. ومن بهعض المقاهي نشأت الأندية التي لعبت دوراً في سياسية القرن الثامن عشر، ثم أصبحت آنذاك ملاذاً ومهرباً من أحادية الزواج، واختلفت المقاهي الأندية التي ظهرت متأخرة عنها، لا لمجرد أن القهوة كانت المشروب المفضل فيها، بل لأن الحديث كان يلقي تشجيعاً فيها. كما أن مشاهير الأدباء مثل دريدرن وأديسون وسيفت وجدوا فيها منابرهم (في المقاهي). كما أن حرية الكلام في إنجلترا انتعشت وازدهرت هناك.
وجاء الشاي إلى إنجلترا من الصين حوالي 1650، ولكنه كان غالي الثمن. إلى حد أنه لم يحل محل البن في الحياة الإنجليزية إلا بعد قرن من الزمان. وحسب بيبز أنه إنما كان يقوم بمغامرة حين تناول أول فنجان من الشاي (134). وفي نفس الوقت استورد حب الكاكاو من المكسيك وأمريكا الوسطى. وحوالي 1658 أستحدث شراب جديد بإضافة "الفانيليا" والسكر إلى الكاكاو. وأصبحت "الشوكولاته" الناتجة عن هذا المزيج شراباً محبباً مألوفاً في فترة عودة الملكية. وكان يقدم في كثير من المقاهي.
وفي تلك الآونة دخنت التبغ كل الطبقات، بما في ذلك كثير من النساء وبعض الأولاد، في أنابيب طويلة دوماً. وظنت النساء أن لهذا التبغ بعض الفائدة في التطهير والوقاية من الطاعون. وربما نشأت عن هذه الفكرة عادة "السعوط" في تلك الأيام، أي نشوق التبغ المسحوق.
والآن وقد تخلص الناس من كابوس البيوريتانية، فقد ازدهرت الألعاب وأسباب التسلية والسيرك وصراع الديكة ومطاردة الدببة والثيران، وألعاب البهلوان على الحبال والمصارعة، والشعوذة والملاكمة والسحر، وانغمس الموسرون(32/154)
في الصيد بنوعيه: صيد النساء وصيد الحيوان. وظل شارل الثاني يمارس لعبة التنس حتى بلغ الثالثة والخمسين. أما ايفلين فقد أحب لعبة البولنج على الأرض الخضراء، التي لا تزال منظراً محبباً لدى الإنجليز حتى اليوم. وكانت لعبة الكريكت قد بدأت تكون ذو وسيلة لقضاء وقت الفراغ في الأمة بأسرها ولأول مرة في 1661 يرد ذكر قطعة من الأرض مخصصة لهذه اللعبة، ففي تلك السنة خططت حدائق فوكسهول على الضفة الجنوبية للتيمز، وسرعان ما أصبحت منتجعاً أنيقاً على أحدث طراز. وافتتح شارل الثاني للجمهور منتزه سان جيمس، وأقيمت آنذاك حدائق هايد براك حيث يقصد إليها في الأمسيات الظريفة، علية القوم وعلى رأسهم الملك والملكة. إن "المجتمع" بدأ آنذاك يستشفي من مياه باث المعدنية.
وتنقل الناس -فيما خلا أفقر الطبقات- في عربات تجرها الجياد، التي كانت قد بدأت تؤدي خدمة بريدية منتظمة لقاء بنس في 1657، ثم استخدمت لنقل الركاب في مواعيد منتظمة في 1658، وكانت هذه العربات قد استخدمت لنقل السلع والتجارة داخل المدينة منذ 1625. وتنقل كبار الأغنياء في عربات تجرها ستة جياد. وكانوا يصطحبون ثلاث فرق من الجياد، لا لمجرد العرض وحب الظهور، ولكن لتجر العربة في الطريق الموحلة. وكانت الماشية المحلية في بعض الأحيان تربط أمام الجياد لتشد العربة وتسحبها في المستنقعات العميقة. لقد كانت الطرقات مغطاة بالأتربة أو الأوحال. إن الحانات والإنزال على جانبي الطريق، بالخليط العجيب من نزلائها من سائقي العربات والمسافرين والممثلين والبائعين واللصوص والبغايا، كانت تهيء السبيل أمام هؤلاء للإسهام في الأدب في إنجلترا وهكذا كانت تشكل إنجلترا الخشنة المحببة إلى النفس والمفعمة بالحيوية، التي عرفها دكنز في شبابه.(32/155)
7 - الدين والسياسة
استمر النزاع بين المذاهب الدينية، وتجدد النزاع القديم بين الملك والبرلمان، وسط تفتح الناس وتوافر أسباب الحياة لديهم وتكاثرهم. وأحزن الملك المبتهج أن يرى مجلس العموم، بعدما ظهر في إذعان وامتثال في شهر العسل، يغار من سلطة الملك وقوته، ويقبض عنه الاعتمادات. لقد كان الملك رقيق القلب ولكنه حازم صلب العود. فولى وجهه شطر ملك فرنسا ليحصل منه على قروض خاصة، ووعد، وواضح أنه رغب -في التخفيف من ويلات الكاثوليك الإنجليز، كما وعد بتأييد لويس الرابع عشر ضد الأراضي الوطيئة، وبيع ثغر دنغر دنكرك على القنال الإنجليزي لفرنسا، وكان جنود كرومول قد استولى عليه. والحق أن الدفاع عنه كان بكلف أموالاً طائلة، وكان شوكة في جنب فرنسا. فتخلى شارل عن دنكرك (1662) مقابل خمسة ملايين فرانك بالإضافة إلى إعانات سرية من البورون، استطاع بها لبعض الوقت أن يتجاهل أوليجاركية الأرض والمال التي تحكمت في البرلمان آنذاك.
إن هؤلاء الأوليجاركيين، على أية حال، رأوا أن أموال الحكومة ينبغي أن تستخدم في شن حرب مربحة أخرى ضد الهولنديين. إن نفس المنافسة على التجارة ومصايد الأسماك التي أدت إلى الحرب الهولندية الأولى من قبل في 1652 هي التي عززت فكرة الحرب الثانية 1664. وقاوم شارل هذا الاتجاه إلى الحرب، لأطول مدة ممكنة، لأنه آثر المحبة والمودة أيما إيثار. وكتب لأخته يقول: لم أر قط مثل هذه الشهوة الجامحة للحرب في الريف والحضر كليهما، وبخاصة لدى رجال البرلمان. إني أجد أنني الرجل الوحيد الذي لا يريد الحرب في مملكتي (135) ".
لقد ساءت الأحوال. وحارب الأسطول الإنجليزي ببسالة عل الرغم من سوء تغذيته وضآلة ملابسه وذخائره، ولكنه خسر بقدر ما انتصر،(32/156)
وفي الوقت الذي حمى فيه وطيس الحرب، ترك الطاعون والحريق لندن موحشة مقفرة، كما ترك إنجلترا مفلسة، وفي أخريات عام 1666 فتح الهولنديون باب المنازعات لعقد الصلح وسر الملك بقرب التوصل إلى تفاهم، فأرسل مندوبين إلى بريدا. ووثوقاً منه بأن الاتفاق كان وشيكاً، ومذ رأى أن أمواله على وشك النفاذ، فإنه تحيى جانباً من أسطوله في "مدواي"، وسمح للبحارة بالاشتغال في السفن التجارية. فما كان من "دي روتر" إلا أن قاد أسطولاً هولندياً إلى التيمز ومداوي ودمر معظم السفن الإنجليزية التي خلت من الرجال. ويقول بيبز أنه في تلك الليلة "كان الملك يتناول العشاء مع الليدي كاسلمين عند دوقة مونموث، وقد شغل الجميع إلى حد الجنون باصطياد فراشة مسكينة (163) " وعندما وصلت أنباء الهجوم على لندن، دعا كل رجل مفتول العضلات إلى حمل السلاح. ولكن الهولنديين كذلك رغبوا في الصلح، لأن الفرنسيين كانوا قد أغاروا على إقليم فلاندرز. وأنهت معاهدة بريدا في 21 يوليو 1667، الحرب الهولندية الثانية بشروط لم يرتح لها الجميع.
وأضعف هذا الإخفاق التام الكوارث التي توالت على لندن، مركز الملك إلى حد أن بعض الإنجليز فكروا في خلعه. وطالب البرلمان بفرض رقابة برلمانية على المصروفات الحكومة. وأذعن الملك، لأنه كان خالي الوفاض، ولأن خطوة أخرى فد اتخذت نحو سيادة البرلمان الذي طالب كذلك بعزل كلارندون، لسوء معالجته للشؤون الخارجية. ولم يكن شار يكره عزله، لأن مستشاره كان يعارض تحركه في اتجاه التسامح الديني، وينتقد انغماسه مع الخليلات، ولم يكتف مجلس العموم باستقالة كلارندون، فقدم اقتراحاً بمحاكمته بتهمة خضوعه الذليل لفرنسا. فاستمع كلارندون لنصيحة الملك، ولاذ بالفرار إلى القارة. وكانت خاتمة محزنة قاسية لرجل حفل سجل حياته بالخدمات. وكرم الشيخ الهرم منفاه بتدوين أجمل مؤلف تاريخي أخرجه الأدب الإنجليزي حتى ذاك اليوم. ووافته المنية في روان(32/157)
(على السين في شمال فرنسا) في 1674، وهو في الخامسة والستين.
وعين الملك شارل (1668) خمسة رجال ليحلوا محل كلارندون: توماس كليفورد، إرل آرلنجتون، ودوق بكنجهام، ولورد آشلي (الذي أصبح على الفور إرل شافتسبري الأول) وإرل لودرديل. وكونت الحروف الأولى من أسمائهم لفظة " كابال Cabal" التي سميت بها الوزراة الجديدة. وكان كليفورد يعلن عن كثلكة، وكان آرلنجتون ميالاً إلى هذا المذهب، وكان بكنجهام خليعاً فاسقاً، وكان شافتسبري متسامحاً شكاكاً، أما لودرديل فكان من "رجال المواثيق" السابقين، وهو الذي فرض النظام الأسقفي بالنار والسيف، على مواطنيه الاسكتلنديين. واستمع شارل إلى آرائهم أو مشوراتهم المتعارضة. ولكن تزايد، على مر الأيام اعتماده على نفسه والتزامه برأيه الخاص.
وكان للملك هدفان أساسيان: تجديد الملكية المطلقة وإقامة الكاثوليكية ورفع شأنها في إنجلترا. ونظر بعين الأمل إلى أن الذي سيخلفه هو أخوه الكاثوليكي جيمس، وتبادل الرسائل مع زعيم اليسوعيين في روما، وأستقبل سراً مندوباً بابوياً قدم إلى لندن من بروكسل (137). وفي يناير 1669 أبلغ أخاه وكليفورد وآرلنجتون ولورد آرندل أنه يرغب في المصالحة مع كنيسة رومه، وفي إعادة كل الإنجليز إلى المذهب القديم (138). أن أخته هنريتا لم تكف يوماً على أن تحضه على أن يعلن في جرأة وشجاعة ارتداده إلى الكثلكة.
وفي مايو 1670 أرسل لويس الرابع عشر هنريتا إلى إنجلترا وفي معييتها عدد من الدبلوماسيين الدُهاة، ليعاونوها على ربط شارل بسياسة فرنسية كاثوليكية. وفي أول يونيو 1670 وقع كليفورد وآروندل وآرانجتون باسم إنجلترا معاهدة دوفر السرية. ووافق ملك فرنسا على أن يدفعوا لشارل 150 ألف فرنك عند الإعلان ارتداده إلى الكثلكة. وتزويده، عند الاقتضاء، بستة آلاف جندي تتولى فرنسا الأنفاق عليهم، وكان على شارل أن يدخل الحرب إلى جانب فرنسا ضد المقاطعات المتحدة عندما يطلب(32/158)
إليه ذلك. على أن يتسلم من فرنس 225 ألف جنيه طيلة قيام الحرب، وكان لشارل أن يستولي على بعض الجزر الهولندية وأن يحتفظ بها، كما كان عليه أن يؤيد مطالب لويس الرابع عشر في أن يرث أسبانيا (139). وإمعاناً في خداع البرلمان والشعب في إنجلترا، بعث شارل بدوق بكنجهام إلى باريس ليصوغ معاهدة صورية زائفة وقعت في 21 ديسمبر 1670 ونشرت على الملأ، تعهدت فيها إنجلترا بالاشتراك في الحرب ضد الهولنديين، ولكن لم يرد ذكر العقيدة الدينية.
وتلكأ شارل نحو خمسة عشر عاماً في إعلان تحوله إلى الكثلكة. ولو أن أخاه أعلن تحوله إليها صراحة في 1670، ولكن آرل أنجلوت نفسه، وهو الذي يؤيد الكاثوليكية ويميل إليها، حذر الملك من إعلانه التحول إلى هذا المذهب -كما فعل أخوه- قد يعجل بقيام بثورة. ومهما يكن من أمر، فان شارل قد تحرك نحو هدفه بأن أصدره في 15 مارس 1652، إعلان التسامح الثاني، "لذوي الضمائر الرقيقة "يوقف فيه العمل" بكل القوانين العقوبات، أيا كانت في الأمور الكنسية، ضد المنشقين أو المتمردين أو المخالفين وفي الوقت نفسه أخلي سبيل كل من كانوا أودعوا السجن بسبب مخالفتهم لتشريعات البرلمان في المسائل الدينية. وبذلك أطلق سراح مئات من المنشقين، من الكويكرز. وأرسل زعماؤهم وفداً عنهم لتقديم الشكر للملك. وصعق المشيخيون والبيويتانيون حين رأوا أن الحرية الجديدة التي منحت لهم أمتد نطاقها لتشمل الكاثوليك وأنصار تجديد العماد، كما فزع الأنجليكانيون من "أن البابويين والفرق الدينية ذوات المذاهب المختلفة" يجتمعون علناً في لندن. ولمدة عام كامل نعمت إنجلترا بالتسامح الديني أو شقيت به.
وفي 17 مارس 1672 شنت إنجلترا الحرب الهولندية الثالثة. وتلك مسألة كان الملك والبرلمان كلاهما على اتفاق فيها. وأعتمد البرلمان 1250000 جنيه للحرب. على أن يسلم هذا المبلغ للحكومة على أقساط كان من الواضح أنها تعتمد على استرضاء الملك للبرلمان وموافقته على تشريعات الدينية وأعلن مجلس العموم "أن قوانين العقوبات في المسائل الديني لا يمكن إبطال العمل(32/159)
بها إلا بقانون يسنه البرلمان. وطلب إلى الملك طلباً بسحب إعلان التسامح ومذ كان لويس الرابع عشر يتوق إلى أن يرى إنجلترا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، تأييداً للحرب ضد الهولنديين، فإنه نصح الملك شارل بإلغاء إعلان التسامح حتى تنتهي الحرب على الفور، وأذعن شارل، والغي الإعلان في 8 مارس 1673.
ومن المحتمل أنه في هذا الوقت، ترامت إلى زعماء البروتستانت أنباء معاهدة دوفر السرية أو اشتموا رائحتها والرغبة في الحيلولة دون تحول الملك إلى الكثلكة، سن المجلسان كلاهما "قانون الاختبار" الذي ينص على أنه يجب على كل أصحاب الوظائف المدنية والعسكرية في إنجلترا أن يقسموا علناً على تخليهم عن النظرية الكاثوليكية التي تقوم ينحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه وأن يتناولوا الأسرار المقدسة طبقاً للطقوس الأنجليكانية وكافح كليفورد هذا المشروع بضراوة، وبعد إقراره استقال من الحكومة، وآوى إلى ضيعته، وما لبث حتى مات انتحراً كما يظن ايفلين. أما شافتسبري فقد عضده بكل قوة، وعزل من الوزارة، فجعل من نفسه زعيماً" لحزب الريف" الذي ناهض، بعنف يقارب الثورة، "حزب البلاط" الذي كان يؤيد الملك. وبذلك قضي على الوزارة "الكابال" (1673). وأصبح آرل دنبي كبير الوزراء.
واعتزل جيمس كل مناصبه الحكومية. وخفف من حدة المعارضة ضده بعض الشيء، أنه على الرغم من أن زوجنه الأولى ارتضت الكثلكة مذهباً من قبل، فإن ابنتيها- الملكة ماري والملكة آن فيما بعد -نشأتا على المذهب البروتستانتي. لكن زواجه آنذاك (30 سبتمبر 1663) من أميرة كاثوليكية أثار ضده حملة من أقسى الاتهامات. تلك هي الأميرة ماري مودينا التي دمغت بأنها "كبرى بنات البابا"، والمفروض أنها لا بد أن تنشأ أولادها على الكاثوليكية. وفي الحال قدمت إلى البرلمان مشروعات قوانين تقضي بتنشئة أبناء الأسرة الملكة على المذهب البروتستانتي.(32/160)
إن تطور الأحداث على هذا النحو أثار سخط إنجلترا على الحزب ضد القطاعات المتحدة وجعلها تحس بالمرارة، فلو أن ملك إنجلترا كان كاثوليكياً لأنحاز إن آجلاً أو عاجلاً إلى جانب فرنسا في تدمير الجمهورية الهولندية تدميراً، تلك الجمهورية التي لم تبد الآن منافساً تجارياً، بل بدت معقل البروتستانتية في القارة، فإذا سقط هذا الحصن الحصين فكيف يتسنى للبروتستنتية الإنجليزية أن تثبت وأن تقاوم؟ وفوض شارل عن طيب خاطر، سير وليم تمبل في توقيع صلح منفرد مع الهولنديين. وفي 6 فبراير 1674 وقعت معاهدة وستمنستر التي أنهت الحرب الهولندية الثالثة.
8 - المؤامرة البابوية
وأعقبت هذه الأحداث فترة كادت أن تتسم بالصفاء والتعقل. وحيث تسلم شارل من لويس الرابع عشر مبلغا إضافياً قدره 500 ألف كراون، فإنه عطل البرلمان المتعب من أجل، وعاد إلى عشيقاته. ولكن السياسة لم تتوقف. فان شافتسبري وغير من زعماء المعرضة أسسوا في 1675 "نادي الوشاح الأخضر". ومن هذا المركز نشر "حزب الريف" دعايته دفاعاً عن البرلمان والبروتستانتية ضد ملك يتآمر على فرنسا الكاثوليكية، ووريثه الذي زف علنا زوجة كاثوليكية. وفي 1680 أطلق على رجال حزب الريف اسم Whigs (1) ، وعلى المدافعين عن سلطة الملك Tories وبدا الملك شارل أن شافتسبري "أضعف الرجال وأخبثهم (141) ". وقال عنه بيرنت "أن علمه سطحي هزيل، وأن غروره سخيف، وأن
_________
(1) من الواضح أن هويج اختصار لكلمة "هويجامور" ةهذا أسم عصبة من الاسكتلنديين نشطت في مقاومة شار الأول (1648). أما توري فهي لفظة أيرلندية معناه لص. وقد أطلقها تيتسي أوتس على "حزب البلاط" لأول مرة (1680) (140).(32/161)
عقليته تافهة (142) " ولكن جون لوك الذي عاش مع شافتسبري لمدة خمسة عشر عاماً رأى أنه مناضل باسل جرئ عن الحرية المدنية والدينية والفكرية االفلسفية. وقال عنه بيرنت أنه يدين بالربوبية (مذهب طبيعي يقوم على العقل لا على الوحي) وقد يحق لنا أن نرتاب في ديانته من قوله هو نفسه "ليس للعقلاء من الرجال إلا دين واحد"، فلما سألته إحدى السيدات، وما هو، كان جوابه "أن عقلاء الرجال لا يفصحون عنه قط" (143).
وخفت حدة التوتر الديني بعض الشيء في 1667، حين تزوج وليم أورنج من ماري البروتستانتية كبرى بنات دوق يورك. فإذا ظل جيمس دون عقب ذكر، فان ماري سوف تخلفه، في وراثة العرش، ومن ثم ترتبط إنجلترا بهولندا البروتستانتية بحكم المصاهرة، ولكن في 28 أغسطس 1686 مثل تيتس أوتس أمام الملك وأعلن أنه أكتشف "مؤامرة بابوية: ذلك أن البابا وملك فرنسا ورئيس أساقفة أرماج واليوسوعيون في إنجلترا وأيرلندا وأسبانيا كانوا يدبرون قتل شارل وخلع أخيه، وفرض الكاثوليكية في إنجلترا بحد السيف، وأن ثلاثة آلاف سفاح سيتولون ذبح زعماء البروتستانت في لندن، وأن لندن نفسها -قلعة البروتستانتية- كانوا يدبرون إحراقها عن آخرها.
كان أوتس، وهو آنذاك في التاسعة والعشرين من العمر، ابن أحد أنصار تجديد العماد. وكان قد أصبح قسيساً أنجليكانياً، ولكنه فصل من وظيفته الكنيسة لسوء سلوكه (144). ثم قبل -أو تظاهر بقبول- التحول إلى الكثلكة. وكان قد درس في الكليات اليوسوعية في بلد الوليد (أسبانيا) وسانت أومر حيث فصل أيضاً. آخر الأمر (145)، وفي نفس الوقت، زعم الآن أنه كان قد اطلع على خطط الجوزيت السرية لغزوا إنجلترا. واعترف أنه شهد في 24 أبريل 1678 مؤتمراً يسوعياً في لندن، نوقشت فيه(32/162)
وسائل قتل الملك. وعدة أسماء خمسة من النبلاء الكاثوليك، على أنهم مشتركون في المؤامرة هم: أروندل، بويس، بتر، ستافورد، بللاسيس. وعندما أضاف أوتس بللاسيس هذا كان سيمين قائداً عاماً لجيش البابا، ضحك شارل ساخراً، حيث كان بلاسيس طريح الفراش بداء النقرس. وخلص الملك إلى أن أوتس لفق القصة كلها أملاً في الحصول على مكافأة، وصرفه من حضرته.
ولكن المجلس المخصوص ارتأى أنه من الحكمة أن يفترض بعض الصدق في الاتهامات، واستدعى أوتس ليمثل أمامه في 28 سبتمبر. وخشي أوتس أن يزج به السجن، فقصد إلى قاضي الصلح سيراد موند بري جودفري وأدعه اعترافاً خطياً مقروناً بقسم، فصل فيه المؤامرة تفصيلاً. وأصدر المجلس، متأنراً بهذه الأدلة، أوامر بالقبض على عدد من أنصار البابوية الذين تضمنهم اعتراف أوتس. وكان من بينهم أدوارد كزلمان الذي كان لعدة سنوات (حتى عزل بأمر من الملك) سكرتير دوقة يورك. وأحرق كولمان بعض أوراقه قبل القبض عليه، ولكن الأوراق التي لم يكن لديه متسع من الوقت لإحراقها أوضحت أن كولمان والأب لاشيز لويس الرابع عشر، تبادلا من الرسائل ما يعبر عن أمل الطرفين (شارل ولويس) في أن تصبح إنجلترا كاثوليكية في أسرع وقت وفي هذه الرسائل أقترح كولمان أن يرسل إليه "لويس الرابع عشر أموالاً ليكسب بها أعضاء البرلمان إلى جانب قضية الكثلكة، ثم أضاف "أن نجاحنا سوف يكون ضربة شديدة للعقيدة البروتستانتية، لم تتلق مثلها منذ نشأتها .... تلك هي تحول ثلاثة ممالك. ون ثم، فربما كان في هذا القضاء التام على هذه الهرطقة الوبيلة (146) إن إعدام كولمان لمعظم أوراقه حدا بالمجلس إلى الاعتقاد بأن كولمان على علم بالمؤامرة التي وصفها أوتس، وربما كان شريكاً فيها. واستنتج شارل نفسه من تلك الرسائل، وجود مؤامرة حقيقية بشكل ما.(32/163)
وفي 12 أكتوبر اختفى القاضي جودفري، وبعد خمسة أيام وجدت جثته في أحد الحقول في الضواحي. وبات من الواضح أنه قتل. بيد عملاء مجهولين، ولأسباب غير معروفة حتى الآن، ولكن البروتستانت نسبوا القتل إلى الكاثوليك الذين كانوا يأملون في الحيلولة دون نشر اعترافات أوتس. ويبدو أن هذا الحادث أكد الاتهامات. وفي هذا الجو الذي سادته الريبة وعدم الثقة، الذي خلقته معاهدة دوفر السرية، والخوف من اعتلاء جيمس عرش إنجلترا، كان طبيعياً أن تصدق إنجلترا البروتستانتية آنذاك كل ما جاء على لسان أوتس من اتهامات، وأن يعتريها نوبة من الجنون بدمعها أن حماية البروتستانت تتطلب اعتقال كل فرد من أورد أوتس ذكرهم في المؤامرة، إن لم يكن إعدامهم.
وبدأت فترة من حكم من حكم الإرهاب امتدت لنحو أربع سنوات. وفر جيمس إلى الأراضي الوطيئة وتسلح أهالي لندن استعداد لمقاومة أي غزو متوقع. ونصبت المدافع في هويتهول. واتخذ الحراس أماكنهم في الأقبية والسراديب تحت مبنى البرلمان بمجلسية ليحولوا دون "مشروع بارود" آخر لنسف المبني. وأقر البرلمان قانوناً لطرد الكاثوليك من مجلس اللوردات، وكرم أوتس بوصفه "مخلص الأمة" وكافأه بتخصيص معاش سنوي له قدره 1200 جنيه لمدى الحياة ومنحه مسكناً في قصر هويتهول. وسرعان ما ازدحمت السجون باليسوعيين والكهنة غير المنتسبين إلى رهبنات، والكاثوليك العلمانيين الذين أورد ذكرهم أوتس أو وليم بدلو الذي ظهر، مدعياً العلم لأشياء تؤكد صحة اتهامات أوتس.
وفي 24 نوفمبر وضع أوتس أمام اتهاماً جديداً مروعاً، ذلك أنه كان قد سمع الملكة تبدي موافقتها على قتل زوجها بالسم، بيد طبيبها الخاص. وهنا أخذه شارل بهذه الكذبة الصارخة. وفقد ثقته في أقواله كلها، وأمر بالقبض عليه. ولكن مجلس العموم أمر بالإفراج عنه، وبالقبض على ثلاثة من خدم الملكة. واقترع على إصدار بيان يطالب(32/164)
بعزلها. وقصد الملك إلى مجلس اللوردات ودافع عن إخلاص زوجته وولائها، وأقنع اللوردات بالامتناع عن الموافقة على بيان النواب. وفي 27 نوفمبر حوكم كولمان وكاثوليكي علماني آخر، وثبتت إدانتهما وأعداما. وفي 17 ديسمبر أعدم ستة من اليسوعيين وثلاثة من الكهنة المنتسبين إلى رهينات. وفي 5 فبراير 1679 شنق ثلاثة رجال بتهمة قتل جودفري. وثبت فيما بعد براءة هؤلاء الاثني عشر.
وتزايدت الحملات اقتراباً من الملك، ففي 19 ديسمبر 1678 تلقى البرلمان من باريس أنباء تفيد أن دانبي كان قد تسلم من لويس الرابع عشر مبالغ طائلة من المال. ورفض لوزير إيضاح أنها كانت إعانات فرنسية للملك. ووجه مجلس العموم الاتهام إلى الوزير. وخشي الملك الحكم على مستشاره قد التأم بالإعدام، فحل، وفي 24 يناير 1679 "برلمان الفرسان" الذي كان قد التأم على فترات متقطعة، ولمدة ثمانية عشر عاماً، أي أنه كان أطول من "البرلمان الطويل".
ولكن برلمان "الهويج" الذي اجتمع في 6 مارس، كان في عدائه للكاثوليكية وللملك، أشد اندفاعاً وتحمساً من البرلمان السابق. واتهم مجلس العموم دانبي بالخيانة العظمى، ولكن اللوردات أنقذوه بزجه في سجن لندن، حيث قضى فيه، في هدوء وقلق، السنوات الخمس المضطربة التالية. وبناء على نصيحة سير وليم ثمبل، عين شارل مجلساً جديداً من ثلاثين عضواً، بينهم-رغبة في تخفيف حدة المعارضة-زعيماً حزب الهويج: شافتسبري رئيساً للمجلس. وسعياً وراء المزيد من تهدئة لعاصفة، عرض الملك على البرلمان تسوية بديلة لاستبعاد أخيه عن العرش: ألا يسمح لأي كاثوليكي بمقعد في البرلمان أو بتولي منصب قيادي يتطلب الثقة، وألا يكون للملك حق التعيين في المناصب الدينية، وأن يخضع تعيين القضاء لموافقة البرلمان. وأن يكون للبرلمان حق الرقابة والإشراف(32/165)
على القوات البرية والبحرية (147). ولكن البرلمان أحس بشيء من الارتياب وعدم الثقة في موافقة جيمس على مثل هذه الاتفاقية. وفي 11 مايو قدم شافتسبري نفسه أول مشروع قانون لاستبعاده (جيمس) في عبارة واضحة جلية لا لبس فيها "إسقاط حق دوق يورك في وراثة التاج الإمبراطوري لهذه المملكة". وكان موضع فخر وشرف للبرلمان أنه في 26 مايو توسع في حق التحقيق في قانونية الاعتقال: بمعنى أنه يمكن الإفراج بكفالة عن أي سجين، فيما عدا المتهمين بالخيانة أو بجناية، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يحاكم المتهم في الدورة التالية للمحكمة، وألا أطلق للمحكمة، وألا أطلق سراحه. وكان ينبغي أن يحاكم أن تنتظر 110 سنوات حتى تنعم بضمانات مماثلة ضد الاعتقالات التعسفية. وفي 27 مايو خشي الملك إقرار "مشروع قانون الاستبعاد" فحل البرلمان.
ولم يكن حق التحقيق في قانونية الاعتقال مجدياً بالنسبة لأنصار البابوية الذين اتهمهم أوتس، لأنهم حوكموا مع شيء من التباطؤ، حتى إذا أدينوا بالخيانة أعدموا في سرعة غاضبة، وحشد الكثير منهم إلى المقصلة أو ساحة الإعدام طيلة عام 1679، وكانت محاكمتهم سريعة جداً لأن القضاة الذين روعتهم صيحات الجموع المتعطشة للدماء خارج المحكمة، أدانوا كثيراً من المدعي عليهم دون تمحيص الأدلة أو مواجهة الشهود بعضهم بعض. وهب الشهود المزيفون الذين أغراهم ما أغدق على اوتس من مكافأة، وكأنما هبوا من مرقدهم، وأقسموا بأغلظ الإيمان على ما يقولون: فروي أحدهم أن جيشاً من ثلاثين ألفاً كان قادماً من أسبانيا، وقال آخر أنهم وعدوه بخمسمائة جنيه وبضمه إلى قائمة القديسين إذا هو أطاح برأس الملك، وذكر شاهد مزيف ثالث بأنه كان قد سمع أحد رجال المصارف الكاثوليك الأثرياء يأخذ على نفسه عهد بأن يقوم بمثل هذا العمل (148). ولم يسمح للمتهم بأي محام أو مستشار قانوني. ولم يبلغ بما نسب إليه إلا في يوم المحاكمة. وكان يفترض أنه مذهب حتى يستطيع أن يثبت براءته (149). وحتى تسهل(32/166)
الإدانة أحيوا قانوناً قديماً كان معمولاً به في عهد اليزابيث: وهو أن وجود أي كاهن في إنجلترا جريمة عقوبتها الإعدام. وكانت الجموع المحتشدة حول مبنى المحكمة تصرخ وتولول في وجوه شهود الدفاع استهجاناً، وتقذفهم بالحجارة، ويهتفون ويهللون فرحاً عند إعلان الحكم بالإدانة (150).
فتوكل هذا في عضد شارل، وكان امتحاناً قاسياً للملك الذي غمرته يوماً البهجة والفرح، والذي رأى الآن كل آماله تنهار، وسلطاته تنتقص، وزوجته تعاني الإذلال، وأخاه يبوء بالاحتقار والازدراء وينحى. وفي ذروة العاصفة خر شارل مريضاً مرضاً خطيراً حتى توقعوا موته بين ساعة وأخرى, واستدعى هاليفاكس جيمس من بروكسل، ولكن زعماء الهويج أمروا الجيش بالحيلولة دون عودته. واتفق شافتسبري ومونمورث ولورد رسل ولورد جراي على أنهم-في حالة وفاة شارل-، سيتزعمون عصياناً مسلحاً لمنع أخيه من ارتقاء العرش (151). وتظاهر شارل بأنه أبل من مرضه، وابتسم للمخاوف التي ساورت جني أعداءه الذين توقعوا موته. والحق أنه لم يبرأ من علته قط.
وبقي العداء للكاثوليك على أشده حتى تخبط أوتس أثناء محاكمة سير جورج ويكمان طبيب الملكة. ففي شهادته أمام المجلس كان قد برأ الطبيب، ولكنه في المحاكمة اتهمه بتدبير دس السم للملك. واكتشف هذا التناقض في الأقوال قاضي سكرجوز الذي سبق له أن تولى محاكمة الكاثوليك بمنتهى الشدة. وصدر الحكم ببراءة ويكمان، ومن ثم سارت شهادة أوتس تسمع في مزيد من التدقيق، وامتنع الشهود المزيفون الذين كانوا يعززون أقواله، عن مساندته. وكان إعدام أوليفر بلنكت رئيس أساقفة آرماج الكاثوليكي، آخر إجراءاتكم في حركة الإرهاب التي قامت ضد الكاثوليك (1 يوليو 1681).
ولما خفت وطأة الرعب والانفعال تأكد لدى بعض عقلاء الرجال أن(32/167)
أوتس، عن طريق الريب التي لا تستند إلى أساس من ناحية ومن ناحية أخرى عن الأكاذيب، عجل بإرسال كثير من الأبرياء إلى الموت قبل الأوان. وانتهوا إلى أنه لم يسكن ثمة تدبير لقتل الملك أو ذبح البروتستانت أو إحراق لندن. ولكنهم أحسوا بأنه كانت هناك مؤامرة حقيقية، كاثوليكية، وأن لم تكن "بابوية": تلك هي أن أركان الحكومة دبروا، أو راودهم الأمل، بمساعدة أموال (أو جنود إذا لزم الأمر) من فرنسا، أن يقضوا على عجز الكاثوليك وعدم أهليتهم الشرعية في إنجلترا، ويحولوا الملك إلى الكاثوليكية، ويثبتوا حق أخيه الذي تحول فعلاً في ارتقاء العرش، ويستخدموا أن كل هذا تضمنته معاهدة دوفر السرية التي وقعت من قبل في 1670 وكان شارل قد تراجع عن هذه الاتفاقية. ولكن رغباته لم تتبدل ولم يتخل عنها قط، وظل مصمماً على أن يعتلي أخوه عرش إنجلترا ويكون ملكاً عليها.
9 - خاتمة الملهاة
أما شافتسبري فقد وطد العزم على نقيض ما يبتغيه الملك. لقد اعترف كولمان أثناء محاكمته بأن جيمس علم أمر المراسلات المتبادلة بينه وبين الأب لاشيز، وأقرها (152). وأحس شافتسبري بأن ارتقاء جيمس عرش إنجلترا لا بد أن يحقق المرحلة الأولى من "المؤامرة البابوية" وعرض أن يساند شارل ويقف إلى جانبه إذا هو طلق الملكة العقيم وتزوج من بروتستانتية قد ينجب منها ابناً بروتستانتياً. وأبى شارل أن يدع كاترين دي براجانزا تكرر الدور الذي لعبته كاترين أوف أراجون. فولى شافتسبري وجهه شطر دوق مونمورث الابن غير الشرعي للملك، الذي لم يغفر قط أبيه خداعه وإبعاده عن العرش بتقصيره في الزواج من أمه. ونشر شافتسبري فكرة أن شارل كان بالفعل قد تزوج من لوسي والتر، وأن دوق مونمورث(32/168)
هو الوريث الشرعي للعرش. فما كان من شارل إلا أن كذب هذا بإعلانه أنه لم يتزوج قط إلا من كاترين أوف براجانزا، وإذ وجد أن شافتسبري خصم عنيد، فإنه أقصاه عن مجلس المخصوص (13 أكتوبر 1679).
وأثناء توالي الأزمات ولمحن على هذا النحو كاد شارل أن يبدل من خلقه ومن شخصيته، فودع حياة البهجة والدعة. وباع أسطبلاته، وانصرف بكليته إلى الإدارة والسياسة، وحارب أعداءه بتراجع محكم التدبير، حتى جاوزوا حدودهم فانتهوا إلى الفشل إن الملك في سنواته الخمس الخيرة أبدى من قوة العزيمة والمقدرة ما أدهش حتى الأصدقاء. وإذ عاودته الطمأنينة والثقة فقد دعا برلمانه الرابع.
واجتمع البرلمان في 21 أكتوبر 1680. وأقر مجلس العموم في شهر نوفمبر "مشروع قانون الاستبعاد" الثاني، وقدم إلى مجلس اللوردات. وهنا تحول هاليفاكس الذي كان يصوت حتى تلك اللحظة إلى جانب "حزب الهوبج" نقول تحول الآن إلى جانب الملك، وبدأ يحظى بقلب "القلب الحول" ويزهو ويختال به. إنه كان يبغض جيمس ويرتاب في الكاثوليكية، ولكنه اتفق مع شارل في ضرورة الإبقاء على مبدأ الملكية الوراثية. كما خشي أن يقود شافتسيرى إنجلترا إلى حرب أهلية ثانية (153). ومن ثم فإنه بفصاحته ومنطقه في المناقشة الطويلة التي جرت بشأن "مشروع قانون الاستبعاد" أقنع اللوردات برفض المشروع. ورد مجلس العموم على هذا، برفض الموافقة على أية اعتمادات مالية للملك، وحظر على التجار والمصارف إقراضه أية أموال، وحاكم هالي فاكس وسكروجز وفيكونت ستافورك وهو أحد اللوردات الخمسة المعتقلين في سجن لندن. وحكم على ستافورك بالإعدام بناءً على شهادة أوتس، وضرب عنقه في 7 ديسمبر. وفض الملك البرلمان في 18 يناير 1681.
وبدلاً من أن يضحي شارل بأخيه بسبب حاجته إلى المال، اعتزم شارل أن يمول الحكومة بأن يصبح من جديد أسيراً للملك الفرنسي لويس الرابع(32/169)
عشر. وارتضى أن ينظر في شيء من التجلد ورباطة الجأش إلى سياسة فرنسا العدوانية، مقابل 700 ألف جنية (154) - وهو مبلغ يغنيه لمدة سنوات عن إعانات البرلمان وإعتماداته. فلما أحس بالقوة دعا برلمانه الخامس. ولكي يحرمه من تأييد جمهور لندن وقوات الطوارئ فيها، فإنه، أي الملك أمر باجتماعه في أكسفورد. وهناك التقى الجمعان مدججين بالسلاح: شارل مع عدد كبير من حرسه، وزعماء الهويج مع أتباعهم حاملين السيوف والمسدسات رافعين أعلاماً كتب عليها "لا بابوية ولا عبودية" وأقر مجلس العموم في الحال "مشروع قانون الاستبعاد" الثالث، ولكن قبل أن يصل المشروع إلى مجلس اللوردات حل شارل البرلمان (28 مارس 1681).
وتوقع كثير من الناس أن يلجأ شافتسبري الآن إلى الحرب الأهلية. أما الرأي العام الذي استرجع في ذاكرته أحداث 1642 - 1660 فقد تحول عنه وانحاز إلى صف الملك. ودافع رجال الكنيسة الأنجليكانية دفاعاً مجيداً عن حق جيمس الكاثوليكي في ارتقاء العرش. وعندما حاول شافتسبري أن يعيد تنظيم صفوف النواب المشتتين في ميثاق ثوري (155)، أمر شارل باعتقاله، ولكن هيئة المحلفين برأته (24 نوفمبر) وعلى الرغم من أنه كان آنذاك مريضاً بدرجة لا يكاد معها يقوى على المشي، فإنه انضم إلى دوق مونموث في ثورة علنية (156). وأمر الملك باعتقالهما كليهما وهرب شافتسبري من سجن لندن، وفر إلى هولندا، وهناك وافته منيته (21 يناير 1683) بعد أن أنهكته الأحداث، ولكنه خلف وراءه صديقة لوك، ليتابع في مجال الفلسفة، المعركة التي لم يكتب لها لبعض الوقت التوفيق في ميدان السياسة.
وصفح شارل عن مونموث، ولكنه لم يغتفر قط للمحلفين في لندن تبرئتهم لشافتسبري. والآن وقد تحول الملك النشوان إلى شخص آخر، وكان متطرفاً في تحوله هذا، فإنه عقد العزم على تحطيم استقلال المدن التي ترعرعت فيها فكرة الهويج (الأحرار) بل الفكرة الثورية، فأمر(32/170)
بمراجعة المواثيق والعهود القوانين التي هيأت للأجهزة البلدية الخروج على الإرادة الملكية، ووجد بالفعل في هذه بعض النقص والخلل من الوجهة التشريعية، فأعلن إلغاؤها جميعاً، وصدرت عهود وقوانين جديدة تنص على أن يكون للملك حق الاعتراض وحق عزل كل الموظفين الذي ينتخبون لهذه الهيئات البلدية (1683). وخضعت الآن حرية الكلام وحرية الصحافة لقيود جديدة، وبدأت موجة اضطهاد المنشقين - لا الكاثوليك: لأن معظم المنشقين كانوا من الأحرار (الهوبج). وفي إسكتلندة قاد جيمس حملة التعذيب بنفسه، وبدا أن انتصار حقوق الملك على إصلاحيات البرلمان بات انتصاراً ساحقاً كاملاً، وأن إنجازات الثورة الكبرى كان واضحاً أنه ينبغي التضحية بها في نكسة أو رد فعل تؤيده أمة تخشى تجدد الحرب الأهلية. وعكس هاليفاكس شعور البلاد حين تخلى عن شافتسبري، وإنجاز بحكمته المعتدلة البعيدة عن التطرف إلى جانب الملك ليكون في خدمته (1682 - 1685) فكان حامل الأختام الملكية.
وقام أتباع شافتسبري بمحاولة أخيرة. ففي يناير 1687، اجتمع دوق مونموث وإرل اسكس وإرل كارليل، ووليم لورد رسل وألجرنون سدني في دار جون همدن (حفيد بطل الحرب الأهلية) ورسموا الخطط لتطويق جيمس والتغلب عليه، وقتل شارل إذا لزم الأمر وراود سدني أمل التقديم إلى خطوة أبعد، وهي إعادة إقامة الجمهورية الإنجليزية. وكان حفيد أحد أخوة سير فيليب سدني (رئيس الفروسية)، وحارب في صف البرلمان أثناء الحرب الأهلية وجرح في مارستن مور. وعين عضواً في اللجنة التي شكلت المحاكمة شارل الأول، ولكنه رفض العمل بها على اعتبار أن الشعب لم يمنح اللجنة سلطة محاكمة الملك. وألقى نفسه في القارة حين عادت الملكية، فظل بها، مشغولاً بدراساته وأبحاثه، وتدبير المؤامرات ضد شارل الثاني وفي الحرب الهولندية الثانية حرض الهولنديين في غزو إنجلترا، وعرض خدماته على الحكومة الفرنسية ليشعل نار الثورة في إنجلترا إذا أمدته الحكومة الفرنسية بمائة(32/171)
ألف كراون (157). وفي 1677 سمح له شارل بالعودة ليشهد وفاة والده، وبقي في إنجلترا وانضم إلى "حزب الريف" (الأحرار، الهويج). وفي كتابه "مقالات عن الحكومة" (الذي كتب 1681 ولم ينشر إلا في 1688) دافع سدني عن المبادئ شبه الجمهورية، واستبق لوك في مهاجمته دفاع فلمر عن حقوق الملوك الإلهية، وأكد حق الشعب في محاكمة الملوك وخلعهم. ومن الواضح أن سدني ورسل، كليهما تسلما أموالاً من الحكومة الفرنسية التي كان يهمها أن يظل شارل مشغولاً بمشاكله الداخلية (158).
وصح عزم "مجلس الستة" على أسر الملك. وكان معروفاً أنه سيشهد سباق الخيل في شهر مارس في نيوماركت. وكان لابد له، لدى عودته إلى لندن من أن يمر "براي هاوس" في هودزدون في شمال المدينة، فتقرر أن تسد عربة محملة بالحشائش الجافة الطريق في هذا المكان، ومن ثم يمكن أسر الملك وربما أسر أخيه معه كذلك، حيين أو ميتين. ولكن في 22 مارس شب حريق في ميدان السباق، وانتهت المسابقات قبل موعدها المقرر بأسبوع، وعاد الملك سالماً إلى لندن قبل أن يعد المتآمرون عدتهم. وخشي أحدهم افتضاح الأمر وراوده الأمل في العفو، فأفضى بسر المؤامرة إلى الحكومة (12 يونيه). وقبض على كارليل فأكد الاعتراف وعفوا عنه. واحتج مونموث بأنه برئ، وعلى الرغم من أن شارل على علم اليقين أن ابنه كاذب فيما يقول، فإنه ألغى أمر اعتقاله. أما رسل فحوكم وثبتت إدانته وأعدم (21 يوليه 1683). وانتحر اسكس في السجن. وعندئذ قال الملك "ما كان له أن يقنط من الرحمة، فإني مدين له بحياة (159) " فقد مات أبوه من قبل من أجل شارل الأول. وشنق عدد من صغار المشتركين في "مؤامرة راي هاوس" وأخذ سدني بجرم لم يقم عليه دليل كاف من الناحية القانونية، ودافع عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقابل الموت بصدر رحب (7 ديسمبر). وكان شعاره "يدي هذه هي عدوة الطغاة". ولكنه كان قد اختار سيفاً(32/172)
ذا حدين. ونطق وهو على المشنقة بكلمات تستحق الذكر: "إن الله ترك للشعوب حرية إقامة الحكومات كما تشاء (106) ". ورفض أية طقوس دينية قائلاً أنه سلام مع الله فعلاً.
لقد انتصر شارل ولكنه كان مشرفاً على النهاية، ونعم، مع جهد مضن، بشعبية جديدة، وكانت اقتصاديات إنجلترا قد ازدهرت في عهده، أما الآن، والبلاد تتطلع إلى هدوء سياسي، فقد ركنت إلى ملك كان يمثل بقاء الأمة ونظامها، ولو كان معنى هذا لفترة من الزمن "ملكاً كاثوليكياً". وغفرت إنجلترا لشارل أخطاءه، حين رأته ينهار ويذبل قبل الأوان. واتفقت معه، بعض الشيء، على أن الحكومة الانتخابية - لا الملكية الوراثية - مدعاة للاضطراب والهرج اللذين يصاحبان انتخاب الحاكم عندما يحين موعده. واحترمت فيه إخلاصه لأخيه، حتى في الوقت الذي حزنت فيه لنتيجة هذا الإخلاص، ورأت جيمس منتصراً، ورأته ثانية قائداً أعلى للأسطول، يتعقب أعداءه ليثأر منهم. وفي يناير 1685 رفع جيمس دعوى مدنية ضد تيتس أوتس يطالبه فيها بتعويض قدره مائة ألف جنيه. وكسب جيمس القضية. ولما كان أوتس عاجزاً عن الدفع فقد أودع السجن. وقال شارل في حزن بالغ "لست أدري ماذا سيفعل أخي عندما ينتهي الأجل وأفارق الحياة. أخشى ما أخشاه أنه عندما يأتي ليضع تاج الملك على رأسه، أن يرغم على العودة من حيث أتى. على أني سأعني العناية كلها بأن أترك له مملكة يسودها السلام، وكل أملي أن يحتفظ لها بهذا السلام لأمد طويل. ولكن هذا يثير كل مخاوفي، ولست أؤمل فيه كثيراً، بل لا يكاد أمل يدور بخلدي أنه سيتحقق (161) ". ولما اعترض جيمس على تجول شارل حول لندن راكباً عربته دون حرس، أمره شارل أن يهدئ من روعه: "لن يقتلني أحد ليجلسك أنت على العرش (162) ".
ولا بد أنه اعترض على الأطباء. فإنه في 2 فبراير 1685 أصيب بحالة تشنج واضطراب شديدة، شوهت وجهه، وجعلت فمه، يرغى، وأجرى(32/173)
له دكتور كنج عملية فصد بشق أحد الأوردة. وكان لهذا نتيجة طيبة. ولكن مرافقي الملك استدعوا ثمانية عشر طبيباً آخرين ليشخصوا الداء ويصفوا الدواء. وطيلة خمسة أيام في عذاب اليم، استسلم الملك للحملة التي جردوها عليه مجتمعين. فبزلوا أوردته، ووضعوا كؤوس الحجام إلى كتفيه. وقصوا شعره ليزيلوا البثور والقروح من جلدة رأسه، ووضعوا على باطن قدميه لصوقاً من القاروروث الحمام. وقال مؤرخ طبيب "ولكي يزيلوا النزوات من مخه نفخوا في أعلى خياشيمه الخريق (وهو عشب جميل الزهر) ثم جعلوه يعطس. ولكي يتقيأ صبوا في حلقه الأنتيمون وسلفات الزنك. ولتنظيف أمعائه أعطوه مطهرات قوية، وعدداً من الحقن الشرجية في تعاقب سريع (163).
ونادى الملك الذي يحتضر زوجته التي عاشت في شقاء عقيم، ولم يدرك أنها جاثية في أسفل الفراش تدلك قدميه. في 4 فبراير قدم له بعض الأساقفة الأسرار الدينية الأخيرة وفقاً للطقوس الأنجليكانية، ولكنه رجاهم أن يكفوا، ولما سأله أخوه، هل يريد كاهناً كاثوليكياً أجاب "نعم، نعم، من كل قلبي (164) " فأرسلوا في طلب الأب جون هدلزتون الذي كان قد أنقذ حياة شارل في معركة وورسيستر، كما أن شارل كان قد أنقذ حياة الأب جون أيام "الإرهاب البابوي" وأعلن شارل اعتناقه للمذهب الكاثوليكي، واعترف بذنوبه وخطاياه، وعفا عن أعدائه وطلب المغفرة من الجميع. ومسحوه مسحاً تاماً بالزيت المقدس، وتلقى الأسرار المقدسة. وطلب الصفح والعفو، بخاصة من زوجته، ولكنه كذلك أوصى أخاه خيراً بالسيدة لويز كيرووال وأبنائه (منها) طلا تترك تلك المسكينة تتضور جوعاً (165) " واعتذر لمن حوله عن أنه قضى مثل هذا الوقت الطويل بشكل غير معقول، وهو يعاني سكرات الموت (166).
وعندما ظهر اليوم السادس من فبراير، كان دوق يورك ملكاً.(32/174)
الفصل العاشر
الثورة الجليلة
1685 - 1714
1 - الملك الكاثوليكي
1685 - 1688
من ذا الذي كان يستطيع أن يتخيل حين يقع بصره على الصورة (1) التي رسمها فانديك في اللونين الأزرق والذهبي لدوق يورك وهو في الثانية من عمره أن هذا الطفل البريء الحي سيقضي قضاء مبرماً على أسرة ستيوارت ويكمل آخر الأمر، وفي "الثورة الجليلة" انتقال السلطة من الملك إلى البرلمان، وهو ما كان أبوه قد بدأه بشكل مخز من قبل؟ ولكن في الصورة التي رسمها ريلي (2) للشخص عينه تحت اسم جيمس الثاني، نجد أن الحياء قد انقلب إلى ذهول وارتباك. وأن الحساسية تغيرت إلى عناد وتصلب، وأن البراءة تحولت بين أعضاء العشيقات المذعنات الطيعات إلى لاهوت جامد لا ينثني. فما كان إلا أن حدد هذا الخلق لصاحبه مصيراً كان كل فريق يناضل من أجل ما يبدو له هو أنه حق، ومن ثم يستحق منا بعض العطف.
لقد أوردنا من قبل ذكر فضائل جيمس الثاني، فكم من مرة عرض نفسه لخطر الموت في عمله في البحرية. ووازن الناس بينه وبين أخيه، موازنة مرضية، في النشاط الحكومي والإداري، والاعتدال في الإنفاق، وفي ارتباطه بكلمته. أنه استمسك بما أوصاه به شارل وهو يحتضر، من العناية بأمر نل جوين، فسدد ديونها، وخصص لها ضيعة تكفل لها رغد العيش. وبعد ارتقائه العرش ظل لبعض الوقت على علاقته مع آخر عشيقاته كاترين سدلي. ولكنه بناء على اعتراضات الأب بنز أجزل لها العطاء على(32/175)
خدماتها وأقنعها بمغادرة إنجلترا، لأنه اعترف بأنه إذا وقع بصره عليها ثانية فإنه لا يملك فكاكاً من سلطانه عليه (3). إن الأسقف بيرنت الذي ساعد على خلعه، حكم عليه بأنه "صريح مخلص بطبيعته، ولو أنه في بعض الأحيان متلهف محب للانتقام، صديق ثابت على العهد، إلى أن أفسدت عقيدته الدينية مبادئه وميوله الأولى (4) "وكان مقتصداً ينمي ثروته بسرعة، ولم يعمد قط إلى غش العملة، كما كان رحيماً بالشعب في موضوع الضرائب (5). إن ماكولي بعد أن دون ثمانمائة صحيفة عن حكم جيمس الذي لم يدم لأكثر من ثلاثة أعوام، انتهى إلى "أنه تنحى بمناقب كثيرة، إلى حد أنه لو كان بروتستانتياً، لا بل كاثوليكاً معتدلاً، لكان عصره عصراً زاهراً مجيداً (6) ".
وتفاقمت أخطاؤه بنمو سلطانه. وكان مغروراً متعجرفاً حتى قبل اعتلائه العرش، ينظر إلى معظم الناس باحتقار، لا يفتح قلبه إلا لقلة منهم، وتمسك تمسكاً حرفياً بنظرية أبيه، وهي أنه ينبغي أن يكون للملك مطلق السلطة، ولم يكن له المزاج الواقعي الذي كان لأخيه والذي أدرك به الحدود العملية لهذه السلطة المطلقة. ويجدر بنا أن نقدر حق التقدير غيرته الدينية، ورغبته في منح إخوانه الكاثوليك في إنجلترا حرية العبادة والمساواة في الحقوق السياسية. وكان مخلصاً لأمه وأخته الكاثوليكتين، وكان طوال الخمسة عشر عاماً السابقة محاطاً بالكاثوليك في بيته، وكان موضع استغراب عنده أن الديانة التي أنجبت مثل هذا العدد الكبير من أفاضل الرجال وفضليات النساء، يضع الإنجليز أمامها العراقيل ويبغضونها ويحدون من انتشارها. ولم يشاطر البروتستانت ما تناقلوه من ذكريات حية في أذهانهم عن مؤامرة البارود، أو خوفهم من أن يولي عليهم ملك كاثوليكي، يميل عاجلاً أو آجلاً ويقتنع، بانتهاج سياسة ترضي البابا الإيطالي. أن إنجلترا البروتستانتية كانت تشعر بأن أي ملك كاثوليكي لا بد أن يعرض للخطر استقلالها الديني والفكري والسياسي.(32/176)
إن تصرفات جيمس الأول بعد ارتقائه العرش خفضت من هذه المخاوف شيئاً قليلاً: أنه عين هاليفاكس رئيساً لمجلس الملك، وسندرلند وزيراً، وهنري هايد (أرل كلاروندن الثاني) حاملاً لأختام الملك، وكل هؤلاء من البروتستانت. وفي أول خطاب له في هذا المجلس وعد بالإبقاء على نظم الكنيسة والدولة، وعبر عن تقديره لتأييد كنيسة إنجلترا لاعتلائه العرش، ووعد بأن يوليها عناية خاصة. وعند تتويجه أدى اليمين المألوفة لدى ملوك إنجلترا الحديثين، بالمحافظة على الكنيسة الرسمية وحمايتها. وحظي الملك جيمس الثاني لعدة شهور بشعبية لم تكن متوقعة.
وأول إجراء مؤيد للكاثوليكية اتخذه جيمس، لم يكن يحمل عدواناً مباشراً على البروتستانت. أنه أمر بالإفراج عن كل المسجونين بسبب رفضهم تأدية قسم الولاء والسيادة. وبهذا أفرج عن آلاف من الكاثوليك، بل أخلى معهم سبيل ألف ومائتين من الكويكرز وكثير من المنشقين غيرهم. ومنع إقامة الدعوى بعد ذلك في المسائل الدينية. وأطلق سراح دانبي واللوردات الكاثوليك الذين أودعوا السجن بناء على اتهامات تيتسي أوتس. وحوكم أوتس من جديد وأدين بتهمة الإيمان الكاذبة التي أدت إلى إعدام عدد من الأبرياء، وأعربت المحكمة هن أسفها لأنها لم تستطع الحكم عليه بالإعدام، وحكمت عليه بغرامة قدرها ألفان من الماركات، وأن يربط خلف عربة ويجلد بالسياط مرتين علانية، والأولى من أولدجيت إلى نيوجيت، والمرة الثانية بعد الأولى بيومين، من نيوجيت إلى تايبيرن، وأن يوضع على آلة التعذيب، المشهرة، خمس مرات سنوياً طيلة بقائه على قيد الحياة. وعاش أوتس بعد هذا التعذيب، وأعيد إلى السجن (مايو 1685) وطلبوا إلى الملك إعفاءه من الجلد للمرة الثانية، ولكنه رفض.
وتحطمت الهدنة المزعزعة بين الشيع الدينية بثورة مزدوجة. ذلك أنه في مايو نزل أرشيبالد كامبل، إرل أرجيل التاسع، في اسكتلنده، وفي(32/177)
يونيه رسا جيمس ودوق مونموث على الشاطئ الجنوبي الغربي لإنجلترا، وفي مسعى مشترك لخلع الملك الكاثوليكي. وأصدر مونموث بلاغاً وصم فيه الملك جيمس بأنه غاصب طاغية سفاح، كما اتهمه بإحراق لندن والمؤامرة البابوية، ودرس السم لشارل الثاني، وتعهد الغزاة ألا يضعوا السلاح أو يكفوا عن القتال حتى يخلصوا البروتستانتية وحريات الشعب والبرلمان. ومني أرجيل بالهزيمة في 17 يونية، وأعدم في 30 يونية، وبذلك أخفق الجناح الشمالي للثورة. ولكن أهالي دورستشير-وهم بيوريتانيون شديدو التمسك بمذهبهم-رحبوا بمونموث وحيوه مخلصاً ومنقذاً لهم. وانضم تحت لوائه عدد كبير جداً من الناس، إلى حد أنه في ثقة وجلال ومهابة، اتخذ لقب جيمس الثاني ملك إنجلترا. ولم يقدم له الأشراف والطبقات الغنية أي عون أو تأييد. وهزم جيشه المختل النظام على يد القوات الملكية في سدجمور (6 يولية 1685) وهذا آخر حرب جرى فيها القتال على تراب إنجلترا قبل الحرب العالمية. ولاذ مونمورث بالهرب، وتوسل إلى الملك أن يعفو عنه فأبى، وضرب عنقه.
وتعقب جيش الملك، بقيادة برس كيرك، فلول الثوار، وشنق الأسرى دون محاكمة. وشكل جيمس لجنة يرأسها قاضي القضاة جفريز، لتذهب إلى المنطقة الغربية لتحاكم الأشخاص المتهمين بالإنضمام إلى الثورة أو التحريض عليها. وسمح للمحلفين بالاشتراك في المحاكمات، باعتبار أن هذا من حق المتهمين، ولكن جفريز قذف المحلفين الرعب، حتى أن قلة قليلة من المتهمين هي التي أصابت شيئاً من الرحمة لدى هذه "المحكمة الدموية" (سبتمبر 1685) (1). وشنق نحو أربعمائة، وحكم على ثمانمائة بالعمل الإجباري في مزارع جزر الهند الغربية (7). وكانت اليزابيث في 1569 وكرومل في 1648، وقد اتهما قبل ذلك هذه الأعمال الوحشية،
_________
(1) Assiszes الجلسات الدورية للمحاكم العليا في كل مقاطعة.(32/178)
ولكن جفريز تفوق عليهما في إرهاب المتهمين والمحلفين والتجهم والعبوس، وصب اللعنات على ضحاياه، والتحديق في وجوههم في كثير من الخبث، والإدانة لمجرد الشك، إلا إذا ساعدت رشوة مجزية على إقناعه بالبراءة (8). وبذل جيمس جهوداً متواضعة ليضع حداً للوحشية، ولكن ما أن تمت الإبادة الكاملة وخمدت النار المحرقة حتى رفع جفريز إلى مرتبة النبلاء، وعينه رئيساً لمجلس اللوردات (6 سبتمبر 1686).
وأسهم هذا الإجراء الانتقامي في إبعاد النبلاء عن الملك. وعندما كلب من البرلمان إلغاء "قانون الاختيار" (الذي يقضي بإقصاء الكاثوليك عن الوظائف ومقاعد البرلمان) وتعديل قانون "حق التحقيق في قانونية الاعتقال" وإنشاء جيش تحت إمرة الملك، لم يستجب البرلمان لشيء من هذا. فعطله جيمس (20 نوفمبر) وأخذ يعين الكاثوليك في الوظائف العامة. ولما أعترض هاليفاكس على امتهان البرلمان على هذا النحو، عزله جيمس من المجلس. وأحل محله، رئيساً للمجلس، سندرلند الذي أعلن تحوله إلى الكاثوليكية على الفور (1687). وحين امتدح جيمس إلغاء لويس الرابع لرسوم نانت (9) استنتجت إنجلترا أنه لو تمتع جيمس بمثل هذه السلطة المطلقة التي يتمتع بها البوربون، لما تردد في اتخاذ خطوات مماثلة ضد البروتستانت في إنجلترا. ولم يخف جيمس اعتقاده بأن سلطته الآن باتت مطلقة بالفعل، وأن لويس الرابع عشر في نظره هو لمثل الأعلى للملك. وقبل الإعانات من لويس لفترة من الزمن، ولكنه أبى عليه أن يملي سياسة الحكومة الإنجليزية. فتوقفت الإعانات.
وكان لويس أكثر تعقلاً فيما يتعلق بإنجلترا منه بالنسبة لبلاده. وعلى حين أنه أضعف فرنسا باضطهاده الهيجونوت، نراه يحذر جيمس من مغبة التسرع في تحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية. كما أن البابا إنوسنت الحادي عشر زود جيمس بمثل هذه النصيحة. وعندما أرسل إليه الملك الإنجليزي يعده بقرب انضواء إنجلترا تحت راية الكنيسة الكاثوليكية في رومة (10)،(32/179)
نصحه الباب بأن يقنع بالحصول على التسامح الديني للكاثوليك الإنجليز، كما حذر هؤلاء أن يكفوا عن الأطماع السياسية، ووجه رئيس الجزويت لتعنيف الأب بنزولومه على القيام بمثل هذا الدور الخطير في الحكومة (11). إن البابا أنوسنت لم يخفف من غيرته الكاثوليكية، ولكنه كان يخشى قوة لويس الرابع عشر التي تبتغي التطويق والسيطرة، كما كان يأمل في إمكان تحويل إنجلترا من مجرد تابع أو خادم ذليل للسياسة الفرنسية ومشروعاتها إلى قوة متوازنة ضدها. وأوفد البابا مبعوثاً بابوياً-للمرة الأولى منذ عهد ماري تيودور-ليوضح لجيمس أن أي تصدع في العلاقة بين البرلمان والملك لا بد أن يضر بالكنيسة الكاثوليكية (12).
ولم يستفد جيمس من هذا النصح. إنه أحس، وكان في الثانية والخمسين حين اعتلى العرش، أنه قد لا يتيسر له فسحة من الأجل لتنفيذ التغييرات الدينية التي ينشدها والتي يجيش بها صدره، ولم يؤمل كثيراً في أن ينجب ابناً، وهنا قد تخلفه ابنته البروتستانتية، وتقلب عمله رأساً على عقب، إلا إذا أقيم هذا العمل على أساس وطيد راسخ قبل موته. وطغت آراء الأب بنز والملكة وسلطانهما على كل نصح بالتروي والتريث. ولم يكتف الملك بالذهاب إلى القداس، تحفه الجلالة والمهابة لملكية، بل طلب كذلك إلى مستشاريه أن يلحقوا به لحضور القداس. وتكاثر الأساقفة حول الحاشية، وعين الكاثوليك في المناصب العسكرية، وحرض القضاة (الذين كان له حق تعيينهم وعزلهم) على توكيد حقه في إعفاء هؤلاء المعينين من العقوبات التي فرضها عليهم "قانون الاختبار". وجند، تحت إمرة ضباط أغلبهم من الكاثوليك، جيشاً قوامه ثلاثة عشر ألف رجل لا يخضعون إلا لأوامره هو، وواضح أن مثل هذا الجيش كان يهدد استقلال البرلمان. وعطل العمل بالقانون الذي يفرض العقوبات على حضور العبادة الكاثوليكية علانية. وأصدر في يونية 1686 مرسوماً يحرم على رجال الدين إلقاء عظات في الخلافات المذهبية. ولما خطب الدكتور جون شارب في "دوافع(32/180)
المرتدين" أمر جيمس بوصفه الرئيس الشرعي للكنيسة الإنجليزية، هنري كمبتون أسقف لندن، بفصل شارب مؤقتاً من سلك رجال الكنيسة الأنجليكانية، فرفض كمبتون. فعين جيمس، متجاهلاً قانوناً صدر في 1673، "محكمة كنسية" جديدة، سيطر عليها سندرلند وجفريز، وحاكمت كمبتون بتهمة شق عصا الطاعة على التاج، وعزلته من وظيفته. وبدأت الآن الكنيسة الأنجليكانية، التي كانت قد التزمت من قبل بالطاعة المطلقة، نقول بدأت للملك ظهر المجن.
أن الملك جيمس كان يأمل في كسب الكنيسة الأنجليكانية إلى جانب المصالحة والتراضي مع روما، ولكن تصرفه المتهور قضى الآن على هذه السياسة. وبدلاً من ذلك انتهج سياسة التوحيد بين الكاثوليك والمنشقين ضد الكنيسة الرسمية. أن وليم بن الذي وجد طريقه إلى قلب الملك وأحرز ثقته، نصحه بأنه يستطيع أن يظفر بالتأييد الحار من جانب كل البروتستانت الإنجليز، فيما عدا الأنجليكانيين إذا هو بجرة قلم ألغى القوانين التي تحرم العبادة العلنية على فرق المنشقين وفي 4 أغسطس 1687 أصدر جيمس أول "إعلان للتسامح" في عهده. ومهما تكن دوافع الملك، فإن هذه الوثيقة تحتل مكاناً في تاريخ التسامح الديني. إنه ألغى كل قوانين العقوبات فيما يتعلق بالديانة، وأبطل كل الاختبارات الدينية، ومنح الحرية الدينية للجميع، وحظر التدخل في شئون الاجتماعات الدينية المسالمة. وأخلى سبيل كل المسجونين بسبب الخلافات الدينية. أن هذا الإعلان ذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه إعلانات التسامح في عهد شارل الثاني، التي كانت قد أبقت على الاختبار الديني لمن يتولون الوظائف، وسمحت بالعبادة الكاثوليكية داخل الدور الخاصة فقط. وأكد للكنيسة الرسمية أن الملك سيواصل حمايته لها في كل حقوقها القانونية. ومما يدعو إلى الأسى والأسف أن هذا الإجراء قدر له أن يكون إعلاناً ضمنياً للحرب على البرلمان، الذي كان قد سن من قبل كل القيود وعدم الأهلية التي ألغيت الآن. ولو سلم(32/181)
البرلمان بسلطة الملك في إلغاء التشريعات البرلمانية لكان لزاماً أن تنشب الحرب الأهلية من جديد.
ودخل هاليفاكس الذي كان في هاتيك الأيام ألمع عقلية في إنجلترا، المعركة بكتيب لا يحمل اسم المؤلف بعنوان "رسالة إلى منشق" (أغسطس 1687) -"أكثر النشرات توفيقاً في هذا العصر (13) " حث فيه البروتستانت أن يكونوا على يقين من أن هذا التسامح الذي قدم إليهم الآن، صدر عن ملك موال لكنيسة تدعي العصمة من الخطأ، وتنكر التسامح صراحة. وهل يمكن أن يكون ثمة انسجام دائم بين حرية الفكر والضمير وبين كنيسة لا تخطئ؟ وكيف يطمئن المخالفون إلى أصدقائهم الجدد الذين دمغوهم بالأمس القريب بأنهم هراطقة؟ "كنتم بالأمس أبناء الشيطان، وأنتم اليوم ملائكة النور (14) ". ومن سوء الحظ أن الكنيسة الأنجليكانية كانت قد اتفقت مع روما فيما يتعلق بأبناء الشيطان، وأنها في السنوات السبع والعشرين الأخيرة أخضعت مخالفيها لألوان من الاضطهاد والتعذيب تعفيهم من قبول الحرية حتى على أيد كاثوليكية. وأسرع رجال الدين الأنجليكانيون إلى التماس التصالح مع المشيخيين والبيورتانيين والكويكرز، وتوسلوا إلى هؤلاء جميعاً أن يرفضوا التسامح الراهن، ووعدوهم على الفور بتسامح يحظى بموافقة كل عن البرلمان والكنيسة الرسمية. وبعث بعض المخالفين بخطابات شكر إلى الملك، ولكن الأغلبية كانت بجانبها في تحفظ. وعندما حانت ساعة الفصل نبذ الجميع الملك.
وتابع جيمس خطواته. لقد تطلبت جامعات إنجلترا لعدة سنوات مضت من أساتذتها وطلبتها الالتزام بمذهب الكنيسة الأنجليكانية، ولم يستثن من ذلك إلا منح درجة لطالب لوثري، ومنح درجة فخرية لدبلوماسي مسلم، على أن القساوسة الأنجليكانيين رأوا في أكسفورد وكمبردج هيئات وظيفتها الرئيسية إعداد الرجال لقبول المذهب الأنجليكاني، وتقرر ألا يلتحق بهما أي كاثوليكي. ورغبة في كسر هذا القيد أرسل جيمس، إلى نائب رئيس(32/182)
جامعة كامبردج رسالة يلزمه فيها بأن يستثني من الأنجليكاني راهباً بندكتياً يعي للحصول على درجة الأستاذية. ورفض نائب رئيس الجامعة ففصل بأمر من لجنة المحكمة الكنسية. فأرسلت الجامعة وفداً من بين أعضائه ايزاك نيوتن، ليشرح للملك موقف لجامعة. ولكن الراهب حل المشكلة بالانسحاب (1687). وفي نفس العام رشح الملك لرياسة كلية مجدلن في أكسفورد، رجلاً لا يتمتع بغزارة العلم، ولكنه ذو ميول كاثوليكية، فرفض الزملاء انتخابه، وبعد نزاع طويل اقترح الملك مرشحاً ليس عليه إلا اعتراض أيسر من سابقه، وهو باركر أسقف أكسفورد الأنجليكاني، ولكن الزملاء الذين يشكلون الهيئة الانتخابية رفضوه كذلك، ففصلوا بأمر من الملك، وعين الأسقف باركر قسراً.
واشتدت وطأة الاستياء عندما ارتمى الملك أكثر فأكثر في أحضان مستشاريه الكاثوليك. وكان إعجابه بالأب بتر شديداً إلى حد الإلحاف على البابا برسمه أسقفاً، بل كاردينالاً، ولكن أنوسنت أبى. وفي يوليه 1687 عين جيمس الجزويتي القدير، ولكن المستهتر، عضواً في المجلس المخصوص (الملكي)، فاحتج كثير من الكاثوليك الإنجليز بأن هذا تصرف طائش، ولكن جيمس كان في عجلة من أمره ليصل بالنضال إلى غايته. وكان في هذا المجلس الآن ستة من الكاثوليك، مكنت لهم حظوتهم لدى الملك من السيطرة والغلبة (15). وفي 1688 عين أربعة من الأساقفة الكاثوليك لإدارة شئون الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا، وخصص جيمس لكل منهم راتباً سنوياً قدره ألف جنيه، والواقع أن الكاثوليك شاركوا الآن الأنجليكانيين في أنه أصبح لكل من الفريقين كنيسة تساندها وتعاونها الدولة.
ووفي 25 أبريل 1688 جدد جيمس نشر "إعلان التسامح" الذي مضى على صدوره عام واحد، وأكد فيه من جديد عزمه على توفير حرية الفكر والضمير" لكل الإنجليز إلى الأبد. فمن الآن فصاعداً لا بد أن(32/183)
يعتمد التعيين في الوظائف والترقي فيها على الجدارة الشخصية لا المذهب الديني. وتنبأ بأن الإقلال من الخلافات الدينية لا بد أن يفتح أسواقاً جديدة للتجارة الإنجليزية، ويزيد من ازدهار الأمة ورخائها. وتوسل إلى رعاياه أن يطرحوا جانباً كل الأحقاد، وينتخبوا البرلمان الجديد دون تمييز بين المذاهب الدينية، والتحقق من انتشار هذا الإعلان الموسع على أوسع نطاق ممكن، أصدر مجلس الملك توجيهاتها إلى كل الأساقفة ليرتبوا مع كل رجال الدين أمر تلاوته في كل كنيسة في الأقاليم في إنجلترا، يوم 20 أو 27 مايو. واستخدم رجال الدين على هذا النحو، وسيلة للاتصال بالجماهير، أمر له سوابقه الكثيرة في إنجلترا. ولكن لم تكن الرسالة قط يوماً بغيضة إلى الكنيسة الرسمية إلى مثل هذا الحد. وفي 18 مايو رفع سبعة أساقفة أنجليكانيين إلى الملك ظلامة أو ضحوا فيها أنهم لم ترتض ضمائرهم أن يوصوا قساوستهم بتلاوة الإعلان، لأنه يخرق قرار البرلمان بأنه لا يجوز إلغاء تشريع برلماني إلا بموافقة البرلمان نفسه، فأجاب جيمس بأن رجال اللاهوت هم الذين كانوا يلحون على عظاتهم وخطبهم دوماً على ضرورة الامتثال للملك وطاعته بوصفه رئيساً للكنيسة، وأنه ليس في الإعلان ما يخدش أو يسيء إلى كرامة أحد. ووعد بأنه سوف ينظر في ظلامتهم، ولكنهم إن يتلقوا منه رداً في الغد فعليهم أن يذعنوا لأمره.
وفي صبيحة اليوم التالي بيعت آلاف النسخ من هذه الظلامة في شوارع لندن، في الوقت التي ما زالت فيه قيد البحث عند الملك. وأحس جيمس بأن هذا يجافي قواعد اللياقة، وعرض الظلامة على القضاة الاثني عشر في المحكمة الملكية، فأشاروا بأنه تصرف في حدود حقوقه المشروعية. ومن ثم أغفل الرد على الظلامة. وفي 20 مايو تليت الظلامة في أربع كنائس في لندن، وتجاهلوها في الكنائس الست والتسعين الباقية. وشعر الملك بأن سلطته قد امتهنت، وأمر الأساقفة السبعة بالمثول أمام المجلس. فلما جاءوا أبلغهم بأن عليهم أن يخضعوا للمحاكمة بتهمة نشر طعن أو قذف فيه تحريض(32/184)
على الفتنة، وعلى أية حال فإنهم لكي يتفادوا السجن في الحال، يمكن أن يقبل الملك منهم وعداً كتابياً بالحضور عند استدعائهم. فأجابوه بأنهم بوصفهم من أشراف المملكة، ليسوا في حاجة إلى تقديم أي ضمان سوى كلمتهم. وأحالهم المجلس إلى برج لندن (السجن) وحياهم الأهالي وهتفوا لهم على الجانبيين عند نقلهم عبر نهر التيمز.
وفي يومي 29 و30 يونيه حاكم الأساقفة السبعة-أمام محكمة الملك-أربعة قضاة مع هيئة المحلفين. وبعد يومين من مناقشات حادة في قاعه يحيط بها عشرة آلاف من أهالي لندن المهتاجين، أصدر المحلفون حكماً بعدم الإدانة. وابتهجت كل إنجلترا البروتستانتية، وقال أحد النبلاء الكاثوليك "لن تع ذاكرة الإنسان قط مثل هذه الصيحات والهتافات ودموع الفرح التي حدثت اليوم (16) "وتوجهت الشوارع بالمشاعل والنيران التي أضرمت في الهواء الطلق. وسار الناس في موكب خلف شخوص من الشمع تمثل البابا والكاردينالات والجزويت، أحرقت وسط احتفالات صاخبة. إن هذا الحكم كان يعني عند البسطاء من الناس أنه لا ينبغي التسامح مع الكاثوليكية، وعند ذوي الإدراك الأوسع أو العقل الأنضج كان يعني تثبيت حق البرلمان في سن قوانين ليس للملك أن يبطلها، وأن إنجلترا، في الواقع، وحتى ولو لم تكن من الناحية النظرية، ملكية دستورية، لا ملكية مطلقة.
على أن جيمس الذي عراه الاكتئاب والحزن بسبب الهزيمة، أخذ يتعزى بالطفل الذي وضعته له الملكة في 10 يونيه، بل الموعد المتوقع للولادة بشهر، وفي مقدوره أن ينشئ هذا الولد النفيس تنشئة قوامها الولاء والإخلاص للكاثوليكية، وكان يمكن لوالد والولد، في وجه أية معارضة أو معوقات، أن يقتربا يوماً بعد يوم خطوة من الهدف المقدس-ألا وهو الملكية القديمة، تعيش في وئام ووفاق مع الكنيسة، وفي إنجلترا يسودها الهدوء والسلام والتراضي، في أوربا نادمة على(32/185)
ارتدادها عن عقيدتها، موحدة في ظل هذه العقيدة الحقه وحيدة العالمية.
2 - الإطاحة بالعرش والملك في المهد
ربما كانت هذه الولادة لتي جاءت قبل الأوان هي التي جلبت الكارثة على رأس الملك المتهور. واتفقت إنجلترا البروتستانتية مع جيمس في أن هذا الولد قد يواصل السعي لإعادة الكثلكة، ومن ثم يمكن القول بأنها خشيته لنفس السبب الذي أحبه الملك من أجله وأنكرت إنجلترا البروتستانتية في أول الأمر، بنوة الطفل الملك. واتهمت الجزويت بأنهم دسوا إلى مخدع الملكة وليداً اشتروه، كجزء من مؤامرة أرادوا منها إبعاد الابنة البروتستانتية ماري عن وراثة العرش. وانعطفت إنجلترا أكثر فأكثر نحو ماري، على أنها أمل البروتستانتية الإنجليزية، ووطنت النفس على القيام بثورة أخرى لإجلاس ماري على العرش لتكون ملكة إنجلترا.
ولكن ماري كان آنذاك زوجة وليم أورانج الثالث، رئيس الدولة في المقاطعات المتحدة. ماذا يقول وليم المزهو بنفسه في أنه مجرد زوج الملكة؟ لماذا لا يعرض عليه الاشتراك في الحكم مع ماري؟ وفوق كل شيء، انه هو أيضاً يجري في عروقه الدم الملكي الإنجليزي. أن أمه كانت ماري أخرى، وكانت ابنة شارل الأول. ليس في نية وليم على أية حال أن يلعب دور الزوج للزوجة الملكة. ومن الجائز أن الأسقف بيرت-الذي كان قد اتخذ سبياه إلى القارة هرباً، عند ارتقاء جيمس العرش-أقنع ماري، بإيعاز (17) من وليم، أن تتعهد بالطاعة التامة لوليم "في كل الأمور" أياً كانت السلطة التي تخولها التصرف فيها، فوافقت على "أن يكون الحكم والسلطة في يديه هو، لأنها لا ترغب إلا في أن يعمل هو بالوصية التي تقول: أيها الأزواج أحبو زوجاتكم، كما تعمل بالوصية التي تقول: أيها الزوجات أطعن أزواجكن في كل شيء (18) " وتقبل وليم الطاعة، ولكنه تجاهل التلميح الرقيق إلى علاقته بعشيقته السيدة(32/186)
فليير (19)، فإن الحكام البروتستانت أيضاً، يحوز لهم فوق كل شيء، أن يخدعوا أو يخونوا زوجاتهم.
إن وليم الذي يحارب لويس الرابع عشر حفاظاً على استقلال هولنده والبروتستانتية، راوده الأمل لبعض الوقت في كسب والد زوجته (جيمس) في تحالف ضد ملك فرنسا الذي كان يحطم توازن القوى والحريات في أوربا، ولما خاب فأله، عمد إلى التفاوض مع الإنجليز الذين تزعموا حركة المقاومة ضد جيمس. إنه تغاضى من قبل عن الحملة التي نظمها مونمورث على الأرض الهولندية ضد الملك جيمس، وسمح لها بالإقلاع من أحد الثغور الهولندية دون عائق (20)، وخشي بحق أن يكون جيمس قد دبر خطة لإعلان عدم أهليته لوراثة عرش إنجلترا. ومتى ولد الملك ابن فمن الواضح أن يسقط حق ماري في العرش. وفي أوائل 1687 أوفد وليم افرهارد فان ديكفلت إلى إنجلترا ليقيم علاقات ودية مع زعماء البروتستانت. وعادت البعثة برسائل مبشرة من مركيز هاليافكس، وأرسل شروزبري وأرل كلارندن (ابن رئيس اللوردات السابق) ومن دانبي، والأسقف كمبتون وغيرهم. وكانت الرسائل غامضة مبهمة إلى حد لايئم عن خيانة صريحة، ولكنه انطوت على تأييد حار لوليم في نضاله من أجل العرش.
وفي يونية 1687 أصدر كاسبار فاجل، الحاكم العام، رسالة أوضح فيها بصورة آراء وليم في التسامح. إن وليم يريد حرية العبادة للجميع ولكنه يعارض إلغاء "قانون الاختبار" الذي يقصر حق تولي الوظائف العامة على أتباع المذهب الأنجليكياني (21). أن هذا البيان الرسمي للتحفظ أكسب وليم تأييد الأنجليكانيين البارزين. ولما قضى مولد ابن لجيمس على فرض وليم في أن يخلفه (جيمس) قرر زعماء البروتستانت دعوة وليم للقدوم والاستيلاء على العرش عنوة. ووقع الدعوة (30 يونية 1688) إرل سروزبري الثاني عشر، ودوق ديفونشير الأول، إرل دانبي، إرل سكاربره، وأمير البحر أدوارد رسل (ابن عم وليم رسل الذي أعدم في(32/187)
1683)، هنري سدني (أخو الجرنون)، والأسقف كمبتون. أما هاليفاكس فإنه لم يوقع متذرعاً بأنه يؤثر المعارضة الدستورية. ولكن كثيرين غير هؤلاء، من بينهم سندرلند وجون تشرشل، وكلاهما آنذاك في خدمة جيمس) بعثوا إلى وليم يؤكدون مساندتهم له (22). وكان الموقعون يعلمون علم اليقين أن دعوتهم للمغامرة، من ذلك أق شروزبري الكاثوليكي السابق الذي تحول إلى البروتستانتية، رهن ضياعه نظير أربعين ألف جنيه، وعبر البحر إلى هولنده ليساعد فيتوجه الغزو (23).
ولم يكن في مقدور وليم أن يتخذ أي إجراء فوري. لأنه لم يكن على ثقة من شعبه. كما كان يخشى أن يجدد لويس الرابع عشر هجومه على هولنده في أية لحظة. وخشيت الولايات الألمانية كذلك مهاجمة فرنسا لها، ومع ذلك لم تبد هذه الولايات اعتراضاً على غزو وليم لإنجلترا، ولعلمها بأن الهدف الأسمى لوليم هو كبح جماح ملك البوربون. أما حكومتا آل هبسبرج في النمسا وأسبانيا فقد نسيتا كثلكيتهما في بغضهما للملك لويس الرابع عشر، وأقرتا خلع ملك كاثوليكي يصادق فرنسا بل أن البابا نفسه منح الحملة بركته ورضاءه السامي. ومن ثم أصبح بإذن من الدول لكاثوليكية أن يأخذ وليم البروتستانتي على عاتقه الإطاحة بجيمس الكاثوليكي. وتعجل لويس وجيمس كلاهما الغزو، وأعلن لويس أن روابط "لصداقة والتحالف" القائمة بين إنجلترا وفرنسا تحتم عليه أن يعلن الحرب على كل من يغزو وإنجلترا. ولكن جيمس الذي خشي أن يؤدي هذا البيان إلى توحيد صفوف رعاياه البروتستانت ضده بشكل أقوى، نفي وجود مثل هذا التحالف، ورفض مساعد فرنسا له. وانتصر غضب لويس الرابع عشر على استراتيجيته، فأمر جيوشه بمهاجمة ألمانيا، لا هولندة (25 سبتمبر 1688)، ووافقت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة، التي حررت لبعض الوقت من الخوف من فرنسا، على أن يقود وليم حملة قد تؤدي بإنجلترا إلى الدخول في(32/188)
تحالف ضد فرنسا.
وفي 19 أكتوبر تحرك الأسطول-خمسين سفينة حربية، وخمسمائة سفينة نقل، وخمسمائة فارس، واحد عشر ألفاً من المشاة، بما فيهم عدد كبير من الهيجونوت اللاجئين من الاضطهاد في فرنسا. وصدت الرياح الأسطول، فانتظر حتى يهب "نسيم بروتستانتي" (مؤات)، وأقلع ثانية في أول نوفمبر. وخرج أسطول إنجليزي ليعترض سبيله، ولكن مزقته العاصفة. وفي 5 نوفمبر، وهو عطلة وطنية احتفالاً بذكرى "مؤامرة البارود" ألقى الغزاة مراسيهم في "ثورباي"، وهو منفذ على المانش على شاطئ دورستشير. ولم يلق الغزاة أية مقاومة، ولكنهم كذلك لم يلقوا أي ترحيب. فأن الناس لم يكونوا قد نسوا جفريز وكيرك. وأصدر جيمس أوامره إلى جيشه بالتجمع في سالسبوري تحت إمرة لورد جون تشرشل، ولحق الملك به هناك، ولكنه وجد القوات يعزوها الولاء والإخلاص، يخيم عليها الفتور إلى حد الارتياب في اشتراكهم في معركة، فأمر بالتقهقر، وفي تلك الليلة (23 نوفمبر) انحاز لتشرشل واثنان من كبار الضباط فيجيش الملك إلى وليم مع أربعمائة رجل (24). وبعد ذلك بأيام قلائل انضم جورج الدنمركي، زوج الأميرة آن ابنة جيمس، إلى جماعة الخارجين على الملك، والذين يتزايد عددهم، ووجد الملك التعس، لدى عودته إلى لندن، أن ابنته آنوسارا جنجز زوجة تشرشل قد هربتا إلى نوتنجهام. وتحطمت روح الملك الذي كان يوماً مزهواً مختالاً، حين وجد أن ابنتيه كلتيهما قد انقلبتا ضده. فأوفد هاليفاكس للتفاوض مع وليم وفي 11 ديسمبر غادر الملك نفسه عاصمة ملكه، ولما عاد هاليفاكس من الجبهة، وجد الأمة بلا رئيس ولا زعيم، فعمد جماعة من النبلاء إلى تنصيبه رئيساً لحكومة مؤقتة. وفي يوم 13 تسلموا من جيمس رسالة تقول بأنه وقع في أيدي الأعداء، في فافرشام في كنت. فأنفذوا بعض القوات لإنقاذه، وفي يوم 16 عاد الملك الذليل إلى قصر هويتهول وأرسل(32/189)
وليم أثناء تقدمه نحو لندن، وبعض حراس هولنديين زودهم بتعليمات بأن يحملوا جيمس إلى روشستر، وهناك يسهلون له طريق الفرار. وقد كان، ووقع جيمس في الفخ الذي نصب له، وغادر إنجلترا إلى فرنسا (23 ديسمبر). وعمر ثلاثة عشر عاماً بعد سقوطه، ولكنه لم ير إنجلترا ثانية قط.
ووصل وليم إلى لندن في التاسع عشر من ديسمبر. واستغل انتصاره في حزم وحذر واعتدال ممتاز، ووضع حداً للشغب الذي آثاره البروتستانت في لندن وسلبوا فيه منازل الكاثوليك وأحرقوها. وبناء على طلب الحكومة المؤقتة، ودعا اللوردات والأساقفة وأعضاء البرلمان السابقين للاجتماع في كفونتري. وأعلن "المؤتمر" الذي أنعقد هناك في أول فبراير 1689 أن جيمس اعتزل العرش بفراره. وعرض المجتمعون أن يتوجوا ماري ملكة، ويرتضوا وليم نائباً لها. فقبلا (13 فبراير). ولكن المؤتمر قرن هذا العرض " بإعلان الحقوق" الذي سنه وأصدره البرلمان من جديد في 16 ديسمبر على أنه "وثيقة الحقوق"، وأصبح (بالرغم من عدم موافقة وليم عليه صراحة) جزءاً حيوياً أساسياً في قوانين المملكة:
حيث أن الملك السابق جيمس الثاني .. سعى جهده أن يدمر ويستأصل العقيدة البروتستانتية وقوانين وحريات هذه المملكة من جذورها:
1 - بانتحاله لنفسه وممارسته سلطة التحلل من القوانين وإلغائها، أو تنفيذها دون موافقة البرلمان ..
3 - بإنشاء "محكمة خاصة بالقضايا الدينية".
4 - بجباية أموال من أجل الملك وليستخدمها هو، بحجة الامتيازات والحقوق الملكية، في غير الوقت ولغير الغرض اللذين أقرهما البرلمان.
5 - بتجنيد جيش ثابت والاحتفاظ به دون موافقة البرلمان.
7 - بإقامة الدعوى أمام "محكمة الملك" في مسائل وقضايا هي من اختصاص البرلمان وحده.
وكل هذا يتعارض تماماً، وبطريق مباشر، مع قوانين هذه المملكة(32/190)
وشرائعها المعروفة. ولما كانوا (أعضاء البرلمان-المجتمعون) على ثقة تامة من أن .. أمير أورانج .. سوف يحميهم من إهدار حقوقهم التي أثبتوها هنا، ومن أية محاولات أخرى للاعتداء على حقوقهم المدنية وحرياتهم، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المجتمعين في وستمنستر، يقررون أن يعينوا وليم وماري، أمير وأميرة أورانج، ملكاً وملكة على إنجلترا وفرنسا وإيرلندة، وأن يقسم اليمين المذكورة بعد، كل الأشخاص الذين يتطلب القانون منهم أن يقسموا يمين الولاء ..
"أقسم أنا (س من الناس) أن أمقت وأبغض وأنبذ من كل قلبي على أنها كفر وهرطقة، تلك النظرية الدنسة اللعينة .. التي تقول بأنه يجب أن يخلع أو يقتل، بيد رعاياه أو عيرهم أياً كانوا، كل أمير يصدر ضده البابا أو أية هيئة في المقر البابوي في روما، قراراً بالحرمان من الكنيسة أو من العرش .. كما أعلن أنه ليس، ولا ينبغي أن يكون. لأي حاكم أو فرد أو مطران أو دولة أو عاهل أجنبي، أية ولاية أو سلطة أو سيادة أو سلطان .. في هذه المملكة. أسألك العون على هذا يا رب".
وحيث ثبت بالتجربة أنه لا يتفق مع سلامة هذه المملكة ولا مع مصلحتها أن يحكمها أمير مناصر للبابا، أو ملك أو ملكة متزوجة من أحد أشياع البابا، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المذكورين يرجون فوق ذلك أن يسن تشريع يقضي بأن كل شخص أو أشخاص يذعنون أو سيذعنون للبابا أو الكنيسة في روما، أو تكون أو ستكون لهم علاقة بهما، أو سيدينون بالمذهب البابوي، أو يتزوجون من نصيرات البابا والمشيعات له، يجب استبعادهم وحرمانهم إلى الأبد من وراثة أو أملاك أو التمتع بتاج وحكومة هذه المملكة (25).
أن هذا الإعلان التاريخي عبر من النتائج الجوهرية لما أسمته إنجلترا البروتستانتية "الثورة الجلية": وهي الاعتراف الصريح بالسيادة التشريعية للبرلمان، التي طالما نازع فيها أربعة ملوك من آل ستيوارت، وحماية المواطن(32/191)
ضد السلطة للتعسفية للحكومة، واستبعاد الكاثوليك من تولي عرش إنجلترا أو المشاركة فيه. ويلي هذه النتائج في الأهمية، وهو إدماج سلطة الحكومة في الأرستقراطية مالكة الأرض، لأن الثورة بدأها كبار النبلاء، وسار بها إلى غايتها صغار الملاك الممثلون في مجلس العموم. وواقع الأمر أن الملكية "المطلقة" المتمسكة "بحق الملك الإلهي" تحولت إلى أولجاركية إقليمية أو ذات علاقة بالملكية الخاصة للأرض. وهي أولجاركية تميزت بالاعتدال والجد والبراعة في إدارة دفة الحكم، متعاونة مع ملوك الصناعة والتجارة والمال، كما أهملت بصفة عامة أمر الحرفيين والفلاحين. إن الطبقات المتوسطة العليا أفادت من الثورة بصورة فعلية. واستردت مدن إنجلترا حريتها، لتحكمها أوليجاركيات التجار المستغلين. أن تجار لندن الذين أحجموا من قبل عن مساعدة جيمس، أقرضوا وليم مائتي ألف جنيه فيما بين وصوله إلى العاصمة، وتسلمه اعتمادات البرلمان لأول مرة (26). إن هذا القرض عزز اتفاقية غير مسطورة: فالتجار يتركون لملاك الأرض حكم إنجلترا، على توجه الأرستقراطية الحاكمة سياسة البلاد الخارجية نحو المصالح التجارية، وتحرر التجار أكثر فأكثر من النظم الرسمية.
وثمة عناصر مخزية غير كريمة كانت في "الثورة الجلية (27) ". فيما يبدو أنه مدعاة للأسف أن تضطر إنجلترا إلى استدعاء جيش من هولنده ليصلح من أخطاء الإنجليز أنفسهم، وأن تساعد الابنة على خلع أبيها عن عرشه، وأن ينحاز قائد جيشه إلى الغزاة، وأن تشارك الكنيسة الوطنية في الإطاحة بملك سبق لهذه الكنيسة أن بررت وقدست سلطته الإلهية المطلقة في وجه أية ثورة أو أي عصيان. كما كان مدعاة للأسف أن يكون تثبيت سيادة البرلمان على حساب مناهضة حرية العبادة. ولكن السيئات التي اقترفها هؤلاء الرجال والنساء طويت في الأحداث مع رفاتهم، أما حسنتاهم التي أدوها فقد بقيت بعدهم وآتت أكلها. أنهم حتى في إقامة الأوليجاركية وضعوا أسس ديموقراطية كان لا بد أن تنشأ مع توسيع القاعدة الانتخابية.(32/192)
وجعلوا من دار الرجل الإنجليزي قلعته، آمناً نسبياً من "عجرفة الحكم" و "أخطاء الظلم" وأسهموا إلى حد ما في هذا التوفيق الذي يدعوا إلى الإعجاب بين لنظام والحرية، وهذا هو قوام الحكومة الإنجليزية اليوم. إنهم فعلوا هذا كله دون إراقة قطرة من الدم، اللهم إلا ما نزف من أنف الملك المنزعج المنهوك الأخرق الذي تخلى عنه الجميع في ساعة العسرة.
3 - إنجلترا تحت حكم وليم الثالث
1689 - 1702
عين الملك لمجلسه الخاص: دانبي رئيساً، وهاليفاكس حاملاً للأختام الملكية، وإرل سروزبري وإرل نوتنجهام وزيرين، وإرل بروتلاند رئيساً للخاصة الملكسة، وجلبرت بيرنت أسقف سالسبوري.
وكان أبرز هذه الشخصيات وأكثرها نفوذاً هو جورج سافيل مركيز هاليفاكس. ولما كان ابن أخ لورد سترافورد الذي أعدمه البرلمان الطويل من قبل، فإنه-أي هاليفاكس-كان قد فقد جزءاً كبيراً من ممتلكاته في الثورة الكبرى، ولكنه كان قد أنقذ ما يكفيه لعيش رغيد في فرنسا أيام حكم كرومول. وهناك عثر على "مقالات" ومنتاني، وأصبح فيلسوفاً. وإذا كان المركيز قد ارتقى فيما بعد من السياسة إلى فن الحكم، فما ذاك إلا لأن الفرق بين السياسة وفن الحكم هو الفلسفة أي القدرة على رؤية اللحظة العابرة والجزء الصغير في ضوء الزمن الخالد، والكل الذي يضم كل الأجزاء، ولم يكن هاليفاكس ليرضى قط بأن يكون كله رجل أعمال وكتب يقول: "إن حكومة العالم (يعني حكم الشعوب) عمل عظيم، ولكنه شاق خشن جداً كذلك، إذا قورن برقة المعرفة التأملية (28) ". فقد كان على السياسة في بعض الأحيان أن تتعامل مع الجماهير وهو ما أزعج هاليفاكس. إن في الجمع الناس قسوة متراكمة، على الرغم من انه ليس بينهم فرد واحد بالذات رديء الطبع .... أن الغمغمة الغاضبة في حشد(32/193)
من الناس من العن وأسوأ الضوضاء في العالم" (29). ولقد عاش من قبل في ظل "الإرهاب البابوي" حين كانت الجماهير تقذف الرعب في المحاكم. ومذ رأى كثيراً من المذاهب الدينية المولعة بكسب الأنصار، وطرح معظم اللاهوت، إلى حد أنه، كما يقول بيرنت "تحول إلى ملحد جريء ثابت العزم، على الرغم من أنه كان غالباً ما يحتج لي بأنه ليس كذلك، وأنه قال أنه يعتقد أنه ليس في العالم رجل ملحد. واعترف بأنه لم يستسغ كل ما فرضه رجال الدين على العالم. وكان مسيحياً، امتثالاً، وآمن قدر طاقته" (30).
وعندما عاد إلى إنجلترا استرد ممتلكاته، وبلغ من الثراء حداً استطاع معه أن يكون أميناً. وخدم شارل الثاني حتى علم بأمر "معاهدة دوفر" السرية. ودافع عن حق جيمس في عرش إنجلترا، ولكن عارض في إلغاء "قانون الاختيار"، وتطلع إلى حكم بروتستانتي بعد فترة حكم كاثوليكي قصيرة. وحقق آماله حين لعب دوراً قيادياً في انتقال الحكم بطريقة سلمية من جيمس الثاني إلى وليم الثالث. والتزم هاليفاكس بما يعتقد هو نهأنه حق، وما كان لينحاز إلى أي حزب. وكتب في "أفكار وتأملات": "أن الجهل يقود معظم الناس إلى الانضمام إلى حزب ما، والخجل يحول بينهم وبين الخروج منه" (31). ولما هوجم بسبب خروجه على اتجاهات الحزب، دافع عن نفسه في كتيب مشهور "شخصية الحول القلب".
إن اللفظة البرئية (قلب حول) لا تعني أكثر من أنه إذا كانت مجموعة من الرجال في قارب. ومال منهم إلى جانب، فلا بد أن يميل الباقون بنفس القدر إلى الجانب الآخر، ويحدث أن يكون هناك رأي ثالث لأولئك الذين يرون أنه يكفي أن يكون القارب مستوياً أو معتدلاً (32).
وكان في بعض الأحيان عديم الضمير، فصيحاً دائماً، ذكياً بشكل خطير ولما اجتاح صائدو المناسب الذين ادعوا مساعدة الثورة، بلاط وليم الثالث ناصبوه العداء لأنه قال: "إن الإوز أنقذ روما، ولكني لا أذكر أن(32/194)
هذه الأوزات عينت في مناصب القناصل" (33) (1).
ولا بد أن هاليفاكس ابتسم ساخراً عندما حول "للمؤتمر" نفسه إلى برلمان، ثم عمد إلى ما حسبه أول ما تحتاج إليه الحكومة - ألا هو قسم جديد للولاء والطاعة لوليم الثالث، لا بوصفه رئيساً للدولة فحسب، بل للكنيسة الرسمية كذلك. إنها لإحدى مهازل التاريخ المضحكة، أن الكنيسة الأنجليكانية وهي التي ظلت لمدة قرن من الزمان تضطهد الكلفنيين (البرسبتريان، والبيوريتانز وغير من مخالفيها) تقبل الآن رئيساً لها كلفنياً هولندياً.
إن أربعمائة من رجال الدين الأنجليكانين المتمسكين بنظرية "حقوق الملوك الإلهية" ومن ثم ينازعون حق وليم في الحكم، رفضوا أن يؤدوا القسم الجديد. وعزل هؤلاء الرافضون من وظائفهم الكنسية، وشكلوا شعبة أخرى من المنشقين أو المخالفين. أما الذين أقسموا اليمين فإن كثيراً منهم فعلوا ما فعلوا مع "تحفظ عقلي" (35) ربما أضحك الجزويت الباقين في إنجلترا. ويرى بيرنت "أن مراوغة الكثيرين ومواربتهم في موضوع بمثل هذه القدسية أسهم إسهاماً غير قليل في تدعيم الإلحاد الآخذ في التفاقم (36) "وصعق الإنجليكانيون من ذوي المشارب والأمزجة المختلفة،
حين ألغى وليم - إذعاناً للشعور السائد بشكل طاغ في إسكتلندة - ألغي هناك النظام الأسقفي الذي كان آل ستيوارت قد أقاموه قسراً. وحزن كثير من الأنجليكانيين حين ألفوا وليم يجنح إلى التسامح الديني.
إن وليم الذي نشأ في أحضان الكلفنية الجبرية المؤمنة بالقضاء والقدر لم يطق تعاطفاً مع وجهة النظر الأنجليكانية التي تقضي بإقصاء البرسبتريانز عن الوظائف العامة أو مقاعد البرلمان. أنه شجع بالفعل التسامح في المقاطعات(32/195)
المتحدة، ولم يكن يسمح بأي تمييز ديني في صداقاته. إن الكلفنية الجبرية كانت قد أصبحت بالنسبة لوليم ثقة في النفس وكأنها عامل من عوامل القدر. وفي ظل هذه الثقة ينظر، دون ما تعصب، إلى الانشقاق الديني على أنه في حد ذاته أداة من أدوات تلك "القوة الخفية" أكثر منها شخصية التي سماها تارة "الحظ" وتارة "العناية الإلهية" وأخرى "الله" (37). ورأى في الخلافات الدينية في إنجلترا قوة تمزق الأمة أرباً إذا لم يحد التفاهم والمحبة من مثل هذه القوة.
وكانت خطوة بارعة من جانب المجلس المخصوص (أو مجلس الملك) أن يعهد بتقديم (قانون التسامح) الذي أعده، إلى البرلمان، إلى نوتنجهام الذي عرف بأنه ابن غيور بار للكنيسة الأنجليكانية. وأبطل دفاع نوتنجهام عن هذا القانون أمام البرلمان حجة المعارضين المتشددين وجردهم من سلاحهم وهكذا أقر المجلسان أول إنجازات العهد الجديد دون معارضة تذكر (24 مايو 1689). وسمح هذا القانون بحرية العبادة العلنية لكل الفرق التي سلمت بمبدأ التثليث وبأن الكتاب المقدس نزل به الوحي، والتي نبذت صراحة تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وسيادة البابا الدينية. وسمح لأنصار تجديد العماد بتأجيله إلى سن البلوغ. وبمقتضى "قانون تثبيت التسامح" الذي صدر في 1696 سمح للكويكرز باستبدال وعد قاطع بالقسم سالف الذكر. واستثنى التوحيديون والكاثوليك من التسامح. وقام وليم ومجلسه في مشروع "قانون التسامح الشامل" الذي قدم في أواخر 1689، بمحاولة للسماح بدخول كل طوائف المنشقين إلى الكنيسة الأنجليكانية، ولكن لم تتم الموافقة على هذه الخطوة. ولكن لم تتم الموافقة على هذه الخطوة. وظل المنشقون محرومين من الجامعات ومن مقاعد البرلمان ومن الوظائف العامة إلا إذا تلقوا الأسرار المقدسة وفقاً للطقوس الأنجليكانية، وجدد في 1697 العمل بقانون يقضي بعقوبة السجن على من يهاجم أية نظرية مسيحية أساسية. ولم يصدر بعد ذلك أي تشريع بالتوسع في الحرية الدينية في إنجلترا حتى 1778(32/196)
وعلى الرغم من ذلك كان التسامح هنا أكبر منه في أية دولة أوربية أخرى بعد 1685، باستثناء المقاطعات المتحدة. والواقع أن التسامح اتسعت دائرته في إنجلترا بازدياد قوة إنجلترا إلى الحد الذي تحررت معه من مخاوفها من أن تغزوها أية دولة كاثوليكية أو تعمل على تخريبها في الداخل.
إن الكاثوليك أنفسهم نعموا في عهد وليم بأمن متزايد. وأوضح الملك أنه ليس في مقدوره أن يحتفظ بالأحلاف مع الدول الكاثوليكية إذا هو صب العذاب والظلم على رؤوس الكاثوليك في إنجلترا (38). وظل القساوسة الكاثوليك لعشر سنوات يقيمون القداس في دور خاصة. وما كان أحد ليتحرش بهم لو تستروا في شيء من الحزم والحكمة، أمام الجمهور. وفي أخريات عهد وليم (1699)، حين كان للمحافظين (أنصار السلطة الملكية المطلقة) والمتشددين، الغلبة في البرلمان، شددت القوانين ضد الكاثوليك، فتعرض لعقوبة السجن مدى الحياة أي كاهن يدان بإقامة القداس أو أداء أية مهمة كهنوتية أخرى إلا في دار أحد السفراء. وتنفيذاً للقانون كانت ثمة مكافأة قدرها مائة جنية لمن يدبر الإدانة. ونص القانون على نفس العقوبة لأي كاثوليكي يقوم بالتعليم العام للصغار. وما كان يجوز للوالدين أن يرسلوا أولادهم إلى الخارج لتلقي العلم وفق المذهب الكاثوليكي. وما كان يجوز لأي فرد أن يشتري أو يرث أرضاً إلا بعد أداء القسم على أن الملك رئيس الكنيسة، وعلى أنه لا يؤمن بتحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وصودر من أجل الحكومة إرث أي فرد امتنع عن أداء القسم (39). وفي 1689 عفا وليم عن تيتس أوتس وأجرى عليه معاشاً.
وجلب الكاثوليك في إيرلندة على أنفسهم اضطهاداً مجدداً بتنظيمهم ثورة تهدف إلى إعادة جيمس الثاني إلى العرش. ذلك أن ريتشارد تالبوت جمع جيشاً قوامه 36 ألف رجل ودعا جيمس للقدوم من فرنسا ليتولى قيادته. وكان لويس الرابع عشر قد أسكن الملك المخلوع أحد قصوره في سان جرمان، وخصص له ستمائة ألف فرنك سنوياً، وجهز له الآن أسطولاً(32/197)
والى ميناء برست، وودعه بكلمات مشهورة: "أن أحسن ما أرجوه لك إلا يرى الواحد منا الآخر ثانية أبداً (40) ". وفي 12 مارس 1689 ألقى جيمس مراسيه في إيرلندة مع ألف ومائتي رجل، ورافقه تالبوت إلى دبلن، حيث دعا برلماناً أيرلندياً، وأعلن حرية العبادة لكل الرعايا المخلصين. واجتمع البرلمان في 7 مايو وألغى "قانون التسوية" الذي صدر في 1652، وأمر بإعادة الأراضي التي انتزعت من أصحابها منذ 1641 إلى ملاكها السابقين. وأرسل وليم قائده الهيجونوتي شومبرج إلى إيرلندة على رأس عشرة آلاف جندي. ورد لويس الرابع عشر على ذلك بإرسال سبعة آلاف من الفرنسيين المحنكين لمساعدة جيمس. وعبر وليم بنفسه إلى إيرلندة في يونيه في 1690. فلما التقى الجمعان في معركة بوين (أول يوليه) فر جيمس من الميدان مذعوراً، ولو أنه اشتهر بالبسالة يوماً، حين رأى قواته تنهزم. وسرعان ما عاد أدراجه إلى سان جرمان.
وربما ابتهج وليم بعقد الصلح وإقرار السلام مع الإيرلنديين على أساس الوضع الراهن. ولكن الزعماء والقوات البروتستانتية الذي كانوا تحت أمرته، طالبوا بالقضاء التام على العناصر الثورية، وبالاستيلاء على المزيد من أراضي إيرلندة. وعاد وليم إلى إنجلترا تاركاً جيشه تحت قيادة جودرت دي جنكل، إرل أتلون آنذاك، وكان شومبرج قد قضى نحبه في انتصاره في بوين. وأوصى الملك جنكل بإصدار عفو عام دون قيد أو شرط، وإطلاق حرية العبادة، وبالإعفاء من أداء القسم بعدم الاعتراف بسيادة البابا، وباسترداد الثوار لضياعهم شريطة أن يضعوا السلاح (41). وعلى أساس هذه الشروط ضمن جنكل استسلام جولواي وليمرك وبمقتضى معاهدة ليمر (3 أكتوبر 1691) وافق الثوار الإيرلنديون على التسوية التي عرضها وليم. وفي مارس 1692 صدر بيان ملكي يعلن انتهاء الحرب مع أيرلندة.
واستنكر البروتستانت في إيرلندة هذه المعاهدة على أنها استسلام(32/198)
ذليل للبابويين، ولجأوا إلى البرلمان الإنجليزي. ووضع هذا البرلمان على الفور (22 أكتوبر 1691) قانوناً يحرم من عضوية برلمان إيرلندة، كل من يمتنع عن أداء يمين السيادة وإعلان رفضه لفكرة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. ورفض البرلمان الإيرلندي الجديد، وكان بروتستانتياً تماماً، الاعتراف بمعاهدة ليمرك. وعلى حين كان وليم منهمكاً في تكتيل أوربا ضد لويس الرابع عشر، سن برلمان دبلن سلسلة جديدة من قوانين العقوبات ضد الكاثوليك في إيرلندة، تنقض صراحة الصلح الذي وقعه وليم وماري من قبل، ونصت هذه القوانين على عدم شرعية الدارس والكليات الكاثوليكية، وعلى أن القساوسة الكاثوليك معرضون للترحيل خارج البلاد، وعلى أنه ليس للكاثوليكي أن يحمل سلاحاً، أو يمتلك حصاناً تزيد قيمته على خمسة جنيهات، وعلى مصادر أملاك أية وريثة بروتستانتية تتزوج كاثوليكي (42). واستمرت مصادرة أراضي إيرلندة حتى "لم يعد هناك في الواقع أرض تصادر (43). وكاد يكون من المستحيل أن يكسب كاثوليكي إيرلندي قضية في محكمة إيرلندية، وقل أن صدرت عقوبة على من يقترف جريمة ضد الكاثوليك. واستكمالاً لخراب إيرلندة قضت قوانين برلمان إنجلترا قضاء تاماً على صناعة الصوف التي كانت قد نمت إلى حد منافسة صناعة الصوف في إنجلترا ذاتها، حيث حظرت هذه القوانين تصدير الصوف في إيرلندة إلى أي بلد آخر سوى إنجلترا، وخنقت حتى هذه التجارة نفسها بما وضع من تعريفات جمركية معوقة عمداً (1696). ومن ثم انتشر الفقر والتسول والمجاعة والتمرد على القانون في الجزيرة، خارج نطاق "البال" الإنجليزي (قسم في شرق إيرلندة حول مدينة دبلن). وفي الستين عاماً التي أعقبت الثورة الجليلة هاجر من إيرلندة نصف الكاثوليك الذي كان عددهم يقرب من المليون في 1688، أي أن أزكى الدماء وأطيب العناصر نزحت إلى البلاد الأجنبية.
وازدهرت آنذاك كل الطبقات الاقتصادية في إنجلترا فيما عدا طبقة(32/199)
الكادحين (البروليتاريا) وطبقة الفلاحين. وعانى عمال النسيج من المنافسة الأجنبية ومن الاختراع. وفي 1710 أضرب عمال الجوارب بسبب إدخال أنوال الجوارب واستخدام الغلمان لتشغيلها لقاء أجور منخفضة (44) على أن الإنتاج القومي كان آخذاً في الارتفاع. ويمكن أن نحكم على هذا الارتفاع من زيادة متوسط إيرادات الحكومة من 500 ألف جنيه في القرن السادس عشر إلى سبعة ملايين ونصف المليون من الجنيهات في القرن السابع عشر (45). وقد ترجع الزيادة إلى حد ما إلى التضخم، ولكنها نتجت أساساً من التوسع في الصناعة وفي التجارة الخارجية.
ومع هذا لم يكن الدخل كافياً، لأن وليم كان يجند الجيوش لمحاربة لويس الرابع عشر، فارتفعت الضرائب إلى حد لم يسبق له مثيل، بل اشتدت الحاجة إلى مزيد من المال. وفي يناير 1663 أحدث شارل مونتاجو - إرل هاليفاكس الأول - بوصفه وزير الخزانة تغييراً أساسياً في مالية الحكومة، بإقناع البرلمان بطرح قرض عام قدره 900 ألف جنيه، ووعدت الحكومة بدفع 7% فائدة سنوية عنه. وفي أخريات 1963، حين زادت النفقات عن الإيرادات، اتفق جماعة من أصحاب المصارف على إقراض الحكومة مبلغ مليون ومائتي ألف جنيه بفائدة قدرها 8% تحصل من رسم إضافي على السفن. وكان فكرة القروض المتحدة (الجماعية) هذه، قد اقترحها وليم باترسون قبل ذلك بثلاثة أعوام. وجاء الآن مونتاجو فعززها من الناحية الرسمية. وأقر البرلمان هذه الخطة. واتباعاً للسوابق التي جرى عليها العمل في جنوه والبندقية وهولندا، عمد المقرضون إلى تنظيم أنفسهم فيما يسمى "محافظو وشركة بنك إنجلترا" الذي صدرت براءة تأسيسه في 27 يوليه 1694. واقترضوا هم النقود من مصادر مختلفة بسعر 4. 5% وأقرضوها للحكومة بسعر 8%، وجنوا أرباحاً إضافية عن طريق القيام بكل الأعمال المصرفية. وهكذا نشأ بنك إنجلترا، وقدم للحكومة قروضاً أخرى. وفي 1696 حصل من البرلمان على حق احتكار مثل هذه القروض.(32/200)
وبعد تقلبات كثيرة مر بها هذا البنك، أصبح العامل الرئيسي في استقرار الحكومة الإنجليزية المشهور منذ اعتلاء وليم وماري عرش إنجلترا حتى يومنا هذا. ومنذ 1694 أصدر البنك أوراقاً نقدية تضمنها الودائع، قابلة للدفع بالذهب، عند الطلب. وتداولها المتعاملون على أنها مال قانوني، فكانت أول عملة ورقية حقيقية غير زائفة في إنجلترا (46) (1).
واشتهر عهد مونتاجو في وزارة الخزانة بعمل ممتاز آخر، هو إصلاح العملة المعدنية. ذلك ان العملة الجيدة التي سكت في عهد شارل الثاني وجيمس الثاني اختزنت أو صهرت أو صدرت. أما العملة المشوهة أو التالفة منذ أيام اليزابيث وجيمس الأول، فقد طرحت للتداول والاستعمال، وفقدت في القوة الشرائية جزءاً لا يستهان به من قيمتها الاسمية. ودعا مونتاجو أصدقاءه جون لوك واستحق نيوتن وجون سومرز ليعدوا لإنجلترا عمله اكثر استقراراً فصمموا قطع نقد جديدة ذات حافة مسننة تتحدى التشويه. واستردوا العملة القديمة وسحبوها من التداول بقيمتها الاسمية، وتحملت الحكومة الخسارة الناجمة عن ذلك. وصار لإنجلترا نقد ثابت صحيح، كان مثار حسد أوربا، ومثالاً تحتذيه. وفي 1689 فتحت بورصة الأوراق المالية في لندن، وبدأت فترة مضاربة مالية، سرعان ما أنتجت "شركة البحر الجنوبي" (1711) وانفجار "فقاعتها" (1720). وفي 1688 أقام إدوارد لويد في أحد مقاهي لندن شركة للتأمين تعرف الآن بكل بساطة تبعث على الفخر بأسم (لويدز) وفي 1693 أصدر أدموند هاللي أول نشرة وفيات معروفة. وأكدت هذه التطورات المالية ووسعت دور المصالح القائمة على المال في شئون إنجلترا، وحددت بداية الأهمية المتزايدة
_________
(1) صدر أول عملة ورقية معروفة في القرن السابع الميلادي في الصين على عهد أسرة تاتج. ورأى ماركو بولو مثل هذه العملة في الصين 1275، وحاول عبثاً إدخال أسلوب التعامل هذا إلى إيطاليا. واستخدمت السويد أوراق العملة في 1656 ومستعمرة ماساشوست 1690.(32/201)
للرأسماليين - الذين يمدون برأس المال والذين يديرونه - في بريطانيا.
وفوق الاقتصاد الآخذ في التوسع احتدمت المعركة السياسية حول النزاع على السلطة بين المحافظين (التوري) مالكي الأرض وبين الأحرار (الهويج) جامعي الثروات، وبين الإنجليز والإسكتلنديين، وصحب هذا مؤامرات لقتل وليم، ومشروعات لإعادة جيمس إلى العرش. ولم يكن وليم مهتماً بالشئون الداخلية في إنجلترا، أنه غزاها أساساً، ليجمع بينها وبين هولندا (موطنه الأصلي) ودول أخرى، لتقف جميعاً في وجه لويس الرابع عشر، أو كما قال هاليفاكس من قبل: "أنه استولى على إنجلترا وهو الطريق إلى فرنسا (48) " ولما اكتشف الإنجليز أن هذا هو شغله الشاغل أو الشعور المستولي عليه فقد كل شعبيته ولم يعد ملكاً محبوباً. وقد يقسو دون مبالاة، كما حدث حين أمر باستئصال عشيرة مكدونالد في جلنكو لتأخرها في إعلان ولائها له (1692)، وكان "صموتاً فظاً غليظاً في المعاشرة" لأنه كان يتكلم الإنجليزية بصعوبة. ولم يعن كثيراً بالسيدات. وكان سلوكه على المائدة يدعو إلى الاشمئزاز، حتى أطلق عليه سيدات المجتمع في لندن "الدب الهولندي الوضيع (49) " وأحاط نفسه بحراس ورفاق هولنديين، ولم يخف رأيه في تفوق الهولنديين تفوقاً عظيماً على الإنجليز في المقدرة الاقتصادية والتفكير السياسي والأخلاقي وعلم أن كثيراً من النبلاء يفاوضون جيمس الثاني سراً. ووجد الفساد يستشري حوله إلى درجة تلوثه هو نفسه، واتجر في شراء أصوات أعضاء البرلمان. وكان الخير كل الخير فيما يمكن عمله لكبح جماح فرنسا الهائجة المتحفزة.
وحيث ترك وليم الشئون الداخلية لوزرائه، فقد بدأ عهد الوزراء الأقوياء (1695) و "الوزارات" المتضامنة في المسؤولية والعمل، والتي يسيطر عليها رجل واحد، هو في العادة وزير الخزانة. وفي 1697 جاء أعداؤه المحافظون (التوري) أثر انقلاب انتخابي، ومن ثم حدوا من سلطانه ونازعوه سياسته الخارجية، إلى حد أنه فكر في الاعتزال(32/202)
(1699). ولكنه حين رقد رقدته الأخيرة (8 مارس 1702) وقد أنهك الربو والسل جسمه، كان يمكن أن يتعزى عن هزائمه في الداخل حين يدرك كل الإدراك أنه هيأ لإنجلترا مشاركة أكيدة في "الحلف الأعظم" (1701) الذي استطاع بعد اثني عشر عاماً من الصراع، أن يخضع ويذل الملك البوربوني العظيم، وينقذ استقلال أوربا البروتستانتين، ويطلق يد إنجلترا في بسط نفوذها على العالم.
(1) أن قأقأة الأوز المقدس المنزعج في الكابيتول أيقظت الحامية الرومانية لتصد غارة ليلية قام بها الكلت في 390ق. م (34).
4 - إنجلترا في عهد الملكة آن
1702 - 1714
بعد وفاة الملكة ماري 1695 أصبحت أختها آن وريثة العرض. ومنذ نشأت آن وسط الخطر والشغب، أصبحت بنتاً مخلوعة الفؤاد، قويمة الخلق، بسيطة التفكير، قوية الشعور، تلتمس العزاء والسلوى والجرأة في صداقة خاصة متواضعة مع رفيقة صباها سارة جننجز الضاحكة الوفية الشكاكة الواثقة من نفسها المفعمة بالحياة والنشاط. وفي 1678 تزوجت سارة التي كانت تكبر آن بخمس سنين من جون تشرشل، وفي 1683 تزوجت آن من الأمير جورج الدنماركي. وحالف التوفيق الزيجتين كلتيهما. ولكنهما لم تمسا العلاقة الوثيقة بين المرأتين. وتخلت آن عن كل الشكليات والرسميات فأطلقت مازحة على سارة (التي كانت آنذاك وصيفة مخدعها) "مسز فريمان" وأصرت على ألا تناديها سارة "بالأميرة" بل "مسز مورلي" ولما تخلى الزوجان عن الملك جيمس وانحازا إلى وليم، كان أمام آن أن تختار بين أمرين أحلاهما مر: بين الوالد والزوج، ولكن حبها لزوجها ولصديقتها أوجب عليها السفر إلى نوتنجهام (28 نوفمبر 1688). وفي 19 ديسمبر عادت هي وسارة إلى لندن والى ملك أجنبي غريب عنهما.
لم تأخذ آن قط نفسها بحب وليم، ولشد ما أحست بالامتهان والأذى والألم، حين منح أحد أصدقائه ضيعة أبيها التي كان لها نصيب فيها. وكانت في 1691 تتطلع إلى عودة أبيها إلى عرشه. واشتبه وليم، بحق، في أن(32/203)
تشرشل (إرل مالبرو آنذاك) وزوجته سارة تحيكان له الدسائس مع الملك المخلوع. وأمرت الملكة ماري أختها آن بطرد سارة من بطانتها. ولكن الأميرة رفضت. وفي صباح اليوم التالي (يناير 1692) عزل مالبرو من مناصبه الرسمية، وأبعد هو وسارة عن الحاشية، وبدلاً من أن تفترق الأميرة عن صديقتها، تحدت الملك والملكة (وليم وماري) وغادرت قصر هويتهول لتعيش مع سارة في "سيون هاوس". وفي 4 مايو أودع مالبرو سجن لندن. وكثيراً ما كانت سارة تزوره هناك. وعرضت أن تنهي صداقتها للأميرة آن لتهدئ من غضب الملكة. ولهذا كتبت آن لسارة تقول:
"في آخر مرة كان هنا وورستر، أبلغته أنك عرضت علي عدة مرات أن تبتعدي عني ... وإني لأتوسل إليك، من أجل يسوع المسيح، ألا تعودي إلى مثل هذا الحديث ثانية. وأني لأؤكد لك أنك أن أقدمت على مثل هذه الجفوة القاسية، فأني لن أنعم بلحظة من الهدوء والراحة بعد ذلك. فإن فعلت دون موافقتي، (ولو قدر لي أن أوافق لما كان لي أن أرى وجه الله قط) فلسوف أعتزل الحياة، ولا أرى العالم بعد ذلك، وأعيش حيث ينساني البشر جميعاً (50) ".
ولما لم يقم أي دليل حاسم على اشتراك مالبرو في أية مؤامرة لإعادة جيمس إلى العرش، ولما كان وليم في أمّس الحاجة إلى قادة مهرة. فإنه أخلى سبيله وأعاده إلى سابق مكانته ونفوذه.
ولما أصبحت آن ملكة، وكانت آنذاك في سن الثامنة والثلاثين بدل وغير إيثارها الخلق الكريم والأمانة والإخلاص والعزلة، من طبيعة البلاط الإنجليزي، فلم يجد المولعون بالقصف والصخب واللهو والفجور إليه منفذاً. وآووا ساخطين ناقمين إلى المقاهي والمواخير. وحل رجل الأخلاق أديسون محل روشستر المستهتر الخليع. وكتب ستيل "البطل المسيحي". وكان لتجنب الملكة آن التردد على المسرح ولنموذج حياتها، بعض الأثر في تحسين أسلوب المسرح الإنجليزي. وعبرت الملكة عن ورعها(32/204)
ذ
وتقواها بأن حولت إلى فقراء رجال الدين في الكنيسة الرسمية نصيب العرض في "بشائر الثمار" والعشور الكنسية (1704)، ولا تزال الحكومة البريطانية تدفع "منحة الملكة آن" هذه. وأنجبت الملكة أطفالاً في كل عام بانتظام تقريباً، ولكنهم ماتوا في سن الطفولة عدا واحداً. ولم يبق على قيد الحياة بعدها منهم أحد. ولشد ما أظلمت حياتها وتحطم قلبها لكثرة ما شيعت من جنازات.
ولو كان في مقدور الملكة الآن أن تحدد هي السياسة القومية لعقدت الصلح مع فرنسا، واعترفت بما طالب به أخوها من أبيها المتوفى، أن يتربع على العرش تحت اسم جيمس الثالث. ولكن وليم الثالث بإرادته القوية كان قد أدخل إنجلترا في "الحلف الأعظم" كما أن الرجل الذي غلبت آراؤه ومشورته على كل ما عداها، والذي كانت قد رفعته فور اعتلائها العرش من إرل إلى دوق مالبرو، نقول أن هذا الرجل أغراها بأن تشقى في حكمها لمدة أكثر من عشر سنوات بحرب دامية باهظة التكاليف. وكانت لا تزال واقعة تحت تأثير صديقتها. وهي آنذاك دوقة والمشرفة على ملابس الملكة، وعلى أموالها الخاصة. وكانت سارة تتقاضى 5100 جنيه سنويا. واستغلت تأثيرها التي كاد يكون مغناطيسياً على الملكة، في زيادة ثراء زوجها، فعين مالبرو قائداً عاماً للقوات البرية. كما عين بناء على اقتراحه (صديقه سدني جودولفين وزيراً للخزانة لأنه كان أميناً بشكل شاذ، كما كان قديراً في الشئون المالية كما كان يمكن الاعتماد عليه في تحويل الأموال فوراً إلى قادة الجيش الذي كان جنودهم يبدون من الشجاعة بقدر ما يقبضون من نقود. وقد يشوقنا أن نسجل ان جودولفين مات فقيراً، بعد أن قضى نصف عمره يضطلع بشئون الخزانة، وذهب دوقة مالبرو العنيدة إلى أنه (خير من عاش من الرجال) (51) ومهما يكن من أمر فإنه قضى وقت فراغه في صراع الديكة وسباق الخيل والميسر، وهي رذائل معتدلة تعتبر مقاربة للفضيلة.
أن تجرد آن من الذكاء والفطنة سمح لوزرائها بالاستحواذ على قدر(32/205)
كبير من السلطة وحقوق المبادرة التي كان البرلمان قد تركها للتاج، ومن ثم نشبت المعارك السياسية (فيما عدا فترة حكم جورج الثالث) بين البرلمان والوزراء، لا بين البرلمان والملك. وفي 1704 دخل الوزارة شخصيات جديدة: روبرت هارلي وزيراً للدولة، وهنري سانت جون وزير للحرب. ومس كلا الرجلين تاريخ الأدب مساً خفيفاً: فأن هارلي كان يستخدم ديفو وسويفت، كما كان سانت - بوصفه فيكونت بولنجبروك فيما بعد - ذا تأثير على بوب وفولتير، كما أنه هو نفسه مؤلف أبحاث كانت يوماً مشهورة. "أبحاث في دراسة التاريخ" و "فكرة عن ملك محب لوطنه". وكان كلا الوزيرين يدمن الشراب، ولكن هذا لم يكن ميزة في إنجلترا في ذاك الزمان. وكلاهما تولى منصبه بعون من مالبرو، ولكنهما انقلبا ضده بتهمة إطالة أمد حرب الوراثة الإسبانية دون مبرر يدعو إلى ذلك.
ولد سانت جون (1678) في عهد شارل الثاني، وتوفى (1751) في أول سني "دائرة المعارف"، ومن هنا مثل تمثيلاً دقيقاً عبور أوربا من عودة الملكية إلى عصر الاستنارة في فرنسا، وتلقى أيام صباه تعليماً دينياً كثيراً، وأهدر قدراً كبيراً منه أيام كان رجلاً. وأنه ليروى لنا: "كنت أرغم حين كنت صبياً على قراءة تعليقات دكتور مانتون الذي كان يفخر بأنه ألقى 119 عظة عن المزمور رقم 119 (52) "وفي إيتون وأكسفورد سعى جون وأحرز قصب السبق في الذكاء والتكامل الخالي من الهموم، والانغماس في الملذات والإدمان على الشراب في لباقة. وكان يفاخر بأنه يتناول أكبر قدر من الخمر دون أن يثمل. وبأنه يخادن أبهظ العاهرات نفقة في المملكة (53). وفي لحظة أراد أن يكتفي فيها بواحدة تزوج من وريثة ثرية. ولكنها سرعان ما هجرته لخيانته. ولكنه استمر ينعم بضياعها، مع بعض فترات انقطاع يسيرة. ووجد في 1701 أن الانتخاب للبرلمان لا يكلف كثيراً، نسبياً. وهناك حظي في مجلس العموم بنفوذ عظيم نتيجة لوسامته وسرعة بديهته وبيانه المتدفق. ودخل الوزارة ولم يجاوز(32/206)
السادسة والعشرين من العمر.
وكان أبرز إنجازات هذه الوزارة هو توحيد برلمان إنجلترا وإسكتلندة، فإن البلدين على الرغم من خضوعهما لمليك واحد، كان لهما برلمانان منفصلان. واقتصاديات متعارضة ومذاهب دينية متنافرة، وشنت كل منهما الحرب على الأخرى، زد على ذلك أن التعريفة الجمركية التي أملاها الحقد والحسد بين البلدين عوقت تجارتهما. وفي 16 يناير 1707 وافق البرلمان الإسكتلندي، وفي 6 مارس صدقت الملكة، على بنود (الاتحاد) التي بمقتضاها أصبحت المملكتان - على حين احتفظت كل منهما بمذهبها الديني المستقل - "المملكة المتحدة" لبريطانيا العظمى، ولها برلمان بريطاني واحد، مع حرية مطلقة في الاتجار. على أن يختار 16 نبيلاً اسكتلندياً لمجلس اللوردات، وينتخب 45 عضواً في إسكتلندة لمجلس العموم، وينضم صليب سان جورج وصليب سانت أندرو في علم جديد واحد. "اتحاد جاك" ولم يرحب أهالي إسكتلندة بالاندماج، ولمدة نصف قرن من الزمان تفاقمت العداوات القديمة. ولكن ما جاءت 1750 حتى اعترف الجميع بأن الاتحاد كان خيراً وبركة. وتخلصت إسكتلندة من نفقات مزدوجة، وانطلقت طاقتها الفكرية لتبدع في النصف الثاني من القرن الثامن عشر باكورة نتاج مشرق من الأدب والفلسفة.
وعزل هارلي وسانت جون عن الوزارة أثر فوز الأحرار (الهويج) في أكتوبر 1707، ولكن استمر تأثير نفوذ هارلي على الملكة عن طريق ابنة عمه "مسز أبيجيل ماشام" وكانت دوقة مالبرو قدمت هذه السيدة إلى الملكة آن من قبل. فخفف هدوءها ولين عريكتها ورقة مزاجها عن الملكة التي أرهقت مسؤولياتها الجديدة أعصابها كما أزعجتها نظرات سارة وصوتها العنيف. ورحبت سارة لبعض الوقت يتحررها من مداومتها على البقاء في البلاط، ولكن سرعان ما فزعت حين اكتشفت تضاؤل نفوذها لدى الملكة: وكادت آن تكون بالطبيعة "محافظة - توري" تقية محبة للسلام، على حين كانت سارة "متحررة - هويج" ضعيفة الإيمان،(32/207)
تسخر صراحة من حقوق الملوك الإلهية على أنها تدجيل على الشعب وخداع له. وكم ألحت على الملكة في تأييد مشيئة مالبرو في شن الحرب على فرنسا حتى يتم القضاء عليها. وكشفت آن عن شيء جديد من قوة العقل والتفكير بعد أن تقلص ظل سارة. وعندما ثارت ثائرة سارة عليها بشكل وقح طردتها من الحاشية (1710)، وصرحت الملكة آنذاك بأنها تحررت من أسر طال أمده.
وفي نفس السنة عاد فوز "المحافظين" في الانتخابات، بهارلي وبولنجبروك إلى الحكم، وحل هارلي محل جودولفين في وزارة الخزانة، وتولى بولنجبروك وزارة الحربية، وأصبح جوناثان سويفت كاتب الكراسات والنشرات، البالغ الأثر، لهما. وعين هارلي إرل أكسفور (1711) وحظي سانت جون بلقب فيكونت بولنجبروك (1712). وابتهجت مومسات لندن حين سمعن بنبأ ترقية بولنجبرو، قائلات: "أنه يحصل على ثمانية آلاف جنيه في العام، وكلها لنا (1) "وقدمت الأغلبية "المحافظة" إلى المجلسين (1711) مشروعاً ينص على أنه يشترط للترشيح للبرلمان امتلاك أرض ذات دخل سنوي لا يقل عن 300 جنيه لممثلي المدن، وستمائة جنية لمندوبي الريف (54). لقد بلغت الأرستقراطية مالكة الأرض ذروتها آنذاك في إنجلترا.
واعتزمت الوزارة الجديدة - على حين رفض مالبرو - إنهاء الحرب بعقد صلح منفرد مع فرنسا. وفي 1711 قدم هارلي إلى مجلس العموم اتهاماً بالاختلاس ضد مالبرو. فتذرعوا بأن الدوق كان يجمع ثروة خاصة طائلة بوصفه القائد العام للقوات البريطانية، وعن طريق مهام أخرى يتولاها، وأنه بالإضافة إلى رواتبه السنوية التي تصل إلى نحو 60 ألف جنيه. كان يقبض ستة آلاف جنيه سنوياً من سير سولومون مديناً متعهد توريد
_________
(1) من رسالة مؤرخة 24 أبريل، لفولتير، وهو في الغالب كذوب.(32/208)
الخبز للجيش. وأنه اقتطع لنفسه خاصة 2. 5% من المبالغ التي كان يتسلمها من الحكومات الأجنبية لدفع رواتب القوات الأجنبية التي كانت تحت إمرته. ولم ترق عمارة قصر بلنهيم الضخم لأحد إلا لعين مهندسه. وكان مالبرو يشيد هذا القصر في وودستوك قرب أكسفورد. وكانت الملكة قد أمرت أن تتولى الحكومة الإنفاق على بنائه. وشرعوا في البناء 1705، ولم يتم في 1711 إلا نصفه الذي تكلف 134 ألف جنيه بالفعل (55)، وكان إتمامه يستلزم مبلغ 300 ألف جنيه دفعت الحكومة أربعة أخماسه (56).
ودفع مالبرو بأن المبلغ المتقطع (2. 5%) كان مسموحاً به بحكم العادة والعرف للقائد للصرف منه - دون تسجيل علني في الحسابات - على الخدمات السرية وأعمال التجسس التي أتت بأحسن النتائج. وأبرز ترخيصاً موقعاً من الملكة تجيز له الاقتطاع، كما أكد الحلفاء الأجانب أنهم أيضاً فوضوه في الاقتطاع، وزاد ناخب هانوفر على ذلك أن هذا المال استخدم بحكمة "وأدى إلى كسب معارك كثيرة (57) " أما عن المنحة التي كان مالبرو يتقاضاها من مديناً فإن دفاعه كان غير مقنع. وأدان المجلس بأغلبية 276 صوتاً ضد 175. وعزلته الملكة من جميع مناصبه (31 ديسمبر 1711)، فغادر إنجلترا إلى المنفى الذي اختاره لنفسه بنفسه، وعاش في هولندا أو ألمانيا حتى نهاية العهد. وعين الوزراء جيمس بتلر دوق أورمند الثاني ليتولى قيادة الجيوش البريطانية، وفوضوه في اقتطاع نفس النسبة من عقود توريد الخبز ومن الأموال الأجنبية، وهو ما أدانوا به مالبرو (58). ولكن الشعب البريطاني تقبل سقوط مالبرو على أنه خطوة على طريق السلام.
وتفجر النزاع من جديد بين حزبي المحافظين والأحرار حول موضوع الوراثة الإسبانية. ذلك أنه في 1701 حين مات آخر من بقي على قيد الحياة(32/209)
من أولاد الملكة آن، أقر البرلمان - رغبة منه في إحباط عودة أسرة ستيوارت إلى الملك مرة ثاني، قانوناً للتسوية ينتقل عرش إنجلترا بمقتضاه في حالة عدم وجود عقب لوليم الثالث والأميرة آن - إلى الأميرة صوفيا وورثتها من صلبها، وهم بروتستانت. وكانت صوفيا، زوجة ناخب هانوفر، بروتستانتية يقيناً، يجري في عروقها بعض الدم الملكي البريطاني لأنها من حفيدات جيمس الأول. وكانت آن قد قبلت هذا التدبير ضماناً للحفاظ على إنجلترا بروتستانتية. ولكن الآن وقد آذنت شمس حياتها بمغيب فإن عطفها على أخيها المحروم من حقه في العرش، نما واشتد، ولم تدع مجالاً للشك في أنها لابد أن تساند مطالبة جيمس الثالث بالعرش إذا هو ارتضى نبذ الكثلكة. وأعرب الأحرار "عن تأييدهم التام لوراثة آل هانوفر للعرش، على حين مال المحافظون إلى وجهة نظر الملكة. وفاوض بولنجبروك جيمس، ولكن الأمير أبى التخلي عن عقيدته الكاثوليكية. على أن بولنجبروك الذي لم تكن الديانات في نظره إلا أثواباً متباينة تكسو الموت جلالاً وشرفاً. حاول بكل الوسائل إلغاء "قانون التسوية" وإبقاء وراثة العرش لجيمس، وعاب على هارلي تباطأه الشديد في هذه المسألة، وبناء على اقتراح منه عزلت الملكة آن هارلي وهي كارهة. وبدا لمدة يومين اثنين أن بولنجبروك سيد الموقف.
ولكن في 29 يوليه انتاب الملكة مرض خطير نتيجة تأثرها وحزنها الشديد للخلافات بين وزرائها. وهنا تسلح البروتستانت في إنجلترا لمقاومة أية عودة لملكية آل ستيوارت، ونبذ المجلس المخصوص سياسة بولنجبروك، وأقنع الملكة المترددة بتعيين دوق شروزيري وزيراً للخزانة ورئيساً للحكومة. وفي أول أغسطس 1714 فارقت آن الحياة. وكانت صوفيا قد قضت نحبها قبل ذلك بشهرين، ولكن "قانون التسوية" ما زال قائماً. وأرسل المجلس إلى ابن صوفيا، ناخب هانوفر، يبلغه أنه أصبح الآن جورج الأول ملك إنجلترا.(32/210)
أن سني حكم وليم وماري وآن (1689 - 1714) كانت سنين حيوية بارزة في تاريخ إنجلترا. وعلى الرغم من الانحلال الخلقي والفساد السياسي والنزاع الداخلي، شهدت هذه السنوات انقلاباً أسرياً (تغييراً جذرياً في الأسرة المالكة)، وإقرار البروتستانتية نهائياً في إنجلترا، وانتقال سلطة الحكم من الملك إلى البرلمان بشكل لا رجعة فيه. كما شهدت نشوء الوزراء الأقوياء، وهذا بدوره أدى إلى الانتقاص من سلطان الملك. وشهدت لآخر مرة في 1707 اعتراض الملك على تشريع البرلمان، وخطت خطوة أوسع في إقرار التسامح الديني وحرية الصحافة. ووجدت بطريقة سلمية بين إنجلترا وإسكتلندة، في دولة أقوى، هي بريطانيا. وأحبطت محاولة أقوى ملوك العصر الحديث ليجعل من فرنسا الدكتاتور الآمر الناهي في أوربا، وبدلاً من ذلك جعلت إنجلترا سيدة البحار، ووسعت ممتلكات إنجلترا في أمريكا، مما كان له نتائج تاريخية بعيدة المدى وشهدت هذه السنوات أيضاً انتصارات العلم والفلسفة في إنجلترا في "مبادئ اسحق نيوتن"، وفي كتاب لوك "بحث في التفاهم الإنساني". أما سني حكم آن الوديعة، وهو حكم قصير لم يتجاوز اثني عشر عاماً، فقد كان عهد انبثاق في الآداب - ديفو، أديسون، ستيل، والفترة الأولى من حياة الاسكندر بوب - لم يكن له نظير في أي مكان في العالم في ذاك العصر.(32/211)
الفصل الحادي عشر
من دريدن إلى سويفت
1660 - 1714
1 - صحافة حرة
ترى ماذا حد برجل فرنسي أن يكتب في 1712 بزت "إنجلترا فرنسا في الإنتاج الأدبي كما وكيفما وأن مركز الحياة العقلية والفكرية .. انتقل أكثر فأكثر إلى الشمال حتى قام الإنجليز حوالي عام 1700 "بأكبر دور خلاق (1) " إن رجلاً إنجليزياً نعم بمآثر فرنسا يرد التحية فيقول: إن جزءاً من هذا الحافز جاء عن طريق آداب السلوك والعادات التي جلبها شار الثاني والمهاجرون العائدون، وأن جزءاً آخر نبع من ديكارت وباسكال وكورنيل وراسين وموليير وبوالو ومدموازي دي سكودري ومدام دي لافايت، ومن الفرنسيين المقيمين في إنجلترا مثل سانت أفرموند وجرامونت. وأنا لنرى التأثير الفرنسي في الملهيات الشهوانية الجنسية والمآسي البطولية التي ظهرت على المسرح في عودة الملكية، وفي الانتقال من غزارة النثر في عهد إليزابيث وتلافيف فترات ملتون إلى النثر المهذب المصقول المنطقي الذي دبجه دريدن وهو يكتب المقدسات وإلى الشعر الذي نظمه بوب: ومضى الآن قرن من الزمان (1670 - 1770) كان الأدب الإنجليزي فيه نثراً، حتى ولو كان موزوناً مقفى، ولكنه نثراً فخماً واضحاً ممتازاً من الطراز الأول.
ومهما يكن من أمر فأن الأثر الفرنسي كان مجرد استحثاث، ولكن جذور المسألة كانت في وسع إنجلترا نفسها: في عودة الملكية المقرونة بالبهجة والفرح والتحرر، وفي التوسع الاستعماري، وفي إثراء الفكر بفضل(32/212)
التجارة، وفي الانتصارات البحرية على الهولنديين، وفي قهرها (1713) لفرنسا التي كانت قد انتصرت على إسبانيا. ومن ثم انفتح الطريق إلى الإمبراطورية شمالاً، وكما أجرى لويس الرابع عشر الرواتب على المؤلفين بوصفها رضيخة أو رشوة تمنح للأنصار، فان الحكومة الإنجليزية، بطريقة شبيهة بهذه، كافأت الشعراء أو الثائرين المحبين لوطنهم أو المشايعين للحكومة - دريدن كونجريف، جاي، بربر، أديسون، سويفت - بالرواتب تخصص لهم، ويتناول الطعام على موائد الأرستقراطية، وبحصة على المبيعات من المطبوعات، أو بالوظائف ذوات الدخل الكبير والجهد اليسير في الإدارة، من ذلك أن أحدهم صار وزيراً، ونظرا فولتير في شيء من السد إلى هذه الوظائف السياسية (2). ورعى شارل الثاني العلم والجمال لا الأدب والفن. ولم يكترث وليم الثالث والملكة آن بالأدب. ولكن وزراءهم - حين وجدوا أن الكتاب نافعون في عصر الصحافة والنشرات والمقاهي والدعاية - أغدقوا المال على الأقلام التي يمكن أن تخدم التاج أو الحزب أو الحرب. وأصبح الكتاب سياسيين ثانويين، وبعضهم مثل برير Prior، صار من رجال السلك الدبلوماسي، وبعضهم مثل سويف وأديسون برع في التعيين في الوظائف وفي المحسوبية وفي التدخل في شئون السلطة. وأهدى المؤلفون أعمالهم إلى اللوردات وسيدات المجتمع، تقديراً كريماً لما ينتظر أن يحظوا به من خيرات وفضل وعطف ووصال، في عبارات إهداء ملؤها المديح والإطراء والتحيات والتمنيات، ممل جعل هؤلاء السيدات وأولئك اللوردات أسمى من أبوللو أو فينوس في جمال الجسم والقوام، ومن شكسبير وسافو في كمال العقل والذهن.
وساعدت الحرية الذهب على إطلاق العنا لفيضان المداد وجريان القلم وكانت قصيدة ملتون "أريوباجيتيكا" قد أخفقت في القضاء على "قانون الرقابة" التي تحكمت به الرقابة في الصحافة في عهد ملوك أسرتي التيودور وستيوارت، واستمر القانون نافذ المفعول في عهد كرومول غير المستقر،(32/213)
وبعده في عودة الملكية لآل ستيوارت، ولكن حين بدأت حكومة جيمس الثاني في إزعاج الأمة، شرع عدد أكبر فأكبر من كتاب الكراسات والنشرات يتحدون القانون ويدخلون السرور على قلوب الشعب. وعندما اعتلى وليم الثالث العرش، كان هو وأنصاره "الأحرار" مدينين بأكبر الفضل للصحافة إلى حد أنهم عارضوا تجديد قانون الرقابة، فانتهى العمل به 1694، ولم يجدد، وتدعمت حرية الصحافة تلقائياً. وربما ظل الوزراء الملكيون يعتقلون الكتاب بسبب هجماتهم العنيفة المتطرفة على الحكومة وظل "قانون التجديف" (1697) يفرض عقوبات صارمة على التشكك في أساسيات الدين المسيحي، ولكن إنجلترا نعمت منذ ذلك الوقت فصاعداً بحرية الأدب التي أسهمت، على الرغم من سوء استخدامها غالباً، إسهاماً كبيراً في نمو الفكر الإنجليزي.
وتضاعفت عدد الدوريات، وانتظم صدور الصحف الأسبوعية منذ 1622، وعطلها كرومول جميعاً ما عدا اثنتين، ورخص شار الثاني في صدور ثلاث منها تحت إشراف رسمي، أصبحت واحدة منها هي "أكسفورد" وفيما بعد لندن جازيث "الناطقة باسم الحكومة" وكانت تصدر نصف شهرية أو نصف أسبوعية منذ 1665. وفور إلغاء قانون الرقابة صدرت عدة صحف أسبوعية. وفي 1695 أسس المحافظون أول جريدة يومية إنجليزية "ساعي البريد Poat Boy" والتي لم تصدر إلا أربعة أيام فقط، حيث عاكسها "الأحرار" في الحال بصحيفة "البريد الطائر Flying Poat". وأخيراً في 1702 أصبحت The English Gourant هي الصحيفة اليومية المنتظمة في إنجلترا - فرخ صغير من الورق مطبوع على وجه واحد فقط، تقص الأنباء ولا تدون آراء، ومن هذه الهبات المتقطعة نشأت عمالقة الإعلان التي نراها اليوم بين أيدينا.
وأتى ديفو بمستوى جديد في صحيفة "ريفيو" (1704 - 1713) وكانت أسبوعية تقدم التعليقات كما تقدم الأنباء. وهي التي بدأت القصة(32/214)
المسلسلة وتبعه ستيل في "تاتلر" (1709 - 1711). وسما هو وأديسون بهذا التطور إلى ذروته التاريخية في "سبكتاتور" (1711 - 1712) وروع حكومة المحافظين التوزيع الإجمالي التوزيع الإجمالي وتأثير الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية، ففرضت عليها ضريبة تمغة تتراوح بين نصف بنس وبنس واحد. مما جعل البقاء مستحيلاً بالنسبة لمعظم الدوريات. وكانت "سبكتاتور" إحدى الدوريات التي احتجبت. وقال سويفت لبطلته وصديقته ستللا: "لقد دمروا شارع Grub بأسره (3) (الشارع الذي يقطنه محررو الصحف). وأصدر بولنجبروك في 1710 "أجزامنر Examiner" الأسبوعية ليدافع بها عن سياسة وزارة المحافظين. ووجد في جوناثان سويفت رجلاً واسع الاطلاع لاذع القدح والطعن، متوقد الذكاء. لقد وقع المال على أداة جديدة، وطغى سلطان الصحافة الدورية شيئاً فشيئاً على تأثير المنابر في تشكيل الرأي العام، وإعداده للأهداف الخاصة، ودخلت التاريخ قوة جديدة تنزع عن الناس الصبغة الدينية وتنزع بهم إلى التعلق بالأمور الدنيوية.
2 - المسرحية في فترة عودة الملكية
فيما بين عامي 1660 و 1700 كان ثمة أداة أرى شكلت أو شوهت أو عبرت مجرد تعبير عن روح لندن المجردة من الحيوية والنشاط. وحيث استطاب شارل الثاني المسرحية الباريسية فإنه أجاز فتح مسرحين: الأول للملك وجماعته في "دروري لين" والثاني لدوق يورك وجماعته في "لنكولن ان فيلدز" وفي 1705 افتتح مسرح الملكة في هابماركت، ولكنها نادراً ما شهدت التمثيل فيه. وفي أيام شار الثاني كان مسرحان اثنان يفيان بالحاجة عادة. وظل البيوريتانيون يقاطعون المسرحية، أما الجمهور بصفة عامة على أية حال، فلم يكن يرخص له بدخول المسارح بين 1660 و 1700 (4) ولم يقصد إليها في معظم الأحوال إلا كل عربيد ماجن من رجال الحاشية، وحثالة الطبقة الأرستقراطية والمتصلين بها، والأثرياء المتعطلين الذين(32/215)
يقضون أوقاتهم في المسارح والنوادي وسباق الخيل وغيرها. ويقول دكتور جونسون الوقور: "أن المحامي الوقور ليحط من قدره ويمتهن كرامته، وأن المحامي الناشئ ليسيء إلى سمعته، إذا غشى بيوت الإباحية المنحلة هذه (5) "وشكل النساء قسماً صغيراً من النظارة على أنهن إذا ذهبن إلى المسرح كن يخفين شخصياتهم وراء الأقنعة (6). وكانت العروض تبدأ في الساعة الثالثة بعد الظهر، حتى إذا تحسنت الإضاءة في الشوارع (حوالي 1690) أجلت إلى السادسة. وكان أجر الدخول أربعة شلنات للمقصورات وللمقاعد الخلفية شلنين ونصف وللشرفات شلناً واحداً. وكانت أجهزة التأثير المسرحي وتغيير المناظر أكثر إتقاناً بكثير عما كانت عليه في أيام إليزابيث. ولو أن حجرة نوم واحدة وملحقاتها ربما كانت تكفي لمعظم ملهيات عصر عودة الملكية، وحلت الممثلات محل الغلمان في تأدية أدوار النساء، وكن كذلك عشيقات، من ذلك أن مرجريت هيوز التي مثلت ديدمونا لأول مرة ظهرت فيها امرأة على المسرح الإنجليزي (8 ديسمبر 1660) كانت عشيقة الأمير روبرت (7). وفي عرض لمسرحية دريدن "الحب الإستبدادي" تعلق قلب شار الثاني لأول مرة بخليلته نل جوين التي كانت تمثل دور فاليريا (8). إن طبيعة جمهور المشاهدين، ورد الفعل ضد البيوريتارية، وأخلاق البلاط، وذكريات روايات عصري اليزابيث وجيمس الأول (وبخاصة روايات بن جونسون) وأحياء هذه الروايات واستعادة تلك الذكريات من جديد، وتأثير المسرح الفرنسي والملكيين المهاجرين، كانت كلها عوامل تجمعت لتشكل المسرحية أيام عودة الملكية.
وكان الأسم اللامع في "مسرحية المأساة" في عودة الملكية هو دريدن لنتركه مؤقتاً، لنتحدث عن مسرحية توماس أوتواي "الحفاظ على فينيسيا" التي عمرت بعد كل روايات دريدن وظلت تمثل حتى 1904. إنها قصة حب مطعمة بمؤامرة أصدقاء كونت دي أوزونا لقلب سناتو فينيسا في 1616. ويرجع ما صادفته من نجاح في البداية من ناحية، إلى الصورة الساخرة التي(32/216)
رسمتها لإرل شافتسبري الأول (عدو شارل الثاني وصديق لوك) في شخصية أنطونيو الذي يحب أن تضربه عشيقته البغي، ومن ناحية أخرى إلى التشابه بين هذه المؤامرة وبين المؤامرة البابوية "الحديثة" ومن ناحية ثالثة إلى تمثيل توماس بترتون ومسز اليزابيث باري، ولكن الرواية تقف اليوم على قدميها إن مناظرها الهزلية سخيفة مؤذية، خاتمتها تنشر الموت في إجماع أقرب شبهاً بالمسرحية الموسيقية (الأوبرا)، ولكن حبكة الرواية متقنة دقيقة، وشخوصها مصورة تصويراً مميزاً، والحركة مسرحية إلى أبعد حد، والشعر المرسل فيها ينافس مثيله في المسرحية في عصر اليزابيث، باستثناء مارلو وشكسبير. ووقع أوتواي في غرام مسز باري، ولكنها آثرت عليه معاشرة إرل روشستير، وبعد كتابه عدة مسرحيات أخرى ناجحة أخرج الشعر سلسلة من الروايات لم يكتب لها النجاح، وانحدر إلى مهاوي الفقر والعوز وفي رواية أنه مات جوعاً (9).
إن ذكرى المسرحية في فترة عودة الملكية حية من أجل ملهياتها فإن ما كان في هذه الملهيات من مرح وسخرية، ومحاورات داعرة، ومغامرات في المخدع، بالإضافة إلى قيمتها في أنها مرآة تعكس حياة طبقة واحدة في جيل واحد. كل أولئك أكسبها شعبية جزئية، إن لم تكن مختلسة لا تكاد تستحقها. فإن مجالها ضيق إذا قيست بملهيات عصر اليزابيث أو موليير، وأنها لا تصور الحياة بل تصف عادات المتعطلين المتسكعين في المدن والحاشية الخليعة المتهتكة، وتتجاهل الريف إلا إذا أخذوه هدفاً للاستهزاء والسخرية، أو "سيبيريا" ينفى إليها الأزواج زوجاتهم المتطفلات. إن بعض المسرحيين الإنجليز شاهدوا موليير يمثل أو تمثل رواياته، واستعار بعضهم شخوصه أو حبكات مسرحياته، ولكن أحداً منهم لم يبلغ نزعته في مناقشة الأفكار الأساسية، فالفكرة الأساسية الوحيدة في هذه الملهيات هي أن الزنى هو الهدف الرئيسي لأعظم عمل بطولي في الحياة. وكان المثل الأعلى للرجل فيها هو ما وصفه دريدن في "المنجم الهزاة" على أنه "سيد ماجد، رجل ثري(32/217)
عاطل يغشى النوادي والمقاهي والمسارح والمواخير، يرتدي أفخر الثياب، يأكل ويشرب ويفسق ويعاشر البغايا إلى أقصى حد ممكن". وفي رواية فاركو "خداع العاشقين" جاء على لسان أحد الشخصيات، وكأنما يقول سيد مهذب لآخر: "إني أحب جواداً جميلاً ولكني أتركه لرجل آخر ليتولى العناية بأمره، وإني كذلك بالمثل أحب سيدة جميلة" (10) وهذا لا يعني أنه لا يشتهي زوجة جارة ولا يمد عينيه إليها، بل أنه يريد أن يستمتع بكل مفاتنها وأطايبها، على حين ترك لزوجها أن يرعى شئونها وينفق عليها. وفي رواية كونجريف "طريق الحياة الدنيا" يقول ميرابل المعشوق موضع الإعجاب لزوجة صديقه "يجب أن تشعري بالاشمئزاز والنفور والكراهية لزوجك مما يجعلك تستمتعين بحبيبك أو عشيقك (11) ". ويندر أن ترى الحب في هذه الروايات يرتفع فوق الشهوة الجسدية التي تلتهف بين جوانح الطرفين، يريدان إطفاءها. وإنا لنتلهف عند قراءتها أن تقع العين على ظل لمعاني النبل والشرف، ولكنا لا نرى فيها ألا أخلاقيات المواخير وبيوت الدعارة.
إن وليم وتشرلي هو الذي استهل هذا التقليد، وكان أبوه ملكياً من أسرة عريقة تملك ضيعة كبيرة، وأرسل ولده إلى فرنسا لتلقي العلم، عندما تولى البيوريتانيون مقاليد الحكم في إنجلترا، إصراراً منه على ألا ينشأ الولد بيوريتانياً. ولم يعتنق وليم قط هذا المذهب، ولكن الأسرة صعقت حين اصبح كاثوليكياً. وسرعان ما عاد إلى البروتستانتية لدى عودته إلى إنجلترا، وهناك درس في أكسفورد وتركها دون الحصول على درجة جامعية. وانصرف إلى كتابة الروايات. وجمع ثروة من رواية "حب في الغابة" (1671) التي أهداها إلى ليدي كاسلمين. واستقبله في البلاط الملك الودود اللطيف الذي لم يشك ولم يتذمر حين وجد آن وتشرلي وتشرشل كليهما، يشاركانه غرام عشيقته كاسلمين (12).
واشترك وليم في الحرب الهولندية 1762، ببسالة متوقعة من سيد(32/218)
ماجد، وعاد إلى إنجلترا ولم يمسسه سوء، وأحرز نجاحاً آخر في "الزوجة الريفية" (1672). ودعا النظارة في المقدمة - إذا لم تعجبهم الرواية - إلى دخول غرفة ملابس الممثلين في ختامها، وهناك:
"فإننا عن طيب خاطر .. نتخلى لكم يا شعراءنا، عن العذارى، لا بل عن عشيقاتنا كذلك".
وخلاصة الموضوع أن مستر بنشويف اصطحب زوجته معه لقضاء أسبوع في لندن، وأحكم حراستها إلى حد أنها أوقعت في شرك الغواية تحت سمعه وبصره، ذلك أن من يدعى مستر هورنر - العائد من فرنسا لتوه، والمتلهف على الوصول إلى الزوجات دون عائق - أذاع بين الناس أنه خصي، ومن هنا يستنتج بنشويف أنه لا حرج في أن يفتح بيته لمثل هذا العنين العاجز، ولكنه سرعان ما يكتشف أن زوجته تكتب رسالة غرامية إلى هذا الزير المتودد إليها الذي أدعى العنة، فيرغمها على كتابة رسالة أخرى تكيل له فيها أقذع السباب والشتائم، وما أن أدار الزوج ظهره حتى أسرعت هي فوضعت رسالتها الغرامية الأولى مكان الرسالة الثانية التي تنم عن الغضب والاستياء. وسلم الزوج المزهو المفاخر بالسيطرة على الموقف الرسالة الأصلية إلى هورنر. وبعد فترة اتجه ظن الزوج إلى أن هورنر اقدر مما تردده عنه الشائعات، ففكر في أن يشغله، ووافق على أن يأخذ إليه أخته أليثيا. وتتنكر الزوجة حتى تبدو وكأنها أليثيا، ويحملها زوجها إلى عشيقها. وتختتم الرواية "برقصة الديوث"، وهورنر هو المنتصر في النهاية، ثم تلقى إحدى الممثلات إحدى الممثلات شعراً توجه فيه اللوم والتقريع إلى الرجال الحاضرين، لأنهم لا يتحلون بقدر كاف من الرجولة.
"وقد يظل الناس على اعتقادهم بأنكم ممتلئون قوة ورجولة، ولكنا نحن النساء لا سبيل إلى خداعنا".
واقتبس وتشرلي كثيراً من "الزوجة الريفية" من رواية موليير "مدرسة الأزواج ومدرسة الزوجات" وفي روايته التالية "التاجر(32/219)
الشريف" حول وتشرلي شخصية "ألست" في رواية موليير "مبغض البشر" إلى شخصية كابتن مانلي الذي لم تتعد فكرته عن التعامل الشريف، مجرد تناول كل الناس والأشياء بلغة بذيئة مقذعة. والغريب المدهش الأمر أن سكان لندن، بل حتى سكان بعض الضواحي، أحبوا وصف الحياة على أنها سعى متصل وراء شهوة الجسد، يلطف منه بعض التجديف في الحديث. وفي إحدى المكتبات في "تنبريدج ولز" سمع وتشرلي إحدى السيدات تسأل عن كتابه المنشور حديثاً "التاجر الشريف" فغمرته نشوة الفرح، ولم تكن هذه إلا كونتس دور جيدا، الأرملة الثرية فطلب يدها وتزوجها. ووجد أنها كانت تضعه تحت مراقبة أشد وأكثر مثابرة مما كان يفعل بنشويف، ولكنها ماتت فجأة فظن أن أموالها لا بد أن تؤول الآن إليه، ولكن القضايا القانونية التي تشابكت فيها التركة حالت دون ذلك، فلم يستفد منها شيئاً. وعجز عن تسديد الديون التي كان قد اقترضها ثقة منه بأيلولة التركة إليه، فأرسل إلى السجن حيث قضى سبع سنين وهنت فيها عزيمته وذبل نشاطه، حتى جاء جيمس الثاني، وسدد - قبل إرتداد وتشرلي إلى الكاثوليكية ثانية أو بعده - ديونه وأجرى عليه راتباً. وبلغ وتشرلي أرذل العمر في شقاء ومعاناة. وظل مع عجزه يلاحق النساء، ويكتب نظماً، حاول صديقه الشاب بوب أن يحوله إلى شعر. وفي سن الخامسة والسبعين تزوج الفاجر العجوز امرأة شابة، ولم يعمر بعد الزواج إلا عشرة أيام، ووافته المنية في أول يناير 1716.
وكان سيرجون فانبر وألطف من كتب عن الزنى والزناة. وكان "جون بول" (الرجل الإنجليزي النموذجي) يتجسد فيه تماماً، فهو خشن مرح طلق المحيا، يحب طعام إنجلترا وشرابها، ولو أن جده لوالده هو جلليس فان برو، وهو فلمنكي من مدينة غنت قدم إلى بريطانيا في عهد جيمس الأول. وكان جون يبشر بحسن المستقبل إلى حد أنه أرسل إلى باريس في سن التاسعة عشرة ليدرس الفن. فلما عاد في الحادية والعشرين التحق(32/220)
بالجيش، وقبض عليه في كاليه بتهمة أنه جاسوس بريطاني، وقضى مدة في الباستيل، وهناك كتب المسودة الأولى "للزوجة المغيظة" حتى إذا ما خرج من السجن عكف على كتابة الروايات. وفي ستة أسابيع - كما يروى لنا هو - فكر وتصور، ثم كتب ومثل رواية "النكسة" (1696)، بما فيها من هجا مرح للمتأنقين في لندن، مثل لوردفوبنجتون وملاك الأرض في الريف مثل سيرتنبلي كلمزي، ومس هويدن الشهوانية. وكان سيرتنبلي يضعها تحت الرقابة والحراسة منذ بلغت الحلم، وفرح وانتهج لبراءتها وطهرها. "يا للبنت المسكينة: أنها ستفزع وتنزعج في ليلة عرسها، لأنها، والحق أقول، لا تميز الرجل من المرأة إلا بلحيته وبنطلونه القصير" (14). ولكن مس هويدن نفسها على نحو آخر: "من حسن حظي، هناك عريس قادم، وإلا تزوجت الخباز، سأفعل ذلك. فما من أحد يستطيع أن يقرع الباب، ولكن حالياً يجب علي أن أختبئ، وهنا يكن الكلبة السلوقية الصغيرة تحوم حول البيت طوال اليوم، أنها تستطيع ذلك". وعندما يأتي توم فاشون ليطلب يدها، ويمهله أبوها أسبوعاً، تحتج الفتاة وتقول "أسبوع: ولماذا؟ إني أكون عند ذاك امرأة عجوزاً" (15).
ونجحت مسرحية "النكسة" نجاحاً كبيراً إلى حد أن فانبرو تعجل إكمال "الزوجة المغيظة" (1697) وكانت هذه من أنجح أعمال ذاك العصر. وظل دافيد جارك طيلة نصف القرن التالي يتحف لندن ويمتعها بتمثيله المستهتر لشخصية سيرجون بروت، وهي أعظم شخصية مشهورة مذكورة بين كل شخوص المسرحيات في فترة عودة الملكية. وسيرجون هذا وسيم هزلي ساخر يمثل المظاهر الأقرب شبهاً بالخنزير في ملاك الأرض الإنجليز - يشرب الخمر، ويتباهى، ويهدد ويتوعد، ويستأسد، ويعلن ويشكو من "عصر الإلحاد اللعين هذا". ويفتح المسرحية برأيه في الزواج حيث يقول:(32/221)
"أي لحم متخم هو الحب، إذا كان متبلاً بالزواج، إن عامين قضيتهما متزوجاً قد أفسدا على حواسي الخمس. فكل شيء أراه، وكل شيء أسمعه، وكل شيء أحس به، وكل شيء أشمه، وكل شيء أتذوقه، أظن أن فيه زوجة. فما ضجر ولد بمؤدبه، ولا بنت ولا رجل بعمل الكفارة، ولا عذراء عجوز بطهرها وعفتها، قدر ضجري بزواجي وسأمي إياه.
ومذ عرفت زوجته آراءه، فإنها تفكر في ترويضه بأن تجعل منه ديوثاً.
ليدي بروث: إنه أساء معاملتي أبلغ إساءة مؤخراً. حتى كاد يستقر عزمي على أن ألعب دور الزوجة بكل ما في الكلمة من معنى، وأجعل منه ديوثاً وأخونه ..
بليندا: ولكنك تعلمين أنه ينبغي علينا أن نقابل الإساءة بالإحسان.
ليدي بروث: ربما كان هذا خطأ في الترجمة (16) ".
وهنا تأتي جارتها ليدي فانسيفل التي تميل إلى ما تميل إليه ليدي بروث، وتناقش شكوكها ومخاوفها مع وصيفتها الفرنسية التي تجيب بالفرنسية وهي هنا مترجمة:
ليدي ف: سمعتي ياآنسة: سمعتي.
الوصيفة: سيدتي، إذا فقد المرء سمعته يوماً، فلن تعود بعد ذلك تزعجه.
ليدي ف: تباً لك يا آنسة، تباً لك، أن السمعة جوهرة.
الوصيفة: وقيمتها غالية جداً يا سيدتي.
ليدي ف: لماذا إذن، يقيناً أنك لن تضحي بشرفك من أجل متعتك؟
الوصيفة: إني فيلسوفة.
ليدي ف: إنه لا يتفق مع الشرف (لقاء العاشقين).
الوصيفة: ولكنه المتعة ....
ليدي ف: ولكن إذا كان العقل يصلح من شأن الطبيعة.(32/222)
الوصيفة: عندئذ يكون العقل وقحاً، لان الطبيعة أخته الكبرى.
ليدي ف: إذن أنت تؤثرين طبيعتك على عقلك؟
الوصيفة: نعم، بكل تأكيد.
ليدي ف: ولماذا؟
الوصيفة: لأن طبيعتي تغمرني بالبهجة والسرور، أما عقلي فيورثني الجنون (17).
وربما كانت هذه الرواية هي التي أثارت غضب جرمي كوليير إلى حد أنه في العام الذي تلا ظهورها، نشر هجوماً عنيفاً على المسرحية في فترة عودة الملكية، وعلى فانبرو بصفة خاصة. وكان كوليير كاهناً إنجليكانياً على درجة من العلم، ومن الشجاعة والتشدد في عقيدته. وحيث كان قد أقسم يمين الولاء لجيمس الثاني 1685، فإنه أبى أن يقسم يمين الولاء لوليم وماري 1689. واستنكر "الثورة الجليلة"، حتى إلى حد التحريض على التمرد والعصيان. وقبض عليه، ووجد أصدقاؤه مشقة كبيرة في إقناعه بأن يسعوا لإطلاق سراحه بكفالتهم. ومنح الغفران المطلق لرجلين كانا على وشك أن يشنقا بتهمة التآمر على ما اعتبر كوليير أنها حكومة اغتصبت الحكم. فأنكر أسقفه عليه تصرفه وأدانه النائب العام، ولكنه رفض المثول أمام أية محكمة. وعاش طريد العدالة محروماً من الكنيسة حتى وافته المنية. ولكن الحكومة قدرت نزاهته، ولم تلاحقه بعد ذلك. وعبر وليم الثالث عن تقديره الكبير للعصفة التاريخية التي قام بها كوليير.
وكان الكتاب الذي نشره كوليير يحمل عنوان "لمحة قصيرة عن الانحلال والدنس في المسرح الإنجليزي". وكان يحوي، كما حوت معظم الكتب، هراءً كثيراً. واستنكر الراعي الغاضب في المسرحية الإنجليزية أخطاء كثيرة قد تبدو لنا الآن تافهة، أو أنها ليست أخطاء إطلاقاً، واعترض على أية إشارة غير كريمة لرجل الدين، ونشر في سخاء شديد، مظلة العصمة(32/223)
من الخطأ فوق زعماء الوثنية والكهنة الكاثوليك والقساوسة المنشقين. أدان كثيراً من كتاب المسرح، من أشبللس إلى شكسبير إلى كونجريف ودريدن، حتى ليشعر كل المتهمين ببراءتهم لمجرد حشرهم في زمرة هؤلاء العظماء. ولكن كوليير أضعف قضيته في مجادلته في أن للمسرح العام يجب إلا يتناول الجريمة أو الانحلال الخلقي مطلقاً. ولكنه وجه بعض ضربات ناجحة لأن الأهداف البراقة واجهته في كل مكان. فنعي على كثير من كتاب المسرح في فترة عودة الملكية ما أبدوا من إعجاب بالإسفاف في الزنى والفسق، وأثر ذلك على جمهور المشاهدين. وظل الكتاب حديث لندن طيلة عام كامل. ودافع الروائيون عن أنفسهم بأساليب متنوعة، وتحول فانبرو عن المسرحية إلى هندسة العمارة، وانهمك لأكثر من عشر سنوات في بناء قصر بلنهيم، شاد قصر هوارد على طراز عمارة بللاديو الروماني الجميل (1714). واعترف دريدن بخطاياه، وأظهر ندمه على ما فعل وأنكر كونجريف جريمته، ولكنه أصلح من فنه.
وبلغ وليم كونجريف بمسرحية عصر عودة الملكية ذروتها ونهايتها معاً. ولد بالقرب من ليدز في 1670، في أسرة كانت عراقتها موضع فخره واعتزازه وسط كل ما أحرز من فوز ونجاح. وكان والدة قائد حامية إنجليزية في أيرلندة، ولذلك درس وليم في مدرسة كلكني، وجلس على نفس المقعد الذي جلس عليه جوناثان سويفت، ثم في ترنتي كولدج في دبلن، ثم قي مدل تمبل في لندن. وسرى في دمه جرثومة الطموح الأدبي من بيئة كان في فيها الأذواق أنفسهم يؤلفون الكتب. وفي أول سنة كان يدرس فيها القانون كتب "المستخفية" (1692) التي امتدحها إدموند جروس "لمرحها ودعابتها الخفيفة" ولأنها أقدم قصة طويلة (عن العادات وآداب السلوك؟) في الإنجليزية (18) "، ولكن صمويل جونسون قال عنها "خير لي أن أمتدحها من أن أقرأها (19) "، وحظي كونجريف بالشهرة من(32/224)
قفزة بملهاته الأولى "الأعزب العجوز" 1693، التي أقسم دريدن - وهو عميد الأدب المعترف به في إنجلترا في هاتيك الأيام - بأنه لم ير قط خيرا منها، باكورة للعمل في مجال الرواية ومذ كان كونجريف غير واثق من أن الرجل الماجد ينبغي أن يكتب للمسرح، فأنه اعتذر بأنه إنما كتبها "لمجرد التسلية في فترة إبلال بطئ من علة ألمت به"، ومن هنا قال كوليير "ليس لي أن أتساءل ماذا كانت علته، ولكن لابد أنها كانت خطيرة جداً، وأسوأ من العلاج (20) ". أما هاليفاكس فإنه اتفق بالرأي مع دريدن، حتى أنه عين كونجريف في منصبين يدران عليه دخلاً كافياً يستطيع بفضله أن يحتفظ بمكانته، سيداً كريماً، وأن يعمل في عالم المسرح.
ولم تلق روايته الثانية "التاجر المخادع" (1694) ترحيباً كبيراً، ولكن إطراء دريدن، الذي وضع كونجرف مع شكسبير في مرتبة سواء، شد من أزر المؤلف الناشئ، وفي 1695، في سن الخامسة والعشرين، عاد إلى خشبة المسرح برواية "الحب للحب" التي فاق نجاحها كل ما عرف من نجاح. ولكن كوليير شجب الرواية واتهمها بأنها تؤيد الفسق والفجور وتشجعهما، وبلغ رد كونجريف عليه من التفاهة حداً انقطع معه عن المسرح طيلة ثلاثة أعوام، وعندما عاد إليه برواية "طريق الدنيا" (1700) كان قد أفاد من النقد القاسي، وأوضح أن الموهبة لا تعتمد على قلب الوصايا العشر رأساً على عقب. وكان في هذه الرواية التي قال عنها سوينبرن المغالي أنها "التحفة التي لا نظير لها والتي لا تدانيها رواية أخرى في روائع الملهاة الإنجليزية (21)، نقول كان فيها بعض أخطاء المسرحية في عصر عودة الملكية، ولكن ليس فيها شيء من رذائلها، وقد ترهقنا عند قراءتها بظرفها المازح الساخر، وتذكرنا بالتلاعب السخيف بالألفاظ في أعمال شكسبير الأولى، ولكن إذا مثلت (ونطق بها بترتون ومسز بريسجيردل كما حدث في أول عرض لها)، فلربما كانت أمتعتنا بما فيها من حيوية وتألق(32/225)
يقول وتوود "أعرف سيدة تحب الكلام بلا انقطاع، ولا تترك أثراً حسناً (22) " وحبكة الرواية بالغة التعقيد، وقد تتذمر من طول الوقت المطلوب لفهم شجارات ومشروعات الشخوص التافهة الطائشة، وحل العقدة لا يعدو أن يكون سخفاً لا حد له. ولكن في الرواية بعض تهذيب في اللغة وفي الدعابة، وتفكير لطيف (ولو أنه غير عميق أبداً)، مما يمكن أن يدخل السرور على الذهن غير المتعجل، وليس فيها سخرية لاذعة، كما هو الحال في مسرحيات فانبرو، بل فيها تهكم مهذب رقيق، تسرب من قصر فرساي إلى قصر هويتهول وإلى البلاط في فترة عودة الملكية. وفي الرواية خلق الشخصيات الروائية وتصوير لخصائصها. فالبطل، ميرابل شخص غير جذاب، ولكنه نابض بالحياة، صياد التركات والثروات. وجدير بالذكر أنه يسعى للزواج من ميللامانت، بدلاً من إغرائها. ولكن لديها ثروة تساوي أثنى عشر زانياً، وهي أجمل ما أبدع كونجريف، ماجنة عابئة تريد ألف عاشق، وتود الهيام بها لمدى الحياة، من أجل مفاتن أو جمال لن يدوم إلا لسنوات عشر، وترضى الزواج ولكن بشرط:
ميللامانت: ... لاشك ياميرابل أني سأبقى في الفراش في الصباح كيفما أشاء.
ميرابل: هل من شروط أخرى تفرضينها؟
ميللامانت: توافه: - أكون حرة في تناول طعامي متى أشاء، وأتناوله وحدي في حجرة ملابسي، إذا كنت معكرة المزاج، دون إبداء الأسباب. وألا يقتحم علي أحد خلوتي. وأن أجلس "إمبراطورة" وحدي إلى مائدة الشاي التي لا يجوز لك أن تفكر في الاقتراب منها قبل أن تستأذني أولاً وأخيراً حيثما كنت ينبغي عليك أن تطرق الباب قبل الدخول. تلك هي شروطي، حتى إذا استطعت أن احتملك لمدة أطول، فقد أتضاءل شيئاً فشيئاً حتى أصبح زوجة.
ميرابل: ألست حراً أن أعرض شروطي؟(32/226)
ميللامانت: هات أقصى ما عندك ...
ميرابل: أشترط عليك أن تستمري تحبين وجهك وتعجبين به طالما أحببته أنا أو أعجبت به، حتى إذا الفته أنا، فلا تحاولي قط تشكيله من جديد .. اشترط ثانيا، أنك إذا حملت.
ميللامانت: آه: لا تذكر شيئاً من هذا.
ميرابل: وهذا هو المفروض، وليبارك الله في محاولتنا.
ميللامانت: هذه محاولة كريهة قبيحة.
ميرابل: إني أعترض وأمنعك من ارتداء الملابس المحبوكة التي تشد جسمك لتحتفظي بقوامك حتى لا تشوهي ولدي ويخرج وكأن رأسه قمع سكر (23) ..
وهكذا، وتلك سفسطة سارة، وهجاء معقول، يمر بخفة وسرعة، في أمان، على مظاهر الحياة.
وضرب كونجريف نفسه مثلاً لمظاهر كثيرة، مؤثراً التركيب على المادة، والتنوع على الوحدة. ولم يتزوج قط|، ولكنه اختلف إلى سلسلة من العشيقات، ولم نسمع عن ذرية أشقته أو أسعدته. وكان رفيقاً لطيفاً في المقاهي والنوادي. وكان أكرم العائلات تستقبله ببالغ الترحيب. وكان أكولا، وكان يدهن قدميه ويعالجهما بانتظام من داء النقرس. وعندما زاره فولتير 1726 استنكر كونجريف إطراء الشاعر الفرنسي لرواياته، وأبدى عدم اكتراثه لها، على أنها توافه لا تستحق الذكر، وطلب إلى فولتير أن يعتبره مجرد رجل مهذب. عندئذ أجاب فولتير (طبقاً لروايته) "لو كان الأمر كذلك، وأنك مجرد رجل مهذب، لما جئت لأراك (24) ".
وفي 1728، في رحلة للاستشفاء بالمياه المعدنية في باث، انقلبت عربة كونجريف، وظل يعاني من بعض إصابات باطنية حتى وافته المنية في 19 يناير 1729. ودفن في كنيسة وستمنستر. وفي وصيته ترك مائتي جنيه لمسز بريسجيردل التي كانت تقاسي الفقر في شيخوختها، أما معظم الضيعة،(32/227)
أي نحو عشرة آلاف جنيه، فقد أوصى له لدوقة مالبرو الثانية البالغة الثراء، ومضيفته الأثيرة لديه، فحولت المال إلى عقد من اللآلئ. وكانت تضع على الدوام، في المكان الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه إلى مائدتها، تمثالاً من العاج والشمع تدهن قدميه وتعالجهما بانتظام من النقرس (25).
وقبل موت كونجريف بزمن طويل، كان المسرح الإنجليزي قد شرع يطهر نفسه، حيث أمر وليم الثالث مدير الملاهي والمسارح أن يمارس بشكل أشد صرامة، سلطته في رقابة الروايات أو منع عرضها. وعززت موجة من الاستياء في الرأي العام هذه الرقابة. وحرم قانون أصدرته الملكة آن ارتداء السيدات للأقنعة في المسرح، وقاطعت النساء اللائي حرمن هذا التستر، الروايات المجردة من الاحتشام والوقار على وجه اليقين (26).
واتفق سويفت مع الأساقفة على أن مسرح لندن وصمة في جبين الخلق الإنجليزي. وعرض ستيل روايته (العشاق الشاعرون بالإثم) (722) على أنها مسرحية أخلاقية. ونافس أديسون وقار المأساة الفرنسية وجلالها في مسرحيته "كاتو" (1713). وثمة علامة أقدم من هذا، على التغير الذي حدث في المسرح، ظهرت في أسلوب رد دريدن على كوليير، حيث أحس دريدن أن الكاهن غالباً ما حمل على كتاب المسرح دون وجه حق، وأنه "في كثير من المواضع ... فسر كلماتي بأنها تجديف وفجور، وهي بريئة من هذا كله"، ولكنه أضاف:
لن أتحدث كثيراً عن مستر كوليير لأنه اتهمني في أشياء كثيرة، وله في هذا كل الحق. واعترفت بذنبي في كل الأفكار والتعبيرات التي أوردتها والتي يمكن أن توصم بحق بالفحش والدنس أو مجافاة الأخلاق الكريمة، ولا بد من سحبها. فإذا كان يناصبني العداء، فقد كتب له الانتصار علي. أما إذا كان صديقاً، حيث أني لم أهيئ له فرصة خاصة ليكون غير ذلك، (لم أسيء إليه إساءة شخصية)، فإنه سيسر بأني ندمت (27).(32/228)
3 - جون دريدن
1631 - 1700
كان أبوه من صغار ملاك الأرض، يمتلك ضيعة متواضعة في نورثمبتونشير وأرسل إلى مدرسة وستمنستر التي علمه فيها، هو ورفيق دراسته جون لوك، الأستاذ الضليع ريتشارد بزبي Buzby كثيراً من اللاتينية والنظام والانضباط. وهناك حصل على منحة دراسية مكنته من الذهاب إلى ترنتي كولدج في كمبردج. وفي العام الذي حصل فيه على الدرجة الجامعية مات أبوه (1654) وورث جون، بصفته أكبر الأبناء البالغ عددهم أربعة عشر، الضيعة التي كانت تدر ستين جنيهاً في العام. وانتقل إلى لندن وحاول عن طريق الشعر أن يضيف شيئاً إلى دخله، احتيالاً على العيش. وفي 1659 نشر "مقطوعات شعرية بطولية" تخليداً لذكر كومول - وهو شعر تافه غير ذي قيمة بشكل ملحوظ من شاعر في التاسعة والعشرين من عمره. والحق أن دريدن نضج في بطئ، وكأنه رجل يتخطى في جهد جهيد مائة عقبة ليرقى مدارج الثراء في نجاح. وبعد ذلك بعام واحد هلل الشاعر لعودة الملكية في قصيدته "عودة النجم" التي قارن فيها نجمة شارل الثاني بنجمة بيت لحم، وما كاد أحد يتجرأ على اتهام دريدن بالتقلب، لأن كل الشعراء تقريباً - عدا ملتون - ولوا ظهورهم إلى البيوريتانية وولوها شطر الملكية مع تغيير بارع لأساليبهم.
ولكن دريدن كان أشد اهتماماً بالمسرح منه بمجرد نظم الشعر، حيث أثرى الكتاب المسرحيون على حين حالف البؤس والشقاء الشعراء الجدد. إن دريدن لم يكن به ميل إلى المسرحية، ولكنه كان يتطلع إلى الحصول على لقمة العيش بانتظام. وحاول كتابة الملهاة فأخرج "زير النساء الطائش" (1663) التي وصمها بيبز بأنها "أحقر شيء رأيته في حياتي تقريباً (28) ". وفي أول ديسمبر 1663 تزوج دريدن من ليدي اليزابيث هوارد ابنة إرل بيركشير، وأشرأبت الأعناق دهشاً من سيدة ذات مكانة وثراء تتزوج من(32/229)
شاعر، ولكنها كانت في سن الخامسة والعشرين، وفي خطر من فوات الأوان، كما كان أخوها سير روبرت هوارد المتلهف على التأليف والكتابة، قد ضمن تعاون دريدن معه في رواية "الملكية الهندية" التي أخرجاها 1664، في مشاهد بالغة البذخ، مع نجاح عظيم.
وحددت هذه المسرحية "المأساة" طوراً في تاريخ الأدب، حيث تخلت عن الشعر المرسل الذي كان سائداً في عصر اليزابيث، واستخدمت المقاطع المقفاة ذات البيتين اللذين يتكون كل منهما من خمس تفاعيل، أسلوباً منتظماً لها. وكان لورد أوريري قد تأثر بحلاوة واتساق القافية في المأساة، وأدخل هذا الأسلوب في رواياته. وعاد دريدن إلى الشعر المرسل بعد 1675، معترفاً بأن القافية تفضي إلى تعويق سيل الكلام والتفكير. ولو أنه لقى عناء أكثر في نظم الشعر لأصبح شاعراً أعظم مما كان.
وواصل نجاحه التعاوني بعمل مستقل، وهو "الإمبراطور الهندي" (1665)، وكان مونزوما بطل الرواية. وما كاد يجد لمسرحيته مكاناً على المسرح الإنجليزي حتى داهم الطاعون لندن فأغلقت المسارح أبوابها لمدة عام. ولما زال كابوس الطاعون والحريق احتفل دريدن بخروج إنجلترا من هذه المحنة المثلثة - الطاعون والحريق ثم الحرب - بقصيدة "سنة العجائب" (1666) وهي مكونة من 304 مقاطع رباعية الأبيات، تتأرجح بين الوصف الرائع (المقاطع 212 - 282) والتفاهة الصبيانية (مثل المقطع 29) ولما فتحت المسارح أبوابها من جديد في 1666 عجل دريدن بالعودة إلى المسرحية. ولم ينتج حتى 1681 غير الروايات. وتميل مأسياته إلى أن تكون كلاماً منمقاً رناناً طناناً، ولكنه بدت لأعين معاصريه أسمى منزلة من مأسيات شكسبير (29) - ولما انضم دريدن إلى دافنانت في إعادة صياغة "العاصفة" كانت النتيجة بإجماع المشتركين فيها أن الصياغة الجديدة تنطوي على تحسين كبير للأصل. وربما اتفقت معهم "شركة الملكية" في هذا الرأي لأنها كلفت دريدن بتزويدها بثلاث روايات في السنة مقابل(32/230)
حصة في الأرباح التي بلغت 350 جنيهاً في العام. أما ملهيات دريدن، على الرغم من أنها داعرة فاحشة مثل غيرها، فإنها لاقت نجاحاً أقل من نجاح مأسياته السبع والعشرين، لأنه هذه الأخيرة استطاع أن يثير اهتمام الرأي العام في الدنيا الجديد والهجميين البدائيين المدهشين فيها، وهكذا يقول المنصور في "فتح غرناطة".
"أنا حر طليق مثلما خلقت الطبيعة الإنسان لأول مرة، قبل أن يظهر قانون الاسترقاق الحقير، حين هام النبلاء المتوحشون على وجوههم في الغابات".
وربما كان نجاح هذه الرواية بالإضافة إلى ما تضمنته رواية "سنة العجائب" من مديح منمق لشارل الثاني، هو الذي كسب لدريدن منصبي مؤرخ الملك وشاعر التاج (1670). وبلغ دخله السنوي آنذاك ألف جنيه في المتوسط.
وفي خاتمة القسم الثاني من "فتح غرناطة" زعم دريدن تفوق مسرحية فترة عودة الملكية على المسرحية في عصر اليزابيث. وذهب منافسوه، على حين قدروا له هذه التحية والمجاملة، إلى القول بأن في هذا إطراء مغالياً لمسرحياته. ولم يشارك المفكرون في المدينة جمهور المسرح إعجابه وتذوقه للغة الطنانة الرنانة المسرفة في مأسيات دريدن، وأصدر دوق بكنجهام بالاشتراك مع آخرين في 1671 هجاء صرحاً تحت عنوان "التجربة" سخر كثيراً من المستحيلات والحماقات واللغة الطنانة المنمقة في المأسيات المعاصرة، وبخاصة ما كتبها دريدن. وأحس الشاعر بأنها لطمة له، ولكنه كظم غيظه لمدة عشرة أعوام. وبعدها شهر بالدوق بكنهجام أيما تشهير في شخصية "زمري" في أقوى أبيات رواية "أبشالوم وآخيتوفل".
وفي الوقت نفسه عملت دراسته لشكسبير على تحسين فنه. وفي أروع مأسياته (كله من أجل الحب) (1678) تحول عن راسين والقافية إلى(32/231)
شكسبير والشعر المرسل. وأفرغ كل جهده وبراعته في أن يبارى ما كان منه في عصر اليزابيث، بصفة عامة، وعرض في ثوب جديد قصة أنطونيو وكليوبترة التي فقدت الدنيا من أجل قصة غرام قصيرة. ولو أن الرواية القديمة لم توجد لحظيت رواية دريدن بثناء وإعجاب أكبر، ففي مواضع كثيرة منها ترتفع من الكلام الشديد البساطة إلى الشعور النبيل المكظوم، كما يتمثل في قدوم أوكتافيا إلى أنطونيو لتعرض عليه صفح أوغسطي عنه (30). ورواية دريدن محكمة في إيجاز، بقصد مراعاة الوحدات، ولكنه بتضييق الحدث في أزمة واحدة في مكان واحد ثلاثة أيام، اختزل الفكرة الرئيسية البطولية إلى قصة غرام، وضيع المشهد الكبير الذي رأى في "أنطونيو وكليوبترة" (لشكسبير) أن هذه القصة الغرامية ليست إلا جزءاً من الأحداث التي هزت عالم البحر المتوسط وشكلته.
واكثر الجوانب إمتاعاً وتشويقاً اليوم في مسرحيات دريدن هي المقدمات التي قدمها بها مطبوعة، والأبحاث التي شرح فيها وجهات نظره في الفن المسرحي. وكان كورني قد ضرب له المثل، ولكن دريدن جعل منه مجالاً لنثر رائع. وإنا إذ نمر مرور الكرام بهذه الأبحاث الموجزة وهذه الحوادث القوية، لنلمح أن عصر الخلق والإبداع في الأدب الإنجليزي كان يعبر إلى عصر النقد الذي قد يبلغ ذروته في بوب. ولكن إجلالنا لتفكير دريدن وعقيلته يزداد إذ نراه يسير في رشاقة ورفق غور أسلوب المسرحية ومعالجة تفاصيلها، وفن الشعر، ويقارن في مقدرة فائقة على التمييز والمقارنة، بين المسرحين الفرنسي والإنجليزي. وأنك لترى في هذه المقالات والبحوث أن الالتواء المثير في النثر في عصر اليزابيث، والجمل الطنانة المتراكمة عند ملتون، كل أولئك يفسح الطريق لأسلوب أبسط وأسلس واكثر تنظيماً ومنهجية، أسلوب خلا من التراكيب، اللاتينية، وزاده صقلاً التعرف على الأدب الفرنسي، لم يجار الأناقة الفرنسية كل المجاراة قط، ولكنه أخرج إلى القرن الثامن عشر - قرن النثر - نماذج(32/232)
من كلام يتميز بالصفاء والروعة والسلاسة وسحر البيان، وعدم التكلف والقوة. وهناك اتخذت المقالة الإنجليزية شكلها، وبدأ العصر الكلاسيكي (النموذجي الممتاز) للأدب الإنجليزي.
ولكن إذا كانت مقالات دريدن تبدو الآن أعلى مكانة من الروايات التي كانت سبباً في كتابة المقالات، فإنه في الهجاء ساد عصره وأرهبه. وربما وقع حادث أطلق لسانه اللاذع. ذلك أنه في 1769 وزع جون شفيلد إرل ملجريف نشرة مخطوطة بعنوان "مقال في الهجاء" لا تحمل اسم كاتبها، هاجمت إرل روشستر، ودوقة بورتسموث (لويزدي كيرووال) بلاط شارل الثاني بصفة عامة. واتجه الظن خطأ إلى أن كاتب المقال هو دريدن الذي كان آنذاك يحصل على معظم دخله من الملك. وفي ليلة 18 ديسمبر في "زقاق روز - كوفنت جاردن" هجم على دريدن نفر من السوقة وأوسعوه ضرباً بالهراوات، والمفروض أن روشستر استأجرهم لهذا الغرض، ولو أن هذا لم يثبت على سبيل اليقين. وكان دريدن رجلاً ودوداً كريماً مستعداً لمد يد المعونة وكيل المديح. ولكن نجاحه وغروره وإفراطه في التحدث عن نفسه وتوكيداته الخلافية، كل أولئك جلب عليه عداوات كثيرة. واحتمل دريدن لبعض الوقت حملاتهم عليه، دون رد علني منه، بل أن "كمين زقاق روز" لم يلق استجابة سريعة من قلمه. ولكن في 1681 جمع عديداً من أعدائه في مرجل واحد وسلقهم بالسنة حداد، في ألذع هجاء عرف في اللغة الإنجليزية.
وتلك هي السنة التي حاول فيها شافستبري أن يقوم بثورة ليخلف ابن شارل الثاني غير الشرعي أباه على العرش وعندما ظهر القسم الأول من قصيدة "أبشالوم وأخيتوفل" وكان شافتسبري على وشك أن يقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى. وانحاز هجاء دريدن إلى جانب الملك، وربما كان بإيعاز منه (31). وهزأ الشاعر من شافتسبري في شخص أخيتوفل الذي يحرض(32/233)
أبشالوم (وهو دوق مونموث) على الثورة ضد أبيه داود (شارل الثاني). ولما كان داود وشارل كلاهما قد أحبا عدداً من النساء، فأن القصيدة تبدأ ببحث في قيمة تعدد الزوجات:
"في عهد التقى والورع، قبل ظهور الكهنة وأساليبهم، وقبل أن يصموا تعدد الزوجات بأنه خطيئة، وحين تكاثر الإنسان بتعدد زوجاته وقبل أن يقتصر الواحد على واحدة بشكل بغيض. وحين استحثت الطبيعة - ولم يمنع أي قانون - على معاشرة الخليلات والزوجات دون تمييز، وحين عاش ملك بني إسرائيل، برضا السماء، على الزوجات والإماء من مختلف الأنحاء، في قوة وحيوية، ونشر صورة خالقه على أوسع نطاق على الأرض، بأمره".
ويبتهج داود بجمال ابنه أبشالوم. وكان مونموث، حتى قيام الثورة، قرة عين أبيه الملك السعيد (شارل الثاني)، أما بنو إسرائيل فهم الإنجليز (في القصيدة):
جنس عنيد متقلب متذمر، أرهق النعمة الإلهية إلى آخر مداها، شعب الله المدلل الذي انغمس في الملذات والشهوات، والذي لم يستطع أن يحكمه ملك أو يرضيه إله (32).
وأستروفل هو رئيس شياطين الخيانة، وتتحقق لندن لفورها أنه شافتسبري:
وكان على رأس هؤلاء جميعاً أخيتوفل الكاذب، وهو اسم ملعون كريه على مر العصور، أهل لكل التدابير الخفية والمشورات الملتوية، ذكي جرئ مضطرب الحواس، قلق، لا يثبت على مبدأ ولا يستقر في مكان غير راضٍ إذا تملك وتسلط، ضائق صدره إذا تجرد من سلطانه، يحمل بين جنبيه نفساً محمومة مضطرمة أنهكت وأبلت جسم القزم وهي تشق طريقها. ضاق بها جسده الهزيل. قائد جسور لأخطر الأعمال اليائسة، يطرب للأخطار(32/234)
حين ترتفع الأمواج. أن يلتمس الأعاصير والزوابع، لأنه لا يحب الهدوء يدني سفينته من الرمال بفطنته وذكائه. يقيناً أن ذوي المواهب العظيمة قريبون من الجنون ولا يفصله عنهم إلا حواجز رقيقة. وإلا لماذا - وهو ذو الثراء العريض والمناصب الرفيعة - يضن على شيخوخته بما تحتاج من راحة ودعة؟ .. لا يقيم على ود ولا يخلص في صداقة، عنيد حقود في عدائه وبغضه، مصمم على أن يدمر الدولة أو يحكمها هو (33).
ثم يجيء دور الانتقام من دوق بكنجهام و "التجربة":
ويقف على رأس هؤلاء (العصاة الثائرين) زمري، وهو رجل متعدد الجوانب، حتى انك لا تحسبه واحدا، بل صورة مصغرة لكل بني البشر، جامد الرأي، يجافي الصواب دائماً. كان يندفع في كل أعماله، ولكنه لا يثبت على حال. وخلال قمر منير واحد، كان الكيميائي والعازف، ورجل الدولة والمهرج. ثم ينصرف بكليته إلى النساء والتصوير، والشعر والشراب، فضلاً عن عشرة آلاف نزوة تموت في المهد .. وكان تبديد المال فناً خاصاً برع فيه. أغدق على كل الناس إلا من يستحقون المكافأة، أفقره الحمقى المهرجون الذين اكتشفهم بعد فوات الأوان. وحظي هو بالمرح، وحصلوا هم على ماله وضيعته (34).
ولم تر إنجلترا قط من قبل مثل هذا الهجاء اللاذع الذي لا يرحم، الذي يركز كل التشويه والتجريح في سطر واحد، ويترك جثة ممزقة مهشمة فوق كل صفحة. وبيعت القصيدة بالمئات خارج نفس المحكمة التي كان يحاكم فيها شافتسبري، مخاطراً بحياته. وقضت المحكمة ببراءته فصك أشياعه الأحرار (الهويج) "ميدالية" تمجيداً له. وانبرى عدد من الشعراء والكتاب يتزعمهم توماس شادويل لإصدار ردود ظافرة على الرجل الذي أيقنوا أنه باع عقله، ولسانه السليط وبيانه الكاوي إلى الملك. وعاود دريدن الكرة بهجاء آخر، "الميدالية" (مارس 1682) سلق فيه شادويل، بصفة خاصة، في قصيدة "ماكفلكنو" (أكتوبر). وهنا كان الذم(32/235)
والقدح أنكى وأمر، فانحط أحياناً إلى شتائم لفظية صريحة، لم تتميز، مثل الهجاء السابق، بمقاطع فاصلة تنشر السم في دقة دون إسراف أو إسفاف.
إنا لا نستسيع اليوم هذا اللون من "الذبح" الأدبي ولم نعد نتذوقه إلا قليلاً، وإنا لنرتاب بعد قرون من الجدل والمناقشة، في أن هناك بعض الصدق في كل عاطفة أو هوى، وأن في كل خصم أو عدو شيئاً محبباً. وما السياسة حتى في أيامنا هذه إلا حرب بوسائل أخرى، أكثر بكثير مما كانت حين كان عرش أسرة ستيوارت يترنح على حافة الثورة، وكان الظهور إلى جانب الفريق الخاسر المنهزم قد يعني الموت المحقق. وعلى أية حال، فإن دريدن بذلك الهمة، مما أكسبه امتنان الملك ودوق يورك، ولم ينازعه أحد آنذاك التربع على عرش مملكة الشعر. وكانوا يحجزون له - إذا قصد إلى "حانة ول Will" مقعداً إلى جانب المدفأة في الشتاء. وفي الشرفة صيفاً، وهناك رأى بيبر وسمع "أحاديث طريقة ذكية (35) " وصورة سير والتر سكوت، في خيال مبدع، وهو يدخل إلى هذه الحانة، "رجل عجوز بدين قليلاً، ذو شعر أشيب، يرتدي حلة سوداء بالغة الأناقة، محبوكة الأطراف وكأنها قفاز، تشرق في وجهه أرق ابتسامة رأيتها في حياتي (36) " وكان الإنحناء تحية لشاعر التاج والاستماع إلى رأيه في آخر مأساة أخرجها راسين ... يعتبر ميزة، كما كانت القبضة من علبة سعوطه شرفاً كفيلاً بأن يريك المتحمس الناشئ. وكان كل العطف بعينه بالنسبة لأصدقائه، ولكن ما كان أسرعه في كيل السباب لمنافسيه وخصومه (37) (وما كان لأحد أن يبزه في إطراء شعره). إن تملقه للملك وليدي كاسلمين ولكل أولئك الذي يجزلون له العطاء مقابل الإهداء إليهم، جاوز الحد المألوف من الاستسلام الذليل في مهنته في عصره (38). ومع ذلك فإن كونجريف بادله التشجيع بمثله حين وصفه بأنه "بالغ الإنسانية والرحمة، مستعد أن يغتفر الإساءة، أهل للتراضي بإخلاص مع من أساء إليه (39) ".(32/236)
والآن، وقد آذن جسمه بالضعف والانحلال، بدأ الشاعر يفكر في الدين بشكل أكثر انعطافاً وميلاً، مما كان عليه في سني القوة والفتوة والزهو والغرور. لقد اندفعت مسرحياته وقصائد هجائه اندفاعاً طارئاً بين هذا وذاك من مختلف المذاهب الدينية، أما الآن، وقد ربط الشاعر مصيره بالمحافظين (الملكيين - التوري)، فإنه تحول إلى الكنيسة الأنجليكانية بوصفها ركيزة للاستقرار في إنجلترا، مستنكراً عدوان العقل المتغطرس على هذا الحرم المقدس، ألا وهو الإيمان والعقيدة. وفي نوفمبر 1682 أدهش أصدقاؤه الدنيويين بنشره قصيدة "الدين والدنيا" دفاعاً عن الكنيسة الرسمية. وبدا له أن الكتاب المقدس المنزل، بل وكنيسة معصومة من الخطأ تفسره وتكمله، دعامتان لا غنى عنهما للمجتمع ولسلامة العقل. وكان على علم بالخلافات وبالجدل بين الربوبين، وكان رده عليهم أن شكوكهم إنما تعكر صفو النظام الاجتماعي المعقد الذي لا يمكن أن يدعمه إلا قانون أخلاقي تقره عقيدة دينية.
لأنه لا قيمة ولا فائدة في تعلم النقاط الغامضة، أما السلام العام فهو كل ما يهم العالم.
وتلك حجة كان يمكن أن تخدم قضية الكنيسة الكاثوليكية أيضاً، وتابعها دريدن إلى غايتها بتحوله إلى الكاثوليكية 1686. ولسنا ندري إذا كان لاعتلاء ملك كاثوليكي العرض في السنة السابقة، ولتلهف الشاعر على الاستمرار في الحصول على رواتبه - نقول لسنا إذا كان لهذا الأمر أو ذاك دخل في هذا التحول (40). على أن دريدن على أية حالـ، صب كل فنه - الشعري ليشرح وجهة النظر الكاثوليكية في قصيدة "الأيلة والنمرة" The Bind and the Panther (1667) وفيها "أيلة ناصعة البياض" تدافع عن المذهب الكاثوليكي، ضد نمرة "هي أجمل النوع المرقط" التي تمثل المذهب الإنجليكاني. وكانت صورة حيوانين من ذوات الأربع يناقشان موضوع الوجود الحقيقي في القربان المقدس مدعاة للسخرية (42) والتسخيف(32/237)
سرعان ما أثارهما ماتيو برير Prior ولورد هاليفاكس في محاكاة تهكمية تحت عنوان "الأيلة والنمرة تنقل إلى قصة فأرة القربة وفأرة المدينة" (1687).
وفي 1688 فر جيمس الثاني إلى فرنسا. ووجد دريدن أنه يعيش من جديد في ظل ملك بروتستانتي، فلزم مذهبه الجديد، وكان أولاده الثلاثة يعملون في روما تحت إمرة البابا. كما أن الردة إلى مذهب آخر أمر غير مقبول، فاحتمل في شجاعة وجلد فقدانه لمنصب شاعر التاج ولراتبه ولوظيفته "مؤرخ الملك"، على أن التاريخ، زاد من أحزانه، لأنه أضفى كل هذه المناسب والشرف على شادويل الذي توجه دريدن ملكاً على الهراء، وصوره نموذجاً للغباء. وعاد في شيخوخته يكسب بقلمه قوت يومه. فكتب مزيداً من الروايات، وترجم مختارات من تيو كريتس وهوارس وأوفيد وبرسيوس، وأخرج الأنياذة في شعر بطولي في أداء غير محكم، ولكنه سلس، ونقل بأوزانه الشعرية الخاصة بعض أساطير هوميروس وأوفيد وبوكاشيو، وتشوسر. وفي 1697 وهو في السابعة والستين نظم قصيدته المشهورة "وليمة الاسكندر Alexaders Feast، التي حظيت بأعظم الثناء والإطراء.
ووافته المنية في أول مايو 1700، وشهدت جنازته اضطراباً شديداً، وتنازعت الشيع المتنافسة جثمانه، وأخيراً ووري التراب إلى جانب تشوسر في كنيسة وستمنستر.
ومن الصعب أن تحب هذا الشاعر، فكل الظواهر تقول بأنه كان انتهازياً نفعياً متقلباً، امتدح كرومول في فترة الحماية، وكان المديح لشارل الثاني وخليلاته، وأثنى على البروتستانتية في عهد ملك بروتستانتي، وأطرى الكاثوليكية في ظل ملك كاثوليكي، وألتمس موارد كسب المال بكل الطرق، وجلب على نفسه عداوة كثير من الناس، مما لا بد معه أن يكون ثمة شيء يكرهه الناس فيه. وجارى كل منافسيه في إباحية رواياته وتحررها من كل القيود، وفي تورعه في شعره. وبلغت قوته في الهجاء مبلغاً يستدر العطف على ضحاياه، مثل العطف على الشهداء وهم يحترقون على الخازوق. ولكن(32/238)
لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره في المناسبات، وقلما حفظ الزمن شعراً نظم للمناسبات. ولكن هجاءه لا يزال حياً، لأن أحداً غيره لم يستطع أن يأتي بمثل هذا الهجاء الذي صور الشخصيات في ازدراء قارص وسخرية لاذعة. وطور المقطع الشعري ذا البيتين إلى درجة من الإيجاز المحكم والمرونة، سيطرت على الشعر الإنجليزي طيلة قرن من الزمان وكان أثره على النثر أقوى، حيث نقاه من التراكيب المزعجة والمصطلحات الغريبة، وضبطه على درجة ممتازة من الصفاء والسهولة. وكان معاصروه على حق حين كانوا يرهبونه أكثر مما يحبونه. ولكنهم أدركوا في فنه في صناعة الأدب والكتابة، وملكاً على عرش القوافي، فكان بن جونسون الروائي، ودكتور صمويل جونسون الكاتب، في وقت معاً، في عصره.
4 - في ثبت واحد
والآن نجمع في قائمة غير نابضة بالحياة بعض الشخصيات الأصغر شأناً الذي أمدوا هذه الفترة بالحياة وبالأدب، ولكنا لن نستطيع أن نمكث معهم طويلاً لنتتبع جرى حياتهم.
وأعظم قصيدة في الجانب الوثني من فترة عودة الملكية كانت ملحمة بيوريتانية، ولكن أشهره هي ملحمة هجاء ساخر ضد البيوريتارية: " هو دبراس" (1663 - 1678). ذلك أن الشاب الفاجر، صمويل بتلر، قضى عدة سنوات مضنية في خدمة سير صمويل لوك، وهو مشيخي (برسبتيربان) متحمس غيور، ضابط برتبة زعيم في جيش كرومول، كان مقره في "كوبل هو"، وهي قلعة بيوريتانية للسياسة والعبادة. وعندما عادت الملكية ثأر بتلر لنفسه بنشر هجاء مرح، يصور فيه كيف أن سير هو دبراس الفارس المغوار يقود سيده صاحب الأرض "رالفو" إلى حرب(32/239)
صليبية ضد الخطيئة والإثم. وتستطيع أن تحكم منذ بداية القصيدة عليها.
"حين اشتدت ثورة الغضب والحقد بين الناس لأول مرة وتشاجروا لأنهم لم يدركوا السبب، وحين أشعلت الكلمات النابية والأحقاد والمخاوف نار الحرب بين الجماعات وجعلتهم يقتتلون كالمجانين أو المخمورين، من أجل "السيدة: الديانة" وكأنما يقتتلون من أجل عاهرة فاجرة ... وحين أعلن نافخ البوق الإنجيلي يحيط به الرعاع ذوو الآذان الطويلة، النفير من أجل الحرب، ودقت طبول المنبر والكنيسة بجماع الأيدي بدلاً من العصي. عندئذ غادر السيد الفارس مسكنه وامتطى صهوة جواده متزعماً الركب ... وكان كثيرون من الناس يرون، أنه كما اشتكى مونتاني من أن قطته حسبته، وهو يداعبها، حماراً، فلابد أن القطة تحسب هو دبراس حماراً أو أكثر من حمار، وإنا لنسلم بأنه على الرغم مما أوتى من ذكاء شديد، فإنه يخجل من استخدامه، وكأنما يكره أن يستنفذه ويبليه، ولذلك لم يظهره أو لم يلبسه إلا في أيام العطلة أو ما يشابهها، كما يرتدي الناس أحسن ملابسهم ... وكان من الملائم، من أجل عقيده، أن يوفق بين علمه وذكائه، وكان مذهبه مشيخياً صادقاً متشدداً، لأنه كان من بين العصبة العنيدة من القديسين الضالين الذي يقر الناس جميعاً بأنهم المناضلون الصادقون عن الكنيسة المجاهدة التي يبنون عقيدتهم على الرمح والمدفع، ويحسمون كل الخلافات بمدفعية لا تخطئ المرمى، ويثبتون صحة نظريتهم بالضربات واللكمات الرسولية ... فرقة تتمثل أعظم تقواهم في كراهياتهم الحمقاء الضالة، الشاذة فرقة تحرص على الخطأ في يوم العطلة أكثر من حرص سائر الناس على الصواب، مجمعة على الخطايا التي فطرت عليها، تلعن أولئك الذي لا يفكرون فيها (43).
وهكذا مما آلم البيوريتانيين أيما إيلام وسر الملك كل السرور. ومنح شارل المؤلف جائزة قدرها ثلاثمائة جنيه. وامتدح كل الملكيين القصيدة فيما عدا بيبز الذي لم يستطع "أن يتبين موضع العبقرية فيها"، على الرغم من أنها تعتبر الآن من أحدث طراز من الهزل والسخرية (44)، وبادر بتلر(32/240)
إلى الاستزادة من الكتابة (1664 - 1678)، ولكن لم يعد في جعبته سهام، ولم تسعفه القوافي. وحل النزاع بين البروتستانت والكاثوليك محل النزاع بين الملكيين والبيوريتانيين. ونسي القوم بتلر، وقضى نحبه مغموراً معدماً (1680). وبعد أربعين عاماً أقيمت له لوحة تذكارية في كنيسة وستمنستر، تحمل هذه العبارة "طلب الخبز فمنح حجراً (45) ".
وخير من هذا الشعر الهزلي المعتل الوزن الذي يتصيد القوافي، نثر كلارندون الفخم في كتابه "تاريخ الثورة" الذي ظهر في 1702 على الرغم من أنه كتب في 1646 - 1764 - وشهد الناس في عهد الملكة آن مقدار العناية التي بذلت في تأليف هذه المجلدات الثمانية، وروعة أسلوبها، وكيف كان تصوير الشخصيات أخاذاً، وكيف كانت روح قاضي القضاة الذي ضرب قديماً، عالية. وبالمثل لعب جلبرت بيرنت دوراً ليس بهزيل في كتابه "تاريخ زمانه" الذي لم ينشر، بأمر منه، إلا بعد وفاته 1724. أما كتابه "تاريخ إصلاح كنيسة إنجلترا" (1679، 1681، 1715) فكان عملاً أضخم، وكان ثمرة بحث طويل، وظهر في وقت كانت فيه إنجلترا البروتستانتية تخشى إحياء الكاثوليكية. وقدم له مجلسا البرلمان كلاهما الشكر عليه. ووجد فيه الأعداء والمحررون ألفاً من الأخطاء. ولكنه لا يزال يحظى بمن يشايعه وينتصر له، وفي بعض الأحيان يكون موضع ذم وطعن. ولكنه يظل أعظم مرجع في موضوعه، وحاول بيرنت أن يوسع دائرة التسامح الديني، فكسب عداء السوق.
وسعى ثلاثة رجال آخرين إلى تكبير الحاضر بأن يضيفوا إليه صوراً من الماضي. وطاف توماس فولر Faller بأرجاء الأرض الحبيبة متنقلاً من بلد إلى بلد، حيث جمع كتابه "تاريخ مشاهير الرجال في إنجلترا (1662)، وأحيا أبطاله الأموات بما روي عنهم من فذلكات وحكايات ودعاية وذكاء، وبما كتب على شواهد قبورهم. وقص أنتوني وود تاريخ أكسفورد، وجمع ثبتاً حوى سير حياة خريجيها، والمؤلفات القيمة(32/241)
التي اقتبس منها كثير من المؤلفين خلسة. وجمع جون أوبري شذرات ممتعة عن نحو 426 من مشاهير الإنجليز، على أمل أن ينسق هذه المادة المجموعة في تاريخ كامل، ولكن الخمول والمنية حالتا دون طبع "سير الحياة" قبل 1813 (46). وقد شجعتنا ذخائره على المضي في طريقنا. وهناك الكولونيل (الزعيم) جون هشتشون، وهو بيوريتاني أيد إعدام شارل الأول، وزج به شارل الثاني في السجن، وما أن أخلى سبيله حق عاجلته المنية، وخلدت أرملته لوسي ذكراه في كتاب "حياة كولونيل هتشنسون" وهو كتاب لطيف رفع من مكانة صاحب السيرة. ولكن لوسي كان يعيبها الوقفات الطويلة فكانت عباراتها أحياناً تمتد إلى صحيفة كاملة. أما جون آريوتنوت، الطبيب البارع، والصديق المخلص لسويفت وبوب والملكة آن ولكثيرين غيرهم، فإنه انضم إلى حملة المحافظين لوقف الحرب مع فرنسا، بأن أصدر في 1712 سلسلة من النشرات يهجو فيها الأحرار، ويصف شخصية خيالية هي "جون بول" الذي أصبح منذ ذاك رمزاً على إنجلترا. ويقول جون آريوتنوت عن جون بول:
"أنه شخص أمين شريف صريح في التعامل مع الناس، سريع الغضب، جرئ، متقلب المزاج .. إذا تملقته ولاطفته كان سلس القياد، إن مزاج جون يعتمد كثيراً على الهواء، فيرق مزاجه أو يتكدر تبعاً لحالة الجو. وكان جون ذكياً. يدرك مهمته تمام الإدراك، ولكن ليس على قيد الحياة إنسان أشد منه إهمالاً في إمعان النظر في حساباته، ولا أكثر انخداعاً بشركائه أو غلمانه أو خدمه. ذلك لأنه رقيق مرح، مولع بالخمر واللهو والتسلية. والحق أنه لا يوجد إنسان أشد عناية ببيته ولا أكثر سخاء في الإنفاق من جون (47) ".
وماذا عسى أن يقول سير وليم تمبل إذا وجد أنه اختزل في فقرة من فصل بلغ الذروة بسكرتيره؟ ربما قال- إذا سمحت له آدابه الرفيعة - إن المؤرخين أهملوه لأنه لم يحتفظ بامرأتين تطمعان في الزواج، حتى قضت(32/242)
إحداهما نحبها، وأنهكت الأخرى، أو لأنه لم يبع قلمه لوزراء المحافظين استياء من الأحرار، أو لأنه لم يغمس هذا القلم في ذم البشر، ولكن خدم وطنه في هدوء بدبلوماسية ناجحة، وفي عصر ساده الفساد والفجور، ضرب لإنجلترا مثلاً صادقاً غير مصطنع لحياة أسرية تزينها الحشمة والوقار. وظل لمدة سبع سنين يتودد إلى دوروثي أوزيورن التي أصبحت رسائلها الرقيقة إليه قطعاً من الأدب الإنجليزي (48) وارتضته زوجاً لها رغم معارضة أسرتيهما. وتزوجها بعد أن شوه الجدري جمالها. ودخل تمبل معترك الحياة السياسية، ولكنه آثر الأعمال التي نأت به عن حمى لندن، وتجنب "العبودية المضنية التي تثير البغض والحسد، والتي تحصى فيها الحركات والسكنات، والتي يطلقون عليها من قبيل السخرية والاستهزاء، والسلطة والنفوذ (49). وكان من أوائل، من حذروا من أطماع لويس الرابع عشر التوسعية، وكان المخطط الرئيسي للحلف الثلاثي الذي وقف في طريق الملك الفرنسي 1668، وعرضت عليه الوزارة في 1674 و 1677 ولكنه آثر منصبه الدبلوماسي في لاهي. وأدت مفاوضاته الموسومة بالحصافة والنظر الثاقب إلى زواج ماري ابنة جيمس الثاني من وليم الثالث الذي أصبح ملكاً فيما بعد. وهو الزواج الذي مهد الطريق "للثورة الجليلة". وفي 1681 اعتزل السياسة وانصرف إلى الدراسة والتأليف في "موربارك" ضيعته في "سري" وحسبه سويفت جامداً متحفظاً، على أنه ملاك الرحمة والكياسة واللطف. وأهم أبحاثه "المعرفة قديمها وحديثها" (1690)، الذي رفع فيه من ذكر الأقدمين وانتقص من قدر العلم الحديث والفلسفة الحديثة، في شخص نيوتن وهويز وسبينوزا وليبنتز ولوك. وتصيد بنتلي الكاتب خطأً جسيماً. فآوى سير وليم إلى حديقته، وتسلى بأبيقور ولسوف نلتقي به ثانية.(32/243)
5 - إيفلين وييبز
اتفق جون إيفلين مع تمبل في أنه إذا دخلت الأحزاب في الدولة وتعمقت جذورها فيها، فمن الحمق عندئذ أن يتدخل أفاضل الرجال في الشئون العامة (50) " ولما بدأت الحرب الأهلية رأى أنه قد آن الأوان للرحيل. وغادر إنجلترا في يوليه 1641. ولكن وخز الضمير أعاده إليها في أكتوبر، وانضم إلى جيش الملك في برنتفورد ليشترك في الإنسحاب في نفس الوقت الذي وصل فيه. وبعد شهر من الخدمة في الجيش آوى إلى ضيعة أبويه في ووتون في سري. وفي 11 نوفمبر 1643 عبر البحر ثانية إلى القارة. وطاف على مهل بأرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا وهولندا، ثم قفل راجعاً إلى فرنسا. وفي باريس تزوج من فتاة إنجليزية. وتنقل لبعض الوقت بين فرنسا وإنجلترا، حتى وضعت الحرب الأهلية أوزارها، حيث عاد إلى الوطن (6 فبراير 1652). ورشا حكومة كرومول لتتركه وشأنه. وتبادل الرسائل مع شارل الثاني في منفاه، وفي 1659 بذلك جهداً جباراً للتعجيل بعودة الملكية. وبعد ارتقاء شارل الثاني عرش إنجلترا أصبح إيفلين شخصية مرموقة في البلاطـ، ولو أنه دمغه بالانحلال والفساد، وشغل بعض المناصب الحكومة الصغيرة، ولكنه في معظم الأحوال آثر أن يغرس الأشجار ويؤلف ثلاثين كتاباً في بيته الريفي. ودون كل شيء من لوكريشس إلى سبتاي زيفي. وعجز كتابه "المبخرة" عن تنقية هواء لندن، ولكن في كتابه "أشجار الغابات" دعا دعوة حارة إلى إعادة تشجير إنجلترا، وحث الحكومة على غرس الأشجار في مختلف أنحاء لندن، التي تعد أشجارها اليوم من أعظم مفاخرها ومباهجها. أما كتابه "حياة مسز جودولفين"، فهو مثل أعلى في فضائل النساء وسط عربدة عودة الملكية وصخبها.
ومن 1641 إلى 3 فبراير 1706، قبل وفاته بأربعة وعشرين يوماً دون أيفلين في مذكراته كل ما رأى وسمع في إنجلترا أو في القارة. وبوصفه(32/244)
رجلاً من ذوي المكانة لم يكن في مقدوره أن يسجل من الخطايا أو الآراء الشخصية جداً، مثل تلك التي تغرينا بقراءة "مذكرات" بيبر المسهبة، ولكن وصفه لمدن أوربا ساعدنا كثيراً على اكتناه ماهية العصر. ففي مذكرات إيفلين صفحات رائعة عن "ممر سمبلون (51) " وكان في بعض الأحيان يفصح عن مكنون صدره في قطع تفيض بالحب والحنان والرقة، مثلما كتب عن وفاه ابنه وهو في سن الخامسة. ولم تنشر مذكرات إيفلين إلا في 1818.
إن إشارات إيفلين إلى بيبز في مذكراته أدت إلى فحص المجلدات الستة المكتوبة بطريقة الاختزال، والتي كان بيبز قد أوصى بها لكلية مجدلن في كمبردج. وحلت رموز المذكرات التي بلغ عدد صفحاتها 3012 بعد ثلاث سنوات من جهد شاق، ونشرت في 1825، بعد اختصارها وتنقيتها. وهي الآن ولو أنها لم تستكمل، تملأ أربعة مجلدات ضخمة. على أنها جعلت من بيبر شخصية من أكبر الشخصيات المعروفة في التاريخ بالصراحة وعدم الصحة. أما من حيث الصراحة، فمن الواضح أنه قصد أن تنشر المذكرات إذا قدر لها أن تنشر - بعد وفاته، لا قبلها - ولهذا حوت تفاصيل كان ينبغي كتمانها في حياته، ولا يزال بعضها "غير قابل للنشر". أما عدم صحتها، فيرجع إلى أنها تتناول حقبة تقل عن عشر سنوات (1 يناير 1660 - 31 مايو 1669) من حياة بيبز، ولم تورد سرداً وافياً لعمله في أركان حرب القوات البحرية الإنجليزية، حيث تدرج في أعمال ازدادت أهمية من 1660 إلى 1689، وبعد وفاته بزمن طويل تذكروه وكرموه على أنه رجل إدارة قدير نشيط مجد.
وكان أبوه خياطاً (ترزياً) في لندن، وكان أبناً صغيراً لأحد الملاك اتجه إلى العمل والتجارة لأن الابن الأكبر ورث الضيعة طبقاً للقانون. ودخل صمويل كمبردج على منحة، وحصل على درجتي الليسانس والأستاذية، ولم تسجل له أية عقوبة، إلا تأنيب علني "لأنه شوهد يوماً يحتسى الخمر(32/245)
بشكل مخز"، ومرة أخرى لأنه كتب قصة "الحب خداع" التي أعدمها فيما بعد. وفي سن الثانية والعشرين (1655) تزوج من اليزابيث سان ميشيل ابنة أحد الهيجونوت. وفي 1658 أجريت له عملية "الحصاة في الكلى" ونجحت العملية وظل يحتفل بذكرى نجاحها سنوياً بعد ذلك، تعبيراً عن الحمد والشكر، كما يظهر من السنوات المسجلة في مذكراته.
وكانت هناك صلة قرابة بعيدة تربطه بسير أدوارد مونتاجو، فعين بيبز سكرتيراً له، (1660) ورافقه صمويل في الأسطول الذي قاده لإحضار شارل الثاني من المنفى. وقبل أن ينصرم هذا العام عين بيبز كاتباً للعمليات في إدارة البحرية. فثابر على دراسة الشئون البحرية بالقدر الذي سمح له به مطاردته للنساء. ومذ كان رؤساؤه منكبين أيضاً على هذه الرياضة القديمة، فأنه سرعان ما أصبح أكثر دراية بتفاصيل البحرية من أميري البحر كليهما (مونتاجو ودوق يورك) إلى حد أنهما اعتمدا على معلوماته. وفي أثناء الحرب مع هولندا (1665 - 1667) نجح نجاحاً مشهوداً في تموين الأسطول، وعند تفشي الطاعون لزم عمله في الوقت الذي فر فيه معظم موظفي الحكومة. وفي 1668 حين حمل البرلمان على إدارة الأسطول، وكل إلى بيبز أمر الدفاع عنها، وبفضل خطابه الذي استمر ثلاث ساعات في مجلس العموم برأت إدارة الأسطول تبرئة لا تستحقها. وبعد ذلك كتب بيبز لدوق يورك ثلاث مذكرات عرض فيها وجوه النقص والخلل في هيئة البحرية، وقد لعبت هذه المذكرات الثلاث دوراً في إصلاح الأسطول. وبذل بيبز جهداً جباراً، وكان يصحو من نومه عادة في الرابعة صباحاً (52). ولكنه وجد أنه كان يستعين على راتبه الذي يبلغ 350 جنيهاً في العام، بالهدايا والعمولات والمنح التي يمكن أن يسمى بعضها رشوة، ولكنها كانت في هاتيك الأيام اللطيفة تعتبر زيادات إضافية مشروعة. وكان رئيسه لورد مونتاجو نفسه قد أوضح له "أنه ليس مرتب أية وظيفة هو الذي يجعل شاغلها غنياً، ولكن فرصة الحصول على(32/246)
الأموال وهو يشغلها (53).
وكل ما ارتكب بيبز من أخطاء مدون بصراحة خالصة تامة نسبياً. وليس واضحاً أمام أعيننا السبب الذي من أجله احتفظ بها بمثل هذه الأمانة إنه أخفاها في حذر وعناية طوال حياته، ودونها بطريقة الاختزال الخاصة به، مستخدماً 314 حرفاً مختلفاً، ولم يضع ترتيباً خاصاً لنشرها بعد وفاته. وواضح أنه وجد لذة ومتعة فأستعرض أنشطته اليومية والاضطرابات في أعضاء جسمه وشجاراته الزوجية، ومغازلاته وعبثه، وعلاقاته النسائية الشائنة. إنه - إذا أعاد قراءة هذا السجل - بينه وبين نفسه - لابد أن يشعر بما نشعر به نحن من رضا خفي إذا نظرنا لأنفسنا في المرآة. وهو يروى لنا كيف أنه جعل زوجته تحلق له شعره "فوجدت في رأسي وجسمي نحو عشرين قملة" وهذا في اعتقادي، أكثر مما وجدت في هذه السنوات العشرين (54). وتعلم أن يحب زوجته، ولكن بعد مشاجرات كثيرة، تميز في بعضها غيظاً، وكثيراً، على حد قوله، ما أساء معاملتها، وفي إحدى المرات "جذبها من أنفها (55) ". وفي مرة أخرى "لطمتها على عينها اليسرى لطمة جعلت البائسة المسكينة تصرخ من شدة الألم، ولكنها اهتاجت وحاولت أن تعضني وتخدشني بأظافرها، ولكني تظاهرت بالخجل مما فعلت حتى أمسكت هي عن العويل (56) " ووضع على عينها ضمادة، وانصرف للقاء إحدى خليلاته. وعاد إلى البيت لتناول العشاء، ثم غادره، حيث لقي "زوجة باجول، فصحبتها إلى إحدى حانات الجعة، وهناك لاطفتها كثيراً، ثم افترقت عنها إلى امرأة أخرى حاولت أن أعانقها وأقبلها، ولكنها لم ترغب في شيء من هذا، مما ضايقني كثيراً".
وقد يبعث على العجب والدهشة أن يكون للرجل مثل هذه الطاقة الحيوية، فاستبدل العشيقة كل بضعة شهور، وطارد النساء حتى صددنه عنهن بالدبابيس (57). واعترف بأنه "وقع في أسر الجمال إلى حد غريب (58) ". وقال "كنت استمع في كنيسة وستمنستر إلى عظة، وقضيت الوقت (سامحني(32/247)
الله) محدقاً النظر في مسز بتلر (59) " وكان يتطلع في شغف خاص ولهف جارف مما يكاد يكون خيانة عظمى - إلى ليدي كاسلمين (عشيقة الملك)، ومذ وقع نظر عليها في قصر هويتهول "استغرق في النظر إليها (60) ". ولكنه قنع بثيابها المرصوصة في صف واحد، وفي هذا يقول "وكان من الخير لي أن أتطلع إلى هذه الثياب (61) "، فلما "عدت إلى البيت وتناولت العشاء وآويت إلى الفراش، تخيلت أني أغازل مسز ستيوارت (ليدي كاسلمين وأعبث معها. في نشوة غامرة من السرور (62) ". ولكن نفسه لم تهف إلى فاتنات البلاط فحسب. فقد مرت ببابه يوماً مسز ديانا، إحدى جاراته، فجذبها "إلى البيت وصعدت بها الطابق الأعلى، وبقيت ألهو وأعبث معها فترة طويلة (63) ". وأخذ مسز لين إلى لامبث (أحد أقسام لندن) "وبعد أن سئمت رفقتها "صممت" على إلا أعود لمثل هذا ما حييت (64) " وضبطته زوجته ذات مرة يعانق فتاة، فهددت بالانفصال عنه، فهدأ من روعها بالوعود والإيمان. وانطلق إلى آخر عشيقاته. ذلك أنه أغوى وصيفة زوجته - ديبورا ويللت - وكان يحب أن تمشط ديبورا له شعره، ولكن زوجته انقضت عليها أثناء مغامراته مع ديبورا. فعاد يقسم ويعد يتعهد من جديد، وطردت الوصيفة، وأخذ بيبز يتردد عليها وكأن زيارتها جزء من عمله اليومي.
وظلت رغبته الجنسية على حدتها حتى حين ضعف بصرة. إن عادة القراءة والكتابة في ضوء الشمعة بدأت تضعف بصره في 1664. ولكن في سنوات العسرة التي تلت ذلك، بذل في العمل جهداً شاقاً بصفة خاصة، على الرغم من تفاقم علته. وفي 31 مايو دون آخر ما سجل في مذكراته:
"وهكذا ينتهي ما أشك في قدرتي على المضي فيه إطلاقاً بنور عيني، ألا وهو تدوير مذكراتي. ومهما تكن النتيجة فليس لي ألا أن أتجلد وأحتمل. ومن ثم اعتزمت أن يدونه من حولي بطريقتهم في الكتابة العادية، ولذلك ينبغي أن أقنع بألا يسجل إلا ما هو صالح لأن يعرفوه(32/248)
ويعرفه العالم أجمع. وإذا كان هناك شيء - وهو ليس بالكثير، بعد أن ولت كل خليلاتي مع ديبورا، وقعد بي ضعف بصري عن الاستمتاع بأية ملذات أو مسرات - فلا بد أن أحاول أن احتفظ في كتابي بهامش، أضيف فيه، هنا وهناك، بعض الملاحظات بخط يدي، بطريقة الاختزال. وهكذا أروض نفسي على هذه الطريقة التي لا تقل مرارة عن أن أراني محمولاً إلى القبر الذي يتولى الله العلي العظيم إعدادي له، ولكل المتاعب والمشاق التي لا بد أن تنتابني عندما أفقد نور عيني. صمويل بيبز".
وتبقى له من عمره يعد ذلك أربعة وثلاثون عاماً. وظل يتعهد في عناية بالغة ما بقى له من نور عينيه، ولم يعم بصره تماماً قط ومنحه الدوق والملك إجازة طويلة انقطع فيها عن العمل، عاد بعدها إليه. وفي 1673 عين سكرتيراً لإمارة البحر، وفي نفس الوقت تحولت زوجته إلى الكاثوليكية. ولما وقعت مؤامرة البابا على إنجلترا اعتقل بيبز وأودع سجن لندن (22 مايو 1679) للاشتباه في أن له ضلعاً في مقتل جودفري. ثم دحض الاتهام وأخلى سبيله بعد تسعة أشهر قضاها بين جدران المعتقل. وبقي بعيداً عن الوظيفة حتى 1684، حيث أعيد سكرتيراً لإمارة البحر كما كان، واستأنف العمل على إصلاح البحرية. ولما أصبح رئيسه (دوق يورك) ملكاً على إنجلترا - جيمس الثاني - كان بيبز في واقع الأمر على رأس إدارة القوات البحرية، ولكن عندما هرب الملك جيمس إلى فرنسا، أعيد بيبز إلى السجن ثم أفرج عنه وعاش أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره متقاعداً عن العمل وكأنه "مرشد البحرية العجوز". ووافته المنية في 26 مايو 1703، وقد بلغ السبعين، مكللاً بالإجلال والاحترام، مطهراً من الذنوب والآثام.
وكم كان في هذا الرجل من خلال محمودة. لقد عرفنا حبه للموسيقى كما أنه تابع الحركة العلمية، وكان ضليعاً في الفيزياء. وأصبح عضواً في "الجمعية الملكية" وانتخب رئيساً لها في 1684 وكان مزهواً برجولته، وكان يقبل(32/249)
الرشوة، وضرب خادمه حتى جرح ذراعه (65) وقسا في معاملة زوجته، وكان فاسقاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولكن كم كان له في الملوك والأدواق من أسوة أخزى وأقبح في مجال الدعارة والفجور، ومن منا يمكن أن يتمتع بسمعة طيبة لا تشوبها شائبة إذا ترك مثل هذه المذكرات الأمينة؟.
6 - دانيال ديفو
1659 - 1731
هناك امرأة أفلتت من يد بيبز، تستحق منا هنا انحناءة احترام في شيء من الحذر، بوصفها "أم القصة الطويلة" في فترة عودة الملكية، وأول امرأة إنجليزية تعيش على قلمها. إن افرا بن Aphra Behn جديرة بالذكر من عدة نواح: ولدت في إنجلترا، وترعرعت في أمريكا الجنوبية. وعادت إلى إنجلترا في سن الثامنة عشرة (1658، وتزوجت تاجراً لندنياً من أصل هولندي. وتركت انطباعاً قوياً في نفس شارل لدهائها وذكائها. وأوفدت في مهمة سرية إلى الأراضي الوطيئة، فقامت بها خير قيام، ولكنها تلقت أجراً زهيداً إلى حد أنها انصرفت إلى الكتابة، وسيلة لكسب العيش. وكتبت مسرحيات هزلية فاجرة لاقت نجاحاً ملحوظاً. وفي 1678 نشرت "أورونوكو" وهي قصة "رقيق ملكي" زنجي، وحبيبته امواندا. وكان مزيجاً أصيلاً من الواقعية والرومانسية أو الخيال. وكان الطريق ممهداً أمام قصة روبنسن كروزو، وللقصة الرومانسية.
كذلك عاش ديفو على قلمه. وكان من أكثر الأقلام تعدداً للجوانب والبراعات: وكان أبوه جيمس ديفو قصاباً في لندن، شديد التمسك بمذهب البرسبيتريان. وكان من المتوقع أن يكون دانيال واعظاً، ولكنه آثر الزواج والعمل والسياسة. وأنجب سبعة أطفال، وأصبح تاجر جوارب بالجملة. والتحق بجيش دوق مونموت في الثورة (1685)، ثم انضم إلى جيش وليم في الإطاحة بعرش جيمس الثاني وفي 1692 أفلس وبلغت ديونه(32/250)
17 ألفاً من الجنيهات، ثم دفع لدائنيه استحقاقاتهم كاملة تقريباً فيما بعد، وفيما هو يكسب ويخسر، أصدر كتيبات في طائفة من الموضوعات زاخرة بكنز مدهش من الأفكار الأصيلة. ففي مؤلفه "بحث في المشروعات" عرض مقترحات عملية متقدمة كثيراً عن زمانه، في المصارف، والتأمين، والطرق ومستشفيات الأمراض العقلية، والكليات الحربية، والتعليم العالي للبنات. وانتقل إلى Tilbary حيث أصبح سكرتيراً لمصنع للقرميد ثم مديراً، وفي النهاية مالكاً له. ولما قدموه إلى وليم الثالث عينه في وظيفة حكومية صغيرة، وأيد سياسة الملك تأييداً كبيراً إلى حد اتهامه بأنه هولندي أكثر منه إنجليزي، فدافع عن نفسه في قصيدة رائعة، عنوانها "الإنجليزي الصميم الأصيل" (1701) ذكر فيها الإنجليز بأن الأمة كلها مختلطة الدماء والأعراق، ولما كان هو نفسه من المنشقين فإنه في 1702 نشر كراسة غفلاً من اسم المؤلف، تحت عنوان "أقصر طريق مع المنشقين" استبق فيها أسلوب سويفت في التسفيه والتسخيف عن طريق المبالغة، وهاجم فيها اضطهاد الإنجليكانيين للمنشقين، باستحسانه إعدام كل منشق يقوم بالوعظ، وطرد المنشقين الذي يستمعون إليه من إنجلترا. وقبض عليه في فبراير 1703، وحكم عليه بالغرامة والسجن وعذب في المشهر. وأفرج عنه في نوفمبر، ولكن في نفس الوقت كان مصنع القرميد قد تخرب وتوقف العمل فيه.
وكان الرجل الذي ساعد في الإفراج عنه هو الوزير روبرت هارلي الذي تحقق من مقدرة ديفو الصحفية، ومن الواضح أنه عقد معه اتفاقاً لاستغلال قلمه، ومن ثم التحق ديفو بخدمة الحكومة طيلة بقية حكم الملكة آن. وبدأ فور إطلاق سراحه في إصدار صحيفة ذات أربع صفحات ثلاث مرات في الأسبوع. اسمها "ريفيو" التي ظلت تظهر حتى 1713، وكان معظمها بقلم ديفو.
وفي عام 1704 slash1705 طاف ديفو بأرجاء إنجلترا على ظهر جواد،(32/251)
يدعو للمستر هارلي في الانتخابات. وفي تلك الأثناء جمع مادة كتابه "جولة في إنجلترا وويلز". وفي 1706 - 1707 عمل لحساب هارلي وجودولفين جاسوساً في إسكتلندة، وحظيت كراساته القوية بكثير من القراء كما جلبت إليه الكثير من الأعداء. واعتقل ثانية في 1713 وفي 1715، ومرة أخرى أطلق سراحه بناء على وعد بتسخير قلمه في خدمة الحكومة.
وكان له قدرة على ابتكار كثير من الموضوعات الأدبية. وفي 1715 نشر بعض مقتطفات يفترض أن كاتبها من الكويكرز. وفي نفس السنة نشر "حروب شارل الثاني عشر" كما يرويها "اسكتلندي في خدمة السويد". وأصدر في 1717 رسائل يظن أن كاتبها تركي، يندد بالتعصب المسيحي. وأسهم في تحرير مجلة اسمها بحق الضباب " Mist"، بتوقيع مراسلين وهميين. وقلما وقع ديفو كتاباته باسمه. وكان إلى جانب هذه البراعة في تمثيل شخصيات مختلفة، جمع ديفو سعة الإطلاع في الجغرافيا، وبخاصة جغرافية أفريقية والأمريكيتين. وظاهر أنه أفتتن بكتاب وليم دامبيير "رحلة جديدة حول العالم" 01697)، وفي إحدى رحلات دامبيير ألقت سفينته المسماة "الثغور الخمسة" مراسيها في جزر جوان فرنانديز على بعد نحو أربعمائة ميل إلى الغرب من شيلي. وكان أحد البحارة الاسكتلنديين يدعى إسكندر سلكيرك قد تشاجر مع القبطان، فطلب إليه أن يتركه في إحدى الجزر الثالث، على أن يزوده ببعض الحاجيات الضرورية. وبقى البحار هناك وحيداً لمدة أربعة أعوام، حيث أعيد إلى إنجلترا، وهناك قص قصته على ريتشارد ستيل الذي كتبها في عدد "الرجل الإنجليزي The Englishman" الصادر في 3 ديسمبر 1713، كما رواها كذلك لديفو، وزعم أنه أعطاه بياناً مكتوباً عن مغامراته في الغربة والوحدة (66). وحول ديفو هذه الخلاصة إلى قطعة من الأدب. وفي 1719 نشر أشهر قصة في القصص الإنجليزي.(32/252)
وألهبت "حياة روبنسن كروزو ومغامراته العجيبة الدهشة" خيال إنجلترا. وظهرت منها أربع طبعات في أربع شهور. وهنا كان مفهوم جديد للمغامرة والصراع - لا صراع الإنسان ضد الإنسان، ولا صراع الإنسان التحضر ضد الإنسان المتوحش. بل كفاح الإنسان ضد الطبيعة، صراع رجل وحيد، يتملكه خوف حقيقي، لا يجد أي عون أو مساعدة، حتى جاء "التابع المخلص الأمين"، وبنى حياة من المواد الخام في الطبيعة. وتلك كانت تاريخ حضارة رجل واحد في مجلد واحد. واعتبرها كثير من القراء تاريخياً، حيث لم ترو قط في الأدب من قبل قصة جمعت بين مثل هذه الأشياء التي تحتمل الصدق والكذب في مثل هذه التفاصيل التي أخذ بعضها بخناق بعض بشكل عارض. إن تمرس ديفو في الخداع الأدبي رفعه من الصحافة إلى الفن.
وعاش ديفو في شيء من بحبوحة العيش في لندن، ولكنه لم يتخل عن إنتاجه الذي لا يبارى. فبينما ظل يصدر الكراسات، أخرج كتباً في الحجم الطبيعي، تضم قصص صغيرة، فنشر في 1720 "تأملات جادة في حياة روبنسن كروزو ومغامراته المدهشة"، "حياة ومغامرات مسز دنكان كامبل" (وهي ساحرة مشعوذة صماء بكماء). وبعد ذلك بشهر واحد "مذكرات فارس" "وبن تروفاتو" وقد حسبه بت الأكبر تاريخاً وبعد شهر آخر أخرج "حياة القبطان المشهور سنجلتون ومغامراته وقرصناته" وهو كتاب حوى توقعات مدهشة عن كشوف في أفريقية. وفي 1722 أصدر "هناء وشقاء مول فلاندرز" و "صحيفة عام الطاعون"، و "تاريخا كولونيل جاك"، و "الغزل الديني"، و "التاريخ النزيه لبيتر الكسوفتش "قيصر المسكوف الحالي" - وهذه هي المرة الثانية التي يستبق فيها فولتير في كتابه سير الحياة. وقصد بهذه المجلدات الضخمة أن توفر سبل العيش لأسرته، ولكنها بفضل قوة خيال الكاتب وأسلوبه الفياض، أصبحت أدباً. وفي "مول فلاندرز" اندس ديفو إلى عقل بغي وقلبها، حتى أفضت إليه بقصتها بشكل يتضح معه صراحتها وإخلاصها ويدعو إلى تصديقها(32/253)
ولو ظاهرياً، حتى تركها في النهاية راضية "آمنة ومطمئنة في خير عافية" وهي في السبعين (67). أما "صحيفة عام الطاعون" فكانت مدعمة بأدق الوقائع والحقائق والإحصاءات، حتى اعتبرها المؤرخون تاريخاً.
أما عام 1724 فلا يثير دهشة كبيرة: ذلك أن ديفو نشر إحدى أمهات قصصه "السيدة السعيدة الحظ" المعروفة باسم "روكسانا" وهي المجلد الأول من مجلدين يتناولان جولاته في ربوع جزيرة بريطانيا العظمى، و "حياة جون شبرد" وهو يوهم بأنه مخطوطة سلمها شبرد إلى صديق له قبل إعدامه. وكانت هذه إحدى السير القصيرة العديدة التي كتبها ديفو عن حياة المجرمين، ومهدت إحدى سير الحياة واسمها "وغد المرتفعات" (1724) الطريق لكتاب سكوت "روب روى" كما مهدت سيرة أخرى، هي "حياة جوناثان ويلد" الطريق أمام فيلدنج. والحق أن أي موضوع شعبي أسال قلم ديفو، وأفاض عليه الجنيهات من خزائن ناشري كتبه، من ذلك "التاريخ السياسي الشيطان" (1726)، و "خفايا السحر" (1720)، و "الكشف عن أسرار الدنيا الخفية"، أو تاريخ حقيقة الأشباح (1727 - 1728) أضف إلى هذا كله قصيدة في اثني عشر جزءاً "العدل الإلهي" يدافع فيها عن الحقوق الطبيعية لكل إنسان في الحياة وفي الحرية وفي التماس السعادة ووسط هبوط ديفو كثيراً إلى كمستوى ذوق الشعب وأخيلته، ترى أنه أسهم إسهاماً مخلصاً في أفكار جادة: مثل "التاجر الإنجليزي الكامل" (1725 - 1727)، و "خطة التجارة الإنجليزية" (1728)، والكتاب الذي لم ينته منه "الرجل الإنجليزي الكامل" فأنه في هذه الكتب جميعها قدم معلومات مفيدة ونصائح عملية، لم تتلاءم في كل الأحوال مع أخلاقيات الإنجيل.
وقد لا نحبذ أخلاقيات ديفو أو سلوكه الأدبي، ولكنا نملك الإعجاب بمثابرته وجده، وربما لم يشهد التاريخ قط منذ إنجاب رمسيس الثاني 150 ولداً مثل وفرة ديفو في الإنتاج. والشيء الوحيد الذي يكاد لا يصدق(32/254)
في ديفو هو أنه الذي كتب كل ما كتب، لأننا كذلك يتولانا العجب كل العجب من نوعية عقل ديفو الذي سخرت فيه قوة الخيال وقوة الذاكرة لهذا العمل الشاق أو الجهد الجهيد، والذي أخرج هذه الأشياء الوهمية المقبولة شكلاً إلى أبعد حد في الأدب. وأننا لنعترف بعبقرية وشجاعة رجل استطاع مع ضخامة العمل والعجلة في إنجازه، أن يحتفظ بهذا المستوى الرفيع في المادة والأسلوب. في المائتين والعشرة مجلدات التي أخرجها (إذا صدقنا ما قيل) لا يكاد المرء يقع على صحيفة واحدة مملة باهتة، وإذا اتفق أن كان ديفو أحياناً بليداً غبياً فإنه كان يفعل ذلك عن عمد ليضيف إلى حكايته شيئاً من احتمال الصدق والكذب. ولم يبزه أحد في بساطة السرد ووضوحه، وفي كونه طبيعياً بعيداً عن التكليف إلى حد الإقناع. وهناك كانت عجلته ضرباً من ضروب الحظ السعيد له، حيث لم يكن لديه فسحة من الوقت للتنميق والزخرف. وأرغمه تدريبه الصحفي ونزعته الصحفية على الإيجاز والوضوح. وكان أكبر صحفي في زمانه بكل معاني الكلمة، ولو أن هذا الوصف ينطبق على ستيل وأديسون وسويفت. فإن صحيفته "ريفيو" مهدت الأرض التي أنبتت فيها صحيفة "سبكتاتور" بذوراً منتقاة بشكل أفضل. والحق أن هذا شرف أي شرف. ولكن أضيف إليه الشهرة العالمية الباقية على مر الدهور لقصة روبنسن كروزو، وأثرها على قصص المغامرات، حتى على قصة تختلف اتجاهاتها كل الاختلاف مثل "رحلات جلليفر" وإذا استثنينا مؤلف ذلك الاتهام الذكي للبني الإنسان (سويفت في رحلات جلليفر)، فإن ديفو كان أعظم عبقرية في رجال الأدب الإنجليزي في عصر زخر بهم.
7 - ستيل وأديسون
يحدد ريتشارد ستيل أكثر من أي إنسان غيره بداية عصر الانتقال في الأدب، من عودة الملكية الى حكم الملكة آن. واتصف في شبابه(32/255)
بكل صفات العربدة والصخب والفجور التي سادت فترة عودة الملكية. ولد في دبلن، وكان أبوه موثوقاً عاماً (كاتب عدل)، وتعلم في مدرسة تشارتر هاوس وأكسفورد وكان حساساً سريع الاهتياج كريماً، وبدلاً من الحصول على درجته الجامعية انضم الى جيش الحكومة في إيرلندة، وكان يسف في شرب الخمر اسفافا، ويبارز حتى يقارب أن يصرع خصمه. وأكسبته التجربة رصانة عابرة، فبدأ يحمل على المبارزة، وكتب مقالا عن "البطل المسيحي" (1701) جادل في امكان أن يكون المرء سيدا ماجدا مهذبا "جنتلمان" مع بقائه مسيحيا. ووصف الفساد الذي ساد العصر، وعاد بذاكرة قرائه الى الكتاب المقدس بوصفه منبع الإيمان الصادق والخلق القويم، وناشد الرجال أن يحترموا جمال النساء وعفتهن.
وكان في التاسعة والعشرين، حين وجد أنه حتى الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها، تتبرم به على أنه واعظ ممل، فعقد العزم على النهوض برسالته عن طريق الروايات، وامتدح تنديد جرمى كوليير بالخلاعة والفحش في المسرح، فانبرى في سلسلة من الملهيات يدافع عن الفضيلة يشن حملات صادقة على الأوغاد. ولكن هذا الإنتاج لم يلق نجاحا. فالحق أن المسرحيات حوت مشاهد حية ودلت على ذكاء وموهبة، ولكن جمهور النظارة تشككوا في حل عقدة الروية أو في نتيجتها، وطالبوا باللهو والتسلية على حساب الوصايا العشر مهما كان الثمن غاليا، على حين أن اللندنيين الحصفاء الذين قد يتعاطفون مع مشاعره، قلما كانوا يظهرون في المسرح. كيف الوصول إلى هؤلاء الناس؟
وقرر ستيل أن يجرب وسيلة يواجههم بها في المقاهي. وفي 12 أبريل 1709 أخذ ورقة من صحيفة ديفو "ريفيو" وأصدر العدد الأول من صحيفة تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، أطلق عليها (( The Tatler)) وحررها وكتب معظم مادتها تحت اسم مستعار "ايزاك بيكرستاف". ووجها إلى المقاهي، حيث أعلن:(32/256)
"كل ضروب البسالة والكياسة، والمسرات والتسلية، تلتقون بها في "مقهى هوايت للكاكاو" والشعر في "مقهى ول Will" والعلم والمعرفة تحت عنوان "جريشيان". والأنباء الخارجية والداخلية من "مقهى سان جيمس". أما سائر الموضوعات التي سأقدمها فمن عندي أنا.
وكام مشروعاً بارعاً، أثار اهتمام رواد المقاهي، واستقى الأنباء والموضوعات من مناقشاتهم هناك، وأتاح لريتشارد ستيل أن يعبر عن آرائه دون مقاطعة أو نزاع، وفي العدد 25 الصادر بتاريخ 7 يونيه 1709 ذكر أنه تلقى رسالة من "سيدة شابة ... ترثى فيها لسوء حظ .. حبيبها الذي أصيب مؤخرا بجرح أثناء المبارزة" واستطرد ستيل ليبين سخف عادة تحتم أن يدعو الشخص الذي أوذي الشخص المسىء ليضيف ضغثاً إلى ابالة أو القتل إلى الإساءة فماذا تعني المبارزة أو التحدي إلا هذا!!
سيدي، أن سلوكك الشاذ في الليلة الماضية، وتطاولك علي في جرأة وحرية طابت لهما نفسك، كل هذا يدفعني إلى أن أوجه إليك هذا الإنذار، لأنك مغرور أحمق غير مهذب .. سألتقي بك في هايدبارك في ظرف ساعة، حاملا مسدسا، وحاول أن تصوبه الى رأسي، حتى ألقنك درسا في آداب السلوك".
وهنا كان صوت الطبقة الوسطى يسخر من الأرستقراطية. والحق أن الطبقة الوسطى أساسا هي التي زحمت المقاهي.
وفي مقالات خرى سخر ستيل من بذخ الأرستقراطية ولغوها ومظاهرها الكاذبة وزينتها وملابسها، وتوسل إلى النساء أن يرتدين الثياب البسيطة، ويمتنعن عن الحلي والمجوهرات. فإن عقد اللؤلؤ فوق الصدر لا يضيف شيئاً لى الصدر العاجي الجميل الذي يحمله (68) ".
إن رقته مع النساء كانت تتبارى مع ولعه بالخمر. وألح على القول بأنهن بحق يتمتعن بالذكاء وسلامة البنية. ولكنه امتدح الكثير من تواضعن وطهرهن - وتلك صفات لم تعترف بها ملهاة فترة عودة الملكية. وقال عن(32/257)
إحدى النسوة "إن حبك لها يعني أنك تتسم بالتحرر في تعليمك" واعتبر كري "أن هذه العبارة ربما كانت أرق تحية قدمت لامرأة) 69) ".
ووصف ستيل، في إحساس عميق، مباهج الحياة الأسرية، والوقع الجميل لأقدام الأطفال، وإقرار الزوج بفضل زوجته المسنة وعرفانه لجميلها:
"إنها في كل يوم تدخل على قلبي سروراً أكثر بكثير مما عرفت فيها أيام كنت أستمتع بجمالها وأنا في نضارة الشباب، إن كل لحظة في حياتها تقدم لي أمثلة جديدة على تجاوبها مع ميولي ورغباتي، وحسن تدبيرها بالنسبة لمواردي في أوقات اليسر والعسر. إن وجهها أجمل بكثير مما رأيته لأول مرة وليس استطعت أن ألحظه منذ اللحظة التي حدث فيها نتيجة اهتمام شديد قلق بمصالحي ربما يعود علي بالخير .. إن حب الزوجة أسمى بكثير من ذلك الهوى التافه الذي يسمونه عادة بهذا الاسم (الحب)، بقدر هبوط مستوى ضحكات المهرجين العالية الماجنة عن مستوى المرح الهادئ الرشيق عند الأماجد المهذبين (70) ".
وكان ستيل قد تزوج مرتين عندما كتب هذا، وإن رسائله الى زوجته لهي نماذج للاخلاص والحب، ولو أنها سرعان ما تشتمل على اعتذارات عن عدم الحضور لتناول الطعام في البيت. إنه أخفق في أن يكون الرجل البرجوازي الفاضل الذي كان في نظره نموذجا للحياة، فإنه سكر كثيراً وأنفق كثيراً واستدان كثيراً، واجتاز الشوارع الجانبية ليتحاشى لقاء أصدقائه الذين أقرضوه المال. واختفى عن الأنظار تملصا من دائنيه ومراوغة لهم، ولكنه في نهاية الأمر أودع السجن بسبب الدين، وقارن قارئو صحيفته (( Tatler)) بين عظاته وتصرفاته. وأصدر جون دنيس نقدا لاذعا لآراء ستيل، وتناقص عدد المشتركين في الصحيفة واحتجبت عن الظهور في 2 يناير 1711، ولكنها تحتفظ بمكانتها في تاريخ الأدب الإنجليزي، لان بين جنباتها بدأت الأخلاقية الجديدة تعبر عن نفسها، وبدأت القصة(32/258)
القصيرة تأخذ شكلها الحديث، كما طور أديسون المقالة الحديثة حيث بلغ بها حدا الاتقان والكمال في صحيفة "سبكتاتور".
وولد أديسون وستيل كلاهما في 1672، وكانا صديقين منذ كانا يدرسان معا في مدرسة تشارتر هاوس. وكان والد جوزيف أديسون قسيساً أنجليكانياً، أشرب ابنه من التقوى والورع ما قاوم به كل مساوئ ومفاسد فترة عودة الملكية. وكسبت له براعته في اللاتينية منحه دراسيه. وفي سن الثانية والعشرين أعجب إرل هاليفاكس بمواهبه، إلى حد أنه أقنع رئيس كليه ماجدلن بتحويل الشاب من سلك الكهنة الى خدمة الحكومة. وقال هاليفاكس "يقولون عني أني عدو للكنيسة، ولكني لن أعود للإساءة إليها قط، بعد أن أحتفظ بمستر أديسون بعيدا عنها (71) " ولما كانت المقدرة في اللاتينية غير مقرونة بمعرفة اللغة الفرنسية، وكانت الحاجة إلى معرفة اللغة الفرنسية أساسية عند الدبلوماسيين فإن هليفاكس خصص لأديسون ثلاثمائة جنيه سنويا لينعق منها أثناء إقامته في القارة. ولمدة عامين تجول أديسون على مهل في أرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا.
وبينما هو في جنيف ارتقت الملكة آن عرش إنجلترا فأبعد أصدقاؤه عن مناصبهم، وانقطع عنه راتبه. ولما لم يبق له إلا دخله الضئيل، فإنه اشتغل معلما ومرشدا خاصاً لسائح إنجليزي شاب، وطاف معه بأنحاء سويسرا وألمانيا والمقاطعات المتحدة. ولما انتهت هذه المهمة عاد إلى لندن 1703، وعاش لبعض الوقت في فقر يستره التعفف وحسن المظهر. ولكنه كان "مغناطيسياً" يجذب الثراء والحظ السعيد. ذلك أنه عندما انتصر دوق مالبورو في معركة بلنهيم في 13 أغسطس 1704 فتش جودولفين وزير الخزانة عن شخص يخلد ذكر هذا النصر شعرا. وأوصى هاليفاكس بأديسون للقيام بهذا العمل، واستجاب الشاب الموهوب بقصيدة رنانة "الحملة" ونشرت في نفس اليوم الذي دخل فيه مالبورو العاصمة دخول المنتصر الظافر، وساعد نجاح القصيدة على أن توطن انجلترا نفسها على(32/259)
مواصلة القتال. إن جورج وشنطن آثر الشعر المحلق عاليا الذي كتبه أديسون على سائر القصائد. وإليك أبياتا مشهورة منها:
"إيه يا ربة القريض، أي شعر ترين أن أنشده القوات التي اشتعلت في نفوسها نيران الغضب، المتراصة في ميدان المعركة! إني ليخيل إلي أني أسمع دقات الطبول الصاخبة وصيحات النصر وأنات الموتى يختلط بعضها ببعض وطلقات المدافع المرعبة تشق أجواء الفضاء، وصيحات الحب تدوي مثل الرعد. وهنا أثبت مالبورو العظيم بروحه العالية أنه راسخ كالطود، لا يهتز لإلتحامات الجيوش المهاجمة، وفي غمرة لضجة والفزع واليأس، يشهد كل مناظر الحرب المروعة، ويشرف على ساحة الموت ثابت الجنان، يفكر في هدوء. ويرسل المدد في الوقت المناسب للفرق المتخاذلة، وينفخ في المحاربين المترددين من روحه فيدفعهم إلى الالتحام مع العدو، ويحدد للمعركة المتأرجحة أين تشتد وتحتدم. كما لو أن ملكا من السماء، بأمر من عند الله زلزل أرض الأعداء بريح عاتية (كما حدث مؤخرا لبريطانيا الواهنة). وفي هدوء ورصانة يسوق مالبورو العاصفة العاتية، ويطيب نفسا بتنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى، فيمتطي صهوة جواده وسط الرياح الهوجاء ويقود العاصفة ويوجهها كيف يشاء".
وحقق البيت الأخير والتشبيه الملائكي لأديسون العودة سالما إلى وظيفة حكومية تدر عليه راتبا، بقي قيها طيلة السنوات العشر التالية. وفي 1705 عين عضوا في لجنة الاستئناف، خلفا لجون لوك. وفي 1706 وكيلا للوزارة. وفي 1707 ألحق ببعثة هاليفاكس إلى هانوفر، التي هيأت لأسرة هانوفر السبيل لارتقاء عرش انجلترا. وفي 1708 اتخذ مقعده في البرلمان، وبفضل خدماته الجليلة احتفظ به حتى الممات. وفي 1709 أصبح السكرتير الأول لنائب الملكة في إيرلندة. وفي 1711 أثرى إلى حد استطاع معه أن يشتري ضيعة في رجبي بعشرة آلاف جنيه.
إن أديسون في أيام الرخاء لم ينس ستيل. فأنبه على أخطائه ولكنه(32/260)
هيأ له منصبا حكوميا، وأقضه مبالغ كبيرة من المال، وطالبه مرة واحدة أن يسددها (72). وعندما صدرت صحيفة (( The Tatler)) غفلا من الاسم، لاحظ إشارة إلى فرجيل كان قد لمح بها إلى ستيل، وفي "إيزاك بيكرستاف" عرف ثانية صديقه المترف المفلس وسرعان ما اشترك في الصحيفة. وفي 1710 سقطت حكومة الأحرار، وفقد ستيل وظيفته الحكومية، وفقد أديسون كل مناصبه باستثناء عضوية لجنة الاستئناف. واحتفلت صحيفة تاتلر بهذا العام بالاحتجاب عن الظهور. وشارك أديسون وستيل الواحد منهما الآخر آلامه وآماله، وفي أول مارس 1711 أخرجا أول عدد من أشهر الدوريات في تاريخ الأدب الإنجليزي.
وظهرت صحيفة "سبكتايور" يومية - ماعدا يوم الأحد، في فرخ مطوي ذي أربع أو ست صفحات. وبدلا من تحديد المقالات من مراكز مختلفة. ابتدع المحرر المجهول الاسم نادياً وهمياً يمثل أعضاؤه قطاعات مختلفة من دنيا الانجليز: سير روجردي كوفرلي سيد من الريف، سير أندرو فريبورت يمثل طبقة التجار، ويتحدث الكابتن سنتري باسم الجيش، أما ول هنيكوم فهو الرجل العصري المتألق، أما المحامي في دار العدل فيمثل العلم والمعرفة" ويجمع مستر "سبكتاتور" نفسه بين وجهات نظرهم في إطار من المرح اللطيف والكياسة والذكاء، مما نفذت معه الصحيفة إلى بيوت الانجليز وقلوبهم جميعاً. وفي العدد الأول وصف مستر سبكتاتور نفسه، حتى جعل النوادي والمقاهي تحاول الكشف عن شخصيته بالحدس والتخمين:
"قضيت سنواتي الأخيرة في هذه المدينة حيث يراني الناس كثيراً في معظم الأماكن العامة، ولو أن عدد الصفوة المختارة من الأصدقاء الذين يعرفونني لا يجاوز الستة، وسأتحدث عنهم في العدد القادم بشكل أدق. ولا يكاد يوجد مكان يأوي إليه الناس بصفة عامة إلا وظهرت فيه، فأحيانا يرونني أدس أنفي في حلقة من رجال السياسة في "مقهى ول"،(32/261)
مصغيا بأكبر اهتمام إلى ما يدور في هذه الاجتماعات الدورية. وأحيانا أدخن غليوني، وعلى حين غير منصت لشيء إلا ساعي البريد، فإني أسترق السمع إلى النقاش الذي يدور على كل مائدة من الغرفة. وفي أمسيات الأحد أقصد إلى مقهى سان جيمس، وانضم أحيانا إلى جماعة السياسيين الصغيرة في الحجرة الداخلية، بوصفي رجلا يذهب إلى هناك ليسمع ويستفيد. ووجهي كذلك معروف تمام المعرفة في "جريفان" وفي مقهى "شجرة الكاكاو" "وفي مسارح "دروري لين" و "هاي ماركت" على حد سواء. وكانوا يحسبونني تاجرا في "البورصة" طيلة هذه السنوات العشر أو أكثر. وأحيانا حسبوا أني يهودي من جماعة السماسرة الذين لا يوثق بهم في "جوناتان" وجملة المقول إني لا أرى حشدا من الناس إلا حشرت نفس في زمرتهم، ولو أني لا أنبس ببنت شفة إلا في النادي الخاص بي.
وهكذا أعيش في هذه الدنيا متفرجاً، لا واحداً من الجنس البشري، وبهذه الطريقة جعلت من نفسي رجل دولة يطيل التأمل والتفكير، وجندياً وتاجراً، وصانعاً ماهراً، دون أن أمارس العمل في أي قطاع من قطاعات الحياة. كما أني على دراية تامة بشؤون الزواج والأبوة، وأستطيع تبين وجوه الخطأ في الاقتصاد وفي الأعمال وفي الانحراف، أفضل بكثير ممن يتولون هذه الأمور بأنفسهم، لأن المتفرجين يكتشفون أخطاء يمكن ألا تقع عليها أعين المشتركين في اللعبة. إني لم أناصر قط حزبا في اندفاع أو عنف. وإني عاقد العزم على أن أقف موقف الحياد الدقيق بين الأحرار والمحافظين، إلا إذا اضطررت إلى إعلان الانحياز إلى أي من الفريقين بسبب تصرفات غير وديعة من الفريق الآخر. وصفوة القول إني كنت طوال حياتي "متفرجاً" وتلك هي الشخصية التي أقصد ألا أحيد عنها في هذه الصحيفة".
وبتقدم المشروع، جمعت "سيكتاتور" بين الموضوعات الاجتماعية(32/262)
ودراسات العادات والسلوك والأخلاق والنقد الأدبي واستعراض أحوال المسرح. وكتب أديسون سلسلة من المقالات عن ملتون أدهش بها انجلترا حين سما بقصيدة "الفردوس المفقود" فوق مرتبة "إلياذة" هوميروس، و "إنيادة" فرجيل. وتجنبت المناقشات الخوض في السياسة التي تثير العداوات والتقلبات، ولكن ألحت - واشترك في هذا أديسون عن طيب خاطر - على دعوة ستيل إلى الإصلاح الاجتماعي. وظهر من جديد شيء من الروح البيوريتانية هذبته المحنة، كرد فعل للنكسة التي اجتاحت فترة عودة الملكية، ولكنها لم تعد الآن انهماكاً لاهوتياً كئيباً مفزعاً في التخويف من الشيطان ومن الخطيئة المهلكة، بل دعوة إلى الاعتدال والاحتشام موسومة بالتفاؤل مغلفة بالدهاء والظرف. وعلى هذا النسق بدأ عدد 10 نوفمبر:
"إنه لمما يبعث عن الرضا والارتياح أن أرى المدينة العظيمة تلح يوما بعد يوم على طلب صحيفتي هذه. وتستقبل مقالاتي الصباحية في جدية واهتمام مناسبين. ويقول الناشر أن ثلاثة آلاف نسخة منها توزع يومياً بالفعل. فإذا حسبت أن النسخة الواحدة يتداولها عشرون قارئا، وهو تقدير متواضع، لأحصيت من المريدين ستين ألفا في لندن ووستمنستر، آمل أن يلحظوا الفرق بينهم وبين القطيع الطائش من أخوانهم الجهلة الغافلين، ومذ حظيت بمثل هذا العدد الكبير من القراء فإني لن أدخر وسعا في أن يكون ما أزودهم به من علم ومعرفة مقبولا، ومن تسلية نافعاً مفيداً. ولهذا أحاول أن أحيي الأخلاق بالدعابة وألطف الدعابة بالفضيلة، لعل قرائي يشقون إذا أمكن، عن هذا السبيل أو ذاك، طريقهم إلى التأمل فيما يجري حولهم كل يوم، رغبة مني في ألا يكون حظهم من الفضيلة قليلا عابرا، أو مجرد ومضات متقطعة من التفكير، صح عزمي على أن أنعش ذاكرتهم وعقولهم بين الحين الحين، حتى أخرجهم من ظلمات اليأس والرذيلة والحماقة التي تردى في هذا العصر. فإن العقل الذي يخلد إلى الدعة والراحة ولو يوماً(32/263)
واحداً، يشب على الحماقات والسخافات التي لا يمكن اقتلاعها إلا بالمداومة على تثقيفه تثقيفاً جاداً مثابراً. ولقد قالوا عن سقراط أنه أنزل الفلسفة من السماء لتسكن بين الناس على الأرض، وكم تهفو نفسي أن يقال عني أني أتيت بالفلسفة من المخابئ والمكتبات والمدارس والجامعات، لتستقر في النوادي والجمعيات، وعلى موائد الشاي، وفي المقاهي.
من أجل ذلك أوصي، بالنسبة لتأملاتي هذه، وبصفة خاصة، الأسرات التي ترعى النظام والدقة في حياتها، ن تخصص في كل صباح ساعة محددة لتناول الشاي والخبز والزبد، وأنصحها جديا، ولخيرها هي، أن تثابر على ثراء هذه الصحيفة، وتعتبرها جزءاً من تجهيزات الشاي".
واتجهت صحيفة "سبكتاتور" إلى النساء والرجال سواء بسواء، فعرضت أن تعالج موضوع الحب والجنس، وتصور "الحب الزائف أقبح وأشد قتاماً من ... الخيانة في الصداقة أو النذالة والخسة في التجارة وسائر الأعمال (73). وكتب أديسون يقول: "سيكون من أعظم مفاخر هذه المهمة التي أنهض بها أن تهيئ هذه الصحيفة بعض الموضوعات التي يخوض فيها بعض السيدات العاقلات المفكرات على موائد الشاي (74) ". وشجعت الرسائل وطبعت، وكتب ستيل نفسه سلسلة من الرسائل التي تشكو الحرمان من الحب والأحباب، كان بعضها موجها إلى خليلاته، وبعضها دبجه المحررون في أسلوب حديث جداً. وجمعت الصحيفة بين الدين والحب. وزودت باللاهوت المعتدل جيلاً بدأ يتساءل عن أثر تخلخل إيمان الطبقات العليا عن الأخلاق. وأهابت بالعلم أن يتابع طريقه، ويدع الكنيسة وحدها حارساً حكيماً محنكاً على الأخلاق، فأن حقوق الوجدان ومتطلبات النظام تدل على إدراك الفرد وعقله، فهو دوما في دور المراهقة. وخير للأخلاق ولسعادة الإنسان تقبل العقيدة القديمة في خشوع، وحضور صلواتها وخدماتها والالتزام بعطلاتها، والمساعدة على خلق الجو المناسب ليوم العبادة الهادئة في كل أبرشية.(32/264)
"إني لأجد السرور كل السرور في يوم الأحد في الريف، وكم أتمنى لو أن تقديس اليوم السابع والتعطيل فيه كان مجرد نظام إنساني، إذن لأصبح أفضل وسيلة فكر فيها الإنسان لتهذيب الجنس البشري وصقله وتمدينه، ومن المؤكد أن أهل الريف سيخطون سريعا إلى نوع من المتوحشين والمتبربرين إذا لم يعودوا دوماً إلى زمن محدد تجتمع فيه القرية كلها بوجوه باسمة في أبهى حلة ليتدارس أهلها فيما بينهم مختلف الموضوعات، وليوضح لهم ما ينبغي عليهم أداؤه من واجبات، وليجتمعوا معا لعبادة الله "الكائن الأسمى".
إن يوم الأحد صدأ الأسبوع كله، لا لأنه يحي الأفكار الدينية في العقول. بل لأنه يجمع بين الرجال والنساء. والكل يبدو في أحسن صورة (75) ".
أما الأدب الذي كان مطية الإباحية والخلاعة طوال الأربعين عاماً الماضية، فقد انحاز الآن إلى جانب الأخلاق والإيمان. وأسهمت صحيفة سيكتاتور في انقلاب السلوك والأسلوب الذي استبق في عهد الملكة آن، بقرن من الزمان، روح أواسط العصر الفكتوري، التي قضت بألا يحترم إلا من هم حقا جديرون بالإحترام، وغيرت مفهوم الانجليز عن السيد الماجد "جنتلمان" من الرجل ذي اللقب الذي يحسن مغازلة النساء، إلى المواطن المهذب الكريم النشأة. وفي "سبكتاتور" وجدت فضائل الطبقة الوسطى من يدافع عنها دفاعا مهذبا مصقولا. وكان التعقل وحسن التدبير وعدم التبذير أجدى على المجتمع وثمن لديه من أناقة الثياب وسرعة الخاطر وكان التجار سفراء الحضارة إلى الشعوب المختلفة. وكانت عائدات التجارة والصناعة عصب الحياة للدولة.
وأحرزت صحيفة سبكتاتور نجاحاً ومنزلة رفيعة ليس لهما مثيل في الصحافة الانجليزية وكان توزيعها ضئيلا، لا يكاد يجاوز أربعة آلاف، ولكن تأثيرهاً كان عظيماً إلى حد بعيد. وكان يباع من مجموعاتها المجلدة(32/265)
نحو تسعة آلاف نسخة سنويا (76)، وكأنما أدركت انجلترا فعلا أنها لون من الأدب. ولكن بمرور الزمن بليت جدثها وخبا بريقها، وبدأت شخصيات النادي تكرر نفسها، وفترت حيوية الكتاب المنهوكين ونشاطهم، وصبحت عظاتهم تبعث السأم في نفوس القراء. وهبط توزيع الصحيفة، وزادت المصروفات على الايرادات نتيجة ضريبة التمغة التي فرضت 1712. وفي 16 ديسمبر 1712 احتجبت الصحيفة عن الظهور. وواصل ستيل الكفاح في صحيفة "جارديان". وأحيا أديسون صحيفة سبكتاتور 1714. ولم يطل عمر الصحيفتين كلتيهما، لأن أديسون كان قد أصبح آنذاك كاتبا مسرحيا ناجحا، وأعيدت إليه وظائفه ورواتبه الحكومية.
وفي 14 أبريل 1713 أخرج مسرح "دروري لين" مسرحية "كاتو" لأديسون كتب لها صديقه بوب مقدمة زاخرة بالحكم والأفكار التي عرفت عنه، مثقلة بالوطنية الثائرة المتفائلة معا، وأخذ ستيل على عاتقه أن يحشد لمشاهدة المسرحية كل "الأحرار" الغيورين المتحمسين، فلم يوفق في ذلك كل التوفيق، ولكن "المحافظين" انضموا إلى الأحرار في استحسان وقفة "كاتو" الأخيرة دفاعا عن "الحرية الرومانية" (46 ق. م.) وتبارت صحيفة المحافظين "اجزامنر" مع صحيفة ستيل "جارديان" في نشوة الابتهاج والاستحسان. واستمر العرض لمدة شهر كامل مع تزايد عدد المترددين على المسرح لمشاهدتها، حتى قال بوب "لم يكن كاتو محل إعجاب ودهشة روما في زمانه قدر ما هو موضع إعجاب ودهشة بريطانيا في أيامنا هذه" (77). واعتبرت كاتو في القارة أجمل مسرحية "تراجيدية" في اللغة الإنجليزية. وأعجب فولتير بالتزامها بالوحدات، وعجب كيف أن إنجلترا تطيق صبراً على شكسبير بعد مشاهدة رواية أديسون (78). ويهزأ النقاد اليوم بها على أنها خطابة تافهة مضجرة ولكن أحد القراء وجد أن انتباهه مشدود حتى النهاية بفضل الحبكة المحكمة البناء وقصة الحب المدمجة بشكل بارع في الصراع الأكبر.(32/266)
وازدادت الآن شعبية أديسون إلى حد قال معه سويفت "أعتقد أنه لو فكر في أن يختار للجلوس على العرض لكان من العسير أن يأبى عليه أحد هذه الرغبة (79) ". ولكن أديسون الذي كان دوماً نموذجاً للاعتدال قنع بتعيينه وزيراً في الحكومة، لشئون إيرلندة آنذاك، ثم كبير مفوضي التجارة. وكان شخصية محبوبة جداً في النوادي، لأن إدمانه على الشرب منعه من أن يكون "الرجل الشاذ البشع غاية الباعة والشذوذ الذي لا يحبه الناس أبداً". ورغبة منه في تتويج مجده وعظمته، تزوج (1716) من كونتيسة، ولم يكن سعيداً في حياته مع السيدة المتعجرفة في "هولندهاوس" في لدن. وفي 1717 عين ثانية وزيراً، ولكن مقدرته كانت محل نزاع وشك. وسرعان ما استقال بمعاش قدره 1500 جنيه في العام. وعلى الرغم من تجلده وأدبه الجم انزلق في عراك مع أصدقاءه - ومنهم ستيل وبوب - الذي هجاه بأنه متزمت اعتاد "أن يلعن الناس بالإطراء الباهت الحقير، فهو:
مثل كاتو يقدم للسناتو الهزيل القوانين، ثم يتخذ مقعده لينصت إلى ما يكال له من مديح (80).
وكانت خاتمة حياة ستيل أقل عظمة وجلالاً من أديسون. أنه انتخب للبرلمان في 1713، ولكن الغالبية التي تنتمي إلى حزب المحافظين أخرجته بتهمة أن لغته محرضة مثيرة للفتنة. وفاز حزب الأحرار في السنة التالية، فحظي ستيل بعدة مناصب إدارية تدر عليه مالاً، وتعادلت لفترة من الزمن موارده مع نفقاته، ولكن ديونه طغت، وطارده دائنون، وآوى إلى ضيعة زوجته في ويلز، وهناك وافته المنية في أول سبتمبر 1729، بعد شريكه بعشر سنين. أنهما معاً: ستيل بأصالته وحيويته ونشاطه، وأديسون بذوقه الفني المصقول ارتفعا بالقصة القصيرة والمقال إلى آفاق جديدة من الجودة والإتقان، وأسهما في إبتعاث الأخلاق من جديد في ذاك العصر، وحددا طابع الأدب الإنجليزي وشكله لمدة قرن من الزمان باستثناء العبقرية البالغة القوة والعنف في هذا العصر.(32/267)
8 - جوناثان سويفت
1667 - 1745
كان سويفت يكبر ستيل وأديسون بخمس سنين. ولكنه عمر بعد أحدهما ست عشرة سنة، وبعد الآخر ستاً وعشرين. وكان بمثابة شعلة متأججة سرت من قرن إلى قرن، من دريدن إلى بوب. ولم يستطع قط أن يغتفر مولده في دبلن الذي كان عائقاً مثيراً للغضب في إنجلترا. وكم كان قاسياً عليه أن يقضي أبوه نحبه قبل ولادته، وكان الوالد قهرمان قصر الملك في دبلن. وعهد بالطفل إلى مرضعة حملته منها إلى انجلترا، ولم تعد به إلى أمه إلا عندما بلغ الثالثة من العمر، وربما ولدت هذه المغامرات والمخاطر في نفس الصبي شيئاً من قلق اليتيم. ولابد أن هذا الشعور ازداد عمقاً في نفسه، بانتقاله إلى عم له. سرعان ما تخلص منه، وهو في السادسة بإلحاقه بمدرسة داخلية في كلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بترنتي كولدج في دبلن، حيث ظل بها سبع سنين. وشق طريقه في الكلية بصعوبة لأنه كان مهملاً في اللاهوت بصفة خاصة. وكثيراً ما قصر وعوقب، وذاق مرارة الفقر والحرمان عندما تعثر حظ عمه الذي تولى الإنفاق عليه، وأصيب بانهيار عصبي (1688). وعند موت عمه 1689، وفي غمرة ثورة إيرلندة لنصرة جيمس الثاني، هرب جوناثان إلى إنجلترا، وإلى أمه التي كانت تعيش في ليستر على عشرين جنيهاً في العام. وعلى الرغم من طول الفراق بينهما، انسجما معاً إلى حد معقول، وتعلم كيف يحبها، وزارها من حين إلى حين، حتى وفاتها (1710).
وفي أواخر عام 1689 وجد سويفت عملاً براتب قدره عشرون جنيهاً في العام مع الإقامة والطعام، سكرتيراً لسير وليم تمبل في موربارك. وكان تمبل حينذاك في أوج عظمته، صديقاً ومستشاراً للملوك. ويجدر بنا ألا نقسو في لومه لإخفاقه في التعرف على العبقرية في الشاب ذي الاثنين والعشرين ربيعاً الذي جاءه ببعض اللاتينية واليونانية، وببعض اللهجة الإيرلندية مع جهل ماكر باستخدام الشوكة والملعقة وعلاقة الواحدة منهما بالأخرى(32/268)
على المائدة (81) وكان سويفت يجلس مع كبار العاملين في خدمة تمبل، إلى مائدة سيدهم (82)، الذي لحظ دوماً الفرق بينه وبينهم. ولكن تمبل كان فأرسل سويفت 1692 إلى أكسفورد ليحصل على درجة الأستاذية. وأوصى به عطوفاً، وليم الثالث خيراً، ولكن دون جدوى.
وفي نفس الوقت كان سويفت يكتب مقطوعات شعرية من ذات البيتين. عرض بعضها على دريدن الذي قال له "ياسويفت، يابن العم، إنك لن تكون شاعراً أبداً"- وهي نبوءة كانت دقتها تجل عن إدراك الشاب وتقديره. وفي 1694 ترك سويفت خدمة تمبل، مع توصية منه. فعاد إلى إيرلندة، ورسم قسيساً أنجليكانياً (1665) وعين في وظيفة كنيسة صغيرة صغيرة ذات راتب في كلروت بالقرب من بلفاست. وهناك وقع في غرام جين دارنج التي سماها "فارنيا"، وعرض عليها الزواج، ولكنها أمهلته حتى تتحسن صحتها ويزداد دخله. ولما لم يطق صبراً على هذه العزلة القاتلة في أبرشية ريفية، هرب من كلروت 1669 وعاد أدراجه إلى تمبل وظل في خدمته حتى مات هذا الأخير.
وكان سويفت في عامه الأول في موربارك، قد التقى بأستر جونسون التي قدر لها أن تصبح " Stella". وتناثرت بعض الشائعات بأنها نتاج شيء من طيش سير وليم تمبل، الذي كان نادراً. والأرجح أنها ابنة تاجر من لندن. التحقت أرملته بخدمة ليدي تمبل. وعندما رآها سويفت لأول مرة كانت في سن الثامنة، تبعث على السرور والابتهاج مثل سائر البنات في هذه السن، ولكنها كانت أصغر من أن تثير فيه لواعج الغرام والهيام. أما الآن وهي في الخامسة عشرة، فقد اكتشف سويف، معلمها الذي ناهز التاسعة والعشرين، أن مفاتنها تثير المشاعر البدائية لدى الكاهن المحروم، لها عينان سوداوتان براقتان، وشعر أسحم، وصدر منتفخ، "رشيقة رشاقة غير معهودة في البشر. في كل حركة وفي كل كلمة وفي(32/269)
كل عمل" (هكذا وصفها سويفت فيما بعد)، "ركبت كل تقاطيع وجهها في أحسن صورة (83) " كيف لا تفتتن هلواز هذه معلمها أبيلاد (1).
وعندما توفي تمبل 1699 ترك لأستر ألف جنيه ولسويفت مثلها. وبعد آمال خائبة في الالتحاق بوظائف الحكومة، قبل سويفت الدعوة ليكون قسيساً وسكرتيراً لدى إرل بركلي الذي كان قد عين لفوره قاضي القضاة في إيرلندة. وعمل سكرتيراً للرحلة إلى دبلن، ولكنه هناك فصل عن عمله. فطلب أن يعين رئيساً لكنيسة "درف" وهو منصب كان على وشك أن يشغر. ولكن السكرتير الجديد، لقاء رشوة قدرها ألف جنيه، خص بالوظيفة مرشحاً آخر. واتهم سويفت إرل بيركلي والسكرتير كليهما، وجهاً لوجه، بأنهما "وغدان حقيران". فعملا على تهيئته بتعيينه قسيساً في "لاكور"، وهي قرية على بعد نحو عشرين ميلاً من دبلن، لا يزيد شعبها على خمسة عشر شخصاً. والآن في 1700 بلغ دخل سويفت 230 جنيهاً، وهو دخل حسبته جين وارنج كافياً لإتمام الزواج. ومهما يكن من أمر، فقد مضت أربع سنوات على مفاتحته لها في أمر الزواج، وفي نفس الوقت كانت قد وقعت عينه على استر. فكتب على جين يقول أنها إذا تزودت بقسط من التعليم يؤهلها لتكون شريكة صالحة لحياته، وتعد بأن ترضى عن كل ما يحب ويكره، وتخفف من متاعبه ودراسته، فإنه يتزوجها دون نظر إلى وسامتها وجمالها أو إلى دخلها (84).
ومذ كان سويفت وحيداً في لاراكور، فإنه كثيراً ما تردد على دبلن. وهناك في 1701 حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت، وبعد ذلك في نفس العام، دعا أستر جونسون وصديقتها مسز روبرت دنجلي ليحضرا ويقيما معه في لاراكور، فقدمتا واتخذتا مسكناً بالقرب منه. وفي أثناء تغيبه في إنجلترا شغلتا مسكنه الذي كان قد استأجره في دبلن وكانت أستر
_________
(1) فيلسوف ولاهوتي فرنسي في القرن الحادي عشر، تزوج تلميذته وعشيقته هلواز.(32/270)
"ستيللا" تتوقع منه أن يتزوجها، ولكنه تركها تنتظر طيلة خمسة عشر عاماً، واحتملت هي هذا الموقف الذي وضعها فيه على مضض، وانتابها الاضطراب والكآبة. ولكن قوة شخصيته وحدة تفكيره، أخمدتا جذوتها وكأنما وقعت تحت تأثير تنويمه المغناطيس حتى النهاية.
وتألفت حدة ذهنه بشكل مباغت حين نشر في 1074 في مجلد واحد "معركة الكتب" و "حكاية حوض الاستحمام". والأول إسهام موجز لا يستحق الذكر في الجدل حول المزايا النسبية للأدب قديمة وحديثة. أما الثاني فهو عرض هام لفلسفة سويفت الدينية أو غير الدينية. وقال سويفت عندما أعاد قراءة كتابه هذا في أخريات أيامه: "يا إلهي: أية عبقرية أملت على هذا الكتاب؟ (85). وأحبه كثيراً إلى حد أنه في الطبعات التالية أتحفه بخمسين صحيفة أخرى من الهراء، على شكل مقدمات واعتذارات. وكان يفاخر ويزهو بأن الكتاب ينم عن أصالة بالغة. ومع أن الكنيسة كانت منذ أمد بعيد قد أكدت أن المسيحية هي "رداء المسيح السليم الذي شبه فيه" ولكن الإصلاح البروتستانتي مزقه إرباً فأن أحداً- خصوصاً كارليل Sartor Resortus- لم يطعن في القوة التي لم يسبق لها مثيل التي رد فيها سويفت كل الفلسفات والديانات إلى مجرد أردية تستخدم لستر جهلنا المرتجف أو إخفاء رغباتنا الجامحة المفضوحة:
"هل الإنسان نفسه إلا رداء بالغ الصغر أو على الأصح مجموعة كاملة من الملابس بكل زخارفها وزركشاتها؟ أليست الديانة عباءة، والأمانة حذاء بلى بالوحل، وحب الذات معطفاً ضيقاً غاية الضيق، والغرور قميصاً، أليس الضمير إلا سروالاً (بنطلوناً) يستر الخلاعة والقذارة، ولكن من السهل نزعه لخدمة الخلاعة والقذارة كلتيهما؟ فإذا وضعت بعض قطع الفراء الرخيص أو الثمين في موقع معين من الرداء فإننا بذلك نصنع قاضياً وحكماً ومن ثم فإن بعض الشاش والأطلس الأسود بعضهما إلى بعض بشكل مناسب يصنع لنا أسقفاً (86) ".(32/271)
وجرت إستعارة الرداء هنا بدقة ورقة. أن بيتر (الكاثولوكية)، ومارتن (اللوثرية والأنجليكانية) وجاك (الكلفنية) تسلموا، ثلاثتهم، من أبيهم وهو يحتضر، ثلاثة أردية جديدة متماثلة (كتباً مقدسة) إلى جانب وصية توجههم كيف يلبسونها، وتحرم عليهم إبدالها، أو إضافة خيط واحد إليها أو إنتقاص خيط واحد منها ووقع الأبناء الثلاثة في غرام سيدات ثلاث: "دوقة المال"، أي الثراء، و"آنسة الألقاب الفخمة" أي الطمع، و"كونتيسة الكبرياء" أي الغرور، ولكن الأخوة الثلاث، رغبة منهم في إرضاء هؤلاء السيدات، يعمدون إلى إحداث بعض التغيير في أرديتهم الموروثة. ولما بدا لهم أن التغييرات تتعارض مع وصية أبيهم، أعادوا تفسير الوصية بتأويلات صادرة عن علماء ومثقفين. أما بيتر فقد أراد أن يضيف حواشي وأهداباً من الفضة (البذخ البابوي). وسرعان ما أتضح للعلماء الثقاة أن لفظة "الهدب أو الحاشية" في الوصية تعني عصا المكنسة الطويلة. وهكذا إختار بيتر الحواشي الفضية، ولكنه حرم على نفسه عصا المكنسة الطويلة "السحر") وفرح البروتستانت (المحتجون) حين وجدوا أقسى الهجاء والنقد يوجه إلى بيتر: إلى شرائه قارة كبيرة (المطهر- مكان تطهر فيه نفوس الأبرار بعد الموت بعذاب محدود الأجل) ثم بيعه (أي المطهر) في أجزاء متفاوتة (صكوك الغفران) المرة بعد الأخرى، والى علاجاته الناجحة الخالية من الآلام عادة (القفازات) للديدان (أي وخزات الضمير) - وعلى سبيل المثال: "اإمتناع عن أكل شيء بعد العشاء لمدة ثلاث ليال، وألا تخرج على الإطلاق ريحاً من الجانبين دون سبب واضح (87) "، وكذلك وجه النقد إلى بيتر لإبتداع "وظيفة الهمس" (أي الإعتراف) "لخير وراحة المصابين بوسواس المرض أو الذين أرهقهم المغص" و"ووظيفة التأمين" (أي مزيد من الغفران)، "المخلل البالي المشهور (الكاثوليكي) ويعني به "الماء المقدس"، على أنه من الضعف والإنحلال. وحيث تزود بيتر بهذه الوسائل والحيل الحكيمة فإنه ينصب نفسه ممثلاً للرب، ويصف(32/272)
فوق رأسه قبعات ذات تاج عال. ويمسك في يده بعصا يختال بها، وإا رغب الناس في مصافحته، قدم لهم "كأن كلب مدرب تدريباً جيداً" قدمه (88). ويدعو بيتر إخوته إلى الغداء، ولا يقدم لهم غير الخبز، ويؤكد لهم أنه ليس خبزاً بل لحماً، ويدحض إعتراضاتهم ويقول "لإقناعكما بأنكما لستما إلا شخصين أحمقين جاهلين عنيدين أعميين حقاً"، لن أستخدم إلا حجةً واحدةً: والله إنه لحم ضأن طيب طبيعي مثل أي لحم ضأن في "ليندهول ماركت"، صب الله عليكما اللعنة الأبدية إذا صدقتما غير ما أقول (89) ". ويثور الإخوان، ويستخرجان "نسخاً حقيقية" من الوصية (ترجمة الكتاب المقدس باللغة الوطنية)، ويشجبان بيتر على أنه محتال دجال. وبناء على هذا طرد بيتر أخويه من داره، ولم يستظلا بسقفه منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا (90) ". وسرعان ما دب النزاع بعد ذلك بين الإخوة: إلى أي حد ينبذون أو يغيرون من أثوابهم الموروثة. ويعتزم مارتن، بعد ثورة غضبه الأولى، أن يلتزم جادة الإعتدال. ويتذكر أن بيتر أخوه. أما بيتر، فإنه على أية حال يمزق ثوبه إرباً (شيع كلفنية). ويصاب بمسات من الجنون والغيرة. ويستطرد سويفت ليصف عمليات الريح (ويقصد بها الوحي والإلهام) عند العولسيين) - نسبة إلى عولس إله الريح "ويعني بهم" الوعاظ الكلفنيين. ويسخر كثيراً- سخرية لا يجوز نقلها هنا- من ألفاظهم الأنفية الحادة ومن نظرياتهم في القضاء والقدر، وتقديسهم الأعمى للنصوص المقدسة (91).
والى هنا، لم يصب مذهب الكاتب- المذهب الأنجليكاني إلا اليسير من الجراح، ولكن سويفت يسترسل في القصة، ويغير الأثواب إلى رياح، ومن الواضح أنه ينتهي إلى أن كل الديانات والفلسفات- لا لاهوتيات المنشقين فحسب- ليست إلا أضاليل وأوهاماً كاذبةً سريعة الزوال.
"إذا إستعرضنا الإنجازات العظيمة التي تمت في العالم ... مثل تكوين الإمبراطوريات الجديدة عن طريق الغزو والفتح، وإبتداع ونمو مذاهب(32/273)
جديدة في الفلسفة، وإستنباط أديان جديدة ونشرها، فلسوف نجد أن الذين قاموا بهذا كله، ليسوا إلا أشخاصاً هيأت لهم عقولهم الطبيعية أن يقوموا بإنقلابات كبيرة، بفضل غذائهم وتعليمهم، ومزاج معين سائد، بالإضافة إلى تأثير خاص للهواء والمناخ ... لأن عقل الإنسان المستقر في مخه، لابد أن ترهقه وتغمره أبخرة ورياح صاعدة من القوى والوظائف الجسدية الدنيا لتسقي المخترعات وتجعلها مثمرة (92).
ويسترسل سويفت في تفصيل فسيولوجي لا يمكن ذكره، لما بدا له أنه مثال رائع لإفرازات داخلية تولد أفكاراً قوية، ومن ذلك "المشروع الكبير" لهنري الرابع: ذلك أن ملك فرنسا لم يوح إليه بشن الحرب ضد آل هيسبرج ويستحثه عليها إلا تفكيره في الإستحواذ في طريقه على امرأة (هي شارلوت مونمورنس) التي حرك جمالها في الملك عصارت مختلفة "صعدت إلى مخه (93) " وهذا هو بالمثل ما حدث بكبار الفلاسفة الذين حكم عليهم معاصروهم بحق بأنهم "فقدوا عقولهم":
"ومن هذا الطراز كان أبيقور، ديوجين، أبوللونيوس، لوكريشس، ياراسلسوس، ديكارت، وغيرهم، ممن كانوا على قيد الحياة الآن، ... لتعرضوا في هذا العصر المتميز بالفهم، لخطر واضح، خطر فصد الدم، والسياط، والأغلال، والحجرات المظلمة والقش (في السجون) أما الآن فقد يسرني أن أعرف كيف أنه من الميسور أن نعلل لهذه التصورات والأفكار، .. دون إشارة إلى الأبخرة التي تتصاعد من القوى والوظائف الجسدية الدنيا، حيث تلقي ظلالاً معتمةً على المخ، فتقطر أو تتساقط مفاهيم لم تضع لها لغتنا الضيقة بعد أسماء غير الجنون أو الخبل (94).
ولمثل "هذا الخلل أو التحول في المخ بفعل الأبخرة المتصاعدة والقوى والوظائف الجسدية الدنيا" يعزو سويفت كل الانقلابات أو الثورات التي حدثت في الآمبراطورية والفلسفة والدين (95) ويخلص إلى أن كل مذاهب الفكر عبارة عن رياح من الألفاظ، وأن الزجل العاقل لا ينبغي له أن ينفذ(32/274)
إلى الحقيقة الباطنة للأشياء، بل يقنع نفسه بالسطح أي بظواهر الأشياء، وبناء على هذا يستخدم أحد التشبيهات اللطيفة التي ينعطف إليها دائماً: "رأيت في الإسبوع الماضي امرأة سلخ جلدها، ولن تصدق أنت بسهولة إلى أي حد تغير شكلها إلى أسوأ مما كانت (96) ".
إن هذا الكتاب الصغير المخزي الذي وقع في 130 صفحة، جعل من سويفت في الحال "سيد الهجاء"- أو كما سماه فولتير: رابليه آخر في صورة متقنة. إن القصص الرمزي أو المجازات إتسقت إتساقاً حرفياً مع معتقده الأنجليكاني التقليدي. ولكن كثيراً من القراء أحسوا بأن الكاتب متشكك، إن لم يكن ملحداً. أما رئيس الأساقفة شارب فإنه أبلغ الملكة آن أن سويفت لم يفضل الكافر بشيء كثير (97). وكان من رأي دوقة مالبورو الصديقة الحميمة للملكة، أن سويفت:
"حول، منذ زمن طويل، كل الديانة إلى "قصة حوض الإستحمام" على أنها وباعها دعابة. ولكنه كان قد إستاء من أن "الأحرار" لم يكافئوه بالترقية في الكنيسة على ما أظهره من غيرة شديدة على الدين بهزله الدنس، ولذلك سخر إلحاده ومزاحه ومرحه في خدمة أعدائهم (98) ".
كذلك نعته ستيل بأنه كافر، ووصفه نوتنجهام في مجلس العموم بأنه عالم لاهوتي "من العسير أن يشك في أنه مسيحي (99). وكان سويفت قد قرأ هوبز، وهي تجربة ليس من اليسير نسيانها. ذلك أن هوبز كان قد بدأ بالخوف، انتقل إلى المذهب المادي، وانتهى بأن يكون (محافظاً) يناصر الكنيسة الرسمية.
وكان لرجال الدين قليل من العزاء في أن سويفت أخرج مؤلفاً في الفلسفة:
"إن مختلف الآراء الفلسفية انتشرت في أنحاء العالم، وكأنها أمراض طاعون أصابت العقل، كما انتشر صندوق بندورا (1) الأوبئة التي تصيب
_________
(1) Pandona- في الأساطير اليونانية- أول امرأة فانية مهلكة أرسلها الإله زيوس، عقاباً للبشر على سرقة بروميثيوس للنار. أعطاها زيوس صندوقاً فتحته فانطلقت منه إلى الدنيا كل العلل والأمراض التي تصيب الجسم، (وفي رواية حديثة أطلقت منه كل نعم الحياة فتبددت وضاعت هباء منثورا، ولم يتبق إلا مجرد الأمل.(32/275)
الجسم، مع فارق واحد، هو أن الطاعون لم يترك شيئاً من الأمل في القاع إن الحقيقة خافية على الناس، قدر خفاء منابع النيل، ولا يمكن وجودها إلا في "بوتوبيا" (المدينة المثالية) (100).
ومن الجائز أن سويفت، لأنه أحس بأن الحقيقة لم تقصد للبشر، نبذ في إصرار شديد كل الفرق الدينية التي ادعت أن مذهبها "هو المذهب الصحيح". وازدرى الرجال الذين زعموا- مثل بانيان وبعض الكويكرز- أنهم رأوا الله أو كلموه. وانتهى، مع هوبز، إلى أنه ضرب من الانتحار الاجتماعي أن نترك لكل إنسان الحرية في أن يصنع عقيدته أو مذهبه بنفسه، حيث لن تكون نتيجة ذلك إلا عاصفة هوجاء من السخافات يصبح معها "بيمارستانا" أو مستشفى للأمراض العقلية. ومن ثم عارض سويفت حرية الفكر، على أساس أن "جمهور البشر مؤهل للطيران قدر ما هو مؤهل للتفكير (101) ". واستنكر التسامح الديني، وظل لآخر حياته يؤيد "قانون الاختبار" الذي قضى بإقصاء غير أتباع الكنيسة الرسمية عن كل الوظائف السياسية والعسكرية (102). واتفق مع الحكام الكاثوليك واللوثريين على أنه يجب أن يكون للأمة عقيدة دينية واحدة. وحيث أنه ولد في إنجلترا، ومذهبها الرسمي هو الأنجليكاني، فإنه رأى أن الإتفاق العام الكامل على اعتناق هذا المذهب أمر لا غنى له عنه لعملية تمدين الإنجليز ونشر سويفت في 1708 بعض القطع: "أحاسيس رجل يتبع كنيسة إنجلترا"، "والدليل على أن إلغاء المسيحية في إنجلترا قد يستتبع بعض المتاعب والمشاكل والمزعجات "وكان آنذاك في طريقه من الأحرار إلى المحافظين".
وكان أول ارتباط سياسي له- بعد ترك ثمبل- مع الأحرار، حيث(32/276)
بدا له أنهم أكثر تقدمية، ومن الأرجح أن يجدوا عملاً لرجل أكبر عقلاً وأقل ثراءً. وفي 1701 نشر كتيباً يناصر فيه حزب الأحرار وكله أمل في الظفر بشيء. ورحب هاليفاكس وسندر لند وغيرهما من زعماء الأحرار، بانضمامه إلى حزبهم، ووعدوه خيراً إذا تولوا الحكم. ولكنهم لم ينجزوا ما وعدوا، ويحتمل أنهم خشوا من أن سويفت رجل لا يسهل قياده، وأن قلمه سلاح ذو حدين، وفي رحلة موسعة من أيرلنده إلى لندن في 1705 كسب سويفت صداقة كونجريف وأديسون وستيل. وأهداه أديسون نسخة من "رحلات إلى إيطاليا" وكتب في عبارة الإهداء "إلى جوناتان سويفت، أحسن رفيق وخير صديق، أعظم عبقرية في زمانه يقدم خادمه الذليل، المؤلف، هذا الكتاب (103) "، ولكن هذه الصداقة، مثل صداقة جوناثان مع ستيل وبوب، لم تدم، وأتت عليها نيران سويفت المتقدة أو ثورته المتصاعدة.
وفي زيارة أخرى لدينة لندن، تسلى سويفت بتدمير منجم دعي. ذلك أن جون بار تريدج، الإسكافي، أخرج كل عام تقويماً زاخر بالنبوءات المؤسسة على حركات النجوم. وفي 1708 نشر سويفت تحت اسم مستعار "إيزاك بيكرستاف" تقويماً تنافسياً. وكان من بين تنبؤات إيزاك، انه في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 مارس سيقضي بارتريدج نحبه. وفي 30 مارس نشر بيكرستاف في نشوة الانتصار رسالة أعلن فيها أن بارتريدج مات في ظرف بضع ساعات من الموعد المحدد في النبوءة، وذكر في تفصيل مقنع ترتيبات الجنازة. وأكد بارتريدج لمدينة لندن بأسرها أنه لا يزال حياً يرزق. ولكن إيزاك رد بأن هذا محض افتراء. وأدرك ظرفاء المدينة الخدعة. ورفع مكتب التسجيلات اسم بارتريدج من سجلاته أما ستيل فإنه اختار إيزاك اسماً لمحرر وهمي في صحيفة "تاتلر" عند افتتاحها في السنة التالية.
وفي 1710 غادر سويفت لارا كور مرة أخرى، موفداً عن الأساقفة(32/277)
الأيرلنديين ليطلب إلى الملكة آن أن تمد يد معونتها إلى رجال الدين الانجليكانيين في أيرلنده: ورفض جودلفين وسومرز، وهما عضوان من حزب الاحرار في مجلس المكلة، الموافقة على هذا إلا إذا وافق رجال الدين هؤلاء، على التخفيف من حدة "قانون الاختبار" والإرخاء من قبضته. وعارض سويفت بشدة التخفيف المطلوب. واكتشف الأحرار أنه كان "محافظاً" بالنسبة للعقيدة الدينية. وأعترف سويفت عملياً بأنه "محافظ" بالنسبة للسياسة أيضاً، حين كتب: "إني كنت أمقت دوماً هذا النهج السياسي ... ألا وهو وضع مصالح ذوي المال في مواجهة مصالح مالكي الأرض (104) ". ولجأ إلى زعيمي المحافظين، هارلي وبولنجبروك ولقى ترحيباً حاراً، وأصبح بين عشية وضحاها "محافظاً" راسخاً. وعين محرراً لصحيفة المحافظين "إجزامنر". وأبرز أسلوبه بوضوح عندما وصف نائب حاكم أيرلنده- وهو من حزب الأحرار، وكان أديسون صديق سويفت سكرتيراً له:
"إن توماس إرل وارتون ... بحكم دستور غريب، قضى بضعة أعوام من سني اليأس التي تقدم بها عمره، دون آثار بارزة للشيخوخة في جسمه أو عقله. وعلى الرغم من مقارفته المستمرة لكل الموبقات التي تعتصر الجسم والعقل كليهما ... فإنه يذهب دوماً إلى الصلاة. ويتحدث حديث الفسق والفجور والتجديف على باب الكنيسة، فهو مشيخي في السياسة ملحد في العقيدة. ولكنه يؤثر الآن أن يفجر مع البابوية (105) ".
وسر الوزراء "المحافظون" بها الهجاء اللاذع الذي يشبه القتل، فعهدوا إلى سويفت بكتابة فذلكة "سلوك الحلفاء" (نوفمبر 1711)، كجزء من حملتهم لإسقاط مالبورو وإنهاء حرب الوراثة الإسبانية، واحتج سويفت بأن الضرائب الاستثنائية التي فرضت لتمويل الحروب الطويلة ضد لويس الرابع عشر يمكن خفضها بقصر إسهام إنجلترا في الحروب على البحر، وأوضح بأجلى بيان شكوى مالكي الأرض من أن عبء نفقات الحرب(32/278)
وقع على عاتقهم أكثر مما على عاتق التجار وأصحاب المصانع الذين كانوا يستفيدون من الحرب. أما بالنسبة لدوق مالبورو فقد قال سويفت "هل كان من حسن الرأي شن الحرب، أو لم يكن؟ ... وأوضح بأن الدافع إلى الحرب، هو الرفع من شأن أسرة بعينها، وبعبارة موجزة أنها حرب لحساب القائد ووزارة الأحرار، وليست حرباً لحساب الملك والشعب (106) وقدر الكاتب رواتب مالبورو وتعويضاته بنحو 540 ألف جنيه "وهذا الرقم دقيق (107) ". وبعد شهر واحد سقط مالبورو وصورت الدوقة زوجته الجريئة الصريحة وهي الوحيدة في إنجلترا التي كان لسانها حاداً لاذعاً، مثل لسان سويفت- صورت في مذكراتها المسألة من وجهة نظر الأحرار، فقالت:
"أن السيدين المحترمين مستر سويفت ومستر بريور أسرعا فعرضا نفسيهما للبيع ... وكلاهما من الموهوبين القادرين، وهما مستعدان لتسخير كل ما لديهما لخدمة أية فرية مخزية طالما كانت المكافأة مجزية. لأن كليهما لا يبالي بحمرة الخجل ولا بالسقوط أو الانزلاق من أجل مصلحة سادتهم الجدد (108).
وكافأ المحافظون تابعيهما الجديدين: فعينوا ماتيو بريور في منصب دبلوماسي في فرنسا حيث أبلى بلاءً حسناً. ولم يحصل سويفت على أي منصب ولكنه كان صديقاً حميماً وثيق الصلة بوزراء المحافظين، فاستطاع بذلك أن يحصل لكثير من أصدقائه على وظائف تدر مالاً وفيراً ولا تقتضي عملاً كثيراً. وكان مثال الكرم والعطف على من لم يعارضوه أو يهاجموه. وزعم فيما بعد أنه أهدى لخمسين شخصاً أكثر خمسين مرة مما أهداه أليه سير وليم ثمبل (109). وأقنع بولنجبروك بمساعدة الشاعر جاي Gay وألح على وجوب استمرار الوزارة في دفع الراتب الذي كان الأحرار يدفعونه لكونجريف. ولما طلب بوب جمع بعض التبرعات لمعاونته على ترجمة هوميروس، أمر سويفت كل أصدقائه وكل طلاب الوظائف بالتبرع،(32/279)
وأقسم "أن المؤلف لن يشرع في الطبع قبل أن يجمع له ألف جنيه (110) " وغطت شخصيته على مكانة أديسون في الأندية، وكان في كل ليلة تقريباً يتناول العشاء مع العظماء. ولم يكن يطيق من أحدهم أية سمة من سمات التعالي عليه. وكتب يوماً إلى ستيللا "إنني مزهو متكبر إلى حد أني أجعل اللوردات يأتون إلي ... كان مفروضاً أن أتناول العشاء في قصر أشبيرنهام، ولكن هذه السيدة المنحطة القذرة لم تعرج علينا لنصحبها في عربتها، ولكنها أرسلت في طلبنا فحسب، ولذلك أرسلت إليها إعتذاراً (111) ".
وفي السنوات الثلاث (1710 - 1713) في إنجلترا كتب سويفت الرسائل العجيبة التي نشرت فيما بين 1766 - 1768 تح عنوان "يوميات إلى ستيللا". إنه كان في حاجة إلى صديقة حميمة إلى جانبه في العشاء لدى الأدواق والدوقات، وفي انتصاراته السياسية. أضف إلى ذلك أنه أحب المرأة الصابرة، التي ناهزت الثلاثين آنذاك, ولكنها ظلت تنتظره حتى يحزم أمره. ولابد أنه أغرم بها، لأنه كتب لها أحياناً مرتين في اليوم الواحد، وأظهر اهتمامه وتعلقه بكل ما يعنيها، اللهم إلا الزواج. وما كان ينبغي لنا أن نتوقع من مثل هذا الرجل المستبد المتغطرس، هذا المزاج الرقيق، وهذه الألقاب والكنيات الغريبة، والنكات والتوريات، والحديث الصبياني، مما صبه سويفت في رسائله التي لم يتوقع نشرها. إنها وسائل زاخرة بالملاطفة والتدليل، ولكنها خلو من أي عرض أو اقتراح، اللهم إلا إذا كانت ستيللا قد قرأت وعداً بالزواج في رسالته المؤرخة 23 مايو 1711: "لن أطيل الحديث، ولكني أتوسل إليك أن تهدئي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن تثقي بأن سعادتك هي غاية ما أصبو وأسعى إليه في كل ما أعمل (112) " ومع ذلك فإنه في هذه الرسالة يطلق عليها "الطفلة المزعجة، الساذجة، الفتاة المغناج، البغي، المرأة القذرة، الكلبة المحبوبة، وغير ذلك من ألقاب التدليل والملاطفة. وإنا لنلمس روح الرجل(32/280)
حين يقول لها:
هل يجب أن تغتصب المرأة لأنها بغي (113) "؟.
وقد تعيننا علل سويفت الجسيمة على فهم السر في رداءة طبعه وسرعة غضبه، أنه منذ 1694، وهو في السابعة والعشرين من العمر، بدأ يعاني من دوار في الأذن الداخلية ومن حين لآخر، وبشكل لا يمكن التنبؤ به، أصابته نوبات من الدوار وتشويش الذهن والصمم. ونصح طبيب مشهور هو دكتور رادكليف بأن يوضع سائل مركب داخل كيس في لمة (الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن) سويفت، واشتدت به العلة على مر السنين، وكان من الجائر أن تسبب له الجنون. ويحتمل انه في 1717 قال للشاعر أدوار بنج، مشيراً إلى شجرة ذابلة "إني سأموت مثل هذه الشجرة سأموت في القمة (114). " وكان هذا وحده كافيا ليتشكك في قيمة الحياة، وليرتاب قطعاً في وجه الحكمة في الزواج. ومن الجائز أنه كان عنيناً، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وأعتاد على كثرة المشي اتقاء لهزال جسمه، فمشى مرة من فارنام الى لندن: 38 ميلاً.
وزاد من شدة مرضه حدة حواسه حدة مؤلمة، وهي عادة تلازم حدة الذهن وفرط الذكاء. وكان بشكل خاص شديد الحساسية للروائح في شوارع المدن وفي الناس. فاستطاع بمجرد الشم، عن صحة من يقابل من(32/281)
الرجال والنساء، وخلص من هذا إلى أن الجنس البشري أصابه النتن (115). ولذلك كان مفهوم المرأة الجديرة بالحب والإعجاب عنده ينحصر إلى حد ما في:
"أنها لا يخرج من جسمها النقي هبات كريهة الرائحة تثير الاشمئزاز، لا من خلف ولا من قدام، ولا من فوق، ولا من تحت، ولا يتصبب منها العرق البغيض (116) ".
أنه يصف "غادة جميلة في طريقها إلى الفراش"، ونفس المرأة حين تفيق.
"إن من يرى كورينا في الصباح يتقيأ، ومن يشم رائحتها يصاب بالتسمم".
إن مفهومه عن المرأة الشابة الجميلة مرتبط بحاسة الشم:
"إن أعز رفيقاتها لم يرينها يوماً تجلس القرفصاء لتتبول، ولك أن تقسم بأن هذه المخلوقة الملائكية لم تحس يوماً بضرورات الطبيعة، فإذا مشت في شوارع المدينة في الصيف لم يلوث أبطاها ثوبها. وفي حلبة الرقص في القرية أيام القيظ لن يستطيع أنف أن يشم رائحة أصابع قدميها (117) ".
وكان سويفت نفسه نظيفاً إلى حد التزمت. ومع ذلك فإن كتابات هذا الكاهن الأنجليكاني تعد من أفحش ما كتب في الأدب الإنجليزي. أن تبرمه بالحياة جعله يقذف بأخطائه في وجه زمانه. ولم يبذل أي جهد في إرضاء الناس، ولكنه بذل كل الجهد في أن يسيطر ويتحكم، لأن السيطرة خففت من شعوره الخفي بعدم الثقة في نفسه. وقال أنه يكره (أو يرهب) كل من لا يستطيع أن يأمره (118)، على أن هذا لم يصدق على حبه لهارلي، وكان غضوباً عند الشدة، متغطرساً فظاً وقت الرخاء والنجاح. وأحب السلطة أكثر مما أحب المال. وعندما أرسل إليه هارلي بخمسين جنيهاً أجراً لمقالاته، رد الحوالة وطالب بالاعتذار، وكان له ما أراد، فكتب إلى ستيللا "لقد استرضيت مستر هارلي ثانية (119) ". وكان يكره الرسميات ويحتقر النفاق. وبدا له أن الدنيا تميل إلى قهره،(32/282)
وقابل هو العداء بمثله صراحة، وكتب إلى الشاعر بوب:
"إن غاية ما أصبو في كل أعمالي أن أزعج العالم وأضايقه، لا أن أسليه، فإذا استطعت أن أحقق هذا الغرض دون أن الحق الأذى بشخصي أو بثروتي، لكنت أعظم كاتب لا يكل ولا يمل رأيته أنت في حياتك .. إذا فكرت في الدنيا فأرجوك أن تجلدها بالسوط بناء على طلبي. لقد كنت أبداً أكره الأمم والوظائف والمجتمعات. وكان كل حبي للأفراد، إني أكره طائفة رجال القانون، ولكني أحب مستشاراً بعينه أو قاضياً بعينه، وهكذا الحال مع الأطباء. (ولن أتحدث عن صناعتي)، والجنود، والإنجليز والاسكتلنديين والفرنسيين، ولكني أساساً أكره وأمقت هذا الحيوان الذي يسمى إنساناً، ولو أني من كل قلبي أحب جون وبيتر وتوماس وهكذا (120) ".
عند هذا الحد يبدو أن سويفت أقل الرجال جدارة بالحب، ولو أن امرأتين أحبتاه إلى أن فارقتا الحياة. وأقام في هذه السنوات في لندن قريباً من أرملة غنية تدعى فانهو مراي، وكان لها ابنان وابنتان، فإذا لم تتيسر له الدعوة إلى موائد العظماء، كان يتناول العشاء مع "آل فان". ووقعت الابنة الكبرى "هستر" في حبه وكانت آنذاك في الرابعة والعشرين (1711)، وهو في الثالثة والأربعين، وأفصحت له عن حبها. فحاول أن يصرف النظر عن هذا باعتباره مرحاً أو مزاجاً عابراً، وأوضح لها أنه قد كبرت سنه بحيث لم يعد يصلح لها. فأجابت، يحدوها كل الأمل، بأنها تعلمت منه في كتبه أن تحب عظماء الرجال قرأت "مونتاني في المرحاض"، فلماذا لا تحب رجلاً عظيماً إذا وجدته ماثلاً أمامها؟ فرّق قلبه ولانت قناته بعض الشيء فنظم قصيدة من أجل عينيها فقط "كادينوس وفانيسا" قصيدة بين المرح والمأساة. وكان "فانيسا" اسمه هو عندها، أما "كادينوس" فكان تصحيفاً للفظة "ديكانوس" أي الكاهن الكبير.(32/283)
ذلك انه أبريل 1713 عينته الملكة كارهة رئيساً لكاتدرائية سان باتريك في دبلن. وسافر إلى هناك في يونيه ليتسلم العمل، ورأى ستيللا وكتب إلى نانيسا بأنه كاد يموت كآبة وكمداً واستياء (121) وفي أكتوبر 1713 عاد إلى لندن وشارك في كارثة حزب المحافظين المفاجئة 1714، ومذ فقد السلطان السياسي بعودة الأحرار الذين كان قد هاجمهم، إلى الحكم في ظل الملك جورج الأول، فإنه قفل راجعاً إلى إيرلندة الكريهة، وإلى كاتدرائيته. ولم يكن محبوباً في دبلن لأن الأحرار الذين تولوا الآن الحكم كرهوه لنقده الساخر العنيف وخطبه اللاذعة، كما كرهه المنشقون لإصراره على استبعادهم من الوظائف العامة. وانطلقت من الناس أصوات الاستهجان والازدراء به في الشوارع، ورجموه بقاذورات البالوعات (122) ووصف أحد رجال الدين الأنجليكانيين منظر ردائه في قصيدة ثبتها بالمسامير على باب الكاتدرائية:
"يستقبل هذا المعبد اليوم رئيساً ذا مذاهب وشهرة غير عادية استخدمها جميعاً في الصلاة وفي الدنس، خدمة للرب والشيطان كليهما .. وهو مكان حصل عليه بالدهاء والقصيد وبوسائل أخرى من أعجب الوسائل. وربما أصبح بمرور الزمن أسقفاً، لو أنه آمن بالله (123) ":
وصمد سويفت للمحنة في شجاعة واستمر يناصر المحافظين، وعرض أن يشارك هارلي سجنه في برج لندن. وقام بواجباته الدينية، وألقى المواعظ بانتظام. ومنح الأسرار المقدسة، وعاش عيشة بسيطة، وتصدق بثلث دخله. وفي أيام الأحد فتح أبواب مسكنه للقاصدين، وجاءت ستيللا لخدمة الضيوف، وسرعان ما خفقت كراهية الناس له، وبدأوا يقبلون عليه. وفي 1724 نشر تحت اسم مستعار "م. ب. درابيية" ست رسائل يندد فيها بمحاولة وليم وود جمع أرباح طائلة من إمداد أيرلندة بعملة نحاسية. وأستنكر الأيرلنديون هذه المحاولة. وعندما اكتشفوا أن درابيية لم يكن إلا سويفت، كاد الكاهن المكتئب أن يصبح شعبياً محبوباً تماماً.(32/284)
وربما استطاع سويفت أن يحظى بلحظات من السعادة لو انه كان في مقدوره لأن يحتفظ بالبحر الأيرلندي بين السيدتين اللتين أحبتاه. ولكن في 1714 ماتت مسز فانهو مراي، وانتقلت ابنتها فانيسا إلى أيرلندة لتستغل بعض الممتلكات التي تركها لها والدها في سلبردج، على بعد أحد عشر ميلاً إلى الغرب من العاصمة. ولتكون بالقرب من رئيس الكاتدرائية، استأجرت مسكناً في زقاق تيرنستيل في دبلن، على مسافة قصيرة من مسكن ستيللا، وكتبت الى سويفت ترجوه أن يزورها، وإلا ماتت كمداً. ولم يستطع أن يقاوم توسلاتها، وفيما بين 1714 - 1723 تردد عليها خفية مراراً وتكراراً. ولما خفت زياراته لها أصبحت رسائلها إليه أشد حرارة والتهاباً. وقالت له في إحداها أنها ولدت بهذه "العواطف الجارفة" التي تنتهي كلها إلى شيء واحد: هو حبي لك الذي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه". وأبلغته أنه قد يكون من العبث أن يحاول تحويل حبها إلى حب الله، "فلو أني غيورة متحمسة فستظل أنت المعبود الذي يجب لأن أعبده" (124).
وربما فكر سويفت في الزواج للخروج من هذا المأزق الذي تورط فيه بين المرأتين اللتين أحبتاه، وربما طالبت ستيللا، وهي تعلم أن لها منافسة، بالزواج على أنه عدالة مطلقة وأبلغ دليل على ذلك أنه تزوجها فعلاً في 1716 (125) وواضح أنه يطلب إليها كتمان أمر زواجه. واستمرت تقيم بعيداً عنه. ويحتمل أنه لم يباشرها قط. واستأنف سويفت زياراته لفانيسا، لا مغازلاً، ولا وحشاً بهيمياً، بل المفهوم أن قلبه لم يطاوعه على أن يتركها يائسة بلا أمل، أو أنه خشي أن تقدم على الانتحار. وأكدت رسائله لفانيسا أنه احبها وقدرها فوق كل شيء، وأنه سيكن لها هذا الحب والتقدير حتى آخر لحظة من حياته. وسارت الأمور على هذا المنوال حتى 1723، حين كتبت فانيسا إلى ستيللا تسألها في صراحة تامة عن العلاقة بينها وبين رئيس الكاتدرائية. فأخذت ستيللا الخطاب إلى سويفت الذي ركب لفوره(32/285)
الى فانيسا ورمى على مائدتها. وروعها بنظراته الغاضبة. وتركها إلى غير رجعة دون أن ينبس ببنت شفة.
وعندما أفاقت فانيسا من غشيتها، تحققت آخر الأمر من أنه كان يخدعها، واجتمعت خيبة الرجاء إلى نزعة جامحة في إفناء ما بقى لها من أسباب الصحة والحياة، وقضت نحبها في بحر شهرين من هذا اللقاء الأخير (2 يونية 1923) وهي في الرابعة والثلاثين. وثارت لنفسها في وصيتها. فألغت وثيقة قديمة كانت قد جعلت فيها سويفت وريثاً لها، ثم أوصت بكل متاعها لروبرت مارشال والفيلسوف جورج بيركلي، وأمرتهما أن ينشرا دون تعليق رسائل سويفت إليها، وقصيدة "كادينوس وفانيسا". وهرب سويفت في "رحلة إلى الجنوب"، في إيرلندة، ولم يظهر في الكاتدرائية إلا بعد مضي أربعة شهور على وفاة فانيسا.
وعند عودته انصرف إلى كتابة أشهر وأقسى هجاء وجهه إلى الجنس البشري. وكتب إلى شارلي فورد أنه مشغول بوضع كتاب "يمزق العالم ويهزه هزاً عنيفاً بشكل عجيب (126) ". وانتهى سويفت منه بعد سنة، وحمل المخطوط بنفسه إلى لندن، ورتب أمر نشره تحت اسم مستعار، ورضى بمائتي جنيه ثمناً له، ثم قصد إلى دار الشاعر بوب في توبنكهام ليستمتع بالعاصفة المرتقبة. وهكذا استقبلت إنجلترا في أكتوبر 1726 "رحلات إلى عدة شعوب بعيدة في العالم" بقلم لوميل جلليفر. وكان أول رد فعل عام هو الابتهاج بالواقعية المفصلة في سرد الأحداث. واعتبره كثير من القراء تاريخاً، ولو أن أسقفاً أيرلندياً (كما يقول سويفت) ذهب إلى أنه مملوء بأشياء بعيدة الاحتمال: أما معظم القراء فإنهم لم يذهبوا إلى أبعد من الرحلات إلى أرض الأقزام Lilliput وأرض العمالقة Brobdinqnaq وهذا سرد جميل يوضح بطريقة مفيدة النسبية في الحكم على الأشياء أو التمييز بينها، ولم يزد طول الأقزام عن ست بوصات، ولذلك نفخوا في جلليفر روحاً متزايدة من التسامي. وكان الذي يميز بين الأحزاب السياسية لديهم هو(32/286)
الكعوب العالية أو المنخفضة لأحذيتهم. أما الفرق الدينية فهي فريق الذين يؤمنون بكسر البيضة من طرفها الصغير. وكان طول العمالقة ستين قدماً، وقد هيأوا لجلليفر مشهداً آخر جديداً من مشاهد البشرية. وحسبه ملكهم حشرة، واعتبر أوربا بيتاً للنمل. ومن وصف جلليفر لأساليب الحياة، خلص الملك إلى أن "كل مواطنيكم أخبث جنس من الحشرات الطفيلية الصغيرة البغيضة التي تركتها الطبيعة تزحف على سطح الأرض (127) ". وكانت صدور غادات العمالقة، وهي صدور ضخمة، تنفر جلليفر (ويشير الكاتب هنا إلى النسبية في الجمال).
وتضعف القصة في رحلة جلليفر الثالثة. أنه يشد بالسلاسل والأغلال في دلو إلى "لابوتا" وهي جزيرة سابحة في الهواء يقطنها ويحكمها رجال العلم والمثقفون والمخترعون والأساتذة والفلاسفة، فان التفاصيل التي جاءت في أماكن أخرى لتزود القصة باحتمالات كثيرة، كانت هنا (في المرحلة الثالثة) سخيفة بعض الشيء، من ذلك أكياس الهواء الصغيرة التي يسد بها الخدم آذان وأفواه المفكرين العميقي التفكير ليفيقوا من شرود الذهن الخطير أثناء تأملاتهم. وأكاديمية لاجادو، بمخترعاتها وقراراتها الوهمية، ليست إلا نقداً هزيلاً لقصة بيكون "قارة الأطلنطس الجديدة"، وللجمعية الملكية في لندن. ولم يكن سويفت يثق في جدوى إصلاح الدولة أو حكمها بواسطة رجال العلم، وكان يزخر من نظرياتهم، وفنائها السريع لها. وتنبأ بسقوط كوزمولوجيا نيوتن (آرائه في الكون) "إن الأنظمة الجديدة ليس في الطبيعة ليست إلا أزياء أو أنماطاً جديدة قد تختلف من عصر إلى عصر، وحتى هؤلاء الذين يدعون أنهم يوضحونها على أسس رياضية (تعريضاً بكتاب المبادئ الرياضية 1687) لن يكتب لهم النجاح إلا لفترة قصيرة من الزمن (128) ".
ثم ينتقل جلليفر إلى أرض "اللجناجيين Luggnaggians" الذين(32/287)
لا يحكمون على أكابر مجرميهم بالموت بل بالخلو.
"فاذا بلغ هؤلاء المجرمون سن الثمانين وهي السن المعتبرة نهاية الحياة في بلدهم، لا تكون فيهم كل الحماقات والسقام والعلل التي في سائر المسنين فحسب، بل أكثر منها بكثير، مما نشأ من توقعاتهم الرهيبة بأنهم لن يموتوا قط، ولم يكونوا عنيدين شكسين طامعين فيما في أيدي غيرهم، مكتئبين عابثين ثرثاريين فحسب، بل كانوا كذلك غير أهل للصداقة، لا يستجيبون لأية عاطفة أو حب طبيعي، لم يهبط قط عن حضرتهم. وكان الحسد والرغبات عاجزة هي الشعور السائد بينهم ... وإذا رأوا جنازة ولولوا وتذمروا من أن الآخرين ذاهبون إلى دار الراحة حتى لا يأمنون هم أنفسهم في الوصول إليها ... أبداً وكان هذا أفظع منظر مخز مميت للشهوات رايته في حياتي. وكانت النساء اشد إزعاجاً من الرجال ... ومن هذا الذي سمعت ورأيت، خفّت كثيراً شهوتي الحادة في البقاء على قيد الحياة (129) ".
وفي القسم الرابع نبذ سويفت الهزل والمزاح إلى شجب قوي ساخر للإنسانية. فان أرض "الهويمن" يحكمها جياد نظيفة وسيمة بهيجة، تنطق بالحكمة وتتحلى بكل مظاهر المدنية، على حين أن الخدم الحقراء فيها، وهم "الياهو المتوحشون"، هم رجال أقذار كريهو الرائحة، جشعون مخمورون، غير متعقلين مشوهون. ومن بين هؤلاء المنحنين المنحطين (هكذا كتب سويفت في أيام جورج الأول):
"كان هناك رجل حاكم من "الياهو" (ملك) "، أبشع شكلاً وأكثر نزوعاً إلى الشر والأذى من الآخرين ... وكان لهذا الزعيم عادة شخص مثله محسوب عليه أثير لديه، عمله الوحيد هو أن يلعق قدمي سيده ... ويأتي بنساء الياهو إلى حظيرته، ومن اجل هذا كان يكافأ من حين إلى حين بقطعة من لحم الحمار (علامة على النبالة؟) ... وكان يبقى عادة في عمله هذا، حتى يمكن العثور على من هو أسوأ منه (130) ".(32/288)
وبالمقارنة فإن "الهويمين"، لأنهم متعقلون، كانوا سعداء فضلاء، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أطباء أو محامين أو رجال دين أو قواد جيوش، وصعقت تلك الجياد المهذبة "الماجنة" ببيان جلليفر عن الحروب في أوربا. كما ذهلت أكثر فأكثر لسماعها بالخلافات التي أدت إلى الحروب- "هل يكون الجسد خبزاً أو يكون الخبر جسداً في القربان المقدس، وهل يكون عصير ثمار معينة دماً أم نبيذاً (131)، وكانوا يقاطعون جلليفر حين يفاخر بالعدد الكبير عن البشر الذي يمكن نسفه بالآلات العجيبة التي اخترعها قومه.
وعندما يعود جلليفر أدراجه إلى أوربا، نراه لا يكاد يضيق برائحة الشوارع والناي الذين يبدو في نظره الآن أنه من "الياهو".
"استقبلتني زوجتي وأسرتي من الدهشة لأنهم كانوا قد قدروا مماتي. ولكن ينبغي عليّ أن اعترف بصراحة أن منظرهم ملأني بالبغضاء والاستياء والازدراء ... وما أن دخلت البيت حتى احتضنتني زوجتي بين ذراعيها وقبلتني، من أجل ذلك رحت في إغماءة لما يقرب من ساعة، لولا إني معتاد على لمس هذا الحيوان البغيض (الإنسان) لأعوام طويلة. وطيلة السنة الأولى لم أكن أطيق وجود زوجتي وأطفالي معي، حيث كانت رائحتهم لا تحتمل ... وأول مال أنفقته في شراء جوادين صغيرين احتفظت بهما في أسطبل مناسب. وكان السائس أعز ما عندي بعدهما، لأن الرائحة التي تنبعث منه في الأسطبل كانت ترد إليّ روحي (132) ".
وفاق نجاح "جلليفر" كل توقعات المؤلف وأحلامه وربما خفف من بغضه للجنس البشري بسبب حاسة الشم. واستمتع القراء باللغة الإنجليزية الواضحة في غير إطناب، وبالتفاصيل العريضة، وبالفحش المرح. وتنبأ آربوثنوب للكتّاب "رواجاً عظيماً مثل كتاب جون بانيان- يقصد كتاب "تقدم الحجيج"". ولا ريب أن سويفت يدين ببعض الفضل لهذا الكتاب، وبفضل أكبر لكتّاب "روبنصن كروزو"، وربما بشيء من(32/289)
الفضل لكتّاب سيرانودي برجراك "التاريخ الهزلي لدول إمبراطورية القمر". أما الشيء الجديد حقاً فهو "الكلبية" أو السخرية الرهيبة في الأجزاء المتأخرة من الكتاب. وحتى هذه وجدت من يعجب بها، فأن دوقة مالبورو، وقد بلغت آنذاك أرذل العمر، غفرت لسويفت هجماته على زوجها، إلى جانب حملاته على الجنس البشري بأسره. وصرحت بأن سويفت أتى "بأدق وصف يمكن أن يكتب للملوك والوزراء والأساقفة والمحاكم". وروى جاي أنها "في نشوة غامرة من الابتهاج بالكتاب ولا يمكن أن تحلم بشيء آخر" (133).
وتكدر انتصار سويفت بنسر قصيدة كادينوس وفانيسا، فإن منفذي وصية هستر فانهو مراي أذعنوا لأمرها بنشرها، ولم يطلبوا من الكاتب ترخيصاً بذلك، وظهرت في طبعات مستقلة في لندن ودبلن وإدنبرة، وكانت ضربة قاسية للزوجة ستيللا لأنها رأت أن عبارات الحب والهيام التي كانت قد وجهت يوماً إليها، تكررت لفانيسا، ولم يمض كبير زمن على افتضاح هذا الأمر حتى مرضت وقصد سويفت الى إيرلندة لعيادتها والتخفيف عنها، وتحسنت صحتها، وعاد هو إلى إنجلترا (1727)، وسرعان ما ترامت إليه الأنباء بأنها تحتضر، فأرسل تعليمات عاجلة إلى مساعديه في الكاتدرائية بأن ستيللا يجب ألا تلفظ أنفاسها الأخيرة في مقر رئاسة الكاتدرائية (134)، وعاد أدراجه إلى دبلن، ومرة أخرى أبلت ستيللا بعض الشيء، ولكنها فارقت الحياة في 28 يناير 1728، وهي في السابعة بعد الأربعين وانهارت قوى سويفت، واشتد عليه المرض فلم يستطع تشييع الجنازة.
وبعدها أقام في دبلن "مثل فأر مسموم في جحر (135) " (كما كتب إلى بولنجبروك). وكان يقوم بأعمال البر والصدقات، وأجرى راتباً على مسز دنجلي، ومد يد العون إلى ريتشارد شريدان في محنة شبابه، وكان في ظاهره رجلاً قاسياً، ولكنه تأثر تأثراً بالغاً لفقر الشعب الأيرلندي، وصعق لكثرة عدد المتسولين من الأطفال في شوارع دبلن، وفي 1729(32/290)
أصدر أشد مقالاته التهكمية الساخرة ضراوة ولذعاً تحت عنوان "اقتراح متواضع لمنع أطفال الفقراء من أن يكونوا عالة على آبائهم وعلى بلدهم":
"لقد تأكد لديّ كل التأكيد ... أن الطفل الصغير الصحيح الجسم الذي بلغ من العمر سنة، يصلح لأن يكون طعاماً شهياً مغذياً صحياً، إلى أبعد حد، مطهواً بالغلي البطيء أو مشوياً أو محمصاً أو مسلوقاً، كما يصلح بالمثل لأن يكون "مفروماً محمراً، أو يخنة كثيرة التوابل". ومن ثم فأني بكل تواضع، أعرض على الرأي العام، أنه من بين المائة والعشرين ألف طفل الموجودين الآن، يمكن الاحتفاظ بعشرين ألفاً فقط لتربيتهم وتنشئتهم على أن يكون ربعهم من الذكور، أما المائة ألف طفل الباقون فيمكن عرضهم للبيع إلى ذوي المكانة والثراء في طول المملكة وعرضها، مع نصيحتي دوماً إلى الأمهات بالإكثار من إرضاعهم في الشهر الأخير، حتى تمتلئ أجسامهم ويكونوا سماناً تزدان بهم الموائد الفخمة، إن الطفل الواحد يمكن أن يكون طعام يقدم للأصدقاء، أما إذا كانت الأسرة تتناول غذاءها وحدها فإن الربع الأمامي أو الخلفي من الذبيحة يكون طبقاً كافياً، وإذا تبل ببعض الفلفل أو الملح لكان طيب المذاق ...
أما الذين هم أكثر تدبيراً واقتصاداً فيمكنهم أن يسلخوا الجثة، ويعالجوا جلدها بطريقة خاصة ليصنعوا قفازات لطيفة للسيدات، وأحذية صيفية للرجال الأنيقين ...
إن بعض الذين جزعوا لهذه الظاهرة اهتموا اهتماماً كبيراً بهذا العدد الضخم من المسنين أو المرضى أو المقعدين والمشوهين، ورغبوا إلى أن أعمل التفكير في الوسائل التي يمكن أن تتخذ لتخليص الأمة من هذا العبء الثقيل المحزن، ولكني لا أتألم كثيراً لهذه المسألة لأنه المعروف جيداً أنهم يموتون وتبلى أجسامهم في كل يوم من البرد والجوع والقذارة والهوان، بالسرعة المتوقعة بداهةً.
وأظن أن مزايا الاقتراح الذي عرفته واضحة متعددة ...(32/291)
وأولى المزايا، أن هذا يخلصنا إلى حد كبير من عدد البابويين (اليسوعيين) الذين يجتاحوننا كل عام، لأنهم المربون الأساسيون للأمة، قدر ما هم ألد أعدائنا وأخطرهم ... وثالثها أنه من حيث أن تربية مائة ألف طفل من سن الثانية فما فوق، لا يمكن أن يتكلف الواحد أقل من عشر شلنات في العام، فبهذا الاقتراح سيتوفر للأمة خمسون ألف جنيه سنوياً، هذا بالإضافة إلى فائدة اللون الجديد من الطعام الذي يقدم إلى موائد ذوي الثراء والوجاهة ... الذين يتحلون بالذوق الرفيع".
إن نتاج يراع سويفت، ذلك النتاج الغريب، والثائر أحياناً، وبخاصة بعد وفاة ستيللا، يوحي بأنه قد أصابه مس من الجنون، "إن شخصاً منذ ذوي المكانة في إيرلندة (كان يسره أن ينحني كثيراً ليدق النظر في عقلي) اعتاد أن يقول لي أن عقلي مثل روح مسحورة، قد يؤذي ويسيء إذا لم أشغله بشيء (136) ".
وتساءل أحد الأصدقاء: إن مبغض البشرية الكئيب هذا، والذي تركته الأخطاء الصارخة في بيت من زجاج، بينما هو يسلق البشرية بألسنة حداد من الهجاء، ألا يغني فساد الناس ومساوئهم جسدك ويستنزف روحك؟ "، "إن غضبه على العالم كان امتداداً لغضبه على نفسه، فقد أدرك أنه على الرغم من عبقريته، معتل الجسم مريض النفس، ولم يكن يغتفر للحياة حرمانه من الصحة والأعضاء السليمة وهدوء البال، والتقدم الذي يتناسب مع قوة عقله.
وكان آخر مظهر لقسوة الحياة على سويفت، هو اختلال قواه العقلية يوماً بعد يوم. وازداد بخله وجشعه، حتى وسط أصدقائه وقيامه بأعمال البر. فكان يضن بالطعام على ضيوفه، وبالنبيذ على أصدقائه (137). وازدادت نوبات الدوار عنده سوءاً، فما كان يدري في أية لحظة منحوسة ينتابه هذا الدوار ليجعله يترنح ويتلوى من الألم في هيكله أو في الشارع.(32/292)
وكان قد رفض أن يضع النظارات على عينيه فضعف بصره وترمك القراءة. ومات بعض أصدقائه، ونأى بعضهم بنفسه عنه، اجتناباً لحدة طبعه واكتئابه، وكتب إلى بولنجبروك: "كثيراً ما فكرت في الموت، ولكنه الآن لا يغيب عن ذهني أبداً (139) " وبدأ يتلهف عليه. واحتفل بيوم ميلاده يوم حداد وحزن. وقال "ليس هناك رجل عاقل يرغب في استعادة شبابه (140) ". وفي أعوامه الأخيرة كان يودع زائريه دوماً بقوله "سعدتم مساء، أرجو ألا أراكم ثانيةً (141) ".
وظهرت أعراض الجنون التام عليه في 1738. وفي 1741 عين بعض الأوصياء ليتولوا شؤونه، ويراقبوه حتى لا يلحق بنفسه أي أذى في نوبة من نوبات العنف والجنون التي تصيبه. وفي 1742 عانى ألماً شديداً من التهاب في عينيه اليسرى التي تورمت حتى صارت في حجم البيضة. وأحاط به خمسة من الأتباع ليحولوا بينه وبين فقء عينه بيده. وقض عاماً لا ينطق ببنت شفة. وآذنت محنته بالانتهاء في 19 أكتوبر 1745، وقد بلغ الثامنة بعد السبعين. وأوصى بكل ثروته البالغة أثنى عشر ألف جنيه لبناء مستشفى للأمراض العقلية. ووري التراب في كاتدرائيته، ونقش على ضريحه عبارة اختارها بنفسه:
"حيث لا يعود السخط المرير يمزق قلبه".(32/293)
الكتاب الثالث
محيط القارة
1648 - 1715(33/4)
الفصل الثاني عشر
الصراع على البلطيق
1648 - 1721
1 - السويد المغامرة
1648 - 1700
إن التاريخ شظية من البيولوجيا-إنه اللحظة البشرية في موكب الأنواع. وهو أيضاً وليد الجغرافيا-لأنه فعل الأرض والبحر والهواء، وأشكالها ونتاجها، وتأثيرها في رغبة الإنسان ومصيره. فلنتأمل هنا أيضاً تلك المواجهة بين الدول المحيطة بالبلطيق في القرن السابع عشر. فالسويد في شماله، واستونيا وليفونيا ولتوانيا في شرقه، ومن خلفها روسيا الباردة الجائعة، وفي جنوبه بروسيا الشرقية وبولنده وبروسيا الغربية وألمانيا، وفي غربه الدنمرك بموقعها الاستراتيجي على منافذ البلطيق الضيقة إلى بحر الشمال والأطلنطي. لقد كان هذا سجناً جغرافياً سيصطرع نزلاؤه على السيطرة على تلك المياه والمضايق، والشواطئ والثغور، ومسالك التجارة ودروب الهرب براً أو بحراً. هنا خلقت الجغرافيا التاريخ.
أما الدنمرك فقد لعبت الآن دوراً صغيراً في مسرحية البلطيق. ذلك أن نبلاءها الذين احتكروا الحرية لأنفسهم غلوا أيدي ملوكها وأرجلهم. وكانت قد نزلت عن سيطرتها على مضايق الاسكاجراك والكاتيجات (1645) وبقيت النرويج خاضعة لها، ولكنها في 1660 فقدت أقاليم السويد الجنوبية. وشعر فردريك الثالث (1648 - 70) بحاجته إلى سلطة ممركزة تتصدى للتحديات الخارجية، فأرغم النبلاء على أن ينزلوا له عن السلطة المطلقة والوراثية، مستعيناً على ذلك برجال الدين والطبقات الوسطى. وقد وجد ابنه كرستيان الخامس (1670 - 99) معيناً له في بيدر شوماخر، كونت جريفنفلد، الذي ظفر بثناء لويس الرابع عشر عليه وزيراً من أكفأ الوزراء في عصر الدبلوماسية الذهبي ذاك. أصلح مالية الدولة، ودفع التجارة والصناعة(33/5)
قدماً، وأعاد تنظيم الجيش والبحرية. واستن الكونت سياسة السلم، ولكن الملك الجديد كان تواقاً لاستعادة القوة والأقاليم التي كانت الدنمرك تملكها فيما مضي. ومن ثم ففي 1675 جدّد الحرب القديمة مع السويد، ولكنه هزم، وثبّتت من جديد سيادة السويد على اسكندناوة.
وقد تعاقب على عرش السويد في تلك الحقبة طائفة ممتازة من الملوك الأشداء، وظلوا نصف قرن أعجوبة زمانهم لا ينافسهم في ذلك منافس غير لويس الرابع عشر. ولو أتيح لهم سند أكبر من الموارد لبلغوا ببلدهم من القوة والمنعة مبلغ فرنسا، ولاستطاع الشعب السويدي-بوحي من منجزات الجوستافين، والكارلين الثلاثة، ووزرائهم العظام-أن يموّل ازدهاراً ثقافياً يتناسب مع انتصاراتهم وتطلعاتهم. غير أن الحروب التي عززت قوتهم استنزفت ثروتهم، فخرجت السويد من ذلك العهد مستنزفة القوى وإن تكللت بأمجاد البطولة. وإنه لما يثير الدهشة أن تحقق أمة من الأمم هذا القدر الكبير من المنجزات في الخارج على ما بها من ضعف شديد. فسكانها لم يجاوزوا مليوناً ونصفاً، ينقسمون طبقات لم تتعلم إلى ذلك الحين أن يعيش بعضها مع البعض في سلام. وكان النبلاء يتسلطون على الملك، ويقررون لأنفسهم شراء أراضي من أملاك التاج بشروط ميسرة، والصناعة مقيدة محددة بحاجات الحرب تحديداً أعجزها عن تغذية التجارة التي أطلقت الحرب عقالها، وكانت الأملاك الخارجية عبئاً لا تبرره غير العزة القومية. إن حنكة الوزراء المخلصين وحدها هي التي دفعت عن البلاد خطر الإفلاس الذي بدا أنه ثمن المجد.
كن شارل العاشر جوستافس ابن عم كرستينا الرهيبة، ورفيق لعبها وعشاقها، وخلفها بعد أن نزلت له عن العرش في 1654. وقد درأ خطر الإفلاس بإكراه النبلاء على رد بعض الضياع الملكية التي سطوا عليها. واستطاعت الدولة بفضل هذا "الاختزال" لأملاك الإقطاعيين أن تسترد ثلاثة آلاف مسكن بأراضيها وتستعيد قدرتها على الوفاء بديونها. ورغبة في استكمال النقص في العملة الفضية والذهبية، عهد شارل إلى يوهان بالمسترو بإنشاء مصرف قومي وإصدار نقود ورقية(33/6)
(1656) -وهي أول ما صدر منها في أوربا. وقد حفز ازدياد تداول العملة الورقية الاقتصاد حيناً، ولكن المصرف أصدر منها فوق ما يستطيع الوفاء بع نقداً عند الطلب، فأوقفت التجربة. ونقل الملك المقدام أثناء ذلك صناعة الحديد والصلب التي اختصت بها ريجا إلى السويد، فأرسي بذلك أسس قاعدة صناعية أقوى تستند إليها سياسته العسكرية.
أما هدفه الذي جاهر به فكان توسيع رقعة ملكه. فالإمارات التي كسبها جوستافس أدولفس على أرض القارة تهدد بالثورة، والحكومة البولندية تأبى أن تعترف بشارل العاشر ملكاً على السويد، ولكن بولنده أضعفها تمرد القوزاق، وقد خفت الروسيا لنجدة القوزاق، وكان الأمل ولا ريب يراودها في شق طريق لها إلى البلطيق. ثم أن للسويد جيشاً حسن التدريب خافت أن تسرحه، وخير سبيل إلى إعاشته أن يخوض حرباً ظافرة. ورأى شارل في هذه الظروف كلها ما يزكي الهجوم على بولندة. وعارض الفلاحون ورجال الدين، فاسترضاهم بالزعم بأن مشروعه ليس إلا حرباً مقدسة لحماية حركة الإصلاح البروتستنتي وتوسيع نطاقها (1655) (1).
ولكن تبين أن بولندة بلد يسهل غزوه، ويصعب إخضاعه، كانت مقاومتها في الغرب ضعيفة لما حاق بها في الشرق من خلل وما عانته من غارات العدو. ودخل شارل وارسو، وهدأ النبلاء البولنديين بوعده أن يبقى على امتيازاتهم الموروثة، وتلقى ولاء البروتستنت البولنديين، وعرض اللتوانيون أن يعترفوا بسيادته. ولما حاول فردريك وليم، "ناخب براندنبورج الأكبر" الإفادة من انهيار بولندة بالاستيلاء على بروسيا الغربية (وكانت يومها إقطاعية بولندية)، سيّر شارل جيشه غرباً بسرعة نابليونية وحاصر الناخب في عاصمته، وأرغمه على توقيع معاهدة كوينجزبيرج (يناير 1956). وأعلن الناخب ولاءه لشارل فيما يتصل ببروسيا الشرقية باعتبارها اقطاعة سويدية، ووافق على أن يؤدي للسويد نصف رسوم تلك الولاية وضرائبها، ووعد بأن يمد الجيش السوري بألف وخمسمائة مقاتل.
غير أن الخصومة الدينية التي أثارها شارل هزمته. ذلك أن البابا إسكندر السابع والإمبراطور فرديناند الثالث سخرا كل ما يملكان(33/7)
من نفوذ ليؤلفا حلفاً ضد السويد، لا بل إن الدنمركيين والهولنديين البروتستنت انضموا إلى الحلفاء في تصميمهم على كبح جماح الفاتح الشاب مخافة أن يعدو بعد ذلك على ممتلكاتهم أو تجارتهم. فهرع قافلاً إلى بولندة، وهزم قوة بولندية جديدة، واحتل وارسو من جديد (يوليو 1656). غير أن بولندة امتشقت الآن الحسام لقتاله بعد أن ثارت حماستها الدينية، وألفى شارل نفسه-وهو بلا صديق رغم انتصاره-وقد أحدق به الأعداء من كل حدب. وهجره ناخب براندنبورج وتعهد بتقديم العون لبولندة. أما شارل-الذي كان خبيراً بكسب المعارك فقط لا بدعم فتوحه بصلح عملي-فقد اكتسح البلاد غرباً في هجوم على الدنمرك، وعبر الكاتيجات فوق ثلاثة عشر ميلاً من الجليد (يناير 1657)، وهزم الدنمركيين، وأكره فردريك الثالث على توقيع صلح روسكيلدي (27 فبراير). وانسحبت الدنمرك كلية من شبه الجزيرة السويدية، ووافقت على أن تغلق مضيق الساوند في وجه أعداء السويد. فلما تباطأ الدنمركيون في تنفيذ هذه الشروط استأنف شارل الحرب، وحاصر كوبنهاجن. وعقد العزم الآن على خلع فردريك الثالث، وتوحيد الدنمرك والسويد والنرويج من جديد تحت تاج واحد.
ولكن القوة البحرية هزمته، ذلك أن إنجلترا والأقاليم المتحدة، وهما أعظم أمم العصر آنذاك، اتفقتا الآن-رغم ما بينهما عادة من عداء-على ألا تقبض أي دولة من الدول على مفتاح البلطيق بالهيمنة على الساوند بين الدنمرك والسويد. ففي أكتوبر اقتحمت قوة هولندية الساوند، ورفعت الحصار عن كوبنهاجن، وساقت أمامها الأسطول السويدي الصغير إلى ثغوره في أرض الوطن. وأقسم شارل أن يقاتل إلى النهاية. ولكن الشدائد التي عاناها في حملاته كانت قد فعلت فيه فعلها، فبينما كان يخطب الديت السويدي في جوتيبورج أخذته الحمى. وما لبثت أن قضي نحبه في ربيع حياته (13 فبراير 1660).
وكان ابنه شارل الحادي عشر (1600 - 97) لا يزال في الخامسة، فاضطلع بالحكم مجلس وصاية أنهى الحرب بصلح أوليفا(33/8)
ومعاهدة كوبنهاجن (مايو، يونيو 1660). ونزلت الملكية البولندية عن دعواها في تاج السويد، وثبتت تبعية ليفونيا للسويد، ونالت براندنبورج الحق الكامل في بروسيا الشرقية، واحتفظت السويد بمقاطعاتها الجنوبية (سكاني) وأقاليمها على أرض القارة (بريمن، وفيردن، وبومرانيا)، ولكنها انضمت إلى الدنمرك في ضمان حق السفن الأجنبية في دخول البلطيق. وبعد عام وقعت السويد وبولنده في كارديس صلحاً فاتراً مع قيصر الروس. واستمر الصراع على البلطيق خمسة عشر عاماً بوسائل أخرى غير الحرب.
كانت هذه المعاهدات نصراً لا يستهان به للسويد، ولكن البلاد أشرفت مرة أخرى على الإفلاس. وكافح عضوان من مجلس الوصاية هما جوستاف بوندي وبير براهي للحد من النفقات الحكومية، ولكن المستشار ماجنس دي لاجاردي أضاف إلى الديون القديمة ديوناً جديدة، وأتاح للنبلاء ولأصدقائه ولنفسه جني المنافع على حساب الخزانة، وفي سبيل تلقي المعونة المالية ربط السويد بحلف مع فرنسا (1672) قبل أن ينقص لويس الرابع عشر على الأقاليم المتحدة، حليفة السويد، بأيام معدودات فقط. وما لبثت السويد أن وجدت نفسها تخوض حرباً ضد النمرك، وبراندنبورج، وهولندة. وهزمت على يد الناخب الأكبر في فيربيللن (18 يونيو 1675)، واجتاح أعداؤها أقاليمها القارية، وغزا جيش دنمركي "سكاني" من جديد ونكبت البحرية السويدية بكارثة تجاه أولاند "1 يونيو 1676).
وأنقذ السويد ملكها الشاب شارل الحادي عشر، الذي اضطلع الآن بزمام الأمر، وذلك بسلسلة من الحملات ألهمت فيها بسالته الشخصية جنوده، فدحروا الدنمركيين في لوند ولاندسكرونا. وبفضل هذين الانتصارين وتأييد لويس الرابع عشر استردت السويد كل ما فقدته. وتعاون بطل جديد من أبطال الدبلوماسية السويدية، هو الكونت يوهان جيلنشتييرنا، مع الكونت جريفنفلد-لا في الترتيب لصلح بين السويد والدنمرك فحسب، بل في إبرام حلف عسكري وتجاري بينهما. واتفقت الدولتان على عملة مشتركة، وكانت الوحدة الإسكندناوية كلها قاب قوسين أو أدنى حين قطع هذا التطور موت(33/9)
جيلنشتييرنا وهو في الخامسة والأربعين (1680). وحافظت الأمتان على السلام عشرين عاماً.
وكان جيلنشتييرنا قد علم الملك الشاب أن السويد لا تستطيع الإبقاء على مكانتها بين الدول العظيمة إذا مضي نبلاؤها في التهام أراضي التاج، وهو أمر يهودي بالملكية إلى ذل الفقر وبالدولة إلى درك العجز. وفي 1682 اتخذ شارل الحادي عشر خطوة حاسمة. فاستأنف بتأييد رجال الدين والفلاحين وأهل المدن، في تدقيق وشمول يحفزهما السخط "اختزال" أراضي النبلاء، أي استرداد ما فقدته الملكية من ضياعها. ثم حقق في فساد الموظفين وعاقبه، وبلغت إيرادات الدولة النقطة التي أتاحت للسويد القدرة من جديد على الاحتفاظ بممتلكاتها والاضطلاع بتبعاتها. ولم يكن شارل الحادي عشر بالملك المحبب جداً إلى شعبه، ولكنه كان ملكاً عظيماً. فلقد آثر انتصارات السلام الأقل ضجيجاً على انتصارات الحرب، وذلك رغم ما خلف في الحرب من سجل يحسده عليه الكثيرون. وقد وطد حكم الملكية المطلق، ولكن هذا النظام كان يومها البديل لإقطاعية رجعية فوضوية.
وفي هدوء هذه الهدنة الصافية ازدهرت علوم السويد وآدابها وفنونها. وبلغت العمارة السويدية أوجهاً في القصر الملكي الفخم الضخم باستوكهولم، الذي صممه (1693 - 97) نيقوديموس تيسين. وكان لارس يوهانسون للسويد بمثابة ليوباردي (الإيطالي) ومارلو (الإنجليزي) مجتمعين، فهو يتغنى غناءً شجياً بكراهية الإنسان، ويلقى حتفه بطعنات السلاح في شجار بحان قضي عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين. وقد ألف جونو دالشتيرنا ملحمة شعرية ببحر دانتي سماها Kunga Skald (1697) إشادة بمآثر شارل الحادي عشر. ومات الملك في تلك السنة، بعد أن أنقذ وعمر بلداً كان يدمره من بعده ابنه الأشهر منه.
وكان هذا الابن، شارل الثاني عشر، قد بلغ الخامسة عشرة. ولما كانت خريطة أوربا يعاد رسمها آنئذ بالدم والحديد، فقد دُرّب أولاً وقبل كل شيء على فنون القتال. فهيأته ألعابه كلها للأعمال العسكرية، وتعلم الرياضيات فرعاً من العلوم الحربية، وقرأ من اللاتينية ما يكفيه(33/10)
لأن يستوحي من سيرة الإسكندر التي كتبها كونتوس كورتيوس طموح التفوق في السلاح إن لم يكن الطموح لغزو العالم. وإذ كان فارع القامة وسيماً، قوياً، لا يثقل بدنه درهم زائد من لحم وشحم، فقد استمتع بحياة الجندي، وتجلد لما فيها من حرمان، وهزأ بالخطر والموت، وتطلب هذه الصلابة عينها في جنده. ولم يأبه كثيراً بالنساء، فلم يتزوج قط وإن خطبت وده الكثيرات. وكان يصيد الدببة وسلاحه شوكة خشبية ثقيلة لا أكثر، ويركب خيله بسرعة طائشة، ويسبح في مياه تغطي الثلوج نصفها، ويلتذ المعارك الزائفة التي كاد هو وأصدقاؤه يلقون حتفهم فيها غير مرة. وقد رافقت بسالته العنيدة وحيويته البدنية بعض فضائل الخلق والعقل: صراحة تزدري ألاعيب الدبلوماسية، وإحساس بالشرف تشوبه لحظات شاذة من القسوة الوحشية، وعقل يلتقط لب الأمور لتوّه، ولا يطيق المداخل الملتوية في التفكير أو التدبير، وكبرياء صموت لم يغب عنها قط محتده الملكي ولم تعترف قط بالهزيمة. وآية ذلك أنه في حفلة تتويجه توج نفسه بيده على طريقة نابليون، ولم يقطع لنفسه يميناً تحدّ من سلطته، فلما تشكك أحد رجال الدين في صواب خلع السلطة المطلقة على فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، حكم عليه شارل أولاً بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.
كانت السويد يوم ارتقى عرشها دولة قارية كبرى، تحكم فنلندة، واينجريا، واستونيا، وليفونيا، وبومرانيا، وبريمن، وكانت تهيمن على البلطيق وتقوم سداً حائلاً بين روسيا وبين ذلك البحر. ورأت روسيا، وبولنده، وبراندنبورج، والدنمرك، في حداثة سن ملك السويد فرصة لمد حدودها دعماً لتجارتها ومواردها. وكان "العامل الهدّام" في هذا الحل الجغرافي فارساً ليفونياً يدعى يوهان فون باتكول، انخرط في سلك الجيش السويدي بوصفه من رعايا السويد، وارتقى إلى رتبة النقيب. وفي 1689 و1629 احتج بشده على "اختزال" شارل الحادي عشر لضياع النبلاء في ليفونيا، فاتهم بالخيانة، وفر غلى بولندة، ثم التمس من شارل الثاني عشر أن يعفو عنه فرفض، وفي 1689 اقترح على أوغسطس الثاني ملك بولندة وسكسونيا تأليف حلف ضد السويد من بولنده، وسكسونيا، وبراندنبورج، والدنمرك، وروسيا. ورأى(33/11)
أوغسطس أن الخطة جاءت في أوانها، فاتخذ الخطوة الأولى بالدخول في حلف مع ملك الدنمرك فردريك الرابع (25 سبتمبر 1699). وذهب باتكول إلى موسكو. وفي نوفمبر وقع بطرس الأكبر مع مبعوثي سكسونيا والدنمرك اتفاقاً لتقطيع أوصال السويد.
2 - بولندة وسوبيسكي
1648 - 1699
في مستهل هذه الحقبة أثر حدثان تأثيراً عميقاً في تاريخ بولنده ففي 1652 هزم عضو واحد من أعضاء البرلمان البولندي Sejm للمرة الأولى قانوناً بممارسته حق "الفيتو المطلق"، الذي كان يسمح لأي نائب في ذلك البرلمان بإبطال قرار أية أغلبية. ذلك أن النظام في الماضي كان يشترط موافقة جميع الأقاليم قبل إقرار أي قانون، وكانت أقلية ضئيلة أحياناً تجعل التشريع مستحيلاً، ولكن فرداً من الأفراد لم يؤكد إلى ذلك الحين الحق في نقض اقتراح يقبله الباقون كلهم. وقد استطاع "الفيتو المطلق" لنائب واحد أن "ينسف" أو ينهي ثماني وأربعين دورة من الدورات الخمس والخمسين التي عقدها البرلمان بعد 1652. وقد افترضت الخطة أنه ما من أغلبية تستطيع بحق أن تطغى على أقلية مهما صغرت. ولم يكن مبعثها النظرية الشعبية بل الكبرياء الإقطاعية، إذا اعتبر كل مالك نفسه سيداً أعلى في أرضه. وأسفر هذا على أكبر قدر من الاستقلال المحلي والعقم الجماعي. ولما كان الملوك خاضعين للبرلمان، والبرلمان خاضعاً للفيتو المطلق، فقد كانت السياسة القومية المتسقة ضرباً من المحال عادة. وبعد تسع سنوات من الفيتو الأول تنبأ الملك جون كازيمير للبرلمان بنبؤة لافتة للنظر، قال:
"أتمنى على الله أن يتبين نبي كذاب، ولكني أقول لكم أنكم إن لم تجدواً علاجاً لهذا الشر (أي الفيتو المطلق) فستغدو الدولة فريسة للدول الأجنبية. سوف يحاول الموسكوفيون أن يقتطعوا بالاتيناتنا الروسية ربما إلى الفستولا. وسو يحاول البيت المالك البروسي الاستيلاء على بولنده الكبرى. وسوف تلقي النمس بثقلها على كراكو. وسوف تؤثر كل من هذه الدول اقتسام بولندة دون الاستيلاء عليها كلها ولها هذه الحريات التي تتمتع بها اليوم" (2).(33/12)
وقد تحققت هذه النبؤة بحذافيرها تقريباً.
وكانت ثورة القوزاق في أوكرانيا (1648) حدثاً لا يفوقه في أهميته التاريخية سوى هذا الفيتو. ذلك أن دمج لتوانيا مع بولنده في "اتحاد لوبلين" (1569) أخضع إقليم أوكرانيا، الذي يجري فيه نهر الدنيبر، لحكم غلب عليه العنصر البولندي، وكان أكثر سكان الإقليم من قوازق زابوروج الذين ألفوا الاستقلال وتمرسوا الحرب. وحاول النبلاء البولنديون الذين ابتاعوا الأرض في أوكرانيا أن يرسوا فيها أسس الأحوال الإقطاعية، وثبّط الكاثوليك البولنديون ممارسة تلك الحرية التي كفلها اتحاد لوبلين للعبادة الأرثوذكسية. وانبعثت ثورة من ثورات القوزاق من هذا المركب من أسباب السخط والتذمر، وتزعمها حيناً زعم حربي (هتمان) غني يدعى بوجدان شميلنيكي، وناصرها تتار القرم المسلمون. وفي 26 مايو 1648 دحر التتار والقوزاق الجيش البولندي الرئيسي في كورسون، وسرت الحماسة للثورة بين الأغنياء والفقراء على السواء.
وقد خلفت وفاة لاديسلاس الرابع في 20 مايو عرش بولندة في هذه الأثناء مثاراً لنزاع بين النبلاء استمر حتى 20 نوفمبر، حين اختارت هيئة الديت الانتخابية جون الثاني كازيمير. أما شيملنيكي فقد خشي ألا تستطيع الثورة الصمود للجيوش البولندية المعززة إلا بقبول المعونة والسيادة الأجنيستين، فاختار الاستنجاد بروسيا الأرثوذكسية. وعرض أوكرانيا على القيصر الكسيس، ورحبت الحكومة الروسية بالعرض وهي عليمة بأن معناه الحرب مع بولندة، وبمقتضى "قانون بيريياسلاف" 18 يناير 1654، انضوت أوكرانيا تحت الحكم الروسي. وكفل للإقليم الاستقلال الذاتي تحت حكم زعيم حربي ينتخبه القوزاق ويصدق على انتخابه القيصر.
وفي الحرب التي تلت ذلك بين بولندة وروسيا، حول تتار القرم الذين آثروا أوكرانيا بولندية على أوكرانيا روسية-حولوا معونتهم من القوزاق إلى البولنديين. وفي 8 أغسطس 1655 استولى الروس على فلنو، وذبحوا آلافاً من الأهالي، وأحرقوا المدينة وسووها بالتراب. وبينما كان البولنديون يدافعون عن أنفسهم على جبهتهم الشرقية، قاد شارل العاشر(33/13)
جيشاً سويدياً إلى غربي بولندة واستولى على وارسو (8 سبتمبر). وانهارت المقاومة البولندية. وأعلن النبلاء البولنديون، بل حتى الجيش البولندي، الخضوع للفاتح وأقسموا يمين الولاء له (3). وأرسل له كرومويل تهانئه لأن قبض على أحد قرون البابا (4)، وأكد شارل لـ "حامي الجمهورية" (كرومويل) أنه عما قليل لن يبقى في بولندة باوبوي واحد (5)، ومع ذلك وعد بالتسامح الديني في بولندة.
على أن خططه أحبطها جيشه الظافر. ذلك أنه الجيش أفلت زمامه، فراح ينهب المدن ويذبح السكان ويسلب الكنائس والأديار. وقاوم الحصار دير ياسنا جورا، القريب من تشستوتشوا، مقاومة باسلة، وأثار الذي نجاحه الذي عد من المعجزات حماسة الجماهير الدينية، وأهاب الكهنة الكاثوليك بالأمة أن تطرد الغزاة الكفار، وبادر الفلاحون إلى امتشاق الحسام، ففرت الحامية التي تركها شارل في وارسو أمام الحشد الزاحف وأعيد كازيمير إلى عاصمته (16 يونيو 1656) وانقلب التتار على روسيا، ووقعت روسيا هدنة مع بولندة مؤثرة جيرتها على جيرة السويد (1656). وأفضي موت شارل العاشر فجأة إلى صلح أوليفا (3 مايو 1660) الذي أنهى الحرب بين بولندة والسويد. وفي 1659 استؤنف الصراع مع روسيا. وبعد ثمانية أعوام من الفوضى والحملات وذبذبات الولاء القوزاقي، نالت روسيا بمقتضى صلح أندروسوفو (20 يناير 1667) سمولينسك، وكيف، وأوكرانيا شرقي الدنيير. وظلت تجزئة أوكرانيا على هذا النحو سارية حتى التقسيم الأول لبولندة (1772).
ثم اعتزل جون كازيمير عرش بولندة (1668) بعد أن أرهقته الحرب وأضناه الفيتو مطلق، واعتكف في نيفير بفرنسا، وعاش حياة هادئة بين الدرس والصلاة إلى أن مات (1672). وخاض خلفه ميخائيل فسنيوفيكي حرباً مدمرة مع العثمانيين، وبمقتضى صلح بوكزاكز (1672) اعترفت بولندة بالسياسة العثمانية على أوكرانيا الغربية، وتعهدت بأداء جزية سنوية للسلاطين تبلغ 220. 000 دوكاتية. وفي تلك الحرب اكتشفت بولندة عبقرية جان سوبيسكي الحربية، فلما مات فسنيوفيكي (673)، انتخب الديت أعظم ملوك بولندة قاطبة (1674) بعد أن ضيّع وقتاً ثميناً على عاداته.(33/14)
أما جان هذا-الذي يسمى الآن يوحنا الثالث-فكان يبلغ الرابعة والأربعين إذ ذاك. وقد حالفه الحظ في مولده، لأن أباه كان الحاكم العسكري لكراكو، أما أمه فكانت حفيدة القائد البولندي ستانسلاس زولكيسفكي الذي استولى على موسكو في 1610، وكان حب الحرب يسري في دم جان. وبفضل تعليمه في جامعة كراكو وأسفاره في ألمانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترة وفرنسا، حيث قضي بباريس قرابة عام، أصبح رجلاً مثقفاً فضلاً عن بسالته ومهارته الحربيتين. وفي 1648 مات أبوه، عقب اختياره ممثلاً لبولندة في معاهدة وستفاليا. وسارع جان بالعودة إلى أرض الوطن، وانضم إلى الجيش البولندي في قتال الثوار القوزاق. ولما غزا السويديون بولنده، وفر جان كازيمير، كان سوبيسكي واحداً من الموظفين البولنديين الذي ارتضوا شارل العاشر ملكاً على بولندة، وظل يخدم عاماً في الجيش السويدي. ولكن حين ثار البولنديون على الغزاة عاد سويسكي إلى ولائه القومي، وأبلى في الدفاع عن وطنه بلاء رفعه إلى منصب القائد العام للجيوش البولندية في 1665. وفي تلك السنة تزوج المرأة الممتازة التي أصبحت نصف حياته والمشكل لسيرته.
هذه المرأة، واسمها ماريا كازيميرا، التي كان يجري في عروقها الدم الفرنسي الملكي، ولدت في نيفير عام 1641، وربيت في فرنسا وبولندة. وفي وارسو يوم كانت في الثالثة عشرة ألهب حسنها ومرحها عاطفة سوبيسكي وهو في الخامسة والعشرين. ولكن سعود الحرب ونحوسها أفصته عنها، فلما عاد وجدها زوجة لنبيل فاسق يدعى جان زامويسكي. وإذ كانت ماريا مهملة من زوجها، فقد قبلت سوبيسكي وصيفاً مرافقاً. ويبدو أنها حافظت على عهودها الزوجية، ولكنها وعدت بالزواج من سوبيسكي حالما يفسخ زواجها من زامويسكي. على أن الزوج كفاها مئونة هذا الشرط بموته. وما لبث العاشقان أن تزوجا، وأصبح غرامهما الطويل أسطورة في التاريخ البولندي. وكان الكثير من النساء البولنديات ينافسن النساء الفرنسيات في الجمع بين الجمال الكلاسيكي، والشجاعة والذكاء القريبين من شجاعة الرجال وذكائهم، والولع بصنع الملوك أو إرشادهم. وقد بدأت ماريا من يوم زواجها تخطط لكي تبوئ سوبيسكي عرش بولندة.(33/15)
وكان حبها أحياناً حباً لا يقيم وزناً لصوت الضمير كما قد يكون الحب. ففي 1669 يبدو أن سوبيسكي قبل المال الفرنسي ليؤيد كردينالاً فرنسياً ضد فسنيوفيكي. وبعد انتخاب ميخائيل انضم جان إلى غيره من النبلاء في مغامرات تستهدف خلع الملك لأنه جبان لا يصلح للدفاع عن بولندة ضد العثمانيين ولا رغبة له في هذا الدفاع. وقاد بنفسه رجاله إلى انتصارات أربعة خلال عشرة أيام. وفي 11 نوفمبر 1673، وهو اليوم الذي مات فيه الملك، دحر سوبيسكي العثمانيين في خوتين ببسارابيا. وجعله هذا النصر المرشح المنطقي لعرش لا قبل الآن بدفع الأعداء المحدقين به من كل جانب إلا لأصلب القتال وأشده تصميماً. ولكي يدعم المنطق حضر إلى هيئة الديت الناخبة على رأس ستة آلاف مقاتل. ولعب المال الفرنسي دوراً في انتخابه، ولكن هذا كان يتفق وسنّة العصر تمام الاتفاق.
ولقد كان ملكاً بجسمه وروحه كما كان باسمه. وصفه الأجانب بأنه "من أكثر الرجال وسامة وأكملهم بنية" في أوربا، "له طلعة نبيلة شماء، وعينان تشعان نوراً وناراً (6) " قوي البدن، مثابر على الإنجاب، متطلع العقل متيقظه. وقد حفز حبه الطبيعي للتملك إسراف حبيبته ماريزنيكا، ولكنه كثيراً ما عوض عن بخل البرلمان الشحيح بدفع رواتب جنده من جيبه، وبيع أملاكه ليشتري لهم البنادق (7). وقد استحق كل ما أخذ، لأنه أنقذ بولندة وأوربا جميعاً.
ذلك أن سياسته الخارجية كانت بسيطة في هدفها، وهو ردّ العثمانيين إلى آسيا، أو على الأقل صد هجماتهم على معقل العالم المسيحي الغربي بفيينا. وقد عاكس جهده هذا تحالف حليفته فرنسا مع السلطان العثماني، ومحاولات الإمبراطور أن يزج به في الحروب التركية، وكان ليوبولد الأول يأمل إذا وفق في محاولاته هذه أن تطلق يد النمسا في تملك الأراضي الدانيوبية أو المجرية التي كانت كل من النمسا وبولندة تدعي الحق فيها لنفسها. وبينما كان سوبيسكي يتحسس طريقه غاضباً وسط هذه المتاهة، تاقت نفسه لحرية تخطيط السياسة وإصدار الأوامر دون أن يكون خاضعاً في كل خطوة للبرلمان والفيتو المطلق. وحسد لويس الرابع عشر والإمبراطور على سلطتهما في اتخاذ القرارات بصورة قاطعة ثم إصدار الأوامر دون إبطاء.(33/16)
وعقب انتخابه اضطلع باسترداد أوكرانيا الغربية من العثمانيين الذين تقدموا الآن شمالاً حين بلغوا لفوف. وهناك، وبقوة لا تزيد على خمسة آلاف فارس، هزم عشرين ألف تركي (24 أغسطس 1675). وبمقتضى معاهدة زورافنو (17 أكتوبر 1676) أكره العثمانيين على النزول عن حقهم المزعومة في الجزية، والاعتراف بسيادة بولندة على أوكرانيا الغربية. ثم شعر بأن الفرصة مواتية لطرد القوة العثمانية من أوربا. فدعا الإمبراطور للانضمام إليه في حرب ضروس يخوضانها مع الترك، ولكن ليوبولد اعترض بأنه لا يملك تأكيداً بألا يهاجمه لويس الرابع عشر في الغرب أن أرسل جيوشه إلى الشرق، ورجا سوبيسكي فرنسا أن تعطي النمس هذا التأكيد، ولكن لويس الرابع عشر أبى (8). وتحول سوبيسكي أكثر فأكثر إلى التحالف مع النمسا. فلما حاول العملاء الفرنسيون رشوة البرلمان ضده فضح مؤامراتهم ونشر رسائلهم السرية. وفي رد الفعل التالي ضد فرنسا وقع البرلمان (1 أبريل 1683) حلفاً مع الإمبراطورية، واتفق على أن تحشده بولندة أربعين ألف مقاتل، والإمبراطورية ستين ألفاً. فإذا حاصر العثمانيون فيينا أو كراكو، خف الحليف لنجدة حليفه بقوته كلها.
وفي يوليو زحف العثمانيون على فيينا. وفي أغسطس غادر سوبيسكي والجيش البولندي وارسو بهذا الهدف المعلن، وهو "أن يمضوا إلى الحرب المقدسة، ويردوا بعون الله الحرية القديمة لفيينا المحاصرة، فيعينوا بذلك جميع العالم المسيحي المتخاذل (9) ". وبدا أن أنبل ما عرفت العصور الوسطى من فروسية قد بعث من جديد. ووصل البولنديون إلى العاصمة المحاصرة في الوقت المناسب، لأن المرض والجوع كادا يفتكان بأكثر المدافعين عنها. وقاد سوبيسكي بشخصه جيشي بولندة والإمبراطورية المجتمعين في معركة من أحسم المعارك في التاريخ الأوربي (12 سبتمبر 1683). ولقي نصف البولنديين الذين تبعوه في هذه الحرب الصليبية-وعدهم خمسة وعشرون ألفاً-حتفهم في المعركة أو في طريقه إليها.
ثم قفل بولندة مكللاً بنصر يشوبه شعور الخيبة. واستقبلته واسو فخورة به بطلاً لأوربا، ولكن الإمبراطور كان قد خيّب آماله في(33/17)
تزويج ابنة من أرشيدوقة النمسا. ولكي يؤمن ملكاً لابنه حاول فتح ملدافيا، وانتصر في جميع المعارك إلا معاركه مع الجو والقدر، وعاد إلىبلده صفر اليدين.
ووسط ضجيج السياسة وصخبها، وفي الفترات التي تخللت الحرب جعل من بلاطه مركز إحياء ثقافي. فلقد كان هو نفسه رجلاً واسع الإطلاع: درس جاليلو وهارفي، وديكارت وجاسندي، وقرأ بسكال، وكورنيي، وموليير. ومع أنه أيد الكنيسة الكاثوليكية باعتبار هذا التأييد سياسة للدولة، فإنه بسط الحرية الدينية والحماية على البروتستنت واليهود (10) وأحبه اليهود كما أحبوا قيصر من قبل. وكان يريد، وإن لم يستطع، أن ينقذ من الموت رجلاً من أحرار الفكر أعرب عن بعض شكوكه في وجود الله (1689) (11)، وكان هذا أول إحراق لمهرطق في تاريخ بولندة. ثم مضت بولندة في إنجاب شعرائها، ولكنها ظلت تستورد أكثر فنانيها الأفذاذ. فنظم فاكلاو بوتوكي ملحمة عن انتصار بولندة في خوتين، وكتب فسبازيان كوشوفسكي ملاحم مماثلة، ومجموعة مزامير بولندية في نثر شعري، أما أندرزي مورزيتن، فبعد أن ترحم "أمينتا" تاسو و "سيد" كورنيي، أظهر في غنائياته تأثير الشعر الفرنسي والإيطالي في بولندة. وقد شجع سوبيسكي التأثير الفرنسي، لأنه كان معجباً بكل شيء في فرنسا إلا سياستها. واستقدم المصورين والمثالين الفرنسيين والإيطاليين ليعملوا في وارسو، واستخدم المعماريين، ولا سيما الأبطاليين منهم، ليشيدوا قصور بطراز الباروك في فيلانوف، وزولكييف، ويافوروف. وبنيت الكنائس الفخمة إبان حكمه: كنيسة القديس بطرس في فلنو وكنيستا الصليب المقدس والراهبات البندكتيات في وارسو. وقبل أندرياس شلوتر من ألمانيا لحفر الزخارف للقصر المبني في فيلانوف، ولقصر كرازنسكي في العاصمة. ووسط هذه التأثيرات الغربية في الفن، غلبه التأثير الشرقي في الملبس والمظهر: العباءة الطويلة والمنطقة العريضة الزاهية الألوان، والشاربان المفتولان إلى أعلى كأنهما سيفان أحدبان.
وقد كدر صفاء شيخوخة الملك تمرد ولده يعقوب، وعناد زوجته، وفشله في جعل الملك وراثياً في أسرته. وكان الفيتو المطلق سيفاً مسلطاً فوق رأسه على الدوام. ولم يستطع أن يصلح من حال الفلاحين، لأن(33/18)
سادتهم سيطروا على البرلمان، ولم يستطع إكراه الأغنياء على دفع الضرائب، لأن الأغنياء كانوا هم البرلمان، ولم يستطع السيطرة على النبلاء المشاغبين، لأنهم أبوا أن يكون له جيش دائم. ومات من تبولن الدم في 17 يونيو 1696، لا كسير القلب كما زعمت الرواية، بل آسفاً على انحدار بلده الحبيب من قمة البطولة التي فعه إليها.
وتخطى الديت ابنه وباع التاج إلى فردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا، الذي تحول في غير عناء من البروتستنتية إلى الكاثوليكية ليصبح أوغسطس الثاني ملك بولندة. وكان شخصية عجيبة في ذاته. ويسميه التاريخ أوغسطس القوي، لأنه كان الرياضي الشديد البأس في جسمه وفراشه، وقد نسيت إليه أسطورة إنجاب 354 طفلاً غير شرعي (12). وفي يناير 1699 وقع في كارلوفتز معاهدة نزلت بمقتضاها تركيا عن كل دعوى لها في أوكرانيا الغربية. فلما شعر أوغسطس بالأمان في الجنوب والشرق، استمع إلى باتكول، وربط بولندة بحلف مع الدنمرك وروسيا لاقتسام السويد.
3 - روسيا تتجه إلى الغرب
1645 - 1699
استطاع كل من المتآمرين الثلاثة أن يختلق عذراً ويدعي استفزازاً ما. فشارل العاشر ملك السويد كان قد حاصر كوبنهاجن وحاول فتح الدنمرك، وغزا بولندة واستولى على عاصمتها، وكان جوستافس أدولفس قد دعم قوة السويد في ليفونيا واينجريا دعماً أتاح له أن يتحدى روسيا أن تنزل زورقاً في البلطيق دون موافقة السويد. أما الدب الروسي الحبيس فكان يحرق الأرم لمرأى المخارج كلها مغلقة في الغرب، والمنافذ إلى البحر الأسود كلها يسدها التتار والترك. ولم يبق غير الشرق مجال لتحرك روسيا-إلى سيبيريا، وذلك يبدو الطريق إلى الشدائد والهمجية. لقد كانت أسباب الراحة ومفاتن الحياة تؤمي لروسيا أن تتجه غرباً، وكان الغرب مصمماً على أن يبقي روسيا بلداً شرقياً.
وحين اعتلى ألكسيس ميخايلوفتش رومانوف عرش القياصرة كانت روسيا لا تزال يطغى عليها طابع العصر الوسيط. فهي لم تعرف القانون الروماني، ولا إنسانية النهضة الأوربية، ولا إصلاح الحركة(33/19)
البروتستنتية. وفي عهد ألكسيس صيغ القانون الروسي من جديد (أولوزيني 1649) لكن هذه الصياغة لم تكن أكثر من جمع وتنسيق للقوانين القائمة المبنية على الحكم المطلق واستقامة العقيدة الدينية. فمثلاً ظل القانون يرى من الجريمة أن يتطلع إنسان إلى الهلال الجديد أو أن يلعب الشطرنج أو يغفل الذهاب إلى الكنيسة في الصوم الكبير. وهذه الجرائم وعشرات غيرها تعاقب بالجلد. وكان ألكسيس ذاته متعصباً في تدينه رغم ما في طبعه من لطف وسماحة، وكثيراً ما كان ينفق خمس ساعات كل يوم في الكنيسة، وقد انحنى في إحدى المناسبات ألفاً وخمسمائة انحناءه (13). وكان يبتهج بإطعام الشحاذين الذين يتجمعون حول قصره، ولكن كان يعاقب كل انشقاق سياسي أو ديني عقاباً صارماً، ويفرض الضرائب الباهظة على شعبه، ويسمح لاستغلال الفلاحين وفساد الحكومة أن يستشريا إلى درجة أشعلت الثورة في موسكو، ونوفجورود، وبسكوف، وأهم من ذلك بين قوزاق نهر الدون. وقد ألف قوزاقي من هؤلاء يدعى ستينكا رازين عصابة لصوص، وسلب الأغنياء وقتلهم، ونصب نفسه سيداً على استراخان وزارتسين (التي أصبحت ستالنجراد). ثم أقام جمهورية قوزاقية على الفولجا، وهدد مرة بالاستيلاء على موسكو. وانتهى أمره بأن أسر وعذّب حتى مات (1671)، ولكن الفقراء حفظوا له ذكرى عزيزة تعدهم بالانتقام من الملاك والحكومة.
على أن بعض المؤثرات العصرية سرت حتى إلى هذه البيئة الوسيطة فقد اقتضت الحروب مع بولندة اتصالات أكثر مع الغرب. وأقبل الدبلوماسيون والتجار في أعداد متزايدة من بلاد أطلق عليها الروس اسم "أوربا". وشهد نهر دوينا وثغراً ريجا وأركانجل تجارة نامية مع الدول الغربية. ودعى الفنيون الأجانب لتطوير المناجم، وتنظيم الصناعة، وصنع السلاح. ونمت مستوطنة كاملة للمهاجرين حوالي 1650 في أحد أحياء موسكو، وجلب الألمان والبولنديون مسحة من الأدب والموسيقى الغربيين إلى هذه المستوطنة، وزودوا الأسر الروسية بمدرسين خوصيين للاتينية. وكان لألكسيس نفسه أوركسترا ألماني. وقد سمح لوزيره أرتامون ماتفيف باستيراد الأثاث الغربي والعادات الفرنسية، إلى حد إباحة اختلاط النساء بالرجال في المجتمع. ولما(33/20)
بعث السفير الروسي لدى دوق توسكانيا الأكبر إلى ألكسيس أوصافاً للدرامات والأوبرات والباليهات الفرنسية، سمح ألكسيس في بناء مسرح في موسكو وبعض المسرحيات، لا سيما المقتبسة من الكتاب المقدس. وقد سبقت إحداها، وهي "استير"، تمثيلية راسين التي تحمل هذا الاسم بسبعة عشر عاماً. ولما شعر ألكسيس أنه أذنب باختلافه إلى هذه الحفلات التمثيلية، ذكرها لكاهن اعترافه، فأباح له هذه المتع الجديدة (14). وتزوج ماتفيف سيدة اسكتلندية تنتمي لأسرة هاملتن الشهيرة، وقد تبنيا وربيا يتيمة روسية تدعى ناتاليا نارويشكينا، وقد اتخذها ألكسيس زوجة ثانية له.
على أن مغامرات التغريب هذه أثارت د فعل وطنياً، فشجب بعض الروس الأرثوذكس دراسة اللاتينية باعتبارها شراً قد يغري الشباب بالأفكار غير الأرثوذكسية. وأحس الجيل المخضرم أن أي تغيير في العادات أو الإيمان أو الطقوس يزيح حجراً في بناء المجتمع، ويقلقل الأحجار كلها، وقد يهوى بعد حين بالبناء المزعزع كله ويحيله خراباً. وكان الدين في روسيا يعتمد على الطقوس اعتماده على العقيدة. ومع أن قدرة الجماهير على تفهم الأفكار كانت إلى ذلك الحين محدودة جداً، فقد أمكن تدريبها على الطقوس الدينية التي أعان تكرارها المنّوم على الاستقرار والسلام الاجتماعيين والنفسيين. ولكن التكرار يجب أن يكون دقيقاً حتى يحدث الأثر المنّوم، وأي تغيير في التتابع المألوف قد يحطم التعويذة المهدئة، ومن هنا كان لا بد من بقاء كل تفاصيل المراسم الدينية، وكل كلمة من كلمات الصلوات، على حالها كما كانت منذ قرون. وقد وقع خلاف من أشد الخلافات والانقسامات مرارة في التاريخ الروسي حين أدخل نيكون، بطريرك موسكو، على الطقوس بعض الإصلاحات المبنية على دراسة للممارسات والنصوص البيزنطية. فقد دله الأكليريكيون الذين درسوا اليونانية على أخطاء كثيرة في النصوص التي تستعملها الكنيسة الروسية، فأمر نيكون بمراجعة النصوص والطقوس وتنقيحها، فمثلاً تقرر أن يكتب اسم يسوع بعد ذلك Jisus بدلاً من Isus، وأن ترسم علامة على الصليب بثلاثة أصابع لا إصبعين، وأن يخفض عدد المطانيات (الركعات) في صلاة معينة من اثنتي عشرة إلى أربع، وأن تحطم الأيقونات التي يظهر فيها التأثير الإيطالي ويستبدل بها أيقونات تتبع(33/21)
النماذج البيزنطية. وتقرر بصفة عامة أن يطابق مطابقة أوثق بين الشعائر الروسية وأصولها البيزنطية. وقد أنزلت رتب بعض رجال الكنيسة الروس الذين أبوا قبول هذه التغييرات أو أوقع عليهم الحرم أو نفوا إلى سيبيريا. وساءت القيصر أساليب نيكون الدكتاتورية، فنفاه في 1667 إلى دير ناء. وانقسمت الكنيسة الروسية إلى حزبين، فأما الكنيسة الرسمية التي يؤيدها ألكسيس فقد قبلت الإصلاحات، وأما المخالفون (راسكولنيكي) أو قدامى المؤمنين (ستاروفيرتسي) فقد تطوروا إلى هيئة منشقة اضطهدتها الأرثوذكسية الجديدة بالنار والحديد. وقد أحرق زعيمهم أفاكوم على الخازوق (1681) بأمر القيصر فيودور. وقتل كثيرون من قدامى المؤمنين أنفسهم مؤثرين الموت على دفع الضرائب لحكومة كانت في نظرهم عدواً للمسيح. وهذه الفوضى الدينية كانت بعض التركة التي ورثها بطرس الأكبر.
ومهد موت ألكسيس (1676) لصراع عنيف بين أبنائه. فقد خلف من زوجته الأولى ماريا ميلوسلافسكي ولداً عليلاً يدعى فيودور (المولود في 1662)، وآخر أعرج نصف أعمى ونصف معتوه يدعى ايفان (المولود في 1666)، وست بنات كانت أكفأهن وأشدهن طموحاً صوفيا ألكسيفنا (المولودة في 1657). وخلف من زوجته الثانية ناتاليا نارويشكينا ولده الأشهر بطرس (المولود في 1672). وورث فيودور العرش، ولكنه مات في 1682. وأراد البويار (النبلاء الروس) أن يولوا بطرس عرش القيصرية، بوصاية أمه، لما رأوه من عجز إيفان الشديد. ولكن أخوات بطرس لأبيه كان يكرهن ناتاليا ويخشين أن يهملن تحت حكمها، حرضن جنود حامية موسكو (السترلتسي)، تتزعمهن صوفيا، على أن يغزو الكرملين ويصروا على تنصيب ايفان. وناشد ماتفيف، حاضن ناتاليا، الجند أن ينسحبوا، فانتزعوه من قبضة بطرس، وقتلوه على مرأى من الصبي ذي العشرة الأعوام، وقتلوا أخوه ناتاليا ونفراً من أنصارها، وأكرهوا البويار على قبول إيفان قيصراً، يشاركه بطرس تابعاً له، وصوفيا وصية عليه. ولعل هذه الفظائع أسهمت في إصابة بطرس بتلك التشنجات التي نغصت حياته فيما بعد، وهي على أي حال أعطته دروساً لا تنسى في العنف والوحشية.(33/22)
واعتكفت ناتاليا مع بطرس في إحدى ضواحي موسكو المسماة بريوربرازينسكي. وحكمت صوفيا البلاد بكفاية. وقد استنكرت عزل النساء في مساكنهن (التيريم أي الحريم terem) ، وظهرت أمام الناس سافرة، ورأست في غير خشية اجتماعات الرجال حيث راح الشيوخ يهزون رءوسهم أسفاً وحسرة على هذه الوقاحة، ولكنها كانت قد تلقت من التعليم أكثر من معظم الرجال المحيطين بها، وكانت ميالة إلى الإصلاح وإلى الأفكار الغربية، واختارت رئيساً لوزرائها، وربما عشيقاً لها، رجلاً افتتن بحياة الغرب. وكان هذا الرجل، وهو الأمير فازيلي جوليتسين، يكتب اللاتينية، ويعجب بفرنسا، ويجمل قصره بالصور وقطع نسيج جوبلان المرسومة، ويقتني مكتبة كبيرة تضم كتباً لاتينية وبولندية وألمانية. والظاهر أن قدوته وتشجيعه كان لهما الفضل في بناء ثلاثة آلاف مسكن حجري بموسكو في سنوات وصايته السبع، في حين كانت كل البيوت تشاد قبل ذلك بالخشب. ويبدو أنه كان يخطط لعتق أرقاء الأرض (15). وفي عهده ألغي الاسترقاق بسبب الدين، وكفّت الحكومة عن دفن القتلة أحياء، وألغيت عقوبة الإعدام على التفوه بعبارات التحريض. على أن جهوده في الإصلاح أودى بها فشله في قيادة الجيش، فقد أعاد تنظيمه وقاده مرتين ضد الترك، وفي الحالتين أساء إدارة تموين الجند، فعادوا مهزومين متمردين، وأعطى سخطهم بطرس الإشارة للقبض على زمام السلطة.
4 - بطرس يتعلم
كان يتلقى التعليم من أمه، ومن معلميه الخصوصيين، ومن جولاته في شوارع موسكو. ولم يكن مبكر النضج، ولكنه كان تواقاً إلى العمل، طلعة، ذكياً، بهرته الآلات المجلوبة من الغرب مثل كالساعات، والأسلحة، والأدوات. وهفت نفسه إلى روسيا تنافس الغرب في فنون الصناعة والحرب. وكان يحب لعب الألعاب الحربية مع رفاقه الخشنين-كبناء القلاع، ومهاجمتها، والدفاع عنها. وحلم ببحرية روسية قبل أن يتاح لروسيا الوصول إلى بحر لا يتجمد، فبنى قوارب أكبر فأكبر، حتى اضطر إلى رحلة ثمانين ميلاً من موسكو ليجد في بيرسلافل بحيرة يستطيع أن يعوّم فيها أسطوله الصغير.(33/23)
فلما اشتد عوده ازداد ضيقه بهيمنة أخت غير شقيقة، اغتصبت مع فازلي جوليتسين سلطة إيفان وسلطته. وفي 18 يوليو 1689، انضم بطرس إلى إيفان في الموكب الذي كان يحتفل كل سنة بتحرير موسكو من قبضة البولنديين. ومشت صوفيا في الموكب على غير ما قضت به التقاليد. فأمرها بطرس، وقد بلغ الآن السابعة عشرة، أن تنسحب، ولكنها أصرت على السير، فغادر المدينة غاضباً، وبحث عن حلفاء ضد الوصية. فوجدهم في "البويار" الذين لم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم على الرضي بحكم امرأة، وفي حامية موسكو (الستريلتسي)، التي كان رجالها على استعداد للخدع الحربية والأسلاب بعد أن صدتهم صوفيا غير مرة. وحرك بوريس جوليتسين، ابن عم الوزير، الانقلاب بإرساله رسالة مزورة إلى بطرس زعمت صوفيا أن تدبّر القبض عليه. وفر بطرس وتبعته أمه، وأخته، وزوجته التي تزوجها مؤخراً، إلى دير ترويتسكو-سرجيفسكايا، على خمسة وأربعين ميلاً من موسكو. ومن هناك أرسل الأوامر لكل كولونيل في الحامية بالذهب إلى الدير المذكور. ونهتهم صوفيا عن الذهاب، ولكن كثيرون ذهبوا. وسرعان ما أقبل زعماء الأشراف، ثم يواقيم بطريرك موسكو. واستدعى فازيلي جوليتسين، فخضع، ونفي إلى قرية قريبة من أركانجل. وقبض على نفر من مؤيدي صوفيا، وعذب بعضهم، وأعدم آخرون. وكتب بطرس لإيفان يستأذنه في تقلد زمام الحكم، فأعطى ايفان الإذن أو افترض أنه أعطاه، وأمر بطرس صوفيا أن ترحل إلى دير للراهبات، فاحتجت، وتمردت، ثم استسلمت. وهناك زودت بكل أسباب الراحة وبالخدم الكثيرين، ولكن حظر عليها أن تبرح الدير. وفي 16 أكتوبر 1689 دخل بطرس موسكو، ورحب به إيفان، فتقلد زمام السلطة العليا. واعتزل إيفان الحياة العامة في لباقة، ومات بعد سبع سنوات.
على أن بطرس لم يكن قد تهيأ بعد للحكم. فترك الحكومة لبوريس جوليتسين المتزمت الرجعي، وليواقيم، وغيرهما، وبينما أنفق هو كثيراً من وقته في المستوطنة الأجنبية. وهناك صنع أصدقاء جدداً كانوا ذوي أثر قوي في تطوره. ومن هؤلاء باتريك جوردون الاسكتلندي، المقاتل المغامر الذي كان الآن ضابطاً في الجيش الروسي وهو في الخامسة والخمسين، ومنه تعلم بطرس المزيد عن فنون الحرب. ثم فرانسوا(33/24)
ليفور، الذي ولد في جنيف، وكان الآن لواء في الرابعة والثلاثين. وقد ابتهج القيصر الشاب بحسن طلعته وسرعة خاطره وأساليبه اللطيفة، فكان يتناول الطعام معه مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، الأمر الذي أفزع أهل موسكو، فهم ينظرون إلى جميع الأجانب نظرتهم إلى المهرطقين الأشرار. وقد فضل بطرس عشرة هذين الأجنبيين على عشرة الروس، لأنه رآهما أكثر تحظراً وإن لم يقلا عن الروس إسرافاً في الشراب، وقد فاقا الروس كثيراً في معارفهما الصناعية والعلمية والحربية، وكان حديثهما أرقى وملاهيهما أرفع. ولاحظ بطرس تسامحهما المتبادل في أمور الدين-فجوردون كان كاثوليكياً، وليفور بروتستنتياً-ووقف في ابتسام عراباً للأطفال الكاثوليك والبروتستنت على السواء عند جرن المعمودية. ثم تعلم من لغتي الألمان والهولنديين ما يكفي لتحقيق أهدافه.
أما أهدافه هذه فهي أن يجعل روسيا شديدة البأس في الحرب، منافسة للغرب في فنون السلم. لقد تعلم من النزيل الهولندي، البارون فون كيلر، كيف حافظ الهولنديون على ثروتهم وقوتهم في بناء السفن الجيدة. وتاقت نفسه لإيجاد منفذ إلى البحر، ولبناء أسطول بحري. ولم يكن له منفذ بحري إلا في أركانجل، التي كان يكتنفها الجليد نصف العام. ومع ذلك اتخذ طريقة إليها في 1693. واشترى سفينة حربية هولندية راسية في الميناء، فلما تغلب على خوفه من البحر وأبحر على هذه السفينة أسكرته الفرحة، وكتب إلى ليفور يقول: "ستقودها أنت، وسأخدم أنا بحاراً بسيطاً فيها (16) ". وارتدى سترة قبطان هولندي، واختلط مغتبطاً بالبحارة الهولنديين في حانات الثغر. لقد كان الهواء الملح الذي هب عليه من البحر البارد نسمة منعشة من الغرب، من ذلك الإقليم، إقليم الصناعة والمنعة والعلم والفن، الذي كان يناديه في إغراء يزداد قوة يوماً بعد يوم.
وكان هناك طريقان عمليان إلى الغرب: أولهما طريق البلطيق الذي تسدّه السويد وبولندة، وثانيهما طريق البحر الأسود، الذي يسدّه التتار والترك. وكان التتار والترك يسيطرون عند آزوف على مصب الدون، ويغيران المرة بعد المرة على الأراضي الموسكوفية، ويأسران الروس-أحياناً عشرين ألفاً في سنة واحدة-ليبيعوهم عبيداً في(33/25)
الأستانة. وفي 1659 أمر بطرس جيشه أن ينتقل من التلهي بالألعاب إلى التمرس بالحرب، وأن يزحف مخترقاً السهوب، ويبحر هابطاً الأنهار، ويهاجم آزوف. واضطلع ثلاثة قواد بالقيادة قسمة بينهم-جولوفين، وجوردون، وليفور. وعمل بطرس بتواضع مدفعياً برتية رقيب في فوج بريوبرازينسكي. وأسيأت إدارة العملية، وكان الجند سيئي التدريب، وبعد أربعة عشر أسبوعاً من التضحيات أقلع الروس عن الحصار، وعاد بطرس إلى موسكو وهو يقسم ليدربن جيشاً أفضل ويعيدون الكرة.
وبنى فورونيز أسطول ناقلات وبوارج. وفي مايو 1696 أبحر هابطاً الدون على رأس 75. 000 رجل، واستأنف حصار آزوف. وفي يوليو، وبفضل بسالة قوزاق دون على الأخص، استولى الروس على المدينة. وعلى الفور أمر بطرس ببناء أسطول كبير في فورونيز ليعمل في البحر الأسود. وفي سبيل هذا الهدف فرضت الضرائب على روسيا كلها بما فيها كبار ملاك الأراضي، وجنّد العمال، وجلبت الآلات الأجنبية. وبعث خمسون من أشراف الروس على نفقتهم إلى إيطاليا، وهولندة، وإنجلترا، ليتعلموا فن بناء السفن. وفي 10 مارس 1697 تبعهم بطرس.
ولو خطر ببال روسيا أن القيصر سيمضي إلى بلاد تدنسها الهرطقة لأفزعتها الفكرة وروعتها. لذلك نظم سفارة من خمسة وخمسين نبيلاً ومائتي تابع، يرأسها ليفور، لتزور "أوربا" وتبحث عن حلفاء ضد الترك. وكان من هؤلاء المبعوثين الخمسة والخمسين صف ضابط لا يدعي إلا باسم بطرس ميخايلوف، ويستعمل ختماً عليه صورة نجار سفن وهذه العبارة "رتبتي تلميذ، وأنا في حاجة إلى معلمين (17) " فلما خرج بطرس من روسيا، لم يدقق في الاحتفاظ بهذا التنكر، فقد استضافه ناخب براندنبورج فردريك الثالث، والملك ليم الثالث في إنجلترا، والإمبراطور ليوبولد الأول في فيينا، بوصفه قيصر روسيا. ولقد صدم أهل القصور، حتى وهو يسفر عن مقامه الملكي، بجلافة سلوكه وحديثه، وبقذارته وإهماله، وبعزوفه على استعمال السكين والشوكة (18). ولكنه شق طريقه.(33/26)
ولقيت السفارة المصاعب-التي لم ينسها بطرس قط-في سفرها إلى ريجا مخترقة ليفونيا السويدية. ومن هناك أسرع إلى كونيجزبيرج، حيثوقّع من الناخب معاهدة تجارة وصداقة. وفي براندنبورج درس المدفعة والتحصين على يد مهندس حربي بروسي أعطاه شهادة بتقدمه. وفي كوبنبروجي أقنعته صوفيا، ناخبة هانوفر الأرملة، وابنتها صوفيا ارلوت، ناخبة براندنبورج، هو وبطانته بالعشاء والرقص معهما. وقد وصفته الناخبة الأرملة فيما بعد بهذه العبارات:
"إن القيصر رجل فارع الطول، دقيق الملامح، رائع السمت، له ذهن شديد الحيوية، وبديهة حاضرة .. .. وليت عاداته أقل جلافة ... كان كرحاً جداً، كثير الحديث، وقد كونا صداقة حميمة فيما بيننا .... أخبرنا أنه يعمل في بناء السفن، وأرانا يديه، وجعلنا نلمس المواضع القاسية التي خلفها بهما العمل ... إنه رجل شديد الغرابة ... طيب القلب جداً، نبيل العاطفة إلى حد عجيب ... ولم يشرب حتى يثمل في حضرتنا، ولكن ما إن بارحنا المكان حتى عوض أفراد بطانته عن قصده في الشراب ... وهو حساس لمفاتن الجمال ... ولكني لم أجد فيه ميلاً للتودد لنساء ... وفي؟ أثناء الرقص حسب الموسكوفيون عظام الحوت المصنوعة منها مشدّاتنا عظامنا، وأبدى القيصر دهشته بقوله أن للنساء الألمانيات عظاماً قاسية إلى حد رهيب (19) ".
ومن كوبنبروجي، أبحرت السفارة هابطة الرين إلى هولندة. وترك بطرس ونفر من أخصائه أكثر الجماعة في امستردام، ومضوا إلى زاندام، وكانت يومها مركزاً كبيراً لبناء السفن (18 أغسطس 1697). فقد سمع الكثير، حتى في روسيا، عن مهارة بناء السفن في هذه المدينة الجميلة. وتعرف في شوارعها على صانع عرفه في موسكو، اسمه جيريت كيست. وطلب إليه بطرس أن يتستّر على تنكره، واقترح أن يسكن كوخ كيست الخشبي الصغير. وهناك مكث أسبوعاً يرتدي زي عامل هولندي، وينفق نهاره في مراقبة نجاري السفن وهم يشتغلون، ويجد في ليله متسعاً لمغازلة فتاة تخدم في حانة الحي. وفي سنوات لاحقة زار جوزف الثاني ونابليون هذا الكوخ كأنه مكان مقدس، وجمّله القيصر اسكندر الأول بلوحة رخامية، وكتب شاعر(33/27)
هولندي على الحائط بيتاً مشهوراً: لا شيء يصغر في نظر الرجل العظيم (20) ".
فلما ضاق بطرس بالجموع التي تبعته في كل خطوة بزاندام، عاد إلى أمستردام وسفارته. وهنا أيضاً أصر على التنكر، ولكنه سمى نفسه الآن "النجار بطرس الزاندامي". وأقنع شركة الهند الشرقية الهولندية بأن تسمح له بالانخراط في سلك عملها بأحواض السفن في أوستنبورج وهناك اشتغل بهمة مع عشرة من أتباعه طوال شهور أربعة، وعاونوا في بناء سفينة وإنزالها إلى الماء. ولم يسمح بأي تفرقة بينه وبين العمال الآخرين، وحمل على كتفه الأخشاب كما حملها سائرهم. وكان في الليل يدرس الهندسة ونظرية بناء السفن، وتبين مذكراته مبلغ دقة هذه الدراسات. ووجد متسعاً من الوقت لزيارة المصانع، والوؤش، ومتاحف التشريح، والحدائق النباتية، والمسارح، والمستشفيات. وقابل الطبيب وعالم النبات العظيم بويرهافي، ودرس المكروسكوبيا على ليوفينهويك، واصطحب بطانته إلى مدرج تشريح بويرهافي. ودرس الهندسة الحربية على البارون فان كويهورن، والعمارة على شينفويت، والميكانيكا على فان درهيدن. وتعلم كيف يخلع الأسنان، ولقي بعض مساعديه عنتاً من جراء حماسته في علاج الأسنان. ودخل منازل الهولنديين ليدرس حياتهم الأسرية وتنظيم بيوتهم. واشترى في الأسواق، وخالط الناس، وتعجب من حرفهم المتنوعة، وتعلم أن يصلح ملابسه ويرقع حذاءه. واحتسى الجعة والنبيذ من الهولنديين في مشاربهم. وأغلب الظن أن التاريخ لم يشهد رجلاً أشوق منه إلى تشرب الحياة وتذوقها.
وفي هذا النشاط كله لم تغب روسيا عن نظره. فوجه برسائله أعمال حكومتها النائبة عنه. واستخدم وأرسل إلى روسيا عدة قباطنة بحريين، وخمسة وثلاثين ملازماً، واثنين وسبعين مرشداً، وخمسين طبيباً، وأربعة طباخين، و345 بحاراً. وبعث إلى روسيا على عجل 260 صندوقاً من البنادق، وقماش القلوع، والبوصلات، وعظم الحوت والفلين، والمراسي، والعدد، وحتى ثماني قطع من الرخام ليشتغل عليها النحاتون الروس (21). ولكن اهتمامه كان يفتر إذا اتصل الأمر بتهذيب العادات، أو لطائف المجتمع، أو دقائق الفكر، ولم يكن لديه(33/28)
متسع من الوقت للميتافيزيقا أو المراقص أو الصالونات، وعلى أية حال لا ضير في أن ترجأ هذه الأشياء غير الملموسة. أما الآن فمهمته أن يدخل صنائع الغرب وعلومه العملية إلى روسيا "حتى إذا تمكنا منها تمكناً كاملاً استطعنا عند عودتنا إلى الوطن أن ننتصر على أعداء يسوع المسيح (22) " وهو يقصد الاستيلاء على الآستانة وإطلاق روسيا من سجنها لتعبر البوسفور إلى العالم.
وبعد أن قضي في هولندة أربعة شهور طلب إلى وليم الثالث الأذن له بزيارة إنجلترا، شبه متنكر أيضاً. وبعث وليم باليخت الملكي ليأتي به، ووصل بطرس إلى لندن في يناير 1698. ومع أن الوقت كان شتاء فإنه زار أرصفة الموانئ والمؤسسات البحرية، والجمعية الملكية، ودار ضرب النقود، ولعله التقى بنيوتن هناك. وقلب ايفلين بيته وهيأ أرضه بعناية في دبتفورد لبطرس وجماعته، وقد منحت الحكومة الإنجليزية السر جون بعد ذلك 350 جنيهاً ليصلح التلف الذي أحدثته الروس. وأدهش القيصر جيرانه بالذهاب إلى فراشه مبكراً، والاستيقاظ في الرابعة، والسير إلى أحواض السفن يحمل على كتفه بلطة وفي فمه "بيبة". واتخذ ممثلة كبيرة خليلة له، وقد شكت من ضآلة المال الذي نقدها إياه. وتسلم درجة الدكتوراه في القانون في أكسفورد، وحضر الخدمات البروتستنتية في لياقة توقع معها القساوسة الإنجليز أنه سيحول روسيا إلى حركة الإصلاح البروتستانتي. وحاول الأسقف بيرنت التأثير عليه، فوجده محباً للاستطلاع ولكنه لا يلتزم بموقف متميز، وخلص إلى أن القيصر "هيأته الطبيعة فيما يبدو لأنه يكون نجار سفن أكثر منه ملكاً عظيماً (23) ".
وأبحر بطرس عائداً إلى أمستردام بعد أن أنفق أربعة أشهر في إنجلترا، وانضم إلى بعثته، وواصل معهم رحلته إلى فيينا مروراً بليبزج ودرسدن (26 يونيو 1698). وعبثاً حاول، طوال شهر نفد خلاله صبره، أن يضم الإمبراطور إليه في حلف ضد تركيا. وقد تلطف مع اليسوعيين الذين بدأوا يحملون بروسيا الكاثوليكية الرومانية. وبينما هو على وشك مغادرة فيينا، وصلته رسالة تنبئه بأن حامية موسكو تمردت، وأنها تهدد بالاستيلاء على موسكو وعلى مقاليد الحكم. فخف(33/29)
من فوره إلى روسيا، ولكن قرب كراكو وصله تأكيد بأن الثورة أخمدت. ولبث أربعة أيام في رافا مع أوغسطس الثاني ملك بولندة. وأدهشه وأبهجه أن يجد ملكاً يستطيع أن يباريه في قوة البدن، وصيد الوحوش، والإسراف في الشراب. وقد أحب أحدهما الآخر، وتعانقا، وتناقشا في أي البلدين يجب أن يكون أول ضحية لصداقتهما، السويد أم تركيا. وفي 4 سبتمبر وصل بطرس إلى موسكو بعد ثمانية عشر شهراً من رحلة عينت في رأي ماكولي "حقبة في التاريخ-لا تاريخ بلده فحسب ... بل تاريخ العالم (24) ". لقد اكتشفت روسيا أوربا، واكتشفت أوربا روسيا. وبدأ ليبنتز يدرس الروسية.
على أن بطرس كان لا يزال له طبع مسكوفيي القرن السابع عشر. إنه لم يغتفر قط لحامية موسكو اشتراكهم في قتل أخواله وماتفيف، وفي تمكين صوفيا من اغتصاب السلطة. ولم يكن في خططه لتنظيم جيش جديد مكان لهذا "الحرس الإمبراطوري" المثير للمتاعب. فلما نمى إليه أن صوفيا فاوضتهم من ديرها ليعيدوها إلى الحكم، وأنهم هددوا ليفور وغيرهم من أهل "المستوطنة الألمانية"، وأنهم أذاعوا الشائعات بأنه يخون ديانة روسيا في ولعه بالغرب، استحال غضبه تشنجاً يطلب الانتقام. فأمر بتعذيب نفر كبير من الحامية ليحملهم على الاعتراف بدور صوفيا في تمردهم، ولكنهم تجلدوا لأروع ضروب العذاب دون أن يحملوها أي تبعة، ومر بتعذيب أتباعها بنفس الهدف والنتيجة. وأكرهت صوفيا على أن تقطع على نفسها نذر الرهبنة، وأحكم حبسها في ديرها، حيث ماتت بعد ست سنوات. ثم أعدها ألفاً من رجال الحامية قتل بطرس منهم خمسة بيده، وأكره مساعديه على أن يقتدوا به، ولكن ليفور أبى. وما وافى عام 1705 حتى كانت حامية موسكو (السترلتسي) قد اختفت من التاريخ.
وشرع بطرس من فوره في بناء يش جديد. وكان الجيش القديم قوامه رجال الحامية، والمرتزقة الأجانب، والمجندون من الفلاحين يجمعهم الأشراف. فاستبدل بطرس هذا الخليط جيشاً دائماً عدته 210. 000 مقاتل بتجنيده رجلاً من كل عشرين أسرة من أسر الفلاحين. وألبس هؤلاء الجنود سترات عسكرية "أوربية" ودربوا على تكتيك الغرب. أما مدة الخدمة لجميع الرتب فهي مدى الحياة. وفضلاً عن(33/30)
هذا دعا بطرس 100. 000 قوزاقي للخدمة. وبنيت السفن على عجل على البحيرات، والأنهار، والبحار، فما وافى عام 1705 حتى كان للبحيرة الروسية ثمان وأربعون بارجة، وثمانمائة سفينة أصغر منها، و28. 000 بحار.
كان هذا كله لا يزال في طريق التنفيذ، ناقصاً لم يكتمل بعد، حين جاء باتكول إلى موسكو واقترح أن ينضم بطرس غلى فردريك الرابع ملك الدنمرك وأوغسطس الثاني ملك بولندة ليطردوا السويد من أرض القارة وينتزعوا منها الهيمنة على البلطيق. ورأى بطرس أن كل هذه السفن التي يجري بناؤها تتوق لأن تمخر عباب البحر، وهي تؤثر البحر المتوسط الدافئ-ولكن الإمبراطورية العثمانية كانت لا تزال قوية إلى حد يفت في العضد. وكانت الآستانة عصية على الهجوم، والنمسا وفرنسا الآن صديقتين للأتراك. فعلى روسيا إذن أن تتطلع إلى الباب الآخر، وأن تلتمس لها منفذاً في الشمال. وكان من سوء التوقيت أن يحضر المبعوثون السويديون إلى موسكو قبيل ذلك ويحصلوا على موافقة بطرس على تجديد معاهدة كاردس التي تعاهدت فيها روسيا والسويد على السلام. ولكن الجغرافيا والتجارة تهزءان بالمعاهدات. ثم ألم يكن ساحل البلطيق بين نهري نيفا ونارفا-ولايتا اينجريا وكاريليا-من قبل ملكاً لروسيا، ولم يسلم للسويد في 1616 إلا لأن روسيا كانت في فترة شدتها تلك عاجزة عن المقاومة؟ فلم لا تسترد القوة ما أخذ بالقوة؟ وعلى ذلك، ففي 22 نوفمبر 1699 انضم بطرس إلى الحلف ضد السويد، واتخذ أهبته لشق طريقه إلى البلطيق. وفي 8 أغسطس 1700 أمن جبهته الجنوبية على قدر ما تستطيع معاهدة تأمينها، وذلك بإبرامه صلحاً مع تركيا. في ذلك اليوم بعينه أمر جيشه بالزحف على ليفونيا السويدية.
5 - شارل الثاني عشر والحرب الكبرى
1700 - 1721
ونمى إلى استوكهولم نبأ غامض عن اتفاق الحلف. فالتام المجلس الملكي ليناقش إجراءات الدفاع. وكان الرأي الغالب وجوب فتح باب المفاوضات مع أحد الحلفاء لعقد صلح منفرد معه. واستمع شارل(33/31)
ملياً وهو صامت، ثم انتفض قائماً وقال: "أيها السادة، لقد عقدت النية على ألا أخوض حرباً ظالمة ما حييت ولكني ... لن أنهي حرباً عادلة إلا بالقضاء المبرم على أعدائي (25) ". ثم طلق كل لهو وترف واتصال بالنساء ومعاقرة للخمر. وكان جيشه وبحريته مستعدين، فغادر معهما استوكهولم في 24 أبريل 1700 ليبدأ واحدة من أروع السير الحربية في التاريخ. ولم يشهد عاصمة ملكه بعدها قط.
وبدأ بمهاجمة الدنمرك، فقد كان عليه أن يحمي ولايات السويد الجنوبية من هجمات الدنمرك وهو يواجه بولندة وروسيا. ثم قاد سفنه عبر مضيق الساوند-المفترض أنه لا يصلح للملاحة-بما عهد فيه من جرأة وسرعة، رغم اعتراض أميرال بحريته، ورسا على سييلاند، التي لا تبعد عن كوبنهاجن سوى أميال (4 أغسطس 1700). وسارع فردريك الرابع ملك الدنمرك غلى إبرام صلح ترافندال معه (18 أغسطس) خشية أن تسقط عاصمته، ودفع تعويضاً قدره 200. 000 ريال دنمركي، وأقسم أنه لن يهاجم السويد أبداً.
وفي مايو 1700 حاول أغسطس الثاني الاستيلاء على ريجا. ولكن هزمه الكونت ايريك دالبيرج، القائد السويدي البالغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، والذي اكتسب لقب "فوبان السويد" لمهارته في فن التحصين. وتقهقر أوغسطس وناشد بطرس أن يخفف عنه بغزوه اينجريا. واستجاب بطرس بأن أمر أربعين ألف مقاتل بحصار نارفا. وأراد شارل الثاني عشر أن يساعد دالبيرج، فنقل جيشه بالبحر إلى برناو (بارنو)، على خليج ريجا، ولكنه حين وجد ذلك المقاتل منتصراً، اتجه شمالاً. واخترق المناقع والممرات الخطرة ثم ظهر فجأة في مؤخرة جيش بطرس. وأخذ القيصر على غرة، فبدا منه ما بدا جبناً معيباً، إذ ترك الجيش (الذي كان يخدم فيه ملازماً فقط)، وفرّ غلى نوفجورود وموسكو. وأغلب الظن أنه عرف عن مجنديه الغشم سينهارون في أول امتحان لهم، ولم يكن في وسعه أن يترك العدو يأسره، لأنه رأى نفسه أعظم قيمة لروسيا حياً منه ميتاً. أما الجيش الروسي، الذي بلغ أربعين ألفاً، والذي كان يقوده الأمير المجري كارل يوجين ديكروا قيادة عاجزة، فقد هزمه جنود شارل الثمانية الآلاف في موقعة نارفا (20 نوفمبر 1700)، وكانت أول نكسة في حياة بطرس بعد صباه.(33/32)
وألح القواد السويديون على شارل في أن يزحف على موسكو ويجهز على بطرس. ولكن جيش شارل كان صغيراً، والشتاء حل، وكل شجاعة، حتى شجاعة هذا النابليون الشاب، لا بد أن تتردد أمام مسافات روسيا المترامية فضلاً عن مشكلة إطعام الجيش في أرض معادية. ثم (ما دامت العهود والمواثيق حبراً على ورق) هل يستطيع أن يركن إلى ملك الدنمرك، أو ملك بولندة، في ألا يغزو أحدهما السويد وجيشها الرئيسي وقائدها نائيان عن أرض الوطن؟ وبعد أن أعاد شارل تنظيم حكومة ليفونيا ودفاعها، سار جنوباً إلى بولندة، واحتل وارسو دون عناء (1720) على نحو ما فعل جده قبل سبعة وأربعين عاماً، وخلع أوغسطس، ونصب ستانيسلاس لزكزنسكي ملكاً على بولندة (1704). لقد هزم الآن كل حليف من الحلفاء، ولكن الدب الروسي لم يكد يبدأ النزال.
ذلك أن بطرس لم يفق من رعبه فحسب، بل نظم جيشاً آخر وجهزه. ولكي يزوده بالمدافع أمر بأن تصهر أجراس الكنائس والأديار، وصنع ثلاثمائة مدفع، وأنشئت مدرسة لتدريب رجال المدفعية. وسرعان ما أخذت القوات المجندة الجديدة في إحراز الانتصارات، وتقدمت كتيبة مدفعية بطرس غيرها في الاستيلاء على نينسكانس، عند مصب نيفا (1703)، وهناك شرع القيصر لتوه في بناء "بطرسبرج" دون أن يدرك إلى ذلك الحين أنها ستكون عاصمة ملكه، ولكنه صمم على أن تكون أحد منافذه إلى البحر. وبينما كان شارل مشغولاً في بولندة، ظهر بطرس ثانية أمام نارفا، وكان شارل قد ترك فيها حامية ضئيلة، واقتحم الروس القلعة الكبيرة (20 أغسطس 1704)، وثأر المنتصرون لأنفسهم من فشلهم السابق بمذبحة رهيبة، وضع لها بطرس حداً في النهاية بأن قتل بيديه اثني عشر من الروس المتعطشين للدماء.
وفي بولندة بدا أن انتصار شارل كامل. فقد وقع أوغسطس المخلوع معاهدة اعترف فيها بلزكزنسكي رلكاً، وتخلى عن أحلافه ضد السويد، وأسلم لشارل الرجل الذي نظم الحلف أولاً، فحطم جسد يوهان فون باتكول على دولاب التعذيب ثم قطع رأسه (1707). ووجد بطرس نفسه وحيداً أمام هذا الإرهاب السويدي الشاب. فحاول(33/33)
أن يرشو الوزارة الإنجليزية لترتب له صلحاً، ولكنها رفضت أن تتدخل. ومضي عامل بر رأساً إلى ملبره، فوافق على الوساطة لقاء إمبرة في روسيا (26)، وعرض عليه بطرس كييف أو فلاديمير أو سيبيريا، وضماناً من خمسين ألف طالير في العام، و "ياقوتة ماسية لا يملك نظيرها أي ملك أوربي" (27)، ولكن هذه المفاوضات أخفقت. وتعاطف الساسة الغربيون مع شارل، واحتقروا أوغسطس، وخافوا من بطرس، وكانت حجة بعضهم أنه لو سمح لروسيا بالتوسع غرباً، فإن أوربا كلها سترتعد بعد قليل أمام فيضان سلافي (28).
وفي أول يناير 1708 عبر شارل الفستولا فوق جليد غير مأمون على رأس 44. 000 مقاتل نصفهم من الفرسان. فوصل إلى جرودنو في اليوم السادس والعشرين بعد أن رحل عنها بطرس بساعتين فقط. ذلك أن رأي القيصر استقر على الدفاع بالعمق والتخريب. فأمر جيوشه بأن تتقهقر، وتستدرج شارل ليوغل داخل الفرشة الروسية أبعد فأبعد، وتحرق كل المحاصيل أثناء مسيرتها، وأمر الفلاحين بأن يخفوا قمحهم داخل الأرض أو تحت الثلوج، ويشتتوا ماشيتهم في الغابات والمستنقعات. وعهد إلى الزعيم القوزاقي ايفان مازيبا بمهمة الدفاع عن "روسيا الصغيرة" وأوكرانيا. وكان مازيبا قد نشيء وصيفاً في البلاط البولندي. وبأمر من نبيل بولندي أغوى ايفان زوجته رباط عرياناً على حصان أوكراني وحشي، وأرهب الحصان عمداً بضربات سوط وإطلاق مسدس عند أذنه (كما سيري بيرون)، واندفع الحصان خلال الإخراج والغابات إلى مسارحه الأولى، ولكن مازيبا ظل على قيد الحياة وإن تمزق لحمه وسال دمه، وارتقى حين أصبح زعيماً لقوزاق زابوروج. وتظاهر بالولاء لبطرس، ولكنه كره أوتقراطية القيصر، وترقب الفرصة للثورة. فلما سمع بأن بطرس يتقهقر وشارل يتقدم، قرر أن فرصته قد حانت. فأرسل إلى شارل يعرض عليه التعاون معه.
ولعل هذا العرض هو الذي حدا بشارل إلى المضي في زحفه المتهور داخل روسيا. وبدأت سياسة "الأرض المحرقة" تؤتي ثمارها، فلم يجد السويديون غير برية متفحمة في طريقهم وأخذوا يتضورون جوعاً. وكان شارل قد اعتمد على تعزيزات انتظر وصولها من ريجا،(33/34)
وقد حاولت أن تصله ولكن الروس دمروها نصف تدمير في طريقها. وعلل شارل نفسه بأن مازيبا سينضم إليه بالإمداد وقوة قوزاق الدنيبر كاملة، ولكن بطرس، الذي توجس من خيانة مازيبا، جرد جيشاً بقيادة الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ليقبض عليه، وفوجئ الزعيم قبل أن يستطيع إيقاظ فرسانه، ففر غلى شارل عند هوركي جالباً معه ألفاً وثلاثمائة رجل فقط. وزحف شارل جنوباً ليستولي على عاصمة مازيبا، واسمها باتورين، ويأخذ مؤنها، ولكن منشيكوف سبقه إليها، وأحرق المدينة وسواها بالتراب، وعين زعيماً موالياً لروسيا. واستعمل بطرس كل سلاح، فثنى القوزاق عن الانضمام إلى السويديين بمنشورات وصفت الغزاة بأنهم مهرطقون "ينكرون عقائد الدين الصحيح ويبصقون على صورة العذراء المقدسة" (29). ولم يبق شارل من الأمل إلا في أن يخف التتار والترك لنجدته انتقاماً لاستيلاء بطرس على آزوف.
ولكن أحداً لم يأت، وكان شتاء 1708 - 9 عدواً رهيباً للسويديين. كان شتاء قارساً جداً في كل أرجاء أوربا، فتجمد البلطيق غلى عمق سمح لعربات النقل الثقيلة أن تعبر الساوند على الجليد، وفي ألمانيا ماتت أشجار الفاكهة، وغطى الجليد الرون في فرنسا، والقنوات في البندقية. وفي أوكرانيا كست الثلوج الأرض، من أول أكتوبر إلى 5 أبريل، وسقطت الطيور نافقة أثناء طيرانها، وتجمد اللعاب في طريقه من الفم إلى الأرض، وتجمد النبيذ المسكرات فأصبحت كتلاً صلبة، واستحال إشعال الحطب في العراء، وكانت الريح ماضية كالمدى في هبوبها على السهول المنبسطة وعلى وجوه الناس. واحتمل جنود شارل في تجلد صامت بينما لقى ألفان منهم حتفهم جوعاً أو برداً. قال شاهد عيان "كنت تر بعضهم بغير أيد، وبعضهم بغير أرجل، وبعضهم بغير آذان أو أنوف، وكثيرين يزحفون في سيرهم على نحو ما تفعل ذوات الأربع (30) " وأمرهم شارل بالسير قدماً، أملاً في أنهم لن يلبثوا أن يباغتوا جيش بطرس الرئيسي في مكان ما ويظفر بروسيا كلها في نصر ساحق واحد. وكان أينما التقى بالعدو، في هولوفكزين، وسركوفا، وأوبرسيا، ينتصر بفضل التفوق في القيادة والشجاعة، على قوات كثيراً ما بلغت عشرة أضعاف(33/35)
قواته. ولكنه حين انتهى ذلك الشتاء، كان جيشه قد تقلص من 44. 000 إلى 24. 000 مقاتل.
وفي 11 مايو وصل إلى بلطاوه الواقعة على فرع من فروع الدنيبر على خمسة وثمانين ميلاً جنوب غربي خركوف. هنالك لمح شارل أخيراً جيش بطرس، وكانت عدته ثمانين ألف مقاتل. وبينما كان في إحدى جولاته الاستطلاعية أصابته رصاصة في قدمه. فلم يعبأ بالجرح. وانتزع الرصاصة في هدوء بسكينه، ولكنه حين عاد إلى معسكره أغمي عليه، فلما عجز عن قيادة جيشه بشخصه، وكل بها الجنورال كارل رينسكيول، وأمره بأن يهاجم العدو في الغد (26 يونيو). وفي بداية المعركة اكتسح السويديون كل شيء أمامهم، وهم الذين لم يخسروا قط معركة تحت إمرة شارل. ورغبة في استنفار جنوده أمر شارل أن يحمل إلى ساحة القتال على محفة، ولكن نيران العدو حطمتها من تحته. وركب بطرس إلى المقدمة رغم أنه ما زال رسمياً مجرد ملازم في الجيش، مستنهضاً همم جنده، ولكن رصاصة مرقت خلال قبعته، وثانية صدها صليب ذهبي على صدره. وأسعفته الآن سنواته التي أعد فيها المدفعية ودربها، فكانت مدافعه تطلق خمس مرات مقابل مرة يطلقها السويديون. فلما نضبت ذخيرة السويديين فتكت المدفعية الروسية بالمشاة السويديين على بكرة أبيهم، واستسلم الفرسان السويديون حين رأوا الموقف ميئوساً منه. أما شارل فقد امتطى جواداً وفر مع مازيبا وألف مقاتل عبر الدنيبر إلى أرض تركية. وفقد السويديون أربعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، والروس 4. 435 ولكنهم أسروا 18. 670 فيهم قائدان وضباط كثيرون. وعامل بطرس الضباط معاملة كريمة، ولكنه استخدم الأسرى في التحصينات والأشغال العامة. وأشاد ليبتنر بإنسانيته واستنتج من ضخامة الكتائب الروسية أن الله يقف في صف الروس (31). ووافقه بطرس، وكتب يقول: "الآن بعون الله أرسيت أساسات بطرسبرج وأمنتها إلى الأبد (32) ".
وكان للمعركة نتائج بعيدة المدى لا حصر لها. فقد فر لزكزنسكي إلى الألزاس، واعتلى أوغسطس الثاني عرش بولندة من جديد. واستولت روسيا على إمارات البلطيق وكل أوكرانيا. وعادت الدنمرك(33/36)
إلى لحلف ضد السويد، وغزت سكاني، ولكنها ردت على أعقابها. واستولى فردريك وليم ملك بروسيا على ستتين وهولشتين وجزء من بومرانيا. وارتفع شأن روسيا وازدادت عزة وكبرياء. وعرض لويس الرابع عشر التحالف مع بطرس، فرفضه هذا، ولكنه رضي أن يستقبل مبعوثا للويس.
أما شارل فإنه لم يعترف بأنه هزم هزيمة ساحقة. وأغدق الأتراك الشاكرون صنيع أي إنسان يثير القلاقل لروسيا على لاجئهم الملكي كل أسباب التكريم، باستثناء الامتيازات الملكية. في بندر (وهي اليوم تيغينا) القريبة من الدنيستر، احتفظ ببلاطه، وتلقى من السلطان أحمد الثالوث المئونة له ولآلاف وثمانمائة سويدي بقوا في خدمته. وحالما التأم جرح قدمه استأنف التمرينات العسكرية ودرب جيشه الصغير. وشاع عنه أنه اعتنق الإسلام لزهده في الخمر واختلافه غلى الصلاة العامة بانتظام. ولم يدخر وسيلة ليقنع السلطان أو الصدر الأعظم بشن الحرب على روسيا، وبهذا الأمل رفض أن تعيده إلى السويد سفن فرنسية وضعت تحت تصرفه. وبذلت محاولة لتسميمه، ولكنها كشفت في أوانها. وطالب بطرس بأن يسلم إليه مازيبا باعتباره مواطناً روسياً خائناً، ولكن شارل أبى أن يسمح بهذا، وقطع مازيبا العقدة بأن مات (1710).
إن كل انتصار يولد أعداء جدداً أو يلهب الأعداء القدامى. وقد استطاع شارل أن يقنع السلطان بأن قوة روسيا المتزايدة، التي لا يكبحها الآن كابح في الشمال، ستتحدى هيمنة الترك على البحر الأسود والبوسفور أن عاجلاً أو آجلاً. فأعلن السلطان الحرب على روسيا، وجرد عليها 200. 000 مقاتل بقيادة الصدر الأعظم، وأخذ بطرس على غرة، فلم يستطع أن يحشد أكثر من 38. 000 مقاتل في الجنوب ليصد هذا السيل الجارف. وخذله حلفاؤه البلغار والصرب. فلما التقى الجيشان على نهر بروت (وهو اليوم حد رومانياً الشرقي) اضطر بطرس لمنازلة الترك، لأن الإقليم المحيط به كان قد دمر. ولم يكن لديه غير مئونة يومين. وتوقع الهزيمة والموت، فأرسل تعليماته إلى موسكو لانتخاب قيصر جديد إذا تحققت مخاوفه، ثم اعتكف في خيمته ومنع أي إنسان من الدخول عليه. ولكن زوجته الثانية كاترين(33/37)
اتفقت مع قواده على أن الاستسلام خير من الانتحار الجماعي وواجهت غضب بطرس إذ حملت إليه خطاباً طلبت إليه التوقيع عليه، يطلب فيه إلى الصدر الأعظم شروط الصلح. ووقع بطرس يائساً. وجمعت كاترين كل مجوهراتها، واقترضت مالاً من الضباط، وبعثت بطرس شافيروف نائب المستشار، مسلحاً بـ 230. 000 روبل، ليفاوض الوزير في شروط الصلح. وأخذ الوزير الروبلات والمجوهرات، وسمح لبطرس بأن يسحب جيشه وعتاده دون عائق، شريطة أن يسلم آزوف، ويجرد القلاع والسفن الروسية هناك من سلاحها ويسمح لشارل بالعودة إلى السويد في أمان، وألا يتدخل بعدها في شئون بولندة. ولم يتردد بطرس في بذل هذه الوعود (أول أغسطس 1711) وانصرف بجنوده. وأقبل شارل مستعداً لخوض المعركة، ولكنه استشاط غضباً حين وجد الصلح أمامه. فحمل السلطان على طرد الوزير المسالم وواصل جهوده لاستئناف الحرب، ولكن شافيروف، الذي حمل معه 84. 900 دوكاتية، أقنع الوزير الجديد بتثبيت معاهدة بروت.
وأعيت السلطان هذا العقد، فطلب إلى شارل أن يرحل عن تركيا، ولكنه أبى. فأرسل السلطان قوة تركية عدتها اثنا عشر ألف رجل لإجلائه، واستطاع شارل بأربعين رجلاً أن يصمد لهم ثماني ساعات، قتل خلالها عشرة أتراك بشخصه، وأخيراً قهره اثنا عشر أنكشارياً (أول فبراير 1713). فنقل إلى ديموتيكا قرب أدرنه، ولكن سمح له بأن يمكث فيها عشرين شهراً بينما كان وزير جديد يفكر في مقاتلة روسيا. فلما تضاءل هذا الأمل وافق شارل على العودة للسويد. فزود بالحرس العسكريين والهاديا والأموال. وغادر ديموتيكا (20 سبتمبر 1714)، واخترق الأفلاق وترانسلفانيا والنمسا، وفي منتصف ليلة 11 نوفمبر وصل إلى بومرانيا وثغرها وحصنها ستر السوند، على ساحل البلطيق جنوب السويد مباشرة. وكانت هي وفيسمار إلى الغرب آخر القلاع السويدية على أرض القارة.
وكان إصرار شارل قبيل ذلك على حكم السويد من تركيا، ورفضه بذل أي تنازلات لبطرس، قد جرا الخراب على الإمبراطورية(33/38)
السويدية. ففي أول أغسطس 1714 كان جورج ناخب هانوفر قد أصبح جورج الأول ملك إنجلترا. فلما عقد العزم على استخدام قوته الجديدة في ضم بريمين وفيريدن إلى هانوفر، جمع بين بريطانيا وبين الدنمرك وبروسيا في حلف جديد ضد السويد، وعزز الأسطول الإنجليزي الأسطول الدنمركي في المضايق. ووجد شارل نفسه حبيساً في سترالسوند، في حرب مع إنجلترا، وهانوفر، والدنمرك، وسكسونيا وبروسيا، وروسيا. وظل يقاوم الحصار هناك اثني عشر شهراً بستة وثلاثين ألف مقاتل، يقود حاميته المرة بعد المرة في هجمات بطولية عقيمة. فلما حطمت مدافع المحاصرين المدينة وأسوارها، ولم يكن مفر من التسليم، قفز شارل في سفينة صغيرة، وأبحر بها وسط نيران العدو، وبلغ كارلسكرونا على ساحل السويد (12 ديسمبر 1715).
وانتظرت استوكهولم وصول بطلبها اليائس، ولكنه أبى أن يعود إليها إلا قائداً ظافراً. فأمر بتجنيد قوات جديدة حتى من الغلمان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، وصادر جميع السلع الحديدية ليبني بها أسطولاً جديداً، وفرض الضرائب على كل شيء تقريباً يستعمله شعبه حتى شعورهم المستعارة. فأذعنوا صامتين، ظناً منهم بأنه ربما قد جن، ولكنه مع ذلك عظيم. وجاهد البارون جيورج فون جورتز، كبير وزرائه الآن، ليحطم الحلف. ولاحظ أن جورج الأول مختلف مع بطرس على تقسيم الأسلاب، فحاول أن يعقد صلحاً بين السويد وروسيا، ويعين ثورة أسرة ستيوارت في إنجلترا، ولكن خططه باءت بالفشل. وما وافى خريف 1717 حتى كان شارل قد حشد جيشاً من عشرين ألف مقاتل. في تلك السنة، ثم في 1718، غزا النرويج، أملاً في أن يكسب أرضاً تعوضه ما فقد على أرض القارة. وفي ديسمبر حاصر قلعة فريدريكستين. وفي اليوم الثاني عشر رفع رأسه لحظة فوق متراس الخندق الأمامي وإذا رصاصة نرويجية تصيبه في صدغه الأيمن فترديه قتيلاً لفوره. وكان يومها في السادسة والثلاثين.
لقد مات كما عاش، مشدوداً ببسالته. كان قائداً مغواراً، كسب انتصارات لا تصدق في ظروف معاكسة جداً ولكنه عشق الحرب عشق(33/39)
المخمور بها، ولم يشبع من الانتصارات، وفي سبيل البحث عن انتصارات جديدة راح يدبر الحملات إلى حد أشرف على الجنون. وقد أفسدت الكبرياء كرمه وسماحته، كان يعطي كثيراً، ويطلب أكثر، ولقد عاق السلام غير مرة برفضه تنازلات ربما أنقذت إمبراطوريته وماء وجهه. ولكن التاريخ يغتفر له أخطاءه، لأنه لم يكن البادئ بـ "الحرب الشمالية العظمى"، هذه الحرب التي أبى أن يختمها إلا بالانتصار.
أما الحكومة السويدية، التي ندر أن جنحت إلى التطرف، فقد سارعت بمفاوضات الصلح. وبمقتضى معاهدتي استوكهولم (20 نوفمبر 1719 و 1 فبراير 1720) نزلت عن بريمين وفيردين لهانوفر، وعن ستيتين لبروسيا، ورفضت أول الأمر مطالب بطرس بجميع الأراضي السويدية في البلطيق الشرقي، فغزت الجيوش الروسية ثلاث مرات هذه الدولة التي استنزفت الحروب دماءها، وخربت أراضيها الساحلية ومدنها. وأخيراً. وبمقتضى معاهدة نيستاد (30 أغسطس 1721) حصلت روسيا على ليفونيا، واستونيا، واينجريا، وجزء من فنلنده. وهكذا ترك الصراع على البلطيق روسيا ظافرة، وجعل منها دولة عظمى".
أما القيصر المكدود، المكتهل، الظافر رغم ذلك، والذي وصل إلى بطرسبرج ومعه نبأ السلام، وهتاف السلام، السلام "مير! مير! " فقد حياه شعبه أباً لوطنه، وإمبراطور لأقاليم روسيا كلها، ولقبه ببطرس الأكبر.(33/40)
الفصل الثالث عشر
بطرس الأكبر
1689 - 1725
1 - الهمجي
أراد فولتير "ما الخطوات التي انتقل بها الناس من الهمجية إلى المدنية (1) " فلا عجب إذن إن أثار بطرس اهتمامه، لأنه كان يجسد على الأقل ذلك الجهد، إن لم يكن تلك العملية، في بدنه وروحه وشعبه. أو استمع إلى ملك "أكبر" آخر، هو فردريك الثاني ملك بروسيا، يكتب إلى فولتير عن بطرس في شيء من الخلط:
"لقد كان الملك الوحيد المتعلم حقاً. وإن لم يكن مشرع وطنه فحسب، بل كان يفهم جميع العلوم البحرية فهماً تاماً. وكان معمارياً، ومشرحاً، وجراحاً ... وجندياً خبيراً، واقتصادياً بارعاً .. .. ولم يعوزه إلا تعليم أقل همجية وضراوة (2) ليكون المثل لجميع الملوك".
ولقد لاحظنا ذلك التعليم الهمجي الضاري، وما اكتنف طفولة بطرس من عنف وسفك للدماء، مما هز جهازه العصبي وعوده الشراسة. وكان حتى في شبابه يعاني من تقلص عصبي لا إرادي في عضلاته ربما استفحل بعد ذلك بالإفراط في الخمر وبالمرض السري (3). كتب بيرنيت بعد أن زاره بإنجلترة في 1698 (4) يقول: "إنه عرضة لتشنجات تصيب بدنه كله". وقال روسي من أهل القرن الثامن عشر "من المشهور أن هذا الملك ... كان عرضة لنوبات مخية قصيرة متكررة من نوع عنيف بعض الشيء. وكان ضرب من التشنج يعتريه، يحدث به في فترة قد تمتد ساعات حالة من الاكتئاب تجعله لا يطيق النظر إلى إنسان ولو كان أقرب إلى أصحابه. وكان يسبق هذه النوبة دائماً التواء شديد في العنق نحو الجانب الأيسر، وتقلص عنيف في عضلات(33/41)
الوجه (5) ". ومع ذلك كان متين البناء قوي البدن. وروي أنه حين التقى بأوغسطس الثاني تباريا في ثني الأطباق الفضية في أيديهما. وقد صوره نيلر عام 1698 شاباً يتقلد السلاح وشعارات الملك، غاية في اللطف والبراءة، بعد ذلك نجده مصوراً تصويراً أكثر واقعية، فهو عملاق محدودب، طوله ستة أقدام وثماني بوصات ونصف، ذو وجه تام الاستدارة، وعينين واسعتين وأنف كبير، وشعر بني يتساقط في خصل لا تقص إلا نادراً. ولا تكاد نظرته الآمرة الناهية تنسجم وثوبه المهمل المهوش، وجواربه الخشنة المرفوة، وحذاءه المرقع ترقيعاً بدائياً. ومع أنه نظم أمة بأسرها إلا أنه كان يترك محيطة المباشر في فوضى أينما ذهب. ذلك أن الجهود الكبيرة استغرقته استغراقاً ضن معه على التوافه بأي وقت.
وأما عادته فكانت كلباسه لا تعمل فيها ولا تأنق حتى لتحسبه فلاحاً لا ملكاً-لولا أنه كان خلواً من صبر الفلاحين الروس المتلبد. بل لقد كانت عاداته أحياناً أسوأ من عادات الفلاحين لأنه لم يكبحه خوف من سيد أو خشية من قانون. مرة رأى تمثالاً لآلة الذكر في مجموعة عاديات ببرلين، فأمر زوجته أن تقبله، فلما رفضت كاترين هددها بضرب عنقها، ولكنها أصرت على الرفض، ولم يهدئ من ثائرته إلا تقديم التحفة هدية له ليزين بها حجرته الخاصة (6). وكان في أحاديثه ورسائله يبيح لنفسه استعمال أنكر الألفاظ وأفحشها. وكثيراً ما كان يعنف أخص أصدقائه بضربات من قبضته الهائلة، ومرة ضرب منشيكوف على أنفه فأسال دمه، ومرة ركل ليفور. وكان ولعه بـ "المقالب" يتخذ أحياناً صوراً قاسية، من ذلك أنه ألزم أحد مساعديه بأن يأكل السلاحف، وآخر بأن يشرب قارورة كاملة من الخل، وفتيات صغيرات بأن يبتلعن حصة جندي من البراندي. وكان يجد لذة شاذة في تطبيب الإنسان، وكان على المقربين منه أن يحذروا من أن تبدر منهم أقل شكوى من ألم في أسنانهم، فكلابته دائماً في متناوله. ولما شكا إليه تابعه من أن زوجته تحتج بألم مزعوم في ضرسها لتحرمه من متع الزواج، أرسل في طلبها، وخلع لها ضرساً سليماً، وقال لها أن تنتظر المزيد إذا ظلت عزباء (7).
ولقد جاوزت قسوته الفاجرة النقطة التي يمكن أن يعتذر عنها(33/42)
بأنها طبيعية أو ضرورية في زمانه أو مكانه. حقاً لقد ألف الروس القسوة، ولعلهم كانوا أقل حساسية للألم من ذوي الأعصاب الأكثر رهافة، وربما كانوا في حاجة إلى تأديب صارم، بيد أن قيام بطرس شخصياً تقريباً بذبح حامية موسكو يوحي بلذة سادية بالقسوة، وشبق للدماء، وما كان هناك ضرورة من ضرورات الدولة تقتضي تقطيع اثنين من المتآمرين شرائح حتى يموتا (8). لقد كان في بطرس مناعة ضد الرحمة أو الحنان، وأعوزه ذلك الإحساس بالعدالة الذي كبح نزوات لويس الرابع عشر أو فردريك الأكبر. أما انتهاكاته لوعوده القاطعة فكانت تنسجم تماماً وسنة العصر.
وكان يرى ككل فلاح روسي أن السكر استعفاء معقول من واقع الحياة. فلقد اضطلع بكل أعباء الدولة، وبمهمة أخطر بكثير هي مهمة تحويل شعب شرقي إلى الحضارة الغربية، ومن ثم بدا الشراب والقصف مع أصحابه تخففاً يستحقه. وكان يتقبل من كل قلبه حكمة الفلاحين التي تزعم أن الشراب فرحة الروسي. وكان مما يقيس به قدر الرجل قدرته على احتمال الشراب. وحين كان في باريس راهن على أن كاهن اعترافه يستطيع أن يشرب أكثر، ويظل أثبت جناناً، من الكاهن أمين سر الوزارة الفرنسية، ومضت المباراة ساعة، فلما تدحرج الأب الفرنسي تحت المائدة ضم بطرس كاهنه إليه لأنه "أنقذ شرف روسيا (9) ". وحوالي عام 1690 ألف بطرس وخلصاؤه فرقة سموها "جماعة المخمورين من الحمقى والمهرجين"" (السوبور). وانتخب الأمير فيودور رومودانوفسكي قيصراً للسوبور، وقبل بطرس منصباً أدنى (كما فعل في الجيش والبحرية)، وكثيراً ما كان في الحياة الواقعية يتظاهر بأن رومودانوفسكي هو قيصر روسيا. وكان "سوبور" السكارى هذا مكرساً رسمياً لعبادة باخوس وفينوس، وكانت له شعائر معقدة، تقلد في سوقية وفحش شعائر الكنيستين الأرثوذكسية الروسية والكاثوليكية الرومانية، والكثير من هذه الشعائر الساخرة كان من وضع بطرس نفسه. وشارك السوبور في كثير من احتفالات الدولة الرسمية. فلما تزوج بطريركه الهزلي نيكيتا زاتوف، البالغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، عروساً في الستين، صمم بطرس وأدار احتفالاً بذيئاً مزيناً (1715)، يشارك فيه نبلاء البلاط ونبيلاته جنباً إلى جنب مع الدببة والغزلان والتيوس، ويعزف السفراء على الناي أو الأرغن اليدوي، ويدق بطرس على الطبل (10).(33/43)
كان حبه للفكاهة صخاباً لا يعرف القيود، وكثيراً ما أسف حتى استحال تهريجاً. وكان بلاطه يعج بالمهرجين والأقزام الذين كانوا عنصراً لا غنى عنه لكل احتفال. وذات مرة ركب القيصر، الذي ناهز سبعة أقدام طولاً وراح يلعب دور جليفر أمام الليليبوتيين، في موكب على رأس أربعة وعشرين قزماً راكبين. وكان يقتني في فترة من الفترات اثنين وسبعين قزماً في بلاطه، ويقدم بعضهم على المائدة في فطائر هائلة الحجم. كذلك كان عنده عمالقة، ولكن أكثرهم أرسلوا هدية لفردريك وليم ملك بروسيا لينخرطوا في جيش عمالقته "المسلات". وقد أهدى إلى بطرس عدة زنوج وكان يقدرهم تقديراً كبيراً، وبعث بعضهم إلى باريس ليتعلموا، وأصبح أحدهم قائداً روسياً، وهو الجد الأكبر للشاعر بوشكين.
إلى الآن صورنا بطرس رجلاً ما زالت تغلب عليه الفطرة الهمجية، رجلاً من طراز ايفان الرهيب ولكنه مرح، تواقاً إلى التحضر ولكنه يحسد الغرب-لا على لطائفة وفنونه بل على جيوشه وأساطيله، وعلى تجارته وصناعته وثروته. وكانت فضائله موجهة إلى هذه الغايات باعتبارها مقومات الحضارة. ومن هنا فضوله الذي لا يشيع. فهو يريد أن يعرف عن كل شيء كيف يسير، ثم كيف السبيل إلى تسييره سيراً أفضل. وقد أضنى مساعديه أثناء رحلاته بالجري هنا وهناك ليرى هذا وذاك حتى أثناء الليل. كان في غمرة من أفكاره، فأذهب بذلك ليبنتز، الذي كان في غمرة أخرى من أفكاره، ولكن أفكار بطرس كانت نفعية لا خفاء فيها. فقد كان له عقل مفتوح لأي شيء قد يعين وطنه على اللحاق بالغرب. وفي وسط أمة متدينة تديناً عابساً، معادية بتعصب للعقائد الغربية ولأساليب الحياة الدخيلة، كان مبرأ من التحيز كأنه الطفل أو الحكيم، يجرب الكاثوليكية، والبروتستنتية، وحتى الإلحاد. كان مقلداً أكثر منه مبتكراً، نقل الأفكار المجلوبة أكثر مما تصورها، ولكن في محاولته لرفع أمه إلى مستوى المنافسة مع الغرب، كان من الأحكم أن تستوعب هذه الأمة خير ما يستطيع الغرب تعليمه أولاً، ثم تحاول التفوق عليه. إن المحاكاة لم تكن قط بمثل هذه الأصالة.
وقد رفعه تفانيه الدءوب في سبيل هذا الهدف من الهمجية إلى(33/44)
العظمة. وإذا كان قد سخر وأفنى ملايين الروس لتحقيق غاياته فإنه أفنى نفسه أيضاً في محاولته إعطاء روسيا جيشاً عصرياً، وحكومة أكفأ، وصناعات أكثر تنوعاً وإنتاجاً، وتجارة أوسع، وثغور تستطيع أن تتصل بالعالم. كان يتوخى القصد في كل شيء إلا الحياة البشرية، التي كانت السلعة الوحيدة التي تزخر بها روسيا. وكان أول إجراء له تقريباً حين تقلد زمام الحكم أنه طرد جيش الخدم وموظفي القصر الذين غص بهم البيت المالك، وباع ثلاثة آلاف جواد من المرابط الملكية، وأطاح بثلاثمائة من الطهاة وصبيانهم، وخفض عدد الجالسين إلى مائدة الملك حتى في الأعياد إلى ستة عشر على الأكثر، واستغنى عن الاستقبالات والمراقص الرسمية، وحول إلى الدولة المبالغ التي كانت إلى ذلك الحين مخصصة لهذه الكماليات. وكان أبوه ألكسيس قد خلف له من الممتلكات الشخصية 10. 734 ديسياتيناً (28. 982 فداناً) من الأرض المزروعة وخمسين ألف بيت، تغل ريعاً قدره 200. 000 روبل في العام. فنزل بطرس عن هذا كله تقريباً لخزانة الدولة، ولم يحتفظ لنفسه إلا بالميراث القديم لأسرة رومانوف-وهو ثمانمائة "نفس" في إقليم نوفجورود. وعلى عكس لويس الرابع عشر، خفض أعظم قيصر تبوأ عرش روسيا حاشيته في الواقع إلى بضعة أصدقاء، مع احتفال بين الحين والحين، غير رسمي وأحياناً صاخب، ليضفي بعض الحيوية على جو موسكو الرتيب. وكثيراً ما استحال اقتصاده شحاً شديداً. فكان يبخس موظفي قصره أجورهم، ويقتر في حساب نفقة القصر اليومية من الطعام، ولا يدعو أصدقاءه لغداء أو عشاء بل لرحلات خلوية يدفع فيها كل منهم نصيبه، ولما اشتكت البغايا اللاتي يرفهن عنه من ضآلة أتعابهن أجاب بأنه ينقدهن قدر ما ينقد رامي القنابل اليدوية، وهو رجل تفوق خدماته خدماتهن قيمة.
أما النساء فكن أحداثاً عارضة قليلة الخطر في حياته باستثناء واحد. ذلك أنه لم يكن مرهف الحس بالجمال. نعم كانت له حاجات جنسية، ولكنه أشبعها دون احتفال. ولم يكن يحب أن ينام وحيداً، ولكن لا شأن لهذا بالجنس، وكان أحد الخدم يقاسمه فراشه عادة، ولعله كان يحتاج إلى شخص قريب منه إذا دهمته تشنجاته في الليل. وحين بلغ السابعة عشرة، ورغبة في تهدئة أمه، تزوج يودوكسيا لوبوخينا، التي وصفت بأنها "جميلة غبية"، فلما وجد إحدى(33/45)
الصفتين أكثر دواماً من الأخرى أهملها، وعاد غلى أصحابه ومراكبه. واتخذ سلسلة من الخليلات العابرات، كن في الكثير الغالب وضيعات الأصل رقيقات الحال. ومرة كان فردريك الثاني ملك الدنمرك يمزح معه في أمر اتخاذه محظية فأجابه بطرس "يا أخي، إن عاهراتي لا يكلفنني الكثير، أما عاهراتك فيكلفنك آلاف الكراونات التي لا تستطيع أن تنفقها في وجوه أفضل (11) ". وقد عمل ليفور ومينشيكوف قوادين له، ونزل مينشيكوف عن خليلته لتكون زوجة بطرس الثانية. ولا بد أن هذه المرأة أوتيت قدرة فذة رفعتها-كما رفعت تيودورا خليلة جستنيان من قبل-إلى عرش الإمبراطورية بعد أن كانت مومساً.
أمام هذه المرأة، التي ستصبح كاترين الأولى، فقد ولدت حوالي 1685 بليفونياً من أسرة وضيعة. ولما تيتمت رباها الراعي اللوثري جلوك خادمة في مارينبورج، وعلمها مبادئ المسيحية ولكنه لم يعلمها الأبجدية، ولم تتعلم القراءة قط. وفي 1702 حاصر جيش روسي يقوده شيريميتيف مارينبورج. فلما يئس قائد الحامية من الدفاع قرر أن ينسف القلعة وهو فيها. ونمى غلى القس جلوك ما نوى القائد، فأخذ أسرته وخادمته وفر إلى المعسكر الروسي. فأرسل إلى موسكو، ولكن كاترين أبقيت لترفه عن الجنود. وارتقت منهم إلى شيريميتيف، فمينشيكوف، فبطرس. في تلك الحروب والأخطار كان على المرأة الفقيرة أن تتلطف لتأكل. ويبدو أن كاترين ظلت حيناً تخدم كلاً من مينشيكوف والقيصر. وقد أحباها لأنها كانت نظيفة، بشوشة، لطيفة، متفهمة، فهي مثلاً لم تصر على أن تكون الخليلة الوحيدة، ووجد بطرس فيها ترفيهاً مرحاً بعد ضجيج السياسة أو الحرب وغضبات المحظيات الغيورات. ورافقته في حملاته، وعاشت عيشة الجنود، وقصت شعرها، وافترشت الأرض، ولم تجفل حين رأت الرجال يصرعهم الرصاص إلى جوارها. فإذا دهمت بطرس إحدى نوبات تشنجه وخاف الجميع أن يلمسوه، كانت تتحدث إليه ملاطفة، وتربته، وتهدئ روعه، وتدعه ينام ورأسه على صدرها. وإذا افترقا كتب إلى "كاترينوشكا" حبيبته رسائل تفيض حناناً معابثاً ولكنه مخلص. ثم غدت ضرورة لا غنى له عنها. ولم يحل عام 1710 حتى كانت زوجته في كل شيء إلا شرعاً. وولدت له عدة أطفال. وفي 1711 عاونت على إنقاذه في البروث. وفي 1712 اعترف بها زوجة له علانية. وفي 1722 توجها إمبراطورة.(33/46)
وكان تأثيرها عليه طبيباً من نواح كثيرة. فهذه الصبية الفلاحة هذبت من طباع ذلك الملك الفظ. لقد حدت من ولعه بالمسكر، وفي عدة مناسبات كانت تدخل الحجرة التي يعاقر فيها الخمر ويقصف مع أصحابه وتأمره بهدوء قائلة: "عد إلى البيت أيها الأب الصغير" فيطيعها. وكانت تغض عن مغازلاته بعد الزواج. ولم تبذل محاولة للتأثير عليه في مجرى السياسة، ولكنها حرصت على أن يدبر القيصر أمر مستقبلها، ومستقبل أقربائها، وأصدقائها. وتغلبت على الاستياء العام من جراء رفعها من أصلها الوضيع بسلوكها مسلك ملاك الرحمة، ففي حالات عديدة أنقذت أشخاصاً من العقوبات التي أراد بطرس أن ينزلها بهم، فإذا أصر على الصرامة كان عليه أن يخفي الأمر عنها. وقد استغلت سلطانها عليه ببيع وساطتها، وبهذه الطريقة جمعت ثروة في الخفاء، استثمرت بعضها بحكم تحت أسماء مستعارة في همبورج أو أمستردام. فهل نلومها لأنها نشدت شيئاً من الضمان في زمن كل شيء في رهن بنزوة رجل واحد، وكل روسيا فيه في تقلب وتغير؟.
2 - الثورة البطرسية
ورث بطرس السلطة المطلقة، وتقبلها قضية مسلمة، ولم يتطرق إليه شك في ضرورتها. فالحكم بمجلس تشريعي (دوماً) من النبلاء (البويار) سيعيد الانفصالية الإقطاعية والفوضى القومية أو الركود، والحكم بمجلس ديمقراطي مستحيل في بلد ما زال بدائياً من الناحيتين الفكرية والخلقية، ووافق بطرس كرومويل ولويس الرابع عشر على أن تركيز السلطة والمسئولية هو وحدة القادر على تنظيم الخليط البشري المتنافر ليؤلف منه دولة لها من القوة ما يمكنها من السيطرة على أهواء الشعب وصد هجمات الأعداء المتعطشين للأرض. ولم ينظر إلى نفسه نظرته إلى حكم مستبد بل إلى خادم للأمة ومستقبلها، وكان هذا إلى حد كبير غيماناً مخلصاً، نصف صادق على الأقل.
ولقد عمل بهمة لا تقل عن همة أبسط الفلاحين في مملكته، فكان عادة يستيقظ في الخامسة صباحاً ويكد أربع عشرة ساعة في اليوم. لا ينام أكثر من ست ساعات في الليل، ولكنه يتقيل. ومثل هذا البرنامج لم يكن بالأمر غير العملي في صيف سانت بطرسبورج، حيث النهار يبزغ في الثالثة صباحاً ويستمر إلى العاشرة مساء، أما في الشتاء(33/47)
فكان لا بد من مواصلة الكثير من هذا البرنامج أثناء الليل الذي يبدأ حوالي الثالثة عصراً ويستمر إلى التاسعة من صباح الغد.
وكانت سانت بطرسبورج الرمز ونقطة الارتكاز الأرخميدية لثورة لم تكن موقعاً مثالياً لعاصمة دولة نظراً لشدة قربها من الساحل، ولكنها من هذا كانت تبعد خمسة وعشرين ميلاً من البحر، في نقطة يتفرع فيها نهر نيفا إلى فرعين، وكان بطرس يأمل أن يحميها بقلعة كرونستاد التي شادها (710) على جزيرة في مدخل الخليج. أما المدينة نفسها فقد أسست في 1703 على غرار أمستردام. وإذ كان الكثير من هذا الموقع تغمره المستنقعات (وكلمة نيفا باللغة السويدية معناها الوحل) فقد بنيت سانت بطرسبورج على دعامات-أو في عبارة روسية حزينة، على عظام آلاف العمال الذين جندوا قسر لإرساء هذه الأسس وتشييد المدينة. ففي 1708 أرسل نحو 40. 000 رجلاً للقيام بهذا العمل، وفي 1709 أرسل 40. 000 آخرون، وفي 1711 أرسل 46. 000، وفي 1713 أرسل 40. 000 فوق ما سبق. وكانوا ينقدون نصف روبل في الشهر، لم يكن بد من أن يستكملوه بالتسول أو السرقة. وكان أسرى الحرب السويديون الذين استخدموا في البناء يموتون بالآلاف. وإذ لم يكن هناك عجلات يدوية، فقد كان الرجال ينقلون المواد في قفاطينهم المرفوعة. كذلك صودر الحجر، فحرم مرسوم صدر في 1714 تشييد بيوت بالحجر في أي مكان بروسيا إلا في سانت بطرسبورج، أما في المدينة نفسها فقد أمر كل شريف في البلاد بأن يبني له مسكناً من الحجر. وفعل الأشراف محتجين، إذ كرهوا مناخ المدينة ولم يشاركوا بطرس عشقة للبحر. أما بطرس فكلف بعض مهرة الصناع الهولنديين بأن يقيموا له كوخاً كالأكواخ التي رآها في زاندم، يحيطان من جذوع الشجر، وسقف من الحصباء، وحجرات صغيرة. وكان يكره القصور، ولكنه سمح ببناء ثلاثة منها للمناسبات الرسمية في بيترهوف (وهي الآن بترودفوريتس) على المشارف الجنوبية لمدينة. وقد دمر هذا "القصر الصيفي" في الحرب العالمية الثانية. وفي ضاحية قريبة تدعى تسارسكو سيلو (وهي الآن بوشكين)، شاد كوخاً صيفياً لحبيبته كاتيرينوشكا.
ولم يكن قصده أول الأمر أن يجعل سانت بطرسبورج عاصمة بالإضافة إلى كونها ميناء، فقد كانت شديدة القرب إلى عدوته السويد.(33/48)
ولكنه قرر إجراء هذا التغيير بعد انتصاره على شارك الثاني عشر في بلطاوه. وكان تواقاً إلى الهرب من جو موسكو الكنسي القاتم وروحها القومية الضيقة، وأراد أن يشعر النبلاء المحافظون برياح التقدم تهب عليهم من الغرب. وعليه فقد جعلها عاصمة له في 1712. وحزن أهل موسكو، وتنبئو بأن الله مدمر عما قريب تلك المدينة نصف الوثنية. كتب بوشكين يقول: "أن موسكو أحنت رأسها أمام العاصمة الجديدة، كما تنحني أرملة الإمبراطور أمام إمبراطورة شابة (12) ". لقد كان في بطرس من شدة الشوق إلى تغريب روسيا ما دفعه إلى تحويلها صوب البلطيق وكأنه يجرها إليه جراً، ثم أمرها أن تتطلع من خلال نافذته على الغرب (1) ". وفي سبيل هذا الهدف، وفي سبيل توفير قاعدة لأسطوله وميناء للتجارة الخارجية، ضحى بكل الاعتبارات الأخرى. صحيح أن الميناء سيحيط بها الجليد خمسة أشهر في السنة، ولكنها ستواجه الغرب وتلمس البحر. وكما أن الدنيبر جعل روسيا بيزنطية، والفولجا جعلها آسيوية، فكذلك سيغريها النيفا بأن تكون أوربية (14).
وكانت الخطوة التالية بناء بحرية تحرس مسالك التجارة الروسية خلال البلطيق إلى الغرب. وحقق بطرس هذه الغاية فترة ببناء ألف سفينة كبيرة خلال حكمه، ولكنها كانت مبنية على عجل بناء سيئاً، فتلفت أخشابها، وتحطمت صواريها في الريح، وبعد موته استسلمت روسيا لقضائها الذي حكمت عليه به الجغرافيا، وهي أن تكون بلداً حبيساً في اليابس مغلقاً دون الأطلنطي، منتظراً غزو الفضاء ليقفز متجاوزاً حواجزه إلى العالم. وبهذا المعنى كانت موسكو على حق: فقوة روسيا ودفاعها كان يجب أن يكونا على اليابس، بجيوشه ورقعته الواسعة. وعليه فقد ثأرت موسكو لنفسها في 1917 وأصبحت العاصمة من جديد.
أما أعظم إصلاحات بطرس دواماً فهو إعادته تنظيم الجيش.
_________
(1) الظاهر أن هذه العبارة استعملها أول مرة الكونت فرانشسكو الجاروتي في 1739 (13).(33/49)
وكان قبله يعتمد على قوات مجندة من الفلاحين يقودهم سادتهم الإقطاعيون الذين لهم عليهم حق الولاء أولاً، وكانوا يفتقرون إلى النظام، ويعوزهم السلاح الجديد. وقد قوض بطرس سلطان النبلاء حين أنشأ جيشاً دائماً مدده من التجنيد الإجباري، وعتاده من أحدث أسلحة الغرب، وضباطه رجال ارتقوا من تحت السلاح ودربوا على الهدف الجديد، هدف خدمة روسيا في فخر لا خدمة إقليم ضيق وإقطاعي بغيض. والضرورة الحربية هي التي أملت على بطرس ثورته، فما كان من استطاعته تطوير روسيا دون أن يفتح لها طريقاً إلى البلطيق أو البحر المتوسط، وما كان في استطاعته أن يفعل هذا بغير جيش عصري، ولا أن يحتفظ بجيش كهذا دون أن يغير اقتصاد روسيا وحكومتها، ولا أن يغير هذين دون أن يعيد صنع الشعب الروسي من حيث عاداته وأهدافه وروحه. لقد كان عملاً ينوء بحمله رجل واحد أو جيل واحد. وقد استهله على طريقاه المندفعة الهوائية بلحي الرجال المحيطين به وزيهم. ففي 1698، عقب عودته من الغرب، حلق لحيته الخفيفة، وأمر كل الذين يريدون الاحتفاظ برضائه أن يحذوا حذوه، باستثناء بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، وبعد قليل أرسل مرسوم إلى جميع أرجاء روسيا يقضي بأن يحلق جميع العلمانيين لحاهم، ولهم أن يبقوا على شواربهم. وكانت اللحية أشبه برمز ديني في روسيا، أطلقها الأنبياء والرسل من قبل، وقبل ثمانية أعوام فقط شجب البطريرك أوريان الجالس على كرسي البطريركية آنذاك حلق اللحي بوصفه عملاً مهرطقاً خارجاً على الدين. وقبل بطرس التحدي: فحلق اللحية سيكون رمزاً على الحداثة، وعلى الرغبة في دخول الحضارة الغربية. وأباح للعلمانيين الذين يشعرون بالحاجة الماسة إلى الاحتفاظ بعوارضهم أن يحتفظوا بها لقاء ضريبة سنوية تبدأ من كوبك واحد للفلاح حتى تبلغ مائة روبل للتاجر الغني. يقول كتاب تاريخ قديم "كان الكثير من شيوخ الروس يحرصون على شعر لحاهم أشد الحرص بعد حلقه ليوضع في نعوشهم مخافة ألا يسمح لهم بدخول الجنة بدونه (15) ".
وبعد اللحي جاء دور الزي الروسي. هنا أيضاً شعر بطرس أن(33/50)
المقاومة الداخلية للتغريب ستخف بارتداء الزي الغربي. فقطع بنفسه الأكمام الطويلة التي يلبسها من يمثل أمامه من ضباط الجيش. وقال لأحدهم "انظر، هذه الأشياء تعوق حركتك. فلا أمان لك في أي مكان ما دمت تلبسها. تارة تقلب كوباً، وتارة أخرى تغمسها سهواً في الصلصة. أو بصنع غطاء لحذاءك منها (16). وعليه صدر أمر (يناير 1700) يقضي على جميع رجال الحاشية والموظفين في روسيا باتخاذ الزي الغربي. وكان الوافدين على موسكو أو الراحلين عنها أن يختاروا بين قص قفاطينهم عند الركبة-وكانوا يرسلونها إلى الكاحل-وبين دفع غرامة. كذلك حثت النساء على ارتداء الزي الغربي، وكانت مقاومتهن أقل من مقاومة الرجال، فالنساء في عالم الأزياء دعاة للثورة في كل عام.
وقضى بطرس على حجاب المرأة السورية بقدوة أسرته أكثر مما قضي عليه بالقوانين. وكان أبوه ألكسيس وأمه ناتاليا سباقين في هذا الطريق، ثم وسعته أخته لأبيه صوفيا. أما بطرس فقد دعا النساء للقاءات اجتماعية وشجعهن على أن ينزعن براقعهن، ويرقصن، ويعزفن، ويطلبن العلم ولو على يد المعلمين الخصوصيين. ثم أصدر المراسيم التي تحظر على الآباء تزويج بنيهم وبناتهم على غير إرادتهم، وتشترط مضي ستة أسابيع بين الخطبة والزواج، وفي هذه الفترة ينبغي السماح للخطيبين باللقاء المتكرر، وبفسخ الخطبة إن أرادا. وابتهجت النساء بالخروج من الحريم "التيريم" وبدأن سباقاً في اتخاذ الأزياء الجديدة، وكان بعض الزيادة في ولادة الأطفال غير الشرعيين حجة تذرع بها رجال الدين ليقاوموا ثورة بطرس.
ولقد كانت مقاومة الدين له العقبة الكؤود في سبيله. ذلك أن رجال الأكليروس أدركوا أن إصلاحاته ستنتقص من مكانتهم وسلطتهم. فناحوا وولولوا على تسامحه مع المذاهب الغربية في روسيا، وخامرتهم الظنون في إيمانه بأي عقيدة دينية. وسمعوا في اشمئزاز شديد بالتقليدات الساخرة التي كان هو وخلصاؤه يهزأون فيها بالطقوس الأرثوذكسية. وكان بطرس من ناحيته يغيظه تحويل القوى البشرية إلى الأديار الشاسعة التي لا حصر لها، ويشتهي الموارد الهائلة التي(33/51)
تتمتع بها هذه المؤسسات. فلما مات البطريرك أوريان (أكتوبر 1700)، امتنع بطرس عمداً عن تعيين خلف له، وأصبح هو نفسه رئيساً للكنيسة على نحو ما فعل هنري الثامن في إنجلترا، وتزعم حركة إصلاح ديني في روسيا. وظل منصب البطريرك شاغراً إحدى وعشرين سنة، فحرمت الكنيسة الأرثوذكسية زعيماً يتصدى لإصلاحات بطرس. وفي 1721 ألغى المنصب كله، وأحل مكانه "مجمعاً مقدساً" من رجال الكنيسة يعينه القيصر ويخضع لوكيل علماني. وفي 1701 نقل إدارة الممتلكات الكنسية إلى إحدى مصالح الحكومة، واختزل اختصاص المحاكم الكنسية، وأخضع تعيين الأساقفة لتصديق الحكومة. ومنعت مراسيم أخرى رسامة المتصوفين أو المتعصبين، وحدت من عدد مراكز صنع المعجزات. وقضي على الرجال ألا يقطعوا على أنفسهم نذور الرهبنة قبل الثلاثين، وعلى النساء ألا ينذرن أنفسهن نهائياً للرهبنة قبل الخمسين (17). وتقرر إلزام الراهبان بالقيام بعمل نافع. وأجرت الحكومة تعداداً للممتلكات والإيرادات الديرية، وترك بعض الإيراد للأديار، وخصص الباقي لإنشاء المدارس والمستشفيات (18).
واستسلم معظم الأكليروس لحركة الإصلاح الديني الروسي هذه، وهو إصلاح لم يمس العقيدة كما لم يمسها هنري الثامن. وندد بعض المخالفين ببطرس عدواً للمسيح، وأهابوا بالشعب أن يرفضوا طاعته ودفع الضرائب له. فأمر بالقبض على زعماء هذا التمرد، وتصرف معهم بطريقته العادية. فجلد البعض ونفوا إلى سيبيريا، وسجن البعض مدى الحياة، ومات أحدهم من التعذيب، وأحرق اثنان منهم حرقاً بطيئاً حتى الموت (19).
وفي غير هذا كان بطرس متمشياً مع الغرب في التسامح الديني. فحمى المخالفين من الاضطهاد ما داموا بعيدين عن السياسة. وفي سانت بطرسبورج، وبهدف تشجيع التجارة، سمح ببناء الكنائس الكلفنية واللوثرية والكاثوليكية على "النيفسكي بروسبكت"، أصبح يلقب "مكان التسامح (20) " وحمى الرهبان الكبوشيين الذين دخلوا روسيا، ولكنه نفى اليسوعيين (1710) لمثابرتهم الشديدة على(33/52)
الدعوة لكنيسة روما. وكانت إصلاحات بطرس الدينية بوجه عام أبقى إصلاحاته كلها، فقد أنهت العصور الوسطى في روسيا.
ثم غيرت عملية ضخمة من العلمنة حياة روسيا وروحها، من تحكم الكهنة وملاك الأراضي إلى حكم الدولة الذي كاد يصل إلى حد التنظيم العسكري الصارم. فقد أخضع بطرس النبلاء لإرادته، وأكرههم على خدمة الشعب، وأعاد تنظيم مراتب المجتمع حسب أهمية الخدمة الاجتماعية التي تؤدى. فنبتت أرستقراطية جديدة، تتألف من موظفي الجيش والبحرية ودواوين الدولة. ورأس الحكومة مجلس شيوخ من تسعة رجال (زيدوا بعد ذلك إلى عشرين) يعينهم القيصر، وكان يديرها تسع هيئات أو "كليات" تختص بالضرائب والدخل، والمصروفات، والحسابات، والرقابة، والتجارة، والصناعة، والعلاقات الخارجية، والحرب، والبحرية، والقضاء، وكان حكم الأقاليم الأثنا عشر، أو "الجوبيرنييا" والمجالس التي تحكم المدن، مسئولين أمام مجلس الشيوخ. وقسم سكان كل مدينة إلى طبقات ثلاث: التجار الأغنياء والمهنيين، والمدرسين والحرفيين، والأجراء والعمال، والطبقة الأولى وحدها هي التي يجوز انتخابها للمجلس البلدي (الماجسترا)، والطبقتان الأوليتان وحدهما لهما حق التصويت، ولكن لكل دافعي الضرائب الذكور الحق في الاشتراك في اجتماعات المدينة. وظهر "المير" أو مجتمع القرية، لا بوصفه مؤسسة ديمقراطية، بل هيئة مسئولة بجملتها عن ضريبة الرءوس التي أدخلت في 1719. وحد الإشراف المركزي من الاستقلال المحلي، ولم يكن هناك أي تفكير في النظم الديمقراطية، لأن التغيير السريع الذي اختطه بطرس لا سبيل إلى تحقيقه-إن كان هناك سبيل على الإطلاق-إلا بالسلطة الدكتاتورية.
ووجب أن يشمل ذلك التغيير الاقتصاد كما شمل السياسة، لأن مجتمعاً زراعياً خالصاً لا يمكن أن يحتفظ باستقلاله طويلاً أمام دول أغنتها الصناعة وزودتها بالسلاح. وقد أورد اقتصاد ألماني عاصر ذلك العهد رأياً سيثبت صوابه القرنان التاليان له-وهو أن الأمة التي لا تصدر في الأكثر غير الخامات والحاصلات الزراعية لن تلبث أن(33/53)
تخضع للدول المنتجة والمصدرة للسلع المصنوعة أولاً (21). وعلى ذلك لم يوجه بطرس للزراعة إلا القليل من اهتمامه. وبدلاً من أن يخفف من رق الأرض طبقة على الصناعة. وقد علم الفلاحين بقدوته الشخصية كيف يحصدون غلتهم وأمر بأن يستبدل بالمناجل ذات المقبض القصير sickles مناجل ذات مقبضين seuthes. وقد ألف الروس حرق أراضي الغابات للحصول على رماد مخصب للتربة، فحظر بطرس هذا العمل، لأنه احتاج ألواح الخشب لسفنه، وللأشجار لصواريه. وأدخل زراعة التبغ، والتوت، والكروم، وافتتح تربية الخيل والغنم في روسيا.
على أن هدفه الأهم كان التصنيع السريع. وكانت أولى مشاكله توفير الخامات. فشجع نشر التعدين، ومنح المكافآت الحافزة لرجال مثل نيكيتا ديميدوف والكسندر ستروجانوف أبدوا الجرأة والمهارة في التعدين وتشغيل المعادن، وحث ملاك الأراضي على أن يشجعوا أو يسمحوا باستخراج المعادن من أراضيهم، فإن قصروا في هذا فلغيرهم أن يستخرجوها لقاء رسم اسمي فقد يؤدونه لهم. فما وافى عام 1710 حتى كفت روسيا عن استيراد الحديد، وقبل موت بطرس كانت تصدره (22).
ثم استقدم مهرة الصناع ومديري الصناعة الأجانب، وحض الروس من جميع الطبقات على تعلم الفنون الصناعية. وافتتح إنجليزي بموسكو مصنعاً لدبغ الجلود وصنع الأحذية، وأمر بطرس كل مدينة في روسيا بأن تبعث وفداً من الحذاءين إلى موسكو لتعلم أحدث طرق صناعة الأحذية بنوعيها الواطئ والعالي، وهدد المتمسكين بالأساليب العتيقة في هذه الصناعة بتشغيلهم في سفن العبيد. ورغبة في تشجيع صناعة النسيج الروسية لم يلبس غير المنسوجات الوطنية بعد أن نشطت صناعتها، وحظر على المسكوفيين شراء الجوارب المستوردة. وما لبث الروس أن صنعوا المنسوجات الجيدة. وروع أميرال بحري أصحاب التقاليد، وأبهج القيصر، بصنعه المقصبات الحريرية. وصنع فلاح طلاء (لاكيه) يفوق أي نظير له في "أوربا" باستثناء الطلاء البندقي وقبل أن ينتهي حكم بطرس كان في روسيا 223 مصنعاً، بعضها(33/54)
لا يستهان بحجمه، واستخدمت صناعة الحرير بموسكو 1. 162 عاملاً، واستخدم أحد مصانع النسيج 742 رجلاً، وآخر 730، ووظفت مؤسسة للتعدين 683 شخصاً (23). نعم كان في روسيا مصانع قبل بطرس، ولكن ليس على هذا النطاق. وكثير من المصانع الجديدة بدأته الحكومة ثم سلم للأهالي ليديروه، ولكنهم مع هذا كانوا يتلقون إعانات من الدولة، ويخضعون لإشراف دقيق من الحكومة. وكانت الرسوم الجمركية المرتفعة الحامية درعاً يقي الصناعة الوليدة من المنافسة الأجنبية.
ولجأ بطرس إلى تجنيد الرجال قسراً ليزود بهم المصانع ولم يتوفر من العمال إلا القليل، فحول الفلاحين صناعاً طوعاً أو كرهاً. وخول لرجال الصناعة أن يشتروا الأقنان من ملاك الأراضي ويشغلوهم في المصانع. وزودت المشاريع الكبرى بفلاحين منقولين من أراضي الدولة ومزارعها (24). وحدث ما يحدث في معظم المحاولات الحكومية للتصنيع السريع، إذ لم يستطع القادة الانتظار ريثما تغلب غريزة التملك على العادات والتقاليد، وتقود العمال من ميادين وأساليب عتيقة إلى أعمال وأنظمة جديدة. فطورت قنية صناعية، على كره من بطرس بوجه عام، ومن عمد من خلفائه. واعتذر بطرس عنها في مرسوم 1723، فقال:
"ألا يصنع كل شيء (أول الأمر) بالإكراه؟ أما أن الراغبين في الاشتغال بالصناعة قلة فصحيح، لأن شعبنا أشبه بالأطفال، يأبون البدء بتعلم الأبجدية ما لم يكرهها عليهم معلموهم. ويبدو لهم هذا التعلم غاية في الصعوبة أول الأمر، ولكنهم ما إن يتعلموها حتى يحمدوا لمعلميهم صنيعهم، ونحن نسمع الكثير من آيات الحمد والشكر على الإصلاحات التي أتت أكلها فعلاً ... فعلينا في مسائل الصناعة أن نعمل ونلزم، ونعين بالتعليم (25) ".
ولكن الصناعة لا تتطور إلا بتجارة تبيع منتجاتها. ولكي يشجع بطرس التجارة رفع المكانة الاجتماعية لطبقة التجار. وفرض نمو صناعة كبيرة لبناء السفن في أركانجل وسانت بطرسبورج. وحاول إنشاء بحرية تجارية تحمل السلع الروسية في سفن روسية ولكنه أخفق(33/55)
لأن الفلاح الروسي الذي ضربت جذوره في الأرض وانغلق فيها لم يقبل على البحر برغبة أو كفاية. وفي داخل روسيا نفسها كانت المسافات الشاسعة والطرق الوعرة تعوق التجارة. ولكن الأنهار كانت وفيرة، تغذيها ثلوج الشمال وأمطار الجنوب، فإذا تجمدت الأنهار ففي صلابة تتحمل بفضلها الأثقال شأنها شأن الطرق المتجمدة. وكانت الحاجة ماسة لربط هذه الأنهار بقنوات-تصل النيفا والدوينا بالفولجا، والفولجا بالدون، فيرتبط البلطيق بالبحر الأبيض بالبحر الأسود وبحر قزوين. وأرسس بطرس الأساس لهذه المجموعة الكبيرة، وافتتح في 1708 القناة الموصلة بين النيفا والفولجا، ولكن كان لا بد أن تنقضي عهود ملكية عديدة قبل أن تكتمل هذه الشبكة، وقد لقي الألوف من العمال حتفهم في هذه المحاولة.
وأكرهت الحرب والمشروعات المتنوعة بطرس على جمع رأس المال بمقادير لم يسبق لها نظير في روسيا. وقد حصل على بعضه بإعطاء الحكومة احتكار إنتاج وبيع الملح، والتبغ، والقار، والدهون، والبوتاس، والراتنج، والغراء، والراوند، والكافيار، وحتى التوابيت المصنوعة من البلوط. وكانت هذه التوابيت تباع بربح بلغ أربعمائة في المائة، أما الملح فتواضع ربحه إلى مائة في المائة، ولكن القيصر أدرك أن الاحتكارات تعوق الصناعة والتجارة، فبعد أن أبرم الصلح مع السويد ألغاها بجرة قلم وأطلق التجارة الداخلية من عقالها. وبقيت التجارة الخارجية خاضعة لرسوم التوريد والتصدير، ولكنها كادت تبلغ عشرة أضعافها بين 1700 ومرت بطرس في 1725. وكان أكثرها تنقله سفن أجنبية، وما بقي منها ما أيد روسية كانت تعرقله الرشوة التي استشرت بحيث لم تجد فيها حتى عقوبات بطرس الوحشية.
أما نظام الضرائب فكان شاملاً. فقد كلفت هيئة خاصة عينتها الحكومة بوضع نظام لضرائب جديدة وإدارته. ففرضت الضرائب على القبعات والأحذية، وخلايا النحل، والحجرات، وأقبار الخمور والمؤن، والمداخن، والمواليد، والزيجات، واللحي. أما الضريبة على الأسر فقد عطلتها الهجرات الجماعية غير المنظمة، فاستبدل بها(33/56)
بطرس ضريبة على "الأنفس" أينما وجدت، ولم تطبق هذه الضريبة على النبلاء أو الأكليروس. وارتفعت إيرادات الدولة من 1. 400. 000 روبل في 1680 إلى 8. 500. 000 في 1724 - خصص خمسة وسبعون في المائة منها للجيش والبحرية. ونصف هذه الزيادة كانت غير واقعية بسبب انخفاض قيمة العملة بمقدار النصف في عهد بطرس، لأنه لم يستطع مقاومة إغراء الربح المؤقت بغش العملة.
وكان افتقار الجميع-من الملك إلى الفلاح-للنزاهة معطلاً لسير الاقتصاد، وجمع الضرائب، وأحكام القضاء، وتنفيذ القوانين. وقد قرر بطرس الحكم بالإعدام على جميع الموظفين الذين يقبلون "الهدايا" ولكن أحد مساعديه نبهه إلى أنه إن نفذ هذا القانون فلن يجد بعد حين غير موظفين أمواتاً. ومع ذلك قتل بعضهم. من ذلك أن الأمير ماتفي جاجارين، حاكم سيبيريا، أثري ثراءً خاصاً، فزين تمثاله المصنوع للعذراء بمجوهرات بلغت قيمتها 130. 000 روبل، وأراد بطرس أن يعرف كيف حصلت عليها العذراء، فلما عرف شنق جاجارين. وفي 1714 قبض على عدد من كبار الموظفين بتهمة سرقة الحكومة والشعب، وكان من بينهم نائب حاكم سانت بطرسبورج، ورئيس تموين الدولة، ورئيس الأميرالية، وحاكما نارفا وريفيل، وعدد من أعضاء السناتو. وشنق بعضهم، وحكم على بعضهم بالسجن مدى الحياة، وجدعت أنوف البعض، وجلد البعض بالعصي. ولما أمر بطرس بوقف الجلد توسل إليه الجنود الذين كانوا يقومون به قائلين "اسمح لنا يا أبتاه أن نجلدهم أكثر قليلاً لأن هؤلاء اللصوص سرقوا كل شيء حتى خبزنا (26) ". واستشرى الفساد، وزعم مثل روسي أن المسيح نفسه كان من الجائز أن يسرق لولا أن يديه شدتا إلى الصليب.
وفي وسط هذا النضال، نضال إرادة واحدة تريد تغيير الحياة الاقتصادية والسياسية لنصف قارة، وجد بطرس وقتاً حاول فيه إحداث ثورة ثقافية أيضاً. لقد كان يكره الخرافة، ويتوق إلى أن يحل محلها التعليم والعلم. وكان الروس إلى عهده يؤرخون من خلق العالم كما افترضوه، ويبدأون السنين بشهر سبتمبر. ففي 1699 جعل بطرس(33/57)
التقويم الروسي يتفق مع التقويم اليولياني، كما تستعمله الدول البروتستنتية، فتقرر أن تبدأ السنة بعد ذلك بيناير، وتؤرخ من مولد المسيح. وتذمر الشعب، فكيف يختار الله منتصف الشتاء زماناً للخليقة؟ وأنفذ بطرس ما أراد، ولكنه لم يجرؤ على تطبيق التقويم الجريجوري، الذي قبلته أوربا الكاثوليكية في 1582، فحذف عشرة أيام كما اقتضته تلك "الحيلة البابوية" كان يسلب عدة قديسين أرثوذكس أعيادهم المقدسة.
ووفق القيصر الذي لم يهدأ له بال في مشروع آخر لا يقل عنتاً، هو إصلاح الأبجدية. ذلك أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت تستعمل الأبجدية السلافونية القديمة، ولكن الطبقات الصناعية والتجارية اقتبست أبجدية أساسها الحروف اليونانية. فأمر بطرس بأن تطبع بها كل الكتب غير الدينية. واستورد المطابع واستقدم الطباعين من الأراضي المنخفضة، وبدأ (1703) أول جريدة روسية، وهي "جازيتة سانت بطرسبورج"، وأمر بنشر كتب في التكنولوجيا والعلوم، ومول النشر، وأسس مكتبة سانت بطرسبورج، وأنشأ المحفوظات الروسية بأن جمع في المكتبة مخطوطات الأديار وسجلاتها وأخبارها. وفتح عدة معاهد تقنية وأمر بأن يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية. وحاول أن ينشئ في كل إقليم "مدرسة للرياضيات"، وفي موسكو أنشأ مدرسة ثانوية "جمنازيوم" على غرار المدارس الألمانية لتعليم اللغات والأدب، والفلسفة، ولكن هذه المدارس لم يكتب لها طول البقاء. وفي 1724 نظم أكاديمية سانت بطرسبورج، وجلب إليها علماء أفذاذاً كجوزيف دليل ليعلم الفلك، ودانيال برنوللي ليعلم الرياضيات. وبالحال من ليبنتز كلف (1724) فيتوس بيرنج، الملاح الدنمركي، بأن يرأس بعثة إلى كمتشكا ليتبين هل آسيا وأمريكا متصلتان طبيعياً. وقد أقلع بيرنج بعد وفاة بطرس.
أما المسرح الروسي فكان على عهد ألكسيس لا يقدم غير الحفلات الخاصة. فرخص بطرس مسرحاً على الميدان الأحمر وفتحه للجمهور، واستقدم الممثلين الألمان، فمثلوا خمس عشرة مأساة وملهاة، منها بعض ملاهي موليير. وجلب الموسيقيين الأجانب لتأليف الأوركسترات. وأدخلت فيه روسيا السوناتا والكونشرتو، واتخذت الموسيقى العلمانية(33/58)
الروسية أشكالاً أوربية من تآلف الألحان وامتزاجها. وأوصي بطرس بشراء اللوحات والتماثيل، ولا سيما الإيطالية منها، وجمعها هي وغيرها من الآثار الفنية في متحف للفن في سانت بطرسبورج فتحه لجميع الزوارمجاناً، وأمر بتقديم المشروبات الخفيفة لهم (27). ووفد المصورون الأجانب ليرسموا لوحات الأشخاص بأسلوب الغرب. وبنيت بعض الكنائس أيام ألكسيس، ولكن قل منها ما بني أيام بطرس. ووجد المعماريون الآن أنه أربح لهم أن يبنوا القصور.
ولم يزدهر أدب عظيم خلال هذه الثورة التي اقتلعت القديم من جذوره، فلا بد من انقضاء وقت حتى يمكن الإحساس بدفعة بطرس في الشعر. وقد صدر كتاب جريء قبل وفاته بعد عام، وهو "كتاب الفقر والغنى" بقلم إيفان بوسوشكوف الذي وبخ الروس على همجيتهم وأميتهم، وظاهر بقوة إصلاحات القيصر. وقد جاء في الكتاب "من سوء الحظ أن مليكنا العظيم يكاد يقف وحده، ومعه عشرة أشخاص، في محاولة رفع الأمة في حين يحاول الملايين خفضها (28) ". وندد ايفان بظلم الفلاحين، وطالب بقضاء نزيه تجريه محاكم متحررة من السيطرة الطبقية، وصدم القيصر بأن طلب جمع ممثلين لجميع الطبقات ليكتبوا دستوراً جديداً ومدونة قوانين لروسيا. وقبض على بوسوشكوف بعد موت بطرس ببضعة شهور، ومات في السجن في 1726.
3 - العقابيل
ازدادت المقاومة لإصلاحات بطرس من سنة إلى سنة. ذلك أن الروس ألفوا الفقر، والعذاب، والاستبداد، ولكنهم لم يسبق لهم قط- حتى تحت حكم ايفان الرهيب- أن أثقلوا بمثل هذه الأعباء، أو دفعوا مثل هذه الضرائب، أو ماتوا بمثل هذه الكثرة لا في ساحة القتال فحسب بل في أشغال السخرة جوعاً وبرداً وأعياءً مرضاً. كتب ليفور صديق بطرس المحبوب في 1723 يقول "إن الشقاء يشتد من يوم إلى يوم، والشوارع تمتلئ بناس يحاولون بيع أطفالهم ... والحكومة لا تدفع مالاً للجنود، ولا لرجال البحرية، ولا لموظفي الإدارات(33/59)
الحكومية، ولا لأحد (29) ". وحير القيصر ازدياد الفقر وسط إصلاحاته، فجعل التسول أو التصدق على المتسولين جريمة، وأقام ستين منظمة لتوزيع الصدقات.
ولكن التسول استمر، والجريمة انتشرت. وكاد يسيطر على الطرق الأقنان الآبقون من الرق، والجنود والعمال المسخرون الذين هجروا معسكراتهم معرضين أنفسهم للموت. ونظموا أنفسهم أحياناً أفواجاً عدتها مئات حاصرن المدن واستولت عليها. ذكر قائد في 1718 "إن موسكو مباءة للسطو، وكل شيء فيها خرب، وعدد الخارجين على القانون يتضاعف، وإعدام المذنبين لا يتوقف أبداً". وأقام المواطنون المتاريس في بعض شوارع موسكو، وأحاطوا بعض البيوت بأسوار عالية اتقاء اللصوص. وحاول بطرس منع السرقة بالعقاب الصارم، فأمر بأن يشنق قطاع الطرق الذين يقبض عليهم، وأن تجدع أنوف الساطين على المنازل، الخ. ولكن هذه العقوبات لم تردع المجرمين. فقد شقت الحياة على الفقراء حتى لم يصبح هناك فرق يذكر في نظرهم بين عقوبة الإعدام وبين السجن المؤبد الذي يقضونه راسفين في أغلال القنية أو السخرة، واحتملوا أبشع ضروب العذاب بتجلد من ماتت أعصابهم.
واشتد كره الناس لبطرس حتى لقد أعجب الكثيرون أن أحداً لم يقتله. كرهه النبلاء لأنه أرغمهم على خدمة الدولة، ولأنه رفع الطبقات الصناعية والتجارية مقاماً وثراءً، وكرهه الفلاحون لأنه سخره في عمل اقتلعهم من أوطانهم، ومن أسرهم في كثير من الحالات، وكرهه رجال الكنيسة لأنه الوحش الوارد ذكره في سفر الرؤيا، والذي جعل المسيح ذاته خادماً للحكومة، وارتاب فيه كل الروس تقريباً لاختلاطه بالأجانب واستيراده الأفكار "الوثنية"، وخافت روسيا كلها بأسه لعنفه ولعقوباتها الوحشية. إن روسيا لم ترد هذا التغريب، إنها تمقت الغرب مقتاً شديداً، والاحتفاظ بروحها القومية كان يقتضيها أن تكون "سلافية الميول" ونشبت حركات تمرد يائسة بموسكو 1698، وبأستراخان في 1705، وعلى طول الفولجا في 1707، وفي أوقات متفرقة في أرجاء الإمبراطورية وخلال العهد كله.(33/60)
أما بطرس فقد رمز إلى الصراع وزاده حدة بالعودة إلى الغرب مرتين. ففي خريف 1711 ذهب إلى ألمانيا ليرأس في تورجو مراسيم زواج ابنه. وهناك استقبل ليبنتز، الذي اقترح عليه إنشاء أكاديمية روسية كان يرجو الفيلسوف المتعدد المواهب أن يرأسها. وعاد القيصر إلى سانت بطرسبورج في يناير 1712، ولكنه في أكتوبر، وسط حملة شنها إلى السويد، استشفى بمياه كرلسبارد، وزار فتنبرج. وأخذه بعض القساوسة اللوثريين إلى البيت الذي قذف فيه لوثر محبرة على الشيطان، وأروه الحبر على الحائط، وطلبوا إليه أن يكتب تعليقاً عليه، فكتب "إن الحبر جديد تماماً، فواضح إذن أن القصة غير صحيحة (30) ". وعاد بطرس إلى عاصمته الجديدة في أبريل 1713. وفي فبراير 1716 انطلق إلى الغرب مرة أخرى، فزار ألمانيا وهولندة، وفي مايو 1717 بلغ باريس آملاً أن يزوج ابنته اليزابيث للويس الخامس عشر. ولما التقى بطرس بالملك الصبي ذي السبعة الأعوام، رفعه ليقبله، وبعد أيام، حين كان لويس يستقبله أمام القصر الملكي، رفعه بطرس كأنه طفل وحمله صاعداً السلم مما جعل أفراد الحاشية يرتعدون. وأنفق في باريس ستة أسابيع متفرجاً، مستوعباً كل جوانب الحياة في المدينة- السياسية، والاقتصادية، والثقافية. وصوره الرسامان ريجو وناتييه. وزار مدام دمانتنون العجوز في سان- سير. ومن باريس ذهب إلى سبا، وظل خمسة أسابيع يشرب المياه هناك، لأنه كان إذ ذاك يشكو عللاً كثيرة- ولحقت به زوجته كاترين في برلين. واكتشفت أن له خليلة، ولكنها اغتفرت ذلك جرياً على أرقى تقاليد البيوت المالكة الأوربية. فلما وصل إلى سانت بطرسبورج (20 أكتوبر 1716) واجه أزمة من أسوأ الأزمات في حياته.
ذلك أن ابنه ألكسيس، الذي كان يرجو أن يورثه ملكه ويترك له المضي قدماً في إصلاحاته، انتهى إلى كره الكثير من تلك البدع، وكره الأساليب التي كانت تفرض بها فرضاً. وكان في بدنه وعقله ابن يودوكسيا أكثر منه ابن بطرس. وكان ضئيل الجسم، هياباً، ضعيفاً، ولوعاً بالكتب، مخلصاً للكنيسة الأرثوذكسية، لأنه ربي على التقوى بينما كان بطرس منطلقاً إلى الحرب والغرب. وحين بلغ ألكسيس(33/61)
التاسعة رأى أمه تقصي إلى الدير (1699)، فلما بلغ الحادية عشرة سمع الكهنة يتحسرون على صهر أجراس الكنيسة لصنع المدافع، وسأل أباه لم يذهب الروس خارج روسيا للقتال في سبيل مدينة نائية كنازفا، واشمئز بطرس حين وجد أن وريثه لا يستطيب سفك الدماء.
وبينما كان بطرس مشغولاً ببناء سانت بطرسبورج، مكث ألكسيس بموسكو، وأحب كنائسها وأساليب حياتها القديمة. وقد كره تمزيق البطريركية ومصادرة الدولة للممتلكات الديرية. وعلمه كاهن اعترافه أن يدافع عن الكنيسة دائماً أياً كان الثمن. وغدا ألكسيس المعبود ومعقد الآمال للجماعات الكنسية والأرستقراطية التي أبغضت علمنة بطرس لروسيا وتغريبها، وانتظرت بفارغ الصبر الوقت الذي يجلس فيه على العرش ذلك الفتى المتدين المطواع. وكان بطرس لا يراه إلا لماماً، فإذا رآه وبخه عادة، وضربه أحياناً، كما فعل حين اكتشف القيصر أن الصبي زار أمه خفية في ديرها. وأوشك استياء الفتى أن يكون كرهاً. واعتراف لكاهنه اجناتيف أنه يتمنى لو مات أبوه. ولم ير اجناتيف في هذا إثماً، فقال لألكسيس "إن الله سيغفر لك فكلنا نتمنى موته، لأنه حمل الشعب أحمالاً ثقيلة (31) ".
وفي 1708 بعث بطرس ابنه إلى درسدن ليدرس الهندسة وفن التحصين. وفي 1711 تزوج ألكسيس بمدينة تورجو شارلوت كرستينا صوفيا، أميرة برونزيك- فولنفبوتل. ولم يستطع أن يغتفر لها رفضها التخلي عن مذهبها اللوثري واعتناق المذهب الأرثوذكسي الروسي. واتخذ الخليلات حتى من المواخير، وأفرط في الشراب. وعقب أن ولدت له شارلوت طفلاً زارها بصحبة مومس (32). وبعد عام ماتت زوجته وهي تلد (1715). واستدعاه بطرس إلى سانت بطرسبورج بخطاب غاضب حوى عبارات تنذر بالويل والثبور "إنني لا أضن بحياتي، ولا بحياة أحد من رعاياي، ولن أستثنيك من هذه القاعدة. فعليك أن تصلح من حالك، وأن تجعل نفسك نافعاً للدولة، فإن لم تفعل حرمتك من الميراث (33) ". وحاول ألكسيس تهدئة ثائرة أبيه بالتخلي عن حقوقه في العرش، وقال إنه سيقنع بالعيش عيشة هادئة في الريف. وشعر بطرس بأن هذا ليس حلاً. ففي 30 يناير 1716 كتب إلى ألكسيس يقول:(33/62)
"لا أستطيع تصديق يمينك ... لقد قال داود إن كل البشر كذابون، فحتى لو شئت الوفاء بها لثناك عن ذلك ذو اللحي الطويلة .. .. فكل الناس يعرفون أنك تكره أعمالي التي أعملها في سبيل هذه الأمة، غير ضنين بصحتي، وأنك بعد موتي ستقضي عليها، ولهذا السبب فإن بقاءك كما تريد أن تبقى، بغير وجهة محددة، ضرب من المحال. وعليه فأما أن تغير من خلقك، وتصبح دون نفاق خلفي الكفء، أو تصبح راهباً. فأجبني فوراً .. .. فإن لم تفعل عاملتك كما أعامل المجرمين (34) ".
وأشار عليه أصدقاؤه بالرهبانية، وقال أحدهم، "إن قلنسوة الراهب لا تسمر فوق إنسان، ففي الإمكان خلعها" وكتب ألكسيس لأبيه بأنه راغب في الرهبانية. ولانت قناة بطرس، وأمهله نصف سنة ليستقر على رأي. ووصل القيصر إلى الغرب (فبراير 1716). وفي 29 يونيو نصحت ناتاليا، أخت بطرس، ألكسيس بأن يرحل عن روسيا ويضع نفسه في حمى الإمبراطور. وفي سبتمبر كتب بطرس لابنه من كوبنهاجن يقول أن نصف العام قد انتهى، وإن على ألكسيس أن يدخل الدير فوراً، أو يلحق بأبيه في الدنمرك مستعداً للخدمة العسكرية. وتظاهر ألكسيس بأنه ذاهب إلى أبيه، وحصل على المال من منشيكوف ومجلس الشيوخ، ثم انطلق لا إلى كوبنهاجن بل إلى فيينا (10 نوفمبر). وهناك التمس من نائب المستشار الإمبراطوري أن يحصل له على حماية الإمبراطور شارل السادس قائلاً "إن أبي غضوب محب للثأر إلى حد لا يصدق، وهو لا يرحم أحداً، ولو ردني الإمبراطور إلى أبي لكان هذا في حتفي (35) ". وأرسله نائب المستشار إلى قلعة ايرنبيرج بالتيرول. وهناك ظل مختبئاً متنكراً، تحت الرقابة ولكنه مزود بكل أسباب الراحة، وسمح له بالاحتفاظ بخليلته أفروسينيا مرتدية ثياب الوصيف. وتعقبه جواسيس بطرس إلى مخبئه، وأنذر ألكسيس ففي إلى نابلي حيث كان تحت الحراسة في "كاستيل سانتيلمو". وعثر عليه عملاء بطرس وألحوا عليه في العودة إلى روسيا واثقاً من رأفة أبيه به. فقبل شريطة أن يأذن له بطرس بالعيش مع أفروسينا معتزلاً في الريف. ووعد بطرس بهذا في خطاب بتاريخ 28 نوفمبر 1717. ورتب ألكسيس أن تظل أفروسينا بإيطاليا حتى تضع مولودها. وكان أثناء رحلته الطويلة إلى روسيا يبعث لها بأرق الرسائل.(33/63)
ووصل موسكو في آخر يناير. وفي 3 فبراير استقبله بطرس في اجتماع مهيب ضم كبار رجال الدولة والكنيسة. والتمس ألكسيس العفو من أبيه وهو جاث ودموعه تسيل. ومنحه بطرس العفو، ولكنه حرمه من وراثة العرش، وأعلن ابن كاترين، بطرس بتروفتش، البالغ من العمر ثلاث سنين، وريثاً للعرش. وأقسم ألكسيس يمين الولاء لولي العهد الجديد. وعلق بطرس عفوه الآن على شرط، هو اعتراف ألكسيس بشركائه في مقاومة إصلاحات أبيه. وورط ألكسيس الكثيرين، فقبض عليهم وعذبوا لانتزاع المزيد من التفاصيل منهم، ونفى عديدون إلى سيبيريا، وأعدم البعض بعد أن عذبوا أبشع تعذيب. أما ألكسيس، الذي ترك حراً في الظاهر، فقد أسكن بيتاً قريباً من قصر القيصر في سانت بطرسبورج، ومنح معاشاً سنوياً قدره أربعون ألف روبل. وكتب إلى افروسينيا يقول أن أباه يحسن معاملته وأنه دعاه إلى مائدته، وكان يتطلع إلى مجيئها، وإلى الحياة السعيدة معها في هدوء الريف.
ووصلت في أبريل، فقبض عليها فوراً، ولم تعذب ولكنها امتحنت امتحاناً صارماً، فانهارت، واعترفت بأن ألكسيس اغتبط لنبأ حركات التمرد على أبيه، وأنه أعرب عن نيته يعتلي العرش في هجران سانت بطرسبورج والبحرية، وخفض عدد الجيش إلى ضرورات الدفاع. ولم يكن هذا شراً مما كان بطرس يعلمه من قبل، فترك ألكسيس طليقاً شهرين آخرين. ثم أثارته مفاجآن جديدة لا علم لنا بها، فأعلن أنه سحب عفوه عن ألكسيس، لأن هذا العفو افترض اعترافه الكامل، وقد توافر لديه الدليل الآن على أن الاعتراف كان غير مخلص وغير كامل. وفي 14 يونيو قبض على ألكسيس وسجن في قلعة القديسين بطرس وبولس.
وفي 19 يونيو 1718، وبعد أن فحصته محكمة القضاء العليا، عذب لأول مرة، فجلد خمساً وعشرين جلدة. واعترف بأنه تمنى موت أبيه، وبأن كاهنه قال له "إننا جميعاً نتمنى موته". ثم ووجه بأفروسينيا، التي أعادت ما قالته للقيصر من قبل، ومع ذلك أقسم أنه سيحبها حتى الموت. وقال معترفاً "شيئاً فشيئاً أصبح شخص أبى ذاته، لا كل شيء عنه فحسب، بغيضاً في عيني" واعترف بأنه لو اقتضاه الأمر لاستعان بالإمبراطور "في قهر التاج بالقوة (36) ". وفي 24 يونيو عذب مرة أخرى بجلده خمس عشرة جلدة لم تنتزع منه مزيداً من(33/64)
الاعترافات. وقضت المحكمة العليا بأنه مذنب بالخيانة وحكمت عليه بالإعدام. والتمس ألكسيس السماح له بمعانقة خليلته قبل إعدامه، ولا علم لنا هل أجيب إلى طلبه. ولم يوقع بطرس على الحكم. ثم أعيد استجواب ألكسيس مرتين (25 و26 يونيو) وهو يعذب، وفي المرة الثانية بحضور القيصر والحاشية، وقال ليفور فيما بعد "أكدوا لي أن أباه جلده الجلدات الأولى بنفسه، وإن كنت غير واثق من صدق هذا القول (37) ". في ذلك المساء مات ألكسيس في سجنه، والظاهر أن موته كان من آثار تعذيبه. وزعمت رواية أن كاترين أمرت الأطباء بأن يقطعوا أوردته، ولا نستطيع الحكم على هذا العمل، أهو من أعمال الرأفة به أم الطمع في سبيل مصلحة ولدها. أما أفروسينيا فنالت نصيباً من ثروة ألكسيس، وتزوجت ضابطاً في الحرس، وعاشت حياة مريحة ثلاثين سنة أخرى في سانت بطرسبورج.
وكان بطرس يأمل أن يربي ابنه من كاترين ليخلفه، ولكن الصبي مات في 1719. وأنجبت كاترين ولدين آخرين، بطرس وبولس، ولكنهما ماتا قبل القيصر. وعزى نفسه بالألقاب الفخمة التي خلعت عليه بعد صلحه مع السويد. وفي ذلك العام، (1721)، خلع مجلس الشيوخ والمجمع المقدس لقب الإمبراطورة على كاترين. وبعد أن أمهل بطرس روسيا سنة سلامها الوحيدة منذ بداية حكمه النشيط، وجه قواته شطر فارس. وكان يرجو أن يستخلص طريق قوافل إلى وسط آسيا، وأخيراً إلى الهند، ويسيطر عليه، وأخبره مبلغوه أن في الإمكان العثور على الذهب في الطريق، وكان سباقاً إلى توقع الإمكانات الصناعية لزيت القوقاز والشرق الأوسط (38). وفي 1722 جرد أسطولاً على قزوين لمهاجمة فارس، فاستولى على باكو وبعض سواحل قزوين الفارسية، غير أن العواصف دمرت معظم سفنه، وأتى المرض على جزء من جيشه، وعاد بطرس من حملة 1724 مرهقاً، متشائماً، مشرفاً على الموت.
ذلك أنه كان يشكو مرض الزهري سنوات طويلة (39)، ويعاني من العقاقير التي تعاطاها للعلاج منه. وزاد إدمانه السكر الطين بلة، واجتمعت عليه انفعالات الحرب، والثورة، وحركات التمرد، وعنف(33/65)
الإرهاب، لتنهك جسمه العملاق في النهاية. وفي نوفمبر 1724 قفز إلى النيفا المتجمد ليساعد على إنقاذ ملاحين على سفينة جانحة. وظل يعمل طوال الليل في مياه غمرته حتى خصره. وفي الغد أصيب بحمى، ولكنه شفي منها، واستأنف برنامجاً حافلاً بألوان النشاط. وفي 25 يناير لزم فراشه أثر التهاب مؤلم في المثانة. وأبى أن يسلم بأن منيته دنت حتى 2 فبراير، فاعترف ببعض ذنوبه، وتناول الأسرار المقدسة. وفي السادس من الشهر وقع إعلاناً بتحرير جميع السجناء فيما خلا المحكوم عليهم لجرائم القتل أو لجرائم ضد الدولة. وقد روع أتباعه بصرخات الألم. وطلب لوحاً يكتب عليه وصيته، ولكن ما إن كتب هاتين الكلمتين "أعطوا جميع" حتى وقع القلم من يده. وسرعان ما انتابته غيبوبة دامت ستاً وثلاثين ساعة، ولم يفق منها قط. وأذيع نبأ موته في 8 فبراير 1725، وكان يومها في الثانية والخمسين.
وتنفست روسيا الصعداء كأن كابوساً طويلاً رهيباً قد أنجب عن صدرها آخر الأمر. وابتهج ملكا السويد وبولندة، وتوقعا أن تتردى روسيا في مهاوي الفوضى، وتكف عن أن تكون خطراً يهدد الغرب. ورفعت روسيا القديمة، روسيا العصور الوسطى، عقيرتها وطلبت عوداً إلى الماضي. لقد دفعت الأمة دفعاً مفرطاً في العنف، وأؤذيت في روحها وكبريائها بهذا التقليد الأعمى للغرب. وانتشرت الرجعية انتشاراً واسعاً وانتصرت، وترك الكثير من الإصلاحات ليموت من افتقاره إلى التأييد. واختزلت البيروقراطية الإدارية، ولكن إطارها احتفظ بحياته حتى 1917، واستعاد النبلاء الكثير من سلطانهم القديم، واستردوا حقوقهم فيما تحويه وأراضيه من أخشاب ومعادن. أما الطبقة الصناعية والتجارية التي طفر بها بطرس فقد عادت إلى خضوعها الماضي. وأنهار الكثير من الصناعات الجديدة بسبب النقص في الآلات، أو العجز في العمال أو الإدارة. واضمحلت الرأسمالية الوليدة، وظلت روسيا الاقتصادية مائتي عام أخرى كما كانت أساساً قبل الثورة البطرسية. أما الإصلاحات التجارية فكانت أوفر حظاً، فاستمرت التجارة مع الغرب في ازدياد مطرد، وأثمرت الاتصالات بأوربا شيئاً من التهذيب في السلوك، ولكن الأزياء الوطنية القديمة(33/66)
عادت في عهد كاترين الثانية (1762 - 96)، وعاد الناس يطلقون لحاهم في عهد الاسكندر الثاني (1855 - 81). واستمر الفساد، ولم يبد على الأخلاق أنها جنت شيئاً من وراء العهد، ولعل ما ضربه بطرس لشعبه من مثال في السكر، والإباحية، والتوحش، خلف الشعب أسوأ خلقاً من ذي قبل. ولم يبق من التغييرات إلا ما ضرب جذوره في الزمن.
لقد كان بطرس أحد شخصيات التاريخ الحديث الأقل ظفراً بحب الناس، ومع ذلك كان إنجازه هائلاً. واخفاقاته تنهض شاهداً على قيود العبقرية وحدودها عاملاً من العوامل المؤثرة في التاريخ، ولكن في البصمة التي تركها على روسيا ما يشيد بقوة الشخصية. فلقد أعطى روسيا جيشاً وبحرية، وفتح الثغور التي أتاحت لها الاتجاه مع الغرب في السلع والأفكار، وأرسي صناعة التعدين وتشغيل المعادن، وأنشأ للمدارس وأسس أكاديمية. وبجذبة وحشية واحدة انتزع روسيا من براثن آسيا وأدخلها أوربا، وجعلها عاملاً مؤثراً في الشئون الأوربية. فمنذ الآن ستضطر أوربا لأن تحسب حساباً أكثر فأكثر لقلب القارة الشاسع ذاك، ولتلك الجماهير الصلبة، الصابرة، المتجلدة، ومصيرها المحتوم.(33/67)
الفصل الرابع عشر
الإمبراطورية المتغيرة
1648 - 1715
1 - إعادة تنظيم ألمانيا
هبطت حرب الثلاثين بسكان ألمانيا من 20. 000. 000 إلى 13. 500. 000. وبعد عام أفاقت التربة التي روتها دماء البشر، ولكنها ظلت تنتظر مجيء الرجال. وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال. وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم. ففي مؤتمر فرانكونيا المنعقد في فبراير 1650 بمدينة نورمبرج اتخذوا القرار الآتي: -
"لا يقبل في الأديار الرجال دون الستين ... وعلى القساوسة ومساعديهم (إذا لم يكونوا قد رسموا)، وكهنة المؤسسات الدينية، أن يتزوجوا .... ويسمح لكل ذكر بأن يتزوج زوجتين، ويذكر كل رجل تذكيراً جدياً، وينبه مراراً من منبر الكنيسة، إلى التصرف على هذا النحو في هذه المسألة (1) ".
وفرضت الضرائب على النساء غير المتزوجات (2). وسرعان ما أعادت المواليد الجديدة المساواة التقريبية بين الجنسين، وأصرت الزوجات على ألا يقاسمهن أحد في رجالهن. واستعاد السكان كثرتهم سريعاً، فما وافى عام 1700 حتى ارتفع عددهم ثانية إلى عشرين مليون من الأنفس. وبنيت مجدبورج من جديد، وبعثت الأسواق الحياة والنشاط في ليبزج وفرانكفورت-أم-مين، وخرجت همبورج وبريمن أقوى مما كانتا. على أن الصناعة والتجارة استغرقتا أكثر من مائة عام حتى تدركا مستواهما الذي كانتا عليه في القرن السادس عشر. فالسويديون والهولنديون يسيطرون على مصاب الأودر، والألب، والرين، والنقل بالمحيط يحدث ركوداً نسبياً في النقل البري،(33/68)
والطبقات الوسطى قد اضمحلت، ولم يعد يحكم المدن رجال الأعمال بل أمراء الأقاليم أو من ينوبون عنهم.
وكانت الحرب قد انتهت بكارثة على سلطة هابسبورج الإمبراطورية. ذلك أن فرنسا أذهلتها، وأذلت أسبانيا حليفة الإمبراطورية. وغدا الأمراء الألمان في مجموعهم أقوى من الإمبراطور فلهم جيوشهم، وقصورهم، وعملتهم، وهم يفصلون في سياساتهم الخارجية، ويؤلفون أحلافهم مع الدول غير الألمانية، بل ضد المصالح الإمبراطورية. وكان هناك نحو مائتي إمارة "زمنية" تستمتع الآن بهذا الاستقلال، وثلاثة وستون دويلة يحكمها رؤساء أساقفة أو أساقفة أو رؤساء ديورة يتبعون كنيسة روما الكاثوليكية، وإحدى وخمسون "مدينة حرة"، لا تخضع لغير الإمبراطور، وخضوعها لا يعدو أن يكون صورياً. واغتبطت فرنسا برؤية هذه الدويلات الألمانية الكثيرة بدلاً من ألمانيا الموحدة.
وكانت براندنبورج، إقليم الحدود الألماني، رمزاً على الإمبراطورية المحتضرة، وعلى ألمانيا جديدة تتخذ لها شكلاً جديداً. فهناك، وعلى منأى الإمبراطور، وفي مواجهة السويد وأمام جيش من الصقالبة، تعلمت أسرة هوهنزولرن أنه لا بقاء لدويلتهم إلا بمواردها وقوتها. ففي القرن العاشر كان هنري الصياد قد أقام "الحد الشمالي للسكسون" على طول الألب حصناً ضد الطوفان السلافي. وانتزع من الوند الصقالبة قلعتهم وعاصمتهم برنيبور (التي اشتق منها اسم براندنبورج) وردهم إلى الأودر. وظلت الأقاليم الواقعة بين الألب والأودور قروناً يتبادلها الألمان والصقالبة. ودخلت براندنبورج ساحة التاريخ دخولاً أنشط حين اشتراها فردريك هوهنزولرن، في 1411 - 17، هي وصوتها الانتخابي في الديت الإمبراطوري. ومن ذلك التاريخ حكم بيت هوهنزولرن براندنبورج حتى أصبحت بروسيا، وحكم بروسيا حتى تنازل القيصر فلهلم الثاني عن عرشه في 1918. وندر أن ارتبطت أسرة بدولة هذا الارتباط الطويل الوثيق، أو كرست نفسها لرفاهية أمة وتوسيع رقعتها بهذه الغيرة والفعالية. وعلى عهد الناخب جون سجسموند (1608 - 19) حصلت براندنبورج على دوقية كليف في الغرب ودوقية بروسيا الشرقية في الشرق، بحيث غدا(33/69)
إقليم الحدود بشيراً بمملكة بروسيا. إقليم الحدود بشيراً بمملكة بروسيا. وكان من أضعف أفراد الأسرة الناخب جورج وليم (1619 - 40)، الذي أدى تقلباته في حرب الثلاثين إلى تدمير براندنبورج على أيدي الجنود السويديين. فهجرت القرى والمدن، وخربت برلين، وكادت الصناعة تتلاشى، وهبط سكان إقليم الحدود من 600. 000 إلى 210. 0000 واستطاع فردريك وليم، الذيورث هذه التركة الخربة (1640)، أن ينجز خلال الثمانية والأربعين عاما التي حكم فيها، معجزة من معجزات التعمير والتنمية، حتى لقد اعترف له حتى معاصروه بلقب "الناخب الأكبر". ولولاه لما كان فردريك الأكبر (كما سلم بهذا فردريك الأكبر نفسه) (3).
كان يبلغ العشرين حتى ولي العرش-فتىً وسيماً، أسود الشعر، أسمر العينين، يشق طريقه إلى السلطة. كان قد نشئ على التقوى والنظام، وأكمل تعليمه في جامعة ليدن. وقد سبق بطرس قيصر الروس في إعجابه بالهولنديين وبشجاعتهم الصامدة وجدهم واجتهادهم، فاستقدم بذلك ألوفاً منهم ليعمروا وطن المتعطش للسكان. ثم حصل بمقتضى صلح وستفاليا على بومرانيا الشرقية (البعيدة)، وأسقفيتي ميندن وهالبرشتات، وألحق في وراثة رآسة أسقفية مجدبورج الهامة، وقد آلت إليه في 1680، واختتم فردريك وليم حكمه بملك مبعثر بدأ جهده ليصبح مملكة. وفي تاريخ مبكر-1654 - اقترح كبير وزرائه، الكونت جيورج فردريك الفالدكي، توحيد ألمانيا كلها تحت زعامة بيت هوهنزولرن (4). وبدا أن فردريك وليم هو الرجل الكفيل بتحقيق هذه الوحدة الحامية. فلما اعتنق أوغسطس القوي أمير سكسونيا الكاثوليكية ليصبح ملك بولندة فتح الطريق لألمانيا لتتولى الزعامة البروتستنتية-ولم تعترضه سوى قوة السويد.
ذلك أن معاهدات 1648 كانت قد تركت نقطاً استراتيجية هامة بألمانيا في قبضة السويد، وطالبت السويد بزعامة ألمانيا البروتستنتية استناداً غلى تضحياتها وانتصاراتها في حرب الثلاثين. فكيف تستطيع براندنبورج-بروسيا، بمكوناتها التي تحدق بها الدول المنافسة من أقصى ألمانيا إلى أقصاها، أن تبلغ من القوة والمنعة حداً يتيح لها الدفاع عن نفسها ضد تسلط السويد، أو تسلط سكسونيا، الدولة الموحدة(33/70)
المركزية السلطة؟ وبدأ فردريك وليم بخطو واردة هما أول دعامات الحكم الكفء، ثم جمع بالضرائب والإعانات الفرنسية المال الذي هو ثاني دعامات الحكم الكفء، وبالمال نظم جيشاً، هو ثالث دعامات الحكم الكفء، فما حل عام 1656 حتى كان له أول جيش دائم في أوربا-عدته ثمانية عشر ألف مقاتل شاكي للسلاح. وبهذه الوسيلة من وسائل الإقناع أقنع الولايات المكونة لدولته أن تدفع "اشتراكاً" سنوياً في نفقات الحكومة المركزية ببرلين، وبهذه الموارد أصبح مستقلاً عن سلطان المال في المجالس الإقليمية، وحقق ما كان في رأيه الشكل العملي الوحيد للحكومة في المرحلة الراهنة من مراحل التطور السياسي والفكري-وهو الحكم المطلق الممركز. وأعفى النبلاء من الضرائب المباشرة، ولكنه ألزم أبناءهم خدمته نبلاءً صغاراً "يونكر" في وظائف الجيش والإدارة العليا. وكره هؤلاء "الصغار" هذه الخدمة أول الأمر ولكنه خلع عليهم الثياب العسكرية الفاخرة والمركز الاجتماعي المرموق، ودربهم على الكفاية وعزة النفس، وربى فيهم "روح الفريق" التي حلت محل ولاءات النظام القديمة الإقطاعية، والتي جعلت الجيش خادماً لا لملاك الأراضي بل للحكومة. وهكذا بدأ الجهاز العسكري والاجتماعي الذي مكن لفردريك الأكبر أن يثبت لنصف أوربا، والذي أعد ألمانيا لخوض الحرب العالمية الأولى.
على أن فردريك وليم أعوزته صفة واحدة-هي عبقرية ملوك السويد الحربية. فقد ظل عشرين عاماً ينقل قوته من جانب الأجانب في صراعات السويد مع بولندة، والإمبراطورية مع فرنسا، حافظاً بالجهد كيانه بالدبلوماسية. ولكن حين غزا شارل الحادي عشر براندنبورج، برر جيش فردريك وليم وجوده بعزيمة السويديين في فيربللين (1675)، وهذا النصر هو الذي أكسبه لقب الناخب الأكبر. وفي خاتمة المطاف، ورغم سياساته المتقلبة وموارده الضيقة، أضاف لدولته أربعين ألف ميل مربع من الأرض.
بيد أن إصلاحاته الاقتصادية والإدارية كانت أهم-فبفضل حضه حسن الإشراف وسائلهم الزراعية وزادوا من غلة ضياعهم. وقد طور صناعة ناجحة للحرير بزرع أشجار التوت على نطاق واسع. وقلب الاتجاه إلى اقتلاع أشجار الغابات، فاشترط على الفلاحين أن يغرس(33/71)
كل منهم اثنتي عشرة شجرة قبل أن يتزوج. وصمم ومول شق قناة فردريك وليم لتربط نهري الأودر وسبري. ولما ألغى لويس الرابع عشر مرسوم نانت، أصدر الناخب الأكبر "مرسوم بوتسدام" (نوفمبر 1685) الذي دعا الهيجونوت المنكوبين للمجيء إلى براندنبورج-بروسيا والإقامة فيها، وبعث مندوبين ليوجهوا هجرتهم ويمولوها (5)، وجاء عشرون ألفاً، فكانوا مهمازا حفز الصناعة البروسية، وألفوا خمسة أفواج في الجيش البروسي. وكان فردريك وليم نفسه، كما كان سليله فردريك الأكبر، يكد ويكدح في الإدارة بهمة لا تني، وقد أرسي ذلك المبدأ الذي قبله بعد ذلك القيصر بطرس و "المستبدون المستنيرون" من حكام القرن الثامن عشر، ومؤداه أن على الملك أن يكون خادم الدولة المكرس. وقد أدرك أن التعصب الديني معطل للتطور الاقتصادي والسياسي، فتفرد في ألمانيا بأن سمح لشعبه بالبقاء على المذهب اللوثري في حين ظل هو على مذهبه الكلفني، ومنح الحرية الدينية للكاثوليك، والموحدين، واليهود.
ومات عام 1688 وقد بلغ الثامنة والستين. وكانت وصيته التي قسم فيها ولاياته العديدة بين أبنائه كفيلة بأن تمحو ما أحدثه حكمه من أثر موحد، لولا أن خلفه رفض الوثيقة واحتفظ بالسلطة المركزية. واكتسب هذا الخلف-وهو فردريك الثالث-مودة الإمبراطور ليوبولد الأول بالانضمام إليه ضد فرنسا، ومن أجل هذا، ومن أجل ثمانية آلاف مقاتل، منحه ليوبولد لقب" ملك بروسيا". وقد توج باسم فردريك الأول في كونجزبرج في 18 يناير 1701، وبدأت بروسيا مسيرتها نحو بسمارك والوحدة الألمانية.
ومن المفاخر التي ازدان بها سجل فردريك إنشاؤه جامعة هالي، ومفخرة أخرى تذكر له أنه عضد جهود زوجته الثانية في النهوض بلطائف الثقافة والفكر في برلين. وقد اشتعرت هذه الزوجة، واسمها صوفيا شارلوت، ابنه صوفيا ناخبة هانوفر، بأنها أجمل النساء وأذكاهن في ألمانيا. فجلبت إلى بلاط برلين من مقامها الطويل في باريس مزيجاً جذاباً من الثقافة والظرف. وبإلحاحها وإلحاح ليبنتز، أنشأ فردريك أكاديمية برلين للعلوم، التي قدر لها أن تصنع التاريخ في عهد فردريك الثاني. وبنى الناخب لزوجته (1696) القلعة أو القصر(33/72)
(شلوس) الشهير في الضاحية التي اتخذت اسمها، شارلوتنبرج. وتوافد على صالونها في قصر شارلوتنبرج العلماء والفلاسفة وأحرار الفكر واليسوعيين والقساوسة اللوثريين، وكانت شارلوت تحب أن تحفزهم لخوض المعارك اللاهوتية التي كانت أحياناً تستغرق الليل كله. هناك استوعبت زوجة أخيها، كارولين ملكة إنجلترا، العلم والفن اللذين ستجف لهما إنجلترا. فلما حضرت الوفاة شارلوت (إذا صدقنا رواية حفيدها فردريك الأكبر) رفضت عروض القساوسة الكاثوليك والبروتستنت على السواء بالصلاة من أجلها، وقالت لهم إنها تموت في سلام، وإنما تشعر بحب الاستطلاع أكثر من الرجاء أو الخوف، لأنها الآن ستشبع فضولها حول أصل الأشياء "الذي لم يستطع حتى ليبنتز أن يفسره لي قط"، وعزت زوجها الشديد الولع بالمراسم بقولها إن موتها "سيتيح له فرصة تشييعها بجنازة فخمة (6) ". لقد كانت صوفيا شارلوت واحدة من نساء كثيرات ذوات خلق وتعليم، جملن ألمانيا والقرن السابع عشر ينزلق إلى الثامن عشر.
أما بلاط برلين، وهو واحد من نيف وثلاثمائة بلاط أفنت آنئذ موارد الإمبراطورية، فلم يكن له من منافس سوى البلاط السكسوني. وقد خلف أوغسطس القوي، الذي حكم سكسونيا (1694 - 2733) باسم الناخب فردريك أوغسطس الأول، لأوربا رهطاً من الأبناء غير الشرعيين، ومنهم المارشال دي ساكس الشهير. وجعل عاصمته "أجمل مدينة في ألمانيا (7) " ومركز الفنون الصغيرة ومفخرتها، ولكن السكسون لم يستطيعوا أن يغفروا له ارتداده عن مذهبه، واستعماله أموالهم ورجالهم في حروب بولندة، وترف بلاطه الباهظ التكاليف.
وقد أسهمت إمارة هانوفر الناخبة في التاريخ هذه الحقبة بإيوائها ليبنتنر وضمها إنجلترا. وفي 1685، تزوجت صوفيا أميرة بالاتين المخلوعة، وابنه اليزابيث ستيوارت (ملكه بوهيميا)، من ارنست أوغسطس، الذي أصبح ناخب هانوفر. وقد أربك علمها الواسع زوجها، فقد كانت تتحدث خمس لغات بطلاقة تكاد تكون تامة، وتعرف من التاريخ الإنجليزي أكثر مما يعرفه السفراء الإنجليز في بلاطها. وظلت حيناً تحتفظ في هانوفر بصالون يؤمه العلماء والفلاسفة. ولكنها كانت تتحرق شوقاً للحصول على عرش إنجلترا لولدها جورج: كان(33/73)
دمها يختلج بالملوكية، لأنها لم تنس قط أنها حفيدة جيمس الأول. وفي 1701 قرر البرلمان الإنجليزي كما رأينا حق وراثة العرش لصوفيا و "ورثتها من دمها شريطة أن يكونوا من البروتستنت". وتأملت في سرور مشهد ولدها حين يصبح جورج الأول، وفي كدر مشهد زوجته صوفيا دوروتياً ملكة له، وتطلعت في هدوء إلى فسخ زواجهما. وأشبه جورج في أن تكون زوجته خانته مع الكونت فيليب فون كونجزمارك، فقتل بأمره، وطلق صوفيا دوروتياً، وسجنها من 1694 إلى أن ماتت في 1726. وفي غضون هذا ماتت الناخبة الأرملة في يونيو 1714 وقد بلغت الرابعة والثمانين، قبل أن يهبط تاج إنجلترا على رأس ولدها بشهرين فقط. وكذلك يتصرف إله الحظ العظيم، من عرشه الكلي الوجود، في المصائر والدول والرجال.
2 - الروح الألمانية
كان اصطراع الكاثوليكية والبروتستنتية على روح ألمانيا يخفف من غلوائه، لأن حرب الثلاثين جعلت من الأحقاد اللاهوتية "قياس خلف". وتحول إلى كنيسة روما في هذه الفترة بعض الأمراء البروتستنت، ومعظم الفضل في هذا لإقناع اليسوعيين لهم. وتفوقت الكلفنية على اللوثرية التي نزعت إلى الدجماطية السكسولاستية الجامدة. وانتقاضاً على هذه الشكلية قبل كل شيء، انتشرت الحركة "التقوية" التي حاولت أن تستبدل بالطقوس الخارجية روحاً باطنية من الوحدة مع الله. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر حمل جورج فوكس، ووليم بن، وروبرت باركلي، إنجيل طائفة "الكويكر" إلى ألمانيا، ولعل هذه الحركة التبشيرية شاركت في تطوير التقوية هناك، ونلاحظ إن كتاب فيليب يعقوب سبينر pia desideria (1675) صعد بعد زيارة بن الأولى بأربع سنوات. ذلك أن سبينر، بوصفه راعياً لكنيسة لوثرية في فرانكفورت-أم-مين، استكمل خدماتها بعبادات صوفية تؤديها اجتماعات خاصة (هيئات تقوية) في منزله. وقد أطلق اسم التقوى pietist، كلفظ البيورتان والمثودست، على هؤلاء العابدين نقادهم على سبيل السخرية، فقبلوه، وأصبح لهم شارة فخر متواضع. وتشبثوا في حرارة بآمال(33/74)
عصر السلام المرتقب (بعد مجيء المسيح) التي تعزت بها بعض الجماهير الألمانية خلال الحرب. ولم تكن فكرتهم عن المجيء الثاني للمسيح عقيدة لاهوتية غامضة، بل إلهاماً حاراً نشيطاً في حياتهم اليومية. ففي أي لحظة قد يظهر المسيح ثانية على الأرض، وسيهدئ صراع الأديان وينهي حكم القوة والحرب، وسيقيم "كنيسة روحية" خالصة، بغير تنظيم، ولا طقوس، ولا كهنة، تمارس في فرح مسيحية القلب السمحة الكريمة.
وواصل أوجست فرانكي الحركة تحدوه غير الأنبياء، وتأثرت نساء كثيرات بمسيحيته العملية وتطوعن في قضية التقوى الشخصية والبر العام. وبعد أن تأثرت الحركة بالبيورتانية الإنجليزية والهدوئية الفرنسية، أثرت بدورها في المثودية الإنجليزية والشعر الألماني، وأشعرت الناس بوجودها في أمريكا، حيث رحب بها كوتون ماذر برجاء فقال "إن العالم بدأ يشعر بدفء من النار الإلهية التي تضطرم على هذا النحو في قلب ألمانيا (8) ". ولكن التقوية كالبيورتانية آذت نفسها لأنها جعلت تقواها علنية ومحترفة، وتردت أحياناً في مهاوي الافتعال والرياء. فأغرقها في القرن الثامن عشر الطوفان العقلاني الذي تدفق من فرنسا.
وكان لانتصارات ريشليو، ومازاران، ولويس الرابع عشر، ولثراء البلاط الفرنسي وبهائه المتزايدين، أثر لا يقاوم في المجتمع الألماني خلال القرن التالي لصلح وستفاليا. وطغت النزعة العالمية حيناً على القومية. وسادت الأساليب الفرنسية قصور الملوك والأمراء في اللغة والأدب والغرام والعادات والرقص والفن والفلسفة والخمر والشعور المستعارة. ولم يتكلم الأرستقراطيون الألمان إلا بالألمانية إلا مع الخدم فقط. وكتب المؤلفون الألمان بالفرنسية للطبقات العليا أو باللاتينية للعالم المثقف. واعترف ليبنتنر، الذي كانت معظم كتاباته بالفرنسية، بأن "العادات الألمانية تحولت قليلاً إلى الأناقة والأدب" بالقدوة الفرنسية، ولكنه حزن على حلول اللغة والعبارات الفرنسية محل الحديث الألماني، أو التسرب إليه (9).(33/75)
ولم يعش من كتب هذا العهد الألمانية سوى كتاب واحد باسمه "سمبلسيوي سمبليسيسيموس" (1669) بقلم هانز فون جريملز هاوزن. وهو من حيث الشكل سيرة متشرد ذاتية، ذات أحداث مترابطة، لميلكيور فون فوشهايم، وهو إنسان ربع أحمق، وربع فيلسوف، ونصف وغد. أما من حيث الروح فهو هجاء فكه متشائم يهجو ألمانيا التي خلفتها ثلاثون عاماً من الحرب بين الحياة والموت. ويبدأ ميلكيور هذا ربيباً لفلاح يصف المؤلف حياته في عبارات مهذبة فيقول: -
"كل سيدي يملك الغنم والماعز والخنازير بدلاً من الأتباع والخدم والسياس، وكانت كلها تتبعني في السباق حتى أسوقها إلى البيت. أما مخزن ذخائره فعامر بالمحاريث، والمعاول، والبلط، والفئوس، والمجاريف، ومذاري الروث والدريس، التي كان يمارس استعمالها كل يوم، لأن العزق والحفر هما تدريبه العسكري ... واستخراج السباخ هو علم التحصينات عنده، وإمساك المحراث علم الاستراتيجية، وتنظيف الأسطبل تسليته ومباراته الفروسيتان (10) ".
ولكن جماعة من الجند تسطو على هذا الفردوس الريفي، وتعذب الأسرة لتكرهها على البوح بسر مؤن مختزنة لا وجود لها. ويهرب ميلكيور ويلتجئ إلى ناسك عجوز يلقنه أول دروسه اللاهوتية. فإذا سئل عن اسمه أجاب "وغد أو رد مشانق" لأنه لم يسمع أحداً يدعوه إلا بهذا الاسم، أما اسم متبنيه، جرياً على القاعدة ذاتها، فهو "صعلوك، وبلطجي، وكلب مخمور". ويقبض عليه الجند، فيأخذونه إلى قصر حاكم هاناو، وهناك يدرب على أن يكون مهرجاً، ويطلق عليه اسم سمبليسيوس سمبليسيسيموس. ثم يختطف، ويصبح لصاً، ويعثر على كنز مخبوء، ويصبح جنتلماناً، ويغوي فتاة، ويكره على زواجها، ثم يهجرها، ويعتنق الكاثوليكية، ويزور قصبة الدنيا، ويخسر ثروته، ويعوضها بالشعوذة والتدجيل، ثم يضنيه طول التجوال، فيعتكف ليحيا حياة ناسك كشف حقيقة الدنيا وخداعها. هذه "كانديد" أولى سابقة على قصة فولتير بقرن، والفرق أن هجاءها تلطف منه الفكاهة الألمانية، ولا يجمله الذكاء الفرنسي. وندد النقاد بالكتاب، وأصبح من عيون الأدب، وأشهر ثمار الأدب الألماني بين لوثر وليسنج.(33/76)
على أننا لا يجب أن نتقبله صورة منصفة لألمانيا في الجيل التالي للحرب. فربما كان الألماني شديد الولع بالشراب، ولكنه احتفظ بروح فكاهته الفوار حتى في كئوس شرابه، وربما وصفته زوجته بالكلب المخمور، ولكنها أحبته لأنها لم تجد خيراً منه، وربت أبناءه تربية قوية متينة. وربما كان في ألمانيا ذلك العصر من الخلق السليم أكثر مما كان في فرنسا. وآية ذلك أن شارلوت اليزابيث المسكينة، أميرة بالاتين (1671) التي تزوجت على غير رغبتها بـ "المسيو" فليب أورليان أرمل "مدام" هنرييتا المنحرف جنسياً، لم تسل قط جمال هيدلبرج الهادئ، وبعد أن عاشت ثلاثة وأربعين عاماً عيش غير مريح مع ترف البلاط الفرنسي، لم تفتأ تتوق إلى "صحن طيب من الكرنب والسجن المدخن" مؤثرة إياه كثيراً على ما تقدمه باريس أو فرساي من قهوة أو شاي أو كاكاو (11). ويدلنا وفاؤها الرواقي لزوجها الحقير، وصبرها على الملك أخي زوجها الذي أمر أو أذن بتدمير بلاتينات، على أنه-حتى وسط خرائب ألمانيا-وجدت نساء استطعن أن يعلمن اللياقة والإنسانية للملوك المعطرين، الموشحين، المطرزين، اللابسين البواريك.
3 - الفنون في ألمانيا
ثم إن هذا العصر كان من أكثر العصور إنتاجاً في العمارة الألمانية، على عكس كل التوقعات المعقولة، فقد شهد أول تفتح للباروك الألماني، الذي خلع واجهة جديدة من الفتنة والبهجة على كارلسروهي، ومانهايم، ودرسدن، وبايرويت، وفرتسبورج، وفيينا. وكان زمان البنائين أمثال يوهان فيشر فوخ ايرلاخ، ويعقوب برانتاور، ويوهان وكيليان وكريستوف دينتسنهوفر، وأندرياس شلوتر، الذين كانت أسماؤهم خليقة بأن تشتهر بين الشعوب الناطقة بالإنجليزية اشتهار رين واينيجو جونز، لولا سجن الحدود وبلبلة الألسن. على أن ما خلفوه دمر بعضه في غزوات الجيوش الفرنسية لألمانيا (1689)، وبعضه في الحرب العالمية الثانية (12). إن التاريخ سباق بين الفن والحرب.
وارتفعت كنائس جميلة وسط الفقر والخراب. ويشين سجلنا هذا ألا نشير فيه إشارة ولو عابرة لكتدرائية يوهان دينتسنهوفر في فولدا أو(33/77)
كنيسة ديره في بانتز، أو لأشغال كريستوف وكيليان دينتسنهوفر في كنيستي القديسين نيقولا ويوحنا في براغ. وفي 1663 بدأ المعماري الإيطالي أجوستينو باريللي قصر نيمفينبورج خارج ميونيخ، وأكمل يوسف افنر داخله في مزيج موفق من العمد الكلاسيكية والزخرف الباروكي. لقد كانت الزينة هي الإغراء المتسلط على الباروك، واستعملت بإسراف في الفستزال أو صالة الاحتفالات في شلوس برلين، وفي جناح قيصر زفينجر الذي بناه في درسدن متاوس دانيال بوبلمان لأوغسطس القوي، هنا تحول الباروك إلى روكوك جميل أنسب لداخل مخدع منه لواجهة قصر. وقد تهدم معظمه في الحرب العالمية الثانية، وكذلك شلوس شارلوتنبورج وشلوس برلين، وهو القصر الملكي الذي بدأه أندرياس شلوتر في 1698.
أما أبرز المثالين الألمان في هذا العصر فهو شلوتر. فقد انتشت ألمانيا كلها بتمثال الفارس الراكب الذي صنعه للناخب الأكبر Der Grosse Kurfurst والذي لم تنل منه كل قنابل الحرب، والذي يرتفع الآن في ميدان شارلوتنبورج خارج برلين. وفي كونجزبرج أقام شلوتر تمثالاً لفردريك الأول عقب تتويجه ملكاً لبروسيا، لا يقل روعة عن التمثال المذكور. ونحت يوليوس جليسكر رأساً للعذراء مريم، حزينة في صمت، لمجموعة تماثيل للمسيح المصلوب في كتدرائية بامبرج. وأظهر نقاشو الخشب مهارتهم في مقاعد المرتلين الرائعة في كلوستركيرشي بسيليسيا، ولكنهم غالوا في الأثاث المنقوش نقشاً مسرفاً والذي أمر بصنعه سادة فيهم من التفاخر أكثر مما فيهم من الذوق السليم.
ولم ينجب التصوير الألماني روائع في هذه الفترة، إلا إذا حسبنا من الروائع صورة ساحرة بريشة كريستوف بارديزو تسمى "شاب ذو قبعة رمادية (13) ". وقطع النسيج المرسوم التي صممها رودلف بيس لقصر فورتسبورج من أبدع القطع. واشتهرت بلدة فارمبرون-ينابيع سيليسيا الحارة-بزجاجها المصقول، وروجت درسدن استعمال "صيني درسدن". وكان أوغسطس القوي كذلك "ملك القاشاني"، وحين عشر على أنواع مناسبة من الطفل قرب مايسين، أقام بها(33/78)
(1709) القمائن التي أنتجت أول خزف (برسلان) صلب في أوربا.
على أن الموسيقى هي التي وجدت فيها الروح الألمانية أبرز تعبير لها، وكان هذا العدد بمثابة العشية التي بزغ بعدها صبح يوهان سبستيان باخ. أما الأشكال والآلات فجاءت من إيطاليا، ولكن الألمان سكبوا فيها عاطفتهم الرقيقة وتقواهم الضخمة. فبينما تفوقت إيطاليا في اتساق الأصوات، وفرنسا في الإيقاع الرشيق، تقدمت ألمانيا إلى مكان الصدارة في الليدة (الأغنية الألمانية)، وموسيقى الأرغن، والكورال. وفي ألحان ج. ف. كريجر المسماة "12 سوناتا بكمانين" (1688) نجد متتالية السوناتا قد أرسيت فعلاً في ثلاث حركات-الالليجرو (الأعجل)، واللارجو، (البطيء جداً)، والبريستو (السريع). وكانت موسيقى الآلات، المتطورة من رقصات (كالبافان، والسربنده، والجافوت، والجيج الخ) تعلن استقلالها عن الرقص والصوت جميعاً.
وكان الطلب على الموسيقيين الإيطاليين لا يزال كبيراً في ألمانيا. فملك كافاللي على ميونيخ، كما ملك من بعده فيفالدي على دارمشتات. واستوردت الأوبرا الإيطالية، وعرضت أول عرض لها في ألمانيا بتورجاو (1627)، وتلت ذلك عروض أخرى في ريجنسبورج، وفيينا، وميونيخ. وكانت أول أوبرا ألمانية ( Singspiel) هي "آدم وحواء" من تلحين يوهان تايلي، وقد أخرجت بهامبورج في 1678، ومنذ ذلك التاريخ ظلت هامبورج تتزعم الأوبرا والدراما الألمانيتين طوال نصف قرن. هناك أنتج هندل "الميرا" و "نيرون" في 1705، و "دافني" و "فلورندا" في 1706، قبل أن يذهب لغزو إنجلترا. والاسم الكبير في الأوبرا الألمانية في ذلك العهد هو راينهارد كايزر، الذي أنتج 116 أوبرا لفرقة هامبورج.
وبعد 1644 انتزع المؤلفون الألمان مكان الصدارة من الإيطاليين في التأليف للأرغن والكنيسة. وعبرت ترانيم بأول جرهارت عن عقيدته اللوثرية العنيدة. وسيطر يان راينكن على الأرغن في كنيسة "كاتريننكرشي" بهامبورج من 1633 حتى وفاته عام 1722 في(33/79)
الحادية والتسعين. وأصبح ديتريش بوكستيهودي، المولود بالدنمرك، عازف الأرغن في كنيسة مارينكريشي بلوبيك في 1668، واشتهرت حفلاته هناك، لا سيما حفلات "موسيقى المساء" التي جمعت بين الأرغن والأوركسترا والخورس، وذاع صيتها حتى أن باخ الكبير كأن يمشي خمسين ميلاً من آرنشتات إلى لوبيك ليسمعه وهو يعزف (14). وقد عاش نحو سبعين من الألحان التي وضعها للأرغن، وكثير منها ما زال يعزف، وقد أسهمت ألحانه الكورالية في تكوين أسلوب يوهان سبستيان. وسبق يوهان كوناو باخ عازفاً على الأرغن في كنيسة توماسكرشي بليبزج، وقد طور السوناتا للكلافير، ولحن ألحاناً ( Partien) من نوع متتاليات باخ.
وأخذت أسرة باخ تدخل الآن عالم الموسيقى في خصوبة مذهلة. وقد وصل إلى علمنا أسماء نحو أربعمائة من آل باخ بين 1550 و1850: كلهم موسيقيون، وستون منهم يشغلون مراكز هامة في دنيا الموسيقى في زمانهم. وقد ألفوا نوعاً من النقابة العائلية التي تجتمع دورياً في مقارهم بأيزيناخ، أو آرنشتات، أو ارفورت. وهم يؤلفون بلا جدال أكبر وأشهر أسرة في التاريخ الثقافي، ويثيرون الإعجاب لا لكثرة عدهم فحسب، بل لإخلاصهم لفنهم، ولثبات في الهدف جرماني صيل، ولغزارة إنتاجهم وقوة تأثيرهم. ولم تبرز أسماؤهم في الحوليات الموسيقية إلا في جيلهم الخامس، بظهور يوهان كرستوف ويوهان ميكائيل باخ، ابني هينريش باخ، عازف الأرغن في آرنشتات. وكان يوهان كرستوف كبير عازفي الأرغن في ايزناخ طوال ثمان وثلاثين سنة، رجلاً بسيطاً، جاداً، مدققاً في عمله، درب فرق الترتيل ولحن للأرغن وللأوركسترا. وأصبح أخوه يوهان ميكائيل عازف الأرغن في جيرين في 1673، وظل هناك حتى مات في 1694، وأعطى خامس بناته زوجة أولى ليوهان سبستيان. وكان لكريستوف باخ أخي هيزيش، وعازف الأرغن في فيمار، ابنان كانا عازفي كمان، وأحدهما وهو أمبروزيوس كان أبا يوهان سبستيان. أما يوهان باخ، أخو هينريش وكرستوف، فكان عازف الأرغن في ايرفورت من 1647 إلى 1673، حين خلفه ابنه يوهان كرستيان باخ، الذي خلفه في 1682 أخوه يوهان اجيديوس باخ. وكأن قوى الطبيعة كلها وجهت لتنجب وتعد يوهان سبستيان باخ.(33/80)
4 - النمسا والأتراك العثمانيون
إن في فيينا اليوم من الجمال ما يصعب معه علينا أن نتصور حالها عقب حرب الثلاثين، صحيح أن النمسا لم تقاس ما قاسته ألمانيا من ويلاتها، ولكن خزانتها نضبت، وجيوشها تهلهلت، وهبط صلح وستفاليا بسمعة الأباطرة وقوتهم. على أن ظرفاً واحداً كان في صفها. ذلك أن ليوبولد الأول خلف أباه فرديناند الثالث على العرش الإمبراطوري في 1658 وظل متربعاً عليه طوال سبعة وأربعين عاماً، ومع أن هذا الحكم الطويل سمع العثمانيين يقرعون أبواب فيينا مرة أخرى، فإن النمسا أخذت تفيق من كبوتها سريعاً. وكان ليوبولد ملكاً على الإمارات الألمانية اسماً لا فعلاً، ولكنه كان الملك الفعلي لبوهيميا وغربي المجر، وكان يحكم دوقيات استيريا، وكارنثيا، وكارنيولا، وكونتية التيرول. ولم يكون بالحاكم العظيم، كان يكد ويكدح بشعور الواجب في الإدارة وتشكيل السياسة، ولكنه افتقر إلى الرؤية البعيدة التي أوتيها أسلافه من آل هابسبورج، فلم يرث منهم غير لاهوتهم وشكل ذقونهم. وكان قد درب أصلاً للكهانة، ولم يفق قط حبه لليسوعيين، أو ينحرف كثيراً عن إرشادهم. ومع أن أخلاقه الشخصية كانت نقية لا عيب فيها، فإنه قبل المبدأ الذي يحتم جعل جميع رعاياه كاثوليكاً، ونفذ سياسته بأوتقراطية صارمة في بوهيميا والمجر. وكان ميالاً إلى السلم، ولكنه أكره أو سيق إلى سلسلة من الحروب بسبب اعتداءات لويس الرابع عشر والعثمانيين. وقد وجد فيهما بين عمليات إراقة الدماء هذه وقتاً للشعر والفن والموسيقى، ألف الموسيقى بنفسه، وشجع الأوبرا في فيينا، فعرضت بها أربعمائة أوبرا جديدة في السنين الخمسين التالية لاعتلائه العرش. ويدلنا نقش يرجع إلى عام 1667 على أن المدينة كانت تملك دار أوبرا فخمة، ذات ثلاثة صفوف من الألواج، وكل مقعد فيها مشغول. وهكذا نرى أن هذه الدعامة المبهجة للغناء قديمة جداً.
وعلينا أن ننظر إلى النمسا في هذا العصر على أنها المدافع عن الغرب ضد تركيا المنبعثة من جديد، المعذبة بعداء أشد حكام الغرب بأساً، فقد عاق صراع العالم المسيحي مع العالم الإسلامي وشوشه ذلك النزاع القديم بين الهابسبورج وفرنسا. وزادت المجر المشكلة تعقيداً، لأن ثلثها(33/81)
الغربي فقط هو الذي خضع لحكم الإمبراطور، وكان جزء منه بروتستنتياً يتوق إلى التحرر. وكان للمجريين مشاعرهم القومية الخاصة بهم، والتي يغذوها أدبهم وما توارثوه من تقاليد يعتزون بها عن هونيادي يانوس وماتياس كورفينوس، وكان ميكلوس زريني قد نشر قبيل هذه الفترة (1651) ملحمة تفيض بحب الوطن. وكان المجريون الذين أهانهم وظلمهم الحكم النمساوي والتسلط الكاثوليكي تحدثهم نفوسهم بالترحيب بالعثمانيين حين قرر هؤلاء محاولة فتح المجر كلها.
وقد أوقفت سلسلة من الوزراء العثمانيين الأقوياء اضمحلال تركيا، وعاودوا إرهاب الغرب. ومن علامات الانتعاش إن شاعراً تركياً فحلاً اسمه "نبي" راح يتغنى بمديح الوزراء الذين أعقدوا عليه المال، علامة أخرى أن المال والوذوق والورع التركي-كلها تضافرت لتشيد جامع ييني-وليدي البديع في اسطنبول (1651 - 80). وعين السلطان محمد الرابع محمد كوبريلي صدراً أعظم (1656)، استهل وهو في السبعين من عمره نصف قرن من الحكم تربعت فيه أسرته الألبانية على دست الوزارة، ولم يدم استيزاره أكثر من خمس سنوات، ولكن في هذه الوزارة الخماسية أعدم بأمره 36. 000 شخص لجرائم تتفاوت من السرقة إلى خيانة الدولة، وكان كبير جلاديه يشنق ثلاثة كل يوم في المتوسط. وأكره الخوف من العقاب المفسدين في الإدارة ودساسي الساسة في الحريم على الاعتدال، وأعيد النظام إلى الجيش، وخفف باشوات الولايات من استقلالهم واختلاساتهم. فلما تمرد جورج راكوكزي الثاني، أمير ترانسلقانيا، على السيادة العثمانية، اكتسح كوبريلي حركة التمرد بجيش يقوده بنفسه، وخلع راكوكزي، وفرض على البلاد تعويضاً باهظاً، وزاد الجزية التي تدفعها ترانسلقانيا للسلطان سنوياً من خمسة عشر ألف فلورين إلى خمسين ألفاً.
وخلف هذا السبعيني الرهيب في الوزارة ابنه أحمد كوبريلي. فلما نشبت ثورة أخرى في ترانسلقانيا بقيادة يوحنا كيمينيي، عززها ليوبولد بعشرة آلاف مقاتل يقودهم قائد فذ من قواد ذلك العصر هو الكونت الإيطالي ريموندو دي مونتيكوكولي. ورد أحمد بالزحف بجيش عدته 120. 000 مقاتل تحت قيادته حاول به استكمال فتح المجر. وطلب ليوبولد المعونة، واستجابت الولايات الألمانية، البروتستنتية(33/82)
والكاثوليكية على السواء، بالمال والرجال، وأسهم لويس الرابع عشر بأربعة آلاف جندي بعد أن تخلى عن تحالفه مع العثمانيين. ولكن المقاومة بدت أمراً ميئوساً منه حتى بعد هذا كله، وتوقعت أوربا سقوط فيينا، واستعد ليوبولد للرحيل عن عاصمته. وكانت قوات مونتيكوكولي أقل كثيراً من قوات العدو ولكنها أفضل تزوداً بالمدافع. ولم يجرؤ على لقاء الترك في أرض مكشوفة تعطي ميزة للكثرة العددية، فناورهم ليحاولوا عبور نهر رابا عند زنتجوتهارد، على نحو ثمانين ميلاً جنوبي فيينا، وهاجم كل كتيبة تركية بمجرد وصولها إلى ضفة النهر اليسرى. وكتب النصر لإستراتيجته، وللبطولة الفذة التي قاتل بها أفراد الفرقة الفرنسية (أول أغسطس 1664)، في معركة أنقذت أوربا مرة أخرى من أن يغرقها طوفان المسلمين.
ولكن، كما ترك انتصار ليبانتو قبل قرن من الزمان (1571) العثمانيين محتفظين بقوتهم مفيقين بسرعة من كبوتهم، فكذلك اضطر الإمبراطور، بسبب قدرتهم على تعويض خسائرهم، وجيشهم الذي ما زال محتفظاً بضخامته، وعدم ثقة ليوبولد بحلفائه التواقين إلى العودة لأوطانهم-اضطر إلى أن يبرم مع السلطان هدنة تمتد عشرين عاماً (10 أغسطس 1664)، ترك بمقتضاها معظم المجر تحت حكم الترك، واعترف فيها ليوبولد بالسيادة التركية على ترانسلقانيا، ودفع للسلطان "هدية" بلغت 200. 000 فلورين. أما أحمد كوبريلي، الذي خسر المعركة وكسب الحرب، فقد عاد إلى القسطنطينية مكللاً بالغار.
وأنهى هجوم لويس الرابع عشر على الأراضي المنخفضة (1667) مؤقتاً اتحاد العالم المسيحي ضد الترك. وفي 1669 تولى أحمد قيادة الحصار الطويل لكريت، وأكره البنادقة على تسليم الجزيرة، وسيطر الأسطول التركي مرة أخرى على البحر المتوسط. ولم يشعر حاكم غير يوحنا سوبيسكي، ملك بولندة، بأن لديه من الرغبة القوية ما يغريه بقهر تركيا. وقد أعلن عن هدفه في شجاعة فقال إن "مقارعة الهمجي غزواً بغزو، ومطاردته من نصر إلى نصر، على ذلك الحد نفسه الذي لفظه من أوربا ... والقذف به إلى موطنه في الصحاري، وإبادته، وإقامة إمبراطورية بيزنطية على أنقاضه، هذه المغامرة(33/83)
وحدها هي الجديرة بأن تسمى مسيحية، إنها دون غيرها السامية الحكيمة (15) ". ولكن ليوبولد شجع الترك على مهاجمة بولندة، ولويس حرضهم على مهاجمة ليوبولد (16).
ومات أحمد كوبريلي في 1676 وقد أنهك قواه وهو بعد في الحادية والأربعين الكثير من الهزائم الرائعة، بعد أن خسر "معارك فاصلة" ومد الأملاك التركية إلى أوسع مداها الأوربي. وخلع السلطان محمد الرابع منصب الوزارة على صهره قره مصطفى، الذي أبهج لويس الرابع عشر بوعده بتجديد الحرب على النمسا (17). وشج قره نشوب ثورة (1678) قام بها الوطنيون المجريون بزعامة امري توكولي، الذي ساءه قمع النمسا العنيف للروح القومية وللبروتستنتية في المجر النمساوية، حتى حمله هذا على عرض الاعتراف بالسيادة التركية على جميع أرجاء المجر إذا دعم الأتراك ثورته. أما ليوبولد فقد أقلع بعد فوات الوقت، عن سياسة القمع وأعلن التسامح الديني في المجر. وأرسل لويس الرابع عشر المدد المالي إلى توكولي (18)، ووعد سوبيسكي بالاستيلاء على سيليسيا والمجر إذا ربط بيو بولندة وفرنسا في حلف ضد الإمبراطور. أما ليوبولد فلم يكن في وسعه أن يعد سوبيسكي بأكثر من أرشيدوقة عروساً لابنه، وبتعهد بتأييد جهود سوبيسكي لجعل العرش البولندي في فرعه من الأسرة المالكة. ولسنا نعرف على التحقيق دوافع الملك إلى المبادرة بمساعد النمسا على العثمانيين، وكل ما نستطيعه أن نقول إنها كانت من أعجب وأخطر الأحداث في التاريخ الحديث.
وأحس قره مصطفى أن الخصومات بين الهابسبورج والبوربون، وبين الكاثوليكية والبروتستنتية، تتيح له فرصة الاستيلاء على فيينا، وربما على أوربا بأسرها. وكان الترك يفاخرون بأنهم حولوا القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية قلعة إسلامية في القرن الخامس عشر، وحولوا كنيسة القديسة صوفيا جامعاً، فكذلك أعلنوا الآن أنهم لن يقفوا حتى يفتحوا روما ويربطوا خيلهم في صحن كنيسة القديس بطرس (19). وفي 1682 حشد قره مصطفى في أدرنة قواته ومؤنه التي أتته من الجزيرة العربية والشام والقوقاز وآسيا الصغرى وتركية أوربا، وتظاهر أنه يخطط للهجوم على بولندة. وفي 31 مارس 1683(33/84)
وبدأ السلطان والصدر الأعظم زحفهما الطويل على فيينا. وكان الجيش كلما تقدم يضم إليه الإمداد من كل ولاية تركية في طريقه، فانضمت إليه فرق من الأفلاق، وملدافيا، وترانسلقانيا، حتى إذا بلغ أوسييك (اسزيك) على الدرافا كان يعد 250. 000 مقاتل، ويحوي بين صفوفه الإبل والفيلة والمؤذنين والأغوات والحريم (20). هناك أذاع توكولي إعلاناً دعا فيه المسيحيين المحيطين بالمنطقة إلى عدم الهجوم على النمسا، وأمنهم على حياتهم وأملاكهم، ووعدهم بحرية العبادة في حمى السلطان. ففتح الكثير من المدن أبوابه للغزاة.
وعاد ليوبولد يستغيث بالإمارات الألمانية ولكنها تباطأت. ووضع جنوده البالغ عددهم 40. 000 تحت إمرة شارل الخامس دوق اللورين، الذي وصفه فولتير بأنه أنبل أمير في العالم المسيحي (21). وترك شارل حامية من 13. 000 رجل في فيينا، ثم تقهقر إلى تولن، حيث انتظر وصول البولنديين. وفر ليوبولد إلى باساو، ولامه شعبه لأنه لم يعد عاصمة ملكه للحصار المرتقب منذ زمن طويل. فلقد كانت حصونها مهدمة، وحاميتها لا تبلغ عشر العدد الزاحف. وفي 14 يوليو ظهر الأتراك أمام المدينة. وبعث ليوبولد إلى سوبيسكي يرجوه أن يأتي فوراً قبل أن تصل مشاته البطيئة الحركة قائلاً "إن اسمك وحده، الذي يرهبه العدو كثيراً، كفيل بالنصر (22) ". وأقبل سوبيسكي بثلاثة آلاف فارس. وفي 5 سبتمبر وصلت مشاته وعدتهم 23. 000 مقاتل. وبعد يومين وصل 18. 000 مقاتل من الولايات الألمانية، فأصبح عدد جيش المسيحيين الآن 60. 000. ولكن فيينا كانت آنذاك تتضور جوعاً، وقلاعها تتهاوى تحت نيران المدفعية التركية، فما هو إلا أسبوع آخر من الحصار حتى تسقط المدينة.
وفي صباح 12 سبتمبر الباكر، هاجم المسيحيون-الذين كانوا الآن تحت قيادة سوبيسكي العليا-الأتراك المحاصرين. ولم يكن قره مصطفى يصدق أن البولنديين آتون، ولا أن القوات المسيحية ستهجم أولاً، فلقد رتب كل شيء للحصار لا للمعركة، وزين ضباطه خنادقهم، بقطع النسيج المرسوم والقرميد، أما هو فزود خيمته بالحمامات، والنافورات، والحدائق، والمحظيات. وأخذ خيرة جنده على غرة في خنادقهم، فمزقوا إرباً إرباً. وشاعت الفوضى في جيشه(33/85)
المخلط الذي جمعه من ولايات لا يثير حماستها ولاء السلطان البعيد، أمام المسيحيين الذين ألهمهم الشعور بأنهم ينقذون أوربا والمسيحية. وبعد ثماني ساعات قطع الظلام القتال. فلما بزغ الفجر الجديد وجد المسيحيون الذين ما زالوا غير واثقين من النصر-لشدة فرحهم-أن الأتراك قد لاذوا بالفرار مخلفين وراءهم 10. 000 قتيل ومعظم معدات الجيش في المعسكر. أما المسيحيون ففقدوا 3. 000 رجل.
وأراد سوبيسكي أن يطارد الترك، ولكن الجنود البولنديين رجوه أن يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم بعد أن أدوا مهمتهم. ودخل الملك الظافر فيينا وكتدرائيتها ليقدم الشكر لله، وفي طريقه هتف له الشعب العارف بصنيعه منقذاً من السماء، وناضل أفراده ليلمسوا ثوبه ويقبلوا قدميه (23)، وأحسوا أنه ما من شيء في سجل الفروسية يفوق مأثرته تلك. فلما عاد ليوبولد إلى عاصمته (15 سبتمبر) لم يلق غير استقبال فاتر من أهلها. وسأل معاونيه هل حدث أن استقبل إمبراطور مجرد ملك منتخب، وما المراسم التي يجب إتباعها في هذه الحالة. وتباطأ في لقاء سوبيسكي، وأخيراً حياه شاكراً له صنيعه شكراً متواضعاً، وقد توجس ما أن يكون الدافع للبطل في رغبته في مطاردة الترك خطة لاقتطاع مزيد من الملك لنفسه ولأسرته (24). فلم تبدأ المطاردة إلا في 17 سبتمبر، ولم يلتحم الجيش بالترك المتقهقرين إلا بعد ذلك بعشرة أيام. وعند باركاني، قرب الدانوب، أحرز سوبيسكي وشارل انتصاراً حاسماً آخر. ثم قاد الملك جيشه عوداً إلى بولندة بعد أن أنهكه السير والقتال والدوزنتاريا، فدخل كركاو في ليلة ميلاد 1683. وفي اليوم التالي أعدم السلطان قره مصطفى.
وألفت النمسا وبولندة والبندقية، بإلحاح البابا إنوسنت الحادي عشر، عصبة مقدسة لمواصلة الحرب ضد الترك (1684). وفتح فرانشسكو موروزيني المورة (البلوبونيز) للبندقية، وفي 1686 حاصر أثينا واستولى عليها في 28 سبتمبر، وأثناء هذا الحصار دمرت مدفعيته البروبيلايا والبارتينون، اللذين استعملهما الأتراك مخزناً لبارودهم. وقد استعاد الترك أثينا وأتيكا في 1688، والمورة في 1715. وفي غضون هذا هزم شارل اللوريني الترك في جران (ازترجوم) في 1685، وفي السنة نفسها، وبعد عشر أيام من(33/86)
الحصار، استولى على بودا-عاصمة المجر القديمة-التي كانت في قبضة الأتراك منذ 1541. وفي 1678 قاد شارل القوات النمساوية إلى النصر في هاركاني، قرب موهاكس، حيث استهل انتصار سليمان القانوني عام 1526 عصر التفوق العثماني. وأنهت معركة "موهاكس الثانية" هذه سلطة الأتراك في المجر، التي أصبحت الآن ملكاً للملكية النمساوية. واعترفت ترانسلقانيا بسيادة الإمبراطور الهابسبورجي، وأدمجت (1690) في الإمبراطورية النمساوية-المجرية. وفي 1688 استولى ماكس ايمانويل البافاري على بلغراد. وأعلن ليوبولد أن الطريق أصبح الآن مفتوحاً غلى القسطنطينية، وأنه قد آن الأوان وواتت الفرصة لطرد الأتراك من أوربا.
ولكن لويس الرابع عشر خف لنجدتهم. ذلك أن حرب البوربون مع الهابسبورج كانت في نظر ذلك "الملك المسيحي جداً" أهم من الصراع بين المسيحية والإسلام. وكان يرقب في غيرة متزايدة انتصارات العصبة المقدسة واتساع ملك الهابسبورج وعلو مكانتهم. وفي 1688، استأنف حربه مع الإمبراطور، ضارباً صفحاً عن إبرامه هدنة عشرين عاماً معه قبل ذلك بأربع سنين فقط، وأرسل جيشاً إلى البالاتينات. فأرسل ليوبولد شارل وماكس ايمانويل لملاقاة الهجوم على الراين، وتوقف الزحف على الترك، وتجدد الهجوم التركي.
واستوزر السلطان الجديد، سليمان الثاني، رجلاً آخر من أسرة كوبريلي هو مصطفى أخو أحمد. وهدأ مصطفى خواطر المسيحيين في تركية أوربا بتوسيعه حرية العبادة، ونظم جيشاً جديداً، واستولى على بلغراد من جديد (1690). ولكنه قتل بعد سنة، ودحر الأتراك عند سلانكامين. وتولى السلطان مصطفى الثاني قيادة الجيش بشخصه، ولكن المسيحيين هزموه في سنتا (1697) وكان يقودهم أوجين أمير سافوي. وطلب مصطفى الصلح، وأبرم ليوبولد معاهدة كارلوفتز (1699) مع تركيا وبولند والبندقية، مغتبطاً لأن يده أطلقت في محاربة لويس. ونزلت تركيا عن كل دعاواها في ترانسلقانيا والمجر (فيما عدا "بنات" تيميسفار) ونزلت عن غربي أوكرانيا لبولندة، وسلمت المورة ودلماشيا الشمالية للبندقية. واحتفظت بالبلقان كله-دلماشيا الجنوبية، والبوسنة، والصرب، وبلغاريا،(33/87)
ورومانيا، ومعظم اليونان، ولكن المعاهدة عينت نهاية الخطر التركي على العالم المسيحي.
ترى ما الذي هوى بقوة العثمانيين من أوجهاً أيام سليمان القانوني؟ ليس كالنجاح شيء يتعرض للسقوط. لقد كانت فرص المتعة التي أتى بها النصر والثورة شديدة الإغراء، فبدد السلاطين في الحريم ما كانوا في حاجة إليه من طاقة وهمة لضبط الجيش والموظفين والوزراء. واتسعت دولتهم اتساعاً حال دون إدارتها إدارة فعالة، ودون سرعة توصيل الأوامر ونقل الجنود، وكان يحكم الولايات باشوات جعلهم بعد الشقة بينهم وبين الآستانة مستقلين تقريباً عن السلاطين. ولم يعد الجوع يحفز الترك، ولا الأعداء يهددونهم، فتردوا في مهاوي الكسل والفساد، وأفسدت الرشوة الحكم وأشاع غش العملة فوضى في الاقتصاد والجيش. وتمرد الانكشارية المرة بعد المرة على رواتبهم المدفوعة بعملة هبطت قيمتها، واكتشفوا سطوتهم، فاستغلوها كلما تعاظمت. وظفروا بحق الزواج، وحصلوا لأبنائهم وغيرهم على الإذن بالانخراط في سلاحهم الذي كان من قبل وقفاً على النخبة المنتقاة، وتنكروا للتدريب والنظام الصارمين اللذين جعلا الانكشارية صفوة المقاتلين في أوربا. أما قوادهم الذين أصبحوا خبراء في لذات الجنس، فقد فشلوا في ملاحقة العلوم والأسلحة الحربية. وبينما كان الغرب المسيحي يصنع مدافع أفضل، ويطور استراتيجية وتكتيكاً أرقى، في صراع الحياة والموت الذي دار على ساحات حرب الثلاثين، وجد الأتراك، الذين كانوا تحت إمرة محمد الفاتح يملكون أفضل مدفعية في العالم-وجدوا أنفسهم-كما حدث في ليبانتو-متخلفين في قوة النيران والاستراتيجية. وأرهقت الحرب، التي قوت من قبل الدولة العثمانية يوم كان السلاطين يقودون جيوشهم بأنفسهم-هذه الحرب أرهقت الدولة حين آثروا انتصارات الحريم السعلة على مشاق المعركة. وكان لسيطرة الإيمان القدري، غير التقدمي، على الحياة والفكر أثرها في خنق العلوم الإسلامية التي كان لها القدح المعلي في العصور الوسطى، وازدادت المعرفة في الغرب وتخلفت في الشرق. وحسن المسيحيون بناء سفنهم وأصلحوا مدفعيتهم وامتدت تجارتهم إلى جميع القارات، تشق لها طرقاً جديدة في العباب، بينما كانت معظم(33/88)
التجارة العثمانية تزحف في قوافل على اليابس. وترك الحكام الكسالى السقايات والقنوات تبلى، بينما الفلاحون الذين قبلت الحرب حياتهم ينتظرون المطر في ذل ومسكنة. واتخذ مسار الإمبراطورية طريقه غرباً، إلى أن وجد نفسه ثانية في الشرق يوماً وهو لا يزال يتحرك غرباً.
وكان رد الأتراك على عقابهم معناه بالنسبة للغرب الدعوة لحرب داخلية طاحنة. ذلك أن النمسا وألمانيا تحولتا بعد تحررهما من ضغط الإسلام عليهما لمواجهة أطماع لويس الرابع عشر، الذي كان يمد ذراعيه في الأراضي المنخفضة، وأراضي الراين، والبلاتينات، وإيطاليا، وأسبانيا. وأكملت هذه اللطمات الآتية من الغرب تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فلم يبق منها غير الصورة. وانتهى الأمر بالإمبراطور إلى النظر إلى نفسه على أنه نمساوي لا روماني، وحلت الإمبراطورية النمساوية-المجرية محل الرومانية المقدسة. وجعلت العروش الثلاثة-عروش النمسا، والمجر، وبوهيميا-وراثية في أسرة هابسبورج (1713)، فألغيت حقوق الولايات البوهيمية والمجرية التقليدية في انتخاب ملوكهم. وعادت المجر إلى الثورة (1703 - 11) بزعامة فرنسيس راكوكزي الثاني، ولكن الثورة أخمدت، تاركة الحنين إلى الحرية يتردده صداه في الشعر والأغاني.
وسخرت النمسا اقتصاديات المجر وبوهيميا لمنفعتها الخاصة، وتمتعت طبقاتها العليا بثراء جديد. وارتفعت القصور الفاخرة للأرستقراطية، وأسكنت الكنائس الجميلة والأديار الضخمة القساوسة والرهبان المنتصرين. وأعد الأمير بال استرهازي بناء قلعته الكبرى في ايزتشتات، حيث سيقود هايدن يوماً فرقته الموسيقية ويؤلف ألحانه. وفي فيينا صمم دومنيكو مارتينللي قصر ليشتنشتين، وقصر بلفدير لأوجين أمير سافوي. وبنى يوهان فيشر فون ايرلاخ لهذا الأمير ذاته قصوراً شتوياً فاخراً، ووضع الخطط للمكتبة الملكية، والقصر الإمبراطوري في شونبرون. وفي 1715 بدأ أعظم معماري النمسا هذا(33/89)
عمله في كنيسة كارلسكرشي بفيينا، بطراز كنيسة القديس بطرس بروما. وعلى ضفاف الدانوب على نحو أربعين ميلاً غربي فيينا شاد يعقوب برانتاور دير "كلوسترميلك" أكبر الأديار البندكتية وأروعها في الأراضي الألمانية، وهذا أوج الباروك النمساوي. وفي أعقاب الانتصار صمم يوهان ارنست تون، رئيس الأساقفة الكفء الوجيه، حديقة ميرابيل الشهيرة بسالزبورج، وجملها بمنحوتات من صنع فيشرفون ارلاخ. وهكذا تحركت النمسا في كبرياء وأبهة إلى أعظم قرن في تاريخها.(33/90)
الفصل الخامس عشر
الجنوب المراح
1648 - 1715
1 - إيطاليا الكاثوليكية
من حكمة الفلاح الصامتة أن في الإمكان إصلاح التربة التي كاد يرهقها الثمر الوفير بإراحتها فترة، وربما بحرثها دون زرعها. وهكذا استراحت إيطاليا بعد خصوبة النهضة التي أرهقتها. وأبطأ تدفق حيويتها العارمة، وكأنها تستجمع قوتها لمزيد من جلائل الأعمال. فعلينا إذن أن لا نتوقع من إيطاليا هذا العصر والعصر التالي له-بين برنيني وبونابرت-ثماراً كتلك التي تدفقت من معينها الفياض في قرونها الذهبية. إننا نلم بها هنا مرة أخرى، قانعين إذا استطعنا بين الحين والحين أن نسمع في مدنها التي تردد أصداء التاريخ أصواتاً صغيرة تشهد بحياة لم تنطفئ جذوتها.
وكانت لا تزال كاثوليكية بطبيعة الحال، فذلك من صميم روحها، ولا سبيل إلى انتزاعه منها دون انتهاك لروحها. كان فقراؤها يظلمهم الأغنياء، الذين هيمنوا بالطبع على الحكومات وشرعوا القوانين. وعلل الأغنياء هذا الظلم بأن الفقراء سيصبحون مشاغبين وقحين إذا رفعت أجورهم. أما النساء فكان يستغلهن الرجال والشعب، إلا أن يكن في ربيع حسنهن. في هذه الأحوال كانت طبقات الشعب الدنيا، والجنس الأضعف آنذاك، تجد عزاء في خدمة الكنيسة. وكان إيمانها بالعدل الإلهي سنداً يعزيها عن قسوة الإنسان، وكانت خطايا ألسنتهم الحادة وجسدهم الوثني يغتفرها دون تردد القساوسة المتسامحون والرهبان اللطفاء الذين أطعموهم والرجاء يملأ نفوسهم. وكانوا شاكرين لما تخلل أيامهم المثقلة بالأعباء من أعياد ومهرجانات مريحة يحتفلون فيها بذكرى قديسيهم الحامين. وآمنوا بأن قديسيهم، والأم العذراء الرحيمة، سينقذونهم من أحوال الجحيم بتشفعهم أمام عرش(33/91)
الله، وبأن الغفرانات التي توزعها الكنيسة ستقصر مقامهم في المطهر، وأنهم سيدخلون، إن عاجلاً أو آجلاً، فردوسا-يفوق جماله حتى جمال إيطاليا-لن يكدر صفوه ملاك، ولا ضرائب، ولا عشور، ولا حرب، ولا حزن، ولا ألم.
وهكذا احتملوا بصبر، ومرح، وغناء، ابتزازات كهنتهم الذين لم يخل منهم مكان، والذين التهموا على الأقل ثلث إيرادات الأمة. وأحبوا كنائسهم كأنها من جزر السلام وسط حرب الحياة. وتأملوا بهاء كنيسة القديس بطرس وفخامة الفاتيكان في فخر لا يخالطه استيلاء ولا غيظ، فتك حصيلة دراهمهم ونتاج فنانيهم، وهي ملك للفقراء أكثر من الأغنياء، وهي في نظرهم ليست أفخم من أن تكون مثوى لأول الرسل (بطرس)، أو مسكنا لزعيم العالم المسيحي، خادم خدام المسيح. وإذا كان ذلك الأب الأقدس يعاقب الهجمات إلى توجه للكنيسة، فما ذلك إلا ليمنع الحمقى من تدمير صرح الأخلاق القائم على العقيدة الدينية، ليصون ذلك الإيمان الذي جعل من نثر الكد والشقاء ملحمة شعرية.
أما ديوان التفتيش الإيطالي فكان رحيماً نسبياً في هذا العصر. وأشهر ضحاياه قس أسباني يدعى مجويل دي مولينوس. ولد في سرقسطة، وسكن روما. وفي 1675 نشر كتابه "المرشد الروحي" الذي يزعم فيه أنه وإن كان التعبد للمسيح والكنيسة معيناً على بلوغ أسمى الحالات الدينية، إلا أنه يجوز للعابد الذي انقطع للاتصال المباشر بالله أن يتجاهل وهو مطمئن كل الوساطات الكهنوتية والطقوس الكنسية. وفي نبذة أخرى رأى مولينوس أنه لا حرج على العابد الواثق من تحرره من الخطيئة الأخلاقية في أن يتناول القربان دون أن يعترف للكاهن قبل التناول. واجتذب "مرشد" مولينوس النساء على الأخص فالتمست نصيحته المئات-ومنهن الأميرة بورجيزي والملكة كرستينا، وأرسلن له الهدايا. واعتنقت راهبات كثيرات هذه "الهدوئية" الجديدة، ونبذن أورادهن، واستغرقن في صلة فخور بالله. وشكا العديد من الأساقفة الإيطاليين من هذه الحركة التي قللن من شأن الخدمات والتبرعات الكنسية، وناشدوا البابا إنوسنت الحادي عشر أن يقمعها (1). وهاجم اليسوعيين والفرنسيسكان مولينوس لأنه أكد على(33/92)
الإيمان دون "الأعمال" تأكيداً يكاد يكون بروتستنتياً. وبسط عليه البابا حمايته حيناً، ولكن ديوان التفتيش الروماني قبض عليه في 1685، ثم على نحو مائة من أتباعه. وكان قد جمع أربعة آلاف كراون ذهبي (50. 000 دولار؟) يفرضه رسما صغيراً على المشورة التي يبذلها لمراسليه، ونستطيع الحكم على عدد هؤلاء المراسلين من تكاليف البريد على الخطابات التي تسلمها في يوم القبض عليه، والتي بلغت ثلاثاً وعشرون دوكاتية (287. 50 دولاراً؟) (2).
وبعد أن فحص ديوان التفتيش السجناء وضع قائمة بالتهم الموجهة إليهم، وأهمها أن مولينوس برر تحطيم صور المسيح المصلوب والتماثيل الدينية لأنها تعوق هدوء الاتحاد بالله، وأنه ثبط همم الأشخاص الذين أرادوا نذر أنفسه للدين أو الالتحاق بالطرق الدينية، وأنه قاد تلاميذه إلى الاعتقاد بأن لا شيء يأتونه بعد بلوغهم الاتحاد بالله يمكن أن يكون خطيئة. ولعله اعترف تحت ضغط السجن، أو التعذيب، أو الخوف، بأنه اغتفر تحطيم الصور، وبأنه ثنى الأشخاص الذين رآهم لا يصلحون للرهبنة عن نذر أنفسهم لها، واعترف بأنه ظل سنين كثيرة يمارس "أكثر الأعمال خروجاً على اللياقة مع امرأتين"، وأنه "لم ير ذلك إثماً بل تطهيراً للنفس"، وأنه بذلك " استمتع باتحاد أوثق مع الله" (3). وأدان ديوان التفتيش ثماني وستين دعوى وجدها في كتاب مولينوس أو رسائله أو اعترافاته، وفي 3 سبتمبر 1678 وجه إليه الاتهام في احتفال عام مما يحرق فيه المهرطقون auto-da-f ( وحضر جمع كبير، وطالبوا بحرقه، ولكن المحكمة قنعت بالأمر بسجنه مدى الحياة. وقد مات في السجن في 1697.
ولعلنا نتعاطف أكثر مع "المهرطقين" الألبيين الذي بكاهم ملتن في سونيتة سماها "حول المذبحة الأخيرة في بييدمونت". وبيان ذلك أنه كان يسكن الأودية الرابضة بين بييدمونت السافواوية ودوفينه الفرنسية قوم يدعون الفودوا، هم حفدة "الفالدنيز" الذين سبقوا حركة الإصلاح البروتستنتي وعاشوا بعدها، والذين احتفظوا بعقيدتهم البروتستنتية خلال عشرات التقلبات التي طرأت على القانون والحكومة.(33/93)
وفي 1655 انضم الدوق شارل ايمانويل الثاني أمير سافوي إلى لويس الرابع عشر في تنظيم جيش لإكراه هؤلاء الفودوا على اعتناق الكاثوليكية. وأثارت المذبحة التي أعقبت ذلك سخط كرومويل، فحصل من مازاران على أمر بوقف هذا الاضطهاد. ولكن بع موت حامي الجمهورية (كرومويل) والكردينال (مازاران) تجدد الاضطهاد، فلما ألغي مرسوم نانت استأنفت الدولة الفرنسية جهودها في استئصال شأفة البروتستنتية من الإقليم. وألقى الفودوا السلاح على وعد بالعفو العام، وما لبث ثلاثة آلاف منهم، مجردين من السلاح، وفيهم النساء والأطفال والشيوخ، أن ذبحوا ذبح الأنعام (1686). وسمح للباقين منهم على قيد الحياة، الذين أبوا اعتناق الكاثوليكية، بالهجرة إلى أرباض جنيف. ثم جاء دوق آخر لسافوي يدعى فيكتور أمادبوس، وجد نفسه في مشكال السياسة حليفاً لا لفرنسا بل عليها، فدعا الفودوا للعودة إلى أوديتهم (1696). فعادوا، وقاتلوا تحت لوائه وسمح لهم بعدها بعبادة المجهول على طريقتهم المؤمنة.
أما الفقراء فكانوا في الولايات البابوية يعانون فقر إخوانهم في كل مكان بإيطاليا وكانت الإدارة البابوية (الكوريا)، كأي حكومة، تفرض الضرائب على رعاياها إلى الحد الذي يهبط بعائدها، فلم يتح لها قط من المال ما يكفي لأغراضها وموظفيها. وقد أنذر الكردينال ساكيتي البابا اسكندر السابع (1663) بأن جباة الضرائب يفقرون السكان حتى يشرفوا بهم على حافة اليأس، فقال: "إن أفراد الشعب، الذين لم يعودوا يملكون من الفضة أو النحاس أو الثياب أو الأثاث ما يشبع جشع الجباة، سيضطرون غلى بيع أنفسهم ليلبوا المطالب الثقيلة التي فرضتها عليهم الكاميرا (الغرفة التشريعية للكوريا (4) "). وشكا الكردينال من الرشوة في القضاء البابوي، ومن الأحكام التي تباع وتشرى، والدعاوي التي يطول نظرها سنين عديدة، والعنف والطغيان يعانيهما الخاسرون الذين يجرءون على استئناف الحكم من موظف أدنى إلى آخر أعلى. يقول ساكيتي "إن هذه المظالم أفدح من تلك التي نكب بها بنو إسرائيل في مصر .. .. يعاملون معاملة أكثر وحشية من معاملة العبيد في سوريا أو أفريقيا. فمنذا يستطيع أن يشهد(33/94)
هذه الأشياء دون أن يذرف عليها دموع الحزن والأسى (5)؟ " وفي وسط فقر الجماهير كان العديد من السر النبيلة التي تربطها رابطة القرابة بالبابوات أو الكرادلة يتلقى الهبات السخية من إيرادات الكنيسة.
أما بابوات هذا العهد لميكونوا زهاداً كبيوس الخامس، ولا رجال دولة كسيكستوس الخامس، إنما كانوا في العادة قوماً طيبين، أضعف من أن يتغلبوا على الرذائل البشرية المحيطة بهم، أو يراقبوا مئات الثغرات والأركان التي ينفذ من خلالها أو يختبئ فيها الفساد في إدارة الكنيسة. ولعل أي مؤسسة بلغت هذا المبلغ من الاتساع وكثرة الواجبات لا يمكن وقايتها من الأخطاء الملازمة لطبيعة الإنسان. وقد جاهد إنوسنت العاشر، (1644 - 55)، "النقي الحياة المستقيم المبدأ (6) " ليخفف من ثقل الضرائب، ويكبح استغلال النبلاء الجشعين للإيرادات البابوية، ويصون النظام والعدل في ولاياته. وتبدو عليه-كما صوره فيلاسكويز-كل مظاهر الخلق القوي، ولكنه سمح لغيره بأن يحكموا نيابة عنه، وترك أوليمبيا مايدالكيني، زوجة أخيه الجشعة الطموح، تؤثر في تعييناته وسياساته، فكان الكرادلة والسفراء يتذللون أمامها، وأثرت من هداياهم ثراءً صارخاً، ولكن لما مات إنوسنت زعمت أنها أفقر من أن تنفق على مأتمه (7).
وروي أن كردينالاً قال في مجمع الكرادلة الذي اختار خليفته "يجب أن نبحث عن رجل أمين هذه المرة (8) ". وقد وجدوه في شخص فابيو كيجي، الذي أصبح الاسكندر السابع (1655 - 67). وقد بذل قصاراه ليطهر الإدارة البابوية من الفساد وتعطيل الأعمال، ونفى أبناء أخيه النهمين إلى سيينا، وخفض الدين العام. غير أن الفساد الذي أحاط به كان أوسع وأعم من أن يستطاع قهره. فألقى السلاح، وسمح لأبناء أخيه بالعودة إلى روما، وخلع عليهم المناصب المجزية، فجمع أحدهم بعد قليل ثروة طائلة (9). وانتقلت القوة من يدي الاسكندر المتعبتين إلى الكرادلة، الذين طالبوا بالمزيد من السلطة في حكم الكنيسة. ورحلت أرستقراطية من الأسر تفخر بكرادلتها محل الملكية المطلقة التي ثبتها مجمع ترنت من قبل البابوات.(33/95)
وجدد كلمنت التاسع (1667 - 69) الكفاح ضد محاباة الأقرباء. وسمح لأقربائه ببعض الامتيازات المتواضعة ولي ظهره لطلاب المناصب. وأقبل المئات من مسقط رأسه بيستويا، واثقين من أنه سيعينهم على الإثراء، ولكنه ردهم، فهجوه هجواً ساخراً، وهنا أيضاً ندرك أن طبيعة البشر واحدة سواء في الظالم أو المظلوم، وأن الناس هم أس البلاء المحيط بهم. وكان البابا الجديد رجل سلام وعدل. فبينما أصدر سلفه-بتحريض من لويس الرابع عشر-مرسوماً مثيراً للمتاعب ضد الجانسنيين، عرض كلمنت هدنة في ذلك النزاع الشائب داخل الكنيسة. ومن أسف أنه مات ولم يقض في دست الحكم غير عامين.
وخلفه كلمنت العاشر (1670 - 76) وهو في الثمانين، فترك الأمور للكرادلة (كما رتبوا الأمر من قبل)، ولكنه أنهى عهده دون عيب يعيبه. وجاء إنوسنت الحادي عشر (1767 - 89) وكان-كما قال رانكي البروتستنتي-رجلاً "تفرد بتواضعه ... غاية في دماثة الخلق وهدوء الطبع"، مدققاً في مسائل الأخلاق حازماً في شئون الإصلاح (10). وقد أبطل "كلية" الموثقين الرسوليين التي قال مؤرخ كاثوليكي "إن التعيينات فيها كانت تباع وتشترى بانتظام (11) " وألغى الكثير من المناصب والامتيازات، والإعفاءات، (التي لا فائدة منها) ووازن الميزانية البابوية لأول مرة في سنوات كثيرة، وأرسي للنزاهة المالية سمعة مكنت الإدارة البابوية من اقتراض المال بفائدة لا تزيد على 3%. كتب فولتير يقول عنه "كان رجلاً فاضلاً، وحبراً حكيماً، ولاهوتياً ضعيفاً، وأميراً شجاعاً، قوي العزيمة، جليل القدر (12) ". وقد حاول عبثاً أن يخفف من تعجل جيمس الثاني في كثلكة إنجلترا، وأدان العنف الذي استعمله لويس الرابع عشر ضد الهيجونوت، وقال، "إن الناس يجب أن يهدوا إلى دور العبادة لا أن يجروا إليها جراً (13) " ولم يجد ما يدعوه لمحبة ذلك الملك المتكبر الذي ادعى لنفسه من السلطة المطلقة على الكنيسة في فرنسا ما يقرب من السلطة التي أكدها هنري الثامن لنفسه في إنجلترا. ولكي يقلل إنوسنت الحادي عشر من الجرائم في روما ألغى حق اللجوء الذي سبق منحه لمساكن السفراء، وأصر لويس على الاحتفاظ بذلك الحق لمبعوثيه،(33/96)
بل للشوارع المجاورة للسفارة الفرنسية، وفي 1678 دخل سفيره روما بفوج من الفرسان ليفرض بالقوة مطلب الملك. ووبخ البابا السفير، وأوقع حرماً على كنيسة القديس لويس التي كان يصلي فيها السفير في روما. واحتكم لويس إلى مجمع عام، وسجن ممثل البابا في فرنسا، واستولى على إقليم أفنيون الذي كان ملكاً للبابا منذ 1348. ومن هنا نظرة إنوسنت الحادي عشر الهادئة المطمئنة إلى الحملة التي جردها وليم أورنج الثالث، البروتستنتي، لخلع جيمس الثاني الكاثوليكي وإدخال إنجلترا في حلف ضد فرنسا. وقد تعاون البابا مع جهود ليبنتز لإعادة الوحدة بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ووافق على تنازلات أعلنت جامعات ألمانيا البروتستنتية رضاءها عنها، وقد وصفه أحد الإنجليز بأنه "بابا بروتستنتي (14) ".
وتوفي إنوسنت الحادي عشر قبل أن يشهد انتصار أهدافه، ولكن خلال بابوية الاسكندر الثامن (1689 - 91) وإنوسنت الثاني عشر (1691 - 1700) تخلى السفير الفرنسي عن حق اللجوء، وردت أفنيون للبابوية، ونقل الأكليروس الفرنسي ولاءه من الملك غلى البابا وإعادة الحلف الأعظم توازن القوى ضد فرنسا العدوانية. وفي حرب الوراثة الأسبانية وجد كلمنت الحادي عشر (1700 - 21) نفسه وقد تورط في انقسامات أوربا العنيفة، فكان يلقي بنفوذه متردداً تارة في جانب وتارة في جانب آخر، وفي النهاية اقتسم الملوك الأسلاب دون أن يستشيروه-حتى صقلية وسردانيا، وهما-فنياً-إقطاعتان بابويتان. كذلك كانت معاهدة وستفاليا قد تجاهلت احتجاجات إنوسنت العاشر. لقد استلزم اشتداد النزعة القومية إضعاف البابوية، وأسهمت هذه النزعة مع نمو العلم في تشجيع العلمانية والتهوين من دور الدين في الحياة الأوربية.
2 - الفن الإيطالي
أحس الفن كما أحست السياسة بهذه المنافسة المشتدة بين شئون الدنيا وشئون الدين. كان رجال الكنيسة لا يزالون أغنى رعاة الفن، يوصون بالمباني، والصور والتماثيل، والزخارف، ولكن الأرستقراطية(33/97)
استكثرت الآن من القصور بأسرع من الكنائس، وتوددت إلى الأجيال القادمة بالصور، وأهدتها مجموعات من التحف الفنية. وفي إيطالية القرن السابع عشر جرى تيارا الرعاية هذان جنباً إلى جنب في انحدار بهي من النهضة الأوربية.
وكانت تورين تتخذ طريقها إلى الثراء تحت حكم أدواق سافوي. وقد صمم جوارينو جواريني لكتدرائية سان جوفاني باتيستا "كابيل ديل سانتيسيمو سوداريو" أي كنيسة الكفن الأقدس (الذي اعتقد المؤمنون أن يوسف الرامي كفن فيه جسد المسيح). وقد انهارت قبة كنيسة سان فيلييو الكبرى، التي بدأها جواريني، قبيل أن تكتمل، فرممها فيلييو ايوفارا، الذي ولد سنة 1676 قبل موت جواريني بسبع سنوات. ولعلنا نلتقي بايوفارا مرة أخرى.
وفي جنوة كان أروع بناء شيد في هذا العهد هو قصر دوراتزو الذي بناه فالكوني وكانتوني في 1650، واشتراه بيت سافوي في 1817، واستخدم بعد ذلك قصراً ملكياً للأسرة. وقد تحطمت قاعة مراياه الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، وكانت رائدة لقاعة مرايا فرساي (1678)، فليس صحيحاً إذن أن مارس (إله الحرب) عشق فينوس يوماً ما. أما أبرز المصورين الجنوبيين الآن فكان اليساندرو مانياسكو، وقد نجد أنموذجا من فنه في لوحة "مجمع اليهود" المحفوظة بمعهد الفن بشيكاغو، أو لوحة "الغداء البوهيمي" المحفوظة باللوفر.
وواصلت البندقية إنجابها للأطفال والفنانين. وأي عمل أعظم بطولة من الدفاع عن كانديا ضد ترك؟ فطوال ربع قرن ظل جنود الباب العالي وبحارته يهاجمون كريت، وكانت يومها مستعمرة للبندقية، وهلك في تلك الحملات العنيفة 100. 000 تركي (15)، ومع أن جيشاً عدته 50. 000 مقاتل استولى على بعض المدن الصغيرة في الجزيرة، فإن العاصمة صمدت للحصار عشرين عاماً، وصدت اثنين وثلاثين هجوماً. وفي 1667 أرسل فرانشسكو موروزيني ليقود الحامية المشرفة على الموت جوعاً. وأخيراً سلمت (1668)، ولكن أحداً لم يعد يتكلم على تدهور البندقية. وفي 1693، عندما تقلد موروزيني إمرة الأسطول البندقي، تقهقر الأتراك حين اقترب منهم وقد روعهم(33/98)
اسمه فقط. وكان لا يزال من ذلك الطراز من الرجال الذي صره تنتوريتو وفيرونيزي-الشجاعة المجسمة التي لا تعرف الرحمة.
وكان بالداساري لونجينا رجلاً آخر من هذا الطراز السبعيني. فقبل سنوات كثيرة (1632) صمم كنيسة "سانتا ماريا ديللا سالوتي"-أميرة البحيرات الجليلة، أما الآن، وبعد سبعة وأربعين عاماً، فقد شاد قصر بيزارو على القناة الكبرى-قصراً متيناً بديعاً بأعمدته المزدوجة وكرانيشه المتعددة، ثم بنى (وهو في السادسة والسبعين) قصر ريتزونيكو، الذي سيموت فيه الشاعر براوننج. وهناك نبت آخر، صلب العود، حمل البذرة البندقية إلى نصف القارة، وهو سبستيانو ريتشي، الذي ولد (1659) بمدينة بللونو في إقليم فنيتسيا، وذهب إلى فلورنسة ليزخرف قصر ماروتشيللي، ثم سار على أقل الدروب ضنكاً-إلى ميلان، وبولونيا، وبياتشينزا، وروما، وفيينا، ولندن. وأنفق عشر سنوات في إنجلترا، ورسم صوراً في مستشفى تشلسي، وبيرلنجتن هاوس، وقصر هامبتن كورت، وكاد يظفر بمهمة زخرفة كنيسة القديس بولس الجديدة. ثم مضي إلى باريس، حيث انتخب عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة. ولوحته "ديانا والحوريات (16) " غلمة كلوحات بوشيه، لطيفة كلوحات كوريدجو. وعمر ريتشي حتى 1734، وأسلم مهاراته للقرن الثامن عشر، ومهد الطريق للعصر الذهبي للتصوير البندقي أيام تيبولو.
أما المدرسة البولونية فلم تكن قد استنفدت قوتها تماماً. فاشتهر كارلو تشينياني برسومه الجصية في كتدرائية فرولي. وكشف جوزيبي ماريا كرسبي (لو سبانيولو) في "صورته الذاتية (17) " عن رجل مستغرق في الفن، متناس كل متاعبه إذا أتيح له أن يرسم. وقد صور جوفاني باتيستا سالفي ("الساسوفيراتو") في لوحته "العذراء تصلي (18) " ما في المحبة من إنكار للذات، وأرانا في لوحته "العذراء والطفل (19) " مجرد امرأة بسيطة، سعيدة بوليدها (البامبينو)، كأي امرأة تراها في أي يوم بين فقراء إيطاليا.
وقد حكم فلورنسة وبيزا وسيينا خلال هذه الفترة اثنان من كبار أدواق توسكانيا، فرديناند الثاني وكوزيمو الثالث. وفي 1659 بدأت(33/99)
سيينا مهرجان الباليو (المعطف) المشهور: فكانت أحياؤها العشرة تنظم موكباً بملابس بهية يسير في شوارع زينت بالعمائر، والرايات، والزهور، ونساء مرحات لابسات ثياباً جذابة، ثم يتبارى فرسان الأحياء بجنون في سباق على معطف السيدة العذراء التي كرست المدينة التقية نفسها وحياتها له منذ أمد بعيد. ولم تملك فلورنسة الآن من المصورين إلا الصغار. وواصل كارلو دولتشي، بفن أضعف، صور رينو جيدي العاطفية، المتأملة في السماء، التي رسمها للعذراء والقديسين، والعالم كله يعرف لوحته "القديسة سيسيليا (20) ". ورسم يوستوس سوسترمانس، الذي هاجر من فلاندر غلى فلورنسة، لوحات تعد من العجائب التي تشد الانتباه في قاعة بيتي-وليس أقلها رأس جاليليو الرائع الجليل. كذلك كان يبدو موسى وهو يشرع الناموس، لا كما نراه في وحش ميكل أنجيلو ذي القرون.
وكان الفن في روما يفيق من قيود الحركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي. فعاد البابوات بقدر أخف إلى روح النهضة، وشجعوا الأدب، والدراما، والعمارة، والنحت، والصوير. ورمم إنوسنت العاشر الكابيتول وكنيسة سان جوفاني في لاتيرانو. وكلف الاسكندر السابع برنيني بأن ينحت نطاقاً رباعياً من حراس مصنوعين من الجرانيت حول ميدان القديس بطرس (1655 - 67) -فنحت 284 عموداً و88 ركيزة، ووفق في صنعها إلى تحويل الذهب إلى حجر. وفي عهد هذا البابا أعاد بييترو داكورتونا بناء كنيسة سانتا ماريا ديللا باتشي، حيث كانت عرافات رفائيل لا تزال تتأمل القدر. واشترك جيرولامو دينالدي مع ابنه كارلو في تشييد كنيسة سانتاجنيزي الجميلة في ميدان نافونا. واشترك الوالد والولد ثانية في تصميم كنيسة "يسوع ومريم"، وبنى كارلو هيكل سانتا ماريا في كامبيتللي ليضم تمثالاً للعذراء اعتقد الناس أنه أوقف طاعون 1656. وكان الكرادلة والنبلاء يبنون مساكنهم ومدافنهم في فخامة القصور. وارتفع الآن قصر دورياً وبهو قصر كولونا ذو الزخارف الباروكية المسرفة، وفي كنيسة "يسوع ومريم" حفر فرانشسكو كافالليني لأسرة بولونيتي مقبرة لا بد أنها أثارت حسد الأحياء للأموات.
وأقام مصورون كثيرون الدليل على أن فنهم ما زال حياً في روما.(33/100)
وقد خطب أهلها ود كارلو ماراتي، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، باعتباره زعيم المصورين في الباروك الحديث. وصورته لكلمنت التاسع (21) كانت مذكرة بصورة فيلاسكويز لإنوسنت العاشر، ولكنها انتهت نهاية طيبة، وصورته "العذراء مع القديسين في الفردوس" (22) تكرار لعشرات مثلها، ولكنها صورة جميلة. وحين أراد كلمنت الحادي عشر ترميم لوحات رفائيل الجصية في الفاتيكان عهد إلى ماراتي بهذه العملية الدقيقة الخطرة على المرمم خطرها على الرسوم، فأداها بكفاية. واختار اليسوعيون جوفاني باتيستا جاوللي (الباتشتشو) ليرسم قبو كنيستهم الأم "الجيزو"، ولكن كان من بين أبناء طريقتهم راهب من أقدر فناني عصره، هو أندريا بوتسو، الذي التحق بالطريقة وهو في الثالثة والعشرين، وصمم في تلك الكنيسة مذبح القديس اجناتيوس-وهو من روائع الباروك. وفي 1692 نشر بوتسو مقالاً عن المنظور في التصوير والعمارة أثار ضجة في عدة لغات. واستهواه موضوعه كما استهوى أوتشيللو موضوعه قبل قرنين، فطور دراساته بلطائف "الخداعية"، كما يرى في صوره الجصية في فراسكاتي. ودعاه الأمير فون ليشتنتشتين إلى فيينا، فأفنى نفسه بكثرة المهام التي اضطلع بها، ومات هناك في 1709 بالغاً من العمر سبعة وستين عاماً.
كان أعظم المصورين الإيطاليين الآن في نابلي. فكل شيء أينع وازدهر هناك-الموسيقى والفن، والأدب، والسياسة، والدراما، والجوع، والقتل، وشيء آخر لا يكف عنه الرجال الهائجون أبداً، وهو مطاردتهم لجسد المرأة ومفاتنه، المطاردة المرحة، العنيفة، الشجية. وتأثر سلفاتور روزا بكل عناصر الحياة هذه. وكان أبوه معمارياً، وعلمه عم له التصوير، وكان زوج أخته تلميذاً لريبيرا، وقد أذن لسلفاتور نفسه في الوقت المناسب بالالتحاق بذلك المرسم الجليل. وعلمه أستاذ آخر تقنية مناظر المعارك الحربية. واشتهر سلفاتور على الأخص بهذه الصور التي ترى في متحف نابلي القومي أو في اللوفر. ومن المعارك انتقل إلى مشاهد الطبيعة، ولكن هنا أيضاً آثرت روحه الوحشية رسم الطبيعة في سوارت غضبها، كما يرى في لوحة باللوفر صور فيها الغيوم الكثيفة والأرض المظلمة يضيئها فجأة برق يحطم الصخور ويطوح الأشجار في طرفة عين. وأقنعه لانفرانكو بالذهاب إلى(33/101)
روما والتودد للكرادلة، فذهب وأثرى هناك، ولكنه هرع قافلاً إلى نابلي 1646 ليشترك في ثورة مازانيللو. فلما فشلت عاد إلى روما، وصور كبار رجال الكنيسة، وكتب هجاءً ساخراً تهكم فيه بالترف الكنسي. ثم قبل دعوة الكردينال جانكارلو دي مديتشي ليذهب ويعيش معه في فلورنسة، وهناك مكث تسع سنوات، يرسم، ويعزف الموسيقى، ويقرض الشعر، ويشارك في التمثيليات. وحين عاد إلى روما ثانية، سكن بيتاً في التل البنسي، حيث عاش بوسان ولوران من قبل. وتقاطر عليه أقطاب الكنيسة، ليصورهم مغضين عن هجائياته، مؤثرين فرشاته على قلمه، وكان أحب الفنانين إلى الناس في إيطاليا طول عشر سنوات. وقد رسم صور القديسين والأساطير المألوفة، ولكنه في محفوراته استسلم لعطفه على الجنود المساكين والفلاحين المعذبين، وهذه المحفورات من أبدع آثاره.
ولم ينافسه في شهرته غير رجل من أهل نابلي، هو لوكا جوردانو. وكان فناناً وهو بعد في الثامنة، ثم رسم في كنيسة سانتا ماريا لانوفا ملاكين بلغ من الجمال والرشاقة مبلغاً جعل الحاكم يأخذه العجب حين رآهما، ويرسل للصبي بعض القطع الذهبية مع توصية لريبيرا. وظل يدرس على يد ذلك الأستاذ الغارق في تأملاته، ويدهش كل إنسان بسرعة نسخه للروائع وتقليده للأساليب. وتاق للذهاب إلى روما وفحص رسوم رفائيل الجصية المشهورة، ولكن أباه عارض في ذهابه، لأنه يرتزق من بيع صور لوكا ورسومه. ففر لوكا سراً، وسرعان ما أخذ ينسخ بحماسة في الفاتيكان، وفي كنيسة القديس بطرس، وفي قصر فارنيزي. وتبعه أبوه، وحصل على قوته هنا أيضاً ببيع صور ابنه العارضة، ويروي أن السر في تقليبه "فا-برستو" هو حث أبيه على السرعة.
فلما استوعب فن روما مضي إلى البندقية ورسم على طريقة تيشان وكوريدجو صوراً لا تكاد تختلف عن روائعهما. ولكنه رسم إلى ذلك صوراً أصيلة ظفرت بالاستحسان، وفي وسعنا الحكم عليها من لوحته "إنزال المسيح عن الصليب" المحفوظة بأكاديمية البندقية. ولما عاد إلى نابلي زخرف اثنتي عشرة كنيسة بكفاية وسرعة لم يجد معها منافسوه حيلة إلا أن يتسقطوا له الهنات. ثم دعاه كوزيمو الثالث إلى فلورنسة(33/102)
(1679) حيث ظفر بالاستحسان لصورة الجصية في كنيسة كورسيني.
وأصاب صديقه كارلو دولتشي غم شديد حين رأى ما أحرزه لوكا من نجاح، فمات بعد قليل (23)، وتروي لنا إيطاليا المحبة لفنانيها من الأساطير الكثيرة عنهم قدر ما ترويه عن قديسيها. وفي رواية أخرى أن نائب الملك الأسباني في نابلي أوصي برسم حشوة كبيرة لكنيسة القديس فرانسس زافير، وثار غضبه حين وجد أن شيئاً لم ينجز في هذا التكليف رغم التأجيلات الطويلة، وما راعه بعد يومين إلا أن يجد العمل كاملاً وجميلاً. وقال نائب الملك "إن راسم هذه الصورة أما ملاك وأما شيطان (24) ".
وطبقت شهرة الملاك الشيطاني الآفاق حتى بلغت مدريد، وسرعان ما تكاثرت الدعوات على لوكا من شارل الثاني لينضم للبلاط الأسباني. ومع أن الملك كان مشرفاً على الإفلاس فإنه وصل الفنان بألف وخمسمائة دوكاتيه، ووضع سفينة ملكية تحت تصرفه للرحلة. فلما بلغ جوردانو مدريد (1692) استقبلته ست مركبات ملكية على الطريق. وما لبث أن بدأ العمل في الأسكوريال وهو في السابعة والستين. فزين بالصور الجصية سلم الدير الكبير، وعلى قبو الكنيسة رسم "صورة طبق الأصل" من السماوات، ترينا شارل الخامس وفيليب الثاني في الفردوس-وقد غفرت ذنوبهما كلها تحية من الثالوث الأقدس لآل هابسبورج. وفي السنتين التاليتين رسم عدداً كبيراً من الصور الجصية يعدها مؤرخو الفن الأسباني خير ما رسم في الأسكوريال (25). وفي "القصر" بمدريد، وفي بوين ريتيرو، وفي كنائس طليطلة والعاصمة، رسم صوراً بلغت من الكثرة، وأنفق فيها من الجهد، ما جعل منافسيه يعيرونه بأنه يعمل ثماني ساعات في اليوم وفي أيام الأعياد. كذلك ساءهم أنه جمع ثروة بطرق غير لائقة، وأنه يضيق على نفسه ولكنه يشتري الجواهر الغالية استثماراً آمناً لماله لأن كل شيء في هذه الدنيا سيتغير ويتبدل إلا غرور الإنسان. وقد كرمه كل البلاط، ووصفه شارل الثاني في لحظة صفاء بأنه أعظم من ملك.
ومات شارل في 1700، ومكث جوردانو في أسبانيا رغم ما تلا(33/103)
ذلك من حرب الوراثة الأسبانية، ولما ارتقى العرش فيليب الخامس ظل يتلقى تكليفات سخية عسيرة. ثم عاد إلى إيطاليا في 1702، وتخلف في روما ليلثم قدم البابا، ووصل إلى نابلي والغار يكلله. وعلى أسقف التشرتوزا (دير الكرتوزيين) بسان مارينو، المطل على المدينة، رسم في ثمان وأربعين ساعة سلسلة من الصور الجصية أظهرت نشاطاً وحذقاً لا يكادان يصدقان في رجل بلغ الثانية والسبعين (1704). وفاضت روحه بعد ذلك بعام وهو يقول متأوهاً "إيه يا نابلي، يا نسمة حياتي (26) ".
ولم يعدله شهرة عند وفاته فنان آخر في جيله. ونافس الأعيان الهولنديون الأباطرة والملوك في شراء صوره، وفي إنجلترا النائية تغني مافيو برايور بمديح "جوردان الإلهي" وأعجب عامة الناس بغنى ألوانه، وبأس أشخاصه، وجلال أفكاره، وقوة عرضه. ولكن الفنانين-بعد أن أفاقوا من هذا الخدر العام-بينوا علامات التعجل في إنتاج لوكا فا-برستو، والخلط المتناقض بين الأفكار أو المواضيع الوثنية والمسيحية في المشهد الواحد، والمواقف المفتعلة، والإفراط في الإضاءة الساطعة، والافتقار إلى التناسق والهدوء. ولقد رد لوكا على ناقديه قبل ذلك بزمن طويل، إذ عرف المصور القدير بأنه ذلك الذي يحبه جمهور الشعب (27). ومن العسير تفنيد هذا التعريف ما دمنا نفتقر إلى معيار موضوعي للامتياز أو سلامة الذوق، ولكنا قد نجد أدنى محك ذاتي للعظمة في مبلغ تأثير إنسان ما في الزمان والمكان، وأدنى مقياس ذاتي للشهرة في قدرتها على البقاء. ولقد سعد جوردانو بحياة ناجحة، وهو لا يشعر بأي أذى من جراء شهرته الآفلة.
وكان الفنان فرانشسكو سولمينا يناهز الثامنة والأربعين حين مات فا-برستو، ولكن سني عمره التسعين بلغت بمدرسة الفن النابولية قرابة منتصف القرن الثامن عشر. وكان لوكا قد رسم صحن دير مونتي كاسينو، ورسم فرانشسكو الخورس، وتهدم هذا وذاك في الحرب العالمية الثانية. ولكن المتاحف تحتفظ بفن سولمينا، ففي فيينا "اغتصاب أوريثيا" وهي نشوة بضة من عضلات الذكر ومنعطفات الأنثى، وفي اللوفر نرى صدى وتحدياً لرفائيل في لوحته "هليودوروس" يطرد من الهيكل"، وفي كريمونا صورة "مادونا(33/104)
أدولوراتا" ويصحب العذراء فيها ملاك فيه من العذوبة ما يجعلنا نتقبل فكرة الخلود إذا كان في الجنة الكثير من أمثاله.
3 - أوديسة كرستينا
كانت الفنون الآن مجرد جزء صغير من حياة روما الثقافية. فيها أيضاً مئات من الموسيقيين، والشعراء، والمسرحيين، والعلماء، والمؤرخين. وقد يسرت المتاحف والمكتبات والكليات كنوز الماضي للطلاب، وشجعت الأكاديميات الأدب والعلم. وكانت أوهام ماريني الموشاة ما زالت عدواها تسري في الشعر الإيطالي، ولكنه لذع هجائيات تاسوني، وحرارة نزعة ماريني الحسية، وتدفق مقاطع تاسو الفوار، كل أولئك كان قد أعطى الشعر الإيطالي حافزاً وإلهاماً ما زالت تحس بهما النفوس المترنمة بالشعر.
أما أعظم الشعراء الغنائيين في العصور الحديثة (28)، إذا صدقنا ماكولي، فهو فنتشنزو دا فيليكايا، وقد شدا هذا الشاعر بتلخيص سوبيسكي لفيينا في قصائد كثيرة شاكرة، ورحب بمجيء كرستينا إلى روما في تملق نشوان، ووصف في خزي ساخط إخضاع وطنه للجيوش الدخيلة، يقول:
"إيطاليا، إيه يا إيطاليا، يا من كتب عليك أن تلبسي تاج الجمال المهلك، فأصبح سجل الويل والثبور موسوماً على جبينك إلى الأبد! ليت ميراثك كان جمالاً أقل وبأساً أشد! حتى يجدك أولئك الذين يستخفهم الطرب لأن حقدهم أذلك، أكثر إرهاباً أو أقل جمالاً (29) ".
على أن هنري هالام، الذي طوف لغوياً خبيراً بكل الآداب الأوربية، ذهب إلى أن كارلو اليساندرو جيدي، لا فيليكايا، هو الذي "ارتفع إلى أسمى ذروة بلغها أي شاعر غنائي إيطالي" و .. أن "قصيدته الغنائية في الحظ على الأقل تعدل أي قصيدة غنائية أخرى في الإيطالية (30).، ولا يستطيع أحد لم يتمكن من الإيطالية أن يحسم هذا الخلاف بين ماكولي وهالام ولا بين جيدي وبترارك، ولا بين فيليكايا وبيرون أوشلي أوكيتس.(33/105)
كان جيدي واحداً من شعراء عدة صدحوا بقوافيهم في صالون كرستينا بروما. وكانت ملكة السويد هذه قد طبقت شهرتها الآفاق لا ملكة على دولة عظمى فحسب، بل راعية ونموذجاً للعلم، والمضيفة الحفية بسالماسيوس وديكارت. وكانت تخليها عن التاج في سبيل المذهب، وتحولها عن البروتستنتية التي مات أبوها من قبل لينقذها، ورحلتها الطويلة مارة بقصور ملوك أوربا وأمرائها لتلثم قدمي البابا-كانت هذه كلها أحداثاً لا تقل عن الحروب والثورات استهواء للذهن الأوربي.
كانت في ربيعها الثامن والعشرين يوم غادرت السويد (1654). وأعطاها ابن عمها شارل العاشر، الذي اختارته ليتبوأ عرشها، خمسين ألف كراون تجمل بها رحلتها، وقرر لها الديت السويدي دخلاً كبيراً، وحقوق ملكة على حاشيتها. فوصلت هامبورج بعد رحلة سريعة في الدنمرك، وهناك صدمت مشاعر الأهالي بنزولها ببيت مالي يهودي كان قد أخلص لها الخدمة وهو يعمل وكيلاً مالياً لها. واجتازت هولندة البروتستنتية متنكرة، ولكنها اتخذت زيها السافر في أنتورب الكاثوليكية. وهناك استقبلها استقبالاً ملكياً الأرشيدوق ليوبولد، وإليزابث ملكو بوهيميا السابقة (وهي ملكة مخلوعة أخرى)، وابنتها الأميرة إليزابث (وهي تلميذة أخرى لديكارت). ثم واصلت رحلتها إلى بروكسل، حيث استقبلت بالألعاب النارية، والصواريخ، وطلقات المدافع، والجموع الهاتفة المصفقة. وأسلمت نفسها حيناً في اغتباط للمراقص ومباريات الفروسية ورحلات الصيد والتمثيليات، وأوفد مازاران فرقة تمثيلية من باريس للترفية عنها، وفي عشية عيد الميلاد ارتدت سراً عن المذهب اللوثري، وأعلنت عزمها على ألا تستمتع إلى مزيد من المواعظ (31) "، ثم أطالت مكثها في فلاندر ريثما تعد الكوريا البابوية بروما العدة لاستقبالها رسمياً في الكنيسة وإيطاليا. وبعد أن غادرت بروكسل اخترقت النمسا في رحلة وئيدة. وفي انزبروك جهرت رسمياً باعتناقها المذهب الكاثوليكي. وكانت رحلتها في إيطاليا قاصدة روما أشبه برحلات القياصرة الظافرين عظمة وجلالاً. فتزينت المدينة تلو المدينة لتحييها، ونظمت المهرجانات والعروض تكريماً لها في مانتوا، وبولونيا، وفاينزا، وريميني، وبيزارو،(33/106)
وأنكونا، وأخيراً (19 ديسمبر 1655) دخلت روما وسط مهرجان من الأضواء هزأ بتنكرها. وفي الغد مضت إلى الفاتيكان حيث رحب بها البابا اسكندر السابع. وبعد أن مكثت بروما ثلاثة أيام غادرتها مصحوبة بحرس الشرف لتدخلها ثانية ذلك الدخول الرسمي الذي رتبه لها كبار رجال الكنيسة، فمرت بقوس نصر، وبالبورتا ديلبوبولو (بابا الشعب)، إلى المدينة ممتطية صهوة جواد أبيض يخطر على مهل، بين صفوف الجند وحشوة الأهالي وكأنما شعرت الكنيسة القديمة أن حركة الإصلاح البروتستنتي بأسرها قد أطاح بها ارتداد امرأة واحدة عن البروتستنتية.
فلما اكتمل هذا مله، سمح لكرستينا بأن تتصرف في وقتها كما تشاء، تستقبل الأساقفة، والحكام، والعلماء، وتزور المتاحف، والمكتبات، والأكاديميات، والأطلال، وتدهش مرشديها بمعلوماتها في تاريخ إيطاليا وآدابها وفنونها. وأغرقتها كبار الأسر بالولائم والهدايا والتحيات، ووقع الكردينال كولونا في غرامها وهو في الخمسين، وعزف لها ألحان حبه، ولم يكن بد من نفيه إنقاذاً لكرامة الكنيسة. وما لبثت أن وجدت نفسها وقد تورطت في منافسات الحزبيين الفرنسي والأسباني في البلاط البابوي. وقطعت السويد دخلها المقرر لها حين وجدت مشقة في تمويل حربها مع بولندة، فرهنت مجوهراتها، وتلقت قرضاً من البابا.
وفي يوليو 1656 خرجت في زيارة لفرنسا. وهناك أيضاً لقيت ما تلقى الملكات من تكريم. ودخلت باريس على جواد أبيض مطهم، وخرج ألف فارس لاستقبالها، وهتفت لها الجموع، وكاد كبار الموظفين يخنقونها بأزهارهم الخطابية، ووصفها دوق جيز ذلك العهد، الذي أوفده مازاران لمرافقتها، بهذه العبارات:
"ليست طويلة، ولكن لها خصراً ممتلئاً وشفتين كبيرتين، وذراعين حلوتين، ويداً بضة حسنة التكوين، ولكنها أقرب إلى يد الرجل منها إلى يد المرأة ... ووجهها كبير دون أن ينتقص ذلك من مظهره ... وأنفها معقوف، وفمها كبير نوعاً ولكنه ليس منفراً ... وعيناها بديعتان تشعان ناراً ... وعلى رأسها غطاء عجيب جداً ...(33/107)
باروكة رجل، كثة عالية ... ترتدي حذاء رجل، ولها نبرات صوت الرجل وكل تصرفات الرجل تقريباً، -تتظاهر بلعب دور المرأة المسترجلة (الأمازونة) .. وهي غاية في التأدب والمجاملة، وتتكلم ثماني لغات، لا سيما الفرنسية-وكأنها ولدت في باريس، إنها تعرف أكثر مما تعرف أكاديميتنا، مضافاً إليها السوربون، وتفهم التصوير فهماً جديراً بالإعجاب، وكذلك تفهم كل ما عداه. إنها لشخصية غاية في الغرابة (32) ".
وأنزلت جناح الملك في اللوفر. ثم صحبها دوق جيز بعد ذلك إلى كومبيين، حيث استقبلها لويس الرابع عشر، وكان يومها فتى وسيماً في الثامنة عشرة. والتفت سيدات القصر حولها كالفراشات، ولكن أربكهن استرجالها في اللباس والحديث. وذهبت مدام دموتفيل إلى أنها "تبدو لأول وهلة كأنها إحدى الغجريات سيئات السيرة" ولكن "بعد ذلك ... بدأت آلف لباسها .. ولاحظت أن عيناها جميلتان متألقتان، وأن في وجهها رقة، ولطفاً يمتزج بالكبرياء. وأخيراً أدركت في دهشة أنها أرضتني (33) ". على أنه يمكن القول عموماً أن النساء اللاتي وشين ما في المجتمع الفرنسي من عادات وأزياء وبهجة وكياسة ورشاقة، هؤلاء ساءهن إهمال كرستينا لملبسها، و "إفراطها في الضحك، وتحررها في حديثها سواء عن الدين أو عن المواضيع التي تتطلب أصول اللياقة عند النساء مزيداً من التحفظ فيها .. وقد جهرت بأنها تحتقر جميع النساء لجهلهن، ووجدت لذة في التحدث إلى الرجال سواء في المواضيع الطيبة أو الخبيثة. وضربت بالقواعد كلها عرض الحائط (34) ". ويرى فولتير أن نساء المجتمع الفرنسي قسون في الحكم على هذه الملكة المتمردة لأنها لم تسر على الجادة. قال "لم يكن في البلاط الفرنسي امرأة واحدة وهبت ذكاءها (35) ". أما كرستينا فقد حكمت على سيدات البلاط بأنهن شديدات التكلف، وعلى الرجال بأنهم شديدو التخنث، وعلى الفريقين بالافتقار إلى الإخلاص. وفي سنليس، في طريقها عائدة من كومبيين إلى باريس، طلبت أن ترى "آنسة تدعى نينون (دلانكلو)، مشهورة بالرذيلة، والتهتك، والجمال، والذكاء. ولم تبد أي علامة من علامات الاحترام إلا لهذه المرأة وحدها، دون سائر النساء اللائي رأتهن في فرنسا (36) ". وقد(33/108)
وجدت نينون حبيسة مؤقتاً في دير للراهبات. وتحدثت إليها كرستينا في مرح، وأقرتها على امتناعها عن الزواج (37). ثم عادت إلى إيطاليا بعد أن زارت مؤسسات فرنسا الثقافية وأهم آثارها الفنية (نوفمبر 1656).
وفي سبتمبر 1657 زارت فرنسا ثانية. ولم تستقبل ذلك الاستقبال الرسمي السابق، ولكنها أنزلت فونتنبلو بما يقرب من الحفاوة بالملوك. وهناك روعت فرنسا بما خالته استعمالاً مشروعاً لحقوقها الملكية على حاشيتها. وتفصيل ذلك أن ياورها المركيز مونالديسكي اشترك في مؤامرة ضدها كشفتها باعتراض رسائله. وزاد الموقف سوءاً باتهامه رجلاً آخر من حاشيتها بالتآمر عليها. فواجهته برسائله التي تثبت التهمة عليه، وأمرت قسيساً أن يسمع اعترافه ويمنحه غفران الكنيسة، ثم أصدرت الأمر لحراسها فأعدموا المركيز. وصعقت فرنسا، وحتى أولئك الذين اعترفوا بما منحها الديت السويدي من حقوق على أتباعها صمهم هذا الاستعمال الفجائي التعسفي لسلطتها في مسكن يملكه ملك فرنسا. وسمح لكرستينا بأن تنفق الشتاء في باريس، وتستمتع بالتمثيليات وحفلات الرقص، ولكن البلاط تنفس الصعداء حين رحلت إلى إيطاليا (مايو 1658).
وقد سبب لها قطع الدخل الذي يأتيها من السويد من الحرج الشديد ما جعلها فيما روي تطلب إلى الإمبراطور ليوبولد الأول جيشاً تقوده ضد شارل العاشر، ولكن ثناها عن هذه المغامرة العسكرية معاش سنوي من اثني عشر ألف سكودي قرره لها البابا الإسكندر السابع. وقد زارت السويد مرتين (1660 - 1667) لتستعيد دخلها، وربما تاجها. ورد إليها دخلها، ولكنها لم تلق ترحيباً في استوكهولم، واتهمها رجال الدين اللوثريين بأنها تتآمر لتحول الأمة إلى الكاثوليكية، ومنعت من الاستماع إلى القداس في مسكنها. وكانت بعد كل زيارة من هاتين الزيارتين تعتكف في هامبورج. ومنها أرسلت مندوبين إلى وارسو في 1668 ليعرضوا ترشيحها نفسها لعرش بولندة الذي خلا باعتزال يوحنا كازيمير. وعزز البابا كلمنت السابع مطلبها، ولكن الديت البولندي رفضها لأسباب كثيرة، منها رفضها أن تتزوج. وقد قالت إن إمبراطورية العالم بأسرها لن تحملها على الرضا(33/109)
بالزواج (38). ثم عادت إلى إيطاليا في 1668، ومكث بها حتى ماتت.
وكانت تلك السنوات العشرون الأخيرة أجمل سني عمرها. وأصبح جناحها في قصر كورسيني أهم الصالونات في روما، وملتقى الأساقفة، والعلماء، والملحنين، والنبلاء، والدبلوماسيين الأجانب. هناك رحبت بأليساندرو سكارلاتي، وتلقت من أركانجلو كوريللي إهداء أول سوناتاته المنشورة. وزينت حجراتها بالصور والتماثيل وغيرها من التحف المنتقاة بذوق كان مثار إعجاب الخبراء، أما المخطوطات التي جمعتها فقد عدت فيما بعد من خيرة ما ضمنته مكتبة الفاتيكان من مخطوطات. وكانت تثبط الأسلوب المتكلف الذي نما في الشعر الإيطالي، وأثرت على جيدي ليتزعم حركة تعود إلى نقاء اللغة، واستقامة التعبير، اللذين سادا في أيام أسرة مديتشي. وكانت مذكراتها مثالاً للكلام البسيط القوي، و "أقوالها المأثورة". آراء جادة سديدة لامرأة خبيرة بالدنيا، لم تسمح لتقواها بأن تفسد استمتاعها بالحياة. ولم تكن متعصبة، فقد أدانت عنف الكاثوليك الفرنسيين في تنفيذ قانون فسخ مرسوم نانت، وكتبت تقول "إني أنظر إلى فرنسا نظرتي إلى مريضة بتر ذراعاها وساقاها علاجاً لمرض كانت تشفى منه تماماً بممارسة اللطف والصبر (39) ". وذهب بيل إلى أن هذه العواطف بقية متخلفة من تربيتها البروتستنتية، فوبخته على هذا التفسير، فكتب إليها معتذراً، فغفرت له شريطة أن يوافيها بكتب جديدة أو غريبة (40).
وماتت عام 1689 بالغة الثالثة والستين، ودفنت في كنيسة القديس بطرس. وبعد موتها بثلاث سنوات أسس جوفاني ماريا كريسكمبيني تخليداً لذكراها "الأكاديمية الأركادية" وأكثر أعضائها الأوائل ممن اجتمعوا تحت جناحها. وواصلوا الصلة القديمة بين الشعر والرعوية، وسموا أنفسهم رعاة، واتخذوا أسماء ريفية، وعقدوا اجتماعاتهم في الحقول. وأنشئوا فروعاً في مدن إيطاليا الرئيسية، ومع احتفاظهم بالحيل البارعة ف بنيان قصائدهم، فإنهم أنهوا تسلط الأوهام على الشعر الإيطالي.(33/110)
4 - من مونتيفردي إلى سكارلاتي
كانت الموسيقى في ذلك المجتمع المرح، مجتمع إيطاليا القرن السابع عشر، نغمة الحياة ونسيمها. لقد خاض هذا الشعب المشبوب العاطفة الحروب في الأوبرات، وحارب معارك الحب في أغانيه الشعرية، بعد أن ألزمته أسبانيا والبابوية السلام رغم إرادته.
واتخذت الآلات الموسيقية عشرات الأشكال. وأصبح الأرغن الآن منفاخاً مزيناً له لوحتا مفاتيح لليدين ولوحة للقدمين، بالإضافة إلى أنابيب متنوعة، وكان هناك بالطبع أراغن متنقلة للشارع. وفي تاريخ مبكر (1598) نسمع بآلة أخرى لها لوحات مفاتيح سميت "البيانو أي فورتي" (أي الخافت والقوي) ورد ذكرها في قائمة الآلات التي يملكها ويعزف عليها الدوق ألفونسو الثاني في مودينا، ولكنا ما زلنا نجهل الفرق بينها وبين "البيلن القيثاري" بنوعيه elavieembalo ( الهاربيسكورد) و spinetta. وينقضي قرن قبل أن نسمع بالبيانو فورت الثانية. وفي 1709 عرض بارتولوميو كريستوفوري آلة موسيقية سماها gravicemblo col pianoe forte، وكان صانع الآلات الموسيقية لأمير عاشق للموسيقى يدعى فرديناند دي مديتشي بفلورنسة. وكانت هذه الآلة تختلف اختلافاً هاماً وإن كان طفيفاً عن الهاربسيكورد. فالنغمة تصدرها مطرقة صغيرة ترتفع لتقرع وتراً، وفي الإمكان خفض الصوت أو رفعه بتنويع لمس الأصابع للمفتاح-بينما النغمات في الآلات السابقة ذات لوحات المفاتيح تنبعث بوساطة ريشة (من ريش الطير أو الجلد القاسي) ترتفع لتنقر الوتر، ولا يمكن أحداث تنويع في قوة الصوت (1). وحل البيانوفورت بالتدريج محل الهاربسيكورد في القرن الثامن عشر، لا لأنه يستطيع أن يعزف الأصوات "الخافتة والعالية" فحسب، بل لأن مطارقه كانت تبلى بسرعة أقل مما يبلى ريش الطير.
أما الكمان فقد تطور من القيثارة (الليرة lyre) في القرن
_________
(1) في متحف المتروبولتان للفنون بنيويورك أحد بيانات كريستوفوري الذي يرجع تاريخه إلى 1720.(33/111)
السادس عشر، لا سيما في بريشا (1). فجلب أندريا أماتي فن صنع الكمان إلى كريمونا، وهناك تفوق حفيده نيكولو على جميع منافسيه في هذه الحرفة، إلى أن تفوق عليه هو ذاته تلميذاه أندريا جارنيري وأنطونيو ستراديفاي. وآل جارنيري مثال آخر من الأسر التي جرى فيها النبوغ في نفس الحرفة، فهناك أندريا وولداه بييترو "دي مانتوا" وجوزيبي الأول، وحفيده بييترو الثاني "دي فينيتسيا" وحفيد أخيه جوزيف الثاني "ديل جيزو"-الذي جعل بأجانيني يؤثر الكمان على سائر الآلات الموسيقية. وأقدم كمان يحمل توقيع ستراديفاري يرجع تاريخه إلى 1666، حين كان في الثانية والعشرين، وقد كتب عليه "أنطونيوس ستراديفاريوس ألومنوس نيكول أماتي فاتشيبات آنو 1666" ويلي هذا شعاره الشخصي-وهو صليب مالطي والحرفان الأولان من اسمه، أ. س، داخل دائرة مزدوجة. وكان يوقع فيما بعد ببساطة يشوبها الفخر "سترافيداريوس". وقد ألف العمل دون انقطاع، والقصد في الطعام، وعاش ثلاثة وتسعين عاماً، وجمع من الثروة بفضل ما تميزت به آلاته من روعة الجمال والبناء والنغم والصقل ما أصبحت معه عبارة "غني مثل ستراديفاري" مرادفاً كريمونياً للثراء العريض. والمعروف أنه صنع 1. 116 كماناً، وفيولا، وفيولنسيلو، وبقيت منها على قيد الحياة 540 كماناً، بيع بعضها بعشرة آلاف دولار (41). وقد ضاع سر الطلاء الذي كان يصقل به آلاته.
وشجع هذا التحسن في الآلات تطور الأوركسترا، وتأليف الموسيقى الآلاتية وأداءها. واكتشف المؤلفون والعازفون في الكمان مرونة في الحركة وتنوعاً في النغم يستحيلان على الصوت البشري، إذا كان في استطاعتهم أن يصعدوا ويهبطوا على السلم الموسيقي بيسر يفوق الوصف فعلاً، وأن يبنوا التنويعات ويتلاعبوا بها، وأن يهربوا من روتين اللحن ويقتحموا الجديد من الإيقاعات، والتطويرات، والتجارب. وأمكن بعد الجمع بين الآلات الكثيرة تحرير التأليف من الرقص ومن الأغنية على السواء، واستطاع التأليف أن يحلق على
_________
(1) زعم فلودزيميرز كامينسكي في 1961 أنه وجد أوصافاً للكمان في مخطوطات بولندية ترجع للقرن الرابع عشر-لوس أنجيليس تايمز، 11 أغسطس 1961.(33/112)
جناحيه هو في الجديد من المتتاليات، والتجميعات، والأشكال. وكان تومازو فيتالي سباقاً بسوناتات الكمان التي لم يعرف لها مثيل من قبل في غنى الابتكار، والتي أعانت على إرساء تعاقب الحركات السريعة والبطيئة والنشيطة. أما أركانجيلو كوريللي، فقد مهد الطريق بوصفه مؤلفاً وعازفاً ماهراً، للموسيقى الحجرية التي شاعت في القرن الثامن عشر بسوناتاته التي وضعها للكمان، وكان له هو وفيتالي في إيطاليا، وكوناو وهينريش فون بيبر في ألمانيا، الفضل في إعطاء السوناتا بناء وشكلاً باعتبارها قطعة "تعزف" بالآلات فقط، مقابل "الكانتاتات" التي هي مؤلفات تغني بالصوت. وكوريللي هو الذي قرر شكل "الكونشرتو جروسو"-كمانان وفيولنتشيللو واحدة تقود أوركسترا وترياً-بألحان بسيطة مشجية مثل "كونشرتو عيد الميلاد" (1712)، ففتح بذلك طريقاً لكونشرتو فيفالدي وهندل ومتتابعات باخ الأوركسترية وقد احتفظت ألحان كوريللي بشعبيتها في القرن الثامن عشر فترة طالت حتى لقد خيل لبيرني وهو يكتب حوالي عام 1780 أن شهرتها ستبقى "ما بقي النظام الحالي للموسيقى مبعث بهجة لآذان البشر (42) ".
وكما أصبح كوريللي المؤلف المفضل للكمان، فكذلك هيمن أليساندرو شتراديللا على موسيقى هذا العصر الصوتية، بالأصوات الفردية، والثنائية، والثلاثية، والأوراتوريوات. وكانت حياته ذاتها دراما في الموسيقى، وقد حولت إلى تمثيلية وأوبرا. ذلك أنه أحرز في عمله مدرساً للغناء بالبندقية نجاحاً محزناً. فقد فرت معه لروما إحدى تلميذاته الأرستقراطيات، واسمها أورتنسيا، مع أنها كانت مخطوبة لعضو الشيوخ البندقي ألفيزي كونتاريني. وأرسل عضو الشيوخ فتاكاً ليقتلوه. ولكن حين سمعه هؤلاء القتلة المرهفة الحس يرتل الدور الرئيسي في لحنه "أوراتوريو دي سان جوفاني باتيستا" في كنيسة سان جوفاني باللاتيرانو، تأثروا بالموسيقى (كما تقول القصة) تأثرهم جعلهم يقلعون عن القيام بما كفلوا به، ويحذرونه هو ورفيقته ليلتمسا مخبأً آمناً. وفر العشيقان إلى تورينو، ولكن سرعان ما اشتهر أليساندرو هناك بمؤلفاته وصوته شهرة هددته بالخطر. وأرسل كونتاريني فاتكين لا يهويان الموسيقى ليقتلاه، فهاجماه، وتركاه وهما(33/113)
يحسبانه قد مات. ولكنه أفاق، وتزوج أورتنسيا، ورحل معها إلى جنوه. وهناك عثر عليهما مأجورو عضو الشيوخ، فطعناهما طعنات أودت بحياتهما (1682) (43). وظل الأوراتوريو الذي قيل أنه أنقذ حياته محتفظاً بشعبيته قرناً كاملاً، وقد مهد السبيل أمام هندل.
وغدت الأوبرا الآن هوساً في إيطاليا. فالبندقية وحدها كانت بها ست عشرة داراً للأوبرا في 1699، وقد استمعت إلى قرابة مائة أوبرا مختلفة بين عامي 1662 و 1680 (44). كذلك أقبلت نابلي على هذه الفرجة المشجعة بما يقرب من هذا التهافت. أما في روما فقد أصبحت الأوبرا رمزاً على حركة علمنة الموسيقى السائرة قدماً، وقد ألف كلمنت التاسع نفسه بعض الفكاهيات الموسيقية قبل أن يرتقي عرش البابوية (45). وكان هناك اضمحلال مؤقت في جودة الأوبرا الإيطالية بعد مونتفردي ففقد الحبكات بعض وقارها ودلالتها، وازدادت سخفاً وعنفاً. وطور فرانشسكو كافاللي، أحد تلاميذ مونتفردي، اللحن المنفرد باعتباره أحلى جزء من العرض، وسرعان ما طالبت الجماهير بسلسلة من الألحان الدرامية، وكانت تحتمل فترات الاستراحة بصبر نافد. وقام الخصيان من الغلمان أو الرجال بكثير من أدوار السوبرانو أو الكونترالتو، ولكن البريمادونات بدأن الآن ينافسن الملكات. ووجه ملتن أغنيات لاتينية إلى ليونورا باروني، وخرجت نابلي على بكرة أبيها لترحب بأم ليونورا، أدريانا بازيلي، أعظم المغنيات السوبرانو إثارة للأحاسيس في زمانها-ولعل أجهزة المسرح الآلية بلغت في هذا العصر الغاية التي ما بعدها غاية. يقول مولمنتي أن مسرح سان كاسيانو، في بندقية القرن السابع عشر، كان يستطيع عند الطلب أن يعرض قصراً ملكياً، وغابة، ومحيطاً، وجبل أولمب، والجنة، ومرة علقت قاعة رقص كاملة الإضاءة، بكل أثاثها وراقصيها، فوق المسرح الثابت، وكانت تخفض لتستقر عليه أو ترفع لتواري عن الأنظار حسب مقتضيات القصة (46). وحاول ماركانطونيو تشستي أن ينقذ الأوبرا من الأغنية، فأعطى مزيداً من الاتساع والبروز للاستهلال، ومن المنطق والرصانة للرواية، ثم نوع الغناء بالريستاتيف. وكان تشستي وكوريللي كلاهما مبعوثين موسيقيين، حملا الأوبرا الإيطالية الواحد إلى باريس على عهد لويس الرابع عشر، والآخر إلى فيينا على عهد ليوبولد الأول. وهكذا كانت(33/114)
أوربا شمال جبال الألب، في فن الأوبرا، مستعمرة إيطالية (47).
وكان أبرز ملحني الأوبرا الآن أليساندرو سكارلاتي. ولقد طغت شهرة ابنه دومنيكو اليوم على شهرته، ولكن اسم "سكارلاتي" كان إلى عهده القريب يعني أليساندرو، وكان دومنيكو أشبه بتوقيع متعاقب سريع على وتر اسم مشهور. وقد وفد أليساندرو على روما وهو في الثالثة عشرة، ودرس حيناً على كاريسيمي، ولحن للكانتاتات، وحفز همته فن ستراديللا وسيرته، وفي العشرين أخرج أولى أوبراته المعروفة L'errore innocente ( الغلطة البريئة) وقد أعجبت الأوبرا كرستينا ملكة السويد، فبسطت جناحها على أليساندرو، وأخرجت أوبراته التالية على مسرحه الخاص. وفي 1684 قبل وظيفة "المايسترو دي كابللا" لنائب الملك الأسباني في نابلي، وظل يشغلها ثمانية عشر عاماً، يخرج الأوبرات في تتابع سريع حتى بلغت عند وفاته على الأقل 114، لا يعيش منها اليوم سوى نصفها، ولعل سوليمينا رسم في هذه الفترة اللوحة الممتازة التي ترى في كونسرفاتوريو نابلي الموسيقى-وجه نحيل، يفيض حساسية، وتركيزاً، وعزيمة.
وجاءت حرب الوراثة الأسبانية فكدرت صفاء نابلي، وتأخر صرف راتب سكارلاتي كثيراً حتى اضطر للرحيل إلى فلورنسة مع زوجته وأسرته، ولحن وأخرج الأوبرات تحت رعاية الأمير فرديناند. وبعد عام انتقل إلى روما رئيساً لفرقة مرتلي الكنيسة للكردينال بييترو أوتوبوني، وكان كنسياً مرحاً مثقفاً، خلف كرستينا قطباً وراعياً للفنون في روما، ووزع طاقاته الدنيوية على الفن والأدب والموسيقى والخليلات (48). وفي 1707 ذهب أليساندرو إلى البندقية حيث أخرج رائعته Mitridate Eupatore وهي أوبرا تتميز بخلوها تماماً من تشويق الحب. في ذلك العام دانت نابلي للحكم النمساوي، فدعا نائب الملك سكارلاتي ليعود إلى سابق وظيفته، فوافق، وأنفق هناك العقد الأخير من حياته، حين بلغ أوج شهرته.
وقد قررت أوبراته أسلوباً دام نصف قرن. جعل الاستهلال مؤلفاً هاماً لا يرتبط بالأوبرا، وقسمه إلى ثلاث حركات ظلت قياسية حتى(33/115)
مجيء موتسارت: الألليجرو، والأداجيو، والألليجرو. أما اللحن (الآربا) فأعطاه سيطرته النموذجية في القرن الثامن عشر وشكله الأعادي da capo، الذي يعيد فيه القسم الثالث الأول، ونفث فيه الحرارة العاطفة، والحنان، والتلوين الرومانسي، وجعله أداة لإبداعات المغنين في العزف والارتجال، ولكن تكراره قطع الوجدان والحركة قطعاً مفتعلاً. وقد قاوم حيناً طلب الجماهير للألحان العاطفية، وأخيراً أذعن، وظلت دراما الموسيقى خمسين عاماً تحظى بألف انتصار دون أن تنتج آثاراً قادرة على مغالية تقلبات الذوق. واضمحلت الأوبرا حين أيقظها جلوك لحياة وشكل جديدين، في فيينا (1762) وباريس، بجمال أوبرا Orfeo ed Euridice المقيم.
5 - البرتغال
1640 - 1700
حين توج دوق براجانزا ملكاً باسم يوحنا الرابع (1640) بدأت البرتغال حرباً امتدت ثمانية وعشرين عاماً لتدافع عن استقلالها الذي استردته من أسبانيا. وقدمت لها فرنسا يد المعونة حتى 1659، حين وافق مازاران في صلح البرانس على أن يكف عن مساعدة البرتغال. واتجه الفونسو السادس إلى إنجلترا طالباً العون. وأوفدت كاترين أميرة براجانزا إلى لندن عروساً لتشارلز الثاني (1663)، حاملة معها صداقاً هو بومباي، وطنجة، و500. 000 جنيه. وأرسلت إنجلترا الجند والسلاح مقابل ذلك. وبهذه المعونة وغيرها، وبجهود البرتغاليين وقيادتهم وحسن نظامهم قبل كل شيء، راحوا يردون جيوش أسبانيا على أعقابها الواحد تلو الآخر، حتى اعترفت أسبانيا رسمياً بمقتضى معاهدة لشبونة (1668) باستقلال البرتغال.
وعزز بيدرو الثاني العلاقات مع إنجلترا بمعاهدة ميثوين (1703). فوافقت كل من الأمتين على أن تمنح الأخرى تعريفات تفضيلية، وعلى أن تستورد البرتغال السلع المصنوعة من إنجلترا وتستورد النبيذ والفاكهة من البرتغال. وهكذا شربت إنجلترا القرن الثامن عشر نبيذ البورت من أوبورتو، بدلاً من الكلاريت "الصافي clear" من بوردو. وقد وفر هذا التحالف الاقتصادي للبرتغال ومستعمراتها الباقية حماية دائمة من أسبانيا وفرنسا.(33/116)
وفي 1693 كشفت مناجم ذهب ميناس جيرايس في البرازيل، وسرعان ما غلت لبيدرو الثاني من سبائك الذهب ما أتاح له أن يحكم بعد 1697 دون حاجة لدعوة الكورتيز (المجلس التشريعي) للموافقة على منحه المال، وأن يحتفظ في لشبونة ببلاط من أفخم البلاطات في أوربا. على أن المذهب الأمريكي تمخض في البرتغال عن نفس النتائج التي تمخض عنها في أسبانيا: فقد استعمل لشراء السلع المصنوعة من الخارج بدلاً من تمويل المشاريع الصناعية في الداخل، وظل الاقتصاد الوطني اقتصاداً زراعياً كسولاً، وحتى الكروم المحيطة بأوبورتو وقعت في قبضة الإنجليز الذين اشتروها بالذهب البرتغالي الذي حصلوا عليه من التجارة الإنجليزية.
وواصل المؤلفون البرتغاليون تنشيط الأدب بالأعمال. من ذلك أن فرانشسكو مانويل دي ميلو اللشبوني التحق بالأفواج الأسبانية الذاهبة إلى فلاندر بعد أن درس في كلية أنتاو اليسوعية، وخاض معارك عدة كتبت له فيها الحياة، وقاتل في صف ملك أسبانيا في التمرد القتلوني وألف تاريخاً له (تاريخ حرب قتلونيا) في كتاب من عيون الأدب الكثيرة التي أسهم بها البرتغاليون في الأدب الأسباني. فلما أعلنت البرتغال تحررها من ربقة أسبانيا عرض خدماته على يوحنا الرابع، ولقي عرضه ترحيباً، وجهز أسطولاً برتغالياً وتولى قيادته، ثم وقع في غرام كونتيسة فيللانوفا الساحرة، فقبض عليه بإيعاز من زوجها، وقضى تسع سنين في السجن. فلما أطلق سراحه شريطة أن ينفى إلى البرازيل، ذهب ليعيش في باهيا (بايا)، حيث كتب Apologos dialogaes. وسمح له بالعودة في 1659. فأصدر في السنين السبع الباقية في أجله مؤلفات في الأخلاق والأدب، وبعض الشعر، وتمثيلية سبق بها موضوع وفكاهة تمثيلية موليير "البورجوازي مدعي النبل". ومع أنه كتب بالأسبانية، فإن البرتغال تحسبه بحق ابناً من ألمع أبنائها.
وكاتب آخر هو أنطونيو فييرا، الذي ولد في لشبونة (1608)، وأخذ في طفولته إلى البرازيل، وتلقى العلم على يد اليسوعيين في باهيا، وانضم إلى طريقتهم، وأدهش الناس جميعاً حين اقترح في مواعظ وكتيبات بليغة على الحكومة أن تمارس المسيحية. فلما(33/117)
بعث في مهمة إلى البرتغال (1641) أثر في يوحنا الرابع بنزاهة خلقه وتنوع مواهبه تأثيراً حدا به إلى تعيينه عضواً في المجلس الملكي، وهناك شارل بنصيب غير صغير في التخطيط للانتصارات التي ردت لوطنه استقلاله. ثم هز الأفكار الراسخة بالمطالبة بإصلاح ديوان التفتيش، وفرض الضرائب على جميع الناس دون اعتبار للطبقة، والسماح لليهود بدخول البرتغال، وإلغاء التمييز بين "المسيحيين القدامى" و "المسيحيين الجدد" (أي اليهود الذين اعتنقوا المسيحية). وكان مثالاً، من أمثلة كبيرة، على حيوية اليسوعيين وتعدد قدراتهم ونزعتهم التحررية المتكررة الظهور.
فلما عاد إلى البرازيل (1652)، أرسل مبعوثاً إلى مارانهاو، ولكن نقده الصارم لهمجية سادة العبيد وأخلاقهم حملهم على السعي حتى نفي إلى البرتغال (1654). ودافع أمام الملك عن قضية الهنود المظلومين، وحصل على شيء من التخفيف عنهم. فلما عاد إلى أمريكا الجنوبية (1655)، أنفق ست سنوات كان فيها "رسول البرازيل"، يقطع مئات الأميال على الأمازون وروافده، ويخاطر بحياته كل يوم بين القبائل المتوحشة وأهوال الطبيعة، ويعلم الوطنيين فنون الحضارة، ويدافع عنهم ضد سادتهم في شجاعة حملت هؤلاء أيضاً على الحصول على أمر بنقله إلى البرتغال (1661). وهناك قبض عليه ديوان التفتيش متهماً إياه بأن كتاباته تحتوي على هرطقات خطرة وتطرفات تستحق الإدانة (1665). وهالته الأحوال في سجون الديوان-إذ رأى خمسة رجال محشورين في زنزانة عرضها تسعة أقدام وطولها أحد عشر، لا يدخلها الضوء الطبيعي إلا من شق في السقف، ولا تغير فيها الأواني إلا مرة في الأسبوع (49). وأطلق سراحه بعد سنتين، ولكنه منع من الكتابة أو الوعظ أو التعليم. فذهب إلى روما (1669)، وهناك رحب به كلمنت العاشر وكرمه، واستهوى الكرادلة والعامة بفصاحته. وعبثاً التمست منه كرستينا ملكة السويد السابقة أن يكون مرشدها الروحي. وقد عرض على البابا اتهاماً مفصلاً لديوان التفتيش باعتباره وصمة على جبين الكنيسة ونكبة على رفاهية البرتغال. وأمر كلمنت بأن تحال إلى روما كل القضايا المعروضة(33/118)
على ديوان التفتيش البرتغالي، وعطل إنوسنت الحادي عشر تلك الهيئة خمس سنوات.
وأحس فييرا بوحشة للهنود رغم انتصاراته، فأبحر مرة أخرى إلى البرازيل (1681)، وجاهد هناك معلماً ومرسلاً رسولياً حتى أدركته الوفاة وهو في التاسعة والثمانين. وتحتوي مؤلفاته التي يضمها سبعة وعشرون مجلداً، على الكثير من الألغاز الغيبية، ولكن عظاته التي قورنت بعظات بوسوية، وضعته في صف "فحول اللغة البرتغالية (50) "، وخدماته وطنياً ومصلحاً حملت الشاعر البروتستنتي صدى على أن يسلكه في عداد أعظم ساسة وطنه وزمانه (51).
6 - انهيار أسبانيا
1665 - 1700
كانت أسبانيا في 1665 لا تزال أعظم الإمبراطوريات في العالم المسيحي. حكمت الأراضي المنخفضة الجنوبية، وسردانيا، وصقلية، ومملكة نابلي، ودوقية ميلان، ومساحات شاسعة في أمريكا الشمالية والجنوبية. ولكنها كانت قد فقدت القوة البحرية والحربية اللازمة للسيطرة على تجارة هذا الملك المبعثر ومصيره. وكانت أساطيلها الثمينة قد دمرها الإنجليز (1588) والهولنديون (1639)، وهزمت جيوشها هزائم فاصلة في روكروا (1643) ولينز (1648)، واعترف دبلوماسيوها في صلح البرانس (1659) بانتصار فرنسا، وكان اقتصادها يعتمد على تدفق الذهب والفضة من أمريكا، وهذا التدفق كان يقطعه المرة بعد المرة الأسطول الهولندي أو الإنجليزي. وتقلصت تجارتها وصناعاتها لاعتمادها على الذهب الأجنبي واحتقار شعبها للمتاجرة. وكان الكثير من التجارة الأسبانية يحمل في سفن أجنبية. ونقص عدد السفن الأسبانية العاملة بين أسبانيا وأمريكا 75% في عام 1700 عنه في عام 1600. وكانت البضائع المصنوعة تستورد من إنجلترا وهولندا، ويدفع ثمن جزء منها فقط بتصدير النبيذ أو الزيت أو الحديد أو الصوف، والباقي يدفع سبائك ذهبية، ومعنى ذلك أن الذهب الأمريكي إنما كان يمر مروراً بأسبانيا والبرتغال في طريقه إلى إنجلترا وفرنسا والأقاليم المتحدة. وكانت قرطبة وبلنسية(33/119)
في حالة اضمحلال واع برم بعد شهرتها الماضية بحرفها. وكان طرد المغاربة قد آذى الزراعة، وغش العملة المرة بعد المرة أربك المالية. وبلغت حال الطرق من السوء وحال النقل من التخلف مبلغاً وجدت معه المدن القريبة من البحر، أو الواقعة على أنهار صالحة للملاحة، أنه أرخص لها أن تستورد البضائع، حتى الغلال، من الخارج عن أن تجلبها من مصادرها في أسبانيا. وحاولت الضرائب الباهظة، بما فيها ضريبة بيع ارتفعت إلى 14%، أن تمول حروب أسبانيا ضد أعداء استعصت هزيمتهم إلى حد لا يصدق، رغم الافتراض بأنهم ملعونون من الله. وهبط مستوى المعيشة هبوطاً حمل أعداداً لا تحصى من الأسبان على هجر مزارعهم ومتاجرهم وأخيراً وطنهم. وارتفعت وفيات الأطفال، ويبدو أنه كان هناك بعض التحديد الماكر لعدد أفراد الأسرة. فقد أصبح آلاف الرجال والنساء رهباناً عقيمين أو راهبات وانطلقت آلاف أخرى للمغامرة في أراض نائية. وفقدت إشبيلية، وطليطلة، وبرجوس، وسقوبية بعض سكانها. وهبط سكان مدريد في القرن السابع عشر من 400. 000 إلى 200. 000 (52) لقد كانت أسبانيا تموت من مرض الذهب.
وفي وسط الفقر المنتشر المتكاتف كدست الطبقات العليا ثروتها وعرضتها على الأنظار. وأمسك النبلاء، الذين طال إثراؤهم باستغلال الأهالي أو بالكنوز المستوردة، عن استثمار ثروتهم في الصناعة أو التجارة، وراحوا يبهرون أبصار بعضهم البعض بالجواهر والمعدن النفيس، وبالملاهي الغالية والأثاث الفخم. من ذلك أن دوق ألفا كان يملك 7. 200 من صحاف الفضة و9. 600 من الآنية الفضية الأخرى، وأن أمير ستليانو صنع لزوجته محفة من الذهب والمرجان بلغ ثقلها حداً لم يسمح باستعمالها. كذلك احتفظت الكنيسة بغناها، واستكثرت منه (53)، وسط الفاقة المحيطة بها. ورأى رئيس أساقفة سنتياجو أن يبني كنيسة كاملة من الفضة، فلما ثنوه عن ذلك بناها كلها بالرخام (54). لقد كان دم الشعب تربة الثروة ومجد الله.
أما ديوان التفتيش فكان على عهدنا به من شدة البأس، بل أشد بأساً من الحكومة. وقلت الاحتفالات التي يصدر فيها الحكم بالموت على المهرطقين عن ذي قبل، لا لشيء إلا لأن الهرطقة كانت قد أبيدت(33/120)
حرقاً. وكانت القيود التي أعجزت الكاثوليك في إنجلترا لا تقاس بما يلقاه البروتستنت من أخطار في أسبانيا. وعجز كرومويل عن حماية التجار الإنجليز هناك. وقبض ديوان التفتيش في 1691 على الخادم البروتستنتي للسفير الإنجليزي، وفي تلك السنة نبش الشعب جثة القسيس الأنجليكاني الخاص بالسفير ومثل بها تمثيلاً. واستمر حرق اليهود المنتصرين الذين اتهموا بأنهم يضمرون يهوديتهم. وبنى ديوان التفتيش لنفسه في ميورقه قصراً جميلاً من الثروة التي صادرها في تحقيق واحد (55). وكانت الجماهير تؤيد بحرارة هذه المحرقات وإن حاول كثير من النبلاء تثبيطها. فلما أعرب شارل الثاني في 1680 عن رغبته في أن يشهد احتفالاً بحرق المهرطقين، تطوع صناع مدريد بأن يبنوا مدرجاً للمشهد المقدس، وفي أثناء قيامهم بالعمل كانوا يشجعون بعضهم بعضاً على الإسراع والاجتهاد بألوان من الحض الديني، لقد كان حقاً جهداً من جهود المحبة. وحضر شارل وعروسه الشابة في كل أبهة الملك، وحوكم 120 سجيناً، وأحرق واحد وعشرون حتى الموت في مرجل في الميدان الكبير، وكان هذا أعظم وأفخم احتفال بحرق المهرطقين في تاريخ أسبانيا، ونشر كتاب من 308 صفحة يصف الحدث ويخلد ذكراه (56). وفي 1696 عين شارل "هيئة كبرى" لفحص مفاسد ديوان التفتيش، فقدمت تقريراً أماط اللثام عن شرور كثيرة وأدانها، ولكن الرئيس العام للديوان أقنع الملك بأن يلقي بهذا "الاتهام الرهيب" في زوايا النسيان. فلما طلبه فليب الخامس في 1701 لم يعثر على نسخة منه (57). على أن الدين خفف من غلوائه بعد ذلك وقلل من حرائقه.
أما الكنيسة فقد حاولت أن تفتدي ثروتها وتدعم الإيمان بتمويلها للفن. ففي 1677 صمم فرانشسكو دي هيريرا ايلموزو كتدرائية سرقسطة الثانية التي سميت "ديل بيلار" لأنها تفاخر بعمود اعتقد الناس أن العذراء نزلت عليه من السماء. وجاءت العمارة الباروكية الآن إلى أسبانيا، وبين عشية وضحاها تحول المزاج الأسباني من الاكتئاب القوطي إلى الإسراف الزخرفي. وأشهر المعماريين هنا خوزي شوريجويرا، وقد أصبح لفظ "شوريجويريسكا" حيناً علماً على الباروك الأسباني. ولد في سلمنقة عام 1665، وأبدى نشاطاً مفرطاً(33/121)
في العمارة والنحت وصناعة الأثاث والتصوير. فلما وفد على مدريد في الثالثة والعشرين دخل في مسابقة لتصميم نعش لجنازة الملكة ماريا لويزا، ففاز بالجائزة، وتوطدت شهرته بالبراعة الزخرفية العربية بفضل هذا البناء المختلط (58)، المؤلف من أعمدة عجيبة الشكل وكرانيش مكسرة، والمزين بالهياكل العظمية والعظام المتقاطعة والجماجم. ثم عاد غلى سلمنقة حوالي 1690، وظل يكد فيها عشر سنين، يزخرف الكتدرائية، ويبني المذبح العالي في كنيسة القديس أسطفان، والبهو الفخم في مجلس المدينة. وفي مدريد صمم قرب ختام حياته واجهة كنيسة القديس توما، ولما مات (1725) ترك استكمال البناء لولديه جيرونيمو ونيقولا، وفي أثناء اشتغالهما بهذه العمليات سقطت القبة فوق رءوس الكثير من العمال والمصلين فسحقتهم. وهاجر إلى المكسيك لون معتدل نوعاً ما من باروك شوريجويرا، وهناك أثمر بعض المباني التي تعد من أجمل ما شيد في أمريكا الشمالية.
وظل النحت تعبيراً قوياً عن الروح الأسبانية. وكان مصدر هذه القوة أحياناً واقعية شاذة، كما نراها بتفصيل دموي في رأس يوحنا المعمدان أو غيره من القديسين مقطوعي الرءوس. وكان متحف بلد الوليد يحتفظ برأسين من هذا النوع للقديس بولس (59). وظلت حجب المذبح لوناً أثيراً من ألوان الفن، فترى بيدرو رولدان ينحت الحجب الكبرى في كنيسة الأبرشية الملحقة بالكاتدرائية، وفي مستشفى دي لا كاريداد في إشبيلية، وابنته لويزا رولدانا، مثاله أسبانيا الفذة تنحت في كتدرائية قادس مجموعة تماثيل تتركز حول "نوسترا سينورا دي لاس أنجوستياس" (سيدة الأحزان). وهيمن بيدرو دي مينا على العصر بتماثيل عراياه (وما أندرها في الفن الأسباني)، وتماثيل السيدة العذراء، ومقعد المرتلين في كاتدرائية ملقا، ويعد تمثاله" سان فرانسسكو" في كاتدرائية إشبيلية من أروع أمثلة النحت الأسباني. وحوالي نهاية القرن السابع عشر أدرك هذا الفن ما أدرك غيره من تدهور عام. فأثقلت الحشوات بالزخارف، وزودت التماثيل بأجهزة آلية لتحريك الرأس والعينين والفم، وأضيف الشعر والملابس الحقيقية، واللون دائماً، في جهد للوصول إلى أبسط التصور والذوق الجماهيريين.
وولى عصر العمالقة في التصور الأسباني، ولكن(33/122)
بقى الكثير من صغار الأبطال. فكان خوان كارينو دي ميراندا، الذي خلف فيلا سكويز مصوراً للبلاط، محبوباً كسلفه تقريباً-رجلاً متواضعاً لطيفاً، يبلغ به الاستغراق في عمله مبلغاً ينسيه أحياناً هل أكل أو لم يأكل. وقد سرت صوره لشارل الثاني وحاشيته الملك الشاب حتى عرض عليه لقب الفروسية وصليب سنتياجو، ولكن كارينو رفض هذا التشريف لأنه رآه فوق ما يستحق. وفي تلك الأيام ابتهجت مدريد بقصة "الكنتريللو دي مييل" (برطمان العسل). وتفصيل ذلك أن فناناً مغموراً يدعى جريجوريو أوتاندي رسم لوحة للراهبات الكرمليات طلب عليها أجراً مائة دوكاتية، فاستكثرن عليه الأجر، ولكن وافقن على تحكيم كارينو. وقبل أن يسمع كارينو بالأمر، أهداه أوتاندي برطمان عسل، ورجاه في أن يضع اللمسات الأخيرة للوحة. ففعل، وتحسنت الصورة كثيراً. ودهش كارينو حين طلبت إليه الراهبات تقييمها. فرفض، ولكن فناناً ثالثاً قدرها بمائتي دوكاتية، وكتم السر حتى دفع الثمن.
وفي ختام حياته يسر كارينو سبيل النجاح لأحد خلفائه، وهو كلوديو كويللو، الذي ظل يرسم آناء الليل وأطراف النهار دون أن يحقق نتائج ذات بال. فصادقه كارينو، وحصل له على إذن بأن يدرس وينسخ أعمال تتسيانو وروبنز وفانديك في قاعات الفن الملكية. وأعانت هذه التجربة كلوديو على النضج، وفي 1684، وقبل موت كارينو بعام، عين كويللو مصوراً للملك. وقد أحرز الشهرة في وطنه بلوحته "ساجرادا فورما" أي القربانة المقدسة، التي ظهرت فيها هذه القربانة تقدم إلى شارل الثاني لوضعها على مذبح في الأسكوريال. والأسطورة التي من وراء الصورة تعبر عن مزاج أسبانيا. تقول الرواية أنه في أثناء الحرب مع الهولنديين داس بعض الكلفنيين الفجرة قطعة من خبز القربان المقدس تحت أقدامهم، وسالت من القربانة المصابة قطرات من دم، هدت للتو أحد مدنسيها إلى الكاثوليكية، وحملت القربانة التي استنقذت إلى فيينا في احترام وإجلال، وأرسلت هدية إلى فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ وهي تعرض دورياً، ملطخة بدم المسيح على العابدين الخاشعين. وصور كويللو الملك وكبار حاشيته راكعين في تعبد أمام الخبز المعجز. وظهر في الصورة نحو خمسين(33/123)
شخصاً، كلهم تقريباً صاحب شخصية متميزة، وقد رتبوا في منظور ذي عمق خداع للبصر بشكل ملحوظ (60). بعد هذا العمل الذي اقتضاه الفراغ منه عامين، أصبح كويللو سيد الفنانين قاطبة في العاصمة غير منازع. وبعد ست سنوات (1692) حجبه بغتة وصول لوكا فاريريستو جوردانو من إيطاليا، وكلف لوكا على الفور بالدور الأول في زخرفة الأسكوريال من جديد. وزاد لوكا الطين بلة بامتداحه صور كلوديو. وأنهى كويللو الصور التي كلف بها، ولكنه ألقى فرشاته جانباً. وبعد عام من وصول جوردانو مات كويللو وهو بعد في الحادية والخمسين، وقيل قهراً وغيرة (61).
وخلال ذلك شهدت إشبيلية ميلاد ووفاة (1630 - 90) آخر فنان عظيم في التصوير الأسباني قبل جويا، وهو خوان دي فالديس ليال. وكان مثل كويللو برتغالي الأبوين أسباني المولد. وبعد أن أنفق سنوات في قرطبة، رحل إلى إشبيلية ليتحدى تفوق موريللو. وكان فيه من الكبرياء ما لم يسمح له بأن يقدم لرعاته الجمال الناعم لعذارى (مادونات) محتشمات. وقد صور العذراء في صعودها، ولكنه وضع قلبه وقوته في صور أخرى لا تعرف هوادة في الغض من لذات الحياة والإيماء إلى الموت الذي لا مهرب منه. فرسم القديس أنطونيوس يتولى في هلع عن فتنة النساء (62). وصورت لوحته "آن أكتو أوكولي" (أي في طرفة عين) الموت هيكلاً عظمياً يطفئ شمعة الحياة التي يكشف ضوءها القصير الأجل، في فوضى اختلطت على أرض الحجرة، عدة الأطماع الدنيوية ومجد العالم-الكتب، والسلاح، وتاج أسقف، وتاج ملك، وسلسلة لطائفة "الفروة الذهبية". وفي صورة مغايرة تدور حول هذه الفكرة أرانا ليال حفرة مقبرة تبعثرت فيها الجثث والهياكل والجماجم، ومن فوقها كلها يد جميلة تمسك بميزان تحتوي إحدى كفتيه على شعارات فارس، والأخرى على شارات أسقف، والكفة الأولى كتب عليها "نيماس" أي لا أكثر، والثانية "نيمينوس" أي لا أقل-فرجال الدنيا ورجال الدين على السواء وجدوا ناقصين في موازين الله. ورأى موريللو أول الصورتين، فقال لفالديس "إنها أيها الزميل صورة لا يستطيع المرء أن ينظر إليها دون أن يمسك بأنفه (63) "-وهي عبارة يمكن أن تفسر بأنها ثناء على واقعية المصور، أو رد فعل عقل سليم للفن المنحط.(33/124)
ذلك أن الانحطاط كان سمة للعهد، فلم يشرفه أديب عظيم، ولم تعرض على مسرحه تمثيلية فذة. أما الجامعات فكانت تنزوي وسط الخراب والظلامية السائدين، ففي جامعة سلمنقة هبط عدد الطلاب في هذه الفترة من 7. 800 إلى 2. 076 (64). وجاهد ديوان التفتيش وقائمة الكتب المحرمة بنجاح ليقصيا عن أسبانيا كل أدب يسيء إلى الكنيسة، وظلت أسبانيا طوال قرن توصد أبوابها كأنها صومعة عابد في وجه حركات الذهن الأوربي. وتربع الانحطاط بشخصه على عرش الملك رمزاً للعهد.
وبيان ذلك أن شارل الثاني أصبح ملكاً وهو بعد في الرابعة (1665) وفي سني حداثته كانت أمه الملكة ماريانا تحكم البلاد اسماً، أما حاكمها الفعلي فكان كاهن اعترافها اليسوعي يوهانز ابرهارد نيذارد، ثم عشيقها فرناندو فالنزويلا. وتفاقمت الفوضى، وكانت الوزارة الكفء التي تولاها دون خوان نمساوي آخر، أقصر أجلاً من أن توقف الانحلال. وفي 1677 تقلد الملك ذو الستة عشر عاماً الحكم وجلس عاجزاً على قمة هذا الصرح المنهار. ولعل التزاوج المتصل بين أفراده أسرة هابسبورج أسهم في ضعف بدنه وعقله. وكانت الذقن الهابسبورجية في شارل بارزة بروزاً أعجزه عن مضغ طعامه، ولسانه من الكبر بحيث لم يكد كلامه يفهم. وظل إلى العاشرة يعامل كأنه طفل يحمل بين الذراعين. وكان لا يكاد يستطيع القراءة، ولم يتلق من التعليم إلا القليل، وكان أعز ميراثه خرافات مذهبه وأساطيره. ويصف مؤرخ أسباني كبير بأنه "عليل، أبله شديد التعلق بالخرافات"، وكان "يعتقد أنه ممسوس، وكان ألعوبة لأطماع كل من أحاطوا به (65) ". وقد تزوج مرتين، ولكن "كان من المعروف للجميع أنه لا يستطيع توقع الخلف (66) ". هذا القصير الأعرج، المصروع، الخرف، المصلع تماماً قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين، كان دائماً على شفا الموت، ولكنه حير العالم المسيحي المرة بعد المرة ببقائه على قيد الحياة.
وأصبح تفكك أوصال أسبانيا الآن مأساة أوربية. فقد ازدادت الحكومة اقتراباً من الإفلاس برغم الضرائب والتضخم واستغلال المناجم(33/125)
الأمريكية حتى عجزت عن دفع فوائد دينها، وحتى المائدة الملكية اضطرت إلى التقتير في خدمة الملك. أما البيروقراطية الإدارية التي قلت رواتبها فكانت فاسدة متراخية. واستبد الفقر بالناس حتى كانوا يقتتلون للحصول على الخبز، وسطت عصابات من الجياع على البيوت لتسرع وتقتل، وكان عشرون ألف شحاذ يجوبون شوارع مدريد. أما رجال الشرطة العاجزون عن الحصول على رواتبهم فقد تشتتوا وانضموا إلى المجرمين.
ووسط الفوضى والقلق والخراب واجه الملك المسكين، الكسيح، نصف المعتوه، الشاعر بدنو أجله، في حيرة وتذبذب، مشكلة الفصل في وراثة عرشه. وإذ كان سلطانه من الناحية النظرية مطلقاً، فإن سطراً واحداً بخطه كان يكفي للتوصية بإمبراطوريته التي تمتد رقعتها في أربع قارات، أما للنمسا وأما لفرنسا. وانتصرت أمه للنمسا، ولكن شارل كان يكره تآمرها كما يكره جشع زوجته الألمانية الخبيث. وذكره السفير الفرنسي بأنه ما دام صداق عروس لويس الرابع عشر الأسبانية لم يدفع بعد، فإن تنازلها عن الوراثة قد بطل، وكان لويس يلح مطالباً بحقوقها، ويملك القوة لفرض مطلبه. فلو أن شارل داس هذه الحقوق لاشتعلت أوربا بنيران الحرب، وربما تمزقت أسبانيا إرباً في هذا الصراع. وانهار شارل تحت وطأة اتخاذ القرار، وبكى واشتكى من أن ساحرة قد ابتلته بخطوب لا قبل له بتحملها. وبينما كان يستمع إلى الحجج التي زادته اختلاطاً حاصر مثيرو الشغب قصره صائحين في طلب الخبز.
وفي سبتمبر 1700 لزم شارل فراش الموت وكسب الحزب الفرنسي، وهو أحد الأحزاب التي أحاطت به، رئيس أساقفة طليطلة-وكان كبير أساقفة أسبانيا-إلى صفه، وقد لازم الملك المحتضر ليل نهار، وذكره بأن لويس الرابع عشر وحده يملك من القوة ما يتيح له الحفاظ على الإمبراطورية الأسبانية سليمة واستخدامها معقلاً للكنيسة(33/126)
الكاثوليكية. ونصح البابا إنوسنت الثاني عشر شارل بتفضيل فرنسا، وذلك تحت إلحاح لويس. وخيراً أذعن شارل، ووقع الوصية المشئومة التي خلف فيها كل ممتلكاته لفيليب دوق أنجو، حفيد ملك فرنسا (3 أكتوبر 1700). وفي أول نوفمبر مات شارل، غير متجاوز التاسعة والثلاثين، وكأنه شيخ في الثمانين. وهكذا كانت خاتمة فرع الهابسبورج الأسباني في غروب شاعت فيه حمرة الحرب الداهمة.(33/127)
الفصل السادس عشر
الجيوب اليهودية داخل البلاد الأجنبية
1564 - 1715
1 - الصفارديم (1)
إن بقاء اليهود أحياء بعد تسعة عشر قرناً من الشدة والثأر أشبه بلحن كئيب في تاريخ الجهل، والكراهية، والشجاعة، والمرونة. ذلك أنهم بعد أن حرموا الوطن، وأكرهوا على التماس الملجأ في جيوب عنصرية بين أعداء عتاة، وتعرضوا في كل لحظة للإهانة والظلم، وللمصادرة أو الطرد والمذابح الفجائية، دون أن يكون لهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم سوى سلاح الصبر والمكر والتصميم اليائس والإيمان بدينهم-فإنهم عاشوا مغالبين خطوباً وشدائد لم يقو على مغالبتها شعب آخر في التاريخ، ولم تتحطم إرادتهم قط، ومن فقرهم وحزنهم أنجبوا شعراء وفلاسفة بعثوا ذكرى المشترعين والأنبياء العبرانيين الذين وضعوا الأسس الروحية للعالم الغربي.
وكان استئصال شأفة اليهود في أسبانيا الآن كاملاً تقريباً، فلم يكن لهم من بقاء الاكتيار مختبئ في الدم الأسباني، حتى أن أسقفاً أسبانياً استطاع أن يعرب عام 1595 عن ارتياحه لأن اليهود المتنصرين أمكن استيعابهم بنجاح بطريق التزاوج بينهم وبين المسيحيين، وأن أخلافهم الآن مسيحيون أتقياء (2). ولكن ديوان التفتيش لم يوافقه على رأيه هذا، ففي 1654 أحرق عشرة رجال في كوينكا واثنا عشر في غرناطة، وفي 1660 قبض على واحد وثمانين في إشبيلية، وأحرق سبعة، بتهمة التمسك سراً بالشعائر اليهودية (3).
_________
(1) ترد لفظة "صفارد" في التوراة (1) اسماً لإقليم في غربي آسيا أنزل فيه المتفيون اليهود بعد استيلاء البابليين على أورشليم. وفي تاريخ لاحق أصبحت الكلمة اصطلاحاً عبرياً على أسبانيا، فأصبح اليهود من أصل أسباني أو برتغالي يسمون الصفارديم.(33/128)
وفي البرتغال، على الأخص، وأصل الكثير من المتنصرين في الظاهر (الكونفرسو conversos أو المارانو) ممارسة اليهودية ونقلها في عزلة بيوتهم، ووقع أكثر من مائة منهم ضحايا لديوان التفتيش لأنهم مرتدون ( relapsos) بين عامي 1565 و1595 (4) -ووجد اليهود المتسترون مكاناً قلقاً في الحياة البرتغالية كتاباً، وأساتذة، وتجاراً، وماليين، بل ورهباناً وقسيسين، على الرغم من كل أخطار الكشف عن حقيقتهم. وكان ألمع الأطباء يهوداً متخفين، وفي لشبونة طورت أسرة منديس شركة مصرفية من أعظم الشركات في أوربا.
وبعد أن اندمجت البرتغال في أسبانيا (1580)، زاد نشاط ديوان التفتيش البرتغالي، ففي السنين العشرين التالية أقيم خمسون احتفالاً لإقامة المهرطقين، وحكم على 162 بالإعدام، وعلى 2. 979 تائباً بالعقوبات التفكيرية، وأحرق في لشبونة (1603) راهب فرنسسكاني يدعى ديوجودا أسومساو، يبلغ الخامسة والعشرين، بعد أن اعترف باعتناقه اليهودية (5). وهاجر إلى أسبانيا الكثير من المارانو بعد أن وجدوا ديوان التفتيش البرتغالي أشد وحشية من نظيره الأسباني. وفي 1604، بفضل رشوة قدرها 1. 860. 000 دوكاتية دفعوها لفيليب الثالث، ورشا أقل لوزرائه، أقنعوا الملك بأن يحصل من البابا كلمنت الثامن على مرسوم يأمر فيه قضاة التفتيش البرتغاليين بأن يفرجوا عن جميع المارانو المسجونين ويفرضوا عليهم عقوبات روحية فقط. فأطلق في يوم واحد (16 يناير 1605) سراح 410 من هؤلاء الضحايا. ولكن مفعول هذا الرشا وأمثالها كان يضعف بمضي الوقت، ولم يلبث الإرهاب البرتغالي أن عاد سيرته الأولى عقب موت فيليب الثالث (1621). ففي 1623 قبض على مائة من "المسيحيين المحدثين" في بلدة مونتمور أو نوفو. وفي كوامبرا، مركز المملكة الثقافي، قبض على 247 في 1626، وعلى 218 في 1629، وعلى 247 في 1631. وخلال عشرين عاماً (1620 - 40) أحرق 230 يهودياً برتغالياً شخصياً، و161 دمية تمثلهم بعد أن هربوا، و"صولح" 4. 995 بعقوبات أخف (6). وفر الآن المارانو من البرتغال كما فروا من قبل من أسبانيا، مخاطرين بحياتهم وتاركين ثروتهم خلفهم إلى أركان المسكونة كلها.(33/129)
والتمست الكثرة العظمى من منفيي الصفارديم ملاذاً في بلاد المسلمين، وكونوا أو انضموا إلى مستوطنات يهودية في شمال أفريقية وسالونيك، والقاهرة، والآستانة، وأدرنة، وأزمير، وحلب، وإيران. في هذه المراكز تعرض اليهود لقيود سياسية واقتصادية، ولكن ندر أن تعرضوا لاضطهاد بدني. وبلغ اليهود مكانة مرموقة لا بوصفهم أطباء فحسب، بل مشاركين في شئون الدولة. من ذلك أن يوسف ناصي، أحد المارانو كان مقرباً لسليم الثاني، وكان بصفته دوق ناكسوس (1566) يتسلم إيراد عشر جزر في الأرخبيل (7). وكان يهودي ألماني يدعى سليمان بن ناثان أشكنازي سفيراً لتركيا في فيينا في 1571، ودخل في مفاوضات هناك لإبرام صلح أنهى الحرب حيناً مع الباب العالي.
أما في إيطاليا فإن حظوظ اليهود كانت بين صعود وأفول تبعاً لحاجات الأدواق والبابوات وأمزجتهم. ففي ميلان ونابلي، وكلاهما كانت تحكمه أسبانيا، كادت الحيل تستحيل عليهم، وفي عام 1669 طردهم مرسوم صريح من جميع الممتلكات الأسبانية. أما في بيزا وليفورنو (لجهورن) فقد منحهم كبار الأدواق التوسكانيون الحرية الكاملة تقريباً، لحرصهم على تنمية تجارة هذين الثغرين الحرين. وصدر في 1593 مرسوم للتجار في هاتين المدينتين كان في حقيقته دعوة موجهة للمارانو "نود ألا يقوم أي ... تحقيق ديني، أو افتقاد، أو تنديد، أو اتهام. ضدكم أو ضد أسركم، حتى ولو كانوا فيما مضي يعيشون خارج أملاكنا متخفين كمسيحيين، أو تسموا بأسماء المسيحيين (8) " ونجحت الخطة، وازدهرت ليفورنو، واشتهرت جاليتها اليهودية-التي لم تفقها عدداً سوى جاليتي رما والبندقية-بثقافتها كما اشتهرت بثرائها.
أما مجلس شيوخ البندقية فكان يطرد اليهود المرة بعد المرة خوفاً عن علاقاتهم بتركيا، ويسمح لهم المرة بعد المرة بالعودة باعتبارهم عنصراً ذا قيمة لا في التجارة والمالية فحسب بل في الصناعة أيضاً، فقد استخدمت المشاريع اليهودية في البندقية أربعة آلاف عامل مسيحي (9). واستوطنها اليهود الألمان والشرقيون كما استوطنها اليهود الصفارديم، وبسط مجلس الشيوخ عليهم حمايته من ديوان(33/130)
التفتيش. وكانوا كلهم تقريباً يعيشون في حي اليهود، "الجوديكا"، ولكنهم لم يلزموا بسكناه، وكان هذا "الغيت ghetto" يضم الكثير من الأسر الغنية، والبيوت الجميلة، ومجمعاً مؤثثاً تأثيثاً فاخراً بني في 1584، ثم أعيد بناؤه في 1655 بإشراف المعماري الشهير بلداساري لونجينا. وكان يهود البندقية الستة الآلاف أرقى ثقافة من أي جالية يهودية في هذا العصر.
واستقرت في فرارا حوالي 1560 مستوطنة من المارانو القادمين صلاً من البرتغال، ولكنها شتتت في 1851 بأمر البابا، الذي فعل هذا تحت ضغط ديوان التفتيش البرتغالي. وفي مانتوا كان أدواق جونزاجو يحمون اليهود، ولكنهم يسلبونهم دورياً بالتبرعات و "القروض"، وفي 1610 أجبر جميع يهود مانتوا على مسكن حي مسور لليهود تقفل بواباته عند الغروب وتفتح في الفجر (10). فلما ستفشي الطاعون في مانتاوا أتم اليهود بأنهم هم الذين جلبوه إليها، وحين استولى جنود الإمبراطور على المدينة إبان حرب الوراثة المانتوية، نهبوا حتى اليهود تماماً، واغتصبوا 800. 000 سكودي جواهر ونقوداً، وأمروا اليهود أن يرحلوا عن مانتوا خلال ثلاثة أيام غير آخذين من مقتنياتهم إلا ما يستطيعون حمله (11).
أما في روما، حيث درج البابوات من قبل على حماية اليهود، فإنهم بعد عام 1565 (باستثناء سيكستوس الخامس) أصدروا سلسلة طويلة من المراسيم المعادية لهم. فأمر بيوس الخامس (1566) جميع السلطات الكاثوليكية بأن تطبق تطبيقاً كاملاً كل ما فرض على اليهود من قيود وحدود دينية. فلا بد منذ الآن أن يقصروا على أحياء معزولة عزلاً مادياً عن السكان المسيحيين، وعليهم أن يلبسوا شعاراً أو ثوباً مميزاً، ولا حق لهم في تملك الأرض، ولا في أن يكون لهم أكثر من مجمع واحد في أية مدينة. وفي 1569، بمقتضى مرسوم بابوي اتهم اليهود بالربا، والقوادة، والشعوذة، وفنون السحر، أمر بيوس الخامس بطرد جميع اليهود من الولايات البابوية فيما عدا مدينتي أنكونا وروما (12). وحرم جريجوري الثالث عشر (1581) على المسيحيين استخدام الأطباء اليهود، وأمر بمصادرة الكتب العبرية، وجدد (1584) إلزام اليهود بالاستماع إلى مواعظ هدفها هدايتهم(33/131)
إلى المسيحية. وأنهى سيكستوس الخامس هذا الاضطهاد بعض الوقت ففتح حي اليهود (1586)، وسمح لليهود أن يسكنوا أني شاءوا في الولايات البابوية، وأعفاهم من ارتداء أي شارة أو لباس مميز، وأذن لهم بطبع التلمود وغيره من المؤلفات العبرية، ومنحهم حرية العبادة كاملة، وأمر المسيحيين بأن يعاملوا اليهود ومجامعهم بالاحترام والرأفة (13). ولكن هذه البابوية المسيحية كانت قصيرة الأجل، فقد جدد كلمنت الثامن مرسوم الطرد (1593). وما حل عام 1640 حتى كان جميع يهود إيطاليا تقريباً يسكنون الغيت، فإذا بارحوه كان عليهم أن يلبسوا شارة تدل على سبطهم، وحرموا من الاشتغال بالزراعة أو الانتماء إلى الطوائف الحرفية. وقد وصف مونتيني أثناء جولته في روما عام 1581 كيف كان اليهود في السبت يلزمون بإرسال ستين من شبابهم إلى كنيسة سنتانجيلو في بسكيريا ليستمعوا إلى عظات تحضهم على اعتناق المسيحية (14). وقد شهد جون ايفلين احتفالاً كهذا في روما (7 يناير 1645)، ولا حظ أن "الاهتداء أمر نادر جداً" وكان كثير من خصائص اليهود المنفرة، سواء البدنية والخلقية، نتيجة لطول الحبس والذل والفقر.
أما في فرنسا فقد كان اليهود من الناحية النظرية خاضعين لجميع القيود التي طلب بيوس الخامس فرضها عليهم، أما من الناحية الفعلية فقد أكسبتهم أهميتهم في الصناعة والتجارة المالية تسامحاً صامتاً. وقد أكد كولبير في أحد أوامره المزايا التي تحصل عليها مرسيليا من مشروعات اليهود التجارية (15). واستقر لاجئوا المارانو في بوردو وبايون، وبلغ إسهامهم في الحياة الاقتصادية لجنوب غربي فرنسا مبلغاً حمل السلطات على السماح لهم بممارسة شعائرهم اليهودية في تخف يقل شيئاً فشيئاً. ولما غزا جيش من المرتزقة بوردو في 1675، خشي مجلس المدينة أن يعطل نزوح اليهود المرتاعين في أعدا كبيرة عن المدينة ثراءها، فبدونهم-كما قال ناظر ملكي في تقريره-ستخرب لا محالة تجارة بوردو والإقليم بأسره (16) ". وبسط لويس الرابع عشر حمايته على اجالية اليهودية في متز، فلما عذب القضاة المحليون يهودياً حتى الموت (1670) لاتهامه بقتل طفل قتلاً طقسياً أدان الملك إعدام الرجل قائلاً إنه جريمة قتل ارتكبها القضاء، وأمر(33/132)
بأن تعرض بعد ذلك الاتهامات الجنائية لليهود على المجلس الملكي (17). وقرب ختام حكم لويس، حين أفضت حرب الوراثة الأسبانية بالحكومة الفرنسية إلى شقا الإفلاس، وضع المالي اليهودي صموئيل برنار ثروته تحت تصرف الملك، ودان الملك المتكبر بالشكر لمعونة "أعظم مصرفي في أوربا (18) ".
2 - أورشليم الهولندية
لعبت هجرة اليهود من أسبانيا والبرتغال دوراً (مبالغاً فيه أحياناً) (19) في انتقال الزعامة التجارية من هاتين الدولتين إلى الأراضي المنخفضة. هناك قصد اليهود المنفيون أنتورب أولاً، ولكن في 1549 أمر شارل الخامس بأن يطرد من الأراضي المنخفضة كل المارانو الذين دخلوها من البرتغال في السنوات الخمس الأخيرة. والتمس عمد أنتورب الاستثناء من هذا المرسوم، ولكنه نفذ، واستأنف المهاجرون الجدد بحثهم عن وطن يلجئون إليه. وفقدت أنتورب تفوقها التجاري لا نتيجة لهذه الهجرة الجزئية، بل للخطوب التي ألمت بالمدينة في حرب التحرير ومعاهدة وستفاليا، التي أقفلت الشلت في وجه الملاحة.
واجتذبت حرية العبادة في الأقاليم المتحدة، تلك الحرية المتزايدة رغم ما شابها من نقص، اليهود إلى المدن الهولندية-إلى لاهاي، وروتردام، وهارلم، وأهم من ذلك كله أمستردام. هناك ظهر يهود المارانو في 1593، وبعد أربع سنين افتتحوا مجمعاً لهم. وكانت العبرية لغة عبادتهم، والأسبانية أو البرتغالية لغتهم في حياتهم اليومية. وفي 1615، وبعد تقرير وضعه هوجو جروتيوس، أقرت سلطات المدينة رسمياً وجود الجالية اليهودية، ومنحتها حرية العبادة، ولكنها منعت اليهود من التزاوج مع المسيحيين ومن التهجم على الدين المسيحي (20)، ومن هنا هذا الذعر الذي استولى على رؤساء المجمع حين مست هرطقات أوريل أكوستا وباروخ سبينوزا أسس العقيدة المسيحية.
وكان من بين اليهود نفر من أغنى التجار في الثغر المزدهر وكانوا يديرون قسماً هاماً من التجارة الهولندية مع شبه الجزيرة(33/133)
الأسبانية، ومع جزر الهند الشرقية والغربية. وفي إحدى المناسبات، في زفاف فتاة يهودية، كان أربعون من الضيوف يمتلكون ثروات جملتها أربعون مليون فلورين (21). وفي 1688، حين كان رئيس الدولة وليم الثالث يخطط لحملته التي قام بها ليظفر بتاج إنجلترا، أقرضه إسحاق سواسو-فيما روي-مليوني فلورين دون فائدة قائلاً "إذا حالفك الحظ ستردها إلى، وإلا فأني راض بأن أخسرها (22) ". وكان بعض هذا الثراء لافتاً للنظر فوق ما ينبغي، مثال ذلك أن داود بنتو أسرف في تزيين بيته إسرافاً حمل السلطات المدنية على توبيخه (23)، على أننا يجب أن نضيف أن آل بنتو تصدقوا بالملايين على مشروعات البر اليهودية والمسيحية (24). وكان من وراء هذه الواجهة الاقتصادية حياة ثقافية نشطة، حفلت بالعلماء والأحبار والأطباء والشعراء والرياضيين والفلاسفة. وكانت المدارس توفر التعليم، وأصدرت مطبعة عبرية أسسها منسي بن إسرائيل في 1627 عدداً كبيراً من الكتب والنشرات، وسوف تكون أمستردام طوال القرنين التاليين مركز التجارة اليهودية في الكتب. وفي 1671 - 75 دلت الجالية البرتغالية-اليهودية على ثرائها بتشييد المجمع البديع الذي ما زال أحد معالم أمستردام، وقيل إن المسيحيين ساهموا في تكريسه. لقد كانت لحظة سعيدة في حياة اليهود المحدثين.
على أن هذه الشمس كان يشوبها الكلف. فحوالي سنة 1630 وفد اليهود الأشكنازيم (أي الشرقيون (1)) على أمستردام من بولندة وألمانيا. وكانوا يتكلمون لهجتهم الألمانية، وأنشئوا مجمعاً خاصاً بهم، وتكاثروا سريعاً، وأثاروا الكثير من العداء بين يهود الصفارديم، الذين كانوا فخورين بما بزوهم به من لغة، وثقافة، ولباس، وثروة، ونظروا إلى التزاوج مع اليهود الاشكنازيم كأنه مروق عن الدين. وتكون داخل جماعة الصفارديم انقسام طبقي، فكان صغار الحرفيين والفقراء
_________
(1) يظهر لفظ "اشكنازي" لأول مرة في الإصحاح العاشر والعدد الثالث من سفر التكوين اسماً لحفيد بعيد من أحفاد نوح، وفي الإصحاح 11 والعدد 27 من سفر أرميا أطلق على مملكة في غرب آسيا، وأطلقه الأحبار في العصور الوسطى على ألمانيا لأسباب نجهلها، وأصبح لفظ "الاشكنازيم" مرادفاً ليهود ألمانيا، وبولندة، وروسيا.(33/134)
المتكاثرون ينددون بـ "أصحاب الملايين" الذين يسيطرون على سياسة المجمع وموظفيه. وقد ورد في هجاء معاصر "إن الريال يحل ويربط، وهو يرفع الجهال إلى أكبر منصب في المجتمع (25) ". وكان القادة الفكريون-شارل ليفي مورتيرا، وإسحاق أبوآب دا فونسيكا، ومنسي بن إسرائيل-رجالاً ذوي كفاية ونزاهة، ولكنهم كانوا محافظين بحذر في شئون السياسة والدين والأخلاق. وأصبحوا متزمتين تزمت الأسبان الذين اضطهدوا أسلافهم، ومارسوا التفتيش اليقظ عن الهرطقات المحتملة (26).
وترك منسي بن إسرائيل بصمته على التاريخ بفتح إنجلترا لليهود من جديد. ولد في لاروشيل لأبوين من المارانو وصلا حديثاً من لشبونة، وأخذ إلى أمستردام في طفولته، وانقطع لدرس العبرية والأسبانية والبرتغالية واللاتينية والإنجليزية، واختير وهو في الثامنة عشرة واعظاً لمجمع نيفه شالوم. وقد سر المسيحيين واليهود على السواء بتأليفه "الكونسليادور" ليوفق بين التناقضات المزعومة في التوراة. وكان له الكثيرون من المراسلين والأصدقاء المسيحيين-هويت، وجروتيوس، وكرستينا ملكة السويد، وديونيسيوس فوسيوس الذي ترجم كتابه إلى اللاتينية، ورمبرانت الذي حفر صورته في 1636. وأهم من ذلك أنه أثار اهتمام الحالمين من المسيحيين لأنه بشر بقرب مجيء "مسيا" يحكم الأرض.
ذلك أن منسي كان قبلانياً ومثالياً صوفياً يحلم بقرب العثور على أسباط إسرائيل العشرة المفقودة وتوحيدها، وبأنهم ربما كانوا اليهود الأمريكيين، وبأن اليهود سيسمح لهم بالعودة إلى إنجلترا وإسكندناوة، وبأن الأرض المقدسة ستعاد عندئذ لإسرائيل في كل مجد المسيا. وراسله البيورتان من شيعة الملكية الخامسة في إنجلترا، ومع أن مسيحهم المنتظر لم يكن مسيحه، فإنهم رحبوا بآرائه في قرب مجيء ملكوت الله. وإذ وجد هذا التشجيع فإنه نشر (1650) رسالة عن تطلعات إسرائيل، يناشد فيها السلطات أن ترد اليهود إلى إنجلترا. وقدم لترجمة لاتينية للكتاب بمقدمة موجهة إلى البرلمان الإنجليزي، وبين أن عودة اليهود إلى وطنهم سيسبقها طبقاً لنبوات الكتاب المقدس تشبثهم في جميع الأقطار، ورجا الحكومة الإنجليزية أن تعين على(33/135)
تحقيق هذا الشرط الأولي بقبول اليهود في إنجلترا والسماح لهم بممارسة دينهم وبناء مجامعهم. وأعرب عن أمله في أن يؤذن له بالمجيء إلى إنجلترا ليساعد في تكوين مجتمع عبري.
وكان كرومويل ميالاً لإجابة هذا الطلب، فقال "إن تعاطفي عظيم مع هذا الشعب المسكين الذي اختاره الله وأعطاه ناموسه (27) ". وبعث اللورد مدلسكس، ربما ممثلاً للبرلمان برسالة إقرار بالجميل وشكر "لأخي العزيز، الفيلسوف العبري، منسي بن إسرائيل". وزار السفير الإنجليزي في هولندا منسي، فاستقبل بالموسيقى والصلاة العبريتين (أغسطس 1651). ولكن في أكتوبر أقر البرلمان قانون ملاحة وجه بشكل ظاهر ضد التجارة الهولندية، وأفضت المنافسة التجارية إلى الحرب الهولندية الأولى (1652 - 54)، وكان على منسي أن يتريث حتى تواتيه الفرصة، وتلقى "برلمان بيربون" (1653) بالرضا طلبه المجدد، وأرسل إليه إذناً بدخول إنجلترا في أمان، فلما وضعت الحرب أوزارها أيد كرومويل الدعوة، وفي أكتوبر 1655 عبر منسي وابنه البحر إلى إنجلترا.
3 - إنجلترا واليهود
لم يكن مسموحاً لليهود بالعيش في إنجلترا في الفترة بين طردهم منها في 1290 وتقلد كرومويل السلطة في 1649. وربما ظهر بعض الباعة اليهود المتجولين في القرى، وبعض تجارهم وأطبائهم في المدن، ولكن كل ما كان يعرفه الإليزابيثي تقريباً عن اليهود أو يراه فيهم كان مصدره الأقاويل أو المؤلفات المسيحية. من هذين المصدرين استقى مارلو شخصية بارباس وشكسبير شخصية شيلوك.
وظن بعض النقاد (28) أن شكسبير كتب "تاجر البندقية" استجابة لاقتراح من فرقته بالإفادة من عاصفة العداء للسامية التي أثارتها في إنجلترا حديثاً قضية رودريجو لوبيز، الذي أعدم عام 1594 لما قيل من محاولته تسميم الملكة إليزابث. وقد ولد لوبيز هذا في البرتغال لأبوين يهوديين، وأقام بلندن في 1559، وشق طريقه إلى التفوق في مهنة الطب. واستخدمه ايرل ليستر طبيباً له، فاتهم(33/136)
بمساعدته على التخلص من أعدائه بالسم، وفي 1586 أصبح كبير أطباء الملكة. وقد عالج فيمن عالج ايرل اسكس الثاني، ولكنه أثار عداءه لأنه أفشي سر علله. وحوالي 1590 انضم إلى فرانسس والسنجهام في دسائس مع بلاط أسبانيا ضد دوم أنطونيو، المطالب بعرش البرتغال، وتلقى خاتماً من الماس قدره يومها بمائة جنيه، من عملاء فيليب الثاني فيما يبدو. وفي 1593 قبض على اسطفان داجاما في بيت لوبيز بتهمة التآمر على أنطونيو، وقبض على آخرين، واتهمت بعض الاعترافات لوبيز بالاشتراك في مؤامرة ضد إليزابث. وتزعم اتهام الطبيب اسكس، الذي كان يؤيد أنطونيو، فلما وضع لوبيز على دولاب التعذيب، اعترف بأنه تلقى وتكتم عرضاً بخمسين ألف دوكاتية ليدس السم للملكة، ولكنه زعم أنه لم يقصد إلا لسلب مال ملك أسبانيا. فشنق هو واثنان آخران وأفرغت أحشاؤهم وقطعوا أرباعاً. وقد أعلن وهو يلفظ أنفاسه أنه يحب الملكة ويحب المسيح، وهو ما أثار احتقار المتفرجين (29). وأخرج شكسبير، الميال إلى اسكس، "تاجر البندقية" بعد هذا الإعدام بشهرين، ولا بد أن كثيراً من المستمعين للمسرحية لاحظوا أن اسم الضحية التي أراد شيلوك البطش بها كان أنطونيو.
وقد خفف انتشار الكتاب المقدس، الذي عجلت به ترجمة الملك جيمس، من حدة العداء لليهود لأنها وثقت معرفة إنجلترا بالعهد القديم. وتغلغلت أفكار العبرانيين القدماء ومشاعرهم في فكر البيورتان وعباراتهم. وبدت لهم حروب اليهود صورة سابقة لحروبهم مع تشارلز الأول، وكان يهوه رب الجنود-على نحو ما-أنسب لحاجاتهم من ملك السلام الذي جاء وصفه في العهد الجديد. ورسم الكثير من الكتائب البيورتانية أسد يهوذا على راياتهم، وسار أعوان كرومويل "ذوو الجوانب الحديدية" إلى المعركة وهو يتغنون بأغاني كتابية. وإذ أقبل البيورتان أدب التوراة الرائع على أنه كلمة الله بحذافيرها، فإنهم أحسوا بأنهم مضطرون إلى الاعتراف باليهود مختارين من الله ليكونوا المتسلمين المباشرين لوحيه، وأخبر واعظ منهم شعب كنيسته أن اليهود ينبغي أن يظلوا مكرمين باعتبارهم مختاري الله، وسمي بعض جماعة "المسوين" أنفسهم يهوداً (30). وشعر كثير من البيورتان أن تأكيد المسيح الصريح لناموس موسى يرجح رفض بولس إياه، وحملوا جميع(33/137)
المسيحيين المتمسكين بالكتاب المقدس على الالتزام بممارسة ذلك الناموس. واقترح أحد قادة البيورتان، وهو اللواء تومس هاريسون، وكان من ألصق مساعدي كرومويل به، جعل الشريعة الموسوية جزءاً من القانون الإنجليزي (31). وفي 1949 قدم مشروع قانون لمجلس العموم بتغيير يوم الرب من الأحد الوثني إلى السبت اليهودي. فالإنجليز أيضاً هم الآن-في زعم البيورتان-شعب الله المختار.
وكانت جماعة صغيرة من المارانو سكنت لندن على عهد جيمس الأول (1603 - 25). وكانوا أول الأمر يختلفون إلى الصلوات المسيحية، ولكنهم بعد ذلك لم يعبئوا بإخفاء ولائهم لليهودية. وشارك الماليون اليهود أمثال أنطونيو كارفاجال في تلبية حاجات البرلمان الطويل والجمهورية للمال (32). فلما تقلد كرومويل السلطة استخدم التجار المارانو مصادر للمعلومات الاقتصادية والسياسية المتصلة بهولندة وأسبانيا، ولاحظ في شيء من الحسد ما أصابته التجارة الهولندية من توفيق يرجع بعضه إلى تدفق اليهود وعلاقاتهم الدولية.
وبعد أن وصل منسي بن إسرائيل إلى إنجلترا بقليل استقبله كرومويل، ووضع مسكناً في لندن تحت تصرفه. وقدم منسي ملتمساً، ونشر عن طريق الصحف "إعلاناً" بالمبررات الدينية والاقتصادية الداعية للإذن اليهود بدخول إنجلترا. وبين السبب في أن اليهود اضطرتهم القيود القانونية، وعدم أمنهم المادي والمالي، إلى الزهد في الزراعة والإقبال على التجارة. وأشار إلى يهود أمستردام يرتزقون من الاستثمار في التجارة لا من إقراض المال، وأنهم لا يتعاملون الربا بل يضعون أموالهم السائلة في مصارف ويقنعون بفائدة قدرها خمسة في المائة على ودائعهم. ودلل على انعدام أي أساس للأسطورة التي زعمت أن اليهود يقتلون الأطفال المسيحيين ليستعملوا دمهم في الشعائر الدينية. وأكد للمسيحيين أن اليهود لا يبذلون محاولات ليفتنوا الناس عن دينهم. واختتم بطلب السماح لليهود بدخول إنجلترا، شريطة أن يقسموا يمين الولاء للملكة، وبأن يمنحوا الحرية الدينية، والحماية من العنف وأن يقضي أحبارهم وقوانينهم في خلافاتهم دون إضرار بالقانون والمصالح الإنجليزية.(33/138)
وفي 4 ديسمبر 1655، جمع كرومويل في هوايتهول مؤتمراً من الفقهاء وكبار الموظفين ورجال الدين للبحث في قبول اليهود. ودافع هو شخصياً عن الفكرة بقوة وفصاحة، مؤكداً الجانب الديني والاقتصادي إذ لا بد من تبشير اليهود بالإنجيل الطاهر، ولكن "أنستطيع تبشيرهم إذا لم نحتمل عيشهم بين ظهرانينا (33)؟ " ولم تلق حججه تعاطفاً كثيراً. وأصر رجال الدين على أن لا مكان لليهود في دولة مسيحية واعترض ممثلو التجارة بأن التجار اليهود سينتزعون التجارة والثروة من أيدي الإنجليز. وقرر المؤتمر أن اليهود لا يستطيعون المقام في إنجلترا "إلا بإذن خاص من سموه (34) ".
لقد كان الرأي العام معادياً لقبولهم عداءً طاغياً. وذاعت شائعات زعمت أن اليهود إذا سمح لهم بدخول إنجلترا سيحولون كتدرائية القديس بولس إلى مجمع يهودي. وأصدر وليم برين (1655 - 56) كتاباً سماه "اعتراض موجز" جدد فيه الاتهامات القديمة لليهود بأنهم يزيفون العملة ويقتلون الأطفال، وكان قد أثار زوبعة قبل ذلك بعشرين سنة بهجومه على المسرح الإنجليزي في كتابه Historiomastix ورد بيورتاني متحمس يدعى توماس كوليز على برين، ولكنه أضعف حججه بمطالبته بإكرام اليهود باعتبارهم شعب الله المختار. ونشر منسي نفسه (1656) "دفاعاً" ناشد فيه روح الإنصاف في الشعب الإنجليزي. وقال أيستطيعون حقاً أن يصدقوا "تلك الفرية العجيبة الرهيبة ... التي تزعم أن اليهود اعتادوا الاحتفال بعيد الفطير، بتخميره بدم بعض المسيحيين الذين قتلوهم لذلك الغرض؟ " وقال كم مرة من التاريخ افترى شهود الزور بمثل هذه التهم أو لم يؤيدها غير اعترافات انتزعت بالتعذيب، وكم من مرة وضحت براءة اليهود المتهمين بها بعد إعدامهم. ثم اختتم بإيمان وحرارة مؤثرين قائلاً:
"وإلى الشعب الإنجليزي الأكرم أرفع رجائي المتواضع بأن يعيدوا قراءة حججي دون تحيز، ... مسلماً نفسي تماماً إلى فضلهم ورضاهم، متضرعاً إلى الله بحرارة أن يتفضل ويعجل بالوقت الذي وعد به (النبي) صفنياً، يوم نخدمه تعالى جميعاً برأي واحد، وبطريقة واحدة، ويكون لنا كلنا رأي واحد، وأنه بما أن اسمه واحد، فكذلك تكون مخافته واحدة، ونرى جود الرب (تبارك اسمه إلى الأبد) وتعزيا صهيون (35) ".(33/139)
ولكن الدعاء لم يكسب الشعب الإنجليزي، ولم يظفر منسي بقبول رسمي لليهود. وطرح كرومويل المشكلة جانباً في غمرة جهوده لحماية حكومته وحياته، ولكنه أجاز منسي بمعاش سنوي قدرة مائة جنيه (لم يدفع قط) من الخزانة العامة. وفي سبتمبر 1657 مات ابن منسي. وأعانته منحة من حامي الجمهورية على نقل جثة ولده إلى هولندا لدفنها، ولكن "الرسول المبعوث إلى إنجلترا" مات في مدلبورج في 20 نوفمبر بعد أن أعياه السفر وهده الحزن، غير مخلف من المال ما يكفي لتشييع جنازته.
على أنه في واقع الأمر لم يفشل في مهمته. كتب ايفلين في "يوميته" تحت يوم 14 ديسمبر 1655 "الآن قبل اليهود" لم يبح عودتهم إلى إنجلترا شرعاً أي مرسوم من حامي الجمهورية، أو قانون من البرلمان، ولكن أعداداً متزايدة دخلت بموافقة كرومويل الصامتة. وفي 1657 سمح ليهود لندن ببناء مقبرتهم الخاصة بوصفهم يهوداً لا مسيحيين، وما لبثوا أن افتتحوا مجمعاً ومارسوا شعائرهم في هدوء. فلما عادت الملكية إلى إنجلترا، تذكر تشارلز الثاني الدعم المالي الذي تلقاه في منفاه بهولندا من منديس داكوستا وغيره من العبرانيين، وأدرك المنافع التي حصلت عليها إنجلترا من المشروعات التجارية التي اضطلع بها يهود لندن، فأغضي عن المزيد من الهجرة اليهودية لإنجلترا. وواصل وليم الثالث هذا الموقف المتسامح وهو يذكر كذلك معونة اليهود، وذلك برغم شكاوي التجار ورجال الدين الإنجليز المتكررة. واكتسب سليمان مديناً أول لقب فروسية يهودي بخدماته متعهداً للجيش لوليم الثالث وملبره (36). وما أقبلت سنة 1715 حتى كان السماسرة اليهود يعملون في سوق لندن المالية، والماليون اليهود قوة صغيرة في البلاد. وفي عام 1904 احتفل اليهود الإنجليز بالذكرى الثلاثمائة لمولد منسي.
4 - الأشكنازيم
في سنة 1564 كانت بقية لا يستهان بها من المستوطنات اليهودية باقية في ألمانيا لا سيما في فرانكفورت-أم-مين، وهامبورج، وفورمز، برغم الحملات الصليبية الوسيطة ومئات التقلبات. غير أن(33/140)
حركة الإصلاح البروتستنتي لم تكن قد خففت من تلك الكراهية التي أحس بها المسيحيون نحو شعب غريب لم يستطع أن يقبل المسيح على أنه ابن الله، بل زادتها حدة. ففي فرانكفورت حرم على اليهود أن يبرحوا حيهم إلا لأمر عاجل، ولم يكن مباحاً لهم استضافة زوار من خارج المدينة دون علم القضاة، وكان عليهم أن يضعوا على ملابسهم شعاراً أو لوناً خاصاً، وأن تحمل بيوتهم علامات مميزة كثيراً ما كانت غريبة قبيحة المنظر. وقد اشترت رشوة موظفي المدينة أحياناً الإعفاءات من هذه القيود المذلة، ولكن عداء أفراد الشعب البسطاء كان خطراً دائماً يتهدد حياة اليهود وممتلكاتهم. مثال ذلك ما حدث في سبتمبر 1614 حين اقتحم جمع مسيحي باب حي اليهود بينما كانت كان معظم يهود فرانكفورت يقيمون الصلاة، وبعد أن استمتعوا بليلة من النهب والتدمير، أجبروا 1. 380 يهودياً على مبارحة المدينة دون أن يحملوا من المتاع إلا ما على أجسادهم من ثياب. وأطعمت عدة أسر مسيحية اللاجئين وآوتهم، وألزم رئيس أساقفة مينز بلدية فرانكفورت بردهم لبيوتهم، وتعويضهم عن خسائرهم، وشنق زعيم الغوغاء (37). وبعد سنة قامت حركة ممثلة في فورمز، فطردت اليهود من المدينة وانتهكت حرمة مجامعهم ومدافنهم، ولكن رئيس أساقفة فورمز وأمير هسي-دار مشتات قدماً الملجأ للمنفيين، وبسط عليهم ناخب بالاتين حمايته في رجوعهم. ويمكن القول عموماً أن كبار الأكليروس وأفراد الطبقات العليا كانوا ميالين للتسامح، ولكن صغار الأكليروس وجماهير الشعب كان من السهل إثارتهم وإشعال نار الحقد في نفوسهم. وكانت القيود القديمة-حتى بعد تخفيفها-مسلطة أبداً فوق رءوس اليهود، واحتمالات الإهانة والأذى ماثلة في أي يوم. وكان بعض المسيحيين الغيورين يخطفون الأطفال من فوق صدور أمهاتهم ويعمدونهم بالإكراه (38). حقاً لولا الجهل لما كان للتاريخ وجود.
وتركت حرب الثلاثين يهود ألمانيا في سلامة نسبية. فقد استغرق البروتستنت والكاثوليك في قتل بعضهم البعض استغراقاً كاد ينسيهم أن يقتلوا اليهود، حتى ولو كانوا أقرضوهم مالاً. وكان الإمبراطور فرديناند الأول قد فرض لوائح ثقيلة على يهود النمسا، وطردهم من بوهيميا (1559)، ولكن فرديناند الثاني حماهم، وسمح لهم بأن(33/141)
بينوا مجمعاً في فيينا الكاثوليكية وأن يخلعوا شعاراتهم، وأباح رجوع اليهود إلى بوهيميا. وتعهد يهود بوهيميا بدفع أربعين ألف جولدن كل عام إسهاماً منهم في القضية الإمبراطورية في تلك الحرب الكبيرة. ورغبة في تهدئة خواطر المسيحيين الذين تذمروا من سياسة فرديناند الثاني المتسامحة، أمر (1635) بأن يستمع يهود براغ كل أحد للعظات المسيحية، وفرض الغرامات عقاباً للتهرب أو النوم أثناء العظات.
واتسعت المستوطنات العبرية في ألمانيا بسرعة بعد صلح وستفاليا. فقد سوأت فظائع الحرب إلى حد ما سمعة التعصب والاضطهاد. وأقبل مئات اليهود من بولندة بعد المذابح المنظمة التي تلت ثورة القوزاق التي نشبت في 1648. وفيما بين عامي 1675و 1720 كان يختلف إلى أسواق ليبزج من التجار اليهود كل سنة 648 تاجراً في المتوسط. واستعان الأمراء الألمان بالمهارة اليهودية في إدارة مالياتهم وتنظيم تموين جيوشهم وقصورهم. مثال ذلك أن صموئيل أو بنهايمر أشرف على المالية الإمبراطورية خلال الحملات التي اختتم بها القرن السابع عشر، وأشرف سمسون فرتايمر على القوميسارية الإمبراطورية في حرب الوراثة الأسبانية. وكان من أثر نفوذه الإمبراطورة مارجريت تريزا، الأسبانية المولد اليسوعية الروح، على زوجها ليوبولد الأول أنه أمر بنفي اليهود من النمسا، ولكن الناخب الأكبر فردريك وليم رحب بكثير من المنفيين في براندنبورج، ونمت الجالية اليهودية في برلين حتى غدت من أكبر الجاليات في أوربا.
ومنذ القرن الثاني عشر كان يهود وسط أوربا يطورون لهجتهم "الييدية Yiddish" المؤلف معظمها من إضافات ألمانية مع إضافات عبرية وسلافية، والمكتوبة بأحرف عبرية. وواصل اليهود المتعلمون دراسة العبرية، ولكن المطبوعات العلمانية التي نشرها الأشكنازيم أصبح معظمها بالييدية. وظهر أدب بيدي، غني بالفكاهة المرة والعاطفة البيتية، في قصص شعبية منقولة عبر القرون والحدود، وفي تمثيليات قصيرة Purimspiele لمهرجان الربيع المرح، وفي أمثال من الحكمة البسيطة (كقولهم "أب واحد يعول عشرة أبناء، ولكن عشرة أبناء لا يعولون أباً واحداً" (39)). وقبل 115 لم يكن في استطاعة هذا الأدب أن يفاخر إلا بمؤلف مرموق واحد، هو أيليا بوشر، وهو عالم(33/142)
في العبرية وشاعر بالييدية، كتب رومانسيات غريبة في مقطوعات ثمانية من الشعر ottava rima وترجم المزامير إلى لغة الشعب. وظهرت ترجمة يبدية للأسفار الموسوية الخمسة في 1544، بعد خمسة عشر عاماً فقط من ترجمة لوثر الألمانية للكتاب المقدس، ونشرت ترجمة ييدية للعهد القديم كله بأمستردام في 1676 - 79. لقد كان اليهود الألمان في طريقهم إلى زعامة شعبهم الثقافية.
وفي القرن العاشر دخل اليهود بولندة من ألمانيا وزكوا وتكاثروا تحت حماية الحكومة رغم المذابح العارضة. وفي 1501 كان هنا نحو خمسين ألف يهودي في بولندة، وفي 1648 نصف مليون (40)، وناصر الأعيان szlachta الذين يهيمنون على مجلس الأمة اليهود، لأن الملاك تبينوا فيهم كفاية خاصة في جميع الإيجارات وجباية الضرائب وإدارة الضياع، وكل حكام بولندة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فيما عدا قلة منهم، من أكثر ملوك زمانهم تسامحاً. فأصدر ستيفن باتوري مرسومين يؤكدان الحقوق التجارية لليهود، ويدمغان تهم القتل الطقسي التي يرمي بها اليهود بأنها "افتراءات" قاسية لا يسمح بها في المحاكم البولندية (1567) (41). ولكن عداء الشعب لليهود لم يخف. فلم ينقض عام واحد على هذين المرسومين حتى هاجم جمع من الغوغاء الحي اليهودي في بوزنان، ونهبوا البيوت، وقتلوا كثيراً من اليهود. وفرض باتوري غرامة على موظفي المدينة لفشلهم في وقف الشغب. وواصل سجسمند الثالث سياسة التسامح الملكي.
وتضافر عاملان لإنهاء هذا العهد الذي توافرت فيه حسن نية الحكومة قبل اليهود. أولهما أن التجار الألمان في بولندة كرهوا منافسة اليهود لهم، فأشعلوا ثورات شعبية في بوزنان وفيلنو، حيث هدم مجمع لليهود ونهبت بيوت اليهود (1592)، وقدموا للملك ملتمساً de non tolerandis Judaeis بعدم التسامح مع اليهود (1619). وانضم إلى الحملة لوقف التسامح اليسوعيين الذين استقدم باتوري وما لبثوا أن تولوا القيادة الفكرية للكاثوليك في بولندة. وظفرت اتهامات اليهود بالقتل الطقسي باعتراف الحكومة بها الآن. ففي 1589 عشر في لوبلن على جثة صبي في مستنقع، فأكره ثلاثة يهود بالتعذيب على الاعتراف بأنهم قتلوه، ثم شنقوا وانتزعت أحشاؤهم وقطعوا(33/143)
أرباعاً، وأصبح جثمان الصبي الذي حفظ في كنيسة كاثوليكية محل الإجلال الديني. وازدادت المؤلفات المعادية للسامية ضراوة عن ذي قبل.
وفي 1618 نشر سبستيان ميشنسكي الكراكاوي كتيباً اسمه "مرآة للتاج البولندي" اتهم فيه اليهود بقتل الأطفال، والسحر، والسرقة، والنصب، والخيانة، ودعا مجلس الأمة لطرد جميع اليهود من بولندة. وأثار الكتيب الشعور العام إثارة حملت سجسموند على مصادرته. واتهم طبيب من بولندي الأطباء اليهود بتسميم الكاثوليك بشكل منظم (1623) وأمر الملك لاديسلاس الرابع السلطات البلدية بأن تحمي اليهود من الثورات الشعبية، وحاول التخفيف من عداء المسيحيين لهم بمنع اليهود من السكنى في الأحياء المسيحية، أو بناء مجامع جديدة، أو فتح مدافن جديدة، دون ترخيص ملكي. وألزم برلمان 1643 جميع التجار بألا تتجاوز أرباحهم 7% إن كانوا مسيحيين، و3% إن كانوا يهوداً، وكانت النتيجة أن المسيحيين أقبلوا على الشراء من اليهود فأثروا وأثاروا مزيداً من الحقد.
وتكاثر اليهود البولنديون برغم الكراهية والقيود والشدائد والفقر وبنوا المعابد والمدارس، وتناقلوا تقاليدهم وأخلاقهم ونواميسهم التي أعانتهم على الاستقرار، وصانوا إيمانهم المعزى. ونظم المدارس الأولية معلمون خصوصيون ينقدهم الأدباء أجورهم بواقع التلميذ والفترة، أما التلاميذ العاجزون عن الدفع فإن معظم الجاليات اليهودية أنفقت على مدرسة خاصة بهم من الأموال العامة. وكان حضور المدرسة الأولية إلزامياً على الصبية من السادسة إلى الثالثة عشرة. ووفر التعليم العالي في كلية (يشيبا) يشرف عليها الأحبار. وفيما يلي وصف للنظام بقلم حبر معاصر (1653):
"كانت كل جالية يهودية تعول طلاب الكلية (الباهور) وتمنحهم قدراً من المال كل أسبوع ... ويكلف كل طالب من هؤلاء الباهور بتعليم صبيين على الأقل ... فالجالية ذات الخمسين أسرة يهودية تعول ما لا يقل عن ثلاثين من هؤلاء الشباب والصبيان، فتوفر الأسرة الواحدة الطعام لطالب كلية وتلميذيه، ويجلس الطالب إلى مائدة الأسرة كواحد(33/144)
من أبنائها ... وندر أن وجد بيت ... لم تدرس فيه التوراة، أو لم يكن رب البيت، أو ابنه، أو صهره، أو طالب الكلية الذي يتناول الطعام على مائدته، خبيراً في الثقافة اليهودية (42) ".
ونحن إذا نظرنا ن إذا نظرنا لى تعليم اليهود البولنديون وأدبهم من وجهة نظرنا الحديثة والعلمانية، وجدناهما ربانيين بشكل ضيق، لأنهما يكادان يقتصران على التلمود، والتوراة، والقبلانية، والعبرية، ولكن لما كان التلمود مشتملاً على الشريعة اليهودية اشتماله على الدين والتاريخ اليهوديين، فقد صلح أداة لضبط الذهن ضبطاً صارماً متعمقاً. وما من ريب في أن الجاليات المطاردة شعرت بأنه لا يولد فيهم القوة على احتمال التعيير والاضطهاد والشدائد والمخاطر المتصلة غير الإيمان الديني الحار، والدراسة التي تمد جذورها في تقاليد الشعب اليهودي وعاداته. وقد ظل اليهود البولنديون يعيشون كأنهم في العصور الوسطى حتى أصبحت الحداثة حديثة بقدر يكفي لإعطائهم الحرية-أو الموت.
وجاءهم عام 1648 بتذكير رهيب لهم بوضعهم القلق في العالم المسيحي. ذلك أن الثورة التي تفجرت آنذاك بين القوزاق ضد ملاكهم البولنديين واللتوانيين وقعت وطأتها على كاهل اليهود الذين كانوا يعملون وكلاء للضياع أو جباة للضرائب. فذبح الآلاف منهم في بيريياسلاف، وبيرياتين، ولوبني، وغيرها من المدن، سواء كانوا يخدمون النبلاء أو لا يخدمونهم. واحتفظ بعضهم بحياتهم إما باعتناقهم مذهب الروم الأرثوذكس، وإما بالالتجاء إلى التتار الذين باعوهم عبيداً. وقد اشتط غيظ القوزاق المكبوت فاتسم بشراسة لا تصدق. يقول مؤرخ روسي:
"كان القتل مصحوباً بضروب من التعذيب الهمجي: فكان الضحايا تسلخ جلودهم أحياء، أو يمزقون إرباً، أو يضربون بالهراوات حتى يموتوا، ويشوون على الجمر، أو يحرقون بالماء المغلي ... على أن أبشع ألوان القسوة أصاب اليهود. فقد حكم عليهم بالإبادة الكاملة، وكانت أقل علامة على الرأفة بهم تعتبر خيانة. وانتزع القوزاق لفافات الشريعة من المجامع وراحوا يرقصون عليها وهم(33/145)
يشربون الوسكي. ثم طرحوا عليها اليهود وذبحوهم بغير رحمة. وألقى آلاف الأطفال اليهود في الآبار أو أحرقوا أحياء (43) ".
وروي أن 6. 000 يهودي هلكوا في هذه الثورة في مدينة واحدة هي نيميروف. وفي تولشيمن حوصر 1. 500 يهودي في حديقة عامة وخيروا بين اعتناق المسيحية أو الموت، وإذا جاز لنا أن نصدق المؤرخ الأخباري اليهودي فإن 1. 500 اختاروا الموت. وقيل أن 10. 000 (؟) يهودي في مدينة بولونوي قتلهم القوزاق أو أسرهم التتار. ونشبت في مدن أوكرانية أخرى مذابح منظمة أقل شأناً. ولما تحالف القوزاق مع روسيا بعد أن تصدى لهم الجيش البولندي (1654)، انضم الجنود المسكوفيون إلى القوزاق في قتل أو طرد يهود موجيليف، وفيتيبسك، وفيلنو، وغيرها من المدن التي انتزعت من اللتوانيين أو البولنديين.
وفي 1655 خلق غزو شارل العاشر ملك السويد لبولندة مشكلة أخرى لليهود. ذلك أنهم ككثيرين من البولنديين قبلوا الفاتح السويدي دون مقاومة، منقذاً لهم من الروس المرهوبين. فلما قام جيش بولندي جديد وطرد السويديين، ذبح اليهود في جميع أرجاء ولايات بوزنان، وكاليش، وكراكاو، وبيوتركوف، فيما عدا مدينة بوزنان ذاتها. وعلى الجملة كانت هذه الكوارث التي مني بها اليهود من 1684 إلى 1658 في بولندة ولتوانيا وروسيا، حتى عصرنا الحاضر، أدمي الكوارث في تاريخ اليهود الأوربيين، ففاقت في هولها وضحاياها مذابح الحروب الصليبية، والموت الأسود. وقد حسب تقدير متحفظ أن 34. 719 يهودياً ماتوا، و531 جالية يهودية أبيدت (44). هذا العقد الفاجع هو الذي بدأ هجرة اليهود الجماعية من الأراضي السلافية إلى أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، مما أسفر عن توزيع جديد كامل للسكان اليهود على سطح الأرض.
وفي بولندة عاد من بقي من اليهود على قيد الحياة إلى بيوتهم وأعادوا في صبر بناء جالياتهم التي دمرت. وأعلن الملك يوحنا كازيمير عن عزمه على تعويض رعاياه اليهود قدر استطاعته عن النكبات التي تحملوها، فمنحهم مراسيم جديدة بالحقوق والحماية، وإعفاءً مؤقتاً من الضرائب في تلك المراكز التي اشتد كربها. ولكن العداء الشعبي(33/146)
واللاهوتي ظل قائماً، نخفف منه المواساة المسيحية بين الحين والحين. ففي 1660 أعدم حبران بالتهمة القديمة التي طالما استنكرها البابوات، وهي تهمة القتل الطقسي، وفي 1663 لقي صيدلي يهودي في كراكاو الموت بتهمة لم تثبت عليه، وهي أنه كتب هجاء يندد فيه بعبادة مريم العذراء، وكان موته بالترتيب الهمجي الذي قضت به المحكمة: فبترت شفتاه، وأحرقت يده، وقطع لسانه، وأحرق جسده على الخازوق (45). وأرسل قائد الطريقة الدومنيكية من روما (9 فبراير 1664) رسالة يحض فيها الرهبان الدومنيكان في كركاو "على الدفاع عن اليهود التعساء ضد كل قرية تفتري عليهم (46) ". وفي لفوف غزا تلاميذ أكاديمية يسوعية حي اليهود، وقتلوا مائة منهم، وهدموا البيوت، وانتهكوا حرمة المجامع (1664)، ولكن الطلبة اليسوعيين في فيلنو حموا اليهود من الغوغاء محدثي الشغب (1682) (47). وحاول سوبيسكي السمح الكريم (1674 - 96) جاهداً أن يطيب خاطر يهود بولندة، فأكد من جديد حقوقهم المنتهكة، وحررهم من قضاء السلطات البلدية الخاضعة لعواطف الجماهير، واستمع في تعاطف إلى المندوبين الذين قدموا التماسات اليهود إلى بلاطه. فما اختتم حكمه حتى كان اليهود البولنديون قد أفاقوا، عددياً، من ذلك العقد القاسي، ولكن أهواله ظلت عالقة أجيالاً بذاكرة اليهود.
لم يكن في روسيا، قانوناً، يهود قبل 1772. وقد أبدى إيفان الرهيب رأيه فيهم في جوابه على طلب رجاه فيه سجسموند الثاني أن يسمح لليهود اللتوانيين بدخول روسيا للمتاجرة (1550):
"ليس من المناسب السماح لليهود بالمجيء إلى روسيا بسلعهم لأن شروراً كثيرة تنجم عنهم. ذلك أنهم يدخلون الأعشاب السامة إلى مملكتنا، ويفتنون الروس عن المسيحية إذن ينبغي له (أي الملك) ألا بعيد الكتابة عن هؤلاء اليهود (48) ".
ولما احتل الجيش الروسي مدينة الحدود البولندية بولوتسك (1565)، أرسل إيفان أوامره بتحويل اليهود المحليين إلى المسيحية، أو إغراقهم. وحين نشبت الحرب بين روسيا وبولندة في 1654 أدهش الروس أن يجدوا مدناً كثيرة في لتوانيا وأوكرانيا بها(33/147)
أقسام كاملة آهلة باليهود. فقتلوا بعض هؤلاء "المهرطقين الخطرين"، وأخذوا بعض أسرى إلى موسكو، حيث أصبحوا نواة لمستوطنة يهودية صغيرة غير شرعية. وفي 1698 تلقى بطرس الأكبر وهو في هولندا عن طريق أعمدة أمستردام، ملتمساً مقدماً من بعض اليهود يرجونه فيه السماح لهم بدخول روسيا، وكان جوابه:
"عزيزي ويتسن، إنك تعرف اليهود، وتعرف أخلاقهم وعاداتهم، وكذلك تعرف الروس. وأنا أعرف الاثنين، وصدقني أن الوقت لم يحن للجمع بين القوميتين. فقل لليهود إني شاكر لهم اقتراحهم، وإني مدرك كم ستفيدني خدماتهم، ولكني مشفق عليهم أن يعيشوا بين ظهراني الروس (49) ".
وظلت هذه السياسة الروسية، سياسة إبعاد اليهود، معمولاً بها حتى الملتمس البولندي الأول (1772).
5 - إلهامات الإيمان
لا بد لكي نفهم عداء المسيحيين لليهود أن ننفذ إلى ذهن كاثوليك العصور الوسطى وبروتستنت حركة الإصلاح الديني. لقد تذكروا صلب المسيح، ولكنهم لم يتذكروا جموع اليهود العريضة التي استمعت في فرح إلى المسيح ورحبت به في دخوله أورشليم. وآمنوا بيسوع ذلك "الممسوح"، ابن الله، ولكن اليهود لم يستطيعوا أن يروا في المسيح ذلك المسيا الذي وعدهم بها أنبياؤهم، والمخلص الذي سيحررهم من رقهم ويجعلهم من جديد شعباً حراً مرفوع الرأس. وكان عسيراً على المسيحيين أن ينظروا نظرة التسامح الأخوي إلى قلة لم تكن وحدانيتهم منافساً بعيداً كوحدانية الإسلام، بل صرخة حارة، تسمع من مجامع تتكاثر في قلب العالم المسيحي-"أصغ يا إسرائيل! الرب إلهنا واحد! " وشعر المسيحيون أن العقيدة السامية المتكبرة هي تحد ماثل أبداً للإيمان المسيحي الأساسي، الإيمان بأن ابن الإنسان الذي مات على الصليب هو في كل الحق ابن الله، الذي كفرت ذبيحته غير المحدودة عن خطايا الإنسان، وفتحت له أبواب الفردوس. أيمكن أن يكون في الحياة شيء أثمن وأعظم تشديداً للنفوس من ذلك الإيمان؟(33/148)
ولكن يحمي مسيحيو أوربا ذلك الإيمان حاولوا عزل اليهود بالحواجز الجغرافية، والقيود السياسية، والرقابة الفكرية، والأغلال الاقتصادية. فلم يسمح لهم بالمواطنة الكاملة وبحقوقها في أي بلد في أوربا المسيحية قبل الثورة الفرنسية-ولا حتى في أمستردام. وحيل بينهم وبين الوظائف العامة، والجيش والمدارس والجامعات، والاشتغال بالقانون في المحاكم المسيحية. وفرضت عليهم الضرائب الباهظة، وتعرضوا للقروض الإجبارية، ولمصادرة ثروتهم في أي وقت. وأبعدوا عن الزراعة بقيود على ملكية الأرض، وبانعدام الأمن الذي ما برح ملازماً لهم والذي أكرههم على وضع مدخراتهم في النقد أو السلع المنقولة. وحرموا من الانضمام للطوائف الحرفية لأنها كانت من بعض الوجوه دينية شكلاً وهدفاً، واشترطت اليمين والشعائر المسيحية. وإذ قصر نشاطهم على الصناعات الصغيرة، وعلى التجارة والمالية، فإنهم وجدوا أنفسهم مطاردين حتى في هذه الأشغال بتحريمات خاصة تتفاوت بتفاوت المكان وتتغير في أي وقت. ففي إقليم حرم عليهم أن يكونوا باعة متجولين، وفي آخر أن يتجروا في دكاكين، وفي ثالث أن يتعاملوا في الجلد أو الصوف (50). ومن ثم عاش أكثر اليهود تجاراً صغاراً، وباعة متجولين، أو تجاراً في البضائع المستعملة أو الثياب القديمة، أو خياطين، أو خداماً لمواطنيهم الأغنياء، أو صناعاً يصنعون السلع لليهود. ومن هذه الأشغال، ومن ذلك العيش في الغيت، اكتسب فقراء اليهود عاداتهم تلك في الملبس والحديث، وحيل التجارة وخصائص الذهن التي مجتها الشعوب الأخرى والطبقات العليا من الناس.
ومن فوق هذه الكثرة المتواضعة كان الأحبار، والأطباء، والتجار، والماليون. وقد لعب نشاط المصدرين والمستوردين اليهود دوراً هاماً في ثراء هامبورج وأمستردام. وكان جزء على اثني عشر من تجارة إنجلترا الخارجية يمر بأيدي اليهود في النصف الأول من القرن السابع عشر (51). وغلب العنصر اليهودي في استيراد الجواهر والمنسوجات من الشرق. وانتفع اليهود في التجارة الدولية من علاقاتهم الأسرية في مختلف الدول، ومن إجادتهم اللغات، وكان لهم مسالكهم التي تصلهم منها المعلومات، فهدتهم بين الحين والحين إلى توقعات(33/149)
نافعة في السوق المالية (52). ومكنتهم هذه الاتصالات الأجنبية من تطوير خطابات الاعتماد والكمبيالات. ولم يكن اليهود بالطبع مخترعي الرأسمالية الحديثة، فقد رأينا ذلك النظام ينمو مستقلاً تمام الاستقلال عنهم، وفي الصناعة أكثر منه في المالية، وكان دورهم حتى في المالية صغيراً إذا قورن بدور آل مديتشي الفلورنسيين، أو آل جريماليري الجنوبين، أو آل فوجير الأوجزبورجيين. وكان مقرضو المال اليهود يتقاضون فوائد عالية، ولكنها لم تكن أعلى مما يتقاضاه المصرفيون المسيحيون الذين يواجهون أخطاراً معادلة.
واكتسب الذهن اليهودي، الذي شحذته الشدائد والظلم والدراسة، في التجارة والمالية مقدرة مرهفة على الكسب لم يغتفرها لليهود منافسوهم قط. ولم تر أخلاقيات اليهود في الثروة أي عيب أو وصمة عار، شأنها في ذلك شأن أخلاقيات البيورتان. ورأى فيها الأحبار دعامة البر، وعصب المجمع، والملجأ الأخير إذا أريد الخلاص من أذى الملوك أو الجماهير المضطهدة. ومع ذلك فصحيح أنه وجد في الجاليات اليهودية في هولندة وألمانيا وبولندة وتركيا رجال جعلوا جمع المال مسرة نفوسهم لا مجرد أداة لحماية شعبهم، واستعملوا في جمعية الحيلة أكثر مما استعملوا الضمير، وأظهروا بني جلدتهم بذلك المظهر المزعج مظهر الثراء العريض يلوثه الترف الواضح، ولا تكفر عنه أعمال البر الكبيرة إلا جزئياً. ومن حولهم في الغيت كان ثلث إخوانهم يعيشون في فقر، لا يحول دون تضورهم جوعاً غير الصدقات (54).
ولقد عانى دين اليهود كما عانت أخلاقهم من فقر الحياة في الغيت وانطوائها وهوانها. فالأحبار الذين كانوا في العصور الوسطى رجالاً ذوي شجاعة وحكمة، أصبحوا في العصر أتباع صوفية تهرب من جحيم الاضطهاد والفاقة إلى جنة الأحلام التعويضية. وقد حل التلمود في العصور الوسطى محل التوراة روحاً لليهودية، أما الآن فقد حلت القبلانية محل التلمود. وزعم مؤلف فرانكفورتي من كتاب القرن السابع عشر أنه كان في أيامه أحبار كثيرون لم يروا توراة قط (55). وكان سليمان لوريا (1510 - 72) علامة عينت هذا الانتقال، فقد بدأ بالتلمود، وبنى عليه كتابه "يم شيل شلومو" (بحر سليمان)، ولكن حتى ذهنه المرهف استسلم آخر الأمر للقبلانية، فقد كانت(33/150)
"التقليد السري" لمتصوفة اليهود في العصر الوسيط، الذين اعتقدوا أنهم وجدوا وحياً إلهياً مستتراً في رمزية الأعداد، والحروف، والألفاظ، ولا سيما في الحروف التي يتألف منها اسم يهوه الذي لا ينطق به. وكان العالم تلو العالم في الغيت يضل في هذه الأوهام، حتى لقد صرح أحدهم بأن من يهمل حكمة القبلانية السرية يستحق الحرم (56). يقول أكبر المؤرخين اليهود المحدثين أنه في القرنين السادس عشر والسابع عشر "خنقت القبلانية الطفيلية حياة اليهود الدينية بجملتها. وكل الأحبار وقادة الجاليات اليهودية تقريباً ... وقعوا في شراكها" من أمستردام إلى بولندة إلى فلسطين (57).
وكان سند الحياة في نظر اليهود المشتتين على هذا النحو، والذين كثيراً ما كانوا معدمين مفترى عليهم، هو الإيمان بأنه في يوم قريب سيأتي المسيا الحقيقي لينتشلهم من وهدة تعاستهم وعارهم ويرفعهم إلى مكان القوة والمجد. ومن المؤسف أن نرى كيف كان دجال أو متعصب يظهر القرن بعد القرن فيقبله اليهود على أنه هذا المخلص الذي طال ارتقابهم له. ولقد رأينا في موضوع سابق من هذا الكتاب كيف أن داود روبيني العربي هلل له عبرانيو البحر المتوسط في 1524 على أنه المسيا، مع أنه هو نفسه لم يدع هذا. وهاهو ذا يهودي من أزمير يدعى سبتاي زيفي، يظهر عام 1648 ويزعم أنه الفادي الموعود.
لقد بدا هذا المختار، من الناحية الجسمية، اختياراً جديراً بالإعجاب. فهو رجل طويل القامة، حسن التكوين، مليح الوجه، له شعر الشاب الصفاردي ولحيته السوداوان (58) "اجتذبته كتابات سليمان لوريا إلى القبلانية، فأخضع ذاته لنظام صارم من النسك أملاً في أن يصبح بهذا جديراً بالتقليد السري" في أكمل إعلانه. فأذل جسده، وأكثر من الاستحمام في البحر في جميع الفصول، وغالى في الاحتفاظ بنظافته حتى لقد احتفل أتباعه برائحة لحمه الزكية. ولم يشعر بميل للنساء، وقد تزوج في شبابه الباكر امتثالاً للعرف اليهودي، ولكن زوجته ما لبثت أن طلقته لفشله في أداء واجباته الزوجية. ثم تزوج ثانية، بنفس النتيجة. والتف الشبان من حوله، معجبين بصوته الرخيم وهو يرتل التراتيل القبلانية، متسائلين أليس هذا قديساً مبعوثاً من السماء. وكان أبوه أحد جماعة آمنت بقرب مجيء المسيا-(33/151)
وبأن ذلك لن يتجاوز سنة 1666. وسمعهم سبتاي يتنبأون بأن الفداء العظيم سيأتي على يد رجل طاهر النفس شديد الورع، ملم بأسرار القبلانية، قادر على جمع شمل كل الأبرار ليعيشوا في عصر السلالم الموعود. وخيل إليه، بعد أن طهره الزهد، أنه الفادي الإلهي. وكان "الظهر"، وهو نص في القبلانية يرجع إلى القرن الثالث عشر، قد حدد السنة اليهودية 5408 (1648 الميلادية) فاتحه لعصر الفداء. في تلك السنة أعلن سبتاي أنه المسيا، وكان آنئذ في الثانية والعشرين.
وصدقه رهط من مريديه. فأدانتهم حاخامية أزمير باعتبارهم مجدفين، ولكنهم أصروا، فنفوا من المدينة. وانتقل سبتاي إلى سالونيك، وهناك أقام احتفالاً قبلانياً زوج فيه نفسه للتوراة، فطرده أحبار سالونيك، فمضى إلى أثينا، ثم إلى القاهرة، حيث ضم إليه تابعاً غنياً يدعى رفائيل شلبي، ثم انتقل إلى أورشليم، وهناك وقع زهده موقعاً طيباً حتى في نفوس الأحبار. وأوفدت الجالية اليهودية في أورشليم سبتاي ليلتمس المعونة في القاهرة بعد أن أفقرها انقطاع الصدقات من يهود أوكرانيا المنكوبين. فعاد إلى أورشليم مصحوباً لا بالمال بل بزوجة ثالثة تدعى سارة، أضفى حسنها الإشراق على دعاواه وفي غزة-التي مر بها في طريقه-انضم إليه تابع غني آخر يسمى ناتان غزاتي، أذاع أنه هو ذاته ايليا، ولد من جديد ليقوم الطريق أمام المسيا، وأنه لن ينقضي عام حتى يسقط المسيا السلطان العثماني ويقيم ملكوت السماوات. وصدقه آلاف اليهود، وأذلوا أجسادهم ليكفروا عن ذنوبهم ويصبحوا جديرين بالفردوس الأرضي. فلما عاد سبتاي إلى أزمير، دخل عام 1665 المجمع في رأس السنة اليهودية، وأعلن نفسه المسيا مرة أخرى. وقبله هذه المرة جمع غفير أخذته نشوة الفرح. فلما رماه حبر عجوز بأنه دجال نفاه سبتاي من أزمير.
وانتشر نبأ مجيء المسيا في أرجاء غربي آسيا فكهرب الجاليات اليهودية. وحمل البشرى تجار مصر وإيطاليا، وهولندا، وألمانيا، وبولندة، إلى بلادهم، وخبروا بالمعجزات التي نسبت إلى سبتاي في عدد متزايد. وتشكك بعض اليهود، ولكن الآلاف صدقوا بعد أن أعدتهم لذلك النبوءات القبلانية والآمال الحارة. لا بل إن بعض المسيحيين(33/152)
شاركوهم الابتهاج، وقالوا أن مسيا أزمير هو حقاً المسيح المولود من جديد. ذكر هنري أولدنبرج في رسالة من لندن إلى سبينوزا (ديسمبر 1655) أن "كل العالم هنا يتحدث عن شائعة عودة الإسرائيليين المشتتين منذ أكثر من ألفي عام إلى وطنهم. وقليلون يصدقون الخبر، وكثيرون يتمنونه ... فإذا تأكد، فربما أحدث ثورة في كل شيء (59) ". وفي أمستردام أعلن أحبار بارزون إيمانهم بسبتاي، واحتفل في المجمع بمجيء الملكوت بالموسيقى والرقص، وطبعت كتب الصلوات لتعلم المؤمنين ضروب التكفير والتراتيل الممهدة لدخول أرض الميعاد. ففي مجمع هامبورج راح العائدون اليهود من جميع الأعمار يثبون ويطفرون ويرقصون وفي أيديهم درج الناموس. وفي بولندة هجر يهود كثيرون بيوتهم وأملاكهم ورفضوا أن يشتغلوا قائلين أن المسيا آت بشخصه سريعاً وسيقودهم في موكب النصر إلى أورشليم (60). واتخذ آلاف اليهود أهبتهم للرحيل إلى فلسطين-كان منهم أحياناً جاليات بأكملها، كجالية أفنيون. واقترح بعض المتحمسين في أزمير، الذين أثار عواطفهم ذلك الولاء العالمي لزعيمهم، أن توجه الصلوات اليهودية منذ الآن، لا إلى يهوده، بل إلى "ابن الله البكر، سبتاي زيفي، المسيا والفادي" (وكذلك كان المسيحيون يصلون للمسيح أو العذراء أكثر مما يصلون لله). وأرسل أمر من أزمير بأن يحتفل منذ الآن بأيام الحداد المقدسة عند اليهود أعياداً للفرح، وبأن كل فروض الناموس المضنية ستبطل سريعاً في أمن الملكوت وسعادته.
ويلوح أن سبتاي ذاته انتهى إلى الإيمان بقوة المعجزة. فأعلن أنه ماض إلى الآستانة، ولعل هدفه كان تحقيق نبوءة غزاني بأن المسيا سيأخذ في هدوء تاج الدولة العثمانية (بما فيها فلسطين) من السلطان. (على أن يعضهم زعم أن القاضي التركي في أزمير أمره بالمثول بين أيدي كبار موظفي الدولة في العاصمة). وقبل أن يبرح سبتاي أزمير قسم العالم وحكومته بين أخلص معاونيه. ثم انطلق إلى الآستانة في أول يناير 1666 وبرفقته نفر من مريديه. وكان قد تنبأ بتاريخ وصوله، ولكن عاصفة عطلت سفينته. وقلب رفاقه خطأه الحسابي هذا إلى برهان جديد على ألوهيته، وقالوا أنه أسكت العاصفة بكلمة إلهية منه.(33/153)
وما أن رسا على ساحل الدردنيل حتى قبض عليه، وجيء به إلى الآستانة مكبلاً بالأغلال، وزج به في السجن. وبعد شهرين نقل إلى سجن أرحم في أبيدوس. وسمح لزوجته أن تلحق به، ووفد عليه أصدقاؤه من كل فج ليواسوه، ويقدموا له الولاء، ويأتوه بالمال. ولم يفقد أتباعه إيمانهم به، فزعموا أنه أوثق النبوءات تنبأت بأن المسيا سيرفض أولاً من رؤساء هذا العالم، الذين سيوقعون به ألواناً من العذاب والهوان. وتوقع اليهود في كل أرجاء أوربا الإفراج عنه في أي لحظة، وأنه سيحقق نبوءات أسعد. وعلق حرفا اسمه الأولان، س، ز في المجامع. وفي أمستردام، ولجهورن، وهامبورج، كادت أعمال اليهود التجارية تتعطل تماماً، فقد اشتد إيمان اليهود هناك بأنهم عائدون جميعاً عما قريب إلى الأرض المقدسة. وتعرض من أعرب من اليهود عن شكوكهم في أن سبتاي هو المسيا لخطر الموت كل يوم.
وحير السلطات التركية ذلك الهياج الذي اضطربت له الحياة الاقتصادية لكثير من المجتمعات العثمانية، ولكن الترك خشوا أنهم لو أعدموا سبتاي بوصفه ثائراً ودجالاً لعملوا بذلك على تقديسه شهيداً، ولحولوا حركته إلى تمرد يكلفهم ثمناً غالياً، لذلك قرروا أن يجربوا حلاً سلمياً. فأخذ سبتاي إلى أدرنة. وهناك أخبر بأن أمراً قضى بأن يسحل في الشوارع ويعذب بالمشاعل الموقدة، ولكن في استطاعته أن يتفادى هذه النهاية وأن يظفر بأسباب التكريم الكبير في الإسلام لو اعتنق دين محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقبل،، وفي 14 سبتمبر مثل أمام السلطان، وأكد مروقه عن دينه بخلع ملابسه اليهودية وارتداء الزي التركي. وخلع عليه السلطان اسم محمد أفندي، وعينه حاجباً لبابه براتب كبير. ونالت سارة، التي اعتنقت الإسلام هي أيضاً، الهدايا الثمينة من السلطانة.
وقوبل نبأ هذا الارتداد بالتكذيب من يهود آسيا وأوربا وأفريقيا، ولكن حين تأكد النبأ آخر الأمر كاد ينفطر له قلب العالم اليهودي. فكاد الحاخام الأكبر في أزمير يموت خزياً وهو الذي قبل سبتاي بعد تشكك كثير. وأصبح اليهود في كل مكان أضحوكة المسلمين والمسيحيين. وحاول أعوان سبتاي مواساة أتباعه بأن بينوا لهم أن اعتناقه الإسلام إنما هو جزء من خطة ماكرة ليكسب المسلمين إلى(33/154)
صفوف اليهود، وأنه عما قريب عائد إلى الظهور يهودياً والعالم الإسلامي كله في ركابه. وحصل سبتاي على إذن بتبشير يهود أدرنه، مؤكداً للسلطات التركية أنه سيهدي سامعيه إلى الإسلام، وأصدر في الوقت نفسه رسائل سرية لليهود قال فيها أنه ما زال المسيا، وأن عليهم ألا يفقدوا إيمانهم به. ولكن لم يبد على اليهود، لا في أدرنه ولا في أي مكان آخر، أي علامة على قبولهم الإسلام. فلما خاب أمل الحكومة العثمانية رحلت سبتاي إلى أولسينج في ألبانيا، حيث لا يوجد يهود. وهناك كان المسيا المحطم في 1676. وظل المؤمنون به نصف قرن يواصلون حركته، ويؤكدون قداسته، ويعدون بقيامته من بين الأموات.
6 - المهرطقون
كان الأحبار عليمين بأن الدين في المجتمعات اليهودية التي يطوقها أعداء عتاة هو دعامة الحياة، وحياة الشريعة، لذلك زهدوا اليهود في الدراسة العلمانية التي قد تفتح ثغرة للتشكك في الدين. من ذلك أن يوئيل سركيس، الحاخام الأكبر في كركاو، أدان الفلسفة لأنها أم الهرطقة، و "العاهرة" المهلكة التي قال فيها سليمان "كل من دخل إليها لا يؤوب (61) " ورأى حرم أي يهودي في قضائه يدمن الفلسفة. وفزع يوسف سليمان ديلميديجو لخلو منهاج الدراسة والقراءة عند اليهود من العلوم، وكان قد وفد على بولندة (1620) من إيطاليا التي ما زالت تجيش بحرارة النهضة، وكتب يقول "هاهي ذي الظلمة تغشي البلاد والجهلة كثيرون ... وهم يقولون أن الرب لا يبتهج بالسهام المشحوذة في أيدي النحاة والشعراء والمناطقة، ولا بمقاييس الرياضيين ولا بحسابات الفلكيين (62) ".
وكان ديلميديجو هذا حفيداً بعيداً لأيليا ديلميديجو، الذي كان يعلم العبرية في أوساط آل مديتشي. وبدأ انحرافاته بتعلم اليونانية كما تعلم التلمود من أبيه، وكان حاخاماً في كريت، وحصل على بعض التربية العلمية في جامعة بادوا التقدمية، حيث كان جليليو معلمه المشرف على دراسته ثم امتهن الطب الذي يسر له الرزق وخلع عليه اسمه الإيطالي، ولكن العلم-لا سيما الرياضة-ظل يفتنه، وفي(33/155)
سبيل طلبه نفض عنه بعض إيمانه الديني، وتغيير الإهاب القديم على هذا النحو يخلف جسداً حساساً، وقد يزعزع الخلق حيناً. لذلك راح يوسف يتنقل من بلد إلى بلد مقتلع الجذور لا يستقر على حال. وانضم مؤقتاً وهو في القاهرة والآستانة إلى شيعة القرائين، وهم يهود رفضوا التقاليد والتنقيحات الكهنوتية (كالبروتستنت) وتمسكوا بالتوراة مصدراً أوحد للاهوتهم. وفي هامبورج وأمستردام وجد معلوماته الطبية أشد تخلفاً من معلومات الأطباء اليهود هناك، حتى لقد تحول في سبيل الرزق سنياً، والتحق بالحاخامية، وأخيراً دافع عن القبلانية ومات طبيباً مغموراً في براغ (1655).
أما ليو بن إسحاق مودينا فكان إنساناً أكثر رهافة وعمقاً. اتخذ اسمه الإيطالي من المدينة التي هاجرت إليها أسرته عند طرد اليهود من فرنسا. وكان أعجوبة بين الأطفال، فقرأ الأنبياء في الثالثة، ووعظ في العاشرة، وألف أول كتبه المنشورة في الثالثة عشرة. والكتاب حوار ضد القمار، الذي كان ليو حجة فيه، لأنه ظل وفياً له إلى نهاية حياته. وكانت أعظم مقامراته زواجه في 1590 وهو في التاسعة عشرة. أما أبناؤهم الثلاثة فقد مات أحدهم في السادسة والعشرين، وقتل الثاني في عراك، انصرف الثالث إلى حياة الفجور ثم اختفى في البرازيل. وماتت إحدى بنتيه وهو حي، أما الأخرى فبعد أن فقدت زوجها أصبحت عالة على أبيها الذي أصيبت زوجته بالجنون. ووسط هذه الصدمات حرم ليو لتماديه في لعب الورق. وكتب رسالة تثبت أن الأحبار تجاوزا الناموس في قرارهم، الذي عدلوا عنه سريعاً.
وكان أثناء ذلك قد ملك ناصية أدب التوراة والتلمود الرباني، ودرس الفيزياء والفلسفة، وكتب بالعبرية والإيطالية شعراً لا بأس به. فلما قبلته الحاجامية في البندقية، ألقى خطباً إيطالية كان فيها من العلم والبلاغة ما اجتذب كثيراً من المسيحيين إلى سماعه. وكلفه أحد أصدقائه المسيحيين، وكان نبيلاً إنجليزياً، بأن يكتب عرضاً للشعائر اليهودية. وقد انتهى ليو في كتابه هذا Historia dei riti ebraici " تاريخ الشعائر العبرية" (1637) إلى أن كثيراً من المراسم التقليدية التي بعدت الآن عن هدفها الأصلي قد فقدت الكثير من دلالتها. وفي كتاب غفل من اسم المؤلف "قول صقل" اقترح تنقيح(33/156)
الصلوات والطقوس العبرية وتبسيطها، وإلغاء قوانين الصوم، وخفض عدد الأيام المقدسة والتخفيف من صرامتها. وفي هذا الكتاب انتقد اليهودية الربانية لأنها مجموعة من التعقيدات التي لا مبرر لها أضيفت إلى الشريعة اليهودية الأصلية، وطالب بالرجوع من التلمود إلى التوراة، ولكنه مد هرطقاته إلى التوراة ذاتها، بل إلى الوحي الموسوي بأكمله. وقد ترك هذا التصريح الثوري دون نشر، فلما عثر عليه بين أوراقه بعد وفاته (1648)، كان مصحوباً برسالة مرافقة تدافع عن اليهودية السنية. ولم ير أحد الكتابين النور حتى عام 1852. ولو أن ليو اجترأ على نشر "قول صقل" في حياته، لبدأت حركة الإصلاح اليهودية نشاطها في القرن السابع عشر، ولكنه كان أشد ذكاء من أن يسبق التاريخ.
أما أشقى المهرطقين اليهود فهو أوريل أكوستا الأمستردامي. كان أبوه ينتمي لأسرة من المارانو أقامت في أوبورتو ولاءمت تماماً بين نفسها وبين المذهب الكاثوليكي. وتلقى جابرييل-وهو اسمه في البرتغال-العلم على يد اليسوعيين الذين روعوه بمواعظهم عن الجحيم، ولكنهم شحذوا ذهنه بالفلسفة الكلامية. فلما درس الكتاب المقدس أثر فيه اعتراف الكنيسة بالعهد القديم كلمة الله، وقبوله المسيح ورسله الاثني عشر لناموس موسى. وانتهى إلى أن اليهودية من الله، وتشكك في حق القديس بولس في سلخ المسيحية عن اليهودية، وصمم أن يعود إلى دين أجداده في أول فرصة. فأقنع أمه وأخوته (وكان أبوه قد مات) بالانضمام إليه في محاولة للزوغان من ديوان التفتيش والهروب من البرتغال. ووصلوا أمستردام بعد أن جازوا مخاطر كثيرة (حوالي 1617) وهناك غير جابرييل اسمه إلى أوريل، وأصبحت الأسرة أعضاء في مجمع اليهود البرتغاليين.
بيد أن هذه الروح ذاتها التي حدت به إلى ترك الكنيسة، روح التقصي والتفكير المستقل، جعلته قلقاً لا يحس بالاطمئنان النفسي داخل عقائد المجمع التي لا تقل صرامة عن عقائد الكنيسة، فقد صدمه إدمان الأحبار، حتى أحبار أمستردام المثقفين، لسخافات القبلانية الفكرية، فوبخ شركاءه الجدد بجرأة على تلك الطقوس والنظم التي ليس لها أساس ظاهر في التوراة، والتي رآها تتعارض أحياناً تمام التعارض(33/157)
مع طرق التوراة. وإذ لم يؤت من الحاسة التاريخية إلا القليل، فقد خيل إليه أنه كان خطأً كبيراً أن تتغير الشعائر والمعتقدات اليهودية على مدى تسعة عشر قرناً. وكما رجع قبل ذلك من العهد الجديد إلى القديم، فكذلك طالب الآن بالرجوع من التلمود إلى التوراة. وكان قد نشر في 1616 بهامبورج نشرة برتغالية عنوانها "حجج ضد التقاليد" التي بني عليها التلمود. فأرسل نسخة منها إلى مجمع اليهود بالبندقية، فأعلن المجمع حرمه (1618)، وطلب إلى ليو مودينا، وهو ذاته مهرطق، بحكم منصبه في الحاخامية، أن يفند دعوى أكوستا بأن أوامر الأحبار في كثير من الحالات ليس لها سند من الأسفار المقدسة. وأنذر أحبار أمستردام أكوستا بأنهم هم أيضاً سيحرمونه ما لم يعدل عن آرائه، وكان قد رماهم بالفريسية. فأبى، وضرب بنظم المجمع عرض الحائط جهاراً، فأعلن حرمه (1623)، وهو حرم يقطع كل صلة له بأخوانه اليهود، فتجنبه الآن حتى أقرباؤه. ولم يكن قد تعلم الهولندية بعد، فوجد نفسه بغير صديق واحد. وراح الأطفال يرجمونه بالحجارة في الشوارع.
وفي مرارة عزلته تقدم (كما تقدم سبينوزا بعده بقرن) إلى هرطقة هاجمت معتقداً أساسياً لكل شخص تقريباً في أوربا. فجاهر بأنه برفض الإيمان بخلود النفس لأنه غريب جداً على العهد القديم، فالنفس في رأيه إنما هي الروح الحية المتدفقة في الدم، وهي تموت مع الجسد (63). وحاول طبيب يهودي يسمى صموئيل داسيلفا الرد على آراء أكوستا. فنشر بالبرتغالية "رسالة في خلود النفس" (1623) وصف فيها أكوستا بأنه جاهل، عاجز، أعمى. ورد أوريل بكتاب سماه "فحص للتقاليد الفريسية ... ورد على صموئيل داسيلفا، المفتري الكذاب" (1624). ورغبة في حماية الحرية الدينية للجالية اليهودية، أعلم زعماؤها قضاة أمستردام بأن أكوستا بإنكاره الخلود إنما يقوض المسيحية كما يقوض اليهودية. فقبض عليه القضاة، وغرموه ثلاثمائة جولدن، وأحرقوا كتابه. وما لبث أن أفرج عنه، ويبدو أنه لم يلحق به أذى بدني.
على أن عقابه كان عقاباً اقتصادياً واجتماعيا. ذلك أن أخوته الصغار أصبحوا معتمدين عليه، وإذن فعلى حريته-المحرمة الآن-(33/158)
في الدخول في علاقات اقتصادية مع إخوانه. ولعل هذا السبب، فضلاً عن رغبته في الزواج ثانية، هو ما دعا أوريل إلى أن يقرر الخضوع للمجمع، وإنكار هرطقاته، وأن يصبح "قرداً بين القردة (64) " على حد تعبيره. وقبل إنكاره (1633) وعاش الشكاك المتحمس حيناً في سلام نسبي. ولكن هرطقاته استمرت في الخفاء واتسعت. كتب في فترة لاحقة يقول "لقد خامرني الشك في ناموس موسى، أهو حقاً ناموس الله، ثم انتهيت إلى أنه من مصدر بشري (65) ". ونبذ الآن الدين كله، اللهم إلا إيماناً غامضاً بإله هو والطبيعة واحد (كما كان إيمان سبينوزا فيما بعد). وأهمل الممارسات الدينية الثقيلة المفروضة على اليهودي السني. فلما جاءه مسيحيان يعلنان عن رغبتهما في اعتناق اليهودية ثناهما وحذرهما من النير الثقيل الذي سيضعانه فوق عنقيهما. فأنهيا ذلك إلى المجمع. فاستدعاه الأحبار واستجوبوه، ووجدوه غير نادم، فأوقعوا عليه الآن حرماً آخر أشد صرامة من سابقه (1639). وعاد أقرباؤه يقصونه عن حياتهم، وشارك أخوه يوسف في اضطهاده (66).
واحتمل هذه العزلة سبع سنين، ثم عرض الخضوع حين وجدها تؤذيه أذىً بليغاً في رزقه وأمام القانون. وإذ أسخط القادة اليهود طول مقاومته وما جرت عليه من متاعب، فقد حكموا عليه بضرب من الإنكار والتكفير نقلوه عن ديوان التفتيش البرتغالي (67). فأكره، على طرقة احتفالات الديوان بإدانة المهرطقين، على أن يرقى منصة في المجمع، ويتلو أمام جمهور كبير من المصلين اعترافاً بأخطائه وذنوبه، ويتعهد بأغلظ الإيمان أنه منذ الآن سيتمثل لكل نظم الجماعة ويعيش عيشة اليهودي الصالح. ثم خلعت ثيابه إلى خصره، وجلد تسعاً وثلاثين جلدة. وأخيراً أجبر على أن يطرح نفسه على عتبة المجمع، وخطا من فوقه الحاضرون وهم يغادرون المكان وفيهم أخوه الذي كان يناصبه العداء.
وقام من هذه العقوبة المذلة لا مذعناً بل ناقماً ساخطاً. فمضى إلى بيته، وأغلق على نفسه باب مكتبه عدة أيام وليال، وكتب آخر وأمر تنديداته باليهودية التي ضحى بالكثير في سبيل اعتناقها، والتي لم يفهم قط في تعاطف تاريخها الانطوائي، وصرامتها الواقية التي(33/159)
فرضتها عليها قرون من الظلم. وفي كتابه هذا "مثال من حياة البشر" قص سيرته الفكرية مثالاً على ما يصيب الإنسان المفكر. وقد أحس بأن "كل الشرور تنجم عن عدم إتباع العقل الرشيد وقانون الطبيعة (68) " وقابل بين الدين "الطبيعي" والدين الموحي، ورغم أن هذا يعلم الناس البغضاء، أمام ذلك فيعلمهم المحية. فلما فرغ من مخطوطته، حشا طبنجتين، وترصد بجوار نافذته لأخيه يوسف حتى مر، وأطلق عليه النار فأخطأه (69). ثم أطلق على نفسه الرصاص (1647؟).
وحاول المجتمع اليهودي أن يدفن هذه الفاجعة في صمت، ولكن لا بد أن بعض أفراده وجدوا نسيانها عسيراً. وكان سبينوزا غلاماً في الخامسة عشرة حين أوقع على أكوستا طقم الحرم، ولعله كان بين جماعة العابدين الذين رأوه يوقع عليه. ولعله مشي في رهبة وارتياع فوق جسد المهرطق المطروح أرضاً. وعن طريق ذلك الفتى، دخلت رؤيا أكوستا تراث الفلسفة بعد أن تطهرت مما علق بها من سخط (70).(33/160)
الكتاب الرابع
المغامرة الفكرية
1648 - 1715(33/162)
الفصل السابع عشر
من الخرافة إلى العلم
1648 - 1715
1 - المعوقات
كانت الطبيعة كما تصورها كل الأوربيين في القرن السابع عشر-فيما عدا قلة قليلة منهم-نتاجاً، أو ساحة قتال، لكائنات، خارقة، خيرة أو شريرة، تسكن أجسد البشر نفوساً، أو تسكن الأشجار والغابات والأنهار والرياح أرواحاً محيية، أو تدخل الكائنات الحية ملائكة أو شياطين، أو تجوب الهواء عفاريت خبيثة. وليس من هذه الأرواح ما يخضع لقانون لا يمكن خرقه، أو يمكن حسابه، فأي روح منها يستطيع أن يتدخل بطريقة معجزة في حركات الأحجار أو النجوم أو البهائم أو البشر، وكانت الأحداث التي لا تنجم بشكل مرئي عن المسلك الطبيعي أو المنتظم للأجسام أو العقول، تنسب لهذه القوى الخارقة التي تقوم بدور غامض خفي في شئون هذه الدنيا، ينذر بشيء أو ينبئ بخير أو يتنبأ بالمستقبل. وكل الأشياء الطبيعية، وكل الكواكب وسكانها، وكل الأبراج والمجرات، إن هي إلا جزر لا حول لها ولا قوة في بحر خارق للطبيعة.
وقد مرت بنا ألوان من الخرافة في العصور السابقة لهذا القرن. وعمر أكثرها بعد مجيء العلم الحديث على يد كوبرنيق وفيساليوس وجاليليو، وازدهر بعضها حتى في نيوتن نفسه، لقد استمر اضمحلال التنجيم والخيمياء (الكيمياء القديمة)، ولكن المنجمين كانوا عديدين في بلاط لويس الرابع عشر (1)، وفي فيينا "كان هناك عدد هائل من المشتغلين بالخيمياء (2) " كما روت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو في 1717. وكان البريطانيون الأشداء لا يزالون يؤمنون بالأرواح، ويتطيرون، ويدفعون ثمناً للطوالع، ويأخذون أحلامهم على أنها نبوءات، ويحسبون أيام السعود والنحوس، أما البريطانيون الأضعف منهم فيلتمسون من الملك إبراء الداء الخنازيري الذي ابتلوا به بلمسة(33/163)
منه. وقد ورد في العدد السابع من صحيفة "سبكتاتور" وصف للانقلاب الذي يحدثه في أسرة بريطانية قليل من الملح يتناثر، أو سكين وشوكة توضعان متقاطعتين على صحن، أو ثلاثة عشر شخاً يجمعون في حجرة أو جماعة (ويلاحظ عدم وجود طابق ثالث عشر في بعض فنادق القرن العشرين). وفي فرنسا أصبح جاك ايمير بطل زمانه (1692) لأنه كان يستطيع (في اعتقاد الكثيرين) بشد أملود بندق يمسكه بيده أن يكتشف قرب مجرم منه (3).
وفي ألمانيا كانوا يستعملون عصا سحرية لوقف النزف وشفاء الجروح وجبر العظام (4). وفي السويد اتهم شتيرنهيلم بالسحر حين أحرق لحية فلاح بمرآة مكبرة، ولم ينقذ صاحب التجربة من الموت غير تدخل الملكة كرستينا (5).
كان المتشككون في السحر يتزايد عددهم، ولكن الراجح أن المؤمنين به كانوا أكثر منهم بكثير. وكانت حاشية تشارلز الثاني لا تأبه كثيراً بأي عفاريت قد تفسد عليهم لهوهم، ولكن "الكثرة الساحقة" وأبرز المؤلفين بين رجال الدين والإنجليز، كانوا لا يزالون يؤمنون بأن البشر يستطيعون أن يتحالفوا مع الشيطان فينالوا بهذا التحالف قوي خارقة (6). وقد ذهب جوزف جلانفيل، وهو قس أنجليكاني راجح العقل قوي الأسلوب، في كتابه "خواطر فلسفية حول الساحرات والسحر" (1666) إلى أنه من العجب العجاب أن "رجالاً فيهم ذكاء وحذق في غير هذا الأمر، يتوهمون أنه ليس هناك شيء اسمه ساحرة أو شبح" ونبه قراءة إلى أن شكوكاً من هذا النوع تفضي إلى الإلحاد. كذلك رمى قسيس مشهور آخر اسمه رالف كدورث في كتابه "نظام الكون الفكري الصحيح" (1679) بالكفر كل من ينكر وجود الساحرات (7). وقد دافع أفلاطوني كمبردج، هنري مور، في كتابه "ترياق الإلحاد" (1668؟) دفاعاً حاراً عن قصة "ساحرة" تزوجت الشيطان ثلاثين عاماً، ورآه تجديفاً كبيراً أن يتشكك متشكك في قدرة الساحرات على إثارة العواصف بالتعزيم، أو ركوب الهواء على مكنسة (8).
وخف اضطهاد الساحرات شيئاً فشيئاً، ولكن رجال الدين(33/164)
الاسكتلنديين تفردوا بغيرتهم المحرقة. مثال ذلك أن ست نساء في مدينة ليث عذبن بشتى ضروب التعذيب عام 1652 لحملهن على الاعتراف بالسحر، فعلقن من أباهمهن، وجلدن، ووضعت الشموع الموقدة تحت أقدامهن التي فتحت عنوة، ومات أربعة من الستة من التعذيب (9). وفي عام 1661 كان هناك أربعة عشرة محكمة تحاكم الساحرات في إسكتلندة، وفي 1664 أحرق تسع نساء معاً في ليث. واستمرت أحكام الإعدام هذه في إسكتلندة على نحو متقطع حتى 1722. وفي إنجلترا شنقت ساحرتان سنة 1664 في بوري سانت ادموندر، وأعدمت ثلاث في 1682، وعدد غير مؤكد في 1712. وقوضت الحجج التي أتى بها وير، وسبي، وهوبز، وسبينوزا، وغيرهم، شيئاً فشيئاً وهم السحر في أوساط العلمانيين المثقفين ووقف المحامون والقضاة بدرجة متزايدة في وجه اللاهوتيين، ورفضوا الاتهام أو الإدانة بالسحر. وفي 1712 قضت هيئة محلفين من الإنجليز البسطاء على جين وينهام بأنها مذنبة بالسحر، ولكن القاضي رفض الحكم عليها، فندد به رجال الدين المحليون (10)، ولكن لم يعدم أحد بتهمة السحر في إنجلترا بعد ذلك التاريخ. وفي فرنسا حصل كولبير على مرسوم من لويس الرابع عشر (1672) بمنع أحكام الإدانة بتهمة السحر (11). واحتج برلمان روان بأن هذا المنع انتهاك للأمر الوارد في التوراة، "لا تدع ساحرة تعيش" (خروج 22 - 18)، وأفلح بعض الحكام المحليين في حرق سبع "عرافات" في فرنسا فيما بين عامي 1680 و1700، ولكنا لا نسمع بأحكام إعدام بعد 1718. واستمر الإيمان بالسحر حتى الانتصار المؤقت الذي أحرزته العقلانية في حركة تنوير القرن الثامن عشر، وما زال موجوداً في أماكن متفرقة هنا وهناك.
وتعاونت الرقابة والتعصب مع الخرافة على الحد من نمو المعرفة وانتشارها. وفي فرنسا حالت الصراعات التي احتدمت بين الملوك والبابوات، وبين الكنيسة الفرنسية والبابوية، وبين الجانسنيين واليسوعيين، وبين الكاثوليك والهيجونوت-هذه الصراعات حالت دون وحدة الرقابة. وثباتها ودقتها، وهي الرقابة التي عزلت أسبانيا في هذا العصر عن حركات العقل الأوربي. ووجد المؤلفون المهرطقون(33/165)
طرقاً للروغان من الرقباء، ولعل الذكاء الفرنسي قد شحذته ضرورة التعبير عن الأفكار بطريقة تدق على فهم موظفي الرقابة. وفي كولونيا الكاثوليكية فرض رئيس الأساقفة الناخب الرقابة على الأحاديث أو المطبوعات الدينية. وفي براندنبورج البروتستنتية أمر الناخب الأكبر برقابة دقيقة ليهدئ الصراع الديني. وفي إنجلترا واصلت الحكومة سجن المؤلفين البغيضين وحرق الكتب المهرطقة رغم صدور قانون التسامح (1689) (12). على أن تنوع الملل والنحل في الدول البروتستنتية جعل الرقابة فيها أقل جدوى منها في الدول الكاثوليكية، ولعل هذا بعض السبب في تفوق إنجلترا وهولندا في العلم والفلسفة في القرن السابع عشر.
لقد اتفقت المذاهب المتنافسة على التعصب. وحاجت الكنيسة الكاثوليكية في إقناع بأنه ما دام كل المسيحيين تقريباً يقبلون الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، وبما أن ابن الله أسس الكنيسة كما نص الكتاب، فواضح إذن أن من حقها وواجبها أن تقمع الهرطقة وانتهت المذاهب البروتستنتية إلى استنتاج مماثل وإن كان أقل تعطشاً للدماء. فما دام الكتاب كلمة الله، فكل من يحيد عن تعاليمه (حسبما تفسر رسمياً) يجب على الأقل أن يقمع، وأن يكون شاكراً لأنه لم يقتل. واعترفت معاهدة وستفاليا (1648) بمذاهب شرعية ثلاثة في ألمانيا: الكاثوليكية، واللوثرية، والكلفنية، وترك كل حاكم حراً في أن يختار أياً منها، وأن يفرضه على رعاياه. أما الدول الاسكندنافية فلم تسمح بغير اللوثرية. وأما سويسرا فأباحت لكل ولاية تقرير عقيدتها. وافتتحت فرنسا الطريق إلى التسامح بإصدارها مرسوم نانت (1598)، ثم طريق العدول عنه بإلغاء المرسوم (1685). أما إنجلترا فقد خففت بعد 1689 من القيود المفروضة على المنشقين من البروتستنت، واستمرت تفرضها على الكاثوليك، وأبادت ثلث الكاثوليك في إيرلندة. ووافق العقلاني هوبز البابوات على ضرورة عدم التسامح.
ولكن التسامح كان في ازدياد. وبدأت الدراسة الناقدة للكتاب المقدس في هذا العصر تجعل الناس أحراراً في الإعجاب به أدباً والتشكك فيه علماً، وجعل تعدد المذاهب النظام الاجتماعي أعسر فأعسر بدون التسامح المتبادل. وفي "إنجلترا الجديدة" أعلن روجر وليمز(33/166)
(1644) أنها "إرادة الله وأمره" أن "تباح لجميع الناس، في جميع الأمم، أشد المعتقدات والعبادات وثنية، أو يهودية، أو تركية. أو عداء للمسيح (13) " وطالب جون ملتن بـ "النشر دون رخصة" (1644)، ودافع جريمي تيلور عن "حرية التنبؤ" (1646). وأجاز جيمس هارنجتن (1656) الحرية الديني بغير حدود فقال: "حيث تكون الحرية المدنية كاملة، فإنها تشتمل على حرية الضمير، وحيث تكون حرية الضمير كاملة ... فإن للإنسان حسبما يملي عليه ضميره الحق في الممارسة الكاملة لدينه دون أن يكون ذلك عائقاً لترقيته أو توظيفه في الدولة (14) ". أما في الدول التجارية مثل هولندا، وحتى في البندقية الكاثوليكية، فقد اقتضت ضرورات التجارة التسامح مع شتى أديان التجار القادمين من بلاد أجنبية. وهولندا المتحررة هي التي نشر سبينوزا فيها في "الرسالة اللاهوتية السياسية" ( Tractatus theologico-Politicus) (1670) دعوة للتسامح الكامل مع الأفكار المهرطقة، وفي هولندا دافع بيل عن التسامح في كتابه "تعقيب فلسفي على الآية: ألزمهم بالدخول" (1686)، وبعد سنين من الإقامة في هولندا نشر لوك كتابه "رسائل في التسامح" (1689). وازدادت المطالبة بالحرية الفكرية عقداً بعد عقد، حتى إذا بلغ القرن السابع عشر ختامه لا نجد كنيسة تجرؤ على صنع ما صنعته الكنيسة ببرونو في 1600، أو بجاليليو في 1633 "ومع ذلك فهي تدور " Eppur si muove.
2 - التعليم
كانت المعرفة تنتشر في بطء عن طريق الصحف، والمجلات، والنشرات، والكتب، والمكتبات، والمدارس، والأكاديميات، والجامعات. وأصبحت الأنباء في القرن السابع عشر سلعة تباع وتشترى، أولاً للمصرفيين، ثم للحكام، ثم لأي إنسان. وفي 1711 كان مجموع ما وزع من الصحف البريطانية اليومية أو الأسبوعية 44. 000 (15).
وأدركت "الجورنال دي سافان" (صحيفة العلماء) التي تأسست في 1665 أن الأحداث في عالم الأدب والعلم يمكن أن تكون أيضاً أنباء، فما لبثت أن رسخت أقدامها وسيطاً دولياً بين الدارسين(33/167)
والعلماء والأدباء. ولم تمض سنوات قليلة حتى ظهر لها منافسون، "الجورنالي دي ليتراتي" في روما، (1668)، و "الجورنالي فينيتو" في البندقية (1671) و "الاكتا ايروديتورم" في ليبزج (1682). وأسس بيل مجلة مشهورة بروتردام في 1684 تسمى "أنباء جمهورية الأدب"، وبعد عامين بدأ جان لكلير مجلة "المكتبة العالمية" الشهيرة، وقد احتوت هذه الدوريات على آراء من أهم ما صدر عن لوك وليبنتز.
وكان تداول الكتب يزداد بسرعة. ففي 1701 كان هناك 178 من كبار تجار الكتب في باريس، منهم ستة وثلاثون طباعاً وناشراً (16). وكانت المكتبات قديمها وحديثها تجعل كنوزها ميسرة لعدد أكبر من القراء. وفي عام 1610 حصل السر توماس بودلي من "شركة الوراقين" على منحة تحصل مكتبة بودلي التي أنشأها في أكسفورد (1598) بمقتضاها على نسخة من كل كتاب ينشر في إنجلترا، وهكذا أصبحت في 1930 تملك 1. 250. 000 مجلد. وفي 1617 قضى مرسوم أصدره لويس الثالث عشر بأن تودع في المكتبة الملكية (القومية الآن) نسختان من كل مطبوع جديد في فرنسا. وفي 1622 أصبح مجموع كتب هذه المكتبة 6. 000 مجلد، وفي 1715 زاد إلى 70. 000، ومعظم الفضل في هذه الزيادة يرجع إلى غيرة كولبير، وفي 1926 بلغ 4. 400. 000. وأسس ناخب براندنبورج الأكبر مكتبة قومية ببرلين في 1661. وفي ذلك العام أوصى مازاران بمكتبته الثمينة التي ضمت 40. 000 مجلد للويس الرابع عشر وفرنسا، وفي 1700 حول حفدة السر روبرت بروس كوتون ملكية المكتبة الكوتونية للمتحف البريطاني. وافتتح توماس تنسن عام 1695 بلندن أول مكتبة إنجليزية مفتوحة لعامة الشعب.
أما التعليم فكان يجاهد لتعويض الخسائر التي تكبدها من جراء الحروب الدينية في فرنسا، والحرب الأهلية في إنجلترا، وحرب الثلاثين في ألمانيا. ولم تعد المدارس والآداب الألمانية إلى مكانتها التي بلغتها أيام لوثر، وأولريش فون هتن، وملانكتون قبل قرنين، إلا حين جاء ليسنج (1729 - 81). في هذه الفترة ظلت اللاتينية غير الممتازة لغة غريبة مقتصرة على القلة المتعلمة، في حين أصبحت الألمانية مجرد(33/168)