هذا الفنان الذي كان يومها في عامه السابع والثلاثين بأنه رجل "ذو طلعة مشرقة، وحديث رزين لطيف، موسيقار كفء، وفيلسوف ضليع" و "معماري ممتاز"، وهو إلى ذلك نحات ومصور (7). وكذلك كان الرجال المتكاملون من أهل عصر التوسع الذي نحن بصدده. وقسم روسو الجدران إلى خمسة عشر حشوة، كلها محلي بطراز النهضة المسرف: قاعدة من السنديان الجوزي المنقوش والمطعم، ولوحة جصية جدارية ذات مناظر من الأساطير الكلاسيكية أو التاريخ، ومحيط غني من الزخارف الجصية في التماثيل، والودع، والسلاح، والمداليات، وأشكال الحيوان أو الإنسان، وأكاليل الزهر أو الفاكهة، ثم سقف من الخشب العميق الحفر يكمل تأثير اللون الدافئ، والجمال الحسي، والبهجة العابثة. وكان هذا كله ينسجم غاية الانسجام مع ذوق الملك، فأنعم على روسو ببيت في باريس، وبمعاش قدره 1. 400 جنيه (35. 000 دولار؟) في العام. يقول قازاي "وعاش الفنان في بذخ النبلاء، يحف به من خدمه وخيوله، ويولم الولائم لأصدقائه" (8). وقد جند لخدمته من المصورين والنحاتين ستة من الإيطاليين، وعدة فرنسيين، وهم الأصل والنواة ل "مدرسة فونتنبلو". وفي قمة نجاحه وعظمته قضى طبعه الإيطالي الحاد على نشاطه. ذلك أنه اتهم أحد مساعديه المدعو فرانشسكو بللجرينو بالسرقة. ولكن براءة بللجرينو تكشفت بعد أن عذب عذاباً شديداً. وشعر روسو بالخزي وتأنيب الضمير، فتجرع السم ومات معذباً، ولما يجاوز السادسة والأربعين (1541).
وحزن عليه فرانسوا، ولكنه كان قد وجد في بريماتتشيو فناناً قادراً على مواصلة عمل روسو بالأسلوب ذاته، أسلوب الخيال الشهواني. كان بريماتتشيو فني وسيماً في السابعة والعشرين يوم وطئ أرض في فرنسا عام 1532. وسرعان ما تبين الملك كفاياته المتعددة معمارياً ومثالاً ومصوراً.(27/71)
فعين له عدد من المساعدين، وراتباً طيباً، ثم اختصه بعد ذلك بموارد أحد الأديار، وهكذا حولت عطايا المؤمنين إلى فن لعله كان يصدم مشاعر الرهبان لو شهدوه. وصمم بريماتتشيو رسوماً للمصنع الملكي لنسيج المرسوم، وحفر رفاً رائعاً لمدفأة حجرة الملكة إليونورا بقصر فونتنبلو، ورد على رعاية الدوقة ديتامب وحمايتها إياه بتزيين حجرتها في القصر بصور وتماثيل جصية. وقد ماتت الصور مرات تحت ترميماتها العديدة، ولكن التماثيل محتفظة بروعتها، وبينها تمثال من الجص لسيدة ترفع يديها إلى طنف، وهو من أبدع التماثيل في الفن الفرنسي. ترى كيف يسع ملكاً تعشق مثل هذا العري المتظاهر بالاحتشام أن يرتضي الكالفنية بديلاً عن كنيسة تبتسم في تسامح لتصوير هؤلاء العاريات الفاتنات؟.
ولم تهتز مكانة بريماتتشيو ولا هذب أسلوبه بعد موت هذا الملك "الساطير" وارتقاء هنري الثاني للعرش، فقد عكف الآن (1551 - 56) بمساعدة فيليبير ديلورم ونيكولو ديللاباتي على تصميم بهو هنري الثاني في فونتنبلو وتصويره ونقشه وتزيينه بشتى الزخارف. وقد دمرت اللوحات هي الأخرى، ولكن جمال التماثيل الأنثوية ما زال يخلب الألباب، وفي الجدار النهائي من العناصر الكلاسيكية ما يجعله الروعة مجسمة والجلال متجسداً. وفاق بهو أوليس في روعته حتى بهو هنري الثاني على ما روي (لأن البهو دمر في 1738)، وقد زينه بريماتتشيو ورفاقه بمواضيع مختارة من الأوديسا بلغ عددها 161.
ويعين قصر فونتنبلو انتصار الطراز الكلاسيكي في فرنسا. وقد ملأ فرانسوا قاعاته بتماثيل وتحف اشتريت له في إيطاليا فدعمت روعتها رسالة الفن الكلاسيكي. وفي هذه الأثناء نشر سباستيانو سيرليو، الذي عمل فترة في قصر فونتنبلو، كتابه Opere di arehitettura، (1548) ، وفيه بشر بالكلاسيكية الفتروفية التي دان بها أستاذه بالداسار(27/72)
بتروتزي، وقد قام بترجمته إلى الفرنسية لتوه جان مارتان، الذي ترجم أيضاً فتروفيوس (1547). وراح الفنانون الفرنسيون الذين دربهم روسو أو بريماتتشيو ببثون من مدرسة فونتنبلو القواعد والمثل الكلاسيكية في أرجاء فرنسا، فظلت مسيطرة عليها قروناً هي وما يقابلها من أشكال الأدب الكلاسيكية التي بدأتها جماعة البلياد. وذهب الفنانون الفرنسيون أمثال جاك أ. دسرسو، وجان بوللان، وديلورم، إلى إيطاليا منفعلين بسرليو وفتروفيوس، لكي يدرسوا آثار العمارة الرومانية، ونشروا بعد عودتهم أبحاثاً صاغوا فيها الأفكار الكلاسيكية. ونددوا كما ندد رونسار ودبلليه بالطرز الوسيطة لما فيها من همجية، وصمموا على تهذيب المضمون وإحالته شكلاً. وبفضل هؤلاء الرجال وكتبهم انبعث المعماري فناناً متميزاً عن البناء الماهر، ذا مكان مرموق في السلم الاجتماعي. ولم تعد بذلك حاجة إلى الفنانين الإيطاليين في حركة البناء الفرنسية، لأن فرنسا تخطت الآن إيطاليا إلى روما القديمة ذاتها تستوحيها فنون المعمار، وجمعت جمعاً رائعاً بين الأساليب الكلاسيكية وتقاليد فرنسا ومناخها.
في هذا الجو- جو الفكر والفن- ارتفع أنبل بناء مدني في فرنسا. والمتأمل للوفر اليوم من شاطئ السين الأيسر، والمتجول يوماً بعد يوم خلال متحف العالم هذا الحافل بالكنوز، يتضاءل خشوعاً ورهبة أمام ضخامة هذا الأثر. ولو خيرنا أي بناء فرد نرى الإبقاء عليه في كارثة عالمية مدمرة لاخترقنا اللوفر. كان فليب أغسطس قد بدأ تشييده حوالي عام 1191 قلعة محصنة تقي باريس شر الغزو على طول نهر السين. ثم أضاف شارل الخامس جناحين جديدين (1537) وبيتاً للسلم من خارج ريما كان الموحى بتحفة قصر بلوا. ولما وجد فرانسوا أن هذا البناء الوسيط، نصف القصر ونصف السجن، غير صالح لسكناه ولهوه،(27/73)
أمر بهدمه وعهد إلى ببير ليسكو (1556) أن يقيم في مكانه قصراً يليق بملك يتربع على عرش فرنسا النهضة. ولما مات فرانسوا بعد عام أمر هنري الثاني بالمضي في المشروع.
كان ليسكو نبيلاً وقسيساً، فهو سيد كلاني الإقطاعي، ورئيس دير كليرمون، وكاهن نوتردام، ومصور ونحات معماري. وهو الذي صمم علية الصليب في كنيسة سان جرمان لوكسروا (التي دمرت في 1745) والقصر الذي أصبح الآن "أوتيل كارنافاليه". وقد استعان في هذين العملين بصديقه جان جوجون ليقوم بالنحت الزخرفي، وحين تقدم العمل في اللوفر الجديد دعا جوجون ليزينه. وفي 1548 شيد ليسكو الجناح الغربي للقصور التي تضم اليوم فناء اللوفر المربع (الكوركاريه). أما الواجهة فهي من الأرض إلى السطح من إملاء طراز النهضة الإيطالية، على وجه الحصر (كما كان رابليه يقول لو رآها): ثلاثة صفوف من النوافذ المستطيلة، وتفصل بين الصفوف كرانيش من الرخام، أما النوافذ فتفصل بينها عدة أعمدة كلاسيكية، ثم ثلاثة أروقة تعتمد على عمد كلاسيكية أنيقة، ولم يكن فرنسياً غير السقف المائل، ولكن الحلبات المعمارية كانت هنا أيضاً ذات جمال كلاسيكي. ولولا أن جوجون أدخل تماثيل في كوي الأروقة وحفر نقوشاً بديعة في القواصر وتحت الكرانيش، وتوج النتوء الأوسط بشعار هنري وديانا- لولا هذا لكان المنظر العام شديد الصرامة. وفي داخل جناح ليسكو هذا بني جوجون قاعة تسمى Salle des Cariatides- أربع إناث رائعات يسندن شرفة للموسيقيين؛ وجوجون أيضاً هو الذي زخرف قبو السلم الكبير المؤدي إلى الحجرة الملكية التي نام فيها ملوك فرنسا ابتداء من هنري الرابع إلى لويس الرابع عشر. واستمر العمل في بناء اللوفر وزخرفته أيام شارل التاسع وهنري الرابع ولويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر(27/74)
ونابليون الأول ونابليون الثالث، ملتزماً على الدوام الطراز الذي حدده ليسكو وجوجون بحيث أصبح هذا الصرح الفسيح هو العصارة المركزة لثلاثة قرون ونصف من حضارة طحنت كد الشعب لتخرج منه هذه الروائع الفنية. ترى، أكان ممكناً بناء اللوفر لو أنصفت الأرستقراطية الشعب؟.
وأبدع فيليبير ديلورم لهنري الثاني وديان دبواتييه آيات في العمارة كأنها في سحرها جنات عدن. وقد درس فيليير في شبابه آثار روما القديمة وقومها، فأحبها، ولكنه أعلن عقب عودته إلى فرنسا أن العمارة الفرنسية يجب منذ الآن أن تكون فرنسية. وكانت روحه- روح الوثنية الكلاسيكية والوطنية الفرنسية- هي بالضبط برنامج جماعة البلياد. وقد صمم سلم "الكورد يزادييه" Cour des Adieux بفونتنبلو على شكل حدوة حصان، والمدفأة والسقف الغائر النقوش في بهو هنري الثاني. وشيد لديان في آنيه (1548 - 53) مدينة حقيقية من القصور والحدائق الرسمية، وهناك وضع تشلليني تمثاله "حورية فونتنبلو" في قوصرة، وبز جوجون المثال الفلورنسي بمجموعته التي تمثل ديانا وأيلها. ومعظم هذا الفردوس النفيس حل به الدمار، ولم يبق منه سوى بوابة لا تثير إعجاباً بذكر في فناء مدرسة الفنون الجميلة بباريس. ولأجل هذه الخليلة المنتصرة نفسها أكمل قصر شنوسو- هدية صغيرة من مليكها المتيم، وفيليب هو الذي فكر في مد القصر عبر الشير. ولما أخذت كاترين مديتشي القصر من ديان، واصل ديلورم جهوده الشاقة فيه حتى اكتملت هذه الآية الفنية. على أن أسلوبه الرياضي المسرف لم ينل الرضا حيناً، فاعتكف ليؤلف بحثاً موسوعياً في العمارة. ثم دعته كاترين ثانية في شيخوخته ليستأنف العمل، فصمم لها قصراً جديداً هو التويلري (1564 - 70) الذي دمره كومون(27/75)
1871. وقد تلقى الفنان من جميع رعاة فنه مكافآت سخية. فأصبح قسيساً، شغل عدة وظائف كنسية مجزية. ثم مات في 1570 كاهناً لنوتردام، بعد أن دبر في وصيته مستقبل طفليه غير الشرعيين (9).
كان جان بولان الثالث المعماريين النوابغ الذين زينوا فرنسا في عهود زوج كاترين وأبنائها. وقد اكتسب شهرته في ثلاثيناته بمدينة أكوان إذ صمم قصراً ريفياً لآن دمونمورنسي بلغ الكمال في خطوطه الكلاسيكية. وفي ستيناته خلف ديلورم في بناء التويلري وواصل العمل إلى أن مات- "من يوم إلى يوم، أموت وأنا أتعلم" على حد قوله.
لقد درج الناس على أن يأسفوا لاستيراد العمارة الفرنسية للطرز الإيطالية، وعلى أن يقولوا إن الفن القوطي الوطني لو ترك دون أن يحرفه هذا التأثير لتطور إلى عمارة مدنية أنسب للرشاقة الفرنسية من الخطوط الصارمة نسبياً التي اتسمت بها الطرز الكلاسيكية. ولكن الفن القوطي كان في طريقه إلى الموت من الشيخوخة، ربما من الإسراف الهرم والزوقة العتيقة؛ لقد جرى شوطه وانتهى. وكان اتكاء الفن اليوناني على ضبط النفس والاستقرار والخطوط البنائية الواضحة خير ما يصلح للتخفيف من الاندفاع الفرنسي والسير به إلى نضج مهذب. وقد ضحى في هذا السبيل ببعض طرافة العصر الوسيط، ولكن هذه أيضاً عاشت أيامها وانقضت، وهي لا تبدو جذابة إلا لأنها ماتت. ولما طور معمار النهضة الفرنسية طابعه القومي الخاص، مازجاً الرواشن والسطوح المائلة بالأعمدة والتيجان والقواصر، منح فرنسا طوال ثلاثة قرون طرازاً في البناء كان مثار حسد أوربا الغربية. ونحن نحس الآن أن هذا الطراز كان جميلاً لأنه هو الآخر في طريقه إلى الزوال.(27/76)
2 - الفنون الملحقة
قام مئات من الصناع الفنانين بتزيين الحياة الفرنسية في هذا العصر المرح، عصر فرانسوا الأول وهنري الثاني. ونقش النجارون مقاعد المرتلين في كنائس بوفيه، وآميان، وأوخ، وبرو، وتجرءوا على زخرفة المباني القوطية بمناظر حية من النهضة تمثل آلهة الحقوق، والعرافات. وأتباع باخوس والسواتير، بل تمثل بين الحين والحين فينوس أو كيوبيد، أو جانيميد. أو قد تراهم- لكي نلاحقهم ملاحقة محمومة- يصنعون الموائد، والكراسي، والإطارات، والمراكع، والأسرة، والخزائن، وينقشونها بزخارف ربما كانت مسرفة، أو يكتفونها بالمعادن أو يطعمونها بالعاج أو الأحجار الكريمة. أما صناع الأشغال المعدنية الذين بلغوا الآن ذروة الإتقان فقد خلعوا الجمال الرائع على الأواني والأسلحة بزخرفتها بالنقوش الدمشقية أو بحفرها، ورسموا النوافذ ذات المصبعات- بقصائد من الشعر في زخرف حديدي من الشجر- للكنائس والهياكل والحدائق والمقابر، أو صنعوا مفصلات كتلك التي نراها على أبواب نوتردام الغربية، وفيها من الجمال ما جعل الأتقياء ينسبون صنعها إلى أيدي الملائكة. وقد اعترف تشلليني، وهو الذي لم يبق لغيره مديحاً يذكر بعد أن أشيع حاجاته منه، بأن الصباغ الفرنسيين قد بلغوا في صنعهم آنية الكنائس- أو آنية المنازل كتلك التي حفرها جان دوريه لهنري الثاني- "درجة من الإتقان والكمال لا تجدها في أي بلد آخر" (10). أما الزجاج الملون (المعشق) في كنيسة مرجريت النمساوية في برو، أو في كنيسة سانت إتيين في بوفيه، أو في كنيسة سانت إتيين دمون في باريس، فقد كشف عن عظمة لم تكن فارقت فرنسا بعد. وقد أنشأ فرانسوا في فونتنبلو مصنعاً تنسج فيه قطع النسيج(27/77)
المرسومة قطعة واحدة بدلاً من صنعها أجزاء منفصلة تخاط معاً كما كانت الحال من قبل، وخلطت الخيوط الذهبية والفضية في سخاء بالحرير والصوف المصبوغين. وبعد عام 1530 لم تعد نماذج قطع النسيج الفرنسي المرسوم ومواضيعه قوطية وفروسية، بل اتبعت تصميمات النهضة وموضوعاتها المجلوبة من إيطاليا.
وغلبت رسوم النهضة الزخرفية على الحراريات في خزف ليون (المايوليك)، وفي قاشاني جنوبي فرنسا، وفي صناعة المينا بليموج. ورسم ليونار ليموزان وغيره بألوان المينا المصهورة البراقة أشكالاً أنيقة من النبات والحيوان والآلهة والبشر على الأواني النحاسية كالأحواض والزهريات والأباريق والكئوس والأطباق وغيرها من الأواني المتواضعة التي سموا بها إلى مرتبة التحف الفنية. وهنا أيضاً كان لفرانسوا فضل المشاركة، فقد وضع ليونار على رأس مصنع المينا ملكي بليموج، وخلع عليه لقب "الوصيف الخاص للملك". وتخصص ليونار في رسم صور الأشخاص بالمينا على الأطباق النحاسية، وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك نموذج رائع منها يصور فرانسوا نفسه، وغير هذا كثير في قاعة أبوللو باللوفر مما يشهد في هدوء لهذا العهد الذهبي.
كان تصوير الأشخاص فناً مكتمل النضج في فرنسا قبل قدوم الإيطاليين. فمن الفنانين الإيطاليين في فرنسا كان بوسعه أن يرسم أروع من صورة جيوم دمونمورنسي التي رسمها فنان كبير لم يذكر عليها اسمه حوالي عام 1520، والمحفوظة اليوم بمتحف ليون؟ - Voila un homme! " هاكم رجل"- إنها ليست تحية مصورة، إنها رجل. لقد جلب روسو وبريماتتشيو وديللاباتي وغيرهم من مدرسة فونتنبلو إلى فرنسا ما تعلموه من رفائيل أو برينو ديلفاجاً أو جوفاني دا أوديني أو جوليو رومانو عن زخرفة العمد والكرانيش والأسقف ...(27/78)
بال "جروتسك" أو الأشكال العابثة- أشكال الملائكة (الكاروبيم) والأطفال واللوالب والزخارف العربية والنبات. وقد رسم عضو مجهول من أعضاء هذه المدرسة لوحة "ديان دبواتييه" المحفوظة الآن بمتحف ورستر بولاية ماساشوستس- جالسة إلى أخوان زينتها وعلى رأسها تاج. وبعد عام 1545 قدم إلى فرنسا كثير من المصورين الفلمنك، فيهم بروجل الأب، ليدرسوا الأعمال الفنية في فونتنبلو. ولكن أسلوبهم كان أعمق جذوراً من أن يستسلم للتأثير الإيطالي. وتغلبت القوة الواقعية التي اتسم بها فنهم على الجمال الأنثوي الذي تجلى في فن ورثة رفائيل.
وكادت أسرة فلمنكية واحدة في فرنسا أن تؤلف مدرسة قائمة بذاتها. كان يوحنا كلويه Clouet ملحقاً ببلاط فرانسوا في تور وباريس، وكل الناس يعرفون الصورة التي رسمها للملك حوالي 1525 والمحفوظة الآن باللوفر، وجسم فيها الملكية المستكبرة المغرورة السعيدة قبيل كبوة من كبواتها. وخلف فرانسوا كلويه أباه يوحنا مصوراً للبلاط، وسجل بالطباشير أو الزيت صور كبار القوم خلال حكم أربعة من ملوك فرنسا. واللوحة التي رسم فيها هنري الثاني أروع من تلك الصور التي صور فيها أبوه فرانسوا الأول. ويدهشنا أن نرى في اللوحة تلك الهوة بين العاشق المرح والابن المكتئب المزاج، وفي وسعنا أن نفهم منها كيف استطاع هذا الرجل أن يصدق على تشكيل "الغرفة الغيور" لاضطهاد المهرطقين، وإن لم نلمح في الوجه- الذي يكاد يكون بورجياً- أي إلماع لوفائه المقيم لديان. ووجدت أسرة كلويه من تحداها بعض الوقت في شخص كورني الليوني الذي نافسها بمرسم خاص به، وظهر هذا التحدي في صور كصورة المرشال بونيفيه، عشيق مرجريت. ولكن أحداً من المعاصرين في فرنسا لم يستطع مجاراة فرانسوا(27/79)
كلويه في ذلك الحشد من الصور التي رسمها لكاترين مدتشي، وفرانسوا الثاني، وماري ملكة إسكتلندة، وإليزابيث فالوا، وفيليب الثاني، ومرجريت زوجة هنري الرابع المقبلة، وشارل التاسع في شبابه- وقد بدا ألطف من أن نتبين فيه ملك "المذبحة" المرتاع. في هذه الصور نرى الواقعية والصدق الفلمنكيين وقد خففت من حدتهما الرقة والدقة والحيوية الفرنسية، فالنبرة خافتة، والخط دقيق مطمئن، وعناصر الشخصية المعقدة مقتنصة وموحدة. مثل هذا المؤرخ النابض بالحياة لن تستمتع بفنه غير إنجلترا هوليين.
كان النحت خادماً للعمارة، ومع ذلك فهو صاحب الفضل في تألقها. والواقع أن النحت الفرنسي راح يخرج سيلاً متدفقاً من الروائع التي لم ينفقها إلا تلك التي كان ميكل أنجيلو وغيره ينحتونها من كارارا، مثال ذلك المقابر الفخمة، كمقبرة لويس الثاني عشر ومقبرة آن البريتانية اللتين نحتهما جوفاني دي جيوستوبتي (في سان دنيس)، وكمقبرتي اثنتين من كرادلة آمبواز نحتهما رولان لرو وجان جوجون (في روان)، وكمقبرة لوي دبريزيه، زوج ديان، في الكاتدرائية ذاتها، التي نحتها مثال غير معروف على التحقيق. وتبدو مقبرتا روان أوفر زينة مما يليق بجلال الموت، ولكن الكردينالين يكادان يبعثان من جديد على صورة حكام أقوياء لا يحاول المثالان خلع الكمال عليهما، إنما الدين عندهما أمر عارض وسط مهام الحكم. وقد دفن فرانسوا الأول، وزوجته كلود، وابنته شارلوت، بسان دنيس في مقبرة من طراز النهضة صممها ديلورم، تزينها منحوتات فخمة نحتها بيير بونتم. وعلى مقبرة منها رائعة صغيرة من صنع بونتم- هي وعاء جنائزي لقلب الملك. وهكذا لم يعد المثالون الفرنسيون في حاجة إلى الوصاية الإيطالية ليرثوا فن روما الكلاسيكي.(27/80)
ولقد ورث جان جوجون الجمال الكلاسيكي على الأقل. ونحن نسمع به لأول مرة في سنة 1540، وقد ورد في القائمة أنه "حجار وبناء" في روان. وفي روان قطع الأعمدة التي يرتكز عليها الأرغن في كنيسة سان ماكلو، ونحت تماثيل لمقبرتي الكردينالين، وربما لمقبرة بريزيه. وقد زين حجاب الصليب في كنيسة سان جرمان لوكسروا بمنحوتات محفوظ بعضها في اللوفر. وهي تذكرنا بالنقوش الهلنستية البارزة في الأناقة المتناغمة التي اتسمت بها خطوطها. وقد قاربت الكمال تلك الموهبة المميزة لفن جوجون، وهي تجسيد الجمال الأنثوي، في تمثال "الحوريات"، الذي شارك به في "نافورة الأبرياء" التي صممها ليسكو (1547)، وفي رأي برنيني أن هذه التماثيل أجمل آثار الفن في باريس. وقد ذكرنا من قيل تمثال جوجون "ديانا والأيل" في آنيه، ومنحوتاته في اللوفر. وتماثيله للآلهة الوثنية، ولجسد المرأة الممثل في صورة كاملة، توحي بأن فرنسا قد انتصرت فيها النهضة على حركة الإصلاح البروتستنتي، والأفكار الكلاسيكية على الأفكار القوطية، والمرأة على منتقصي قدرها في العهد الوسيط. ومع ذلك وصف الرواة جوجون بأنه هيجونوتي. وعقاباً له على حضوره عظة لوثرية، حكم عليه حوالي عام 1542 بأن يسير في شوارع باريس بقميصه وبأن يشهد حرق واعظ بروتستنتي (11)، وحوالي عام 1562 رحل عن فرنسا قاصداً إيطاليا. ومات في بولونيا قبل عام 1568، مغموراً مهملاً إهمالاً لا يستحقه رجل ارتقى بفن النهضة إلى ذروته في فرنسا.
3 - بييتر بروجل
1520 - 1569
كان هذا العصر مقفراً في فن الأراضي المنخفضة إذا استثنينا بروجل والنسيج المرسوم. وتذبذب فن التصوير بين تقليد الإيطاليين- في(27/81)
الأسلوب المهذب والألوان الغنية والأساطير الكلاسيكية والنساء العاريات والخلفيات المعمارية الرومانية- وبين الميل المتأصل إلى التصوير الواقعي لكبار الشخصيات وللأشياء العادية. ولم يحظ الفنانون بالرعاية من البلاط والكنيسة والنبلاء فحسب، بل نالوها باطراد من أغنياء التجار الذين عرضوا أجسادهم البدنية وألغادهم المتهدلة ليعجب بها الخلف، وأحبوا أن يروا في الصور المناظر المألوفة والمشاهد الطبيعية لحياتهم الفعلية. وحلت روح الفكاهة، وحب "الجروتسك" أحياناً، محل الإحساس بالتسامي في فن كبار الفنانين الإيطاليين. وقد أنتقد ميكل أنجيلو ما رآه افتقاراً إلى التمييز والسمو في الفن الفلمنكي فقال: "إنهم لا يرسمون في فلاندر إلا ليخدعوا العين الظاهرة، أشياء تبهجك ... حشائش الحقول، وظلال الأشجار، والكباري والأنهار ... وأشياء صغيرة هنا وهناك ... دون عناية بالاختيار أو الرفض" (12). ولا غرو فالفن عند ميكل أنجيلو هو الاختيار ذو الدلالة لإبراز السمو، لا التمثيل غير المميز للواقع، وكانت طبيعته الوقور، المحبوسة في حذائه الذي لا ينزع وعزلته الكارهة للناس، محصنة ضد التأثر بجلال الحقول الخضراء وحرارة الحب العائلي.
أما نحن فإننا ننحني إنحناءة العرفان ليواكيم باتينير، ولو لما صورته لوحته "القديس جيروم" من منظر طبيعي يذكرنا بأسلوب ليورنادو دافنشي، ولجوس فان كليف على لوحته الجميلة التي رسم فيها اليانور البرتغالية، ولبرنيرت فان أورلي اللوحة "العائلة المقدسة" في البرادو، ولتصميماته للنسيج المرسوم، ولزجاجه المعشق في كنيسة سانت جودول ببروكسل؛ وللوكاس فإن ليدن لما حفلت به سنوه التسعة والثلاثون من حشد النقوش والكلشيهات الخشبية، ولجان فإن سكوريل على صورة المجدلية وهي تعتز بقارورة الطيب التي غسلت منها أرجل المسيح،(27/82)
ولأنطونيس مور على صوره القوية لدوق ألفا، وللكردينال جرانفيل، ولفيليب الثاني، ولماري تيودور، ولصورة ليست أقل شأناً من كل أولئك، وهي صورته هو.
وليلاحظ القارئ كيف تركز فن التصوير بالأراضي المنخفضة في الأسر. من ذلك أن جوس فان كليف ورث بعض مهارته لابنه كورنيليس، الذي رسم صوراً ممتازة قبل أن يصاب بالجنون. كذلك نرى جان ماسيس الذي ورث مرسم أبيه كوينتين يؤثر رسم العاريات أمثال "يهوديت"، و "سوسنة والشيوخ"، وواصل ابنه كوينتين ماسيس الثاني هذه الحرفة، في حين خمل أخوه كورنيليس فنه إلى إنجلترا ورسم لوحة لهنري الثامن في شيخوخته وقد بدا منتفخ البدن بشع المنظر. ورسم بييتر بوربوس وابنه فرانس لوحات للأشخاص وصوراً دينية في بروج، ورسم فرانس بوربوس الثاني، وهو ابن فرانس، لوحات في باريس ومانتوا. وكان هناك إلى هؤلاء بييتر بروجل "المضحك" وزوجته المصورة، وحماته المصورة، وأبناه بييتر بروجل "الجحيم" وجان بروجل "المخمل"، وحفدته المصورون، وأبناء حفدته المصورون ...
أما بييتر بروجل الأب، الذي أصبحت شهرته من موضات عصرنا التي لا مهرب منها، فلعل اشتق اسمه من إحدى قريتين في برابانت اسمهما بروجل، وكانت إحداهما قريبة من هرتوجنبوش مسقط رأس هيرونيموس بوش. وربما رأى بييتر في كنائس هذه القرية عدة رسوم بريشة الرجل الذي أثر في فنه تأثيراً لم يفقه غير تأثير الطبيعة ذاتها. وحين ناهز الخامسة والعشرين (حوالي عام 1545) هاجر إلى أنتورب وتتلمذ لبييتر كوك، وربما أعانت محفورات كوك الخشبية للمناظر الطبيعية على تكوين ميل المصور الشاب إلى الحقول والغابات والمياه(27/83)
والسماء. وكان بييتر كوك هذا قد أنجب فتاة تدعى ماريا، كان بييتر يهدهدها بين ذراعيه وهي طفلة، وقد أصبحت فيما بعد زوجاً له. وفي عام 1552 اتبع التقليد الذي جرى عليه المصورون، ورحل إلى إيطاليا ليدرس التصوير، ثم عاد إلى أنتورب بكراسة تضخمت برسوم المناظر الإيطالية، ولكن لم يبد على أسلوبه الفني تأثير إيطالي واضح. وقد ظل إلى النهاية يهمل من الناحية العلمية تلك الدقة في التشكيل، وفي توزيع الضوء والظل (الكياروسكيورو)، وفي التزويق (الكولورا تورا) التي أخذ بها الفنانون الجنوبيون. ولما عاد إلى أنتورب عاش مع امرأة كانت خليلة ومدبرة لبيته. وقد وعدها بأن يتزوجها إذا أمسكت عن الكذب. وكان يسجل أكاذيبها بثلمات يحدثها في عصا. وإذ لم يكن محتفظاً بعصا لذنوبه هو، فقد هجرها حين فاضت العصا بالثلمات. وفي أواسط أربعيناته (1560) تزوج ماريا كوك وقد بلغت السابعة عشرة، واستمع إلى دعوتها إياه للرحيل إلى بروكسل، ولم يكن باقياً له من العمر سوى ست سنوات.
ومع أن رسومه حملت الناس على تلقيبه بـ "بروجل الفلاح" فإنه كان إنساناً مثقفاً قرأ هومر وفرجل وهوراس وأوفيد ورابليه، وفي الغالب إرزمس. (13) وقد وصفه كاريل ماندر (فازاري هولندة) بأنه "هادئ، منظم، قليل الكلام، ولكنه ممتع الحديث إذا كان في صحبة، يبتهج بإفزاع سامعيه .... بقصص الأشباح والأرواح المنذرة (14). وربما كان هذا علة لقبه الثاني "بروجل المضحك". وكانت فكاهته تميل إلى الهجاء ولكنه خفف بالعطف، وفي حفر معاصر يبدو في لحية كثة ووجه يحمل سمات التفكير الجاد (15). وكان أحياناً يقتدي ببوش في نظرته إلى الحياة على أنها اندفاع معظم النفوس إلى الجحيم دون مبالاة. وفي لوحته المسماة "دوللي جريت" صور الجحيم تصويراً بشعاً مشوشاً(27/84)
كما يفعل بوش نفسه، وفي لوحته "انتصار الموت" لم يتخيل الموت نوماً طبيعياً لأجساد مكدودة، بل تقطيعاً بشعاً للأطراف والحياة- هياكل عظمية تهاجم الملوك والكرادلة والفرسان والفلاحين بالسهام والبلط والأحجار والمناجل- ومجرمين تدق أعناقهم أو يشنقون أو يوثقون إلى عجلة التعذيب- وجماجم وجثثاً تركب عربة؛ هنا مثل مغاير آخر ل "رقصة الموت" التي تسري وسط فن هذا العهد القاتم.
وتواصل صور بروجل الدينية هذا المزاج الجاد. فهي خلو من فخامة الصور الإيطالية ومن جمالها الرشيق على السواء، وليست سوى ترجمة جديدة لقصة الكتاب المقدس بلغة المناخ والملامح والثياب الفلمنكية. وندر تكشف عن عاطفة دينية، وأكثرها معاذير لتصوير الجماهير. وحتى الوجوه في هذه الصور خلو من العواطف، فترى الناس المتدافعين بالمناكب ليشاهدوا المسيح وهو يحمل صليبه وكأنهم لا يبالون بآلامه، إنما هم تواقون لاتخاذ موقف يشهدون منه المنظر بوضوح. وبعض هذه الصور أمثال من الإنجيل كصورة "الزارع"، وبعضها يقلد بوش فيتخذ الأقوال المأثورة موضوعاً له. فصورة "عميان يقودون عمياناً" ترينا صفاً من الفلاحين لهم عيون ذابلة. وفيهم قبح شنيع، يتلو بعضهم بعضاً في طريقهم إلى مصرف للمياه. ولوحة "الأمثال الهولندية"، توضح في صورة مكتظة واحدة، قرابة مائة من الأقوال المأثورة القديمة، بعضها تشم فيه عبير الحكم الرابليه.
كان هم بروجل الأكبر تصوير جماهير الفلاحين، والمناظر التي تنتظم بخيرها وشرها على السواء أنشطة البشر العقيمة المغتفرة. ولعله ظن أن في تصوير الجماهير سلامة، فلا حاجة به عند تصويرها لأن يميز الوجوه أو يشكل الأجساد. وقد أبى أن يصور شخصاً يجلس أو يقف أمامه خدمة للفن أو للتاريخ، وآثر أن يظهر الرجال والنساء والأطفال يمشون(27/85)
ويجرون ويقفزون ويرقصون ويلعبون بكل ما في الحياة من ألوان الحركة والفطرة. وقد رجع إلى مشاهد طفولته، وأمتعه أن يتأمل ويشارك في مباهج الفلاحين وولائمهم وموسيقاهم وأعراسهم. وكان في عدة مناسبات يصطحب صديقاً ويتنكران في زي مزارعين ليحضرا أسواق القرية وأفراحها، ثم يقدمان الهدايا للعروسين متظاهرين بأنها من أقربائهما (17). ولا شك أن بييتر كان في هذه النزهات يحمل كراسته لأن بين رسومه الباقية كثيراً مما تظهر فيه وجوه الفلاحين وأحداث الريف. ولم يكن ذوقه يسيغ النبلاء الذين وجد مور وتيشان في تصويرهم مجلبة للربح الوفير، ولا كلف بتصويرهم. ولم يرسم سوى بسطاء الناس، بل إن الكلاب التي رسمها كانت كلاباً حقيرة مهجنة كتلك التي تلقاها في أي زقاق بالمدينة أو كوخ بالقرية. لقد خبر الجانب المر في حياة الفلاح، وصور هذا الجانب أحياناً خليطاً محتشداً من الحمقى. ولكنه أحب رسم ألعاب الأطفال القرويين، ورقصات كبارهم، وصخب أفراحهم. وفي لوحته "أرض كوكين" ترى الفلاحين الذين أرهقهم الكد أو الحب أو الشراب منبطحين على العشب في الخلاء وهم يحملون بعالم سعيد. وكأن بروجل يقول لنا إن الفلاح دون سواه هو الذي يعرف كيف يلعب وكيف ينام، كما يعرف كيف يشتغل وكيف يتزوج وكيف يموت.
ولم ير أمام الموت غير عزاء واحد- هو أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، تلك الطبيعة التي تقبلها في جميع صورها من جمال وقبح، ومن نمو وانحلال وتجدد. والمنظر الطبيعي عنده يفتدي الإنسان، وسخف الجزء يغتفر في جلال الكل. لقد كان دأب المصورين من قبله- باستثناء ألتدورفر- أن يرسموا المناظر الطبيعية خلفيات وملحقات للناس والأحداث. أما بروجل فقد جعل المنظر الطبيعي ذاته هو اللوحة، وليس الإنسان فيها سوى عرض من الأعراض. ففي لوحته "سقوط إيكاروس" ترى السماء والمحيط والجبال والشمس وقد استغرقت انتباه(27/86)
المصور والمشاركين في اللوحة، أما إيكاروس فليس سوى ساقين غير ملحوظتين تغوصان في البحر بشكل مضحك. وفي لوحته "العاصفة" لا تكاد ترى الإنسان، فهو ضائع عاجز بين حرب العناصر وبطشها.
ويبلغ فن بروجل وفلسفته قمتهما في اللوحات الخمس الباقية من مجموعة خططها لبيان تقلبات العام. ففي لوحة "حصاد القمح" يصور تخطيطياً قطع حزم القمح وتكديسها، وترى فيها العمال يتناولون غداءهم أو يرقدون في إغفاءة في قيظ الصيف وسكون هوائه الواضحين. وفي لوحة "حصاد الدريس" يحمل الصبيان والبنات فاكهة الحقول الخريفية في سلال على رءوسهم، ويشحذ فلاح منجله، وتقلب الدريس نسوة أشداء، ويرفعه الرجال إلى أعلى حمل العربة، وتمضغ الخيل طعامها في فترة راحة. ولوحة "عودة القطيع" نذير بقدوم الشتاء- فالسماء تكفهر والماشية تساق عائدة إلى مرابطها. وأجمل لوحات المجموعة هي "الصيادون في الثلوج"، وفيها ترى الأسطح والأرض بيضاء ناصعة، والمساكن تنتظم في منظور مدهش على طول السهول والتلال، والرجال يتزلقون ويلعبون الهوكي ويسقطون على الجليد، والصيادين وكلابهم ينطلقون لاقتناص الطعام، والأشجار عارية ولكن زقزقة العصافير في الأغصان تبشر بمقدم الربيع. أما لوحة "اليوم الكئيب" فهي الشتاء مكفهراً إكفهرارة الوداع. في هذه اللوحات بلغ بروجل قصاراه، ووضع سابقة لرسم مناظر الثلوج ليحتذيها فن الأراضي المنخفضة المقبل.
ولا يستطيع الحكم على هذه الصور في مرتبتها وأسلوبها الفنيين سوى رسام أو خبير. ويبدو بروجل قانعاً بأن يعطي أشكاله بعيدين، ولا يكترث لخلط الظل بمادتها، وهو يترك لخيالنا أن يضيف لبعديه(27/87)
بعداً ثالثاً إن لم يكن من هذا بد. واهتمامه بالحشود أكبر من أن يتيح له الاهتمام بالأفراد، وهو يجعل كل فلاحيه تقريباً متماثلين، كتلاً غليظة من اللحم. وهو لا يزعم أنه واقعي إلا في المجموع، وهو يضع الكثير من الناس أو الأحداث في لوحة واحدة بحيث يبدو أنه يضحي بالوحدة. ولكنه يقتنص الوحدة اللاشعورية- وحدة قرية، أو حشد، أو موجة من موجات الحياة.
فما الذي يريد أن يقوله؟ أهو ساخر فقط، ضاحك من الإنسان لأنه "فجلة مشعبة" غريبة الشكل، ومن الحياة لأنها اختيال غبي نحو الفناء؟ لقد كان يستمتع بما في رقص الفلاحين من هز عنيف، ويتعاطف مع كدهم، وينظر في مرح متسامح إلى نومهم المخمور. ولكنه لم يفق قط من تأثير بوش. فقد كان يجد لذة ساخرة كتلك التي وجدها ذلك "جيروم" المجرد من التقوى في تصوير الجانب المر من الكوميديا البشرية- المقعدين والمجرمين، المهزومين أو الداعرين، انتصار الموت الذي لا رحمة فيه. ويبدو أنه كان يبحث عن الفلاحين الدميمي الخلقة، يرسمهم رسوماً ساخرة، ولا يسمح لهم أبداً بالابتسام أو الضحك، فإذا أضفى على جلافة وجههم أي تعبير فهو تعبير اللامبالاة الغبية، والحساسية التي محتها لطمات الحياة (17). وكان يثيره ويؤلمه ذلك الجمود الذي يحتمل به المحظوظون شقاء الأشقياء، وتلك السرعة والراحة التي ينسى بها الأحياء الأموات. وكان يحزنه منظور الطبيعة الشاسع- تلك السماء الهائلة التي تبدو تحتها كل الأحداث البشرية غارقة في الضآلة، وتلوح الفضيلة والرذيلة، والنمو والانحلال، والشرف والخسة، مضيعة في عبث مترامٍ لا يفرق ولا يميز، والإنسان قد ابتلعه منظر العالم.
ولا ندري أهذه فلسفة بروجل الحقيقية أم أنها دعابة فنه لا أكثر.(27/88)
كذلك لا ندري لم كف عن المعركة بهذه السرعة وقضى وهو بعد في التاسعة والأربعين (1569). ولعله لو مد في أجله لخفقت السنون من غضبه. وقد أوصى لزوجته بلوحة غامضة هي "الطريق المرح إلى المشنقة"، وهي تشكيل رائع في ألوان خضراء نضرة وزرقاء نائية، والفلاحون يرقصون قرب مشنقة القرية ومن فوقها حط طائر العقعق، ويرمز به للسان الثرثار.
4 - كراناخ والألمان
توارى المعمار الكنسي الألماني خلال حركة الإصلاح البروتستنتي. فلم تشيد للفن ولا للدين كنائس جديدة، وترك الكثير من الكنائس دون أن يكمل، وهدم الكثير منها وبنيت بأحجاره قلاع الأمراء. أما الكنائس البروتستنتية فقد انصرفت إلى البساطة الصارمة، وأما الكنائس الكاثوليكية فقد أسرفت في زينتها كأنها تتحدى البروتستنتية، وذلك أثناء انتقال النهضة إلى طراز الباروك.
وحلت العمارة المدنية وعمارة القصور محل بناء الكاتدرائيات في الوقت الذي حل فيه الأدواق محل الأساقفة واحتوت الدولة الكنيسة. وبعض المباني المدنية الجميلة في هذه الفترة كان من ضحايا الحرب العالمية الثانية: مثل الألتاوس في برنزويك، ومقر طائفة الجزارين في هيلدسهايم، والراتهاوس أو قاعة مدينة نيميجين المبنية بطراز النهضة. واتخذ أكثر معمار هذا العهد والعهد الذي تلاه طموحاً شكل القلاع الضخمة المشيدة لأمراء الأقاليم: كقلعة درسدن التي كلفت الشعب 100. 000 فلورين (2. 500. 000 دولار؟)، وقصر دوق كرستوفر في شتوتجارت الذي أسرف الدوق في تأثيثه وفرشه حتى أن قضاة المدينة حذروه من أن بذخ بلاطه يتناقض تناقضاً مخزياً مع فقر شعبه، وقلعة هيدلبرج المترامية(27/89)
التي بدأ تشييدها في القرن الثالث عشر وأعيد بناؤها بطراز النهضة في 1556 - 63 ودمر جزء منها في الحرب العالمية الثانية.
أما الحرف الفنية فقد احتفظت بتفوقها في خدمة الأمراء والنبلاء والتجار ورجال المال. فتجارو الأثاث، ونقاشو الخشب والعاج، والحفارون، وصناع المنمنمات، والنساجون، وخراطو الحديد، والخزافون، والصائغون، وصناع السلاح، والجواهرية- كل أولئك احتفظوا بالمهارات القديمة التي كانت لأهل العصور الوسطى وإن نحوا إلى تضحية الذوق والشكل في سبيل الزخرف المعقد. ورسم كثير من المصورين تصميمات للكلشيهات الخشبية بعناية فائقة كأنهم يرسمون صور الملوك. وعكف رسامو الكلشيهات من أمثال هانز لوتزبورجر البازلي على أعمالهم بتفان يليق بمصور كدورر. وبلغ صائغو نورمبرج وميونخ وفينا القمة بين أهل الحرفة، وكان في وسع صائغ كفنتزل يامنتزر أن يتحدى رجلاً كتشلليني. وحوالي عام 1547 بدأ الفنانون الألمان يرسمون الزجاج بألوان المينا، وهكذا اتخذت الأواني والنوافذ أشكالاً وتصميمات غنية رغم فجاحتها، واستطاع البورجوازي السري أن يرى صورته وقد مزجت بألواح الزجاج في بيته.
واحتفظ المثالون الألمان بحبهم للتماثيل والنقوش البارزة المعدنية. فواصل أبناء بيتر فشر فنه. أما بيتر الابن فصحب لوحة برونزية لـ "أورفيوس ويوربديس". وأما هانز فصمم تمثالاً جميلاً يسمى "نبع أبوللو" لفناء قاعة مدينة نورمبرج، وأما بول فينسب له عادة تمثال لطيف من الخشب يعرف بعذراء نومبرج. وصب بيتر فلوتنز النورمبرجي نقوشاً بارزة رائعة مثلت الحسد، والعدالة، وساتورن، وربة الرقص. ومن أمتع محتويات اللوفر تمثال نصفي صنعه يواكيم دشلر لأوتو هينريش،(27/90)
كونت بالاتين، يبلغ ارتفاعه ست بوصات ونصفاً، وعرضه مثل هذا لبدانته، وله وجه وليد أعوام من النهم. هنا ترى الفكاهة الألمانية أكثر ما تكون انطلاقاً.
أما فخر الفن الألماني فقد ظل في التصوير. فقد أدرك هولبين دورر، ثم لحق بهما كراناخ، وألف بالدونج جرين، وألتدورفر، وأمبرجر، صفاً ثانياً مشرفاً. فأما هانز بالدونج جرين فقد اكتسب شهرته برسم لوحة لمذبح كاتدرائية فرايبورج إيم- برايسجاو، ولكن لوحة "العذراء ذات الببغاء" أكثر جاذبية، وتبدو فيها فتاة تيوتونية ممتلئة الوجه ذات شعر ذهبي، وببغاء تنقر خديها. وأما كرستوفر أمبرجر فرسم صوراً أنيقة، ويحتفظ متحف ليل بلوحة "شارل الخامس" التي يبدو فيها مخلصاً، ذكياً، في أول عهده بالتعصب. وفي "صورة رجل" المحفوظة بمعهد الفن بشيكاغو وجه مهذب دقيق القسمات. وأما ألبرشت التدورفر فيتميز بين هذه المجموعة الصغيرة بغنى مناظره الطبيعية. ففي لوحته "القديس جورج" يكاد الفارس والتنين يختفيان وسط محيط من الشجر المتزاحم، وحتى لوحته "معركة أرابيلا" يتوه فيها الجيشان المقتتلان وسط الكثير من الأبراج والجبال والمياه والسحاب والضياء. وتعد هاتان اللوحتان، مضافاً إليهما لوحته "وقفة خلال الهروب إلى مصر"، ومن طلائع التصوير الصادق للمناظر الطبيعية في عصرنا الحديث.
اتخذ لوكاس كراناخ الأب اسمه من مسقط رأسه كروناخ في فرانكونيا العليا. ولا نكاد نعرف عنه أكثر من هذا إلى أن عين في الثانية والثلاثين من عمره مصوراً للبلاط لدى الناخب فردريك الحكيم في فتنببرج (1504). وقد احتفظ بوظيفته في البلاط السكسوني، سواء في فتنبرج أو في فايمار، زهاء خمسين عاماً. وقابل لوثر، وأعجب به،(27/91)
وصوره المرة بعد المرة، ورسم لبعض كتابات المصلح صوراً كاريكاتورية للبابوات، على أنه رسم أيضاً صوراً لبعض أقطاب الكاثوليك أمثال دوق ألفا وألبرشت رئيس أساقفة ماينز. وقد أوتي عقلية تجارية عملية، فحول مرسمه إلى مصنع لتصوير الأشخاص ورسم الصور الدينية، وإلى جوار المرسم باع الكتب والعقاقير، وأصبح عمدة لفتنبرج في عام 1565، ثم مات شبعان مالاً وأياماً.
كان التأثير الإيطالي خلال ذلك قد وصل إلى فتنبرج. وهو واضح في جمال الصور الدينية التي رسمها كراناخ، وأوضح في صوره الأسطورية، وأكثر وضوحاً من هذه وتلك في صورة العارية. وقد أصبح مجمع الآلهة الوثنية ينافس الآن مريم والمسيح والقديسين كما نافسهم في إيطاليا، بيد أن روح الفكاهة الألمانية يضفي الحيوية على التقليدي المتوارث، وذلك بالسخرية من آلهة ماتوا ولم يعد هناك ما يخشى منهم. من ذلك أن لوحة كراناخ "حكم باريز" رسمت العاشق الطروادي (الذي أغوى هيلانه) بمضي إلى فراشه للنوم بينما الحسان المنتفضات من البرد ينتظرن حتى يستيقظ ويقضي بينهن. وفي لوحته "فينوس وكيوبيد" تبدو إلاهة الحب في جسدها العاري كالعادة، إلا من قبعة ضخمة- وكأن كراناخ يلمع في خبث إلى أن الرغبة وليدة العادة، بحيث يمكن تهدئتها بإضافة غير مألوفة. ومع ذلك فقد أقبل الناس على لوحة فينوس، وأخرج كراناخ منها- بمساعدة غيره- أكثر من عشرة أشكال لتضيء في فرانكفورت، ولننجراد، والقاعة البورجية، والمتحف المتروبوليتاني للفن ... وفي فرانكفورت تخفي فينوس مفاتنها ليستشفها الناظر من خلف خيوط رقيقة كنسيج العنكبوت، وهذه أيضاً تستخدم في لوحة "لوكريشيا" ببرلين، إذا تتأهب في ابتهاج لافتداء شرفها بطعنة من خنجر صغير. وفي لوحة "حورية الربيع" (نيويورك) رسم كراناخ(27/92)
هذه السيدة ذاتها راقدة على فراش من الأوراق الخضراء إلى جوار بركة. وفي متحف جنيف تصيح "يهوديت"، التي لم تعد عارية، بل مرتدية ثيابها لتقتل، رافعة سيفها فوق رأس هولوفيرن المقطوع، الذي يغمز بعينه في سخرية من سوء طالعه. وأخيراً تعود السيدة إلى عريها فتصبح حواء في لوحة "الفردوس" بفينا، ولوحة "آدم وحواء" يدرسدن، ولوحة "حواء والحية" بشيكاغو التي ترى فيها أيلاً جميلاً ينضم إلى جماعتها ويسميها باسمها. وكل هؤلاء العرايا تقريباً يتميزن بخلة تنقذهن من تهمة الإثارة الجنسية- هي فكاهة خبيثة، أو دفء في اللون، أو رهافة إيطالية في الخط، أو نحافة في قوام الأنثى تخرج على المألوف الوطني، فها هنا محاولة جريئة لاختزال بدانة المرأة الألمانية (الفراو).
وصور الأشخاص التي تدفقت من أيدي كراناخ ومساعديه أكثر طرافة من نساء العاريات المكررات، وبعضها يضارع صور هولبين. فلوحة "أنا كسبنيان" هي الواقعية تخففها الرقة والأثواب الفاخرة وقبعة في شكل البالون. وقد جلس زوجها يوحنا كسبنيان إلى صورة أبدع حتى من صورة زوجته- فكل مثالية الأديب الإنساني الشاب انعكست في عينيه المفكرتين ورمز لها بكتاب يمسك به في شغف. وقد خلد عشرات من كبار القوم في الألوان الزيتية أو الطباشيرية في هذا المرسم الشعبي، ولكن أحداً منهم لا يستحق الخلود كما يستحقه الطفل "أمير سكسونيا" (واشنطن) الذي يفيض براءة ورقة وعقائص ذهبية. وفي الطرف الآخر من الحياة صورة الدكتور يوحنا شونر وقد بدا رهيب الملامح ولكن في صورته صنعة رفيعة. ثم نلتقي هنا وهناك في صور كراناخ بحيوانات رائعة الشكل، كلها عريق النسب، وظباء تبدو طبيعية جداً حتى أن صديقاً للمصور زعم أن "الكلاب تنبح حين تراها" (18).(27/93)
ولولا أن كراناخ وفق هذا التوفيق السريع الكبير لجاز أن يكون فناناً أعظم. فكثرة رعاته وزعت عبقريته فلم يكن في وقته متسع لينصرف بكل هذه العبقرية إلى عمل واحد فقط. لذلك لم يكن بد حين جاوز الحادية والثمانين أن يعتريه الكلل والتراخي، وأصبح رسمه الذي كان في الماضي دقيقاً كرسم دورر مشوباً بالإهمال، وراح يتجنب رسم التفاصيل ويكرر نفس الوجوه والعرايا والأشجار تكراراً أفقدها الحياة. ولا مفر لنا في النهاية من أن نتفق مع الكهل دورر في هذا الحكم الذي أصدره على كراناخ الشاب- "إن لوكاس يستطيع رسم الملامح لا الروح" (19).
وحين بلغ الثامنة والسبعين في 1550 رسم لنفسه صورة بدا فيها عضو مجلس المدينة والتاجر البدين أكثر منه المصور والحفار، في رأس مربع قوي، ولحية بيضاء مهيبة، وأنف عريض وعينين ممتلئتين كبرياء وقوة شخصية. وبعد ثلاثة أعوام أسلم جسده للزمن، مخلفاً ثلاثة أبناء كلهم فنانون، يوحنا لوكاس، وهانز، ولوكاس الابن الذي نقلت لوحته "هرقول النائم" موضوعاً من رابليه إلى سويفت، إذ أظهرت المارد وهو يتجاهل في هدوء تلك السهام التي أصابته بالجهد في طبقة المضغة الظاهرة من الأقزام المحيطين به. ولعل لوكاس الأب كان يتجاهل بمثل هذا الهدوء نقد الناقدين الذين نددوا به لمثله البرجوازية وعجلته التي لا يراعى فيها الذمة، وهو اليوم راقد تحت نصب قبره الذي كتبت عليه عبارة مديح تحتمل معنيين: "أسرع المصورين".
وبموته انقضى العصر الذهبي للتصوير الألماني. ولعل السبب الأساسي في هذا الانحطاط هو حدة النزاع الديني أكثر من رفض البروتستنت للتصوير الديني. ومن الجائز أن موجة من الفساد الخلقي كانت سبباً في تبذل التصوير الألماني بعد 1520. فبدأت أجساد العرايا تلعب دوراً(27/94)
قيادياً وانصرفت الصور- حتى المأخوذ منها من الكتاب المقدس- إلى موضوعات مثل سوسنة والشيوخ، أو زوجة فوطيفار تراود يوسف، أو بثشبع في حمامها. وتراجع التصوير الألماني بعد موت كراناخ فترة قرين من الزمان وارتد وراء قوى اللاهوت والحرب.
5 - الطراز التيودوري
1517 - 1558
بدأ حكم هني الثامن برائعة من روائع الفن القوطي في كنيسة هنري السابع، وانتهى بمعمار النهضة المتمثل في القصور الملكية، وكان تغير الطراز انعكاساً صحيحاً لانتصار الدولة على الكنيسة. وتعطلت العمارة الكنسية زهاء مائة عام نتيجة لهجوم الحكومة على الأساقفة والأديار والموارد الكنسية.
كان هنري السابع وهو يتوقع موته قد خصص 140000 جنيه (14. 000. 000 دولار؟) لبناء كنيسة صغيرة للسيدة العذراء في دير وستمنستر لتحوي قبره. وهي رائعة فنية، لا في بنائها بل في زخرفها، ابتداءً من المقبرة ذاتها إلى الخصلة الحجرية المتشابكة في القبو المرحي، التي وُصِفت بأنها "أعجب ما صنعته يد الإنسان في فنون البناء". ولما كان تصميم الكنيسة قوطياً وزخرفها ينتمي إلى طراز النهضة، فإن فيها تتجلى بداية الطراز التيودوري أو المنمق. ولم يلبث هنري الثامن، الإنساني الشاب، أن افتتن بالأشكال المعمارية الكلاسيكية، فاستقدم هو وولزي عدة فنانين إيطاليين إلى إنجلترا. وكلف أحدهم وهو بييتر وتوريجيانو بتصميم مقبرة والديه. ومن ثم أفاض المثال الفلورنسي على التابوت المصنوع من الرخام الأبيض والحجر الأسود زخارف مسرفة سواء بالحفر أو البرونز المذهب: أشخاص ممتلئو الأبدان، وأكاليل زهر غاية في الرشاقة، ونقوش بارزة للعذراء وشتى القديسين، وملائكة جالسين على قمة المقبرة مادين أرجلهم الجميلة في الفضاء،(27/95)
وفوق هذا كله تمثالان مضطجعان لهنري السابع وزوجته إليزابث. وكان هذا نحتاً لا عهد لإنجلترا به قط، ولم يبزه في إنجلترا نحت من بعد. "هنا- كما قال فرانسس بيكون- ينزل الملك الشحيح الذي يحرص على البنسات لينفق الجنيهات في موته منزلاً أبهى مما كان ينزل حياً في أي من قصوره" (30).
لم يكن هنري الثامن بالرجل الذي يسمح لأي إنسان بأن يدفن في أبهة تفوق أبهة دفنه. ففي عام 1518 تعاقد على أن يدفع لتوريجيانو 2. 000 جنيه نظير تصميمه مقبرة "أعظم بالربع" من مقبرة أبيه (21). ولكن لم يكتب لهذه المقبرة أن تتم، ذلك أن الفنان أوتي كما أوتي الملك طبعاً ملكياً حاداً، وغادر توريجيانو إنجلترا في سورة غضب (1519)، ولما عاد إليها لم يضف مزيداً إلى المقبرة الثانية. وبدلاً من ذلك صمم لكنيسة هنري السابع مذبحاً عالياً، وحاجزاً خلفه، ومظلة فوقه، دمرها رجال كرومويل في عام 1643. وفي عام 1521 رحل توريجيانو إلى أسبانيا.
واستؤنفت مهزلة الموت هذه حين كلف ولزي فلورنسيا آخر يدعى بنديتو دا روفتسانو بأن يبني له مقبرة في كنيسة القديس جورج بوندزور. كتب هربرت لورد تشوربري يقول: "إن تصميمها أفخم جداً من تصميم مقبرة هنري السابع" (23). ولما سقط الكردينال توسل إلى الملك أن يسمح له على الأقل بالاحتفاظ بتمثاله ليوضع على مقبرة أكثر تواضعاً في يورك. فأبى هنري، وصادر المقبرة كلها لتكون مثوى له، وأمر الفنانين أن يحلوا تمثاله محل تمثال ولزي، ولكنه شغل بمشكلات الدين والزواج، ولم يتم قط بناء هذا الأثر الجنائزي. ثم أراد تشارلز الأول أن يدفن فيه، ولكن برلمانه الذي ناصبه العداء باع الزخارف قطعة قطعة، فلم يبق منها سوى تابوت(27/96)
الرخام الأسود ليؤلف آخر المطاف جزءاً من ضريح نلسن في كنيسة القديس بولس (1810).
ونحن إذا استثنينا هذه الجهود الفنية، وما زينت به كنيسة الكلية الملكية بكمبردج من حجاب خشبي ومقاعد وزجاج معشق وقبو. وكلها رائع فاخر، وجدنا أن المعمار البارز في هذا العصر كرس لإضفاء العظمة على بيوت النبلاء الريفية حتى تصبح قصوراً أشبه بقصور الجان قائمة وسط حقول إنجلترا وغاباتها. وكان المعماريون هنا إنجليزاً، ولكن اثني عشر إيطالياً جندوا لأشغال الزخرفة. هنا ترى واجهة عريضة عرضاً مهيباً امتزج فيها الفن القوطي بفن النهضة، وبوابة ذات أبراج تفضي إلى فناء، وقاعة فسيحة للاحتفالات المكتظة بالناس، وبيت سلم ضخماً يصنع عادة من الخشب المنقوش، وحجراتها تزينها الصور الجدارية أو قطع النسيج المرسومة وتضيئها نوافذ شبكية أو ناتئة، وحول المباني حديقة ومسرح للغزلان ومن خلفها أرض للصيد- تلك هي فكرة الشريف الإنجليزي المسبقة، الشكاكة، عن النعيم.
وأشهر قصور النبلاء التيودورية هذه هو هامبتن مورت، الذي بناه ولزي لنفسه (1515) وأوصى به لمليكه وهو في رهبة منه (1525). ولا يختص بفضل بنائه معماري واحد، بل لفيف من كبار البنائين الإنجليز الذي شيدوه أساساً على الطراز القوطي العمودي ووفق تصميم وسيط فيه الخندق والأبراج والأسوار ذوات الفوهات؛ وأضاف جوفاني دا مايانو لمسة من لمسات فن النهضة تمثلت في حلي مستديرة من التراكوتا على الواجهة. وقد وصف دوق فورتمبرج الذي زار إنجلترا في 1592 هامبتن كورت هذا بأنه أفخم قصور الدنيا قاطبة (24). وهناك قصور أخرى لا تقل عنه كثيراً في الفخامة، مثل صاتون بليس في صري، الذي بنى للسر رتشارد وستون (1521 - 27)، وقصر(27/97)
نونستشن الذي بدئ بتشييده لهنري الثامن في 1538 على نطاق إمبراطوري. تقول رواية قديمة إنه "جلب له أمهر الصناع والمعماريين والنحاتين والمثالين من شتى الأمم، إيطاليين وفرنسيين وهولنديين وإنجليزاً من وطنه، فأتوا كلهم بمثال معجز من فنهم في زخرفة القصر، وزينوه من الداخل والخارج بتماثيل تذكرنا بآثار الرومان القديمة من حيث المحاكاة الدقيقة لها، ولكنها فيما عدا ذلك تفوقها إتقاناً". (25) واستخدم مائتان وثلاثون رجلاً بصفة مستمرة في بناء هذا القصر الذي قصد به أن يفوق بهاؤه بهاء قصري فرانسوا الأول في شامبور وفونتنبلو. ونادراً ما بلغ الملوك الإنجليز هذا الثراء، أو الشعب الإنجليزي هذا الفقر. ومات هنري قبل الفراغ من قصر نوستش. وقد جعلته إليزابث مقرها المحبب، ووهبه تشارلز الثاني لخيلته الليدي كاسلمين (1670) فأمرت بهدمه، وباعت أجزاءه قطعاً، لأنها رأت في هذه الوسيلة الوحيدة لتحويل هذا العبء المالي إلى ثروة.
6 - هولبين الابن
1497 - 1543
ما أشد عجز الألفاظ أمام عمل من أعمال الفن! فكل فن يقاوم بنجاح ترجمته إلى أي وسيط آخر، ذلك أن له سمة لاصقة به إما أن تتكلم عن نفسها أولاً تتكلم على الإطلاق. وليس في طاقة التاريخ إلا أن يسجل كبار الفنانين وآياتهم الفنية، أما توصيل هذه الآيات فذلك ما يعجز عنه. والجلوس في صمت أمام لوحة هولبين التي تمثل زوجته وأبناءه خير من ترجمة لحياة الفنان. ومع ذلك ...
كان هولبين محظوظاً في نسبه عنه في زمانه. فقد كان أبوه من كبار المصورين في أوجزبورج. ومنه تعلم هانز مبادئ التصوير، ومن هانز بوركمير شيئاً من الجمال والتشكيل الإيطاليين. وفي عام 1512(27/98)
رسم أربع حشوات للمذبح محفوظة الآن بمتحف أوجزبورج - متوسطة الجودة حقاً، ولكنها جيدة إلى حد مدهش بالنسبة لغلام في الخامسة عشرة. وبعد عامين ارتحل هو وأخوه أمبروز، وهو رسام أيضاً، إلى بال. ولعل أباهما كان قد غالى في التشبث بأسلوبه الذي ما زال قوطياً، أو لعله لم يتوافر في أوجزبورج من مال الطبقة المتعلمة ما يكفي إلا لإعالة قلة من الفنانين، على أي حال قليلاً ما يتعلق الشباب والعبقرية بالبقاء في الوطن. وفي بال اكتشف الغلامان أن الحرية امتحان. ورسم هانز صورة لعدة كتب من بينها كتاب إرزمس "في مدح الحماقة"، وقام ببعض أشغال الطلاء البسيطة، وصنع لافتة لأحد المدرسين، وزخرف رأس مائدة بمشاهدة حية من قصة القديس المجهول الاسم- ذلك النكرة الذي يسهل تناوله، والذي اتهم بكل الخبائث المجهولة ولم ينبس بكلمة دفاعاً عن نفسه. وكان جزاء هانز على هذا العمل مهمة مثمرة وكلت إليه- هي رسم لوحات للعمدة يعقوب ماير وزوجته (1517). وذاع صيت هذه اللوحات، وما لبث يعقوب هرتنشتين أن استقدم هانز إلى لوسرن، وهناك رسم صوراً جصية على واجهة دار رب البيت وجدرانه، ورسم لوحة بندكت هرتنشتين المحفوظة الآن بمتحف المتروبوليتان بنيويورك. ولعله انتقل من لوسرن إلى إيطاليا، فقد أفصح فنه منذ الآن عن تأثير إيطالي من حيث دقة التشريح والخلفيات المعمارية وتكييف الضوء. فلما عاد إلى بال وقد بلغ الثانية والعشرين أقام لنفسه مرسماً وتزوج من أرملة (1519). وفي هذه السنة مات أخوه، وفي 1524 مات أبوهما.
وامتزجت الواقعية الألمانية بالعمارة الرومانسكية والزخارف الكلاسيكية في الصور الدينية التي راح هولبين يرسمها الآن. وأنها لواقعية يجفل لها الناظر- وتذكر بمانتينيا- تلك التي تطالعنا في لوحة "المسيح في القبر"،(27/99)
الجسد ليس سوى عظم وجلد، والعينان مفتوحتان بصورة رهيبة، والشعر أشعث، والفم فاغر في جهد أخير للتنفس، كل هذا يبدو موتاً لا رجعة فيه، فلا عجب أن قال دستويفسكي عن الصورة أنها قد تدمر إيمان المرء (26). وحوالي هذه الفترة رسم هولبين صوراً جدارية لقاعة المجلس الكبير في بال. فسر بها أعضاء المجلس، وكلفه أحدهم بأن يرسم لوحة مذبح لدير كارتوزي. وهذه اللوحة، واسمها "آلام المسيح" أوذيت في حوادث الشغب التي قامت في 1529 لتحطيم الصور، ولكن أنقذ منها مصراعان، وأهديا لكاتدرائية فرايبورج- إيم- برايسجاو. وهما يستعيران الكثير من بالدونج جرين، ولكنهما يتفردان بقوة تتجلى في تلك الحركة العجيبة للضوء المنبعث من "الطفل". وفي عام 1522 طلب كاهن مدينة بال لوحة مذبح أخرى. وقد استخدم هولبين في رسم هذه "المادونا" ذات الجمال الهادئ- والمحفوظة بمتحف الفن بسولوتورن- زوجته وابنه نموذجين، وكانت الزوجة يومها امرأة ذات حسن متواضع لم تمسه المأساة بعد. ولعله حوالي هذه الفترة (27) أخرج رائعته الدينية "العذراء والطفل مع أسرة العمدة ماير"- وهي فريدة تكويناً وخطاً ولوناً، حارة عاطفة. وفي وسعنا أن نفهم في تعاطف أكثر صلاة العمدة للعذراء إذا علمنا أن ولديه المرسومين عند قدميه، وإحدى الزوجتين الجاثيتين إلى اليمين، كانوا قد فارقوا الحياة.
ولكن أجر هذه الصور الدينية كان ضئيلاً بالقياس إلى ما تطلبته من عناية وجهد. وأما صور الأشخاص فأربح للمصور، الذي اقتضاه ازدياد أفراد أسرته مزيداً من نفقات إعاشتهم. ففي عام 1519 رسم هولبين صورة للعالم الشاب بونيفاكوس أمرباخ- وجه نبيل ما زال محتفظاً بالمثالية رغم النظرة الثاقبة إلى العالم. وحوالي عام 1522 رسم لوحة للطباع الكبير فروبن- رجل متفان في عمله، قلق، برته(27/100)
الحياة نتيجة جهوده الخلاقة. وعن طريق فروبن عرف هولبين إرزمس. ففي عام 1523 رسم صورتين من صوره الكثيرة للأديب الإنساني الذي غشيه الحزن. وفي لوحته التي بدا فيها إرزمس في ثلاثة أرباع قامته، وفق القانون، وقد بلغت قدراته غايتها، في تفهم روح رجل عمر أكثر مما ينبغي، فالمرض ولوثر عمقا تجاعيد وجهه واكتئاب عينيه. أما الصورة الجانبية المحفوظة بمجمع الفن ببال فيبدو فيها أكثر هدوءاً وحيوية، فالأنف ينبري للنزال كأنه سيف مجالد روماني. ولعل المخطوط الذي يرى تحت قلمه مسودة لكتابه De libero arbitrio (1524) الذي بدأ يدخل به صفوف المعارضين للوثر. وأكبر الظن أن هولبين صور إرزمس مرة أخرى في عام 1524 صورته المحفوظة بمتحف اللوفر، وهي أفضل صورة قاطبة؛ ونظرة إلى هذا الوجه العميق الذي طهره الألم تذكر المرء بتعقيب لنيزار فيه إدراك وتفهم "لقد كان إرزمس أحد أولئك الذين كان فخرهم في أن يفهموا الكثير ويجزموا بالقليل" (28).
وحوالي 1523 صور هولبين نفسه وقد بلغ السادسة والعشرين وبدت عليه آثار النعمة، ولكن النظرة الباردة توحي ببعض الامتعاض المناضل مما مني به في الحياة من صدمات. وترميه الرواية بإدمان غير مفرط على الخمر والنساء، وتصوره رجلاً غير سعيد مع زوجته. ويبدو أنه كان يشارك لوثر بعض آرائه. فلوحاته الخشبية المحفورة "رقصة الموت" (حوالي 1525) تهجو الأكليروس- ولكن هذا فعله حتى الأكليروس أنفسهم في ذلك العهد. وتصور هذه المجموعة الموت يتعقب خطوات كل رجل أو امرأة أو طبقة- آدم، وحواء، والإمبراطور، ونبيلاً، وطبيباً، وراهباً، وكاهناً، وبابا، ومليونيراً، ومنجماً، ودوقة، ومهرجاً، ومقامراً، ولصاً- كلهم في طريقهم إلى الدينونة الأخيرة،(27/101)
واللوحة عمل فني يضارع في قوته أي عمل لدورر استخدم فيه هذا الوسيط. وإذا استثنينا هذه الرائعة من روائع الرسم، وعذراء ماير، لم نتبين في هولبين أي عاطفة دينية واضحة. ولعله تشرب بعض التشكك من إرزمس وإنساني بال (29). لقد كان اهتمامه بالتشريح أشد من اهتمامه بالدين.
ولقد عصفت حركة الإصلاح البروتستنتي بسوق صوره في بال على الرغم من رضائه المرجح عنها. فلم تعد تطلب منه صور دينية. وتوقف دفع أجور اللوحات التي رسمها لقاعة المجلس. أما سراة القوم فقد لاذوا بالعزلة والشح إذ روعتهم حرب الفلاحين، ورأوا أن الوقت غير مناسب للتصوير. كتب إرزمس من بال في 1526 يقول: "إن الفنون تتجمد هنا" (30). وقد زود هولبين بخطابات قدمه فيها لأصدقائه في أنتورب ولندن، وانطلق هولبين إلى بلاد الشمال سعياً وراء المال بعد أن ترك أسرته في البيت. وزار كوينتين ماسيس، وما من شك في أنهما تبادلا الرأي في إرزمس. ومن أنتورب عبر البحر إلى إنجلترا. وضمن له خطاب إرزمس لقاءً حاراً من تومس مور الذي هيأ له مسكناً في بيته بتشلسي، وهناك رسم صورته (1526) المحفوظة الآن بصالة فريك في بنيويورك. ويرى المؤرخ، بإدراكه المؤخر، في العينين المتوترتين اللتين يغشاهما بعض الاكتئاب إيذاناً بورع الشهيد وصلابته. أما أعجب ما في اللوحة كما تراها بصيرة الفنان فهو فراء الكم وتلافيفه. وفي عام 1527 رسم هولبين "تومس مور وأسرته"- وهي أقدم لوحة جماعية معروفة في الفن غير الديني عبر الألب.
وفي أواخر عام 1528 عاد هولبين إلى بال بعد أن كسب بضعة جنيهات وشلنات، وأعطى إرزمس نسخة من لوحة "مور وأسرته" ثم لحق بزوجته من جديد. وعكف الآن على رسم صورة من أعظم(27/102)
صوره وأصدقها، ترينا أسرته بواقعية لم يضن بها على نفسه. فكل وجه من الوجوه الثلاثة قد غشيه الحزن، الفتاة مستسلمة بل تكاد تكون يائسة، والصبي يتطلع إلى أمه مكتئباً، أما هي فترمقهما بأسى وحب انعكسا انعكاساً عميقاً في عينيها- أسى زوجة فقدت حب زوجها، وحب أم لا يربطها بالحياة سوى ولديها. وترك هولبين أسرته ثانية بعد ثلاثة أعوام من رسمه هذا الاتهام الرائع لشخصه.
ورسم خلال إقامته هذه في بال لوحة أخرى لفروبن، وست صور لإرزمس يعوزها تميزت به صور 1523 - 24 من عمق شديد. وجدد مجلس المدينة طلب رسوم جصية لحجراته، ولكنه شجب الصور الدينية كافة مستسلماً لمحطمي الصور المنتصرين، وأفتى بأن "الله لعن جميع من يصنعونها" (31). وهبط الطلب على الصور، وفي عام 1532 عاد هولبين إلى إنجلترا.
وهناك رسم صوراً بلغت من الكثرة حداً ظهر معه معظم الأشخاص، الذين سيطروا على مسرح الأحداث في إنجلترا خلال تلك السنوات الصاخبة، وقد دبت فيهم الحياة بفضل ريشة هولبين الساحرة. ففي مكتبة الملكة بقصر وندزور سبعة وثمانون رسماً تخطيطياً بالفحم أو الطباشير، بعضها أعد لرسوم هزلية، وأكثرها للوحات، والظاهر أن الفنان لم يحتج لأكثر من جلسة أو جلستين من أصحاب رسومه، ثم صورهم على لوحاته نقلاً عن هذه الرسوم. وسعى التجار الهانسيون في لندن إلى فنه، ولكنهم لم يوحوا إليه بأفضل ما عنده. وقد رسم لقاعة نقابة الهانسيين صورتين جداريتين، محفوظتين في نسخ أو رسوم لهما فقط، مثلت إحداهما "انتصار الفقر"، والأخرى: "انتصار الغنى". وكلتاهما معجزة في الشخصية المميزة، والحركة الحية، والتصميم المتماسك، وهما توضحان شعار النقابة- "إن الذهب أبو الفرج وابن الهم، المفتقر إليه حزين، والمالك له قلق (32) ".(27/103)
وفي عام 1534 أسلم تومس كرمويل وجهه الجامد وجسده الهش لريشة هولبين، وكان مزمعاً أن يكون بشخصه مصداق هذه الحكمة. وعن طريق اتصل الفنان بأرفع الشخصيات في البلاط. ورسم لوحة "السفراء الفرنسيين" ووفق توفيقاً غير عادي في تصوير واحد منهم يدعى شارل دسولييه، إذ كشف عن الرجل المتواري خلف رداء المنصب وشارته. وهناك أربعة وآخرون- هم السر هنري جلفورد (مراقب البيت الملكي)، والسر نيكولاس كاريو (قيم الإسطبلات الملكية)، وروبرت تشيسمان (بازدار الملك) والدكتور جون تشيمبرز (طبيب الملك) - هؤلاء الأربعة تستشف في صورهم صفاقة في الجلد لولاها لاستحال عليهم العيش في مأمن مع هذا الملك الناري الطبع. وقد أصبح هولبين واحداً منهم حوالي 1537 بوصفه المصور الرسمي للبلاط. وأفرد له مرسم خاص في قصر هوايتهول، ونزل مسكناً مريحاً، وكان له كغيره عشيقات وأبناء غير شرعيين، وغدا يرفل في الخز والأثواب البهية (33). وطلب إليه أن يزخرف لحجرات، ويصمم الأثواب الرسمية، وأغلفة الكتب، والأسلحة، ومفارش المائدة، والأختام، والأزرار والمشابك الملكية، والأحجار الكريمة التي كان هنري يهديها إلى زوجاته، وفي عام 1538 أوفده الملك إلى بروكسل ليصور الأميرة كرستين الدنمركية، وقد تبين أن فيها كثيراً من الفتنة، وود هنري لو اتخذها زوجة، لولا أنها اختارت الدوق فرانسوا اللوريني بدلاً منه، ولعلها آثرت أن تعلق في قاعة للصور عن أن يقطع رأسها. وانتهز هولبين الفرصة لزيارة بال زيارة قصيرة. وهناك عين راتباً سنوياً لزوجته قدره أربعون جلدراً (1. 000 دولار؟) ثم أسرع بالعودة إلى لندن. وبعد عودته بقليل كلف بأن يصور آن كليفنز، وكاد هولبين أن يتنبأ بمصيرها في العينين الحزينتين اللتين تطالعانك من صورتها المحفوظة الآن باللوفر.(27/104)
أما الملك فقد رسم له عدة لوحات كبيرة فقدت كلها تقريباً. وبقيت منها واحدة في قاعة "باربر سيرجنز" بلندن: "هنري الثامن يمنح مرسوم شركة تضامنية لشركة باربر سيرنز" ويرى فيها هنري وقد طغى على المشهد في أثوابه الرسمية. ورسم الفنان صوراً جذابة لزوجة هنري الثالثة جين سيمور، ولزوجته الخامسة كاترين هوارد. وكان إذا جلس أو وقف له هنري نفسه يرتفع إلى مستوى التحدي ويخرج لوحات لا يفوقها من إنتاجه سوى صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال. ولوحة عام 1526 تظهر الملك بديناً بدانة التيوتون، مزهواً زهوهم. وأعجب بها هنري على الرغم منه، وكلف هولبين بتصويره الأسرة المالكة صورة جصية ملونة بقصر وايتهول. وقد دمرت النيران هذه الصورة الجدارية عام 1698. ولكن نسخة أخرجت منها عام 1667 لتشارلز الثاني تشف عن براعة التصميم: ففي أعلى اليسار يرى هنري السابع، تقياً متواضعاً، وفي أسفل ولده يلوح بشعارات السلطة ويمد ساقيه كأنه العملاق. وإلى اليمين أمه وزوجته الثالثة، وفي الوسط أثر من الرخام يفصل باللاتينية فضائل الملوك. وقد فصل وجه هنري الثامن بواقعية ترددت باسمها أسطورة تحكي أن أشخاصاً دخلوا الحجرة وحسبوا أن الصورة هي الملك الحي ذاته. وفي عام 1540 رسم هولبين صورة أشد وقعاً في النفس حتى من هذه. وهي "هنري الثامن في ثياب العرس. " وأخيراً (1542) أظهر لنا الرسام هنري في انحلال عقله وجسده. وكان عمل ربة الانتقام هنا بطيئاً متأنياً. فمدت في ثأر الآلهة، وبدلاً من الميتة الهادئة أو المباغتة قضت عليه بانحلال طويل مذل.
وهناك صورتان جميلتان تكفران عن سيئات قاعة الصور الملكية، إحداهما للأمير إدوارد في الثانية من عمره وهو يفيض براءة، والأخرى لإدوارد في السادسة (بمتحف المتروبوليتان للفنون). وهذه اللوحة الثانية(27/105)
بهجة للناظرين. وفي وسعنا أن نحكم على فن هولبين حين نراه خلال سنة أو سنتين يصور في غير إحجام كبرياء الأب البدين، ثم يلتقط بمثل هذه البراعة المحيرة وداعة الابن البريئة.
وصور الفنان نفسه مرة أخرى حين بلغ الخامسة والأربعين (1542)، وبذات الموضوعية التي رسم بها الملك: رجلاً مرتاباً مشاكساً ذا شعر ولحية وخطهما الشيب وبدا عليهما الإهمال؛ ثم مرة أخرى عام 1543 في صورة مستديرة تظهره في حالة أرق وألطف. في ذلك العام اجتاح الطاعون لندن واختاره واحداً من ضحاياه.
كان من الناحية التقنية واحداً من عظماء المصورين. فهو يرى في تدقيق بالغ، ويرسم كما يرى، وهو يمسك بكل خط، أو لون، أو موقف، بكل زاوية أو تغير في الضوء، يمكن أن يكشف عن دلالة أو مغزى، ويثبته على الورق أو القماش أو الخشب أو الجدار ... وأي دقة في الخطوط، وعمق ونعومة ودفء في الألوان، وبراعة في ترتيب التفاصيل ليؤلف بينها تأليفاً موحداً! ولكننا في كثير من اللوحات، التي لم يكن الهدف منها تصوير الشخص بل تقاضي الأجر، نفتقد ذلك التعاطف القادر على رؤية نفس الإنسان الخفية وعلى مشاركتها شعورها. هذا التعاطف نجده في صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال، وفي صورة أسرته، وإذا استثنينا عذراء ماير، فإننا نفتقد المثالية التي سمت بالواقعية في لوحة فان إيك "عبادة الحَمَل". وقد قصر به عدم مبالاته بالدين عن بلوغ السمو الذي بلغه جرونفالد، وأبعده عن دورر الذي ظل على الدوام محتفظاً بإحدى قدميه في العصور الوسطى. ولم يكن هولبين فنان النهضة الخالص كتيشان، ولا فنان الإصلاح البروتستنتي الخالص ككراناخ، لقد كان ألمانياً- هولندياً- فلمنكياً- إنجليزياً في واقعيته وإحساسه العملي. ولعل نجاحه حال دون دخول مبادئ التصوير الإيطالية ورقته(27/106)
دخولاً قوياً إلى إنجلترا. وبعد موته انتصرت البيورتانية على العاطفة الإليزابيثية، وراح فن التصوير الإنجليزي يتعثر حتى جاء هوجارث. وفي الوقت ذاته فارق المجد التصوير الألماني. ولم يكن بد من أن يتدفق فوق أوربا الوسطى سيل من الهمجية قبل أن يعود الإحساس بالجمال إلى التعبير عن نفسه هناك مرة أخرى.
7 - الفن في أسبانيا والبرتغال
1515 - 1555
لم تعرف أسبانيا قط النهضة بالمعنى الإيطالي الغني على الرغم من الجريكو وفيلاسكيز، وسرفانتيس وكالديرون. فثروتها التي جاءتها من أقطار نائية أضفت على ثقافتها المسيحية زخارف جديدة، وأتاحت لها إجزال العطاء للوطنيين النابغين في الأدب والفن، ولكنها لم تتدفق كما تدفقت الثروة في إيطاليا وفرنسا إلى أي جهود مثيرة لاستعادة تلك الحضارة الوثنية التي ازدان بها عالم البحر المتوسط قبل المسيح وبعده، والتي أنجبت سنيكا ولوكان ومارتيال وكونتيليان وتراجان وهادريان على أرض أسبانيا ذاتها. لقد طغى على ذكرى العهد الكلاسيكي طول الصراع بين المسيحية الإسبانية والمغاربة، وكل الذكريات المجيدة كانت ذكريات ذلك الانتصار المتطاول، وغدا الإيمان الذي حققه مقترناً بتلك الذكرى الفخور لا ينفصل عنها. وبينما كانت الدولة تذل الكنيسة في كل أرجاء أوربا الأخرى، كان النظام الكنسي في أسبانيا يزداد قوة على الزمن، فتحدى البابوية وتجاهلها، حتى حين كان الأسبان يحكمون الفاتيكان، وعاش رغم الاستبداد الورع الذي فرضه فرديناند وشارل الخامس وفيليب الثاني، ثم سيطر على كل نواحي الحياة الأسبانية. وكانت الكنيسة في أسبانيا الراعي الوحيد تقريباً للفنون، ومن ثم فقد قررت اللحن الذي تريده، وحددت الموضوعات، وجعلت الفن كالفلسفة خادماً للاهوت. وعينت محاكم التفتيش الإسبانية مفتشين(27/107)
لتحريم العرى أو البذاءة أو الوثنية أو الهرطقة في الفن، ولتحديد طريقة تناول المواضيع المقدسة في النحت والتصوير، ولتوجيه الفن الأسباني وجهة التبصير بالإيمان وتثبيته.
ومع ذلك كان التأثير الإيطالي يتدفق إلى أسبانيا. فارتقاء الأسبان عرش البابوية وفتح ملوك الأسبان نابلي وميلان، وحملات الجيوش الأسبانية وبعثات رجال الدولة والكنيسة إلى إيطاليا، والتجارة الرائجة بين أسبانيا والثغور الإيطالية، وزيارة الفنانين الأسبان أمثال فورمنت وبيروجويتي وابنه لإيطاليا، والفنانين الإيطاليين أمثال توريجيانو وليوني ليوني لأسبانيا- هذه العوامل كلها أثرت في الفن الأسباني من حيث طرائقه وزخرفته وأسلوبه، ولم نؤثر تأثيراً يذكر في روحه أو موضوعه؛ أثرت في التصوير أكثر مما أثرت في النحت، وكانت أقل ما تكون تأثيراً في العمارة.
وسيطرت الكاتدرائيات على مشاهد الريف والمدن سيطرة الدين على الحياة. فالرحلة في أسبانيا أشبه بالحج من هيكل إلى آخر من هذه الهياكل الجبارة. وضخامتها المهيبة، وغنى زخارفها الداخلية، وصمت أبهائها الذي يلفه ضوء خافت، وأشغال الحجر المكرسة التي تبني بها أروقتها، كلها تبرز البساطة والفقر الواضحين في مساكن الآجر الجميلة المتزاحمة في أسفلها وهي تتطلع إليها كأنها الوعد بعالم أفضل. وظل الطراز القوطي هو السائد في الكاتدرائيات الشامخة التي ارتفعت في سماء سلمنقة (1513) وسقوبية (1422)، ولكن المعماري ديبجو دي سيلوي، وكان ابن نحات قوطي الفن، صمم الأجزاء الداخلية من كاتدرائية غرناطة بأعمدة وتيجان كلاسيكية، وتوج التصميم القوطي بقبة كلاسيكية (1525). وأزاح طراز النهضة الإيطالية الطراز القوطي إزاحة تامة في قصر شارل الخامس بغرناطة. وكان شارل قد وبخ أسقف قرطبة(27/108)
على إتلافه المسجد الكبير ببناء كنيسة مسيحية داخل أعمدته البالغ عددها 850 (34)، ولكنه ارتكب ذنباً لا يكاد يقل فداحة حين هدم بعض قاعات قصر الحمراء وأبنيته ليفسح مكاناً لبناء كان من الجائز أن يتقبل المرء ضخامته الصارمة وتماثله السخيف دون تأذ لو أنه قام وسط أبنية مماثلة له في روما، ولكنه ظهر نابياً أشد النبو وسط القلعة المغربية برشاقتها الهشة وتنوعها البهيج.
وظهر شيء من ميل المغاربة للزخارف المعمارية في طراز "الأطباق" الذي طبع أكثر ما طبع المعمار المدني في ذلك العهد. وقد اشتق اسمه من الشبه بينه وبين الحلي المعقدة الرقيقة التي كان صائغو الفضة (البلاتيرو) أو الذهب يحلون بها آنية المائدة وغيرها من تحف فنهم. وقد ملأ هذا الطراز قمم وجوانب البوابات والنوافذ بأحجار ملتفة عربية الطراز، وحفر الأعمدة أو لولبها أو زهرها بخيال إسلامي غريب، وثقب النوافذ المصّبعة والداربزينات بورق شجر وبوشي من الرخام. وكان هذا الطراز طابع كنيسة أوبيسبو في مدريد، وكنيسة سانتو توماس في أفيلا، وخورس كاتدرائية قرطبة. وقد أطلق لنفسه العنان في قاعة مدينة إشبيلية (1526). واقتبست البرتغال هذا الطراز على بوابة حفلت بالحلي وأعمدة نقشت بالزخارف في دير سانتا ماريا الفخم في بيليم (1517)، وحمله شارل الخامس إلى الأراضي المنخفضة وألمانيا حيث نشر طابعه على قاعات مدينتي أنتورب وليدن وقلعة هيدلبرج. ولكن فيليب الثاني وجد في هذا الطراز إسرافاً في الزخرف لا يطيقه ذوقه، فمات موتاً مبكراً تحت عبساته.
أما النحت الأسباني فقد خضع للمد الإيطالي المتعاظم بأيسر مما خضع المعمار. فبعد أن كسر بيترو توريجيانو أنف ميكل أنجيلو في فلورنسة، وتحدى هنري الثامن في لندن، استقر في إشبيلية (1521) وصنع من(27/109)
الطين المحروق تمثالاً غليظاً للقديس جيروم، ارتأى فيه جوياً رأياً خاطئاً، هو أنه أعظم أعمال النحت الحديث (35). وأحس توريجيانو أنه نقد أجراً حقيراً لقاء صنعه تمثالاً للعذراء، فحطمه شذر مذر، وقبضت عليه محكمة التفتيش فمات في سجونها (36). أما دميان فورمنت فقد حمل روح النهضة على إزميله وفي عباراته الطنانة بعد عودته إلى أرجوان من إيطاليا. كان يصف نفسه بأنه "قريع فيدياس وبراكسيتيليس". وتقبله الناس بالقدر الذي قدر به نفسه، فسمحت له السلطات الكنسية بحفر صور له ولزوجته على قاعدة حاجز المذبح الخلفي الذي صنعه لدير مونتي أرجوان. ثم صنع من المرمر لكنيسة نويسترا سينورا ديل بيلار في سرقسطة رافدة مذبح كبيرة بالنقوش ضئيلة بالبروز، مزج فيها العناصر القوطية بعناصر النهضة، والتصوير بالنحت، واللون بالشكل. وكرس فورمنت لرافدة مذبح أخرى في كاتدرائية وشقة في السنوات الثلاث عشرة الباقية من حياته (1520 - 1533).
وكما أن بدرو برجويتي هيمن على التصوير الأسباني في نصف القرن السابق على شارل الخامس، فكذلك أصبح ابنه أكبر النحاتين الأسبان في العهد الذي نحن بصدده. وقد تعلم ألونسو فن اللون من أبيه، وذهب إلى إيطاليا واشتغل مع رفائيل مصوراً، ومع برامانتي وميكل أنجيلو مثالاً. فلما عاد إلى أسبانيا (1520) جلب معه ولع ميكل أنجيلو بالوجوه تلتقط في حدة الانفعال أو عف المواقف. وعينه شارل مثالاً ومصوراً للبلاط. وظل ست سنوات في بلد الوليد ينحت من الخشب حجاباً لمذبح كنيسة سان بنيتو إل ريال، طوله اثنان وأربعون قدماً وعرضه ثلاثون، ولم يبق منه إلا قطع متناثرة، أهمها صورة للقديس سباستيان ذات ألوان حية، والدم يتدفق من جروحه. وفي 1535 اشترك مع أهم منافسيه، فيليبي دبورجونا، في نقش مقاعد للمرتلين في كاتدرائية طليطلة، وهنا(27/110)
أيضاً كان أسلوب ميكل أنجيلو هو الموجه ليده، والمنبئ بطراز الباروك في أسبانيا. ولما قارب الثمانين كلف أن يقيم في مستشفى القديس يوحنا بطليطلة أثراً تذكارياً لمؤسسه الكاردينال جوان دي تافيرا. وأخذ معه ابنه ألونسو مساعداً، وأبدع إحدى الروائع الكبرى في النحت الأسباني، ثم مات خلال هذه المحاولة وقد بلغ الخامسة والسبعين (1561).
أما التصوير الأسباني الذي كان لا يزال آنئذ تحت وصاية إيطاليا وفلاندر فلم يجد بفنان بارز في عهد شارل الخامس. وكان الإمبراطور يؤثر المصورين الأجانب، فاستقدم أنطونيس مور ليصور أعيان الأسبان، أما عن نفسه فقد صرح بأنه لن يسمح لأحد أن يصوره غير تيشان العظيم. والمصور الأسباني الوحيد الذي عبرت سمعته جبال البرانس هو لويس دي موراليس. وقد قضى السنين الخمسين الأولى من حياته فقيراً مغموراً في بلدته بطليوس، يرسم الصور للكنائس كبيرها وصغيرها في إقليم استريمادورا. وكان يناهز الرابعة والخمسين حين أمره فيليب الثاني بالحضور والتصوير في الأسكوريال (1564). فقدم نفسه للملك في ثياب بهية رأى فيليب أنها لا تليق بفنان، ولكنه لان حين علم أن لويس أنفق مدخرات العمر ليعد لنفسه ثياباً تليق بالمثول بين يدي جلالته. ولم تستهو الملك لوحته "المسيح حاملاً الصليب"، فعاد إلى بطليوس وحياة الضنك. وتعرض عدة لوحات بريشته في الجمعية الأسبانية بنيويورك، وكلها جميلة، غير أن أفضل مثال لفنه هو لوحة "العذراء والطفل" في البرادو- وهي تذكرنا من بعض وجوهها برفائيل تذكيراً شديداً. ولما اجتاز فيليب ببلدة بطليوس في عام 1581 خصص معاشاً متأخراً للفنان الذي أعجزه الفالج وضعف البصر، فيسر له بذلك القوت المنتظم في السنوات الخمس الباقية له من عمره.(27/111)
أما صناع أسبانيا المهرة فكثيراً ما كانوا فنانين في كل شيء ولا ينقصهم غير الاسم. فقد ظلت أشغال التخريم والجلد تحظى بأرفع مكانة في أوربا. كذلك كان النجارون لا ضريب لهم، وعند تيوفيل جوتييه أن الفن القوطي لم يدن قط من الكمال دنوه في مقاعد المرتلين بكاتدرائية طليطلة. أما المشتغلون بالمصنوعات المعدنية فقد جعلوا من حجب الهياكل، ومصبعات النوافذ، وداربزينات الشرفات، ومفصلات الأبواب، بل من المسامير، تحفاً فنية. وأحال صاغة الذهب والفضة بعض المدن النفيس المتدفق من أمريكا حلياً للأمراء وآنية للكنيسة، واشتهر من أشغالهم الآنية التي صاغوها بتخريم الفضة أو الذهب لاحتواء القربان المكرس. ولم يقنع جل فيتشنتي بمكانته زعيماً لكتاب المسرحية في البرتغال وأسبانيا في هذه الفترة، بل صنع وعاء للقربان المقدس- يخرج به الكاهن على جمهور المصلين- قيل في تقديره "انه أروع أشغال الصياغة في البرتغال" (37). وواصل فرانشيسكو دي هولاندا، البرتغالي برغم اسمه، زخرفة المخطوطات ببراعة، وهي فن كان بسبيله إلى الزوال.
ويمكن القول على الجملة إن هذه الفترة التي تقل عن نصف قرن قد وفقت توفيقاً مشرفاً في مجال الفن على الرغم من استنفاد الطاقات وتمزقها في الثورة الدينية. لم يكن كبار المعماريين والنحاتين والمصورين ممن يثبتون للمقارنة بالعمالقة الذي زلزلوا باللاهوت أوربا، وكان الدين لحن العهد، وقصارى ما كان يستطيعه الفن أن يكون مصاحباً له. بيد أن إل روسو، وبريماتتشيو، وليسكو، وديلورم، وجوجون، وآل كلويه في فرنسا، وبروجويتي وابنه في أسبانيا، وبروجل في فلاندر، وكراناخ في ألمانيا، وهولبين في كل بلد- كل أولئك كانوا قائمة نبيلة من الفنانين لعهد شديد الاضطراب بالغ القصر. إن(27/112)
الفن نظام، ولكن كل شيء كان فوضى- لا الدين فحسب، بل الأخلاق، والنظام الاجتماعي، والفن نفسه. وكان الفن القوطي يخوض معركته الخاسرة مع الطرز والأساليب الكلاسيكية، واضطر الفنان بعد أن اقتلع من ماضيه أن يجرب بمحاولات اجتهادية لم تستطع أن تمنحه جلال الاستقرار المتأصل في زمان واثق من نفسه. كذلك كان الإيمان متردداً وسط هذا الاضطراب الشامل، فلم يعد يعطي الفن أوامر وتوجيهات واضحة، وهوجمت الصور الدينية وحطمت، وأخذت الموضوعات المقدسة تفقد قدرتها على استثارة العبقرية أو الإعجاب أو التقوى بعد أن كانت مبعت إلهام لمبدع الجمال ولمشاهده على السواء. أما في مجال العلم فقد راحت أعظم الثورات قاطبة تخلع الأرض عن عرشها اللاهوتي، وتضيّع في الفراغ اللانهائي تلك الكرة الصغيرة التي كان الافتقاد الإلهي لها سبباً في تكوين العقل الوسيط وخلق الفن الوسيط. ترى، متى يعود الاستقرار ثانية؟(27/113)
الفصل السابع والثلاثون
العلم في عصر كوبرنيق
(1517 - 65) (1)
1 - الإيمان بالمستور
(السحر والتنجيم وما إليهما)
من الحقائق الجديرة بالملاحظة أن هذا العهد الذي استغرقه اللاهوت والثقافة المدرسية قد أنجب رجلين لهما أرفع مقام في تاريخ العلم-كوبرنيق وفيزاليوس، ومن العجيب أن الكتب التي احتوت عصارة حياتهما قد ظهرت في سنة واحدة، هي "سنة العجائب" 1543. لقد وكان بعض الظروف مواتيا للعلم. فاكتشاف أمريكا وارتياد آسيا، ومطالب الصناعة واتساع التجارة-كل هذا أثمر معرفة كثيراً ما ناقضت المعتقدات المتوارثة وشجعت التفكير الأصيل. وكان للترجمات من اليونانية والعربية، ولطبع كتاب أبوللونيوس "الأشكال المخروطية" (1537) والنص اليوناني لأرخميدس (1544)، الفضل في حفز العلوم الرياضية والفيزيائية. غير أن كثيراً من الرحالة كانوا كاذبين أو مهملين، ونشرت الطباعة العراء على نطاق أوسع من نشرها للمعرفة، وكانت الأدوات العلمية بدائية برغم تعددها. فالمكروسكوب والتلسكوب والترمومتر والبارومتر والمكرومتر والمكركرنومتر كلها كانت في ضمير الغيب. أما النهضة فقد ولعت بالأدب والأسلوب، واهتمت بالفلسفة اهتماماً مؤدباً، ولم تكد تكترث للعلم. حقيقة أن
_________
(1) انظر الفصل 30 في العلم الإسلامي، والفصل 32 في العلم اليهودي، والفصل 19 من فصول النهضة في العلم الإيطالي.(27/114)
بابوات النهضة لم يقفوا موقف العداء من العلم. فقد استمع ليو العاشر وكلمنت السابع إلى أفكار كوبرنيق بذهنين مفتوحين، وتقبل بولس الثالث في غير خوف إهداء كوبرنيق كتابه له، "كتاب الدورات" الذي زلزل العالم. ولكن رد الفعل الذي جاء في عهد بولس الرابع، وتطور محكمة التفتيش في إيطاليا، وقرارات مجمع ترنت القطعية، كل هذا جعل الدراسات العلمية شاقة خطرة بصورة متزايدة بعد عام 1555.
ولم تستطع البروتستنتية أن تؤيد العلم، لأنها أسست صرحها على كتاب مقدس معصوم. ورفض لوثر فلك كوبرنيق لأن التوراة ذكرت أن يشوع أمر الشمس-لا الأرض-أن تقف. أما ملانكتون فكان ميالاً للعلم، فدرس الرياضيات، والفيزياء، والفلك، والطب، وحاضر في تاريخ الرياضيات في العصور القديمة، ولكن روحه السمحة غلبتها طبيعة أستاذه القوية وطغيان لوثرية ضيقة الأفق بعد موت لوثر. أما كالفن فلم يكن به كبير تقدم للعلم، وأما نوكس فلا تقدير على الإطلاق.
وظل مناخ مثبط من الإيمان بالمستور يحدق بعلماء الغد ويشوش أذهانهم بل يهدد سلامة عقولهم أحياناً كما حدث لكاردن وبارسيلسوس. فالسحر والكيمياء القديمة من مصر، والفيثاغورية والأفلاطونية الجديدة الصوفيتان من اليونان، والقبلانية من اليهودية، كلها حيرت مئات العقول المتلمسة طريقها. وغزت القصص الأسطورية وقصص المعجزات كتابة التاريخ الرسمي، وروى الرحالة حكايات عن تنانين تنفث اللهب وفقراء يتسلقون الحبال. وكاد يفسر كل حدث شاذ في الحياة العامة أو الخاصة بأنه ليس إلا تدبيراً من الله أو الشيطان لإنذار الإنسان أو تهذيبه، لفتنته أو تدميره. وآمن الكثيرون بأن(27/115)
المذنبات والنيازك إن هي إلا كرات من النار يقذف بها إله غاضب (1)، ودخلت الكتب الرخيصة كل بيت قارئ، مؤكدة إمكان تحويل المعادن الخسيسة ذهباً. وكما ذكرت رواية معاصرة، كان "كل الخياطين والحذائين والخدم والخادمات الذين يسمعون ويقرأون عن هذه الأشياء يعطون كل ما يوفرون من نقود ... للجائلين والمحتالين" من المشتغلين بهذه الخدع (2). وقد ذكر مشعوذ يدعى وليم وتشرلي في محاكمته بإنجلترا عام 1549 أن في الجزيرة خمسمائة مشعوذ مثله (3). وكان الطلاب المتجولون في ألمانيا يبيعون الأحجبة الواقية من الساحرات والشياطين. وأقبل الجند على التعاويذ والطلاسم التي تكفل تحويل رصاص البنادق عن هدفه (4). وكثيراً ما كان القداس يستعمل رقية لجلب المطر أو ضوء الشمس أو النصر في الحرب. وشاعت إقامة الصلوات استدراراً للمطر، وكانت أحياناً تبدو موفقة فوق ما يطلب، فتقرع أجراس الكنائس لتنبيه السماء إلى الكف عن المطر (5). وفي 1526 - 31 كان رهبان تروا يوقعون حرماً رسمياً على الديدان التي ابتليت بها المحاصيل، ولكنهم يضيفون إلى هذا أن الحرم لا يجدي إلا في الأطيان التي يدفع زراعها عشورهم للكنيسة (6).
ولعل الأحداث التي نسبت إلى الشيطان كانت أكثر من تلك التي نسبت إلى الله. يقول كاتب بروتستنتي في عام 1563 متفجعاً: "ندر أن تمر سنة دون أن نسمع بأبشع الأنباء من الإمارات والمدن والقرى عن الأساليب الفاجرة الرهيبة التي يحاول بها ملك الجحيم، بظهوره جسدياً أو في شتى الصور والأشكال، أن يطفئ النور الجديد الساطع، نور الإنجيل المقدس" (7). وشارك لوثر عامة الناس في نسبة معظم الأمراض إلى الأرواح الشريرة التي تدخل الجسد-وهي فكرة لا تتناقض على أية حال تناقضاً تاماً مع نظريتنا الشائعة الآن. وكان(27/116)
الكثيرون يؤمنون بأن الأمراض تنجم عن العين الشريرة أو غيرها من أعمال السحر، وأن في الإمكان شفائها بالجرعات السحرية-وهذا أيضاً لا يبعد كثيراً عن عاداتنا في هذه الأيام، وكان أكثر العلاج يعطى حسب موقع الكواكب، ومن هنا دراسة طلبة الطب للتنجيم.
وقد اقترب التنجيم من العلم لأنه افترض حكم القانون في الكون ولأنه اعتمد إلى حد كبير على التجربة. صحيح أن الاعتقاد بأن حركات النجوم ومواقعها هي التي تقرر الأحداث البشرية لم يكن شاملاً كما كان من قبل، ومع ذلك فقد كان في باريس 30. 000 منجم في القرن السادس عشر، (8) كلهم على استعداد لكشف الطالع لقاء قطعة من النقود. وراجت التقاويم الحاوية لتنبؤات المنجمين رواجاً كبيراً. وقد قلدها رابليه ساخراً في "التنبؤات البنتاجرويلية" للسيد ألكوفريباس. ووافقه في هذه النقطة اللوثر والسوربون، فنددا بالتنجيم في جميع صوره. واستنكرت الكنيسة رسمياً تنبؤات المنجمين لأنها تتضمن معنى الحتمية وخضوع الكنيسة للنجوم؛ ومع ذلك فإن البابا بولس الثالث، وهو من أعظم مفكري ذلك العصر، كان على حد قول سفير في القصر البابوي، "يأبى أن يدعو لأي اجتماع هام لمجمع الكرادلة، وأن يخرج في أي رحلة، دون تخير للأيام الملائمة ورصد لحركات الأبراج". (9) وكان فرانسوا الأول، وكاترين دمديتشي، وشارل التاسع، ويوليوس الثاني، وليو العاشر، وأدريان السادس- كانوا كلهم يستشيرون المنجمين (10). وقد غير ملانكتون تاريخ مولد لوثر ليهيئ له طالعاً أسعد، (11) وتوسل إليه ألا يسافر والقمر هلال بعد (12).
وما زال أحد منجمي هذه الفترة مشهوراً، فالمنجم نوستراداموس كان بالفرنسية ميشيل دنوتردام. وقد زعم أنه طبيب وفلكي،(27/117)
وارتضته كاترين دمديتشي منجماً شبه رسمي، وبنت له مرصداً في ليزال، وفي عام 1564 تنبأ لشارل التاسع بأنه سيعمر إلى التسعين (13)، ولكنه مات بعد عشر سنوات في الرابعة والعشرين. وقد ترك هذا المنجم عند موته (1566) كتاب تنبؤات صاغها بحكمة بحيث تحتمل معنيين. وبحيث يمكن أن تصدق بعض سطور الكتاب على أي حدث تقريباً في التاريخ اللاحق.
كان مسيحيو القرن السادس عشر يؤمنون بإمكان نيل قوى خارقة من الشياطين، وكان الخوف من الشياطين يغرس فيهم منذ نعومة أظفارهم، لذلك شعروا بأنهم ملتزمون بحرق الساحرات. وأيد لوثر وكالفن البابا إنوسنت الثامن في الحث على محاكمتهن. يقول لوثر "إني لأرفض العطف على هؤلاء الساحرات، وبودي لو أحرقتهن على بكرة أبيهن" (14). وقد أحرق أربعة منهن في فتنبرج في 19 يونيو 1540، وأربعة وثلاثون في جنيف عام 1545 (15). وكان لدى دعاة الإصلاح البروتستنتي بطبيعة الحال مبرر من الكتاب المقدس لهذا الحرق، وأضاف استناد البروتستنتية إلى الكتاب إلحاحاً جديداً على إتباع ما ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج، وشجعت عادة إخراج الشياطين الكاثوليكية الإيمان بالسحر، لأنها افترضت أن قوة الشياطين تسكن في البشر. وزعم لوثر أن خصمه الليبزجي يوهان إيك قد وقع ميثاقاً مع الشيطان، ورد يوهان كوخلايوس بأن لوثر نتاج جانبي لعبث الشيطان مع مارجريت لوثر (16).
وكان الناس يلجئون أحياناً إلى اتهام أعدائهم بالسحر للتخلص منهم. وكان للمتهمة الخيار في أن يوقع بها تعذيب طويل الأمد لاستخلاص اعتراف منها، أو أن تموت نتيجة للاعتراف. وقد نظم تعذيب المتهمين بالسحر في أوربة القرن السادس عشر "بوحشية(27/118)
هادئة لم تعهد ... في الأمم الوثنية" (17). ويبدو أن كثيراً من الضحايا آمن بذنبهن-بأن لهن مع الشياطين معاملات وصلات، جنسية أحيانا (18). وكان بعض المتهمات ينتحرن، وقد دون قاضٍ فرنسي خمس عشرة حالة انتحار في سنة واحدة (19). وكثيراً ما بز القضاة العلمانيون رجال الكنيسة في التحمس لهذا الاضطهاد. وقد نصت قوانين هنري الثامن (1541) على عقوبة الإعدام لأي من عدة أفعال نسبت إلى الساحرات (20)، ولكن محكمة التفتيش الأسبانية دمغت قصص السحر والاعترافات بالسحر بأنها أوهام العقول الضعيفة، ونهبت مندوبيها (1538) إلى تجاهل طلب الجماهير لحرق الساحرات (21).
كانت الأصوات التي ارتفعت لحماية الساحرات أقل من تلك التي ارتفعت للدفاع عن المهرطقين، وكان المهرطقون أنفسهم يؤمنون بالساحرات. ولكن حدث في عام 1563 أن أصدر طبيب في كليفز يدعى يوهان فير بحثاً سماه "في الخدع الشيطانية" جرؤ في استيحاء وتردد على التخفيف من هذا الجنون. ولم يتشكك الطبيب في وجود الشياطين، ولكنه ألمع إلى أن الساحرات هن الضحايا الأبرياء لمس الشياطين، وأن الشياطين يخدعهن ليصدقن السخافات التي يعترفن بها. وفي رأيه أن النساء والأشخاص المصابين بعلة في البدن أو العقل يتعرضون أكثر من غيرهم لمس الشياطين، وخلص من هذا إلى أن السحر ليس جريمة بل هو مرض، ثم ناشد ملوك وأمراء أوربا أن يقفوا إعدام هؤلاء النسوة العاجزات. وبعد بضع سنوات عدل فير وضعه ليتلاءم مع جيله، فكتب وصفاً مفصلاً للجحيم وزبانيتها، ونظامها، وعملها.
وعبرت روح العصر عن ذاتها في قصة فاوست. وأول سماعنا بجيورج فاوست كان في خطاب كتبه يوهان تريتيميوس عام 1507،(27/119)
وهو يصفه بالمشعوذ، ثم في 1513 إذا يذكره موتيانوس روفوس بوصف ليس بأرق من هذا. وقد كتب فيليب بيجاردي، أحد أطباء فورمز في 1539 يقول: "في السنوات الأخيرة كان رجل عجيب يجوب كل إقليم وإمارة ومملكة تقريباً ... ويفاخر ببراعته الفائقة لا في الطب فحسب بل في قراءة الكف، والفراسة، والعرافة بالتحديق في الكرة البلورية، وما شابه ذلك من فنون ... ولم ينكر أن اسمه فاوستوس" (22) (ومعناه المحظوظ). ويبدو أن فاوست التاريخي مات في 1539 - ويقول ملانكتون إن الشيطان لوى عنقه. وبعد موته بأربع سنوات ظهرت أسطورة فاوست حليف الشيطان في كتاب "عظات مرحة" بقلم قسيس بروتستنتي في بال يدعى يوهان جاست. وقد تضافرت فكرتان قديمتان على تحويل الدجال التاريخي إلى شخصية بارزة أو علم سواء في الأسطورة والمسرحية والفن: أولاهما أن الإنسان قد يكتسب قدرات سحرية بتحالفه الوثيق مع الشيطان، والأخرى أن العلم اللاديني إنما هو غرور وقح قد يؤدي بصاحبه إلى الجحيم. وفي فترة ظن الناس أن الأسطورة كاريكاتور كاثوليكي يسخر من لوثر، ولكن نظرة أعمق للأسطورة رأت أنها تعبير عن استنكار الدين للعلم "الدنيوي" الذي يناقض تقبل الكتاب المقدس في تواضع، لأن فيه الكفاية من العلم والحقيقة. أما جوته فقد استنكر هذا الاستنكار، وسمح لتعطش الإنسان للعلم بأن يطهر ذاته باستخدامه للصالح العام.
وتجسدت أسطورة فاوست تجسداً مراً في شخص هنري كورنيليوس أجريبا. وقد ولد من أسرة طيبة بكولونيا (1547) ثم شق طريقه إلى باريس، وهناك التقى مصادفة بنفر من المتصوفة أو الدجاجلة الذين ادعوا الحكمة الخفية. وإذ كان متعطشاً للمعرفة والشهرة، فقد احترف الكيمياء القديمة، ودرس القبلانية، واقتنع بأن هناك(27/120)
عالماً من الاستنارة بعيد المنال على الإدراك أو التفكير العادي. وأرسل إلى الناشر تريتميوس مخطوطاً في فلسفة السحر De occulta philosophia مشفوعاً بالخطاب الشخصي التالي: -
"لقد أخذني العجب الشديد، لا بل السخط، لأن أحداً لم ينبر إلى اليوم ليبرئ دراسة في مثل هذا السمو والقدسية من تهمة الضلال. وهكذا استثيرت روحي ... وشعرت أنا أيضاً بالرغبة في التفلسف، معتقداً أنني سأخرج كتاباً يستحق الثناء ... إذا استطعت أن أدافع عن ... ذلك السحر القديم، الذي درسه جميع الحكماء، مطهراً ومنقي من عيوب الضلال، ومزوداً بنسقه المعقول" (23).
ورد عليه تربتميوس مسدياً إليه هذا النصح الجميل. "تكلم على الأشياء العامة للعامة، ولا تتكلم على الأشياء السامية والخفية إلا لأسمى وأخص أصحابك. إن الثور يطعم الدريس، والببغاء يطعم السكر. ففسر هذا القول تفسيراً صحيحاً وإلا أصابك ما أصاب غيرك وداستك الثيران" (34).
وسواء كان الدافع لأجريبا هو الحذر أم الافتقار إلى ناشر، فانه أمسك عشرين عاماً عن دفع كتابه إلى المطبعة. ودعاه الإمبراطور مكسمليان للقتال في إيطاليا، فأبلي في المعركة بلاءً حسناً، ولكنه انتهز الفرصة ليحاضر عن أفلاطون في جامعة بيزا، ولينال درجات في القانون والطب من بافيا. ثم عين محامي مدينة في ميتز (1518)، ولكن سرعان ما فقد ذلك المنصب نتيجة تدخله في محاكمة شابة متهمة بالسحر، وقد حصل على أمر بإطلاق سراحها من محكمة التفتيش، ولكنه رأى من الحكمة بعد ذلك أن يغير موطنه (1519). وأنفق عامين طبيباً للويز أميرة سافوا، غير أن تورط في خلافات كثيرة حملتها على قطع راتبه، فانتقل إلى أنتورب مع زوجته الثانية(27/121)
وأبنائه، وعيّن مؤرخاً رسمياً وأمين مكتبة لبلاط مرجريت الوصية على عرش النمسا، ووفق في كسب قوته بطريقة منتظمة. وعكف الآن على تأليف أهم كتبه "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقد نشره عام 1530، ثم نشر كتاب "فلسفة السحر" الذي ألفه في شبابه-ونشره الآن مما يثير العجب، وصدره بمقدمة تنصل فيها من استمرار إيمانه بالتعاويذ والمعميات الصوفية المفصلة فيه. وتأذى الراسخون في العلم من الكتابين جميعاً.
أما كتابه "فلسفة السحر" فقد أكد أن "روح الكون" تسود العالم وتحكمه كما أن روح الإنسان تسود الجسد وتحكمه، وأن هذا المستودع العظيم لقوة الروح يمكن أن يستمد منه العقل إذا طهر خلقياً ودرب في صبر على الأساليب المجوسية. ومتى اكتسب العقل هذه القوة، استطاع أن يكشف الخصائص الخفية للأشياء والأعداد والحروف والكلمات، وأن ينفذ إلى أسرار النجوم، وأن يسيطر على قوى الأرض وشياطين الهواء. وراج الكتاب رواجاً كبيراً، وأفضى تعدد طبعاته بعد موت أجريبا إلى قصص أسطورية حول تحالفه الوثيق مع شيطان كان يرافقه متنكراً في صورة كلبه (25)، ويمكنه من الطيران فوق الكرة الأرضية والنوم في القمر (26).
وقد خففت صروف الدهر من مزاعم أجريبا عن التجربة التي ترق فوق الحس، فتعلم أنه ليس في مقدور أي سحر أو كيمياء (قديمة) إطعام أسرته أو حمايته من السجن بسبب الدين. وانقلب في خيبة أمل غاضبة على البحث عن المعرفة، فكتب في عامه التاسع والثلاثين أكثر كتب القرن السادس عشر تشككاً قبل مونتيني "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقال في تصديره للكتاب "إنني أدرك جيداً أي معركة دامية على أن أخوضها ... أولاً سيثير النحويون القذرون(27/122)
ضجة، وكذلك ... الشعراء المتبرمون، والمؤرخون الكاسدة بضاعتهم، والخطباء المتفيهقون، والمناطقة العنيدون ... والمنجمون المنحوسون، والسحرة البشعون ... والفلاسفة المجادلون". فالمعرفة كلها غير يقينية، والعلم كله عبث، و "أسعد الناس من لا يعرف شيئاً". المعرفة هي التي قضت على سعادة آدم وحواء، واعتراف سقراط بالجهل هو الذي أكسبه القناعة والشهرة. "ليست العلوم كلها إلا قوانين الناس وآرائهم، وهي تستوي ضرراً ونفعاً، وأذى وفائدة، وشراً وخيراً، هي بعيدة كل البعد عن الكمال، مشكوك فيها، حافلة بالخطأ والخلاف" (27).
ويبدأ أجريبا هجومه المدمر بالأبجدية، فيأخذ عليها تناقضات النطق المحيرة. ويسخر من النحويين الذين تفوق شواذهم قواعدهم، والذين تتغلب عليهم أصوات الشعب المرة بعد المرة. أما الشعراء فمجانين، فما من إنسان "مالك لصوابه" يستطيع أن يكتب شعراً. والتاريخ أكثره حديث خرافة. لا "خرافة متواضع عليها"، كما سيصفه فولتير خطأ، بل خرافة دائمة التبديل، يغيرها كل مؤرخ وجيل من جديد. أما الخطابة فهي إفساد البلاغة للعقول. وأما السحر فخدعة؛ وينبه أجريبا قراءه الآن إلى أن كتابه في السحر كان "زائفاً، أو كاذباً إن شئتم". وإذا كان قد مارس في ماضيه التنجيم والسحر والعرافة والكيمياء القديمة وغيرها من "الجهالات" فإنما كان أكثر ذلك استجابة لفرط إلحاح مشجعيه القادرين على إجزال العطاء له في طلب المعرفة السرية. أما القبلانية فما هي إلا "عقيدة خرافية وبيلة". وأما الفلاسفة فإن اختلاف آرائهم خلافاً يبطلها كفيل بإبقائهم خارج هذه المحكمة؛ فلنتركهم إذن يدحضون آراء بعضهم بعضاً. وما دامت الفلسفة تسعى إلى استنباط الفضيلة من العقل، فسيحبطها(27/123)
التناقض اللاعقلي للأخلاق في الزمان والمكان، إذ يحدث من جراء هذا التناقض أن ما كان في زمن ما رذيلة، يعد في زمن آخر فضيلة، وما هو في مكان ما فضيلة، هو رذيلة في مكان آخر". أما الفنون والمهن قد أفسدها كما أفسد العلوم الكذب والغرور. وكل بلاط "مدرسة للعادات الفاسدة، ومأوى للشر الكريه". والتجارة غدر وخيانة. والأمناء على الأموال لصوص لصقت بأيديهم الفخاخ وفي أناملهم الخطاطيف. والحرب مذبحة للكثرة تلهو بها القلة. والطب "فن من فنون القتل الخطأ" وكثيراً ما يكون "في الطبيب والدواء من الخطر ما يفوق خطر المرض نفسه".
فما نتيجة هذا كله؟ وإذ كان العلم هو الرأي العابر السريع الزوال، والفلسفة هي التأمل المغرور في طبيعة اللانهائي من عقول حقيرة كالديدان، فبمَ يحيا الإنسان؟ بكلمة الله وحدها معلنة في الكتاب المقدس. وفي هذا الرأي رنين تبشيري، والواقع أننا نلتقي بتأكيدات عديدة لآراء أجريبا "الإنجيلية" مبعثرة وسط شكوكه. فهو يرفض سلطان البابوات الزمني، بل سلطانهم الروحي إذا خالف الكتاب المقدس. وهو يرمي محكمة التفتيش بأنها لا تقنع الناس بالمنطق والكتب المقدسة بل "بالنار والحطب"، وهو يود لو قل إنفاق الكنيسة على الكاتدرائيات وزاد على أعمال البر، ولكنه يتجاوز رجال الإصلاح الديني حين يعترف بأن كتاب العهدين القديم والجديد كانوا عرضة للخطأ. فالمسيح وحده هو المصيب والصادق دائماً، وهو وحده الذي يجب أن نثق به، وفيه الملاذ الأخير للعقل والروح.
وقد استمتع أجريبا بما أحدثته ثورته هذه من غضب، ولكنه دفع ثمن هذه المتعة غالياً خلال ما بقي له من عمر. طالبه شارل الخامس(27/124)
بسحب نقده للكنيسة، فلما رفض قطع راتبه. ولما سجن بسبب دينه ألقى التبعة على الإمبراطور لتخلفه في دفع راتب مؤرخ بلاطه الرسمي. وأطلق سراحه بشفاعة الكردينال كامبيجيو وأسقف لييج، ولكن شارل نفاه من إمبراطوريته (1531). وانتقل أجريبا إلى ليون حيث سجن ثانية بسبب الدين كما تقول رواية غير مؤكدة. ولما أفرج عنه انتقل إلى جرينوبل، وهناك مات بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً. ولعل له بعض الفضل في تكوين نزعة مونتيني الشكاكة، ولكن كتابه الرائج الوحيد كان في السحر الذي تنكر له. وظلت الأفكار والعادات المتصلة بالسحر مزدهرة إلى نهاية القرن.
2 - الثورة الكوبرنيقية
كان للخطوات التي خطتها العلوم الرياضية، والتي تبدو لنا اليوم تافهة، الفضل في شحذ أدوات الحساب في العصر الذي نحن بصدده. فأدخل كتاب مايكل ستايفل Arithmetica integra (1544) علامات الزائد والناقص، وكان كتاب روبرت ريكورد Whetstone of Wit (1577) أول الكتب المطبوعة التي استعملت علامة "يساوي". أما كتب الحساب التي ألفها آدم ريزي، والتي كانت في زمانها ذائعة الصيت، فقد أقنعت ألمانيا بالانتقال من الحساب بالفيشات إلى الحساب التحريري. ونشر يوهان فرنر (1522) أول بحث حديث عن المخاريط، وواصل جيورج ريتيكوس عمل ريجيو مونتانوس في حساب المثلثات، فضلاً عن أنه ساعد كوبرنيق على نشر نظريته.
أما الفلك فقد أتيح له من الحسابات خير مما أتيح من الآلات. وعلى أساس هذه الحسابات تنبأ بعض المنجمين بطوفان ثان يقع في(27/125)
"فبراير 1524" حين يلتقي المشتري وزحل في برج الحوت، مما حمل مدينة تولوز على بناء فلك للاحتماء به، والأسر الشديدة الحيطة على خزن الطعام في قمم الجبال (28). وكان أكثر الآلات الفلكية من مخلفات العصر الوسيط: كرات سماوية وأرضية، وعصا يعقوب، وإسطرلاب، وكرة ذات حَلَق، وربعيات واسطوانات، وساعات كبيرة، وبوصلات، وعدة أدوات أخرى ليس من بينها التلسكوب ولا الفوتوغرافيا. بهذا الجهاز استطاع كوبرنيق أن يزلزل الدنيا.
وميكولاي كوبرنيك هذا كما تدعوه بولندة، أو نيكلاس كوبرنيج كما تدعوه ألمانيا، أو نيكولاوس كوبرنيكوس كما يدعوه العلماء، ولد في 1473 بمدينة تورن على نهر فستولا في بروسيا الغربية، وكان الفرسان التيوتون قد نزلوا عنها لبولندة قبل ذلك بسبع سنوات. وأمه من أسرة بروسية غنية، أما أبوه فقدم من كراكاو وأقام في تورن واشتغل بتجارة النحاس. ولما مات الأب (1483) كفل أبناءه شقيق الأم، لوكاس فاتزيلرودي، أسقف إيرملاند وأميرها. وأرسل نيكولاس إلى جامعة كراكاو حين بلغ الثامنة عشرة ليعد نفسه للقسوسية. على أنه أقنع خاله بأن يسمح له بالدراسة في إيطاليا لأنه لم يحب الفلسفة الكلامية التي حظرت الدراسات الإنسانية. فعين بنفوذ خاله كاهناً (1) في كاتدرائية فراونبورج ببروسيا الشرقية البولندية، ثم منحه أجازة ثلاث سنوات.
وفي جامعة بولونيا (1497 - 1500) درس كوبرنيق الرياضيات، والفيزياء، والفلك. وكان من بين معلميه أستاذ اسمه دومنيكو دي
_________
(1) " canon" من هيئة كهان الكاتدرائية، وليس من الضروري أن يكون قسيساً. وليس لدينا دليل واضح على أن كوبرنيق ارتقى من الرتب الدينية الصغرى إلى القسوسية قبل سني عمره الأخيرة. وفي 1527 زكى لشغل وظيفة الأسقفية، مما يشير إلى أنه كان وقتها قسيساً. (29)(27/126)
نوفارا، تتلمذ من قبل على ريجيو مونتانوس، وانتقد ما في نظرية الفلكي بطليموس من تعقيد سخيف، وعرف تلاميذه بقدامى الفلكيين اليونان الذين تشككوا في ثبات الأرض ووضعها المركزي. فقد كان من رأي فيلولاوس البيثاجوري، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أن الأرض وسائر الكواكب تدور حول هستيا، وهي نار مركزية لا نراها لأن كل أجزاء الأرض المعروفة تحول بعيداً عنها. وقد روى شيشرون أن هيكيتاس السيراكيوزي، وهو من فلكي القرن الخامس ق. م. أيضاً، كان يعتقد أن الشمس والقمر والنجوم ثابتة، وأن حركتها الظاهرية مرجعها دوران الأرض حول محورها. وذكر أرخميدس وبلوتارخ أن أريستارخوس الساموسي (310 - 230 ق. م.) رأى أن الأرض تدور حول الشمس، وأنه اتهم بالضلال، وأنه عدل عن رأيه، ويقول بلوتارخ أن سلوقس البابلي أحيا الفكرة في القرن الثاني قبل الميلاد. وكان من الجائز أن ينتصر هذا القول بوضع الشمس المركزي في العصور القديمة، لولا أن كلوديوس بطليموس الإسكندري أكد من جديد، في القرن الثاني بعد الميلاد، نظرية وضع الأرض المركزي، وأكدها بقوة وعلم كبيرين بحيث قل من جرؤ بعده على تحديها. وكان بطليموس نفسه قد قرر أن على العلم وهو يحاول شرح الظواهر الطبيعية أن يتبنى أبسط ما يمكن من فروض متفقة مع الشاهدات المسلم بها. ومع ذلك فإن بطليموس، كهيبارخوس من قبله، حين أراد تفسير حركة الكواكب الظاهرية، اضطرته نظرية وضع الأرض المركزي إلى افتراض مجموعات معقدة تعقيداً محيراً من الدوائر الصغيرة ( epicycles)(27/127)
والدوائر مختلفة المركز ( eccentrics) (1) . فهل من سبيل إلى فرض أبسط؟ نيكولي أوريسمى (1330 - 82) ونيكولاس الكوزاوي (1410 - 64) فجددا فكرة دوران الأرض، وكتب ليوناردو دافنشي (1452 - 1519) قبيل ذلك يقول: "إن الشمس لا تتحرك ... وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون" (30).
وأحس كوبرنيق أن نظرية مركزية الشمس تستطيع أن "تنقذ المظاهر"-بشرحها الظواهر الطبيعية المشاهدة-بإحكام أشد من الرأي البطلمي. ففي سنة 1500 ذهب إلى روما وقد بلغ السابعة والعشرين، ربما لحضور اليوبيل، وألقى هناك محاضرات تقول رواية إنه شرح فيها نظرية دوران الأرض على سبيل التجربة. وكانت أجازته قد انتهت، فعاد للقيام بواجباته الدينية كاهناً في فراونبورج. ولكن رياضيات مركزية الأرض كانت تشوش صلواته. فطلب الإذن باستئناف دراساته في إيطاليا، مقترحاً الآن أن يدرس الطب والقانون الكنسي- وهو ما بدا لرؤسائه أدخل في مهنته من الفلك. وقبل ختام القرن الخامس عشر كان قد عاد إلى إيطاليا. ونال درجة القانون في فرارا (1503)، ولم ينل درجة في الطب فيما يبدو، ثم ارتضى الرجوع ثانية إلى فراونبورج. وما لبث خاله أن عينه سكرتيراً وطبيباً (1506)، ربما ليتيح له متسعاً من الوقت للاستزادة من الدرس. وعاش كوبرنيق ست سنوات في قلعة الأسقفية بهايلسبرج وهناك وضع الرياضيات الأساسية لنظريته، ثم دونها في مخطوط.
فلما مات الأسقف الكريم عاد كوبرنيق إلى مكانه في فراونبورج. وواصل ممارسة الطب، وكان يعالج الفقراء مجاناً (31). وقد مثل كهنة
_________
(1) الـ eepicycle دائرة مركزها محمول على محيط دائرة أكبر منها، أما الـ eccentric فدائرة ليس لها نفس المركز الذي لدائرة أخرى محتواه إلى حد ما في داخلها.(27/128)
الكاتدرائية في مهام دبلوماسية وأعد لسجسموند الأول ملك بولندة خطة لإصلاح العملة البولندية. وفي مقال من مقالاته الكثيرة عن المالية ذكر هذه العبارة التي عرفت فيما بعد بقانون جريشام: العملة الرديئة ... تطرد العملة القديمة الأحسن منها (32). وهو يعني أنه إذا أصدرت حكومة ما عملة منحطة اختزنت العملة الجيدة أو أصدرت وامتنع تداولها، ودفعت الضرائب بالعملة الرديئة، و "نقذ الملك من عملته". بيد أن كوبرنيق واصل أبحاثه الفلكية وسط هذه المشاغل المتنوعة. ولم يكن وضعه الجغرافي مواتياً لأبحاثه هذه، ففراونبورج قريبة من البلطي. يلفها الضباب أو السحاب نصف الوقت. وكان يحسد كلوديوس بطليموس، الذي كانت "سماؤه أبهج، حيث لا ينفث النيل الضباب الذي ينفثه نهر نافستولا. لقد حرمتنا الطبيعة تلك الراحة وذلك الهواء الهادئ" (33). لا عجب إذن أن يعبد كوبرنيق الشمس أو يكاد. ولم تكن أرصاده الفلكية كثيرة ولا دقيقة. ولكنها لم تكن ذات أهمية حيوية لهدفه. وكان في أغلب أحيانه ينتفع بالبيانات الفلكية التي خلفها له بطليموس، واعتزم أن يثبت في كل ما وصل إليه من مشاهدات يتفق خير اتفاق مع نظرية مركزية الشمس.
وحوالي عام 1514 لخص ما انتهى إليه من استنتاجات في "تعقيب موجز". ولم يطبع الكتاب في حياته، ولكنه وزع بعض نسخ مخطوطة على سبيل جس النبض. وقد قرر فيه استنتاجاته ببساطة واقعية، وكأنها لم تكن أعظم ثورة في التاريخ المسيحي. قال:
1 - ليس هناك مركز واحد لميع الكرات السماوية.
2 - إن مركز الأرض ليس مركز الكون، بل هو نقطة مركز الجاذبية والكرة القمرية.
3 - كل الكرات (الكواكب) تدور حول الشمس بوصفها نقطتها الوسطى، وإذن فالشمس مركز الكون.(27/129)
4 - نسبة المسافة بين الأرض والشمس إلى ارتفاع قبة السماء أصغر بكثير من نسبة نصف قطر الأرض إلى بعدها عن الشمس بحيث أن المسافة من الأرض إلى الشمس لا تدرك لضآلتها بالقياس إلى ارتفاع قبة السماء.
5 - إن الحركة التي تظهر في قبة السماء لا تنشأ عن أي حركة في قبة السماء بل عن تحرك الأرض. والأرض هي وعناصرها المحيطة بها تدور دورة كاملة حول قطبيها الثابتين في حركة يومية، في حين تظل القبة الزرقاء والسماوات العليا ثابتة لا تتغير.
6 - إن ما يبدو لنا حركات للشمس لا ينشأ عن تحركها بل عن تحرك كوكبنا الأرضي، الذي يجعلنا ندور حول الشمس كأي كوكب آخر.
7 - أن ما يبدو من تراجع الكواكب وحركتها المباشرة لا ينشأ عن حركتها بل عن حركة الأرض. إذن فحركة الأرض وحدها تكفي لتفسير الكثير من المفارقات البادية في السماوات (34).
ولم يلق الفلكيون القلائل الذين قرأوا كتاب التعقيب كبير بال إليه. وأيدي البابا ليو العاشر اهتماماً لا تحيز فيه بالنظرية حين أحيط بها علماً وطلب إلى أحد الكرادلة أن يكتب إلى كوبرنيق طالباً إيضاح فكرته. وحظي الفرض برضى كبير في البلاط البابوي المستنير دام بعض الوقت (35). أما لوثر فقد رفض النظرية حوالي عام 1530 قائلاً: "إن الناس يستمعون إلى منجم محدث حاول التدليل على أن الأرض تدور، لا السموات ولا القبة الزرقاء، ولا الشمس ولا القمر ... فهذا الأحمق يريد أن يقلب نظام الفلك كله رأساً على عقب. ولكن الكتاب المقدس ينبئنا بأن يشوع أمر الشمس لا الأرض أن تقف" (36). وأما كالفن فقد أجاب كوبرنيق بآية من المزمور الثالث والتسعين "أيضاً تثبتت المسكونة، لا تتزعزع" ثم تساءل: "فمن يجرؤ على ترجيح شهادة(27/130)
كوبرنيق على شهادة الروح القدس؟ (37) ". هذه الاستجابة لكتاب "التعقيب" فتت في عضد كوبرنيق حتى أنه أبعد أن أكمل كتابه الكبير حوالي عام 1530 قرر أن يحبسه عن النشر. وواصل القيام بواجباته في هدوء، وحاول الاشتغال قليلاً بالسياسة، وفي ستيناته اتهم بأن له خليلة (38).
ولكن في عام 1539 اندفع إلى قلب هذه الشيخوخة المستسلمة رياضي شاب متحمس يدعى جيورج ريتيكوس. كان فتى في الخامسة والعشرين، بروتستنتياً، يحظى برعاية ملانكتون، ويعمل أستاذاً في جامعة فتنبرج. وكان قد قرأ "التعقيب" واقتنع بصدقه وتاقت نفسه لمساعدة الفلكي العجوز الذي كان يعيش بعيداً في بلدة مغمورة على البلطي كأنها مخفر أمامي على حدود الحضارة، منتظراً في صبر أن يرى الآخرون معه دورة الأرض غير المرئية حول نفسها وحول الشمس. وأحب الفتى كوبرنيق حباً جماً، ووصفه بأنه "خير الرجال وأعظمهم" وتأثر تأثراً عميقاً بإخلاصه للعلم. وظل ريتيكوس عشرة أسابيع مكباً على دراسة المخطوط الكبير. ثم حث كوبرنيق على نشره، ولكنه أبى، غير أنه وافق على أن يقوم ريتيكوس بنشر تحليل مبسط لفصوله الأربعة الأولى. وعليه فقد أصدر العالم الشاب في عام 1540، في مدينة دانتزج، كتابه "أول تقرير عن كتاب دورات الأجرام السماوية". وأرسل نسخة منه إلى ملانكتون والأمل يراوده، ولكن اللاهوتي الكريم لم يقتنع. ولما عاد ريتيكوس إلى فتنبرج (في مطلع 1540) وأثنى على نظرية كوبرنيق في فصله، "أمر"-كما روي-أن يحاضر بدلاً من ذلك عن كتاب يوهان دي ساكروبوسكو Sphaera (39) . وفي 16 أكتوبر 1541 كتب ملانكتون إلى صديق له يقول: "يظن البعض أن من الإنجازات البارزة أن يؤلف(27/131)
إنسان نظرية مجنونة كذلك الفلكي البروسي الذي يحرك الأرض ويثبت الشمس. حقاً إن واجب الحكام العقلاء أن يروضوا من جموح العقول" (40).
وفي صيف عام 1540 عاد ريتيكوس إلى فراونبورج ومكث بها حتى سبتمبر 1541. ورجا أستاذه المرة بعد المرة أن ينشر على العالم مخطوطه. فلما انضم إليه في هذا الرجاء رجلان بارزان من رجال الدين، استجاب كوبرنيق، ربما لاطمئنانه إلى أنه يضع الآن إحدى قدميه في القبر. وأدخل على المخطوط إضافات نهائية، ثم أذن لريتيكوس أن يبعث به غلى ناشر في نورمبرج تكفل بجميع النفقات والتبعات (1542). وإذ كان ريتيكوس قد رحل عن فتنبرج ليدرس في ليبزج فقد وكل إلى صديقه أندرياس أوزياندر، وكان قسيساً لوثرياً في نورمبرج، مهمة الإشراف على طبع الكتاب.
كان أوزياندر قد كتب إلى كوبرنيق (20 أكتوبر 1541) مقترحاً تقديم الرأي الجديد على أنه فرض لا حقيقة ثابتة، وذكر في خطاب بنفس التاريخ أرسله إلى ريتيكوس أنه بهذه الطريقة "سيهدئ الأرسطاطاليون واللاهوتيون من روعهم في غير مشقة" (41). وكان كوبرنيق نفسه قد وصف نظرياته غير مرة بأنها فروض، لا في تعقيبه الموجز فحسب، بل في كتابه المطول (42)، وفي الوقت ذاته زعم في الإهداء أنه دعم آراءه "بأعظم الأدلة وضوحاً". ولا علم لنا بم ردّ على أوزياندر. على أية حال قدم أوزياندر للكتاب على نحو التالي دون أن يوقع باسمه:
"إلى القارئ، حول فروض هذا الكتاب.
نظراً إلى ما ذاع من سمعة هذه الفروض الجديدة، فإن علماء كثيرين ستصدهم ولا ريب نظريات هذا الكتاب صدمة قوية ... على أن ... فروض الأستاذ ليست بالضرورة الصحيحة، ولا حتى(27/132)
مرجحة. ويكفي جداً أن تؤدي إلى حساب يتفق والمشاهدات الفلكية ... وسيبادر الفلكي بإتباع أسهل الفروض فهماً. أما الفيلسوف فربما طالب بترجيح أكثر، ولكن لا هذا ولا ذاك سيستطيع اكتشاف أي شيء يقيني ... ما لم يكشف له عنه بالوحي الإلهي. فلنسلم إذن بأن الفروض الجديدة التالية ستتخذ لها مكاناً إلى جوار الفروض القديمة التي ليست أكثر منها رجحاناً. وعلاوة على ذلك فإن هذه الفروض جديرة بالإعجاب وسهلة الفهم حقاً، وفضلاً على هذا فإننا واجدون هنا كنزاً من المشاهدات الدالة على علم واسع. أما فيما عدا هذا فلا يتوقعن أحد من الفلك اليقينية فيما يتصل بالفروض. فهو لا يستطيع أن يعطي هذه اليقينية. ومن يأخذ كل شيء وضع لأغراض أخرى مأخذ الحقيقة سيترك هذا العلم في أغلب الظن أجهل مما كان حين بدأ فيه" (43).
وكثيراً ما ندد الناس بهذه المقدمة باعتبارها عنصراً مقحماً وقحاً (44). ولعل كوبرنيق قد استنكرها، ذلك أن هذا الشيخ بعد أن عايش نظريته ثلاثين عاماً أصبح يشعر بأنه بضعة من حياته ودمه، وبأنها وصف لحقائق الكون الفعلية. ولكن مقدمة أوزياندر كان فيها حصافة وإنصاف، فقد خففت من المقاومة الطبيعية التي تقاوم بها عقول كثيرة فكرة قلقة وثورية، وهي ما زالت مذكراً طيباً لنا بأن أوصافنا للكون إن هي إلا آراء عرضة للخطأ صادرة من قطرات ماء عن البحر، وأنها تحتمل هي الأخرى الرفض أو التصحيح.
وظهر الكتاب أخيراً في ربيع 1543 يحمل هذا العنوان: "الجزء الأول من كتاب نيكولاي كوبرنيقي عن الدورات"، وعرف الكتاب بعد ذلك بهذا الاسم: "في دورات الأجرام السماوية"، ووصلت إحدى نسخ الكتاب الأولى إلى يد كوبرنيق(27/133)
في 24 مايو 1543. وكان على فراش الموت، فقرأ صفحة العنوان، وابتسم، ثم مات في نفس الساعة.
وكان إهداء الكتاب إلى البابا بولس الثالث في ذاته جعداً لنزع السلاح من يد المقاومة لنظريته تناقض حرفية الكتاب المقدس، كما أيقن كوبرنيق، مناقضة صريحة. وقد بدأ بتأكيدات وروعة فقال: "ما زلت أومن أن علينا أن نتجنب النظريات البعيدة كل البعد عن سلامة العقيدة". وذكر أنه تردد طويلاً في نشر الكتاب متسائلاً" أليس الأفضل أن أحذو حذو الفيثاغوريين ... الذين درجوا على توصيل أسرار الفلسفة بالفم لا بالكتابة، ولأقربائهم وأصدقائهم دون سواهم". ولكن رجلين من رجال الكنيسة المثقفين وهما نيقولا شونبرج كردينال كبوا، وتدمان جيزي أسقف كولم-كانا قد ألحا في توصيته بنشر كشوفه. (وقد وجد كوبرنيق أن من الحكمة عدم ذكر اللوثري ريتيكوس). ثم اعترف بفضل الفلكيين اليونان عليه، ولكنه في زلة قلم أغفل اسم أرستارخوس. وقال إنه يعتقد إن الفلكيين في حاجة إلى نظرية أفضل من النظرية البطلمية، لأنهم يجدون الآن صعوبات كثيرة في الرأي القائل بمركزية الأرض، ولا يستطيعون على هذا الأساس أن يحسبوا طول السنة حساباً دقيقاً. ثم إنه لجأ إلى البابا بوصفه رجلاً "عظيماً ... في محبته للعلوم جمعها حتى الرياضيات". لكي يحميه من "لدغ المفترين" الذين سيدعون لأنفسهم الحق في الحكم على هذه الأشياء. أو "سيهاجمون نظريتي محتجين بفقرة من الكتاب المقدس" (45)، وذلك دون إلمام كاف بالرياضيات.
ويبدأ العرض بهذه المسلمات، أولاً أن الكون كروي، ثانياً، أن الأرض كروية-لأن المادة إذا تركت وشأنها تنجذب نحو مركز،(27/134)
ومن ثم تكيف نفسها في شكل كروي، ثالثاً، أن حركات الأجرام السماوية حركات دائرية متماثلة، أو مكونة من هذه الحركات-لأن الدائرة هي "أكثر الأشكال كمالاً" ولأن "العقل يقشعر رعباً" من الفرض القائل بأن الحركات السماوية ليست متماثلة. (والصواب في التفكير محال ما لم يكن هناك صواب في سلوك موضوعات التفكير).
ويلاحظ كوبرنيق نسبية الحركة: "كل تغير يرى في الوضع مرجعه الحركة سواء حركة المشاهد أو حركة الشيء الذي يشاهده، أو مرجعه التغيرات الطارئة على وضع الاثنين بشرط أن يكونا مختلفين. لأنه إذا حركت الأشياء بنسبة متساوية إلى نفس الأشياء، لم تلحظ أية حركة بين الشيء المرئي وبين المشاهد" (46). إذن فدوران الكواكب اليومي الظاهري حول الأرض يمكن تعليله بدوران الأرض يومياً حول محورها، وحركة الشمس السنوية الظاهرية حول الأرض يمكن تعليلها إذا افترضنا أن الأرض تدور سنوياً حول الشمس.
ويتوقع كوبرنيق الاعتراضات على نظريته. فقد زعم بطليموس أن السحب والأجسام الموجودة على سطح أرض دائرة تتطاير بعيداً عنها وتترك وراءها. ويرد كوبرنيق بأن هذا الاعتراض أحرى أن يعترض به على دوران الكواكب الكبرى حول الأرض، لأن مسافاتها الشاسعة تعني أن لها أجراماً هائلة وسرعات عظيمة. كذلك زعم بطليموس أن الجسم المدفوع مباشرة إلى أعلى من أرض دائرة لا يعود في سقوطه إلى نقطته الأصلية. ويرد كوبرنيق بأن هذه الأجسام، شأنها شأن السحب، هي "أجزاء من الأرض" وأنها تحمل معها في سيرها. أما الاعتراض بأن دوران الأرض سنوياً حول الشمس لو صح "لتجلي في تحرك النجوم "الثابتة" (وهي النجوم الواقعة وراء مجموعتنا الكوكبية) كما تشاهد في طرفين(27/135)
متقابلين لمدار الأرض، فيرد عليه كوبرنيق بأن هذا التحرك موجود فعلاً، ولكن البعد الشاسع للنجوم ("القبة السماوية") لا يتيح لنا رؤيته. (ويمكن اليوم رصد درجة معتدلة من هذه الحركة).
ثم يجمل نظريته في فقرة جامعة مانعة:
"أولاً وقبل كل شيء هناك مجال النجوم الثابتة، الذي يحتوي ذاته وكل الأشياء، وهو لهذا السبب عينه ثابت ... أم الأجسام المتحركة (الكواكب) فأولها زحل الذي يتم دورته في ثلاثين سنة. ثم يأتي المشتري الذي يتمها في اثنتي عشرة سنة، ثم المريخ الذي يدور كل عامين. ويلي هذا في الترتيب دورة رابعة تقع كل سنة ... وهي تحتوي الأرض ومعها مدار القمر كدائرة صغيرة يدور مركزها على محيط دائرة أكبر. أما الكوكب الخامس فهو الزهرة التي تدور حول الشمس في تسعة شهور. ثم يشغل عطارد المكان السادس، وهو يدور دورته في ثمانين يوماً. وفي وسط هذه الكواكب جميعها تقوم الشمس ... ولم يخطئ البعض إذ وصفوها بمصباح الكون، ووصفها غيرهم بعقل الكون، وغيره بسيده الحاكم ... والقول صواب لأن الشمس وهي متربعة على عرشها الملكي تحكم أسرة النجوم المحيطة بها .... وهكذا نجد بفضل هذا التنسيق تماثلاً عجيباً في الكون، وعلاقة انسجام محددة في حركة الأجرام السماوية وضخامتها وهي علاقة من نوع يستحيل تحقيقه بأي طريقة أخرى (1) " (47).
ويمكن القول بوجه عام إن أي تقدم يحرزه الإنسان في نظرية ما يحمل معه الكثير من مخلفات النظرية القديمة المتروكة. فقد أقام
_________
(1) يفترض الفلك الحديث وجود تسعة كواكب وفترات دوران: عطارد (88 يوماً)، والزهرة (225)، والأرض (365 - 66)، والمريخ (687)، والمشتري (11. 86 سنة)، وزحل (26. 46 سنة) وأورانوس (84. 02 سنة)، ونبتون (164. 79 سنة)، وبلوتو (248 سنة).(27/136)
كوبرنيق تصوراته على مشاهدات موروثة من بطلميوس، واحتفظ بالكثير من تفاصيل الجهاز السماوي البطلمي، كالدوائر، والدوائر الصغيرة التي تدور مراكزها على محيط دائرة أكبر، والدوائر المنحرفة عن المسار الدائري، أما رفض هذه التفاصيل فسوف يتم على يد كبلر. وكان أغرب الأشياء حساب كوبرنيق أن الشمس ليست بالضبط في وسط مدار الأرض. فقد حسب أن مركز الكون "يبعد عن الشمس بمقدار ثلاثة أمثال قطر الشمس"، وأن مراكز أفلاك السيارات هي كذلك خارج الشمس، وأنها ليست واحدة على الإطلاق. وقد نقل كوبرنيق من الأرض إلى الشمس فكرتين يرفضهما العلم اليوم، أولاهما: أن الشمس هي المركز التقريبي للكون، والأخرى أنها ساكنة. وحسب أن الأرض ليست لها دورة حول محورها وأخرى حول فلكها فحسب، بل حركة ثالثة ظنها ضرورية لتفسير ميل محور الأرض ومبادرة الإعتدالين.
وعلى ذلك يجب ألا نبتسم-ونحن ندرك الموقف بعد هذه القرون-سخرية من أولئك الذين تأخروا طويلاً في اعتناق نظرية كوبرنيق. ذلك أنه لم يطلب إليهم مجرد تصور الأرض وهي تدور وتندفع في الفضاء بسرعة رهيبة على عكس ما تشهد به حواسهم شهادة مباشرة، بل أكثر من ذلك أن يسلموا بعمليات حسابية تتوه فيها العقول ولا تقل في تحييرها للإفهام عن حسابات بطليموس إلا بقدر طفيف. ولم تبد النظرية الجديدة متفوقة على القديمة بصورة واضحة إلا بعد أن صاغ كبلر وجاليليو ونيوتن جهازها ليحقق بساطة ودقة أعظم، وحتى بعد هذا يجب أن نقول عن الشمس تلك الكلمات التي ربما قالها جاليليو عن الأرض "ومع ذلك فهي تدور". هذا وقد رفض تيكو براهي فرض مركزية الشمس بحجة أن كوبرنيق لم يرد على اعتراضات بطليموس(27/137)
رداً مقنعاً. وأعجب من هذا الرفض تلك السرعة النسبية التي قبل بها النظرية الجديدة فلكيون كريتيكوس، وأوزياندر، وجون فيلد، وتومس ديجيز، وإرزمس رينهولد-الذي بنى "جداوله البروتنية" (1551) للحركات السماوية على نظرية كوبرنيق إلى حد كبير. ولم تبد الكنيسة الكاثوليكية اعتراضاً على النظرية الجديدة ما دامت تعرض ذاتها على أنها فرض، ولكن محكمة التفتيش لم تعرف رحمة في العقاب حين اعتبر جوردانو برونو الفرض حقيقة مؤكدة، وبينت في وضوح نتائجها على الدين. وفي 1616 حرمت "لجنة الفهرس" قراءة كتاب "الدورات" إلى أن يصحح، وفي 1620 أذن للكاثوليك أن يقرءوا طبعات حذفت منها تسع عبارات تمثل النظرية على أنها حقيقة. ثم اختفى الكتاب من فهرس 1758 المراجع، ولكن الحظر لم يلغ صراحة إلا في 1828.
كانت نظرية مركزية الأرض تلائم بصورة معقولة لاهوتاً يفرض أن كل الأشياء خلقت لمنفعة البشر. أما الآن فقد شعر هؤلاء البشر أنهم يترنحون فوق كوكب صغير اختزل تاريخه إلى "مجرد فقرة محلية في أخبار الكون". (48) فماذا يمكن أن تعنيه كلمة "السماء" إذا كانت كلمتا "فوق" و "تحت" قد فقدتا كل معنى لهما، وإذا كانت إحداهما تنقلب فتصبح الأخرى في نصف يوم؟ كتب جيمس وولف إلى تيكو براهي في 1575 يقول: "ما من هجوم على المسيحية أشد خطراً من القول بضخامة السماوات وعمقها اللانهائيين"-مع أن كوبرنيق لم يقل بلا نهائية الكون. فلا بد أن الناس حين توقفوا للتأمل في المعاني التي تتضمنها النظرية الجديدة راحوا يتساءلون عن صواب القول بأن خالق هذا الكون الهائل المنظم قد أرسل ابنه ليموت على هذا الكوكب المتوسط الحجم. وبدا أن كل شعر المسيحية الجميل،(27/138)
"يتصاعد دخاناً" (كما قال جوته فيما بعد) تحت لمسة هذا الكاهن البولندي. وأجبر الفلك القائل بمركزية الشمس الناس على أن يتصوروا الخالق من جديد في صورة أقل ضيقاً في الأفق وأقل تجسداً، وواجه اللاهوت أقوى تحد في تاريخ الدين. ومن ثم كانت الثورة الكوبرنيقية أشد عمقاً من حركة الإصلاح البروتستنتي، فقد جعلت الفروق بين العقائد الكاثوليكية والبروتستنتية تبدو تافهة، وتخطت حركة الإصلاح البروتستنتي إلى حركة التنوبر، من أرزمس ولوثر إلى فولتير، وحتى إلى ما بعد فولتير، إلى لا أدريه القرن التاسع عشر المتشائمة، هذا القرن الذي سيضيف الكارثة الداروينية إلى الكارثة الكوبرنيقية. ولم يكن هناك سوى واق واحد من أمثال هؤلاء الرجال، وهو أن قلة قليلة فقط في أي جيل هي التي ستدرك ما ينطوي عليه فكرهم من معان. فسوف "تشرق" الشمس و "تغرب" حين كوبرنيق قد طوى في زوايا النسيان.
في عام 1581 أقام الأسقف كرومر نصباً تذكارياً لكوبرنيق على السور الداخلي لكاتدرائية فراونبورج بجوار قبر الكاهن. وفي عام 1746 أزيل النصب ليفسح مكاناً لتمثال للأسقف زمبك. فمن هو هذا الأسقف؟ من يدري؟.
3 - ماجلان وكشف الأرض
تقدم ارتياد الأرض بخطى أسرع من رسم خريطة السماء، وكان لهذا التقدم تقريباً نفس التأثيرات المزعجة على الدين والفلسفة. أما الجيولوجيا فكانت أقل من غيرها تقدماً، لأن نظرية الخلق كما وردت في الكتاب المقدس أصبحت في مأمن من الشك بفضل الإيمان بمصدرها الإلهي. قال المصلح الإيطالي-الإنجليزي بيتر مارتر فرميلي "لو شاع(27/139)
بين الناس رأي خاطئ عن الخليقة كما وردت في سفر التكوين لبطلت كل وعود المسيح وفقد ديننا حياته كلها" (49). وأهم كتب الجيولوجيا التي صدرت في النصف الأول من القرن السادس عشر كتاب ألفه جروج أجريكولا (هذا فضلاً عن آراء ليوناردو المبعثرة هنا وهناك). تأمل هذه الفقرة من كتابه De ortu et causis subterranoerum ( بال 1546) عن منشأ الجبال: "تتكون التلال والجبال بفعل قوتين، إحداهما قوة المياه، والأخرى قوة الرياح، ويجب أن نضيف إليهما النار التي في باطن الأرض ... ذلك أن السيول تجرف أولاً التربة اللينة، ثم تحمل التربة الأكثر صلابة، ثم تدحرج الصخور، وهكذا تحفر السهول أو السفوح في بضع سنوات و ... ونتيجة لهذا الحفر في عصور كثيرة يتكون مرتفع ضخم ... هو الأنهار ... والأنهار تحدث نفس النتيجة باندفاعها وجرفها، ولذا كثيراً ما ترى جارية بين جبال شامخة كونتها هذه الأنهار، أو بقرب الساحل الذي يحفها ... وتكون الرياح تلالاً وجبالاً بطريقتين ... إما بتحريك الرمال وإثارتها بعنف، وإما بكفاحها للخروج بقوة .... بعد أن تكون قد دفعت إلى شقوق الأرض الخفية" (50).
أما كتاب أجريكولا De natura fossilium، (1546) فأول بحث منسق عن علم المعادن، ويحتوي مقاله De metallica على أول بحث نسقي عن علم الطبقات، وفيه كما رأينا أول تعليل للرواسب المعدنية.
أما الأثنوغرافيا (علم نشوء الأعراق) فقد أتحفتنا بكتابين كبيرين: أولهما Cosmographia universalis (1544) ، لسباستيان مونستر، وثانيهما Descriptio Africa، (1550) لليو الأفريقي Leo Africanus. كان الحسن بن محمد الوزان مسلماً من غرناطة، وقد تنقل في أرجاء أفريقيا ووصل جنوباً إلى السودان(27/140)
يحدوه ولع شديد بالأسفار كولع ابن بطوطة. وقد أسره القراصنة المسيحيين وبعثوا به إلى روما هدية للبابا ليو العاشر الذي أعتقه ورتب له معاشاً بعد أن أعجب بما حصله من علم وثقافة. واستجاب لهذا العطف باعتناقه المسيحية واتخاذ "ليو" اسماً له. ثم أنفق الثلاثين السنة التالية في تأليف كتابه هذا بالعربية أولاً ثم بالإيطالية. وقبل الفراغ من طبعه الكتاب عاد إلى تونس، وهناك مات عام 1552 على دين آبائه فيما يبدو. (51)
وكان العصر مثيراً بالنسبة للجغرافيا. فقد جاءت الأنباء والتقارير تتري، من المبشرين والفاتحين الأسبان والملاحين والرحالة، مضيفة إضافات هائلة إلى معرفة أوربا بالكرة الأرضية. وكان الأسبان الذين فتحوا المكسيك وكاليفورنيا وأمريكا الوسطى وبيرو في هذه الفترة مغامرين وطلاب ثراء أولاً، سئموا الفقر والحياة الرتيبة في وطنهم، واقتحموا المخاطر في تلك الأقطار النائية الغريبة. وفي غمرة الشدائد التي عانوها في مغامراتهم المستهترة نسوا قيود الحضارة، واعتنقوا بصراحة أخلاقيات المدافع المتفوقة، واقترنوا عملاً من أعمال السطو والغدر والقتل لا يغتفر، إلا أن يرى طرف ذو مصلحة أن نتيجته النهائية كانت كسباً للحضارة. ومع ذلك فما من شك في أن المغلوبين كانوا في ذلك الوقت أعظم تحضراً من الغالبين الفعليين. وحسبك أن تتأمل حضارة ألمانيا التي وجدها هرنانديز القرطبي في يوكاتان (1517)، وإمبراطورية المونتزوميين الأزتيكية التي غزاها هرناندو كورتيز (1521)، وحضارة الإنكا الاشتراكية التي دمرت إبان فتح فرانشسكو بيزارو لبيرو (1526 - 32). ولا ندري أي صور نبيلة أو خسيسة كانت هذه الحضارات متطورة إليها لو أتيح لها سلاح تدافع به عن نفسها.(27/141)
ومضى الكشف الجغرافي المثير قدماً. فارتاد سبستيان كابوت تحت الراية الأسبانية الأرجنتين وأورجواي وبراجواي. واخترق دي سوتو فلوريدا وولايات الخليج حتى بلغ أوكلاهوما. واكتشف بدرو دي الفرادو إمبراطورية تكساس، واخترق فرانشسكو دي كورنادو أريزونا وأوكلاهوما حتى بلغ كانزاس. وبدأت مناجم بوتوزي في بوليفيا تبعث بفضتها إلى أسبانيا (1545)، وكانت خريطة العالم الجديد ترسم سنة بعد سنة بالذهب والفضة والدم. وتخلف الإنجليز والفرنسيون في هذه القارة الكبرى لأن أرجاء أمريكا الشمالية التي تركها لهم الأسبان والبرتغال كانت فقيرة في معادنها النفيسة، وعرة في غاباتها. وأبحر جوت رت بحذاء ساحل نيوفوندلند ومين. وبعث فرانسوا الأول بجوفاني دا فيرانانو ليبحث عن مسلك شمالي غربي إلى آسيا، فرساً على كارولينا الشمالية، ودخل ميناء نيويورك (التي تذكره بتمثال عند بطاريتها)، ودار حول رأس كود حتى وصل مين. وأبحر جاك كارتييه وهو يرفع على فرنسا مصعداً في السانت لورنس حتى بلغ مونتريال، مدعماً بذلك دعوى فرنسا بحقها في امتلاك كندا.
على أن أعظم المغامرات إثارة في هذا الجيل الثاني من أجيال الارتياد فيما وراء المحيط هي الدوران حول الكرة الأرضية. كان فرناو دي ماجالايس برتغالياً قد شارك بنشاط في كثير من الرحلات والغزوات البرتغالية، ولكنه انتقل إلى خدمة أسبانيا بعد أن غضبت عليه حكومته، وفي عام 1518 أقنع شارل الأول (الخامس) بأن يمول بعثة تبحث عن ممر جنوبي غربي آسيا. ولم يكن الملك الشاب قد أصاب يومها ما أصاب من ثراء بعد هذا، لذلك كانت السفن الخمس التي أعطاها لماجلان عتيقة بالية حتى أن أحد القباطنة(27/142)
حكم بعد صلاحيتها للملاحة. وكانت حمولة أكبرها 120 وطناً، وأصغرها 75 طناً. وعاف الملاحون الخبيرون بالبحر التطوع بين بحارة هذه المراكب، واقتضى الأمر اختيار معظم بحارتها من بين حثالة أهل الساحل. وفي 20 سبتمبر 1519 أقلع الأسطول من نهر الوادي الكبير عند سان لوكار. وكان يتمتع بميزة الإبحار من الصيف في الأطلنطي الشمالي إلى الصيف في الأطلنطي الجنوبي، ولكن الشتاء أدركه في مارس 1520، فألقت المراكب مراسيها، وأنفق الملاحون خمسة شهور مملة في بتاجونيا. أما الوطنيون العمالقة الذين زاد طول الواحد منهم في المتوسط على ستة أقدام فقد أبدوا نحو الأسبان القصار القامة بالقياس لهم وداً فيه تلطف وتنازل، ولكن كثرة المشاق واستمرارها حملا بحارة ثلاث من السفن الخمس على التمرد، وأكره ماجلان على مقاتلة رجاله ليجبرهم على المضي في هذه المغامرة. على أن سفينة منها تسللت عائدة إلى أسبانيا، وتحطمت أخرى على حاجز صخري. وفي أغسطس 1520 استؤنفت الرحلة، وكان ماجلان يستطلع كل خليج يمر به عسى أن يكون مصباً لطريق مائي وراء المحيط. وفي 28 نوفمبر تكلل البحث بالنجاح، ودخل الأسطول الذي تناقص عدد سفنه المضايق التي تحمل اسم ماجلان. وهكذا استغرقت رحلة 320 ميلاً من البحر إلى البحر ثلاثة وثمانين يوماً.
ثم بدأ الأسطول عبوراً كئيباً موحشاً للمحيط الهادي الذي لم تبد له نهاية. ولم يقع نظر الملاحين خلال ثمانية وتسعين يوماً إلا على جزيرتين صغيرتين. وتناقصت المؤن بشكل خطر، وأصيب الملاحون بالإسقربوط. وفي 6 مارس 1521 مست السفن ساحل جوام، ولكن عداء الوطنيين حمل ماجلان ورجاله على مواصلة الإبحار. وفي 6 أبريل وصلوا إلى الفلبين، وفي اليوم السابع رسوا على جزيرة(27/143)
كيبو. ورغبة في ضمان الحصول على المؤن من الجزيرة اتفق ماجلان مع الحاكم المحلي على أن يساعده في حربه مع أعدائه المجاورين. فشارك في حملة على جزيرة ماكتان، وقتل في المعركة التي دارت هناك في 27 أبريل 1521. وهكذا لم يدر ماجلان حول الأرض، ولكنه كان أول من حقق حلم كولومبس في الوصول إلى آسيا بالإبحار غرباً (52).
كان عدد الملاحين قد هبط الآن بعد موت من مات منهم بحيث لم يكف إلا لتزويد سفينتين فقط بالرجال. أما إحدى السفينتين فقد قفلت عائدة عبر المحيط الهادي، ربما سعياً وراء الذهب الأمريكي. ولم يبق من سفن الأسطول غير "فكتوريا". واضطلع بقيادتها جوان سبستيان ديلكانو، فقاد السفينة الصغيرة التي لم تزد حمولتها على خمسة وثمانين طناً مخترقاً جزر البهار، عابراً المحيط الهندي، دائراً حول رأس الرجاء الصالح، مصعداً في ساحل أفريقيا الغربي. وأرسى الملاحون السفينة تجاه إحدى جزر الرأس الأخضر وهم يتحرقون شوقاً للزاد والمئونة، ولكن البرتغاليين هاجموهم، وأودع السجن نصفهم. وأفلح الباقون وعددهم اثنان وعشرون في الهروب. وفي 8 سبتمبر 1522 بلغت السفينة فكتوريا إشبيلية وهي لا تحمل سوى ثمانية عشر رجلاً (والباقون من أهل الملايو) هم كل من بقي من 280 رجلاً أقلعوا من أسبانيا قبل ثلاث سنوات تقريباً. وسجلت يومية السفينة هذا التاريخ باعتباره 7 سبتمبر. وعلل الكاردينال جاسبارو كونتاريني الفرق باتجاه الرحلة الغربي. لقد كانت المغامرة من أجرأ المغامرات في التاريخ، ومن أحفلها بالثمار للجغرافيا.
وبقي على الجغرافيين واجب اللحاق بالرواد. وقد يسر لهم جيامياتستا راموزيو- وهو ها كلويت الإيطالي- هذه المهمة بجمعه(27/144)
خلال ثلاثين عاماً القصص والأخبار التي جلبها الرحالة وغيرهم من المسافرين، وقد ترجمها وعلق عليها، ثم نشرت في ثلاثة مجلدات (1550 - 59) بعد موته بثلاثة عشر عاماً. ويظهر التقدم الذي حققه الجغرافيون في عشر سنوات إذا قارنا بين الكرة الأرضية كما رسمت عام 1520، المحفوظة بالمتحف القومي الألماني في نورمبرج، والتي تبدو فيها جزر الهند الغربية دون أثر لقارة أمريكية، ثم تقفز هذه الجزر فوق محيط ضيق إلى آسيا، وبين ثلاث خرائط رسمها (1527 - 29) ديوجو ريبيرو، وقد ظهرت فيها شواطئ أوربا وأفريقيا وجنوب آسيا مرسومة بدقة عظيمة، والساحل الشرقي للأمريكتين من نيوفوندلند حتى مضايق ماجلان، والساحل الغربي من بيرو إلى المكسيك، ولعل "خريطة راموزيو" (البندقية 1534) البديعة للأمريكتين، المحفوظة بمكتبة نيويورك العامة، منقولة عن ريبيرو هذا. وفي نفس "المكتبة الأم" خريطة قديمة وخاطئة رسمها جرهادوس مركاتور (1538) أطلق فيها على أمريكا الشمالية والجنوبية اسمها هذا لأول مرة. (أما "خريطة نركاثور البارزة" فترجع إلى عام 1569). وأضاف بيتر أبيان (1524) إلى علم الجغرافيا بمحاولته إخضاع المسافات الجغرافية لمقاييس مضبوطة.
وقد ظهرت آثار هذه الارتيادات في كل منحى من مناحي الحياة الأوربية. فرحلات 1420 - 1560 زادت وجه الكرة المعروفة للبشر أربعة أضعاف تقريباً. وكان للجديد من الحيوان والنبات، والأحجار الكريمة والمعادن، والأطعمة والعقاقير، الفضل في إثراء نبات أوربا وحيوانها وجيولوجيتها وموائدها وعقاقيرها. وتساءل الناس كيف وجد ممثلو الأنواع الجديدة كلها مكاناً في فلك(27/145)
نوح. وتغير الأدب، فأخلت قصص الفروسية القديمة مكانها لقصص الأسفار أو المغامرات في القطار النائية، وحل البحث عن الذهب محل البحث عن الكأس المقدسة في رمزية لا شعورية للمزاج الجديد. وفتحت أعظم ثورة تجارية في التاريخ (قبل أن تبلغ الطائرة مرحلة النضج) المحيط الأطلنطي وغيره من المحيطات للتجارة الأوربية، وخلفت البحر المتوسط في حالة ركود تجاري، ومن ثم ركود ثقافي تبعه بعد قليل. وانتقلت النهضة من إيطاليا إلى دول الأطلنطي. وراحت أوربا، التي كانت تملك سفناً ومدافع أفضل وسكاناً أصلب وأشد رغبة في التملك والمغامرة، راحت تفتح-وأحياناً تستعمر-البلد تلو البلد من الأقطار المكتشفة. وأكره السكان الوطنيون على العمل المتصل الشاق الذي لم يتعودوه لإنتاج السلع لأوربا، وأصبح الرق نظاماً راسخاً. وغدت أصغر القارات تقريباً أعظمها ثراءً. وبدأت حركة صبغ الكرة الأرضية بالطابع الأوربي، وهي الحركة التي قلبت قلباً حاداً في عصرنا. ووجد عقل الرجل الغربي حافزاً قوياً في بعد الشقة بينه وبين الأقطار الجديدة وفي ضخامتها وتنوعها. وربما كان لبعض تشكك مونتيني جذور في سحر الدخيل المجلوب من العادات والعقائد. واتخذت العوائد والأخلاق نسبية جغرافية أوهنت القديم من العقائد القطعية واليقينية. وكان لزاماً أن ينظر إلى المسيحية ذاتها في منظور جديد بوصفها دين قارة صغيرة تقوم وسط عالم من العقائد المنافسة. وكما أن المذهب الإنساني كشف عالماً قبل المسيح، وكما أن كوبرنيق أماط اللثام عن ضآلة الأرض الفلكية، كذلك كشف ارتياد الأراضي الجديدة وما تلاه من تجارة عن أقطار شاسعة تقوم وراء المسيحية دون اكتراث لوجودها. وتزعزعت مكانة أرسطو وغيره من اليونان حين ظهرت قلة ما عرفوا عن هذا الكوكب. واضمحل(27/146)
إعجاب النهضة الأعمى باليونان، واستعد الإنسان، التياه بكشوفه الجديدة تيه أهل النهضة، لنسيان حجمه الفلكي المتناقص أمام اتساع معارفه وتجارته. وظهر العلم والفلسفة العصريان، واضطلعا بمهمة خطيرة، مهمة تصور العالم من جديد.
4 - بعث علم الأحياء
بعثت الآن من جديد علوم الأحياء التي لم تكد تحرز أي تقدم منذ عصر الإغريق. فكافح علم النبات ليتحرر من قبضة الصيدلة ويقف على قدميه، ونجح في هذا الكفاح، ولكن لم يكن بد من أن يظل المهيمنون عليه من رجال الطب. وبدأ الحركة أوتو برونفيلز، الطبيب المدني في برن، بكتاب "صور حية للنبات" (1530 - 36)، وقد سرق معظم نصه من ثيوفراستوس، وديوسقوريدس، وغيرهما من السلف، ولكنه أضاف أيضاً وصفاً للنباتات الألمانية الموطن، وكانت رسومه المحفورة على الخشب وعددها 135 نماذج من الأمانة. وأنشأ يوريكيوس كوردوس، طبيب مدينة بريمن، أول حديقة نباتية (1530) شمال جبال الألب، وحاول كتابة خلاصة مستقلة لعلم النبات الوليد في كتابه Botanilogicon (1534) ثم عاد إلى مجال الطب في كتابه Liber de urinis. وقام ابنه فاليريوس كوردوس بجولات مستهترة في سبيل درس النبات، وقد قلى حتفه أثناءها وهو في التاسعة والعشرين (1544)، ولكنه ترك من بعده للنشر كتابه "تاريخ النبات"، وفيه وصف حي دقيق لخمسمائة نوع من النبات. وقد بدأ ليونارد فوكس، أستاذ الطب بتوبنجن، بدراسة النبات سبيلاً إلى الأقرباذين، ثم انتهى بدراسته لذاته ولما فيه من متعة. وكان كتابه Historia stripium،(27/147)
(1542) مثالاً للتفاني في العلم، وقد حوى 343 فصلاً حللت 343 جنساً وشرحتها في 515 رسماً محفوراً على الخشب يشغل كل منها صفحة كبيرة كاملة. وأعد للطبع كتاباً أشمل حتى من سابقه، وبه 1. 500 لوحة، ولكن أحداً من أصحاب المطابع لم يقبل أن يتكفل بنفقات نشره. أما أثره الحي الباقي فهو جنس "الفوشيا".
وربما كانت أهم فكرة مفردة أسهم بها في علم الأحياء في هذه الفترة هي شرح بيير بيلون في كتابه Histoire.... Des oyseaux، (1555) لذلك التقابل المدهش بين عظام الإنسان والطير. ولكن أعظم أبطال "العلم الطبيعي" في هذا العصر هو كونراد جسنر، الذي شمل إنتاجه وعلمه ميداناً بلغ من الاتساع مبلغاً حمل كوفييه على أن يطلق عليه اسم بليني ألمانيا، بل كان يحق له أن يسميه أرسطو ألمانيا أيضاً. وقد ولد في أسرة فقيرة بزيورخ (1516)، وأبدى من الاستعداد والدأب على الدرس ما جعل المدينة تتعاون مع رعاته الخاصين على تمويل تعليمه العالي في ستراسبورج وبورج وباريس وبال. وقد وضع أو جمع 1. 500 رسم توضيحي لكتابه "تاريخ النبات"، ولكن تبين أن تكاليف طبع الكتاب ستكون باهظة، فظل مخطوطاً ولم يطبع إلا عام 1751، وقد تأخر نشر تصنيفه البارع لأجناس النبات حسب بنياتها التناسلية بحيث لم يستطع ليناوس الاستعانة به. وقد نشر في حياته أربعة مجلدات (1551 - 58)، وخلف مجلداً خامساً، من كتاب ضخم في "تاريخ الحيوان" أورد فيه كل نوع من أنواع الحيوان تحت اسمه اللاتيني، ووصف شكله، وأصله، وموطنه، وعاداته، وأمراضه، وصفاته العقلية والعاطفية، وفوائده الطبيعية والمنزلية، ومكانه في الأدب، وكان التصنيف أبجدياً لا علمياً، ولكن تكديسه الموسوعي للمعلومات أعان علم(27/148)
الأحياء على أن يتخذ له شكلاً محدداً. على أن هذه الجهود لم تُنضب معين جسنر، فبدأ موسوعته "المكتبة العالمية" في واحد وعشرين مجلداً عكف فيها على وضع فهارس بجميع الكتابات اليونانية واللاتينية والعبرية المعروفة، وأكمل منها عشرين مجلداً، واستحق بذلك لقب "أبي الببليوغرافيا". وفي قسم جانبي يسمى "متريداتيس" (1555) حاول تصنيف 130 لغة من لغات العالم. ويبدو أن كتابه Descriptio Montis Pilati، (1541) كان أول دراسة منشورة للجبال بوصفها إحدى صور الجمال، وعرفت سويسرة الآن أنها بلد جليل رائع. وكل هذه المؤلفات أنجزت بين عامي 1541 و1565. وفي هذه السنة مات كونراد جسنر، روح الدراسة المتجسد.
وفي غضون ذلك كان لكتاب جوان فيف Deanima et vita (1538) معظم الفضل في خلق علم النفس التجريبي الحديث. وكأن فيف أراد أن يتحاشى التشكك، الذي كان هيوم مزمعاً أن يبسطه بعد قرنين، حول وجود "عقل" بالإضافة إلى العمليات العقلية، فنصح الطالب ألا يسأل ما هو العقل أو ما هي النفس، لأننا (كما أحس) لن نعرف هذا أبداً، إنما يجب أن نسأل ماذا "يفعل" العقل؛ وعلى السيكولوجيا ألا تكون غيبيات نظرية، وأن تصبح علماً مبنياً على مشاهدات محددة ومتجمعة، في هذا سبق فيف فرانسس بيكون بقرن من الزمان في توكيده للاستقراء. ودرس بالتفصيل ترابط الأفكار، وعمل الذاكرة وتحسينها، وعملية المعرفة، ودور الشعور والعاطفة، ونحن نشهد في كتابه هذا علم النفس منبعثاً في ألم، انبعاث كثير من العلوم قبله، ومن بطن أم واحدة للجميع، هي الفلسفة.(27/149)
5 - فيساليوس
في عام 1543 نشر أندرياس فيساليوس كتاباً قال عنه السر وليم أوسلر إنه أعظم ما كتب في الطب قاطبة (53). كان أبوه أندرياس فيسل صيدلياً غنياً في بروكسل، وجده طبيباً لماري البرجندية ثم لزوجها مكسمليان الأول، أما جده الأكبر-وكان طبيباً-فقد كتب تعليقاً على كتاب ابن سينا "القانون". هنا نجد حالة من الوراثة الاجتماعية تفوق حالة أسرة باخ. وما لبث فيساليوس أن أغرم بالتشريح بعد أن درب عليه منذ نعومة أظفاره. "فلم ينج من مبضعه حيوان. فهو يشرح الكلاب والقطط والجرذان والفيران والخلدان تشريحاً غاية في الدقة (54) " غير أنه لم يهمل الدراسات الأخرى. ففي الثانية والعشرين من عمره حاضر في اللاتينية، وكان يقرأ اليونانية في يسر. ثم درس التشريح في باريس (1533 - 36) على جاك دويوا الذي أطلق على كثير من العضلات والأوعية الدموية أسماءها التي ما زالت تحملها إلى اليوم. وظل فيساليوس طويلاً، كأساتذته، يؤمن بجالينوس إنجيلاً له، ولم يفقد احترامه له قط، ولكنه كان يحترم سلطان المشاهدة والمناقشة أكثر كثيراً. وقام هو وبعض زملائه الطلبة برحلات كثيرة إلى مستودعات جثث الموتى حيث جمعت العظام المستخرجة من جبانة الأطفال، وهناك ألفوا منظر أجزاء الهيكل البشرى ألفة أتاحت لهم كما روي "أن نجرؤ أحياناً، حتى ونحن معصوبو الأعين، على مراهنة رفاقنا، وخلال نصف ساعة لم تكن تقدم لنا عظمة ... إلا وعرفناها باللمس (55) ". وحدث غير مرة في محاضرات دوبوا أن كان المشرح الشاب الجريء يزيح "الحلاقين الصحيين" الذين كان الأستاذ الطبيب يكل إليهم عادة مهمة التشريح الفعلي، ويقوم هو بعرض الأعضاء موضوع المحاضرة عرض خبير (56).(27/150)
واعتكف فيساليوس في لوفان حين غزا مليكه شارل الخامس فرنسا عام 1536. وقد عطل نشاطه هناك نقص الجثث، فخطف جثة من الهواء هو وصديق له يدعى جيما فريزيوس (الذي اشتهر فيما بعد رياضياً). وتكشف روايته للحادث عن ولعه بالتشريح. يقول:
بينما كنا نتمشى ونبحث عن عظام في المكان الذي يوضع فيه عادة من أعدموا، على الطريق الريفية، وقعت على جثة متيبسة ... وكانت العظام مجردة من اللحم كلية ولا يمسكها غير الأربطة. وتسلقت الخازوق بمساعدة جيما وجذبت عظم الفخذ، وأتبعته العظم الكتفي والذراعين واليدين ... وبعد أن حملت الساقين والذراعين إلى البيت خفية وفي رحلات متتالية ... تركت نفسي حبيساً خارج المدينة في المساء حتى آتى بالصدر، وكان مربوطاً ربطاً وثيقاً بسلسة، وكنت أتحرق شوقاً إلى إتمام مهمتي ... وفي الغد نقلت العظام جزءاً فجزءاً خلال بوابة أخرى من بوابات المدينة". (57)
وأدرك عمدة المدينة الأمر، ومن بعدها كان يعطي فصول التشريح ما أمكن الإفراج عنه من الجثث. يقول فيساليوس "وكان هو نفسه يحضر بانتظام كلما قمت بالتشريح (58) ".
وما كان في استطاعة رجل كهذا "يتحرق شوقاً" أن يحتفظ بطبعه هادئاً. فلما لبث أن اشتبك في نزاع حاد مع مدرس حول طرائق شق الوريد، ورحل عن لوفان (1537) وركب هابطاً الرين عابراً جبال الألب إلى إيطاليا. وكان قد بلغ من الكفاية مبلغاً أتاح له الحصول قبل نهاية تلك السنة على درجة الطب في بادوا "بأقصى خفض" في الرسوم، لأنه كلما علا تقدير الطالب انخفضت رسوم تخرجه. وفي اليوم التالي نفسه (6 ديسمبر 1537) عينه مجلس شيوخ البندقية أستاذاً للجراحة والتشريح بجامعة بادوا. وكان يومها في الثالثة والعشرين.(27/151)
وقام في الأعوام الستة التالية بالتدريس في بادوا وبولونيا وبيزا، وشرح مئات الجثث بيديه، وأصدر بعض الكتب الصغيرة. وقد رسم تلميذه لتيشان يدعى جان ستيفان فان كالكار، تحت إشرافه، ست لوحات نشرت عام 1538 بعنوان Tabulae anatomicae sex وبعد عام أيد فيساليوس في رسالته عن "شق الأوردة" بيير بريسو الباريسي في طرق الفصد. وفي معرض مناقشته للموضوع كشف عن بعض نتائج تشريحه للجهاز الوريدي، وقد أعانت ملاحظاته هذه على كشف الدورة الدموية. وفي 1541 - 42 اشترك مع علماء آخرين في نشر طبعة جديدة من النص اليوناني لجالينوس. وقد أدهشته أخطاء ندت عن جالينوس وكانت خليقة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان كقوله مثلاً: إن الفك السفلي قسمان، وإن القص سبع عظام متميزة، والكبد عدة فصوص. وما كان ممكناً تعليل هذه الأخطاء واغتفارها إلا على فرض أن جالينوس لم يشرح قط آدميين بل حيوانات. وشعر فيساليوس أنه قد حان الوقت لمراجعة علم تشريح الإنسان بتشريح الآدميين. وهكذا أعد أعظم كتبه.
وحين طبع يوهان أوبورينوس عام 1543 بمدينة بازل كتابه هذا المسمى "بنية جسم الإنسان" في 663 صفحة من القطع الكبير، لا بد أن الشيء الذي أدهش القارئ لتوه كان صفحة الغلاف-وكانت حفراً جديراً بالفنان دورو، يمثل فيساليوس يشرح تشريح ذراع مفتوحة، ومن حوله خمسون طالباً يرقبونه. ثم الرسوم التوضيحية: 277 رسماً مطبوعاً من كليشيهات خشبية ذات دقة تشريحية لم يسبق لها نظير وبراعة فنية عظيمة، معظمها من صنع فان كالكار، وخلف الأشكال مناظر لا تتصل علمياً بالموضوع ولكنها جذابة من الناحية الفنية-فترى مثلاً هيكلاً عظيماً عند مقعد للقراءة. وكانت هذه الرسوم المطبوعة من الجمال بحيث خالها بعضهم مصممة في مرسم تيشان(27/152)
ربما بإشرافه؛ ولا بد أن نضيف إلى هذا أن فيساليوس رسم عدة رسوم منها بيده. وقد رافق الكليشيهات الخشبية ساهراً على سلامتها في الرحلة على ظهر بغل من البندقية إلى بال عبر جبال الألب. وحين تم طبع الكتاب حفظت الكليشيهات بعناية، وفي تاريخ لاحق اشتريت، ثم تبودلت، ثم فقدت، وفي عام 1891 عثر عليها مخبأة في مكتبة جامعة ميونيخ، وقد دمرتها القنابل في الحرب العالمية الثانية.
أما الذي كان ينبغي أن يثير في النفس دهشة أعظم مما أثارته هذه الرسوم فهو النص-وهو نصر طباعي ولكنه غلى ذلك ثورة علمية-كان من صنع فتى لم يتجاوز التاسعة والعشرين. وهو ثورة لأنه أنهى سلطان جالينوس على التشريح، وراجع العلم كله بلغة التشريح، وبهذا أرسى دعائم الأساس الفيزيائي للطب الحديث، الذي يبدأ بهذا الكتاب. فهنا وصف لأول مرة سير الأوردة الصحيح وتشريح القلب؛ وهنا ورد ذلك القول الخطير، وهو أن التشريح البالغ الدقة لم يظهر أياً من تلك المسام التي افترض جالينوس أن الدم يمر عن طريقها من بطين إلى آخر؛ وبهذا أصح الطريق معبداً لسرفيتوس وكولومبو هارفي. وقد صححت أخطاء جالينوس المرة بعد المرة-فيما يتصل بالكبد، والقنوات المرارية، والفكين، والرحم. وقد ارتكب فيساليوس هو أيضاً أخطاء، حتى في المشاهدة، وأخفق في أن يقفز القفزة الكبرى من تشريح القلب إلى دورة الدم. ولكن هنا أوصاف صادقة لعشرات من الأعضاء لم تحظ قط بمثل هذا الوصف الدقيق من قبل، وفتح كل جزء من أجزاء الجسم للعلم بيد واثقة قديرة.
على أن فيساليوس عانى من عيوب فضائله. ذلك أن الكبرياء التي سندته طوال دراسته الموفقة جعلته سريع الغضب، بطيئاً في(27/153)
الاعتراف بمنجزات سابقيه وتقدير حساسية منافسيه. وبلغ ولعه بذلك "الإنجيل الصادق ... ألا وهو جسم الإنسان وطبيعة الإنسان" (9) مبلغاً جعله يؤذي شعور عدد كبير من أقطاب اللاهوتيين. وكان يشير في تهكم إلى رجال الكنيسة الذين يشتد إقبالهم على غرفة محاضراته حين يكون موضوع الدرس والعرض هو الأعضاء التناسلية (60). وقد أثار عداء الكثيرين، ومع أن جسنر وفالوبيو رحبا بكتابه، فإن أكثر الأساتذة القدامى، ومنهم أستاذه السابق دوبوا، نددوا بالمؤلف بوصفه محدثاً وقحاً، وجدوا في تسقط العيوب في كتابه. وقال دوبوا إن جالينوس لم يخطئ، ولكن جسم الإنسان عراه تغير منذ عهد جالينوس، وعلى ذلك فعظام الفخذين الواضحة الاستقامة، والتي ليست مقوسة كما وصفها جالينوس، إنما هي في رأيه نتيجة لارتداء أورُبيّي عصر النهضة سراويل ضيقة (61).
وفي عاصفة من خيبة الأمل في موقف هؤلاء الرجال أحرق فيساليوس مجلداً ضخماً من كتاب "التعليقات" Annotationes وتفسيراً للأجزاء العشرة التي يتألف منها كتاب الرازي "كتاب المنصوري"-وهو موسوعة في الطب (62). وفي عام 1544 رحل عن إيطاليا ليصبح طبيباً ثانياً بين أطباء شارل الخامس الذي سبق أن أهداه في حصافة كتابه "فابريكا" Fabrica. ومات أبوه في نفس العالم تاركاً له ثروة طيبة. فتزوج وبنى بيتاً جميلاً في بروكسل. وصدرت طبعة ثانية لكتابه "فابريكا" عام 1555، مزيدة ومنقحة. وقد بين الكتاب أن التنفس الصناعي يمكن أن يبقي على حياة الحيوان رغم شق صدره، وأن القلب الذي توقف نبضه يمكن أحياناً رد الحياة إليه باستعمال منفاخ. بعد هذا لم يضف فيساليوس جديداً إلى التشريح. فقد استغرق في العناية بمرضاه من أسرة الإمبراطور ومن دونهم، وفي ممارسة(27/154)
الجراحة ودراستها. وأصبح فيساليوس طبيباً ثانياً لفيليب الثاني بعد أن اعتزل شارل الملك. وفي يوليو 1559 أوفده الملك ليساعد أمبرواز باريه في محاولة لإنقاذ حياة هنري الثاني الجريح، ولجأ فيساليوس إلى اختبارات إكلينيكية أظهرت استحالة شفائه. وفي تاريخ لاحق من هذه السنة رافق هو وأسرته فيليب إلى أسبانيا.
في غضون ذلك أضاف آخرون جديداً إلى التشريح. فلاحظ جيامباتستا كانو صمامات الأوردة (1547)، وشرح سرفيتوس دورة الدم في الرئتين (1553)، ووصل ريالدو كولومبو إلى هذا الكشف ذاته (1558)، وأثبته بإجراء تجربة على القلب الحي. ولكن سبعين سنة أخرى انقضت قبل أن يأتي هارفي بوصفه الخطير لسير الدم من القلب إلى الرئتين، فإلى القلب، فإلى الشرايين، فإلى الأوردة، ثم إلى القلب. وكان الطبيب العربي ابن النفيس قد سبق سرفيتوس عام 1285 (63)، وربما انحدرت الرواية المتواترة بنظريته إلى أسبانيا في شباب سرفيتوس.
وبقيت لفيساليوس بضع مغامرات. من ذلك أن الأطباء الوطنيين في البلاط الأسباني كانوا يصرون على إهمال تشخيصه باعتبار هذا موقفاً يحتمه الشرف. فلما شكا ابن فيليب الوحيد، الدون كارلوس، من ارتجاج في المخ إثر سقطة (1562)، أشار فيساليوس بإجراء تربنة له. ولكن النصيحة رفضت، وأشرف الفتى على الهلاك. ووضعت على الجرح التمائم وآثار القديسين، وجلد الأتقياء أنفسهم توسلاً إلى السماء أن تشفيه بمعجزة، ولكن هذا كله لم يجد فتيلاً. وأخيراً أصر فيساليوس على فتح الجمجمة، ففتحت، وسحبت منها كمية كبيرة من الصديد. وما لبث الأمير أن تماثل للشفاء، وبعد إجراء العملية بثمانية أيام سار فيليب في موكب مهيب لتقديم الشكر لله (64).(27/155)
وبعد عامين رحل فيساليوس عن أسبانيا لأسباب ما زالت محل خلاف. وقد روي أمبرواز باريه قصة مشرح أثار عليه غضب أسبانيا بأسرها لأنه فتح بطن امرأة كان الظن أنها ماتت من "اختناق الرحم"، قال باريه أن ضربة أخرى من مبضع الجراح ردت المرأة فجأة إلى الحياة، "الأمر الذي بعث في قلوب جميع أصدقائها من الإعجاب والرعب ... ما جعلهم ينظرون إلى الطبيب- الذي كان من قبل واسع الشهرة طيب السمعة- نظرتهم إلى رجل مجرم بغيض" (65)، ولا عجب فالأقرباء لا يقدرون دائماً مثل هذا الشفاء غير المتوقع. وواصل الجراح الهيجونوتي روايته فقال "لذلك لم ير سبيلاً أمامه إلا مغادرة البلاد إن ابتغى لنفسه السلامة". وروى هيجونوتي آخر يدعى لوبير لانجيه قصة كهذه (حوالي 1579)، وذكر أن الطبيب هو فيساليوس، وزعم أن فيساليوس وقع تحت طائلة محكمة التفتيش لأنه شرح شخصاً حياً، وقد نجا من المحاكمة حين أخذ على نفسه عهداً بالحج إلى فلسطين تكفيراً عن خطيئته. والحادثة لم ترد في أي مصدر معاصر، والمؤرخون الكاثوليك يرفضونها لأنها في رأيهم قصة خرافية (66). ولعل السبب لا يعدو أن فيساليوس مل البقاء في أسبانيا.
وعاد إلى إيطاليا، وأبحر من البندقية (أبريل 1564)، ويبدو أنه بلغ أورشليم. وفي رحلة العودة تحطمت سفينته، ومات من التعرض للجو، نائياً عن أصدقائه، على جزيرة زنطة تجاه ساحل اليوناني الغربي (15 أكتوبر 1564)، وكان يومها في عامة الخمسين. وفي هذا العام ذاته مات ميكل أنجيلو، وولد شكسبير. لقد كان البهاء الذي سطعت شمسه قرناً في سماء إيطاليا ينتقل إلى الشمال.(27/156)
6 - نهضة الجراحة
ظل علم الطب وفنه يسيران في ركاب أئمة الطب من اليونان والعرب، على الرغم مما أحرزه التشريح من تقدم. ولم يكن لشهادة الحواس كبير وزن أمام كلمة جالينوس أو ابن سينا، لا بل إن فيساليوس نفسه قال حين ناقض تشريحه رأي جالينوس "لم أكد أصدق عيني". وكانت طبعات أو ترجمات جالينوس أو أبقراط تنشر المعلومات القديمة وتثبط القيام بالتجارب الجديدة-بالضبط كما كانت الجهود التي بذلها بترارك ورونسار لكتابة ملاحم فرجيلية تؤذي نبوغهما الفطري وتحرف مجراه. وحين أسس ليناكر كلية الطب التي أطلق عليها فيما بعد كلية الأطباء الملكية (1518)، كانت كتبها الرئيسية هي ترجماته لجالينوس.
وقد أفاد علاج الأمراض من العقاقير الجديدة المجلوبة إلى أوربا كالكينا، وعرق الذهب، والرواند، المجلوبة من أمريكا، والزنجبيل ولبان الجاوي من سومطرة، والقرنفل من جزر ملقا، والصبر من كوتشين الصينية، والكافور والزنجفر من الصين، ووسع هذا التطور استعمال النباتات الوطنية. وصنف فاليريوس كوردوس أول فارما كوبيا ألمانية (1546)، وشاع علاج الزهري بنقيع خشب الغويقم المجلوب من جزر الهند الغربية، حتى أن آل فوجير جمعوا ثروة ثانية بحصولهم على احتكار بيعه في أملاك شارل الخامس الذي كان مديناً لهم.
على أن فقر جماهير الناس وقذارتهم كانا سبباً في تخلف الدواء عن المرض دائماً. وكانت أكوام القمامة أو روث البهائم تسمم الهواء، وتنتشر هنا وهناك في الشوارع أحياناً. وكان لباريس شبكة مجار أراد هنري الثاني إفراغها في نهر السين لولا أن ثناه(27/157)
رجال البلدية عن هذه الفعلة بتبصيره بأن النهر هو مورد مياه الشرب الوحيد لنصف السكان (67). وأنشئت في إنجلترا لجان للمجاري في عام 1532، ولكن لم يكن فيها حتى عام 1844 سوى مدينتين اثنتين تنقل فيهما القمامة من الأحياء الفقيرة على حساب الدولة.
أما الأوبئة فكانت أقل فتكاً منها في العصور الوسطى، ولكنها كفت- هي ووفيات النفساوات والأطفال- لتثبيت السكان عند حد لا يكادون يتجاوزونه. وقد اكتسحت الطواعين ألمانيا وفرنسا المرة تلو المرة بين عامي 1500 و1568. وانتشرت حمى التيفوس في إنجلترا في أعوام 1422، و1577 و1586 نتيجة لهجرات القمل. واجتاح إنجلترا "المرض المعرق"- ولعله ضرب من الأنفلونزة-في أعوام 1528 و1529 و1551 و1578؛ وألمانيا في 1543 - 45، وفرنسا في 1550 - 51. وقيل إن هذا المرض فتك بألف شخص في بضعة أيام في كل من هامبورج وآخن (68). وكان الناس يعزون الأنفلونزة إلى "تأثيرات" influences سماوية، ومنها اشتقت اسمها. وعاد الطاعون الدبلي إلى الظهور في ألمانيا في عام 1562، ففتك بتسعة آلاف من بين سكان نورمبرج البالغ عددهم أربعين ألفاً (69) - وإن جاز لنا أن نفترض المبالغة في جميع الإحصاءات الخاصة بالطاعون. أما جوانب الصورة الأكثر إشراقاً فهي تضاؤل الإصابة بالجذام وبعض الاضطرابات العقلية كرقصة سانت فيتوس.
وكان سير التطبيب أبطأ من سير المعرفة الطبية. فما زال دجاجلة الطب يملأون الأرض؛ وكان من اليسير الاشتغال بالطب دون الحصول على درجة جامعية برغم القوانين المقيدة. وكان أكثر الأطفال يخرجون إلى النور على أيدي القابلات. أما التخصص فلم(27/158)
يكد يبدأ. فطب الأسنان مثلاً لا يفصل عن الطب أو الجراحة، وكان الحلاقون الصحيون يخلعون الأسنان ويستبدلون بها أسناناً من العاج. وترك جميع الأطباء تقريباً-وفيساليوس أحد القلائل الذين شذوا-مهمة الجراحة للحلاقين الصحيين، الذين يجب على أي حال ألا ننظر إليهم على أنهم حلاقون، لأن كثيراً منهم كانوا رجالاً ذوي دربة ومهارة.
فأمبرواز باريه بدأ حياته صبياً لحلاق، ثم ارتقى حتى أصبح جراحاً للملوك. وقد ولد في بورج-إرسان في مين (1517)، ثم شق طريقه إلى باريس، وفتح كشك حلاقته في ميدان سان ميشيل. وخلال حرب 1546 اشتغل جراحاً لفرقة من فرق الجيش. وكان في علاجه بالجنود يسلم بالنظرية السائدة التي زعمت أن جروح الرصاص سامة، ودرج (كما درج فيساليوس) على كيها بزيت البلسان المغلي، فكان الكي يحيل الألم عذاباً. وذات ليلة فرغ الزيت، فضمد باريه الجروح بمرهم من مح البيض، وزيت الورد، والتربنتينا. وفي الغد كتب يقول:
" أرقني بالأمس طول التفكير في المصابين الذين لم أستطع كي جروحهم. وتوقعت أن أجدهم جميعاً أمواتاً في الصباح. وبهذه الفكرة قمت مبكراً لأتفقدهم، فما راعني إلا أن أجد من عالجتهم بالمرهم لا يشكون غير ألم بسيط جداً في جروحهم دون أي التهاب ... وقد قضوا ليلتهم في نوم مريح. أما الباقون الذين عولجت جروحهم بزيت البلسان المغلي فقد ارتفعت حرارتهم والتهبت جروحهم ... وآلمتهم ألماً حاداً. وعلى ذلك صممت على ألا أعود ثانية إلى كي هؤلاء التعساء بمثل هذه الطريقة القاسية" (70).
ولم يحظ باريه بتعليم يذكر، ولم ينشر كتيبه عن "طريقة(27/159)
علاج الجروح"- وهو اليوم كتاب مشهور في علام الطب- إلا في عام 1545. وفي حرب 1552 أثبت أن ربط الشريان أجدى من الكي في وقف النزف الذي تسبب عمليات البتر. وقد وفق بفضل عملياته الجراحية في حمل العدو على الإفراج عنه بعد أسره. ولما عاد إلى باريس عين كبيراً للجراحين بكلية سان كلوم، الأمر الذي أثار فزع السوربون التي تنظر إلى أستاذ جاهل باللاتينية كأنه هولة بيولوجية. وعلى الرغم من هذا أصبح جراحاً للملك هنري الثاني، ثم لفرانسوا الثاني، ثم لشارل التاسع، ومع أنه كان يجهر ببروتستنتيته، فقد أبقي أمر ملكي على حياته في مذبحة سان بارتلميو. ولم يضف مؤلفه "كتابان في الجراحة" (1573) لنظرية الجراحة إلا قليلاً، ولكنه أضاف الكثير للتطبيق. فقد اخترع أدوات جديدة، وأدخل الأطراف الصناعية، وأشاع استعمال الحزام في الفتق، وحسن من تعديل وضع الجنين في الولادة، وأجرى أول إعادة لمفصل الكوع، ووصف التسمم بأول أوكسيد الكربون، وقرر أن الذباب حامل للمرض. ومن الأقوال المشهورة في حوليات الطب اعتراضه على ما تلقى من تهانئ لنجاحه في علاج حالة مستعصية، "أنا عالجته، والله شفاه". وقد مات عام 1590 بالغاً الثالثة والسبعين بعد أن رفع كثيراً من مكانة الجراحين وكفايتهم، ومنح فرنسا زعامة في الجراحة احتفظت بها قروناً من بعده.(27/160)
7 - باراسيلسوس والأطباء
في كل جيل يظهر رجال ينكرون على الأطباء محافظتهم المشوبة بالحيطة، ويدعون الوصول إلى أنواع ممتازة من العلاج بوسائل خارجة على التقاليد الطبية، ويرمون رجال المهنة بالتخلف الوحشي، ويأتون بالأعاجيب حيناً، ثم يتبددون في ضباب الغلو والعزلة اليائسين. ومن الخير أن يظهر ذباب الخيل هذا بين الحين والحين لينبه الفكر الطبي، ومن الخير أن يكبح الطب جماح البدع المتعجلة في تعامله مع الحياة البشرية. ففي هذا الميدان، كما في ميداني السياسة والفلسفة، يتعاون الشباب المتطرف، والشيخوخة المحافظة، على غير إرادتهما، ليحدثا توازناً بين الاختلاف والوراثة، ذلك التوازن الذي تتخذه الطبيعة أداة للتطور.
كان فيليبوس ثيوفراستوس بومباستوس فون هوهنايم يتخذ له اسم أوريولوس رمزاً لنبوغه، واسم باراسيلسوس-وهو على الأرجح ترجمة لاتينية للقب هوهنايم (71). وكان أبوه فلهلم بومباست فون هوهنايم ابناً غير شرعي لنبيل سوابي حاد الطبع. ولما ترك فلهلم ليدبر شئونه بنفسه، مارس الطب بين فقراء القرويين قرب أينزيدلن في سويسرة، وتزوج من إلزا أوخسنر، وكانت بنت صاحب حانة وممرضة مساعدة، وقد أصيبت بعد قليل بحالة اكتئاب جنوني. وربما كان تضارب هذا النسب سبباً في ميل فيليب إلى عدم الاستقرار، وإلى إحساس ساخط بقدرات لم ترعها ببيئته رعاية كافية. وقد ولدفي 1493 وشب وسط مرضى أبيه، وربما في ألفة في الحانات غير صالحة له، تلك الحانات التي ظلت حياتها الطليقة تستهويه على الدوام. وتزعم قصة غير مؤكدة أن الصبي خصاه خنزير بري أو جنود مخمورون.(27/161)
ولم يعرف أن امرأة ظهرت في حياته بعد البلوغ. وحين كان في التاسعة أغرقت أمه نفسها، ولعل هذا هو السبب في رحيل الوالد والولد إلى فيلاخ بالتيرول. وتقول رواية متواترة أن فلهلم كان يقوم بالتدريس هناك في مدرسة للمناجم ويشتغل بالكيمياء القديمة على سبيل الهواية. ولا بد أنه كان مناجم بقرب المدينة ومصنع لصهر المعادن، ومن المحتمل أن يكون فيليب قد تعلم هناك طرفاً من الكيمياء التي سيحدث فيها ثورة في دنيا العلاج.
ولما بلغ الرابعة عشرة قصد هايدلبرج للدراسة. وتكشف طبعه القلق في انتقاله السريع من جامعة لأخرى-فرايبورج، وإنجولشتات، وكولونيا، وتوبنجن، وفينا، وأرفورت، وأخيراً (1513 - 15) فيرارا-ولو أن هذا التنقل بين دور العلم كان مألوفاً في العصور الوسطى. وفي عام 1515، التحق فيليب-وقد سمى نفسه الآن باراسيلسوس-حلاقاً صحياً في جيش شارل الأول ملك أسبانيا، دون أن يحصل على درجة جامعية. فلما انتهت الحملة عاد إلى حياة الترحل. وهو يزعم أنه مارس الطب في غرناطة، ولشبونة، وإنجلترا، والدنمرك، وبروسيا وبولندة، ولتوانيا، والمجر، و "غيرها من الأقطار" (72) وكان في سالزبورج إبان حرب الفلاحين عام 1525، وعالج جروحهم وتعاطف مع أهدافهم. وقد ولع حيناً بالاشتراكية، فهو يندد بالمال، والفائدة، والتجار، ويدعو للشيوعية في الأرض والتجارة، وللمساواة بين الناس في الأجور (73). وفي كتابه الأول المسمى " Archidoxa" ( أي الحكمة العظمى-1524) رفض اللاهوت وامتدح التجربة العلمية (74). ولما قبض(27/162)
عليه بعد إخفاق ثورة الفلاحين، أنقذته من حبل المشنقة شهادة بأنه لم يحمل سلاحاً قط، ولكنه نفي من سالزبورج، فغادرها على عجل.
وفي عام 1527 كان في ستراسبورج يمارس الجراحة ويحاضر الحلاقين الصحيين، وكان تعليمه لهم مزيجاً مهوشاً من المعقول وغير المعقول، ومن السحر والطب-ولو أن الله وحده يعلم كيف سيصف المستقبل بقينياتنا الحاضرة. وقد رفض التنجيم، ثم سلم به، وكان يأبى أن يحقن مريضاً بحقنة شرجية ما لم يكن القمر في تربيعه الصحيح. وكان يسخر من عصا الكهانة، ولكنه زعم أنه أحال المعادن ذهباً (75). وإذ كان-كأجريبا في شبابه-يحدوه تعطش للمعرفة فقد بحث في شوق عن "حجر الفلاسفة"-أي عن صيغة عامة تفسر الكون. وكتب في سذاجة المصدق عن الأقزام الخرافية، وسلامندر الأسبستوس، و "الإرشادات"، وهي علاج الأعضاء المريضة بعقاقير شبيهة بها لوناً وشكلاً. ولم يستنكف من استخدام التعاويذ والتمائم السحرية علاجاً (76) -ربما بوصفها طباً إيحائياً.
ولكن هذا الرجل نفسه، الذي ينضح بأوهام جيله، أدخل تحسينات جريئة على استخدام الكيمياء في الطب. وكان يتحدث أحياناً حديث الماديين "إن الإنسان مشتق من المادة، والمادة هي الكون كله" (77). والإنسان بالنسبة للكون كالعالم الصغير (الميكروكوزم) بالنسبة للعالم الكبير (الماكروكوزم) " وكلاهما من نفس العناصر-وأساسهما الأملاح، والكبريت، والزئبق؛ والمعادن والأملاح المعدنية التي تبدو عديمة الحياة هي في الواقع مفعمة بالحياة (78). والعلاج الكيمياوي هو استخدام العالم الكبير(27/163)
لشفاء العالم الصغير. والإنسان من حيث بدنه مركب كيميائي، والمرض تنافر، لا في "الأمزجة" كما زعم جالينوس، بل في مكونات البدن الكيميائية؛ وهذه أول نظرية حديثة للأيض أو التمثيل الغذائي. وكان العلاج في ذلك العهد يعتمد في عقاقيره إلى حد كبير على عالم النبات والحيوان، أما باراسيلسوس، الغارق في كيميائه القديمة، فقد أكد ما للمواد غير العضوية من قدرات علاجية. وجعل الزئبق، والرصاص، والكبريت، والحديد، والزرنيخ، وكبريتات النحاس، وكبريتات البوتاسيوم، أجزاء من أقرباذينه، وأشاع استعمال الصبغات والخلاصات الكيميائية، وكان أول من صنع "صبغة الأفيون" التي نسميها اللودنوم. وقد شجع استعمال الحمامات المعدنية، وشرح خواصها وآثارها المتنوعة.
ولاحظ بارسيلسوس العوامل المهنية والجغرافية المؤثرة في المرض، ودرس السل الرئوي المتليف في المعدنين، وكان من أول من ربط بين القماءة والغوطر المتوطن. وأدخل تحسينات على فهم الصرع، وعزا الشلل واضطرابات النطق إلى إصابات الرأس. ومع أن الفكرة المسلم بها عموماً في ذلك العصر عن النقرس والتهاب المفاصل هي أنهما رفيقان للشيخوخة لا شفاء منهما، فإن بارسيلسوس رأى أنهما قابلان للشفاء إذ شخصا على نتيجة لأحماض تكونها بقايا الطعام التي استغرقت طويلاً في القولون. قال "كل الأمراض يمكن ردها إلى تخثر المادة غير المهضومة في الأمعاء" (79). وقد أطلق على هذه الأحماض الناشئة عن التعفن المعوي اسم "الطرطير" لأن رواسبها في المفاصل، والعضلات، والكلى، والمثانة "تحرق كالجحيم، وطرطروس(27/164)
هي الجحيم" (80). "إن الأطباء يفاخرون بمعرفتهم بالتشريح، ولكنهم عاجزون عن رؤية "الطرطير" اللاصق بأسنانهم" (81). وعلق هذا المعنى بالكلمة الجديدة. واقترح وقف تكون هذه الرواسب في الجسم بالغذاء الصحي، والمقويات، وتحسين الإخراج، وحاول "تليين" الرواسب باستعمال زيت الغار ومركبات الراتنج، أما الحالات الشديدة فقد دعا فيها إلى الجراحة حتى يسمح للرواسب الملتصقة بالهروب أو تتاح إزالتها. وقد زعم أنه شفى كثيراً من حالات النقرس بهذه الوسائل، ويعتقد بعض الأطباء في عصرنا هذا أنهم شفوا مرضى بإتباع تشخيص باراسيلسوس.
ووصلت إلى بال أنباء طرق العلاج التي توصل إليها بارسيلسوس في ستراسبورج. وكان المصور الشهير فروبن يشكو هناك ألماً حاداً في قدمه اليمنى، فأشار الأطباء ببتر القدم. ودعا فروبن باراسيلسوس إلى بال ليشخص الحالة. وجاء باراسيلسوس، ووفق في علاجها دون الالتجاء إلى السلاح. واستشار أرزمس باراسيلسوس، وكان يومها يعيش مع فروبن ويشكو أوجاعاً كثيرة، فوصف له علاجاً لا ندري مدى توفيقه فيه. على أية حال أضاف هؤلاء المرضى المشهورون شهرة جديدة إلى شهرة الطبيب الشاب، وقربه خليط غريب من الظروف من منصب الأستاذ الجامعي الذي كانت تهفو إليه نفسه.
كان البروتستنت فيتلك الحقبة أغلبية في مجلس مدينة بال، ففصلوا الدكتور فونيكر طبيب المدينة على الرغم من اعتراضات أرزمس والأقلية الكاثوليكية، بحجة أنه "تفوه بعبارات جديدة ضد الإصلاح البروتستنتي" (82) وعينوا باراسيلسوس مكانه(27/165)
وافترض المجلس وباراسيلسوس أن هذا التعيين يتضمن حقه في التدريس في الجامعة، ولكن الكلية استنكرت التعيين واقترحت عقد امتحان علني لباراسيلسوس في التشريح وهي على بينة من ضعفه فيه. فتهرب من الاختبار، وبدأ يمارس مهنته طبيباً بالمدينة، ويحاضر في قاعة خاصة دون موافقة الجامعة (1527). وقد جمع إليه الطلاب بدعوة مميزة لخلقه هذا نصها: -
"من ثيوفراستوس بومباست فون هونهايم، الدكتور في فرعي الطب، والأستاذ، تحيات لطلبة الطب. إن الطب وحده دون جميع العلوم ... هو المعترف به صناعة مقدسة. ومع ذلك فإن قلة من الأطباء يمارسونه اليوم بنجاح، ومن ثم فقد حان الوقت لرده إلى مكانه المرموق السابق، ولتنقيته من خميرة الهمج، وتطهيره من أخطائهم. وسنقوم بهذه المهمة، لا بالتزام قواعد الأقدمين، بل بشيء واحد دون سواه هو دراسة الطبيعة واستخدام الخبرة التي اكتسبناها خلال سنوات طويلة من الاشتغال بالطب. ومن ذا الذي يهل أن معظم الأطباء المعاصرين يفشلون لأنهم استعبدوا أنفسهم لتعاليم ابن سينا وجالينوس وأبقراط؟ ... وقد يفضي بهم هذا الطريق إلى ألقاب فخمة، ولكنه لا يكوّن طبيباً بمعنى الكلمة ... فليس الطبيب في حاجة إلى الفصاحة أو الإلمام باللغة أو الكتب .... بل إلى المعرفة العميقة بالطبيعة وأعمالها ...
ولقد اعتزمت، بفضل المنحة السخية التي قدمها سادة بال لهذا الغرض، أن أشرح الكتب الدراسية التي ألفتها في الجراحة وعلم الأمراض، مخصصاً لذلك ساعتين في كل يوم، على سبيل التمهيد لطرق الشفاء التي أمارسها. وأنا لا أصنف هذه الكتب(27/166)
من مختارات أنقلها عن أبقراط أو جالينوس. ولكنني بطول الكد والكدح خلقتها من جديد على أسس من الخبرة، التي هي أسمي معلم لجميع الأشياء. فإذا شئت إثبات شيء ما أفعل هذا بالنقل عن هؤلاء القدامى، بل بالتجربة والتفكير المبني عليها. فإن شعرت أيها القارئ العزيز بدافع يدفعك إلى إستكناه هذه الخفايا المقدسة، وإن شئت أن تسبر أغوار الطب في زمن وجيز، فأقبل إلى في بال ... بال في 5 يونيو 1527" (83).
وسجل ثلاثون طالباً أسماءهم في هذه الدراسة. وفي يوم الافتتاح طلع بارسيلسوس في الرداء الجامعي المألوف، ولكنه خلعه عنه لتوه، ووقف في ثوب الكيميائي الخشن ومئزرته الجلدية المتسخة بالسناج. وقد أقلى محاضرته في الطب مكتوبة بلاتينية أعدها له سكرتيره أوبورينوس (الذي طبع في تاريخ لاحق كتاب فيساليوس "فابريكا"، أما محاضرات الجراحة فألقاها بالألمانية. وكانت هذه صدمة جديدة للأطباء التقليديين، ولكنها لم تزعجهم بقدر ما أزعجهم رأي باراسيلوس وهو "أنه يجب ألا يؤدي الصيدلي عمله متواطئاً مع أي طبيب" (84). وكأنه أراد أن يعلن على الملأ ازدراءه للطب التقليدي، فقذف في النار وهو مبتهج بنص طبي حديث لعله Summa Jacobii- وكان الطلاب قد أوقدوا النار احتفالاً بعيد القديس يوحنا (24 يونيو 1527)، ثم قال "لقد ألقيت في نار القديس يوحنا "بخلاصة" الكتب، حتى تصعد جميع المحن والبلايا في الهواء مع الدخان. وهكذا طهرت مملكة الطب من أدرانها". وقارن الناس بين هذه الحركة وبين إحراق لوثر لمرسوم أصدره البابا.
أما حياة باراسيلسوس في بال فكانت خارجة على العرف(27/167)
خروج محاضراته. يقول أوبورينوس "لقد أنفق العامين اللذين صحبته خلالهما في السكر والشره ليل نهار ... وكان متلافاً، تأتي عليه أوقات لا يجد في جيبه فيها فلساً ... وكان في كل شهر يوصي بصنع سترة جديدة، ويعطي القديمة لأول قادم، ولكنها كانت من القذارة بحيث لم أتمن قط سترة منها لنفسي (86) " وقد ترك لنا هنريش بولينجر وصفاً لباراسيلسوس مماثلاً لهذا، فهو مدمن للخمر، "ورجل في منتهى القذارة (87) " ولكن أوبورينوس يشهد بحالات عجيبة من الشفاء حققها أستاذه، "في علاج القرح أتى بما يقرب من المعجزات في حالات يئس منها غيره" (88).
أما رجال الطب فقد برئوا منه دجالاً عاطلاً من الدرجة الجامعية، مجرباً مستهتراً، عاجزاً عن تشريح الجثث، جاهلاً بعلم التشريح. أما هو فقد عارض التشريح بحجة أن الأعضاء لا يمكن فهمها إلا وهي تؤدي وظيفتها في الجسم الحي أداءً متحداً طبيعياً. ورد على احتقار الأطباء له بلغة سوقية غاية في المرح. فسخر من وصفاتهم الوحشية، وقمصانهم الحريرية، وخواتمهم، وقفازاتهم الناعمة، ومشيتهم المتغطرسة، وتحداهم أن يخرجوا من حجرات الدرس إلى المعمل الكيميائي، وأن يرتدوا المآزر، ويوسخوا أيديهم بالعناصر الكيميائية وينحنوا فوق الأفران ليتعلموا أسرار الطبيعة بالتجربة وعرق الجبين. وقد عوض عن افتقاره إلى الدرجة الجامعة باتخاذ ألقاب مثل "أمير الفلسفة والطب" و "دكتور في فرعي الطب" (أي طبيب وجراح)، و "ناشر الفلسفة"، وداوى جراح غروره بالثقة في دعاواه. كتب يقول "سيتبعني الجميع، وستكون مملكة الطب مملكتي ... كل الجامعات وكل الكتاب القدامى مجتمعين أقل مواهب من ... " (89). وإذ ألفى نفسه مرفوضاً(27/168)
من الغير، فقد اتخذ لنفسه هذه الحكمة شعاراً "لا يملكنك أحد إذا استطعت أن تملك نفسك" (90). أما التاريخ فقد وبخ تفاخره، إذ جعل لقب أسرته "بومباست" اسماً نكرة (بمعنى الفشر).
وحدث أن ظريفاً مجهول الاسم في بال-متواطئاً مع كلية الجامعة، أو في تمرد عفوي من الطلبة على مدرس دجماطي-كتب قصيدة هجائية لاذعة وعرضها في مكان ظاهر، والقصيدة باللاتينية الرديئة، توهم أن جالينوس نفسه هو الذي كتبها من "الجحيم" يرد بها على منتقص قدره، وقد سماه كاكوفراستوس-خطيب الروث. وهزأت الأبيات هزءاً شديداً بمصطلحات باراسيلسوس الغيبية، ونعتته بالجنون، وأشارت عليه بأن يشنق نفسه. وحاول باراسيلسوس أن يعثر على الجاني ففشل، لذلك طلب إلى مجلس المدينة أن يستجوب الطلاب واحداً واحداً ويعاقب المذنب. ولكن المجلس تجاهل الطلب. وحوالي هذه الفترة عرض قسيس في كاتدرائية بال أن يدفع مائة "جلدر" لمن يشفيه من مرضه، وشفاه باراسيلسوس في ثلاثة أيام، ودفع له القسيس ستة جلدرات، وأبى أن يدفع الباقي بحجة أن العلاج لم يسغرق سوى وقت قصير جداً. فقاضاه باراسيلسوس، ولكنه خسر دعواه، وخسر معها هدوء طبعه، فرمى نقاده بأنهم "غشاشون حكاكون للظهور"، ونشر نبذة غفلاً من اسم الكتاب رمى فيها رجال الدين والقضاء بالفساد؛ وأمر المجلس بالقبض عليه، ولكنه أجل تنفيذ الأمر حتى الصباح. وهرب باراسيلسوس تحت جنح الظلام (1518)، بعد أن قضى في بال ثمانية شهور.
وفي نورمبرج أعاد باختصار تجربته في بال. وكل إليه آباء المدينة مستشفى سجن، فاستخدم ألواناً من العلاج أثارت الإعجاب. ولكنه ندد بحساده من أطباء المدينة لافتقارهم إلى الذمة، ولثرائهم، ولبدانة نسائهم. ثم دافع عن الكاثوليكية حين لاحظ(27/169)
أن أغلب أعضاء المجلس من البروتستنت. وانزعج آل فوجير الذين يبيعون الغويقم حين زعم أن هذا "الخشب المقدس" عديم الجدوى في علاج الزهري. وفي عام 1530 أغرى طباعاً مغموراً بأن ينشر "ثلاثة فصول عن المرض النفسي" عنف فيها الأطباء تعنيفاً أثار عليه عاصفة من المعارضة أكرهته على أن يعود إلى تجواله من جديد. وأراد أن ينشر كتاباً أكبر في الموضوع ذاته، ولكن مجلس المدينة منع طبعه. ودافع باراسيلسوس في خطاب كتبه إلى المجلس عن حرية الطبع بفصاحة لم تغنه فتيلاً، ولم ير الكتاب النور قط في حياته. وكان يحتوي على أفضل وصف إكلينيكي كتب عن مرض الزهري، وقد أشار باستعمال جرعات باطنية من الزئبق دون الاستعمالات الظاهرة له. وأصبح هذا المرض ساحة احتدمت فيها المعركة بين العلاج النباتي والعلاج الكيميائي.
وانتقل باراسيلسوس إلى سان- جال، وسكن نصف عام منزل أحد مرضاه. وهناك وفي فترة لاحقة ألف كتبه "العمل العجيب جداً" و "معارضة الطبيعة؟ " و "الجراحة الكبرى"، وكلها بالألمانية الدارجة. وهي أكوام من الخامات الخشنة التي تعثر أحياناً على حجر كريم في ثناياها. وفي عام 1543 انتكس إلى السحر، وألف كتابه Philosophia sagax وهو خلاصة وافية في السحر.
ولما مات مريضه في سان- جال راح يضرب في الأرض من جديد، متنقلاً بين ربوع ألمانيا، مستجدياً قوته أحياناً. وكان قد فاه في شبابه ببعض الهرطقات الدينية- كقوله إن دلالة العماد رمزية لا أكثر، وإن تناول الأسرار المقدسة نافع للأطفال والمغفلين،(27/170)
عديم الفائدة للأذكياء، وإن الصلوات للقديسين مضيعة للوقت (91). أما الآن (1532)، بعد أن هدّه الفقر والهزيمة، فقد اختبر "التحول" الديني. فصام، ووهب متاعه الباقي للفقراء، وكتب المقالات التعبدية، وعزى نفسه بآمال الجنة. وفي عام 1540 قدم له أسقف سالزبورج الملجأ، فقبله الرجل شاكراً، مع أنه هو الذي شجع الثورة هناك قبل خمسة عشر عاماً. وكتب وصيته، فترك نقوده القليلة لأقاربه، وأدواته لحلاقي المدينة الصحيين، وفي 24 سبتمبر 1541 أسلم جسده للتراب.
لقد كان رجلاً قهرته عبقريته، غنياً في الخبرة المنوعة والأحاسيس الذكية، ناقصاً في تعليمه المدرسي نقصاً أعجزه عن فصل العلم عن السحر، مفتقراً إلى ضبط النفس اللازم للسيطرة على حماسته المتأججة، حاد الخصومة بحيث لم يستطع التأثير في جيله. ولعل حياته وحياة أجريبا أعانتا على تضخيم أسطورة فاوست. وإلى القرن الماضي كان يحج إلى قبره في سالزبورج ضحايا وباء تفشي في النمسا والأمل يراودهم في الشفاء بسحر روحه أو بسحر رفاقه (92).
8 - الشكاكون
لم يكن القرن السادس عشر بالزمان الصالح للفلسفة، فقد استغرق اللاهوت المفكرين الناشطين، وسير الإيمان العقل في ركابه بعد أن سيطر على كل شيء. ورفض لوثر العقل لأنه ينزع بصاحبه إلى الكفر (93)، ولكن حالات الكفر كانت نادرة. فقد أحرق قسيس هولندي في لاهاي (1512) لإنكاره الخليقة والخلود ولاهوت المسيح (94)، ولكنه لم يكن واضح الكفر. كتب أخباري إنجليز تحت سنة 1539 "مات هذا العام في جامعة باريس(27/171)
طبيب عظيم أنكر وجود الله، وكان هذا رأيه الذي ثبت عليه مذ كان في العشرين، وقد عمر إلى ما بعد الثمانين، واحتفظ بضلالته هذه سراً طوال هذه السنين (95) ". وفي عام 1552نشر جيوم بوستل كتابه Contra atheos ولكن كلمة atheist ( أي الملحد) قل أن مينز القوم بينها وبين القاتل بمذهب الألوهية، أو القائل بوحدة الوجود، أو الشكاك.
على أنه وجد من الشكاكين عدد يكفي لنيل صفعة من لوثر، فقد روى أنه قال "إن مواد قانون الإيمان أسمى من أن يدركها أبناء هذا العالم العميان. فوحدة الأقانيم الثلاثة في إله واحد، وتجسد ابن الله الحق، ووجود طبيعتين للمسيح هما لاهوته وناسوته، إلخ ..... كل هذا يؤذيهم لأنهم يرون فيه حديث خرافة". ثم أضاف إن بعضهم يتشككون في أن الله خلق أناساً عرف من قبل أنهم هالكون (96). وكان في فرنسا بعض المتشككين في الخلود (97). من ذلك أن بونافنتور دسبرييه سخر في كتابه Cymbalum mundi، (1537) بالمعجزات، وبتناقضات الكتاب المقدس، وباضطهاد أصحاب البدع الدينية. وقد ندد كالفن والسوربون بكتابه هذا، فأحرقه جلاد الدولة. واضطرت مارجريت إلى إقصائه عن بلاطها في نيراك، ولكنها بعثت إليه بالملل لتحفظ عليه حياته في ليون. وفي عام 1544 قتل نفسه، وترك مخطوطاته لمارجريت "دعامة كل صلاح وحاميته" (98).
وظهرت روح الشك في ميدان السياسة متخذة صورة هجمات على حق الملوك الإلهي وحصانتهم، وكان الشكاك هنا عادة إما من المفكرين البروتستنت الذين ضايقهم الحكام الكاثوليك، وإما من المفكرين الكاثوليك الذين يدفعون الثمن غالياً إذا انتصرت الدولة.(27/172)
وقد نشر الأسقف جون بونيت-وكان ساخطاً على ماري تيودور-في عام 1558 "بحثاً موجزاً في السلطة السياسية". قال فيه "إن الأمثلة الكثيرة والمتصلة، التي وجدت بين الحين والحين، لخلع الملوك وقتل الطغاة تؤكد على وجه اليقين أن من أحق الحق والعدل والتمشي مع قضاء الله ... القول بأن سلطان الملوك والأمراء والحكام مصدره الشعب ... وإن للناس أن يستردوا تفويضهم ... حين يشاءون" (99). كذلك كان من رأي أستاذ اسكتلندي يدعى جون ميجر، (وكان له بعض الفضل في تكوين عقل جون نوكس)، أنه ما دام كل سلطان زمني مشتقاً من إرادة الجماعة، فإن من الجائز خلع الملك الطالح وإعدامه، شريطة اتخاذ الإجراء القانوني الواجب.
أما أطرف خصوم الحكم الملكي المطلق فهو كاثوليكي شاب حقق قدراً متواضعاً من الخلود يموته بين ذراعي مونتيني. يقول كاتب المقالة الفذ "إن إتيين دلا بوليتي كان فيما أعلم أعظم رجل في عصرنا (100) ". وقد ولد إتيين هذا لموظف كبير في بيرجور، ودرس القانون في أورليان، ثم عين مستشاراً في "برلمان" بوردو قبل بلوغه السن القانونية. وحوالي عام 1549، يوم كان فتى في التاسعة عشرة ألهمته الأفكار الجمهورية دراسته للأدب اليوناني والروماني، كتب هجوماً عنيفاً على الحكم المطلق- ولكنه لم ينشره قط- وسمى كتابه "مقال عن العبودية الاختيارية". Discours sur la servitude volontaire ولكن بما أن الكتاب ندد بدكتاتورية فرد واحد يتحكم في الكثيرين، فقد سمي Contr' un ( أي خصم الواحد). فليسمع القارئ نداءه:(27/173)
"أي عار وأي خزي في أن يطيع عدد لا يحصى من الرجال طاغية عن رضى واختيار، بل بروح العبيد! طاغية لا يدع لهم حقوقاً في عقار أو أبوين أو زوجة أو ولد، ولا حتى في حياتهم ذاتها-فأي نوع من الرجال هذه الطاغية؟ ما هو بهرقول ولا بشمشون؛ بل كثيراً ما يكون قزماً، وكثيراً ما يكون أشد الجبناء تخنثاً في الشعب كله- فليست قوة بدنه هي التي تضفي عليه النفوذ والسلطة، وكثيراً ما يكون عبداً لأحط المومسات. ليت شعري ما أشقى رعاياه وأحقرهم؛ إن كان اثنان، أو ثلاثة. أو أربعة، لا يثورون على واحد، فذلك معناه الواضح أن الشجاعة تعوزهم. أما إذا كان المئات والألوف لا يخلعون عنهم نير فرد، فما الذي يبقى من الإرادة الفردية والكرامة الإنسانية؟ ... إن حصول الفرد على حريته لا يقتضي بالضرورة استعمال القوة ضد الطاغية. إنه يسقط حالما تمل البلاد وجوده. ولا حاجة بالشعب الذي أذله واستعبده أن يحرمه أي حق له. فالتحرر لا يتطلب شيئاً أكثر من الإرادة الصادقة لخلع النير ... فاعزموا عزماً صادقاً ألا تكونوا عبيداً بعد اليوم- وإذا أنتم أحرار! أمسكوا عن الطاغية المعونة يسقط ويتحطم كأنه تمثال عملاق سحبت قاعدته من تحت قدميه (101).
ومضى لابوييتي يشكل بآرائه فكر روسو وتوم بين من بعده. فهو يقول إن الإنسان يتوق بطبعه إلى الحرية، ومفارقات الحظ هي بنت الصدفة، وهي تحمّل المحظوظين الالتزام بخدمة إخوتهم في الإنسانية، وكل الناس إخوان "صنعوا من طينة واحدة"، وصانعهم إله واحد. والعجيب أن قراءة هذا الرأي المتطرف هي التي جذبت مونتيني- على ما طبع عليه من اتزان وحيطة- إلى لابوييتي، وأفضت (1557) إلى صداقة من أشهر الصداقات(27/174)
في التاريخ. وكان مونتيني يومها في الرابعة والعشرين، وإتيين في السابعة والعشرين، ولعل مونتيني كان آنئذ من الحداثة بحيث يستطيع تقبل العواطف المتطرفة. على أن صداقتهما سرعان ما ختمت بكون لابوييتي ولما يجاوز الثاني والثلاثين (1563)، ووصف مونتيني أيامه الأخيرة وكأنه يتذكر وصف أفلاطون لموت سقراط. وبلغت حدة إحساسه بفقد ذلك الفتى المشبوب العاطفة مبلغاً جعله يذكر موته- بعد أن انقضت عليه سبعة عشر عاماً- بشعور أشد عمقاً من ذكره لأي تجربة أخرى جاز بها في حياته. ولم يكن راضياً عن طبع كتاب صديقه ( Discours) وحزن حين نشره راعي كنيسة في جنيف (1576). وقد علل تأليف الكتاب بروح الشباب السمحة، وأرجع كتابته إلى سن أسبق هي السادسة عشرة. لقد أوشك هذا الصوت أن يكون صوت الثورة الفرنسية.
9 - راموس والفلاسفة
كانت حياة بتروس راموس- بيير دلاراميه- لا تقل شاعرية عن حية لابوييتي، وموته أشد عنفاً. لقد آلى على نفسه أن يخلع نير أرسطو.، إذ رأى فيه حكم رجل واحد دام نيفاً وثلاثة قرون، لا على أمة واحدة فحسب بل على أنن كثيرة، لا على الجسد بل على العقل، بل كاد يبسط سلطانه على الروح. أو لم ينصب هذا المفكر الوثني فيلسوفاً رسمياً للكنيسة؟ لقد فكر إنسانيو النهضة في إحلال أفلاطون محله، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي- أو الخشية من الحركة- أخذت تخنق الحركة الإنسانية، وظلت الكلامية الأرسطاطالية، سواء في ألمانيا(27/175)
البروتستنتية أو في فرنسا الكاثوليكية، متربعة على العرش حين مات لوثر (1546) الذي لعنها. وبدا خلع هذا المقدوني عن عرشه في نظر الشاب المفكر أحل صورة من صور قتل الطغاة. فلما تقدم راموس لدرجة الأستاذية من جامعة باريس عام 1536، وكان يومها في عامه الواحد والعشرين، اتخذ موضوعاً لرسالته هذه الدعوى القاطعة التي كان عليه أن يدافع عنها يوماً بطوله أمام من تحدوه من الكلية وخارجها: "كل ما قاله أرسطو باطل".
كانت حياة راموس أشبه بنشيد يتغنى بالتعليم. فقد ولد قرب مدينة كالفن "نوايون" في إقليم بيكاردي، وحاول مرتين السفر إلى باريس على قدميه يحدوه تعطش إلى كلياتها، ولكنه أخفق في المرتين وقفل إلى قريته مهزوماً. ثم حالفه التوفيق في عام 1528، حين بلغ الثانية عشرة، إذ التحق بخدمة طلب غني يحضر للجامعة في كلية نافار- وهي نفس الكلية التي سرقها فيون. وشق بيير طريقه في منهج كلية الآداب العسير طوال سنوات ثمان، يخدم نهاراً ويذاكر ليلاً. وكاد يفقد بصره خلال ذلك، ولكنه عثر على أفلاطون. يقول:
"حين جئت باريس وقعت فريسة لتدقيقات السفسطائيين، فعلموني الآداب الحرة بالأسئلة والمجادلات، دون أن يدلوني على أية فائدة أو منفعة أخرى. فلما تخرجت ... انتهيت إلى أن هذه المجادلات لم تكن سوى مضيعة لوقتي. ولما أفزعتني هذه الفكرة، وهداني ملك كريم، وقعت على زينوفون ثم على أفلاطون، ووصلت إلى معرفة فلسفة سقراط" (102).
ما أكثر من وصلوا منا في عهد الشباب إلى هذا الكشف المبهج، وسعدوا يوم التقوا في أفلاطون بفيلسوف سرت الخمر والشعر في عروقه، وسمع صوت الفلسفة في هواء أثينا نفسه، وأمسك بها وهي محلّقة، وأسلمها(27/176)
إلى الأجيال التالية وهي لا تزال تحمل نسمة الحياة، وأصوات سقراط وتلاميذه لا تزال تجلجل بقوة النقاش ونشوة الجدل حول أشد المسائل إثارة في العالم! يا لها من راحة يستمتع بها المرء بعد صفحات أرسطو المملة، بعد الإسهاب في حديث "توسط الطريق"، "والوسط غير الأمثل"! بالطبع كنا- وكان راموس- غير منصفين لأرسطو، إذ نقارن مذكرات محاضراته المحكمة بمحاورات أستاذه الميسرة، ولا يستطيع تقدير الفيلسوف المقدوني سوى الراسخين في العلم. فلقد كان أرسطو الذي عرفه راموس هو أولاً منطق "الأورجانون"، أرسطو المدارس، الذي لا يكاد يثبت لمحنة الترجمة إلى لاتينية الكلاميين، ومحنة التحويل السحري إلى أكوينية تقليدية مسيحية طيبة. ويقول راموس إنه أنفق ثلاث سنين في دراسة منطق أرسطو دون أن يبصره أحد بفائدة واحدة أو تطبيق واحد له في العلم أو الحياة (103).
وأنها لمفخرة لكلية باريس، ولعلم راموس وحذقه وشجاعته، أن يمنح درجة الأستاذية التي تقدم لنيلها، ولعل الأساتذة أيضاً كانوا قد سئموا المنطق والاعتدال. ولكن بعضهم صدموا وأحسوا أن بضاعتهم لحقها ضرر من نقاش ذلك اليوم. وبدأت عداوات لم تفتأ تلاحق راموس حتى مماته.
وخولت له درجة الأستاذية الاشتغال بالتدريس، فبدأ لفوره في الجامعة سلسلة من المحاضرات مزج فيها الفلسفة بأدب اليونان والرومان. وكثر تلاميذه، وتضاعف كسبه، واستطاع أن يرد لأمه الأرملة ما بذلته من مدخراتها لتدفع رسوم تخرجه. وبعد سبعة أعوام من التحضير أصدر سنة 1543 (وهي نفس "سنة العجائب" التي صدرت فيها كتب كوبرنيق وفيساليوس)، كتابين واصلا حملته لإسقاط منطق أرسطو. وكان أحدهما، وهو: Aristotelicae animadversiones" هجوماً مباشراً صاغه أحياناً(27/177)
في عبارات من القدح لا هوادة فيها، أما الآخر عن أقسام المنطق فقد قدم نسقاً جديداً يحل محل القديم. فأعاد تعريف المنطق باعتباره فن الحديث، وجمع بين المنطق والأدب والخطابة في طريقة إقناع فنية واحدة. وتوجس المهيمنون على الجامعة- ولهم العذر في توجسهم- مما قد يجر إليه هذا المأخذ من أخطار. يضاف إلى هذا ارتيابهم في بعض قضايا راموس التي شموا منها رائحة الهرطقة، كقوله مثلاً: "إن عدم التصديق بداية المعرفة" (104) - وهذا تشكك ديكارتي سابق لديكارت، أو طلبه مزيداً من دراسة الكتب المقدسة بدلاً من دراسة مجلدات الفلاسفة الكلاميين- وكان لهذا الطلب رنين بروتستنتي، أو تعريفه اللاهوت بأنه doctrina bene vivendi وهو تعريف هدد بإحالة الدين أخلاقاً. ثم هناك طرق راموس المثيرة للغيظ، وكبرياؤه ومشاكسته، وأسلوبه الجدلي العنيف، وترفعه القاطع على القطع بالعقيدة.
وما إن نشر الكتابان حتى دعا مدير الجامعة راموس للمثول أمام رئيس بلدية باريس بوصفه عدواً للدين، ومكدراً للسلام العام، ومفسداً للشباب بالبدع الخطرة وعقدت المحاكمة أمام لجنة ملكية من خمسة أعضاء- اثنان عينهما راموس، واثنان متهموه، وخامس فرانسوا الأول. ولم يرض رامواس عن إجراءات للمحاكمة، فسحب مندوبيه. وأصدر الثلاثة الباقون حكمهم ضده (1544)، فمنع بأمر ملكي من المحاضرة، أو النشر، أو المزيد من مهاجمة أرسطو. وعلقت صورة الحكم في أرجاء عديدة من المدينة، وأرسلت إلى الجامعات الأخرى. وأخرى الطلاب هزليات تهكموا فيها براموس، وسخر رابليه من هذا الشجار بإشراك الآلهة فيه.
ولزم راموس الصمت فترة، ثم بدأ سلسلة من المحاضرات في كلية آفي ماريا، ولكنه اقتصر على تدريس البلاغة والرياضيات، وأغضت الحكومة عن المخالفة. وفي عام 1545 أصبح المدير المساعد لكلية بريسل،(27/178)
وما لبثت قاعة محاضراته أن ازدحمت بالطلاب. فلما تولى هنري الثاني العرش بعد فرانسوا الأول ألغى الحكم الصادر على راموس وتركه "حر اللسان والقلم"، وبعد عام في كرسي بالكلية حيث يعفى من أشراف الجامعة.
أما وقد بلغ راموس قصاراه إذ غدا أشهر معلم في باريس، فإنه خصص الكثير من وقته وجهده لإصلاح الطرق التربوية. وإذا كان قد اتكأ على "البلاغة"- وكانت آنئذ تعني الأدب- فلم يكن هذا لتنشيط الفلسفة بالشعر فحسب، بل لبث إنسانية نابضة بالحياة في مناهج صيرتها التجريدات والقواعد الكلامية جافة عسيرة. وفي خمس مقالات عن النحو طبق المنطق على اللغة، ورجا أن يصبح الهجاء الفرنسي صوتياً، ولكن هذا الهجاء واصل سيره المترنح، على أنه نجح في أن يدخل في الأبجدية الفرنسية حرفي j و v ليحلا محل الحرفين الساكنين I و u. ثم شجع تقرير المنح الدراسية لفقراء الطلبة، ذاكراً كفاحه وهو مملق في سبيل التعليم، وندد بالرسوم الباهظة التي تقاضاها الجامعات عن التخرج، وناضل في الوقت نفسه لرفع رواتب المدرسين.
وفي عام 1555 نشر كتابه Dialectique، وهو أول كتاب في المنطق بالفرنسية. وكان يحاج الآن لا عن الإقناع بالجدل والمنطق فحسب، بل دفاعاً عن العقل. كان بفطرته عدواً للنزعة التقليدية ولمجرد الاستشهاد بالثقاة، وقد رأى في العقل المرجح الوحيد الذي يحتكم إليه، وآمن في حماسة رجال النهضة أن العقل سيبلغ بالعلوم جميعها مرتبة تقرب من الكمال في قرن واحد له أطلق له العنان (105). كتب يقول: "كان شغلي الشاغل أن أزيح من طريق الآداب الحرة ... كل العقبات والمعوقات الفكرية، وأن أعبد هذا الطريق وأقومه، لا تيسيراً للتفكير فحسب، بل لممارسة الآداب الحرة واستخدامها (106) ".(27/179)
وأغراه خلقه وفلسفته بالتعاطف مع الثورة البروتستنتية. فلما حصل الهيجونوت حيناً على التسامح مع الحكومة، بل وعلى الاشتراك فيها، أعلن راموس إتباعه المذهب الإصلاحي الجديد (1561). وفي بواكير عام 1562 مزق بعض تلاميذه الصور الدينية المعلقة في كنيسة كلية بريسل. وواصلت الحكومة دفع راتبه، ولكن مركزه كان يزداد حرجاً. فلما نشبت الحرب الأهلية (1562) غادر باريس بترخيص مرور من كاترين دي مديتشي، ثم عاد بعد عام حين وقعت معاهدة الصلح. وقد رفض في أدب دعوة وهت إليه ليشغل كرسياً في جامعة بولونيا، معتذراً بأن فرنسا طوقت عنقه بدين لا يسمح له بالرحيل عنها.
أما المعركة التي أفضت إلى موته فقد أصبحت علنية حين أفلح ألد أعدائه المدعو جاك شاربنتييه، في أن يشتري بالمال كرسي الرياضيات بالكلية الملكية (1565) (107)، على الرغم من اعترافه صراحة بجهله في العلوم الرياضية. وندد راموس بهذا التعيين، فهدد شاربنتييه، ولجأ راموس إلى المحاكم لتحميه، فأودع شاربنتييه السجن، ولكن أفرج عنه بعد قليل، وحاول بعضهم اغتيال راموس مرتين، فلما استؤنفت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستنت (1567) غادر باريس ثانية. وقضت الحكومة الآن بألا يقوم بالتدريس في الجامعة أو الكلية الملكية غير الكاثوليك. فلما عاد راموس إلى باريس اعتزل الحياة العامة، ولكن كاترين واصلت دفع راتبه وضاعفته، وأصبح حراً في أن يفرغ للدرس والتأليف.
وفي يوليو 1572 دعاه مونلوك أسقف فالانس للانضمام إلى بعثة موفدة لبولنده، ولعل الأسقف توقع حدوث مذبحة القديس بارتولوميو، وفكر في حماية الفيلسوف الشيخ. ولكن راموس رفض، إذ لم يرقه مشروع تنصيب الأمير هنري أنجو على عرش بولندة. وسافر مونلوك في 17 أغسطس،(27/180)
وبدأت المذبحة يوم 24. وفي اليوم السادس والعشرين اقتحم رجلان مسلحان كلية بريسل وصعدا إلى الطابق الخامس حيث مكتب راموس. ووجداه يصلي فرماه أحدهما برصاصة في رأسه، وطعنه الآخر بسلاحه، ثم قذفه الاثنان معاً من النافذة. وجر الطلبة أو الرعاع الجسد الذي ما زال ينبض بالحياة إلى نهر السين وألقوه فيه، وأخرجه نفر آخر منهم وقطعوه إرباً (108). أما من الذي استأجر القتلة فعلمه عند الله، ويبدو أنها ليست الحكومة، فالظاهر أن شارل التاسع وكاترين ظلا راضيين عن راموس إلى النهاية (109). واغتبط شاربنتييه بالمذبحة وبقتل خصمه: "هذه الشمس الساطعة التي أضاءت فرنسا خلال شهر أغسطس ... لقد زال الهراء بزوال صاحبه. وكل الناس الطيبين يفيضون بشراً (110) ". وبعد عامين مات شاربنتييه نفسه، بتأنيب الضمير كما يقول بعضهم، ولكن ربما كان هذا شرفاً لا يستحقه.
لقد بدا راموس مهزوماً سواء في الحياة أو التأثير. فأعداؤه انتصروا عليه، ومع أن بعض "الراموسيين" سمعت أصواتهم في الجيل التالي في فرنسا وهولندة وألمانيا، فإن الفلسفة الكلامية التي حاربها استعادت تفوقها، ونكست الفلسفة الفرنسية رأسها حتى جاء ديكارت. ولكن إذا كانت الفلسفة لم تحرز في هذه الحقبة إلا كسباً ضئيلاً، فإن الخطوات التي خطاها العلم كانت خطيرة؛ لقد بدأ العلم الحديث بكوبرنيق وفيساليوس. وتضاعفت المساحة المعروفة من الدنيا، وتغير منظر العالم كما لم يتغير قط من قبل في التاريخ المدون. وأخذت المعرفة تنمو سريعاً من حيث المجال والانتشار، وراح استعمال اللغات الوطنية في العلم والفلسفة- على نحو ما فعل باريه وباراسيلسوس في الطب، وراموس في الفلسفة- يتسع فيشمل تعليم الطبقات الوسطى وأفكارها التي اقتصرت من قبل على المتخصصين من العلماء والقساوسة. وتحطمت "كعكة التقاليد"، وانكسر قالب العقيدة، وتهاوت قبضة الاستناد إلى السلف. وحل الإيمان من مراسيه فتدفق بحرية جديدة متخذة أشكالاً لا حصر لها.(27/181)
كان كل شيء يجري متدفقاً إلا الكنيسة. ووقفت حيناً وسط هذه الثورة حائرة مشدوهة، لا تكاد أول الأمر تدرك خطورة الأحداث. ثم تصدت في عزيمة وتصميم لذلك السؤال الخطير الذي واجهها: أمن واجبها أن تكيف تعاليمها وفق مناخ الأفكار وسيولتها الجديدين، أم تقف جامدة وسط كل التقلبات، وتنتظر حتى يرد بندول الفكر والعاطفة الناس، في تواضع وتعطش، إلى تعزياتها وسلطانها؟ وكان جوابها عن هذا السؤال هو الفيصل في تاريخها الحديث.(27/182)
الكتاب الخامس
معارضة الإصلاح البروتستنتي
1517 - 1565(27/184)
الفصل الثامن والثلاثون
الكنيسة والإصلاح
1517 - 65
1 - المصلحون البروتستنت الإيطاليون
ما كان المرء ليتوقع أن يجد في إيطاليا الوثنية مناخاً، المشركة بنية، المحبذة لإيمان لطيف فنان، الآهلة بالقديسين الخالدين تنتقل صورهم-سواء المرهبة منها والمحبوبة-كل سنة بين الشوارع، المثرية بفضل الذهب الذي يبعث به إلى الكنيسة العديد من الدول التابعة-نقول إن المرء ما كان ليتوقع أن يجد في بلد كهذا رجالاً ونساءً آلوا على أنفسهم أن يغيروا هذا الإيمان الجميل المقدس-ولو لقوا دون هذا حتفهم أحياناً-بعقيدة كابية ندها السياسي هو كره أمم الشمال أن تسمن إيطاليا بعائدات تدينها. ومع ذلك فقد ظهر في كل مكان بإيطاليا أناس شعروا بالمفاسد التي حطت من قدر الكنيسة شعوراً أحد وأصدق حتى من شعور الألمان أو السويسريين أو الإنجليز. وكانت الطبقات المتعلمة تطالب في إيطاليا أكثر منها في أي بلد آخر بتحرير العقل من الولاء للأساطير التي سحرت الجماهير وسيطرت عليها حتى ولو كان هذا الولاء ظاهرياً، هذا مع أن هذه الطبقات المتعلمة كانت تتمتع فعلاً بقسط من حرية التعليم والتفكير.
ظهرت بعض كتابات لوثر في أكشاك الكتب بميلانو في عام 1519، وبالبندقية في عام 1520. واجترأ راهب في كاتدرائية القديس مرقس نفسها (بالبندقية) على التبشير بتعاليم لوثر. وكتب الكردينال كارافا إلى البابا كلمنت السابع (1532) يقول إن الدين هبطت أسهمه(27/185)
في البندقية، وإن القليلين جداً من البنادقة يراعون الأصوام أو يجلسون على كرسي الاعتراف. وإن كتب الهرطقة رائجة هناك. ووصف كلمنت نفسه البدعة اللوثرية بأنها واسعة الانتشار بين صفوف الكهنة والعلمانيين في إيطاليا، وفي عام 1535 زعم المصلحون الدينيون الألمان بأن لهم ثلاثين ألفاً من الأتباع في موطن الكنيسة الكاثوليكية (1).
كانت أرفع السيدات مقاماً في فرارا بروتستنتية غيوراً. فقد تشربت رينيه ابنة لويس الثاني عشر الأفكار الجديدة من مارجريت النافارية من جهة، ومن مربيتها مدام سوبيز من جهة أخرى. وجاءت الأميرة بهذه السيدة معها حين تزوجت (1528) من إركولي دستي، الذي أصبح (1534) ثاني دوق بهذا الاسم يحكم فرارا. وزارها كالفن هناك (1536) وزاد معتقداتها البروتستنتية قوة وحدة. ووفد عليها كليمان مارو، ثم أوبير لانجيه الفقيه الهيجونوتي. وتلقاهم إركولي جميعاً بأسلوب النهضة المهذب إلى أن صاح أحدهم خلال عبادة الصليب في يوم السبت المقدس (1536) " idolatria! " ( أي عبادة أوثان!)، وهنا سمح إركولي لمحكمة التفتيش باستجوابهم. فهرب كالفن ومارو، أما الباقون فيلوح أنهم نجوا بعد أن أكدوا سلامة عقيدتهم. ولكن رينيه جمعت بعد عام 1540 حاشية بروتستنتية جديدة وانقطعت عن حضور الصلوات الكاثوليكية. وهدأ إركولي ثائرة البابا بنفيها إلى فيلا الدوق في كونساندولو على نهر بو، ولكنها أحاطت نفسها هناك أيضاً بالبروتستنت، ونشأت بناتها على المذهب الإصلاحي الجديد. ولما خشي إركولي أن تصبح بناته البروتستنت بياذق عديمة القيمة في شطرنج الزيجات السياسية نقلهن إلى دير للراهبات. وأخيراً سمح لمحكمة التفتيش بتوجيه الاتهام إلى رينيه وأربعة وعشرين شخصاً من بيتها. فدينت بالهرطقة وحكم عليها بالسجن المؤبد (1554). وهنا أعلنت إنكارها للهرطقة، وتناولت القربان المقدس، وأعيدت إلى حظيرة الدين(27/186)
والسياسة (2)، ولكن آرائها الحقيقية وجدت تعبيراً صامتاً في تلك العزلة الحزينة التي أنفقت فيها سني عمرها الأخيرة. وبعد موت إركولي (1559) عادت إلى فرنسا، حيث جعلت من بيتها في مونتارجي ملاذاً يحتمي به الهيجونوت.
كذلك مرت مودينا بلحظة بروتستنتية مثيرة، وكانت هي أيضاً تحت حكم إركولي. وذلك أن أكاديمية العلماء والفلاسفة فيها سمحت بقسط كبير من حرية النقاش. واشتبه في هرطقة بعض رجالها ومنهم جابرييلي فاللوبيو تلميذ فيساليوس وخليفته. وكان راهب سابق يدعى باولو ريتشي يندد بالبابوية صراحة في عظاته. وراح الناس يناقشون الأفكار اللوثرية في الحوانيت والميادين والكنائس. وقبض على ريتشي وآخرين. وبسط الكاردينال سادوليتو حمايته على الأكاديميين بحجة أنهم موالون للكنيسة وأن من الواجب إطلاق البحث لهم بوصفهم علماء (3). وقنع البابا بولس الثالث بتوقيعاتهم على اعتراف بالإيمان، ولكن إركولي فض الأكاديمية (1546)، وأعدم لوثري عنيد في فرارا (1550). وفي عام 1567، حين عنفت الرجعية الكاثوليكية، أحرق ثلاثة عشر رجلاً وامرأة واحدة بتهمة الهرطقة في مودينا.
وفي لوكَّا أنشأ بييترو مارتيري فرميلي، رئيس دير الكهنة الأغسطينيين، أكاديمية رفيعة المستوى، وجلب لها أفذاذ المعلمين، وشجع حرية المناقشة، وقال لجمهوره الكبير من المصلين إن لهم أن ينظروا إلى سر القربان لا على أنه تحول معجز بل تذكر ورع لآلام المسيح، وكان في هذا لوثرياً أكثر من لوثر. فلما استدعي للمثول بين يدي مجلس رهبنته في جنوة لاستجوابه هرب من إيطاليا، وندد بأخطاء الكاثوليكية، ومفاسدها، وقبل وظيفة أستاذ للاهوت في أكسفورد (1548). وقد شارك في صياغة كتاب "الصلوات العامة" (1552) بقسط مختلف(27/187)
فيه، وغادر إنجلترا حين استعادت الكاثوليكية سلطانها فيها، ومات أستاذاً للعبرية بزيوريخ عام 1562. وقد حذا ثمانية عشر كاهناً من ديره في لوتشا حذوه، "فهجروا رهبنتهم ورحلوا عن إيطاليا".
كان الفضل في توجيه فرميلي وسورانو أسقف برجامو وكثيرين غيره هذين إلى الأفكار الجديدة لرجل يدعى جوان دي فالديس. ولعله هو وشقيقه ألفونسو، وهما من أسرة قشتالية عريقة، ألمع التوائم مواهب في التاريخ. أما ألفونسو، تلميذ إرزمس الوفي، فقد أصبح سكرتيراً لاتينياً لشارل الخامس، وكتب Dialogo de Lactaico (1529) ، وفي هذا الحوار دافع عن "تهب روما"، وقال إن لوثر ما كان ليترك الكنيسة قط لو أنها أصلحت المفاسد التي ندد بها عن بدلاً من أن تحكم بإدانته. وأما جوان فقد شارك في هذا الكتاب ذاته بحوار سماه Dialogo de Mercurio y caron، كانت هرطقاته سياسية، من ذلك قوله إن من الواجب إلزام الأغنياء بكسب قوتهم، وإن ثروة الأمير ملك للشعب، وينبغي ألا تتبدد في حروب أمبريالية أو دينية (4). وآثر كلمنت السابع جوان بطبيعة الحال، فعينه أميناً بالقصر البابوي حين كان في الثلاثين من عمره. على أن جوان رحل إلى نابولي حيث انقطع للتأليف والتدريس، وظل على ولائه للكنيسة، ولكنه حبذ عقيدة لوثر في التبرير بالإيمان، ورأى للتصوف المخلص قدراً يسمو فوق أي طقس خارجي من طقوس العبادة. والتف حوله جماعة ممتازة من الرجال والنساء وارتضوا زعامته: كفرميلي، وأوكينو، والشاعر ماركانطونيو فلامينيو، وبيترو كارنيزيكي، وفيتوريا كولونا، وكوستانزا دافالوس دوقة أمالفي، وإيزابللا مانريكيز أخت رئيس محكمة التفتيش الأسبانية، وجوليا جونزاجا التي عرفنا ما كانت تتمتع به من جمال رائع. وبعد أن مات جوان فالديس (1541) تفرق تلاميذه في أرجاء(27/188)
أوربا. وظل بعضهم وفياً للكنيسة كفتوريا كولونيا، وطور آخرون تعاليمه فبلغوا بها الهرطقة السافرة. وقطعت رءوس ثلاثة من صغار تلاميذه وأحرقوا في نابلي عام 1564، وكذلك كانت نهاية كارنيزيكي بروما في عام 1567. أما جوليا جونزاجا فقد أنقذها موت البابا بولس الرابع، وكان رجلاً قاسياً لا يرحم، ودخلت ديراً للراهبات (1566) وهكذا انتهت جماعة الإصلاح النابولية.
أما برناردينو أوكينو فقد جاز بكل مراحل التطور الديني. عاش في مدينة سيينا بقرب مسقط رأس القديسة كاترين، حياة تضارع حياتها تقوى وورعاً. وانضم إلى رهبان الفرنسسكان ولكنه وجد نظامهم أكثر رخاوة مما يلائم مزاجه، فانتقل إلى رهبنة الكبوشيين الأكثر صرامة. وقد عجب الرهبان من نكرانه النسكي لذاته، وإذلاله العنيف لجسده، ولما نصبوه وكيلاً عاماً لهم أحسوا أنهم اختاروا قديساً. وترددت مواعظه في أرجاء إيطاليا-في سيينا، وفلورنسة، والبندقية، ونابلي، وروما؛ إذ لم تسمع البلاد نظيرها حرارة أو بلاغة منذ عهد سافونارولا قبل ذلك بقرن. وذهب شارل الخامس ليسمعه، وتأثرت فتوريا كولونا به أعمق التأثر، أما بيترو أريتينو، الذي جرب كل الخطايا تقريباً، فقد حركه الاستماع إليه فانقلب مفرطاً في تقواه. وضاقت كل الكنائس بسامعيه على رحابتها، ولم يخطر ببال أحد أن هذا الرجل سيموت مهرطقاً.
ولكنه التقى بفالديس في نابلي، وبفضله ألم بمؤلفات لوثر وكالفن. ووافقت عقيدة التبرير بالإيمان روحه، فبدأ يلمح لها في عظاته. وفي عام 1542 دعي للمثول أمام السفير البابوي في البندقية ومنع من الوعظ. وما لبث البابا بولس الثالث أن دعاه إلى روما ليناقش معه الآراء الدينية لبعض الرهبان الكبوشيين. ولعل أوكينو كان يثق بالبابا المستنير، ولكنه خاف ذراع محكمة التفتيش الطويلة، وحذره الكردينال كونتاريني من(27/189)
الخطر المحدق به. وفجأة قرر قديس إيطاليا ومعبودها هذا، بعد أن التقى ببيتر فرميلي في فلورنسة، أن يحذو حذوه ويعبر جبال الألب إلى بلد بروتستنتي، وأعطاه أخ لفتوريا كولونا جواداً، وفي فرارا أعطته رينيه ثياباً. ومضى مخترقاً إقليم جريزون إلى زيوريخ ومنها إلى جنيف. وقد أبدى استحسانه للنظام البيورتاني الذي كان كالفن يرسي أسسه هناك، ولما كانت ألمانيته أقوى من فرنسيته فقد انتقل إلى بازل ثم إلى استراسبورج ثم إلى أوزبورج، محاولاً كسب قوته بلسانه أو قلمه. وفي عام 1547 دخل شارل الخامس أوجزبورج سيداً على ألمانيا بعد أن سحق البروتستنت في مولبرج. ونمى إليه أن الراهب الكبوشي الذي سمعه في نابلي يعيش هناك رجلاً متزوجاً، فأمر القضاة بالقبض عليه، ولكنهم تستروا على فرار أوكينو، الذي هرب إلى زيوريخ وبازل. ولما أوشك زاده على النفاد، تلقى دعوة من رئيس الأساقفة كرامر للذهاب إلى إنجلترا. وهناك عكف على العمل بوصفه كاهناً فخرياً يتقاضى معاش تقاعد في كنتربري ست سنوات (1547 - 53)، وقد ألف كتاباً كان له أثر قوي في قصيدة ملتن "الفردوس المفقود"، ولكنه عجل بالعودة إلى سويسرة حين اعتلت ماري تيودور العرش.
وحصل على وظيفة راع للكنيسة في زيوريخ، ولكن الشعب استاء من آرائه التوحيدية، وطرد حين نشر حواراً بدا فيه المدافع عن تعدد الزوجات أقوى حجة من نصير الزواج الواحد. ومع أن ذلك كان في شهر ديسمبر (1563)، فقد أمر بمغادرة المدينة خلال ثلاثة أسابيع. ورفضت بازل الإذن له بالإقامة فيها. وسمح له بالمكث فترة وجيزة في نورمبرج، وما لبث أن خرج بأسرته قاصداً بولندة، وكانت يومها بالقياس إلى غيرها ملاذاً للمريبين من المفكرين. واشتغل بالوعظ في كركاو زمناً ولكنه طرد حين نفى الملك جميع الأجانب غير الكاثوليك (1564). وفي الطريق من بولندة إلى مورافيا قضى الطاعون على ثلاثة من أبنائه الأربعة. ولم(27/190)
يعش بعدهم سوى شهرين، ومات في شاكاو في ديسمبر 1564. وكانت آخر كلماته تقريباً "لست أريد أن أكون بولنجرياً ولا كالفيناً ولا بابوبياً، بل مسيحياً فقط" (5). ولم يكن هناك أشد من هذا خطراً.
أما أن تتحول إيطاليا إلى البروتستنتية فكان بالطبع ضرباً من المحال. فقد كان عامة الشعب هناك برغم عدائهم للأكليروس متعلقين بالدين وإن لم يؤموا الكنائس. كانوا يحبون الاحتفالات والمراسيم التي قدسها مرور الزمن، ويحبون القديسين المعينين أو المعزين، ويحبون العقيدة التي ندر تشككهم فيها، والتي رفعت حياتهم من فقر بيوتهم إلى سمو أعظم الدرامات التي تصورها عقل الإنسان-وهي افتداء الإنسان الساقط بموت إلهه. وأعان خضوع إيطاليا السياسي لأسبانيا المغالية في التدين على إبقاء شبهي الجزيرة كاثوليكيتين. وكانت ثروة البابوية ميراثاً إيطالياً ومصلحة إيطالية راسخة، وأي إيطالي يرى القضاء على هذه المنظمة الجابية للجزية كان يبدو في نظر معظم الإيطاليين مشرفاً على الجنون. وقد اختلفت الطبقات العليا مع البابوية باعتبارها قوة سياسية تتسلط على وسط إيطاليا، ولكنها اعتزت بالكاثوليكية عوناً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والحكومة الحافظة للسلام، وأدركت أن عظمة الفن الإيطالي مرتبطة بالكنيسة بفضل إلهام أساطيرها ومعونة ذهبها. لقد أصبحت الكاثوليكية ذاتها فناً، وطغت عناصرها الحسية على عناصرها النسكية واللاهوتية؛ فالزجاج المعشق، والبخور، والموسيقى، والعمارة، والنحت، والتصوير، وحتى الدراما-هذه كلها كانت في الكنيسة ومن الكنيسة، وبدت في مجموعها المعجز جزءاً لا ينفصل عنها. ولم يكن بفناني إيطاليا وعلمائها حاجة إلى التحول عن الكاثوليكية، لأنهم حولوا الكاثوليكية إلى العلم والفن. وكان المئات بل الألوف من العلماء والفنانين يتمتعون بمعونة الأساقفة والكرادلة والبابوات، وارتقى الكثير من الإنسانيين، وبعض الشكاكين المؤدبين،(27/191)
إلى مكانة مرموقة في الكنيسة. وأحبت إيطاليا الجمال القريب المنال حباً جماً لم يسمح لها أن تسلب نفسها في سبيل الحقيقة البعيدة المنال. وهل وجد الحقيقة هؤلاء التيتون المتعصبون، أو ذلك البابا المصغر، المتجهم، الحاكم لجنيف، أو ذلك الغول القاسي المتربع على عرش إنجلترا؟ وأي هراء محزن يتصايح به هؤلاء المصلحون-في الوقت الذي نسيت فيه الطبقات المثقفة في إيطاليا الجحيم والهلاك كل النسيان! كان في وسع المرء أن يفهم الرفض الصامت المستتر للاهوت المسيحي إيثاراً لربوبية غامضة لطيفة، أما تغيير سر التحول (تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه) ليحل محله هول جبرية محتومة فذلك أشبه بالانتقال من رمزية مبهجة إلى سخافة انتحارية. وفي هذا الوقت بالذات، بعد أن بسطت الكنيسة جناحيها الغافرين على نزعات الإيطاليين الوثنية، كان كالفن يطلب الدنيا بأن تكفل نفسها بأغلال بيورتانية تهدد بتجريد الحياة من كل فرح وتلقائية. وأتى للبهجة والفن الإيطاليين أن يدوما إذا كف هؤلاء التيوتون والإنجليز الهمج عن إرسال نقودهم أو جلبها إلى إيطاليا؟.
2 - المصلحون الكاثوليك الإيطاليون
ونتيجة لهذا كله اتجه الإجماع في إيطاليا إلى ضرورة الإصلاح داخل الكنيسة. والحق أن رجال الكنيسة المخلصين ظلوا قروناً يسلمون بالحاجة إلى الإصلاح الكنسي بل ويطالبون به. ولكن تفجر حركة الإصلاح البروتستنتي وتقدمها أضافا إلحاحاً جديداً على الحاجة والمطالبة "وانصب على رأس الأكليروس سيل غامر من الشتائم في المئات والألوف من النبذ والصور الساخرة" (6). ومس "نهب وما" ضمير الكرادلة وجماهير الشعب المرتاعين كما س دخولهم. وأعلن عشرات من القساوسة أن هذه الكارثة نذير من الله. وفي عظة للأسقف ستافيليو أمام الروتا (وهو فرع قضائي(27/192)
من الإدارة البابوية) عام 1528 علل ضرب الله لعاصمة العالم المسيحي بعبارات أشبه ما تكون بلغة البروتستنت فقال "لأن البشر كلهم فسدوا؛ إننا لسنا مواطني مدينة روما المقدسة، بل مواطني بابل، مدينة الفساد" (7). وهو ما قاله لوثر.
قبيل عام 1517، في تاريخ غير مؤكد، أسس جوفاني بييترو كارافا والكونت جاتانو داتيني "مصلى الحب الإلهي" في روما للصلاة وإصلاح الذات. واختلف إلى المصلى الخمسون من الرجال النابهين، منهم إياكوبو سادوليتو، وجانماتيو جيبرتي، وجوليانو داتي. وفي عام 1524 أسس جاتانو طريقة للأكليريكيين النظاميين، وهم قساوسة علمانيون يخضعون نفسهم للنذور الديرية. وفض المصلى بعد "نهب روما"، والتحق كارافا وآخرون بالطريقة الجديدة التي اتخذت لها اسماً هو التياتية، نسبة إلى تياتي أوتشييتي، مقر أسقفية كارافا. وقبل في الطريقة رجال مرموقون مثل: بييتر وبيميو، وماركانطونيو فلامينيو، ولويجي بريولي، وجاسبارو كونتاريني، وريجينالد بولي ... وكلهم نذروا أنفسهم للفقر، والعناية بالمرضى، وحياة الفضيلة الصارمة، وكان هدفهم كما قال أول مؤرخ لهم: "تعويض ما في الأكليروس من نقص، بعد أن أفسدت رجاله الرذيلة والجهل مما أفضى إلى خراب الشعب" (5). وانتشر أعضاء الطريقة في شتى أنحاء إيطاليا، وأسهم المثل الذي ضربوه كما أسهمت الإصلاحات البابوية والمجمعية، والمثل الذي ضربوه الكبوشيون والجزويت، في إصلاح خلق الأكليروس الكاثوليكي والبابوات. وضرب كارافا المثل بالتخلي عن كل وظائفه الكنسية ذات الموارد، وتوزيع ثروته الكبيرة على الفقراء.
وكان جيبرتي في شخصه وسيرته صورة للإصلاح الكاثوليكي. فهو في بلاط ليو العاشر من أئمة الإنسانيين، وفي عهد كلمنت السابع أمين أول للإدارة البابوية. وإذ هزته كارثة عام 1527، اعتكف في(27/193)
أسقفيته بفيرونا، وعاش عيشة الراهب المتقشف وهو بدير أسقفيته. وأزعجه انحلال الدين هناك-فالكنائس متهدمة، والوعظ نادر، والقساوسة يجهلون اللاتينية التي يتلون بها القداس، والشعب لا يجلس إلى كرسي الاعتراف إلا نادراً. واستطاع بالقدوة الحسنة والمبدأ القويم والنظام الحازم أن يصلح أكليروسه. يقول مؤرخ كاثوليكي "وسرعان ما ملئت السجون بالقساوسة ذوي الخليلات" (9) وأعاد جيبرتي إنشاء أخوة البر Confraternita della Carita التي أسسها الكردينال جوليانو دي مديتشي عام 1519، وبنى ملاجئ للأيتام، وفتح مصارف الشعب لإنقاذ المقترضين من براثن المرابين. وقام بمثل هذه الإصلاحات الكردينال إركولي جوزانجا (ابن إيزابللا دستي) في مانتوا، وماركو فيدا في ألبا، وفابيو فجيلي في سبوليتو، وكثير غيرهم من الأساقفة الذين أدركوا أن على الكنيسة أن تصلح ذاتها أو تموت.
وسلكت الكنيسة في تاريخ لاحق العديدين من أبطال الإصلاح الكاثوليكي، الذين عاونوا على إنقاذها، في عداد قديسيها. ومن هؤلاء القديس فيليب نيري، وهو نبيل فلورنسي شاب، أسس في روما (حوالي عام 1540) جماعة غريبة تدعى Trinita de Pellegrini ويقضي نظام هذه المجموعة أن يحضر اثنا عشر علمانياً قداس الأحد، ثم يحجون إلى إحدى الباسلقات، أو إلى أحد المروج الريفية، وهناك يلقون أو يسمعون أحاديث التقوى والورع، ويرنمون بالموسيقى الدينية. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة قساوسة، وسموا أنفسهم "آباء المصلى"، ومن ميولهم الموسيقية أضافت كلمة oratorio- التي تعني في الأصل مكان الصلاة-معنى جديداً إلى معناها القديم، وهو الترنيمة الكورالية. ومنهم القديس شارل بوروميو-ابن أخي البابا بيوس الرابع- الذي استقال من وظيفة الكردينال الرفيعة في روما ليطهر الحياة الدينية في ميلانو.(27/194)
فأقر النظام بين رجال الأكليروس بوصفه رئيساً للأساقفة هناك، وكان لهم في تقشفه وتعبده الأسوة الحسنة. وقد لقي في سبيل الإصلاح بعض المقاومة. ذلك أن طريقة دينية تدعى "أوميلياتي"، كانت من قبل تفخر بتواضعها، انحدرت إلى درك الراحة والدعة بل الإباحية. وأمر الكردينال رهبانها أن يطيعوا قانون رهبنتهم، فأطلق أحدهم النار عليه وهو يصلي في الكنيسة. وكانت نتيجة هذه الفعلة أن تحولت رهبة الشعب إلى إجلال لهذا الرجل الذي رأى في الإصلاح خير رد على حركة الإصلاح البروتستنتي. وبفضل جهوده إبان حياته وفي أرجاء أبرشيته أصبح الخلق المهذب القاعدة الفاشية بين الأكليروس والعلمانيين على حد سواء. وأحس الناس بتأثيره في جميع أنحاء إيطاليا، وقد أسهم هذا التأثير في تحويل الكرادلة من نبلاء متعلقين بنعيم الدنيا إلى كهنة أتقياء.
وبدأ البابوات يوجهون اهتمامهم الصادق إلى الإصلاح الكنسي بعد أن حفزهم أمثال هؤلاء. ففي وسط عهد البابا بولس الثالث قدم له الفقيه الشهير جوفان باتيستا كاتشيا بحثاً في إصلاح الكنيسة قال في ديباجته "أرى أن الكنيسة أمنا المقدسة ... قد اعتراها من التغير الكبير ما تبدو معه وقد تجردت من سمات طابعها التبشيري؛ وليس فيها أثر للتواضع وضبط النفس والتعفف والقوة الرسولية" (10). وأظهر البابا بولس ميله بقبوله إهداء الكتاب إليه. وفي 20 نوفمبر 1534 عهد إلى الكرادلة بيكولوميني، وسانسفيرينو، وتشيزي، أن يضعوا برنامج تجديد خلقي للكنيسة، وفي 15 يناير 1535 أمر بتنفيذ مراسيم الإصلاح التي أصدرها البابا ليو العاشر عام 1513 تنفيذاً دقيقاً. على أنه أجل الإصلاح الإيجابي بعد أن وقع في شراك السياسة البابوية والإمبراطورية، وأحدق به خطر زحف العثمانيين، وكره وسط هذه الأزمات أن يهز بنيان الإدارة البابوية أو أداءها لوظيفتها بتغييرات جذرية؛ ولكن الرجال(27/195)
الذين رفعهم إلى مرتبة الكردينالية كانوا كلهم تقريباً معروفين بالنزاهة والتقوى. وفي يوليو عام 1536 قرر عقد مؤتمر إصلاحي في روما دعا إليه كونتناريني، وكارافا، وسادوليتو، وكورتيزي، وألياندر، وبولي، وتومازو باديا، وفيديريجو فريجوزي أسقف جوبيو، وكلهم رجال ملتزمون بالإصلاح، وأمرهم أن يكتبوا تقريراً عن الرذائل الفاشية في الكنيسة، والوسائل التي يشيرون بها للتخفيف منها. وافتتح سادوليتو المؤتمر بأن قرر في جرأة أن البابوات أنفسهم كانوا أهم سبب في تدهور الكنيسة بخطاياهم وجرائمهم وشرههم للمال (11). وظل المؤتمر يجتمع يومياً على مدى ثلاثة شهور. أما روحه الكبير، وهو جاسبارو كونتاريني، فكان ألمع رجال الإصلاح الكاثوليكي. ولد في البندقية (1483) من أسرة شريفة، وتلقى علومه في بادوا المتحررة، وما لبث أن تقلد منصباً مرموقاً في حكومة البندقية. وقد أوفد سفيراً لدى شارل الخامس في ألمانيا، وصحبه إلى إنجلترا وأسبانيا، ثم مثل مجلس الشيوخ في البلاط البابوي (1527 - 30). واعتزل السياسة وانقطع للدرس، وجعل من بيته ملتقى لخيرة رجال الدولة والكنيسة والفلاسفة والإنسانيين في البندقية. ومع أنه كان علمانياً فإنه كان يطيل التفكير في الإصلاح الكنسي، وتعاون تعاوناً نشيطاً مع كارافا. وجيبرتي، وكورتيزي، وبولي. وعرفته إيطاليا كلها مزيجاً نادراً من الذكاء والخلق، وفي عام 1535، ودون أي التماس منه، عينه بولس الثالث كردينالاً مع أنه لم يلتق به قط (12).
وفي مارس 1537 قدمت اللجنة للبابا "نصيحة الكرادلة المعينين لإصلاح الكنيسة"، وقد فضحت هذه النصيحة الاجتماعية، بحرية مذهلة، مفاسد الحكم البابوي، وعزتها بشجاعة أولاً "إلى مغالاة الفقهاء الكنسيين عديمي الضمير في سلطة البابا مغالاة مستهترة". ورأى التقرير "أن بعض(27/196)
البابوات ادعوا الحق في بيع الوظائف الكنسية، وقد أفشت هذه المتاجرة بالرتب الكهنوتية الرشوة والفساد في الكنيسة على نطاق واسع بحيث أشرفت هذه المنظمة العظمى على الخراب بسبب انعدام الثقة في نزاهتها. وحث التقرير على فرض رقابة صارمة على كل نشاط تقوم به الإدارة البابوية، وعلى فرض رقابة على الإعفاءات الكنسية، وعلى وقف دفع المال لنيلها، وعلى مستوى أعلى في جميع الوظائف وفي شروط اختيار الكرادلة والقساوسة، وحظر الجمع بين عدة وظائف كنسية ذات دخل أو الانتفاع بهذه الوظائف غيابياً. وأضاف التقرير "لقد هجر معظم الرعاة قطعانهم في العالم كلها ووكلوها إلى الأجراء". أما الطرق الديرية فيجب تجديدها، وأما أديار الراهبات فيجب إخضاعها للرقابة الأسقفية، لأن زيارة الرهبان لها أفضت إلى الفضائح وتدنيس المقدسات. وأما صكوك الغفران فيجب الإعلان عنها مرة واحدة في العام فقط. واختتم التقرير بهذا النداء الحار للبابا.
"لقد أرضينا ضمائرنا، ولنا وطيد الأمل في أن نرى كنيسة الله وقد صلحت حالها تحت رياستكم .... لقد تسميتم باسم بولس، فلعلكم تحاكونه في محبته. لقد اختير أداة لحمل اسم المسيح إلى الوثنيين، وأملنا أن تكونوا قد اخترتم لتحيوا في قلوبنا وأعمالنا ذلك الاسم الذي نسى منذ أمد بعيد بين الوثنيين ومنا نحن الأكليروس، ولتشفوا علتنا، وتجمعوا خراف المسيح من جديد في حظيرة واحدة، ولتصرفوا عنا غضب الله وانتقامه الذي يتهددنا" (13).
وتقبل بولس بروح طيبة هذه "النصيحة الذهبية" كما سماها الكثيرون، وأرسل صورة منها لكل كردينال. أما لوثر فقد ترجمها إلى الألمانية، ونشرها تبريراً كاملاً لاختصامه روما، على أنه حكم على كاتبي الوثيقة بأنهم "كذابون ... وأوغاد يائسون، يصلحون الكنيسة بالتملق" (14). وفي(27/197)
20 أبريل 1537 عين بولس أربعة كرادلة-كونتاريني، وكارافا، وسيمونيتا، وجينوتشي-لإصلاح قسم الوثائق، وهو ذلك القسم من الإدارة البابوية الذي استشرت فيه الرشوة في منح تلك الإعفاءات، والإنعامات، والامتيازات، والترخيصات، والوظائف ذات الدخل، المحجوزة لتصرف السلطة البابوية. وكانت المهمة تتطلب الشجاعة، لأن قسم الوثائق كان يسلم البابا كل سنة 50. 000 دوكاتية (1. 250. 000 دولار؟) -وهي نصف دخله تقريباً (15). وللفور تعالت صرخة ألم من موظفي القسم ومن يلوذ بهم، فشكوا من غلاء المعيشة في روما، وزعموا أن أسرهم سيحل بها العوز سريعاً لو أنهم أكرهوا على مراعاة حرفية القانون. ومضى بولس في حذر، ومع ذلك كان "عمل الإصلاح يسير بهمة" كما كتب ألياندر إلى موروني (27 أبريل 1540). وفي 13 ديسمبر دعا بولس ثمانين من رؤساء الأساقفة والأساقفة المقيمين بروما، وأمرهم بالعودة إلى كراسيهم. وهنا ارتفعت مئات الاعتراضات مرة أخرى. وحذر موروني البابا من أن العجلة في تنفيذ هذا الأمر قد تحمل بعض الأساقفة على الانضمام إلى اللوثريين إذ يعودون إلى مناطق غلب عليها الآن المذهب البروتستنتي، وهذا ما حدث فعلاً في عدة حالات. وسرعان ما تاه بولس في ميدان السياسة الإمبراطورية، وترك الإصلاح لخلفائه من بعده.
وانتصرت الحركة المطالبة بالإصلاح الداخلي حين ارتقى زعيمهما كارافا كرسي البابوية (1555) باسم بولس الرابع. وصدر الأمر إلى الرهبان الغائبين عن أديارهم دون موافقة رسمية وضرورة واضحة بالعودة إليها فوراً. وفي ليلة 22 أغسطس 1558 أمر البابا بإغلاق جميع أبواب روما والقبض على جميع الرهبان الآبقين. واتبعت إجراءات مماثلة في جميع الولايات البابوية، وأرسل بعض المدنيين للعمل في سفن تشغيل الأسرى.(27/198)
وأبطل الاحتفاظ برياسة الأديار لإعالة الموظفين الغائبين بدخولها. وطلب إلى الأساقفة ورؤساء الأديار الذين لا يخدمون الإدارة البابوية فعلاً في وظيفة ثابتة أن يعودوا إلى وظائفهم وألا حرموا من دخلهم. وحظر الانتفاع بالدخول الكنيسة المتعددة. وأمرت كل أقسام الإدارة البابوية بخفض رواتبها، وإبعاد كل شبهة اتجار في التعيين للوظائف الكهنوتية، وبعد أن خفض البابا بولس موارده على هذا النحو، بذل تضحية أخرى فوقع دفع رسم التثبيت الذي كان يؤديه من يرقون رؤساء أساقفة. وصدرت عدة مراسين بابوية ضد المرابين، والممثلين، والبغايا؛ أما القوادون فتقرر إعدامهم. وطلب إلى دانييل دا فولتيرا أن يغطي بطريقة العضلات الخياطية أكثر الملامح التشريحية افتضاحاً في لوحة ميكل أنجيلو "الدينونة الأخيرة"؛ ويجب التسليم بأن ذلك المجزر الرهيب، مجزر الأجساد الهالكة أو المخلصة، لم يجد له من قبل مكاناً مناسباً فوق مذبح البابوات. واتخذت روما الآن مظهراً من التقوى والفضيلة الخارجية لا يلائم طبيعتها. وأصلحت الكنيسة أكليروسها وأخلاقها في إيطاليا، ووراء إيطاليا بصورة أقل وضوحاً، تاركة عقائدها سليمة في كبرياء. لقد تأخر الإصلاح طويلاً، ولكنه حين أتى كان مخلصاً وباهراً.
3 - القديسة تريزا والإصلاح الديري
وكان التجديد الخلقي يجري في الوقت ذاته في الطرق الديرية. وفي وسعنا أن نتصور سمعة هذه الطرق من ملحوظة أبداها ميكل أنجيلو التقى السليم العقيدة، ذلك أنه حين نمى إليه سباستيان ديل بيومبو سيرسم صورة راهب في كنيسة سان بيترو بمونتوريو نصحه بألا يفعل، لأنه إذا كان الرهبان قد أفسدوا الدنيا على ما بها من سعة، فلا غرابة في أن يفسد(27/199)
راهب الكنيسة وهي بهذا الصغر (16). وصمم جريجوريو كورتيزي أن يصلح الرهبنة البندكتية في بادوا في صبر وأناة، وجيرولامو سيريباندو الكهنة الأوغسطينيين، وإيجيديو كانيزيو النساك الأوغسطينيين، وباولو جوستنباني الكامالدوليين.
وقامت طق ديرية جديدة شددت على الإصلاح. فأسس أنطونيو ماريا لاكاريا كهنة القديس بولس النظاميين في ميلانو (1533)، وهم جماعة من القساسوة ينذرون حياة الفقر الديرية. وكانوا أول الأمر يلتقون في كنيسة القديس برنابا، ومن هنا تسميتهم بالبرنابيين. وفي عام 1535 وضعت القديسة أنجيلاً نظام الراهبات الأورسوليات ليقمن بتعليم الفتيات ورعاية المرضى أو الفقراء، وفي عام 1540 أسس القديس يوحنا الإلهي جماعة "إخوان الرحمة" في غرناطة للخدمة في المستشفيات. وفي عام 1523 اعتزم ماتيو دي باسي، مدفوعاً بالرغبة الحارة في الاقتداء بالقديس فرنسيس الأسيسي، أن يتبع حرفياً نظام الرهبنة الأخير الذي خلفه مؤسس الطريقة الفرنسسكانية لرهبانها. وانضم إلى غيره من الرهبان، وما وافى عام 1525 حتى شجع تكاثرهم ماتيو على أن يتلمس من البابا اعتماد فرع جديد من الفرنسسكان ملتزم بأشد قواعد الرهبنة صرامة. واستطاع الرئيس الإقليمي للطريقة أن يستصدر أمراً بإيداعه السجن لعصيانه، ولكن سرعان ما أطلق سراح ماتيو، وفي عام 1528 ثبت البابا كلمنت السابع طريقة الرهبان الكبوشيين الجديدة. وقد أطلق عليها هذا الاسم لأن رهبانها كانوا يلبسون نوع القلنسوة cappuccio التي لبسها فرنسيس. وكانوا يرتدون أخشن الثياب، ويعيشون على الخبز والخضر والفاكهة والماء، ويصومون أصواماً قاسية، ويسكنون قلالي ضيقة في أكواخ حقيرة، ولا يسافرون إلا مشاة، ويمشون حفاة طوال العام. وقد اكتسبوا مكانة مرموقة بفضل رعايتهم المضحية لمرضى وباء(27/200)
1528 - 29. وكان روعهم عاملاً في إبقاء فتوريا كولونا ونفر آخر ممن اعتنقوا البروتستنتية حديثاً في حظيرة كنيسة ما زالت قادرة على إنجاب أمثال هؤلاء المسيحيين الغيورين.
أما أكثر الأشخاص إثارة للاهتمام في عصر الإصلاح الديري الذي نحن بصدده فرئيسة دير أسباني رقيقة البدن شديدة السيطرة، هي تريزا دي تشييدا. كانت ابنة فارس قشتالي من آبلة، فخور باستقامته المتطرفة وولائه للكنيسة. وقد درج على أن يقرأ على أسرته جانباً من حياة القديسين (17). أما الأم، المصابة بعلة مزمنة، فكانت تطرد السأم عنها بقراءة روايات الفروسية، وتشارك من فراش مرضها في مغامرات أماديس الغالي. وتذبذب خيال تريزا في طفولتها بين الحب الشاعري والاستشهاد الطاهر المقدس. وحين بلغت العاشرة نذرت على نفسها حياة الرهبنة. ولكنها لم تلبث بعد سنوات أربع أن تفتح صباها عن حسناء تطفر بفرحة الحياة، وتنسى ثوب الدير أمام الأثواب البهية التي ضاعفت من مفاتنها. وتوافد عليها المعجبون، ووقعت في حب أحدهم على تهيب ووجل، فدعاها إلى موعد لقاء. وفي اللحظة الحاسمة أحست بالخوف، واعترفت لوالدها بالمؤامرة الرهيبة. ولما كانت أمها قد ماتت، فإن الدون ألونزو دي تشييدا أودع الفتاة الحساسة ديراً للراهبات الأوغسطينيات في آبلة.
وكرهت تريزا حياة الدير ونظامه الكئيبين. ورفضت أن تقسم يمين الرهبنة، وتطلعت في صبر نافدٍ إلى عيد ميلادها السادس عشر حين يسمح لها بمغادرة الدير. ولكن ما إن دنا هذا الهدف حتى مرضت مرضاً خطيراً وأشرفت على الموت. ثم تماثلت للشفاء، ولكن مرح الشباب ولى. ويبدو أن ضرباً من الصرع الهستيري أصابها، ربما نتيجة للتمرد المكبوت على قيود غريبة عن غرائزها. وكانت النوبات تعلوها ثم تتركها(27/201)
خائرة القوى. ونقلها أبوها من الدير وأرسلها لتعيش مع أخت لها غير شقيقة في الريف. وفي طريقها أعطاها أحد أعمامها كتاباً من تأليف القديس جيروم. وقد وصفت الرسائل الحية التي احتواها الكتاب أهوال الجحيم، وصورت مغازلات الجنسين كأنها الطريق المزدحم المفضي إلى الهلاك الأبدي. وقرأت تريزا الرسائل بشغف. وبعد نوبة شديدة أخرى طلقت كل فكرة في السعادة الدنيوية، وعزمت على الوفاء بنذر طفولتها. فعادت إلى آبلة ودخل دير التجسد الكرملي (1534).
وسعدت حيناً وسط روتين الدير المهدئ، روتين القداديس، والصلوات والاعترافات المطهرة، ولما تناولت القربان شعرت بالخبز كأنه المسيح حقاً على لسانها وفي دمها. ولكن نظام الدير الرخو أقلقها. فالراهبات لا يسكن القلالي بل الحجرات المريحة، ويأكلن الطعام الفاخر برغم الأصوام الأسبوعية، ويتزين بالقلائد والأساور والخواتم، ويستقبلن الزوار في قاعة الاستقبال، ويتمتعن بالإجازات الطويلة خارج أسوار الدير. وأحست تريزا أن هذه الظروف لا توفر لها الحماية الكافية من مغريات الجسد وأحلامه. ولعل هذه المغريات والأحلام، بالإضافة إلى سخطها المتزايد، جعلت نوباتها أكثر حدوثاً وأشد ألماً. وهنا أرسلها أبوها ثانيةً إلى أختها، وأعطاها عمها ثانيةً كتاباً دينياً اسمه "الأبجدية الثالثة" لفرانسسكو دي أوزونا. وكان أبجدية في الصلاة الصوفية، الصلاة دون كلام، لأن "الذين يدنون من الله في صمت هم وحدهم الذين يمكن أن يسمعهم ويعطيهم جواباً" على حد قول المؤلف (81). وفي عزلتها الريفية مارست تريزا هذه الصلاة الصامتة المتأملة التي لاءمت كل الملائمة ما أحدثته بها النوبات من حالة شبيهة بالوجد.
وحاول طبيب يعالج بالأعشاب أن يداويها، ولكن مستحضراته كادت تقتلها. ولما عادت إلى صومعتها في آبة (1537) كانت مشرفة(27/202)
على الموت، تواقة إليه. ثم أصابتها أشد نوبتها عنفاً، وراحت في غيبوبة خالها الراهبات غيبوبة الموت، وظلت يومين باردة لا حراك بها، تبدو مقطوعة النفس؛ وحفر الراهبات لها قبراً. ثم أفاقت، ولكنها ظلت ضعيفة جداً بحيث لم تستطع أن تهضم طعاماً جامداً أو تحتمل أية لمسة. ورقدت ثمانية أشهر في مستشفى الدير فيما يقرب من الشلل الكلي. وتحسنت حالها فأصبح شللها جزئياً، ولكن "الفترات التي لم ترهقني فيها الآلام المبرحة كانت في الحق نادرة (19) ". وأقلعت عن كل أنواع العلاج الطبي، وصممت على أن تعتمد كلية على الصلاة. وظلت ثلاث سنوات تتعذب وتصلي. وفجأة، في صباح يوم من أيام سنة 1540، استيقظت العليلة طريحة الفراش، التي بدت ميئوساً من شفائها، لتجد أطرافها وقد فارقها الشلل. فقامت ومشت. ويوماً بعد يوم أخذت تشارك بنصيب أنشط في أعمال الدير. وهلل الناس لشفائها باعتبارها معجزة، وكذلك كان اعتقادها فيه. ولعل الصلاة قد هدأت من ثائرة جهاز عصبي أرهقته الرغبات المصطرعة، والشعور بالإثم، وخوف الجحيم؛ ومنحت أعصابها التي هدأت، وبعد الأطباء عنها، جسدها سلاماً لم تعهده من قبل.
وذاع صيت دير التجسد باعتباره المكان الذي حدث فيه شفاء معجز. وتوافد الناس من المدن المحيطة ليروا الراهبة التي شفاها الله، وتركوا نقوداً وعطاياً للدير المقدس. وشجعت رئيسة الدير هذه الزيارات، وأمت تريزا بالظهور أمام الزوار. وأزعج تريزا أن تجد أنها تستشعر لذة في هذه الزيارات، وفي هذه الشهرة، وفي وجود رجال وسيمي الوجوه. وعادوها شعور بالإثم. وذات يوم (1542) بينما كانت تتحدث في قاعة الاستقبال إلى رجل استهواها بصفة خاصة، خيل إليها أنها ترى المسيح واقفاً إلى جوار الزائر. وراحت في غيبوبة، واقتضى الأمر حملها إلى قلايتها على نقالة.(27/203)
وظلت ترى هذه الرؤى طوال الستة عشر عاماً التالية، وأصبحت عندها أكثر واقعية من الحياة. وفي عام 1558 فيما هي غارقة في صلاتها أحست بنفسها تخرج من جسدها وتصعد إلى السماء حيث رأت المسيح وسمعته. ولم تعد هذه الرؤى تضنيها، بل على العكس من ذلك تنعشها. كتبت تقول:
"إن النفس التي كثيراً ما تضنيها وترهقها الآلام الرهيبة قبل حالة الوجد تخرج منها ممتلئة عافية مقبلة على العمل بشكل يدعو إلى الإعجاب ... كأن الله شاء أن يشارك الجسد ذاته في سعادة النفس بعد أن أطاع رغباتها ... والنفس بعد هذه المنحة يملؤها قدر من الشجاعة عظيم إلى حد يجعل الجسد لا يشعر إلا بأوفر راحة لو مزق في تلك اللحظة إرباً في سبيل الله" (20).
وفي مناسبة أخرى خيل إليها أن "ملاكاً رائع الحسن" قذف "سهماً طويلاً من الذهب" في رأسه نار "مخترقاً قلبي عدة مرات، حتى وصل إلى صميم أحشائي".
"كان الألم حقيقياً بحيث اضطرني إلى الأنين بصوت عال، ومع ذلك كان عذباً إلى حد مدهش لم أتمن معه الخلاص منه. ليس في مباهج الحياة ما يستطيع أن يهب رضى أكثر من هذا. وحين سحب الملاك السهم تركني وقد اضطرمت كلي يحب عظيم لله (1) " (21).
هذه الفقرات وأشبابها مما كتبته القديسة تريزا تقبل بسهولة تفسيرات التحليل النفسي، ولكن أحداً لا يستطيع التشكك في إخلاص القديسة الشديد. فقد أيقنت كما أيقن اجناتيوس بأنها رأت الله، وأن أعوص المشكلات كانت تحل لها في هذه الرؤى.
"ذات يوم وأنا أصلي وهب لي أن أدرك في لحظة واحدة كيف أن
_________
(1) يحتفل أتقياء الأسبان بذكرى رؤيا الطعن هذه في عيد مقدس يقع في 27 أغسطس من كل عام.(27/204)
الله يرى ويحتوي كل الأشياء ... وهذه من أبرز النعم التي منحني الله إياها ... فقد جعلني الرب أفهم كيف أن إلهاً واحداً يمكن أن يكون في ثلاثة أقانيم. وجعلني أرى هذا في وضوح شديد بحيث أخذني عجب شديد كما غمرتني سكينة عظمى ... والآن حين أفكر في الثالوث الأقدس ... أشعر بسعادة لا ينطق بها" (22).
أما الراهبات أخوات تريزا فقد عللن رؤاها بأنها ليست سوى أوهام ونوبات مرضية (23)، وإلى هذا الرأي كان يميل آباء اعترافها، فقد قالوا لها في جفاء "لقد خدع الشيطان حواسك". وخال أهل المدينة أن الشياطين مستها، وطالبوا محكمة التفتيش بفحصها، واقترحوا أن يطرد قسيس شياطينها بالتعزيم. ونصحتها صديقة بأن تبعث للمحكمة بقصة حياتها ورؤاها، فكتبت سيرتها في كتابها المشهور " Vida"، ففحصه رجال المحكمة، وحكموا بأنه وثيقة مقدسة خليقة بأن تشدد إيمان كل من يقرؤها.
فلما أن دعم هذا الحكم مركز تريزا، صممت-وقد بلغت الآن السابعة والخمسين-أن تصلح طريقة الراهبات الكرمليات. وبدلاً من محاولة إعادة نظام النسك القديم في دير التجسد، قررت افتتاح دير منفصل دعت إليه من الراهبات وطالبات الرهبنة كل من تقبل عيشة الفقر المطلق. لقد كان الكرمليات القدامى يلبسن الخيش الخشن، ويمشين حافيات، ويقتصدن في الطعام ويصمن أصواماً كثيرة. واشترطت تريزا على راهباتها الكرمليات الحافيات نظاماً أقرب ما يكون إلى هذا النظام الصارم، لا بوصفه غاية في ذاته، بل رمزاً للتواضع ولنبذ هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات. وقامت في طريقها مئات العقبات؛ فندد أهل آبلة بالخطة لأنها تهدد قطع كل اتصال بين الراهبات وأقاربهن. ورفض رئيس الطريقة الإقليمي الإذن لها بفتح دير جديد، فلجأت تريزا إلى البابا بيوس(27/205)
الخامس، وظهرت بموافقته. ووجدت أربع راهبات قبلن الانضمام إليها، وكرس دير القديس يوسف الجديد في عام 1562 في شارع ضيق من شوارع آبلة. وكانت راهباته يلبسن صنادل من الحبال، وينمن على القش ويصمن عن اللحم، ويلتزمن ديرهن لزوماً دقيقاً.
ولم يرق رهبات الدير الأقدم-وعددهن 180 - هذا الفضح البسيط لأساليب حياتهن المتهاونة. وأمرت رئيسة الدير تريزا بأن تستأنف ارتداء ثوبها الأبيض السابق، ولبس حذائها، وأن تعود إلى دير التجسد، زاعمة أنها التزمت قِبلها بنذر الطاعة. وأطاعت تريزا. ودينت بخطيئة الكبرياء، وحبست في صومعتها. وقرر مجلس المدينة إغلاق دير القديس يوسف، وأوفد أربعة رجال أشداء لإجلاء الراهبات اللاتي لم يعد لهن الآن رئيسة. ولكن العذارى لابسات الصنادل قلن "إن الله يريدنا أن نمكث هاهنا، فنحن إذن ماكثات". ولم يجرؤ الموظفون القانونيون القساة على إكراههن على الجلاء. أما تريزا فقد قذفت الرعب في قلب الرئيس الكرملي الإقليمي حين أومأت إليه أنه إنما يسئ إلى الروح القدس بوضعه العراقيل في طريق خططها؛ فأمر بالإفراج عنها. وغادرت الدير معها أربع راهبات، وسارت النسوة الخمس إلى دارهن الجديدة وسط الثلوج. وحيا الراهبات الأربع القدامى تريزا " Madre أما" لهن وهن سعيدات، وأصبحت الآن معروفة في أسبانيا كلها تقريباً باسم تريزا يسوع، صديقة الله الحميمة.
وكان نظام رهبنتها يتسم بالمحبة والبهجة والحزم. فالبيت موصد في وجه العالم، لا يسمح للزوار بدخوله، والنوافذ مكسوة بالقماش، والأرض المبلطة هي الأسِرة والموائد والمقاعد. وبني في الجدار قرص دائر، وأي طعام يضعه الناس على نصفه الخارجي يقبله الدير بشكر، ولكن ليس للراهبات أن يستجدين. وكن يكملن ما نقص من قوتهن(27/206)
بالغزل وأشغال الإبرة، وتوضع منتجاتهن خارج باب الدير، ولأي مشتر أن يأخذ منها ما شاء ويترك مقابله ما شاء. وأقبلت راهبات جديدات على الرغم من هذا التقشف كله، ومن بينهن امرأة كانت أجمل نساء آيلة وأشدهن فتنة للرجال. ولما زار الرئيس العام للأديار الكرملية هذا الدير الصغير بلغ به التأثر أشده، فطلب إلى تريزا أن تؤسس بيوتاً مماثلة له في سائر أرجاء أسبانيا. وفي عام 1567 استصحبت بضع راهبات، وسافرن في عربة حقيرة قطعت سبعين ميلاً على طرق رديئة لتؤسس ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في مدينا ديل كاميو. وكان البيت الوحيد الذي عرض عليها بناءً مهجوراً متهدماً تداعت جدرانه ورشح سقفه، ولكن حين رأى أهل المدينة الراهبات يحاولن العيش فيه، توافد النجارون والمبلطون لإصلاح الدار وصنع أثاث بسيط له دون أن يدعوهم لذلك أحد أو يتقاضوا على عملهم أجراً.
وجاء إلى تريزا رئيس دير الرهبان الكرمليين في مدينا طالباً إليها قواعد رهبنتها رغبة منه في إصلاح رهبانه المتراخين. وكان الرجل فارع القوام، ولكن جاء في صحبته شاب قصير هزيل جداً حتى أن تريزا قالت بعد رحيلهما في دعابتها التي كانت تضفي الإشراق على نسكها "تبارك الله، فإن عندي الآن راهباً ونصفاً لتأسيس ديري الجديد (24) ". أما هذا الرويهب، واسمه جوان دي أيبس ألفاريز، فقد كتب له أن يصبح سان جوان دي لاكروز، أي القديس يوحنا الصليبي، روح الرهبان الكرمليين الحفاة وفخرهم.
ولم تنته مصاعب تريزا. ذلك أن الرئيس الإقليمي للأديار الكرملية عينها رئيسة على دير التجسد، ربما اختباراً لحكمها وشجاعتها. وكان راهبات هذا الدير يكرهنها، وقد خشين أن تذيقهن الآن ألوان الذل والهوان انتقاماً منهن. ولكنها عاملتهن بكثير من التواضع والرقة حتى(27/207)
كسبتهن الواحدة بعد الأخرى، وما لبث النظام الجديد الأكثر صرامة أن حل شيئاً فشيئاً محل التراخي القديم. ومن هذا الانتصار تقدمت تريزا لإنشاء دير جديد في إشبيلية.
وصمم الرهبان الطريقة التي تراخى نظامها على وقف امتداد الإصلاح. فهرَّب بعضهم عميلة تنكرت في زي راهبة حافية إلى دير إشبيلية. وما لبث هذه المرأة أن أعلنت على الملأ في أسبانيا أن تريزا تجلد راهباتها وتتلقى الاعترافات كأنها كاهن. وطلب إلى محكمة التفتيش التحقيق معها ثانية. ودعيت للمثول أمام المحكم الرهيبة، واستمتعت المحكمة إلى شهادتها وأصدرت هذا الحكم "لقد برئت من كل التهم ... فاذهبي وواصلي عملك (25) ". ولكن أعدائها كسبوا سفيراً بابوياً إلى صفوفهم. فندد بتريزا "امرأة عاصية متمردة، تنشر التعاليم المؤذية تحت قناع التقوى، تركت ديرها مخالفة بذلك أوامر رؤسائها؛ امرأة طماعة، تعلم اللاهوت كأنها من فقهاء الكنيسة، محتقرة بذلك القديس بولس الذي منع النساء من أن يعلّمن". ثم أمرها أن تعتكف حبيسة في دير للراهبات بطليطلة (1575).
وحارت تريزا إلى من تلجأ في هذا التغير الجديد، فكتبت إلى الملك. وكان فيليب الثاني قد قرأ "حياتها". وأحب الكتاب. فأرسل مبعوثاً خاصاً من بلاطه يدعوها لمقابلة الملك، واستمع إليها، واقتنع بورعها. وسحب السفير البابوي أمره السابق بفرض القيود على تريزا بعد أن وبخه الملك، وأعلن أنه زود بمعلومات كاذبة.
وفي وسط أسفارها وشدائدها كتبت كتيبات تعبدية صوفية شهيرة مثل "طريق الكمال 1567" و "الحصن الداخلي 1577". وقد كشفت في هذا الكتيب عن عودة آلامها الجسدية فقالت "يخيل إلي أن أنهاراً مفعمة بالمياه تتدافع داخل رأسي فوق منحدر سحيق، ثم أعود فاسمع الطيور في غنائها وصفيرها بعد أن طغى عليها ضجيج المياه. وأنا أرهق ذهني وأزيد صداعي" (26)، وعاودتها النوبات القلبية، وكان عسيراً(27/208)
على معدتها أن تحتفظ بالطعام، وراحت على الرغم من هذا تتنقل في ألم من دير إلى دير من تلك الأديار الكثيرة التي أسستها، فاحصة مصلحة، ملهمة. وفي ملقا أصابتها نوبة شلل. ثم شفيت، ومضت إلى طليطلة، فنزلت بها نوبة أخرى. ثم شفيت، ومضت إلى سقوبية وبلد الوليد، وبلنسيه، وبرغش وألبه، وهناك اضطرها نزف في رئتيها أن تتوقف. واستقبلت الموت ببشاشة، واثقة أنها إنما ترحل عن عالم من الألم والشر إلى صحبة المسيح الخالدة.
ودفنت في وسقط رأسها بعد منافسة معيبة بين ألبة وآبلة وخطف جسدها المرة بعد المرة. وزعم المصلون الأتقياء أن جسدها لم يفسد قط، وروى حدوث العجائب الكثيرة عند قبرها. وفي عام 1593 تلقت طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات اعتماد البابا. واشترك نفر من أشهر الأسبان مثل سرفانتس ولوبي دي فيجا في توجيه نداء إلى البابا يلتمسون فيه على الأقل تطويبها. وهذا ما حدث (1614)، وبعد ثماني سنوات تقرر أن تكون تريزا إحدى اثنين من قديسي أسبانيا الحامين، أما الثاني فهو الرسول يعقوب.
في غضون هذا خرج من أسبانيا من هو أعظم من تريزا ليصلح الكنيسة ويهز الدنيا.
4 - إجناتيوس لويولا
ولد الدون إينيجو دي أونيز اللويولي في قلعة لويولا بإقليم جويبوزكوا، وهو من أقاليم الباسك، في عام 1491. وكان أحد ثمانية أبناء وخمس بنات للدون بلتران دي أونيز اللويولي، الذي ينتمي غلى طبقة النبلاء الأسبان العظام. وقد ربى الصبي ليكون جندياً، لذلك لم يتلق من التعليم المدرسي إلا القليل، ولم يبد ميلاً إلى الدين. واقتصرت قراءاته على قصة "أماديس(27/209)
الغالي" وأشباهها من روايات الفروسية. ولما بلغ السابعة أرسل ليكون تابعاً للدون جوان فيلاسكويز دي كويللار، وبفضله أتيح له بعض الاتصال بالبلاط الملكي. وحين بلغ الرابعة عشرة أحب جرمين دفوا. الملكة الجديدة لفيناند الكاثوليكي، ولما حان وقت تقليده رتبة الفروسية اختارها مليكة له، ولبس شعارها، وحلم بالفوز بمنديل مخرم من يدها جزاء انتصاره في مباراة للفروسية (27). على أن هذا لم يمنعه من الدخول في الغراميات والمشاجرات العارضة التي كانت نصف حياة الجندي. ولم يحاول إخفاء هذه الأعمال الطائشة الطبيعية في سيرته الذاتية، البسيطة الأمينة، التي أملاها في 1553 - 56.
ثم انتهى شبابه الخلي حين عين للخدمة العسكرية العامة في بانبلونة عاصمة نافار. وهناك أنفق أربع سنوات يحلم بالمجد ولا يفتح عينيه إلا على حياة رتيبة. وواتته الفرصة لكي يثبت كفايته، فقد هاجم الفرنسيون بانبلونة، وشدت بسالة إينيجو أزر المدافعين، ولكن العدو استولى على القلعة، وأصيبت ساق إينيجو اليمنى بكسر من قذيفة مدفع (20 مايو 1521). وترفق المنتصرون به، وجبروا عظامه، وأرسلوه على نقالة إلى حصن أسلافه. ولكن العظام أخطئ جبرها، فاقتضى الأمر كسرها وجبرها من جديد. ثم تبين أن العملية الثانية أسوأ من سابقتها، لأن جدعة من العظم برزت من الساق. واستقامت العظام بعد عملية ثالثة، ولكن الساق أصبحت الآن أقصر مما ينبغي. وظل إينيجو الأسابيع يعاني عذاب جبيرة جعلته ضعيفاً عاجزاً يشكو ألماً لا يبرحه.
وخلال أشهر النقاهة الطويلة المملة طلب كتباً، لا سيما قصة مثيرة عن الفروسية والأميرات اللاتي يتهددن بالخطر. ولكن مكتبة القلعة لم يكن بها سوى كتابين لا ثالث لهما: أولهما "حياة المسيح" بقلم لودلفوس، أما الثاني فيحكي سير القديسين. Flos sanctorum، وضاق الجندي ذرعاً بالكتابين أول الأمر، ثم تسلطت عليه صورتا المسيح ومريم،(27/210)
وتبين له أن أساطير القديسين لا تقل عجباً عن ملاحم الحب النبيل والحرب، ففرسان المسيح هؤلاء هم من كل الوجوه أبطال كفرسان قشتالة. وتكونت في عقله شيئاً فشيئاً فكرة مؤداها أن أنبل الحروب هي حرب المسيحية مع الإسلام. وجعلت جدة الإيمان الأسباني الدين عنده، كما جعلته عند دومنيك من قبل، لا تعبداً هادئاً كتعبد الراهب الألماني توماس أكمبيس، ولكن رغبة مشوبة في الصراع، بل حرباً مقدسة. وصمم على الذهاب إلى بيت المقدس وتحرير الأماكن المقدسة من سيطرة غير المسيحيين. وذات ليلة ظهرت له العذراء وابنها في رؤيا، وبعدها (كما أخبر الأب جونزاليز فيما بعد) لم يهاجمه قط أي إغراء جنسي (28). ونهض من فراشه، وجثا على ركبتيه، وأقسم أن يكون جندياً للمسيح ومريم حتى الموت.
وكان قد قرأ أن الكأس المقدسة خبئت مرة في قلعة بمونتسرات في إقليم برشلونة. هنالك، كما ورد في أشهر الروايات قاطبة، قضى أماديس ليلة بطولها ساهراً أمام صورة العذراء تأهباً للفروسية. وما إن وجد إينيجو في نفسه القدرة على السفر حتى امتطى بغلاً وانطلق إلى ذلك المزار البعيد. وظل حيناً يرى في نفسه جندياً مرتدياً شكة النزال. ولكن القديسين الذين قرأ أخبارهم لم يحملوا سلاحاً ولا درعاً، إنما كانت عدتهم أفقر الثياب وأرسخ الإيمان. فلما بلغ مونتسرات طهر روحه بالاعتراف والتكفير ثلاثة أيام، ثم خلع ثيابه الغالية على شحاذ، وارتدى عباءة حاج من قماش خشن. وقضى طوال ليلة 24 - 25 مارس 1522 وحيداً في كنيسة صغيرة بدير بندكتي، راكعاً أو واقفاً أمام مذبح العذراء. وأخذ على نفسه العهد بحياة العفة والفقر الدائمين. وفي صباح الغد تناول القربان، وأعطى بغله للرهبان، ثم انطلق إلى أورشليم وهو يعرج على قدمه.(27/211)
كانت أقرب المواني إليه برشلونة، وفي طريقه إليها توقف عند قرية مانريزا. ودلته عجوز على مغارة يأوي إليها. فجعلها مسكنه أياماً، وإذ كان حريصاً على أن يبز القديسين في نسكهم، فقد مارس هناك من التقشف الصارم ضروباً كادت تقضي عليه. وفي ندمه على ما أسلف من خيلاء بمظهره، كف عن تنظيف شعره أو قصه أو تمشيطه-فسقط بعد قليل. وأبى أن يقص أظافره أو يستحم أو يغسل يديه أو وجهه أو قدميه (29)، وعاش على ما وسعه استجداؤه من طعام، إلا أن يكون لحماً؛ وكان يصوم أياماً بطولها، ويصوم نفسه ثلاث مرات في اليوم، وينفق الساعات في الصلاة كل يوم. وأمرت امرأة تقية بنقله إلى بيتها مخافة أن يؤدي هذا التقشف الصارم بحياته، وهناك مرضته حتى استعاد عافيته. ولكنه عاود جلد نفسه حين نقل إلى قلاية في دير دومنيكي بمانريزا. لقد أرعبته ذكرى ذنوبه الماضية، فشن الحرب على جسده باعتباره الأدلة لذنوبه، وصمم على أن ينتزع بالجلد كل فكرة خطيئة من جسده. وبدا الصراع أحياناً ميئوساً منه. ففكر في الانتحار. وهنا جاءته الرؤى التي شددته، واعتقد وهو يتناول القربان مرة أنه لا يرى قربانة بل المسيح الحي، وفي مرة أخرى ظهر له المسيح وأمه، ومرة رأى الثالوث، وفهم- بومضة من بصيرته يقصر دونها اللفظ أو الفكر- سر الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، وفي "مرة أخرى" كما يروي "أذن الله أن يفهم كيف خلق العالم" (30). وأبرأت هذه الرؤى الصراع الروحي الذي ابتعثها، فطرح وراء ظهره كل قلق بسبب حماقات شبابه، وخفف من غلواء نسكه، وإذ قهر جسده فقد استطاع الآن أن يطهره دون غرور. ومن خبرة هذا الصراع الذي امتد قرابة عام وضع "الرياضيات الروحية" التي يمكن أن يخضع فيها الجسد الوثني للإرادة المسيحية. ورأى أن في وسعه الآن أن يمثل أمام المزارات المقدسة في أورشليم.(27/212)
وأبحر من برشلونة في فبراير 1523. وفي طريقه تخلف أسبوعين في روما، ثم لاذ بالفرار قبل أن تثنيه روحها الوثنية عن طريق القداسة. وفي 14 يوليو استقل سفينة من البندقية إلى يافا. وأصابته خطوب كثيرة قبل أن يبلغ فلسطين، ولكن رؤاه المتصلة شدت من أزره. وكانت أورشليم نفسها إحدى المحن، فالترك الذين يسيطرون عليها يسمحون للزوار المسيحيين بدخولها، ولكنهم يمنعون التبشير فيها، وحين اقترح إينيجو تحويل المسلمين إلى المسيحية برغم هذا الحظر، أصدر الرئيس الفرنسسكاني المحلي، الذي وكل إليه البابا حفظ السلام هناك، أمراً للقديس بالعودة إلى أوربا. وفي مارس 1524 عاد إلى برشلونة.
ولعله أحس الآن أنه وإن كان سيداً على جسده فإنه عبد لأوهامه. فصمم على تهذيب عقله بالتعليم. واشترك مع تلاميذ المدارس في تعلم اللاتينية مع أنه كان في الثالثة والثلاثين. ولكن شهوة التعليم كانت فيه أقوى من إرادة التعلم. وسرعان ما بدا إجناتيوس-وهو اسمه المدرسي-في تبشير لفيف من النساء التقيات الفاتنات. وندد به عشاقهن مفسداً لمتعتهم وضربوه ضرباً وحشياً. فانتقل إلى القلعة (1526)، وعكف على دراسة الفلسفة واللاهوت وهنا أيضاً راح يعلم جماعة خاصة صغيرة جلها من فقيرات النساء، فيهن نفر من البغايا المتعطشات إلى الخلاص. وحاول أن ينتزع منهن ميولهن الخاطئة بالرياضة الروحية، ولكن بعض تلميذاته أصابتهن نوبات أو غشيات، فاستدعته محكمة التفتيش للمثول أمامها. وأودع السجن شهرين (31)، ولكنه في النهاية أقنع المفتشين بسلامة عقيدته، فأفرج عنه، غير أنه منع من التعليم. ومضى إلى سلمنقه (1517)، وجاز تجربة مماثلة انتقل فيها من مرحلة التعليم إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، إلى السجن، إلى الإفراج ثم إلى الكف عن التعليم. فلما خاب ظنه في أسبانيا، يمم شطر باريس، دائماً سيراً على الأقدام في رداء الحاج، سائقاً أمامه الآن حماراً يحمل أسفاراً.(27/213)
وفي باريس عاش في ملجأ الفقراء، وكان يستجدي في الشوارع طعامه ونفقة تعليمه. ودخل كلية مونتيجي، حيث كان بوجهه الشاحب المهزول، وبدنه الأعجف، ولحيته المهوشة، وثيابه العتيقة، محط الأنظار غير العطوفة، ولكنه واصل السعي إلى أهدافه في حرص ملك عليه حواسه حتى أن بعض الطلبة بدأوا ينزلونه منزلة القديس. فمارسوا بإرشاده ألوان الرياضة الروحية من صلاة وتفكير وتأمل. وفي عام 1529 انتقل إلى كلية سانت-بارب، وهناك أيضاً التف حوله نفر من التلاميذ. وانتهى مساكناه بطريقتين مختلفتين إلى الإيمان بقداسته. فأما بيير فافر، الذي كان من قبل راعياً في إقليم السافو الألبي، فكان يتعذب عذاباً مبرحاً من مخاوف وهمية أو واقعية، وبتأثيرها نذر حياة العفة الدائمة. وكان يخفي الآن وهو في العشرين تحت طباعه المهذبة روحاً تكافح مغريات الجسد كفاحاً محموماً، ومع أن إجناتيوس لم يدع لنفسه توقد الذكاء، فقد كان يملك القدرة على الإحساس بحياة الآخرين الداخلة بفضل شفافية حياته. وعلى فقد حدس مشكلة صديقه الشاب، وأكد له أن نزعات الجسد يمكن السيطرة عليها بالإرادة المدربة. وكيف تدرب الإرادة؟ أجاب إجناتيوس، بالرياضة الروحية. وراحا يمارسان هذه الرياضة معاً.
وأما نزيل غرفته الآخر، واسمه فرانسوا زافير، فكان أصله من بنبلونة حيث مارس لويولا الجندية، وسليل عدد كبير من الأسلاف النابهين، وسيماً، غنياً، فخوراً، فتى مستهتراً، مرحاً، عليماً بحانات باريس وبناتها (32). وسخر الفتى من صاحبيه الزاهدين وراحي يباهي بما أصاب من توفيق مع النساء. على أنه كان ذكياً في دراساته (32)، حصل من قبل على درجة الأستاذية، وهو يحضر الآن للدكتوراه. وذات يوم رأى رجلاً نقر الزهري وجهه، فأوقفه المنظر ملياً. وبينما كان مرة يفيض في الحديث عما يجيش في صدره من طموح للشهرة والمجد، ذكر له إجناتيوس في هدوء هذه الآية من الإنجيل: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح(27/214)
العالم كله وخسر نفسه؟ "، وساء السؤال زافير، ولكنه لم يستطع نسيانه. فبدأ ينضم إلى لويولا وفابر في رياضتهما الروحية، ولعل كبرياءه دفعته إلى مباراة زميله في القدرة على احتمال الحرمان والبرد والألم. وراحوا يجلدون أنفسهم، ويصومون، وينامون في قمص رقيقة على أرض حجرية غير مدفأة، ويقفون حفاة عراة تقريباً على الثلوج ليخشنوا أجسادهم وليخضعوها في الوقت ذاته، وبلغت التدريبات الروحية التي بدأت في مانريزا شكلاً أكثر تحدداً. وصاغتها إجناتيوس في كتيب على غرار "رياضة الحياة الروحية" (1500) الذي وضعه الدون جارسيا دي كزنيروس، رئيس دير مونسترات البندكتي (33)، ولكنه سكب في هذا القالب من حرارة العاطفة والخيال ما جعل كتيبه قوة محركة في التاريخ الحديث. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها لويولا هي عصمة الكتاب المقدس والكنيسة، فهو يرى أن الحكم الفردي في الدين إنما هو ادعاء باطل مولد للفوضى تدعيه عقول ضعيفة متكبرة. "علينا دائماً أن نكون على استعداد للإيمان بأن ما يبدو لنا أبيض إنما هو أسود إذا عرفته كذلك الكنيسة ذات الكهنوت المسلسل (34) " وعلينا إذا أردنا تجنب الهلاك الأبدي أن ندرب ذواتنا على أن نكون خداماً ممتثلين لله، وللكنيسة التي استخلفها الله على الأرض.
أما أول تدريب روحي فهو تذكرنا خطايانا الكثيرة، والتفكر في مقدار العقوبة الذي تستحقه. لقد حكم على الشيطان بالجحيم لخطيئة واحدة، أفليست كل خطية نقارفها تمرداً على الله كتمرد الشيطان؟ فلنحتفظ بحساب يومي لذنوبنا بعلامات على سطور تمثل الأيام، ولنحاول كل يوم أن ننقص عدد هذه العلامات. وفيما نحن راكعون في حجرتنا أو صومعتنا بعد إظلامها، لنتخيل الجحيم بأجلى ما نستطيع؛ يجب أن نستحضر كل فظائع هذه النار التي لا تموت، يجب أن نتصور عذاب(27/215)
الهالكين، ونسمع صرخات الألم وصيحات اليأس المنبعثة منهم؛ يجب أن نشم الأبخرة المنتنة التي تتصاعد من الكبريت واللحم المحترقين؛ يجب أن نحاول الإحساس بألسنة اللهب تلك وهي تلذع أجسادنا؛ ثم يجب أن نسأل أنفسنا، كيف السبيل إلى النجاة من هذا العذاب الأبدي؟ لا سبيل إلا تضحية الفداء التي قدمها الله نفسه في المسيح على الصليب (1). فلنتأمل إذن حياة المسيح، في كل دقائقها، علينا أن نكون حضوراً بالخيال في تلك الأحداث التي هي أعمق الأحداث في تاريخ العالم. يجب أن نجثو في الخيال أمام الأشخاص المقدسين في تلك الملحمة الإلهية، وأن نلثم هدب أثوابهم. وبعد أن ننفق أسبوعين في مثل هذه التأملات يجب أن نصحب المسيح في كل خطوة من خطوات آلامه، في كل مرحلة من مراحل الصليب؛ نصلي معه في جثسيماني، ونشعر بأننا نجلد معه، ويبصق علينا، ونسمر على الصليب، يجب أن نقاسي كل لحظة من لحظات عذابه، أن نموت معه، وأن نقبر معه. وفي الأسبوع الرابع يجب أن نتخيل أنفسنا وقد قمنا منتصرين من القبر، وصعدنا أخيراً معه إلى السماء. وإذ تشددنا هذه الرؤية المباركة، فستكون على أهبة الانخراط جنوداً مكرسين في المعركة لهزيمة الشيطان وبح النفوس للمسيح، وفي تلك الحرب المقدسة سنحتمل باغتباط كل ما نلقى من شدائد وننفق حياتنا في بهجة وفرح.
ووجدت هذه الدعوة للتعبد الممتد طوال الحياة تسعة طلاب في باريس على استعداد لقبولها. ولعل هؤلاء الشبان الجادين، الذين شعروا لأول مرة بما في العالم من غموض محير، وتاقت نفوسهم لمرساة من الإيمان والأمل وسط خضم من الشكوك والمخاوف-نقول لعلهم دفعوا بثقل المطالب
_________
(1) لاحظ أن لوثر جاز بمثل هذه المخاوف من الجحيم، وبمثل ضروب التقشف التكفيرية هذه، وبمثل هذا التحرر بفضل الإيمان بتضحية المسيح الفادية، الذي كان المحرك لحياة إجناتيوس(27/216)
الملقاة على كواهلهم إلى المشاركة بمصيرهم وحياتهم وخلاصهم في خطة لويولا. فاقترح أن يذهبوا معاً في الوقت المناسب إلى فلسطين، ويحيوا هناك حياة أقرب ما تكون غلى حياة المسيح. وفي 15 أغسطس 1534 اجتمع لويولا، وفافر، وزافير، ودييجو لاينيز، وألونسو ساليرون، ونيكولا بوباديللا، وسيمون رودريجيز، وكلود لوجي، وجان كودير، وباسكاز برويه-اجتمع هؤلاء العشرة في كنيسة صغيرة بمونمارتر، ونذروا حياة العفة والفقر، وأخذوا العهد على أنفسهم بالذهاب إلى الأراضي المقدسة والعيش فيها بعد قضاء عامين آخرين في الدرس. ولم يكن لديهم إلى الآن فكرة واضحة عن مكافحة البروتستنتية، وبدا الإسلام لهم تحدياً أعظم. ولم يكن بهم ميل إلى المجادلات اللاهوتية. فهدفهم إنما هو حياة القداسة، وحركتهم تمد جذورها في تربة الصوفية الأسبانية لا صراعات العصر الفكرية. وخير حجة يقدمونها هي التقي والورع.
وفي شتاء 1536 - 37 اخترقوا فرنسا سيراً على الأقدام، وعبروا الألب، ثم إيطاليا غلى البندقية حيث كانوا يأملون العثور على سفينة تحملهم إلى يافا. ولكن البندقية كانت تخوض حرباً مع الترك. فاستحال عليهم السفر. وخلال فترة التخلف التقى إجناتيوس بكارافا، وانضم حيناً إلى التياتين. وكانت لخبرته مع هؤلاء القساوسة الأتقياء بعض الأثر في تغيير خطته من العيش في فلسطين إلى خدمة الكنيسة في أوربا. واتفق هو وتلاميذه على أن يتقدموا للبابا طالبين أداء أي خدمة يكلها إليهم، إذا انقضت عليهم في هذا الانتظار سنة دون أن ينفتح أمامهم الطريق إلى فلسطين. وحصل فافر على إذن لهم جميعاً برسامتهم قساوسة.
كان لويولا قد بلغ إذ ذاك السادسة والأربعين، أصلع الرأس به عرج خفيف لم يفارقه إثر جرحه. وما كان له بقامته التي لم تزد على(27/217)
خمسة أقدام وبوصتين أن يقع من نفوس ناظريه أي موقع لولا رهافة أرستقراطية في قسمات وجهه، وتدبب في أنفه وذقنه، ولولا ما في عينيه من سواد ونفاذ وعمق واكتئاب، وما في طلعته من رزانة وعزم؛ وكان قد غدا القديس المستغرق في تأملاته، العازف عن الفكاهة. لم يكن مضطهداً لخصوم الدين، ومع أنه وافق على وجود محكمة التفتيش (35) فقد كان ضحيتها أكثر منه عميلها. كان صارماً في عطف، بخدم المرضى عن طيب خاطر في المستشفيات وإبان تفشي الطاعون، حلمه أن يربح نفوساً بالإيمان لا بالنار أو السيف بل بالسيطرة على الخلق في الشباب الطيع وتشكيله تشكيلاً ثابتاً في الإيمان. ولم يكن هذا المؤسس لأنجح نظم التربية في التاريخ شديد التأكيد على العلم أو الذكاء. لم يكن لاهوتياً، ولم يشترك في مجلدات الكلاميين أو تدقيقاتهم؛ وقد أثر الإدراك الحسي المباشر على الفهم العقلي. ولم يرى ضرورة للجدل حول وجود الله، ومريم والقديسين، فقد كان مقتنعاً بأنه رآهم، وأحس بهم أقرب إليه من أي شيء أو شخص في محيطه، وكان على طريقته رجلاً ثملاً بمعرفة الله ومحبته. ومع ذلك فإن تجاربه الصوفية لم تجعل منه رجلاً غير عملي. لقد كان في وسعه أن يجمع بين مرونة الوسائل وصلابة الغايات، يأبى تبرير أي وسيلة لغاية يراها حسنة، ولكن في مقدوره أن يتريث حيناً للفرصة. ويعتدل في آماله ومطالبه، ويلائم بين أساليبه والأشخاص والأحوال، ويستعمل الدبلوماسية إذا اقتضى الأمر استعمالها، ويرى الرأي الثاقب في الرجال، ويحسن اختيار مساعديه وعماله، ويسوس الرجال كأنه قائد يقود فرقة عسكرية-وهو ما كان يراه في نفسه فعلاً. وقد أطلق على فرقته الصغيرة اسماً حربياً "فرقة يسوع"، ولا عجب، فهم جند تطوعوا مدى الحياة لمحاربة الإلحاد وانحلال الكنيسة. أما هم فقد قبلوا النظام العسكري للعمل المنسق تحت قيادة مطلقة، باعتبار هذا القبول أمراً طبيعياً وضرورياً.(27/218)
وفي خريف 1537 خرج لويولا وفاقر ولاينيز من البندقية قاصدين روما ليلتمسوا موافقة البابا على خططهم. وقطعوا الطريق كله سيراً، يستجدون طعامهم ويعيشون أكثر الوقت على الخبز والماء. ولكنهم كانوا يترنمون بالمزامير في سعادة وهم ماضون في رحلتهم، وكأنهم عليمون بأن فئتهم هذه الصغيرة ستنبثق منها منظمة قوية رائعة.
5 - اليسوعيون
فلما بلغوا روما لم يلتمسوا المثول بين يدي البابا من فورهم، لأن بولس الثالث كان غارقاً في الدبلوماسية الحرجة. لذلك تطوعوا بالخدمة في المستشفى الأسباني، عنوا بالمرضى، وعلموا الصغار. وفي مطلع عام 1538 استقبلهم بولس، وأثرت فيه رغبتهم في الذهاب إلى فلسطين والعيش فيها رهباناً مثاليين. وأسهو هو وبعض الكرادلة بمبلغ 210 كراونا (5 - 250 دولاراً؟) في نفقات رحلة الفرقة. ولما اضطر النساك إلى التخلي عن الفكرة لاستحالة تنفيذها ردوا المال إلى واهبيه (36). واستدعي من ظل من الأعضاء في الشمال إلى روما، فبلغ عدد الجماعة الآن أحد عشر عضواً، وعين البابا بولس فافر ولاينيز أستاذين في السابينزا (جامعة روما)، في حين انقطع إجناتيوس والباقون لأعمال البر والتعليم. ونظم لويولا بعثة خاصة لهدايا المومسات، وأسس بتبرعات مؤيديه "بيت مرثا" لاستقبال هؤلاء النسوة، وقد أثار عداء الكثيرين له في روما بمواعظه الحماسية التي هاجم فيها الخطايا الجنسية.
وأصبح من المرغوب فيه تحديد مبادئ الفرقة وقانونها نظراً إلى انضمام أعضاء جدد إليها. وأضيف نذر الطاعة إلى نذري العفة والفقر، واشترط طاعة "القائد" الذي يختارونه طاعة ليس فوقها إلا الطاعة للبابا فقط. ثم نذر رابع "بخدمة بابا روما باعتباره خليفة الله على الأرض، و"بالتنفيذ(27/219)
الفوري الذي لا تردد فيه ولا اعتذار لكل ما يأمرهم به البابا الحاكم أو خلفاؤه لفائدة النفوس أو لنشر الإيمان" في أي مكان في العالم. وفي عام 1539 طلب لويولا إلى الكردينال كونتاريني أن يرفع إلى البابا بولس الثالث مواد التنظيم هذه، وأن يلتمس تثبيته للفرقة باعتبارها طريقة دينية جديدة. وكان البابا ميالاً إلى الموافقة، وخالفه بعض الكرادلة لأنهم رأوا في الجماعة نفراً من الغلاة الذين تستعصي سياستهم، ولكن بولس تغلب على اعتراضاتهم، وبمقتضى المرسوم البابوي المسمى "لأجل تنظيم الكنيسة المجاهدة" أنشأ رسمياً ما سماه المرسوم "جماعة يسوع" (27 سبتمبر 1540). وسمى أعضاؤها اسماً مناسباً هو "الاكليريكيون النظاميون في جماعة يسوع". ولم يظهر اسم "الجزويت" إلا عام 1544، وكان آنئذ لفظ هجو قبل كل شيء، استعمله كالفن وغيره من النقاد (37)، ولم يستعمله قط إجناتيوس نفسه. وبعد موته استل نجاح الطريقة الدينية الجديدة من اللفظ حمته القديمة، فأصبح في القرن السادس عشر شارة شرف.
وفي 17 أبريل 1541 انتخب إجناتيوس قائداً. وظل عدة أيام بعد انتخابه يغسل الأطباق ويؤدي أحقر الأعمال (38). وقد جعل مقامه في روما فيما بقي من عمره (وكان الآن في الخمسين)، وأصبحت المدينة المقر الدائم للجماعة. وبعد طول التفكير والتجربة، وضع "دساتير" الجماعة بين عامي 1547 و1552، وهي بتغييرات طفيفة قانون الجزويت اليوم. وقد نص على أن توضع سلطة الطريقة النهائية في أيدي الأعضاء "المنذورين" نذراً كاملاً. ويختار هؤلاء مندوبين من كل إقليم، وهؤلاء المندوبون-هم الرؤساء والإقليميون، والقائد، ومعاونوه-يؤلفون "المجمع العام". وينتخب هذا المجمع قائداً جديداً إذا لزم الأمر، ثم يفوض إليه سلطته ما لم يقترف ذنباً خطيراً. وقد أعطى "ناصحاً"، وأربعة مساعدين. يراقبون كل أعماله، ويحذرونه من أي خطأ جسيم، ويدعون المجمع العام لخلعه إذا اقتضى الأمر.(27/220)
ويتعين على طالبي عضوية الجماعة أن يقضوا فترة اختبار من عامين، يدربون خلالهما على هدف الجماعة ونظامها، ويمارسون الرياضة الروحية، ويخضعون للرؤساء في "طاعة مقدسة" مطلقة. وعليهم أن يتخلوا عن إرادتهم الفردية، ويرتضوا أن يؤمروا كما يؤمر الجند، وينقلوا "كأنهم الجثث" (39)، وعليهم أن يتعلموا الإحساس بأنهم بطاعتهم رؤساءهم إنما يطيعون الله. ويجب أن يوافقوا على إبلاغ رؤسائهم أخطاء زملائهم، وعلى ألا يستشعروا أي غضاضة في أن تبلغ أخطاؤهم لرؤسائهم (40). لقد كان هذا النظام صارماً ولكن فيه تمييزاً ومرونة، وقل أن حطم الإرادة أو قضى على المبادرة. والظاهر أن الاستعداد للطاعة هو أول خطوة في تعلم الأمر، لأن هذا التدريب أخرج العدد الكبير من الرجال الأكفاء المغامرين.
والذين يطيقون فترة الاختبار القاسية هذه يأخذون على أنفسهم عهوداً "بسيطة"-أي قابلة للسحب-بالفقر والعفة والطاعة، ويدخلون "الطبقة الثانية". وبعض هؤلاء يمكثون على هذا الوضع اخوة علمانيين، وبعضهم "مدرسين مؤهلين" يبتغون القسوسية، ويدرسون الرياضيات والآداب القديمة والفلسفة واللاهوت، ويعلمون في المدارس والكليات. أما الذين يجوزون مزيداً من الاختبارات فيدخلون الطبقة الثالثة، طبقة "المساعدين المؤهلين"، وبعض هؤلاء قد يرقون إلى الطبقة الرابعة-طبقة "المنذورين"-وكلهم قساوسة يتعهدون خصيصاً بالاضطلاع بأي عمل أو بعثة يكلها إليهم البابا. وكان هؤلاء "المنذورون" عادة قلة صغيرة-لا تتجاوز أحياناً العُشر-بين أعضاء الجماعة كلها (41). وعلى الطبقات الأربع أن تعيش عيشة مشتركة كالرهبان، ولكن نظراً إلى واجباتهم الإدارية والتربوية الكثيرة فقد أعفوا من الالتزام الديري بتلاوة صلوات العبادة اليومية السبع ولم يطلب إليهم أي ممارسات نسكية، وإن جاز(27/221)
إسداء النصح لهم إذا اقتضى الأمر. ونص على الاعتدال في الطعام والشراب؛ دون صوم متشدد، ويجب أن يحفظ الجسم والعقل جميعاً صالحين لأداء جميع الأعمال. وللعضو أن يحتفظ يحقه في أي أملاك يمتلكها حين دخوله الطريقة، ولكن كل دخل يأتيه منها يجب أن يعطي للجماعة، التي تأمل أن تكون الوريثة النهائية. وكل المقتنيات والأنشطة الجزويتية يجب أن تكرس لمجد أعظم، مجد الله.
لقد ندر أن حملت مؤسسة ما بصمات شخصية واحدة على هذا النحو القاطع. وامتد أجل لويولا سنين أتاحت له تنقيح دساتيره ليصوغ منها نظام رهبنة يعمل بنجاح. وراح من حجرته العارية الصغيرة يقود بسلطان صارم وحذق عظيم حركات جيشه الصغير في كل أرجاء أوربا وفي كثير من أنحاء العالم الأخرى. وكانت مهمة حكم الجماعة، وإنشاء وإدارة كليتين وعدة مؤسسات خيرية في روما، أثقل من أن يحتملها طبعه كلما تقدم به العمر، فأصبح غاية في الجفاء مع أقرب مرءوسيه، وإن ظل عطوفاً على الضعفاء (42). على أنه كان أقسى ما يكون على نفسه. وكثيراً ما كانت وجباته حفنة من البندق وكسرة من الخبز وكأساً من الماء. وكثيراً ما كانت ساعات نومه لا تزيد على أربعة في اليوم، بل اختزل إلى نصف ساعة في اليوم في تلك الفترة التي يخصصها للرؤى والاستنارة السماوية (43). ولما مات (1556) شعر الكثير من أهل روما أن ريحاً حادة توقفت عن الهبوب، ولعل بعض أتباعه امتزجت مشاعر الحزن عندهم بإحساس الراحة. ولم يستطع الناس أن يدركوا بهذه السرعة أن هذا الأسباني الذي لا يقهر سيثبت أنه من أعظم الرجال تأثيراً في التاريخ الحديث.
كانت الجماعة تضم عند موته قرابة ألف عضو، منهم نحو خمسة وثلاثين عضواً "منذوراً" (44). وبعد خلافات أظهرت قدراً كبيراً من إرادة القوة لدى هؤلاء اليسوعيين الذين خالهم الناس محطمي الإرادة، اختير(27/222)
دييجو لانيز قائداً (1558)، وقد اعترض بعض النبلاء الأسبان ممن كان لهم شيء من النفوذ في الطريقة على اختياره لأن أسلافه منذ أربعة أجيال كانوا يهوداً. وخاف البابا بولس الرابع أن ينتهي الأمر بمنصب قائد الجزويت إلى منافسة البابوية، لأنه يتولاه مدى الحياة. فأمر بمراجعة دساتير الجماعة لقصر رياسة القائد على ثلاث سنوات، ولكن بيوس الرابع ألغى الأمر، وأصبح القائد "البابا الأسود" (كما لقبته الأجيال التالية نسبة إلى رداء الكاهن الأسود). وما لبثت الطريقة أن ازدادت حجماً وقوة بعد أن انضم إليها فرانسيس بورجيا، دوق جانديا، ووهبها ثروته. ويوم أصبح هذا الرجل قائدها الثالث (1565) كانت تضم 3. 500 عضو يعيشون في 130 بيتاً في ثمانية عشر إقليماً أو دولة.
ولم تكن أوربا سوى قطاع صغير في نشاطها. فقد أوفدت مبعوثيها إلى الهند والصين واليابان والدنيا الجديدة. وكانوا في أمريكا الشمالية رواداً مغامرين لا تثنيهم المثبطات، يحتملون كل الكروب والخطوب على أنها عطية من الله. أما في أمريكا الجنوبية فقد جاهدوا كما لم تجاهد أي جماعة أخرى لتطوير التعليم والزراعة العلمية. وفي عام 1541 غادر القديس فرنسيس زافير لشبونة على سفينة برتغالية، وبعد عام من الرحلة والمعاناة بلغ جوا. وهناك أخذ يمشي في الشوارع رائحاً غادياً وهو يقرع ناقوساً يدعو الناس للاستماع إليه. فلما التفوا حوله بسط لهم العقيدة المسيحية بكل إخلاص وبلاغة، ثم أوضح الخلق المسيحي عملياً بمشاركته في عيشه أفقر المستمعين إليه مشاركة مغتبطة، حتى استطاع أن يحول إلى المسيحية آلاف الهندوس والمسلمين، بل إنه أقنع بالإيمان بعض المسيحيين البرتغاليين المغتربين الذين قست الشدائد قلوبهم. ولعل إبراءه المرضى راجع إلى الثقة التي بثها فيهم أو إلى معرفته العارضة بالطب، وقد نسبت إليه المعجزات فيما بعد. ولكنه لم يدع لنفسه واحدة منها. أما المرسوم(27/223)
البابوي الذي سلكه في زمرة القديسين (1622)، فقد نسب إليه "موهبة الألسن"-أي القدرة على التحدث بأي لغة عند الحاجة، ولكن الحقيقة أن هذا القديس البطل كان لغوياً ضعيفاً ينفق الساعات الطويلة في حفظ المواعظ بالتأملية أو الملاوية أو اليابانية، وكان إيمانه أحياناً أشد من أن تسايره إنسانيته، فقد حث يوحنا الثالث ملك البرتغال على إنشاء محكمة للتفتيش في جوا (46)، وأوصى بألا يرسم للقسوسية أي هندوسي ما لم ينحدر من أجيال عدة من الأسلاف المسيحيين، ولم يكن يطيق فكرة اعتراف برتغالي لقسيس وطني (47). وأخيراً غادروا جوا لأنها بلد تتعدد فيه اللغات تعدداً لا يعينه على تحقيق أهدافه. قال "أريد أن أكون حيث لا يوجد مسلمون ولا يهود. أعطوني وثنيين خلصاً" (48) -فلقد أحس أن الوثنيين أطوع إيماناً لأنهم أقل رسوخاً في دين آخر. وفي عام 1549 قصد اليابان، ودرس اليابانية في طريقه إليها. ولما رسا في كاجوشيما، راح هو وزملاؤه يبشرون في الشوارع والناس يستمعون إليهم في أدب. وبعد عامين عاد إلى جوا، وقوم خللاً ظهر بين المسيحيين هناك، ثم أبحر ليبشر الصين (1552). وبعد عناء شديد نزل جزيرة تشانج-تشوين، أسفل مصب نهر كانتون. وكان إمبراطور الصين قد قرر اعتبار دخول أوربي للصين جريمة كبرى، ومع ذلك ما كان هذا ليثني عزم زافير لو أنه وجد وسيلة للانتقال. وخلال انتظاره مرض، ثم فارق الحياة في 2 ديسمبر 1552 وهو يبكي قائلاً "فيك يا رب رجائي، فلا تجعلني ملعوناً إلى الأبد (49) ". وكان إذ ذاك في السادسة والأربعين.
وقد تفانى اليسوعيون في عملهم في أوربا تفانيهم في البعثات الأجنبية. فلزموا أماكنهم وعنوا بالمرضى في فترات تفشي الطاعون (48). وبشروا كل الطبقات، وكيفوا لغتهم وفق كل موقف. وجعلهم تعليمهم الممتاز وطباعهم المهذبة آباء الاعتراف المفضلين عند النساء والنبلاء، ثم عند(27/224)
الملوك. وشاركوا في شئون الدنيا بنشاط ولكن بحكمة ولباقة، وقد نصحهم إجناتيوس بأن قسطاً أكبر من الحكمة وأقل من التقوى خير من قدر أكبر من التقوى وأقل من الحكمة (51). وكانوا عادة رجالاً على خلق عظيم، أما الأخطاء التي رموا بها في فترة لاحقة فلم تكد تظهر في العصر الذي نحن بصدده (52). ومع أنهم وافقوا جماعة على محكمة التفتيش (53)، فإنهم وقفوا على مبعدة منها، مؤثرين أداء رسالتهم عن طريق التعليم. وقد اضطرتهم قلة عددهم إلى ترك تعليم الأطفال لغيرهم، أما هم فركزوا جهودهم على التعليم الثانوي، وإذ وجدوا أن الجامعات قد سبقتهم في الهيمنة عليها طرق دينية أخرى أو السلطة الزمنية أو رجال الدين البروتستنت، فقد نظموا كلهم كليات خاصة، وحاولوا تدريب شبان مثقفين ليكونوا مراكز للتأثير في الجيل التالي. وهكذا أصبحوا أعظم المربين في زمانهم.
لقد أنشئوا في نقط هامة في أوربا معاهد دنيا-تقابل الجمنازيوم الألماني والليسيه الفرنسية-وكليات عليا. واستطاعوا أحياناً أن يتسلموا جامعات موجودة فعلاً كما حدث في كواميرا ولوفان. وروعوا منافسيهم بتعليمهم التلاميذ مجاناً. وأكبر الظن أن منهج الدراسة الذي وضعوه يدين بالفضل للمدارس التي أنشأها في هولندا وألمانيا "إخوان الحياة المشتركة"، ولجمنازيوم شتورم في ستراسبورج، ولأكاديميات ألمانيا وإيطاليا الإنسانية. وكان هذا المنهج يقوم على الآداب القديمة ويدرس باللاتينية، أما استعمال اللغة القومية فمحظور على الطلبة إلا في العطلات (54)، وأعيدت دراسة الفلسفة الكلامية في الفرق العليا. وزيد الاهتمام بتربية الخلق-أي الفضائل والعادات-وربط من جديد بين هذه التربية وبين العقيدة الدينية، وغرس الإيمان التقليدي في التلاميذ، فأشربهم نظام من الصلاة، والتأمل، والاعتراف، والتناول، والقداس، واللاهوت، سلامة في العقيدة قل معها من انحرف منهم في القرن السادس عشر عن هذا السبيل(27/225)
المطروق. وردت الدراسات الإنسانية من الوثنية إلى المسيحية. على أن هذا النظام كانت فيه مآخذ خطيرة، فهو مفرط في الاعتماد على الذاكرة، مثبط للأصالة، ناقص في العلوم كغيره من مناهج ذلك العهد، وقد نقّى التاريخ تحقيقاً للهيمنة على الحاضر. وع ذلك فإننا نجد مفكراً ذا نزعة استقلالية قوية مثل فرانسس بيكن يبادر إلى القول في مدارس اليسوعيين، "وودت لو كانت هذه المدارس مدارسنا ولو بوضعها الراهن" (55). وسنرى في القرنين التاليين أن خريجيها سيبرزون في كل مناحي الحياة تقريباً عدا البحث العلمي.
وقبيل وفاة لويولا كان هناك مائة كلية يسوعية. وبفضل التعليم والدبلوماسية والتفاني في العمل، وبفضل الحماسة التي يضبطها النظام، وبفضل التنسيق بين الأهداف والتوزيع البارع في الوسائل، أفلح الجزويت في صد المد البروتستنتي، واستردوا للكنيسة جانباً كبيراً من ألمانيا، ومعظم المجر وبوهيميا، وكل بولندا المسيحية. وندر أن حققت جماعة بمثل هذا الحجم الصغير، مثل هذا النجاح الكبير، بمثل هذه السرعة الفائقة. ومضت سمعتها ونفوذها ينموان العام بعد العام، إلى أن اعترف بعد عشرين عاماً من تأسيسها الرسمي بأنها أروع نتاج للإصلاح الكاثوليكي. ويوم اجترأت الكنيسة في نهاية المطاف على دعوة ذلك المجمع العام الذي طال ارتقاب أوربا له ليهدئ صراعها اللاهوتي ويبرئ جراحها الدينية، كانت حفنة من الجزويت- بثقافتهم، وولاتهم، وحصافتهم، وسعة حيلتهم، وبلاغتهم- هي التي ناط بها البابوات مهمة الدفاع عن سلطتهم المتحداه، والمحافظة على الإيمان القديم كاملاً غير منقوص.(27/226)
الفصل التاسع والثلاثون
البابوات والمجتمع
1517 - 1565
1 - البابوات يكرهون على الدفاع
لقد أرجأنا إلى آخر هذا المجلد هذه المهمة الشاقة على كاتب غير كاثوليكي، مهمة فهم رد فعل البابوات للتحدي الذي واجههم به الإصلاح البروتستنتي، ثم وصفه في غير ميل ولا تحيز.
لقد كان رد فعل أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، ربما باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة أن يكونوا، لا مجردين من حب الذات أو خالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أو شراً منها في كل إدارة علمانية؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهل يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في أن تبدو بعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أو الفيلسوف- وهل(27/227)
التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أو أسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر أن تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إن التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولو أن هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، ربما بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس دعاة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أو السعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك (1)؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا أن ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل؟ وأي مبررات قاهرة تدعو في رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.
إننا لا نستطيع أن نعرف هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا أن نتصور الموقف النفسي للبابا ليو العاشر (1513 - 21) على هذا النحو، إذ وجد البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد أن دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال
_________
(1) يقول ناقد من أقوى وأعلم نقاد الكنيسة "قبل أن تنشب ثورة لوثر كانت كل أرجاء أوربا الكاثوليكية تتمتع بقدر كبير من حرية الفكر والكلام". "هنري لي، تاريخ محكمة التفتيش في أسبانيا، ص 411 الجزء الثالث.(27/228)
الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول أن يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن أن تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضو في أسرة مديتشثي، ولنتصور أن الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليو محقاً! لقد حسب ليو حركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكو بيكو ديللا ميراندولا (ابن أخي بيكو الأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لو أن ليو ... أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى أن الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف" (1). ولكن ليو انصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً ... وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى (2) ".
وخير برهان على أنه لم يعد سبيل للإصلاح إلا أن يأتي بضربة من الخارج هو إخفاق أدريان السادس (1522 - 23). ذلك أنه سلم بهذه المفاسد واضطلع بإصلاحها في القمة، ولكن أهل روسا سخروا منه وسبوه لأنه يهدد مواردهم من ذهب الأقطار الواقعة وراء الألب. وبعد عامين من النضال ضد هذه الأنانية الجاهلة مات أدريان قهراً.
بيد أن العاصفة المتجمعة تفجرت على رأس كلمنت السابع (1523 - 34). لقد كان من خيرة البابوات فكراً وخلقاً، رحيماً كريماً، دافع عن اليهود المطاردين، ولم يشارك في الانحلال الجنسي أو المالي المحيط به،(27/229)
وواصل غلى نهاية حياته المضطربة تغذية الفن والأدب الإيطاليين برعايته الذكية المميزة. ولعل ما حظي به من تعليم رفيع حال بينه وبين أن يكون إدارياً ناجحاً، وكان في ذكائه من الحدة ما أتاح له رؤية المبررات الحسنة لكل مسلك في كل أزمة؛ وأوهن علمه من شجاعته، وأغضبت ذبذباته الدولة تلو الدولة. على أننا لا نملك إلا التعاطف مع رجل توافر له حسن النية الشديد، رجل رأى روما تنهب تحت بصره، ورأى نفسه سجين غوغاء وإمبراطور؛ رجل منعه ذلك الإمبراطور من محاولة الوصول إلى صلح معقول مع هنري الثامن؛ رجل أكره على أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، أن يخسر إما هنري وإنجلترا، وإما شارل وألمانيا؛ رجل قيل له حين احتج على تحالف فرانسوا مع العثمانيين، والقائل هو ذلك الملك. "المسيحي جداً"، إنه إذا بدر منه مزيد من الاحتجاج فإن فرنسا ستطلق البابوية. إن أحداً من البابوات لم يتجرع مثله كأس المنصب حتى هذه الثمالة المرة.
وكانت أخطاؤه وبيلة. فهو حين أساء تقدير خلق شارل وموارده، وبهذا شجع على "نهب روما" أصاب البابوية بلطمة شجعت شمال ألمانيا على نبذ الولاء لروما. وحين توج الرجل الذي أذن بذلك الهجوم فقد احترام العالم، حتى العالم الكاثوليكي. وقد أذعن لشارل من جهة لافتقاره إلى القوة المادية اللازمة للمقاومة، ومن جهة أخرى لخشيته من أن إمبراطوراً أقصاه البابا عن وده قد يدعو مجمعاً عاماً من العلمانيين ومن رجال الدين، ويمسك بزمام السلطتين الكنسية والزمنية جميعاً، ويتم إخضاع الكنيسة للدولة المتمردة، بل ربما يخلعه باعتباره ابناً غير شرعي (3). ولو أتيحت لكلمنت الشجاعة التي أبداها عمه لورنزو مديتشي في نابلي عام 1479، لبادر بدعوة مجمع قد يوفق تحت قيادته المتحررة في إصلاح أخلاقيات الكنيسة وتعاليمها، وفي إنقاذه وحدة العالم المسيحي الغربي.(27/230)
أما خليفته فقد بدا لأول وهلة حائزاً على جميع شروط الذكاء والخلق. وأقر الجميع بأن أليساندرو فارنيزي، الذي اتخذ اسم بولس الثالث، هو الرجل الصالح لأرفع منصب في العالم المسيحي، فقد ولد في أسرة غنية مثقفة، وتعلم الآداب القديمة على يد بومبونيوس لايتوس، ونضج أديباً إنسانياً وسط أسرة مديتشي بفلورنسة، وقربه بابا أوقعته أخته من قبل في شباك شعرها الذهبي، ورسم كردينالاً في الخامسة والعشرين (1493)، وأثبت كفايته في مهام دبلوماسية عسيرة، وارتقى إلى مقام مرموق وغير منازع في مجمع الكرادلة، ثم انتخب للبابوية بالإجماع في عام 1534. ولم ينل من قدره كثيراً إنجابه أربعة أبناء قبل أن يرسم قسيساً في عام 1519، ومع ذلك فقد ظهر في خلقه، كما ظهر في مجرى حياته العملية، تقلب وتناقضات، وبعض هذا راجع لأنه وقف كعمود مهزوز بين النهضة التي أحبها وبين حركة إصلاح بروتستنتي لم يستطع فهمها أو اغتفارها. ومع أنه كان رفيق البدن، فقد سلخ خمسة عشر عاماً من الزعازع السياسية والداخلية. ومع أنه تزود بكل ثقافة عصره، فإنه كان يلجأ بانتظام إلى المنجمين ليحددوا له أكثر الساعات مواتاة لرحلاته أو قراراته بل ومقابلاته (4). ومع أنه كان رجلاً شديد الحساسية، ميالاً بين الحين والحين غلى نوبات الغضب، فقد كان معروفاً بضبطه لنفسه. وقد وصفه تشلليني-الذي اضطر لإيداعه السجن-بأنهر جل "لا إيمان له بالله ولا بغيره" (5). وهذا يبدو غلواً في الحكم عليه، فما من شك في أن بولس كان يؤمن بنفسه، غلى أن أضعف مسلك ذريته في سنوات عمره الأخيرة إرادة الحياة فيه. وقد عوقب حيث أثم، فقد أعاد محاباة الأقرباء التي كانت طابع بابوية عصر النهضة، وأعطى بياتشنزا وبارما لولده بيرلويجي، وكاميرينو لحفيده أوتافيو، وخلع القبعة الحمراء على ابني أخيه البالغين من العمر أربعة عشر وسبعة عشر عاماً ورقاهما على الرغم(27/231)
مما ذاع عنهما من فساد خلق. لقد كان يملك شخصية بلا خلق، وذكاء بلا حكمة.
وقد اعترف بعدالة النقد الذي وجهه دعاة الإصلاح البروتستنتي إلى إدارة الكنيسة، ولو كان الإصلاح الكنسي هو العقبة الوحيدة في سبيل المصالحة لجاز أن ينهي حركة الإصلاح هذه. ففي عام 1553 أوفد بيير باولو فرجيريو ليسبر القادة البروتستنت حول حضورهم مجمعاً عاماً، ولكنه أبى أن يعد بالسماح بأي تغيير جوهري في العقيدة المعرفة أو في سلطة البابوات. وعاد فيرجيريو من ألمانيا بخفي حنين، فقد أبلغ البابا أن الكاثوليك هناك انضموا إلى البروتستنت في التشكك في إخلاص البابا في اقتراح عقد المجمع (6)، وأن الأرشيدوق فرديناند شكا من أنه لا يستطيع العثور على أب اعتراف لم يكن زانياً أو سكيراً أو جهولاً (7). وكرر بولس المحاولة في عام 1536، وكلف بيتر فان درفورست أن يتفق مع اللوثريين على شروط عقد مجمع، ولكن ناخب سكسونيا صد بيتر فلم يظفر بشيء. وأخيراً بذل بولس قصارى جهد الكنيسة في الوصول إلى تفاهم مع ناقديها، فأرسل إلى مؤتمر براتسبون الكردينال جاسبارو كونتاريني، وكان رجلاً لا يتطرق الشك إلى إخلاصه في الحركة الكاثوليكية الداعية للإصلاح.
ونحن لا نملك غير العطف على الكردينال الشيخ الذي اقتحم ثلوج الأبنين والألب في فبراير ومارس 1541 وهو يتوق لتتويج حياته بتنظيم السلام الديني. وقد تأثر كل من كان في راتسبون بتواضعه، وبساطته، وحسن نيته. وقد توسط في صبر القديسين بين الكاثوليك إيك وفلوج وجروبر، والبروتستنت ملانكتون وبوكر وبيستوريوس. وأمكن التوصل إلى إنفاق حول الخطية الأصلية، والإرادة الحرة، والعماد، والتثبيت، والرسامة. وفي 3 مايو كتب كونتاريني إلى الكردينال فارنيزي مغتبطاً(27/232)
"حمداً لله؛ بالأمس وصل اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنت إلى اتفاق حول عقيدة التبرير"، ولكن لم يتيسر الوصول إلى حل وسط مقبول حول سر القربان، فقد أبى البروتستنت الاعتراف بأن في استطاعة قسيس أن يحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وشعر الكاثوليك أن التخلي عن عقيدة التحول هذه معناه التخلي عن صميم القداس وطقوس كنيسة روما. وقفل كونتاريني عائداً إلى روما وقد أضناه الإخفاق والحزن، ليدمغه أتباع الكردينال كارافا المتزمتين في الكثلكة التقليدية بتهمة اللوثرية. ولم يفصح بولس نفسه عن استطاعته قبول الصيغ التي وقع عليها كونتاريني، على أنه استقبله استقبالاً ودياً وعينه ممثلاً للبابا في بولونيا. وهناك مات بعد وصوله بخمسة أشهر.
وأصبحت سياسة الدين أشد اكفهراراً واختلاطاً. وتساءل بولس ألا يظفر الإمبراطور شارل الخامس من وراء تصالح البروتستنت مع الكنيسة بدولة ألمانية موحدة، يسود السلام ربوعها، بحيث تطلق يده في أن يولي وجهة صوب الجنوب، ويربط أملاكه في شمالي وجنوبي إيطاليا بالاستيلاء على الولايات البابوية والقضاء على سلطة البابوات الزمنية؟ أما فرانسوا الأول فإنه لخشيته أيضاً من تهدئة ألمانيا اتهم كونتاريني بالاستسلام المخزي للمهرطقين، وتعهد بتأييد بولس تأييداً كاملاً إن هو رفض في حزم مصالحة اللوثريين (8) -الذين كان فرانسوا يسعى إلى التحالف معهم. ويبدو أن رأي بولس استقر على أن التفاهم الديني سيكون مجلبة خراب سياسي. وفي عام 1538 استطاع بالدبلوماسية البارعة أن ينع شارل وفرانسوا بتوقيع هدنة في نيس، ولما أمن شر شارل في الغرب على هذا النحو حرضه على الهجوم على اللوثريين. وحين قارب شارل الانتصار 1546 سحب بولس الفرقة البابوية التي كان قد أرسلها إليه، لأنه هنا أيضاً أي ارتعد فرقاً من أن يكون في خلاص الإمبراطور من وجود(27/233)
مشكلة بروتستنتية في مؤخرته ما يغريه بإخضاع إيطاليا كلها لسلطانه. وأصبح البابا بروتستنتياً مؤقتاً، ونظر إلى اللوثرية كأنها حامية إلى البابوية-تماماً كما كان سليمان القانوني حامياً للوثرية. وفي هذه الأثناء كان فرانسوا الأول-درعه الثاني ضد شارل-يحالف العثمانيين الذين هددوا المرة بعد المرة بغزو إيطاليا والهجوم على روما. ولعلنا نغتفر بعض هذا التذبذب لبابا أرهقه الخصوم وأحدقت به المشكلات على هذا النحو، وما من عدة لديه غير حفنة من الجند، ولا دفاع غير إيمان لا يعمر فيما يبدو إلا قلوب الضعفاء. وفي وسعنا أن ندرك ضآلة الدور الذي لعبه الدين في هذه الصراعات على القوة حين نسمع تعليق شارل للسفير البابوي إذ علم أن بولس حول وجهه شطر فرنسا: قال الإمبراطور إن البابا أصابته في شيخوخته عدوى مرض يصيب الناس عادة في شبابهم، هو المرض الفرنسي (9).
ولم يصد بولس البروتستنتية ولا أدخل أي إصلاحات جوهرية، ولكنه نفخ الحياة في البابوية ورد لها عظمتها ونفوذها، وظل إلى النهاية واحداً من بابوات النهضة. فقد شجع جهود ميكل أنجيلو وغيره من الفنانين وأمدهم بالمال، وجمل روما بالمباني الجديدة، وزين الفاتيكان بـ "الصالاريجيا" و "الكابيلاباولينا"، وشارك في حفلات الاستقبال الفخمة، ورحب بالجميلات من النساء على مائدته، واستقبل الموسيقيين والمهرجين والمغنيات والراقصات في بلاطه (10)، وحتى في ثمانيناته لم يكن سليل فارنيزي هذا ليفسد اللعبة على لاعبيها. وقد نقله لنا تيشان في سلسلة من اللوحات القوية. وفي أفضل هذه اللوحات (المحفوظة بمتحف نابلي) يبدو هذا الحبر الأعظم، الذي سلخ من عمره خمسة وسبعين عاماً، محتفظاً بقوته، على وجهه أخاديد حفرتها مشكلات الدولة والأسرة، ولكن رأسه لم ينحن بعد للزمن. وبعد ثلاث سنوات رسم تيشان لوحة لبولس وابني أخيه أوتافيو(27/234)
والسندرو (محفوظة هي الأخرى بنابلي) كادت تتنبأ بمصيره، فالبابا الذي انحنى الآن ظهره ونال منه الإعياء، يبدو فيها وكأنه يستجوب أوتافيو مستريباً في أمره. ذلك أن بييرلويجي، بن بولس، اغتيل عام 1547، وفي عام 1548 تمرد أوتافيو على أبيه، ودخل في اتفاق مع أعداء بولس ليجعل بارما ولاية إمبراطورية. وأسلم البابا العجوز نفسه للموت (1549) بعد أن هزمه حتى أبناؤه.
وقد أخطأ خليفته في تسمية نفسه بيوليوس الثالث (15500 - 55)، إذ لم يكن فيه شيء من فحولة يوليوس الثاني ولا قوته ولا أهدافه الطموحة. بل إنه استأنف أساليب ليو العاشر السهلة الهينة، واستمتع بالبابوية في إسراف لطيف، وكأن حركة الإصلاح البروتستنتي ماتت بموت لوثر. فخرج للصيد، واحتفظ بندماء البلاط، وقامر بمبالغ كبيرة، ورعى مصارعات الثيران، ورقى لمنصب الكاردينالية تابعاً له يعنى بنسناسته، وأعطى روما على الجملة آخر رشفة رشفتها من وثنية النهضة سواء في الأخلاق والفن (11). وقد كلف فينولا وغيره بأن يشيدوا له خارج "البورتا ديل بوبولو" بيتاً جميلاً "فيللا دي بابا جوليو" (1553) جعله مركزاً للفنانين والشعراء والاحتفالات. ثم كيف نفسه في هدوء وفق سياسات شارل الخامس. وشكا النقرس في غير أوانه، فحاول علاجه بالصوم، ويبدو أن هذا البابا الأبيقوري مات من الزهد في الطعام (12)، وقيل من الانغماس في اللذات (13).
وجاء البابا مارتشيللوس الثاني، وكان أقرب إلى القديسين. فحياته الخلقية بلا لوم، وتقواه عميقة، واختياره لشاغلي المناصب مثالي، وجهوده لإصلاح الكنيسة مخلصة، ولكنه مات في اليوم الثاني والعشرين من تقلده منصب البابوية (5 مايو 1555).
وكأن الكرادلة أرادوا أن يعلنوا على الملأ أن معارضة الإصلاح(27/235)
البروتستنتي قد وصلت إلى البابوية، فقلدوها رجلاً كان روح حركة الإصلاح في الكنيسة وصوتها، وهو الناسك جوفاني بييترو كارفا، الذي سمى نفسه بولس الرابع (1555 - 59). وكان وقد بلغ التاسعة والسبعين ثابتاً على آرائه لا يحيد عنها قيد أنملة، مكرساً نفسه لتنفيذها برسوخ في الإرادة وحدة في العاطفة لا يكادان يناسبان رجلاً في سنه. كتب السفير الفلورنسي يقول: "إن البابا رجل قد من حديد، بل إن الأحجار التي يمشي فوقها تنفث الشرر" (14). كان مولده في بينيفنتو، لذلك حمل حرارة جنوبي إيطاليا في دمه، وبدت النار دائمة التوقد في مقلتيه الغائرتين. وكان في طبعه فورة البركان، ولم يجرؤ على معارضته سوى السفير الأسباني تدعمه فرق الدوق ألفاً. وقد كره بولس الرابع أسبانيا لأنها سيطرت على إيطاليا، وكما حلم يوليوس الثاني وليو العاشر بطرد الفرنسيين، كذلك كان أول أهداف هذا الثمانيني النشيط تحرير إيطاليا والبابوية من السيادة الأسبانية-الإمبراطورية. فاتهم شارل الخامس بأنه ملحد مقنّع (15)، وابن مجنون لأم مجنونة، وشخص "كسيح جسداً وروحاً" (16)، ودمغ الشعب الأسباني بأنه حثالة من الساميين (17)، وأقسم أنه لن يعترف بفيليب والياً على ميلان. وفي ديسمبر 1555 عقد معاهدة مع هنري الثاني ملك فرنسا وإيركولي الثاني أمير فرارة لطرد جميع القوات الأسبانية أو الإمبراطورية من إيطاليا، فإذا تم للحلفاء النصر أخذت البابوية سيينا، والفرنسيون ميلان، وحكموا نابلي بوصفها ولاية بابوية، ووجب عزل شارل وفرديناند لقبولهما شروط البروتستنت في أوجزبورج (18).
وبمهزلة من هذه المهازل التي يمكننا رؤيتها، ونحن على بعد كاف، في مآسي التاريخ، وجد فيليب الثاني نفسه في حرب مع البابوية وهو أشد أنصار الكنيسة غيرة وتحمساً، فأمر الدوق ألفاً على مضض بأن يزحف بجيش نابولي على الولايات البابوية. ولم تمض أسابيع حتى هزم الدوق(27/236)
بجنوده المتمرسين بالقتال، البالغ عددهم 10. 000، قوات البابا الضعيفة، واستولى على المدينة تلو المدينة، ونهب أناني، واستولى على أوستيا، وهدد روما (نوفمبر 1556). وبارك بولس معاهدة بين فرنسا والعثمانيين، ولجأ وزير خارجيته، الكردينال كارلو كارافا، إلى سليمان القانوني ليهاجم نابلي وصقلية (19). وأرسل هنري الثاني جيشاً إلى إيطاليا يقوده فرانسوا دوق جيز، فاستعاد أوستيا، وهلل البابا، ولكن هزيمة الفرنسيين في سان-كنتان أكرهت جيز على العودة برجاله سريعاً إلى فرنسا، وزحف ألفاً على أبواب روما دون مقاومة. وولول أهل روما فرقاً، وودوا لو أن حبرهم الديني الطائش كان نزيل قبره (20)، ورأى بولس أن المزيد من القتال قد يعيد "نهب روما" الرهيب، بل قد يحمل أسبانيا على الانفصال عن كنيسة روما. لذلك وقع في 12 سبتمبر 1557 معاهدة صلح مع ألق، الذي عرض شروطاً سخية، واعتذر عن انتصاره، ولثم قدم البابا المغلوب (21). وردت إلى البابا جميع أراضيه التي سبق الاستيلاء عليها، ولكن السيادة الأسبانية على نابلي وميلان والبابوية تأكدت. وبلغ انتصار الكنيسة على الدولة منتهاه، حتى أن الأمراء الناخبين هم الذين توجوا فرديناند حين تسلم لقب الإمبراطور من شارل الخامس (1558)، ولم يسمح لأي ممثل للبابا بالقيام بأي دور في مراسيم الاحتفال. وهكذا كانت نهاية تتويج البابوات لأباطرة الدولة الرومانية المقدسة، وتحقق آخر المطاف انتصار شارلمان في خلافه مع ليو الثالث.
والآن وقد تخفف بولس الرابع طوعاً أو كرهاً من أعباء الحرب، فإنه فرغ فيما بقي له من فترة بابويته للإصلاحات الكنسية والأخلاقية التي ذكرناها من قبل. وقد توجها بطرد وزيره الإباحي الكردينال كارلو كارافا، وإن جاء هذا الطرد متأخراً، وبنفي ابني أخ آخرين من روما؛ وكانا قد شوها سمعة بابويته. وأجليت عن الفاتيكان أخيراً سبة محاباة الأقرباء التي استشرت فيه قرناً من الزمان.(27/237)
2 - الرقابة ومحكمة التفتيش
وهذا البابا الحديدي هو الذي بلغت رقابة المطبوعات في عهده غاية الصرامة واتساع المدى، وأصبحت محكمة التفتيش ضرباً من الإرهاب كادت تبلغ وحشيته في روما ما بلغته في أسبانيا. ولعل بولس الرابع شعر بأن رقابة المطبوعات وقمع الهرطقة واجبان لا مندوحة عنهما لكنيسة أجمع الرأي البروتستنتي والكاثوليكي على أن مؤسسها هو ابن الله. لأنه إذا كانت الكنيسة من الله، فخصومها إذن لا بد عملاء للشيطان، والحرب الدائمة على هؤلاء الشياطين التزام ديني قِبل إله مهان.
والرقابة قديمة قدم الكنيسة نفسها تقريباً. فالمسيحيون في أفسس أحرقوا في عصر الرسل كتباً في "فنون غريبة" قيل إن قيمتها بلغت "50. 000 قطعة من الفضة (22) "، وحرم مجمع أفسس (150) تداول "أعمال بولس" (23) غير القانونية. وفي فترات مختلفة أمر البابوات بحرق التلمود أو غيره من كتب اليهود. وحظرت ترجمة ويكليف وما تلاها من الترجمات البروتستنتية للكتاب المقدس لاحتوائها مقدمات وهوامش وتصحيحات معرضة للكاثوليكية. وزاد اختراع الطباعة من حرص الكنيسة على ألا تفسد أبناءها التعاليم الباطلة. فأمر مجمع اللاتيران الخامس (1516) بألا تطبع بعده كتب دون أن تفحصها الكنيسة وتوافق عليها. وأصدرت السلطات الزمنية بيانات بمحظوراتها من المطبوعات غير المرخصة: مجلس شيوخ البندقية في 1508، ومجلس نواب فورمز ومراسيم شارل الخامس وفرانسوا الأول في 1521، وبرلمان باريس في 1542. وفي 1543 وسع شارل الرقابة الكنسية على المطبوعات فشملت أمريكا الأسبانية. وفي عام 1544 نشرت السوربون أول فهرس عام بالكتب المحرمة، ونشرت محكمة التفتيش أول قائمة إيطالية في عام 1545.(27/238)
وفي عام 1559 نشر بولس الرابع أول فهرس بابوي بالكتب المحظورة، وقد ورد فيه ثمان وأربعون طبعة مهرطقة للكتاب المقدس، وأوقع الحرم على واحد وستين طابعاً وناشراً (24). وقد فرض على كل كاثوليكي الامتناع عن قراءة أي كتاب نشر منذ سنة 1519 دون أن يحمل اسمي المؤلف والطابع ومكان النشر وتاريخه، وحرمت قراءة أي كتاب بعد ذلك لم يحصل على إذن كنسي " impramtur" بطبعه. وشكا باعة الكتب وطلاب العلم من أن هذه الإجراءات معطلة لهم أو قاضية عليهم، ولكن بولس أصر على الطاعة التامة. وأحرقت آلاف الكتب في روما وبولونيا ونابلي وميلان وفلورنسة والبندقية-10. 000 في البندقية في يوم واحد (25). وبعد موت بولس انتقد نفر من قادة الكنيسة إجراءاته لما فيها من مغالاة في العنف وعدم التمييز، ورفض مجمع ترنت فهرسه، وأصدر تحريماً أكثر تنظيماً، هو "الفهرس الثلاثي" (1564). وشكلت لجنة خاصة للفهرس في 1571 لمراجعة القائمة وإعادة نشرها بصفة دورية.
ومن العسير الحكم على أثر هذه الرقابة. وعند باولو ساربي، وكان راهباً سابقاً، ومعارضاً للأكليروس، أن الفهرس "هو أبدع سر كشف إلى الآن ... لفرض البلاهة على الناس (26) ". ولعله شارك في إحداث اضمحلال إيطاليا الفكري بعد عام 1600، واضمحلال أسبانيا بعد عام 1700، ولكن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت أهم. والفكر الحر، كما يقول أقوى مؤرخ إنجليزي له، عاش في الدول الكاثوليكية خيراً مما عاش في الدول البروتستنتية، وتبين حتى عام 1750 أن الحكم المطلق للكتب المقدسة الذي فرضه اللاهوتيون البروتستنت أشد إيذاء للبحث والتفكير المستقلين من فهارس الكنيسة ومحكمة تفتيشها (27). أياً كان الأمر فإن الحركة الإنسانية ذبلت، في الدول الكاثوليكية والبروتستنتية على السواء. وخف التأكيد على الحياة في الأدب، واضمحلت دراسة اليونانية ومحبة الآداب(27/239)
الوثنية، ورمى اللاهوتيون المنتصرون الإنسانيين الإيطاليين (ولهم بعض العذر في هذا) بأنهم كفرة متغطرسون فاسقون.
ونفذت الرقابة على الكتب في تراخ حتى وكلها بولس الرابع إلى محكمة التفتيش (1555). وكانت هذه المؤسسة التي أنشئت أولاً عام 1217 قد انتكست سلطتها وسمعتها نتيجة لتساهل بابوات النهضة. ولكن حين أخفقت آخر محاولة للمصالحة مع البروتستنت في راتسبون، وظهرت التعاليم البروتستنتية في إيطاليا ذاتها، حتى بين رجال الأكليروس، وخيف أن تتحول مدن بأسرها مثل لوكا ومودينا إلى البروتستنتية (28) اشترك الكردينال جوفاني كارافا، وإجناتيوس لويولا، وشارل الخامس في الإلحاح على إعادة محكمة التفتيش. وأذعن بولس الثالث (1542)، وعين كارافا وخمسة كرادلة آخرين لإعادة تنظيم المؤسسة، وخول لهم سلطة تفويض كنسيين خاصين في أرجاء العالم المسيحي، وشرع كارافا في التنفيذ بما عهد فيه من صرامة، وأنشأ مقراً للمحكمة وسجناً، ووضع هذه القواعد لمرءوسيه:
1 - حين يكون الإيمان موضع شك يجب ألا يكون هناك أي تأجيل، ولابد من اتخاذ الإجراءات الصارمة بكل سرعة إذا قامت أقل شبهة.
2 - يجب ألا يكون هناك أي اعتبار لأي أمير أو حبر مهما علا منصبه.
3 - الصرامة المتناهية أولى أن تستعمل مع أولئك الذين يحاولون الاحتماء بأي حاكم. ولا يعامل بالرفق والعطف الأبوي إلا من اعترف اعترافاً كاملاً.
4 - يجب ألا يحط إنسان من قدره بإبداء التسامح نحو المهرطقين أياً كان نوعهم، ونحو الكالفنبين على الأخص (29).
فأما بولس الثالث ومارتشيللوس الثاني فقد قيدا حماسة كارافا، واحتفظا بحق العفو عند الاستئناف. وأما يوليوس الثالث فكان أهن من أن يتدخل في عمل كارافا، فأحرق في عهده نفر من المهرطقين في روما.(27/240)
وفي عام 1550 أمرت محكمة التفتيش الجديدة بمحاكمة أي كاهن كاثوليكي لا يعظ ضد البروتستنتية. فلما ارتقى كارافا نفسه عرش البابوية باسم بولس الرابع، انطلقت المؤسسة إلى العمل بكل طاقتها، "واكتسبت المحكمة بفضل صرامته الخارقة سمعة واسعة، بحيث لم يكن هناك كرسي قضاء آخر في الأرض يتوقع الناس منه إصدار أحكام أشد بشاعة وإرهاباً" على حد قول الكردينال سيريباندو (30). ووسع اختصاص محكم التفتيش حتى شمل التجديف والمتاجرة بالرتب الكهنوتية (السيمونية)، واللواط، والزواج المتعدد، وهتك العرض، والقوادة، وانتهاك نظم الكنيسة في الصوم، وغير هذه من الذنوب التي لا تمت للهرطقة بسبب. ونحن نسوق أيضاً هذه الفقرة من كلام مؤرخ كاثوليكي عظيم:
"كان البابا العجول السريع التصديق يعير أذناً صاغية لكل اتهام ولو كان شديد السخف ... وكان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة ... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم ... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف" (31).
وفي قمة هذا العنف (31 مايو 1557) أمر بولس بالقبض على الكردينال جوفاني موروني، أسقف مودينا، وفي 14 يونيو أمر الكردينال بولي بأن يتخلى عن سلطة الممثل البابوي في إنجلترا ويحضر إلى روما ليواجه محاكمته بتهمة الهرطقة. وقال البابا إن مجمع الكرادلة نفسه سرت إليه دعوى الهرطقة. أما بولي فقد بسطت عليه الملكة ماري حمايتها ومنعت تسليم الاستدعاء البابوي له. وأما موروني فقد اتهم بأنه وقع اتفاق راتسبون حول عقيدة التبرير بالإيمان، وبأنه تهاون مع المهرطقين الداخلين في(27/241)
نطاق سلطته، وبأنه كان صديقاً لبولي، وفتوريا كولونا، وفلامينيو، وغيرهم من الشخصيات الخطرة، وبعد أن قضى ثمانية عشر يوماً سجيناً في قلعة سانت أنجيلو أصدر قضاة التفتيش حكمهم ببراءته، وأمروا بالإفراج عنه، ولكنه أبى أن يبرح زنزانته حتى يقر بولس ببراءته. ولكن بولس رفض، فظل موروني سجيناً حتى أطلقه موت البابا. وأما فلامينيو فقد فوت على محكمة التفتيش غرضها بموته، "ولكننا أحرقنا أخاه شيزاري في الميدان المواجه لكنيسة المينرفا" (32)، كما قال بولس. وراح الحبر المجنون يطارد أقرباءه هو بشبهات الهرطقة في عناد لا يعرف التحيز. قال "لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً لجمعت الحطب لحرقه" (33).
كان بولس لحسن الحظ بشراً نهايته الموت، فمضى لحسابه. بعد أربع سنوات من الحكم. واحتفلت روما بموته بأربعة أيام من الشغب المرح، حطمت خلالها الجماهير تمثاله، وجرته في الشوارع، ثم أغرقته في نهر تيير، وأحرقت مباني محكمة التفتيش، وأطلقت سجناءها، وأتلفت وثائقها (34). ولعلع البابا كان يرد على هذا بأنه ما كان في استطاعة رجل أن يصلح أخلاق روما ومفاسد الكنيسة إلا إذا أوتي صرامته وشجاعته اللتين لا هوادة فيهما، وأنه وفق في هذه المغامرة بينما أخفق أسلافه. ومن أسف أنه في محاولته إصلاح الكنيسة تذكر توركويمادا ونسي المسيح.
وتنفس غرب أوربا كله الصعداء حين اختار مجمع الكرادلة سنة 1559 جوفاني أنجيلو دي مديتشي حبراً أعظم باسم البابا بيوس الرابع. لم يكن مليونيراً مديتشياً، بل ابن جاب للضرائب ميلاني، اشتغل بالمحاماة ليكسب قوته، وظفر بإعجاب بولس الثالث وثقته، فعين كردينالاً، واشتهر بالذكاء والميل إلى أعمال البر، فلما ارتقى عرش البابوية ابتعد عن الحرب ووبخ أولئك الذين كانوا يشيرون بالسياسات العدوانية، ولم يقض على محكمة التفتيش، ولكنه أشعر قضاتها بأنهم(27/242)
"يسرونه أكثر لو باشروا عملهم بلطف السادة المهذبين لا بجلافة الرهبان" (35). وأراد اغتياله متعصب حسبه مفرطاً في اللين، ولكنه شل رهبةً حين مر به البابا هادئاً مجرداً من أسباب الدفاع. وقد برهن على ما أوتي من روح المصالحة إذ سمح لأساقفة ألمانيا الكاثوليك بمناولة سر القربان بالخبز والخمر كليهما. وأعاد عقد مجتمع ترنت، وقاده إلى خاتمة اتسمت بالنظام، ثم فارق الحياة عان 1565 بعد رياسة دعمت في هدوء حركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي.
3 - مجمع ترنت
(1545 - 1563)
قبل أن يأتي لوثر بزمن طويل ارتفعت مئات الأصوات مطالبة بعقد مجمع يصلح الكنيسة. وطالب لوثر بعرض نزاعه مع البابا على مجمع عام حر، وطالب شارل الخامس بعقد مجمع كهذا بأمل نفض يده من المشكلة البروتستنتية، وربما بأمل تأديب البابا كلمنت السابع، واستطاع ذلك البابا الذي أنهكته الهجمات المتكررة أن يجد مائة عذر لتأجيل مثل هذا المجمع حتى يصبح بعيداً عن متناوله. فقد تذكر ما حدث للسلطة البابوية في مجمعي كونستانس وبازل، وما كان ليسمح لأساقفة معادين له، أو لمندوبي الإمبراطور، بدس أنوفهم في سياساته أو مصاعبه الداخلية أو مولده. ثم كيف يستطيع مجمع أن ينقذ الموقف؟ ألم يرفض لوثر الاعتراف بالمجامع كما رفض الاعترافات بالبابوات؟ ولو قبل البروتستنت في مجمع وسمح لهم بحرية الكلام فإن النزاع الذي سيسفر عنه هذا القبول سيوسع الانشقاق ويزيده مرارة ويزعج أوربا بأسرها؛ ولو حيل بينهم وبينه لأثاروا غضب التمرد والعصيان. وأراد شارل أن يعقد المجمع على أرض ألمانية، ولكن فرانسوا أبى السماح للأكليروس الفرنسي بحضور اجتماع خاضع لسيادة الإمبراطور. يضاف إلى هذا(27/243)
رغبة فرانسوا في الإبقاء على النيران البروتستنتية مشتعلة في المؤخرة الإمبراطورية. لقد كان الموقف مختلطاً أشد الاختلاط.
فلما جاء بولس الثالث ساورته كل مخاوف كلمنت، ولكنه كان أشجع منه. في عام 1536 أصدر دعوة لمجمع عام يجتمع في مانتوا في 23 مايو 1537، ودعا البروتستنت لحضوره. وافترض أن جميع الأطراف التي ستحضره ستقبل النتائج التي يخلص إليها المجمع؛ ولكن ما كان للبروتستنت وهم أقلية في مؤتمر كهذا أن يقبلوا مثل هذا الالتزام. وأشار لوثر بعدم الحضور، ورد مؤتمر البروتستنت المنعقد في شمالكالدين دعوة البابا دون أن يفتحها. وواصل الإمبراطور إصراره على عقد المجمع في أرض ألمانية، وكانت حجته أنه لو عقد في أرض إيطاليا لازدحم بالأساقفة الإيطاليين ولأصبح لعبة في يد البابا. وبعد الكثير من المفاوضات والتأجيلات وافق بولس على عقد المجمع في ترنت، وكانت تقع في أرض إمبراطورية وتخضع لشارل على الرغم من غلبة الإيطاليين على سكانها. ودعا المجمع للانعقاد فيها في أول نوفمبر 1542.
ولكن ملك فرنسا رفض أن يلعب دوره. وأبى نشر دعوة البابا في أرجاء ملكه، وهدد بالقبض على أي فرد من الأكليروس الفرنسي يحاول حضور مجمع منعقد على أرض عدوه، فلما افتتح المجمع لم يكن حاضراً سوى بضعة أساقفة كلهم إيطاليون، وأجل بولس الاجتماع حيناً حتى يسمح شارل وفرانسوا بانعقاد المجمع بكامل عدده. وبدا أن صلح كريبي قد أزاح العقبات من الطريق، ودعا بولس إلى عودة انعقاد المجمع في 14 مارس 1545. ولكن تجدد الخطر على الإمبراطور من العثمانيين أكرهه ثانية على مصالحة البروتستنت، فطلب تأجيل المجمع مرة أخرى، ولم يبدأ "المجمع المسكوني التاسع عشر للكنيسة المسيحية" دوراته النشيطة إلا في 13 ديسمبر 1545.(27/244)
ولكن حتى هذه البداية لم يحالفها التوفيق، ولم تبلغ قط مبلغ "نصف العمل". ذلك أن البابا الذي قارب الثمانين ظل في روما، يرأس المجمع "غيابياً"، ولكنه ندب عنه ثلاثة كرادلة يمثلونه: ديل مونتي، وتشرفيني، وبولي. وكان قوام المجمع كردينال ترنت مادروزو، وأربعة رؤساء أساقفة، وعشرين أسقفاً، وخمسة من قادة الطرق الديرية، ويعض رؤساء الأديار، وبضعة لاهوتيين؛ ولم يكن في وسع المجمع حتى ذلك الحين الزعم بأنه "مسكوني"-أي عالمي (36). وبينما كان حق التصويت في مجمع كونستانس وبازل متاحاً للقساوسة، والأمراء، وبعض العلمانيين، كما كان متاحاً للأساقفة، وكان التصويت بالمجموعات القومية، فإن هذا الحق قصر هنا على الكرادلة والأساقفة والقواد ورؤساء الأديار، وكان التصويت بالأفراد، ومن ثم فإن الأساقفة الإيطاليين-وأكثرهم مدين للبابوية أو موال لها لأسباب أخرى-سيطروا على المجمع بأغلبيتهم العددية. وحضّرت اللجان المجتمعة في روما بإشراف البابا المسائل التي لا يمكن عرض غيرها للمناقشة (37). وقد لاحظ مندوب فرنسي أنه ما دام المجمع يزعم بأنه يعمل بإرشاد الروح القدس، فإن الأقنوم الثالث كان يأتي إلى ترنت بانتظام في حقيبة البريد القادمة من روما (38).
ودارت أولى المناقشات حول الإجراءات: أمن الواجب البدء بتعريف الإيمان ثم البحث في الإصلاحات، أم العكس؟ فأما البابا ومؤيدوه الإيطاليون فأرادوا البدء بتعريف للعقائد، وأما الإمبراطور ومؤيدوه فأرادوا البدء بالإصلاح، أملاً من شارل في تهدئة البروتستنت أو إضعافهم أو إحداث مزيد من الانقسام في صفوفهم، وأملاً من الأحبار الألمان والأسبان أن تقلل الإصلاحات من سلطة البابا على الأساقفة والمجامع. وقد أمكن الوصول إلى حد وسط، فاتفق على أن تحضر لجان متزامنة القرارات حول العقيدة والإصلاح، وتعرض هذه القرارات على المجمع بالتناوب.(27/245)
وفي مايو 1546 أوفد بولس اثنين من اليسوعيين هما لاينيز وسالميرون ليساعدوا مندوبيه في الشئون اللاهوتية وفي الدفاع عن البابا؛ ثم انضم إليهما بيتر كانيزيوس وكلود لوجي. وما لبث تفقه اليسوعيين الذي لم يضارعهم فيه أحد أن أكسبهم نفوذاً طاغياً في المناقشات، وقاد إصرارهم على سلامة العقيدة المجمع إلى إعلان الحرب على أفكار الإصلاح البروتستنتي بدلاً من التماس التوفيق أو الوحدة. وكان حكم الأغلبية فيما يبدو أن أي تنازلات للبروتستنت لن ترأب الصدع؛ وأن الملل البروتستنتية تعددت وتنوعت بحيث لا يمكن لأي حل وسط أن يرضي بعضها دون أن يغضب البعض الآخر، وأن أي تغيير جوهري في العقائد التقليدية من شأنه أن يضعف بنيان الكاثوليكية العقائدي واستقرارها كله؛ وأن السماح للعلمانيين بالسلطات الكهنوتية سيفوض السلطة الأدبية للكهنوت والكنيسة، وأن هذه السلطة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي؛ وأن لاهوتاً يرتكز بصراحة على الإيمان سيحبط نفسه إذا خضع لأهواء التفكير الفردي. وبناءً عليه فإن دورة المجمع الرابعة (أبريل 1546) أكدت من جديد كل فقرة من فقرات العقيدة النقوية، وادعت سلطاناً متساوياً لتقليد الكنيسة وللكتاب المقدس، وأعطت الكنيسة الحق دون غيرها في شرح الكتاب وتفسيره، وأعلنت أن ترجمة جيروم اللاتينية هي الترجمة والنص النهائيان للكتاب. وتقرر أن القديس توما الأكويني هو الشارح العمدة للاهوت النقي من الشوائب، ورفع كتابه "خلاصة اللاهوت" إلى مقام لا يعلوه فيه إلا الكتاب المقدس والمراسيم البابوية (39). وهكذا نرى أن الكاثوليكية بوصفها ديناً ذا سلطان معصوم بدأت عملياً من مجمع ترنت، وتبلورت على هيئة استجابة عنيدة لذلك التحدي الذي واجهتها به البروتستنتية، والعقلانية، والرأي الفردي. وانتهى بذلك "اتفاق الجنتلمان" بين كنيسة النهضة والطبقات المفكرة.(27/246)
ولكن إذا كان الإيمان حيوياً إلى هذا الحد. فهل كان أيضاً كافياً في ذاته لاستحقاق الخلاص كما زعم لوثر؟ لقد ارتفعت في الدورة الخامسة (يونيو 1546) مناقشات عنيفة حول هذه النقطة، وأمسك أحد الأساقفة بلحية آخر وانتزع منها حفنة من الشعر الأبيض، ولما سمع الإمبراطور بما وقع أرسل إلى المجمع يقول إنه لم يهدأ فسيأمر بإلقاء نفر من الأساقفة في نهر أديج ليهدئ ثائرتهم (40). ودافع ريجنالد بولي عن رأي قريب قرباً خطراً من رأي لوثر، حتى أن الكردينال كارافا (الذي أصبح بولس الرابع فيما بعد) دمغه بالهرطقة، وانسحب بولي من المعركة قاصداً بادوا، واعتذر بالمرض عن التخلف عن حضور المجمع (41). ودافع الكردينال سيريباندو عن الصيغة التوفيقية التي عرضها في راتسبون الكردينال كونتاريني، وكان قد مات، ولكن لاينيز أقنع المجمع بأن يشدد على أهمية الأعمال الصالحة وحرية الإرادة، معارضاً بذلك لوثر معارضة كاملة.
أما إجراءات الإصلاح الكنسي فكانت حركتها أقل نشاطاً من تعريفات العقيدة. كان أسقف كاتدرائية القديس مرقس قد افتتح دورة 6 يناير 1546 برسمه صورة قاتمة للفساد الذي استشرى في العالم، والذي لن يفوقه في ظنه فساد الأجيال القادمة إطلاقاً، وقد عزا هذا الفساد "إلى شر الرعاة دون سواه". وقال إن هرطقة لوثر سببها الرئيسي خطايا الأكليروس، وإن إصلاح الأكليروس خير سبيل لقمع هذا التمرد (42). ولكن الإصلاح الجوهري الوحيد الذي تحقق في هذه الدورات الأولى كان ذلك الذي حرم على الأساقفة الإقامة بعيداً عن أسقفياتهم، أو شغل أكثر من أسقفية. واقترح المجمع على البابا أن ينتقل إصلاح قسم الوثائق من التوصيات النظرية إلى الأوامر الفعلية، ولكن بولس كان يريد أن تترك شئون الإصلاح للبابوية، فلما أصر الإمبراطور على مزيد من السرعة في مناقشات الإصلاح في المجمع، أمر البابا مندوبيه بأن يقترحوا نقل(27/247)
المجمع إلى بولونيا-التي تسمح لروما بأن تشرف على أعمال المجمع إشرافاً أسرع لأنها واقعة في الولايات البابوية. ووافق الأساقفة الإيطاليون، أما الأساقفة الإسبان والإمبراطوريون فاحتجوا، وظهر في ترنت طاعون غير ذي بال في الوقت المناسب فقضى على أحد الأساقفة، وانتقلت الأغلبية الإيطالية إلى بولونيا، أما الباقون فظلوا في ترنت. ورفض شارل الاعتراف بدورات بولونيا. وهدد بعقد مجمع منفصل في ألمانيا. وبعد عامين من الجدل والمناورة خضع بولس وعطل مجمع بولونيا (سبتمبر 1549).
وخف توتر الموقف بموت بولس. ووصل يوليوس الثالث إلى تفاهم مع الإمبراطور، فدعا المجمع للانعقاد مرة أخرى في ترنت في مايو 1551 لقاء وعد من شارل بالامتناع عن تأييد أي إجراء من شأنه اختزال سلطة البابا، ووافق البابا على إعطاء اللوثريين فرصة الإدلاء بأقوالهم. ولكن هنري الثاني ملك فرنسا رفض الاعتراف بالجمع لأنه كره هذا التقارب بين البابا والإمبراطور. فلما اجتمع كان عدد الحاضرين ضئيلاً فاضطر إلى تأجيل اجتماعاته. ثم عاد إلى الاجتماع في أول سبتمبر بحضور ثمانية من رؤساء الأساقفة، وستة وثلاثين أسقفاً، وثلاثة رؤساء أديار، وخمسة قادة، وثمانية وأربعون لاهوتياً. ويواكيم الثاني ناخب براندنبورج، وسفراء يمثلون شارل وفرديناند.
وأكدت الدورة الثالثة عشرة للمجمع (أكتوبر 1551) من جديد عقيدة التحول الكاثوليكية، فالكاهن بتقديسه الخبز والخمر في سر القربان يحولهما فعلاً إلى جسد المسيح ودمه. بعد هذا لم يعد هناك جدوى من الاستماع إلى البروتستنت، ولكن شارل أصر على هذا. واختار دوق فورتمبرج، وموريس ناخب سكسونيا، وبعض مدن جنوبي ألمانيا-اختار هؤلاء أعضاء وفد بروتستنتي، ووضع ملانكتون بياناً بالعقيدة اللوثرية لرفعه(27/248)
إلى المجمع. وضمن شارل للمندوبين سلامة المرور، ولكنهم إذ تذكروا كونستانس وهس طلبوا أيضاً ضماناً بسلامة المرور من المجمع ذاته. وبعد نقاش طويل منحهم المجمع الضمان. ولكن راهباً دومنيكياً ذكر في عظة تدور حول مثل هذا الزوان، ألقاها في ذات الكاتدرائية التي انعقدت فيها دورات المجمع، أن زوان المهرطقين قد يمهلون إلى أجل، ولكن لا بد في النهاية من حرقهم (43).
وفي 14 يناير 1552 ألقى المندوبون البروتستنت كلمتهم في المجمع. فاقترحوا تأكيد المراسيم التي أصدرها مجمعاً كونستانس وبازل بشأن تخويل المجامع سلطاناً أعلى على البابوات، وأن يحل أعضاء المجمع الحاضر من عهد الولاء للبابا يوليوس الثالث، وأن جميع القرارات التي وصل إليها المجمع حتى ذلك التاريخ يجب إلغاؤها، وأنه يجب أن يعيد مجمع موسع يمثل فيه البروتستنت تمثيلاً كافياً مناقشة الموضوعات من جديد (44). ومنع يوليوس الثالث بحث هذه المقترحات. وقرر المجمع تأجيل البت فيها إلى 19 مارس، وهو التاريخ الذي يتوقع فيه وصول مزيد من المندوبين البروتستنت.
وفي أثناء هذه العطلة طرأت على اللاهوت تطورات حربية على نحو غير متوقع. ففي يناير 1552 وقع ملك فرنسا حلفاً مع البروتستنت الألمان، وفي مارس زحف موريس أمير سكسونيا على إنزيروك، وفر شارل، وما كان لأية قوة أن تمنع موريس إن شاء من الاستيلاء على ترنت والإطاحة بالمجمع. واختفى الأساقفة واحداً بعد الآخر، وفي 28 أبريل عطل المجمع رسمياً. ونزل فرديناند بمقتضى معاهدة باساو (2 أغسطس) عن الحرية الدينية للبروتستنت المنتصرين حربياً، فلم يعد المجمع يهمهم في شيء بعد هذا.
ورأى بولس الرابع أن من الحكمة أن يدع المجمع يسبت خلال(27/249)
رياسته. فلما جاء البابا بيوس الرابع، وكان شيخاً دمث الخلق، راودته فكرة مؤداها أن منح سر القربان بالخبز والخمر قد يهدئ البروتستنت كما هدأ البوهيميين من قبل. فطلب إلى المجمع أن ينعقد من جديد في ترنت في 6 أبريل 1561، ودعا إليه جميع الأمراء المسيحيين سواء الكاثوليك أو البروتستنت. وقد جلب المندوبون الفرنسيون إلى هذه الدورة الجديدة قائمة رهيبة بالإصلاحات التي ينشدونها: القداس باللغة القومية، والتناول بالخز والخمر، وزواج القس، وإخضاع البابوية للمجامع العامة، وإنهاء نظام الإعفاءات البابوية (45)، ويبدو أن مزاج الحكومة الفرنسية كان في تلك اللحظة شبه هيجونوتي. وأيد فرديناند الأول هذه المقترحات، وكان الآن إمبراطوراً، وأضاف أن "البابا يجب أن يتواضع، ويخضع لإصلاح شخصه ودولته وإدارته"، أما أساطير القديسين فينبغي أن تنقى من السخافات. وأما الأديار فينبغي إصلاحها حتى "لا تعود ثروتها الطائلة تنفق بمثل هذه السفه" (46). وأنذر الموقف بالخطر على بيوس، وترقب مندوبوه افتتاح الدورة في شيء من الذعر.
وبعد تأجيلات كان دافعها الروية أو الاستراتيجية التأم شمل الدورة السابعة عشرة للمجمع في 28 يناير 1562، بحضور خمسة كرادلة، وثلاثة بطارقة، وأحد عشر رئيس أساقفة، وتسعين أسقفاً، وأربعة قادة، وأربعة رؤساء أديار، ومختلف الممثلين العلمانيين للأمراء الكاثوليك. واستجابة لطلب من فرديناند عرض ضمان بسلامة المرور لأي مندوب بروتستنتي قد يرغب في الحضور، ولكن أحداً لم يحضر. وتزعم رئيس أساقفة غرناطة وشارل كردينال اللورين حركة ترمي إلى الحد من امتيازات البابا، فأكد أن الأساقفة لا يستمدون سلطانهم عن طريقه بل بـ "الحق الإلهي" المباشر، وردد أسقف سقوبية هرطقة من هرطقات لوثر،(27/250)
إذ أنكر أنه كان على البابا سيادة على غيره من الأساقفة في الكنيسة الأولى (47). على أن هذا التمرد الأسقفي أطفأته البراعة البرلمانية التي أبداها مندوبو البابا، وولاء الأساقفة الإيطاليين والبولنديين للبابا، وبعض المجاملات البابوية التي وجهت في الوقت المناسب إلى كردينال اللورين. وانتهى الأمر بتوسيع سلطة البابا لا بالحد منها، واشترط على أسقف أن يقسم يمين الطاعة الكاملة للبابا. وأمكن تهدئة فرديناند بوعده أن البابا سيسمح في ختام المجمع بأن يعطي القربان بالخبز والخمر كليهما.
أما وقد فرغ المجمع من أهم نزاع واجهه، فقد انتهى بسرعة من أعماله الباقية. فحرم زواج الأكليروس، وقرر توقيع عقوبات صارمة على تسري القساوسة. وشرع الكثير من الإصلاحات الصغيرة للنهوض بأخلاق رجال الأكليروس ونظامهم. وقرر إنشاء كليات لاهوتية يدرب فيها الراغبون في القسوسية على عادات التقشف والتقوى. أما سلطات الإدارة البابوية فقد اختزلت. ووضعت قواعد لإصلاح الموسيقى والفن الكنسيين، وتقرر تغطية صور العرايا بما يكفي لمنع إثارتها للخيال الحسي. ووضع الفارق بين عبادة الصور وعبادة الأشخاص الذين تمثلهم الصور، وتأييد استعمال الصور الدينية بالمعنى الثاني. أما المطهر والغفرانات والتوسل إلى القديسين فقد دوفع عنها وأعيد تعريفها. وهنا اعترف المجمع في صراحة بالمفاسد التي انبعثت عن شررها نار التمرد اللوثري، وقد نص أحد القرارات على ما يأتي: -
"إن المجمع يقرر بصدد منح الغفرانات ... إنه يجب القضاء كلية على كل كسب إجرامي متصل بها، باعتباره مصدراً لفساد محزن بين الشعب المسيحي؛ أما عن غير ذلك من ضروب الخلل والفوضى الناجمة عن الخرافة أو الجهل أو الاستهانة بالمقدسات أو أي سبب كائناً ما كان-فيما أن هذه كلها لا يمكن القضاء عليها بالتحريمات الخاصة نظراً إلى(27/251)
انتشار الفساد على نطاق واسع، فإن المجمع يلقى على عاتق كل أسقف واجب التعرف على ما يوجد في أسقفيته من مفاسد، وعرضها على المجمع الإقليمي التالي، وإبلاغها إلى الحبر الأعظم في وما بعد موافقة الأساقفة الآخرين (48).
وأجمع البابا والإمبراطور على أن المجمع قد بلغ الآن نهاية نفعه، وفي 4 ديسمبر 1563 فض نهائياً وسط ابتهاج المندوبين المرهقين، بعد أن حدد طريقة الكنيسة لقرون قادمة.
لقد نجحت معارضة الإصلاح البروتستنتي في أهدافها الأساسية. صحيح أن الرجال-سواء في الأقطار الكاثوليكية أو البروتستنتية-ظلوا يكذبون ويسرقون، يغوون العذارى ويبيعون الوظائف، يقتلون ويشنون الحرب (49). ولكن أخلاق الأكليروس تحسنت، وروّضت الحرية الجامحة التي اندفعت فيها إيطاليا النهضة فتكيفت تكيفاً مهذباً وفق مزاعم البشر. فالبغاء الذي كان صناعة كبرى في روما والبندقية أيام النهضة أخفى الآن رأسه، وأصبحت العفة طابع العصر. وتقرر اعتبار تأليف الكتب القذرة أو نشرها جريمة كبيرة في إيطاليا. وهكذا شنق نيكولو فرانكو، سكرتير أريتينو وعدوه، بأمر من البابا بيوس الخامس عقاباً على تأليفه كتاب Priapeia (50) . أما أثر القيود الجديدة على الفن والأدب فلم يكن مؤذياً أذى مطلقاً لا خلاف عليه؛ مثال ذلك أن فن الباروك انبعث على استيحاء من مكانه المغمور؛ كذلك إذا نظرنا من زاوية أدبية خالصة فإننا لا نجد تاسو، وجواريني، وجولدوني، يهبطون هبوطاً عنيفاً عن مرتبة بوياردو، وأريوستو، ومكافيللي المسرحي. وقد أقبل أعظم عصور أسبانيا الأدبية والفنية في ملء "الرجعية الكاثوليكية". ولكن الفرحة التي كانت طابع إيطاليا النهضة انطفأت، وفقدت النساء الإيطاليات بعض ذلك السحر والابتهاج الذي أتاهن من حريتهن السابقة لحركة الإصلاح البروتستنتي. وساد إيطاليا عصر أقرب ما يكون إلى(27/252)
البيورتانية نتيجة لقيام أخلاقية قاتمة واعية. وانتعشت الديرية. وكانت خسارة للنوع الإنساني، من وجهة نظر العقل الحر، أن تقضي الرقابة الكنسية والسياسية على حرية الفكر النسبية التي سادت أيام النهضة، وكانت مأساة أن تعاد محكمة التفتيش في إيطاليا وغيرها من البلاد في الوقت الذي أخذ العلم ينبثق فيه محطماً قشرته الوسيطة، وضحت الكنيسة عن عمد بالطبقات المفكرة في سبيل الأكثرية المتدينة التي صفقت لقمع أفكار قد تذيب إيمانها المعزي.
كانت الإصلاحات الكنسية حقيقية ودائمة. وإذ كانت الملكية البابوية قد رفع مقامها فوق الأرستقراطية الأسقفية للمجامع، فإن هذا كان يساير روح العصر، حيث كانت الأرستقراطيات في كل بلد، عدا ألمانيا، تفقد سلطانها ليتقلده الملوك. وأصبح البابوات الآن أرق من الأساقفة خلقياً، وأمكن تنفيذ النظام الذي تطلبه الإصلاح الكنسي على يد سلطة ممركزة خيراً من سلطة مقسمة، وأنهى البابوات محاباتهم لأقربائهم، وشفوا الإدارة البابوية من تسويفاتها الباهظة الثمن ورشوتها المفضوحة. وأصبحت إدارة الكنيسة بشهادة من فحصوا هذا الأمر من غير الكاثوليك نموذجاً للكفاية والنزاهة (51). وأدخل استعمال مقصورة الاعتراف المظلمة (1547) وجعل إجبارياً (1614)، ولم يعد القسيس عرضة لأن يفتنه جمال بعض المعترفات. أما باعة صكوك الغفران الجائلون قد اختفوا، وأما الصكوك فقد خصصت في معظم الحالات للعبادة الورعة ولأعمال البر لا التبرعات المالية، وبدلاً من أن يتقهقر رجال الأكليروس الكاثوليك أمام زحف البروتستنت أو الفكر الحر، انطلقوا ليعيدوا اقتناص فكر الشباب وولاء السلطان. وأصبحت روح اليسوعيين، تلك الروح الواثقة، الإيجابية، النشيطة، المدبرة على النظام، هي روح الكنيسة المجاهدة.
لقد كان شفاء الكنيسة في جملته شفاءً مذهلاً، وثمرة من أروع الثمرات التي جادت بها حركة الإصلاح البروتستنتي.(27/253)
كلمة ختامية
النهضة، والإصلاح البروتستنتي، والتنوير
إن النهضة والإصلاح البروتستنتي هما ينبوعا التاريخ الحديث، والمصدران المتنافسان للتجديد الفكري والخلقي الذي طرأ على الحياة الحديثة. وقد ينقسم الناس حسب ميولهم وانتسابهم هنا، حسب دينهم الواعي الذي يدينون به للنهضة التي أطلقت العقل من عقاله وأضفت الجمال على الحياة، أو حسب عرفانهم بصنيع الإصلاح البروتستنتي الذي شحذ الإيمان الديني والحس الخلقي. والخلاف بين إرزمس ولوثر متصل، وسوف يتصل، لأن الحقيقة التي قد يصل إليها الناس في هذه الأمور الكبيرة هي ثمرة الجمع بين الأضداد، وستشعر هذه الحقيقة دائماً بأبوتها المزدوجة.
ويمكن القول إن الخلاف من بعض النواحي سلالي وجغرافي، خلاف بين اللاتين والتيوتون، بين الجنوب الحسي الطلق والشمال الجلد المعتم، بين شعوب هزمت على يد روما وتلقت منها التراث الكلاسيكي، وشعوب قاومت روما-وبعضها هزم روما-وأحبت جذورها وأرضها أكثر كثيراً من اليونان جالبي المواهب أو الرومان حاملي القانون. لذا قسمت إيطاليا وألمانيا فيما بينهما تشكيل النفس الحديثة، وإيطاليا بالرجوع إلى الأدب والفلسفة والفنون الكلاسيكية، وألمانيا بالرجوع إلى الإيمان والشعائر المسيحية الأولى. وكانت إيطاليا على وشك النجاح في محاولتها الثانية لغزو ألمانيا-بالعشور والمذهب الإنساني هذه المرة؛ ولكن ألمانيا قاومت ثانية، وطردت الكنيسة وأسكتت الإنسانيين. وأنكرت حركة الإصلاح البروتستنتي النهضة واهتمامها بالشئون والمباهج الدنيوية، وعادت إلى تلك الناحية (وهي ناحية واحدة فقط!) من نواحي العصور الوسطى التي عدت إنجازات البشر ومباهجهم تافهة باطلة، ووصفت الحياة بأنها واد(27/254)
للدموع، ودعت الخطاة إلى الإيمان والتوبة والصلاة. فأما إيطاليو النهضة الذين قرأوا مكيافللي وأريتينو، فقد رأوا في هذا انتكاساً إلى العصور الوسطى، وعوداً إلى عصر الإيمان في مرحلة المراهقة المناضلة التي يمر بها عصر العقل. وقد ابتسم الإيطالي الذي استمع إلى يومبوناتزي، وعاش تحت حكم بابوات النهضة الهين اللين، حين وجد لوثر وكالفن هنري الثامن يحتفظون بكل العقائد الخارقة التي اتسم بها الإيمان الوسيط-كتاب مقدس من إملاء الله، وإله مثلث الأقانيم، وإيمان بالقضاء والقدر، وخليقة خلقت بأمر إلهي، وخطيئة أصلية، وتجسد، وولادة من عذراء، وتكفير، ودينونة أخيرة، وجنة ونار-ثم يرفضون بالضبط عناصر المسيحية الوسيطة-كعبادة العذراء، والإيمان بإله ملؤه المحبة والرحمة، وتوسل إلى القديسين الشفعاء، والطقوس التي تزدان بكل الفنون-تلك العناصر التي أضفت على ذلك الإيمان رقة وعزاءً وجمالاً يبرر التغاضي عن الأساطير تغاضياً سمح بالاستمتاع بالفنون.
كان الكاثوليكي الصادق الإيمان حجته ضد حركة الإصلاح البروتستنتي. فهو أيضاً يكره العشور، ولكنه لا يستطيع أن يتصور القضاء على الكنيسة. لقد كان عليماً بأن الرهبان أخذ يفلت زمامهم، ولكنه شعر بأنه ينبغي أن يفسح في الدنيا مكان ومؤسسات لرجال انقطعوا للتأمل والدرس والصلاة، وكان يقبل كل كلمة من الكتاب المقدس بشرطين: أن ناموس المسيح أبطل ناموس موسى، وأن للكنيسة سلطاناً مساوياً لسلطان الكتاب لأن مؤسسها هو ابن الله، ويجب أن يكون لها الحق النهائي في تفسير الكتاب والملائمة بينه وبين حاجات العيش المتغيرة. وماذا تكون النتيجة لو أن فقرات من الكتاب ملتبسة متناقضة في ظاهرها تركت ليفسرها كل فرد تفسيراً حراً ويحكم عليها كما يشاء. أفلا تمزق مئات العقول الكتاب إرباً، وألا تتحطم المسيحية وتتبدد شيعاً مقتتلة لا حصر لها؟.(27/255)
ويواصل الكاثوليكي العصري الحجة مروراً بكل ناحية من نواحي الحياة العصرية فيقول "لقد كان إصراركم على الإيمان دون الأعمال مدمراً، فأفضى إلى دين توارت برودة القلب فيه خلف ورع العبارة، وكاد البر أن يموت طوال مائة عام في مراكز انتصاركم. ولقد قضيتم على سر الاعتراف وخلفتم مئات التوترات في نفوس البشر الذين تتنازعهم الغريزة والحضارة، وها أنتم أولاء تعيدون متأخرين ذلك النظام الشافي تحت أشكال مريبة. ولقد دمرتم جل المدارس التي أنشأناها، وأضعفتم الجامعات التي أسستها الكنيسة وطورتها حتى أشرفتم بها على الموت. إن قادتكم يسلمون بأن تمزيقكم الإيمان أدى إلى تدهور خلقي خطر في ألمانيا وإنجلترا. فلقد أطلقتم على الناس فوضى من الفردية في الأخلاق والفلسفة والصناعة والحكم. ولقد انتزعتم من الدين كل بهجته وجماله، وملأتموه بدراسة الشياطين وبالرعب، وحكمتم على الجماهير الكبيرة من الناس باللعنة الأبدية لأنهم "مرفوضون"، وعزيتم قلة وقحة بفخر "الاختيار" والخلاص. لقد خنقتم نمو الفن، وحيثما انتصرتم ذبلت الدراسات القديمة. لقد صادرتم أملاك الكنيسة لتعطوها للدولة والأغنياء، ولكنكم تركتم الفقراء أفقر مما كانوا، وأضفتم الاحتقار إلى فقرهم وتعاستهم. لقد تغاضيتم عن الربا والرأسمالية، ولكنكم حرمتم العمال أيام الراحة المقدسة التي منحتهم إياها كنيسة رحيمة. لقد رفضتم البابوية لا لشيء إلا لتمجدوا الدولة، وأعطيتم الأمراء الأنانيين حق تقرير ديانة رعاياهم، واستخدام الدين سنداً لحروبهم. لقد فرقتم بين الأمة والأمة، وقسمتم كثيراً من الأمم والمدن على ذواتها؛ لقد حطمتم الضوابط الأدبية الدولية على القوى القومية، وخلفتم فوضى من القوميات المقتتلة. لقد أنكرتم سلطان كنيسة أسسها ابن الله باعترافكم، ولكنكم أقررتم الملكية المطلقة، ومجدتم حق الملوك الإلهي. ودمرتم وأنتم لا تدرون(27/256)
قوة "الكلمة"، وهي البديل الوحيد لقوة المال أو السيف. وادعيتم حق الحكم الشخصي، ولكنكم أنكرتموه على غيركم حالما أمكنكم هذا، وكان رفضكم التسامح من المنشقين أقل وضوحاً للإفهام من رفضنا، لأننا لم ندافع قط عن التسامح، فليس في وسع إنسان أن يتسامح إلا في الأشياء التي لا يبالي بها. ثم انظروا ما أفضى إليه حكمكم الشخصي هذا. فكل رجل يصبح بابا. ويحكم على تعاليم الدين قبل أن يبلغ من العمر ما يتيح له فهم وظائف الدين في المجتمع والأخلاق، وحاجة الناس إلى إيمان ديني. وإن ضرباً ن جنود التمزيق والتفريق لا تكبحه أي سلطة مجمّعة موحّدة يلقي بأتباعكم في منازعات بلغ من سخفها وعنفها أن الناس راحوا يتشككون في الدين كله، وكادت المسيحية ذاتها تصبح في خطر الانحلال، وكاد الناس يتركون في عرى روحي أمام الموت، لولا وقوف الكنيسة صامدة وسط كل تقلبات الرأي والجدل، وكل مستحدثات العلم والفلسفة، لولا أنها تحفظ قطيعها الذي التأم شمله، منتظرة ذلك الوقت الذي يخضع فيه المتفهمون منكم، والمسيحيون الحقيقيون، كبرياء الفردية والعقل لحاجات البشر الدينية، ويعودون إلى الحظيرة الوحيدة القادرة على صون الدين برغم الايديولوجيات المجدفة التي راجت في هذا العصر الشقي".
ترى أيستطيع البروتستنت الرد على هذا الاتهام؟ "يجب ألا ننسى السبب في إنشقاقنا. فلقد فسدت كنيستكم الكاثوليكية سواء في ممارستها أو في أشخاصها، وكف قساوستكم عن أداء وظائفهم، وكان أساقفتكم متعلقين بنعيم الدنيا، وبابواتكم معرة العالم المسيحي؛ ألا يعترف مؤرخوكم بهذا؟ لقد طالبكم رجال أمناء بأن تلحوا ما فسد، محتفظين بولائهم للكنيسة؛ فوعدتم وتظاهرتم بالإصلاح، ولكنكم لم تفعلوا، بل إنكم على العكس من ذلك أحرقتم بالنار رجالاً من أمثال هس وجيروم البراغي لأنهم رفعوا عقائرهم مطالبين بالإصلاح. لقد بذلت مئات الجهود(27/257)
لإصلاح الكنيسة من الداخل، ولكنها أخفقت، إلى أن أكرهتكم حركة إصلاحنا البروتستنتي على العمل؛ وحتى بعد ثورتنا أصبح البابا الذي حاول تطهير الكنيسة مثار هزأ روما وسخريتها.
"إنكم تتباهون بأنكم خلقتم النهضة، ولكن الكل مجمعون على أن النهضة كانت تنبعث وسط فساد خلقي، وعنف، وخيانة، لم تعرفها أوربا منذ عهد نيرون؛ أفلم نكن محقين في الاحتجاج على هذه الوثنية، التي تختال عجباً حتى في الفاتيكان؟ وإذا سلمنا أن الأخلاق انحدرت حينا بعد أن بدأت حركة إصلاحنا، فإن إعادة بناء حياة خلقية بليت أسسها وخدماتها الدينية استغرق بعض الوقت، وأخيراً أصبحت أخلاقيات البلاد البروتستنتية أسمى بكثير من أخلاقيات فرنسا وإيطاليا الكاثوليكيتين. قد ندين بيقظتنا الذهنية للنهضة، ولكنا ندين بشفائنا الخلقي لحركة الإصلاح البروتستنتي، فقد أضافت دعم الخلق إلى تحرير العقل، ثم إن نهضتكم اقتصرت على الأرستقراطية والمفكرين، لقد احتقرت الشعب، وأغضت عن خداع باعة صكوك الغفران لأفراده، وعن غش مستغلي الخرافات من المتظاهرين بالنسك. أو لم يكن خيراً تحدى هذا الاستغلال المالي الصارخ لآمال البشر ومخاوفهم. لقد رفضنا الصور والتماثيل التي بثثتموها في كنائسكم، لأنكم كنتم تسمحون للناس أن يعبدوا الصور ذاتها، كما كان يحدث حين فرضتم عليهم الركوع أمام الدمى المقدسة المحمولة في مواكب تخترق الشوارع. أما نحن فقد جرؤنا على إرساء ديانتنا فوق إيمان قوي نشيط، بدلاً من محاولة تخدير عقول الناس بالطقوس.
"وقد اعترفنا بأن السلطة الزمنية من عند الله-كما اعترف لاهوتيوكم من قبلنا-لأن النظام الاجتماعي يتطلب حكومة محترمة. ولم نرفض سلطة البابوات الدولية إلا بعد أن استعملوها استعمالاً فاضحاً، لا للحكم بالعدل بين الأمم بل لخدمة مآربهم المادية. وعجز بابواتكم الأنانيين عن توحيد(27/258)
أوربا في حملة صليبية ضد العثمانيين يدل على أن خيانة البابوية حطمت وحدة العالم المسيحي قبل حركة الإصلاح البروتستنتي بزمن طويل. ومع أننا أيدنا حق الملوك الإلهي، فإننا أيضاً شجعنا نمو الديمقراطية في إنجلترا واسكتلندة وسويسرة وأمريكا، في حين كان قساوستكم في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا يخضعون للملوك؛ وقد حطم تمردنا على سلطة كنيستكم تعويذة الحكم المطلق، وهيأ أوربا لمسائلة كل ألوان الاستبداد دينية كانت أو علمانية. إنكم تعتقدون أننا جعلنا الفقراء أفقر مما كانوا. ولكن هذه أيضاً كانت مرحلة عابرة، فالرأسمالية ذاتها التي استغلت فقر الفقراء حيناً تعلمت أن تغني الرجل المتوسط كما لم يغن من قبل؛ وما من ريب في أن مستوى المعيشة في إنجلترا وألمانيا وأمريكا البروتستنتية أعلى منه في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا الكاثوليكية.
"وإذا كنتم اليوم أقوى مما كنتم بالأمس، فإنما الفضل في هذه القوة لنا. فماذا كان يحدث لو لم تكرهكم حركة الإصلاح البروتستنتي على إصلاح الإدارة البابوية، وإنقاذ أكليروسكم من التسري، وتنصيب رجال مؤمنين على كرسي البابوية بدلاً من الوثنيين؟ ولمن تدينون بالفضل لما يتمتع به أكليروسكم اليوم من سمعة النزاهة؟ المجمع ترنت؟ ولكن لمن تدينون بالفضل في مجتمع ترنت إن لم يكن لحركة الإصلاح البروتستنتي؟ فلولا ذلك الضابط لواصلت كنيستكم انحدارها من المسيحية إلى الوثنية حين ينتهي الأمر بتتويج بابواتكم على عالم لا أدري أبيقوري. وحتى مع هذا التجديد الذي فرضناه على كنيستكم، فإن الشعوب التي تقبل عقيدتكم أشد إهمالاً للدين، وتشككاً في المسيحية، من الشعوب التي اعتنقت الإصلاح البروتستنتي؛ ويكفي أن تقارنوا بين فرنسا وإنجلترا.
ولقد تعلمنا أن نوفق بين تديننا وبين حرية العقل، وأقطارنا البروتستنتية هي التي شهدت أعظم ازدهار للعلم والفلسفة. ونحن نأمل(27/259)
أن نلائم بين مسيحيتنا وبين تقدم المعرفة-ولكن أنى يتيسر هذا لكنيسة ترفض كل علم القرون الأربعة الماضية؟ ".
وهنا يتدخل الإنسان في المناقشة، فيهدم البيتين جميعاً على رأسه. هذا فخر البروتستنتية وضعفها، فهي تستهوي العقل، الذي لا يفتأ يتغير، أما قوة الكاثوليكية ففي رفضها أن تكيف نفسها وفق نظريات العلم، التي تثبت من الخبرة التاريخية أنها قلّما تعيش بعد القرن الذي ولدت فيه. إن الكاثوليكية تستهدف إشباع مطالب الناس الروحية، الناس الذين قلّما سمعوا بكوبرنيق وداروين، ولم يسمعوا قط بسبينوزا وكانت؛ وهؤلاء الناس كثيرون خصيبون، ولكن أنى لدين يتحدث إلى العقل، ويتمركز حول العظة، أن يكيف نفسه وفق كون آخذ في الاتساع، كون أصبح فيه الكوكب الذي ادعى أنه تلقى ابن الله نقطة عابرة في الفضاء، وليس النوع الذي مات من أجله سوى لحظة في مشهد الحياة الدائم التغيير؟ وما الذي يحدث للبروتستنتية إذا أخضع الكتاب الذي اتخذتها أساسها الوحيد والمعصوم للنقد "الأعلى" الذي يحيله من كلمة الله إلى أدب العبرانيين وإلى تحول المسيح في لاهوت بولس الصوفي؟.
"ليست المشكلة الحقيقية التي تواجه العقل الحديث ذلك الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ولا بين الإصلاح البروتستنتي والنهضة؛ إنها بين المسيحية والتنوير-هذه الحقبة التي ليس من اليسير تحديد تاريخها، والتي بدأت بفرانسس بيكن، وعقدت آمالها على العقل والعلم والفلسفة. وكما كان الفن ركيزة النهضة، والدين روح الإصلاح البروتستنتي، فكذلك أصبح العلم والفلسفة إلهي التنوير، ومن وجهة النظر هذه كانت النهضة تسير في الخط المباشر للتطور العقلي الأوربي، وأفضت غلى الاستنارة، أما حركة الإصلاح البروتستنتي فكانت انحرافاً عن ذلك الخط، ورفضاً للعقل، وتأكيداً جديداً للإيمان الوسيط.(27/260)
"ومع ذلك فإن حركة الإصلاح البروتستني برغم تعصبها في أول عهدها أسدت صنيعين لحركة التنوير، فقد حطمت سلطان العقيدة، وبعثت عشرات الملل والنحل التي لو وجدت قبلها لماتت حرقاً، وسمحت بأن يقوم فيما بينها جدل كان من القوة بحيث اعترف في النهاية بأن العقل هو المحكمة التي يتعين على جميع المذاهب أن تترافع أمامها عن قضاياها ما لم تكن مسلحة بقوة مادية لا تقاوم. وفي تلك المرافعة، في ذلك الهجوم والدفاع، تضعضعت كل المذاهب والعقائد، ولم ينقض قرن على تمجيد لوثر للإيمان حتى أعلن فرانسيس بيكن أن المعرفة قوة. وفي ذلك القرن السابع عشر بعينه قدم المفكرون من أمثال ديكارت وهويز وسبينوزا ولوك الفلسفة بديلاً للدين أو أساساً له، وفي القرن الثامن عشر جهر هلفتيوس وهولباك، ولا متري بالإلحاد، ونعت فولتير بالتعصب لأنه آمن بالله. هذا هو التحدي الذي واجهته المسيحية، في أزمة أعمق كثيراً من الجدل بين الترجمة الكاثوليكية والبروتستنتية لعقيدة العصر الوسيط. والجهد الذي بذلته المسيحية للبقاء برغم كوبرنيق وداروين هو المسرحية الأساسية للقرون الثلاثة الأخيرة. فليت شعري أي قيمة لصراعات الدول والطبقات بالقياس إلى تلك المعركة الفاصلة الكبرى، هرمجدون النفس الأسبانية؟ ".
والآن إذا نلقي إلى الوراء بنظرة على هذه القصة المتعرجة التي روتها هذه الصفحات الألف، ندرك أننا نستطيع التعاطف مع جميع الأطراف المقاتلة. نستطيع أن نفهم غضب لوثر على فساد روما وتسلطها، وكره الأمراء الألمان أن يروا العطايا الألمانية تسمن إيطاليا، وعزم كالفن ونوكس على بناء جماعات خلفية مثالية، ورغبة هنري الثامن في أن يكون لملكه وريث، وأن يكون له على مملكته سلطان. ولكنا نستطيع أن نفهم أيضاً آمال إرزمس في إصلاح لا يسمم العالم المسيحي بالحقد، ونستطيع أن نشعر بفزع الأتقياء من أساقفة روما مثل كونتاريني مما يحتمل من تمزيق(27/261)
كنيسة ظلت القرون حاضنة وحارسة للحضارة الغربية، وما زالت أمنع حصن ضد فساد الخلق والفوضى واليأس.
إن شيئاً من هذه الجهود لم يضع سدى. فالفرد يستسلم للموت، ولكنه لا يموت إذا خلف للبشرية شيئاً. لقد عاونت البروتستنتية في الوقت المناسب على تجديد حياة أوربا الخلقية، وطهرت الكنيسة نفسها فغدت منظمة أضعف سياسياً وأقوى خلقياً مما كانت. وثمة درس واحد ينبعث ويعلو فوق دخان المعركة. وهو أن الدين يكون في أفضل حالاته إذا اضطر للعيش في ظروف المنافسة؛ هو ينزع إلى التعصب متى وحيثما افتقر إلى التحدي وغدا السيل الأعلى. وأعظم ما جادت به حركة الإصلاح البروتستنتي هو تزويدها أوربا وأمريكا بتلك المنافسة الدينية التي تشحذ همة كل مذهب، وتنبه إلى التسامح، وتهب عقولنا الهشة لذة الحرية وامتحانها.
تشجع أيها القارئ! فلقد قاربنا النهاية.(27/262)
الكتاب الأول
ابتهاج غامر في إنجلترا
1558 - 1648(28/1)
الفصل الأول
الملكة العظيمة
1558 - 1603
1 - مزايا المحنة
في السابع عشر من نوفمبر 1558، ركض أحد الرسل إلى فناء القصر الملكي في هاتفيلد-على مسافة 36 ميلاً إلى الشمال من لندن- وأعلن إلى اليزابيث تيودور أنها أصبحت ملكة على إنجلترا. أن أختها غير الشقيقة، الملكة ماري ذات السمعة التي يرثى لها، قد وافاها الأجل المحتوم في غسق الصباح في ذاك اليوم. وفي لندن عندما تلقى البرلمان هذا النبأ هتف: "حفظ الله الملكة اليزابيث! فليطل أمد حكمها علينا! "-ولم يكن يدور بخلده أو يحلم بأن حكمها سوف يمتد إلى خمسة وأربعين عاماً. وعلى الرغم من أن الكنائس كانت توجس خيفة فأن صليل نواقيسها هز أجواز الفضاء. ومد الناس في إنجلترا موائد الأفراح في الشوارع، كما فعلوا من أجل ماري من قبل، وصبغوا السماء في ذلك المساء بأضواء المشاعل التي تشف عن الأمل الخالد.
وفي اليوم السبت التاسع عشر من نوفمبر، احتشد كبار اللوردات والسيدات وأعضاء مجلس العموم من جميع أنحاء المملكة في قصر هاتفيلد، ليقسموا يمين الولاء للملكة، ويتلمسوا في هذه المناسبة غنماً، وفي اليوم العشرين خطبت فيهم اليزابيث في أسلوب ملكي حقاً، قائلة.
أيها اللوردات: أن قوانين الطبيعة لتثير في نفسي لواعج الأسى والحزن على أختي، وإن العبء الذي ألقى على كاهلي ليذهلني، ولكني بوصفي من عباد الله، يتعين(28/2)
عليّ الامتثال لاختياره إياي لهذا المنصب. أني فوق ذلك سوف أخضع لمشيئته، تحدوني الرغبة في أعماق قلبي، في أن يهبني العون، بفضله وكرمه، علي تنفيذ إرادته سبحانه وتعالى في المهمة التي وكلت اليوم إلي، وما أنا، من الناحية المادية إلا بشر، ولكني بإذنه تعالى بشر سياسي عليه أن يحكم. فهل لي أيها اللوردات، وخاصة النبلاء منكم، كل على قدر مرتبته وسلطته- هل لي أن أطمع في أن تكونوا عوناً لي، حتى أستطيع أنا بحكمي وانتم بخدماتكم، أن نقدم لله سبحانه وتعالى عملاً مقبولاً، ونترك لأعقابنا على الأرض شيئاً من الرفاهية والراحة (1). "
وفي اليوم الثامن والعشرين من نوفمبر، اخترقت إليزابث، مرتدية ثوباً من القطيفة القرمزية، شوارع لندن في موكب عام، إلى نفس "برج لندن" التي كانت سجينة فيه منذ أربعة أعوام؛ تنتظر الموت. وفي طريقها، أخذ الأهالي اليوم يهللون ويهتفون لها والمنشدون يتغنون بمجدها وعظمتها، والأطفال يتلون عليها، وهم يرتعدون، ما حفظوه من عبارات الولاء والإجلال، ورحبت طلقات المدافع والبنادق التي لم يسمع لها نظير من قبل، بحكم قدر له أن يكون أزهى وأحفل بالرجال والعقول من أي حكم سبقه في إنجلترا.
وكانت خمس وعشرون سنة من المحاكمات قد هيأت إليزابث لتسيطر وتتفوق. وفي 1533 بدا أن من حسن طالعها أن يكون هنري الثامن أباً لها، ولكن كان خطراً عليها أن تكون أمها آن بولين. إن العار الذي لحق بأمها ثم إعدامها، وقعاً في وقت لم تكن الطفلة فيه تعي أو تذكر شيئاً (1536)، ولكن مرارة هذا التراث الكريه لازمتها وما إنجابت عنها طيلة شبابها، ولم تبرأ منها إلا بفضل بلسم الملك. ونص قرار أصدره البرلمان في 1536 على أن زواج آن باطل، ومن ثم صارت إليزابث ابنة غير شرعية، ولاكت اللسنة موضوع أبوة البنت، واختلفت الأقوال فيه بشكل قاس، وكانت في نظر معظم الإنجليز، على أية حال، ابنة زنى. ولم تعد الشرعية إليها قط بحكم القانون، ولكن قراراً آخر من البرلمان (1544) ثبت حقها في تولي العرش، بعد إدوارد أخيها من أبيها، وماري أختها لأبيها. وفي أثناء حكم إدوارد (1547 - 1553) تمسكت إليزابث بالبروتستانتية ولكن عندما اعتلت(28/3)
ماري الكاثوليكية العرش، آثرت إليزابث الحياة على التمسك بمذهبها، فتحولت إلى الطقوس الرومانية الكاثوليكية. ولما أخفقت ثورة ويات Wyatt (1554) في خلع ماري، اتهمت إليزابث بالاشتراك في المؤامرة، وأرسلت إلى برج لندن (السجن)، ولكن ماري قررت بأن التهمة غير ثابتة على إليزابث، وأفرجت عنها لتعيش في وودستوك Woodstock تحت المراقبة. وأقرت ماري قبل وفاتها أن تخلفها أختها على العرش، وأرسلت إليها مجوهرات التاج. وإنا لنعزو حكم إليزابث إلى شفقة ماري "السفاحة".
وكان التعليم الأكثر منهجية لإليزابث واسعاً، وكان معلمها الخاص المشهور-روجر أسكام-يتيه فخوراً "بأنها تتحدث بالفرنسية والإيطالية بمثل ما تتحدث بالإنجليزية، وأنها كثيراً ما تتحدث معي في يسر وطلاقة باللاتينية، وإلى حد ما باليونانية (2) "، وكانت تتلقى في كل يوم لمحة من اللاهوت، وتضلعت في العقيدة البروتستانتية، ولكن يبدو أن معلميها الإيطاليين نقلوا شيئاً من مذهب الشك الذي رضعوه وتأثروا به من بومبوناتزي ومكيافللي وروما في عصر النهضة.
ولم تكن إليزابث مطمئنة على تاجها وعرشها قط. وأكد البرلمان من جديد في 1553 عدم شرعية زواج أمها من أبيها، واتفقت الحكومة والكنيسة على أنها ابنة زنى، واستبعد القانون الإنجليزي-متجاهلاً وليم الفاتح- كل أولاد الزنى، من ولاية العرش؛ واعتقد العالم الكاثوليكي-وكانت إنجلترا لا تزال كاثوليكية إلى حد كبير-أن الوريثة الشرعية للتاج الإنجليزي هي ماري إستيوارت، إبنة حفيدة هنري السابع، وقد أشير بأنها لو سالمت الكنيسة، لمحا عنها البابا وصمة بنوة الزنى واعترف بحقها في الحكم. ولم يكن بها ميل شديد إلى هذا. فإن آلافاً من الإنجليز كانوا قد وضعوا أيديهم على أملاك انتزعها البرلمان من الكنيسة في عهد هنري الثامن وإدوارد السادس، وكان هؤلاء الملاك ذوو النفوذ يخشون العودة إلى الكاثوليكية، ومن ثم تفرض الكنيسة استعادة أملاكها. ولذلك كانوا على استعداد للنضال من أجل ملكة بروتستانتية، كما أن الكاثوليك في إنجلترا آثروا الملكة البروتستانتية على الحرب الأهلية. وفي 15 يناير 1559، وسط هتافات لندن(28/4)
البروتستانتية، توجت اليزبيث في كنيسة وستمنستر "ملكة على إنجلترا وفرنسا وأيرلندة، وحامية للعقيدة". ذلك أن ملوك إنجلترا منذ عهد إدوارد الثامن طالبوا، بانتظام، بحقهم في عرش فرنسا، إنهم لم يقصروا في شيء يثقل كاهل الملكة بالمتاعب.
إن إليزابث الآن في سن الخامسة والعشرين، وفيها كل الفتنة التي تقترن بنضج الأنوثة. وكانت متوسطة الطول، حسنة المظهر، مليحة القسمات، ذات بشرة تميل إلى السمرة، وعينين وضاءتين، وشعر أسمر يضرب إلى الحمرة، ويدين جميلتين عرفت كيف تظهرهما للعيان (3). ويدا ضرباً من المستحيل أن تتمكن مثل هذه الفتاة من أن تواجه بنجاح الفوضى التي تحيط بها، فقد مزقت المذاهب الدينية المتصارعة أوصال البلاد، جرياً وراء السلطة، مستخدمة السلاح، وكان الفقر المدقع داء متوطناً، وكان التشرد قد بقى على حاله بعد العقوبات الرهيبة التي فرضها عليه هنري الثامن. وعوقت العملة الزائفة سير التجارة الداخلية، وانتشرت هذه العملة الزائفة لمدة نصف قرن، وكان لهذا أثره في هبوط رصيد الخزانة، ومما جعل الحكومة تدفع 14% فائدة على القروض، واستغرقت العقيدة الدينية كل تفكير ماري تيودور. إلى حد أنها لم تول شئون الدفاع الوطني أية عناية، وقبضت يديها عنه، فأهملت الحصون وبقيت الشواطئ دون حماية، ولم تعد البحري صالحة، وساءت رواتب الجيش وطعامه، وشغرت الوظائف فيه. وباتت إنجلترا-التي كانت أيام ولزي وتحتفظ بميزان القوى في أوربا- باتت الآن كسيحاً سياسياً مشلولاً تتقاذفه كل من أسبانيا وفرنسا. ودخل الجيوش الفرنسية إلى إسكتلندة، وكانت أيرلندة توجه الدعوة إلى أسبانيا. وكان الحرمان من الكنيسة-حرماناً مطلقاً أو جزئياً- سيفاً مصلتاً على رأس الملكة يهددها به البابا، كما كان يهددها بغزو الدول الكاثوليكية لبلادها. وبدا الغزو وشيكاً قطعاً في 1559. وكان الخوف من القتل يساورها دوماً، ولم ينقذها إلا دبيب الشقاق بين أعدائها، وحكمة مستشاريها، وشجاعة روحها. ولقد صعق السفير الأسباني "بروح المرأة ..... أن بين جنبيها شيطاناً يتملكها، ويقودها حيث يريد (4) ". ولم تكن أوربا تحسب أنها ستجد روح إمبراطور وراء ابتسامات فتاة.(28/5)
2 - حكومة إليزابث
برزت قدرة إليزابث على التمييز وحدة ذهنها، على الفور، في اختيار معاونيها. أنها مثل أبيها الذي كان يستعد دوماً للمعركة. وعلى الرغم من خطابها السياسي في هاتفيلد، اختارت رجالاً ليسوا من أصل عريق أو محتد كريم، ذلك أن معظم قدامى النبلاء كانوا من الكاثوليك، وحسب بعضهم أنهم أصلح منها لتولي العرش. فعينت وليم سيسل سكرتيراً ومستشاراً أولاها، وهو الذي أصبحت عبقريته في انتهاج سياسة حكيمة وفي ملاطفة وتدبر الأمور عاملاً بارزاً في نجاحها، إلى حد خيل معه إلى الذين لا يعرفون الملكة، أنه هو الملك. وكان جده من صغار الأعيان الميسورين، ثم أصبح سيداً من سادة الريف، وكان أبوه موظفاً في خزائن الملابس في قصر هنري الثامن وهيأ صداق أمه للأسرة ضيعة مناسبة. وترك وليم جامعة كمبردج دون الحصول على درجة جامعية، ودرس القانون في Gray's Inn ( أحد أجهزة العدل التي تمنح إجازة الاشتغال بالقانون في لندن). وقضى شبابه الداعر يعيث فساداً في مواخير لندن (5). ودخل مجلس العموم في سن الثالثة والعشرين (1543). وتزوج زوجته الثانية ملدرد كوك Mildred Cooke، وقد ساعدته بيوريتانيتها القاسية على التزامه المذهب البروتستانتي والتمسك به. وخدم الوصي "سومرست" ثم غريمه نورثمبرلند. وأيدليدي جين جراي لتخلف إدوارد السابع، ثم تحول في اللحظة الحاسمة إلى ماري تيودور، وأصبح كاثوليكياً مطيعاً بناء على اقتراح منها، وندبته للترحيب بمقدم الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان رجل عمل ومصلحة، لا يسمح لتقلباته اللاهوتية أن تخل بتوازنه السياسي، وعندما عينته إليزابث سكرتيراً لها تحدثت، بفطنتها المألوفة، إليه قائلة: -
" لقد عهدت إليك بهذه المهمة، وهي ان تكون من بين أعضاء مجلس شورى الملكة، وترتضي أن تبل أقصى الجهد من أجلي ومن أجل مملكتي، وإني لآنس فيك أنك لن تفسدك أية منحة أو هدية مهما يكن نوعها، وأنك ستكون مخلصاً للدولة، وأنك ستمحضني ما ترى أنه خير الرأي والنصيحة، دون اعتبار لإرادتي الخاصة،(28/6)
وانك إذا رأيت أن ثمة شيئاً ضرورياً يجب إبلاغي إياه سراً فستفضي به إلي وحدي، وتأكد أني لن أعجز عن التزام الصمت في مثل هذه الحالة، ومن ثم فأني أعهد إليك بهذه المهمة (6) ".
واحتفظت به سكرتيراً لمدة أربعة عشر عاماً، كانت بمثابة امتحان لأمانته وكفايته، عينته بعدها وزيراً للخزنة لمدة ست وعشرين عاماً أخرى، حتى وفاته. ولقد رأس مجلس شورى الملكة، وأدار دفة العلاقات الخارجية، والشئون المالية العامة والدفاع الوطني، وقاد خطى إليزابث في تدعيم المذهب البروتستانتي في إنجلترا. انه، مثل ريشيليو، اعتبر أن سلامة بلاده واستقرارها يتطلبان الحكم الملكي المطلق الذي يعمل على التوحيد، في مواجهة النبلاء المتناحرين والتجار الجشعين، والعقائد التي يحاول بعضها القضاء على بعض، وكل أولئك يعمل على التفريق والتمزيق. واتبع بعض أساليب مكيافيللي، وقليلاً ما كان قاسياً، ولكنه أخذ المعارضة بلا رحمة وبلا هوادة (7)، وفكر مرة في قتل ارل وستمورلند (8)، وكان ذلك في لحظة نفد فيها الصبر، حانت في نصف قرن من التشبث الصابر والاستقامة الشخصية. وكان له عيون وجواسيس على كل شيء ولكن اليقظة الباطنية هي ثمن السلطة والقوة. وكان مقتصداً مولعاً بالكسب، ولكن إليزابث غفرت له ثراءه لقاء حكمته، وأحبت فيه التقتير الذي أعد الوسائل لقهر الأرمادا، ولولاه لكان من المحتمل أن تضللها المظاهر البراقة والمغرورون المبذرون مثل ليستر وهاتون واسكس. وقال السفير الأسباني في تقرير له: "إن ذكاء سيسل يفوق كل ذكاء سائر أعضاء المجلس مجتمعين، ومن ثم فهو موضع حسد الجميع وكراهيتهم (9) ". وأصغت إليزابث أحياناً إلى ما يقوله عنه أعداؤه، فعاملته من حين لآخر في خشونة وجفوة إلى حد أنه كان يخرج من حضرتها محطماً باكياً، حتى إذا هدأت سورة غضبها أدركت أنه أثبت دعامة ملكها. وفي 1571 عينته "لورد برجلي " Burghley، أي زعيم الأرستقراطية الجديدة التي وقفت في وجه النبلاء المعادين، فدعمت عرشها ورفعت من شأن مملكتها.
ويستحق صغار معاونيها أن نلم بهم في بضعة سطور في هذه العجالة التاريخية. لأنهم خدموها بكفاية وشجاعة، ولم يجزوا الجزاء الأوفى، حتى أفنوا حياتهم في(28/7)
خدمتها. منهم سير نيقولا بيكون-والد فرنسيس بيكون- وكان حامل الخاتم الملكي منذ بداية حكم إليزابث حتى وفاته 1579. وسير فرانسيس نولليس Knollys الذي كان عضواً في مجلس شورى الملكة منذ 1558، ورئيساً للخاصة الملكية حتى وفاته (1596)، كما كان سير نيقولا ثروكمورتون Throckmorton سفيرها البارع في فرنسا، وتوماس رندولف سفيرها في إسكتلندة وروسيا وألمانيا، وكان في المرتبة الثانية، بعد سيسل، من حيث الإخلاص والدهاء، وسير فرنسيس ولسنهام الذي تولى منصب الوزارة من 1573 حتى وافته المنية (1590)، وكان رجلاً دمثاً مرهف الحس، قال عنه سبنسر "إنه ماسيناس (1) العظيم في عصره"، روعته المؤامرات المتكررة على حياة الملكة حتى أنه أقام لحمايتها شبكة من الجواسيس، امتدت من أدنبرة إلى القسطنطينية، وأوقعت في شراكها ملكة إسكتلندة المنكوبة الحظ. وقلما حظي حاكم بمعاونين على مثل هذا القدر من الكفاية والقدرة والولاء، مع هذا القدر من الرواتب الضئيلة التي كانوا يتقاضونها.
وكانت الحكومة الإنجليزية نفسها فقيرة. وزادت الثروات الخاصة على الاعتمادات العامة. وبلغ مجموع الدخل 500. 000 (10) جنيه في 1600، وهو ما يعادل المبلغ التافه 25 مليون دولار. وقلما فرضت إليزابث ضرائب مباشرة، ولم تحصل من الرسوم الجمركية إلا على 36. 000 جنيه، واعتمدت عادة على دخل ممتلكات التاج، وعلى منح من الكنيسة الإنجليزية، وعلى قروض من الأغنياء، كانت من الوجهة العملية إجبارية، ولكنها كانت تسدد بانتظام (11). وأقرت الديون التي خلفها أبوها وأخوها وأختها، وتمتعت بسمعة طيبة في الوفاء بالدين إلى حد أنها استطاعت أن تحصل على القروض من أنتورب بفائدة قدرها 5% على حين أن فيليب الثاني ملك أسبانيا لم يستطع في بعض الأحيان أن يقترض قط، وكانت الملكة مسرفة، على أية حال، في الإنفاق على ملابسها وحليها، وفي المزايا الاقتصادية التي تغدقها على ذوي الخطوة لديها.
_________
(1) Moeceuas أحد رجال الدولة الرومان، في القرن الأول ق. م. كان صديق لهوراس وفرجيل، وكان كريماً راعياً للآداب.(28/8)
وقل أن دعت إليزابث البرلمان، وعلى مضض منها، لمساعدتها من الناحية المالية، لأنها لم تكن تطيق المعارضة أو النقد أو المراقبة، ولم تؤمن قط بنظريات سيادة الشعب أو البرلمان. وآمنت مع هوميروس وشكسبير بأن رأساً واحداً هو الذي يجب أن يتولى الحكم-ولم لا يكون رأسها هي، الذي جرى فيه دم هنري الثامن وتألقت كبرياؤه؟ وتمسكت بحقوق الملوك والملكات الإلهية. وأودعت بعض الأفراد السجون بمحض إرادتها هي دون محاكمة، أو سبب واضح، وكان مجلس الشورى ينعقد على هيئة محكمة عليا لمحاكمة المجرمين السياسيين، يعطل، دون استئناف، حقوقهم في المعارضة وفي قانونية حبسهم، أو في محاكمتهم أمام المحلفين (12). وعاقبت أعضاء البرلمان الذين اعترضوا سبيلها في تحقيق أهدافها. وأوحت إلى الأقطاب المحليين الذين يديرون شؤون الانتخابات النيابية ويؤثرون فيها، أنه مما ييسر الأمور أن يختاروا مرشحين ليس لديهم نزعات صبيانية في حرية الكلام، إنها طمعت في الحصول على المال دون أن يناقشها أحد الحساب! واستسلمت برلماناتها الأولى إلى هذا الوضع بلباقة، وخضعت البرلمانات غاضبة في أواسط عهدها، أما بعد ذلك فقد قاربت البرلمانات أن تثور.
وتغلبت إرادتها لأن الأمة آثرت حكمها المطلق الحكم على عنف الأحزاب التي تتنافس على السلطة، ولم يفكر أحد في أن يدع الشعب يحكم، وكانت السياسة-وهي كذلك دائماً-صراعاً بين الأقليات، على أيها يحكم الأغلبية. واستاء نصف إنجلترا من سياسة إليزابث الدينية، واغتاظت كل إنجلترا تقريباً من عزوبتها، ولكن الناس في جملتهم، وهم يحمدون الضرائب المنخفضة والتجارة المزدهرة، والنظام في الداخل، والسلام الذي طال أمده، بادلوا الملكة حباً بحب. لقد أقامت لهم المهرجانات، وقامت بجولات ملكية بينهم، واستمعت إليهم دون أن يظهر عليها أي امتعاض، وشاركتهم ألعابها العامة، وبمائة أسلوب آخر تصيدت قلوب الناس (13) ". وكتب السفير الأسباني، وهو يذوب حسرة على اعتناقها البروتستانتية، إلى الملك فيليب يقول: "إنها أشد التصاقاً بالأهالي، وهي على ثقة من انهم جميعاً إلى جانبها، وهذا هو الحق بعينه (14) ". وزادت المحاولات(28/9)
التي بذلت القضاء على حياتها من شعبيتها وسلطانها، حتى أن البيوريتانيين الذين اضطهدتهم دعوا لها بالسلامة، وأصبحت الذكرى السنوية لارتقائها العرش عيداً قومياً للشكر وإقامة الاحتفالات.
وهل كانت إليزابث هي الحاكم الفعلي، أو مجرد واجهة محبوبة للطبقة الدنيا من النبلاء في إنجلترا، والأقلية التجارية في لندن؟ وكثيراً ما صحح معاونيها أخطاء سياستها، على الرغم من خوفهم من انفعالها، ولكنها بدورها، كثيراً ما صححت أخطائهم كذلك. لقد أبلغوها حقائق مرة، وزودوها بنصائح المعارضة لرأيها، وامتثلوا لقراراتها، انهم حكموا ولكنها ملكت. وقال السفير الأسباني: "إنها تصدر الأوامر، وتفعل ما تريد، تماماً كما كان يفعل أبوها (15) ". وقلما أدرك سيسل نفسه ماذا اعتزمت أن تفعل، واضطراب واغتاظ من رفضها المتكرر لمشورته التي وصل إليها بعد جهد شاق وتمحيص دقيق. وعندما حثها على عدم التفاوض مع فرنسا، والاعتماد فقط على تأييد البروتستانت، انتهرته في قسوة وحدة "أيها السكرتير، أفهم أني انتهيت من هذا الموضوع، ولسوف استمع إلى مقترحات ملك فرنسا، ولن أكون بعد اليوم مربوطة إليك وإلى اخوتك في المسيحية (16) ".
ودفعت تصرفاتها في شئون الدولة الأصدقاء والأعداء إلى البكاء، على حد سواء. فقد كانت متأنية مترددة إلى حد مثير، في البت في الأمور، ولكن ترددها عاد بالفائدة في أحوال كثيرة، لقد عرفت كيف تتحالف مع الزمن الذي يحل من المشاكل أكثر مما يحل الرجال، وكم هيأ تسويفها في البت، للعوامل المعقدة في موقف ما، أن تستقر وتتركز وتتضح. لقد أعجبت بالفيلسوف الأسطوري الذي ألحوا عليه في طلب الجواب، فتلا حروف الهجاء في صمت قبل الإدلاء به. واتخذت شعاراً لها: "أني أرى وأنا صامت". واكتشفت أنه في السياسة كما في الحب، من لم يتردد يضيع نفسه. وإذا تذبذبت سياستها في غالب الأحيان، فهذا هو شأن الحقائق والقوى التي يعمل حسابها. ولما كانت محاطة بالأخطار والدسائس، فإنها تحسست طريقها في حذر موسوم بالتسامح والصفح، محاولة آنا سبيلاً آخر، فهي لا تدعي الثبات في عالم مائع. وتعثر ترددها في بعض أخطاء جسيمة، ولكنها(28/10)
احتفظت بإنجلترا في سلام حتى بلغت من القوة ما تستطيع معه أن تحارب. ولما كانت قد ورثت أمة تشيع فيها الفوضى من الناحية السياسية، منهارة من الناحية العسكرية، فقد كانت السياسة الوحيدة التي يمكن انتهاجها هي الحيلولة دون اتحاد أعدائها ضدها، وتشجيع ثورة الهيجونوت ضد ملك فرنسا، وثورة الأراضي الوطنية ضد أسبانيا، وثورة البروتستانت ضد ملكة إسكتلندة الوثيقة الصلة بفرنسا. لقد كانت هذه السياسة مجردة من المبادئ الأخلاقية، ولكن إليزابث آمنت مع مكيافيللي بان الوسواس لا تلتئم مع الحكام المسئولين عن الدول. ومهما يكن من أمر فان ضعفها الموسوم بالحذق والدهاء يشير إلى أنها حافظت على بلادها من السيطرة الأجنبية، وحافظت على السلام لمدة ثلاثين عاماً- باستثناء فترات قصيرة، وتركت إنجلترا أغنى مما كانت عليه في أي وقت مضى، مادياً وفكرياً.
واستطاعت إليزابث الدبلوماسية، أن تلقن وزراء الخارجية في ومنها، دروساً في الإعلام النشيط السريع والوسائل اللبقة الماكرة والخطوات الكثيرة التي لا يمكن التنبؤ بها. وكانت أقدر أهل زمانها على الكذب. ومن بين النساء الأربع-ماري تيودور، ماري ستيوارت، كاترين دي مديتشي وإليزابث- اللائى ضربهن نوكس Knox مثلاً على "حكم النساء الرهيب" في النصف الثاني من القرن السادس عشر، تفوقت إليزابث عليهن بلا منازع في الفطنة السياسية والبراعة الدبلوماسية. وذهب سيسل إلى أنها "أعقل امرأة وجدت، لأنها فهمت ميول كل أمير في زمانها وما يولع به وما يستهويه. وكانت على علم تام بمملكتها إلى حد أن أياً من مستشاريها لم يكن لينبئها بشيء لم تكن تعرفه من قبل (17). وهذا بطبيعة الحال يتطلب الرقية من الحسد ببعض حصوات من الملح، وتمتعت الملكة بميزة التباحث مباشرة مع السفراء بالفرنسية أو الإيطالية أو اللاتينية، ومن ثم كانت في غنى عن الاعتماد على المترجمين والوسطاء. ويقول السفير الأسباني: "إن هذه المرأة يتملكها مائة ألف شيطان، ولكنها مع ذلك تزعم لي أنها تحب أن تكون راهبة، تعيش في صومعة تتلو تسابيحها وصلواتها من الصباح إلى الليل (18) "، لقد أدانتها كل حكومة في قارة أوربا، وفي نفس الوقت أعجبت بها وقال عنها البابا سكستوس السادس: "لو لم تكن زنديقة لكانت تساوي عالماً بأسره (19) ".(28/11)
3 - العذراء العاشقة
كانت عذرية إليزابث هي السلاح الخفي في دبلوماسيتها. وهذا بطبيعة الحال تفصيل ثانوي عويص يجدر بالمؤرخين ألا يزعموا التيقن منه، أو لنكن نزاعين إلى الثقة، مثل سير والتر رالي حين يطلق الاسم على مستعمرة ويعينها بذاتها. ولقد ساورت سيسل بعض شكوك عابرة عندما لاحظ عبث إليزابث الطويل الأمد مع لستر ومغازلتهما. ولكن سفيرين أسبانيين لا يتورعان ولا يجدان حرجاً في تشويه سمعة الملكة، انتهيا إلى أنها شريفة (20). وذكرت الإشاعات التي انتشرت في البلاط-كما رواها بن جونسون لدروموند هوثورندن- " أن فيها غشاء يجعلها غير أهل لمعاشرة الرجال، ولو أنها حاولت مع كثير منهم لمجرد اللهو والمرح .... " وأخذ جراح فرنسي على عاتقه أن يستأصله، ولكن الخوف منعها من ذلك (21). وكتب كاندن في حولياته 1615: "صب الناس اللعنات على هويك Huic طبيب الملكة لأنه ثبط همتها في الزواج بسبب عائق وعاهة فيها (22) ". غير أن البرلمان الذي توسل إليها مراراً لتتزوج، افترض قدرتها على الحمل، ولقد مني معظم ملوك آل تيودور بالإخفاق في هذه الناحية: فيحتمل أن تكون مصائب كاترين أوف أراجون في الولادة ترجع إلى داء الزهري الذي أصيب به هنري الثامن، ومات ابنه إدوارد في سن الشباب نتيجة علة كريهة الوصف. وحاولت ابنته ماري محاولة شديدة أن يكون لها طفل، وكل ما حدث أنها ظنت أن داء الاستسقاء حمل، وعبثت إليزابث ما شاءت، ولكنها لم تجرؤ على الزواج، وقالت: "لقد كنت أنفر منه دائماً". وأعلنت منذ 1559 عزمها على أن تبقى عذراء (23). وفي 1566 وعدت البرلمان: "سوف أتزوج حالما أرى الوقت المناسب .... وآمل أن يكون لي أطفال (24) ". ولكن في نفس العام، عندما أنبأها سيسل أن ماري ستيوارت أنجبت طفلاً، كادت إليزابث تذرف الدموع وقالت: "أن ملكة الاسكتلنديين أم لابن جميل، أما أنا فلست إلا أرضاً مجدبة (25) ". وهنا ولفترة وجيزة، كشفت عن حزنها المقيم-لأنها لم تستطع أن تحقق أنوثتها.(28/12)
وزادت التورطات السياسية في عمق المأساة. وأعتقد كثير من رعاياها الكاثوليك أن عقمها ليس إلا عقاباً وفاقاً على خطايا والدها، ووعد بأن ماري الكاثوليكية سوف ترث العرش. لكن البرلمان وسائر إنجلترا البروتستانتية كانوا يوجسون خفية من هذه التوقعات، وألحوا عليها في أن تجد لها زوجاً. ولقد حاولت، ولكنها بدأت بأن شغفت حباً برجل متزوج، هو لورد روبرت ددلي وهو رجل مديد القامة وسيم كيس مصقول شجاع، وهو ابن دوق نورثمبرلند الذي كان قد لقي حتفه على حبل المشنقة لمحاولته إبعاد ماري تيودور عن وراثة العرش لتجلس عليه جين جراي. وتزوج ددلي من آمي روبسار Amy Robsart ولكنه لم يكن يقيم معها. وراجت الإشاعات بأنه خليع لا أخلاق له. وكان بمعية إليزابث في وندسور، عندما سقطت زوجته من على درج السلم في Cumnor Hall فدق عنقها وقضت نحبها (1560). وحامت الشبهات عند السفير الأسباني وآخرين غيره بأن ددلي والملكة دبرا هذه الميتة الشنيعة. وكانت الريب ظالمة (26). ولكنها قضت، لبعض الوقت، على آمال ددلي في أن يصبح زوجاً لإليزابث. ولما ذهب بها الظن إلى أنها ستقضي نحبها (1562) توسلت أن يعين ددلي وصياً على المملكة، واعترفت بأنها أحبته منذ زمن طويل، ولكنها أشهدت الله: على أنهما لم يرتكبا عملاً غير لائق (27) ". وبعد عامين قدمته إلى ملكة إسكتلندة، وخلعت عليه لقب "ارل لستر"، لتزيد من مفاتنه، ولكن ماري كرهت أن يشاركها عشيق غريمتها فراشها فواسته إليزابث وهدأت من روعه بما أغدقت عليه من احتكارات، وكان موضع عطفها ورعايتها حتى مات (1588).
واحتمل سيسل هذه الإشاعة في اشمئزاز وقور، وفكر لبعض الوقت في الاستقالة من منصبه احتجاجاً، فقد اتجه تفكيره الخاص إلى زواج يعمل على تقوية إنجلترا، بعقد أواصر الصداقة مع دولة قوية. ولمدة ربع قرن من الزمان حام حول الملكة نفر عديد من الأجانب يطلبون يدها. وكتب أحد السفراء: "هناك اثني عشر سفيراً ينافس بعضهم بعضاً في طلب يد جلالتها، ولسوف يأتي بعد ذلك دوق هولشتين ليطلب يدها لملك الدنمرك. وهنا دوق فنلندة الذي جاء رسولاً عن أخيه ملك السويد،(28/13)
وهو يهدد بقتل مبعوث الإمبراطور، ولشد ما تخشى الملكة أن يقطع كل منهم رقبة الآخر في حضرتها (28). ولا بد أنها أحست بشيء من الرضا حين قدم لها فيليب الثاني، وهو أعظم عاهل في العالم المسيحي يده المحنكة (1559)، ولكنها رفضت هذه الحيلة لتحويل إنجلترا إلى ولاية كاثوليكية تابعة لأسبانيا. وتمهلت طويلاً في الرد على اقتراح من شارل التاسع ملك فرنسا.
كانت آنذاك تسلك سلوكاً محموداً. وشكا السفير الفرنسي "من أن الدنيا خلقت في ستة أيام، وأن الملكة قضت حتى الآن ثمانين يوماً، ولا تزال مترددة". فأجابت هي جواباً بارعاً ماكراً بأن الدنيا "خلقها من هو أعظم منها (29) ". وبعد عامين أوعزت لوكلاء إنجلترا أن يقترحوا زواجها من شارل أرشيدوق النمسا، ولكنها بتحريض من ليستر تخلت عن هذه الفكرة. ولما كان الموقف الدولي يقتضي مسايرة فرنسا (1570)، فقد تشجع دوق ألنسون (ابن هنري الثاني من كترين دي مديتشي) على التفكير في أن يصبح زوجاً في السادسة والعشرين لملكة في السابعة والثلاثين، ولكن المفاوضات توقفت بسبب ثلاث عقبات-مذهبه الكاثوليكي، وشبابه غير الناضج وندوب في انفه. وانقضت خمس سنوات ذللت فيها إحدى هذه العقبات، واتجه التفكير مرة أخرى إلى ألنسون الذي أصبح الآن دوق أنجو، ودهي إلى لندن، ولمدة خمس سنوات أخرى غررت إليزابث به وبفرنسا. وعقب فترة أخيرة (1581) تلاشت هذه المغازلة المرحة، وانسحب دوق أنجو من الميدان، وهو يلوح برباط لجورب الملكة تذكاراً لهذه الواقعة، وكانت الملكة في نفس الوقت قد منعته من الزواج من ابنة ملك أسبانيا، ومن ثم حالت دون تحالف عدوتيها فرنسا وأسبانيا. وقل أن غنمت امرأة مثل هذا الغنم من عقمها، أو نعمت بمثل هذا اللهو والسرور من عذريتها.
4 - إليزابث وحاشيتها
وجدت الملكة في تودد هذه الزمرة من رجال عصرها النشيطين المكتملين رجولة وقوة إليها وملاطفتهم إياها- نقول وجدت ارتياحاً ورضا أكثر مما هو في(28/14)
مضاجعة شاب مريض بالزهري مثلاً. وان المغازلة لتبقى ما لم يقض عليها الزواج، ومن ثم تلذذت إليزابث بالزلفى والملق والتودد طوال الوقت واستطابت ذلك كله في نهم لا يشبع. وجر اللوردات الخراب على أنفسهم في سبيل الاحتفاء بها وتسليتها، وعبروا بالمواكب والمهرجانات ومظاهر الأبهة والمسرحيات التنكرية عن عظمة الملكة ومجدها، وأغرقها الشعراء بقصائدهم وإهداءاتهم، وداعب الموسيقيون أوتار آلاتهم شدوا بمديحها. ولقد تغنت قصيدة غزلية بعينيها على أنهما كرتان ملكيتان تأسران الناظر إليهما وتقهرانه، وصدرها على أنه "أكمة جميلة تكمن فيها الفضيلة والبراعة القدسية (30) " وقال لها رالي إنها تحكي في مشيتها فينوس، وفي صيدها ديانا، وفي ركوبها الخيل الإسكندر، وفي غنائها ملاكاً، وفي لعبها أورفيوس (31). وكادت إليزابث تصدق هذا. وكانت مزهوة، وكأن كل مزايا إنجلترا وفضائلها لم تكن إلا الثمار المباركة لأمومتها، وهذا حق إلى درجة ما. ولما كانت ترتاب في مفاتن جسمها، فقد لجأت إلى ارتداء أثمن الثياب التي تغيرها كل يوم تقريباً، حتى لقد تركت عند موتها ألفي ثوب. وقد تحلت بالمجوهرات في شعرها وذراعيها ومعصميها وأذنيها وأثوابها، وإذا ما استنكر أحد الأساقفة حبها للمجوهرات، بعثت إليه بمن ينذره بالا يطرق هذا الموضوع ثانية، وإلا لقي ربه قبل الأوان (32).
وقد يكون سلوكها وعاداتها مفزعة. فقد صفعت رجال حاشيتها أو لاطفتهم وداعبتهم، بل حتى المبعوثين الأجانب. ولقد وخزت رقبة ددلي من الخلف حين انحنى ليتسلم براءة لقب ارل (1)، وبصقت أنى شاءت-وذات مرة على معطف ثمين. وكانت عادة أليفة يسهل الوصول إليها. ولكنها تحدثت بلسان ذرب، وربما غدت سليطة لا يمكن الرد عليها، وأقسمت كما يقسم القرصان (وكانت كذلك بالوكالة) وكان من أخف الأيمان التي تقسم بها "بحق وفاة الرب". وكان في مقدورها أن تكون قاسية، كما هو الحال في لعبة القط والفأر، التي لعبتها مع ماري ستيوارت،
_________
(1) يروي أوبري قصة سمجة: "أن إدوارد دي فر De Vere ارل أكسفورد، وهو ينحني إجلالاً للملكة إليزابث خرجت منه ريح فخجل وشعر بالعار. وغاد البلاد لمدة سبع سنين أدباً، فلما عاد رحبت الملكة بعودته إلى الوطن وقالت سيدي اللورد، لقد نسيت الريح (33).(28/15)
أو في ترك ليدي كاترين جراي تذبل وتهن حتى الموت في "برج لندن". ولكنها كانت أساساً عطوفة رحيمة، وخلطت بين رقتها وضربتها. وكثيراً ما ثارت وفقدت صوابها، ولكن سرعان ما استعادت ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب. وكانت تنفجر ضاحكة إذا تسلت، وكثيراً ما حدث ذلك. واولعت بالرقص فرقصت على قدم واحدة حتى بلغت التاسعة والستين وكانت تثب وتغامر وتصطاد. كما أحبت المسرحيات والحفلات التنكرية، واحتفظت بروح معنوية عالية حتى حين هبطت مواردها.
وكانت غاية في الشجاعة والذكاء عند مواجهة الخطر. وكانت معتدلة في طعامها وشربها، شرهة في المال والمجوهرات، وكانت تجد لذة كبيرة في مصادرة ممتلكات العصاة الأثرياء، ودبرت أن تحصل على مجوهرات التاج في إسكتلندة وبرجندي والبرتغال وتقتنيها، بالإضافة إلى ذخيرة من الجواهر والأحجار الكريمة أهداها إليها اللوردات المرتقبون نفعاً أو المرشحون للمناصب، لوم تشتهر بعرفان الجميل ولا بسخاء، وحاولت بعض الأحيان أن تدفع أجور العاملين لديها كلمات حلوة بدلاً من النقود، وقد كان ثمة شيء من حب الوطن في تقتيرها وكبريائها على السواء. وعندما تولت العرش، لم تكد توجد أمة بلغت من الفقر حداً تنظر معه إلى إنجلترا بعين الإجلال والتقدير، أما عند مماتها كانت لإنجلترا السيادة على البحار. كما كانت تتحدى سيطرة إيطاليا وفرنسا في مجال الفكر والعقل.
وأي نوع من العقل كان لهذه المرأة؟ لقد حصلت من التعليم على القدر الذي يمكن أن تحصل عليه ملكة دون عناء، وقد استمرت أثناء حكمها في دراسة اللغات. وتبادلت الرسائل بالفرنسية مع ماري ستيوارت، وتحدثت بالإيطالية مع أحد سفراء البندقية، ووبخت مبعوثاً بولنديا بلغة لاتينية قوية. وترجمت سالوست Sallust وبوثيوس Boethius، وألمت بقدر من اليونانية يكفي لقراءة سوفوكليس ولترجمة إحدى مسرحيات يوريبيدس. وزعمت أنها قرأت من الكتب عدد ما قرأ أي أمير في العالم المسيحي، والأرجح أن يكون الأمر كذلك. ودرست التاريخ كل يوم تقريباً، ونظمت الشعر وألفت الموسيقى، وعزفت، مع شيء من التسامح، على العود والعذراوية (آلة موسيقية تشبه البيان الصغير بدون قوائم)، ولكن كان(28/16)
عندها من الإدراك ما تسخر به من منجزاتها، وتميز به بين التعليم والذكاء. وإذا ما أطرى سفير معرفتها باللغات ردت عليه قائلة: "ليس غريباً أن تعلم امرأة أن تتكلم، بل الأصعب منه كثيراً أن تعلمها كيف تكف عن الكلام (34). " وكان ذهنها حاداً قدر حدة كلامها وكان ذكاؤها يجاري الزمن ولا يتخلف عنه. وقال فرنسيس بيكون: "إنه كان من عادتها أن تقول عن توجيهاتها لكبار موظفيها إنها مثل الثياب، تكون محكمة محبوكة لأول مرة يلبسها الإنسان، ولكنها تصبح يوماً بعد يوم فضفاضة (35) " وكانت رسائلها وخطبها بلغة إنجليزية من إنشائها وحدها: معقدة ملتوية متكلفة، ولكنها زاخرة بالصيغ الغريبة، ساحرة في فصاحتها وأسلوبها.
وتحلت إليزابث بالذكاء أكثر منها بسداد الرأي. قال عنها ولسنهام: "أنها غير صالحة لمعالجة أي موضوع له وزنه (36) ". ولكنه ربما تحدث في مرارة التفاني الذي لم يلق جزاءه. لقد كمنت براعتها في الرقة الأنثوية ودقة الإدراك الحسي، لا في المنطق المرهف. وفي بعض الأحيان كشفت نتيجة هذا كله عن حكمة أكبر في تصرفاتها الماكرة منها في تعليلها لها، أنها روحها التي يتعذر تحديدها أو تعريفها هي التي يعتد بها، وهي التي حيرت أوربا وسحرت إنجلترا، وأمدت بلادها بالقوة والقدرة على الازدهار والنمو. وأعادت إليزابث بناء الإصلاح الديني من جديد، ولكنها مثلت عصر النهضة-التلهف على أن يحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا إلى أبعد مدى، ينعم بها ويزينها كل يوم. ولم تكن نموذجاً للفضيلة، ولكن كانت مثالاً للحيوية والنشاط. إن سير جون هايوارد الذي كانت زجت به في السجن لتزويده اسكس الأصغر ببعض الأفكار الثورية، غفر لها ذلك فكتب عناه، بعد تسع سنوات من مكافأتها إياه (بالإفراج عنه) -كتب يقول: -
إذا كان ثمة إنسان أوتي من الموهبة أو الأسلوب ما يستطيع أن يكسب به قلوب الناس، فهو هذه الملكة. وإذا أظهرت شيئاً مثل هذا يوماً، فقد ظهر في أنها تجمع بين اللطف والجلال كما كانت تفعل، وفي تواضعها الموسوم بالفخامة حتى مع أقل الناس شأناً. وكانت كل قدراتها في حركة دائبة، وبدت وكأن كل حركة بمثابة(28/17)
عمل موجه أحس توجيه. فقد تكون عيناها عالقتين بشخص ما، على حين أرهفت أذنيها لآخر وأصدرت أمراً لشخص ثالث، ووجهت حديثها لرابع، وكأنما روحها تحوم في كل مكان، ومع ذلك تبدو منطوية على نفسها وكأنها غير موجودة في أي مكان آخر. وكانت ترثى لبعض الناس، وتطوي آخرين، وتقدم الشكر لغيرهم، وتداعب فريقاً آخر في سرور وسخرية، دون أن تزدري أحداً، أو تغفل واجباً، وكانت توزع ابتساماتها ونظراتها ولفتاتها بقدر من الدهاء والفطنة يضاعف معه الناس من مظاهر اغتباطها (37).
وتطبعت حاشيتها بطباعها-يحبون ما تحب، ويقوون من ميلها إلى الموسيقى والروايات والعبارات المشرقة، ويرقون به إلى نشوة القصيد والغزليات والتمثيليات وحفلات الرقص. والنثر الذي لم تشهد إنجلترا مثيلاً له فيما بعد. وفي قصورها-هويتهول، وندسور، جرينتش، رتشموند، هامبتون كورت، تنقل اللوردات والسيدات والفرسان والسفراء والمغنون والخدم والحشم بين ألوان عدة من المراسم الملكية والمرح الأنيق. وكان ثمة دائرة خاصة تعد ألوان التسلية ابتداء بالأحاجي والنرد إلى حلبات الرقص الصاخبة وروايات شكسبير، وأقيمت الاحتفالات بانتظام في عيد الصعود وعيد الميلاد وعيد رأس السنة والليلة الثانية عشرة، وكاندلماس (عيد العذراء)، وشروفتيد (عيد قبل الصوم الكبير)، وزخرت بألوان الملاهي والتسلية، والمباريات الرياضية، والمقارعة بالسيوف، والتمثيل التنكري والمسرحيات وحفلات الرقص. وكانت الحفلات التنكرية شيئاً من الأشياء التي استوردت من إيطاليا إلى إنجلترا في عهد إليزابث، وكانت خليطاً براقاً من المهرجانات والشعر، والموسيقى والقصص الرمزي والتهريج والباليه، ضمها بعضها إلى بعض الروائيون والفنانون، وكانت تقدم في البلاط أو في ضياع الأثرياء، بأجهزة ووسائل وحركات معقدة، تؤديها سيدات ورجال متنكرون يرتدون أغلى الثياب في تصميم بسيط، وكانت إليزابث مولعة بالتمثيليات، وبخاصة الهزلية منها. ومن يدري كم من روايات شكسبير كان يصل إلى المسرح أو إلى الأعقاب والأجيال القادمة، لو لم تقف الملكة وليستر إلى جانب(28/18)
المسرح وتدعمانه ضد كل الهجمات التي شنها عليه البيوريتانز.
ولم تقنع إليزابث بقصورها الخمسة، فانطلقت كل صيف تقريباً في جولات تجوب البلاد، لترى الناس ويروها وتراقب اللوردات التابعين وتستمتع بما يبذلون لها من إجلال وتكريم كارهين. وكان يتبعها بعض رجال البلاط، فرحين بالتغيير، متذمرين لعدم توفر وسائل الراحة والبيرة. وارتدى أهالي المدن ثياباً من القطيفة والحرير ليرحبوا بها بالخطب والهدايا، وكم أفلس النبلاء في سبيل الاحتفاء بها، وابتهل اللوردات المعسرون إلى الله ألا تعرج عليهم. وامتطت الملكة في جولاتها صهوة جواد أو تنقلت في محفة مكشوفة، تحي في روح وسرور الجموع التي احتشدت على الطريق. وابتهج الناس لرؤية مليكتهم التي لا تقهر، وافتتنوا بتحياتها الكريمة وسعادتها التي إليهم فغمرتهم ودفعتهم إلى تجديد الولاء لها.
وانتهج الحاشية نهجها في مرحها وحريتها في السلوك، وترفعها في الثياب وولعها بالمراسيم، ومثلها الأعلى في الكياسة، فقد أحبت أن تسمع خشخشة المجوهرات ونافس الرجال المحيطون بها النساء في تشكيل ما يحصلون عليه من منتجات الشرق على طرز إيطالية. وكان السرور واللهو يشكلان البرنامج المعتاد ولكن على المرء أن يكون على أهبة الاستعداد في أية لحظة لأية مغامرات عسكرية فيما وراء البحار. وينبغي على من يقدم على إغواء الفتيات أن يكون على أشد الحذر، لأن إليزابث كانت تحس بأنها مسئولة أمام آباء وصيفات الشرف اللائى يعملن لديها عن شرفهن. ومن ثم أبعدت ارل بمبروك عن البلاط لأن ماري فتون حملت منه سفاحاً (38). وف بلاطها-مثل أي بلاط آخر، حيكت الدسائس مثل نسيج العنكبوت، وتنافس النساء على الرجال، وتنافس الرجال على النساء، دون وازع من ضمير أو خلق، وكل ذلك إرضاء للملكة وكسباً لعطفها، وللمنح التي تغدقها نتيجة لذلك. إن هؤلاء السادة الذين رفعوا، شعراً، من شأن نقاوة الحب والأخلاق، تلهفوا نثراً على المناصب التي تدر ريحاً بلا عمل، وقدموا الرشاوى أو أخذوها، وعضوا بالنواجذ على الاحتكارات، وشاركوا في أسلاب القرصنة، ونظرت الملكة الشرهة بعين التسامح إلى الرشوة التي تزيد من الأجر(28/19)
الضئيل الذي يحصل عليه خدمها. وبفضل هباتها أو بإذن منها أصبح ليستر أغنى لوردات إنجلترا، واستولى سير فيليب سدني على أراض شاسعة في أمريكا، وأخذ رالي أربعين ألف فدان في إيرلندة، ونعم ارل اسكس الثاني باحتكار استيراد النبيذ الحلو، وارتفع سير كرستوفر هاتون من مجرد "كلب مدلل" لدى الملكة إلى أكبر منصب في الدولة وحامل خاتم الملكة. ولم تعد إليزابث تحس بالعقول الجبارة قدر إحساسها بالسيقان الرشيقة-لأن عمد المجتمع هؤلاء لم يكونوا قد غطوا سيقانهم بالبنطلونات بعد، وعلى الرغم من كل أخطاء الملكة، فإنها اتخذت خطوة وشقت الطريق بغية إبراز الطاقات المختزنة في رجال إنجلترا الأفذاذ، واستثارت هممهم وشجاعتهم للقيام بالمشروعات الضخمة، وعقولهم إلى التفكير الجريء، وسلوكهم نحو الكياسة والفطنة، وإلى نظم الشعر والدراما والفن. وحول هذه الحاشية، وهذه المرأة تكاد تكون قد تجمعت كل عبقرية إنجلترا في أزهى عصورها.
5 - إليزابث والدين
احتدمت معركة الإصلاح الديني المريرة داخل البلاط الملكي والأمة، وأثارت مشكلة أتجه تفكير كثير من الناس إلى أنها ستربك المملكة وتدمرها، فقد كان ثلثا إنجلترا، وربما ثلاثة أرباعها من الكاثوليك (39). وكان معظم القضاة والحكام وكل رجال الدين من الكاثوليك. وكان البروتستانت محصورين في الثغور الجنوبية والمدن الصناعية، وكانت لهم الغلبة في لندن حيث تضخم عددهم بسبب اللاجئين إليها من وجه الظلم في القارة. أما في المقاطعات الشمالية والغربية- وكلها زراعية تقريباً- فكان عددهم لا يكاد يذكر (40). وكانت روح البروتستانت على أية حال، أشد حماساً وغيرة من الكاثوليك بشكل لا يقاس. وفي 1559 نشر جون فوكس كتاباً يصف فيه، في غضب شديد، معاناة البروتستانت في العهد السابق، وترجمت مجلدات الكتاب في 1563 تحت اسم Actesand Monuments ( الأعمال والآثار)، وكانت معروفة بين الناس باسم "كتاب الشهداء" وكان لها أثر مثير في نفوس البروتستانت لأكثر من قرن من الزمان. وكان للبروتستانتية(28/20)
في القرن السادس عشر الطاقة المحمومة لفكرة جديدة تناضل من أجل المستقبل، على حين كان للكاثوليكية قوة المعتقدات والأساليب التقليدية المتأصلة في أعماق الماضي.
وفي الأقلية الآخذة في الانتشار زاد الاضطراب الديني من نزعة الشك، بل حتى الإلحاد، هنا وهناك. وباتت العقول العملية الواقعية شكاكة في كل النظريات اللاهوتية، بسبب الصراع بين المذاهب، والنقد المتبادل بينها، وتعصبها الدامي والتناقض بين الإيمان الذي يجهر به المسيحيون وبين سلوكهم. وإليك ما قال روجر أسكام في "المعلم" 1563:
إن الإيطالي الذي ابتدع لأول مرة المثل الإيطالي ضد رجالنا الإنجليز الذين تشبهوا بالإيطاليين، لم يعد يقصد زهوهم وخيلاءهم في حياتهم أكثر مما يقصد رأيهم القبيح في الدين. وإنهم لأشد اعتداداً بعظات شيشرون منهم برسائل القديس بولص، وبقصة من بوكاشيو منهم بقصص الكتاب المقدس، وانهم ليعتبرون أسرار المسيحية من قبيل الأساطير الخرافية، ويجعلون المسيح وإنجيله في خدمة السياسة المدنية، ثم إن المذهبين كليهما (البروتستانتية والكاثوليكية) لا يأتيان خطأ إليهم. وفي الوقت المناسب يرفعون من شأنهما علانية، وبين الجدران يسخرون منهما سراً .... وأنى استطاعوا سبيلاً، ومع رفاقهم، يضحكون أو يزدرون البروتستانتية والبابوية. ولا يلقون بالاً إلى الكتب المقدسة، وانهم ليهزأون بالبابا، ويشكون مر الشكوى، وبألفاظ جارحة، لوثر .... إن المعبود الذي يرتضون ليس إلا مسرتهم الشخصية ونفعهم الخاص. ومن ثم فانهم يعلنون في وضوح أنهم يتبعون في حياتهم مدرسة الأبيقوريين، وأنهم من الناحية النظرية ملحدون (41).
وشكا سيسل (1569) من "أن الساخرين من الدين والأبيقوريين والملحدين موجودون في كل مكان (42) ". وفي 1571 صرح جون ستريب Strype " هناك كثيرون تخلوا عن الكنيسة تماماً، ولم يعودوا يحضرون لأداء واجباتهم الدينية (43) " وذهب جون ليلي Lyly، (1579) إلى أنه "لم يكن بين الوثنيين الهمجيين مثل هذه(28/21)
الفرق الدينية، ولا مثل هذه المعتقدات الخاطئة بين الكفار، مثل ما هو حادث الآن بين العلماء (44) ". وألف علماء اللاهوت وغيرهم كتباً كثيرة ضد "الإلحاد" وهو يعني على أية حال الإيمان بالله، وعدم الإيمان بألوهية المسيح. وفي 1579، 1583، 1589 أحرق بعض الأفراد لإنكارهم ألوهية المسيح (45). واشتهر عدد من الروائيين- جرين، كد Kyd ومارو- بأنهم ملحدون. إن الدراما في عصر إليزابث- وهي فيما عدا ذلك تصور الحياة تصويراً شاملاً- تتضمن أقل القليل عن صراع المعتقدات، ولكنها تعرض الأساطير الوثنية أكبر عوض.
وفي رواية شكسبير Love's Labiur's Lost هناك بيتان غامضان:
أي تناقض هذا؟ السواد شارة الجحيم،
ولون السجن ومدرسة الليل.
وفسر كثيرون (46) العبارة الأخيرة على أنها تشير إلى الاجتماعات التي كان يعقدها والتر رالي، والعالم الفلكي توماس هالايوت، والعالم لورنس كيمس، وربما الشاعران مارلو وتشابمان، وغيرهم، وفي دار رالي الريفية في شربورن، لدراسة الفلك والجغرافيا والكيمياء والفلسفة واللاهوت. وقال أنتوني رود عالم الآثار عن هاريوت- ومن الواضح أنه الزعيم الفخري لهذه الجماعة- "إنه كانت لديه أفكار غريبة عن الكتب المقدسة، وكان دائماً يحط من قدر القصة القديمة عن الخلق (التكوين) ..... وألف لاهوتاً نبذ فيه التوراة". لقد آمن بالله، ولكنه أنكر الوحي وألوهية المسيح (47) " وكتب روبرت بارسونز- وهو من الجزويت- في 1562 عن "مدرسة والتر رالي للإلحاد ..... حيث كانت السخرية من موسى وعيسى المخلص، والتوراة والإنجيل على حد سواء، ولقن التلاميذ أن يطرحوا الرب وراء ظهورهم (48) " واتهم رالي بأنه استمع إلى بحث قرأه مارلو عن "الإلحاد". وفي مارس 1594 اجتمعت لجنة حكومية في Cerne Abbes في دورست، للتحقيق في الشائعات راجت عن مجموعة من الملحدين في الأماكن المجاورة، ومن بينها موطن رالي. ولم يؤد التحقيق إلى إجراء معروف لدينا اليوم. ولكن تهمة الإلحاد وجهت إلى رالي أثناء محاكمته (1603) (49). وفي(28/22)
مقدمة كتابه "تاريخ العالم" أشار إلى إيمانه بالرب، على أنه نقطة يتناولها بالتفصيل فيما بعد.
وحامت الشبهات في حرية الفكر حول إليزابث نفسها. ويقول جون ريتشارد جرين "لم توجد قط امرأة مثلها مجردة تجرداً تاماً من أية عاطفة نحو الدين (50) ". ويقرر المؤرخ الإنجليزي فرود "أن إليزابث لم يكن لديها اقتناع عاطفي واضح .. وأنها، وهي كان إيمانها بصدق المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي ضعيفاً على حد سواء، كانت تنظر باحتقار موسوم بالتسامح إلى كل الأفكار والنظريات اللاهوتية (51) ". لقد دعت الله بأغلظ الأيمان التي أزعجت وزراءها. أن يدمرها إذا هي نقضت عهدها بالزواج من ألنسون، على حين أنها فيما بينها وبين نفسها سخرت من مزاعمه بطلب يدها (52). وصرحت الملكة لمبعوث أسباني بأن الفرق بين المذاهب المسيحية المتناحرة لم يكن سوى "شيء تافه"، ومن ثم استخلص أنها ملحدة (53).
وعلى الرغم من كل شيء، فإنها، مثل كل الحكومات تقريباً قبل 1789، اعتبرت كقضية مسلم بها، أن شيئاً من الدين وشيئاً من مصدر القوة الخارقة وشيئاً من الوازع الأخلاقي، كل أولئك أمور لا يمكن الاستغناء عنها من أجل النظام الاجتماعي والاستقرار في الدولة. ولفترة من الوقت، حتى دمت مركزها، بدا أنها تتردد، وتلاعبت على آمال زعماء الكاثوليك في احتمال أن يكسبوها في مذهبهم العام، لقد أحبت الطقوس الكاثوليكية وعزوبة رجال الدين الكاثوليك، ودراما القداس، ولربما كان من المحتمل أن تعقد أواصر السلام مع الكنيسة، لولا أن هذا كان يحمل في طياته الخضوع للبابا. وارتابت في الكاثوليكية على أنها قوة أجنبية يمكن أن تؤدي بالإنجليز إلى وضع إخلاصهم للكنيسة فوق ولائهم للملكة. ولقد ترعرعت في أحضان بروتستانتية والداها، وهي تعني الكاثوليكية بغير البابوية، وهذا، أساساً، هو ما عقدت العزم على إقراره من جديد في إنجلترا. وراودها الأمل في أن تهدئ الطقوس شبه الكاثوليكية في كنيستها الإنجليزية من روع الكاثوليك في الريف، على حين نبذ البابوية البروتستانت في المدن، وتشكل(28/23)
الرقابة الحكومية على التعليم الجيل وفق هذه التسوية التي دبرتها إليزابث، فيهدأ هذا الصراع الديني الذي يمزق البلاد، ويستتب السلام. إنها اتخذت من ترددها في موضوع الدين، مثل ترددها في أمر الزواج، وسيلة لخدمة أغراضها السياسية، وأبقت على أعدائها الأقوياء مذهولين ممزقين حتى أصبح في مقدورها أن تواجههم بحقيقة بارعة كاملة.
وحرضتها قوى كثيرة على استكمال الإصلاح الديني. وكتب إليها المصلحون الدينيون في أنحاء القارة شاكرين لها سلفاً إعادة العبادة الجديدة. وأثرت فيها رسائلهم. وكان الذين استولوا على الأراضي التي كانت ملكاً للكنيسة من قبل، ويرجون تسوية بروتستانتية. وأغرى سيسل إليزابث بان تجعل من نفسها زعيمة لأوربا البروتستانتية في لندن مشاعرهم بتحطيم تمثال للقديس توماس وإلقائه في عرض الطريق. وكان أول برلمان في عهدها- 23 يناير- 8 مايو (1559) بروتستانتياً بأغلبية ساحقة، وتمت الموافقة على الاعتمادات التي طلبتها دون تحفظ أو إبطاء. ومن أجل توفيرها فرضت ضريبة على كل الأفراد، دينيين أو علمانيين. وصدر قانون التنسيق الجديد Act Of Uniformity (18 أبريل 1559) وبمقتضاه أصبح "كتاب كرامر للصلوات العامة"، بعد مراجعته، هو قانون الطقوس الإنجليزية، وحرم كل ما عداه من الطقوس الدينية، وألغي القداس، وطلب إلى كل الإنجليز حضور صلوات يوم الأحد في الكنيسة الأنجليكانية، أو دفع غرامة قدرها شلن لمعونة الفقراء. وفي 29 أبريل صدر "قانون السيادة" الجديد الذي نص على أن تكون إليزابث الحاكم الأعلى لإنجلترا في المسائل الروحية والزمنية على السواء. ووضع "قسم السيادة" يعترف بالسيادة الدينية للملكة، وكان من المحتم أن يؤدي هذا القسم كل رجال الدين والمحامين والمعلمين، والمتخرجين في الجامعات والحكام والقضاة وكل موظفي الكنيسة والتاج، وعهد إلى محكمة كنسية ذات سلطة عليا، تختار الحكومة أعضاءها، بإجراء التعيينات الكبرى في الكنيسة واتخاذ القرارات الكنسية. وأي دفاع عن سلطة البابا على إنجلترا كان عقابه السجن مدى الحياة لأول مخالفة والموت للثانية (1563). ولم تأت سنة 1590 حتى كانت(28/24)
كل الكنائس الإنجليزية بروتستانتية.
وزعمت إليزابث أنها لم تضطهد حرية الرأي، فقالت أن لكل إنسان أن يتمتع بحرية الفكر وحرية العقيدة كما يشاء، شريطة أن يطيع القانون؛ وان كل ما تتطلبه هو الانسجام الخارجي، حرصاً على وحدة الأمة. وأكد لها سيسل: "أن هذه الدولة لن تستشعر الأمان والاطمئنان، ما دام فيها تسامح نحو عقيدتين (54) "- ولو أن هذا لم يمنعها من طلب التسامح مع البروتستانت الفرنسيين في فرنسا الكاثوليكية (55). ولم يكن لديها اعتراض على الرياء المسالم، على ألا تكون حرية الرأي هي حرية الكلام. ومن ثم فأن الوعاظ الذين لم يشاركوها وجهات نظرها في أي موضوع هام كان مصيرهم أن تخرس ألسنتهم أو يطردوا (56). وحددت من جديد قوانين الهرطقة وطبقت. وحرم من حماية القانون طائفة الموحدين (الذين يقولون بالتوحيد لا التثليث) والقائلين بإعادة تعميد البالغين (57). وأعدم أثناء حكم الملكة خمسة من المهرطقين، وهذا رقم متواضع في ذاك الزمان.
وحدد مجمع من رجال اللاهوت في 1563 المذهب الجديد. واتفق رأي الجميع على "القضاء والقدر"، فان الله بمحض مشيئته، قبل خلق الدنيا، ودون اعتبار لمزايا الإنسان أو مثالبه، كان قد اصطفى أفراد ليكونوا من الصفوة التي كتب لها الخلاص، على حين ترك بقية البشر من الهالكين الملعونين. وتقبلوا فكرة لوثر عن الخلاص بالإيمان بنعمة الله، ودم المسيح المخلص، على أنهم فسروا "القربان المقدس" بالمعنى الذي ذهب إليه كلفن، أي أنه اتصال روحي أكثر منه مادي بالمسيح. وبمقتضى قرار من البرلمان (1566) انتظمت المواد التسع، والثلاثون العقيدة الجديدة، وأصبحت إجبارية على كل رجال الدين في إنجلترا، ولا تزال تعبر عن المذهب الأنجليكاني الرسمي.
وكذلك كانت الطقوس الجديدة حلاً وسطاً. فألغي القداس، ولكن مما أزعج البيوريتانز أن صدرت التعليمات إلى رجال الدين بارتداء الملابس الكهنوتية البيضاء عند تلاوة الصلوات وعند تقديم القربان المقدس. وكان يجب تناول القربان ركوعاً- في شكلي الخبز والنبيذ. واستبدل بالتوسل بالقديسين الاحتفال سنوياً بذكرى أبطال(28/25)
البروتستانتية، واستبقى تثبيت العماد ورسامة الكهنة على أنهما طقوس مقدسة، ولكن لا يعتبران من الأسرار المقدسة التي عينها السيد المسيح، وشجع الاعتراف للكاهن في حالة دنو الأجل فقط. واحتفظ كثير من الصلوات بصيغته الكاثوليكية الرومانية، ولكنها اكتست بالرداء الإنجليزي، وأصبحت جزءاً بارزاً عظيماً من آداب الأمة. ولمدة أربعمائة سنة، نفخت هذه الصلوات والتراتيل التي تتلوها الفرق أو الكاهن في الكاتدرائيات الفسيحة الفخمة، أو في كنيسة الأبرشية البسيطة- نقول نفخت في روح الأسرات الإنجليزية وحياتها، وزودتها بالسلوى والتهذيب الخلقي والهدوء العقلي.
6 - إليزابث والكاثوليك
والآن جاء دور الكاثوليك ليعانوا من الاضطهاد. فقد كان محرماً عليهم-ولو انهم كانوا لا يزالون يشكلون الأغلبية-أن يقيموا الصلوات الكاثوليكية، أو يكون لهم أدب كاثوليكي. وحطمت الصور المقدسة في الكنائس بأمر الحكومة، كما أزيلت المذابح. وأرسل ستة من طلبة أكسفورد إلى "البرج" لمقاومتهم إزالة صليب يمثل صلب المسيح من كنيسة كليتهم (58)، وخضع معظم الكاثوليك للتعليمات الجديدة في حزن وأسى، ولكن عدداً كبيراً منهم آثر دفع الغرامة على حضور الطقوس الأنجليكانية. وجمع المجلس الملكي نحو خمسين ألفاً من هؤلاء "العصاة المتمردين" في إنجلترا (1580) (59). وشكا الأساقفة الأنجليكانيون إلى الحكومة من أن القداس كان يقام في بيوت خاصة، وأن الكاثوليكية بدأت تكون عبادة عامة، وأنه كان من الخطر في بعض الجهات المتحمسة أن يكون المرء بروتستانتياً (60). ووبخت إليزابث رئيس الأساقفة باركر على ترخيه (1565)، ومن ثم طبقت القوانين بشكل أشد صرامة. وأودع السجن الكاثوليك الذين حضروا القداس في كنيسة سفير أسبانيا، وفتشت البيوت في لندن-وأمر الأجانب الذين وجدوا فيها بالإدلاء ببيان عن ديانتهم، وطلب إلى الحكام أن يعاقبوا كل من يوجد في حوزته كتب المذهب الروماني الكاثوليكي (1567) (61).(28/26)
ويجدر بنا ألا نحكم على هذا التشريع على أساس التسامح الديني النسبي الذي أكسبنا إياه الفلاسفة والثورات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان المعتقدات آنذاك كانت تحارب بعضها بعضاً، وكانت متشابكة بالسياسة، وفي هذا المجال كان التسامح محدوداً. فقد اتفقت كل الأحزاب والحكومات في القرن السادس عشر على أن الانشقاق الديني كان شكلاً من التمرد السياسي. وأصبح الصراع الديني- عندما أصدر البابا بيوس الخامس- بعد إحساسه بأنه تأخر تأخيراً طويلاً مملاً- مرسوماً (1570)، لم يحرم إليزابث من الكنيسة فحسب، بل أحل رعاياها من الولاء لها كذلك، وحرم عليهم الامتثال لتنبيهاتها وأوامرها وقوانينها". ومنع انتشار المرسوم في أسبانيا وفرنسا اللتين كانتا تخطيان ود إنجلترا آنذاك، ولكن نسخة منه وضعت بطريقة سرية على باب مقر الأسقف البروتستانتي في لندن وسرعان ما كشف المجرم وأعدم، وعندما ووجه وزراء الملكة بهذا الإعلان للحرب، طلبوا إلى البرلمان سن قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك، وصدرت تشريعات تنص على أنه يعتبر من الجرائم التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام: قذف الملكة بأنها هرطقية أو منشقة أو مغتصبة، أو طاغية، أو إدخال مرسوم بابوي إلى إنجلترا، أو تحويل بروتستانتي إلى الكنيسة الرومانية (62). وفوضت المحكمة العليا في اختبار آراء أي فرد مشتبه فيه، وأن تعاقبه على أية مخالفة لأي قانون، لم يعاقب عليها من قبل، بما في ذلك الفسق أو الزنى (63).
ولم يجد ملوك أوربا الكاثوليك لديهم من الجرأة ما يحتجون به على هذه الإجراءات الظالمة التي شابهت إجراءاتهم إلى حد كبير، واستمر معظم كاثوليك إنجلترا على الخضوع في سلام، وأملت حكومة إليزابث في أن تؤدي العادة إلى القبول والرضا، ثم الإيمان في الوقت المناسب، ولكن حال دون هذا أن وليم ألن Allen المهاجر الإنجليزي أسس في دوي Douai ( مدينة في شمال فرنسا) ثم في الأراضي الوطيئة الأسبانية، كلية ومعهداً لتدريب المبعوثين الإنجليز الكاثوليك لإرسالهم إلى إنجلترا. وأفصح عن غرضه في حماسة قائلاً:
إن دراستنا في المقام الأول ... تقوم على أن نثير في عقول الكاثوليك الحماسة(28/27)
والازدراء المبني على حق بالهراطقة. وإنا لنفعل هذا بأن نضع أمام أعين الطلاب الجلال الفريد الذي تتميز به طقوس الكنيسة الكاثوليكية في المكان الذي نعيش فيه ... وفي نفس الوقت نعيد إلى الذاكرة النقيض المحزن الذي يحدث في وطننا، ألا وهو الدمار الشامل الذي حل بكل الأشياء المقدسة هناك ... وأصدقائنا وأقربائنا، وأعزائنا، إلى جانب الأرواح التي لا تحصى، ممن هلكوا في الانشقاق والكفر، وفي الأبراج المحصنة والسجون المكتظة عن آخرها، لا باللصوص والأشرار، بل بكهنة المسيح وخدامه، بل كذلك بآبائنا وأنسبائنا وعشيرتنا. ومن ثم فليس هناك شيء يجدر بنا ألا نكابده، أكثر من أن نتعهد بعلاج ما تعانيه أمتنا من علل (64).
وعملت الكلية في دوي حتى 1578، حين استولى الكلفنيون على المدينة، ثم في ريمس، ثم في دوي ثانية (1593). وأخرج إنجيل دوي-وهو ترجمة إنجليزية عن الأصل اللاتيني الذي وضعه جيروم-في ريمس ودوي (1582 - 1610) وكان معداً للنشر قبل طبعة الملك جيمس بسنة واحدة. وفيما بين عامي 1574 و1585 رسمت الكلية 275 كاهناً من المتخرجين فيها، وأرسلت 268 منهم للعمل في إنجلترا. واستدعى ألن إلى روما وعين كاردينالاً. ولكن العمل في الكلية استمر، وأرسلت 170 كاهناً آخر إلى إنجلترا قبل وفاة إليزابث (1603)، ومن مجموع هؤلاء المبعوثين (438) عوقب 98 بالإعدام ..
وانتقلت رياسة هذه الإرساليات إلى رجل من الجزويت، هو روبرت بارسونز Parsons، وهو رجل يتقد حماسة وجرأة وشجاعة، قوي الحجة شديد المراس في المناظر والجدل، بارع في النثر الإنجليزي. وأعلن بصراحة أن مرسوم خلع إليزابث يبرر قتلها. وصعق كثير من الكاثوليك الإنجليز لدى سماع هذا التصريح، ولكن تولوميو جالي، أحد مستشاري البابا جريجوري الثالث عشر السياسيين أبدى موافقته على هذه الفكرة (65) (1). وحرض بارسونز الدول الكاثوليكية على غزو
_________
(1) يضيف مؤرخ كاثوليكي إلى ذلك قوله: "إذا كان مستشار البابا أقر قتل إليزابث فان هذا القانون الذي كان نافذاً آنذاك. كما أن جريجوري أيضاً-ولا بد أن مستشاره كان قد عرض عليه الأمر قبل إرسال كتابه-وافق على هذه الفكرة (66).(28/28)
إنجلترا، ولكن السفير الأسباني في إنجلترا استنكر هذه الخطة على أنها "حماقة إجرامية"، وحرم إقرار مركوريان Everard Mercurian رئيس طائفة الجزوبث-على بارسونز التدخل في السياسة (67). ولم يرتدع، وعقد العزم على أن يغزو إنجلترا شخصياً. وتنكر في زي ضابط إنجليزي عائد من الخدمة في الأراضي الوطيئة. وهيأت له عصاه العسكرية وسترته الموشاة بالخيوط الذهبية وقبعته ذات الريش، الوصول إلى موظفي الحدود (1580)، بل انه كذلك مهد الطريق لرجل آخر من الجزوبت، ادموند كامبيون، ليتبعه في زي تاجر مجوهرات، وأقاما سراً في قلب لندن.
وزار الرجلان الكاثوليك المسجونين، ووجدا أهم يعاملون معاملة حسنة. وقد جندا معاونين علمانيين وروحانيين، وشرعا في العمل، يحثان ويشجعان الكاثوليك على أن يبقوا مخلصين للكنيسة، ويردان البروتستانت الحديثين إلى مذهبهم الأول. ولكن القساوسة المدنيين المختفين في إنجلترا، الذين روعتهم جرأة الرجلين، أنذروهما بأنهما لا بد أن يكشف أمرهما ويقبض عليهم سريعاً، وان اكتشافهما سوف يسيء أكثر إلى الكاثوليك، وتوسلوا إليهما أن يعودا إلى القارة. ولكن بارسونز وكامبيون تمسكا بموقفهما. وانتقلا من بلد إلى بلد، يعقدان الاجتماعات سراً ويسمعان الاعترافات، ويقيما القداس، ويمنحان البركات للمصلين الهامسين الذين نظرا إليهما على أنهما رسولان من عند الله. وقيل إنهما في بحر سنة من قدومهما حولا عشرين ألف مرتد (68)، وانشأ مطبعة ونشرا الدعاية، ولقد وجدت في شوارع لندن نشرات جاء فيها أنه ما دامت إليزابث قد حرمت من الكنيسة، فإنها لم تعد الملكة الشرعية لإنجلترا (69). وأرسل رجل جزويتي ثالث إلى أدنبرة ليحرض الاسكتلنديين الكاثوليك على غزو إنجلترا من الشمال. ولبى ارل وستمورلاند نداء من الفاتيكان، وأحضر معه من روما إلى الفلاندرز مجموعة من السبائك الذهبية لتمويل الغزو من الأراضي الوطيئة. وفي صيف 1581 اعتقد كثير من الكاثوليك أن قوات دوق ألفا الأسبانية سوف تعبر البحر إلى إنجلترا (70).
وتلقت الحكومة الإنجليزية تحذيرات من جواسيسها، فضاعفت جهودها للقبض(28/29)
على الجزويت. أما بارسونز فقد شق طريقه عبر القنال الإنجليزي، ولكن قبض على كامبيون في يوليه 1581. ونقل إلى "برج لندن" عبر القرى المتعاطفة ولندن المعادية. وأرسلت إليزابث في طلبه وحاولت إنقاذه. وسألته: هل يعتبرها عاهله الشرعي؟ فرد بالإيجاب. وكان سؤالها الثاني هل يستطيع البابا قانوناً أن يحرمها من الكنيسة؟ فأجاب بأنه لا يستطيع أن يبت في مسألة اختلف عليها أولو العلم. فأعادته إلى البرج، مع توجيهات بحسن معاملته، ولكن سيسل أصدر أوامره بتعذيبه حتى يعترف بأسماء رفاقه المتآمرين. وبعد يومين من الكرب والألم المبرح استسلم وأدلى ببضعة أسماء، فألقى القبض على عدد آخر من الأفراد. فلما استعاد جرأته تحدى رجال الدين البروتستانت أن يشهدوا معه حواراً عاماً. وعقد الحوار في كنيسة برج لندن، بإذن من مجلس شورى الملكة، وسمح لرجال البلاط والمسجونين والجمهور بحضوره، ووقف الجزويتي على ساقيه الواهنتين عدة ساعات يدافع عن المذهب الكاثوليكي. ولم يقنع أحد الطرفين الآخر. ولكن عندما قدم كامبيون إلى المحاكمة لم يتهم بالزندقة، بل وجهت إليه تهمة التآمر على قلب الحكومة عن طريق التخريب الداخلي والغزو الخارجي. وأدين كامبيون وأربعة عشر شخصاً معه، وشنقوا في أول ديسمبر 1581.
إن أولئك الكاثوليك الذين تنبأوا بأن بعثة الجزويت سوف تغضب الحكومة وتؤدي بها إلى مزيد من الاضطهاد، اثبتوا أنهم كانوا على حق. وأصدرت إليزابث نداء إلى رعاياها، ليفصلوا بينها وبين أولئك الذين ابتغوا سبيلاً إلى عرشها أو حيائها واصدر البرلمان (1581) قانوناً ينص على أن الارتداد إلى الكاثوليكية سوف يعاقب بتهمة الخيانة العظمى، وأن أي قسيس يقيم قداساً يعاقب بغرامة قدرها مائتا مارك مع السجن لمدة عام، وأن من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يعاقب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر (71)، وهذا يكفي لإفلاس الناس اللهم إلا أثرياء الكاثوليك. وكان العجز عن دفع الغرامة يستتبع الاعتقال ومصادرة الأملاك. وسرعان ما امتلأت السجون بالكاثوليك إلى حد أن القلاع القديمة استعملت بمثابة سجون (72). وساد التوتر كل الجوانب، وزاد من حدته ما كان مرتقباً من إعدام ماري ستيوارت،(28/30)
والصراع المتزايد مع أسبانيا وروما. وفي يونية 1583 قدم أحد سفراء البابا إلى جريجوري الثالث عشر خطة تفصيلية لغزو إنجلترا بثلاثة جيوش في وقت واحد، من إيرلندا وفرنسا وأسبانيا، وأبدى البابا تقديره وتأييده لمشروع غزو إنجلترا، واتخذت الإجراءات اللازمة له (73). ولكن الجواسيس الإنجليز تنسموا أخبار هذه التدابير، واتخذت إنجلترا ترتيبات مضادة، وأجل الغزو.
وثأر البرلمان بمزيد من تشريعات القمع. فكل القساوسة الذين رسموا منذ يونية 1559 وظلوا على امتناعهم عن أداء "قسم السيادة"، طلب إليهم أن يغادروا البلاد في بحر أربعين يوماً، وإلا أعدموا بتهمة التآمر الموسوم بالخيانة العظمى، وشنق كل من آووهم أو أخفوهم (70). وبمقتضى هذا القانون وغيره من القوانين أعدم في عهد إليزابث 123 قسيساً و60 من العلمانيين، وربما قضى مائتان آخرون نحبهم في السجن (75). واحتج بعض البروتستانت على قساوة هذا التشريع، وارتد بعضهم إلى الكاثوليكية. وفر وليم، حفيد سيسل إلى روما (1585) واقسم يمين الطاعة للبابا (76).
وكان معظم الكاثوليك الإنجليز يعارضون أي إجراء عنيف ضد الحكومة. وفي 1585 وجهت زمرة منهم إلى الملكة إليزابث نداء أكدوا فيه ولاءهم، والتمسوا "النظر بعين العطف والرحمة إلى ما يعانون من شقاء". ولكن- وكأنما كان يؤيد ما زعمته الحكومة من أن إجراءاتها إنما تبررها الحرب- أصدر الكاردينال ألن (1588) منشوراً قصد به شحذ همم الإنجليز الكاثوليك لمساندة هجوم أسبانيا الوشيك على إنجلترا. ودمغ الملكة بأنها "ابنة زنى حمل بها وولدت في الخطيئة لأم سيئة السمعة من محظيات البلاط" واتهمها "بأنها باعت جسدها ولوثته مع ليستر وكثيرين غيره، ... مما يندى الجبين لذكره، وبما لا يصدق من ألوان الشهوة والفسق"، وأهاب بالكاثوليك في إنجلترا أن يهبوا في وجه هذه الهرطقية الفاسقة اللعينة المحرومة من الكنيسة"، "ووعد بأكبر التسامح والغفران كل من يعاون في خلع "رأس الخطيئة والمقت في هذا العصر (77) " فما كان جواب الكاثوليك في إنجلترا ألا أن قاتلوا بمثل البسالة التي قاتل بها البروتستانت ضد الأسطول الأسباني" "الأرمادا".(28/31)
واستمر الاضطهاد بعد هذا الانتصار، كجزء من الحرب المستمرة، وشنق 61 قسيساً و49 علمانياً فيما بين عامي 1588 - 1603. واقتلع كثير من هؤلاء من المشنقة وسحبوا ونزعت أحشاؤهم وقطعوا إرباً- وهم أحياء (78). وفي خطاب شهير قدم إلى الملكة في عام وفاتها، التمس 13 قسيساً الترخيص لهم بالبقاء في إنجلترا. وتبرءوا من كل عدوان على حقها، وأنكروا أي سلطان للبابا في خلعها، ولكنهم لم يستطيعوا، في ضمائرهم، أن يعترفوا بغير البابا على رأس الكنيسة المسيحية (79). ووصلت هذه الوثيقة إلى الملكة قبل وفاتها بأيام قلائل، ولم يرد ذكر شيء عن نتيجتها، ولكنها، عن غير عمد، ولمدة قرنين من الزمان، رسمت المبادئ التي يمكن على أساسها حل المشكلة. ووافى الملكة أجلها منتصرة في أعظم صراع شهده عهد لم يلطخ بشيء أسوأ من هذا الانتصار.
7 - إليزابث والبيوريتانيون (المتطهرون)
لم تنتصر إليزابث على العدو الذي كان من الواضح أنه أشد ضعفاً، وهم حفنة من البيوريتان. وكانوا رجالاً أحسوا تأثير كلفن، وكان بعضهم قد زار جنيف في أيامه بوصفهم لاجئين مريميين، وقرأ كثيرون الإنجيل الذي ترجمه وزوده بالملاحظات والتعليقات جماعة من أتباع كلفن بجنيف، وكان بعضهم قد سمع أو قرأ عن نفخات بوق جون نوكس (واعظ ومصلح ديني بروتستانتي اسكتلندي في القرن 16)، وربما كان بعضهم قد سمع أصداء حركة ويكلف وأتباعه "القساوسة الفقراء". وقد اتخذوا من الإنجيل دليلاً لا يخطئ، فلم يجدوا فيه شيئاً عن السلطات الأسقفية والملابس الكهنوتية التي نقلتها إليزابث عن الكنيسة الرومانية إلى الكنيسة الأنجليكانية، بل إنهم على النقيض من ذلك وجدوا كثيراً عن المشايخ (الكهنة) الذين لم يكن لهم سيد أو ملك غير المسيح، واقروا بأن إليزابث رأس الكنيسة في إنجلترا، لا لشيء إلا لغل يد البابا، ولكنهم في أعماق قلوبهم، رفضوا أية رقابة من الدولة على الكنيسة، وتمنوا أن تكون لديانتهم الرقابة على الدولة. وبدئ حوالي 1564 بتسميتهم "البيوريتانز" (المتطهرون) وهو لفظ أسيء استخدامه، لأنهم طالبوا بتطهير المذهب البروتستانتي الإنجليزي من كل الطقوس والعبادات غير الواردة(28/32)
في العهد الجديد- الإنجيل. واستمسكوا كل الاستمساك بنظريات القضاء والقدر، والاصطفاء، واللعنة الأبدية، وأحسوا أنه لا مهرب من الجحيم إلا بإخضاع كل ناحية من نواحي الحياة للدين والأخلاق. وكلما قرءوا الإنجيل في أيام الأحد المقدسة المهيبة في بيوتهم، كاد أن يتوارى شكل المسيح أمام الرب الحقود المحب للانتقام "يهوه" الوارد ذكره في التوراة (إشارة إلى تشددهم وقسوتهم).
وبدأت حملة البيوريتانز على إليزابث في الظهور (1569) عندما ألحت محاضرات توماس كارتريت أستاذ اللاهوت في كمبردج، على أوجه التناقض بين نظام المشيخية في الكنيسة المسيحية القديمة والكيان الأسقفي في الكنيسة الرسمية الأنجليكانية. وأيد كثيرون في الكلية كارتريت، ولكن جون وتجفت Whitgift رئيس كلية ترنتي، أبلغ الملكة بما كان من أمر كارتريت ووشى به لديها، وحصل على موافقتها، على فصله من هيئة التدريس (1570). وهاجر كارتريت إلى جنيف حيث نهل-تحت رياسة تيودور دي بيز De Beze- أصول التيوقراطية الكلفنية في أقوى صورها. ولدى عودته إلى إنجلترا، أسهم مع والتر ترافرس وآخرين في صياغة فكرة البيوريتانز عن الكنيسة. ومن رأيهم أن السيد المسيح كان قد استن أن يعهد بالسلطة الكنسية إلى الكهنة وكبار السن من العلمانيين، كل أولئك تنتخبهم كل أبرشية ومديرية ودولة. وتقرر الهيئة المشكلة على هذا النحو، المذهب والطقوس والقانون الأخلاقي، بما يتسق مع ما جاء في الكتاب لمقدس. وكان ينبغي أن يكون لهم حق الدخول إلى كل بيت، والسلطة التي يفرضون بها الالتزام "بالحياة الربانية أو بأوامر الرب ونواهيه"، ومن حيث المظهر الخارجي على الأقل، كما يكون لهم الحق في حرمان المتمردين من الكنيسة، والحكم بإعدام الهراطقة. وكان على القضاة المدنيين أن ينفذوا هذه المراسيم التنظيمية، على ألا يكون أي سلطان قضائي روحي بأي شكل من الأشكال (80).
وأسست أول أبرشية إنجليزية على هذه المبادئ في واند زورث Wandswirth في 1572، وقامت كنائس (مشيخيات) مماثلة في المقاطعات الشرقية والوسطى. وفي هذا الوقت كانت أغلبية البروتستانت في لندن وفي مجلس العموم من البيوريتانز.(28/33)
واستحسن الحرفيون في لندن، الذين تسربت إليهم بقوة مبادئ كلفن، عن طريق اللاجئين الكلفنيين من فرنسا والأراضي الواطئة- نقول استحسن هؤلاء الحرفيون، هجوم البيوريتانز على النظام الأسقفي وعلى الطقوس. ونظر رجال الأعمال في العاصمة إلى البيوريتانية على إنها حصن منيع للبروتستانتية ضد الكاثوليكية التي لا تنظر بعين الرضا بصفة تقليدية إلى "الربا" وإلى الطبقة المتوسطة. وكان كلفن "صارماً" بعض الشيء في نظرهم ولكنه كان قد أقر "الفائدة" واعترف بمزايا الصناعة والادخار، وحتى المقربون إلى الملكة وجدوا بعض الخير لهم في البيوريتانية، بل أن سيسل ولستر، وولسنجهام ونولليس راودهم الأمل في أن يستخدموها سيفاً يشهرونه في وجه الكنيسة الكاثوليكية إذا وصلت ماري ستيوارت إلى عرش إنجلترا (81).
ولكن إليزابث أحست بان الحركة البيوريتانية تهدد كل التسوية التي دبرتها لتهدئة الصراع الديني، وارتأت أن الكلفنية شبيهة بنظرية جون نوكس الذي لم تغفر له الملكة قط احتقاره لحكم النساء. واحتقرت النظريات البيوريتانية المتشددة من كل قلبها، وربما إلى حد أكبر من كراهيتها للكاثوليكية، وكان لها ولع قديم بصورة المسيح المصلوب، وغيرها من الصور الدينية، وعندما دمرت الثورة ضد الصور المقدسة اللوحات والتماثيل والزجاج الملون في أوائل حكمها (82)، قدمت التعويضات إلى ضحايا الثورة، وحظرت اقتراف مثل هذا العمل في المستقبل (83). ولم تكن تهتم بالتفاصيل الدقيقة في كلامها، ولكنها استاءت من الوصف الذي نعت به أحد البيوريتانيين "كتاب الصلوات بأنه نفاية مأخوذة من الأقذار البابوية: كتاب القداس"، وما نعت به محكمة اللجنة العليا من أنها "خندق بغيض صغير (84) ". كما رأت الملكة في الانتخاب العام للكهنة وفي الحكومة الكنسية عن طريق المشايخ والمجالس الكنسية المستقلة عن الحكومة، شيئاً من النظام الجمهوري الذي يهدد الملكية. ورأت أن سلطتها فحسب هي التي يمكن أن تبقي على البروتستانتية في إنجلترا، أما الاقتراع فيؤدي إلى عودة الكاثوليكية.
وشجعت الأساقفة على التنكيل بمثيري الفتنة، فأوقف رئيس الأساقفة باركر مطبوعاتهم، وأخرس ألسنتهم في الكنائس، ومنع اجتماعاتهم. وكان رجال الدين(28/34)
البيوريتانز ينظمون اجتماعات للمناقشة العامة في نصوص الكتب المقدسة، فأصدرت إليزابث أمرها إلى باركر بوضع حد لهذه "المواعظ" ففعل. وحاول خلفه أدموند جرندال أن يحمي البيوريتانز، ولكن إليزابث أوقفته عن العمل. ولما مات (1583) عينت في منصب رئيس أساقفة كنتربري، قسيسها الجديد، جون وتجفت Whitgift الذي نذر نفسه لإخراس ألسنة البيوريتانز. وطلب إلى جميع رجال الدين الإنجليز أن يؤدوا قسماً بقبول "المواد التسع والثلاثين"، وكتاب الصلوات، والسيادة الدينية للملكة، واستدعى كل المعارضين للمثول أمام محكمة اللجنة العليا، وهنا تعرضوا لتحقيق تفصيلي ملح عن سلوكهم ومعتقداتهم، إلى حد أن سيسل وازن بين هذا الإجراء وبين محاكم التفتيش (85).
وازدادت حدة الثورة البيوريتانية، وانشقت أليه ذات عزم أكيد عن حظيرة الكنيسة الأنجليكانية، وعقدت مجامع مستقلة لانتخاب الكهنة الخاصين بها، ولم تعترف بأية رقابة أو سيادة أسقفية. وفي 1581 أقلع إلى هولندة روبرت براون-وكان تلميذ كارتريت (ثم أصبح عدواً له فيما بعد)، وأول لسان ناطق باسم هؤلاء "المستقلين" أو "الانفصاليين" أو "الأبرشانيين" (الذين يقولون بالاستقلال الذاتي لكل أبرشية)، وهناك نشر كراستين صاغ فيهما دستوراً ديموقراطياً للمسيحية نص فيه على أنه يجب أن يكون لأية جماعة مسيحية الحق في أن تنظم عبادتها، وتشكل عقيدتها على أساس الكتاب المقدس، وتختار رؤساءها وقادتها وتحيا حياتها الدينية متحررة من أي تدخل أجنبي، ولا تعترف إلا بحكم الكتاب المقدس، وسلطان المسيح، وقبض في إنجلترا على أثنين من أتباع براون واتهما بالطعن في السيادة الدينية للملكة، وشنقا (1583).
وفي الحملات الانتخابية لبرلمان 1586 شن البيوريتانز حرباً خطابية على كل مرشح غير متعاطف مع مبادئهم. ودمغ مثل هذا الشخص بأنه "مقامر، مدمن على الخمر، كما وصم آخر بأنه "أقرب إلى البابوية أو الكثلكة، قلما يأتي إلى كنيسته وانه داعر خليل للبغايا "وتلك كانت أيام الكلام القوي الحاسم. وعندما اجتمع البرلمان قدم جون بنيري التماساً لإصلاح الكنيسة، واتهم الأساقفة بالمسئولية عن مفاسد رجال(28/35)
الدين وعن الوثنية الشائعة. وأمر وتجفت باعتقاله، ولكن سرعان نا أفرج عنه. وتقدم أنطوني كوب Cobe بمشروع قانون بإلغاء الكنيسة الرسمية الأسقفية برمتها وإعادة تنظيم المسيحية الإنجليزية على أساس الخطة المشيخية (على أساس الانتخاب). وأصدرت إليزابث أمرها إلى البرلمان بعدم عرض مشروع القانون هذا للمناقشة. وأثار بيتر ونتورث موضوع الحرية البرلمانية، وأيده أربعة آخرون من الأعضاء. فما كان إليزابث إلا أن زجت بالخمسة جميعاً في السجن في برج لندن.
ولما خاب فأل البيوريتانز في البرلمان، انصرف بنري وآخرون إلى المنشورات، وتخلصا من رقابة وتجفت الشديدة على المطبوعات، وأغرقوا إنجلترا (1588 - 1589)، بوابل من الكراسات المطبوعة سراً، وكلها ممهورة بتوقيع " Martin Marprelate Gentleman" هاجموا فيها سلطة الأساقفة وخلقهم الشخصي في نقد لاذع بذيء ممتلئ بالسباب. وبث وتجفت واللجنة العليا كل أجهزة التجسس للكشف عن المؤلفين والطابعين. ولكن هؤلاء كانوا ينتقلون من بلا إلى آخر، وساعدهم تعاطف الجمهور معهم على الإفلات من أيدي الجواسيس حتى أبريل 1589. واستخدم الكتاب المحترفون-مثل جون ليلي، وتوماس ناش-في الرد على مارتن (صاحب التوقيع) ونافسوه أيما منافسة في البذاءة. وأخيراً، وعندما نفدت لغة السوقة، خفت حدة الشتائم والتراشيق، ورثى الرجال المعتدلون لامتهان المسيحية على هذا النحو والانحدار بها إلى فن للمهاقرة والقدح.
وآلمت هذه النشرات الملكة أشد الإيلام فأطلقت يد وتجفت في كبح جماح البيوريتانز. ولقد عثر على من تولوا طبع Marprelate، وزاد عدد المقبوض عليهم، وتلا ذلك تنفيذ الإعدام، وصدر الحكم بإعدام كرتريت، ولكن الملكة أصدرت عفواً عنه. وفي 1593 شنق اثنان من زعماء "حركة براون"، هما جون جرينلند وهنري بارو، وسرعان ما لحق بهما جون بنري. وأصدر البرلمان (1593) قانوناً ينص على أن كل من يعترض على السيادة الدينية للملكة، أو يتغيب عمداً عن الصلوات في الكنيسة الأنجليكانية، أو يشهد "اجتماعات أو صلوات سرية غير مشروعة أو لقاءات تحت ستار ممارسة العقيدة أو ادعاء لممارستها" يعاقب بالسجن-(28/36)
فإذا لم يتعهد بالتزام العقيدة الرسمية، عليه أن يغادر إنجلترا دون رجعة، وإلا كان جزاءه الموت (86).
وعند هذا الحد، وسط هذا العنف البالغ والاضطراب الشديد، ارتفع قس متواضع بموضع النزاع إلى مستوى الفلسفة والتقوى والنثر الرائع. وكان ريتشارد أحد أثنين من رجال الدين عهد إليهما بإقامة الصلوات في معبد لندن، أما الثاني فهو والتر ترافرس؛ صديق كارتريت. وفي موعظة الصباح دافع هوكر عن سيادة إليزابث الدينية، وفي المساء انتقد ترافرس حكومة الكنيسة من وجهة نظر البيوريتانز، ووسع كل منهما عظته حتى صارت كتاباً. ولما كان هوكر يكتب أدباً كما يكتب اللاهوت، فقد توسل إلى أسقفه أن ينقله إلى بيت ريفي هادئ. ومن ثم فإنه في بسكوم Boscombe ولتشير أكمل الأجزاء الأربعة الأولى من مؤلفاته "قوانين الدولة الكنسية" (1594)، وبعد ذلك بثلاثة أعوام، في Bishopsbourne أرسل الكتاب الخامس إلى المطبعة، وهناك في سنة 1600 قضى نحبه، وهو في سن السابعة والأربعين.
ولقد أدهشت إنجلترا "قوانينه" بالوقار الهادئ غير المتحيز الذي اتسمت به مناقشته وحججه، والعظمة الرنانة التي تميز بها أسلوب كتبه الذي كاد أن يكون لاتينياً. وامتدحه الأسقف ألن بأنه خير كتاب أخرجته إنجلترا. وأثنى عليه البابا كليمنت الثامن لفصاحته وغزارة علمه. وقرأته إليزابث شاكرة ممتنة على أنه دفاع مجيد عن حكومتها الدينية. وسكن روع البيوريتانز لما رأوا من الوضوح المهذب في لهجته. وتلقته الأجيال بوصفه مجاملة نبيلة للتوفيق بين الدين والعقل، وأدهش هوكر معاصريه بتسليمه بأن البابا نفسه يمكن تخليصه. وأذهل هوكر رجال اللاهوت بتصريحه بأن "توكيد ما نؤمن به بكلمة الرب ليس مقنعاً لنا قدر الاقتناع بما ندركه بالعقل (87) " وأن موهبة التعليل والتعقل، إن هي إلا هبة وإلهام من عند الله.
بنى هوكر نظريته في "القانون" على فلسفة العصور الوسطى التي صاغها توماس الأكويني، وسبق نظرية "العقد الاجتماعي" التي جاء بها هويز ولوك. وبعد أن أبرز ضرورة التنظيم الاجتماعي ونعمته، جادل في أن الاشتراك الاختياري(28/37)
في مجتمع يتضمن قبول الحكم بقوانينه، ولكن المنبع الأساسي للقوانين هو الجماعة نفسها. وقد يصدر الملك أو البرلمان القوانين بوصفه مفوضاً أو ممثلاً للجماعة فحسب. "إن القانون يصنع الملك، وان أية منحة أو منة من الملك تتعارض نع القانون عقيمة لا قيمة لها .... ومن أجل الرضا السلمي من جانب الطرفين، تبدو موافقة المحكومين ضرورية ... وليست القوانين هي تلك التي لم يجعل منها الاستحسان العام قوانين (88) ". وأضاف هوكر نبذة ربما أزعجت شارل الأول:
إن برلمان إنجلترا، مع المجمع الكنسي الذي انضم إليه، هو الأساس الذي تعتمد عليه كل حكومة في هذه المملكة. بل انه جسم المملكة بأسرها، انه ينتظم الملك وكل رعاياه على هذه الأرض، لأنهم موجودون جميعاً هناك بأشخاصهم، أو انهم فوضوه مختارين (89).
وبدا الدين في نظر هوكر جزءاً لا يتجزأ من الدولة، لأن النظام الاجتماعي، ومن ثم الازدهار المادي نفسه، يعتمدان على التنظيم الأخلاقي الذي ينهار إذا لم يغرسه الدين ويدعمه. ولذلك ينبغي على كل دولة أن توفر التعليم الديني لشعبها. وقد يشوب الكنيسة الأنجليكانية بعض الشوائب. ولكن هذا هو ما ينتظر من أية نظم يقيمها بنو آدم أو يعملون بها. "إن هذا الذي يجوب الآفاق ليقنع الناس بأنهم ليسوا كما ينبغي أن يكونوا عليه، من أوضاع مرضية، لن يعوزه من ينصتون إليه ويتعاطفون معه، لأنهم يعرفون النقائص البشرية التي تتعرض لها حكومة أيا كان نوعها. أما العوائق والصعاب الخفية التي تحصى والتي لا يمكن تفاديها في مجريات الأمور العامة، فليس من المألوف أن يكون لأي الناس من التمييز والعقل ما يمكنهم من النظر إليها وتقديرها (90) ".
وكان منطق هوكر غير مباشر بدرجة كان معها غير مقنع كما كان علمه تقليدياً قديماً بحيث لم يواجه قضايا عصره، كما كان يلتزم الحذر والتحفظ إلى حد شكر معه النظام وامتدحه فلم يدرك اللهفة على الحرية. وأقر البيوريتانز بفصاحته، ولكنهم ساروا في طريقهم واضطروا إلى الخيار بين وطنهم وعقيدتهم، فهاجر كثير منهم، مؤلبين الحركة البروتستانتية في القارة على إنجلترا، ورحبت هولندة بهم وقامت(28/38)
المجامع الإنجليزية في مدلبرج وليدن وأمستردام، وهناك عمل المنفيون وذرياتهم بجد وعملوا ووعظوا وكتبوا، وبذلك مهدوا الطريق في شغف هادئ لانتصاراتهم في إنجلترا وتوفيقهم في أمريكا.
8 - إليزابث وإيرلندة
غزا الإنجليز إيرلندة بين عامي 1169 - 1171، ووضعوا أيديهم عليها منذ ذلك الوقت، على أساس أنها، بغير ذلك، سوف تستخدمها فرنسا وأسبانيا كقاعدة لشن الهجمات على إنجلترا. وعند اعتلاء العرش كان الحكم الإنجليزي المباشر في إيرلندة مقصوراً على الساحل الشرقي، حول دبلن وفي جنوبها " The Pale". أما باقي الجزيرة فكان يحكمه شيوخ القبائل الايرلنديون الذين اعترفوا لإنجلترا بالسيادة الاسمية فقط. وعوق الصراع الدائم مع الإنجليز الإدارة القبلية التي كانت قد جلبت لإيرلندة الفوضى والعنف، ولكنها كذلك هيأت لها الشعراء والعلماء والقديسين، وكانت الغابات والمستنقعات تغطي معظم الأرض، وكان النقل والمواصلات بمثابة مغامرات بطولية، وعاش السكان الأصليون الكلتيون وعددهم نحو 800. 000 نسمة، في بؤس على حافة الهمجية لا يكاد يسود فيهم قانون. وكاد الإنجليز في إقليم "البال" أن يكونوا على مثل هذه الحال من الفقر، وازدادت مشكلة إليزابث سوءاً بفسوقهم وإختلاساتهم وجرائمهم، ودأبوا على اغتصاب أموال حكومة لندن، مثل دأبهم على سلب الفلاحين الايرلنديين. وأثناء حكم إليزابث أخرج المستوطنون الإنجليز ملاك الأراضي والمستأجرين عن أراضيهم عن طريق "بيوع التصفية"، وناضل من انتزعت أملاكهم إلى حد ارتكاب جريمة القتل، وأصبحت حياة الغالبين والمغلوبين، على حد سواء، جحيماً لا يطاق من العنف والكراهية. وذهب سيسل نفسه إلى حد القول بأن "الفلمنكيين لم يكن لديهم ما يحملهم على الثورة على ظلم الأسبان، مثل ما كان لدى الايرلنديين للثورة ضد الحكم الإنجليزي (91) ".
وقامت سياسة إليزابث في إيرلندة على اقتناعها بأن أيرلندة الكاثوليكية سوف(28/39)
تكون خطراً يهدد إنجلترا البروتستانتية، فأمرت بفرض البروتستانتية فرضاً كاملاً في أنحاء الجزيرة. وحرم القداس، وأغلقت الأديرة وتوقفت الصلوات العامة خارج إقليم "البال" الضيق. وظل القساوسة مختفين عن الأنظار، وأدوا الأسرار المقدسة لقليل من الناس خفية. وكادت الأخلاق أن تختفي بعد الحرمان من الدين والسلام، وانتشر القتل والسرقة والزنى والاغتصاب والسلب، وغير الرجال زوجاتهم دون تذمر أو وخز من الضمير، واستصرخ الزعماء الايرلنديون البابا وملك أسبانيا لحمايتهم أو نجدتهم. وخشي فيليب الثاني أن يغزو إيرلندة حتى لا يغزو الإنجليز الأراضي الوطيئة ويساعدوا ثوارها، ولكنه أسس مراكز وكليات للاجئين الايرلنديين في أسبانيا. وبعث بيوس الرابع إلى إيرلندة بجزويتي أيرلندي (1560) هو دافيد ولف الذي جمع بين الشجاعة والإخلاص اللذين تميز بهما النظام الجزويتي. وأسس ولف بعثات سرية، واستقدم أفراد آخرين من الجزويت متنكرين واستعاد للكاثوليكية تقواها وآمالها، وتحمس شيوخ القبائل وثاروا، الواحد بعد الآخر، ضد الحكم الإنجليزي.
وكان أقوى الشيوخ هو شين (أي جن) أونل أوف تيرون. وكان رجلاً يمكن أن تتغنى به الأساطير ويقاتل الأيرلنديون من أجله. ولقد دافع بضراوة عن لقبه (أونل) ضد أخ مغتصب. وتجاهل كل "الوصايا" وعبد الكنيسة، وأحبط كل جهود الإنجليز لإخضاعه. وغامر برأسه ليزور لندن ويكسب التحالف مع إليزابث وتأييدها له، وعاد ظافراً ليحكم ألستر كما كان يحكم نيرون، واشتبك في حرب ضروس مع عشيرة "أودونل" المنافسة، وأخيراً هزم أمامها (1567)، عندما التجأ إلى آل مكدونال، وهم المهاجرون الاسكتلنديون الذين سبق له أن هاجم مستوطنتهم في أنتريم.
وكان تاريخ إيرلندة بعد موته عرضاً من الثورات والمذابح والمندوبين السامين (ممثلي الملك). وخدم سير هنري سدني (والد فيليب) إليزابث في هذا المنصب الجحود تسع سنين. واشترك في هزيمة أونل، وتعقب روري أو مور حتى الموت، واستدعي في 1578 لأن انتصاراته كانت باهظة التكاليف. وفي عامين من تولي(28/40)
والتر دفريه-وكان ارل اسكس من قبل-هذا المنصب، اشتهر اسمه بمذبحة في جزيرة راتلين بعيداً عن شاطئ انتريم. وكان الثوار هناك-وهم آل مكدونل السابق ذكرهم، وقد أبعدوا زوجاتهم وأطفالهم وشيوخهم ومرضاه، حرصاً على سلامتهم، مع حرس يحميهم. وأرسل اسكس قوة للاستياء على الجزيرة. وعرضت الحامية الاستسلام إذا سمح لها بالإبحار إلى إسكتلندة. ورفض هذا العرض، واستسلمت الحامية. فأعمل السيف فيهم وفي النساء والأطفال والشيوخ والمرضى. وكان عددهم نحو ستمائة شخص (1575) (92).
أما الثورة العظمى التي قامت في أثناء حكم الملكة في إيرلندة فهي ثورة عشيرة جيرالدين في مونستر Munster فان جيمس فتزموريس فتزجرالد وقد في الأسر وهرب مرات كثيرة، استطاع بعدها أن يعبر إلى القارة، حيث شكل فرقة من الأسبان والإيطاليين والبرتغاليين والفلمنكيين والإنجليز والكاثوليك المهاجرين، ونزل بهم على ساحل كري Kerry (1579) ، وكل الذي حدث أنه لقي حتفه في قتال طارئ نشب بينه وبين عشيرة أخرى. وقاد الثورة من بعده ابن عمه جيرالد فتزجيرالد-الارل الخامس عشر لدسموند Desmond، ولكن عشيرة بتلر المجاورة بزعامة ارل أورمند البروتستانتي انحازت إلى إنجلترا. ونظم الكاثوليك في إقليم البال جيشاً وهزموا قوات نائب الملكة الجديد، آرثر لورد جراي (1580). ولكنه بعد أن وصلته الإمدادات حاصر قوات دسموند الرئيسية براً وبحراً من نتؤ جبل خليج سمروك Smerwick. ولما وجد الثوار الباقون على قيد الحياة وعددهم نحو 600، أنهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم ضد مدفعية جراي، استسلموا والتمسوا العطف والرحمة، ولكن كان مصيرهم القتل، رجالاً ونساء، اللهم إلا بعض الضباط الذين يمكن أن يعدوا بدفع فدية كبيرة (93). وخربت مونستر الحرب بين الإنجليز والايرلنديين. وبين العشائر بعضها البعض، إلى درجة قال عنها كاتب حوليات أيرلندي: "لم يسمع خوار بقرة أو صوت رجل يحرث الأرض طوال هذه السنة من دنجل إلى صخرة كاشل". وكتب أحد الإنجليز (1582): "أودت المجاعة بحياة 30 ألفاً في مونستر في أقل من نصف عام، غير(28/41)
الذين شنقوا وقتلوا (94)، وكتب مؤرخ إنجليزي كبير "إن قتل أيرلندي من أهالي هذه المنطقة لم يكن ينظر إليه إلا على أنه قتل كلب مسعور (95) ". وكادت مونستر أن تخلى من الايرلنديين وقسمت إلى مستعمرات ومزارع للمستوطنين الإنجليز (1586)، ومنهم ادموند سبنسر الذي أكمل هناك رواية The Faerie Queen.
وثار الأيرلنديون اليائسون مرة أخرى في 1593، وانضمت قوات هيو أودونل إلى قوات هيو أونل ارل تيرون الثاني. ووعدت أسبانيا بالمساعدة، حيث كانت آنذاك في حرب مكشوفة مع إنجلترا. وفي فترة خلا فيها منصب نائب الملكة هزم اونل جيشاً إنجليزياً هزيمة نكرة في أرماغ، واستولى على بلاكووتر، وهو معقل إنجليزي في الشمال (1598)، وأرسل قوة تعمل على إشعال الثورة من جديد في مونستر، ولاذ المستعمرون الإنجليز بالفرار تاركين مزارعهم، وعم الأمل والفرح إيرلندة، بل إن الإنجليز توقعوا أن تسقط دبلن نفسها.
تلك هي الأزمة التي عينت فيها إليزابث الشاب روبرت ديفريه ارل اسكس الثاني نائباً للملكة في إيرلندة (مارس 1599). وزودته بجيش قوامه 17. 500 رجل، وهو أكبر جيش أرسلته إنجلترا إلى الجزيرة. وأمرته بمهاجمة أونل في تيرون، وألا يعقد صلحاً إلا بعد استشارتها، وألا يعود إلا بترخيص منها. وضيع ديفريه الوقت سدى أثناء الربيع، وقام بمناوشات قليلة، وفني جيشه بسبب الأمراض، ووقع مع أونل هدنة لم يكن لديه السلطة لإبرامها، وعاد إلى إنجلترا في سبتمبر 1599، ليفسر للملكة أسباب إخفاقه. وسرعان مل خلفه في منصبه شارل بلونت، لورد مونتجوي الذي واجه في بسالة وبراعة تكتل أونل الداهية مع أود ونل غير الهياب، وأسطولاً راسياً في كنسال Kinsale يحمل جنوداً وأسلحة من أسبانيا، وغفراناً من البابا كليمنت الثامن لكل من يدافع عن إيرلندة وعن العقيدة. وأسرع مونتجوي إلى الجنوب ليقابل الأسبان، فهزمهم في معركة فاصلة إلى حد أن أونل استسلم، وانهارت الثورة وصدر عفو عام أدى إلى سلام مزعزع (1603) وفي تلك الأثناء كانت إليزابث قد ماتت.
وانتقص سجل تاريخ إليزابث في إيرلندة من مجدها وعظمتها. لقد أساءت تقدير صعوبة الغزو في بلد تكاد تنعدم فيه الطرق، وسط شعب لا يربطه بالحياة(28/42)
وبالوقار إلا حبه لبلده ولعقيدته. وأنحت باللائمة على نوابها لإخفاقهم الذي كان من أسبابه تقتيرها هي، حيث عجزوا عن دفع رواتب الجند الذين وجدوا أنه من الأربح لهم أن يسلبوا الإيرلنديين من أن يحاربوهم. وتذبذبت بين المهادنة والإرهاب، ولم تلتزم قط سياسة واحدة إلى نقطة حاسمة. وأسست كلية ترنتي وجامعة دبلن (1591) ولكنها تركت الإيرلنديين أميين كما كانوا من قبل. وبعد إنفاق عشرة ملايين من الجنيهات، تمخض السلام الذي أمكن الوصول إليه عن بيداء قاحلة غطت نصف الجزيرة الجميلة، وعن روح كراهية لا توصف سادت الجزيرة بأسرها، تنتظر الفرصة الملائمة لتستأنف القتل والتخريب من جديد.
9 - إليزابث وإسبانيا
كانت الملكة في خير حال لدى تدبير الأمر مع أسبانيا، لقد مدت للملك فيليب حبل الأمل في أن تكون زوجاً له أو لابنه، وحبل الأمل في الظفر بإنجلترا مقابل خاتم العرس. وتذرع فيليب بالصبر حتى نفر منه أصدقاؤه وابتعدوا عنه، وقويت إليزابث، فلربما رجاه البابا والإمبراطور وملكة إسكتلندة المنكودة الطالع أن يغزو إنجلترا، ولكنه كان شديد الارتياب في فرنسا، وكان يلاقي أشد المتاعب في الأراضي الوطيئة، إلى حد لا يجرؤ معه على أن يوجه ضربة لا يمكن التبؤ بنتائجها في لعبة السياسة. ولم يكن يضمن ألا تنقض فرنسا على الأراضي الوطيئة الأسبانية في اللحظة التي يتورط فيها إنجلترا. وكان يتردد في تشجيع الثورة في أي بلد، أو على طريقته في التباطؤ الثقيل، وثق بأن إليزابث قد تجد في الوقت المناسب مخرجاً أو آخر من الخارج التي وهبتها إيانا الطبيعة الحاذقة في حياتنا، مع ذلك لم يتعجل تسليم عرش إنجلترا إلى فتاة اسكتلندية وقعت في غرام فرنسا. ومنع لعدة سنوات، البابا من إعلان قرار حرمان إليزابث من الكنيسة. واحتمل في صمت كئيب معاملتها للكاثوليك في إنجلترا، واحتجاجاتها على معاملة الإنجليز البروتستانت في أسبانيا، وحافظ، قرابة ثلاثين عاماً على السلام، بينما شن القراصنة الإنجليز، بأمر من الحكومة، الحرب على مستعمرات أسبانيا وتجارتها.(28/43)
إن طبيعة الإنسان لتكشف عن نفسها في سلوك الدول، لأن هذه الدول ليست إلا أشخاصاً في جملتها، وهي تتصرف على نفس النسق الذي يحتمل أن الإنسان كان يتصرف عليه قبل أن يفرض الدين والقوة أخلاقاً وقوانين. وإن الضمير ليسير وراء رجل الشرطة، ولكن لم يكن ثمة رجال شرطة من أجل الدول. ولم يكن ثمة "وصايا عشر" على البحار، وإنما قاما التجارة بإذن من القراصنة، واستخدمت مراكب القراصنة الصغيرة مداخل الشاطئ الإنجليزي مخابئ لها، ومنها انطلقت لتستولي على كل ما يمكن أن تستولي عليه-وإذا كان الضحايا من الأسبان كان للإنجليز أن ينعموا بالحماسة الدينية التي يجدونها في سلب ونهب رجل ينتمي إلى البابا. ودرب رجال جسورون من أمثال جون هوكنز وفرانسيس دريك عدداً كبيراً من القراصنة وكأن البحار ملك لهم. وتبرأت إليزابث منهم وأنكرتهم، ولكنها لم تعكر صفوهم أو تزعجهم، لأنها رأت في القراصنة نواة أسطول لها، وفي هؤلاء المغامرين أمراء البحر لها في المستقبل. وصار ثغر الهيجونوت "لاروشيل" مكاناً أثيراً للقاء بين قوارب الإنجليز والهولنديين والهيجونوت، "تنقض من على تجارة الكاثوليك أياً كان العلم الذي ترفعه (96) "، وعلى تجارة البروتستانت أيضاً، عند الحاجة.
ومن هذه القرصنة عبر هؤلاء المغامرون إلى تجارة الرقيق الرائجة التي كانت قد بدأها البرتغاليون قبل ذلك بقرن من الزمان. وكان المواطنون في المستعمرات الأسبانية في أمريكا يموتون تحت تأثير الكدح المضني الذي لا يتناسب مع بيئتهم أو مع المناخ الذي يعيشون فيه. واقتضى الأمر المطالبة بسلاسة من العمال أشد وأقوى. واقترح المدافع عن المواطنين. لاس كاساس، نفسه، على شارل الأول ملك أسبانيا أن زنوج أفريقية أقوى من هنود البحر الكاريبي، ويجب نقلهم إلى أمريكا لينهضوا بالعمل الشاق من أجل الأسبانيين هناك (97). ووافق شارل، ولكن فيليب استنكر هذه التجارة، وأمر الحكام الأسبان في أمريكا أن يمنعوا استيراد العبيد إلا بترخيص من الإدارة المحلية في أسبانيا (98) - وهذا أمر عسير وباهظ التكاليف. وقاد هوكنز وهم يعلم أن بعض الحكام الأسبان يراوغون في هذه القيود- ثلاث سفن إلى أفريقية (1562) وقبض على 300 من الزنوج، وأخذهم إلى جزر الهند الغربية، وباعهم(28/44)
إلى المستوطنين الأسبان، مقابل السكر والتوابل والعقاقير. ولما عاد إلى إنجلترا أغرى لورد بمبروك وآخرين غيره، بأن يسهموا بأموالهم في مغامرة ثانية، وحرض إليزابث على أن تضع سفينة من أحسن سفنها تحت تصرفه، وفي 1594 انطلق جنوباً بأربع سفن، وأمسك بأربعمائة من زوج أفريقية، وأبحر إلى جزر الهند الغربية، وباع العبيد إلى الأسبان، تحت تهديد بضربهم بمدافعه إذا هم رفضوا الشراء. وعاد إلى إنجلترا حيث رحبوا به بوصفه بطلاً، واقتسم الغنائم بينه وبين أنصاره وبين الملكة التي حصلت على 60% نظير استثماراتها (99). وفي 1567 أعارته سفينتها "يسوع". وأبحر بها مع أربع سفن أخرى إلى أفريقية، ووضع يده على كل ما أمكنه من العبيد، وباعهم في أمريكا الأسبانية بمائة وستين جنيهاً للواحد، وفي طريق عودته، ومعه غنيمة تقدر قيمتها بنحو مائة ألف جنيه، اعترضه أسطول أسباني بعيداً عن شاطئ المكسيك، عند سان جوان دي ألوا، ودمر أسطوله فيما عدا مركبين صغيرين عاد فيهما هوكنز إلى لإنجلترا صفر اليدين (1569)، بعد أن لاقى آلاف الأهوال والأخطار.
وكان ممن بقوا على قيد الحياة بعد هذه الرحلة، أحد أقرباء هوكنز الصغار، وهو فرنسيس دريك. ولما كان قد تربى على نفقة هوكنز، فقد قيل عنه إنه من سكان البحر. وفي سن الثانية والعشرين تولى إمرة سفينة في رحلة هوكنز الفاشلة. وفي سن الثالثة والعشرين، بعد أن فقد كل شيء إلا اشتهاره بالبسالة، أقسم أن ينتقم من الأسبان، وفي سن الخامسة والعشرين حصل من إليزابث على براءة بالقرصنة. وفي 1571، وهو في سن الثامنة والعشرين، أسر قافلة من السفن الأسبانية محملة بسبائك الفضة قرب شاطئ بنما، وعاد إلى إنجلترا منتقماً من أسبانيا، وأخفاه مستشارو إليزابث عن الأنظار لمدة ثلاث سنوات، عل حين كانت أسبانيا تطالب برأسه. ثم جهز له لستر وولسنهام وهاتون أربع سفن صغيرة يبلغ مجموع حمولتها 375 طناً، أبحر بها من بليموث في 15 نوفمبر 1577، فيما صار فيما بعد ثاني طواف حول الكرة الأرضية. ولما خرج أسطوله من مضايق ماجلان إلى المحيط الهادي واجهته عاصفة هوجاء، أطاحت بالسفن بعيداً بعضها عن بعض، ولم يلتئم شملها ثانية قط، وسار(28/45)
دريك وحده بالسفينة "بليكان" على الساحل الغربي للأمريكيتين إلى سان فرنسيسكو مهاجماً كل السفن الأسبانية في طريقه، ثم انعطف غرباً في جرأة وبسالة، إلى الفلبين وأبحر من جزر ملقا إلى جاوه، وعبر المحيط الهندي إلى أفريقية، وحول رأس الرجاء الصالح صعداً في المحيط الأطلسي، ليصل بليموث في 16 سبتمبر 1580، أي بعد مغادرتها بأربعة وثلاثين شهراً. ومعه من الأرباح 600. 000 جنيه سلم الملكة منها 275. 000 (100)، وحيته إنجلترا على أنه أعظم ملاح وقرصان في عصره وتناولت إليزابث العشاء على ظهر سفينته، ومنحته لقب فارس.
ومن الجهة الفنية، كانت إنجلترا طوال هذا الوقت في سلام مع أسبانيا. وكم قدم فيليب إلى الملكة من احتجاجات، فقدمت هي الاعتذارات، وتشبثت بغنائمها، وأشارت إلى أن الملك نفسه كان هو أيضاً يخرق "القانون" الدولي بإرساله المساعدات إلى الثوار في إيرلندة. ولما هدد السفير الأسباني بالحرب، هددت هي بالزواج من ألنسون وبالتحالف مع فرنسا. ولما كان فيليب مشغولاً بغزو البرتغال، فقد أصدر أمره إلى سفيره بالإبقاء على السلام. وكما هي العادة، انضم حسن حظ الملكة إلى عبقريتها الموسومة بالتردد، فماذا كان عساه يحدث لها لو لم تشطر الحرب الأهلية فرنسا الكاثوليكية إلى شطرين، ولو لم يرهق الأتراك بغاراتهم المتكررة الإمبراطور والنمسا الكاثوليكية، ولو لم تكن أسبانيا متورطة مع البرتغال وفرنسا والبابا ورعاياها الثائرين في الأراضي الوطيئة؟
ولعدة سنوات كانت إليزابث تناور وتداور في مكر وخداع في الأراضي الوطيئة، وتغير سياستها وفق الظروف المائعة. ولم تكن أية اتهامات بالتردد أو الخيانة تجعلها تسبر في طريق مستقيم واحد لا تحيد عنه. ولم تكن تحب الكلفنية في الأراضي الوطيئة أكثر من حبها للبيوريتانية في إنجلترا، كما لم تكن تحب التحريض على الثورة أكثر من حب فيليب له. وأدركت أهمية التجارة المنتظمة مع الأراضي الوطيئة للاقتصاد الإنجليزي، فعملت على تأمين الثورة ومساعدتها هناك بشكل يحفظها من الاستسلام لأسبانيا أو الارتماء في أحضان فرنسا، وما دامت الثورة قائمة، انشغلت أسبانيا بها بعيداً عن إنجلترا.(28/46)
وحانت لحظة مباركة ابتسم فيها الحظ السعيد للملكة، فهيأ لها الفرصة لمساعدة الثوار مقابل كسب مغر يدخل إلى خزائنها. ذلك أن القراصنة الإنجليز ساقوا في ديسمبر 1588 إلى مواني القنال الإنجليزي عدة سفن أسبانية كانت تحمل 150. 000 جنيه دفع رواتب جنود دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، ورأت إليزابث-وكانت قد ترامت إليها لتوها أنباء الكارثة التي وقعت لهوكنز في سان جوان دي ألوا-رأت أن العناية الإلهية هيأت لها هذه الفرصة لتعويض إنجلترا عما فقدته بسبب تلك الهزيمة. وسألت الأسقف جول Jewel: هل لها حق في الأموال الأسبانية؟ فحكم بأن الرب، وهو بروتستانتي قطعاً، يسره أن يرى البابويين يسلبون. وفوق ذلك، علمت الملكة أن فيليب كان قد اقترض هذا المبلغ من مصارف جنوه، ورفض الاعتراف بملكيته حتى يصل سالماً إلى أنتورب. ونقل المال إلى خزائن الملكة، وجأر فيليب بالشكوى وقبض دوق ألفا على كل ما وصلت إليه يداه من رعايا إنجليز وبضائع إنجليزية في الأراضي الوطيئة، واعتقلت إليزابث كل الأسبان في إنجلترا. ولكن مقتضيات التجارة أعادت بالتدريج العلاقات الطبيعية بين الطرفين. وأبى دوق ألفا أن يستحث إليزابث على التحالف مع الثوار، والتزم فيليب الهدوء والصبر، واحتفظت إليزابث بالمال.
واستمر السلم المزعزع يجرر أذياله، إلى أن ورطت الحملات الإنجليزية المتكررة على السفن الأسبانية وصرخات أصدقاء ماري ستيوارت المسجونين، نقول ورطت هذه وتلك فيليب في مؤامرة لقتل الملكة (101)، وكانت إليزابث مقتنعة باشتراكه فيها، فطردت السفير الأسباني (1584) وساعدت الثوار علانية. ودخلت الجيوش الإنجليزية فلشنج، بريل، أوستند، سليس Sluys، وأرسل لستر ليتولى قيادتها. ولكن الأسبان هزموهم في زوتفين Zutphen (1586) . ولكن الآن، على الأقل بلغ السيل الزبى، وحانت ساعة الفصل. فقد استعد فيليب وإليزابث بكل ما أوتيا من قوة للحرب التي قد تحدد لأيهما تكون السيادة على البحار، كما تحدد ديانة إنجلترا، وربما ديانة أوربا، وربما ديانة الدنيا الجديدة.
وأثرت أسبانيا ثراء واسعاً بفضل كولمبس والبابا اسكندر السادس وقرارات التحكيم التي أصدرها (1493) والتي منحت وطنه أسبانيا كل الأمريكتين تقريباً.(28/47)
وبهذه الرحلات والمراسيم لم يعد البحر المتوسط مركز حضارة الرجل الأبيض وقوته، وبأ عصر الأطلنطي. ومن بين دول أوربا الثلاث المطلة على المحيط، كانت فرنسا مغلولة اليدين بسبب الحرب الأهلية فلم تشارك في الصراع الدائر حول السيادة على المحيطات. أما إنجلترا وأسبانيا فقد استمر الصراع بينهما، وصارت كل منهما تمتد نحو الأرض الموعودة مثل الصخرة الناتئة في البحر. وبدا من العسير زحزحة أسبانيا عن مكان الصدارة والغلبة في أمريكا، فما وافت 1580 حتى كان لها فيها مئات المستعمرات، على حين لم يكن لإنجلترا شيء قط، وتدفقت الثروات الهائلة من مناجم المكسيك وبيرو إلى أسبانيا، وبدا قدراً محتوماً أن تحكم أسبانيا نصف الكرة الغربي، وتدخل الأمريكيتين في نطاق كيانها السياسي والديني.
ولم يكن ديرك راضياً عن هذا المشهد الذي توقعه، أو قانعاً به. وكانت الحرب من أجل السيطرة على العالم، لفترة من الوقت، محصورة بينه وبين أسبانيا. وفي 1585 أمده أصدقاؤه والملكة بالمال اللازم، فجهز ثلاثين سفينة انقض بها على الإمبراطورية الأسبانية. ودخل مصب نهر في شمال غرب أسبانيا، وأعمل السلب والنهب في ثغر فيجو، وعرى تمثالاً للعذراء، وحمل معه المعادن النفيسة والملابس الثمينة من الكنائس. وأبحر إلى جزر الكناري والرأس الأخضر واجتاح أكبرها، وعبر إلى الأطلنطي، وأغار على سان دومنجو، وقبض ثلاثين ألفاً من الجنيهات، منحة أو رشوة، لئلا يدمر قرطاجنة في كولمبيا. وسلب وأحرق مدينة سانت أوجستين في فلوريدا، وعاد إلى إنجلترا (1586)، لا لشيء إلا أن الحمى الصفراء أودت بثلث بحارته.
تلك كانت حرباً دون أن تحمل اسم الرب. وفي 8 فبراير 1587، أعدمت الحكومة الإنجليزية ملكة إسكتلندة، وهنا أبلغ فيليب البابا سكستس الخامس أنه على استعداد لغزو إنجلترا وخلع إليزابث. وطلب إليه الإسهام بمليوني كراون ذهباً. وعرض سكستس ستمائة ألف لا تدفع لأسبانيا إلا إذا وقع الغزو فعلاً. وأصدر فيليب لأمره إلى خير قواده، أمير البحر مركيز سانتا كروز، بإعداد أكبر أسطول عرف في التاريخ حتى ذاك الوقت، وتجمعت السفن أو بنيت في لشبونه وأعدت المخازن والمستودعات في قادس.(28/48)
وألح دريك على إليزابث لتزويده بأسطول يدمر الأرمادا قبل أن يتخذ وضعاً تتعذر من مقاومته، فوافقت، وفي الثاني من أبريل 1587 انطلق مسرعاً من بليموث ومعه ثلاثون سفينة، قبل أن تغير الملكة رأيها. وهذا ما حدث فعلاً، ولكن بعد فوات الأوان، فلم تدركه. وفي 16 أبريل أسرع بأسطوله إلى ميناء قادس، وأجرى مناورة بعيداً عن مرمى مدفعية الشاطئ، وأغرق بارجة أسبانية، وهاجم سفن النقل والتموين، واستولى على حمولتها، وأشعل النار في كل سفن العدو، وارتحل دون أن يمسه أذى. وألقى مراسيه بالقرب من لشبونه وتحدى سانتا كروز أن يخرج لملاقاته. فأبى المركيز أن يفعل، لأن سفنه لم تكن قد زودت بالسلاح بعد، فسار دريك شمالاً إلى لاكورونا واستولى على مؤن وذخائر كثيرة كدست هناك، ثم إلى جزر الآزور حيث استولى على سفينة أسبانية ضخمة (غليون)، وعاد بها إلى إنجلترا بين سفنه. وعجب الأسبان أنفسهم لجرأته ومهارته البحرية وقالوا "لو لم يكن لوثرياً، بروتستانتياً، لما كان له نظير في العالم (102) ".
وأعاد فيليب بناء أسطوله، في صبر، ومات المركيز سانتا كروز في يناير 1588، فعين مكانه دوق مدينا-سيدونيا، وهو نبيل يتميز بكرم المحتد أكثر منه بالكفاية والقدرة. ولما اكتمل الأرمادا آخر الأمر، كانت عدة سفنه 150 سفينة حمولة كل منها المتوسط 445 طناً، وكان نصفها من سفن البضائع، ونصفها الآخر من البوراج الحربية، مزودة بثمانية آلاف وخمسين بحاراً، وأبحر عليها تسعة عشر ألف جندي. وفكر فيليب وقواده في إتباع الطريقة القديمة في الحروب البحرية-وهي القفز فوق ظهر سفن العدو. ومصارعة الرجل للرجل، على حين كانت خطة الإنجليز أن يغرقوا سفن العدو بمن احتشد عليها من البحارة، وإطلاق النيران عليها دفعة واحدة من الجوانب، وأصدر فيليب تعليماته إلى الأسطول بالا يجد في طلب السفن الإنجليزية ويهاجمها، بل لا بد من الاستيلاء على رأس جسر ساحلي في إنجلترا، والعبور إلى الفلاندرز، لينقل إلى المراكب الثلاثون ألف جندي الذين كانوا قد أعدهم هناك دوق بارما، والسر إلى لندن بعد الحصول على هذا المدد. وفي نفس الوقت هرب إلى إنجلترا (أبريل 1588) رسالة دبجها كاردينال ألن(28/49)
يأمر فيها الكاثوليك بالانضمام إلى الأسبان لخلع مليكتهم "المغتصبة الهرطقية البغي (103) ". ورافق الأرمادا للمعاونة في إعادة الكاثوليكية إلى إنجلترا مئات من الرهبان تحت رياسة النائب الأسقفي العام لمحاكم التفتيش (104). وهزت روح دينية مخلصة مشاعر البحارة الأسبان وسادتهم، وآمنوا إيماناً عميقاً مخلصاً بأنهم كانوا يؤدون مهمة مقدسة، فأبعدوا البغايا، وانقطع التجديف والدنس، وامتنع القمار، وفي صباح اليوم التاسع والعشرين من مايو 1588، حين أقلع الأسطول من لشبونه، تناول القربان المقدس كل من كان على ظهر السفن، وأقامت كل أسبانيا الصلوات.
وواتت الريح إليزابث، على حين واجه الأرمادا عاصفة مدمرة، فالتجأ إلى ميناء لاكورونا، حيث ضمد جراحه، وأقلع ثانية (12 يوليه). وانتظرته إنجلترا في مزيج محموم من الآراء المنقسمة والاستعدادات المتعجلة والعزيمة البائسة، والآن حانت الساعة لتنفق إليزابث الأموال التي كانت قد كنزتها في ثلاثين عاماً من التقتير والتهور والشرور، وهب شعبها في شجاعة وتصميم، كاثوليك وبروتستانت على السواء، لنجدتها، وتدرب الحرس الوطني المتطوع في المدن، وأمد تجار لندن الفرق بالمال اللازم، وطلب إليهم أن يجهزوا خمس عشرة سفينة، فأمدوها بثلاثين. وكان قد مضى على هوكنز عشر سنوات وهو يبني السفن لبحرية الملكة. وأصبح دريك الآن نائباً لأمير البحر، وأتى قراصنة البحر بسفنهم في انتظار اللقاء الحاسم. وفي أوائل يوليه 1588 احتشد في بليموث للقاء العدو القادم، اثنتان وثمانون سفينة كاملة العدة، تحت أمرة شارل، لورد هوارد افنجهام، أمير البحر العام في إنجلترا.
وفي 19 يوليه (1) شوهدت طلائع الأرمادا عند مدخل القنال الإنجليزي. وأقلع الأسطول المدافع من بليموث، وفي اليوم الحادي والعشرين بدأ العمل. وانتظر الأسبان حتى يقترب الإنجليز منهم إلى حد يكفي ليناوش الواحد منهم الآخر، ولكن
_________
(1) التقويم القديم، وهو أسبق بعشرة أيام من الجريجوري الذي اقتبس في أسبانيا 1582، ولكن لم يؤخذ به في إنجلترا إلا في 1751.(28/50)
على العكس من ذلك، فإن السفن الإنجليزية الخفيفة المبنية خصيصاً للمياه الضحلة والمسالك الضيقة، انطلقت مسرعة حول البوراج الأسبانية الثقيلة، تمطرها بوابل من النيران من كل جانب، وكانت سطوح المراكب الأسبانية عالية، وكانت مدافعها تطلق قذائفها على بعد مرتفع فوق السفن الإنجليزية محدثة بها أقل الأضرار، وجرت السفن الإنجليزية تحت النيران، وتركت قدرتها على المناورة وسرعتها، الأسبان عاجزين حيارى مضطربين. وعندما جن الليل هرب الأسبان في اتجاه الريح، تاركين إحدى سفنهم ليأخذها دريك، وأخرى نسفها أحد رجال المدفعية الألمان المتمردين، ووقع حطامها في أيدي الإنجليز. ولحسن الحظ كانت كلتاهما تحمل مؤناً وذخائر سرعان ما نقلت في أسطول الملكة. وجاء مزيد من المؤن والذخائر. ولكن الإنجليز لم يكن لديهم منها حتى الآن إلا ما يكفي لقتال يوم واحد فقط. وفي الخامس والعشرين، وبالقرب من جزيرة وايت، قاد هوارد هجوماً، وسارت سفينة قيادته إلى قلب الأرمادا، وتبادلت النار مع كل بارجة مرت بها، وحطم تفوق النار الإنجليزية الروح المعنوية لدى الأسبان. وكتب مدينا سيدونيا في تلك الليلة إلى دوق بارما: "أن العدو يطاردني. إنهم يرمونني بالنيران من الصباح إلى المساء، ولكن السفن لن تلقي مراسيها ... وليس ثمة من علاج، فهم سريعو الحركة ونحن بطيئون (105) ". وتوسل إلى بارما أن يرسل إليه ذخيرة ومدداً، ولكن ثغور دوق بارما كانت تحاصرها وتعترض سبيلها السفن الهولندية.
وفي اليوم السابع والعشرين ألقى الأرمادا مراسيه في مداخل كاليه. وفي الثامن والعشرين أشعل دريك النار في ثمان سفن صغيرة غير ضرورية يمكن الاستغناء عنها، ووضعها في مهب الريح لتسير وسط الأسطول الأسباني. وتوجس مدينا سيدونيا شراً، فأمر سفنه بالخروج إلى عرض البحر. وفي التاسع والعشرين هاجمها دريك في جرافلين، بعيداً عن الشاطئ الفرنسي، في حرب حقيقية. وقاتل الأسبان في بسالة، ولكن كان يعوزهم المدفعية والبراعة في فن الملاحة. وظهر أسطول هوارد وصب الأسطول الإنجليزي بكامل عدده من النيران على الأرمادا ما أعجز بعض سفنه عن العمل وأغرق بعضها الآخر. واخترقت طلقات الإنجليز أبدان سفن(28/51)
الأرمادا على الرغم من أن سمكها يبلغ ثلاثة أقدام، وقتل آلاف من الأسبان. وشوهدت الدماء تسيل من ظهور السفن إلى البحر. وما أن غربت شمس ذاك النهار حتى كان قد فقد من الأسبان ربعة آلاف رجل وجرح أربعة آلاف آخرون، وأمكن بصعوبة الاحتفاظ بالسفن الأسبانية الباقية عائمة على سطح الماء. ولما رأى مدينا سيدونيا أن بحارته لا يستطيعون احتمال شيء بعد ما حدث، أصدر أوامره بالانسحاب. وفي اليوم الثلاثين من يوليه حملت الريح حطام الأرمادا إلى بحر الشمال. وتبعه الإنجليز شمالاً إلى مصب نهر فورت، وكانت تعوزه الأغذية والذخيرة فعادوا إلى مراسيهم، وكانوا قد فقدوا ستين رجلاً، ولم يفقدوا سفينة واحدة.
أما بالنسبة لبقايا الأرمادا، فلم يكن ملاذ أقرب من أسبانيا نفسها. فقد كانت إسكتلندة معادية، وثغور إيرلندة في أيدي القوات الإنجليزية. واستماتت السفن المصابة والرجال الذين يتضورون جوعاً في شق طريقهم حول الجزر البريطانية، وكانت المياه هائجة والريح عاصفة، فتحطمت الصواري وتمزقت الأشرعة، وما كان يمر يوم حتى يغرق مركب أو يغادره ملاحوه، وألقيت جثث ألوف في البحر، وتحطمت سبع عشرة سفينة على شواطئ إيرلندة الوعرة. وفي سليجو Sligo وحدها ظهر على شاطئها الرملي جثث 1100 من الغرقى الأسبان. ونزل بعض البحارة إلى البر في إيرلندة يتلمسون بعض الطعام والشراب، فلم يصيبوا شيئاً، وبلغ مئات منهم من الهزل حداً لم يستطيعوا معه القتال، فكان مصيرهم الذبح بأيدي أشباه المتوحشين من سكان السواحل من كل جنس. ومن المائة والثلاثين سفينة التي كانت قد غادرت أسبانيا أول الأمر، عاد 54 فقط، ومن السبعة والعشرين ألفاً من الرجال عاد عشرة آلاف معظمهم جريح أو مريض. ولما كان فيليب يحاط علماً بأنباء الكارثة الطويلة الأمد يوماً بيوم، فقد حبس نفسه في صومعة في الاسكوريال، ولم يكن أحد على التحدث إليه. أما البابا سكستس الخامس فقد دفع بأنه ما دام لم يحدث غزو على إنجلترا قط، فإنه لن يرسل إلى أسبانيا المفلسة بدوكات واحد.(28/52)
وكانت إليزابث حريصة على المال قدر البابا عليه. وكانت يقظة إلى أية اختلاسات في البحرية، وطالبت بحساب عن كل شلن أنفقته البحرية والجيش قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها. وعوض كل من هوارد وهوكنز من جيبه الخاص عن أي تناقض أو تضارب لم يستطيعا له تفسيراً (106). وكانت إليزابث تتوقع حرباً طويلة الأمد، ومن ثم تصرف للملاحين والجنود مؤناً قليلة ورواتب ضئيلة، وانتشر الآن مرض فتاك، أشبه بالتيفود، بين الرجال العائدين، قضى في بعض المراكب على نصف من فيها من الملاحين أو أقعدهم عن العمل، حتى تعجب هوكنز قائلاً: ماذا كان عساه أن يكون مصير إنجلترا لو أن الوباء سبق العدو؟
واستمرت الحرب البحرية حتى موت فيليب 1598. وسار دريك بأسطول وخمسة عشر ألفاً من الرجال لمساعدة البرتغاليين في ثورتهم ضد الأسبان (1589) ولكن البرتغاليين أحسوا ببغض أكثر للبروتستانت من للأسبان. وأفرط الإنجليز في احتساء النبيذ الذي استولوا عليه إلى حد الثمل، وباءت الحملة بالفشل والعار. وقاد لورد توماس هوارد أسطولاً إلى جزر الآزور ليعترض طريق الأسطول الأسباني الذي يحمل الفضة والذهب إلى أسبانيا، ولكن أسطول فيليب الجديد أرغم السفن الإنجليز على الفرار، فيما عدا السفينة "ريفنج Revenge" التي أمسكوا بها تتسكع خلف سائر السفن، فقاتلت قتالاً بطولياً حتى تغلب عليها الأسبان (1591). وقام دريك وهوكنز بحملة أخرى على جزر الهند الغربية (1595) ولكنهما تنازعا وماتا في الطريق. وفي 1596 أرسلت إليزابث أسطولاً آخر لتدمير السفن في الثغور الأسبانية مثل قادس، فوجد هناك 19 بارجة حربية و36 سفينة تجارية، ولكنها جميعاً هربت إلى عرض البحر، على حين أعمل اسكس السلب والنهب في المدينة. وأخفقت هذه الحملة كذلك ولكنها أظهرت من جديد سيادة إنجلترا على الأطلنطي.
وكان لهزيمة الأرمادا أثرها على كل شيء تقريباً في مدينة أوربا الحديثة. فكانت بداية تغيير حاسم في تكتيك البحرية، وأخلي القفز إلى سفن العدو ومصارعة الرجل الرجل مكانيهما للتراشق بالمدافع من جوانب السفينة وظهرها. وساعد(28/53)
إضعاف أسبانيا الهولنديين على نيل استقلالها، وارتقى بهنري الرابع إلى عرش فرنسا، وفتح أمريكا الشمالية أمام المستعمرات الإنجليزية. وبقيت البروتستانتية وقويت. وتضاءل شأن الكثلكة. وكف جيمس السادس ملك إسكتلندة عن مصادقة البابوات ومجاملتهم. ولو أن الأرمادا بنى بطريقة احكم، وسارت قيادته على وجه أكمل، فلربما كانت الكاثوليكية قد استعادت إنجلترا، وسادت أسرة جيز في فرنسا. وخضعت هولندة، ولم يظهر قط شكسبير وبيكون وهما رمزان لإنجلترا الظافرة وثمرتان من نتاجها، ولربما كان على النشوة الغامرة في عهد إليزابث أن تواجه محكمة التفتيش الأسبانية. وهكذا تحدد الحروب مصير اللاهوت والفلسفة، كما أن القدرة على القتل والتدمير شرط أساسي للحصول على ترخيص بالحياة والبناء.
10 - رالي واسكس
على الرغم من أن سيسل وولنسهام ودريك وهوكنز كانوا الأدوات المباشرة للمجد والنصر، إلا أن إليزابث هي التي تجسدت فيها إنجلترا الظافرة المنتصرة، وكانت هي في سن الستين في ذروة الشهرة والقوة والسلطان، وتجعد وجهها قليلاً، وتساقط شعرها، وفقدت أسنانها، وأسود البعض الأخر، ولكنها في مجوهراتها التي تبعث الرهبة في النفوس، من غطاء الرأس المخرم وطوق الرقبة المكشكش المهفهف، والأكمام المحشوة، والتنورة المطوقة وكلها تتألق بالجواهر واللآلئ، وقفت مزهوة رافعة الرأس، ملكة بلا منازع. وتذمر البرلمان من أساليبها الملكية ولكنه خضع واستسلم، وقدم المستشارون القدامى نصائحهم في رعدة الشباب الغض الذي يطلب يد المرأة، ولكن الطلاب الشبان الذين انطلقت ألسنتهم بالتمجيد والتسبيح أحاطوا بالعرش. وقضى لستر وولسنهام نحبهما، وسرعان ما يبتلع البحر دريك وهوكنز، وقد ظنا أنهما سيحكمانه. أما سيسل الذي أطلق عليه بيكون (107) "نصف الإله الذي يحمل السماء على كتفيه Atlas في هذه الدولة"، فقد كبرت الآن سنه، وكان يئن ويذبل بداء النقرس، وكان على إليزابث الآن أن تتولى تمريضه في مرضه الأخير وتطعمه لقيماته الأخيرة بيديها (108) واعتراها الحزن لفقدان(28/54)
هؤلاء الرجال، ولكنها لم تدع هذا يشوه فخامة جلالتها أو يقلل من حيوية بلاطها ومرحه ونشاطه.
وتألقت حولها وجوه جديدة، جلبوا إليها شباباً بديلاً. وكان كرستوفر هاتون رشيقاً لدرجة أنها عينته مستشاراً (1587). وظلت مترددة تسع سنوات في قبول نصيحة برجلي في تعيين ابنه الحصيف الأحدب روبرت سيسل وزيراً لها. وكانت أكثر استساغة لقسمات والتر رالي الجميلة وقعقعة سيفه، ولم تعبأ بشكوكه الدينية الخاصة، فقد كانت لها هي الأخرى شكوكها الخاصة كذلك.
ويكاد رالي أن يكون رجل عصر إليزابث الكامل: سيد مهذب، جندي، ملاح، مغامر، شاعر، فيلسوف، خطيب، مؤرخ، شهيد، فكان "الرجل العالمي" الذي صورته أحلام النهضة الأوربية، والذي جمع العبقرية من أطرافها، ولكنه لم يدع الجزء قط ليكون كلاً. ولد رالي في ديفونشير في 1552، والتحق بجامعة أكسفورد في 1568، ولكنه فر من الكتب إلى الحياة، وانضم إلى مجموعة شهمة من المتطوعين ذوي الأصل الكريم، عبروا البحر إلى فرنسا ليناضلوا في صفوف الهيجونوت. وربما كانت الأعوام الستة التي قضاها في تلك الحروب قد علمته شيئاً من العنف المجرد من المبادئ الخلقية في العمل والجرأة غير المكترثة في الحديث مما شكل مصيره في مستقبل أيامه، وعاد إلى إنجلترا 1575 وألزم نفسه بدراسة القانون، ولكنه غادر البلاد ثانية في 1578 متطوعاً لمساعدة الهولنديين ضد الأسبان. وبعد ذلك بعامين كان في إيرلندة رئيساً في الجيش الذي أخمد ثورة دسموند، ولعب دوراً فعالاً في مذبحة سمروك Smerwick. وكافأته إليزابث باثني عشر ألف فدان في إيرلندة، وبضمه إلى بلاطها. ولابتهاجها بقوامه ومديحه لها وتملقه إياها (1) وذكائه، أصغت إليه في شك أقل ما اعتادت أن تنظر أو تسمع به إلى الناس، عندما اقترح عليها إنشاء مستعمرات إنجليزية في أمريكا، ومنحته امتياز بذلك، وفي 1584 أرسل- ولكنه لم يصحب0أول حملة من عدة حملات، حاولت
_________
(1) أن قصة سجوده تحت قدميها ومعطفه ممرغ في الوحل، قصة خيالية.(28/55)
تأسيس مستعمرة في فرجينيا، ولكنها أخفقت، وبقى الاسم تذكاراً خالداً لعدم وصول الملكة إلى مبتغاها، وأثبتت إليزابث تركمورتون Throckmontor- وهي وصيفة شرف في البلاط- أنها أقرب منالاً، وارتضت رالي عشيقاً لها، وتزوجت منه سراً (1593). ولما كان محظوراً على أي عضو في البلاط أن يتزوج دون موافقة الملكة، فان العروسين المتيمين قضيا شهر عسل غير متوقع في برج لندن (السجن). وظفر رالي بإطلاق سراحه- مع إقصائه عن البلاط- بإرساله كتاباً إلى برجلي يصف فيه الملكة بأنها مزيج من كل ألوان الكمال والقداسة في التاريخ.
وآوى رالي إلى ضيعنه في شربورن، ونظم رحلات واكتشافات، وتلاعب بالإلحاد، ونظم شعراً كان لكل بيت فيه رنين متميز ولذع خاص. ولكن عامين من الهدوء والدعة استنفدا ثباته واستقراره، ويفضل مساعدة أمير البحر هوارد وروبرت سيسل جهز خمس سفن وأقلع بها إلى أمريكا الجنوبية بحثاً عن ألدرادو-وهي أرض أسطورية فيها قصور من ذهب، وأنهار يجري فيها الذهب، ونساء محاربات (أمازونات) لا تذبل مفاتنهن. وسار مائة ميل صعداً في نهر أورينوكو، ولكنه لم يعثر على نساء محاربات ولا على ذهب، ولقد حيرته وعوقته مساقط المياه وسرعة جريانه فعاد إلى إنجلترا صفر اليدين، ولكنه روى كيف أن السكان الأمريكيين دهشوا وأعجبوا بجمال الملكة حين أراهم صورتها. وسرعان ما أعيد إلى البلاط. وأكد بيانه الفصيح عن "إمبراطورية جويانا الشاسعة الغنية الجميلة" نقول أكد من جديد إيمانه بأن الشمس لا تشرق على أية ثروات في أي جزء في العالم". أكثر منها في إقليم الأورينوكو". وألح دون كلل أو ملل في إثارة الرغبة في انتزاع ثروات أمريكا من أيدي الأسبان إلى أيدي الإنجليز، وشرح نظرية سيادة البحار أكمل شرح، "أن من يسيطر على البحار يسيطر على تجارة، ومن يسيطر على تجارة العالم يسيطر على ثروته، ومن ثم يسيطر على العالم نفسه (109) ".
وفي 1596 انضم إلى الحملة على قادس، وقاتل ببسالة-كما قال، وأصيب بجرح في رجله. وعاملته الملكة يومئذ "معاملة كريمة" وعينته قائداً للحرس. وفي 1597 قاد قسماً من الأسطول الذي كان تحت إمرة اسكس إلى جزر الآزور، وفصلت(28/56)
العاصفة بينهما. ولكن أسطول رالي التحم مع العدو وهزمه، ولكن اسكس لم يغفر له قط انتزاع قصب السبق منه.
وفاق روبرت دفريه ارل اسكس الثاني، حتى رالي نفسه، فتنة وسحراً وكان له طموح رالي وحيويته وزهوه، ويزيد عنه حدة في الطبع، ويقل عنه ذكاء، ويفوقه كثيراً في الكرم والنبل. وكان رجل عمل مفتوناً بالذكاء والفطنة، يحالفه النصر في المقارعة بالسيف وفي ميدان الألعاب الرياضية، يتميز بالبسالة والجرأة في الحرب، إلى جانب أنه كان مع ذلك صديقاً نافعاً للشعراء والفلاسفة مقدراً لهم. ولما أصبحت أمه الزوجة الثانية لارل لستر، رفع مكانته في البلاط ليتكافأ مع ما تميز به رالي من فتنة سارة مداهنة. ووقعت الملكة، وهي في سن الثالثة والخمسين، في حب الأمومة مع ابن العشرين الوسيم الشديد الحساسية (1587)، فهنا ولد يعزيها عن عدم إنجابها أولاداً، وتجاذبا أطراف الحديث واستمعا إلى الموسيقى، ولعبا الورق معاً، وانتشر القيل والقال: "إن سيدي اللورد لا يعود إلى مسكنه قبل صياح الديكة عند الفجر (110) ". وتوجع قلبها الهرم حين تزوج سراً من أرملة فيليب سدني، ولكن سرعان ما اغتفرت له هذا، وفي 1593 صار عضواً في مجلس شورى الملكة، ومهما يكن من أمر فانه كان قليل الصلاحية لحياة البلاط وعمل رجل الدولة. وقال عنه خادمه كوف: "أن وجهه نم دوماً بوضوح عما يكنه من حب وبغض، ولم يعرف كيف يخفي هذا أو ذاك (111) ". وجلب عداوة رالي، ووليم سيسل وروبرت سيسل، وأخيراً عداوة بيكون العاق والملكة المستاءة الكارهة.
أما فرنسيس بيكون الذي قدر له أن يكون أكبر أثراً على الفكر الأوربي من أي شخص عداه من رجال عصر إليزابث. فقد ولد في 1561 في قلب البلاط الملكي، في يورك هاوس، المقر الرسمي للورد حامل خاتم الملكة، وهو أبوه، سير نيقولا، وأطلقت إليزابث على الابن "حامل خاتم الملكة الصغير" وقد صرفه ضعف بنيته عن الألعاب الرياضية إلى الدراسة. وساعد ذكاؤه المتقد على التقاط العلم والمعرفة في نهم. وسرعان ما باتت سعة إطلاعه إحدى عجائب تلك "الأزمنة(28/57)
المترفة". وبعد سنوات ثلاث قضاها في كمبردج أرسل إلى فرنسا مع السفير الإنجليزي ليتيح له الفرصة ليتعلم فنون السياسة والحكم. وفي أثناء وجوده هناك مات أبوه فجأة (1579) قبل لأن يشتري الضيعة التي كان قد قصد شراءها لابنه فرانسيس، وكان من أصغر أولاده. وفجأة ضعفت موارد فرانسيس فعاد إلى إنجلترا ليدرس القانون في Gray's Inn. ولما كان ابناً لأخت وليم سيسل، فقد توسل إليه أن يعينه في منصب سياسي، وبعد أربع سنوات من الانتظار أرسل إليه كتاباً غريباً يذكره فيه بموضوعه جاء فيه "أن الاعتراض على سني سوف يزول مع طول سترتي (112) ". وبطريقة ما انتخب في تلك السنة (1584) عضواً في البرلمان، ولو أنه كان في سن الثالثة والعشرين. واشتهر بتأييده لمزيد من التسامح مع البيوريتانز (وكانت أمه منهم) وتجاهلت الملكة حججه، ولكنه أعاد إثباتها في شجاعة، في منشور وزع سراً، مس فيه تناقضات كنيسة إنجلترا (1589) واقترح فيه ألا يضار إنسان بسبب عقيدته الدينية إذا تعهد بالدفاع عن إنجلترا ضد أية سلطة أجنبية-بما في ذلك البابوية-تهدد سيادة إنجلترا أو حريتها الكاملتين. ورأت الملكة وسيسل أن الفيلسوف الشاب قد تقدم قليلاً. والحق أنه كان سابقاً لزمانه.
واطمأن اسكس إلى حدة ذهن بيكون وطلب مشورته. وأشار الحكيم الصغير على النبيل الصغير أن يتظاهر بالتواضع، أن لم يستطعه، ويخفض من إنفاقه، ويلتمس وظيفة مدنية أكثر منها حربية، حيث أن التخلص من آثار النكسات السياسية والتعويض عنها، ميسوران أكثر منهما في الهزائم العسكرية. كما أشار عليه بان يعتبر أن حب الناس خطر عليه لدى الملكة (113). وكان بيكون يراوده الأمل في أن ينضج اسكس فيصبح من رجال الدولة ويهيئ لناصحه المخلص أو معلمه الخاص فرصة للارتقاء والظهور.
وفي 1592 ناشد سيسل مرة ثانية في سطور مشهورة قال فيها: -
لقد أصبحت الآن أكبر سناً إلى حد ما. وان إحدى وثلاثين سنة ليست بالشيء اليسير في عمر الإنسان .... وإن صغر ضيعتي يقلقني بعض الشيء. واعترف أن عندي من الغايات التأملية الفكرية الواسعة قدر ما عندي من الغايات الدنيوية المتواضعة(28/58)
أو المعتدلة، أي أن ما عندي من التطلع إلى العلم والمعرفة يفوق كثيراً تطلعي إلى أي جاه مادي. لأني اعتبرت العلم والمعرفة هما دنياي أو مجالي الخاص. وإذا كان هذا فضولاً، أو عظمة جوفاء، أو طبيعة فيّ، فهو راسخ في ذهني، ولا يمكن محوه (114).
وعندما ألح اسكس على وليم سيسل وروبرت سيسل والملكة لتعيين بيكون في وظيفة المدعي العام الشاغرة، ذهبت توسلاته أدراج الرياح، واختير بدلاً منه إدوارد كوك Coke وهو أكبر منه سناً وأكثر صلاحية من الناحية الفنية. وتحمل اسكس اللوم في رقة وكياسة؛ وأقطع بيكون ضيعة في توكنهام تدر 1800 جنيه (115). وقبل أن يستطيع بيكون الإفادة من هذه المنحة عانى من سجن قصير الأمد بسيط من أجل الديون (116). وفي 1597 عين في "المجلس العلمي" الذي يضم المحامين الذين كانوا يقدمون المشورة إلى مجلس شورى الملكة (117).
وعلى الرغم من نصيحة بيكون انضم اسكس إلى جماعة الحرب، ودبر أن يكون على رأس الجيش. وهيأت له بسالته المندفعة في قادس بالغة لدى المجلس، ولكن إخفاقه في الآزور، وكبريائه لم تتضاءل قط، وتبذيره، ولسانه السليط، كل أولئك نفر منه المجلس وأهاج ثائرة الملكة. ولما رفضت صراحة توصيته بتعيين سير جورج كارو في إحدى الوظائف في إيرلندة، أدار لها ظهره، بإيماءة تنم على الاحتقار والزراية. فاستشاطت غيظاً ولكمته على أذنيه صارخة: "اذهب إلى الشيطان". فأمسك بسيفه وصاح فيها "هذه إساءة لن أصبر عليها، وما كنت لأحتملها من يدي أبيك". واندفع غاضباً من الغرفة، وتوقع كل رجال البلاط أن يعجل بزجه في السجن في برج لندن (1598) (118). ولكن إليزابث لم تفعل شيئاً. بل على النقيض من ذلك، وربما لتتخلص منه، عينته بعد عدة أشهر من هذا الحادث، نائباً للملكة، في إيرلندة.
وكان بيكون قد حذر اسكس من اللجوء إلى هذا العمل البغيض، ألا وهو مقاومة العقيدة بالقوة. ولكنه طلب جيشاً: وفي 27 مارس 1599 ارتحل إلى(28/59)
دبلن؛ وسط تهليل الجماهير، وهواجس أصدقائه وريبهم، وارتياح أعدائه ورضاهم. وأخفق في مهمته، وبعد ستة أشهر عاد مسرعاً إلى لندن دون إذن من الملكة، واندفع، دون أن يعلن عن قدومه، إلى غرفة ملابسها، وحاول أن يفسر أعماله في إيرلندة، فأصغت إليه في غضب مكظوم، ثم أمرت بنقله إلى سجن قصر حامل الأختام في يورك هاوس حتى يمكن الاستماع إلى التهم الموجهة إليه.
وتذمر الناس في لندن لأنهم كانوا يجهلون إخفاقه ويذكرون انتصاراته. وأمر مجلس شورى الملكة، بمحاكمة شيه علنية، وفوض بيكون بوصفه عضواً في مجلس العلماء ومحامياً تعهد بالدفاع عن الملكة، في أن يعد قرار الاتهام، وطلب بيكون إعفاءه، ولكنهم ألحوا فقبل. وكان الاتهام الذي أعده معتدلاً، أقر اسكس بصحته، وعرض خضوعه المتواضع وقد جرد من جميع وظائفه، وأبلغ أن يلزم داره حتى تتفضل الملكة بإطلاق سراحه (5 يونيه 1600) ودافع بيكون عنه، فأعيدت إليه حريته في 26 أغسطس.
والآن وهو في قصر اسكس ظل يواصل السعي وراء السلطة، فأرسل صديقاً حميماً له، حامي شكسبير وراعيه هنري ريوتسلي Wriothesley، ارل سوثمبتون-أرسله إلى إيرلندة ليقترح على مونتجوي نائب الملكة هناك، أن يعود إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي، ويعاون اسكس في تولي حكم إيرلندة. ورفض مونتجوي. وفي أوائل 1601 كتب اسكس إلى جيمس السادس ملك إسكتلندة طالباً مساعدته مع وعد بتأييده على عرش إنجلترا. ورد عليه جيمس بكتاب مشجع، وراجت الإشاعات الفظيعة في العاصمة المهتاجة بأن روبرت سيسل كان يخطط ليضع ابنة ملك أسبانيا Infanta ملكة على عرش إنجلترا، ويزج باسكس في برج لندن، وأن رالي أقسم ليقلنه. وحث سيسل الأصغر الملكة على ان تبعث برسالة إلى اسكس تطلب إليه الحضور إلى المجلس، وربما كان الغرض من ذلك إرغامه على الإفصاح عن نياته، وحذره أصدقاؤه بأن هذا ربما كان خدعة للقبض عليه. وحجز أحد الأصدقاء وهو سير جيللي مرك للمستشار وصحبه مقاعد في المسرح حيث كانت تمثل ذاك المساء في سوثوارك Southwark، رواية شكسبير(28/60)
"ريتشارد الثاني"، وهي تظهر كيف أن ملكاً خلع عن عرشه عدلاً وحقاً (119).
وفي اليوم التالي (7 فبراير 1601) احتشد ثلاثمائة من أنصار اسكس المتحمسين المسلحين في فناء داره. وعندما خرج إليهم اللورد حامل الأختام وثلاثة من الشخصيات الكبيرة ليسألوهم عن سبب هذا التجمع غير المشروع أغلق عليهم الحشد الأبواب وساقوا الارل الحائر معهم إلى لندن وإلى الثورة، وكان يراوده الأمل في أن يهب الناس لمساعدته، ولكن الخطباء أمروهم بالتزام بيوتهم فامتثلوا. وكانت قوات الحكومة لهم بالمرصاد، فتعقبوا المتمردين، وقبض على اسكس وزج به في برج لندن ..
وسرعان ما قدم للمحاكمة بتهمة الخيانة، وأمر المجلس بيكون بمساعدة كوك في إعداد قرار المحكمة. وربما كان رفضه يؤدي إلى تدمير حياته السياسية، وقبوله غلى انهيار سمعته التي واتته بعد وفاة أبيه، فلما تلعثم كوك في عرض التهمة نهض بيكون وعرض المسألة في وضوح مقنع يدين المتهم، واعترف اسكس بجرمه، وذكر أسماء شركائه (120). وقبض على خمسة من هؤلاء وقطعت رؤوسهم، وحكم على سوثمبتون بالسجن مدى الحياة، وأفرج عنه جيمس الأول فيما بعد، وتروي أسطورة أن اسكس بعث إلى الملكة بخاتم كانت قد أعطته إياه يوماً مع الوعد بأن تهب لنجدته إذا أعاده إليها في الساعة العسرة. ولكن الخاتم لم يصل إليها، ولو كان قد أرسل (121). ففي الخامس والعشرين من فبراير 1601، وهو في الخامسة والثلاثين، ذهب اسكس في بسالة إلى المصير الذي كان طابع شخصيته. وبكى رالي عندما هوت الضربة على عنقه، وعرض برج لندن، لمدة عام، الرأس المفصول عن جسده، والذي أصابه الانحلال والعفن.
11 - السحر يذوي ويذبل
1600 - 1603
إن منظر رأس اسكس، أو إدراك إليزابث أن الرأس كان يحدق النظر إليها ليل نهار، لا بد أن يكون قد شارك في الكآبة التي خيمت على الملكة في سنواتها الأخيرة. فكانت تقضي الساعات الطوال جالسة وحيدة في صمت، حزينة تطيل(28/61)
التفكير، وأبقت على ملاهي حاشيتها، وتظاهرت أحياناً، تظاهراً جريئاً بالمرح، ولكن اعتلت صحتها ومات قلبها. ولم تعد إنجلترا تحبها، حيث أحست بأنها عمرت أكثر مما ينبغي لها، وأنه يجدر بها أن تخلي الطريق لملكية فتية. وثار آخر البرلمانات في عهدها ثورة اتسمت بعنف أكثر من ذي قبل، ضد انتهاكها لحرية البرلمان واضطهادها للبيوريتانية، وطلباتها المتزايدة للاعتمادات، وإغداقها احتكارات التجارة على ذوي الحظوة لديها. ودهش الجميع حين استسلمت الملكة في آخر لحظة، ووعدت بوضع حد لهذا الخلل. وذهب كل أعضاء مجلس العموم ليقدموا لها الشكر، وجثوا بين يديها حين وجهت إليهم الخطاب. وكان آخر خطاب لها (20 نوفمبر 1601)، وهو "خطابها الذهبي" الحزين، وقالت:
ليس ثمة جوهرة، ارتفعت قيمتها بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، أوثرها على حبكم ... إن تقديري له ليفوق تقديري لأي كنز .... ولقد رفعنا الله إلى أعلى عليين، ولكني أحسب أن عظمة عرشي هي حكمت بفضل حبكم لي (122).
وطلبت إليهم أن ينهضوا ثم استطردت في الحديث قائلة:
لأن يكون الإنسان ملكاً ويلبس التاج شيء سار لمن يراه، أكثر مما هو سار لمن يحمله .... ومن ناحيتي أنا، إذا لم يكن إرضاء لضميري أن أنهض بالواجب الذي فرضه الله علي، وأن أحافظ على "مجده" وأوفر لكم الأمن والسلامة، لوددت، استجابة لطبيعتي، أن أترك هذا المكان لغيري، وسعدت بالتحرر من هذه العظمة التي تقتضي جهوداً مضنية، لأني لست راغبة في أن أحيا أو أحكم أطول من عمري، وسيكون الحكم من أجل خيركم. وعلى الرغم من انه قد حكمكم من قبل، ولسوف يحكمكم من بعد، ملوك أقوى وأعقل مني، من فوق هذا العرش، فإنكم لم تشهدوا، ولن تشهدوا من هو أعظم حباً لكم مني (123).
وكانت إليزابث تؤجل ما وسعها الجهد موضوع وراثة العرش، فما دامت ماري ملكة إسكتلندة باقية على قيد الحياة، وريثة شرعية لعرش إنجلترا، فان(28/62)
إليزابث لم يهدأ لها بال، خشية أن تفسد ماري التسوية التي انتهت هي إليها مع البروتستانت، أما الآن وقد ماتت ماري، وكان جيمس السادس ملك إسكتلندة هو صاحب الحق الذي لا ينازع في وراثة العرش، فقد اطمأنت إليزابث إلى ذلك، لعلمها بأن جيمس، مهما كان متردداً أو مراوغاً، فهو بروتستانتي. ووصل إلى علمها أن روبرت سيسل وآخرين من رجال البلاط كانوا يتفاوضون سراً مع جيمس لتيسير ارتقائه العرش، وليصيبوا المغانم المرتقبة في هذه المناسبة، وأنهم كانوا يعدون الأيام الباقية على موتها.
وانتشرت الإشاعات في كل أنحاء أوربا أن السرطان سيقضي عليها. ولكنها كانت تموت من امتداد حياتها إلى أكثر مما ينبغي، وما كان جسمها ليحتمل مزيداً من الأفراح والأتراح، أو من أعباء وضربات السنين القاسية التي لا ترحم، وعندما حاول ابنها بالمعمودية سيرجون هارنجتون، أن يسري عنها بأشعاره الفكهة الظريفة التي أخرجته من حضرتها وقالت "إذا أنت أحسست بالوقت يزحف زحفاً نحو بابك، أي بدنو أجلك، قل ابتهاجك بمثل هذه الحماقات (124) ". وفي مارس 1603، وكانت قد عرضت نفسها في جرأة لبرد الشتاء، انتابتها حمى أنهكتها لمدة ثلاثة أسابيع؛ وقضت معظم الوقت جالسة على كرسي أو مستندة إلى الوسائد، ولم ترتض أن يعودها طبيب، ولكنها رغبت في الاستماع إلى الموسيقى، فجاء بعض العازفين أخيراً، واقتنعت بالتزام الفراش، وتمنى لها رئيس الأساقفة وتجفت أن تطول حياتها فانتهرته، وسجد إلى جانب سريرها وصلى، وظن أنه أدى قدراً كافياً من الصلوات وحاول ان ينهض، ولكنها أمرته أن يتابع الصلاة. ومرة ثانية "تعبت ركبتا الرجل العجوز". فأشارت إليه أن يؤدي مزيداً من الصلوات. ولم ينقذه إلا أن غلبها النعاس في ساعة متأخرة من الليل، ولم تصح من رقدتها هذه قط، وفي اليوم التالي (24 مارس) كتب جون ماننجهام في مفكرته: "في نحو الساعة الثالثة من صباح اليوم فارقت جلالتها الحياة، وفي وداعة مثل الحمل، ويسر مثل قطف التفاحة الناضجة من الشجرة (125) ". وهكذا كان يبدو.
وأحست إنجلترا بهول المصيبة، على الرغم من أنها كانت قد طال انتظارها(28/63)
لموتها. وأيقن الكثيرون أن عهداً عظمياً قد انقضى، وأن يدا جبارة قط سقطت عن دفة السفينة. وخشي بعضهم، مثل شكسبير، حدوث الفوضى (126). أما بيكون فقد قال إنها ملكة عظيمة إلى حد:
إنه لو كان بلوتارك الآن على قيد الحياة، ليكتب عن سير الحياة بالتناظر، فقد يجد مشقة في أن يجد لها شبيهاً بين النساء. لقد وهبت هذه السيدة معرفة فريدة بين بنات جنسها، بل حتى نادرة بين الأمراء والرجال ....
أما بالنسبة لحكومتها ... فان هذا الجزء من الجزر البريطانية لم يشهد قط خمساً وأربعين سنة خيراً من هذه، لا غي هدوء هذه الفترة فحسب، بل في الحكمة التي سادت الحكم. فلو نظرنا، من ناحية، إلى صدق العقيدة التي رسخت قواعدها، والسلام والأمن الدائمين، والإدارة الحسنة للعدالة، والقصد والاعتدال في استخدام الحقوق الملكية .... وازدهار المعرفة .... ثم لو نظرنا، من ناحية أخرى، إلى الخلافات الدينية، ومتاعب البلاد المجاورة، وأطماع أسبانيا، ومعارضة روما، ثم إلى أنها-أي الملكة-كانت وحيدة، بنفسها، أقول لو نظرنا بعين الاعتبار إلى هذه الأشياء كلها، لما كان في مقدوري أن أختار مثالاً آخر حديثاً ومناسباً إلى مثل هذه الحد، وكذلك أظن أنه ما كان في مقدوري أن أختار شيئاً أروع أو أبرز .... من اقتران المعرفة لدى الأمير بالسعادة التي عاش في ظلها الشعب (127).
والآن ونحن ننظر إلى الوراء، نتأمل طبيعة أحداث ذاك الزمان بعد وقوعها، لا بد لنا من أن نظلل الصورة بعض الشيء، ذاكرين أخطاء الملكة التي لا تضاهيها ملكة، غافرين لها هذه الأخطاء. إنها لم تكن قديسة، أنها لم تؤت الحكمة، ولكنها سيدة ذات مزاج وذات هوى مفعمة بحب الحياة. ولم تتركز تماماً "حقيقة العقيدة"، ولم يكن كل رعاياها، كما زعم شكسبير، "يأكلون في ظل كرومهم التي زرعوها بأيديهم، آمنين مطمئنين. وينشدون أغنيات السلام البهيجة (128) " وإن شيئاً من رشاد حكمها ليعود إلى حكمة معاونيها، وكان تذبذبها في الرأي(28/64)
يقترن في غالب الأمر بحسن الطالع، وربما كان ذلك بسبب ما يحدث مصادفة من تغيير، وأدى هذا التذبذب أحياناً إلى ضعف في السياسة إلى حد أن المتاعب الداخلية لدى أعدائها هي التي ساعدتها على البقاء بعد النكسة. ولكنها استطاعت البقاء، بل وحققت نجاحاً، بوسائل مشروعة أو ملتوية، لقد حررت إسكتلندة من ربقة فرنسا وربطتها بإنجلترا، ومكنت هنري نافار من إيجاد التوازن بين قداسه في باريس وبين مقتضيات مرسوم نانت. ولقد وجدت إنجلترا مفلسة محتقرة، وخلفتها غنية قوية، وترعرعت ونمت منابع المعرفة والآداب في ظل الثروة التي كان يرفل فيها شعبها، وتابعت الحكم الاستبدادي المطلق على عهد أبيها، ولكنها لطفت من حدته بالإنسانية والفتنة. لقد حرمت الزوج والولد، وتبنت إنجلترا وجعلت من نفسها أماً لها، وأحبتها حباً خالصاً، وأفنت نفسها في خدمتها، فكانت أعظم حاكم عرفته إنجلترا.(28/65)
الفصل الثاني
إنجلترا المرحة
1558 - 1603
1 - في العمل
أي نوع كانت إنجلترا تلك التي أمدت إليزابث بالقوة وهيأت لها النصر، ووهبت شكسبير اللغة والإلهام؟ وأي صنف من الناس كان هؤلاء الإنجليز في عصر إليزابث، أولئك المغامرون في تهور، الصرحاء الممتلئون حيوية ونشاطاً؟ كيف عاشوا وعملوا ولبسوا وفكروا، وأحبوا وشادوا وغنوا؟
في 1581 بلغ عدد السكان نحو خمسة ملايين، معظمهم مزارعون، ومعظم هؤلاء يفلحون الأرض لمصلحة المالك نظير جزء من المحصول، وبعضهم يستأجر الأرض مقابل إيجار محدد يدفعه، وكان ثمة عدد متزايد من صغار المزارعين الأحرار الذين يمتلكون الأرض ملكية مطلقة، وبقيت مساحات من الأرض على المشاع حيث ثبت أن أرض المراعي تدر ربحاً أكثر من الأرض المحروثة، وكاد الرقيق أن ينقرض، ولكن طرد المستأجرين عن طريق المساحات المشتركة المسورة وعن طريق الضم كان يخلق طبقة بائسة من العمال الذين غامروا ببيع عضلاتهم من مزرعة إلى مزرعة، ومن حانوت إلى حانوت في المدن الآخذة في التوسع (التنقل من أجل الحصول على عمل نظير أجر).
وباستثناء العاصمة، كانت المدن لا تزال صغيرة، على أية حال، وزاد عدد السكان قليلاً عن عشرين ألفاً في كل من نوروك Norwich وبرستول، وهما أكبر مدينتين بعد لندن. وكان لهذه المسألة جانبها المشرق: ذلك أن سكان المدن كانوا متوادين متحابين ينعمون بحسن الجوار. وحتى في لندن نفسها، كان لمعظم البيوت(28/66)
حدائق، أو أنها كانت قريبة من الحقول المكشوفة، ومن ثم يمكن جمع مختلف أنواع الأزهار التي ترنم بها شكسبير. وحصلت البيوت على التدفئة بإحراق الخشب، واستخدمت معظم المصانع الفحم لتوليد الطاقة، ولكن أسعار خشب التدفئة ارتفعت كثيراً في القرن السادس عشر، وحدا ازدياد الطلب على الفحم بملاك الأراضي إلى التنقيب عن الرواسب في أراضيهم. وجيء بالعمال الألمان لتحسين التعدين وعلم المعادن. وحرمت إليزابث استخدام الفحم في لندن، ولكن ثبت أن أوامرها كانت أقل حسماً من الضرورة الاقتصادية (2). وزادت محلات النسيج واتسعت بعد لجوء النساجين والقصارين إلى إنجلترا هرباً من جور دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، وجلب الهيجونوت من فرنسا مهاراتهم الحرفية والتجارية، على أن رجلاً إنجليزياً هو الكاهن الموقر "وليم لي" هو الذي اخترع (1589) "جهاز الجوارب" شبه الآلي للحياكة. وكان صيد السمك أكثر الصناعات ازدهاراً، لأن الحكومة شجعتها بغية تعويد الناس على ركوب البحر والملاحة، ومن ثم تهيئ احتياطياً للبحرية. ومن انحنت ثم إليزابث إجلالاً للكنيسة الكاثوليكية، وأمرت رعاياها أن يمتنعوا عن أكل اللحم يومين في الأسبوع، وأيام الصوم التقليدية في الصوم الكبير.
وكانت نقابات التجار والصناع قد سلبتها القوة والفعالية قيود العصور الوسطى وتوجيهاتها، ومن ثم ظلت النقابات تفقد أسواقها في عصر النزعة الفردية والتجديد. وجمع المتعهدون المهرة رأس المال، واشتروا المواد الخام، ووزعوها على المتاجر والأسرات، واشتروا الإنتاج، ثم باعوه، قدر ما تحتمل ظروف التجارة والمقايضة. وبدأت الرأسمالية في إنجلترا في البيت، بعمل الأب والأم والابنة والابن، للمقاول أو الملتزم. أما وقد نشأ الآن "هذا النظام المنزلي" فقد سار حتى أواخر القرن الثامن عشر. وكان كل بيت تقريباً، بمثابة مصنع مصغر ينسج فيه النساء، ويغزلون الكتان والصوف، ويحكن ويطرزن، ويقمن بتحضير الأدوية من الأعشاب وتقطير المشروبات، ونجحن إلى حد كبير في النهوض بفن الطبخ، في إنجلترا.
وسنت حكومة إليزابث القوانين للاقتصاد بمثل ما سنت به للعقيدة، من غيرة(28/67)
وحماس. وأدركت أن القيود البلدية على الصناعة والتجارة، تعوق النشاط التجاري والصناعي، فاستبدلت بأنظمة الوحدات الإدارية نظاماً قومياً واحداً. وقرر تشريع "التلمذة الصناعية" المشهور (1563) مجموعة قواعد ومبادئ هامة للرقابة والإلزام الحكوميين، وقد ظل قانون لإنجلترا حتى 1815. ومذ كان القانون يهدف إلى القضاء على الخمول والتعطل، فانه تطلب من كل شاب قوي الجسم قادر على العمل أن يخدم كتلميذ لمدة سبع سنوات، لأن الرجل "حتى يبلغ الثالثة والعشرين، يكون في أغلب الأحوال، وليس دائماً، متهور طائشاً لا يحسن التمييز، لم يؤت من التجربة والخبرة ما يستطيع معه أن يحكم نفسه (3) ". وكل متعطل عن عمد قبل الثلاثين من العمر، ليس له دخل سنوي مقداره أربعون شلناً، يمكن إجباره على العمل، وفقاً لتوجيه السلطات المحلية. وكل الأصحاء الذين لم يبلغوا الستين في الريف يمكن إلزامهم بالعمل في جمع المحاصيل. ويجب تأجير العمال بعقود سنوية نظير نوع من أجر سنوي مضمون. وخول القضاة الصلح سلطة تحديد الحد الأقصى والحد الأدنى لمكافأة كل عمل في المنطقة التي يعمل بها كل نهم. وحدد أجر العامل في لندن بتسعة بنسات يومياً. وفرضت غرامة قدرها أربعون شلناً على أصحاب العمل الذين يفصلون العمال بشكل تعسفي. أما المستخدمون الذين يتركون أعمالهم بغير سبب مشروع فكان يزج بهم في السجن. وكان محظوراً على أي مستخدم أن يترك مدينته أو أبرشيته دون إذن من رب العمل أو الحاكم المحلي، وحددت ساعات العمل باثنتا عشرة ساعة يومياً في الصيف، وبساعات ضوء النهار في الشتاء. وكان الاضطراب أياً كان نوعه محظوراً، وكانت عقوبته السجن أو الغرامة الثقيلة (4).
وعموماً كان لهذا التشريع مفعوله في حماية أرباب العمل ضد من يستخدمون من العمال، والزراعة ضد الصناعة، والدولة ضد الثورة الاجتماعية. وكتبت نقابة البناءين بالأجر في مدينة هل في صدر قانونها المحلي هذه العبارة: "كل الناس متساوون بالطبيعة، خلقهم خالق واحد من طينه واحدة". ولكن لم يؤمن بهذا أحد، وفي أقل القليل سيسل وإليزابث، ويحتمل أن يكون سيسل هو الذي(28/68)
وجه التشريع الاقتصادي في 1563 ومن نتائجه بالنسبة للطبقات العاملة انه جعل الفقر أمراً إجبارياً. واقترح إعادة تحديد الأجور بصفة دورية وفقاً لأسعار المواد الغذائية الأساسية، ولكن الحكام المكلفين بهذا العمل كانوا ينتسبون إلى طبقة المستخدمين (أرباب العمل). وارتفعت الأجور، ولكن بمعدل أبطأ كثيراً من الأسعار. وفيما بين عامي 1580 و1640 ارتفعت الأسعار بنسبة 100%، على حين ارتفعت الأجور في نفس الفترة 20% فقط (6).
وفي خلال القرن من الزمان الذي يمتد من 1550 إلى 1650 كانت أحوال المهنيين تزداد سوءاً يوماً بعد يوم (7). وامتلأت ضواحي لندن "بطبقة فقيرة نسبياً، شريرة غالباً، تقطن في أحقر المساكن (8) "، تعيش في بعض الأماكن على السرقة والتسول، وفي جنازة ارل شروزبري (1591) جاء نحو عشرين ألفا من المتسولين يلتمسون الصدقات (9).
وشنت الحكومة حملات على هذه الرذائل بمجموعة من القوانين الصارمة ضد التسول والاستجداء، وبمجموعة إنسانية نسبياً من "قوانين الفقراء" (1563 - 1610) التي اعترفت بمسئولية الدولة عن حماية رعاياها من الموت جوعاً. وفي كل وحدة إقليمية جمعت ضريبة لرعاية الفقراء غير القادرين على العمل، وتشغيل القادرين على العمل في مصانع تديرها الدولة.
وتبين إن ارتفاع الأسعار كان حافزاً للصناعة والتجارة قدر ما كان مأساة وكارثة على الفقراء. والأسباب الرئيسية في هذا هو استخراج الفضة في أوربا، واستيراد المعادن النفيسة من أمريكا، وغش الحكومات للعملة (تخفيض قيمتها بزيادة ما تحتويه من معدن خسيس) وفيما بين سنتي (1501 - 1544) كانت جملة مقادير الفضة المستوردة أو المستخرجة في أوربا تساوي نحو 150 مليوناً من الدولارات بمعدلات 1957، وفيما بين عامي 1545 - 1600 نحو 900 مليون (10). وكافحت إليزابث بشرف غش النقد الإنجليزي، وتقبلت نصيحة مستشارها البعيد النظر، سير توماس جريشام، الذي حذرها (1560) في عبارة أصبحت "قانون جريشام"، وهي(28/69)
أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، وأن العملة التي تحتوي على النسبة الصحيحة من المعدن النفيس قد تختزن أو ترسل إلى الخارج، على حين أن العملة التي لا تحتوي على النسبة المقررة الصحيحة من المعدن تستعمل لسائر الأغراض الأخرى، وبخاصة في تسديد الضرائب أي "أن يدفع للحكومة النقد الذي سكته هي (وغشته) "، وأصلحت إليزابث وسيسل النقد الذي كان قد غشه أبوها وأخوها، وأعادت إلى العملة الإنجليزية النسبة الصحيحة من الذهب أو الفضة. وارتفعت الأسعار على الرغم من هذا، لأن تدفق الذهب والفضة أو إنتاجهما، وتداول العملة، فاقا سرعة إنتاج السلع.
وأسهمت الاحتكارات في رفع الأسعار. ورخصت إليزابث في احتكار صناعة أو بيع الحديد والزيت والخل والفحم والرصاص ونترات البوتاسيوم أو الصوديوم (الملح الصخري) والنشا والخيوط والجلد، والجلود المدبوغة والزجاج، ولقد مكنت هذه التراخيص، من جهة لتشجيع رأس المال على تحسين الإنتاج، وإقامة صناعات جديدة، ومن جهة أخرى كتعويض أو مكافأة للوظائف والخدمات التي لا تحصل بدونها (أي تراخيص الاحتكار) على أجر كاف. ولما ارتفعت الشكوى من هذه الاحتكارات إلى حد أن البرلمان كاد أن يثور، وافقت إليزابث على وقفها حتى يتم التحقيق فيها والتصديق عليها (1601)، ومن ثم كان الاحتفاظ ببعضها.
ونتيجة لهذا التعويق نمت التجارة الداخلية بخطى أبطأ من تقدم التجارة الخارجية. وفيما عدا المناسبات والأعياد، لم يكن يسمح لأي إنسان أن يبيع السلع في أية مدينة لا يكون هو من سكانها، وكانت هذه المناسبات دورية في كثير من المراكز، وبلغت أكثر من مائة يوم في السنة. وكان أكثرها شيوعاً، "يوم القديس برثلميو" الذي يقام في شهر أغسطس من كل عام بالقرب من لندن، ومع "سيرك" يجذب الناس إلى السلع، وكان انتقال البضائع على الماء أكثر منه بالبر، وكانت الأنهار تعج بالحركة، وكانت الطرق رديئة، ولكنها آخذة في التحسن. ويمكن السير فيها ركوباً لمسافة مائة ميل في اليوم، وقطع الرسول الذي حمل إلى ادنبره نبأ وفاة إليزابث(28/70)
162 ميلاً في يومه الأول. وكانت الخدمات البريدية التي أنشئت في 1517 مقصورة على الحكومة وحدها. أما البريد الخاص فكان يرسل مع الأصدقاء أو الرسل أو السعاة أو أي مسافرين آخرين. وكان معظم السفر بالبر على ظهور الخيل، أما المركبات فأدخلت حوالي 1564، وظلت حتى 1600 لوناً من الترف لدى قلة من الناس، وما جاءت سنة 1634 حتى كثر عددها إلى حد إصدار بلاغ بتحريم استخدام الأفراد لها استخداماً خاصاً، بسبب ازدحام حركة المرور (11). وكانت الأنزال (الفنادق) الحسنة، كذلك كانت النادلات فيها، اللهم إلا عند الدفع. لكن كان ينبغي على عابر السبيل أن يحرص على كيس نقوده، وأن يخفي وجهته (12). لقد كان على المرء في إنجلترا على عهد إليزابث أن يكون نشيطاً حذراً مستعداً.
ونمت التجارة الخارجية بتقدم الصناعة. وكان تصدير المنتجات الكاملة الصنع هو الوسيلة المفضلة لتسديد ثمن ما يستورد من المواد الخام وماد الترف الشرقية. وتوسعت السوق من الوحدة الإقليمية إلى الأمة بأسرها، ثم إلى أوربا، بل حتى إلى آسيا وأمريكا. واتسعت مجالات الحكومات الوطنية وأهدافها وسلطانها مع اتساع مدى التجارة ومشاكلها، وقد رغبت إنجلترا-مثلما رغبت أسبانيا وفرنسا-وفي تصدير السلع واستيراد الذهب. لأن "النظريات التجارية (1) " التي سادت آنذاك، كانت تقيس ثروة الأمة بمقدار ما لديها من المعادن النفيسة. وواضح أن فرانسيس بيكون كان أول من تحدث عن "ميزان تجاري (13) " مرض، قصد به زيادة الصادرات على الواردات ومن ثم امتصاص الفضة أو الذهب، أو تسربهما إلى داخل البلاد. وأعلن سيسل عن هدفه بقوله: "يجب، بكل الوسائل، أن نقصر استخدامنا للسلع الأجنبية على ما هو ضروري لنا (14) " ولقد أدرك أن الفضة والذهب لا يؤكلان ولا يلبسان، ولكنهما كانا نقداً دولياً، يمكن أن نشتري به عند الضرورة
_________
(1) Mercantilism وهو النظام الاقتصادي الذي نشأ في أوربا خلال تفسخ الإقطاع لتعزيز ثروة الدولة عن طريق تنظيم حكومي صارم للاقتصاد الوطني في جميع نواحيه، وانتهاج سياسة تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية. (المترجم نقلاً عن قاموس المورد، بيروت 1971).(28/71)
أي شيء تقريباً، حتى الأعداء، وتجب حماية الصناعة الوطنية زمن السل، حتى لا تعتمد الأمة على المنتجات الأجنبية زمن الحرب، ومن ثم عوقت الحكومات الاستيراد عن طريق الرسوم الجمركية، وشجعت التصدير عن طريق الاعانات، وتكونت "شركات التجارة" لبيع المنتجات الإنجليزية في الخارج وهيأ "التجار المغامرون". الإنجليز منفذاً للصادرات في همبرج. ورأس أنطوني جنكنسون بعثة تجارية إلى روسيا (1557) وأخرى إلى إيران (1562)، وذهبت بعثة أخرى إلى الهند (1583 - 1591). وأنشئت لجنة إنجليزية تركية (1581). وأسست الشركة المسكوفية في 1595، وشركة الهند الشرقية الشهيرة في التاريخ في 31 ديسمبر 1600، وكان المسرح ممهداً لهستنجز وكليف. وقام عشاق البحر أو المال بمغامرات فبر المحيطات بحثاً عن طرق جديدة للتجارة. وكان علم الجغرافيا، من بعض النواحي، نتيجة غير مقصودة لحماستهم. وقامت حركة ضخمة لبناء السفن، بحثاً عن الأسواق والمستعمرات. وتحولت أخشاب غابات إنجلترا إلى سفن وصوار. وشرعت بريطانيا تتحكم في الأمواج وتحكم البحار. وولدت الإمبراطورية البريطانية قولاً وعملاً.
ولما انتشرت التجارة واتسع مجالها، تطورت النظم المالية لتيسير عملياتها وتعجيلها. وتضاعف عدد المصارف. وفي 1553 أنشأ "التجار المغامرون" شركة مساهمة مشتركة للتجارة مع روسيا، أصدرت 240 سهماً قيمة كل منها 25 جنيهاً، وكانت الأرباح توزع بعد كل جولة. ويعاد رأس المال المستثمر (15). ومولت شركة الهند الشرقية رحلاتها بمثل هذه الطريقة. وأدت الأرباح التي بلغت 2 slash1 87% في أول رحلة إلى اندفاع المساهمين إلى الاشتراك في المشروع أو المغامرة الثانية-ومنهم رجال البلاط، والقضاة، ورجال الدين، والفرسان، والأرامل، والعوانس، والحرفيون. وأحب الرجال والنساء آنذاك حباً جماً، كما هو الحال اليوم تماماً. وكان قد حرم الفوائد على القروض حتى 1552، بوصفها "رذيلة ما أقبحها (16) "، ولكن القوة المتزايدة لرجال الأعمال في مجلس العموم، أدت إلى صدور "قانون الربا" في 1571، وقد ميز هذا القانون بين الفائدة والربا،(28/72)
وأجاز نسبة 10% سعراً الفائدة. ولما ازداد التعامل في الأسهم أنشئت سوق الأوراق المالية (البورصة) لتبادل ملكية الأسهم والبضائع. وسك مزيد من النقود المتداولة ليتسنى شراء السلع وبيعها. وفي 1566 أسس جريشام "البورصة الملكية" لتقوم بمثل هذه العمليات التجارية والمالية. وفي 1583 أصدرت أقدم "بوليصة" تأمين على الحياة (17).
ونمت الروح التجارية مذ أصبحت لندن واحدة من أسواق ومراكز العالم المزدهرة. وتألقت الشوارع غير المضاءة بما تكدس فيها من بضائع. وحكم جواب آفاق طاف بأقطار كثيرة، بأن منشئات الصياغ في لندن أفخم مثيلاتها في أي مكان آخر في العالم (18). وجن جنون أصحاب الأعمال للحصول على دور لهم، واستعمل بعضهم صحن كاتدرائية سانت بول مقراً مؤقتاً لمكاتبهم، وكلهم ثقة بأن "المسيح" كان قد غير رأيه منذ ظهر كلفن، وهناك تعامل المحامون مع عملائهم، وأحصى الناس المال فوق المقابر، وفي الفناء باع الباعة المتجولون الخبز واللحم والسمك والفاكهة والجعة والبيرة، وتدافعت حشود المشاة والباعة المتجولون والمركبات وعربات النقل في الشوارع الضيقة الموحلة. واستخدم نهر التايمز كطريق رئيسي تمر به مراكب نقل البضائع والمعديات ومراكب النزهة، وكاد يوجد في كل نقطة فيه مجدف أو معد معه قارب، مستعد لنقل البضائع أو الركاب عبر النهر، ضد التيار، أو مع التيار. ومن ثم كانت صيحاتهم العالية (نداءاتهم للركاب): "شرقاً" أو "غرباً"، التي أخذت عنها عنوانات "روايات جاكوب". وكان النهر، إذا زالت عنه رائحته-نعمة كبرى للتجارة والنزهة والعشاق، وخليقة للمشاهد المسرحية الفخمة والمساكن الفاخرة. وكان جسر لندن الذي بني في 1209 مفخرة المدينة، والطريق الوحيد بين طرفيها الشمالي والجنوبي. وتخصص الجنوب في الحانات والمسارح والمواخير والسجون. أما الشمالي فكان المركز الرئيسي الأعمال. وهنا كان التاجر هو السيد، وكان اللورد صاحب اللقب يدخل بعد السماح له بالدخول. وكانت الشخصيات الملكية والنبلاء يقطن معظمهم في قصور خارج لندن. وكان حي وستمنستر، مقر البرلمان آنذاك، مدينة منفصلة. وهناك أيضاً أجبرهم رجل الأعمال(28/73)
على سماع صوته، وما وافت سنة 1600 حتى بات في مقدوره أن يزعج الملكة، وبعد نصف قرن تقريباً (حوالي 1650) قطع رأس الملك.
2 - في المدارس
لم يكن عصر شكسبير متوفراً على التعليم. فتعلم العصر قليلاً من اللاتينية، وأقل منه من اليونانية، مع قدر أكبر من الإيطالية والفرنسية، وقرأ الكتب بنهم ولكن بسرعة، واندفع يحكم عليها بالتجربة والاختبار، وتعلم من المدرسة الحياة، وأجاب معلمه بوقاحة لم يسمع بمثلها.
ولم تكن اللغة التي استعملها هذا العصر هي لغة المدارس، ولكنها كل لغة الحديث الموروثة عن عهود الكلت والرومان والسكسون والنورمنديين في إنجلترا، مزيدة بالغنائم اللغوية من فرنسا وإيطاليا، كما انتزعت بعض الألفاظ العامية من شوارع لندن، ومن اللهجات في المقاطعات، ولكن لغة العصر لم تقنع بهذا، فجعلت الكلمات تلد الكلمات، وجعلت الخيال الواسع يتخبط في الكلام الخلاق. وهل كان ثمة لغة حية قوية مرنة غنية مثلها؟ ولم تتوقف لتضع لهجائها القواعد، وقبل 1570 لم توجد قواميس للإرشاد إلى ضبط الهجاء والإملاء، ولم يحدد شكسبير كيف يتهجى اسمه. واستخدم الاختزال، ولكنه لم يهدئ من روع أصحاب الأعمال المهتاجين، ولم يسعف الشعر.
وقضى هنري الثامن على تعليم البنات المنظم حين حل أديار الراهبات. أما التعليم الابتدائي فكان ميسوراً مجاناً لأي ولد يمكنه الوصول إلى إحدى المدن. وفتحت إليزابث مائة مدرسة متوسطة مجانية Grammar School، وأضاف إليها جيمس الأول زشارل الأول 288 مدرسة أخرى. أما الأولاد (البنين) من ذوي الأصل العريق فقد كانت قد أسست لهم بالفعل مدارس خاصة Public School ( مدارس ثانوية داخلية) في ونشستر، وايتون، وسانت بول، وشروزبري، وأضيف إليها الآن رجبي (1567)، وهاور (1571)، ومدرسة Marchant Tayior's، (1581) حيث لمع الاسم التربوي العظيم ريتشارد مولكاستر. وكان المنهج تقليدياً،(28/74)
بالإضافة إلى الضرب، وكان تعليم المذهب الأنجليكاني إجبارياً في جميع المدارس. وفي وستمنستر كانت الدراسة تبدأ في السابعة وتنتهي في السادسة، مع فترات فيها شيء من الشفقة: لطعام الإفطار في الثامنة، ولسنة من النوم والخلوة بعد الظهر. وكان الآباء يصرون على أن تنهض المدرسة على أكمل وجه، بإحدى مهامها الرئيسية، ألا وهي تخليصهم من أبنائهم.
وظلت أكسفورد ودمبردج تحتكران التعليم الجامعي. وكانتا قد فقدتا هيبتهما والثقة بهما في أثناء الإصلاح الديني وما اقترن به من هياج وشغب، كما انصرف عنهما آلاف الطلاب، ولكنهما كانتا تستردان مكانتهما، وفي 1586 كانت كل جامعة منهما تضم نحو 1500 طالب. وفي جامعة كمبردج تبرع سير والتر ميلدماي Mildmay بكلية عمانويل في 1584، وأسست فرانسس، كونتيسة سسكس وعمة فيليب سدني، كلية سيدني سسكس في 1588. وفي أكسفورد أسست كلية يسوع بأموال حكومية وغير حكومية 1571، وأضيفت كليتا واهام (1610) وبمبروك (1624) في عهد جيمس الأول. وشرفت كمبردج في 1564 بزيارة الملكة التي استمعت في وقار وتواضع إلى خطاب رسمي باللاتينية في مدحها، وفي كلية ترنتي ردت باليونانية على خطاب باليونانية، وفي الطرقات تبادلت الحديث مع الطلبة باللاتينية، وفي نهاية الزيارة وجهت خطاباً باللاتينية أعربت فيه عن أملها في أن تفعل شيئاً من أجل التعليم. وبعد ذلك بعامين زارت أكسفورد مبتهجة مفاخرة بقاعاتها وملاعبها، وعند مغادرتها الجامعة صاحت في حماس: "وداعاً رعاياي الأفاضل، وداعاً أبنائي الطلبة الأعزاء، وفقكم الله في دراستكم (19) ". لقد عرفت كيف تكون ملكة.
ونافست نساء إنجليزيات أخريات إليزابث في مجال العلم والمعرفة. فاشتهر بنات سير أنطوني كوك بعلمهن. واتخذت ماري سدني كونتيسة بمبورك من بيتها، في ولتن منتدى للشعراء ورجال السياسة والفنانين الذين تبينوا فيها عقلاً ناضجاً يمكنها من تقدير أحسن ما يملكون أو يقدمون. وتلقى مثل هؤلاء السيدات معظم تعليمهن(28/75)
على أيدي معلمين خاصين في البيت. وكانت المدارس المتوسطة مفتوحة للجميع، أما الثانوية الخاصة والجامعات فكانت قصراً على الذكور فقط.
وكان من أبرز سمات العصر أن أقدر الماليين في عهد إليزابث أسس في لندن (1579) "كلية جريشام" للقانون والطب والهندسة وعلوم البلاغة وغيرها من الدراسات النافعة لطبقة أصحاب الأعمال، وحدد أن تكون المحاضرات بالإنجليزية واللاتينية على حد سواء، طالما أن التجار وغيرهم من المواطنين سيلتحقون بها (20). وأخيراً كان تعليم طبقة ذوي اليسار أو ذوي الألقاب يكمل بالسياحة والرحلات. وقصد الطلبة إلى إيطاليا لاستكمال تدريبهم الطبي والجنسي، وللتعرف على آداب الإيطاليين وفنونهم، وتعلم كثيرون أن يعرجوا على فرنسا في الطريق. ولم تكن اللغة عائقاً آنذاك، لأن كل متعلم في غرب أوربا ووسطها كان يعرف اللاتينية. وعلى الرغم من ذلك فان المسافرين العائدين أتوا معهم إلى الوطن بإثارة من الإيطالية والفرنسية، كما جاءوا بولع شديد بالأخلاقيات الهينة اللينة التي سادت إيطاليا في عصر النهضة.
3 - الفضيلة والرذيلة
إن كل تلميذ ليعرف تنديد روجر أسكام في 1563 بالرجل الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين، حيث يقول: -
أني لأعتقد أن الذهاب إلى هناك "إلى إيطاليا" .... خطر، أي خطر ... لقد جعلت الفضيلة يوماً من هذه البلاد سيدة على العالم. ولكن الرذيلة جعلت منها الآن عبداً لمن كانوا من قبل يلذ لهم أن يخدموها .... إني على العكس من ذلك، أعرف رجالاً غادروا إنجلترا ممن عرفوا فيها بالحياة البريئة والمعرفة الواسعة عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسهم عن الاستقامة في الحياة وانصرفوا عن العلم، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل سفرهم إلى الخارج. وإذا ذهب بك الظن إلى أننا لا نقرر الحقيقة. فاستمع إلى ما يقوله الإيطاليون ... "إن الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين ليحمل بين جنبيه شيطاناً متجسداً فيه" .... وكنت أنا نفسي ذات مرة(28/76)
في إيطاليا، وأحمد الله إني لم أمكث فيها إلا تسعة أيام فقط. ومع ذلك رأيت في هذا الوقت القصير، في مدينة واحدة، من الإباحية والمجون والإثم مالا أكاد أذكره عن مدينتنا الفاضلة لندن في تسع سنوات (21).
ولم يكن معلم إليزابث هو الوحيد الذي ضرب على هذه النغمة. فقد كتب ستيفن جسون Gosson في كتابه "مدرسة الفساد" (1579) "لقد سلبنا إيطاليا دعارتها، انك إذا قارنت بين لندن وروما، وبين إنجلترا وإيطاليا لوجدت أن مسارح الواحدة منها فاسدة والأخرى منتشرة انتشاراً واسعاً بيننا". ونصح سيسل ابنه ألا يسمح لأولاده أن يعبروا جبال الألب. "لأنهم لن يتعلموا هناك شيئاً سوى الغرور وعدم احترام المقدسات والإلحاد (22) ". وفي كتابه "تشريح المفاسد"، وصم فيليب ستبز Stubbs- وهو بيوريتاني- الإنجليز في عصر إليزابث- بأنهم أشرار مترفون مزهوون، يفاخرون بخطاياهم. ونعى الأسقف جول Jewel في موعظة ألقاها أمام الملكة- نعى على الناس في لندن أنهم في سلوكهم وأخلاقهم "يهزؤون بكتاب الله المقدس، الإنجيل، ومن ثم يصبحون أكثر فسقاً وأكثر شهوانية وحباً للدنيا وأكثر دعارة، مما كانوا عليه في أي وقت مضى ... وإذا كانت حياتنا تشهد بعقيدتنا وتنم عن ديننا، فإنها تنادي بأعلى صوت ..... ليس هناك إله (23) (1).
إن مثار الضجة والنعي على الأخلاق يرجع في كثير منه إلى أساتذة الأخلاق
_________
(1) يروي أوبري قصة تؤيد أسكام، يقول "كان والتر رالي مدعواً إلى العشاء مع شخصية كبيرة. وكان ابنه يجلس إلى جواره، محتشماً غاية الاحتشام، على الأقل طيلة نصف فترة العشاء. ثم قال: هذا الصباح، ولم تكن خشية الله ماثلة أمام عيني، قصدت إلى واحدة من بنات الهوى كنت شديد الهيام بها، وأردت أن استمتع بها. ولكنها دفعتني عنها وأقسمت ألا أقربها، وخاصة إن أباك كان يضاجعني منذ ساعة فقط. فما كان من والتر، وقد فوجئ مفاجأة مذهلة، وخاصة في مثل هذه المأدبة العظيمة، إلا أن لطم لطمة شديدة على وجهه. ولكن الابن، رغم فظاظته وغلظته؛ لم يضرب أباه، بل لطم الرجل الذي كان يجلس إلى جواره، وقال: لكمة هنا وهناك ستصيب أبي حالاً .. " (موجز سير الحياة Brief Lives- ص256).(28/77)
الذين نددوا أشد التنديد بالنساء والرجال الذين لم يعودوا يلقون بالاً إلى أهوال الجحيم أو يؤمنون بها. ويحتمل ألا يكون الناس في مجموعهم شراً أو خيراً عما كانوا عليه من قبل، ولكن، كما تشددت الأقلية البيوريتانية في أخلاقها وقترت في أموالها واقتصدت في بنات شفاهها، كذلك اتفقت أقلية وثنية مع الإيطاليين على أن التمتع بالحياة، أفضل من إرهاق أنفسنا بالتفكير في الموت دون جدوى. ويمكن أن تكون الأنبذة الإيطالية، التي كان الناس يقبلون عليها في إنجلترا، قد ساعدت على الإباحية في الأخلاق، وبالمثل على توسيع الشرايين، وكان ذلك أبقى أثراً. وربما جاء من إيطاليا ومن فرنسا ومن الآداب القديمة، معنى أصرح إحساساً بالجمال. ولو أن هذا المعنى جلل بشيء من الحزن نتيجة شعور أقوى بقصر عمر الجمال. وحتى جمال الشاب النضير كان يثير الناس في عصر إليزابث أشد إثارة. وأجرى مارلو (في روايته دكتور فاوست) على لسان ميفستوفيلس. امتدحه لفاوست على انه أجمل من السموات. وتأرجحت قصائد شكسبير ( Sonnet تتألف من 14 بيتاً) بين عشق المرء لأفراد جنسه وعشقه لأفراد الجنس الآخر. ولم يعد جمال المرأة مجرد خيال شعري، ولكنه ثمل سرى في الدم وفي الآداب وفي البلاط، وحول القراصنة إلى شعراء. وجمع نساء البلاط الظرف وخفة الدم إلى التجميل والتطرية فسحرن ألباب الرجال كما أسرن قلوبهم. وكان في التواضع إغراء بالاقتناص ومضاعفة لسلطان الجمال. وضاعت الابتهالات إلى مريم العذراء وسط استنكار العذرية والانتقاص من قدرها. وتفجر الحب الرومانتيكي في الأغاني مع حرارة الرغبة المتمنعة. وابتهج النساء إذ رأين الرجال يقتتلن من أجلهن، وأسلمن أنفسهن، بالزواج أو بغيره، لمن تكون له الغلبة. وكان من سمات اضمحلال سلطان العقيدة أن موافقة الكنيسة أو مراسمها لم تعد الآن مطلوبة لصحة الزواج، ولو أن الاعتراف به كان يعتبر إساءة للناموس العام، تمييزاً له عن القانون. وكانت معظم الزيجات تدبر عن طريق الوالدين، بعد إطراء متبادل لمزايا الطرفين، ومن ثم تصبح معبودة الساعة المشدوهة، ربة بيت متحررة من الأوهام، منصرفة بكليتها إلى أولادها ومهامها الشاقة، هكذا يعمّر الجنس البشري.(28/78)
وثمة انحلال خلقي أسوأ دمغت به الحياة العمة، فقد تفشى في الوظائف الرسمية ابتزاز الأموال، قلت أو كثرت، وتغاضت عنه إليزابث، كعذر لها عن عدم زيادة الرواتب (25). وكان أمين صندوق الحرب يحصل على 16. 000 جنيه سنوياً علاوة على راتبه. وبالاحتيال القديم قدم الأزل، كانوا يحتفظون بأسماء الجنود الموتى في قوائم الجيش ويضعون مخصصاتهم في جيوبهم ويبيعون الملابس المخصصة لهم (26). وكان الجندي يساوي وهو ميت أكثر منه وهو حي، وقبض ذوو المناصب الكبيرة مبالغ ضخمة من فيليب الثاني ليوجهوا سياسة إنجلترا نحو أهداف أسبانيا (27). ومارس أمراء البحر القراصنة وباعوا الرقيق. وباع رجال الدين رواتب الكنيسة (28)، وكان يمكن إغراء الصيادلة بتسميم الأدوية والأطباء بوصفها للناس. وغش التجار في البضائع، ووصل الأمر إلى فضيحة عالمية، ففي 1585 حدث من الغش في الأقمشة الصوفية وغيرها في إنجلترا أكثر مما حدث منه في أوربا بأسرها (30)، وكانت الأخلاق العسكرية بدائية ساذجة. وكم من مرة حدث الاستسلام بلا قيد ولا شرط، فكان جزاؤه إعمال الذبح في الجنود وفي غير المحاربين على حد سواء. وكان السحرة والعرافون يحرقون. كما كان الجزويت يؤخذون من فوق المشنقة ليقطعوا إرباً (30). لقد جرت ينابيع الرحمة الإنسانية مستأنية في عهد الملكة الفاضل إليزابث.
4 - العدالة والقانون
مازالت طبيعة الإنسان تنفر من المدنية، على رغم القرون العديدة التي سادت فيها الديانات وقامت الحكومات، وظلت تعبر عن الاستياء والاعتراض في سلسلة طويلة من الخطايا والجرائم، لم تفلح القوانين والأساطير والعقوبات في وقف سيلها. وكان في قلب لندن أربع مدارس للقانون هي The Inner Temple, The Middle Temple Gray's Inn Lincoln's Inn تعرف في جملتها باسم دور القضاء وأقام الطلبة فيها كما كانوا يقيمون في قاعات كليات أكسفورد وكمبردج. ولم يسمح بالالتحاق بها إلا لذوي المحتد الكريم، وكان كل المتخرجين فيها يقسمون اليمين على خدمة التاج. وكان البارزون منهم أو الذين يسهل قيادهم يصبحون قضاة في(28/79)
محاكم الملكة. وارتدى القضاة والمحامون في أثناء تأدية عملهم أردية تدل على الهيبة والوقار، وكأن عظمة القانون وجلاله يكمنان في خياطة الثياب.
وكانت المحاكم، بالإجماع، فاسدة. وعرف أحد أعضاء البرلمان قاضي صالح بأنه: "حيوان يمكنه أن يستغني بست دجاجات عن اثنا عشر قانوناً (32) ". وطلب فرنسيس بيكون مغريات أكبر. وفي رواية شكسبير قال الملك لير الذي روعه الحزن: "اكسوا الخطيئة بالذهب، يتكسر سيف العدالة القاطع دون أن يؤذي أحداً (33) "، ولما كان القضاة يعزلون وفق مشيئة الملكة فانهم حسبوا لهذا حسابه في أحكامهم، وقبض ذوو الحظوة لديها الرشوة ليغروها بالتدخل في قرارات الحاكم (34)، وظل نظام المحلفين معمولاً به، إلا في تهمة الخيانة العظمى، ولكن غالباً ما كان القضاة أو موظفو التاج يخوفون المحلفين ويكرهونهم على قضاء مآربهم بالتهديد (35)، وكان هناك توسع في تعريف تهمة الخيانة العظمى لتشمل كل عمل يهدد حياة صاحب العرش أو جلاله. وكان نظر مثل هذه القضايا أمام محكمة قاعة النجم ( The Star Chamber) - وهو مجلس شورى الملكة منعقداً على هيئة محكمة ليمارس سلطاته القضائية، وهناك كان المتهم محروماً من تحقيق المحلفين لقضيته أو المعارضة في أمر حبسه، أو من محام للدفاع عنه، بل كان عرضة للاستجواب المرهق أو التعذيب، وكان يحكم عليه عادة بالسجن أو الإعدام.
وقام قانون العقوبات على العوائق أكثر منه على المراقبة والكشف عن الحقيقة. ولما كانت القوانين ضعيفة فقد باتت العقوبات صارمة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لأية واحدة من مائتي جريمة. منها الابتزاز بالتهديد، وقطع الأشجار الصغيرة، وسرقة أكثر من شلن واحد. وبلغ متوسط من شنقوا بسبب الجريمة، سنوياً، في إنجلترا المبتهجة، في عهد إليزابث، 800 شخص (36). أما الجرائم الصغرى فكان عقابها التعذيب بالمشهرة والمخلعة والجلد بالسياط، وإحراق ثقب في الأذن أو اللسان أو إحدى الأذنين أو اليدين (37). ولما كتب جون ستبز، وهو محام بيوريتاني، نشرة يستنكر فيها اقتراح زواج إليزابث من ألنسون،(28/80)
باعتبار هذه الزواج خضوعاً أو استسلاماً للكاثوليكية، قطعت يده اليمنى بأمر القاضي، فرفع جون الجدعة الدامية، ورفع بيده اليسرى قبعته، ثم هتف "لتحي الملكة (38) " وقدم فيليب سدني إلى الملكة احتجاجاً على هذه الوحشية. واستشعر سيسل العار والخجل فعينه في منصب حكومي ذي راتب كبير وجهد يسير. وكان التعذيب غير مشروع، لكن محكمة قاعة النجم استخدمته، وإنا لنلاحظ أنه برغم أن آداب العصر كانت عميقة قوية، فإن المستوى العام لمدنية العصر لم يبلغ مستوى المدنية في إيطاليا أو أفنيون في عهد بترارك، وأقل كثيراً منه في روما على عهد أغسطس.
5 - في البيت
بدأت الحياة الإنجليزية بمحاولة التغلب على مشكلة وفيات الأطفال، وكانت نسبتها عالية، وكان سير توماس براون من أعلام الطب، ومع ذلك مات ستة من أولاده العشرة في سن الطفولة (39). ثم كانت الأوبئة، مثل "مرض العرق" 1550، والطاعون الذي حل بالبلاد 1563، 1592 - 1594، 1603، ولا بد أن متوسط الأعمار كان منخفضاً، قدرته بعض الإحصاءات بثمان سنوات ونصف سنة (40). وكبر الناس وإدراكهم الهرم بأسرع مما هو حادث الآن. أما الذين عمروا فهم الشجعان ذوو القدرة على الاحتمال الذين صلبت أعوادهم وقويت أعصابهم بمقارعة الموت، من اجل الخدع الحربية والأسلاب.
وكانت الرعاية الصحية آخذة في التحسن. وبدأ الصابون يكون ضرورياً بعد أن كان ترفاً. وحوالي 1596 ابتدع سيرجون هانجتون مرحاضاً فيه ماء جار. وكانت الحمامات الخاصة قليلة. واستخدمت معظم الأسرات حوضاً خشبياً موضوعاً أما نار مكشوفة. وكان في كثير من المدن حمامات عامة. وهيأ Bath and Buxton للطبقة العليا منشئات أنيقة للاستحمام. وقدمت "الدفيئات" ( Hot Itouses) حمام البخار، وقدمت التسهيلات للأكلات واللقاءات الغرامية غير المشروعة، وزودت بيوت الميسورين دون غيرهم بموارد مياه خاصة بهم في منازلهم، أما معظم الأسرات فكانت تلتمس الماء من قنوات عامة مفتوحة على ينابيع مزخرفة.(28/81)
وبنيت البيوت في القرى والمدن من الآجر والجص، تحت سقوف من القش، ولا يزال كوخ آن هاثاواي بالقرب من ستراتفورد- أون- أفون، محتفظاً به في حالة جيدة، كنموذج لهذه المساكن. أما في المدن الكبرى فكانت البيوت متلاصقة عادةً، واستخدم في بنائها قدر أكبر من الآجر والحجر، وكان لها سقوف من القرميد، وكانت المشربيات المقسمة بأعمدة من الحجر والأدوار العليا الناتئة تلفت أنظار الذين لم يألفوا رؤيتها. وكانت البيوت من الداخل مزدانة بالنقوش والعمدة. وكانت المدفأة تضفي على الغرفة الرئيسية أو القاعة الكبرى جلالاً وتزودها بالدفء، كما كان السقف-من الخشب أو الجص- يقسم إلى رسوم متماثلة أو غريبة. وكانت هناك المداخن التي تنفث الدخان إلى الخارج، وكان من قبل يلتمس له منفذاً من ثقب في السقف. وكانت المواقد تساعد على تدفئة البيت. وكانت النوافذ الزجاجية شائعة آنذاك. ولكن ظلت الإضاءة في الليل بالمشاعل أو الشموع. وغطيت أرضية البيوت بالأسل والأعشاب ذات الرائحة الزكية عندما تكون طازجة، ولكنها لا تلبث أن تصبح كريهة الرائحة، وتؤوي الحشرات. وجاء السجاد بعد ذلك بخمسة وأربعين عاماً. وكانت الجدران تزدان بالأقمشة المزركشة بالصور والرسوم. مما مهد الطريق لرسم اللوحات، في عهد شارل الأول. واستخدم معظم الناس المقاعد الطويلة لشخصين أو أكثر والكراسي ذوات الأرجل الثلاث، أما الكرسي ذو الظهر فكان ترفاً اختص به الضيف الكريم أو رب البيت أو ربته، ومن هنا جاء التعبير "يأخذ الكرسي ذا الظهر" بمعنى "يترأس المجلس"، وفيما عدا هذا كان الأثاث متيناً رائعاً. فكانت، صواوين المائدة (البوفيه) والمنضدة وخزائن النفائس (دولاب الفضية) والصناديق الثمينة والأسرة ذوات القوائم العالية تصنع وتحفر من خشب الجوز أو البلوط، لتعمر قروناً طويلة. وكان السرير المزود بحشايا سميكة من الريش، وبأغطية حريرية (ناموسية)، يتكلف ألفاً من الجنيهات، ويعتبر شيئاً ثميناً يزهو به أهل البيت ويتوارثونه جيلاً بعد جيل. وخلف البيت أو حوله، في كل الطبقات تقريباً، كانت توجد حديقة زاخرة بالأشجار والشجيرات، تهيئ لهم الظل، وتمدهم بالأزهار التي اعتاد النساء أن(28/82)
يستعملنها فيتزين بيوتهن وشعورهن، واعتاد شكسبير أن يعطر بها شعره-زهرة الربيع، الزنبق، صريمة الجدي (شجيرة أزهارها غنية بالرحيق) وزهر العليق الجميل، والقرنفل الملتحي، والأدريون (القطيفة)، وزهرة كيوبيد وزنبقة الوادي، وغيرها كثير، بالإضافة إلى الورود البيضاء أو الحمراء .... ويقول بيكون: "أن الله سبحانه وتعالى غرس حديقة، لولاها لكانت الأبنية والقصور التي شيدها الإنسان فظة غير مقبولة (41) ".
وغالباً ما تكلفت زينة المرء أكثر كثيراً من زخرفة بيته. ولم يبز أي عصر من العصور عصر إليزابث في فخامة الثياب. وكان من بين نصائح بولونيس قوله: "إن الثياب مرهون بما تستطيع أن تدفع". وعند الطبقات الميسورة اجتمعت كل الأزياء من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، لتعوض الإنسان عما سلبته إياه الشهوة والزمن. وسخرت بورشيا من الشاب فالكنبردج قائلة: "أظنه اشترى صداره من إيطاليا وسرواله القصير من فرنسا، وقلنسوته من ألمانيا وسلوكه من كل مكان (42) ". وضربت إليزابث مثلاً ونموذجاً للتزين، إلى درجة أنه في عصرها تغيرت الأزياء مراراً وتكراراً، لأن محاكاة الناس لها بشكل عام، كادت تمحو الفروق الطبقية. وتبدي شخصية من شخصيات "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً Much Ado Adout Nothing" " الحزن والأسف على أن" تغير الأزياء يفني من الثياب أكثر مما يفنيه الإنسان (43). وحاولت قوانين الإنفاق أن تضع حداً لهذا الاضطراب والفوضى في حياكة الملابس، فصدر قانون 1574 ليعالج "التبذير والضياع عند عدد كبير من الشبان الذين يلبسون ما يملكون من أرض فوق ظهورهم". وحرم هذا القانون على غير الأسرة الحاكمة، والدوق والمركيز والارل، لبس اللون الأرجواني، أو الحرير أو القماش الموشى بالذهب، أو فراء السمور، كما حرم على غير البارونات وذويهم لبس الفراء والمخمل القرمزي، أو الأصواف المستوردة، والملابس المطرزة بالذهب أو الفضة أو اللؤلؤ (44)، ولكن سرعان ما أمكن التهرب من هذه القوانين، لأن البرجوازية الطامعة استنكرتها لا لأنها مثيرة للاستياء والغضب فحسب، بل لأنها كذلك تعوق التجارة، فألغيت في 1604.(28/83)
واتخذت القبعات على أي شكل ومن أي لون، من القطيفة أو الصوف أو الحرير أو الشعر الناعم الرقيق، ووضع الناس قبعاتهم على رؤوسهم دائماً تقريباً، خارج البيت أو البلاط، وحتى في الكنيسة كان الرجال يرفعون قبعاتهم-تمسكاً بالمراسيم-عند الالتقاء بالسيدات. ولكنهم يلبسونها فوراً. واحتفظ الرجال بشعورهم الطويلة قدر ما احتفظت النساء بها، وأرخوا اللحى غزيرة. ووضع الجنسان كلاهما حول الرقبة طوقاً مكشكشاً وياقة من الكتان و"الكمبريكي Cambric" ( قماش من القطن أو الكتان أبيض ناعم) موضوعة على إطار من الورق المقوى والأسلاك، تيبست في ثنيات أو طيات عريضة حادة، "بمادة سائلة سموها النشا (45) " ظهرت في إنجلترا آنذاك لأول مرة. وكانت كترين دي مديتشي أدخلت هذه البدعة إلى فرنسا 1533 بوصفها شيئاً للتزين والزخرف، ولكن الزي السائد (موضة العصر) توسع فيها حتى جعل منها آلة تعذيب تصل إلى الأذنين.
وجعلت الملابس من النساء لغزاً لا يمكن النفاذ إلى كنهه إلى حين. ولا بد أن نصف يومهم كان يستغرق في اللبس والخلع. ويتم تجهيز السفينة وتزويدها بكل ما يلزمها بأسرع مما تتزين المرأة (46). حتى الشعر كان يمكن أن يلبس أو يخلع، لأن إليزابث رسمت لهم نموذجاً في لبس اللمة أو الشعر المستعار المصوغ بلون خصلاتها الذهبية أيام شبابها، وكان الشعر المستعار شائعاً لأن النساء الفقيرات-كما قال شكسبير-كن يبعن خصلات شعرهن "بالميزان (47) ". وبدلاً من القبعات آثر معظم النساء قلنسوة بالغة الصغر أو شبكة شفافة تسمح بإبراز فتنة شعرهن. وكانت أدوات التجميل تصبغ الوجوه وتزجج الحواجب، والأقراط تتدلى من الآذان، والمجوهرات تتألق في كل مكان. وكان الطوق المكشكش للنساء، مثل ما هو للرجال، ولكن كان صدر المرأة في بعض الأحيان عارياً إلى حد ما (48). ولما كانت إليزابث ضامرة الصدر مستطيلة البطن، فقد ابتدعت زياً تطول فيه السترة على شكل مثلث إلى رأس دقيق تحت الخصر المشدود. وكانت التنورة تمتد من الأوراك بواسطة الطوق الموسع. وكانت العباءة المصنوعة من قماش هفهاف بشكل محكم، تغطي الأرجل، وابتدعت الملكة الجوارب الحريرية. وكانت التنورات تتدلى(28/84)
حتى تمس الأرض، والأكمام منتفخة، والقفازات مطرزة معطرة. وكانت السيدة تستطيع في الصيف أن تتحدث بالمروحة المزدانة بالجواهر، ومن ثم تأتي بأفكار فيها من الرقة ما لا تعبر عنه الكلمات.
ولكن الحياة في البيت نادراً ما كانت بملابس كاملة. وكان تناول الإفطار في الساعة السابعة والغذاء في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، والعشاء في الخامسة أو السادسة. وهكذا ينقضي النهار. وكانت الوجبة الرئيسية يتناولونها قرب الظهر، وكانت وجبة زاخرة بألوان الطعام. وقال أحد الفرنسيين "إن الإنجليز يملئون بطونهم (49) ". وظلت الأصابع تقوم مقام الشوكة التي بدأ استعمالها في عهد جيمس الأول. وكانت الأطباق الفضية تزين البيوت الموسرة. وكان اختزانها بالفعل وقاء ضد التضخم. أما الطبقات الوسطى الدنيا فإنها استخدمت أواني من القصدير (البيوتر)، واستخدم الفقراء أطباقاً من الخشب وملاعق من مادة قرنية (من القرون). وكان اللحم والسمك والخبز هي الأطعمة الرئيسية، وكان كل من يداوم عليها تقريباً يعاني من داء النقرس. وكانت منتجات الألبان شائعة مألوفة في الريف لأن وسائل التبريد كانت لا تزال غير متوفرة في المدن. وكان الفقراء فقط يستخدمون الخضراوات بكثرة لأنهم كانوا يزرعونها في أراضي حدائقهم. وكان البطاطس الذي جاء به والتر رالي أثناء رحلاته في أمريكا، من إنتاج الحدائق، لأنه لم يكن قد أصبح من محاصيل الحقول. واشتهر الإنجليز "بالبودنج" (نوع من الحلوى) يستطيبون أكله فوق الفاكهة التي يختمون بها طعامهم. وكان الإنجليز يقبلون على الحلوى، قدر إقبالهم عليها اليوم، ولهذا كانت أسنان إليزابث سوداء.
وتطلبت هذه الأكلات الشهية بعض السوائل المزلقة: الجعة، البيرة، النبيذ أو عصير الفاكهة. ولم يكن الشاي والقهوة قد أصبحتا مشروبات إنجليزية. وشاع شرب الويسكي في أنحاء أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر (وكان يسمى ماء الحياة). وكان تقطيره من الحبوب في الشمال، ومن النبيذ في الجنوب. وكان شرب الخمر بمثابة احتجاج على المناخ الرطب. وتحي عبارة "ثمل كأنه لورد" بأن هذا العلاج كان يتمشى مع السلم الاجتماعي. وأدخل التبغ إلى إنجلترا على يد(28/85)
جون هوكنز (1564) ودلايك، وسير رالف لين، وجعل رالي من التدخين عادة مألوفة في البلاط، وأخذ منه نفثة أو نفثتين قبل ذهابه إلى المشنقة، وكان التبغ في أيام إليزابث غالي الثمن إلى درجة حالت دون انتشار التدخين، وفي بعض التجمعات التي تسودها الألفة والبهجة، كانوا يعمدون إلى تمرير غليون واحد على كل الضيوف حتى يستمتع كل منهم بنصيبه من التدخين وفي 1604 شن الملك جيمس "هجوماً عنيفاً على التبغ"، ناعياً إدخاله إلى إنجلترا محذراً من "سم معين" فيه، يقول: -
أليس من أشد الحمق والقذارة أنه على المائدة، وهي محل الاحترام والنظافة والتواضع، لا يخجل الناس من أن يتقاذفوا الغلايين وينفثوا الدخان، الواحد منهم في وجه الآخر، فينبعث الدخان والقذر والرائحة الكريهة على الأطباق، ويلوث الهواء؟.
لقد انتشر استعمالها في كل زمان وفي كل مكان بين الناس على اختلافهم ... لأنهم، على الأقل، اضطروا إلى تناوله، على كره منهم، خجلاً من أن يرموا بالشذوذ ... وفوق ذلك، فإن الزوج لا يخجل من أن يكره زوجته الرقيقة الصحيحة الجسم النظيفة البشرة على هذا الخطر العظيم-التدخين-فتفسد بذلك أنفاسها الزكية، أو توطن النفس على أن تظل دوماً في عذاب ثمل ... إنها عادة ضارة بالعينين، كريهة للأنف، مؤذية للمخ، خطرة على الرئتين. إن هذا الدخان الأسود الكريه أقرب الشبه بنار جهنم التي لا قرار لها (50) ".
وبرغم هذا، وبرغم الضرائب الباهظة، كان في لندن سبعة آلاف حانوت لبيع التبغ. ولم يحل إشعال الغليون ونفث الدخان محل الحديث والمناقشة، فقد تحدث أفراد الجنسين بصراحة في موضوعات يقتصر فيها الحديث الآن على قاعات التدخين وملتقى الشوارع، أو على رجال العلم. وتنافس النساء مع الرجال فيحلف الأيمان التي تقارب الكفر والتجديف على الله. وفي الدراما في عهد إليزابث يلتصق العاهرات بالأبطال، وترقش التورية "المأساة" العنيفة. وكانت آداب السلوك(28/86)
متكلفة أكثر منها مهذبة. وغالباً ما تدرجت الكلمات إلى لطمات. وجاءت آداب كما جاءت الأخلاق، من إيطاليا وفرنسا، كما جاءت الكتيبات التي عالجت قواعد السلوك واللياقة، وحاولت أن تجعل الأرستقراطيين سادة أفاضل، ومن الملكات سيدات فضليات. وكانت أساليب التحية مسرفة في التعبير، واقترنت بالتقبيل غالباً. وكانت البيوت بما فيها من الأضواء وحفلات الابتهاج الصاخبة، أكثر مرحاً عن ذي قبل، أيام الإرهاب في العصور الوسطى، وفيما بعد أيام البيوريتانية وما سادها من كآبة. وكانت الأعياد والمهرجانات كثيرة، فأي شيء يمكن أن يبرر إقامة احتفال أو عرض، فالزفاف، أو الولادة، بل حتى الجنازة، قد تهيئ مناسبة للاحتفال، أو على الأقل للولائم. ومارسوا الألعاب على اختلاف أنواعها في البيوت والملاعب، وعلى نهر التاميز. وقد ذكر شكسبير "البلياردو"، وتحدث فلوريد عن "الكركت" وسخر الناس من القوانين الزرقاء وأيام الأحد الزرقاء (قوانين متشددة سنها البيوريتانز يحرمون بها الرقص والألعاب والمهرجانات يوم الأحد ... ) وإذا كانت الملكة قد خطت الخطوة الحميدة السارة، فلم لا يترسم الناس خطاها ويحذون حذوها؟ لقد رقص كل الناس تقريباً، بما فيهم كما قال بيرتون "عجائز النساء والرجال الذين كان لهم من أصابع القدمين أكثر مما في الأفواه من أسنان". وكان كل الإنجليز يغنون.
6 - الموسيقى الإنجليزية
1558 - 1649
إن الذين لا يعرفون من إنجلترا إلا الفترة التي أعقبت البيوريتانية، لا يمكنهم أن يحسوا بالدور البهيج الذي لعبته الموسيقى أيام إليزابث. فمن البيت والمدرسة والكنيسة والشارع والمسرح ونهر التاميز ارتفعت ألحان الموسيقى المقدسة أو الماجنة- القداسات، الموسيقى الطباقية المتعددة النغمات، القصائد الغزلية، الأغاني الشعبية، وأغاني الحب الرقيقة القصيرة. مثل تلك التي وجدت لها مجالاً في روايات عهد إليزابث. وكانت الموسيقى برنامجاً أساسياً في مناهج التعليم، وخصص لها في مدرسة وستمنستر ساعتان في الأسبوع، وكان في أكسفورد كرسي للموسيقى (1627) وكان مفروضاً أن يقرأ كل رجل مهذب الموسيقى ويعزف على كل بعض الآلات.(28/87)
وفي كتاب توماس مورلي: "مقدمة واضحة ميسرة عن الموسيقى العملية" جاء ذكر رجل إنجليزي خيالي ساذج غير مثقف، يعترف بخجله وعاره، فيقول:
"بعد العشاء جيء بكتب الموسيقى، كما كانت العادة، وقدمت إلى سيدة البيت شيئاً منها، وطلبت في رفق أن أغني، فاعتذرت كثيراً، وامتنعت، وقلت وأنا صادق فيما أقول، إني لا أعرف، فتعجب كل الحاضرين، وتهامسوا متسائلين: كيف نشأ هذا الرجل؟ (51) ".
وكانت حوانيت الحلاقين تقدم للزبائن المنتظرين آلات موسيقية ليعزفوا عليها. وكانت الموسيقى في عهد إليزابث، في معظمها، علمانية، وبقي بعض الملحنين، من أمثال طاليس وبيرد وبل، على مذهبهم الكاثوليكي برغم القوانين، وألفوا الموسيقى للطقوس الرومانية، لو أن تلك التأليف لم تكن تعزف علناً. واعترض كثير من البيوريتانيين على موسيقى الكنيسة باعتبار أنها تشتت أذهان المصلين وتصرفهم عن التقوى. وأنقذت إليزابث والأساقفة موسيقى الكنيسة في إنجلترا، كما أنقذها بالسترينا ومجلس ترنت في إيطاليا. وساندت الملكة بعزيمتها المعهودة الملكية والكاتدرائيات. وأصبح كتاب الصلوات العامة، مرجع النصوص الموسيقية الهائل للملحنين الإنجليز، وكانت الصلوات الأنجليكانية تنافس الصلوات الكاثوليكية في القارة في فخامة فن تعدد الألحان ووقاره. وحتى البيوريتانيون أنفسهم، منتهجين نهج كلفن، أقروا إنشاد جماعات المصلين للترانيم. وسخرت إليزابث منهم قائلة: "إن جنيف ترقص، أما هؤلاء فقد ارتقوا إلى مستوى التراتيل والتسابيح الكريمة".
ولما كانت الملكة تحمل بين جنبيها روحاً دنيوية دنسة، مولعة بالغزل والملق والملاطفة والتودد، فقد كان من المعقول أن تكون القصيدة الغزلية هي مفخرة الموسيقى في عهدها- أغنية حب في طباق موسيقى- وهي جزء من أغنية لا تصاحبها آلات الموسيقية. ووصلت القصيدة الغزلية من إيطاليا 1553، ففتحت الطريق.(28/88)
وحاول مورلي أن يسهم في هذا المجال، وشرحها في حواره السهل الرشيق، ودعا إلى تقليدها، وثمة قصيدة غزلية لخمسة مغنين، وضعها جون دلباي، توحي بالأفكار الأساسية في هذه الأغاني:
واحسرتاه، أية حياة تعسة، وأي موت هذا، حيث المحبوب الظلوم يسيطر ويتحكم!
إن نضارة أيامي تذبل وأنا في ربيع العمر، وتلاشت أحلامي الجميلة تماماً، وحياتي تنصرم.
وتولت أفراحي الواحد بعد الآخر وتركت أعاني سكرات الموت
من أجل تلك التي تحتقر آهاتي وأناتي. آه، إنها لتهجرني، وتكبت حبي
وهي التي من أجلها، واحسرتاه، أموت شاكياً، وهي متحجرة القلب (52).
وكان وليم بيرد شكسبير الموسيقى في عهد إليزابث، اشتهر بالقداسات والقصائد الغزلية الملفوظة أو المعزوفة على الآلات، والألحان على حد سواء. وكرمه معاصروه على أنه "رجل عظيم جدير بالذكر". وقال عنه مورلي "انه حظي من الإجلال والاحترام ما يستحق معه أن يخلد اسمه بين الموسيقيين (53) " وكان في مثل مكانته العالية وتعدد براعاته وجوانبه أولندوجيبون وجون بل Bull، وهما عازفان على الأرغن في الكنيسة الملكية. واشترك هذان مع بيرد 1611 في وضع أول كتاب عن لوحة المفاتيح للموسيقى في إنجلترا، وهو كتاب Parthenia، أو باكورة أول موسيقى طبعت في إنجلترا للعذراوية" (وهي آلة موسيقية شبيهة ببيان صغير بدون قوائم.) وفي نفس الوقت أكد الإنجليز شهرتهم في تلحين الأغنية المنفردة (مع آلة واحدة أو مغن واحد)، ذات العذوبة الجميلة المعبقة بعبير الريف الإنجليزي، وحظي جون دولند الذي اشتهر بالعزف على العود، بالمدح والثناء من أجل أغانيه، ونافسه توماس كامبيون منافسة شديدة. ومن ذا الذي لا يعرف مقطوعة كامبيون: "الكرز الناضج- Cherry Ripe؟ (54) ".(28/89)
وكان الموسيقيون ينتظمهم اتحاد قوي، انفصمت عراه بسبب الصراع الداخلي أيام شارل الأول (55)، وكادت الآلات تتنوع، كما هي اليوم: العود، القيثار، الأرغن، العذراوية، أو البيان الصغير، موترة المفاتيح (آلة موسيقية وترية مزودة بلوحة مفاتيح) أو البيان القيثاري، الفلوت (آلة نفخ موسيقية)، الصافرة، المزمار، البوق، المترددة، النفير، الطبول، وأشكال كثيرة من الفيول، حل محلها الكمان الحالي. وكان العود مفضلاً في العزف. وفي مصاحبة الغناء، أما العذراوية، وهي الأم المتواضعة للبيان، فكانت محبوبة شائعة لدى السيدات الصغيرات، وعلى الأقل قبل الزواج، وألفت الموسيقى الآلية أساساً للعذراوية والفيول والعود. ولحن نوع من الموسيقى الحجرية (موسيقى الحجرة: يعزفها بضعة موسيقيين أما نفر قليل من الناس.) للعزف على عدة فيولات تختلف في الحجم والطبقة. وفي مسرحية تنكرية للملكة آن زوجة جيمس الأول، استخدم كامبيون فرقة من عازفي العود وموترة المفاتيح والبوق مع تسعة فيولات. (1605) وقد انحدر إلينا كثير من الموسيقى الآلية التي وضعها بيرد ومورلي ودولند وغيرهم. وهي مؤسسة إلى حد بعيد على أشكال الرقص، كما تتبع النماذج الإيطالية، وتتفوق في الجمال الرقيق المرهف أكثر منها في القوة والطبقة. وتطورت الفوجة وفن مزج الألحان، ولكن دون تنوع في الأفكار الرئيسية أو الموضوع، أو براعة في تغيير طبقة الصوت والانتقال من نغمة إلى أخرى، أو نشاز مقصود أو تناغم لوني. ومع ذلك فإننا عندما ترهق أعصابنا بمشاق حياتنا الحديثة، نجد في موسيقى عصر إليزابث ما يخفف عنا ويريح أعصابنا، فليس فيها كلام طنان منمق، ولا تنافر مزعج، ولا خواتيم راعدة، انك لا تسمع فيها إلا صوت شاب إنجليزي أو شابة إنجليزية تغني في حزن أو ابتهاج، إنشودة الحب السرمدي الذي تعترض العوائق سبيله.
7 - الفن الإنجليزي
1558 - 1649
لم يكن للفن في هذا العصر شأن يذكر. وأنتج بعض صناع المعادن بعض(28/90)
المشغولات الفضية الجميلة، مثل مملحة موشين للمائدة، والنوافذ المصبعة الفاخرة مثل الموجودة في كنيسة سان جورج في وندسور. ودخلت صناعة زجاج الزينة الفنيسي حوالي 1560. وفاقت قيمة الأواني المصنوعة من هذا الزجاج قيمة مثيلاتها من الذهب أو الفضة. ولم يكن النحت وصناعة الخزف مشهورتين. وافتتح نيقولا هليارد مدرسة لرسم المنمنمات، ومنحته إليزابث احتكار إخراج رسوم لها بهذا الأسلوب. أما رساموا الأشخاص فقد استقدموا من الخارج. فجاء فدريجو زوتشارو من إيطاليا، وماركس جيرار وابنه الذي يحمل نفس الاسم من الأراضي الوطيئة. وخلف لنا البن صورة مهيبة لوليم سيسل في ثياب متألقة فضفاضة فخمة، وهي التي يرتديها الفرسان الذين يحملون وسام ربطة الساق (56). وفيما عدا هذا لا توجد في إنجلترا لوحات او رسوم عظيمة فيما بين هولبيين، وفانديك.
ولكن العمارة كانت فناً عظيماً في إنجلترا في عهد إليزابث وجيمس. وتكاد تكون علمانية تماماً. وبينما كانت أوربا تناضل من اجل المذاهب الدينية، أهمل الفن الديني كما أهمله السلوك. وفي القرون الوسطى، حين تأصلت جذور أعمق للشعر والفن في السماء، توفرت العمارة على بناء الكنائس، وجعلت من الدور شكلاً من أشكال سجون الحياة. وفي إنجلترا على عهد أسرة التيودور، هجر الدين الحياة إلى السياسة، وذهبت أموال الكنيسة إلى أيد دنيوية، وتحولت إلى صروح مدنية وقصور باذخة، وتبعاً لذلك تغير الطراز. وفي 1563 عاد جون شوت Shute من إيطاليا وفرنسا مسرعاً مع (أفكار) فتروفيوس وبالاديو، وسرليو، ونشر على الفور "الأسس الأولى والهامة للعمارة" يمجد الطرز الكلاسيكية القديمة. ومن ثم أنتقل إلى إنجلترا احتقار إيطاليا للفن القوطي، وكافحت الأعمدة الرأسية القوطية لتجد لها متنفساً وسط أفقيات النهضة التي تطوقها.
إن هذا العصر يستطيع أن يفاخر ببعض المنجزات الجميلة في العمارة المدنية: بوابة الشرف في كلية كايوس، والساحة الرباعية الزوايا بكلية كلار، في كمبردج، ومكتبة بودليان في أكسفورد، وسوق الأوراق المالية في لندن، وإحدى دور القضاء المسماة Middle Temple. ولما كان المحامون منذ أيام ولزي، قد حلوا(28/91)
محل الأساقفة في إدارة البلاد في إنجلترا، فقد كان من اللائق أن تكون تحفة النهضة المعمارية في عهد إليزابث هي القاعة الكبرى في مدرسة الحقوق التي كملت في الدار سابقة الذكر 1572. ولم يكن في إنجلترا كلها أشغال خشب أجمل من الحاجز المصنوع من خشب البلوط في الطرف الداخلي لهذه القاعة. وقد دمرته القنابل في الحرب العالمية الثانية.
وحالما تهيأت الأسباب لأقطاب عصر إليزابث، شادوا قصوراً نافسوا بها قصور الإقطاع الفرنسي على نهر اللور. فساد سيرجون ثين Thynne قصر لونجليت، وإليزابث كونتيسة شروزيري قاعة Hardwick، وبنى تومارس ارل سفوك Suffolk قصر Audley End الذي بلغت تكاليفه 190 ألف جنيه "حصل عليها أساساً من الرشا الأسبانية (57) ". وشيد سير إدوارد فيلبس قصر مونتاكوت على طراز عصر النهضة البسيط غير المبالغ في زخرفته، كما بنى سير فرانسيس Willoughby قاعة Wollaton. كما أنفق وليم سيسل بعض ما جمع من مال في إبتناء قصر ضخم بالقرب من ستامفورد، وأنفق ابنه روبرت ما يقارب هذا القدر على تشييد قصر هاتفيلد، الذي يعتبر بهوه الطويل القائم على أعمدة، أضخم الأجزاء الداخلية في العمارة في ذاك العصر. ومثل هذه الأبهاء الطويلة المقامة على أعمدة عالية، حلت في قصور عهد إليزابث محل القاعة الخشبية العظيمة في قصر مالك الأرض. إن المداخن الكبيرة والأثاث الضخم المصنوع من خشب الجوز أو خشب البلوط، والمدرج الفخم والدرابزين المنقوش، والسقوف الخشبية-نقول إن هذه كلها، هيأت لغرف هذه القصور من الدفء والعظمة ما كان ينقص الغرف الأكثر تألقاً في القصور الفرنسية، ومبلغ علمنا أن مصممي هذه القصور كانوا أول من حصلوا على لقب مهندس معماري. إن اللوحة المنقوشة على ضريح روبرت سميشون Smythhshon، الذي أنشأ قاعة وللاتون، تسميه "البناء البارع". أما الآن، وأخيراً، فقد وجدت المهنة العظيمة اسمها الحديث (الهندسة المعمارية).
كذلك أصبح الفن الإنجليزي في تلك الأيام فناً شخصياً، حيث طبع الرجل عمله بطابع شخصيته وإرادته. ولد انيجو جونز في سميثفيلد 1573، وأظهر في شبابه(28/92)
ميلاً إلى التصميم حدا بأحد النبلاء (ارل) أن يبعث به إلى إيطاليا (1600) ليدرس عمارة عصر النهضة. ولما عاد إلى إنجلترا 1605 أعد مناظر كثير من المسرحيات التنكرية للملك جيمس الأول وزوجته الدنمركية، وزار إيطاليا ثانية (1612 - 1614) وعاد متحمساً للقواعد المعمارية القديمة التي سبقت له دراستها في ترجمتها الأنجليزية للمهندس المعماري الروماني فتروفيوس (القرن الأول قبل الميلاد)، والتي وجد خير مثال لها أبنية بللاديو، وبيروتزي، وسان ميشيلي، وسانسوفينو في فينيسيا وفيشنزا. ونبذ هذا الخليط الشاذ من الأشكال الجرمانية والفلمنكية والفرنسية والإيطالية التي كانت قد سيطرت على العمارة في عصر إليزابث. واقترح طرازاً خالصاً، يمكن فيه الاحتفاظ بالنظم الدورية والآيونية والكورنثية متفرقة أو مجتمعة في تتابع ووحدة متجانستين.
وفي 1615 عهد إليه بكل الإنشاءات الملكية بوصفه مشرفاً عاماً على الأعمال. ولما احترقت قائمة الولائم في قصر هويتهول ودمرت 1619، عهد إلى جونز بتشييد قاعة جديدة للملك. فوضع تصميم مجموعة ضخمة من المنشآت-1152×874 قدماً في جملتها-ولو اكتمل بناؤها لهيأت لعاهل بريطانيا قصراً أوسع بكثير من اللوفر أو التويليري أو الاسكوريال أو فرساي. ولكن جيمس آثر أن يعيش يومه عن أن يبني للقرون. واقتصر الإنفاق على قاعة الولائم الجديدة، التي لم يتوفر لها من قصد من أبهة، فباتت مظهراً كاذباً غير جذاب للخطوط القديمة وخطوط عصر النهضة. ولما طلب رئيس الأساقفة لود من جيمس الأول إصلاح كاتدرائية سانت بول القديمة، ارتكب المهندس جريمة تغطية صحن الكنيسة القوطي الطراز بمظهر خارجي من طراز عصر النهضة، ولحسن الحظ دمر الحريق الكبير الذي حدث 1666 هذا المبنى. وحلت واجهات جونز المأخوذة تصميمها عن بللاديو، محل الطراز التيودوري. وسادت في إنجلترا حتى أواسط القرن الثامن عشر.
ولم يخدم جونز الملك شارل الأول بوصفه كبير مهندسيه فحسب، بل انه تعلم كيف يحب هذا الرجل المنكود، يشكل واضح، إلى حد أنه عندما نشبت الحرب الأهلية دفن مدخراته في Lambeth Marshes وهرب إلى هامبشير (1643).(28/93)
وقبض عليه جنود كرومول هناك، ولكنهم أبقوا على حياته مقابل 1045 جنيهاً (58). وفي أثناء تغيبه عن لندن وضع تصميم ريفي في ولتشير من أجل ارل بمبروك، كانت واجهته من طراز عصر النهضة البسي، أما الداخل فكان آية في الفخامة والأناقة، فان القاعة "المزدوجة التكعيب"-60×30×30 قدماً، قيل بأنها أجمل قاعة في إنجلترا (59). ومذ استنفدت الجيوش الملكية ثروات الأرستقراطية، فقد جونز الرعاية والحب والألفة، وانزوى وأفل نجمه، ومات فقيراً 1651. لقد غلب النعاس على الفن، على حين أعادت الحرب تشكيل الحكومة الجديدة في إنجلترا.
8 - الرجل في عهد إليزابث
كيف نفهم الرجل الإنجليزي على عهد إليزابث من المواطن البريطاني المزعوم أنه رزين صامت، والذي عهدناه في شبابنا، وهل يمكن أن يكون الخلق القومي من صنع الزمان والمكان والتغير؟ لقد اعترضت البيوريتانية والميثودية (المنهجية-حركة إصلاح الكنيسة الإنجليزية في النصف الأول من القرن الثامن عشر) بين العصرين والنمطين: قرون سادت فيها مدارس ايتون، وهارو، ورجبي، وعهود الغزاة الطائشين الذين يخمدون أنفاس الناس حين يسيطرون.
لقد كان الرجل الإنجليزي في عهد إليزابث سليل النهضة تماماً. وفي ألمانيا قهر الإصلاح الديني النهضة، وفي فرنسا نبذت النهضة الإصلاح الديني. وفي إنجلترا اندمجت الحركتان كلتاهما. فقد انتصر الإصلاح الديني في حكم إليزابث، وانتصرت النهضة في شخصها هي. وكان ثمة بعض البيوريتانيين من ذوي الحس المتلبد، ولو لم يكونوا صامتين، ولكنهم لم يطرقوا الباب. ولكن كان الرجل المهيمن في ذاك العصر شعلة من نشاط، متحرراً من المبادئ والتعاليم والعوائق العتيقة، ولو لم يكن مرتبطاً بشيء جديد بعد، ولم يكن ثمة حدود لطموحه وأطماعه، وكان متطلعاً إلى تنمية قدراته، لا يقعده شيء عن المرح، يتذوق الآداب إذا كانت تنبض بالحياة، ميالاً إلى العنف في العمل وفي الحديث، ولكنه، وسط(28/94)
كلامه المنمق الطنان ورذائله وقساوته، يجاهد ليكون سيداً مهذباً. وتأرجح مثله العلي بين صفات الكياسة والمجاملة واللطف المحببة إلى النفوس والتي ذكرها كاستليوني في كتابه "رجل البلاط" وبين ما جاء به ميكيافللي في كتابه "الأمير" من لا أخلاقيات لا تعرف الرحمة إليها سبيلاً. لقد أعجبت بسدني، ولكنه تاق إلى أن يكون مثل دريك.
وشقت الفلسفة طريقها في شرخ العقيدة الدينية المتهاوية. وكانت أحسن العقول في ذاك الزمان هي أشدها ارتباكاً وحيرة. وكانت هناك نفوس محافظة سليمة العقيدة، ونفوس وديعة مجبولة على الجبن، وفي وسط هذا التدفق الذي لا يتوقف كان ثمة رجال أفاضل مثل روجر أسكام. ولكن تلاميذه كانوا في لجة المغامرة. وإليك ما يقوله جبراييل هارفي عن كمبردج:
تعلموا الإنجيل، ولم يعوه أو يحفظوه، والمبدأ المسيحي فاتر ضعيف، وليس ثمة شيء حسن إلا بنسبته إلى شخص ما. وباختصار ألغى قانون الطقوس الرسمي، وأبطل قانون القضاء تماماً من الوجهة العملية، وتخلى الناس عن القانون الأخلاقي، وألح الجميع في طلب الجديد، من الكتب والأزياء والقوانين، وألح بعضهم في طلب سماوات جديدة، وجهنم جديدة أيضاً، وفي كل يوم تظهر آراء جديدة مشكلة حديثاً، في الهرطقة واللاهوت والفلسفة والإنسانية والسلوك .. ولم يكن الشيطان مكروهاً قدر كراهية الناس للبابا (60).
وكان كوبرنيكوس قد قلب العالم، وأطلق الأرض مندفعة هائمة في الفضاء، وجاء جيوردانو برونو إلى أكسفورد 1583 وتحدث عن الفلك الحديث وعن العوالم اللانهائية، وعن الشمس التي تفنى بفعل حرارتها، وعن الكواكب السيارة التي تتلاشى في ضباب ذري. وأحس شعراء مثل جون، أن الأرض تنساب من تحت أقدامهم.
وفي 1595 شرع فلوريو في نشر ترجمته لمونتاني. ولم يكن ثمة شيء يقيني بعد ذلك. وامتلأ الناس بالشك، وكما أن مارلو هو مكيافللي، فان شكسبير هو(28/95)
مونتاني. وعلى حين شك الرجال العقلاء، كان الشبان الصغار يخططون. وإذا بدا أن السماء ضاعت في سحابة فلسفية، فيمكن الشباب أن يعقدوا العزم على امتصاص الحياة الجافة، ويختبروا كل الحقيقة مهما تكن مميتة، وكل الجمال مهما يكن سريع الزوال، وكل القوة مهما تكن سامة، وهكذا رأى مارلو في فاوست وتامبورلين.
إن انتزاع الأفكار القديمة، وتحرير العقل ليعبران تعبيراً جباراً عن الآمال والأحلام الجديدة، وهما اللذان خلدا عهد إليزابث في إنجلترا. وماذا كان يهمنا من أمر منافستها السياسية، ونزعتها الدينية وانتصاراتها الحربية، إذا انحصر أدب عصرها في تلك الأشياء العابرة، ولم يعبر عن تطلعات النفوس المفكرة في كل عصر. وحيرتها ونياتها. إن كل تأثيرات هذا العصر المثير انتهت إلى نشوة إنجلترا على أيام إليزابث. فان رحلات الغزو والكشف التي وسعت الكرة الرضية والسوق والعقل، وثراء الطبقة المتوسطة الذي وسع مجال المشروعات وأهدافها، والكشف عن الآداب والفنون الوثنية، وجيشان الإصلاح الديني، ونبذ النفوذ البابوي في إنجلترا. والحوار اللاهوتي، تلك التي ساقت الناس عن غير عمد، من العقيدة إلى العقل، والتعليم. والإقبال المتزايد على الكتب والمسرحيات، والسلم الطويل المفيد، ومن ثم التحدي المثير والنصر الباهر على أسبانيا، والتصعيد العظيم في الثقة في قوة الإنسان وفكره، تلك هي كانت الحوافز التي استحقت صعود إنجلترا في مراقي العظمة والمجد، وتلك هي الأصول التي نبت منها شكسبير، وبعد انقضاء نحو قرنين من الزمان منذ عهد تشوسر، اندفعت إنجلترا في لجة من النثر والشعر والدراما والفلسفة، وتحدثت جهراً في شجاعة إلى العالم بأسره.(28/96)
الفصل الثالث
على سفوح بارناسوس
1558 - 1603
1 - الكتب
كانت الكتب يتزايد عددها بشكل رهيب، حتى قال برنابي رتش في 1600 "إن من الأمراض الفظيعة في هذا العصر هو هذا السيل الضخم من الكتب التي تثقل كاهل العالم غير القادر على هضم هذا القدر الكبير من المادة التافهة التي تخرج إليه كل يوم" كذلك كتب روبرت بيرتون (1628): إننا مهددون بفوضى وتشويش لا حد لهما من الكتب التي ترهقنا، فتصاب أعيننا بسبب القراءة، وتتألم أصابعنا بسبب تقليب الصفحات (1) ". وهذان الشاكيان كلاهما من مؤلفي الكتب.
إن النبلاء، بعد أن تعلموا القراءة، أجزلوا العطاء وبسطوا رعايتهم على هؤلاء المؤلفين الذين قد كرموهم وتملقوهم بإهداء مؤلفاتهم إليهم. وكان سيسل، وايستر، وسدني، ورالي، واسكس، وسوثمبتون، وارل ودوقة بمبروك، كان هؤلاء جميعاً رعاة وحماة أفاضل أقاموا بين النبلاء الإنجليز وبين المؤلفين علاقة استمرت حتى بعد أن انتهر جونسون راعيه لورد تشستر فيلد، وكان الناشرون ينقدون المؤلفين نحو 40 شلناً عن كل كراسة، ونحو خمسة جنيهات عن الكتاب، وسعى بعض المؤلفين إلى أن يعيشوا على أقلامهم. وظهرت في إنجلترا هذه الصناعة البائسة إلا وهي "صناعة الأدب" وكانت المكتبات الخاصة كثيرة لدى الأغنياء. ولكن المكتبات العامة كانت نادرة. وفي طريق العودة إلى الوطن من قادس 1596، توقف اسكس في فارو بالبرتغال، واستولى على مكتبة الأسقف جيروم أوزوريوس، وأهداها إلى سير توماس بوداي الذي ضمها إلى مكتبة بودلي التي وهبها لجامعة أكسفورد 1589.(28/97)
وكانت حياة الناشرين أنفسهم قلقة مضطربة، خاضعة لقوانين الدولة وهوى الجهور أو نزواته. وكان منهم في إنجلترا أيام إليزابث 250، حيث كان النشر وبيع الكتب حرفة واحدة. وقام معظمهم بعملية الطباعة لأنفسهم، لأن الفصل بين الطباعة والنشر بدأ حوالي نهاية عصر إليزابث. واتحد الناشرون والطابعون وباعة الكتب 1557 في "شركة القرطاسية"، وأنشأ تسجيل المطبوعات في هذه النقابة "حق الطبع"، على أن هذا لم يحم المؤلف بل الناشر فقط. وطبيعي أن هذه الشركة لم تسجل من الكتب إلا ما حصل على ترخيص قانوني بطبعه. فقد كان يعتبر جريمة كتابة أو طبع أو بيع أو اقتناء أية مادة تسيء إلى سمعة الملكة أو الحكومة، كذلك نشر أو استيراد كتب الإلحاد أو المراسيم والرسائل البابوية، أو اقتناء أية كتب تؤيد سيادة البابا على الكنيسة الإنجليزية (3). وكان ثمة جملة معاذير لخرق هذه المراسيم. وفوضت "شركة القرطاسية" هذه في تفتيش كل دور الطباعة وإحراق أية مطبوعة غير مرخص بها، وسجن ناشريها (4). وكانت الرقابة على المطبوعات في عهد إليزابث أقسى منها في أي وقت قبل الإصلاح الديني. ولكن الأدب ازدهر، كما شحذت العقول في فرنسا في القرن الثامن عشر، بفضل مخاطر الطباعة.
وكان العلماء قليلين، وكان عصر خلق وإبداع أكثر من أن يكون عصر نقد، وكان تيار الحركة الإنسانية (توكيد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل) قد جف في تلك السنين التي حفلت بالاهتمام باللاهوت. وظل معظم المؤرخين من كتاب الحوليات، يقسمون مدوناتهم حسب السنين. ولكن ريتشارد نولز Knolles أدهش برجلي ببراعته النسبية في كتاب "التاريخ العام للأتراك" 1603. وأضفت "حوليات" رافائيل هولنشد على صاحبها مزيداً من الشهرة لم يبذل فيه جهداً، ذلك أن هذه الحوليات أمدت شكسبير بسير ملوك إنجلترا. واصطبغت "حوليات إنجلترا" (1580) لجون ستو Stow " بظلال من الحكمة، ودعوات إلى الفضيلة وتنفير من الحقائق المرذولة (5) "، ولكن طابعها العلمي يرثى له، وأسلوبها قوي مؤثر. وكان كتابه "استعراض لندن" 1580 أدق بحثاً وأوسع علماً، ولكنه لم يدر عليه ربحاً، وكان حرياً به في سني شيخوخته أن يمنح رخصة(28/98)
للتسول (6). وفي لغة لاتينية جيدة سجل وليم كامدن "جغرافية إنجلترا ومناظرها وآثارها" في كتابه "بريطانيا" 1582. وفي كتابه "حوليات تاريخ إنجلترا في عهد إليزابث" (15 - 1627) الذي بنيت قصته على دراسة واعية للوثائق، مجد كامدن الملكة العظيمة دون حساب، وامتدح سبنسر وأثنى على روجر أسكام، ولكنه حزن لموت مثل هذا العالم الجليل فقيراً معدماً بسبب حبه للعب النرد ومصارعة الديكة (7).
وترك أسكام عند موته 1568 بوصف أنه كان سكرتيراً لماري اللعينة ومعلماً خاصاً لإليزابث، أشهر الرسائل الإنجليزية في التعليم، وهي "المعلم" (1570) وموضوعها الأصلي تعليم اللاتينية، ولكنها تضمنت في لغة إنجليزية قوية بسيطة، دعوة إلى إحلال الرحمة المسيحية محل صرامة كلية ايتون في التعليم. وروى أسكام كيف أنه كان يتناول الغداء يوماً مع بعض عظماء الرجال في حكومة إليزابث، وتطرقت المناقشة إلى موضوع التعليم في نقد لاذع، وكيف أن سيسل آثر الوسائل الرقيقة، وكيف أن سير ريتشارد ساكفيل اعترف سراً لأسكام "بأن معلماً أحمق صرفه عن حب التعليم بأسره، خوفاً من الضرب (8) ".
إن أكبر وأنفع مهمة يضطلع بها العلماء الإنجليز كانت إخصاب العقل الإنجليزي بالفكر الأجنبي. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر اكتسحت البلاد موجة من الترجمة، من اليونان وروما وإيطاليا وفرنسا. وكان على هوميروس أن ينتظر حتى 1611 لجورج، تشبمان وربما أسهم عدم وجود الترجمات الإنجليزية للروايات اليونانية في صبغ دراما عصر إليزابث بالرومانتيكية أكثر منه بالشكل التقليدي القديم، ولكن كانت هناك ترجمات لكتاب تيوكريتس "القصائد الرعوية"، وملحمة موزائيس Hero and Leander وكتاب ابكتيتس Enchiridion، ولكتابي الأخلاق والسياسة لأرسطو، وكتابي زينوفون Cyropaedia, Oeconomicus، وخطب دبموستين وايزوقراط، ومؤلفات هيرودوت وبولبيوس وتيودور الصقلي وجوزيفس وأبيان في التاريخ، وقصص هليودوروس ولونجوس، كما كان هناك ترجمة عن الفرنسية(28/99)
قام بها سير توماس فورت لكتاب بلوتارك "السير". وعن اللاتينية نقلت كتب فرجيل وهوراس وأوفيد ومارشال ولوكان، وروايات بلوتوس وتيرنس وسنكا، ومؤلفات ليفي وسالوست وتاسيتس وسوتونيس في التاريخ. وعن الإيطالية نقلت قصائد بنرارك ( Sonnets) و Filocopo and Fiammetta لبوشكيو (ولكن لم يترجم ديكامرون حتى 1620)، ومؤلفات جوتشيارديني ومكيافللي في التاريخ، وأشعار بويارد وواريوستو، وكتاب كاستليوني "آداب السلوك"، وكتاب تاسو عن تحرير أورشليم، وكتاب جواريني " Pastor Fido" ومجموعة قصص خرافية لباندللو وآخرين دونت في مجموعات مثل كتاب وليم بينتر Palace Of Pleasur، (1566) ، ولم ينقل كتاب مكيافللي "الأمير" حتى 1640، ولكن مادته كانت معروفة لرجال عصر إليزابث. ويذكر جبراييل هارفي أن جامعة كمبردج نبذت دونز سكوتس وتومان الأكويني وغيرهما من رعيل العلماء" واستبدلت بهم مكيافيللي وجان بودان (9). وترجم عن الأسبانية واحدة من أطول القصص الغرامية الخيالية Amadis De Gaula، وواحدة من أقدم القصص الأسبانية Lazarillo De Tormes وواحدة من الروايات الرعوية القديمة The Diana Of Montemayor. وكان ما أخذ عن الفرنسية قصائد البلياد Pleiades ( بنات أطلس السبع اللائي وضعهن زيوس بين النجوم) ومقالات مونتاني التي ترجمها جون فلوريو إلى لغة إنجليزية رائعة (1603).
وكان أثر هذه الترجمات على الأدب في عصر إليزابث عظيماً جداً، وبدأت التلميحات القديمة-وظلت لمدة قرنين من الزمان-ترهق الشعر والنثر الإنجليزيين. وكانت اللغو الفرنسية معروفة لدى معظم المؤلفين الجديرين بالذكر فيعهد إليزابث، ومن ثم كان يمكن الاستغناء عن الترجمات. ولقد سحرت إيطاليا إنجلترا، واتجه الشعر الرعوي الإنجليزي بأفكاره إلى يانازورا وتاسو وجواريني. والقصائد الإنجليزية المشهورة بالسونيت إلى بترارك، والأدب القصصي إلى بوكاشيو والقصص، وهذه الأخيرة هي التي أمدت مارلو وشكسبير ووبستر وماسنجر وفورد بالفكر الرئيسية في رواياتهم، كما زودت الروايات في عهد إليزابث بمواقع إيطالية. إن(28/100)
إيطاليا التي نبذت الإصلاح الديني، كانت قد ذهبت بعيداً عنه لتحطيم اللاهوت القديم، حتى الأخلاق المسيحية، وعلى حين أن العقيدة في عهد إليزابث نازعت الكاثوليكية والبروتستانتية، نجد أدب ذاك العصر، وقد تجاهل هذا الصراع، عاد إلى روح النهضة وحيويتها. ولما أصابت إيطاليا النكسة لبعض الوقت، بسبب تحول طرق التجارة، أسلمت مشعل الميلاد الجديد لأسبانيا وفرنسا وإنجلترا.
2 - حرب الأدباء
وفي وسط هذه الوفرة والحيوية في عصر إليزابث، كان ثمة فيضان جارف من الشعر والنثر كليهما. وإنا لنعرف أسماء مائتين من الشعراء في عهد إليزابث، ولكن النثر كان هو الذي يجذب انتباه الناس ويطرق أسماعهم بقوة في هذا العصر في إنجلترا، حتى أخرج سبنسر "فيري كوين The Faerie Queen" (1590) .
وكان جون ليلي أول من عمد إلى هذا اللون في قصته الخيالية يوفيس Eupheus أو "تشريح الذكاء" في 1579. وعرض ليلي أن يظهر كيف أن العقل السليم والخلق الكريم يمكن تكوينهما عن طريق التعليم والتجربة والأسفار والنصح الحكيم. ويوفيس (الكلام الطيب) شاب أثيني تقدم مغامراته مسرحاً لمحادثات مسهبة عن التعليم والسلوك والصداقة والحب والإلحاد-ومما جعل هذا الكتاب أكثر الكتب رواجاً في عصره، هو أسلوبه-فيض من الجناس والطباق والتشبيه والتورية، والجمل المتوازنة والإشارات القديمة والأفكار، مما هاج حاشية إليزابث، وأصبح الأسلوب السائد لمدة جيل، مثال ذلك:
إن هذا الشاب الأنيق الذي يتحلى بالذكاء أكثر مما يملك مالاً، بل يملك من المال أكثر ما لديه من الحكمة، ومذ يرى أنه لا يقل عن غيره من حيث الأفكار الجميلة، فقد حسب أنه يفوق الجميع في التصرفات الأمينة، إلى حد حسب معه نفسه صالحاً لكل شيء، ومن ثم لم يتوفر على شيء قط (10).(28/101)
ولا يعرف على وجه التحديد من أين أصاب ليلي هذا المرض، من ماريني الإيطالي، أو من جيفارا الأسباني أو من "بلاغة" الفلاندرز، فهذا محل مناقشة، ورحب ليلي على أية حال بهذه السموم العقلية ونقلها إلى كثير من رجال إليزابث فأفسدت كوميديات (ملهاوات) شكسبير الأولى، وتركت مسحة منها على أعمال بيكون، وأثرت في اللغة.
لقد كان العصر يعنى باللفظ. وبذل جبرائيل هارفي-من أساتذة كمبردج-كل نفوذه ليحول الشعر الإنجليزي من النبرات والقوافي إلى الأوزان القديمة المبنية على التفاعيل أو المقاطع. وبتحريض منه أسس سدني وسبنسر في لندن نادياً أدبياً الآريوباجوس Areopagus، كافح لبعض الوقت ليحول النشاط والطاقة الحيوية في عصر إليزابث إلى أشكال فرجيل وصيغه. وقلد توماس ناش، هازئاً، أوزان هارفي السداسية التفاعيل "التي تشبه في وقعها الوثب على قدم واحدة"، وسخر منها واعتبرها غير جديرة بالنظر والاهتمام فعلاً. ولما جمع هارفي بين الشتائم والسباب والحذلقة في التنديد بأخلاقيات جرين صديق ناش، أصبح الهدف الرئيسي لحرب الكتيبات التي جلبت إلى إنجلترا كل ما عرف في عصر النهضة من تراشق وذم وقدح.
إن حياة روبرت جرين لتمثل ألفا من سير الحياة الأدبية البوهيمية التي لا تقيم وزناً للأعراف والقيم، ابتداء من فيللون Villon ( شاعر فرنسي غنائي في القرن الخامس عشر) إلى فرلين Verlaine ( شاعر رمزي فرنسي في القرن التاسع عشر، وكان رفيق دراسة لهارفي ومارلو في كمبردج)، وسط "أوغاد لا يقلون عنه دعارة وفجوراً"، "أفنى معهم زهرة شبابه":
كان يملؤني الزهو والتيه والغرور. كانت الدعارة رياضتي اليومية، وإدمان الشراب ملذتي الوحيدة ... وكنت أبعد ما يكون عن أن أرجع إلى الله، وقليلاً ما كنت أذكره. ولكني كنت أجد لذة كبيرة في الحلف والتجديف على الله. وإذا حققت رغبتي وأنا على قيد الحياة، فإني راض قانع، فلآخذ طريقي إلى الموت(28/102)
بأية حال، إني لم أخش قضاة المحكمة أكثر مما أخشى حساب الله (11).
وجال جرين في إيطاليا وأسبانيا، ويقص علينا أنه هناك "رأى ومارس من أعمال الخسة والجرائم ما يندى الجبين لذكره. " فلما عاد أصبح شخصية بارزة في حانات لندن، بشعره الأحمر ولحيته المحددة وجواربه الحريرية وبطانته الخاصة. وتزوج وكتب كتابة رقيقة عن الإخلاص في الزواج ونعمته. ثم هجر زوجته من أجل سيدة أنفق عليها كل ثروة الزوجة. ومن معرفته الخاصة المباشرة وصف أقانين حياة الرذيلة والإجرام في كتاب A Notable Discovery Of Cozenape، (1591) كشف فيه الغطاء عن الدجالين والمحتالين، وحذر فيه زوار لندن القرويين من أحابيل المخادعين والغشاشين في ورق اللعب، والنشالين والقوادين والعاهرات. مما حدا بهؤلاء أن يحاولوا قتله. وإنه لما يبعث على الدهشة أن جرين، مع انغماسه في حياة الرذيلة إلى هذا الحد، وجد وقتاً ليكتب في سرعة صحفية ونشاط وحيوية، اثنتا عشرة قصة (بأسلوب يوفيس) وخمسة وثلاثين كتيباً، وكثيراً من الروايات الناجحة. وعندما فتر نشاطه وقل دخله وجد للفضيلة بعض المعنى، وندم ندماً شديداً قدر ما كان يأثم إثماً فاحشاً، وعبر عن ندمه وإثمه أبلغ تعبير. ونشر في 1591 كتابه "وداعاً أيتها الحماقة". وفي 1592 نشر كتيبين لهما بعض الأهمية، أحدهما: "ملحوظة ساخرة لرجل البلاط الناشئ " حمل فيه على جبراييل هارفي، أما الثاني "ما يساوي بضعة بنسات من ذكاء جرين يشترى بمليون من التوبة والندم". وفيه هاجم شكسبير وأهاب برفاقه في الفسق والفجور- وواضح أنه يقصد مارلو وبيل وناش-أن يقلعوا عن الآثام والخطايا وينصرفوا معه إلى التقوى والندم. وفي 2 سبتمبر 1592 أرسل إلى زوجته التي هجرها يتوسل إليها أن تدفع عشرة جنيهات إلى صانع أحذية لولا صدقته وإحسانه "لكنت مت جوعاً في الطرقات" وفي اليوم التالي، وفي دار صانع الأحذية هذا، مات جرين- كما يقول هارفي- بسبب "تخمة أصابته من الإفراط في أكل سمك الرنجه المخلل وشرب نبيذ الراين". وتجاوزت صاحبة الفندق عن ديونه من أجل أشعاره، وتوجته بإكليل من الغار، ودفعت نفقات جنازته (13).(28/103)
وكان توم ناش صديق جرين أشد مؤلفي الكتيبات في عصر إليزابث سلاطة لسان وأكثرهم قراءً. وكان ابناً لمساعد قسيس، وضاق ذراعاً بالحشمة والوقار، وما أن تخرج في أكسفورد حتى أخذ يسرح ويمرح في لندن، ويكسب قوته بنفثات قلمه، وتعلم كيف يكتب بسرعة "قدر ما تسعفه يده". وألف في إنجلترا قصص المتشردين بادئاً بقصته "السائح المنكود الحظ"-أو حياة جاك ولتون (1594). ولما مات جرين، وهاجم هارفي بعنف جرين وناش في كتيبه "أربع رسائل" ثأر ناش بسلسلة من الكتيبات بلغت الذروة في كتيب "خذ معك إلى سافرن والدن Saffron Walden مسقط رأس هارفي في 1596:
"ابتهجوا أيها القراء، فلن أدخر وسعاً في أن أدخل عليكم السرور والبهجة ... إن هذا لن يكلفني إلا انحرافاً عن الطريق المستقيم، ولكنه سيطرد من الجامعة مدحوراً ... قبل أن أكف عنه ... ماذا تمنحونني لو أني أتيت به إلى المسرح في أهم الكليات في كمبردج (14) ".
وعمر هارفي بعد هذه المحنة، وعمر بعد هؤلاء البوهيميين ومات في 1630 عن خمسة وثمانين عاماً. وأكمل ناش رواية صديقة مارلو " Diod" واشترك مع بن جونسون في "جزيرة الكلاب" 1597، واتهم بالتحريض على الفتنة، وانزوى في غمرة من الحرص والحذر، وتوج حياة العجلة بموت مبكر.
3 - فيليب سدني
1554 - 1585
بعيداً عن هذا الحشد المخبول شق سدني طريقه في هدوء إلى نهاية أقرب، وإنا لتطالعنا صورته حتى اليوم في "قاعة الصور الوطنية" في لندن، حيث يبدو رقيقاً أكثر مما ينبغي للرجل أن يكون، نحيل الوجه، ذا شعر أسمر يضرب إلى الحمرة، وكما يقول لانجيه "ليس فيه شيء من إمارات التمتع بصحة جيدة (15) ". وقال أوبري "كان آية في الجمال، لم تكتمل سمات الرجولة فيه كما ينبغي، ولكن يتميز بشجاعة عظيمة (16) ". وذهب بعض المتذكرين إلى أنه يداخله بعض الغرور (17)، وأنه بالغ في الكمال والدقة إلى حد التطرف، ولكن نهايته البطولية هي وحدها التي غفرت له فضائله.(28/104)
ولكن من ذا الذي لا يتيه عجباً بأن أمه هي ليدي ماري ددلي ابنة دوق نورثمبرلند الذي حكم لإنجلترا أيام إدوارد السادس، وان أباه هو سير هنري سدني رئيس ويلز، ونائب الملك في إيرلندا ثلاث مرات، وأنه أخذ اسمه المسيحي عن فيليب الثاني ملك أسبانيا بوصفه أباً له في التعميد. وقضى بعضاً من عمر الزهر الذي عاشه في قصر بنزهيرست الرحيب الذي سقوفه المصنوعة من خشب البلوط، والرسوم على جدرانه، وثرياته البلورية من أجمل مخلفات ذلك العصر. وعين وهو في سن التاسعة رئيساً علمانياً لاقطاعة كنسية تدر عليه ستين جنيهاً في السنة. والتحق في سن العاشرة بمدرسة شروزبري التي لم تبعد كثيراً عن حصن لدلو Ludlow مقر والده بوصفه رئيساً لويلز. وكتب سير هنري لولده وهو في الحادية عشرة من عمره كلمات حب واعتزاز تشع منها الحكمة (18).
ووعى فيليب هذه الدروس جيداً. وأصبح أثيراً لدى خاله ليستر، وصديق والده وليم سيسل. وبعد سنوات ثلاث قضاها في أكسفورد أرسل إلى باريس في منصب ثانوي في بعثة إنجليزية. واستقبل في بلاط شارل التاسع وشهد مذبحة سانت برثلميو. وجال على مهل في فرنسا والأراضي الوطيئة وألمانيا وبوهيميا وبولندة والمجر والنمسا وإيطاليا. وفي فرنكفورت نشأت بينه وبين هيوبرت لانجيه صداقة العمر، وهو أحد قادة الفكر لدى الهيجونوت. وفي فينسيا رسم له باولو فيرونز صورته، وفي بادوا رضع تقاليد قصائد بترارك من نوع السونيت. فلما عاد إلى إنجلترا رحب به البلاط، وظل لمدة عامين تقريباً في معية الملكة، ولكنه خسر عطفها لبعض الوقت. لمعارضته مشروع زواجها من دوق ألنسون. وكان يتحلى بكل صفات الفروسية- الاعتداد بقدرته على الاحتمال، المهارة والبسالة في المبارزة، آداب اللياقة والسلوك في البلاط، الشرف في كل المعاملات والفصاحة في الحب ودرس كتب كستليوني "رجل البلاط" وحاول أن يضبط سلوكه على المثل الأعلى للرجل المهذب الذي وضعه الفيلسوف الأديب، وحاول آخرون أن يحاكوا سدني. وأطلق عليه سبنسر اسم "ملك النبل والفروسية".
وكان من مميزات هذا العصر أن الأرستقراطية التي كانت يوماً تحتقر معرفة(28/105)
القراءة والكتابة، نظمت الآن الشعر، وأذنت للشعراء في التردد عليهم. وأصبح سدني، ولو لم يكن ثرياُ، أعظم حماة الأدب في جيله. ومد يد المساعدة إلى كامدن وهاكلوت وناش وهارفي ودون، ودانيل وجونسون، وفوق كل شيء سبنسر الذي أزجى إليه آيات الشكر بوصفه "أمل العلماء جميعهم، وحامي عروس الشعر الصغيرة عندي" (19). ولم يكن يتفق مع طبيعة الأشياء أن يكون إهداء كتاب ستيفن جوسون "مدرسة الهجاء" موجهاً إلى سدني (1579)، وقد ورد في تقديم هذا الكتاب أنه "هجوم لطيف على الشعراء والزمارين والمغمرين والمهرجين، وأمثالهم من توافه الرجال السلابين في البلاد". وقبل سدني التحدي وكتب أول الروائع الأدبية في عهد إليزابث "دفاع عن الشعر" وإقتداء بأرسطو والنقاد الإيطاليين، عرف سدني الشعر بأنه "فن المحاكاة" فهو يمثل أو يزيف أو يجسد صورة ناطقة. "قصد بها أن تعلم وتدخل البهجة (20) ". وسما بالأخلاق كثيراً فوق الفن، فبرر الفن على أنه معلم الأخلاق عن طريق النماذج المصورة يقول:
"إن الفيلسوف .. والمؤرخ ... قد يصلان إلى الهدف، أولهما بالتعليم الأخلاقي، والثاني بضرب المثل، ولكن كلاهما لا يملكهما معاً. ومن ثم يتعثر كلاهما. فإن الفيلسوف، وهو يقرر الحقيقة المجردة للأخلاق، عن طريق الحجج الشائكة، قد يصعب عليه التعبير، ويغلب عليه الغموض فيدق على المرء فهمه إلى حد أن الإنسان الذي لا يتيسر لم مرشد غيره يخوض معه حتى يدركه الهرم قبل أن يجد مبرراً كافياً لأن يكون أميناً. ذلك أن علمه يقوم على التجريد والتعميم، حتى ليكون سعيداً من يستطيع أن يفهمه. أما المؤرخ من جهة أخرى، فإنه، وهو يعوزه القاعدة أو المبدأ الأخلاقي، مرتبط، لا بما يجب أن يكون، بل بما هو كائن ... ومن ثم فإن المثل الذي ضربه يستتبع نتائج غير ضرورية، ولذلك يكون نظرية أقل جدوى.
أما الشاعر الفذ فانه يؤدي الاثنين معاً، لأنه يرسم صورة دقيقة لمن يظن أنه قام بما قاله الفيلسوف بوجوب عمله. وهو بذلك يكمل الفكرة العامة بالمثال المحدد. وأقول بأنها صورة كاملة متقنة لأنه لا يقدم إلى قوى العقل صورة لم يقدم عنها(28/106)
الفيلسوف إلا وصفاً كلامياً لا يستوقف النظر ولا ينفذ إلى الأعماق ولا يتسم بالرؤية الروحية قدر ما للصورة من هذا كله (21).
وعلى هذا فان الشعر، في نظر سدني، يشمل كل الأدب التخيلي التصويري: الدراما، النظم، النثر التصويري. "ليست القوافي والأوزان هي التي تصنع الشعر. وقد يكون ثمة شاعر بلا أوزان، وقد يكون ثمة ناظم دون أن يكون شاعراً". لقد جمع سدني بين التعليم الأخلاقي والنموذج. وفي نفس العام الذي أخرج فيه "الدفاع عن الشعر" شرع في كتابه "جنة كونتيس بمبروك". وكانت أخته هذه من أكثر سيدات هذا القرن جمالاً وجاذبية. ولدت 1561، أي أنها تصغر فيليب بنحو سبع سنوات. وتلقت من التعليم قدر ما احتملت، بما في ذلك اللاتينية واليونانية والعبرية، ولكن فتنتها لم تذبل. وأصبحت عضواً في آل بيت إليزابث ورافقتها في رحلتها الملكية. وأسهم خالها ليستر في المهر الذي مكنها من الزواج من هنري ارل بمبروك. وكما يقول أوبري "كانت داعرة شديدة الشهوة للرجال فاتخذت بعضاً من الخلان أو العشاق لتكمل زوجها"، ولكن هذا لم يمنع فيليب من تقديسها، وكتابة "الجنة" بناء على طلبها.
واتخذ فيليب من "جنة" سانازارو (1504) مثلاً يحتذيه، فتخيل في تفصيل شديد وفي يسر، عالماً من الأمراء والشجعان والأميرات الرفيعات التهذيب، ومعارك الفروسية والأقنعة المحيرة والمناظر الطبيعية الساحرة. "إن جمال أفروديت (يورانيا) هو أعظم شيء يمكن أن يعرضه العالم، ولكنه أقل ما يمدح فيها (22) " وكان بللاديوس يتمتع ببصيرة نافذة مجردة من التباهي والتفاخر، وأفكار عالية تتسم باللياقة وحسن الأدب، وكانت الكلمات تخرج من فيه في فصاحة عذبة ولكنها لا تسعفه في التعبير. كما كان يتحلى بسلوك نبيل إلى حد أنه أضفى جلالاً على المحنة (23). "ومن الواضح أن سدني قرأ يوفيس، فالقصة متاهة غزلية، لقد تنكر بيروكليز في زي امرأة ليكون قريباً من فيلوكليا الجميلة، ولكنها تخيب أمله بحبها إياه على أنه أخت لها، ويقع أبوها في غرامه حين حسب أنه سيدة، وتقع أمها أيضاً في غرامه حين أدركت أنه رجل، ومهما يكن من أمر فان كل شيء ينتهي طبقاً لما(28/107)
أمرت به الوصايا العشر. ولم يأخذ سدني الحكاية مأخذ الجد كثيراً. ولم يصحح قط الوراق التي سلمها لأخته. وأمر بإحراقها وهو على فراش الموت، ولكن احتفظ بها وطبعت ونشرت (1590) وظلت لعقد من السنين أعظم ما يعجب به الناس من النثر في عهد إليزابث.
وبينما كان سدني يكتب هذه القصة الرومانتيكية "الدفاع عن الشعر"، وسط حياته الدبلوماسية والعسكرية نظم مجموعة قصائد من السونيت (14 بيتاً) مهدت الطريق أمام قصائد شكسبير التي من هذا النوع. وكان في حاجة إلى شيء من الحب الفاشل، فعثر عليه في بنلوب دفريه Penelope Devereu ابنة ارل اسكس الأول، ورحبت بآهاته وأشعاره على أنها لهو مشروع، ولكنها تزوجت من بارون رتش (1581). واستمر سدني يوجه قصائده إليها، وحتى بعد زواجه هو من فرانس ولسنهام. ولم يصعق من رجال عصر إليزابث لهذا الفجور الشعري إلا نفر قليل، ولم يتوقع أحد أن يكتب رجل شعراً حتى لزوجته هو، التي أخمد كرمها شاعريته، ونشرت المجموعة 1591، بعد وفاة سدني، تحت عنوان Astrophel and Stella- ( عاشق النجم والنجم) وقد نهجت نهج بترارك الذي استبقت محبوبته لورا بشكل عجيب عيني يلوب وشعرها وحاجبيها وخديها وبشرتها وشفتيها. وكان سدني يدرك تماماً أن هواه ليس إلا تقنية أو عملية شعرية. وكان هو نفسه قد كتب: "لو كنت أنا نفسي محظيه لما استطاع الشعراء كتاب السونيت أن يقنعوني بأنهم يحبونني (24) " وما أن قبلت قصائد السونيت على أنها لهو بريء حتى باتت أحسن شيء من نوعها قبل سونيتات شكسبير. وحتى القمر كان مريضاً بالحب:
بأية خطى حزينة تصعد إلى السماوات أيها القمر، وفي
أي صمت، وبأي وجه شاحب؟
ماذا، هل حتى في السموات.
يحاول رامي السهام النشيط أن يجرب سهامه الحادة.
حقاً، لو أن هذه العيون التي خبرت الحب طويلاً(28/108)
تستطيع أن تحكم على الحب. لشعرت بقضية حبيب،
لقد قرأتها في نظراتك وفي جمالك الذي يذبل.
إن حالتك لتكشف لي عن بعد، أنا الذي أحس بمثل
ما تحس به إذن، حتى بحق الزمالة أيها القمر خبرني.
أيعتبر الحب الدائم هناك نقصاً في العقل، وهل
ذوات الجمال هناك مزهوات كما هن هنا، هل
يحظين بما هو فوق الحب، ومع ذلك يحتقرن المحبين
الذين يأسرهم الحب.
وهل يسمون الفضيلة هناك ضرباً من الجحود (25)؟
وفي 1585 أرسلت إليزابث فيليب سدني لمساعدة ثوار الأراضي الوطيئة ضد أسبانيا، وعين حاكماً على فلشنج، ولو لم يبلغ الحادية والثلاثين من العمر، وأغضب الملكة المقترة يطلب مزيد من المؤن والأجور لجنوده الذين كانوا يتقاضونها عمل مزيفة مخفضة القيمة (26). وقاد جنوده إلى الاستيلاء على آكسل بالقرب من فلشنج (6 يوليه 1586)، وحارب في المقدمة. ولكنه في معركة زوتفين (22 سبتمبر) أتى من ضروب البسالة أكثر مما ينبغي، فقد قتل جواده في الهجوم، وقفز سدني إلى جواد آخر، وشق طريقه في صفوف العدو، فنفذت طلقة بندقية إلى فخذه، وهرب جواده جافلاً إلى معسكر ليستر (1). ومن ثم أخذ سدني إلى دار خاصة في آرنهيم، ولمدة خمسة وعشرين يوماً عانى من عجز الجراحين وجهلهم وسرى التسمم، وفي 17 أكتوبر استقبل عجيبة زماننا الموت بصدر رحب (كما رثاه سبنسر). وقال في يومه الأخير "لن استبدل بابتهاجي إمبراطورية العالم (28) " ونقل جثمانه إلى لندن، وأودع مقره الأخير في جنازة لم تشهد لها إنجلترا مثيلاً قبل وفاة نلسون.
_________
(1) تروي قصة لم تتأكد صحتها، أنه عندما قدم إلى سدني الجريح زجاجة من الماء، ناولها إلى جندي كان يعاني سكرات الموت بالقرب منه قائلاً: إن حاجتك إليها أشد من حاجتي ( Fulke Greville حياة مشاهير الرجال- سير فيليب سدني) (27)(28/109)
4 - إدموند سبنسر
1552 - 1599
وكتب سبنسر "مات سدني، مات صديقي بهجة الدنيا وزينتها (29) " إن سدني هو الذي أمد سبنسر بالشجاعة لينظم القريض. نشأ إدموند ابناً لا يبشر بحسن المستقبل لصانع ملابس باليومية، وكان ينتمي من بعيد لآل سبنسر الإرستقراطيين، مما لم يتح للصبي أية فرصة للظهور. ومكنته أموال البر والصدقات من اللحاق بمدرسة Merchant Taylors ثم كلية بمبروك في كامبردج حيث عمل ليكسب أجر إقامته بالقسم الداخلي بها. وما أن بلغ سن السابعة عشرة حتى كان يكتب، بل حتى ينشر، شعراً. وحاول هارفي أن يوجهه إلى القوالب والموضوعات الكلاسيكية القديمة. وحاول سبنسر في تواضع أن يرضيه، ولكن سرعان ما تمرد على القيود التي فرضتها الأوزان البغيضة على عروس الشعر عنده. وفي 1579 عرض على هارفي القسم الأول من ملحمته "الفيري كوين"، ولم يتذوق هارفي محتواها المجازي الذي يشبه أسلوب العصور الوسطى، ولم يقدر وزنها الشعري الرقيق، ونصح الشاعر أن يتخلى عن مشروعه، ولكن سبنسر تابع العمل.
إن هارفي، النكد المجهم المشاكس، هو الذي هيأ لسبنسر مكاناً في خدمة ارل ليستر. وهناك التقى الشاعر بسدني وأحبه وأهدى إليه "تقويم الراعي" (1579) قلد فيها من حيث الشكل تيوكريتس، ولكنه اتبع فيها خطة التقاويم الشعبية المألوفة التي تحدد أعمال الرعاة تبعاً لفصول السنة. وقامت فكرتها الرئيسية على حب غير مرغوب فيه من جانب الراعي كولين كلوت لروزيلاند القاسية. وليست مما يوصي أحد بقراءتها، ولكن إطراء سدني لها أكسب سبنسر شيئاً من الإقبال عليها أو التهليل لها. وارتضى الشاعر، رغبة منه في كسب العيش، منصب سكرتير آرثر لوردجراي نائب الملكة الجديد في إيرلندا (1579)، ورافقه إلى ساحة القتال. وشهد وأقر ما عمد إليه آرثر من ذبح من استسلموا من الإيرلنديين في سمروك. وبعد سبع سنوات من الخدمة الكتابية للحكومة الإنجليزية في إيرلندا، منح من الأملاك المصادرة من الثوار الإيرلنديين، قصر كلكولمان Kilcolman على الطريق بين مالو وليمرك، بالإضافة إلى 3000 فدان.(28/110)
وهناك أخلد سبنسر إلى حياة الزراعة الهادئة وانصرف إلى الشعر الرقيق. وخلد ذكرى موت سدني بمرثية بليغة ولكنها مطولة عنوانها "أستروفيل" (1586)، ثم صقل وطول في ملحمته "فيري كوين" وعبر البحر، وهو ممتلئ حماسة إلى إنجلترا، وقدمه رالي إلى الملكة، فكتب لها إهداء "الأجزاء" الثلاثة الأولى، "لتبقى في ظل خلود شهرتها. "وليضمن الترحيب بالقصيدة صدرها ببضعة أبيات في المديح موجهة إلى كونتيس بمبروك، وليدي كارو، وسير كرستوفر هاتون، ورالي، وبرجلي، ووالسنهام، واللورد داث هنزدن وبكهيرست وجراي وهوارد افنجهام، وارل إسكس ونرثمبرلند وأورمند وكمبرلند. ولما كان بيرجلي يناصب ليستر العداء ويحمل له الأضغان، فانه قال عن سبنسر إنه شاغر خامل، ولكن كثيراً من الناس هللوا له بوصفه أعظم شاعر منذ عهد تشوسر. وتلطفت الملكة فمنحته معاشاً سنوياً قدره خمسون جنيهاً، وتلكأ بيرجلي، بوصفه وزير الخزانة، في دفعه. وكان سبنسر يأمل في شيء أكثر سخاء. فلما خاب أمله عاد أدراجه إلى قصره في إيرلندا ليتابع ملحمته المثالية، وسط الهمجية والكراهية والخوف.
وكانت خطته أن تكون القصيدة في أثني عشر جزءاً، نشر الثلاثة الأولى منها في 1590، وثلاثة أجزاء أخر في 1596. ولم يذهب إلى أبعد من هذا. ومع هذا فإن الفيري كوين ضعف الإلياذة وثلاثة أمثال "الفردوس المفقود". وقدم كل جزء على أنه قصة رمزية- للقداسة والاعتدال وضبط النفس والعفة والصداقة والعدالة واللياقة والكياسة، وقصد الأجزاء جميعها "أن تصوغ أو تشكل سيداً ماجداً" أو إنساناً نبيلاً ذا خلق فاضل وديع (30)، بتزويده بالأمثلة التي تعين على تشكيله، وكل هذا يتفق مع فكرة سدني في أن الشعر عبارة عن تعاليم أخلاقية تنقلها نماذج متخيلة. وإذ التزم سبنسر جانب الحشمة والوقار، فانه لم يجز لنفسه إلا يضع قطع قليلة شهوانية أو حسية. فهو يلقي نظرة عجلى على "صدر عاجي عار للانقضاض عليه غنيمة باردة (31) "، ولكنه لا يذهب إلى أبعد من هذا. وإنه في ستة من الأقسام الرئيسية ليشدو بأعلى أنغام حب الفروسية والشهامة، باعتباره خدمة خالية من الأثرة للسيدات والجميلات.
أما نحن الذين نسينا الفروسية والشهامة، فإننا نضيق ذراعاً بالفرسان وتربكنا المجازات(28/111)
والاستعارات والقصص الرمزية، فان ملحمة الفيري كوين، تكون لنا في أول الأمر بهيجة سارة يشل غريب، ولكنها أخيراً شيء لا يحتمل. إن تلميحاتها السياسية التي فرح بها أو استاء لها المعاصرون، فقدت قيمتها لدينا، وإن المعارك اللاهوتية التي تشير إليها لهي الإرهاصات الراسبة في صبانا، وإن قصصها لهو في أحسن الأحوال، أصداء شجية لفرجيل وآريستو وتاسو، وليس ثمة قصيدة في الأدب العالمي تفوق "الفيري كوين" في أفكارها المتكلفة، وتغييراتها الكئيبة في الأوضاع السوية للكلمات والأسلوب، وألفاظها المهجورة وتعبيراتها الجديدة الطنانة، ومبالغاتها الرومانتيكية الحمقاء التي لم تلطفها ابتسامة آريستو. ومع ذلك فان كيتس وشللي أحبا بنسر وجعلاه "شاعر الشعراء" فلماذا؟ ألان شيئاً من الجمال الحسي للشكل عوض عن سخف العصور الوسطى وأسلوبها، أم لأن فخامة الوصف زركشت شيئاً زائفاً غير واقعي؟ وكان المقطع الجديد ذو الأبيات التسعة صعباً من ناحية التعبير الفني، وكثيراً ما يروعنا سبنسر بإتقانه الكامل وسهولته الدافقة. ولكنه، كم من مرة أفسد منطقه من أجل قافية!
وانقطع عن ملحمة "فيري كوين" لينظم قصائد موجزة ربما كانت تبرر شهرته، من ذلك قصيدته "حبي الصغير"، على شكل السونيت، التي كانت تشبه هوى بترارك ونزواته وخيالاته. أو إنها ربما كانت تعكس أيام خطبته التي دامت عاماً لإليزابث بويل. وقد تزوجها في 1594، وشدا بأفراح الزفاف في أرق قصائده Epithalamium وإنه ليقتسم معنا مفاتن العروس، دون أثرة أو أنانية.
يقول:
أنبئوني يا بنات التجار هل رأيتم
مخلوقاً جميلاً مثل هذا في بلدكم من قبل
بمثل هذه الملاحة والوسامة والرقة مثلها.
تزينها نعمة الجمال وكنز الفضائل
وعيناها الواسعتان وكأنهما لؤلؤتان تشعان نوراً،
وجبهتها الناصعة البياض كالعاج(28/112)
ووجنتاها وكأنهما تفاحتان كستهما الشمس بحمرة الورد،
وشفتاها كثمرتين من الكريز تسحران الرجال ليقضموهما.
وصدرها الذي يشبه وعاء من قشدة لم تتخثر بعد،
وثدياها أشبه بزنبقتين تفتحتا
وعنقها الناصع البياض مثل عمود من المرمر،
وجسمها بأسره وكأنه قصر جميل ...
ولما انتهى الحفل والولائم أمر مدعويه أن ينصرفوا دون إبطاء، قائلاً:
هيا، الآن اكففن أيتها الآنسات، لقد انتهت مسراتكن،
كفى، إن النهار كله كان لكن
والآن ولى انهار، والليل يرخي سدوله.
فأحضرن العروس إلى منزل العريس ...
وضعنها في مخدعها
وأحطنها بالزنبق والبنفسج
وضعن الأستار الحريرية فوقها،
مع الملاءات المعطرة والأغطية المزركشة.
وليكن الليل هادئاً ساكناً
دون زوابع عاصفة أو شجارات صاخبة محزنة.
كما رقد جوبيتر مع ألكمينا ...
ولتكف الآنسات والشبان عن الغناء،
ولا تدعن الغابات يجبنهم أو يرجعن أصداءهم.
فهل ثمة عذراء زفت بمثل هذه العذوبة والحلاوة؟
ودعم سبنسر هذا التحليق، وهذه الانطلاقة "بأربع ترانيم" (1596) يمجد فيها الحب الدنيوي والجمال الدنيوي، والحب الإلهي والجمال الإلهي. ونهج نهج أفلاطون وفيسينو، وكاستليوني، ومهد الطريق للشاعر كيتس، فأقر بما اقترف من "أعمال شريرة كثيرة"، فقرر في نفسه أن ينفذ إلى أعماق الجمال الطبيعي(28/113)
ليجد ويشعر بالجمال الإلهي الذي يكمن بدرجات متفاوتة في كل ما هو على الأرض.
ولما كان سينسر يعيش على بركان من الشقاء في إيرلندا، فانه كان من الموت قاب قوسين أو أدنى، في كل يوم. وقبل أن ينفجر بركان الثورة ثانية، كتب في نثر رقيق (لأن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يكتب نثراً جيداً) "رأيه في الحالة الراهنة في إيرلندا" يدافع عن طريقة أفضل لاستخدام الأموال وترتيب الجنود الإنجليز لإخضاع الجزيرة. وفي أكتوبر 1598 قام الايرلنديون الذين جردوا من أملاكهم في مونستر بثورة وحشية، وطردوا المستوطنين الإنجليز وأحرقوا حصن كلكلمان. ونجا سبنسر وزوجته بحياتهما وهربا إلى إنجلترا. وبعد شهور ثلاثة، وقد انتهى رصيد الهوى والمال، قضى الشاعر نبه (1599)، ودفع ارل اسكس الأصغر- الذي قدر له أن يلحق بسبنسر بعد فترة وجيزة، ودفع نفقات الجنازة، التي سار فيها النبلاء والشعراء الذين نثروا الأزهار، وألقوا المراثي على قبره في كنيسة وستمنستر.
وسادت إنجلترا الآن لهفة جنونية على نظم "السونيت"، نافست اللهفة على الدراما، وكلها تقريباً غاية في براعة الشكل، ذات قالب واحد من حيث الموضوع الرئيسي والعبارة، وكلها تقريباً موجهة إلى العذارى أو الحماة، تنعى عليهم أنهم يغلون أيديهم إلى أعناقهم أو لا يبسطونها إلى الشعراء، وكانوا يستحثون الجمال على أن يأذن بقطف ثماره قبل أن تذبل عن سوها. وقد تقتحم القصيدة في بعض الأحيان نغمة مبتكرة ويبشر العاشق سيدته بمولود مكافأة لها على الاقتران السريع. وينقب كل شاعر فيجد فتاة أحلامه- دانيل: دليا، لودج: فيليس، كونستابل: ديانا، فولك جريفيل: ساليا. وكان أشهر ناظمي السونيت هؤلاء، هو صمويل دانيل، على أن بن جونسون- الذي كان "قاسياً" أكثر منه "لذاً"- قال عنه إنه "رجل أمين وليس شاعراً (32) " وحرمت قصيدة ميشيل درايتون " Pegasus" حول كل أشكال الشعر، بما كان له من قدم في النثر. ولكن إحدى قصائده ضربت على نغمة جديدة، فوخزت الفتاة ونبهتها إلى مغبة صدودها، بأن آذنها بالوداع- "إذا لم يكن ثمة رجاء أو عون، تعالي، نتبادل القبل ثم نفترق".(28/114)
وكان الأدب الإنجليزي في جملته في عهد إليزابث- فيما خلا الدراما- متخلفاً جيلاً عن الأدب الفرنسي. كان النثر قوياً مرناً، وفي الغالب معقداً مطنباً إلى حد الضجر، خيالياً، ولكنه أحياناً يحرك المشاعر بجلاله الملكي أو إيقاعه الفخم. ولم ينتج النثر الإنجليزي أحداً مثل رابليه أو مونتاني، وقلد الشعر الأشكال الأجنبية في حرص وحذر، باستثناء The Faerie Queen, Eoithalamium ولم يجد بسنسر قراء له في القارة قط، كما لم يجد رونسار (شاعر فرنسي في القرن السادس عشر) قراء له في إنجلترا. فان الشعر يخلق من اللغة والعاطفة موسيقى لا يمكن الاستماع إليها خارج حدود الكلام، لقد اتصلت الأغاني الشعبية البسيطة بالناس ووصلت إليهم، بشكل أشد وثاقاً مما فعل شعر القصور والبلاط، فان الغاني كانت معلقة على جدران البيوت والحانات، وكانت تغنى وتباع في الشوارع، وما زالت أغنية "لورد راندال" تهز مشاعرنا بلحنها الحزين (33). وربما كان هذا الشعر الشعبي- لا المحسنات البارعة اللطيفة- في قصائد السونيت، هي التي مهدت عقول الناس في عصر إليزابث ليقدروا شكسبير.
5 - المسرح
كيف إذن، صعد الأدب الإنجليزي التافه إلى هذا الحد في فترة الجفاف الطويل بين تشوير وسبنسر، نقول إذن كيف صعد هذا الأدب إلى شكسبير؟ لعله بسبب نمو الثروة وانتشارها، والسلام الطويل المثمر، وبسبب الحرب المثير الظافرة، والآداب الأجنبية والأسفار التي وسعت عقول الإنجليز. وكان بلوتس وترنس Terence يعلمان إنجلترا فن الملهاة كما يعلمها سنكا أسلوب معالجة المأساة. ومثل الممثلون الإيطاليون في إنجلترا (1577 وما بعدها) وأجريت آلاف التجارب. وفيما بين عامي 1592 و1642 شاهدت إنجلترا 435 ملهاة تمثل. وتطورت الهزليات والفصول الإضافية إلى ملهاة. وتخلت الأسرار الدينية والتعاليم الأخلاقية عن مكانها للمسرحيات المأساوية الدنيوية، كما فقدت الأساطير المقدسة سلطانها على القصيدة. وفي 1553 أخرج نيقولا يودال في Ralph Roister Doister أول ملهاة(28/115)
إنجليزية في شكل كلاسيكي قديم. وفي 1562 مثل المحامون في The Lnner Temple مسرحية Gorboduc وهي أول مأساة في شكل كلاسيكي.
وبدا لبعض الوقت أن ذلك الشكل، المنحدر من روما، كان محتوماً عليه أن يصوغ المسرحية الإنجليزية في قالبها، في عصر إليزابث. ودافع الجامعيون مثل هارفي، والمحامون الشعراء مثل جورج جاسكوين، والذين تلقوا تعليماً كلاسيكياً مثل سدني-دافعوا عن ضرورة ملاحظة ثلاث "وحدات" في الرواية، أي أنه لا بد أن يكون هناك "عمل" (موضوع)، وان هذا لا بد أن يجري في "مكان" واحد، ويتمثل في "يوم" واحد لا أكثر. ومبلغ علمنا أن هذه الوحدات صاغها لأول مرة لودوفيكو كاستلفترو (1570) في تعليق على "شعريات" أرسطو. إن أرسطو نفسه لا يتطلب إلا وحدة العمل، ويوصي بأن يجري هذا العمل خلال دورة واحدة للشمس" ويضيف ما يمكن أن نسميه وحدة الحالة النفسية بمعنى أن الملهاة "التي تمثل الطبقة الدنيا من الناس" لا يجوز أن تختلط بالمأساة "وهي تمثل العمل البطولي (34) ". وأخذ سدني في كتابه "دفاع عن الشعر"، نظرية وحدات المسرحية عن كاستلفترو، وطبقها بدقة، ولكن في مرح لطيف، على الروايات في عصر إليزابث، تلك التي كانت الجغرافية طاغية فيها:
فترى فيها آسية من ناحية، وأفريقية في الناحية الأخرى، وكذلك ممالك سفلى كثيرة، حتى أن الممثل حين يدخل، لا بد أن يبدأ بأن يخبرك أين هو .... أما عن الزمن فهم أكثر تحرراً، وأنه لأمر عادي أن يقع أميران شابان في شرك الغرام، وبعد عوائق جمة تحمل العشية في طفل من شاب وسيم ... ثم ينمو حتى يصبح رجلاً يقع في شراك الغرام، مستعداً لأن ينجب طفلاً آخر، وكل هذا على مدى ساعتين (35).
واتبعت فرنسا القواعد الكلاسيكية وأنجبت راسين، أما إنجلترا فنبذتها وهيأت لمسرحياتها المأساوية حرية رومانتيكية ومجالاً يغلب عليه المذهب الطبيعي، وأنجبت شكسبير. وكان المثل الأعلى لعصر النهضة في إنجلترا فكان الحرية والإرادة(28/116)
والمرح والحياة. وكان جمهور النظارة في عصر إليزابث يتألف من صغار اللوردات ومن متوسطي الحال ومن محتلي مقاعد الدرجة الثالثة، وكان ينبغي أن يقدم لهذا الجمهور غذاء دسم متنوع، حيث كان له قدرة على الضحك ملء أشداقه، ولم يكن يعبأ بحفاري قبور يتجاذبون أطراف الحديث في المذاهب الفلسفية مع أمير، وكان لهذا الجمهور خيال لم يروض بعد، يمكن أن يقفز من مكان إلى مكان ويعبر قارة بأسرها، لأية إشارة أو تلميح. وكانت المسرحية في عهد إليزابث تمثل الإنجليز في أيامها، لا الإغريق في عهد بركليز، ولا الفرنسيين في عهد البوربون، ومن ثم أصبحت الفن القومي، على حين أن الفنون التي اتبعت نماذج أجنبية لم تتغلغل جذورها في إنجلترا.
وكان على المسرحية الإنجليزي أن تخوض معركة أخرى قبل أن تخطو إلى مارلو وشكسبير، فقد نبذت الحركة البيوريتانية الناشئة مسرح إليزابث على انه وكر للوثنية والتجديف والدنس، واستنكرت وجود النساء والبغايا بين الجمهور، واقترب المواخير من المسارح. وفي 1577 نشر نورثبروك نقداً لاذعاً عنيفاً ضد "لعب النرد والرقص والروايات. والفصول الضاحكة":
إني مقتنع بأن الشيطان ليس لديه وسيلة أسرع ولا مدرسة أصلح،
لينفذ رغبته، ويلقنها، ويوقع الرجال والنساء في شراك الغواية
والفسق والشهوات الدنيئة لدى بنات الهوى الداعرات والشريدات،
من هذه الروايات والمسارح. ومن ثم فانه من الضروري أن تحظر
هذه الأماكن ويمنع هؤلاء الممثلون، وأن يقضي عليهم، وأن
تهدم المسارح بأمر السلطات، كما هو الحال بالنسبة للمواخير وبيوت الدعارة (36).
وكان كتاي ستيفن جوسون "مدرسة الهجاء" معتدلاً نسبياً. واعترف بأن ثمة رواية وممثلين، "لا غبار عليهم". ولكنه عندما رد لودج، أقلع جوسون عن أي تمييز. وفي كتابه " Players Confuted In Five Actions"، وصف الروايات بأنها "غذاء للخطيئة وللشغب وللزنى"، والممثلين بأنهم "أساتذة(28/117)
الرذيلة ومعلمو الخلاعة والفجور (37). " ورأى النقاد في الملهاة صوراً للرذيلة تفسد الأخلاق، وفي المأساة أمثلة مثيرة للقتل والخيانة (38) والتمرد. وفي السنوات الأولى من حكم إليزابث كان يوم الأحد هو اليوم المخصص للتمثيليات. وكانت الأبواق تعلن عنها، كما تدعو أجراس الكنائس الناس إلى صلوات المساء. وكم فزع رجال الدين من تسلل جمهور الكنيسة خلسة من صلواتهم ليزاحموا المسرح. وتساءل أحد الوعاظ: أليست رواية قذرة تستحث بنفخة من بوق ألفا من الناس للحضور بأسرع مما تحضر دقات الناقوس لمدة ساعة مائة منهم لسماع موعظة (39)؟ " وذهب نورثبرك إلى أبعد من ذلك فقال: "إذا كنتن تعرفن كيف تخدعن أزواجكن، أو خداع الأزواج لزوجاتهم، وكيف تمثلن دور بنات الهوى، وكيف يكون الملق والمداهنة والكذب والقتل والتجديف على الله، وترديد الأغاني القذرة ... فهلا تتعلمن كيف تمارسن كل هذا في مثل هذه الفصول الماجنة؟ (40) ".
ورد الكتاب المسرحيون على هذا بنشرات أصدروها، وبالسخرية من البيوريتانيين في مسرحياتهم. من ذلك ما أورد مالفوليو في رواية "الليلة الثانية عشرة"، حيث يسأل سير توبي بلش لمهرج في تلك الرواية: "هل تظن أنه لن يكو ن هناك كعك وجعة لأنك رجل متمسك بأهداب الفضيلة؟ " فيجيب المهرج "نعم، وبحق سانت آن، وسيكون الزنجبيل كذلك ساخناً في الفم (41). " واستمر هؤلاء الكتاب، حتى شكسبير نفسه، يملحون رواياتهم بشيء من أعمال العنف والغضب وسفاح ذوي القربى والزنى والدعارة. وهناك في رواية شكسبير "بركليز" مشهد عرض حجرة في ماخور يشكو مديره العام من أن: "العاملات عنده بتن من العمل المتواصل، في أسوأ حال (42) ".
وذهبت سلطات مدينة لندن0وكان بعضهم من البيويتاريين- إلى أن البيوريتانيين ألزموا معارضيهم الحجة. وفي 1574 حرم "المجلس العام" تمثيل الروايات إلا بعد فحصها وإجازتها، ومن هنا جاء بيت شكسبير "لقد كممت السلطات أفواه الفن (43). ولكن، لحسن الحظ، كانت إليزابث ومجلس شورى الملكة مغرمين بالمسرحيات، وكان لبعض اللوردات فرق من الممثلين، وفي ظل(28/118)
رقابة متراخية على المصنفات، أجيزت ست فرق لإخراج الروايات في المدينة.
وقبل 1576 كانت الأعمال المسرحية تجرى أساساً على منصات مؤقتة في أفنية الفنادق. ولكن في تلك السنة بنى جيمس بوربدج أول مسرح دائم في إنجلترا، وأطلق عليه ببساطة اسم "المسرح". وللإفلات من سلطان الجهات المسئولة في لندن أقيم المسرح خارج حدود المدينة نفسها، في ضاحية شوردتش، وسرعان ما أقيمت مسارح أخرى: (1577؟) The Black Friars, The Curtain، (1596) The Fortune، (1599) . وفي تلك السنة الخيرة هدم ريتشارد وكوثبرت بوردبدج مسرح والدهما، وأقاما المسرح المشهور Globe في سوثوراك على نهر التاميز تماماً. وكان مثمن الأضلاع في شكله الخارجي، ولكن ربما كان مستديراً في الداخل، ومن ثم أطلق عليه شكسبير "هذه الدائرة الخشبية This Wooden O، (44) . وكانت كل مسارح لندن من الخشب قبل 1623. وكان معظمها عبارة عن مدرجات كبيرة تتسع لنحو ألفين من المتفرجين جالسين في صفوف من شرفات محيطة، ويمكن لألف آخرين أن يشاهدوا الرواية وقوفاً في الساحة التي حول المنصة أو خشبة المسرح. وهؤلاء "الألف" هم "جمهور الدرجة الثالثة" الذين وبخهم هملت بأنهم "المشهد الصامت والضجيج (45) " وكان المشاهد الواقف يدفع بنساً واحداً، أما الجالس في الشرفات فيدفع بنسين أو ثلاثة، أما المقعد على المنصة فكان يكلف أكثر من ذلك قليلاً. وكانت هذه المنصة عبارة عن منبسط يخرج من أحد الجدران إلى وسط الساحة. وفي المؤخرة كانت غرفة الملابس، وفيها يرتدي الممثلون ملابسهم، ويتولى "خازن المسرح" أمر أدوات التمثيل والإخراج المسرحي، وكانت تشمل قبوراً وجماجم وصناديق أشجار، وشجيرات الورد، وعلب مجوهرات وستائر ومراجل، وسلالم وأسلحة، وأدوات، وقوارير دم وبعض رؤوس مفصولة وكان يمكن بواسطة الآلات إنزال الآلهة والإلهات من السماء، أو رفع العفاريت والسحرة من الأرض، كما يمكن إسقاط المطر بشد حبل، وتعليق الشمس في السماء "بحزام مزدوج (46) ". وكان على هذه الأدوات أن تعوض عن جهاز المسرح. وعوقت المنصة المكشوفة غير المحجوبة سرعة تغيير الوضع. وعوضاً عن ذلك كان(28/119)
التمثيل وسط الجمهور تماماً، حتى ليكاد يحس بأنه جزء من الحدث.
ولم يكن النظارة يشكلون جزءاً صغيراً من المسرح، وكان متعهدو الحفلات يبيعون التين والتفاح والبندق والكتيبات للمتفرجين، وفيما بعد ذلك- إذا صدقنا وليم برين البيوريتاني، -كانت الغلايين تقم للنساء (47). وجاءت النساء إلى الروايات أفواجاً، لا يعوقهن عن ذلك تحذيرات المنابر بأن مثل هذا الاختلاط يحرض على الغواية. وفي بعض الأحيان-حين كان الصراع الطبقي يعترض المسرحية، كان جمهور الدرجة الثالثة يقذفون بمخلفات طعامهم على المتأنقين الجالسين على المنصة، ويجدر بنا، لكي نفهم الرواية في عصر إليزابث، أن نذكر هذا الجمهور: العاطفة التي تهلل لقصة الحب، والمرح القلبي الحماسي الذي تلهف على رؤية المهرجين مع الملوك، والخيلاء التي استساغت البلاغة، والحيوية الفظة التي استمتعت بمشاهد العنف- كما نتذكر قرب المنصة المثلثة الجوانب التي تعزى بالمناجاة والكلام على انفراد.
وكثر الممثلون، وكاد الممثلون جوابو الآفاق أن يظهروا في أية مدينة تقريباً في أيام الأعياد والاحتفالات، يمثلون في ميدان القرية، أو في فناء الحانة، أو في حظيرة للماشية أو في قصر من القصور، وفي أيام شكسبير لم يكن هناك ممثلات، وكان الأولاد يمثلون الأدوار النسائية، فكان يمكن للمشاهدين في أيام إليزابث أن يروا ولداً يمثل امرأة متنكرة في زي فتى أو رجل. وفي المدارس الخاصة الأرستقراطية قدم الطلبة مسرحيات كجزء من تدريبهم أو دراساتهم. ونافست فرق الممثلين الأولاد هذه فرق الممثلين الكبار، عن طريق عرض الروايات في مسارح خاصة للجمهور وللمتفرجين الذين يدفعون أجوراً، وشكا شكسبير من هذه المنافسة (48)، وتوقفت بعد 1626.
وحتى يتفادى الممثلون البالغون إدراجهم في مصاف المتشردين، نظموا أنفسهم في فرق تحت رعاية وحماية النبلاء الأثرياء- ليستر، سسكس، أكسفورد، اسكس وكان للورد أمير البحر فرقة، وكذلك للورد كبير الأمناء، وكان هؤلاء الرعاة والحماة يدفعون أجور الممثلين عن العروض التي يقدمونها في قاعات البارونات والنبلاء. وفيما عدا هذا عاش الممثلون مزعزعين غي مستقرين على أنصبتهم في فرقتهم.(28/120)
ولم تكن الأنصبة توزع توزيعاً عادلاً، فكان للمدير الثلث، واستولى نجوم الممثلين على نصيب الأسد من الباقي. وترك ريتشارد بوريدج- وهو أشهر هؤلاء النجوم- أملاكاً تدر 300 جنيه سنوياً، أما منافسه إدوارد اللين Alleyn فقد شاد وتبرع بكلية دلوتش في لندن. وكوفئ مشاهير رجال المسرح بإعجاب الجمهور الأعمى بهم، ويتهافت السيدات عليهم يخطبن ودهم.
ويروي لنا جون ماننجهام في مذكراته عن مارس 1602 قصة مشهورة:
ذات مرة، حين مثل بوريدج "ريتشارد الثالث"، كانت هناك مواطنة قريبة الشبه به إلى حد بعيد، لدرجة أنها قبل أن تنصرف من الرواية حددت له موعداً ليحضر إليها تلك الليلة باسم ريتشارد الثالث. وكان شكسبير يسترق السمع إلى الحديث، فسبقه إليها، ولقي ترحيباً ونفذ خطته قبل حضور بوريدج. ثم جاء رسول يقول إن ريتشارد الثالث بالباب، فرد شكسبير الرسول ليقول إن وليم الفاتح سبق ريتشارد الثالث (49).
6 - كرستوفر مارلو
1564 - 1593
لم يجن كتاب المسرح من الربح قدر ما جنى الممثلون، ذلك أنهم باعوا رواياتهم دون تحفظ إلى الفرق المسرحية لقاء مبلغ يتراوح بين 4 و8 جنيهات، ولم يحتفظوا بحقهم في المخطوطة أي في أصل الرواية، وحظرت الفرقة عادة نشر النص لئلا تستخدمه فرقة منافسة. وسجل كاتب الاختزال الرواية أحياناً في الوقت الذي تمثل فيه. وربما أصدر صاحب المطبعة من هذا التسجيل طبعة مسروقة محرفة لا يصيب المؤلف منها إلا ضغط الدم الشديد. ولم تحمل مثل هذه الطبعات دوماً اسم المؤلف ومن ثم، فان الروايات مثل Arden Of Faversham، (1592) عمرت عدة قرون دون أن تحمل اسم مؤلفها.
وبعد 1590 عاش المسرح الإنجليزي على روايات لها بعض القيمة، ولو أن عدداً قليلاً منها فقط الذي عمر لأكثر من يوم. وزخرف جون ليلي ملهياته بأغان شعبية ساحرة فقد مهد السحر الرقيق في روايته Endymino لرواية "حلم منتصف ليلة صيف".(28/121)
وربما تبادلت رواية روبرت جرين " Friar Bacon and Friar Bungay"، (1598) التي عالجت عجائب السحر، نقول ربما تبادلت الفكرة مع رواية مارلو "دكتور فاوست" (1588؟ -1592؟). وروت "المأساة الأسبانية" لتوماس كد (1859؟) قصة قتل دامية كادت لا بقي على أحد في النهاية، وأوحى نجاحها إلى كتاب الرواية في عصر إليزابث ودفعهم إلى منافسة القواد والأطباء في سفك الدماء. وهنا، كما هو الحال في هملت نجد "شبحاً" يطالب بالثأر، كما نجد رواية داخل رواية.
وعمد كريستوفر مارلو قبل تعميد شكسبير بشهرين اثنين، وهو ابن صانع أحذية في منتربري، ومن ثم فانه ما كان ليحظى بالتعليم الجامعي لولا أن رئيس الأساقفة باركر قدم له منحة دراسية. وطوال سني دراسته بالكلية استخدمه سير فرانسيس ولسنهام جاسوساً للتحري عن أية مؤامرات ضد الملكة. ولقد زعزعت دراسته لآداب الإغريق والرومان من عقيدته الدينية، كما أضفى إطلاعه على أراء مكيافللي على تشككه اتجاها إلى المذهب الكلبي (السخرية). وانتقل إلى لندن بعد الحصول على درجة الأستاذية (1587)، وأقام في غرفة مع توماس كد، وانضم إلى حلقة المفكرين الأحرار التي تزعمها رالي وهاريوت. ورفع ريتشارد بارنز-أحد عمال الحكومة-إلى الملكة في 3 يونية 1589 تقريراً جاء فيه أن مارلو كان قد أعلن أن أول أصل في الدين لم يكن إلا إبقاء الناس في رعب وفزع .. وان المسيح كان ابن زنى ... وأنه إذا كان ثمة ديانة حقه فهي الكاثوليكية، لأن عبادة الله تقوم على المزيد من الطقوس، وأن جميع البروتستانت حمير مراءون منافقون ... وأن العهد الجديد (الإنجيل) كله مكتوب بشكل قذر بذيء. ويضيف بارنز "ثم أن مارلو هذا ... في كل اجتماع يحضره تقريباً ... يحرض الناس على الإلحاد، ويريدهم ألا يخشوا "البع بع" والغيلان، مزدرياً كل الازدراء الرب ورسله (50). " كما أن بارنز (الذي أعدم شنقاً في 1594 لفعلة شائنة) أضاف- ليحكم التدبير- أن مارلو دافع عن اللواط (51)، ووصف روبرت جرين في دعوته أصدقائه إلى الصلاح، وهو على فراش الموت، نقول "وصف مارلو بأنه(28/122)
ميال إلى التجديف والإلحاد (52) وقرر توماس كد- وقد قبض عليه في 12 مايو 1593 - تحت تأثير التعذيب، أن مارلو كان مارقاً مدمناً للخمر، قاسي القلب"، معتاداً على "السخرية من الكتب المقدسة" و"الإستهزاء بالصلوات (53) ".
وقبل أن تصل هذه التقارير إلى الحكومة بوقت طويل، كان مارلو قد كتب وأخرج للمسرح روايات تشير إلى كفره وشكوكه في الكتب الدينية. ومن الواضح أنه ألف Tamburlaine The Great في الكلية وانه أخرجها في عام تخرجه، وإن تمجيدها للمعرفة والعلم والجمال والقوة ليكشف عن مزاج الشاعر المصطبغ بمبادئ فاوست (فيلسوف يبيع نفسه للشيطان مقابل حصوله على العلم والمعرفة).
إن نفوسنا التي تستطيع بما أوتيت من مواهب
أن تدرك عجيب صنع العالم،
وتقيس مدار كل كوكب سيار،
ولا تزال تصعد وراء المعرفة اللانهائية،
وتنتقل دائماً مثل الأجرام التي لا يقر لها قرار
تريدنا أن نفني أنفسنا، وألا نهدأ،
حتى نصل إلى أنضج الثمار في كل شيء (54).
وكانت الروايتان اللتان كتبهما تيمور تنمان عن فجاجتهما، وكان تصوير الشخصيات مبسطاً أكثر مما ينبغي التبسيط- فكل شخص يمثل صفة واحدة، فتامبورلين هو الزهو بالقوة، ويكاد الزهو أن يكون غرور طالب جامعي منتفخ الأوداج ببدع وأشياء جديدة لم يتمثلها جيداً في عقله، لا أن يكون ثقة هادئة بالنفس لدى ملك ظافر. وتجري القصة على أنهار من الدماء تعترضها السدود أو الاحتمالات البعيدة. والأسلوب ينزع إلى الكلام المنمق الرنان. ماذا إذن أكسب هذه الرواية أعظم النجاح، إلى هذا الحد، في عصر إليزابث؟ يحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى ما فيها من عنف وسفك دماء وتنميق، ولكنا أيضاً قد نؤمن بأنه يرجع إلى ما فيها من زندقة وهرطقة وفصاحة، ففيها أفكار تدوي بجرأة أكثر،(28/123)
وصور يحس بها المرء إحساساً أعمق، وعبارات استخدمت بذكاء أكثر مما سمع أو عرف في المسرح الأليزابيثي من قبل. وهنا كانت عشرات من "الأبيات العظيمة" مما حدا بجونسون أن يمتدحها، وقطع تتسم بجمال شجي، حتى لقد ذهب سوينبرن إلى أنها فريدة من نوعها.
وأعجل التهليل والهتاف مارلو، فأسرع الخطى، وكتب بكل ما أوتي من قوة الروح أعظم أعماله: "التاريخ الفاجع لدكتور فاوست" (1588؟). إن أخلاق العصور الوسطى التي ربما أقرت "أن بهجة المعرفة ببجة يعروها الحزن والأسى (55)، وأن في المزيد من الحكمة مزيداً من البلية (56) " كانت قد دمغت اللهفة الجامحة على المعرفة بأنها إثم عظيم، بيد أن طموح العصور الوسطى تحدى هذا الخطر، حتى إلى حد مناشدة السحر والشيطان بغية الوقوف على أسرار الطبيعة وقواها. وإن مارلو ليمثل فاوست على أنه طبيب ويتنبرج العالم الشهير الذي يتميز غيظاً من الحدود الضيقة لمعرفته وعمله، ويحلم بوسائل سحرية تجعله يحيط بكل شيء علماً.
إن كل شيء يتحرك بين القطبين الساكنين
سوف يكون تحت أمري ...
وهل أجعل الرواح تأتيني بكل ما أريد،
وتبدد كل غموض والتباس.
وتقوم بكل مغامرة يائسة أبتغيها؟
سأجعلها تطير إلى الهند من أجل الذهب
وتنقب في المحيطات وراء لآلئ الشرق
وتفتش في كل أركان الدنيا المكتشفة حديثاً
من أجل الفاكهة الشهية وكل ألوان النعيم والترف،
وسأجعلها تتلو على غرائب الفلسفة.
وتقص على أنباء الملوك الأجانب (57).
وبناء على نداء منه، يظهر مفستوفيلس، ويعرض عليه أربعاً وعشرين سنة من السعادة والقوة، شريطة أن يبيع نفسه إلى لوسيفر ويوافق فاوست ويوقع(28/124)
العقد بدم ذراعه المقطوعة. وكان أول مطلب له هو أن يأتيه بأجمل فتاة في ألمانيا لتكون زوجة له، "أنني شهواني لعوب داعر"، ولكن مفستوفيلس يثنيه عن الزواج، ويقترح بدلاً منه مجموعة متعاقبة من الخليلات والمحظيات. ويطالب فاوست بهيلين غادة تراوده، فتاتي إليه ويغرق هو في غمرة النشوة والابتهاج:
هل هذا هو الوجه الوحيد الذي هاجم ألف سفينة
وأحرق أبراج ترواده الشاهقة؟
أيتها الجميلة هيلين امنحيني الخلود بقبلة منك ...
آه ... إنك أحلى من نسم المساء
مكسوة بجمال ألف من النجوم
وعولج المشهد الأخير في قوة هائلة: التوسل الأخير إلى الله في شيء من الرحمة، أو على الأقل في فترة من اللعنة والعذاب-"فليعش فاوست ألف سنة بل مائة ألف سنة في الجحيم، لينجو في النهاية"-ثم اختفاء فاوست عندما آذنت الساعة بحلول منتصف الليل، وسط ضجة هائلة من السحب المعتمة المصطدمة بعضها ببعض. وتنشد الفرقة الموسيقية كلمات تخليد ذكراه- وذكرى مارلو:
انقطع الغصن الذي نما وترعرع مستقيماً عالياً،
واحترق فرع الغار الذي يكلل أبوللو
ربما استطاع مارلو، في هذه الروايات، أن يظهر ميوله الخاصة نحو المعرفة والجمال والقوة، ولكن تطهير العواطف، أو أثر التنقية والتنظيف- ذلك الذي عزاه أرسطو إلى المسرحية المأساوية، كان يظهر في المؤلف أكثر منه في الجمهور المشاهدين. وفي مسرحية "يهودي مالطه" (1589؟) تأخذ الرغبة في القوة شكلاً متوسطاً من جشع المال والثروة، وتدافع عن نفسها في الخطبة التي ألقاها مكبافل:
إني لأعجب لأولئك الذين يبغضونني كل البغض.
وعلى الرغم من أن بعضهم يندد علانية بكتبي
فانهم، سيقرؤونها، ومن ثم يصلون(28/125)
إلى كرسي بطرس، وعندما يتخلصون مني
سيكون أعدائي الصاعدون خطراً عليهم
وإني لأعتبر الدين لعبة أطفال،
وأعتقد أنه ليس ثمة خطيئة غير الجهل.
ومرة أخرى نجد أن بارباس مقرض النقود صفة واحدة مجسدة، هي الجشع إلى حد الكراهية لكل من يعوق سبيل مكاسبه في صورة ساخرة بغيضة عولجت برذائل مهيبة.
لقد تعلمت في فلورنسة كيف أقبل يدي
وأرفع ذراعي عندما ينادونني يا كلب،
وأتوارى ذليلاً مثل أي أخ عاري القدمين
أملاً في أن أراهم يموتون جوعاً في حظيرة (58).
وإنه، وهو يدقق التأمل في مجوهراته، يهتز طرباً "لثروته التي لا حد لها، في غرفة صغيرة (59) " وعندما تستعيد ابنته حقائب أمواله المفقودة، يصيح في خليط من المشاعر، سبق بها شيلوك، "آه يا ابنتي، ذهبي، ثروتي، بهجتي (60) "، وفي هذه الرواية قوة تكاد تكون ضراوة، وفيها وخز بالألقاب وقوة في العبارة، أدت بمارلو، بين الحين والحين، إلى الاقتراب كثيراً من شكسبير.
وكان أشد اقتراباً منه في رواية إدوارد الثاني (1592)، فلما أن توج الملك الصغير أرسل إلى صديقه الإغريقي "جافستون، وأغدق عليه بسخاء القبلات والمناصب والموال، فثار النبلاء الذين أهملهم وخلعوا إدوارد الذي اتجه إلى الفلسفة، فنادى رفاق الباقين:
تعال يا سبنسر، تعال يا بالدوك، اجلسا إلى جواري
جربا الآن تلك الفلسفة،
التي في بيوت حضانتنا المشهورة للفنون
كنتم ترضعونها من أفلاطون وأرسطو.(28/126)
إن هذه الرواية (إدوارد الثاني) - بهذا البنيان المحكم، وبالشعر المفعم بالحساسية والخيال والقوة، وبهذه الشخصيات التي رسمت في وضوح وتماسك، وبهذا الملك الممزوج من اللواط والزهو، ومع ذلك يمكن الصفح عنه في بساطة صباه وجماله الغض- نقول إن هذه الرواية بكل ما ذكرنا، كانت قيد خطوة من رواية شكسبير "ريتشارد الثاني" التي أعقبها بسنة واحدة.
وماذا كان عساه ينجر هذا الكتاب المسرحي الذي بلغ من العمر سبعاً وعشرين سنة، إذا اكتمل نموه. في مثل تلك السن كان شكسبير يكتب توافه مثل: Two Gentlemen Of Verona, Acomedy Of Errors Love's Labour's Lost وفي "يهودي مالطة" كان مارلو يعرف كيف يجعل كل منظر يدفع أمامه مكيدة مرتبة، وفي "إدوارد الثاني" تعلم كيف يعرف الشخصية الواحدة على أنها أكثر من صفة واحدة مجسدة، وربما تيسر له في عام أو عامين تطهير رواياته من الكلام المنمق الطنان والأحداث المثيرة، ولربما سما إلى فلسفة أرحب أفقاً، وإلى تعاطف أعظم مع أساطير بني الإنسان ونقاط الضعف فيهم. وربما كانت نقيصته المعيبة هي الحاجة إلى الفكاهة، فليس ثمة ضحك لطيف في رواياته، فاللهو العارض-كما هو الحال في روايات شكسبير، لا يؤدي مهمته الصحيحة في المأساة- ألا وهي تهدئة روح المستمع قبل الارتفاع به إلى ذروة المأساة. وكان يستطيع أن يقدر الجمال الحسي أو المادي في النساء، ولا يقدر ضعفهن وقلقهن وكياستهن. وليس في رواياته شخصية نسوية قوية نشيطة، حتى في الروايتين اللتين لم يكملهما "ديدو" و"ملكة قرطاجة".
ولم يبق أمامنا إلا الشعر. وأحياناً تغلب الخطيب على الشاعر، فصاح الخطيب "بخطبة عظيمة مدوية (61). ولكن كم من مشهد كان الشعر المشرق ينساب فيه بصور حية وألفاظ متناغمة إلى حد أن الإنسان قد يخطئ بعض السطور فيظنها من فيض خيال شكسبير. وأثبت الشعر المرسل عند مارلو أنه الأداة الصحيحة للمسرحية الإنجليزية، وقد يكون أحياناً مملاً على وتيرة واحدة، ولكنه عادة متنوع من أوزانه، محقق لاتصال وترابط يبدوان طبيعيين.(28/127)
وأسدل الستار الآن فجأة على "تاريخه الفاجع" الخاص، ففي 30 مايو 1593، اجتمع ثلاثة من جواسيس الحكومة- انجرام فريزي، نيقولا سكيرز، روبرت بولي-بشاعرنا مارلو- وربما كان هو الآخر لا يزال جاسوساً- اجتمع الأربعة للعشاء في منزل أو حانة في دتفورد، على بعد أميال من لندن. وطبقاً لما جاء في تقرير وليم دانوبي- المحقق في أسباب الوفيات المشتبه فيها- "تراشق فريزر ومارلو بألفاظ نابية قبيحة في تبيان السبب الذي من أجله لم يتفقا ... على دفع نفقات العشاء. فما كان من مارلو إلا أن استل خنجراً من حزام فريزر وطعنه به فأصابه ببعض جروح سطحية. فأمسك فريزر بيد مارلو وسدد الخنجر إليه فوراً، وأصابه بجرح قاتل عمقه بوصتان في عينه اليمنى، ... مات المدعو كرستوفر مورلي متأثراً به في الحال"، حيث وصل النصل إلى المخ. وقبض على فريزر فترافع بأنه كان في حالة دفاع عن النفس، وأفرج عنه بعد شهر. أما مارلو فقد وورى التراب في أول يونيه في قبر غير معروف الآن (62). وقد بلغ من العمر تسعة وعشرين ربيعاً.
وبالإضافة إلى Dido ترك مارلو شذرتين غاية في السمو. أما Hero and Leander فهي قصيدة رومانتيكية، من المقاطع ذوات البيتين من نوع الملحمة، عن قصة موزائيس التي حكت في القرن الخامس عن شاب قطع الدردنيل سبحاً ليوفي بموعد لقاء. وإن أنشودة "الراعي المشبوب العاطفة في الطريق إلى حبيبته". لهي واحدة من أعظم الغاني الشعبية في عهد إليزابث. واعترف شكسبير اعترافاً جميلاً بفضل مارلو، فأجرى فقرات من هذه القصيدة على لسان سير هيو أيفانز في رواية "الزوجات المرحات في وندسور"، كما أشار إليها رقيقة في رواية "على هواك As You Like It":
أيها الراعي الذي قضى نحبه، إني أرى الآن قولك المأثور في القوة
"من ذا الذي أحب، إذا لم يكن أحب لأول نظرة؟ "
وهذا هو البيت رقم 76 من رواية مارلو Hero and Leander(28/128)
لقد أنجز مارلو الشيء الكثير في العمر القصير. ولقد جعل من الشعر المرسل كلاماً مرناً قوياً. وأنقذ المسرح على أيام إليزابث من دعاة القديم ومن البيوريتانيين وأضفى أشكالهم المحددة الواضحة على مسرحيات الأفكار ومسرحيات التاريخ الإنجليزي. وترك بصماته على شكسبير في روايتي تاجر البندقية وريتشارد الثاني، وفي شعر الغزل، وفي الأسلوب البليغ الفخم. وبظهور مارلو، وكد Kid؛ ولودج، وجرين، وبيل Peele، كانت الطرق قد فتحت، وكان شكل المسرحية وبنيانها وأسلوبها ومادتها قد هيئت كلها. فلم يكن شكسبير معجزة، بل كان منفذاً ومنجزاً لما بدأ به هؤلاء جميعهم.(28/129)
الفصل الرابع
وليم شكسبير
1564 - 1616
1 - أيام الشباب
1564 - 1585
فلنخلص الآن، استكمالاً للبحث، ما يعرفه نصف العالم عن شكسبير. واليوم وقد عكف الباحثون المخلصون على فحص مخلفاته ودراستها لثلاثة قرون، فإنه يهمنا أن نقيس ما نعرف عنه-وهناك شيء كثير يطرح جانباً لأنه غير جدير بالمناقشة، وهناك الشكوك التي تثار حول تأليفه لكل الروايات التي نسبت إليه تقريباً.
ومهما يكن من أمر فإننا لسنا على يقين من اسمه. فقد أباحت إليزابث من الحرية في هجاء الكلمات أكثر مما أباحت في حرية العقيدة، ولربما حملت نفس الوثيقة الواحدة عدة طرق لهجاء كلمة واحدة بعينها، ولربما وقع رجل بعينه اسمه بأشكال مختلفة تبعاً لمزاجه وسرعته في الكتابة. وهكذا كتب المعاصرون مارلو، مارلين، مورلي وغيرها، أما توقيعات شكسبير الستة الباقية فهي كما تقرأ: Willm Shaksp-William Shakspeare-Willm Shakspere-Wm Shakspe-William Shakespe وهو الهجاء السائد الآن، وليس له ما يؤيده في مخطوطاته، والتوقيعات الثلاثة الأخيرة تنبع من نفس الفكرة.
وكانت أمه ماري آردن، من أسرة قديمة في ووروكشير. وقد قدمت إلى جون شكسبير، ابن مستأجر أرض والدها، صداقاً ضخماً نقداً وأرضاً، وأنجبت له ثمانية أطفال كان ثالثهم وليم. وأصبح جون من رجال الأعمال الأثرياء الناجحين في ستراتفورد على نهر الآفون، واشترى دارين، وخدم بلده ذائقاً للجعة، ومسئولاً عن الأمن، وعضواً في مجلس المدينة، ومساعداً لمأمور التنفيذ، وأحسن إلى الفقراء(28/130)
بسخاء، وبعد 1572 انحطت موارده، وأقيمت عليه الدعوى من أجل ثلاثين جنيهاً، وأخفق في دفع التهمة عنه، وصدر أمر بالقبض عليه. وفي 1580، ولأسباب مجهولة، مثل أمام المحكمة ليقدم ضماناً بعدم الإخلال بالأمن. وفي 1592 سجل اسمه ضمن الذين "لا يحضرون إلى الكنيسة شهرياً طبقاً لما نصت عليه قوانين صاحبة الجلالة". واستنتج بعضهم من هذا أنه كاثوليكي "عاصياً"، وآخرون أنه كان بيوريتانياً، كما استنتج غيرهم أنه لم يكن يجرؤ على مواجهة دائنيه. واستعاد وليم فيما بعد مالية أبيه، ولما قضى الوالد نحيه (1601) بقي في شارع هنلي منزلان باسم شكسبير.
وسجلت كنيسة الأبرشية في ستراتفورد تعميد وليم في 16 أبريل 1564. ودون نيقولا رو-وهو أول من كتب سيرة حياته-في 1709، أسطورة ستراتفورد التي يصدقها الجميع الآن، وهي أن الوالد ربى ابنه ... لبعض الوقت في مدرسة مجانية ... ولكن سوء ظروفه وحاجته إلى مساعدة ابنه له في موطنه ... أجبرتاه على سحب ابنه من المدرسة (1). وفي المرثية التي ظهرت في مقدمة طبعة فوليو الأولى لروايات شكسبير، قال بن جونسون يخاطب منافسه الذي مات "لقد تعلمت قليلاً من اللاتينية، وأقل من اليونانية" .. ومن الواضح أن الكتاب المسرحيين اليونانيين ظلوا على حالهم يونانيين بالنسبة لشكسبير (لم يطلع عليهم) ولكنه تعلم من اللاتينية ما يكفي لملء رواياته الصغيرة بشذرات لاتينية وتوريات ثنائية اللغة، ولو أنه تعلم المزيد منها فلربما كان يصبح عالماً آخر، مجداً نشيطاً، مجهولاً، وتصبح لندن مدرسته.
وثمة أسطورة أخرى سجلها ريتشارد ديفيز حوالي 1681 وصفت وليم الصغير بأنه "كثيراً ما كان سيئ الحظ في سرقة الغزلان والأرانب، وبخاصة من سير توماس لوسي الذي كان غالباً ما يجلده بالسوط، وأحياناً يسجنه (2) ". وفي 27 نوفمبر 1582 عندما كان هذا الوغد المزعوم في سن الثامنة عشرة، حصل هو وآن هاثاواي، وكانت هي نحو الخامسة والعشرين، على إذن بالزواج. وتشير الظروف إلى أن أصدقاء آن أرغموا شكسبير على الزواج منها (3). وفي مايو 1583 - أي بعد زواجهما بستة أشهر، ولدت لهما طفلة أسمياها سوزانا، وأنجبت آن فيما بعد للشاعر(28/131)
توأمين عمدا تحت اسم هامنت وجوديث في 2 فبراير 1585. ويحتمل أنه حوالي نهاية هذا العام هجر شكسبير زوجته وأولاده. وليس لدينا أية معلومات عنه فيما بين عامي 1585 - 1592، حين نعثر عليه ممثلاً في لندن.
2 - تطور الشاعر
1592 - 1595
أن أول إشارة لشكسبير هنا تحط من قدره. وفي 3 سبتمبر 1592 أصدر روبرت جرين وهو على فراش الموت تحذيراً إلى أصدقائه، بأنه يزحزحهم عن مكنته في مسرح ندن "غراب ناشئ يزدان بريشنا نحن، وأنه في جرأة وحشية (له قلب نمر) يرتدي جلد الممثلين، (وفي هذا تهجم لاذع على بيت في مسرحية هنري السادس)، ويظن بذلك أنه قادر على أن يطنطن بالشعر المرسل كأحسن فرد فيكم أنتم. وبما أنه مستخدم يؤدي كل المهام، ففي تصوره أنه أحسن ممثل في أي بلاد (4) ". وأعد هذه القطعة باعتبارها جزءاً من كتاب جرين "ما يساوي بضعة سنتات" من ذكاء جرين-أعدها هنري شاتل، الذي قدم في رسالة لاحقة، اعتذاراً إلى أحد الرجلين (ويحتمل أن يكونا مارلو وشكسبير) اللذين هاجمهما جرين.
إنني لم تكن لي صلة بأي من هذين الرجلين المعتديين، ولا أعبأ قط بأنني لن تكون لي صلة بأحدهما. أما الآخر، فإني آسف لأني رأيت بنفسي أن سلوكه لم يكن أقل لطفاً، كما لم يكن هو أقل امتيازاً في المهنة التي يدعيها، وفوق ذلك فان مختلف العادات تؤكد استقامة تصرفاته، التي تنم على أمانته وكياسته في الكتابة التي تؤيد فنه (5).
ويبدو انه ليس ثمة شك في أن هجوم جرين واعتذار شاتل كانا يشيران إلى شكسبير. وما أن جاءت سنة 1592 حتى كان سارق الصيد في ستراتفورد ممثلاً وكاتباً مسرحياً في العاصمة. ويروي دودال (1693) ورو (1709) أنه "استقبل في المسرح كخادم في مرتبة وضيعة جداً (6) "، وهذا أمر محتمل. ولكن صدره كان يجيش بأشد الطموح "يتلهف على فن هذا ومقدرة ذاك، دون أن ينصرف تفكيره إلى شيء سوى الجلال والعظمة (7) " وسرعان ما كان يمثل أدواراً صغيرة، جاعلاً من نفسه متعة وبهجة للنظر (8)، ثم مثل دور "آدم الشفوق" في رواية(28/132)
"على هواك" والشبح في هملت وربما صعد إلى مرتبة أعلى لأن اسمه تصدر قائمة الممثلين في رواية جونسون Everyman In His Humour أو في رواية جونسون Sejanus، (1604) هو ويوريدج بأنهما "الممثلان المأساويان الرئيسيان (9) ". وفي أواخر 1594 أصبح مساهماً في فرقة تشمبرلين للممثلين. ولم يكسب ثروته من كونه كاتباً مسرحياً، بل لكونه ممثلاً ومساهماً في فرقة مسرحية.
ومهما يكن من أمر فانه في 1591 كان يكتب الروايات. ويبدو أنه بدأ "طبيباً للرواية" (يعالجها ويفحصها) فحرر المخطوطات ونقحها وكيفها للفرقة. وانتقل من مثل هذا العمل إلى الاشتراك في التأليف. وإن الأجزاء الثلاثة من "هنري السادس" (1592) لتبدو أنها من مثل هذا الإنتاج المشترك. وبعد ذلك كتب روايات بمعدل إثنتين كل عام، حتى بلغت جملتها ستاً وثلاثين أو ثماني وثلاثين رواية. وإن عدة من رواياته الأولى مثل Two Gentlemen Of Venoma, Acomedy Of Errors، (1594) ، Loves Labours Lost (1594) - توافه هزلية مليئة بالمزاح المرهق لنا الآن. وإنه لمن الدروس المفيدة أن نعلم أن شكسبير صعد سلم المجد بالعمل الشاق والجهد المضني. ولكن الصعود كان سريعاً. وأوحت إليه رواية مارلو "إدوارد الثاني" أن يلتمس في التاريخ الإنجليزي أفكاراً لموضوعات مسرحية كثيرة وضارعت رواية "ريتشارد الثاني" (1595) رواية مارلو. أما رواية "ريتشارد الثالث" (1592) فكانت بالفعل قد بزتها. ووقع إلى حد ما في خطأ خلق شخص واحد من صفة واحدة-الملك الأحدب من الطموح الموصوم بالخيانة والقتل، ولكنه بين الحين والحين ارتفع بالرواية عن متوى مارلو بعمق التحليل وقوة الإحساس وومضات من العبارة المشرقة. وسرعان ما أصبحت عبارة "جواد! جواد! مملكتي مقابل جواد! "، ذائعة على كل الألسنة في لندن.
ثم فترت العبقرية في Titus Andronicus (1593) . وغلب التقليد، وعرض رقصة الموت البغيضة، فان تيتس يقتل ابنه، وآخرين صهره أو زوج ابنته، على المسرح، وتغتصب عروس وراء الكواليس فتأتي إلى خشبة المسرح، وقد قطعت يداها، وقطع لسانها، والدم ينزف من فمها، ثم يقطع أحد الخونة يد(28/133)
تيتس بفأس أمام جمهور الدرجة الثالثة الذين تكاد عيونهم تلتهم المشهد. وتعرض رأساً ابني تيتس المفصولان، وتقتل إحدى المرضعات على المسرح. وجهد النقاد الذين يجلون شكسبير ليحملوا المشتركين في التأليف جزءاً من مسئولية هذه المذبحة، طبقاً للنظرية الخاطئة القاتلة بأن شكسبير لا يكتب هراء، ولكنه كتب بالفعل قدراً كبيراً منه.
وألف شكسبير حوالي هذه المرحلة من مراحل تطوره، شعره القصصي وقصائد السونيت، وربما كان الطاعون الذي تسبب غب إغلاق كل مسارح لندن بين 1592 - 1594، هو الذي تركه في فراغ أليم بائس، ورأى أنه من صواب الرأي أن يوجه شيئاً من الشعر المؤمل إلى أحد رعاة الشعر. وفي (1593) أهدى فينوس وأودنيس إلى هنري ريوتسلي أرل سوثمبتون الثالث. وكان لودج قد اقتبسها من قصة أوفيد Metamorphoses، واقتبسها شكسبير عن لودج، وكان الأول شاباً وسيماً منغمساً في الملذات الجنسية والصيد والقنص، وربما تلت أو كيفت لتلائم ذوقه. ويبدو كثير منها غذاء تافهاً عديم القيمة في هذه السنوات العجاف، ولكن في غمرة هذا الإغراء الشديد هناك قطع ذات جمال حسي مثل الأبيات من (679 - 708) مما قل أن قرأت إنجلترا مثله من قبل. وتشجع شكسبير بما لقيت القصيدة من استحسان عام، وبهدية من سوثمبتون فأصدر في 1594 The Ravyshement Of Lucrece حيث تم الإغراء باقتصاد أكبر في الشعر. وكانت هذه آخر ما أصدره بمحض اختياره.
وحوالي 1593 بدأ يكتب ولكنه حجز عن المطبعة قصائد السونيت التي كانت أول ما ثبت مكانته الرفيعة بين شعراء عصره. وهي من الناحية الفنية أدق أعمال شكسبير تقريباً، وقد نهلت كثيراً من معين بترارك من قصائد السونيت- الجمال العابر للمحبوبة وتردداتها وتقلباتها القاسية، وتثاقل خطوات الزمن الذي يضيع سدى وغير الحبيب وظمؤه القاتل، وتفاخر الشاعر بأن قريضه سوف يخلد جمال الحبيبة وشهرتها إلى الأبد. بل إن هناك عبارات وألقاباً ونعوتاً منتحلة من كوننستابل ودانيل، وواطسون- وغيرهم من شعراء السونيت الذين كانوا هم أنفسهم حلقات(28/134)
في سلسلة السرقات الأدبية. ولم يفلح أحد في ترتيب قصائد السونيت في نظام قصصي ثابت، وكانت كلها عملاً طارئاً في أيام متباعدة. ويجدر بنا ألا نأخذ بكثير من الجد حبكتها الغامضة-حب الشاعر لشاب يافع، وميله إلى "سيدة سمراء" في البلاط. وصدودها عنه، وترحيبها بصديق له، وظفر شاعر منافس بذاك الصديق، وسهاد شكسبير اليائس وتفكيره في التخلص من الحياة. ومن الجائز أن شكسبير، وهو يمثل في البلاط، اختلس النظرات في لهف بعيد إلى الوصيفات المحيطات بالملكة، واللائى تضمخن بعطور ذات رائحة مثملة، وارتدين ثياباً تبهر الأنظار، ولكن ليس من المرجع أنه تحدث إليهن أو حاول اقتناصهن قط. ولقد أصبحت واحدة منهن، وهي ماري فتون Fitton خليلة أرل بمبروك، ويبدو أنها كانت شقراء، أو أن هذا كان مجرد أصباغ زائلة، ومهما يكن من أمر فقد كانت غير متزوجة، في الوقت الذي خانت فيه زوجة شكسبير "عهد الزوجية" بحب الشاعر و "محبوبه" (10).
وفي 1609 نشر توماس ثورب قصائد السونيت، وواضح أن هذا كان بدون موافقة شكسبير، لأن المؤلف لم يكتب فيها إهداء، ولكن ثورب نفسه صدرها بإهداء حير الأجيال: "إلى الوحيد الذي يقدر القصائد التالية، السيد و. هـ. مع كل ما بشر به شاعرنا الخالد من سعادة وخلود، مع أطيب التمنيات للمغامر الذي يبغي الخير، فيما يعتزم من ترحال. "ويحتمل أن التوقيع ا. ت. ث. "توماس ثورب". ولكن من هو "و. هـ. "؟ ربما كان هذان هما الحرفان الأولان من وليم هربرت أرل بمبروك الثالث الذي أغوى ماري فتون، والذي قدر له هو وأخوه فيليب أن يتلقيا إهداء الكتاب الذي نشر بعد وفاة المؤلف، على انه أعظم راع لرجال العلم والأدب من أي نبيل في عصره أو منذ ذلك العصر". وكان هربرت في عامه الثالث عشر فقط حين بدأت قصائد السونيت 1593، ولكن تأليفها امتد حتى 1598، حين كان بمبروك قد اشتد عوده ونضج للحب ورعاية الأدب والأدباء. ويتحدث الشاعر بحرارة عن حبه "للمحبوب الفتي"، وغالباً ما استخدمت كلمة الحب بمعنى الصداقة. ولكن القصيدة رقم 20 تطلق على الفتى(28/135)
"سيد- سيدة هيامي وهواي" وتنتهي بتورية تصور الحب الجنسي. والقصيدة 128 (والظاهر أنها موجهة "للفتى الوسيم" الوارد ذكره في القصيدة 126) تتحدث عن نشوة العشق والغرام. وكان بعض الشعراء في عصر إليزابث أدباء لوطيين قادرين على تهيئة أنفسهم للحب الطروب المبهج، لأي رجل من ذوي اليسار.
إن أهمية قصائد السونيت لا تكمن في قصصها بل في جمالها. فكثير (مثل القصائد التي تحمل أرقام 29، 30، 33، 35، 64، 66، 71، 97، 106، 117) زاخرة بسطور يتجلى فيها عمق التفكير وحرارة الأحاسيس وروعة التصوير وجزالة العبارة، مما جعل صداها يرن لعدة قرون عبر العالم الذي يتحدث باللغة الإنجليزية.
3 - تفوق الشاعر
1595 - 1608
ولكن نظم السونيت وما تطلبه من صنعة وفرضه من قيود، قصقص أجنحة الخيال، ولا بد أن شكسبير ابتهج بما هيأ له الشعر المرسل من حرية واسعة، حين أطلق لنفسه العنان، وهو بعد يافع متحمس، في إحدى قصائد الحب العظيمة الباقية على مر الزمان، لقد جاءت قصة "روميو وجوليت إلى إنجلترا من قصص مازوتشيو وباندللو. وأعاد آرثر بروك صياغتها (1562) في شعر قصصي، ونقلاً عن بروك، وربما عن رواية أخرى أسبق في نفس الموضوع، أخرج شكسبير للمسرح روايته "روميو وجوليت" حوالي 1595. وأسلوبها محشو بأخيلة وأوهام ربما علقت بقلمه من نظم قصائد السونيت، فجاءت المجازات جافة شاذة، ورسمت شخصية روميو بشكل ضعيف إلى جانب مركوشيو المنفعل المهتاج. زحل العقدة عبارة عن سلسلة متصلة من السخافات. ولكن من ذا الذي يذكر الشباب، أو يرسب في أعماقه حلم، يستطيع أن يستمع إلى هذه الموسيقى العاطفية الرومانسية الحلوة، دون أن ينبذ كل معايير الثقة والتصديق، وينهض لاهثاً أو حابساً أنفاسه نحو الشاعر وهو يشق طريقه إلى هذا العالم بما فيه من غيرة جامحة وقلق مرتجف، وفناء حزين؟(28/136)
والآن يسير شكسبير من نصر إلى نصر في عالم المسرح، في كل عام تقريباً. ففي 7 يونيه 1594 أعدم ردريجو لوبيز، طبيب الملكة اليهودي، بتهمة قبول رشوة ليدس السم للملكة. ولم يكن الدليل قاطعاً، وترددت إليزابث طويلاً في التصديق على حكم الإعدام، ولكن العامة في لندن أخذوا جريمته قضية مسلماً بها. واستعرت روح العداء للسامية في الحانات (11). ويمكن أن يكون شكسبير قد تأثر إلى حد أن يضرب على هذا الوتر الحساس، أو أنه كلف بذلك، فكتب "تاجر البندقية" (1596؟)، وشارك إلى حد ما مستمعيه في مشاعرهم، فأجاز أن يمثل شيلوك في شخصية هزلية في ثياب رثة مع أنف عريض مصطنع، ونافس مارلو في إبراز كراهية مقرض النقود وجشعه، ولكنه أضفى على شيلوك بعض الصفات المحببة التي لا بد أنها جعلت الحمقى يحزنون، ثم أنه أورد على لسانه عرضاً للقضية من أجل اليهود، بلغ من الوضوح والجرأة حداً جعل كبار النقاد لا يزالون يجادلون فيما إذا كان شيلوك قد صور مفترى عليه أكثر منه آثماً مذنباً (12)؟ وهنا، فوق كل شيء، أظهر شكسبير براعته في أن يؤلف صورة متناسقة الأجزاء من خيوط مختلفة من قصص جاءت من الشرق ومن إيطاليا، كما جعل جسيكا المرتدة متلقية مثل هذا الشعر العاطفي الرومانتيكي، كما لا يمكن أن تتصوره إلا روح ذات حساسية عالية.
وانصرف شكسبير طيلة أعوام خمسة إلى الملهاة بصفة أساسية. وربما أدرك أن الجنس البشري المنهوك يختص بأسخى جوائزه أولئك الذين يستطيعون إلهاءه بالضحك والخيال. إن رواية "حلم منتصف ليلة صيف" هراء قوي عوض عنه مندلسون. ولم نقذ هيلينا رواية " Allls Well That Ends Well". أما رواية "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً" فهي تتفق مع اسمها. ورواية "الليلة الثانية عشرة" محتملة فقط لأن فيولا تمثل فتى وسيم جداً. ورواية "ترويض النمرة" زاخرة بمرح صاخب بشكل لا يصدق، ومن المستحيل ترويض النساء ذوات الألسنة السليطة.(28/137)
هذه الرايات كلها كانت إنتاجاً لمجرد كسب المال، وإرضاء جمهور الدرجة الثالثة، ووسائل لإبقاء القطيع داخل الحظيرة، وإبقاء الذئب بعيداً عن الباب.
ولكن بجزئي "هنري الرابع" (1597 slash1598) صعد الساحر العظيم ثانية إلى القمة، وجمع بين المهرجين والمراء-فولستاف وبستول، هتسبير والأمير هال-في نجاح كان يمكن أن يجعل سدني يتردد. واستساغت لندن استخدام تاريخ الملوك على هذا النحو، مزخرفاً بالأوغاد، والمومسات. وتابع شكسبير العمل فأخرج "هنري الخامس" (1599)، يهز بها مشاعر المشاهدين ويسليهم في وقت معاً، ثرثرة فولستاف الذي يعاني سكرات الموت: "أيتها المروج الخضر"، ويثيرهم بجعجعة أجنكورت، ويبهجهم بمغازلة الملك الذي لا يقهر للأميرة كيت Kate بلغتين. وإذا اعتقدنا في صحة كلام رو، فإن الملكة لم تكن ترتضي الراحة لفولستاف وأمرت منشئه (مؤلف الرواية) أن يحييه ويعرضه في مشهد عشق وغرام (13). ويضيف جون دنيس (1802) وهو يروي نفس القصة، أن إليزابث رغبت في أن تتم المعجزة في مدى أسبوعين. وإذا كان كل هذا صحيحاً، فإن رواية "الزوجات المرحات في وندسور" كانت عملاً مدهشاً من أعمال البراعة والقوة، لأنها برغم كونها صاخبة لأنها حافلة بالخشونة والعنف متخمة بالتوريات، ففيها فولستاف في ذروة نشاطه وحيويته، حتى ألقى به إلى نهر في سلة غسيل. وقيل لنا إن الملكة كانت مسرورة.
وأنه لشيء مروع أن نجد كاتباً مسرحياً ينتج في موسم واحد (1599 - 1600؟) مثل هذا الهراء التافه، ثم ينتج بعده هذه المقطوعة القصصية الرومانتيكية البالغة الرقة "على هواك" وربما كان سبب ها هو أنها استرشدت بمقطوعة لودج "روزاليند" (1590)، وموسيقى الرواية صافية نقية-لا تزال معوقة بالمزاح والهزل الجاف غير الممتع، ولكنها ناعمة رقيقة من حيث الإحساس، مرحة رشيقة من حيث الكلام. فأية صداقة كريمة هنا بين سليا وروزاليند، وهذا أورلندوو يحفر اسم روزاليند في لحاء الشجر، معلقاً القصائد الغنائية على أشجار الزعرور البري، والمراثي على الأشجار كثيرة الشوك، وأي رصيد سعيد من الفصاحة ينثر عبارات خالدة(28/138)
على كل صحيفة- وأية أغان رحبت بها ملايين الشفاه: "نحت الشجرة الخضراء هب؛ هب يا نسيم الشتاء، " "فهناك كان عشيق وفتاته". إن التدفق أو الإنتاج بأسره كان حماقة وعاطفة لذيذتين محببتين، لا يمكن مباراته في أي أدب.
ولكن وسط هذه الوفرة من الحلوى يضع مسيو ميلانكولي جاك شيئاً من الفاكهة المرة، معلناً أن "مسرح الحياة الواسع العالمي يعرض مهرجانات وأبهة فارغة أفجع أو أشد حزناً مما يقدم المشهد الذي نمثله" على خشبة المسرح، وليس ثمة شيء محقق يقيني إلا الموت، ولكنه عادة يأتي بعد مرحلة من الشيخوخة لا طعم لها، يفقد المرء فيها أسنانه وبصره:
وهكذا من ساعة إلى ساعة ننمو وننضج، وبعد ذلك، من ساعة إلى ساعة نذبل ونذوي، حتى نصبح حديثاً بعدنا (14).
وهكذا أنذرنا شاعر آفون أن رواية "على هواك" كانت آخر روائع المرح والبهجة، ومن بعدها، حتى إشعار آخر، عرض أن يسبر غور الحياة ليظهرنا على حقيقتها الدامية، وهو الآن يريد أن يفيض علينا من معين "الروايات المأسوية"، ويجمع بين المرارة وطيب المذاق.
في 1579 عرض كتاب توماس نورث عن بلوتارك ذخيرة نفيسة من المسرحيات، أخذ منها شكسبير ثلاثاً من "سير الحياة" وصاغها في مسرحية "يوليوس قيصر" (1599؟). ووجد أن ترجمة نورث مفعمة بالحيوية إلى حد أنه أخذ منها عدة قطع بأكملها كلمة كلمة بالنص، وكل ما عمله هو أنه حول النثر إلى شعر مرسل، ومهما يكن من أمر فإن خطبة أنتوني أمام جثمان قيصر كانت من ابتداع الشاعر نفسه، جاءت تحفة رائعة في فن الخطابة والرقة والدقة، ثم الدفاع الوحيد الذي أجازه لقيصر. وربما أثر فيه إعجابه بدوق سوثمبتون وإرل بمبروك، وارل إسكس الشاب، فرأى القتل من وجهة نظر النبلاء الأرستقراطيين المتآمرين المهددين بالخطر. ومن ثم يصبح بروتس محور الرواية. ولكنا، نحن الذي حصلنا على تفاصيل مومسن عن الفساد ذي الرائحة الكريهة في "الديمقراطية" التي أطاح بها قيصر، أشد ميلاً إلى التعاطف مع قيصر، كما فوجئنا بموت بطل الرواية في مستهل الفصل الثالث.(28/139)
وإن الماضي ليقف عاجزاً بين يدي الحاضر الذي كثيراً ما يعيد تشكيله ليصبح من نزوات الساعة.
وفي كتابة هملت استعان شكسبير برواية سابقة في نفس الموضوع وتحداها. وكانت هملت قد أخرجت في لندن قبله بست سنوات فقط. ولسنا ندري كم أخذ من هذه "المأساة" المفقودة، أو من كتاب بلفورست "التواريخ الفاجعة" (1576)، أو من "تاريخ الدنمرك" (1514) للمؤرخ الدنمركي ساسكو جراماتيكوس، كما أننا لا نستطيع القول بأن شكسبير قرأ "أمراض الاكتئاب والحزن"، وهي ترجمة إنجليزية حديثة لكتاب طبي فرنسي ألفه دي لورنس. وإنا، ونحن نشك في غير انفعال أو تذمر، في كل محاولة لتحويل الروايات إلى سيرة حياة ذاتية، ليباح لنا أن نتساءل عما إذا كان شيء من الحزن الشخصي-بالإضافة إلى تأديب الليل والنهار-قد انضم إلى التشاؤم الذي شاع في هملت، واشتدت مرارته فيما أعقبها من روايات. وكان يمكن أن يكون هذا تحرراً جديداً من وهم الحب، وهل كان القبض للمرة الأولى على اسكس (5 يونيه 1600)، أو إخفاق ثورة اسكس، أو اعتقال اسكس وسوثمبتون، أو إعدام اسكس (25 فبراير 1601)؟ ويفترض أن هذه الأحداث كلها هزت مشاعر شاعرنا المرهف الحس، الذي كان قد امتدح، في حرارة بالغة، اسكس في مقدمة الفصل الأخير من "هنري الخامس"، كما كان في إهداء "لوكريس" إلى سوثمبتون، قد عاهده على الولاء له إلى الأبد. ومهما يكن من أمر، فان أعظم روايات شكسبير كتبت أثناء هذه النكبات أو فيما بعدها. فهي أدق في حبكة الرواية، وأعمق في التفكير، وأروع في اللغة من سابقاتها، ولكنها تعبر كذلك عن أمر اللوم والعتاب للحياة في الأدب بأسره. إن إرادة هملت المذبذبة، بل "عقله الملكي الممتاز" على الأغلب قد أصابهما بالاعتدال والاضطراب اكتشاف الحقيقة واقتراب الشر، وتشبعه بفكرة الانتقام، حتى تمتلكه هو نفسه قساوة لا ترحم ولا تهدأ، فأرسل أوفليا، لا إلى دير الراهبات، بل إلى الجنون والموت. وفي النهاية تجيء مذبحة عامة، لم يفلت منها إلا هوراشيو، وقد قارب أن يصاب بلوثة.(28/140)
وفي الوقت نفسه وجدت إليزابث، هي الأخرى، البلسم الأخير. وأصبح جيمس السادس ملك اسكتلنده، ملكاً على إنجلترا تحت اسم جيمس الأول. وما أن جلس على العرش حتى ثبت وتوسع في إمتيازات فرقة شكسبير التي أصبحت "رجل الملك". ومثلت روايات شكسبير أمام الملك بانتظام ولقيت تشجيعاً ملكياً كبيراً. وصعدت المواسم الثلاثة بين 1604 - 1607 بالشاعر إلى ذروة عبقريته وأقصى مرارته، فرواية "عطيل" (1604؟) قوية بقدر ما هي بعيدة عن التصديق. فقد أثار إخلاص ديدمونا وموتها شفقة المشاهدين، كما افتتنوا بخبث ياجوالدال على ذكائه، ولكن في تصوير هذا الشر المحض الذي لا باعث عليه في الإنسان؛ وقع شكسبير في خطأ مارلو، ألا وهو الشخصيات القائمة على وحدة كاملة. وحتى عطيل نفسه، على الرغم من أنه جمع بين البراعة العسكرية والغباء، كان ينقصه هذا المزاج الفني من العناصر التي تضفي الروح الإنسانية على هملت ولير وبروتس وأنطوني.
ولا تزال "ماكبث" (1605؟) تأملاً أشد رهبة في الشر الذي لا تخف حدته. وكان شكسبير يستشهد بهولنشد في الحقائق المطلقة، ولكنه زاد في عتامة القصة وكآبتها بتحرره من الوهم بشكل انفعالي غاضب وانحطت هذه الحالة النفسية إلى الحضيض، كما بلغ الفن ذروته في رواية "الملك لير" (1606؟) وكان جوفري اوف مموث قد طور القصة، ثم نقلها هولنشد، وأخرجها للمسرح مؤخراً كاتب مسرحي مجهول الآن تحت عنوان "التاريخ الصحيح للملك لير" (1605) وكانت حبكات الرواية ملكاً مشاعاً. ونهجت المسرحية القديمة نهج هولنشد في أنها هيأت للملك لير خاتمة سعيدة، عن طريق احتمائه بابنته كورديليا واستعادة العرش، وواضح أن شكسبير آثم في جنون الملك وموته بخلعه من العرش كما أنه أضاف الإعماء الدامي الفظيع الذي أصاب جلوستر على المسرح. إن المرارة هي النغمة الأساسية السائدة في الرواية، وإن لير ليأمر الفسوق أن ينتشر والزنى أن يزداد "لأني يعوزني الجنود (15) " وكل الفضيلة، في نظرته القاتمة، ما هي إلا واجهة للفسق والفجور، وكل الحكومة رشوة، وكل التاريخ عبارة عن الإنسانية تفترس نفسها أو بني البشر(28/141)
يأكل بعضهم بعضاً. وهو يصاب بالجنون وهو يرى عمق الشر وانتصاره الواضح. وهو يضع كل إيمانه وثقته "بالعناية الإلهية" التي تشد من أزره وتأخذ بيده.
وتصل رواية "أنطوني وكليوبطرة" إلى آفاق وأعماق أقل. وثمة شيء أنبل في هزيمة أنطوني منه سورة غضب لير، شيء أكثر تصديقاً واحتملاً في افتتان الرومان بالملكة المصرية منه في قساوة البريتون البغيضة مع ابنة صريحة صراحة حمقاء، وفي جبن كليوبطرة في الحرب، وروعتها في الانتحار. وهنا كانت لدى شكسبير روايات سابقة يعمل على أساس منها، فتناول أيضاً بالتحسين، وجدد في القصة التي طال ترديدها، وزادها إشراقاً وتألقاً، بتحليل أدق للخلق، وبسحر بيانها المتلألئ الذي لا يعرف الكلل. أما التشاؤم في رواية "تيمون الأثيني" (1608؟) فهو تشاؤم تهكمي، لم يتخلص منه. ويصوب لير سهامه إلى نساء، ولكنه يحس ببعض الرثاء المتأخر للبشر، ويحتقر بطل "كوريولانس" الناس على أنهم النتاج المتقلب الذليل الأبله للإهمال والطيش، ولكن تيمون يذم الجميع رفيعهم ووضيعهم، ويصب اللعنة على المدنية نفسها على أنها أفسدت أخلاق البشر. وكان بلوتارك فيسيرة أنطوني قد ذكر تيمون على أنه مبغض للبشر مشهور، وكان لوشيان قد أورده في حوار، كما كانت رواية إنجليزية قد ألفت عنه قبل أن يأخذ شكسبير الفكرة مع مساعد مجهول بثماني سنوات. وكان تيمون ثريا (مليونير) أثينيا يحيط به أصدقاء متملقون متفتحون يسارعون إلى تقبل أفكاره، وعندما يفقد ماله، ويرى أصدقاءه يختفون بين عشية وضحاها، ينفض غبار المدينة عن قدميه ويأوى-جاداً صارماً-إلى العزلة في غابة، حيث يأمل أن "يجد أشد الحيوانات وحشية أكثر رفقاً وشفقة من بني الإنسان (16) " وهو يتمنى لو "أن ألسبيادس" كان كلباً "حتى أكن لك شيئاً من الحب (17) " ويعيش على جذور الشجر، وينقب فيجد ذهباً، وهنا يظهر الأصدقاء من جديد فيطردهم ويحتقرهم ويهجوهم ألذع هجاء. ولكن عندما تأتي العاهرات وبنات الهوى ينفحهن بالذهب، شريطة أن ينقلن الأمراض التناسلية إلى أكبر عدد ممكن من الرجال:
انشرن الأمراض والعلل
لتنخر في عظام الرجال الجوفاء، واضربن على طنايينهم(28/142)
وأفسدن عليهم زيجاتهم، وأخرسن
صوت المحامي
حتى لا يعود يترفع عن اللقب الزائف
وتدوي مرافعاته عالية رنانة، وجللن بالمشيب
ذاك الكاهن
الذي يسلق الناس بألسنة حداد من أجل طبيعتهم الشهوانية
وهو لا يصدق نفسه، حطمن الأنف
حطمنها، وأكسرن قصبتها تماماً،
ولتدعن دعاة الحرب المتبجحين الذين ليس فيهم أثر لجراح
ينقلوا عنكم الأمراض الموجعة. اصببن العذاب على الجميع
حتى يقهر ويقمع نشاطكن
مصدر كل بناء وتعمير- ثمة مزيد من الذهب
هل تردن إدانة آخرين، فلتنصب اللعنة عليكن (18)
وفي سورة الكراهية يأمر تيمون الطبيعة أن تكف عن النسل، ويأمل أن تتكاثر الوحوش الضارية لتستأصل الجنس البشري، إن هذا الإسراف في بعض البشر يجعله يبدو غير حقيقي، ولا يمكن أن نصدق أن شكسبير قد أحس بهذا التشامخ السخيف على الخاطئين، وبأنه غير مؤهل بمثل هذا الجبن لمتاع الحياة الدنيا. إن مثل هذه المبالغة في تقدير توافه الأمور لتوحي بأن الداء قد عالج نفسه بنفسه، وأن شكسبير لا بد ستعود إليه الابتسامة سريعاً.
4 - براعة شكسبير الفنية
كيف تسنى لامرئ لم يتلق من العلم إلا أقله أن يخرج على الناس بروايات تعددت وتنوعت فيها ألوان المعرفة المكتسبة بالإطلاع والدرس؟ ولكنها لم تكن حقاً معرفة على هذا النحو. ولم تكن شاملة أو واسعة في أي من حقولها اللهم إلا في علم النفس. ولم يكن شكسبير يعرف من الكتاب المقدس إلا ما أتاحت له دراسته في صباه أن يطالعه، وكانت مراجعاته وإشاراته إلى الكتاب المقدس عادية. وجاء علمه بالآداب القديمة اليونانية واللاتينية(28/143)
مصادفة عن غير قصد، ودون إتقان أو تعمق، وواضح أنه كان مقصوراً على المترجمات. وعرف معظم المعبودات الوثنية، حتى أقلها شأناً وأكثرها خلاعة، وربما استقى هذه المعرفة من الترجمة الإنجليزية أوفيد Metamorphoses ووقع في أخطاء صغيرة، ما كان بيكون مثلاً ليقع فيها، من ذلك أنه قال عن تيسيوس بأنه "دوق" وجعل هيكتور من القرن الحادي عشر قبل الميلاد يشير إلى أرسطو في القرن الثالث ق. م. (19) وأجاز لأحد أشخاص رواية كوريولانوس (20) (القرن الخامس ق. م. أن يقتبس من كاتو (من القرن الأول).
وكان على إلمام يسير بالفرنسية، وأقل منه بالإيطالية، وله بعض إلمام بالجغرافية، فزود رواياته ببعض أماكن ومواقع دخيلة من إسكتلندة إلى إفسس، ولكنه خلع على بوهيميا شاطئاً على البحر (1). وأرسل فالنتين من نيرونا إلى ميلان بحراً (23)، وبرسبيرو من ميلان في قارب عابر للمحيط (24). وأخذ معظم ما عرف من التاريخ الروماني عن بلوتارك، ومعظم ما عرف من التاريخ الإنجليزي عن هولنشد وعن روايات قديمة، ولم يقدر للزلات التاريخية أية أهمية للكاتب المسرحي، فوضع ساعة الحائط في روما على عهد قيصر، والبليارد في مصر على عهد كليوبطرة. وكتب "الملك جون" دون ذكر للعهد الأعظم (ماجنا كارتا)، و"هنري الثامن" دون التعرض للإصلاح الديني، ومن ثم نرى من جديد أن الماضي يتغير مع كل حاضر. ومن ناحية الإيجاز والعرض العام نجد أن مسرحياته التاريخية الإنجليزية صحيحة من وجهة نظرنا السائدة، أما من حيث التفصيل فهي غير جديرة بالثقة، وهي تصطبغ، من وجهة نظرنا، بصبغة وطنية-فان جان دارك في رأي شكسبير ساحرة داعرة، وعلى الرغم من هذا كله، اعترف بعض الإنجليز مثل القائد مارلوبور بأنه استقى معظم معلوماته عن التاريخ الإنجليزي من روايات شكسبير.
واستخدم شكسبير-مثل غيره من كتاب المسرح في عهد إليزابث، كثيراً
_________
(1) انقض بن جونسون على هذا في أحاديثه مع درومند في هوئورندل (21)، ونقله شكسبير عن قصة لروبرت جرين؛ وهو متخرج من الجامعة؛ فتحت حكم أوتوكار الثاني (1253 - 78) مات بوهينا سلطان شواطئ الأدرياتيك (22).(28/144)
من المصطلحات القانونية استخداماً غير صحيح أحياناً. وربما كان قد التقطها من دور القضاء-مدارس الحقوق التي أخرجت فيها ثلاث من رواياتها-أو من القضايا التي انشغل بها هو ووالده. وكانت لديه ذخيرة كبيرة من المصطلحات الموسيقية، وواضح جداً أنه كان يتمتع بحس موسيقي مرهف-"أليس غريباً أن أحشاء الغنم بالأرواح لتحلق بعيداً عن أجسامها (25) "؟ وإنه ليذكر في رقة وحنان أزهار إنجلترا، وينظمها في عقد في رواية "قصة الشتاء"، ويكسو بها أوفيليا عندما انتابتها الحمى وأخذت تهذي. وهو يلمح إلى مائة وثمانين نوعاً مختلفاً من النبات، وكان ملماً بالألعاب الميدانية وبسباق الخيل، ولكنه لم يهتم إلا قليلاً بالعلوم، التي سرعان ما افتتن بها بيكون. وكما فعل بيكون، حفظ شكسبير فلك بطليموس (26). وبدا في بعض الأحيان (سونيت 15) أنه يؤمن بالتنجيم، فتحدث عن روميو وجوليت بأنهما "عاشقان منحوسان (27) ". ولكن إدموند في "الملك لير" وكسياس في "يوليوس قيصر" يرفضان التنجيم بشدة. "إن الخطأ، يا عزيزي بروتس، ليس في نجومنا (طالعنا) بل في أنفسنا، ذلك أننا أتباع أذلاء (28) ".
وجملة القول، إن كل الدلائل تشير إلى أن شكسبير حصل على المعرفة العارضة التي يتسنى الحصول عليها لرجل العمال المشغول أعظم الشغل بالتمثيل والإدارة، الذي عاش لينكب على الكتب. وعرف أفظع آراء مكيافللي، وأشار إلى رابيليه، واقتبس من مونتاني. ولكن ليس من المرجح أنه قرأ مؤلفاتهم. ووصف جونزالو للدولة الديمقراطية (29) مأخوذ من بحث مونتاني "أكلة لحوم البشر". وربما أراد شكسبير بشخصيته كاليبان (العبد الرقيق الذي كان يمتلكه برسبيرو في رواية العاصفة) -أراد أن يهجو مونتاني لأنه أضفى الصفات المثالية على هنود أمريكا. أما التشكك عند هملت، وهل ينسب شيء منه إلى شكوك مونتاني اللطيفة، فهو مسألة لم تحل بعد. فقد نشرت المسرحية في 1602، أي قبل طبع ترجمة فلوريو بعام واحد، ولكن شكسبير عرف فلوريو، وربما اطلع على المخطوطة وربما ساعد نقد مونتاني الدقيق على تعميق فكر شكسبير، ولكن ليس في كتاب الرجل الفرنسي(28/145)
ما يماثل مفاجأة هملت، أو الذم الشديد للحياة في الملك لير، كريولانوس، تيمون، ماكبث،. إن شكسبير هو شكسبير يسرق الموضوعات والقطع والعبارات والأبيات، من كل مكان، ومع ذلك فهو أعظم الكتاب في كل الأزمان أصالة وامتياز وخلقاً وإبداعاً.
وتكمن الأصالة في اللغة والأسلوب والخيال والفن المسرحي والدعابة وأشخاص الرواية والفلسفة. فلغته أغنى اللغات في كل الأدب: فهناك خمسة عشر ألف لفظ، بما فيها المصطلحات الفنية وشعارات النبلاء ورموزهم، والموسيقى والألعاب والمهن، ولهجات المقاطعات: ولهجات رواد الأرصفة في الشوارع، بالإضافة إلى ألف من الابتكارات المتعجلة أو البطيئة- Occulted, Unkenneled, Fumitory, Burnet, Spurring ... لقد استساغ ألفاظاً، ونقب في مختلف أركان اللغة وجوانبها، وأحب الألفاظ عامة، فانسابت منه في حيوية دافقة، مرحة، فإذا ذكر اسم زهرة، فانه لا بد يتابع حتى يسمي اثنتي عشرة زهرة، وإن الألفاظ نفسها ليفوح منها عبير الزهر. وأجرى على ألسنة الأشخاص في رواياته كلمات متعددة المقاطع يتشدقون بها ويدورون بها حول المعنى. وكان يخرب في النحو والصرف تخريباً لطيفاً، فيحول الأسماء والصفات، بل حتى الظروف إلى أفعال، ويقلب الأفعال إلى صفات، كذلك الضمائر إلى أسماء، ويضع فعل الجمع للفاعل المفرد، أو الفعل المفرد للفاعل الجمع، ولكن لم يكن هناك حتى ذاك الوقت استخدام للنحو ولا الصرف في الإنجليزية ولا قواعد لهما. ولقد كتب شكسبير على عجل، ولم يتيسر له وقت فراغ للندم.
وللأسلوب الرائع "الأنيق المتميز الباروكي (30) " (يتسم بالزخرفة والتعقيد والصور الغريبة) نقول إن لهذا الأسلوب أخطاء ثروته غير الخاضعة لقانون: في عبارات متكلفة أو ملتوية بشكل غريب، وصور بعيدة الغور، وتلاعب باللفظ معقد بشكل مرهق، وتورية وسط المأساة، ومجازات واستعارات يهبط بعضها فوق بعض في فوضى وتناقض، وتكرارات لا حصر لها، وتفاهات مبتذلة حافلة بالحكم، وهنا وهناك كلام منمق مملوء بالمرح الصاخب والهراء تتشدق به أبغض الأفواه غير(28/146)
المرغوب فيها. ولا شك أن التعليم الكلاسيكي ربما هذب وبسط الأسلوب، وقضى على التورية والغموض، ولكن تدبر، ماذا عسانا كنا نفقد حينئذ؟ ولعله كان يفكر في نفسه حين أورد وصف أورايانو باعتباره رجلاً على لسان فرديناند:
إن لديه في مخه داراً لسك العبارات،
وإن عباراته لتسلب الألباب
وكأنها الإيقاع الساحر.
ولكني أحتج، أحب أن أسمعه يكذب (31)
ومن هذه الدار صدرت عملة من العبارات تكاد تكون عالمية: شتاء استيائنا (32)، تضييع وقت السلم سدى (33)، أريد أباً للفكر (34)، قل الحق وأخجل الشيطان (35)، يسكن الريح في هذا الركن (36)؟ لا يستقر قرار للرأس الذي يحمل التاج (37). يطلي الزنبق (38)، لمسة واحدة من الطبيعة تجعل العالم كله أسرة واحدة (39)، أي حمقى هؤلاء البشر المعرضون للفناء (40). إن الشيطان ليستطيع أن يقتبس من الأسفار المقدسة ما يخدم غرضه (41)، جنون منتصف الصيف (42) طريق الحب الصادق ممتلئ بالأشواك+، ألبس قلبي على كمي (أحمل رأسي فوق كفي) (44)، في كل بوصة ملك (45)، قدر الطاقة (46)، الإيجاز روح الفطنة (47)، .. وربما كان هذا تلميحاً لنا للاكتفاء بهذا القدر. هذا إلى جانب ألف مجاز واستعارة قد نفيد منها "قد نرى الأشرعة نحمل وينتفخ بطنها بالريح الفاجرة (48) ". كما أن هناك قطعاً بأكملها تكاد تكون مألوفة بنفس القدر، مثل العبارات: آنية أزهار أوفيليا المضطربة، أنطوني أمام جثة قيصر، كليوباترا تحتضر، لورزنزو على موسيقى الكون، كما أن هناك ذخيرة من الأغاني: "من هي سيليفيا (49) "؟، "هارك! القبرة تغرد على باب السماء (50) "، "أبعدوا، أبعدوا هذه الشفاه عني (51) "، وربما حضر جمهور نظارة شكسبير من أجل هذه الزخارف، ومن أجل القصص معاً.
"إن الخيال ليتمثل المجنون والعاشق والشاعر منضمين في صورة واحدة (52) "، واجتمع في شكسبير اثنان من هؤلاء، وربما مس الثالث مساً. إنه ليخلق في كل رواية عالماً، ولا يقنع بهذا، فيملأ الإمبراطوريات والغابات والمروج المتخلية بسحر(28/147)
صبياني، وجن سريع العدو، وسحرة مرعبين وأشباح. وإن خياله ليجعل أسلوبه الذي يفكر بالصور، يحول كل الأفكار إلى صور، وكل التجريدات إلى أشياء محسوسة أو مرئية. فمن غير شكسبير (وبترارك) كان يمكنه أن يجعل روميو، وقد نفي من فيرونا، يتميز غيظاً وحقداً، لأن قططها وكلابها قد تحدق النظر إلى جولييت، على حين لا يباح له هذا؟ ومن غير شكسبير (اللهم ألا بليك) كان يستطيع أن يجعل الدوق المطرود في رواية "على هواك"، يأسف لأنه لا بد أن يعيش على صيد حيوانات هي في الغالب أجمل من الإنسان؟ لا عجب أم روحاً قوية بكل معاني الكلمة، لا بد أن تكون قد انفعلت انفعالاً شديداً بالقبح والكآبة والجشع والقسوة والشهوة والألم والحزن، مما بدا في بعض الأحيان أنه يشيع في النظرة الشاملة إلى العالم.
ولم يؤت شكسبير من الأصالة في الفن المسرحي إلا أقلها، لقد عرف، بوصفه رجل المسح، أفانين مهنته. فبدأ رواياته بمشاهد أو ألفاظ تشد انتباه جمهور المشاهدين الذين يقضمون البندق ويلعبون الورق ويحتسون الجعة ويتبادلون النظرات الغرامية مع النساء. وأفاد أكبر فائدة من "أدوات" المسرح في عهد إليزابث وآلاته. ودرس رفاقه التمثيل وخلق الأدوار الملائمة لخصائصهم الجسمية والذهنية. واستخدم كل حيل التنكر والتعرف، وكل تغييرات المناظر، وكل تعقيدات رواية داخل رواية. ولكنه، مع مهاراته الفنية، لم يتفاد آثار العجلة والتسرع. فإن الحبكة داخل الحبكة قد تشطر القصة إلى اثنتين أحياناً، فماذا كان شأن كارثة جلوستر بكارثة لير؟ فكل القصص تقريباً تنقلب إلى مصادفات بعيدة الاحتمال، وهويات خفية، ورؤى ملائمة إلى حد بعيد، وقد يطلب منا بحق أن نؤمن بالمسرحية كما نؤمن بالأوبرا، من أجل القصة أو الأغنية، ولكن يجدر بالفنان أن يحصر في أقل الحدود "البناء القائم على غير أسا" لحلمه، أو اختلاقه دون مبرر. وأقل من هذا أهمية تناقضات الزمن والخلق (53)، ويحتمل أن شكسبير الذي فكر في سرعة الإنتاج. لا في نشر الدقيق، قدر أن هذه العيوب والأخطاء قد تمر دون أن يلحظها أحد من الجمهور المتأثر، وإن المعايير القديمة والذوق الحديث لتنكر العنف الذي يصطبغ(28/148)
به مسرح شكسبير، وهذا امتياز آخر منح لشاغلي المقاعد الرخيصة، ومحاولة لمواجهة مدرسة "القتل والذبح" عند المسرحيين في عهد إليزابث وجيمس الأول.
ولما أخذ شكسبير بأسباب النمو والتطور، عوض عن العنف بالدعابة والمرح، وتعلم الفن الشاق، فن تكثيف المأساة بالترويح الفكاهي. وكانت الروايات الهزلية (الملهيات) القديمة ذكاء وبراعة ودعابة غير مجسمة، والروايات التاريخية القديمة ثقيلة مملة حيث كان يعوزها المرح والدعابة، وفي مسرحية هنري الرابع تعاقبت المأساة والملهاة على التوالي، ولكنهما لم تتكاملا تكاملاً تاماً. ولكن التكامل تحقق في هملت، وتبدو الدعابة فيبعض الأحيان بذيئة أكثر مما ينبغي، ولا بد أن سوفوكليس وراسين كانا يشمئزان من النكات التي تدور حول غازات بطن الإنسان (54) أو تبول الخيل (55). وإن نكتة جنسية لهي أكثر استساغة لدى الذوق الحديث. ودعابة شكسبير، بصفة عامة، بهيجة ودية، بعكس البغض الوحشي للجنس البشري عند سوفيت، فقد أحس شكسبير بأن العالم يكون أفضل بوجود مهرج أو اثنين، واحتمل المهرجين في صبر وأناة، وشارك الرب رأيه في أنه ليس ثمة فرق كبير بينهم وبين الفلاسفة الذين يفسرون العالم.
وإن أعظم مهرجيه لينافس هملت، وهو أسمى وأروع ما أنجزه شكسبير، في خلق أشخاص الرواية- وهذا أشق اختبار يواجهه المؤلف المسرحي. إن ريتشارد الثاني وريتشارد الثالث، وهو تسبير، رولزي وجونت وجلوستر وبروتس وأنطوني ليبعثون من زوايا النسيان في التاريخ إلى حياة ثانية. وليس هناك في المسرحية اليونانية، ولا حتى في بلزاك، أشخاص خياليون أسبغ عليهم مثل هذه الشخصية المتماسكة والقوة والحيوية. وكانت أصدق الشخصيات التي خلقها هي تلك التي تبدو فقط متناقضة، بسبب تعقيدها- فالملك لير قاس ثم رقيق رؤوف، وهملت دائم التفكير متهور، شجاع. والشخصيات في بعض الأحيان بسيطة إلى حد كبير-ريتشارد الثالث مجرد خسة ونذالة، وتيمون مجرد شك وسخرية وتهكم، وياجو مجرد كراهية. وتبدو بعض النساء في مسرحيات شكسبير، وكأنهن اقتطعن من نفس العجينة-بياتريس روزالند، كورديليا وديدمونة، ميراندا وهرميون-(28/149)
وإنهن يفقدن الحقيقة والواقع، ثم في بعض الفترات، تبعثهن بضع كلمات قليلة إلى الحياة، من ذلك أن أوفيليا، حين يبلغها هملت أنه لم يكن يحبها في يوم من الأيام، تجيبه دون اتهام مضاد، ولكن في بساطة حزينة مؤثرة: "كنت أنا المخدوعة أكثر". إن الملاحظة والإحساس والتشخيص وتفتح الحواس المدهش، ونفاد البصيرة والانتقاء الرشيق للتفاصيل الهامة المميزة، والذاكرة المتماسكة- كل هذه تأتي جميعها معاً لتعمر المدينة الحية بالأموات أو الأنفس الخيالية، أو في مسرحية بعد أخرى تنمو هذه الشخصيات إلى الحقيقة والواقع والتعقيد والعمق، حتى ينضج الشاعر في هملت ولير إلى فيلسوف. وتصبح مسرحياته أدوات متألقة للفكر.
5 - فلسفة شكسبير
"ألك أية فلسفة، أيها الراعي (56)؟ " هكذا يسأل تتشستون Toutchstone الراعي كورين (في رواية "على هواك") ونحن بدورنا نوجه هذا السؤال إلى شكسبير. ويجيب أحد منافسيه المعترف بهم على السؤال بالنفي (57). وإنا لنقبل هذا الحكم، كما قصده برنادشو- ليس لدى شكسبير ميتاً فيزيقاً (فيما وراء الطبيعة) ولا فكرة عن الطبيعة النهائية للحقيقة، ولا نظرية عن الإله. وكان شكسبير أعقل من أن يذهب إلى أن أي مخلوق يستطيع تحليل خالقه، أو أنه حتى عقله المرتكز على قطعة لحم، يمكنه أن يدرك الكل. أي هوراشيو، إن في السماء والأرض لأشياء أكثر مما تحلم به في فلسفتك (58)). وإذا راوده خاطر احتفظ به لنفسه، ومن ثم أثبت به أنه فيلسوف. وهو يتحدث دون اكترث أو إجلال للفلاسفة المشهود لهم، ويشك في أن واحداً منهم احتمل يوماً ألماً في أسنانه صابراً متجلداً (59). وهو يسخر من المنطق، ويؤثر عليه نور الخيال، وهو لا يعرض أن يفك طلاسم الحياة أو العقل، ولكنه يشعر بها ويبصر بها بقوة تزري بإفتراضاتنا أو تعمقها. وإنه ليقف بعيداً، ويرقب أصحاب النظريات يدمر بعضهم بعضاً، أو يتفسخون ويتحللون في غمرات الزمان. وإنه ليخفي نفسه في شخصياته، وليس من اليسير أن تعثر عليه، ويجدر بنا أن نحذر نسبة أي رأي إليه، إلا إذا عبر عنه في شيء من التوكيد اثنان على الأقل من مخلوقاته (شخوص مسرحياته).(28/150)
وإنه، لأول وهلة، عالم نفساني، أكثر منه فيلسوف، ولكنه كذلك ليس نظرياً، بل على الأرجح، مصور فكري عقلي، يضع يده على الأفكار الخفية والأفعال العرضية التي تكشف عن طبيعة الإنسان. ومهما يكن من أمر، فانه ليس واقعياً سطحياً، فان الأشياء لا تقع، والناس لا يتكلمون، وفي الحياة، كما يحدث في رواياته، ولكننا في النهاية نحس من خلال هذه الأشياء البعيدة الاحتمال وهذه المغالاة. أننا نقترب من لب الإنسانية والفكر الإنساني، وإن شكسبير ليعلن جيداً، مثل شوبنهور "أن العقل يقود الإرادة (60) وانه ليعتنق مذهب فرويد اعتناقاً كاملاً، حين يورد قصائد الجنس على لسان العذارى، لسان أوفيليا المخبولة التي تتضور جوعاً، ويذهب فيما وراء فرويد إلى دوستوفسكي في دراسة ماكبث ونصفه "الرديء" (زوجته).
وإذا فسرنا الفلسفة، لا على أنها علم ما وزراء الطبيعة- الميتافيزيقيا، بل على أنها رسم متطور لأحوال الإنسان، أو نظرة تعميمية، لا للكون والعقل وحدهما، بل للأخلاق والسياسة والتاريخ والعقيدة كذلك- نقول إذا فسرنا الفلسفة على هذا الأساس، لكان شكسبير فيلسوفاً أعمق من بيكون، مثلما أن مونتاني أعمق من ديكارت، فليس الشكل هو الذي يصنع الفلسفة. إنه ليقر النسبية في الأخلاق "ليس ثمة شيء حسن أو رديء، ولكن التفكير هو الذي يجعله كذلك (61) ". "وإن فضائلنا لتخضع لتفسير الزمن (62). وأنه ليحس بلغز مذهب الجبرية (القضاء والقدر) المحير في أن بعض الناس أشرار بالوراثة "على حين أنهم غير مذنبين، طالما أن الأخلاق لا تستطيع أن تختار أصلها أو منشأها (63) ". وإنه ليعرف نظرية ثراسيماخوس (فيلسوف سفسطائي إغريقي في القرن الخامس ق. م.) في الأخلاق: فيعتقد ريتشارد الثالث أن "الضمير ليس إلا كلمة يستخدمها، الجبناء ابتكرت، أول ما ابتكرت، لتلقي الرعب في قلوب الأقوياء، فلتكن سواعدنا المفتولة هي ضميرنا، ولتكن أسيافنا قانونا (64) ". أما ريتشارد الثاني فيقرر "أن أجدر الناس بالتملك هم أولئك الذين يعرفون أقوى السبل وأكثرها ضماناً للكسب (65) ". ولكن هذين الشخصين الذين اتبعا نيتشه باءا بخاتمة محزنة. ويلحظ شكسبير،(28/151)
أيضاً خلق الأرستقراطية الإقطاعية الذي يتمسك بالشرف، ويصفه بعبارات عظيمة، ولكنه يستنكر (كما ورد على لسان المهرج هتسيبر) نزوعه إلى الزهو والعنف، و"سوء السلوك والحاجة إلى ضبط النفس (66) ". أما الأخلاق عنده هو، فتقوم في النهاية على اعتدال ارسطو وضبط النفس عند الرواقيين. وكان الاعتدال والتعقل الموضوع الرئيسي في حديث يوليسيوز الذي أنب فيه أجاكس وأشيللس (67)، ومهما يكن من أمر، فان العقل وحده لا يكفي، ولا بد أن يدعمه خيط من توجيه الرواقيين:
على المرء أن يحتمل
ذهابه هناك قدر احتماله قدومه هنا
والنضج هو كل شيء (68).
والموت أمر يمكن التجاوز عنه ما دمنا قد حققنا أنفسنا. وشكسبير يؤيد أبيقور كذلك، ولا يسلم بتناقضات فاصلة بين اللذة والحكمة، ويرد على البيوريتانيين بشدة فيورد على لسان الخادمة ماريا قولها لمالفوليو: "اذهب وهز أذنيك (69) " أي "أنت جحش". وهو متسامح، مثل البابا، في خطايا الجسد، ويجري على لسان لير المجنون أنشودة مرحة صاخبة للاتصال الجنسي (70).
أما فلسفته السياسية فتتسم بروح المحافظة. وأدرك آلام الفقراء، وجعل لير يرددها في إحساس عميق. ولحظ صياد سمك في "بركليز" (1609؟) أن الأسماك تعيش في البحر:
مثلما يعيش الإنسان على الأرض- تأكل كبارها صغارها، ولا يمكن أن أقارن أغنيائنا البخلاء، مقارنة سليمة، ألا بالحوت، يلعب ويلهو ويسوق صغار السمك المسكين أماه، وفي النهاية يلتهمه دفعة واحدة، ولقد سمعت عن مثل هؤلاء الحيتان على الأرض، لا يفتئون يفغرون أفواههم حتى يبتلعوا الأبرشية بأسرها، والكنيسة، والبرج، والأجراس، وكل شيء (71) ".
ويحلم جنزالوا في "العاصفة" بشيوعية فوضوية "يكون فيها كل ما تنتجه الطبيعة ملكاً مشاعاً"، ولا يكون فيها قوانين ولا قضاة أو حكام ولا عمال(28/152)
ولا حرب (72). ولكن شكسبير يهزأ بهذه "المدينة الفاضلة"- يوتوبيا- لأن طبيعة الإنسان تجعل من المستحيل قيامها. ولا بد، في ظل أي دستور، من أن تأكل الحيتان السمك.
وماذا كانت ديانة شكسبير؟. إن البحث عن فلسفته في هذا المجال، بوجه خاص، شاق عسير. فهو من خلال أشخاص مسرحياته يعبر عن كل المعتقدات، في تسامح لا بد أنه كان يحمل البيوريتانيين على القول بأنه كافر. وكثيراً ما استشهد بالكتاب المقدس في إجلال وتقديس، وجعل هملت، المفروض أنه متشكك، يتحدث، عن الإيمان، عن الله والصلاة والسماء والجحيم (73). ولقد عمد شكسبير وأبناؤه وفقاً للطقوس الأنجليكانية (74). وبعض أبياته تنم على بروتستانتية قوية ويتحدث الملك جون عن "الغفران البابوي" على أنه "شعوذة وسحر". وكأنه يستبق هنري الثامن:
... لن يفرض قسيس إيطالي
دفع العشور أو يقرع الناقوس في أرضنا،
ولكن، كما أننا نرفع الرأس عالياً تحت السماء،
فستكون لنا السيادة العظمى في وجود الله العلي العظيم،
حيث نملك ونحكم، ونثبت الملك وحدنا،
هكذا أنبئوا البابا، مع كل الاحترام
له ولسلطانه المغتصب (75).
على أن جون، بطبيعة الحال، يكر عن خطيئته، آخر الأمر. وثمة رواية بعد هذه، هي "هنري الثامن"، اشترك شكسبير في جزء منها فقط، تزودنا بصور مؤيدة لهنري وكرانمير (أسقف كنتربري)، وتنتهي بمديح إليزابث- وكلهم كبار مهندسي الإصلاح الديني في إنجلترا. وثمة مسحة كاثوليكية، مثلما جاء في تصوير كترين- أراجوان والراهب لورنس، بشكل فيه تعاطف (76)، ولكن الشخصية الأخيرة كانت قد جاءت إلى شكسبير، كما شكلت في أخبار الكاثوليك الإيطاليين.(28/153)
وهناك بعض إيمان باق في الروايات المأساوية. ويظن الملك لير، من فرط ما يشعر به من مرارة:
إننا بالنسبة للآلهة، مثل الذباب بالنسبة للأطفال الأشقياء
يقتلونه من أجل اللهو واللعب (77).
ولكن إدجار الطيب يرد على ذلك بقوله "ولكن الآلهة عدول، وإنهم ليتخذون من رذائلنا السارة أدوات لتعذيبنا (78) "، كما يؤكد هملت إيمانه "باله يشكل نهايتنا ويقطعها دون صقل كيف ما نشاء (79) .. " وعلى الرغم من الإيمان الذي يصطرع في النفوس، بعناية إلهية تتصرف معنا تصرفاً عادلاً، هناك في أعظم روايات شكسبير من عدم الإيمان بالحياة نفسها، فان جاك (أحد أتباع الدوق المطرود في رواية على هواك.) لا يرى في "العصور السابقة" للإنسان شيئاً إلا كان بطيء النمو سريع العطب. ونسمع مثل هذه "اللازمة" في رواية الملك جون:
الحياة مملة مثل حكاية تروى مرتين
فترهق الأذن الثقيلة لرجل نعسان (80).
وفي ذم هملت للدنيا:
تباً لها آه، تباً لها، إنها حديقة ملأى بالأعشاب الضارة.
التي تنمو وتتكاثر، وكل شيء يحدث ويكبر في الطبيعة،
نمتلكه فحسب (81).
وفي ماكبث:
إنطفئي، أيتها الذبالة القصيرة!
ليست الحياة إلا خيالاً عابراً،
أو هي أشبه بممثل مسكين يختال ويضيع وقته فوق المسرح،
ثم لا يعود يسمع له صوت، إنها حكاية
يرويها معتوه، تعج بالضجيج والعنف،
ولكنها لا تعني شيئاً (82).
وهل ثمة شيء من فكرة الخلود يخفف من حدة هذا التشاؤم؟ إن لورنزو- بعد أن وصف لجسيكا موسيقى النجوم، يضيف أن "مثل هذا التناغم أو الانسجام(28/154)
موجودة في النفس الخالدة. (83). وتخيل كلوديو في رواية Measure For Measure حياة آخرة، ولكن بالشكل القائم في جحيم دانتي أو مثوى الموات:
آه ولكنا نموت، ونذهب إلى حيث لا ندري،
ونرقد في حفرة باردة بعيدين عن الأنظار، ونتعفن،
وتتحول الحركة الدائبة المحسوسة إلى كتلة من طين معجون،
وتستحم الروح المرحة في بحار من نار، أو تسكن
في صقع متماوج من جليد متراكم تراكماً كثيفاً
أو تسجن في الرياح غير المنظورة
التي تهب في عنف لا يهدأ حول
العالم المتدلي .... أن هذا شيء بالغ الرهبة (84).
وتحدث هملت عرضاً عن النفس، على أنها خالدة (85). ولكن مناجاته لا تؤكد أية عقيدة أو إيمان. وكلماته على فراش الموت في النسخة القديمة "فلتستقبل السماء نفسي"، غيرها شكسبير إلى أن الراحة هي السكون (الموت).
ولسنا نستطيع أن نقول، على وجه التحقيق، كم من هذا التشاؤم، جاء نتيجة لمتطلبات المسرحية المأساوية. وكم منه كان يعبر عن حالة شكسبير النفسية، ولكن تكراره وتوكيده يوحيان بأنه- أي التشاؤم- عبر عن أحلك مراحل فلسفته. وإنما كان التخفيف الوحيد الذي جاء في الروايات التي توجت أعماله، كان اعترافاً حائراً متردداً بأنه يوجد هناك وسط رذائل هذه الدنيا نعم البركات ومباهج، كما يوجد وسط الأشرار الأوغاد كثير من الأبطال وبعض القديسين، فهناك إلى جانب ياجو وجدت ديدمونه، وإلى جانب جونريل وجدت كورديليا، وإلى جانب إدموند وجد أدجار أو كنت، وحتى في خملت، يهب نسيم عليل من وفاء هوراشيو، ومن رقة أوفيليا وحنانها الموسومين بالحزن والكآبة. وبعد أن يغادر الممثل والكاتب المسرحي المنهوك لندن بما فيها من فوضى ووحشية برغم الازدحام، إلى المروج الخضر والسلوى الأبوية في بيته في ستراتفورد، فلسوف يستعيد الحب الشديد للحياة لدى الإنسان.(28/155)
6 - الرضا والقناعة
ومهما يكن من أمر، فليس ثمة سبب واضح يدعو شكسبير إلى الشكوى من لندن، فقد هيأت له النجاح والهتاف باسمه والثروة. وثمة أكثر من مائتي إشارة ومرجع له، وكلها مؤيدة له وتشيد بذكره، في الأدب الباقي من عصره. وفي 1599 أورد كتاب فرانسيس ميرز "خزانة المفكرين الموهوبين"، سدني، سبنسر، دانيل، داريتون، وارنر، شكسبير، مارلو، تشابمان، بهذا الترتيب، على أنهم أقطاب المؤلفين في إنجلترا، ووضع شكسبير على رأس الكتاب المسرحيين (86). وفي نفس العام أعلن ريتشارد بارنفيلد-وهو شاعر منافس-أن أعمال شكسبير (التي لم يكن أفضلها قد ظهر بعد) قد وضعت اسمه في "سجل الشهرة الخالدة (87) " وكان محبوباً مألوفاً حتى عند منافسيه. وكان داريتون وجونسون وبوريدج من بين أصدقائه الحميمين. وعلى الرغم من أن جونسون انتقد أسلوبه الطنان، وتساهله الطائش في التأليف، وإغفاله الشنيع للقواعد الكلاسيكية (القديمة)، فان جونسون نفسه، في المقدمة رفع شكسبير فوق كل الكتاب المسرحيين قديمهم وحديثهم، وقرر أنه "ليس فريداً في عصر بعينه، بل في كل العصور" وفي الأوراق التي خلفها جونسون عند موته، كتب يقول "لقد أحببت الرجل ... الشبيه بالصنم الذي يحبه الإنسان حباً أعمى (88) ".
وتحدثنا الأخبار بأن جونسون وشكسبير التقيا في اجتماعات رجال الأدب في حانة مرميد في شارع " Bread Street"، فتعجب فرانسيس بومونت الذي كان يعرف الرجلين كلاهما:
ما هذا الذي رأيناه؟
في مرميد! سمعنا كلاماً يفيض
رقة، ويتقد حرارة
وكأنما جاء كل إنسان من حيث أتى
قاصداً أن يفرغ كل ذكائه وتفكيره في نكتة،(28/156)
معتزماً أن يقضي، مهرجاً، بقية
حياته البليدة (89).
وقال توماس فولر في كتابه "الشخصيات البارزة في إنجلترا (1662):
كم كانت الحرب الفكرية سجالاً بين شكسبير وجونسون. وإني لأنظر إليهما، وكأنهما سفينة شراعية أسبانية ضخمة وبارجة إنجليزية، ومستر جونسون (وهو كالأولى)، علا كعبه في العلم والمعرفة، وهو راسخ وطيد الأركان، ولكنه بطيء في أداء عمله. أما شكسبير ... فهو أقل في البنيان ولكنه أخف حين يمخر عباب الماء، يستطيع أن يتجه حيث يتجه الموج، ويغير اتجاهه حيث يشاء، ويستفيد من كل ريح، بفضل سرعة بديهيته وابتكاره (90).
وتابع أو يرى حوالي 1680 الأخبار المتواترة التي يسهل تصديقها عن شكسبير و"بديهته الحاضرة اللطيفة المتدفقة" وأضاف أنه كان "رجلاً رشيقاً وسيماً لطيف المعشر (91) "، والشبيه الوحيد الموجود له الآن هو التمثال النصفي الموضوع على مقبرته في كنيسة سترتفورد، والصورة الموجودة في "الكتاب الأول"، وهما يتفقان إلى حد كبير في إبراز رجل نصف أصلع، ذي شارب، و (في التمثال) ذي لحية، وأنف حاد، وعينين متأملتين، ولكنهما لا تبديان أية إشارة إلى الشرر الذي يتقد في الروايات. وربما ضللتنا الروايات فيما يتعلق بأخلاقه، فإنها توحي برجل ذي طاقة عصبية، شديد الحساسية، سريع الانفعال، يتذبذب بين قمتي الفكر والشعر، وشفيري الكآبة واليأس، على حين يصفه معاصروه بأنه مهذب أمين لا تأخذه العزة بالإثم، ذو طبيعة صريحة منطلقة (92) "، يستمتع بالحياة ولا يأبه بالنسل، تبدو عليه مسحة من الروح العملية التي لا تلائم الشاعر. وسواء كان عن طريق الاقتصاد في الإنفاق أو عن طريق المنح والهبات، فإنه كان بالفعل في 1598 ثرياً إلى حد يسمح له بالمشاركة في تمويل "مسرح جلوب". وفي 1608 شيد هو وستة آخرون مسرح The Black Friars وزادت أنصبته في مثل هذه المشروعات من عائداته بوصفه ممثلاً وكاتباً مسرحياً، وعادت عليه بدخل كبير، اختلف تقديره بين 200 (93) و600 (94) جنيه سنوياً. ويبدو أن الرقم الأخير أصلح لأنه يفسر لنا شراءه للعقارات في ستراتفورد.(28/157)
ويقول أوبري إن شكسبير "تعود أن يزور مسقط رأسه مرة كل عام (95) ". وتوقف أحياناً على الطريق في أكسفورد، حيث كان جون دافنانت يدير نزلاً، وكان سير وليم دافنانت (شاعر البلاط 1637) يحب أن يوحي بأنه نتيجة غير مقصودة لتخلف شكسبير في هذا النزل (96). وفي 1597 اشترى الكاتب المسرحي "البيت الجديد" New Place بستين جنيهاً، وكان ثاني أكبر بيت في ستراتفورد، ومع ذلك ظل يقطن لندن. ومات أبوه في 1601 تاركاً له منزلين في شارع هملي في ستراتفورد، وبعد ذلك بعام واحد، اشترى 127 فداناً من الأرض بالقرب من المدينة، بثمن قدره 320 جنيهاً، ويحتمل أنه أجر هذه الأرض لمستأجرين مزارعين وفي 1605 بمبلغ 440 جنيهاً أسهماً في العشور الكنسية المرتقبة في ستراتفورد وثلاث دوائر أخرى. وفي إثناء انشغاله بكتابة أعظم رواياته في لندن، كان معروفاً في ستراتفورد بأنه رجل أعمال ناجح، أساساً، مشغول في الغالب بالتقاضي من أجل ممتلكاته واستثماراته.
وكان ابنه هامنت قد توفي في 1597. وفي 1607 تزوجت ابنته سوزانا من جول هول. وهو طبيب مشهور في ستراتفورد، وبعد عام واحد جعلت من الشاعر جداً، ومن ثم روابط جديدة تشده إلى مسقط رأسه. وحوالي 1610 هجر لندن واعتزل المسح، وآوى إلى "البيت الجديد". ومن الواضح أنه كتب هناك " Cymberline" (1609؟) و"قصة الشتاء" (1610؟) و"العاصفة" (1611؟). لم يكن لاثنتين من هذه الروايات كبير قيمة. ولكن "العاصفة" تظهر أن شكسبير لا يزال يحتفظ بكل قواه. فهنا ميراندا التي تكشف منذ البداية عن طبيعتها، حين تشاهد من الشاطئ غرق سفينة فتصرخ "أوه لقد تألمت مع هؤلاء الذين رأيتهم يتألمون (97) ". وهنا كاليبان الذي يرد به شكسبير على روسو. وفيها أيضاً بوسبيو الساحر الرقيق الفؤاد الذي يتخلى عن صولجان فنه ويودع دنياه المرحة وداعاً حنوناً، وهناك صدى لاكتئاب الشاعر، في الفصاحة التي لم يعتروها أي وهن في أبيات بروسبيرو:
انتهى الآن مرحنا وصخبنا. إن ممثلينا هؤلاء(28/158)
كما تنبأت لكم، كانوا أرواحاً،
ذابت في الهواء، في الهواء الرقيق،
ومثل كيان هذه الرؤيا الواهن القائم على غير أساس
تكون الأبراج التي يتوجها السحاب والقصور الشامخة
والمعابد الهيبة، والأرض التاسعة نفسها،
نعم، وكل ما نرثه سوف يذوب ويفنى،
كما ذبلت هذه الأبهة الفارغة المتهافتة،
لا تتركوا مصدراً للألم وراءكم، إننا مصنوعون
من نفس المادة التي تصنع منها الأحلام، وحياتنا قصيرة
يحف بها النوم (98).
ولكن ليست هذه هي الحالة النفسية الغالبة الآن، بل على النقيض من ذلك فالرواية هي شكسبير يسترخي ويستجم، ويتحدث عن الغدران والأزهار، ويشدو بأغنيات عذبة، " Where the bee sucks there suckl, Full fathom five"- وعلى الرغم من كل المعترضين واعتراضاتهم، فان الشاعر الذي تقدمت به السن هو الذي يتحدث على لسان بروسبيرو وهو يودع الحياة:
... إن الأحداث، بأمر مني
أيقظت النيام، فيها، وفتحت أبوابها وأطلقتهم
بفضل فني الفعال. ولكن هذا السحر الشاق
أعد بأن أتخلى عنه هنا ... ولسوف أحطم عصاي
وأدفنها بضع أقدام تحت الأرض،
وفي مكان أعمق من أن ترن فيه رصاصة الفادن (1)
سوف أغرق كتابي (99).
وربما كان شكسبير أيضاً، الذي ابتهج ببناته وحفيده هو الذي صاح على لسان ميراندا:
_________
(1) الفادن-أداة مؤلفة من خيط في طرفه قطعة رصاص. يسير بها غور المياه.(28/159)
عجباً!
كم من المخلوقات الوسيمة أرى هنا!
ما أجمل بني الإنسان! أيتها الدنيا الجديدة الرائعة
التي يعيش فيها مثل هؤلاء الناس (100)!
وفي فبراير 1616 تزوجت جوديت من توماس كويني. وفي 25 مارس كتب شكسبير وصيته. فترك ممتلكاته لسوزانا، و300 جنيه لجوديت، وأوصى بمبالغ لرفاق التمثيل، و"بسريره الثاني" لزوجته التي كان قد هجرها، وربما كان قد رتب مع سوزانا أن ترعى أمها. وعاشت آن هاثاواي سبع سنوات بعده. وذكر جون وارد قسيس كنيسة ستراتفورد (1662 - 1681)، أن "شكسبير وداريتون وبن جونسون اجتمعوا في جلسة مرحة، ويبدو أنهم أسرفوا في الشراب، لأن شكسبير مات إثر حمى أصابته بعد ذلك (101) (1) ". وحم القضاء في 23 أبريل 1616، ووري جثمانه التراب تحت الهيكل في كنيسة ستراتفورد، وهناك بالقرب من هذا المكان توجد بلاطة الضريح التي لا تحمل اسماً، وقد نقش عليها عبارة تخليد الذكرى، تنسبها أقوال متواترة محلية إلى شكسبير نفسه:
أيها الصديق الكريم، بحق يسوع المسيح، تحمل
أن تحفر التراب الذي يحيط بهذا المكان،
وليبارك الله الرجل الذي يحافظ على هذه الأحجار،
ولعنة الله على من ينقل عظامي.
7 - بعد موت الشاعر
ومبلغ علمنا، أن شكسبير كان قد اتخذ خطوات لنشر رواياته. وطبعت الروايات الست عشرة التي كثيراً ما ظهرت في حياته، وواضح أن هذا دون تعاون منه، في قطع الربع عادة، وعلى درجات متفاوتة من حيث التحريف في النص.
_________
(1) ليس هناك ما يدعو إلى نبذ هذه الراوية-سيرا. ك. تشبرز في كتابه "وليم شكسبير" الجزء الأول ص89.(28/160)
وأثارت هذه القرصنة والإنتحالات اثنين من زملاءه السابقين: جون همنج وهنري كوندل، فأصدر في 1623 "الكتاب الأول"، وهو مجلد من القطع الكبير به نحو 900 صحيفة على نهرين، يضم النص الموثوق لست وثلاثين رواية. وجاء في تصدير الكتاب "إننا لم نفعل إلا أن أدينا خدمة للراقد تحت التراب، ولم نبغ من وراء ذلك ربحاً لنا أو شهرة، بل نهدف إلأى تخليد ذكرى صديق عظيم ماثل بيننا ... شكسبير" وكان يمكن شراء المجلد آنذاك بجنيه واحد. أما النسخ الباقية حتى الآن؛ وعددها مائتان تقريباً، فتقدر قيمة الواحدة منها بسبعة عشر ألفاً من الجنيهات، أي أغلى قيمة من أي كتاب آخر، باستثناء إنجيل جوتنبرج.
وتأرجحت شهرة شكسبير بشكل عجيب من حين لآخر. ففي 1630 امتدحه ملتون وقال "شكسبير الأعز، ثمرة الذوق والفن". ولكن على عهد البيوريتانيين، حين أغلقت المسارح 1642 - 1660، جبت شهرة الشاعر، وعادت بعودة الملكية. وفي الصورة التي رسمها فان ديك لسير جون سكلنج (والمحفوظة بقاعة فريك في نيويورك)، ترى سكلنج يمسك "بالكتاب الأول" مفتوحاً على رواية هملت. ويمتدح دريدن، معجزة أواخر القرن السابع عشر، شكسبير على أنه "من بين الشعراء الحديثين، وربما القدامى أيضاً، أعظم نفس وأوسعها إدراكاً .. وكان دوماً عظيماً إذا عرضت له مناسبة عظيمة" ولكن "كثيراً ما انحط فنه الهزلي (الملهاة) التافه الفاتر إلى فن مرهق ثقيل تضيق النفوس به ذرعاً، كما انحط تمثيله الجاد إلى مجرد كلام منمق طنان (102) ... " وذكر جون افلين في مفكرته (1660) "أن الروايات القديمة تثير اشمئزاز هذا العهد المهذب، حيث أن صاحب الجلالة عاش طويلاً في الخارج" ويقصد بهذا أن شارل الثاني والملكين العائدين جلبوا معهم إلى إنجلترا المعايير المسرحية من فرنسا، وسرعان ما أخرج المسرح بعد عودة الملكية أشد الروايات دعارة وفجوراً في الأدب الحديث، وظلت روايات شكسبير تمثل، ولكن عادة، بعد تعديلها بمعرفة دريدن أو أتواي Otway أو غيرهما ممن يمثلون ذوق "عودة الملكية".(28/161)
وأعاد القرن الثامن عشر روايات شكسبير إليه. فنشر نيقولا رو (1709) أول طبعة إنتقادية وأول سيرة حياة للشاعر. وأصدر بوب وجونسون طبعات وتعليقات. أما بترتون وجاريك وكمبل، والممثلة ساره سيدونز فقد جعلوا شكسبير معروفاً مألوفاً محبوباً بشكل لم يسبق مثيل على المسرح. وفي 1778 خلد توماس بودلر Bowdler اسمه هو نفسه بنشر. نسخة مهذبة حذف منها "كل ما ينافي الحشمة والفضيلة، مما لا يمكن قراءته جهراً في الأسرة". وفي أوائل القرن التاسع عشر احتضنت الحركة الرومانتيكية شكسبير، وحولته مبالغات كولردج وهازلت ودي كوينسي وتشارلز لام إلى معبود قبلي.
واعترضت فرنسا-فما جاءت سنة 1700 حتى كان رونسار وماليرب وبوالو قد شكلوا معاييرها الأدبية وفق التقاليد اللاتينية، من حيث التراتيب والشكل المنطقي والذوق الهذب والتحكيم العقلاني. وكانت فرنسا قد أقرت، في أعمال راسين الكلاسيكية في المسرحية. وقد أزعجها وعكر صفوها شكسبير بتلاعبه الفارغ بالألفاظ، والسيل الجارف من العبارات، وعواصفه العاطفية، ومهرجيه الأفظاظ، وجمعه بين الملهاة والمأساة. وعندما عاد فولتير من إنجلترا (1729) أتى معه ببعض التقدير لشكسبير، فهو يقول "أظهرت الفرنسيين لأول مرة على بعض اللآلئ التي عثرت عليها بين الأكداس الهائلة (103) ". ولكن إذا وضع أحدهم شكسبير في مرتبة أعلى من راسين، انبرى فولتير للدفاع عن فرنسا بقوله "إن شكسبير همجي محبوب" (104). وفي القاموس الفلسفي (1765) أجرى فولتير بعض التعديل "إن لهذا الرجل نفسه قطعاً تلهب الخيال وتنفد إلى القلب ...... لقد أدرك هذه المنزلة من الرفعة والسمو دون أن يسعى إليها (105) " وساعدت مدام دي ستاي (1804) وجيزو (1821) وفيلمين (1827) -ساعدوا فرنسا على الاصغاء لشكسبير في أناة وصبر. وأخيراً فان ترجمة الروايات إلى نثر فرنسي جيد، تلك الترجمة التي قام بها فرنسوا بن فيكتور هيجو أكسبت شكسبير احترام فرنسا له، ولو أنه لم يصل إلى مستوى(28/162)
الإعجاب القلبي المخلص الذي أسبغته على راسين.
وكان حظ الشاعر من الطباعة أسعد في ألمانيا، حيث لم ينافسه كاتب مسرحي محلي. فإن الكاتب المسرحي الألماني العظيم الأول جوتهلد لسنج، هو الذي أنبأ مواطنيه (1759) بأن شكسبير يسمو على كل الشعراء القدامى والمحدثين، وأيده في هذا هردر. ورفع أوجست فون سكلجل ولودفيج تيك وغيرهما من زعماء المدرسة الرومانتيكية راية شكسبير، وأسهم جيته بمناقشة حماسية عن هملت في "قاعة ولهلم" (1796) (106). وأصبح شكسبير معروفاً محبوباً على المسرح الألماني، وانتزع العلماء الألمان من إنجلترا مقام الصدارة، في دراسة حياة شكسبير ورواياته وتوضيحاته.
ويتعذر التقدير الموضوعي أو المقارنة الموضوعية على هؤلاء الذين شبوا وترعرعوا وهم ينشقون عبير شكسبير. فان الذي يعرف لغة الإغريق على عهد بريكليز وعقيدتهم وفنهم وفلسفتهم، هو وحده الذي يحس بالمسرحية المأساوية الديونيسية وسموها الذي لا مثيل له، وبساطتها الواضحة، وبالمنطق القوي في بنيانها، وبضبط النفس الباعث على الفخر في القول والفعل، وبالشرح الذي يهز النفوس في ترانيم مجموعة المغنين فيها، وبالمغامرة النبيلة في مشاهدة الإنسان من زاوية مكانه وقدره في الكون. كما إن الذي يعرف اللغة الفرنسية والخلق الفرنسي، وخلفية "القرن الأعظم" (السابع عشر) يمكنه وحده أيحس، في روايات كورني وراسين-لا مجرد عظمة الشعر وموسيقاه فحسب-بل يحس كذلك بالجهد البطولي للعقل في إثارة العاطفة وبعث الانفعال، والتمسك الحكيم الرزين بالمعايير الكلاسيكية العسيرة، وتركيز المسرحية في بضع ساعات تشد فيها الأعصاب، لتلخيص حياة الإنسان والفصل فيها، كذلك فان الذي يعرف اللغة الإنجليزية، في كمالها أيام إليزابث، ويتعمق ويجد لذة واستمتاعاً في البلاغة والأغاني والتراشق في عهد إليزابث، ولا يغل المسرح عن أن يعكس صورة الطبيعة ويحرر الخيال، نقول إن هذا وحده هو(28/163)
الذي يستطيع أن يهيئ لروايات شكسبير ما تستحقه من تقدير وترحيب قلباً وقالباً. ولكن مثل هذا الرجل لا بد أن يرقص طرباً لروعة لغتها، ويهتز من الأعماق وهو يتابع ويسير غور الفكر فيها، تلك هي الفترات الثلاث التي نعمت بموهبة المسرحية في العالم. ويجدر بنا، على الرغم من عجزنا، أن نرحب بها جميعاً من أعماقنا، شاكرين لتراثنا من الحكمة الإغريقية، ومن الجمال الفرنسي، ومن الحياة في عصر إليزابث.(28/164)
الفصل الخامس
ماري ملكة إسكتلندة
1542 - 1587
1 - الملكة الجنية
وسط المسرحية المتشابكة، مسرحية الإصلاح الديني في إسكتلندة مع السياسة في عصر إليزابث، جرت مأساة ماري ستيوارت، بكل ما فيها من سحر الجمال والحب المشبوب والصراع الديني والسياسي، والقتل والثورة والموت البطولي، وكاد أسلافها، أن يؤكدوا لها خاتمة عنيفة. وكانت ابنة ستيوارت الخامس ملك إسكتلندة وماري أميرة جيز واللورين وفرنسا. وحفيدة مرجريت تيودور ابنة هنري السابع ملك إنجلترا، ومن ثم كانت بنت أخت ومن باب التساهل- بنت عمة، "ماري اللعينة" وإليزابث، وكانت بإجماع الآراء الوريثة الشرعية للتاج الإنجليزي، إذا توفيت إليزابث دون عقب، وفي رأي هؤلاء الذين اعتبروا إليزابث ابنة زنى، ومن ثم غير مؤهلة للملك- مثل الكاثوليك (وهنري الثامن في وقت ما)، أنه كان لا بد أن ترتقي عرش إنجلترا 1558، ماري ستيوارت لا إليزابث. ولتصبح المأساة يقيناً، أباحت ماري، عندما أصبحت ملكة فرنسا (1559) - نقول أباحت لأتباعها ولوثوق الدولة أن يلقبوها ملكة إنجلترا. فثمة ادعاء فارغ ساد منذ أمد طويل بأن يكون ملوك فرنسا ملوكاً على إنجلترا أيضاً، كما يكون ملوك إنجلترا بدورهم ملوكاً على فرنسا، ولكن الادعاء في هذه الحالة قارب حقاً معترفاً به بصفة عامة. وما كان لإليزابث أن تطمئن على تاجها طالما بقيت ماري على قيد الحياة. وما كان ينقذ إلا النيات الطيبة أو النظرة الصائبة للأمور، ولكن الملوك قل أن يطأطئوا رءوسهم إلى هذا الحد.(28/165)
وعرضت المملك على ماري، في مدة سنة من ولادتها. فقد جعلها موت أبيها في بحر أسبوع من مولدها، ملكة إسكتلندة، واقترح هنري الثامن، أملاً منه في ضم إسكتلندة كمقاطعة ملحقة بإنجلترا-اقترح أن تخطب الطفلة إلى ابنه إدوارد وترسل إلى إنجلترا، وتتربى فيها، مع افتراض أن تكون بروتستانتية، لتكون ملكة مع ابنه إدوارد. ولكن بدلاً من هذا، قبلت أمها الكاثوليكية عرض هنري الثاني ملك فرنسا (1548) أن تزوجها لأكبر أبنائه (الدوفين). وحماية لماري من اختطافها إلى إنجلترا. أسرعوا بها وهي في سن السادسة إلى فرنسا، حيث بقيت هناك ثلاثة عشر عاماً، وتلقت العلم مع أولاد الأسرة المالكة، وتأصلت فيها الروح الفرنسية تماماً، حيث كانت نصف فرنسا بحكم الدم. ولما نضجت واكتمل شبابها، تجلت كل مفاتن الأنوثة في جمال القسمات والقوام، وحدة الذهن، والكياسة المرحة في السلوك والحديث، وغنت غناء عذباً، وعزفت على العود عزفاً جيداً، وتحدثت باللاتينية، وكتبت شعراً تكلف الشعراء إطاره، وخفقت قلوب الحاشية "لرؤية وجهها النقي الناصع البياض كالثلج" (برانتوم (1)) "وشعرها المقصوص المضفر" (رونسار (2))، ورشاقة يديها النحيلتين، وصدرها الممتلئ. وحتى أن لوبيتال الوقور الرزين ذهب إلى أن مثل هذا الجمال لا يمكن إلا أن يكون لأحد الآلهة. (3) وأصبحت أكثر الشخصيات جاذبية وأعظمها كياسة في أكثر بلاط أوربا تهذيباً وصقلاً. ولما بلغت السادسة عشرة تزوجت ولي عهد فرنسا (الدوفين) في 24 أبريل 1558. وما أن بلغت السابع عشرة، حتى أصبحت، بارتقائه العرش، ملكة على فرنسا. ويبدو أن كل آمال حلم خيالي قد أصبحت حقيقة.
ولكن في 5 ديسمبر 1560 مات فرانسوا الثاني (زوجها) بعد حكم دام سنتين. وفكرت ماري التي باتت أرملة وهي في سن الثامنة عشرة، في أن تأوي إلى ضيعة في تورين، لأنها أحبت فرنسا. ولكن إسكتلندة في تلك الأثناء تحولت إلى البروتستانتية، وكانت على شفا ضياعها من فرنسا بوصفها حليفة. ورأت الحكومة الفرنسية أن من واجب ماري أن تذهب إلى أدنبرة، وتقود وطنها الأصلي إلى التحالف مع فرنسا، وإلى العقيدة الكاثوليكية من جديد. وارتضت ماري كارهة أن تترك(28/166)
مباهج المدنية الفرنسية ورفاهيتها، لتعيش في إسكتلندة التي تصورتها أرض الهمجية والبرودة. وكتبت إلى زعماء الأشراف مؤكدة إخلاصها لإسكتلندة، ولكنها لم تذكر لهم أنها في عقد زواجها، حولت ملك إسكتلندة إلى ملوك فرنسا إذا توفيت دون عقب. وافتتن بها النبلاء، البروتستانت منهم والكاثوليك على حد سواء، ودعاها برلمان إسكتلندة لتتبوأ عرشها. وطلبت إلى إليزابث امتياز المرور بأمان عبر إنجلترا، فرفض طلبها، فأبحرت ماري من كاليه في 14 أغسطس 1561، مودعة فرنسا بالدموع، محدقة في الشاطئ الذي يتراجع من خلفها، حتى لم يبق أمامها شيء إلا البحر.
وبعد خمسة أيام ألقت السفينة مراسيها في "ليث" ثغر أدنبرة واكتشفت ماري اسكتلندة.
2 - إسكتلندة
1560 - 1561
كانت أمة ذات أصول عريقة وأساليب عتيقة، قيدتها الأراضي الجبلية الوعرة في الشمال بنظام إقطاعي، يتحكم فيه أمراء مستقلون تقريباً، يحيون حياة نصف بدائية قوامها الصيد والرعي، واستئجار الأرض القابلة للزراعة. أما الجنوب فقد تميز بأرض منبسطة خصبة بفضل ماء المطر، ولكنها مظلمة معتمة بسبب شتائها الطويل والبرد القارس الذي يشل الحركة. فهنا شعب يكافح ليخلق نظاماً أخلاقياً وحضارياً، من حمأة الأمية واختلاط الأنساب والفساد والتمرد على القانون والعنف، شعب أعمته الخرافات، وإرسال السحرة إلى الإعدام حرقاً، يفتش في عقيدة دينية متشددة عن حياة أقل قساوة ومشقة. ورغبة في موازنة قوة البارونات التي مزقت أوصال البلاد، كان الملوك ساندوا وشجعوا رجال الدين الكاثوليك وأغدقوا عليهم الثروات، مما جرهم إلى الفساد وقبول الرشوة وعدم المبالاة ومعاشرة الخليلات (4). وتحرق النبلاء لهفاً على ثروة الكنيسة، فانتقصوا من قدر رجال الدين، بملء الوظائف الكنسية بأبنائهم الخبراء بشئون الدنيا، ونادوا بالإصلاح الديني، وجعلوا البرلمان الاسكتلندي الذي تحكموا فيه سيداً للكنيسة والدولة على حد سواء.
وكان الخطر الخارجي أقوى حافز على الوحدة الداخلية. ولم تحس إنجلترا(28/167)
بالطمأنينة في جزيرة يشاركهم فيها الإسكتلنديون الذين لم يروضوا بعد. وسعت من حين لآخر، بالطرق الدبلوماسية أو الزواج أو الحرب، إلى إخضاع إسكتلندة للحكم البريطاني. وأشار سيسل على إليزابث بمساندة النبلاء البروتستانت ضد مليكتهم الكاثوليكية، ومن ثم تصبح إسكتلندة ممزقة، ولا تعود تشكل خطراً على إنجلترا أو دعامة لفرنسا. وفوق ذلك يمكن لزعماء البروتستانت، إذا حالفهم التوفيق، أن يخلعوا ماري، ويتوجوا نبيلاً بروتستانتياً، ويحولوا إسكتلندة كلها إلى البروتستانتية. وراود سيسل بصفة خاصة حلم توحيد إسكتلندة على هذه الصورة مع إنجلترا بإغراء إليزابث بالزواج من مثل هذا الملك (5). فلما أرسلت فرنسا إلى إسكتلندة قوة لإخماد البروتستانت سارعت إليزابث بإرسال جيش لحمايتها وطرد الفرنسيين. ولما حاقت الهزيمة بفرنسا في ميدان القتال، وقع ممثلوها في إسكتلندة في أدنبره (6يولية 1560) معاهدة مشئومة لا تنص على خروج الفرنسيين من إسكتلندة فحسب، بل على عدم مطالبة ماري بأي حق في عرش إنجلترا، كذلك، ورفضت ماري، بناء على مشورة زوجها فرانسوا الثاني، التصديق على المعاهدة. وعلمت إليزابث بذلك.
وكان الوضع الديني مضطرباً، بنفس القدر. ذلك أن "برلمان الإصلاح الديني" الإسكتلندي الذي التأم 1550، ألغى الكاثوليكية رسمياً، وقرر أن تكون البروتستانتية الكلفنية دين الدولة، ولكن ماري لم تصدق على هذه القرارات البرلمانية حتى تصبح القوانين نافذة المفعول في البلاد؟ وظل القساوسة الكاثوليك يشغلون معظم الوظائف الكنسية ذوات الدخول في إسكتلندة. وكان نصف النبلاء" بابويين، وظل جون هاملتون الذي يجير في عروقه الدم الملكي، يذهب إلى البرلمان بوصفه زعيم الكاثوليك في إسكتلندة. ومهما يكن من أمر فإن نسبة كبيرة من الطبقة المتوسطة في أدنبرة وسانت أندروز وبرث وسترلنج وأبردين، انحازت إلى الكلفنية، بفضل الوعاظ المخلصين المتحمسين، بزعامة جون نوكس Knox.
وفي العام الذي سبق مجيء ماري أخرج نوكس ومعاونيه كتاباً في قواعد السلوك والانضباط " Discipline" يحدد مذهبهم وأغراضهم، فالديانة لا تعني(28/168)
إلا البروتستانتية، و"الربانييون والأتقياء" لا يقصد بهم إلا الكلفنيون وحدهم، أما "الوثنية" فإنها تشمل "القداس، والتضرع إلى القديسين وعبادة الصور ... والاحتفاظ بها"، أما "المتمسكون بهذه الأشياء البغيضة والداعون إليها، فلا ينبغي أن يفلتوا من عقاب القضاة والحكام المدنيين. "وكل مذهب أو نظرية" تتنافى "مع الإنجيل، يجب" القضاء عليها قضاءاً تماماً، على أنها لعينة تحول دون خلاص الإنسان (6) ". أما القساوسة فينبغي أن ينتخبوا في مجامع، وعليهم أن ينشئوا المدارس ويفتحوها لمل أبناء الرب، مع خضوعها لرقابة الجامعات الإسكتلندية-سانت أندروز، جلاسجو، أبردين. ويجب أن تخصص أموال الكنيسة الكاثوليكية والعشور الكنسية المستمرة لحاجيات القساوسة البروتستانت وتعليم الشعب ومعونة الفقراء. وعلى "الكنيسة الإسكتلندية الوطنية"، الجديدة- لا السلطة المدنية-أن تصدر تشريعات الأخلاق، وتفرض العقوبات على مخالفاتها- السكر والجشع والتجديف والإسراف في الثياب، ظلم الفقراء والفحش والفسق والزنى، وكل من يعارض المذهب الجديد، أو يتغيب عمداً عن طقوسه؛ يحال إلى السلطة المدنية، مع توصية من الكنيسة الإسكتلندية الوطنية بإعدامه (7).
على أن اللوردات الذين سيطروا على البرلمان أبوا أن يقروا "قواعد السلوك والانضباط" (يناير 1561). ولم يستسيغوا قيام كنيسة وطنية قوية مستقلة. وكانت لهم خططهم الخاصة في استخدام أوال الكنيسة المنحلة. وظل "كتاب قواعد السلوك" هدفاً ونبراساً يهتدي به في تطوير الكنيسة الإسكتلندية الوطنية وتنميتها.
ولما أخفق نوكس في إقامة حكومة لاهوتية يتولاها قساوسة يدعون أن لهم حق الكلام نيابة عن الرب، بذل جهداً جباراً في إصرار بالغ، في تنظيم الكهنوت الجديد، وإيجاد الاعتمادات اللازمة لتدعيمهم، وإنتشارهم في كل أرجاء إسكتلندة، لمواجهة رجال الدين الكاثوليك الذين ظلوا يؤدون وظائفهم، وخلقت قوة العقيدة في مواعظه التي كان يلقيها وحماسة طائفته- نقول خلقت منه قوة في أدنبره وفي الحكومة. وكان لزاماً على الملكة الكاثوليكية، ماري، أن تصفي حسابها معه، حتى تستطيع تثبيت دعائم ملكها.(28/169)
3 - ماري ونوكس
1561 - 1565
اتخذت ماري الترتيبات لتصل إلى إسكتلندة، قبل الموعد المضروب بأسبوعين، حيث خشيت بعض المقاومة في دخولها إلى البلاد، ولكن ما أن انتشر في العاصمة خبر وصولها إلى ليث حتى اكتظت الشوارع بالأهالي، الذين عرتهم الدهشة ليروا ملكتهم غادة جميلة مرحة مفعمة بالحيوية، لم تبلغ بعد التسعة عشر ربيعاً. وحياها معظمهم وهتفوا لها وهي على ظهر جوادها الصغير إلى قصر هوليرود، Holyrood وهناك رحب بها اللوردات، بروتستانت وكاثوليك، فخورين بأن يكون لإسكتلندة ملكة فاتنة إلى هذا الحد، يمكن يوماً ما، بشخصها أو بشخص ابن لها، أن تخضع إنجلترا لحكم ملك إسكتلندي.
وإن صورتيها (8) اللتين وصلتا إلينا لتؤكدان اشتهارها بأنها من أجمل نساء عصرها. ولسنا ندري إلى أي حد استطاع الرسامان اللذان نجهل الآن اسميهما، أن يمثلاها، ولكنا نلحظ في اللوحتين كلتيهما، القسمات الوسيمة واليدين الناعمتين والشعر الكستنائي الغزير الذي سلب ألباب البارونات وكتاب السير. ومع ذلك فإن هاتين الصورتين لا تكادان تكشفان لنا عن الجاذبية الحقيقية للملكة الصغيرة-روحها المرحة، وثغرها الباسم، وحديثها العذب البارع، وحماسها المتدفق، وروح الألفة والحنان والمودة فيها، وتلهفها على الحب. وإعجابها المتهور بالأقوياء من الرجال، وكانت طامتها الكبرى أنها أرادت أن تكون امرأة وملكة معاً-أي أن تحس بدفء العاطفة، دون أن تنقص من امتيازات الملك. لقد فكرت في ذاتها بلغة قصص الفروسية-حسناوات مزهوات ولكنهن وديعات رقيقات، عفيفات شهوانيات في وقت معاً، وأهل للهفة المتقدة والألم الحسي، والإشفاق الرقيق، والولاء الذي لا تفسده الرشوة، والشجاعة التي تظهر عند الشدة. كانت بارعة في ركوب الخيل، تقفز بجوادها فوق الأسوار، وتتخطى الخنادق في اندفاع وتهور، وتستطيع احتمال مشاق الحملات دون كلل ولا شكوى. ولكنها لم تكن من الناحية الجسمية أو العقلية صالحة لأن تكون ملكة، فقد منيت بالاعتلال والضعف في كل شيء اللهم إلا قوة الأعصاب، وكانت عرضة لنوبات من الإغماء(28/170)
تبدو وكأنها صرع، مصابة بعلة لم يتيسر تشخيصها، غالباً ما شلت حركتها وجعلتها تتلوى من الألم (9). ولم يكن لها ذكاء الرجال تميزت به إليزابث، وكانت في الغالب بارعة حاذقة. ولكن قل أن اتسمت بالحكمة، وكثيراً ما أطلقت العنان للهوى والعاطفة فأفسدتا الدبلوماسية، وأظهرت في بعض الأحيان قدراً كثيراً من ضبط النفس والجلد واللباقة، ثم عادت فأودت بهذا كله، نتيجة الانفعال السريع واللسان السليط. لقد كان جمالها نقمة عليها، ولم توهب المقدرة العقلية، وكان في أخلاقها قضاء عليها.
وبذلت ماري جهداً مضنياً لتواجه الأخطار المتشعبة في موقفها، متأرجحة بين اللوردات الجشعين، والوعاظ المعادين، والأكليروس الكاثوليكي المتفسخ الذي لم يرع حرمة عقيدتها التي تدعو إلى الثقة فيهم. واختارت لزعامة مجلس شورى الملكة اثنين من البروتستانت: أخاها غير الشقيق، الابن غير الشرعي، لورد جيمس ستيوارت (لورد موري فيما بعد). وكان في سن السادسة والعشرين، ووليم ميتلند لثنجتون، وكان في سن السادسة والثلاثين، وكان فيه من الذكاء أكثر مما يحتمله خلقه، وقد نحول من جانب إلى جانب. مؤثراً تسوية الأمور والحلول الوسط بين الأطراف المتنازعة، حتى وفاته. وكان هدف سياسة لثنجتون رائعاً ممتازاً-وهو توحيد إنجلترا وإسكتلندة لأنه البديل الوحيد للعداء الذي يودي بالبلدين كليهما، وفي مايو 1562 أوفدته ماري إلى إنجلترا ليرتب لقاء بينها وبين إليزابث، ووافقت إليزابث، ولكن مجلس الشورى اعترض، خشية أن أي تسليم مهما كان غير مباشر بحق ماري في عرش إنجلترا، قد يشجع الكاثوليك على محاولة قتل إليزابث. وتبادلت الملكتان الرسائل في مودة دبلوماسية، على حين كانت كل منهما تحاور وتداور وتتحين الفرصة للانقضاض على زميلتها، أو كانتا تلعبان معاً لعبة القط والفأر.
وفي الأعوام الثلاثة الأولى حالف التوفيق حكم ماري في كل ناحية، فيما عدا الدين. وعلى الرغم من أنها لم تستطع قط أن تطيب نفساً بمناخ إسكتلندة أو ثقافتها، فإنها سعت، بحفلات الرقص والتمثيليات الممتعة والجمال، أن تجعل من قصر هوليرود "باريس" صغيرة في منطقة مجاورة للمنطقة المتجمدة الشمالية. وتحرر(28/171)
معظم اللوردات وأطلقوا لأنفسهم العنان في ظل مرحها وبهجتها. وتذمر نوكس وزمجر بأنهم سحروا. وفوضت الملكة موري ولثنجتون في تدبير شئون المملكة، فقاما بالمهمة خير قيام. وبدا، لبعض الوقت، أنه حتى المشكلة الدينية قد وجدت حلاً بفضل تنازلات الملكة. ولما حثها مندوبو البابا على إعادة الكاثوليكية ديناً رسمياً للبلاد، أجابت بأن هذا مستحيل في الوقت الراهن، وإلا تدخلت إليزابث بالقوة. ورغبة في تهدئة خواطر البروتستانت الإسكتلنديين، أصدرت ماري في 26 أغسطس 1561 بياناً يحرم فيه على الكاثوليك محاولة إحداث أية تغييرات في الديانة القائمة، ولكنها طلبت أن يرخص لها هي نفسها في ممارسة الشعائر سراً، وأن يقام القداس في الكنيسة الملكية الخاصة (10). يوم الأحد 24 أغسطس أقيم القداس هناك. وتجمع نفر قليل من البروتستانت خارجها وطالبوا "بإعدام القسيس الذي يعبد الأصنام (11) "، ولكن موري حال دون دخولهم الكنيسة، على حين اقتاد معاونوه القسيس إلى مكان آمن .. وفي يوم الأحد التالي استنكر نوكس سماح اللوردات بالقداس، وأعلن إلى جماعة المصلين في كنيسته أن قداساً واحداً كان أكثر إساءة إليه من عشرة آلاف عدو مسلحين (12).
وأرسلت الملكة في طلبه؛ تستعطفه وتناشده التسامح. وفي قصرها، في 4 سبتمبر، التقت العقيدتان لقاء تاريخياً، لم تصل إلينا تفاصيل ما جرى فيه إلا من تقرير نوكس نفسه (13). وانتهرته ماري إثارته الفتنة ضد سلطة أمها الشرعية، ولكتابته "هجومه العنيف" ضد "جماعات النسوة الخاطئات"، الذي أساء إلى كل السيدات اللائى تولين الملك. فأجاب "بأنه إذا كان استنكار الوثنية معناه إثارة الرعايا ضد حكامهم، فهلا يمكن التماس العذر فيه والصفح عنه، فإن الله قد ارتضى ... أن أكون واحداً (من بين الكثيرين) ممن أوصدوا أبواب هذه المملكة ضد باطل العقائد البابوية وضد خداع هذا الروماني عدو المسيح، البابا، وغروره وظلمه. أما الهجوم العنيف. فإنه يا سيدتي قد كتب بصفة أخص ضد المرأة الفاسقة في إنجلترا ماري تيودور. ويستطرد تقرير نوكس:(28/172)
قالت الملكة: هل تظن أن الرعايا قد يقومون في وجه حكامهم؟
فأجاب نوكس: إذا تجاوز الحكام حدودهم، فلا ريب في أنهم يلقون المقاومة، حتى ولو بالقوة.
ونهضت الملكة من مقعدها، وقد تولتها الدهشة .. ثم قالت في النهاية:
حسناً، إذن، أرى أن رعاياي سوف يمتثلون لك وليس لي.
فقال نوكس: إن الله يحرم على أن آخذ على عاتقي أن آمر أحداً بطاعتي، أو أن أترك الناس أحراراً يفعلون ما يشاءون. ولكن رسالتي أن يلتزم الأمراء والرعايا جميعهم بطاعة الله. وهذا الخضوع لله وللكنيسة المجيدة-يا سيدتي-هو أسمى منزلة يمكن أن يحظى بها الإنسان على هذه الأرض.
فقالت: ولكنكم لستم الكنيسة التي سوف أرعاها وآخذ بيدها، سوف أدافع عن كنيسة رومة، لأني أعتقد أنها كنيسة الله الحقة.
فقال نوكس: لن تكل مشيئتك سبباً يا سيدتي، ولن يجعل مجرد تفكيرك أنت من هذه الفاجرة الداعرة الرومانية القرينة الحقة الطاهرة التي تحمل بلا دنس، ليسوع المسيح ... ولا تعجبي يا سيدتي لأني أطلق على روما، المومس الفاجرة، لأن هذه الكنيسة ملوثة تلوثاً تاماً بكل ألوان الفجور الروحي.
فقالت: لا يحدثني قلبي بهذا.
ولو كان هذا الحديث منقولاً نقلاً أميناً لكان مواجهة محزنة بين الملكية والديمقراطية اللاهوتية، وبين الكاثوليكية والكلفنية. ولو كان لنا أن نصدق نوكس، فإن الملكة تلقت توبيخات دون أن تقابل الأذى بمثله، ولم تزد على أن قالت:
"لقد جاوزت الحد في إيلامي" وانصرفت إلى العشاء، وذهب نوكس إلى كنيسته. وناشد لثنجتون نوكس أن يعامل الملكة برفق أكثر، لأنها أميرة يافعة لم تخضع لأي تحريض أو إغراء (14).
ولم يشعر أتباعه بأنه كان قاسياً عليها. ولما ظهرت في المحافل العامة قال بعضهم بأنها وثنية، وصاح فيها الأطفال بأن الاستماع إلى القداس خطيئة. وأصدر حكام(28/173)
أدنبرة قراراً بنفي الأشخاص الأقذار (كذا) "الرهبان، أعضاء الأخوات الدينية، القساوسة الراهبات، الزناة (15) ". فعزلت ماري هؤلاء الحكام وأمرت بإجراء انتخابات جديدة. وفي سترلنج طرد القساوسة الذين أرادوا أن يقيموا لها القداس والدم ينزف من رءوسهم، "على حين انفجرت هي باكية، حيرة وعجزاً (16) ". واجتمعت الجمعية العامة للكنيسة الوطنية الاسكتلندية وطالبت بمنعها من حضور أي قداس في أي مكان، ولكن لوردات مجلس الشورى أبوا أن يستجيبوا لهذا. وفي ديسمبر 1561 قام خلاف حاد بين المجلس والكنيسة حول توزيع إيرادات الكنيسة. فخص للقساوسة البروتستانت السدس، وللملكة سدس آخر، واختص رجال الدين الكاثوليك (ولا يزالون يشكلون الغالبية) بثلثي الإيراد. فأوجز نوكس هذه القسمة في قوله: أعطى للشيطان ثلثان، وقسم الثلث الأخير بين الشيطان والرب (17). وقبض الكهنة البروتستانت في المتوسط مائة مارك (3. 333 شلنات؟) سنوياً (18).
واستمر رجال الكنيسة الوطنية، طوال العام التالي، ينددون بالملكة، وقد روعتهم التمثيليات والعربدة والصخب وحفلات الرقص والمغازلات التي تجري في بلاط ماري، واقتصدت الملكة في ملاهيها ومباذلها استجابة للاحتجاجات، ولكن القساوسة أحسوا بأن عليها لأن تفعل شيئاً أكثر من هذا، لأنها ما زالت تشهد القداس. وكتب أحد المعاصرين: "أن جون نوكس يرغي ويزيد ويدوي كالرعد من فوق المنبر، إلى حد أني لا أخشى شيئاً أكثر من أنه يوماً ما سيفسد علينا كل شيء، إنه يسود ويتحكم (19) ". وهنا أيضاً اشتبك الإصلاح الديني مع النهضة.
وفي 55 ديسمبر 1562 استدعت ماري نوكس، واتهمته، في حضرة موري ولثنجتون وغيرهما، ببذر بذور الكراهية لها في نفوس أتباعه. ويقول هو بأنه رد عليها: "إن الأمراء والحكام درجوا على اللعب واللهو وتضييع الوقت سدى أكثر منهم في قراءة أعظم كلمات الله والاستماع إليها، وأن العابثين واللاهين أعظم قيمة في أعينهم من الحكماء والجادين والوقورين، الذين قد يستطيعون(28/174)
بشيء من النصح الكريم أن يستأصلوا بعض الغرور والزهو الكامن في نفوس الناس جميعاً، ولكنها صفات تتأصل وتقوى في نفوس الأمراء والملوك بفعل التعليم السيئ" فما كان جواب الملكة-على حد قول نوكس نفسه، إلا أن قالت (في حلم غير معهود فيه): "إذا سمعت عني ما يغضبك تعال وأبلغني إياه ولسوف أصغي إليك. " فرد عليها: "أنا يا سيدتي، مكلف برسالة عامة في كنيسة الرب، وعينت من قبله لأحاسب على خطايا ورذائل الناس جميعاً. ولست مكلفاً بأن آتي لكل فرد على حدة لأظهره على إثمه، فهذا عمل لا ينتهي. وإذا تفضلت جلالتك بحضور المواعظ العامة، فلا يخامرني أي شك في أنك ستعرفين تماماً ما أريد وما أبغض".
وتركته ينصرف في سلام، ولكن استمر الصراع بين العقائد. وفي عيد الفصح 1563 قبض الموظفون المحليون على عدة قساوسة كاثوليك، كانونا قد خالفوا القانون بإقامة القداس، وهددوهم بالموت لوثنيتهم (21). وسجن بعضهم، وهرب آخرون واختفوا في الغابات فأرسلت ماري في طلب نوكس مرة أخرى، وتوسطت للإفراج عن القساوسة المسجونين، فأجابها بأنها إذا طبقت القانون، فأنه يكفل لها انصياع البروتستانت وطاعتهم، وإلا فأنه يعتقد أن هؤلاء البابويين كانوا جديرين بتلقينهم درساً. "فقالت: إني أعد بتحقيق رغبتك". ودامت صداقتها لبعض الوقت. وبأمر منها حوكم أسقف سانت أندروز وسبعة وأربعون قسيساً آخرون لإقامتهم القداس. وحكم عليهم بالسجن. وابتهج الكهنة البروتستانت بهذا. ولكن بعد أسبوع، (26 مايو 1563) عندما شهدت ماري ووصيفاتها البرلمان في أبهى حلة، وهتف بعض الناس "بارك الله ذاك الوجه الجميل" ندد هؤلاء الكهنة البروتستانت بتبرجهن وأذيال ثيابهن وما تدلى منها من حواش. وكتب نوكس: لم تشهد إسكتلندة مثيلاً لهذه الأبهة البغيضة في السيدات من قبل (22).
وترامى إلى سمع نوكس بعد ذلك بقليل أن لثنجتون كان يحاول عقد زواج بين ماري ودون كارلوس ابن فيليب الثاني ملك أسبانيا. وإحساساً منه بأن مثل هذا الزواج سيكون ضربة قاضية على البروتستانتية في اسكتلندة، أعلن نوكس عن رأيه بصراحة في موعظة ألقاها على النبلاء الذين شهدوا البرلمان:(28/175)
والآن أيها اللوردات، وللقضاء على كل شيء، أسمع عن زواج الملكة ... واسمحوا لي أن أقول أيها اللوردات إنه حينما يعترف نبلاء إسكلندة للسيد المسيح برضاهم عن أن يكون أحد الكفار (وكل أتباع البابا كفار) على رأس مملكتكم، فإنكم بذلك تبذلون أقصى ما في وسعكم لإبعاد يسوع المسيح عنها (23).
وفقدت الملكة صوابها، فاستدعته، وسألته-كما يقرر هو نفسه: "ما شأنك بزواجي؟ ومن أنت في هذه الدولة؟ " فأجاب جوابه المشهور "فرد ولد في هذه البلاد نفسها يا سيدتي. ومع أنني لا إرل ولا لورد ولا بارون، في هذه الدولة، فقد اختارني الله (مهما كنت حقيراً في عينيك) عضواً نافعاً فيها (24) " فانفجرت ماري باكية، وأمرته بالانصراف.
وبلغت جرأة نوكس ذروتها في أكتوبر (1563) ذلك أنه أحاط مرة أخرى بالكنيسة الملكية الخاصة جمع من الناس احتجاجاً على القداس الذي كان على وشك أن يقام، ودخل أندروز آرمسترونج وباتريك كرانزتون إلى الكنيسة وأرهبا القسيس حتى أنصرف، فأمرت الملكة التي لم تكن في الكنيسة آنذاك، بمحاكمة هذين الرجلين الكلفنيين بتهمة اقتحام حرمها الخاص. وفي أكتوبر أرسل نوكس كتاباً يأمر فيه "الاخوة من كل الطبقات، الذين آثروا طريق الحق" بأن يشهدوا المحاكمة. وحكم مجلس الملكة بأن هذه الدعوة خيانة عظمى، ودعا نوكس للمثول للمحاكمة أمامها. وحضر نوكس (21 ديسمبر 1563) ولكن حشداً هائلاً من مؤيديه تجمع في الفناء، وعلى الدرجات "حتى وصل إلى باب القاعة التي جلست فيها الملكة ومجلسها" ودافع هو عن نفسه دفاعاً مجيداً إلى حد أن المحكمة برأته، وقالت الملكة "تستطيع يا مستر نوكس أن تعود إلى دارك الليلة. " فأجاب هو "أدعو الله أن يطهر قلبك من رجس البابوية (15) ".
وفي يوم أحد السعف 1564 تزوج "الرسول" الذي لا يقهر، وهو في سن التاسعة والخمسين، زوجته الثانية، مرجريت ستيوارت، التي تربطها(28/176)
بالملكة صلة قرابة بعيدة، وهي في سن السابعة عشرة، وبعد سنة واحدة، تزوجت الملكة للمرة الثانية.
4 - الملكة تقع في شراك الغرام
1565 - 1568
من ذا الذي تستطيع الملكة أن تختاره زوجاً لها، دون أن تقع في ورطة دبلوماسية؟ أميراً أسبانيا؟. ولكن لا بد أن تحتج فرنسا وإنجلترا ويغضب البروتستانت في إسكتلندة. "فرنسا"؟ ولكن إنجلترا لا بد أن تقاوم، حتى بحد السيف، تجدد التحالف الفرنسي الاسكتلندي، "أميراً نمسوياً، الأرشيدوق شارل"؟ ولكن نوكس أنذر وحذر من فوق المنبر، من الاتحاد مع "كافر" كاثوليكي، كما أن إليزابث أخطرتها بأن الزواج من آل هبسبرج-الأعداء القدامى لآل تيودور-يعتبر عملاً عدائياً.
وفي لحظة من الانفعال قطعت ماري العقدة الدبلوماسية. ففي اكتوبر 1564 رأى ماتيو ستيوارت أنه قد آن الأوان للعودة إلى إسكتلندة-وكان ماتيو، إرل لنوكس يعتقد أنه المرشح التالي لعرش إسكتلندة بعد ماري، وكان قد فقد كل أراضيه بمساندته هنري الثامن ضد إسكتلندة، وهرب إلى إنجلترا تفادياً لانتقام الاسكتلنديين آنذاك. ولحق به إلى إسكتلندة بعد قليل ابنه، هنري ستيوارت لورد دارنلي البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، والذي هو، عن طريق والدته، من نسل هنري السابع ملك إنجلترا، مثل الملكة ماري. وفتنت ماري بالشاب الأمرد وأعجبت بمهارته في لعب التنس والعزف على العود، وتجاوزت عن غروره، بوصفه أمراً يلتئم مع طلعته الجميلة، واندفعت في الغرام قبل أن تستطيع أن تتبين فيه الغباء والحمق. وفي 29 يوليه 1565، وعلى الرغم من احتجاج إليزابث ونصف أعضاء مجلسها الخاص، اتخذت ماري من هذا الفتى زوجاً، وأسمته ملكاً. واستقال موري من المجلس وانضم إلى أعداء الملكة العنيدة الجامحة.
ونعمت، لشهور قلائل، بالسعادة المشوبة بالمتاعب. لقد استبد بها توقها الشديد إلى الحب طيلة السنوات الأربع التي قضتها أرملة. وقد أثلج صدرها أن تجد من يرغب فيها. لقد منحت زوجها حبها بلا قيد ولا شرط، وأغدقت عليه كل(28/177)
شيء بلا حدود، قال توماس راندولف سفير إليزابث: "لقد أولته كل ألوان الجلال والرفعة وألقاب الشرف، ولا ينشرح صدرها لأي رجل لا يرضى عنه الملك الفتي، وتنازلت عن إرادتها من أجله هو (26) .. "ولكن الحظ السعيد أفسد عقل الفتى، فأصبح دكتاتوراً مستبداً وقحاً وطالب بأن يشارك الملكة سلطانها. وفي نفس الوقت أقام الحفلات الصاخبة وأسرف في الشراب، وأبعد المجلس، وأصابته نوبات من الحقد، وارتاب في أن ماري ترتكب الزنى مع دافيد رتيشو.
ومن يكون رتبشو هذا؟ أنه موسيقار إيطالي كان قد قدم إلى اسكتلندة 1560، وهو في سن الثامنة والعشرين، في معية السفير (من سافوي). ولما كانت ماري مولعة بالموسيقى، فقد ألحقته بخدمتها كمنظم للمهرجانات الموسيقية، ولقد سعدت بفطنته وسرعة بديهيته، وتنوع ثقافته التي اكتسبها من القارة (أوربا). ولما كان يعرف الفرنسية واللاتينية معرفة جيدة، ويكتب بلغة إيطالية جميلة، فقد اتخذته كذلك سكرتيراً لها، وسرعان ما عهدت إليه بإعداد مراسلاتها الأجنبية وكتابتها. وأصبح مستشاراً لها، وبات قوة لا يستهان بها، وأسهم في توجيه السياسة. وجلس إلى مائدة الملكة يشاركها غذائها، وخلا بها أحياناً إلى ساعة متأخرة من الليل. ومذ رأى النبلاء الإسكتلندين أن رتيشو قد نحاهم عن مكانتهم وحل محلهم، وارتابوا في أنه يناصر الكاثوليك، فإنهم تآمروا على تدميره.
وكان الإيطالي الداهية في بداية الأمر قد سحر لب دارنلي نفسه، فكانا يسرحان ويمرحان معاً وينامان معاً، ولكن على حين أن المهام المنوطة برتشيو وامتيازاته وتكريمه والحفاوة به زادت، فإن حماقة دارنلي هبطت به إلى مستوى العجز السياسي، فانقلب حب الملك للخادم الذي أصبح وزيراً إلى مقت وبغض. ولما حملت الملكة ماري ذهبت الظنون بالملك إلى أنها حملت بولد رتشيو. واعتقد روندولف في صحة هذا بل إنه في الجيل التالي أبدى كواتر ملاحظة ساخرة فقال إن جيمس الول ملك إنجلترا لا بد أن يكون "سليمان الحديث" طالما أن أباه هو دافيد العازف على القيثارة (27). وإذ لعب الويسكي يوماً برأس دارلني، وألهب جرأته، انضم إلى(28/178)
إرل مورتورن، والبارون روثفن وغيرهما من النبلاء في تدبير قتل رتشيو، ووقعوا "عهداً" تعاهدوا فيه على تدعيم البروتستانتية في إسكتلندة، وعلى منح دارنلي "تاج الزواج"-أي كل حقوقه وسلطاته بوصفه ملكاً على إسكتلندة-وأن يكون له الحق في العرش عند وفاة ماري. ووعد دارنلي بحماية الموقعين على "العهد" من نتائج "أية جريمة" قد ترتكب؛ وبإعادة موري وسائر اللوردات المنفيين (28).
وفي 6 مارس 1560 كشف راندولف للورد سيسل النقاب عن المؤامرة (29). وفي 9 مارس نفذت. واقتحم دارنلي حجرة الملكة حيث كانت تتناول العشاء مع رتشيو وليدي آرجيل، وأمسك الملكة واحتجزها، واندفع مورتون وروثفن وآخرون إلى الحجرة، واقتادوا رتشيو خارجها، رغم احتجاجات واعتراضات لا غناء فيها من ماري، وعلى السلم كالوا له الطعنات حتى الموت-ستاً وخمسين طعنة، إحكاماً للتدبير وضماناً للقضاء عليه. ودق أحدهم ناقوس الخطر في المدينة، فسار حشد كبير من المواطنين المسلحين إلى القصر، واقترحوا تمزيق ماري "إرباً (30) " ولكن دارلني أقنعهم بالتفرق، وبقيت ماري طوال الليل وطيلة اليوم التالي سجينة السفاحين في قصر هوليرود. وفي نفس الوقت لعبت على فزع دارلني وحبه لها، فساعدها وصحبها، عندما هربت في الليلة التالية ولجأت إلى دنبار Dunbar وهناك أقسمت أن تنتقم، فأصدرت نداء إلى مؤيديها المخلصين، ليهبوا لنجدتها والدفاع عنها. وأعادت موري إلى المجلس، وربما فعلت هذا رغبة في إشاعة الفرقة بين أعدائها.
وكان أكثر من عرضوا مساعدتها وحمايتها فعالية وأثراً جيمس هيبرون Hepburn، إرل بوثول Bothwell الرابع. وكان شخصية غريبة سيئة الطالع، ولم يكن وسيماً، ولكن قوي الجسم والعاطفة والإرادة. مغامراً في لبر والبحر، يحذق الضرب بالسيف والمغول (سيف مستقيم مستدق الرأس ذو حدين). يرهب الرجال بجرأته الهادئة، ويفتن النساء بحديثه وتهوره واشتهاره بالقدرة على إغوائهن، ولكنه كان كذلك على درجة عالية من التعليم، ومحباً للكتب، ومؤلفاً، في وقت لم يكن فيه كثير من النبلاء الإسكتلنديين يعرفون كتابة أسمائهم. وكرهته الملكة أول الأمر،(28/179)
لأنه أساء إليها في أحاديثه، ولكن هذه الطريقة في كسب اهتمام المرأة. ولما عرفت صفاته العسكرية عينته قائداً للحدود، ولما سمعت بدرايته بالسفن والملاحة عينته أمير الأسطول، ولما علمت برغبته بالزواج من ليدي جين جوردون عجلت بإتمام الزواج.
وكانت الآن تخشى قتلة رتشيو وترتاب في اشتراك زوجها في جريمتهم. ومن ثم ولت شطر بوثول تسأله الحماية والنصح. ولم تندفع ماري إلى هذا الرجل على عجل، بل إن صفات الرجولة فيه: الشجاعة والحيوية والقوة والثقة بالنفس، كانت هي الصفات التي تصبو إليها طبيعتها الأنثوية، ولم تجدها في فرانسوا الثاني أو دارلني. وقد لحظت كيف أن الاحترام لسيفه ولجنوده أدى بالمتآمرين إلى الاختفاء والخضوع، وسرعان ما أحست بالأمان والاطمئنان إلى حد العودة إلى قصر هوليرود، وعلى الرغم من أن نوكس كان قد أقر قتل رتشيو، فإن ماري هدأت من روع القساوسة البروتستانت لبعض الوقت بوضع شروط أفضل لأرزاقهم والإبقاء عليهم. أما عامة الإسكتلنديين الذين لم يكونوا في يوم من الأيام يكنون ذرة من الحب للوردات، فإنهم تعاطفوا معها، وتمتعت الملكة لعدة أشهر بعد ذلك، بشعبية عامة. وكتب السفير الفرنسي يقول: "لم أر الملكة قط تحظى بمثل هذا الحب والتقدير والتكريم، أو بمثل هذه الألفة بين رعاياها (31). "على أنها-عندما اقترب موعد الوضع، انتابتها الهواجس واستبدت بها فكرة أنها لا بد أن تقتل أو تخلع، وهي راقدة لا حول لها ولا قوة ولا عون (32). ولما وضعت، في سلام وأمان، طفلاً ذكراً 19 يونيه 1566 ابتهجت إسكتلندة بأسرها، وكأنها تنبأت بأن هذا الصبي سيكون ملكاً على إسكتلندة وإنجلترا معاً. وكانت ماري في أوجها.
ولكنها كانت تعسة بدارنلي الذي استاء من تجديد ثقتها بموري، ومن إعجابها المتزايد ببوثول. وتناثرت الإشاعات بأنه قد يخطف الطفل الملكي ويحكم باسمه (33). واتهم دارنلي النبلاء بقتل رتشيو، وطالب ببراءته هو. فما كان منهم، انتقاماً منه، إلا أن بعثوا إلى الملكة بدليل اشتراكه في الجريمة (34). واقترح آرجيل ولثنجتون وبوثول على الملكة أن تطلقه، فاعترضت بأن هذا قد يعرض العرش للخطر،(28/180)
فأجاب لثنجتون على هذا بأنه من الميسور إيجاد طريقة لتخليصها من دارنلي دون الإضرار بابنها فلم توافق وعرضت أنها تفضل الخروج من إسكتلندة، وتترك الحكم لدارنلي، وأنهت الحديث بقولها: محذرة، أريد منكم ألا تفعلوا شيئاً يلوث شرفي أو ضميري، ولذلك أتوسل إليكم أن تتركوا المور كما هي، وأن نحتمل حتى يقضي الله فيها برحمته (35) ". وكم من مرة تحدثت آنذاك عن الانتحار (36).
وفي أكتوبر 1566، أو نحو ذلك. وقع آجريل وسير جيمس بلفور وبوثول، وربما كان معهم لثنجتون، على ميثاق بالتخلص من دارنلي. وترامى إلى مسامع إرل لينوكس نبأ هذه المغامرة، وحذر ابنه دارنلي الذي كان يعيش بعيداً عن ماري، مع والده في جلاسجو (ديسمبر 1566). وهناك مرض دارنلي، وكان من الواضح أنه مريض بالجدري، رغم انتشار إشاعة بأنه مسموم. وفي الوقت نفسه حانت الشبهات حول ماري وعلاقتها الآثمة مع بوثول، نتيجة لنمو المودة والألفة بينهما. ونعتها نوكس صراحة بأنها بغي عاهرة (37). ويبدو أنها اتصلت برئيس الأساقفة هملتون لاتخاذ الترتيبات لطلاق بوثول من زوجته. وعرضت على دارنلي أن تزوره، ولكنه بعث إليها برد ملؤه التقريع والإهانة. وعلى الرغم من هذا ذهبت إليه (12 يناير 1567) وأكدت إخلاصها له، وأيقظت فيه من جديد حبه لها، وتوسلت إليه أن يعود إلى أدنبرة، حيث وعدت أن ترعاه وتعيد إليه موفور الصحة والسعادة.
وهنا تدخل الرسائل المعروفة باسم "رسائل الصندوق الفضي" إلى مسرح الحوادث لتكمل المشهد. وتتوقف بقية القصة إلى حد ما على صحة تلك الرسائل، وهذه قضية لا تزال بعد مضي أربعمائة سنة مثار خلاف ومناقشة. وزعموا أن تلك الرسائل وجدت في صندوق صغير من الفضة كانت ماري قد أهدته إلى بوثول، ثم استولى عليه، في 20 يونية 1567، من أحد خدم بوثول، بعض وكلاء النبلاء الذين كانوا يسعون آنذاك إلى خلع الملكة. وفتح الصندوق في اليوم التالي بمعرفة مورتون ولثنجتون وغيرهم من أعضاء المجلس الخاص. وسرعان ما عرضت(28/181)
بعد ذلك على البرلمان إسكتلندة، ثم أخيراً على اللجنة الإنجليزية التي تولت محاكمة ماري في 1568، وكانت عبارة عن ثمانية خطابات وبعض شذرات متناثرة من قصائد شعرية، وكلها فرنسية، غير موجهة لأحد، ولا تحمل تاريخاً، ولكنهم زعموا أنها من ماري إلى بوثول. وأقسم اللوردات أعضاء المجلس أمام البرلمان أن الرسائل صحيحة، ولم يحدث فيها أي تلاعب، ولكن ماري ادعت أنها مزيفة. والظاهر أن ابنها اعتبرها "حقيقة، لأنه أتلفها (38)، ولم يبق إلا صور منها". ولما أطلع ملوك القارة على هذه الصور تصرفوا وكأنما وثقوا من صحتها (39). وارتابت إليزابث أول المر في صحتها، ثم عادت فسلمت بها في شيء من التردد، واول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة الرسائل، هو الارتياب في أن امرأة تتوسط في قتل زوجها ثم تفصح في طيش وإسهاب بالغين عن مقاصدها في رسائل تعهد بها إلى رسل يمكن أن يعترض أحد سبيلها أو يرشوهم، ثم أنه يبدو من المستحيل أن يحتفظ بوثول بمثل هذه الرسائل التي تدينه وتورطه في جريمة. ثم من غير المحتمل بنفس القدر أن يوجد في إسكتلندة أحد حتى الداهية لثنجتون نفسه (المشتبه فيه بصفة خاصة) كان في مقدوره أن يزيف أي جزء هام من هذه الرسائل في سحابة اليوم الذي مضى بين الاستيلاء على الصندوق وعرض الرسائل على المجلس أو البرلمان. والرسالة الثانية التي تحمل أكبر إدانة، مطولة بشكل غريب، وتقع في عشر صفحات مطبوعة. ولو كانت مزيفة، لكانت أكبر عملية تزييف غير عادية، لأن محتواها العاطفي يبدو متطابقاً مع طبيعة ماري، قدر تطابق الكتابة مع خط ماري. وإنها لمثل ماري شريكة ضالعة في قتل دارنلي، مترددة تملؤها الحسرة والأسى، وتشعر بالعار والخجل من أجل ذاك (1).
وسمح الملك العليل المتخوف الواثق بأن ينقل عبر إسكتلندة في محفة ليقيم في بيت
_________
(1) يميل النقاد إلى القول بأن الرسائل حقيقية في معظمها مع بعض التحريف. وذهب لورد أكتون وهو رجل خبير كاثوليكي أمين: إلى أن أربعاً من هذه الرسائل حقيقية (40)؛ وأن الرسالة الثانية مزيفة ويمكن قراءة هذه الرسائل في كتاب أندرو لانج Mystery Of Mary Stuart؛ ص391 - 414.(28/182)
قسيس "كيرك أو فيلد" القديم في ضواحي أدنبرة، وفسرت ماري عدم نقله فوراً إلى قصر هوليرود بأنه خشيت انتقال العدوى إلى طفلهما. وهناك رقد لمدة أسبوعين، حيث كانت ماري تزوره يومياً. وثابرت على تمريضه والعناية به حتى استرد صحبته، وكتب إلى والده (7 فبراير 1567) " ... إن صحتي الجيدة هي .... النتيجة السريعة لحسن الرعاية .... الملكة التي أؤكد لكم أنها كانت طيبة طيلة هذه المدة" ولا تزال، تسهر على العناية بي، على أنها الزوجة الطبيعية المحبة. ومع ذلك لا زلت آمل أن يمن الله علينا بما يدخل الفرح على قلوبنا التي أضنتها المتاعب طويلاً (41) ". ولماذا كانت تقوم على تمريضه والعناية به طيلة أسابيع مملة إذا كانت تعلم أنه كان سيقتل حتماً؟ "إن هذا الجزء من السر الكامن وراء ماري استيوارت. وفي مساء 9 فبراير تركته لتشهد حفل زفاف إحدى وصيفاتها في هوليرود. وفي تلك الليلة حدث انفجار في بيت كيرك أوفيلد، وفي الصباح وجد دارنلي ميتاً في الحديقة.
وسلكت ماري في أول الأمر مسلك المرأة البريئة. فحزنت وولولت وأقسمت أن تثأر. وأمرت أن تجلل غرفتها بالسواد وأن يحجب عنها الضوء، وبقيت تعاني الظلام والوحدة. وأمرت بالتحقيق القضائي في الحادث، وأعلنت عن جائزة من المال والأرض لمن يدلي بأية معلومات تؤدي إلى القبض على الجناة. ولما ظهرت الإعلانات على الجدران في المدينة تتهم بوثول بالقتل، وكان بعضها يورط الملكة في الحادث، صدر بيان يهيب بموجهي الاتهام أن يتقدموا بأدلتهم، ويعد بحماية المبلغين ومكافأتهم، ورفض واضعو الإعلانات أن يظهروا، ولكن إرل لنوكس حث الملكة على تقديم بوثول للمحاكمة على الفور. وأيد بوثول هذا المطلب، وفي 12 أبريل مثل أمام المحققين. ولكن لنوكس لم يبرح جلاسجو، لأنه كان يعوزه دليل الاتهام، أو أنه كان يخشى جنود بوثول في العاصمة. وانتهى التحقيق إلى تبرئة بوثول، وأعلن البرلمان براءته رسمياً. وفي 19 أبريل أقنع آرجيل وهنتلي ومورتون واثني عشر نبيلاً آخرين بتوقيع "عهد آنسلي" يثبتون فيه ثقتهم ببراءته، ويتعهدون بالدفاع عنه، ويوافقون على زواجه من ماري التي أولت بوثول آنذاك عطفها وحبها علانية، وزادت على ما كانت قد أغدقت عليه من هدايا ثمينة.(28/183)
وفي 23 أبريل زارت ابنها في سترلنج، وقد قدر لها ألا تراه بعد اليوم أبداً. وفي طريق عودتها إلى دبلن مع لثنجتون كمن لهما بوثول وجنوده وهاجموهما وحملوهما بالقوة إلى دنبار (4 أبريل). واحتج لثنجتون وهدده بوثول بالقتل، ولكن ماري أنقذته وأطلق سراحه، وانضم بعد ذلك إلى أعداء الملكة. وفي دنبار استأنفت المفاوضات لطلاق بوثول. وفي 3 مايو عادت ماري وبوثل إلى أدنبرة، وأعلنت أنها طليقة من كيد الطلاق. وفي 15 مايو، حين رفض قسيسها الكاثوليكي تزويجهما (هي وبوثول)، تزوجا وفق الطقوس البروتستانتية، أما أسقف أوركني الذي كان فيما مضى كاثوليكياً. وانقلبت ضدها، بوصفها نفساً هالكة، أوربا الكاثوليكية التي كانت يوماً تناصرها. ونأى عنها رجال الدين الكاثوليك، ونادى القساوسة البروتستانت بخلعها، ووقف الأهالي منها موقفاً عدائياً. أما الأقلية التي تعاطفت معها فقد عزت غرامها الطائش إلى جرعة حب أعطاها إياها بوثول.
وفي 10 يونية أحاطت عصابة مسلحة بقصر بورثوك Borthwick حيث كانت تقيم ماري وبوثول، فهرب الاثنان، وكانت ماري في ثياب رجل. وفي دنبار جمع بوثول ألف رجل، سعت ماري وبوثول بهم أن يشقوا طريقهم عائدين عنوة إلى أدنبرة، فاعترضهما في كاريري هل (15 يونية) قوة مماثلة ترفع راية نقش عليها صورة دارنلي الميت وصورة الطفل جيمس السادس. وعرض بوثول تسوية الموضوع بالنزال الفردي؛ ولكن ماري رفضت أن تسمح له بذلك. وارتضت أن تستسلم إذا سمح لبوثول الهرب. وادعت فيما بعد أن زعماء الثوار كانوا قد وعدوها بالولاء لها إذا لحقت بهم دون قتال (41). ولاذ بوثول بالفرار إلى الشاطئ واتخذ طريقه إلى الدنمرك. وهناك بعد عشر سنوات قضاها في السجن بأمر ملك الدنمك قضى بوثول نحبه وهو في سن الثانية والأربعين (1578).
ورافقت ماري معتقليها إلى أدنبرة وسط صيحات الجنود والأهالي. "أحرقوا العاهرة اقتلوها أغرقوها (42) " واحتجزت تحت الحراسة في دار رئيس البلدية وهناك، تحت نافذتها التي ظهرت منها شعثاء الشعر نصف عارية، استمرت(28/184)
الجموع تهددها بأقذع العبارات. وفي 17 يونية، رغم احتجاجاتها واعتراضاتها الشديدة نقلت إلى سجن سحيق وأكثر أمناً، في جزيرة في بحيرة لوك ليفن، على بعد نحو ثلاثين ميلاً إلى الشمال من العاصمة. وهناك طبقاً لما رواه سكرتيرها كلود وضعت توأمين قبل الأوان (44). وأرسلت متلمساً إلى الحكومة الفرنسية ولكنها رفضت التدخل، وأصدرت إليزابث تعليمات إلى مبعوثها بالوعد بحماية ماري، وتهديد النبلاء بأشد العقاب إذا مسوا الملكة بأي أذى، ودعا نوكس إلى إعدام ماري، وأنذر بأن الله سوف يرسل إلى إسكتلندة بطاعون فظيع إذا أبقت على حياة ماري (45). وفي يونية أعاد اللوردات "رسائل الصندوق الفضي"، وتوسلت ماري إلى البرلمان أن يستمع إليها، (إلى ماري)، ولكنه رفض على أساس أن الرسائل أوضحت قضيتها بما فيه الكفاية. وفي 24 يولية وقعت وثيقة تخليها عن العرش، وعين موري وصياً على ابنها.
وبقيت لنحو أحد عشر شهراً أسيرة في قصر لوك ليفن، وخففت قيود السجن تدريجياً فتناولت الطعام مع أسرة وليم دوجلاس صاحب القصر، ووقع أخوه الأصغر جورج في غرامها، وساعدها على الهرب (25 مارس 1568) واعتقلت، ولكنها في 2 مايو عاودت المحاولة وأفلحت. ووصلت تحت حماية دوجلاس الصغير، إلى داخل البلاد حيث التقت بجماعة من الكاثوليك، وركبت في ظلام الليل إلى لسان فورث، وعبرته، وآوت إلى بيت آل هملتون، وهناك في بحر خمسة أيام، تجمع ستة آلاف رجل، وأقسموا أن يعيدوها إلى العرش، ولكن موري دعا البروتستانت في إسكتلندة إلى حمل السلاح. والتقى الجمعان في لانجسيد بالقرب من جلاسجو (13 مايو)، ودحر جيش ماري السيئ التنظيم. وهربت مرة أخرى، وجدت السير على ظهر جوادها في تهور، ثلاث ليال سوياً، إلى دندرينان أبى على خليج سولوراي. وآنذاك أعادت إلى مانحها، الماسة التي كانت إليزابث يوماً قد أهدتها إلى "أختها العزيزة"، مع رسالة تقول "إني أعيد تلك الجوهرة إلى ملكتها، وكانت رمزاً لصداقة ومعونة موعودتين (46) ". وفي 16 مايو 1568 عبرت خليج(28/185)
سولواي في قارب مكشوف لصيد السمك، ودخلت إنجلترا، ووضعت مصيرها بين يدي غريمتها.
5 - التكفير
1568 - 1587
ومن مدينة كارليل Carlisle ( في شمال غرب إنجلترا) أرسلت ماري رسالة ثانية إلى إليزابث. تطلب مقابلتها لتشرح لها موقفها وسلوكها. وكانت إليزابث من حيث المبدأ تناهض مساعدة الثوار ضد أي حكم شرعي. ومن ثم مالت إلى دعوة ماري لمقابلتها. ولكن مجلس شورى الملكة أوقعها في حيرة وارتباك بما ساق لها من تحذيرات: فلو أن ماري سمح لها بالذهاب إلى فرنسا، لأغريت الحكومة الفرنسية بإرسال جيش إلى إسكتلندة لإعادة ماري إلى العرش. ولإعادة إسكتلندة حليفة كاثوليكية لفرنسا. وشوكة في ظهر إنجلترا، وعند ذاك تساند فرنسا دعوى ماري في عرش إنجلترا بقوة السلاح، كما يساندها الكاثوليك الإنجليز. ولو بقيت ماري حرة طليقة في إنجلترا فمن الممكن أن تكون مصدر بؤرة ميسورة لثورة الكاثوليك، وإنجلترا لا تزال في أعماق قلبها كاثوليكية في الكثير الغالب. وإذا أرغمت إنجلترا النبلاء الاسكتلنديين على إعادة مليكتهم إلى عرشها، فإن حياة هؤلاء النبلاء تتعرض للخطر، كما تفقد إنجلترا حلفاءها البروتستانت في إسكتلندة. وربما اتفق سيسل مع هللام في الرأي القائل بأن احتجاز ملكة الاسكتلنديين أو تقييد حريتها قسراً، إنما هو خرق لكل قانون "طبيعي أو عام أو محلي (47) ". ولكنه أحس بأن مسئوليته التي تطغى على كل ما عداها، هي حماية إنجلترا.
ولما كان من إحدى مهام الدبلوماسية أن تخلع على الواقعية ثوب الأخلاقية، فقد أبلغت ماري أنه ينبغي عليها قبل الاستجابة إلى مطلبها في اللقاء مع الملكة إليزابث، أن تبرئ نفسها من عدة اتهامات أمام لجنة تحقيق. فأجابت ماري بأنها ملكة، ولا يمكن أن تحاكم أمام مندوبين عاديين، وبخاصة من بلد آخر. وطلبت أن تكون لها حرية العودة إلى إسكتلندة أو الذهاب إلى فرنسا، كما طلبت أن تلتقي بمورتون ولثنجتون في حضرة إليزابث. ووعدت بإثبات إدانتهما في قتل دارنلي. وفي 13 يولية 1568 أمر المجلس الإنجليزي بنقلها من كارليل (لقربها الشديد من(28/186)
الحدود) إلى قصر بولتون بالقرب من يورك. وهناك خضعت ماري للسجن البسيط بناء على وعد من إليزابث: "ضعي نفسك بين يدي دون تحفظ، ولن ألقي بالاً إلى أي شيء يسيء إليك. وسيكون شرفك في مأمن من أي خدش. ولسوف تعادين إلى عرشك (48) ". ولما هدأت إليزابث من روع ماري بهذا الشكل، وافقت الأخيرة على تعيين ممثلين لها في لجنة التحقيق، وحاولت أن ترضي إليزابث بادعائها قبول المذهب الأنجليكاني، ولكنها أكدت لفيليب ملك فرنسا أنها لن تتخلى عن قضية الكاثوليك (49). ومن ذلك الوقت باتت ماري وإليزابث فرسي رهان في سباق للنفاق، الأولى تتلمس لنفسها العذر بأنها سجين ملكي خانوه وغدروا به، والثانية بأنها ملكة تكتنفها المخاطر.
واجتمعت لجنة التحقيق في يورك في أكتوبر 1568. ومثل ماري فيها سبعة أشخاص أهمهم جون لزلي أسقف روس الكاثوليكي، ولورد هريز Herries من إقليم المستنقعات الغربية في إسكتلندة، وهو كاثوليكي أيضاً، وعينت إليزابث ثلاثة من البروتستانت، هم دوق نورفولك، وارل سسكس، وسير رالف سادلر. ومثل أمام اللجنة موري ومورتن ولثنجتون الذين عرضوا "رسائل الصندوق الفضي" على الأعضاء الإنجليز سراً. وقالوا إنه إذا أقرت ماري أن يكون موري وصياً على العرش، وقبلت أن تعيش في إنجلترا على راتب تقاعد كبير تدفعه لها إسكتلندة، فلن تذاع الرسائل. ولكن نورفولك- الذي كان يحلم بالزواج من ماري، ومن ثم يصبح ملكاً على إنجلترا بعد وفاة إليزابث، رفض هذا العرض. أما سسكس فقد كتب إلى إليزابث بأنه يبدو من المرجح أن تكسب ماري قضيتها (50).
وأمرت إليزابث بأن تنتقل المحاكمة إلى وستمنستر. وهناك وضع موري الرسائل أمام المجلس، وانقسم الرأي حول حجية الوثائق، ولكن إليزابث قضت بأنها لن تستقبل ماري قبل أن تثبت عدم صحتها. وطلبت ماري أن تطلع على الرسائل الأصلية أو وصورتها ولكن اللجنة رفضت هذا الطلب، ولتم تطلع ماري قط على أصل الرسائل أو صورها (51). وفي 11 يناير 1569 انفضت اللجنة دون أن تصدر قراراً. واستقبلت إليزابث موري ثم أعيد إلى إسكتلندة ومعه الرسائل. ونقلت(28/187)
ماري- وهي غاضبة متحدية إلى سجن أشد قيوداً في تتبري Tutbury على نهر ترنت، واحتجت الحكومات الأجنبية، ولكن إليزابث أجابت بأنهم لو اطلعوا على الأدلة التي قدمت إلى اللجنة لاعتبروا معاملتها لماري لينة هينة، لا قاسية (52). وأشار السفير الأسباني على فيليب بغزو إنجلترا ووعده بمعاونة شمال إنجلترا الكاثوليكي له، ولكن فيليب تشكك في مثل هذه المعاونة، كما أنذره دوق ألفا بأن إليزابث قد تأمر بقتل ماري عند أول بادرة للغزو أو الثروة.
وقامت الثورة. ففي 14 نوفمبر 1569 قاد ارل نورثمبرلند وارل وستمورلند جيشاً قوامه 5. 700 من الثوار إلى درهام، وأطاحوا بمكتب الطائفة الأنجليكانية وأحرقوا كتاب الصلوات العامة، واستردوا المذبح الكاثوليكي، واستمعوا إلى القداس، ودبروا هجوماً على تتبري لإطلاق سراح ماري، ولكن إليزابث فوتت عليهم الفرصة بنقل ماري إلى كونفتري في 23 نوفمبر 1569. وعجل ارل سسكس على رأس جيش معظمه من الكاثوليك، بإخماد الثورة. وأمرت إليزابث "بشنق المقبوض عليهم من المتمردين وأتباعهم المتواطئين معهم، وإلا تنقل جثثهم بل تظل في أماكنها حتى تتساقط إرباً (53) ". وبهذا أمكن التخلص من نحو ستمائة رجل وصودرت أملاكهم للتاج، وفر نورثمبرلند ووستمورلند إلى إسكتلندة. وفي فبراير 1570 قاد ليونارد داكريس ثورة أخرى من الكاثوليك، ولكنه هزم أيضاً، وهرب عبر الحدود.
وفي يناير 1570 كتب نوكس إلى سيسل يشير عليه بإصدار أمره بقتل ماري فوراً، "فإنك إذا لم تستأصل الجذور عادت الأغصان التي تبدو ذابلة متكسرة إلى النمو والازدهار (54)، وكان قد فرغ آنذاك من كتابه" تاريخ الإصلاح الديني في مملكة إسكتلندة"- وهو كتاب لا يدعي عدم التحيز: قصصي غير دقيق، ولنه مفعم بالحيوية زاخر بالمعلومات عن سير الأفراد، ذو أسلوب طريف فردي لاذع لأنه صادر عن واعظ لا يخشى في الحق لومة لائم، يصارح كلاً بما فيه دون مواربة. وهو رجل موجع قاس ولكنه عظيم، حقق حلمه في القوة والسيطرة أكثر مما فعل كلفن،(28/188)
وكان يبغض من كل قلبه، ويناضل في بسالة وجرأة، ويستنفد آخر خفقة من الطاقة الجبارة إلى حد لا يصدق لإرادته الحديدية. وما جاء عام 1572 حتى كان قد استنزف قوته، فلم يعد يستطيع المشي- إلا إذا أعانه عليه أحد. ولكنه كان يلوذ بمن يأخذ بيده يوم الأحد حتى يصل إلى المنبر في كنيسة سانت جيلز St. Giles وألقى آخر موعظة له في 9 نوفمبر 1572، ورافقه كل شعب الكنيسة إلى مسكنه، ووافاه الأجل في 24 نوفمبر، وهو في السابعة والستين من العمر، فقيراً كيوم ولدته أمه. "إنه لم يتجر بكلمة الرب" وترك للأعقاب أن تحكم عليه. لن يدرك هذا العهد الجحود ماذا كان بالنسبة لبلدي، ومع ذلك فإن الأجيال القادمة سوف تضطر أن تكون شواهد عدل على الحقيقة. (55) إن قلة من الناس هي التي أثرت تأثيراً حاسماً في معتقدات الشعب، وإن قلة من أهل عصره ضارعته في تشجيعه للتعليم وفي التعصب وفي ضبط النفس. ولقد اقتسم نوكس وماري روح إسكتلندة، وكان هو يمثل الإصلاح الديني، وهي تمثل عصر النهضة، واندحرت ماري لأنها- شأنها شأن إليزابث- لم تعرف كيف تزاوج بينهما.
وحاولت ماري- مثل نمر قلق هائج حبيس- كل إمكانات الهرب ووسائله. وفي 1571 قام روبرتودي ريدولفي، وهو فلورنسي من أصحاب المصارف ذوي النشاط في لندن- قام بدور الوساطة بين ماري والسفير الأسباني، وأسقف روسي، ودوق ألفا، وفيليب ملك أسبانيا، والبابا بيوس الخامس. واقترح أن يرسل ألفا إلى إنجلترا قوات أسبانية من الأراضي الوطيئة، وأن تغزو إنجلترا في نفس الوقت قوة كاثوليكية من إسكتلندة، وأن تخلع إليزابث عن العرش، وتنصب ماري ملكة على إنجلترا وإسكتلندة، وأن يتزوجها نورفولك بهذه الخطة، فلم يوافق عليها موافقة صريحة، ولم يكشف عنها لأحد. وأقرتها ماري بصفة مؤقتة. (56) ودفع البابا لريدولفي بعض المال على ذمة المشروع، ووعد بأن يوصي فيليب بقبوله، ولكن فيليب علق رأيه على موافقة ألفا الذي دمغ المشروع بالسخافة والحمق، على أنه مشروع خيالي، وأنه لن ينتهي لا بكارثة على أصدقاء ماري. وضبطت رسائل ريدولفي ونورفولك لدى من قبض عليهم من خدم ماري والدوق. وأودع السجن(28/189)
نورفولك وروس وعدد من النبلاء الكاثوليك. وحوكم نورفولك بتهمة الخيانة، وصدر الحكم عليه. وترددت إليزابث في التصديق على حكم الإعدام على مثل هذا النبيل البارز العظيم. ولكن سيسل والبرلمان الإنجليزي وأقطاب الكنيسة الأنجليكانية، طالبوا بإعدام نورفولك وماري كليهما. واتخذت إليزابث حلاً وسطاً فأرسلت نورفولك إلى السجن (2 يونية 1572). ولما ترامت إلى إنجلترا أنباء مذبحة سانت برثلميو (22 أغسطس) تعالت الصيحات من جديد، للمطالبة بإعدام ماري (58). ولكن إليزابث أصرت على الرفض.
ولن نستطيع أن ندرك مدى يأس ماري ومدى شعورها بفداحة الذنب ألا إذا تذكرنا أنها قضت في الأسر قرابة تسعة عشر عاماً. وكان مكان احتجازها يتغير، باستمرار، مخافة أن العطف الذي يشعر به نحوها أهالي البلاد المجاورة أو سجانوها، يأتي بمؤامرات أخرى أو يغري بها، وكانت شروط احتجازها تتسم بالروح الإنسانية، حيث سمح لها بتسلم معاشها- الفرنسي- 1200 جنيه سنوياً- وأعطتها الحكومة الإنجليزية مبلغاً محترماً للطعام والعلاج الطبي والخدم ووسائل الترفيه وسمح لها بحضور القداس وغيره من الصلوات الكاثوليكية، وحاولت أن تشغل الساعات الطوال بالتطريز والقراءة، وفلاحة البستان واللعب مع كلابها المدللة. ولما تلاشت آمالها في الحرية، فقدت حرصها على العناية بنفسها، ولم تتريض إلا قليلاً، وأصبحت مترهلة بدينة، وأصيبت بالروماتيزم، وتورمت رجلاها في بعض الأحيان إلى حد لا تستطيع معه المشي. وفي 1577، وهي بنت الخمسة والثلاثين عاماً فقط، ابيض شعرها فغطته بشعر مستعار.
وعرضت، في يونية 1583، أن تنزل عن أي حق لها في تاج إنجلترا، إذا أطلق سراحها، وألا تتصل بالمتآمرين قط، وأن تعيش في أي مكان في إنجلترا تختاره إليزابث، وألا تبتعد عن مقر إقامتها بأكثر من عشرة أميال. وأن تخضع لرقابة جيرانها وأشرافهم. ولكن أشير على إليزابث بألا تثق فيها.
واستأنفت ماري مشروعات الهرب، وبعد وسائل متنوعة سعت إلى الاتصال(28/190)
بسفيري فرنسا وأسبانيا وحكومتيهما، وبأنصارها في إسكتلندة وبممثلي البابا. وكانت الرسائل تهرب منها وإليها في ثياب الغسيل وفي الكتب، وفي العصي، وفي الشعر المستعار، وفي بطانة الأحذية. ولكن جواسيس سيسل وولسنهام كشفوا عن كل مؤامرة في حينها. وحتى بين الطلبة والقساوسة في كلية الجزويت في ريمس، كان لولسنهام عملاء ووكلاء يبلغونه بكل شيء.
ولكن الهالة الرومانسية التي أحاطت بماري الأسيرة حركت الشفقة والعطف في قلوب كثير من الشبان الإنجليز، كما ألهبت حماسة الشبان الكاثوليك. وفي 1583 دبر فرانسيس ثروكمورتون، وهو كاثوليكي، وابن أخت المغفور له سفير إليزابث لدى فرنسا، دبر مؤامرة أخرى لإطلاق سراح ماري، ولكن سرعان ما كشف أمره وعذب حتى أعترف. وصرخ مولولا: "لقد كتمت كل أسرارها، تلك التي كانت اعز ما لدي في هذه الدنيا بأسرها (59) ". ومات بضربة من فاس جلاد وهو في سن الثلاثين.
وبعد ذلك بعام واحد، أقنع وليم باري Parry، وهو أحد الجواسيس الذين يعملون في خدمة سيسل، أقنع القاصد الرسولي في باريس، بأن يقدم إلى جريجوري الثالث عشر طلباً بالغفران التام، على أساس أنه سوف يقدم على محاولة خطيرة لإطلاق سراح ماري ستيوارت وإعادة إنجلترا إلى حظيرة الكاثوليكية. ورد وزير البابا (30 يناير 1584) بأن قداسته اطلع على التماس باري، وابتهج لما اعتزم القيام به، وأنه سيرسل إليه الغفران المطلوب، ويكافئه على جهوده (60). وحمل باري هذا الرد إلى سيسل. واتهم جاسوس إنجليزي آخر- يدعى ادموند نفيل- اتهم باري بتحريضه على قتل إليزابث. وقبض على باري، واعترف، فشنق، ومزقت أوصاله (61)، وهو لا يزال ينبض بالحياة.
ولما اشتد غضب مجلس الملكة إليزابث بهذه السلسلة الطويلة من المؤامرات، وجزع وفزع لمقتل وليم أورلنج، صاغ "التعهد بالتكاتف والترابط"، يتعهد الموقعون عليه بألا يرتضوا قط خلفاً لمليكتهم، أي شخص جرت لمصلحته أية محاولة للقضاء على إليزابث، وأن يعذبوا حتى الموت أي فرد اشترك في مثل هذه(28/191)
المحاولة. ووقع هذا التعهد كل أعضاء المجلس ومعظم أعضاء البرلمان، كما وقعه ذوو المكانة في طول إنجلترا وعرضها، وبعد سنة أسبغ البرلمان على هذه الوثيقة صفة القانون النافذ المفعول أو المعمول به.
ولكن هذا لم يحل دون مزيد من المؤامرات. ففي 1586 أغرى جون بللارد وهو قسيس كاثوليكي روماني، أنتوني بابنجتون، وهو شاب ثري كاثوليكي، أغراه بتدبير مؤامرة لقتل إليزابث وغزو إنجلترا بجيوش من فرنسا وأسبانيا والأراضي المنخفضة، وتنصيب ماري على العرش. وكتب بابنجتون إلى ماري بهذا، وأبلغها أن ستة من النبلاء الكاثوليك اتفقوا على التخلص من مغتصبة العرش، وسألها إقرارا للخطة. وفي خطاب مؤرخ في 17 يولية 1586 قبلت ماري مقترحات بابنجتون، ولم توافق موافقة صريحة على قتل إليزابث، ولكنها وعدت بالمكافأة عند نجاح المشروع (62). وكان الرسول الذي عهد إليه سكرتيرها بحمل هذا الرد عميلاً سرياً لولسنهام. فأخذ صورة من كل رسالة وأرسلها إلى ولسنهام، وأرسل أصل الرسالة إلى بابنجتون. وفي 14 أغسطس قبض على بابنجتون وبللارد، وبعد ذلك بقليل أودع السجن نحو ثلاثمائة من أبرز الكاثوليك، واعترف الزعيمان، وأغرى سكرتير ماري بالاعتراف بصحة خطابها (63). وأعدم ثلاثة عشر من المتآمرين، وأطلقت الصواريخ النارية في سماء لندن، ودقت النواقيس، وأنشد الأطفال التسابيح شكراً لله على نجاة الملكة إليزابث. ودوت الصيحات في إنجلترا البروتستانتية تطالب بالموت لماري.
وفتشت حجرات ماري، وجمعت كل أوراقها، وفي أكتوبر نقلت إلى قلعة فوذرنجاي Fotheringay. وهناك جرت محاكمتها أمام لجنة مؤلفة من ثلاثة وأربعين من النبلاء. ولم يسمح لها بندب من يدافع عنها، ولكنها دافعت عن نفسها في عزم وإصرار. وأقرت باشتراكها في مؤامرة بابنجتون، ولكنها أنكرت إقرارها للقتل، واحتجت بأنها، كإنسان سجن ظلماً وعدواناً لمدة تسعة عشر عاماً، لها كل الحق في تخليص نفسها بأية وسيلة كانت. وأدانتها اللجنة بالإجماع. وطلب البرلمان إلى إليزابث أن تصدر أمرها بإعدامها. ولكن هنري الثالث ملك فرنسا قدم طلباً مهذباً(28/192)
للرأفة. ولكن إليزابث قالت إن مثل هذا الطلب جاء بسند ضعيف من حكومة ذبحت آلافاً من البروتستانت دون محاكمة. ودافع معظم إسكتلندة الآن عن مليكتهم، ولكن ابنها قام بوساطة تعوزها الحماسة، حيث ارتاب في أنها أنكرته وتبرأت منه في وصيتها لأنه بروتستانتي. وأوعز ممثله في لندن إلى ولسنجهام إلى أنه- ابنها، جيمس السادس- ولو أنه حريص على ألا تقتل أمه، سوف يعتبر الموضوع منتهياً، ويقنع بأن يثبت إليزابث البرلمان الإنجليزي حقه في أن يخلف إليزابث على العرش، وتزيد إليزابث من مبلغ المعاش الذي ترسله إليه. وضيع الإسكتلندي المحاذر الحريص- الوقت سدى، بدافع من الطمع شديد، إلى حد أن أهالي أدنبرة كانوا يطلقون عليه صيحات الاستهزاء والاستهجان، وينعون كالبوم في الشوارع (64). ولم يبق بين ماري وبين الموت إلا تردد إليزابث.
وانقضت قرابة أشهر ثلاثة تجرر الأيام فيها أذيالها متثاقلة، قبل أن تحزم إليزابث المنهوكة المنزعجة أمرها، ثم لم تفعل شيئاً. كانت قادرة على السماحة والرحمة: ولكنها سئمت حياة الفزع من أن يعاجلها بالقتل في أية لحظة أنصار امرأة تدعي حقاً في عرشها، كما وضعت في اعتبارها خطر غزو إنجلترا من جانب فرنسا وأسبانيا وإسكتلندة احتجاجاً على إعدام ملكة، كما فكرت في إمكان موتها هي، ميتة طبيعية أو بيد أثيمة، وفي وقت يتيسر فيه لماري وللكاثوليكية أن ترثا إنجلترا. وحثها سيسل على توقيع التصديق على حكم الإعدام، ووعد بأن يتحمل هو كل مسئولية نتائجه، وفكرت في أن تتفادى هي حسم الموضوع بالإلماع إلى سير أمياس بولت Amias Paulet، المعين لحراسة ماري، بأنه يمكن أن يضع حداً لهذا الارتباك، بأن يأمر بإعدام ماري، بناء على مجرد فهم شفوي بأن الملكة أو مجلسها يرغبان في ذلك، ولكن بولت أبى أن يتصرف دون أمر كتابي من إليزابث، وأخيراً وقعت التصديق على الحكم، وحمله سكرتيرها وليم دافيسون إلى المجلس الذي أرسله في الحال إلى بولت قبل أن تغير إليزابث رأيها.
أما ماري التي كانت طيلة هذا الإمهال الطويل، قد عاودها الأمل، فإنها لم تصدق النبأ في بداية الأمر، ثم واجهته بشجاعة. وكتبت إلى إليزابث رسالة مؤثرة،(28/193)
سألتها فيها أن تسمح "لخدمي البؤساء الذين باتوا بلا صديق أو معين ... أن ينقلوا رفاتي ليدفنوها في أرض مقدسة، مع سائر ملكات فرنسا". وقيل إنها في صباح اليوم الذي أعدمت فيه، نظمت باللاتينية قصيدة قصيرة، تشيع فيها كل الحماسة والرشاقة اللتين تتسم بهما ترانيم العصور الوسطى:
يا إلهي لقد وضعت كل أملي فيك
أنقذني الآن يا يسوع العظيم،
إني أرسف في الأغلال وأعاني أشد الآلام، إني أضرع إليك،
متلهفة باكية راكعة، أسبح بحمدك، وأتوسل إليك
أن تخلصني
وطلبت أن يسمح لها بالاعتراف أمام كاهنها الخاص الكاثوليكي، فلم تجب إلى طلبها، وأحضر لها سجانوها بدلاً منه قسيساً أنجليكانياً، فرفضته. وارتدت الملابس الملكية لتقابل بها الموت، وصففت شعرها المستعار بعناية، وغطت وجهها بخمار أبيض، وتدلى من عنقها صليب ذهبي، كما كان في معصمها صليب من العاج. وتساءلت لماذا منعت وصيفتها من شهود إعدامها، فقيل لها إنهن قد يحدثن اضطراباً، فوعدت بأنهن لن يفعلن شيئاً. فرخص لها أن تصحب اثنتين منهن وأربعة رجال، وسمح لنحو ثلاثمائة من الإنجليز بأن يشهدوا تنفيذ الإعدام، في القاعة الكبرى في حصن فوذرنجاي (8 فبراير 1587) وسألها اثنان من الجلادين المقنعين مغفرتها، وتلقياها منها. ولما بدأت وصيفتاها في الصراخ والعويل منعتهما قائلة "لقد تعهدت بالنيابة عنكما"، ثم ركعت وصلت ووضعت رأسها في المقصلة، وسقط الشعر المستعار عن رأسها المفصول عن جسدها، وكشف عن شعرها الأشيب. وكانت في سن الرابعة والأربعين.
الصفح والمغفرة للجميع، والعفو والمغفرة لماري التي بذلت الجهد بشجاعة لتكون ملكة عادلة بهيجة على حد سواء. ولسنا نعتقد أنها، وهي التي سهرت طويلاً على العناية بزوجها حتى استرد صحته وعافيته، كانت قد رضيت عن قتله، ويمكن أن نصفح عن المرأة الشابة التي تخلت عن كل شيء مقابل حب مهماً كان(28/194)
طائشاً، وينبغي أن نرثى للمرأة البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها، والتي قدمت إلى إنجلترا تلتمس ملجأ وملاذاً، فلاقت بدلاً منه تسعة عشر عاماً في غيابة السجن، ويمكننا أن ندرك محاولاتها الجبارة لاسترداد حريتها. كما يمكن كذلك أن نغفر للملكة العظيمة (إليزابث) التي أصر مستشاروها على أن احتجاز ماري بين جدران السجن، أمر حيوي بالنسبة لأمن لإنجلترا وسلامتها، والتي رأت أن حياتها وسياستها مهددتان دوماً بالمؤامرات من أجل إطلاق سراح منافستها، ماري، وإعادتها إلى العرش، والتي أطالت مدة هذا الأسر البغيض القاسي، والتي لم تقنع نفسها بإنهائه بالتصديق على إعدام ماري. وكانتا امرأتين نبيلتين، الواحدة منهما نبيلة سريعة الانفعال، والأخرى نبيلة وحكيمة عاقلة مع شيء من التردد. وترقد كلتاهما الآن في انسجام، الواحدة قرب الأخرى، في كنيسة وستمنستر وقد سويت الخلافات بينهما، في ظل الموت والسلام.(28/195)
الفصل السادس
جيمس السادس والأول
1567 - 1625
1 - جيمس السادس ملك اسكتلندة
1567 - 1603
توج جيمس السادس ملكاً على إسكتلندة (29 يولية 1567) حين كان عمره ثلاثة عشر شهراً، حين كانت أمه سجينة في لوكليفن. وكان عمره ثمانية أشهر حين قتل دارنلي الذي يفترض أنه والده، كما كان يبلغ من العمر عشرة أشهر حين رأى أمه للمرة الأخيرة، ولم تعد له إلا اسماً وخيالاً تغشيه وتلطخه مأساة بعيدة مزرية. وتربى على أيدي لوردات نهازين باحثين عن مصلحتهم ومعلمين معادين لأمه. وتلقى قدراً كبيراً من العلوم الإنسانية، وقدراً أكبر مما ينبغي في اللاهوت، وقدراً ضئيلاً جداً في الأخلاقيات، حتى أصبح أعظم العلماء المسرفين في الشراب في أوربا.
وتولى الحكم باسمه أربعة أوصياء على العرش على التوالي- موري، لنوكس، مار، ثم مورتون، وكلهم عدا واحداً، ماتوا ميتة غير طبيعية. ودافعت جماعات النبلاء المتنافسة عن شخص الملك حصن سلطانهم وقوتهم. وفي 1582 احتجزه بعض اللوردات البروتستانت تساندهم الكنيسة الاسكتلندية الوطنية، في قلعة رثفن Ruhven خشية أن يخضع لنفوذ قريبه الكاثوليكي ازمي ستيوارت، فلما أطلق سراحه وعد بالدفاع عن العقيدة البروتستانتية، ووقع تحالفاً مع إنجلترا البروتستانتية، ولما بلغ السابعة عشرة من العمر، نهض بالمهام الفعلية للملك.
وكان شاذاً بين الملوك. وكان سلوكه خشناً غير مهذب، وكانت مشيته بشعة، وصوته عالياً، وكان حديثه محنة يبتلي بها سامعيه لما فيه من الغلظة والحذلقة المفتقرة(28/196)
إلى الحكمة. وقال أحد المراقبين الذين لا يكنون له كثيراً من الحب: "كانت معرفته باللغات والعلوم وشئون الحكم أكثر من أي فرد في اسكتلندة (1) " ولكن نفس المراقب أضاف: "أنه كان مغروراً بشكل غير عادي". وربما كانت هذه السمة أو الميزة ضرورية للمحافظة على الحياة في خضم المتاعب، بقدر ما هي المظهر المضلل لرجل لا يستطيع أن يسترجع في ذاكرته يوماً لم يكن فيه ملكاً. ولا بد أيتحلى بشيء من الذكاء المنقذ ليحتفظ بتاجه على رأسه في إسكتلندة، ويلبس تاجاً أعظم في إنجلترا حتى يموت ميتة طبيعية. وكان متقلباً إلى حد ما بالنسبة للجنس، فتزوج من الأميرة الدنمركية الكاثوليكية، آن، ولكن لم يكن به ميل شديد إلى النساء، وانغمس في التودد إلى المحظيات إلى حد ساعد على القيل والقال.
وكان عليه أن يشتق طريقه بالحيلة والدهاء وسط الأفكار العنيفة المتصارعة في أيامه. فإن أسرة جيز في فرنسا، والملك فيليب في أسبانيا، والبابا في روما، تعاهدوا معه على استعادة إسكتلندة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. ولكن الكنيسة الاسكتلندية الوطنية كانت تحسب عليه أنفاسه خشية أن ينحرف عن مذهب كلفن. ولكنه لم يحرق الجسور من خلفه، فتبادل الرسائل المهذبة مع الدول الكاثوليكية، وكان به ميل إلى تخفيف القوانين المفروضة على العبادة الكاثوليكية فأطلق خفية سراح أحد الجزويت، وتواطأ في تهريب آخر (2). ولكن المؤامرات الكاثوليكية أغضبته، وأثرت فيه البروتستانتية الظافرة في إنجلترا. وتنبأ بما قدر له مع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية.
ولم تكن هذه الكنيسة رفيقاً مشجعاً مريحاً، وما حلت سنة 1583 حتى كان قساوستها يشكلون الأغلبية العظمى من رجال الدين الاسكتلنديين، وكانت مواردهم ضعيفة وحظهم من علوم الدنيا ضئيلاً، ومن ثم انصرفوا إلى العبادة والورع والتقوى، وتحلوا بالشجاعة والإقدام، وكدوا وجدوا في إعادة الكنائس المهملة، ونظموا المدارس، وتولوا أمر الصدقات، وحموا الفلاحين من ظلم اللوردات، وألقوا المواعظ المسهبة التي استوعبها ووعاها مستمعوهم، بدلاً من الكتب والمادة(28/197)
المطبوعة. وفي جلسات الكنيسة وفي المجامع الإقليمية وفي الجمعية العامة، حظي الأكليروس الجديد بقوة تنافس تلك القوة التي كانت هيئة الكنيسة الكاثوليكية قد استخدمتها ضدهم ببراعة. ولما كانوا يزعمون أنهم يتلقون الوحي من عند الله، ومن ثم فإنهم معصومون من الخطأ في ناحية العقيدة أو في الناحية الأخلاقية، فإنهم فرضوا على السلوك العام والخاص رقابة أقسى بكثير منها على عهد حراس أو حماة المذهب القديم المتراخين. وفي كثير من المدن فرضوا غرامات على الاسكتلنديين الذين لم يحضروا الصلوات البروتستانتية، وفرضوا توبة علنية، وفي بعض الأحيان عقوبات بدنية، على ما يضبط من خطايا (3). وروعوا بانتشار الفجور والزنى ففوضوا رؤساء الكنائس، في أن يتنبهوا بتشديد خاص إلى أية انحرافات جنسية، وأن يبعثوا بتقارير عنها إلى المجامع الكنسية البروتستانتية عند انعقادها، وصعقوا بالفحوش والفجور في المسرح الإنجليزي فسعوا إلى تحريم التمثيل المسرحي في إسكتلندة، فلما عجزوا عن ذلك، حظروا على أتباعهم أن يشهدوه، وفعلوا ما فعله أسلافهم من اعتبار الهرطقة جريمة عقوبتها الإعدام. وتعقبوا السحرة في حماسة بالغة وأقروا إعدامهم حرقاً (4). وأقنعوا البرلمان بأن يصدر قانوناً يفرض عقوبة الإعدام على أي قسيس يقرأ القداس ثلاث مرات، ولكن هذا المرسوم لم يطبق على أية حال، وعندما ترامت إليهم أنباء مذبحة سانت برثلميو، دعت الكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية إلى تدبير مذبحة مماثلة للكاثوليك في إسكتلندة، ولكن الحكومة أغفلت هذا النداء (5).
وباستثناء ادعاء نزول الوحي على القساوسة وعصمتهم من الخطأ، كانت الكنيسة الوطنية الاسكتلندية (البروتستانتية) أكثر النظم ديمقراطية في عصرها. وكان قسيسو الدوائر أو الأقسام يختارون رؤساء الكنائس شريطة موافقة شعب الكنيسة، وكان جمهور المؤمنين يشهدون الجلسات والمجامع والجمعية العامة. وأهاجت وأغضبت هذه الإجراءات الديمقراطية البرلمان الأرستقراطي والملك الممسوح بالزيت. ولما كان جيمس يفكر ويجادل-وربما يعتقد ويؤمن-في أنه يحكم بمقتضى الحق الإلهي، فإنه شكا من أن "جماعة من القساوسة الملتهبين حماسة وغيرة(28/198)
في الكنيسة البروتستانتية، ملكوا قيادة الشعب على هذا النحو، وأنهم عندما استساغوا طعم الحكم وتلذذوا بحلاوته، بدءوا يفكرون في شكل ديموقراطي ... لقد شوهوا سمعتي وافتروا عليَّ في مواعظهم، لا لأية رذيلة في شخصي، بل لأني ملك اعتبروه أكبر رذيلة (6) ". وبذلك استؤنف نزاع العصور بين الكنيسة والدولة.
واتخذ النزاع آنذاك شكل هجوم أو حملة من القساوسة على الأساقفة. وكان هؤلاء-وهذا تراث كاثوليكي للكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية-يختارون شكلاً بواسطة القساوسة ولكن كانوا فعلاً يعينون، وغالباً ما يفرضون على الأكليروس بواسطة الوصي أو الملك. وكانوا يسلمون قدراً كبيراً من إيرادات الكنيسة في الحكومة. ولم يجد القساوسة في الكتب المقدسة سنداً أو أساساً للنظام الأسقفي، ومن ثم عقدوا العزم على التخلص منه في إسكتلندة، على أنه لا يلتئم مع التنظيم الشعبي السائد في الكنيسة الاسكتلندية الوطنية الجديدة.
وكان زعيمهم أندرو ملفيل، اسكتلندياً عنيفاً متحمساً هيأته الطبيعة ليرث عباءة جون نوكس. وبعد أن أنهى تعليمه الجامعي في سانت أندروز، تابع دراسته في باريس، ورضع لبان مذهب كلفن على يد بيز B (ze في جنيف. ولدى عودته إلى إسكتلندة (1574) عين، وهو في التاسعة والعشرين من العمر، رئيساً لجامعة جلاسجو، فأظهر مقدرة وكفاية في إعادة تنظيم المناهج. وقواعد الضبط والسلوك فيها. وفي 1578 أسهم في جمع "الكتاب الثاني لقواعد الانضباط والسلوك" الذي ندد بالنظام الأسقفي باسم المساواة الكهنوتية. ودافع عن الفصل النهائي بين مجالات كل من الكنيسة والدولة. وكان لهذا أثره في الفصل بينهما في الولايات المتحدة، ولكنه طالب بحق القساوسة في تدريب الحكام المدنيين على ممارسة سلطاتهم "على أساس كلمة الله (7) ". على أن جيمس، على أية حال، أراد أن يكون حاكماً مطلقاً مثل هنري الثامن وإليزابث، وآمن بأن نظام الأساقفة ضروري للإدارة الكنسية، كما أنهم وسطاء مريحون بين الكنيسة والدولة.(28/199)
وفي 1580 "لعنت" الجمعية العامة للكنسية الوطنية الإسكتلندية (البروتستانتية) وظيفة الأسقف ودمغتها بأنها "حماقة من ابتداع الإنسان". وصدر الأمر إلى جميع الأساقفة- تحت التهديد بعقوبة الحرمان من الكنيسة، بأن يكفوا عن مباشرة أعمالهم، والتقدم إلى الجمعية العامة بطلب الترخيص لهم بأن يكونوا مجرد كهنة عاديين. ونبذت الحكومة "الكتاب الثاني لقواعد السلوك والانضباط"، وتمسكت بأن الحرمان من الكنيسة لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا صدقت عليه الدولة. وفي 1581 رشح لنوكس، وكان آنذاك وصياً على العرش، روبرت مونتجمري رئيساً لأساقفة جلاسجو. ولكن قساوسة جلاسجو البروتستانت أبوا أن ينتخبوه، ولكنه على الرغم من هذا أصر على أن يتولى مهام منصبه، فقررت الجمعية العامة بزعامة ملفيل حرمانه من الكنيسة (1582)، ورضخ مونتجمري وانسحب. واتهم ملفيل بالتحريض على (الفتنة)، فرفض المحاكمة المدنية، وطالب بأن يحاكم أمام محكمة كنسية. ولما أدين بتهمة احتقار المحكمة، هرب إلى إنجلترا (1584). وأقنع جيمس البرلمان بأن يعلن أنه يعتبره خيانة: رفض الخضوع للقضاء المدفى، وتدخل القساوسة في شئون الدولة، ومقاومة حكومة الأساقفة، وأية اجتماعات كنسية لا يرخص الملك بعقدها. فآثر كثير من القساوسة أن يلحقوا بملفيل في منفاه، على الامتثال لهذه الأوامر. فما كان من جيمس، تمسكاً بسيادته العليا واستمتاعاً بها، إلا أن أمعن في حكم الإرهاب: فعوقب الكهنة لأنهم صلوا من أجل اخوتهم المنفيين، وأعدم اثنان آخران بتهمة التآمر.
وقاوم رجال الدين والمترددون على كنائسهم، بما عهد في الاسكتلنديين من عناد وصلابة، وشوهت النشرات التي لم يعرف مصدرها سمعة الملك. ونددت الأغاني بطغيانه والعار الذي لحق به من أجله، وحتى النساء كتبن له نقداً ساخراً لاذعاً ينذرنه فيه بالجحيم وسوء المصير. وتناقض شيئاً فشيئاً ما كان يحصل عليه أساقفته من الأموال، وسلموا الدولة منها الأقل فالأقل، ووجد جيمس أنه بات صفر اليدين، بلا مال-وهو مصدر قوة إرادته، واشتد ضعفه سنة بعد أخرى، وأقر برلمان 1529، بموافقته التامة، مرسوماً يحتفظ للكنيسة الاسكتلندية الوطنية (البروتستانتية)(28/200)
بحريتها، ويعيد إليها سلطاتها في الشئون القضائية والضبط، ويلغي نظام الأساقفة. وعاد المنفيون.
وإذ اشتدت جرأة ملفيل عن ذي قبل، واجه جيمس بقوله: "خادم الرب الأبله، وألقى عليه الحقيقة اللاهوتية التي لا ريب فيها، في 1596، بمثل الثبات ورباطة الجأش اللتين واجه بهما جريجوري السابع الإمبراطور هنري الرابع قبل ذلك بخمسمائة عام (1077) فقال: "إن في إسكتلندة ملكين ومملكتين. فهناك يسوع المسيح ومملكته، وهي في الكنيسة، وأحد رعاياها الملك جيمس ... وما هو يملك ولا رئيس ولا لورد، ولكن مجرد عضو (8) ". وقال-دافيد بلاك-وهو قسيس كنيسة سانت أندروز، لجماعة المصلين (1596) إن جميع الملوك أبناء للشيطان، وأن إليزابث كافرة ملحدة. وأن جيمس هو الشيطان بعينه (9). واحتج السفير الإنجليزي، واستدعى مجلس الشورى القس بلاك للتحقيق، فأبى أن يذهب قائلاً إن الجرم الذي يرتكب من فوق المنبر لا يخضع إلا لمحكمة الكنيسة، هذا فضلاً عن أنه تلقى رسالته من عند الله. وأمر جيمس بمحاكمته غيابياً. فذهبت إليه لجنة من القساوسة، ولكن الملك لم يعالج الأمر بنجاح، بل على العكس، طالب بأن تخضع لتصديقه كل قرارات الجمعية الكنسية والبرلمان. ودعا القساوسة إلى صوم عام، وأعلنوا منذرين متشائمين، أنه مهما حدث من شيء "فإنهم أبرياء من دم جلالته (10) ".
وتجمع حشد من المشاغبين حول المبنى الذي كان يقيم فيه جيمس (17 ديسمبر 1596) فهرب إلى قصر هوليرود. وفي صباح اليوم التالي غادر أدنبرة مع كل حاشيته. وأعلن إلى سكانها، عن طريق مناد ينطق باسمه، أنها لم تعد تصلح لتكون عاصمة، وأنه لن يعود إليها إلا لتنفيذ الحكم على الثوار والعصاة، وأمر كل الأكليروس وغير المتوطنين بمغادرة المدينة. ولما لم يجد المشاغبون أحداً ليقتلوه، تفرقوا. وحزن التجار على فقدانهم ما كان يعود عليهم من ربح في التعامل مع الحاشية. وتساءل المواطنون في دهشة: هل كان النزاع يستحق الاستشهاد الاقتصادي، وعاد جيمس إلى المدينة في ظفر مشوب بالغضب (1 يناير 1597)،(28/201)
وعرضت الجمعية العامة المنعقدة في برث، خضوع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية، ووافقت على ألا يعين أي قسيس في المدن الرئيسية دون موافقة الملك وشعب الكنيسة، وألا يتعرض القساوسة في خطبهم لقرارات البرلمان أو مجلس الشورى، وألا يهاجموا شخص أي إنسان من فوق المنبر. وسمح للقساوسة البروتستانت بعد ذلك بالعودة إلى العاصمة (1597). ولكن أعيد نظام الأساقفة. وغطت هدنة كئيبة منكودة على الحرب القديمة بين الكنيسة والدولة.
وبرزت في الأدب الاسكتلندي تلك في الحقبة شخصيتان عظيمتان: الملك نفسه، وأشهر معلميه. وكانت سيرة حياة جورج بوكانان مدهشة، فقد ولد في سترلنجشير في 1506، ودرس في باريس، وخدم العلم في فرنسا وإسكتلندة، ونهل الحماسة الفلسفية والسياسية من محاضرات جون ميجر، وعاد من أجل الحب والعلم إلى باريس: ورجع أدراجه إلى إسكتلندة هرطيقاً هجاءً لاذعاً، وأودعه السجن الكاردينال بيتون، فهرب إلى بوردو، وقام هناك بتدريس اللاتينية، وكتب قصائد ومسرحيات بلغة لاتينية جيدة إلى حد كبير، وشاهد تلميذه مونتاني يمثل في إحدى هذه الزاويات، ورأس إحدى الكليات في كوامبرا، وسجنته محكمة التفتيش الأسبانية لسخريته من الأخوة (في فرقة دينية)، وعاد إلى إسكتلندة وفرنسا، ثم إسكتلندة حيث تولى تعليم ماري ملكة إسكتلندة (1562)، وعين رئيساً للجمعية العامة (1567) وأعلن صحة "رسائل الصندوق الفضي" واتهم بتزييف قسم منها (11). وأدان-ماري بلا هوادة ولا رحمة في كتابه "كشف النقاب عن حكم ماري" (1571) وتولى التدريس لابنها على الرغم من اعتراضها على ذلك، وتخلى عن هذه المهمة (1582). وجد وجاهد في كتابه "تاريخ إسكتلندة" (1579) لتخليص تاريخ بلاده من "القيود الإنجليزية والغرور الإسكتلندي". وأكد من جديد في رسالته "الحكم الشرعي في إسكتلندة"-على الرغم من تلميذه الذي سيصبح عما قريب ملكاً مستبداً-أكد نظرية العصور الوسطى القائلة بأن المصدر الوحيد للسلطة السياسية، بعد الله، هو الشعب، وأن كل مجتمع يرتكز على عقد اجتماع ضمني يقوم على التزامات وقيود متبادلة بين المحكومين والحكام،(28/202)
وأن لإرادة الأغلبية، بحق أن تحكم الكل، وأن الملك يجب أن يخضع للقوانين التي يقرها ممثلو الشعب، وأنه يمكن بحق أيضاً مقاومة الطاغية أو عزله أو قتله (12). فأنت ترى أن أسطورة العقد الاجتماعي ظهرت هنا قبل هوبز بقرن من الزمان، وقبل مجيء روسو بقرنين. وشجب البرلمان الاسكتلندي كتاب بوكانان، وأحرقته جامعة أكسفورد، ولكن كان له أثر شديد. وذهب صمويل جونسون إلى القول بأن بوكانان هو العبقري الوحيد الذي أنجبته إسكتلندة (13). وأسبغ هيوم، في تواضع، هذا الامتياز على نابيير (عالم رياضيات اسكتلندي 1550 - 1617، مخترع اللوغاريتمات)، أما المؤرخ الاسكتلندي كاريل فقد خص به نوكس، حيث كان من أشد المعجبين به. أما جيمس السادس فقد كان له آراؤه الخاصة في هذه المسألة.
وكان الملك مزهواً فخوراً بكتبه قدر زهوه وفخره بحقوقه وامتيازاته. وفي 1616 نشر مجلداً ضخماً "أعمال الأمير، الأعظم والأقوى جيمس"، وهو مهدي إلى يسوع المسيح. وكتب قصائد، ونصائح إلى الشعراء، وترجمة "للمزامير"، ودراسة لسفر الرؤيا، ورسالة عن "الشياطين" وكتابين من (قطع الثمن) دفاعاً من الملكية المطلقة، أحدهما وهو "إلهية الملكية" (1598) كان كتاب نصائح لابنه هنري في فن الحكم وواجباته، أكد حكم الكنيسة على أنه "ليس بالجزء اليسير من مهمة الملك". أما الثاني وهو "القانون الحقيقي للملكيات الحرة" فقد شرح فيه الحكم المطلق ودافع عنه في فصاحة هائلة: إن الملوك مختارون من عند الله، ما دامت الأحداث الهامة تفرضها العناية الإلهية، وأن تعيينهم ومسحهم بالزيت يشكلان سراً مقدساً لا يجوز النطق به، مثلهما في ذلك مثل أي سر مقدس آخر. ومن ثم كان لهم كل الحق في أن يكون حكمهم مطلقاً، وأن معارضتهم تعتبر حماقة، وجريمة، وإثماً من شأنه أن يفضي إلى الضرر أكثر من أي طغيان. إن هذا الذي كان بالنسبة لإليزابث أسطورة نافعة، أصبح بالنسبة لجيمس مبدأ عاطفياً، ولد لأم ملكة. وورث عنه ابنه شارل النظرية، ودفع الثمن أو تلقى القصاص.
ومهما يكن من أمر فإن إنجلترا لم تتنبأ في 1598 بما حدث في 1649، وبعد(28/203)
أن شرب جيمس نخب البروتستانتية وتعهد بالتزامها، اعترف مجلس شورى الملكة إليزابث به وريثاً للتاج الإنجليزي، عن طريق أمه ماري. وبعد مضي أربعة أيام على وفاة إليزابث، بدأ جيمس (5 أبريل 1603) رحلة بهيجة مرحة من أدنبرة إلى لندن، وتوقف، متمهلاً، في الطريق، ليحتفي به النبلاء الإنجليز، وفي 6 مايو وصل إلى لندن التي أخذت زخرفتها وزينت للترحيب به-انحنت الجماهير له، وقبل اللوردات يديه. وبعد ألف سنة من صراع عقيم لا غناء فيه اتحدت الأمتان (ولم يتحد البرلمان قبل 1707) وهكذا كان عقيم إليزابث نافعاً مثمراً.
2 - جيمس الأول ملك إنجلترا
1603 - 1614
أي صنف من الرجال كان قد أصبح جيمس في سبع وثلاثين سنة؟ كان متوسط القامة، ذا رجلين ضعيفتين، وكرش صغير، يرتدي سترة ضيقة وبنطلوناً محشوين أو مبطنين حتى يمنعا وصول نصال السفاحين إلى جسمه، وكان شعره ذا لون أسمر بني، وخلداه متوردين، وأنفه مكور، تشع من عينيه الزرقاوين نظرات الارتياب والحزن، وكأنما كان الرب خجلاً من جسمه. وكان كسولاً نوعاً ما، فآثر الراحة من عناء العمل، اعتماداً منه على إليزابث، وكانت لغته فظة، يتميز له وتسليته بالخشونة، وكان يتمتم ويتلعثم كثيراً، وكثيراً ما كان لسانه الخشن يفلت بغير حساب، وكان مزهواً كريماً، جباناً مخادعاً، لأنه كثيراً ما تعرض للخطر، وخدع وغرر به، مستعداً لتبادل الإساءة، وليصفح ويلتمس الصفح، من ذلك أنه عندما أنكر جون جب أنه ضيع بعض الوثائق الهامة، فقد جيمس صوابه، وركله بقدمه، فلما عثر على الأوراق، جثا أمام معاونه الذي أخزاه وأذله، وأبى أن ينهض حتى يصفح عنه جب. وكان متسامحاً وسط جو من التعصب وعدم التسامح. وكان في بعض الأحيان صلباً قاسياً، ولو أنه عادة حنون عطوف. وكان يرتاب في ابنه هنري لشعبيته البالغة، ويحب ابنه شارل إلى حد الحمق. ولم تشب علاقته بالنساء أية شائبة، ولكنه كان ميالاً إلى ملاطفة الشبان الوسيمين. وكان يؤمن بالخرافات، كما كان عالماً. وكان سخيفاً لاذعاً، يؤمن بالعفاريت والسحرة في الوقت الذي يعطف فيه على بيكون وجونسون، يحسد العلماء،(28/204)
ويولع بالكتب، وإن من أول قراراته بوصفه ملكاً أنه منج جامعتي أكسفورد وكمبردج حق إرسال ممثلين لهما إلى البرلمان. ولما رأى مكتبة بودلي صاح قائلاً: "لو لم أكن ملكاً لآثرت أن أكان جامعياً، ولو قدر لي أن أسجن، وكانت لي الخيرة من أمري، لما آثرت مكاناً أسجن فيه غير هذه المكتبة، ملازماً لهؤلاء المؤلفين الأفاضل والأساتذة الذين قضوا نحبهم (14). وصفوة القول أنه كان رجلاً يعوزه الاتزان والحزم، إلى حد ما، ولو أنه كان في قرارة نفسه سمحاً ودوداً، يسخر منه الأذكياء، ولكن يغفر له قومه، لأنه حتى اقتربت نهايته المحزنة، وفر لهم الأمن والطمأنينة والسلام.
ولم يكن جيمس يحب الماء كثيراً إلى حد أنه كره استخدامه لأغراض الغسل. وكان يدمن على الشراب، وأباح في بعض حفلات حاشيته أن تسرف النساء والرجال في الشراب حتى تلعب الخمر برءوس الجميع وينتهي الأمر إلى ثمل عاطفي. ودرجت الحاشية على الإسراف في الملابس وفي الحفلات، إسرافاً لم يسبق له مثيل في بلاط إليزابث. وكانت إليزابث تميل إلى التمثيليات التنكرية، ولكن أما وقد كتب بن جونسون الرواية، وصمم إنيجو جونز الملابس والمناظر، وقام بالأدوار فيها اللوردات العظام والسيدات الفاتنات، وكأنما ارتدى الجميع، من شدة البذخ، أموال المملكة، فإن الفن الخرافي الغريب غير الواقعي بلغ الآن ذروته. وبلغ الاستهتار والخلاعة. والفساد في البلاط مبلغاً لم يسبق له مثيل. حتى جاء على لسان سيدة في إحدى روايات جونسون قولها. "أعتقد أنني إذا لم أجد من يحبني غير زوجي المسكين، فلسوف أشنق نفسي (15) ". وقبل أفراد الحاشية "هدايا" قيمة مقابل استغلال نفوذهم في الحصول على المراسيم والتراخيص والاحتكارات والمناصب لمن يطلبها. من ذلك أن البارون مونتاجو دفع عشرين ألفاً من الجنيهات مقابل تنصيبه وزيراً للخزانة (16). وروى بسند ضعيف، أن رجلاً حساساً رقيقاً مرض وفاضت روحه عندما سمع كم دفع أصدقاؤه مقابل تعيينه قاضياً محلياً (17).
ولم يول جيمس مثل هذه المسائل كلها اهتماماً كبيراً. ولم يجهد نفسه كثيراً في شئون الحكومة. وترك إدارة البلاد لمجلس الشورى الذي يتألف من ستة من(28/205)
الإنجليز ومثلهم من الاسكتلنديين، والذي يرأسه روبرت سيسل الذي عينه إرل سالسبوري (1605). وورث سيسل كل شيء إلا الصحة. فقد أقعده عن الحركة ظهره الأحدب، حتى بات منظره يبعث على الحزن والأسى. ولكنه تحلى بكل ما كان لأبيه من فطنة في اختيار الرجال وتوجيههم، وتشبث صامت وكياسة ماكرة، تفوق بها جميعاً على منافسيه المحليين وعلى أفراد أي بلاط أجنبي. ولما مات "كلب الصيد الصغير" وقع جيمس تحت سيطرة شاب وسيم هو روبرت كار، وعينه إرل سومرست، فهيأ له أن يخلف في مجال السياسة والإدارة، من هم أكبر منه سناً، وأكثر صقلاً وعلماً، مثل فرانسيس بيكون وإدوارد كوك.
وكان كوك تجسيداً للقانون، وحارساً أميناً عليه، أشهرته محاكمته للورد إسكس في 1600، ورالي في 1603، والمشتركين في مؤامرة البارود في 1605. وخرج على الناس في 1610 برأي تاريخي:
يبدو في كتبنا أنه في حالات كثيرة، يطغى القانون العام على قرارات البرلمان، وفي بعض الأحيان يعتبرها باطلة. لأنه إذا كان قرار البرلمان مخالفاً للحق العام أو العقل .... أو يستحيل تطبيقه، فإن القانون العام لا بد أن يلغيه أو يقضي عليه بالبطلان (18).
وربما كان البرلمان لا يستسيغ مثل هذا الرأي، ولكن جيمس عين كوك رئيساً للمحكمة العليا (1613) وعضواً في مجلس الشورى. وانقلب من كونه رجل الملك، إلى رجل يزعج الملك ويقض مضجعه، يستنكر البحث أو التحقيق في الآراء الخاصة، ويؤيد حرية أعضاء البرلمان في الكلام، وتناول بالتجريح سلطة الملك المطلقة في مذكرات لاذعة تؤكد أن الملوك ليسوا إلا خدماً للقانون. وفي 1616 اتهمه منافسه بيكون بارتكاب أعمال محظورة، وعزل كوك، ثم أعيد إلى البرلمان ليستمر في تزعم حركة المقاومة ضد الملك. وأودع سجن لندن 1621، ولكن سرعان ما أطلق سراحه. ومات غير نادم (1634)، مخلصاً أشد الإخلاص لنصوص القانون(28/206)
وصرامته، وترك لنا أربعة مجلدات من "مجموعة القوانين" لا تزال تشكل مرجعاً هاماً في القضاء الإنجليزي (1).
وفي نفس الوقت كان جيمس يتابع مع البرلمان مناقشته التي كان لا بد أن تتمخض في عهد ابنه عن الحرب الأهلية وقتل الملك. إنه لم يكتف بممارسة كل السلطات التي كان هنري الثامن وإليزابث قد سيطرتا بها على مشرعيهما المتذمرين أو الذين روعهم التهديد، إنه صاغ دعاواه على أنها أوامر إلهية. فأعلن إلى برلمان 1609:
إن مقام الملكية هو أسمى شيء في الأرض. لأن الملوك لا يقومون مقام الله على الأرض ويجلسون على عرش الله. فحسب، بل إن الله نفسه يسميهم آلهة أو أرباباً .... إن الملوك يسمون بحق آلهة، لأنهم يمارسون شيئاً شبيهاً بالسلطة الإلهية على الأرض. إنكم لو تدبرتم في صفات الله لوجدتموها مجتمعة ومتفقة في شخص الملك. إن الله قادر على الخلق أو التدمير والإفناء، على البناء والهدم، وفق مشيته، يبعث الحياة أو يرسل الموت، يحاسب كل الناس ولا يحاسبه أحد ... وللملوك نفس القدرة أو القوة. إنهم يصنعون رعاياهم أو يحطمونهم، ولهم القدرة، ولهم الكلمة العليا على كل رعاياهم، وفي كل الأمور، ومع ذلك لا يحاسبهم أحد إلا الله وحده. ولهم السلطة في أن يجعلوا ... من رعاياهم قطع شطرنج يحركونها كيف شاءوا- فالبيدق يطيح
_________
(1) يروي لنا أوبري أن زوجة كوك الثانية-وهي أرملة سيروليم هاتون كانت حاملاً عندما بنى بها كوك؛ وعندما آوى إلى الفراش وضع يده على بطنها فلحظ جنيناً يتحرك؛ فسألها: "ما هذا؟ لحم في الوعاء فأجابت وإلا لما تزوجت طباخاً (هذا تلاعب بالألفاظ في الإنجليزية Cook-Coke) ويمكن أن نضيف أنها كانت قد رفضت الزواج من منافسه بيكون.(28/207)
بأسقف أو بفارس- فيرفعون أياً من رعاياهم إلى عنان السماء أو يخسفون به الأرض، وكأنما يتصرفون في أموالهم (20).
وكانت هذه الخطوة إلى الوراء، لأن النظرية السياسية في العصور الوسطى، كانت قد جعلت الملك دوماً. نائباً عن الشعب صاحب السيادة. والبابوات فقط هم الذين أعلنوا أنهم نواب الله على الأرض. ولكن نضفي على هذه الدعوى أفضل واجهة فلسفية، يجدر بنا أن نفترض أن البابوات- بوصفهم الرؤوس العليا للسيادة والسلطان في العصور الوسطى، كانوا قد آمنوا بأن الدوافع الفردية في الإنسان قوية إلى حد أن الإبقاء على النظام الاجتماعي لا يتأتى إلا بأن يغرس في نفوس الناس، إجلال تقلدي للسلطة الدينية، وللبابوات بوصفهم صوت الله وممثليه. ولكن إضعاف الإصلاح الديني للسلطة البابوية أو هدمها. كان قد ترك السلطات السياسية مسئولة في المقام الأول، أو في النهاية، عن النظام الاجتماعي. وحكم هؤلاء أيضاً بأن السلطة البشرية الخالصة عرضة للتحدي، إلى درجة أنها لا تقوى على كبح جماح النزعات غير الاجتماعية في الإنسان، بطريقة فعالة أو من الناحية الاقتصادية. ومن ثم نمت نظرية حق الملوك الإلهي، جنباً إلى جنب، مع تطور القومية والانتقاص من سلطة البابوات. وبعد أن تولى الأمراء اللوثريين في ألمانيا، السلطات الروحية التي كانت للكنيسة القديمة في بلادهم، أحسوا بأنهم محقون في أن يحيطوا أنفسهم بالهالة الإلهية التي اعتقد معظم الحكام والملوك قبل 1789 أنها أساسية لا يستغني عنها للسلطة الأدبية والسلام الاجتماعي. وأخطأ جيمس في التعبير عن هذا الافتراض بوضوح أكثر مما ينبغي، وفي أشد صيغة تطرفاً.
وكان من الجائز أن يتقبل البرلمان، قبولاً نظرياً (مع ابتسامات خاصة) هذه الاستبدادية الملكية، إذا كان أعضاؤه، كما كان الحال مع إليزابث وهي في أوج عظمتها، من كبار ملاك الأراضي- الذين كانوا مدينين لملوك التيودور بأعمال جليلة بطولية. ولكن مجلس العموم الآن كان يضم بين أعضائه البالغ عددهم 467 عضواً، كثيراً من ممثلي الطبقات التجارية الناشئة الذين لا يستسيغون سيطرة ملكية بلا حدود على أموالهم- إلى جانب كثير من البيوريتانيين الذين ينكرون على الملك(28/208)
دعواه في أن يحكم ديانتهم. وحدد المجلس حقوقه في إغفال جريء لألوهية جيمس، أو حقوقه الإلهية. وأعلن أنه له القول الفصل في صحة انتخاب أعضائه. وطالب بحرية الكلام، وحصانة أعضائه ضد القبض عليهم في أثناء انعقاده، وأثبت أنه بغير هذا لا يكون للبرلمان أي معنى أو قيمة. واقترح أن يتولى التشريع في المسائل الدينية، وأنكر سلطة الملك في الفصل في مثل هذه المسائل دون موافقة البرلمان. على أن الأساقفة الأنجليكانيين على أية حال طالبوا بحث المجمع الكنسي الأنجليكاني في الفصل في الأمور الكنسية، على أن تخضع قراراته لموافقة الملك. وأبلغ رئيس مجلس العموم جيمس أنه ليس للملك أن يسن قانوناً، ولكن يستطيع فقط أن يعتمد أو يرفض أي قانون يجيزه البرلمان. وأعلن المجلس في يونية 1604: "أن امتيازاتنا وحرياتنا هي حقوقنا وتراثنا القانوني ... وليست بحال من الأحوال أقل شأناً من أراضينا ومتاعنا ... ولا يمكن انتزاعها منا، دون أن يكون في ذلك إساءة صارخة إلى المملكة بأسرها (21) ".
وهكذا نسجت خيوط النزاع التاريخي بين "حقوق" الملك و "امتيازات" البرلمان، هذا النزاع الذي قدر له أن يخلق ديموقراطية إنجلترا، بعد مائة من السنين توالت فيها الانتصارات والهزائم.
3 - مؤامرة البارود
1605
وفوق الصراع الاقتصادي والسياسي استعرت نار الحرب الدينية، ضاربة فيه بجذور عميقة. وكانت معظم النشرات التي سممت جو، عبارة عن حملات عنيفة شنها البيوريتانيون على الأساقفة والطقوس الأنجيليكانية، أو الأنجيليكانيون على صرامة البيوريتانيين وعندهم، أو شنها هؤلاء وهؤلاء على مؤامرات الكاثوليك لإعادة إنجلترا إلى حظيرة البابوية. ولم يقدر جيمس فظاعة هذه البغضاء، وكان يحلم "بوفاق شبه ودي" بين البيوريتانيين والأنجليكانيين، ولهذا الغرض دعا زعماء الفريقين إلى مؤتمر في "هامبتون كورت" (14 يناير 1604). ورأس هو الاجتماع، وكأنه "قسطنطين آخر"، وأدهش الطرفين كليهما بعلمه اللاهوتي(28/209)
وبراعته في الجدل والمناقشة، ولكنه أصر على "مذهب واحد، ونظام واحد، وديانة واحدة شكلاً وموضوعاً (22) "، وأعلن أن النظام الأسقفي أمر لا معدي عنه. وذهب أسقف لندن إلى أن الملك ملهم من عند الله، "وأنه لم ير له مثيل منذ عهد المسيح (23) ". ولكن البيوريتانيين شكوا من أن الملك تصرف وكأنه طرف في الدعوى، أكثر منه حكماً أو قاضياً فيها، ولم يتمخض المؤتمر عن شيء اللهم إلا القرار التاريخي الذي لم يكن يتوقعه أحد، إلا وهو إعداد ترجمة جديدة للكتاب المقدس. وأصدر المجمع الكنسي الأنجليكاني في 1604 بعض القوانين التي تطلب من كل رجال الدين إتباع القواعد الكنسية الأنجليكانية. وفصل الذين رفضوا الامتثال، وسجن آخرون، واستقال كثيرون، وهاجر فريق آخر إلى هولندا وأمريكا.
وجلب جيمس على نفسه الخزي والعار بإحراق اثنين من طائفة الموحدين (الذين يرفضون التثليث ويقولون بالتوحيد) بتهمة الشك في ألوهية المسيح، برغم البراهين التي قدمها الملك إليهم (1612). ولكنه أحسن صنعاً في أنه لم يجز بعد ذلك الإعدام بسبب الخلاف الديني، فكان هذان الاثنان آخر من لقي حتفه بتهمة الكفر في إنجلترا. وباطراد التحسن في الحكومة الدنيوية، أخذت تسود. في بطء، الفكرة القائلة بأن التسامح الديني ينسجم مع الأخلاق العامة والوحدة الوطنية، وتغزو ما كان راسخاً في الأذهان، بطريقة تكاد تكون شاملة، من أن النظام الاجتماعي يتطلب ديانة وكنيسة لا ينازعهما أحد. وحاول ليونارد بوشر في كتابه "السلام الديني" (1614) أن يدلل على أن الاضطهاد الديني يوسع هوة الخلاف ويؤدي حتماً إلى النفاق، ويضر بالتجارة، وذكر جيمس بأن "اليهود والمسيحيين والأتراك المسلمين متسامحون في القسطنطينية، ومع ذلك فهم جميعاً مسالمون ويعيشون في سلام (24) " على أن بوشر هذا يرى أن الأفراد الذين تشوب عقيدتهم شائبة الخيانة-ولعله يقصد الكاثوليك الذين يرفعون البابا فوق منزلة الملك-ينبغي أن يحرم عليهم عقد الاجتماعات، أو الإقامة في أبعد من عشرة أميال من مدينة لندن.(28/210)
كان جيمس في أغلب الأحوال دوجماتياً متسامحاً (الجزمية، الدوجماتية: توكيد الرأي أو القطع به، بفطرته ودون مبرر كاف، أو دون أن يكون مبنياً على مقدمات سليمة موثوقة). لقد أغضب البيوريتانيين بتشجيعه الألعاب الرياضية في أيام الآحاد، شريطة حضور الصلوات الأنجليكانية أولاً. وكان ميالاً إلى إرخاء قبضة القانون على الكاثوليك. وبرغم معارضته روبرت سيسل والمجلس، أوقف قوانين العصيان، وأباح للقساوسة دخول الريف وإقامة القداس في الدور الخاصة. وعلى طريقته الفلسفية غير المحكمة، راوده حلم التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية في العالم المسيحي (25). ولكن عندما تكاثر عدد الكاثوليك بفضل هذه البارقة من النور والأمل، وندد البيوريتانيون بتساهله، أجاز تجديد قوانين إليزابث العادية للكاثوليك، والتوسع فيها وتطبيقاتها (1604). من ذلك أن إرسال أي فرد للدراسة في جامعة أو معهد لاهوتي في الخارج كان يعاقب عليه بغرامة قدرها مائة جنيه. ونفيت وأبعدت كل الإرساليات الكاثوليكية، وحرم أي تعليم كاثوليكي. وفرض على كل الكاثوليك الذين يمتنعون عن إقامة الصلوات الأنجليكانية غرامة قدرها عشرون جنيها في الشهر، وسيتتبع أي تخلف عن دفع مثل هذه الغرامات مصادرة الممتلكات الأصلية أو الشخصية، والاستيلاء على الماشية في أرض المقصر في الدفع، وعلى أثاثه وملابسه، لمصلحة التاج (26).
ورأى أشباه المخبولين من الكاثوليك أنه لم يعد أمامهم الآن من علاج لهذه الحالة إلا القتل. وكان روبرت كاتسبي قد أشهد أباه يعني من السجن بتهمة العصيان في عهد إليزابث، وانضم إلى ثورة اسكس ضد الملكة. وهو الذي فكر الآن في مؤامرة البارود لنسف قصر وستمنستر، في الوقت الذي يجتمع فيه الملك والأسرة المالكة، واللوردات والنواب لافتتاح البرلمان. وأشرك معه في المؤامرة توماس ونتر، وتوماس برسي، وجون رايت، وجي فوكس Guy Fawkes، وتعاهد الرجال الخمسة فيما بينهم وأقسموا على سرية الموضوع، ووثقوا عهدهم بتناول القربان المقدس من يد مبعوث جزويتي اسمه جون جيرار، واستأجروا داراً ملاصقة للقصر، وظلوا يعملون ستة عشر ساعة يومياً ليحفروا نفقاً من قبو إلى قبو، وأفلحوا(28/211)
فيما أرادوا، ووضعوا ثلاثين برميلاً من البارود تحت قاعة الاجتماع في مجلس اللوردات مباشرة. وعطل تكرار تأجيل انعقاد المجلس مرة بعد أخرى، تنفيذ مشروع المؤامرة، تعطيلاً مشوباً بالقلق والشك. وطيلة العام ونصف العام كان على المتآمرين أن يزكوا نار الغضب في صدورهم، فكم خامرهم الشك في فضيلة أو صواب مغامرة يروح ضحيتها كثير من الأرواح البريئة. مع من يظن الكاثوليك بلا هوادة ولا رحمة أنهم مذنبون. وسأل كاتسبي، رغبة في إعادة الطمأنينة إلى نفوس المتآمرين-سأل هنري جارنت أسقف الجزويت في إنجلترا: هل يجاز في الحرب الاشتراك في أعمال قد تودي بحياة ناس غير محاربين. فأجاب جارنت بأن كل الشرائع السماوية تجيز هذا الأمر، ولكنه حذر كاتسبي من أية مؤامرة على حياة العاملين في الحكومة، لن تجر إلا مزيداً من الشقاء على الكاثوليك الإنجليز، ونقل الأسقف مخاوفه وشكوكه إلى البابا وإلى زعيم الجزويت، فأمروه بالابتعاد عن كل دسائس سياسية، وأن يحبط أية محاولات ضد الدولة (27). وأفضى كاتسبي إلى رجل آخر مع الجزويت-اسمه أوزوالد جرينواي-"أثناء الاعتراف" بسر المؤامرة التي تضمنت الآن اتخاذ تدابير أخرى لقيام الكاثوليك في إنجلترا بثورة عامة. وأبلغ جرينواي زميله جارنت بالموضوع "وحار الرجلان الجزويتيان بين أمرين: إفشاء سر المتآمرين إلى الحكومة، أو الصمت، وآثراً السكوت، ومع ذلك بذلاً قصارى جهدهما ليثنيا المتآمرين عن تنفيذ خطتهم.
وسعى كاتسبي-ليخفف من وخز الضمير عند زملائه ومن مخاوفهم-إلى اتخاذ الترتيبات بأن يتسلم أعضاء البرلمان الموالين لهم، في صبيحة اليوم المحدد للاجتماع رسائل عاجلة تستدعيهم إلى خارج وستمنستر. وأنذر فرد صغير الشأن بين المتآمرين، صديقة لورد مونتجال قبل موعد الانعقاد بعدة أيام. فأطلع مونتجال روبرت سيسل على جلية الأمر، فنقل الخبر إلى الملك، فدخل عملاؤهم وأعوانهم إلى الأقبية، وهناك وجدوا فوكس، كما وجدوا المتفجرات في أماكنها، وفي 4 نوفمبر 1605 قبض على فوكس واعترف بما كان يقصد إليه من نسف البرلمان في اليوم التالي، ولكنه على رغم التعذيب الشديد رفض الإدلاء بأسماء المشتركين(28/212)
معه. ولكن هؤلاء على أية حال، كشفوا عن أنفسهم بحمل السلاح ومحاولة الهرب. فطوردوا، وجرى قتال أصيب في كاتسبي، وبرسي، ورايت، بجروح قتالة، وجرى البحث عن أتباعهم وأودعوا السجن. وعندما قدم المسجونون للمحاكمة اعترفوا صراحة بالمؤامرة. ولكن أي تهديد أو تعذيب لم يحملهم على توريط القساوسة الجزويت فيها. واقتيد فوكس وثلاثة آخرون، وسط شوارع المدينة من السجن إلى دار البرلمان حيث أعدموا (27 يناير 1606). ولا تزال إنجلترا تحتفل بيوم 5 نوفمبر على أنه يوم جي فوكس، بإطلاق الصواريخ والألعاب النارية وحمل تماثيل أو صور جي والطواف بها في الشوارع.
وفرجيراد وجرينواي إلى القارة، ولكن قبض على جارنت ومعه جزويتي آخر يدعى أولد كورن. وفي السجن وجد هذا الاثنان من الوسائل ما حسباه سبيلاً لاتصال خفي بينهما. ولكن الجواسيس نقلوا أحاديثهما بنصها. واتهم كل منهما على انفراد بهذه الأحاديث فأنكرها جارنت، وأقرها أولد كورن. فاعترف جارنت بأنه كاذباً. وانهارت قواه فسلم بأنه كان على علم بالمؤامرة، ولكن بما أن أنباءها وصلت إليه عن طريق جرينواي الذي تلقاها على أنها سر من أسرار "الاعتراف"، فإنه لم يشعر بأنه حر في إفشاءها، ولكنه على أية حال بذل كل ما في طاقته لإحباطها. فأدين بالتستر على المؤامرة، لا بالتآمر. وتمهل الملك لمدة ستة أسابيع في التصديق على الحكم بإعدامه، وأبلغوه كذباً أن جرينواي في سجن لندن "البرج" فأرسل إليه خطاباً وضع الرقباء أيديهم عليه. وسئل جارنت عما إذا كان قد اتصل بجرينواي فأنكر، فواجهوه بخطابه، فدافع بقوله إن المراوغة مباحة لشخص في سبيل إنقاذ حياته. وفي 3 مايو أعدم شنقاً، ومزق إرباً (28).
وأحس البرلمان أنه على حق في تشديد القوانين ضد الكاثوليك، فمنعوا من مزاولة الطب أو الاشتغال بالقانون، ومن استخدامهم أوصياء أو حراساً قضائيين، وحظر عليهم أن يبعدوا بأكثر من خمسة أميال عن مساكنهم، كما طلب إليهم أن يؤدوا قسماً جديداً، لا ينكر سلطة البابا في خلع الحكام المدنيين فحسب ولكنه كذلك يدمغ الإصرار على هذه السلطة بأنه عمل موصوم بالعقوق والفسوق والكفر،(28/213)
ويستوجب اللعنة (29). وحرم البابا بول الخامس تأدية-مثل هذا القسم، وامتثل للبابا أغلبية الكاثوليك الإنجليز وارتضت القسم أقلية كبيرة. وفي 1606 أعدم ستة من القساوسة لرفضهم القسم وإقامتهم القداس. وفيما بين عامي 1607 و1618 أعدم ستة عشر آخرون (30). وامتلأت السجون بعد مئات من القساوسة وعدة آلاف من الكاثوليك العاديين. وبرغم هذا الإرهاب كله، استمر الجزويت على دخول إنجلترا، ففي 1615 كان يوجد منهم 68 على الأقل، وفي 1623، كان منهم 284 (31). وشق بعض الجزويت طريقهم إلى إسكتلندة. هناك أعدم واحد منهم-جون أو جيلفي-في 1615، بعد أن سحقت رجلاه في "الدهق" (آلة التعذيب)، وإبقاءه يقظاً لمدة ثمانية عشر أيام بلياليها بغرز الدبابيس في لحمه (32). وهكذا وقعت أوزار الكنيسة القديمة على رأسها هي، على يد الحقائق والقوى والسلطات الجديدة.
4 - المسرح في أيام جيمس
تابعت نشوة إنجلترا مسيرتها في الأدب، كما تابعتها في الدين. وإني لأنسب إلى عصر جيمس، النصف الأروع في روايات شكسبير، وكثيراً من روائع تشابمان، ومعظم روائع جونسون، ووبستر، ومدلتون، ودكر، ومارستون، وبعضاً من أحسن أعمال ماسنجر، وكل روائع بومونت وفلتشر، وفي الشعر دون وفي النثر بيرتون. وأروع وأكرم من هذا كله الكتاب المقدس ترجمة الملك جيمس، وتلك أمجاد تكفي لأن يتألق بها أي عصر، وكان الملك يتذوق المسرحية. وفي أحد الاحتفالات بعيد الميلاد مثلت أربع عشرة رواية في البلاط الملكي. وفي 1613 احترق مسرح "الجلوب" عن آخره نتيجة إطلاق مدفعين استلزم إطلاقهما تمثيل رواية هنري الثامن، ولكن سرعان ما أعيد بناؤه. وفي 1613 كان في لندن أو بالقرب منها نحو سبعة عشر مسرحاً.
وكان جورج تشابمان يكبر شكسبير بخمس سنوات، وعمر بعده ثمانية عشر عاماً، وشهد ثلاثة عهود (1558 - 1634). وشق طريقه في أناة وروية(28/214)
حتى صار فحلاً في فنه، وكان في 1598 قد أكمل بنجاح رواية مارلو Hero and Leander، ونشر سبعة كتب من الإلياذة، ولكنه لم ينجز ترجمة هوميروس حتى 1615، وظهرت أحسن رواياته فيما بين 1607 و1613. وفتح للمسرحية الإنجليزية مجالاً جديداً، حين اقتبس من التاريخ الفرنسي الحديث فكرة رواية Bussy d, Ambois، (1607؟) - خمسة فصول من الخطابة الصاخبة المليئة بالتهديد والوعيد، لا يكاد يلطف من عنفها شيء من سحر البيان، ولكنها تقوى إلى حد مزعج في صحيفة يتبادل موسى وعدوه التحيات الساخرة التهكمية العسيرة الهضم قدر عسر هضم الحقيقة. ولم يفق تشابمان قط من التعلم أو لم ينقطع عنه، فإن القدر الكبير الذي حصله من اليونانية، والقدر الأكبر من اللاتينية استحوذا على كل تأملاته وتفكيره، بشكل خانق، وإن قراءة رواياته لهي ضرب من الجهد المضني لمجرد الإطلاع والدرس، لا حباً في الروايات أو الاستمتاع بها. ولن نبتهج كما فعل كيتس، "لأول نظرة نلقيها على ترجمة تشابمان لهوميروس". فثمة حيوية دافقة هنا وهناك في الترجمة السباعية التفاعيل تسمو بها فوق ترجمة بوب، التي هي أفضل بصفة عامة، ولكن موسيقى الشعر تضيع في الترجمة، فإن التفاعيل السداسية الوثابة في الأصل تداعبنا بتناغم أسرع مما تفعل التفاعيل الموزونة المقيدة في الشعر المقفى. إن أية قصيدة إنجليزية طويلة مقفاة لم تتخلص من النعاس الذي يغلب على أناشيد بحارة البندقية. وحول تشابمان إلى "شعر ملحمي" أبياتاً عشرية المقاطع ليتفق كل اثنين في القافية-حول الأوديسية ترجمته لها بنفس قوة التهدئة. ولا بد أن جيمس غلبه النعاس تحت هذه الأغطية الثقيلة، إلى جانب إيماءات هوميروس العارضة، لأنه أهمل في دفع مبلغ الثلاثمائة جنيه التي كان الأمير الراحل هنري قد وعد بدفعه إلى تشابمان، عند إتمام الترجمة. ولكن ارل سومرست أنقذ الشاعر العجوز من الفقر.
وهل نتوقف قليلاً عند توماس هايوود، وتوماس مدلتون، وتوماس دكر، وسيريل تورنير، وجون مارستون، أو يسمحون لنا بأن نمر عليهم مر الكرام مع تحية متواضعة لشهرتهم المتأرجحة، أما فلتشر، فلن نستطيع أن نبخسه حقه.(28/215)
فإنه في ذروة مجده (1612 - 1625) رفعته إنجلترا، في مجال المسرحية، إلى المرتبة التالية لمرتبة شكسبير وجونسون. كان فلتشر ابن أحد أساقفة لندن، وابن أخ أو ابن عم لثلاثة شعراء من طراز متواضع، فرضع الشعر وتربى على القوافي، وأضاف هو إلى هذا التراث ما كسب من ميزة اشتراكه مع شكسبير في "هنري الثامن"، "القريبان النبيلان"، ومع ماسنجر في "الخوري الأسباني"، واشتراكه بأعظم النجاح مع فرانسيس بومونت.
ومن هذا الطراز أيضاً ولد فرانك. وكان ابناً لأحد القضاة البارزين، وأخاً لشاعر صغير الشأن، ولد قبله بعام ومهد له طريق الحياة. وأخفق بومونت في إتمام دراسته في أكسفورد أو في أحد معاهد الحقوق The lnner Temple وحاول أن يجرب قلمه في شعر المرح، وانضم إلى فلتشر في كتابة الروايات. وشارك الأعزبان الوسيمان الواحد منهما الآخر، في الأكل والنوم، والأمتعة والملابس، والخليلات والأفكار، أو كمال قال أوبري "كانت ثمة مرآة شركة بينهما، وكان ثمة تتشابه غريب في أفكارهما وصورهما الذهنية (33) ". وتعاون الاثنان على مدى عشر سنوات في إخراج روايات مثل The Maids' Tragedy, Loves Liesa-Bleeding, Philaster Thel Knight of the Burning Pestle والحوار القوي، ولكنه عاصف طنان، وحبكات الرواية متشابكة تشابكاً بارعاً. ولكن حل عقدها كان متكلفاً. وقل أن ارتقى التفكير إلى مستوى الفلسفة. ومع ذلك فإن هذه الروايات كما يؤكد لنا دريدن-كان لها في أواخر القرن، من الشعبية على المسرح، ضعف ما كان لروايات شكسبير (34).
وتوفي بومونت في سن الثلاثين، في العام الذي توفي فيه شكسبير، وبعد ذلك كتب فلتشر بمفرده أو مع آخرين، سلسلة طويلة من الروايات الناجحة التي جر عليها النسيان ذيوله. ونبعت ملهاة من رواياته التي قامت على دسائس ملتوية صاخبة مرحة، نبعت من نماذج أسبانية، كما أنها بدورها-بتركيزها على الزنى-مهدت للمسرحية في "فترة عودة الملكية". ولما تعب من هذه المناظر الدامية أو الداعرة، أخرج في (1608) رواية رعوية "الراعية المخلصة" خالية من الهراء والحمق، مثل(28/216)
رواية شكسبير "حلم ليلة منتصف الليل". بل أنها تنافسها من حيث الشعر. فإن كلورين، بعد أن مات حبيبها الراعي تأوي إلى كوخ ريفي بسيط بالقرب من مقبرته وتقطع على نفسها عهداً ألا تبرحه حتى يوافيها الأجل المحتوم:
سلاماً أيتها الأرض المقدسة التي تحتضن بين ذراعيها الباردتين، أصدق رجل أطعم قطعانه على سهول تساليا الدسمة المثمرة، وهكذا أحيي جدثك، وأوني بنذوري الأولى، وأقدم نظرات الإكبار والإجلال لرفاتك التي لا تزال موضع حبي. وهكذا أحرر نفسي من دفء وحرارة أي حب ينشأ من بعدك، وأودع كل رياضة أو بهجة أو ألعاب سارة، يعتز بها الرعاة. ولن يتوج بعد الآن جبيني بالأكاليل الغضة النضيرة، لأتصدر حلبة الرقص. ولن أفرح أو أبهج بعد اليوم بصحبة الغادات اليانعات والرعاة المرحين، ولا بصوت المزمار ذي الأنغام الغالية السارة في واد ظليل، حين يداعب النسيم العليل الأغصان، ولسوف أكون بمنأى عن هذا كله، ما دمت أنت نأيت عني، يا من كنت أجلس كثيراً إلى جواره السعيد متوجة بالأزهار الناضرة، بوصفي ملكة الصيف، على حين يرتدي صبية الرعاة اللون الأخضر الزاهي المفعم بالحياة، مع المنجل المزوق. والحقيبة المتدلية المصنوعة من الجلد الناعم الجميل. ولكنك وليت، وقد ولت هذه كلها معك، لقد فني كل شيء، اللهم إلا ذكراك العزيزة، التي سوف تبقى من بعدك، والتي سوف تنمو وتنتعش، طالما كانت هناك مزامير تصرخ أو رعاة مبتهجون يغنون.
وألقيت هذه القصيدة الرعوية مرة واحدة ثم اختفت من المسرح. وأي حظ من الطهارة والعفة لمثل هذه التسبيحة، في عصر لا يزال يجيش بانفعالات عهد إليزابث؟(28/217)
أما أقوى الكتاب المسرحيين في عهد جيمس وأسوأهم، فهوجون وبستر. ونحن لا نكاد نعرف شيئاً عن حياته، ولعي في الحقيقة مجهولة. ونحن نستنتج حالته النفسية من مقدمة أحسن رواياته "الشيطان الأبيض" (1611) حيث يطلق على جمهور المشاهدين "الحمير الجهلة" ويشهد مقسماً بأغلظ الإيمان "بأن الأنفاس التي تخرج من الجمهور العاجز كفيلة بأن تسمم أعمق مسرحية مأسوية. والرواية هي قصة فكتوريا أكورامبوني، التي هزت آثامها ومحاكمتها كل إيطاليا (1581 - 1585) أيام طفولة وبستر. وتحس فكتوريا بأن دخل زوجها لا يتفق مع جمالها، فتستجيب لملاطفات دوق براتشيانو الثري، واقترح بأن يعمل هو على التخلص من زوجها ومن زوجته، فيولي الموضع عنايته على الفور، بمعونة أخ قواد فاجر لفكتوريا هو فلامنيو الذي كان يقدم لمثل هذه الجرائم أشد الأشعار سخرية في الأدب الإنجليزي. وقبض على فكتوريا للاشتباه فيها، ولكنها تدافع عن نفسها في جرأة وبراعة إلى حد يجعل أي محام يفزع من لغته اللاتينية وأي كاردينال من قلنسوته. ثم اختطفها براتشيانو من بين يدي العدالة. فطورد الاثنان وأخيراً، قتل الاثنان مع من كانوا يتعقبونهما، قتلة مفاجئة مثيرة أشبعت رغبة وبستر إشباعاً تاماً طيلة سنة كاملة، لقد عولجت حبكة الرواية علاجاً حسناً، ورسمت الشخصيات رسماً متماسكاً متناغماً. وكانت اللغة غالباً قوية أو كريهة، والمناظر العصبية قوية. وارتفع الشعر أحياناً إلى مستوى فصاحة شكسبير. ولكن الرواية بالنسبة للذوق الذي أصابته المدنية بالوسوسة وشدة الحساسية، شوهتها فظاظة فلامنيو المتكلفة وحياته الحقيرة البائسة، كما شوهتها اللعنات والشتائم التي انسابت حتى من أرق الشفاه. "أواه: لو أني أستطيع قتلك أربعين مرة في اليوم الواحد، وأفل هذا أربع سنوات سوياً، لكان هذا شيئاً قليلاً جداً" (35)، كما كان يشوه الرواية الفحش المنتشر فيها، حيث ترددت لفظة "البغي" في كل صحيفة أخرى، ثم الألفاظ المزدوجة المعاني التي ربما خجل منها شكسبير نفسه.
وعاد وبستر إلى الأرض المخضبة بدماء القتلى في رواية "دوقة ملفي" (1613) فإن فرديناند دوق كالايريا، يحرم على دوقة أمالفي، أخته الشابة الأرملة الزواج(28/218)
مرة ثانية، لأنها إذا ماتت بلا زوج، فإن أخاها الدوق يرث أموالها. فترثي الدوقة للطهارة المتكلفة التي أكرهت عليها:
إن الطيور التي تعيش في المروج وفق هوى
الطبيعة الجامحة، تحيا حياة أسعد من
حياتنا، حيث تستطيع أن تختار رفيقاتها
وتشدو بألحانها العذبة للربيع (36).
واستبدت بها الشهوة والحرمان، فأغرت قهرمانها أنطونيو بالزواج سراً، وبمضاجعة عاجلة. فدبر أخوها فرديناند قتلها. وفي الفصل الأخير نرى شخصاً يقتل في كل دقيقة تقريباً، فالأطباء يستعدون بالسموم، والمتوحشون بخناجرهم، ولم يتذرع أحد بالصبر انتظاراً لقصاص عادل أو حكم مشروع. أما أسوأ الأشرار الأوغاد في الرواية-الذي قتل الدوقة واستولى على ممتلكاتها، واتخذ له خليلة ثم قتلها-فهو كاردينال، ولم يكن وبستر من أنصار البابوية. وهان أيضاً توجد توريات في صراحة بالغة، وتصميم على استنفاد ألفاظ اللعنة والبغض، واستنكار وحشي مشوش لحياة الإنسان. وترى شيئاً من النبل أو الإخلاص أو الرقة في الأركان السحيقة لهذه الحلبة المظلمة، فإن فرديناند ينسى نفسه، ويبتسم بالشفقة لبعض الوقت، وهو ينظر إلى أخته التي لا تزال جميلة في رقدة الموت.
"غطوا وجهها! عيناي تنبهران! لقد ماتت في عنفوان شبابها (37)! ولكن سرعان ما يستعيد وحشيته.
ولنأمل في شيء أعذب وأحلى من هذا كله عند الرجل الذي كتب
"اشربي من أجل أنا وحدي، بعينيك"
Drink to me only with thline Eyes.
5 - بن جونسون
1573 - 1637
ولد في وستمنستر بعد وفاة أبيه بشهر واحد، وعمد تحت اسم بنيامين جونسون. وأسقط من اسمه حرف الباء تمييزاً لشخصه، ولكن دور الطباعة ظلت تستخدمه،(28/219)
ولو أنه مات، حتى 1840، ولا زال يظهر على لوحة معلنة على جدران كنيسة وستمنستر. وكان الزوج الأول لأمه قسيساً. وكان زوجها الثاني بناء بالأجر. وكانت الأسرة فقيرة معدمة. وكان على بن أن يشق طريقه إلى التعليم بصعوبة بالغة. وما كانت إلا الشفقة التي ملأت قلب صديق بصير لتزوده بالمال ليلتحق بمدرسة وستمنستر، وساق. هـ حظه إلى الوقوع تحت إشراف "وكيلها" المؤرخ العالم الأثري وليم كامدن، وانصرف إلى الدراسات القديمة، مع عداء أقل من العادي، وأحب شيرون وسنكا، وليفي وتاسيتس، وكونتليان، وزعم بعد ذلك، واضح أنه على حق- " أنه يعرف من اليونانية واللاتينية أكثر من شعراء إنجلترا جميعهم (38) " على أن "مرحه" السريع الاهتياج والإثارة، وعالم لندن الخشن العنيف بلا حدود، هما اللذان حالا دون أن يدمر تعليمه فنه.
وبعد تخرجه في وستمنستر التحق بكمبردج حيث "بقي- كما يقول أول مؤرخ لحياته- أسابيع قليلة، لحاجته إلى مورد رزق آخر (39) "، وأراد له زوج أمه أن يكون صبي بناء، وقد نتخيل بن جونسون وهو يتصبب عرقاً ويضطرب لمدة سبع سنين دأباً، وهو يرص الطوب ويفكر في الشعر. ثم فجأة خرج إلى الحرب، وانساق في تيارها، واندفع إليها بنشاط وحيوية أكثر منه إلى صناعة البناء. وخدم في الأراضي الوطيئة، وبارز جندياً من الأعداء، فصرعه، وسلبه ما معه، وعاد إلى الوطن يروي قصصاً مفصلة. وتزوج وأنجب أطفالاً، وارى منهم التراب ثلاثة أو أكثر. ووقع الشجار بينه وبين زوجته فهجرها لمدة خمس سنوات، ثم عاد وعاش معاً عيشة ينقصها الوفاق والانسجام حتى ماتت. ولا تعرف كليو نفسها كيف كان بن جونسون- زوجها- يدبر معاش الأسرة.
ويكون السر أعمق حين نعلم أنه أصبح ممثلاً (1597)، ولكن تفجرت منه أفكار مشرقة وأشعار لبقة. واهتز فرحاً حين دعاه توم للمشاركة في رواية "جزيرة الكلاب" ولا شك في أنه حمل نصيبه من المسئولية في "المادة المثيرة للفتنة والتي تتضمن قذفاً وتشويهاً للسمعة "التي وجدها مجلس الشورى في الرواية. وأمر المجلس بوقف التمثيل وإغلاق المسرح والقبض على المؤلفين. أما ناش الذي كان خبيراً عتيقاً(28/220)
بمثل هذه المآزق، فقد قضى نحبه في بارموث. ووجد جونسون نفسه في السجن، ولما كان نظام السجن يقتضيه أن يدفع نفقة طعامه وإقامته وأصفاده فقد اقترض أربعة جنيهات من فيليب هنسلو، فلما أطلق سراحه انضم إلى فرقة هنسلو (وشكسبير) المسرحية (1597).
وبعد سنة كتب ملهاته الهامة الأولى: " Everyman in his humour" ورأى شكسبير يمثل فيها المسرح "الجلوب". ومن الجائز أن المؤلف المسرحي العظيم (شكسبير) لم يستسغ مقدمة الرواية التي اقترحت- على الرغم من النموذج السائد- إتباع الوحدات الكلاسيكية، أو التقليدية القديمة، وحدة العمل والزمان والمكان، لا أن:
تجعل طفلاً، ملفوفاً الآن في قماطه، ينهض حتى يستوي رجلاً ويطوي، بلحية وملابس حداد، ستين عاماً مضت، إنك سوف تسر اليوم إذ تشهد رواية يجب أن تحتذي مثالها كل الروايات، رواية ليس فيها كورس ينطلق بك فيما وراء البحار، ولا عرش ينهار، مما يفرح له الأولاد ... بل فيها أعمال، ولغة مثل تلك التي يستخدمها الناس، وأشخاص ممن يجب أن تنتقيهم الملهاة، إذ كان لها أن تصور الزمان، وتسلي الناس بحماقات الإنسان لا بالجرائم.
وهكذا أدار جونسون ظهره للمزاح أو الهزل الأرستقراطي في ملهيات شكسبير الأولى، وللجغرافيا والكرونولوجيا وتعيين تواريخ الأحداث وترتيبها وفقاً لتسلسلها الزمني الخارقتين في المسرحية "الرومانتيكية"، وأتى بأكواخ لندن إلى المسرح، وتخلى عن ثقافته ومعرفته الواسعتين الخارقتين ليبرز إبرازاً مشهوداً لهجات الطبقات الدنيا وأساليبها. وكان أبطال الرواية رسوماً كاريكاتورية أكثر منها ابتكارات فلسفية معقدة، ولكنهم يعيشون، وكانوا تافهين لا قيمة لهم، ولكنهم من بني الإنسان، ولم يكونوا معقولين ولا مهذبين، ولكنهم لم يكونوا قتلة ولا سفاحين.(28/221)
وكان اللاتينيون قد استخدموا لفظة Umore لتعني "الرطوبة" أو السائل، كما استخدمت تقاليد أبقراط الطبية لفظة Humor لتدل على أربعة سوائل في الجسم- الدم، البلغم، الصفراء السوداء، والصفراء الصفراء. وتبعاً لغلبة الواحدة أو الأخرى من هذه المواد في جسم الإنسان، كان يقال إنه ذو "مزاج" دموي، (متفائل)، أو بلغمي (بارد)، أو سوداوي (مكتئب)، أو صفراوي (سريع الغضب) أما جونسون فقد حدد تفسيره لهذا الاصطلاح:
عندما تتملك إنساناً صفة بعينها، وتسيطر على كل أحاسيسه وأنشطته وقواه، حتى تسير كلها في اتجاه واحد- فهذا ما يمكن أن يقال عنه بحق "المزاج" ( Humour) (40)
وظهرت الكلمة في التصوير المرح للكابتن بوباديل، وهو تحدر مباشر من رواية باريس "المحاربون الأمجاد"، ولكنه يمور موراً "بمزاجه" الخاص به المميز له، ومرحه غير الواعي- فهو دوماً شجاع إلا عند الخطر، مندفع إلى القتال إلا عندما يتحداه أحد، فهو رب السيف المكنون في غمده.
واستقبلت الرواية استقبالاً حسناً، وكان في مقدور بن الآن أن ينغمس في حماقات السباب وشهواته على نطاق أوسع، وكان فرجاً بالثقة، مزهواً بأنه شاعر يتحدث إلى اللوردات في أنفة وكبرياء، ويقف راسخ القدمين، يتعجل التمتع ويستسيغ الصراحة والمرح الصاخب، ويغوي النساء من آن لآن، ولكنه أخيراً (كما قال لدروموند) "آثر جور الزوجة على خفر الخليلة (41) "- وهجر التمثيل، وعاش عيشة طائشة على قلمه، وازدهر لبعض الوقت بتأليف التمثيليات التنكرية للبلاط، وتلاءمت الأشعار الخيالية التي نظمها مع المناظر التي صممها جونز، ولكن بن كان حاد الطبع، فكثرت مشاجراته. ففي عام نجاحه الأول اشتبك مع أحد الممثلين، وهو جبرييل سبنسر، وبارزه وقتله، فأودع السجن بتهمة القتل (1598). ومما زاد الطين بلة، أنه ارتد إلى الكاثوليكية في السجن، ولكنه مع ذلك حوكم محاكمة عادلة، وأجيز له أن يدفع "بالحصانة الأكليريكية" لأنه تلا "المزامير" باللاتينية "كما يفعل رجال الدين". وأطلق سراحه(28/222)
بعد أن وشم إبهامه بحديد محمي بحرف T، حتى يمكن في الحال اكتشاف أنه مجرد عائد، إذا ارتكب جريمة القتل مرة ثانية، وظل بقية حياته مدموغاً بأنه مجرم.
وبعد سنة قضاها مطلق السراح أعيد إلى السجن من أجلي دين عليه لم يسدده. ومرة أخرى أطلق سراحه بكفالة هنسلو. وفي 1600 سعى جونسون وراء تسديد ديونه بكتابة رواية Every Man out of His Humour. وأثقل الملهاة باقتباسات زخرفية كلاسيكية، وأضاف إلى أشخاص المسرحية ثلاث شخصيات استخدمت كفرقة للتعليق على الأحداث، وأمطر بوابل من المذمة والقدح، البيويتانيين الذين "كان الدين بين طيات ثيابهم، والذين حلقوا شعر رءوسهم أقصر من شعر حواجبهم" ولوح بمعرفته وعلمه للكتاب المسرحيين الذين كانوا يحطمون "وحدات أرسطو". وبدلاً من الروايات الرومانتيكية المستحيلة الحدوث حول اللوردات الذين لا يصدق وجودهم، عرض جونسون أن يكشف للندن عن ذاتها بلا هوادة ولا رحمة:
فليواجهوا مرآة كبيرة قدر كبر المسرح الذي نمثل عليه، ولسوف يرون فيها علل العصر ونقائضه. مشرحة تشريحاً دقيقاً مفصلاً في كل ناحية فيها، في شجاعة لا تلين ولا تفتر، وفي ازدراء لأي خوف (42)
وصنعت الرواية من العداوات أكثر مما جلبت من أموال. وليس من يوصي اليوم بقراءتها. ولما لم يكن جونسون راضياً عن جمهوره الصاخب في مسرح الجلوب، فإنه كتب ملهاته الثانية Cymthia's Revels (1601) لفرقة من الممثلين الشبان ونخبة صغيرة من الجمهور في مسرح " Black Friars"، وأحس دكرو مارسون أن الرواية تناولتهما بالهجاء. ولما استشاطت فرقة تسمبرلين غضباً لمنافسة أولاد مسرح " Black Friars" لها، أخرجت في 1602 رواية دكر " Satiromastix" ( ضرب المؤلف الهجاء بالسياط) وفيها تشهير بجونسون أنه سفاح وبناء تلفه مغرور متحذلق، جسمه مليء بالبثور. وانتهى الشجار بتبادل المديح وتقارض الثناء. وابتسم الحظ(28/223)
لبعض الوقت. واستضاف أحد المحامين النابهين بن جونسون في بيته وأرسل ارل بمبروك إلى الشاعر عشرين جنيهاً "ليشتري بها كتباً (43) ". وما أن أصبح في أمان من الفقر والحاجة حتى أمسك بالقلم محاولاً تأليف "مسرحية مأساوية"، موضوعها "سيجانوس" الصديق الشرير الأثير لدى تيبيريوس. واعتمد في روايته بدقة على كتابات تاسيتس وسوتونيوس وديو كاسياس وجوفينال، وأخرج تحفة رائعة ثقافية فيها بعض مناظرها مؤثرة (الفصل الخامس- 10 مثلاً) وأبيات من الشعر الرائع. ولكن جمهور المشاهدين كره الخطب الطويلة والتوجيه الأخلاقي الممل الصادر عن شخصيات تعوزها الحيوية. وسرعان ما سحبت الرواية من المسرح. وطبع جونسون النص، وأورد على الهامش مراجعه القديمة مع بعض ملاحظات باللاتينية. وتأثر لورد Aubigny، فهيأ للمؤلف المخزون مأوى آمناً لمدة خمس سنوات.
وعاد جونسون إلى الحلبة في 1605 بأعظم رواية له " Volpone- أو الثعلب"، هاجم فيها، في هجاء مقذع شهوة المال التي اجتاحت لندن. وكما هو مألوف في الملهاة- من عهد بلوتس إلى رواية The Admirable Crichton- فإن محور الرواية هو خادم ماهر. ويحضر الخادم موسكا (ذبابة بالإيطالية) إلى سيده البخيل فولبون (الثعلب) الذي يدعى أنه مرض مرضاً شديداً، مجموعة من صيادي الميراث بالوصية- فولتوز: نسر، ثم كورباتشيو: غراب، ثم كورفينو: غراب أسحم- وكل منهم يترك للسيد المريض (الثعلب) هدية ثمينة، على أمل أن يسمى وريثاً له. ويتقبل "الثعلب كل هدية بتمنع جشع، إلى حد استعاره زوجة كورباتشيو لليلة واحدة. وينتهي الأمر بأن يخدع الخادم موسكا سيده فولبون حتى يعينه هو وريثاً وحيداً له، ولكن بناريو (الطبيعة الطيبة)، يكشف الحيلة، ويرسل مجلس السناتو في البندقية كل الممثلين تقريباً إلى السجن. وجعلت هذه المسرحية، آخر الأمر، راود مسرح الجلوب يركعون بين يدي جونسون.
وسرعان ما انتقل من نجاح إلى محنة، فقد اشترك مع مارستون وتشابمان في(28/224)
مسرحية Eastward ho، (1605) واعتقلت الحكومة المؤلفين على أساس أن الملهاة أساءت إلى الاسكتلنديين. وهدد المعتقلون بقطع أنوفهم وآذانهم، ولكن أفرج عنهم دون أن يمسوا بأذى، واشترك بعض ذوي المقامات الرفيعة- مثل كامدون وسلدن- في المأدبة التي أقامها الثالوث الذي استرد حريته. ثم، في 7 نوفمبر 1605، استدعى جونسون إلى مجلس الشورى، باعتباره كاثوليكياً يمكن أن يكون لديه معلومات عن مؤامرة البارود. وعلى الرغم من أنه كان قد تناول العشاء مع المدبر الرئيسي كاتسبي، قبل ذلك بشهر، فإنه تفادى كل تورط في المسألة. ولكن في 9 يناير 1606 دعي إلى المحكمة بوصفه متمرداً مخالفاً للقانون. ولما كان فقيراً معدماً إلى حد لا يستطيع معه دفع غرامة مجزية، فإن المحكمة لم تتشدد في الاتهام. وفي 1610 ارتد إلى المذهب الأنجليكاني، في حماسة بالغة إلى حد أنه أتى على كل ما في كأس النبيذ حين جلس إلى "العشاء الرباني" (44)
وفي تلك السنة أخرج أشهر مسرحياته "الكيميائي القديم The Alchemist"، وهجا فيها، لا مجرد الكيمياء القديمة (محاولة تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب)، وهذه مسألة تافهة، بل هجا كذاك ألواناً كثيرة من الدجل والخداع التي غزت لندن بالشعوذة. إن سير أبيقور مأمون واثق من أنه وقف على سير الكيمياء القديمة فيقول:
"الليلة سأحول كل ما في بيتي من معدن إلى ذهب، وفي الصباح الباكر أرسل إلى كل المشتغلين بالقصدير والرصاص ليبيعوني ما لديهم من هذا وذاك، وأرسل إلى لوثبري من أجل كل ما فيها من نحاس .... ولسوف أشتري ديفونشير وكورنوال، وأجعلهما مثل جزر الهند الشرقية تماماً. فإني أريد أن أكون لي من الزوجات والخليلات مثل ما كان لسليمان، الذي كان عنده خاتم مثل ما عندي. وسيكون لي بفضل إكسير الحياة(28/225)
ظهر قوي صلب مثل هركيوليز، فأصرع من الأعداء خمسين في الليلة الواحدة. أما المتملقون لي فسيكونون من الكهنة، الأطهار الوقورين، الذي يمكن أن أستحوذ عليهم بمالي .... وسيقدم لي اللحم في أصداف هندية وأطباق مصنوعة من الذهب ومرصعة بالعقيق والزمرد والصفير والياقوت الأزرق والأحمر. أما ألسنة الشبوط (سمك نهري)، والسنجاب، وكعوب الأبل ... والفطر العتيق، والصدور المكسوة بالدهن لخنزيرة سمينة حامل، والتي قطعت لتوها .... فسأقول عنها لطباخي "هاك الذهب" فتقدم، ولتكن فارساً (45).
وقلّما كان سير أبيقور تافهاً، ولكن بقية أشخاص الرواية كانوا حثالة، وكان كلامهم بغيضاً بما احتوى من معالجة موضوعات الدعارة القذرة، وإنه لما يدعو إلى الأسى والحسرة أن نرى بن المثقف خبيراً بهذا الغثاء وتلك النفاية، وبلغة الأكواخ واللصوص المتشردين. وهاجم البيوريتانيون مثل هذه الروايات تجاوزاً، فانتقم منهم جونسون بتصويرهم في صور كاريكاتورية ساخرة في رواية The Bartholomew Fair 1614.
وأخرج مسرحيات هزلية أخرى كثيرة مفعمة بالحياة ممتلئة بالعكارات.
وتمرد هو نفسه في بعض الأحيان على واقعيته الخشنة، في مسرحية "الراعي الحزين" وأطلق لخياله العنان ليسرح دون مبالاة:
إن وطء أقدامها لا يثني ورقة عشب،
أو يهز الطائر الأزغب في عشه
ولكنها مثل الرياح الغربية الخفيفة انطلقت مسرعة
وحيثما ذهبت تعمقت جذور الأزهار
وكأنما زرعتها بأقدامها العطرة (46).
ولكنه ترك الرواية دون أن يكملها، وقصر رومانتيكيته، (أو خياله(28/226)
وعواطفه)، بقية حياته، على أن أغنيات رقيقة تأثرت في ملهواته، مثل الجواهر وسط القاذورات، من ذلك أنه في ملهاة "الشيطان حمار The Devil is an Ass" (1616) ، يغني فجأة:
هل شهدت إلا سوسنة متألقة تنمو
قبل أن تمسها الأيدي الخشنة؟
هل شاهدت إلا تساقط الثلوج
قبل أن تلطخها التربة؟
أو لم تلمس فراء السمور
أو ريش البجعة قط؟
وهل نشقت رائحة براعم الورد البري
أو رائحة الناردين وهو يحترق؟
وهلا تذوقت شهد النحلة؟
أوه! يا لبياضها، أوه! يا لرقتها، أوه! يا لحلاوتها؟
وأجمل من هذا بالطبع، أغنية "إلى سليا To Celia" التي سرقها من اليونانية من فيلوستراتوس، وحولها بدقة وبراعة إلى "اشربي من أجلي أنا وحدي بعينيك".
وبعد موت شكسبير أصبح جونسون الرئيس المعترف به لجماعة الشعراء. وأصبح شاعر البلاط غير المتوج في إنجلترا- ولو أنه لم يعين رسمياً، ولكن الحكومة اعترفت به في معظم الأحوال، ومنحه معاشاً سنوياً قدره مائة قطعة ذهبية. وأدرك الأصدقاء الذين التفوا حوله في حانة مرميد أن طبيعته الطيبة الجافة تختفي وراء مزاجه الحاد ولسانه السليط، فأفادوا من حديثه المثمر، وهيأوا له أن يلعب دور الزعامة كما كان الحال مع سميه في القرن التالي.
وكان بن آنذاك بديناً، كما سيكون الحال مع سميه صمويل جونسون فيما بعد، وما كان أكثر وسامة ولا رشاقة، وكم حزن على "كرشه الفظيع" ووجهه المتجعد(28/227)
المملوء بالبثور نتيجة الأسقربوط. وقل أن زار صديقاً دون أن يكسر كرسياً. وفي 1624 نقل الندوة إلى "حانة الشيطان Devil Tavern" في شارع فليت، وهناك التقى بنظام مع جماعة نادي أبوللو الذي كان قد أسسه هو من قبل، ليتزودوا بالطعام والشراب والدعابة وثمار الفكر، وكان لجونسون مقعد مرتفع في أحد طرفي الغرفة له درابزين يؤدي بجسمه الضخم إلى العرش. وجرى العرف على تسمية أتباعه "قبيلة بن"، وكان من بينهم جيمس شيرلي وتوماس كارو وروبرت هرك، الذين سموه القديس بن (47) ".
وكان جونسون في حاجة إلى صبر أيوب، وهو غير مفطور على الصبر، ليحتمل الفقر والمرض في السنين التي كان يتحطم فيها. وقدر أن كل رواياته لم تدر عليه إلا مبلغاً يقل عن مائتي جنيه كان ينفقها بسرعة، ويتضور جوعاً طيلة الأيام التي لا يعمل فيها. وكان يفتقر إلى شيء من الحاسة أو الخبرة المالية التي جعلت شكسبير خبيراً في اقتناء الأملاك الثابتة أو العقار، وتابع شارل الأول صرف المعاش المخصص لجونسون، ولكن عندما خفض البرلمان المخصصات الملكية. لم يكن المعاش يدفع دائماً. على أن شارل أرسل إليه مائة جنيه في 1629 وقرر رئيس كهنة وستمنستر وجماعة الرهبان فيها خمسة جنيهات "لمستر بنيامين" جونسون في أيام مرضه وفاقته (48) ولم تصب رواياته الأخيرة أي نجاح، وذبلت شهرته، واختفى أصدقاؤه، وقضت زوجته وأولاده نحبهم، وما جاءت ستة 1629 حتى عاش وحيداً قعيداً، ملازماً الفراش بسبب الشلل، مع سيدة عجوز تتولى العناية بأمره. وظل يعاني من المرض والفقر ثماني سنوات أخرى، ودفن في وستمنستر، ونقش جون يونج على حجر يواجه القبر. العبارة المشهورة:
"أي بن جونسون الفذ"
ولم يبق منها إلا الكلمتان الأوليتان. ولكن أي إنجليزي مثقف متعلم يستطيع أن يكمل العبارة.
6 - جون دون
1573 - 1631
في مؤتمر هامبتون كورت اقترح مندوب بيوريتاني ترجمة جديدة للكتاب المقدس(28/228)
فاعترض أسقف لندن بأن الترجمات الموجودة صالحة تماماً. فقاطعة الملك جيمس وأمر بأن تتخذ إجراءات خاصة لترجمة رسمية موحدة يقوم بها أفاضل العلماء في كلتا الجامعتين، ويراجعها الأساقفة ثم تقدم إلى مجلس الشورى، ثم يعتمدها الملك حتى يمكن تلاوتها دون غيرها في كل الكنائس (49) ". ونهض بهذه المهمة سير هنري سافيل وستة وأربعون عالماً آخرون، مستندين إلى ترجمات ويكلف وتندال القديمة، وأنجزوا عملهم في سبع سنين (1604 - 1611) وأصبحت هذه الترجمة المعتمدة" رسمية في 1611، وكان له أثرها البالغ على الحياة والأدب الحديث في إنجلترا. ودخل إلى اللغة الإنجليزية من هذه الترجمة ألف من العبارات البليغة، وكان تقديس الإنجيل آنذاك قوياً جداً في هذه البلاد البروتستانتية، ولكنه الآن تزود بدفعة جديدة من القداسة والإقبال عليه في إنجلترا، كما ازدادت معرفة البيوريتانيين ثم الكويكرز بنصوصه والتعيد به، بشكل لا يعدله إلا حب المسلمين للقرآن الكريم وتمسكهم به. وكان آثر الترجمة على أسلوب الأدب الإنجليزي مفيداً كل الفائدة، فقد وضعت حداً للتعقيدات الطويلة الغريبة في النثر الإنجليزي في عهد إليزابث، وانتهت به إلى جمل قصيرة قوية واضحة طبيعية وأحلت محل المصطلحات والتراكيب الأجنبية ألفاظاً أنجلوسكونية واصطلاحات إنجليزية مفعمة بالحيوية. وكان فيها ألف من الأخطاء العلمية، ولكنها حولت العبرية الرفيعة واليونانية العادية في الكتاب المقدس بقسميه إلى أروع تحفة في النثر الإنجليزي.
وثمة مؤلفان آخران من النثر الرفيع ميزا هذا العصر. كتاب سير والتر رالي "تاريخ العالم" (وهو ثانيهما في الظهور)، وكتاب روبرت بيرتون "تشريح الكآبة Anatomy of Melancholy، (1621) (1) - وهو المرجع الضخم الذي وضع فيه القسيس سان توماس في أكسفورد نبذاً مما جمعه من المعلومات اللاهوتية
_________
(1) اكتسب بعض النثر العادي منزلة تاريخية: من ذلك نشرات الأخبار التي كانت تملأ لندن في أيام جيمس، والتي تدرجت في 1622 حتى أصبحت أول صحيفة إنجليزية باسم "الأنباء الإسبوعية" The Weekly News".(28/229)
والتنجيمية، والقديمة والفلسفية. وحسب أساتذة الجامعة أول الأمر أنه "مرح فكه ظريف" ولنه أصبح في حياته فيما بعد مكتئباً إلى حد أنه لم يكن يسره ويسعده إلا بذاءة بحارة الزوارق في نهر التاميز (50). وللتخلص من كآبته "التهم" "بيرتون" "المؤلفين" الذين أمدته بهم مكتبة بودليان. وفي هذه الكتب وفي مخطوطه وفي علم التنجيم وفي الخدمات الكهنوتية، قضى أيامه الكئيبة ولياليه الممتلئة بالنجوم. وحسب طالعه الخاص، وتنبأ باليوم الذي سيوافيه فيه الأجل المحتوم بدقة، إلى حد أن تلاميذ أكسفورد ارتابوا في أنه شنق نفسه ليثبت أنه يعلم الغيب (51).
أنه نشيط مفعم بالحيوية في كتابه. ولما شرع في فحص وسواس المرض عنده ووصف العلاج له، وجد أن الاستطراد ألطف من خطته. وبالمرح الشاذ، الذي يشبه مرح رابليه في موضوعاته غير المطروقة، ناقش كل شيء عن غير قصد كما كان يفعل مونتاني، ويتبل صفحاته هنا وهناك بشيء من اللاتينية واليونانية، ويغري قارئه شيئاً فشيئاً بشكل لطيف، إلى لا شيء، وهو لا يدعي الأصالة، ويشعر بأن كل التأليف سرقة، "ما أرانا نقول إلا معاداً من لفظنا مكرراً، وربما كان الإنشاء والمنهج من عندنا فحسب (52). " ويعترف بأنه عرف الدنيا عن طريق الكتب وعن طريق الأنباء التي تتسرب إلى أكسفورد فحسب.
أني لأسمع أنباء جديدة كل يوم، كما أسمع الإشاعات العادية عن الحرب والطاعون والحرائق والفيضانات والسرقات، وحوادث القتل والمذابح والنيازك والمذنبات والأطياف والأعاجيب والأشباح، وعن المدن التي تم الاستيلاء عليها، والمدن التي حوصرت في فرنسا وألمانيا وتركيا، وإيران وبولندة .... الخ والتجمعات والاستعدادات اليومية وغيرها، مما يتم في هذه الأيام العاصفة، فتنشب المعارك، ويذبح كثير من الرجال، كما نسمع عن غرق السفن وأعمال القرصنة والمعارك البحرية، ثم الصلح وتكوين العصبات، ثم عن خدع حربية وإنذارات جديدة، إنها فوضى هائلة من العهود(28/230)
والرغبات والأعمال والقرارات، والظلامات والقضايا البينات والدفوع والقوانين والتصريحات .... والآراء والإنشقاقات والهرطقات .... والأعراس، والمسرحيات التنكرية وشعارات الرياء والحفلات، واحتفالات اليوبيل .... والجنازات (53)
وأنه ليحس (مثل ثورو) أنه إذا قرأ أخبار يوم الأحد، فقد يكتفي بها ويأخذها قضية مسلمة بقية العام، مع مجرد تغيير في الأبهاء والتواريخ. وهو يرتاب في أن الإنسان سائر على طريق التقدم، ومع ذلك يقول "لسوف أصنع يوتوبيا (دنيا مثالية) خاصة بي ... أتحكم فيها بمحض حريتي "ويصفها في تفصيل خيالي غريب. والواقع، على أية حال، أنه كان يؤثر تصفح الكتب في هدوء في مكتبه أو على ضفاف التاميز، على الانصراف إلى إصلاح البشر. ويقدم له كل مؤلفي العالم أحسن ما لديهم، ويثقل كاهله ما يجمع من اقتباسات، فيعود مكتئباً مغتماً من جديد، وبعد مائة وأربع عشرة صحيفة ممتلئة، يعقد العزم على التوصل إلى أسباب الكآبة، وهي الخطيئة، والشهوة الجامحة، والإفراط، والشياطين. والسحرة، والنجوم، والإمساك، والإسراف الجنسي، .... وأعراضها (أي الكآبة) ومن بينها: "ريح تقرقر في البطن .... وتجشؤات كريهة .... وأحلام مزعجة (54) ". وبعد أن أكمل مائتي استطرد، تراه يصف أنواع العلاج للكآبة: الصلوات، الغذاء، الدواء، الملينات، إدرار البول، الهواء الطلق، الرياضة، الألعاب، الحفلات المسرحية، الموسيقى، الصحبة المرحة، النبيذ، النوم، فصد الدم، الاستحمام. ثم يستطرد من جديد، إلى حد أن كل صحيفة تغدو مخيبة للآمال ومفرحة معاً- إذا توقف سير الزمن.
أما في الشعر فقد اختفى شعراء "السونيت"، وظهر "شعراء ما وراء الطبيعة": ريتشارد كروشو، أبراهام كاولي، جون دون، جورج هربرت- الذين عبروا في جمال وديع، عن الهدوء والتقوى في بيت الكاهن الأنجليكاني، ولقد سماهم صمويل جونسون "ميتافيزيقيين"، من ناحية واحدة فقط، لأنهم نزعوا إلى الفلسفة واللاهوت والجدل، وأساساً لأنهم اختاروا عن ليلي، أوجونجورا، أو البلياد- أسلوباً يتميز بالبدع والنزوات اللغوية، والذكاء اللفظي والتركيبات(28/231)
المعقدة، والمقتطفات الكلاسيكية، والغموض المتكلف. على أن شيئاً من هذا كله لم يحل دون أن يكون "دون" أرق شعراء العصر.
وعاصر جون دون- مثل جونسون وتشابمان- ثلاثة عهود. ففي عهد إليزابث كتب في الحب، وفي عهد جيمس عن التقوى، وفي عهد شارل عن الموت. ومنذ نشأ كاثوليكياً، وتعلم على أيدي الجزويت وفي أكسفورد وكمبردج، فقد خبر مرارة الاضطهاد وهدأة الاختفاء. واعتقل أخوه هنري لإيوائه كاهناً محكوماً عليه بالموت، وقضى هنري نحبه في السجن، وزاد من اكتئاب جون انصرافه في بعض الأحيان إلى كتابات سانت تريز ولويس دي جرانادا الروحية. ولكن في 1592 نبذ عقله الفتي النابض بالحيوية، ما ورد في ديانته من معجزات وكرامات، وحام في العقد الثالث من عمره حول المغامرات العسكرية والجنسية وفلسفة التشكك.
ولفترة من الزمن قصر جون دون شعره على الاتصال الجنسي غير المشروع صراحة، ففي القصيدة رقم 17 من قصائده التأملية التي تعروها الكآبة، امتدح "أحلى شيء في الحب: التنوع (لذة الهوى في التنقل):
ما كان أسعد آباءنا في الزمان الأول
أولئك الذين لم يجدوا في تعدد العشاق جرماً (55).
وفي قصيدته التأملية رقم 18 سبح في "الدردنيل بين ستوس وأبيدوس في صدرها" وفي القصيدة رقم 19 "إلى حبيبته وهي تأوي إلى مخدعها" نزع عنها ثيابها، وفي خيال واسع، طلب إليها: امحي ليدي "أن تجوسا حيث تشاءان". وخلط بين علم الحشرات والعشق، وحاول أن يبرهن على أنه ما دام أن البرغوث عضهما معاً فانه قد خلط دمه بدمها فقد تزوجا آنذاك بالدم، ومن ثم يسرحان في نشوة لا إثم فيها (56). ولكنه أتخم بالمظاهر فسئمها، ووجد أنه ليس كريماً منه أن يرتكب الفاحشة مع كرائم السيدات، ونسي مفاتنهن الموقوتة، ولم يتذكر إلا الحيل التي كن قد تعلمنها من دنيا لا قلب لها، وصب على عشيقته جوليا أكبر(28/232)
اللعنات، ونصح قارئه أن يختار رفيقة طبيعية غير متكلفة لأن "الحب المبني على الجمال، سريع الفناء مثل الجمال (57) " ثم أنشد مقطوعة شعرية مضادة لفيللون، ووضع ميثاقاً شعرياً كان كل مقطع فيه يهوى على "العشق" بضربة قاتلة.
وفي 1596 أبحر مع اسكس، وساعد في الحملة على قادس، وأبحر معه ثانية في 1597 إلى جزر الآزور وأسبانيا. ولما عاد إلى إنجلترا وجد وظيفة محترمة، سكرتيراً لسير توماس أجرتون "حامل أختام الملكة"، ولكنه هرب مع ابنة أخيه وتزوجها (1600)، ونشط في أن يعولها بالشعر، وواتاه الأولاد بمثل السهولة التي واتته بها القوافي. وغالباً ما عجز عن غذائهم وكسائهم، وساءت صحة زوجته، وكتب يدافع عن الانتحار. وأخيراً رق قلب سير أجرتون فأرسل إلى الأسرة مبلغاً من المال (1608)، ووهبها سير روبرت دروري مسكناً في قصره (1610) في Drury Lane. ولكن بعد عام واحد فقد سير روبرت ابنته الوحيدة، فنشر دون، بلا توقيع، أولى قصائده العظمى، رثاء لها، بعنوان An Anatomy Of The World، وفيها ضخم من موت إليزابث دروري تضخيماً حتى جعل منه فناء الإنسان ثم الكون بأسره:
وهكذا يغنى العالم منذ اللحظة الأولى ....
وتدعو الفلسفة الجديدة كل الناس إلى الشك
وخمد عنصر النار،
وضاعت الشمس والأرض، ولا يستطيع عقل أي إنسان
أن يوجهه التوجيه الصحيح للبحث عنها.
ويعترف الناس صراحة أن الدنيا قد ولت،
على حين أنهم في الكواكب وفي القبة الزرقاء
يتلمسون الكثير من الجديد ثم يرون أن كل هذا
قد انهار من جديد ....
لقد تفتت كل شيء، وضاع التماسك،
كل الزاد الكريم، وكل علاقة (58).(28/233)
وهكذا حزن لأنه يرى كيف أن هذه الأرض "عرجاء مشلولة"، وكانت يوماً مشهد الافتداء السماوي. والآن في الفلك الجديد، مجرد "ضاحية" للدنيا. وفي إحدى حالاته النفسية نراه يمجد "الظمأ المقدس إلى العلوم". وفي حالة أخرى يتساءل متعجباً هل سينتهي العلم بالجنس البشري إلى الدمار.
إنا نحارب أنفسنا بالأمراض الجديدة
وبالفيزياء الجديدة هناك آلة جديدة للحرب أسوأ كثيراً (59).
وكذلك تحول إلى الدين. فان تكرار إصابته بالأمراض والعلل، والموت المشئوم لأصدقائه الواحد بعد الآخر، انتهيا به إلى خشية الله، فانه، ولو أن عقله ظل يحاول في اللاهوت، فانه كان قد تعلم ألا يثق في العقل كذلك، على أنه عقيدة أخرى، وقرر أن المذهب القديم يجب قبوله دون مزيد من النقاش، إذا كان يوفر هدوء البال ولقمة العيش. وفي 1615 صار قسيساً إنجليكانياً، ولم يقتصر حينئذ على إلقاء المواعظ في نثر كئيب مؤثر، ولكنه نظم كذلك بعضاً من أكثر الأشعار الدينية تأثيراً في اللغة الإنجليزية. وفي 1616 عين قسيساً خاصاً لجيمس الأول، وفي 1621 أصبح رئيس كهنة سانت بول. ولم ينشر قصائده الغنائية الجنسية التي نظمها في شبابه، ولكنه كان قد سمح بتداول نسخ مخطوطة منها، أما الآن فانه-كما روى جونسون "يندم أشد الندم، ويسعى إلى إعدام كل قصائده (60) ". وكتب بدلاً منها "قصائد مقدسة من نوع السونيت"، وتحدى الموت. وهو يصفر في الظلام.
أيها الموت. لا تزه ولا تتكبر، ولو أن بعضهم قد أسموك
جباراً رهيباً، لأنك لست كذلك.
لأن هؤلاء الذين تظن أنك صرعتهم
لا يموتون. أيها الموت الحقير، إنك كذلك لن تستطيع أن تصرعني ...
لقد انقضت غفوتنا القصيرة، ولسوف نكون في يقظة أبدية،
ولن يكون ثمة موت بعد الآن، ولسوف تموت أنت أيها الموت (61).
وبعد أن أبل من مرض شديد، كتب في مذكراته في 1623، سطوراً مشهورة: "إن موت أي رجل يهد من كياني لأني جزء متشابك في الجنس البشري، ومن ثم لا أرسل(28/234)
أحداً لأستفسر عمن تنعى النواقيس، إنها تنعاني أنا (62) ". وفي أول يوم جمعة من الصوم الكبير 1631، نهض من فراش مرضه ليلقي العظة التي بادر الناس فقالوا إنها عظة جنازته هو، وكان معاونوه قد حاولوا أن يثنوه عن الكلام، ولما رأوا (كما قال صديقه المخلص ايزك والتون) أن علته قد اشتدت حتى تركته مجرد جلد على عظم (63) "، وما أن انتهى من إلقاء موعظته التي كان فيها فصيحاً في التعبير عن الإيمان بالبعث، "مبتهجاً أشد الابتهاج لأن الله أعانه على القيام بهذا الواجب المرغوب فيه، حتى أسرع إلى بيته الذي لم يغادره ... إلا محمولاً على أيدي رجاله الأتقياء إلى قبره (64) ". ووافاه الأجل (31 مارس 1631) بين ذراعي أمه التي كانت قد احتملت صابرة آثامه، كما استمعت في حنان وعطف إلى عظاته.
لقد كانت حياة حافلة متوترة، انتظمت كل العواطف من شهوة الحب، وشك وانحلال، واختتمت في عزاء دافئ، هو عزاء الإيمان القديم. إننا نحن أبناء اليوم الذين يسارع إلينا النعاس حين نقرأ سبنسر، لنجد أنفسنا، وقد هزها من سباتها هذا الواقعي الخيالي على نحو عجيب، هذا الروح الوسيط معاً، عند قراءة كل صفحة من صفحاته تقريباً. إن شعره خشن، ولكنه هكذا أراده. إنه نبذ اللطائف المتكلفة في حديث الإليزابثيين واستطاب الألفاظ التي لن تبل جدتها، وبحور الشعر الأخاذة. وأحب الأنغام الناشزة المتنافرة التي يستطيع تحويلها إلى أنغام متناسقة لم تألفها الأذن. ولم يكن ثمة شيء مبتذل في شعره بعد أن تخرج في المواخير. إن هذا الرجل الذي صقل الفحش، كما صقله كاتوللوس من قبل، اكتسب من رقة الشعور والفكر، ومن أصالة في العبارة والعاطفة، ما لم يضارعه فيه شاعر آخر في ذلك العصر، الهم إلا شكسبير نفسه.
7 - جيمس يثير العاصفة
1615 - 1625
إن الحب والدبلوماسية رفيقان شيمتهما الخيانة والغدر. ففي 1615 أحب الملك جيمس، بأسلوبه الرقيق ذي الوجهين، جورج فليير Villiers، الشاب الوسيم الجريء الثري، ذا الثلاثة والعشرين ربيعاً، فخلع عليه لقب ارل، ثم مركيز ثم(28/235)
دوق بكنجهام، ثم بعد 1616 أطلق يديه في توجيه سياسة الدولة. وكانت زوجة بكنجهام، ليدي كاترين مانرز تتبع الطقوس الأنجليكانية في الظاهر، ولكنها في أعماق قلبها كاثوليكية، وكان من الجائز أن تقنعه بصداقة أسبانيا.
إن الملك جيمس نفسه كان رجل سلام، ولم يكن ليدع اللاهوت أو القرصنة لتورطه مع القارة. وما أن تولى العرش حتى وضع حداً للحروب الطويلة التي كانت إنجلترا قد شنتها على أسبانيا. ولما فقد فردريك أمير البلاتينات (إقليم غرب الراين) -وزوج ابنة جيمس المحبوبة إليزابث-أمارته في البداية "حرب الثلاثين عاماً"، راود جيمس الأمل في أن استرضاء ملك أسبانيا وهو من (آل هبسبرج) استرضاء جاداً كريماً، قد يؤثر على إمبراطورية آل هبسبرج فرديناند الثاني، فيسمح لفردريك باسترداد عرشه. وأثار جيمس استياء الشعب واشمئزازه حين اقترح لهذا الغرض على فيليب الرابع زواج أخته "الأميرة ماريا" الأسبانية من الأمير شارل.
ولقي رالي نهايته الأليمة ضحية السياسة الأسبانية. وكان رالي يعارض سراً ارتقاء جيمس عرش إنجلترا، كما كان يعارض بشدة اسكس، سند جيمس ومؤيده. وسرعان ما وصل جيمس إلى لندن حتى فصل رالي من جميع مناصبه الحكومية. وبانفعال واندفاع تميز بهما والتر، سمح لنفسه بالتورط في عدة محاولات لخلع الملك (65). فأودع السجن، واحتج بأنه بريء وحاول الانتحار. وحوكم، وأدين بناء على أدلة مشكوك في صحتها، وحكم عليه بالإعدام، في 13 ديسمبر 1603 وقاسى كل ألوان التعذيب، على أنه خائن. وفي 8 ديسمبر كتب إلى زوجته رسالة تفيض رقة وتقي- لم يشهدهما العالم فيه من قبل. ورفض جيمس توسلات الملكة والأمير هنري للعفو عنه. ولكنه سمح للسجين بالبقاء على قيد الحياة لمدة خمس عشرة سنة أخرى، مع بقاء حكم الإعدام سيفاً مسلطاً على رأسه، وسمح لزوجة رالي بالإقامة معه في بيت صفير بناه في تخوم البرج (السجن). وأمده أصدقاؤه بالكتب وأجرى بعض التجارب الكيميائية، ونظم بعض القصائد الرائعة، وألف كتابه "تاريخ العالم". وبدأ الكتاب- كما نشر 1614 بمقدمة ورعة مشوشة معقدة مطولة مملة، تكشف عن عقل منهوك شديد الاضطرابات والخبل. وبدأت القصة(28/236)
بنينوى، وانتقلت عبر مصر وجنوب فلسطين، وإيران وكلديا واليونان وقرطاجة، وانتهت برومة الإمبراطورية. ولم يحرص رالي على الوصول إلى الأزمنة الحديثة "لأن من يتوخى الصدق كل الصدق في كتابة التاريخ، قد لا ينجو من الأذى" وتحسن أسلوبه بمتابعة الكتابة، حتى بلغ مرتبة عالية في وصف معركة سلاميس، وبلغ الذروة في المناجاة الختامية "للموت البليغ العادل الجبار (68) ".
ولكن رالي لم يرتض الهزيمة ولم يقنع بها، ففي 1616، بعد أن جمع 1600 جنيه، رشا دوق بكنجهام ليتوسط له لدى الملك (69)، ووعده، في حال إطلاق سراحه، بالإبحار إلى أمريكا الجنوبية، ليكشف عن ما ظن أنه مناجم الذهب الغنية في جويانا، ويعود بالغنائم الملكية للخزانة الظمأى. فأفرج عنه جيمس إفراجاً مؤقتاً مشروطاً، ووافق على أن يحتفظ رالي وشركاءه بأربعة أخماس أية كنوز قد يستولي عليها من "الوثنين المتوحشين" ولكن الملك الحذر البعيد النظر أبقى حكم الإعدام نافذ المفعول إغراء بحسن السلوك. وأشار السفير الأسباني كونت جوندومار إلى أن هناك في جويانا جاليات أسبانية، ورجا ألا يضاروا أو يعكر صفوهم. فما كان من جيمس الحريص على السلام، وعلى المصاهرة مع أسبانيا، إلا أن حظر على رالي-تحت طائلة تنفيذ حكم الإعدام-التدخل في شئون أية جاليات مسيحية في أي مكان والأسبانية منها بوجه خاص (70)، ووافق رالي كتابة على هذه التحذيرات (71)، واستمر جوندومار يعترضن ويحتج، فما كان من جيمس إلا أن أقسم على تنفيذ حكم الإعدام إذا خالف رالي تعليماته (72).
وجهز رالي بمعونة أصدقائه، أربع عشر سفينة أبحر بها في 17 مارس 1617 إلى مصب نهر الأورينوكو. ولكن مستوطنة سانتا توماس الأسبانية اعترضت الطريق عبر النهر إلى المناجم المزعومة، وتلك مسألة أسطورية تماماً. ونزل رجال رالي إلى البر- وبقي هو على ظهر السفينة- وهاجموا القرية وأحرقوها وقتلوا حاكمها. وفترت همة القوة المنهوكة بما لقيت من مقاومة أسبانيا بعد ذلك، وتخلت عن ضالتها المنشودة في الذهب؛ وعادت صفر اليدين إلى السفن.(28/237)
وانخلع قلب رالي عندما علم أن ابنه قد ذبح في الهجوم، وأنب الرجل الذي يليه في القيادة، فانتحر الرجل نتيجة لذلك. ولكن رجال رالي فقدوا ثقتهم به، وتخلت السفينة عن أسطوله الواحدة بعد الأخرى، ولما عاد إلى إنجلترا، ووجد أن الملك غاضب عليه أشد الغضب، أجرى مفاوضات للهرب إلى فرنسا، ولكن قبض عليه، فعاود محاولة الهرب، ووصل إلى جرينتش، ولكن جاسوساً فرنسياً غدر به، فقبض عليه وأودع السجن، وأمر الملك، الذي كان يستحثه جوندومار، بتنفيذ حكم الإعدام.
وكان رالي، آخر الأمر، وقد سئم الحياة ورحب بنعمة الموت العاجل، فسار في 29 أكتوبر 1618، إلى ساحة الإعدام في وقار هادئ، جعل منه بطل شعب يمقت أسبانيا. وقال للموكلين بتنفيذ الحكم: "هيا، أنجزوا مهمتكم، لقد حانت سلعتي، ولن أدع أعدائي يظنون أني أرتعد فرقاً". واختبر بإبهامه نصل البلطة ثم قال "هذا علاج ناجح عادل لكل ما أعاني من مرض وشقاء (73) " وطالبت زوجته الوفية بجثته ودفنتها في إحدى الكنائس. وكتبت "لقد أنعم علىّ السادة بجثته، ولو أنهم أنكروا علىّ حياته. اللهم احفظ على عقلي وألهمني الصبر (74) ".
إن رحلة رالي كانت من رحلات كثيرة، حملت رعايا جيمس إلى أمريكا، يحدوهم الأمل. فالفلاحون المتلهفون على امتلاك أرض خاصة بهم، والمغامرون الذين يجرون وراء الثراء من التجارة أو الأسلاب، والمجرمون الذين يريدون الإفلات من قبضة القانون، والبيوريتانيين المصممون على رفع راية مذهبهم فوق أرض عذراء-هؤلاء جميعاً وغيرهم ركبوا الصعاب وتحملوا مشاق البحر ليؤسسوا "إنجلترا" جديدة في كل مكان. فأسست فرجينيا في 1606 - 1607، وبرمودا في 1609، ونيوفوندلند في 1610، وهرب رجال الدين "الانفصاليون" الذين رفضوا كتاب الصلوات والطقوس الخاصة بالكنيسة الأنجليكانية، إلى هولندا مع أتباعهم في 1608. ومن دلفت (يولية 1620) وسوثمبتون ويليموث (سبتمبر) أبحر هؤلاء الحجاج عبر الأطلسي. وبعد ثلاثة(28/238)
أشهر من المحن والمخاطر، ألقوا مراسيهم على صخرة بليموث (21 ديسمبر).
وفي آسيا، اقتصرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية على 30 ألف جنيه و17 سفينة، حاولت بها عبثاً أن تنتزع الثغور والطرق التجارية من شركة الهند الشرقية الهولندية التي كان لها 60 سفينة و340 ألف جنيه، ولكن بعثة سير توماس رو (1615) انتهت إلى إنشاء مستودعات تجارية في أحمد أباد وسورات وأجرا، وغيرها، في الهند، وأنشئ وعزز بالأسلحة فورت سان جورج، لحمايتها (6140). لقد اتخذت الخطوات الأولى لتأسيس الإمبراطورية البريطانية في الهند.
وعلى الرغم من مغريات المصالح التجارية، والإستحثاثات البرلمانية والغيرة الوطنية الشعبية، ظل الملك جيمس لمدة ستة عشر عاماً متمسكاً بسياسة السلام. وتوسل إليه مجلس العموم أن يدخل حرب الثلاثين عاماً إلى جانب البروتستانت المهددين بالخطر في بوهيميا وألمانيا. وأهاب به أن يزوج ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة، لا من أميرة أسبانية، بل من أميرة بروتستانتية. وندد بتراخيه في تنفيذ القوانين المعادية للكاثوليكية، وحثه على الأمر بفصل الأطفال الكاثوليك عن آبائهم، وأن ينشئوا على البروتستانتية، كما حذره مجلس العموم من أن التسامح لا بد أن يؤدي إلى نمو كنيسة كاثوليكية مفطورة صراحة على التعصب وعدم التسامح (75).
إن اختلاف وجهات النظر بين البرلمان والملك في 1621 كاد أن يكون بمثابة تجريب للصراع بين البرلمان الطويل وشارل الأول (1642). واستنكر النواب إسراف البلاط، والاحتكارات الدائبة على تعويق التجارة، وفرضوا الغرامة والنفي على المحتكرين، رافضين دفاعهم بأن الصناعة الناشئة لا بد من حمايتها ضد المنافسة. فلما أنب جيمس مجلس العموم على تدخله في أعمال "السلطة التنفيذية" أصدر المجلس (في 18 ديسمبر) "الاحتجاج الأعظم" التاريخي الذي أكد من جديد أن "الحريات والإعفاءات والامتيازات، وسلطة البرلمان، هي التراث القديم وحق المولد غير المشكوك فيهما لأبناء إنجلترا". وأضاف: "أن المسائل الشائكة العاجلة(28/239)
التي تتعلق بالملك والحكومة والدفاع عن الملكة .. كلها موضوعات ومادة صالحة للمشورة والمناقشة في البرلمان (76) ". ومزق جيمس في غضب شديد، من مضبطة البرلمان، الصفحة التي دون فيها الاحتجاج، وحل البرلمان (8 فبراير 1622) وأمر بأن يودع السجن أربعة من الزعماء البرلمانيين: سوثمبتون، سلدن، كوك، بيم، وعجل بتحقيق رغبة بكنجهام في التحالف العسكري مع أسبانيا.
وأغرى الوزير المستهتر آنذاك مليكه بأن يسمح له في اصطحاب الأمير شارل إلى مدريد، متباهياً، ليرى الأميرة الأسبانية، ويتمم الزواج، ووافق جيمس على كره منه، لأنه خشي أن فيليب قد يرد شارل إلى إنجلترا خائباً، فيكون أضحوكة أوربا.
ووصل الأمير شارل ودوق بكنجهام إلى مدريد (مارس 1623)، فوجد أن الأميرة الفاتنة لا يمكن الوصول إليها أو الاقتراب منه، وأن الشعب الأسباني غاضب أشد الغضب لمجرد التفكير في زواجها من أمير بروتستانتي، قدر استياء الإنجليز لفكرة عودة أميرهم بعروس كاثوليكية إلى إنجلترا. وقام فيليب ووزيره أوليفار بمراسم الحفاوة والتكريم للضيوف، وكتب لوب دي فيجا رواية كمظهر من مظاهر الترحيب، ورسم فيلاسكيه لوحة للأمير شارل، وامتدح بكنجهام المفاتن الأسبانية إلى حد الامتياز والشرف. ولكن وضع لإتمام الزواج شرط أساسي لا مناص منه، وهو منح الحرية الدينية للكاثوليك الإنجليز. ووافق شارل على الفور، ووافق جيمس آخر الأمر، ووقعت معاهدة الزواج، ولكن عندما طلب جيمس فيما بعد من فيليب أن يعد باستخدام الأسلحة الأسبانية، إذا اقتضى الأمر، في استعادة فردريك لإقليم البلاتينات، أبى فيليب أن يلزم نفسه بشيء، وأمر جيمس ابنه بالعودة إلى الوطن الحبيب. وإنا لنلمس الجانب الإنساني في الملك في رسالته إلى شارل (14 يونية 1623): "أنا الآن أعض بنان الندم، وأتألم أشد الألم، لأني سمحت برحيلك. عني أنا لا أعبأ بالزواج ولا بغيره، طالما أراك بين أحضاني ثانية. أعادك الله إلي أعادك الله إلي أعادك الله إلي (77) "أما الأميرة الأسبانية فإنها، عند توديعها الأمير شارل، جعلته يقطع على نفسه الوعد بالاهتمام بأمر الكاثوليك في إنجلترا(28/240)
ورعايتهم (78). وحيت إنجلترا الأمير العائد بوصفه بطلاً، لأنه لم يأت بعروس، بل أتى بدلاً منها بمجموعة من لوحات تشيان ( Titan- رسام من البندقية 1477 - 1576).
أما بكنجهام الذي غضب الآن أشد الغضب لأنه خدع نفسه في أسبانيا وارتكب هذه الحماقة هناك (كما أكد له أوليفار ذلك) فقد ولى وجهه شطر فرنسا ليعقد معها حلف مصاهرة، وهيأ لشارل الزواج من صغرى كريمات هنري الرابع-وهي هنريتا ناريا التي كان مذهبها الكاثوليكي شوكة من الأشواك في جنب البرلمان القادم. واستعاد الوزير الشاب المتهور شعبيته في مجلس الهموم، بالإلحاح على جيمس-الذي تدهورت صحته وانحطت قواه العقلية-ليعلن الحرب على أسبانيا. وعاد البرلمان إلى الاجتماع في فبراير 1624، وانتهج سياسة قوامها، من جهة، المصالح التجارية المتلهفة على الاستيلاء على المكاسب أو المستعمرات أو الأسواق الأسبانية، ومن جهة أخرى، صرف أسبانيا عن مد يد المساعدة إلى الإمبراطور الكاثوليكي ضد البروتستانت في ألمانيا. إن الشعب الذي قال بأن جيمس جبان لأنه يحب السلام، قال عنه الآن أنه طاغية لأنه يجند الرجال للخدمة العسكرية، ولم تكن الكتائب التي أعدت ولا الأموال التي اعتمدت كافية. وأحس جيمس بالمرارة، لاختتام حكم سلمي بحرب عقيمة.
وتكاثرت عليه العلل والأدواء في أعوامه الأخيرة، وكان قد سمم جسمه بالإسراف في الطعام والشراب دون تمييز، وكان يعاني الآن من التهاب الجهاز التنفسي، والتهاب المفاصل والحصى في الكلى واليرقان والإسهال والبواسير، وكان لا بد من فصده يوماً، حتى جعلت أقل متاعبه الملكية من هذا الفصد أمراً غير ضروري (89). ورفض تناول الدواء. وتناول الأسرار المقدسة الخاصة بالكنيسة الأنجليكانية، وفاضت روحه في 27 مارس 1625، وهو يتمتم بآخر راحة لنفسه في عقيدته.
وعلى الرغم من غرور جيمس وخشونته كان ملكاً أفضل من بعض ملوك(28/241)
يبزوه في النشاط والشجاعة والمغامرة. وكان "حكمه المطلق" بالدرجة الأولى عبارة عن "نظرية لطف الجبن من حدتها" وغالباً ما استسلمت لبرلمان قوي. ولم تحل مزاعمه اللاهوتية دون إرادة التسامح عنده، وهو تسامح أكرم كثيراً من تسامح من خلفه. وهيأ حبه الجريء للسلام لإنجلترا الازدهار، وكبح جماح الولع بالقتل في برلمانه، وهو ولع يشوبه الفساد والرشوة، وما يقابله من حماسة في شعبه. وكان متملقوه قد أطلقوا عليه "سليمان" البريطاني لحكمته الدنيوية. ولما عجز صلي Sully عن توريطه في النزاع في القارة (أوربا) أطلق عليه "أعقل البلهاء في العالم المسيحي"، ولكنه لم يكن فيلسوفاً ولا أبله، ولكنه كان عالماً يمثل دور الحاكم، ورجل سلام في عصر جن جنونه بالأساطير والحرب. إن الكتاب المقدس الذي تمت ترجمته في عهد الملك جيمس أفضل من تاج أي غاز أو فاتح.(28/242)
الفصل السابع
الدعوة إلى العقل
1558 - 1649
1 - الخرافة
هل الناس فقراء لأنهم جهلاء، أم جهلاء لأنهم فقراء؟ تلك مسألة انقسم عليها الفلاسفة السياسيون إلى محافظين يؤكدون أهمية عامل الوراثة (التفاوت الفطري الموروث في القدرة العقلية)، ومصلحين يعتمدون على البيئة (أهمية التعليم وإتاحة الفرصة). وبازدياد الثروة وتوزيعها ينمو العلم ويتقلص ظل الخرافة. ومع ذلك فانه حتى البلد المزدهر ازدهاراً كبيراً-وبخاصة بين الفقراء المنهوكين والأثرياء الخاملين-نجد أن الفكر يعيش في متاهة من الخرافات: علم التنجيم، حساب الجمل (دراسة المعاني السحرية أو التنجيمية للأعداد)، قراءة الكف، الأعاجيب، الحسد، السحرة، الغيلان، الأشباح، العفاريت، التعزيم لاستحضار الجن، التعاويذ والرقي، تفسير الأحلام، الكرمات والمعجزات، الشعوذة والدجل، الخصائص الخفية، الشافية أو المؤذية، للمعادن والنباتات والحيوانات. فلنتدبر إذن الجو الخانق الذي يسمم جذور العلم بثماره، في شعب ذي ثروة ضئيلة أو مركزة في أيدي فئة قليلة. إن الخرافة لدى ضعاف الأجسام والعقول عنصر ثمين في قصيدة الحياة، تضئ أيامهم الكئيبة بالأعاجيب المثيرة، وتخفف من بؤسها بالقوى السحرية والأماني الخفية.
وفي 1646 احتاج سير توماي براون إلى 652 صحيفة ليعدد ويعالج في إيجاز الخرافات المنتشرة في أيامه (1)، إن كل هذا الإيمان بالقوى الخفية تقريباً، نما وازدهر(28/243)
بين البريطانيين في عهد إليزابث وأوائل عهد آل ستيوارت. ففي 1557 نشر الملك جيمس السادس كتاباً يعتبر مرجعاً "الإيمان بالشياطين" وهو من المروعات في الأدب. وفيه ينسب إلى السحرة القدرة على ارتياد البيوت، وغرس الحب والبغض في قلوب الرجال والنساء بعض لبعض، ونقل المرض من شخص إلى آخر، والقتل بإحراق تمثال أو دمية من الشمع، وإثارة العواطف المدمرة. وبرر عقوبة الإعدام للسحرة والمشعوذين-بل حتى لزبائنهم (2). وعندما كادت زوبعة تودي بحياته في طريق عودته من الدنمرك مع عروسه، أمر بتعذيب أربعة اشتبه فيهم حتى اعترفوا كانوا قد تآمروا على القضاء عليه بوسائل سحرية. وأحرق واحد منهم حتى الموت، وهو جون فين، بعد أن عذب تعذيباً وحشياً (3).
واتفقت الكنيسة الوطنية الإسكتلندية مع الملك في هذا الشأن. وهدد القضاة المدنيون الذين يتساهلون مع السحرة بالحرمان من الكنيسة (4). وفيما بين عامي 1560 - 1600 أحرق نحو ثمانية آلاف من النسوة باعتبارهن ساحرات في إسكتلندة التي لم يكن عدد سكانها يبلغ المليون (5). وكاد الاعتقاد في السحر في إنجلترا أن يكون عاماً شاملاً، وشارك في هذا الاعتقاد أطباء علماء مثل وليم هارفي وسير توماس براون. ونصت إليزابث العنيدة في القوانين التي سنتها 1562 على أن الاشتغال بالسحر جريمة عقوبتها الإعدام. وأعدم من أجلها إحدى وثمانون امرأة في عهدها (6). وخفف جيمس السادس من تزمته بعد أن أصبح جيمس الأول ملك إنجلترا، وأصر على محاكمة المتهمين بالسحر محاكمة عادلة، وفضح الاعترافات والاتهامات الباطلة وأنقذ حياة خمس من النسوة اتهمهن صبي مخبول (7). وكادت المطاردة أن تنقط بعد اعتلاء شارل العرش، ولكنها استؤنفت، وبلغت أقصاها أيام حكم البرلمان الطويل، حيث أعدم في عامين اثنين (1645 - 1647) مائتان من السحرة (8).
وفي وسط هذه الموجة العاتية من الضراوة والعنف ارتفع صوت واحد يناشد العقل ويتحكم إليه، هو ريجنالد سكوت، وهو إنجليزي على الرغم من اسمه، وقد نشر في لندن 1584 "الكشف عن السحرة". ولم يسبقه إلا جوهان فير في كتابه(28/244)
"خدعة الشيطان" (بازل 1564) في هذه المحاولة الخطيرة، محاولة التخفيف من الخرافة البالغة القسوة. ووصف سكوت الساحرات بأنهن نسوة عجائز بائسات لا يستطعن الإضرار بأحد، وأنهن، حتى لو تصرف الشيطان عن طريقهن، أولى بالرثاء والإشفاق، أكثر منهن بالإحراق، وقال إن في نسبة المعجزات إلى هاتيك العجائز الشمطاوات، امتهاناً لمعجزات السيد المسيح. وفضح سكوت ألوان التعذيب التي جعلت السحرة غير ذات قيمة، وإجراءات المحاكمة المجافية للعدالة، والمشوبة بالمخالفات والتراخي. والشكوك التي يزدردها القضاة والمحققون. ولكن لم يكن ثمة أثر للكتاب.
وفي هذا الجو حاول العلم أن يشب على قدميه.
2 - العلوم
ومع ذلك، فإن تقدم التجارة والصناعة كان يفرض تقدم العلوم. وكان من العسير أن ننسق النزعات الأفلاطونية والفنية في عصر النهضة مع الاقتصاد المتوسع. واشتدت الحاجة إلى نهج عقلي يمكن أن يعالج الأرقام والحقائق. قدر ما يعالج النظريات والأفكار. ونشطت تجريبية أرسطو بعد تجريدها من أقنعة الفلسفة الهللينية المتأخرة في الإسكندرية ومن أقنعة فلسفة العصور الوسطى. وقد أفسح توكيد الفلسفة الإنسانية الإيطالية على أمجاد الآداب القديمة وعظمتها، نقول أفسح الطريق لتركيز أقل دقة على الحاجيات العملية الراهنة، وكان لزاماً على الناس أن تعد وتحصي، وأن تقيس وتصمم أو تخطط، في دقة وسرعة تحكمها المنافسة. واحتاج الناس إلى أجهزة للرصد والتسجيل، ونشأت المطالب التي تحققت باختراع اللوغاريتمات والهندسة التحليلية وحساب المثلثات والآلات، والمجهر (الميكروسكوب)، وطرق الإحصاء، والموجهات الملاحية، والأجهزة الفلكية، وتوافرت الحياة في أوربا الغربية منذ الآن فصاعداً، وعلى مواجهة تلك الحاجيات.
واقترح جون نابير في إسكتلندة 1614، وجوست بورجي في سويسرا 1620، كل على حدة، اقتراحاً طريقة اللوغاريتمات (أي منطق الأرقام) يمكن بواسطتها إجراء(28/245)
عمليات الضرب والقسمة وإيجاد الحدود في سهولة ويسر من الجداول الرياضية (جداول اللوغاريتمات) بأساس معين. وفي 1616 عدل هنري برجز الطريقة من أجل الحساب العادي، بجعل الأساس 10 ونشر جداول تعطى لوغاريتمات الأعداد من 1 إلى 20. 000. وللآن يمكن إيجاد حاصل ضرب عددين، بأن يستخرج من مثل هذه الجداول العدد الذي يكون مجموع لوغاريتمه هو مجموع لوغاريتمي العددين المطلوب ضربهما. كما يمكن قسمة أعلى ب، بإيجاد العدد الذي لوغاريتمه هو الفرق بين لوغاريتمي أوب. (لو أب= لو أ - لو ب. وأعد وليم أوترد Oughtred (1622) وادموند جنتر (1624) مساطر حاسبة يمكن بواسطتها إجراء العمليات الحسابية في ثوان قليلة. وقد وفرت هذه المخترعات نصف الوقت الذي كان يصرفه الرياضيون والفلكيون ورجال الإحصاء والملاحون والمهندسون، في عملياتهم الحسابية، وأطالت في الواقع حياتهم (9). ووجه كبلر، الذي استخدم الطريقة الجديدة في حساب حركات الكواكب، مديحاً حماسياً إلى لورد مارشستون (في إسكتلندة) 1620، ولم يكن يدري أن نابيير كان قد قضى نحبه قبل سنوات ثلاث، وكان نابيير قد وقع في خطأ يسير في التقدير والحساب، حين حدد أن العالم سينتهي فيما بين عامي 1688 و1700 (10).
وظل الرياضيون والفلكيون متكاتفين تكاتفاً وثقاً من أجل حساب حركات الأجرام السماوية، وحساب التقويم، وتطلب توجيه الملاحة معالجة بارعة معقدة للقياسات الفلكية. ووضع توماس هاريوت، بوصفه عالماً رياضياً، الشكل القياسي للجبر الحديث، وأدخل علامات الجذر "أكبر من" و "أقل من" وأحل الحروف الصغيرة محل الكبيرة القبيحة المنظر، لتدل على الأرقام، وعثر مصادفة على الطريقة الناجحة، وهي في وضع كل المقادير في المعادلة في طرف واحد، ووضع الصفر في الطرف الثاني (المعادلة الصفرية) وبوصفه فلكياً اكتشف البقع الشمسية، وقام بأرصاده لتوابع المشتري، مستقلاً عن جاليلو. إن جورج تشابمان نفسه، وهو من فحول العلماء، قدر أن علم هاريوت "لا يباريه فيه أحد، وأنه لا حدود له (11) ".(28/246)
وكان علم الفلك لا يزال ينضح بالتنجيم. وكان تنجيم "الساعة" يقرر هل تلائم النجوم مشروع الساعة أو لا تلائمه. وتنبأ التنجيم "الشرعي أو القضائي" بالأحداث عامة، في تعميم غامض متسم بالحكمة عادة. أما التنجيم "الطبيعي" فكان يكشف عن قدر الفرد وحظه من برجه-أي اختبار موقع النجوم ساعة مولده-وكل هذا موجود في روايات شكسبير (ولو أن لا يدل على إيمانه به)، وفي أيامنا هذه. وتقول نظرية التنجيم بأن القمر يحدث المد والجزر، والبكاء، والجنون، واللصوصية (رواية شكسبير هنري الرابع 1 - 2 - 15). وكانت كل علامة في البروج تتحكم في طبيعة وفي مصير أعضاء بعينها في جسم الإنسان (الليلة الثانية عشرة الفصل الأول، 3 - 146 - 151). واستخدم جون دي Dee الرموز في الزمن بإدماج التنجيم والسحر والرياضيات والجغرافيا، واشتغل بالعرافة البلورية وكتب Treatise Of The Rosia Crucean Secrets، واتهم بممارسة السحر ضد الملكة ماري تيودور (1555) ورسم خرائط جغرافية ومائية للملكة اليزابث. واقترح طريقاً عبر الشمال الغربي إلى الصين. وابتدع عبارة "الإمبراطورية البريطانية" وألقى محاضرات عن أقليدس أمام جماهير غفيرة في باريس، ودافع عن نظرية كويرنيكس، وأيد استخدام التقويم الجريجوري (قبل أن تروض إنجلترا نفسها على هذه البدعة البابوية بمائة وسبعين عاماً). ومات عن إحدى وثمانين سنة، وكانت حياة حافلة. وعزز تلميذه توماس دجز Digges تقبل فرضية كوبرنيكس في إنجلترا، واستبق فكرة برونو عن الكون اللانهائي (12). واستخدم توماس وأبوه ليونارد دجز "العدسات البلورية" ومن المحتمل أنها كانت بشيراً بظهور التلسكوب. واخترع وليم جاسكوان (حوالي 1639) المصغر (المكرومتر: أداة تستعمل مع التلسكوب أو في الميكروسكوب لقياس الأبعاد والزوايا البالغة الصغر) الذي مكن الراصدين من ضبط التلسكوب بدقة لم يسبق لها مثيل. أما أرميا هوروكس، وهو قسيس فقير من لنكشير مات في سن الرابعة والعشرين، فقال أن للقمر مداراً بيضوياً. وتنبأ-كما رصد (1639) لأول مرة سجلها التاريخ- انتقال الزهرة حول الشمس. وساعدت تأملاته في القوى التي(28/247)
تحرك الكواكب، نيوتن في نظرية الجاذبية الأرضية.
وفي نفس الوقت كانت دراسة المغناطيسية الأرضية تمهد الطريق أمام نيوتن. فان جورج هارتمان، وهو من رجال الدين الألمان (1544) وروبرت نورمان، وهو إنجليزي يشتغل بصنع البوصلة (1576)، اكتشفا، كل منهما بمفرده بعيداً عن الآخر، انحراف الإبرة المغناطيسية، حين تكون معلقة تعليقاً حراً من مركز ثقلها، وميلها إلى الانحراف عن الوضع الأفقي إلى وضع يصنع زاوية مع سطح الأرض. وذهب نورمان في كتابه "الجديد الجذاب" إلى القول (1581). بأن "عامل الجذب" الذي تنحرف إليه الإبرة يقع في الأرض نفسها (13).
وجاء بعد هذه الطليعة الباهرة، وليم جلبرت، طبيب إليزابث. وبعد سبعة عشر عاماً من البحث والتجربة-التي اعتمد في تمويلها على ثروته الموروثة، كما عاونته الملكة أحياناً-نشر النتائج التي توصل إليها في أول مؤلف إنجليزي كبير للعلوم: "في المغناطيس ... والمغناطيس الأعظم وهو الأرض" (1600). لقد وضع إبرة بوصلة محورية، على التعاقب: في نقطة مختلفة، على حجر مغناطيس كروي. وسجل بخطوط على الكرة الاتجاهات التي اتجهت إليها الإبرة على التوالي، ومد كل خط ليشكل دائرة كبيرة حول الحجر، ووجد أن كل هذه الدوائر قطعت الكرة في نقطتين متقابلتين تماماً، وكان هذان هما القطبان المغناطيسيان اللذان اعتبرهما جلبرت خطأ، في حالة الأرض، القطبين الجغرافيين. ووصف الأرض بأنها مغناطيس ضخم، وفسر، بناء على ذلك الإبرة المغناطيسية، وأظهر أن أي قضيب حديدي يترك لمدة طويلة في وضع شمالي جنوبي لا بد أن يصبح ممغطساً. والمغناطيس الذي يوضع على أي من قطبي حجر المغناطيس الكروي، يأخذ وضعاً عمودياً على الكرة. وإذا وضع في أية نقطة متوسطة بين القطبين (وهي النقط التي تكون خط الاستواء المغناطيسي) يأخذ وضعاً أفقياً. وانتهى جلبرت إلى أن انحراف الإبرة يكون أعظم، كلما وضعت أقرب إلى القطبين الجغرافيين للأرض. وعلى الرغم من أن هذا لم يكن صحيحاً تماماً، فقد أكده تقريباً هنري هدسن في ارتياده(28/248)
المنطقة المتجمدة الشمالية (1608). ومن ملاحظاته الخاصة، رسم اتجاهات لحساب خط العرض من درجة الانحراف المغناطيسي. وذهب إلى أنه "من حول جسم مغناطيسي تنتشر القوة المغناطيسية في كل ناحية". ونسب دوران الأرض إلى تأثير هذا المجال المغناطيسي. وانتقل جلبرت من هذا إلى دراسة الكهرباء-ولم يكن قد تم فيها شيء يذكر منذ القدم-وأثبت أن ثمة مواد أخرى كثيرة-غير الكهرمان، يمكن بحكها أن تولد كهرباء بالاحتكاك. ومن اللفظة اليونانية لكلمة Amber ( كهرمان). كون لفظة Electric ( كهرباء) لتدل على قوة تحرف الإبرة المغناطيسية. واتقد بأن كل الأجسام السماوية مزودة بالمغناطيسية، واستخدم كبلر هذه الفكرة لتفسير حركة الأجسام السماوية. والحق أن معظم عمل جلبرت كان مثالاً يدعو إلى الإعجاب للنهج التجريبي، وأن آثاره على العلوم والصناعة لا حدود لها.
وظهر تقدم العلوم أكثر في جهود النفوس المغامرة أو المولعة بالتحصيل والكسب، لاكتشاف "المغناطيس الأعظم" لأغراض جغرافية واقتصادية. وفي 1576 نشر سير همفري جلبرت (ولا يمت بصلة إلى وليم جلبرت) "مقالاً موحياً .... عن طريق جديد إلى الصين". مقترحاً الإبحار في اتجاه الشمال الغربي، عبر كندا أو حولها. وفي نفس العام أبحر سير مارتن فروبشر بثلاث سفن صغيرة ليكتشف طريقاً مثل هذا. وغرقت إحدى سفنه، وهجر الثانية ملاحوها، وسار هو قدماً بالسفينة "جبراييل" البالغة الصغر والتي لم تتجاوز حمولتها 25 طناً. ووصل إلى بفن لاند، ولكن الاسكيمو حاربوه، فعاد إلى إنجلترا طلباً لمزيد من الرجال والمؤن. وانحرفت رحلاته بعد ذلك عن الجغرافيا للبحث عن الذهب دون جدوى، ثم تمسك جلبرت بضالته المنشودة، وهي الطريق الشمالي الغربي إلى الصين، ولكنه أغرق وهو يحاول ذلك (1583). وبعد ذلك بأعوام أربعة اندفع جون دافيز في المضيق المسمى اليوم باسمه، وحارب الأرمادا، ثم أنطلق إلى البحار الجنوبية مع توماس كافندش واكتشف جزر فوكلند، وقتله القراصنة اليابانيون بالقرب من سنغافورة (1605) وارتاد كافندش الجزء الجنوبي من أمريكا(28/249)
الجنوبية وأكمل ثالث طواف حول الكرة الأرضية، ومات في البحر (1592)، وسار هنري هدسن (1609)، وفي رحلة أخرى وصل إلى خليج هدسن، ولكن بحارته الذين ذهبت الصعاب بعقولهم، واشتد بهم الحنين إلى الوطن، تمردوا عليه، وأنزلوه هو وثمانية معه في قارب صغير مكشوف، (1611) ولم يسمع لهم ذكر بعد ذلك قط، واكتشفت وليم بفن الخليج والجزيرة اللتين تحملان اسمه، وغامر حتى وصل إلى خط عرض 77. 45 - وهو ما لم يصل إليه أحد مرة أخرى قبل مضي 236 سنة-وكان له امتياز آخر، وهو إيجاد خطوط الطول لأول مرة برصد القمر. وشهد ريتشارد هاكلوت في هذه السفن المأخوذ من خشب البلوط فترة من البسالة والرعب تفوق أية الياذة، ونشر قصصها في مجلدات ظهرت تباعاً، من أحسن ما عرف منها هو ما نشر تحت اسم "الإبحارات الرئيسية، رحلات الأمة الإنجليزية وكشوفها" (1579، 1598، 1600)، وزاد صمويل بوركاس في هذا السجل بكتاب "رحلات بوركاس (1625). وهكذا كان الطمع في الحصول على الذهب، والتحمس لمواجهة الأخطار ومشاهدة البلاد البعيدة سبباً في تقدم الجغرافيا دون قصد.
وكان احسن ما حققه العصر في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا من عمل القارة. أما في إنجلترا، على أية حال، فان سير كنلم دجبي Kenelm Digby اكتشف ضرورة الأوكسجين لحياة النبات، كما أيد روبرت فلد Fludd، وهو متصوف وطبيب، فكرة التطعيم Jenner بمائة وخمسين عاماً. واستمرت وصفات الدواء تعتمد على إثارة الاشمئزاز ليكون للأدوية أثرها. وأوصى الدستور الرسمي للأدوية في لندن 1618، بالمر، وعصارة النبات (الدم) وتشريط الجلد، وعرف الديك، والفراء، والعرق واللعاب والعقارب وجلد الثعبان وحمار القبان (حشرة) ونسيج العنكبوت، على أنها وسائل للعلاج، وكلن فصد الدم أول شيء يلجئون إليه (14) -وعلى الرغم من ذلك، فان هذه الحقبة تفاخر بتوماس بار "بار العجوز Old Parr" الذي قدم إلى شارل الأول 1635، على أنه يتمتع بصحة جيدة مع أنه كان كما زعموا، في الثانية والخمسين بعد المائة من عمره. ولم(28/250)
يدع بار يعرف سنه على التحقيق، وكلن ولاة الأمور في أبرشيته دونوا تاريخ ميلاده في 1483، وادعى أنه التحق بالجيش في 1500، وتذكر تفاصيل حل الأديار في عهد هنري الثامن. (1536)، فقال له الملك شارل الأول "لقد عمرت أطول من أي أناس آخرين، فماذا فعلت أكثر مما فعلوا هم؟ " فأجاب بار، بأنه كان عمره فوق المائة حين ضاجع فتاة فحملت، وأنه كفر عن خطيئته بأشد كفارة. وكان بار قد عاش، تماماً تقريباً، على البطاطس والخضر والخبز الجاف واللبن المخيض، ونادراً ما ذاق اللحم. ولفترة من القوت أصبح بار مشهوراً في ردهات لندن وحاناتها، وكانوا يقدمون له فيها ما لذ وطاب، حتى أنه مات في بحر عام من لقائه مع الملك. وفحص سير وليم هارفي جثته بعد وفاته فوجد أنه غير مصاب بتصلب الشرايين. وشخص موته بأنه نتيجة لتغيير الهواء والغذاء (15).
إن هارفي هو الذي هيأ لهذا العصر ذروة المجد العلمي بشرحه للدورة الدموية، وهو "أجل حدث في تاريخ الطب منذ عهد جالينوس (16) ". ولد في فولكستون (1578)، ودرس في كمبردج ثم في بادوا على فابريزيو دكو ابندانت، فلما عاد أقام في لندن ومارس الكب فيها، وأصبح الطبيب الخاص لجيمس الأول ثم شارل الأول، وعكف صابراً مثابراً، سنين طوالاً، على إجراء التجارب والتشريح، على الحيوانات والجثث، ودرس، تدفق الدم ومجراه في الجروح. ووصل إلى نظريته الأساسية في 1615 (17). ولكنه نشرها، متأخراً، في فرانكفورت 1628، على أنها "تجارب متواضعة في تشريح الجثث ودماء الحيوان". وهي أول وأعظم أثر في الطب في إنجلترا.
وإن الخطوات التي تدرج فيها الكشف الذي توصل إليه هارفي لتوضيح عالمية العلم. فإن وظائف القلب والدم، ظلت لأكثر من ألف عام، تفسر كما فسرها جالينوس في القرن الثاني الميلادي. وكان جالينوس قد افترض أن الدم يتدفق إلى الأنسجة من الكبد والقلب سواء بسواء، وأن الهواء يمر من الرئتين إلى القلب، وأن الشرايين والأوردة بها مجريان للدم، يدفعهما ويستقبلهما القلب، وفي حركة مد وجزر، وأن الدم يجري من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من القلب عبر(28/251)
مسام في الحجاب الحاجز بين التجاويف. وعارض ليوناردو دافنشي (حوالي 1506) فكرة مرور الهواء من الرئتين إلى القلب، وأنكر فيساليوس (1543) وجود مسام في الحجاب الحاجز. وكشفت رسومه البارعة للشرايين والأوردة عن أن نهاياتها أو أطرافها دقيقة ومتلاصقة حتى لا تكاد توحي بالمرور والدورة. وأوضح فابريزيو أن الصمامات في الأوردة تجعل من المستحيل تدفق الدم الوريدي من القلب. وتلاشت نظرية جالينوس. واكتشف ميشيل سرفيتس (1553)، وريالدوكولومبو (1558)، الدورة الدموية الرئوية-أي مروره من الجانب الأيمن من القلب عبر الشريان الرئوي إلى الرئتين ومن خلالهما، وتنقية الدم هناك بوساطة التهوية، وعودته عن طريق الوريد الرئوي إلى الجانب الأيسر من القلب. واستبق أندريا سيسالبينو (حوالي 1571) -كما سنرى النظرية الكاملة للدورة، وتحولت النظرية إلى حقيقة واضحة جلية بفضل ما قام به هارفي.
وبينما كان فرانسيس بيكون، المريض الذي يتولاه هارفي، يمجد الاستقراء، توصل هرافي إلى النتيجة الرائعة عن طريق الجمع اللافت للنظر بين الاستنتاج والاستقراء. إنه بتقديره كمية الدم المندفع من القلب في كل انقباض أو تقلص بأنها نصف أوقية سائل، حسب أنه في ساعة، لا بد أن يصب القلب في الشرايين، ما يزيد على 500 أوقية سائل، وهي كمية تزيد على ما يحتويه الجسم كله، فمن أين يأتي كل هذا الدم. وبدا من المستحيل أن هذا القدر الكبير يمكن أن ينتج من ساعة إلى ساعة، من هضم الغذاء. فاستنتج هارفي أن الدم الذي يخرج من القلب يعاد إليه، وأنه ليس ثمة طريق آخر لهذا سوى الوردة. وبفضل التجارب والملاحظات البسيطة-وعلى سبيل المثال، الضغط بالإصبع على أي وريد سطحي-تبين في الحال وبسهولة، أن الدم الوريدي تدفق من الأنسجة نحو القلب.
عندما استعرضت مجموعة الشواهد التي لدى، سواء ما استقيتها من تشريحات الأحياء وتأملاتي فيها، أو من تجاويف القلب والأوعية التي تدخل إليها أو تخرج منها .... والتي كثيراً ما أمعنت التفكير فيها بشكل جدي .... ما عساها تكون كمية(28/252)
الدم التي تنقل ... ووجدت من المستحيل أن تكون مستمدة من عصارات الغذاء الذي يدخل إلى الجسم، دون أن تجف الأوردة تدريجياً، من جهة، وأن تنفجر الشرايين لفرط امتلائها بالدم، من جهة أخرى، إلا إذا وجد الدم له، بطريقة ما، مخرجاً من الشرايين إلى الأوردة، ومن ثم يعود إلى الجانب الأيمن من القلب ... أقول إني عندما استعرضت كل هذه البيانات والشواهد، بدأت أفكر في انه يمكن أن يكون هناك، "حركة، كما لو كانت في دائرة. " ... والآن يمكن أن أستبيح لنفسي أن أدلي بفكرتي عن الدورة الدموية (18).
وتردد طويلاً في نشر النتائج التي توصل إليها، لما كان يعلم من روح المحافظة التي سادت مهنة الطب في عصره. وتنبأ بأن فرد فوق الأربعين لن يقبل نظريته (19). وروى أوبري "سمعته يقول إنه بعد صدور كتابه: الدورة الدموية، تدهور تدهوراً شديداً في عمله، حتى أعتقد السوقة أنه قد اختل عقله (20). وحتى أثبت مالبيجي Malpighi (1660) وجود الأوعية الشعرية التي تحمل الدم من الشرايين إلى الوردة، لم تكن دنيا العلم تسلم بأن الدورة الدموية الحقيقية واقعة. إن الفكرة الجديدة أضاءت كل مجالان الفسيولوجيا تقريباً وأثرت على المشكلة القديمة، مشكلة العلاقة المتبادلة بين الجسم والعقل. ويقول هارفي:
إن أي شعور في العقل، مصحوب بألم أو لذة، بأمل أو خوف، هو سبب في إثارة يمتد أثرها إلى القلب ... وفي كل عاطفة تقريباً ... تتغير ملامح الوجه، ويظهر الدم جارياً هنا وهناك. وفي حالة الغضب تتقد العينان، ويتقلص إنسان العين. وفي حالة التواضع تغمر الوجنات حمرة الخجل. أما في حالة الشهوة فما أسرع ما يتضخم أو ينتفخ العضو بالدم (21).(28/253)
وظل هارفي في خدمة شارل حتى الخاتمة الأليمة التي مني بها الملك تقريباً، فقد رافقه حين طوحت الثورة بالملك إلى خارج لندن، كما رافقه في معركة ادجهل Edgehill، حيث نجا من الموت بأعجوبة (22). وفي نفس الوقت نهب الثوار داره في لندن، وعبثوا بمخطوطاته ومجموعات التشريح التي كان يحتفظ بها. وربما كان هارفي قد حلب على نفسه عداوة كثير من الناس نظراً لحدة طبعه وآرائه. ولم يعتبر هارفي الإنسان "إلا قرد ضخماً شريراً كريهاً" كما قال أوبري، وذهب إلى "أننا نحن الأوربيين لم نعرف كيف نسوس نسائنا ونحكمهن، وان الأتراك هم الشعب الوحيد الذي استطاع أن يستخدمهن بحكمة (23). ولما كان محتفظاً بنشاطه وحيويته وهو في سن الثالثة والسبعين، فانه نشر رسالة في "علم الأجنة" (1651)، نبذ فيها الاعتقاد السائد في التوالد التلقائي لكائنات دقيقة من أجسام متحللة. واعتقد هارفي "بأن كل الحيوانات حتى هذه التي تنتج صغارها أحياء، بما في ذلك الإنسان نفسه-تتطور وتخرج من بيضة، وصاغ عبارة "كل حيوان يخرج من بيضة". ومات بعد ذلك بست سنين بسبب شلل أصابه، واهباً معظم ثروته التي تبلغ عشرين ألف جنيه لكلية الأطباء الملكية، وعشرة جنيهات لتوماس هوبز "رمزاً للمحبة".
3 - صعود فرانسيس بيكون وسقوطه
1561 - 1621
نحن الآن أمام أكبر عقل وأنشطه مدعاة للفخر، لقد وقفنا على مولده ونسبه، ودراسته للأدب والدبلوماسية والقانون، وفقره غير المتوقع، والتماسه للوظيفة، دون أن يسمع بع أحد، وتحذيره لصديقه المحسن الخير المجرم، ومقاضاته إياه على كره منه. ولقد استنفد العلم والمعرفة والطموح كل طاقته، حتى لم يعد به ميل إلى النساء، على أنه على أية حال، كان يحب الشبان (24). وفي سن الخامسة والأربعين (1606) تزوج من أليس برنهام Barnham التي هيأت له 220 جنيهاً في العام. ولكنه لم ينجب أطفالاً.
وعندما اعتلى جيمس الو عرش إنجلترا بعث إليه بيكون بكتاب مسرف في(28/254)
الزلفى والملق، يعرض نفه على الملك على أنه صالح لتقلد المناصب وأهل لها وأما كان ابن حامل أختام الملك، وابن أخ لآل سيسل أو من أبناء عمومتهم أوخؤولتهم، فإنه أحس بأن طول انتظاره للوظيفة الحكومية يعكس شيئاً من روح العداء من جانب الوزراء المتربعين على كراسي الحكم، وربما كانت انتهازيته المتبرمة، نتيجة، وفي نفس الوقت سبباً في تأخر تعيينه في أحد المناصب. كان قد خدم بالفعل في البرلمان لمدة تسعة عشر عاماً، ودافع فيها عادة عن الحكومة، واشتهر بسعة الإطلاع، والفكر البناء، والعبارة الواضحة الأخاذة. وكان يرسل بين الحين والحين. إلى الملك "مذكرات" تفيض بالآراء السديدة في كيفية النهوض بالتفاهم المتبادل والتعاون بين مجلس العموم واللوردات، وتوحيد برلماني إنجلترا وإسكتلندة، وإنهاء الاضطهاد الديني للمخالفين، وتهدئة أيرلندة باستمالة الكاثوليك فيها، وإعطاء الكاثوليك في إنجلترا مزيداً من الحرية دون فتح الباب للمزاعم البابوية، وإيجاد وسيلة للتوفيق بين الأنجليكانيين والبيوريتانيين. وقرر مؤرخ درس الشئون السياسية في تلك الحقبة دراسة مستفيضة-قرر "أن تنفيذ هذا البرنامج لم يكن يعني ألا تغيير كل مساوئ النصف الثاني من هذا القرن (25) ". وطرح جيمس هذه الاقتراحات جانباً على أنها غير عملية في ظروف التفكير السائدة. واكتفى بضم بيكون إلى طبقة الفرسان الثلاثمائة الذين وزعهم 1603، وتذرع بيكون بالصبر وظل يمني نفسه.
وعلى الرغم من كل شيء، فان براعته بوصفه محامياً لم توفر له الغنى والثراء إلا في شيء من البطء. وفي 1607 قدرت ثروته بنحو 24. 155 جنيه (26). وفي ضيعته التي زودها بكل ألوان الترف، في جور هامبري، كما هيأ لها نخبة من العاملين المرتفعي الأجور والسكرتيرين اليقظتين مثل توماس هوبز، نقول أنه في هذه الضيعة استطاع أن ينعم بالجمال والراحة اللتين أحبهما في حكمة أكثر مما ينبغي، ورعى صحته بالعمل في الحديقة التي بنى في وسطها ركناً فاخراً يأوي إليه ليخلو إلى نفسه ويتفرغ إلى الدرس والبحث، فكتب كما يكتب الفلاسفة وعاش كما يعيش الأمراء،(28/255)
إنه لم يجد سبيلاً يبرر أن يكون العقل مفلساً، ويبرر ألا يكون "سليمان" (أي الحكيم) ملكاً.
إن بيكون لم يطل به الأمد حتى يبلغ الهدف، فان الملك جيمس الذي قدره حق قدره آخر الأمر عينه في 1607 مساعداً للنائب العام وفي 1613 نائباً عاماً، وفي 1616 عضواً في مجلس شورى الملك، وفي 1617 حاملاً للأختام، وفي 1618 قاضياً للقضاة. وخلعت عليه ألقاب كريمة جديدة لتزين مواهبه وقدراته: ففي 1618 عين بارون فيرولام الأول، وفي يناير 1621 فيكونت سانت ألبانز. ولما غادر جيمس إنجلترا إلى إسكتلندة، ترك قاضي قضاته ليحكم البلاد. "واستقبل بيكون سفراء يحف به الجلال والعظمة" وعاش في جورهامبري تحوطه الفخامة والأبهة "حتى بدا أن البلاط الملكي هنا (في قصر جورهامبري)، وليس قصر هويتهول أو في قصر سان جيمس (27) ".
لقد حظي بيكون بكل شيء إلا الشرف. ففي سعيه وراء المناصب كثيراً ما ضحى بالمبادئ، فاستغل نفوذه، كمساعد للنائب العام، لإصدار الأحكام القضائية على الصورة التي يرغب فيها الملك (28) ودافع، وهو حامل للأختام الملكية، عن أشد الاحتكارات تعسفاً وظلماً، وحماها وواضح أنه فعل هذا إبقاء على رضاء بكنجهام. وقبل، وهو قاض، هدايا ثمينة من المتقاضين أمام المحكمة. ولم يكن كل هذا إلا شيئاً من فساد هذا العصر ورخاوته، أن الموظفين العامين كانوا يتقاضون رواتب هزيلة، فعوضوا عنها "بالهدايا والعطايا" ممن يساعدونهم. واعترف جيمس قائلاً: إذا كان لا بد لي من معاقبة الرشوة، لما تركت واحداً من الرعايا". إن جيمس نفسه كان يقبل الرشوة (29).
وثارت ثائرة البرلمان الذي اجتمع في يناير 1621 ضد الملك-وكره بيكون، لأنه أكبر مدافع عنه، وأنه هو الذي قضى بشرعية الاحتكارات، وإذا لم يكن في مقدور البرلمان بعد أن يخلع الملك، فان في مقدوره تجريح وزيره ومساءلته. وفي فبراير عين لجنة لتقصي الحقائق في دور القضاء خاصة. وفي مدارس اللجنة تقريراً(28/256)
أثبت فيه أنها وجدت مخالفات كثيرة، لا سيما في تصرفات قاضي القضاة وسلوكه، واتهمته بثلاث وعشرين حالة محددة من حالات الفساد. وأهاب بيكون بالملك أن ينقذه، متنبأ بأن "هؤلاء الذين يطعنون قاضي القضاة الآن، وسرعان ما يطعنون التاج بعده (30) ". وأشار عليه جيمس بإقرار الاتهام، ومن ثم يضرب مثلاً يحول دون الفساد في الوظائف العامة مستقلاً، وفي 22 أبريل أرسل بيكون اعترافاً إلى مجلس اللوردات. وسلم بأنه أخذ هدايا من المتقاضين، كما فعل سائر القضاة، وأنكر أن أحكامه تأثرت بها-فانه كان قد أصدر في قضايا كثيرة أحكاماً ضد مقدمي الهدايا. وحكم عليه مجلس اللوردات "بدفع غرامة قدرها أربعون ألفاً من الجنيهات. وبالسجن في برج لندن لمدة يرضاها الملك، ولا يكون له إلى الأبد الحق في تولي المناصب العامة، وإلا يدخل البرلمان في الدولة بأسرها. "وسيق في 30 مايو إلى برج لندن، ولكن أفرج عنه بعد أربعة أيام بأمر من الملك الذي ألغى كذلك الغرامة التي تبهض كاهله. وآوى قاضي القضاة المعاقب إلى جورهامبري، وحاول أن يحيا حياة أكثر بساطة. ووجد راولي Rawley وهو أول من كتب سيرة حياة بيكون-على ورقة كتبها عند وفاته، بالرمز "كنت أعدل قاض في إنجلترا في هذه السنوات الخمسين، ولكنه كان كذلك أعدل تفريع من البرلمان في هاتين المائتين من السنين" (31).
وكانت لهذا الاتهام والمحاكمة آثار طيبة؛ ذلك أنها خففت من الفساد في الوظائف العامة؛ ولا سيما في دور القضاء، كما وضعت سابقة مسئولية وزراء الملك أمام البرلمان. كما أنها صرفت بيكون عن ميدان السياسة، الذي كان فيه متحرراً في التفكير؛ رجعياً في التنفيذ؛ وردته ثانية إلى مجال بديل؛ هو مجال العلم والفلسفة حيث أمكنه "أن يدق الناقوس لتجتمع العبقريات معاً" وأن ينادي في نثر رائع بثورة العقل ومنهجه.
4 - التجديد الكبير
كانت الفلسفة لأمد طويل، الملجأ الذي يلوذ به بيكون هرباً من عناء العمل، إن لم تكن حبه الدفين الذي يطوي علية جوانحه، وأسعد ما يصبو إليه ويقبل عليه؛ وكان بالفعل قد نشر في 1603 - 1605 مؤلفاً عظيماً The Proficience(28/257)
and Advancement Of Learning ( إتقان المعرفة والنهوض بها) ولكن بدا له أن هذا مجرد برنامج تمهيدي وليس إنجازاً. وفي 1609 كتب إلى أسقف إلي Ely: أرجو أن يأذن الله لي في أن أكتب كتاباً مستفيضاً منصفاً في الفلسفة ... (32) "، وفي 1610 كتب إلى كازوبون (عالم لاهوتي وكاتب فرنسي معاصر له): "إن ما أهدف إليه هو أن أحدث تنظيماً أفضل لحياة الإنسان ... بفضل التأمل الصحيح الصادق (33) ".
وفي أثناء السنوات التي أزعجته فيها المناصب، كان بيكون قد أبصر-في افتراض طائش في أيام السعة والثراء-بخطة وقورة لتجديد العلم والفلسفة. وقبل سبعة شهور من سقوطه، أعلن الخطة في كتاب باللاتينية موجه إلى كل أوربا، أسماه في جرأة "التجديد الكبير". وكانت صحيفة العنوان نفسها تحدياً، ذلك أنه قد رسم عليها قارب يعبر بأقصى سرعته أعمدة هرقل إلى الأطلسي، ووضع بين العمدة أحد شعارات العصور الوسطى "لا تذهب إلى أبعد من ذلك" وكتب بيكون "إن كثيرين سوف يمرون عبره، ولسوف تزداد المعرفة والعلم". وأضافت المقدمة المزهوة "إن فرانسيس فيرولام (بيكون) قد تدبر هذا بينه وبين نفسه، وحكم بأنه من مصلحة الأجيال الحاضرة والمستقبلة أن تتعرف على أفكاره (34) ".
ولما وجد أن "ما يجري في مجال العلم الآن ليس إلا مجرد دوران حوله، وحركة دائبة تنتهي إلى حيث تبدأ، خلص إلى أنه":
ليس ثمة إلا سبيل واحد أمامنا .... وهو أن نحاول الأمر كله من جديد، وفق خطة أفضل، وأن نشرع في أن نقيم من جديد، إقامة تامة، صرح العلوم والفنون العملية، وكل المعرفة الإنسانية، على أساس سليم .... وفضلاً عن ذلك فانه لما لم يكن يعلم كم من الزمن قد ينقضي قبل أن تتيسر هذه الأفكار لأحد غيره .... فإنه(28/258)
عقد العزم على ان ينشر على الفور كل ما يستطيع إنجازه، حتى يبقى، في حال وفاته، موجزاً أو خطة لما كان قد فكر فيه. إن كل المطامح بدت لناظريه هزلية ضئيلة إذا قورنت بالعلم الذي هو بصدده (35).
وجعل إهداء المشروع برمته إلى جيمس الأول مع رجاء المعذرة "لأني سرقت من الوقت المخصص لإنجاز المهام التي وكلتها إلى، وقتاً اقتضاه هذا العمل"، ولكن مع أكبر الأمل في "أن يكون في نتيجته تخليد لذكرى اسمك وتشريف لعهدك"-وهذا ما حدث، فان جيمس كان رجلاً معروفاً بسعة الإطلاع والنوايا الطيبة، فلو أمكن إقناعه بتمويل الخطة، فأي تقدم كان يمكن تحقيقه؟ وكما كان روجر بيكون قد أرسل قبل ذلك بزمن طويل (1268) إلى البابا كليمنت الرابع "العمل العظيم" يتلمس منه العون على تنفيذ اقتراح بالنهوض بالعلم والمعرفة، فان سمية أهاب الآن بالملك أن يأخذ على عاتقه "مهمة ملكية" هي تنظيم البحث العلمي، والتوحيد الفلسفي لنتائجه، من أجل الخير المادي والأدبي للجنس البشري. وذكر جيمس "بالملوك الفلاسفة"-نرفا، تراجان، هادريان، أنطونينوس، بيوس، ماركوس أوريليوس، الذين هيئوا للإمبراطورية الرومانية حكومة فاضلة لمدة قرن من الزمان (96 - 180) بعد الميلاد. فهل كان من أجل حاجته إلى الاعتمادات الحكومية وأمله في الحصول عليها، أنه أيد الملك بمثل هذا العناد والإصرار، وبشكل جر عليه الخراب؟.
وفي مقدمة أخرى طلب بيكون من القارئ أن يلقي نظرة على العلم السائد وقد هلهلته الأخطاء، وركد بشكل مخز. لأن:
"العباقرة العظام، على تعاقب العصور، كانوا يرغمون على الانحراف عن طريقهم، إن الرجال ذوي القدرة والفكر، فوق مستوى السوقة، كان يسرهم، من أجل الشهرة، أن ينحنوا أمام حكم الزمن والجماهير، وهكذا(28/259)
فإن أي تفكير من مستوى رفيع ظهر في أي مكان، كانت تعصف به رياح الأفكار السوقية (36) ".
ولكي يهدئ من روع رجال اللاهوت الذين كانوا متسلطين على الشعب أو الملك، فان بيكون حذر قراءه من أن "يقصروا معنى" ما يضطلع به "في حدود الواجب، فيما يتعلق بالمسائل الإلهية أو الدينية". وتنصل من أي قصد له في التعرض للعقائد أو الشئون الدينية. "إن المهمة التي بين يدي ليست رأياً يجب اعتناقه، بل هي عمل يجب القيام به ... إني لا أكد وانصب في وضع أساس أي مذهب أو نظرية، بل أساس منفعة الإنسان وقوته (37) ". واستحث الآخرين أن يقبلوا عليه وينضموا إليه في عمله، ووثق في أن الأجيال المتعاقبة ستواصله.
وفي نشرة تمهيدية رائعة عرض بيكون خطة للمشروع:
فأولاً، يمكن أن يحاول تصنيفاً جديداً للعلوم القائمة أو المرغوب فيها، ويفرد لها مسائلها ومجالات البحث فيها، وهذا هو ما أنجزه في "النهوض بالمعرفة"، الذي ترجمه ووسع فيه كتاب (التوسع في العلوم) 1623، حتى يصل إلى القراء في القارة.
ثانياً:، يمكن أن يتفحص مواطن الضعف في المنطق المعاصر، ويسعى إلى "استغلال أدق وأكمل للعقل ابشري" مما صاغه أرسطو في رسائله المنطقية، المعروفة في جملتها باسم Organon، وهذا ما فعله بيكون في كتابه Novum Organum (1620) .
ثالثاً: يمكن أن يشرع "تاريخ طبيعي" "لظواهر الكون"-الفلك، الفيزياء، البيولوجيا.
رابعاً: يمكن أن يعرض في "سلم الفكر" نماذج من التحقيق العلمي، طبقاً لطريقته الجديدة.
خامساً: يمكن أن يصف مثل هذه الأشياء، بوصفها بشائر،: كما كشفتها أنا بنفسي".(28/260)
سادساً: يمكن أن يشرع في تفسير تلك الفلسفة التي تعقبها في مختلف العلوم على هذا النحو، ومن ثم يجب إيضاحها وإثبات صحتها. "أن إكمال الجزء الأخير ... فوق طاقتي وأكثر مما أصبو إليه". ويبدو لنا، نحن الذين نتخبط ونلهث اليوم في خضم المعرفة والتخصصات، أن برنامج بيكون عقيم أشد العقم. ولكن المعرفة لم تكن آنئذ بمثل هذه السعة والدقة، وأن روعة الأجزاء التي أنجزت لتغفر جراءة الكل. وعندما أفضى بيكون إلى سيسل بقوله "أني ضممت كل المعرفة إلى نطاق ولايتي"، فإنه لم يقصد أنه في مقدوره أن يستوعب كل العلوم تفصيلاً، ولكنه قصد أن يستعرض العلوم، وكأنما يمسحها أو يلقي عليها نظرة عامة "من عل"، بغرض تنسيقها وتشجيعها. وقال وليم هارفي عن بيكون إنه "كتب الفلسفة، على نهج قاضي القضاة في الكتابة (38) "، بل وخططها كما يخطط القائد الإمبراطوري معركة.
وانا لندرك اتساع مجال العقل وحدة الذهن عند بيكون إذا نحن تتبعناه في كتاب "النهوض بالمعرفة"، إنه يعرض أفكاره في تواضع غير مألوف، على أنها "ليست أفضل كثيراً من الصوت ... الذي يحدثه الموسيقيون حين يضبطون آلاتهم (39) ". ولكنه يعزف هنا كل نغماته المميزة، إنه يدعو إلى مضاعفة عدد الكليات والمكتبات والمعامل وحدائق الأحياء والمتاحف العلمية والصناعية، وتدعيمها جميعاً، كما يدعو إلى تحسين رواتب المعمين والباحثين، وتخصيص اعتمادات أكبر لتمويل التجارب العلمية، وإلى اتصال متبادل وتعاون أوثق وخطة أفضل لتوزيع العمل بين جامعات أوربا (40). أنه، في تقديسه أو عبادته للعلم، لم يفقد رؤيته الصحيحة للأشياء أو وجهة النظر السليمة، فهو يدعو إلى تعليم عام متحرر، يشمل الدب والفلسفة، لأنه يهيئ للوصول إلى حكم سليم على الغايات التي تقترن بتحسين الوسائل على أساس علمي (41). وهو يحاول أن يصنف العلوم في ترتيب منطقي، ويحدد مجالاتها وحدودها ويوجه كلاً منها إلى أمهات المسائل التي تنتظر الفحص والحل وتحقق كثيراً عن طريق العلوم-تسجيل أفضل التطورات المرض عند المريض، إطالة الحياة باستعمال الأدوية الواقية، الفحص الدقيق "للظواهر النفسية"، والنهوض بعلم(28/261)
النفس الاجتماعي. حتى لقد استبق دراستنا المعاصرة في وسائل النجاح (43).
أما القسم الثاني والأكثر جراءة من "التجديد الكبير" فكان محاولة لصياغة منهج للعلم. لقد عرف أرسطو الاستقراء، ودعا إليه أحياناً، ولكن الأسلوب الغالب في منطقته هو الاستنباط، والمثل الأعلى فيه هو القياس. وأحس بيكون بأن المنهج القديم Organon قد أبقى العلم راكداً، بتوكيده على الفكر النظري أكثر منه على الملاحظة الواقعية. أما "المنهج الجديد" فقد عرض فيه بيكون نظاماً وأسلوباً جديدين للفكر-الدراسة الاستقرائية للطبيعة ذاتها، عن طريق الخبرة والتجربة. وهذا الكتاب أيضاً، ولو أن بيكون تركه دون أن يكمله، وعلى الرغم من كل عيوبه، هو أروع إنتاج في الفلسفة الإنجليزية، وأول دعوة صريحة واضحة إلى عصر العقل. ولقد كتب باللاتينية، ولكن في عبارات مشرقة بليغة، جرى نصفها مجرى الحكم وجوامع الكلم. إن السطور الأولى جمعت أطراف فلسفة ... تعلن الثورة الاستقرائية، وتؤذن أو تنذر بالثورة الصناعية، وتضع مفتاح التجريبية في يد هوبز ولوك ومل وسبنسر.
إن الإنسان بوصفه خادم الطبيعة ومفسرها، يمكن أن يعمل ويفهم الكثير، والكثير حقاً من مجرى الطبيعة، ما دام قد لاحظ الطبيعة واقعياً، أو بفكره ... أما ما وراء هذا فهو لا يستطيع أن يدرك شيئاً أو يعمل شيئاً. إن المعرفة الإنسانية والقدرة البشرية تلتقيان في الإنسان الواحد، وحيثما لا يعرف مجرى الطبيعة، لا يمكن إنتاج الأثر المطلوب. ولكي تسيطر على الطبيعة. ينبغي أن تمتثل لها (1).
وكما أقترح ديكارت بعد ذلك بسبعة عشر عاماً، في "بحث عن النهج"؛ أن يبدأ الفلسفة بالشك في كل شيء، فأن بيكون هنا يتطلب تنقية الفكر "كخطوة أولى في التجديد". ذلك أن "المعرفة الإنسانية كما نعهدها في أنفسنا، أن هي إلا خليط وأكداس
_________
(1) العبارة المشهورة "المعرفة قوة" لا ترد بهذه الصيغة في مؤلفات بيكون الموجودة الآن. ولكن في نبذة من "التأملات المقدسة" كتب يقول "المعرفة نفسها قوة" (43) والفكرة، بطبيعة الحال، سائدة في كل كتابات بيكون.(28/262)
لم يتيسر هضمها، مكونة من كثير من السذاجة وسرعة التصديق، وكثير من المصادفات والأعراض غير الجوهرية، وكذلك من الأفكار الصبيانية التي تشربناها في أول الأمر (44) ". ومن ثم يجدر بنا، منذ البداية، أن نخلي أذهاننا، قدر الطاقة، من أية إنشغالات سابقة وتحيزات وافتراضات، بل يجدر بنا حتى أن نصرف من أفلاطون وأرسطو، ونكتسح من أفكارنا "الأصنام" أو الأوهام الخالدة التي ولدها فينا فرط الحساسية في الحكم على الأشياء أو المعتقدات والتعاليم التقليدية السائدة في مجتمعنا، ويجب أن ننبذ الحيل التي يمليها التفكير لمجرد الرغبة في شيء ما، والحماقات اللفظية للتفكير الغامض، ويجب أن نخلف وراء ظهورنا، كل طرق الاستنباط الفخمة، تلك الطرق التي عرضت أن نستنبط ألفاً من الحقائق الباطنية من بضع بديهيات أو مبادئ قليلة. وليس في العلم قبعة سحرية، وكل ما يؤخذ من القبعة لخدمتنا يجب أن يوضع أولاً عن طريق الملاحظة أو التجربة. ولكن لا يقصد هنا مجرد الملاحظة العابرة، أو "السرد البسيط" للمعطيات، ولكن "الخبرة .... المطلوبة للتجربة". وعلى هذا نجد أن بيكون الذي غالباً ما انتقص من قدره على أنه يتجاهل المنهج الحقيقي للعلم، يتقدم ليصف المنهج الفعلي للعلم الحديث:
إن المنهج الصحيح للاختبار، يشعل النور أولاً (بالافتراض)، ثم بواسطة هذا الضوء ينير الطريق، بادئاً بالاختبار ترتيباً سليماً. ومنه يستنتج بديهيات "الثمار الأولى"، (النتائج المؤقتة) ومن البديهيات الراسخة تبدأ ثانية تجارب جديدة ... إن التجربة نفسها هي التي ستقرر وتحكم (45).
ومهما يكن من أمر فإن بيكون كان على حذر من الفرضيات. حيث كانت في الكثير الغالب توحي بها التقاليد أو التحيز أو الرغبة، أي توحي بها (مرة أخرى) "الأصنام". فكان يرتاب في أي نهج تقليدي تصطفي الفرضية فيه، قصداً أو عن غير قصد من التجريب معطيات مثبتة أو مؤكدة لها، وتفسر تفسيراً خاطئاً أو تتعامى عن الشواهد العكسية أو المضادة. وتجنباً للوقوع في هذا الشرك، اقترح بيكون استقراء شاقاً، بتجميع كل الحقائق الوثيق الصلة بالمسألة، وتحليل هذه الحقائق ومقارنتها(28/263)
وتصنيفها، وربطها بعضها ببعض، ثم "بعملية صحيحة من "الاستبعاد والنبذ" أي التخلص من فرضية بعد أخرى، على التعاقب، حتى يمكن الكشف عن "الصيغة" أو القانون الضمني وجوهر الظاهرة (46). إن معرفة "الصيغة" سوف يهيئ تحكماً متزايداً في الحدث، فيعيد العلم بالتدريج صنع البيئة، بل من المحتمل صنع الإنسان نفسه.
وأحس بيكون بأن هذا هو الهدف النهائي-أي أن منهج العلم سوف يطبق على التحليل البالغ الدقة للشخصية الإنسانية، والتصميم على إعادة تشكيلها. وبحث بيكون على دراسة الغرائز والعواطف، وهذه وتلك وثيقة الصلة بالذهن، قدر صلة الرياح بالبحر (47). ولكن هنا بصفة خاصة، لا يكون الخطأ في مجرد التماس المعرفة، بل في نقلها، ويمكن إعادة صنع الإنسان عن طريق التعليم المستنير، لو أننا كنا نريد أن تجذب إلى ميدان التربية عقولاً من الطراز الأول بمنحهم الرواتب الكافية وتكريمهم (48). ويبدي بيكون إعجابه بالجزويت، وتمنى لو أنهم "كانوا على مذهبنا وفي صفنا (49) "، ويستنكر الملخصات، ويحبذ التمثيل في الكليات، ويدعو إلى مزيد من العلم في البرامج، فإذا نظرنا إلى العلم والتعليم على هذا الأساس، فإنهما (كما جاء في "قارة أطلنطس الجديدة" لن يكونا من خدم الحكومة وإدارتها. بل مرشدها وهدفها؛ ويختم قاضي القضاة الأمين بقوله "إني أراهن بكل شيء في سبيل نصرة الفن على الطبيعة في سباقها".
5 - فلسفة رجل الدولة
هنا نحس بعقل جبار قوي-رجل واحد على مدى قرن، متمكن من الفلسفة ومن السياسة على حد سواء. وقد يشوقنا أن نقف على تفكير الفيلسوف في السياسة، وتفكير السياسي في الفلسفة.
وعلى الرغم من أنه كان لبيكون منهج في الفلسفة، وأنه ترك عرضاً حسن الترتيب لفكره، باستثناء المنطق، فإن اتجاه أفكاره كان واضحاً، ولو أنها اتخذت شكلاً يدل على رجل كان لزاماً عليه كثيراً أن يخرج عن هدوء الفلسفة لينظر في قضية(28/264)
قانونية، أو ليقف في وجه المعارضة في البرلمان، أو ليمحص الرأي والنصح ملكاً لا يجدي معه الرأي والمسورة. ويجدر بنا أن نجمع آراءه من تعليقاته العابرة ومن نبذه الأدبية، بما في ذلك "مقالاته" (1597، 1612، 1645). وفي إهدائه هذه المقالات إلى بكنجهام، وفي غرور صناعة الكتابة، كتب بيكون، "إني أرى .... أن الأثر قد يبقى ما بقيت الكتب". وكان أسلوبه في رسائله متكلفاً ملتوياً، حتى لقد اعترفت زوجته: "إني لا أفهم كتابته الملفوفة المليئة بالألغاز (50) ". وبذل في "المقالات" جهداً أكبر، وراض قلمه على الوضوح ووصل إلى قوة هائلة في التعبير، لا تباريه فيها إلا صحائف معدودة في النثر الإنجليزي، من حيث المادة ذات المغزى الهام الزاخرة بالتشبيهات المشرقة الواضحة في صياغة دقيقة، وكأنما أولع تاسيتس (مؤرخ روماني-القرن الأول الميلادي) بالفلسفة، وتنازل ليكون واضحاً.
إن حكمة بيكون دنيوية إن ينصرف عن الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) إلى الخفي أو الطائش من الأمور، وقليلاً ما قفز طموحه الوثاب من الجزء إلى الكل. ومهما يكن من أمر فإنه أحياناً أنه يخوض في مادية حتمية: "لا يوجد في الطبيعة حقاً، شيء عدا الأجسام الفردية التي تؤدي أعمالاً فردية صرفة طبقاً لقانون محدد (51) ". وإن البحث في الطبيعة ليأتي بأحسن النتائج حين يبدأ بالفيزياء وينتهي بالرياضيات (52) ولكن "الطبيعة" هنا قد تعني العالم الخارجي. لقد آثر بيكون الفلاسفة المتشككين قبل سقراط، على أفلاطون وأرسطو. وامتدح ديموقريطس الفيلسوف المادي (53). ولكنه حينئذ يرتضي تمييزاً دقيقاً بين الجسم والنفس (54)، ويستبق بيرجسون للفكر على أنه "مادي أساسي". "إن إدراك الإنسان يتأثر برؤية مل يجري في الفنون الميكانيكية .... ومن ثم يتخيل أن شيئاً شبيهاً بهذا يجري في الطبيعة للأشياء (55) ". ويرفض مقدماً البيولوجيا الميكانيكية عند ديكارت.
ومع ما يعتمل في نفسه من عواطف متصارعة نحو الدين، نراه "يتبل" في حرص، فلسفته "بالدين، وكأنما يتبل بالملح (56) " "الأفضل عندي أن أصدق الخرافات التي(28/265)
في حياة القديسين وفي التلمود وفي الكتب المقدسة، على أن يكون هذا العالم بلا عقل (57) ". ويضع الإلحاد في مكانه في قطعة تكررت مرتين (58). وإن تحليله لأسباب الإلحاد لتوضح فكرة هذا الكتاب: -
إن أسباب الإلحاد هي الانقسامات في العقيدة، إذا كانت كثيرة، لأن أي انقسام أساسي يلهب حماسة الفريقين كليهما وغيرتهم، ولكن الانقسامات الكثيرة تقود إلى الإلحاد، وثمة سبب آخر، وهو أعمال القسس المخزية. وأخيراً، عصور المعرفة، وخاصة إذا سادهم السلم والرخاء، فان المتاعب والعداوات تزيد في اتجاه عقول الناس إلى الدين (59).
إن بيكون يؤكد قاعدة أن "الدين يحد من كل ألوان المعرفة (60) ". وطبقاً لما رواه قسيسه راولي "كان يذهب كثيراً إلى الصلاة في الكنيسة، إذا سمحت ظروفه الصحية" ... ولقي ربه على العقيدة الصحيحة للكنيسة الإنجليزية" (61). وعلى الرغم من ذلك، فإنه أفاد، مثل خلفه العظيم وليم أوكهام، من التمييز بين الحقيقة اللاهوتية والحقيقة الفلسفية، فقد يتمسك الدين بمعتقدات لا يجد العلم والفلسفة عليها دليلاً، ولكن الفلسفة يجب أن تعتمد على العقل فقط، كما أن العلم ينبغي أن يلتمس تفسيرات دنيوية صرفة، على أساس سبب ونتيجة ماديتين (62).
وعلى الرغم من تحمس بيكون للمعرفة، فإنه يخضعها أو يضعها في المحل الثاني من الأخلاق. فليس ثمة نفع للإنسانية إذا لم يؤد التوسع في المعرفة إلى الخير. "إن طيبة النفس هي أهم مزايا العقل ومنازله الرفيعة (63) " ومهما يكن من أمر فان حماسته المألوفة حين يتحدث عن الفضائل المسيحية. ومن الواجب ممارسة الفضيلة باعتدال، لأن الأشرار قد يخدعون غير الحكماء (64). وقليل من الخدع أو الرياء ضروري للنجاح، إن لم يكن المدنية. والحب ضرب من الجنون، والزواج نوع من الشرك أو الفخ: "إن الذي له زوجة وأولاد، يضع عقبات في سبيل النجاح، لأنهم عوائق في سبيل المغامرات والمشروعات الكبيرة ...(28/266)
إن أفضل العمال وأعظمها أثراً على الناس نبعت من أناس ليس لهم زوجة ولا أولاد. "وأقر بيكون-مثل اليزابث وهلدبراند-عزوبة رجال الدين". إن حياة العزوبة تصلح لرجال الكنيسة، لأن الصدقات لا تكاد تروي الأرض، إذا كان لزاماً عليها أولاً أن تملأ بركة (65) " (لاحظ نزعته إلى الاستعارة والمجاز والإيجار الأنجلوسكسوني). إن الصداقة خير من الحب. وإن المتزوجين ليكونون صدقات غير مستقرة. إن بيكون يتكلم عن الحب والزواج بأسلوب رجل ضحى بالعواطف الرقيقة في سبيل الطموح، ورجل أمكنه أن يحكم مملكة أفضل من أن يحكم بيته.
أما فلسفته السياسية فقد واجهت حالات وظروفاً أكثر مما واجهت نظريات. وأوتي من الشجاعة ما امتدح معها ماكيافللي. وارتضى صراحة المبدأ القائل بأن الدول ليست مقيدة بالقانون الأخلاقي الذي تلقنه لرعاياها. وأحس-مثل نيتشه، بأن الحرب الجيدة ترحب بأي سبب، "ويجب ألا نستمع إلى رأي أساتذة وفلاسفة العصور الوسطى الذي يقول بأنه ليس من العدل أن تشن الحرب إلا إذا سبقها وقوع الضرر أو الاستفزاز ... إن الخوف الحقيقي من خطر محدق، ولو لم تحدث أية ضربات، سبب مشروع للحرب. " وفي أية حادثة "فان الحرب العادلة الشريفة هي الطريقة المثلى" للمحافظة على الأوضاع السليمة للأمة (66). وإنه لمن أقصى درجات الأهمية، من أجل الإمبراطورية والعظمة، أن تؤمن الأمة بأن "سلاحها هو مناط شرفها، وهو هدفها وشغلها الشاغل". والبحرية القوية ضمان لاحترام الجيران. "والسيادة على البحار هي الرمز الحقيقي للملكية (67) ". وفي شباب الدولة تزدهر الأسلحة، وفي وسط عمر الدولة، تزدهر المعرفة، ثم تزدهر الأسلحة والمعرفة كلتاهما معاً لفترة من الزمن، وفي عصر اضمحلال الدولة تنتعش الأعمال التجارية والتجارة (68). وسكان المدن محاربون ضعاف، والفلاحون أو القرويون أفضل منهم في الحرب، ولكن صغار ملاك الأرض الأحرار أفضل الجميع. ومن ثم فان بيكون مثل مور، استنكر المساحات الزراعية الكبيرة(28/267)
المسورة، لأنها تقلل من نسبة ملاك الأراضي في السكان. واستنكر تركيز الثروة على أنه سبب هام من أسباب الفتن والثورات:
وأول علاج أو مانع لهذه، هو أن نزيل بكل الوسائل الممكنة، السبب المادي ... وهو الحاجة والفاقة ... ونهتم بكل ما يخدم التوسع في التجارة وتوازنها، وتعزيز الصناعة والقضاء على الخمول، والتبديد والتبذير، بسن قوانين الحد من الإنفاق وتنظيمه. وتحسين التربة وعدم إرهاقها وتحديد أسعار الحاجيات المبيعة وتخفيف الضرائب .... وفوق هذا كله، انتهاج سياسة حكيمة في عدم تجميع ثروات الدولة وأموالها في أيد قليلة .... إن المال مثل السماد، لا خير فيه، إلا إذا انتشر (69).
وارتاب بيكون في البرلمان، بوصفه مشكلاً من ملاك الأراضي والتجار غير المتعلمين المتعصبين أو وكلائهم، وفكر في أن جيمس الأول، بالمقارنة بهؤلاء، متعلم يتحلى بروح إنسانية، بل أن نظرية الملك في "الحكم الاستبدادي المطلق" بدت في نظره خيرة كبديل عن الزمر الجشعة والمذاهب العنيفة. واعتبر-مثل معاصره ريشيليو-أن تركيز السلطة في يد الملك، وإخضاع كبار ملاك الأراضي له، خطوة ضرورية لإقامة حكومة منظمة. وذهب، مثل فولتير. إلى أن تعليم رجل واحد أيسر من تعليم الجماهير. إن الثروة الهائلة الخاصة لم تزعج الملك. وكان جيمس مشدوداً في عناد بالغ إلى التبذير والضرائب والسلام.
وسخر بيكون من "الفلاسفة" الذين "يسنون قوانين خيالية لدول خيالية، إن مقالاتهم أو محاضراتهم، كالنجوم التي لا تعطي إلا قليلاً من الضوء لأنها على ارتفاع شاهق". ولكنه في أيام سأمه، أغرى بأن يصور نوع المجتمع الذي يريده للناس ليعيشوا فيه. ولا ريب في أنه قد قرأ "يوتوبيا" مور (1516)، وكان كامبانللا قد نشر لتوه كتابه "مدينة الشمس" (1623)، والآن في 1624(28/268)
كتب بيكون "القارة الجديدة" ( The New Atlantis) " أبحرنا من بيرو التي كنا قد قضينا فيها سنة كاملة إلى الصين واليابان عبر البحر الجنوبي": هدوء تام، أرزاق محدودة، جزيرة تحوطها العناية الإلهية، شعب يحيا حياة سعيدة في ظل قوانين سنها لهم المغفور له الملك سليمان. وبدلاً من البرلمان. مجلس سليمان-مجموعة من المراصد والمعامل والمكتبات وحدائق الحيوان والنبات، مزودة برجال العلم ورجال الاقتصاد والفنيين والأطباء وعلماء النفس والفلاسفة، مختارين (كما هو الحال في جمهورية أفلاطون) بعد اختبارات متكافئة بعد فرص تعليمية متكافئة، ثم (دون إجراء انتخابات) يحكمون الدولة، أو بالأحرى، يحكمون الطبيعة، لمصلحة الإنسان. ويشرح أحد هؤلاء الحكام المتبربرين القادمين من أوربا فيقول: "إن غاية مؤسستنا هي معرفة أسباب الأشياء وحركاتها الخفية، وتوسيع حدود "إمبراطورية الإنسان، من أجل التأثير في كل الأشياء الممكنة (70) "، وفي هذه "الفتنة" التي في جنوب المحيط الهادي اخترع سحرة سليمان بالفعل الميكروسكوب والتلسكوب والساعات الذاتية الملء، والغواصات والسيارات والطائرات، واكتشفوا المسكنات والتنويم المغناطيسي، ووسائل المحافظة على الصحة وإطالة العمر، ووجدوا طرق تطعيم النبات وتوليد أنواع جديدة، وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، ونقل الموسيقى إلى أماكن بعيدة. وفي مجلس سليمان ترتبط الحكومة والعلم معاً. وكل الأدوات وتنظيم البحث، وهو ما كان بيكون قد توسل إلى جيمس أن يزود به البلاد، موجودة هنا، في القارة الجديدة، كجزء من عدة الحكومة وأدواتها. والجزيرة تتمتع باستقلال اقتصادي، وهي تتحاشى التجارة الخارجية لأنها شرك ينصب للحرب. إنها تستورد المعرفة لا السلع. وهكذا يحتل الفيلسوف المتواضع مكان رجل الدولة المزهو بنفسه، كما أن نفس الرجل الذي كان قد نصح بالحرب أحياناً عند الاقتضاء، بوصفها دواء مقوياً أو منشطاً اجتماعياً، نراه الآن، وقد آذنت شمس حياته بمغيب، يحلم بجنة من السلام.
6 - صيحة العقل
استمر بيكون يعمل حتى النهاية. فنشر بعد عام واحد من تقاعده، "تاريخ(28/269)
حكم هنري السابع"، سجل به مستوى جديداً لكتابة التاريخ، فهو تفسير واضح صريح، في نثر رشيق قوي، للقضايا والسياسات والأحداث، وصورة وصفية أدبية منصفة نزيهة أخاذة بعيد عن المثالية، حقيقية إلى حد بعيد (71). وأعقب هذا مجموعة من الرسائل: "دراسة في الرياح" "دراسة في الكثافة والتخلخل". "دراسة في الحياة والموت"، وأبحاث أخرى، لقد تهيأ له الآن من الفراغ ما لم يكن يتوقعه، فليس ثمة أهل ولا أصدقاء، فان كل طلاب المنافع الذين كانوا يزدحمون على بابه أيام نفوذه وسلطانه، تمسحوا الآن بأعتاب أخرى. وسأل مرة أحد من يتبادل معهم الرسائل: "من معك من الزملاء في عملك؟ فأجاب إنني الآن في وحدة تامة (71) ".
وفيما كان يحاول أن يختبركم من الوقت يمكن أن يحفظ الجليد اللحم من التعفن والفساد، قطع الرحلة ذات يوم من أيام الربيع ليشتري دجاجة، وذبحها وحفظها في الجليد، فوجد أنه أصيب بقشعريرة. فلجأ إلى دار لورد أروندل Arundel المجاورة، حيث وضعوه في الفراش، وظن أنه سقم عارض لا يلبث أن يزول، وكتب أن التجربة "نجحت نجاحاً تاماً"، إنه حفظ الدجاجة، ولكنه فقد حياته. فقد قضت عليه الحمى، وخنقه البلغم في 9 أبريل 1626. ومات في سن الخامسة والستين. وانطفأت الشمعة المتوهجة فجأة.
لم يكن بيكون، كما ظن بوب "أحكم وأذكى وأحط بني الإنسان (72) ". فان مونتاني كان أحكم، وفولتير أذكى، وهنري الثامن أحط، وقال أعداء بيكون عنه أنه كان عطوفاً نافعاً، يبادر إلى الصفح والمغفرة. وكان أنانياً إلى حد الخنوع والاستسلام، ومزهواً إلى حد إغضاب الآلهة. ولكننا نشاركه هذه الأخطاء إلى حد نغتفر معه طبيعته البشرية من أجل الأضواء التي نشرها. إن غروره كان القوة الدافعة فيه. وإذا كنا نرى أنفسنا كما يرانا غيرنا لشلت حركتنا وتوقفنا عن العمل.
ولم يكن بيكون من رجال العلم أو الأفراد العلميين، ولكنه كان فيلسوف علم. وكان مدى الملاحظة عنده هائلاً، ولكن مجال تأمله وتفكيره كان فسيحاً إلى(28/270)
حد لا يهيئ له الوقت الكافي للبحث الخاص. وحاول شيئاً من هذا دون نتيجة تذكر ... وتخلف كثيراً عن تقدم العلم المعاصر. ونبذ آراء كوبرنيكس الفلكية، ولكنه أورد أسباباً وجيهة لذلك (74). وتجاهل كبلر وجاليليو ونابيير. وكثيراً ما تنبه (كما حدث في "القارة الجديدة") إلى دور ملكة الخيال والافتراض والاستنباط في البحث العلمي، ولكنه ظل ينتقص من أهميته، وأتى اقتراحه بطول الأناة في تجميع الحقائق وتصنيفها، بأحسن النتائج في علم الفلك، حيث زودت الأرصاد النجمية والتسجيلات التي قام بها آلاف الباحثين-زودت كوبرنيكس بمادة استقرائية، لاستنباطاته الثورية، ولكنها لم تكن قريبة الشبه بالطرق الفعلية التي كشفت في عصره قوانين حركات الكواكب وتوابع المشتري وجاذبية الأرض والدورة الدموية.
ولم يزعم بيكون أنه اكتشف الاستقراء، وعرف أن أناساً كثيرون مارسوه من قبل. ولم يكن أول من "أطاح" بأرسطو. فان رجالاً مثل روجر بيكون، وبترس راموس، فعلاً هذا لعدة قرون خلت. ولكن أرسطو الذي أطاحوا به (كما تحقق بيكون أحياناً) لم يكن أرسطو الإغريق الذي كان كثيراً ما استخدم وامتدح الاستقراء والتجريب، ولكن أرسطو الفيلسوف الذي صنعه العرب وأتباع الفلسفة السكولاستية (الفلسفة النصرانية في العصور الوسطى). إن الذي أراد بيكون أن يقضي عليه هو المحاولة الخاطئة لاستنباط عقائد العصور الوسطى من الميتافيزقيا القديمة، لقد ساعد بيكون على أية حال، على تخليص أوربا النهضة من الإذعان البالغ التزمت للقديم.
ولم يكن أول من أكد أن المعرفة طريق القوة. فقد فعل روجر بيكون هذا من قبل، وقال كامبانللا، في بلاغة بيكون: "إن قوتنا تتناسب مع معرفتنا (75) ". وربما أفرط رجل الدولة في الإلحاح على الغايات النفعية (طبقاً لمذهب المنفعة) للعلوم. ومع ذلك فانه أقر بقيمة "العلوم البحتة" بمقارنتها "بالعلوم التطبيقية"-تمييزاً "لنور العلم" عن "ثماره". وحث على دراسة الغايات والوسائل بقدر سواء، وأدرك أن قرناً من الاختراع لا بد أن يخلق مشاكل كبرى،(28/271)
أكثر من أن يحل المشاكل القائمة، إذا ترك الدوافع الإنسانية على حالها دون تغيير. وربما تبين بيكون، في انحلاله الخلقي هو نفسه، الهوة التي خلقها تقدم المعرفة إلى ما هو أبعد من تهذيب الخلق.
ترى ماذا تبقى بعد ما أسلفنا من استنتاجات متأخرة؟ يبقى أن بيكون كان أقوى أهل الفكر والذكاء وأعظمهم أثراً في زمانه. لقد بزه شكسبير بطبيعة الحال في الخيال والفن الأدبي. ولكن عقل بيكون حلق في الكون كله، مثل نور كشاف يحدق ويحقق مستطلعاً، في كل الزوايا والخفايا، فتمثلت فيه كل حماسة النهضة المتقدة اليقظة، وكل الإنارة والزهو اللذين تملكا كولمبوس وهو يبحر مسعوراً إلى عالم جديد. استمع إلى هذه الصيحة المرحة من الديك روبين Cock Robin وهو يؤذن بانبلاج الفجر:
وهكذا انتهيت من هذا القسط من التعليم الذي يمس المعرفة المدنية، وبهذه المعرفة المدنية ختمت الفلسفة الإنسانية، وبهذه الفلسفة الإنسانية، انتهيت من الفلسفة بصفة عامة. والآن وقد توقفت قليلاً، أنظر إلى الوراء، إلى ما مررت به أو تصفحته، فانه يبدو لي، قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم على نفسه، أن هذه الكتابة ليست أفضل كثيراً من الصخب أو الصوت الذي يحدثه الموسيقيون عند ضبط آلاتهم، مما لا يطرب الإنسان لسماعه، ومع ذلك فان هذا الضبط سبب في حلاوة الموسيقى فيما بعد. وكذلك قنعت أنا بضبط آلات الوحي والتأمل حتى يكون العزف أفضل والأيدي أقدر. وحقاً، أني إذ أضع أمامي حالة هذه الأزمان التي قامت فيها المعرفة بزيارتها أو جولتها الثالثة، بكل خصائصها، مثل تفوق عباقرة هذا الزمان وحيويتهم، والمساعدات والأنوار التي حصلنا عليها من أعمال الكتاب القدامى، وفن الطباعة الذي ينقل الكتب إلى كل الناس من جميع المستويات، وانفتاح العالم بفضل(28/272)
الملاحة التي كشفت النقاب عن تجارب لا حصر لها، وعن قدر كبير من التاريخ الطبيعي ... أقول حقاً إني إزاء هذا كله، لا أملك إلا أن أصل إلى الاقتناع بأن هذه الحقبة الثالثة من الزمن تفوق كثيراً عهد المعرفة اليونانية والرومانية ... أما عن جهودي وأعمالي، إذا كان ثمة جهود وأعمال لي، فانه إذا عنى الإنسان أن يسر نفسه أو يسر الآخرين بالانتقاص من قيمتها أو نقدها، فإنها ستعود إلى المطلب القديم المتسم بالصبر والجلد "اضربني إذا ما أردت، ولكن اسمعني فقط" فلينتقد الناس وليقرعوا ما شاءوا، فانهم بذلك سوف يلاحظون ويقدرون (76).
إن بيكون عبر عن أنبل مشاعر عصره-لتحقيق حياة أفضل عن طريق التوسع في المعرفة-ومن ثم فان الأعقاب خلدوا ذكراه بتذكار حي، هو تأثرهم به، لقد حركت روحه-لا طريقته-العلماء وبعثت فيهم القوة والنشاط. فكم أنعشهم وشحذ عزائمهم، بعد قرون كانت العقول فيها حبيسة قواعدها، أو واقعة في شراك عناكب من نسج الرغبات لا الحقائق، أن يصادفوا رجلاً أحب صوت الحقيقة مهما كان عنيفاً، وأحب جو البحث والكشف، وهو جو يبعث على الحياة، رجلاً وجد متعة في إلقاء ظلال الشك على دياجر الجهل والخرافة والخوف. وظن بعض رجال ذاك العصر، مثل دون، أن العالم في طريقه إلى الاضمحلال والانحلال، وأنه يسير بسرعة إلى نهاية الفناء والتحطيم، فأعلن بيكون إلى عصره أنه مرحلة شباب عالم، زاخرة بفورات الحياة.
ولم يكن الناس لينصتوا إلى بيكون في بداية الأمر، فإنهم في إنجلترا وفرنسا وألمانيا آثروا تحكيم السلاح في صراع العقائد، فلما خفت حدة هذا الصراع، فان هؤلاء الذين لم يكونوا مغلولين بقيود الحقائق، احتشدوا، تحدوهم روح بيكون، ليزيدوا من سيطرة الناس، لا على الناس، بل على ظروف حياة الإنسان وما يعتورها(28/273)
من عقبات. وعندما أسس رجال من الإنجليز "الجمعية الملكية في لندن للنهوض بالمعرفة الطبيعية" (1660)، كان تكريماً لفرانسيس بيكون وتخليداً لذكراه، أن يكون مصدر وحي الجمعية وملهمها، ومن الجائز أن: "مجلس سليمان" في "القارة الجديدة" هو الذي حدد هدفها (77). وحيا لبنتز بيكون باعتباره خالقاً للفلسفة من جديد (78). وعندما تكاتف فلاسفة عصر التنوير لتأليف دائرة معارفهم التي هزت العالم (1751) فانهم أهدوها إلى فرانسيس بيكون. وكتب ديدرو في نشرتها التمهيدية: "إذا كنا أدينا مهمتنا بنجاح، فإننا نكون مدينين بأكبر الفضل لقاضي القضاة بيكون الذي اقترح خطة قاموس عالمي للعلوم والفنون، في عصر لم يوجد فيه-إذا صح التعبير-علوم ولا فنون، وأن هذا العبقري الفذ، كتب في عصر كان من المستحيل فيه كتابة تاريخ لما هو معروف-كتب تاريخاً أو دراسة لما هو ضروري أن نتعلمه أو نعرفه". وفي غمرة الحماس قال دالمبرت عن بيكون "إنه أعظم الفلاسفة وأفصحهم وأكثرهم شمولاً". ولما تمخضت جماعة التنوير عن الثورة الفرنسية قررت نشر مؤلفات بيكون على حساب الدولة (79). ونهج الفكر البريطاني في مغزاه ومبناه، من هويز إلى سبنسر-باستثناء بركلي وهيوم والهيجليين الإنجليز-منهج بيكون، فان نزعته إلى إدراك العالم الخارجي على أساس من المذهب الذري عند ديموقريطس، هي التي حركت هوبز إلى المادية، وتوكيده على الاستقراء هو الذي وجه هويز إلى علم النفس التجريبي الذي تتحرر فيه دراسة العقل من ميتافيزيقا النفس، كما أن تركيزه على "المنافع" و"التطبيقات" أسهم مع فلسفة هلفشيوس في توجيه بنتام إلى تعيين "النافع والصالح أو الحسن". وأخيراً فان روح بيكون هي التي هيأت إنجلترا للانقلاب الصناعي.
ومن هنا جاز لنا أن نضع بيكون في قمة عصر العقل. إنه لم يكن مثل بعض من جاءوا بعده، يحب العقل حباً أعمى، فانه ارتاب في أية أفكار أو خطط لم يتحقق منها التجريب الفعلي، وفي كل النتائج التي شابتها الرغبة. "إن الإدراك الإنساني ليس ضوءاً جافاً، إن الإرادة والعواطف تنفخ فيه، ومن ثم تنطلق العلوم التي يمكن تسميتها: بعلوم يريدها الإنسان، لأن ما يرى الإنسان أنه يكاد يكون(28/274)
حقيقياً، يصدقه ويؤمن به على الفور" (80). وآثر بيكون "ذلك العقل المنتزع من الحقائق، .... ومن تحالف أوثق وأنقى بين هاتين القوتين: التجريبية والعقلانية، يمكن أن نأمل في خير كثير (81) ".
كما أن بيكون لم يقل، مثل فلاسفة القرن الثامن عشر، بأن العقل عدو الدين أو أنه بديل عنه، إنه أفسح لكل منهما مجالاً في الفلسفة وفي الحياة. ولكنه كره الاعتماد على التقاليد والنصوص والمراجع، وطالب بتغييرات عقلانية طبيعية بدلاً من الافتراض أو الحدس العاطفي، ومن الاعتراضات الخارقة للطبيعة، والأساطير الشعبية المألوفة. إن بيكون رفع راية كل العلوم، وجذب للانضواء تحتها أشد العقول تلهفاً في الأجيال القادمة. وسواء شاء أو لم يشأ، فان العمل الذي دعا إليه- التنظيم الشامل للبحث العلمي، والتوسع في المعرفة ونشرها في العالم بأسره-نقول إن هذا العمل يحوي في طياته بذور أعمق مسرحية في الأزمنة الحديثة: المسيحية، كاثوليكية أو بروتستانتية، تناضل من أجل حياتها، ضد انتشار العلم والفلسفة وقوتهما. وكانت المسرحية الآن قد ألقت مقدمتها على العالم.(28/275)
الفصل الثامن
الثورة الكبرى
1625 - 1649
1 - الاقتصاد المتغير
إن الثورة التي سودت برلماناً وقتلت ملكاً-قبل أن يكفر لويس السادس عشر عن ذنوب أسلافه، بمائة وأربعة وأربعين عاماً-كانت لها جذورها في الصراع الاقتصادي والخلاف الديني.
كان الإقطاع تنظيماً يعتمد كل الاعتماد على الزراعة. وكانت الملكية تنظيماً بلغ بالإقطاع ذروته. وكانت مرتبطة أشد الارتباط باقتصاد يقوم على الملاك والأرض. وحدث في إنجلترا تطوران اقتصاديان قطعا هذه الجذور الإقطاعية. أحدهما نمو طبقة كرام المحتد ذوي الملكيات الصغيرة من غير ذوي ألقب النبالة ( Gentry) ، وهم في موقف وسط بين الأشراف أو النبلاء ذوي الألقاب، وبين صغار مالكي الأرض الأحرار أو المزارعين الذين يملكون أرضاً. وكانت أيديهم مغلولة في ظل ملك وحاشية ومجموعة من القوانين لا تزال تفكر أو تصاغ بعقلية النظام الإقطاعي. ولقد اشتروا المقاعد في مجلس النواب أو استولوا عليها عنوة، وتطلعوا إلى حكومة لبرلمان خاضع لهم هم أنفسهم. أما التطور الثاني فهو نمو ثروة البرجوازية-أصحاب المصانع والمحامون والأطباء-ومطالبتهم بتمثيل سياسي يتناسب مع قوتهم الاقتصادية، ولم يكن لهذه الدوافع الثورية مصلحة مشتركة، بل تعاونوا لمجرد أن يحاولوا كبح جماح ذوي النسب والحسب والحاشية المنتفخة الأوداج، وملك اعتبر أن الأرستقراطية الوراثية، مصدر ضروري للنظام الاقتصادي والسياسي والاستقرار.(28/276)
وكان النظام الاقتصادي يغير، من عام لعام، قاعدته ونقطة ارتكازه من الأرض الثابتة إلى المال المتحرك. وقبل 1540 كان مصنع النحاس يتطلب توظيف 300 دولار، (بعملة الولايات المتحدة 1958) وفي عام 1620، 125 ألف دولار. وما جاء عام 1650 حتى كانت المشروعات الرأسمالية التي تستلزم إنفاق اعتمادات ضخمة، قد نهضت بمصانع حجر الشب في يوركشير، ومصانع الورق في دارتفورد، ومصانع صب المدافع في برنديلي، والمناجم البعيدة العمق التي ازداد التهافت عليها للحصول على مزيد من الفحم والنحاس والزنك والحديد والرصاص. وفي 1540 كان هناك عدة مناجم أنتج الواحد منها عشرين ألف طن. واعتمد الحرفيون والصناع الذين يستخدمون المعادن، على التعدين والصناعات المعدنية التي تركزت في أيدي الرأسماليين، وزودت مؤسسات النسيج بالمواد اللازمة، الحوانيت التي كانت تستخدم ما بين 500 وألف عامل، والنساجين والخياطين الذين انتشروا في آلاف الدور في المدن والقرى. وكانت الزراعة تسم في التحول الرأسمالي في الإنتاج. واشترى الرأسماليون مساحات كبيرة من الأرض وسوروها، بغية إمداد المدن باللحوم، والمصانع بالصوف داخل إنجلترا وخارجها. وارتفعت تجارة إنجلترا الخارجية إلى عشرة أمثالها فيما بين عامي 1610 و1640.
ولم يدر بخلد إنجلترا أن الهوة كانت سحيقة جداً بين الغني والفقير، و "انحطت تعويضات العمال إلى أدنى مستوى لها في النصف الأول من القرن السابع عشر، لأن أسعار الطعام زادت على حين بقيت الأجور على ما هي عليه (1) ". فإذا اتخذنا (100) كأساس، فإن الأجور الحقيقية للنجارين الإنجليز كانت 300 حوالي سنة 1380، و370 في سنة 1480، 200 في عهد إليزابث، 120 في عهد شارل الأول-وهذا أدنى أجر في بحر أربعمائة سنة (2). وفي 1634 كانت البطالة فظيعة إلى حد أن شارل أمر بتدمير مصنع ميكانيكي لنشر الخشب أنشئ حديثاً، لأنه عطل كثيراً من النشارين عن العمل (3). وكانت الحرب مع فرنسا سبباً في رفع الضرائب، كما كانت الحرب في فرنسا سبباً في تعطيل تجارة الصادرات، وسوء المحاصيل (1629 - 1630) سبباً في تضخم الأسعار حتى صارت البلاد على حافة(28/277)
المجاعة (4). وأخذ هذا الاقتصاد المتضخم في الهبوط فجأة (1629، 1632، 1638)؛ وتضافرت كل هذه العوامل مع الصراع الديني في أن تدفع بكثير من الأسرات الإنجليزية إلى أمريكا، وتوقع إنجلترا في حرب أهلية غيرت وجه الأمة ومصائرها.
وكذلك أصبحت حرب الطبقات صراعاً بين المذاهب الدينية والقوانين الأخلاقية. وكان الشمال زراعياً بأغلبية ساحقة، وكاثوليكياً في معظمه ولو في الخفاء. أما لندن والجنوب فكانت تنمو فيها الصناعة والبروتستانتية بشكل متزايد. وعلى حين تعلقت قلوب رجال الأعمال الجديدة باحتكاراتها وبتعريفة الحماية الجمركية. فإنها في نفس الوقت طالبت باقتصاد حر تتحدد فيه الأجور على قدر العمل والسلع، وحيث لا تكون ثمة سيطرة إقطاعية ولا حكومية على الإنتاج والتوزيع والربح والملكية، وحيث لا توصم بوصمة عار، الأعمال التجارية، وال تقاضى الفوائد على الأموال، ولا المضاربة بالثروة. وتمسك البارونات وفلاحوهم بمفهوم الإقطاع عن الالتزام المتبادل والمسئولية الجماعية، وتنظيم الدولة للأجور والأسعار، وضوابط العرف والقانون لشروط الاستخدام والربح. واحتج البارونات بأن الاقتصاد التجاري (المركنتلي (1)) الجديد، الذي ينتج لسوق وطنية أو دولية، كان يمزق العلاقات بين الطبقات ويقوض الاستقرار الاجتماعي. وأحسوا (كما أحس صغار ملاك الأراضي والحكومة) أن قدرتهم على الوفاء بديونهم والتزاماتهم مهددة بخطر آثار التضخم على قيمة الرسوم والإيجارات والضرائب التي اعتمدوا عليها. ونظروا في ازدراء غاضب إلى المحامين الذين أسهموا بشكل واضح في الإدارة، وإلى التجار الذين حكموا المدن، وأوجسوا خفية من سلطان لندن التي سادتها الروح التجارية (المركنتلية)، والتي كان عدد سكانها يبلغ نحو 300 ألف نسمة، من مجموع سكان إنجلترا البالغ خمسة ملايين، ومن ثم كانت تستطيع تمويل جيش وثورة.
_________
(1) Mercantile، نظام اقتصادي نشأ في أوربا خلال تفسخ الإقطاعية لتعزيز ثروة البلاد عن طريق التنظيم الحكومي للاقتصاد وانتهاج سياسة تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة، وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية.(28/278)
2 - مرجل الديانة
1624 - 1649
إن الملك الجديد الذي ارتقى العرش في ظل النظام الإقطاعي والاجتماعي العتيق المعتمد على الأرض، والذي أحس باليأس والضياع في لندن بتجارها والبيوريتانيين فيها، نقول إن هذا الملك لقي من التعب والنصب فوق ما يحتمل من الصبر، من جراء تعدد المعتقدات الدينية وحدتها. إن عملية الاجتهاد أو تكوين الرأي الفردي التي دعا إليها كل رأي جديد حتى سادت وسيطرت، تضافرت مع انتشار الكتاب المقدس، على تشجيع اختلاف الشيع والطوائف، حتى لقد أحصى منها أحد المؤلفين 29 طائفة في 1641، وأحصى آخر منها في 1649. وفضلاً عن الانقسام بين الكاثوليك والبروتستانت، كان هناك الانقسام الحاد بين البروتستانت إلى أنجليكانيين ومسيحيين وبيوريتانيين، وانقسام البيوريتانيين إلى المستقلين الذين كانوا يحلمون بالجمهورية، والكويكرز الذين يعارضون الحرب والعنف وحلف الأيمان، والمؤمنين بالعصر الألفي السعيد-أو طائفة الملكية الخامسة-الذين كانوا يعتقدون أن السيد المسيح سوف يعود سريعاً ليقيم حكمه على الأرض، والأنتيوميين (طائفة تقول بأن الإيمان وحده-لا الامتثال للقانون الأخلاقي-ضروري للخلاص) الذين كانوا يحاجون بأن المصطفين من عند الله مستثنون من القوانين الإنسانية، والانفصاليين أتباع براون، والباحثين Seekers، والمشاغبين Ranters. وشكا أحد أعضاء البرلمان من أن "الرجال الميكانيكيين" (الحرفيين) كانوا يقيمون المنابر ويبشرون بألوان عقائدهم المتحمسة، وكان كثيرون منهم يكسون مطالبهم الاقتصادية أو السياسية بنصوص من الكتاب المقدس، وكان هناك الذين يقولون بتعميد البالغين فقط Anabaptists، والمعمدانيون الذين انشقوا عن الانفصاليين (1606) وانقسموا (1633) إلى معمدانيين عامين رفضوا النظرية الكلفنية في القضاء والقدر، ومعمدانيين خاصين قبلوها.(28/279)
إن تعدد الطوائف والشيع، ومساجلاتها الحادة الجريئة، أدت بنفر من الناس إلى الشك في جميع صيغ المسيحية وأشكالها. ورثى الأسقف Fotherby، (1622) " لأن الكتب المقدسة فقدت سلطانها على كثير من الناس، وظن أنها لا تصلح إلا للجهلة والحمقى (5) "-وفي 1646 تحدث الحبر الجليل جيمس جرانفورد عن "الجماهير التي غيرت عقيدتها إما إلى التشكك ... أو الإلحاد، ولم يؤمنوا بشيء (6). " وفي كتيب عنوانه Hell Broke Loose " انفتحت الجحيم على مصراعيها": بيان بالأخطاء السائدة، والهرطقة والتجديف في هذا العصر، (1646) وكان على رأس قائمة الهرطقات، الرأي القائل بأن الكتاب المقدس سواء كان مخطوطاً حقيقياً (نصاً موثوقاً) أم لم يكن ... فإنه لا يعدو أن يكون من صنع الإنسان، وأنه عجز عن أن يكشف عن إله في السماء (7) "، وجهرت هرطقة أخرى "بأن العقل السليم هو الحكم في العقيدة، أو قاعدة الإيمان ... ويجدر ألا نصدق بالكتب المقدسة ونظريات التثليث والتجسد والبعث إلا بقدر موافقتها للعقل، وليس إلا (8) ". وأنكر عدد كبير من المتشككين وجود الجحيم وألوهية المسيح. وسعى نفر متزايد من المفكرين الذين أطلق عليهم اسم "البوبيين" إلى التوفيق بين مذهب التشكك والدين باقتراح مسيحية تقتصر على الإيمان بالله والخلود. وهيأ إدوارد، لورد هربرت شربري لهذا "الطريق الوسط، أساساً فلسفياً في بحث رائع عن "الحقيقة 1624). قال هربرت إن الحقيقة مستقلة عن الكتب المقدسة، ولا يمكن أن تقررها كنيسة أو أية سلطة أخرى، وإن أفضل اختبار للحقيقة هو موافقة الناس جميعاً عليها، وتبعاً لذلك تكون أحكم ديانة هي ديانة "طبيعية"، ولا ديانة "موحى بها"، تحصر نفسها في النظريات التي تتقبلها كل المذاهب: وهي أن هناك "كائناً"، وأنه تجب عبادته بالحياة الفاضلة المستقيمة أساساً، وأن السلوك المستقيم، يثاب؟، وأن السلوك السيئ يعاقب عليه، إما عنا في الحياة الدنيا، أو هناك في الحياة الآخرة. ويقول أوبري إن هربرت مات "في هدوء" بعد أن أبوا عليه الأسرار المقدسة (9).(28/280)
وكان البرلمان أشد قلقاً وانشغالاً بالكاثوليكية منه بالهرطقة. ففي 1634 قارب الكاثوليك في إنجلترا أن يشكلوا ربع السكان (10)، على الرغم من كل القوانين والأهوال التي كان يقاسيها نحو 335 من الجزويت، واعتنق النبلاء البارزون المذهب القديم، وفي 1625 أعلن جورج كلفرت، لورد بلتيمور تحوله إلى الكثلكة، وفي 1632 منحه شارل مرسوماً بإنشاء المستعمرة التي عرفت باسم ماريلاند. وفي 1633 أرسلت الملكة الكاثوليكية هنريتا ماريا إلى روما مبعوثاً يستجدي منصب الكاردينال لأحد الرعايا البريطانيين. وعرض الملك الإنجليكاني أن يسمح بإقامة أسقف كاثوليكي في إنجلترا إذا أيد إربان الثامن خطة شارل في عقد بعض زيجات دبلوماسية (1634) ولكن البابا رفض. وطالب الكاثوليك بالتسامح الديني. ولكن البرلمان-الذي يعي في ذاكرته تعصب الكاثوليك، ومذبحة سانت برتلميو، ومؤامرة البارود، والاشمئزاز من إجراء تحقيق في مستندات ممتلكات بروتستانتية كانت يوماً كاثوليكية-طالب، بدلاً من ذلك، بالتطبيق الكامل للقوانين التي صدرت ضد الكاثوليكية. وساد شعور قوي شعاره "لا كثلكة"، وخاصة بين طبقة صغار الملاك والطبقة الوسطى، يعارض بالمثل، تدفق القساوسة الكاثوليك إلى إنجلترا، كما يقاوم ازدياد التقريب بين الفكر والطقوس الأنجليكانية والكاثوليكية.
وتمتعت الكنيسة الرسمية بحماية الدولة لها حماية كاملة. وكانت العقيدة والعبادة الأنجليكانية إجباريتين قانوناً، وجعلت المواد التسع والثلاثون قانوناً من قوانين البلاد 1628. وادعى الأساقفة الأنجليكانيون "الخلافة الرسولية"-أي أنهم كانوا قد رسموا بواسطة الرسول، ورفضوا توكيد المشيخيين والبيوريتانيين أن يرسموا الكاهن شرعاً، وكان كثير من رجال الدين الأنجليكانيين في ذاك العصر، رجالاً يتحلون بعلم واسع وشعور كريم. وكان جيمس أشر Usher رئيس أساقفة أرماج Armagh عالماً حقاً، برغم حسابه المشهور (في كتابه Annales Veteris Testamenti، 1650) أن الله خلق العالم في 22 أكتوبر سنة 4004 ق. م. -وهذه غلطة في الحساب الزمني جعلت شبه رسمية في طبعات الكتاب المقدس (12). ودعا جون(28/281)
هيلز، قسيس السفارة الإنجليزية في هولندا-إلى الشك والعقل والتسامح:
إن الطرق التي توصلنا إلى .... أي علم أو معرفة ليست إلا اثنتين، أولاهما الاختبار وثانيتهما الاستدلال المنطقي، إن الذين يأتونك ليلقوا إليك بم يجب أن تؤمن وماذا يجب أن تفعل، دون أن يذكروا لك السبب في هذا أو ذاك، ليسوا أطباء بل إنهم متطفلون دجالون ... إن أهم مصدر وقوة للحكمة ليس من السهل التصديق بهما ... إن تلك الأشياء التي نجلها لقدمها، ماذا كانت في بداية نشوئها؟ هل كانت زائفة؟ إن الزمن لا يستطيع أن يضفي عليها حقيقة وصدقاً. إن عامل الزمن ... مجرد شيء خارج عن موضوع البحث ... وليس تعدد الآراء، ولكن إرادتنا الفاسدة الشريرة-التي تظن أنه من الملائم أن نتخيل كل شيء (من نفس الفكر) كما نتصوره نحن نفسنا-هي التي أزعجت الكنيسة إلى هذا الحد. ألم نكن مستعدين لأن يلعن بعضنا بعضاً حين لم نكن متفقين في الرأي؟ ويمكن أن تكون قلوبنا متحدة ... هناك شيئان يصنعان رجلاً مسيحياً كاملاً-إيمان صادق وسلوك قويم. ولو أن الثاني يبدو أجدر بالاعتبار، ويخلع علينا اسم المسيحيين، ولكن الثاني في النهاية، سيثبت أنه الأقوى والأرسخ، وليس ثمة رجل ... حتى ولو كان همجياً أو وثنياً، لا تصل إليه أنسام الشفقة المسيحية (13).
ولم يستجب بعض "عبدة الأصنام" لكرم هليز. وكتب جزويتي بتوقيع "إدوارد نوت نبذة عنوانها Charit Mistaken (1630) قال فيها إنه لن يكتب الخلاص لأي بروتستانتي، إلا بمحض الصدفة (14). ولكن أعاد الطمأنينة إلى قلوب البروتستانت الذين أدانهم المقال السابق، وليم تشلنجورث، Chillingworth الذي كان كتابه "العقيدة البروتستانتية هي الطريق المأمون للخلاص، 1637" أشهر(28/282)
بحث لاهوتي في ذاك، العصر، لقد عرف تشلنجورث الفريقين كليهما، فقد كان قد ارتد إلى الكاثوليكية، ثم عاد إلى البروتستانتية، وما زالت لديه تحفظاته، وقال عنه كلارندون "إنه تعود الشك حتى أصبح شيئاً فشيئاً لا يثق في شيء قط، ومتشككاً على الأقل في أعظم الأسرار الدينية (15) ".
وكان جرمي تيلور أفصح الأنجليكانيين في عهد شارل، ولا تزال عظاته تقرأ؟، كما أنها أشد تأثيراً من عظات بوسويه، حتى أنها هزت مشاعر أحد الفرنسيين (16). وكان تيلور ملكياً متحمساً، وقسيساً في جيش شارل الأول. وعندما سيطر المشيخيون والبيوريتانيون على البرلمان، وأساءوا، في التعصب الشديد، معاملة الأنجليكانيين الذين كانوا يوماً متعصبين، أصدر تيلور كتاب "حرية الوعظ" (1646) وهو دعوة حذرة إلى التسامح: إن أي مسيحي قبل عقيدة الرسل يجب أن تتلقاه الكنيسة بين أحضانها، ويجب أن يترك الكاثوليك أحراراً، إلا إذا أصروا على سيادة إنجلترا وعلى الملوك (1)، وقبض حزب البرلمان على تيلور وأودع السجن في الحرب الأهلية، ولكن بعد عودة الملكية، انضم إلى حكومة الأساقفة في الكنيسة، وخف تحمسه للتسامح.
وظهر أثر الكاثوليكية المتزايد في الرجل الأنجليكاني البارز ذي النفوذ في عصره، وهو وليم لود، الذي كان رجل فكر وإرادة، ولد ليسيطر ويحكم أو يموت. وكان متمسكاً بأهداب الفضيلة أشد تمسك، متزمتاً أشد التزمت، وطيد العزم إلى حد العناد مع سرعة الغضب، ورأى لود-كأي رجل صالح من رجال الكنيسة، أنه من القضايا المسلم بها أن المعتقد الديني الموحد أمر لا غنى عنه للحكومة الناجحة وأن الشعائر المعقدة ضرورية لكل عقيدة مهدئة مؤثرة، وما كان أشد حزن المسيحيين والبيوريتانيين وأسفهم عندما اقترح لود إعادة الفنون إلى خدمة الكنيسة، لتجميل المذبح والمنبر وجرن التعميد، وإعادة الصليب المقدس، والمدرعة (الرداء الكهنوتي الأبيض) إلى الكهنة. وعلى هيئة جبل خاص للخطايا، أمر بوضع مائدة
_________
(1) في 1631، في مستعمرة خليج مساشوست نادي روجر وليم بالتسامح بلا حدود مع الكاثوليك واليهود والكفار.(28/283)
العشاء الرباني التي كانت توضع حتى الآن وسط الهيكل (وكانت تستخدم في بعض الأحيان لوضع القبعات عليها)، نقول أمر لود بوضع هذه المائدة خلف حاجز في الطرف الشرقي من كنيسة، وكانت هذه التغييرات في معظمها إحياء لأعراف إليزابث وقوانينها، ولكنها في نظر البيوريتانيين الذين أحبوا البساطة، كانت تمثل ارتداداً إلى الكاثوليكية، وتجديداً للفصل الطبقي بين القسيس وجمهور المصلين. ويبدو أن لود أحس بأن الكنيسة الكاثوليكية كانت على حق في إحاطة الديانة بالمراسم والشعائر، وإضفاء هالة من القداسة على القسيس (17). وقدرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أراءه إلى حد أنها قدمت إليه منصب الكاردينال (18). ولكنه رفض رفضاً مهذباً. ولكن يبدو أن هذه العروض أيد لوم البيوريتانيين وتأنيبهم، وأطلقوا عليه النذير بقدوم المسيح. وعينه شارل 1633 رئيساً لأساقفة كنتربري وعضواً في وزارة الخزانة. وعين رئيس أساقفة آخر قاضياً للقضاة في إسكتلندة فشكا الناس من أن رجال الكنيسة يعودون إلى السلطة، كما كانت الكنيسة في أوج عظمتها في العصور الوسطى.
وشرع كبير أساقفة إنجلترا، من قصره في لامبث Lambeth في إعادة تشكيل الطقوس والأخلاقيات الإنجليزية، وخلق مائة عدو جديد حين فرض عن طريق "محكمة اللجنة العليا" (وهي هيئة قضائية أقامتها إليزابث، وهي الآن كنيسة بشكل واضح): فرض غرامات فادحة على المتهمين بالزنى، ولم تطلب نفوس الضحايا باستخدامه الغرامات في إصلاح كاتدرائية سانت بول المتهدمة، وطرد المحامين والبائعين المتجولين والمثرثرين من أبهائها (19) وحرم الكهنة الذين رفضوا الطقوس الجديدة من رواتبهم، أما الكتاب والخطباء الذين نقدوها مراراً وتكراراً، أو ارتابوا في العقيدة المسيحية، أو الذين عارضوا نظام الأساقفة فكانوا يحرمون من الكنيسة ويوضعون في آلة تعذيب خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلا المذنب ويداه، أو تقطع أذناه.
ويجب أن نتخيل بشاعة ووحشية العقوبات التي فرضت في عهد لود، حتى ندرك مصيره. فان الكاهن البيوريتاني اسكندر ليتون Leighton، حوكم أمام(28/284)
محكمة قاعة النجم لأنه المؤلف المعترف به لكتاب يقول بأن نظام الأساقفة، نظام شيطاني معاد للمسيحية. فقيد في الأغلال وسجن في مكان موحش لمدة خمسة أسابيع في زنزانة شديدة البرد "مليئة بالجرذان والفيران، معرضة للثلوج والأمطار"، فتساقط شعر رأسه، وتقشر جلده، وربط إلى خازوق، وتلقى ستاً وثلاثين جلدة بحبل سميك على ظهره العاري، ووضع في المشهرة (آلة تعذيب) لمدة ساعتين في صقيع نوفمبر وجليده، ودمغ بسمة العار في وجهه، وشق أنفه وقطعت أذناه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (20). وفي 1633 فرضت على لودويك بوير Ludowyc Bowyer، الذي كان قد اتهم لود بأنه كاثوليكي في دخيلة نفسه، غرامة، ودمغ بسمة العار، وبترت أطرافه، وشوه جسمه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (21). واتهم وليم برين، وهو من غلاة الدعاة البيوريتانيين في "أنباء من أبسوبك" (1636)، اتهم أساقفة لود بأنهم خدم للبابا وللشيطان (22)، وأوصى بشنق الأساقفة. فدمغ بسمة العار على خديه كليهما وقطعت أذناه، وأودع السجن حتى أفرج عنه البرلمان الطويل (1640) (23). وسجنت لمدة أحد عشر عاماً امرأة أصرت على اعتبار السبت يوم راحة وعبادة (24).
واتفق ألد أعداء لود، وهم البيوريتانيون، ومعه على ضرورة التعصب أو عدم التسامح. وذهبوا إلى أنه حكم نهائي معقول من أصل السماوي للمسيحية والكتب المقدسة، فان أي فرد يعارض عقيدة قامت على هذا الأساس، لا بد أن يكون مجرماً أو معتوهاً، وتجب حماية المجتمع من كثير من الخطايا واللعنات التي قد تنصب على المجتمع من جراء تعاليمه. وناشد المشيخيون البرلمان- (1648) أن يشرع عقوبة السجن مدى الحياة لمن يستمرون على نشر تعاليم الكاثوليك والمعمدانيين والأرمينيين والكويكرز، وعقوبة الإعدام للذين ينكرون نظريات الثالوث الأقدس، أو التجسد. ولكن المستقلين أتباع كرومويل، على أية حال، عرضوا التسامح مع كل من يقبل أساسيات المسيحية، ولكنهم استبعدوا الكاثوليك والموحدين والمدافعين عن حكومة الأساقفة (25).
وكان في البيوريتانيين شيع كثيرة إلى حد يصعب معه جمعهم في تعميم واحد(28/285)
ينطبق عليهم جميعاً. وتمسك معظمهم بكلفنية صارمة، وبحرية سياسية فردية، ويحق جمهور كل كنيسة في إدارة شئونها دون إشراف الأساقفة، وبعبادة غير موسومة بالمراسم والشعائر، متسمة بالمساواة، وتخلوا عن الفن الديني الذي يلهي المصلين ويشتت أفكارهم، واتفقوا مع المشيخيين في اللاهوت ولكنهم رفضوا مجامعهم الكنسية، لأنها تنزع إلى ممارسة سلطة الأساقفة، وأصروا على تفسير حرفي للكتب المقدسة، واستنكروا القول بحكم العقل على الحق الموحى به، وكانوا يجلون العهد الجديد والعهد القديم بقدر سواء، وطبقوا على أنفسهم الفكرة اليهودية "شعب الله المختار"، وعمدوا أطفالهم بأسماء بطارقة "العهد القديم" وأبطاله، وفكروا في الرب على أساس "يهوه" الصارم القاسي، وأضافوا إلى ذلك إيمان الكلفنية بأن معظم الناس هم "أبناء العقاب الإلهي" قضت عليهم الإرادة المتحكمة من لدن إله لا يرحم بالخلود في الجحيم، وعزوا خلاص القلة "المختارة"، لا إلى صالح الأعمال، بل إلى نعمة إلهية ينعم الله بها على من يشاء متى شاء. وذهب بعضهم إلى أنه كلم الله، وظن بعضهم أنهم ملعونون فهاموا في الشوارع يئنون ويتأوهون، استباقاً لخلودهم في العذاب. وبدا أن الله يسلط الصواعق دوماً على رؤوس الناس.
وفي وسط هذا "الإرهاب" الذي فرضته البلاد على نفسها كادت "إنجلترا المرحة" أن يتقلص ظلها واستسلمت "إنسانية عصر النهضة" و "طبيعية" عصر إليزابث المفعمة بالحيوية إلى شعور بالذنب وخوف من الانتقام الإلهي. وبهذا الخوف وذلك الشعور نظر الناس إلى مسرات الحياة وكأنها أرجاس من عمل الشيطان أو تحديات للإله. وعاودت قسماً أكبر من الناس لم يعهد له مثيل من قبل في التاريخ المعروف، نقو عاودتهم المخاوف من الطبيعة البشرية والجسد، التي كانت سائدة بين الرهبان في الديار. وأعلن بريم Pryme أن كل عناق "دعارة"، وكل رقص مشترك "فسق وفجور (26) ". وفي نظر معظم البيوريتانيين كانت الموسيقى والزجاج الملون والصور الزيتية والأردية الكهنوتية البيضاء والكهنة الممسوحون بالزيت-كلها أمور تحول دون الاتصال بالله والاتجاه إليه. ودرسوا الكتاب(28/286)
المقدس بعناية فائقة، واقتبسوا عباراته في كل حديث وفي كل فقرة تقريباً، وطرز بعض المتحمسين المتعصبين ثيابهم بنصوص مقدسة، وأضاف المغالون في التقى والورع لفظة "حقاً" إشهاد على إخلاصهم أو صدقهم. وحرم البيوريتانيون الصالحون استخدام مستحضرات التجميل وترتيب الشعر، على أنهما ضرب من الزهو والغرور والتفاهة. وحظوا بالاسم المستعار "ذوي الرءوس المستديرة Roundheads لأنهم قصوا شعورهم بشكل قصير جداً. ونددوا بالمسرح على أنه مخز (وهكذا كان)، وبمطاردة الدببة والثيران على أنها عمل وحشي، وبأخلاق البلاط على أنها وثنية. كما استنكروا الاحتفالات والأعياد الصاخبة، ودق النواقيس، والتجمع حول عمود أول مايو المزدان بالأشرطة والأزهار والرقص حوله، وشرب الأنخاب، ولعب الورق. وحرموا كل الألعاب أياً كانت في يوم الراحة، وقالوا أنه يوم الرب، ويجب ألا يسمى بعد الآن بالاسم الوثني "الأحد". ورددوا صيحات الغضب-ومن بينهم ملتون-حين أصدر شارل الأول ولود-تجديداً لمرسوم جيمس الأول-"إعلان الألعاب" 1633، أجاز فيه الألعاب في يوم الأحد بعد تأدية الصلوات. ومد البيوريتانيون تشددهم في تحريم الألعاب والملاهي وفي الانقطاع إلى العبادة والراحة في أيام الآحاد (قوانين الأحد الزرقاء)، إلى يوم عيد الميلاد، ورثوا لأسلوب الاحتفال بمولد المسيح بالمرح والرقص والألعاب، وكانوا على حق في أنهم نسبوا معظم تقاليد عيد الميلاد إلى أصول وثنية، وطالبوا بأن يكون عيد الميلاد يوماً مهيباً للصوم والكفارة، وفي 1644 أقنعوا البرلمان بعد لأي، بإقرار هذه الفكرة بمقتضى القانون.
وكما أكدت البروتستانتية على العظة أكثر مما فعلت الكثلكة، فان البيوريتانيين كذلك توسعوا فيها حتى إلى أبعد مما جرى عليه البروتستانت. ومزق التعطش إلى المواعظ بعض القلوب، وانتقل عمدة نوروك إلى لندن ليستمع إلى مزيد من الوعظ، واستقال بزاز من الأبرشية لأنها لا تقدم إلا عظة واحدة كل يوم أحد، وقام "محاضرون" خاصون لإطفاء هذا الظمأ-وهؤلاء عبارة عن رجال(28/287)
عاديين تستأجرهم الأبرشية لإلقاء عظة يوم الأحد، بالإضافة إلى ما يلقيه الكاهن المعتاد. ونهض معظم الوعاظ البيوريتانيين بمهمتهم في جدية بالغة فأرهبوا مستمعيهم بأوصاف الجحيم، واتهم بعضهم الآثمين علناً بالاسم، وأفصح واحد منهم عن مدمني الخمر في شعب الكنيسة، وضرب، وهو يتحدث عن البغايا، مثلاً بزوجة أحد أهالي الأبرشية المشهورين، وقال آخر لمستمعيه إنه إذا كان الزنى والحلف والغش وإغفال طقوس يوم الراحة، إذا كانت هذه كلها تؤدي بالإنسان إلى الجنة، فسيكتب الخلاص للأبرشية بأسرها (17). وأحس القساوسة البيوريتانيون أن من واجبهم أن يصفوا الناس-أو يحرموا عليهم-قواعد السلوك، وأنواع اللباس ووسائل التسلية، فحرموا الاحتفال بأيام العطلة أو الأعياد في الأعراف الوثنية أو الكنيسة الكاثوليكية، وبذلك أضافوا نحو خمسين يوم عمل إلى السنة (28). ودوت صيحة الواجب في الخلق البيوريتاني، مقترنة بغرس الشجاعة والاعتماد على النفس والحزم والاقتصاد والعمل في النفوس، وكان هذا نظاماً أخلاقياً يلتئم مع الطبقة الوسطى، فأنه حث على العمل الجاد النشيط، وأجاز من الوجهة الدينية المشروعات والمغامرات التجارية والملكية الخاصة. وكان الفقر، لا الغنى، في نظرهم، هو الخطيئة، لأنه ينم على الافتقار إلى الخلق الشخصي وإلى نعمة الله (29).
وكان البيوريتانيون، من الناحية السياسية، يتوقون إلى حكومة دينية ديمقراطية، لا يكون فيها بين الناس إلا فروق أخلاقية ودينية، ولا يكون فيها حاكم غير المسيح. ولا قانون سوى كلمة الله. وكرهوا الضرائب الباهظة التي تعول الكنيسة الأنجليكانية. وشعر رجال الأعمال منهم أن هذه الكنيسة الرسمية العليا الباهظة النفقات تحلبهم وتستنزف أموالهم. وقال أحد المؤلفين "إن هذه الهاوية الأسقفية تلتهم تجارة الأمة" (30). ودافع البيوريتانيون عن الثراء، ولكنهم احتقروا الترف الخامل الذي كان يرفل فيه النبلاء، وتمسكوا بالأخلاقيات إلى حد التطرف، كما فعلت الأجيال التالية بالحرية. ولكن ربما كانت مبادئهم القاسية تصحيحاً ضرورياً للانحلال الخلقي في عصر إليزابث. وأنجبوا بعضاً من أقوى الشخصيات في التاريخ-كرومل وملتون، والرجال الذين فتحوا الفيافي والقفار الأمريكية.(28/288)
ودافعوا عن الحكومة البريطانية ونظام المحلفين ونقلوهما إلينا، وإن إنجلترا لمدينة لهم، بشكل جزئي، بالرصانة الحقة في الخلق الإنجليزي، واستقرار الأسرة البريطانية، ونزاهة الحياة الرسمية في بريطانيا. ولم تفقد شيئاً.
3 - البيوريتانيون والمسرح
إن أول انتصار أحرزه البيوريتانيون كان في حربهم ضد المسرح. فإن كل ما تميزوا به-من لاهوت قائم على "الاصطفاء" و "الرفض" وخلق متزمت، ومزاج قاسي، وحديث إنجيلي-كان يتناوله المسرح بالتجريح والتسخيف، عن طريق الصور الكاريكاتورية الفاضحة التي لا تغتفر، وكانت الطامة الكبرى في 1629: فإن ممثلة فرنسية تجاسرت على إسناد دور نسائي إلى شاب في رواية مثلت على مسرح Black Friars فقذفوها بالتفاح والبيض الفاسد.
وربما أرضى الكتاب المسرحيون الجدد جماع البيوريتانيين، لأنهم كانوا في جملتهم مهذبين، من حين إلى حين، حاولوا بالبذاءات، إرضاء جمهور الدرجة الثالثة ذوي الأذواق السقيمة واجتذابهم. إن رواية فيليب ماسنجر "طريقة جديدة لتسديد الديون القديمة (1625) لم تكن تهجو الفضيلة المتزمتة، بل جشع الاحتكارات. ولم يكن ثمة شعر يحلق، ولا ذكاء يدوي، ولا مجازات وتخيلات صارخة، ولكن الرجل المبتز المجرد من الضمير والمبادئ الخلقية وقع في يد العدالة آخر الأمر. وتعاقبت خمسة فصول دون أن تظهر واحدة من البغايا أو بنات الهوى. وتحايل جون فورد على تصيد الجمهور بأن جعل عنوان الرواية "يا حسرتاه إنها مومس"، ولكن هذه الرواية، ورواية "القلب الكسير" (كلتاهما 1633) احتفظنا بشيء من الاحتشام، وربما أمكن تمثيلهما الآن لو أن الجمهور الحديث استطاع أن يتحمل العذاب في حل عقد الرواية.
وسدد البيوريتانيون أعنف ضرباتهم للمسرح، حين أرسل أشد أنصارهم جرأة وشجاعة، وليم برين، إلى الصحافة (1632) مقاله "سوط الممثلين Players Seourge وكان برين محامياً، ولم يدع النزاهة والتجرد، وقدم إلى(28/289)
المدعي مذكرة من ألف صحيفة، وبالاقتباس من الكتب المقدسة ومن كتابات آباء الكنيسة بل حتى من كتابات الفلاسفة الوثنيين، أثبت أن المسرحية من عمل الشيطان، فإنها بدأت كصيغة أو شكل لعبادته. إن معظم الروايات ممتلئة بالتجديف والدعارة والفحش، زاخرة بعناق العشاق، والإيماءات الخليعة، والموسيقى والأغاني والرقص الذي يثير الشهوة، وإن كل أنواع الرقص من عمل شيطاني، وكل خطوة فيه إن هي إلا خطوة إلى الجحيم، وإن كل الممثلين مجرمون فجرة كفرة". "إن كنيسة الله، لا المسرح، هي المدرسة الوحيدة الصالحة، والكتاب المقدس والعظات والكتب الدينية المخلصة الورعة ... هي المحاضرات" أي القراءات الوحيدة الصالحة للمسيحيين. فإذا أرادوا التحول عنها:
فإن أمامهم مشاهد متعددة في الشمس والقمر والكواكب والنجوم وسائر المخلوقات التي لا نهاية لتعددها وتنوعها، ليمتعوا بها أنظارهم. وإن أمامهم تغريد الطيور ليشنفوا به آذانهم، وإن لديهم الشذا الرقيق الجميل والروائح الزكية المنبعثة من الأعشاب والأزهار والفواكه لينعشوا بها أنوفهم .. ولديهم المذاق الجميل لكل ما يصلح للأكل ... والمسرات والمتعة التي تقدمها لهم البساتين والأنهار والحدائق والبرك والغابات، والبهجة التي يوفرها لهم الأصدقاء والأقرباء والأزواج والزوجات والأولاد، والمقتنيات والثروة، وسائر النعم الظاهرة التي أنعم الله بها على الإنسان (31).
وكانت الحجة قوية بليغة، ولكنها وصمت كل الممثلات بالدعارة والبغاء، وكانت الملكة لتوها قد استقدمت من فرنسا بعض الممثلات، وكانت هي نفسها تتدرب على التمثيل دور في البلاط، وجرح شعور هنريتا ماريا واستاءت، واتهم لود برين بإثارة الفتنة، ودفع المؤلف بأنه لم يكن يقصد الطعن في الملكة أو التشهير بها، واعتذر عن عدم مراعاة الاعتدال في كتاباته. ولكن على أية حال، في قسوة علقت بأذهان البيوريتانيين طويلاً، منع من الاشتغال بالمحاماة وفرضت(28/290)
عليه غرامة يستحيل دفعها، 5000 جنيه (250. 000 دولار؟)، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. ووضع في المشهرة وقطعت أذناه كلتاهما (32)، ومن سجنه أصدر (1636) "أنباء من أبزوك" اتهم فيه الأساقفة الأنجليكانيين بأنهم خونة شيطانيون، وذئاب ضارية، وأوصى بشنقهم. فعذب في المشهرة من جديد، واستؤصلت بقايا أذنيه، وبقى في السجن حتى أفرج عنه البرلمان الطويل 1640.
وفي 1642 أصدر البرلمان أمراً بإغلاق كل مسارح إنجلترا. وكان هذا في أول الأمر، فن تدابير حرب، بدا أنها محدودة بهذه الأوقات الفاجعة. ولكنها استمرت حتى 1656. وآذنت بزوال الحياة الطويلة للمسرحية الإليزابثية، وسط مسرحية أكبر لم يشهد لها المسرح الإنجليزي مثالاً قط.
4 - النثر في عهد شارل الأول
كان هناك في إنجلترا، رجلان على الأقل، يستطيعان أن يطلا على المشهد المضطرب في مقدرة وهدوء. وكان جون سلدن Selden واسع الإطلاع والعلم حتى قال عنه الناس: لا يعلم أحد أي شيء لا يحيط به سلدن علماً. إنه كرجل مهتم بالآثار والتاريخ القديم، جمع بيانات عن الدولة في إنجلترا قبل عهد النورمنديين، وسجلا موثوقاً عن "ألقاب الشرف" (1617)، وبوصفه مستشرقاً، ذاع صيته في كل أوربا، بدراسته في الشرك وتعدد الآلهة، وبوصفه من رجال القانون شرح قانون الأحبار وكتب "تاريخ العشور" ودحض فكرة أنها فرضت من عند الله، وبوصفه عضواً في البرلمان أسهم في اتهام بكنجهام ولود وفي صياغة "ملتمس الحقوق". وأودع السجن مرتين، وشهد "اجتماع وستمنستر" كمندوب علماني عادي "يشهد اقتتال الحمير المتوحشة" ودعا إلى الاعتدال في المنازعات الدينية. وبعد وفاته أصبح كتابه، "حديث المائدة" الذي سجله سكرتيره، من الآثار الأدبية الإنجليزية، نقتطف هنا نموذجاً منه:
إنه لمن العبث أن نتحدث عن هرطيق، لأن الإنسان لا يعتد
إلا بما يراه أو يفكر فيه هو نفسه. وفي العصور البدائية كان ثمة(28/291)
آراء كثيرة، اعتنق واحداً منها أحد الأمراء، ودمغت
سائر الآراء بأنها هرطقات. ولا يمكن أن يكون رجل
ما أعقل الناس من اجل علمه ومعرفته، فقد يهيئ هذا
موضوعاً للمناقشة ولكن الذكاء والحكمة تولدان مع الإنسان ....
إن العقلاء لا يتفوهون بشيء في أوقات الخطر.
إن الأسد دعا الشاة ليسألها إذا كانت ثمة رائحة تخرج من
فمه، فلما أجابت بالإيجاب عضها فأطاح برأسها لأنها غبية
حمقاء. فدعا الذئب وأعاد عليه نفس السؤال فأجاب بالنفي،
فمزقه الأسد إرباً لأنه متملق. وأخيراً نادى على الثعلب
وكرر السؤال، فتعجب إنه مصاب بالبرد ولا يستطيع
أن يشم (33).
وكان توماس براون "ثعلباً". إنه ولد في لندن 1605 وتلقى علومه في مدرسة ونشستر، ومونبيلييه وبادوا وليدن، واستزاد من العلوم والفنون والتاريخ كلما وجد إلى ذلك سبيلا، ثم انصرف إلى الاشتغال بالطب في نوروك. وهذب من "تحليلاته للبول" بتدوين ملاحظاته وأفكاره "عن كل هذه الأشياء، وعن قليل غيرها " On All Things and a Few Others وأخفى بلباقة نظريته في الدين في كتابه "الطب الديني" (1642)، وهو يمثل مرحلة في تاريخ النثر الإنجليزي. وإنك لتجد في شخصه "مونتاني بريطاني"، فهو مثله في طرافته وخياله، وفي تذبذبه وتعدد جوانبه، وربما اقتبس عنه فيما كتب عن الصداقة (34)، وهبط بتشككه إلى الامتثال للكنيسة الإنجليزية مستسيغاً العقل ومعلناً إيمانه. وملأ براون كلامه بالإشارات والإشتقاقات التقليدية ولكنه أحب فن الألفاظ وموسيقاها، مستخدماً أسلوباً كأنه دواء "مضاد للبلى والفساد".
وكان بطبيعة دراسته وتعليمه نزاعاً إلى الشك. وفي أطول مؤلفاته وعنوانه "الأقوال الزائفة الشائعة" شرح وهذب مئات من "الآراء الفاسدة الشائعة" في(28/292)
أوربا- منها أن العقيق الأحمر يضئ في الظلام، وأن الفيل لا مفاصل له، وأن العنقاء تتوالد بذاتها من رفاتها، وأن السمندر (نوع خرافي من الضفادع) يمكن أن يعيش في النار، وأن وحيد القرن (حيوان خرافي له جسم فرس وذيل أسد) له قرن واحد في وسط الجبهة، وأن البجع يغني قبل موته، وأن الفاكهة المحرمة كانت التفاح، "وأن ضفدع الطين يبول وبهذه الطريقة ينفث سمه (35) " ولكنه كأي مهاجم للتقاليد والمعتقدات القديمة، كان له معتقداته، فانه آمن بالملائكة والشياطين وقراءة الكف والسحرة (36)، وشارك في 1664 في اتهام امرأتين بأنهما ساحرتان، وشنقا بعد ذلك على الفور، وهما تؤكدان براءتهما (37).
ولم يكن به ميل إلى النساء، وذهب إلى أن "الجنس" أمر مرذول فقال
لم أتزوج غير مرة واحدة فقط، وإني لأمتدح أولئك الذين
يعقدون العزم على ألا يتزوجوا مرتين، وإني لأتمنى أن نتكاثر،
مثل الشجر، دون اتصال جنسي، أو أن تكون هناك وسيلة
أخرى للإبقاء على الجنس البشري، انه أقبح عمل يأتيه الرجل
العاقل في حياته، وليس ثمة شيء يوهن من عزيمته ويؤذي
خياله أكثر من تفكيره في أية حماقة تافهة شاذة قد ارتكبها (38).
أما بالنسبة لموضوعه الرئيسي فانه مسيحي بحكم الدفاع عن المسيحية:
أما من حيث ديانتي، فانه على الرغم من الظروف الكثيرة التي
قد تغري العالم، فليس لدي منها شيء قط (مثل الخزي العام في
مهنتي، المجرى الطبيعي لدراساتي وأبحاثي، عدم التحيز في
سلوكي وفي أحاديثي في الموضوعات الدينية، فلا أتحمس في
الدفاع عن دين، ولا أعارض ديناً آخر بمثل هذا العنف الذي
اعتاد الناس أن يعارضوا به الديانات الأخرى)، ولكن برغم
كل شيء، فإني أتجاسر، دون أي إكراه، على اعتناق المسيحية
الكريمة. لا لأني أدين بلقبي لجرن المعمودية، ولا من أجل(28/293)
تعليمي، أو المناخ الذي ولدت فيه، .... ولكن لأني
في أيام نضجي وحكمي السليم على الأمور، عرفت كل
الأديان وخبرتها (39).
ويحس براون بأن عجائب الدنيا، ونظامها تنم على عقل إلهي- "إن الطبيعة غي فن الإله (40) " ويعترف بأنه ارتكب بعض الهرطقة، وينزلق إلى شيء من الارتياب فيما جاء بالكتاب المقدس عن الخلق والتكوين (41)، ولكنه الآن يحس بالحاجة إلى ديانة مقررة ترشد الحائرين والمترددين من الناس، ويرثى لتفاهة الهراطقة الذين يعكرون صفو النظام الاجتماعي بتوفيقهم في عملهم (42). ولم يكن يحب البيوريتانيين، وبقي على ولائه وإخلاصه لشارل الأول، أثناء الحرب الأهلية، وكافأه شارل الثاني على جهوده برفعه إلى مرتبة الفارس.
وفي سنواته الأخيرة أغراه بالتأمل والبحث في الموت، والكشف عن بعض المقابر في نورفولك، وسجل ملاحظاته وأفكاره في تحفة من روائع النثر الإنجليزي غير ذات موضوع محدد: Hydriotaphia Urne-Buriall. (1658) . وينصح بإحراق الموتى، كأخف الوسائل عقماً لتخليص الأرض منا. "إن الحياة بريق صاف، وإننا لنعيش "بشمس" خفية فينا"، ولكنا نومض ثم نخبو بسرعة مخزية، وإن الأجيال لتمضي، على حين يبقى الشجر، وان الأسرات العريقة لا تعمر قدر ما تعمر ثلاث بلوطات (41) "ويحتمل أن العالم نفسه" يقترب من نهايته "في هذه الساعة الفاصلة من الزمن". ونحن بحاجة إلى الأمل في الخلود ليثبتنا ضد قصر الحياة هذا، وإنه لسند قوي لنا أن نحس بالخلود، -ولكن يحزننا أشد الحزن أن تدفعنا أطياف الجحيم في التياع إلى الاحتشام واللياقة (44). وليس الملأ الأعلى "فراغاً سماوياً" ولكنه "في نطاق هذا العالم المحسوس" في حالة من الرضا والهدوء. ولكن براون يستدرك بسرعة حتى لا ينزلق إلى هاوية الهرطقة، فيختم تأملاته الدينية بدعاء خاشع إلى الله:
اللهم أنعم على في هذه الحياة براحة الضمير، وبالسيطرة(28/294)
على عواطفي، وامنحني حبك وحب أصدقائي الأعزاء،
وبهذا أكون سعيداً إلى حد الإشفاق على قيصر. تلك،
يا إلهي، رغباتي المتواضعة التي يمليها على طموحي المعقول.
وهو كل ما أجرؤ على القول بأنه السعادة على الأرض،
التي لا أضع فيها قاعدة ولا حدا لنعمتك وعنايتك. وأمتني
كما تشاء حكمتك فان مشيئتك سوف تنفذ ولو في قضاء
على (45).
5 - الشعر في أيام شارل
وظهرت في نفس الحقبة طائفة من الشعراء الثانويين الأقل شأناً-الذين حظي كل منها بأعظم الحب لدى هذا أو ذاك من الناس- والذين أمتعوا الناس، وملئوا وقت فراغهم بقوافي الغزل وقصائد التقوى الرخيمة. وحيث أن الملك كان يميل إليهم ويرضى عنهم لأنهم كانوا أبواقاً له ولسان حاله في كل التقلبات، فان التاريخ يعرفهم باسم "الشعراء الفرسان". وكان روبرت هرك Herrick يدرب قلمه عند بن جونسون، وظن لبعض الوقت أن قدحاً من النبيذ يمكن أن ينظم مجلداً من القصائد، وكان يحتسي الخمر لعدة ساعات دون انقطاع، من أجل باخوس (إله الخمر والعربدة عند اليونان والرومان)، ثم درس ليهيئ نفسه للانخراط في سلك رجال الدين، وتلقى درساً في العشق والغرام، وقطع على نفسه عهداً أن يؤثر الخليلات على الزوجات (46). وأشار على العذارى "بجمع براعم الورد" عند تفتحها. أما عشيقته كورنا Corinna فانه يستحثها بقوة:
انهضي، انهضي، يا للعار إن الصبح المتفتح يمثل بأجنحته
قدرة الله كاملة. انظري كيف أن الفجر ينبثق في الجو عن
خيوط الضوء الجديد الجميل. انهضي أيتها الغادة النؤوم
وانظري كيف ترين قطرات الندى العشب والشجر .... تعالي،
ولنذهب ونحن في ريعان شبابنا لنسرح ونمرح في اللهو البريء(28/295)
في أيامنا. سوف يدركنا الهرم بسرعة ونفنى قبل أن نستمتع
بحريتنا ... وعندما يسعفنا زماننا، وقبل أن نذبل
ونذوي، تعالي يا حبيبتي كورنا، تعالي ننعم بربيع
الحياة (47).
وهكذا في كثير من قصائده الماجنة التي نشرها (1648) في مجموعة Hesperides، حيث نجد أنها، حتى في أيامنا الفاجرة، في حاجة إلى التهذيب، حتى تلائم كل الناس. ولكن كسب العيش ضروري كذلك. ومن ثم غادر هرك لندن الحبيبة إلى نفسه (1629) - حاملاً معه حب للقصيد والقوافي- وقصد وهو محزون، ليعمل قسيساً ويقيم في بيت متواضع في ديفونشير النائية.
وسرعان ما شرع في نظم قصائد تفيض بالتقي والورع، بادئاً بدعاء الغفران:
أما عن قصائدي المجافية للدين، والتي كتبتها في أيام طيشي
ومجوني، عن كل جملة أو عبارة أو لفظة فيها، لم يرد فيها
ذكرك، يا إلهي، فتجاوز عنها يا رب، وامح من كتابي كل
سطر لم تلهمني في الصواب (48).
وفي 1647 عزله البيوريتانيون من وظيفته. وتضور جوعاً، في خضوع وولاء، طوال الأيام السود في حكم كرومول، ولكنه عاد إلى أبرشيته بعودة الملكية، ومات هناك، وهو في سن الرابعة والثمانين، وضاعت كورنا في زوايا النسيان.
ولم يعمر توماس كارو Carew مثلما عمر هوك، ولكنه مثله، وجد فسحة من الوقت للخليلات والمحظيات. وثمل كارو بالمفاتن التي تدق عن الوصف في المرأة، فتغنى بها في تفصيل جذل نشوان في "نشوة A Rapture"، وفي ازدراء جريء للطهر والعفة. حتى أن الشعراء الآخرين عتبا عليه دقته الفاسقة. ولم يغفر البيوريتانيون لشارل الأول تعيينه في المجلس الخاص، ولكن ربما تجاوز عن الموضوع من الناحية الشكلية. لقد اقتبس الشعراء في أيام شارل كل الرقة والأناقة(28/296)
الفرنسيتين في شعر رونسار وبنات أطلس ليزروقوا بالفن الرشيق مجون الشهوات وبعدها عن اللياقة والاحتشام.
وحظي سرجون سكلنج Suckling بثروة طائلة في حياته القصيرة التي لم تجاوز الثلاثة والثلاثين ربيعاً. ولد في 1609، وورث في الثامنة عشرة من عمره أموالاً كثيرة. وطاف بأنحاء أوربا ليكمل دراسته، وضمه شارل الأول إلى طائفة الفرسان، وحارب تحت إمرة جوستافوس أدولفوس في حرب الثلاثين عاماً، وعاد إلى إنجلترا (1632)، ليصبح بفضل وسلمته وذكائه وثرائه الواسع من ذوي الحظوة في البلاط الملكي. ويقول عنه أوبري إنه "كان من أشجع أهل زمانه وأكثرهم شهامة وتودداً إلى النساء، ومن أكبر المقامرين في لعبة البولنج (اللعب بالكرات الخشبية) ولعب الورق ... وقد تأتى أخواته إلى ... ساحة اللعب، تتعالى صيحاتهن وصراخهن خوفاً من ضياع أنصبتهن في القمار (49). " وابتدع نوعاً من لعب الورق Cribbage ( كربج). ولم يتزوج قط في حياته، ولكنه صاحب "عدد كبيراً من السيدات ذوات المكانة". وفي إحدى الحفلات أهدى السيدات جوارب حريرية. وكأنها حلوى، ثم مضى الحفل في بذخ هائل (50). وأخرجت روايته أجلورا Aglaura في مناظر باذخة مسرفة، دفع نفقاتها من جيبه الخاص، وحشد قواته للقتال إلى جانب الملك، وخاطر بحياته في محاولة لإنقاذ سير توماس ونتورث ارل سترافورد، وزير الملك، من السجن (في برج لندن). فلما أخفق هرب إلى القارة، وهناك حين حرم من كل ثروته، تناول السم ومات.
كذلك خدم ريتشارد لفلاس Lovelace الملك في الحرب والشعر معاً، كما كان أيضاً ثرياً وسيماً. رآه أنتوني وود في إكسفورد فقال عنه إنه "ألطف وأجمل إنسان وقعت عليه عيناه" (51) وفي 1642 رأس وفداً من كنت يلتمس من البرلمان الطويل (وكان مشيخياً لأمد قصير)، إعادة الطقوس الأنجليكانية. ومن أجل هذه الجرأة في التمسك بعقيدته، قضى في السجن سبعة أسابيع. ولما جاءت معشوقته ألثيا Althea تزوره وتواسيه في السجن، خلدها بهذه الأبيات:(28/297)
عندما يرفرف الحب بأجنحة طليقة حول الأبواب، ويأتي
بملاكه الطاهر ألثيا تهمس من خلف القضبان. وعندما
أرقد متشابكاً في شعرها لا أحول بصري عن عينيها، فإن
الطيور التي تسبح في الهواء لا تعرف حرية مثل هذه.
إن بعض الجدران لا تصنع سجناً، ولا تصنع بعض
القضبان قفصاً، لأن العقول البريئة الهادئة تتخذ من
هذا وذاك صومعة. وإذا كنت أنعم بالحرية في حبي، وإذا
كانت نفسي طليقة. فان الملائكة الذين يحلقون في السماء
هم وحدهم الذين ينعمون بمثل هذه الحرية (52).
وخرج إلى الحرب ثانية في 1645، معتذراً إلى خطيبته (لوسي ساكفرل Sacheverell) في قصيدة: To Lucasta, Going To The Wars
لا تقولي يا عزيزتي إني قاس لا أرحم، لأني من معبد
صدرك الطاهر وبالك الخالي، أطير إلى ساحة الحرب
وأمتشق الحسام ....
على أنك أنت نفسك سوف تقدسين مثل هذا التحول لأني
لم أكن لأحبك، إذا لم يكن الشرف أحب إلي منك (53).
وطبقاً لأنباء كاذبة عن موته في ساحة القتال تزوجت لوكستا (لوسي الطاهرة) من شخص آخر طلب يدها. ولما أن فقد لفلاس فتاة أحلامه وثروته في سبيل الدفاع عن الملكية، ساءت أحواله إلى حد الاعتماد على إحسان أصدقائه وبرهم ليقيم أوده. وبات هذا الذي كان يرفل في ثياب موشاة بالفضة والذهب، يرتدي الآن أسمالاً بالية ويأوي إلى الأكواخ. ومات من السل والهزال 1658، وهو في سن الأربعين.
وكان من الممكن أن يتعلم لفلاس فن البقاء من أدموند وولر Waller الذي نجح في الاحتفاظ بنشاطه لمدة ستين عاماً، ممالئاً جانبي الثورة الكبرى كليهما،(28/298)
وأصبح أكثر شعراء زمانه شعبية، وعمر بعد ملتون، ومات في سريره 1687 وهو في سن الواحدة والثمانين. ودخل البرلمان في السادسة عشرة من عمره، وأصابته لوثة من الجنون في سن الثالثة والعشرين، ثم شفي وتزوج في سن الخامسة والعشرين من سيدة في لندن آلت إليها ثروة ضخمة، واراها التراب بعد ثلاث سنوات من زواجهما. وسرعان ما تودد إلى ساكاريسا (ليدي دوروثي سدني)، بأسلوب جديد لموضوع قديم.
اذهبي أيتها الوردة الجميلة، وأبلغي هذه التي تضيع
وقتها وتضيعني، إنها الآن تعرف حق المعرفة أني
إذ أشبهها بك، كم يبدو هي جميلة فاتنة.
أبلغيها، وهي في ريعان الشباب، وتتجنب أن يختلس
أحد النظر إلى مفاتنها، أنك لو كنت (أيتها الوردة)،
نشأت في الصحراء، حيث لا يقطن إنسان، لأصابك الذبول
دون أنه يتغنى أحد بجمالك ....
ثم تفنى تلك التي نقرأ فيها المصير المشترك لكل ما هو
فذ نادر، وما أقصر الأيام التي نقضيها مع ربات الحسن
الرائع والجمال المذهل.
وثمة شاعر آخر يكاد يكون من الشعراء الأقل شأناً يدخل في زمرة شعراء هذه الحقبة، وهو ريتشارد كراشو، الذي امتلأ بالحماس الديني أكثر مما أغرم بمتاع الدنيا. وكتب والده، وهو من رجال الكنيسة الأنجليكانية، مقالات ضد الكاثوليكية، وملأ قلب ابنه بالمخاوف من البابوية. ولكن ريتشارد اعتنق الكاثوليكية، وفصل من كمبردج (1644) لمناصرته الملك، فهرب من إنجلترا إلى باريس. وهناك تعزى عن فقره "بتجليات الذات الإلهية"، كان المتصوفة الأسبان في نظره كشفاً مقدساً عن النشوة والورع. وحين وقف أمام صورة للقديسة تيريزا غبطها على ما ظفرت به من اختراق سهم المسيح قلبها، وتوسل إليها أن تقبله تلميذاً لها، منكراً لذاته:(28/299)
استحلفك بملء ملكوت هذه القبلة الأخيرة التي أمسكت
بروحك الطاهرة، وختمتك ملكاً للمسيح، وبكل
السموات التي لك فيه (يا شقيقة الساروفيم الجميلة)،
وبكل ما نجده فيك من صفاته، ألا تتركي في شيئاً من
نفسي، وأن تدعيني أتأمل حياتك، بحيث أموت عن
كل حياتي.
قدم كراشو للعالم هذه القصيدة وقصائد غيرها في ديوانه "خطوات إلى المعبد" (1646)، وهي خليط متناقض يجمع بين النشوات الدينية والنزوات الشعرية. وإنا لندرك من خلال هذا الشاعر، وشاعر آخر مثله متأخر عنه، هو هنري فوجان، أنه في تلك الأيام العصيبة المحمومة، لم تكن إنجلترا منقسمة إلى بيوريتانيين وكلفنيين، بل وسط حرب الشعر واللاهوت، وجدت بعض الأرواح أن الدين ليس كامناً في الأضرحة الضخمة والطقوس المنومة، ولا في التعاليم الرهيبة والاختيار المرسوم بالكبرياء والزهو، ولكن في الاتصال البريء الواثق، للنفس الحائرة الخاشعة، بالله الغفور الودود.
6 - شارل الأول يواجه البرلمان
1625 - 1629
أي طراز من الرجال كان هذا الملك الذي كان على إنجلترا بأسرها أن تقاتل من أجله؟ وقبل أن تنتزع العاصفة كل آثار الرحمة والشفقة من قلبه، كان رجلاً فاضلاً إلى حد معقول-كان ابناً عطوفاً باراً، وزوجاً مخلصاً بشكل غير عادي، وصديقاً وفياً، وأباً يحبه أبناؤه حب العبادة، وكان قد بدأ صراعه في الحياة بعلة خلقية في جسمه، فلم يكن يستطيع المشي إلى أن بلغ السابعة من العمر، وتغلب على هذه العاهة بالدأب على ممارسة ألعاب قوية، حتى استطاع في سني الشباب والنضج أن يتقن ركوب الخيل والصيد على أحسن وجه. وعانى من عجز عن النطق، فكان حتى سن العاشرة لا يكاد يستطيع الإبانة في كلامه. وفكر أبوه في إجراء عملية له في لسانه، وتحسن شارل شيئاً فشيئاً، ولكن ظل حتى آخر لحظة في(28/300)
حياته يتلعثم، وكان عليه أن يتغلب على هذه العقبة بالتزام البطء في الكلام (54). وعندما قضى أخوه هنري نحبه، وكان محبوباً لدى الشعب، وتركه الوريث الظاهر للعرش، حامت الشبهات حول اشتراك شارل في موته، وكان اتهاماً ظالماً، ولكنه أسهم في اكتئاب الأمير وسوء حالته النفسية. فآثر العزلة المملة على المرح الصاخب والإدمان على الخمر في بلاط والده. وبرع في الرياضيات والموسيقى واللاهوت، وتعلم شيئاً من اليونانية واللاتينية، وقليلاً من الأسبانية. وأحب الفن، فاحتفظ بمجموعة أخيه، وزاد عليها، فأصبح جامعاً للتحف مع التمييز بين الغث والثمين منها، وراعياً كريماً للفنانين والشعراء والموسيقيين. ودعا إلى بلاطه الرسام الإيطالي أورازيو جنتلسكي، ثم روبنز وفانديك وفرانس هالز، ورفض هالز، وجاء روبنز أساساً بوصفه سفيراً. ولكن العالم كله عرف شارل على أنه الملك المزهو الوسيم، مع فانديك بلحيته، وكم من لوحة للملك بريشة فانديك. واستمر وليم دوبسون، تلميذ فانديك يصور الأسرة المالكة.
وأسهمت أبوة شارل وزواجه في القضاء عليه. لقد ورث عن أبيه فكرته عن الحق المطلق للملك، وسلطته في سن القوانين وتنفيذها، والحكم بلا برلمان. وبدا أن هذه الفكرة تبررها السوابق، وكانت قضية مسلماً بها في فرنسا وأسبانيا، وكان يشجع شارل على اعتناقها، بكنجهام والحاشية والملكة جميعاً. نشأت هنريتا ماريا في البلاط الفرنسي في نفس الفترة التي كان فيها ريشيليو قد جعل من أخيها لويس الثالث عشر حاكماً مطلقاً مستبداً على فرنسا بأسرها، فيما عدا ريشيايو نفسه. وقدمت الملكة إلى إنجلترا، وهي تجهر بمذهبها الكاثوليكي، مصطحبة معها في ركب عرسها الكهنة الكاثوليك، وزاد من تشددها في التمسك بمذهبها ما رأت من العنت الذي يلاقيه الكاثوليك في إنجلترا. وتحلت الملكة بسحر الجمال والحيوية والذكاء، وبكل نزوع آل مديتشي إلى الاشتغال بالسياسة. ولم يكن بد من أن تحث زوجها المخلص على التخفيف من آلام الكاثوليك في إنجلترا، ولا ريب في أنها كانت تحلم بتحويل الملك نفسه إلى الكثلكة. وأنجبت له ستة أطفال. ولا بد أنه لقي عناء شديداً في مقاومة رغبتها في تنشئة(28/301)
الأطفال على العقيدة الكاثوليكية. ولكنه كان قد انتهج نهجاً مخلصاً في التمسك بالعقيدة الأنجليكانية. وتحقق أن بلاده، إنجلترا، بروتستانتية إلى حد كبير، معادية للباباوية التي تنذر بالأخطار.
في 18 يونية 1625 اجتمع أول برلمان في عهد شارل: مائة من اللوردات- نبلاء وأساقفة- تمتعوا بعضوية مجلس اللوردات، وخمسمائة رجل ثلاثة أرباعهم من البيوريتانيين (55)، انتخبوا لمجلس العموم، بمختلف طرق الاحتيال المالي والسياسي (56)، ولم يزعم أحد بأنه كان ثمة ديمقراطية. ومن المحتمل أن مستوى الكفاية في هذا البرلمان أعلى مما كان يمكن أن يأتي به اقتراع البالغين، فقد ضم كوك وسلدن وبيم وسير جون اليوت وسير توماس ونتورث. وغيرهم، ممن خلد التاريخ ذكرهم. وزادت جملة ثروات أعضاء مجلس العموم على ثلاثة أمثال ثروات اللوردات (57). وتكشف نزعة مجلس العموم في مطالبته بتطبيق القوانين المعادية للكثلكة. وطلب الملك تخصيص أموال للنفقات الحكومية وللحرب مع أسبانيا، فاعتمد المجلس مبلغ ألف جنيه (7 ملايين دولار؟)، وتعمد أن يكون هذا المبلغ غير كاف، فإن الأسطول وحده كان يتطلب ضعف هذا المبلغ. وجرى العمل لمدة قرنين من الزمان، على منح الملوك الإنجليز طيلة مدة حكمهم، حق فرض رسوم على الصادرات والواردات، وكانت عادة شلنين أو ثلاثة شلنات عن كل برميل كبير Tun ( وحدة سعة 252 جالوناً عادة) ومن ستة إلى إثنا عشر بنساً لكل باوند. ولكن القانون الذي سنه البرلمان آنذاك " Tonnage and Poundage" سمح للملك بممارسة هذا الحق لمدة عام واحد فقط. واحتج بأن الاعتمادات السابقة كانت حاشية الملك جيمس يبددها في إسراف وتبذير. كما شكا من أن الضرائب كانت تفرض دون موافقته، وتقرر منذ الآن أنه لا بد من دعوة البرلمان سنوياً ليفحص كل عام مصروفات الحكومة. واستاء شارل من هذه التدابير والنيات. ولما باتت لندن مهددة بالطاعون، اتخذ من ذلك ذريعة لحل البرلمان في 12 أغسطس 1625.(28/302)
كان بكنجهام يقبض آنذاك على زمام الأمور في الحكومة، فإن شارل لم يرث عن أبيه الدوق اللطيف المستهتر فقط، بل أنه كان كذلك قد تربى في أحضانه، ورافقه في أسفاره، في صحبة كان من الصعب معها على الملك (شارل) أن يرى في صديقه مستشاراً غير حكيم يجر عليه الكوارث. وكان بكنجهام، بتأييد من البرلمان، قد دفع جيمس إلى الحرب مع أسبانيا، أما الآن فقد رفض البرلمان اعتماد الموال اللازمة للحرب. وجهز الدوق أسطولاً ضخماً ليقلع ويهاجم البضائع والثغور الأسبانية ويسلبها، ولكنه أخفق إخفاقاً تاماً، أما الجنود العائدون، الذين لم يتسلموا رواتبهم، والذين ساءت روحهم المعنوية، فقد أعملوا السلب والنهب ونشروا الروح الانهزامية في المدن الساحلية الإنجليزية.
ولما أشتد حاجة شارل إلى المال، راض نفسه على دعوة برلمانه الثاني، وقويت المعارضة باشتداد حاجة الملك. وحذره مجلس العموم من فرض الضرائب دون إقرار البرلمان لها. ووصم اليوت الدوق (وكانا يوماً صديقين) بأنه رجل فاسد عاجز ازداد ثراء كلما أخفقت استراتيجية البلد أو سياستها. وعين البرلمان لجنة لمساءلة بكنجهام. فأنبه الملك قائلاً: "أنا لا أسمح بأن يحقق المجلس مع خدمي، فما بالكم برجل قريب مني إلى هذا الحد. " فأشار اليوت على المجلس بوقف أية اعتمادات حتى يسلم الملك بحق البرلمان في إسقاط أي وزير، وذكر شارل البرلمان غاضباً، بأن في مقدوره أن يفضه في أية لحظة، فرد المجلس على ذلك بمحاكمة بكنجهام رسمياً-متهمين إياه بالخيانة ومطالبين بعزله عن منصبه (8 مايو 1626 وأبلغ الملك بأنه لن يقر أية اعتمادات، حتى يتم ذلك. فحل الملك البرلمان في 15 يونية، وترك البت في موضوع المسئولية الوزارية للمستقبل.
وبات شارل مرة أخرى معوزاً في مسيس الحاجة إلى المال، وبيع مقدار كبير من الصحاف الملكية الفضية والذهبية. وطلب إلى البلاد بأسرها أن تبعث بالهبات والهدايا للملك، ولكن ما جمع منها كان يسيراً، فإن الثروات البريطانية كانت تناصر البرلمان، وأمر شارل أعوانه أن يجمعوا رسوم الصادرات والواردات سالفة الذكر، برغم عدم حصوله على موافقة البرلمان، وأن يستولوا على بضائع التجار(28/303)
الذين يعجزون عن الدفع. وأمر الثغور بالإنفاق على الأسطول، وأمر وكلاءه بسوق الرجال إلى الخدمة العسكرية عنوة. وهزم رجال الإمبراطور القوات الإنجليزية الدنمركية التي كانت تقاتل من أجل البروتستانتية في ألمانيا شر هزيمة. فطالب الدنمركيون حلفاء إنجلترا بالمعونة التي كانت وعدتهم بها. وأمر شارل بعقد قرض إجباري-فكان على كل دافع ضرائب أن يقرض الحكومة 1% من قيمة أرضه و5% من ثمن ممتلكاته الشخصية. وأودع الخصوم الأثرياء السجون، وسيق المعارضون الفقراء إلى الجيش أو البحرية. وفي نفس الوقت حمل التجار البريطانيون المؤن والذخيرة إلى بوردو ولاروشيل للهيجونوت المشتبكين في حرب مع ريشيليو. فأعلنت فرنسا الحرب على إنجلترا (1627)، وقاد بكنجهام أسطولاً لمهاجمة الفرنسيين في لاروشيل، ولكن الحملة أخفقت. وسرعان ما نفد المبلغ الذي جمع من القرض وقدره 200 ألف جنيه. وبات شارل مرة أخرى على شفا الإفلاس، فدعا برلمانه الثالث.
اجتمع البرلمان في 17 مارس 1628، وأعيد كوك واليوت وونتورث وجون هامدن. وأرسلت مدينة هنتنجدون لأول مرة أحد ملاك الأرض الأقوياء الشكيمة ممثلاً عنها، هو أوليفر كرومويل. وفي خطاب العرش طالب شارل بالاعتمادات متجهماً، ثم قال في وقاحة وبغير اكتراث: "لا تأخذوا هذا على أنه تهديد، فإني احتقر أن أهدد إلا من هم أندد لي (58) واقترح البرلمان اعتماد مبلغ 350 ألف جنيه، ولكن قبل التصويت على ذلك، طلب موافقة الملك على "ملتمس الحقوق" (18 مايو 1628) الذي أصبح أحد المعالم التاريخية في الطريق إلى "سيادة البرلمان":
إلى صاحب الجلالة الملك العظيم
إننا في خشوع واحتشام نعرض على مليكنا وسيدنا ... أنه
من حيث أنه أعلن وطبق بقانون .... من إدوارد
الأول، أنه لا ضريبة ولا معونة يمكن أن توضع أو تفرض،(28/304)
بغير الإرادة الخالصة لرؤساء الأساقفة والأساقفة وكل ارل
وكل بارون وكل فارس، وممثلي المدن والجامعات والأحرار
من العامة. وورث رعاياك هذه الحرية، أي أنهم لا يجبرون
على الإسهام في أية ضريبة أو رسوم أو معونة أو أي
تكليف آخر من هذا القبيل، لا يكون قد وضع بموافقة
البرلمان موافقة عامة.
ومضى "الملتمس" يحتج على القروض الإجبارية، وإهدار الملك لحق الفرد في التحقيق في قانونية الاعتقال، وحق المحاكمة أمام المحلفين كما وردا في "العهد الأعظم 1215". وقال كوك: "إننا سنعرف عن طريق هذا الملتمس ما إذا كتب للبرلمان أن يحيا أو يندثر". ووافق شارل على الملتمس موافقة غامضة ملتوية، وطالب البرلمان برد أكثر صراحة ووضوحاً. وظل على موقفه من وقف الاعتمادات. فوافق الملك موافقة رسمية أو شكلية. وأحست لندن بأهمية هذا الاستسلام ومغزاه، وقرعت النواقيس بشكل لم يسمع له مثيل لعدة سنوات من قبل.
وخطا البرلمان خطوة أخرى، فطالب الملك بعزل بكنجهام ولكنه رفض، وفجأة روع الطرفان حين وجد أن هذه المشكلة خرجت من أيديهما. وذلك أن جون فلتون-وهو محارب قديم جريح أثقله الديون، غاضباً من أجل متأخرات معاشه، متأثراً أشد التأثر بالنشرات-اشترى سكين جزار، ومشى ستين ميلاً من لندن إلى بورتسموث، وغمس السكين في صدر بكجنهام، وسلم نفسه للسلطات (23 أغسطس 1628). وانهارت أمام الجثة زوجة بكنجهام التي كانت على وشك الوضع، واستولى الشعور بالندم على فلتون فأرسل إليها باعتذاراته وطلب منها الصفح، فأجابته إلى طلبه. ولكنه أعدم دون تعذيب.
وحذر البرلمان الملك بأن استمراره في تحصيل رسوم الصادرات والواردات إهدار لمتلمس الحقوق، فأجاب شارل بأن مثل هذه الرسوم لم يرد ذكرها في الوثيقة، فشجع البرلمان التجار على الامتناع عن دفعها (59) وتوكيداً لحق البرلمان(28/305)
في سن التشريع الديني، برغم سيادة الملك الدينية، نادى بكلفنية صارمة، وبتفسير مضاد لآراء أرمينيوس (1) للمواد التسع والثلاثين باعتبارها قانون إنجلترا، وأقترح، استناد إلى السلطة المخولة له، فرض الخضوع للكنيسة الإنجليزية على هذا الأساس، وفرض العقوبات على الكاثوليك والأرمينيين على حد سواء (60). فأمر الملك بفض البرلمان، وغادر رئيسه مقعد الرياسة امتثالاً لهذا الأمر، ولكن المجلس أبى أن يفض الاجتماع، وأرغم رئيسه على العودة إلى كرسيه. ونحن الآن في 2 مارس 1629 حيث قدم جون اليوت ثلاثة قرارات تنص على أن تكون جريمة كبرى عقوبتها الإعدام: إدخال المذاهب البابوية أو الأرمينية أو أية أفكار أخرى تخالف تعاليم الكنيسة القويمة الصحيحة، والإشارة أو الاشتراك بأي شكل من الأشكال في جمع رسوم الصادر والوارد التي لم يقرها البرلمان، ودفع مثل هذه الضرائب غير المعتمدة. ورفض رئيس المجلس أخذ الرأي على هذه الاقتراحات. فقام أحد الأعضاء بهذه العملية، وقابلها المجلس بالهتاف والتصفيق وأقرها. ومذ علم أعضاء المجلس بأن جنود الملك على وشك الدخول إلى قاعة المجلس وطردهم، فإنهم قرروا فض اجتماعهم، وانصرفوا.
وفي مارس أمر شارل بسجن اليوت وسلدن وسبعة من أعضاء آخرين بتهمة إثارة الفتنة. وسرعان ما أطلق سراح ستة منهم، وحكم على الثلاثة الباقين بغرامات فادحة وبالسجن لمدد طويلة، ومات اليوت في السجن وهو في سن الثامنة والثلاثين (1622).
7 - شارل حاكم مطلق
1629 - 1640
ومضت إحدى عشرة سنة- وهي أطول فترة من نوعها في تاريخ إنجلترا لم يجتمع فيها البرلمان. وبات شارل آنذاك حراً في أن يكون حاكماً مطلقاً. إنه من الوجهة النظرية لم يطالب بأكثر مما ذهب عليه جيمس وإليزابث وهنري الثامن،
_________
(1) جاكوب أرمينيوس (1560 - 1609) -وهو لاهوتي هولندي بروتستانتي عارض آراء كلفن، في القضاء والقدر وحرية الإرادة والخلاص.(28/306)
ولكنه من الوجهة العملية ذهب إلى اكثر مما ذهبوا إليه، لأنهم لم يبلغوا بسلطات الملك وحقوقه قريباً من حد التوتر والانفجار كما كان يفعل شارل، بفرض الضرائب غير المقررة، وعقد القروض الإجبارية، وإيواء الجنود لدى المواطنين، وإجراء الإعتقالات التعسفية، وإنكار حق المسجونين في طلب التحقيق في أمر حبسهم وفي المحاكمة أمام المحلفين، وتشجيع طغيان محكمة "قاعة النجم"، ومحكمة اللجنة العليا وقساوتها، الأولى في المحاكمات السياسية، والثانية في القضايا الكنسية. ولكن غلطة شارل الأساسية هي عجزه عن أن يدرك أن الثروة التي يمثلها مجلس العموم أعظم كثيراً من الثروة التي يسيطر عليها الملك أو الثروة الموالية له، وأن سلطة البرلمان لا بد أن تزداد تبعاً لذلك.
وفي أثناء هذه الأزمة، وقبل أن تستنزف دماء الأمة، ازدهر الاقتصاد، لأن شارل-مثل والده-كان رجل سلام، وأبقى إنجلترا بعيدة عن الحرب طيلة معظم حكمه، على حين أرهق ريشيليو فرنسا، كما أصبحت ألمانيا خراباً بلقعاً. وبذل الملك المنهوك أقصى الجهد في التخفيف من التركيز الطبيعي للثروة. فأمر بوقف المساحات المسورة وألغى ما أقيم منها في خمس مقاطعات داخلية بين عامي 1625 و1630، وفرض غرامات على 600 من ملاك الأرض المتمردين (61) وأمر برفع أجور عمال النسيج في 1629، 1631، 1637، وأمر قضاة الصلح بفرض رقابة أدق على الأسعار. وعين لجاناً لحماية مستوى الأجور، والإشراف على إعانة الفقراء. وخلق لود لنفسه أعداء جدداً، بتحذيره أرباب العمل من "إذلال الفقراء واضطرارهم إلى إراقة ماء وجوههم (62) " ولكن في نفس الوقت منحت الحكومة الاحتكارات في الملح والصابون والنشا والبيرة والنبيذ والجلود، وأفادت منها. واحتفظت لنفسها باحتكار الفحم. فكانت تشتريه بأحد عشر شلناً للعبوة، وتبيعه عشر في الصيف وتسعة عشر في الشتاء (63). وتلك أيضاً احتكارات أرهقت الفقراء إلى أبعد حد، وهاجر إلى إنجلترا أكثر من 20 ألفاً من البيوريتانيين.
ودفع شارل بأنه كان لا بد له من إيجاد وسيلة لتغطية نفقات الحكومة. وفي(28/307)
1634 حاول محاولة مشئومة: فرض ضريبة جديدة. ذلك أن السوابق جرت من قديم على مطالبة المدن الساحلية بأن تمد الأسطول بالسفن اللازمة له زمن الحرب، مقابل حمايته لها، أو أن تدفع، بدلاً من ذلك، "مال السفن" للحكومة لتنفق منه على الأسطول. ولكن شارل الآن، ونحن في 1635، فرض "ضريبة السفن" هذه، وبغير سابقة، على كل إنجلترا بأسرها في زمن السلم، متذرعاً (وهذا حق تماماً) بالحاجة إلى إعادة بناء البحرية الخربة، استعداداً للطوارئ، ولتتولى حماية التجارة البريطانية ضد قراصنة القنال الإنجليزي. وعارض الكثيرون هذه الضريبة الجديدة، ورفض جون هامدن دفعها، اختباراً لمشروعيتها، فأودع السجن ثم أطلق سراحه. وكان بيوريتانياً موسراً من بكنجهام شير. قال عنه أحد أنصار الملكية-كلارندن، إنه ليس من مثيري الفتن بل إنه رجل هادئ "يتميز برزانة ودقة غير عاديتين (64) ". أخفى صلابته في كياسته ومجاملته، وأخفى زعامته في تواضعه.
وتأخرت محاكمة هامدن طويلاً، ولكن أخيراً بدئ بنظر القضية في نوفمبر 1637، وأورد محامو التاج سوابق "ضريبة السفن" وقالوا بأن للملك في ساعة الخطر الحق في أن يطلب المعونة المالية دون انتظار لانعقاد البرلمان. فأجاب محامو هامدن بأنه لم يكن ثمة ضرورة ماسة تقتضي العجلة، وحالة طوارئ. وأنه كانت هناك فسحة من الوقت لدعوة البرلمان، ثم أن فرض الضريبة انتهك ملتمس الحقوق الذي قبله الملك. وصدر الحكم لمصلحة التاج بأغلبية سبعة ضد خمسة من القضاة، ولكن الرأي العام ساند هامدن، وارتاب في نزاهة القضاة الذين هم عرضة لانتقام الملك. وسرعان ما أطلق سراح هامدن. واستمر شارل حتى 1639 يجمع ضريبة السفن. واستخدم الجزء الأكبر منها في بناء البحرية التي قاتلت الهولنديين وانتصرت عليهم في 1652.
وفي الوقت نفسه جاوزت أخطاء الملك الجسام إنجلترا إلى إسكتلنده، فإنه أزعج المشيخيين الاسكتلنديين بزواجه من كاثوليكية، ومده سلطان الأساقفة على(28/308)
كنائسهم. وروع نصف الأشراف "بقانون الإلغاء" (1625) الذي يقضي بإلغاء كل ما منح من أراضي التاج أو الكنيسة منذ ارتقاء ماري ستيوارت إلى العرش. وعين خمسة من الأساقفة ورئيساً للأساقفة أعضاء في مجلس الخصوص في إسكتلنده، ثم عين هذا الأخير وهو جون سبوتيزود Spottizwoode قاضياً للقضاة-وهو أول رجل من رجال الكنيسة يعين في هذا المنصب منذ عهد الإصلاح الديني. ثم إنه لما قدم، بعد إبطاء أو تمهل مثير، إلى إسكتلنده ليتوج عليها (1633)، سمح للأساقفة بإجراء الطقوس التي تكاد تكون في معظمها مراسم كاثوليكية في الكنيسة الأنجليكانية-الملابس والشموع والمذبح والصليب. ولما كان الأساقفة الاسكتلنديين قد وطدوا العزم على فرض سلطانهم على المشيخيات، فانهم وضعوا مجموعة من القواعد الطقسية التي صارت تعرف-باسم "قوانين لود"، وقد أولت هذه القوانين الملك سلطة كاملة في الفصل في قضايا الكنيسة، وحرمت اجتماع رجال الدين إلا بدعوة من الملك، وقصرت حق القيام بالتدريس على من يحيزهم الأسقف، ونصت على ألا يرسم قسيساً إلا من يرتضي هذه القوانين (65). وأقر شارل هذه القوانين وأمر بإعلانها في كل كنائس إسكتلنده. واحتج القساوسة المشيخيون على أن نصف الإصلاح الديني بهذه الطريقة قد نسف، وحذروا من أن شارل يمهد لإخضاع بريطانيا لروما. وثارت ثائرة الجمهور في كنيسة سانت جيل في أدنبرة عند محاولة إقامة الشعائر على شكل جديد، وقذف بالعصي والحجارة الكاهن الذي تولى إقامة الشعائر، وطوحت جني جدز Jenny Geddes بكرسيها في رأسه صارخة "أيها اللص القذر، هل أنت الذي ستتلو القداس؟ (66) " وانهالت الظلامات والالتماسات على شارل من كل الطبقات تطالب بإلغاء "القوانين الكنسية" السابق ذكرها. فكان جوابه أنه دمغ هذه الملتمسات بالخيانة. وبدأت إسكتلندة الثورة ضد الملك.
وفي 28 فبراير 1638 وقع ممثلو الكنيسة الإسكتلندية وسواد الناس في أدنبرة "الميثاق الوطني" يؤكدون فيه من جديد مذهب المشيخية وطقوسها، ويرفضون القوانين الجديدة، وينذرون أنفسهم للدفاع عن التاج وعن "العقيدة الصحيحة".(28/309)
وبتحريض من القساوسة أيدت إسكتلندة كلها تقريباً هذا الميثاق. وهرب سبوتزوود وكل الأساقفة فيما عدا أربعة، إلى إنجلترا. وطردت الجمعية العامة للكنيسة الإسكتلندية في جلاسجو كل الأساقفة، وأعلنت استقلالها عن الحكومة. وأرسل الملك أوامره بفض الاجتماع، وإلا وجهت إلى المشتركين فيه تهمة الخيانة. ولكنهم واصلوا عقد جلساتهم. وحشد الملك جيشاً قوامه 21 ألف جندي تعوزهم الحماسة، سار به إلى إسكتلندة، على حين جمع "الميثاقيون" قوة من 26 ألف رجل ألهبهم الحماس الديني والغيرة الوطنية. وعندما تلاقى الجمعان وافق شارل على عرض القضية على برلمان إسكتلندي حر وجمعية غير مقيدة من الكنيسة الإسكتلندية، ووقعت الهدنة في بروك Berwick في 18 يونية 1639 وبذلك انتهت "حرب الأساقفة الأولى" دون إراقة دماء. ولكن الجمعية الجديدة انعقدت في إدنبرة في 12 أغسطس 1639، وأكدت القرارات "الخائنة" التي اتخذت في مؤتمر جلاسجو، وصدق البرلمان الإسكتلندي على قرارات الجمعية. واستعد الطرفان "لحرب الأساقفة الثانية".
ودعا الملك للوقوف إلى جانبه، في هذه الأزمة، رجلاً ثابت العزم كامل المزايا (وكانت هذه الكلمة شعاره) بقدر ما كان الملك متردداً عاجزاً. وكان توماس ونتورث Wentworth قد وصل إلى مقاعد البرلمان وهو في سن الحادية والعشرين (1614)، وكان غالباً ما يصوت ضد الملك. وكسبه شارل إلى جانبه بتعيينه رئيساً "لمجلس الشمال"، وكافأه على نشاطه في تنفيذ سياسة الملك بضمه إلى مجلس شورى الملك وبعث به نائباً للملك في إيرلندة (1632) حيث أخمدت الثورة هناك سياسته "البارعة" التي ارتكزت على كفاية مجردة من الرحمة، وأقامت سلاماً مشوباً بالغضب. وفي 1639 عين ارل سترافورد ورئيساً لمستشاري شارل. ونصح الملك بحشد جيش كبير، لقمع "الميثاقيين" ومواجهة البرلمان المتمرد بقوة لا قبل له بمقاومتها. ولكن الجيش الكبير يتطلب اعتمادات من العسير تدبيرها بدون البرلمان. فدعا، على كره منه، برلمانه الرابع، فلما اجتمع هذا "البرلمان القصير" (13 أبريل 1640) عرض عليه الملك رسالة ضبطت، التمس فيها الميثاقيون نجدة لويس الثالث عشر (67). واحتج الملك بأن له الحق؛ إزاء مثل هذه الخيانة؛(28/310)
في أن يحشد جيشاً، واتصل جون بيم سراً بالميثاقيين، وقرر أن مشكلتهم مماثلة لقضية البرلمان ضد الملك، وحرض البرلمان على منع المعونات المالية عن الملك، وعلى التحالف مع الإسكتلنديين. فحل شارل البرلمان القصير بتهمة الخيانة (5 مايو 1640). واندلعت الفتنة في لندن، وهاجم الرعاع قصر رئيس الأساقفة لود، فلما لم يجده قتلوا كاثوليكياً رفض الصلاة البروتستانتية (68).
وسار شارل إلى الشمال بجيش جمع ارتجالاً، وتقدم الإسكتلنديون نحو الحدود وهزموا الإنجليز (20 أغسطس 1640) واستولوا على شمال إنجلترا. ووافق الملك البائس على دفع 850 جنيه يومياً حتى يتم التوصل إلى معاهدة مرضية، ولكنه عجز عن الدفع، وبقي الجيش الإسكتلندي حول نيو كاسل، بوصفه حليفاً حاسماً للبرلمان الإنجليزي في حربه ضد الملك. فدعا شارل، وقد تولاه اليأس والذهول والحيرة، مجلساً من النبلاء للاجتماع به في يورك. فنصحوه بأن سلطانه بات على شفا الانهيار، وأنه لا بد له من تسوية مع أعدائه. وللمرة الأخيرة دعا الملك البرلمان، وهو أطول البرلمانات وأشدها حسماً وأكثرها شؤماً في تاريخ إنجلترا.
8 - البرلمان الطويل
اجتمع البرلمان في وستمنستر في 3 نوفمبر 1640. وكان مجلس العموم يضم نحو 500 عضو هم "زهرة الطبقة العليا والعامة المتعلمين .... مجلس أرستقراطي لا شعبي (69) "، يمثلون ثروة إنجلترا أكثر مما يمثلون شعبها، ولكنهم يناضلون من أجل المستقبل ضد الماضي. وأعيدت أغلبية أعضاء البرلمان القصير، متحفزين للانتقام. وتبوأ سلدن وهامدن وبيم أماكنهم من جديد. وكان كرومول رجلاً مرموقاً، ولو أنه لم يرق إلى الزعامة بعد.
إنه ليتعذر، على بعد الشقة، أن نصور كرومول تصويراً موضوعياً. فان المؤرخين منذ ظهر حتى اليوم، يصفونه بأنه منافق طموح (70)، أو قديس سياسي (71) .... إنه شخصية متناقضة، ربما جمع-وربما وفق في بعض(28/311)
الأحيان- في خلقه بين الصفات التي أدت إلى اختلاف الناس في تقديرهم له. وهذا هو مفتاح سيرة كرومويل.
كان كرومويل من ملاك الأرض من غير ذوي الحسب والنسب، الذين لم يتمتعوا ببريق الوظائف الحكومية، ولو أنه أسهم عن غير طيب نفس الإنفاق عليها. ومع ذلك فانه كان له أسلافها. فكان والده روبرت كرومويل يملك ضيعة متواضعة في هنتنجدون تدر 300 جنيه في العام. وكان جده الأكبر ريتشارد وليامز ابن أخي توماس كرومويل أحد قساوسة هنري الثامن، فغير اسمه إلى كرومويل، وحصل بوصفه كاهناً، أو من الملك، على شيء من الضياع والموارد المصادرة من الكنيسة الكاثوليكية (72)، وكان أوليفير واحداً من بين عشرة أطفال، وهو الوحيد الذي عمر، على حين مات الباقون في سن الطفولة وكان معلمه في المدرسة الثانوية واعظاً متحمساً، كتب رسالة يثبت فيها أن البابا عدو المسيح، وأخرى يعدد فيها العقوبات الإلهية للخاطئين المعروفين بسوء السمعة. والتحق أوليفر (1616) بكلية سدني سسكس في كمبردج، وكان ناظرها صمويل وارد الذي مات في السجن (1643) لاتخاذه موقفاً بيوريتانيا عنيداً ضد بدع لود و "إعلان الألعاب" الذي أصدره شارل. والظاهر أن أوليفر كمبردج قبل التخرج. وأخيراً في 1638 اتهم نفسه بمقارفة شيء من طيش الشباب ونزقه:
تعلمون أية حياة كنت أعيشها. آه لقد عشت في ظلام محبب
إلى نفسي، وكرهت النور. كنت زعيماً، ولكن زعيم
الخاطئين الآثمين. إن هذا الحق: كان التقي بغيضاً إلى قلبي،
ولكن الله حباني رحمته، آه ببركات رحمته سبحانه، احمدوه
واشكروه وأثنوا عليه من أجلي- وتوجهوا إليه من أجلي
بالدعاء، لعل من أسدى هذا الصنيع الجليل أن يتمه يوم
المسيح، أو يوم الحساب (73).
ومارس كرومويل كل ضروب الندم، وانتابه هذيان الموت وكل مظاهر القلق العقلي، مما بقي معه مكتئباً باستمرار، وتحدث بقية حياته بأسلوب الورع البيوريتاني.(28/312)
ثم أستقر وتزوج وأنجب تسعة أطفال، وأصبح مواطناً نموذجياً، إلى حد أنه في 1628، وهو سن الثامنة والعشرين، انتخب ليمثل هنتنجدون في البرلمان. وباع ممتلكاته في هنتنجدون بمبلغ 1800 جنيه (1631) وانتقل إلى سانت إيف St. Ives، ثم بعدها إلى Ely. وعندما أعادته كمبردج إلى البرلمان (1640) وصفه عضو آخر بقوله: "يرتدي بشكل عادي جداً حلة من قماش بسيط .... ولم تكن ملابسه الداخلية نظيفة كل النظافة .. تلطخ ياقته الصغيرة بقعة أو بقعتان من الدم" .. وكان وجهه منتفخاً يميل إلى الحمرة، وصوته حاداً مجرداً من التناغم-وكان طبعه منتقداً إلى حد بعيد، ولكن مع القدرة على ضبط النفس (74)، -وكان يتحين الفرصة الملائمة، ويخاطب الرب. وكان له قوة عشرة رجال. ومهما يكن من أمر، فان الله حتى هذه اللحظة، اصطفى أدوات أخرى.
إن جون بيم هو الذي كشف عن الغضب الذي ساد البرلمان باتهامه سترافورد بأنه يناصر البابوية سراً، وأنه يدبر قدوم جيش من إيرلندة للإطاحة بالبرلمان، و "تغيير القانون والديانة (75) ". وفي 11 نوفمبر 1640 اتهم مجلس العموم إرل سترافورد، حيث لم يغفر له المجلس قط تخليه عن الملك-بالخيانة وأمر بإيداعه السجن. وفي 16 ديسمبر، وبعد أن أعلن المجلس أن القوانين الأنجليكيانية الجديدة باطلة قانوناً، اتهم رئيس الأساقفة لود "بالكثلكة" والخيانة، وأمر بإيداعه السجن كذلك، واعترف سلدن فيما بعد بقوله: "إننا نعلم أنهم لم يرتكبوا جريمة من هذا القبيل (76) ". أما شارل فقد أصابه الذهول والحيرة إزاء هذه الخطوات العنيدة القاسية، إلى حد أنه لم يتخذ أي إجراء لحماية معاونيه. وبررت الملكة مخاوف البرلمان حين طلبت إلى كاهن الاعتراف الخاص بها أن يلتمس العون من البابا (77).
وعادت موجة التأثر والانفعال لدى الفريقين كليهما. وظهر بين المتطرفين في لندن حزب Root and Branch ( استئصال الأصل والفرع) -وكان يضم ملتون-وتقدم إلى البرلمان بملتمس يطلب فيه إلغاء الحكومة الأسقفية، واستعادة حكومة الكنيسة إلى الشعب، ويستنكر فيه ما يقول به بعض الأساقفة من "أن البابا ليس(28/313)
عدو المسيح، وأن الخلاص يمكن تحقيقه في العقيدة الكاثوليكية (78) ". ورفض المجلس هذا الملتمس. ولكنه أقر تحريم ممارسة العمال التشريعية والقضائية على رجال الكنيسة. ووافق اللوردات شريطة احتفاظ الأساقفة بمقاعدهم في مجلس اللوردات. وهذا، على أية حال، هو ما كان يريده بالضبط أعضاء مجلس العموم، لأنهم توقعوا أن الأساقفة في مجلس اللوردات سوف يصوتون دائماً إلى جانب الملك. وزاد النار اشتعالاً، تلك النشرات التي انهالت، دفاعاً عن حكومة الأساقفة أو هجوماً عليها. وذهب جوزيف هول إلى أن لحكومة الأساقفة حقاً إلهياً، على أن الرسل، أو المسيح، هم الذين أسسوها. فرد عليه خمسة من المعلقين المشيخيين، في نشرة مشهورة ممهورة باسم مستعار Smectymnuus مكون من الأحرف الأولى لأسمائهم، وأعقبها خمسة هجمات عنيفة شنها ملتون. وفي 17 مايو 1641 عاد كرومويل فاقترح إلغاء حكومة الأساقفة إلغاء تاماً. وأقر مجلس العموم المشروع ورفضه مجلس اللوردات. وفي أول سبتمبر قرر أن تزال من كل الكنائس الإنجليزية كل "الصور الخليعة" وأن يمنع في "يوم الرب" (يوم الأحد) الرقص والألعاب الأخرى. واجتاحت إنجلترا موجة أخرى من تحطيم الصور المقدسة والقضاء على المعتقدات التقليدية، فأزيلت أسيجة المذبح وأستاره، وحطمت النوافذ ذات الزجاج الملون، ومزقت الصور إرباً (79). وعاد مجلس العموم فأقر مشروعاً بإقصاء الأساقفة في 23 أكتوبر. فأهاب الملك باللوردات، معلناً أنه قرر الاستشهاد في سبيل المحافظة على مبدأ الكنيسة الأنجليكانية ونظامها، وقد كان .. وضمن تدخله عدم إقرار المشروع. ولكن الجموع المعادية منعت الأساقفة من دخول البرلمان. ووقع إثنا عشر منهم احتجاجاً أعلنوا فيه أن أي تشريع يقر في غيبتهم يعتبر باطلاً عقيماً. فأدانهم البرلمان وأودعهم في السجن. وأخيراً أقر مجلس اللوردات قانون إقصاء الأساقفة (5 فبراير 1642). ولم يعد الأساقفة يتخذون مقاعدهم في البرلمان.
وتابع مجلس العموم تدعيم سلطانه، فاقترض من مدينة لندن المال اللازم لتغطية نفقاته. وأقر مشروعات قوانين تنص على أن تكون مدة البرلمان ثلاث(28/314)
سنوات، وتحرم حل أي برلمان قبل مضي خمسين يوماً من بدء اجتماعه، وحل البرلمان الحالي دون موافقته. وأصلح نظام الضرائب والقضاء، وألغى محكمة قاعة النجم ومحكمة اللجنة العليا. وقضى على الاحتكارات وعلى ضريبة السفن. وألغى الحكم الصادر ضد هامدن. ومنع الملك حق جمع رسوم الصادرات والواردات، إلا لفترات يحددها البرلمان وحده. ووافق شارل على هذه الإجراءات، ولكن البرلمان جاوز الإصلاح إلى الثورة.
وفي مارس 1641 قدم المجلس ارل سترافورد إلى المحاكمة، وأدانه بتهمة الخيانة، وأرسل الحكم إلى الملك لتوقيعه. وخلافاً لما نصح به لود، شخص شارل إلى مجلس اللوردات، وأعلن أنه على الرغم من استعداده لعزل سترافورد من منصبه، فإنه لن يوافق قط على إدانته بالخيانة. فأعلن أعضاء مجلس العموم أن في حضور الملك انتهاكاً لحرمة البرلمان وإهداراً لحريته وفي اليوم التالي تجمعت "حشود ضخمة حول مجلس اللوردات وقصر الملك وهي تهتف "العدالة، العدالة": وتطالب بإعدام سترافورد. وتوسل مجلس الشورى الذي تولاه الجزع، إلى الملك أن يذعن، فأبى. وضم رئيس أساقفة يورك رجاءه إلى رجائهم في أن يوقع الملك على الحكم، وأنذره النبلاء بأن حياته وحياة الملكة وحياة أطفالهما في خطر، ولكنه أصر على الرفض. وأخيراً أرسل إليه نفس الرجل المحكوم عليه بالإعدام رسالة ينصحه فيها بالتوقيع، الذي هو البديل الوحيد "لعنف الرعاع (80) ". فوقع شارل، ولكنه لم يغتفر لنفسه هذا العمل قط .. وفي 12 مايو 1641 سيق سترافورد إلى ساحة الإعدام، ومد لود يديه بين قضبان الزنزانة ليباركه أثناء مروره. ومات "الرجل الكامل" دون أنين أو تشنج، أمام أعين جمهور معاد.
ووسع إعدام سترافورد هوة الخلاف في المجلس وانقسامه إلى ما عرف فيما بعد بحزبي الأحرار والمحافظين-أولئك الذين أيدوا، والذين عارضوا انتقال سلطة بين الملك إلى البرلمان إلى حد أبعد، إن رجالاً مثل لوسيوس كاري (فيكونت(28/315)
فوكلاند) وإدوارد هايد (ارل كلارندون فيما بعد) وكان كلاهما يساندان البرلمان-نقول إن هؤلاء الرجال تساءلوا: أولاً يكون الملك، بعد تأديبه وتهذيبه بمثل هذه القسوة، حصناً مرغوباً فيه ضد حكم الرعاع في لندن، وضد تحكم البيوريتانيين في الدين، وضد برلمان جامح يمكن أن يقوض أركان الكنيسة، ويهدد الملكية الخاصة، ويعرض للخطر الكيان الطبقي في الحياة الإنجليزية بأسره؟. وربما سلم بيم وهامدن وكرومويل بهذه الأخطار، ولكن كان ثمة خطر آخر كان يعتلج في نفوسهم، ألا وهو خوفهم على حياتهم هم أنفسهم إذا استعاد الملك قوته وسلطانه. إن الملك قد يأتي في أية لحظة بجيش نصف كاثوليكي من إيرلندة، كما اقترح سترافورد من قبل. وقرر البرلمان، من أجل سلامته وحمايته، الاحتفاظ بالجيش الاسكتلندي الموالي له في شمال إنجلترا، وأرسل إلى الاسكتلنديين منحة مبدئية قدرها 300 ألف جنيه، ووعد بدفع إعانة شهرية قدرها 25 ألفاً من الجنيهات (81).
وازدادت مخاوف البرلمان باندلاع ثورة عنيفة فجأة في إيرلندة (أكتوبر 1641). ودعا فليم أونل وروري أومرو الثالث، وغيرهم من الزعماء، إلى حرب التحرير-تحرير ألستر من مستعمريها الإنجليز، وتحرير الكاثوليك من ربقة الظلم، وتحرير إيرلندة من نير إنجلترا. وألهبت الثوار ذكريات الاضطهادات الفظيعة، وانتزاع الملكية وطرد الأهالي بصورة أليمة، فقاتلوا قتالاً عنيفاً وحشياً. أما الإنجليز في إيرلندة-دفاعاً عما بدا لهم آنذاك أنه ممتلكات شرعية لهم، وعن حياتهم-فانهم قابلوا الضراوة بأشد منها، وغدا كل انتصار بمثابة مذبحة. واشتبه البرلمان الإنجليزي خطأ في أن الملك أذكى نار الثورة لاستعادة الكثلكة إلى إيرلندة، ثم بعد ذلك إلى إنجلترا، فرفض طلب الملك مالاً لحشد جيش لإنقاذ الإنجليز في شرق إيرلندة، خشية أن يوجه مثل هذا الجيش ضد البرلمان ذاته. واستمرت ثورة إيرلنده في غمرة ثورة إنجلترا.
واشتدت الثورة حين رفع شارل إلى مرتبة أعلى، اثنين من الأساقفة المبعدين الذين حوكموا، فاقترح النواب الناقمون "الاحتجاج الأعظم" يلخصون فيه قضيتهم(28/316)
ضد الملك ويعلنون عنها، ويمكن أن يرغم الملك على منح البرلمان حق الاعتراض على التعيينات في الوظائف الكبرى. وأحس كثير من المحافظين أن مثل هذا الإجراء سوف ينقل السلطة التنفيذية إلى البرلمان ويشل يد الملك. وازداد الانقسام الحزبي حدة، والمناقشات عنفاً، واستل الأعضاء سيوفهم ليؤكدوا وجهات نظرهم. وصرح كرومويل فيما بعد بأنه لو كان هذا الاقتراح رفض لركب البحر إلى أمريكا (82). ولكنه أقر بأغلبية 11 صوتاً. وفي أول ديسمبر 1641 قدم إلى الملك. وبدأ "الاحتجاج الأعظم" بتوكيد ولاء البرلمان للتاج، ومضى يعدد بالتفصيل إساءات الملك إلى البرلمان، والأضرار التي ألحقها بالبلاد، واستعرض العيوب التي عالجتها الإصلاحات البرلمانية، واتهم "الكاثوليك ... والأساقفة، والقسم الفاسد من رجال الدين" والمستشارين ورجال الحاشية الأنانيين، بالتآمر على تحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية. وأشار إلى تكرار خرق "ملتمسي الحقوق" وتكرار حل البرلمانات المنتخبة حلاً تعسفياً استبدادياً. وطالب الملك بالدعوة إلى عقد جمعية من علماء اللاهوت لإعادة المذهب الأنجليكاني إلى ما كان عليه قبل قوانين لود، واقترح على الملك أن يعزل من مجلس الشورى كل المناوئين لسياسة البرلمان، وأن يستخدم فقط منذ الآن. "مستشارين وسفراء ووزراء ممن يرى البرلمان مبرراً للوثوق بهم. وبدون هذا لن يستطيع الأعضاء أن يقدموا لجلالته الإمدادات اللازمة له، أو المساعدات للبروتستانت فيما وراء البحار، كما أراد جلالته (83) ".
وتمهل شارل في الرد على هذا الإنذار النهائي. فتخطاه البرلمان إلى الشعب، وأمر بنشر "الاحتجاج الأعظم" ثم رد شارل فوافق على دعوة مجمع كنسي ليقمع كل "غزوات كاثوليكية"، ورفض حرمان الأساقفة من حق التصويت في البرلمان، وأصر على حقه في أن يختار لمجلس الشورى الملك أو للوظائف العامة كل من يرى أنه صالح. ثم طلب مرة أخرى اعتمادات مالية. ولكن البرلمان بدلاً من هذا، اقترح "قانون الميليشيا" الذي يخوله حق السيطرة على الجيش.(28/317)
ولكن شارل، في غمرة الحيرة والتردد، كما هو شأنه دائماً، عمد إلى توجيه ضربة جريئة إلى البرلمان الذي شجبها على أنها عمل من أعمال الحرب. ذلك أنه في 3 يناير 1642 اتهم النائب العام، باسم الملك، أمام اللوردات، خمسة أعضاء من مجلس العموم-بيم، هامدن، هوللز، هسلريج، سترود-اتهمهم بالخيانة لعملهم على أن يشق الجيش عصا الطاعة على الملك، وتشجيعهم "دولة أجنبية" (إسكتلندة) على غزو إنجلترا وشن الحرب على الملك. وفي اليوم الثاني دخل شارل، تظاهره قوة من ثلاثمائة جندي تركهم عند الباب، إلى مجلس العموم للقبض على الرجال الخمسة، فلم يجدهم هناك. فقال الملك الحائر المرتبك، وقد صار في مأمن، "أرى أن كل الجبناء، قد هربوا"، وشيعته وهو في طريقه إلى الخروج صيحات الاستنكار والتوبيخ "الحصانة". لأن مثل هذا الغزو الملكي المسلح للبرلمان كان غير مشروع بشكل واضح صريح. وخشية الاعتقال بالجملة، انتقل النواب إلى دار البلدية "جلد هول" تحت حماية المواطنين. وعندما غادر شارل لندن إلى هامبتون كورت، عاد النواب، بما فيهم الخمسة المتهمون إلى وستمنستر. وهربت هنريتا سراً إلى فرنسا ومعها مجوهرات التاج لتشتري بها العون للملك. وسافر شارل إلى الشمال ومعه أختامه. وحاول أن يدخل هل لتأمين المؤن العسكرية هناك، ولكن المدينة أبت عليه ذلك. فغادرها إلى يورك. وأصدر البرلمان أوامره إلى جميع القوات المسلحة بألا تمتثل إلا للبرلمان وحده (5 مارس 1642). وانسحب من البرلمان خمسة وثلاثون من اللوردات وخمسة وستون من النواب، وانضموا إلى الملك في يورك، وأصبح إدوارد هايد آنذاك كبير مستشاري الملك.
وفي الثاني من يونية نقل البرلمان إلى شارل تسعة عشر اقتراحاً رأى أن قبولها ضروري للصلح. منها أن عليه أن يخول للبرلمان سلطة الإشراف على الجيش وجميع المواقع المحصنة. وأن يكون له حق تعديل الطقوس الدينية وحكومة الكنيسة، وتعيين وعزل وزراء التاج وحراس أبناء الملك، وأن يكون له سلطة إقصاء الإشراف الذين يعينون فيما بعد ذلك، عن مجلس اللوردات، ورفض شارل هذه(28/318)
المقترحات، على أنها، عملياً، تقويض للملكية. وعين البرلمان-كأنما كان يتدرب على دور الثورة الفرنسية-لجنة "الأمن العام"، وأمر بأن "يحشد جيش على الفور، (12 يوليه) " وسافر كرومويل وآخرين إلى مواطنهم لجمع المتطوعين وتنظيمهم. وفي نداء إلى الأمة (2 أغسطس) أسس البرلمان ثورته، لا على رغبته في السيادة البرلمانية، بل على تفاقم الكاثوليكية في إنجلترا، وحذر البلاد من أن انتصار الملك لا بد أن يعقبه مذبحة عامة للقضاء على البروتستانت (84). أو في 17 أغسطس استولى وكلاء البرلمان على المخازن العسكرية في هل. وفي 27 أغسطس 1642 نشر شارل رايته فوق نوتنجهام، وبدأت الحرب الأهلية الأولى.
9 - الحرب الأهلية الأولى
1642 - 1646
انشقت إنجلترا الآن-بصورة لا يكاد يكون لها مثيل من قبل في تاريخها المعروف، وانحاز إلى صف البرلمان لندن والثغور والمدن الصناعية، وبصفة عامة الجنوب والشرق، ومعظم الطبقة الوسطى، وجزء من الطبقة العليا، وعملياً كل البيوريتانيين. وانضم إلى جانب الملك أكسفورد وكمبردج والغرب والشمال، ومعظم الأرستقراطيين والمزارعين، وكل الكاثوليك والأنجليكانيين الأسقفيين تقريباً. وكان مجلس العموم منقسماً على نفسه، حيث ناصر الثوار نحو 300 عضو، على حين بلغ عدد الملكيين نحو 175 عضواً. وبلغ عدد مجلس اللوردات 110، انحاز إلى جانب البرلمان نحو 30 منهم في بداية الأمر، ورجحت كفة الثورة ضد الملك. وكان في لندن نصف ثروة الأمة، وقدمت للثورة القروض بسخاء عظيم، على حين عجز الملك عن الاقتراض من أي مكان. وكان الأسطول يناصبه العداء، فسد المنافذ على كل معونة أجنبية. ولم يكن أمام الملك إلا أن يعتمد على الهبات والمنح وعلى رجال من الضياع الكبيرة التي أحس أصحابها أن مصلحتهم في تلك الأرض تتحقق بانتصاره، وانبعث من جديد في الأسرات القديمة بعض فضائل الفروسية ومشاعرها، وقدموا المال للملك بلا قيد أو شرط، وقاتلوا وسقطوا في الميدان كما يسقط كرام الرجال. واندفع الفرسان المفعمون فتوة وحيوية، بشعورهم المعقوصة وخيلهم المطهمة بأبهى السروج إلى غمار حرب بطولية، ومعهم كل الشعراء(28/319)
إلا ملتون. ولكن الثروة كانت إلى جانب البرلمان.
والتقى الجمعان لأول مرة في ادجهل Edgehill (23 أكتوبر 1642)، وكان كل جيش يتألف من 14 ألف رجل ... وكان الملكيون تحت قيادة الأمير روبرت Rupert ابن إليزابث أميرة بوهيميا أخت شارل، وكان في الثانية والعشرين من عمره. أما "ذوو الرءوس المستديرة" أو البرلمانيون فكان يقودهم روبرت دفريه ارل اسكس الثالث. ولم تكن المعركة فاصلة. ولكن اسكس سحب قواته، وتقدم الملك إلى أكسفورد ليتخذها مقراً لقيادته. ولكن نحميا والنتجون-هو بيوريتاني متحمس أو سياسي، أسماها فوزاً مبيناً للبرلمان وللرب، فهو يقول:
هنا ندرك رحمة الله الواسعة ... لأن جملة القتلى من
الجانبين، كما سمعت، كان 3. 517، ولكن قتل من
الأعداء عشرة مقابل كل واحد فقدناه منا. ولكن انظر
إلى حسن صنيع الله، فإن الذين قتلوا منا كان معظمهم من
الذين ولوا الأدبار. أما الذين صمدوا واستبسلوا فقد كتبت
لهم النجاة .... كم أود أن أوتي القدرة على أن أروي
كيف أن يد العناية الإلهية صوبت بشكل رائع مدافعنا
وقذائفنا لتدمير العدو ... يا للعجب، كيف وجه الله
قذائفهم ... إن بعضها سقط أمامهم (من جانبنا) وبعضها
مر مروراً عابراً، وبعضها عبر فوق رءوسهم، وأخرى
سقطت إلى جانبهم ... يا الله، ما كان أقل من مس
بأذى برصاص الأعداء ممن وقفوا في وجوههم وقاوموهم
ببسالة ... هذا صنع الله، وما أروعه في نظري (85).
على أن الأمور تأزمت في صفوف البرلمانيين في الربيع التالي. فان الملكة هنريتا تسللت إلى إنجلترا، حاملة معها بعض الأسلحة والذخيرة ولحقت بالملك في أكسفورد.(28/320)
وضيع إسكس الوقت سدى، على حين كان الهرب والمرض ينخران في جيشه، وأصيب هامدن بجرح مميت في بعض المناوشات عند شالجروف فيلد. وهزمت قوة برلمانية في أدوالتون مور (30 يونية 1643)، ودمرت قوة أخرى في راوندواي داون (13 يولية). وسقطت برستول في يد الملك. ولما ساءت أقدار البرلمان إلى هذا الحضيض، ولى وجهه شطر إسكتلندة طلباً للعون. وفي 22 سبتمبر وقع مندوبو إسكتلندة "تحالفاً وميثاقاً مقدسين"، تعهد الاسكتلنديين بمقتضاه بإرسال جيش لمساعدة البرلمان مقابل 30 ألف جنيه شهرياً، شريطة أن يقيم البرلمان في إنجلترا وإيرلندا مذهب البروتستانتية المشيخية-أي حكومة المشايخ في الكنيسة، ودون سيطرة الأساقفة، وفي نفس الشهر عقد شارل صلحاً مع المتمردين الإيرلنديين، المتقدم بعضهم للقتال في صفوفه في إنجلترا. وابتهج الكاثوليك الإنجليز لهذا. وتزايد عدد البروتستانت الذين انقلبوا على الملك. وفي يناير 1644 هزم الغزاة الإيرلنديين في نانتوتش وتقدم الجيش الاسكتلندي نحو إنجلترا. والآن كانت الحرب الأهلية تضم ثلاث أمم وأربعة مذاهب.
وفي يولية 1643. انعقدت "جمعية وستمنستر"-121 من رجال الدين الإنجليز، 30 من العلمانيين الإنجليز، وثمانية مندوبين اسكتلنديين (انضموا فيما بعد) -لتحدد البروتستانتية المشيخية الجديدة في إنجلترا. ولقد عوقت السيطرة البرلمانية أعمال هذه اللجنة حتى باتت تجرر أذيالها في مؤتمرات تعقدها لمدة ست سنوات. وانسحب نفر قليل من الأعضاء كانوا يظاهرون الحكومة الأسقفية. وطالبت فئة قليلة من البيرويتانيين المستقلين ألا يشهد الاجتماع مشيخيون ولا أساقفة. أما الأغلبية-وفاء بتعهد البرلمان ونزولاً على إرادته، فإنها أيدت أن يتولى الأمور الدينية في إنجلترا أو إيرلندة وإسكتلندة شيوخ الكنيسة ومجلسهم والمجامع الإقليمية والجمعيات العامة. وألغى البرلمان الحكومة الأسقفية الإنجليكانية (1643)، وأقر التنظيم المشيخي والمذهب المشيخي، ووضع لهما القوانين (1646)، ولكنه احتفظ لنفسه بحق الاعتراض على أية قرارات كنسية. وفي 1647 أصدرت الجمعية "اعتراف وستمنستر بالعقيدة والتعاليم الكبرى والتعاليم الصغرى" وكلها تثبت(28/321)
مذهب كلفن في القضاء والقدر، والاصطفاء، والرفض (أي الإخراج من الزمرة الإبرار (1)) وأهملت الكنيسة الإنجليكيانية وعودة الملكية إلى أسرة ستيورت، جمعية وستمنستر، ولكن "الاعتراف والتعاليم" بقيت معمولاً بها نظرياً في الكنائس المشيخية في البلاد الناطقة بالإنجليزية.
واتفقت الجمعية والبرلمان على رفض ما تقدمت به الفرق الصغيرة من التماس التسامح الديني. والتمست مدينة لندن المتحدة من البرلمان القضاء على كل الهرطقات. وفي 1648 قدم أعضاء مجلس العموم مشروعات تقضي بعقوبة السجن مدى الحياة على خصوم تعميد الأطفال، وبعقوبة الإعدام على من ينكرون الثالوث الأقدس أو المتجسد أو نزول الكتاب المقدس بوحي من عند الله، أو خلود الروح (87). وأعدم عدد من الجزويت فيما بين عامي 1642 و1650. وفي يناير 1645، اقتيد رئيس الأساقفة لود، وهو في الثانية والسبعين، من السجن إلى ساحة الإعدام، ولكن البرلمان أحس أنه مشغول بالحرب إلى أقصى حد، أو أنه ليس ثمة مجال للرفق والمجاملة. ومهما يكن من أمر فإن كرومويل ناضل في سبيل شيء من التسامح. وفي 1643 شكل في كمبردج فرقة أطلق عليها "ذوو الدروع الحديدية Ironsides" وهو اسم أطلقه في الأصل الأمير روبرت على كرومويل نفسه، ورحب بكل الأفراد الذين ينضمون إلى الفرقة من كل الملل والنحل-باستثناء الكاثوليك وأنصار حكومة الأساقفة-"ممن لا تفارق خشية الله نفوسهم"، وممن يتدبرون
_________
(1) مقتطفات من "اعتراف" وستمنستر، فقرة 3 "بأمر الله، وإظهاراً لمجده وعظمته، قدر على بعض الناس والملائكة والحياة الخالدة، وقضى على آخرين بالموت الأبدي. أما الذين كتب عليهم الحياة الخالدة من البشر، فإن الله-قبل وضع أساس العالم ووفقاً لمشيئته الخالدة الثابتة التي لا تتغير، وما اقتضت إرادته الخفية-قد اختارهم في المسيح لمجد خالد، منه ونعمة وحباً، دون تنبؤ بالعقيدة أو صالح الأعمال، أو المثابرة على أي منهما ... وكل هذا وفق مشيئته الخالصة سبحانه. أما بقية البشر فقد اقتضت إرادته التي لا مرد لهل، أن يبسط إليهم رحمته، أو يقبضها عنهم كما يشاء، لأنه المهيمن على كل خلقه فيتغاضى عنهم، أو يوقعهم في الخزي ويسلط عليهم العذاب جزاء بما كسبت أيديهم إقراراً للعدالة الإلهية (86).(28/322)
ما صنعت أيديهم (88). وعندما أراد ضابط مشيخي أن يطرد-من الفرقة ضابطاً برتبة مقدم من أنصار تجديد التعميد (إعادة تعميد البالغين ورفض تعميد الأطفال)، اعترض عليه كرومويل قائلاً. "سيدي، إن الدولة حين تختار موظفيها لا تلقي بالاً إلى آرائهم، طالما أنهم جادون في خدمتها بإخلاص، وهذا يكفي (89) ". وفي 1644 طلب إلى البرلمان "أن يلتمس وسيلة ما للتسامح، وفقاً لما جاء في الكتاب المقدس، مع ذوي النفوس الضعيفة الذين لا يستطيعون في كل الأحوال أن يخضعوا لحكم الكنيسة (90) ". وتجاهل البرلمان هذا المطلب، ولكن كرومويل ظل يمارس تسامحاً نسبياً في فرقته، وطوال سيطرته على إنجلترا.
وكان ارتقاء كرومويل إلى مرتبة القيادة مفاجأة من مفاجآت الحرب. إنه شارك لورد فردياندو فيرفاكس أمجاد النصر في ونسبي (11 أكتوبر 1643). ولقد هزم فيرفاكس في مارستن مور (2 يولية 1644) ولكن رجال كرومويل "الحديديون" أنقذوا الموقف. إن قواداً برلمانيين آخرين، مثل إرل اسكس وإرل مانشستر، تراجعوا أو عجزوا عن متابعة انتصارهم وأقر مانشستر صراحة بعدم رغبته في الإطاحة بالملك. وبغية التخلص من هؤلاء القادة ذوي الألقاب، واقترح كرومويل "قرار إنكار الذات" (9 ديسمبر 1644)، يعتزل كل أعضاء البرلمان بمقتضاه قياداتهم. وهزم الاقتراح، ولكن عرض من جديد وأقر (3 أبريل 1645). واعتزل اسكس ومانشستر، وعين توماس فيرفاكس-ابن فرديناندو-قائداً أعلى-وسرعان ما عين كرومويل قائداً للفرسان، وأمر البرلمان بتكوين جيش "على طراز جديد"، من 22 ألف جندي، وأخذ كرومويل على عاتقه مهمة تدريبه.
ولم يكن لدى كرومويل سابق خبرة عسكرية قبل الحرب. ولكن قوة شخصيته وخلقه، وثبات أرادته وصموده لتحقيق الهدف، وبراعته في التلاعب بالأحاسيس الدينية والسياسية لدى الناس، كل أولئك هيأ له القدرة على تشكيل قواته على نظام فذ وولاء فريد. فكان المذهب البيوريتاني يضارع الخلق الإسبارطي في صنع جنود لا يقهرون، انهم لم "يؤدوا القسم مثل الفرسان"، بل على النقيض من ذلك(28/323)
لم يسمع حلف الإيمان في معسكراتهم قط، بل إنها كانت تدوي بالعظات والصلوات. انهم لم يسلبوا ولم ينهبوا، ولكنهم اقتحموا الكنائس ليجردوها من الصور الدينية، ويخلصونها من الأسقفيين أو البابويين (91) ". وكانوا يهتفون فرحين أو غاضبين حين يلاقون العدو. ولم تنزل بهم الهزيمة قط .. وعندما كان الملكيون يطاردون مشاة سير توماس فيرفاكس في ناسبي (14 يونية 1645)، حول كرومويل بفرسانه الجدد الهزيمة إلى نصر مبين، إلى حد أن الملك فقد كل مشاته ومدفعيته ونصف خيالته، ونسخاً من مراسلاته التي نشرت لتكشف عن خطته في استقدام مزيد من القوات الإيرلندية إلى إنجلترا، وإلغاء القوانين المناهضة للكاثوليكية.
ومنذ تلك اللحظة أخذت أحوال الملك تزداد سوءاً وبسرعة. فإن مركيز مونتروز، قائده البطل في إسكتلندة، بعد عدة انتصارات، هزم في فيلبهو وهرب إلى القارة. وفي 30 يوليه 1645 استولى جيش البرلمان على باث، وفي 23 أغسطس تخلى روبرت عن برستول إلى فيرفاكس، والتمس الملك، دون جدوى، العون من كل الجهات. وأحس جنوده بأن قضيتهم خاسرة، فتذرعوا بمختلف المعاذير وتخلفوا عنه وانضموا إلى العدو. وحاول بالمفاوضات الملتوية مع كل فريق على حدة أن يوقع الانقسام في صفوف أعدائه-فيفرق بين المستقلين والبرلمان، وبين البرلمان والاسكتلنديين، ولكنه أخفق في ذلك. وكان لتوه قد أرسل زوجته الحامل، عبر أراضي معادية، لتبحر إلى فرنسا، وأمر الآن الأمير شارل بالفرار من إنجلترا بأية وسيلة ممكنة. وتنكر هو، مع اثنين من المرافقين، وشق طريقه إلى الشمال حيث استسلم للاسكتلنديين (5 مايو 1646). ووضعت الحرب الأهلية الأولى، بالفعل أوزارها.
10 - المتطرفون
1646 - 1648
وراود شارل الأمل في أن يعامله الاسكتلنديون، وكأنه لا يزال ملكاً عليهم، ولكنهم آثروا أن يعتبروه سجيناً لديهم. وعرضوا عليه أن يعاونوه على استرداد عرشه، إذا قبل التوقيع على "التحالف والميثاق المقدسين" وبمقتضى ذلك. يكون مذهب المسيحية المشيخية إجبارياً في كل الجزر البريطانية، ولكنه أبى عليهم ذلك. وبعث(28/324)
البرلمان الإنجليزي بمندوبيه إلى الاسكتلنديين في نيو كاسل يعرض عليهم ارتضاء شارل ملكاً، شريطة أن يقبل الميثاق، ويوافق على إقصاء زعماء الملكيين، ويسمح بسيطرة البرلمان على كل القوات المسلحة، وتعيين كبار موظفي الدولة، ولكن الملك رفض. وعرض البرلمان على الاسكتلنديين مبلغ 400 ألف جنيه لتسديد متأخراتهم ونفقاتهم، إذا عادوا إلى إسكتلندة وسلموا الملك إلى المندوبين الإنجليز. ووافق برلمان إسكتلندة، وقبل المال، لا على أنه ثمن الملك، بل على أنه تعويض عن نفقات الحرب. وأحس شارل، على أية حال، بأنهم قايضوا عليه بالذهب. ونقل إلى هولمبي هاوس في نورثمبتو نشير (يناير 1647) على أنه سجين البرلمان البريطاني.
واستعرض الجيش الإنجليزي المعسكر آنذاك في سافرون والدن، على بعد أربعين ميلاً من لندن، استعرض انتصاراته، وطالب بمكافآت متساوية. إن الاحتفاظ بجيش يبلغ ثلاثة وثلاثين ألف رجل، اضطر البرلمان إلى رفع الضرائب إلى ضعف أعلى معدل لها أيام شارل، ومع هذا تأخر للجند رواتب ما بين أربعة إلى عشرة شهور. وفوق ذلك فإن البيوريتانيين الذين انهزموا في البرلمان، كانت لهم اليد الطولى في الجيش، وحامت الشبهات حول زعيمهم كرومويل في أن له أطماعاً لا تتفق مع سيادة البرلمان. وأسوأ من هذا كله، أنه كان في فرقته "أنصار المساواة Levelers" الذين يرفضون أي تمييز بين المرتب في الدولة وفي الكنيسة، والذين نادوا بحق الاقتراع للبالغين وبالحرية الدينية. وكان نفر قليل منهم شيوعيين وفوضويين. وأعلن وليم والوين أن كل شيء يجب أن يكون مشاعاً مشتركاً، ومن ثم لن تعود هناك حاجة لقيام حكومة، لأنه لن يكون هناك حينذاك لصوص ولا مجرمون (92) " وكان جون للبورن Lilburne أعظم دعاة أنصار المساواة يزداد، بعد كل اعتقال وعقاب، شعبية في لندن (1646) (93). وهوجم كرومويل على أنه من "أنصار المساواة" ولكنه برغم تعاطفه معهم، كان يعارض آرائهم، إحساساً منه بأن إنجلترا آنذاك لا بد أن تؤدي فيها الديموقراطية إلى الفوضى.(28/325)
واستاء البرلمان؛ وهو آنذاك "مشيخي". لما ينطوي عليه من خطر، وجود جيش عرمرم مزعج، في مكان قريب، وهو جيش مستقل ذو قوة. فأقر مشروعاً بتسريح نصفه، وتسجيل الباقي متطوعين للخدمة في إيرلندة. فطالب الجنود بمتأخر رواتبهم، فأقر البرلمان صرف جزء منها والباقي وعوداً. ورفض الجنود أن يتفرقوا إلا إذا دفعت استحقاقاتهم ورواتبهم كاملة. وجدد البرلمان المفاوضات مع الملك، وكاد أن يصل معه إلى اتفاق على إعادته إلى العرش، شريطة قبوله "الميثاق" لمدة ثلاثة أعوام. وحذر الملك من قبول هذا العرض، ولكن جماعة من الفرسان هاجمت هولمبي هاوس وأسرت الملك، واقتادته إلى نيوماركت (3 - 5 يونية 1647)، وأسرع كرومويل إلى نيوماركت، وجعل من نفسه رئيساً "لمجلس من الجيش"، وفي 10 يناير بدأ الجيش مسيرة غير متعرجة إلى لندن .. وفي الطريق أرسل إلى البرلمان أعلاناً صاغه أساساً صهر كرومويل القدير، هنري أيرتون Ireton، ندد فيه باستبداد البرلمان الذي لم يكن خيراً من استبداد الملك، وطالب بانتخاب برلمان جديد مع توسع في حق الانتخاب. ووقع البرلمان بين نارين، فإن التجار والصناع وأهل لندن كانوا يخشون احتلال الجيش للمدينة، وطالبوا، في صخب شديد بعودة الملك، وفق أية شروط كانت، تقريباً. وفي 26 يولية اقتحمت الجموع البرلمان وأرغموه على دعوة الملك إلى لندن، ووضع المليشيا تحت قيادة المشيخيين. وترك سبعة وستون من "المستقلين" البرلمان إلى جيش.
ودخلت القوات لندن في 6 أغسطس، وأتوا بالملك معهم، وأعيد "المستقلون" السبعة والستون إلى أماكنهم في البرلمان، الذي سيطر عليه الجيش منذ تلك اللحظة إلى أن قبض كرومويل على زمام الأمور. ولم تشب تصرفات الجيش شائبة من الفوضى أو التشويش، ولم تكن مجردة من المبادئ، بل حافظ على النظام في المدينة، وفي القوات المسلحة نفسها؛ بل إن الأجيال التالية أجازت مطالبه التي يحتمل أنها كانت غير عملية في أوانها. وفي نشرة بعنوان "قضية الجيش مدونة بصدق وأمانة" (9 أكتوبر 1647) طالب بحرية التجارة وإلغاء الاحتكارات، وإعادة الأراضي العامة إلى الفقراء، وألح على ألا يرغم إنسان على الشهادة ضد نفسه(28/326)
في المحكمة (94). وفي "اتفاقية الشعب" (30 أكتوبر) أعلن "أن كل السلطة أصلاً وأساساً في مجموع الشعب بأسره"، وأن الحكومة العادلة الوحيدة هي التي تكون عن طريق ممثلين ينتخبون انتخاباً حراً يتوفر فيه حق الاقتراع للبالغين، وأنه بناء على هذا، فإن الملوك واللوردات، إذا سمح لهم بالبقاء فيجب أن يكونوا خاضعين لمجلس العموم، وأنه لا يجوز إعفاء أحد من سلطة القانون، وأنه يجب تمتع الجميع بالحرية الدينية الكاملة (95). قال الكولونيل رينزيورو "إن كل من ولد في إنجلترا، الفقير أو أحط الناس في المملكة، يجب أن يكون له صوت في اختيار أولئك الذين يضعون قوانين البلاد، تلك القوانين التي يعيش ويموت في ظلها (96). "
وخفف كرومويل من حدة المناقشة بدعوة زعمائها إلى الصلاة. واتهمه "أنصار المساواة" بالنفاق والتفاوض سراً لإعادة الملك، واعترف بأنه لا يزال يؤمن بالملكية، وأوضح لهم أن معارضة مقترحاتهم ستكون شديدة إلى حد لا يمكن معه التغلب عليها، "بقوة العضلات" وحدها. وبعد نقاش طويل أقنع الزعماء بأن يخففوا من مطالبتهم بالاقتراع العام إلى طلب التوسع في حق الانتخاب. ورفض بعض الجنود هذا الحل الوسط، وعلقوا "اتفاقية الشعب" في قبعاتهم، وتجاهلوا أمر كرومويل بالانصراف. وقبض على ثلاثة من زعماء الفتنة، وحوكموا أمام محكمة عسكرية قضت بإعدامهم. فأمرهم كرومويل بإجراء القرعة على حياتهم، ومن يخسر يعدم. وعاد النظام سيرته.
وفي الوقت نفسه تمكن الملك من الهرب من سجانيه العسكريين، واتخذ طريقه إلى الشاطئ وإلى جزيرة وايت حيث وجد مأوى أميناً في قلعة كارسبروك (14 نوفمبر 1648). وشدد من عزيمته ما ترامى إليه من أنباء ثورة الملكيين ضد البرلمان في الريف وفي الأسطول، وعرض عليه المندوبون الاسكتلنديون في لندن سراً، أن يمدوه بجيش يعيده إلى عرشه إذ قبل النصرانية المشيخية وإبطال ما عداها من المذاهب المسيحية. وارتضى الملك هذا "الارتباط" ولكنه حدده(28/327)
بثلاث سنوات. وغادر المندوبون لندن ليحشدوا جيشاً. واعتمد البرلمان الاسكتلندي خطتهم لغزو إنجلترا، وأصدر في 3 مايو 1648 بياناً يطالب كل الإنجليز بالالتزام "بالميثاق"، ويحظر كل الأشكال الدينية فيما عدا المشيخية، ويأمر بحل جيش "المستقلين" ورأى البرلمان الإنجليزي أن تنفيذ هذه الاقتراحات لا يعي شيئاً إلا القضاء عليه وإخضاع إنجلترا لإسكتلندة. وأسرع بمصالحة كرومويل، وأقنعه بأن يقود قواته ضد الاسكتلنديين. ولا ريب أن البرلمان سر لإبعاد كرومويل، والإلقاء به إلى التهلكة، وبعد ثلاثة أيام من الأخذ والرد أقنع الجيش بأن يتبعه إلى ميدان المعركة. وتبعه الجيش على كره منه، وأقسم بعض الزعماء أنهم إذا قدر لهم إنقاذ إنجلترا فلسوف يكون من "واجبهم أن يستعدوا رجل الدم، شارل ستيوارت، ليقدم حساباً على الدماء التي سفكها (97). "
11 - وأسدل الستار
1648 - 1649
استطاع كرومويل بفضل ما أوتى من طاقة أن يقصر من أمد الحرب الأهلية الثانية. فعلى حين أخمد فيرفاكس ثورات الملكيين في كنت، اتجه أوليفر غرباً واستولى على معقل ملكي في ويلز. وعبر الاسكتلنديين نهر تويد في 8 يوليه، وتقدموا في سرعة مذهلة حتى صاروا على بعد نحو 40 ميلاً من ليفربول. وفي برستون، في لنكشير، التقى جيش كرومويل المكون من تسعة آلاف جندي، مرتين، بهذا الجمع من الاسكتلنديين والخيالة الملكيين وأوقع بهم هزيمة منكرة (17 أغسطس).
وبينما كان كرومويل وجنوده يعملون على إنقاذ البرلمان، دبر البرلمان أن يحمي نفسه منهم، بفتح باب المفاوضات من جديد، لإعادة الملك. ولكنه أصر على أن يوقع الملك "الميثاق" وأن يضعه موضع التنفيذ، فرفض الملك. وعرض الجيش العائد أن يؤيد عدوته إلى العرش مع الحد من حقوقه الملكية إلى أضيق الحدود، فأبى (17 نوفمبر). وبغية أن يقطع الجيش الطريق على البرلمان ليعيد الملك إلى العرش، قيض عليه ثانية وأودعه قلعة هيرست المواجهة لجزيرة وايت، وشجب البرلمان هذا التصرف، واقترع على قبول شروط الملك أساساً لتسوية النزاع-فأعلن قادة الجيش الذين(28/328)
كانوا يتوقعون الموت، إذا عاد شارل، انه لن يسمح بالدخول إلى مجلس العموم إلا لمن ظلوا على "ولائهم وإخلاصهم للمصلحة العامة". وفي بواكير يوم 6 ديسمبر أحاطت قوة من الجند تحت قيادة كولونيل توماس برايد، بمجلس العموم، واقتحمه، ومنعت أو طردت 140 من الأعضاء الملكيين والمشيخيين، وأودعت السجن أربعين عضواّ أبدوا شيئاً من المقاومة (98). واستحسن كرومويل هذا الإجراء. واشترك في الاقتراع على سرعة محاكمة الملك وإعدامه.
لم يبق الآن من الأعضاء الخمسمائة الذين كان يتألف منهم مجلس العموم 1640 إلا ستة وخمسين. وأقر هذا "البرلمان الإثارة" (الذي لم يبق فيه إلا نفر قليل)، بأغلبية ستة أصوات، قانوناً ينص على أن شن الملك الحرب على البرلمان خيانة عظمى، ورفض اللوردات القانون على أنه ليس من سلطة مجلس العموم، وعندئذ (4 يناير 1649)، قرر النواب أن الشعب" بعد الله مصدر كل سلطة عادلة "وأن النواب، وهم يمثلون الشعب"، "أصحاب السلطة العليا في هذه الأمة، وأنه بناء على ذلك تكون لتشريعاتهم قوة القانون، دون موافقة اللوردات أو الملك". وفي 6 يناير عين النواب 135 عضواً لمحاكمة الملك، وأبلغ أحد الأعضاء-وهو ألجرنون سدني-كرومويل بأنهم ليس لديهم سلطة قانونية، ليحاكموا ملكاً. ففقد كرومويل صوابه وصاح في وجهة قائلاً: "أؤكد لك أننا سنقطع رأسه وفوقه التاج (99) " وبذل قادة الجيش آخر محاولة لتفادي قتل الملك. فعرضوا تبرئة شارل إذا وافق على بيع أراضي الأساقفة، وتنازل عن حقه في الاعتراض برفض قرارات البرلمان. ولكن الملك أجاب بأنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، لأنه أقسم اليمين على أن يكون مخلصاً لكنيسة إنجلترا. وليس ثمة م تنازع في شجاعته.
وبدأت المحاكمة في 19 يناير 1649. وجلس القضاة المرتجلون الستون أو السبعون على منصة مرتفعة في طرف من قاعة وستمنستر، واصطف الجند في الطرف الأخر، واكتظت الدهاليز والشرفات بجمهور المتفرجين، وأجلس شارل وحده وسط القاعة. وتلا جون برادشو رئيس الجلسة قرار الاتهام. وطلب إلى الملك أن(28/329)
يجيب، فأنكر شارل سلطة المحكمة في محاكمته أو صحة تمثيلها لشعب إنجلترا، وقال بأن حكومة يديرها برلمان يسيطر عليه الجيش، هي أسوأ طغياناً من أي طغيان أظهره هو قط، فضجت الشرفات بالهتاف "حفظ الله الملك" ودوت المنابر باستنكار المحاكمة وشجبها. وخشي برادشو على حياته في الشوارع، وأرسل الأمير شارل من هولندا صحيفة لا تحمل إلا توقيعه، ووعد القضاة بالموافقة على أية شروط يدونونها فوق اسمه، إذا هم أبقوا على حياة والده (100). وعرض أربعة من النبلاء أن يقدموا حياتهم فداء للملك (101)، فرفض عرضهم. ووقع تسعة وخمسون من القضاة، من بينهم كرومويل، حكم الإعدام. وفي 30 يناير سار الملك في هدوء إلى الموت، أمام جمهور غفير تملكه الرعب. وبضربة واحدة من بلطة الجلاد قطع رأسه. وكتب شاهد عيان "لقد تعالت أنات آلاف الحاضرين وقتئذ وآهاتهم، بشكل لم أعهده قط من قبل، وأرجو ألا أسمعه من بعد" (102).
وهل كان الإعدام عملاً مشروعاً؟ إنه بطبيعة الحال لم يكن كذلك. فإنه طبقاً للقانون المعمول به، يكون البرلمان شيئاً فشيئاً، وبشكل قاس، قد انتحل لنفسه الحقوق الملكية التي أقرتها السوابق لمائة عام. فالثورة على التحديد أمر غير مشروع، وليس أمامها من طريق لتدفع بالجديد إلى الأمام إلا هدم القديم. وكان شارل مخلصاً في الدفاع عن السلطات التي ورثها عن إليزابث وجيمس، لقد أثموا ضده قدر ما أثم هو، وكانت غلطته القاتلة أنه لم يدرك أن التوزيع الجديد للثروة، اقتضى، من أجل الاستقرار الاجتماعي، توزيعاً جديداً للسلطة السياسية.
وهل كان الإعدام عدلاً؟ إذا نحى القانون جانباً، بالاحتكام إلى السلاح، فقد يلتمس المغلوب الرحمة، ولكن يمكن للغالب أن يفرض أقصى العقوبة إذا رأى أن هذا ضروري لمنع تجدد المقاومة، أو لتعويق الآخرين، أو للحفاظ على حياته وحياة أتباعه. والمفروض أن أي ملك منتصر كان يمكن أن يطيح برأس كرومويل وأيرتون وفيرفاكس وكثيرين غيرهم، وربما مع مختلف ألوان التنكيل والعذاب التي يتعرض لها عادة كل من يتهمون بالخيانة.
وهل كان الإعدام عملاً حكيماً؟ من المحتمل ألا يكون كذلك، ومن الواضح(28/330)
أن كرومويل اعتقد بأن بقاء الملك على قيد الحياة، مهما يكن من اطمئنان إلى ضمان سجنه، يمكن أن يحفز الملكيين إلى معاودة الثورة المرة بعد المرة، ولكن كذلك سوف يكون حافزاً على تجدد المقاومة من جانب ابن الملك الذي لا يمكن الوصول إليه في فرنسا أو هولندا، والذي لم تلوثه أخطاء والده، والذي لا بد أن تكلل هامته وشيكاً بأمجاد البطولة. إن إعدام شارل الأول أدى إلى تحول كان يمكن التنبؤ به في الشعور الوطني الذي أسترد مساره على مدى أحد عشر عاماً، ويوحي التاريخ اللاحق بأن الرحمة كانت عين العقل والحكمة فإنه عندما وقع جيمس الثاني، ابن شارل، بالمثل، في الخطأ الجسيم، تدبرت ثورة 1688 الجليلة الأمر، في دهاء أرستقراطي، وسمحت له عمداً بالهرب إلى فرنسا، وكان لخلعه نتائج ثابتة دائمة. ومهما يكن من أمر، فإن الثورة السابقة هي التي مكنت للثورة اللاحقة فعاليتها السريعة.
إن الثورة الكبرى تماثل ثورات الهيجونوت في فرنسا القرن السادس عشر، كما تماثل، برغم الفوارق الكثيرة، الثورة الفرنسية 1789 - فهناك في الحالة الأولى العصيان المسلح للكلفنية البسيطة العابسة التي شدت من أزرها الثورة التجارية، ضد الكنيسة الشديدة التمسك بالشعائر والطقوس وضد الحكومة الاستبدادية المطلقة. وهناك في الحالة الثانية ثورة الجمعية الوطنية التي تمثل سلطان المال وقوة الطبقة الوسطى، ضد أرستقراطية تمتلك الأرض يتزعماه ملك حسن النية ولكنه متخبط مرتبك. وما وافى عام 1786 حتى كان الإنجليز قد استوعبوا ثوريتهم، وكان في مقدورهم أن ينظروا بعين الفزع القلق، عن اقتناع، إلى ثورة خضبت بالدم، مثل ثورتهم، أرض دولة وقتلت ملكاً، لأن الماضي حاول أن يقف جامداً لا يريم.(28/331)
الكتاب الثاني
صراع العقائد على السلطة
1556 - 1648
الفصل التاسع
إيطاليا الأم الخيرة
1564 - 1648
1 - الحذاء السحري
بعد أن هدأ عنف المعركة التي خاضتها إيطاليا في ميدان النهضة والاصلاح البروتستنتي، راحت تستكين إلى حكم الأسبان استكانة يزعجها الفقراء، ويواسيها الدين، ويضفي عليها السلام بريقا خداعا. كانت معاهدة كانو- كامبريزي (1959) قد خلعت دوقية سافوا على إيمانويل فيليبرت، أما جنوا ولوكا والبندقية وسان مارينو فقد مد في أجلها فبقيت جمهوريات مستقلة. وأما مانتوا فظلت خاضعة لأمراء جونزاجا، وفيرارا لأمراء استنزي، وبارما فارنيزي. وحكمت أسرة مديتشي توسكانيا- فلورنسة وبيزا وأريتزو وسيينا- ولكن موانيها كانت تحت سيطرة أسبانيا. وحكمت أسبانيا عن طريق نواب ملكها دوقية ميلان ومملكة نابلي التي كانت تضم صقلية وكل إيطاليا جنوب الدويلات البابوية. وحكم هذه الدويلات، التي اخترقت وسط شبه الجزيرة من البحر المتوسط إلى الأدرياني، بابوات تحدق بهم القوة الأسبانية.
على أن هذه القوة لم تكن عدوانية عسكريا، فهي لم تتدخل في الشئون الداخلية للدويلات، اللهم إلا ميلان ونابلي، ولكن عزوفها عن التجارة وخوفها من الفكر الحر ألقيا حجابا كثيفا على الحياة الإيطالية. وكان من أثر استيلاء أمم الأطلنطي على تجارة الشرق وأمريكا ان انتقلت إليها تلك الثروة التي كانت من قبل تتفق على حركة النهضة، فأصبحت الآن تغذي الازدهار الثقافي الذي بدأ في أسبانيا وإنجلترا والأراضي المنخفضة. وعانت إيطاليا فوق ذلك من اضمحلال الموارد البابوية نتيجة لحركة الاصلاح(29/1)
البروتستنتي. وكان الفلاحون الصابرون يكدحون ويصلون، والرهبان اللذين يفوقون الحصر يتعبدون، أما التجار ففقدوا الجاه والثروة، وأما النبلاء فضيعوا الحياة جريا وراء الألقاب وتعلقا بمظاهر البذخ والترف.
ومع ذلك أنجبت إيطاليا وسط هذا الانهيار السياسي جاليليو أعظم العلماء في جيله، ووهبت العالم فلسفة برونو الجريئة البعيدة النظرة، وهبته برنيني أعظم مثالي العصر، ومونتيفردي أكثر مؤلفيه الموسيقيين أثرا، ووهبته أشجع مبعوثيه الدينيين، وواحدا من أعظم الشعراء الإيطاليين هو تاسو، كذلك وهبته- في بولونيا ونابلي وروما- مذاهب في التصوير لا ضريب لها إلا في الأراضي المنخفضة الوافرة الثراء. وهكذا ظل لواء الثقافة معقوداً لإيطاليا.
أ- في سفوح الألب
يطيب لنا ان نجوس من جديد خلال تلك الحديقة وقاعة الفن المسماة إيطاليا، ولو بالفكر والقلم، وأن نمر بها ولو مرور الكرام. فأما تورين فقد غدت عاصمة كبيرة تحت حكم كفء على رأسه ايمتنويل فيليبرت، وبفضل تشجيع زوجته مرجريت الأميرة الفرنسية السافواوية للأدب والفن. وأما ميلان فظلت محتفظة بأبهتها على الرغم من خضوعها لأسبانيا. قال ايفلين عام 1643 في وصفها:
"انها من افخم مدن اوربا، ففيها 100 كنيسة، و 71 ديرا، 40. 000 من السكان. فيها القصور الباذخة، وفيها الفنانون النادرون (1) " وبعد أن دمرت النار داخل باسيلقا سان لورنزو ماجيوري (1573) عهد كارلو بوروميو، مطران ميلان الورع، إلى مارتينو باسي ببناء داخلها وفق الطراز البيزنطي الرائع الذي بنيت به كنيسة سان فيتالي في رافنا. وبنى الكردينال فيديريجو بوروميو، وهو ابن أخي كارلو، قصر أمبروز (1609)، وشيد فيه مكتبة أمبروز الشهيرة. أما قصر بريرا، الذي بدئ تشييده عام 1615 ليضم كلية لليسوعيين، فقد أصبح منذ عام 1776 مقرا لأكاديمية الفنون الجميلة، ومنذ عام 1809(29/2)
لقاعة بريرا الذائعة الصيت، التي أصابتها الحرب العالمية الثانية بأضرار بالغة، ولكنها رممت الآن ترميما جميلا، وفيها نجد الكثير من آثار أرتي بروكاتشيني وكرسبي، وهما الأسرتان اللتان غلب تأثيرهما على التصوير الميلاني في العصر الذي نتناوله.
وأما جنوه "الهادئة جداً"، فما زالت من تلالها المرصعة بالقصور تختال فوق بحر متوسط انتشرت فوق أمواجه المراكب الجنوية. حقاً لقد فقدت هذه الجمهورية التاجرة أملاكها الشرقية التي استولى عليها الترك، وانتقلت بعض تجارتها مع دول الشرق إلى دول الأطلنطي، ولكن التل الكبير الذي تقوم فوقه قيض لها ميناء ممتازا ظلت بفضله، ومازالت إلى اليوم، أهم الثغور الإيطالية، هنا أشاد أمراء التجارة أو ملوك المال طائفة من أعظم بيوت إيطاليا ترفا. وفي رأي ايفلين أن "الشارع الجديد" الذي صممه روبنز وازدان بقصور من الرخام المصقول "يزري باي نظير له في أوربا". وقد صمم جالياتزو وأليسي وتلاميذه الكثير من هذه القصور الفاخرة التي اشتهرت بما حوت من قاعات فن، وسلالم فخمة، وجدران زينت باللوحات او الرسوم الجصية، واثاث مترف- "موائد واسرة كاملة من الفضة الثقيلة"، ولا عجب فقد حذق أقطاب المال الجنويون تحويل عرق الشعب إلى ذهب. وفي عام 1587 بنى "جاكومو ديللا بورتا" باسليقا "البشارة المقدسة" التي كانت أعمدتها المحززة، ومنبرها البديع، وقوسها المزخرف، مفخرة الاتقياء من أهل جنوه. على أن هذه الكنيسة وكثيرا غبرها من كنائس نوه وقصورها لحقها دمار كثير في الحرب العالمية الثانية.
وأما فلورنسة فقد ظلت، حتى إلى عهد فازاري، تلقب بأثينة إيطاليا، إذ تميزت بخصوبتها سواء في الادب أو الدرس او العلم أو الفن. لقد زكا فيها كل شئ إلا العفة، ففي عهد الدوق الكبير فرانتشسكو الاول (1574 - 87) انحدرت اسرة مديتشي العظيمة إلى حمأة الفجور والدعارة. ثم تخلى الكردينال فرديناندو مديتشي عن وظيفته الكهنوتية(29/3)
وأصبح "الدوق الكبي فرديناند الأول"، فأتاح بذلك لتوسكانيا طوال اثنين وعشرين عاما (1587 - 1609) عهدا من العدل والاستنارة، ووسع تجارتها إذ جعل ليفورنو (ليجهورن) ثغراَ حراً مفتوحاً لكل التجار من كل الأديان، وأصلح بالقدوة الفاضلة أخلاق شعبه. أما خلفاه كوزيمو الثاني وفرديناند الثاني لهما فضل إعالة جاليلو بالمال. ونقش بارتولوميو أماناتي نافورة نبتون الكبرى لميدان "السنيوريا"بفلورنسةن وصمم قصر دوكالي بلوكا. وفي عام 1583 اكمل جوفاني دابولونيا "اغتصاب السابين"، وهو التمثال القائم في "لوجا (قاعة) دي لانزي"، وصب تمثال هنري الرابع الذي اهداه كوزيمو الثاني إلى ماري مديتشي ليزين "اليون نوف" في باريس. وواصل اليساندو أللوري وابنه كريستوفانو التقليد الذي درج عليه التصوير الفلورنسي من خيال جامح في التلوين، في شئ من التخفيف، واشرف بيترو داكوتونا على الكمال في رسومه الجصية التي زين بها سقوف قصر بيتي ليصور مناقب الدوق كوزيمو الأول.
وأما بارما فقد كان يحطمها في هذه الفترة دوق مشهور يدعى اليساندرو فارنيزي، ولكن بلغ انشغاله بقيادة الجيوش الاسبانية في الاراضي المنخفضة حدا لم يتح له أن يتربع على عرشه قط. وفي عهد ابنه رانوتشو ذاع صيت جامعة بارما في أرجاء أوربا، وبنى أليوتي (1618) مسرح فارنيزي الذي اتسع لسبعة آلاف متفرج في مدرج نصف دائري لا يضارعه في إيطاليا سوى المسرح الاولمبي الذي بناه استاذه باللاديو.
واما مانتوا فقد دخلت عهدا من الرخاء اعاد إلى الأذهان ذكرى أيام ايزابللا ديستي المجيدة. فبفضل صناعة النسيج أقبل الناس على شراء القماش المانتوي، حتى في إنجلترا وفرنسا المنافستين. وظل ببيت جونزاجو الذي حكم هذه الدوقية منذ عام 1328 ينجب الأكفاء من الرجال. ففي الدوق فنشتزو الاول تمثلت من جديد فضائل امرأة النهضة: رجل حلو الصورة لطيف المعشر، يرعى روبنز المحظوظ وتاسو التعس على(29/4)
السواء؛ يجمع الآثار القديمة، والتحف الصينية، والآلات الموسيقية، والنسيج المرسوم الفلمنكي، وأزهار الطوليب الهولندية، والنساء الجميلات؛ يهوى الشعر والقمار، مقاتل باسل ورجل دولة جرئ، ولكنه ينهك نفسه بالفجور والحرب، ويموت غير متجاوز الخمسين (عام 1612). ثم يخلفه ثلاثة أبناء على التوالي، وآخرهم وهو فنشنزو الثاني لم يعقب, وكان من ثر تنافس فرنسا والنمسا واسبانيا على تعيين خلف له والتحكم في هذا الحلف أن غدت الدوقية مسرحا عاجزا لحرب الوراثة المانتوية (1628 - 31) وكانت حربا ضروسا أوشكت أن تمحو مانتوا من سجل التاريخ.
واما يرونا فقد تكاسلت ثقافيا خلال هذه الحقبة واعتمدت على تراث النهضة. ففي فيتشنزا كانت واجهات باللاديو الكلاسيكية تحدد الطراز الذي اتبعه كرستوفر رن فيما بعد. وقد أكمل فنشنزو سكاموتزي مسرح باللاديو الأولمبي، ثم صمم قصر تريسينو- بارتون. وأصبح سكاموتزي همزة الوصل بين الكلاسيكية وفن الباروك بفضل ولعه بالزخرف، وهو ولع لم يستطع باللاديو كبحه في فنه.
ب- البندقية
كان اضمحلال ملكة الأدرياتي، كاضمحلال روما القديمة، طويلا بهيا. انها تفقد تجارتها البحرية مع الهند لتستولي عليها البرتغال، وعما قليل ستشعر بمنافسة الهولنديين لها. لقد تحملت وطأة توسع الاتراك بحرا، وكانت بحريتها وقوادها عاملين رئيسيين في الانتصار عليهم في ليبانتو (1571)، ولكنها تخلت عن قبرص بعدها بشهور، ومن ثم غدت تجارتها مع بحر المشرق مرهونة برضى الأتراك وشروطهم. ولقد كافحت ببسالة لتواجه تحدي الزمن المتغير، فاستطاعت باتصالها بالقوافل القادمة من وسط آسيا عند حلب ان تعوض بعض التعويض ما خسرته من تجارتها البحرية من الشرق. وظلت سفنها تسيطر على الأدرياتي، وشاركت في(29/5)
أرباح تجارة الرقيق التي اصبحت الآن تسئ إلى سمعة البرتغال واسبانيا وإنجلترا، أما أملاكها في البر- وهي فنشنزا وفيرونا وتويسته وترنت واكويلا وبادوا- فقد أثرت وكثر سكانها، وأما صناعتها فقد واصلت تفوقها في الزجاج والحرير والمخرمات والطرف الفني المترفة. كذلك كان لمصرفها المسمى "بانكو دي ريالتو" والذي أنشأته عام 1587 بعد أن اخفق كثير من المصارف الخاصة، الفضل في دهم البنادقة بقوة الدولة، وكان المثال الذي احتذته بلاد أخرى في إنشاء مؤسسات مماثلة في نورمبرج وهمبورج وامستردام. وقد تعجب الرحالة من جمال عمارتها، وفتنة نسائها، ونظافة شوارعها، وثبات حكومتها في حزم وإصرار.
استهدفت سياستها الخارجية فقط حفظ توازن القوى بين فرنسا وأسبانيا مخافة ان تبتلع احداهما الجمهورية التي لم تعد قوية الباس كما كانت من قبل. ومن هنا مبادرتها إلى الاعتراف بهنري الرابع ملكا على فرنسا دعما لبلد مزقته الحرب. وفي عام 1616 اشترك الدوق اوزونا، نائبملك اسبانيا في نابلي، مع السفير الاسباني في البندقية، في مؤامرة للاطاحة بمجلس شيوخها واخضاع الجمهورية لحكم أسبانيا. وبارك فيليب الثالث المشروع، ولكنه جريا على اسلوب الحكومات المهذب، أمر أوزونا بالمضي فيه "دون أن تدع أحداً يعلم أنك تنفذه بعلمي، وتظاهر بأنك تتصرف دون أوامر مني (3) ". غير أن حكومة البندقية كانت تستخدم أبرع الجواسيس في أوربا، فكشفت المؤامرة، وقبض على المتآمرين المحليين، وذات صباح تعلم الناس درسا ينفعهم، إذ رأوهم يتدلون من المشانق في ميدان القديس مرقس، محدقين في الحمائم السعيدة بعيون انطفأ نورها.
هذه الاولجركية الهادئة الصارمة، التي اتجرت مع الناس من جميع العقائد، ومنحتهم الحرية الدينية، كان موقفها من البابوية مستقلاً على نحو ملحوظ. جبت الضرائب من رجال الدين، واخضعتهم للقانون المدني، وحظرت بغير موافقتها بناء أي معابد أو أديار جديدة ونقل ملكية الأراضي(29/6)
للكنيسة، وراح حزب من ساسة البندقية يتزعمهم لوناردو دوناتو ونيكولو كونتاريني، يقاوم بصفة خاصة دعاوي البابوية بأن لها سلطانا على الأمور الدنيوية. وفي عام 1605 ارتقى كاميللو بورجيزي كرسي البابوية باسم بولس الخامس، وفي السنة التالية اختير دوناتو "دوجا" للبندقية، ووقف الرجلان اللذان كانا بالأمس صديقين، يوم كان دوناتو مبعوثا لدى روما، يواجه أحدهما الآخر في صراع بين الكنيسة والدولة ردد عبر قرون خمسة أصداء ذلك النضال الذي احتدم من قبل بين البابا جريجوري السابع والامبراطور هنري الرابع. وكانت صدمة للبابا بولس أن يعلم أن الزعيم الفكري للحزب المناهض للاكليروس في البندقية راهب سميّ له، ينتمي لجماعة "خدام العذراء" هو فرا باولو ساربي.
وساربي هذا كان في رأي مولمنتي "ألمع العقول التي أنجبتها البندقية قاطبة (4) ". كان أبوه تاجرا، والتحق الصبي بجماعة "الخدام" وهو في الثالثة عشرة، وتشرب العلم في شغف، وحين بلغ الثامنة عشرة دافع عن 318 قضية علمية في جدل علني بمانتوا، ووافق في دفاعه توفيقا حمل دوقها على تعيينه لاهوتيا لبلاطه. ثم رسم كاهنا في الثانية والعشرين، وأصبح أستاذا للفلسفة، وفي السابعة والعشرين انتخب ممثلا اقليميا لرهبنته لدى جمهورية البندقية. وواصل دراساته في الرياضيات، والفلك، والفيزياء، وشتى العلوم. واكتشف انقباض القرحية، وكتب مقالات علمية ضاعت، وشارك في الأبحاث والتجارب التي قام بها "فابريزو داكوابندنتي" و "جامباتيستا ديللا بورتا"، الذي قال أنه لم يصادف قط "رجلا أغزر علما ولا أكثر دقة في محيط المعرفة باسره (5) " وربما آذت هذه الدراسات الدنيوية عقيدة باولو، فقد رحب بصداقة بعض البروتستنت، وقدمت التهم ضده لمحكمة تفتيش البندقية- وهي نفس الهيئة التي لن تلبث أن تلقي القبض على جوردانو برونو. ورشحه مجلس الشيوخ اسقفا ثلاث مرات، وثلاث مرات رفض الفاتيكان الترشيح، وقوت ذكرى هذه الهزائم من عدائه لروما.(29/7)
وفي عام 1605 قبض مجلس الشيوخ على كاهنين وأدنهما بجرائم خطيرة فطالب البابا بولس الخامس بإحالة الرجلين إلى القضاء الكنسي، وامر بالغاء القوانين الموجهة ضد الجديد من الكنائس والديورة والطرق الدينية. ورفضت حكومة البندقية في ادب ولباقة. فامهل البابا الدوج والحكومة ومجلس الشيوخ سبعة وعشرين يوما للامتثال لأوامره. وهنا استدعوا فرا باولو باعتباره مستشاراً في القانون الكنسي، وأشار ساربي بمقاومة البابا، وحجته في ذلك ان سلطاته لا يسري الا على الامور الروحية، واعتنق مجلس الشيوخ رأيه هذا. وفي مايو 1606 حرم البابا دوناتو والحكومة وأوقع حظراً على جميع الخدمات الدينية في اراضي البندقية. واصدر الدوج تعليماته للكهنة البنادقة بتجاهل الحظر ومواصلة اداء وظائفهم، ففعلوا إلا اليسوعيين والثياتين والكبوشيين. ورحل اليسوعيون بحملتهم عن البندقية، لأن قوانينهم تلزمهم بطاعة البابوات، وذلك برغم انذار الحكومة لهم بأنهم ان رحلوا فلن يسمح لهم بعدها بالعودة. ونشر ساربي خلال ذلك، ردا على الكردينال بللارميني، كراسات دعا فيها إلى تقييد سلطة البابا، وأعلن أن للمجامع العامة سلطانا يسمو على سلطان البابوات.
ولجأ بولس الخامس إلى أسبانيا وفرنسا، ولكن اسبانيا هذه طالما رفضت المراسم البابوية، أما هنري الرابع ملك فرنسا فكان مدينا للبندقية بصنيعها معه. على أنه أوفد إليها رجلا حكيما هو الكردينال دجوايوز، الذي ابتكر ما اقتضاه الموقف من صيغ تحفظ ماء الوجوه. فأفرج عن الكاهنين وسلما إلى السفير الفرنسي، الذي المهما بعد قليل الى روما، ورفض مجلس الشيوخ الغاء القوانين التي اعترض عليها البابا، ولمنه- أملا المعونة البابوية ضد الترك- وعد بان الجمهورية "ستسلك بما عهد فيها من ولاء". وأوقف البابا لومه، ورفع جوايوز الحرم عن المحرومين. يقول مؤرخ كاثوليكي "لقد غلت مزاعم البابا بولس الخامس في تشبهها بمزاعم القرون الوسطى غلوا جعل تحقيقها ضربا من المحال (6) " وكانت هذه آخر مرة اوقع فيها الحرم على دولة بأسرها.(29/8)
وفي 5 أكتوبر 1607 هاجم بعض القتلة المستأجرين ساربي وتركوه وهم يحسبونه ميتا، لكنه افاق، وروى أنه علق على الهجوم بهذه الحكمة التي فيها من البراءة ما يجعل صدورها عنه لحظتها بعيد الاحتمال، "انى تبين اسلوب الادارة البابوية الدقيق (7) " (1). ووجد القتلة الحماية والاستحسان في الدويلات البابوية (8). بعد هذا عاش ساربي معتكفا في صومعته يتلو القداس كل يوم، ولكن "مرقمه" لم يكن معطلا. ففي عام 1619 نشر تحت اسم مستعار وعن طريق دار نشر لندنية "تاريخ مجمع ترنت" وهو اتهام ضاف للمجمع، صور فيه حركة الاصلاح الديني تصويراً بروتستنتينياً خالصاً، وأدان المجمع لأنه باذعانه التام للبابوات حال دون رأب الصدع في الكنيسة. وتحمس العالم البروتستنتي للكتاب، واطلق ملتن على مؤلفه "ممزق القناع العظيم". أما اليسوعيون فعهدوا إلى فقيه منهم يدعى سفورتزا باللافتشيو بكتابة تاريخ معارض (1656 - 64) كشف تحيز ساربي وعدم دقته وباراه فيهما (9). وعلى الرغم من تحيز الكتابين فانهما سجلا تقدما في جمع الوثائق الاصلية واستخدامها، وفي رسالة ساربي المسهبة سحر البلاغة النارية، وهذا تشويق اضافي ذو خطر. لقد كان الرجل متقدما كثيرا على جيله في الدعوة إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة.
في ظل هذه الحكومة الابية، وفوق تلك القنوات المطمئنة العطرة، واصلت البندقية سعيها وراء المال والجمال تسترضي المسيح بالعمارة، والعذراء بالابتهالات، فلكل اسبوع عيد يتذرع للاحتفال به بقديس ما، وفي رسوم جواردي نرى امثلة من هذه الانتشاءآت الجماهيرية، وتلحظ في صور الأشخاص ذلك الترف الشرقي الحسي، ترف الثياب والحلي.
_________
(1) التورية هنا في كلمة Stilus و Style. والكلمة الأولى كانت في الأصل تعني حديدة مستدقة الطرف، ثم سنًا من حديد استعمل في الكتابة على ألواح من الشمع، ثم قلما، ثم طريقة في الكتابة، أي أسلوبا. والتصغير الايطالي Stiletto كان له مسميان: المرقم، والخنجر الصغير.(29/9)
وكان في وسع المرء في أية أمسية أن يسمع صوت الموسيقى تعزف في الزوارق (الجوندولا). ولو وطئت قدماه زورقا من هذه الزوارق السحرية ولم يفه باي توجيه للملاح، لمضى به دون كلام كثير إلى بيت مومس شريكة له. وقد دهش مونتيني لكثرة بنات الهوى البندقيات، وغلوهن في التحرر، وما هو بالرجل المتحيز، وكن يدفعن ضريبة للدولة، لقاء سماحها لهن بأن يسكن حيث شئن، ويلبسن ما يشتهين، ولقاء دفاعها عنهن ضد الزبائن الذين يأكلون حقوقهن (10).
واكتسبت "القناة الكبرى" وأفرعها مزيدا من الحسن عاما بعد عام بفضل ما قام على ضفافها من كنائس فخمة أو قصور جديدة مشرقة أو جسور رشيقة. ففي عام 1631 عهد مجلس الشيوخ إلى بالداساري لو نجينا ببناء كنيسة رائعة للعذراء "سانتاماريا ديللا سالوتي" وفاء بنذر لأنها ردت إلى أهل المدينة عافيتهم عقب طاعون كبير. وفي 1588 - 92 أقام انطونيو دا بونتي بدلا من الجسر الخشبي العتيق "جسر ريالتو" الجديد الذي امتد عبر القناة الكبرى في قوس واحد من الرخام طوله تسعون قدما، وقامت المتاجر على جناحيه. وحوالي عام 1600 بنى "جسر التنهدات" (بونتي دي سوسبيري) عاليا فوق قناة تجري بين قصر الدوج وسجن القديس مرقس- "فقصر على طرف وسجن على الطرف الآخر" (11). واتم سكاموتزي كنيسة بالاديو و "سان جورجو" ومكتبة فيكيا التي بدأت انسوفينو. وبنى سكاموتزي ولونجينا "البروكوراتي نوفي" (1582 - 1640) الملاصق لميدان القديس مرقس ليستخدم مكاتب جديدة لحكومة البندقية. وقامت الآن قصور شهيرة على ضفاف القناة الكبرى: بالبي، وكونتاريني ديلي سكريني، وموتشينجو، حيث عاش بايرون في 1818. والذين لم يروا البندقية سوى ظاهرها لا يستطيعون ابدا تصور ما في باطنها من بذخ- يجله الذوق الرفيع سائغا:
تلك السقوف ذات الرسوم الجصية أو الزخارف الغائرة، والجدران المزدانة بالصور أو قطع النسيج المرسوم، والمقاعد المكسوة بالساتان،(29/10)
والكراسي والموائد والصناديق المنقوشة، والدواليب المطعمة بالصدف والعاج، والسلالم العريضة الفخمة التي بنيت لتعيش القرون الطويلة. هنا نعمت أو لجركية غيور، قوامها عدة مئات من الاسر، بكل ثراء أقطاب التجارة، وبكل المعايير الفنية المرهفة التي اتيحت للأرستقراطيات العريقة.
ولا يبرز في هذه الفترة بين مثالي البندقية غير مثال واحد هو اليساندرو فيتوريا، ولكن فن التصوير البندقي أنجب اثنين من مصوري المرتبة الثانية. فقد اورث بالمافيكيو (مات 1528) فنه عبر الأجيال إلى حفيد لأخيه يدعى بالماجوفاني- أو ياكوبو بالما الأصغر- الذي مات بعد موت جده بمائة عام تماما. والرأي في فن جوفاني- إنه "منحط" لأن الرجل كان يرسم في عجلة يشوبها الإهمال، ولكن بعض صوره، كصورة "البابا اناكليتوس" في كنيسة الصلب، تدنو من العظمة، وفي هذه السطور التي خلفها مولمنتي يقفز هذا الفنان الأصغر المهمل إلى الحياة.
"لم يكن لبالما جوفاني من هدف ... سوى فنه، الذي عجز اشد الأحزان عن أن يصرفه عنه. ففي فنه التمس العزاء عن موت ولديه، اللذين مات أحدهما في نابلي، قضى الآخر في حياة الفجور. وبيتما كانت زوجته تحمل إلى قبرها عكف على الرسم هروبا من الالم (12).
أما برناردو ستروتزي فقد حصر بين ساقيه قمة الحذاء السحري، إذ ولد في جنوه، ومات في البندقية (1644)، وخلف صورا لكل قاعة مفن تقريبا بين البلدين. انفق بعض عمره راهبا كبوشيا، ثم خلع رداء الرهبة، ولكنه لم يستطع قط ان يخلع كنيته "الكبوشي". وبعد أن بذل محاولات كثيرة، وجد التسامح والتوفيق في البندقية، وفيها انتج أفضل أعماله. ويكفي أن نذكر مثلا منها "هو صورة أخ دومنيكي" (برجامو): فـ "البيريه" العالية تزين الجبين العريض، والعينان عابستان(29/11)
مركزتان، والأنف والفم ناطقان بقوة الشخصية، واليد تنشئ بعراقة الأصل؛ أن تتسيانو نفسه لم يكن في وسعه أن يبدع خيرا من هذا الفن. ولو ظهر هذان الوريثان للعمالقة من السلف في أي وطن آخر لحسبا من العمالقة.
حـ- من بادوا إلى بولونيا
انحصر فخر بادوا بجملته الآن في جامعتها. ففيها درس هارفي في هذه الحقبة. وفيها علم جاليلو. وفي إمارة فيرارا لم يبد الفونسو الثاني (حكم 1559 - 97) تقاعسا أو فتورا في همة آل ايستي الذين حكموا الامارة منذ 1208. وصورته التي يحتفظ المتحف البريطاني بنسخة منها غفل من التوقيع يطل منها رأس قوي. ولحية أمرة، وعينان تنبئان بعقل حازم مكتئب. كان في وسعه أن يكون قاسيا لا يرحم الذين يقاومونه، رفيقاً بغيرهم، صبوراً على غضبات تاسو، جريئاً في النزال، مشتطاً في فرض الضرائب. وقد واصل التقليد الذي جرت عليه أسرة ايستي في بسط رعايتها على الأدب والعلم والفن، وجمع ثمارها كلها في ثقافة بلاطه وبهائه ومرحه. أما الشعب فكان عليه ان يقنع بالكفاف- وان يستمد بثمار كده في شخص وكلائه. وقد اخفق الفونسو في أن يعقب ولدا برغم جبروته كله، وبرغم زواجه من ثلاث نساء عل التعاقب، وأصبحت فيرارا دويلة بابوية في 1598 بمقتضى اتفاق كان قد أبرم في 1536، بعد أن ظلت طويلاً أقطاعة بابوية- وهكذا انتهى تاريخها الثقافي.
أما بولونيا التي ضعت للحكم البابوي منذ 1506 فقد اتيحت لها في هذا العصر ازدهار ثان في مدرسة للتصوير سادت ايطاليا مدى قرنين ومدت نفوذها إلى أسبانيا وفرنسا وفلاندرا وانجلترا. عاد لودوفيتشو كاراتشي، وهو ابن جزار غني، إلى بولونيا بعد أن درس الفن في البندقية وفلورنسة وبارما ومانتوا. وكان تنتوريتو قد حذره بأنه لم يوهب عبقرية التصوير، ولكنه أحس أن الاجتهاد يمكن أن يقوم مقام العبقرية،(29/12)
ثم أن العبقرية لا تعوزه. وبعث بحماسته الحمية في اثنين من أبناء عمومته هما أجوستينو وأنيبالي كاراتشي- وكان أحدهما صائغا والآخر خياطاً، فرحلا إلى البندقية وبارما ليدرسا فن تيشان (تتسيانو) وكوريدجو. فلما عادا انضما إلى لودوفيتشو وفتح الثلاثة أكاديمية "للبادئين عل الطريق (1589). وقد وفروا فيها تعليم اصول الفن وتاريخه وطرائقه، والدرس المدقق لأئمة الفن، ورفضوا التشديد على "اللازمات" أو الأغرابات التي التزمها أي من الفنانين، بل آثروا الجمع بين نعومة رفائيل الانثوية، وبلاغة كوريدجو الرقيقة، وفحولة ميكل أنجيلو، وتنويع ليوناردو الضوئي، وتلوين تيشان الدافئ- كلها من مذهل شامل واحد. هذه "المدرسة الانتقائية" اتاحت لبولونيا أن تنافس روما، عاصمة فنية لايطاليا.
والصور التي خلفها المصورون كاراتشي لا تحصى، وكثير منها محفوظ في أكاديمية بولونيا للفنون الجميلة، وبعضها في اللوفر، ولكنا نجدها في أماكن أخرى كثيرة. ونتاج لودفيتشو أقلها جاذبية، ولكنه يبلغ غايته في صورة "البشارة" المشرقة، وصورة"استشهاد القديسة أورسولا"، وكلتاهما في "قاعة صور الأكاديمية. أما اجوستينو ففنه يتجلى في لوحة "عشاء القديس جيروم" القوية- التي لم تمنعه من الاستجابة للطلب الكثير على نسخ من الصور الفاجرة. وأما أنيبالي فكان ألمع أفراد الأسر موهبة، وقد نقل عن كوريدجو في الخطوط والالوان ندر أن طاولها أبنا عمه. تأمل الاناقة الشهوانية في لوحته "الباخوسية" المحفوظة بقاعة الأوفتزي، وصورة الأنثى الكاملة في "الحورية والاساطير" المحفوظة بقصر بيتي، وصورة الذكر الكامل في "عبقرية الشهرة" المحفوظة بدرسدن؛ وقد أبدع في لوحته "المسيح والمرأة السامرية" (فينا) آية من آيات الفن في هذه الحقبة- صورا جديرة بريشة رفائيل، ومنظرا طبيعيا سبق به بوسان.
وفي عام 1600 قبل أنيبالي وأجوستينو دعوة الكردينال فارنيزي لهما ليذهبا إلى روما ويرسما صالة قصره فيها. فاختارا موضوعا مناسبا ورسما "انتصار باخوس" وهي مهرجان روبنزي من المفاتن الأنثوية.(29/13)
ومن روما أنطلق اجوستينو إلى بارما حيث رسم لوحة جصية هائلة للكازينو، ومضى أنيبالي إلى نابلي حيث يرى في متحفها القومي إلى اليوم ذلك المزج الذي أختص به بين لوحة "العائلة المقدسة" ولوحة "فينوس ومارس". وقد ودع أبناء العم الثلاثة الحياة متفرقين، وهم الذين طالما جمع الفن بينهم. فمات أجوستينو في بارما (1602)، وأنيبالي في روما (1609)، ولودفيتشو في بولونيا التي ظل وفيا لها- فكان أول الوافدين عليها وآخر الراحلين عنها (1619).
لقد دربت المدرسة الجديدة نفرا من أشهر رسامي ذلك العهد. وكان لأحدهما- وهو جيدو ريني- من الأتباع أكثر مما كان لاي مصور في أوربا. فبعد تفتح مواهبه المبكر بفضل عناية المصورين كاراتشي، استسلم لإغراء روما (1602)، وانشغل فيها عاما- ث عاد إلى بولونيا ليرسم فيها صورا من حس التقوى، وجمال العاطفة، ما جعلها همزة وصل مرحبا بها بين سنية الايمان وهرطقات الجسد. أما جيدو نفسه فيبدو انه كان مخلصا في تدينه، واثر عنه احتفاظه بعذريته كاملة إلى النهاية. وصورته الذاتية المحفوظة بمتحف الكابيتوليني تظهره في شبابه، فتى وسيما كالصبايا، أشقر الشعر ابيض البشرة ازرق العينين. واروع صوره صورة "الفجر"، الجصية المرسومة على سقف قصر رويبليوزي بروما. وفيها ترى ربة افجر تحلق في الجو ومن خلفها جياد رشاق تجر فيبوس الأشعث في مركبته، تصحبه راقصات ملاح الوجوه حسان الأجساد، يمثلن ساعات اليوم، وكاروبيم مجنح كأنه خاتم المسيحية على هذه النشوة الوثنية. ورسم جيدو أساطير أخرى- مثل "اغتصاب هيلانة" في اللوفر، و "تفاحات الهسبريد" في نابلي، ولوحة "فينوس وكيوبد" الشهوانية في درسدن. وعن العهد القديم أخذ لوحته المشهورة "سوسنه الشيوخ" (الأوفتزي). ولكنه في أكثر رسومه قنع باعادة تصوير الموضوعات القديمة إلى قلوب الناس المحببة إلى الكنيسة، كقصة المسيح وأمه(29/14)
وكلها ينضج بما ندد به قساة النقاد من اسراف "مجدلي" (5) (1) في العاطفة. على أنه أجاد في تصوير الرسل، كما تشهد بذلك لوحة "القديس متى" المحفوظة بالفاتيكان، وقد رسم رأسا رائعا للقديس يوسف (بريرا)، وفي لوحة "استشهاد القديس بطرس" بالفاتيكان جرب واقعية كارافادجو الصارمة. وجين عاد إلى العاطفة رسم لقاعات الفن لوحة "القديس سباستيان" المشهورة وفيها يبدو القديس وهو يتلقى السهام في جسده الكامل هادئا
رابط الجأش. وفي كل آثاره نلمح براعة الأسلوب المدرب خير تدريب، ولكنا حين نقارن هذه اللوحات المقدسة، المفرطة الحلاوة، بلوحة رفائيل "ستانتزي" او بسقف كنيسة السستين الذي رسمه ميكل أنجيلو، لا يحركنا في فن ريني غنى اللون ولا نعومة الخط، بل "الافتقار إلى الجرأة". كان يحلم حلما يغتفر له حين كتب له يقول: "أحب أن اخلع على الوجه الذي أرسمه جمالا كالجمال الكامن في الفردوس" (13)، ولكنه فضح نفسه فاخر بأن لديه "مائتي طريقة لجعل العيون تطلع إلى السماء" (14).
اتبع دومنيكينو (دومنكيو تزامبيري) سياسة جيدو في ارضاء الوثنيين والمتدينين جميعا، ولما كان هذان في كثير من الأحيان واحدا فان الخطة أثمرت. كان معقدا أكثر من جيدو، فيه تواضع وحياء، يحب الموسيقى ويعشق زوجته. وقد تعلم هو أيضا التصوير في بولونيا ثم أنطلق إلى روما سعيا إلى الفن والمال. وأثار نجاحه هناك حسد منافسيه فيها، فاتهموه بانتحال صور غيره، فقفل إلى بولونيا راجعا، ولكن جريجوري الخامس عشر استدعاه ليكون كبير معماريي الفاتيكان ومصوريه. فصمم فيلا الدوبرانديني بفراسكاتي، مستعيناً في فنه بشيء من تعدد البراعات الذي
_________
(1) لاحظ أن هذه الكلمة maulin تحريف لكلمة magdalen- التي مازالت تنطق " مودلن" في اسمى كلية مودلن باكسفورد، وكلية مودلن بكمبردج: أما مريم المجدلية ذاتها فلم تعفها ريشة جيدو الحسية من المطاردة المخلصة.(29/15)
أثر على رجال النهضة. ولما انتقل إلى نابلي بدأ سلسلة من الصور الجصية في كاتدرائيتها. وكاد يتم مهمته برغم ما لقي من مشاق ضاعف منها مصورو نابلى، ولكنه مات (1641) في الستين من عمره وهو لا يزال في عنفوان فنه. وأعظم لوحاته "عشاء القديس جيروم" المحفوظة بالفاتيكان. واستنادا إلى هذه الرائعة لم يفضل بوسان عليه من المصورين سوى رفائيل (15)، ونحن نحترم هذا التحمس أكثر مما نحترم الحكم. اما رسكن ففي رأيه أن دومنيكينو "عاجز بصورة واضحة عن الإتيان بشيء حسن، أو عظيم، أو صواب، في أي ميدان، أو سبيل، أو فرع، كائناً ما كان (16) "، ونحن لا نعجب بالحكم ولا ببلاغة العبارة هنا.
أما آخر تلاميذ آل كاراتشي الثلاثة المشهورين فقد اشتهر بكنية مؤسفة هي جويرتشينو- "الأحوال"- ما أصاب عينه من تشويه أثر حادث وقع له في طفولته، ولكن أمه سمته جوفاني فرانشسكوباربيري. مارس التصوير فعلا، متأثراً بأسلوب كارافادجو القوي، قبل أن ياتي ليدرس على يد آل كراتشي، لذلك توسط في فنه بين بولونيا وروما. وظل أعزب مثل جيدو، وعاش عيشة التقشف، وأظهر خير فضائل حركة الاصلاح الكاثوليكي في حياته الهادئة الكريمة. وقد خلف لنا الكثير من الصور اللطيفة، منتشرة من روما إلى شيكاغو، وكان أضعف مصوري المدرسة البولونية وأحبهم إلى الناس.
إن النظرية الأساسية التي قامت عليها المدرسة الانتقائية- وهي أن في الاستطاعة تكوين الفنان العظيم بمحاولة الجمع بين مختلف المزايا التي تفرد بها سابقوه- هذه النظرية كانت خطأ بغير شك، ذلك لأن شيمة العبقرية كثيرا ما تكون التعبير عن شخصية وشق مسالك جديدة، بيد أن "أكاديمية البادئين على الطريق" أفادت في بث تقليد ربما اشتطت العبقرية لولاهما وأغربت.
والنجاح الذي أصابته المدرسة يعزى إلى تعاونها الحاضر مع(29/16)
حاجات الكنيسة، فقد احتاجت البابوية بعد اصلاحها، كما احتاج اليسوعيون بعد اتساع منظمتهم، إلى ألوان جديدة من التعبير عن قصة المسيحية، ومن التحريض الحي على التقوى والإيمان. وقد مس المصورون البولونيون كل وتر عاطفي في العابدين، وانتشرت الصور التي رسموها للعذراء والمجدلية في العالم المسيحي الكاثوليكي قاصية ودانية. ومنذا الذي ينكر أن الناس أقروا بالفضل لهذه الإلهامات، أو أن الكنيسة حين وفرتها لهم اثبتت أنها أعظم السيكولوجيين في التاريخ فهما لطبائع البشر؟
د- نابلي
كانت الدويلات البابوية قد استوعبت منذ زمن فورلي ورافنا وريمني وأنكونا، ثم ضمت إليها أوربينو عام 1626، وبيزارو عام 1631. وإذا اتجهنا جنوبا، مارين بفودجا وباري وبرنديزي حتى كعب "الحذاء السحري"- ومارين بتارانتو وكروتوني وريدجو كالابريا حتى ابهامه؛ وعرضا من سيلا إلى كاربيديس مخترقين صقلية، وشمالا على طول الساحل الغربي إلى كابوا- وجدنا مملكة نابلي، التي أصبحت ولاية أسبانية منذ عام 1504. هنا كان ثلاثة ملايين من السكان المشبوبي العاطفة، يكدحون في ذل الفقر بين أرجاء هذه المملكة المنبسطة في غير نظام ليدبروا المال الذي تطلبه بهاء عاصمتها المتألقة. وقد رأى أيفلين نابلي عام 1645 وقال في وصفها: -
"إن كبار الحكام يفتنون في الاثراء من كد الشعب التعس لما فيهم من شره شديد المال. وعمارة المدينة إذا قيست بحجمها أفخم من أي نظير لها في أوربا: فالشوارع واسعة جدا، جيدة الرصف، كثيرة الأنفاق لصرف الأقذار، ومن ثم أصبحت غاية في الجمال والنظافة .. وتملك المدينة أكثر من 30. 000 كنيسة ودير، وهي خير ما في إيطاليا بناء وزخرفا. والقوم شديدو التظاهر بالوقار الأسباني في لباسهم، وهم يهوون الجياد الفارهة؛ والشوارع حافلة بالوجهاء المتأنقين يمتطون الخيل أو(29/17)
يركبون المركبات أو المحفات. أما النساء فملاح الوجوه عموماً، ولكن فيهن شبق شديد) 17) ".
كان الكل يبدون مرحين، تفيض نفوسهم بالموسيقى والشعر والتقوى، ولكن تحت هذا السطح المرح، وتحت بمصر محكمة التفتيش، كانت النفوس تجيش بالهرطقة والثورة. ففي هذا العهد عاش الفيلسوف تيليزيو ومات (1588)، وفي نولا، القريبة من نابلي، ولد برونو (1548). وفي عام 1598 اشترك كامبانيللا في حركة تمرد استهدفت جعل كالابريا جمهورية مستقلة، ولكن المؤامرة فشلت، وقضى الشاعر الفيلسوف بعدها سبعة وعشرين عاما في غياهب السجن.
وفي عام 1647 انتاب نابلي ضرب من الهوس من جراء انتفاضة من هذه الانتفاضات المسرحية التي عطلت بين والحين الاستغلال الزراعي في إيطاليا. ذلك أن تومازو أنييللو، المشهور بمازانييلو، كان بائع سمك متجولا حكم على زوجته بغرامة كبيرة لتهريبها القمح. فلما فرض الحاكم الأسباني ضريبة على الفاكهة ليمول البحر، وأبى زراع الفاكهة وباعتها أداء الضريبة، دعا تومازو الناس إلى العصيان المسلح. فتبعه مائة ألف إيطالي حين زحف على قصر الحاكم مطالبا بسحب الضريبة. وروع الحاكم فأذعن للطلب، وأصبح تومازو- الذي كان يومها في الرابعة والعشرين- سيداً على نابلي، وحكمها عشرة أيام، أعدم خلالها ألفاً وخمسمائة من الخصوم في حمى الدكتاتورية، وسعر الخبز بثمن أقل، وكان عقاب خباز رفض الامتثال للتسعيرة ان يشوى حياً في فرنه (18) - ولكن أعداء تومازو هم الذين كتبوا التاريخ، وذكروا أن تومازو الذي ارتدى ثوباً من الذهب، أحال بيته المتواضع إلى قصر يرفل في مظاهر السلطان، وطاف حول الخليج في زورق فاخر. ولكن فتاكاً استأجرتهم اسبانيا اغتالوه في 17 يوليو. وأخذ أتباعه الجثة التي قطعت أوصالها فجمعوا الأشلاء وشيعوها في مشهد جليل. وماتت الحركة بعد أن فقدت قائدها.(29/18)
استطاع ضرب من الفن الديني القاتم أن يحتفظ بالحياة برعاية المطارنة والحكام. ففي عام 1608 انفقت الكنيسة مليونا من الفلورينات لتشيد في كاتدرائية سان جينارو كنيسة صغيرة تسمى "كابيللا ديل تيزورو" لتكون ضريحا لأنائين يحتويان الدم المتخثر الذي تخلف عن القديس يانواريوس حامي نابلي. وقيل للشعب انه لابد أن يسيل الدم ويجري مرتين في العام لكي تزدهر نابلي وتأمن عائلة فيزوف.
أما التصوير في نابلي فقد ظل يهيمن عليه حينا ثلاثي من الفنانين الغيورين- كورينتزيو، وكارلتشلو، وريبيرا- الذين عقدوا العزم على أن يكون كل التصوير في نابلي وقفا عليهم أو على أصحابهم. وقد بلغ من تهديداتهم لانيبالي كاراتشي أنه اكره على الفرار إلى روما، حيث ادركه الموت بعد قليل من جراء رحلته المحمومة التي أضطر إليها تحت شمس حامية (19). وحين حضر جيدو ريني لزخرفة "كنيسة الكنز" تلقى انذارا بأن يرحل عن نابلي أو يموت، فرحل من فوره تقريبا وهو لم يكد يبدأ مهمته. واركب اثنان من مساعديه بقيا بعد رحيله سفينة كبيرة لتشغيل العبيد وانقطع خيرهم بعدها. ثم حضر دومنيكينو، وأتم أربع صور جصية في الكنيسة على الرغم من أن الصور محيت غير مرة، وأخيرا فر من تهديدات ريبيرا، ثم عاد بعد أن تعهد الحاكم بحمايته، ولكنه مات بعد قليل، ربما سموماً (20).
على أننا لا بد أن نشيد بذكر جوزي أو جوزيبي ريبيرا، برغم كل جرائمه، لأنه أعظم مصوري هذا العهد في إيطاليا. وتدعيه اسبانيا لنفسها استنادا إلى أنه ولد في زاتيفا قرب بلنسيه (1588)، وقد درس حينها على فرانشيسكو دي ريبالتا، ولكنه قصد روما في بواكير شبابه. هناك عاش في فقر مدقع، ينسخ الصور الجصية ولا يجمع غير الفتات، حتى قيض الله له واحدا من هؤلاء الكرادلة عشاق الفن كان لا يزال يشعر بوحي النهضة، فاستضافه في قصره ويسير الغذاء والفراش والألوان(29/19)
والكساء. وراح جوزيبي ينسخ في جد ومثابرة لوحات رفائيل في الفاتيكان وصور آل كاراتشي في قصر فارنيزي. ثم فر "الأسباني الصغير" إلى بارما ومودينا ليدرس كوريدجو حين وجد أن الراحة اطفأت حماسته. وعاد إلى روما، وتشاجر مع دومنيكينو. ثم انتقل إلى نابلي. وفيها أو في روما وقع تحت تأثير كارافادجو، الذي زاده اسلوبه الوحشي رسوخا في المذهب الطبيعي القاتم، ولعله أخذه من قبل عن ريبالتا. واستلطفه تاجر صور غني فعرض عليه أن يتزوج ابنته الحسناء. وظن جوزيبي المملق أن الرجل يسخر منه؛ ولكن حين اعاد العرض قفز صاحبنا إلى حياة الزواج والثراء.
ورسم الآن لوحته المسماة "سلخ جسد القديس برتولميو"، وفيها من احتمال الحقيقة الدامي ما جعلها- حين عرضت- تجتذب حشدا ن المتفرجين استهواهم الدم أكثر من الفن. أما الحاكم الأسباني- وهو أوزونا الذي عرفناه متآمرا على البندقية- فقد أرسل في طلب اللوحة والمصور، وافتتن بها، ثم عهد إلى ريبيرا بكل أعمال الزخرفة في القصر. وأقصى الأسباني كل منافسيه، حتى عهد إلى جوفاني لانفرانكو صديقه برسم الصور الجصية لكنيسة الكنز، وقام هو نفسه بتنفيذ صور المذبح التي مثل فيها يانواريوس، القديس الذي لا تؤذيه النار، يخرج من أتون مشتعل دون ان يمسه لهيبه.
بعد هذا أصبح ريبيرا إمام فنه غير منازع في نابلي. وبدا أن في استطاعته إن شاء أن يضارع نعومة رفائيل وكوريدجو دون أن يقع في عاطفية جيدو ريني أو موريللو، وأن يرتفع بواقعية كارافادجو إلى مزيد من القوة بفضل حدة تصوره وعمق تلوينه. وحسبنا أن نستشهد بلوحتين فقط من لوحاته "بييتا" و "الرثاء"، في كنيسة سا مارتينو وديرها- "عمل إذا نظر إليه على أنه تجسيد لجلال الرهيب لهبطت كل التعبيرات المماثلة في ذلك القرن إلى درك المشاهد المسرحية (21)، أوخذ من الأساطير لوحته "أرخميدس". في متحف البرادو- فهو بالضبط ذلك(29/20)
الصقلي العجوز المنغضن الذي قد يلتقي المرء باشباهه اليوم في سيراقيوز. وحين انتقل ريبيرا من الكتاب المقدس والتاريخ إلى الشارع، وجد التنويع لفنه في لقطات واقعية من صميم الحياة العامة، فكان في لوحة "الصبي الحافي" المثال الذي احتذاه فلاسكويز وموريللو (1) ".
وعيوب ريبييرا تقفز إلى العين- غلو في العنف، وولع بالتجاعيد والضلوع، وظمأ للدم. وقد لاحظ بايرون أن "هذا الأسباني الصغير لوث ريشته بكل دماء القديسين (22) ". أن الوانه الكابية وتشديده على الجانب القاتم من الحياة يروع ويغم، ولكن هذا الأسلوب المظلم وجد تقبلا حاضراً في بلد كنابلي كابد حكم الأسبان وتقلبات مزاجهم. وتنافست عليه كل كنيسة أو دير جديد، كأن فيليب الرابع وحكام نابلي بعض زبائنه الشرهين. وانتشرت رسوم ريبيرا ومحفوراته في أسبانيا انتشارا أوسع من اعمل فيلاسكويز- الذي زاره مرتين في إيطاليا. أما بيته فكان من أفخم بيوت نابلي، وأما ابنتاه فآيتان في الفتنة السمراء، وقد شرفت إحداهما باغواء "دون خوان" آخر لها هو الابن غير الشرعي لفيليب الرابع، الذي هرب بها إلى صقلية، ولكنه سرعان ما ملها وهجرها، فاعتكفت في دير للراهبات ببالرمو. أما ريبيرا فأشرف على التلف كمدا وعارا، والتمس العزاء في صور للعذراء يخلع عليها الملامح التي لم ينسها، ملامح ابنته ماريا روزا التي فقدها، ولكنه مات بعد مأساتها بأربع سنوات (1652).
2 - روما والبابوات
أصبحت عاصمة الدويلات البابوية (2) وقصبة العالم الكاثوليكي الروماني
_________
(1) يجد رواد المتاحف من صور ريبيرا ثلاثا وستين في البرادو، وملء نصف قاعة في رواق الصالون كاريه باللوفر: وتحتفظ نيويورك بصورة "العائلة المقدسة" في متحف التروبوليتان للفنون، وبصورة للمجدلية في الجمعية الأسبانية.
(2) أهمها هذه المدن وما يحيط بها: روما، واوسيتا، وفيتربو، وتيرني، وسبوليتو، وفوليفو، وأسيسي، وبيروجه، وجوبيو، وأوربينو، ولوريتو، وانكونا، وبيزارو، وريميي، وفورلي، ورافينا، وبولونيا، وفيرارا.(29/21)
مدينة من مدن المرتبة الثانية، فيها من الأنفس 45. 000 عام 1558، زادوا إلى 100. 000 في عهد سيكستوس الخامس (1590). وحين وفد عليها مونتيني عام 1580 خيل غليه أنها أكثر من باريس اتساعا، ولكن بيوتها لا تعدو ثلث بيوت باريس؛ وبين السكان عدد غير قليل من المجرمين والبغايا (قبل سيكستوس الخامس)؛ وكان كثير من النبلاء يحتفظون بنفر دائم من الفتاك. أما الفقر فمنتشر ولكنه هين تكسر من حدته احسانات البابا، والاحتفالات الكنسية، والأحلام الدينية. وأما عشائر النبلاء العريقة-كأورسيني، وكولونا، وسافللي، وجيتاني، وكيجي-فقد تناقص دخلها وسلطانها وإن لم تفتر دعواها وكبرياؤها. وكانت الأسر الأحدث عهدا-كألدوبرانديني، وباربريني، وبورجيزي، وفارنيزي، وروسبليوزي-تتصدر غيرها ثراء ونفوذا، بفضل اتصالاتها بالبابوات عادة. وظفر اقرباء البابا بعهد جديد من المحاباة. فجني آل ألدوبرانديني المنافع من انتخاب كلمنت الثامن، وآل لودوفيزي من انتخاب جريجوريالخامس عشر، وآل باربريني من انتخاب أوربان الثامن، وآل بورجيزي من انتخاب بولس الخامس. ووضع الكردينال سكبيوني بورجيزي ابن أخي بولس خطة لبناء فيللا بورجيزي، وبنى الكازينو (1615)، إذا كان يتمتع بأكثر من دخل كنسي وبراتب قدره 150. 000 سكودي في العام، ثم انشأ للكازينو مجموعته الفنية الغنية، ونال قسطا لا بأس به من الخلود في الرخام على يد محسوبه برنيني. وقد استخدم كثير من الكرادلة مالهم في تشجيع الآداب والفنون.
وأعان كنيسة روما على البقاء سلسلة من البابوات الأقوياء الشكيمة برغم فقدها ألمانيا والأراضي المنخفضة واسكندناوة وبريطانيا-وكلها سلختها منها حركة الاصلاح البروتستنتي. وكان مجمع ترنت قد أكد سيادة البابوية على المجامع وزاد منها، كذلك جمعية يسوع (اليسوعيون) الفنية القوية تدين بالولاء للبابوية وتخلص لها الحب. وفي عام 1566 ارتقى أنطونيو جيسلييري- الأخ الدومنيكي والرئيس الأعلى لمحكمة التفتيش-(29/22)
عرش البابوية باسم بيوس الخامس وهو في الثانية والستين ... وخيل إليه أن قداسة حياته الشخصية تنسجم تمام الانسجام مع الصرامة التي تعقب بها البدع الدينية. فسحب من كاثوليك بوهيميا الحق الذي منحوه من قبل، حق تناول الأسرار بالخمر كما يتناولها بالخبز. وحرم اليزابث ملكة إنجلترا واحل الكاثوليك الانجليز من الولاء لها. وحث شارل التاسع ملك فرنسا وكاترين مديتشي على مواصلة الحرب على الهيجونوت حتى يبادوا بغير رحمة (23). وامتدح الأساليب الفظة التي اتبعها ألبا في الأراضي المنخفضة (24). وجاهد بقواه المحتضرة لتجهيز الأرمادا الذي هزم الترك في ليبانتو. وما خفف في حياته حكما كنسيا (25)، بل شجع محكمة التفتيش على تنفيذ قواعدها وعقوباتها بالقوة.
على أنه عنف مثل هذا العنف في فرض الاصلاح الكنسي. فالأساقفة الذين يغفلون الاقامة في اسقفياتهم يشلحون، وعلى الرهبان والراهبات أن يعتزلوا الناس اعتزالا تاما، وكل اخلال بالوظائف الكنسية يجب أن يكشف أمره ويعاقب. وحين شكا بعض من طردوا من رجال الحاشية الزائدين عن الحاجة من أنهم سيموتون جوعا، أجاب بيوس بأنه خير للإنسان أن يموت جوعا من أن يخسر نفسه (26). وكانت الكفاية، لا المحسوبية ولا محاباة الأقرباء، رائدة في التعيينات والترشيحات. أما هو فكان دءوبا على العمل، يجلس الساعات الطوال يقضي في الدعاوي، لا يكاد يصيب من النوم أكثر من خمس ساعات في اليوم، ويضرب المثل لرجال الاكليروس بما أخذ به حياته الخاصة من بساطة وتقشف. فهو كثير الأصوام، لا يزال يلبس قميص الرهبان الصوفي الخشن تحت عباءته البابوية. ولقد افنى نفسه بهذا النسك الصارم، فكان في الثامنة والستين يبدو اكثر من عمره بعشر سنين-شيخا نحيل الجسد، أعجف الوجه، غائر العينين، قد اشتعل رأسه شيبا. وأصر وهو لا يكاد يقوى على المشي على أن يحج إلى باسليقات روما السبع، راجلا أكثر الرحلة. ولم تمض(29/23)
على ذلك الحج تسعة أيام حتى مات بعد شهر من العذاب، مرتديا ثوب القديس دومنيك. كتب مؤرخ بروتستنتي كبير يقول «قليل من البابوات من تدين لهم الكاثوليكية بفضل اكثر من دينها لبيوس الخامس، حقا لقد قسا في اضطهاد البدع، ولكن ادراكه لضرورة الاصلاح، وعزمه الوطيد على تنفيذه، ردا إلى الكنيسة كثيرا من الاحترام الذي فقدته (27). وقد أدخلت الكنيسة بيوس في عداد القديسين عام 1712.
وواصل جريجوري الثالث عشر (1572 - 85) اصلاح الكنيسة بروح أكثر اعتدالا. ونحن نذكر فيه الرجل الذي أعطانا تقويمنا واحتفل بمذبحة القديس برتولومبو بقداس شكر لإله رحيم. على أنه كان رجلاً فاضلاً، عيوفاً، رقيق الخلق. وكان له ولد غير شرعي قبل أن يدخل في زمرة الكهنوت، ولكن أمثال هذه الزلة كان يغتفرها أهل روما الشهوانيون. كان سخياً في العطاء، دموياً في الادارة. وقد أثنى البروتستنت على اختياره لمن يلون مناصب الكنيسة (28). ورأى فيه مونتيني عام 1580 «شيخاً وسيماً»، ذا وجه يطفح هيبة، ولحية بيضاء طويلة، صحيح البدن موفور العافية مع أنه ينيف على الثامنة والسبعين ... دمث الطبع قليل الارتباك بشئون الدنيا (29)».
بيد أن مشاريعه الجريئة-كتمويل المدارس اليسوعية، وقمع الهيجونوت، وخلع اليزابث-كانت تحتاج إلى المال. ولكي يجمعه أمر بتطبيق القانون بحذافيره على ملاك الضياع الكائنة في الأملاك البابوية وعلى عقود التمليك. وهكذا صادر البابا كثيرا من الأملاك التي كان مآلها عقود التمليك. وهكذا صادر البابا كثيرا من الأملاك التي كان مآلها إلى البابوية لانقطاع خط الوراثة المباشر، أو لعدم أداء الضرائب المفروضة على الاقطاعات البابوية. على أن ضحايا هذا الأمر البابوي، الحاليين منهم أو المنتظرين، سلحوا أتباعهم، وقاوموا نزع ملكياتهم، واتخذوا قطع الطريق سبيلا للانتقام. فتزعم رجال من أسر نبيلة، كألفونسو بيكولوميني وروبرتو مالاتستا، عصابات من طريدي العدالة واستولوا على(29/24)
المدن وسيطروا على الطرق. فاستحال بعد ذلك جمع الضرائب، وسد الطريق على الذهب المتدفق على روما، وما لبثت الفوضى أن عمت الادارة البابوية. هنا أوقف جريجوري مصادراته، واصطلح مع بيكولوميني، ثم مات في ذل الهزيمة وهوانها.
يقولون ان الضرورات صانعة الرجال، وقد صنعت هذه الضرورة من فليتشي بيريتي (سيكستوس الخامس 1585 - 90) رجلا من أعظم البابوات وأجلهم قدرا. رأت عيناه النور أول مرة في جروتامارين قرب أنكونا، في كوخ كان سقفه مهلهلا حتى لقد نفذت منه اشعة الشمس، قال وهو كبير على سبيل المزاج أنه «ولد في بيت منير (30). تعلم في دير فرانسسكاني بمونتالتو، وحصل على دكتوراه اللاهوت بدراسته في بولونيا وفيرارا، ثم أرتقى سريعا بفضل بلاغته واعظا وكفايته إداريا. فلما اختير لكرسي البابوية وهو في الرابعة والستين، كان الدافع لهذا الاختيار أن مجمع الكرادلة تبين فيه الشخصية الصلبة التي تتطلبها سلامة الدويلات البابوية وكفايتها المالية.
بيد أن اقاربه تزاحموا من حوله يمدون إليه أكفهم فلم يقو على ردهم، وهكذا عادت محاباة الأقرباء ترفع عقيرتها، ولكنه في غير ما يتصل بأسرته كان رجلا صلبا لا تلين له قناة. كان في مظهره ذاته ما يستوقف النظر: رجل قصير القامة، عريض المنكبين، متين البنية، واسع الجبين، أبيض اللحية كثها، كبير الأنف والأذنين، ضخم الحاجبين، له عينان نفاذتان قادرتان على إسكات المعارضة دون كلمة. وكان وجهه المتورد ينسجم مع عنف طبعه، ورأسه الكبير يوحي بارادة لا تنثني. على أنه مع كل صرامته كان يملك معينا من روح الفكاهة ومن النكتة الذكية النفاذة أحياناً كثيرة. وقد تنبأ بأن هنري الرابع سيهزم مايين، لأن هنري ينفق في الفراش وقتا أقل مما ينفقه مابين على موائد الطعام (31). أما هو نفسه فكان قليل النوم شديد العكوف على العمل.(29/25)
عقد العزم أولا على الضرب على أيدي قطاع الطرق المنتصرين. فبدأ بتنفيذ حظر مفروض على حمل الأسلحة الفتاكة ولكنه كان مهملا إلى حد كبير. وفي اليوم السابق لتتويجه قبض على أربعة شبان لانتهاكهم هذا الحظر، وأمر سيكستوس بشنقهم فوراً. التمس أقرباؤهم العفو عنهم أو تأجيل التنفيذ، فأجاب، فأجاب «ما دمت على قيد الحياة فلابد أن يموت كل مجرم أثيم»؛ وما لبثت أن تدلت أجسادهم من مشنقة نصبت على مقربة من جسر سانتانجيلو، وسط احتفالات التتويج، فكان هذا بمثابة الخطاب الافتتاحي لسيكستوس والبيان لسياسته في أمر الجريمة.
وأمر البابا النبلاء بطرد فتاكم، ووعد كل قطع طريق يسلم إليه آخر حيا أو ميتا بالعفو عنه ومكافأته، أما المكافأة فتدفعها أسرة اللص الأسير أو موطنه. فذا أذاع لص منهم تحديه لأمر، أمر سيكستوس اسرته بأن يعثروا عليه ويأتوا به أو يلقوا الموت جزاء لهم. وقد ارضى دوق أوربينو البابا (32). بأن جمل بغالاً طعاماً مسموماً وأمر سائقيها بالمرور بمخبأ قاطع طريق منهم، وسرق اللصوص الحمل وأكلوا الطعام وماتوا. ولم يكن هناك أي اعتبار للمراتب الكهنوتية أو الاجتماعية، فالمذنبون من «الأسر الأولى» يعدمون دون راحة أو تأجيل، وكان بين المشنوقين قسيس خارج على القانون. وما لبث الريف أن انتشرت فوق ارجائه الجثث تتأرجح في الريح، وقال ظرفاء روما إن عدد الرءوس المقطوعة المعلقة على جسر سنتانجيلو يفوق عدد ثمار الشمام المعروضة في أكشاك السوق (33). ولغظ الناس بقسوة البابا الهمجية، ولكن السفراء أخبروه أنهم «أينما ساروا في دويلاته كانوا يجتازون بلدا رفرف عليه السلام والأمن (34)» وأمر الحبر الفخور بضرب عملة كتب عليها Noli me tangere« حذار أن تمسني». وفي غضبة مضربة للفضيلة أمر يحرق قسيس وغلام جزاء ارتكابهما اللواط، وأكره شابة على أن تشهد شنق أمها التي باعتها للبغاء. أما كل جرائم الزنى التي يكشف أمرها فجزاؤها الموت الزؤام. وكان يقبض على الناس لجرائم(29/26)
ترتد إلى تاريخ بعيد، حتى أن اعلانا جدارياً نقل عن القديس بطرس ارتعاده فرقا، مخافة أن يوجه سكستوس إليه التهمة لقطعه اذن مالخوس عند إلقاء القبض على المسيح.
على أنه في غمرة هذه المطاردة المجنونة وجد الوقت للحكم والاصلاح. فانهى حرب المصادرات التي خاضها جريجوري الثالث عشر مع الأشراف. ووفق بين عدوين قديمين هما آل أورسيني وآل كولونا غذ وحد بينهما بالزواج. ووزع الكرادلة على أحد عشر «جمهورا» جديدا من العابدين وأربعة من القدامى، وقسم بين هؤلاء وظائف الادارة البابوية. وأمر رجال الاكليروس باتباع جميع مراسيم الاصلاح الصادرة من مجمع ترنت، وطلب إلى الأساقفة نفقد الاديرة دوريا واصلاحها. وكانت عقوبة مضاجعة راهبة هي الموت للمذنبين جميعا. وقد نفخ الحياة في جامعة روما فنشطت بكامل قوتها. ورغبة في تدبير المكان الكافي للعدد المتعاظم من الكتب كلف دومنيكو فونتانا بتصميم بيت جديد فخم يضم مكتبة الفاتيكان. وأشرف بنفسه على طبعة منقحة من ترجمة جيروم اللاتينية للكتاب المقدس -وهي تضارع في روعتها الترجمة الانجليزية للكتاب في عهد الملك جيمس الأول.
بيد أنه لم يشارك اسلافه من بابوات النهضة شعور الاحترام لمخلفات الفن الوثني. فأتم هدم سبتزونيوم سيفيروس، ليوفر الأعمدة لكنيسة القديس بطرس. واقترح هدم مقبرة سسيليا ميتيللا. وهدد بهدم الكابيتول ذاته ان لم تنزع منه تماثيل جوبيتر تونانس، وأبوللو، ومنيرفا، ثم ابقى على منيرفا، ولكنه أطلق عليها اسما جديدا هو روما، واستبدل برمحها صليبا. وأخرج الشياطين مكن أعمدة تراجان وماركوس أوريليوس بان وضع فوق قمتها تماثيل للقديس بطرس أو القديس بولس واطلق اسميهما على الأعمدة. وامعانا في الرمز على خضوع الوثنية للمسيحية كلف دومنيكو فونتانا بأن ينقل إلى ميدان القديس بطرس المسلة التي جلبها كاليجولا(29/27)
من هليوبوليس وأقامها نيرون في ملعب مكسيموس. وكانت هذه الكتلة الواحدة من الجرانيت الوردي تعلو ثلاثة وثمانين قدماً، وتزن أكثر من مليون رطل روماني. وكان أساطين المعمار، من أمثال أنطونيو دا سانجاللو وميكلانجلو، وقد افتوا بأن لا طاقة لمهندسي النهضة بنقلها. واستغرق انجاز هذه المهمة عاماً كاملا من دومنيكو وأخيه جوفاني (1585 - 86). وأنزلت الآلات الضخمة هذا الأثر ونقلته، وقام ثمانمائة من الرجال تشد أزرهم الاسرار المقدسة، و 140 حصانا، يجر أربعة واربعين حبلا سمك الواحد منها كذراع الرجل، ليقيموا المسلة فوق موقعها الجديد. وغدا دومنيكو بطل روما بعد نجاحه في المهمة، أما سيكستوس فصرب الميداليات التذكارية، وأعلن النبأ رسمياً للحكومات الأجنبية. واستعيض عن الكرة التي في قمة المسلة بصليب يحوي قطعه من «الصليب المقدس» الذي مات عليه المسيح. وأحس سيكستوس أن المسيحية استعادت سلطانها بعد أن عطلته النهضة حينا.
وجدد هذا البابا الذي لم يعرف الكلل عمارة روما غير الدينية خلال بابويته القصيرة التي لم تزد على خمس سنوات، فجلب لها كمية جديدة من الماء الصالح-تغذي سبعا وعشرين عيناً جديدة-وذلك بإعادة بناء أكوا السندريا، التي أطلق عليها اسمه «أكوا فيليتشي». وطهر الهواء بتمويل تجفيف المستنقعات، وأمكنه تحقيق تقدم طيب في هذا الميدان واستصلح من الأراضي 9. 600 فدان، ولكن المشروع هجر بعد موته. وتنفيذاً لأمره شق دومنيكو فونتانا شوارع فسيحة جديدة ووفق النظام الكلاسيكي، نظام الخطوط المستقيمة، ومد طريق سيستينا وغير أسمه إلى طريق فيليتشي، وأصبحت كنيسة سانتا ماريا مادجوري الرائعة مركزاً يتسوط عدة شوارع تتفرع منه، وبدأت روما تتخذ شكلها الحديث. ولكي يمول سيكستوس مشاريعه وخزائنه التي كانت خالية الوفاض عند بتنفيذها فرض الضرائب حتى على ضروريات الحياة، ومذق العملة، وباع المناصب، وأصدر(29/28)
تأمينا بدخل سنوي يدفع مدى الحياة لقاء ما يقدم للخزانة البابوية من عطايا، وقد أدر ماليته بكفاية وعناية، وخلف خمسة ملايين كراون في خزانته عند موته.
أما شغله فكان السياسة الخارجية. فهو لم يطلق الأمل قط من إعادة إنجلترا وألمانيا إلى حظيرة الكاثوليكية وتوحيد كلمة العالم المسيحي ضد الإسلام. أعجبته كفاية اليزابيث في السياسة والحكم، ولكنه مد يد المعونة للمؤامرات التي استهدفت خلعها. ووعد بالمساهمة في نفقات الأرمادا الأسبانية، ولكنه ارتاب في تباطؤ فيليب، واشترط في دهاء أن تكون معونته رهناً بنزول الجيوش الإسبانية افترض أنهم ابيدوا عام 1572 كانوا يزحفون على باريس بقيادة هنري نافار الذي لا تقل له عزيمة. وكان فيليب الثاني يمول الخلف لينفذ فرنسا من براثن البروتستنتية ويحفظها للكاثوليكية-ولأسبانيا. وكان على سيكستوس أن يختار بين أمرين: فإما أن يترك فرنسا تنحرف إلى البروتستنتينية، وإما أن يعين فيليب على تحويل فرنسا إلى ولاية اسبانية. ولكن توازن القوى بين فرنسا وأسبانيا يدا أمراً لا غنى عنه للبابوية أن أرادت التحرر من سلطان القوى لدنيوية. وفي عام 1589 وعد سيكستوس بالاشتراك في حرب ضد هنري، ولكنه انسحب من هذه الخطة حين تعهد هنري باعتناق الكاثوليكية. وهدد فيليب بسلخ أسبانيا من واجب الطاعة للبابا، وندد يسوعي أسباني بالبابا لأنه يحرض على الهرطقة، ولكن سيكستوس لم يهتر، فاستقبل سفير هنري بالترحيب، وتبين آخر الأمر أنه على حق في ثقته بهنري، فقد استنقذت الكنيسة فرنسا؛ واستمرت فرنسا ميزان قوة ضد أسبانيا.
وكان هذا آخر انتصاراته، ولعل الجهد الذي بذله فيه أضناه. ولم يحزن على موته (1590) لا الكرادلة ولا الأشراف ولا الشعب، أما الكرادلة فقد أجفلتهم صرامته، واما الأشراف فقد أكرهوا على طاعة(29/29)
القانون برغم ما ألفوا من عادات تقدست كثيراً بحكم القدم، وأما الشعب الذي فرض عليه اقصى ما يمكن فرضه من ضرائب وأدب ليلزم سلاماً لم يألفه، فقد حاول تحطيم التمثال الذي أقيم لسيكستوس في الكابيتول، ولكن بعد أن فقد الضربات التي كلها لذعتها، استطاع الخلف أن يوازنوا بين انجازاته وبين قسوته وكبريائه وولعه بالسلطة. وفي رأي «ليكي» المؤرخ العقلاني أنه «وإن لم يكن أعظم الرجال اللذين ولوا عرش البابوية، فهو إلى حد كبير أعظم رجل دولة بين البابوات (35)».
ومن خلفائه في هذه الحقبة تفرد بالذكر رجلان. أما اولهما وهو كلمنت الثامن (1592 - 1605) فكان أقرب ما يكون إلى روح المسيحية. يقول صلى الهيجونوتي «كان بين جميع البابوات اللذين تربعوا منذ تلك الوداعة وذلك الحنو اللذين أوصي بهما الإنجيل (36)» بيد أنه رفض الرأفة على بياتريشي تشنشي (1599)، واذن لمحكمة التفتيش بحرق جوردانو برونو (1600). وأما الثاني فهو اوربان الثامن (1623 - 44)، الذي قدم المعونة أول الأمر لاسبانيا والنمسا في حرب الثلاثين سنة، ولكنه خشي أن تطوقاه حين حاولنا ابتلاع مانتوا، فاتحه بمناوراته الدبلوماسية إلى التعاون مع رشليو في استخدام جيوش جوستاف أدولف البروتستنتية لإضعاف قوة الهابسبورج. وقد سرت إليه العدوى من روح العصر العسكرية، فأخضع الشئون الدينية لمقتضيات التوسع شأن الملوك، واستولى على أوربينو وفرض عليها الضرائب الثقيلة-كما فرضها على دويلاته الأخرى-ليمول جيشاً بابوياً يعده لمحاربة دوق بارما. ولكن الجيش كان عاجزاً لا خير فيه، وخف موته المملكة البابوية «في حال من الانحلال والاعياء» كما يقول سفير بندق «بحيث يستحيل أن تقوم لها قائمة بعد اليوم (37). على أن السفير كان مخطئاً في حكمه، فقد ظهرت عناصر الانتعاش في كل مكان في الكنيسة، وشقت طريقها صعداً إلى البابوية. فالشعب الإيطالي البسيط،(29/30)
هذا الشعب الذي كان يتعزى عن شقائه الطويل بالتمسك بأهداب الدين وبالورع الخصب الخيال، ظل أفراده يقدسون مزاراتهم كما كانوا يفعلون من قبل، ويمشون خاشعين في المواكب الدينية، ويتجاذبون حديث المعجزات الجديدة، ويصعدون «السلم المقدس» على ركبهم في وجد صوفي أليم. لقد كشف قديسون كفليب نيري، وفرنسيس سيلز، وفانسان دبول، عن قدرة الكنيسة العريقة على أن تلهم أتباعها اعمق مشاعر التقوى والولاء، وهكذا نرى يسوعياً مثل الويسيوس جونزاجا يموت غير متجاوز الثالثة والعشرين وهو يخدم ضحايا الطاعون في روما (1591). لقد تقهقر الفساد والحرص اللذان ابتليت بهما الإدارة البابوية أمام هجمات المصلحين البروتستنت، وحض القديسين، والقدوة الملهمة التي أتاحها للناس أحبار كالقديس شارل بوروميو الميلاني. فنمت، ولو في شيء من التعثر، حركة الاصلاح الذاتي من بابا إلى آخر. ونفخ من جديد في الطوائف الدينية القديمة واستكثر من الطوائف الجديدة-الأوراتوريون (1564)، ومنذورو القديس أمبروز (1578)، وصغار الكهنة النظاميون (1588)، والعازريون (1624)، واخوات البر (1633)، وكثير غير هؤلاء. وأنشئت الكليات اللاهوتية في أرجاء العالم المسيحي لإعداد طبقة متعلمة من اكليروس غير منسب إلى رهبنة. وانطلق المبعوثون الكاثوليك إلى كل بد غير مسيحي، يقابلون المكاره الأخطار، ويعنون بالمرضى، ويعملون الصغار، ويبشرون بالدين. أما اليسوعيون المدهشون، الذين لا تقل لهم عزيمة، فقد تحركوا في كل مكان، يصارعون البروتستنتية في ألمانيا، ويدبرون المؤامرات السياسية في فرنسا، ويموتون في سيبل عقيدتهم في إنجلترا، ويحملون الإيمان إلى «الوثنيين» في قارات الدنيا الخمس.(29/31)
3 - اليسوعيون
أ- في أوربا
بعد أن مات دييجو لاينتز (1565)، اختارت «جمعية يسوع»، فرانتشسكو بورجا قائداً لها، وكان خلقه وسيرته علامة على جيله. فهذا الرجل الذي ولد غنياً، والذي كان حفيداً للبابا إسكندر السادس، وارتقى دوقا لجانديا ثم حاكماً لقتلونيا، والذي صاحب الملوك-هذا الرجل دخل الطائفة الجديدة عام 1546، ووهبها كل ثروته الشخصية، واكتسب مرتبة القديسين بما اتصفت به حياته من قداسة صارمة. أما خليفته ايفيرارد مركوريان فلم يترك أي أثر في التاريخ، ولكن كلوديو أكوافيفا قاد الجمعية بكثير من الحكمة والباقة خلا أربعة وثلاثين عاماً من المتاعب (1581 - 1615) حتى ليعده كثير من اليسوعيين زهاء خمسة آلاف، وحين مات كان عددهم ثلاثة عشر ألفاً.
وقد وضعت لجنة من فقهاء اليسوعيين تحت غدارته (1584 - 99) خطة للتعلم ظلت إلى عام 1836 تقرر نظام للدراسات في الكليات اليسوعية وطريقتها. فهذا النظام الدراسي الذي يتسلم الأولاد من سن الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة ويمتد ست سنوات، كان يتيح لهم ثلاث سنوات من دراسة اليونانية واللاتينية لغة وأدباً، أما السنوات الباقية فتخصص للفلسفة بأوسع معانيها، فتشمل العلوم الطبيعية والمنطق والميتافيزيقيا والأخلاق. وتجمع الشواهد على أن هذه المواد كلها كانت تدرس على نحو يدعو للإعجاب. صحيح أن الفلسفة كانت وسيطة (سكولاستيه) ولكن لم يكن عنها بديل مقبول بعد. أما الأحياء والتاريخ الدنيوي الحديث فقد أهملا إلى حد كبير كما كان الشأن في جميع مدارس العصر تقريباً، ربما لأن بساطة الإيمان الواثقة كانت تتأذى من بشاعة مشهد الصراع على البقاء بين الحيوان،(29/32)
ومن موكب الحرب الذي لا يكاد ينقطع بين بني الإنسان. لقد كانت خطة الدراسة في جملتها توفيقاً ماهراً بين العصور الوسطى والنهضة. ففي قدرة بالغة على التكيف، رحب اليسوعيون بمولد الدراما من جديد، فترجموا والفوا ومثلوا المسرحيات، واكتشفوا في المسرحيات المدرسية وسيلة حية لتعليم الكلام والبلاغة، وتقدموا عصرهم في إدارة المسرح ومشاهده. واستعانوا بالمناظرات شحذا للذكاء وقوة الحجة، ولكنهم ثبطوا أصالة الفكر في المعلم والطالب على السواء. ولقد كان هدفهم فيما يبدو إعداد صفوة متعلمة ولكنها محافظة، قادرة على القيادة الذكية العملية ولكنها بنجوة من متاعب الشكوك العقائدية، راسخة في الإيمان الكاثوليكي لا تحدي عنه قيد أنملة.
وكانت المدارس اليسوعية في جميع الحالات تقريباً بإنشائها ومنح الهبات لها السلطات الزمنية أو زعماء الكنيسة أو الأفراد الميسورون، ولكن اليسوعيين احتفظوا بالهيمنة الكاملة عليها. ومع أن بعض كلياتهم أنشئ خصيصاً لأبناء الأشراف. فإن كلها تقريباً كان مفتوحاً، دون رسوم تعليم، لاي طالب مؤهل فقيراً كان أو غنياً (38). أما المدرسون الذين كانوا عادة من رجال الطائفة فأفضل إعداداً من نظرائهم البروتستنت؛ أوفياء لمهنتهم لا يتقاضون عنها أجراً، يتيح لهم ثوب الكهنوت وتأثيره سلطاناً محترماً مكنهم من حفظ النظام دون اللجوء إلى التخويف أو العقاب البدني. وقد أرسل كثيرون من البروتستنت أبناءهم إلى الكليات اليسوعية (39) لكي ييسروا لهم، فضلا عن الإلمام السليم بالدراسات الكلاسيكية، تدريباً رفيعاً على الفضيلة وآداب السلوك وقوة الخلق. يقول فرانسس بيكون «أما الجانب التربوي فاقصر قاعدة أن يقال لك استشر مدارس اليسوعيين، لأنه لم يجرب ما هو خير منها» (40). وفي عام 1615 كان لليسوعيين 372 كلية، وفي عام 1700 كان لهم 769، وأربع وعشرون جامعة منبثة في أرجاء العالم. وفي الدول الكاثوليكية كاد التعليم(29/33)
الثانوي باسره يكون في قبضتهم، مما أتاح لهم نفوذاً هائلا في تشكيل الفكر القومي.
ثم التمسوا مسمع الملوك في طرف السلم الآخر. وقد حظر عليهم أكوافينا ان يصبحوا كهنة اعتراف للملوك، ونهاهم عن الاشتراك في السياسة. ومع ذلك فحتى في عهد أكوافينا قبل الأب كوتون دعوة هنري الرابع له ليكون مرشده الروحي، وبعد هذا وافق اليسوعيون على رأي ألمع تلاميذهم فولتير، وهو أن خير السبل لتشكيل الشعب هو تشكيل ملكه. وما أوفى عام 1700 حتى كانوا آباء الاعتراف لمئات من أبرز الشخصيات. وكان النساء على الاخص شديدات الشعور بحسن آدابهم ويتقبلهم السمح للدنيا، وبفضل تلقيهم اعترافات لنساء ذوات أهمية، استطاع الآباء الدهاة أن يصلوا إلى رجال ذو أهمية.
وإذ جهروا بنية الاختلاط بالناس بدلا من الاعتزال في الأديرة، فقد كيفوا مبادئهم الخلقية وفق طرق البشر العصية على الاصلاح. ففي رأيهم أن الأخلاق المسيحية الصارمة لم تكون ميسورة إلا للنساك والقديسين، فواقع الطبيعة البشرية يقتضي بعض التخفيف من قاعدة الكمال. ومثل هذه التوفيقات للقانون الخلقي وضعها أرسطو على نزعة أفلاطون الكمالية، ووضعها معلمو الناموس اليهود ليلائموا بين الشرائع العبرية القديمة والظروف الجديدة للحياة الحضرية. ومع أن اليسوعيين في مذهبهم - وفي تطبيقهم للمذهب عادة - يحتقرون الجسد، فأنهم فهموا الجسد، وأتاحوا له ملاذا خلقياً لكيلا يكره الخطاة على التمرد فتخسرهم الكنيسة. ورغبة في تخفيف التوتر بين ناموس المسيح وطبيعة البشر، طور اللاهوتيون من اليسوعيين وغيرهم فكرة الإفتاء - أي تطبيق التعاليم الخلقية على الحالات الخاصة. ولكن لنترك الآن هذا العلم العويص حتى نصل إلى أعدى أعدائه بليز باسكال.
ويمكن القول عموماً بأن اليسوعيين مالوا في لاهوتهم إلى الرأي السمح(29/34)
والنظرة المتحررة. كان من رأي بعضهم، كالأب ليس والاب هامل في لوفان (1585)، إنه ليس من الضروري الإيمان بأن كل كلمة أو كل تعليم في الكتاب المقدس موصى به من الله (41). وقد أكد كل اليسوعيين تقريباً المعتقد السكولاسي القائل بأن الحكومات الزمنية تستقي سلطتها من الشعب، وقد بشر عدد غير قليل منهم - مثل ماريانا وبزنباوم - بحق الشعب عن طريق ممثليه الشرعيين في أن يعزل، بل أن يقتل، الملك «الفاسد» ولكن «الفاسد» في هذا المجال كان معناه المهرطق، وربما كان مبعث هذا التشديد الديمقراطي رغبة اليسوعيين، بحكم ولائه المطلق لسيادة روما، في الإعلاء من سلطة البابا التي تفردت بالقداسة والسمو. وعلى النقيض من لوثرن آمن اليسوعيون بفعالية الأعمال الصالحة في نيل الخلاص، واستنكروا على الخطية الأصلية، وقابلوا الجبرية القائمة التي قال بها بولس، وأوغسطين، ولوثر، وكلفن، ويانسن، بالتأكيد من جديد لحرية الإرادة. ولقد أثار لويز مولينا، وهو يسوعي أسباني، ضجة لاهوتية حين زعم أن الإنسان يستطيع تقرير مصيره الابدي بإرادته وأعماله، وان اختياره الحر يمكن إما أن يتعاون مع النعمة الإلهية أو يغلبها. وطالب اللاهوتيون والدومنيكان بإدانة مولينا بالهرطقة، ولكن اليسوعيون خفوا للدفاع عنه، وحمى وطيس الجدل إلى حد دعا كليمنت الثامن إلى أمر الفريقين بالكف عنه (1596).
وتضافرت أخلاقيات اليسوعيين، الرحيمة بالقياس إلى أخلاقيات غيرهم، مع أفكارهم الراديكالية، واتصالاتهم المحافظة، وسلطانهم المتسع، لتزهد فيهم الاكليروس الكاثوليكي غير المنتسب إلى الرهبان وتثير كراهية البروتستنت لهم. فرماهم القديس شارل بوروميو بالتساهل المخزي مع ذوي النفوذ من الخطاة (42). وقال ساربي لو أن القديس بطرس كان مرشده كاهن اعتراف يسوعياً لوصل به الأمر إلى إنكار المسيح دون أن يحسب ذلك عليه خطيئة (43). أما موتيو فيتيللسكي، قائد(29/35)
اليسوعيين الذي خلف أكوافيفا، فقد نبه أفراد الطريقة إلى أن حرصهم على جمع المال يثير اللوم عليهم من جمع الناس (44). وأما القساوسة البروتستنت في إنجلترا، الملتزمون بعقيدة الحق الإلهي لملوكهم في الحكم، فقد صدمتهم آراء اليسوعيين في سيادة الشعب وقتل الملوك أحيانا. وندد روبرت فيلمر برأي الكردينال بللارميني القائل بأن «السلطة الزمنية أو المدنية .. كائنة في الشعب، إلا إذا خلعها على ملك» (45). أما البروتستنت الألمان فحاربوا اليسوعيين زاعمين أنهم «مخلوقات من الشيطان تقيأتهم جهنم» وطالب بعضهم بحرقهم كما تحرق الساحرات (46). وفي عام 1612 ظهر في بولندة كتاب «التعليمات السرية»، وهو يوهم قارئه بأنه تعليمات سرية لليسوعيين في فن الظفر بالتركات والوصول إلى السلطات السياسية. وأعيد طبع الكتاب اثنتين وعشرين مرة قبل علم 1700. وكان يصدق إلى وقتنا هذا تقريبا، ولكن أغلب الرأي فيه الآن أنه أما هجاء ذكي أو تزوير وقح (47).
ب- في الأقطار غير المسيحية
كان الرأي عند الجماهير الكاثوليكية أن أخطاء اليسوعيين لها ما يرجحها كثيرا من فضائل في التعليم وجرأة في التبشير. صحيح أن طرقا دينية أخرى شاركت في هذه المغامرة التقية، مغامرة نشر الدين، ولكن أين هذا من جرأة اليسوعيين وإقدامهم واستشهادهم في الهند والصين واليابان والأمريكتين؟ ففي الهند مثلا دعا السلطان المغولي المستنير أكبر بعض اليسوعيين إلى بلاطه في فاتحبور سكري (1579)، واستمع إليهم في حب استطلاع وتعاطف، ولكنه أبى أن يطرد حريمه. وأنضم شريف إيطالي يدعى روبرتودي نوبيلي إلى جماعة اليسوعيين، وذهب إلى الهند مبشرا (1605)، وهناك درس العقائد والطقوس الهندية، واتخذ لباس البراهمة واتبع نظامهم، وألف الكتب بالسنسكريتية،(29/36)
وحول البعض إلى المسيحية. ومارس يسوعيون آخرون اليوجا، وعملوا بين الطبقات الدنيا. وعبر المرسلون اليسوعيون الهملايا إلى التبت حوالي عام 1624 وزودوا أوربا بأول معلومات وثيقة-وآخرها حتى وقت طويل-عن ذلك العالم المحجوب.
أما اليابان فقد دخلها اليسوعيون في تاريخ مبكر (عام 1549)، وفي عام 1580 زعموا أنهم حولوا إلى المسيحية 100. 000، وفي عام 1587 امروا بالرحيل عم الجزر، وفي عام 1597 لقي اليسوعيون والفرنسسكان اضطهادا عنيفا صلب فيه القساوسة والرهبان وآلاف المسيحيين اليابانيين-وهي طريقة جديدة زعم قاتلوهم أنهم أخذوها عن الأناجيل. وحوالي عام 1616 دخلت فئة جديدة من اليسوعيين اليابان وكسبوا مسيحيين جددا لا يستهان بعددهم، ولكن التجار الهولنديين والانجليز حرضوا الحكومة على اضطهادهم من جديد ظنا منهم بأنهم يمهدون الطريق للتجارة البرتغالية أو الأسبانية (48)، فأعدم من اليسوعيين واحد وثلاثون، ولم تحل سنة 1645 حتى اختفت المسيحية من اليابان.
وأما الصين فكانت خطراً يتحدى اليسوعيين، إذ توعد الأباطرة أي مسيحي يجرؤ على دخول «المملكة الوسطى» بالموت. وقد رأينا في غير هذا الموضع من الكتاب كيف مات اليسوعي فرانسس زافير (1552) وهو قاب قوسين من الصين بعد أن عول على كسبها للمسيحية. وفي عام 1557 أنشأ التجار البرتغاليون مستعمرة في مكاو، على ساحل الصين الجنوبي الشرقي. هناك انقطع بعض اليسوعيين لتعلم لهجات الصين وعاداتها. وأخيراً دخل اثنان منهم، وهما ماثيو ريتشي وميكيلي رودجيري، ولاية كوانتونج مسلحين باللغات والفلك والرياضة والساعات كبيرها وصغيرها والكتب والخرائط والآلات. وافتتن حاكم الإقليم بهذه الطرف وكانا يتخذان أسماء صينية ولباسا صينيا، ويعيشان عيشة البساطة،(29/37)
ويشتغلان بجد، ويسلكان مسلك التواضع الذي توقعه الصينيون من أبناء حضارة حديثة العمر قليلة النضج كحضارة أوربا، لذلك سمح لهما بالبقاء. واتخذ ريتشي سمته إلى كانتون حيث أثار إعجاب المندوبين (كبار الموظفين) بمعارفه العلمية والجغرافية. وهناك أقام المزاول، ورسم الخرائط المريحة الوثيقة، وأجرى الحسابات الفلكية العويصة. ثم دخل اصدقاءه الجدد إلى حظيرة المسيحية بكتابته خلاصة مفرغة في أسئلة وأجوبة شرحت العقائد الأساسية للمسيحية، ودعمت بمقتبسات من النصوص الشرقية القديمة. وشجعه التسامح الذي لقبه فانتقل إلى ضاحية من ضواحي بكين (1601) وأرسل ساعة كبيرة إلى الأمبراطور (كانج هسي) فلما تعطلت الساعة ولم يستطع أحد من العلماء الصينيين أن يديرها من جديد، أرسل «أبن السماء» في طلب مهديها. وحضر ريتشي، وضبط الساعة، وقدم إلى الحاكم الطلعة مزيدا من الأدوات العلمية، وما لبث ريتشي وآخرون من اليسوعيين أن ثبتوا في بلاط مينج. ولم يضع الامبراطور الطيب أي عقبه في سبيل اعتناق كثير من علية الصينيين للمسيحية. وبعد موت ريتشي (1610) واصل يسوعي آخر يدعى «يوهان آدم شال فون بل» عمل البعثة العلمي والتبشيري. فاصلح التقويم الصيني، وصنع المدافع الممتازة للجيوش الصينية، وغدا الصديق الحميم للإمبراطور وموضع إكرامه، ولبس الحرير المندري، وسكن قصرا، وقامر بالسياسة، ثم ألقى في أحد السجون، ومات بعد سنة من الافراج عنه.
وقد تكون بقية القصة، التي اتصلت إلى القرن الثامن عشر، باعث تسلية لمؤرخ فلسفي النزعة. ذلك ان اليسوعيين في الصين كانوا بفضل تبحرهم في العلم، قد نفضوا عنهم تزمت اللاهوت. فحين درسوا آداب الصين الكلاسيكية تأثروا بما كشفوه فيها من حكمة سامية. وبدت لهم عبادة الصينيين لأسلافهم كأنها دافع رائع على الاستقرار الخلفي والاجتماعي، وكان في كونفوشيوس الكثير مما يبرر تبجيله. ولكن مرسلين(29/38)
آخرين شكوا إلى محكمة تفتيش روما (1645) من أن اليسوعيين يغضون من قدر الصليب وعقيدة الخلاص الإلهي لما قد يصدم الصينيين مهما إذ لا عهد لهم بفكرة البشر يقتلون إلها، ومن أن اليسوعيين يتلون القداس بالصينية دون اللاتينية، وأنهم أذنوا لمن نصروهم بأن يحتفظوا بكثير من شعائر دينهم القومي، وأن المبعوثين اليسوعيين يقتنون المال لأنهم يعملون أطباء وجراحيين وتجارا ومرابين ومشيرين للقواد والأباطرة. أما اليسوعيون فقد راعهم إصرار الدومنيكان والفرانسسكان على أن يقولوا للصينيين إن المسيحية هي الملاذ الوحيد من الهلاك الأبدي، وأن الأسلاف الذين يعبدونهم إنما يصلون نار جهنم. وأمر أنوسنت العاشر اليسوعيين بحظر قرابين اللحم والشراب التي تقدم لظلال الأجداد. وكان الآباء اليسوعيون خلال ذلك يرسلون إلى أوربا أوصافا لحياة الصين ودوينها وفكرها، وهي الأوصاف التي قدر لها أن تشارك في ازعاج السنية المسيحية في القرن الثامن عشر.
وأما في أمريكا الجنوبية فقد اكتسب المرسلون اليسوعيون احترام الوطنيين وثقتهم بفتحهم المدارس والمراكز الطبية، وبذلهم الجهود الشاقة للتخفيف من وحشية السادة الأسبان. وقد صنفوا المعاجم وكتب النحو، وارتادوا المجاهل الداخلية الخطرة، ودفعوا الجغرافية دفعة هائلة. وارسلوا إلى أوربا قشرة الشجرة البيروية التي أصبحت-في هيئة الكينين- العقار الثابت لعلاج الملاريا. وفي براجواي أنشئوا مجتمعا مثاليا شيوعيا.
هنالك في سهول الباميز والغابات التي تحف بنهر أوروجواي، وفوق الشلالات الخطرة التي ثبطت همة المستعمرين، نظموا مستوطناتهم الهندية. واذن لهم فيليب الثالث ملك أسبانيا في أن يحظروا الإقامة فيها على جميع البيض فيما خلا اليسوعيين المستعمرة. وقالوا إنهم وجدوا في الأهالي براءة ومودة- ومائتا ألف من الهنود صالحون من جميع(29/39)
الوجوه لملكوت الله». (49) فتعلموا لغة الأهالي ولم يعلموهم الاسبانية ولا البرتغالية، وثبطوا كل اتصال بالمستعمرين. واستمالوا الناس إلى المسيحية بالمحبة والرحمة والموسيقى. وأنشئوا المدارس لتعليم الموسيقى، والفوا الفرق الموسيقية التي تعزف على جميع الآلات الأوربية الهامة وتؤدي كل ألوان الالحان تقريبا، حتى المختارات من الأوبرات الإيطالية. وسرعان ما تعلم الأهالي أن ينشدوا أضخم ألحان الكورال. وقيل على التحقيق إنه في فرقة من ألف صوت لم تسمع نغمة ناشزة واحدة. وكانت فرقة الموسيقى تتقدم الناس في غدوهم ورواحهم، وتصحب جهدهم في المتاجر والحقول. واحتفل القوم بالأعياد المسيحية بالغناء والرقص والالعاب الرياضية, وألف الآباء اليسوعيون المسرحيات الفكاهية ولموا الرعية كيف يؤدونها.
ولقد هيمنوا على الاقتصاد كما هيمنوا على شئون الحكم. وأبدى الأهالي استعدادا ملحوظاً لمحاكاة المنتجات الأوربية، حتى صناعة الساعات المعقدة، والمخزمات الهفافة، والآلات الموسيقية. وكان العمل إجبارياً، ولكن للشباب الحرية في اختيار حرفهم، ويباح الفراغ اللازم للترفيه والتثقيف. أما يوم العمل فثماني ساعات في المتوسط. وحدد اليسوعيون ساعات العمل والنوم والصلاة واللعب. وكان جزء من الارض يملكه الأفراد، ولكن أكثرها ملك مشاع, ونتاج العمل الجماعي يسلم للحكومة ويفرز جزء منه للبذر او لسنوات الجدب، وجزء يؤدي فرضة رءوس لملك أسبانيا، وأكثره يوزع على العشرين الف اسرة كل حسب حاجته، ومن المسلم به أن جزءاً كان يخصص ليعول، على مستوى متواضع (50)، اليسوعيون المائة والخمسين الذي يعملون مديرين وملاحظين وأطباء ومعلمين وقساوسة. وقد حرم عليهم بمقتضى مرسوم ملكي اقترحه اليسوعيون أن يشاركوا في أرباح الاقتصاد، وطلب إليهم أن يقدموا حساباً دورياً لرئيسهم الإقليمي. أما القانون فيطبقه قضاة وشرطة من الوطنيين، وأما العقوبات(29/40)
فهي الجلد والسجن والنفي وليس فيها الإعدام. ولكل مستوطنة مستشفاها وكنيستها للتيسير على الشيوخ أو العجزة. لقد كانت شيوعية دينية، ينال فيها الوطنيون الرزق والأمن والسلام وقسطاً من الحياة الثقافية نظير قبولهم المسيحية والنظام.
من أين يا ترى استقى اليسوعيون فكرة هذا النظام العجيب؟ ربما بعضها من «يوتوبيا» مور (1516)، وبعضها من الأناجيل، وبعضها من دستور جماعتهم التي كانت هي ذاتها أشبه بجزيرة شيوعية وسط بحر يدين بالفردية. أياً كان الأمر، فقد أثبت النظام أنه محل حب الوطنيين لأنه أقيم على الإقناع دون ضغط، وحافظ على كيانه 130 عاماً (تقريباً 1620 - 1750)، وحين هوجم من الخارج دافع عن نفسه بحماسة أذهلت المهاجمين، وكان مثل الإعجاب حتى من شكاك حركة التنوير الفرنسية. يقول دالمبير «اقام اليسوعيون بالدين سلطة ملكية (؟) في برجواي، لا تستند إلا على ما أوتوا من قوة في الإقناع وترفق في الحكم. وإذا كانوا السادة المتصرفين في البلد فإنهم اسعدوا الشعب الذي حكموه.» أما فولتير فوصف هذه التجربة بأنها «انتصار للإنسانية») 51). وقد انتهى النظام بكارثة لأنه لم يستطع عزل نفسه عن العالم الخارجي فالتجار الأسبان نعوا على اليسوعيين اشتغالهم بالتجارة، والمستعمرون الأسبان كرهوا أن يحال بينهم وبين منطقة تغرى باستغلال الموارد والبشر (53). وراحت عصابات خطف الرقيق تهاجم المستوطنات اليسوعية المرة بعد المرة، وأخلى الآباء ورعاياهم الأقاليم الأكثر تعرضاً لغاراتهم. فلما أوغلت الغارات حصل اليسوعيون على إذن من ملك اسبانيا بتسليح الأهالي بأسلحة أوربية، وبعدها أمكن مقاومة الغارات بنجاح. على أن خطراً أكبر على المستعمرة كان يكمن في مجرى السياسة والفكر الأوربيين. ذلك أن الدسائس السياسية المستمرة التي تورط فيها اليسوعيون في فرنسا واسبانيا والبرتغال تضافرت مع نهضة الفكر الحر والعداء للاكليريكية لتفضي إلى طرد جماعة اليسوعيين(29/41)
من جميع الأقطار تقريبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ونشط المركيز بومبال-وهو وزير حاكم في البرتغال-نشاطاً ملحوظا في حركة العداء لليسوعيين. ففي عام 1750 رتب إبرام معاهدة بمقتضاها نزلت البرتغال لأسبانيا عن مستعمرة سكرمنتو، على مصب ريو دلا بلاتا، لقاء أراض أسبانية أبعد منها شمالا-شملت سبع مستوطنات يسوعية تضم ثلاثين ألف هندي. وراجت خلال ذلك شائعة تزعم أن بهذه الأراضي ذهبا وأن اليسوعيين يختزنوه. وأمرت السلطات البرتغالية الآباء والأهالي بالرحيل عن المستوطنات السبع خلال ثلاثين يوما. أما اليسوعيين فاشاروا بالتسليم (كما توقع الناس)، وأما الهنود فآثروا المقاومة، وردوا الهجمات البرتغالية طوال سنوات خمس. ولكن في عام 1755 جلب الجيش البرتغالي المدفعية، وذبح المئات من الهنود، أما الباقون ففروا إلى الغابات أو استسلموا، واصدر الرؤساء اليسوعيون في أوربا لمرءوسيهم الأمر بالعودة إلى أسبانيا. وهكذا اختتمت تجربة «المسيحية السعيدة» كما سماها موراتوري (53). أما قصة المبعوثين اليسوعيين في أمريكا الشمالية فهي أشهر، ويكفي أن نلم بها إلمامة سريعة لنحيط بمجال النشاط اليسوعي في هذه الحقبة. فقد دخلوا المكسيك عام 1572 وشاركوا في تحويل الوطنيين بسرعة إلى المسيحية، ولكن عبء هذه المغامرة الأكبر وقع على كاهل الدومنيكان والفرانسسكان. وترك الفرنسسكان قافلة من البعثات والهيئات اللطيفة للرهبان «المتسولين» على طول الطريق من المكسيك إلى المدينة الفاتنة التي تحمل أسم مؤسس طريقتهم. ولقي كثير من اليسوعيين العذاب وأبشع الميتات في محاولتهم ضم الهنود إلى حظيرة الكاثوليكية. من ذلك أن إسحاق يوجس شوه جسده واستبعد ثم قتل. أمان جان دبريبوف، وجابرييل لالمانت، وأنتوني دانيال، وغيرهم من اليسوعيين، فقد أحرقوا أو غلوا على النار خلال عامي 1648 - 49. قد نختلف مع هؤلاء الرجال على(29/42)
اللاهوت الذي حاولوا بثه، ولكن يجب أن نحترم إنسانيتهم وإخلاصهم، ولو لمجرد كونهما النقيض المؤسف لقسوة المستعمرين والمسيحيين وجشعهم، هؤلاء الصيادين الجلابين للرقيق، الذين شكوا من أن نشاط المبشرين الإنساني يحول دون تحضير الهنود.
4 - أيام إيطاليا ولياليها
كتب مونتيني حين رأى أهل روما عام 1581 «إنهم يبدون أقل تديناً من أهل المدن الصالحة في فرنسا، ولكنهم أكثر ولعاً بالمراسم والطقوس (54)» وكانت احتفالات أسبوع الآلام تشمل مواكب من أفراد يجلدون انفسهم حتى تسيل دماؤهم، وإذاعة قرارات الحرم البابوي، وعرضاً للقناع الذي مسحت به فيرونيكا العرق من جبين المسيح. «رأيت في عشية القيامة بكنيسة القديس يوحنا لاتيران رأس القديسين بولس وبطرس، المعروضين هناك، والمحتفظين بلحمهما، وجلدهما، ولحيتهما، كأنهما حيان (55). وكان إخراج الأرواح النجسة يمارس بطقوس شديدة الوقع في النفوس، ربما كضرب من العلاج النفسي الجماعي. ولقد تجاهلت الكاثوليكية في إيطاليا عن عمد عقول الصفوة من الناس وقدمت لجماهير الشعب ناموساً خلقياً خيراً ولكن غير مرحب به، لف في الشعر والدراما والرمزية والتنفيس والرجاء.
وشهد مونتيني بتحسن عام في أخلاق الناس، ولكن ما زالت العلاقات بين الجنسين يشوبها كثير من التراخي القديم. فقد بلغ من خلاعة المسرح الإيطالي سواء في الحركة أو الحوار أن مجلس شيوخ البندقية طرد جميع الممثلين من أراضيه (1577) (56) مع أنه كان يغضي عن البغاء. وكان الأدب الفاجر يشترى في أي مدينة كبيرة كما هي الحال اليوم في أي مكان تقريباً من العالم المسيحي. وحين اعتبر البابا بيوس الخامس اللواط جريمة كبرى جزع للقرار شباب روما من النبلاء. وقد دخل ثمانية لواطيين(29/43)
برتغاليين في زواج رسمي، فقبض عليهم وأحرقوا (57). كذلك أمر بيوس بطرد البغايا من الدويلات البابوية (1566). وشكا رجال الأعمال من أن المرسوم سيقفز المدينة، فأذن البابا لبعض المومسات بالبقاء في حي معزول، وقدم المعونة الكبيرة للنساء اللاتي حاولن الانتقال إلى مهنة أحدث عمراً. أما سيكستوس الخامس، ذلك الذي قهر قطاع الطرق، فلم يصب غير انتصارات باهظة الثمن على الغانيات، كما تشهد مراسيمه المتكررة في 1586 و 1588 و 1589.
وإذ كان الحب الرومانسي لا يزال نزوة خارج الرباط الزوجي، والزواج تزويج المال بالمال، والطلاق محظوراً بأمر الكنيسة، فقد انغمس الأزواج من أرباب الخيال في الزنى. وفكر بيوس الخامس في اعتبار الزنى جريمة كبرى. وقد ورد في تقرير بتاريخ 25 أغسطس 1568 «إن التهديد بتقرير الإعدام عقوبة على الزنى أمر متوقع، فإما أن يتمسك كل امرئ بالفضيلة أو يرحل عن المدينة.» على أن بيوس لان وقنع بعقوبات أخف: فصدر حكم على سيدة من أشراف روما بالسجن المؤبد، وجلد مصرفي بارز بالسوط علانية، ونفي الكثيرون من المذنبين غير هؤلاء.
وفي أواخر القرن السادس عشر دخلت عادة وصفاء الزوجات إلى إيطاليا من أسبانيا بطريق نابلي وميلان: فكان للزوج من علية القوم أن يأذن لصديق بان يكون وصيفا (تابعاً شريفاً) لزوجته، والظاهر أن هذه العادة نشأت في أسبانيا إبان الحروب المتكررة وطول غياب الزوج عن بيته. وكان الوصيف الفارس يخدم السيدة النبيلة منذ استيقاظها حتى نومها، ولكن العرف لم يكن قد أغضى بعد عن الزنى الذي كثيراً ما رافق هذه العادة في إيطالية القرن الثامن عشر.
أما الجريمة فقد أفرخت برغم المعوقات اللاهوتية. فكثر الفتاك في ببيوت النبلاء، ورجال العصابات في الطرق العامة، والقراصنة في البحر المتوسط، والاغتيالات السياسية والغرامية. من ذلك أن باولو جوردانوا(29/44)
أورسيني خنق إيزابللا مديتشي في فراشها كما فعل عطيل بزوجته؛ وقتل بييرو مديتشي لشبهة الزنى، وقد رأينا كيف نقل جون وبستر عن قصة فيتوريا أكورامبوني الدامية روايته «الشيطان الأبيض»، ومثل هذا سيفعله شلي مع بياتريتشي تشنشي، التي كان أبواها فرانشسكو تشنشي مضرب المثل في الرذيلة والتوحش. وفي عام 1594 حوكم بتهمة اللواط، ولكنه افلت بغرامة قدرها 105. 000 سكودي. وماتت زوجته الأولى بعد أن ولدت له اثني عشر طفلا. ثم تشاجر مع أبنائه، فغادر روما مع بياتريتشي وزوجته الثانية لوكريتسيا بتروني، وانتقل إلى قلعة منعزلة في الطرق إلى نابلي. هناك حبسهما في عليتين وعاملهما بمنتهى القسوة، ولو أننا لا نملك دليلا على وجود علاقة محرمة بينه وبين ابنته. ووجدت بياتريتشي وسيلة للدخول في علاقة غير شرعية بينها وبين حارس القلعة. وبتحريض بياتريتشي، وزوجة أبيها، وشقيقيها جاكومو وبرناردو، أو لقاء أجر دفعوه له، قتل الحارس الأب في فراشه (1598)، مستعيناً بأحد القتلة المحترفين. وقبض على المتآمرين وحكموا، فدفعوا بالاستفزاز الذي لا يحتمل، وتقدم مواطنون كثيرون بطلب الرأفة إلى كلمنت الثامن، ولكنه ابى. فقطع رأسا بياتريتشي ولوكريتسيا، وعذب جاكومو حتى الموت (58).
ومع ذلك أخذت الأخلاق تنصلح، وآداب السلوك ترق، وكان للمجتمع الإيطالي مفاتن ولطائف لا يباريه فيها غير الفرنسيين,. فاللباس عند الطبقات العليا بهاء ملون من المخمل والساتان والحرير. وحوالي هذه الفترة بدأت نساء النبلاء يؤطرون وجوههن، ويكللن رؤوسهن، ويطرحن على أكتافهن الحرير الأسود «المانتيليا» وكان زياً فاشياً في أسبانيا. وظل وجهاء القوم يلبسون الجوارب الطويلة. أما العوام والتجار الذين ألفوا الزي التركي فأخذوا يعتادون لبس السراويل. وهزأت المسرحيات الفكاهية الإيطالية بهذه العادة في شخص «بانتاليوني» الهزلي المألوف، الذي اشتق(29/45)
منه لفظاً «بانتالونز» و «بانتز» (في الانجليزية).
أما الملاهي فكانت كثيرة كما هي الحال في معظم الأقطار اللاتينية. فكان لروما كرنفالها السنوي قبل الصوم الكبير، وكانت الشوارع كما شهدها إيفلين عام 1645 «تعج بالبغايا والمهرجين والغوغاء من كل شكل «لون» (59) وكانت هناك سباقات في الكورسو، ترى فيها الجياد المغربية الفارهة، لا يمتطيها فارس ولكن تدفعها مهامز تتدلى على جوانبها، وسباقات للحمير، والجواميس؛ والشيوخ؛ والرجال العرايا، والغلمان، وكانت المسرحيات تمثل على مسارح متنقلة في الهواء الطلق. وكانت فنون الرقص والحديث والغزل تزين البيوت والحدائق والشوارع. وهل كان هناك إيطالي يجهل الغناء؟.
5 - مولد الأوبرا
لقد شارك الدين، الحب، والرقص، والبلاط، بل حتى العمل، في مولد الموسيقى. ووجد إيفلين أهل الريف الإيطالي «غاية في المرح وإدمان الموسيقى، وحتى الزراع كانوا كلهم تقريباً يعزفون على القيثارة ... ويمضون عادة إلى الحقل ومعهم كمانهم (60)» وكان لكل بلاط دوق فرقة مرتلين وقائد للعازفين في الكنيسة؛ وفي فيرارا أثار رباعي من النساء اشتهر باسم «فرقة موسيقى السيدات» الدموع في عيني ناسو وأطلق قلمه بالقوافي. ونسجت أغاني الحب الشعرية شكاواها المتعددة الأصوات، فجعلت التعبد للمرأة حتى زواجها موضع توقير يكاد يرقى إلى توقير الابتهالات الموجهة إلى والدة الإله. وانطلقت القداديس وصلوات المساء والألحان والترتيل يصدح بها ألف أرغن. وحوالي عام 1600 بدأت فرق من خصيان صغار تشنف آذان المصلين. ووصف زائر بروتستنتي موسيقى الكنيسة الكاثوليكية «التي يرتلها خصيان واصوات أخرى نادرة، تصحبهم الآلات الموسيقية، كالعود والبيان القيثاري والفيول؛ ترتيلا كاد(29/46)
يذهب بألبابنا (61) ودرب الرهبان والراهبات في فرق ترتيل تبعث الإيمان القويم حتى في الصدور المتوحشة. واجتذب أندريا جبرييلي، وكلوديو ميرولو، وجوفاني جبرييلي (ابن أخي أندريا) على التوالي ألوف المستمعين إلى كنيسة القديس مرقس بالبندقية لينصتوا لعزفهم على الأرغن ولفرقتهم الموسيقية ولفرق المرتلين التي يقودونها. وحين عزف جيرولامو فرسكوبالدي على الأرغن الكبير في كنيسة القديس بطرس احتشد ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً في الكنيسة أو من حولها ليستمعوا لعزفه. وقد أثرت ألحانه المنوعة، المعقدة بتجاربها العويصة، في دومنيكو سكارلاتي، ومهدت للتطويرات الهارمونية التي جاء بها يوهان سباستيان باخ.
وكانت الآلات الموسيقية متنوعة تنوعها اليوم تقريباً. وحوالي منتصف القرن السادس عشر بدأ الكمان، المتطور عن القيثارة، يحل محل الفيول. وكانت بريشيا مقر أول صانعين من صناع الكمان العظام، وهما جاسبارو داسالو وتلميذه جوفاني ماجيني. ويلوح أن أندريا أماني أخذ الفن عنهما وحمله إلى كريمونا؛ حيث اسلمه ابناؤه إلى آل جوارنيري وآل ستراديفاري. وقد لقيت الآلة الجديدة مقاومة من أولئك الذين آثروا أنغام القبول الأكثر نعومة ورقة. وقامت المنافسة بين الفيول والعود والكمان قرناً من الزمان. ولكن حين وجد آل أماتي الوسائل للتخفيف من حدة صوت الكمان ارتقت الآلة الجديدة إلى مقام الصدارة غير منازع، يعينها عليه ازدياد غلبة اصوات السوبرانو في الموسيقى الصوتية.
كانت الألحان لا تزال توضع للصوت أكثر منها للآلة. وإلى هذه الفترة تنتمي شخصية شاعرية هي شخصية كارلو جزوالدو، أمير فينوزا، الذي زين النبالة بالموسيقى؛ والقتل بالأغاني الشعرية. ولد في نابلي (حوالي 1560) وأصبح عازف عود ممتازاً، وتزوج سيدة عريقة المولد؛ ودبر قتلها هي وعشيقها لشبهة الزنى؛ ثم هرب إلى فيرارا، وتزوج دونا اليونورا ديستي؛ ونشر خمسة كتب من أغاني الغزل انتقلت أنغامها(29/47)
الجريئة وانتقالات طبقاتها الحادة من قوالب النهضة إلى قوالب الأصوات المتعددة الحديثة. وفي فبراير 1600 أخرج ايميليو دي كافالييري؛ في مصلى القديس فيليب نيري بروما؛ قصة رمزية شبه مسرحية، الحركة فيها للرمز فقط؛ ولكن يصاحبها الأوركسترا والرقص والخورس والمغنون المنفردون هذه الموشحة الدينية «الأوراتوريو الأولى»، سبقت أوبرا بيري المسماة «أوريديتشي» بثمانية شهور لا أكثر، وشابهتها من وجوه كثيرة. وبعد مرور جيل آخر ألف جاكومو كاريسيمي أوراتوريوات وكنتاتات أثرت تراتيلها الفردية في تطور الإلقاء الأوبري الملحون.
والتقت خطوط كثيرة أخرى من التطور الموسيقي لتخرج لنا الأوبرا، فبعض «التمثيليات المقدسة» التي خلفتها العصور الوسطى أضافت الموسيقى والغناء إلى الحركة. ففي هذه، وفي موسيقاها المعبرة عن آلام المسيح، كانت الكنيسة أما للأوبرا أو حاضنة لها كما كان شأنها في كثير من الفنون الأخرى. فقد كانت المقاطع الملحوظة المصحوبة بالموسيقى تسمع في القصور أواخر العصور الوسطى. وذكر علماء النهضة أن قطعاً من المآسي اليونانية كانت تغني أو ترتل بمصاحبة الموسيقى. وفي بلاط مانتوا، عام 1472؛ جمع إنجيليو بولتسيانو بين الموسيقى والدراما في مسرحيته القصيرة «فافولادي أورفينو أورفينو وبدأت هذه الأسطورة الحزينة تشق الآن طريقها الطويل إلى الأوبرا. كذلك شقت مسرحية الأقنعة «الماسك» التي اشتد الإقبال عليها في قصور القرن السادس عشر طريقاً آخر إلى الأوبرا؛ ولعل الباليه؛ والمشاهد المسرحية المترفة؛ والملابس الفخمة التي تراها في الأوبرا الحديثة، منحدرة من الرقص والمواكب والثياب الفاخرة التي غلبت على الحركة في مسرحيات الأقنعة أيام النهضة.
وفي أخريات القرن السادس عشر اقترح فريق من المتحمسين للموسيقى والأدب التقوا في بيت جوفاني باردي بفلورنسة أن يحيوا مسرحية اليونان الموسيقية بتحرير الأغنية من تعدد الأصوات الشديد ومن لغة القصائد الغزلية(29/48)
المفرقة المكتومة، وردها إلى ما كانوا يعتقدونه اسلوب المأساة القديمة الفردي (المونودي). فقام أحدهم وهو فنشنزو جاليلي، أبو الفلكي، بتأليف موسيقى مونودية لأجزاء من جحيم دانتي. ووضع عضوان آخران من الجماعة، هما الشاعر أوتافيو رينوتشيني والمغني ياكوبو بيري، النص والموسيقى لما يمكن أن نعده أول أوبرا واسمها «دافني»، وقد أخرجت في بيت ياكوبو كورسي في 1597) 63). وقوبل الأداء بالاستحسان الكبير حتى أن رينوتشيني دعى إلى وضع الكلمات للحن أهم، وبيري وجوليو كاتشيني إلى تأليف موسيقى اللحن، وذلك احتفالا بزفاف هنري الرابع وماريا دي مديتشي بفلورنسة (6أكتوبر 1600). و «الأوريديتشي» التي مثلت هناك هي أقدم الأوبرات الباقية على قيد الحياة. وقد اعتذر بيري عن عيوب هذا العمل المستعجل، راجيا «أن أكون قد فتحت الطريق لموهبة غيري من المؤلفين، ليتأثروا خطاي نحو هذا المجد الذي لم يتح إلى بلوغه (63)».
هذا المجد بلغه أحد الفحول في تاريخ الموسيقى، وهو كلوديو مونتيفردي. حذق العزف على الكمان في مسقط رأسه كريمونا، حتى أنه عين عازفاً للكمان في قصر دوق مانتوا وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين (1589)، وفي الخامسة والثلاثين أصبح قائد فرقة المرتلين في الكنيسة. وقد ندد النقاد تنديدا شديدا بكتبه الخمسة في الأغاني الشعرية (1587 - 1605) لما أخذوه عليها من تنافر شديد، و «نقلات شديدة التحرر»، ومتواليات هارمونية «غير قانونية»، وخروج على قواعد مزج الألحان (الكونتر بنط). كتب جوفاني ارتوزي في «مثالب الموسيقى الحديثة» (1600 - 3) يقول «هؤلاء الملحنون المحدثون يحلو لهم فيما يبدو أن يخرجوا أعظم ما يستطيعون من ضوضاء بالجمع بين عناصر لا رابط بينها اطلاقا ومجموعات متعاظمة من الأنغام المتنافرة (64)».
ووجه مونتيفر دي محاولاته المتهورة إلى الشكل الجديد الذي سمعه في(29/49)
فلورنسة، فأخرج في مانتوا أول اوبرا من تلحينه، وهي «أورفيو» أخرى (1607) يشارك في عزفها أوركسترا من ستة وثلاثين عازفا. وسجلت الموسيقى والحركة في هذه الأوبرا تقدما عظيما على أوبرا «أوريديتشي» لبيري. وفي الأوبرا الثانية التي لحنتها مونتيفردي، واسمها «أريانا» (1608) كانت الحركة أشد مسرحية والموسيقى أكثر استهواء للسامعين. وبدأت إيطاليا كلها تردد عويل أردياني التي هجرها حبيبها «دعوني أمت»، وفي توسيع مونتيفردي للاوركسترا واعادة تنظيمه، وفي تمييزه المتكرر لكل شخصية بلحن خاص، وفي افتتاحياته 0سنفونياته) التي استهل بها اوبراته، وفي تجويده للموسيقى الصوتية والألحان، وفي جمعه الحميم، المعقد، بين الموسيقى والدراما، في هذا كله سجل من التقدم الحاسم في الأوبرا ما كان يفعله معاصره شكسبير في المسرح.
وانتقل مونتيفردي في 1612 إلى البندقية قائدا للمرتلين بكنيسة القديس مرقس. ولحن مزيدا من الأغاني الشعرية، ولكنه غير من هذا اللون الآخذ في الانحلال مسرفا في العنصر الالقائي اسرافا حدا بالنقاد إلى اتهامه بأنه يخضع الموسيقى للدراما (على نحو ما سيتهم به برنيني من اخضاع النحت للدراما)، ومما لا ريب فيه أن أوبرا مونتيفردي-ككل أوبرا تقريبا- ضرب «من الباروك» الموسيقى. وافتتحت البندقية أول دار عامة للأوبرا «تياترو دي سان كاسيانو»، وفيها استمر عرض أوبرا مونتيفردي «أدوني» من عام 1639 إلى كرنفال 1640، بينما كان أوبرا أخرى له تسمى «أريانا» تشغل مسرحا آخر بين الحين والحين. فلما أخرج آخر أوبراته «تتويج البابا» (1642) اغتبطت إيطاليا لأنها رأت أنه ما زال في عنفوانه رغم بلوغه الخامسة والسبعين (شأن فردي الذي أخرج «عطيل» وهو في الرابعة والسبعين). وبعد عام مات تاركا دنيا الموسيقى بعد أن أن الهمتها وجددت شبابها ثورته الخلاقة.(29/50)
6 - الآداب
يدهش المرء حين يرى إيطاليا جياشة بالعبقرية في كل ميدان، حتى في فترة الاضمحلال المزعوم هذه. لقد كان عصراً مثمراً في الأدب الإيطالي كما وتوقدا، ولا يحول بيننا وبين انصافه هنا سوى الافتقار إلى الوقت والحيز والمعرفة.
كان طبيعياً أن يضمحل العلم الإيطالي بعد ما لحق الهام النهضة من كلال؛ فما كان في الإمكان أن يمضي الناس في الكشف من جديد عن اليونان والرومان إلى ما شاء الله. لذلك ترك الاهتمام بالآداب إلى الأكاديميات الأدبية، التي كانت محافظة بحكم نظامها. وكان لكل مدينة تقريباً في إيطاليا معهد أو جماعة منقطعة لبث الآداب وتبادل الشعر في حماسة. وقد سبقت أكاديمية كروسكا (أي الهيثم) التي أنشأت بفلورنسة عام 1572، الأكاديمية الفرنسية إذ صنفت قاموساً للغة (1612 وما بعدها) وحاولت تنظيم الأسلوب والذوق الأدبيين.
أما المؤرخون الإيطاليون فكانوا خيرة مؤرخي العصر. وقد رأينا كتاب ساربي الناري «تاريخ مجمع ترنت». كذلك أخرج الكردينال جويدو بنتيفوليو تاريخاً للثورة في الأراضي المنخفضة مشرباً بروح التعاطف الشديد. وكان من الجائز أن ينتج المزيد، لولا أنه مات في مجمع الكرادلة في اللحظة التي بدأ اختياره للبابوية قاب قوسين. وقد أفضى إلى موته، كما يقول نيكيوس اريتراوس، شخير كردينال في الحجرة المجاورة حرمه النوم إحدى عشرة ليلية متعاقبة (65). ومؤرخ آخر هو الكردينال شيزاري بارونيوس صنف تاريخاً ضخماً للكنيسة (الحوليات الكنسية 1588 - 1607) يقع في اثني عشر مجلداً من القطع الكبير زاده العلماء بعد ذلك إلى ثمانية عشر. وكان حكم رانكيه عليها أنها عاطلة من التشويق (66)، ولكن جيبون وجد فيها عونا له، وقد بذل الكردينال جهداً مشكوراً(29/51)
ليكون منصفاً، فقال «سأشعر بالحب الصادق للرجل الذي يصحح أخطائي بكل صرامة وقسوة (67)»، وتكفل إسحاق كازوبن بهذه المهمة، ولكنه اقلع عنها بعد أن كتب مقدمة ناقصة في ثمانمائة صفحة من القطع الكبير.
وأما المسرح فقد زكا، ولكن الدراما اضمحلت. فقل من التمثيليات الباقية الذكر ما ألف، ولكن كثر ما أخرج منها، وأخرج بسخاء في المناظر وبراعة في التمثيل جعلت اينيجو جونز يعجب ويتعلم. واشتد الطلب على الممثلين الإيطاليين في القارة طولا وعرضا. وبينما كانت أدوار النساء يقوم بها الغلمان في المسرح الإنجليزي، كانت النساء يؤدينها في إيطاليا. كان الناس يعبدون الممثلات؛ وقد كتب تاسو سونيتة لأيزابللا أندريني، التي لم تكن ممثلة جميلة فحسب، بل شاعرة لا بأس بها وزوجة فاضلة كذلك.
وتطالعنا في هذا العصر تمثيليتان ممتازتان؛ من جهة لأنهما أرستا لوناً جديداً على المسرح-وهو الدراما الرعوية. وقد أعطاها تاسو دفعة بتمثيليته «أمينتا» (1573)، أما جوفاني باتيستا جواريني فقد أخرج مثلها الكلاسيكي في درامته «الباستور فيدو» (الراعي الوفي) (1585). قال تاسو «إذا لم يكن قرأ أمينتا فهو لم يبزها (68)» وقد وبخه الكردينال بللارميني لما في التمثيلية من إباحية، وقال أنها ألحقت بالعالم المسيحي من الضرر فوق ما ألحقته كل هرطقات لوثر وكلفن؛ على أن البحث الدءوب لم يعثر على منظر أكثر وقاحة من منظر كورسيكا الجميلة وهي تقدم «تفاحتي» صدرها لسيلفيو الذي لا يقدرهما، وهو صياد «يفرح بحيوان واحد يصيده ... أكثر من فرحته بكل حوريات البحر (69)» وإذا أستثنينا سيلفيو هذا وجدنا في المسرحية - ككل شعر هذه الفترة الإيطالي تقريباً - حرارة في الحس تصهر الحياة كلها في الحب. وتتجلى الحركة في ضرب من «الأركاديا» الرعوية، في ذلك «العصر الذهبي الجميل، حين كان اللين غذاء الناس الأوحد»، فلا رذيلة، ولا حزن يلوث الإنسان، أما(29/52)
الحب فخلو من كل لوم وقيد (70). وتضافرت «أمينتا» ودرامة «الراعي الوفي» هذه، وتمثيلية مونتيمايور «ديانا العاشقة»، وتمثيلية سدني «أركاديا» وتمثيلية فلتشر «الراعية الوفية» لتطلق نصف جمهور القراء الأوربيين ليسرحوا في المراعي.
وقد عد كرستشمبيني من ناظمي السونيتة 661 في إيطاليا لم يعيهم العثور على قواف رنانة لقصائدهم المغايرة قليلا لسونيتات بترارك (71). ومن أروع سونيتات العصر ما كتبه كامبانللا وبرونو، وكأنه شرار نفثه نار فلسفتهما. وقد هجا الساندرو تاسوني كتاب السونيته وعشاق بترارك وماريني وتاسو في قصيدة من عيون الشعر الإيطالي تدعى «الدلو المسروق». وأبى الناشرون أن ينشروها لأن ضحيتها كان نبيلا ذا سطوة، ولكن الطلب عليها اشتد حتى لقد أثرى النساخ بنسخها وبيعها بسعر ثمانية كراونات للمخطوطة، وأخيراً طبعت في فرنسا وهربت إلى إيطاليا. ولم يفتتن القراء الإيطاليون بما في تعليقاتها اللاذعة من ذكاء وحدة فحسب، بل بفواصل من الشعر المصفى تخللت ذلك المرح الصاخب - قصة غرام أنديميون مروية جنباً إلى جنب تقريباً مع صورة لعضو في مجلس الشيوخ يسافر إلى الجنة على كرسي مرحاض.
ولم يبز تاسوني فيما حظي به من استحسان في هذه الحقبة سوى شاعرين إيطاليين - هما تاسو وجوفانيباتيستا ماريني. أما جيوفاني فقد ولد في نابلي ونشئ ليكون محامياً، ولكنه هجر المرافعات إلى القوافي، واستمع حيناً بحياة التشرد. ثم منحه المركيز مانسو حجرة في قصره مغتفراً له إباحية شعره الغنائي، وهناك استطاع الفتى أن يشهد، على بعد خاشع، تاسو المحزون المشرف على الفناء. ثم القى به السجن لأنه ساعد صديقاً على خطف فتاة، ولما افرج عنه مضى إلى روما، حيث عينه الكردينال السمح بيتترو ألدوبر اندينو سكرتيراً خاصاً له. ثم اصطحبه الكردينال إلى تورين وهناك أخذه منه شارل ايمانويل دوق سافوا. وراح ماريني يرشف حيناً ما في حياة البلاط من خمر وخل.(29/53)
وتهكم بشاعر منافس يدعى جسبارو مورتولا، كمن له في الطريق، وأطلق عليه النار، ولكنه أخطأ وأصاب خادماً من خدم الدوق. وحكم على مورتولا بالإعدام، ولكن ماريني حصل له على العفو، وناله أشد النكران من غريمه. وبعد أن سجن ماريني عقاباً على هجائيات موجهة ضد أصحابها توجيهاً مكشوفاً، قبل دعوة من ماري مديتشي ليكون زينة بلاطها في باريس (1615). ورحب به الإيطاليون في حاشيتها باعتباره الصوت المعبر عنهم فرنسا، وكان محل الإعجاب الشديد، وتلقى وظائف شرفية دسمة، واجزل له النبلاء والنبيلات المال ثمناً لنسخ من ملحمته «أدوني» قبل نشرها, ووجدت نسخة منها طريقها إلى الكردينال بنتيفوليو، فناشد ماريني أن ينقي القصيدة من فقراتها الفاجرة، ولا ندري إلى أي حد حاول المؤلف ذلك. ونشرت أدوني بباريس في 1623، وأدرجت في قائمة الكتب التي تحرمها الكنيسة، واصبحت البدعة الفاشية في إيطاليا والموضوع الذي تلوكه الالسن. وحين عاد ماريني إلى نابلي (1624)، رمى قطاع الطرق عربته بالورد، وخرج النبلاء لمرافقته، وهفت الحسان إليه من شرفاتهن. ولم يمض عليه عام حتى مات غير متجاوز الثانية والخمسين وقد بلغ ذرى الثروة والشهرة.
أما أدوني هذه فقصيدة من عيون الشعر حتى في بلد يكاد الشعر أن يكون فيه كالغناء سجية وطبعاً. وطولها يوقفنا - الف صفحة بها 45. 000 بيت. أما أسلوبها فمستغرق في كل الاعيب الكلام التي أطربت لايلي في إنجلتره، وجويفاره وجونجورا في إسبانيا، وبعض «متحذلقات» الأوتيل درامبيوييه في فرنسا؛ لقد كان التأنق اللفظي جزءاً من وباء أوربي. وكان لهذا الإيطالي الماهر غرام بالألفاظ يكاد يكون شهوانياً، فراح يقذف بها في مفارقات رنانة، وأخيلة غريبة، وإطنابات بارعة، بل في نكت وتوريات رشيقة. ولكن الجمهور الإيطالي في القرن السادس عشر بما طبع عليه من تدفق بالحديث الحار، لم يسوءه هذا الولع بحيل الألفاظ وألاعيبها.(29/54)
وأي بأس بهذه الألاعيب اللفظية في عصر كان انشودة تسبيح للجنس في شتى صوره - العادي منه والوحشي، والشاذ، والحرام؟ هنا رويت اساطير هيلاس الغرامية في رقة وظرف، هنا يلهو مارس وفولكان مع أفروديت، وهنا زيوس يغوي جانيميد، ومفاتن جسم الرجل هي حديث القوم السائر. وحاسة اللمس يشاد بها لأنها المصدر المدهش لألذ مباهج الإنسان. وها تتغزل النساء والرجال والوحوش في أدونيس البطل الذي حبته الآلهة حسن الصبايا كله، وتتودد إليه فينوس بحيلها الناعمة، ويحاول زعيم عصابة أن يجعل منه محظيته، وينتهي أمر الفتى المحبوب حباً يوقفه موقف العاجز، بأن يجرح في أصل فخذه جرحاً مميتاً اصابه به خنزير بري مدفوعاً بأحر النيات الغرامية. ترى هل كان هذا التركيز المخنث على الجنس تفريجاً وملاذاً من الغلو في الدين والإفراط في تسلط الأسبان؟
7 - تاسو
توافر لتوركواتو تاسو الكثير من المغريات بالشعر. ولد في سورنتو (1544) حيث البحر ملحمة، والسماء أغنية، وكل ربوة من الأرض انشودة. وكان أبوه برناردو شاعراً، وموظفاً في البلاط، وإنساناً مرهف الحس مشبوب العاطفة، تآمر على الحكم الأسباني، ونفي في مملكة نابلي (1551)، وجاب الأرض من بلاط إلى بلاط تاركاً وراءه زوجته وولده في عوز وضنك. وتنتمي أمه بورنسيا دي روسي إلى اسرة توسكانية عريقة تجري الثقافة في عروقها. ودرس الصبي ثلاث سنوات في مدرسة لليسوعيين بنابلي، فشرب اللاتينية واليونانية في جرعات تحطم الأعصاب، ودرب على التقوى العميقة التي اثارت فيه الرجفة اللاهوتية تارة؛ ووهبته السلام الذي يجل عن الوصف تارة اخرى. وفي العاشرة لحق بأبيه في روما، وتركه موت أمه بعد عامين شديد التأثر طويل الحسرة. ثم رافق اباه إلى أوربينو والبندقية، وهناك نشر برناردو قصيدته «اماديجي» (1560) التي حكى فيها بالشعر قصة غرام من العصر الوسيط.(29/55)
وكان توركواتو نفسه يجيش الآن بالشعر .. أرسل إلى بادوا ليدرس القانون، ولكن قدوة أبيه كانت أقوى من مبادئه، فأهمل الفتى درس الشرائع وراح ينظم القوافي، وكان منذ أمد بعيد قد وقع أسيراً لسحر فيرجل. فعزم الآن على أن يطبق الأسلوب المانتوي الرفيع الجاد على اساطير الفروسية التي عالجها أريوستو علاج المازح العابث. وهكذا فاجأ أباه برواية في اثني عشر قسما «رينالدو». وكان شعور برناردو مزيجاً من الحزن والابتهاج، فقد تكشف له ما سيلقاه من صروف الأيام شاعر لا يملك غير عبقريته، ولكنه طرب لرؤية ولده الذي لم يجاوز الثامنة عشر ربيعاً ينافس أشعر شعراء العصر رقة وخيالا. ونشرت الملحمة الصغيرة بأمره (1562). واغتبطت نفسه بما لقيت من استحسان، فأذن لتوركواتو بأن يهجر دراسة القانون في بادوا ويستبدل بها الفلسفة والأدب في بولونيا. وهناك أثارت موهبة الفتى المتاعب، لأنه كتب «الأبجرامات» اللاذعة في مدرسيه، فهددوه برفع دعوى القذف ضده، وعاد من فوره إلى بادوا.
وأقنع برناردو الكردينال لويجي دستي، أخا الدوق الفونسو الثاني أمير فيرارا، بأن يستخدم توركواتو سكرتيراً له (1565 (. والتحق الشاعر مغتبطاً بهذا البلاط الذي كان يعد يومها أينع زهرة في بستان الثقافة الإيطالية. هناك القى مجتمعا يزخر بالموسيقى والرقص والأدب والفن والدسائس والحب. وافتتن تاسو بأختين للكردينال، لوكريتسيا المتغطرسة الجميلة بنت الواحدة والثلاثين، وليونورا، بنت التسعة والعشرين، المعلولة التقية التي جعلتها مشاجراتها مع الفونسو معبودة البلاط. وتروي الأساطير (كما نقرؤها في مسرحية جوته وفي قصيدة بايرون «عويل تاسو») عن الشاعر وقوعه في غرام ليونورا، وما من شك في أنه طارحها القصائد المشوبة كما اقتضى العرف، وفي أن السيدتين قبلتاه في صداقة طوقت بهالة النبالة، ولكن إحداهما كانت تكبره بأحد عشر عاماً، والاخرى بتسعة أعوام، ويبدو(29/56)
أن واحدة منهما لم تمنحه شيئاً أدفأ من اذنيها. ولم يتزوج تاسو قط، إذا لم يكن في وسعه أن يعشق إلا الأميرات فلم يكن في وسعهن الزواج إلا من ذوي اليسار. ولعله خشي مطالب الزواج وقيوده، فقد جمع بين ضعف الثقة في قدرته، والتيه بشعره.
وفي عام 1569 مات أبوه وهو لا يملك شروى فقير، واضطر تاسو إلى الاستدانة ليدفنه. وبعد عام اصطحبه الكردينال دستي إلى باريس، فجزع حين وجد شارل التاسع يخالط زعماء الهيجونوت في لطف وود، وجاهر بنقد الحكومة على انسجامها مع المهرطقين. أما الكردينال الحريص على رضاء الملك فقد رد سكرتيره المتعب إلى إيطاليا. ولم يغتفر له تاسو هذه الفعلة قط.
وعزى ألفونسو الشاعر بأن ألحقه ببيته وأجري عليه معاشاً سنوياً دون أن يحمله من المسئوليات شيئاً غير أن يهدي الدوق الملحمة التي عرف أنه يكتبها عن الحرب الصليبية الأولى. تلك كانت سنوات سعيدة بالقياس إلى غيرها. ففي صيف عام 1573 أنجز في بلاط درامته الرعوية «أمينتا»، وقد أثلج صدره ما لقيت من نجاح. فسادة فيرارا وسيداتها الذين كانوا يعيشون على استغلال الفلاحين انتشوا حين رأوا نعيم الريفيين-على المسرح. وأطربت كل وجهاء البلاط صورة العصر الذهبي الذي كانت فيه كل الأشياء السارة حلالا وخيراً:
لك الله أيها العصر الذهبي الجميل!
لست جميلاً لأن أنهارك كانت تفيض لبناً،
ولا لأن أشجارك كانت تقطر مناً،
بل لأن ذلك الألم الكاذب الذي خلقناه لانفسنا،
وصنم الخطيئة، ذلك المحتال المعبود،
وذلك الشرف-الذي سمته كذلك عقول العوام المرتاعة-،
لم يكن قد استيد بطبيعتنا بعد،(29/57)
ليكن قد جاء ليكدر صفو الحظيرة الحلوة السعيدة،
حظيرة البشرية الوادعة،
ولا قيد ناموسه القاسي نفوساً ربيت على الحرية،
بل كان هناك قانون جميل،
قانون ذهبي سعيد،
خطته يد الطبيعة:
«كل لذيذ حلال» (73)
ولكن جرأة الروح غير المعهودة فيه فارقته حين وجد نفسه ينهي ملحمته «أورشليم المحررة» (1574). لقد كان هذا الجهد ذروة جهود حياته، ولو أن الكنيسة أدانته بالإباحية أو الهرطقة لودع السعادة إلى الابد وفي رهبة وخوف بعث بمخطوطته إلى سبعة نقاد مستفتياً في حبكة القصيدة وشخوصها ولغتها وآدابها. وقد بلغ نقدهم لها من الكثرة ما جعله يلقي القصيدة جانباً لأنه لم يعرف كيف يرضيهم جميعاً. فظلت محبوسة عن النشر خمس سنوات. إنه وهو عليم بأنه كتب رائعة اشتط في مطالبه من النقاد ومن الحياة. وقد اعترف بأنه «لم يطق العيش في مدينة لا يخلى نبلاؤها مكان الصدارة له، أو على الاقل يسوون بينه وبينهم مساواة مطلقة». ولا ريب أنه كان يستحق هذه المساواة، ولكنه اضاف انه «كان يتوقع أن يعبده الأصدقاء، ويخدمه الخدم، ويعانقه أهل البيت، ويكرمه السادة، ويحتفل بذكره الشعراء، ويشير إليه الجميع بأصابعهم» (74) وكثرت في فيرارا فئة تنقد شعره، وخلقه، ودعاواه. فبدأ يحلم بمكان ألين في قصور ألطف وأرق.
كانت المنغصات البدنية والنفسية قد هزت أعصابه: حمى الملاريا، ونوبات الصداع المتكررة، والصدمات المتراكمة إثر نفي ابيه، وموت أمه، وإملاق أبيه وهو مشرف على الموت، يضاف إلى هذا كله أن الشكوك اللاهوتية التي ساورته - شكوك الجحيم والخلود، والوهية المسيح - ألقت على عقله ظلاً ثقيلاً من الإحساس بالإثم ودفعته إلى الاكثار من(29/58)
الاعتراف وتناول الأسرار (75). وقد وقر في نفسه أنه مارس قوة السحر الاسود (أي الشيطاني)، وتراء له الرؤى المرعبة عن الدينونة الاخيرة، وشهد الله يسوق الهالكين إلى النار الابدية (76). وأنتابه أوهام الاضطهاد - فخامرته الظنون في افشاء الخدم لأسراره، واعتقد أن أمره أبلغ لمحكمة التفتيش، وتوقع كل يوم أن يدس له السم. لقد كان ضيفا عسير الارضاء (77).
ولكن الفونسو ترفق به؛ وذلك أن أروع قصائد العصر - برغم كل شيء أهديت إليه وافردت نصف قسم منها (السابع عشر) للإشادة بنسبه. فأعفى الشاعر من الحضور إلى البلاط، وأرسله إلى فيللا بلريجواردو اللطيفة ليعينه على التغيير والسكينة. ولكن صبره نفد حين وجد أن تاسو يتفاوض خفية مع فرانشسكو مديتشي - أقوى منافسي الفونسو واعدى أعدائه - ليقبله متقاعدا بمعاش في بلاط فلورنسة. وفي نوفمبر 1575 غادر الشاعر فيرارا زاعما أنه ذاهب إلى روما لينال غفران اليوبيل. ومضى إليها، ولكنه عرج على فلورنسة مرتين في الطريق. على أنه ل يقع من نفس الدوق الكبير موقعا حسنا، وكتب فرانشسكو إلى صديق له (4 فبراير 1576) يقول «لست أدري هل أدعوه إنسانا مجنونا أم ذكيا مسلياً»؛ وبعد عام قرر أنه «ليس في حاجة إلى وجود رجل مجنون في بلاطه» (78) وقفل تاسو إلى فيرارا كسير الخاطر محزونا.
وطلب إلى الفونسو أن يعينه في وظيفة المؤرخ الرسمي للبلاط، فنال الوظيفة. وفي يناير 1577 مثل أمام محكمة التفتيش في بولونيا واعترف بأنه ارتاب آثما في العقيدة الكاثوليكية، وأعادته المحكمة بكلمات من المواساة والتشجيع. وفي يونيو من ذلك العام، بينما كان في مسكن لوكريتسيا دستي، شهر سكينه على خادم أثار شبهته، فأمر الفونسو بحبس الشاعر في حجرة بالقلعة، ولكنه أفرج عنه بعد قليل وأخذه إلى بلريجواردو. كتب تاسو يقول ان الدوق عامله «وكأنه أخ له لا أمير عليه» (79). وطلب(29/59)
الشاعر أن يرسل إلى دير القديس فرنسيس، فأمر الفونسو بارساله إليه، وأوصى بأن يعطي مسهلا. وخضع تاسو، ولكن ثائرته ثارت في الدير، فاتهم الرهبان بأنهم يغشون نبيذه، وطلب الرهبان اعفاءهم من وجوده. فرد إلى قلعة الدوق ووضع تحت الحراسة. ولكنه هرب متخفيا في ثوب فلاح، وضرب في الأرض سيرا على قدميه وحيداً عبر الأبنين حتى بلغ بيت أخته كورنيليا في سورنتو. فاستقبله بحنان مشرب بالمحبة.
وكان ممكنا أن يظفر بشيء من صفاء الذهن والسعادة هناك لولا قلقه على مصير القصيدة العظيمة التي ما زالت محبوسة عن النشر والتي خلفها وراءه في فيرارا، ولعله بعد أن طال إلفه لحياة القصور افتقد أسباب الراحة التي صاحبت شدائده، فذهب إلى روما ورجا سفير فيرارا أن يتشفع له عند الفونسو. وأرسل الدوق مالا للعناية به ووافق على عودته شريطة أن يتعهد بالتزام الهدوء والحضور للعلاج الطبي. وحين وصل إلى فيرارا (1578) أعطي مسكنا خاصا خارج القصر، وزود بخادم، ووافوه بالطعام من مائدة الدوق. وقبل تاسو المسكنات والمسهلات طائعاً، وواصل كتابة الشعر الرائع. ولكنه كان يأمل في العودة إلى مكان الحظوة في البلاط، فوجد بدلا من هذا كل إنسان تقريبا يعامله كأنه مجنون. ولم يعد الدوق ولا الأميرتان يسمحون له بمجالستهم. أما شر الاهانات فأمر الفونسو بأن تؤخذ مخطوطات الشعر منه، ومن بينها «أورشليم» مخافة أن يتلفها.
وفي يونيو 1578 هرب تاسو مرة أخرى من فيرارا، وذهب إلى مانتوا وبادوا والبندقية وأوربينو وتورين. وهناك أكرم الدوق شارل ايمانويل مثواه، وبذل له كل اسباب الراحة التي عهدها في فيرارا. ولكن ما مضت ثلاثة أشهر حتى التمس الشاعر القلق من الفونسو أن يرده، ربما حرصا منه على استرداد مخطوطاته. ووافق الفونسو، وفي فبراير 1579 أسكن تاسو مرة أخرى قصر الدردينال لويجي دستي. ولكن الفونسو،(29/60)
التواق إلى وريث كان يتزوج للمرة الثالثة، ولم يكن ليعير الشعراء أذنه، ولم يدع تاسو إلى الحفلات. وظل أسبوعين يحتمل هذا الإغفال مغيظاً محنقاً، وأخيراً غادر مسكن الكردينال (12 مارس 1579)، واقتحم قصر بونتيفولي وهو يصيح مهاجما الدوق، والدوقة الجديدة، وجميع الحاشية. وجرى إلى القلعة، مصرا على لقاء الدوقة واستعادة مخطوطاته. وأمر الدوق بايداعه مستشفى قريبا لمرضى العقول يدعى سانتانا، وهناك ظل حبيسا أكثر من سبع سنين.
لم يكن مجنونا جنوناً مطبقاً. فقد كانت له أويقات صفاء كتب فيها الشعر واستقبل الأصدقاء. وزعم مونتيني أنه زاره. ووفدت عليه سيدات من البلاط ليطيب خاطره، واصطحبته لوكريتسيا مرة لبيتها في بلفديري، ولكن عنفه روعها فرد إلى المستشفى بناء على طلبها. لقد كان العقل المحطم نهبا لرعب كتقطع تثيره هلوسات بأصوات أشباح يسمعها، وبأرواح علوية تغزو حجرته وتسطو على قصائده.
وأخيرا نشرت ملحمته. ذلك أن المحتفظين بمخطوطاتها أرسلوها للناشرين بعد أن علموا أن قراصنة الكتب نسخوها (1580). وظل النقاد يتسقطون الأخطاء فيها، ولكن إيطاليا استقبلتها استقبالا حماسيا، وأطرى رجال الكنيسة موضوعها وتقواها. وتتابعت طبعات القصيدة، وبيع منها في يوم واحد ألفا نسخة، ورددت البيوت والقصور أنغامها، واختلف الناس في أمر تاسو، أيضعونه في صف أريوستو أم في صنف بترارك. وفضل فولتير القصيدة على الالياذة وهو على ما نعلم من بعد عن التحيز للمسيحية (80). أما اليزابث ملكة إنجلترا فبعد أن استمعت إلى أجزاء منها مترجمة إلى اللاتينية حسدت دوق فيرارا على أنه عثر على هوميروس يخلد ذكره (81).
ونستطيع إذا همزنا حاستنا التاريخية أن نبدأ في فهم السبب في استجابة أوربا بهذه الحماسة لهذه القصة المثيرة- قصة الحرب الصليبية الأولى.(29/61)
لقد رحبت بها باعتبارها ملحمة العالم المسيحي التي طال انتظارها ومست الحاجة إليه. ذلك أنه حين بدأ تاسو قصيدته كانت أوربا تحشد الأسطول الذي التحم بالأتراك في ليبانتو. ودارت رحى المعركة الهائلة بينما الشاعر ينظم ملحمته، وكسب الأوربيون المعركة، ولكن انتعاش الأتراك السريع كان يهدد أوربا، لا سيما إيطاليا، وتعرضت روما، معقل المسيحية، للخطر والقصيدة تكتمل. وساد الخوف من الاسلام أرجاء العالم المسيحي إذ ذاك، كخوف أوربا اليوم من شرق نفخت فيه الحياة من جديد. وفي هذا الجو قرأ الرجال والنساء في شعر يأخذ بالألباب قصة تشدد عزائمهم إذ تحكى كيف قاد جودفري أمير بويون في 1099 جيشاً مسيحياً ظافراً برغم ما لحقه من ضربات واستولى به على أورشليم.
وهكذا يبدأ تاسو قصيدته متفاخرا، ذاكرا عبارة فيرجل» Arma virumque cano« ومتحدياً إياها، «أني اتغنى بذكر الجيوش الصالحة والقائد الذي حرر قبر المسيح العظيم». وهو يناشد ربة الشعر أن تلهب صدره بحماسة من السماء، ويهدي قصيدته إلى الفونسو، الأمير الهمام الذي أنقذه من زعزع الخطر وهيأ له مرفأ طيبا. ويرسل الله رئيس ملائكته جبريل ليأمر جودفري بأن يحزم أمره ويزحف قدما على أورشليم. وحين يدنو المسيحيون من المدينة يأمر حاكمها التركي علاء الدين رجاله بأن ينقلوا تمثالا للعذراء من كنيسة مسيحية إلى جامع للمسلمين، مؤمنا بأن التمثال سيجلب النصر لمالكه. على أن التمثال يسترد فيخفيه للمسيحيون، ويأمر علاء الدين بذبح كل من بقي بأورشليم من المسيحيين. وتقدم العذراء سوفرونيا نفسها قرباناً عن شعبها، وتخبر علاء الدين كذباً أنها سرقت التمثال وأحرقته، فيحكم بحرقها. على أن حبيبها الذي لا تبادله الحب، أوليندو، يحاول افتداءها ويزعم انه المذنب، فيحكم عليهما جميعاً بالموت، ولكن البطلة المسلمة كلوريندا تنقذهما. ويدعو بلوتو رب العالم السفلي مجمعاً من أتباعه للنظر في طرق هزيمة المسيحيين الذين يحاصرون المدينة،(29/62)
فيقع اختيارهم على أرميدا الحسناء أداة لتنفيذ خطتهم، وهي عذراء دمشقية ذات قوة سحرية. ويقع رينالدو وغيره من الفرسان في فخ حديقتها المسحورة، ويرتاح رينالدو بين ذراعيها. أما تانكرد، الفارس المسيحي المثالي، الشهم الهمام، فيعجب بشجاعة كلوريندا ويقع في غرامها برغم حواجز العقيدة. وفي جزء من أجمل أجزاء القصيدة (12) تختفي كلوريندا وتقاتل تانكرد حتى تقتل، ثم تتوسل إليه وهي في النزع أن يدخلها في دينه. ويرسل جودفري الجند للعثور على رينالدو والفرسان المفقودين، فيكتشفون قلعة أرميدا، ويتجنبون «الحسان العرايا» اللاتي يسبحن في بركتها، ويحررون الأسرى. وتغضب أرميدا لهجر رينالدو لها، فتعرض نفسها مكافأة لمن يقتله. ويضطلع تسيفرنيس بالمهمة، ولكن رينالدو ينفذ رمحه فيه. وتنوي أرميدا الانتحار، لكن رينالدو يثنيها عنه بحب متجدد، فترتضي اعتناق المسيحية، وتستسلم له بعبارة مريم العذراء «هوذا أنا أمة الرب». ويتسلق المسيحيون الأسوار، ويذبحون جيش المسلين، ويقدمون الشكر لله. ولكن القصة لا تسترسل إلى ذكر حرق اليهود.
كان أريستو يرمق قصة الفروسية بابتسامة ساخرة. أما تاسو فقد احياها بملء الجد، واضاف سحر العصر الوسيط ومعجزاته إلى الجهاز الكلاسيكي- جهاز الأرباب التي تتدخل في الأحداث. وكانت الحركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي قد قمعت حيناً روح الفكاهة الإيطالي القوي. والافتقار إلى الفكاهة مهد لجنون تاسو، فالكون يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد الخالص. ولكن تاسو في ملحمته هو الإيمان غير منازع، والعاطفة لا مخفف لها. وهو يزين القصيدة بأخيلة جعلت جاليلو يشبهها بمتحف من الغرائب (83)، ويكتب نقداً غاضباً على هامش نسخته (84). والتقليد في الملحمة واضح: تقليد هومو في مناظر القتال، وفيرجل في زيارة الجحيم، واريوستو في الغراميات، وفيرجل ودانتي وبترارك في الأفكار وفي أبيات بأسرها. أما السحر فصبياني، وأما الأمازونيات فغير معقولات. ولعل ملحمة «أورشليم»(29/63)
ليست ضريباً في عظمتها للإلياذة، ولا آخذة بالألباب كالأوديسة، ولا رفيعة كالأنيادة، ولكنها تحتفظ بتشويق القارئ كأي ملحمة، وأسلوبها مرصع بانعطافات النغم وتدفقاته الموفقة، وشخوصها حية، وأحداثها مذابة بمهارة في موضوعها الرئيسي. وكثير من مشاهدها وأحداثها ألهم الفنانين لوحات شهيرة. وقد أعان شعرها وروحها سبنسر على تأليف ملحمته «ملكة الجان». أما مقاطعها فحين لحنت كانت عزاء لملاحي الجندولا البنادقة عن رتابة عملهم المضني.
لم يجن تاسو في أوقات صفائه غير السرور القليل، والربح الأقل، من نجاح قصيدته. فلم ينل فلساً واحداً من الناشرين. وكانت أوقية من اللوم ترجح عنده رطلا من المديح كما هو الشأن مع أكثر المؤلفين. وقد جزع حين قرأ النقد القاسي الذي وجهه إليه نقاده، الذين زعموا أن قوافيه في أكثرها ليست إلا صلصلات، وأن مشاهد حية مسفة في الشهوانية، وأن مسلميه يثيرون الإعجاب الاعجاب فوق ما ينبغي، وأن بطلاته في الأغلب مسترجلات. ولكن باقي الإيطاليين هللوا له كأنه فرجيل ولد من جديد، وعلت الأصوات مطالبة بمعاملة أرفق للشاعر المنكوب. على أن زواره رأوا حاجته للملاحظة الدقيقة، وأن الفونسو يعالج الأمر بكل الرعاية التي تتوقع من رجل أسيء إليه كثيراً وشغلته تبعات الحكم.
وصلحت حال الشاعر. وفي يوليو 1586 حصل فنشننزو وجونزاجا، الوريث الشرعي لدوقية مانتوا، على الإفراج عنه بعد أن تعهد بالعناية به. وعاش تاسو في مانتوا شهرا ثم رحل عنها إلى برجامو، ومودينا، وبولونيا، ولوريتو، وروما، يبيع قصائده ومدائحه لمن يشتريها. ولقى حسن الاستقبال في روما، ولكنه سرعان ما بدأ الترحال من جديد، فمضى إلى سينا، ففلورنسة، ثم عاد إلى مانتوا، ثم لنابلي مرة أخرى، حيث صادقه المركيز مانسو، ثم عاد إلى روما حيث أنزله الكردينالان تشننزينو وألدوبر اندينو مسكنهما بالفاتيكان (1594). وأراد العودة إلى(29/64)
فيرارا ليموت فيها، غير أن الفونسو رفض الاذن له. ورتب له البابا كلمنت الثامن معاشا وأعد العدة لتتويجه شاعراً. للبلاط البابوي. ولكن في أبريل 1595 لم يكن بد من نقل الشاعر الذي انهارت قواه وأدركته الشيخوخة والعجز وهو بعد في الحادية والخمسين، إلى دير سان أونوفريو بروما، ليجد رعاية أفضل. هناك، وبعد غضبة أخرى من غضباته، مات (25 أبريل) وهو يتمتم «في يديك يا رب أستودع روحي» ووضع على نعشه إكليل الغار الذي لم يعش ليلبسه. وحمل جثمانه في مشهد إلى كنيسة القديس القديس بطرس وخرج منها تشيعه حاشية البابا واشراف روما وعلماؤها، وروى التراب في كنيسة الدير وفوق مثواه قبرية بسيطة، «هنا يرقد توركواتوس تاسوس» وأصبحت الصومعة التي نزلها مزارا للحجاج كما هي اليوم.
8 - مجيء الباروك
1550 - 1648
كان الفن الكلاسيكي - كالبارثينون وأفريزه، ومنحوتات ميرون وبولسكليتوس، وساحة روما، ولايناد، وستانزا رفائيل بالفاتيكان، وصور كنيسة مديتشي لميكل أنجيلو - هذا الفن كان اختزال الفوضى إلى نظام، والتعدد إلى وحدة، والحركة إلى ثبات، والشعور إلى فكر، وغير المميز إلى مميز، والمعقد المبهم إلى البسيط الواضح؛ كان المادة مصوغة من الشكل. ولكن كل شيء حتى الكمال يزهده الناس حين يطول به العمر. فالتغيير ضروري للحياة، والحس، والفكر؛ والجديد المثير قد يبدو جميلا لهذه الحدة ذاتها، حتى يعود القديم المنسي على عجلة الزمن فيرحب به الناس على أنه فتى وجديد. وهكذا طردت النهضة الفن القوطي من إيطاليا باعتباره فنا همجيا، حتى إذا ضاق الفنانون ورعاة الفن بالنسب الجميلة والتناسق المقيَّد، وضحكوا كما ضحكت تماثيل الكاتدرائيات البشعة الوجوه على الأعمدة والاعتاب(29/65)
والقواصر الكلاسيكية، أعادوا الروح القوطية ممثلة في شذوذات الباروك وتفصيلاته الزاخرة بالحيوية والمرح (1).
كان الفن الكلاسيكي ينشد الافصاح عن الموضوعي، اللاذاتي، الكامل، أما الباروك فقد أتاح للفنان الفرد، حتى لنزوته العارضة، أن تجد التجسيد في عمل لا يمثل موضوعا يصور تصويرا واقعيا (كما فن التصوير الهولندي) بقدر ما يمثل انطباعا أو شعوراً موضعاً عن طريق أشكال متخيلة جزئيا. وهكذا نرى أن صور الجريكو النحيلة الطويلة ليست صور رجال أسبان بل صور ذكرياته أو بدواته هو؛ وصور العذراء التي رسمها موريللو وجويدو لم تكن صور الأمهات المرهقات اللاتي عرفاهن بل الورع المثالي الذي طلب إليهما التعبير عنه. يضاف إلى هذا أن بلدا كإيطاليا زلزلت إحساسه حركة الإصلاح البروتستنتي وشحذ عاطفته الدينية من جديد أفراد كلويولا، وتريزان وزافير، وشارل بوروميو - إيطالية ما بعد لوثر هذه ما كان في الامكان أن تستكين إلى سلام المثل الكلاسيكي، ذلك السلام الهادئ الفخور، لذلك راحت تؤكد عقيدتها من جديد، وتبدي رموزها في تحد، وتزين هياكلها، وسكب في الفن دفئا جديدا من اللون والاحساس، وتنوعاً جديداً وحرية في التركيب والحركة لا يمكن التنبؤ بها، انطلقت من عقال القواعد والضوابط والخطوط الكلاسيكية. لقد أصبح الفن تعبيرا عن الشعور بالحلية، لا ضغطاً للفكر لإحداث الشكل.
أما العمارة فلم تعد رياضيات يونانية أو هندسية رومانية، بل موسيقى، وأحيانا أوبرا، مثل دار الأوبرا في باريس. واتجه المصممون والبناءون من الثبات إلى السيولة والايقاع، فرفضوا التناسق الساكن مؤثرين عليه عدم التوازن وعدم الوحدة المتعمدين، وفصصوا
_________
(1) الباروك مشتقة من الكلمة البرتغالية barroco، وهي صدفة غير منتظمة الشكل كثيراً ما تستعمل حلية.(29/66)
الأعمدة والأعتاب أو لووها عن قصد. وسئموا السطوح الساذجة والكتل الثقيلة، وقطعوا الكرانيش، وشطروا القواصر شطرين، وبعثروا النحت في كل اتجاه. أما المثالون فقد ضاقوا بأطراف الجسد الكاملة، والملامح الساكنة، والوقفة الأمامية الجامدة، فاتخذوا لاشكالهم أوضاعا غير متوقعة، داعين الناظر إلى اتخاذ نظرات منوعة، واستخدموا مؤثرات التصوير في صناعة التماثيل، فنحتوا الاضواء والظلال في الحجر، والحركة في الجسد، والفكر والشعور في الوجه. وأما المصورون فتركوا الخطوط النقية، والضوء الصافي، والسكينة البريئة - تركوا هذا كله لبيروجينو، وكوريدجو، ورفائيل، وغمروا الدنيا في اللون كما فعل روبنز، أو ظللوها بالغموض كما فعل رمبرانت، أو ايقظوها للحس مثل ريني، أو كدروها بالعذاب والوجد مثل الجريكو. وأما نقاشو الخشب فبعثروا الزخرف على الأثاث، وأما صانعو الأدوات المعدنية فقد حولوا مادتهم إلى أشكال غريبة أو مضحكة. وحين عهد اليسوعيون عام 1568 إلى فينولا برسم «كنيسة يسوع» في روما، اشترطوا أن تجمع كل الفنون في فيض من الأعمدة، والتماثيل والصور، والمعدن النفيس، تصمم لا التعبير عن الهندسة، بل لتلهم الإيمان وتشيعه في النفوس.
ولما كانت إيطاليا لا تزال في الفن قائدة أوربا، فإن الأسلوب الجديد في الزخرفة والعاطفة والتعبير ل ينتقل إلى أسبانيا وفلاندر وفرنسا الكاثوليكية فحسب، بل حتى إلى ألمانيا البروتستنتية حيث بلغ بعضاً من أكثر أشكاله مرحاً وبهجة. أما الأدب فأحس تأثير الباروك في لعب ماريني وجونجوزا ولايلي المسرف بالالفاظ، وفي لغة شكسبير الرنانة الطنانة، وفي مسرحية مارلو «الدكتور فاوستس» ومسرحية جوته «فاوست». وأما الأوبرا فما هي إلا موسيقى باسلوب الباروك. على أن الاسلوب الجديد لم يحقق انتصاراً في كل مكان، فقد آثر الهولنديون الواقعية الهادئة على انفعالات(29/67)
الباروك: وفيلاسكويز في افضل أعماله كلاسيكي أو واقعي، أما سرفانتس فبعد أن عاش حياة رومانسية ألف «دون كخوته» في اتزان وهدوء كلاسيكيين. ولكن هل كان الفنانون والأدباء الكلاسيك دائماً كلاسيكيين؟ وهل هناك أكثر باروكية من لاوكون المناضل، القبيح؟ إن التاريخ يبتسم سخرية من كل المحاولات التي تبذل لإكراه مياهه على أن تجري في قوالب نظرية أو أخاديد منطقية، وهو يعبث أشد العبث بتعميماتنا، ويحطم كل قواعدنا. إن التاريخ ضرب من الباروك.
على أن عاملاً قوياً واحداً ظل ثابتاً في الفن الإيطالي، فما زالت الكنيسة أنشط رعاته وأقدرهم على تشكيله. كان هناك بطبيعة الحال رعاة آخرون ومؤثرات أخرى. فقد شيدت اسر الأمراء والكرادلة المثقفون القصور الخاصة، وواصلوا في تزيينها ببعض الموضوعات الوثنية، مثال ذلك أن أودواردو فارينزي عهد إلى المصورين كاراتشي بأن يرسموا له «انتصار باخوس» و «حكم الغرام». ولكن مجمع ترنت وحركة الإصلاح الكاثوليكي التالية له حددا للفن اتجاهاً أكثر صرامة، فتراجعت الأجساد العارية من الفن الإيطالي، ولم تعد الموضوعات الدينية تستخدم مطية للحس ولم يثن البابا كلمنت الثامن عن تغطية لوحة ميكل انجيلو «الدينونة الأخيرة» كلها، وسراويل دانييلي دا فولتيرا وما حولها، إلا توسلات فناني روما. وقد دافع المجمع عن الصور الدينية ضد هجمات الهيجونوت والبيوريتان، ولكنه أصر على أن توحي هذه الرموز بالخشوع لا أن تلهب الدم والعروق. وبينما استنكر المصلحون عبادة مريم والابتهالات إلى القديسين، روى مصورو إيطاليا ومثالوها في فترة معارضة الإصلاح البروتستنتي، من جديد، عذابات الشهداء، ورووها بواقعية قاسية أحياناً، وحكموا مرة أخرى قصة العذراء ام الإله، بعاطفة واعية. وتعاون حرص الكنيسة على تجريد الفن من الوثنية وبث العقيدة والتقوى(29/68)
في النفوس، مع انتكاسات إيطاليا السياسية والاقتصادية، على جعل هذا العصر آخر صدى من أصداء النهضة.
9 - الفنون في روما
ظلت روما قصبة العالم الفنية. صحيح أن عصر التصوير الروماني العظيم قد انتهى، ولم يعد الآن إيطالي ينافس روبنز أو رمبرانت، ولكن العمارة الرومانية أزهرت، وظل برنيني أشهر فناني أوربا طوال جيل من الزمان. ومع أن بولونيا سطت على زعامة روما في التصوير، فإن نجوم هذه المدرسة كانوا يفدون على روما استكمالا لازدهارهم، وقد وصل فازاري عام 1572 ليرسم الصور الجصية للصالة الملكية في الفاتيكان. وأحتشد في «بوتيجي» روما الرسامون الذين ما زالوا محل التبجيل من أقليات مغرمة: ناديو وفديريجو زوكارو، وجيرولامو موتزيانو، وفرانشيسكو دي سالفياتي، وجوفاني لانفرانكو، وبرتولوميو مانفزيدي، ودومنيكوفيتي وأندريا ساكي. وأكثر هؤلاء يصنفون عادة تحت اسم «أصحاب اللازمات» -أي الفنانون المقلدون لطريقة فنان بعينه من أساطين الفن أيام عز النهضة. ويجوز ان نعتبر هذه «اللازمية» (1550 - 1600) مرحلة أولى للباروك.
أما فيديريجو زوكارو فقد نشر قلوعه فوق أمم أربع. ففي فلورنسة أكمل الصور الجصية التي بدأها فازاري في قبة الكتدرائية، وفي روما رسم «المصلى البولسي» في الفاتيكان، وفي فلاندر صمم سلسلة من الرسوم الهزلية، وفي إنجلترا رسم لوحات مشهورة للملكة اليزابث ولماري ستيوارت، وفي أسبانيا شارك في زخرفة الأسكوريال، وحين عاد إلى روما أنشأ أكاديمية القديس لوقا، التي أوحى نظامها لرينولدز بأكاديمية الفنون الملكية بإنجلترا. وكان الإقبال على فنه أعظم من جميع الرسامين الإيطاليين في ذلك الجيل، ولكن الخلف فضلوا عليه بييترو بيريتيتي(29/69)
كاكورتونا. وبروح الكفايات المتعددة التي أثرت على فناني النهضة صمم بييترو قصري باربريني وبامفيلي بروما، ورسم في قصر بيتي بفلورنسة صوراً جصية تزخر بالأشكال الغريبة في كل غزارة الباروك وتدفقه.
أما القطب الحقيقي للتصوير الروماني في هذا العهد فهو ميكل أنجيلو مريزي دا كارافادجو. كان رجلا فيه روح تشلليني، وقد ولد لبناء بالحجر في لومبارديا، ودرس في ميلان، وانتقل إلى روما واستمتع بعدة مشاجرات، وقتل صديقاً في مبارزة، ثم هرب من السجن، وفر إلى مالطة وقطانيا وسيراقبوز، ومات بضربة شمس على أحد شواطئ صقليو وهو في الرابعة والأربعين (1609)، وفي الفترات التي تخللت هذه المغامرات أحدث ما يشبه الثورة في مزاج التصوير الإيطالي واسلوبه. وقد أحب التناقضات العنيفة بين الضوء والظل، واستخدم حيلا كإضاءة المنظر من مدفأة مخفاة، وشكل صوره بالضوء، وأخرجها من خلفية معتمة، وبدأ في إيطاليا عهد «الفن المعتم» الذي تزعمه جويرتشينو؛ وريبيرا، وسلفاتور روزا. وإذ احتقر عاطفية الرسامين البولونيين المثالية، فقد روع العصر بواقعيته التي أشرفت على الوحشية. كان إذا تناول موضوعاً دينياً يجعل الرسل والقديسين يبدون وكأنهم عمال ضخام غلاظ نقلهم من عمال أرصفة الموانئ. وقد أكسبته لوحة «لاعبي الورق» (المحفوظة بمجموعة روتشيلد بباريس) شهرة دولية. أما لوحة «الموسيقيين» - وهم ثلاثة من المغنيين وعواد جميل-فقد تراكم عليها التراب ثلاثة قرون قبل أن يعثر عليها في متجر للتحف القديمة بشمالي إنجلترا حوالي 1935، وبيعت لجراح بمبلغ مائة جنيه، ثم اشتراها متحف المتروبوليتان بنيويورك (1952) بخمسين ألف دولار. وقد درجت الكنيسة على رفض صور كارافادجو الدينية باعتبارها مسرفة في الابتذال مفتقرة إلى السمو، أما اليوم فهي مشتهى كل ذواقة الفن. وقد بلغ إعجاب روبنز بلوحة هذا الإيطالي المسماة «مادونا ديل روزاريو» مبلغاً حمله على جمع 1. 800 جولدن من فناني أنتورب ليشتريها(29/70)
ويهديها إلى كنيسة القديس بولس (85)، ولوحة «عشاء عمواس» (بلندن) لا تبلغ في عمقها نظيرتها التي رسمها رمبرانت، ولكنها تصوير قوي لأشكال الفلاحين. أما «موت العذراء» (المحفوظة باللوفر) - وهي أيضاً صورة ريفية-فكانت إحدى الصور التي وطدت مدرسة «الطبيعيين» في إيطاليا والواقعيين في اسبانيا والأراضي المنخفضة. لقد أكثر كارافادجو من تأكيد ميلودراما العنف والخشونة، ولكن التاريخ كالخطابة قلما يقرر نقطة دون أن يبالغ فيها. وقد أقشعر لمرأى عمال الشحن مفتولي العضل هؤلاء جيل استنفد موضوعات العاطفة، ثم قبلهم على أنهم مدخل منشط دخل به إلى الفن رجال منسيون. والتقط ريبيرا فرشاة كارافادجو القائمة ولحق به، واقتفى رمبرانت أسلوب الإيطالي في توزيع الضوء والظل وجوّده، وحتى مصورو القرن التاسع عشر شعروا بهذا التأثير العاصف.
أما المعمار فقد شهد مجيء الباروك وذروته. وراح البابوات الواحد تلو الآخر يحيلون عرق المؤمنين الراضين ودراهمهم أمجاداً لروما. فأكمل بيوس الرابع البلفديري وقاعات أخرى في الفاتيكان. وبنى جريجوري الثالث عشر كلية روما وبدأ تشييد قصر الكويرينال-الذي اصبح مسكنا للملك عام 1870. أما دومنيكو فونتانا، الأثير بين المعماريين عند سيكستوس الخامس، فقد صمم قصر اللاتيران الجديد، ومصلى السيستين في كنيسة سانتا ماريا مادجوري، ومقبرة بيوس الخامس في هذا المصلى، وهي باروك مسرف. واضاف الكرادلة والنبلاء خلال ذلك إلى روما قصوراً جديدة (جوستنياني، ولاتشلوتي، وبورجيزي، وباربريني، وروسبليوري)، وفيللات جديدة (بامفيلي، وبورجيزي، ومديتشي). كذلك واصل الهدم أفاعليه، ففي هذه الفترة هدم بولس الخامس حمامات قسطنطين التي عمرت منذ عهد أول الأباطرة دون أن يمسها سوء تقريبا.
وكثر عدد المعماريين الأكفاء، ومنهم جاكوموديللا بورتا الذي أكمل بكفاية عدة معابد خلفها أساتذة فنيولا ناقصة، كواجهة كنيسة يسوع وقبة كنيسة القديس بطرس، وبهذه الضخامة صمم كابييلا جريجوريانا الفخمة،(29/71)
ولمس قصر فارينزي لمساته الأخيرة، وكان ميكل أنجيلو قد بدأه؛ وهو صاحب الفضل في نافورتين رائعتين تضفيان على روما رواء شباب لا يشيخ.
وابدعهما نافورة السلاحف التي أقامها تاديو لونديني أمام قصر ماتي واشترك مارتينو لونجي الأب مع ديللا بورتا في تشييد قصر الكونسر فاتوري نقلا عن رسوم لميكل أنجيلو، وبدأ هو ذاته قصر بورجيزي، الذي أكمله فلامينو بونتزيو للبابا بولس الخامس. وأسهم دومنيكو فونتانا بنافورة «الفونتانوني» ديل أكوا فيليتشي، وفونتانا ديل أكوا باولينا، وشيد «قاعة البركة» الجميلة على الرواق المعمد الشمالي للاتيران القديس يوحنا. وخلفه أبن أخته كارلو ماديرنا معماريا لكنيسة القديس بطرس، فغير خطتها الأساسية من صليب ميكل أنجيلو اليوناني إلى الصليب اللاتيني، وصمم واجهة هذا الضريح العظيم، ووجد في حمامات كاراكاللا ودقلديانوس إلهاما بصحنها الهائل. وأعاد فرانشسكو بوروميني، تلميذ ماديرنا، بناء مدخل لاتيران القديس يوحنا بناء فاخرا، وبدأ رائعته-كنيسة سانت أجنيس-الفخمة الأنيقة التي تضارع «كنيسة يسوع» في بيانها للباروك الروماني. أما كنيسة يسوع فقد صممها (1568) جاكومودا فنيولا تحقيقا لرغبة اليسوعيين في معمار تروع فخامته العابدين وتلهمهم وتسمو بنفوسهم. وصمم المعماري وخلفاؤه صحنا فسيحا دون اجنحة، فيه الدعامات والسبندلات والتيجان والكرانيش المزخرفة، ثم مذبح مهيب، وقبة مضيئة، وحلية رائعة من الصور والتماثيل والرخام والفضة والذهب. وفي عام 1700 أضاف أندريا ديل بوتزو، وكان هو ذاته يسوعياً، مقبرة القديس اغناطيوس ومذبحه الرائعين. وقد اختلفت نظرة اليسوعيين للحياة عن نظرة غيرهم من رجال الكنيسة الكاثوليكية، وكانت النقيض التام لنظرة البيورتان, فالفن في رأيهم يجب أن يطهر من الحس الدنيوي، ولكن يجب أن يرحب به في تزيين الحياة والإيمان. على أنه لم يكن هناك «أسلوب يسوعي» بعينه. كانت كنيسة يسوع باروكا في الحجر، وكثير من(29/72)
كنائس اليسوعيين لا سيما في ألمانيا كانت باروكا، ولكن كل كنيسة اتبعت الأشكال والأمزجة المحلية والفاشية.
وكان اكمال كنيسة القديس بطرس آخر منجزات الفن الروماني. فقد خلف ميكل أنجيلو نموذجا للقبة، ولكن «الطبلة» وحدها هي التي كانت ممدودة حين ارتقى سيكستوس الخامس كرسي البابوية. وكان قطرها 138 قدما. ولم يجرؤ على تغطية مساحة هائلة كهذه دون دعامات تتخللها سوى بروتولليسكي بفلورنسة. وأحجم المعماريون والمهندسون أمام العمل الذي اقترحه بووناروتي (ميكل أنجيلو)، وشكا رجال المال من أنه سيكلف مليون دوكاتية وجهد عشر سنين. ولكن سيكستوس أمر بالشروع في العمل آملاً أن يحي القداس تحت القبة الجديدة قبل أن يودع الحياة. وتكفل جاكومو ديللا بورتا بالمهمة يساعده فيها دومنيكو فونتانا. وراح ثمانمائة من الرجال يكدحون ليل نهار-فيما عدا الآحاد-من مارس 1589، إلى أن اعلنت روما في 21 مايو 1590، قبل موت الحبر الجريء بثلاثة أشهر، بإن «البابا المقدس سيكستوس الخامس»، قد أتم عقد قبة كنيسة القديس بطرس، لمجده الدائم وخزي أسلافه» (86).
وقد انتقص من وقع منظر القبة، إلا على بعد، واجهة الباروك التي أقامها ماديرنا في 1607 - 14. اما الكنيسة نفسها فقد كرست نهائيا عام 1626، بعد 174 سنة من البدء بتخطيطها. وفي عام 1633 صب برنيني بالبرونز البلداكينو (أي المظللة) المزوقة فوق «مقبرة القديس بطرس» والمذبح المرتفع. وقد أنقذ النحات العظيم نفسه باحاطة المدخل إلى الضريح بصف اعمدة بيضي هائل (1655 - 67) أعان على جعل كنيسة القديس بطرس أفخم بناء على وجه الأرض، كما أن قبتها ذروة توجت كل ما بلغه الفن الحديث من انجازات.
10 - برنيني
جمع جوفاني لورينترو برنيني فن روما القرن السابع عشر في عمر(29/73)
مسيطر واحد (1598 - 1680). اخذ النحت عن أبيه المثال الفلورنسي. ولعله أخذ عن أمه النابولية حدة العاطفة وحرارة الإيمان. وفي عام 1606 دعي الأب إلى روما للعمل في كنيسة سانتا ماريا مادجوري. هناك درج «جان» في جو من النحت الكلاسيكي والتقوى اليسوعية. وقد انتشى بتماثيل الفاتيكان «أنطنووس» و «ابوللو بلفديري» ولكنه كان أعمق تأثراً بكتاب القديس اغناطيوس في «الرياضيات الروحية»، التي مارسها حتى أحس الرعب والتقوى اللذين شعر بهما رجل جرّب آلام الجحيم ومحبة المسيح. وكان يستمع إلى القداس يوميا، ويتناول الأسرار المقدسة مرتين في الأسبوع.
وجرب التصوير، حتى بلغت صورة المائة، وقد ظفرت إحداها، وهي لوحة «القديسين أندراوس وتوما» في مجموعة باربريني بأعظم الثناء، ولو أننا نفضل عليها صورته الذاتية المحفوظة بقاعة الأفتزي-فتى اسمر وسيم يجنح إلى التأمل الحزين. على أنه جّود أكثر من هذا فن العمارة. وقد أكمل قصر باريريني لمافيوباريريني، فلما ولى راعى فنه هذا كرسي البابوية باسم أوربان الثامن؛ عين برنيني كبير معماري كنيسة القديس بطرس وهو في الحادية والثلاثين. وهناك بنى-بالاضافة إلى صف الأعمدة والمظلة- في الجزء الثاني من البناء «كاتدرا بتري» المزخرفة لحفظ المقعد الخشبي الذي اعتقد المؤمنون أن الرسول بطرس كان يستعمله، ومن حوله جمع أربعة تماثيل قوية الشخصية لآباء الكنيسة، ومن فوق البناء العجيب كله نثر تماثيل الملائكة بحماسة رجل يملك في ذهنه معينا لا ينضب من الروائع. وعلى مقربة منه اختار مكاناً لمقبرة ضخمة لحبره المحبوب أوربان الثامن. وصمم الشرفات، وكثيراً من التماثيل التي تزين الركائز التي تسند القبة. وتحت القبة وضع تمثالا ضخما للقديس لونجينوس، وفي الجناح الأيمن أقام أثراً تذكارياً مترفاً لماتيلدا كونتيسة توسكانيا. وفي خارج الكنيسة أعاد تخطيط الصالة الملكية التي ترقى إلى قصر الفاتيكان مارة بأعمدة مهيبة، وذلك بأسلوب أكثر(29/74)
نقاء، وفي فجوة في هذا السلم الملكي أقام تمثالاً لقسطنطين راكباً جواده وهو يطالع في السماء دعوته لاعتناق المسيحية؛ وأصبحت حرارة العاطفة في هذا التمثال قالبا احتذاه عصر الباروك وفي أخريات أيامه بنى في مصلى السر المقدس بكنيسة القديس بطرس مذبحا لم تبدله رخاماته الساطعة، وما توجه من ظلة وهيكل وقبة وملائكة مستغرقين في العبادة- لم يبد له هذا كله تجسيداً مسرفاً في البهاء لسر القربان الذي ينطوي عليه القداس. كل هذا الجهد في كنيسة القديس بطرس وما حولها يرى فيه الفنان العصري اسرافاً مسرحياً ومخاطبة خداعة للحواس، أما برنيني فقد رأى فيه الأداة الخصبة لإيمان حار يصل إلى قلوب العابدين.
كان يمزج بين العمارة والنحت في كل مكان، ويحلم بفن يجمع بين العمارة والنحت والتصوير في كل يستنهض الروح. وفي كنيسة سانتا ماريا ديللا فتوريا جميع قطع الرخام الثمين-الأخضر والأزرق والأحمر-وأطلق لخياله الزخرفي العنان ليبني مصلى الكورنارو، ذا الركائز المحززة والأعمدة الكورنثية الرشيقة، وقد أودعها أعظم تماثيله فتنة وحرارة، تمثال القديسة تريزا، منهكة القوى غائبة عن الوعي في نوبة من الوجد الصوفي، وملاك حلو يتأهب لشق قلبها بسهم ملتهب رمزا لاتحاد القديسة مع المسيح. ووجه تيريزا الذي يبدو كأن الحياة فارقته هو أحد انتصارات الباروك الإيطالي، والملاك الذي يريش سهمه ان هو إلا أغنية في الحجر.
كان لبرنيني منافسون، وقد أعجب مونتيني أيما إعجاب بتمثال العدالة الذي نحته جاكوموديللا بورتا على قبر بولس الثالث في كنيسة القديس بطرس. وصب توريجانو تمثالا نصفيا لسيكستوس الخامس، فيه قوة وواقعية، وهو الآن محفوظ بمتحف فكتوريا والبرت. ومزج بورومينو النحت بالعمارة مثل برنيني، وبلغ اليساندرو ألجاردي مستور برنيني في ثلاثة تماثيل نحتها لمقبرة ليو الحادي عشر بكنيسة القديس(29/75)
بطرس، وفاقه في النقوش البارزة التي مثل بها «لقاء البابا ليو الأول وأتيلا»، وهي ايضاً بكنيسة القديس بطرس. أما تمثال إنوسنت العاشر النصفي الذي نحته الجاردي في قصر دوريا بامفيلي، فأكثر ارضاء للناظر من التمثال الذي نحته برنيني، ويكاد يعدل في القوة لوحة فيلاسكويز. ولكن أحدا في هذا العصر لم يضارع برنيني في خصوبته الفنية وخياله ومجموع منجزاته.
ثم شرح صدر روما بالنافورات الغريبة: فونتانا ديل تريتوني، وفونتانا دي فيومي-حيث نقش مثالون أقل شأنا أربعة تماثيل للدانوب والنيل والجنج والبلانا. وقد اختار إنوسنت العاشر من بين تصميمات المتسابقين المقدمة لهذه النافورة تصميم برنيني قائلا «على المرء ألا ينظر إلى تصميماته ما لم يكن مستعدا لقبولها» (87) ولا بد أن ولع برنيني بالآثار القبرية الفخمة قد اوحي إلى رعاته بتقبل لذيذ لفكرة الموت. وقد عمر أوربان الثامن حتى رأى المقبرة التي أعدت لرفاقه في كنيسة القديس بطرس.
ونافس الكردينال سكبيوني بورجيزي البابا أوربان في منح برنيني المال وتكليفه بالمهام. فصنع له المثال تمثالا حيا سماه «اغتصاب بروزريين» هو حلم من عضلات الذكر وانعطافات جسد الأنثى، وتمثال ««داود» يضرب جالوت بمقلاعه، وتمثال «أبوللو ودافني» -وهو تعبير مسرف في الكمال عن شباب الرجل والمرأة. هذه التماثيل (وكلها في قاعة بورجيزي للفنون) جرت على برنيني تهمة «اللازمية» والمغالاة المسرحية. وقد صور الكردينال نفسه في تمثالين نصفيين، هما تجسيد للطبع اللطيف والشهية الطيبة، وأشد من هذين فتنة بطبيعة الحال التمثال النصفي لكونستانزا بووناريللي الجميلة، المحفوظ بمتحف فلورنسة الوطني، وكانت زوجة مساعد برنيني، ولكن برنيني-كما قال أبنه-نحتها في الحجر، بينما هو يعشق جسدها عشقاً مشبوباً (88).(29/76)
ويعكس برنيني عيوب الباروك أكثر من أي فنان آخر. فخطابه للعاطفة مسرف في الوضوح، وقد حسب التكلف درامياً، واللطف جمالاً، والإفراط في العاطفة تعاطفاً، والضخامة جلالاً. وخلع على النحت تعبير الوجوه الحاد بينما هو ميزة اختص بها التصوير عادة. وقد أضعفت واقعية التفاصيل، المغالية في الدقة، من التأثير السيكولوجي لفنه أحيانا. وقل أن بلغ في تماثيله ذلك السكون الذي يضفي تفوقا خالدا على منحوتات أثينا في عهد بركليس. ولكن لم يجب أن يعبر التمثال دائما عن السكون؟ ولم لا تغزو الحركة والشعور وحرارة الحياة الرخام والبرونز وتبعث فيهما الحياة؟ أنها فضيلة في نحت الباروك وليست عيبا أنه جعل الحجر يحس ويتكلم. لقد اتبع برنيني المبدأ الهوراسي وأحس بما عبر عنه - بنعومة بشرة الفتاة، وحيوية الشباب الرشيقة، وهموم القادة ومتاعبهم، وورع القديسين ووجدهم.
ولقد تقبله الناس قرابة خمسين عاماً إماماً لمعماريي عصره. وفي عام 1665، حين فكر كولبير ولويس الرابع عشر في إعادة تخطيط اللوفر وتوسيعه، وجها الدعوة إلى برنيني ليحضر إلى باريس ويضطلع بهذه المهمة. فذهب إليها وصمم، لا بحكمة ب بغلو في البراعة - وجاوز في الفخامة الذوق والمال الفرنسيين. وفضلت على تصميمه واجهة بيرو الأكثر صرامة، وقفل برنيني إلى روما يجرر أذيال الخيبة. هنا (1667) رسم لنفسه تلك الصورة الطباشيرية الرائعة، المحفوظة الآن في قلعة ونزو - خصل بيضاء تتراجع فوق رأس قوى البأس، ووجه خلف عليه الجهد التجاعيد والعقد، أما العينان الوديعتان بالأمس فقد أصبحتا جامدتين خائفتين، كأنهما تريان إلى أين تفضي مدارج المجد. ولكنه لم ينهزم بعد، فقد ظل ثلاث عشرة سنة أخرى يبني وينحت في عنف، «حاداً في روحه، راسخاً في عمله، حاميا في غضبه (89)» وحين خبت جذوته (28 فبراير 1680) كان قد عمر إلى ما بعد النهضة الإيطالية.(29/77)
حين زار ملتن إيطاليا عام 1638 ذكر ان العلماء الإيطاليين أنفسهم أحسوا ان مجد وطنهم قد زال بمجيء الحكم الأسباني والحركة المعارضة للاصلاح البروتستنتي. ولعل التسلط والرقابة ألحقتا الضرر بفكر إيطاليا وفنها - ولو أن سرفانتس وكالديرون وفيلاسكويز كانوا يزدهرون في ظل محكمة تفتيش أشد عتوا في أسبانيا. ولكن الذي أنهى النهضة الإيطالية لم يكن قائداً أسبانياً، ولا قائمة كتب حرمتها الكنيسة، بل ملاحا برتغاليا، هو فاسكودا جاما الذي عثر على طريق يمخر كله البحر إلى الهند، طويل حقاً ولكنه أرخص من طرق التجارة البندقية والجنوية التي أغنت إيطاليا. وأخذت التجارة البرتغالية والهولندية تحل محل التجارة الإيطالية، والمنسوجات الفلمنكية والانجليزية تنتزع الأسواق من الفلورنسيين. أما حركة الإصلاح البروتستنتي فكانت قد هبطت بالذهب المتدفق على روما من ألمانيا وإنجلترا إلى النصف.
وتألقت إيطاليا في اضمحلالها. حقاً لقد هبط الفن من علياء رفائيل وميكل أنجيلو، وفقد الفكر السياسي عمق مكيافيللي وشجاعته، ولكن لم هناك اضمحلال بل نهوض في السياسة والإدارة من ليو العاشر إلى سيكستوس الخامس، وفي العلم من ليوناردو إلى جاليليو، وفي الفلسفة من بومبوناتزي إلى برونو، وفي الدراما الموسيقية من بوليتيان إلى مونتيفردي، اللهم إلا اضمحلال في الشعر مختلف عليه من أريوستو إلى تاسو. وكانت إيطاليا خلال ذلك، كالأم الرءوم؛ تسكب فنها وموسيقاها، وعلمها وفلسفتها، وشعرها ونثرها، فوق الألب إلى فرنسا وفلاندر، وفوق المانش إلى إنجلترا، وفوق البحر إلى اسبانيا.(29/78)
الفصل العاشر
فخامة أسبانيا وانحطاطها
1556 - 1665
1 - الحياة الأسبانية
إن الذين ربوا منا على المؤرخين الإنجليز قد ينسون بسهولة أن أسبانيا كانت بعد هزيمة الأرمادا، كما كانت قبلها، أعظم الإمبراطوريات على وجه الأرض وأعتاها وأكثرها اتساعاً، وأنها اعتبرت نفسها - ولها العذر - أرقى من إنجلترا الإليزابيثية في الأدب، ومن إيطاليا المعاصرة في الفن. فحين ارتقى فيليب الثاني العرش (2556) كانت الملكية الإسبانية، وروسيون، وفرانش كونتيه، وسته، وأوران، والاراضي المنخفضة، ودوقية ميلان، ومملكة نابلي، وصقلية، وسردانيا، والفلبين، وجزر الهند الغربية، ومعظم أمريكا الجنوبية، وجزءاً من أمريكا الشمالية، وكل أمريكا الوسطى، يضاف إلى هذا (1580 - 1640) البرتغال والأملاك البرتغالية، في آسيا، وأفريقيا، والبرازيل، كذلك محمية في سافوي، وبارمان وتوسكانيا، وحلف مع الامبراطورية الرومانية المقدسة التي حكمها فرديناند الأول عم فيليب. وكانت اسبانيا تمتلك جيشاً عدته خمسون ألف مقاتل اشتهروا بالبسالة وحسن النظام، تحت امرة افضل قواد العصر، واسطولا من 140 سفينة، ودخلا سنوياً يبلغ عشرة أمثال دخل إنجلترا. وكان ذهب أمريكا وفضتها يتدفقان على الموانئ الأسبانية. أما البلاط الأسباني في هذا العصر كافخم بلاط في العالم، وأما الأرستقراطية الاسبانية فأشد الارستقراطيات كبرياء وعجباً. وكان(29/79)
الملايين من الناس خارج أسبانيا يتكلمون الأسبانية، وفي كثير من الأقطار تعلمت الطبقات المثقفة اللغة الأسبانية كما تعلمت بعد ذلك اللغة الفرنسية في القرن الثامن عشر. كذلك زينت العمارة الأسبانية المدن في خمس قارات.
وبلغ عدد سكان أسبانيا الآن ثمانية ملايين. واضمحلت الزراعة بتحويل المزيد من الأرض إلى مزارع للأغنام لإنتاج الصوف. وقد بلغ عدد عمال النسيج في طليطلة وحدها خمسين ألفاً حوالي عام 1560، وحفزت مطالب المستعمرات الأسبانية صناعات اسبانيا، وأصبحت أشبيلية من أهم الثغور في أوربا، وأرسلت المستعمرات نظير ذلك الشحنات من الفضة والذهب. ورفع تدفق المعادن النفيسة الأسعار رفعاً جنونياً-فبلغت نسبة الغلاء في الأندلس 500 في المائة في القرن السادس عشر، وصعدت الأجور لتلحق بتكاليف المعيشة في سباق محموم اصبح في النهاية عديم الجدوى. وكان كثير من الصناعة يقوم على أكتاف المغاربة (المورسكو) - وهم المسلمون الذين اعتنقوا المسيحية ظاهرياً. اما الخدمة في البيوت فألقى أكثر عبئها على العبيد المأسورين في الغارات على أفريقيا أو في الحروب التي شنت على «الكفار». لقد كان عامة الأسبان يحتقرون العمل ويقنعون بالقليل في تفلسف، فالنوم في كوخ، والاصطلاء في الشمس، ومداعبة القيثارة، والبكاء على شح الحسان-ذلك خير من الكدح والعرق شأن العبيد أو المسلمين. وقد ساهم طرد المغاربة عام 1609 مع غلاء المنتجات الأسبانية في اضمحلال الصناعة في أسبانيا.
وكان طرد اليهود عام 1492 قد ترك فراغاً في بناء اسبانيا التجاري والمالي. وأصبح الجنوبيون والهولنديون أهم النقلة لتجارة أسبانيا الخارجية. أما أسبانيا التي كان يحكمها نبلاء تمرسوا بالدبلوماسية والحرب أكثر مما تمرسوا بشئون الاقتصاد، فقد تركت ثروتها تعتمد على استيراد الذهب، وازداد ثراء الحكومة حيناً بينما ظل الشعب في فقره، ولكن كثيراً من هذا الذهب كان ينزح لاستخدامه في الحرب، أو يأخذه التجار الأجانب(29/80)
الذين ينقلون تجارة أسبانيا، حتى كادت الحكومة تفتقر كالشعب. ورفضت أسبانيا الوفاء بديونها المرة بعد المرة (1557و 1575 و 1596 و 1607 و 1627 و 1647) أو حولتها بالاكراه إلى قروض جديدة، وهذه الأزمات المالية هي التي ألجأتها إلى انهاء حربها مع هنري الثاني عام 1559، ومع «الأقاليم المتحدة» عام 1609. ففي التاريخ علينا أن نفتش لا عن «المرأة» بل عن «المصرفي».
وفي أسبانيا علينا كذلك أن نفتش عن الكاهن. ذلك أن الدين لم يفرض مثل هذا السلطان على الشعب، ومن ثم على الحكومة، في أي بلد آخر من بلاد الله، ولم تكتف أسبانيا برفض حركة الاصلاح البروتستنتي فحسب، بل تجاوزتها إلى رفض النهضة أيضاً-اللهم إلا لحظة إرزمية عابرة. وظلت «وسيطة» في عالم حديث، قانعة بنصيبها هذا. وكان فقر الشعب يتهلل لثراء الكنيسة. كان الكل متدينين، من الملوك «الأشد كثلكة من البابا» (1) إلى قطاع الطرق الذين لم يروا قط إلا حاملي المداليات أو الشارات الكتفية الدينية. وفي عام 1615 سار نحو أربعين الف اسباني في مظاهرة مطالبين بأن يجعل البابا من «حمل العذراء غير المدنس» (أي خلوها من لوثة الخطيئة الأصلية) عقيدة في صلب الإيمان-أي اعتقاد الزامي على جميع الكاثوليك) 2). وفي كل مكان كنت تجد القساوسة والرهبان والأخوة، لا متسامحين أو راضين عن مباهج الحياة والحب كما في إيطاليا أو فرنسا، بل ملقين جوا من اكتئاب الجريكو على كل شئ الا مصارعات الثيران. واصبح في أسبانيا الآن 9. 088 ديرا، و 32. 000 أخ دومنيكي وفرنسسكاني (3)، وعدد متزايد من اليسوعيين. وكانت الكنائس معتمة، تزخر بالرفات الرهيبة، وتزدان بالمرعبات الواقعية في فنها. اما قصص القديسين ومعجزاتهم فهي الشعر الذي يعتز به الشعب. وحبب الناس في التصوف في أغاني القديس يوحنا الصليبي وكتابات القديسة تريزا، ووجدت الكنيسة لزاما عليها أن تحتج(29/81)
على ما ادعاه «المهدئون» من صلة حميمة بالله ومن روى طوباوية، وفي عام 1640 وقعت في براثن محكمة التفتيش طائفة من الألومبرادو - «أي المستنيرين» - زعموا أن اتحادهم الصوفي بالاله يطهرهم من كل اثم حتى وهو في نشوات الجنس. علينا أذن ان نذكر هذا التدين الواسع الانتشار، الشديد التحمس، إن أردنا أن نفهم لم استطاع الشعب الأسباني أن يرقب في استحسان قوى حرق المهرطقين، وأن يجود بماله حتى الإفلاس والإعياء دفاعا عن العقيدة في ألمانيا والأراضي المنخفضة. لقد كان في هذا الجنون شئ من النبل، وكأن الأمة أحست بأنه ما لم يكن إيمانها صادقا فإن الحياة تصبح سخفا لا معنى له.
وهكذا مضت محكمة التفتيش في وحشيتها التي املاها عليها ضميرها، فحدت بالعقوبات «المعتدلة» - كجلد المذنب مائة جلدة - من بدع كتلك التي زعمت أن الزنى ليس خطيئة، أو أن الزواج مقدس كالتبتل الديري. أما المارانو «المرتدون» - وهم اليهود الذين اعتنقوا المسيحية من قبل ثم ارتدوا إلى اليهودية سرا- فكان التكفير المقرر عن جريمتهم هو الموت أو السجن المؤبد. وحين وصل فليب الثاني إلى اسبانيا (1559) استقبل في بلد الوليد بتنفيذ حكم للمحكمة شهد فيه 200. 000 شخص يرأسهم الملك عشرة من المهرطقين يشنقون واثنين يحرقان أحياء (4). والتمس أحد المحكوم عليهم الرأفة من فليب فرفض، واكتسب إعجاب الشعب بقوله «لو أن ابني كان شقيا مثلك لحملت بنفسي الحطب لأحرقه» (5) وقد قاوم فليب أحيانا جنوح محكمة التفتيش إلى توسيع سلطانها على حساب السلطة المدنية، ولكنه على العموم شجع هذه المؤسسة باعتبارها أداة تعين الحماسة والوحدة القوميتين. وقد أراحه بعض الشيء أنه استطاع استخدام المحكوم عليهم عبيدا على السفن (6). وأمه في سنة واحدة (1566) تسلم 200. 000 دوكاتية من الذهب هي نصيب الثلثين المستحق للحكومة من غرامات محكمة التفتيش ومصادراتها.(29/82)
واعتزت محكمة التفتيش بصونها عقيدة العصر الوسيط نقية لا غش فيها، وبإنقاذها اسبانيا من الفرقة الدينية التي تتلوى فرنسا تحت قبضتها. وترك اهتمامها بالعقيدة دون السلوك حماية الفضيلة لرجال الاكليروس-وكانوا هم أنفسهم مشهورين بالتهاون في سلوكهم-ولموظفين المدنيين الذين حد من سلطانهم على الشعب خضوعهم لما تصدره محكمة التفتيش من أحكام بالسجن أو الغرامة. أما عفة النساء فلم يقم حارسا عليها الدين والقانون فحسب، بل «البونتو»، أي حق الدفاع عن العرض، وهو مبدأ يلزم كل ذكر بأن يدافع أو يثأر بالسيف لعرض أية امرأة في اسرته هدد أو انتهك. وكانت المبارزة غير قانونية ولكنها محببة إلى الشعب. وكان كرام النساء يلزمن بيوتهن في احتجاب شبيه بما كان عند العرب، يأكلن بمعزل عن الرجال، وقلما يصحبنهم علانية، ويركبن المركبات المقفلة إذا انتقلن من بيوتهن. وكان طلاب يد الفتاة يتوددون بالموسيقى تعزف من الشارع للعذراء المحتجبة خلف نوافذ ذات قضبان، وقل أن يؤذن لهم بدخول البيت حتى يصل والدا الطرفين إلى اتفاق، ومع ذلك كثرت زيجات الغرام (7). وفي عهد فيليب الثاني احتفظ بمستوى الأخلاق عاليا على قدر ما سمحت به فتنة النساء أو خيال الرجال، وخفف من فساد الموظفين الطبيعي يقظة الملك، وإلى هزيمة الأرمادا كان يصون روح الشعب المعنوية اعتقادهم بأن أسبانيا تخوض حربا مقدسة ضد الإسلام، والأراضي المنخفضة، وإنجلترا، فلما تحطم الحلم انهارت أسبانيا جسداً وروحاً.
على أن الحياة الأسبانية كان لها بهاؤها وسحرها الملازمان لطبيعتها. فالاحسان واسع الانتشار، والسلوك المهذب يسود جميع الطبقات. ونصف الأمة يزعم لنفسه عراقة الأصل ويحاول الارتفاع بحياته إلى آداب الفروسية، ويصر على أن يرتدي لباس العشر الأعلى من السكان. وكان اللباس في عهد فيليب الثاني متوسط البساطة، فالرجال يلبسون أطواق الرقبة والصدرات(29/83)
والجوارب الطويلة القاتمة الضيقة، والأحذية ذات المشابك، أما النبيلات (وكلهن نبيلات) فيغطين ما استدار من اجسامهن بالمشدات القاسية المستوية، ويحجبن عن الجنس الآخر كل وجوههن فيما عدا العيون (وهي في نساء الأسبان شديدة التوقد)، ويخفين اقدامهن في خفر بحيث كانت لمحة واحدة إليها أعظم المكافآت المثيرة التي تجزي بها توسلات العاشق الولهان (8). وأصبح لباس النساء أكثر بهاء إبان التراخي الخلقي الذي أعقب موت فيليب، فالمراوح ترف في مداعبة بلا كلام، والصباغ الأحمر يلمع على الوجوه والأكتاف والنحور والأيدي، والسيقان التي يلفها الغموض تخفي في تنانير من سعتها أن اصحاب المسارح كانوا يتقاضون أجر كرسيين من لكل امرأة تعاظم حجمها على هذا النحو.
وظلت مصارعة الثيران المفضلة. وقد أصدر البابا بيوس الخامس مرسوماً بحظرها عام 1567، ولكن فليب الثاني احتج بأن هذا الخطر سيطلق ثورة في اسبانيا، فأهمل المرسوم. واضافت المواكب الدينية شيئاً من الشعر الحزين إلى الأيام العادية الخالية من الاثارة. وسترت اقنعة الكرنفال كثرة من الخطايا. أما الموسيقى فغرام لا يفوقه غير الدين والعشق - وهو وثيق الصلة بهما. فالفويلا في شكلها بالقيثارة تعزف الحانا شجية تلازم العلاقات الرامية. وقد حظيت الأغاني الشعرية القصيرة بشعبية مؤقتة. ونافست اسبانيا إيطاليا في الموسيقى الكنيسة. وقد نشأ توماس لويس دي فكتوريا، وهو بمثابة فلاسكويز الموسيقى الأسبانية، في أفيلا (آبله)، بلد القديسة تريزا، ولعله وقع تحت تأثيرها. وكان يملك الصوت والوظيفة، ولعله رسم قسيسا عام 1564، ومن المؤكد أن فيليب أجرى عليه إعانة ليدرس الموسيقى في إيطاليا. ونحن نراه في سنة 1571 رئيسا لفرقة المرتلين في الكلية الجرمانية بروما. وفي عام 1572 أصدر كتابا من الألحان يحوي موسيقى» Ovos omnes« ( يا جميع الآلهة) الملهمة المرافقة لمراثي أرميا لأورشليم. ولما عاد إلى اسبانيا قدم لفليب الثاني(29/84)
كتاب قداديس احتوى على لحن من أرفع ألحانه، وهو قداس» Oquam gioriosum« ( ما أمجدك). وكتب قداسا جنائزيا عميق التأثير لمأتم ماريا أخت فيليب، وأرملة الامبراطور مكسليان الثاني، وضعه مؤرخ نابه للموسيقى في صف «أروع الألحان المدونة قاطبة (9)». وقد سماه أغنيته التم»، وبعد نشره (1603) تفرغ بكليته لواجباته الكهنوتية. وكان من ألمع النجوم في أشهر عهد من عهود الملكية الأسبانية.
2 - فيليب الثاني
1555 - 1598
هنا رجل من أغرب واقوى شخصيات التاريخ، متعصب، ذو ضمير حي، مكروه أشد الكره خارج اسبانيا، محبوب أحر الحب داخلها، يتحدى أي دارس يحاول جاهداً أن يكون موضوعيا. كان نسبه قدره المكتوب، فأبوه شارل الخامس، الذي خلف له ملكا والتزاما بالتعصب، وجدته لأبيه جوانا لا لوكا ابنة فرديناند الكاثوليكي المجنونة؛ فالصوفية والجنون إذن في عروقه، والعقيدة والاستبداد في ميراثه. وكان لأمه ايزابيللا البرتغالية ولدان آخران مات كلاهما بالصرع في طفولته، وماتت هي نفسها في السادسة والثلاثين حين كان فيليب في الثانية عشرة. ولد في بلد الوليد عام 1527 يوم كانت جيوش أبيه تنهب روما وتسجن البابا، وربى على يد قساوسة ونساء أغرقوه في التدين وأقنعوه بأن الكنيسة الكاثوليكية هي السند الذي لا غنى عنه للفضيلة والملكية. وعلى حين كان أبوه - الذي نشأ في فلاندر - قد شب رجل دنيا، أصبح فيليب - الذي عاش في أسبانيا معظم حياته - أسبانياً وجهاً وعقيدة، جسداً وعقلاً، برغم جلده الأبيض وشعره الأصفر الحريري.
لم يكد يستمتع بشباب، ففي الثالثة عشرة عين حاكماً على ميلان، وفي السادسة عشرة وصياً على عرش اسبانيا - وهي وصاية لم تكن مجرد اسم بلا مسمى. فقد رتب شارل مشيرين له، وشرح له طباعهم ببصيرة نافذة، وأمره ان يؤلب المشير على المشير، وحضه على أن يحتفظ لنفسه(29/85)
بكل السلطة الحقيقية وكل القرارات النهائية - وهو ما فعله فيليب إلى آخر نسمة من حياته. وفي تلك السنة (1543) تزوج فيليب ابنة خاله الأميرة ماريا البرتغالية، ولكنها ماتت عام 1545، عقب أن أنجبت له ابنا «سيئ الطالع» هو الدون كارلوس، فعقد فيليب زواجا من احدى بنات الشعب هي إيزابيللا دي أوزوريو، التي انجبت له عدة أطفال. وألح عليه أبوه في فسخ هذا الزواج، وكان لزاما على كل أمير هابسبورجي أن يعين على تأليف نطاق من الحلفاء حول العدو القديم فرنسا. لذلك وجب على فيليب - لكي يؤمن قوة أسبانيا في الأراضي المنخفضة من تدخل إنجلترا - ان يبتلع حاسته الجمالية ويتزوج ماري تيودور ملكة إنجلترا الكاثوليكية. وينجب منها بنين يحتفظون بإنجلترا في حظيرة الكاثوليكية. وهكذا نراه في عام 1554 يعبر المانش، ويتزوج ماري الدميمة، العليلة، المؤملة في الحلف (وكانت تكبره بأحد عشر عاما)، ويبذل قصاراه لاخصابها، ولكنه يخفق، فيرحل (1555) ليصبح حاكما للأراضي المنخفضة.
وتمضي السنون وأعباؤه تثقل. ففي عام 1554 كان قد نصب حاكما لمملكة نابلي وصقلية المزدوجة. وفي عام 1556 تخلى له شارل عن تاج أسبانيا. وظل فيليب أربع سنوات يحكم أملاكه المبعثرة من بروكسل. وقد ناضل للتوفيق بين رزانته الاسبانية وبين المرح الفلمنكي والمالية الهولندية. لم يكن يستطيب الحرب، ولكن قواده كسبوا له في سانت كوينتين (1557) معركة حمل الفرنسيين على ابرام معاهدة كاتو - كامبريزي. ورغبة منه في إقامة بعض روابط الصداقة مع فرنسا تزوج فيليب من اليزابيث فالوا، ابنة هنري الثاني وكاترين مديتشي، وبعد أن خال الأمور قد استقرت ودع الأراضي المنخفضة وأبحر من غنت (أغسطس 1559) وحبس نفسه بقية حياته في أسبانيا.
ونقل العاصمة من طليطلة إلى مدريد (1560)، وما لبث ان حمله حبه للعزلة، وعدم ارتياحه إلى الوجود وسط الجماهير، على تكليف(29/86)
خوان باوتستا وخوان دي هيرايرا بأن يشيدا له على سبعة وعشرين ميلاً شمال غرب مدريد مجمعاً من العمائر يحوي قصراً ملكياً، ومركزاً إدارياً، وكلية ومدرسة لاهوتية، وديراً، وكنيسة، وضريحاً - ولا غرو فقد أصبح فيليب الآن متديناً على قدر ما تسمح به مقتضيات السياسة. ففي معركة سانت كوينتين هدمت مدافعه مكرسة للقديس لورنس، وتكفيراً على هذا الانتهاك لمقدسات وعرفاناً بالجميل على انتصاره، كان نذر أن يقيم للقديس ضريحاً في أسبانيا. وهكذا سمى مجمع العمائر الشاسع هذا السيتيوريال دي سان لورينزو «- أي المقر الملكي للقديس لورنس، ولكن الزمن سماه الإسكوريال، نسبة لمدينة قريبة، اشتقت هي نفسها اسمها من لفظ «سكوريا» ومعناه خبث مناجم الحديد المحلية (10). وكان الاعتقاد أن القديس لورنس قد أحرق حتى الموت على مشواة من حديد، لذلك صمم خوان باوتستا خطة الارض على هيئة مشواة تقطعها الصالات من جنب إلى جنب، قاسمة الفراغ إلى ستة عشر فناء.
ويعجب المرء وهو يركب السيارة من مدريد إلى هذا المكان كيف استطاع فيليب، في عصر لم يتح له من وسائل الانتقال ما هو أسرع من ظهور الخيل، أن يحكم ملكه العالمي من مثل هذا الحرم الذي يتوه وسط تلال كئيبة؛ ولكن مدريد كانت أكثر منه بعدا عن العالم. وقد هجر هذا المجمع العظيم اليومٍ إلا من الرهبان وخدماتهم، ولكنه كان أيام عزه، بواجهته المبنية بطرز النهضة والبالغ طولها 744 قدما، وبقلاعه وأبراجه، وبقية كنيسته الضخمة، رمزا رهيبا للسطوة الأسبانية التي تبلت بالتقوى والفن. هنا كان يحكم نصف العالم المسيحي، ووحد الدين والحكومة في متاهة واحدة من السياسة والحجر، وهنا كان في استطاعة الملك أن يعيش كما يشتهي، لا بين حاشيته، بل بين القساوسة والرهبان والرفات المقدسة، ويسمع مرات كل يوم الأجراس المعلنة للقداس. هان كان البانتيون مزمعا أن يتلقى رفات ملوك أسبانيا وملكاتها، والمكتبة أن تصبح من أغنى المكتبات في أوربا، ومتحف الصور أن(29/87)
يضم عما قليل روائع بريشة رفائيل، وتتسيانو، وتنتوريتو، وفيرونيزي، والجريكو، وفلاسكويز، هنا اقبل بلجرينو تيبالدي، وبارتولوميو كاردوتشي، وفدريجو زوكارو، من إيطاليا للانضمام إلى خوان فرنانديز نافاريتي، ولويزدي موراليس، ولويز دي كاربايال، وغيرهم من الفنانين الاسبان ليرسموا الصور الجصية على الجدران والبواكي التي لانهاية لها. أما القصر الملكي فتركه بسيطا كل البساطة، ولكن الكنيسة برغم بائها على الطراز الدوري الصارم، كان مذبحها يتلألأ بالرخام السماقي واليشب والذهب ومن خلفه رافدة ذات حلية معقدة. وكانت القاعة المخصصة لاستقبال كبار القوم شاسعة حافلة بالزخرف، أما حجرة فيليب فأفقر حجرات البناء، متواضعة كأنها صومعة عابد (11). كان البناء رمزاُ لسطوة فيليب، أما الحجرة فتعبير عن خلقه.
لقد جهد غاية الجهد ليكون قديساً، ولكنه لم ينس أنه ملك. كان يعلم أنه أقوى حاكم على ظهر البسيطة ويشعر بالتزام سياسي بالكبرياء، ولكنه كان في لباسه آية في البساطة حتى أن بعض الغرباء الذين صادفوه في الاسكوريال حسبوه تابعا، وسمحوا له أن يكون دليلهم (12). وكان خليقا بهم ان يتعرفوا عليه من ذقنه الهابسبورحية الناتئة، لأنها كانت تحديا بارزا للعالم. وفي عان 1559، قبل أن يقسيه الزمن والتجارب، وصفه سفير بندقي بأنه «يبدي دائما من الرقة والانسانية ما لا يبزه فيه أمير (13)»، وقال عنه سفير انجليزي أنه «ذو خلق لطيف، وطبع لين، وميل إلى الهدوء (14)». ولم يجد فيه أحد أي ميل للمزاح أمام الناس، وذكر أعداؤه القساة أنه لم يبتسم في حياته كلها غير مرة - وذلك حين سمع بمذبحة القديس برتلميو. على أنه في حياته الخاصة كان يستطيب الدعابة والنكتة ويضحك من كل قلبه (15). وكان يجمع الكتب بذوق ولذة، ولكنه آثر الفن على الأدب، فهو الراعي المرهف الذوق لتتسيانو، والناقد لإلجريكو، يحب الموسيقى ويعزف على القيثارة(29/88)
حين لا يرقبه العالم، تحليه كل آداب السلوك الأسبانية، ولكنه يرتبك حياء ويجمد في المناسبات الرسمية، رشيق الجسم إلى أن أعجزه النقرس. لولعه بالفطير والحلوى. وكان منذ شبابه مستهدفا للمرض، وإذ كان قد أدرك السبعين كاملة فإنما الفضل في ذلك لتصميمه العنيد على اتمام واجباته. وقد اتخذ الحكم واجباً مقدساً، وراح يكد فيه يوماً بعد يوم طوال خمسين عاما. ويبدو أنه آمن حقاً بأن الله اختاره لوقف المد البروتستنتي، ومن هنا ما عرف عنه من عناد شديد وقسوة على مضض، «ولم يكن بطبيعته يؤثر الطرق العنيفة (16)». ولم ينس قط صنيعاً (اللهم إلا حالة أجمونت). ولا نسي اساءة. كان المنتقم أحياناً، الشهم الصفوح غالباً. وزع الصدقات بسخاء يمليه الضمير (17). كان في عصر فاسد غير قابل للافساد، وما كان لرشوة أو هدية أن تثنيه عن الاضطهادات التي دفعه إليها تدينه.
أما في أخلاقيات السياسة فكان شبيها كل الشبه بمعاصريه - يكره الحرب، ولم يبدأ حربا قط، واحتمل من إهانات إنجلترا جيلاً كاملاً تقريباً قبل أن يجرد عليها الارمادا. كان قادراً، بل أقدر من معظم الحكام، على الخداع المتخفي وراء التقوى، والظاهر أنه شارك في مؤامرة لقتل اليزابث حي أعيته لانقاذ ماري ستيوارت (18). وكان حكمه لأسبانيا أوتوقراطيا ولكنه عادل، «يهتم الاهتمام الشديد برعاياه، ويصلح أي مظالم اجتماعية يجد الوقت لاكتشافها (19)».
أما خلقه الشخصي فيفضل خلق أكثر ملوك القرن السادس عشر. كان في شبابه ببروكسل، إذا صدقنا اعداءه، «شديد الاباحية» و «لهوه المفضل أن يخرج ليلا متخفيا ليمارس شتى الشهوات المبتذلة في المواطن المألوفة للرذيلة (20)»؛ وبعد سنوات اتهم وليم أورنج، وهو يقود ثورة الأراضي المنخفضة، ناسك السكوريال هذا بأنه قتل ابنه ودس السم لزوجته الثالثة (21)، ولكن رجلا ساخطا مثل وليم لا يعتمد(29/89)
عليه في كتابة التاريخ. على أن مؤرخا لا يتطرق الشك إلى عظمته وجرأته، وهو ماريانا اليسوعي الاسباني، يصدر عليه حكما عدائيا كهذا، فبينما هو يشيد بـ «سماحة فيليب وعزيمته ويقظته وزهده في الطعام والشراب» يتهمه بـ «الشهوانية، والقسوة، والكبر والغدر، وعدة رذائل اخرى» (22) ولكننا نجد مؤرخا هولنديا محدثا يخلص إلى أن «فيليب الثاني لا يمكن اتهامه بالفجور و .. والخلاعة والفساد، فهو على قدر علمنا عاش بعد عودته إلى أسبانيا حياة فاضلة إلى حد الصرامة (23) زوجا وفيا شديد الاهتمام بأبنائه. وحين مرضت زوجته الثالثة اليزابيث قالوا بالجدري (وكان يومها فتاكا أغلب الأحيان) ظل ملازما لها لا يبرحها إلا نادرا مع أن وزراءه ألحوا عليه في ألا يعرض نفسه لخطر العدوى. وبعد موت اليزابث عقد فليب زواجا دبلوماسيا آخر (1570) بأميرة نمساوية من أميراتها العديدات المسميات «آن»، وماتت آن هذه عام 1580 وبعدها كرس عواطفه العائلية الحميمة لبناته. ورسائله لهن رسائل إنسانية فيها دعاية ومحبة (24). واصبحت اليزابث كلارا رفيقه الحميم وعزاءه الكبير وسط هموم الشيخوخة وهزائمها. وقد وصفها في وصيته بأنها نور عينيه. أما ابناؤه فلم يجد فيهم أي عزاء.
وتضافرت الأسطورة والأدب (1) والشفقة الانسانية لتجعل من ابن فليب الأكبر رجلا أشهر من أبيه. كان كارلوس ضعيف البنية، مستهدفا للحمى المتقطعة؛ والاكتئاب، ونوبات الغضب والكبرياء. كان سخيا في إسراف، شجاعا في شراسة، كان يضحك جده، الذي كان بالأمس شارل الخامس العظيم بلومه إياه على أنه فر من موريس أمير سكسونيا في إنربروك (1552) - «لو كنت مكانك لما
_________
(1) اتخذ هؤلاء الكتاب الدون كاروس موضوعا لمسرحياتهم: شيلز، والفييري، وأوتواي، وماري جوزف دشيينه، وخوان بيريز دمونتالفين ... الخ.(29/90)
قررت قط!» (25) وفي المحادثات التمهيدية لمعاهدة كاتو-كاميريرزي كان هناك وعد بزواج كارلوس-وهو يومها في الرابعة عشرة- من اليزابث فالوا، ولكن في المعاهدة نفسها اتخذ فليب هذه الأميرة زوجة له بعد أن ترمل بموت ماري تيودور، وذلك ليحول الصداقة الفرنسية من انجلترا إلى أسبانيا، وبعد عام وصلت العروس إلى مدريد (1560). ولعل كارلوس حين رأى جمالها المتواري خلف قناع من الحشمة ساءه هذا التحوير لحق «السيد الاقطاعي»، ولكن ليس هناك دليل على وجود اية علاقة غرام بينه وبين الملكة ذات الأربعة عشر ربيعا (26).
وكان من المسلم به رسميا أن كارلوس وريث للتاج برغم علته. وفي عام 1561 أرسل إلى جامعة ألكالا «القلعة». وهناك سقط من درجات سلم خلال مطاردته فتاة يغازلها فكسرت جمجمته، وراح يهذي في غيبوبته. ونشر الجراح الكبير فيزاليوس عظم رأسه فأنقذ حياة الصبي، ولكن تحسن حالته عزاه الناس إلى رفات أخ فرنسسكاني تقي- مات قبل قرن-أخذت من تابوتها ووضعت على الفراش إلى جوار الأمير. وخلال نقاهة الفتى الطويلة مكث فليب في «القلعة» وأنفق الوقت الكثير إلى جانبه. وأعيد كارلوس إلى مدريد وهناك استرد من العافية ما سمح له بالانضمام إلى شباب النبلاء في حوادث العنف يرتكبونها في الشوارع ضد الرجال والنساء. وقوت اعتداءاته القاسية الصاخبة، الشبهة في أن سقطته قد ألحقت بمخه أذى لا شفاء له منه. ولم يكن مما يعنيه على كسب عطف فليب أنه أعرب عن تعطفه مع الثوار في الأراضي المنخفضة. ولما عين ألفا قائدا للجيش هناك احتج كارلوس بأن هذه المهمة كان يجب أن تعهد إليه، فنهى الفا عن الذهاب، وهاجم الدوق بخنجر شهره عليه حين أصر على الذهاب (27). ويبدو أن الأمير خطر له حينا أن يهرب إلى الأراضي المنخفضة ويضع نفسه على رأس الثورة (28). وكلف فليب بعض(29/91)
وزرائه، الزاهدين في المهمة، بأن يراقبوه. ووضع كارلوس الخطط للهروب، وبعث بعملائه لجمع المال، وجمع 150. 000 دوكاتية، وأمر بأن يؤتى له بثمانية جياد لهروبه _يناير (1568). غير أنه اسر بخطته لدون جوان النمساوي، الذي أفضى بها إلى الملك. وخاف فليب أن تستعمل اليزابث ملكة انجلترا، أو وليم أورنج، ابنه-إذا سمح له بمغادرة أسبانيا-منافسا لأبيه تمهيدا لعزله، فأمر بتشديد الرقابة على الأمير، وهدد كارلوس بالانتحار، فجرد فليب من كل سلاح وحبسه في القصر الملكي بمدريد.
إلى هناك كان مسلك فليب يسمح بالدفاع عنه، ولكن التعصب بدأ يعمق المأساة. ذلك أن الملك حين اشتبه في هرطقة ابنه أمر بألا يسمح له بأي كتاب الا كتاب صلوات يومية وبعض كتب العبادة. ورفس كارلوس الكتب وأهمل كل الطقوس الدينية. وأنذره قسيس بأن مسلكه قد يحمل محكمة التفتيش على التحقيق في صحة مسيحيته، وحاول كارلوس أن يقتل نفسه، ولكن حيل بينه وبين ذلك، على أنه حقق هدفه بأن رفض كل طعام قدم إليه طوال أيام ثلاثة، ثم أتخم نفسه باللحم والماء المثلج، فأصيب بالدوسنتاريا، ورحب الأمير بالموت، وتناول القربان لآخر مرة، وسامح أباه، ثم مات غير متجاوز الثالثة والعشرين (24 يوليو 1568). واتهم انطونيو بيريز-عدو فليب المنفي-الملك بأنه دس السم لكارلوس، وصدقت معظم أوربا التهمة، ولكن البحث دحضها (1). على أن صرامة سجن الفتى من النقط السوداء الكثيرة التي تلوث سجل الملك.
_________
(1)» في الحادث الأليم، حادث سجن الدون كارلوس وموته، سلك فليب مسلكا شريفا «-الموسوعة البريطانية، 17، 722. قارن مارتن هيوم في كتابه» أسبانيا «عظمتها وانحلالها «150،. تريفور ديفز» القرن الذهبي لأسبانيا «149.(29/92)
وقد ألقى مسلكه من أخيه لأبيه، دون جوان النمساوي، ظلاً آخر على الصورة. فيبدو أن هذا الابن غير الشرعي لشارل الخامس وبربارا بلومبرج أثار في نفس فليب إعجاباً تشوبه الغيرة. ومع ذلك رفع جوان إلى مرتبة الأمراء، وعهد إليه بتنظيم حملة على قراصنة الجزائر. وابلى جوان فيها بلاء حسنا. وقلده فليب قيادة القوات البرية ضد مغاربة غرناطة، وأنفذ جوان مهمته دون أن يضيع وقتا أو يسرف في رأفة. فعينه فليب-وهو بعد في الرابعة والعشرين-أميرالاً أكبر للأساطيل الموحدة في «الحرب الصليبية الأخيرة»، وهزم جوان الترك في ليبانتو، وغدا بطل العالم المسيحي. هنا شعر بأنه جدير بعرش مملكة، ولكن شق عليه أن يكتفي فيليب بتنصيبه حاكما عاما على الأراضي المنخفضة.
ثم لام الناس الملك الصموت، الذي كان على الدوام يأبى لكبريائه أن يفسر مسلكه أو يدافع عن نفسه على منبر الرأي العام، لاموه اشد اللوم على مأساة أخرى. ذلك أنه رقي إلى منصب المستشارية لديه رجلا من عامة الشعب ذكيا أنيقا يدعى أنطونيو بيريز، وكان الاعتقاد أنه الابن غير الشرعي لأخص أصدقاء فليب وأحوزهم لثقته، وهو روى جوميز أمير ابيولي. فلما مات جوميز (1573)، اصبح بيريز الصديق الحميم-وربما العشيق (29) -لآنا دي مندوزا، أميرة ايبولي-الأرملة المغرقة في الدس. وقيل أن فليب نفسه كان له علاقة بهذه الحسناء العوراء قبل أحد عشر عاما، ولكن لعل «التاريخ» هنا لفق هذه القصة (30). وترما بيريز معها بغية الافادة من اطلاعها على أسرار الدولة. فلما هددهما خوان دي اسكوبيدو بأن يفضح نشاطهما المريب، أقنع بيريز قليب بأن اسكوبيدو يتآمر على خيانته، واعطى فليب الأمر باغتيال خوان. واحتفظ بيريز بالأمر ستة اشهر، ثم نفذه (1578) مما أدهش فليب واربكه. وبعد عام اقنعت أوراق دون خوان النمساوي السرية فليب ببراءة اسكوبيدو، فقبض على بيريز، وحبس الأميرة(29/93)
في قصرها. واعترف بيريز بجريمته تحت ضغط التعذيب، ووافق على أن يرد للخزانة 12. 000. 000 مارافيدي. ولكنه فر إلى اراجون بمساعدة زوجته، وهناك طاردته محكمة التفتيش بتحريض فليب باعتباره مهرطقا. ففر إلى فرنسا، وعزا اضطهاده إلى غرام فليب بلا ايبولي غراما لم يسله، وافشى مواطن ضعف أسبانيا الحربي والمال لحكومتي فرنسا وإنجلترا، وحرض ايسيكس على الاغارة على السفن والشواطئ الأسبانية. وأخيرا مات بباريس عام 1611 بعد أن حاول عبثا الحصول على عفو فليب الثالث وحمايته (31).
لقد وجد فليب مبررا كافيا لاتباع نصيحة أبيه بالا يثق بمساعديه ذلك أن اشراف الأسبان-كالنبلاء الفرنسيين-كانوا غيورين من سلطة الملكية لا يتورعون عن الكبد للملك. ولقد أبقى على خلافاتهم فيما بينهم، وضرب بعضهم ببعض، وتلقى تقارير ملخصة عن آرائهم المتعارضة، ثم اتخذ قراراته. ولما فقد الثقة في مرءوسيه، أكب بشخصه على دقائق الحكم والإدارة في كي ميدان-في السياسة البابوية، والأشغال العامة، والرذائل المحلية، والطرق والكباري، وتطهير الأنهار للملاحة، وانشاء المكتبات، واصلاح القانون الأسباني وجمعه وتنسيقه، والاشراف على مسح جغرافي وتاريخي واحصائي واسع لأسبانيا ما زالت مجلداته الخمسة عشر ذات القطع الكبير دون نشر (32) -. على أن اضطلاعه بأعباء ينوء بها كل كاهل افضى به إلى سياسة التسويف والتأجيل، فقد لاحظ أن كثيرا من المشكلات تفقد إلحاحها أو معناها إذا أجلت عمدا-ولكن مجرى الأحداث في عدة حالات-كحالة الأراضي المنخفضة- فصل فيها على عكس ما يشتهي بينما هو يزن ما للحلول وما عليها أو يضعها على الرف. وفي مهجعه الملكي كان يملي أو يكتب بيده التعليمات لموظفيه الذين عينهم في خمس قارات. وقد افترض أن السلطة الملكية يجب أن تكون مطلقة، واغفل أو طغى على «الكورتيز» أو المجالس الأقليمية(29/94)
إلا في الأرجوان وأصدر المراسيم-حتى مراسيم الاعدام-دون محاكمة علنية، وهدأ أوتقراطيته باليقين بأن هذا سبيله الأوحد إلى حماية الفقراء من الأغنياء (33). وأنشأ تدريجا وبجهد، داخل حكمه المستبد، في قارة استشرى الفساد في كل ارجائها تقريبا، بيروقراطية وقضاء امتازا بالقياس إلى غيرهما بالكفاية والعدل (34).
كان يحترم الكنيسة باعتبارها الشكل التقليدي للفضيلة والحارس القديم للملوك، ولكنه أخضع الدين للدولة في اسبانيا كما فعل هنري الثامن أو اليزابث الأولى في إنجلترا. وعلق أهمية كبرى على الوحدة الدينية باعتبارها أداة للحكم، حتى أنه رأى «أنه حير للملك ألا يملك اطلاقا من أن يملك على مهرطقين» (35) فلما اقتنع بأن المغاربة في أسبانيا ما زالوا يمارسون شعائر الإسلام برغم تظاهرهم بالكثلكة، أصدر (1567) أمرا عاليا يحرم كل العادات الاسلامية ويحظر استخدام اللغة العربية واقتناء الكتب العربية. وتمرد المغاربة (1568)، واستولوا على اقاليم كبير جنوبي غرناطة، وذبحوا المسيحيين، وعذبوا الكهنة، وباعوا النساء والأطفال رقيقاً للبربر نظير البارود والبنادق. ولكن التمرد أخمد بعد سنتين من الفظائع التي تنافس الفريقان في ارتكابها. وطرد جميع المغاربة من اقليم غرناطة وشتتوا بين الجماعات المسيحية في قشتالة، وأودع أبناؤهم البيوت المسيحية، وجعل الحضور إلى المدارس اجبارياً على جميع الأطفال-وهو أول إلزام من نوعه في أوربا (36). واشتبه فليب في أن المغاربة الباقين في بلنسية وقتلونيا يتآمرون مع العدو، وكان في حرب مع الترك، ولكن كثرة أعبائه أكرهته على أن يترك آخر مراحل المشكلة لخلفه.
وكان أبوه قد خلف له مهمة الدفاع عن العالم المسيحي ضد الإسلام باعتبارها جانبا هاما من سياسة الهابسبورج. ففي عام 1570 انضم إلى البندقية والبابوية في حرب صليبية تنهي سيادة الترك على البحر المتوسط.(29/95)
وسقطت قبرص في يد الترك بينما كان فليب يضع الخطط والحلفاء الثلاثة يحشدون اسطولهم. وما وافى عام 1571 حتى كانوا قد جمعوا في مسينا 208 سفينة شراعية كبيرة و 50. 000 بحار، و 29. 000 جندي، ورفع فوق مقدم كل سفينة صليب، ومنحت البركة للرايات، وارتفعت الصلوات جملة إلى عنان السماء، وأصدر الاميرال الشاب الملهم الصيحة الصليبية، «المسيح قائدكم، أنكم تخوضون معركة الصليب». وفي 16 سبتمبر 1571 أقلع الأسطول وحقق انتصارا قضى على تفوق الترك في البحر المتوسط. وإذ كانت اسبانيا قد أسهمت بأكثر من نصيبها من السفن والرجال، فإن بهاء ليبانتو سطح على دون جوان والملك، وقارب فليب عندها ذروة مجده قبل انحداره. وواتته هذه الذروة حين ورث عرش البرتغال (1580) فضم هذا البلد الاستراتيجي إلى ملكه المتعاظم.
أما همه المقيم فكان ثورة الأراضي المنخفضة. فقد علم ساخطا أن كوليني، الزعيم البروتستنتي، كاد يقنع شارل التاسع بأن فرنسا يجدر بها أن تتحالف مع الثوار. فلما بلغ فليب نبأ مذبحة القديس برتولوميو التي أطلق شارل وحوشها على الهيجونوت طرب له وشدد النكير على الأراضي المنخفضة. فحرض على اغتيال وليم أورنج ودفع أجر الجريمة، وحاول شراء صداقة هنري نافار؛ ولكن هنري لم يكن ممن تشتري صداقتهم بالمال. ومن ثم اشترى فليب آل جيز والحلف الكاثوليكي؛ وحلم يجعل ابنته ملكة على فرنسا، وعندها تتحالف قوى اسبانيا وفرنسا فتخضعان الأراضي المنخفضة، وتنصبان ماري ستيوارت ملكة على انجلتره، وتقطعان دابر البروتستنتية من كل مكان. فلما أرسلت اليزابث المعونة لهولندة (1585)؛ وشيعت ماري إلى آخرتها (1587)، وبعد سنين صبر فيها فليب وصابر على الغارات التي شنها قراصنة اليزابث على سفن اسبانيا وشاطئها وكنوزها. جنح آخر الأمر إلى الحرب، فخرب مالية حكومته ليمول الأرمادا. وساندت أسبانيا كلها هذا الجهد وصلت من أجل النصر، شاعرة بأن مصير الأسطول سيفصل في تاريخ أوربا.(29/96)
وتجلد فليب في ظاهر الأمر لذل الكارثة وعارها، وقال انه أرسل سفنه لتقاتل البشر لا الأنواء. ولكن الهزيمة حطمت روحه وكادت تحطم أسبانيا، هذا برغم أنه عاش بعدها وقاتل عشر سنوات أخرى، وأن أسبانيا استغرقت قرنا حتى سلمت بخرابها. إنه لم يستطع أن يصدق أن الله تخلى عنه بعد ثلاثين عاما من الكفاح في سبيل الإيمان، ولكن لا بد أن هذه الحقيقة الكئيبة طالعته في النهاية، وهي أنه بعد أن أفقر شعبه بالضرائب، أخفق في كل شئ إلا في اكتسابه البرتغال بمحض الصدفة، ورده الترك مؤقتا-وكانوا قد استولوا من جديد على تونس وأخذوا يستردون سطوتهم. لقد كان هنري الرابع يسير إلى النصر في فرنسا؛ والأراضي المنخفضة في ثورة لا سبيل إلى التصالح فيها؛ وأبى البابا أن يتحمل فلسا من نفقات الأرمادا؛ وقبضت البروتستنتية على ناصية الشمال الغني، واخذت تهيمن على البحار ومن ثم على أمريكا والشرق بعد قليل، أما تلك السليطة اليزابث، فهي متربعة على عرشها المنيع وسط المياه ظافرة بعد أن تفوقت على كل ملوك عصرها فطنة ودهاء.
واصطلح على الملك الثكل، والعزلة، والمرض-اصطلحت عليه كلها لتذله بعد عز وتوهن من اعتداده بنفسه. كانت زوجته الرابعة قد ماتت عام 1580، ولم يبق على قيد الحياة من الأطفال الثلاثة الذين أنجبتهم غير غلام قليل الكفاية لا بد أن يورث أول امبراطورية لا تغرب الشمس فوق رقعتها. ان الشعب ما زال يحمل لفليب الاجلال برغم أخطائه وهزائمه، فهو مقتنع بأنه ناضل من أجل قضية مقدسة، وأنه لعب لعبة القوة دون أن يفوق أعداءه تحللا من مبادئ الشرف، وهو صابر في غير لوم على الشقاء الذي أوقعته فيه سياساته الاقتصادية ونظام ضرائبه وهزائمه. وقد اصاب أطرافه بالآلام المبرحة في شيخوخته، وأعجزه بالشلل، ذلك النقرس الذي كان آخر تركة ورثها عن أبيه، وخيمت على احدى عينيه سحابة من السد، وشوهت جلده القرح المنفرة.(29/97)
وفي يونيو 1598 حمل على محفة إلى الاسكوريال، إلى غرفته الأثيرة التي يستطيع خلال نافذتها أن يتطلع إلى مذبح الكنيسة المرتفع. وظل ثلاثة وخمسين يوما يبلى جسده في فراشه، محتملا كل شئ وهو واثق أنه امتحان الإله لإيمانه، محتفظاً بذلك الإيمان إلى النهاية الرهيبة، متشبثا بصليب لا يفتأ يلثمه مرددا الصلوات المرة بعد المرة. وأمر بالافراج عن السجناء ليكون ذلك آخر عمل من اعمال الرأفة. وأرسل في طلب ابنه، وأوصاه بالرأفة والانصاف ما دام حيا، وأمره بأن يعترف بالخاتمة المهينة التي تنتهي إليها القوة الدنيوية. ثم انتهى عذابه في 13 سبتمبر 1598.
لقد بذل قصاراه بعقل غلت التربية في تقييده، عقل أضيق من أن يسع امبراطوريته، وأصلب من أن يطوع نفسه لتبعاته المنوعة. وليس في مقدورنا أن نعرف هل كان إيمانه زائفا؛ وكل ما نشعر به أنه إيمان متعصب قاس ككل إيمان في عصره تقريباً، وأنه أظلم عقله وشعبه بينما واسى فقر هذا الشعب وسند كبرياء الملك. ولكن فليب لم يكن الغول الذي صورته أقلام خصومه المشبوبة. فقد كان- على قدر ما أوتى من بصيرة- لا يقل في عدله وسماحته عن أي حاكم في قرنه إلا هنري الرابع. وكان مهذباً في حياته الزوجية، محباً لأسرته محبوباً منها، صابراً على الاستفزاز، شجاعاً في الشدة، مخلصاً في الجهد. لقد دفع إلى التمام ثمن تركته الغنية المهلكة.
3 - فيليب الثالث
1598 - 1621
أما وريثه فكان فليباً آخر مختلف كل الاختلاف عن أبيه. لقد حزن أبوه حين رأى تراخي الفتى وقصر نظره قائلا «أن الله الذي رزقني هذا الملك العريض لم يرزقني ولدا يصلح لحكمه (37)» كان فليب الثالث، الذي بلغ العشرين الآن، أتقى حتى من أبيه، فترددت الشائعات في رميه بأي خطيئة ولو عارضة. ولما كان خجولاً وديعاً، شديد العجز عن القيادة، فقد أسلم كل سلطات الحكم ومتطلباته إلى فرانتشسكو جومز دي ساندوفال أي روجاس، دوق ليرما.(29/98)
أما الدوق فكان فيه شئ من البر بالناس، لأنه رق كل أقاربه تقريبا في المناصب الدسمة، ولم يغفل ذاته في بره، ففي العشرين سنة التي رأس فيها الوزارة جمع ثروة طائلة قدرها الشعب المغيظ بمبلغ 44. 000. 000 دوكاتية (38)، وهو رقم يستحيل تصديقه. وقد وفر للخزانة من المال ما يكفي لتجهيز أسطولين ضخمين ضد إنجلترا (1599 - 1601)، ولكن كليهما حطمته الأنواء العالية. وكان لليرما من الحصافة ما جعله يرحب بعروض السلام التي قدمها جيمس الأول، وهكذا أبرمت أسبانيا وإنجلترا صلح لندن (1604) بعد تسعة عشر عاما من الحرب, أما الحرب في الأراضي المنخفضة فاستمرت. واستنزفت الذهب من اسبانيا بأسرع من وصوله إليها من أمريكا، ووجد ليرما أنه ليس في طاقته أن يشبع من موارد بلد مرهق حاجات قواده المعوقين، وجيبه الخاص. وإذا أدرك أنه لم يعد هناك جدوى من بذل مزيد من الجهود لرفض منح «الأقاليم المتحدة» استقلالها، فقد وقع معها هدنة تمتد اثني عشر عاما (1609).
ولكن مشروعه التالي كان لا يقل تكلفة عن الحرب. كان مسقط رأسه بلنسبة، حيث يعيش ثلاثون الفا من اسر المغاربة، وكان فيه من التقوى ما يكفي لتبغيضه في هؤلاء المزارعين والصناع الذين كان لجدهم واقتصادهم الفضل في احتفاظهم باليسر وسط فقر المسيحيين المستكبر العاجز. وكان يعلم أن هؤلاء المسلمين المتنصرين قد احتفظوا- بدافع من سخطهم لاضطهاد فليب الثاني لهم- باتصالات خائنة مع مسلمي أفريقيا وتركيا، ومع هنري الرابع ملك فرنسا، الذي أمل ان يفجر الثورات في أسبانيا في الوقت المناسب (39). ورأى أنه ليس من الوطنية في شئ أن يرف المغاربة الخمر ويزهدوا في أكل اللحم، فنتيجة هذا أن يقع عبء الضرائب المفروضة على هذه السلع، كله تقريبا. على كواهل المسيحيين من الأسبان. وأعرب سرفانتس عن الخوف من أن هؤلاء المغاربة الذين ارتفعت نسبة المواليد فيهم عنها في «المسيحيين القدامى» لندرة العزوبة عندهم، سيسودون(29/99)
أسبانيا عما قليل (40). وقدم خوان دي ريبيرا رئيس أساقفة بلسنبة المذكرات إلى فيليب الثالث (1602) يحضه فيها على طرد جميع المغاربة الذين تزيد أعمارهم على السابعة، وقال في تفسيره للكوارث التي نزلت بأسبانيا، بما فيها تدمير الارمادا، إنها عقوبات أنزلها الإله لإيوائها الكفار، فهؤلاء المسيحيون المزيفون يجب ترحيلهم، أو ارسالهم لسفن العبيد، أو شحنهم بالمراكب إلى امريكا ليشتغلوا عبيدا في المناجم (1) (41). وبرغم تحذيرات البابا، وبرغم احتجاجات ملاك الأراضي الذين كانوا ينتفعون من مستأجريهم المغاربة، أصدر ليرما (1609) مرسوما أمر به جميع مسلمي اقليم بلنسبة - مع بعض الاستثناءات - بأن يستقلوا خلال ثلاثة أيام مراكب أعدت لهم لينقلوا إلى أفريقيا، غير حاملين معهم من المتاع أكثر مما تطيقه ظهورهم. وتكررت الآن المناظر التي رافقت طرد اليهود قبل 117 عاما. وأكرهت الأسر البائسة على بيع أملاكها بخسائر فادحة، وساروا إلى الموانئ يتعثرون في شقائهم، وسرق الكثيرون منهم، وقتل البعض، في طريقهم إلى السفن أو وهم على ظهورها. فلما وصلوا إلى افريقيا تهللوا لبلوغهم أرضاً مسلمة، ولكن ثلثيهم هلكوا جوعاً أو قتلوا باعتبارهم مسيحيين (42). وفي شتاء 1609 - 10 أجلت حركات طرد أخرى من بقى من المغاربة في غير بلسنبة، وهكذا نزعت أملاك 400. 000 من أكثر أهل أسبانيا انتاجا وأقصوا عن البلاد. وكان هذا في أعين الشعب أمجد منجزات الحكم، وتطلع الأسبان السذج إلى عهد أكثر رخاء، بعد أن استرضوا الإله بتخليص اسبانيا من الكفار. واغتبطت الحاشية بالحصيلة التي تجمعت من مصادرة أملاك المغاربة، فكان نصيب ليرما منها 250. 000 دوكاتية، ونصيب ابنه 100. 000، ونصيب ابنته وصهره 150. 000 (43).
_________
(1) أدخل خوان دي ريبيرا في زمرة القديسين عام 1960.(29/100)
وما حلت سنة 1618 حتى كان جشع ليرما وإهماله، وإسراف الملك وحاشيته، وفساد الموظفين، وتمزق الاقتصاد بخروج المغاربة، قد هبط باسبانيا إلى درك نبه حتى هذا الملك الخامل إلى ضرورة التغيير. وفي فورة من فورات العزيمة طرد ليرما (1618)، ولكن ليقبل ابنه - الدوق أو سيداً - رئيساً لوزرائه. واعتزل ليرما في لباقة، وتقبل قبعة الكردينالية وعاش سبع سنين آخر رافلا في حلل لاتقوى والثراء. وفي عام 1621 أنذر مجلس قشتالة الملك بأن ملكه «في طريقه إلى الافلاس والدمار لفداحة الأعباء والضرائب والرسوم» (44)، وتوسل إليه أن يعتدل في نفقاته. فتقبل النصيحة ولكنه مضى يسلك مسلكاً ملكياً مترف الجهاز والصيانة. في هذه السنة بعينها مات مخلفاً لولده ملكاً عريضاً لا حول له ولا قوة، وحكومة فاسدة لا كفاية فيها، وشعباً هوى إلى درك الفاقة والتسول والسرقة، وطبقة استنكفت من أن تؤدي ضرائبها، وكنيسة خنقت فكر الشعب وحطمت ارادته وأحالت خرافاته أكداساً من الذهب.
4 - فيليب الرابع
1621 - 1665
خالف الولد أباه في كل شيء إلا الإسراف. ونحن نعرفه ظاهراً من الصور الكثيرة التي رسمها له فيلاسكويز، ففي متحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك يطالعنا وهو بعد في التاسعة عشرة (1624)، فتى وسيماً أشقر الشعر متفتحاً للحياة، وفي متحف الصور الأهلي بلندن نراه مرحاً واثقاً بنفسه في السابعة والعشرين، ثم بديناً وقوراً في الخمسين، وفي البرادو نراه في خمس مراحل بين البهاء والانحلال، كذلك نرى صورة في فلورنسة وتورين، وفينا، وسنسناتي - لا بد أن هذا الرجل أنفق نصف حياته في مرسم فيلاسكويز. ولكن هذه اللوحات لا تكشف إلا عن ملامحه الرسمية، فهو لم يكن في حقيقته بهذه الرزانة والكبرياء، وقد تكون اكثر انصافاً في تصوره إذا تأملنا أطفاله في لوحات في لوحات فيلاسكويز، وأغلب الظن أن أحبهم حباً يفوق العقل كما نحب أطفالنا. كان في صميمه رجلاً(29/101)
لطيفاً، كريماً مع الفنانين والمؤلفين والنساء؛ بل نصف قديس كأبيه؛ بل مستمتعاً بالطعام، والجنس؛ والتمثيليات، والصور؛ وحياة البلاط، والصيد، عازماً على أن ينهل من الحياة ما استطاع حتى في بلد محتضر كأسبانيا.
ولعل استطابته الخالصة للحياة هي صاحبة الفضل في ازدهار الشعر والدراما؛ والتصوير والنحت، في عهده ازدهارا لم تشهد اسبانيا له نظيرا من قبل ولا من بعد. كان إذا بدت لذاته مشتطة في فوضاها استكثر من الصلوات؛ واعتمد على نياته الطيبة في أن تعبد له الطريق إلى السماء. أنجب من الأطفال غير الشرعيين اثنين وثلاثين، أعترف منهم بثمانية (45). وإذا لم يكن في وقته متسع لشئون الحكم، فقد فوض بسلطاته وواجباته رجلاً من أبرز الشخصيات في دبلوماسية القرن السابع عشر.
هذا الرجل-الدوق جاسبار دي جوزمان، كونت أوليفاريس- جرت حياته موازية ومعارضة لحياة ريشليو. فقد لعب هذا الكونت العظيم مع الكردينال الداهية، طوال واحد وعشرين عاما (1621 - 42)، لعبة دامية من الذكاء والحرب للتسيد على أوربا. وقد أطلعنا فيلاسكويز على شخصية أوليفارس- رجل خلا من الخوف والملامة، فيه كل عدوان القوة، تلتف شواربه الكبيرة المشذبة كأنها سيف معقوف رهيب، وعباءات منصبه وأحزمته وسلاسله ومفاتيحه تنطق بالسلطة (46). أما العيوب التي شابت خلقه، وهي الغطرسة والنزق والعناد الشديد؛ وعكوفه الشديد على خدمة أسبانيا. وأمانته الصريحة في بيئة فاسدة، واحتقاره للذات الدنيا إلا ان تكون سبيلا لإرباك الملك، وقصده في الطعام وبساطة حياته الخاصة؛ ومساندته الحارة للآداب والفنون. وقد ناضل مخلصا للتخفيف من الرذائل، واوقف الرشوة، ولرد الأموال المختلسة إلى الخزانة؛ وللتقليل من نفقات بلاط الملك؛ ولفرض الاقتصاد والاعتدال(29/102)
في اللباس والأثاث، وحتى للحد من قسوة محكمة التفتيش. اضطلع بكل أعباء الحكم، والسياسة، والدبلوماسية، والحرب، فكان يبدأ مهام يومه قبل طلوع الفجر ويواصلها حتى بعد أن يخر إعياء. وكانت اللعنة التي ابتلي بها ما عمد إليه ريشليو-بمثل هذا التفاني-من استنزاف لقوة الهايسبورج في النمسا وأسبانيا في بطئ، ودهاء وعناد. وقد اقتضى لقاء هذا التحدي الرهيب وجود الجيوش في قتلونيا والبرتغال وفرنسا ونابلي ومانتوا والممرات الفالتلينية والأراضي المنخفضة، وفي بالوعة حرب الثلاثين سنة الشاسعة الدامية. ولكن الجيوش تحتاج إلى المال، والمال يتطلب فرض الضرائب. لذلك رفع «القبالة» أي ضريبة البيوع إلى 14%، فاختفت التجارة؛ وكان الجباة يختلسون ثلثي الضرائب قبل أن يصل باقيها إلى الخزانة. وهكذا أوهن أوليفاريس، بعزيمة وطنية، اقتصاد أسبانيا لينقذ سطوتها السياسة.
وليس حتما أن نتتبع كل تحركات لعبة الشطرنج الدامية هذه، فهي لا تضيف شيئاً إلى معرفتنا او تقديرنا للبشرية. لقد كانت صراعاً بين القوة لا بين المبادئ، صراعا يغفل فيه كل طرف مذهبه في سبيل الانتصار العسكري، فنرى ريشليو يمول الجيش البروتستنتية في ألمانيا ضد النمسا الكاثوليكية: واوليفاريس يبعث 300. 000 دوكاتية كل سنة لدوق روهان ليطيل أمد ثورة الهيجونوت في فرنسا (47). وتحطمت اسبانيا في النهاية، فقضى الهولنديون على قوتها في البحر في معركة دوانز (1639). وقضى الفرنسيون على قوتها في البر في روسيون (1642) وروكروا (1643) وانتهزت البرتغال وقتالونيا فرصة ضعف أسبانيا فانتزعتا حريتهما (1640). وخاضت جمهورية قتالونيا الحرب ضد قشتالة مدى تسعة عشر عاما بمعونة فرنسا. وأخيرا طرد الملك اللطيف وزيره على كره بعد أن كان محل ثقته خلال عشرات الكوارث (1643). وفر اوليفارس من مدريد المناوئة إلى منفاه الاختياري في تورو البعيدة، وهناك مات مخبولا بعد سنتين.(29/103)
واضطلع فليب بالمهمة شخصياً إلى حين. فخفض نفقاته وكرس نفسه مخلصا للحكم. غير أن أسباب اضمحلال أسبانيا كانت فوق ادراكه أو سيطرته. واستمرت الحرب، ولم تخفف الضرائب، وتناقص الانتاج، وتقلص السكان. وفي صلح وستفاليا (1648) كانت أسبانيا عاجزة، فاضطرت إلى النزول عن الاستقلال للأقاليم المتحدة، بعد حرب عقيمة امتدت قرابة قرن من الزمان. وختم صلح البرانس (1659) بخاتمة امتدت قرابة قرن من الزمان. وختم صلح البرانس (1659) بخاتمة مصدقا على السيادة الفرنسية في أوربا. وسط هذه النكبات ماتت ايزابيللا البوريونية زوجة فليب الوفية الصابرة (1644)، ولحق بها بعد عامين ولدها الوحيد الباقي على قيد الحياة، دون بالنازار كارلوس، الذي صوره فيلاسكويز، بأسلوب خلاب. ولم يبق للملك غير طفلة شرعية واحدة هي ماريا تريزا، التي زوجها للويس الرابع عشر. وإذ كان فليب تواقاً لوريث لملكه فقد تزوج (1649) وهو في الرابعة والأربعين أبنة أخ لا تتجاوز الرابعة عشر ربيعاً، هي ماريانا النمساوية التي كانت مخطوبة لبالتازار، فمنحته ولدين: فليب ابروسير الذي مات في الرابعة، وولدا آخر أصبح فيما بعد كارلوس سيجوندو (شارل الثاني). أما الملك المرهق، الذي هد قواه حصى المرارة، وأوهنه نزف البواسير، ولم يكف عن مطاردته الرهبان المتجرون بالسحر، فقد استسلم للموت (1665) تعزيه فكرة وجود وريث له، ولكنه اعفي من العلم بأن ولده نصف الأبله هذا سيوصى بملك أسبانيا كله لفرنسا.
5 - البرتغال
1557 - 1668
تميزت هذه السنوات بثلاثة أحداث في البرتغال. فقدت استقلالها، ثم استردته، وكتب كامؤنش» اللوسياد «.
لقد شاركت أسبانيا نشوة وشراسة العقيدة، ثم سبقتها إلى الاضمحلال. وكان من أثر سرعة تطورها الاستعماري أنها استنزفت وراء البحار أكثر ابنائها مغامرة، وأهملت الزراعة أو ترك أمرها للعبيد(29/104)
الخائري الهمة، وفاحت في لشبونة رائحة المرتشين، والتجار الجشعين، والعمال المفلسفين، وكلهم يعيش في النهاية على الاستغلال الامبريالي أو التجارة الخارجية. واقترح الملك الشاب سباستيان، الذي ألهمه اليسوعيون الحماسة الدينية، على ابن عمته فليب الثاني الاشتراك في فتح المغرب وتنصيرها. ولكن فليب تردد لكثرة شواغله، فاقترح سباستيان أن يضطلع بالمغامرة منفردا، وحذره فيلب من قصور موارد البرتغال عن انقاذ هذه الحملة، فلما أصر سباستيان قال فليب لمجلسه، «لو كسب الحرب اصبح لنا صهرا مفلحا، ولو خسرها ىل الينا ملك حسن (48)» وغزا سباستيان المغرب فغلب على أمره وقتل (1578) في معركة القصر الكبير. ولم يعقب سباستيان وريثاً لأنه كان أعزب وفياً لعزوبته، فولى العرش عمه الأكبر الكردينال هنري، ولكن هنري نفسه مات دون عقب عام 1280، فانتهت بذلك أسرة أفيزي التي حكمت البرتغال منذ عام 1385.
هنا واتت فليب الفرصة التي ترقبها. وكان هو وفيليبرت ايمانويل أمير سافوا الوريثين المباشرين للعرش الخالي باعتبارهما حفيدي مانويل ملك البرتغال. واعترف مجلس لشبونة بفليب وريثا، وقاوم بعض المطالبين بالعرش من منافسيه بدخوله، ولكن ألفا الجبار انتصر عليهم، وفي عام 1581 دخل فليب الثاني لشبونة باسم فليب الأول ملك البرتغال. وحاول بالمجاملات والرشا ان يكسب صداقة الأمة. فنهي جيشه عن نهب الريف، وشنق الدوق ألفا من جنوده جزاء جرائم كهذه عددا كبيرا خشي معه نقصا في الحبال، ووعد فليب بابقاء الأملاك البرتغالية في يد حكام من البرتغال، وبعدم تعيين أي اسباني في منصب بالبرتغال، وبصون امتيازات الشعب وحرياته. وأوفت أسبانيا بهذه العهود مادام فليب حياً. وهكذا ورث فليب بسهولة مذهلة البحرية البرتغالية ومستعمرات البرتغال في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. وزال خط الحدود القديم الذي وسمه(29/105)
البابا ليفصل الممتلكات الاسبانية عن البرتغالية، واستعد أقوى ملوك أوربا، الذي ازداد الآن قوة على قوة لتدمير نفسه بغزو إنجلترا.
وبينما كانت إمبراطورية البرتغال تؤول إلى أسبانيا والهولنديين، كان اعظم شعرائها يتغنى بأمجاد فتوحها. هنا أيضا تقوم حواجز القومية واللغة سدا منيعا امام رغبتنا في الفهم. فأنى لقوم لم يربوا على التاريخ البرتغال،. ول أحسوا بمعنى الكلام البرتغالي وموسيقاه، أن ينصفوا لويز فاز دي كامؤيز- المعروف لنا باسم كامؤنش ويوفوه حقه من التقدير.
لقد عاش أغنيته قبل أن يكتبها، كان أحد أجداده جندياً شاعراً مثله، وجدته قريبة لفاسكودا جاما بطل اللوسياد، أما أبوه، القبطان الفقير، فقد تحطمت سفينته قرب جنوه ومات هناك عقب مولد لويز في لشبونة أو كويمبرا. والراجح أن الفتى درس في الجامعة، لأن قصيدته تصدح بأصداء كاتللوس وفيرجل وهوراس وأوفيد. وبدأت تجربته العاطفية في إحدى الكنائس، في لحظة تعبد، إذ تراءت له حسناء «لها وجه ناصع البياض كالثلج، وشعر في صفرة الذهب»، فتحرك فيه هاتف الشعر. ولابد أن بعض شعره ساء القصر، إذ أنه نفي إلى قرية على أعلى نهر تاجه، وهناك حلم بملحمة «تزيد البرتغال فخراً، وتثير حسد أزمير مسقط رأس هومر» (49). ولكن الحكومة التي لم تقدر شعره أرسلته إلى المنفى، أو إلى الخدمة العسكرية في سيته، وهناك فقد احدى عينيه في معركة أو عراك، ولما عاد إلى لشبونة دافع عن بعض أصحابه في مشاجرة، وطعن رجلاً من الحاشية، فزجوه في السجن ثمانية أشهر، ثم أفرج عنه في أغلب الظن بعد تعهده بالانخراط في سلك الجندية خارج البرتغال. وفي 26 مارس 1553 أبحر إلى الهند جندياً عادياً على سفينة أمير الأسطول فرناو ألفاريس كابرال، وكان يومها في التاسعة والعشرين من عمره.
واحتمل ضجر الليالي الرطبة في الرحلة التي استغرقت نصف عام ينظم(29/106)
القسمين الأولين من اللوسياد. وفي سبتمبر رست السفينة على جوا، وهي «سدوم» البرتغالية في الهند. واشترك في حملات كثيرة. على ساحل مليار وتجاه شواطئ جزيرة العرب، وفي ممبسة، وفي جزر الهند الشرقية، في مكاو، «سدوم» البرتغالية في الصين، وهو يصف نفسه ملوحاً بالسيف في يد، وبالقلم في الأخرى، ولقبه رفاقه بـ «ترنكافورتيس» -أي المتفاخر الطائش-ولعلهم احترموا سيفه أكثر من قلمه. وفي مكاو إلى اليوم غار يرى للزائرين على أنه المكان الذي كتب فيه كامؤنش بعض قصيدته. وتروي قصة غير مؤكدة أنه اعيد من مكاو في الأغلال بعد أن قبض عليه لأسباب لا نعرفها. وتذكر قصة أخرى (جردته من أغلاله) كيف تحطمت سفينته تجاه ساحل كمبوديا فسبح لويز إلى الشاطئ وملحمته بين أسنانه (50). على أنه فقد في غرق السفينة خليلته الصينية المحبوبة. وبعد أشهر من الشقاء وجد طريقه إلى جوا، ولكنه طرح في السجن هناك. وأفرج عنه، ثم ردّ إلى السجن بسبب الدين هذه المرة. وأطلق حاكم صديق سراحه، واستطاع الشاعر أن يستمتع برهة وجيزة بالحياة وبشتى الخليلات من كل لون. وفي عام 1567 اقترض بعض المال واستقل مركباً إلى البرتغال، ونفذت نقوده في موزمبيق، فتسكع في الفاقة عامين. ودفع بعض الأصدقاء العابرين ديونه واجرة سفره وعادوا به لشبونة آخر المطاف (1670)، وهو لا يملك من حطام الدنيا غير قصيدته. وأجري عليه الملك سباستيان معاشاً متواضعاً. وأخيراً وصلت القصيدة إلى المطبعة (1572)، واتيح لكامؤنش أن يعيش في الفقر مع السلامة ثماني سنوات. ومات في لشبونة عام 1580، ودفن مع غيره من ضحايا الطاعون في مقبرة مشتركة. وتحتفل البرتغال بذكراه في 10 يونيو، وهو يوم عطلة تذكارية، وتعتز بقصيدته «أوس لوسيادس» ملحمة قومية، وعنوانها معناه «البرتغاليون» وقد اخذ كامؤنش لفظ لوسيا من الاسم الروماني القديم للجزء الغربي من اسبانيا وهو لوزيتانيا.(29/107)
أما القصة الكبيرة التلافيف فتدور حول رحلة فاسكو داجاما التاريخية (1497 - 99) من البرتغال إلى الهند دورانا حول راس الرجاء الصالح. وقد استهلها الشاعر بدعاء للملك سباستيان و «حوريات نهر تاجه». ثم تمضي الفضة مع أسطول داجاما صعدا على الشاطئ الشرقي لأفريقيا. ويرى الشاعر لزاماً عليه أن يقلد هومر وفيرجل، فترا، يصور اجتماعاً للأرباب يتناقشون فيه حول البعث، وهل يسمحون لها بالوصول إلى الهند، أما باخوس فيقولا لا، ويؤلب مسلمي موزمبيق ليهاجموا البرتغال، الذين يرسون على البر بحتاً عن الماء. وأما فينوس فتتشفع للملاحين عند جوبيتر. ويرد المغاربة على اعقابهم، ويأمر جوبيتر داجاما بالمضي قدماً. ويرسو الأسطول على شاطئ كينيا فيستقبله الأهالي بالترحاب. ويسلك الملك الوطني وفق خطة الشاعر، فيطلب إلى فاسكو أن يقص عليه تاريخ البرتغال. وبعد لأي يستجيب أمير الحبر للطلب، قيروي ماساة اينيس دي كاسترو، ويصف معركة الجبروتة الحاسمة (1385)، حيث انتزع البرتغال أولا حريتهم من اسبانيا، ويختم بإقلاع بعثته هو من لشبونة. وبينما يعبر هؤلاء المغامرون الجدد المحيط الهندي يبتليهم باخوس ونبتون بعاصفة هوجاء، وهنا يرى الشاعر الذي جاز يمثل هذه العاصفة، متجلياً في وصف مثير. ولكن فينوس تهدئ ثائرة الأمواج، ويصل الأسطول ظافراً إلى كاليكوت.
وفي رحلة العودة تعد فينوس وابنها كيوبيد وليمة للبحارة الذين نال منهم التعب، فتخرج بأمرها «ناريدات» حسان من البحر، يكدسن موائد القصر بأطايب الطعام والزهر، ويذهبن تعب البحارة بالطعام والشراب والحب:
«أي قُبَل جائعة تلك التي بودلت في الغاية! وأي صوت رقيق علا بالشكوى الحنون! أي عناق لذيذ وكم من طبع حين غضوب تحول، تحولا لطيفاً بفضل هذا اللهو المرح! لقد ظلوا من مطلع الفجر حتى(29/108)
الظهيرة ينهلون من هذه المتع التي أحجبت فينوس فيها، والتي يؤثر الرجال أرتشافها على ذمها، بل يؤثرون ذم الذين لا يستطيعون تذوقها (51)».
ومخافة أن يشكو بعض البرتغاليين من أن في هذه الأبيات إهانة لمبدأ الزواج بامرأة واحدة أكد لنا كامؤنش أن هذا الغرام ليس إلا رمزاً، وأن الحوريات «لسن إلا جوائز ... ترفع بها الحياة وتهذب» (53) أيا كان الأمر، فإن البحارة يتعثرون رمزيا عائدين إلى سفنهم، ويجد الأسطول طريقه عوداً إلى لشبونة. وتختم القصيدة يتوسل إلى الملك أن يحسن جزاء الكفايات أينما كانت، وليس اقلها جدارة بالمكافأة هذه الأغنية الوطنية.
ويستطيع القارئ الاجنبي، ولو خلال ضباب الترجمة، أن يشعر بما في هذه القصيدة الرائعة من موسيقى رقراقة ونشوات غنائية، ويحس بالدم الدافئ الذي يجري في عروق جندي شاعر ينقل لنا صلابة البرتغاليين وتاريخهم الحافل بالمغامرات في أيام التوسع تلك. ويروى أن تاسو قال إن كامؤنش هو الشاعر المعاصر الوحيد الذي لا يقيس نفسه به قياس بالمطمئن الواثق؛ وقد فضل لوبي دي فيجا القصيدة على الإلياذة والأنيادة، يوم لم يكن بين الأسبانية والبرتغالية ما بينهما الآن من بون شاسع (53). واليوم تعد القصيدة رباط وحدة، وراية فخر ورجاء، أينما نطق الناطقون بلغة كامؤنش-في لشبونة الجميلة، وفي جوا ومكاو المنحطتين، وفي البرازيل النشيطة، المتفتحة، الرخية.
وروى أن كامؤنش قال حين نمى إليه استيلاء فليب على البرتغال، وكانت هذه آخر كلماته قبل أن يلفظ انفاسه الأخيرة «لقد أحببت وطني حبا يجعلني أموت معه (54). لقد سارت أمور هذا الوطن الأسير سيراً لا بأس به في حياة فليب، ولكن خلفاءه حنثوا بعهوده. واقترح(29/109)