الجنون. وكان يراوده الأمل في استعادة السلام إذا خفضت كل الأطراف أصواتها، وأشار في فبراير عام 1519 على فروبين ألا ينشر المزيد من مؤلفات لوثر، لأنها تفيض بالعبارات الملتهبة (88). وكتب في أبريل إلى الأمير المختار فردريك، يحثه على حماية لوثر باعتباره رجلاً ارتكب الناس في حقه من الإثم أكثر مما ارتكب هو من آثام (89). وأخيراً (30 مايو) رد على لوثر، وقال:
"يا أعز أخ لي في المسيح، إن رسالتك إلي تظهر حدة ذهنك وتنبض بروح مسيحية قد أسعدتني أكثر من كل شيء. أنا لا أستطيع أن أعبر عن مدى الاضطراب الذي تحدثه كتبك هنا. إن هؤلاء الناس لا يمكن، بأي وسيلة، ألا يراودهم الشك في أنني عاونتك في كتابة مؤلفاتك وإني، كما يصفونني، حامل لواء حزبك ... ولقد أقسمت لهم أني لا أعرفك بتاتاً، وأني لم أقرأ كتبك، وأني لا أستحسن كتاباتك ولا أستهجنها، ولكن عليهم أن يقرءوها قبل أن يتحدثوا بصوت مرتفع، ومن رأيي أيضاً أن الموضوعات التي كتبت عنها ليست من النوع الذي يصلح للخطابة من فوق المنابر، وبما أن من المسلم به أنك طاهر الذيل، فلا محل للتنديد بك أو صب اللعنات عليك. وكان هذا بلا جدوى فقد ظلوا يتميزون غضباً ... وأنا نفسي الهدف الرئيسي للعداء والكراهية، وأما الأساقفة فإنهم في صفي بوجه عام ...
وأما أنت فإن لك أصدقاء أوفياء في انجلترا، حتى بين أكبر الشخصيات هناك. ولك أصدقاء هنا أيضاً ... أنا بصفة خاصة. وأما بالنسبة لي فإني أشغل نفسي بالأدب، وأنا أقصر عليه جهودي بقدر الإمكان، وأتحاشى الخلافات الأخرى، ولكني بصفة عامة أعتقد أن اللطف مع الخصوم أشد تأثيراً من معاملتهم بالعنف ... ولعل من الحكمة أن تندد بهؤلاء الذين يسيئون استخدام سلطة البابا بدلاً من أن تحصى أخطاء البابا نفسه. وهذا ما يجب عمله مع الملوك والأمراء. والأنظمة القديمة لا يمكن انتزاعها من(24/156)
جذورها في لحظة. والمناقشة الهادئة قد تفيد أكثر مما تفعل الإدانة الجماعية، تجنب كل مظهر من مظاهر الشغب. واحتفظ ببرود أعصابك ولا تستسلم للغضب. لا تكره أحداً. لا تفرح بالضجة التي أثرتها. لقد اطلعت على كتابك "تعليق على المزامير" وسررت به كثيراً ... ألا فليهبك المسيح روحاً من عنده من أجل مجده ومن أجل خير العالم (90).
وعلى الرغم من هذا الاحتياط في المواجهة بين الضدين، فإن المشتغلين باللاهوت في لوفان استمروا في مهاجمة أرازموس، باعتباره منبع الفيضان اللوثري. ووصل إلياندر في الثامن من أكتوبر عام 1520، وعلق النشرة البابوية التي تنص على حرمان لوثر من غفران الكنيسة، وسجل أن أرازموس يعد محرضاً سرياً على الثورة. وقبل العلماء النحارير زعامة إلياندر وأقصوا أرازموس من كلية لوفان (9 أكتوبر عام 1520)، فانتقل إلى كولون، وهناك كما رأينا، دافع عن لوثر في مداولة مع فردريك صاحب ساكسونيا (5 نوفمبر)، وفي الخامس من ديسمبر أرسل إلى الأمير المختار بياناً عرف باسم Axiomata Erasmi جاء فيه إن التماس لوثر أن يحاكم أمام قضاة لا يعرفون التحيز طلب معقول، وأن الصالحين من الناس والمحبين للإنجيل هم هؤلاء الذين كانت إساءتهم للوثر أقل من غيرهم، وأن الناس يتعطشون إلى معرفة الحقيقة الإنجيلية، (أي الحقيقة التي تعتمد إلى الإنجيل فحسب) وأنه لا يمكن قمع (91) مثل هذا المزاج الذي انتشر انتشاراً واسعاً. ودبج بمعاونة جوهان فابر الدومينيكي عريضة إلى شارل الخامس، طالباً فيها أن يقوم شارل وهنري الثامن ولويس الثاني ملك هنغاريا بتعيين محكمة محايدة للفصل في قضية لوثر. وحث في رسالة بعث بها إلى الكادينال كامبيجيو (6 ديسمبر) على توفير العدالة للوثر، وقال: "لقد أدركت أنه كلما كان الإنسان صالحاً كان أقل عداء للوثر ... إن بضعة أشخاص فقط كانوا يصخبون في وجهه، خوفاً من أن يجردهم مما في جيوبهم ... ولم يرد عليه أحد بعد أو يعدد أخطاءه ... فكيف يحدث هذا في الوقت الذي يوجد(24/157)
فيه أشخاص يزعمون أنهم أساقفة ... وأخلاقهم كريمة ... وهل من الصواب أن تضطهد رجلاً مثل هذا، لا تشوب أخلاقه شائبة، وليس في حياته ما يشينه، ووجد أشخاص من الصفوة في كتاباته الكثير مما يستحق الإعجاب؟ لقد كان الهدف ببساطة القضاء عليه وعلى كتبه، ليضيع في غمرات النسيان، وهذا لا يتحقق إلا إذا ثبت أنه على خطأ ... إذا كنا ننشد الحقيقة، فإن كل امرئ يجب أن يكون حراً في أن يقول ما يراه دون خوف أو وجل. وإذا كوفئ المدافعون عن وجهة نظر أحد الطرفين يوضع تيجان الأساقفة على رؤوسهم، وجوزي المدافعون عن وجهة نظر الخصوم بالشنق أو بوضعهم فوق الخوازيق فإن الحقيقة لن تسمع أبداً ... ولا يمكن أن يكون هناك شيء يبعث على النفور ويبعد عن الحكمة أكثر من نشرة البابا ... إنها تخالف طبيعة البابا ليو العاشر، وأرى أن الذين أرسلوا لنشرها فحسب قد جعلوا الأمور تنقلب إلى أسوأ. ومهما يكن من شيء فإنه من الخطر أن يعارض الأمراء الزمنيون البابوية، أنا لست على استعداد لأن أكون أكثر شجاعة من الأمراء، وبخاصة عندما لا أستطيع أن أفعل شيئاً. ولعل فساد الحاشية الرومانية يجعلها في حاجة إلى إصلاح شامل وعاجل، ولكني أنا وأمثالي لا يطلب منا اتخاذ إجراء مثل هذا على عاتقهم، وأنا أرى أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وأفضل أن أرى الأشياء على ما هي عليه على نشوب الثورة، قد تؤدي إلى نتيجة لا تحمد عقباها ... ويمكنك أن تطمئن إلى أن أرازموس كان، وسوف يظل دائما، من الرعايا المخلصين لكرسي البابوية الروماني، وإن كنت أعتقد، ويعتقد كثيرون مثلي، أنه ستتاح فرصة أحسن لتسوية ما إذا قل الالتجاء إلى العنف، وإذا وضعت مقاليد الإدارة في أيدي رجال لهم وزن وعلى حظ من التعليم، وإذا تصرف البابا بوحي من ضميره، ولم يتأثر بآراء الآخرين" (92).(24/158)
وقد جعل لوثر من الصعب على أرازموس أن يتشفع له لأن لهجة خطبه كانت تزداد عنفاً كل شهر، إلى أن دعا في يوليو عام 1520 قراءه إلى أن يغسلوا أيديهم في دماء الأساقفة والكرادلة، وعندما وصل نبأ إحراق لوثر علناً لمنشور البابا الذي يقضي بحرمانه من غفران الكنيسة، أقر أرازموس بأنه صدم لهذا النبأ. وفي الخامس عشر من يناير عام 1521 بعث إليه البابا برسالة أعرب فيها عن سروره بولائه، وفي الوقت نفسه أرسل ليو تعليماته إلى إلياندر بمعاملة عالم الإنسانيات بكل لطف. وعندما اقترب موعد انعقاد المجلس النيابي في ورمس، طلب أمير ألماني من أرازموس أن يخف لمعاونة لوثر، ولكنه رد بأن الأوان قد فات. وأسف لرفض لوثر الامتثال، إذ كان يعتقد أن هذا الامتثال سوف يؤدي إلى الإسراع بحركة الإصلاح الديني، أما الآن فإنه يخشى قيام حرب أهلية. وفي فبراير عام 1521 كتب إلى أحد أصدقائه: "إن كل إنسان أقر بأن الكنيسة قد عانت من نير طغيان بعض الناس، وكثيرون كانوا يسألون النصيحة لعلاج هذه الحالة الراهنة. والآن وقد هب هذا الرجل ليعالج الأمر على هذا النحو ... لم يجرؤ أحد على أن يدافع حتى عما أجاد التعبير عنه. وقد حذرته منذ ست شهور خلت أن يحترس من الكراهية. وقد نفرت رسالته "الأسر البابيلوني" منه الكثيرين، وهو يعرض لنا كل يوم أشياء فظيعة (93).
وقد تخلى لوثر وقتذاك عن كل أمل في مساندة أرازموس، وأسقطه من حسابه باعتباره داعية للسلام جباناً "يعتقد أن كل شيء يمكن أن يتم بالتهذيب والعطف" (94). وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من تعليمات ليو، استمر إلياندر وعلماء اللاهوت في لوفان في مهاجمة أرازموس، باعتباره نصيراً سرياً للوثر. فاستاء من ذلك وانتقل إلى بازيل (15 نوفمبر عام 1521)، حيث راوده الأمل في أن يتناسى الإصلاح الديني الفتي في غمار النهضة العجوز. وكانت بازيل معقل مذهب الإنسانيات في سويسرة،(24/159)
فهناك كان يعمل بياتوس رينانوس الذي نشر تاسيتوس وبلني الأصغر، واكتشف فيليوس بايتركولوس، وأشرف على طباعة العهد الجديد، الذي أعده أرازموس، وهناك كان طباعون وناشرون يعدون أيضاً من العلماء مثل هانز آمرباخ، وذلك القدّيس بين الناشرين الذي يدعى جوهان فروبن (يوس)، وهو الذي أضنى نفسه مكباً على مطابعه ونصصه و (قال عنه أرازموس) "ترك لأسرته من الشرف أكثر مما ترك لها من الثروة" (95) هناك عاش ديرر أعواماً طوالاً، وهناك قام هولبين برسم صورة الشخصية التي تخلب الألباب لفروين وبونيفاسيوس آمرباخ - الذي جمع المقتنيات الفنية الموجودة الآن في متحف بازيل. وقبل سبع سنواةت، وفي زيارة سابقة، كان أرازموس قد وصف هذا المحيط في شيء من المبالغة التي تنطوي على الحب.
"يبدو لي أني أعيش في هيكل قدسي ساحر لربات الفنون، يظهر فيه حشد من الأشخاص المتعلمين كأمر محتوم. ليس هناك مَن يجهل اللاتينية، ولا أحد يجهل اليونانية، ومعظمهم يعرفون العبرية. هذا يفوق زملاءه في دراسة التاريخ، وذاك متضلع في اللاهوت، وأحدهم بارع في الرياضيات، وآخر دارس للآثار، وثالث ضليع في القانون. وليس من شك في أن الحظ لم يسعدني، حتى ذلك الوقت، في أن أعيش في مثل هذا المجتمع الكامل ... أية صداقة خالصة ترفرف عليهم جميعاً وأي بشر وأي توافق" (96).
وعاش أرازموس مع فروبن وعمل معه مستشاراً أدبياً، وكتب مقدمات وحرر جريدة "الآباء". ورسم هولبين صوراً شخصية مشهورة له في بازيل (1523 - 1524) ولا تزال إحداها هناك، وأرسلت أخرى إلى كبير أساقفة وارهام، وهي الآن من مقتنيات ايرل أف رادنور، والثالثة في متحف اللوفر، وهي من روائع هولبين. ويرى فيها جالساً إلى منضدة،(24/160)
وهو يكتب ملتفاً بمعطف ثقيل حوافه مزينة بالفراء، ويضع على رأسه قلنسوة تغطي نصف أذنيه، وها هو أعظم علماء الإنسانيات تشي كهولته التي جاءت قبل الأوان، (كان وقتئذ في السابعة والخمسين من عمره) بالثمن الغالي الذي دفعه بسبب اعتلال صحته. حياة فيلسوف مشائي حافلة بالجدل والخصام، والعزلة الروحية والحزن، اللذين ترتبا على رغبته في أن يكون عادلاً مع الطرفين في الخلافات المذهبية التي حدثت في عصره. وتبرز من القلنسوة شعرات بيضاء مشعثة. وله شفتان رقيقتان كالحتان، وتقاطيع جميلة، وإن كانت قوية، وأنف حاد معقوف، وجفون ثقيلة، تكاد تغلق عينين متعبتين، هنا في لوحة من أعظم الصور الشخصية ترى النهضة وقد مزقها الإصلاح الديني إرباً.
وفي أول ديسمبر عام 1522 كتب البابا الجديد أدريان السابع إلى أرازموس بألفاظ توحي بسلطانه غير العادي على كلا الطرفين: "يتوقف عليك، وأسال الله أن يعينك، أن تهدي من أضلهم لوثر عن الطريق المستقيم، وأن تقف إلى جانب من لا يزالون صامدين ... ولست في حاجة إلى أن أعرب لك عن مدى غبطتي عندما أتلقى ثانية هؤلاء الهراطقة دون حاجة إلى قرعهم بعصا القانون الإمبراطوري. وأنت تعرف إلى أي حد تتنافى مثل هذه الطرق الفظة مع طبيعتي. أنا لا أزال كعهدك بي عندما كنا ندرس معاً. تعال إلي في روما، وسوف تجد هنا ما تنشده من الكتب، وسوف تجدني أنا وآخرين من الرجال المستنيرين، لنتبادل المشورة، وإذا فعلت ما أطلبه منك فإنك لن تندم أبداً" (97).
وبعد تبادل تمهيدي لخطابات تعهد فيها كل منهما للآخر بالحفاظ على السرية، فتح أرازموس قلبه للبابا وقال: "إن قداستك تطلب مني النصيحة، وترغب في أن تراني. وكم كان يسعدني أن أذهب إليك لو سمحت بذلك صحتي. أما بالنسبة للكتابة ضد لوثر، فأنا لست على درجة كافية من العلم، وأنت تعتقد أن لكلماتي سلطاناً، ولكني للأسف أرى(24/161)
أن شعبيتي، التي اكتسبتها فيما مضى قد استحالت إلى كراهية. لقد كنت يوماً أميراً للبيان، ونجماً من نجوم ألمانيا ... وكاهناً أعظم للعلم ومنافحاً عن لاهوت أكثر نقاء. أما الآن فقد تبدل الوضع، ففريق يقول أني أتفق في الرأي مع لوثر، لأني لا أعارضه، وفريق آخر يرى أني على خطأ لأني أعارضه ... وفي روما وفي برابانت يصفونني بأني هرطيق، وزعيم شعبة من الهراطقة، وداعية إلى الانشقاق، والحق أني لا أتفق بتاتاً مع لوثر. وأنهم ليستشهدون بهذه الفقرة أو تلك، ليبينوا أننا متشابهان، ومع ذلك ففي وسعي أن أجد مائة فقرة يبدو فيها أن القدّيس بولس يعلم العقائد التي يستنكرها عند لوثر. وخير من يمحضك النصح هم الذين يشيرون باتخاذ إجراءات خفيفة. والرهبان - يطلقون على أنفسهم العمالقة الذين يسندون كنيسة تهتز وتوشك أن تنقض - ينفّرون مَن يمكن أن يكونوا أنصاراً لها ... ويعتقد البعض أنه لا علاج لهذه الحالة غلا القوة. وأنا أرى غير هذا ... فسوف تؤدي إلى سفك مروع للدماء. إن المسألة ليست الجزاء الذي تستحقه الهرطقة، ولكنها الطريقة الحكيمة التي تعالج بها ... وأنا من جهتي أرى اكتشاف جذور المرض واقتلاع ما يجب البدء به منها. لا تعاقب أحداً. واعتبر ما حدث عقوبة أنزلتها العناية الإلهية، وامنح عفواً عاماً. وإذا كان الله يغفر لي خطاياي، فإن كاهن الرب يمكن أن يغفرها، وفي وسع الحكام أن يمنعوا قيام ثورة مسلحة، وإذا أمكن يجب مراجعة المواد المطبوعة. ثم دع العالم يعرف ويرى أنك تنوي جاداً رفع المظالم، التي يشكو منها الناس بحق. وإذا أردت قداستك أن تعرف ما هي الجذور التي أشير إليها، فإرسل أشخاصاً تثق بهم إلى كل جزء من أجزاء العالم المسيحي اللاتيني، ودعهم يتبادلون الرأي مع أعقل مَن يجدون من الرجال في مختلف البلاد وسرعان ما تعرف بعد ذلك (98).
يا لأدريان المسكين الذي تجاوزت نياته الطيبة حدود قواه! لقد مات(24/162)
كسير الفؤاد عام 1523. واستمر خلفه كليمنت السابع في حث أرازموس على الانخراط في سلك المناهضين للوثر. وعندما خضع العالم أخيراً، لم يكن هجومه على لوثر بصفة شخصية، ولم يكن لديه اتهام عام للإصلاح الديني ولكنه ناقشه مناقشة موضوعية مهذبة بإرادة حرة ( De Libro arbitrio) - (1524) . وسلم بأنه لم يستطيع أن يسبر غور لغز الحرية الأخلاقية، ولا أن يوفق بينها وبين علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء. ولكن ما من عالم بالإنسانيات يستطيع أن يتقبل العقائد، التي تقول بحتمية القدر ومذهب الجبر، دون تضحية بكرامة الإنسان أو الحياة البشرية وقيمتها: هنا فارق أساسي بين الإصلاح الديني والنهضة. وبدا واضحاً لأرازموس أن الإله الذي يعاقب على الخطايا التي ترتكبها مخلوقاته، ولا حيلة لهم في الامتناع عنها، وحش لا أخلاق له لا يستحق العبادة أو الثناء، ونسبة مثل هذا السلوك إلى الأب الذي في السماء" كفر فضيع. ووفق افتراضات لوثر يكون أسوأ المجرمين شهيداً بريئاً ذلك أن الرب قدر عليه الخطيئة، ثم حكم عليه المنتقم الجبار بالعذاب في نار جهنم خالداً فيها، فكيف يستطيع أي مؤمن بحتمية القدر أن يقدم أي مجهود خلاق، أو يعمل على تحسين أحوال البشر؟ وأقر أرازموس بأن اختيار الإنسان رهن بآلاف الظروف، التي لا يستطيع أن يتحكم فيها، ومع ذلك فإن شعور الإنسان يصر على أن يؤكد أن له بعض الحرية، وبدونها يكون آلة ذاتية الحركة لا معنى لها. وانتهى أرازموس إلى القول: على أية حال دعونا نسلم بجهلنا وبعجزنا في التوفيق بين حرية الإنسان في التمييز بين الصواب والخطأ، وبين سابق علم الله أو سبب وجوده في كل مكان. دعونا نؤجل الحل إلى يوم القيامة، ولكن في الوقت نفسه دعونا نتجنب كل فرض يجعل من الإنسان مجرد دمية، ومن الرب طاغية أقسى من أي طاغية عرف في التاريخ.
وأرسل كليمنت السابع مائتي فلورين (5. 000؟ دولار)، إلى أرازموس(24/163)
عندما تسلك منه الرسالة، وشعر معظم الكثالكة بخيبة الأمل بسبب اللهجة الفلسفية، التي تنشد المصالحة، والتي تنطوي على عبارات الكتاب عليها، فقد كانوا يأملون أن يسمعوا خبر إعلان حرب يطربون لها. والحق أن ميلانكتون الذي أعرب عن وجهة نظره في الجبرية بكتاب Losi Communes تأثر كثيراً بالرأي الذي أبداه أرازموس، وحذف نظريته في هذا الموضوع، وذلك في الطبعات التي ظهرت فيما بعد (99). وكان هو أيضاً لا يزال يراوده الأمل في السلام - ولكن لوثر دافع عن الجبرية بلا هوادة في رد متأخر عنوانه De Servo arbitro عام 1525، وقال:
"إن الإرادة البشرية مثل دابة الحمل، إذا امتطاها الرب رغبت، وانطلقت كما يشاء الرب، وإذا امتطاها الشيطان رغبت، انطلقت كما يهوى الشيطان. وهي لا تستطيع أن تختار راكبها ... والركاب يتنازعون على امتلاكها ... والرب يعلم الغيب، ويقدر ويعمل كل شيء، بإرادة فعالة أزلية، لا تتبدل، وبهذه الإرادة القاهرة تغوص الإرادة الحرة، وتتفتت في التراب" (100).
ومن الأمور ذات المغزى عن المزاج السائد في القرن السادس عشر، أن لوثر رفض التسليم بحرية الإرادة، لا لأنها تتعارض مع حكم قانون عالمي وعلية عالمية، كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين في القرن الثامن عشر، ولا لأنه يبدو أن الوراثة والبيئة والظرف تحدد، كثالوث آخر، الرغبات التي يبدو أنها تحدد الإرادة، كما ذهب إلى ذلك كثيرون في القرن التاسع عشر، بل إنه رفض التسليم بالإرادة الحرة على أساس أن قدرة الله على كل شيء، تجعله تعالى السبب الحقيقي لكل الحوادث وكل الأفعال، وبالتالي فإنه تعالى، وليست فضائلنا أو خطايانا، هو الذي يحكم علينا بالخلاص أو العذاب الأبدي: ويواجه لوثر مرارة منطقه برجولة فيقول: "لقد أسيء إلى حسن الإدراك والعقل الفطري، إلى حد كبير، بالقول بأن الله يتخلى عن عبده ويقسو عليه ويعذبه بمحض إرادته تعالى، كما لو كانت(24/164)
الخطيئة تسره، والعذاب الأبدي يسعده، وهو الذي يقال إنه رؤوف رحيم، ومثل هذا المفهوم عن الله يبدو خبيثاً قاسياً لا يغتفر، من أجله ثار عدد من الرجال في جميع العصور، وأنا نفسي أسيء إلي مرة إساءة، أردتني في هوة اليأس، إلى حد أني تمنيت لو أني لم أخلق قط. ولا جدوى من محاولة الهروب من هذا بإيجاد فوارق بارعة، ومهما أحس العقل الفطري بما لحقه من إساءة فلا مفر من تسليمه بنتائج علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء ... وإذا كان من الصعب الإيمان برحمة الله ورأفته، عندما يعذب مَن لا يستحقون العذاب، فإننا يجب أن نتذكر أن عدالة الله لا تكون إلهية إذا أحاط بها عقل الإنسان" (101).
ومما امتاز به هذا العصر الرواج الذي حظيت به الرسالة التي عنوانها: "الإرادة المستعبدة" فقد بيع منها عدد كبير في سبع طبعات باللغة اللاتينية وطبعتين باللغة الوطنية، واشتد الإقبال عليها في خلال سنة واحدة. وأثبت ذلك أنها أعظم مصدر للاهوت البروتستانتي، وهكذا وجد كافن عقيدة الجبر والاختيار والرفض reprobation، التي نقلها إلى فرنسا وهولندة واسكوتلندة وإنجلترا وأمريكا. ورد أرازموس على لوثر في مقالين نشرا في كراستين دينيتين بعنوان Hyperaspistes ( المدافع) 1 و 2 (1526 - 1527)، ولكن رأي العصر كان في جانب الرأي الذي انتهى إليه المصلح في المناظرة. واستمر أرازموس حتى في هذه المرحلة، يبذل جهوده في سبيل السلام. وأوصى كل مَن بعث إليهم برسائل بالتسامح واللطف في المعاملة ... ولقد ظن أن الكنيسة عليها أن تسمح برجال الدين بالزواج وتناول القربان المقدس بالأسلوبين المعروفين، وأنها يجب أن تتنازل عن بعض أملاكها الواسعة للسلطات الزمنية، لكي تستخدمها في مرافقها، وأن أمثال المسائل الحاسمة كالجبر والاختيار وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس، يجب أن تترك دون تحديد مفتوحة(24/165)
لمختلف التفسيرات (102). وأشار على الدوق جورج صاحب ساكسونيا بمعاملة اللامعمدانيين بالرفق، وقال: "ليس من العدل أن تعاقب بالنار على أي خطأ يرتكب ما لم يكن مقترناً بشغب أو بأية جريمة أخرى تعاقب عليها القوانين بالإعدام" (103). وحدث هذا في عام 1524، ومهما يكن من أمر فإنه دافع عام 1533 عن سجن الهراطقة، الذي دعى إليه توماس مور (104)، متأثراً بالصداقة أو الشيخوخة، أما في أسبانيا حيث أصبح بعض علماء الإنسانيات من مؤيدي أرازموس فقد بدأ رهبان محكمة التفتيش يفحصون أقوال أرازموس فحصاً منسقاً مستهدفين إدانته باعتباره هرطيقاً (1527). ومع ذلك فإنه استمر في نقده لفجور الرهبان والجمود اللاهوتي، باعتبارهما الحافزين الرئيسيين إلى الإصلاح الديني. وكرر عام 1528 الاتهام بأن كثيراً من الأديرة التي تضم الرهبان والراهبات "بيوت عامة للدعارة" وأن "آخر ما يوجد من فضائل في أديرة كثيرة إنما هي فضيلة العفة" (105). وأدان في عام 1532 الرهبان، باعتبارهم متسولين يسألون بإلحاح، ومضللين يغوون النساء، وصيادين ينطلقون في إثر الهراطقة، ومتصيدين للتركات ومزيفين للشهادات (106). وكان يؤيد كل شيء لإصلاح الكنيسة بينما كان يستهجن الإصلاح الديني. ولم يستطع أن يروض نفسه على التخلي عن الكنيسة، أو أن يراها مشطورة إلى نصفين، وقال: "إني أتحمل الكنيسة إلى اليوم الذي أرى فيه كنيسة أفضل" (107).
وارتاع عندما سمع بنبأ نهب روما على يد فرق بروتستانتية وكاثوليكية تعمل في خدمة الإمبراطور (1527). وكان قد راوده الأمل في أن شارل سوف يشجع كليمنت على أن يتصالح مع لوثر، ولكن البابا والإمبراطور كانا وقتذاك يمسك كل منهما بتلابيب الآخر. وأصيب بصدمة أكبر عندما دمر المصلحون الدينيون، في ثورة، التماثيل في الكنائس (1529)، مع أنه كان قبل ذلك بعام واحد فقط قد ندد بعبادة التماثيل(24/166)
وقال: "يجب أن يعلم الناس أن هذه ليست غلا رموزاً، ومن الخير ألا يكون هناك شيء منها على الاطلاق، وأن توجه الصلاة للمسيح وحده. ولكن ليكن رائدنا الاعتدال في جميع الأمور" (108). وهذا بالضبط موقف لوثر من الموضوع نفسه. ولكنه رأى أن التجريد الأهوج الغبي للكنائس من التماثيل رجعية همجية، تتسم بضيق الأفق. وغادر بازيل، وانتقل منها إلى فرايبورج - الواقعة على نهر برايسجاو، في أرض نمساوية كاثوليكية فاستقبلته سلطات المدينة بالترحيب والتكريم، ومنحته قصر ماكسمليان الأول الذي لم يتم، ليقيم فيه. وعندما لم يصله المرتب، الذي خصصه له الإمبراطور بانتظام أرسل إليه آل فوجر كل ما احتاج إليه من أموال، بيد أن رهبان فرايبورج وعلماء اللاهوت فيها هاجموه باعتباره من معتنقي مذهب الشك في الخفاء، والسبب الحقيقي لما حدث في ألمانيا من فتنة.
وعاد إلى بازيل عام 1535 فخرج إليه وفد من أساتذة الجامعة مرحبين بعودته، وخصص له جيروم فروبن ابن جوهان غرفاً في منزله.
وكان وقتذاك قد بلغ التاسعة والستين، بوجه هزيل تغضن بفعل السنين وكان يعاني من القروح والإسهال وداء النقرس والحصوة ونزلات البرد المتكررة ... لاحظ اليدين المتورمتين في رسم ديرر. وحبس نفسه، في سنواته الأخيرة، في حجراته، وكثيراً ما كان يلازم الفراش. وأضناه الألم، وفقد بسمته الجميلة المألوفة، التي كانت تحببه إلى أصدقائه، وأصبح دائم العبوس، وهو يكاد يسمع كل يوم عن هجمات جديدة يوجهها إليه البروتستانت والكثالكة. ومع ذلك فقد كانت ترد إليه يومياً تقريباً رسائل، تفيض بالإخلاص والاحترام، من ملوك أو بطاركة أو سياسيين أو علماء أو ماليين، وكان مسكنه كعبة يحج إليها الأدباء. وأصيب في السادس من يونية عام 1536 بدوزنتاريا حادة، وعرف أنه سوف يموت وشيكاً، ولكنه لم يطلب قسيساً أو كاهناً يعترف له ومات (12 يونيه)،(24/167)
دون أن تجرى له الطقوس الدينية، التي فرضتها الكنيسة، وأخذ يكرر مبتهلاً اسمي مريم والمسيح. وشيعته بازيل في جنازة تليق بأحد الأمراء، ودفن في مقبرة بالكاتدرائية. واشترك علماء الإنسانيات وأسقف المدينة في إقامة لوح حجري فوق جثمانه، ولا يوال هذا اللوح في مكانه، وقد أشادوا فيه بما اتصف به من "سعة علم لا تضارع في كل فرع من فروع المعرفة". ولم يترك في وصيته ميراثاً لأغراض دينية، ولكنه خصص مبالغ للعناية بالمرضى أو المسنين، ولتقديم صداق للفتيات الفقيرات، ولتعليم الشبان الواعدين.
ويتذبذب موقفه في الأجيال القادمة مع تذبذب هيبة عصر النهضة، فكل الطوائف تقريباً وصفته بأنه مذبذب جبان، وذلك في حماسة الثورة الدينية، واتهمه أنصار الإصلاح الديني بأنه قادهم إلى حافة الهاوية، وأغراهم بأن يقفزوا ثم لاذ بالفرار. ووصف في مجلس مدينة ترنت بأنه هرطيق فاسق، وحرمت مؤلفاته على الفقراء الكاثوليك. وفي أواخر عام 1758 وصفه هوراس والبول بأنه "طفيلي متسول لديه من الشمائل ما يكفي لأن يتوصل إلى الحقيقة، ولكنه يفتقر إلى الشجاعة لكي يعترف بها" (109). وفي أواخر القرن التاسع عشر، عندما انقشع دخان المعركة، أسف مؤرخ بروتستانتي صائب الرأي على مفهوم أرازموس عن الإصلاح الديني، وقال: "مفهوم لعالم ... سرعان ما أوقف وطرح جانباً بوسائل فظة خشنة. ومع ذلك يحق لنا أن نتساءل أما كانت، بعد كل شيء، الطريقة البطيئة هي في النهاية أكثر الطرق أمناً، وهل كان أي عامل من عوامل تقدم الإنسانية يمكن أن يكون بديلاً للثقافة على الدوام. لقد كان الإصلاح الديني في القرن السادس عشر من عمل لوثر، ولكن إذا ظهر في الأفق أي إصلاح ديني جديد ... فإنه لا يمكن أن ينهض إلا على أساس مبادئ أرازموس" (110). ويضيف مؤرخ كاثوليكي تقديراً يكاد يكون(24/168)
مطابقاً لمقتضيات العقل: "إن أرازموس كان ينتمي فكرياً إلى عصر لاحق علمي وعقلاني أكثر من عصره. والعمل الذي قد بدأ به والذي أوقفته الاضطرابات التي حدثت في عهد الإصلاح الديني استأنفه علماء القرن السابع عشر في وقت لاقى فيه قبولاً أكثر" (111)، وكان لابد أن يكون لوثر، ولكن عندما قام بعمله، وهدأت سورة الانفعال، حاول الناس مرة أخرى أن يتشبثوا بروح أرازموس وروح النهضة، وأن يجددوا، في صبر وتسامح متبادل، الجهد الطويل البطيء لتنوير أذهان الناس.(24/169)
الفصل العشرون
العقائد في حرب
(1525 - 1560)
1 - التقدم البروتستانتي
1525 - 1530
أي تحالف بين القوى والظروف مكن للبروتستانتية الوليدة من أن تعيش في مواجهة عداء البابوية والإمبراطوريّة؟ إن الورع الصوفي والدراسات الإنجيلية والإصلاح الديني والتطور الفكري وجرأة لوثر لم تكن كافية، فقد كان من الممكن أن يصرف عنها النظر أو تتم السيطرة عليها. ولعل العوامل الاقتصادية هي التي كانت حاسمة: الرغبة في الحفاظ على الثورة في ألمانيا، والرغبة في تحرير ألمانيا من السيطرة البابوية والاستبداد الإيطالي، وتحويل أملاك الكنيسة بحيث تستخدم للوفاء بالأغراض الدنيوية، ودرء الاعتداءات الإمبراطوريّة إلى السلطة الإقليمية والقضائية والمالية للأمراء والمُدن والحكومات. أضف إلى هذا بعض الظروف السياسية التي سمحت بنجاح البروتستانت، فبعد أن فتحت الإمبراطوريّة العثمانية القسطنطينية ومصر، أخذت في مد رقعتها بدرجة خطرة في بلاد البلقان وأفريقيا. وابتلعت نصف هنغاريا، وحاصرت فيينا، وهددت بإغلاق البحر الأبيض المتوسط في وجه تجارة العالم المسيحي، وأصبح شارل الخامس والأرشيدوق فرديناند في حاجة ماسة إلى توحيد ألمانيا والنمسا - أموالاً ورجالاً من البروتستانت والكاثوليك على السواء - لمقاومي هذا التهديد الاسلامي، الذي يوشك أن يكتسح أمامه كل شيء. وكان الإمبراطور عادة مشغولاً بشئون أسبانيا أو(24/170)
الفلاندرز أو إيطاليا، أو منهمكاً في صراع مميت مع فرانسس الأول ملك فرنسا، ولم يكن لديه متسع من الوقت أو فائض من الأموال لشن حرب أهلية في ألمانيا. واتفق في الرأي مع أرازموس، الذي كان يحصل منه على معاش، في أن الكنيسة في حاجة ماسة إلى الإصلاح، وكان في فترات متقطعة على خلاف مع كليمنت السابع وبول الثالث، حتى فيما يختص بالسماح لجيشه بنهب روما. ولم يستطع الإمبراطور والبابا محاربة الثورة الدينية باقتدار، إلا عندما أصبحا صديقين.
أن حل عام 1527 حتى كانت "الهرطقة اللوثرية" قد أصبحت مذهباً للمحافظين في نصف ألمانيا، ووجدت المُدن أن البروتستانتية تعود عليها بالفائدة وقال ميلانكتون في أسى "إنهم لا يبالون، ولو قليلاً، بالدين، وهم لا يتطلعون إلا إلى وضع الأملاك بين أيديهم، وأن يتحرروا من أشراف الأساقفة" (1). ونجوا بتغيير طفيف للمسوح الدينية من الضرائب والمحاكم. واستطاعوا أن ينزعوا أجزاء لا بأس بها من أملاك الكنيسة (2)، ومع ذلك يبدو أن رغبة صادقة في دين يتميز بالبساطة والإخلاص، قد أثارت الكثير من المواطنين. ففي ماجديبرج اجتمع عدد من أعضاء أبرشية سانت أولريخ في فناء الكنيسة، واختاروا ثمانية رجال، ولكي ينتخبوا بدورهم الواعظ، وليديروا شئون الكنيسة (1524) وسرعان ما كانت كل الكنائس في المدينة تناول العشاء الرباني بالطريقة اللوثرية. وكانت أوجسبورج شديدة الحماسة للبروتستانتية، إلى حد أن العامة لقبوا كامبيجيو، عندما وصل هناك بصفته قاصداً رسولياً للبابا، بأنه خصم للمسيح (1524). وتقبل معظم أهالي ستراسبورج اللاهوت الجديد من ولفجانج فابريسيوس كابيتو (1523)، وحمل ماتن بوسر الذي خلفه هناك في أولم على اعتناق الدين الجديد أيضاً. وفي نورمبرج كسب كبار رجال الأعمال أمثال لازاروس شبينجلر وهيرونيموس باومجيرتنر، مجلس المدينة إلى(24/171)
صف العقيدة اللوثرية (1526)، وحولت كنيسة زيبالدوس وكنيسة مورنز الشعائر التي تقام فيهما لتكون وفق هذه العقيدة، بينما احتفظنا بفنهما الكاثوليكي. وانتشرت مؤلفات لوثر انتشاراً واسعاً في برونزفيك، ورتلت أناشيده علناً، ودرست نسخته عن العهد الجديد عن اهتمام وجد، حتى أن المصلين قاموا بتصحيح خطأ وقع فيه قسيس، وهو يستشهد بفقرات منها، وفي نهاية الأمر أصدر مجلس المدينة أمراً إلى كل رجال الدين بألا يرددوا في عظاتهم إلا ما وجد في نصوص الكتب المقدسة، وأن يقوموا بمراسيم العماد باللغة الألمانية وأن يناولوا القربان المقدس بكلا الشكلين (1528). وما أن حل عام 1530 حتى كان المذهب الجديد قد كسب إلى صفه هامبورج وبريمن وروستوك ولوبيك وسترالزوند ودانزج ودوربات وريجا وريفال وكل المُدن الإمبراطوريّة في سوابيا تقريباً، وشبت ثورات لتحطيم الأصنام في أوجسبورج وهامبورج وبرونزفيك وسترالزوند. ولعل جانباً من هذا العنف كان رد فعل لاستخدام رجال الدين للتماثيل والصور الزيتية، لغرض أساطير مضحكة، تعود عليهم بالربح، في عقول الناس.
وليس من شك قي أن الأمراء الذين تبنوا باغتباط القانون الروماني، الذي يجعل الحاكم الزمني قادراً على الكثير باعتباره مفوضاً من "الشعب صاحب السيادة"، قد رأوا في البروتستانتية ديناً لا يرفع من شأن الدولة فحسب، بل جعلها تمتثل لأوامرها أيضاً، وأصبح في وسعهم وقتذاك أن يكونوا سادة روحيين وزمنيين على السواء، ويمكن أن يديروا الكنيسة بأسرها أو يستمتعوا بها. وقبل جون الحازم الذي خلف فريدريك الحكيم كأمير مختار لساكسونيا (1525) أن يعتنق بصفة نهائية العقيدة اللوثرية، وهو ما لم يفعله فريدريك قط، وحينما مات جون (1532) فإن ابنه جون فريدريك أبقى البروتستانتية موطدة في سكسونيا الانتخابية، وكون فيليب الشهم لاندجراف هس مع جون حلف جوثا وتورجا لحماية اللوثرية(24/172)
ونشرها، وانخرط في سلك اللوثرية أمراء آخرون: أرنست اللونيبرجي، وأوتو وفرانسس أمير برونزفيك لونيبرج، وهنري أمير ميكلينبورج وأولريخ أمير فريتتيمبرج. واستمع ألبرت، البروسي كبير رهبان دير الفرسان التيوتونيين، إلى نصيحة لوثر، وتخلى عن عهوده الرهبانية، وتزوج وخصص الأراضي التي تملكها طائفته للأغراض الدنيوية، ونصب نفسه دوقاً على بروسيا (1525). ورأى لوثر نفسه، فيما يبدو، بقوة شخصيته وفصاحته فحسب، يكسب إلى صفه نصف ألمانيا.
ولما كان الكثيرون من الرهبان والراهبات يتركون أديرتهم وقتذاك، وبدا أن الجمهور لا يريد أن يؤيد مَن بقى منهم، فإن الأمراء اللوثريين اضطهدوا كل الأديرة الواقعة في أقاليمهم، ولم يستثنوا إلا قلة كان نزلاؤها قد اعتنقوا العقيدة البورتستانتية، ووافق الأمراء على أن يتقاسموا الأملاك المصادرة والدخول مع النبلاء والمُدن وبعض الجامعات، ولكن هذا التعهد نقض في تراخ. وندد لوثر بتخصيص الثروة الكنسية لغير الأغراض الدينية أو التعليمية، وأدان استيلاء طبقة النبلاء المتسم بالتهور على مباني الكنيسة وأراضيها. وتم التنازل عن جانب متواضع من الغنائم للمدارس وللتفريج عن الفقراء، أما الباقي فقد احتفظ به الأمراء والنبلاء، وكتب ميلانكتون (1530) يقول: "تحت ستار الإنجيل كانت نية الأمراء متجهة إلى سلب الكنائس فحسب" (2). وأخذ التحول العظيم يسير قدماً إلى الأمام للخير أو للشر، لأغراض روحية أو مادية، واعتنقت مقاطعات بأكملها - أيست فريزلاند وسيليزيا وشليزفيج وهولستين - البروتستانتية بالإجماع تقريباً، ولا شيء يمكن أن يوضح مدى ما وصلت إليه الكاثوليكية المحتضرة خير من هذا. وحيثما بقي القساوسة استمروا في تأييدهم لاتخاذ حظايا (4)، ورفعوا عقائرهم بالصياح، مطالبين بالسماح لهم بالزواج الشرعي، كما يفعل رجال الدين من أتباع لوثر (5). وأبلغ الأرشيدوق فرديناند البابا بأن الرغبة في الزواج تكاد تكون عامة بين رجال الدين الكثالكة من غير الرهبان، وأنه لا يكاد يوجد واحد من بين كل مائة من القسس(24/173)
لم يتزوج علناً أو سراً. وتوسل الأمراء الكاثوليك للبابا وأبلغوه أن إلغاء العزوبة المفروضة على رجال الدين قد أصبحت ضرورة أخلاقية (6). وشكا كاثوليكي مخلص (1524) من أن الأساقفة استمروا في إقامة الولائم الفخمة (7)، على الرغم من أن الثورة كانت تطرق أبوابهم. وكتب مؤرخ كاثوليكي، وهو يتحدث عن ألبرخت كبير أساقفة ماينز، يصف "الشقق الفاخرة الأثاث التي استغلها هذا الأمير الدنس من أمراء الكنيسة لمضاجعة عشيقته سراً" (8). ويقول نفس المؤرخ: "لقد اصبح كل إنسان يناصب القسس العداء، إلى حد أنهم يقابلون بالسخرية، ويتعرضون للمضايقات أينما ذهبوا" (9)، وكتب أرازاموس (31 يناير عام 1530) يقول: "إن الناس في كل مكان يؤيدون العقائد الجديدة" (10). ومهما يكن من أمر فقد كان هذا صحيحاً في شمال ألمانيا فقط، وحتى هناك أصر الدوق جوج أمير ساكسونيا والأمير المختار جواكيم البراندنبورجي على أن يظلا كاثوليكيين أما جنوب ألمانيا وغربها، اللذان كانا جزءاً من الإمبراطوريّة الرومانية القديمة، وتلقى أهلها شيئاً من الثقافة اللاتينية، فإنهما ظلا في معظم أجزائهما يدينان بالولاء للكنيسة، وآثر جنوبها الطرق المرحة الملونة التي تنحو نحو التساهل في المسائل الجنسية، والتي تميزت بها الكاثوليكية، وفضلتها على فلسفة الرواقية التي تقول بالجبر، وتسود في الشمال. وحافظ كبيرو الأساقفة المختارون الأقوياء في ماينز وترير وفي كولونيا (الى عام 1543) على أن تسود الكاثوليكية في بلادهم، وأنقذ البابا أرديان السادس بافاريا بمنح دوقاتها خمس دخل الكنيسة في ولاياتهم، لصرفه على شئونهم الدنيوية. وهدأت منحة مماثلة من دخول الكنيسة من سورة غضب فرديناند في النمسا.
ودخلت هنغاريا إلى المسرح بصورة جوهرية. وكان ارتقاء لويس الثاني للعرش قبل الأوان، وهو في العاشرة من عمره، ووفاته أيضاً في سن مبكرة، من العوامل التي أسهمت في تكوين المأساة الهنغارية. بل إن مولده حدث قبل الأوان وأنقذ الأطباء في ذلك العهد حياة الطفل الضعيف(24/174)
بوضعه داخل الجثث الدافئة للحيوانات التي كانت تذبح، لتوفر له الحرارة. وترعرع لويس وأصبح شاباً وسيماً رقرق الفؤاد كريماً، ولكنه اعتاد التبذير وإقامة الولائم رغم موارده الهزيلة، وسط حاشية فاسدة تفتقر إلى الكفايات. وعندما أرسل السلطان سليمان سفيراً إلى بودا رفض النبلاء أن يستقبلوه، وطافوا به حول البلد وجدعوا أنفه، وصلموا أذنه، وأعادوه إلى سيده (11). فما كان من السلطان الحانق إلا أن غزا هنغاريا، واستولى على معقلين من أعظم معاقلها حيوية، وهما ساباكس وبلغراد (1521). وبعد تمهل طويل ووسط خيانة نبلائه وجبنهم جهز لويس جيشاً قوامه 25. 000 من الرجال، وزحف في بطولة متهورة ليواجه 100. 000 تركي في ميدان قرب موهاكس (30 أغسطس 1526). وقتل الهنغاريون عن بكرة أبيهم تقريباً. وغرق لويس نفسه، بعد أن كبا به جواده، وهو يحاول الفرار. ودخل سليمان مدينة بودا منتصراً ونهب جيشه العاصمة الجميلة وأحرقها، ودمر كل مبانيها العظيمة ما عدا القصر الملكي، وأشعل النيران في الجانب الأكبر من مكتبة ماتياس كورنفينوس الثمينة.
وانتشر الجيش المنتصر في النصف الشرقي من هنغاريا، وأخذ يحرق وينهب، واستاق سليمان 100. 000 أسير مسيحي إلى القسطنطينية.
وانقسم الأقطاب، الذين بقوا على قيد الحياة، فرقاً وأحزاباً، يناصب بعضها بعضاً العداء، ورأت جماعة أن المقاومة مستحيلة، فاختارت جون زابوليا ملكاً وخولته سلطة توقيع معاهدة استسلام، وسمح له سليمان أن يحكم في بودا، باعتباره تابعاص له، أما النصف الشرقي من هنغاريا فقد ظل في الواقع نحت سيطرة الأتراك حتى عام 1686. واتخذ حزب آخر مع النبلاء في بوهيميا لمنح فرديناند تاج كل من هنغاريا وبوهيميا، وذلك بأمل ضمان الحصول على مساعدة الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة وأسرة هابسبورج القوية. وعندما عاود سليمان الهجوم (1529)، وسار 135 ميلاً من(24/175)
بودا على طول نهر الدانوب إلى أبواب فينا دافع فرديناند بنجاح عن عاصمته، ولكن في خلال هذه السنوات الحرجة كان شارل الخامس قد أكره على مهادنة البروتستانت، حتى لا تسقط أوربا كلها في أيدي الاسلام، وليس من شك في أن تقدم الأتراك غرباً قد وفر الحماية للبروتستانتية حتى أن فيليب الهسي كان يطرب لانتصارات الأتراك. وعندما فشل سليمان في اقتحام فينا عاد إلى القسطنطينة، وبذلك أصبح الكثالكة والبروتستانت أحراراً ليدخلوا من جديد في صراع من أجل روح ألمانيا.
2 - مجالس الدايت لا توافق
(1526 - 1541)
لما كانت الحرية الداخلية تختلف (بينما تتساوى أمور أخرى) باختلاف درجات الأمن الخارجي، فإن البروتستانتية تورطت، أثناء فترة أمنها، في انقسام طائفي، يبدو أنه كان كامناً في مبادئ الحكم الفردي وسيادة الضمير. وكتب لوثر عام 1525: "هناك اليوم طوائف وعقائد بقدر عدد الرؤوس تقريباً" (12). وشغل ميلانكتون نفسه في حزن بالتخفيف من حدة سيده، وأخذ يتلمس صيغاً مبهمة للتوفيق بين اليقينيات المتناقضة. وأشار الكاثوليك باغتباط إلى الأحزاب البروتستانتية، التي تتبادل الاتهامات، وتنبئوا بأن حرية التفسير وحرية الاعتقاد تؤديان إلى فوضى دينية، وانحلال خلقي، وشكية بغيضة إلى البروتستانت والكاثوليك على السواء (13)، وفي عام 1525 أقصي من مدينة نورمبرج البروتستانتية ثلاثة من الفنانين لأنهم تساءلوا عن مؤلف الإنجيل، وعن وجود المسيح بجسده حقاً في القربان المقدس، وعن ألوهية المسيح.
وبينما كان سليمان يعد الحملة التي مزقت هنغاريا إلى شطرين، اجتمع في سبيير (يونيه سنة 1526) مجلس نيابي من الأمراء والبطارقة والأوساط من الألمان، لتبادل الرأي في المطالب التي تقدم بها الكاثوليك، ومؤداها أن مرسوم ورمس يجب أن ينفذ بالقوة والنظر في الاقتراح المضاد الذي(24/176)
تقدم به البروتستانت، ومؤداه أن الدين يجب أن يترك حراً، إلى أن يقضي في النزاع مجلس عام، تحت رعاية ألمانيا. ورجحت كفة البروتستانت وقضى مرسوم هذا المجلس النيابي في الختام - وهو معلق على مجلس مثل هذا - بأن كل ولاية ألمانية "يجب أن تعيش وتحكم وتتحمل أعباء نفسها، بالطريقة التي يعتقد أنها يمكن أن تتفق مع أمر الله والإمبراطور"، وذلك في موضوع الدين، وأنه يجب ألا يعاقب أحد على ما ارتكبه من إساءات لمرسوم ورمس، وأن كلمة الله يجب أن يعظ بها كل الأحزاب، دون أن يتدخل أحدها في شئون الآخرين. وفسر البروتستانت هذا بأنه "مرسوم سبيير" باعتبار أنه أباح تأسيس الكنائس اللوثرية، ووفر السيادة الدينية لكل أمير في إقليمه، وحرم إقامة القداس في المناطق التي تدين بمذهب لوثر. ورفض الكثالكة التسليم بهذه الدعاوى، ولكن الإمبراطور، وهو مشتبك مع البابا، قبلها مؤقتاً، وسرعان ما انشغل فرديناند، إلى أقصى حد بشؤون هنغاريا، فلم يستطع أن يبذل أي جهد فعال للمقاومة.
وبعد أن حقق شارل السلام بينه وبين كليمنت، عاد إلى سياسة المحافظين، التي فطر عليها كل ملك، وأمر المجلس النيابي في سبيير أن يعود إلى الانعقاد يوم أول فبراير عام 1529. وقام المجلس الجديد تحت تأثير الأرشيدوق، الذي تولى رئاسته، والإمبراطور الذي تغيب عن الحضور بإلغاء "المرسوم" الذي وافق عليه عام 1526، وأصدر مرسوماً يسمح بأداء الصلاة وفق مذهب لوثر، ولكنه يقضي بالتسامح في أداء الصلوات الكاثوليكية، في الولايات التي تعتنق مذهب لوثر، ويحرم تماماً الوعظ بمبادئ لوثر أو إقامة الشعائر حسب مذهبه في الولايات الكاثوليكية. وأيد تنفيذ مرسوم ورمس، واعتبار الطوائف الزونجلية واللامعمدانية في كل مكان خارجة على القانون. وفي يوم 25 أبريل عام 1529 نشرت الأقلية اللوثرية "احتجاجاً Protest" أعلنوا فيه أن الضمير يحرم عليهم قبول هذا المرسوم، والتمسوا من الإمبراطور عقد مجلس عام، وفي الوقت(24/177)
نفسه أعلنوا أنهم على استعداد للتمسك بمرسوم سبيير الأصلي بأي ثمن. وأطلق الكاثوليك اسم بروتستانت على مَن وقعوا هذا الاحتجاج، وبالتدريج استخدم للدلالة على الألمان المتمردين على روما.
وأدرك شارل أنه لا يزال في حاجة إلى اتحاد ألمانيا ضد الأتراك، فدعا إلى الانعقاد مجلساً نيابياً آخر، فانعقد في أوجسبورج (20 يونيه عام 1530) برئاسته. وفي خلال دورة هذا المجلس أقام مع أنطون فوجر، وكان وقتذاك رئيساً للمؤسسة، التي جعلت منه إمبراطوراً. وطبقاً لقصة قديمة أدخل المصرفي السرور على قلب الحاكم بإشعال نار ألقى فيها بشهادة، يقر فيها الإمبراطور بمد يونيته (14)، ولما كان آل فوجر مرتبطين مالياً مع البابوات، فإن الحركة المذكورة ربما تكون قد دفعت شارل إلى أن يخطو خطوة يقترب بها من البابوية. ولم يحضر لوثر لأنه كان لا يزال تحت الحظر الإمبراطوري، ومن الممكن أن يقبض عليه في أي لحظة، ولكنه ذهب إلى كوبورج الواقعة على حدود ساكسونيا، واستمر في الاتصال بالوفد البروتستانتي عن طريق الرسل. وشبه المجلس بجمع من غربان الزرع، التي تصفق أجنحتها، وتناور أمام نوافذ بيته، وشكا من أن "كل أسقف جاء ومعه شياطين كثيرة، بقدر عدد البراغيث على جسد كلب في يوم عيد القدّيس يوحنا" (15). وكان من الواضح في هذا العهد أنه ألف أعظم أناشيده "الحصن الحصين هو ربنا".
وفي يوم 24 يونيه التمس الكاردينال كامبيجيو من المجلس النيابي تحريم إنشاء الطوائف البروتستانتية تحريماً تاماً. وفي الخامس والعشرين قرأ كريستيان باير للإمبراطور ولجانب من المجلس إقرار أوجسبورج الشهير، الذي كان ميلانكتون قد أعده، والذي قدر له أن يصبح بشيء من التعديلات العقيدة الرسمية للكنائس اللوثرية. ولأن ميلانكتون قد خشي قيام القوات الإمبراطوريّة والبابوية معاً بحرب ضد البروتستانت المنقسمين من ناحية، ولأنه كان يميل بفطرته إلى المهادنة والسلام من ناحية أخرى، أضفى على الإقرار(24/178)
(كما يقول باحث كاثوليكي) "لهجة مشرفة معتدلة مسالمة" (16). وسعى إلى تقليل الخلافات بين آراء الكاثوليك وآراء اللوثريين، وأفاض في الهرطقات التي أدانها الإنجيليون (كما كان اللوثريون يسمون أنفسهم بسبب اعتمادهم فحسب على الأناجيل أو على العهد الجديد) والكاثوليك الرومان على السواء، وفرق بين الإصلاح اللوثري والإصلاح الزونجلى، وترك الأخير يتحايل لنفسه. وخفف من العقائد التي تقول بالجبر و"التجسيد" والتزكية بالإيمان، وكتب باعتدال عن مظالم رجال الدين، التي كانت البروتستانتية قد قللت منها، ودافع مجاملاً عن تناول القربان المقدس في كل من الشكلين، وعن التحلل من عهود الرهبانية، وعن زواج رجال الدين، وطلب من الكاردينال كامبيجيو أن يتقبل هذا الإقرار بقبول حسن، كما دبجه هو. وأسف لوثر لبعض ما قدمه من تنازل، ولكنه أعرب عن رضاه، الذي لم يكن منه مفر، عن هذه الوثيقة، وأرسل زونجلى تقريره إلى الإمبراطور وقد أعرب فيه بصراحة عن عدم إيمانه بوجود المسيح بجسده في القربان المقدس، وقدمت ستراسبورج وكونستاتس ولينداو وممنجن إقراراً منفصلاً هو: Tetra Politana، وفيه جاهد كابيتو وبوسر. لسد الثغرات، التي بدت بين العقائد اللوثرية والزونجلية والكاثوليكية.
ورد الحزب المتطرف من الكاثوليك الذي يتزعمه إيك رداً مدعماً بالبراهين، فندوا فيه الاتهام بصورة لا تقبل التفاهم، إلى حد أن المجلس رفض أن يقدمه إلى الإمبراطور، حتى خففت لهجته مرتين. وعلى الرغم من مراجعته فإنه أصر على التجسيد والشعائر السبع والتوسل بالقديسين وفرض العزوبة على رجال الدين ومناولة القربان بالخبز والقداس باللغة اللاتينية، ووافق شارل على هذا الرد المدعم بالبراهين، وأعلن أن على البروتستانت أن يقبلوه وإلا واجهوا الحرب.
ولقد تفاوض حزب أكثر اعتدالاً من الكاثوليك مع ميلانكتون،(24/179)
وعرضوا عليه السماح بتناول القربان بالخبز والنبيذ. فوافق ميلانكتون بدوره على التسليم بالاعتراف السماعي والصيام والسلطة القضائية للأساقفة، بل وسلطة البابوات، مع بعض التحفظات، غير أن الزعماء البروتستانت الآخرين رفضوا أن يذهبوا في الاتفاق إلى هذا الحد، واحتج لوثر، وقال: إن إعادة الولاية القضائية للأساقفة سيؤدي إلى إخضاع القسس الجدد للدرجات الكهنوتية في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وإلى تصفية الإصلاح الديني في أقرب وقت. ورأى عدد من الأمراء البروتستانت استحالة الاتفاق، فعادوا أدراجهم إلى أوطانهم.
وفي التاسع عشر من نوفمبر أصدر المجلس النيابي، الذي كان قد نقص عدد أعضائه، مرسومه النهائي أو مرسومه الأخير، وقد أدينت فيه كل وجوه البروتستانتية، ونص على تنفيذ مرسوم ورمس، وعلى مجلس العدالة الإمبراطوري أن يبدأ في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد جميع الذين انتزعوا أملاك الكنيسة، وأعطى البروتستانت مهلة تنتهي في 15 أبريل عام 1531 لقبول الرد المدعم بالبراهين بطريقة سلمية. وأضفى توقيع شارل على "مرسوم أوجسبورج" صفة المرسوم الإمبراطوري، ولابد أن الإمبراطور قد خال أن منح المتمردين مهلة الشهور الستة، لكي يروضوا أنفسهم على تنفيذ إرادة المجلس النيابي، ذروة التعقل، وفي خلال تلك الفترة عرض عليهم الإعفاء من تنفيذ مرسوم ورمس، ولذلك فإنه قد يقدم، إذا سمحت واجبات أخرى، القواعد المتناظرة في علم اللاهوت إلى محكمة الحرب العليا.
وبينما كان المجلس النيابي في ذروة انعقاده أقامت عدة ولايات حلفاً كاثوليكياً فيما بينها، للدفاع عن العقيدة التقليدية واستعادتها. وفسر هذا بأنه نذير بالحرب، فنظم الأمراء البروتستانت والمُدن البروتستانتية الحلف الشمالكالدي، الذي اتخذ اسمه من موطنه الأصلي بالقرب من أرفورت،(24/180)
وعندما انتهت مهلة العفو، اقترح فرديناند، الذي أصبح وقتذاك ملكاً على الرومان، أن يبدأ شارل بالحرب، ولكن شارل لم يكن على استعداد، وكان سليمان يخطط لهجوم آخر على فيينا، كما أن بارباروسا حليف سليمان كان يغير على السفن التجارية في البحر الأبيض المتوسط، يضاف إلى ذلك أن فرانسيس ملك فرنسا - وهو حليف سليمان أيضاً - كان يتأهب للانقضلض على ميلان في اللحظة التي يتورط فيها شارل في حرب أهلية بألمانيا. وفي أبريل عام 1531 أوقف شارل مرسوم أوجسبورج بدلاً من وضعه موضع التنفيذ، وطلب المعونة من البروتستانت لقتال الأتراك، فاستجاب لوثر والأمراء معربين عن ولائهم، ووقع اللوثريون والكاثوليك معاهدة سلام في نورمبرج (23 يوليه عام 1532)، وتعهدوا بتقديم العون إلى فرديناند، والتسامح الديني فيما بينهما إلى أن ينعقد مجلس ديني عام. واحتشد جيش كبير من الألمان البروتستانت والكاثوليك، ومن الأسبان والإيطاليين والكاثوليك، تحت لواء الإمبراطور في فيينا، فوجد سليمان أن الظروف غير مواتية، فعاد أدراجه إلى القسطنطينية، بينما انتشى الجيش المسيحي بخمر النصر، الذي خلا من إراقة الدماء، وأعمل يد السلب والنهب في المُدن والبيوت، وقال شاهد عيان هو توماس كرانمر الإنجليزي (وأوقع بالبلاد كارثة أعظم مما جلبه الأتراك أنفسهم" (17).
ولقد أضفت وطنية البروتستانت على حركتهم رفعة جديدة ودفعة قوية، وعندما عرض إلياندر، الذي عين رسولاً بابوياً مرة أخرى، على الزعماء اللوثريين سماع دعواهم أمام مجلس عام، إذا وعدوا بالامتثال لقرارات المجلس النهائية، رفضوا الاقتراح، وبعد مرور عام (1534) قبل فيليب الهسي العون الفرنسي، لكي يستعيد الدوق اولريخ البروتستانتي السلطة في فيرتنبورج، مستخفاً بإدانة لوثر لانتهاج سياسة هجومية. وقضى هناك على حكم فرديناند، ونهبت الكنائس وأغلقت الأديرة، واستولت الحكومة على أملاكها (18). وأصبحت الظروف مرة أخرى مواتية للبروتستانت.(24/181)
فقد كان فرديناند مشغولاً في الشرق، وشارل منهمكاً في الغرب، وكان من الواضح أن اللامعمدانيين يدعمون ثورة شيوعية في منستر. واستولى المتطرفون في يورجن فولنفيفر على لوبيك (1535)، وأصبح الأمراء الكاثوليك في ذلك الوقت في حاجة إلى عون لوثر، لمواجهة الثورة الداخلية، بقدر حاجتهم إليه في حربهم ضد العثمانيين، وفضلاً عن هذا فإن اسكنديناوة وإنجلترا تخلتا عن روما في هذا الوقت، وأخذت فرنسا الكاثوليكية تنشد التحالف مع ألمانيا اللوثرية ضد شارل الخامس.
وطرب الحلف الشمالكالدي بهذه القوة النامية. فطالب بحشد جيش قوامه 12. 000 رجل، وعندما سأل البابا الجديد بول الثالث عن الشروط، التي يقبل بها الحلف مجلساً دينياً عاماً، أجاب بأنه لن يعترف إلا بمجلس ينعقد مستقلاً عن البابا، ويتألف من زعماء ألمانيا الزمنيين والدينيين على السواء، وأنه يرحب بالبروتستانت ليشتركوا فيه على قدم المساواة (19)، ولا يعتبره هراطقة. ورفض الحلف قبول مجلس العدالة الإمبراطوري، وأبلغ نائب رئيس وزراء الإمبراطور أنه لن يسلم بحق الكاثوليك في الاحتفاظ بأملاك الكنيسة، أو بحقهم في القيام بالعبادة وفق شعائرهم في أراضي الأمراء البروتستانت (20). وجددت الولايات الكاثوليكية تكوين حلفها، وطالبت شارل بدعم السلطات المخولة لمجلس العدالة الإمبراطوري، فرد عليهم بكلمات رقيقة، ولكن خوفه من أن يطعنه فرانسيس الأول في ظهره جعله في حرج.
واستمر المد البروتستانتي يتعاظم، ويقول مؤرخ كاثوليكي: "في اليوم التاسع من سبتمبر عام 1538 كتب إلياندر إلى البابا من مدينة لينز يقول إن الحالة الديني في ألمانيا منهارة تقريباً، وقد كادت تتوقف عبادة الله، ومناولة القربان، وكان الأمراء الزمنيون جميعاً، ما عدا فرديناند الأول، إما من أتباع لوثر المخلصين، أو ممن يمقتون نظام القساوسة مقتاً بالغاً، ويطمعون في أملاك الكنيسة. أما البطارقة، فكانوا يعيشون في بذخ(24/182)
كعهدهم من قبل. وتضاءلت الرتب الدينية إلى ما يعد على أصابع اليدين، ولم يكن رجال الدين من غير الرهبان أكثر عدداً، وكانوا على درجة من الانحلال والجهل، إلى حد أن بعض الكثالكة أعرضوا عنهم" (21).
وعندما توفي الدوق الكاثوليكي جورج صاحب البرتين سكاسونيا، خلفه شقيقه هنري. وكان من أتباع لوثر، وخلف موريس بدوره هنري وكان المنقذ العسكري للبروتستانتية في ألمانيا. وفي عام 1539 شيد يواقيم الثاني الأمير المختار في براندنبورج كنيسة بروتستانتية في عاصمته برلين معتزاً باستقلالها عن كل من روما وفيتنبرج. وفي عام 1542 أضيفت إلى قائمة بروتستانت دوقية كليفس وأسقفية نارمبورج بل وكرسي أسقفية ألبرخت في هال بطريقة جمعت بين الساسة والحرب كل في حينه. وفي عام 1543 روع الكونت هرمان فون فيد، كبير أساقفة كولون وأميرها المختار، روما بتحوله إلى المذهب اللوثري، وكان الزعماء اللوثريون واثقين بأنفسهم إلى حد أن لوثر وميلانكتون وآخرين أصدروا في يناير عام 1540 بياناً ينص على أن السلام لا يمكن أن يسود إلا بتخلي الإمبراطور ورجال الدين الكاثوليك عن "عبادتهم للأوثان وضلالهم". ولن يتم ذلك إلا باعتناقهم العقيدة الطاهرة، التي وردت في اقرار أوجسبورج، واستطردت الوثيقة تقول: "حتى إذا كان على البابا أن يسلم لنا بما نعتنقه من عقائد، وما نقوم به من شعائر، فإننا مضطرون إلى معاملته باعتباره ظالماً متعسفاً، منبوذاً، مادام أنه لن يتبرأ من أخطائه في ممالك أخرى". وقال لوثر: "لقد انتهى كل ما بيننا وبين البابا كما انتهى ما بيننا وبين ربه، الشيطان" (22).
ووافق شارل، أو كاد، لأنه اتخذ زمام المبادرة من البابا في أبريل عام 1540، ودعا زعماء الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا إلى الاجتماع في "ندوة مسيحية"، ليبحثوا مرة أخرى عن تسوية سلمية لخلافاتهم. وكتب قاصد رسولي: "ما لم يتدخل البابا بطريقة حاسمة، فإن ألمانيا بأسرها سوف تسقط في براثن البروتستانت". وفي مؤتمر تمهيدي بورمس دار(24/183)
جدال طويل بين إيك وميلانكتنون، انتهى إلى أن الكاثوليك، الذين كانوا يرفضون من قبل التفاهم، قبلوا على سبيل التجربة المبادئ، التي تدل على رحابة الصدر، والتي صيغت في إقرار أوجسبورج (23)، وتشجع شارل فاستدعى جماعتين إلى راتيسبون (رجنزبورج)، وهناك عقدا اجتماعاً تحت رئاسته (5 أبريل - 22 مايو عام 1542)، وتقاربت آراؤهما إلى أقصى حد، للوصول إلى تسوية، وكان بول الثالث على استعداد للسلام، وكان كبير مندوبيه الكاردينال جابارو كونتاريني رجلاً حسن النية وعلى خلق رفيع. أما الإمبراطور فقد أزعجته تهديدات فرنسا واستغاثة فرديناند به، لمعاونته على صد الأتراك، الذين عادوا إلى الإغارة عليه، ولهذا كان تواقاً جداً إلى عقد الاتفاق المنشود، إلى حد أن الكثيرين من زعماء الكاثوليك ارتابوا في أن له ميولاً بروتستانتية. وتلاقت آراء المشتركين في المؤتمر وانتهت إلى السماح بزواج رجال الدين، وتناول القربان بالأسلوبين المعروفين، ولكن ما كان لأي شعوذة أن تجد في الحال صيغة تؤكد وتنفي في الوقت نفسه رئاسة البابوات الدينية والتجسيد في القربان المقدس، ولم يجد كونتاريني تفكهه في سؤال وجهه إليه بروتستانتي عما إذا كان الفأر الذي يقرض قطعة سقطت من القربان المقدس، يأكل الخبز أم الرب (24)، وفشل المؤتمر، لكن شارل قطع على نفسه عهداً موقوتاً للبروتستانت، وهو يخف للحرب، بعدم اتخاذ أي إجراء ضدهم لتمسكهم بالعقائد المنصوص عليها في إقرار أوجسبورج، أو لاحتفاظهم "بأملاك الكنيسة المصادرة".
وفي خلال هذه السنوات التي اشتد فيها الجدال وازداد، كانت العقيدة الجديدة قد أنشأت كنيسة جديدة، وأطلقت على نفسها اسم الكنيسة الإنجيلية بناء على اقتراح من لوثر. وكان أصلاً قد ناضل في سبيل تحقيق ديمقراطية كهنوتية. تنتخب فيها كل طائفة من المصلين قسيسها الخاص، وتحدد ما تقوم به من شعائر، وما تعتنقه من عقيدة، ولكن اعتماده المتزايد على الأمراء اضطره إلى التسليم بهذه الامتيازات للبعثات التي عينتها الدولة، وتعد مسئولة عنها.(24/184)
وفي عام 1525 أصدر جون الأمير المختار لساكسونيا أمراً لجميع الكنائس الواقعة في دائرة دوقيته بأداء الصلاة وفق المذهب الإنجيلي، كما صاغه ميلانكتون بالاتفاق مع لوثر، وكل مَن يرفض الامتثال لهذا الأمر من القساوسة يفق مستحقاته، وينفى العلمانيون المتشبثون بآرائهم بعد فترة يمهلون فيها (25). وحذا حذوه أمراء آخرون من أنصار لوثر واتخذوا إجراء مماثلاً. وكتب لوثر في خمس صفحات Kleiner Katechismus، ويتألف من الوصايا العشر، التي وردت في عقيدة الرسل، وتفسيرات موجزة لكل وصية، وكان من الممكن أن يعد نصاً محافظاً جداً، يعود إلى القرون الأربعة الأولى للمسيحية.
كان القساوسة الجدد بوجه عام رجالاً يتصفون بالأخلاق الحميدة متضلعين في الكتاب المقدس، لا يعبأون بالتضلع في علوم الإنسانيات، ويكرسون حياتهم لأداء واجباتهم في أبرشياتهم. وروعيت إقامة الصلوات يوم الأحد، كما كانت تقام يوم السبت عند اليهود، وهنا رضي لوثر باتباع التقاليد، أكثر مما راعى ما ورد في الكتاب المقدس، واحتفظت "عبادة الرب" بكثير من شعائر الكاثوليك - المذبح والصليب والشموع والثياب الكهنوتية وأجزاء من القداس باللغة الألمانية، ولكن الموعظة حظيت باهتمام كبير، لتلعب دوراً أعظم، ولم تكن هناك صلوات تقام للعذراء والقديسين، ونبذت الصور والتماثيل الدينية، وتحولت عمارة الكنيسة، بحيث تتيح للعابدين سماع الواعظ بسهولة، وأصبحت الأروقة معلماً مألوفاً في الكنائس البروتستانتية. ومن أجمل ما استحدث المشاركة الفعلية لجماعة المصلين في عزف الموسيقى، التي تصحب أداء الشعيرة، فحتى صاحب الصوت النشاز يتوق للاشتراك في التراتيل، وفي وسع كل صاحب صوت الآن أن يسمع نفسه في شغف، دون أن يخشى أن يتعرف عليه أحد في هذا الجمع الحاشد. وأصبح لوثر شاعراً بين عشية وضحاها، وكتب أناشيد تعليمية، يتخللها الحوار، وتثير الاهتمام، وتتسم(24/185)
بالقوة والجزالة، وتنبض بالرجولة، التي تتميز بها شخصيته، ولم يكتفِ العابدون بترتيل هذه الأناشيد وغيرها من أمثالها البروتستانتية، وإنما دعوا إلى إجراء تجارب عليها في غضون الأسبوع، ورتلتها عائلات كثيرة في البيوت. وقال أحد رجال الدين من اليسوعيين الذين أزعجهم هذا الأمر "إن أناشيد لوثر قضت على الأرواح (أخرجتها من دينها) أكثر مما فعلت عظاته" (26)، وارتقت الموسيقى البروتستانتية لتنافس التصوير الكاثوليكي في عصر النهضة.
3 - أسد فيتنبرج
1536 - 46
لم يشترك لوثر مباشرة في المؤتمرات السلمية في سنوات الأفول هذه، وأصبح الأمراء لا المشتغلون باللاهوت زعماء البروتستانت وقتذاك، لأن مواضيع النزاع كانت تدور حول الملكية والسلطان، أكثر مما تدور حول العقيدة والشعيرة. ولم يخلق لوثر للمفاوضة، وكان قد تقدم في السن، فلم يعد قادراً على الكفاح بأسلحة أخرى غير العلم. ووصفه رسول بابوي عام 1535، بأنه مازال قوياً، يميل إلى المزاح (كان أول سؤال وجهه إلي هو هل سمعت الخبر، الذي يتردد في إيطاليا، وهو أني سكير ألماني) (27)، ولكن هيكله المديد كان مأوى لكثير من الأمراض - سوء هضم وأرق ودوار ومغص وحصوات في الكليتين ودمامل في الأذنين وقرحات وداء النقرس وروماتزم وعرق النسا وخفقان في القلب. واعتاد أن يجرع الخمر ليخدر إحساسه بالالم، ويستعين بها على النوم، وجرب جرعات من عقاقير وصفها له الأطباء، وعكف على الصلاة ضجراً، واشتدت عليه الأسقام، وخيل إليه في عام 1537 أنه سيموت متأثراً بداء الحصوة، فأصدر إنذاراً نهائياً للرب قال فيه: "إذا استمر هذا الألم يعصرني أكثر من هذا فإني سوف أجن وأعجز عن إدراك رحمتك" (28). وكان مزاجه المتدهور يعكس، بعض الشيء، ما يقاسيه من آلام. وانصرف(24/186)
أصدقاؤه عنه، يوماً بعد يوم، لأنه كما وصفه أحد مريديه في حزن: "كان من الصعب على أحدنا أن يفلت من غضبه واقتصاصه منه علناً"، وكان ميلانكتون المعروف بالصبر يتلوى ألماً، لكثرة ما يلقى من إذلال على يد صنمه، الذي صنعه دون أن يصقله، ومما يؤثر على لوثر أنه قال أما أوكيولامباديوس وكالفن ... والهراطقة الآخرون فهم قلوب فاسدة، ذلك لأن الشيطان احتواهم من الباطن والظاهر، ومن الرأس إلى القدم، ولهم ألسنة لا تنطق إلا كذباً" (29).
ولكم حاول جاهداً أن يتوخى الاعتدال في رسالته "عن المجالس والكنائس" (1539)، وشبه الوعود البابوية المتكررة وتأجيل عقد مجلس عام أكثر من مرة بإثارة حفيظة حيوان جائع، وذلك بتقديم الطعام له ثم انتزاعه منه واستعرض تاريخاً ارتكز على المصالحة، وذلك بصورة تنم على علم غزير، وسجل أن عدة مجالس كهنوتية كانت قد دعيت إلى الانعقاد، ورأسها أباطرة - وفي هذا تلميح لشارل، وأعرب عن شكه في أن يقوم أي مجلس، دعاه البابا إلى الانعقاد، بإصلاح المحكمة الرومانية، وقبل إقرار حضور البروتستانت في مجلس للكنيسة "يجب أولاً أن ندين أسقف روما، باعتباره طاغية، وأن نحرق كل منشوراته ومراسيمه" (30).
وتوحي آراؤه السياسية في السنوات الأخيرة من عمره بأن السكوت من ذهب حقاً بعد سن الستين. وقد كان طوال حياته من المحافظين في السياسة، حتى عندما اتضح أنه يشجع على قيام ثورة اجتماعية. وكانت ثورته الدينية موجهة إلى ممارسة الشعيرة، أكثر مما وجهت إلى المبادئ النظرية، فقد اعترض على الثمن الفادح الذي يدفع مقابل الحصول على صكوك الغفران، واعترض فيما بعد على استبداد البابوات. ولكنه قبل إلى آخر لحظة من حياته أشق العقائد في مسيحية المحافظين - الثالوث وولادة العذراء والتكفير عن الخطايا وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس(24/187)
والجحيم - وجعل بعض هذه العقائد تبدو مستساغة في نظر الناس أكثر من ذي قبل. وكان يزدري العامة من الناس، وما كان أحراه بعد ذلك أن يصحح خطأ لينكولن الشهير في عدم الاكتراث بالعامة، إن السيد "الجمهور" في حاجة إلى حكومة قوية، حتى لا يطلق الناس غرائزهم الهمجية من عقالها، ويتبدد السلام، وتبور التجارة ... لا حاجة لأن يعتقد أحد أن العالم يمكن أن يحكم دون إراقة الدماء ... إن العالم لا يمكن أن يحكم بمسبحة" (31)، ولكن عندما تفقد حكومة المسبحات سلطانها، فمن الواجب أن تحل مكانها حكومة تعتمد على حد السيف. وعلى هذا كان لزاماً على لوثر أن ينقل إلى الدولة معظم ما كانت تنعم به الكنيسة من سلطة. ومن ثم فقد دافع عن الحق الإلهي للملوك، وفي هذا يقول: "إن اليد التي تدير السيف الدنيوي ليست يداً بشرية وإنما هي يد الرب. والرب (32)، لا الإنسان، هو الذي يشنق، ويحطم الضلوع على دولاب التعذيب، ويقطع الرؤوس بالمقصلة، ويجلد بالسياط. والرب أيضاً هو الذي يشهر الحرب". وفي هذا التمجيد للدولة، كما هو الحال الآن، نجد أن المنبع الوحيد للنظام يضع بذور فلسفات هوبز وهيجل الاستبدادية، وهو نذير بقيام ألمانيا الإمبراطوريّة. ولقد وجد هنري الرابع في لوثر ما يؤيد إحضار هيلدبراند إلى مدينة كانوسا.
وعندما تقدم لوثر في السن أصبح محافظاً أكثر من الأمراء أنفسهم، وأقر الإكراه البدني على العمل، والضرائب الإقطاعية الباهظة المفروضة على الفلاحين. وعندما أحس أحد البارونات بتأنيب ضميره طمأنه لوثر على أساس أن مثل هذه الأعباء الثقيلة، إذا لم تفرض على العامة، فإنهم سوف يشمخون بأنوفهم، إلى حد لا يطاق (33).
واستشهد بآيات من العهد القديم تبريراً للرق "الأغنام والماشية والعبيد والجواري كانت كلها ممتلكات يجوز لأصحابها أن يبيعوها كما يشاءون. ومن(24/188)
الخير لو ظل هذا معمولاً به الآن، لأنه بدون هذا لا يمكن لامرئ أن يكره طبقة الرقيق على العمل، أو يروضها عليه" (34). "وعلى كل إنسان أن يقوم بواجبه في جلد، وأن يتخذ نهج الحياة الذي فرضه الله عليه"، "وفي وسع كل امرئ أن يعبد الله بان يبقى في وظيفته ومهنته، مهما كانت وضيعة وبسيطة". وقد أصبح هذا المفهوم عن الوظيفة دعامة لمذهب المحافظين في البلاد البروتستانتية.
وتسبب أمير كان نصيراً مخلصاً للقضية البروتستانتية، في خلق مشكلة معضلة للوثر عام 1539. فقد كان فيليب الهسي جندياً محارباً ومحباً عاشقاً ورجلاً حي الضمير في آن واحد. وكانت زوجته كريستين من (السافوية)، امرأة تفتقر إلى الوسامة، ولكنها مخلصة ولود. وتردد فيليب في أن يطلق زوجة كهذه تستحق التكريم، وكان يشتهي مرجريت السالية of Saale، التي لقيها، وهو في طور النقاهة من مرض الزهري (35)، وبعد أن اقترف جريمة الزنى فترة من الوقت، قرر أنه غارق في الإثم إلى أذنيه، ومن الواجب أن يمسك عن تناول العشاء الرباني. ولما كانت التجربة جد مزعجة، فقد أبدى رأيه إلى لوثر بأن الدين الجديد، الذي يعتمد على العهد القديم إلى حد كبير، يجب أن يسمح مثله بالزواج مرة أخرى. وهو أمر كانت عقوبته القانونية السائدة الإعدام. وفضلاً عن ذلك ألم يكن هذا أكثر لباقة مما أقدم عليه فرانسس الأول، من أن يرث العشيقات، وأكثر شفقة من الأعمال الهوجاء التي جنح إليها هنري الثامن في زيجاته؟ كان فيليب تواقاً للوصول إلى حل يعتمد على الإنجيل، حتى إنه أعلن أنه سوف يتخلى عن المعسكر الإمبراطوري، بل والبابوي، إذا لم يستطع علماء اللاهوت في فيتنبرج أن يتبينوا ضوء الكتاب المقدس. وكان لوثر على استعداد. والحق أنه كان قد فضل في رسالته "الأسر البابيلوني" الزواج مرة أخرى على الطلاق، وقد نصح بالزواج مرة أخرى باعتباره أفضل حل لمشكلة هنري الثامن (36). وكان الكثيرون من علماء اللاهوت في القرن السادس عشر منفتحي الأذهان بالنسبة لهذا الأمر (37)، أما ميلانكتون(24/189)
فكان ينفر منه، إلا أنه اتفق أخيراً مع لوثر على أنه لا مفر من أن يعربا عن موافقتهما، ولكن يجب ألا يباح هذا للجمهور. ووافقت كرستين بدورها على شريطة أن يقوم فيليب بواجباته الزوجية نحوها أكثر من ذي قبل (38). وفي يوم 4 مارس عام 1540 تزوج فيليب رسمياً، وإن يكن ذلك سراً، من مرجريت، واعتبرها زوجة ثانية، وذلك بحضور ميلانكتون وبوسر. وما كان من اللاندجراف المعترف بالجميل إلا أن أرسل إلى لوثر حمل عربة من النبيذ على سبيل الهبة (39). وعندما تسرب نبأ الزواج أنكر لوثر أنه تم بموافقته، وكتب يقول: "إن لفظ نعم سراً يجب أن يظل لا علناً لصالح كنيسة المسيح" (40).
وخر ميلانكتون صريعاً بمرض خطير، ويبدو أنه كان يعاني من وخز الضمير والإحساس بالعار، وأمسك عن الطعام، إلى أن هدده لوثر بالحرمان من الغفران (41) وكتب لوثر يقول: "إن ميلانكتون شعر بحزن عميق بسبب هذه الفضيحة، أما أنا فإني ساكسوني صعب المراس، وفلاح صلب العود، وقد ازداد جلدي غلظاً إلى درجة تجعلني أستطيع أن أتحمل مثل هذه الأمور" (42). ومهما يكن من أمر فإن معظم الإنجيليين افتضحوا. وطرب الكاثوليك وتفكهوا، دون أن يعرفوا أن البابا كليمنت السابع نفسه، كان قد فكر في السماح لهنري الثامن بالزواج مرة أخرى (43). وأعلن فرديناند ملك النمسا أنه على الرغم من ميله القليل إلى العقيدة الجديدة، فإنه أصبح الآن يمقتها أشد المقت. وانتزع شارل الخامس من فيليب تعهداً بتأييده في جميع الانقسامات السياسية في المستقبل، وذلك مقابل عدم اضطهاده لفيليب.
وأصبح لوثر ناري الطبع كلما دنت منيته، فقد هاجم في عام 1545 "المؤمنون بأن القربان المقدس مجرد رمز" من أنصار زونجلى بعنف شديد، دفع ميلانكتون إلى أن يعرب عن أساه بسبب اتساع الهوة بين البروتستانت(24/190)
في الجنوب والبروتستانت في الشمال. وعندما طلب الأمير المختار جون من لوثر أن يستأنف حملته ضد الاشتراك في مجلس يديره البابا مباشرة، دبج لوثر خطاباً مقذعاً بعنوان: "ضد البابوية في روما التي أسسها الشيطان" (1545) بدت فيها بوضوح نزعته إلى الطعن التي جاوزت الحد. وارتاع كل أصدقائه، ما عدا المصور لوكاس كراناش، الذي زين الكتاب برسوم محفورة على الخشب، تنطوي على هجاء مقذع، فأحدها يصور البابا ممتطياً ظهر خنزير، يبارك كومة من الروث، وأخرى تمثله هو وثلاثة من الكرادلة معلقين على مشانق، أما صورة الغلاف فتصور الحبر الأعظم جالساً فوق عرشه، تحيط به الشياطين ويتوج رأسه دلو "لجامع قمامة" وألهبت كلمة "شيطان" نص الخطاب ... ووصف البابا بأنه "أعظم أب جهنمي" و "هذا الخنثى الروماني" و "البابا السدومي"، أما الكرادلة فقال عنهم أنهم "أولاد الشيطان الضالون ... الحمير الجهلة ... لكم يود المرء أن يصب عليهم لعنته، وأن تنقض عليهم صاعقة، تبيدهم، وأن يحرقوا في نار جهنم، وأن يصابوا بالطاعون والزهري والصرع والأسقربوط والجذام والجمرة وسائر الأمراض (44). ورفض مرة أخرى التسليم بالرأي القائل بان الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة منحة من البابوات، ورأى على النقيض أن الوقت قد حان لكي تبتلع الإمبراطوريّة الولايات البابوية:
فلتبدأوا الهجوم الآن أيها الإمبراطور والملك والأمراء والسادة، ولتنظروا مَن يبدأ معكم، إن الله لا يسعد الأيدي العاطلة. خذوا من بابا روما، أولاً وقبل كل شيء، رومانيا وأوربينو وبولونيا وكل ما يملك، باعتباره بابا، لأنه حصل على هذه البلاد بالأكاذيب والخداع، واختلسها وسرقها من الإمبراطوريّة بالكفر وعبادة الأوثان، في غير ما خجل، وداسها بقميه، ومن ثم دفع بأرواح لا تحصى إلى جهنم لتلقى جزاءها خالدة فيها ... ومن ثم يجب أن يؤخذ البابا وكرادلته وكل طغمته من الدهماء، من عبدة(24/191)
الأوثان، وأنصار قداسته البابوية، واعتبارهم كفرة، وانتزاع ألسنتهم من أقفيتهم، وشد وثاقهم في صفوف على المشانق (45).
ولعل الضعف قد بدأ يتسرب إلى ذهنه عندما كتب هذه الدعوة الصارخة إلى استخدام العنف. ولعل التسمم التدريجي للأعضاء الداخلية، بمرور الوقت وتناول الطعام والشراب، قد وصل إلى ذهنه وعطله عن التفكير. وأصبح لوثر في سني حياته الأخيرة بديناً إلى درجة مزعجة، بخدين متهدلين وذقن ملتو ... وكان شعلة من النشاط، عملاقاً لا يهدأ، ويقول: "إذا استرحت فسوف يصيبني الوهن" (46)، أما الآن فقد تطرق إليه التعب ووصف نفسه (17 يناير عام 1546) بأنه "شيخ هرم مترهل متعب، لا يكترث لشيء، ليس له عين سليمة" (47). وكتب يقول: "لقد سئمت الحياة الدنيا وسئمت هي مني" (48) وعندما تمنت له الأميرة أرملة منتخب ساكسونيا أن يعيش أربعين عاماً أخرى رد عليها بقوله "سيدتي، إني لأتنازل عن فرصتي في دخول الجنة فهذا أحب إلي من أن أعيش أربعين عاماً أخرى" (49). وقال "إني لأضرع إلى الرب أن يبادر بالحضور ليحملني من هنا. ألا فليقبل بصفة خاصة مع اليوم الآخر، وعندئذ سوف أمد عنقي ويدوي الرعد وأرقد في سلام" (50). وظل حتى أخر نسمة من حياته تلوح له رؤى من الشيطان، وتراوده الشكوك بين آن وآخر في رسالته. وفي هذا يقول: "إن الشيطان يتعدى علي بالاعتراض بأن لساني أساء إلى الكثيرين، وأطلق سيلاً من الألفاظ الآثمة. وبهذا كثيراً ما يتركني في حيرة شديدة" (51). وكان في بعض الأحايين يتملكه اليأس من مستقبل البروتستانتية: "إن الصالحين من العباد يقلون يوماً بعد يوم" والطوائف والأحزاب (52) تزداد عدداً، وتتسع بينهما هوة الخلاف و "بعد وفاة ميلانكتون سوف تمر فترة انحلال يؤسف لها" (53) على العقيدة الجديدة. ولكن عندئذ عاودته شجاعته، وقال: "لقد أمسكت المسيح والبابوات من الآذان، ولهذا لن أزعج نفسي أكثر من ذلك، وعلى الرغم من أني حصرت نفسي(24/192)
بين الباب والمفصلات، أن عودي يهصر هصراً، فإني لا أبالي بهذا الأمر، ولسوف يكابد المسيح ما كابدت" (54).
وبدأ وصيته بحروف كبيرة، بقوله: "إني معروف تماماً في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم". وروت كيف أن "آثماً تعساً يستحق اللعنة، لقي من الرب العون لنشر إنجيل ابنه، وكيف أنه ظفر بالاعتراف به، أستاذاً للحق، يزدري الحرمان المفروض عليه من البابا والإمبراطور والملوك والأمراء والقساوسة، والكراهية من كل الشياطين" وانتهت بهذه العبارة: "لهذا السبب، ومن أجل تقرير هو أن شأني، أرجو أن يكفى الشاهد بخطي"، وأن يقال: "لقد كتب هذا الدكتور مارتن لوثر موثق الرب وشاهد إنجيله" (55)، ولم يراوده الشك قط في أن الرب كان في انتظاره للترحيب به.
وفي يناير عام 1546 سافر في شتاء قارص البرد إلى مسقط رأسه أيسليبين، ليحكم في نزاع، وبعث خلال تغيبه هناك برسائل شائقة إلى زوجته - منها الرسالة المؤرخة أول فبراير: أتمنى أن تجدي في المسيح السلام والبركة، وابعث إليكِ بحبي الضعيف العتيق المسكين. عزيزتي كاتي لقد كنت عليلاً وأنا في الطريق إلى أيسليبين، ولكن هذا إنما يرجع إلى خطئي، فقد هبت ريح صرصر عاتية من خلفي، واخترقت قلنسوتي فوق رأسي، فشعرت أن مخي قد تجمد واستحال إلى ثلج، وكان هذا حرياً بأن يعينني على ما يصيبني من دوار. أما الآن فأنا، ولله الحمد، بصحة جيدة، إلى الحد الذي يجعلني أشعر بميل شديد إلى الجميلات من النساء، فما بالكِ وأنا كيس ظريف. وليبارك الله (56).
وتناول عشاءه يوم 17 فبراير في مرح، وفي الصباح المبكر من اليوم التالي سقط مريضاً يعاني من آلام حادة في المعدة. ووهن جسده بسرعة، وأدرك أصدقاؤه، الذين تجمعوا إلى جانب فراشه، أنه يحتضر وسأله أحدهم "أيها الأب الجليل هل تقف راسخاً كالطود إلى جانب المسيح والعقيدة(24/193)
التي بشرت بها؟ " فرد عليه قائلاً "نعم"، ثم أصيب بنوبة فالج، أفقدته النطق، ومات على أثرها (18 فبراير سنة 1546). ونقل الجثمان إلى فيتنبرج، ودفن في كنيسة القيصر، التي كان قد علق على بابها مقالاته منذ تسعة وعشرين عاماً.
كانت هذه السنوات من أخطر السنوات في التاريخ. وكان لوثر صوتها المدوي الذي يأخذ بمجامع القلوب، وكانت أخطاؤه عديدة، فقد كان يفتقر إلى تقدير الدور التاريخي، الذي لعبته الكنيسة في نشر المدنية في أوربا، وكان ينقصه فهم تعطش البشرية إلى أساطير رمزية، تجد فيها العزاء والسلوى، وكان يعوزه البر والإحسان، ليعدل في معاملته مع خصومه من الكاثوليك والبروتستانت. ولقد حرر اتباعه من بابا معصوم من الخطأ، ولكن في الوقت نفسه أخضعهم لكتاب منزه من الخطأ، مع أن تغيير البابوات أيسر من تغيير ذلك الكتاب. وتشبث بأكثر العقائد تشدداً في ديانة القرون الوسطى، وهي عقائد لا يمكن أن تصدق، بينما سمح بالقضاء على كل ما في تلك الديانة من جمال تقريباً في أساطيرها وفنها، وأورث ألمانيا مسيحية، ليست أصدق من القديمة، وهي أقل منها بهجة وساواناً، وإن كانت أكثر صدقاً وأشد إخلاصاً في القائمين بها. وكاد لوثر أن يصبح في تعصب محكمة التفتيش، بيد أن أقواله كانت أغلظ من أفعاله، وأدين بأنه كتب مقالات، انطوت على أقذع الألفاظ في تاريخ الأدب، وعلم ألمانيا كراهية لاهوتية صبغت أرضها بلون الحقد الأسود مائة عام عقب وفاته.
ومع ذلك فقد كانت أخطاؤه دعامة نجاحه، فقد كان بفطرته محباً للحرب، لأن الوقت كان يتطلب النزال، ولأن الشكلات التي هاجمها قد قاومت جميع الوسائل المؤدية إلى السلام قروناً طويلة. وقضى طوال حياته في معركة ضد الإحساس بالذنب، وضد الشيطان والبابا والإمبراطور وزونجلى، بل وضد الأصدقاء، الذين كان من الممكن أن يهدئوا من(24/194)
ثورته، ويحولوها إلى احتجاج مهذب، يسمعه الناس في سماحة، ثم يضيع في غمرات النسيان. وماذا كان في وسع رجل أرحب منه صدراً أن يفعل، إذا ووجه بمثل هذه الصعاب وتلك القوى؟ ما من شك في أنه ليس في وسع رجل متضلع في الفلسفة ولا رجل له عقلية علمية، لا تؤمن إلا بشيء يثبت بالدليل، ولا رجل فطر على منح رواتب سخية لأعدائه، أن يقذف بمثل هذا التحدي، الذي هز العالم، أو أن يسير قدماً. بمثل هذا التصميم إلى هدفه، كما لو كانت هناك عصابة على عينيه. وإذا كان لاهوته، الذي يقول بحتمية القدر، منافياً للعقل والرأفة الإنسانية، كأي أسطورة أو معجزة في عقيدة أهل القرون الوسطى، فإنه أثر في قلوب الناس بهذه اللاعقلانية العاطفية، فالأمل والروع هما اللذان يدفعان الناس إلى الصلاة، وليس الدليل على أشياء يرونها بأعينهم.
ويبقى أن نذكر أنه حطم بضربات قبضته الخشنة كعكة العادات وصدفة السلطة، التي كانت قد سدت الطريق في وجه حركة الفكر الأوروبي. وإذا كنا نحكم على عظمة المرء بما له من نفوذ - وهذا أقل اختبار موضوعي في وسعنا أن نلجأ إليه - فإننا نستطيع أن نضع لوثر في مصاف كوبرنيقوس وفولتير وداروين، باعتبارهم من أقوى الشخصيات، التي ظهرت في العالم الحديث. ولقد كتب عنه أكثر مما كتب عن أي رجل آخر في العصر الحديث باستثناء شكسبير ونابليون. وكان تأثيره على الفلسفة بطيئاً وغير مباشر، ولقد أثر على يقينية fideism كانت وقومية فيخته ومذهب شوبنهاور في الإرادة واستسلام الروح الهيجلي للدولة، أما تأثيره على الأدب الألماني واللغة الألمانية، فكان حاسماً وشاملاً، كتأثير الإنجيل، الذي نشره الملك جيمس، على اللغة والآداب في إنجلترا. ولم يستشهد الناس بأقوال ألماني آخر بمثل هذه الكثرة، وهذا الولع. ولقد أثر هو وكارلشتادت وآخرون في خلق الإنسان الغربي، وعاداته التي درج عليها، بالتنصل من العزوبة المفروضة على رجال الدين، وبصبه في الحياة الدنيوية الطاقات التي كانت(24/195)
قد صرفت إلى الزهد والرهبانية، أو إلى حياة الدعة والاسترخاء، أو إلى الورع. واخذ تأثيره يتقلص كلما انتشر ... كان هائلاً في اسكنديناوة وعابرا في فرنسا، وانعدم بتأثير كافن في سكوتلاندة وإنجلترا وأمريكا، أما في ألمانيا فكان تأثيره فائقاً. ولم يقدر لمفكر أو كاتب آخر أن يكون له هذا التأثير العميق في العقلية الألمانية والشخصية الألمانية. كان أقوى شخصية في تاريخ ألمانيا، ولا شك أن مواطنيه من أهل الريف يحبونه حباً جماً، لأنه كان أشدهم جميعاً تعصباً لألمانيته.
4 - انتصار البروتستانتية
1542 - 55
ومات قبل عام من وقوع الكارثة، التي لاح للناس أنها قاضية لا محالة على البروتستانتية في ألمانيا.
وفي عام 1545 أكره شارل الخامس، الذي لقي العون من الجيوش اللوثرية، فرانسيس الأول على توقيع صلح كريبي. وعقد سليمان، وكان في حرب مع فارس، هدنة لمدة خمس سنوات مع الغرب. ووعد البابا بول الثالث أن يقدم إلى الإمبراطور 1. 100. 000 دوكات و12. 000 من جنود المشاة و 500 جواد، إذا تحول بكل قوته لمحاربة الهراطقة ... وأحس شارل بأن في وسعه أن يحقق آخر الأمر أمله، وأن ينفذ سياسته. أن يسحق البروتستانتية، وأن يمنح مملكته عقيدة كاثوليكية موحدة، تدعم في رأيه حكومته وتسهل مهمتها. وكيف يكون إمبراطوراً بحق في ألمانيا، إذا استمر الأمراء البروتستانت في الاستهانة بسلطانه وعجز أن يملي عليهم الشروط التي يقبلون بموجبها تنصيبه إمبراطوراً؟ ولم يكن قد اتخذ البروتستانتية ديناً بصفة جدية، ولم تكن المنازعات بين لوثر وعلماء اللاهوت من الكاثوليك تعنيه قليلاً أو كثيراً، ولكن البروتستانتية باعتبارها لاهوت الأمراء المصلحين والمتحالفين ضده، وباعتبارها قوة سياسية، قادرة على تحديد مصير انتخاب الإمبراطور القادم، وبصفتها عقيدة كتاب الرسائل،(24/196)
الذين وجهوا إليه هجاء متقعاً، وعقيدة للفنانين الذين رسموا له صوراً ساخرة، وعقيدة الوعاظ الذين لقبوه باسم ابن الشيطان (57) - كان في وسعه أن يتحمل هذا في صمت كئيب - أما الآن فإنه حر في أن يناضل من جديد خلال موسم سرعام ما ينقضي، وأن يصوغ مملكته، التي مزقتها الفوضى، في دولة واحدة، تؤمن بعقيدة واحدة، ولها قوة واحدة، واستقر رأيه على الحرب.
وحشد في مايو عام 1546 جيوشه الإسبانية والإيطالية والألمانية، والهولندية، واستدعى دوق ألفا أقدر قواده للوقوف بجانبه، وعندما أوفد إليه الأمراء البروتستانت نواباً عنهم إلى راتسبون للاستفسار عن معنى حركاته، رد عليهم قائلاً بأنه قد اعتزم أن يعيد ألمانيا إلى حظيرة الإمبراطوريّة. وفي أثناء انعقاد ذلك المؤتمر كسب إلى صفه أقدر قائد عسكري في ألمانيا، وهو الشاب الطموح الدوق موريس صاحب سكسونيا الألبرتينية، ووعد آل فوجر بتقديم العون المالي له، وأصدر البابا منشوراً يحرم فيه من الغفران كل مَن يقاوم شارل، ويعرض منح صكوك الغفران بلامقابل، لكل مَن يساعده في هذه الحرب المقدسة.
وأصدر شارل قراراً إمبراطورياً أعلن فيه حرمان الدوق جون صاحب ساكسونيا الأرنستية ولاندجراف فيليب الهسي، وأحل رعاياهما من الولاء لهما، وأقسم أن يستصفي أراضيهما وأموالهما. ولكي يفرق بين المعارضة أعلن أنه لن يتدخل في شئون البروتستانتية في أية منطقة، تكون قد استقرت فيها بصفة نهائية، وقدم أخوه فرديناند تعهداً مماثلاً لبوهيميا. وكان موريس مرتبطاً بالقضية بوعد صدر له بأن يحل محل جون كأمير مختار لساكسونيا. وتنازع الأمراء المختارون، في كولونيا وبراندنبرج، وكونت بالاتين، الخوف والأمل، أما أمير نورمبرج البروتستانتي فظل محايداً. وأدرك جون أمير ساكسونيا وفيليب الهسي وأمراء أنهالت وحكام مُدن أوجسبورج وستراسبورج وأولم أن الخطر لا يتهدد لاهوتهم فحسب،(24/197)
ولكنه يتهدد أموالهم أيضاً، فعبأوا كل قواتهم، وحشدوا في ميدان القتال 57. 000 رجل.
ولكن عندما زحف جون وفيليب جنوباً يتحديان شارل، سار فرديناند شمالاً وغرباً للاستيلاء على دوقية جون، وانضم إليه موريس في غزو ساكسونيا الارنستية، لكي يساعد بشيء ما. وقدر جون عاقبة هذا الأمر، فهرع إلى الشمال للدفاع عن دوقيته، وقام بهذه المهمة خير قيام، ولكن في غضون ذلك بدأ جنود فيليب في الفرار من فرقهم، بسبب الامتناع عن دفع رواتبهم، وسارعت المُدن البروتستانتية تنشد السلام مع شارل، بعد أن أغرتها الوعود بالعدل في المعاملة، ولكنه أطلق حريتها بعد أن فرض عليها غرامات باهظة، حطمت العمود الفقري لماليتها، مقابل الحصول على حريتها، وكان شارل وقتذاك متفوقاً في السلاح، وفي الدبلوماسية على السواء. وكانت القوة الوحيدة التي وقفت في صف البروتستانت هي قوة البابا، إذا كان بول الثالث قد بدأ يخشى ما أحرزه الإمبراطور من نجاح عظيم، فإذا لم يبق من أمراء البروتستانت مَن يكبح جماح السلطة الإمبراطوريّة، فإن الأمور سوف تدين لها في شمال وجنوب إيطاليا على السواء، وسوف تحدق بالولايات البابوية وتبتلعها، وينتهي بها الأمر إلى أن تسيطر على البابوية سيطرة لا تقاوم. وفجأة (يناير سنة 1547) أصدر بول الثالث أوامره للجيوش البابوية، التي كانت تحارب مع شارل. بالتخلي عنه والعودة إلى إيطاليا، فأطاعت الأمر في اغتباط، ووجد البابا نفسه يطرب كأي هرطيق لانتصارات الأمير المختار جون في ساكسونيا، ولكن شارل كان مصمماً على أن يصل بالحملة إلى نهايتها الحاسمة، فزحف نحو الشمال، والتقى بقوات الأمير المختار المنهكة في ميلبرج، على مدينة مايسين، وقضى عليها قضاء مبرماً (24 أبريل 1547) وأسر جون. وطالب فرديناند بإعدام الأمير الباسل، غير أن شارل الذكي وافق على أن يخفف الحكم(24/198)
إلى السجن مدى الحياة، إذا فتحت فيتنبرج أبوابها له، فخضعت المدينة لأمره، وهكذا سقطت عاصمة البروتستانتية الألمانية في أيدي الكاثوليك، بينما كان لوثر يرقد في هدوء تحت صفائح بارزة في كنيسة القصر.
وأقنع موريس أمير ساكسونيا وجواكيم أمير براندنبرج، فيليب الهسي بالتسليم ووعداه بأن يطلق سراحه فوراً. ولم يكن شارل قد قطع على نفسه مثل هذا العهد، وكان أقصى ما وصلت إليه رحابة صدره أن يعد فيليب بإطلاق سراحه بعد خمسة عشر عاماً. ويبدو أنه لم يبق هناك أحد يتحدى الإمبراطور المظفر، إذ كان هنري الثامن قد مات في يوم 28 يناير، ومات فرانسيس الأول يوم 31 مارس. ومنذ عهد شارلمان لم تكن قوة الإمبراطوريّة عظيمة إلى هذا الحد.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن. فقد اجتمع الأمراء الألمان في مجلس نيابي آخر في أوجسبورج (سبتمبر سنة 1547)، وقاوموا جهود شارل لدعم انتصاره العسكري، وتحويله إلى حكم مطلق شرعي. واتهمه بول الثالث بالتغاضي عن مقتل بيير لويجي فارنيزي، الابن غير الشرعي للبابا، وانقلبت بافاريا ضد الإمبراطور، وكانت دائماً موالية للكنيسة. وتكونت من جديد أغلبية بروتستانتية بين الأمراء، وانتزعوا من شارل موافقة مؤقتة على زواج رجال الكهنوت، ومناولة القربان بالطريقتين المعروفتين، واحتفاظ البروتستانت بأملاك الكنيسة (1548). وتميز البابا غضباً من دعوى الإمبراطور أن له السلطة في أن يصدر أحكاماً، في مثل هذه الأمور. وتهامس الكاثوليك بأن شارل كان يهتم في مد رقعة إمبراطوريته، وتعزيز سلطان آل هايسبورج، أكثر من اهتمامه باستعادة العقيدة الخالصة الوحيدة. ووجد موريس وقتذاك الأمير المختار لساكسونيا نفسه في فيتنبرج يعد بروتستانتياً ومنتصراً، ومكروها إلى حد خطير وسط قوم من البروتستانت المغلوبين على أمرهم، وكانت خيانته قد سممت ما فاز به من سلطان. وتجاهل شارل ما وجهه إليه من نداءات لإطلاق سراح اللاندجراف. وبدأ(24/199)
يتساءل هل اختار الفريق الأحسن، وانضم سراً إلى الأمراء البروتستانت، ووقع معهم معاهدة شامبورد (يناير 1525)، وفيها وعد هنري الثاني ملك فرنسا بتقديم العون لطرد شارل من ألمانيا. وفي الوقت الذي غزا فيه هنري اللورين، واستولى على ميتز وتول وفردون، زحف موريس وحلفاؤه من البروتستانت جنوباً على رأس جيش قوامه 30. 000 رجل. وسرح شارل جنوده، دون أن يقدر العواقب، مستنداً إلى أكاليل الغار التي توجت رأسه في أنزبروك، ولم يكن أمامه وقتذاك ما يدافع به إلا الدبلوماسية. ولقد أثبت موريس تفوقه في هذه اللعبة التي تحتاج إلى الدهاء، واقترح فرديناند عقد هدنة، وأطال موريس المفاوضات مستخدماً كل ما أوتي من لباقة، وفي غضون ذلك أخذ يتقدم نحو أنزبروك. وفي يوم 9 مايو انتقل شارل بصعوبة فوق محفة، يصحبه بضع نفر من أتباعه، تحت المطر والجليد، متسربلاً بظلام الليل. وعبر ممر برينر إلى فيلاخ في كازنثيا. وهكذا حولت ضربة واحدة من ضربات الحظ سيد أوربا إلى شريد، يعاني من آلام النقرس، ويرتجف في جبال الألب.
والتقى موريس والبروتستانت الظافرون يوم 26 مايو بفرديناند وبعض زعماء الكاثوليك في باساو. ووافق شارل، بعد فترة شعر فيها بضآلة شأنه، على أن يوقع فرديناند معاهدة (20 أغسطس 1552) يطلق بموجبها صراع فيليب، وتنص على تسريح الجيوش البروتستانتية، وأن يتمتع البروتستانت والكاثوليك على السواء بحرية العبادة إلى أن يجتمع مجلس نيابي جديد، وإذا فشل هذا المجلس في الوصول إلى تسوية مقبولة، فإن حرية العبادة هذه تستمر إلى الأبد. وهي عبارة محببة في المعاهدات. وهكذا بدأ موريس بالخيانة، وارتفع إلى مصاف رجل السياسة المظفرين، وقدر له أن يموت وشيكاً (1553) من أجل بلده بالغاً من العمر ثلاثين عاماً، في معركة وقعت بينه وبين ألبرخت السيبياديس، الذي كان قد حول نصف ألمانيا إلى منطقة تسودها فوضى خطيرة بالنسبة للجميع.(24/200)
وعندما يئس شارل من الوصول إلى حل لمشكلاته في ألمانيا، تحول نحو الغرب ليجدد صراعه مع فرنسا. ورأس فرديناند، متذرعاً بالصبر، المجلس النيابي التاريخي في أوجسبورج (5 فبراير - 25 سبتمبر 1555)، وهو المجلس الذي منح ألمانيا أخيراً سلاماً دام نصف قرن. ورأى أن المبدأ الإقليمي، الذي ينص على حرية الدوقات، كان قوياً إلى الحد الذي لا يسمح فيه بمثل هذه السيادة المركزية المطلقة، التي فاز بها الملوك في فرنسا، وكان النواب الكاثوليك يمثلون الأغلبية في المجلس النيابي، غير أن البروتستانت كانوا يفوقونهم في القوة العسكرية، فتشبثوا بكل مادة وردت في إقرار أوجسبورج عام 1530، وتمسك الأمير المختار أوغسطوس، الذي خلف موريس في ساكسونيا، بوجهة نظر البروتستانت، وأدرك الكاثوليك أن عليهم أن يخضعوا، أو تتجدد الحرب، وحث شارل، وهو في خرف دبلوماسيته، الأمراء المختارين على تعيين ابنه فيليب خلفاً له في حمل اللقب الإمبراطوري. وخشي الكثالكة مطمع هذا الإسباني القاسي في حكمهم، ولما كان فرديناند يطمع في ارتقاء العرش نفسه فإن الأمل لم يراوده في أن يفوز به، دون أن يعاضده البروتستانت في المؤتمر الانتخابي.
وساعدت الأسلحة والظروف على رجحان كفة البروتستانت، فطالبوا بكل شيء: يجب أن يكونوا أحراراً في ممارسة عقيدتهم في كل أرجاء ألمانيا، وأن تحرم عبادة الكاثوليك في الأرض التي تسود فيها العقيدة اللوثرية، وأن تبقى صحيحة ولا تتعرض للإلغاء إجراءات تصفية أملاك الكنيسة في الحاضر والمستقبل على السواء (58). وتوصل فرديناند وأوغسطوس إلى اتفاق أرضى الطرفين يتلخص في هذه الكلمات الأربع المشهورة Cuius regio eius religio، وهي تجسم الضعف الروحي الذي انتاب الأمة والعصر. ولتحقيق السلام بين الولايات وفي داخلها، يجب على كل أمير أن يختار بين الكاثوليكية الرومانية، وبين اللوثرية، وعلى كل رعاياه أن يقبلوا اعتناق دينه السائد في دولته، وكل مَن لا يحب أن(24/201)
يعتنق هذا الدين عليه أن يهاجر من الإقليم. ولم يظهر أي جانب ميلاً إلى التساهل والواقع أن المبدأ، الذي أيده الإصلاح الديني في فتوة ثورته - الحق في الحكم الخاص - رفضه رفضاً باتاً زعماء البروتستانت والكاثوليك على السواء. فقد أدى ذلك المبدأ إلى تعدد الطوائف واصطدامها، إلى درجة أن الأمراء شعروا بأن لديهم ما يبرر استعادة السلطة العقيدية، حتى لو انقسمت إلى أجزاء بقدر عدد الولايات. واتفق البروتستانت وقتذاك في الرأي مع شارل والبابوات بأن وحدة العقيدة الدينية لا غنى عنها للنظام الاجتماعي والسلام، وليس في وسعنا أن نحكم عليهم حكماً عادلاً، ما لم ينكشف لأنظارنا الحقد والشقاق اللذين كانا يمزقان ألمانيا، وكانت النتائج سيئة وحسنة في آن واحد. فالتسامح وقتذاك كان، بعد الإصلاح الديني، أقل قطعاً من قبله (59)، ومع ذلك فإن الأمراء أقصوا المنشقين بدلاً من أن يحرقوهم أحياء وهذه شعيرة كانت مقصورة على الساحرات. وأضعف مراكزهم جميعاً تضاعف ما نتج عن ذلك من دعاوى العصمة.
ولم يكن الانتصار الحقيقي في حرية العبادة، ولكن في الحرية التي أصبح ينعم بها الأمراء، فقد غدا كل منهم، مثل هنري الثامن ملك انجلترا، الرئيس الأعلى للكنيسة في إقليمه، وله الحق المطلق في أن يعين رجال الدين، الذين يحددون للناس العقيدة التي يتعين عليهم أن يعتنقوها. وكان المبدأ الأراستي (1) - وينص على أن الدولة يجب أن تحكم الكنيسة - قد استقر قطعاً. ولما كان الأمراء وليس علماء اللاهوت، هم الذين عملوا على انتصار البروتستانتية، فمن الطبيعي أن يجنوا ثمار هذا النصر - سيادتهم الإقليمية على الإمبراطور، وسيادتهم الكهنوتية على الكنيسة. كانت البروتستاتية هي القومية ممتدة إلى الدين، ولكن القومية لم تكن تعني قومية ألمانيا، بل كانت وطنية كل إمارة، ولم تتقدم ألمانيا خطوة نحو الوحدة، بل إن
_________
(1) أطلق على المبدأ هذا الاسم نسبة إلى توماس أراستوس عالم اللاهوت السويسري (1524 - 83) وإن كان لا يمكن العثور عليه صراحة في أعماله.(24/202)
الثورة الدينية عاقت هذه الوحدة، وإن لم يكن من المؤكد أنها كانت نعمة وبركة. وعندما اختير فرديناند إمبراطوراً (1558) كانت سلطاته الإمبراطوريّة أقل من السلطات التي كان يتمتع بها حتى شارل المتعب المقيد. وترتب على هذا أن الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة لم تمت في عام 1806، وإنما ماتت في عام 1555.
وضاعت المُدن الألمانية، مثل الإمبراطوريّة، في غمار انتصار الأمراء. كانت المقاطعات الإمبراطوريّة تحت رعاية الإمبراطور، يحميها من سيطرة الحكام الإقليمية، أما الآن - بعد أن أصبح الإمبراطور عاجزاً، فقد صار الأمراء أحراراً في أن يتدخلوا في الشئون البلدية، وتضاءل استقلال. وفي غضون ذلك ابتلعت قوة هولندة النامية معظم التجارة، التي كانت تصب المنتجات الألمانية في بحر الشمال، عن طريق مصبات نهر الراين، وضعف شأن المُدن الجنوبية، بانحطاط تجارة البندقية والبحر الأبيض المتوسط نسبياً. وليس من شك في أن الإضعاف من شأن التجارة والسياسة يترتب عليه اضمحلال الثقافة ولم يتيسر للمُدن الألمانية، في مدى مائتي عام بعد ذلك، أن تتمتع مرة أخرى بحيوية التجارة والفكر التي سبقت عهد الإصلاح الديني وعدمته ...
وعاش ميلانكتون خمس سنوات بعد صلح أوجسبورج، ولم يكن واثقاً من أنه كان يريد الإمهال. كان قد عمر أكثر من زعيمه، لا في المفاوضات مع الكثالكة فحسب، ولكن في تحديد اللاهوت البروتستانتي. كان قد حرر نفسه من لوثر من جهة رفضه التسليم بحتمية القدر كلية، وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس (60)، وجاهد في الحفاظ على أهمية الأعمال الصالحات، وإن كان قد أصر مع لوثر على أنها لا يمكن أن تحقق لصاحبها الخلاص. وثار جدل مرير بين (الفلبيين) - ميلانكتون وأتباعه - وبين اللوثريين المحافظين الذين انفجروا أساساً من ينا، وأطلق هؤلاء على ميلانكتون لقب "المملوك المارق" و "خادم الشيطان"، ووصفهم هو بأنهم(24/203)
أغبياء سفسطائيون من عبدة الأوثان (61). وكان الأساتذة يعينون أو يفصلون، ويسجنون أو يطلق سراحهم، حسب مد وجزر الحمم اللاهوتية. واتفق الطرفان على أن يعلنا حق الدولة في قمع الهرطقة بالقوة. وحذا ميلانكتون حذو لوثر في إقرار العبودية والتمسك بالحق الإلهي للملوك (62)، ولكنه تمنى لو وضعت الحركة اللوثرية نصب عينيه حماية أرستقراطيات أوساط الناس، كما في زيورخ وشتراسبورج ونورمبورح وجنيف بدلاً من أن تأتلف مع الأمراء. وفي أكثر لحظاته دلالة تحدث مثل الأرازمي الذي كان يتطلع إلى أن يكونه: "فلنتحدث فقط عن الإنجيل وعن الضعف الإنساني وعن رحمة الله وعن تنظيم الكنيسة، وعن العبادة الحقة. أليس جوهر المسيحية أن تحقق الطمأنينة والهدوء للأرواح، وأن تهب لها قاعدة للعمل المستقيم، أما الباقي فإنه جدل وفلسفة كلامية ومنازعات طائفية" (63). وعندما دنت منيته رحب بالموت، باعتباره تحريراً لطيفاً من "غضب علماء اللاهوت"، ومن همجية "العصر السفسطائي" (64). والحق أن التاريخ قد أخطأ في اختياره للقادة روحاً تنزع بفطرتها إلى البحث والصداقة والسلام، وأجبرها على الدخول في حرب ثورية لم تخلق لها.(24/204)
الفصل الحادي والعشرون
جون كالفن
(1509 - 1564)
1 - شبابه
ولد في نويون بفرنسا يوم 10 يوليو عام 1509، وكانت مدينته لها طابع كنسي، يسيطر عليها أسقفها وكاتدرائيتها، وهناك في البداية وجد مثالاً من حكومة يسيطر عليها رجال الدين - حكم رجال الدين لمجتمع باسم الرب.
وكان أبوه جيرار شوفان سكرتيراً للاسقف، ووكيل أعمال في إدارة الكاتدرائية، ووكيلاً للمقاطعة يشرف على الأعمال المالية. وقد ماتت أم جان وهو لا يزال حدثاً، فتزوج أبوه للمرة الثانية، ولعل كالفن يدين بجانب من روحه القاتمة إلى ما عاناه من تربية صارمة على يد زوجة أبيه. ونذر جيرار ثلاثة من أبنائه للكهنوت، وهو على ثقة من أن في وسعه أن يجد لهم مناصب، وحصل لاثنين منهما على صدقات بيد أن واحداً منهم انقلب إلى هرطيق، ومات وهو يرفض تناول القربان المقدس. وحرم جيرار نفسه من الغفران بعد خلاف مالي مع إدارة الكاتدرائية، ولقي بعض المتاعب قبل أن يوسد جثمانه في الأرض المقدسة.
وأرسل جان إلى كلية دي مارش في جامعة باريس. وقيد نفسه باسم جوهانس كالفينوس، وحذق كتابة اللاتينية ببراعة فائقة، ونقل فيما بعد إلى كلية دي مونيجو، ولابد أنه سمع هناك أصداء تتردد عن تلميذها المشهور أرازموس، وظل هناك حتى عام 1528، وهو العام الذي التحق(24/205)
بها صنوه الكاثوليكي أجناتيوس لويولا. ويقول أحد الثقاة من الكاثوليك "أن القصص التي رويت في وقت ما عن شباب كالفن الطائش، لا تستند إلى أساس" (1) والأمر على نقيض ذلك تماماً، فكل الدلائل تشير إلى أنه كان طالباً مثابراً خجولاً معتصماً بالصمت تقياً و "رقيباً صارماً في نقد أخلاقيات زملائه" (2)، ومع ذلك فإنه كان محبوباً من أصدقائه، الآن وفيما بعد، حباً خالصاً لا يتزعزع. وفي غمار السعي الحثيث للحصول على معرفة ما وراء الظاهر أو نظرية تفتن العقول، قرأ كثيراً في الليل، ولقد طور، حتى في تلك السنوات التي قضاها في طلب العلم، بعض الأوصاب الكثيرة التي انتابت حياته الناضجة، وساعدت على تكوين مزاجه.
وفي أواخر عام 1528 جاءه على غير انتظار توجيه من أبيه بأن يذهب إلى أورليانز، ويدرس القانون، ويظن كما قال الابن "لأنه رأى أن علم القوانين قد أدر على الذين حصلوه الثراء العريض" (3). وعكف كالفن في غبطة على الدراسة الجديدة، إذ خيل إليه أن القانون، وليس الفلسفة أو الأدب، هو أبرز نتاج فكري حققته البشرية، وأنه يصوغ نوازع الإنسان الفوضوية ويحولها إلى نظام وسلام.
ونقل إلى اللاهوت وعلم الأخلاق، منطق قوانين جستنيان ودقتها وصرامتها، وأطلق على خير مؤلفاته اسماً مماثلاً. واصبح، فوق أي شيء آخر، مشرعاً، وصار نوما وليكورجوس مدينة جنيف.
وبعد أن حصل على درجته في ليسانس أو بكالوريوس في القوانين، (1531)، عاد إلى باريس وعكف في نهم على دراسة الأدب الكلاسي، وأحس بالرغبة العارمة الشائعة ليرى لنفسه مؤلفاً مطبوعاً، فنشر (1532) مقالاً باللاتينية عن De clementin لسينيكا، وبدأ اشد المشرعين الدينيين صرامة حياته العملية العامة بتحية للرحمة، وأرسل نسخة إلى أرازموس،(24/206)
حياه فيها باعتباره "المعلم الثاني في عالم المجد" (بعد شيشرون) و "أول إشراقة للآداب". وخيل للناس أنه وقف حياته على الإنسانيات عندما وصلته بعض عظات لوثر وأثارته بما انطوت عليه من جرأة. وكانت الدوائر الناشطة في باريس تناقش الحركة الجديدة، وليس من شك في أنه دار حديث طويل حول الراهب المتهور، الذي أحرق منشور البابا، وتحدى قرار إمبراطور بتحريم التعامل معه، والحق أنه قد سقط في سبيل البروتستانتية شهداء في فرنسا. وكان بعض الرجال الذين يبحثون عن إصلاح الكنيسة من بين أصدقاء كالفن، وكان أحدهم وهو جيرار روسل أثيراً لدا شقيقة الملك مرجريت دي نافار. واختير صديق آخر، وهو نيكولاس كوب، ليشغل منصب مدير الجامعة، ولعل كالفن كان له ضلع في إعداد الخطاب الافتتاحي المشئوم، الذي ألقاه كوب "أول نوفمبر سنة 1533). وقد بدأ الخطاب برجاء أرازمس لمسيحية مطهرة، واستطرد ليشرح نظرية لوثر في الخلاص عن طريق الإيمان والعفو، وانتهى بالتماس الإصغاء في تسامح للأفكار الدينية الجديدة. وأثار الخطاب حنقاً بالغاً، وانفجرت جامعة السوربون غضباً، وبدأ البرلمان في اتخاذ إجراءات ضد كوب بتهمة الهرطقة، ففر هارباً، وعرضت مكفأة قدرها ثلاثمائة كراون لمن يقبض عليه حياً أو ميتاً، ولكنه استطاع أن يصل إلى بازيل، وكانت وقتذاك تعتنق البروتستانتية.
وحذر الأصدقاء كالفن وأخبروه أن اسمه ادرج مع اسم روسل في قائمة المطلوبين للقبض عليهم، ويبدو أن مرجريت قد تشفعت له، فغادر باريس (يناير سنة 1534) ووجد ملاذاً له في أنجوليم، ولعله بدأ هناك، بمكتبة لوي دي تييه الغنية بما تضم من كتب قيمة، في كتابة مؤلفه Institutes، وفي مايو جازف بالعودة إلى ثويون، وتنازل عن روايته، التي كانت تدر عليه دخلاً يعول به نفسه. وهناك قبض عليه وأطلق سراحه، ثم أعيد القبض عليه، ثم أطلق سراحه مرة أرى. وعاد سراً(24/207)
إلى باريس، وتحدث مع زعماء البروتستانت، والتقى بسير فيتوس، الذي قدر عليه أن يحرقه. وعندما وضع بعض المتطرفين من البروتستانت إعلانات ملصوقة مهينة في أماكن متفرقة من باريس، انتقم فرانسس الأول منهم بأن أمعن في اضطهادهم، وفر كالفن في الوقت المناسب (ديسمبر 1534)، وانضم إلى كوب في بازيل وهناك أتم، وهو شاب في السادسة والعشرين من عمره، عملاً يعد من أبلغ الأعمال في أدب الثورة الدينية، وأشدها حماسة، وأوضحها معنى، وأكثرها تمشياً مع المنطق، وأعظمها تأثيراً، وأشدها جميعاً إرهاباً.
2 - عالم اللاهوت
ونشر الكتاب باللغة اللاتينية (1536) باسم "مبادئ الدين المسيحي"، وفي خلال عام واحد نفد الكتاب، واستدعى الأمر إصدار طبعة جديدة، فاستجاب كالفن، وأعد نسخة مطولة (1539) باللاتينية أيضاً وترجمها إلى الفرنسية عام 1541. ويعد هذا الشكل من التأليف من أعظم ما أنتجته القرائح تأثيراً في النثر الفرنسي. وحرم برلمان باريس تداول الكتاب باللغتين كلتيهما، وأحرقت نسخ منه علناً في العاصمة، واستمر كالفن طوال حياته يعمل على إضافة فصول إلى هذا الكتاب وإعادة نشره، وبلغت عدد صفحاته 1118 في شكله النهائي.
واستهلت الطبعة الأولى من الكتاب بـ "مقدمة إلى أعظم ملك مسيحي لفرنسا" وهي مقدمة تفيض بالمشاعر، ولكن بأسلوب رصين. ووقع حادثان أتاحا فرصة الحوار مع فرانسس أولهما: الأمر الملكي الصادر في يناير عام 1535 ضد الفرنسيين البروتستانت، وثانيهما: الدعوة التي وجهها فرانسس في الوقت نفسه تقريباً لميلانكتون وبوسر، لكي يحضرا إلى فرنسا، ويرتبا تحالفاً بين الملكية الفرنسية وبين الأمراء اللوفريين ضد شارل الخامس. وكان كالفن يأمل في أن يوطد المأرب السياسي على دعامة(24/208)
من الجدل اللاهوتي، وأن يعاون في استمالة الملك، ومثل أخته، إلى القضية البروتستانتية، وكان تواقاً إلى أن يفرق بين هذه القضية وحركة اللامعمدانيين، التي اقتربت وقتذاك من الشيوعية في منستر. ووصف المصلحين الدينيين الفرنسيين بأنهم وطنيون مخلصون للملك كارهون لكل اضطراب اقتصادي أو سياسي. وتكشف بداية ونهاية هذه المقدمة روعة أفكار كالفن وجزالة أسلوبه:
"عندما بدأت هذا العمل يا مولاي لم يكن هناك شيء أبعد من التفكير في تدبيج كتاب، يقدم فيما بعد إلى جلالتكم، وكنت لا اقصد إلا أن أطرح أمامكم بعض مبادئ أولية يستطيع بها المتسائلون عن أمور الدين أن يفقهوا طبيعة التقوى الصحيحة ... ولكنني عندما أدركت أن غضب بعض الأشرار في مملكتكم قد اشتد، إلى حد يجعلهم لا يسمحون بوجود عقيدة صحيحة في البلاد، رأيت من الواجب أن يستفاد مني ولو في العمل نفسه ... لقد عرضت اعترافي عليك، لكي تعلم طبيعة تلك العقيدة، التي يستهدفها هذا الغضب، الذي لا يعرف حدوداً، والذي يعتمل في صدور هؤلاء المجانين، الذين يزعجون البلاد بالسيف والنار، ومن أجل ذلك فأنا لا أخشى التسليم بأن هذه الرسالة تحتوي على ملخص لتلك العقيدة ذاتها، والتي يستحق مَن يعتنقها، طبقاً لما أثاروه حولها من دعاوى، أن يعاقب بالسجن والنفي وإهدار الدم والتحريق وبإبادته من على ظهر الأرض. وإني لأعلم جيداً الدسائس الأثيمة، التي ملئوا بها أذنيك، لكي تبدو قضيتنا بغيضة جداً في نظرك، ولكن حلمك كفيل بأن يهديك إلى التفكير في أنه إذا كان الاتهام يكفي دليلاً على الذنب، فهو القضاء على كل براءة في الأقوال والأفعال ... وأنت نفسك يا مولاي تستطيع أن تتبين الوشايات الزائفة، التي كانت تطرق أذنيك عنها (قضيتنا)، وهي تفتضح كل يوم، إن ما تصبو إليه فحسب إنما هو إنتزاع صولجانات الملوك من أيديهم، هدم جميع المحاكم ... وتقويض دعائم النظام بأسره، وقلب(24/209)
الحكومة، وتعكير صفو السلام والأمن بين الناس، وإلغاء جميع القوانين، وتبديد جميع الأموال الممتلكات، وباختصار جعل كل شيء في حالة اضطراب شامل.
ولهذا أتوسل إليك يا مولاي - وهو بالتأكيد طلب معقول - أن تأخذ على عاتقك الفهم الكامل لهذه القضية، التي أثيرت حتى الآن بصورة مبلبلة، وبلا اكتراث، وبلا سند من القانون، وبدافع من العاطفة الهوجاء أكثر من أي دعامة قانونية. ولا يذهبن بك الظن إلى أني أفكر الآن في إعداد دفاعي عن نفسي، لكي أضمن لنفسي عودة آمنة إلى وطني الحبيب، فأنا، على الرغم مما أكنه له من حب ينبغي على كل إنسان أن يحس به نحوه، لن أندم أبداً، في الظروف الحالية، على انتقالي منه. ولكي أدافع عن القضية أمام كل المتدينين، وبالتالي أمام المسيح نفسه، هل يحتمل أن نفكر في تقويض دعائم الممالك، نحن الذين لم يسمعنا أحد نفوه بكلمة واحدة تثير الفتنة ... نحن الذين عرفنا طوال حياتنا أننا نعيش حياة هادئة مستقيمة عندما كنا نعيش تحت حكمك، نحن الذين لم نكف، حتى في منفانا الآن، عن الصلاة لك بالنجاح ولمملكتك بالرخاء ... ثم إننا لن ننتفع إلا قليلاً بالإنجيل بفضل الله، ولكن حياتنا يمكن أن تكون مثالاً يحتذى لمن نددوا بعفتنا وكرمنا ورأفتنا وعزوفنا عن المنكر وصبرنا وتواضعنا وكل فضيلة أخرى هنا ...
وعلى الرغم من بغضك لنا ونفورك منا، بل وغضبك علينا، فإننا لا نيأس أبداً من استعادة عطفك، لو قرأت بهدوء واطمئنان إقرارنا هذا، الذي نعتزم تقديمه إلى جلالتكم، كدفاع لنا ... ولكن إذا كانت أذناك مشغولتين عن النقيض بسماع همسات الحاقدين، التي لا تدع فرصة للمتهمين للدفاع عن أنفسهم، وإذا استمرت تلك العقبات الهوجاء في اضطهادنا بالسجن والتنكيل والتعذيب ومصادرة الأموال والحرق،(24/210)
وتغاضيك عن ذلك، فإننا سوف نغلب على أمرنا حقاً إلى أقصى حد، ونكون مثل قطيع من الأغنام، يساق إلى الذبح. ومع ذلك هل لنا أن نحتفظ في صبر بأرواحنا، وننتظر أن تمتد إلينا يد الرب القوية ... لإنقاذ الفقراء من غمهم، ولمعاقبة المستخفين بهم، الذين يبتهجون الآن في أمن واطمئنان تام. وإني لأدعو الرب ملك الملوك أن يوطد عرشك بالعدل والتقوى، وأن ينتشر في مملكتك القسط والإنصاف" (4).
وليس من اليسير علينا، في عصر أسلم فيه اللاهوت مكانه للسياسة، باعتبارها مركزاً لاهتمام بني الإنسان والصراع بينهم، أن نتذكر المزاج الذي ألف به كالفن كتابه القوانين. لقد كان رجلاً هائماً في حب الله - أكثر من سبينوزا، وكان شعور بضآلة الإنسان وعظمة الله.
وكم يكون الأمر منافياً للعقل أن نفترض أن العقل الواهي لهذا السوس، الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، وهو الانسان، يستطيع أن يدرك العقل المفكر الذي يحكم هذه النجوم الطيعة التي لا تحصى؟ وأن الله، رأفة بعقل الإنسان، قد اظهر لنا نفسه في الكتاب المقدس، وثبت أن هذا الكتاب المقدس هو كلمة الله، (كما يقول كالفن) بما له من سلطان لا نظير له على روح الإنسان.
"إقرأ لديموستين أو شيشرون، وإقرأ لأفلاطون أو أرسطو أو لغيرهم ممن هم في مستواهم، وأنا كفيل بأن ما تقرأه من مؤلفاتهم سوف يجتذبك، ويشرح صدرك، ويحرك شغاف قلبك، ويخلب لبك بطريقة مدهشة، ولكن إذا تحولت بعد قراءتها إلى تلاوة الكتاب المقدس، سواء كنت راغباً أو غير راغب، فإنه سوف يستولي عليك بقوة عظيمة، وينفذ إلى قلبك، ويطبع كلماته بقوة في ذهنك، إلى الحد الذي لو قارناه بما لتلك المصنفات من أثر قوي، فإن الجمال الذي يتسم به كلام البلغاء والفلاسفة يتبدد كله أو يكاد، ومن اليسير أن ندرك أن شيئاً إلهياً في الكتب المقدسة، يفوق بكثير أعظم ما أحرزه الإنسان في عالم الصناعة والزخرف" (5).(24/211)
وعلى ذلك فإن هذه الكلمة التي نزلت علينا يجب أن تكون مرجعنا الاخير، لا في الدين والأخلاقيات فحسب، ولكن في التاريخ والسياسة وكل شيء أيضاً. يجب أن نتقبل قصة آدم وحواء لأننا نفسر، بعصيانهما أمر الله، الشر الذي فطر الإنسان عليه، وفقدانه لإرادته الحرة.
"إن عقل الإنسان لينفر كل النفور من عدل الله، حتى إنه ليدرك، ويرغب في، ويباشر كل شيء، يتسم بالزندقة الانحراف والخسة والدنس والفجور، وطمس على قلبه بسم الخطيئة فلم يعد يصدر عنه غلا ما هو فاسد خبيث، وإذا قام الناس في وقت من الأوقات بعمل يبدو طيباً في الظاهر، فإن العقل يظل دائماً متورطاً في النفاق والخداع، والقلب يظل عبداً لانحرافه الباطني" (6).
وأني لمخلوق فاسد إلى هذا الحد أن يستحق النعيم الأبدي في الفردوس؟ ليس في استطاعة واحد منا أن يحصل عليه مهما قدم من أعمال صالحات. حقاً أنه لا بأس بالأعمال الصالحات، ولكن موت ابن الرب الذي ضحى بنفسه في سبيل البشرية هو الذي يستطيع وحده أن يحقق للبشر الخلاص، وليس للناس أجمعين، لأن عدالة الرب تقتضي عذاب معظم البشر في نار جهنم. ولكن رحمته تعالى قد اختارت بعضنا للظفر بالنجاة، وقد وهب تعالى لهؤلاء إيماناً راسخاً بتكفير المسيح عن ذنوبهم، لأن القدّيس بولس قال: "لقد اختارنا الرب في نفسه قبل خلق العالم بأن علينا أن نكون أمامه أطهاراً، لا تشوبنا شائبة في الحب، وقدر علينا أن نتخذ لنا أبناء، كما اتخذ المسيح عيسى ابنا له بمشيئته" (7). وفسر كالفن هذا، كما فسره لوثر، فإن معناه أن الرب قد قرر بمشيئة حرة، لا تتوقف أبداً على ما نتمتع به من فضائل أو نتصف به من رذائل، وقبل خلقنا بوقت طويل، مَن منا يكتب له النجاة، ومَن يعذب في نار جهنم (8). ويجيب كالفن على السؤال الذي يتردد، وهو: "لماذا شاء الله النجاة لبعض الناس، والعذاب لآخرين، دون اعتبار لما قدموه من أعمال، بكلمات بولس: لأنه قال(24/212)
لموسى إني أتغمد برحمتي مَن أشاء وأعفو عمن أشاء" (9). ويختم كالفن حديثه بقوله:
"وطبقاً لهذا نؤكد بأن الرب قدر بمشيئة أزلية لا تتبدل، مَن يكتب له الخلاص، ومَن يحكم عليه بالعذاب والهلاك، ونؤكد أن هذه المشيئة، فيما يختص بالاختيار، تقوم على رحمته، التي يتغمد بها مَن يشاء، دون اعتبار لما يستحقه الإنسان، ولكن الذين حكم عليهم بالعذاب في النار أغلق دونهم باب الحياة، بمقتضى حكم عادل لا سبيل إلى نقضه، ويدق على الفهم" (10).
بل إن خروج آدم وحواء من الجنة، وما ترتب عليه من نتائج بالنسبة للجنس البشري في رأي بولس "فرضته مشيئة الرب العجيبة" (11).
ويسلم كالفن بأن حتمية القدر تتنافى مع العقل، ولكنه يرد بقوله: "ليس من المعقول أن يتقاضى الإنسان هذه الأمور، التي قرر الرب أن يخفيها عنا في نفسه ويفلت من العقاب" (12). ومع ذلك فإنه يعترف بأنه يعترف لماذا يقرر الرب بصورة تحكمية مصير ملايين الأرواح منذ الأزل: "ذلك لكي يزيد من إعجابنا بمجده" بعرض قوته (13). ويوافق على أن هذا "حكم مروع" "ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أن الله عرف مصير الإنسان النهائي في المستقبل، قبل أن يخلقه، وأنه عرفه سلفاً، لأنه كان قد قضى به في حكمه" (14). وقد يجادل آخرون من أمثال لوثر بأن المستقبل قد تحدد، لأن الرب تنبأ به سلفاً وأن علمه بالغيب لا يمكن نفيه. أما كالفن فإنه يرى عكس ما تقدم، إذ أنه يعتقد أن الرب يتنبأ بالمستقبل، لأنه شاء هذا وقرره. والحكم بالعذاب الأبدي حكم مطلق، وليس هناك مطهر في لاهوت كالفن، وليس هناك منزل في منتصف الطريق، يستطيع الإنسان بعد أن يقضي فيه بضع ملايين من السنين، وهو يتعذب بالنار، أن يمحو بها سيئاته، وعلى هذا فلا محل للصلوات من أجل الموتى.(24/213)
وقد يذهب بنا الظن إلى أنه لا معنى لأداء أي نوع من الصلاة، وذلك بناء على افتراضات كالفن فما دام كل شيء قد تحدد بحكم الله، فليس في وسع فيض من الابتهالات أن يمحو ذرة واحدة من قدر الإنسان المحتوم. ومهما يكن من شيء، فإن كالفن أكثر إنسانية من لاهوته، فهو يقول لنا: فلنصل بتواضع وإيمان، ولسوف يتقبل الله صلواتنا، فالصلاة وتقبلها قد سبقا في حكمه أيضاً. ولنعبد الله بأداء صلوات دينية متواضعة، ولكن يجب علينا ألا ننبذ القداس، ونعتبره ادعاء من القساوسة، ينتهكون به الحرمات بتحويل مواد دنيوية إلى جسد المسيح ودمه، والحق أن المسيح موجود في القربان المقدس بروحه لا بجسده، وعبادة رقاقة الخبز المقدسة، بدعوى أن المسيح يحل فيها بجسده، هي وثنية محضة. واستخدام الصور المنقوشة للرب انتهاك صارخ للوصية الثانية، وتشجيع على عبادة الأوثان، ويجب إزالة كل الصور والتماثيل الدينية، بل والصليب من الكنائس.
والكنيسة الحقة هي جمهور المصلين غير المنظور من الصفوة، الأموات أو الأحياء أو الذين سيولدون. وتتكون الكنيسة المنظورة، من كل الذين "يعترفون معنا بنفس الرب والمسيح" (15)، باعتناق عقيدة، وبحياة مثالية، وبالاشتراك في مراسم التعميد والعشاء الرباني "يرفض كالفن التسليم بالمراسم الأخرى".
وليس هناك خلاص (16) خارج نطاق هذه الكنيسة. والدولة والكنيسة مقدستان، وقد خلقهما الله، لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد، لمجتمع مسيحي واحد: وعلى الكنيسة أن تضع القواعد، التي تنتظم كل التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد (17)، باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي، ويجب على السلطات الزمنية أن تكون على بصر من أن "عبادة الأوثان" (وهي ترادف إلى حد كبير الكاثوليكية في العزف البروتستانتي) و "فضائح أخرى تمس الدين يجب(24/214)
ألا تعرض وتنشر علناً بين الناس"، وأن كلمة الله الطاهرة هي الوحيدة التي يجب أن يتعلمها ويتلقاها الناس (18). والحكومة المثالية هي حكومة رجال الدين، ويجب أن نعترف بالكنيسة التي تؤمن بالإصلاح الديني، باعتبارها صوت الله.
وجدد كالفن جميع ادعاءات البابا بسيادة الكنيسة على الدولة، وطالب بها لكنيسته.
ومما يلفت النظر مدى ما بقي من تقاليد الرومان الكاثوليك وآرائهم في لاهوت كالفن، فهو مدين بعض الشيء لفلسفة الرواقيين، وبخاصة سينيكا، وبشيء لدراساته في القانون، ولكنه اعتمد بصفة خاصة على القدّيس أوغسطين، الذي استخلص القول بالجبر من القدّيس بولس، الذي لم يعرف المسيح. وتجاهل كالفن بشدة، مفهوم المسيح عن الرب بأنه أب محب رحيم، ومر في هدوء على عدد كبير من آيات الكتاب المقدس، التي افترضت حرية الإنسان في صياغة مصيره (2 إصحاح بطرس 3: 9، 1 إصحاح تيموثاوس 2: 4، 1 إصحاح يوحنا 2: 2، 4: 14 الخ).
ولك تكن عبقرية كالفن تكمن في أنه يأتي بأفكار جديدة، ولكن في تطوير آراء مَن سبقوه إلى نتائج منطقية هدامة، والتعبير عن هذه النتائج ببلاغة، تضارع بلاغة أوغسطين، وبصياغة تضميناته العملية بمنهج، يقوم على التشريع الكهنوتي. وأخذ من لوثر عقيدة التبرير أو الاختيار بالإيمان، ومن زونجلى التفسير الروحي للقربان المقدس، ومن بوسر الآراء المتناقضة عن مشيئة الله، باعتبارها سبباً لكل ما يحدث، والحاجة إلى ورع عملي قوي، باعتباره امتحاناً وشاهداً على الاختيار. ووصلت معظم تلك العقائد في صيغة أخف إلى التراث الكاثوليكي، وأضفى عليها كالفن أهمية شديدة، ولم يعبأ بالعناصر المعوضة المخففة في عقيدة القرون الوسطى.(24/215)
كان أقرب إلى القرون الوسطى من أي مفكر بين أوغسطين ودانتي. ورفض رفضاً باتاً قبول انشغال علماء الإنسانيات بأفضلية الدنيا، وحول أفكار الناس من جديد إلى العالم الآخر، بصورة كئيبة أكثر من قبل، وأنكر الإصلاح الديني في مذهب كالفن من جديد "النهضة".
وليس من شك أن لاهوتاً غير جذاب مثل هذا، يحرز رضا مئات الملايين من الناس، في سويسرة وفرنسا وسكوتلندة وإنجلترا وأمريكا الشمالية، يبدو لأول نظرة سراً غامضاً، ثم يبدو نوعاً من التجلي. ترى لماذا حارب الكالفينيون والهوجنوت والمتطهرون (البيوريتان) بمثل هذه الجرأة دفاعاً عن عجزهم؟ ولماذا أسهمت هذه النظرية الخاصة بعجز البشر في تكوين بعض الشخصيات، التي تعد من أقوى الشخصيات في التاريخ؟ فهل حدث هذا لأن هؤلاء المؤمنين اكتسبوا، من الاعتقاد بأنهم الصفوة القليلة، قوة تفوق ما فقدوه منها، بالتسليم بأن سلوكهم ليس له نصيب في تحديد مصيرهم؟ وكان كالفن نفسه خجولاً وقوي العزم في الوقت نفسه، وكان واثقاً من أنه ينتمي إلى الصفوة، ووجد في هذا عزاء وسلوى، إلى الحد الذي دفعه إلى أن يجد "الحكم المروع" للجبر "أمراً يؤدي إلى أبهج فائدة" (19): وهل أسعد بعض مَن اصطفوا أنفسهم أن يتدبروا في أن فئة قليلة كتب لها الخلاص، وأن الكثرة الغالبة قدر عليها العذاب؟ وليس من شك في أن الاعتقاد بأن الله قد اصطفاهم منح كثيراً من الأرواح الشجاعة لمواجهة تقلبات الحياة، والضرب فيها على غير هدى، إلى غير ما هدف ظاهر، مثل ما مكنت عقيدة مماثلة الشعب اليهودي من صيانة نفسه، وسط محن كانت كفيلة لأن تهدم إرادة الحياة. حقاً أن فكرة كالفن هي اختيار الله لبعض الناس قد يكون مديناً بها للصيغة اليهودية في لعقيدة، كما تدين البروتستانتية بالكثير للعهد القديم بصفة عامة. ولابد أن الثقة في الاختيار الإلهي كانت درعاً يبث الشجاعة في قلوب الهوجنت، لتحمل(24/216)
آلام الحرب والمذابح، وفي قلوب الحجاج وهم يجازفون بأنفسهم، بحثاً عن أوطان جديدة على شواطئ معادية.
وإذا استطاع خاطئ مقوم أن يتشبث بهذه الثقة، واستطاع أن يؤمن بأن تقويمه قد هيأه له الله، فإن في وسعه أن يقف راسخاً كالطود إلى النهاية. وقد رفع كالفن من قدر هذا الإحساس بالاعتزاز بالاختيار، بأن جعل الصفوة، سواء كانت معدمة أم لا، أرستقراطية وراثية: فأبناء الصفوة يصبحون بمشيئة الله (20) من الصفوة، بطريقة آلية. وهكذا استطاع المرء بعمل بسيط من أعمال الإيمان بالنفس، ولو كان هذا بالتصور، أن ينال الفردوس وأن ينفذ إليها. ولمثل هذه النعم الخالدة كان أي اعتراف بالعجز صفقة رابحة.
وكان أتباع كالفن في حاجة إلى مثل هذا العزاء، لأنه علمهم وجهة النظر السائدة في القرون الوسطى، والتي تذهب إلى أن الحياة الدنيا ليس إلا وادياً للبؤس والدموع، ورحب في اغتباط بـ "تصحيح رأيهم الذي اعتبر أن أعظم نعمة ألا يولد المرء، وأن أعظم نعمة بعدها أن يموت فوراً، كما أنه لم يكن هناك شيء يتنافى مع العقل في سلوك هؤلاء الذين كانوا ينوحون ويبكون عند ولادة أقربائهم، ويبتهجون في وقار عند تشييع جنازاتهم"، ولم يأسف إلا لأن هؤلاء المتشائمين العقلاء، وهم في الغالب الأعم وثنيون جهلة بالمسيح، قد حكم عليهم بالخلود في نار جهنم (21). وكان ثمة شيء واحد يجعل الحياة محتملة - الأمل في سعادة مطردة بعد الموت، وقال: "إذا كانت السماء بلدنا فما الأرض سوى منفى؟ وأليست الدنيا لحداً، إذا كان الرحيل عن هذا العالم معبراً إلى الحياة؟ " (22) وعلى النقيض من صورة كالفن الشعرية نجد أنه يقدم أبلغ ما سطر من صفحات، لا في وصف تخيلات الجحيم، ولكن في الحديث عن جمال السماء.
ولسوف تعاني الصفوة التقية، دون أن تجأر بالشكوى، كل ما في(24/217)
الحياة من آلام وأشجان، "لأنهم سوف يضعون نصب أعينهم، ذلك اليوم الذي يستقبل فيه الرب عباده المخلصين في مملكته الوادعة، ويجفف كل دمعة تتساقط من عيونهم، ويكسوهم بثياب الفرح، ويزينهم بتيجان المجد، ويؤانسهم بمباهج، لا يمكن التعبير عنها، ويرفعهم إلى درجة الزمالة لجلالته، ويدعوهم إلى ... المشاركة في سعادته" (23). ولعل هذا كان اعتقاداً لا غنى عنه للفقراء أو التعساء الذين ينتشرون في بقاع الأرض.
3 - جنيف وستراسبورج
1536 - 41
بينما كان كتاب "القوانين" في المطبعة (مارس 1536)، قام كالفن برحلة سريعة عبر جبال الألب إلى فرارا، وذلك متابعة لتقليد مرعى بصفة عامة، وإن لم ينعقد الإجماع على الخضوع له (24). ولعله ذهب إلى هناك ليطلب من الدوقة البروتستانتية رينيه، زوجة الدوق أركول الثاني، وابنة المرحوم لويس الثاني عشر، أن تمد يد العون إلى البروتستانت المضطهدين في فرنسا. وعينته مرشداً روحياً لها، مدفوعة بقوة معتقداته الدينية، وذلك عن طريق رسائل تفيض بالاحترام المتبادل، ظلت موصولة حتى وفاته. وعاد كالفن إلى بازيل في مايو، وجازف بالذهاب إلى نويون ليبيع شيئاً من أملاكه، ثم انطلق مع أخيه وأخته إلى ستراسبورج. وتوقفوا لبعض الوقت في جنيف، لأن الطريق كانت مغلقة بسبب الحرب (يوليو 1536).
وكانت عاصمة سويسرة الفرنسية اقدم من التاريخ نفسه ... كانت في عصور ما قبل التاريخ مجموعة من مآوى البحيرات، شيدت فوق أكوام، لا يزال بعضها يرى حتى اليوم. وكانت في عهد يوليوس قيصر ملتقى لطرق التجارة عند الجسر، الذي يخرج عنده نهر الرون مندفعاً من بحيرة ليمان، ليضرب في فرنسا بحثاً عن البحر الأبيض المتوسط. وخضعت جنيف في العصور الوسطى لحكم أسقفها الروحي والدنيوي على السواء. وكان الأسقف(24/218)
تختاره عادة إدارة الكاتدرائية، التي أصبحت لذلك السبب قوة لها وزنها في المدينة، وتلك كانت بالضرورة الحكومة التي أعدها كالفن فيما بعد، في الشكل الذي يساير المذهب البروتستانتي. وتحرر دوقات سافوي، التي كانت تقع خلف جبال الألب مباشرة، من سيطرة إدارة الكاتدرائية في القرن الخامس عشر، وقروا إلى منصب الأسقفية الرجال الذين أفادت منهم دوقية سافوي، وأسلموا أنفسهم إلى ملذات الحياة الدنيا خوفاً من ألا يكون هناك عالم آخر. وفسدت الحكومة الأسقفية، التي قدر لها أن تكون يوماً من أحسن الحكومات، كما انحدرت أخلاق رجال الدين، الذين يعملون تحت أمرتها. ووافق أحد القساوسة على تنفيذ أمر صدر له بطرد محظيته، بشرط أن يتجرد زملاؤه من رجال الدين مثله من نخوتهم، ورجحت كفة النخوة (25).
وفي نطاق هذا الحكم الكهنوتي الدوقي، كونت العائلات الكبرى بجنيف مجلساً من ستين عضواً، لإصدار القوانين البلدية، واختار المجلس أربعة من المأمورين لتنفيذ هذه القوانين، وكان المجلس يجتمع عادة في مقر الأسقف لكاتدرائية القدّيس بطرس، ولم يكن هناك خط فاصل بين الاختصاص الديني والاختصاص المدني، فبينما كان الأسقف يسك النقود ويقود الجيش، كان المجلس يضع الضوابط التي تحكم الأخلاق، ويصدر قرارات الحرمان، ويرخص للبغايا بالعمل. وكما جرى العرف في ترير وماينز وكولونيا، كان الأسقف أيضاً أميراً من أمراء الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة، ومن الطبيعي أنه أخذ على عاتقه القيام بوظائف، يجد الأسقف نفسه في حل منها الآن. وسعى بعض الزعماء المدنيين، برئاسة فرانسوا دي بونيفار، إلى تحرير المدينة من نير السلطة الأسقفية والسلطة الدوقية معاً. وعقد هؤلاء الوطنيون حلفاً بين فرايبورج الكاثوليكية وبرن البروتستانتية لدعم هذه الحركة. وأطلق على المنضمين لهذا الحلف الإصلاح الألماني Eidgenossen أي رفقاء القسم وهو لفظ معناه المتحالفون، وحرفه(24/219)
الفرنسيون إلى "هوجنت". ولما أن حل عام 1520 حتى أصبح زعماء مدينة جنيف من رجال الأعمال في الغالب الأعم، لأنها كانت على النقيض من فيتنبرج مدينة تجارية، تتوسط في التجارة بين سويسرة في الشمال وإيطاليا في الجنوب وفرنسا في الغرب. وألف الأوساط من أهالي مدينة جنيف مجلساً أكبر، يتكون من مائتي عضو، واختار هؤلاء مجلساً أصغر يتكون من خمسة وعشرين عضواً، وهو المجلس الذي أصبح الحاكم الحقيقي للبلدية، وكان يزدري سلطة الأسقف وسلطة الدوق على السواء. وأعلن الأسقف أن المدينة في حالة تمرد، واستدعى الفرق الدوقية لمساعدته، فما كان من هذه الفرق إلى أن استولت على بونيفار، وسجنته في قصر شيلون، وخف جيش مدينة برن إلى نجدة مدينة جنيف المحاصرة، وهزمت قوات الدوق، وتشتت شملها، وفر الأسقف إلى أنيسي، وتحرر بطل الشاعر بيرون من غياهب سجنه. وغضب المجلس الأكبر من مساعدة رجال الدين لدوقية سافوي، فأعلن عقيدة الإصلاح الديني، وتولى اختصاص رجال الدين وولاية السلطة المدنية في المدينة (1536)، قبل وصول كالفن بشهرين.
وكان البطل العقيدي لهذه الثورة هو وليام فاريل. وكان مثل لوثر، ورعاً جداً في شبابه. وأقبل إلى باريس متأثراً بجاك ليفيفر ديتابل، الذي أزعجت ترجمته للكتاب المقدس وتفسيره له تزمت فاريل، لأنه لم يجد أي أثر في نصوص الكتاب المقدس للبابوات والأساقفة وصكوك الغفران والمطهر والشعائر السبع والقداس والعزوبة المفروضة على رجال الكهنوت وعبادة مريم أو القديسين. وأنف من رسالة رجال الكهنوت، فانطلق يجول من مدينة إلى مدينة في فرنسا وسويسرة، بصفته واعظاً مستقلاً، وكان ضيئل القامة ضعيف البنية جهوري الصوت قوي الروح، له عينان متقدتان تبرقان في وجهه الشاحب، ولحية حمراء كاللهب، وندد بالبابا ووصفه بأنه خصم للمسيحية، كما ندد بالقداس، واعتبره انتهاكاً للحرمات المقدسة، وبأيقونات الكنيسة باعتبارها من الأوثان، التي يجب أن تحطم، وبدأ عام(24/220)
1532 الوعظ في جنيف، وقبض عليه عملاء الأسقف، الذي رأى أن يلقى "الكلب اللوثري" في نهر الرون، فتوسط المأمورون وهرب فاريل، بعد أن أصيب ببضع سحجات في رأسه، وتلوثت سترته بشيء من البصاق. وكسب إلى صفه مجلس الخمسة والعشرين، وأثار بمساعدة فينر فيريه وأنطوان فرومان الناس، ونال الكثير من التأييد الشعبي، مما دفع كل رجال الدين الكثالكة تقريباً إلى الرحيل. وأصدر المجلس الصغير يوم 12 مايو عام 1536 مرسوماً بإلغاء القداس، وإزالة كل التماثيل ومخلفات القديسين من الكنائس، وحولت ممتلكات الكنيسة للوفاء باحتياجات البروتستانت الدينية، وإلى وجوه البر والتعليم، وجعل التعليم إجبارياً وبالمجان، وسيطر نظام أخلاقي صارم سيطرة القانون.
ودعي المواطنون لأن يقسموا على الولاء للإنجيل، أما الذين رفضوا حضور الصلوات طبقاً لمبادئ الإصلاح الديني فقد نفوا من البلاد. تلك هي جنيف التي أقبل إليها كالفن.
وكان فاريل وقتذاك في السابعة والأربعين من عمره، وعلى الرغم من أنه قدر عليه أن يعيش عاماً بعد كالفن، فإنه رأى في الشاب الصارم الفصيح، الذي يصغره بعشرين عاماً، الرجل الذي تشتد الحاجة إليه لدعم الإصلاح الديني ودفع عجلته إلى الأمام. وكان كالفن متردداً، إذ كان قد رسم لنفسه حياة، يقضيها في البحث العلمي والكتابة، وكان يحس بالطمأنينة مع الله أكثر مما يحس بها مع الناس، ولكن فاريل، بطلعته التي تشبه طلعة نبي راعد من أنبياء الإنجيل، هدد بأن يصب عليه لعنة الله، إذا آثر دراسته الخاصة على التبشير الصعب والخطير بالكلمة التي لم يتطرق إليها الوهن.
وأذعن كالفن، ووافق المجلس ومشيخية الكنيسة، وبدأ خدمته الدينية، دون التقيد بأي رسامة أخرى - بأن ألقى في كنيسة القدّيس بطرس(24/221)
أول خطبه العديدة عن رسائل القدّيس بولس. وكان تأثير بولس في كل مكان، يدين بالروتيتانتية، اللهم إلا بين الطوائف المتطرفة من الناحية الاجتماعية، يحجب تأثير بطرس المؤسس الذائع الصيت لكرسي البابوية الروماني.
وفي أكتوبر سافر كالفن برفقة فاريل وفيريه إلى لوزان، واضطلع بدور صغير في الجدل الشهير الذي كسب المدينة إلى صف المعسكر البروتستانتي، ولدى العودة إلى جنيف شرع كهان أبرشية القدّيس بطرس، الكبار والصغار، في هداية أهالي جنيف لله. وتقبلوا بأخلاص الإنجيل، باعتباره تنزيلاً من لدن الله، وشعروا بأن عليهم التزاماً لا فكاك منه لدعم شريعته. وراعهم أن وجدوا أن كثيراً من الناس قد أسلموا أنفسهم للغناء والرقص وما أشبه من مظاهر الطرب، وفضلاً عن هذا فإن بعضهم كان يقامر أو يشرب إلى درجة السكر البين، أو يقارف الزنا.
وكان قسم بأكمله من المدينة تحتله بغايا، تحكمهن ملكة الماخور، وكان قبول هذا الموقف بالبشر من فاريل السريع الغضب، وكالفن الحي الضمير، بمثابة خيانة للرب.
وأصدر فاريل، "إقراراً بالعقيدة والنظام"، كما أصدر كالفن "عظة" سهلة الفهم، أقرها المجلس الكبير (نوفمبر سنة 1536)، لكي يستعيدا الأساس الديني لأخلاقيات مثمرة. وكان المواطنون الذين يصرون على مخالفة القانون الأخلاقي، يحرمون من الغفران، وينفون إلى خارج البلاد، وأصدر المجلس في يوليو عام 1537 أمراً لجميع المواطنين، بأن يذهبوا إلى كنيسة القدّيس بطرس، وأن يقسموا على الولاء لإقرار فاريل.
وكان أي مظهر ينم عن الكاثوليكية - مثل عمل مسبحة، أو الاعتزاز بإحدى المخلفات المقدسة، أو اعتبار عيد قديس يوماً مقدساً، يعرض مَن يبدر منه للعقاب. وسجنت النساء لارتدائهن قبعات غير لائقة. وكان بونيفار(24/222)
جد سعيد، بما ينعم به من اباحية، ولكنه حذر بأن يمتنع عن ممارسة أساليبه الداعرة. وصفد المقامرون بالأغلال، وسيق مقترفوا الزنا في الشوارع إلى المنفى.
ولما كان أهالي جنيف قد تعودوا على الخضوع لحكم كنسي، كان يقوم على نظام أخلاقي، يتسم بالرفق، فرضته كاثوليكية خففت من شدتها الأقاليم الجنوبية، فإنهم قاوموا التحلل الجديد من الواجبات، ونظم الوطنيون، الذين حرروا المدينة من الأسقف والدوق، أنفسهم من جديد، لتحريرها من قساوستها المتزمتين، وانضمت طائفة أخرى تطالب بحرية الضمير والعبادة، ومن ثم أطلقت على نفسها اسم المتحررين أو الأحرار إلى الوطنيين والكاثوليك الذين يمارسون شعيرتهم في الخفاء، وحصل هذا الائتلاف في انتخابات 3 فبراير عام 1538 على أغلبية في المجلس الكبير. وأبلغ المجلس الجديد القساوسة أن عليهم أن يبتعدوا عن السياسة، فندد كالفن وفاريل بالمجلس، ورفضا أن يناولا العشاء الرباني حتى تتواءم المدينة الثائرة مع النظام المرتكز على القسم، فما كان من المجلس إلا أن خلع كاهني الأبرشية (23 أبريل)، وأمرهما بمغادرة المدينة في خلال ثلاثة أيام. واحتفل الناس بطردهما وسط مظاهر التهليل والابتهاج (27). ولبى فاريل دعوة إلى نوبشاتل، وهناك ظل يقدم عظاته إلى آخر يوم في حياته (1565)، وأقيم هناك نصب تذكاري تخليداً لذكراه.
وذهب كالفن إلى شتراسبورج، وكانت وقتذاك مدينة حرة لا تخضع إلى الإمبراطور، وتدير شئونها الدينية كنيسة الغرباء، وجماعة المصلين فيها بروتستانت، جاءوا من فرنسا بصفة خاصة. ولكي يدبر أموره بمبلغ الاثنين وخمسين جيلدر (1. 300 دولار)؟، الذي كانت تدفعه له كل عام، باع مكتبته، وقبل عنده نزلاء من الطلبة. ووجد أن العزوبة لا تلائمه في موقفه هذا، فطلب من فاريل وبوسر أن يبحثا له عن زوجة،(24/223)
وقدم لهما بياناً بالصفات التي ينشدها، وقال: "لست من هؤلاء العشاق المخبولين، الذين يفتتنهم وجه جميل لامرأة يتجاوزون أيضاً عن أخطائها، وها هو الجمال الذي يغريني - أن تكون عفيفة كريمة غير متأنقة، اقتصادية صبوراً حريصة على صحتي" (28).
وبعد أن قام بمحاولتين فاشلتين تزوج (1540) من إيديليت دي بور، وهي أرملة فقيرة لها سبعة أطفال، فأنجبت منه ابناً واحداً مات في سن الطفولة. وعندما قضت نحبها (1549) كتب يرثيها برقة خاصة كانت تغلفها قسوة الظاهرة. وعاش وحيداً في بيته الخمسة عشر عاماً المتبقية من حياته.
وبينما كان يشقى في شتراسبورج، تحركت الأحداث في جنيف. وتشجع الأسقف المنفي عندما علم بطرد فاريل وكالفن، ووضع خطة لعودة مظفرة إلى كاتدرائيته، وقام بخطوة مبدئية، فأقنع أيا كوبو سادوليتو بأن يكتب "رسالة إلى أهالي جنيف"، "يحثهم فيها على أن يستأنفوا عباداتهم، طبقاً للعقيدة الكاثوليكية" (1539). وكان سادوليتو رجلاً مهذباً يتمتع بخلق قويم، لم يعهده الناس في كاردينال أو عالم بالإنسانيات، وكان قد أشار من قبل على البابوية أن تعالج انشقاق البروتستانت برفق، واستقبل في مدينة كاربنتراس فيما بعد هراطقة والدانيين فارين من المذبحة، وأسبغ عليهم حمايته (1545)، وكتب رسالة باللاتينية رفيعة، تعلمها من بمبو المعصوم، وجهها إلى اخوته الأعزاء المحبوبين، حكام جنيف وشيوخها والمواطنين فيها، وتتألف الرسالة من عشرين صفحة، تحفل بالمجاملات الدبلوماسية والترغيب اللاهوتي، ولاحظ انقسام البروتستانت إلى طوائف متحاربة يتزعمها، كما يدعي، رجال ماكرون، يتشوقون إلى السلطة، وقارن هذا بوحدة الكنيسة الرومانية، التي دامت قروناً طويلة، وتساءل هل من المحتمل أن يكون الحق مع تلك الأحزاب المتعارضة أكثر منه مع عقيدة كاثوليكية أثمرتها خبرة عصور واحتشاد ذكاء المجالس(24/224)
الكنسية. وختم رسالته بأن عرض على مدينة جنيف، أنه على استعداد للقيام بأية خدمة في مقدوره.
وشكره المجلس على تحيته له، ووعده بالمزيد من الاستجابة لمطالبه، بيد أنه لم يكن في جنيف أحد، يأخذ على عاتقه، أن يرفع السيف في وجه عالم الإنسانيات المهذب، أو يجاريه في لاتينيته. وفي غضون ذلك طلب عدد منم المواطنين أن يتحللوا من قسمهم، على أن يؤيدوا إقرار العقيدة والنظام، وخيل للناس فترة ما أن المدينة سوف تعود إلى اعتناق الكاثوليكية، وكان كالفن مدركاً للموقف فخف للرد على الكاردينال، وحشد كل ما يملك من طاقة ذهنية، وشرع قلمه للدفاع عن الإصلاح الديني. وواجه الدماثة باللطف، والبلاغة بالبلاغة، ولكنه لم يتنازل قيد أنملة عن أي مبدأ من مبادئ لاهوته، واحتج ضد إقحامه في النزاع، بدعوى أنه إنما ثار مدفوعاً بطموح شخصي، فقد كان في وسعه أن ينعم بالمزيد من الطمأنينة، لو ظل محافظاً على العقيدة. وسلم بأن الكنيسة الكاثوليكية تستند إلى أساس إلهي، ولكنه هاجمها، وقال إن مثالب بابوات عصر النهضة قد أثبتت استيلاء المناهض للمسيحية على عرش البابوية. واعترض على حكمة المجالس الكنسية بحكمة الكتاب المقدس، التي كان سادوليتو قد تجاهلها أو كاد، وأسف لأن فساد الكنيسة أدى إلى الانشقاق والانقسام، ولكن القضاء على الشرور لا يتم إلا على هذا النحو. وإذا ما تعاون الكثالكة والبروتيتانت الآن، لتطهير العقيدة والشعيرة والعاملين بكل الكنائس المسيحية، فإن جزاءهم وحدة أبدية في السماء مع المسيح. وكان خطاباً قوياً ولعله أغفل الفضائل العارضة لبابوات عصر النهضة، إلا أن عباراته صيغت بأسلوب رصين، لا يخلو من المجاملة، وهو أمر نادر في مناظرات هذا العهد.
وعندما اطلع عليه لوثر في فيتنبرج، رحب به على أساس أنه سيقضي تماماً على الكاردينال، وهتف قائلاً: "لشد ما يطربني أن يهيئ الله أناساً ... ينهون الحرب، التي بدأتها ضد المناهض للمسيحية" (29). وتأثر(24/225)
مجلس جنيف إلى حد أنه أمر بطبع الخطابين على نفقة المدينة (1540)، وبدأ يتساءل ما إذا كان، بنفيه كالفن، قد فقد أقدر رجل في الإصلاح الديني السويسري.
وغذت الشك عوامل أخرى، فقد برهن كاهنا الأبرشية، اللذان حلا محل فاريل وكالفن، على أنهما لا يصلحان للوعظ، ويفتقران إلى النظام. وفقد الجمهور احترامه لهما، وعاد إلى الأخلاق المنحلة، التي كانت سائدة في الأيام السابقة للإصلاح الديني، وتفشت المقامرة والسكر، واشتدت الحلبة في الشوارع، وانتشر الزنا، وكان الناس يرفعون عقائرهم علناً بالأغاني الداعرة، وانطلق أشخاص في الشوارع، عراة كما ولدتهم أمهاتهم (30). ولقد حكم بالإعدام على واحد من المأمورين الأربعة، الذين تزعموا حركة طرد فاريل وكالفن، وذلك لارتكابه جريمة قتل، وعلى آخر لارتكابه جريمة تزوير، وعلى ثالث بتهمة الخيانة للوطن، أما الرابع فقد مات، وهو يحاول الفرار من الاعتقال. ولابد أن رجال الأعمال، الذين كانوا يسيطرون على المجلس، قد ساءهم هذا الإخلال بالنظام، باعتباره معوقاً للتجارة. ولم يكن المجلس نفسه ميالاً إلى أن يحل محله أسقف، يستعيد سلطانه، وربما يصدر قراراً بحرمانهم من غفران الكنيسة. وهكذا خطرت فكرة دعوة كالفن لغالبية الأعضاء شيئاً فشيئاً. وفي يوم أول مايو ألغى المجلس قرار النفي، وأعلن أن فاريل وكالفن رجلان جديران بالاحترام. وأرسل مندوب إثر مندوب إلى شتراسبورج، لاقناع كالفن باستئناف عمله في الأبرشية بجنيف. وغفر فاريل للمدينة لأنها لم ترسل له دعوة مماثلة، وفي كرم نبيل انضم إلى المندوبين لحث كالفن على الدعوة. ولكن كالفن كان قد عرف كثيراً من الأصدقاء في شتراسبورج، وشعر بأن عليه التزامات هناك، ورأى أنه لن يجد أمامه في جنيف إلا الخصام، وقال: "ليس في العالم مكان أخشاه أكثر منها". ووافق على القيام بزيارة للمدينة فحسب. وعندما وصل إليها (13 سبتمبر سنة 1541) قوبل(24/226)
بكثير من مظاهر التكريم، وقدمت له عشرات الاعتذارات، وبذلت له الكثير من الوعود بالتعاون معه في توطيد النظام، والعمل بالإنجيل فلم يطاوعه قلبه على الرفض، وكتب في 16 سبتمبر إلى فاريل يقول: "لقد تحققت أمنيتك. أنا هنا راسخ كالطود. واسأل الله أن يمنحنا بركته" (31).
4 - مدينة الله
كان سلوك كالفن في السنوات الأولى من دعوته، يتسم بالاعتدال والتواضع فكسب إلى صفه الجميع، إلا أقلية ضئيلة، وعين ثمانية من مساعدي القسس للعمل تحت رئاسته لتقويم الخدمة الدينية في كنيسة القدّيس بطرس وغيرها من كنائس المدينة، وكان يعمل مدة تتراوح بين اثنتي عشرة ساعة وثماني عشرة ساعة كل يوم، واعظاً ومديراً وأستاذاً للاهوت، ومشرفاً على الكنائس والمدارس، ومستشاراً للمجالس البلدية، وضابطاً للأخلاق العامة، ومنظماً للطقوس الدينية في الكنيسة. وعكف في غضون ذلك على إضافة فصول لكتابه "القوانين"، وكتب تعليقات على الكتاب المقدس، وحافظ على كتابة رسائل تأتي من حيث القيمة بعد رسائل أرازموس، وإن كانت تفوقها تأثيراً ... ولم يكن ينام إلا قليلاً، ويأكل قليلاً، ويصوم كثيراً. وعجب خلفه وكاتب سيرته، تيودور دي ميز، كيف استطاع ذلك الرجل الضئيل الجسم، أن يحمل مثل هذا العبء الثقيل المتنوع.
وكان أول عمل قام به هو إعادة تنظيم الكنيسة، التي تناولها الإصلاح، وعين المجلس الصغير، بناء على طلبه، وعقب عودته لفترة قصيرة، لجنة من خمسة من رجال الدين، وستة من أعضاء المجلس، يرأسهم كالفن، لصياغة قانون كنسي جديد. وفي اليوم الثاني من يناير عام 1542 أجاز المجلس القوانين الكنسية، التي لا تزال الكنائس التي تناولها الإصلاح والمشيخية في أوربا وأمريكا تقبل معالمها الجوهرية. وقسمت الخدمة الدينية على كهان أبرشيات ومعلمين وشيوخ كنيسة من العلمانيين وشمامسة.(24/227)
وألف كهان الأبرشيات في جنيف "الجماعة المبجلة"، التي حكمت الكنيسة، ودربت المرشحين للخدمة الدينية. ولم يسمح كذلك لأحد بالوعظ في جنيف، دون أن يخول ذلك من الجماعة، وكان الأمر يتطلب أيضاً موافقة مجلس المدينة وجماعة المصلين، إلا أن الرسامات الأسقفية - وتنصيب الأساقفة - كانت محظورة.
وأصبح القساوسة الجدد، تحت رئاسة كالفن، أقوى منهم في أي نظام للقساوسة عرف منذ عهد إسرائيل القديمة، وذلك في الوقت الذي لم يدعوا فيه قط أنهم وهبوا القوى الخارقة للقساوسة الكاثوليك، وعلى الرغم من أنهم أصدروا على أنفسهم حكماً بأنهم لا يصلحون للوظيفة المدنية. وقال كالفن إن القانون الحقيقي لدولة مسيحية يجب أن يكون هو الكتاب المقدس، وأن القساوسة هم المفسرون الحقيقيون لذلك القانون، وأن الحكومات المدنية يجب أن تخضع لهذا القانون، وأن تدعمه كما يفسره رجال الدين. ولعل الرجال المتمرسين في المجالس قد راودتهم بعض الشكوك، في هذه النقاط، ولكن يبدو أنهم شعروا بأن النظام الاجتماعي أجدى للاقتصاد، ومن هنا فإن بعض الدعاوى الكنسية يحسن أن تترك مؤقتاً دون اعتراض، والظاهر أن حكومة رجال الدين ظلت تسيطر على حكومة أقلية من التجار ورجال الأعمال خلال ربع قرن عجيب.
ومارس رجل الدين سلطتهم على حياة أهالي جنيف من خلال مجمع للكرادلة أو مشيخية مكونة من خمسة من كهنة الأبرشية وأثنى عشر شيخاً للكنيسة من العلمانيين، والجميع يختارهم المجلس.
وبينما كان كهنة الأبرشية يتمسكون بحقهم في المنصب، من خلال خدمتهم الدينية، وشيوخ الكنيسة يظلون في مناصبهم عاماً واحداً فقط، فإن مجمع الكرادلة كان يحكمه أعضاؤه من رجال الدين في أمور لا تمس الأعمال بصورة جوهرية. وأعطى لنفسه الحق في تنظيم العبادة الدينية وفرض السلوك الأخلاقي على كل ساكن، وأرسل قسيساً وشيخاً للكنيسة، لكي(24/228)
يزورا سنوياً كل بيت وكل أسرة. وكان له الحق في استدعاء أي شخص للمثول أمامه، لاختباره، وكان في وسعه زجر الآثمين، أو حرمانهم من الغفران علناً، وكان يستطيع أن يعتمد على المجلس في أن ينفى عن المدينة من أصدر عليهم مجمع الكرادلة قراراً بالحرمان من غفران الكنيسة. وكان كالفن يقبض على زمام السلطة، باعتباره رئيساً لهذا المجمع. وكان صوته أقوى الأصوات تأثيراً في جنيف، من عام 1541 حتى وفاته في عام 1564. ولم يكن حكمه المطلق يستند إلى القانون أو القوة، ولكنه كان يعتمد على الإرادة والخلق. ولقد أضفت عليه قوة إيمانه برسالته، وكمال إخلاصه لواجباته، قوة لم يستطع أحد أن ينجح في معاومتها ولو أن هيلدبراند بعث من قبره لطرب أيما طرب لهذا الانتصار الواضح للكنيسة على الدولة.
وهكذا خول رجال الدين سلطات، أتاحت لهم أن ينظموا أولاً العبادات. "على جميع أفراد الأسرة أن يحضروا العظات يوم الأحد، ما عدا مَن يتركون في البيت، لرعاية الأطفال أو الماشية. وإذا كان ثمة وعظ في أيام الأسبوع، فعلى كل مَن يستطيع الحضور أن يجيء" "كان كالفن يلقي عظاته ثلاث أو أربع مرات كل أسبوع" "وإذا جاء أحد بعد ابتداء العظة فلينذر، وإذا لم يقوم نفسه، فليدفع غرامة قدرها ثلاثة فلسات" (32). وليس لأحد أن يعفى من أداء الصلوات البروتستانتية، بحجة أنه يعتنق عقيدة دينية مخالفة، أو خاصة، وكان كالفن مدققاً، مثل أي بابا، في رفضه الفردية في العقيدة. ولقد رفض أعظم مشرع للبروتستانتية ذلك المبدأ الخاص بالحكم الفردي، الذي كان الدين الجديد قد بدأه. كان قد رأى انقسام الإصلاح الديني إلى مائة طائفة، وعرف مسبقاً أكثر من هذا، وقرر ألا يسمح بوجود طائفة منها في جنيف. إن هناك هيئة من رجال الدين العلماء، تصوغ عقيدة رسمية، وعلى الذين لا يقبلون اعتناقها من أهالي جنيف، أن يبحثوا لهم من مواطن أخرى. وكان التغيب في إصرار عن حضور الصلوات البروتستانتية، أو الاستمرار في رفض تناول القربان المقدس، من الجرائم(24/229)
التي يعاقب عليها القانون. وأصبحت الهرطقة من جديد إهانة للرب، وخيانة للدولة، وكل مَن تثبت عليه يعاقب بالإعدام. كما أصبحت الكاثوليكية التي بشرت بهذا الحكم على الهرطقة بدورها هرطقة.
وبين عامي 1542 و 1564 نفذ حكم الإعدام في ثمانية وخمسين شخصاً، ونفي ستة وسبعون، بسبب مخالفتهم للقانون الجديد. وكان السحر هنا كما في أي مكان آخر جريمة يعاقب من يزاوله بالإعدام، ولقد أرسل إلى سارية الإحراق في عام واحد، وبناء على ما أشار به مجمع الكرادلة، أربع عشرة سيدة، قيل أنهن من الساحرات، بتهمة إغرائهن للشيطان، بأن يصيب جنيف بوباء الطاعون (33).
ولم يميز مجمع الكرادلة إلا قليلاً بين الدين والأخلاق ... كان السلوك الأخلاقي، ومثله في ذلك مثل العقيدة الدينية، يجب أن يلتزم بعناية، ذلك لأن حسن السلوك هو الهدف من العقيدة الصحيحة. وكان كالفن، وهو رجل حازم قوي المراس، يحلم بمجتمع يدين بنظام صارم، إلى حد تبرهن فضائله على لاهوته، وتجلل بالعار الكاثوليكية، التي أثمرت حياة الترف والانحلال في روما، أو تسامحت فيهما. ولابد أن يكون النظام العمود الفقري للشخصية، وأن يمكنها من أن ترقى بنفسها، من وحدة الفطرة البشرية، إلى استقامة الإنسان الذي قهر شهوات نفسه. يجب أن يكون رجال الدين قوة لغيرهم، بسلوكهم وبإدراكهم الحسي. ولهم أن يتزوجوا وأن ينجبوا، وعليهم أن يمتنعوا عن الصيد والمقامرة واللهو والتجارة وضروب التسلية الزمنية، وأن يقبلوا أن يقوم رؤساؤهم من رجال الكنيسة بجولة تفتيشية سنوية، وأن يتقصوا عن أخلاقهم.
ولتنظيم سلوك الجماهير أقيم نظام يعتمد على الزيارات المنزلية، يتلخص في أن أحد شيوخ الكنيسة أو غيره، كان يزور سنوياً كل بيت عين له في الحي، ويسأل السكان عن مراحل حياتهم كلها. وانضم مجمع الكرادلة(24/230)
والمجلس إلى إقرار تحريم المقامرة ولعب الورق والتجديف والسكر والتردد على الحانات والرقص (الذي كان وقتذاك يعنف بالقبلات والأحضان)، والأغاني الماجنة أو الخارجة عن الدين، والإفراط في اللهو، والبذخ في العيش، والتبذل في اللبس. وحدد القانون اللون المسموح به في الملابس ومقدارها، وعدد الأطباق المسموح بها في الوجبة الواحدة. وكانت الحلي والمخرمات تقابل بالتجهم. وسجنت امرأة، لأنها صففت شعرها إلى ارتفاع يتنافى مع الأدب (34). واقتصرت الحفلات المسرحية على التمثيليات الدينية ثم منعت هذه أيضاً. وكان الأطفال لا يسمون بأسماء القديسين - الواردة في التقويم الكاثوليكي، ولكن فضل أن يطلق عليهم أسماء شخصيات، ذكرت في العهد القديم، واشتغل والد عنيد أربعة أيام في السجن، لأنه أصر على تسمية ابنه كلود بدلاً من أبراهام (35). وفرضت الرقابة على المطبوعات، طبقاً لسوابق كاثوليكية وعلمانية، وتوسع فيها (1560): فقد حظر تداول كتب تتناول عقيدة دينية خاطئة، أولها نزعة تتنافى مع الخلق القويم، وقدر لمقالات مونتاتي وكتاب "أميل" لروسو أن تقع تحت طائلة هذا الحظر. وكان الحديث عن كالفن أو رجال الدين بازدراء يعد جريمة (36)، وأول مخالفة لهذه القوانين كانت تعاقب بالزجر، أما المخالفة التالية فكانت تعاقب بالغرامات، والإصرار على المخالفة بالسجن أو النفي. أما الفسق فكان مرتكبه يعاقب بالنفي أو بالموت غرقاً، ومَن يرتكب جريمة الزنا أو الكفر أو عبادة الأوثان يعاقب بالإعدام وفي مثل خارج على القياس قطعت رأس طفل، لأنه ضرب والديه (37). وفي عامي 1558 - 59 رفعت 414 دعوى بسبب جرائم أخلاقية، وبين عامي 1542 و 1556 أقصي عن البلاد ستة وسبعين شخصاً، ونفذ حكم الإعدام في ثمانية وخمسين، وكان التعداد الكلي لسكان مدينة جنيف وقتذاك حوالي 20. 000 نسمة (38). وكثيراً ما استخدم التعذيب وسيلة للحصول على اعترافات أو دليل، كما كان يحدث في كل مكان في القرن السادس عشر.(24/231)
وامتد التنظيم إلى التعليم والمجتمع وإلى الحياة الاقتصادية، وأسس كالفن مدارس وأكاديمية، وبحث في أرجاء أوربا عن مدرسين للغات اللاتينية واليونانية والعبرية واللاهوت، ودرب قساوسة من الشبان حملوا إنجيله إلى فرنسا وهولندة وسكوتلندة وإنجلترا، بكل ما اتصف به المبشرون اليسوعسون من حمية وإخلاص في آسيا، وأرسلت مدينة جنيف في خلال أحد عشر عاماً (1555 - 66) 161 مبعوثاً من أمثال هؤلاء إلى فرنسا، أنشد الكثير منهم المزامير الهوجنوتية، وهم يتعرضون للاستشهاد، ورأى كالفن أن التقسيم الطبقي أمر طبيعي، وأسبغ تشريعه الحماية على الرتب والمنصب، بفرض نوع من اللباس، ووضع حدود لنشاط كل طبقة (39). كان على كل شخص أن يتقبل وضعه في المجتمع، وأن يؤدي واجباته، دون حسد لمن هم خير منه، أو شكوى من سوء حظه. وحظر التسول، واستبدل، بالإحسان دون أي تمييز، إدارة جماعية، تتسم بالعناية للمساعدات التي تقدم للتفريج عن الفقراء.
والتزم مذهب كالفن بالعمل الشاق والرصانة والاجتهاد والاعتدال في النفقة، وأصبح الاقتصاد قانوناً دينياً، يحلل بالغار رأس المعتصم به، ولعل ذلك هو الذي أسهم في تطوير ما فطر عليه رجل الأعمال البروتستانتي الحديث، من المثابرة على العمل، ولقد بولغ في تأكيد أهميته (40) هذه العلاقة، إذ كانت الرأسمالية قد نمت في فلورنسا والفلاندرز الكاثوليكيتين قبل الإصلاح الديني إلى درجة أكبر مما حدث في جنيف مدينة كالفن. ورفض كالفن المذهب الفردي في الاقتصاديات كما رفضه في الدين والأخلاق.
وكانت وحدة المجتمع، في رأيه ليست الفرد الحر (الذي بدأ به لوثر ثورته)، ولكن مجتمع دولة المدينة، التي ارتبط أعضاؤها بها بقانون حازم ونظام صارم. وكتب يقول، ليس لأحد من أعضاء الجماعة المسيحية أن يحتفظ بمواهبه لنفسه، وأن يقصرها على استعماله الخاص، بل(24/232)
يجب أن يشرك فيها زملاءه من الأعضاء، وليس له أن يجني فائدة إلا من تلك الأشياء، التي تنشأ من النفع العام للهيئة، باعتبارها كلاً لا يتجزأ (41) "ولم يكن يظهر أي عطف نحو المضاربة لجمع المال أو تكديسه بصورة جائرة (42)، وسمح بتقاضي فائدة على القروض مثل بعض أصحاب النظريات الكاثوليكية في أواخر القرون الوسطى، ولكنه حدد الفائدة نظرياً بخمسة في المائة، وحث على منح قروض، دون تقاضي أية فائدة، إلى الأفراد المعوزين أو الدولة (43). وعاقب مجلس الكرادلة، بموافقته، المحتكرين والمستغلين والمقرضين الذين يتقاضون فوائد باهظة، وحدد المجمع أسعار الطعام والملابس وأجور العمليات الجراحية، وذم التجار الذين غشوا عملاءهم أو فرض عليهم غرامات، والبائعين المطففين الذين إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصون، وبائعي الأقمشة الذين يختلسون من الأثواب (44). وكان النظام أحياناً يسير نحو اشتراكية الدولة. فقد أسست الجماعة الموقرة مصرفاً وأدارت بعض الصناعات (45).
وإذا وضعنا في أذهاننا هذه العوامل المقيدة، فإننا قد نسلم بوجود اتفاق ودي صامت ومتزايد بين مذهب كالفن والعمل والتجارة، وما كان في وسع كالفن أن يحتفظ طويلاً بزعامته، لو أنه عاق النمو التجاري في مدينة تعتمد في حياتها على التجارة. وهيأ نفسه للموقف، وسمح بتقاضي فائدة قدرها عشرة في المائة، وأوصى بمنح قروض للدولة، لتمويل صناعة خاصة، تدخل لأول مرة، أو للتوسع فيها، كما حدث في صناعة النسيج أو في إنتاج الحرير. ومالت المراكز التجارية، مثل أنتورب وأمرستردام ولندن تواً للدين الجديد، الذي تقبل الاقتصاد الحديث. وطوى مذهب كلفن في أحضانه الطبقات الوسطى ونما بنموها.
وماذا أسفر عنه حكم كالفن؟ لابد أن الصعوبات التي واجهت التنفيذ كانت هائلة، لأنه لم يحدث قط في التاريخ أن طولبت مدينة بمراعاة مثل هذه الفضيلة الصارمة، وعارض فريق كبير نظام الحكم إلى درجة إعلان(24/233)
الثورة الصريحة. ولكن لابد أن عدداً لا يستهان به من المواطنين ذوي النفوذ قد أيدوه، ولو على أساس النظرية العامة للأخلاق، لأن آخرين كانوا في حاجة إليها. وليس من شك في أن تدفق الهوجنت الفرنسيين وغيرهم من البروتستانت قد أطلق يد كالفن، ثم أن قصر التجربة على مدينة جنيف وما وراءها قد رفع من فرص النجاح. ولا شد أن الخوف المتواتر من غزو الدول المعادية لها (سافوي وإيطاليا وفرنسا والإمبراطوريّة) وامتصاصها قد فرص الاستقرار السياسي والخضوع المدني، ورفع الخطر الخارجي من شأن النظام الداخلي، وعلى أي حال فإن لدينا وصفاً حماسياً للنتائج التي أسفر عنها هذا الحكم، بقلم شاهد عيان وهو برناردينو أوكينو، وهو إيطالي بروتستانتي، وجد ملجأ في مدينة جنيف.
"إن السب والتجديف وعدم التمسك بالعفة وتدنيس المقدسات والزنا والحياة غير الطاهرة، كما يشيع ويغلب ذلك في كثير من الأماكن التي عشت فيها، غير معروفة هنا. ليس هناك قوادون ومومسات. إن الناس لا يعرفون ما هو الأحمر، وكلهم يرتدون زياً واحداً، والألعاب التي تعتمد على الحظ ليست مألوفة. والخير جد وفير إلى حد أن الفقراء ليسوا في حاجة إلى التسول. والناس يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف بطريقة أخوية كما فرض المسيح.
والدعاوى اختفت من المدينة ولم يعد فيها أي اتجار بالمقدسات أو قتل أو روح حزينة، وعمها السلام وحب الخير، ومن جهة أخرى ليست هناك آلات أرغن ولا أجراس تدق ولا أغاني استعراضية ولا شموع تشعل أو مصابيح تضاء (في الكنيسة) وليس هناك مخلفات مقدسة أو صور أو تماثيل أو مظلات أو أثواب فاخرة أو هزليات أو احتفالات باردة. إن الكنائس خالية تماماً من عبادة الأوثان" (46).
ولا تتفق سجلات المجلس المستفيضة عن هذا العهد، مع هذا التقرير،(24/234)
فهي تكشف عن نسبة مئوية عالية من الأطفال غير الشرعيين والأطفال المهجورين والزيجات التي تمت بالإكراه والأحكام الصادرة بالإعدام (47). ومن بين مَن أدينوا بالزنى صهر (48) كالفن وابنة زوجته. ولكننا نجد مرة أخرى حوالي عام 1610 فالينتين اندريا وهو قسيس لوثري من فيتنبرج يثني على مدينة جنيف ثناء لا يخلو من الحسد ويقول: "عندما كنت في جنيف لاحظت شيئاً عظيماً سوف أذكره وأتشوق إليه ما حييت. ففي تلك المدينة ليس هناك نظام كامل لجمهورية كاملة فحسب. ولكن هناك نظام أخلاقي يقوم باستقصاءات أسبوعية عن سلوك المواطنين بل وعن أقل عمل يتجاوزون به الحدود، وذلك كحلية خاصة ... وكل السباب والتجديف والقمار والترف والشقاق والكراهية والغش محظورة، وفي الوقت نفسه لا يسمع أحد عن الكبائر. فأية صفة مجيدة يتحلى بها الدين المسيحي أعظم من مثل هذه الطهارة في الأخلاق. إننا يجب أن نبكي وننوح على أننا (الألمان) نفتقد هذه الصفات وأنها أهملت عندنا كلية.
5 - معارك كالفن
اتسقت شخصية كالفن مع لاهوته. وتصوره اللوحة الزيتية المحفوظة في مكتبه الجامعة بجنيف رجلاً صوفياً صارماً حزيناً ذا بشرة قاتمة هربت منها الدماء، ولحية سوداء قليلة الشعر، وجبهة عريضة وعينين قاسيتين نفاذتين. وكان قصير القامة نحيل الجسد ضعيف البنية لا يكاد يصلح لأن يحمل بين يديه. ولكن خلف الهيكل الضعيف يتوقد ذهن حاد فذ مخلص مدقق وإرادة حازمة لا تقهر ولعلها إرادة للقوة. وكان فكره قلعة للنظام جعل منه تقريباً أكويني اللاهوت البروتستانتي. وكانت ذاكرته تزخر بآلاف الموضوعات إلا أنها دقيقة وكان يسبق عصره في الشك في علم التنجيم ويواكبه في رفض الاعتراف بوكوبرنيكوس ويتخلف عنه قليلاً (مثل لوثر) في نسبة كثير من الحوادث الدنيوية إلى الشيطان. وكان(24/235)
وجله يخفي شجاعته وخجله يحجب كبرياء في باطنه وذلته أمام الله أصبحت في بعض الأحيان عجرفة آمرة أمام الناس. وكان شديد الحساسية للنقد ولم يكن في وسعه أن يتحمل المعارضة بجلد امرئ يستطيع أن يدرك احتمال أنه قد يكون مخطئاً. وهده المرض وانحنى ظهره من كثرة العمل ولذا كان كثيراً ما كان يتميز غيظاً وينفجر في نوبات من الفصاحة الغاضبة، واعترف لبوسر بأنه وجد أن من الصعب عليه أن يروض "الوحش الكامن في غضبه" (50) ولم يكن من فضائله المرح الذي كان حرياً بأن يخفف من يقينياته ولا الإحساس بالجمال الذي كان كفيلاً بأن يستبقي الفن الكنسي. ومع ذلك فانه لم يكن مشاغباً لا تلين قناته، وأمر أتباعه بأن يكونوا منشرحين وأن يلعبوا ألعاباً لا ضرر منها مثل لعب الكرة ولعبة صيد الخنزير بحلقات الحبال وأن يستمتعوا بشرب النبيذ في اعتدال. وكان في وسعه أن يكون صديقاً حنوناً رقيق القلب وعدواً لا يتسامح، وكان قادراً على إصدار أحكام قاسية وعلى الانتقام بشدة. وكان الذين يخدمونه يخشونه (51)، أما الذين كانوا يحبونه فهم الذين عرفوه حق المعرفة. وكانت حياته الجنسية خالية من الزلات، وكان يعيش في بساطة ويأكل قليلاً، ويصوم دون أن يقصد التباهي، ولا ينام إلا ست ساعات في اليوم، ولم يحصل قط على إجازة، واستنفد قواه دون تحديد فيما ظن أنه عبادة الله. ورفض أن يمنح زيادة في مرتبه ولكنه سعى لكي يرفع الأموال المخصصة للبر للفقراء. وقال البابا بيوس الرابع: "إن قوة ذلك الهرطيق تكمن في هذا: إن المال لم يكن له أقل سحر عليه. وإذا كان لدي أتباع مثله فإن مملكتي سوف تمتد من البحر إلى البحر" (52).
ورجل له مثل هذا الطبع لابد أن يثير حقد كثير من الأعداء. وحاربهم بشدة وبلغة العصر الجدلية ... ووصف خصومه بأنهم من الأوغاد وأنهم أغبياء وكلاب وحمير وخنازير وبهائم منتنة (53) - وهي نعوت أقل لياقة بالنسبة للاتينيته الرشيقة من أسلوب لوثر الذي يشبه أسلوب المجالدين، ولكنه واجه استفزازات. فقد حدث يوم أن قاطع جيروم بولسيك،(24/236)
وهو راهب سابق من فرنسا، كالفن وهو يقدم عظته في كنيسة القدّيس بطرس وندد بالعقيدة التي تقول بالجبر باعتبارها إهانة للرب، فرد عليه كالفن بأن تلا آيات من الكتاب المقدس، واعتقلت الشرطة بولسيك واتهمه مجمع الكرادلة بالهرطقة. وكان المجلس ميالاً إلى الحكم عليه بالإعدام ولكن عندما استأنس بآراء علماء اللاهوت في زيورخ وبازيل وبرن دلت على أنها مبلبلة: فقد أوصت برن بالحرص في علاج المشكلات التي تدق على ادراك الإنسان - وهي نغمة جديدة في أدب العصر، وحذر بولينجر، كالفن، أن "الكثيرين مستاءون مما تقول في كتابك القوانين حول الجبر، ويستخلصون نفس النتائج مثل بولسيك" (54) وتراضى المجلس على النفي (1551) وعاد بولسيك إلى فرنسا وإلى الكاثوليكية.
وأهم من هذا في النتيجة مناظرة كالفن مع جواليم ويستفال، إذ ندد هذا القسيس اللوثري برأي زونجلى وكالفن القائل بأن المسيح لا يحضر في القربان المقدس إلا بروحه" وعد هذا "تشديداً من وحي الشيطان" ورأى أن المصلحين الدينيين السويسريين يجب ألا يرد عليهم بأقلام علماء اللاهوت، ولكن بعصا الحكام (1552) ورد عليه كالفن بألفاظ بلغت من القسوة حداً دفع زملاءه من المصلحين الدينيين في زيورخ وبازيل وبرن إلى رفض التوقيع على احتجاجه. ومع ذلك فإنه أصدره، وعاد ويسفال وآخرون من أنصار لوثر إلى الهجوم، فدمغهم كالفن بأنهم "قردة لوثر" وأبدى من الحجج القوية ما دفع عدة مناطق كانت وقتذاك تناصر لوثر مثل - براندنبرج والبلاتينات وأجزاء من هس وبرينين وآنهالت وبادن إلى الموافقة على وجهة نظر سويسرة والكنيسة التي خضعت للإصلاح الديني، ولم ينقذ باقي ألمانيا الشمالية من التحول عن العقيدة اللوثرية إلا صمت ميلانكتون "الذي كان يتفق في الرأي سراً مع كالفن". وصدى صواعق لوثر بعد الموت.
وتحول كالفن من هذه الهجمات على اليمين وواجه إلى اليسار جماعة من المتطرفين وصلوا حديثاً إلى سويسرة من إيطاليا المعارضة لها في الإصلاح(24/237)
الديني. وكان كايليوس يسكوندوس كوريو يلقي تعاليمه في لوزان وبازيل وقد صدم كالفن عندما أعلن أن الناجين - وفيهم كثير من الوثنيين - سوف يفوقون عدد المعذبين في نار جهنم بكثير. أما لايليوس سوكينوس، وهو ابن أحد كبار فقهاء القانون الإيطاليين، واستقر في زيورخ فقد درس اليونانية والعربية والعبرية لكي يفهم الكتاب المقدس على أحسن وجه، وتعلم كثيراً جداً، وفقد إيمانه بالثالوث الأقدس والجبر والخطيئة الأصلية والتكفير.
وأعرب عن شكه لكالفن الذي رد عليه بقدر الإمكان. ووافق سوكينوس على أن يتجنب التعبير علناً عن شكوكه ولكنه تكلم فيما بعد معارضاً تنفيذ حكم الإعدام في سرفيتوس، وكان من بين القليلين الذين وقفوا يدافعون عن التسامح الديني في ذلك العصر المحموم.
وفي دولة يمتزج فيها الدين والحكومة في مزيج مسكر، كان من الطبيعي أن تكون أشد المعارك التي خاضها كالفن هي معاركه الوطنيين والمتحررين والذين أقصوه مرة عن البلاد والذين أسفوا الآن لعودته. فقد استاء الوطنيون من أصله الفرنسي ومن أنصاره وكرهوا لاهوته ولقبوه بقابيل، وأطلقوا على كلابهم اسم كالفن، وسبوه في الطرقات، ولعلهم هم الذين أطلقوا في إحدى الليالي خمسين طلقة نارية خارج بيته. وبشر المتحررون بعقيدة تقول بوحدة الوجود، وتخلوا عن ذكر الشياطين أو الملائكة أو جنة عدن أو التكفير أو الكتاب المقدس أو البابا. واستقبلتهم مارجريت ملكة نافار وأيدتهم في بلاطها بنيراك، ولامت كالفن على قسوته معهم.
وفي يوم 27 يونيه عام 1547 وجد كالفن إعلاناً كبيراً ملصوقاً على منبره وجاء فيه: منافق كبير إنك لن تجني أنت ورفقاؤك بآلامك إلا النذر اليسير وإذا لم تنجوا بحياتكم بالهرب فلم يحول أحد دون القضاء عليكم، ولسوف تلعن الساعة التي تركت فيها ديرك ... إن الناس ينتقمون لأنفسهم بعد أن عانوا طويلاً ... إحذر فلن تعامل مثل السيد فيرل (الذي كان قد قتل) ... لم يكون لنا سادة كثيرون إلى هذا الحد (55) ...(24/238)
وقبض على جاك جريه، وهو أحد كبار المتحررين، إذ اشتبه في أنه كتب الإعلان ولم يقدم أي دليل. وادعى بعضهم أنه قبل ذلك ببضعة أيام تفوه بتهديدات ضد كالفن، ووجد في حجرته أوراق قيل أنها بخط يده، يصف فيها كالفن بأنه منافق متعجرف وطموح ويسخر فيها من أن الكتب المقدسة وهي من عند الله ومن خلود الروح. وعذب مرتين كل يوم لمدة ثلاثين يوماً إلى أن اعترف - ولا ندري مدى ما في اعترافه عن صدق - بأنه كان قد ثبت الإعلان الكبير وتآمر مع العملاء الفرنسيين ضد كالفن ومدينة جنيف. وفي يوم 26 يوليو ربط إلى خازوق، وهو نصف ميت، وسمرت قدماه فيه وقطع رأسه (56).
وازدادت حدة التوتر إلى أن جاء الوطنيون والمتحررون يوم 16 ديسمبر عام 1547 وهم مسلحون وحضروا اجتماعاً للمجلس الكبير وطالبوا بوضع حد لسلطة مجمع الكرادلة على المواطنين، وفي ذروة هرج عنيف دخل كالفن إلى الحجرة وواجه الزعماء المعادين له وقال وهو يدق على صدره: "إذا كنتم تريدون سفك دمي فمازالت هنا بضع قطرات فهيا اضربوا" وسحبت السيوف ولكن أحداً لم يجسر على أن يكون القاتل الأول. وخاطب كالفن الجمع بحلم نادر وأخيراً أقنع كل الأطراف بعقد هدنة. ومع ذلك فقد اهتزت ثقته بنفسه.
وكتب يوم 17 ديسمبر إلى فيريه يقول: "إن أملي ضعيف في أن تستطيع الكنيسة أن تجد لها عضداً أكثر من هذا، على الأقل من رجالي الذين يقومون بالخدمة الدينية. صدقني إن سلطاني يتحطم، اللهم إلا إذا مد الله إلي يده". وكان المعارضة انقسمت شيعاً وأحزاباً وهدأت إلى أن أتاحت لها محكمة سرفيتوس فرصة أخرى.(24/239)
6 - ميكائيل سرفيتوس
1511 - 53
ولد ميجيل سرفيتوس في فيلانوفا (وتقع على بعد حوالي ستين ميلاً من ساراقوسه) وهو ابن موثق عقود من أسرة كريمة. ونشأ في عهد كانت فيه كتابات أرازموس تتمتع بتسامح عابر في أسبانيا. وكان متأثراً إلى حد ما بأدب اليهود والمسلمين، إذ قرأ القرآن وشق طريقه في التأويلات التلمودية وتأثر بنقد الساميين للمسيحية (في صلواتها للثالوث ولمريم وللقديسين) باعتبارها شركاً. وأطلق عليه لوثر لقب "المراكشي".
وفي تولوز حيث درس القانون، رأى لأول مرة كتاباً مقدساً كاملاً وأقسم ليقرأنه "ألف مرة"، وتأثر تأثراً عميقاً بالرؤى في سفر الرؤيا. وفاز برعاية جوان دي كوينتانا كاهن الاعتراف الخاص لشارل الخامس، وأخذه جوان إلى بولونيا وأوجسبورج (1530)، واكتشف ميكائيل البروتستانتية وأحبها، وزار اويكو لامباديوس في بازيل، كما زار كابيتو وبوسر في شتراسبورج، وسرعان ما غدا هرطيقاً في رأيهم، ودعي لكي يرعى في حقول أخرى.
ونشر في عامي 1531 و 1532 أول وثاني طبعة من مؤلفه De Trinitatis erroribus، وكان فيه خلط كثير وكتب بلغة لاتينية غير مصقولة لابد أنها كانت تدفع كالفن إلى الابتسام لو اطلع عليها ولكنها كانت عملاً مذهلاً بالنسبة لفتى في العشرين من عمره بسبب ثرائها في سعة العلم بالكتاب المقدس. وكان يسوع في نظر سرفيتوس رجلاً نفخ فيه الرب، الأب كلمة الله، الحكمة الإلهية، وبهذا المعنى أصبح يسوع ابن الرب ولكنه لم يكن كفواً للأب أو سرمدياً مثله، يستطيع أن يوصل روح الحكمة نفسها إلى الآخرين من الناس "إن الابن أرسل من الأب بطريقة لا تختلف عن تلك التي أرسل بها واحد من الأنبياء" (57). وهذا قريب جداً من مفهوم(24/240)
محمد عن المسيح. واستطرد سرفيدوس ليستشهد برأي الساميين في القول بالثالوث الأقدس: "وكل مَن يؤمن بثالوث أقدس بروح الله يقول بوجود ثلاثة أرباب". وأضاف قائلاً إنهم ملحدون حقاً باعتبارهم منكرين لوجود إله واحد (58). وكان هذا تطرفاً شديداً من شاب، ولكن سرفيتوس حاول أن يخفف من هرطقته بتأليف مقطوعات مهلهلة النسيج عن المسيح باعتباره نور العالم، ومهما يكن من أمر فإن معظم قرائه شعروا بأنه قد أطفأ النور. وكأنما كان يريد ألا يترك حجراً دون أن يقذف به أحداً فتلاقى مع اللامعمدانيين في أن التعميد يجب ألا تجرى مراسيمه إلا للبالغين. فأنكر عليه ذلك أويكو لامباديوس وبوسر، فقلب سرفيتوس دليل سفر كالفن وفر من سويسرة إلى فرنسا (1532).
وفي يوم 17 يوليو أصدرت محكمة التفتيش في تولوز أمراً بالقبض عليه. وفكر في السفر إلى أمريكا ولكنه وجد أن باريس أحسن منها. وهناك تنكر في شخصية ميشيل دي فيلينف (اسم العائلة) ودرس الرياضيات والجغرافيا وعلم الفلك والطب وغازل التنجيم. وكان فيزاليوس العظيم زميله في دراسة التشريح وأثنى أساتذتهما عليهما سوياً. وتشاجر مع عميد كلية الطب، ويبدو بوجه عام أنه أساء التصرف بتهوره وانفعاله واعتزازه بنفسه. وتحدى كالفن للدخول معه في مناظرة ولكنه لم يظهر في المكان والزمان المعينين (1534). وغادر سرفيتوس باريس مثل كالفن في الفترة التي اشتد فيها الغضب على خطاب كوب والإعلانات الكبيرة الهرطيقية.
وفي ليون أشرف على نشر طبعة جديرة بعالم من جغرافية بطليموس، وانتقل عام 1540 إلى فيين (على بعد ستة عشر ميلاً جنوبي ليون)، وهناك عاش حتى آخر سنة من حياته وهو يمارس الطب ويشتغل بالبحث. واختير من بين الكثيرين من الباحثين الذين أتيح للناشرين في ليون التعامل معهم لكي يشرف على نشر ترجمة لاتينية للكتاب المقدس قام بها سانتيس ياجنيني.(24/241)
وقضى في هذا العمل ثلاث سنوات وآل إلى ست مجلدات. وفي آية عن إشعيا 7: 14 الذي كان جيروم قد جعلها "عذراء سوف تحمل"، شرح سرفيتوس أن الكلمة العبرية لا تعني عذراء بل امرأة شابة، ورأى أنها لا تشير إشارة تنبئية إلى مريم بل إلى زوجة حزقيال، وأوضح بنفس الروح أن بعض الفقرات الأخرى في العهد القديم التي تبدو تنبئية تشير فقط إلى شخصيات أو حوادث معاصرة. وقد ثبت أن هذا محير للبروتستانت والكاثوليك على السواء.
ولا ندري متى اكتشف سرفيتوس الدورة الدموية الرئوية - مرور الدم من الغرفة اليمنى للقلب على طول الشريان الرئوي إلى الرئتين وتدفقه خلالهما وتنقيته هناك بالتعريض للهواء، وعودته في الوريد الرئوي إلى الغرفة اليسرى من القلب، وبقدر ما هو معروف الآن فإنه لم ينشر اكتشافه حتى عام 1553 عندما أدرجه في مؤلفه الأخير "إعادة المسيحية".
وقد جاء بالنظرية في رسالة لاهوتية لأنه اعتقد أن الدم بمثابة الروح الجوهرية في الإنسان، ومن ثم يعد - ربما أكثر من القلب أو المخ - المقر الحقيقي للروح. وإذا أرجأنا فترة النظر في مشكلة أسبقية سرفيتوس في هذا الاكتشاف فحسبنا أن نلاحظ أنه من الواضح أنه أكمل رسالته "إعادة المسيحية" في سنة 1546 لأنه أرسل في ذلك العام المخطوطة إلى كالفن.
وكان العنوان نفسه تحدياً للرجل الذي كتب شريعة الدين المسيحي، بيد أن الكتاب إلى جانب ذلك رفض الفكرة القائلة بأن الله قدر على أرواح أن تعذب في نار جهنم بغض النظر عن حسناته أو سيئاتها، باعتبار أن هذه الفكرة كفر وتجديف. وقال سرفيتوس إن الله لا يحكم على أحد لا يدين نفسه. ولا بأس بالإيمان ولكن المحبة خير وأبقى، لأن الله نفسه محبة، وظن كالفن أنه يكفيه لكي يدحض هذا كله أن يرسل إلى سرفيتوس نسخة(24/242)
من كتاب "القوانين"، فأعاده سرفيتوس إليه مع تعليقات مهينة (59)، وأعقب ذلك بإرسال سلسلة من الخطابات تحفل عباراتها بالإطراء الشديد إلى حد أن كالفن كتب إلى فاريل (13 فبراير سنة 1546): "لقد أرسل إلى سرفيتوس مجلداً مطولاً بأقواله الهارفة. وإذا وافقت فلن يتردد في الحضور هنا، ولكني لن أعطيه كلمة مني لأنه إذا جاء فإني لن أطيق أن أتركه يخرج حياً إذا كان هذا في سلطتي" (60)، وغضب سرفيتوس لرفض كالفن استمرار المراسلة بينهما فكتب إلى آبيل بوبان، وهو أحد قساوسة جنيف يقول:
"إن إنجيلكم بدون رب وبدون إيمان حق وبدون أعمال صالحات. فبدلاً من الرب عبدتم (1) سربيروس ذا الرؤوس الثلاثة (الثالوث المقدس) وبدل الإيمان اتخذتم حلماً حتمياً ... والإنسان عندكم بدن هامد والرب خيال للإرادة المستعبدة ... إنكم تغلقون أبواب مملكة السماء في وجوه الناس ... الويل! الويل! الويل! هذا هو ثالث خطاب أكتبه لكم لأحذركم علكم تعرفون أحسن من هذا. ولن أحذركم مرة أخرى ففي معركة ميكائيل هذه أعلم أني سوف أموت لا محالة ... بيد أني لن أتردد ... أن المسيح آت ولا ريب. ولن يتمهل" (61).
ومن الواضح أن سرفيتوس كان أشد خبلاً من المتوسط في عصره. فقد أعلن أن نهاية العالم قد أوشكت وأن ميكائيل رئيس الملائكة سوف يشن حرباً مقدسة ضد المناهضين للمسيحية من البابويين وأهالي جنيف على السواء، وأنه وقد سمي باسم رئيس الملائكة سوف يقاتل ويموت في تلك الحرب (62). وكان كتاب "الإعادة Restitutio" دعوة إلى تلك الحرب. فلا عجب إذا كان قد وجد صعوبة في العثور على ناشر يقبله إذ أجفل منه الناشرون في بازيل، وأخيراً (3 يناير عام 1553) طبعه بالتازار
_________
(1) كائن خرافي.(24/243)
أورنويبه وجيوم وجيروه في الخفاء بمدينة فيين. ولم تذكر أسماؤهم ولا مكان النشر ووقع المؤلف باسم م. س. ف. ودفع كل النفقات وصحح بنفسه التجارب ثم أتلف المخطوط. ووصل المجلد إلى 734 صفحة لأنه تضمن شكلاً منقحاً من كتاب " Detrinitatis erroribus" ورسائل سرفيتوس الثلاثين إلى كالفن، وأرسل إلى بائع كتب في جنيف جانب من الألف نسخة المطبوعة. وهناك وقعت نشرة في يدي جيوم ترى وهو صديق لكالفن. وقد أوضحت الخطابات الثلاثون بجلاء لكالفن أن م. س. ف. هي الحروف الأولى من اسم ميكائيل سرفيتوس الفيلانوفي. وكتب ترى في يوم 26 فبراير عام 1553 إلى ابن عم كاثوليكي في ليون يدعى أنطوان ارني أعرب له فيها عن دهشته من أن الكاردينال فرانسو دي تورنون قد سمح بنشر كتاب مثل هذا في دائرة أسقفيته. كيف عرف ترى مكان النشر؟ لقد عرف كالفن أن سرفيتوس كان يعيش في ليون أو فيين. وعرض آرني الأمر على ماتياس أورى عضو محكمة التفتيش في ليون فأبلك أورى بذلك الكاردينال، فأصدر أمراً إلى موجيرون نائب محافظ فيين للبحث والاستقصاء. وفي يوم 16 مارس استدعى سرفيتوس إلى بيت موجيرون. وقبل أن يخضع للأمر أتلف كل الأوراق التي تثبت ذنبه. وأنكر أنه ألف الكتاب. فأرسل أرني إلى ترى يطلب منه تقديم دليل آخر على أن سرفيتوس هو مؤلف الكتاب. وحصل ترى من كالفن على بعض الخطابات التي أرسلها له سرفيتوس. وبعث بها إلى ليون. وتبين إنها تطابق عدداً من الخطابات المنشورة في الكتاب. وقبض على سرفيتوس في اليوم الرابع من أبريل، وفر بعد ثلاثة أيام بالقفز فوق سور حديقة. وفي يوم 17 يونيه أدانته المحكمة المدنية في فيين وحكمت عليه بأن يحرق حياً على نار بطيئة إذا علا عليه. وأخذ سرفيتوس يضرب على غير هدى في أنحاء فرنسا لمدة ثلاثة شهور وقرر أن يلجأ إلى نابولي وأن يذهب عن طريق جنيف، وظل في جينيف(24/244)
شهراً لأسباب غير معروف متخذ اسماً مستعاراً، وفي غضون ذلك أعد ترتيباته للانتقال إلى زيورخ، وفي اليوم الثالث عشر من أغسطس حضر الصلاة بالكنيسة، ولعله فعل هذا لكي يتجنب استقصاء السلطات عنه. وهناك عرف وأبلغ ذلك إلى كالفن فأمر بالقبض عليه. وشرح كالفن هذا العمل في خطاب (9 سبتمبر عام 1553)، قال: "إذا كان البابويون قساة غلاظ الأكباد ويظهرون منتهى العنف دفاعاً عن خزعبلاتهم إلى حد أنهم يثورون غضباً وتقسو قلوبهم فيسفكون الدم البريء ألا يخجل الحكام المسيحيون من أنفسهم عندما يبدون أمام الناس أقل غيرة في الدفاع عن الحق الذي لا ريب فيه؟ " وتأثر المجلس الصغير بزعامة كالفن وفاقه في القسوة والفظاظة، ولما كان سرفيتوس مجرد عابر سبيل ولم يكن مواطناً يخضع لقوانين مدينة جنيف فإن المجلس من الناحية القانونية كان لا يستطيع أن يفعل شيئاً أكثر من نفيه خارج المدينة.
واعتقل في قصر سابق لأحد الأساقفة تحول الآن إلى سجن. ولم يعذب إلا بالقمل الذي أغار على زنزانته. وسمح له بورق وحبر وبأي كتب يعن له شراؤها، وأعاره كالفن بضعة مجلدات بقلم الآباء الأوائل. وأديرت المحاكمة بعناية واستمرت ما ينوف على شهرين. ودبج كالفن قرار الاتهام في ثمان وثلاثين مادة عدمها بفقرات استشهد بها من كتابات سرفيتوس. ومن بين التهم أنه قبل وصف سترابو لليهودية بأنها بلد مجدب بينما وصفها الكتاب المقدس بأنها أرض يتدفق فيها اللبن والعسل (63). وكانت الاتهامات الرئيسية الموجهة إلى سرفيتوس هي أنه رفض التسليم بالثالوث وتعميد الأطفال، كما اتهم أيضاً بأنه "طعن في شخص السيد كالفن العقائد التي فرضها إنجيل كنيسة جنيف" (64)، وفي يومي 17 و 21 من أغسطس ظهر كالفن بشخصه في قاعة المحكمة ليوجه له الاتهام. ودافع سرفيتوس عن آرائه بشجاعة، ومنها القول بمذهب وحدة الوجود. وقام تعاون غير مألوف بين العقائد المعادية فطلب المجلس البروتستانتي في جنيف من القضاة الكاثوليك في فيين إبداء(24/245)
آرائهم في فقرات خاصة من الاتهامات التي وجهت هناك ضد سرفيتوس. ومن بين التهم الجديدة الفجور الجنسي، فرد سرفيتوس بأن الفتق قد حوله منذ زمن بعيد إلى عنين ومنعه من الزواج (65). واتهم علاوة على هذا بأنه كان قد حضر القداس في فيين، فدافع عن نفسه وبرر أنه إنما أقدم على هذا خوفاً على حياته. وتحدى أن تكون لمحكمة مدنية ولاية في الفصل في قضايا الهرطقة، وأكد للمحكمة أنه لم يقم بإثارة شغب ولم يخالف قوانين مدينة جنيف وطالب بتعيين محام له يلم بهذه القوانين خيراً منه، وذلك ليعاونه في الدفاع عن نفسه، ورفضت كل هذه الحجج وأرسلت محكمة التفتيش الفرنسية وكيلاً عنها إلى مدينة جنيف للمطالبة بإعادة سرفيتوس إلى فرنسا لتنفيذ الحكم الذي صدر ضده. فتوسل سرفيتوس للمجلس والدموع تسيل من مآقيه أن يرفض هذا الطلب، فاستجاب له المجلس، ولكن لعل الطلب قد حفز المجلس على ألا يكون أقل قسوة من محكمة التفتيش.
وفي اليوم الأول من سبتمبر سمح لعدوين من أعداء كالفن - هما آمي بيران وفيلبرت برتلييه - بأن ينضما إلى القضاة الذين يتولون المحاكمة، فشغلا كالفن بمجادلات، لا طائل تحتها، ولكنهما أقنعا المجلس باستشارة الكنائس الأخرى في سويسرة البروتستانتية عن كيفية معاملة سرفيتوس، وفي اليوم الثاني من سبتمبر واجهت زعامة كالفن في المدينة تحدياً في المجلس على يد الوطنيين المتحررين، فواجه العاصفة حتى مرت بسلام، ولعل رغبة المعارضة الواضحة في إنقاذ سرفيتوس قد شددت من عزيمة كالفن على أن يلاحق الهرطيق حتى ينفذ فيه حكم الإعدام. ومهما يكن من أمر فإنه يجدر بنا أن ننوه بأن المدعي الرئيسي في المحاكمة كان كلود ريجوه Rigot وهو من المتحررين (66).
وفي اليوم الثالث من سبتمبر قدم سرفيتوس للمجلس رداً مكتوباً على الاتهامات الثمانية والثلاثين التي وجهها له كالفن. ودحض كل اتهام بحجة(24/246)
ذكية وبفقرات استشهد بها من الكتاب المقدس أو أقوال رددها آباء الكنيسة. وتساءل عن حق كالفن في التدخل في المحاكمة ووصفه بأنه من مريدي سيمون ماجوس وهو مجرم وسفاك للدماء (67). فرد عليه كالفن في ثلاثة وعشرين صفحة، عرضت على سرفيتوس، الذي أعادها بدوره إلى المجلس بتعليقات هامشية "كذاب" و "دجال" و "منافق" و "تعس شقي"، ولعل ما عاناه سرفيتوس من نصب في السجن خلال شهر وما لاقاه من تعذيب عقلي قد حطم ضبط النفس. وتقارير كالفن ذاتها عن المحاكمة دبجت بأسلوب العصر، فنراه يكتب عن سرفيتوس فيقول: "مسح الكلب القذر أنفه" و "السافل الغادر" (68) يلوث كل صفحة و "تخريفات منافية للتقوى" (69). والتمس سرفيتوس من المجلس أن يتهم كالفن بأنه "يقمع حقيقة يسوع المسيح" وأن "يمحوه من الوجود" ويصادر أمواله، وذلك لتعويض سرفيتوس بهذه الإجراءات عن الإضرار التي لحقت به من جراء أعمال كالفن. ولم يقابل الاقتراح بالترحيب.
وفي اليوم الثامن عشر من أكتوبر وردت الردود من الكنائس السويسرية التي طلب منها إبداء المشورة، فرأت كلها إدانة سرفيتوس، ولم يطلب واحد منها إعدامه. وبذل بيران آخر مجهود لإنقاذه في اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر بالمطالبة بإعادة المحاكمة أمام مجلس المائتين ولكنه غلب على أمره. وفي اليوم السادس والعشرين أصدر المجلس الصغير حكماً بالإعدام بإجماع الآراء، واستند في الحكم على دليلين يثبتان الهرطقة - مذهب التوحيد ورفض التسليم بتعميد الأطفال. ويقول كالفن، إن سرفيتوس عندما سمع النطق بالحكم "أنّ وتأوه كرجل فقد رشده و ... دق صدره وزمجر قائلاً بالإسبانية Miserivordia! Misericordia!، وطلب أن يسمح له بالحديث مع كالفن وتوسل إليه طالباً الرحمة، بيد أن كالفن لم يعرض عليه أكثر من إجراءات المواساة الأخيرة للدين الحق إذا سحب هرطقاته، ولم يرض سرفيتوس، وطلب أن تقطع رأسه ولا يحرق، وكان كالفن يميل إلى دعم هذا(24/247)
الطلب ولكن فاريل الطاعن في السن، الذي يقترب من حافة القبر زجره لما بدا منه من تسامح، وصوت المجلس على أن يحرق سرفيتوس حياً (70).
ونفذ الحكم في صباح اليوم التالي يوم 27 أكتوبر عام 1553 على تل تشامبل الذي يقع مباشرة جنوبي مدينة جنيف. وفي الطريق ألح فاريل على سرفيتوس أن ينال رحمة الله بالاعتراف بجريمة الهرطقة، فأجابه الرجل المحكوم عليه، طبقاً لما رواه فاريل: "أنا لست مذنباً ولم أكن أستحق الموت، وابتهل إلى الله أن يغفر لمن اتهموه" (71). وأوثق إلى سارية بسلاسل حديدية وربط إلى جانبه كتابه الأخير. وعندما بلغت ألسنة اللهب وجهه صرخ من الألم. ومات بعد حرقه بنصف ساعة.
7 - دعوة للتسامح
اتحد الكاثوليك والبروتستانت في الموافقة على الحكم. ولما أفلتت من محكمة تفتيش فيين فريستها فإنها قامت بإحراق تمثال لسرفيتوس (1). وأعرب ميلانكتون في خطاب له إلى كالفن وبولينجر عن "حمده لابن الرب" لـ "معاقبة الرجل الكافر" ووصفه عملية الإحراق بأنها "مثال يدل على الورع لا ينسى لكل الأجيال القادمة" (73). وأعلن بوسر من فوق منبره في شتراسبورج أن سرفيتوس قد استحق أن تنزع أمعاؤه ويمزق إرباً (74). ووافق بولينجر، وهو بوجه عام خير رقيق العاطفة، على أن الحكام المدنيين يجب أن يعاقبوا بالموت مَن يثبت عليه الكفر (75).
ومع ذلك فقد ارتفعت بعض الأصوات تدافع عن سرفيتوس حتى في أيام كالفن، فقد نظم صقلي قصيدة طويلة بعنوان: De iniusto Serveti incendio، ونشر دافيد جوريس البازيلي، وهو لا معمداني، احتجاجاً ضد تنفيذ حكم الإعدام، بيد أنه وقع عليه باسم مستعار ولما اكتشفت
_________
(1) في سنة 1903 أقيم نصب تذكاري لسرفيتوس في تشامبل وكان في أول قائمة الذين شاركوا في نفقاته المجمع الديني لكنيسة جنيف التي أخذت بمبادئ الاصلاح الديني (72).(24/248)
بعد وفاته أنه كاتب هذا الاحتجاج أخرجت جثته بعد الدفن وأحرقت علناً (1566). وبالطبع أدان خصوم كالفن السياسيون معاملته لسرفيتوس واستهجن بعض أصدقائه قسوة الحكم باعتباره مشجعاً للكاثوليك في فرنسا على تطبيق عقوبة الإعدام على الهوجنوت. ولابد أن هذا النقد قد انتشر انتشاراً واسعاً لأن كالفن أصدر في فبراير عام 1554 a Defensio orthodoxae fidei de sacra Trinitate contra Prodigiosos errores Michaelis Servetir دفاع محافظ على الشريعة عن القول بالثالوث المقدس ضد أخطاء ميكائيل سرفيتوس الفظيعة. وقال: إذا آمنا بأن الكتاب المقدس وحي من الله فإننا نعرف الحقيقة وكل مَن يعارضونه أعداء الله كافرون به. ولما كان ذنبهم أعظم بكثير من أي جريمة أخرى فإن على السلطة المدنية أن تعاقب الهراطقة باعتبارهم أسوأ من أي سفاحين، ذلك لأن القتل العمد يؤدي إلى هلاك الجسد فحسب بينما الهرطقة المقبولة تعرض الروح للعذاب الأبدي في نار جهنم (وكان هذا بالضبط موقف الكاثوليك) وفضلاً عن هذا فإن الرب نفسه قد علمنا بصورة قاطعة أن نقتل الهراطقة وأن نضرب بالسيف أي مدينة تتخلى عن عبادة الرب وفق العقيدة الخالصة التي كشفها لنا بنفسه. واستشهد كالفن بسنن سفر الثنية القاسية 13: 5 - 15 و17: 2 - 5 وسفر الخروج 22: 20 وسفر اللاويين 24: 16 وناقش بها ببلاغة ملتهبة حقاً: "كل مَن يتمسك بأن الهراطقة والكفار لحقهم ضرر بمعاقبتهم يورط نفسه بأن يكون شريكاً لهم في جريمتهم ... ولا محل هنا للحديث عن سلطة الإنسان فالرب هو الذي يتكلم، ومن الواضح أي شريعة احتفظ بها في الكنيسة إلى يوم القيامة. فلماذا يطلب منها مثل هذه القسوة الشديدة إذا لم يكن هذا ليرينا إننا لا نوفيه حقه من التبجيل ما دمنا لا نضع عبادته تعالى فوق أي اعتبار إنساني بحيث لا نبقي على آصرة قربى أو صلة دم بيننا وبين أي إنسان وأن ننسى كل إنسانية عندما يكون الأمر متعلقاً بالقتال في سبيل مجده تعالى؟ (76).(24/249)
وخفف كالفن من استنتاجاته بأن نصح بالرحمة بالذين لا تكون هرطقاتهم جوهرية أو الذين يتضح أن هرطقاتهم بسبب الجهل أو ضعف العقل. ولكن حيث أنه رضى بصفة عامة بالقديس بولس هادياً له ومرشداً فإنه رفض أن يلجأ للوسيلة البولسية (نسبة إلى بولس) التي تعلن أن القانون الجديد يحل محل القانون القديم. والحق أن حكومة رجال الدين التي كان من الواضح أنه كان يمكن أن تتحطم وتشيع فيها الفوضى إذا سمحت الخلافات في العقيدة بإبداء الرأي علناً.
وفي غضون ذلك ماذا آلت إليه الروح الأرازمية التي تدعو إلى التسامح؟ لقد كان أرازموس متسامحاً لأنه لم يكن على يقين تام، أما لوثر وميلانكتون فقد تخليا عن التسامح عندما تدرجا في اليقين، وأما كالفن فكاد يكون على يقين مذ بلغ عامه العشرين بتبكير قاتل في النضج. وليس من شك في أن قليلاً من علماء الإنسانيات الذين درسوا الفكر الكلاسي والذين لم يهابوا العودة إلى الحضيرة الرومانية بالاشمئزاز من الالتجاء إلى العنف في النزاع اللاهوتي ظلوا يرون على استحياء أن اليقين في الدين والفلسفة أمر لا يمكن الوصول إليه، ومن ثم فإن على المشتغلين باللاهوت والفلاسفة ألا يقتلوا أحداً.
وكان عالم الإنسانيات الذي تحدث بموضوع بعض الوقت عن التسامح وسط صدام اليقينيات واحداً من أقرب أصدقاء كالفن حيناً من الزمن. فسباسيان كاستيليو الذي ولد في جورا الفرنسية عام 1515 أصبح حاذقاً للغات اللاتينية واليونانية والعبرية ودرس اليونانية في ليون وعاش مع كالفن في شتراسبورج فعينه مديراً لمدرسة اللاتينية في جنيف (عام 1541) وهناك شرع في ترجمة الكتاب المقدس بأسره إلى لغة شيشرون اللاتينية. وقد أعجب بكالفن رجلاً ولكنه كره المذهب القائل بالجبر وأضنى قواه تحت وطأة النظام الجديد الذي خضع له الجسد والعقل. واتهم في عام 1544 القساوسة في جنيف بالتعصب والدنس والسكر. واشتكى كالفن إلى(24/250)
المجلس، ووجد أن كاستليو مذنب بسبب الغيبة ونفي من المدينة (1544)، وعاش تسع سنوات في فاقة ومسبغة وهو يعول أسرة كبيرة، وكان يعمل أثناء الليل في إنهاء نسخته المترجمة من الكتاب المقدس. وانتهى منها عام 1551، ثم بدأ مرة أخرى في سفر التكوين 1: 1 وهو وحيد يسعى في هدوء إلى إتمام البحث، وترجم الكتاب المقدس إلى الفرنسية. وحصل أخيراً (1553) على منصب أستاذ لليونانية في جامعة بازيل. وأحس بالعطف على الموحدين وتمنى لو استطاع أن يساعد سرفيتوس، وراعه دفاع كالفن عن تنفيذ حكم الإعدام. ونشر هو وكامليوس كوريو بأسماء مستعارة (مارس 1554) أول كتاب حديث من الكلاسيات عن التسامح: "هل يجب أن يضطهد الهراطقة؟ De haereticis an Sint persequendi.
وكان الهيكل الرئيسي للمؤلف مختارات من الشعر جمعها كوريو من الابتهالات المسيحية من أجل التسامح، من لاكتانتيوس وجيروم إلى أرازموس ولوثر في بواكير حياته وكالفن نفسه. واشترك كاستيليو في الجدال بالمقدمة والخاتمة وأشار إلى أن الناس قد ناقشوا في مدة مائة عام الإرادة الحرة والجبر والسماء والجحيم والمسيح والثالوث وأموراً أخرى صعبة ولم يصلوا إلى أي اتفاق، ومَن يدري لعلهم لن يصلوا أبداً إلى اتفاق. وقال كاستيليو: لا داعي لأي اتفاق، فمثل هذه القضايا الجدلية لا تجعل الناس خيراً مما هم عليه، وكل ما نحن بحاجة إليه هو أن نتحلى بروح المسيح في حياتنا اليومية وأن نطعم الفقراء وأن نساعد المرضى ونحب أعدائنا. وبدا له أن من السخرية أن تزعم الطوائف الجديدة، شأنها في هذا شأن الكنيسة القديمة، إنها على حق مطلق، وأن تكره مَن لها عليهم السيطرة البدنية على اعتناق عقائدها ونتيجة هذا يكون الإنسان محافظاً على العقيدة في مدينة ويصبح هرطقياً عندما يدخل مدينة أخرى، وعليه أن يغير دينه كما يغير نقده عند كل حد من حدود البلاد. وهل يمكن أن تتصور أن المسيح يأمر بإحراق رجل حياً(24/251)
لأنه يدافع عن تعميد البالغين؟ لقد حلت محل الشرائع الموسوية التي تدعوا إلى القضاء على الحياة كل هرطيق شريعة المسيح التي تدعو إلى الرحمة لا إلى التعسف والإرهاب وإذا أنكر إنسان وجود حياة بعد الموت ورفض الاعتراف بكل شريعة فإنه (كما قال كاستيليو) يمكن للحكام أن يسكتوه فحسب ولكن ينبغي ألا يقتل. وفضلاً عن هذا فإن اضطهاد العقائد (كما رأى) لا طائل تحته والاستشهاد في سبيل فكرة ينشر هذه الفكرة بسرعة أكبر مما كان في وسع الشهيد أن يفعل لو سمح له أن يعيش. وختم كلامه بقوله أية مأساة في أن نرى مَن حرروا أنفسهم أخيراً من محكمة التفتيش الرهيبة يقلدونها سريعاً في طغيانها، وأن يكرهوا الناس على أن يعودوا إلى الظلام السيمري بعد فجر واعد مثل هذا (77).
وعرف كالفن نزعات كاستيليو فتعرف على خطه في رسالته "الهراطقة"، وفوض مهمة الرد عليها لأذكى تلاميذه تيودور دي بيز أو بيز أو بيزا. وقد ولد تيودور في فيزيلاي من أسرة أرستقراطية، ودرس القانون في أورليانز وبورجس ومارسه بنجاح في باريس، وكتب شعراً باللاتينية وفتن بعض النساء بتوقد ذهنه وأكثر من هذا بنجاحه، وعاش حياة مرحة وتزوج وسقط صريع مرض خطير، وجرب وهو على فراش المرض تحولاً معكوساً نحو تعاليم لويولا، واعتنق البروتستانتية وفر إلى جنيف وقدم نفسه إلى كالفن وعين أستاذاً لليونانية في جامعة لوزان. ومما هو جدير بالملاحظة أن لاجئاً بروتستانتياً من فرنسا التي تضطهد الهوجنوت أخذ على عاتقه الدفاع عن الاضطهاد، وقد أدى هذا بمهارة محامي وإخلاص صديق؛ فأصدر في سبتمبر عام 1554 مؤلفاً بعنوان (كتاب صغير عن واجب الحكام المدنيين في عقاب الهراطقة) De haereticis a civili magistratu punindis libelus وأشار مرة أخرى إلى أن التسامح الديني مستحيل للإنسان قبل أن الكتب المقدسة وحي من لدن الله. ولكننا إذا رفضنا التسليم بأن الكتاب(24/252)
المقدس كلمة الله، فعلى أي أساس نبني العقيدة الدينية التي يتضح بجلاء أنه لا غنى عنها - إذا أخذنا في الاعتبار ما فطر عليه الناس من شر - لكبح جماح الناس وللنظام الاجتماعي - والحضارة؟ وإذن لن يتبقى إلا شكوك مهوشة تعمل على تفكيك عرى المسيحية. ولا يمكن أن يكون لمؤمن مخلص بالكتاب المقدس غلا دين واحد، أما الديانات الأخرى فلابد أن تكون زائفة أو ناقصة. حقاً إن العهد الجديد يبشر بسنة المحبة ولكن هذا ليس عذراً لنا لكي لا نقتص من اللصوص والقتلة، فكيف يبيح لنا هذا أن نبقى على الهراطقة؟.
وعاد كاستيليو إلى الجدل في كراسة دينية بعنوان: Contra Libelum Calivini، ولكنها ظلت نصف قرن دون أن تنشر. وسبق ديكارت في مخطوط أخرى بعنوان De arte dubitnnd بأن جعل من "فن الشك" أول خطوة في البحث عن الحقيقة ودافع في رسالته "المحاورات الأربعة" عن الإرادة الحرة وعن احتمال خلاص عالمي. وفي عام 1562 نشر رسالته "نصيحة إلى فرنسا الحزينة"، توسل فيها عبثاً إلى الكاثوليك والبروتستانت بإنهاء الحروب الأهلية التي كانت تجتاح فرنسا وبأن يسمحوا لكل مؤمن بالمسيح "أن يصلي للرب وفق عقيدته هو وليس وفق عقيدة غيره من الناس" (78)، وكان من الصعب أن يسمع أحد صوتاً يشذ عن النغم السائد في العصر.
ومات كاستيليو فقيراً بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً (1563)، وقال كالفن إن وفاته المبكرة حكم عادل من إله عادل.(24/253)
8 - كالفن إلى النهاية
1554 - 1564
ولعل كالفن قد عرف ميل كاستيليو الخفي إلى مذهب الموحدين - الإيمان بإله ليس ثلاثة في واحد، ومن ثم رفض التسليم بألوهية المسيح، ويمكن أن يغتفر له أنه كان يرى في هذا الشك الأساسي بداية النهاية للمسيحية. وخشي من هذه الهرطقة أكثر من أي شيء آخر لأنه وجدها متفشية في مدينة جنيف ذاتها، وفوق كل شيء بين اللاجئين البروتستانت الفارين من إيطاليا، ولم يرَ هؤلاء الناس أي معنى في أن يستبدلوا بتجسد لا يصدق قدراً محتوماً لا يصدق. وهاجمت ثورتهم الدعوة الأساسية للمسيحية وهي أن المسيح ابن الله. وكان لماتيو جريبالدي، وهو أستاذ في فقه القانون في بادو، بيت صيفي بالقرب من جنيف، وتكلم بصراحة أثناء محاكمة سرفيتوس ضد العقاب بسبب الآراء الدينية، ودافع عن حرية العبادة - بالنسبة للجميع، فدعي للمثول أمام المجلس، ونفي من المدينة إذ اشتبه في أنه يؤيد مذهب الموحدين (1559) وكفل لنفسه التعيين في وظيفة أستاذ للقانون في جامعة تيبنجن. وأرسل كالفن إلى الجامعة كلمة عن شكوك جريبالدي. فألزمته بأن يوقع اعترافاً يقر فيه بالتثليث، وبدلاً من أن يخضع فر إلى بيرن حيث مات متأثراً بداء الطاعون في عام 1564. واستدعى جيوروجيو بلاندراتا، وهو طبيب إيطالي يقيم في مدينة جنيف للمثول أمام المجلس بتهمة مناقشة ألوهية المسيح، ففر إلى بولندة حيث وجد شيئاً من التسامح بالنسبة إلى هرطقته.
وأعرب فالنتينو جنتيلي، من كالابريا، صراحة عن آرائه المؤيدة لمذهب الموحدين في مدينة جنيف، فألقى في غياهب السجن حكم عليه بالإعدام (عام 1557) فتراجع عن أقواله وأطلق سراحه وذهب إلى ليون فقبضت عليه السلطات الكاثوليكية، بيد أنه أطلق سراحه عندما أكد لهم أن مصلحته(24/254)
الرئيسية تكمن في دحض مزاعم كالفن. وانضم إلى بلاندوراتا في بولندة، وعاد إلى سويسرة حيث اعتقله حكام بيرن وأدين بتهمة الحنث بقسمه والهرطقة وقطعت رأسه (1566).
ووسط هذه المعارك في سبيل الرب استمر كالفن يعيش في بساطة وقد حكم جنيف بقوة شخصية مسلحة بأوهام أتباعه. وتدعم مركزه بمرور السنين. وكان ضعفه الوحيد في جسده الواهن: كان يشكو من آلام في رأسه والربو وسوء الهضم والحصوة والنقرس، وهصرت الحمى جسده وأبرزت عظمه وشكلت وجهه فبدت تقاطيعه مشدودة تنم على القسوة والكدر. وأصيب بمرض في 1558 - 59 استمر طويلاً وتركه ضعيفاً واهناً مصاباً بنزيف متكرر من الرئتين. واضطر بعد ذلك إلى ملازمة الفراش معظم الوقت على الرغم من أنه مستمر في الدراسة والتوجيه والوعظ حتى عندما كان يحمل حملاً في مقعد إلى الهيكل المقدس. وحرر وصيته في يوم 25 أبريل عام 1564 وهو واثق تمام الثقة من اختياره للمجد الأبدي. وفي اليوم السادس والعشرين أقبل المأمورون وأعضاء المجلس وجلسوا بجانب فراشه، فطلب منهم المغفرة بسبب سورات غضبه، ورجاهم أن يتشبثوا بالعقيدة الطاهرة للكنيسة التي اتبعت الإصلاح وجاء فاريل وكان آنذاك قد بلغ العام الثمانين من عمره من نيوشاتل ليودعه الوداع الأخير. وبعد مرور بضعة أيام قضاها كالفن في الصلاة والعذاب وجد السلام (27 مايو عام 1564). وكان تأثيره أعظم من تأثير لوثر، ولكنه سار في طريق كان لوثر قد مهده، فقد أسبغ لوثر حمايته على الكنيسة الجديدة بإحياء القومية الألمانيّة لتأييدها وكانت الحركة ضرورية، ولكنها ربطت اللوثرية رباطاً وثيقاً بالأصول التيوتوية، ولقد أحب كالفن فرنسا وجاهد لكي يرفع من شأن قضية الهوجنوت ولكنه لم يكن وطنياً فقد كان الدين بلده، وعلى هذا فإن عقيدته، مهما لحقها من تعديل، استلهمت(24/255)
البروتستانتية في سويسرة وفرنسا وسكوتلندة وأمريكا، واستولت على قطاعات كبيرة من البروتستانتية في هنغاريا وألمانيا وهولندة وإنجلترا. ولقد أضفى كالفن على البروتستانتية في كثير من البلاد تعظيماً وثقة واعتزازاً بالنفس مكنتها من أن تعيش وتصمد لألف محنة محتة.
وقبل وفاته بعام انضم تلميذه أوليفيانوس إلى أورسينوس تلميذ ميلانكتون في إعداد وعظ هيدلبرج الذي أصبح تعبيراً مقبولاً لعقيدة الإصلاح الديني في ألمانيا وهولندة. ووفق بيز وبولينجر بين مذهبي كالفن وزونجلى في الإقرار السويسري البروتستانتي الثاني (1566) الذي أصبح وثيقة رسمية للكنائس التي اتبعت الإصلاح الديني في سويسرة وفرنسا وتابع بيز باقتدار عمل كالفن في جنيف نفسها. بيد أنه ما أن مر عام حتى أخذ كبار رجال الأعمال الذين يسيطرون على المجالس في مقاومة محاولات مجمع الكرادلة والجمعية المبجلة بنجاح ازداد شيئاً فشيئاً ليستبدلوا بها الرادع الأخلاقي في العمليات الاقتصادية، وبعد وفاة بيز (1608) دعم أغنياء التجار نفوذهم (سيادتهم) وفقدت الكنيسة في جنيف مزاياه الإدارية - (التوجيهية) التي كان كالفن قد ظفر بها لها في الشئون غير الدينية. وفي القرن الثامن عشر خفف تأثير فولتير من التقليد الكالفيني، وقضى على سيطرة الأخلاق المتطهرة النزعة بين الناس. وكافحت الكاثوليكية في جلد وصبر لتسترد مكانها في المدينة، وعرضت مسيحية خافية من الكدر ونزعة أخلاقية خالية من الصرامة، وكان 42 في المائة من السكان في عام 1594 كاثوليك و 47 في المائة منهم بروتستانت (79).
ولكن أعظم بناء قام به الإنسان له أثر كبير في جنيف هو النصب التذكاري للإصلاح الديني "المبجل الذي يمتد في بهاء على طول سور بستان ويحتفل بانتصارات البروتستانتية وترتفع في وسطه تماثيل فاريل وكالفن وبيز ونوكس القوية.(24/256)
وفي غضون ذلك كانت حكومة رجال الدين الصارمة التي أقامها كالفن تنبت براعم ديمقراطية، ثم إن جهود الزعماء الكالفينيين في سبيل توفير التعليم للجميع تفقيههم وغرسهم شخصية مهذبة قد ساعد أوساط الناس الأشداء في هولندة على إبعاد الحكم المطلق الإسباني الدخيل ودعم ثورة النبلاء ورجال الدين في سكوتلندة ضد ملكة فاتنة ولكنها مستبدة. وكان للنزعة الرواقية في عقيدة صارمة الفضل في خلق أرواح قوية للمعاهدين السكوتلنديين والمتطهرين الإنجليز والهولنديين والحجاج في نيوانجلاند، وثبتت قلب كرومويل واهتدى بها قلم ميلتون الكفيف وحطمت سلطان آل ستيوارد المستبدين. وشجعت الناس الباسلين والقساة على الظفر بقارة وعلى نشر أساس التعليم والحكم الذاتي إلى أن يستطيع كل الناس أن يصبحوا أحراراً.
وسرعان ما طالب الناس الذين اختاروا كهان أبرشياتهم بأن يكون لهم حق اختيار حكامهم وأصبحت جماعة المصلين التي تحكم نفسها بنفسها بلدية تحكم نفسها بنفسها، وهكذا أبرزت أسطورة الانتخاب الإلهي نفسها في صنع أمريكا.
وعندما تم أداء هذا العمل أهملت النظرية البروتستانتية التي تقول بالجبر، ولما عاد النظام الاجتماعي إلى أوربا بعد حرب الثلاثين عاماً وفي إنجلترا بعد ثورتي عام 1642 و 1689 وفي أمريكا بعد عام 1793 تغير الفخار بالانتخاب الإلهي إلى اعتزاز بالعمل وإنجازه وشعر الناس بأنهم أقوى وأكثر أمناً.
وقل الخوف وأسلمت القسوة المذعورة التي ولدت رب كالفن إلى رؤية أكثر رحمة ألزمت بإعادة النظر في مفهوم الألوهية. وعقداً بعد عقد نبذت الكنائس التي تسلمت زمام القيادة من كالفن عناصر عقيدته القاسية، وواتت الجرأة المشتغلين باللاهوت على أن يؤمنوا بأن كل من ماتوا في(24/257)
الطفولة كتب لهم الخلاص، وأعلن قس مبجل دون أن يسبب أي اضطراب أن "عدد الضالين نهائياً ... سيكون طفيفاً جداً" (80). ونحن نشعر بالشكر لهذا التأكيد العظيم.
ونوافق حتى على أن الخطأ يعيش لأنه يخدم حاجة حيوية ما. ولكننا سوف نجد دائماً من الصعب أن نحب الرجل الذي أظلم الروح البشرية بأكثر المفاهيم عن الله سخفاً وكفراً في تاريخ السخف الطويل المبجل بأسره.(24/258)
الفصل الثاني والعشرون
فرانسيس الأول والإصلاح الديني في فرنسا
(1515 - 59)
1 - الملك الأنف الكبير
ولد تحت شجرة في كوفياك في اليوم الثاني عشر من سبتمبر عام 1494، وجده هو شارل أورليان الشاعر، وربما كان الغناء وحب الجمال في دمه، وأبوه شارل أوير فالوا وأورليان، كونت أنجوليم، الذي مات بعد أن اقترف الكثير من الآثام، وكان فرانسيس لم يتجاوز بعد العام الثالث من عمره، وأمه لويز أميرة سافوي، وهي امرأة على جمال واقتدار وطموح، تتعشق الثراء والسلطة. وقد ترملت في السابعة عشرة من عمرها، وأبت الزواج من هنري السابع ملك إنجلترا، ووقفت جهدها - إذا استثنينا بعض العلاقات المحرمة - على إعداد ابنها ليكون ملكاً على فرنسا، ولم تشعر بالأسى عندما وضعن آن أميرة بريتاني، زوجة لويس الثاني عشر، ولداً ميتاً، وتركت لفرانسيس ولاية العهد. وعين لويس، وقلبه مفعم بالحزن، فرانسيس دوقاً لفالوا، ورتب له المربين لتلقينه فن تدبير الملك، وأسبغت عليه لويز، وكذلك أخته مرجريت، من عاطفة الأمومة ما وصل إلى درجة الوله، وأعداه ليكون ملكاً على قلوب النساء. وكانت لويز تناديه "مليكي" مولاي، قيصري، وغذته بقصص الفروسية وتباهت بمغامراته الغرامية، وكان يغمى عليها عندما ترى الضربات تكال(25/1)
له في المبارزات التي شغف بها. وكان شاباً وسيماً مرحاً أنيساً شجاعاً، يواجه الأخطار بصدر رجب وكأنه رولان أو أماديس، وعندما أفلت خنزير بري من قفصه، وانطلق يعيث فساداً في فناء قصر فرانسيس، واجه الأمير الوحش، وذبحه في بطوله رائعة، في الوقت الذي فر فيه الآخرون لا يلوون على شيء.
وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره (1506) خطبوا له كلود أميرة فرنسا، ابنة لويس الثاني عشر، البالغة من العمر سبع سنوات. وكانت موعودة بأن تكون خطيبة للصبي الذي قدر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، إلا أن الخطبة فسخت لكي تتجنب فرنسا الوقوع في براثن أسبانيا، وكان هذا موضوعاً واحداً من مئات موضوعات الاستفزاز التي حفزت إلى الصراع بين بيتي هابسبورج وفالوا من الفتوة إلى الموت. وعندما بلغ فرانسيس الرابعة عشرة من عمره، أمر بأن يهجر والدته وأن ينضم إلى لويس في شينون، وتزوج كلود عندما بلغ العشرين، وكانت فتات بدينة بليدة عرجاء، ولوداً صالحة، وأنجبت منه أطفالاً في أعوام 1515، 1516، 1518، 1520، 1522، 1523 وماتت عام 1524.
وفي غضون ذلك أصبح ملكاً (أول يناير عام 1515)، وغمرت السعادة قلوب الجميع، وعلى رأسهم أمه التي أنعم عليها بدوقيتي أنجوليم وأنجو، وكونتيتي ماين وبوفور، وبارونية أمبواز. بيد أنه لم يكن أقل كرماً مع الآخرين - النبلاء والفنانين والشعراء والوصفاء العشيقات. وكان صوته المرح ودماثته وهدوء طبعه وحيويته المتدفقة وجاذبيته، وجمعه بين سمات الفروسية ومزايا عصر النهضة كل ذلك جعله أثيراً لدى أبنا جلدته، بل وحاشيته. واغتبطت فرنسا وعلقت عليه آمالاً عريضة. كما حدث في إنجلترا إبان تلك السنوات التي حكم فيها هنري الثامن، وفي الإمبراطوريّة إبان عهد شارل الخامس، وبدا العالم فتياً من جديد منتعشا(25/2)
بشباب الملك، وصمم فرانسيس، وكان في تصميمه أقوى من ليو العاشر، على أن ينعم بعرشه.
ترى ماذا كان في الواقع ذلك الرجل الذي يجمع بين صفات آرثر ولانسلوت؟ إنه كان رائع التكوين من الناحية البدنية، لو لم يكن أنفه كبيراً على ذلك النحو. وقد أطلق عليه بعض معاصريه الذين يفتقرون إلى الاحترام لقب "الملك الأنف الكبير". وكان فارع القامة، طوله ست أقدام، عريض المنكبين، خفيف الحركة قوي البنية. وكان في وسعه أن يجري ويقفز، ويصارع ويبارز أمهر الخصوم، وكان يستطيع أن يستعمل سيفاً بمقبضين أو رمحاً ثقيلاً. وكانت لحيته الخفيفة وشاربه الرفيع لا يخفيان شبابه، فقد كان في الحادية والعشرين عندما توج ملكاً. وكانت عيناه الضيقتان تنمان على التيقظ وخفة الروح، وإن كانتا لا تدلان على الدهاء أو العمق. وإذا كان أنفه يدل على الفحولة، فإنه كان يطابق شهرته. وقد كتب برانتوم، الذي لا يعد كتابه "نسوة عاشقات" مصنفاً تاريخياً، في ذلك الوقت يقول: "لقد عشق الملك فرانسس الكثيرات، وأحب الكثيرات إلى حد الافراط، ولما كان شاباً فتياً حراً فقد كان يحتضن الواحدة حيناً، والأخرى أحياناً بلا اكتراث ... ومن أجل ذلك أصيب بمرض الجدري الذي عجل بنهايته" (1). ويروى أن أم الملك قالت إنه لقي جزاءه حيث اقترف خطيئته (1). وربما بالغ التاريخ في تنوع غرامياته. ومهما كان عددها، فإنه ظل وفياً مخلصاً في الظاهر أولاً لفرانسواز دي فوا، كونتيسة دي شاتوبريان، ثم لآن دي بسليو التي أنعم عليها بلقب دوقة ديتامت، وذلك من عام 1526 إلى أن قضى نحبه. ونشرت عنه
_________
(1) ومما هو أقرب إلى الأسطورة، قصة المحامي الذي وقع الاختيار على زوجته لابل فرويينر (بياعة الأدوات الحديدية الجميلة) للمخدع الملكي، فما كان منه إلا أن أصاب نفسه بعدوى المرض فنقل إليها مرض الزهري حتى تصيب به الملك.(25/3)
الشائعات الباطلة مئات من الحكايات التي تدور حول مغامراته الغرامية - وأنه حاصر ميلان لا حباً في ميلان، ولكن من أجل سواد عيني فتاة لا تنسى، رآها هناك (3)، أو لأن امرأة لعوباً في بافيا أغرته وقادته إلى محور مأساته (4). ولا يسعنا على أية حال إلا أن يخالجنا شيء من العطف على ملك مرهف الحس إلى هذا الحد. لقد كان قادراً على الحنان والوله إلى درجة الخيال: وعندما رأى أن يطلق ابنه من كاترين دي مديتشي بعد أن ثبت أنها عاقر أثنته دموعها عن عزمه (5). وفي هذا قال أرازموس "لا يمكن أن يتخيل امرؤ وجود شخص أقل عاطفة من فرانسيس (6)) وإذا كان قد قال ذلك بسبب العطف لبعد المسافة، فإن بودس عالم الإنسانيات المتخصص في شئون فرانسيس وصفه بأنه "مهذب رقيق من السهل الحصول على رضاة (7) ".
وكان معجباً بنفسه لدرجة لا تنتظر من رجل، وكان ينافس هنري الثامن في فخامة ثيابه الملكية وفي إهمال فراء قلنسوته. واتخذ السمندل رمزاً له، مما يدل على الإصرار على البعث من كل احتراق، بيد أن الحياة لسعته مع ذلك بشواظها. وكان يحب أن يقابل بمظاهر التبجيل والامتياز والتملق، ويضيق ذرعاً بالنقد، وأمر بجلب ممثل لأنه هجا الحاشية، وقد واجه لويس الثاني عشر لذعات نفس الملاحظات الساخرة فاكتفى بالابتسام (8)، وكان جاحداً للجميل، كما حدث مع آن دي مونمورنسي، وظالماً كما كان مع شارل البوربوني، وقاسياً كما كان مع سمبلانساي، ولكنه كان على الجملة معروفاً بالصفح والكرم. وكان الإيطاليون يتعجبون من سخائه (9). ولم يظهر في التاريخ حاكم يفوقه في الرفق بالفنانين، وكان يعشق الجمال عشقاً يتسم بالقوة والفطنة، وكان على استعداد لأن ينفق على الفن كما ينفق على الحرب، وقدم نصف ما أنفق من مال في عصر النهضة الفرنسية.
ولم تكن قدرته الذهنية تضارع جاذبية شخصيته، وكان يعرف القليل من(25/4)
اللاتينية، ولا يعرف شيئاً من اليونانية، بيد أنه أدهش الكثيرين بتنوع معارفه ودقتها عن الزراعة والصيد والجغرافية والعلوم الحربية والأدب والفن، وكانت الفلسفة تلذ له عندما لا تتعارض مع الحب أو الحرب. وكان شديد التهور والاندفاع إلى درجة لا يصلح معها قائداً عظيماً، خفيف الروح يعشق المتعة إلى حد لا يصلح معه لأن يكون سياسياً كبيراً، وكانت تسحره المظاهر فلا ينفذ إلى جوهر الأمور. ويتأثر في لطف بالخلان والحظايا فلا يستطيع أن يختار أصلح مَن لديه من القادة والوزراء، وكان شديد الصراحة لا يخفي أمراً إلى حد لا يصلح معه لأن يكون دبلوماسياً قديراً. وحزنت أخته مرجريت بسبب عجزه عن الحكم، وتنبأت بأن الإمبراطور الداهية العنيد سوف يزيحه عن فرسه في مقارعتهما التي دامت مدى الحياة، أما لويس الثاني عشر الذي كان يعجب به "بوصفه شاباً شهماً رقيقاً". فقد رأى في توجس إفراط خلفه في الملذات، وقال: "لا فائدة من كل ما نعمل، إن هذا الولد العظيم سوف يفسد كل شيء" (10).
2 - فرنسا
في عام 1515
كانت فرنسا وقتذاك تنعم برخاء تجود به تربة سخية، ويتحقق على يد شعب ماهر يحسن التدبير وحكم خير، وكان عدد السكان زهاء 16. 000. 000 نسمة في مقابل 3. 000. 000 نسمة في إنجلترا و 7. 000. 000 في أسبانيا. وكانت باريس بسكانها البالغ عددهم 300. 000 نسمة تعد أكبر مدينة في أوربا بعد القسطنطينية. وكان البناء الاجتماعي نصف إقطاعي: فكل الفلاحين تقريباً كانوا يملكون الأرض التي يفلحونها، ولكنهم كانوا يحتفظون بها عادة في إقطاع من الأرض - وكانوا يدفعون مكوساً أو يؤدون خدمات - لسادة وفرسان مهمتهم تنظيم الزراعة وتقديم الحماية العسكرية لإقليمهم وللأمة. وأدى التضخم الناتج من تكرار خفض العملات والتعدين(25/5)
أو استيراد المعادن الثمينة إلى تيسير دفع المكوس المالية التقليدية، وأتاحت للفلاحين إمكان شراء الأرض رخيصة من الملاّك الأثرياء والنبلاء الفقراء، ومن ثم انتشر في الريف رخاء أشاع المرح في نفس الفلاح الفرنسي وجعله يتشبث بعقيدته الكاثوليكية، بينما كان الفلاح الألماني يقوم بثورة اقتصادية ودينية، وحفزت الملكية الطاقة الفرنسية فجنت من الأرض أفضل أنواع القمح والكروم في أوربا، وسمنت الماشية وتضاعف عددها، وكان اللبن والزبد والجبن يقدم على كل مائدة، والدجاج وغيره من الدواجن تربى في كل فناء تقريباً، وتقبل الفلاح الرائحة المنبعثة من حظيرة خنازيره كما لو كانت شذى مباركاً من أعراف الحياة.
أما العامل في المدينة - وهو في الغالب صانع ماهر يعمل في حانوته - فلم يكن له نسبياً نصيب من هذا الرخاء، لقد أدى التضخم إلى سرعة ارتفاع الأسعار بصورة تفوق زيادة الأجور، وساعدت التعريفات الجمركية التي فرضت لحماية السلع المحلية والاحتكارات الملكية، مثل استخراج الملح، على ارتفاع نفقات المعيشة. وأضرب العمال المتذمرون، ولكنهم جميعاً، على وجه التقريب، لم يظفروا إلا بالفشل والخيبة. وحرم القانون على العمال الاتحاد لأغراض اقتصادية. وكانت القوافل التجارية تنتقل متراخية على طول النهار الفياضة وتسير بصعوبة على طول الطرق السيئة، وتدفع لكل سيد ضريبة للمرور في أملاكه، وكانت ليون التي تلتقي فيها تجارة البحر الأبيض المتوسط القادمة صعوداً من الرون بسيل البضائع القادمة من سويسرة وألمانية، تعد ثاني مدينة بعد باريس في الصناعة الفرنسية، والثانية بعد أنتورب باعتبارها سوقاً للأوراق المالية أو مركزاً للاستثمار والتمويل. وكانت التجارة تنطلق من مارسيليا، وتجوب البحر الأبيض المتوسط، وتجني الربح بفضل العلاقات الودية التي جرؤ فرانسيس على الاحتفاظ بها مع سليمان والأتراك.(25/6)
وغنم فرانسيس من هذا الاقتصاد، على غرار ما كانت تفعله الحكومات، دخولاً وصلت إلى الحد الذي يدفعه إلى التسامح. وكانت ضريبة الملك أو السيد، التي تفرض على الرءوس والأموال، تثقل كاهل الجميع، ما عدا النبلاء ورجال الدين، وكان الأخيرون يدفعون للملك ضرائب عشور ومنحاً كنسية، أما النبلاء فكانوا يقدمون الفرسان ويجهزونهم، وكان هؤلاء الفرسان لا يزالون عماد الجيوش الفرنسية وقوتها الضاربة. وتلقى فرانسيس درساً من البابوات فباع - وأنشأ للبيع - ألقاباً للنبلاء ومناصب سياسية. وبهذا كون الأغنياء الجدد على الأيام طبقة أرستقراطية جديدة (كما حدث في إنجلترا)، وأسس المحامون بشرائهم للمناصب، بيروقراطية قوية كانت تدير حكومة فرنسا - وأحياناً بغير علم الملك.
ولم يجد الملك بسبب انهماكه في الملذات وقتاً كافياً يدير فيه شئون الحكم، فأناب عنه في تولي مهامه، حتى في رسم سياساتها، رجالاً مثل أمير البحر بونيفيه وآن دي مونمورنسي والكردينالين دوبرا ودي تورنون والفيكونت دي لوتريك. وكانت هناك ثلاثة مجالس تعاون هؤلاء الرجال والملك وتشير عليهم بالرأي، وهي: مجلس خاص من النبلاء، ومجلس أخص للشئون، ومجلس موسع ينظر في طلبات الاسترحام المقدمة إلى الملك. وفيما عدا هذا كان المجلس النيابي في باريس، ويتألف من 200 عضو من العلمانيين ورجال الدين، يعينهم الملك مدى الحياة، بمثابة محكمة عليا. وكان له الحق في الاعتراض عليه عندما يرى أن مراسيمه تتعارض مع قوانين فرنسا الأساسية، وكانت مراسيمه تظل تفتقر إلى قوة القانون إلى أن تقوم هذه الهيئة القديمة بـ "تسجيلها"- بل بالتصديق عليها في واقع الأمر.
ولما كان المحامون والشيوخ يغلبون على المجلس النيابي في باريس، فقد أصبح الجهاز القومي السياسي للطبقات الوسطى وأضحى- بعد السوربون-(25/7)
أكبر هيئة محافظة في فرنسا. وكانت المجالس النيابية المحلية والمحافظون الذين يعينهم الملك، يديرون شئون الحكم في المقاطعات. وتجاهل الجميع حيناً مجلس الطبقات، وحلت جباية الضرائب محل المنح التي تقدم على سبيل المساعدة، وتضاءل دور طبقة النبلاء في الحكومة.
وكان النبلاء يقومون بوظيفة مزدوجة: تنظيم الجيش وخدمة الملك في البلاط. وكانت الحاشية التي تتألف من الرؤساء الإداريين ورؤوس النبلاء وزوجاتهم وأبناء الأسرة وأصفياء الملك، قد أصبحت وقتذاك على رأس فرنسا وفي الصدر منها، ومرآة تعكس البدع والمهرجان الملكي الدائم المتحرك، وعلى قمة هذه الدورة كان مدير قصر الملك الذي كان ينظم كل شيء ويرعى البروتوكول، ثم الحاجب المكلف بغرفة نوم الملك، ثم أربعة من السادة الموكلين بمخدع الملك، أو كبار الوصفاء الذين كانوا دائماً رهن إشارة الملك لتلبية رغباته، وكان هؤلاء الرجال يستبدل بهم آخرون كل ثلاثة أشهر، وذلك لمنح غيرهم من النبلاء فرصة يحل فيها الدور عليهم للقربى البهيجة من الذات الملكية. ولكيلا يتعرض أحد للإغفال كان هناك عدد من السادة يتراوح بين عشرين وأربعة وخمسين لمخدع الملك يخدمون الأربعة الكبار، يضاف إلى هؤلاء اثنا عشر وصيفاً للمخدع، وأربعة حجاب للمخدع، وكانت أجنحة نوم الملك تلقى العناية المناسبة. وكان هناك عشرون سيداً يعملون مشرفين على مطبخ الملك، وينظمون أعمال جماعة تتألف من خمسة وأربعين رجلاً وخمسة وعشرين من سقاة الخمر. وكان هناك نحو ثلاثين غلاماً من وصفاء الشرف - أولاد لهم نسب جليل - يعملون وصفاء للملك، ويتألقون في زي مفضض خاص، وجمع من أمناء السر يضاعفون من طاقة الملك على التدوين والتذكر، وكان القس الأكبر للكنيسة الملكية كردينالاً، ويشرف أسقف على المحراب أو المصلى، وسمح لخمسين من الأساقفة الأبروشيين بإسباغ البركة على البلاط، وبذلك(25/8)
يزدادون شهرة، وأنشئت مناصب شرف مثل: "خدم الغرفة الخاصة" بمرتب قدره 240 جنيهاً، وقد منحت للقيام بمهام مختلفة، كالتي أنعم بها على علماء مثل بوديه وشعراء مثل مارو. ولا يفوتنا أن نذكر سبعة أطباء وسبعة جراحين وأربعة حلاقين وسبعة مرتلين وثمانية صناع ماهرين وثمانية كتبة للطبخ وثمانية حجاب بقاعة الاجتماعات. وكان لكل ولد من أبناء الملك خدمه الخاصون به ... مشرفون وكتاب سر ومربون ووصفاء وخدم. وكان لكل واحدة من الملكتين في البلاط - كلود ومرجريت - بطانة خاصة تتألف من خمس عشرة سيدة أو عشر سيدات يعملن وصيفات وست عشرة أو ثمان من وصيفات الشرف - آنسات. ومن أعظم ما اشتهر به فرانسيس أنه جعل للنساء مكانة عليا في بلاطه، وأنه كان يغمز بعين الخبير إلى علاقاتهن غير الشرعية، ويشجع ويستمتع باستعراض حليهن ومفاتنهن الرقيقة. وقال: "أي بلاط يخلو من السيدات حديقة مجردة من الأزهار (11) ". ولعل النساء - اللاتي وهبهن جمال الفن، الذي لا تلحقه الشيخوخة - هن اللاتي أضفين على بلاط فرانسيس الأول رونقاً جميلاً وحافزاً على البهجة لا نظير لها حتى في لقصور الإمبراطوريّة بروما. وكان كل الحكام في أوربا يفرضون المكوس على شعوبهم ليهيئوا لأنفسهم صورة مصغرة لهذا الحلم الباريسي.
وتحت هذا السطح المصقول كانت هناك قاعدة عريضة من الخدم: أربعة من الطهاة وستة من مساعدي الطهاة، وطهاة متخصصون في أطباق الحساء أو المرق المتبل أو الشواء، وعدد لا يحصى من الأشخاص، لتقديم الطعام إلى الملك وخدمته على المائدة، وفي المطبخ المشترك للحاشية، وتلبية احتياجات السيدات والسادة والسهر على راحتهم، وكان هناك موسيقيو البلاط يقودهم أشهر المغنين والملحنين والعازفين على الآلات في أوربا خارج روما. ويشرف على الحظائر الملكية مدرب للخيل، وخمسة وعشرون من(25/9)
رؤساء الركائب النبلاء، وحشد من الحوذية والسواس، وهناك رؤساء يشرفون على الصيد، ومائة كلب و 300 صقر يدربها ويعنى بها مائة مدرب للصقور تحت إشراف كبير مدربي الصقور. وتألف حرس الملك من أربعمائة من الرماة، يضيئون البلاط بأزيائهم الملونة.
ولم يكن هناك مبنى في باريس يكفي لمآدب البلاط وحفلاته الراقصة وحفلات الاستقبال الدبلوماسية. وكان قصر اللوفر وقتذاك حصناً كئيباً، فانصرف عنه فرانسيس إلى القصور المنسقة المعروفة باسم ليه تورنل (الأبراج الصغيرة) قرب الباستيل، أو إلى القصر الفسيح الذي اعتاد المجلس النيابي أن ينعقد فيه، ومع أنه كان لا يزال يعشق الصيد فقد انتقل إلى فونتنبلو أو إلى قصوره الممتدة على نهر اللوار في بلوا أو شامبور أو أمبواز أو تور - ساحباً معه نصف الحاشية وثروة فرنسا. وقد وصف شليني بمبالغته المعهودة ولي نعمته الملك بأنه كان يسافر ومعه بطانة مكونة من 18. 000 شخص و 12. 000 جواداً (12). واحتج السفراء الأجانب على ما يتكبدونه من نفقات ومشقة، في سبيل لقاء الملك أو مسايرته، وإذا وجدوه فإنه يكون على الأرجح، نائماً في فراشه حتى الظهر، يفيق من المتع التي نعم بها في الليلة الماضية، أو منصرفاً إلى ما يلزم لرحلة صيد أو مباراة للفروسية. وكانت نفقات هذا المجد الطواف باهظة. وكانت الخزانة دائماً على شفا الإفلاس، والضرائب ترتفع على الدوام، والمصرفيون في ليون يكرهون على تقديم قروض للملك، يتعرضون فيها للمخاطر. وعندما أدرك الملك عام 1523 أن نفقاته تتجاوز موارده، وعد بوضع حد لإشباع رغباته الشخصية "وهي لا تشمل على أية حال المطلب العادي لاحتياجاتنا ومتعنا القليلة (13"). وكان يلتمس لنفسه عذراً في تبذيره بحاجته إلى التأثير في المبعوثين والتغلب على النبلاء الطموحين، وإدخال البهجة على قلوب العامة، ورأى أن الباريسيين يتعطشون للعروض، وأن إعجابهم بأبهة ملكهم يفوق استياءهم منه.(25/10)
وأصبحت حكومة فرنسا آنذاك مزدوجة الجنس. فكان فرانسيس يحكم في الظاهر حكماً مطلقاً، بيد أنه كان يعشق النساء إلى درجة جعلته يخضع لأمه وشقيقته بل وزوجته. ولابد أنه كان يحب كلود إلى حد ما لأنها ظلت على الدوام حاملاً منه. وقد تزوجها لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، وشعر بأنه من حقه أن يقدر نساء أخريات خلقن في صورة فنية أجمل منها. وحذت الحاشية حذو الملك في ممارسة فن فحش ظريف. ووطن رجال الدين أنفسهم على قبول هذا الوضع بعد إبداء الاعتراض المناسب، أما الشعب فلم يبدِ أي اعتراض، ولكنه قلد شاكراً سنة الحاشية الدمثة - ما عدا فتاة واحدة، قيل لنا إنها شوهت جمالها عمداً لتنجو من الفسق الملكي (1524) (14).
وكانت أقوى النساء نفوذاً في البلاط والدة الملك، وقالت لويز أميرة سافوي إلى قاصد رسولي: "وجه خطابك لي، وسوف نسير في طريقنا، وإذا شكا الملك فإننا سنتركه يتكلم كما يشاء (15) "، وكثيراً ما كانت على صواب في نصيحتها. وعندما تولت الحكم كنائبة للملك، أصبحت البلاد خيراً مما كانت عليه بين يديه المتراخيتين. ولكن أطماعها دفعت دوق بوربون إلى خيانة الوطن، وأدت إلى هلاك جيش فرنسي جوعاً في إيطاليا. وغفر لها ابنها كل شيء، وشعر بالشكر لأنها جعلت منه إلهاً.
3 - مرجريت أميرة نافار
ولعله كان يحب شقيقته حباً لا يفوقه إلا حبه لأمه، وإن كان يزيد على حبه لعشيقاته - وقد منته مؤازرتها شيئاً أقل خلوداً وعمقاً من تمجيدها المجرد من الأنانية. وكانت لا تعيش إلا للحب - حب أمها وشقيقها وزوجها، وهو حب أفلاطوني وحب ديني صوفي. وثمة حكاية لطيفة تقول: "لقد ولدت وهي تبتسم، وتمد يدها الصغيرة لكل(25/11)
قادم (16)، وقد أطلقت على أمها وشقيقها ونفسها اسم "ثالوثنا"، وقنعت بأن تكون "الزاوية الصغرى" في ذلك "المثلث المتساوي الأضلاع (17) ". وكانت بحكم مولدها مرجريت أميرة أنجوليم وأورليان وفالوا. وتكبر فرانسيس بعامين، فأسهمت في تنشئته وشاركته ألعاب الطفولة، وكانت بمثابة "أمه وعشيقته وزوجته الصغيرة (18) ". وسهرت عليه في كلف شديد كما لو كان إلهاً مخلصاً قد تحول إلى إنسان، وعندما وجدت أنه كان مسرفاً في شهواته الجنسية مثل "الأساطير" تقبلت ذلك التصرف منه باعتباره حقاً لإله من آلهة الأغريق، على الرغم من أنها بالذات لم تلحقها أي لوثة من بيئتها. وقد فاقت فرانسيس في الدراسات، ولكنها لم تضارعه قط في تقديره للفن بعين خبيرة. وتعلمت الأسبانيّة والإيطالية واللاتينية واليونانية وبعض العبرية، وأحاطت نفسها وقد تملكتها رغبة جامحة، بالأدباء والشعراء وعلماء اللاهوت والفلاسفة، ومع ذلك فإنها كانت تتحول يوماً بعد يوم إلى امرأة جذابة، ولم تكن جميلة الجسد إذ كان لها ذلك الأنف الطويل الذي اشتهر به آل فالوا، ولكنها كانت ذات سحر أخاذ بفضل مفاتن شخصيتها وذكائها. وكانت عطوفاً، لطيفة كريمة حنوناً، وكثيراً ما كانت تندفع في مجون مرح. وكانت تعد من أبرع الشواعر في هذا العصر، وكان بلاطها في نراك أوبو من أعظم المراكز الأدبية تألقاً في أوربا. وكان كل إنسان يحبها ويود أن يكون بقربها. وأطلق عليها أهل ذلك العصر الرومانسي الساخر لقب لؤلؤة آل فالوا- لأن مرجريتا Margarita باللاتينية معناه لؤلؤة، وانتشرت أسطورة جميلة تقول إن لويز أميرة سافوي حملت بها بعد أن ابتلعت لؤلؤة.
وتعد رسائلها لأخيها من أجمل وأرق ما كتب في الأدب، ولابد أنه كان يطوي جوانحه على الكثير من الخير، لينتزع منها مثل هذا الإخلاص. وكانت غرامياتها الأخرى تتفاوت مداً وجزراً وتتأجج أو تفتر، أما هذه(25/12)
العاطفة الطاهرة فقد استمرت خمسين عاماً وكانت قوية على الدوام. وإن نسمات ذلك الحب كادت تطهر هواء ذلك العصر المعطر.
وقد أثار جاستون دي فواه، ابن أخي لويس الثاني عشر، أول مشاعر غرامها، ثم انطلق إلى إيطاليا ليغزو ويقضي نحبه في رافنا (1512)، وسقط جيوم دي بونيفيه صريع هواها، ولكنه وجد أن قلبها لا يزال مشغولاً بجاستون، فتزوج إحدى وصيفاتها، ليكون بالقرب منها، وزفت في السابعة عشرة من عمرها (1509) إلى شارل، دوق أنسون، وكان بدوره سليلاً لأسرة ملكية. وقد دعا فرانسيس إلى هذا الزواج توثيقاً لأواصر المصاهرة بين أسر متنافسة إلى درجة مزعجة، بيد أن مرجريت وجدت أن من العسر عليها أن تحب هذا الشاب. وعرض عليها بونيفيه أن تلتمس السلوى عن ذلك بالخنا، فشوهت وجهها بحجر حاد لتخمد سحر فتنتها له. وذهب كل من لنسون وبونيفيه إلى إيطاليا للقتال من أجل فرانسيس، ومات بونيفيه ميتة الأبطال في بافيا، أما لنسون فيقال أنه فر وقت تأزم المعركة، وعاد إلى ليون، ليجد نفسه موضع الاحتقار من الجميع، وانتهرته لويز أميرة سافوي، ووصفته بأنه جبان، فسقط مريضاً بداء ذات الجنب، وصفحت عنه مرجريت، وسهرت على تمريضه في حنان ولكنه مات (1525).
وبعد عامين من ترمل مرجريت، تزوجت، وكانت وقتذاك في الخامسة والثلاثين، من هنري دلبريه، الملقب بملك نافار، وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره. ولما كان هنري مبعداً عن إمارته بسبب مطالبة فرديناند الثاني وشارل الخامس بنافار، فإن فرانسيس نصب هنري حاكماً على غينا، وأنشأ بلاطاً مصغراً في نيراك وأحياناً في بو في جنوب غربي فرنسا. وعامل مرجريت معاملة الأم بل الحماة تقريباً، ولم يحذ حذوها في إخلاصها لعهود الزواج، واضطرت إلى أن تلتمس لنفسها السلوى بالقيام(25/13)
بدور المضيفة والحامية لكتاب وفلاسفة ولاجئين من البروتستانت. وأنجبت عام 1528 إبنة لهنري هي جان دلبريه، التي قدر لها أن تحظى بالشهرة باعتبارها أم هنري الرابع، وبعد عامين أنجبت إبناً مات في مرحلة الطفولة، ومنذ ذاك لم تلبس إلا ثياب الحداد. وكتب لها فرانسيس رسالة تفيض ورعاً وحناناً كأي رسالة يمكن أن نتوقعها من يراعها. ومهما يكن من شيء فإنه سرعان ما أمرها هي وهنري بتسليم جان له، لتنشأ بالقرب من البلاط الملكي. فقد خشي أن يخطبها هنري لفيليب الثاني ملك أسبانيا، أو أن تشب بروتستانتية. وكان هذا الفراق أشد النوائب الكثيرة التي أصابت مرجريت قبل وفاة الملك ولكنه لم يصدها عن الإخلاص له. وإنه لأمر يدعو إلى الأسى، وإن كان هذا ضرورياً أن نروي ما حدث عندما أمر فرانسيس جين بالزواج من الدوق دي كليف، ورفضت جين، فأيدت مرجريت الملك إلى حد أنه أصدرت تعليماتها لمربية جين بجلدها إلى أن تذعن. وضربت جين مراراً عديدة، ولكن جين الشجاعة - وكانت فتاة في الثانية عشرة من عمرها - أصدرت وثيقة موقعة منها نصت على أنها إذا أكرهت على الزواج فإنها سوف تعتبره لاغياً. ومع ذلك فقد أعدت الترتيبات للزفاف على أساس نظرية تقول إن حاجات الدولة هي القانون الأعلى، وقاومت جين حتى آخر لحظة، وكان لابد من حملها إلى الكنيسة حملاً، وما أن انتهت مراسيم الحفل حتى فرت، وذهبت لتعيش مع أبويها في بو حيث كاد تبذيرها في الإنفاق على الثياب والبطانة واسرافها في التبرعات يؤدي بها إلى الخراب.
وكانت مرجريت نفسها المثال المجسم للإحسان. وكانت تسير دون أن يرافقها حارس في شوارع بو "مثل أي فتاة بسيطة"، وتسمح لكل مَن يريد بمقابلتها، وتستمع مباشرة إلى أشجان شعبها وقالت: "ينبغي ألا ينصرف أحد حزيناً أو مغموماً من حضرة أمير، لأن الملوك هم رعاة الفقراء ... والفقراء عيال الله" (19). وأطلقت على نفسها لقب "رئيس(25/14)
وزراء الفقراء" وكانت تزورهم في دورهم وتبعث إليهم بالأطباء من حاشيتها، وشارك هنري تماماً في هذا لأنه كان حاكماً ممتازاً، بقدر ما كان زوجها مقصراً، وكانت الأشغال العامة التي أدارها تصلح أنموذجاً لفرنسا، فقد مول هو ومرجريت تعليم عدد كبير من الطلبة الفقراء من بينهم أميو الذي ترجم فيما بعد كتاب بلوتارخ، وقدمت مرجريت المأوى والأمان لمارو ورابليه ويبرييه وليفيفر دينابل وكالفن ولكثيرين غيرهم، إلى حد أن أحد مَن أسبغت عليهم حمايتها قارنها بـ "دجاجة تتعهد أفراخها بعناية وترفرف عليهم بجناحيها (20) ".
وإلى جانب ما كانت تقوم به من أعمال البر كانت تهتم بثلاثة أمور غلبت على حياتها في نيراك وبو وهي: الأدب والحب الأفلاطوني واللاهوت الصوفي الذي وجد متسعاً للكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، وتسامح حتى مع الفكر الحر. وكان من عادتها أن تدعو الشعراء ليقرءوا عليها أشعارهم وهي تتلهى بالتطريز، وكانت تنظم أشعاراً تستحق بعض التقدير، يمتزج فيها الحب البشري بالحب الإلهي في وجد واحد مبهم. ونشرت إبان حياتها عدة مجلدات في الشعر والدراما، ليست في جودة رسائلها التي لم تطبع إلا عام 1841. ويعرف العالم بأسره كتابها الأيام السبعة، بسبب ما اشتهر به من حكايات بذيئة. ولكن أنصار الأدب المكشوف سوف يخيب ظنهم فيها. فهذه الحكايات رويت بأسلوب العصر، الذي وجد أعظم فكاهة في الخدع والأعمال، التي تتسم بالشذوذ وتقلبات الحب، وانحرافات الرهبان عن عهودهم، والحكايات نفسها تروى بتحفظ. وهذه الحكايات هي التي رواها الرجال والنساء من حاشية مرجريت، أو من حاشية فرانسيس، وقد دونتها بنفسها أو دونت لها (1544 - 48)، ولكنها لم تنشرها قط. وظهرت مطبوعة بعد وفاتها بعشر سنوات. وكانت تعتزم أن تؤلف بها مجموعة قصص أخرى على غرار "الأيام العشرة"، ولكن لم كان الكتاب قد توقف(25/15)
في اليوم السابع من رواية الحكايات، فإن الناشر أطلق عليه اسم الأيام السبعة، ويبدو أن كثيراً من القصص الواردة فيه واقعية، أخفيت شخصياتها بتغيير أسمائهم. ويقول لنا برانتوم إن أمه، وكانت إحدى رواة القصص، تعرف حقيقة الأشخاص الذين تخفوا بأسماء مستعارة في الحكايات، ويؤكد لنا مثلاً أن الحكاية الرابعة من اليوم الخامس هي قصة محاولات بونيفيه مع مرجريت نفسها (21).
ويجب التسليم بأن ذوق عصرنا، المعترف به، سوف يكره على الإحساس بالخجل أمام قصص الإغراء التي رواها السادة والسيدات من الفرنسيين، الذين كانوا يتلهون ويقضون أيامهم في التلهي انتظاراً لفيضان يهبط عليهم ويسمح لهم بالعودة من حمّامات كوتيريه. وتثير بعض الملاحظات العارضة الذعر: "أتريد إذن أن تقول إن كل شيء مباح لمن يعشقون بشرط ألا يعرف أحد؟ أجل، في الحقيقة، إن الأغبياء فقط هم الذين يكتشف أمرهم (22) ". وإن الفلسفة العامة للكتاب لتجد ما يعبر عنها في جملة لها مغزاها، وردت في الحكاية الخامسة: "ما أتعس السيدة التي لا تحرص على الحفاظ على كنزها، الذي يمنحها الحفاظ التام عليه الكثير من الشرف، والذي يجللها بالكثير من العار إن ظلت حريصة عليه (23) ". ويتخلل الحكايات كثير من العبارات الساخرة المرحة تشيع فيها البهجة، من ذلك أننا نسمع عن صيدلي ورع من بو "لم يكن له شأن مع زوجته إلا في أسبوع الآلام على سبيل التفكير" (24) وكما هو الحال كتاب بوكاشيو فإن نصف ما في كتابها من فكاهة يعتمد على لهو الرهبان. وتقول شخصية في الحكاية الخامسة: إن هؤلاء الآباء الصالحين يعظوننا بالتزام العفو وهم يريدون أن يدنسوا شرف زوجاتنا". ويوافق على هذا زوج(25/16)
انتهك شرفه ويقول: إنهم لا يتجاسرون على لمس المال ولكنهم على استعداد لأن يمسكوا بأفخاذ النساء وهي أخطر بكثير". ولابد أن يضاف إلى هذا كله أن رواة الحكايات المرحة يستمعون إلى القداس كل صباح ويطهرون كل صفحة يقلبونها بعد ذلك بأناشيد التقوى.
والقول بأن مرجريت قد استمتعت بهذه الحكايات أو جمعتها يشير إلى مزاج العصر، ويدفعنا إلى الحذر من تصويرها قديسة، وأنها ظلت كذلك حتى سنوات ذبولها. ومع ما يبدو من أنها هي بالذات كانت مثابرة على أن تحتفظ بطهارتها، إلا أنها كانت تبيح لغيرها الإنحلال، ولم تكن تبدي اعتراضات مدونة على توزيع الملك لسلطاته واستمرت بينها وبين عشيقاته الواحدة إثر الأخرى، علاقة صداقة حميمة. والظاهر أن الرجال ومعظم النساء كانوا يفكرون في تبادل الحب بين الجنسين بألفاظ جنسية لا تعرف الاحتشام. وشاعت بين الفرنسيات عادة جذابة إبان ذلك العهد الطروب، هي تقديم هدايا من أربطة سيقانهن لرجال لا وجود لهم إلا في الخيال (25). وكانت مرجريت ترى أن الرغبة الجسدية من الأمور التي يمكن أن يترخص فيها، إلا أنها هي نفسها أفسحت في قلبها مجالاً للحب الأفلاطوني والديني. وقد انتقلت عبادة الحب الأفلاطوني بين "نوادي الحب" في القرون الوسطى، وتدعمت بأناشيد إيطاليّة مثل أنشودة بمبو في نهاية قصة "رجل البلاط". وشعرت مرجريت بأن من الخير أن تقبل النساء، بالإضافة إلى العاطفة الجنسية المعتادة، ولاء رجال لا ينالون من الجزاء إلا صداقة دقيقة وبعض صلاة الود التي لا ضرر منها، وأن هذا الارتباط قمين بترويض الحساسية الجمالية في الذكر وتهذيب سلوكه، وتعليمه الالتزام بقواعد الأخلاق، ومن ثم فإن المرأة تقوم بتهذيب الرجل. ولكن كان في فلسفة مرجريت حب أرفع من الحب الجنسي أو الأفلاطوني هو حب الخير أو الجمال أو أي كمال، ومن ثم كان فوقها جميعاً حب الله. ولكن لكي يحب المرء الله لابد(25/17)
له أولاً من أن يحب مخلوقاً بشرياً حباً تاماً (26) ". وكانت عقيدتها الدينية معقدة ومبلبلة مثل مفهومها عن الحب. وكما أن أنانية أخيها لم تكدر ولاءها له فإن ما تعرضت له في حياتها من مآس وأحداث قاسية تركت عقيدتها الدينية خالصة متحمسة وغير محافظة على أية حال. وكانت تمر بها لحظات يراودها فيها الشك، فقد اعترفت في كتاب: "مرآة الروح الخاطئة" بأنها قد شكت في بعض الأوقات في الكتاب المقدس وفي الرب على السواء، واتهمت الرب بالقسوة، وتساءلت هل هو حقاً الذي أنزل الكتاب المقدس؟ (27). وفي عام 1533 استدعتها السوربون لتجيب على اتهام بالهرطقة، فتجاهلت الاستدعاء، وقال راهب لجمهور أبرشيته إنها تستحق أن توضع في جوال ويخاط عليها وتلقى في نهر السين (28). ولكن الملك أبلغ السوربون والرهبان بأن يتركوا شقيقته وشأنها، ولم يصدق ما وجه إليها من اتهام وقال: "إنها تحبني كثيراً إلى حد أنها لا تؤمن إلا بما أومن به (29"). وكانت سعادته بالغة وثقته بنفسه لا حد لها إلى درجة جعلته يحلم بأنه من الهوجنت. ولكن مرجريت استطاعت أن تفعل ذلك، وكان لديها إحساس بالاثم، وصنعت من هفواتها قنن جبال. وكانت تحتقر الهيئات الدينية وترى أنها تافهة لا جدوى منها. ولا هم لها إلا الإسراف في ارتكاب الخطايا، وشعرت بأن الإصلاح قد فات أوانه من عهد طويل. وقرأت طرفاً من الأدب اللوثري واستحسنت هجماته على فجور رجال الدين وجشعهم، ودهش فرانسيس عندما وجدها تصلي يوماً مع فرويل (30) - وهو يوحنا المعمدان - عند كالفن. وبينما كانت لا تنقطع للصلاة للعذراء في نيراك وبو في ورع الواثق بنفسه، فإنها أسبغت حمايتها على اللاجئين من البروتستانت ومنهم كالفن نفسه. ومهما يكن من شيء فإن كالفن ساءه كثيراً أن يجد في بلاطها مفكرين أحراراً مثل إتيين دوليه، بونافنتير ديبرييه وعنفها على تساهلها ولكنها استمرت فيه. ولكم كان يسرها لو أنها صاغت مرسوم(25/18)
نانت لحفيدها. ولقد اجتمعت في مرجريت في لحظة من اللحظات خصائص عصر النهضة وعهد الإصلاح الديني (31).
وانتشر تأثيرها في فرنسا وكانت كل نفس حرة تتطلع إليها باعتبارها حامية لها ومثالاً للحرية. وقد أهدى إليها رابليه كتابه Gargantua. وكان رونسار ويواقين دي بلاي يحذوان حذوها بين آن وآخر في صوفيتها الأفلاطونية والأفلاطونية. وإن ترجمات مارو للمزامير لتفوح منها أنفاس روحها نصف الهيجونوتية. وترنم بايل في القرن الثامن عشر بنشيد لها في معجمه، وفي القرن التاسع عشر قدم لها ميشليه البروتستانتي في المحفوظة الشعرية المطولة الرائعة التي لا يمل الناس سماعها والمسماة "تاريخ فرنسا" ما يعبر عن شكره بقوله: "فلنتذكر دائماً ملكة نافار الرقيقة، هذه الملكة التي وجد قومنا الهاربون من السجن أو المحرقة في أحضانها الأمان والاحترام والصداقة. إننا نعبر عن شكرنا لكِ أيتها الأم الحبيبة لنهضتنا. لقد كان بيتكِ دار قديسينا وكان قلبكِ عشاً لحريتنا (32) ".
4 - الفرنسيون البروتستانت
لم يحاول أحد البحث في أن الحاجة ماسة لإصلاح ديني، وظهر هنا رجل الدين الصالح والشرير كما ظهر في أي مكان آخر: قساوسة مخلصون ورهبان متبتلون وراهبات قديسات. وظهر هنا وهناك أسقف نذر نفسه للدين أكثر مما نذرها للسياسة، وقساوسة جهلة أو خائرو العزيمة. ورهبان كسالى وفاسقون ورهبان ينبشون عن المال ويتظاهرون بالفقر. وأخواة ضعيفات في الأديان وأساقفة يؤثرون عرض الدنيا ويعرضون عن ثواب الآخرة. وبينما ارتفع شأن التعلم هوى الإيمان، وبينما كان لرجال الدين النصيب الأكبر في التعليم فإنهم أظهروا بسلوكهم أنهم لم يعودوا يتأثرون بفلسفة الحشر والنشر المروعة، التي أملتها عليهم يوماً عقيدتهم الرسمية. وخص بعض(25/19)
الأساقفة أنفسهم بعدد وافر من المناصب والكراسي الأسقفية، وعلى هذا احتفظ جين ديلورين وتمتع بإيرادات من أسقفيات منز ونول وفردان وأبرشيات ريمس وليون وناربون وألبي وماكون وآجن ونانت وأديار جورز وفيكامب وكلوتي ومارموتيين وسالنا - أورين وسان ده لاون وسان جرميه وسان مدار ده سواسون وسان- مانس دي تول (33). ولم تكفيِ هذه لتلبية احتياجاته وشكا من الفقر (34). وندد الرهبان بتكالب الأساقفة على عرض الدنيا، وندد القساوسة بالرهبان، ويستشهد برانتوم بعبارة شاعت في فرنسا وقتذاك وهي: "إنه شحيح أو فاسق كأنه قسيس وراهب (35"). وأول جملة في الأيام السبعة تصف أسقف سيس بأنه يتلهف على إغراء امرأة متزوجة. وهناك اثنتا عشرة قصة في الكتاب تروي بالتفصيل الأعمال المماثلة لرهبان مختلفين، وتقول إحدى الشخصيات: "عندما تقع عيناي على راهب يتملكني رعب شديد إلى حد أني لا أستطيع حتى أن أعترف لهم، لأني أعتقد أنهم أسوأ من كل الرجال الآخرين (36) ". وتسلم وازيل - وهو الاسم الذي أطلقته مرجريت على أمها في الأيام السبعة - بأنه بينهم رجالاً صالحين ولكن هذه السيدة نفسها لويز أميرة سافوي كتبت في يومياتها تقول: "في عام 1522 ... بدأنا أنا وابني، بنعمة الروح القدس نعرف المنافقين، الأبيض والأسود والأشهب والقاتم. ومن كل الألوان أولئك الذين يحفظنا الرب برحمته الواسعة منهم ويدفع عنا أذاهم، لأنه إذا لم يكن المسيح كاذباً فليس بين كل أبناء البشرية جيل أخطر منهم (37) ".
ومع ذلك فإن جشع لويز وتعدد نساء ابنها وأخلاق حاشيتها النزاعة إلى الفوضوية لم تكن نموذجاً يحتذيه رجال الدين الذين كانوا خاضعين للملك إلى حد كبير. وفي عام 1516 حصل فرانسيس من ليو العاشر على اتفاقية بابوية تخوله الحق في تعيين أساقفة فرنسا ورهبانها، ولكنه لما أسرف(25/20)
في هذا التعيين الذي لجأ إليه لمكافأة مَن أدوا له خدمات سياسية، تأكدت الصفة الدنيوية للأسقفية. ونصت الاتفاقية البابوية السارية المفعول على أن تكون الكنيسة الجاليقية مستقلة عن البابوية وتابعة للدولة. وبهذه الوسيلة حقق فرانسيس قبل أن ينشر لوثر رسائله بعام، في الواقع، وإن لم يبد ذلك لحس الحظ في الشكل، ما كان قميناً بأن يكسبه الأمراء الألمان وهنري الثامن بالحرب أو الثورة ألا وهو تأميم المسيحية. وماذا كان في وسع الفرنسيين البروتستانت أن يقدموه لملك فرنسا أكثر من هذا؟
لقد سبق أولهم لوثر. في عام 1512 قام جاك ليفيفر، المولود في أنابل في بيكاردي والذي قام بالتدريس في جامعة باريس بعد ذلك، بنشر ترجمة لاتينية لرسائل بولس مع شرح يفسر، بين هرطقات أخرى، اثنتين منها، كانتا حريتين بأن تكونا بعد عشر سنوات متفقتين في الأساس مع لوثر وهما: "إن الناس يمكنهم أن يظفروا بالخلاص لا بالأعمال الصالحات، ولكن بالإيمان برحمة الله التي ينالونها بتضحية المسيح للتكفير عن خطايا البشر، وإن المسيح موجود في القربان المقدس بفعله وإرادته الطيبة، لا بأي تجسيد كهنوتي للخبز والنبيذ. وطالب ليفيفر مثل لوثر بالعودة إلى الإنجيل، وسعى مثل أرازموس إلى استعادة النص الصحيح للعهد الجديد، وتوضيحه كوسيلة لتطهير المسيحية من أساطير القرون الوسطى والزيادات الكهنوتية. وأصدر عام 1523 ترجمة فرنسية للتوراة وللمزامير بعد ذلك بعام. وقال في إحدى تعليقاته: "ما اشد خزينا عندما نرى أسقفاً يطلب من الناس في إلحاح أن يشربوا معه، لا هم له إلا المقامرة ... والصيد باستمرار، والتردد على البيوت سيئة السمعة (38") وأدانته السوربون وقضت بأنه هرطيق ففر إلى شتراسبورج (1525)، وتشفعت له مرجريت فاستدعاه فرانسيس وعينه أميناً للمكتبة الملكية في بلوا ومربياً لأطفاله. وفي عام 1531 عندما أغضبت أعمال البروتستانت التي تجاوزوا(25/21)
فيها الحد الملك، لجأ ليفيفر إلى مرجريت في جنوبي فرنسا وعاش هناك حتى وفاته بالغاً من العمر سبعة وثمانين عاماً (1537).
وشرع تلميذه جيوم بريسونيه الذي عين أسقفاً لمو (1516) في إصلاح الأسقفية بروح أستاذه. وبعد أربع سنوات من العمل الحماسي شعر بأنه من القوة بحيث يستطيع أن يقدم على ابتداع تغييرات لاهوتية. فعين للإشراف على الصدقات مصلحين معروفين من أمثال ليفيفر وفاريل ولوي ده بركان وجيرار روسل وفرانسوا فاتابل وشجعهم على أن ينادوا في عظاتهم بـ "العودة إلى الإنجيل". وأثنت عليه مرجريت وعينته موجهاً روحياً لها. ولكن عندما أعلنت السوربون مدرسة اللاهوت التي تسيطر الآن على جامعة باريس - أدانتها للوثر (1521) أمر بريسوفيه زملاءه بمسالمة الكنيسة فقد كانت وحدة الكنيسة في نظره، مثله في هذا مثل أرازموس ومرجريت، أهم من الإصلاح.
ولم تستطع السوربون أن توقف تدفق الأفكار اللوثرية عبر نهر الراين، فقد كان الطلبة والتجار يجلبون مؤلفات لوثر من ألمانيا باعتبار أنها تمثل أعظم الأخبار إثارة وقتذاك، وأرسل فروبن نسخاً من بازيل لتباع في فرنسا. وتلقف العمال الساخطون العهد الجديد واعتبروه وثيقة ثورية واستمعوا بابتهاج إلى مبشرين استخلصوا من الإنجيل مدينة فاضلة تتحقق فيها المساواة الاجتماعية.
وعندما نشر الأسقف بريسونيه عام 1523 على أبواب كاتدرائيته كتاباً للبابا عن صكوك الغفران مزقه جان لكلير، وكان يعمل في تمشيط الصوف في مو ووضع مكانها إعلاناً ملصوقاً يصف البابا بأنه مناهض للمسيحية، فقبض عليه، ووسم بالنار على جبهته (1525) بناء على أمر المجلس النيابي لباريس. فانتقل إلى ميتز وهناك حطم التماثيل الدينية، التي كان من المقرر(25/22)
أن يمر أمامها موكب لتقديم البخور. وقطعت يده اليمنى واجتث أنفه، وانتزعت حلمتا ثدييه بملقط، وربط رأسه بشريط من الحديد المحمى إلى درجة الاحمرار. وأحرق حياً (1526) (39). وأرسل عدد كبير من المتطرفين الآخرين إلى المحرقة في باريس بتهمة "التجديف" أو لإنكارهم ما للعذراء والقديسين من تفويض في الشفاعة (1526 - 27).
وكان شعب فرنسا يؤيد بوجه عام عمليات الإعدام هذه (40) وكان يحب عقيدته الدينية ويرى أنها وحي من لدن الله ومن قوله، ويمقت الهراطقة لأنهم يسلبون من الفقراء أعظم عزاء عندهم ولم يظهر في فرنسا رجل مثل لوثر. يثير الطبقة الوسطى ضد طغيان البابا، فقد كانت الاتفاقية البابوية تمنع استغاثة مثل هذه ولم يكن كالفن قد وصل بعد إلى الشهرة الجنيفية التي تتيح له أن يبعث بدعوته الصارمة للإصلاح. ووجد الثائرون بعض التأييد بين طبقة الأرستقراطية بيد أن السادة والسيدات كانوا قليلي الاهتمام إلى درجة أنهم لم يتشبثوا بالأفكار الجديدة إلى الحد الذي يخل بعقيدة الشعب أو يقض مضاجع الحاشية، وقد تسامح فرانسيس نفسه مع الدعاية اللوثرية ما دامت غير منطوية على أي تهديد بقيام فتنة اجتماعية أو سياسية، وكانت له بدوره شكوكه الخاصة - في سلطات البابا وبيع صكوك الغفران ووجود المطهر (41)، ولعله رأى أن يستخدم تسامحه مع البروتستانتية سلاحاً يشهره ضد بابا يميل كثيراً إلى الانحياز لشارل الخامس. وكان يعجب بأرازموس وسعى إليه لتعيينه في الكلية الملكية الجديدة، وكان يؤمن معه بتشجيع التعليم والإصلاح الكهنوتي - ولكن بخطوات لا تقسم الشعب إلى نصفين متحاربين أو تضعف تأثير الخدمات التي تقدمها الكنيسة لتهذيب أخلاق الأفراد والنظام الاجتماعي (42). وكتبت مرجريت إلى بريسونيه عام 1521 تقول: "إن الملك والسيدة (لويز أميرة سافوي) على أهبة الآن أكثر من أي وقت مضى لإصلاح الكنيسة (43")، وعندما قبضت(25/23)
السوربون على لوي ده بركان لقيامه بترجمة بعض مصنفات لوثر (1523) أطلق سراحه بفضل تشفع مرجريت له عند الملك. ولكن فرانسيس أفزعته ثورة الفلاحين في ألمانيا التي يبدو أنها نشبت نتيجة الدعاية البروتستانتية، وقبل أن يرحل ليلقى الهزيمة في بافيا أمر الأساقفة بسحق الحركة اللوثرية في فرنسا.
وبينما كان الملك أسيراً في مدريد، سجن بركان مرة أخرى ولكن مرجريت حصلت ثانية على أمر بإطلاق سراحه. وعندما فك إسار فرانسيس نفسه انهمك في يوبيل للتحرر، ولعله فعل هذا إقراراً بفضل شقيقته التي سعت كثيراً، لتحريره، فاستدعى ليفيفر وروسل من المنفى وشعرت مرجريت بأن الحركة من أجل الإصلاح الديني قد ظفرت بيومها الموعود.
ووقع حادثا دفعا الملك إلى العودة لعقيدة المحافظين. فقد كان في حاجة للمال ولافتداء ولديه اللذين كان قد سلمهما لشارل مقابل حصوله على حريته. ووافق رجال الدين على منحه 1. 300. 000 جنيه ولكنهم أرفقوا بالمنحة التماساً بوقفة أكثر حزماً مع الهرطقة، فوافق (16 ديسمبر سنة 1527)، وفي يوم 31 مايو سنة 1528 هاله أن يعلم بتحطيم راس العذراء والابن في تمثال لهما خارج كنيسة في أبرشية سان جرمان أثناء الليل. وصاح الناس يطالبون بالانتقام، وعرض فرانسيس ألف كراون مكافئة لمن يعثر على المخربين وقاد موكباً حزيناً من الأساقفة وموظفي الدولة والنبلاء وعامة الناس لترميم التمثال المحطم برأسين من الفضة. وانتهزت السوربون فرصة رد الفعل لسجن بركان مرة أخرى وبينما كان فرانسيس غائباً في بلوا ودفع باللوثري الذي رفض التوبة إلى المحرقة (17 أبريل عام 1529) وسط فرحة الحاضرين من الجمهور (44).
وكان مزاج الملك يتغير تبعاً لتغيرات دبلوماسيته، ففي عام 1532، وقد أغضبه تعاون كليمنت السابع مع شارل الخامس قدم عروضاً للأمراء(25/24)
اللوثريين الألمان وأذن لمرجريت بتنصيب روسل مبشراً لجماهير كبيرة في اللوفر، وعندما احتجت السوربون نفي زعماءها من باريس.
وفي أكتوبر سنة 1533 كان على وفاق مع كليمنت، فوعد باتخاذ إجراءات فعالة ضد الفرنسيين البروتستانت. وفي أول نوفمبر ألقى نيكولاس كوب خطابه في الجامعة، فاستشاطت السوربون غضباً وأمر فرانسيس باضطهاد جديد. ولكن اشتدت وقتذاك حدة نزاعه مع الإمبراطور فأرسل جيوم دي بلاي المناصر للإصلاح إلى فيتنبرج ليطلب من ميلانكتون أن يتوصل لصيغة توفيق بين العقيدة القديمة والأفكار الجديدة (1534) وبهذا يجعل في الإمكان عقد تحالف بين ألمانيا البروتستانتية وفرنسا الكاثوليكية. فأذعن ميلانكتون وأخذت الأمور تتحرك بسرعة عندما قامت جماعة متطرفة من المصلحين الفرنسيين بلصق إعلانات في شوارع باريس وأورليان وغيرهما من المُدن، بل وحتى على أبواب مخدع الملك في أمبواز تندد بالقداس وتصفه بأنه من قبيل عبادة الأوثان وبالبابا ورجال الدين الكاثوليك، وتصفهم بأنهم "ذرية دودة ... مارقون، ذئاب ... كذابون، كافرون ومزهقون للأرواح" (18 اكتوبر سنة 1534) (45). فاستشاط فرانسيس غضباً وأمر بسجن جميع المشتبه فيهم بدون تمييز وامتلأت السجون. وقبض على عدد كبير من الطابعين، وظلت الطباعة قاطبة محظورة لفترة ما. وانضمت مرجريت ومارو وكثير من البروتستانت المعتدلين إلى مَن استنكروا الإعلانات الملصقة. وسار الملك وأولاده والسفراء والنبلاء ورجال الدين في صمت مهيب، يحملون شموعاً موقدة ليستمعوا إلى قداس أقيم للتكفير في كاتدرائية نوتردام (21 يناير سنة 1525). وأعلن فرانسيس أنه سيقطع رأس أولاده إذا اكتشف أنهم يطوون جوانحهم على مثل هذه الهرطقات الخارجة على الدين. وفي عشية تلك الليلة أحرق ستة من البروتستانت حتى الموت في باريس بطريقة رئي(25/25)
أنها تصلح لتهدئة المعبود. فقد علقوا فوق نار وكانوا يدلون إليها ويرفعون منها مراراً وتكراراً وذلك لإطالة أمد عذابهم (46). وأحرق في باريس أربعة وعشرون من البروتستانت وهم أحياء من العاشر من نوفمبر عام 1534 والخامس من مايو عام 1535. وزجر البابا بول الثالث الملك لهذه القسوة التي لا داعي لها وأمره بوقف الاضطهاد (47).
وقبل أن ينصرم العام كان فرانسيس يخطب ود البروتستانت الألمان من جديد. وكتب بنفسه إلى ميلانكتون (23 يوليو سنة 1535) يدعوه إلى الحضور "والتباحث مع بعض المبرزين من الدكاترة عندنا عن الوسيلة لإعادة توطيد دعائم ذلك التناسق السامي في الكنيسة، الذي أرى أنه أعز أمنية لدي على الإطلاق (48) ". ولم يحضر ميلانكتون ولعله ايتراب في أن فرانسيس يستخدمه شوكة في جبن الإمبراطور، وربما أثنه عن عزمه لوثر أو أمير ساكسونيا المختار الذي قال: "إن الفرنسيين ليسوا من الإنجيليين بل هم إرازميون (49) ". وكان هذا صحيحاً بالنسبة لمرجريت وبريسونيه ليفيفر وروسل، ولم يكن صحيحاً بالنسبة لأنصار لصق الإعلانات والهوجينوت الكالفينيين الذين بدأوا يتكاثرون في جنوب فرنسا. وتخلى فرانسيس عن كل جهوده لاسترضاء البروتستانت بعد مسالمة شارل (1538).
ولم يكن أعظم خزي لحق بعهده إلا نتيجة خطأه إلى حد ما فقد سمح للفوديين أو الولدانيين، الذين كانوا لا يزالون يحبون الآراء شبه البروتستانتية لبيتر والد ومؤسس طائفتهم في القرن الثاني عشر، بالاحتفاظ بوجودهم الذي يشبه نظام طائفة الكويكر، في ظل الحماية الملكية، في نحو ثلاثين قرية امتداد نهر دورانس في بروفانس. وفي عام 1530 شرعوا في مكاتبة المصلحين في ألمانيا وسويسرة، وبعد عامين استخلصوا اعترافاً بعقيدة تقوم على آراء بوسر وأويكو لامبادريوس، وعقد قاصد رسولي(25/26)
بينهم محكمة للتفتيش فاستغاثوا بفرانسيس، فأمر بوقف الاضطهاد (1533). واكن الكاردينال ده تورنون ادعى أن الولدانيين كانوا يدبرون مؤامرة تنطوي على خيانة للحكومة، وأقنع الملك العليل المتذبذب بتوقيع مرسوم (أول يناير سنة 1545) ينص على أن كل الولدانيين الذين يكتشف أنهم مذنبون ويثبت عليهم تهمة الهرطقة يجب أن يعدموا. وفسر موظفو المجلس النيابي في إكس - أن - بروفانس - الأمر بأنه يعني الإبادة الجماعية. وأبا الجنود في مبدأ الأمر إطاعة الأمر وعلى أية حال فإنهم حملوا على قتل فئة قليلة ثم ألهبتهم حرارة القتل فحولوه إلى مذبحة. وفي خلال أسبوع واحد (12 - 18 أبريل) أحرقت بضع قرى حتى سويت بالأرض، وفي إحداها ذبح 800 رجل وامرأة وطفل، وفي مدى شهرين أزهقت أرواح 3. 000 نفس وهدمت اثنتان وعشرون قرية، وأكره 700 رجل على العمل في السفن. ولقيت خمس وعشرون امرأة مذعورة لجأن إلى كهف حنقهن خنقاً بنار أشعلت عند مدخله. ورفعت سويسرة وألمانيا البروتستانتيتان احتجاجات مروعة وبعثت أسبانيا بالتهاني إلى فرانسس (50) وبعد عام اكتشفت جماعة لوثرية صغيرة مجتمعة في سو برئاسة بيير لكلير شقيق جين الذي وسم بالنار وعذب أربعة عشر من الجماعة وأحرقوا كما أحرق ثمانية منهم بعد أن انتزعت ألسنتهم (7 أكتوبر سنة 1546).
وكانت هذه الاضطهادات أعظم فشل مني به عهد فرانسيس. وأضفت شجاعة الشهداء جلالاً وروعة على قضيتهم، ولابد أن ألوفاً من المشاهدين قد تأثروا وانزعجوا، ولولا عمليات الإعدام المشهودة هذه لما كلفوا أنفسهم قط عناء تغيير عقيدتهم الموروثة. وعلى الرغم من الأرهاب المتكرر فإن "حشوداً" سريعة من البروتستانت وجدت عام 1530 في ليون وبوردو وأورليان وريمس وأميان وبواتييه وبورج ونيم، ولا روشيل وشالون وديجون وتولور. وكأن الأرض قد انشقت عن فرق من الهوجينوت،(25/27)
ولابد أن فرانسيس قد عرف وهو على فراش الموت أنه قد ترك ابنه تحدق به العداوة من إنجلترا وألمانيا وسويسرة ولم يكن يواجه هذا فحسب بل يواجه أيضاً إرثاً من الكراهية في فرنسا نفسها.
5 - هابسبورج وفالوا
1515 - 1526
لم يكن من المتوقع أن يرضى ملك متقلب مثل هذا بالتخلي عن كل الآمال التي كانت قد أثارت أسلافه إلى ضم ميلان، ونابلي إذا أمكن، ليكونا ذرتين في التاج الفرنسي. وقد قبل لويس الثاني عشر الحدود الطبيعية لفرنسا - أي أنه اعترف للألب بالسيادة. وسحب فرانسيس الاعتراف وتحدى حق الدوق مكسمليان سوفورزا في ميلان. وفي غضون المفاوضات التي دارت بينهما بضعة شهور حشد قوة هائلة وجهزها، وفي أغسطس عام 1515 سار على رأسها وسلك طريقاً جديداً محفوفاً بالمخاطر - واقتحم طريقه عبر جبال صخرية - فوق الألب وانحدر منها إلى إيطاليا - والتقى الفرسان والمشاة الفرنسيون في مارينيانو على مسيرة تسعة أميال من ميلان، بجنود سوفورزا من السويسريين المرتزقة، واستمر بينهما القتال يومين (13 - 14 سبتمبر سنة 1515) حدث فيهما مقتلة كبيرة لم تعرفها إيطاليا منذ الغزوات البربرية، وتركت جثث 10. 000 رجل مطروحة على الأرض. وخيل في فترة ما أن الفرنسيين قد هزموا وعندئذ اندفع الملك إلى الأمام وهاجم ونظم صفوف جنوده وجعل من نفسه مثالاً للجرأة. وجرى العرف أن يكافئ الحاكم المنتصر مَن يظهرون شجاعة خاصة بتنصيب طبقة جديدة من الفرسان في الميدان، ولكن فرانسيس قبل أن يفعل هذا أقدم على حركة لها مغزاها لم يسبقه إليها أحد. فقد ركع أمام بيير، سنيور دي بايار، وطلب تنصيبه فارساً على يد الفرس المشهور، الذي لم يتطرق إليه الخوف، ولم يوجه إليه اللوم، فاحتج بايار بأن الملك، بحكم(25/28)
وظيفته، فارس الفرسان ولا حاجة به إلى تشريف إلا أن الملك الشاب، كان لا يزال في الحادية والعشرين من عمره، أصر على ذلك ومضى بايار يقوم بالمراسيم التقليدية بجلال، ثم طرح سيفه وهو يهتف "لا شك يا سيفي العزيز أنك سوف تحفظ كأي أثر، وتنال من التشريف فوق ما تناله السيوف الأخرى جميعاً، لأنك في هذا اليوم أضيفت على ملك وسيم قوي صفة الفروسية، وإني لن أحملك قط بعد ذلك إلا لمحاربة الأتراك والمغاربة والعرب (51"). ودخل فرانسيس بصفته صاحبها وبعث بدوقها المعزول إلى فرنسا وخصص له مرتباً مجزياً واستولى أيضاً على بارما وبياتشنزا ووقع مع ليو العاشر، في احتفالات رائعة في بولونيا، معاهدة واتفاقية يخولان البابا والملك على السواء أن يدعيا الحصول على نصر دبلوماسي.
وعاد فرانسيس إلى فرنسا معبودا لمواطنيه بل ولأوروبا تقريباً، فقد سحر جنوده بمشاطرته إياهم ما لاقوه من مشاق وتفوقه عليهم في الشجاعة، وعلى الرغم من أنه في غمرات انتصاره قد انغمس في التيه بنفسه، فإنه خفف من غلوائه، بالثقة بآخرين وتلطيف حدة كل أنانية بكلمات الثناء والتمجيد. وارتكب وهو ثمل بالشهرة أكبر خطأ في حياته. ذلك أنه رشح نفسه للتاج الإمبراطوري. وانزعج، وهو على حق، باحتمال أن يصبح شارل الأول، ملك أسبانيا ونابلي وكونت الفلاندرز وهو هولندة على رأس الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة - بكل تلك المطالب في لومباردي ومن ثم ميلان، التي غزا مكسمليان من أجلها إيطاليا مراراً، وسوف تكون فرنسا، في نطاق إمبراطورية جديدة مثل هذه، محاطة بأعداء لا يقهرون في الظاهر.
وقدم فرانسيس الرشا، وخسر أمام شارل الذي قدم من الرشا أكثر منه وفاز (1519)، وبدأت المنافسة المريرة التي جعلت غربي أوروبا يعج بالاضطرابات إلى ما قبل وفاة الملك بثلاث سنوات.(25/29)
ولم يعدم شارل وفرانسيس من الأسباب ما يدعو إلى تبادل العداء، فقد زعم شارل، حتى قبل أن يصبح إمبراطوراً أن له الحق في أن يطالب بورغنديا لأنه حفيد ماري ابنة شارل الجسور، وأبى أن يعترف باتحاد بورغنديا مع التاج الفرنسي. وكانت ميلان من الوجهة الرسمية إقطاعية في الإمبراطوريّة، واستمر شارل في فرض الاحتلال الإسباني لنافار، وأصر فرانسيس على أن تعود إلى هنري دلبريه. وطرحت بواعث الحرب هذا السؤال العويص: مَن هو سيد أوروبا: شارل أم فرانسيس؟ وأجاب الأتراك بل سليمان.
ووجه فرانسيس الضربة الأولى، فعندما لاحظ أن شارل مشغول بثورة سياسية في أسبانيا وثورة دينية في ألمانيا أرسل جيشاً عبر جبال البرانس للاستيلاء على نافار من جديد، فهزم في حملة أهم حادث فيها هو إصابة أجناسيوس لويولا بجرح (1521). وانطلق جيش آخر جنوباً للدفاع عن ميلان، وتمرد الجند بسبب عدم دفع المرتبات، وهزمتهم الجنود الإمبراطوريّة المرتزقة هزيمة منكرة في لابيكوكا، وسارعت ميلان ترتمي في أحضان شارل الخامس (1522) وانطلق قائد الجيوش الفرنسية لمقابلة الإمبراطور لكي يتغلب على هذه الحوادث.
وكان شارل، دوق أف بورمبون رأس أسرة قوية قدر لها أن تحكم فرنسا من عام 1589 إلى عام 1792. وكان أغنى رجل في البلاد بعد الملك وبين تابعيه 500 نبيل، وكان آخر البارونات العظام الذين يستطيعون أن يتحدوا ملك الدولة المتمركزة وقتذاك. وقدم لفرانسيس خدمة جليلة في الحرب، وقاتل بشجاعة في مارنينيانو، أما في الحكم فلم يخدمه بهذا القدر إذ دفع أهالي ميلان إلى النفور منه بسبب حكمه الجائر، ولما وجد أن الملك لم يزوده بالأموال الكافية 100. 000 من ماله الخاص، وهو يتوقع أن تسدد له، ولكنه لم يتسلم شيئاً. وكان فرانسيس ينظر بعين الارتياب والحسد إلى هذا القيل الذي يوشك أن يكون ملكاً، فاستدعاه(25/30)
من ميلان ووجه إليه إهانات حمقاء أو مقصودة تسببت في أن يكون بوربون خصمه اللدود، وكان الدوق قد تزوج سوزان أميرة بوربون التي أوصت أمها بأن تعود ضياعها الشاسعة إلى التاج إذا ماتت سوزان دون أن تعقب ذرية. وماتت سوزان (عام 1521) ولكن بعد أن حررت وصية تركت فيها كل أملاكها لزوجها. وطالب فرانسيس وأمه بالأملاك باعتبارهما أقرب سليلين لدوق بوربون السابق. وعارض شارل هذا الادعاء وأصدر المجلس النيابي في باريس قراراً ضده. واقترح فرانسيس عقد صلح بمقتضاه يكون للدوق الحق في ربع الأملاك حتى وفاته؛ بيد أنه رفض الاقتراح. وعرضت لويز، وكانت وقتذاك في الحادية والخمسين على الدوق البالغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً أن يتزوجها مع صك ملكية صريح بالأملاك كبائنة لها، فرفض. وقدم له شارل الخامس عرضاً يبز العرض السابق: هو أن يزود شقيقته اليونورا وأن يؤيد مطالبه تأييداً كاملاً بجنود الإمبراطوريّة، وقبل الدوق وفر ليلاً عبر الحدود، وعين قائداً برتبة لفتنانت جنرال للجيش الإمبراطوري في إيطاليا (1523).
وأنفذ فرانسيس ضده لونيفيه. وأثبت عشيق مرجريت أنه غير كفء وسحق الدوق جيشه في رومانيانو، وفي اثناء تقهقر الجيش أصيب الشيفاليه دي بابار، قائد حرس المؤخرة الخطيرة بجرح قاتل بطلقة من سلاح ناري (30 أبريل سنة 1524) ووجده بوربون الظافر يحتضر تحت شجرة، فقدم له بعض عبارات الثناء على سبيل المواساة فرد عليه بايار "مولاي إني أستحق الرثاء، أنا أموت بعد أن أديت واجبي، ولكني أرثي لك إذ أراك تعمل ضد مليكك وبلدك وتحنث بقسمك (52) ". وتأثر الدوق ولكنه كان قد أحرق خلفه كل الجسور وعقد اتفاقاً مع شارل الخامس وهنري الثامن ينص على أن يقوم الثلاثة بغزو فرنسا في آن واحد، وأن يتغلبوا على كل القوات الفرنسية، ويقسموا البلاد بينهم. وكان نصيب الدوق من الصفقة أن يدخل(25/31)
بروفالس، ويأخذ إكس ويضرب حصاراً على مرسيليا، ولكن حملته كانت تفتقر إلى المؤن وقوبلت بمقاومة عنيفة غير متوقعة وانهارت فتراجع إلى إيطاليا (سبتمبر سنة 1524).
ورأى فرانسيس أن من الحكمة أن يطارده، ويستولي من جديد على ميلان وأشار عليه بونيفيه، وهو أحمق حتى النهاية، بأن يستولي أولاً على بافيا ثم بنقض على ميلان من الجنوب، فوافق الملك وضرب عليها الحصار (26 أغسطس سنة 1524)، ولكن الدفاع هناك أيضاً كان أقوى من الهجوم، وظل الجيش الفرنسي محجوزاً عند الخليج أربعة اشهر، وفي غضونها جمع بوربون وشارل أمير لانوي (نائب الملك في نابلي) والمركيز دي بسكارا (زوج فتوريا كولونا) جيشاً جديداً قوامه 27. 000 رجل. وفجأة ظهرت هذه القوة خلف الفرنسيين. وفي اليوم نفسه (24 فبراير سنة 1525) وجد فرانسيس قواته يهاجمها هذا الحشد غير المتوقع من جانب، وقوات المحاصرين في بافيا من جانب آخر. وحارب كالعادة في طليعة المشتبكين، وقتل بسيفه الكثيرين من الأعداء، حتى ظن أن النصر قد تحقق، ولكنه ضحى بقيادته العسكرية في سبيل إظهار شجاعته، وكانت قواته موزعة توزيعاً سيئاً، ومشاته يسيرون بين مدفعيته والعدو، وبهذا جعلوا المدفعية الفرنسية المتفوقة عديمة الجدوى. وتفشى الاضطراب في صفوف الفرنسيين، وفر دوق النسون، وسحب معه حرس المؤخرة، وصاح فرانسيس في جيشه الذي دبت فيه الفوضى أن يسير وراءه إلى ساحة القتال، ولكن لم يرافقه إلا أعظم نبلائه شهامة. وأعقب هذا مذبحة في الفرسان الفرنسيين، وأصيب فرانسيس بجروح في وجهه وذراعيه وساقيه، ولكنه ظل يضرب بلا كلل، وتهاوى فرسه تحته ومع ذلك ظل يقاتل. وسقط فرسانه المخلصون واحداً إثر الآخر إلى أن ترك وحيداً، وأحدق به جنود الأعداء، وكان على وشك أن يلقى مصرعه، عندما تعرف عليه(25/32)
ضابط فأنقذه واقتاده إلى لانوي، الذي تقبل سيفه، وهو يقوم بانحناءات خفيفة للدلالة على الاحترام.
واعتقل الملك في قلعة بيزيجيتون بالقرب من كريمونا، حيث سمح له بأن يرسل إلى أمه التي كانت تحكم فرنسا أثناء غيابه رسالته التي كثيراً ما نقلت كما هي، وكثيراً ما نقلت محرفة:
"إلى نائبة الملك في فرنسا: سيدتي، بودي أن تعرفي مدى معاندة البقية الباقية من سوء حظي. لم يبقَ لي في لعالم سوى الشرف وحياتي التي أنقذت، ولكي تحمل إليكِ هذه الأنباء، وأنتِ في بؤسكِ، القليل من العزاء، توسلت إليهم أن يسمحوا لي بكتابة هذه الرسالة إليكِ ... وأنا أتوسل إليكِ ألا تقدمي على أي عمل طائش، وأنتِ تباشرين ما عرفت به من فطنة معتادة، لأني أرجو، بعد كل شيء ألا يتخلى عني الله (53) ".
وبعث برسالة مماثلة إلى مرجريت التي ردت على الخطابين:
"مولاي: إن الفرحة التي مازلنا نشعر بها عندما تلقينا خطابيك الكريمين، اللذين أسعدك أن تكتبهما لي ولأمك، تجعلنا نحس بالسعادة لاطمئناننا على صحتك التي تتوقف عليها حياتنا، ويخيل إلي أننا ينبغي ألا نفكر في شيء سوى أن نحمد الله وأن نتوق إلى أن تصلنا باستمرار أنباؤك الطيبة، وهي خير زاد نستطيع أن نعيش عليه. وبما أن الخالق قد من علينا بأن يبقى ثالوثنا متحداً أبداً فإن الاثنين الآخرين يتوسلان إليك أن تتقبل هذا الخطاب، عندما يقدم إليك، وأنت الثالث، بنفس المودة القلبية التي تقدمها إليك خادمتاك المتواضعتان المطيعتان والدتك وشقيقتك".
لويز، مرجريت (54).
وكتب فرانسيس إلى الإمبراطور في مدريد رسالة جد متواضعة يقول له فيها "إذا كان يسرك أن ينطوي قلبك على قدر قليل من العطف، فتأخذ على عاتقك مهمة إنقاذ حياة ملك فرنسا الأسير إنقاذاً يستحقه عن(25/33)
جدارة ... ففي وسعك أن تكون على ثقة من الحصول على كسب بدلاً من أسير لا نفع منه، وبهذا تجعل ملك فرنسا عبدك إلى الأبد"، ولم يكن فرانسيس قد تدرب على احتمال المأساة (55).
وتلقى شارل أنباء انتصاره بهدوء ورفض أن يحتفل به، كما اقترح كثيرون في مهرجان رائع. وانسحب إلى مخدعه (كما يقال لنا) وركع يصلي. وأرسل إلى فرانسيس ولويز ما خيل له أنها شروط معتدلة لتحقيق السلام وتحرير الملك:
(1) على فرانسيس أن يتخلى عن بورغنديا وأن يتنازل عن كل مطالبه في الفلاندرز وأرتوا وإيطاليا.
(2) يجب تسليم الدوق بوربون كل الأراضي والمناصب التي يطالب لها.
(3) يجب منح الاستقلال لكل من بروفانس ودوفيني.
(4) يجب أن تعيد فرنسا إلى إنجلترا كل الأراضي الفرنسية التي كانت تابعة فيما سبق لبريطانيا - أي نورماندي وأنجو وغسقونيا وجين.
(5) على فرانسيس أن يوقع حلفاً مع الإمبراطور وينضم إليه في حملة توجه ضد الأتراك.
فأجابت لويز بأن فرنسا لن تتنازل عن قيراط واحد من الأراضي، وأنها مستعدة للدفاع عن نفسها حتى آخر رجل. وتصرف نائبة الملك وقتذاك بقوة وعزم وذكاء مما حمل شعب فرنسا على أن يصفح عن أخطائها التي ركبت فيها رأسها. وعملت في الحال على تنظيم وإعداد جيوش جديدة وأقامتها لحراسة كل المراكز المحتمل أن تتعرض للغز ولكي تصرف ذهن الإمبراطور عن فرنسا حثت سليمان عاهل تركيا على أرجاء هجومه(25/34)
على بلاد الفرس وأن يقوم بدلاً من ذلك بحملة تتجه غرباً، ولا نعرف الدور الذي لعبه توسلها في القرار الذي اتخذه السلطان، ولكنه زحف عام 1526 إلى هنغاريا وألحق هزيمة منكرة بجيش المسيحيين في موهاكس، بلغت من الشدة حداً جعل قيام شارل بأي غزو لفرنسا بمثابة خيانة للعالم المسيحي. وفي الوقت نفسه أوضحت لويز لهنري الثامن وكليمنت السابع أن إنجلترا والبابوية على السواء سوف تنحدران إلى مرتبة العبودية إذا سمح للإمبراطور بالحصول على كل الأراضي التي طلبها. وتردد هنري فألحت لويز وعرضت عليه تعويضاً قدره 2. 000. 000 كراون فوقع حلفاً دفاعياً هجومياً مع فرنسا (30 أغسطس سنة 1525) وفتحت هذه الدبلوماسية الأنثوية عيون الرجال وحطمت ثقة شارل بنفسه.
ونقل الملك الأسير إلى أسبانيا بمقتضى اتفاقية بين لويز ولانوي والامبراطور، وعندما وصل فرانسيس إلى بلنسية (2 يوليو سنة 1525) بعث إليه شارل برسالة رقيقة، ولكن معاملته لأسيره لم ترتفع إلى مقام الفروسية. وخصصت لفرانسيس غرفة ضيقة في قلعة قديمة في مدريد ووضعت عليه حراسة مشددة، وكانت الحرية الوحيدة التي منحت له هي أن يمتطي ظهر بغل بالقرب من القلعة تحت رقابة حراس مسلحين راكبين، وطلب مقابلة شارل ولكن شارل أجل هذه المقابلة وسمح بسجن فرانسيس أسبوعين سجناً أثار قلقه وغيظه، حتى يخضع فرانسيس لدفع ثمن باهظ مقال الحصول على حريته. وعرضت لويز أن تقابل الإمبراطور وتتفاوض معه ولكنه رأى من الأفضل أن يلعب على سجينه بدلاً من أن يتعرض لفتنة امرأة تجعله يجنح إلى التساهل. فأبلغته بأن ابنتها مرجريت، وهي أرملة وقتذاك سوف يسعدها أن تجدها جلالته الإمبراطوريّة، مناسبة له، ولكنه آثر عليها إزابلا أميرة البرتغال، بصداقها البالغ قدره 900. 000 كراون. فهي تستطيع(25/35)
ان تزوده في الحال بالمخدع والمأوى، وبعد أن أمضى فرانسيس شهرين في سجنه يتلهف فيه على حريته سقط صريع مرض خطير. وانطلق الأسبان إلى كنائسهم يصلون من أجل الملك الفرنسي آسفين لقسوة الإمبراطور. وصلى شارل أيضاً، لأن الملك إذا مات فلن يكون له أهمية كرهينة سياسية، وزار فرانسيس زيارة قصيرة ووعده بقرب إطلاق سراحه وبعث لمرجريت يأذن لها بالحضور ومواساة أخيها.
وسافرت مرجريت بحراً من ايجسمورت (27 أغسطس سنة 1525) إلى برشلونه وهناك حملت في هودج بطيء ملتوٍ اخترق بها نصف طول أسبانيا إلى مدريد، ووجدت السلوى في قرض الشعر وبعث رسائل حارة متميزة إلى الملك، وقالت "مهما يطلب مني، حتى ولو كان أن أنثر رماد عظامي في مهب الريح لأؤدي لك خدمة، فليس فيه أمر غريب أو صعب أو شاق بالنسبة لي، وحسبي أن أجد فيه السلوى والراحة والطمأنينة والشرف (56) ". وعندما وصلت بعد لأي إلى مخدع أخيها وجدته يتعافى بشكل ملموس، بيد أنه أصيب بنكسة يوم 25 سبتمبر ودخل في غيبوبة، وخيل لمن حوله أنه يحتضر. وركعت مرجريت هي والأسرة يصلون، وناوله أحد القساوسة القربان المقدس. وتلت هذا فترة نقاهة مضنية. ولبثت مرجريت شهراً مع فرانسيس ثم انطلقت إلى طليطلة لتطلب من الإمبراطور الرحمة، فتلقى توسلاتها بفتور، وكان قد علم بحلف هنري مع فرنسا وتلهف على معاقبة حليفه الأخير على ريائه ولويز على جرأتها.
ولم تبقَ في يد فرانسيس إلا ورقة واحدة يلعب بها، ولو أن من المحقق أو يكاد أنها قد تعني سجنه مدى الحياة، وبعد أن أنذر شقيقته بمغادرة أسبانيا بأسرع ما يمكن وقع (نوفمبر سنة 1525) خطاباً رسمياً أعلن فيه تنازله عن العرش لابنه الأكبر، ولما كان فرانسيس الثاني هذا صبياً لا يتجاوز(25/36)
عمره ثماني سنوات، فقد عين لويز - وتحل محلها في حالة وفاتها - مرجريت وصية على عرش فرنسا، وأدرك شارل في الحال أن ملكاً بلا مملكة، لا يملك شيئاً يتنازل عنه، لا فائدة ترجى منه، بيد أن جلد فرانسيس من الناحية البدنية كان أقوى من شجاعته المعنوية، ففي يوم 14 يناير سنة 1526 وقع مع شارل معاهدة مدريد وكانت شروطها في جوهرها هي بعينها التي عرضها الإمبراطور على لويز، بل كانت أقسى منها، لأنها اقتضت أم يسلم أكبر ابنين للملك إلى شارل رهينتين لضمان تنفيذ الاتفاقية بإخلاص، وفضلاً عن هذا فإن فرانسيس وافق على أن يتزوج إليونورا شقيقة الإمبراطور ملكة البرتغال الأرملة، وأقسم على أنه سيرجع إلى أسبانيا ليعود للسجن إذا لم ينفذ بنود المعاهدة (57). ومهما يكن من شيء فإنه أودع في يوم 22 أغسطس سنة 1525 مع مساعديه وثيقة رسمية تلغي مقدماً جميع العهود والاتفاقيات والتنازلات والمخالصات وكل إلغاء وانتقاص وقسم يمكن أن يتعارض مع شرفه وصالح تاجه. وفي عشية توقيع المعاهدة ردد هذه العبارة للمفاوضين معه من الفرنسيين وأعلن أنه وقع بطريق الإكراه، والقسر والاعتقال وطول السجن، وأن كل ما تضمنته الوثيقة كان، ويجب أن يظل باطلاً ولا أثر له (58).
وفي يوم 17 مارس 1526 سلم نائب الملك لانوي وفرانسيس إلى المارشال لوتريك على ظهر نقالة مليئة في نهر بيداسوا، الذي يفصل إيرون الأسبانيّة عن هنداي الفرنسية، وتسلم لانوي بدلاً منه الأميرين فرانسيس وهنري. ومنحهما أبوهما بركة ودمعة، وهرع إلى الأرض الفرنسية. وهناك قفز على ظهر جواد وصاح في ابتهاج "ها أنذا ملك من جديد؟ " وركب إلى بايون حيث كانت لويز ومرجريت في انتظاره وأمضى في بوردو وكونياك ثلاثة شهور قضاها في اللهو والرياضة ليسترد صحته وشغل نفسه بحب صغير. ولم لا؟ ألم يعش عاماً عيشة الرهبان؟ وكانت لويز التي(25/37)
اشتجر النزاع بينها وبين الكونتيسة دي شاتوبريان قد أحضرت معها وصيفة شرف جميلة شقراء الشعر، تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً هي آن دي هيلي دي بسسليو التي أصابت بسهامها، كما كان مقدراً، عيني الملك الجائعتين، فتودد إليها في اندفاع، وسرعان ما ظفر بها حظية له. وشاركت الحظية الجديدة منذ تلك اللحظة إلى أن فرقهما الممات لويز ومرجريت قلب الملك. وتحملت في صبر زواجه بإليونورا وعلاقاته غير الشرعية العارضة. ومنحها لإنقاذ المظاهر زوجاً هو جين دي بروس، وأنعم عليه بلقب دوق كما أنعم عليها بلقب دوقة ديتامب، وابتسم في إعتزاز عندما انسحب جين إلى ضيعة نائية في بريتاني.
6 - الحرب والسلام
1526 - 1547
عندما عرفت شروط معاهدة مدريد بصفة عامة أثارت تقريباً عداء عالمياً لشارل، فقد ارتجف البوتستانت الألمان عندما توقعوا مواجهة عدو عزز قواه إلى هذا الحد. واستاءت إيطاليا من ادعائه الحق في السيادة على لومباردي، وأحل كليمنت السابع فرانسيس من قسمه الذي كان قد ارتبط به فرانسيس في مدريد، وانضم إلى فرنسا وميلان وجنوا وفلونا والبندقية في تكوين حلف كونياك للدفاع المشترك (22 مايو سنة 1526)، ووصف شارل، فرانسيس بأنه "ليس بالسيد المهذب"، وأمره أن يعود إلى سجنه الإسباني، وأصدر أوامره بتشديد اعتقال ابني الملك، وأطلق العنان لقواده لتأديب البابا.
وتدفق جيش إمبراطوري، احتشد في ألمانيا وأسبانيا، إلى إيطاليا وتسلق بالسلالم أسوار روما (مات الدوق بوربون في العملية)، ونهب المدينة نهباً كاملاً أكثر مما فعل بها القوط أو الوندال من قبل، وقتل 4. 000 روماني وسجن كليمنت في سان أنجيلو. وأكد الإمبراطور، الذي كان قد بقي في(25/38)
أسبانيا لأوربا المذعورة أن جيشه الجائع قد تجاوز تعليماته، ومع ذلك فإن ممثليه في روما احتفظوا بالبابا سجيناً في سان أنجيلو من 6 مايو إلى 7 ديسمبر سنة 1527، وأكرهوا بابا يكاد يكون مفلساً على دفع تعويض قدره 368. 000 كراون.
واستغاث كليمنت بفرانسيس وهنري وطلب منهما العون، فبعث فرانسيس إلى إيطاليا لوتريك على رأس جيش نهب بافيا منتقماً منها في تهور لمقاومتها له عامين قبل ذلك، وتساءل الإيطاليون هل الأصدقاء الفرنسيون أفضل من الأعداء الألمان. ومر لوتريك على روما مرور الكرام وحاصر نابولي وبدأت المدينة تعاني من المجاعة. وفي غضون ذلك كان فرانسيس قد أغضب أندريا دوريا قائد بحرية جنوا، فاستدعى دوريا أسطوله من حصار نابولي وانضم إلى جانب الإمبراطور ومون المحاصرين. وهلك جيش لوتريك جوعاً بدوره، ومات لوتريك نفسه وذاب جيشه (1528).
ولا تكاد ملهاة الحكام تفرج كرب الشعب، وعندما ظهر مبعوثوا فرانسيس وهنري في بورجوس لإعلان الحرب بصفة رسمية، رد شارل على المبعوث الفرنسي رداً فاجعاً بقوله "إن ملك فرنسا ليس في موقف يسمح له بتوجيه مثل هذا الإعلان إلّي، إنه أسيري. إن مولاكم قد تصرف مثل أي جبان أفاق بعدم محافظته على وعده الذي ارتبط به في معاهدة مدريد، وإذا راقه أن يقول ما يخالف هذا فإني سوف أحافظ على وعدي له بحياتي مقابل حياته (59) ".
وقبل فرانسيس تواً هذا التحدي إلى البراز وبعث إليه رسولاً يقول له: "لقد قلت إفكاً وبهتاناً مبيناً": واستجاب شارل بعظمة، وعين مكان للنزال وطلب من فرانسيس أن يحدد موعد اللقاء، بيد أن النبلاء الفرنسيين اعترضوا طريق الرسول وأدت إجراءات التأخير المستأنية إلى تأجيل المباراة(25/39)
إلى ما لا نهاية. فقد بلغت الأمم درجة من النمو لا يمكن عندها تسوية خلافاتها الاقتصادية أو مصالحها السياسية بنزال فردي أو بجيوش صغيرة من المرتزقة التي كانت تقوم بلعبة الحرب في إيطاليا إبان عصر النهضة، ولا شك أن الطريقة الحديثة لحسم الأمور بالتنافس في التدمير قد اتخذت شكلها في هذا النزاع بين آل هامسبورج وفالوا (1).
واقتضى الأمر أن تتصدى امرأتان لتلقين الحاكمين فن السلام وحكمته، فقد اتصلت لويز أميرة سافوي بمرجريت النمسوية نائبة الملك في الأراضي المنخفضة، واقترحت عليها أن يتخلى فرانسيس، المتلهف على عودة ابنيه، عن كل مطالبه في الفلاندرز وارنوا وإيطاليا وأن يدفع فدية قدرها 2. 000. 000 كارون ذهبي، لإطلاق سراح ولديه، على ألا يتنازل أبداً عن بورغنديا، وأقنعت مرجريت ابن أخيها بإرجاء مطالبته ببورغنديا وأن ينسى مطالب الدوق بوربون، الذي مات وقتذاك في الوقت المناسب.
وفي 3 أغسطس عام 1529 وقعت المرأتان ومعاونوهما الدبلوماسيون معاهدة صلح السيدات في كامبراي، وحصلت الفدية من التجارة والصناعة ودم فرنسا، ونعم بالحرية من جديد أميرا البيت المالك بعد أربع سنوات من الأسر، وعادا بقصص تروى عن المعاملة القاسية التي أثارت فرانسيس وفرنسا. وبينما وجدت المرأتان القديرتان سلاماً دائماً- مرجريت عام 1530
_________
(1) كانت المبارزة في العصور الوسطى بمثابة إجراء مشروع تجيزه الملكية أو القضاء ويشرفان عليه يحتكم به الخصمان إلى الله. وأصبحت في القرن السادس عشر بمثابة دفاع فردي وخاص عن الشرف المهبض. وتطورت قوانينها الصارمة الخاصة بها خارج قوانين الدولة، وأسهمت إلى حد ما في تطوير قواعد السلوك المهذب والضبط الحصيف للنفس. وكانت المبارزة مصرحاً بها قانوناً في فرنسا بعد عام 1547، وظل الرأي العام يجيزها. أما في انجلترا فلم تكن تمارس في عهد اليزابث، وعلى أي حال فإن الاحتكام إلى المبارزة ظل مشروعاً هناك حتى عام 1817.(25/40)
ولويز عام 1531 - أخذ الملكان يعدان العدة لاستئناف الحرب بينهما.
وتلفت فرانسيس حوله في كل مكان يطلب العون، فأرسل إلى هنري الثامن مبلغاً من المال للتهدئة لأنه تجاهله تقريباً في تسوية كامبراي، وتعهد هنري، وقد أغضبه شارل لمعارضته في "طلاقه"، بتأييد فرنسا. وفي عام أو نحوه تفاوض فرانسيس للدخول في أحلاف مع الأمراء البروتستانت الألمان ومع الأتراك ومع البابا. ومهما يكن من أمر فإن الحبر الأعظم المتذبذب سرعان ما عقد صلحاً مع شارل وتوجه إمبراطوراً (1530) - هو آخر تتويج لإمبراطور في الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة قام به بابا. ثم ارتاع كليمنت من ملك كان في الواقع قد حول إيطاليا إلى مقاطعة في ملكه، فسعى إلى عقد رابطة جديدة مع فرنسا بعرضه زواج ابنه أخيه كاترين دي مديتشي من ابن فرانسيس، هنري دوق أورليان، والتقى الملك والبابا في مارسيليا (28 أكتوبر سنة 1533)، وقام البابا بنفسه بمراسيم الزواج ذي المغزى التاريخي. ومات كليمنت بعد عام، ولم يكن قد استقر رأيه بعد على أي شيء.
وكان الإمبراطور، الذي شاخ وهو في الخامسة والثلاثين، يحمل أعباءه الملقاة على عاتقه في عزم واهن. وذعر عندما علم- من كلمة وزير السلطان إلى فرديناند ملك النمسا- أن حصار الأتراك لفيينا عام 1529، إنما تم استجابة لاستغاثة فرانسيس ولويز وكليمنت السابع لمساعدتهم ضد الإمبراطوريّة التي كانت تطوقهم (60). وفضلاً عن هذا فإن فرانسيس تحالف مع الزعيم التونسي خير الدين بارباروسا الذي كان يكدر صفو التجار المسيحيين في غربي البحر الأبيض المتوسط، ويغير على المُدن الساحلية ويسوق الأسرى من المسيحيين إلى أسواق النخاسة. وحشد شارل جيشاً آخر وأسطولاً ثانياً وعبر البحر إلى تونس (1535)، واستولى عليها،(25/41)
وحرر 10. 000 عبد مسيحي وكافأ جنوده الذين لم تدفع رواتبهم بإطلاق العنان لهم لنهب المدينة وذبح السكان المسلمين.
وعاد شارل إلى روما (5 أبريل سنة 1536) بعد أن ترك حاميات في بونا ولاجوليتا عودة المدافع المظفر للعالم المسيحي ضد العالم الإسلامي وملك فرنسا. وفي غضون ذلك كان فرانسيس قد جدد مطالبته بميلان، وفي مارس عام 1536 غزا دوقية سافوي لإزالة العقبة التي تعترض طريقه إلى إيطاليا. واستشاط شارل غضباً، وفي خطاب حار ألقاه أمام بول الثالث البابا الجديد ومجمع الكرادلة بأسره أخذ يعدد مرة أخرى جهوده من أجل السلام. وانتهاك الملك الفرنسي لمعاهدتي مدريد وكامبواي و "الأحلاف التي عقدها جلالته نصير المسيحية العظيم" (كما كان يسمى فرانسيس) مع أعداء الكنيسة في ألمانيا وأعداء المسيحية في تركيا وإفريقية، وأنهى خطابه بتحدي فرانسيس مرة أخرى إلى البراز قائلاً: "دعونا لا نستمر في المجازفة بسفك دماء رعايانا الأبرياء، دعونا نحسم النزاع بالنزال رجلاً أمام رجل بأي أسلحة يروقه أو يختارها. وبعد ذلك دعوا القوات المتحدة لألمانيا وإسبانيا وفرنسا تستخدم لكسر شوكة الأتراك واستئصال الهرطقة من العالم المسيحي".
كان خطاباً بارعاً لأنه أجبر البابا على أن ينحاز إلى صف الإمبراطور، ولكن أحداً لم يأخذ عرضه الخاص بالمبارزة محمل الجد، فقد كان القتال بالتفويض أسلم، وغزا شارل بروفانس (25 يوليو سنة 1536) بجيش قوامه 50. 000 رجل وكان يأمل أن يهاجم جناح الفرنسيين أو يشغلهم في سافوي بالزحف أعلى الرون. ولكن القائد آن دي مونمورانس أمر القوات الفرنسية الضعيفة بأن تحرق أثناء انسحابها كل شيء يمكن أن يتزود به جنود الإمبراطور، وسرعان ما تخلى شارل عن الحملة وكان دائماً يعوزه(25/42)
المال ولا يستطيع أن يقدم الطعام لرجاله. وكان بولس الثالث يتلهف على إطلاق يد شارل للقيام بهجوم على الأتراك أو اللوثريين فأقنع العملاق المشلول بالاتقاء معه- في حجرات منفصلة تثير الحماسة ت بمدينة نيس وتوقيع هدنة لمدة عشر سنوات (17 يونيه 1538). وبعد شهر قامت اليونورا، وهي زوجة أحدهما، وشقيقة الآخر، بتدبير لقاء شخصي بين الملك والإمبراطور في إيجسمورت. وهناك نسيا أنهما ملكان وأصبحا إنسانين، وركع شارل يحتضن أصغر أولاد الملك، وأعطاه فرانسيس ماسة ثمينة مركبة علة خاتم نقشت عليه عبارة: "شاهد ورمز للحب"، وخلع شارل من جيده طوق الجزة الذهبية، وانطلقا معاً لسماع القداس، وابتهج أهل المدينة لشيوع السلام وهتفوا: "الامبراطور! الملك"، وعندما ثارت غنت ضد شارل (1539) وانضمت إلى بروجس وإيبرس في عرض نفسها على فرانسيس، قاوم الملك الإغراء، وعندما وجد شارل، في أسبانيا أن سفن المتمردين أو خشية الإبحار تسد الطرق البحرية، أجاب فرانسيس طلبه المرور في فرنسا. وأشار على الملك مشيروه بأن يكره الإمبراطور وهو في الطريق، على توقيع تنازل عن ميلان للدوق أورليان، ولكن فرانسيس رفض وقال: "عندما تقوم بشيء كريم يجب أن تفعله كاملاً وبجرأة". ووجد مهرج البلاط يكتب في "يوميات مهرج" اسم شارل الخامس، لأنه كما قال تريبوييه أنه يكون أشد بلاهة مني لو أتى ليمر من خلال فرنسا" فساله الملك: "وماذا تقول إذا تركته يمر؟ " فقال: "سوف أمحو اسمه وأدون اسمك مكانه" (61). وترك فرانسيس، شارل يمر دون أن يعوقه أحد وأمر كل مدينة في الطريق أن تستقبل الإمبراطور بما يستحق من تكريم ملكي واحتفالات.
وانتهت الصداقة المقلقلة عندما أسر الجنود الأسبان بالقرب من بافيا المبعوثين الفرنسيين وهم يحملون عروضاً جديدة من فرانسيس إلى سليمان(25/43)
للتحالف معه (يوليو سنة 1541). وفي هذه الفترة كان بارباروسا يغير مرة أخرى على المُدن الساحلية في إيطاليا. وسافر شارل بحراً من مالوركا مع أرمادا (1) أخرى للقضاء عليه، ولكن الأسطول واجه عواصف شديدة أجبرته على العودة خاوي الوفاض إلى أسبانيا. وكان حظ الإمبراطور في هبوط، فقد ماتت زوجته الشابة (1639) التي كان قد تعلم أن يحبها وكانت صحته تتدهور، وأعلن فرانسيس الحرب عليه عام 1542 بسبب ميلان، وكان حلفاء الملك وقتذاك السويد والدانمارك وجلدرلاند وكليف وسكوتلندة والأتراك والبابا، ولم يؤيد شارل إلا هنري الثامن في مقابل ثمن ما، ورفض المجلس التشريعي الإسباني الموافقة على إعانات مالية إضافية من أجل الحرب، وانضم الأسطول التركي إلى الأسطول الفرنسي في ضرب الحصار على نيس، وكانت وقتذاك أرضاً تابعة للإمبراطور (1543)، وفشل الحصار، إلا أن بارباروسا وجنوده المسلمين سمح لهم بقضاء الشتاء في طولون حيث باعوا علناً عبيداً من المسيحيين (62). واسترد الإمبراطور في صبر زمام الموقف فوجد وسيلة لإصلاح ذات البين مع البابا، وكسب إلى صفه فيليب الهسي بالتغاضي عن زواجه من اثنتين، وهاجم دوق كليف وتغلب عليه، ووثق صلته بحلفائه الإنجليز وواجه فرنسا بقوة عظيمة جداً حملت فرانسيس على الانسحاب والتسليم له بأمجاد الحملة (أكتوبر سنة 1543).
ورحب شارل مرة أخرى، بعد أن وجد أنه فقير جداً إلى حد لا يستطيع معه أن يزود جيشه بالميرة، بعرض للسلام ووقع مع فرانسيس معاهدو كريبي (18 سبتمبر سنة 1544). وتخلى الملك عن مطالبه في الفلاندرز وارتوا ونابلي ولم يعد شارل يطالب ببورغندا، وسوف تتزوج أميرة، من آل هايسبورج، من أمير فرنسي، وتقدم إليه ميلان صداقاً لها. (كان يمكن تدبير معظم ذلك سلمياً عام 1525).
_________
(1) أسطول حربي كبير شبيه بالإرمادا المشهورة.(25/44)
وكان شارل وقتذاك مطلق اليد في التغلب على البروتستانت في ملبرج وقد صوره نيسيان هناك، وهو لا يشكو من داء النقرس، فخوراً منتصراً، منهوكاً متعباً بعد ألف من التقلبات ومائة من انقلابات عجلة الحظ الساخرة.
أما فرانسيس فقد انتهى أمره وانتهت معه كذلك فرنسا أو كادت، وهو إلى حد ما لم يفقد شيئاً سوى الشرف، وقد حافظ على بلادة بتعجل ترك المثل العليا للفروسية، ومع ذلك فقد كان يمكن قدوم الأتراك دون أن يوجه الدعوة إليهم، وقد أعان مجيئهم فرانسيس على كبح جماح الإمبراطور الذي لو لم يجد مقاومة، لنشر محكمة التفتيش الأسبانيّة في الفلاندرز وهولندة وسويسرا وألمانيا وايطاليا، وقد وجد فرانسيس فرنسا تنعم بالسلام والرخاء، وتركها مفلسة على حافة حرب أخرى. وقبل وفاته بشهر، وبينما كان يقسم مؤكداً صدقاته لشارل، أرسل 200. 000 كراون إلى البروتستانت في ألمانيا لتأييدهم ضد الإمبراطور (63)، وهو- وأقل درجة من ذلك شارل- يتفق في الرأي مع مكيافيلي بأن رجال السياسة الذين من واجبهم الحفاظ على بلادهم، يمكنهم مخالفة القانون الأخلاقي الذي يطالبون به مواطنيهم الذين لا هم لهم إلا الحفاظ على أرواحهم. وقد يغتفر له الشعب الفرنسي حروبه ولكنه لم يستسغ حلاوة أبهة مناهجه وبلاطه عندما أدرك فداحة الثمن. وكان قد فقد شعبيته فعلاً عام 1535.
وواسى نفسه بالاستمتاع بالجمال حياً وميتاً، وقد اتخذ في أواخر سني حياته من فونتنبلو مقراً أثيراً له وأعاد بناءه وابتهج بالفن الأنثوي الرشيق الذي كان الإيطاليون يزينونه به، وأحاط نفسه بفرقة صغيرة من النسوة الصغيرات اللاتي كن يمتعنه بطلعاتهن البهية ومرحهن. وأصيب عام 1538 في عاصمته بمرض وبدأ منذ ذاك يتلعثم تلعثماً مخجلاً، وحاول أن يعالج ما كان على الأرجح مرض الزهري بأقراص الزئبق، التي وصفها له(25/45)
بارباروسا، ولكنها لم تنجح معه (64). وحطم روحه دمل عنيد كريه الرائحة، وأضفى على عينيه، التي كانتا حادتين يوماً نظرة شوهاء باكية، ودفعته إلى الاعتصام بورع لا يناسبه. وكان عليه أن يراقب طعامه لأن الشك خامره في أن بعض رجال الحاشية الذين يتوقعون رفعة شأنهم في عهد خلفه، يسعون إلى تسميمه. ولاحظ في حزن أن الحاشية تدور وقتذاك حول ابنه الذي كان بالفعل يوزع المناصب وينتظر في صبر حلول دوره في التحكم في موارد فرنسا. واستدعى وريثه الوحيد وهو على فراش الموت في رامبوييه وحذره من أن تسيطر عليه امرأة- لأن هنري كان مخلصاً بالفعل لديان دي بواتييه- واعترف الملك بخطاياه في تلخيص متعجل، ورحب بالموت وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة وهمس فرانسيس، دوق دي جيز، وكان واقفاً عند الباب، إلى الذين كانوا في الحجرة المجاورة، أن العاشق العجوز يحتضر (65)، ومات وهو يردد اسم يسوع. وكان في الثالثة والخمسين من عمره ولقد حكم اثنتين وثلاثين عاماً. وشعرت فرنسا بأن حكمه دام طويلاً، ولكن عندما استردت حريتها منه، غفرت له كل شيء، لأنه كان لبقاً حتى في ارتكاب آثامه، ولأنه عشق الجمال وكان فرنسا مجسدة.
ومات هنري الثامن في ذلك العام نفسه، ولحقت به مرجريت بعد عامين، وقد كانت بعيدة جداً عن فرانسيس، بل كانت أبعد من أن تدرك أن الموت يترقبه. وعندما وصلتها كلمة، وهي في دير بأنجوليم، تنبئها بأنه مصاب بمرض خطير كادت تفقد رشدها. وقالت: "إن مَن يأتي إلى عتبة بابي، كائناً مَن يكون، ويعلن لي أن شقيقي الملك قد أبل من مرضه، ولابد أن مثل هذا الرسول سيكون متعباً منهوك القوى تغطيه الأوحال والأوشاب، ومع ذلك فسوف أذهب إليه وأقبله وأحتضنه كما لو كان أعظم الأمراء والسادة أناقة في فرنسا، وإذا كان في حاجة إلى(25/46)
فراش، فسوف أمنحه فراشي، وأرقد على الأرض مبتهجة لما حمله إلي من أنباء طيبة (66). وبعثت بالرسل إلى باريس فعادة وكذبوا عليها، وأكدوا لها أن الملك سليم معافى، إلا أن الدموع المختلسة التي انثالت من عيني راهبة كشفت عن الحقيقة، ولبثت مرجريت أربعين يوماً في الدير وهي تعمل رئيسة له، تردد الأناشيد المقدسة القديمة مع الراهبات.
وعندما عادت إلى بو أو نيران أسلمت نفسها للتقشف الشديد، وخيانات زوجها، وأهواء ابنتها المتقلبة، ووجدت السلوى، بعد السنوات التي أمضتها في شجاعة نصف بروتستانتية، في الشعيرة الكاثوليكية بألوانها وبخورها وموسيقاها الجذابة، وأسقمتها الكالفينية التي كانت تأسر جنوبي فرنسا، وأفزعتها، فعادت إلى تقواها التي عرفت بها في الطفولة.
وفي ديسمبر عام 1549، وبينما كانت ترقب مذنباً في السموات، أصيبت بحمى أثبتت أنها كانت عنيفة، إلى حد أنها حطمت هيكلاً وروحاً أوهنتهما قساوات الحياة. وكانت قبل ذلك بسنوات قد كتبت سطوراً وكأنها نصف عاشقة لخدر الموت:
رباه متى يأتي الموت
الذي طالما اشتقت إليه
والذي أجد نفسي بقوة الحب
منجذبة إليك؟
ألا فلتجفف دموع عيني الحزينتين
وسط تنهدات الفراق
وامنن علي بخير أنعمك على الإطلاق
وهي نعمة النوم اللذيذ(25/47)
7 - ديان دي بواتييه
كان "العاشق العجوز" قد أنجب سبعة أطفال، كلهم من كلود، وكان الابن الأكبر فرانسيس مثل أبيه، وسيماً، جذاباً مرحاً. أما هنري المولود عام 1519 فكان هادئاً خجولاً، وأهمل قليلاً، ولم ينافس أخاه إلا في البأساء. فقد أمضيا أربع سنوات من الشدة والإذلال في أسبانيا تركت عليهما بصمات لا تمحى. ومات فرانسيس بعد إطلاق سراحه بست سنوات، أما هنري فقد غدا نزاعاً للصمت أكثر من ذي قبل، وانطوى على نفسه وأعرض عن المجون الذي انغمست فيه الحاشية، وكان له رفقاء، ولكنهم قلما رأوه مبتسماً، وقال الناس إنه قد غدا إسبانياً في إسبانيا.
ولم يترك له الخيار عندما تزوج من كاترين دي مديتشي، وهذا هو شأنها عندما تزوجت به. فقد مرت هي أيضاً بمحن، إذ مات والداها كلاهما متأثرين بمرض الزهري في خلال اثنين وعشرين يوماً من مولدها (1519)، وأخذت منذ ذلك الوقت حتى زواجها تنتقل من مكان إلى مكان، لا حول لها ولا قوة، ولا يرغب فيها أحد. وعندما أقصت فلورنسا حكامها من آل مديتشي (1527) احتفظت بكاترينا رهينة لضمان حسن سلوكهم، وعندما عاد هؤلاء المنفيون لحصار المدينة هددت بالإعدام إذا لم تصرفهم عنها. واستخدمها كليمنت السابع رهينة، ليكسب تأييد فرنسا لسياسته البابوية، وانطلقت طائعة إلى مرسيليا وهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وتزوجت من غلام في الرابعة عشرة من عمره أيضاً، لم يكد يتحدث معها إبان الاحتفال بأكمله. وعندما وصلا إلى باريس قوبلت باستقبال فاتر لأنها جلبت معها عدداً كبيراً من الإيطاليين، وأصبحت في نظر الباريسيين "الفلورنسية"، وعلى الرغم من أنها حاولت جهدها أن تسحرهم، فإنهم(25/48)
لم يكنوا لها وداً قط، لا هم ولا زوجها. وظلت عشر سنوات عاقراً، على الرغم من الجهود العديدة، وارتاب الأطباء في أنها أصيبت بعدوى مرض وبيل، ورثته من أبويها. وعندما تبدد أمل كاترين دي مديتشي كما كانت تسمى في فرنسا، في لحصول على ذرية ذهبت تبكي إلى فرانسيس وعرضت عليه أن تقدم طلباً بالطلاق وتنزوي في دير، ورفض الملك في كرم منه هذه التضحية. وتفتحت أخيراً أبواب الأمومة، وجاء الأولاد واحداً إثر الآخر كل عام تقريباً. وبلغ عددهم على الإجمال عشرة، وهم بخاصة فرانسيس الثاني الذي قدر له أن يتزوج ماري ستيوارت واليزابث التي قدر لها أن تتزوج فيليب الثاني وشارل التاسع الذي شاءت الأقدار أن يصدر الأمر بمذبحة سان بارثولوميو وإدوارد الذي أصبح هنري الثالث بطل المأساة المعروفة ومرجريت دي فالوا التي قدر لها أن تتزوج هنري ملك نافار وتضطهده. وطوال كل تلك السنوات العقيمة أو الخصيبة باستثناء السنوات الأربع الأولى كان زوجها يمنح حبه لديان دي بواتيه في الوقت الذي كان ينجب فيه منها أولاداً.
وكانت ديان فريدة بين عشيقات الملوك اللاتي كان لهن دور رئيسي في التاريخ الفرنسي. ولم تكن جميلة. وعندما أحبها هنري، وهو في السابعة عشرة من عمره (1536) كانت في السابعة والثلاثين من عمرها، وبدأ الشيب يغزو شعرها، والتجاعيد تسجل سنوات عمرها على جبينها، وكانت مفاتنها الجسدية لا تعدو الطلاوة، والبشرة الناضرة بفضل غسلها بالماء البارد في جميع الفصول. ولم تكن عاهرة. وكانت فيما يبدو مخلصة لزوجها لويس دي بريزيه حتى وفاته وعلى الرغم من أنها انغمست مثل هنري، في علاقتين جانبيتين أو ثلاث، إبان علاقتها غير الشرعية بالملك، فإنها كانت مجرد حوادث تغتفر وألحان لطيفة في أغنية حبها. ولم تكن ممن يجنحون إلى الخيال، بل كانت عملية جداً، تصنع كل شيء في أوانه. ولم تستنكر(25/49)
فرنسا أخلاقها بل أنكرت عليها بذخها ولم تكن مثل عشيقات فرانسيس - رءوساً جميلة ولكنها جوفاء، يقفزن على أقدام مرحة إلى أن تفاجئهن الأمومة، فقد تلقت ديان تعليماً لا بأس به، وكانت تتمتع بإدراك سليم، وسلوك حسن، وبديهة حاضرة، وها نحن أولاء أمام عشيقة تسحر الألباب بذهنها.
وكانت تنحدر من أسرة كريمة ونشأت في بلاط آل بوربون في مولان الذي اشتهر بفن الحب. وشارك أبوها جان دي بواتييه، كونت دي سان فالييه، الدوق دي بوربون في خيانة الوطن بعد أن حاول الوقوف في سبيلها، فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام (1523)، وحصل زوج ديان، وكان ذا حظوة لدا فرانسيس، على العفوا لأبيها (1). وكان لويس دي بريزيه حفيد شارل السابع من أنييس سوريل، وكان ذا مقدرة أو نفوذ لأنه أصبح قيم القصر الأمير ومحافظ نورماندي. وكان في السادسة والخمسين من عمره عندما أصبحت ديان البالغة من العمر ستة عشر عاماً زوجة له (1515). وعندما مات شيدت تخليداً لذكراه في روبين قبراً ضخماً عليه كتابة قطعت على نفسها فيها عهداً بالوفاء الدائم له ولم تتزوج قط مرة أخرى، ولم ترتد بعد ذلك إلا الثياب السوداء والبيضاء. والتقت بهنري عندما سلم في بايون، وهو بعد صبي في السابعة من عمره، كرهينة بدلاً من والده. وبكى الصبي المرتبك فحنت عليه ديان، وكانت وقتذاك في السابعة والعشرين، حنان الأم الرؤوم وواسته، إذ كانت أمه كلود قد ماتت منذ عامين، ولعل ذكرى تلك الأحضان الحنونة قد بعثت في ذاكرته من جديد، عندما التقى بها بعد أحد عشر عاماً. وعلى الرغم من أنه كان قد مضى على زواجه وقتذاك أربعة أعوام فإنه كان لا يزال بعيداً عن النضج العقلي،
_________
(1) لا صحة للقصة التي أوردها هيجو في "الملك يلهو" من أن ديان اشترت العفو منها باستسلامها للملك (67).(25/50)
كما كان سوداوي المزاج شديد الحياء بصورة غير مألوفة. كان يريد أماً أكثر مما يريد زوجة، وهنا ظهرت ديان من جديد، هادئة، رقيقة مواسية. وأقبل عليها أولاً إقبال الابن، وظلت العلاقات بينهما، فيما يبدو، تهيمن عليها العفة حيناً. وأكسبته محبتها ونصحها الثقة بنفسه، فكيف، وهو تحت وصايتها، عن معاداة الناس وأعد نفسه ليكون ملكاً. ونسب إليهما الرأي العام أنهما رزقا بطفلة واحدة وهي ديان دي فرانسيس، التي أنشأتها مع ابنتيها من بريزيه. وتبنت أيضاً ابنة هنري التي أنجبها في سنة 1538 من وصيفة بدومونتية دفعت ثمن لحظة لقائها بالملك بأن أصبحت راهبة مدى الحياة. وهناك طفل آخر غير شرعي كان ثمرة قصة هنري الأخيرة مع ماري فليمنج، مربية ماري ستيوارت. وعلى الرغم من هذه التجارب فان إخلاصه كان يزيد يوماً بعد يوم لديان بواتييه. ونظم لها قصائد ممتازة حقاً وأمطرها بالمجوهرات والضياع. ولم يهمل كاترين تماماً، وكان يتناول معها عادة طعام العشاء ويقضي وعها الأمسيات؛ وقبلت، شكراً منها لما نالته من شذرات حبه، في حزن صامت، أن ترى امرأة أخرى ولية عهد فرنسا الحقيقية. ولابد أنها أحست بأنها أصيبت بجرح آخر عندما رأت أن ديان كانت تستحث هنري من حين لآخر على أن ينام مع زوجته (86).
ولم يؤدِ ارتقاؤه العرش إلى خفض مكانة ديان. وكتب لها أذل الرسائل، يتوسل إليها أن تسمح له بأن يكون خادمها مدى الحياة. وقد جعلها ولهه بها غنية كالملكة تقريباً، وضمن لديان نسبة مئوية من كل المبالغ التي يتسلمها من بيع الوظائف، وكانت كل التعيينات فيها تقريباً في نطاق سلطانها. ومنحها جواهر التاج الذي كانت قد وضعته الدوقة ديتامب على رأسها، وعندما احتاجت الدوقة هددتها ديان باتهامها بالبروتستانتية، ولم ترض عنها إلا بعد أن قدمت لها هدية من العقار. وأذن لها هنري أن تحتفظ لنفسها بمبلغ 400. 000 تالر، كان فرانسيس قد أوصى به لتأييد الأمراء(25/51)
البروتستانت في ألمانيا سراً (69). وبفضل هذه المنح أعادت ديان بناء قصر بريزيه الريفي القديم في آنيه، طبقاً لتصميم وضعه فيلبر ديلورم، وشيدت قصراً رحباً لم يصبح الدار الثانية للملك فحسب بل أصبح أيضاً متحفاً للفن ومنتدى جميلاً يلتقي فيه الشعراء والفنانون والدبلوماسيون والدوقات والقادة والكرادلة والمعشوقات والفلاسفة. وهنا كان المجلس الخاص للدولة يعقد في الواقع، وكانت ديان بمثابة رئيسة للوزراء، ذكية رصينة. وفي كل مكان - في آنيه وشينونسو وأمبواز واللوفر - كانت الأطباق والدروع المرسومة عليها الشعارات وأشغال الفن ومقاعد جوقة للترنيم تحمل الرمز الجريء لقصة الحب الملكية، فهناك حرفا د D موضوعان ظهر لظهر، بينهما شرطة تكون حرف H. وثمة أمر مثير للعاطفة وجميل في هذه الصداقة الفريدة، التي بنيت على الحب والمال، وإن دامت حتى الموت.
وفي أثناء كفاح الكنيسة ضد الهرطقة وضعت ديان كل ما تملك من نفوذ، لتأييد عقيدة المحافظين وسياسة القمع. وكانت لديها أسباب كثيرة تدعوها للتقوى: فقد كانت ابنتها متزوجة من ابن لفرانسيس هو الدوق دي جيز، وكان فرانسيس هو وشقيقه شارل، كاردينال اللورين، - وكلاهما من ذوي المكانة في آنيه - زعيمي الحزب الكاثوليكي في فرنسا. أما هنري فإن تقواه في الطفولة ازدادت شدة بالسنوات التي أمضاها في أسبانيا، وكانت خطاباته الغرامية تخلط بين الله وديان كمنافسين على قلبه، وأعانته الكنيسة، وأعطته 3. 000. 000 كراون ذهبي لإلغاء مرسوم والده الذي قيد فيه من سلطة المحاكم الكنسية (70).
ومع ذلك فإن البروتستانتية كان تشتد في فرنسا، وكان كالفن وآخرون غيره يرسلون مبعوثين أحرزوا نجاحاً رائعاً. وما أن حل عام 1559 حتى كانت عدة مُدن، كاين وبواتييه ولاروشيل ومدن كبيرة في بروفانس - يغلب عليها الهوجنوت، وقدر قس أن البروتستانت(25/52)
الفرنسيين كانوا ربع عدد السكان (71) تقريباً في ذلك العام. ويقول مؤرخ كاثوليكي: إن أصل المروق في روما - فساد رجال الكنيسة - لم يستأصل، بل إنه قوى بفضل الاتفاقية البابوية بين ليو العاشر وفرانسيس الأول (72). وكانت البروتستانتية في الطبقتين الوسطى والدنيا إلى حد ما، احتجاجاً ضد حكومة كاثوليكية كبحت جماح الاستقلال الذاتي للبلدية، وفرضت ضرائب لا تحتمل، وبددت الدخول، وأزهقت الأرواح في الحرب. وكان النبلاء الذين جردهم الملوك من سلطانهم السابق ينظرون بعين الحسد إلى الأمراء اللوثريين الذين انتصروا على شارل الخامس، وربما أمكن استعادة إقطاع مماثل في فرنسا بإعلان استياء العامة من الناس على نطاق واسع من مظالم الكنيسة والحكومة. والحق أن نبلاء بارزين مثل جاسبار دي كوليني وشقيقه الأصغر فرانسوا دنديلو والأمير لويس دي كونديه وشقيقه انطوان دي بوربون قد شاركوا بجهد فعال في تنظيم ثورة البروتستانت.
وتبنت البروتستانتية الغالية في لاهوتها آراء كالفن في كتابه "النظم"، فقد كان مؤلفه فرنسياً ولغته فرنسية واستهوى منطقه العقلية الفرنسية؛ وكاد لوثر أن ينسى في فرنسا عام 1550، والحق أن اسم هوجنوت بالذات ورد من زيورخ عن طريق جنيف إلى بروفانس، وفي مايو عام 1559 شعر البروتستانت بأنهم أصبحوا من القوة إلى حد يمكنهم من إرسال مندوبين إلى أول مجمع مقدس عام لهم عقد سراً في باريس. وما أن حل عام 1561 حتى كان هناك 2. 000 كنيسة أخذت بأسباب الإصلاح الديني أو كالفينية في فرنسا (73).
وشرع هنري الثاني في سحق الهرطقة. ونظم المجلس النيابي لباريس، بناء على تعليماته، لجنة خاصة (1549) لقمع الخروج على الرأي، وأرسل من أدينوا إلى المحرقة، وأطلق على المحكمة الجديدة اسم "الغرفة المتأججة"، وقضى(25/53)
مرسوم شاتوبريان (1551) بأن طبع أو بيع أو حيازة كتب الهرطقة يعد جريمة عظمى، وأن الإصرار على الآراء البروتستانتية يعاقب عليها بالإعدام، ونص على أن يتسلم المبلغون ثلث أموال المحكوم عليهم. وكان عليهم أن يبلغوا المجلس النيابي عن أي قاض يعامل الهراطقة باللين، ولم يكن في وسع أي رجل أن يعين قاضياً إلا إذا كانت عقيدته المحافظة لا يرقى إليها شك. وفي خلال ثلاث سنوات أرسلت "الغرفة المتأججة" ستين بروتستانتياً إلى الموت حرقاً. وعرض هنري على البابا بولس الرابع إقامة محكمة للتفتيش في فرنسا طبقاً للنموذج الروماني الجديد، ولكن المجلس النيابي اعترض على السماح لسلطة أخرى بأن تحل محل سلطته؛ واقترح أحد أعضائه، آن دي بورج في جرأة أن تتوقف كل مطاردة للهرطقة حتى يستكمل مجلس ترنت تعريفاته للعقيدة المحافظة. فأمر هنري بالقبض عليه وأقسم أن يراه وهو يحرق، إلا أن القدر اختلس من الملك هذا المشهد.
وفي غضون ذلك كان قد أغرى بتجديد الحرب ضد الإمبراطور فإنه، لم يستطع قط أن يصفح عن سجن أبيه وشقيقه وسجنه هو نفسه أمداً طويلاً. وكان يكره شارل بقدر حبه لديان. وعندما أعلن الأمراء اللوثريون مقاومتهم الحاسمة للإمبراطور من أجل المسيح والإقطاع سعوا إلى التحالف مع هنري ودعوه للاستيلاء على اللورين، فوافق على هذا في معاهدة شامبور (1552). وقام بحملة سريعة أدارها بكفاءة واستولى بعد عناء قليل على تول ونانسي ومتز وفردون. وكان شارل أكثر استعداداً للتسليم بالنصر للبروتستانتية في ألمانيا منه للتسليم به لآل فالوا في فرنسا، فوقع معاهدة صلح ذليلة مع الأمراء في باسوا، وهرع لضرب الحصار على الفرنسيين في متز. وأقام فرانسيس، دوق دي جيز شهرته هناك على ما أبداه من مهارة وعناد في الدفاع. واستمر الحصار من 19 أكتوبر إلى 26 ديسمبر سنة 1552، ثم سحب شارل جنوده الذين خارت قواهم وهو شاحب الوجه، زائغ البصر(25/54)
أبيض اللحية كسيحاً وقال: "إني لأرى جيداً أن الحظ يشبه امرأة، تؤثر ملكاً فتياً على إمبراطور عجوز (74) "، وأردف قائلاً: "وقبل أن تمضي ثلاث سنوات سأتحول إلى رجل يربط حول وسطه شريطاً من حرير أي إلى راهب فرنسسكاني (75) ".
وفي عام 1555 - 56 تنازل لابنه عن سلطته في الأراضي المنخفضة واسبانيا، ووقع مع فرنسا هدنة فوسيل، وغادر أسبانيا (17 سبتمبر سنة 1556)، وظن أنه أورث فيليب مملكة تنعم بالسلام، ولكن هنري أحس أن الموقف يدعو إلى هجوم آخر على إيطاليا. ولم يكن لفيليب أي شهرة كقائد. وكان متورطاً على غير ما توقع في حرب البابا بولس الرابع، وخيل لهنري أن أمامه فرصة ذهبية. فأرسل جيز ليستولي على ميلان ونابلي، وتأهب لملاقاة فيليب في ساحات القتال القديمة في شمال شرقي فرنسا، وأظهر فيليب أنه أهل لمقابلة الموقف واقترض مليون وكات من أنطون فوجر وأغرى ماري ملكة إنجلترا بالدخول في الحرب. وفي سان كينتان (10 أغسطس سنة 1557) قاد الدوق أمانويل فليبرت أمير سافوي جيوش فيليب الموحدة إلى نصر كاسح وأخذ كوليني، ومونمورنسي أسيرين وتأهب للزحف على باريس. وكانت المدينة في ذعر، وبدا الدفاع عنها مستحيلاً. واستدعى هنري جيز وجنده من إيطاليا، فعبر الدوق فرنسا وفاجأ كاليه بحركة سريعة عجيبة واستولى عليها (1558)، وكانت إنجلترا تحتفظ بها منذ عام 1348، وكان فيليب يكره الحرب ويتوق إلى العودة لأسبانيا، فاقتنع تواً بتوقيع معاهدة كاتو - كامبريزي - (2 أبريل سنة 1559) وبمقتضاها وافق هنري على أن يبقى شمال الألب، ووافق فيليب على أن يدعه يحتفظ باللورين وبكاليه - على الرغم من دموع ماري. وفجأة أصبح الملكان صديقين. وقدم هنري ابنته اليزابث لتكون زوجة لفيليب، وتعهد بزواج شقيقته مرجريت أف بري من أمانويل فيلبرت الذي استعاد(25/55)
وقتذاك سافوي، ونظم مهرجان ضخم حفل بالمبارزات والمآدب وليالي الزفاف.
وهكذا بينما ظل فيليب الحذر في الفلاندرز تجمع الأعيان من الفرنسيين والفلمنكيين والأسبان حول القصر الملكي ليتورنل في باريس، وعلقت قوائم في شارع سان أنطوان الذي يضم مظلات وشرفات مزينة بزخارف بهية، وانطلق الجميع يمرحون كما لو كانوا يسمعون ناقوس زفاف. وفي 22 يونيه استقبل الدوق ألفا، باعتباره وكيلاً لفيليب اليزابث باعتبارها ملكة لأسبانيا، وأصر هنري وهو وقتذاك في الأربعين من عمره على دخول المباراة. وفي مثل هذه المبارزات كان النصر يقضى به لراكب الفرس الذي يحطم ثلاث حراب على درع خصمه، دون أن يرمى عن الفرس. وقام هنري بهذا العمل أمام الدوق دي جيز والدوق دي سافوي اللذين عرفا كيف يقومان بدورهما الصحيح في المسرحية، بيد أن خصماً ثالثاً هو مونتجومري سمح في حمق للبقية الباقية الحادة من السلاح بالمرور تحت القناع الحديدي للملك بعد أن حطم حربة على درع الملك، فاخترقت عين الملك ووصلت إلى المخ. وظل يرقد تسعة أيام فاقد الوعي، وفي اليوم التاسع من يوليو احتفل بزواج فيليبرت ومرجريت، وفي اليوم العاشر من يوليو مات الملك وانسحبت ديان إلى آنيه، وعاشت بعد ذلك سبع سنوات، وارتدت كاترين دي مديتشي التي كانت ضمآى لحبه؛ ثياب الحداد بقية حياتها.(25/56)
الفصل الثالث والعشرون
هنري الثامن والكاردينال ولزي
1509 - 1529
1 - ملك واعد
1509 - 1511
لم يكن أحد ممن رأوا الفتى الذي ارتقى عرش إنجلترا عام 1509 يتنبأ بأنه هو البطل والغد معاً في أكر حكم درامي في التاريخ الإنجليزي. وعندما كان غلاماً في الثامنة عشرة من عمره كانت بشرته الرقيقة وتقاطيعه المنتظمة تجعله جذاباً كالفتاة أو يكاد، بيد أن ما يتمتع به من قوام رياضي وجرأة سرعان ما قضى على أي مظهر للأنوثة فيه. وتبارى السفراء الأجانب مع المادحين والطنيين في الثناء على شعره الأصحم، ولحيته الذهبية و "ربلة ساقه الفائقة الجمال" وفي تقرير كتبه جيوستنياني إلى مجلس شيوخ البندقية قال: "إنه مغرم بالتنس، وإن أجمل شيء في الوجود أن تراه وهو يلعب، وبشرته الجميلة تتألق من خلال قميص نسيجه جد رقيق (1) "، وكان في الرمي بالسهام والمصارعة يضارع أحسن الأبطال في مملكته ولم يكن يبدو عليه في الصيد قط أي تعب، وكان يخصص يومين كل أسبوع للمبارزات، ولم يكن في وسع أحد أن ينافسه إلا الدوق سفولك. وكان موسيقياً مثقفاً أيضاً، و "غنى وعزف على كل ضروب الآلات وأظهر موهبة نادرة"، (كما كتب القاصد الرسولي للبابا) ولحن قداسين لا يزالان باقيين، وكان يعشق الرقص وحفلات المساخر ومظاهر الأبهة(25/57)
والثياب الجميلة. ويروقه أن يكسو نفسه ثياباً من فرو الفاقوم أو أردية أرجوانية، وكان القانون ينص على أن له وحده الحق في ارتداء الديباج الأرجواني أو الذهبي، وكان يأكل بتلذذ، ويصل أحياناً مآدب الغذاء الرسمية إلى بع ساعات، ولكنه في السنوات العشرين الأولى من حكمه كبح جماح شهيته. وكان كل الناس يحبونه ويعجبون بسماحة أخلاقه اللطيفة وسهولة الوصول إلى قلبه ومرحه وتسامحه وحلمه. ورحب الناس بارتقائه العرش وكأنه إيذان بفجر عصر ذهبي.
واغتبطت الطبقات المتعلمة أيضاً لأن هنري في أيام السكون تلك كان يطمح أن يكون عالماً بطلاً رياضياً على السواء وموسيقياً وملكاً، ولما كان قد أعد في الأصل ليكون من رجال الدين فقد أصبح على دراية بعض الشيء باللاهوت، وكان في وسعه أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس لأي غرض. وكان له ذوق جميل في الفن، واقتنى مجموعة تدل على درايته، وكان حكيماً في اختياره هولبين لتخليد كرشه. وقام بدور فعال في أعمال الهندسة وبناء السفن والتحصينات والمدفعية. وقال عنه سير توماس مور: "إنه أعلم من أي ملك انجليزي قبله (2) " - وليس هذا بالثناء العظيم. وتابع مور كلامه قائلاً: "ما الذي لا نتوقعه من ملك غذي بلبان الفلسفة وربات الفنون التسع (3)؟ " وكتب مونتجومري مبهوتاً إلى أرازموس، وكان حينذاك في روما، يقول: "ما الذي لا تعلل به نفسك من أمير تعلم جيداً ما فطر عليه من موهبة خارقة وخلق يكاد يكون إلهياً؟ ولكن عندما تعرف أي بطل يقيم الآن الدليل عليه، وكيف يتصرف بحكمة، وأي محب للعدالة والخير، وأي مودة يحملها للمتعلمين، فإني أتجاسر وأقسم لك بأنك لن تكون في حاجة إلى جناحين تطير بهما لتشهد هذا النجم الجديد السعيد.(25/58)
أواه يا أرازموس العزيز. لو أنك استطعت أن ترى كيف أن العالم بأسره هنا مبتهج لأن عنده أميراً عظيماً كهذا، وكيف أن حياته هي كل ما يبتغون فلن تتمالك نفسك من أن تذرف دموع الفرح. إن السموات لتضحك والأرض لتبتهج (4) ".
وجاء أرازموس وشارك في هذا الهذيان لحظة. وكتب يقول: "فيما مضى كان قلب المعرفة بين مَن يزعمون أنهم من رجال الدين، والآن بينما ينصرف هؤلاء في الأغلب الأعم إلى شهوات البطون والترف والمال (1) فإن حب العلم ذهب منهم إلى الأمراء العلمانيين والحاشية والنبلاء وإن الملك لا يقبل في بلاطه رجالاً مثل مور فحسب، بل إنه يدعوهم ويجبرهم - على أن يرقبوا كل ما يفعل وأن يشاطروه تبعاته وملذاته. وهو يفضل صحبة رجال مثل مور على صحبة الأغبياء من الفتيان أو الفتيات أو الأغنياء (5) ". وكان مور أحد أعضاء مجلس الملك وليناكر طبيب الملك وكوليه واعظ الملك في كنيسة القدّيس بولس.
وفي السنة التي ارتقى فيها هنري العرش، أنفق كوليه الجانب من الثروة التي ورثها عن أبيه لتأسيس مدرسة القدّيس بولس. واختير نحو 150 طبيباً لكي يدرسوا هناك الأدب الكلاسي واللاهوت المسيحي وعلم الأخلاق، وخالف كوليه التقاليد بتعيين مدرسين علمانيين في المدرسة، وكانت أول مدرسة غير أكليروسية في أوربا. وعارض "الطرواديون" الذين كانوا ينددون في أكسفورد بتدريس الكلاسيات، برنامج كوليه بحجة أنه يؤدي إلى الشك الديني، بيد أن الملك حكم ضدهم ومنح كوليه تشجيعه الكامل. وعلى الرغم من أن كوليه نفسه كان محافظاً في عقيدته ومثالاً للتقوى،
_________
(1) بيد أن أصدقاء أرازموس من رجال الدين، دين كوليه وفيشر أسقف روشستر وكبير الأساقفة وارهام كنتربري كانوا أصدقاء مخلصين من ذوي المروءة والعلم.(25/59)
فإن أعداءه اتهموه بالهرطقة، فأخرسهم وارهام كبير الأساقفة وأذعن هنري. وعندما رأى كوليه أن هنري يميل إلى الحرب مع فرنسا ندد علناً بسياسته وأعلن، كما فعل أرازموس، أن سلاماً ظالماً خير من أعدل الحروب. وندد كوليه بالحرب، حتى وهو مجتمع بالملك في الصلاة، باعتبارها صفعة في وجه تعاليم المسيح، ورجاه هنري على انفراد ألا يضعف معنويات الجيش، ولكن عندما حرض الملك على أن يخلع كوليه أجاب قائلاً: "ليكن لكل إنسان قسيسه الخاص ... إن هذا الرجل هو قسيسي (6) ". واستمر كوليه يفسر تعاليم المسيحية تفسيراً جاداً. وكتب إلى أرازموس (1517) يقول بروح توما أكمبي: آه يا أرازموس لا حد هناك لكتب المعرفة، وليس هناك أفضل من أن نعيش حياة طاهرة مقدسة في هذا الأجل القصير الذي كتب علينا وأن نبذل جهدنا في حياتنا اليومية، وأن نتطهر ونتثقف ... بالحب المتأجج والاقتداء بيسوع. ولهذا فإن أعظم رغباتي إلحاحاً هي أن نسير قدماً، معرضين عن كل السبل غير المباشرة مؤثرين بطريقة قصيرة توصل إلى الحقيقة. وداعاً (7).
وفي عام 1518 أعد قبره البسيط ولم ينقش عليه إلا اسم جوهانس كوليتس ودفن فيه، بعد عام، وأحس كثيرون أن قديساً قد مات.
2 - ولزى
كان هنري، الذي قدر له أن يصبح تجسيداً لأمير مكيافيلي، لا يزال بعد حدثاً بريئاً في السياسة الدولية. وعرف حاجته إلى الإرشاد وجعل من الرجال حوله نماذج. وكان مور ذكياً بيد أنه لم يتعدَ الحادية والثلاثين، وكان يميل إلى الطهارة والتقوى. وكان توماس ولزى يكبره بثلاثة أعوام فحسب، وكان قساً إلا أن اتجاهه بأكمله للسياسة، والدين عنده جزء من(25/60)
السياسة. وقد ولد توماس في ابسوتش من "أصل وضيع ودم خسيس" (هكذا وصفه جويكيا رديني المعتز بنفسه) (8). وقد استوعب مقرر شهادة البكالوريا في أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعندما بلغ الثالثة والعشرين عمل صرافاً في كلية مجادلين، وأظهر كفاءته باستخدام مبالغ مناسبة، تتجاوز السلطة المخولة له، لإتمام البرج الرائع لتلك القاعة. وعرف كيف ينجح. وأظهر فطنة في الإدارة والمفاوضة فقام بالوعظ في سلسلة من الكنائس ليخدم هنري السابع بتلك المقدرة والدبلوماسية.
وعندما ارتقى هنري الثامن العرش عينه موزعاً للصدقات - مديراً للبر والإحسان. وسرعان ما أصبح القس عضواً في المجلس الخاص. وأفزع واهرام كبير الأساقفة بدفاعه عن عقد حلف عسكري مع أسبانيا ضد فرنسا، وكان لويس الثاني عشر يغزو إيطاليا، ومن المحتمل أن يجعل البابوية تابعة لفرنسا من جديد. وعلى أية حال فإن فرنسا لابد أن تصبح قوية جداً. وخضع هنري في هذا الأمر لولزى وحميه فرديناند ملك أسبانيا، وكان هو نفسه يجنح في هذا الوقت للسلم. وقال لجيوستنياني: "إني راضٍ بما أملك، ولا أود أن أحكم إلا رعاياي، ولكني من جهة أخرى لا أقبل أن يبلغ أحد من القوة ما يجعله يتحكم في" (9)، ويكاد هذا يلخص حياة هنري السياسية. فقد ورث ادعاء الملوك الإنجليز أن لهم الحق في تاج فرنسا، ولكنه عرف أنه ادعاء أجوف. ووهنت الحرب سريعاً في موقعة المهاميز (1513). ودبر ولزى للسلام وأغرى لويس الثاني عشر بالزواج من ماري شقيقة هنري، وسر ليو العاشر لنجاته فعين ولزى رئيساً لأساقفة يورك (1514). وكاردينالاً (1515)، وعينه هنري، المنتصر، حاجباً (1515). وفاخر الملك لأنه حمى البابوية، وعندما رفض أحد البابوات أن يتولى فيما بعد تيسير زواجه عد هذا جحوداً.(25/61)
وكانت السنوات الخمس الأولى التي قضاها ولزى في منصب الحاجب من أعظم السنوات توفيقاً في سجل الدبلوماسية الإنجليزية. وكان يهدف إلى تنظيم السلام في أوربا باستخدام إنجلترا وسيلة لحفظ التوازن في القوى بين الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة وفرنسا، وكان المفروض أن مما يدخل أيضاً في دائرة سلطانه أن يصبح حكماً لأوربا وأن يكون السلام في القارة في مصلحة تجارة إنجلترا الحيوية مع الأراضي المنخفضة. وتفاوض كخطوة أولى، لعقد حلف بين فرنسا وإنجلترا (1518)، وخطب ماري ابنة هنري البالغة من العمر عامين (أصبحت ملكة فيما بعد) إلى ابن فرانسيس الأول البالغ من العمر سبعة شهور، ولا شك أن ميله للضيافة الكريمة قد كشف عنه ما حدث عندما حضر المبعوثون الفرنسيون إلى لندن لتوقيع الاتفاقيات، فقد أقام لهم وليمة في قصر وستمنستر، قدم لهم فيها عشاء، قال عنه جيوستنياني: "أن مثيله لم يقدم قط، على مائدة كليوباترة وكاليجولا، وأن قاعة المأدبة بأسرها زينت بزهريات ضخمة من الذهب والفضة (10) ". غير أن الكاردينال المحب للدنيا يلتمس له العذر، فقد كان يقامر ليكسب رهاناً عظيماً، فكسب. وأصر على أن يكون الحلف مفتوحاً لينضم إليه الإمبراطور مكسمليان الأول وشارل الأول ملك أسبانيا والبابا ليو العاشر، ودعوا للانضمام إليه فقبلوا، وابتهج أرازموس ومور وكوليه، إذ داعبهم الأمل في أن يكون فجر عهد للسلام قد أشرق على العالم المسيحي بأسره. وتلقى ولزى التهاني حتى من أعدائه. وانتهز الفرصة لرشوة المندوبين الإنجليز (11) في روما لكي يضمن تعيينه قاصداً رسولياً للبابا في صف بريطانيا والعبارة تعني "في صف" وموضع ثقة، وكان أرفع تعيين لمبعوث بابوي. وكان ولزى وقتذاك الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية وحاكم إنجلتري - مع ولاء استراتيجي لهنري.(25/62)
وعكر صفو السلام بعد عام تنافس فرانسيس الأول وشارل الأول على العرش الإمبراطوري. بل إن هنري رأى أن يقذف بقلنسوته في الحلبة غير أنه لم يجد رجلاً مثل فوجر. وزار الفائز، وهو وقتذاك شارل الخامس، انجلترا زيارة قصيرة (مايو سنة 1520) وقدم إحتراماته لعمته كاترين الأراجونية، الملكة زوجة هنري، وعرض أن يتزوج الأميرة ماري (التي كانت مخطوبة بالفعل لولي عهد فرنسا)، إذا وعدت إنجلترا أن تؤيد شارل في أي نزاع بينه وبين فرنسا، وهكذا السلام، أمر غير طبيعي، فرفض ولزى ولكنه قبل من الإمبراطور مرتباً قدره 7. 000 دوكات، وانتزع منه تعهداً بأن يساعده على أن يصبح بابا.
وحقق الكاردينال الذكي أعظم انتصار باهر له بتدبير لقاء بين العاهلين الفرنسي والإنجليزي في ميدان كلوث أف جولد (يونيو 1520). وهناك في أرض فضاء مكشوفة بين جين وآردر قرب كاليه برز فن العصر الوسيط والفروسية في روعة الغروب. وانطلق أربعة آلاف نبيل إنجليزي، اختارهم الكاردينال وعينهم، وكانوا يرتدون الملابس الحريرية والمزركشة والمخرمات من أزياء القرون الوسطى المتأخرة، في صحبة هنري بينما امتطى الملك الشاب ذو اللحية الحمراء صهوة فرس صغيرة لملاقاة فرانسيس الأول. وأخيراً وليس آخراً، أقبل ولزى نفسه مرتدياً ثياباً قرمزية من الأطلس ينافس بها أبهة الملوك. وقد شيد على عجل قصر لاستقبال صاحبي الجلالة ومرافقيهما من السيدات والموظفين، وأقيمت سقيفة يكسوها قماش تتخلله خيوط ذهبية، وتتدلى منه طنافس ثمينة ليظلل المؤتمر والمآدب، وكانت هناك نافورة يسيل منها النبيذ، وأخليت مساحة لألعاب الفروسية الملكية، وتدعم الحلف السياسي والعسكري بين الأمتين، وتبارى العاهلان السعيدان في المبارزة بل تصارعا، وخاطر فرانسيس بسلام أوربا بطرحه الملك الإنجليزي، وأصلح خطواته الخاطئة بكياسة فرنسية لا نظير لها بالذهاب مبكراً ذات(25/63)
صباح وهو مجرد من السلاح مع بعض الأتباع غير المسلحين، لزيارة هنري في المعسكر الإنجليزي - وكانت لفتة تدل على الثقة الودية فهمها هنري. وتبادل الملكان الهدايا الثمينة والأيمان المغلظة.
والحق أن أحداً منهما لم يستطع أن يثق بالآخر، لأن التاريخ علمهم درساً مفاده أن الرجال يكذبون كثيراً عندما يحكمون دولاً. وبعد سبعة عشر يوماً أمضاها هنري ينعم بالولائم مع فرانسيس، انطلق ليمضي ثلاثة أيام في مؤتمر مع شارل في كاليه (يوليه سنة 1520). وهناك أقسم الملك والإمبراطور، في حضور ولزى، على الصداقة الأبدية واتفقا على ألا يقدما على خطوات أخرى لتنفيذ خطتيهما للزواج من الأسرة المالكة في فرنسا. وكانت هذه الأحلاف المنفصلة أساساً أشد قلقلة للسلام الأوربي من الاتفاق الودي متعدد الجوانب الذي كان ولزى قد دبر له قبل وفاة مكسمليان. وإن كان قد ترك إنجلترا في وضع الوسيط، والحكم في الواقع - وهو وضع أسمى بكثير من أي وضع يمكن أن يعتمد على ثروة الإنجليز أو سلطانهم. وكان هنري راضياً. وأمر رهبان سانت البانز باختيار ولزى رئيساً لديرهم ومنحه صافي دخلهم، وذلك مكافئة لحاجبه، لأن "سيدي الكادينال قد تحمل الكثير من التكاليف في هذه الرحلة". وأذعن الرهبان ووصل دخل ولزى إلى ما يقرب من احتياجاته.
وكان، على نطاق أوسع بكثير من معظمنا، مزيجاً من الفضائل والنقائض المركبة، وكتب جيو ستنياني يقول: "إنه وسيم جداً، فصيح للغاية، واسع المقدرة، لا يكل ولا يمل (12) ". وكانت أخلاقه لا تخلو من الشوائب، فقد انزلق مرتين إلى الأبوة غير الشرعية، وكانت تعد من الهفوات التي تغتفر في ذلك العصر الطروب.
ولكن إذا صدقنا ما قاله اسقف، فغن الكاردينال كان يعاني من(25/64)
"الزهري (13") وقبل ما يمكن، أو ما لا يمكن أن يسمى بالرشا - هدايا عظيمة من المال تلقاها من فرانسيس وشارل على السواء، وحرص على أن يجعلهما يتنافسان على أن يأمرا له بمرتبات وهبات سخية قدماها، وكانت هذه من آداب مجاملة العصر، وأحس الكاردينال المبذر، الذي شعر بأن سياسته تخدم أوربا بأسرها، بأن أوربا كلها يجب أن تخدمه. وليس من شك في أنه كان يحب المال والترف والأبهة والسلطان. وكان جانب كبير من دخله يصرف في الحفاظ على مؤسسة قد يكون تبذيرها السطحي أداة من أدوات - الدبلوماسية، صممت لكي تعطي السفراء الأجانب فكرة مبالغاً فيها عن الموارد الإنجليزية. ولم يدفع هنري أي مرتب لولزى ولهذا كان على الحاجب أن يعيش ويولم لضيوفه على حساب موارده الكنسية ومرتباته التي يتقاضاها من الخارج. وحتى لو كان الأمر على هذا النحو فإننا قد نعجب لأنه احتاج لكل الدخل الذي كان يحصل عليه باعتباره صاحب الحق في دخل أبرشيتين، وست رواتب للقسس، ومرتب رئيس جامعة، ومرتب باعتباره رئيساً لدير سانت البانز وأسقفاً لباث وولز، ورئيساً لأساقفة يورك ومديراً لأبرشية ونشستر وشريكاً لأسقفي ورسستر وسالزبوري الإيطاليين الغائبين (14).
وكان له تقريباً الحق في الرئاسة الدينية والسياسية بأسرها في المملكة والمفروض أنه كان ينال مكافئة عن كل تعيين يتم. وقدر مؤرخ كاثوليكي أن ولزى كان يتلقى في أوج مجده ثلث دخول الكنيسة في إنجلترا (15). كان أغنى وأقوى الرعايا في الأمة. ومن رأي جيوستنياني أنه كان "أقوى من البابا- بسبعة أضعاف (16) " ويقول أرازموس: "إنه الملك الثاني" ولم يبقَ أمامه إلا خطوة واحدة- يقوم بها- البابوية. وحاول ولزى الحصول عليها مرتين، ولكن شارل الداهية فاقه في تلك اللعبة، متجاهلاً وعوده.(25/65)
واعتقد الكاردينال أن التمسك بالمراسيم دعامة القوة، ويستطيع المرء بالقوة أن يبوأ السلطة ولكنه لا يستطيع أن يدعمها بثمن بخس وفي هدوء وسلام إلا بالتعود عليها أمام الجمهور، والناس تحكم على سمو المرء بمقدار تمسكه بالرسمية التي يحتمي بها. ولهذا فإن ولزى كان يظهر في الحفلات العامة والرسمية مرتدياً أفخر الملابس الرسمية التي خيل إليه أنها مناسبة لمثل كل من البابا والملك. قبعة كردينال حمراء، وقفازين حمراوين، وأردية من التافتاه القرمزة وحذاء من الفضة أو مموهاً بالذهب، ومرصعاً باللآلئ والأحجار الكريمة - ها هو ذا أنوسنت الثالث وبنيامين دزرائيلي وبروفل الجميل اجتمعوا معاً في شخص واحد. كان أول مَن لبس الحرير (17) بين رجال الدين في إنجلترا. وعندما كان يردد القداس (وهو أمر نادر) كان شمامسته من الأساقفة والرهبان، وفي بعض المناسبات كان النبلاء من حملة ألقاب دوق وايرل يصبون الماء الذي يغسل به يديه المقدستين. وأذن لتابعيه أن يركعوا وهم يخدمونه على المائدة. وخدمه في مكتبه وبيته خمسمائة شخص (18)، كثير منهم من ذوي النسب العريق. وكانت قلعة هامبتون التي شيدها لتكون مقراً له باذخة جداً إلى حد أنه أهداها للملك (1525) ليتقي شر حسده.
ومهما يكن من أمر فإنه نسي أن هنري كان ملكاً. وكتب جيوستنياني إلى عضو شيوخ من البنادقة: "لدى وصولي لأول مرة إلى إنجلترا اعتاد الكاردينال ان يقول لي إن جلالته سوف يفعل كذا وكذا". وبعد ذلك - بالتدريج نسي نفسه وبدأ يقول: "سوف نفعل كذا وكذا" أما الآن يقول: "سأفعل كذا وكذا" (19)، وكتب السفير مرة أخرى يقول: "إذا كان لابد من إغفال أمر الملك أو الكاردينال فمن الأفضل التغاضي عن الملك، فالكاردينال قد يستاء من السبق الذي يسلم به للملك (20) " وقلما كان الأشراف والدبلوماسيون يحصلون على الأذن بالمثول في حضرة الحاجب قبل تقديم(25/66)
الالتماس الثالث. وكلما مر عام كان الكاردينال يحكم صراحة حكماً مطلقاً يشتد يوماً بعد يوم، واستدعى المجلس النيابي مرة إبان رئاسته، وكان قليل الاهتمام بالأشكال الدستورية، وقابل المعارضة بالاستياء والنقد والزجر. وكتب المؤرخ بوليدر فرجيل يقول: "إن هذه الوسائل سوف تؤدي إلى سقوط ولزى" فأرسل فرجيل إلى البرج، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تشفع له ليو العاشر مراراً. واشتدت المعارضة.
ولعل مَن عزلهم ولزى أو أدبهم هم الذين اعتصموا بآذان التاريخ، ونقلوا آثامه كما هي بلا غفران، إلا أن أحداً لم ينازع في مقدرته، أو انصرافه في مثابرة لكثير من مهامه. وقال جيوستنياني لعضو الشيوخ من البندقية المعتز بنفسه "إنه ينجز من العمل قدر ما يشغل كل القضاة وموظفي المكاتب والمجالس في البندقيو، في المحاكم المدنية والجنائية على السواء، وهو يدير كذلك كل شئون الدولة مهما كانت طبيعتها (21) ".
وكان محبوباً من الفقراء، مكروهاً من الأقوياء بسبب عدم تحيزه في تطبيق العدالة. وفتح بلاطه لكل مَن يشكون من الاضطهاد، ولا تكاد توجد سابقة لهذا في التريخ الإنجليزي بعد الفرد. وكان ينزل العقاب بالجاني الأثيم، مهما كان رفيع القدر (22)، دون خوف ولا وجل. وكان كريماً مع العلماء والفنانين وبدأ إصلاحاً دينياً بإحلال كليات محل أديار عديدة. وكان بصدد القيام بإصلاح مثير في التعليم الإنجليزي عندما تآمر ضده كل الأعداء الذين خلقهم اندفاعه في أعماله وقصر منظم كبير رائع، فتآمروا بخلق قصة خيالية ملكية لتدبير خطة لسقوطه.
3 - ولزي والكنيسة
وأدرك المساوئ التي لا تزال باقية في حياة رجال الدين في إنجلترا، ضرب لها مثلاً عظيماً: أساقفة غائبين ورجال دين متعلقين بالدنيا،(25/67)
ورهباناً كسالى، وقساوسة وقعوا في شرك الأبوة. وكانت الدولة التي طالما دعت إلى إصلاح الكنيسة، مسئولة إلى حد ما عن الشرور، لأن الملوك كانوا يعينون الأساقفة. وكان بعض الأساقفة من أمثال مورتون، وواهرام وفيشر رجالاً على خلق رفيع، ذوي مقدرة عظيمة، وكان كثير من الآخرين منغمسين جداً فيما تتيحه لهم الأسقفية من حياة وادعة، فلم يستطيعوا أن يدربوا اتباعهم من رجال الدين على الكفاءة من الناحية الروحية، وكذلك على المثابرة في تدبير المال. وربما كانت أخلاقيات الجنس عند القساوسة أفضل مما هي عند زملائهم في ألمانيا، ولكن لم يكن ثمة مفر من وجود حالات من التسري بين رجال الدين، ومن الزنا والسكر والجريمة في الأبرشيات البالغ عددها 8. 000 في إنجلترا - وهي حالات - كثيرة دفعت كبير الأساقفة مورتون إلى أن يقول (1468): "إن ما يقترن بحياتهم من فضائح يعرض للخطر استقرار نظامهم (23) "، وأبلغ رتشارد فوكس، حوالي عام 1519، ولزى بأن رجال الدين في أسقفية ونشستر كانوا قد تردوا إلى هاوية كبيرة من الفسق والفساد، إلى حد أنه يئس من أن يشهد في حياته أية محاولة لإصلاح ديني (24). وارتاب القساوسة بالأبرشيات في أن ترقياتهم تتوقف على مقدار مقتنياتهم، فأخذوا يغتصبون ضرائب العشور أكثر مما فعلوا في أي وقت مضى. وكان البعض يستولي كل عام على عشر دجاج الفلاح وإنتاجه من البيض واللبن ولجبن والفاكهة، بل حتى من كل الأجور التي كانت تدفع لمعاونته، وكل إنسان لا يترك في وصيته ميراثاً للكنيسة يتعرض لخطر عظيم بحرمانه من الدفن طبقاً للطقوس المسيحية مع ما يترتب على ذلك من نتائج متوقعة مروعة إلى حد لا يمكن التفكير فيها. وبعبارة موجزة فرض رجال الدين مكوساً لتمويل مصالحهم في إصرار مثل الدولة الحديثة. وما أن حل عام 1500 حتى كانت الكنيسة تملك، وفقاً لتقدير كاثوليكي محافظ، حاولي خمس(25/68)
الأملاك بأسرها في إنجلترا (25). وحسد النبلاء هناك كما في ألمانيا رجال الدين على هذه الثروة وتلهفوا على استعادة الأراضي والدخول التي تنازل عنها لله أسلافهم الأتقياء أو الخائفون.
وأجمل دين كوليه حالة رجال الدين العلمانيين مع مبالغة واضحة في خطاب وجهه إلى جمعية رجال الكنائس عام 1512 فقال: "أود أخيراً وأنا عالم بشهرتكم ومهنتكم، أن تفكروا في إصلاح أمور الكهنوت لأنه لم يحدث من قبل أن كان الأمر محتوماً كما هو الآن ... لأن الكنيسة - زوجة المسيح - التي تمنى ألا تشوبها شائبة أو تدب فيها الشيخوخة قد أصبحت دنسة مشوهة"، وكما يقول إشعيا: "كيف صارت القرية الأمينة زانية (1) ". وكما يقول أرميا: "أما أنت فقد زنيت بأصحاب كثيرين" (2). وقد حملت بكثير من بذور الظلم وهي تنجب كل يوم أعظم الذرية دنساً. ولم يشوه شيء وجه الكنيسة مثل ما شوهته المعيشة العلمانية والدنيوية لرجال الدين ... أي لحفة وجوع يشيعان في هذه الأيام بين رجال الدين بعد الشرف والوقار. وأي سباق تنقطع فيه الأنفاس من صدقة إلى صدقة ومن منفعة أقل إلى منفعة أكبر.
ألم تغرق الشهوة إلى الجسد، ألم تغرق هذه الرذيل الكنيسة بالفيضان ... ولهذا فليس هناك ما يسعى إليه في حرص الجانب الأكبر من القساوسة أكثر مما يهيئ لهم اللذة الحسية؟ إنهم لينصرفون إلى المآدب والولائم ... ويقفون حياتهم وينصرفون إلى القنص والصيد بالصقور، وهم غارقون في مباهج هذه الحياة الدنيا.
وقد تملك الجشع أيضاً ... قلوب كل القسس ... إلى حد أننا اليوم
_________
(1) العهد القديم: سفر إشعيا: الإصحاح الأول، آية 21.
(2) العهد القديم: سفر أرميا: الإصحاح الثالث، آية 1.(25/69)
لا نرى شيئاً سوى ما يخيله لنا أنه كفيل بأن يعود علينا بمغنم، ونحن نعاني في هذه الأيام من الهراطقة - وهم رجال يتصفون بحماقة عجيبة، إلا أن هرطقتهم ليست وبائية خبيثة بالنسبة لنا وللناس مثل حياة رجال الدين الفاسدين الغاوين. ولابد أن يبدأ الإصلاح الديني بكم (26).
وصاح نائب الأسقف مرة أخرى وهو يتميز غيظاً: "أيها القساوسة ... يا طائفة القسس ... أواه! إن الضلال المقيت الذي يسدر فيه هؤلاء القساوسة التعساء، الذين يضم منهم عصرنا عدداً كبيراً لا يخشون الاندفاع من أحضان بغي دنسة إلى حرم الكنيسة، وإلى مذبح المسيح، وإلى أسرار العشاء الرباني (27) ".
بل إن رجال الدين النظاميين أو الرهبانيين تعرضوا لاستنكار شديد، فقد اتهم كبير الأساقفة مورتون عام 1489 الراهب وليام من دير البانز بـ "الاتجار في المقدسات والرتب والوظائف الدينية والربا والاختلاس والعيش علناً وباستمرار مع العاهرات والعشيقات داخل أرياض الدير وخارجه" واتهم الرهبان بأنهم يحيون حياة داعرة ... كلا بل يدنسون الأماكن المقدسة، حتى كنائس الرب بالذات مضاجعة الراهبات الممقوتة، ويحولون ديراً ثانوياً مجاور إلى "ماخور عام" (28).
وترسم سجلات الجولات التفتيشية الأسقفية صورة أقل إكفهراراً. فمن بين اثنين وأربعين ديراً تم التفتيش عليها بين عامي 1517 و 1530 وجد خمسة عشر ديراً لم تقترف فيها خطيئة كبيرة، وفي معظم الأديار الأخرى كانت جرائم التعدي على النظام أكثر منها على العفة (29). وكانت بعض الأديار لا تزال تمارس نظام الصلاة في القرون الوسطى والإقبال على العلم والضيافة والبر وتعليم الشباب. واستغل بعضها السذاجة وجمعت النقود من العامة لمخلفات وهمية نسبوا إليها شفاء معجزاً من الأمراض، وشكا أساقفة(25/70)
من "الأحذية المنتنة والأمشاط القذرة ... والزنارات الرثة وخصلات الشعر والخرق القذرة المقررة والموصى بها للجهلة من الناس. باعتبارها مخلفات صحيحة لنساء أو رجال مقدسين (30).
وعلى الجملة فإن الأديار الستمائة في إنجلترا أظهرت، طبقاً لتقدير آخر مؤرخ كاثوليكي، سوء سلوك على نطاق واسع وكسلاً متلافاً وإهمالاً يكلف غالياً في رعاية أملاك الكنيسة (31).
وفي عام 1520 كان في إنجلترا نحو 130 ديراً للراهبات. منها أربعة فقط تضم ما يزيد على ثلاثين نزيلة (32). وألغى الأساقفة ثمانية أديار، وقال الأسقف في إحدى الحالات بسبب "الأخلاق الداعرة لنساء البيت وتبذلهن بسبب مجاورتهن لجامعة كمبرج (33) ". وتمت ثلاث وثلاثون جولة تفتيشية لواحد وعشرين ديراً للراهبات في أبرشية لنكولن وقدمت عنها تقارير من بينها ستة عشر تقريراً مشجعاً، وأربعة عشر تقريراً تضمنت ملاحظات عن الافتقار إلى النظام أو الأخلاق وتقريران تحدثا عن راهبات كن يعشن في الخنا، وتقرير وجد راهبة حاملاً من قسيس (34). وكانت مثل هذه الانحرافات عن القواعد الصارمة تعد طبيعية في المناخ الأخلاقي السائد في تلك العصور، ولعل الخدمات الكريمة في التعليم والبر كانت ترجحها.
وكان رجال الدين لا يتمتعون بالشعبية. وكتب يوستاس شابويس السفير الكاثوليكي لشارل الخامس في إنجلترا إلى مولاه عام 1529 فقال: "إن كل الناس يكرهون القساوسة" (35). وندد كثير من الناس، من المتشبثين بعقيدة المحافظين تماماً بقسوة الضرائب التي فرضها رجال الدين وتبذير الأساقفة وثراء الرهبان وكسلهم. وعندما اتهم كاتب سر أسقف لندن بقتل هرطيق (1514) توسل الأسقف إلى ولزى أن يمنع المحاكمة أمام محلفين مدنيين "لأني واثق أن كاتب سري لو حوكم أمام أي أثنى عشر(25/71)
رجلاً في لندن فإنهم سوف ينحازون في حقد إلى صف الهرطيق إلى حد أنهم سوف ينبذون كاتبي ويدينونه على الرغم من أنه بريء مثل هابيل" (36).
وأخذت الهرطقة تشتد مرة أخرى. وفي عام 1506 اتهم خمسة وأربعون رجلاً بالهرطقة أمام أسقف لنكولن وتراجع ثلاثة وأربعون عما قالوا، وأحرق أثنان. وفي عام 1510 حاكم أسقف لندن أربعين هرطقياً وأحرق أثنين، وفي عام 1521 حاكم خمسة وأربعين وأحرق خمسة، وتورد السجلات قائمة تضم 342 محاكمة مثل هذه في خلال خمسة عشر عاماً (37).
ومما كان يعد بين الهرطقات الجدل حول القربان المقدس وهل يظل يقدم من الخبز فحسب، وأن القساوسة لا حول لهم ولا قوة أكثر من الآحاد الآخرين من الناس في التكريس أو الحل، وأن القرابين المقدسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، وأن رحلات الحج إلى المزارات المقدسة والصلاة من أجل الموتى لا قيمة لها، وأن الصلوات يجب أن توجه لله وحده، وأن في وسع الإنسان أن يظفر بالنجاة بالإيمان وحده، بغض النظر عما يقدم من صالح الأعمال، وأن المسيحي المخلص فوق كل القوانين ما عدا شريعة المسيح، وأن الكتاب المقدس والكنيسة يجب أن يكونا القاعدة الوحيدة التي يحتكم إليها في العقيدة، وأن كل الرجال يجب أن يتزوجوا، وأن الرهبان والراهبات يجب أن يجحدوا اقسامهم بالتزام العفة.
وكانت بعض هذه لهرطقات أصداء لمذهب لولارد، وكانت بعضها انعكاسات لنفخات من بوق لوثر.
وفي أواخر عام 1251 كان الثائرون الشبان في أكسفورد يتلقفون في لهفة أنباء الثورة الدينية في ألمانيا، وآوت كامبردج في أعوام 1521 - 25 أثنى عشر من زعماء هراطقة المستقبل، وليام تيندال وكيلز كوفردال وهيولاتيمر وتوماس بلني وأدوارد فوكس ونسكولاس ردلي وتوماس(25/72)
كرانمر ... لقد هاجر كثير منهم: وهم يتوقعون الاضطهاد، إلى القارة، وطبعوا كراسات دينية مناهضة للكاثوليكية وبعثوا بها سراً إلى إنجلترا.
وأصدر هنري الثامن عام 1521 كتابه المشهور "قضية المقدسات السبعة ضد مارتن لوثر"، ولعله أصدره كرادع لهذه الحركة أو ربما لإظهار سعة علمه في اللاهوت، واعتقد الكثيرون أن ولزى هو المؤلف الخفي، ولعل ولزى هو الذي اقترح تأليف الكتاب، وصاحب ما ورد فيه من أفكار رئيسية كجزء من دبلوماسيته في روما، بيد أن أرازموس ادعى أن الملك قد فكر في الرسالة من أولها لآخرها وألفها، ويميل الحكم الآن إلى هذا الرأي. وهذا الكتاب له سمات المبتدئ، وهو لا يكاد يحاول تقديم رد عقلي يدحض به الآراء الأخرى، ولكنه يعتمد على فقرات منقولة من الكتاب المقدس والروايات الكنسية والتعسف الشديد، وكتب الثائر المنتظر ضد البابوية يقول: "إي ثعبان سام يصل إلى درجة مَن يصف سلطة البابا بأنها مستبدة؟ ... وأي جارحة من جوارح الشيطان تحاول أن تمزق أعضاء المسيح وتفصلها عن رأسها". ما من عقوبة يمكن أن تكون جسيمة عندما توقع على مَن يعصى القس الأكبر والقاضي الأعلى على الأرض لأن الكنيسة بأسرها ليست رعية للمسيح فحسب ... بل لكاهن المسيح الوحيد، بابا روما (38). وكان هنري يغبط ملك فرنسا على ألقاب التشريف التي تسبغها الكنيسة عليه مثل: "أكثر المسيحيين مسيحية" وفردينان وايزابلا على لقب العاهلين الكاثوليكيين. وعندما قدم وكيله وقتذاك الكتاب إلى ليو العاشر طلب منه أن يمنح هنري وحلفاءه لقب - حامي العقيدة - ووافق ليو ووضع مَن استهل الإصلاح الديني في إنجلترا الكلمات على سكنه.
وتمهل لوثر في الإجابة. ورد عام 1525 رداً فريداً على ذلك "الحمار الأحمق"، و "ذلك المجنون الهائج ... ملك الأكاذيب، الملك(25/73)
هيتز، ملك إنجلترا يغضب الله ... ولما كانت تلك الدودة اللعينة العفنة قد افترت كذباً بشر مبيت على مليكي في السماء فإنه يحق لي أن ألطخ هذا الملك الإنجليزي بقذره" (39) و "لم يتعود هنري على هذا الرشاش فاشتكى إلى أمير سكسونيا المختار الذي قال له بتأدب جم ألا يتطفل على الأسود، ولم يصفح الملك قط عن لوثر على الرغم من اعتذاره فيما بعد، ونبذ البروتستانت الألمان حتى عندما تمرد تماماً على البابوية.
وكان أعظم رد مفحم للوثر هو نفوذه في إنجلترا ففي ذلك العام نفسه 1525 نسمع عن "جمعية الاخوان المسيحيين"، في لندن التي انطلق وكلاؤها المأجورون يوزعون كراسات دينية لوثرية وهرطقية أخرى وأناجيل بالإنجليزية كلها أو بعضها.
وفي عام 1408 انزعج كبير الأساقفة أروندل بسبب توزيع نسخة الكتاب المقدس التي ترجمها ويكلف، فمنع القيام بأي ترجمة له باللغة الوطنية دون الحصول على موافقة من الأسقف، على أساس أن أي نسخة تترجم بدون ترخيص قد يحدث فيها تحريف للفقرات الصعبة، أو تلون التعبير لتأييد هرطقة. ولم يشجع كثير من رجال الدين قراءة الكتاب المقدس بأي صيغة، واحتجوا بأن الترجمة الصحيحة تستلزم معرفة خاصة، وأن المنتخبات من الكتاب المقدس كانت تستخدم لإثارة الفتنة (40). ولم تبدِ الكنيسة أي اعتراض رسمي على الترجمات السابقة لويكلف بيد أن هذا الإذن المفهوم ضمناً لم تكن له أهمية لأن كل النسخ الإنجليزية قبل عام 1526 كانت مخطوطة.
ومن ثم تأتي الأهمية الزمنية للعهد الجديد الإنجليزي الذي نشره تندال عام 1525 - 26. وكان قد فكر مبكراً في أيام دراسته في ترجمة الكتاب المقدس، لا من النسخة اللاتينية له كما فعل ويكلف، بل من الأصلين(25/74)
العبري واليوناني. وعندما لامه كاثوليكي غيور وقال له: "خير لك أن تعيش بلا شريعة الرب، أي الكتاب المقدس من أن تعيش بشريعة البابا"، رد تندال بقوله: "إذا مد الله في عمري فلن تمضي بضع سنين حتى أجعل الصبي الذي يدفع المحراث يعرف من الكتاب المقدس أكثر مما تعرف أنت (42) ". ومنحه أحد معاوني بلدية لندن الفراش والمأوى لمدة ستة شهور عكف الشاب أثناءها على العمل. وذهب تندال عام 1524 إلى فنتبرج واستمر في العمل تحت إرشاد لوثر. وبدأ في كولونيا يطبع نسخة العهد الجديد المترجمة من النص اليوناني كما حققه أرازموس. وأثار وكيل إنكليزي السلطات عليه، ففر تندال من كولونيا الكاثوليكية إلى ورمز البروتستانتية، وهناك طبع 6. 000 نسخة، أضاف لكل منها مجلداً منفصلاً ضمنه تعليقات ومقدمات عدوانية، اعتمد فيها على مقدمات أرازموس ولوثر. وهربت كل هذه النسخ إلى إنجلترا وكانت بمثابة الوقود، الذي أشعل نار البروتستانتية الأولى، وزعم كوثبرت تونستال، أسقف لندن أن هناك أخطاءً شنيعة في الترجمة، وتحاملاً مغرضاً في التعليقات، وهرطقات في المقدمات، وحاول أن يمنع تداول الطبعة بشراء كل النسخ المكتشفة وأحراقها علناً في ميدان سانت بول كروس، بيد أن نسخاً جديدة ظلت ترد من القارة، وعلق مور على ذلك بقوله إن تونستال كان يمول مطبعة تندال. وكتب مور نفسه حواراً مستفيضاً (1528)، انتقد فيه النسخة الجديدة فرد عليه تندال، ورد مور على الرد في "تفنيد" يتألف من 578 صفحة من القطع الكبير. ورأى الملك أن يخمد الفتنة بمنع قراءة الكتاب المقدس بالإنجليزية وتداوله، إلى أن تصدر ترجمة معتمدة من ذوي الشأن (1530)، وفي غضون ذلك حرمت الحكومة كل طبع أو بيع أو استيراد أو حيازة للمؤلفات الهرطقية.(25/75)
وبعث ولزى بأوامره بالقبض على تندال، إلا أن فيليب، حاكم لاندجراف هس أسبغ حمايته على المؤلف، وتابع في ماربورج ترجمته للأسفار الخمسة (1530). وترجم الجانب الأكبر من العهد القديم إلى الإنجليزية في أناة، بجهده الخاص أو تحت إشرافه. غير أنه سقط في أيدي الموظفين الإمبراطوريين في لحظة لم يتخذ فيها احتياطاته وسجن لمدة ستة عشر شهراً في فلفورد (قرب بروكسل)، وأعدم في المحرقة (1536) على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن. وتحدثنا الرواية أن آخر كلماته كانت: "رباه، افتح عيني ملك انجلترا (43) " وقد عاش ما يكفي لإتمام رسالته، فالصبي الحارث يستطيع الآن أن يسمع المبشرين الإنجيليين الآن وهم يروون له بإنجليزية ثابتة واضحة قوية قصة المسيح الملهمة. وعندما ظهرت النسخة التاريخية المعتمدة (1611) كان 90 في المائة من أعظم ما كتب في الأدب الكلاسي الإنجليزي وأشدها تأثيراً كانت لتندال بلا تغيير (44).
وكان موقف ولزى تجاه هذا الإصلاح الديني الإنجليزي الوليد يتسم باللين، كما يمكن أن يتوقع من رجل على رأس الكنيسة والحكومة على السواء. فاستأجر شرطة سرية لكشف الهرطقة، وفحص الأدب المشكوك فيه والقبض على الهراطقة. غير أنه سعى إلى إغراء هؤلاء بأن يسكتوهم لا أن يعاقبوهم، ولم يصدر أوامره قط بإرسال هرطيق إلى المحرقة. وفي عام 1528 سجن ثلاثة من طلبة جامعة أكسفورد بتهمة الهرطقة، وترك أسقف لندن واحداً منهم يموت في الحبس وأنكر آخر ما قاله وأطلق سراحه، أما الثالث فأخذه ولزى ووضعه تحت رعايته وسمح له بالفرار (45). وعندما ندد هيو لاتيمر، أفصح المصلحين المدينيين الأوائل في القرن السادس عشر بإنجلترا، بفساد رجال الدين وطلب أسقف أيلي من ولزى منعه، منح ولزى لاتيمر ترخيصاً بالوعظ في أي كنيسة بالبلاد.(25/76)
ورسم الكاردينال خطة ذكية لإصلاح الكنيسة. وفي رواية لأسقف برنت أنه كان يحتقر رجال الدين وبخاصة ... الرهبان الذين لا يؤدون خدمة للكنيسة أو الدولة، ولكنهم بسبب حياتهم الفاضحة وصمة عار في جبين الكنيسة وحملاً على الدولة. ومن ثم قرر أن يوقف عدداً منهم ويحولهم إلى مؤسسة أخرى (46). ولم يكن إغلاق دير لا يؤدي وظيفته على ما يرام بالأمر الذي لم يسمع به من قبل، فقد حدث في كثير من الحالات قبل ولزى بأمر صدر من الكنيسة. وبدأ (1519) بإصدار تشريعات لإصلاح القوانين الكنسية نموذجية للغاية. وفوض كاتم سره توماس كرومويل في زيارة الأديار بنفسه أو بواسطة وكلاء له وأن يقدم له تقارير عن الأحوال الموجودة، وأتاحت هذه الجولات التفتيشية مهارة متمرسة لكرومويل في تنفيذ أوامر هنري فيما بعد بتقصي الحياة في الأديار بإنجلترا بشدة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من قسوة هؤلاء الوكلاء ومن تلقيهم "الهدايا" أو أخذها كرها، وعن مشاطرتهما كرومويل والكاردينال (47) في هذه الهدايا. وحصل ولزى عام 1524 على إذن من البابا كليمنت السابع بإغلاق الأديار التي تضم أقل من سبعة نزلاء وإنفاق دخول هذه الممتلكات على إنشاء كليات. وشعر بالسعادة عندما مكنته هذه الأموال من فتح كلية في موطنه ابسويتش وأخرى في أكسفورد وراوده الأمل في أن يستمر على هذا المنوال فيغلق المزيد من الأديار عاماً بعد عام ويستبدل بها كليات (48). إلا أن نياته الطيبة ضاعت في غمرات السياسة، وكانت أعظم نتيجة لإصلاحاته المتعلقة بالأديار هي أنه زود هنري بسابقة جديرة بالإجلال لخطة أبعد مدى، وتدر ربحاً أكثر.(25/77)
وفي غضون ذلك كانت سياسة الكاردينال الخارجية قد أدت إلى نتيجة تدعو إلى الأسى. ولعله سمح لإنجلترا بالانضمام إلى شارل في حربه مع فرنسا (1522) لأنه كان يسعى إلى الحصول على تأييد الإمبراطور لترشيحه للبابوية (1521). ومنيت الحملات الإنجليزية بالفشل وتكلفت أموالاً طائلة، وأزهقت فيها أرواح كثيرة.
ودعا ولزى (1523) أول مجلس نيابي في سبع سنوات، لتمويل الجهود الجديدة وصدمه بطلب إعانة مالية لم يسبق لها مثيل قدرها 800. 005 جنيه - أي خمس ما يملكه كل علماني. واحتج أعضاء مجلس العموم ثم صوتوا على سبع فقط، واحتج رجال الدين بيد أنهم سلموا دخل نصف عام من كل الصدقات. وعندما وصلت الأنباء بأن جيش شارل قد تغلب على الفرنسيين في بافيا (1525) وأخذ فرانسيس أسيراً. رأى هنري وولزى أن من الحكمة أن يسهما في تقطيع أوصال فرنسا الذي يوشك أن يحدث. ووضعت خطة للقيام بغزو جديد واقتضى الأمر تدبير المزيد من الأموال وخاطر ولزى بآخر ما تبقى له من شعبية، بأن طلب من كل الإنجليز الذين يتجاوز دخلهم 50 جنيهاً (500 دولار) أن يسهموا بسدس أموالهم في "هبة ودية"، لمتابعة الحرب والوصول بها إلى غاية مجيدة، "ودعونا نتبرع ودياً حتى نمنع شارل من ابتلاع فرنسا بأسرها".
وقوبل الطلب بمقاومة انتشرت على نطاق واسع اضطر ولزى إلى أن يتحول إلى وضع برنامج للسلام. ووقعت معاهدة للدفاع المتبادل مع فرنسا كمحاولة أخرى لاستعادة توازن القوى ... ولكن جنود الإمبراطور استولوا عام 1527 على روما وأسروا البابا وبدا أن شارل(25/78)
قد أصبح وقت ذاك سيد القارة الذي لا يقهر، وقضى على سياسة ولزى القائمة على الصد والتوازن. وانضمت إنجلترا إلى فرنسا عام 1528، في الحرب ضد شارل.
وكان شارل ابن أخي كاثرين الأراجونية التي كان هنري شديد الرغبة في الطلاق منها، وكان كليمنت السابع، الذي يستطيع أن يمنحه لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، أسيراً لشارل بشخصه وسياسته.
4 - طلاق الملك
جاءت كاترين الأراجونية، ابنة فرديناند وإيزابلا إلى إنجلترا عام 1501، وكانت في السادسة عشرة من عمرها وتزوجت (14 نوفمبر) من آرثر البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وهو أكبر أبناء هنري السابع. ومات آرثر في اليوم الثاني من أبريل عام 1502 وكان المفروض بوجه عام أن الزوج ذد دخل بزوجته. ومن ثم أرسل السفير الأسباني قياماً بالواجب "أدلة" إلى فرديناند، ولم ينتقل لقب أرثر، أمير ويلز رسمياً إلى شقيقه الأصغر هنري إلا بعد مرور شهرين على وفاة آرثر (49). ولكن كاثرين أنكرت أن زوجها دخل بها. وقد أحضرت معها صداقاً قدره 200. 000 دوكات (5. 000. 000 دولار) وكره هنري السابع أن يدع كاثرين تعود إلى أسبانيا ومعها هذه الدوكات، وتلهف على أن يجدد مصاهرته لفرديناند القوي فاقترح أن تتزوج كاثرين من الأمير هنري على الرغم من أنها كانت تكبر الصبي بست سنوات. وكانت هناك آية في الكتاب المقدس (سفر اللاويين إصحاح 20: آية 21) تحرم هذا الزواج:(25/79)
"وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة ... يكونان عقيمين" ومهما يكن من أمر فإن هناك آية أخرى تنص على خلاف ذلك: "إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم وليس له ابن ... أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة". (سفر التثنية: إصحاح 25 آية 5). واستنكر كبير الأساقفة وارهام الزواج المقترح ودافع عنه الأسقف فوكس الونشستري إذا أمكن الحصول على محلل من البابا للمانع من المصاهرة. وطلب هنري السابع الحصول على المحلل. فمنحه له البابا يوليوس (1503) وجادل بعض خبراء القانون الكنسي في حق البابا في التحلل من مبدأ نص عليه الكتاب المقدس (50) وأكد البعض حقه في هذا، أما يوليوس نفسه فقد راودته بعض الشكوك (51). وأعلنت رسمياً الخطبة، وهي في الواقع زواج شرعي - عام 1503، ولما كان العريس لا يزال في الثانية عشرة من عمره فحسب فقد أجلت المعاشرة. وفي عام 1505 طلب الأمير هنري إعلان بطلان الزواج، لأن أباه أكرهه (52) عليه ولكنه أقنع بصحة الزواج على أساس أنه مصلحة إنجلترا.
وفي عام 1509، وبعد ستة أسابيع من ارتقائه العرش احتفل علناً بالزواج. وبعد سبعة شهور (31 يناير سنة 1510) أنجبت كاثرين أول طفل لها، وقد مات عند الولادة. وأنجبت بعد ذلك بعام ابناً وابتهج هنري بولادة وريث ذكر يصل به سلسلة نسب تيودور، ولكن الطفل مات بعد بضعة أسابيع وسقط ابن ثان وثالث بعد الولادة مباشرة (1513 و 1514). وبدأ هنري يفكر في الطلاق. أو بعبارة أدق في إعلان بطلان الزواج باعتباره غير صحيح. وحاولت كاثرين المسكينة مرة أخرى وفي عام 1516 أنجبت طفلة قدر لها أن تكون الملكة ماري. وأذعن هنري وقال لنفسه: "إذا كانت هذه المرة ابنة فإن الأبناء سوف يجيئون بعدها (53) "(25/80)
بفضل الله ومنه. وفي عام 1518 أنجبت كاثرين ابناً آخر ولد ميتاً. واشتدت خيبة أمل الملك والبلاد لأن ماري البالغة من العمر عامين، كانت قد خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وإذا لم يرزق هنري بولد فإن ماري سوف ترث العرش الإنجليزي، وعندما يصبح زوجها ملكاً على فرنسا فإنه سيكون في الواقع ملكاً على إنجلترا أيضاً، وتصبح بريطانيا مقاطعة تابعة لفرنسا، وكان دوقات نورفولك وبكنجهام تداعبهم الآمال في أن يزيحوا ماري ويضمنوا التاج لأنفسهم، وأطلق بكنجهام لسانه فاتهم بخيانة البلاد وقطع رأسه (1521)، وعبر هنري عن خوفه من أن يكون حرمانه من إنجاب ولد عقاباً من الله لأنه استخدم محللاً بابوياً (54) من وصية واردة في الكتاب المقدس. وأقسم ليقودن حملة صليبية ضد الأتراك إذا أنجبت له الملكة ولداً. غير أن كاثرين لم تحمل بعد ذلك. وما أن حل عام 1525 حتى تخلى عن كل أمل في الحصول على ذرية أخرى منها.
وكان هنري منذ أمد بعيد قد فقد الميل إليها باعتبارها أنثى. وكان وقتذاك في الرابعة والثلاثين، أي في عنفوان الرجولة الفتية، وكانت في الأربعين وتبدو أكبر من سنها. ولم تكن قط مغرية، والحق أن مرضها المتكرر، أو ما صادفها من سوء الحظ، قد شوه جسدها وأضفى إلى روحها قتامة، وكانت تبز النساء بثقافتها ودماثتها ولكن الأزواج قلما يرون أن التضلع في العلم خصلة محمودة في الزوجة. وكانت زوجة صالحة مخلصة، تحب زوجها حباً لا يفوقه إلا حبها لإسبانيا. وكانت ترى نفسها باعتبارها - وكانت كذلك لفترة ما - سفيرة لإسبانيا وكانت ترى أن إنجلترا يجب أن تقف دائما في صف فرديناند أو شارل. وفي حوالي عام 1518 اتخذ هنري أول حظية له عرفها بعد الزواج وهي اليزابيث بلاوتد شقيقة مونتجوي صديق أرازموس، وأنجبت له ابناً عام 1519 وأنعم هنري على الصبي بلقب(25/81)
دوق رتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة الهرش عليه. وفي عام 1524 اتخذ حظية أخرى، هي ماري بولين (55)، والحق أن سير جورج ثروكمورتون اتهمه في وجهه بالزنا مع أم ماري أيضاً (56). وكان هناك قانون غير مكتوب في ذلك العهد ينص على أن الملك إذا ما تزوج لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة ولم يكن ذلك باختياره، فإن له الحق في أن ينشد خارج الزواج الغرام الذي فقده في المخدع الشرعي.
وفي عام 1527 أو قبله حول هنري فتنته إلى آن شقيقة ماري. وكان والدهما سير توماس بولين، تاجراً دبلوماسياً حظي منذ وقت طويل بعطف الملك، أما أمهما فكانت من آل هوارد، وهي ابنة الدوق نورفولك. وأرسلت آن إلى باريس لإتمام دراستها فيها، وهناك عينت وصيفة للملكة كلود ثم لمرجريت دي نافار، ولعلها تشربت منها بعض النوازع البروتستانتية. وكان في وسع هنري أن يراها فتاة طروباً في الثالثة عشرة من عمرها في ميدان كلوث أف جولد، وعندما عادت إلى إنجلترا وهي في الخامسة عشرة من عمرها (1522) أصبحت وصيفة للملكة كاثرين. ولم تكن رائعة الجمال، وكانت قصيرة القامة لها بشرة قاتمة وفم واسع ورقبة طويلة، ولكنها خلبت لب هنري وآخرين غيره بعينيها السوداويين البراقتين وشعرها البني المسترسل ورشاقتها وذكائها ومرحها. وكان لها بعض العشاق المولهين بها، ومنهم توماس ويات الشاعر، وهنري برسي، الذي اصبح فيما بعد أيرل نور ثمبرلاند، واتهمها أعداؤها فيما بعد بأنها كانت متزوجة في السر من برسي قبل أن تضع أنظارها على الملك، إلا أن الدليل لم يكن قاطعا (57). ولا نعرف متى بدأ هنري يطارحها الغرام وأقدم رسائل الحب الباقية التي كتبها لها ترجع فيما يرجح إلى يوليه عام 1527.
ما هي العلاقة بين هذه القصة الغرامية والتماس هنري الحكم ببطلان(25/82)
زواجه؟ مما لا جدال فيه أنه قد فكر في هذا الأمر في وقت يرجع إلى عام 1514 عندما كانت آن فتاة في السابعة من عمرها. ويبدو أنه طرح الفكرة جانباً حتى عام 1524، عندما كف عن مباشرة علاقاته الزوجية مع كاثرين، وفقاً لروايته (58). وأقدم إجراءات سجلت ببطلان الزواج اتخذت في مارس عام 1527، بعد تعرف هنري بآن بوقت طويل، وفي الوقت الذي حلت فيه محل شقيقتها في أحضان الملك، والظاهر أن ولزى كان لا يعلم شيئاً عن أي نية للملك في الزواج من آن عندما ذهب في يوليو عام 1527 إلى فرنسا لإعداد العدة للزواج بين هنري ورينيه، ابنة لويس الثاني عشر التي سرعان ما أثارت حركة بروتستانتية في إيطاليا. وأول إشارة لما انتواه هنري وردت في خطاب أرسله يوم 16 أغسطس سنة 1527 السفير الإسباني إلى شارل الخامس يبلغه فيه أن هناك اعتقاداً عاماً في لندن بان الملك إذا حصل على "طلاق" فإنه سوف يتزوج "إبنة سير توماس بولين (59) " ولم يكن هذا يعني ماري بولين لأن هنري وآن كانا يعيشان في شقتين متجاورتين تحت نفس القف في جرينوتش (60) عند حلول نهاية عام 1527. وقد نستنتج من هذا أن هنري سارع بطلب بطلان الزواج على الرغم من أنه يصعب أن يقال إن السبب في ذلك هو افتتانه بآن. وكان السبب الأساسي رغبته في الحصول على ولد يمكن أن ينقل إليه العرش مع شيء من الثقة في خلافة هادئة. وكانت إنجلترا بأسرها تشاطره ذلك الأمل. وتذكر الناس في فزع السنوات العديدة (1454 - 85) التي نشبت فيها الحرب بين بيتيورك ولانكاستر على التاج، ولك يكن قد مضى على ظهور أسرة تيودور غير اثنين وأربعين عاماً في سنة 1527، وكان حقها قي العرش مشكوكاً فيه، ولم يكن في وسع أحد أن يصل حبل الأسرة الحاكمة دون منازع إلا ولد شرعي ينحدر مباشرة من صلب الملك، ولو لم يلتقِ هنري قط بآن بولين فإنه كان قميناً(25/83)
بأن يرغب في الحصول على طلاق وزوجة ولود بصورة مقبولة. ولا شك أنه يستحق هذا.
واتفق ولزى مع الملك في هذا الموضوع وأكد له أنه يمكن الحصول على قرار من البابا ببطلان الزواج، وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا الانفصال أمر مقبول بوجه عام، كإجراء حكيم لتلبية مثل هذه الضرورات الوطنية تماماً، ويمكن تقديم سوابق كثيرة. بيد أن تقدير الكاردينال المشغول لم يعمل حساباً لتطويرين بغيضين: فهنري لم يكن يريد رينيه بل كان يريد آن وبطلان الزواج سوف يصدر من بابا، كان عندما وصلته المشكلة، أسيراً لإمبراطور، كان لديه أكثر من سبب لمناصبة هنري العداء، وربما كان شارل حرياً بأن يعارض بطلان هذا الزواج ما دامت عمته تقاومه، وكان يعارض أكثر لو عقد زواج جديد، كما دير ولزى، بربط إنجلترا بحلف قوي مع فرنسا. ولم يكن السبب الأولي للإصلاح الديني الإنجليزي هو جمال آن بولين الصاعد، بل الرفض العنيد الذي بدا من كاثرين وشارل في إدراك عدالة رغبة هنري في الحصول على ولد. واشتركت الملكة الكاثوليكية مع الإمبراطور الكاثوليكي والبابا الأسير في انفصال إنجلترا عن الكنيسة. ولكن السبب النهائي للإصلاح الديني الإنجليزي لم يكن طلب هنري بطلان الزواج بقدر ما كان من ارتفاع شأن الملكية الإنجليزية وبلوغها درجة من القوة جعلتها قادرة على أن ترفض التسليم بسلطة البابا في التدخل في شئون انجلترا، وتحكمه في مواردها.
وأكد هنري أن رغبته العارمة في الحصول على بطلان الزواج إنما دعا إليها جبربيل دي جرامون الذي أقبل إلى إنجلترا في فبراير عام 1527 لمناقشة الزواج المقترح بين الأميرة ماري والأسرة الملكية الفرنسية. فقد أثار جرامون، كما يروي هنري، سؤالاً عن شرعية بنوة ماري،(25/84)
على أساس أن زواج هنري بكاثرين قد يكون غير صحيح باعتباره مخالفة لأحد نواهي الكتاب المقدس ولا يستطيع البابا أن يمحوها. ظن البعض أن هنري لفق القصة (61)، ولكن ولزى رددها وأبلغت إلى الحكومة الفرنسية (1528)، ولم ينكرها، بقدر ما هو معروف جرامون، وجاهد جرامون لإقناع كليمنت بأن طلب هنري بطلان الزواج أمر عادل، وأبلغ شارل سفيره في إنجلترا (29 يوليو سنة 1527) أنه كان ينصح كليمنت برفض التماس هنري.
وبينما كان ولزى في فرنسا ابلغ على وجه التحديد بأن هنري لا يرغب في الزواج من رينيه بل يريد الزواج من آن. واستمر يعمل للحصول على البطلان، ولكنه لم يخفِ اكتئابه بسبب اختيار هنري. وتجاوز الملك حاجبه في خريف عام 1527، وبعث بكاتم سره وليام نايت لتقديم ملتمسين للبابا الأسير، الأول يتضمن أن كليمنت، إذ يتعرف على صحة زواج هنري الذي تكتنفه الشكوك وافتقاره إلى ذرية من الذكور وكراهية كاثرين للطلاق، يجب أن يسمح لهنري بالاحتفاظ بزوجتين. وأصدر الملك أمراً في آخر لحظة أثنى نايت عن تقديم هذا الاقتراح، وكانت جرأة هنري قد خمدت ولابد أنه ذهل، عندما تلقى، بعد ثلاث سنوات، خطاباً من جيوفاني كاسالي أحد وكلائه في روما، مؤرخاً في 18 سبتمبر سنة 1530 يقول فيه: "منذ بضعة أيام اقترح على البابا سراً أن يأذن لجلالتك باتخاذ زوجتين (62) ". وكان ملتمس هنري الثاني لا يقل غرابة، على البابا أن يمنحه محللاً للزواج من امرأة كان للملك علاقات جنسية مع أختها (63). ووافق البابا على هذا بشرط أن يعلن بطلان الزواج بكاثرين إلا أنه لم يكن على استعداد لإعلان بطلان هذا الزواج. وكان كليمنت لا يخشى شارل فحسب بل كان ينفر من القاعدة التي تقضي بأن أحد(25/85)
البابوات السابقين قد ارتكب خطأ جسيماً بإعلان صحة الزواج. وتلقى في نهاية عام 1527 ملتمساً ثالثاً - بأنه يجب أن يعين ولزى قاصداً رسولياً آخر لعقد محكمة في إنجلترا تسمع الدليل وتحكم بصحة زواج هنري بكاثرين. وأذعن كليمنت (13 أبريل سنة 1528)، وعين الكاردينال كامبيجيو لعقد جلسة مع ولزي في لندن ووعد - في منشور بابوي لا يطلع عليه سوى ولزى وهنري - أن يؤيد أي قرار يتخذه المندوبان البابويان (64). وربما كان لانضمام هنري إلى فرانسيس (يناير سنة 1528) في إعلان الحرب على شارل وتعهدهما بتحرير البابا قد أثر في إذعان البابا.
واحتج شارل وأرسل إلى كيمنت نسخة من وثيقة ادعى أنها وجدت في المحفوظات الأسبانيّة، وفيها أكد يوليوس الثاني صحة المحلل الذي اقترح هنري وولزى بطلانه. وتعجل البابا، وهو لا يدر يما يفعل ولا يزال أسيراً لشارل، فأرسل تعليمات إلى كامبيجو بألا ينطق بحكم قبل أن يحصل على تفويض صريح من الآن فصاعداً ... فإذا ألحق بالإمبراطور ضرر كبير، فإن كل أمل في السلام العالمي يكون قد تبدد ولا تستطيع الكنيسة أن تنجو من الخراب التام لأنها تخضع خضوعاً كاملاً لسلطات أتباع الإمبراطور ... أجل بقدر الإمكان (65").
وعند وصول كامبيجو إلى إنجلترا (أكتوبر سنة 1528) حاول أن يحصل على موافقة كثرين بالاعتزال في دير للراهبات، فوافقت بشرط أن يحلف هنري أيمان الرهبان. ولكن لم تكن هناك أمور أبعد عن ذهن هنري من الفقر والخضوع والعفة، ومهما يكن من أمر فإنه اقترح أن يحلف هذا الأيمان إذا وعد البابا يحله منها عند الطلب ورفض كامبيجيو أن ينقل هذا الاقتراح إلى البابا وأبلغه بدلاً من ذلك (فبراير سنة 1529) بعزم الملك على الزواج من آن. وكتب يقول: "إن هذه العاطفة أمر خارق للعادة أنه لا يرى شيئاً ولا يفكر في شيء سوى حبيبته آن، إنه(25/86)
لا يستطيع أن يستغني عنها ساعة واحدة. وإني لأشعر بالإشفاق عليه عندما أرى أن حياة الملك واستقرار وسقوط البلاد بأسرها تتوقف على هذه المسألة وحدها (66) ".
وحدثت تغيرات في الموقف الحربي جعلت البابا يتحول أكثر فأكثر ضد اقتراح هنري. وفشل الجيش الفرنسي، الذي كان هنري قد ساعده بتمويله، في حملته الإيطالية، وترك البابا في حالة اعتماد كلي على الإمبراطور. وطردت فلورنسا حكامها من آل مديتشي - وكان كليمنت مخلصاً لتلك العائلة مثله في ذلك مثل شارل الذي كان مخلصاً لآل هابسبورج.
وانتهزت (فينيسيا) البندقية فرصة عجز البابا لكي تنتزع رافتا من الولايات البابوية، فمن كان وقتذاك يستطيع أن ينقذ البابوية سوى آسرها؟ وقال كليمنت "لقد استقر رأيي تماماً على أن أصبح من أنصار النظام الإمبراطوري، وسوف أعيش وأموت وأنا متمسك بهذا الرأي (67) ". ووقع في التاسع والعشرين من يونيه معاهدة برشلونة، وبمقتضاها وعد شارل بإعادة فلورنسا لآل مديتشي ورافنا للبابوية والحرية لكليمنت، ولكن على شريطة ألا يوافق كليمن مطلقاً على بطلان زواج كاترين إلا برضا كاترين وإرادتها الحرة.
ووقع فرانسيس الأول في الخامس من أغسطس معاهدة كامبراي التي سلمت في الواقع إيطاليا والبابا للإمبراطور.
وفي 31 مايو افتتح كامبيجيو مع ولزى المحكمة المختصة بالقاصد الرسولي للنظر في الالتماس المقدم من هنري، بعد أن أجل افتتاحها لأطول مدة ممكنة. واستغاثت كاترين بروما، وأبت أن تعترف باختصاص المحكمة. ومهما يكن من أمر فإن كلاً من الملك والملكة حضرا يوم 31 يونيه.(25/87)
وخرت كاترين على ركبتيها أمامه وتوسلت إليه بكلمات مؤثرة أن يستأنفا حياتهما الزوجية. وذكرته بأعمالها الكثيرة وإخلاصها التام، وصبرها على لهوه خارج الأسوار، وأقسمت أن الله يشهد على أنها كانت عذراء عندما تزوجها هنري، وتساءلت أي شيء صنعته أساءت به إليه (68)؟ فأنهضها هنري وأكد لها أنه لم يكن هناك ما يتمناه بحماسة أكثر التوفيق في زواجهما وأوضح لها أن الأسباب التي حملته على طلب الانفصال ليست شخصية، بل أملتها عليه مصلحة الأسرة المالكة والأمة. ورفض استغاثتها بروما على أساس أن الإمبراطور يسيطر على البابا، فانسحبت وهي تبكي، ورفضت أن تشترك بعد ذلك في الإجراءات القضائية. وتكلم الأسقف فيشر مدافعاً عنها ومن ثم اكتسب عداوة الملك. وطالب هنري بصدور قرار من المحكمة وتحايل كامبيجيو على المماطلة في إصدار الحكم وأخيراً (23 يوليو سنة 1529) أجل المحكمة إلى العطلة الصيفية. وألغى كليمنت القضية وحولها إلى روما لكي يجعل التردد أشد حسماً.
واستشاط هنري غضباً وشعر بأن كاترين عنيدة بصورة غير معقولة، فرفض أن تربطه بها أية علاقة بعد ذلك، وأخذ يقضي ساعات لهوه علناً مع آن وربما ترجع إلى هذه الفترة معظم رسائل الحب السبع عشرة التي نقلها كامبيجيو سراً من إنجلترا (69) والتي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان بين ذخائرها الأدبية. ويبدو أن آن المجربة التي خبرت أساليب معاملة الرجال والملوك لم تمنحه إلا تشجيعاً ودغدغة تثير عواطفه، وشكت وقتذاك من أن شبابها يضيع في الوقت الذي يتوانى فيه الكرادلة الذين لم يستطيعوا أن يدركوا رغبة عذراء في الظفر برجل ميسور عن اعتراف بحق هنري في أن يتوج الرغبة برباط الزواج. ولامت ولزى لأنه لم يتعجل البت في طلب هنري بعزم أشد وبلاغ أسرع، وشاركها الملك استياءها.(25/88)
وقد بذل ولزى كل ما في وسعه وإن كان يعارض الأمر بكل جوارحه. وكان قد ارسل بالمال إلى روما لرشوة الكرادلة (70) ولكن شارل كان قد أرسل بدوره مالاً وجيشاً علاوة على هذا. بل إن الكردينال كان قد أغضى عن فكرة التزوج من اثنتين (71) كما فعل لوثر بعد بضع سنوات. ومع ذلك عرف ولزى أن آن وأقرباءها من ذوي النفوذ يقومون بمناورة لإسقاطه. وحاول أن يهدئ من تأثيرها بالأطعمة اللذيذة والهدايا الثمينة، غير أن عداءها كان يزداد كلما طال العهد على إصدار قرار ببطلان الزواج. وتحدث عنها فقال: "إنها العدو الذي لم تكتحل عيناه قط بالنوم، ولم يكف عن الدرس والتصور معاً، في النوم واليقظة على السواء، للقضاء المبرم عليه (72) ". وتنبأ بأن البطلان لو منح فغن آن سوف تصبح ملكة وتقضي عليه، وأنه لو لم يمنح ذلك القرار فإن هنري سوف يستغني عنه باعتباره رجلاً فاشلاً. ويطلب محاسبته على ادارته، حساباً مالياً دقيقاً مفصلاً.
وكان لدى الملك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن حاجبه، فقد فشلت السياسة الخارجية وأثبتت أن التحول من صداقة شارل إلى الحلف مع فرنسا قد أدى إلى عواقب وخيمة.
ولم يكن في إنجلترا وقتذاك أمرؤ يقول كلمة طيبة في صالح الكاردينال الذي تمتع يوماً بسلطة مطلقة، فقد كان رجال الدين يكرهونه بسبب حكمه المطلق، وكان الرهبان يخشون أن يشهدوا مزيداً من حل الأديار، والعامة يبغضونه لأنه أخذ أبناءهم وأموالهم لشن حروب لا طائل من ورائها، والتجار يمقتونه لأن الحرب مع شارل عاقت تجارتهم مع الفلاندرز، والأشراف يكرهونه بسبب ما انتزعه منهم ظلماً، ولكبريائه(25/89)
الطارئة وثروته التي تضاعفت سريعاً. وأبلغ بعض الأشراف السفير الفرنسي (17 أكتوبر سنة 1525) بقولهم انهم "ينوون" عندما يموت ولزى أو يقضى عليه أن يتخلصوا من الكنيسة ويتلقوا أموال الكنيسة وولزى معاً (73). واقترح القماشون في كنت أن يوضع الكاردينال في قارب يتسرب منه الماء، ويترك لتتقاذفه الأمواج في البحر (74).
وكان هنري أشد دهاء. وفي اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1529 أصدر أحد وكلائه أمراً قضائياً باستدعاء ولزى للمثول أمام قضاة الملك، للرد على اتهام بأن أعماله كقاصد رسولي قد خالفت قانون الخضوع لسلطة التاج (1392)، الذي يقضي بمصادرة أموال أي إنجليزي يأتي بالكتب البابوية إلى إنجلترا. ولم يختلف الموقف لأن ولزى كان قد كفل سلطة القاصد الرسولي بناء على طلب الملك (75)، وأنه استخدمها بخاصة لصالح الملك. وادرك ولزى أن قضاة الملك سوف يدينونه فأرسل إلى هنري امتثالاً ذليلاً، يعترف بفشله ويلتمس أن يتذكر الملك أيضاً خدماته وآيات ولائه. ثم غادر لندن في نقالة مائية سارت في نهر التيمس. وتلقى في بوتنى رسالة رقيقة من الملك. وجثا على الطين في شكر بائس وحمد الله. واستولى هنري على المحتويات الثمينة في قصر كاردينال في هويتهول إلا أنه سمح له بالاحتفاظ بمنصب رئيس أساقفة يورك وبأموال شخصية تكفي احتياجات 160 جواداً تجر 72 عربة إلى مقره الأسقفي (76). وخلف الدوق نورفولك ولزى في رئاسة الوزارة وخلفه مور في منصب الحاجب (نوفمبر سنة 1529).
واقبل الكاردينال الذي جرد من سلطاته، على عمله، كبير أساقفة، في ورع ومثالية، وأخذ يزور أبرشياته بانتظام ويدبر ترميم الكنائس،(25/90)
ويعمل قاضياً موثوقاً به للتحكيم. وتساءل رحل من يوركشاير: "مَن كان أقل نصيباً من الحب في الشمال من مولاي الكاردينال قبل أن يعيش بينهم؟ ومَن كان محبوباً أكثر بعد أن عاش هناك فترة ما (77)؟ " بيد أن الطموح استيقظ في أعماقه مرة أخرى وسكن روعه من الموت وكتب خطابا ليوستاس شابويس سفير الإمبراطور في إنجلترا، وضاعت هذه الخطابات، بيد أن هناك تقريراً من شابويس إلى شارل ورد فيه: "لدي خطاب من طبيب الكاردينال يقول إني سيده ... رأى أن على البابا أن يمضي قدماً في إجراءات لوم أشد ويستدعي الجيش العلماني (78) ". أي الحرمان من غفران الكنيسة والغزو والحرب الأهلية.
وعلم نورفولك بهذه الرسائل المتبادلة وقبض على طبيب ولزى وانتزع منه، بوسائل لم تعرف على وجه التحقيق، اعترافاً بأن الكاردينال قد أشار على البابا بحرمان الملك من غفران الكنيسة. ولا نعرف هل كان السفير أو الدوق هو الذي ابلغ صدقاً عن الطبيب، أو هل كان الطبيب هو الذي ابلغ حقاً عن الكاردينال، وعلى أية حال فإن هنري أو الدوق أمر بالقبض على ولزى.
واستسلم في هدوء (4 نوفمبر سنة 1530) وودع أسرته وانطلق إلى لندن. وأصيب في شيفلد بارك بدوزنتاريا شديدة ألزمته الفراش. وهناك اقبل جنود الملك يحملون أوامر باقتياده إلى البرج. واستأنف رحلته، ولكن بعد مضي يومين من الركوب بلغ من الضعف حداً جعل حارسه يسمح له بأن يلزم الفراش في دير ليسيستر. وغمغم أمام ضابط الملك سير وليام كنجستون بالكلمات التي نقلها كافنديش واقتبسها شكسبير "لو أنني خدمت الله بإخلاص وجد كما خدمت الملك لما أسلمني في شيخوختي (79) ". ومات ولزى بالغاً من العمر خمسة وخمسين عاماً في دير ليسيستر يوم 29 نوفمبر سنة 1530.(25/91)
الفصل الرابع والعشرون
هنري الثامن وتوماس مور
1529 - 1535
1 - برلمان الإصلاح الديني
في المجلس النيابي الذي اجتمع في وستمنستر يوم 3 نوفمبر سنة 1529 اتفقت الجماعتان الحاكمتان - النبلاء في المجلس، والتجار ومجلس العموم على انتهاج ثلاثة ضروب من السياسة: تخفيض ثروة رجال الكنيسة وأضعاف سلطاتهم، والمحافظة على التجارة مع الفلاندرز وتأييد الملك في حملته للحصول على وريث ذكر. ولم ينطوِ هذا الاتفاق على الرضا عن آن بولين التي كانت تواجه باستنكار عام باعتبارها مغامرة، كما أنه لم يمنع وجود تعاطف عام مع كاترين (1). أما الطبقات الدنيا، وهي عاجزة من الناحية السياسة، فكانت حتى ذلك الوقت لا توافق على الطلاق، ووقفت المقاطعات الشمالية، وهي كاثوليكية شديدة التحمس، مع البابا (2) في إخلاص. وعمل هنري على تهدئة هذه المعارضة مؤقتاً بأن ظل محافظاً في كل شيء اللهم إلا حق البابوات في الهيمنة على الكنيسة الإنكليزية.
وكانت الروح القومية، وهي في إنجلترا وهي في إنجلترا أقوى منها في ألمانيا، تقف في تلك المسألة إلى جانب الملك، وعلى الرغم من فزع رجل الدين من تصور أن يكون هنري سيداً لهم فإنهم لم ينفروا من الاستقلال عن بابوية لا شبهة في خضوعها لسلطة أجنبية.
ونشر سيمون فش حوالي عام 1518 كتيباً من ست صفحات، قرأه هنري، دون أن يبدي احتجاجً فيما نعلم، وقرأه كثيرون بابتهاج(25/92)
صادق، وأطلق عليه اسم "ابتهال الشحاذين" وطالب الملك بمصادرة ثروة الكنيسة الإنجليزية كلها أو جانب منها:
" في العهود الخوالي لأسلافك النبلاء (هناك) تسلل في دهاء إلى مملكتك ... شحاذون وأفاقون مقدسون ومتبطلون ... أساقفة ورؤساء أديار وشمامسة ورؤساء شمامسة ومعاونو أساقفة وقساوسة ورهبان ورجال دين وكهنة رهبان وبائعو صكوك غفران ومحضرون. ومَن يستطيع أن يحصي هذا الضرب المتبطل المخرب الذي (طرح كل عمل جانباً) ألح في السؤال إلحاحاً شديداً إلى حد أنهم حصلوا في أيديهم على أكثر من ثلث مملكتك بأسرها؟ إن أعظم المقاطعات واجمل الدور والأراضي والأقاليم ملك لهم، وكان لهم إلى جانب هذا عشر محصول الغلة والمراعي والمروج والكلأ والصوف والمهور والعجول والجملان والخنازير والأوز والدجاج ... أي نعم وإنهم ليتطلعون في حرص شديد إلى أرباحهم إلى حد أن الزوجات المسكينات لابد وأن يكن مطالبات بأن يحسبن عشر كل بيضة وإلا فإن الزوجة لن تحصل على حقوقها في عيد الفصح ... بأن يحسبن ومن التي تشرع في العمل مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنساً على الأقل في اليوم لقاء نومها ساعة مع أخ أو راهب أو قس (3) "؟
ولعل النبلاء والتجار قد رأوا أن هناك شيئاً من المبالغة في هذا الاتهام، بيد أنهم اعتقدوا أنه يؤدي إلى نتيجة سارة - وهي إضفاء الصبغة العلمانية على أملاك الكنيسة. وكتب السفير الفرنسي جان دي بلاي "إن هؤلاء السادة ينتوون ... اتهام الكنيسة والتهام كل أموالها، ولا أكاد أجد نفسي في حاجة إلى تسجيل هذا بالشفرة، لأنهم يجهرون به صراحة، وأتوقع ألا يحصل القساوسة أبداً على خاتم الدولة - أي لن يكونوا على رأس الحكومة أبداً، مرة أخرى، وأنهم سوف يتعرضون في هذا المجلس(25/93)
النيابي لمفازع هائلة (4) ". وكان ولزى قد منع هذا الهجوم على أملاك الكنيسة، بيد أن سقوطه ترك رجال الدين بلا حول لهم ولا طول، اللهم إلا ما يتمتعون به من إيمان الناس، وهو إيمان كان آخذاً في التقلص، ولعل السلطة البابوية التي كانت قنينة بأن تحميهم بهيبتها أو تحريمها أو بحلفائها كانت وقتذاك الهدف الرئيسي لسخط الملك وكرة القدم التي تتقاذفها السياسة الإمبراطوريّة، وكان العرف يقتضي موافقة المجمع الأكليروسي لرؤساء أساقفة كنتربري ويورك على كل تشريع يمس الكنيسة في إنجلترا أو تأييده. فهل كان في وسع هذا المجمع تخفيف سورة غضب الملك وكبح جماح الحركة المناهضة لرجال الدين في المجلس النيابي؟
وافتتح المعركة مجلس العموم. إذ وجه خطاباً إلى الملك يقر فيه عقيدة المحافظين، وإن انتقد رجال الدين بشدة. وهاجم "قرار الاتهام" المشهور المجمع الأكليروسي واتهمه بأنه سن القوانين، دون الحصول على موافقة الملك أو المجلس النيابي، التي تحدد حرية العلمانيين تحديداً خطيراً، وتعرضهم لتعزير شديد، وغرامات باهظة، واتهم رجال الأكليروس بأنهم أعطوا صدقات لـ "جموع من الأحداث، قالوا إنهم أبناء أخوتهم" على الرغم مما يتمتع به مثل هؤلاء المستفيدين من شباب أو جهل، واتهم المحاكم الأسقفية بأنها استغلت في جشع حقها في فرض رسوم وغرامات، وهذه المحاكم بأنها قبضت على أشخاص وسجنتهم دون أن تبين التهم الموجهة إليهم، وأنها اتهمت العلمانيين وعاقبتهم عقاباً شديداً لشبهة هرطقة طفيفة واختتمت الوثيقة بمطالبة الملك بإصلاح هذه العلل (5)، ولا شك في أن هنري الذي كان على علم بأسرار تأليف هذا الخطاب قدم نقاطه الرئيسية إلى المجمع الأكليروسي وطلب منه الرد.(25/94)
وأقر الأساقفة وجود بعض الظلم وعزوا هذا إلى أفراد ظهروا إتفاقاً، وأكدوا تمسك محاكمهم بالعدالة، وأنهم يتأسون بالملك الورع الذي زجر لوثر في نبل عظيم، لمساعدتهم على قمع الهرطقة، ثم أخطأوا خطأً فظيعاً وأساءوا فهم المزاج الملكي فأضافوا كلمات كانت بمثابة غلان للحرب.
"ما دمنا نعلن ونتمسك بسلطتنا في سن القوانين التي تستند إلى ما في كتب الله المقدسة وما قررته الكنيسة المقدسة ... فليس لنا أن نتخلى عن أعبائنا وواجباتنا، التي أمرنا بها الله على وجه التأكيد ونتركها لرضاك السامي، ومن ثم نلتمس من مراحمكم بكل خضوع ... أن تحافظوا على هذه القوانين والشرائع وأن تدافعوا عنها مثلنا ... وأن يعمل بتفويض من الرب إجلالاً له تعالى على دعم الفضيلة والحفاظ على عقيدة المسيح (6) ".
وعلق موضوع النزاع. ولم يواجهه هنري في الحال. وكان أول ما اهتم به هو الحصول على موافقة المجلس النيابي على طلب عجيب - أن يعفى من سداد القروض التي قدمها له رعاياه (1). واحتج أعضاء مجلس العموم ثم وافقوا. وقدمت ثلاثة مشروعات أخرى بقوانين تستهدف كبح جماح سلطة رجال الأكليروس على الوصايا التي تم الإشهاد عليها وتقاضيهم رسوماً على الموتى واحتفاظهم بالصدقات المتعددة، وحظيت هذه المشروعات بقوانين بموافقة أعضاء مجلس العموم، وعارضها بشدة الأساقفة ورؤساء الأديار وأصحاب المقاعد في مجلس اللوردات، وقد عدلت، ولكنها أصبحت في جوهرها قوانين نافذة، وتأجل انعقاد المجلس النيابي إلى يوم 17 ديسمبر.
وتلقى الملك إبان صيف عام 1530 شيئاً من التشجيع الغالي، إذ اقترح توماس كرانمر، أستاذ اللاهوت في جامعة كمبردج، على هنري، أن تبدي
_________
(1) إن انخفاض قيمة العملة الآن يعفي الحكومات من الغلتجاء إلى مثل هذه اللصوصية الشريفة.(25/95)
الجامعات الكبرى في أوربا رأيها في موضوع هو هل كان في وسع البابا أن يسمح لرجل بالزواج من أرملة شقيقه. وأعقب هذا الاقتراح مباراة مرحة في التنافس على الرشوة: ونثر وكلاء هنري المال للتحريض على إصدار أحكام سلبية، ولجأ وكلاء شارل إلى المال أو التهديد للحصول على ردود إيجابية (7)، وانقسمت ردود الجامعات الإيطالية، ورفضت الجامعات اللوثرية تقديم أي رد مريح للمدافع عن العقيدة، بيد أن جامعة باريس، تعرضت لضغط من فرانسيس (8) فقدمت الرد العزيز المنشود الذي كان يتلهف عليه. ووافقت جامعتا أكسفورد وكامبردج، بعد أن تسلمتا رسائل صارمة من الحكومة، على حق الملك في الحصول على قرار بطلان زواجه.
وعندما شعر بدعم مركزه إلى هذا الحد، أصدر عن طريق وكيله العام (ديسمبر سنة 1530) إعلاناً بأن الحكومة تعتزم رفع دعاوى ضد كل رجال الأكليروس الذين اعترفوا بسلطة ولزى قاصداً رسولياً، وعلى أساس أنهم خالفوا قانون الولاء للتاج. وعندما عاد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي للانعقاد (16 يناير سنة 1531) أعلن وكلاء الملك وهم سعداء أن الدعاوى سوف تسحب إذا اعترفوا بأنهم مذنبون ودفعوا غرامة قدرها 118. 000 جنيه (11. 800. 000 دولار) (90). فاحتجوا بأنهم لم يرغبوا قط في أن يكون لولزى مثل هذا السلطان وأنهم لم يعترفوا به قاصداً رسولياً إلا لأن الملك قد فعل هذا بتقديم التماسه للنظر أمام محكمة ولزى وكامبيجيو. وكانوا على حق كامل بالطبع، بيد أن هنري كان في حاجة ماسة إلى المال، ووافقوا، وهم يولولون، على سداد المبلغ من موارد أبرشياتهم. واستخف الطرب الملك فطالب وقتذاك بان يعترف به رجال الأكليروس "حامياً للكنيسة ورجال الدين في إنجلترا والرئيس الأعلى الوحيد لهم" أي أن ولاءهم للبابا لابد أن ينتهي وعرضوا اثنتي عشرة مصالحة وجربوا اثنتي عشرة عبارة مبهمة، وكان هنري قاسياً لا يرحم، وأصر على أن يردوا بكلمة "نعم"(25/96)
أو "لا". وأخيراً (10 فبراير سنة 1531) عرض رئيس الأساقفة واهرام، وكان وقتذاك في الحادية والثمانين، في تبرم، إقرار صيغة الملك وأضاف إليها عبارة فيها تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وسكت المجلس الأكليروسي، واعتبر السكوت رضاً، وأصبحت الصيغة قانوناً، وهدأت ثائرة الملك، فسمح عندئذ للأساقفة بمطاردة الهراطقة.
وتأجل اجتماع المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (30 مارس سنة 1531). وفي يوليو ترك هنري كاثرين في وندسور على ألا يراها أبداً مرة أخرى. وسرعان ما نقلت بعد ذلك إلى أمبتهل بينما أقامت الأميرة ماري في رتشموند وطالب هنري بالجواهر التي كانت قد ارتدتها كاثرين بصفتها ملكة وأعطاها لآن بولين (10) واحتج شارل الخامس لدى كليمنت الذي وجه خطاباً قصيراً للملك (25 يناير سنة 1532) يؤنبه فيه لاقترافه الزنا، ويحضه على طرد آن والاحتفاظ بكاثرين ملكة شرعية إلى أن يصدر قراراً في الالتماس المقدم منه لإعلان بطلان الزواج. وتجاهل هنري التأنيب واستمر في غرامه. وكتب حوالي هذا الوقت إحدى رسائله الرقيقة لآن:
حبيبة قلبي، أكتب لكِ هذا لأعرب عن الوحدة التي أعيش فيها هنا منذ فراقكِ، لأني أؤكد لكِ أني أرى الوقت قد أصبح منذ رحيلكِ أطول مما تعودت أن أراه مدى أسبوعين كاملين، وأعتقد أن رقتكِ وحرارة حبي هما السبب ... ولكني أفكر الآن وأنا قادم إليكِ، وآلامي قد خف نصفها، في أن يتحقق أملي في أمسية خاصة بين أحضان حبيبتي التي سوف أركن قريباً إلى نهديها الجميلين وأقبلهما. كتبته يد مَن كان ولا يزال لكِ وسوف يظل معكِ على الدوام بإرادته.(25/97)
وعندما انعقد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (15 يناير سنة 1532) حصل هنري من المجالس الأربعة جميعاً على تشريع آخر مناهض لرجال الأكليروس ينص على: أن رجل الدين دون درجة مساعد شماس، يجب أن يحاكموا أمام المحاكم الدينية عند اتهامهم بالخيانة العظمى، وأن الرسوم والغرامات التي تتقاضاها المحاكم الكنسية يجب أن تخفض، وأن الرسوم الكنسية على الموتى ورسوم التثبت من صحة الوصايا يجب أن تخفض أو تلغى، وأن موارد السنة الأولى لأسقف حديث التعيين يجب ألا تدفع بعد ذلك للبابا وأن تحول الأموال الإنجليزية إلى روما من أجل محللات وصكوك غفران وخدمات بابوية أخرى يجب أن يتوقف، وأرسلت إشارة ماكرة إلى المجلس البابوي بأن موارد السنة الأولى للأسقف حديث التعيين سوف ترد إلى البابا إذا أعلن بطلان الزواج بكاثرين.
وفي هذا الوقت انحازت غالبية من الأساقفة إلى الرأي القائل بأنهم لن يفقدوا شيئاً من السلطة أو الدخل إذا استقلت الكنيسة الإنجليزية عن روما. وفي مارس سنة 1532 أعلن المجلس الأكليروسي استعداده للانفصال عن البابوية: "هلا تفضلتم يا صاحب السمو بوقف أعمال الاغتصاب الظالمة المذكورة ... وإذا اتخذ البابا إجراء ضد هذه المملكة للحصول على موارد السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين ... فلتتفضلوا سموكم بسن قانون من المجلس النيابي الحالي بسحب طاعة سموكم والشعب للكرسي البابوي في روما (12) ". وفي 15 مايو قدم المجلس الأكليروسي تعهداً للملك بتقديم كل تشريع تال له إلى لجنة - نصفها من العلمانيين والنصف الثاني من رجال الأكليروس - لها الحق في الاعتراض على أي قوانين ترى أنها ضارة بالمملكة. وهكذا ولدت كنيسة إنجلترا في هذا "الإصلاح النيابي" الأسقفي وهذا المجلس الأكليروسي وأصبحت عضواً للدولة وتابعة لها.(25/98)
وفي 16 مايو استقال توماس مور من منصب الحجابة بعد أن فشل في الوقوف أمام التيار المناهض لرجال الأكليروس وانسحب إلى بيته. ومات رئيس الأساقفة واهرام في أغسطس بعد أن أملى وهو على فراش الموت رسالة أبدى فيها رفضه لخضوع الملجلس الأكليروسي للملك. واستبدل هنري بتوماس مور توماس أودلي، وبواهرام، توماس كرانمر. ومضت الثورة قدماً. وأجاز المجلس النيابي "قانون الاستئناف" وبمقتضاه كان كل نزاع أرسل سابقاً إلى روما للفصل فيه يحسم "في المحاكم الروحية والزمنية داخل المملكة دون اعتبار، لأي منع أو حرمان من غفران الكنيسة أو تحريم يصدر من جهة أجنبية (13) ".
وفي 15 يناير سنة 1533 تزوج هنري من آن التي كانت حاملاً منذ أربعة شهور (14). وكان لدى الملك وقتذاك أسباب ملحة لإعلان بطلان زواجه من كاثرين، ولما كان قد بعث بطلب آخر للبابا دون أن يؤدي إلى نتيجة، فقد حصل من المجلس الأكليروسي على موافقة على "طلاقه" (أبريل سنة 1533) وفي 23 مايو أعلن كرانمر بصفته رئيس أساقفة كنتربري أن الزواج بكاثرين مخالف للشريعة وباطل، وفي 28 مايو أعلن أن آن زوجة شرعية لهنري، وركبت آن بعد ثلاثة أيام وهي ترتدي الديباج وتتزين بالجواهر لكي تتوج ملكة لإنجلترا في احتفال ملكي مهيب، وضعت تصميمه التقاليد وهانز هولبين الصغير. ولاحظت وسط مظاهر الابتهاج صمت الجماهير الدال على الاستنكار، ولعلها تساءلت إلى متى يحمل رأسها القلق التاج؟.
وأعلن البابا كليمنت بطلان الزواج الجديد، وأن الأولاد الذين سيكونون ثمرة له غير شرعيين، وحرم الملك من غفران الكنيسة (22 يوليو سنة 1533).(25/99)
وولدت اليزابث يوم 7 سبتمبر وأبلغ سفير شارل مولاه أن حظية الملك أنجبت ابنة سفاح (15).
واستأنف المجلس النيابي الذي كان قد أجل يوم 4 مايو جلساته في 15 يناير سنة 1534. وكانت موارد الأساقفة الجدد في السنة الأولى والموارد البابوية الأخرى قد خصصت نهائياً وقتذاك للتاج، وأصبح تعيين الأساقفة امتيازاً للملك من الناحية القانونية، كما جرى العمل به فعلاً. ونقلت دعاوى الاتهام بالهرطقة من القضاء الكنسي إلى القضاء المدني.
وفي عام 1533 أذاعت اليزابث بارتون وهي راهبة من كنت أنها تلقت أوامر من الرب بإدانة الزواج الثاني للملك، وأنها قد سمح لها برؤية المكان الذي يعد إستقبال هنري في الجحيم. وعرضتها المحكمة الملكية لاختبار قاس، وانتزعت منها اعترافاً بأن رؤاها الإلهية كانت إفكاً وخداعاً، وأنها سمحت لآخرين باستخدامها في مؤامرة للإطاحة بالملك (16). وحوكمت هي وستة "شركاء في الجريمة" أمام مجلس اللوردات وقضي عليهم بالادانة، ونفذ فيهم حكم الإعدام (5 مايو سنة 1534)، واتهم الأسقف فيشر بأنه علم بالمؤامرة وتقاعس عن تحذير الحكومة، واتهم أيضاً بأنه كان هو وكاثرين مطلعين على أسرار خطة وضعها شابويس ولم يشجعها شارل، لغزو إنجلترا في الوقت الذي يقوم فيه أنصار كاثرين بالتمرد (17). وأنكر فيشر التهم الموجهة إليه، ولكنه ظل موضع الاشتباه بالخيانة.
وكان توماس كرومويل أشد وكلاء هنري العدوانيين في هذه الأمور. وقد ولد عام 1485، وهو ابن حداد من بوتني، ونشأ في فقر ومسغبة، ومضى يضرب سنوات في أرض فرنسا وإيطاليا أفاقاً بالفعل، وعاد إلى إنجلترا واشتغل بصناعة النسيج وأصبح مرابياً وكون ثروة، وخدم ولزى بإخلاص خمس سنوات، ودافع عنه في أيام البؤس، واكتسب احترام(25/100)
هنري بسهب صناعته وولائه. وعين على التوالي حاجباً لخزانة الدولة وأميناً للسجلات وكاتم سر للملك (مايو سنة 1534)، وكان في الفترة من عامي 1531 و 1540 المدبر الأكبر لشئون الحكومة باعتباره منفذاً مطيعاً للإرادة الملكية. واتهمه أعداؤه الأرستقراطيون، الذين احتقروه بوصفه حديث نعمة يرمز لخصومهم الصاعدين، رجال الأعمال، بأنه يطبق مبادئ "أمير" مكيافلي، بقبول الرشا وبيع المناصب وحب الثروة والسلطان حباً يجاوز الحدود. وكان هدفه، الذي سعى جاهداً لإخفائه، هو أن يجعل الملك صاحب الكلمة العليا في كل مجال من مجالات الحياة الإنجليزية، وأن يمول ملكية مطلقة بثروة الكنيسة المصادرة، وأظهر في سعيه لتحقيق أغراضه مقدرة تامة لا تعرف تأنيب الضمير، وضاعف ثروته، وكسب كل معركة خاضها ما عدا الأخيرة، والراجح أن هنري، وقد أزعجه تزايد عداء الشعب له، استدرج المجلس النيابي، بناء على اقتراحه وعن طريق احتياله، إلى الموافقة على قانون وراثة العرش (30 مارس سنة 1534) الذي أعلن أن الزواج بكاثرين غير صحيح، وحول ماري إلى ابنة سفاح، وعين اليزابث وريثة للعرش إلا إذا أنجبت آن ولداً، ونص على أن أي شخص يجادل في صحة زواج آن بهنري يستحق أقصى عقاب. وقضى القانون بأن يحلف جميع الإنجليز رجالاً ونساء يميناً بالولاء للملك. وأخذ مندوبون للملك يؤازرهم جنود، يخترقون البلاد راكبين، ودخلوا البيوت والقصور وأديار الرهبان وأديار الراهبات، وانتزعوا اليمين كرهاً. ولم يرفض حلف اليمين إلا قلة ضئيلة من بينهم الأسقف فيشر وتوماس مور: وعرضوا أن يحلفوا على ما جاء بشأن وراثة العرش على ألا يقسموا على باقي ما تضمنه القانون. وحكم عليهم بالسجن في البرج. وصوت المجلس النيابي آخر الأمر على قانون السيادة الحاسم (12 نوفمبر سنة 1534)، وأكد هذا القانون سيادة الملك على الكنيسة والدولة في إنجلترا، وعمد الكنيسة الوطنية الجديدة باسم الكنيسة(25/101)
الأنجليكانية، وخول الملك كل هذه السلطات على الأخلاق والتنظيم والهرطقة والعقيدة والإصلاح الكنسي، وكانت حتى وقتذاك من اختصاص الكنيسة. ونص القانون على أن المرء يرتكب جريمة الخيانة إذا تحدث عن الملك أو كتب عنه أنه مغتصب أو طاغية أو انقسامي أو هرطيق أو كافر. وطلب من جميع الأساقفة أن يحلفوا يميناً جديدة بأنهم يقبلون سيادة الملك المدنية والكنسية دون تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وأنهم لن يرضوا أبداً في المستقبل باستئناف السلطة البابوية في إنجلترا. وانتشرت كل قوات الحكومة لشل حركة المعارضة لهذه المراسيم، التي لم يسبق لهذا مثيل، وتظاهر رجال الأكليروس العلمانيون بالخنوع شيئاً فشيئاً، وأحجم كثير من الرهبان والأخوان الرهبان عن حلف الأيمان، نظراً لولائهم للبابا، وأسهمت مقاومتهم في اتخاذ الملك قراره الأخير بإغلاق الأديار.
وأحنق عناد الاخوة الرهبان في تشارنر هاوس، وهو دير كاتوزي في لندن، هنري وكرومويل بخاصة. وجاء ثلاثة من رؤساء الأديار الكارتوزيين إلى كرومويل ليقدموا له إيضاحاً عن إحجامهم عن الاعتراف بأي علماني رئيساً للكنيسة في إنجلترا، فبعث بهم كرومويل إلى سجن البرج. وفي يوم 26 أبريل سنة 1535 حوكموا هم وراهب آخر وقسيس علماني أمام قضاة الملك الذين كانوا يميلون إلى الصفح عنهم، غير أن كرومويل خشي أن يشجع الرفق على المزيد من المقاومة، فطالب بقرار بالإدانة وأذعن القضاة.
وفي يوم 3 مايو جر الرجال الخمسة وكانوا لا يزالون يرفضون قبول قانون السيادة على زحافات إلى تيبرن وعلقوا واحداً وراء الآخر وأسقطوا بقطع الحبال وهم أحياء وقطعوا أرباً (18) وعلقت ذراع مبتورة على مدخل عقد تشارتر هاوس لتلقين الرهبان الباقين درساً، ولكن أحداً منهم لم(25/102)
يتراجع عن رفضه. وسجن ثلاثة في البرج وشد وثاقهم وهم منتصبون بسلاسل من حديد حول أعناقهم وأقدامهم، وأكرهوا على الوقوف في هذا الوضع سبعة عشر يوماً، وقدم إليهم الطعام، ولكن لم يفك وثاقهم لقضاء أي حاجة طبيعية. أما باقي الرهبان الكارتوزيين، وكانوا لا يزالون يبدون عناداً ومشاكسة فقد تشتتوا في أديا أخرى ما عدا عشرة منهم، سجنوا في نيوجيت ومات تسعة من هؤلاء من "حمى السجن وقذره (19) ".
وكان هنري وقتذاك هو الحكم الوحيد فيما يتعين على الشعب الإنجليزي أن يؤمن به في مجالي الدين والسياسة. ولما كان لاهوته لا يزال كاثوليكياً من كل وجه فيما عدا السلطة البابوية فقد اتخذ مبدأ مطاردة النقاد البروتستانت للمذهب الكاثوليكي بغير تحيز، والنقاد الكثالكة لسيادته الكنسية، والحق أن مطاردة الهراطقة قد استمرت وظلت طوال مدة حكمه. وفي عام 1531 أحرق توماس بلني بأمر أصدره الحاجب توماس مور، لأنه انتقد الصور الدينية، ورحلات الحج والصلوات من أجل الميت. وقبض على جيمس بينهام لأنه اعتبر أن المسيح لا يكون حاضراً في القربان المقدس إلا بروحه فعذب لكي ينتزع منه أسماء هراطقة آخرين، وتشبث بما قال وأحرق في سمثفيلد في أبريل عام 1532. واحرق آخران في ذلك العام وعرض أسقف لندن أن يمنح في خلال أربعين يوماً صك غفران للمسيحيين الصالحين الذين يحملون حزمة من الحطب لتغذية النار (20).
ووصل عهد الإرهاب إلى ذروته في اضطهاد فيشر ومور، وقد وصف أرازموس أسقف روشستر بأنه "شخص مثقل بكل فضيلة (21") بيد أن فيشر نفسه قد اقترف ذنب الاضطهاد، وقد انضم إلى السفير الإسباني في حث شارل على غزو إنجلترا وخلع هنري (22). وقد اقترف في نظر القانون جريمة خيانة الدولة، وهو أمر لم يشفع له عندما احتج بأنه كان مخلصاً للكنيسة. وارتكب الحبر الأعظم الجديد، بولس الثالث خطأ بتعيين(25/103)
الأسقف المسجون كاردينالاً، وعلى الرغم من أن فيشر أعلن إنه لم يسعَ إلى هذا الشرف، فإن هنري رأى وقتذاك في هذا التعيين تحدياً له. وفي 17 يونيه سنة 1535 قدم الأسقف، وكان وقتذاك في عامه الثمانين، إلى محاكمة أخيرة ورفض مرة أخرى أن يوقع على قسم يعترف فيه بهنري رئيساً للكنيسة الإنجليزية، واقتيد في 22 يونيه إلى كتلة على تل تاور. ووصفه شاهد عيان بأنه "جسد طويل أعجف، لا شيء فيه سوى الجلد والعظام، إلى حد أن معظم مَن شاهدوه دهشوا من رؤية رجل لا يزال فيه رمق من حياة، على الرغم من بلوغه هذا الحد من الوهن (23) ".
وتلقى وهو على منصة المقصلة عرضاً بالعفو عنه إذا حلف اليمين فرفض وعلق رأسه المقطوع فوق جسر لندن. وقال هنري: "في وسعه أن يذهب الآن، إذا استطاع، إلى روما ويحصل على قلنسوة الكاردينال (24) ".
ومع ذلك فقد بقي هناك مكابر عنيد أشد مراساً.
2 - مؤلف المدينة الفاضلة
كان والد توماس مور محامياً ناجحاً وقاضياً بارزاً. وتلقى توماس تعليمه في مدرسة سانت أنطوني بلندن، وعمل وصيفاً لرئيس الأساقفة مورتون، وكان لهذا الفضل في تثبيت عقيدته المحافظة وتكامله وتقواه المرحة. وتنبأ مورتون، كما يقال لنا، بأن "هذا الطفل الذي يخدم هنا على المائدة ... سوف يثبت انه رجل عجيب (25) ". وذهب الشاب إلى أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وسرعان ما فتن بالأدب الكلاسي إلى درجة حملت والد الشاب على انتزاعه من الجامعة، لإنقاذه من أن يصبح أديباً خاوي الوفاض وبعث به لدراسة القانون في لندن، وكانت أكسفورد وكامبردج لا تزالان تستهدفان إعداد الطلاب للعمل في سلك الكهنوت. وكانت كلية(25/104)
نيو إن وكلية لنكولن إن (1) تدربان الرجال الذين كانوا وقتذاك يشرفون بين رجال الأكليروس على الحكومة في إنجلترا، ولم يتلقَ من أعضاء مجلس العموم تعليماً جامعياً سوى ثمانية أعضاء بينما كانت هناك نسبة مرتفعة من المحامين ورجال الأعمال.
وفي عام 1499 إلتقى مور، وكان في الحادية والعشرين من عمره، بأرازموس وافتتن بالمذهب الإنساني. وتعد صداقتهما من أطيب العطور شذى في ذلك العصر. فقد وهب كلاهما مرحاً بقدر ما، وجعلا لدراستهما طعماً مستساغاً بالهجو الضاحك. وكانا يشتركان في كراهية الفلسفة الكلامية التي قال مور إن ما تنطوي عليه من خبث في التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبه من حلب تيس في غربال (26). وكانا يأملان في إصلاح الكنيسة من الداخل وتجنب تفكك أواصر الوحدة الدينية والتواصل التاريخي. ولم يكن مور نداً لأرازموس في العلم أو التسامح، والحق أن رقته المألوفة وكرمه كان يشوبهما في بعض الأوقات تطرف في الدين، وكان في الجدل ينحني بين آن وآخر مثل كل معاصريه، ليوجه لخصومه طعناً شديداً مريراً (27). ولكنه كان يفوق أرازموس في الشجاعة والإحساس بالكرامة والإخلاص لقضية. ولا شك أن الرسائل التي تبادلاها تعد شاهداً ثميناً على أفضال عصر فظ. فهناك رسالة لمور يقول في ختامها "وداعاً يا أرازموس الحبيب يا مَن هو أعز علي من عيني (28) ".
وكان من أعظم رجال الدين في القرن الذي عاش فيه، أخزى بتقواه - العلمانية تهافت رجال الكهنوت من أمثال ولزى على الدنيا. وفي الثالثة والعشرين عندما تبحر في دراسة القانون فكر في أن يصبح قساً. وألقى
_________
(1) كليتان لدراسة الحقوق على النظام الداخلي اشبه بنظاو "الرواق" في الأزهر الشريف - المترجم.(25/105)
محاضرات عامة (1501) عن مدينة الرب التي بشر بها أوغسطين، وجلس بين مستمعيه علماء تحارير أكبر منه سناً مثل جروسين.
وعلى الرغم من انتقاده الرهبان لتقاعسهم عن الامتثال لما يفرضه عليهم نظامهم فإنه أعجب إعجاباً شديداً بنظام الدير المخلص، وأسف أحياناً لأنه لم يختر هذا النظام، وظل وقتاً طويلاً يرتدي قميصاً من شعر الخيل لا يلبس تحته شيئاً، وكان بين آن وآخر يسحب منه دماً يكفي لتلطيخ ثيابه ببقع من الدماء ترى بوضوح. وكان يؤمن بالمعجزات ويصدق قصص القديسين والمخلفات التي تستخدم للعلاج والصور الدينية ورحلات الحج (29). وكتب مصنفات ولائية لها نغمة القرون الوسطى أن الحياة سجن وأن الهدف من الدين والفلسفة تهيئة نفوسنا للموت، وتزوج مرتين وأنجب عدة أطفال أنشأهم على حب نظام مسيحي يتسم بالوقار والانشراح في آن واحد، وتصحبه صلاة متكررة وحب متبادل واتكال كامل على العناية الإلهية. وكانت "دار مانور" في تشلسي التي انتقل إليها في عام 1523 مشهورة بمكتبتها وصالة العرض فيها وحدائقها الممتدة إلى مائة ياردة إلى نهر التاميز.
واختير وهو في السادسة والعشرين من عمره (1504) نائباً بوصفه مواطناً حراً في المجلس النيابي. وهناك ناقش بنجاح ضد إجراء اقترحه هنري السابع مما دفع الملك إلى أن يسجن مور الكبير فترة قصيرة. ويفرض غرامة باهظة كوسيلة منحرفة لتلقين الخطيب الشاب درساً في مواساة المواءمة.
وعند إغلاق ذلك المجلس النيابي عاد مور إلى الحياة الخاصة ونجح في مزاولة القانون. وأقنع عام 1509 بتولي منصب مساعد المشرف في المدينة، أي في لندن القديمة شمالي نهر التيمس. وكان مكلفاً بتبعات تتفق ومزاجه، وهي وظائف لها صيغة قانونية أكر مما تتسم بالمخاطرة. وأكسبته أحكامه(25/106)
شهرة واسعة، لما اتسمت به من حكمة وعدم تحيز، وخالف برفضه المهذب للهدايا من المتخاصمين، سوابق العهد الشائنة التي كانت لا تزال في عنفوانها أيام فرانسيس بيكون. وسرعان ما عاد إلى المجلس النيابي وما أن حل عام 1515 حتى كان خطيب مجلس العموم.
ووصف أرازموس في خطاب بعث به إلى هوتن مور (23 يوليه 1517)، بأنه متوسط القامة له بشرة شاحبة وشعر أصحم لا يهتم بالملبس أو المظهر زاهد في الطعام والشراب، منشرح سريع النكتة حاضر الابتسامة، يميل إلى الدعابات والخدع ويحتفظ في بيته بمهرج وقرد وكثير من الحيوانات المدللة الصغيرة، "وكانت كل الطيور في تشلزيا تأتي إليه ليطعمها". وكان زوجاً مخلصاً وأباً محباً يعبد أولاده وخطيباً مقنعاً ومستشاراً أصيل الرأي ورجلاً شديد الحرص على البر وخدمات الأصدقاء - واختتم هذا الرسم التمهيدي الذي يدل على الوله به بأنه "باختصار ماذا خلقت الطبيعة الطف وأحلى وأسعد من عبقرية توماس مور؟ (30) ".
ووجد أمامه متسعاً من الوقت لتأليف كتب وبدأ بكتاب "تاريخ رتشارد الثالث"، ولكن نزعته كانت حادة ضد الحكم المطلق، وكان يجلس على العرش حاكم مطلق، ورأى أن من الفطنة أن يتجنب قضاء الكلمة المطبوعة. ونشر بعد وفاته وكتب شكسبير مسرحية تقوم عليه، ولعل السيرة الذاتية التي أذاعتها الدراما تحمل بعض المسئولية عن الخلق الذي يحمله رتشارد، وفي عام 1516 طرح مور باللاتينية، كما لو كان يقوم بدعاية، كتاباً من أشهر الكتب بأسرها، مبدعاً كلمة، وواضعاً سابقة مقدماً على خطوة للمُدن الفاضلة الحديثة ومتوقعاً نصف الاشتراكية، ومعبراً عن نقد للاقتصاد والمجتمع والحكومة في إنجلترا إلى حد أنه تسلح من جديد بالإقدام بعد التروي ونشر المجلد في الخارج في ست طبعات لاتينية قبل أن يسمح بطبعه(25/107)
باللاتينية كذلك في إنجلترا. واعترف بأنه كتبه للتسلية دون أن يقصد نشره على الجمهور بيد أنه شكر أرازموس لإطلاعه عليه في المطبعة بلوفان (31) وترجم إلى الألمانيّة والإيطالية والفرنسية قبل أن تظهر النسخة الإنجليزية (1551) بعد وفاة المؤلف بستة عشر عاماً. وما أن حل عام 1520 حتى كان حديث القارة.
وأطلق عليه مور اسم "ليس في موضع" ولا نعرف من خطر له ذلك الخاطر السعيد بتغيير هذا العنوان وسط الطباعة إلى المرادف اليوناني يوتوبيا أو المدينة الفاضلة (32) وثم إخراج الحكاية بصورة بارعة جداً دفعت كثيراً من القراء إلى الاعتقاد بأنها قصة حقيقية ويقال إن مبشراً دينياً قد فكر في السفر وتحويل سكان المدينة الفاضلة إلى المسيحية (33). وكان هنري الثامن قد أرسل مور سفيراً إلى بروجس (1515) ومن هناك انتقل إلى أنتورب برسالة قدمه فيها أرازموس إلى بيتر جيلس كاتب المدينة. وادعت المقدمة أن جيلس قد قدم مور إلى ملاح برتغالي له لحية، لوحت بشرته تقلبات الطقس، يدعى رافاييل هيثلوداي، وترادف باليونانية "ماهر في الهذر" كان قد سافر بحراً مع أمريجو فسبوتشي عام 1504، ودار حول الكرة الأرضيّة (ست سنوات قبل رحلة ماجلان)، وزار في العالم الجديد، جزيرة سعيدة حل سكانها معظم المشكلات التي كانت تعاني منها أوربا في ذلك العهد. وجعلت طبعة لوفان للسخرية أكثر تقبلاً بأن بدأت بحفر الخشب للجزيرة وعينة من لغة المدينة الفاضلة. ولم يكشف المؤامرة إلا هفوة واحدة: "فهيتلد واي يميل إلى الثناء على رئيس الأساقفة مورتون بكلمات (34) أقرب إلى فطرة مور التي تعترف بالجميل من تجربة الملاح.
ويصف ماجلان الوهمي شيوعية سكان الجزيرة بقوله: "لما كان كل شيء على المشاع، بين سكان المدينة الفاضلة فإن كل شيء متوفر لدى كل(25/108)
إنسان. وأنا أقارن بينهم وبين كثير من الأمم ... حيث يقول كل إنسان إن كل ما قد حصل عليه ملك خاص له وإنه أموال خاصة. وأنا أستمسك جيداً بما قاله أفلاطون ... إن كل الناس يجب أن يحصلوا ويتمتعوا بحصص متساوية من الثروة والأمتعة ... لأنه حيث ينتزع كل إنسان، يتخذ ألقاباً معينة ويتمسك بادعاءات ما، ويختطف أكبر قدر يستطيع الحصول عليه بحيث نجد أن قلة هي التي تتقاسم فيما بينها كل الثروات فلن يترك للباقين سوى العوز والفاقة (35).
وكل إنسان في المدينة الفاضلة يأخذ إنتاجه إلى المخزن العام ويتسلم منه حسب ما تتطلبه احتياجاته. ولا أحد يطلب أكثر مما يكفيه لأن الأمان من الحاجة يصده عن الجشع. ويتناول الناس الوجبات على مائدة مشتركة ولكن للمرء أن يأكل في بيته إذا شاء. وليس في المدينة الفاضلة عملة ولا شراء بثمن رخيص ولا بيع بثمن غال، وآفات الغش والسرقة والنزاع على الملكية غير معروفة. ولا يستخدم الذهب بوصفه عملة، ولكن لصناعة أشياء نافعة مثل الأواني التي نقضي فيها الحاجة. وهي لا تعرف المجاعات أو السنوات العجاف، لأن المخازن العامة تحتفظ باحتياطي للطوارئ. وكل أسرة تشتغل بالزراعة والصناعة معاً، يستوي في ذلك الرجل والنساء. ولكي يتحقق إنتاج مناسب لابد أن يعمل كل بالغ ست ساعات يومياً، ويتحدد اختيار المهنة باحتياجات الجماعة. وسكان المدينة الفاضلة أحرار بمعنى الحرية من الجوع والخوف، ولكنهم ليسوا أحراراً في أن يعيشوا على حساب الآخرين. وفي المدينة الفاضلة قوانين بيد أنها بسيطة وقليلة، ومن ثم ينتظر من كل إنسان أن يدافع عن قضيته ولا حاجة لوجود محامين. ويحكم على الذين يخالفون القانون بالعمل عبيداً للجماعة، ويقومون بأداء المهام الكريهة، ولكنهم يستعيدون المساواة الكاملة بأقرانهم بعد انتهاء دورهم. أما الذين يكدرون صفو الأمن تكديراً خطيراً فيحكم عليهم بالإعدام في بلاد أخرى.(25/109)
ووحدة المجتمع في المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية "والزوجات يهيمن على أزواجهن، والأولاد ينسبون لآبائهم (36) ". والزواج من واحدة هو الشكل الوحيد الذي يسمح به في مجال الارتباط الجنسي.
وقبل الزواج ينصح الخطيبان بأن يرى أحدهما الآخر وهو مجرد من الملابس، حتى يكتشف العيوب الجسمانية في حينه، وإذا بلغت درجة كبيرة من الجسامة فإن العقد قد يلغى. وتذهب الزوجة لتعيش مع زوجها في دار والده بعد الزواج، ويسمح بالطلاق بسبب الزنا أو برضى الطرفين بشرط موافقة مجلس الجماعة. وتختار كل ثلاثين أسرة زعيم قبيلة كل عام ليحكمها ويختار كل عشرة من زعماء القبائل رئيساً لإدارة مقاطعة بها 300 أسرة. ويكون المائتا زعيم للقبائل مجلساً قومياً ينتخب أميراً أو ملكاً مدى الحياة.
ومن التبعات الأساسية الملقاة على عاتق زعماء القبائل المحافظة على صحة الجماعة بتزويدها بالماء النظيف واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة العامة وتوفير العناية الطبية والعلاج بالمستشفيات لأن الصحة أهم النعم على الأرض وينظم الحكام التعليم للأطفال والكبار ويهتمون اهتماماً شديداً بالتدريب المهني ويؤيدون العلم ولا يشجعون التنجيم وقراءة الطالع والخرافة. ولهم أن يشنوا الحرب على الشعوب الأخرى إذا رأوا أن هذا يقتضيه صالح الجماعة: "إنهم يعتبرون أن أعدل سبب للحرب يتوفر عندما يحتفظ أي شعب بقطعة من الأرض فضاء ولا تستغل بأي صورة نافعة أو مربحة، ويمنع الآخرين من الاستفادة منها أو حيازتها، وهم بحكم قانون الطبيعة يجب أن يطعموا ويفرج عنهم (37) (هل كان هذا دفاعاً عن استعمار أمريكا؟). بيد أن سكان المدينة الفاضلة لا يمجدون الحرب، إنهم يكرهونها باعتبارها عملاً وحشياً واضحاً، ومناقضاً لشعور كل أمة أخرى تقريباً. ويرون أنه لا شيء أكثر خسة وتفاهة من المجد المستمد من الحرب (38) ".
والدين في المدينة الفاضلة لا يكاد يكون حراً تماماً. وتعامل بالتسامح(25/110)
أي عقيدة، اللهم إلا الإلحاد وإنكار خلود الإنسان. وفي وسع ساكن المدينة الفاضلة إذا شاء أن يعبد الشمس أو القمر. ولكن الذين يلجئون إلى العنف في العمل أو الكلام عن أي دين معترف به يقبض عليهم ويعاقبون لأن القوانين تستهدف منع النزاع الديني (39). والذين ينكرون الخلود لا يعاقبون بل يبعدون عن الوظيفة ويحرم عليهم إبداء آراءهم لأي إنسان اللهم إلا للقساوسة و"أصحاب الشأن". وإلا "فإنه يباح لكل إنسان أن يؤثر ويتبع أي دين يشاء ... ويستطيع أن يبذل كل جهده لإقناع آخر برأيه ما دام يفعل هذا سلمياً وفي رصانة، وفي غير ما عجلة وبلا زجر أو قدح يصدران عن نزاع ضد الآخرين (40) ". ومن ثم فإن في المدينة الفاضلة عدة أديان بيد أن "أعظم وأحكم دور ... هو الإيمان بوجود قوة إلهية معروفة، دائمة، لا تدرك ولا تفسر، أعظم من أن يدركها عقل الإنسان ومقدرته، متفرقة في أنحاء العالم (41) ". والرهبانية مسموح بها بشرط أن يشغل الرهبان أنفسهم بأعمال البر والمنفعة العامة، مثل إصلاح الطرق والجسور وتطهير الخنادق وقطع الأخشاب والعمل خدماً بل ورقيقاً، وفي وسعهم أن يتزوجوا إذا رغبوا. وهناك قساوسة، ولكنهم يتزوجون أيضاً. وتعتبر الدولة أن أول وآخر كل شهر وكل عام بمثابة أعياد دينية، ولكن في تأدية الاحتفالات الدينية في هذه العطلات، "لا يرى تمثال أي إله في الكنيسة"، ولا تؤدى صلوات، ولكن في وسع كل إنسان أن يتلو صلاة ما في جرأة دون أن يسيء إلى أي طائفة (42). وفي كل يوم من هذه العطلات تسجد الزوجات والأطفال أمام أزواجهن أو آبائهم، ويطلبون الصفح عن أي ذنب قد اقترفته أو أي واجب يكونون قد أخلوا به، ولا يسمح لأحد بالحضور إلى الكنيسة إلا بعد أن يسود الوئام والسلام بينه وبين عدوه. وهذه لمسة مسيحية، ولكن إنسانية مور الفتية تبدو في قبوله الجزئي لوجهة النظر اليونانية عن الانتحار. إذا عانى الإنسان من مرض عضال غير قابل للشفاء، فإنه(25/111)
يسمح له ويشجع على إنهاء حياته. أما في الحالات الأخرى فإن مور يعتقد أن الانتحار جن، ويروى "أن الجثة يجب أن تلقى دون دفن في مستنقع نتن (43).
ولا نعرف كم من هذه يمثل النتائج التي توصل إليها مور بعد ترو، وكم منها كان من تفكير أرازموس، وكم منها كان من وحي ألاعيب الخيال. وعلى أية حال فإن السياسي الشاب أبعد نفسه في حرص عن اشتراكية سكان المدينة الفاضلة، وهو يتمثل نفسه يقول لهيثلوداي: "أرى أن كل الناس لن يعيشوا في ثراء حيث تكون كل الأشياء على المشاع. لأنه كيف تكون هناك وفرة في السلع ... حيث نجد أن نظرة الإنسان إلى مكاسبه الشخصية لا تدفعه إلى العمل، ولكن الأمل يراوده في أن يجد في عناء الآخرين ما يجعله ينعم بالكسل. لا يمكن أن تكون كل الأمور على ما يرام، ما لم يكن كل الناس صالحين، وهو ما اعتقد أنه لن يحدث في هذه السنين العديدة الطويلة (44) ". ومع ذلك فإن بعض التعاطف على ضروب الحنين المتطرفة لابد أن يكون قد استلهم بصورة كبيرة المثال الشيوعي. وثمة صفحات أخرى في المدينة الفاضلة تنتقد في غضب قسوة استغلال الأغنياء للفقراء. وفيها تنديد بإحاطة اللوردات الإنجليز لبعض الأراضي العامة بسياج، وذلك بصورة مفصلة وروح لا يتوقعان فيما يبدو، من أجنبي. ويقول هيثلوداي لمور: "إن الطمع الجائر للقلة قد تحول إلى الخراب التام لجزيرتك. إن هؤلاء الأغنياء لا يطيقون إلا أن يشتروا كل شيء ليتلهوا ويستأثروا بكل شيء ويتحكموا في السوق وحدهم كما يشاءون باحتكارهم (45) ". وعندما أفكر وأزن بعقلي كل هذه الحكومات التي تزدهر الآن في كل مكان فإني لا أفهم - وليساعدني الله - إلا أن هناك مؤامرة، يدبرها الأغنياء لترويج سلعهم باسم الجمهور. إنهم يخترعون ويتوسلون بكل الوسائل والخدع ...(25/112)
كيف يستأجرون ... ويتعسفون ... في جهد الفقراء مقابل مبلغ صغير بقدر الإمكان ... وهذه الحيل تؤدي إلى سن القوانين (46).
وهكذا يكاد يكون صوت كارل ماركس يحرك العالم من سفح فضاء في المتحف البريطاني، ولا شك أن المدينة الفاضلة هي أقوى ضروب الاتهام وأولها للنظام الاقتصادي الذي استمر في أوربا الحديثة حتى القرن العشرين، وإنها سوف تظل معاصرة مثل اقتصاد يسير وفق خطة معينة ومثل رفاهية الدولة أيضاً.
3 - الشهيد
كيف تأتى لرجل تعج في رأسه مثل هذه الأفكار أن يعين في مجلس هنري الثامن في السنة التالية لنشر كتاب المدينة الفاضلة؟ الراجح أن الملك على الرغم مما اشتهر به من علم، لم يستطع أن يتحمل قراءة الكتاب للاتينية ومات قبل أن ينشر بالإنجليزية. واحتفظ مور بخواطره المتطرفة لأصدقائه. وعرفه هنري مزيجاً نادراً من المقدرة والكمال، وقدره باعتباره صلة وثيقة بينه وبين مجلس العموم، ونصبه فارساً وعينه وكيلاً للخزانة (1521)، وعهد إليه بمهام دبلوماسية دقيقة.
وعارض مور السياسة الخارجية التي انتهجها ولزى وقاد بها إنجلترا للحرب مع شارل الخامس، إذ أن الإمبراطور في نظر مور لم يكن داهية خطيراً فحسب، بل كان أيضاً البطل المدافع عن العالم المسيحي ضد الأتراك. وعندما سقط ولزى نسي مور حتى وقتذاك أخلاقياته ليراجع - في المجلس النيابي - زلاته وأخطاءه التي أدت إلى السقوط. وكان، بصفته زعيماً للمعارضة، الخليفة المنطقي للكردينال، وظل يعمل رئيساً لوزراء (حاجباً) إنجلترا واحداً وثلاثين شهراً.(25/113)
ولكن الملك كان الخليفة الحقيقي لولزى. فقد اكتشف هنري قوته ومقدرته وقال إنه قرر أنه يحرر نفسه من بابوية تكن له العداوة وتقف في طريقه وأن يسبغ صفة الشرعية على زواجه بامرأة أحبها وتستطيع أن تنجب له وريثاً للعرش.
ووجد مور نفسه لا يوجه السياسة بل يخدم الأهداف التي تسير في اتجاه مضاد لأعمق مشاعر الولاء التي يطويها بين جوانحه. وواسى نفسه بتأليف كتب ضد اللاهوت البروتستانتي وبمطاردة زعماء البروتستانت. واتفق في كتاب حوار يتعلق بالهرطقة (1528) وفي كتب متأخرة، مع فرديناند الثاني وكالفن والأمراء اللوثريين على ضرورة الوحدة الدينية لتحقيق القوة والسلام القوميين. وخشي انقسام الإنجليز إلى اثنتي عشرة أو مائة طائفة دينية. ومع أنه كان قد دافع عن ترجمة أرازموس للعهد الجديد إلى اللاتينية فإنه احتج ضد نسخة تندال الإنجليزية باعتبارها تحريفاً للنص بصورة تثبت وجهات النظر اللوثرية، وشعر بأن ترجمات الكتاب المقدس يجب ألا تتحول إلى أسلحة يشرعها فلاسفة الحانة. وعلى أية حال فإنه تمسك بأن الكنيسة كانت أداة ثمينة جداً للنظام والمواساة والإلهام، بحيث لا يجوز تمزيقها إرباً بالاستدلال المتسرع من مجادلين معجبين بأنفسهم.
وانتقل من هذه الحال إلى إحراق البروتستانت على المحرقة. أما الاتهام الذي وجه إليه بأنه أمر بجلد رجل في بيته بسبب الهرطقة (47) فإنه موضع خلاف، ويبدو أن رواية مور عن المذنب بعيدة عن اللاهوت "إذا نظر خلسة لأية امرأة وهي تركع" في الصلاة و "إذا تدلى من رأسها شيء في تذرعاته فإنه عند إذ يتسلل وراءها. يعمل على رفع كل ثيابها ويقذف بها فوق رأسها (48) ". ويمكن أن يقال إنه في أحكام الإعدام الثلاثة التي أعلنت في أسقفيته إبان توليه منصب الحاجب، كان يستجيب فيها للقانون، الذي كانت الدولة في حاجة إليه ليكون العضد العلماني للمحاكم الكنسية (49)،(25/114)
ولكن ليس من شك في أنه وافق على عمليات الإحراق (50). ولم يسلم بوجود أي تناقض بين سلوكه والتسامح الكبير في الاختلافات الدينية الذي أبداه في مدينته الفاضلة، لأنه حتى هناك رفض التسامح مع الملحدين والمنكرين للخلود، وهؤلاء الهراطقة الذين لجئوا إلى العنف أو توسلوا بالطعن. ومع ذلك فقد ارتكب هو نفسه جريمة الطعن بمجادلته البروتستانت الإنجليز (1).
وجاء الوقت الذي رأى فيه مور أن هنري أخطر الهراطقة على الإطلاق. ورفض الموافقة على زواجه من آن بولين ورأى في التشريع المناهض لرجال الدين الذي صدر في 1529 - 32 اعتداء صارخاً على كنيسة يرى أنها بمثابة قاعدة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. وعندما تقاعد من المنصب وانسحب إلى خلوة بيته في تشلسي (1532) كان لا يزال في عنفوانه، في الرابعة والخمسين من عمره، ولكنه كان يرتاب في أنه لن يعيش طويلاً. وحاول أن يهيئ أسرته للمأساة بالحديث (هكذا يقول زوج ابنته وليام روبر) عن حياة الشهداء الأحرار وعن جلدهم العجيب وعما كابدوه من آلام وعن ميتتهم التي آثروا فيها أن يتعرضوا للعذاب على أن يسيئوا إلى
_________
(1) "ومع ذلك فهناك خنزير لا يتلقى أي تعليم إلا ليدنسه وهناك كلاب تمزق بأنيابها كل علم نافع ... ولا يكفي أن يعظ الناس أمثال هؤلاء الكلاب بل يجب جلدهم بالسياط والمقارع بعنف، والحيلولة بينهم وبين تمزيق العلم النافع بأنيابهم ... إلى أن يستكينوا ويصيخوا لما يقال لهم. وبهذه الوسائل يمنع الخنزير من إلحاق الأذة، والكلاب تخضع أحياناً للتعليم إلى حد ... أنها تتعلم كيف ترقص على مزمار سيدها. والعقاب رادع في حين أن التعليم المجرد منه لا يكفي. فمَن هم الكلاب بمعنى الكلمة الآن سوى هءلاء الهراطقة الذين ينبحون على القرابين المقدسة المباركة ... ومَن هم الخنازير بمعنى الكلمة سوى هراطقة أيامنا هذه، وهم من ضرب نجس لم يشهده أحد قط من قبل؟ وفي مثل هذا الموكب الرزين أقسم جميع أصحاب القداسة على العفة ... وتحولوا إلى جرية قذرة شائنة ينعم بها الرهبان بنكاح الراهبات"(25/115)
الرب، فأي شيء أسعد وأكثر بركة من أن يحب الله وأن يتعرض لفقد المال والسجن وضياع الأرض بل والحياة أيضاً. وكان فضلاً عن هذا يقول لهم معتصماً بعقيدته إذا أدرك أن أبناءه سوف يشجعونه على الترحيب بالموت في سبيل هدف سام فإنه سوف يجد في هذا من السلوى ما يملأ نفسه حبوراً ولهذا السبب يهرع إلى الموت مبتهجاً (52).
وتحقق كل ما توقعه، فقد اتهم عام 1534، ووجهت إليه تهمة بأنه كان على علم بمؤامرة تتعلق براهبة كنت، فأقر بأنه التقى بها، وآمن بأنها تتلقى الوحي، ولكنه أنكر أنه كان على علم بالمؤامرة. وتشفع كرومويل، وتفضل هنري بالصفح عنه. ولكن في السابع عشر من أبريل حكم على مور بالسجن في البرج لأنه رفض أن يحلف اليمين على قانون الوراثة، الذي رأى عندما قدم إليه أنه ينطوي على إنكار لسيادة البابا على الكنيسة في إنجلترا.
وكتبت إليه ابنته الأثيرة، مرجريت رسالة ترجوه فيها أن يحلف اليمين، فرد عليها بأن توسلها سبب له ألماً أشد مما سببه له سجنه. وزارته زوجته (الثانية) في البرج وانتهرته (كما يقول روبر) لعناده:
"إني لأعجب لك في هذا العام يا مستر مور، يا مَن كنت أحسبك حتى الآن رجلاً عاقلاً، لماذا تتظاهر بالحمق، فترقد هنا في هذا السجن الضيق القذر، وترضى بأن تحبس بين الفئران والجرذان، بينما في وسعك أن تكون حراً في الخارج، وتنعم بحظوة ورضا الملك ومجلسه، إذا فعلت فقط ما فعله كل الأساقفة وخير المتعلمين في هذه المملكة. وعندما أرى أن لك في تشلسي بيتاً جميلاً لائقاً، وأرى مكتبتك وكتبك وقاعة صورك وحديقتك وبستانك وكل الضروريات الأخرى، تبدو جميلة من حولك، حتى لتستطيع أن تسعد برفقتي، أنا زوجتك، ورفقة أولادك وأسرتك، فإني أتأمل باسم الرب ماذا تعني بمكوثك هنا وكلفك بإطالة أمده (53) ".(25/116)
وبذلت محاولات أخرى لزحزحته عن موقفه، بيد أنه قاومها كلها بابتسامة.
وفي أول يوليه سنة 1535 قدم لمحاكمة أخيرة. فدافع عن نفسه جيداً ولكن حكم عليه بالإدانة لخيانة الدولة، وبينما كان عائداً وستمنستر إلى البرج اقتحمت ابنته مرجريت صفوف الحرس، واحتضنته وتقبلت بركته الأخيرة. وفي اليوم السابق لإعدامه أرسل قميصه المصنوع من الشعر إلى مرجريت ومعه رسالة "غداً نلتقي) لكي نذهب إلى الله ... وداعاً يا ابنتي العزيزة، صلي من أجلي، وسوف أصلي من أجلكِ، ومن أجل جميع أصدقائكِ، لكي نلتقي في السماء مسرورين (54).
وعندما ارتقى منصة المقصلة (في 7 يوليو) ووجد أنها ضعيفة توشك أن تنهار قال لأحد التابعين: "أرجوك أيها الملازم أن تراعي أن أكون في أمان وأنا في أعلاها، وبالنسبة لنزولي دعني أحتال لنفسي (55) ". وطلب منه الجلاد الصفح والمغفرة فاحتضنه مور. وكان هنري قد أصدر تعليمات بألا يسمح للسجين إلا ببضع كلمات. وطلب مور من المشاهدين أن يصلوا من أجله، وأن يشهدوا بأنه تعرض للموت في سبيل عقيدة الكنيسة الكاثوليكية المقدسة، ومن أجلها، ثم طلب منهم أن يصلوا من أجل الملك، وأن ينعم الله عليه بمشير صالح، واحتج بأنه مات وهو خادم صالح للملك، ولكنه خادم الرب أولاً (56)، وتلا المزمور الحادي والخمسين، ثم وضع رأسه على الكتلة، وسوى بعناية لحيته البيضاء الطويلة، حتى لا تتعرض لأي أذى وقال: "مما يؤسف له أنها سوف تقطع، وأنها لم ترتكب جريمة خيانة الدولة (57) "، وعلق رأسه على جسر لندن.
وسرت موجة من الرعب في إنجلترا التي أدركت وقتذاك قسوة الملك، التي أصر عليها، وسرت في أوربا قشعريرة من الفزع. وشعر أرازموس(25/117)
أنه هو نفسه قد مات لأنه، "ليس لنا إلا روح واحدة تتردد بيننا (58) " وقال إنه لم تعد لديه وقتذاك أي رغبة في الحياة. وبعد عام مات هو أيضاً. وعلم شارل الخامس بالحادث وقال للسفير الإنجليزي: "لو كنت سيداً لخادم مثل هذا توفرت لي - أنا نفسي - عن أعماله خبرة غير ضئيلة في هذه السنوات العديدة، فإني كنت أفضل أن أفقد أحسن مدينة في ممتلكاتي ولا افقد مثل هذا المستشار الجليل (59) ". وصاغ البابا بولس الثالث نشرة بابوية بحرمان هنري الخارج على القانون من زمالة العالم المسيحي، وتحريم الصلوات الدينية في إنجلترا، ومنع كل تجارة معها، وحل كل الرعايا البريطانيين من إيمانهم بالولاء للملك، وأمرهم هم وكل الأمراء المسيحيين بخلعه فوراً. ولما كان كل من شارل وفرانسيس لا يرحبان بهذه الإجراءات، فإن البابا حجز صدور النشرة البابوية حتى عام 1538. وعندما أصدرها، منع شارل وفرانسيس نشرها في مملكتيهما، إذ لم يرضيا التصديق على الادعاءات البابوية بوجود سلطة له على الملوك. وكان فشل النشرة البابوية إيذاناً بضعف السلطة البابوية، وارتفاع سلطة الدولة القومي.
ورأى دين سزيفت أن مور رجل "يتمتع بأعظم الفضائل" - ولعله يستخدم الكلمة بمعناها القديم الخاص بالشجاعة - "بين الرجال الذين أنجبتهم هذه المملكة (60) ". وفي الذكرى الأربعمائة لإعدام توماس مور وجون فيشر أدرجتهما كنيسة روما بين قديسيها.
4 - حكاية ثلاث ملكات
فقد هنري ثلاثاً من ست ملكات في خلال ثلاثين شهراً من وفاة مور. فقد تلاشت حياة كاثرين في معتزلها الشمالي، وهي لا تزال تدعي أنها زوجة هنري الشرعية الوحيدة، وملكة إنجلترا صاحبة الحق الشرعي، واستمرت(25/118)
وصيفاتها في إطلاق هذا اللقب عليها. وفي عام 1535 نقلت إلى قلعة كيمبالتون قرب هنتنجدون، وهناك حبست نفسها في حجرة واحدة ولم تكن تتركها إلا لحضور القداس. واستقبلت زواراً و"عاملتهم في كرم زائد (61) " وحجزت ماري، وكانت وقتذاك في التاسعة عشرة في هاتفيلد التي لا تبعد إلا بمسيرة عشرين ميلاً، غير أنه لم يسمح للأم ولا لابنتها بأن ترى إحداهما الأخرى، ومنعا من الاتصال ببعضهما، ومع ذلك فإنهما تراسلا، وتعد رسائل كاثرين من أعظم الرسائل المؤثرة في الأدب بأسره. وعرض هنري عليهما دارين آخريين أفضل من داريهما، إذا اعترفتا بملكته الجديدة، فرفضتا. وعينت آن بولين عمتها مربية لماري وأمرتها بأن تحتفظ "بإبنة السفاح" وتلزمها حدها بـ "لكمة على الأذنين بين آن وآخر (62) ". ومرضت كاثرين في ديسمبر سنة 1535 وكتبت وصيتها وبعثت برسالة للإمبراطور تطلب منه حماية ابنتها ووجهت وداعاً مؤثراً لـ "سيدها وزوجها العزيز" الملك.
"إن ساعة وفاتي تقترب ولا حيلة لي إلا أن أنصحك، بحكم ما أكنه لك من حب، بأن تعنى بطهارة روحك التي يجب أن تؤثرها على كل الاعتبارات في الدنيا، أو على أي جسد تشتهيه مهما كان، والذي من أجله قذفت بي في كوارث عديدة، وبنفسك في متاعب كثيرة، ولكني أغفر لك كل شيء، وأرجو الله أن يغفر لك أيضاً، وبالنسبة للباقي أوصيك خيراً بابنتنا ماري، وأتوسل إليك أن تكون لها أباً صالحاً ... وأخيراً فإني أردد هذا القسم بأن عيني تريدان أن تبصراك فوق كل شيء وداعاً (63").
وبكى هنري عندما تسلم الرسالة، وعندما ماتت كاثرين (7 يناير سنة 1536) بالغة من العمر خمسين عاماً، أمر الحاشية بإعلان الحداد، فرفضت آن (64).(25/119)
ولم تستطع آن أن تعرف أنها ستموت أيضاً في خلال خمسة شهور، ولكنها أدركت أنها خسرت الملك، فقد أدى طبعها الحاد وسورات غضبها المتسمة بالصلف، ومطالبها التي تبعث على الضجر، إلى إنهاك هنري الذي رأى أن لسانها السليط يتناقض مع رقة كاثرين (65). وفي اليوم الذي دفنت فيه كاثرين ولدت آن طفلاً ميتاً. وبدأ هنري الذي كان لا يزال يتلهف على ولد يفكر في طلاق آخر - أو في بطلان الزواج كما سوف يفعل، وروي عنه أنه قال إن زواجه الثاني تم تحت إغراء السحر، ومن ثم فإنه باطل (66). وبدأ من أكتوبر سنة 1535 يولي اهتماماً خاصاً بإحدى وصيفات آن وهي جين سيمور. وعندما أنبته آن أمرها بأن تتحمله في صبر، كما فعل مَن هن أفضل منها (67)، ولعله انتهج حيلاً قديمة عندما اتهمها بالخيانة. إذ يبدو إنه مما لا يصدق أن تخاطر حتى امرأة نزقة بعرشها بلحظة تبذل، ولكن يبدو أن الملك كان قد آمن في إخلاص بأنها مذنبة. وأشار إلى الشائعات الدائرة عن غرامياتها التي وصلت إلى مجلسه، فاستقصي الأمر وأبلغ الملك أنها اقترفت الزنا مع خمسة أعضاء من البلاط، هم سير وليام بريتون، وسير هنري نوريس، وسير فرانسيس وستون، ومارك سمينون، وأخيها اللورد روشوورد، وأرسل الرجال الخمسة إلى البرج وتبعتهم آن في اليوم الثاني من مايو سن 1536.
وكتب لها هنري يعللها بالآمال في الصفح عنها والرفق بها إذا كانت صادقة معه. فردت بأنها ليس لديها ما تعترف به. وزعم خدمها في السجن أنها أقرت بأنها تلقت عرضين بتبادل الحب مع نوريس ووستون، بيد أنها ادعت أنها صدمتهما. وفي يوم 11 مايو وبعد أن طلب من هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس أن تقوم بتحقيق محلي في الجرائم التي يقال إن الملكة قد ارتكبتها في تلك البلاد، أبلغت أنها وجدتها مذنبة لاقترافها الزنا مع جميع الرجال الخمسة المتهمين، وقدمت أسماء وتواريخ معينة (68). وفي(25/120)
يوم 12 مايو حوكم أربعة من هؤلاء الرجال في وستمنستر أمام هيئة محلفين، منهم والد آن الإيرل أف ولتشاير. واعترف سميتون أنه مذنب كما اتهم، أما الآخرون فدافعوا عن أنفسهم بأنهم غير مذنبين وحكم بإدانة الأربعة جميعاً. وفي يوم 15 مايو حوكمت آن هي وأخوها أمام جماعة مكونة من ستة وعشرين نبيلاً برئاسة الدوق أف نورفولك وهو عمها، ولكنه عدوها السياسي. وأكد الشقيقان أنهما بريئان، ولكن كل عضو من جماعة القضاة أعلن أنه مقتنع بأنهما مذنبان، وحكم عليهما بأن يحرقا أو يقطع رأساهما كما يتراءى للملك. وفي يوم 17 مايو شنق سميتون، أما الرجال الأربعة الآخرون فقد قطعت رءوسهم كما يليق برتبهم. وفي ذلك اليوم طلب وكلاء الملك من رئيس الأساقفة كرانمر أن يعلن عدم صحة الزواج بآن وأن اليزابث ابنة سفاح فأذعن. ولا تعرف الأسس التي بني عليها هذا الحكم، ولكن يظن أن زواج آن السابق المزعوم بلورد نورثمبرلاد أعلن وقتذاك أنه حقيقي.
وركعت آن عشية وفاتها أمام لادي كنجستون زوجة الحارس وطلبت منها منة أخيرة: أن تذهب وتركع أمام ماري، تتوسل إليها باسم آن أن تصفح عن الأخطاء التي ارتكبت في حقها، بسبب كبرياء امرأة تعسة غير متبصرة (69)، وطلبت أن ينفذ فيها حكم الإعدام فوراً يوم 19 مايو. والظاهر أنها استمدت شيئاً من العزاء من فكرة خطرت لها هي: "لقد سمعت أن الجلاد بارع جداً ولي عنق صغير" - ومن أجل ذلك ضحكت واقتيدت ظهر ذلك اليوم إلى منصة المقصلة، وطلبت من المشاهدين أن يصلوا من أجل الملك "لأنه ليس هناك أمير يبزه في الرقة والرأفة (70) "، ولم يكن هناك أحد يقطع بأنها مذنبة، ولكن قليلين أسفوا لسقوطها.
وفي يوم وفاتها منح كرانمر للملك محللاً بالزواج مرة أخرى في سعيه(25/121)
المتجدد للحصول على ولد، وفي اليوم التالي خطب هنري، جين سيمور سراً، وتزوجا يوم 30 مايو 1536، ونودي بها ملكة يوم 4 يونيه. وكانت سليلة أسرة ملكية، إذ أنها تنحدر من ادوارد الثالث، وكانت لها صلة قرابة من الدرجة الثالثة أو الرابعة بهنري، مما دعا إلى الحصول على محلل آخر من كرانمر المطيع. ولم تكن تتمتع بجمال خاص، بيد أنها أثرت في الجميع بذكائها ورقتها بل وتواضعها، ووصفها الكاردينال بول خصم هنري اللدود بأنها: "ممتلئة بالطيبة"، ولم تشجع محاولات الملك التقرب بها إبان حياة آن، ورفضت قبول هداياه، وأعادت رسائله دون أن تفتحها، وطلبت منه ألا يحدثها إلا في حضور آخرين (71).
وكان أول عمل تم بعد الزواج هو القيام بالتوفيق بين هنري وماري. وقام هنري به بطريقته الخاصة فأمر كرومويل بأن يبعث لها برسالة عنوانها: "إعتراف لادي ماي". وهي تعترف بالملك رئيساً أعلى للكنيسة في إنجلترا وتنكر "سلطة أسقف روما المزعومة"، وتعترف أن زواج هنري بكاثرين "من قبيل سفاح القربى وغير شرعي". وطلب من ماري أن توقع باسمها على كل جملة، ووقعت ولم تصفح عن نفسها قط. وبعد ثلاثة أسابيع أقبل الملك والملكة لرؤيتها وقدما إليها هدايا و 1000 كراون، وأطلق عليها مرة أخرى لقب أميرة، وفي يوم عيد الميلاد لعام 1536 استقبلت في البلاط، وهناك لابد أن شيئاً طيباً كان في هنري وفي "ماري الدموية" - لأنها كادت تتعلم في السنوات الأخيرة أن تحبه.
وعندما اجتمع المجلس النيابي مرة أخرى (18 يونيه سنة 1536) أصدر بناء على طلب الملك قانوناً جديداً بوراثة العرش وبمقتضاه أعلن أن اليزابث وماري على السواء بنتان غير شرعيتين، وتقرر أن يقتصر التاج على الذرية المتوقع أن تنجبها جين سيمور.(25/122)
ومات الدوق آن رتشموند ابن هنري غير الشرعي، وتعلقت آمال الملك كلها في حمل جين. وهللت إنجلترا معه عندما ولدت "12 أكتوبر سنة 1537" ولداً هو أدوارد السادس في المستقبل. بيد أن جين المسكينة التي ارتبط بها الملك وقتذاك ارتباطاً عميقاً، بقدر ما سمحت روحه، التي تتركز حول ذاته، ماتت بعد ولادة ابنها بأثنى عشر يوم. وظل هنري رجلاً محطماً بعض الوقت. وعلى الرغم من أنه تزوج مرة أخرى ثلاث مرات فانه طلب عند وفاته أن يدفن بجانب المرأة التي ضحت بحياتها في سبيل حمل ابنه.
ماذا كانت ردود الفعل لدى الشعب الإنجليزي بالنسبة لأحداث هذا العهد المضطرب؟ من الصعب أن نقول شيئاً، فالدليل فيه تحامل ويكتنفه الغموض ومشتت. وروى شابويس عام 1533 أن رأي الكثيرين من الإنجليز أن "الملك رتشارد السابق لم يكن قط مكروهاً من شعبه إلى هذا الحد مثل هذا الملك (72) ". وقد تعاطف الشعب بوجه عام مع رغبة هنري في الحصول على ولد، وأدان قسوته على كاثرين وماري ولم يذرف دموعاً على آن، ولكنه صدم صدمة عميقة بإعدام فيشر ومور. وكانت أغلبية الأمة السابقة لا تزال تدين بالكاثوليكية (73)، وكان رجال الأكليروس - بعد أن حققت الحكومة وقتذاك لنفسها موارد الأساقفة حديثي التعيين في السنة الأولى - يأملون في التوفيق مع روما. ولكن لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بنقد الملك. وتلقى نقداً، ومن إنجليزي ولكن مع وجود القتال بينه وبين ذراع الملك.
كان ريجينالد بول ابن مرجريت بلانتا حينت كونتيسة سالزبوري، وهي نفسها ابنة أخ أدوارد الرابع ورتشارد الثالث. وقد تعلم على نفقة هنري، وكان يتسلم مرتباً من الملك قدره 500 كراون كل عام، والظاهر أنه كان يعد لتولي أعلى المناصب في الكنيسة الإنجيلية. ودرس في باريس(25/123)
وبادوا، وعاد إلى إنجلترا، وهو يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، ولكن عندما أصر هنري على سماع رأيه في الطلاق، رد ريجينالد صراحة أنه لا يستطيع أن يوافق عليه ما لم يصدق عليه البابا. ولم يقطع هنري مرتب الشاب وسمح له بالعودة إلى القارة.
وهناك لبث بول اثنين وعشرين عاماً وارتفع في تقدير البابا باعتباره عالماً ومتضلعاً في اللاهوت، ونصب كاردينالاً وعمره ستة وثلاثون عاماً (1536). وألف في ذلك العام باللاتينية رسالة هجوم على هنري هي دفاع عن وحدة الكنيسة. ورأى أن الأخذ بسيادة هنري على الشئون الكنسية في إنجلترا يدعو إلى الانقسام بين أبناء الديانة المسيحية وتشعبهم إلى قوميات منوعة، وأن التصادم الناتج بين العقائد سيؤدي إلى فوضى اجتماعية وسياسية في أوربا. واتهم هنري بأنه مصاب بجنون حب الذات والحكم المطلق. ولام الأساقفة الإنجليز على تسليمهم بعبودية الكنيسة للدولة. وندد بالزواج من آن باعتباره زنا، وتنبأ (ولم يكن هذا من الحكمة إلى حد كبير) بأن النبلاء الإنجليز سوف يعدون اليزابث "ابنة سفاح لعاهرة إلى الأبد (74) "، وطالب شارل الخامس بألا يضيع أي ذخيرة حربية في حرب الأتراك وأن يحول القوات الإمبراطوريّة للقتال ضد ملك إنجلترا الكافر. كانت رسالة طعن شديدة، أتلفتها كبرياء الشباب في الفصاحة. واشار الكاردينال كونتاريني على المؤلف بالا ينشر الرسالة، بيد أن بول أصر، وأرسل نسخة إلى إنجلترا.
وعندما نصب بولس الثالث بول كاردينالاً اعتبر هنري هذا عملاً من أعمل الحرب. وتخلى الملك عن كل فكرة تدور حول المصالحة، واتفق مع كرومويل على أن الأديار في إنجلترا يجب أن تحل، وأن تضم أملاكها إلى التاج.(25/124)
الفصل الخامس والعشرون
هنري الثامن والأديار
1535 - 47
1 - تقنية الحل
كان هنري عام 1535 مشغولاً جداً بالحب والحرب فلم يستطع أن يلعب دور البابا جملة أو تفصيلاً، فعين كرومويل الذي يؤمن بفلسفة اللاأدرية (1) "نائباً للملك في كل قضائه الكنسي". ووجه كرومويل وقتذاك السياسة الخارجية التشريع الوطني والسلطة القضائية العليا والمجلس الخاص والمخابرات وقاعة النجم وكنيسة إنجلترا، ولم يكن لولزى في أوج مجده قط أصابع طويلة متشبثة بفطائر عضة بهذه الكثرة. وكان يراقب أيضاً كل الطباعة والنشر وأقنع الملك بأن يحرم طبع الكتب أو بيعها أو استيرادها إلا بعد الحصول على موافقة وكلاء التاج، وأمر بنشر الكتب المناهضة للبابوية على نفقة الحكومة.
وقام جواسيس كرومويل، وهم لا يحصون، بإبلاغ كرومويل بكل حركات أو بيانات المعارضين لهنري أو له. وكانت أية إشارة تدل على الإشفاق على فيشر أو مور وأي دعابة تدور حول الملك يمكن أن تؤدي إلى محاكمة سرية وسجن طويل (2)، وكان التنبؤ بوفاة الملك يعرض المرء لفقد حياته (3).
وقام كرومويل، في بعض القضايا الخاصة بدور ممثل الاتهام والمحلفين(25/125)
والقاضي ليصل إلى نتائج محققة. وكان كل واحد في إنجلترا يخشاه ويكرهه.
وكانت أكبر معضلة واجهها هي أن هنري كان مفلساً، على الرغم من سلطانه العظيم. وكان الملك يتوق إلى زيادة حجم البحرية والإكثار من مرافئه وموانيه أو تحسينها، وكانت حاشيته تتجاوز الحدود ونفقاته الشخصية باهظة، ونظام كرومويل في الحكم يحتاج إلى نهر عريض من الأموال. فكيف يجمع المال؟ كانت الضرائب مرتفعة إلى الحد الذي تقابل فيه بمقاومة تجعل الجباية تكلف من النفقات أكثر مما تدر من الربح، وكان الأساقفة قد استنزفوا أبرشياتهم لتهدئة سورة الملك، ولم يكن هناك ذهب يتدفق من أمريكا، كما يتدفق يومياً لإغاثة الإمبراطور عدو إنجلترا. ومع ذلك كانت في إنجلترا مؤسسة واحدة ثرية وموضع ريبة وعاجزة لا تجد مَن يدافع عنها وهي الأديار. كانت موضع ريبة لأن ولاءها الأخير كان للبابا، واشتراكها في قانون السيادة يعد من قبيل المداهنة وغير تام، وكانت في نظر الحكومة هيئة أجنبية ملزمة بتأييد أي حركة كاثوليكية ضد الملك، وكانت عاجزة لأنها في كثير من الحالات كفت عن القيام بوظائفها التقليدية في مجالات التعليم والضيافة والبر، وكانت لا تجد مَن يدافع عنها لأن الأساقفة استاءوا من إعفائهم من المراقبة الأسقفية، ولأن الأشراف، وقد أفقرتهم الحرب الأهلية، طمعوا في ثروتها، ولأن طبقة رجال الأعمال كانوا يرون في الرهبان والاخوة من الرهبان متلفين كسالى للموارد الطبيعية، ولأن القسم الأكبر من العامة، ومنهم كثير من الكثالكة الصالحين، لم يعودوا يؤمنون بفاعلية المخلفات التي كان الرهبان يعرضونها، أو بالقداسات التي كان يقيمها الرهبان للموتى، إذا دفع لهم الأجر. وكانت هناك سوابق رائعة لإغلاق الأديار، فقد أغلقها زونجلى في زيورخ والأمراء اللوثريون في ألمانيا وولزى في إنجلترا. وكان المجلس النيابي قد صوت (1533)(25/126)
بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديار وإجبارها على تقويم اعوجاجها.
وأرسل كرومويل في صيف عام 1535 ثالوثاً من "المفتشين" كل منهم معه عدد كبير من الموظفين لفحص حالة أديار الرهبان والراهبات في إنجلترا من النواحي البدنية والأخلاقية والمالية وتقديم تقرير عنها، وكذلك للتفتيش على الجامعات والكراسي الأسقفية كإجراء مقبول. وكان هؤلاء "المفتشون" شباناً متهورين، "من المرجح أن يقوموا بتنفيذ عملهم في إتقان أكثر مما يتوسلون في تنفيذه بالرقة (4) "، ولم يكونوا في عصمة من قبول "الهدايا" (5)، وكان "الهدف من مهمتهم الحصول على قضية للتاج، ولعلهم لجئوا إلى كل الوسائل المخولة لهم لحث الرهبان والراهبات على إدانة أنفسهم (6) ". ولم يكن من الصعب أن يعثر في 600 دير في إنجلترا على عدد مقنع ويدل على وجود انحرافات جنسية - وأحياناً انحرافات جنسية شاذة (7) - ونظام متحلل واستغلال لمخلفات زائفة هدفه اكتناز المال، وبيع أوعية مقدسة أو مجوهرات مقدسة لإضافة المزيد إلى ثروة الدير، وما فيه من ضروب الراحة (8)، وإهمال الشعيرة أو الضيافة أو البر (9). ولكن التقارير أغفلت عادة ذكر نسبة الرهبان الآثمين إلى الرهبان الجديرين بالتقدير، والتمييز بوضوح بين الثرثرة والدليل (10).
وقدم كرومويل للمجلس النيابي الذي انعقد في 3 فبراير عام 1536 "كتاباً أسود"، ضاع الآن، يكشف عن الأخطاء في الأديار، وينصح، باعتدال استراتيجي، بإغلاق أديار الرهبان والراهبات التي يبلغ دخلها 200 جنيه (20. 000 دولار) أو أقل في العام. فوافق المجلس النيابي الذي كان معظم أعضائه قد اختيروا بواسطة معاوني كرومويل (11). وعين الملك محكمة المزايدات لكي تتسلم لصالح خزانة الملك أموال وموارد هذه الأديار الصغرى البالغ عددها 376. وأطلق سراح ألفي راهب ليذهبوا لدور(25/127)
أخرى أو يخرجوا إلى العالم - وفي الحالة الأخيرة كانوا يمنحون مبلغاً صغيراً أو معاشاً يسد رمقهم إلى أن يجدوا عملاً. ولم يكن بين 130 دير للراهبات سوى 18 ديراً يتجاوز دخلها 200 جنيه، ولكن لم يغلق منها وقتذاك إلا نصفها.
وقامت في الشمال ثورة ثلاثية قطعت دراما الحل. وكما نشأت المسيحية في المُدن ووصلت إلى القرويين - الوثنيين - فكذلك نهض الإصلاح الديني في المُدن بسويسرة وألمانيا وإنجلترا، ولقي مقاومة دامت طويلاً في الريف. وتقلص ظل البروتستانتية في إنجلترا وسكوتلندة كلما ابتعدت المسافة من لندن أو أدنبرة، ووصلت متأخرة إلى ويلز وشمالي إنجلترا، ولقيت ترحيباً ضئيلاً في إيرلندة. وفي المراكز الشمالية بإنجلترا أشعل سلب الأديار الصغرى نار الاستياء التي كانت مهيأة للاشتعال منذ وقت طويل بسبب الضرائب المتزايدة والحكم الملكي المطلق على رجال الأكليروس والتحريض الخفي للقساوسة. وانضم الرهبان، الذين جردوا من أموالهم ووجدوا أن من الصعب عليهم الحصول على مرتباتهم أو على عمل، إلى المتعطلين العديدين المكتئبين، أما الراهبات اللاتي جردن من أملاكهن واللاتي كن يتجولن من مأوى إلى مأوى فقد أثرن غضب الجمهور ضد الحكومة. وألهب معاونو كرومويل "نار" الغضب بتزيين أنفسهم بأسلاب المعابد بالأديار وصناعة صديريات من القباء، وسروج من صدرات القساوسة وقرابات خناجر من محافظ المخلفات (12).
وفي يوم 2 أكتوبر سنة 1536 هاجم جمهور في لوث مفتشاً، كان قد أغلق تواً ديراً للراهبات في لجبورن المجاورة لها، وتم الاستيلاء على سجلاته وأوراق اعتماده وأحرقت وصوب إلى صدره سيف وأكره على أن يحلف يمين الولاء للعامة. وحلف كل مَن كان حاضراً بين الجمهور يميناً بأن يكون مخلصاً للملك والكنيسة الرومانية المقدسة. وفي اليوم التالي احتشد(25/128)
جيش ثائر في كايستور على مسيرة بضعة أميال، حرضه قساوسة ورهبان لا مأوى لهم، واضطر أعيان الجهة - ومنهم مَن فعل ذلك باختياره - إلى الانضمام لجيش الثوار. وفي اليوم نفسه تجمع حشد كبير من القرويين في هورن كاسل، وهي مدينة أخرى تقع في لنكولنشاير. واتهم حاجب أسقف لنكولن بأنه عميل لكرومويل، وانتزع من فراشه، وضرب حتى الموت بالهراوات. وصمم الثوار علماً يصور محراثاً وقدحاً وبوقاً، و"الكلمات الخمس الأخيرة" للمسيح، واستخلصوا مطالب أرسلت إلى الملك: يجب أن تعاد الأديار وتخفف الضرائب أو تيسر، وألا يدع رجال الأكليروس ضرائب العشور أو موارد السنة الأولى من التعيين إلى التاج، وأن يبعد "الدم الخبيث" (أي كرومويل) من المجلس الخاص، وأن يقال الأساقفة الهراطقة - وبخاصة كرانمر ولاتيمر - ويعاقبون.
وانضم إلى الثورة مجندون من الأقاليم الشمالية والشرقية. واحتشد في لنكولن حوالي 60. 000 رجل، ولبثوا يرقبون رد الملك.
وكان رده عنيفاً لا يقبل التفاهم. واتهم الثوار بإنكار جميل حاكم كريم، وأصر على أن إغلاق الأديار الصغرى إنما تم بإرادة الأمة التي عبرت عنها عن طريق المجلس النيابي، وأمر الثائرين بتسليم زعمائهم، وأن يتفرقوا وينصرفوا إلى بيوتهم، وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام ومصادرة أموالهم. وفي الوقت نفسه أمر هنري أعوانه بحشد قواتهم والزحف بقيادة ايرل أف سفولك لمساعدة اللورد شروسبري، الذي كان قد نظم تابعيه لصد الهجوم، وكتب رسائل خاصة إلى الأشراف القلائل الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعندما أدرك هؤلاء وقتذاك أن الملك لا يمكن إرهابه، وأن الثوار المسلحين تسليحاً سيئاً سوف يقهرون وشيكاً، اقتنع الكثيرون منهم بالعودة إلى قراهم، وسرعان ما ذاب جيش الثوار فوق احتجاجات(25/129)
القساوسة. وسلمت لوث خمسة عشر زعيماً وأسر مائة آخرون، وأعلن صدور عفو ملكي عن الباقين. وأخذ الأسرى إلى لندن والبرج وشنق ثلاثة وثلاثون، منهم سبعة قساوسة، وأربعة عشر راهباً، وأطلق سراح الباقين على مهل (13).
وفي غضون ذلك كانت هناك فتنة أشد خطورة قد نمت في يوركشاير. وجد رتشارد آسك، وهو محام شاب، نفسه متورطاً بدنياً وعاطفياً في الحركة. وأفزع محام آخر فتولى قيادة فرقة ثائرة في بفرلي، وأعار اللورد دارسي أف تمبلهرست، وهو كاثوليكي متحمس، الثورة تأييده الخفي، وانضم اثنان من أسرة برسي، وحذا حذوهم معظم أشراف الشمال.
وفي 15 أكتوبر سنة 1536 ضرب الجيش الرئيسي، المكون من 9. 000 رجل، الحصار على يورك. وأجبر المواطنون في المدينة العمدة على فتح الأبواب. ومنع آسك رجاله من نهب المدينة، وحافظ بوجه عام على نظام ملحوظ في جيشه غير المدرب. وأعلن إعادة فتح الأديار، وعاد إليها الرهبان في اغتباط، وأدخلوا السرور على أفئدة الأتقياء بحرارة ترانيمهم الجديدة. وتقدم آسك واستولى على بومفريه، واستولى ستابلتون على هل دون إراقة دماء. وانضم آخرون إلى رجال لنكولنشير في تقديم المطالب وأرسلوا للملك: "أن يقمع كل الهراطقة وكتبهم، ويستأنف الروابط الكنسية مع روما، وأن يسبغ صفة الشرعية على ماري، ويعزل مفتشي كرومويل ويعاقبهم، ويلغي كل تسوير للأراضي العامة منذ عام 1489.
كانت هذه أحرج لحظة في عهد هنري. كان نصف البلاد يحمل السلاح ضد سياسته، وكانت إيرلندة في ثورة، وكان بولس الثالث(25/130)
والكاردينال بول يحثان فرانسيس الأول وشارل الخامس على غزو إنجلترا وخلع الملك. واستجمع قواه المتخاذلة، وأرسل أوامر إلى كل الجهات بحشد فرق موالية، وفي الوقت نفسه أصدر تعليمات للدوق أف نورفولك بأن يتغفل الزعماء الثائرين بإجراء مفاوضات. ورتب الدوق مداولة مع آسك وعدة نبلاء وأغراهم بوعد منه بالعفو عنهم جميعاً. ودعا هنري آسك إلى لقاء شخصي ومنحه جواز أمان. فجاء إلى الملك وافتتن بعبير الملكية، وعاد وديعاً، ولم يلحقه أذى إلى يوركشاير (يناير سنة 1537)، وعلى أية حال فإنه قبض عليه هناك وأرسل سجيناً إلى لندن. وانقطعت صلة الجيش الثائر بقواده فانشعب إلى فرق غاضبة وساده اضطراب همجي، وتضاعفت حالات التمرد. وبينما كانت فرق الملك المتحدة تقترب اختفى الجيش الثائر كسراب تبدد (فبراير سنة 1537).
وعندما استوثق هنري من انهيار الثورة والغزو معاً أنكر وعد نورفولك بالعفو العام، وأمر بالقبض على مَن يمكن العثور عليه من الزعماء مثيري الفتنة، وأعدم الكثيرون منهم ومن ضمنهم آسك، وكتب إلى الدوق يقول: "يسرنا أن نراك قبل أن نطوي علمنا مرة أخرى أن تقوم بإعدام مروع لعدد لا بأس به من السكان في كل مدينة وقرية ومحلة تكون قد أجرمت، حتى يكون في هذا عبرة لكل مَن تسول له نفسه أن يقوم بمثل ذلك في المستقبل ... ومادامت هذه الاضطرابات كلها قد نتجت من تحريض الرهبان والكنسيين في هذه البقاع ومؤامراتهم الغادرة، فإننا نريد منك في هذه الربوع التي تأمر فيها، ودافعوا عن بيوتهم بالقوة ... أن تأمر بلا رحمة أو شفقة بشد وثاق هؤلاء الرهبان رجال الكنيسة الذين ثبت خطؤهم بأية وسيلة دون تأخير أو اجراء رسمي (14).
وعندما رأى كرومويل ما لحق بالمعارضة من رعب شديد مضى قدماً(25/131)
في إغلاق الدور الدينية الباقية في إنجلترا. وحلت يوماً كل أديار الرهبان والراهبات التي كانت قد انضمت إلى الثورة وصودرت ممتلكاتها لمصلحة الدولة. وامتد مجال الزيارات التفتيشية، وأثمرت تقارير عن الخروج على النظام والفجر والخيانة والانحلال. وتوقع كثير من الرهبان سلفاً إغلاق الأديار فباعوا المخلفات والنفائس التي في دورهم إلى أعلى مزايد، وبلغ ثمن إصبع لسانت اندرو أربعين جنيهاً (15). وأدين الرهبان في والسنجهام بتزييف معجزات، وألقي تمثال العذراء، الذي كان يدر عليهم أرباحاً، في النار. وهدم ضريح سانت توماس بيكيت التاريخي في كانتربري، وأعلن هنري الثامن أنه في انتصاره على هنري الثاني لم يكن قديساً حقاً، وأحرقت المخلفات التي أساءت إلى كوليه، وتفكه بها أرازموس، ونقلت التحف الثمينة التي وهبها الحجاج الورعون في خلال 250 عاماً إلى الخزانة الملكية (1538)، ولبس هنري بعد ذلك في إبهامه خاتماً محلى بياقوتة كبيرة أخذت من الضريح. وسعت بعض الأديار إلى خداع القدر بإرسال المال والهدايا لكرومويل، وقبل كرومويل كل شيء وأغلقها جميعاً. وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل الأديار وكل الأملاك الديرية ما عدا كنائس دير الكاتدرائية قد انتقلت إلى الملك.
وعلى الجملة فقد أغلق 578 ديراً للرهبان وحوالي 139 ديراً للراهبات، ونشئت 6521 راهباً أو أخاً و 1560 راهبة. وتخلى حوالي خمسين راهباً وراهبتان من هؤلاء عن الرداء الديني، بيد أن الكثيرين توسلوا أن يسمح لهم بمتابعة حياتهم التي ألفوها في الدير في مكان آخر (16)، وفقد حوالي 12. 000 شخص، كانت الدور الدينية تستخدمهم فيما مضى أو كانوا يعتمدون عليها في معيشتهم، وظائفهم أو مخصصاتهم من الصدقات، وكانت الأراضي والمباني المصادرة تدر دخلاً سنوياً قدره حوالي 200. 000 جنيه(25/132)
(20. 000. 000 دولار) غير أن عقود البيع التي أبرمت سريعاً خفضت الدخل السنوي للأملاك بعد التأميم إلى حوالي 37. 000 جنيه، ولابد أن يضاف إلى هذا المبلغ 85. 000 جنيه من المعدن الثمين المصادر، ومن ثم قد يبلغ ما حصل عليه هنري إبان حياته من جملة الأسلاب والدخل حوالي 1. 423. 500 جنيه (17).
وكان الملك سخياً بهذا الأسلوب. فقد وهب بعض هذه الممتلكات - ومعظمها باعه بأسعار بعد مساومة - لنبلاء صغار أو مواطنين أحرار كبار - تجار أو محامين - ممن أيدوه أو وجهوا سياسته. وتسلم كرومويل أو اشترى ستة أديار لها دخل سنوي قدره 2239 جنيهاً، وتسلم ابن أخيه سير رتشارد كرومويل سبعة أديار تدر دخلاً قدره 2552 جنيهاً (18) وكانت هذه أصل الثروة التي جعلت من أوليفر الحفيد الثاني لرتشارد رجلاً من رجال الثروة المادية والنفوذ في القرن التالي. وذهبت بعض الأسلاب لبناء سفن وحصون وموان وبعضها ساعد في تمويل الحرب وذهب بعضها إلى القصور الملكية في وستمنستر وتشلسي وهامبتون كورت، وفقد الملك بعضها في لعب النرد (19). وأعيدت ستة أديار إلى كنيسة الأنجليكانية لتستخدم كراسي أسقفية، وخصص مبلغ صغير لمواصلة أعمال البر العاجلة التي كان يقدمها فيما سبق الرهبان والراهبات، وأصبحت الأرستقراطية الجديدة التي نشأت بفضل هدايا هنري وعقود البيع التي أبرمها، عضداً قوياً للعرش التيودوري، ودعامة للمصلحة الاقتصادية ضد أي عودة للكاثوليكية. وقد أبادت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة نفسها، أما الأرستقراطية الجديدة، التي تأصلت جذورها في التجارة والصناعة، فإنها غيرت طبيعة الأشراف من السلبية المحافظة إلى عمل إيجابي، وصبت دماً جديداً وطاقة جديدة في الطبقات العليا بإنجلترا. ولعل هذا - والأسلوب كان مصدر خصب العهد الإليزبيثي.(25/133)
وكانت نتائج التحلل معقدة بلا حدود. ولعل الرهبان المتحررين قد أسهموا بدور متواضع أو لم يسهموا في زيادة عدد سكان إنجلترا من حوالي 2. 500. 000 عام 1485 إلى حوالي 4. 000. 000 عام 1547 (20) وساعدت زيادة مؤقتة في عدد المتعطلين على تخفيض أجور الطبقات الدنيا جيلاً كاملاً، وأثبت ملاّك الأراضي الجدد أنهم أكثر جشعاً من القدامى (21).
وكانت النتيجة من الناحية السياسية هي زيادة سلطة الملكية، وفقدت الكنيسة آخر معقل للمقاومة، وكانت النتائج من الناحية الأخلاقية ازدياد الجرائم والخصاصة والتسول وتقلص الموارد اللازمة لأعمال البر (22). وأغلق ما يزيد على مائة مستشفى تديرها الأديار، وقامت السلطات البلدية بتزويد قلة منها بالحاجة. أما المبالغ التي أوصت بها الأرواح الخائفة أو الموقرة للقساوسة، كتأمين ضد نار جهنم أو نار المطهر، فقد صودرت على أساس أن هناك أملاً في ألا يلحق الموتى أذى، وانتزع الملك (23) 2374 من الهبات الموقوفة على إقامة قداسات للأرواح. وكانت أقسى النتائج في مجال التعليم. فقد كانت أديار الراهبات تهيئ مدارس للبنات، وكانت الأديار والقساوسة المشرفون على الهبات المخصصة للقداسات قد حافظت على مدارس وتسعين كلية للبنين، وحلت كل هذه المؤسسات.
وبعد أن ذكرنا الحقائق بإنصاف لا يشوبه إلا تحامل يصدر عن اللاوعي، فإنه يسمح للمؤرخ بإضافة تعليق افتراضي يعترف به. إن جشع هنري وجور كرومويل هما اللذان ساعدا في مدى جيل على تخفيض حتمي في عدد الأديار الإنجليزية وإضعاف نفوذها. وكانت هذه الأديار قد قامت يوماً بعمل يدعوا للإعجاب في مجالات التعليم والبر والعناية بالمرضى في المستشفيات، بيد أن إسباغ الصفة العلمانية على هذه الوظائف كان يسير قدماً في سائر أنحاء غربي أوربا، حتى في المناطق التي كانت تغلب عليها(25/134)
الكاثوليكية. وكان ضعف الغيرة الدينية والنزعات الدنيوية الأخرى تحتجز تدفق المترهبين على المؤسسات الديرية. وانخفض عدد هؤلاء المترهبين إلى حد بدا أنه لا يتناسب مع فخامة مبانيهم والدخل الذي تدره أراضيهم. ومما يؤسف له أن الموقف قوبل بالاندفاع الفجائي الفظ من كرومويل، بدلاً من خطة ولزى الإنسانية، والأسلم، وتنحصر في تحويل المزيد من الأديار إلى كليات.
وكانت الوسيلة التي لجأ إليها هنري هنا، كما فعل من قبل في سعيه للحصول على ابن، أسوأ من الهدف الذي ينشده. لم يكن هنا بأس في وضع نهاية، إلى حد ما، لاستغلال ورع ساذج بغش يتظاهر بالورع. وإنا لنعرب عن عظيم أسفنا لما حدث للراهبات اللاتي كن في الغالب الأعم يشقين قياماً بالواجب في إقامة الصلوات والتدريس وأعمال البر، بل إن المرء الذي لا يستطيع أن يشاركهن إيمانهن الذي لا يتزعزع يجب أن يكون شاكراً لأن لهن مثيلات يمددن يد العون مرة أخرى، بإخلاص يدوم مدى الحياة، ويلبين حاجة المرضى والفقراء.
2 - الإيرلندي العنيد
1300 - 1558
برر الملوك الإنجليز سيطرتهم على إيرلندة على أساس أن قوة معادية في القارة يمكن في أي لحظة أن تستخدم هذه الجزيرة المخضرة للقيام بهجوم جانبي على إنجلترا، وأصبح هذا الاعتبار، بعد حب السلطة، أشد قوة عندما فشلت إنجلترا البروتستانتية في كسب إيرلندة إلى صفها من الكنيسة الرومانية. وكان الشعب الإيرلندي، الذي يعشق البطولة والفوضى والمشهور بالرجولة والعنف، والموهبة الشاعرية، والذي يفتقر إلى النضج السياسي، يقاوم كل يوم خضوعه لدم أجنبي ولغة دخيلة.(25/135)
وازدادت سيئات الاحتلال الإنجليزي. وعاد كثير من أملاك الأراضي الإنجلو-إيرلنديين إلى إنجلترا في عهد إدوارد الثالث، ليعيشوا هناك في يسر على ما تدره إيجارات الأراضي الإيرلندية، وعلى الرغم من أن المجلس النيابي الإنجليزي ندد مراراً بهذا العمل فإن "ملكية الأرض الغائبة" ازدادت خلال ثلاثة قرون، لتصبح حافزاً أكبر للثورات الإيرلندية. ومال الإنجليز الذين ظلوا في إيرلندة إلى الزواج من فتيات إيرلنديات، وامتزجوا تدريجياً بالدم الإيرلندي، الذي يسيطر عليه المقيمون الإنجليز، ويغلب عليه النفوذ الإنجليزي، تواقاً إلى سد هذه البالوعة السلالية فأجاز قانون كلكتى الشهير (1366) الذي منع، مع بعض النصوص السخية التي لا تخلو من حكمة، الزواج المختلط أو التربيب أو أي علاقات ألفة أخرى بين الإنجليز والإيرلنديين في إيرلندة وأي حديث بالإيرلندية أو تقليد للعادات الإيرلندية أو ارتداء الزي الإيرلندي بواسطة الإنجليز، وإلا تعرضوا للسجن وخسارة الممتلكات، ولم يكن يحق لإيرلندي آنذاك أن يستقبل في أي منظمة دينية إنجليزية، ولا لمنشدين أو قصاصين إيرلنديين أن يدخلوا بيوتاً إنجليزية (24). وفشل هذا الحظر فقد تألقت الورود الإيرلندية، وفاقت سلطة القانون واستمر الاندماج السلالي في تلك المناطق الضيقة مارش أو بوردر أو بيل التي لم يجرؤ الإنجليز على السكنى إلا فيها وحدها (1).
وكان يمكن لإيرلندة إبان حروب الوردتين أن تطرد الإنجليز، لو أن الزعماء الإيرلنديين اتحدوا، ولكنهم آثروا النزاع الأخوي، وشجعهم أحياناً على هذا الذهب الإنجليزي. ووطد هنري السابع من جديد السلطة
_________
(1) كانت منطقة "بيل" في عام 1500 مقصورة على كونتيات دبلن وميث ولوث وجزء من كليدار.(25/136)
الإنجليزية في منطقة بيل، ودفع نائبه الإقطاعي سير إدوارد بويننجز في المجلس النيابي الإيرلندي "قانون بويننج" المذل (1494)، ونص على أنه ليس للمجلس النيابي الإيرلندي أن ينعقد في المستقبل حتى تكون كل مشروعات القوانين المقدمة له قد وافق عليها الملك والمجلس الخاص في إنجلترا.
وأصبحت الحكومة الإنجليزية في إيرلندة، بعد أن أضعفت إلى هذا الحد، أشد الحكومات في العالم المسيحي عجزاً وجوراً وفساداً. وكانت حيلتها الأثيرة هي تعيين واحد من ستين زعيماً إيرلندياً كمندوب لنائب الملك، وتفويضه في شراء أو إخضاع الباقين. وحقق جيرالد إيرل كلدار الثامن، الذي عين على هذا النحو، شيئاً من التقدم في هذا الاتجاه وخفف من حدة التمرد بين القبائل، مما ساعد المظالم الإنجليزية على إبقاء إيرلندة ضعيفة وفقيرة. وعند وفاته (1513) عين ابنه جيرالد فيتز جيرالد ليخلف كنائب. وكان لهذا الإيرل التاسع لكلدار سير حياة جارية نمطية للوردات الإيرلنديين. واتهم بالتآمر مع إيرل أف دزموند بالسماح لقوة فرنسية بالنزول إلى أرض إيرلندية، فاستدعي إلى إنجلترا وحكم عليه بالسجن في البرج، وأطلق هنري الثامن سراحه، وعينه من جديد نائباً لدى وعده بمساعدة القضية الإنجليزية بإخلاص. وسرعان ما اتهم بسوء الحكم وأحضر إلى إنجلترا مرة أخرى وأرسل من جديد إلى البرج حيث مات خلال عام (1534)، وأعلن ابنه المخلص "سلكن توماس" (توماس الحريري) فتزجيرالد على الفور الحرب على الإنجليز، وحارب بشجاعة وتهور أربعة عشر شهراً وقهر وشنق (1537).
وفي هذا الوقت كان هنري الثامن قد أكمل إجراءات انفصاله عن الكنيسة الرومانية. وأمر المجلس النيابي بقحة تميز بها أن يعترف به رئيساً للكنيسة في إيرلندة، وكذلك في إنجلترا، فأذعن، وطلب من جميع الموظفين(25/137)
الحكوميين في إيرلندة أن يحلفوا يميناً بقبول سيادته الكنسية، وفرض أن تدفع كل ضرائب العشور الكنسية مذ ذاك إلى الملك. ودخل المصلحون الدينيون إلى الكنائس في منطقة النفوذ الإنجليزي في إيرلندة وحطموا المخلفات والتماثيل الدينية. وأغلقت الأديار جميعاً ما عدا قلة في مكان قصي، واستولت الحكومة على ممتلكاتها، وطرد رهبانها على أن يمنحوا معاشاً إذا لم يثيروا ضجيجاً، ووزعت بعض الأسلاب على الزعماء الإيرلنديين وقبل معظمهم، بعد أن رشوا على هذا النحو، ألقاب نبلاء من الملك الإنجليزي، واعترفوا بسيادته الدينية وأنكروا قسمهم للبابا (1539) (25). وألغي نظام العشيرة، وأعلن أن إيرلندة مملكة، وهنري ملك لها (1541).
كان هنري ولكنه فان، ومات في خلال خمس سنوات من انتصاره. وبقيت الكاثوليكية في إيرلندة. واعتبر الزعماء مروقهم حادثاً عابراً في السياسة وظلوا كثالكة (كما فعل هنري)، اللهم إلا فيما يختص بتجاهل البابا، وظل القساوسة الذين أيدوهم في خدماتهم الدينية وتقبلوها محافظين تماماً في العقيدة. ولم تتعرض عقيدة الشعب لأي تغيير أو بالحري اكتسبت حيوية جديدة، لأنها حافظت على عزة القومية في وجه ملك ينزع إلى الانشقاق. وفيما بعد أمام ملكة بروتستانتية. وأصبح الكفاح من أجل الحرية أشد مما كان عليه من قبل، لأنه كان وقتذاك يدور لصالح الجسد والروح.
3 - ملك من قمة رأسه إلى أخمص قدميه
كان هنري في عام 1540 أعظم ملك يحكم حكماً مطلقاً عرفته إنجلترا، وكان النبلاء النورمنديون القدامى الذين كبحوا جماح وليام الفاتح، يخضعون صاغرين في جبن، ونسوا تقريباً العهد الأعظم (الماجناكارتا) الذي نص(25/138)
على امتيازاتهم. أما النبلاء الجدد، الذين أثروا من التجارة وأنعم عليهم الملك، فقد وقفوا حاجزاً أمام الثورات الأرستقراطية أو الدينية. وأذعن له مجلس العموم الذي كان يوماً الحامي الغيور للحريات الإنجليزية، وكان وكلاء الملك وقتذاك قد اختاروه بعناية، وخول تقريباً سلطات لم يسبق لها مثيل: الحق في مصادرة الأملاك وتعيين مَن يشاء خلفاً له، وتجديد العقيدة المحافظة والهرطقة، وإرسال رجال للإعدام بعد محاكمة مزيفة، وإصدار إعلانات لها سلطة القوانين الصادرة من المجلس النيابي "كانت روح الاستقلال الإنجليزية في عهد هنري تشتعل خافتة في وقبها وحب الحرية غدا فاتراً (26) ". وقبل الشعب الإنجليزي هذا الحكم المطلق بسبب الخوف من ناحية، ولأنه خيل إليه أنه البديل لحرب ورد أخرى. كان النظام أهم من الحرية.
وأغرت نفس البديلات الإنجليز بتحمل سيادة هنري على الشئون الكنسية، وعندما رأى هنري أن الكثالكة والبروتستانت على استعداد لأن يمسك كل منهما بخناق الآخر، ورأى أن المواطنين الكاثوليك والسفراء والحكام يتآمرون ضده إلى حد الغزو تقريباً، اعتقد أن النظام لا يمكن أن يستتب في الحياة الدينية في إنجلترا إلا بتحديد الملك للعقيدة والشعيرة، وقبل ضمناً حالة السلطة في الدين التي كانت من صنع الكنيسة. وحاول أن يملي مَن يجب أن يتلو الكتاب المقدس. وعندما صادر الأساقفة ترجمة تندال للكتاب المقدس، أمرهم بإعداد ترجمة أفضل، وعندما توانوا طويلاً سمح لكرومويل بتفويض مايلز كوفردال في اعداد ترجمة جديدة. وظهرت أول نسخة كاملة بالإنجليزية في زيورخ عام 1535. ونشرت عام 1539 طبعات منقحة، وأمر كرومويل بأن يوضع هذا "الكتاب المقدس العظيم" في كل كنيسة إنجليزية. ومنح هنري "بدافع من الكرم والطيبة الملكيين" المواطنين امتياز تلاوة الكتاب المقدس في بيوتهم، وسرعان ما أصبح تقليداً(25/139)
يومياً عند كل أسرة إنجليزية تقريباً. ولكنه كان ينبوعاً للشقاق والإلهام أيضاً، فقد أنبتت كل قرية مفسرين هواة، أثبتوا أي شيء أو عكسه بما ورد في الكتاب المقدس، وتجادل المتعصبون حوله في الكنائس، وتعرضوا لضربات بشأنه في الحانات (27). ومنح بعض الرجال الطموحين زوجاتهم أوامر قضائية بالطلاق، أو احتفظوا بزوجتين في آن واحد، بحجة أن هذا عمل سليم أباحه الكتاب المقدس (28). وأسف الملك لحرية التلاوة التي منحها للناس، وعاد إلى مظاهرة الكاثوليك. وحث المجلس النيابي عام 1543 على سن قاعدة بأنه لا يجوز قانوناً حيازة الكتاب المقدس إلا للنبلاء والملاّك، ولا يجوز لغير القساوسة الوعظ به أو الجدال فيه علناً (29).
وكان من الصعب على الناس - وحتى على الملك - أن يعرف ما يدور في ذهن الملك. واستمر الكثالكة يرسلون إلى المحرقة أو المقصلة بسبب إنكارهم سيادته في الشئون الكنسية، والبروتستانت بسبب جدلهم في اللاهوت الكاثوليكي؛ وعُلِّق فورست وهو رئيس شعبة المتشددين من الفرنسسكان الممتثلين في جرينوتش، رفض أن ينكر سلطة البابا، على نار وهو مكبل بالأغلال، وشوي ببطيء حتى مات (31 مايو سنة 1537) (30).
وقبض على جون لامبرت؛ وهو بروتستانتي بسبب إنكاره وجود المسيح حقيقة في القربان المقدس، وحاكمه هنري بنفسه، وحكم عليه هنري بالموت وأحرق في سمثفيلد (16 نوفمبر سنة 1538) ومع تزايد نفوذ استيفن جاردنر أسقف ونشستر مال هنري أكثر وأكثر نحو العقيدة المحافظة، وفي عام 1539 أعلن الملك والمجلس النيابي والمجمع الأكليروسي بـ "قانون المواد الستة" موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في موضوعات الحضور الحقيقي للمسيح وعزوبة رجال الأكليروس وأقسام رهبان الدير والقداسات من أجل(25/140)
الموتى، وضرورة الاعتراف السرّي أمام قسيس وكفاية تناول القربان المقدس من ضرب واحد. وكل مَن ينكر شفاهاً أو كتابة، الحضور الحقيقي للمسيح، يتعرض للموت حرقاً دون أن تتاح له فرصة لإنكار ما قال أو للاعتراف أو الغفران، وكل مَن ينكر أية مادة أخرى يجب أن تصادر أملاكه عند ارتكابه الذنب لأول مرة وتزهق روحه عند ارتكابه له مرة أخرى.
وأعلن أن كل الزيجات التي عقدها القساوسة حتى وقتذاك باطلة، وأي قسيس يحتفظ بزوجته بعد ذلك يعد مرتكباً لجريمة الخيانة العظمى (31). وكان الناس لا يزالون محافظين من حيث العقيدة، فوافقوا على هذه المواد، غير أن كرومويل بذل جهده لتخفيفها عند التطبيق، وفي عام 1540 تحول الملك مرة أخرى، فأمر بوقف المطاردة بموجب هذا القانون ... ومع ذلك فإن الأسقفين لاتيمر وشاكستون، اللذين لم يوافقا على مواد القانون، عزلا وسجنا. وفي يوم 30 يوليو سنة 1540 تعرض ثلاثة من البروتستانت وثلاثة من الكاثوليك للموت في سمثفيلد في وفاق تم رغم إرادتهم، أما البروتستانت فلأنهم حاولوا التشكيك في بعض العقائد الكاثوليكية، وأما الكثالكة فلأنهم رفضوا الاعتراف بسيادة الملك على الشئون الكنسية (32).
وكان هنري قوياً شديداً في الحكم وفي اللاهوت، وعلى الرغم من أنه احتفظ بحاشية كثيرة العدد، وقضى وقتاً طويلاً في التهام الطعام، فإنه تعب كثيراً في الاضطلاع بأعباء الحكم. واختار أعواناً مهرة وجائرين مثله. وأعاد تنظيم الجيش، وجهزه بأسلحة جديدة، ودرس آخر ما توصل إليه الخبراء في التكتيك والاستراتيجية. وبنى أول أسطول بحري ملكي دائم طهر السواحل والقناة من القراصنة، وأعد العدة للانتصارات البحرية التي تمت في عهد اليزابث، ولكنه فرض على شعبه مكوساً إلى الحد الذي(25/141)
يحتمله، وخفض قيمة العملة مراراً، وصادر الأملاك الخاصة بحجج واهية، أو طلب "اشتراكات"، وأنكر ديونه، واقترض من آل فوجر، وروج الاقتصاد الإنجليزي مؤملاً أن يعود عليه بدخل إضافي.
وكانت الزراعة في تدهور، وكان رق الأرض لا يزال منتشراً. ولم ينقطع تسوير الأراضي لترعى فيها الأغنام وضاعف ملاك الأراضي الجدد، الذين لم تصدهم تقاليد الإقطاع، إيجارات الأراضي مرتين أو أربع مرات على مستأجريهم، بحجة إرتفاع الأسعار، ورفضوا تجديد عقود الإيجار المنتهية "وشق آلاف المستأجرين الذين جردوا من أراضيهم المستأجرة طريقهم إلى لندن وطرقوا بشدة أبواب المحاكم لرفع الظلم، وهو أمر لم يستطيعوا الحصول عليه (33) ".
ورسم مور الكاثوليكي صورة مؤثرة للفلاحين المتسولين (34)، وندد لاتيمر البروتستانتي بـ "اللوردات الحديثي النعمة الذين يرفعون الإيجارات"، ورأى مثل لوثر ماضياً مثالياً كاثوليكياً. عندما كانت أفئدة الرجال مفعمة بالشفقة والحنان (35). "وفرض المجلس النيابي عقوبات صارمة على الضرب في الآفاق والتسول. وكان قانون 1530 - 31 يفرض على كل مَن يتسول، ويكون قادراً جسمانياً على العمل، سواء كان رجلاً أو امرأة، أن يشد وثاقه إلى عربة وهو عار ويجلد بالسياط في سائر أنحاء المدينة إلى أن يتلطخ جسده بالدم". وإذا عاد لارتكاب الذنب مرة أخرى تقطع أذنه، وإذا ارتكب مرة ثالثة تقطع أذنه الأخرى، ومهما يكن من أمر فإن ارتكاب الذنب للمرة الثالثة كان يعرض المتسول للإعدام (36). ووجد الفلاحون المبعدون تدريجياً عملاً في المُدن وخففت الإغاثة المقررة للفقراء من وقع الخصاصة. وارتفعت إنتاجية الأرض في آخر الأمر بالزراعة على نطاق واسع بيد أن عجز الحكومة عن تخفيف التحول كان بمثابة فشل إجرامي قاس للحنكة السياسية.(25/142)
وأسبغت الحكومة نفسها الحماية على الصناعة بالتعريفات الجمركية. وأفاد أصحاب المصانع من رخص أجر العمل، الذي تيسر بهجرة الفلاحين للمُدن، وأعادت الطرق الرأسمالية تنظيم صناعة النسيج، ورفعت طبقة جديدة من الأثرياء، لتقف إلى جانب التجار في مساندة الملك. وحل القماش محل القماش محل الصوف باعتباره أهم صادرات إنجلترا. وكانت معظم الصادرات من الضروريات التي تنتجها الطبقة الدنيا، وكانت معظم الواردات من سلع الترف التي لا يحصل عليها إلا الأغنياء (37).
وأفادت التجارة والصناعة من قانون صدر عام 1536 يغير أسعار الفائدة بواقع 10 في المائة. وكان ارتفاع الأثمان السريع في صالح المشروع وبمثابة عقاب حكم به على العمال والفلاحين واللوردات الإقطاعيين من النمط القديم. وارتفعت الإيجارات إلى 1000 في المائة بين عامي 1500 و 1576 (38). وارتفعت أسعار الطعام من 250 إلى 300 في المائة، وارتفعت الأجور بمقدار 150 في المائة (39). وكتب توماس ستار في حوالي عام 1537: "أن الفقر يسود الآن إلى حد يقف فيه أمام أي خير حقيقي ومزدهر للجماعة (40) ".
ووجد أعضاء الطوائف الحرفية شيئاً من الفرج في التأمين والمساعدة المتبادلة، زودهم بما يسد رمقهم، أمام الفقر والنار، غير أن هنري صادر عام 1545 أملاك الطوائف الحرفية (41).
4 - التنين يتقاعد
أي ضرب من الرجال كان هذا الملك الغول؟ لقد رسم هولبين الصغير، الذي جاء إلى إنجلترا حوالي عام 1536، صوراً شخصية لهنري وجين سيمور. فالكساء الفاخر يكاد يخفي بدانة الملك، والأحجار الكريمة(25/143)
وفرو الفاقم، واليد التي تقبض على سيف محلى بالجواهر، تكشف عن استعلاء السلطة وزهو رجل لم يجد مَن يقاومه، والوجه العريض المكتنز ينم على ميل شديد للذات الحسية، والأنف دعامة قوية، والشفتان المضمومتان والعينان القاسيتان تنم على طاغية مستبد سريع الغضب بارد إلى حد القسوة. وكان هنري وقتذاك في السادسة والأربعين، في أوج مجده السياسي، ولكن بدأ الضعف يدب في جسده. وقدر له أن يتزوج ثلاثاً مرة أخرى، ومع ذلك لم يرزق بعدها بذرية. ولم ينجب من زوجاته الست سوى ثلاثة أطفال، عاشوا إلى ما بعد سن الطفولة. وأحد هؤلاء الثلاثة، وهو إدوارد السادس، كان معتل الصحة، ومات في الخامسة عشرة من عمره، وظلت ماري عاقراً بائسة عندما تزوجت، أما إليزابث فإنها لم تجرؤ قط على الزواج، وربما كان ذلك لشعورها بوجود عائق جسماني. وأصابت لعنة شبه العقم أو العيب الجسماني أعظم الأسر الحاكمة اعتزازاً بنفسها في التاريخ الإنجليزي.
وكان هنري حاد الذهن وحكمه على الرجال يدل على الفراهة، وشجاعته عظيمة، وقوة إرادته هائلة. وكان سلوكه فظاً ووساوسه تبددت مع شبابه، ومهما يكن من أمر فإنه ظل مع أصدقائه شفوقاً كريماً، ولطيفاً بشوشاً، قادراً على كسب ودهم وإخلاصهم. وقد ولد ليكون ملكاً، وأحيط منذ ولادته بالخضوع والملق، ولم يجرؤ على معارضته إلا قليلون، وقد دفنوا بعد أن قطعت رءوسهم. وكتب مور عن سجن البرج: "مما يؤسف له كثيراً ولا شك أن نرى أي أمير مسيحي على استعداد لأن يلبي رغباته بواسطة مجلس يركع أمامه، وبواسطة رجال دين ضعاف ... والملق، فاشتط في ظلم الناس بصورة مخجلة (42) "، كان هذا هو المصدر الخارجي لنكوص هنري على عقبيه في الخلق - فقد أدى عدم وجود مقاومة(25/144)
لإرادته، بعد وفاة مور، إلى أن يصبح خائراً معنوياً وبدنياً: ولم يكن أكثر تهاوناً في الجنس من فرانسيس الأول ويبدو أنه بعد حادث آن بولين قد أصبح أشد تحمساً للزواج بواحدة، على التوالي، من شارل الخامس. ولم يكن الانحلال الجنسي أسوأ نقيصة فيه. وكان نهمه للمال لا يقل عن نهمه للسلطة، وقلما سمح لاعتبارات إنسانية أن تقف في زجه استيلائه على الأموال. وليس من شك في أن استعداده المتسم بالجحود لقتل النساء اللاتي أحبهن أو الرجال، أمثال مور وكرومويل، الذين خدموه بإخلاص سنوات طوال، أمر خسيس، ومع ذلك يمكن القول أنه لم يسفك من الدماء عشر ما سفكه شارل التاسع حسن النية، عندما أجاز مذبحة سانت بارتلوميو، أو شارل الخامس عندما صفح عن نهب روما، أو الأمراء الألمان عندما حاربوا ثلاثين عاماً للحصول على حقهم في تحديد المعتقدات الدينية لرعاياهم.
والأصل الداخلي لفساده هو ما تعرضت له إرادته من إحباط متكرر في الحب والأبوة. فقد خاب أمله طويلاً في الحصول على ابن، وصد بطريقة خادعة في طلبه المعقول إعلان بطلان زواجه الأول، وخدعته (كما اعتقد) الزوجة التي خاطر من أجلها بعرشه، وفقد سريعاً الزوجة الوحيدة التي أنجبت له وريثاً، وخدعته في الزواج امرأة أجنبية تختلف عنه تماماً في اللغة والمزاج، وخانته (كما ظن) زوجة خيل إليه أنها ستحقق له آخر الأمر بيتاً تخيم عليه السعادة - ها هو ملك كان يملك إنجلترا بأسرها، ولكنه حرم من المباهج العائلية التي يستمتع بها أبسط زوج في مملكته، وكان يعاني من ألم متقطع بسبب قرحة في ساقه، وكافح الثورات والأزمات في سائر مدة حكمه، واضطر في كل لحظة تقريباً أن يتسلح لصد الغزو والخيانة والاغتيال - فكيف كان في وسع رجل مثل هذا أن ينمو ويصبح سوياً، أو يتحاشا الفساد والتورط في الشك والدهاء(25/145)
والقسوة؟ وكيف يتأتى لنا، نحن الذين نغضب من وخز محنة نتعرض لها، أن نفهم رجلاً جمع في عقله وفي شخصه عاصفة الإصلاح الديني الإنجليزي وثقله، وحرم شعبه بخطوات محفوفة بالمخاطر من ولاء جذوره عميقة، ومع ذلك لابد أنه كان حرياً بأن يشعر في روحه المنقسمة بدهشة مفتتة - أحرر أمة أو مزق شمل المسيحية؟
كان الوسط الذي عاش فيه هو الخطر وكذلك السلطة. ولم يكن في وسعه قط أن يعرف المدى الذي يصل إليه أعداؤه، أو متى ينجحون. وفي عام 1538 أمر بالقبض على سير جيوفري بول شقيق ريجينالد. وخشي جيوفري أن يتعرض للتعذيب، فاعترف بأنه هو وشقيق آخر يدعى لورد مونتاجو، وسير ادوار فيفيل والمركيز والمركيزة أف إكستر كانوا يتبادلون رسائل تنطوي على خيانة الدولة مع الكاردينال. وظفر جيوفري بالصفح أما إكستر ومونتاجو وآخرون عديدون فقد شنقوا وشطروا إلى أربعة أقسام (1538 - 39)، وأما ليدي اكستر فقد سجنت، ووضعت الكونتيسة أف سالزبوري، والدة بول واخوته الأشقاء تحت الحراسة. وعندما زار الكاردينال شارل الخامس في طليطلة (1539) يحمل له طلباً لا طائل تحته من بول الثالث يرجو فيه من الإمبراطور أن ينظم إلى فرانسيس في تحريم التجارة مع إنجلترا (43)، انتقم هنري بالقبض على الكونتيسة، التي كانت وقتذاك في السبعين من عمرها، ولعله كان يأمل بالاحتفاظ بها في البرج، أن يكبح جماح الكاردينال للغزو. كان كل شيء عادلاً في لعبة الحياة والموت.
وبعد أن ظل هنري عامين دون أن يتزوج أمر كرومويل أن يبحث له عن حلف بالمصاهرة يقوي سلطانه ضد شارل. فنصح كرومويل بالزواج من أخت زوجة الأمير المختار لساكسونيا، وشقيقة الدوق أف كليفس الذي كان وقت ذاك على خلاف مع الإمبراطور. وآلى كرومويل على نفسه(25/146)
أن يتم هذا الزواج الذي كان يعلق عليه آمالاً بتكوين حلف من الولايات البروتستانتية آخر الأمر، وبهذا يجبر هنري على إلغاء المواد الست المناهضة للوثر. وأرسل هنري المصور هولبين لرسم صورة للسيدة، ولعل كرومويل أضاف بعض التعليمات للفنان، وجاءت الصورة، ورأى هنري أنها محتملة، فهي تبدو حزينة، لا تشجع في الصورة التي رسمها هولبين، والمعلقة في متحف اللوفر، ولكن تقاطيعها ليست أقل وضوحاً من جين سيمور التي رققت لحظة من قلب الملك.
وعندما جاءت آن بشحمها ولحمها، ووقعت أنظار هنري عليها (أول يناير سنة 1540) مات الحب لدى أول نظرة. وأغمض عينيه وتزوجها، وتضرع مرة أخرى أن يرزقه الله بإبن يوطد به وراثة العرش في آل تيودور إذ كان مظهر الأمير إدوارد وقتذاك يدل على ضعفه الجسماني. ولكنه لم يصفح قط عن كرومويل.
وأمر بالقبض على وزيره الذي أفاده أكثر من أي وزير آخر بعد أربعة شهور زاعماً غلطه وفساده. ولم يكن يعترض عليه، فقد كان كرومويل تابعاً يحظى بأكبر نصيب من الكراهية في إنجلترا - بسبب أصله ووسائله وخسته وثروته. وطلب في سجن البرج أن يوقع بيانات يعارض فيها صحة الزواج. وأعلن هنري أنه لم يكن قد قدم "رضاه الباطني" عن الزواج، وأنه لم يدخل بزوجته قط. واعترفت آن بأنها لا تزال عذراء ووافقت على بطلان الزواج، مقابل معاش يوفر لها سبيل الراحة. وكرهت أن تواجه أخاها، فاختارت أن تعيش وجيدة في إنجلترا، وكان لها عزاء صغير في أنها دفنت في مقابل دير وستمنستر عند وفاتها (1557). وقطعت رأس كرومويل يوم 28 يوليو سنة 1540.
وفي اليوم نفسه تزوج هنري من كاثرين هوارد، البالغة من العمر(25/147)
عشرين عاماً، وهي من أسرة كاثوليكية لا تحيد عن عقيدتها قيد أنملة، وكان هذا كسباً للحزب الكاثوليكي، وكف الملك عن أن يتقرب من البروتستانت بالقارة، وعقد صلحاً مع الإمبراطور، وعندما شعر بأنه أصبح أخيراً آمناً في ذلك الحمى تحول بفكره شمالاً معلقاً الآمال على ضم سكوتلندة، وبذلك يكمل دائرة الحدود الجغرافية لبريطانيا ويضمن لها الأمن. وصرفته عن هذا ثورة أخرى في شمالي إنجلترا. وقبل أن يرحل لقمعها وإخماد مؤامرة دبرت وراء ظهره، أمر بإعدام جميع المسجونين السياسيين في البرج ومنهم الكونتيسة أف سالزبوري (1541). وانهارت الثورة وعاد هنري إلى هامبتون كورت يتخبط في الهموم، لينشد السلوى عند ملكته الجديدة.
وكانت كاثرين الثانية أجمل زوجاته، وتعلم الملك كيف يحبها تقريباً، وهو يعتمد أكثر من قبل على الخدمات الجديرة بزوجة، وحمد الله على الحياة الطيبة التي كان يعيشها، والتي راوده الأمل في أن يحققها تحت إشرافها، ولكن في اليوم الذي ردد فيه تسبيحة الشكر هذه (2 نوفمبر سنة 1541) سلمه رئيس الأساقفة كرانمر وثائق تدل على أن كاثرين كانت لها علاقات سابقة للزواج مع ثلاثة خاطبين متعاقبين. واعترف اثنان من هؤلاء وكذلك اعترفت الملكة. وقال السفير الفرنسي في تقرير له: أن هنري تملكه حزن شديد، حتى ساد الاعتقاد بأنه جن (44). وأمضه الخوف من أن تكون لعنة الله قد حلت بكل زيجاته. وكان يميل إلى الصفح عن كاثرين، ولكن قدم إليه دليل على أنها اقترفت الزنى مع ابن عمها بعد زواجها بالملك. وأقرت بأنها استقبلت ابن عمها في جناحها الخاص في ساعة متأخرة بالليل، ولكن حدث هذا في حضور الليدي روشفورد، وأنكرت أنها ارتكبت أي ذنب وقتها، أو في أي وقت منذ زواجها، وشهدت ليدي روشفورد بصحة هذه البيانات بقدر ما وصل إلى علمها (45). بيد أن المحكمة(25/148)
الملكية أعلنت أن الملكة مذنبة. وفي يوم 13 نوفمبر سنة 1542 قطع رأسها في نفس البقعة التي سقط فيها رأس آن بولين قبل ذلك بست سنوات، أما عشاقها فقد حكم عليهم بالسجن مدى الحياة.
وكان الملك وقتذاك رجلاً محطماً. وأعيت قرحته طب عصره، وكان الزهري الذي لم يشفَ منه تماماً ينتشر ويعيث فساداً في هيكله (46). وبعد أن فقد لذة الحياة سمح لنفسه بأن يصبح كتلة ضخمة من اللحم، وكان خداه متهدلين ويكادان يغطيان فكيه، وكادت عيناه الضيقتان أن تختفيا في تلافيف وجهه. ولم يكن في وسعه أن يسير من غرفة إلى أخرى دون أن يستند إلى أحد. وأدرك أنه لن يعيش إلا بضع سنوات فأصدر (1543) مرسوماً جديداً يحدد فيه وراثة عرشه: يتولاه أولاً إدوارد ثم ماري ثم اليزابث، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن مَن تليهم في سلسلة النسب هي ماري ستيوارت ملكة أسكوتلندة. وقام بمحاولة لكي ينجب ولداً صحيحاً معافى، بعد أن حثه مجلسه مراراً فبنى بزوجة سادسة (12 يوليو سنة 1543). وكانت كاثرين بار قد عاشت بعد وفاة زوجين سابقين، ومع ذلك فإن الملك لم يعد يصر على الزواج من عذارى. وكانت امرأة على حظ من الثقافة والفطنة، فقامت برعاية مريضها الملك في صبر، وصالحته مع ابنته اليزابث، التي طال إهماله لها، وحاولت أن تلطف لاهوته، وتخفف حماسته للاضطهاد.
ولم تنقطع المشاعل اللاهوتية حتى نهاية حكمه، فأحرق ستة وعشرون شخصاً بتهمة الهرطقة في الثماني السنوات الأخيرة من عهده. وفي عام 1543 أبلغ الجواسيس الأسقف جاردنر أن هنري فيلمر قال: "إذا كان الرب موجوداً حقاً (في القربان المقدس) فإني أكون قد أكلت في حياتي عشرين رباً". وأن روبرت تسوود حذر القسيس عند رفع القربان المقدس، من أن يترك الرب يسقط، وأن أنتوني بيرسون وصف كل(25/149)
قسيس يعظ الناس بأي شيء سوى "كلمة الله" - أي الكتاب المقدس - يكون لصاً. وأحرق كل هؤلاء الرجال تنفيذاً لأوامر أصدرها الأسقف الأنجليكاني، في مرج أمام القصر الملكي في وندسور. وانزعج الملك لأنه وجد أن الدليل الذي قدمه شاهد في هذه القضايا كان قسماً زوراً، وأرسل الجاني الأثيم إلى سجن البرج (47). وفي عام 1546 أدان جاردنر أربعة آخرين، وأرسلهم إلى المحرقة لإنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان المقدس. وكانت إحداهم امرأة شابة تدعى آن أسكيو تشبثت بهرطقتها طوال خمس ساعات من الاستجواب وقالت في محاكمتها: "إن ما تسمونه ربكم قطعة من الخبز، والدليل على ذلك أنكم لو تركتموها في صندوق لمدة ثلاثة شهور لتعفنت". وعذبت حتى أشرفت على الموت لكي تكشف عن أسماء هراطقة آخرين، وظلت صامتة لم تنبس ببنت شفة، وهي تتوجع، وسارت إلى حتفها وهي تقول: "إنني سعيدة كواحدة كتب عليها أن تتجه للسماء (48) ". ولم يكن للملك دور فعال في هذه المطاردات غير أن الضحايا استغاثوا به دون جدوى.
واشتبك عام 1543 في حرب مع أسكتلندة و"أخيه المحبوب" فرانسيس الأول، وسرعان ما وجد نفسه متحالفاً مع عدوه القديم شارل الخامس، ولكي يمول حملاته طالب رعاياه بتقديم "قروض" جديدة، وامتنع عن سداد قروض عام 1542 وصادر الهبات للجامعات (49). وحمل إلى ميدان القتال ليشترك فيها شخصياً وأشرف على حصار بولونيا والاستيلاء عليها. وغزت جيوشه أسكتلنده، وهدمت أديار ملروز ودرايبورج وخمسة أديار أخرى، ولكنها هزمت هزيمة منكرة في انكرم مور (1545)، وأبرم اتفاق فيه فائدة مع فرنسا (1546)، واستطاع الملك أن يموت في سلام.
وكان وقتذاك ضعيفاً واهناً إلى حد أن الأسر النبيلة أخذت تتنازع(25/150)
فيما بينها على مَن تكون له الوصاية على إدوارد الصغير. وكان إيرل أف سوري، وهو شاعر، واثقاً أن أباه الدوق أف يورك سوف يكون وصياً إلى حد أنه اتخذ درعاً وضع عليه شارة لا تصلح إلا لولي العهد، وقبض هنري عليهما معاً فاعترفا بأنهما مذنبان وقطع راس الشاعر في التاسع من يناير عام 1547، أما الدوق فقد سجل في قائمة انتظار الذين ينفذ فيهم حكم الإعدام بعد السابع والعشرين فوراً.
ولكن الملك مات في اليوم الثامن والعشرين، وكان في الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه عاش عمره عشرات المرات. وترك مبلغاً كبيراً، يدفع لإقامة قداسات لكي ترقد روحه في اطمئنان.
وقد دام عهده سبعة وثلاثين عاماً، حول إنجلترا إلى بلاد أخرى أعمق مما كان يتصور أو يشتهي. وفكر في أن يخلف البابا، ويترك العقيدة القديمة التي عودت الناس على القيود الأخلاقية والخضوع للقانون دون أن يمسها بتغيير، ولكن تحديه للبابوية الذي صادفه التوفيق، وتشتيته السريع للرهبان والمخلفات، وإذلاله المتكرر لرجال الأكليروس، ونزعه لملكية الكنيسة وإسباغ الصفة العلمانية على الحكومة، كل ذلك أضعف الهيبة الكنسية والسلطة الدينية إلى حد كبير، مما أدى إلى حدوث التغييرات اللاهوتية التي أعقبت ذلك في عهدي إدوارد وإليزابث. كان الإصلاح الديني الإنجليزي أقل اعتماداً على العقيدة من الإصلاح الديني الألماني، ولكنهما أثمرا نفس النتيجة البارزة - وهي انتصار الدولة على الكنيسة. ونجا الشعب من براثن بابا معصوم ليقع في أحضان ملك مستبد.
ولم يغنم شيئاً من الناحية المادية. فقد دفع ضرائب العشور كما دفع من قبل، غير أن صافي الفائض عاد إلى الحكومة. وكان كثير من لفلاحين يزرعون وقتذاك أراضيهم المستأجرة "للورداتهم المحدثين"، وكانوا(25/151)
أشد قسوة من الرهبان الذين اتخذ منهم كارلايل مثالاً في كتابه "الماضي والحاضر".
ومن رأي وليام كوبت أن "الإصلاح الديني الإنجليزي" كان في الحقيقة من وجهه الاجتماعي، ثورة قام بها الأغنياء ضد الفقراء (50)، وتشير سجلات الأسعار والأجور إلى أن العمال الزراعيين وعمال المُدن كانوا أحسن حالاً عندما ارتقى هنري العرش منهم عند وفاته (51).
وكانت المظاهر الأخلاقية لهذا العهد سيئة، فقد ضرب الملك للأمة مثلاً يدل على فساد خلقه بانغماسه في علاقات جنسية وبانتقاله الفظ في خلال بضعة أيام من مصرع زوجة إلى فراش الزوجة التالية وبقسوته الهادئة وعدم أمانته المالية وجشعه المادي. وأشاعت الطبقات العليا الفوضى في البلاط والحكومة بما دبرته من مؤامرات فاسدة. وتبارى الأعيان مع هنري في الاستحواذ على ثروة الكنيسة وابتز رجال الصناعة عمالهم وابتزهم الملك. ولم تكمل الصورة باضمحلال البر لأنه بقي هناك الخضوع الحقير لحاكم مطلق أناني من شعب يرتجف هلعاً. ولم ينقذ الموقف سوى شجاعة الشهداء البروتستانت والكاثوليك وأشرفهم فيشر ومور قد اضطهدا في دورهما.
وإذا تأملنا بمنظور واسع هذه السنوات المريرة نجد أنها كانت تحمل بعض الثمار الطيبة. ولم يكن هناك بد من الإصلاح الديني. ولابد أن نذكر أنفسنا مراراً وتكراراً بهذا ونحن نسجل شيطنة القرن الذي ولد فيه، كان الانفصام عن الماضي عنيفاً ومؤلماً ولم يكن في الإمكان زعزعة قبضته على أذهان الناس إلا بتوجيه ضربة وحشية. وعندما أزيل الكابوس أصبحت روح القومية، التي سمحت في أول الأمر بالاستبداد، حماسة شعبية وقوة خلاقة. وأدى تخلص الشئون الإنجليزية من البابوية إلى ترك الناس تحت رحمة الدولة حيناً من الزمن، ولكنه أجبرهم في المدى الطويل على الاعتماد(25/152)
على أنفسهم في كبح جماح حكامهم والمطالبة، عقداً وراء عقد، بقدر من الحرية يكافئ ذكائهم. ولن تكون الحكومة قوية دائماً كما كانت في عهد هنري الرهيب، بل سوف تكون ضعيفة في عهد ابن عليل وابنة تطوي جوانحها على مرارة شديدة، ثم تنهض الأمة بعد أن تتفجر طاقتها المنطلقة من عقالها في عهد ملكة مذبذبة، ولكنها ظافرة، وترفع نفسها إلى مرتبة زعامة الفكر الأوربي. ولو لم تكن إنجلترا قد تحررت على يد أسوأ وأقوى ملوكها فربما كان قدر للعالم ألا يرى إليزابث وشكسبير.(25/153)
الفصل السادس والعشرون
إدوارد السادي وماري تيودور
1547 - 1558
1 - حماية سومرست
لقد رسم هولبين صورة تعد من أعظم صوره على الإطلاق جاذبية للصبي البالغ من العمر عشر سنوات، والذي ارتقى عرش إنجلترا باسم إدوارد السادس، وذلك قبل ارتقائه العرش بأربع سنوات: قلنسوة مزينة بالريش، وشعراً أحمر، ورداء له بنيقة من فرو للفاقم، ووجهاً فيه من الدعة والرقة التي تنم على قلق دفين، ما يدفعنا إلى الظن بأنه ورث كل هذه الصفات من جين سيمور ولم يرث شيئاً من هنري الثامن. ولعله ورث عنها ضعفها الجسماني الذي جعلها تدفع حياتها فداء له، ولم يوفق يوماً في الحصول على القوة التي تعينه على الحكم. ومع ذلك فإنه قام بالتبعات الملقاة على عاتقه باعتباره أميراً أو ملكاً بإخلاص نبيل، فدرس اللغات والجغرافية وفن تدبير الحكم والحرب بشغف، وفرض رقابة دقيقة على كل شئون الدولة التي تصل إليها معرفته، وأبدى للجميع ما عدا الكثالكة المنشقين شفقة عظيمة وحسن نية كبيرة، إلى حد أن إنجلترا ظنت أنها دفنت غولاً لتتوج قديساً. وتعلم على يد كرانمر فأصبح بروتستانتياً متحمساً، ولم يكن من أنصار توقيع أي عقوبة قاسية على مَن يتهم بالهرطقة، ولكنه كره أن يترك أخته غير الشقيقة ماري تحضر القداس، لأنه كان يؤمن بإخلاص أن القداس أشد ضروب عبادة الأوثان كفراً. وقبل مسروراً القرار الذي اتخذه المجلس(25/154)
الملكي باختيار عمه إدوارد سيمور- الذي أنعم عليه حالاً بلقب دوق أف سومرست- وصياً عليه، وقد آثر انتهاج سياسة بروتستانتية.
كان سومرست رجلاً على حظ من الذكاء والشجاعة، ويتصف بتماسك، يشوبه بعض النقص، وإن كان في عصره من السجايا البارزة، وكان وسيماً رقيق الحاشية كريما، وأخجل بسيرته الطبقة الأرستقراطية الجبانة التي كانت لا تنشد إلا مصلحتها، وتغفر له كي شيء إلا تعاطفه مع الفقراء. وعلى الرغم من أنه كان يتمتع بسلطة مطلقة تقريباً، فإنه قضى على الحكم المطلق الذي أقامه هنري السابع وهنري الثامن، وسمح للناس بحرية أكبر في التعبير بالكلام، وخفض عدد الأفعال التي كانت تعد فيما سبق من قبيل خيانة الدولة أو الخيانة العظمى، واقتضى وجود دليل أقوى للحكم بثبوت الجريمة، وأعاد إلى أرامل المحكوم عليهم صداقهن، وألغى القوانين الجائرة الخاصة بالدين والتي صدرت في العهد السابق. وظل الملك رئيساً للكنيسة الإنجليزية. وكان الحديث في غير خشوع عن القربان المقدس جريمة تستحق العقاب، بيد أن القانون نفسه أمر بأن يقدم القربان المقدس بالصورتين المعروفتين، ونص على أن الإنجليزية هي لغة الصلاة، ورفض المطهر والقداسات للموتى. وعاد البروتستانت الإنجليز الذين كانوا قد فروا من إنجلترا ومعهم لقاح لوثر وزونجلى وكالفن، وعندما اشتم مصلحون أجانب عبير الحرية الجديدة، جاءوا معهم إلى الجزيرة المضطربة بأناجيل متعددة.
وأقبل بيتر مارتير فيرمجلي ومارتن بوسر من ستراسبورج، وجاء برنادرينو أوكينو من أجسبورج، وجان لاسكي من إمدن. وعبر المنكرون للتعميد والقائلون بوحدة الكنيسة القناة للتبشير في إنجلترا بهرطقات أفزعت البروتستانت بقدر ما أفظعت الكاثوليك. وأزالت الجماهير محطمة الأصنام في لندن والصلبان والصور والتماثيل من الكنائس، ووعظ نيكولاس ريدلي، عميد كلية بمبروك، بجامعة كامبردج بعنف ضد الصور الدينية والماء المقدس،(25/155)
ولكي يتفوق عليهم جميعاً رئيس الأساقفة كرانمر "أكل اللحم علناً في الصوم الكبير، وهو أمر لم يشهده أحد قط من قبل مذ أصبحت إنجلترا بلداً مسيحياً (1) ". ورأى المجلس الملكي أن هذا قد تجاوز الحد، ولكن سومرست تغلب عليه، وأطلق الحرية للإصلاح الديني. وأصدر المجلس النيابي (1547) برئاسته أمراً بنزع كل صورة على جدار كنيسة أو نافذتها تشيد بذكر نبي أو حواري أو قديس "حتى لا تبقى هناك أي ذكرى له نفسه". وحطم معظم الزجاج الملون في الكنائس وسحقت أغلب التماثيل، واستبدل بالصلبان شعارات ملكية، واتخذت الجدران المبيضة بالكلس والنوافذ ذات الزجاج الأبيض لونها من ديانة إنجلترا.
وكان في كل محلة كفاح مرير من أجل فضة الكنيسة وذهبها، واستولت الحكومة عام 1551 على ما تبقى. وبقيت تقريباً كاتدرائيات القرون الوسطى الفخمة.
وكان الأسقف كرانمر هو الذي تزعم حركة القيام بهذه التغيرات، وكان خصماها الكبيران أدموند بونر، أسقف لندن، وستيفن جاردنر، أسقف ونشستر، وقد أمر كرانمر بإرسالهما إلى سجن فليت (1). وفي غضون ذلك كان الأسقف يقوم منذ سنوات بمحاولة ليقدم في كتاب واحد بديلاً للكتاب المقدس وكتاب الصلوات عند الكنيسة المغلوبة على أمرها. وساعده بيتر مارتير وعلماء آخرون، بيد أن هذا الكتاب الأول للصلاة العامة (1548) كان أصلاً ثمرة جهد شخصي لكرانمر، امتزجت فيه الحماسة للعقيدة الجديدة بإحساس رقيق لجمال رزين في الشعور واللفظ بل أن ترجماته من اللاتينية فيها سحر عبقريته.
_________
(1) سجن في لندن أطلق عليه هذا الاسم بسبب قربه من نهر فليت، وهو مصب (مغطى الآن) لنهر التيمس.(25/156)
ولم يكن الكتاب ثورياً تماماً فقد أخذ ينتهج بعض السوابق اللوثرية مثل رفض سمة التضحية في القداس، ولكنه لم ينكر أو يؤكد التجسيد، واحتفظ بالكثير من الشعيرة الكاثوليكية، وكان يمكن قس من أنصار الكنيسة الرومانية لا يدقق كثيراً أن يقبلها. ولم يقدمه كرانمر إلى المجمع الأكليروسي بل قدمه إلى المجلس النيابي، ولم تكن هذه الهيئة العلمانية تطوي بين جوانحها أي تبكيت مصدره سلطة قضائية في النص على شعيرة أو عقيدة دينية. وأصبح الكتاب قانوناً للمملكة، وصدرت الأوامر لكل كنيسة في إنجلترا للعمل به. وأعيد سجن بونروجاردنر، وكانا قد أطلق سراحهما في عفو عام 1549، وذلك عندما رفضا الاعتراف بحق المجلس النيابي في سن تشريع في مجال الدين. وسمح للأميرة ماري بحضور قداس في خلوة بجناحها.
ونشأ موقف دولي خطير أدى إلى تهدئة الجدل العنيف بين الكثالكة والبروتستانت إلى حين. وطلب هنري الثاني ملك فرنسا الجلاء عن بولونيا، وعندما رفض طلبه أعد لحصارها، والحق إن ماري ستيوارت، ملكة الاسكتلنديين، وكانت وقتذاك في الخامسة من عمرها وتقيم في فرنسا، كانت حرية بأن تدخل إسكتلندة في الحرب. وعندما علم سومرست أن الاسكتلنديين يتسلحون ويثيرون فتنة في إيرلندة قاد قوة عبر بها الحدود وهزمهم في بنكي كليو (10 سبتمبر سنة 1547)، وكانت الشروط التي عرضها على الاسكتلنديين سخية وتدل على بعد نظر: لن يتعرض الاسكتلنديون إلى التفريط في حريتهم أو مصادرة أملاكهم، وتتحد إسكتلندة وإنجلترا في "إمبراطورية بريطانيا العظمى". ولكل أمة أن يكون لها حكم ذاتي تطبق فيها قوانينها الخاصة، ولكن كلا البلدين تحكمهما، بعد الحكم الجاري، ذرية ملكة الاسكتلنديين، وكان هذا على وجه الدقة الاتحاد الذي تم في عام 1603، اللهم إلا إذا استثنينا أنه يسر عودة الكاثوليكية(25/157)
إلى إنجلترا وتواصلها في إسكتلندة. ورفض الكثالكة في إسكتلندة المشروع خشية أن تصل عدوى البروستانتية الإنجليزية إلى بلادهم، وإلى جانب هذا كان النبلاء الاسكتلنديون يتلقون مرتبات من الحكومة الفرنسية، وكانوا يرون أن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
وأحبطت مساعي سومرست في سبيل السلام وواجه الحرب مع فرنسا، وجاهد أن يرسي دعائم مصالحة بين عقائد لا تعرف المصالحة في الوطن، وترامى إلى أسماعه دقات متجددة لطبول ثورة زراعية في إنجلترا، فشرب كأس السلطة حتى الثمالة عندما دبر شقيقه مؤامرة للإطاحة به. ولم يقنع توماس سيمور بأن يكون اللورد الأمير البحار وعضو المجلس الخاص بل كان يريد أن يصبح ملكاً. فتودد إلى الأميرة ماري ثم إلى الأميرة اليزابيث، ولكن عبثاً. وتلقى مالاً مسروقاً من دار السكة وأسلاباً من القراصنة الذين سمح لهم بالدخول في القناة، وعندما حصل على الأموال اللازمة حشد مخازن سرية للأسلحة والذخيرة. واكتشفت مؤامرته، واتهمه إيرل وأورويك وإيرل سوثهامبتون، وأدانه مجلسا البرلمان بالإجماع تقريباً وحكم عليه في 20 مارس سنة 1549 بالإعدام، وحاول سومرست أن يحميه، ولكنه فشل، وسقطت وضاعت هيبة الحامي بسقوط راس أخيه.
وألحقت ثورة كيت الخراب الشامل بسومرست. وأوضحت تلك الثورة مدى ما تتسم به من شذوذ ظاهر، فبينما كانت ثورة الفلاحين في ألمانيا بروتستانتية، كانت في إنجلترا كاثوليكية، وفي كل حالة كان الدين مظهراً للاستياء من الحالة الاقتصادية، وفي إنجلترا كان المظهر كاثوليكياً لأن الحكومة كانت وقتذاك بروتستانتية. وكتب فرود البروتستانتي يقول: "في التجربة التي خاضها فقراء المزارعين كانت زيادة معاناة الأشخاص نتيجة رئيسية للإصلاح الديني (2) ".(25/158)
ومما يفاخر به رجال الدين البروتستانت في هذا العهد- كرانمر ولاتيمر وليفر كراولي، أنهم استنكروا الاستغلال الشديد للفلاحين، ولقد ندد سومرست في غضب شديد باغتصاب الملاك الجدد "الذين برزوا من الحضيض" لثورة المدينة (3).
ولم يكن في وسع المجلس النيابي أن يفكر في وسائل علاج أكثر حكمة من إجازة قوانين صارمة ضد التسول، وأن يوجه الكنائس بأن تتولى جمع تبرعات للفقراء كل أسبوع: وأرسل سومرست لجنة تتقصى الحقائق عن الأراضي المسورة والإيجارات المرتفعة، وقوبلت بمقاومة مستورة حيناً أو صريحة حيناً آخر من ملاّك الأراضي، وأرهب المستأجرون إلى حد العمل على إخفاء أخطائهم، ورفض المجلس النيابي الأخذ بالتوصيات المتواضعة للجنة وكان يمثل الأعيان فيه ملاك المناطق الزراعية. وافتتح سومرست محكمة خاصة في داره لسماع شكاوى الفقراء، وانضم عدد من النبلاء، أخذ يتزايد يوماً بعد يوم، ويتزعمهم جون دولي، إيرل أف وأرويك، إلى حركة تستهدف خلعه.
ولكن الفلاحين كانوا وقتذاك غاضبين بسبب الأخطاء المتراكمة وفشل القضايا المرفوعة لرد الحيف، فانفجروا في ثورة امتدت من أقصى إنجلترا إلى أدناها، وثارت أولاً سومر ستشاير ثم ولتز وجلوسستر شاير ودورست وهامبشاير وبروكس وأكسفورد وبكنجهام في الغرب كورنول وديفون، وفي الشرق نورفولك وكنت. ونظم روبرت كنت وهو من صغار ملاّك الأراضي في نورويتش، الثوار وقبض على زمام الحكم البلدي وأقام كومونا للفلاحين تولى حكم المدينة وما وراءها شهراً. وضرب كنت مخيماً عسكر فيه 16. 000 رجل، وهناك كان يجلس يومياً تحت شجرة سنديان للحكم بين ملاّك الأراضي المذنبين الذين قبض عليهم الفلاحون. ولم يكن متعطشاً للدماء، فالذين أدانهم وحكم عليهم سجنوا وقدم إليهم الطعام. ولم يكن يقيم وزناً كبيراً لحقوق(25/159)
الملكية وصكوكها وأمر رجاله بأن ينقبوا في الأراضي الريفية المجاورة وأن يقتحموا المنازل في الضياع، ويصادروا كل الأسلحة ويسوقوا كل الماشية، ويستولوا على كل المؤن حيثما وجدت لصالح الكومون. أما الأغنام، وهي أكبر خصوم للفلاح في الانتفاع بالأرض، فقد جمع منها 20. 000 رأس، ووزعت للاستهلاك في كثير من السرف، "عجول لا تحصى" وبجع وأيلات وبط وغولان وخنازير. ومع ذلك فقد حافظ كنت وسط هذه الوليمة على نظام عجيب، بل وسمح لواعظ بدعوة الرجال إلى التخلي عن الثورة. وشعر سومرست بكثير من التعاطف مع الثوار، ولكنه اتفق في الرأي مع وأرويك على تشتيتهم، لئلا يهدم البناء الاقتصادي بأسره في الحياة الإنجليزية. وأنفذ وأرويك مرة أخرى لقتالهم ومعه جيش كان قد حشد حديثاً للقتال في فرنسا. وعرض على الثوار منحهم عفواً عاماً، إذا عادوا إلى بيوتهم وآثر كت في القبول، بيد أن بعض المتهورين رأوا حسم الأمر بالمعركة، فأذعن كت لهم. وتقررت النتيجة يوم 17 أغسطس سنة 1549، وانتصر تكتيك وأرويك، وقتل 3500 ثائر، ولكن عندما استسلم الباقون قنع وأرويك بشنق تسعة، وأرسل كت وأحد أشقائه إلى السجن في لندن. ووصلت أنباء الهزيمة إلى جماعات الثوار الأخرى فخارت عزيمتهم، ووضعت جماعة إثر أخرى أسلحتها، بعد أن وعدت بالحصول على عفو عام. واستخدم سومرست نفوذه لإطلاق سراح معظم الزعماء وبقي أشقاء كت على قيد الحياة إلى حين.
واتهم الحامي بأنه شجع على الثورة بتعاطفه الصريح مع الفقراء، ووصم بالفشل في الشئون الخارجية لأن فرنسا كانت وقتذاك تحاصر بولونيا. واتهم بحق بالسماح بالفساد بين موظفي الحكومة وتخفيض قيمة العملة ومضاعفة ثروته وبناء بيت سومرست الفخم، وسط الظروف التي أشرفت فيها الأمة إلى الإفلاس. وتزعم وأرويك وسوثهامبتون حركة لإقصائه عن مقعده،(25/160)
وكان معظم النبلاء على استعداد للتغاضي عن ثروته، ولكنهم لن يغفروا له أبداً عطفه على فلاحيهم، فانتهزوا الفرصة للإنتقام. وفي 12 أكتوبر سنة 1549 سيق الدوق أف سومرست باعتباره سجيناً في موكب اخترق شوارع لندن وسجن في البرج.
2 - حماية وارويك
(1549 - 53)
كان أعداء سومرست رقيقي الحاشية بمقاييس ذلك العهد. وحرم من الأملاك التي اكتسبها إبان وصايته على العرش، وأطلق سراحه يوم 6 فبراير سنة 1550، واسترد عضويته في المجلس الملكي في مايو. ولكن وارويك كان وقتذاك حامي المملكة.
وكان مكيافيليا صريحاً، وعلى الرغم من أنه كان ينزع في أعماق نفسه إلى الكاثوليكية إلا أنه سلك نهجاً بروتستانتياً لأن خصمه سوثهامبتون كان الزعيم الذي ارتضاه الكاثوليك لهم، وكان أغلب النبلاء مرتبطين مالياً بالعقيدة الجديدة. وقد تعلم جيداً فن الحرب ولكنه أدرك أنه لن يستطيع أن يحتفظ ببولونيا أمام فرنسا التي تملك ضعف موارد إنجلترا، معتمداً على حكومة مفلسة وشعب معدم، وسلم المدينة إلى هنري الثاني ووقع معاهدة صلح مهينة كان لابد منها (1550).
وفي ظل سيطرة ملاك الأراضي من النبلاء أو العامة وافق المجلس النيابي (1549) على قانون يعاقب بشدة على ثورة الفلاحين. وأيد قانون صريح وجود الأراضي المسورة، وألغيت الضرائب التي كان سومرست قد فرضها على الأغنام والصوف لكي تفتر همة الناس في إقامة الحظائر. ونص القانون على عقوبات صارمة توقع على العمال الذين يتحدون لرفع أجورهم (4). وأعلن عدم شرعية الاجتماعات التي تعقد لمناقشة تخفيض الإيجارات أو الأسعار، ومصادرة ممتلكات الأشخاص الذين يحضرونها. وشنق روبرت(25/161)
كت وأخوه، واشتد الفقر، بيد أن دور البر التي اكتسحتها الثورة الدينية لم تنشأ دور بدلاً منها، وأصبح المرض متوطناً، ولكن المستشفيات كانت مهجورة. وتضور الناس جوعاً، ولكن العملة خفضت قيمتها مرة أخرى وارتفعت الأسعار. ثم إن ملاك الأراضي في إنجلترا الذين كانوا أقوياء في يوم من الأيام أخذوا يهلكون، وكان أفقر الفقراء يغرقون في بحر الهمجية (5). وكانت الفوضى الدينية لا تقل عن الفوضى الاقتصادية، وظلت أغلبية الناس كاثوليكية (6)، بيد أن انتصار وارويك على سوثهامبتون تركهم بلا قائد وشعروا بضعف موقف الذين يظاهرون الماضي. وأدى انهيار سلطة القساوسة الروحية والأدبية، وكذلك عدم استقرار الحكومة وفسادها إلى السماح لا بازدياد الفجور فحسب، ولكن إلى استفحال الهرطقة، بصورة أفزعت الكثالكة والبروتستانت على السواء. ووصف جون كليمنت (1551) "الأنواع العجيبة من الطوائف التي احتشدت في كل مكان لا من أنصار البابوية فحسب ... ولكن من الآريوسيين المنكرين للتعميد وكل صنوف الهراطقة الآخرين أيضاً ... بعضهم ينكر أن الروح القدس هو الرب، والبعض ينكر الخطيئة الأولى، والبعض الآخر ينكر القدر ... وعدد لا يحصى من أمثال هؤلاء، يقصر بنا المقام عن ذكرهم (7). وكتب روجر هتشنسون (حوالي عام 1550) عن "الصدوقيين والفاسقين (أحرار الفكر)، الذين يقولون: "إن الشيطان" ليس إلا ... غرام دنس بالجسد ... وأنه ليس هناك موضع للطمأنينة أو العذاب بعد هذه الحياة الدنيا، وأن الجحيم ليس إلا ضميراً يائساً يعذب صاحبه، وأن الجنة ضمير مبتهج ساكن مرح (8) ".
وتحدث جون هوبر، أسقف جلوسستر البروتستانتي فقال: "هناك مَن يقول إن روح الإنسان ليست أفضل من روح حيوان، وأنها فانية وهالكة، وهناك أشقياء يتجاسرون في اجتماعاتهم على القول بأن(25/162)
المسيح ليس هو المخلص لنا، بل يذهبون إلى أن الطفل المبارك مؤذ ومحتال (9) ".
وأفاد الناس من الحرية التي منحها لهم سومرست فطعن جناح متهور من البروتستانتية في الدين القديم طعناً قاسياً وتهكم طلبة جامعة أكسفورد بالقداس بمحاكاته في مسرحياتهم الهزلية، ومزقوا كتب القداس إرباً، واختطفوا الخبز المقدس من المذبح ووطئوه بالأقدام. وأطلق وعاظ لندن على هؤلاء القساوسة اسم: "عفاريت بغى بابل" - أي البابا (10). والتقى رجال الأعمال في مؤتمرات بكاتدرائية سانت بول، واجتمع هناك الشبان من ذوي النخوة وقاتلوا وقتلوا. وكانت الحماية الجديدة وقتذاك بروتستانتية على التحقيق. وعين المصلحون الدينيون في أسقفيات بشرط أن يحولوا جانباً من دار الأسقفية إلى رجال الحاشية الذين كان لهم الفضل في تعيينهم (11)، وقضى المجلس النيابي (1550) بإزالة كل اللوحات والتماثيل من أي كنيسة في إنجلترا ما عدا "الصور التذكارية للملوك أو النبلاء الذين لم يسلكوا قط في عداد القديسين" وأتلفت كل كتب الصلاة (12) ما عدا كتاب كرانمر. وصودرت أو بيعت ووهبت الثياب الكهنوتية والقباءات وكسوة المذبح، وسرعان ما ازدانت بها بيوت النبلاء (13). وأصدر المجلس أمراً بمصادرة كل آنية مخصصة للتبرعات بقيت في الكنائس بعد عام 1550 لصالح الخزنة. وانتزع المجلس النيابي فيما بعد للحكومة العملات التي في صناديق التبرعات للفقراء بالكنائس (14). ووجدت أموال أخرى للحكومة أو لموظفيها بإلغاء المنح الدراسية للطلبة الفقراء ومنع الأستاذيات المعانة من الدولة بالجامعات، والتي أنشأها هنري الثامن (15). وأوصى المجلس النيابي لعام 1552 بأن يبقى رجال الأكليروس بلا زواج ولكنه أذن لهم بالزواج إذا ثبت أن العفة تضنيهم.(25/163)
وكان الاضطهاد الديني للهراطقة، الذي قام به الكثالكة منذ عهد بعيد، قد نهض به وقتذاك البروتستانت في إنجلترا، وكذلك في سويسرة وألمانيا اللوثرية، وذلك بمطاردة الهراطقة والكثالكة. وأعد كرانمر بياناً بالهرطقات التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام إذا لم يرتدوا عنها، وتضمنت تأكيد وجود المسيح حقاً في القربان المقدس أو السيادة الكنسية للبابا، وإنكار الوحي في العهد القديم، أو الطبيعتين في المسيح أو التزكية بالإيمان (16). وذهبت جوان بوشر الكونتيسة إلى المحرقة لشكها في تجسد الإقنوم الثاني (1550). وقالت لريدلي: أسقف لندن البروتستانتي الذي توسل إليها أن تتراجع عما تقول: "لقد أحرقتم آن أسكيو منذ عهد غير بعيد من أجل قطعة من الخبز (لإنكارها التجسد)، ومع ذلك حدث أن آمنتم بالعقيدة التي أحرقتموها من أجلها، وأنتم سوف تحرقونني الآن من أجل قطعة من اللحم (تشير إلى العبارة الواردة في الإنجيل الرابع). "لقد صنعت الكلمة لحماً، وسوف تؤمنون بهذا أيضاً آخر الأمر (17) ". ولم يحرق في عهد إدوارد إلا هرطقيان، ومهما يكن من أمر فإن كثيراً من الكثالكة سجنوا لحضورهم القداس أو لانتقادهم علناً العقيدة المحافظة المقبولة (18). وأقيل القساوسة الكاثوليك المتشبثون بآرائهم من مناصبهم وأرسل بعضهم إلى سجن البرج (19)، وعرض على جاردنر، وكان لا يزال هناك، الحرية إذا وافق على التبشير بالعقيدة التي يقول بها أنصار الإصلاح الديني. وعندما رفض نقل إلى "مسكن أحقر" في البرج وحرم من الورق والقلم والكتب. وفي عام 1552 أصدر كرانمر كتابه الثاني عن الصلاة العامة وفيه أنكر وجود المسيح حقاً في القربان المقدس، ونبذ تقديم القربان المقدس بالمسيح المغالى فيه، وراجع في ظروف أخرى الكتاب الأول باتجاه بروتستانتي.
ووافق المجلس النيابي وقتذاك على قانون ثان بشأن التجانس، اقتضى(25/164)
أن يحضر جميع الأشخاص بانتظام وألا يحضروا سوى الصلوات الدينية التي تقام طبقاً لما ورد في كتاب الصلاة العامة هذا، وكل مَن يخالف هذا القانون ثلاث مرات، يعاقب بالإعدام، وفي عام 1553 أصدر المجلس الملكي اثنين وأربعين "مادة في الدين" وضعها كرانمر وجعلها إلزامية على كل الإنجليز.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه الفضيلة والمحافظة على العقيدة بمثابة قانون تميزت حماية وارويك بفسادها في عصر فاسد، ولم يمنع هذا إدوارد الشاب المطاوع من تعيين وارويك دوقاً لنورثمبرلاند (4 أكتوبر سنة 1551). وبعد بضعة أيام كفر الدوق عن خطيئته التي ارتكبها بقيامه بعمل من أعمال حسن التصرف - إطلاق سراح سومرست - وذلك باتهام سلفه بالقيام بمحاولة لاستعادة السلطة لنفسه. وقبض على سومرست وحوكم وأدين في الغالب بناء على دليل قدمه سير توماس بالمر، وزيف أمر صادر من الملك بالدعوة إلى إعدام سومرست، وفي 22 يناير سنة 1552 لقي حتفه بشجاعة وإباء. وعندما واجه نورثمبرلاند الإعدام بدوره، اعترف أن سومرست قد اتهم زوراً بفضل وسائله، واعترف بالمر قبل وفاته أن الدليل الذي أقسم على صحته كان من اختراع نورثمبرلاند (20).
ونادراً ما كانت الإدارة في إنجلترا قد وصلت إلى هذا الحد من الكراهية، فقد انقلب البروتستانت ضد الحامي الجديد الذي أثنوا عليه شكراً منهم لتأييده وذلك بسبب ازدياد جرائمه. وكان الملك إدوارد يقترب من الموات وقد عينت ماري تيودور بمقتضى قانون أصدره المجلس النيابي ولية للعهد إذا ظل إدوارد بلا ذرية. وإذا قدر لماري أن تصبح ملكة فإنها سوف تنتقم في الحال من هؤلاء الذين حولوا إنجلترا عن العقيدة القديمة. وشعر نورثمبرلاند بأن حياته معرضة للخطر. وكان عزاؤه الوحيد أن وكلاءه قد دربوا إدوارد على طاعته. وأغرى الملك المحتضر بأن يقرر التاج لليدي جين جراي، ابنة الدوق سفولك وحفيدة شقيقة(25/165)
هنري الثامن، وفضلاً عن هذا فإن جين كانت قد تزوجت حديثاً من ابن نورثمبرلاند. ولم يكن إدوارد قد خول مثل أبيه السلطة من المجلس النيابي لتعيين خلفه، وكانت إنجلترا بأسرها تقريباً ترى أن ارتقاء الأميرة ماري العرش أمر لا مفر منه وعادل. واحتجت جين بأنها لم ترغب قط في أن تكون ملكة. وكانت امرأة نالت قسطاً غير عادي من التعليم: وكتبت باليونانية ودرست العبرية وتراسلت مع بولينجر بلغة لاتينية لا تقل جمالاً عن لغته. ولم تكن قديسة، وكان في وسعها أن تنتقد الكثالكة بشدة، وسخرت من التجسيد. ولكن نسب إليها من الآثام أكثر مما أثمت. وحسبت في أول الأمر أن خطة حميها من قبيل الدعابة، وعندما أصرت حماتها قاومت جين. وأمرها زوجها في آخر الأمر أن تقبل العرش فأطاعت "دون أن تختار أن تعصي زوجها" كما قالت، وأعد نورثمبرلاند وقتذاك العدة للقبض على كبار أنصار ماري وإيداع الأميرة نفسها في البرج حيث يمكن أن تتعلم التنازل.
وأوشك الملك على نهايته في أوائل يوليه، وسعل وبصق دماً، وتورمت ساقاه تورماً مؤلماً، وتفشى الطفح على جسده، وسقط شعره، ثم سقطت أظافره، ولم يستطع أحد أن يجزم بالمرض الغريب الذي يعاني منه، وراود الشك الكثيرين أن نورثمبرلاند قد سممه. وأخيراً مات إدوارد بعد أن عانى كثيراً (6 يوليو سنة 1553) ولم يتعد الخامسة عشرة من عمره، وأصغر كثيراً من أن يشارك فيما ارتكب في عهده من آثام.
وفي صباح اليوم التالي ركب نورثمبرلاند إلى هنسدون للقبض على الأميرة. بيد أن ماري هربت، بعد أن حذرت، إلى أصدقاء كاثوليكيين في سفولك، وعاد نورثمبرلاند إلى لندن دون أن يحصل على فريسته. وأقنع المجلس الخاص بالوعود أو التهديدات أو الرشاوى بالانضمام إليه في المناداة(25/166)
بجين جراي ملكة، وأغمي عليها، وعندما أفاقت ظلت تحتج على أنها لا تصلح للشرف المحفوف بالمخاطر، الذي أكرهت عليه. وتوسل إليها أقاربها بحجة أن حياتهم تتوقف على قبولها. وفي التاسع من يوليو أقرت في نفور أنها ملكة إنجلترا.
ولكن في العاشر من يوليو وصلت إلى لندن أنباء تقول إن ماري قد نادت بنفسها ملكة، وإن النبلاء في الشمال كانوا يتقاطرون لتأييدها، وأن قواتهم كانت تزحف على العاصمة. وحشد نورثمبرلاند سريعاً ما استطاع جمعه من جنود، وقادهم لتقرير مصير المعركة. وأبلغه جنوده في بورى أنهم لن يسيروا خطوة أخرى للقتال ضد عاهلتهم الشرعية. وأرسل نورثمبرلاند أخاه، مزوداً بالذهب والمجوهرات والوعد بكاليه وجينس ليرشوا هنري الثاني ملك فرنسا، للقيام بغزو إنجلترا تتويجاً لجرائمه. وعلم المجلس الخاص بالمهمة ومنعها، وأعلن ولاءه لماري. وانطلق الدوق أف سفولك إلى غرفة جين وأبلغها أن حكمها الذي استمر عشرة أيام قد انتهى. فرحبت بالأنباء وسألت ببراءة هل تستطيع الآن أن تذهب إلى البيت، ولكن المجلس، الذي كان قد أقسم على خدمتها أمر بسجنها في البرج. وسرعان ما سجن هناك أيضاً نورثمبرلاند وأخذ يطلب الصفح عما ارتكب، وإن أخذ يترقب موته.
وبعث المجلس برسل ينادون بأن ماري تيودور ملكة وتلقت إنجلترا الأخبار بفرح وحشي. وظلت النواقيس تقرع والمشاعل تتوهج طوال تلك الليلة من ليالي الصيف. وجلب الناس موائد الطعام وأولموا في الخلاء ورقصوا في الشوارع.
وبدا أن الأمة آسفة على الإصلاح الديني، وأنها تتطلع بشغف إلى ماضٍ كان في الإمكان وقتذاك أن يعد نموذجاً، طالما أنه لن يعود. والحق أنه الإصلاح الديني لم يظهر حتى الآن إلى جانبه المرير لإنجلترا: لم يكن تحريراً(25/167)
من المذهبية ومحاكم التفتيش والطغيان، بل كان تثبيتاً لها، ولم يكن انتشاراً للاستنارة، بل كان سلباً للجامعات وإغلاق مئات المدارس، ولم يكن توسعاً في الرقة، بل كان تقريباً قضاء على البر، ورقعة بيضاء للجشع، ولم يكن تخفيفاً للفقر، بل كان سحقاً للفقراء بلا رحمة لم تعرفه إنجلترا منذ قرون - ولعلها لم تعرفه قط (21). وكان كل تغيير يكاد يلقى ترحيباً ما دام يؤدي إلى تخليصهم من نورثمبرلاند وطغمته.
ثم إن الأميرة ماري المسكينة، التي ظفرت بحب إنجلترا في الخفاء بفضل صبرها على الإذلال طوال اثنين وعشرين عاماً - هذه المرأة المهذبة سوف تكون ولا شك ملكة رقيقة.
3 - الملكة الرقيقة
(1553 - 54)
لابد لكي نفهمها من أن نكون قد عشنا معها شبابها المأساوي الذي لم تذق خلاله قط طعماً للسعادة. ولم تكن تتجاوز الثانية من عمرها (1518)، عندما شغل أبوها بالحظايا، وأهمل أمها المحزونة. وكانت في الثامنة عندما طلب إعلان بطلان زواجه، وفي الخامسة عشرة عندما افترق والداها، وذهب كل من الأم والبنت إلى منفى منفصل. ومنعت الابنة من الذهاب إلى أمها حتى وهي تحتضر (22). وأعلن أن ماري ابنه سفاح بعد مولد اليزابث (1533) وجردت من لقبها كأميرة. وخشي سفير الإمبراطور أن تسعى آن بولين إلى قتل ابنة غريمتها المنافسة لها على العرش. وعندما انتقلت إليزابث إلى هاتفيلد أجبرت ماري على أن تذهب إلى هناك لخدمتها وأكرهت على أن تعيش في "أسوأ غرفة في البيت (23") وأخذ منها خدمها، واستبدل بهم آخرون، يخضعون لمس شلتون أف هاتفيد التي قالت لها تذكرها بأنها ابنة سفاح: "لو كنت في موضع الملك لطردتكِ من بيت الملك لعدم طاعتكِ". وأخبرتها أن هنري قد عبر عن عزمه على قطع رأسها (34).(25/168)
وكانت ماري مريضة طوال ذلك الشتاء الأول الذي قضته في هاتفيلد (1534)، وتحطمت أعصابها بسبب الإهانة والخوف وكادت تشرف على الموت جسماً وروحاً على غير كره منها. ثم رق لها الملك ومنحها بعض محبته إلى حين، ونعمت بوضع ميسور في باقي أيام حكمه. ولكن طلب منها أن توقع إقراراً بسيادة هنري الكنسية وبأن "زواج أمها من قبيل سفاح ذوى القربى" وبأن ميلادها غير شرعي (25) وذلك ثمناً لهذه الرقة القاسية.
وتأثر جهازها العصبي على الدوام بهذه المحن، و"كانت عرضة لأن تشكو من قلبها (26) " وظلت صحتها ضعيفة حتى آخر يوم في حياتها. وعاودتها شجاعتها عندما أعلن المجلس النيابي في عهد حماية سومرست أنها ولية العهد. ولقد نشأت عقيدتها الكاثوليكية، في طفولتها مشبعة بحرارتها الاسبانية، وقويت بما أثارته حياة أمها ومماتها في نفسها من ألم، وكانت عوناً ثميناً لها في أحزانها، فرفضت أن تتخلى عنها عندما حومت على حافة السلطة، وعندما أمرها مجلس الملك أن تكف عن سماع القداس في حجراتها (1549) لم تذعن لأمره. وأغضى سومرست عن مقاومتها، ولكن سومرست سقط، وصدق أخوها الملك على الأمر، وأرسل ثلاثة من خدمها إلى سجن البرج بسبب تجاهله (1551)، وأخذ منها القس الذي رتل لها القداس، ووافقت آخر الأمر على أن تكف عن ممارسة الشعيرة المحبوبة. وعندما تحطمت روحها طلبت من سفير الإمبراطور أن يدبر لها الهرب إلى القارة، ورفض الإمبراطور الحذر أن يجيز الخطة، وخاب فألها.
وجاءت لحظة انتصارها أخيراً عندما عجز نورثمبرلاند عن أن يجد رجلاً يحارب ضدها، ولم يطلب الذين أقبلوا المدججين بالسلاح لمناصرة قضيتها أي أجر، بل إنهم أحضروا معهم مؤنهم، وعرضوا عليها ثرواتهم لتمويل الحملة. وعندما دخلت لندن كملكة (3 أغسطس سنة 1553) هبت تلك المدينة نصف البروتستانتية للترحيب بها بالإجماع. وجاءت اليزابث تمشي على(25/169)
استحياء لملاقاتها عند أبواب المدينة، وهي تتساءل على تتمسك ضدها بالشتائم التي تعرضت لها باسم اليزابث. ولكن ماري حيتها بقبلة حارة وقبلت جميع السيدات المرافقات لأختها غير الشقيقة. وكانت إنجلترا سعيدة كما كانت عندما ارتقى العرش هنري الثامن وهو شاب وسيم كريم.
كانت ماري وقتذاك في السابعة والثلاثين من عمرها، وكان الزمن القاسي قد ترك على وجهها خطوطاً تنذر بالذبول. وقلما مرت بها سنة كاملة دون أن تصاب بمرض خطير. وكانت تشكو من الاستسقاء وسوء الهضم ونوبات صداع تحطم الرأس، وعولجت مراراً بالحجامة مما تركها عصبية شاحبة. وأدى تكرار انقطاع الطمث عنها إلى استغراقها أحياناً في حزن هستيري مصحوب بخوف من آلا تحمل أبداً (27). وكان جسدها وقتذاك نحيلاً هزيلاً وجبينها ممتلئاً بالتجاعيد وشعرها المائل للاحمرار تتخلله شعرات بيضاء وعيناها ضعيفتين جداً إلى حد أنها لم تكن تستطيع القراءة إلا إذا أمسكت بالصحيفة قرب وجهها. وكانت تقاطيعها واضحة، تكاد تشبه تقاطيع الرجال، وكان صوتها عميقاً كصوت الرجل، وقد وهبتها الحياة كل ما فيها من وهن وحرمتها من المفاتن ومن الأنوثة. وكانت لديها بعض المواهب الأنثوية، فكانت تحيك في جلد وتطرز بمهارة وتعزف على العود، وأضافت إلى هذه المواهب معرفة باللغات الأسبانيّة واللاتينية والإيطالية والفرنسية. وكان يمكن أن تكون امرأة صالحة لو لم تلحقها لعنة اليقين اللاهوتي والسلطة الملكية. وكانت أمينة إلى درجة البساطة، عاجزة في مجال الدبلوماسية ومتلهفة إلى درجة يرثى لها لأن تحب وتكون محبوبة. وكانت تتعرض لسورات غضب ولها لسان سليط. وكانت عنيدة ولكنها لم تكن متكبرة، وأدركت قصور قدراتها الذهنية وأصاخت السمع للنصيحة في تواضع. ولم تكن تلين لها قناة إذا كان الأمر يتعلق بعقيدتها فحسب، وفي غير هذه الحالة كانت حليمة حنوناً وحرة الفكر مع التعساء، وتواقة إلى رفع الحيف الذي تسببت فيه(25/170)
أخطاء القانون، وكثيراً ما زارت بيوت الفقراء وهي متنكرة وجلست وتحدثت مع ربات البيوت وسجلت مذكرة بالحاجات والمظالم وقدمت كل ما في وسعها من مساعدة (28). وأعادت إلى الجامعات الهبات التي اختلسها منها أسلافها.
وطهر أحسن جانب من خلقها في التسامح النسبي في أول عهدها، فهي لم تطلق سراح جاردنر وبونر وغيرهما ممن سجنوا لرفضهم قبول اعتناق البروتستانتية فحسب، بل إنها صفحت تقريباً عن كل مَن حاولوا أبعادها عن العرش، ومهما يكن من أمر فإنها أجبرت بعض هؤلاء، مثل الدوق أف سفولك، على دفع غرامات باهظة للخزانة، ثم خفضت الضرائب تخفيضاً جوهرياً بعد تقديم هذه المساعدة إلى الدخل. ومنحت جوازات أمان لبيتر مارتير وغيره من البروتستانت الأجانب لكي يغادروا البلاد. وعقد مجلس الملكة محاكمة عاجلة لنورثمبرلاند وستة آخرين تآمروا على القبض على ماري، وتوجوا جين جراي، وحكم على السبعة جميعاً بالموت. وأبدت ماري رغبتها في الصفح عن نورثمبرلاند، ولكن سيمون رينار سفير الإمبراطور وقتذاك أثناها عن عزمها، وقام الثلاثة الذين لم يصفح عنهم جميعاً باعتناق عقيدة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في آخر لحظة. ووصفت جين جراي الحكم بالعدل والاعترافات بالجبن (29).
وكان من رأي ماري أن تطلق سراحها، ولكنها أذعنت لآراء مستشاريها إلى حد بعيد وأمرت بأن تبقى طليقة من كل قيد في الاعتقال داخل أراضي سجن البرج (30).
وأصدرت الملكة في 13 أغسطس إعلاناً رسمياً بأنها لن "تكره الضمائر أو تلزمها" بشيء في مسألة المعتقد الديني (31)، وكان هذا أحد الإعلانات الأولى في التسامح الديني تصدره حكومة حديثة. وكانت تأمل في براءة أن(25/171)
تحول البروتستانت بالحجة فنظمت مناظرة عامة بين علماء اللاهوت المتعارضين في الرأي، ولكنها تبخرت في جدل مرير عقيم. وبعد ذلك بوقت قصير قذف واعظ الأسقف بونر بخنجر انطلق من جمهور استاء من وعظه الكاثوليكي، وأنقذه من الموت اثنان من رجال الدين البروتستانت (32). وراع ماري تسامحها فأمرت (18 أغسطس سنة 1553) بعدم التصريح بعظات تتعلق بالعقائد إلا في الجامعات، وذلك إلى أن يتيسر اجتماع المجلس النيابي وينظر في المشكلات التي أثارها النزاع بين العقائد. وأمر كرانمر، وكان لا يزال رئيساً للأساقفة، بملازمة قصره في لامبث، فرد على ذلك بمهاجمة القداس ووصفه بأنه "كفر بغيض"، وحكم عليه هو ولاتيمر بالسجن في البرج (سبتمبر سنة 1553). أما ريدلي أسقف لندن الذي كان قد وصف ماري وإليزابث معاً بأنهما ابنتا سفاح فكان قد ذهب إلى سجن البرج قبل ذلك بشهرين. وعلى الجملة فإن سلوك ماري في هذه الشهور الأولى من حكمها فاق في اللين والتسامح سلوك غيرها من عظماء الحكام في عصرها.
وكانت المشكلات التي واجهتها حرية بان تقهر امرأة تفوقها كثيراً من الذكاء والفطنة. وصدمت بالارتباك والفساد السائدين في الإدارة وأمرت بوقف الفساد، غير أنه أخفى رأسه ولم ينقطع. وضربت مثالاً حسناً بتخفيض نفقات الأسرة الملكية، وتعهدت بتثبيت قيمة العملة، وتركت انتخابات المجلس النيابي حرة لم تتأثر بأي نفوذ ملكي. وكانت الانتخابات الجديدة "أعدل انتخابات حدثت منذ سنوات (33) "، ولكن تخفيضها للضرائب ترك دخل الحكومة أقل من مصروفاتها، ولكي تحصل على الفرق فرضت ضريبة صادر على القماش وضريبة وارد على الأنبذة الفرنسية وأدت هذه الإجراءات التي كان ينتظر أن تساعد الفقراء إلى نكسة تجارية. وحاولت أن توقف نمو الرأسمالية بتحديد عدد ما يملكه أي فرد بنول أو اثنين. ونددت بـ "القماشين الأغنياء" بسبب دفعهم أجوراً منخفضة وحظرت دفع(25/172)
الأجور عيناً (34)، ولكنها لم تجد في حاشيتها رجالاً يملكون القوة والكمال اللازمين لإنجاز إرادتها الطيبة، وتغلبت القوانين الاقتصادية على أهدافها.
بل إنها قوبلت بعقبات اقتصادية قاسية حتى في أمور الدين. ولم تكن هناك أسرة لها نفوذ في إنجلترا لا تحتفظ بأملاك انتزعتها من الكنيسة (35)، وعارضت هذه الأسر بالطبع أي عودة للعقيدة الرومانية. وكان البروتستانت أقلية من حيث العدد وأقوياء بفضل ما لديهم من مال، وكانوا بذلك في موقف يسمح لهم بأن يهيئوا في أية لحظة أسباب الثورة التي تضع إليزابث البروتستانتية على العرش.
وكانت ماري تتلهف على إعادة حق الكثالكة في العبادة طبقاً لشعيرتهم، ومع ذلك فإن الإمبراطور الذي ظل يحارب البروتستانتية اثنين وثلاثين عاماً حذرها وطلب منها أن تتحرك ببطيء، وأن تقنع بترديد القداس سراً لنفسها وفي محيطها المباشر. ولكن شعورها نحو دينها كان عميقاً ولا تستطيع أن تكون سياسية فيما يتصل به. وتعجب الجيل الذي ينزع إلى الشك الذي نشأ في لندن من كثرة صلواتها وحرارتها، ولعل السفير الإسباني اعتقد أنها تطلب أمراً إدّا عندما سألته أن يركع بجوارها ويطلب الهداية من الله. وشعرت بأن لها رسالة مقدسة تستعيد بها العقيدة التي أصبحت عزيزة عليها لأنها قاسم من أجلها. وبعثت برسول إلى البابا تطلب منه أن يرفع التحريم الذي فرضه على إقامة الصلوات بإنجلترا، ولكن عندما أبدى الكاردينال بول رغبته في الحضور إلى إنجلترا قاصداً رسولياً، اتفقت مع شارل على أن الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه الحركة الجريئة.
ولم يكن المجلس النيابي الذي اجتمع في 5 أكتوبر سنة 1553 مجدياً بالمرة. فقد وافق على إلغاء كل تشريع يتعلق بالدين، صدر في عهد إدوارد، وخفض العقوبات المنصوص عليها في قوانين هنري الثامن وإدوارد السادس إلى ما كانت عليه من قبل. وأبلغ الملكة في تلطف أن "عدم شرعية(25/173)
النسب المتعلقة بشخصكِ الأمثل" قد ألغي وأنها لم تعد ابنة سفاح، ولكنه أبى أن ينظر في إعادة أملاك الكنيسة إليها وقاوم أي تلميح إلى أن سيادة البابا يجب أن يعترف بها، وترك هذا ماري رئيسة للكنيسة الإنجليزية رغم أنفها. وبمقتضى هذه السلطة المخولة لها استبدلت بالأساقفة البروتستانت الأساقفة الكاثوليك الذين كانوا قد أقصوا عن مناصبهم، وعاد بونر أسقفاً للندن وجاردنر أسقفاً لونشستر ومشيراً مقرباً للتاج. وطرد القساوسة المتزوجون من أبرشياتهم. وسمح بإقامة القداس مرة أخرى ثم شجع، (ويقول مؤرخ بروتستانتي): "إن اللهفة التي أبدتها البلاد في الإفادة بوجه عام من الإذن بإعادة الشعيرة الكاثوليكية تدل بلا شك على أن الشعور العام كان مع الملكة (36) فيما عدا لندن وبضع مُدن كبيرة". وأعيدت العبادة الكاثوليكية إلى ما كانت عليه تماماً بمقتضى مرسوم صدر في 4 مارس سنة 1554. وعدت الهرطقات الأخرى غير شرعية وحرم كل وعظ بروتستانتي أو نشرة بروتستانتية.
وكان انزعاج الأمة بعودة التذبذب اللاهوتي أقل كثيراً من انزعاجها بخطط زواج ماري. كانت تخشى الزواج من الناحية الدستورية، ولكنها واجهت المحنة أملاً في أن تنجب وريثاً يحول دون ارتقاء اليزابث البروتستانتية العرش. وادعت ماري أنها عذراء، والراجح أنها كانت كذلك، ولعلها لو كانت قد أثمت هونا ما لكانت أقل كآبة وتوتراً ويقيناً. وأوصى مجلسها باختيار إدوارد كورتاني حفيد إدوارد الرابع، ولكن طرق عيشه المتبذلة لم تصادف هوى في نفس ماري، وعندما رفضته دبر أن يتزوج اليزابث، ويخلع ماري ويولي اليزابث على العرش ويحكم إنجلترا عن طريقها- ولم يحلم قط بضآلة فرصته في السيطرة على تلك السيدة المسترجلة. وعرض شارل الخامس على ماري الزواج من ابنه فيليب الذي كان يوشك أن يوصى له بكل شيء سوى اللقب الإمبراطوري، وتعهد(25/174)
بتقديم الأراضي المنخفضة لأي ولد يكون ثمرة لهذا الزواج. وتهللت ماري عندما خطر لها أن زوجها سيكون حاكماً لإسبانيا والفلاندرز وهولندة ونابلي والأمريكتين، وتدفقت دماؤها نصف الأسبانيّة ساخنة في عروقها وهي تتوقع إنشاء اتحاد سياسي وديني بين إنجلترا وإسبانيا. وأشارت في الواضح إلى أن سنها الأكبر- أكبر من فيليب بعشر سنوات- تقف عائقاً، وخشيت ألا تكفي مفاتنها الذابلة لإرضاء حيويته وشبابه أو خياله، إنها لم تكن واثقة أنها سوف تعرف كيف تطارحه الغرام (37). وكان فيليب من ناحيته يشعر بالنفور فقد أبلغه وكلاؤه الإنجليز أن ماري كانت "قديسة كاملة" وأنها ترتدي ملابس قبيحة (38)، أفلا يمكن أن يوجد شيء أكثر إغراء بين الأسر المالكة في أوربا؟ وأقنعه شارل بالإشارة إلى أن الزواج سوف يتيح لأسبانيا حليفاً قوياً ضد فرنسا وعوناً ثميناً في الأراضي المنخفضة التي كانت مرتبطة تجارياً بإنجلترا. ولعل البروتستانتية في ألمانيا يمكن قمعها بعمل موحد من أسبانيا وفرنسا وإنجلترا باعتبارها دولاً كاثوليكية؛ ثم إن المصاهرة بين آل هابسبورج وآل تيودور يؤلف قوة قادرة على منح أوربا الغربية سلاماً إجبارياً يدوم جيلاً.
وأدرك مجلس الملكة والشعب الإنجليزي قوة هذه الاعتبارات ولكنهم خشوا أن يؤدي الزواج إلى تحويل إنجلترا إلى بلد تابع لإسبانيا ويورط إنجلترا في الحروب المتكررة مع فرنسا. وواجه شارل الموقف بإجراء مضاد عرض باسم ابنه عقد زواج بمقتضاه لا يحمل فيليب لقب ملك إنجلترا إلا في حياة ماري ولها أن تحتفظ وحدها بالسلطة الملكية الكاملة على الشئون الإنجليزية ولها أن تشارك فيليب بجميع ألقابه، وإذا مات دون كارلوس (ابن فيليب من زواج سابق) دون أن يعقب ذرية ترث ماري أو ابنها الإمبراطوريّة الأسبانيّة وعلاوة على هذا أضاف الإمبراطور الداهية أن لماري الحق في أن تتلقى مدى الحياة 60. 000 جنيه من(25/175)
الموارد الإمبراطوريّة، وبدا هذا كله عرضاً سخياً جداً، وصدق المجلس الإنجليزي على الزواج مع تعديلات يسيرة في النصوص.
وأخذت ماري، على الرغم من حيائها المتواضع تتطلع في لهفة إلى المستقبل، فكم طال انتظارها لعاشق!
ولكن الشعب الإنجليزي استاء من اختيارها، فالأقلية البروتستانتية التي كانت تصبر على الاضطهاد، آملة في أن تخلف اليزابث قريباً ماري العاقر الضعيفة خشيت على حياتها إذا وقفت قوة أسبانيا بجانب ماري في إعادة الكاثوليكية بالقوة، وارتجف النبلاء الذين اغتنوا بضم الأملاك الكنسية عندما خطر لهم أنهم سوف يخرجون ما في بطونهم. بل إن الإنجليز الكاثوليك اعترضوا على وضع أجنبي قاس على العرش. وهو ولا شك سوف يستخدم إنجلترا لتحقيق أغراضه الأجنبية. وارتفعت أصوات الاحتجاج من كل مكان في البلاد، وسرى الذعر في مدينة بلايماوث، فطلبت من ملك فرنسا أن يضعها تحت حمايته. ووضع أربعة نبلاء خططا لثورة تبدأ في 18 مارس سنة 1554، فكان على الدوق أف سفولك (والد جين جراي الذي صدر العفو عنه) أن يحدث ثورة في وارويكشاير وعلى سير جيمس كروفت أن يتزعم مستأجريه الولزيين، وعلى سير بيتر كارو أن يثير ديفونشاير، وعلى سير توماس ويات الصغير أن يقود ثورة في كنت. وكان ويات الكبير- الشاعر- قد استولى على مجموعة من أراضي الكنيسة- كره ابنه أن يسلمها. وأخطأ المتآمرون بأن أسروا بخططهم لكورتناي، وكانت مهمته تنحصر في ضمان اشتراك اليزابث معهم، وكان الأسقف جاردنر يراقب كورتناي باعتباره خاطباً منبوذاً لماري يتلهف على الانتقام، فأمر بالقبض عليه، وأفشى كورتناي أسرار المؤامرة، بتأثير التعذيب على الأرجح.
وآثار المتآمرون أن يلاقوا حتفهم في المعركة بدلاً من المقصلة فخفوا(25/176)
سريعاً إلى الأسلحة واشتعلت نيران الثورة في أربعة أقطار في الحال (فبراير سنة 1554) وقاد ويات جيشاً قوامه 7000 رجل وزحف نحو لندن، وبعث بنداء إلى كل المواطنين أن يمنعوا إنجلترا من أن تصبح إقطاعية لإسبانيا، وبدأ الجانب البروتستانتي من أهالي لندن في وضع خطة لفتح الأبواب لويات، وتردد مجلس الملكة في أن يرتبط بشيء، ولم يحشد جندياً واحداً للدفاع عنها، ولم تستطع ماري أن تدرك لماذا ترفض البلاد التي رحبت كثيراً بارتقائها العرش أن تتمتع بالسعادة وتحقيق أمانيها التي حلمت بها طوال سنوات التعاسة العديدة. وإذا لم تمسك بزمام الأمور في يديها بعزم غير عادي فإن حكمها وحياتها سوف ينتهيان وشيكاً. ولكنها ذهبت بنفسها إلى جلدهول وواجهت اجتماعاً ثائراً كان يتباحث إلى أي جانب ينحاز. وقالت للجميع إنها على استعداد تام لأن تتخلى عن فكرة الزواج الإسباني إذا كانت هذه رغبة العموم، وقالت حقاً "إني على استعداد لأن أمسك عن الزواج طوال حياتي" ولكنها لن تسمح في الوقت نفسه أن يتحول موضع الخلاف إلى "عباءة إسبانية" لثورة سياسية. وقالت: "إني لا أستطيع أن أقول كيف تحب الأم طفلها بفطرتها لأني لم أكن يوماً أماً، ولكن لا شك أنه إذا كانت الملكة يمكن أن تحب رعاياها حباً طبيعياً وحاراً كما تحب الأم طفلها، فإني أؤكد أني باعتباري سيدتكم ومولاتكم، أحبكم حباً حاراً رقيقاً وأعطف عليكم (39) ". وقوبلت كلماتها وروحها بتصفيق حار، وتعهد الجميع بتأييدها. واستطاع وكلاء الحكومة، في يوم تقريباً، أن يحشدوا 25. 000 رجل مسلح وقبض على سفولك وفر كروفت وكاريو إلى مخبأ. أما ويات فقد قاد، بعد أن تخلى عنه زملاؤه على هذا النحو، قوة صغيرة قاتل بها في شوارع لندن، وشق طريقه تقريباً إلى قصر الملكة في هويتهول ... وتوسل الحراس إلى ماري أن تهرب، ولكنها رفضت وأخيراً غلب رجال ويات(25/177)
على أمرهم فاستسلم بعد أن وهن منه الجسد والروح وأخذ إلى سجن البرج وتنسمت ماري عبير الأمان مرة أخرى ولكنها لم تعد قط الملكة الرقيقة.
4 - ماري الدموية
1554 - 1558
كثيراً ما أدان مستشاروها سياستها القائمة على الصفح. وقد لامها الإمبراطور وسفيره على السماح بالحياة بل وبالحرية لأشخاص تآمروا ضدها وسوف يكونون أحراراً لتكرار هذا - وسئلت كيف يستطيع فيليب أن يأمن على نفسه في بلد ترك فيه أعداؤه يمرحون بلا عائق ليدبروا مؤامرة لإغتياله؟ وكان من رأي الأسقف جاردنر أن الرحمة بالأمة تتطلب إعدام الخونة. وتملك الذعر الملكة فمالت إلى العمل بآراء مستشاريها. وأمرت بإعدام الليدي جين جراي التي لم ترغب قط في أن تكون ملكة، وزوج جين الذي أراد أن يكون ملكاً. وانطلق جين، وهي في السابعة عشرة من عمرها، إلى حتفها وهي تؤمن بأن هذا قدرها، دون أن تبدي احتجاجاً أو تذرف دموعاً (12 فبراير سنة 1554). وقطع رأس والدها سفولك وشنق مائة من صغار الثوار. وأبقي على حياة بعض المتآمرين إلى حين أملاً في أن ينتزع منهم اعترافات مفيدة، واتهم ويات في مبدأ الأمر اليزابث بأنها على علم بالخطة، ولكن عندما وقف على المنصة (11 أبريل سنة 1554) برأها من كل علم بها. وأطلق سراح كورنتاي بعد أن سجن عاماً وأقصي عن البلاد. وأشار شارل على ماري بإعدام كورنتاي واليزابث باعتبارهما مصدر تهديد دائم لحياتها. وأرسلت ماري إلى اليزابث بالحضور واحتفظت بها في قصر سانت جيمس شهراً ثم سجنتها شهرين في البرج. وحثها رينارد على تنفيذ حكم الإعدام فيها فوراً، ولكن ماري اعترضت وقالت إنه لم يثبت اشتراك اليزابث في الجريمة (40)، وظلت حياة اليزابث خلال هذه الشهور المشئومة معلقة في الميزان، وساعد هذا الرعب على تكوين شخصيتها القائمة على الريبة(25/178)
واستشعار الخطر، وكان له صداه فيما اتسم به عهدها المتأخر من قسوة عندما ساورها بشأن ماري ستيوارت نفس القلق الذي كان يساور ماري تيودور وقتذاك حول اليزابث. وفي 18 مايو نقلت مَن أصبحت ملكة في الأيام التالية إلى وود ستوك حيث عاشت مطلقة السراح في معتقل تحت الرقابة. وأدى خوف ماري من مؤامرة أخرى تدبر لتولية اليزابث على العرش إلى أن تتعجل ماري الزواج أملاً في أن تحظى في الأمومة.
ولم يكن فيليب متلهفاً إلى هذا الحد. وتزوج ماري يوم 6 مارس سنة 1554 بطريق الوكالة ولكنه لم يصل إلى إنجلترا قبل يوم 20 يوليو، ودهش الإنجليز وسرهم أن يجدوه شخصاً يمكن احتماله بدنياً واجتماعياً: وجه غريب مثلث الشكل تقريباً ينحدر من جبهة عريضة إلى ذقن مدبب يزينه شعر أصفر ولحية، ولكه يمتاز بخلق كريم وبديهة حاضرة ومواهب تصلح لأي شيء، ولم يبدِ أي إيماءة بأنه هو وحاشيته يعدون الإنجليز برابرة. بل إنه قال كلمة رقيقة في صالح اليزابث، ولعله كان يتنبأ بأن ماري ربما لا ترزق بذرية وأن اليزابث قد تكون يوماً ملكة، وذلك يكون شراً أهون من أن ترتقي ماري ملكة الإسكوتلنديين - التي ارتبطت منذ عهد بعيد بفرنسا - عرش إنجلترا. وعلى الرغم من أن ماري كانت أكبر سناً بكثير من فيليب فإنها تطلعت إليه بإعجاب ساذج، وكانت متعطشة إلى الحب طوال سنوات عديدة، فابتهجت وقتذاك لفوزها بأمير ساحر وقوي إلى هذا الحد، ومنحته نفسها بإخلاص لا شك فيه إلى حد أن الحاشية تساءلت هي أصبحت إنجلترا بالفعل تابعة لإسبانيا، وكتبت لشارل الخامس في تواضع رسالة تقول فيها إنها: "أسعد مما أستطيع التعبير عنه لأني في كل يوم أكتشف في زوجي الملك من الفضائل العديدة وصفات الكمال ما يدفعني باستمرار إلى أن أتضرع إلى الله أن يهبني العون لأسعده (41) ".(25/179)
وكانت رغبتها في أن تلد ابناً لفيليب وولي عهد لإنجلترا، عارمة استغرقت كل اهتمامها إلى حد أنها سرعان ما تصورت أنها حامل. ولقي انقطاع الطمث عندها وقتذاك ترحيباً، باعتباره شارة ملكية، وألجم الأمل ألسنة مَن خطر لهم أن تلك الحالة حدثت لها كثيراً من قبل. وتقبل الناس الاضطرابات الهضمية على أنها أدلة أخرى على الأمومة، وأبلغ سفير البندقية أن "حلمتي" الملكة قد انتفختا ودر ثدياها لبناً. وابتهجت ماري وقتاً طويلاً عندما راودتها فكرة أنها أيضاً يمكن أن تحمل طفلاً شأنها في هذا شأن أفقر امرأة في مملكتها، ولا نستطيع أن نتصور مدى تعاستها عندما أقنعها أطباؤها آخر الأمر أن انتفاخ بطنها إنما حدث بسبب الاستسقاء. وفي غضون ذلك كانت شائعات حملها قد اكتسحت إنجلترا وأقيمت الصلوات ونظمت المواكب من أجل ولادتها السعيدة، وسرعان ما انتشرت شائعة بأنها أنجبت ولداً. وأغلقت الحوانيت ابتهاجاً واعتبر اليوم عطلة واحتفل الرجال والنساء في الشوارع، وقرعت نواقيس الكنائس وأعلن أحد رجال الدين أن الطفل "أشقر وجميل" كما يليق بأمير (42). وتحطمت ماري من الإحباط والخجل فانزوت شهوراً عن أنظار الجمهور.
وشعرت بالعزاء إلى حد ما بعودة الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان شارل قد أخر بول عن السفر في بروكسل لأنه عارض الزواج الاسباني، أما وقد تم هذا الزواج فإن اعتراضات الإمبراطور هدأت، وعبر الكاردينال القناة بصفته قاصداً رسولياً (20 نوفمبر سنة 1554) إلى البلاد التي كان قد تركها منذ اثنين وعشرين عاماً، وقوبل بترحيب حار من الموظفين ورجال الأكليروس والشعب أثبت الرضا العام عن تجديد العلاقات مع البابوية. وحيا ماري بعبارة تكاد تكون منتقاة من معجمه: "السلام عليك يا مريم، الممتلئة بالنعمة، الرب معكِ، أنت مباركة بين النساء Ave Maria, gratia Plena Dominus tecum, benedicta tu in mulieribus وكان على ثقة(25/180)
من أنه قريباً سوف يردف قائلاً: "مباركة ثمرة رحمك (43) ".
وعندما علم المجلس النيابي أن بول جاء معه بموافية البابا على احتفاظ الحائزين الحاليين بأملاك الكنيسة المصادرة فرح الجميع، كما يحدث في أي زفاف. وأعرب أعضاء المجلس النيابي وهم راكعون عن ندمهم لما ألحقوه من إساءات بالكنيسة ومنح الأسقف جاردنر التائبين الغفران بعد أن اعترف بتذبذبه. واعترف بسيادة البابا في الشئون الكنسية وتأكد حقه في دخول السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين و"الثمرات الأولى" وأعيد إنشاء المحاكم الأسقفية وأعيدت ضرائب العشور الأبرشية لرجال الأكليروس وجددت القوانين القديمة ضد اللوردية وأعيدت الرقابة على المطبوعات من سلطات الدولة إلى سلطات الكنيسة. وبدا كل شيء كسابق عهده بعد فتنة دامت عشرين عاماً.
ولبث فيليب مع ماري ثلاثة عشر شهراً يأمل في أن يرزق بطفل، وحينما لم يظهر أي دليل مؤكد رجاها أن تسمح له بالذهاب إلى بروكسل حيث كان نزول والده عن العرش يقتضي حضوره. ووافقت في حزن وانطلق معه إلى النقالة المائية التي سوف تقله إلى أدنى نهر التيمس، وأخذت ترقب النقالة من نافذة إلى أن اختفت (28 أغسطس سنة 1555). وشعر فيليب أنه قد أدى واجبه طوال سنة لقي فيها من أمره عسراً وهو يطارح الغرام امرأة مريضة، وكافأ نفسه بسيدات بروكسل القويات البنية.
وكان بول وقتذاك أعظم رجل يتمتع بالنفوذ في إنجلترا. وشغل نفسه بإعادة تنظيم الكنيسة الإنجليزية وإصلاحها. وأعاد فتح بعض أديار الرهبان ودير للراهبات بمساعدة ماري. وسعدت ماري عندما رأت بعث العادات الدينة القديمة، وسرها أن ترى الصلبان والصور المقدسة في الكنائس مرة أخرى، وأن تشترك في مواكب تتسم بالورع مع القساوسة أو الأطفال والطوائف المهنية فتجلس أو تركع لتحضر قداسات تقام للأحياء والأموات.(25/181)
وغسلت وقبلت يوم خميس العهد عام 1556 أقدام إحدى وأربعين امرأة مسنة وهي تدلف على ركبها من واحدة لأخرى ومنحتهن جميعاً صدقات (44). وما دام الأمل في الأمومة قد تبدد أصبح الدين سلواها التي تعينها على الاحتمال.
ولكنها لم تستطع أن تبعث الماضي تماماً. فقد حفزت الأفكار الجديدة إلى اضطراب مثير في عقول أهل المدينة، وكانت لا تزال هناك اثنتا عشرة طائفة تنشر كتبها وعقائدها في الخفاء. وتألمت ماري عندما سمعت عن جماعات تنكر ألوهية المسيح ووجود الروح القدس وانتقال الخطيئة الأولى. وخيل إليها أن الهرطقات تعد جرائم مهلكة بالنسبة لإيمانها الساذج وأنها أسوأ بكثير من خيانة الدولة. هل في وسع الهراطقة أن يعرفوا كيف يعاملون الروح البشرية خيراً مما يعرفه كاردينالها المحبوب؟ وترامى إلى أسماعها أن واعظاً تضرع بصوت عال أمام جمهور أبرشيته أن يهديها الله أو يرفعها من الأرض (45). وألقي يوماً كلب ميت، حلق شعر رأسه جرياً على عادة الرهبان، وحول عنقه حبل، من نافذة في غرفة الملكة (46). وفي كنت جدع أنف قسيس (47). ورأت ماري أنه من غير المعقول أن يقوم المهاجرون البروتستانت الذين سمحت لهم بالرحيل عن إنجلترا في سلام، بإرسال كتيبات يهاجمونها فيها ويصفونها بأنها حمقاء رجعية ويتحدثون عن "صلاة لاتينية مكروهة عند إقامة قداس وثني (48) ". وحثت بعض الكتيبات قوادها على أن يهبوا في ثورة ويخلعوا الملكة (49). وعقد اجتماع من 17. 000 شخص في اولدجيت (14 مارس سنة 1554) ونادى بوضع اليزابث على العرش (50). وكانت حوادث التمرد في إنجلترا من تدبير البروتستانت الإنجليز في الخارج.
وكانت ماري تنزع بفطرتها وعادتها إلى الرحمة - حتى عام 1555. فماذا حولها إلى ملكة تحظى بأكبر قدر من الكراهية بين الملكات(25/182)
الإنجليزيات؟ هناك استفزاز الهجمات التي أظهرت عدم الاحترام لشخصها أو عقيدتها أو مشاعرها من ناحية، وهناك الخوف من أن تكون الهرطقة ستاراً لثورة سياسية من ناحية ثانية، وهناك الشدائد التي عانتها وخيبة الأمل المتكررة التي كدرت صفو روحها وجعلت حكمها على الأشياء مظلماً من ناحية ثالثة، وهناك إيمانها الذي لا يتزعزع بصواب آراء مستشاريها الذين تثق بهم أكثر من أي شخص آخر - فيليب وجاردنر وبول - التي تذهب إلى أن الوحدة الدينية أمر لا غنى عنه للتضامن القومي وبقائه. وسرعان ما أفصح فيليب عن مبادئه في الأراضي المنخفضة. وكان الأسقف جاردنر قد أقسم بالفعل (ربيع عام 1554) أن يحرق الأساقفة البروتستانت الثلاثة - هوبر وريدلي ولاتيمر - ما لم يرتدوا عن عقيدتهم (51). وكان الكاردينال بول، مثل ماري، ينزع بفطرته إلى الرحمة ولكنه كانت لا تلين له قناة في العقيدة، وقد أحب الكنيسة حباً جماً إلى حد أنه كان يرتجف للتشكك في عقائدها أو سلطتها. ولم يكن له دور قيادي مباشر أو شخصي فيما قامت به ماري من اضطهاد، وأشار بالاعتدال وأطلق مرة سراح عشرين شخصاً كان الأسقف بونر قد حكم عليهم بالموت حرقاً (52).
ومع ذلك فإنه أصدر تعليماته لرجال الأكليروس بأنه إذا فشلت كل طرق الإقناع سلمياً فإن كبار الهراطقة يجب أن تنتزع منهم الحياة ويستأصلوا مثل الأطراف الفاسدة من الجسد (53). وأعربت ماري عن رأيها في تردد. "نعتقد أن إثارة عقاب الهراطقة يدب أن يتم بغير اندفاع ولا نتخلى في الوقت نفسه عن إقامة العدالة لهؤلاء الذين يسعون إلى خداع البسطاء (54) ". وكانت مسئوليتها في بادئ الأمر مقصورة على الإذن ولكنها كانت حقيقة.
وعندما تبين لها (1518) أن الحرب مع فرنسا قد عادت عليها وعلى(25/183)
إنجلترا بالوبال عزت الفشل إلى غضب الله عليها لترفقها بالهرطقة وتشددت قطعاً بعد ذلك في الاضطهاد.
وافتتح جاردنر عهد الإرهاب بأن استدعى إلى محكمته الأسقفية ستة من رجال الأكليروس (22 يناير سنة 1555) كانوا قد رفضوا قبول العقيدة التي توطدت من جديد (1).
وارتد واحد منهم وأحرق أربعة منهم جون هوبر وأسقف جلوسستر وورسستر الذي أقيل (4 - 8 فبراير سنة 1555). ويبدو أن جاردنر أصيب بانتكاس في الشعور بعد تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام فلم يشترك بعد ذلك في الاضطهاد، وانهارت صحته ومات في نوفمبر من هذا العام واضطلع الأسقف بونر بالمذبحة. ونصح فيليب، وكان لا يزال بإنجلترا، بالاعتدال وعندما أدان بونر ستة، وحكم عليهم بالحرق اعترض سفير الإمبراطور رينار على "هذا التهور البربري (57) " وندد كاهن الاعتراف الخاص لفيليب، وهو أخ أسباني من الرهبان، وهو يعظ أمام الحاشية،
_________
(1) إن المصدر الأساسي لما قامت به ماري من اضطهاد هو كتاب حون فوكس وعنوانه: "في أمور الكنيسة وفي التعليق على مآثرها Rerum iu ecclesia gestarum Commentarll"، (1559) الذي ترجم إلى الإنجليزية بعنوان: "أفعال وآثار" (1563) ويعرف بغير كلفة باسم "كتاب الشهداء" وأصبح الوصف الواضح لمحاكمات البروتستانت ووفياتهم من المقتنيات الحبيبة عند الأسرة بعد الكتاب المقدس عند المتطهرين (البيوريتان)، وعلى الرغم من أن القساوسة من الآباء اليسوعيين نشروا (1503) خمسة مجلدات تهاجم صحة ما ورد فيه فقد كان له أثر قوي في تكون مزاج إنجلترا في عهد اوليفر كرومويل. وقد انتقده الكثيرون من رجال الكنيسة البروتستانت لما فيه من المبالغة والخطأ في النقل والتحامل وعدم العناية بالتفاصيل (55). ويقارن مؤرخ كاثوليكي بينه وبين سير القديسين في القرون الوسطى في مدى ما يمكن الوثوق به مما ورد فيه، ويختم كلامه بقوله إنه على الرغم مما يكتنف الكثير من التفاصيل من شكوك "فليس هناك مَن يشك في أن هذه الأحداث وقعت بالفعل".(25/184)
بالأحكام باعتبارها مخالفة للروح المعتدلة والمتسامحة التي حث عليها المسيح (58) مراراً وتكراراً. وأوقف بونر الأحكام لمدة خمسة أسابيع، ثم أمر بتنفيذها، واعتقد أنه كان رقيقاً متساهلاً، والحق أن مجلس الملكة أنبه يوماً لأنه لا يظهر حماسة كافية في مطاردة الهرطقة (59). وعرض على كل هرطيق منحه عفواً كاملاً إذا ارتد عما يقول، وكثيراً ما أضاف وعداً بتقديم مساعدة مالية أو عمل صريح (60)، ولكن عندما كانت هذه الإغراءات تفشل كان يجيز الحكم بشراسة، وكانت توضع عادة حقيبة ممتلئة بالبارود بين ساقي المحكوم عليه حتى تؤدي ألسنة اللهب إلى موت سريع، ولكن الخشب احترق ببطيء في حالة هوبر، وخاب أثر البارود فلم ينفجر، وقاسى الأسقف السابق آلاماً استمرت ساعة تقريباً.
وكان معظم الشهداء عمالاً بسطاء تعلموا تلاوة الكتاب المقدس وشجعوا على العمل بالتفسير البروتستانتي له إبان الحكم السابق. ولعل المضطهدين رأوا أن من العدل استدعاء رجال الدين الذين بذلوا الجهد لتحفيظ مبادئ العقيدة البروتستانتية، ليشهدوا لها بالاستشهاد، وفي سبتمبر سنة 1555 أحضر كرانمر وعمره ستة وستون عاماً، وريدلي وعمره خمسة وستون عاماً، ولاتيمر، البالغ من العمر ثمانين عاماً، من سجن البرج ليقفوا للمحاكمة في أكسفورد. وكان لاتيمر قد لطخ صفحة حياته البليغة بالموافقة على إحراق المنكرين للتعميد والفرنسسكان العنيدين في عهد هنري الثامن. وكان ريدلي قد أيد بنشاط اغتصاب جين جراي للعرش، ووصف ماري بأنها ابنة سفاح وساعد في خلع بونر وجاردنر من كرسيهما الأسقفيين.
وكان كرانمر الرأس المفكر للإصلاح الديني الإنجليزي، فقد أحل زواج هنري وكاثرين، وزوج هنري من آن بولين، واستبدل بالقداس كتاب الصلاة العامة، واضطهد فريث ولامبرت وغيرهما من الكثالكة،(25/185)
ووقع وصية إدوارد بالتاج لجين جراي، وندد بالقداس باعتباره كفراً، وكان هؤلاء الرجال وقتذاك في البرج منذ عامين يتوقعون الموت كل يوم.
وحوكم كرانمر في أكسفورد في اليوم السابع من سبتمبر. وقام قضاته بكل جهد ممكن للحصول منه على إنكار لما ذهب إليه. فتمسك بموقفه بحزم وحكم عليه بأنه مذنب، ولكن لما كان رئيساً للأساقفة فإن الحكم عليه ترك للبابا وأعيد إلى سجن البرج. وفي 30 سبتمبر حوكم ريدلي وتشبث بموقفه وفي اليوم نفسه اقتيد لاتيمر أمام المحكمة الكنسية، وكان وقتذاك رجلاً لا يبالي بالحياة، يرتدي ثوباً قديماً مهلهلاً ورأسه الأبيض تكسوه قلنسوة فوق طاقية نوم فوق منديل وتتدلى نظارتاه من عنقه وربطت بزنارة نسخة من العهد الجديد. وفي اليوم الأول من أكتوبر حكم عليهم بالإدانة وأحرقوا في اليوم السادس من أكتوبر. وركعوا أمام المحرقة وصلّوا معاً. وربطوا بالأغلال إلى عمود حديدي وعلقت حول عنق كل لجر حقيبة ممتلئة بالبارود وأشعلت حزم الحطب وقال لاتيمر: "تهلل ولا تبتئس يا سيد ريدلي وتصرف كرجل، فإننا في هذا اليوم سوف نشعل شمعة بفضل الله في إنجلترا، وأنا على يقين أنها لن تطفأ أبداً (61) ".
وفي الرابع من ديسمبر أيد البابا الحكم على كرانمر. واستسلم رئيس الإساقفة البروتستانتي الأول في كنتربري لخوف يغتفر له، ولم يكن في وسع رجل استطاع أن يكتب بإنجليزية قوية الدلالة كتاباً مثل كتاب الصلاة العامة مواجهة هذه المحن دون أن يتعرض لآلام غير عادية في الجسد والعقل.
ولعل كرانمر تأثر بنداء بول الحار فقرر قوله إنه: "تخلى عن كل طرق الهرطقة وأخطاء لوثر وزونجلى وكرهها وأبغضها". وأقر بإيمانه بالشعائر المقدسة السبع واعترف بالتجسيد والمطهر وكل تعاليم الكنيسة الرومانية.(25/186)
وكان إنكاره هذا قميناً بأن يستبدل به الحكم بسجنه جرياً على ما حدث في جميع السوابق، ولكن ماري (طبقاً لما قاله فوكس) رفضت إنكاره لمعتقده على أساس أنه يفتقر إلى الإخلاص وأمرت بإعدام كرانمر (62).
وفي كنيسة سانت ماري بأكسفورد تلاقى صبيحة يوم إعدامه (31 مارس سنة 1556) إنكاره السابع والأخير. ثم أضاف لدهشة جميع الحاضرين.
وأجيء الآن إلى الأمر العظيم الذي يؤرق ضميري أكثر من أي شيء آخر فعلته أو قلته طوال حياتي وذلك هو تدبيج رسالة في الخارج تخالف الحقيقة. وأنا الآن أتبرأ منها وأرفضها ... إنها كتبت خوفاً من الموت ... وذلك شأن جميع البيانات والأوراق التي كتبتها أو وقعت عليها بيدي منذ تجريدي من منصبي ... وما دامت يدي قد أثمت، بكتابة ما يخالف صدق مشاعري فإن يدي سوف تعاقب على ذلك لأنها ... سوف تحرق أولاً ... أما بالنسبة للبابا فإني أرفض اعتباره عدواً للمسيح وخارجاً على المسيحية (63).
وعندما اقتربت ألسنة النيران من جسده وهو على المحرقة مد يده فيها واحتفظ بها هناك، كما يقول فوكس: "ثابتة لا تتحرك ... حتى يستطيع كل الناس أن يروا يده تحترق قبل أن تمس النار جسده. وأخذ يردد كثيراً كلمات ستيفن "رباه! تقبل روحي" في عظمة اللهب الذي سلم الروح القدس (64).
وكانت وفاته دليلاً على بلوغ الاضطهاد ذروته. ومات نحو 300 شخص في أثنائه منهم 273 في السنوات الأربع الأخيرة من ذلك العهد. وكلما مضت المحرقة قدماً أصبح من الواضح أنها كانت خطأ. واستمدت البروتستانتية القوة من شهدائها كما فعلت المسيحية في بواكير عهدها وانزعج كثير(25/187)
من الكثالكة في عقيدتهم وشعروا بالخزي من ملكتهم بسبب ما كابده الضحايا من آلام وما أظهروه من جلد. وعلى الرغم من أن الأسقف بونر لم ينعم بالعمل فقد أطلق عليه اسم "بونر الدموي" لأن أسقفيته شهدت معظم ما نفذ من أحكام الإعدام ووصفته امرأة بأنه "الذباح المعروف وعبد المجزرة العامة لكل الأساقفة في إنجلترا (65) "، ووجد المئات من الإنجليز البروتستانت ملجأ في فرنسا الكاثوليكية وسعوا هناك إلى وضع نهاية للعهد الحزين.
وبينما كان هنري الثاني يطارد البروتستانت الفرنسيين فإنه شجع على تدبير المؤامرات الإنجليزية ضد ماري الكاثوليكية التي أدى زواجها بملك أسبانيا إلى ترك فرنسا محاطة بقوى معادية. واكتشف العملاء البريطانيون في أبريل عام 1556 مؤامرة يتزعمها هنري ددلي لخلع ماري وتولية اليزابث على العرش. وتم القبض على عدة أشخاص منهم اثنان من أفراد بين اليزابث، وأقحم اعتراف اسم اليزابث نفسها والملك الفرنسي. وقمعت الحركة ولكنها تركت ماري في خوف دائم من الاغتيال.
وواجهت جماعة من الهاربين محناً كشفت عن مزاج العصر الذي تتسلط العقيدة عليه، فقد جاء إلى لندن عام 1548 جان لاسكي، وهو كالفيني بولندي وأنشأ هناك أول كنيسة مشيخية في إنجلترا. وبعد ارتقاء ماري العرش بشهر ترك لاسكي وجانب من جمهور المصلين معه لندن في سفينتين دنمركيتين. وفي كوبنهاجن منعوا من الدخول ما لم يوقعوا على الاعتراف الرسمي اللوثري الخاص بالعقيدة. فأبوا باعتبارهم كالفينيين متمسكين بعقيدتهم. ولم يسمح لهم بالنزول فسافروا بحراً إلى وسمار ويبسك وهامبورج، وفي كل حالة كانوا يواجهون بالمطلب نفسه ويردون بالرفض (66). ولم يذرف اللوثريون في ألمانيا أية دموع على ضحايا ماري بل نددوا بهم باعتبارهم هراطقة مكروهين و"شهداء للشيطان" بسبب إنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان (67) المقدس. وأدان كالفن تعصب اللوثريين الذي لا يعرف الرحمة، وفي ذلك العام(25/188)
(1553) أحرق سرفيتوس في المحرقة. وبعد أن ظل الهاربون تتقاذفهم أمواج بحر الشمال معظم أيام الشتاء سمح لهم بالدخول أخيراً ووجدوا معاملة إنسانية في إمدن.
وسارت ماري إلى نهايتها المحتومة بقدر كئيب. وكان زوجها التقى في حرب غير منطقية وقتذاك مع البابوية وكذلك مع فرنسا، وجاء إلى إنجلترا (20 مارس سنة 1557) وحث الملكة على أن تشترك إنجلترا في الحرب باعتبارها حليفة. ولكي يخفف من كراهية الإنجليز لمهمته، أقنع ماري بالاعتدال في الاضطهاد (68)، ولكنه لم يستطع أن يكسب بسهولة تأييد الجمهور بل كان الأمر على العكس، فبعد شهر من وصوله أشعل توماس ستافورد، ابن أخي الكاردينال بول، ثورة لتحرير إنجلترا من ماري وفيليب على السواء، ولكنه هزم وشنق (28 مايو سنة 1557) ولقد اترع البابا كاس الملكة تعاسة برفضه الاعتراف ببول قاصداً رسولياً واتهم بالهرطقة. وكانت ماري في لهفة لإرضاء فيليب ومقتنعة أن هنري الثاني قد أيد ستافورد في مؤامرته، وأعلنت الحرب على فرنسا في 7 يونيه. وبعد أن حقق فيليب غرضه غادر إنجلترا في يوليو وراود الشك ماري في أنها لن تراه أبداً مرة أخرى. وقالت: "سوف أعيش ما بقي من أيامي دون رفيق من الرجال (69) ". وفقدت إنجلترا في هذه الحرب التي لم ترغب فيها كاليه (6 يناير سنة 1558) التي كانت قد احتفظت بها 211 عاماً وآلاف الإنجليز من الرجال والنساء الذين عاشوا هناك وفروا الآن إلى بريطانيا، لاجئين معدمين، وأذاعوا الاتهام المرير المنسوب إلى حكومة ماري بأنها أهملت إهمالاً إجرامياً في الدفاع عن آخر ممتلكات إنجلترا في القارة. وعقد فيليب صلحاً موافقاً له دون أن يطب استعادة كاليه. وكانت ثمة عبارة قديمة تتردد هي أن ذلك الميناء الثمين كان "ألمع جوهرة في التاج الإنجليزي". وأضافت ماري عبارة أخرى إلى الحكاية "عندما أموت وتفتحون صدري فسوف(25/189)
تجدون كاليه في قلبي (70) ". وفي أوائل عام 1558 اعتقدت الملكة مرة أخرى أنها حامل. وكتبت وصيتها إذ كانت تتوقع أن تكون ولادتها خطيرة وبعثت برسالة إلى فيليب تتوسل إليه فيها أن يحضر الحادث السعيد ... فبعث إليها بتهانيه ولكن لم تكن هناك ضرورة لحضوره، فقد كانت ماري على خطأ. وكانت وقتذاك امرأة مهجورة من الجميع، ولعلها كانت مخبولة إلى حد ما. كانت تجلس على الأرض الساعات الطوال وركبتاها مرفوعتان إلى ذقنها، وكانت تتجول في قاعات القصر مثل شبح، وكتبت رسائل لطختها بدموعها للملك الذي توقع وفاتها، فأمر عملاءه في إنجلترا أن يستميلوا قلب اليزابث للزواج من أمير إسباني أو من فيليب نفسه.
وفي أيام الصيف الأخير من حياة ماري انتشر وباء حمى البرداء في إنجلترا. وأصيبت به الملكة في سبتمبر عام 1558 وتحالف مع الاستسقاء و"زيادة الصفراء السوداء" فأضعفها إلى حد أن رغبتها في الحياة تلاشت. وفي 6 نوفمبر بعثت بجواهر التاج إلى اليزابث. وكان هذا عملاً كريماً أذعن فيه حبها للكنيسة لرغبتها في منح إنجلترا وراثة منظمة للعرش. وتعرضت للغيبوبة فترات طويلة واستيقظت من إحدى هذه الغيبوبات لتروي كيف رأت حلماً سعيداً عن أطفال يلعبون ويغنون أمامها (71). وفي 17 نوفمبر سمعت القداس مبكراً وهتفت بالعبارات التي يرددها المصلون عادة وراء القس بحرارة. وماتت قبل الفجر.
وفي اليوم نفسه مات الكاردينال بول، الذي مني بهزيمة منكرة مثل ملكته. ولابد لنا عند تقديره أن نسجل الحقيقة المرة وهي أنه كان قد أدان ثلاثة رجال وامرأتين وحكم عليهم بالموت حرقاً بتهمة الهرطقة في مستهل الشهر الأخير. صحيح أن كل الطوائف ما عدا المنكرين للتعميد في تلك السنوات التي عرفت جنون اليقين ووافقت على ضرورة المحافظة على الوحدة الدينية ولو أدى الأمر بالضرورة إلى معاقبة المنشقين بالإعدام، ولكن لم(25/190)
يحدث في أي مكان في العالم المسيحي المعاصر - حتى في أسبانيا - أن أحرق هذا العدد الكبير من الرجال والنساء بسبب آرائهم كما حدث في عهد تولى ريجينالد بول رئاسة الكنيسة الإنجليزية.
وفي وسعنا أن نقول كلمة رقيقة عن ماري. فقد أدى الحزن والمرض وكثير مما تعرضت له من أخطاء إلى انحراف عقلها. ولم تتحول من الحلم إلى القسوة إلا بعد مؤامرات كانت تستهدف حرمانها من التاج الذي تضعه على رأسها وأصاخت السمع في ثقة زائدة لرجال الدين الذين سعوا إلى الانتقام بعد أن تعرضوا هم أنفسهم للاضطهاد. وكانت تعتقد حتى آخر لحظة في حياتها أنها بالقتل إما تؤدى فرائضها نحو العقيدة التي أحبتها كمجال حيوي لبقائها. وهي لا تستحق اسم "ماري الدموية" ما لم تسحب تلك الصفة على عصرها بأسره، فهو يهون بلا رحمة من شأن شخصية فيها الكثير من الصفات التي تستحق الحب.
وإن امتيازها العجيب إنما هو استمرارها في العمل الذي بدأه والدها لإبعاد إنجلترا عن روما. وأظهرت لإنجلترا، ولما تزل كاثوليكية، أسوأ جانب للكنيسة التي خدمتها، ولما ماتت كانت إنجلترا مهيأة أكثر من ذي قبل لاعتناق العقيدة الجديدة التي جاهدت للقضاء عليها.(25/191)
الفصل السابع والعشرون
من روبرت بروس إلى جون نوكس
1300 - 1561
1 - الإسكوتلنديون الذين لا يقهرون
إن الجنوب الحار اللطيف يولد الحضارة والشمال البارد القاسي يتغلب مراراً على الجنوب المتهاون الكسول ويستوعب الحضارة ويحورها، وإن بلاد أقصى الشمال - سكوتلندة والنرويج والسويد وفنلندة - لتكافح العناصر التي تكاد تشبه الظروف القطبية الشمالية لتقوم بشيء من الترحيب بالحضارة وتسهم فيها وهي تواجه ألف عاقبة.
ولقد شجعت الهضاب المجدبة الخالية من الطرق على قيام الإقطاع ولم تشجع على الزراعة، بينما رحبت الأراضي المنخفضة الخضراء الخصيبة بغزوة بعد غزوة قام بها الإنجليز الذين لم يستطيعوا أن يدركوا لماذا لا تستقبل سكوتلندة تدفعهم عليها هم وملوكهم. وكان الإسكوتلنديون قديما ً من الكلتيين واختلطوا في القرون الوسطى بالإيرلنديين والنرويجيين والإنجليز والساكسون والنورمانديين، وما أن حل عام 1500 حتى كانوا قد أصبحوا شعباً ضيق الأفق في المشاعر والأفكار - ومثلهم في ذلك مثل شبه جزيرتهم، عميق الغور في الخرافة والأساطير مثل الضباب المنتشر عندهم معتزاً بنفسه مثل قننه البحرية، فظاً مثل أرضه، متهوراً مثل سيوله الجارفة، وهو شرس ورقيق، قاسٍ وشجاع في آن واحد، ولا يقهر أبداً. ويبدو أن الفقر ضارب(25/192)
بجذوره وظروفه الجغرافية والأخلاق في فقره، وهكذا نشأ الشح من التربة الحانقة، وكان الفلاحون يرزحون تحت وطأة الكدح والنصب، فلم يكن لديهم متسع من الوقت لكتابة الرسائل، أما النبلاء الذين أبقوهم في العبودية فقد فاخروا بالأمية، إذ وجدوا ألا فائدة من تعلم حروف الأبجدية في ثاراتهم أو حروبهم، وقسمت الجبال والعشائر السكان المشتتين إلى طوائف متناظرة متهورة لا يعفون عن أعدائهم في الحرب ويعطون أماناً في السلم. ولما كان النبلاء يملكون تقريباً كل أسباب السلطة العسكرية في فرقهم الخاصة فإنهم سيطروا على المجلس النيابي وعلى الملوك. وكان لدى آل دوجلاس وحدهم 5000 تابع ودخولهم تضارع دخل التاج.
وقبل عام 1500 كانت الصناعة بدائية ومنزلية والتجارة مضطربة، والمُدن قليلة وصغيرة، وكان تعداد سكان سكوتلندة كلها وقتذاك 600. 000 نسمة نصف سكان جلاسجو اليوم. وكانت جلاسجو بلدة صغيرة تعمل بالصيد وكانت برت هي العاصمة حتى عام 1542، وكان بأدنبرة 16. 000 نسمة.
وعبرت روح الاستقلال الفردية والمحلية والقومية عن نفسها في الأنظمة القروية والبلدية التي تتمتع بالحكم المحلي داخل إطار الإقطاع والملكية، وسمح لأوساط الناس - المواطنين المحررين من سكان المُدن - بأن يكون لهم ممثلون في المجلس النيابي أو مجلس المقاطعات، ولم يكن يحق لهم أن يجلسوا بين زملائهم من أعضاء العموم كما في إنجلترا، ولكن بين ملاّك الأراضي من الإقطاعيين، وكانت أصواتهم تضيع في الأغلبية التي للنبلاء. ولما كان الملوك لا يستطيعون أن يوطدوا سلطانهم ضد النبلاء بالتحالف مع التجار والأغنياء والمُدن الآهلة بالسكان، كما هو الحال في فرنسا، فإنهم سعوا إلى الحصول على التأييد من ثروة الكنيسة ونفوذها.
أما النبلاء فكانوا على طرفي نقيض مع الملوك وتعلموا أن يكرهوا الكنيسة ويحبوا أملاكها وانضموا في إطلاق الصرخة العامة التي تنادي(25/193)
بأن الثروة القومية إنما تصب في روما. وكان النبلاء في إسكوتلندة - وليس الملوك والتجار كما في إنجلترا - هو الذين نهضوا بالإصلاح الديني، أي تحرير العلمانيين من سلطة الكنسيين (1).
وحققت الكنيسة الإسكوتلندية عن طريق تسلطها على تقوى الناس لنفسها ثراء وسط فقر متقع وآمال معلقة على العالم الآخر. وقام مبعوث بابوي حوالي نهاية القرن الخامس عشر بإبلاغ البابا أن دخل الكنيسة في إسكوتلندة يعادل كل الدخول الأخرى مجتمعة (2). وكان الوعاظ وأوساط الناس يكادون يحتكرون معرفة القراءة والكتابة. وكان رجال الأكليروس الإسكوتلنديون في القرن السادس عشر مشهورين بالتضلع في العلم، وكانت الكنيسة بالطبع هي التي أسست جامعتي سانت أندروز وأبردين وحافظت عليهما. وكانت الأساقفة ورؤساء الأديار بعد عام 1487 ينصبون - وفي الواقع يعينون - بمعرفة الملوك الذين جعلوا من هذه المناصب مكافآت على خدمات سياسية أو رواتب لأبنائهم غير الشرعيين. ووهب جيمس الخامس ثلاثة من أبنائه من السفاح دخولاً كنسية من كلسو وملرز وهوليرود وسانت أندروز. وكانت الميول الدنيوية لهؤلاء المعينين من الأسرة الملكية مسئولة إلى حد ما عن فساد رجال الأكليروس في القرن السادس عشر.
ولكن الانحلال العام للأخلاق والنظام الذي اتسمت به الكنيسة أواخر العصور الوسطى، كان واضحاً في إسكوتلندة قبل تعيين الملوك للأساقفة بعهد طويل. وكتب هيلير بلوك الكاثوليكي المتزمت يقول: "إن فساد الكنيسة الذي استفحل شره في كل مكان في سائر أرجاء أوربا في القرن الخامس عشر، قد وصل في إسكوتلندة إلى درجة لم تعرف في أي مكان آخر (3"). ومن هنا نشأ إلى حد ما عدم المبالاة الذي نظر به عامة الناس، على ما عرفوا به من محافظة على العقيدة، إلى إحلال رجال الدين البروتستانت محل رجال الدين الكاثوليك. وشكا الملك جيمس الأول عام(25/194)
1425 من فجور الرهبان وكسلهم، وفي عام 1455 اضطر قسيس في لينلثجو قبل أن يتسلم وظيفته أن يعدي عهدا بأن لن يرهن أملاك كنيسته ولن يحتفظ بـ "حظية دائمة" (4). وكان للكاردينال بيتون ثمانية أبناء من السفاح، وضاجع ماريون أو جيلفي ليلاً قبل أن يمضي ليلقى خالقه (5)، وحصل جون رئيس أساقفة هاملتون من جلسات مختلفة عقدها المجلس النيابي الإسكوتلندي على خطابات بشرعية ذريته المتزايدة. ولم يبخل شعراء من قبل الإصلاح الديني في إسكوتلندة بكلمات في هجاء رجال الأكليروس، بل إن رجال الأكليروس أنفسهم، في المجمع المقدس الكاثوليكي الإقليمي لعام 1549 عزوا انحطاط الكنيسة في إسكوتلندة إلى "الفساد في الأخلاق والفسق الدنس في حياة رجال الكنيسة من جميع الدرجات تقريباً (6) ". ومهما يكن من شيء فلابد من أن نضيف أن أخلاق رجال الأكليروس كانت مجرد انعكاس لأخلاق العلمانيين - وفوق كل شيء النبلاء والملوك.
2 - وقائع ملكية
1314 - 1554
إن الحقيقة الأساسية في تاريخ الدولة الإسكوتلندية هي الخوف من إنجلترا، والحق أن الملوك الإنجليز حاولوا مراراً أن يلحقوا إسكوتلندة بالتاج الإنجليزي من أجل سلامة إنجلترا من هجوم يباغتها من الخلف. وقبلت إسكوتلندة التحالف مع فرنسا عدو إنجلترا اللدود لكي تحمي نفسها. ولذلك تبرز هذه الوقائع.
لقد ظفر الإسكوتلنديون بحريتهم من إنجلترا في بانوكبرن (1314) بالأقواس والسهام والفؤوس المستخدمة في القتال. ولما كان روبرت بروس قد قادهم هناك إلى النصر، فقد ظل يحكمهم حتى وفاته متأثراً بداء الجذام (1329). وتوج ابنه دافيد الثاني، شأنه في هذا شأن الملوك الإسكوتلنديين منذ أمد بعيد على "حجر القدر" المقدس في دير سكون.(25/195)
ولما بدأ إدوارد الثالث ملك إنجلترا حرب المائة سنة مع فرنسا، رأى أنه من الحزم أن يضمن حدوده الشمالية، فهزم الإسكوتلنديين في هاليدون هل، وأقام إدوارد باليو ألعوبة له على عرش إسكوتلندة سنة 1333، ولم يسترد دافيد الثاني التاج إلا بعد أن دفع للإنجليز فدية قدرها 100. 000 مارك (6. 667. 000 دولار)، ونظراً لأنه لم يترك وريثاً مباشراً عند وفاته (1371) انتقلت المملكة إلى ابن أخيه روبرت ستيوارت الذي بدأت به أسرة ستيوارت المشئومة.
وسرعان ما استؤنفت حرب نصفي إنجلترا ضد الكل. وأرسل الفرنسيون جيش إلى إسكوتلندة، وعاث الإسكوتلنديون والفرنسيون فساداً في بلاد إنجلترا الواقعة على الحدود، واستولوا على درهام وأعدموا كل سكانها - رجالاً ونساء وأطفالاً وراهبات ورهباناً وقساوسة. وقام الإنجليز بالحركة التالية في لعبة الشطرنج الملكي هي فغزوا إسكوتلندة، وأحرقوا برث ودندي ودمروا دير ملروز (1385)، وسار روبرت الثالث في الطريق نفسه، ولكن عندما أسر الإنجليز ابنه جيمس (1406) مات حزناً. واحتفظت إنجلترا بالملك الصبي في سجن لطيف إلى أن وقع الإسكوتلنديون "صلحاً دائماً" (1423) وتخلوا عن كل تعاون بعد ذلك مع فرنسا.
وقد تعلم جيمس في الأسر، قدراً لا بأس به، وحصل على عروس انجليزية، وألف في مدح هذه "الحمامة البيضاء" بلسان الإسكوتلنديين "كتاب الملك" وهو قصيدة مجازية يستكثر على ملك أن ينظم مثلها. والحق أن جيمس كان مبرزاً في عشرات الأمور، فقد كان واحداً من أحسن المصارعين والعدائين والفرسان ورماة السهام وقاذفي الحراب والصناع المهرة والموسيقيين في إسكوتلندة، وكان حاكماً مقتدراً كريماً. وفرض عقوبات على التجارة التي تفتقر إلى الأمانة والزراعة المهملة، وبنى المستشفيات وألزم الحانات بالإغلاق في الساعة التاسعة، وحول طاقات الشباب من كرة القدم(25/196)
إلى التدريبات العسكرية، وطلب إصلاح النظام الكنسي وتقويم حياة الرهبان في الأديار. وعندما بدأ حكمه النشيط (1424) تعهد بالقضاء على الفوضى والجريمة في إسكوتلندة، ووضع حد الحروب الخاصة بين النبلاء واستبدادهم الإقطاعي "إذا لم يهبني الله سوى حياة كلب فإني سوف أجعل المفتاح يحرس القلعة والسرخس يرعى البقر"، أي يقضي على السطو على البيوت والماشية - في كل أنحاء إسكوتلندة (7). وسرق لص من أهل الجبال بقرتين من امرأة فأقسمت ألا تلبس أحذية أبداً حتى تسير إلى الملك لتندد بضعف القانون، فقال اللص "أنتِ تكذبين وسوف أعمل على أن تحتذي" وسمر حذوتي حصان في قدميها العاريتين. ومع ذلك وجدت طريقها إلى الملك وأمر بمطاردة اللص وطوف به حول برث ومعه لوحة من الخيش صورت عليها جريمته وحرص على أن يشنق الوحش بلا إمهال. وفي غضون ذلك اشتجر النزاع في وقته بينه وبين بارونات يضعون العراقيل في طريقه فأتى بقليل منهم إلى منصة الإعدام وصادر الزيادة في الأراضي المستأجرة وفرض المكوس على اللوردات وأوساط الناس على السواء وأعطى للحكومة الأموال التي احتاجت إليها لكي تستبدل بطغاة عديدين طاغية واحدة.
ودعا أصحاب الأرض - ملاّك الضياع الأقل مساحة - إلى المجلس النيابي وجعلهم هم والطبقة الوسطى بديلاً للنبلاء ورجال الأكليروس. وفي عام 1437 قتلته عصبة من النبلاء.
واستمر أبناء النبلاء الذين كان قد أسقطهم في الحياة أو انتزع منهم الأملاك في مقاومة جيمس الثاني في الكفاح ضد الملكية التي تنزع إلى المركزية، وبينما كان الملك الجديد لا يزال بعد صبياً في السابعة من عمره دعا وزراؤه ايرل أف دوجلاس الصغير وشقيقا أصغر لينزلا ضيفين على الملك فحضرا وقدما لمحاكمة هزلية وقطع رأساهما (1440) ودعا جيمس الثاني نفسه بعد أثنى عشر عاماً وليام، ايرل أف دوجلاس، لبلاطه في ستيرلنج ومنحه عهد الأمان(25/197)
وأنزله في ضيافته الملكية وقتله بتهمة تبادل رسائل فيها تآمر على خيانة الدولة مع إنجلترا. واستولى على كل القلاع الإنجليزية الحصيفة في إسكوتلندة إلا قلعة واحدة، ومزق إرباً إثر انفجار عارض من مدفعه. وكفر جيمس الثالث عن فظاظة أبيه فبعد مهاجمات وحشية أسره النبلاء وقتل لتوه (1488)، وتزوج جيمس الرابع من مرجريت تيودور شقيقة هنري الثامن، وبفضل هذا الزواج طالبت ماري ملكة الإسكوتلنديين بعرش إنجلترا.
ومع ذلك فإن هنري الثامن عندما انضم إلى أسبانيا والنمسا والبندقية والبابوية في الهجوم على فرنسا (1511) شعر جيمس بأنه ملزم بمساعدة حليفة إسكوتلندة القديمة المعرضة للخطر، على هذا النحو بغزو إنجلترا. وحارب بشجاعة جنونية في فلودن فيلد، بينما استدار الكثيرون من رجاله وفروا لا يلوون على شيء، ومات في تلك الكارثة (1513).
وكان جيمس الخامس وقتذاك لا يبلغ من العمر إلا عاماً واحداً، واستتبع هذا كفاح متشابك من أجل الوصاية على العرش. وفاز بالجائزة دافيد بيتون - وهو أحد رجال الكنيسة المعروفين بالمقدرة والشجاعة وتقدير النساء، ونصب كبيراً لأساقفة سانت اندروز، ثم كاردينالاً، ودرب الملك الصغير على الولاء الحار للكنيسة. وتزوج جيمس على 1538 من ماري أمير اللورين، شقيقة فرانسيس، الدوق دي جيز زعيم الحزب الكاثوليكي في فرنسا المنقسمة على أساس مذهبي، وتطلع النبلاء الإسكوتلنديون، ومناهضتهم لرجال الأكليروس تتزايد يوماً بعد يوم، باهتمام إلى الانفصام القائم بين إنجلترا والبابوية، وحسدوا اللوردات الإنجليز الذين انتزعوا أو تلقوا أملاك الكنيسة وأخذوا "أجوراً" من هنري الثامن لمعارضة تحالف ملكهم مع فرنسا. وعندما شنَّ جيمس الخامس الحرب على إنجلترا رفض النبلاء أن يؤيدوه. وهزم في سولواي موس (1542) ففر يجر أذيال الخزي إلى(25/198)
فولكلاند، ومات هناك في 14 ديسمبر، وأنجبت زوجته في الثامن من ديسمبر ماري، التي أصبحت ملكة للإسكوتلنديين وعمرها ستة أيام.
وأبرز بيتون وصية من الملك الراحل عينه فيها وصياً على الملكة الرضيعة، وتشكك النبلاء في صحة الوثيقة وسجنوا الكاردينال واختاروا جيمس، إيرل أف أران وصياً على العرش، بيد أن أران أطلق سراح بيتون وعينه كبيراً للوزراء. وعندما جدد بيتون الحلف مع فرنسا عقد هنري الثامن النية على شنَّ حرب لا هوادة فيها، وبعث لجيشه في الشمال أمراً بإحراق كل شيء في طريقه وتدميره، و"أن يعمل النار والسيف في كل رجل وامرأة وطفل دون استثناء أينما يجد مقاومة" وبخاصة "ألا يبقوا على حياة مخلوق" في بلدة سانت أندروز (7) مقر بيتون. وبذل الجيش جهده، وأحال كل دير ومزرعة وقلعة ومحلة إلى خراب شامل (9) ". وتعرضت أدنبرة يومين للسلب والحرق، ونهبت قرى الفلاحين في دائرة قطرها سبعة أميال ودكت دكاً، وسيق إلى إنجلترا (1544) 1000 راس من الماشية ذوات القرون و 12. 000 رأس من الأغنام و 1300 جواد. وعرض سير جيمس كير كالداي ونورمان لزلي وغيرهما من السادة الإسكوتلنديين أن يساعدوا الإنجليز على "حرق أماكن يملكها الحزب المتطرف في الكنيسة، وأن يقبضوا ويسجنوا كبار خصوم الحلف الإنجليزي، وأن يعتقلوا ويقتلوا الكاردينال نفسه (10) ". ورحب هنري بالعرض ووعد بتقديم 1000 جنيه إنجليزي لمواجهة النفقات. وفشلت الخطة إلى حين، ولكنها نفذت في اليوم التاسع والعشرين من مايو سنة 1546، واقتحم اثنان من آل كير كالداي واثنان من آل لزلي وعصبة عديدة من النبلاء والقتلة قصر الكاردينال عنوة وقتله "في حالة تلبس" تقريباً لأنه، "كما يقول نوكس" كان مشغولاً بحساباته مع السيدة اوجيلفي في تلك الليلة (11). وأردف نوكس قائلاً: "والآن بما أن الطقس حار فقد رأى أن من الأفضل لمنعه من أن يتعفن أن يعطوه جرعة كبيرة كافية من الملح،(25/199)
وقباء من الرصاص ... انتظاراً لما سوف يعده له إخوانه الأساقفة من طقوس الفن. ونحن إنما نسجل هذه الأمور ابتهاجاً (12) ". وانسحب القتلة إلى قلعة سانت اندروز على الساحل وانتظروا وصول العون من إنجلترا بطريق البحر.
وعاد أران إلى الاضطلاع بعبء الحكم، ولكي يضمن مساعدة الفرنسيين وعد بأن يزوج الملكة الطفلة ماري ستيوارت لولي عهد فرنسا، ولكي يحال بينها وبين الوقوع في أيدي الإنجليز، أرسلت سراً إلى فرنسا (13 أغسطس سنة 1548). وقضى ارتقاء ماري تيودور العرش في إنجلترا على خطر قيام الإنجليز بغزوات أخرى إلى حين. وكانت الكاثوليكية وقتذاك تسيطر على جانبي الحدود. وتغلب النفوذ الفرنسي إلى أران فحمله على أن يتنازل عن وصية العرش (1554) إلى ماري أميرة اللورين، أم الملكة الغائبة، وكانت امرأة على حظ من الذكاء والجلد والشجاعة، لم تذعن إلا لروح العصر الغلابة ووهبت ثقافة النهضة الفرنسية، فقابلت العقائد الدينية المناظرة التي كانت تضطرم بالغضب حولها بابتسامة تنم على التسامح. وأمرت بإطلاق سراح العديد من البروتستانت المسجونين، وسمحت للهراطقة بحرية كبيرة في الوعظ والعبادة، إلى حد أن الكثير من البروتيتانت الإنجليز الذين فروا من ماري تيودور وجدوا ملجأ، وسمح لهم بتكوين جماعات دينية برئاسة ماري أميرة اللورين. كانت أعظم حاكمة رقيقة العاطفة متمدنة عرفتها إسكوتلندة قروناً طوالاً.
3 - جون نوكس
1505 - 1559
كانت الدعاية للإصلاح الديني قد مضى عليها مائة عام في إسكوتلندة في عام 1433 اتهم بول كراور بإدخال عقيدتي ويكليف وهس، وقضت الكنيسة بإدانته وأحرقته الدولة. وفي عام 1494 استدعي(25/200)
ثلاثون "لولاردا من كيل" للمثول أمام أسقف جلاسجو بتهمة رفض الاعتقاد في المخلفات والصور الدينية والاعتراف السري أمام قسيس، ورسامة القساوسة وسلطانهم والتجسد والمطهر، وصكوك الغفران والقداسات من أجل الموتى ورهبانية رجال الدين والسلطة البابوبة (13). وبذلك نجد أنفسنا أمام تلخيص يكاد يكون كاملاً لمبادئ الإصلاح الديني قبل نشر رسائل لوثر بثلاثة وعشرين عاماً. ومن الواضح أن المتهمين تراجعوا عما قالوا به.
وسرعان ما دخلت رسائل لوثر إلى إسكوتلندة بعد عام 1523، وانتشرت ترجمة للعهد الجديد باللغة الإسكوتلندية من إعداد ويكليف في مخطوطة، وارتفع نداء يطالب بمسيحية تعتمد على الكتاب المقدس وحده دون سواه.
وذهب باتريك هاميلتون إلى باريس ولوفان، ودرس تعاليم أرازموس والفلسفة اليونانية ومضى إلى فتنبرج وعاد إلى إسكوتلندة مشبعاً بالعقائد الجديدة ونادى بالتزكية بالإيمان ودعاه جيمس (عم دافيد) وبيتون، ثم رئيس أساقفة سانت اندروز للحضور، وإيضاح ما يعنيه بأقواله، فجاء وتمسك بآرائه وأحرق (1528). وفي عام 1534 أحرق اثنان آخران من "العلماء" كما كان المصلحون الدينيون الإسكوتلنديون الأوائل يسمون أنفسهم. وشنق أربعة رجال وأغرقت امرأة عام 1544، وطبقاً لما يرويه نوكس الذي لا يعتمد على روايته دائماً، ذهبت إلى حتفها وعلى صدرها طفل رضيع (14).
وكانت عمليات القتل العمد هذه موزعة على عصور ومواضع مختلفة، إلى حد جعلها لا تثير رد فعل عام قوي. بيد أن شنق جورج ريشارت مس شغاف قلوب الكثيرين، وكان أحول حادث له أثره في الإصلاح الديني الإسكوتلندي. وقد ترجم ريشارت حوالي عام 1543 الاعتراف السويسري البروتستانتي الأول، ومن سوء الحظ أن هذا الإعلان البروتستانتي أمر السلطات(25/201)
العلمانية بمعاقبة الهراطقة (15). وأزاحت الاتجاهات البروتستانتية السويسرية منذ ذاك - وكانت في مبدأ الأمر زونجالية تتسم بالرحمة ثم أصبحت كالفينية صارمة - اللوثرية يوماً بعد يوم في الحركة الإسكوتلندية. وقدم ريشارت عضاته في مونتروز ودندي ولازم بشجاعة مرضى وباء منتشر، وفسر العقيدة الجديدة في أدنبرة في وقت كان فيه دافيد بيتون يعقد مجمعاً أكليروسياً من رجال الدين الإسكوتلنديين هناك، فأمر الكاردينال بالقبض عليه بتهمة الهرطقة، وحكم عليه بالإدانة وقتل خنقاً وأحرق (1546).
وكان من بين مَن تحولوا عن مذهبهم على يديه، شخصية من أقوى الشخصيات في التاريخ وأعظمها نفوذاً. وقد ولد جون نوكس بين عامي 1505 و 1515 قرب هندنجنون ونذره والداه الفلاحان ليكون قسيساً، ودرس في جلاسجو ورسم قساً (حوالي عام 1532، وأصبح معروفاً بتضلعه في القانون المدني والقانون الكنسي على السواء. ولا تتحدث سيرته الذاتية "تاريخ إصلاح الدين داخل مملكة إسكوتلندة" بشيء عن شبابه ولكنها تقدمه فجأة (1546) بوصفه مريداً متحمساً لجورج ريشارت وحارساً شجاعاً له، يحمل سيفاً له مقبضان. وأخذ نوكس يتجول من مخبأ إلى آخر بعد القبض على ريشارت، ثم انضم في عيد الفصح عام 1547 في قلعة سانت اندروز إلى العصبة التي قتلت الكاردينال بيتون.
واستشعر الرجال المطاردون الحاجة إلى الدين فطلبوا من نوكس أن يكون واعظاً لهم. فاحتج بأنه لا يصلح، ثم وافق وسرعان ما اتفقوا على أنهم لم يسمعوا قط مثل هذا الوعظ الملتهب من قبل. وأطلق على الكنيسة الرومانية أسم: "هيكل الشيطان" وجعلها مرادفة للوحش المخيف الذي ورد وصفه في سفر الرؤيا. وتبنى العقيدة اللوثرية التي تذهب إلى "أن الإنسان يظفر بالخلاص"، بأن يؤمن فحسب بأن دم يسوع المسيح يكفر عن خطايانا جميعاً (16) ". وفي يوليو أبحر أسطول فرنسي وقذف القلعة بالقنابل. وقاوم(25/202)
المحاصرون أربعة أسابيع، وأخيراً غلبوا على أمرهم، وظل نوكس والآخرون يعملون عبيداً في السفن تسعة عشر شهراً. وليس لدينا إلا تفاصيل قليلة عن معاملتهم باستثناء ما ذكر من أنهم كانوا يدفعون لسماع القداس (ويقول لنا نوكس) أنه رفض بشدة، ولعل هذه الأيام المريرة، وأثر صوت الملاحظ على الأجسام ساهم في اشتداد نزوع نوكس إلى الكراهية وجنوح لسانه وقلمه إلى العنف في العبارة.
وعندما أطلق سراح الأسرى (فبراير سنة 1549) عمل نوكس قساً بروتستانتياً في إنجلترا براتب تقاضاه من حكومة سومرست. وكان يقوم بعظاته يوميا طوال الأسبوع "إذا سمحت له بذلك الجيفة الخبيثة". ونحن أبناء اليوم الذين لا ننعم كثيراً بالعظات ليس في مقدورنا إلا أن نتصور بصعوبة مدى إحساس الناس في القرن السادس عشر بالتعطش إليها. وقد ترك قساوسة الأبرشيات الوعظ للأساقفة الذين تركوه بدورهم للأخوان الرهبان وكانوا يقومون به بين آن وآخر. وأصبح الوعاظ في البروتستانتية بمثابة صحيفة يومية للأخبار والرأي، وكانوا يروون على المصلين أحداث الأسبوع أو أحداث اليوم، وكان الدين وقتذاك ممتزجاً بالحياة إلى الحد الذي جعل كل حدث تقريباً يمس العقيدة أو القائمين عليها ونددوا بنقائص رجال الأبرشية وأخطائهم ونبهوا الحكومة إلى واجباتها وأخطائها. وفي عام 1551 كان نوكس يعظ أمام إدوارد السادس ونورثمبرلان فتساءل كيف تأتى في الغالب الأعم لأنقى الأمراء أن يتخذوا مستشاريهم من أفسق الناس. وحاول الدوق أم يسكته بمنحه منصب أسقفية ولكنه فشل.
وكانت ماري التيودورية أشد خطورة عليه، ففر نوكس إلى دبيب وجنيف (1554) بعد شيء من التباطؤ الذي أملاه الحرص، وزكاه كالفن لدى جماعة تتحدث بالإنجليزية في فرانكفورت، ولكن مبادئه وملامحه كانت جد قاسية بالنسبة لمستمعيه، فطلب منه أن يرحل. وعاد إلى جنيف (1555)، ونحن نستطيع(25/203)
أن نحكم على قوة شخصية كالفن من التأثير الذي سيطر به وقتذاك على شخصية إيجابية وقوية تماثل شخصيته. ووصف نوكس، مدينة جنيف في عهد كالفن بأنها: "أكمل مدرسة للمسيح ظهرت على وجه الأرض منذ أيام الحواريين (17) ". واتفقت الكالفينية مع مزاجه لأن تلك العقيدة كانت واثقة من نفسها، وعلى ثقة من أنها تتلقى الوحي من الرب، وواثقة من أن الله قد فرض عليها أن تلزم الفرد بانتهاج سلوك محدد واعتناق عقيدة معينة، وواثقة من حقها في توجيه الدولة، ولقد تغلغل هذا كله في أعماق روح نوكس، ثم في التاريخ الإسكوتلندي عن طريقه. وتوقع في فزع حكم ماري ستيوارت الكاثوليكية لإسكوتلندة، فسال كالفن وبولينجر هل يحق لشعب أن يرفض إطاعة "حاكم يرغم الناس على عبادة الأوثان ويلغي الدين الصحيح" فلم يحيرا جواباً، ولكن جون نوكس كان يعرف ما يدور في خلده.
وفي خريف عام 1555، وكان وقتذاك في الخمسين من عمره على الأرجح أظهر الجانب الرقيق من شخصية جافة بالعودة إلى ماري تيودور ملكة إنجلترا والذهاب إلى برويك والزواج من مرجريت بويز لأنه أحب أمها. وكانت لمس بويز خمسة أولاد وعشر بنات وزوج كاثوليكي، وكان لوعظ نوكس الفضل في اكتسابها لصف البروتستانتية، وأسرت له بمتاعبها المنزلية ووجد متعة في أن يشير عليها بما يجب، وعزاء في صداقتها، ومن الواضح أن العلاقة بينهما ظلت روحية إلى النهاية.
وعندما تزوج نوكس من مرجريت تركت مس بويز زوجها وذهبت لتعيش مع ابنتها وكاهن الاعتراف الخاص بها. وماتت الزوجة بعد خمس سنوات من عقد الزواج. وتزوج نوكس للمرة الثانية، ولكن مسز بويز بقيت معه. ومن النادر أن توجد في التاريخ حماة محبة ومحبوبة بهذا القدر.
وذهب الثلاثي الغريب إلى إسكوتلندة، حيث كانت ماري أميرة اللورين(25/204)
لا تزال ترى التسامح مفيداً في كسب تأييد الحزب البروتستانتي من النبلاء، وأثنى على الوصية على العرش باعتبارها "أميرة جديرة بالاحترام". وهبت حكمة وكياسة تفردت بهما (18). "ونظم اجتماعات بروتستانتية للمصلين في أدنبرة وغيرها من الأماكن وكان له الفضل في أن يتحول على يديه إلى المذهب البروتستانتي أشخاص من ذوي النفوذ، مثل وليام ميتلاند، سيد ليثنجتون، وجيمس ستيوارت الشقيق غير الشرعي لماري ستيوارت الذي قدر له أن يكون وصياً على العرش باسم إيرل أف مراي أو موراي. ولم ترض محكمة كنسية عن هذا التطور، فاستدعت نوكس ليقدم حساباً عن أعماله، وآثر أن يسلك سبيل التروي فتسلل من إسكوتلندة مع زوجته وأمها، (يوليو سنة 1556). ولم تستطع المحكمة الكنسية أن تحرق في غيابه سوى تمثال له، وأضفى عليه هذا التجسيم لاستشهاده بدون ألم نبلاً في عيون البروتستانت الإسكوتلنديين، ومنذ تلك اللحظة جعلوه زعيماً للإصلاح الديني الإسكوتلندي، حيث ما حل.
ولقد طور وهو في جنيف، باعتباره راعياً لأبرشية إنجليزية، البرنامج الكالفيني الكامل فيما يتصل بإشراف رجل الدين أخلاق رعايا أبرشيته وسلوكهم، ودعا في الوقت نفسه مسز آن لوك، التي تحولت عن عقيدتها على يديه في لندن، إلى أن تترك زوجها وتأتي مع ابنتها لتعيش بالقرب منه في جنيف، وكتب لها رسائل لا تقاوم:
"يا أعز أخت، لو استطعت أن أعبر لكِ عما أكابده من اشتياق وضنى لحضوركِ فسوف أبدو وقد تجاوزت الحد. نعم إني لأبكي وأبتهج عندما أذكركِ، ولكن ذلك سوف يزول بما أجده من عزاء في حضوركِ، الذي أؤكد لكِ أنه جد عزيز لدي إلى حد أنه لو لم يكن عبء هذه الجماعة الصغيرة، المجتمعة هنا باسم المسيح، قد عاقني، لحضرت إليكِ قبل رسالتي. ولو لم يمنعكِ بعلكِ (زوجكِ) إلى حد ما ... لوددت من أعماق قلبي،(25/205)
نعم، وما كنت لأستطيع أن أتوقف عن أن أتمنى رضى الله بهدايتكِ إلى هذا المكان (19) ".
وتركت مسز لوك لندن ضاربة عرض الحائط بمعارضة بعلها، ووصلت إلى جنيف (1557) مع ابن، وابنة وخادمة. وماتت الابنة بعد ذلك ببضعة ايام، ولكن مسز لوك ظلت قرب نوكس وعاونت مسز بويز التي تقدمت بها السن، ولم تعد وقتذاك مصدراً للراحة كما كانت من قبل، في تلبية حاجات الواعظ. وليس لدينا دليل على وجود علاقات جنسية. ولا نسمع أي شكوى من مسز نوكس، بل إننا لا نكاد نسمع عنها على الإطلاق. إن هادم البيوت القديم سوف يتخذ لنفسه أماً، وكانت له طريقته باسم المسيح.
بل كانت له طريقته في كل شيء تقريباً. وكان مثل كثير من الظماء، صغير الجسم، بيد أن كتفيه العريضتين كانتا تنمان على القوة، ومحياه الصارم يدل على اليقين والتطلع إلى السلطة. شعر أسود وجبهة ضيقة وحاجبان كثيفان وعينان نفاذتان وأنف ينم على التطفل وخدان أسيلان وفم واسع وشفتان غليظتان ولحية طويلة، وأصابع مستطيلة، ونحن نجد في هذا تجسيداً للإخلاص والرغبة في السلطة، وهو رجل يتميز بنشاط مبعثه التعصب. وكان يحب الوعظ مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع لمدة ساعتين أو ثلاثاً كل مرة، وكان علاوة على هذا يدير الشئون العامة ويوجه حياة الأفراد، فلا عجب "ألا أجد في الأربع والعشرين ساعة أربع ساعات أخلو فيها من العمل للراحة الطبيعية (20) ". ويلطف من شجاعته، حياء يعتروه إلى حين، وكانت عنده بديهة تنبهه إلى الفرار من الموت وشيك الوقوع. واتهم بتحريض البروتستانت على القيام بثورة محفوفة بالمخاطر في إنجلترا أو إسكوتلندة في الوقت الذي بقي فيه في جنيف أو دبيب، ومع ذلك فإنه واجه عشرات الأخطار وندد بفساد نورثمبرلاند في وجهه وجاهر فيما بعد بالديمقراطية في وجه ملكة. ولم يكن في الإمكان شراؤه بالمال. وظن أو ادعى أن صوته هو صوت الله.(25/206)
وصدق كثيرون ادعاءه وحيوه باعتباره رسولاً من قبل الله، ولذلك فإنه عندما خطب قال سفير إنجلترا: "إنه ينفخ فينا من الحياة أكثر مما يفعله 100 بوق تضج في آذاننا (21) ".
وكانت العقيدة الكالفينية مصدراً من مصادر قوته. لقد قسم الله كل الناس إلى الصفوة والملعونين، وكان نوكس وأنصاره من الصفوة، ومن ثم كتب لهم النصر من الله، وكان خصومهم أشقياء، وسوف تكون جهنم مثواهم عاجلاً أو آجلاً. وكتب يقول: "إننا مقتنعون بأن كل ما يفعله خصومنا عمل شيطاني (22) ". وهؤلاء الخصوم الملعونون من الله لا يستحقون أي حب مسيحي لأنهم أبناء الشيطان لا الرب. وهم لا يطوون جوانحهم على أي خير، ويحسن استئصال شأفتهم تماماً من الأرض. ونعم بتلك "الكراهية الكاملة التي يثيرها الروح القدس في قلوب صفوة الرب ضد أولئك الذين يزدرون تماثيله المقدسة (23) " وفي الصراع مع الأشقياء كانت جميع الوسائل مباحة - الكذب والغدر (24) وتناقضات السياسة (25) المرنة. فالغاية تبرر الوسيلة.
ومع ذلك فإن فلسفة نوكس الأخلاقية في ظاهر أمرها كانت تتعارض تماماً مع فلسفة مكيافيلي. فهو لم يسلم بأن يتحرر الساسة من القانون الأخلاقي المطلوب من المواطنين، وطالب بأن يطيع الحكام والمحكومون على السواء تعاليم الكتاب المقدس. غير أن الكتاب المقدس كان يعني بالنسبة إليه في الغالب العهد القديم، وكان أنبياء يهود المتوعدون أصلح لغايته من الرجل الذي استشهد على الصليب. فقد كان في وسعه أن يستميل الأمة إلى إرادته أو يحرقها بنبوءات ملتهبة. وادعى أنه يملك قوة تنبئية، وتنبأ حقاً بوفاة ماري تيودور المبكرة وسقوط ماري ستيوارد - أو لعل هذه الأماني تحققت لحسن الحظ - وكان صائب الرأي لا يخطئ الحكم على أخلاق الرجال الآخرين(25/207)
وأحياناً على أخلاقه. إذ اعترف (26) في سماحة "إنني بفطرتي جلف غليض"، وعزا فراره من إسكوتلندة إلى الضعف البشري والخبث (27).
وكان وراء زمجرته دعابة جافة، وكان في وسعه أن يكون رقيقاً بقدر ما كان عنيفاً. وأكب بإخلاص كامل على عمله وهو إنشاء سلطة يتمتع بها نظام كهنوتي مطهر وعالم يشرف على الجنس البشري ويبدأ بالإسكوتلنديين، وكان من رأيه أن النظام الكهنوتي الفاضل إنما يستلهم الله، وعلى هذا فإنه في مجتمع حساس على هذا النحو سيكون الله والمسيح هما الملك. وكان يؤمن بالحكم بأمر الله ولكنه عمل للديمقراطية أكثر مما فعل أي رجل آخر في عصره.
ولم تكن رسائله مجرد تمارين أدبية بل كانت وكأنها هزيم رعد سياسي وكانت تضارع رسائل لوثر في قوة الهجاء. وكانت الكنيسة الرومانية عنده، كما هو الحال عند لوثر، "بغياً ... دنستها تماماً كل ضروب الفجور الروحي (28) ". وكان الكثالكة "بابويين أضر من الوباء" و"تجار قداس" وكان قساوستهم "ذئاباً مفترسة". ولم يكن هناك رجل يبزه فصاحة في ذلك العصر الفصيح. وعندما تزوجت ماري تيودور من فيليب الثاني انفجر نوكس غضباً في رسالة بعنوان: "تحذير مخلص إلى معلمي حقيقة الرب في إنجلترا" (1554).
ألم تثبت ماري أن خائنة صراح لتاج إنجلترا الإمبراطوري باستقدامها أجنبياً، وتنصيب ملك إسباني متعجرف ليلحق الخزي والعار والدمار بالنبلاء وذويهم، وليسلبهم ألقاب شرفهم وأراضيهم ومقتنياتهم ومناصبهم الكبيرة ومراتبهم الرفيعة، حتى يلحق البوار التام بخزائن المملكة وأسباب تجارتها وبحريتها وحصونها، وحتى يحط من شأن ملاّك الأراضي، ويجعل عامة الناس يرسفون فيها في قيود العبودية، ويطيح بالمسيحية وديانة الرب الصحيحة، وحتى يقوض آخر الأمر دعائم الأملاك العامة ورفاهية إنجلترا بأسرها ... إن الله برحمته السابغة، يبعث بنحاس أو إليا(25/208)
أو يهوه، عسى أن يهدئ دم عبدة الأوثان المقيت غضب الرب ولا يهلك الجمع بأسره (31)؟
ولكنه كتب بين آن وآخر، وإن كان هذا نادراً، فقرات تفيض رقة وجمالاً، وجديرة بسانت بول الذي ألهمه، مثل "رسالة إلى إخوانه في إسكوتلندة" لن ألجأ إلى أي تهديد، لأني كبير الأمل في أنكم سوف تمشون مثل أبناء الضوء، وسط هذا الجيل الخبيث، وأنكم سوف تكونون مثل النجوم في الليل، التي لا تتغير مع ذلك في الظلام، ومثل قمحة وسط صدفة ... ومن عداد الرجال المتبتلين العقلاء، وتملأون مصابيحكم بالزيت من جديد كل يوم، كأولئك الذين ينتظرون في صبر الظهور المجيد ليسوع الرب ومجيئه، وهو الذي تحكم روحه القديرة وتعلمكم وتنير قلوبكم وعقولكم في كل ما يوجه إليكم من هجوم الآن وإلى الأبد (32).
وهناك رسالة موجهة متميزة أكثر من غيرها هي أول "نفخة في البوق ضد كتيبة النساء المروعة" التي دبجت في دبيب عام 1558 ضد ما خيل لنوكس أنه وباء الحاكمات من النساء في أوربا - ماري تيودور وماري أميرة اللورين وماري ستيوارت وكاثرين دي مديتشي. وفي وسعنا أن ندرك مدى هلعه من تطبيق ماري تيودور لمبادئه، ولكن حتى إذا لم تضطهد ماري أعداءها فإن نوكس يعدها وحشاً ووصمة سياسية تنتهك القاعدة الطبيعية التي تقول إن الرجال يجب أن يحكموا الدول. وبدأ يقول "لا عجب أن نجد بين كثير من العقول الخصيبة التي أنجبتها جزيرة بريطانيا العظمى كثيراً من الوعاظ الورعين والمتحمسين بقدر ما طعمت أحياناً، ولا يوجد بين الكثيرين من علماء اللاهوت والرجال ذوي الرأي الرصين الذين نفتهم إيزابيل (ماري تيودور)، رجل مقدام شجاع ومخلص للرب ... يجرؤ على تنبيه سكان تلك الجزيرة إلى مدى ما وصلت إليه من بغض(25/209)
أمام الله، إمبراطورية أو ملك امرأة، بل خائنة وابنة سفاح، وماذا في وسع شعب أو أمة تركت مجردة من راس شرعي أن تفعل بسلطة الرب في انتخاب وتعيين حكام وقضاة للعموم ... إننا نسمع عن سفك دم إخواننا أتباع يسوع المسيح بأشد قسوة والإمبراطورية المتوحشة لامرأة قاسية، نعلم أنها وحدها سبب كل هذا الشقاء ... إن الارتقاء بامرأة لكي تنهض بحكم أو سيادة أو سلطان أو إمبراطورية تفوق أي مملكة أو أمة أو مدينة أمر يخالف الطبيعة ويعد إهانة للرب، ومتناقضاً لإرادته التي جلاها وشريعته المسلّم بها، وأخيراً فإنه تقويض لدعائم نظام وطيد، ولكل إنصاف وعدل، مَن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن تعيين الأعمى لقيادة المبصرين وتوجيههم إنما يتناقض مع الطبيعة؟ ومَن ذا الذي يقول إن الضعفاء والمرضى والعاجزين يطعمون الأقوياء جميعاً؟ وأخيراً مَن يقول أن الحمقى والمجانين والمخبولين يحكمون العقلاء ويقدمون المشورة لأصحاب العقول الرصينة؟ وهكذا كل النساء إذا قورن بالرجال في احتمال السلطة ... فالمرأة في أكمل صورة خلقت لتخدم الرجل وتطيعه لا لتحكمه وتأمره (33).
واستشهد نوكس بوثيقة لا جدال فيها من الكتاب المقدس لكي يثبت هذا، ولكنه عندما تغلغل في أعماق التاريخ، وبحث عن أمثلة لدول هدمتها نساء حكمتها، اختلط عليه الأمر تماماً، لأنه وجد أن التاريخ سجل أنهن أفضل بكثير من الملوك. ومع ذلك فإنه ختم رسالته بلعنة الواثق من حكمه:
إن إيزابل اللعينة ملكة إنجلترا هي وجيل البابويين المقيت المؤذي كالوباء لا يألون جهداً في الزهو والتفاخر بأنهم لم ينتصروا على ويات فحسب، بل انتصروا أيضاً على كل مَن دبر شيئاً ضدهم ... وأنا لا أخشى أن أقول إن يوم الإنتقام، الذي سوف يقبض فيه على ذلك المسخ(25/210)
الفظيع جيزيل ملكة إنجلترا ... فقد تحدد في مجلس الحي الباقي ... وليعلم هذا الناس جميعاً لأن البوق قد نفخ فيه (34).
وأخذ نوكس مخطوطة كتابه "نفخة" إلى جنيف وطبعها سراً ولك يضع عليه اسمه، وأرسل نسخاً منه إلى إنجلترا، فحرمت ماري تداول الكتاب باعتباره تحريضاً على الثورة، وجعلت حيازته جريمة يعاقب عليها بالإعدام.
وعاود نوكس الهجوم في رسالة بعنوان: "نداء إلى نبلاء إسكوتلندة وطبقات سكانها (يوليو سنة 1558) ".
لا أحد ممن يحرضون الناس على عبادة الأوثان (1) ينبغي أن يعفى من عقوبة الإعدام ... ويجب تطبيق الحكم نفسه في مكان يؤمن بيسوع المسيح وإنجيله ... اللذين اعترف بهما الحكام والناس في خشوع، ووعدوا بالدفاع عنهما، كما حدث في عهد الملك إدوارد في الأيام الأخير بإنجلترا. وفي مثل هذا المكان أقول إن عقوبة الإعدام ليست مشروعة على مَن يعمل على تقويض دعائم الدين فحسب، بل إن الحكام والناس ملتزمون بأن ينتهجوا هذا السبيل، إلا إذا أرادوا أن يثيروا غضب الله عليهم ... وأنا لا أخشى أن أؤكد أن واجب النبلاء والقضاة والحكام والشعب في إنجلترا كان لا يقتضي منهم أن يقاوموا ماري، تلك الإيزابل، ويعارضوها فحسب ... بل عليهم أن يقتصوا منها بإعدامها (36).
وحث نوكس شعب إسكوتلندة على تطبيق هذا الرأي الخاص بالثورة الشرعية على ماري أميرة اللورين. وشكا من أن الوصية على العرش قد أحاطت نفسها بحاشية فرنسية وجنود فرنسيين ليأكلوا مدخرات الإسكوتلنديين: بينما يؤتى بالأغراض لسحقنا نحن وخيرنا العام وذريتنا.
_________
(1) كتب نوكس عام 1560: "إننا نقصد بعبادة الأوثان القداس والتوسل بالقديسين وعبادة الصور واستيفاءها والاحتفاظ بها وكل عبادة للرب لا يحويها كتابه المقدس (35").(25/211)
وبينما يحافظ على عبادة الأوثان ويستخف بالدين الصحيح ليسوع المسيح، وبينما ذوو الكروش والطغاة الدمويون الأساقفة يبقون، ويضطهد رسل المسيح الصادقون، وأخيراً بينما تحتقر الفضيلة وتمجد الرذيلة. فأي رجل ورع يمكن أن يساء إليه لأننا سوف ننشد تقويم هذه الأعمال الفاضحة (نعم، حتى لو اقتضى الأمر الالتجاء إلى قوة السلاح، إذا رأينا أنه لن يتيسر لنا بخلاف ذلك) ... إن العقوبة على ارتكاب جرائم مثل عبادة الأوثان والكفر وغيرهما، التي تمس الله سبحانه وتعالى، لا يختص بها الملوك وكبار فحسب، بل تخص بها أيضاً الهيئة الكاملة لذلك الشعب، وتخص كل عضو في الهيئة، طبقاً لما يتيحه الله من إمكان وفرصة للانتقام من الضرر الذي لحق بمجده (37).
وهنا نجد مزيجاً غريباً من الثورة والرجعية في بيانات نوكس. وكان لابد أن يتفق معه في تبرير قتل الطغاة من آن لآخر كثير من المفكرين ومنهم هوجينوت فرنسيون مثل هوتمان ويسوعيون مثل ماريانا. ومع ذلك فإن اقتناعه، بأن هؤلاء الذين كانوا واثقين من لاهوتهم يجب أن يسحقوا - وإذا اقتضى الأمر يقتلوا - خصومهم، رجع فيه إلى أكثر ممارسات محكمة التفتيش شؤماً. واعتبر نوكس أن الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية لا يزال ساري المفعول وفسره حرفياً، وكل هرطيق يجب أن يعدم، والمُدن التي تغلب عليها الهرطقة يجب أن يقتص منها بالسيف وتدمر تماماً، ويقضى على ما فيها من ماشية، وكل بيت فيها يجب أن يحرق حتى ينهدم. ويعترف نوكس أن هذه الأوامر الخالية من الرحمة أفزعته في بعض الأحيان: قد يبدو هذا الحكم حتى للرجل المادي صارماً وقاسياً، أجل، وقد يبدو وكأنه صدر عن غضب لا عن تعقل ... وأي مدينة ... لا يوجد فيها أبرياء مثل الرضع والأطفال وبعض السذج والجهال لا يقترفون الكفر أو يستسلمون له؟ ومع ذلك فإننا لا نجد استثناء بل إن الجميع مكتوب عليهم الموت القاسي. بيد أنه في مثل هذه الأحوال أرادت مشيئة الله أن تنحني جميع المخلوقات وتغطى وجوهها، وتكف عن التفكير المنطقي، إذا كان هناك أمر منه تعالى بتنفيذ إرادته (38).(25/212)
وعلينا ألا نحاكم نوكس بمقاييسنا الراهنة عن التسامح، فقد أعرب بإصرار شديد عن الروح العامة لعصره تقريباً.
وكانت السنوات التي قضاها في جنيف، حيث كان سرفينوس قد أحرق لتوه، قد أكدت نزعته نحو الالتزام بالحرفية الصارمة واليقين الذي يصل إلى درجة الغرور. ولو أنه قرأ ما احتج به كاستليو لتبرير التسامح لطابت نفسه على الأرجح برد بيز عليه. ومع ذلك فإن رجلاً مغموراً ممن ينكرون وجوب التعميد كتب في تلك السنوات نفسها نقداً للكالفينية بعنوان: "مهمل بالضرورة" وأرسله البروتستانت الإسكوتلنديون إلى نوكس ليرد عليه رداً مفحماً، وكأنما كان صوت العقل يهمس لحظة وسط حرب العقائد. وتساءل المؤلف كيف جاز للكالفينيين بعد أن عرفوا مفهوم المسيح عن أب محب، أن يؤمنوا بأن الله قد خلق بشراً كتب عليهم، وشاء لهم اللعنة الأبدية. وقال المنكر لوجوب التعميد أن الله قد وهب الناس ميلاً طبيعياً لأن يحبوا ذريتهم، فإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فكيف يكون الله أقسى من الإنسان؟ واستطرد المؤلف قائلاً إن الكالفينيين قد أتوا من الشرق أكثر مما أتى به الملحدون "لأن الذين يؤمنون بأن الله ليس جائراً وقاسياً وظالماً أقل قذفاً في حق الله ممن يقولون بأنه كذلك" ورد نوكس "أن هناك أسراراً تخفى على العقل البشري، ولسوف تحطم كبرياء أولئك الذين لا يقنعون بإرادة الله التي تتجلى، ويسرهم أن يصعدوا ويحلقوا فوق السماوات ليتساءلوا عن إرادة الله الخفية". وكتب يقول في موضع آخر "والطبيعة والعقل إنما يضلان الناس عن الله الحق. وأي وقاحة أن يفضل المرء الطبيعة الفاسدة والعقل الأعمى على كتب الله المقدسة (39)؟ ".
ولم يقتنع نوكس بقوة الاستدلال واعتقد في قرارة نفسه أنه مخلص لروح المسيح، فأرسل عام 1559، عندما كانت تحكم إنجلترا ملكة بروتستانتية، إلى شعبها رسالة بعنوان: "عظة موجزة" ينصحه فيها بأن يكفر عما قامت(25/213)
به ماري من اضطهاد يجعل العقيدة الكالفينية ونظامها الأخلاقي إجباريين في سائر البلاد، ورفضت إنجلترا العمل بالنصيحة. وعاد نوكس في ذلك العام إلى إسكوتلندة ليشرف على إيديولوجية ثورتها.
4 - جماعة أتباع يسوع المسيح
1557 - 1560
لقد امتزجت دعواته للإسكوتلنديين إلى الإطاحة بنير الخضوع لروما بتعاليم المصلحين الدينيين الآخرين وتدفق البروتستانت من إنجلترا وتسلل الأناجيل والنشرات من إنجلترا إلى القارة الأوربية، وتعطش النبلاء الإسكوتلنديين للأرض وإبعادهم الموغر للصدور على يد الفرنسيين الذين يضعون المساحيق على وجوههم من رجال الحاشية، فعملت على رفع درجة حرارة الثورة إلى نقطة الانفجار. واحتمل سكان أدنبرة، الكاثوليك المتمسكون بعقيدتهم عام 1543 بطريق مباشر وباستياء شديد تدفق الغاليين المتغطرسين أثناء وصاية ماري أمير اللورين على العرش. وحدث كل شيء يحيل حياة الدخلاء بؤساً وشقاء. واشتد الإحساس بالذات في كلا الجانبين، ولما كان رجال الأكليروس قد أيدوا الفرنسيين فإن روح القومية رددت نعمات عالية مناهضة للكاثوليكية وسارت مواكب دينية - حملت فيها تماثيل للعذراء والقديسين عبدت فيما يبدو، وعرضت مخلفات وقبلت باحترام - فأثارت المزيد من السخرية والشك.
وفي سبتمبر عام 1557 استولت جماعة من المتشككين المتحمسين على تمثال لسانت جيلس في "الكنيسة الأم" التي تحمل هذا الاسم في أدنبرة وغمروها في بركة، وأحرقوها فيما بعد حتى تحولت إلى رماد. ويروي نوكس أن هجمات مماثلة استهدفت تحطيم الأصنام حدثت في كل أرجاء البلاد.
وفي الثالث من ديسمبر عام 1557 اجتمعت في أدنبرة (التي كانت قد أصبحت عاصمة للبلاد عام 1542) "عصبة مشتركة" من النبلاء المناهضين(25/214)
لرجال الدين أرجيل وجلنكرن ومورتون ولورن وارسكين - ووقعوا "أول ميثاق إسكوتلندي" وأطلقوا على أنفسهم: "لوردات جماعة المصلين ليسوع المسيح" لتعارض "جماعة المصلين للشيطان" - أي الكنيسة، وتعهدوا بالمحافظة على "كلمة الله المباركة أكثر من أي شيء"، ودعوا إلى "إصلاح في الدين والحكومة، وطلبوا من الوصية على العرش الحرية التي تبيح لنا أن نمارس أمور الدين والضمير كما ينبغي استجابة لأمر الله". وصمموا على إنشاء كنائس تأخذ بأسباب الإصلاح الديني في سائر إسكوتلندة، وأعلنوا أن كتاب الصلاة العامة الذي كتب لإنجلترا في عهد إدوارد السادس يجب أن تعمل به كل جماعات المصلين. واحتج الأساقفة البروتستانت على هذا الانشقاق الجريء وحثوا رئيس الأساقفة هاميلتون على قمعه. فأمر في شيء من التبرم (28 أبريل سنة 1558) - بإحراق والتر ميلن - وهو قسيس عجوز كان قد تجرد من ملابس الكهنوت وتزوج واعتاد أن يبشر بعقيدة الآخذين بالإصلاح الديني بين الفقراء، وكان الناس يكنون احتراماً عظيماً للرجل العجوز فأعربوا عن فزعهم لهذا الإحراق الأخير لبروتستانتي إسكوتلندي بتهمة الهرطقة، وقاموا ببناء هرمي الشكل من الأحجار فوق الموضع الذي مات فيه. وعندما استدعي واعظ آخر للمحاكمة امتشق المدافعون عنه السلاح، واقتحموا طريقهم إلى حضرة الوصية، وانذروها أنهم لن يسمحوا بمزيد من الاضطهاد من أجل العقيدة الدينية وأنذر لوردات جماعة المصلين الوصية (نوفمبر سنة 1558) أنها ما لم تمنح الناس حرية العبادة فإنهم لن يكونوا مسئولين "إذا حدث أن قومت المظالم بالعنف (40) وأرسلوا في ذلك الشهر رسالة إلى نوكس بأنهم سوف يحمونه إذا عاد.
وتمهل في العودة ولكنه وصل إلى أدنبرة في اليوم الثاني من مايو سنة 1559. وقدم يوم 3 مايو في برث العظة التي أطلقت الثورة من عقالها، ويقول لنا إنها كانت عظة "عنيفة ضد عبادة الأوثان" وقد فسرت "ما في(25/215)
القداس من عبادة للأوثان وما فيه من أمور بغيضة" و"الوصية التي أمر بها الله بتدمير الأنصاب لهذا السبب (41) ". وخرج "الجمع الأثيم" كما يصفه عن الطاعة، وعندما حاول قس في كنيسة مجاورة أن يقيم قداسا صاح أحد الشبان: "إن هذا لا يطاق لأنه في الوقت الذي لعن فيه الرب عبادة الأوثان صراحة في كتابه، فإننا نقف لنراها تعبد على الرغم من ذلك" وجاء في رواية لنوكس أن القسيس وجه للصبي ضربة شديدة، فتناول في غمرة غضبه حجراً وقذف به القسيس وأصاب قدس الأقداس، وحطم أحد التماثيل، وما لبث أن قذف الجمع كله المحتشد حوله الأحجار وأعملوا أيديهم في قدس الأقداس المزعوم وفي سائر آثار عبادة الأوثان (42). وتدفق الجمهور إلى ثلاثة أديار ونهبوها وحطموا التماثيل، ولكنهم سمحوا للاخوة الرهبان أن يأخذوا معهم ما تستطيع أكتافهم أن تتحمله. وما هي إلا يومان أو ثلاثة حتى كانت هذه المواضع الثلاثة الكبيرة ... قد دمرت ولم يبقَ منها قائماً سوى الجدران (43).
وكانت الوصية على العرش بين نارين، ونصحها أخوها كاردينال اللورين أن تسير على نهج ماري تيودور، وأن تقضي على كبار البروتستانت، وكان الثوار المنتصرون في برث وحولها في غضون ذلك يهددون بقتل أي قسيس يجرؤ على إقامة القداس (44). وفي 22 مايو أرسل لها لوردات جماعة المصلين، وكان يظاهرهم وقتذاك أتباعهم المسلحون، إنذاراً نهائياً مشئوماً:
"إلى عظمة الوصية على المملكة، بعد تقديم كل فروض الاحترام والخضوع، بما أننا حتى الآن قد خدمنا السلطة في اسكوتلندى، هي وعظمتكم، بالمخاطرة بأرواحنا وبقلوب راضية ... فإننا الآن والأسى يملأ جوانحنا مكرهون، تحت وطأة استبداد ظالم يدبر لنا، أن نعلن لعظمتكم أنه ما لم تتوقف هذه القسوة بفضل حكمتكم، فإننا سوف نكون مضطرين إلى امتشاق الحسام للدفاع العادل في وجه كل مَن يطاردوننا في سبيل الدين ... إن جريمة القتل القاسية الظالمة التي بلغت أقصى درجات الاستبداد والموجهة إلى المُدن(25/216)
والجماهير، كانت ولا تزال السبب الوحيد لتمردنا على خضوعنا التقليدي، الذي نعد بإخلاص أمام الله أن نقدمه لمولاتنا (ماري ملكة الإسكوتلنديين) ولزوجها ولعظمتكم، بشرط أن تنعم ضمائرنا بالطمأنينة والحرية اللتين اشتراهما لنا بدمه يسوع المسيح ... رعايا عظمتكم الخاضعون لكم في جميع الأمور التي لا تغضب الرب - جماعة المصلين المخلصين ليسوع المسيح في إسكوتلندة (45) ".
وفي الوقت نفسه بعثت جماعة المصلين نداء إلى النبلاء بتأييد الثورة وخطاباً مفتوحاً حذروا فيه "جيل المناهضين للمسيح والأساقفة المؤذين كالوباء ورهبانهم ... إذا مضيتم في قسوتكم الحاقدة فإنكم سوف تعاملون، أينما يقبض عليكم كقتلة وأعداء للرب صراحة. ولن يبرم معكم عقد صلح قط إلا إذا انقطعتم عن عبادتكم الصريحة للأوثان واضطهادكم القاسي لأبناء الرب (46) ".
ودخلت الوصية ماري مدينة برث بقدر ما استطاعت أن تحشد من كتائب الجند، ولكن أنصار جماعة المصلين تجمعوا صفاً مسلحاً، وأدركت ماري أنها لن تستطيع أن تتغلب عليهم، فوقعت معهم هدنة (29 مايو سنة 1559) وانسحب نوكس إلى سانت أندروز، ولم يعبأ بنواهي كبير الأساقفة، فوعظ في كنيسة الأبرشية ضد عبادة الأوثان (11 - 14 يونيه). وتأثر مستمعوه بحرارة عباراته فأزالوا كل أثر ينم عن عبادة الأوثان، عن كنائس المدينة وأحرقوا هذه التماثيل أمام عيني رجال الدين الكاثوليك (47). وهرب كبير الأساقفة إلى برث، ولكن قوات جماعة المصلين ادعت أن ماري قد خرقت نصوص الهدنة باستخدام الأموال الفرنسية في دفع رواتب جنودها الإسكوتلنديين، وهاجمت القلعة، واستولت عليها (25 يونيه). وفي الثامن والعشرين نهبت دير سكون وأحرقته.
وإذا جاز لنا أن نصدق أحياناً ما يقوله نوكس المعروف برحابة خياله فإن "ربة بيت" فقيرة طاعنة في السن قالت وهي ترى ألسنة اللهب المتصاعدة:(25/217)
"الآن أرى وأدرك أن أحكام الرب عادلة، فإن هذا المكان بقدر ما تسعفني الذاكرة لم يكن إلا وكراً للقوادين. إنه لأمر لا يصدق ... كم من زوجة زنى بها، وكم من عذراء أفتض بكارتها الوحوش الدنسة، التي كانت تحتضن هذا الوكر، وبخاصة ذلك الرجل الخبيث، الأسقف (48).
وكانت ماري أميرة اللورين وقتذاك مصابة بمرض خطير، تتوقع وفاتها في أية لحظة، فهربت إلى ليث وحاولت أن تؤخر تقدم البروتستانت المنتصرين بالمفاوضات إلى أن يصل إليها العون من فرنسا. واكن جماعة المصلين تفوقت عليها بالمباراة، وذلك بالفوز بتأييد إليزابث ملكة إنجلترا. وكتب نوكس إلى الملكة خطاباً يؤكد لها فيه أنه لم يتعرض لها في رسالته "نفخة البوق" ضد الملكات. ونصح وليام سيسل الوزير الأول ملكته إليزابث بأن تساعد الثورة الإسكوتلندية كإجراء يحقق اعتماد إسكوتلندة على إنجلترا سياسياً. وأدركت أن هذا إجراء وقائي مشروع ضد ماري ستيوارت، التي كانت قد طالبت، عندما أصبحت ملكة فرنسا (1559) بعرش إنجلترا أيضاً، على أساس أن إليزابث ابنة سفاح مغتصبة للعرش. وسرعان ما أغلق أسطول إنجليزي في مضيق فورث الطريق أمام نزول أي مساعدة فرنسية للوصية على العرش إلى البر، وانضم جيش إنكليزي إلى قوات جماعة المصلين في مهاجمة ليث. وانسحبت ماري أميرة اللورين إلى قلعة ادنبرة، وماتت (10 يونيه سنة 1560) بعد أن قبلت حاشيتها واحداً واحداً. لقد كانت امرأة طيبة قدر عليها أن تقوم بالدور الخطأ في مأساة لا فكاك منها.
واستسلم آخر المدافعين عنها، بعد أن سدت في وجوههم السبل وأوشكوا على الموت جوعاً. وفي السادس من يوليو سنة 1560 وقع ممثلو جماعة المصلين وماري ستيوارت وفرنسا وإنجلترا معاهدة أدنبرة التي(25/218)
قدر لموادها أن تكون من صميم أسباب الصراع الأخير بين ماري وإليزابث ... وكان على كل الجنود الأجانب ما عدا 120 فرنسياً مغادرة إسكوتلندة. وكفت ماري ستيوارت وفرانسيس الثاني عن مطالبتهما بالتاج الإنجليزي، واعترف بماري ملكة على إسكوتلندة، ولكن حظر عليها أن تشن حرباً أو تعقد صلحاً بدون موافقة أمراء الإقطاع، وكان على هؤلاء أن يختاروا خمسة رجال أو أثنى عشر رجلاً للتعيين في مجلسها الخاص، ولا يجوز أن يشغل أجنبي أو رجل من رجال الأكليروس منصباً رفيعاً، ولابد من إعلان عفو عام، مع إستثناءات يعينها أمراء الإقطاع. كانت معاهدة صلح مهينة للملكة الغائبة، وانتصاراً مبيناً لجماعة المصلين لم تكد تسفك فيه دماء.
وقبل المجلس النيابي، الذي اجتمع في أول أغسطس سنة 1560 اعترافاً بالعقيدة أعده نوكس ومعاونوه وخفف من غلواء بعض نصوصه ميتلاند ليشنجتون ولم يصوت ضده إلا ثمانية أعضاء. ولما كان لا يزال العقيدة الرسمية لكنيسة إسكوتلندة المشيخية نرى لزاماً علينا أن نسجل بعض مواده الأساسية تذكيراً بها:
1 - نعترف ونقر بوجود إله واحد أحد ... في ثالوث.
2 - نعترف ونقر أن إلهنا هذا قد خلق بشراً ندرك أنه أبونا الأول آدم - خلق منه الله امرأة على صورته ... حتى لا نلاحظ أي نقص في طبيعة الإنسان الكاملة، ومن هذا الشرف والكمال سقط الرجل والمرأة معاً.
فالمرأة خدعتها الحية والرجل أصغى لصوت المرأة.
3 - وبهذه الزلة، التي يطلق عليها عادة اسم الخطيئة الأولى دنست صورة الرب تماماً في الإنسان، وأصبح هو وذريته من الطبيعة أعداء للرب، عبيداً للشيطان وخدماً للخطيئة، ومادام ذلك الموت كانت له، وسوف تكون له دائماً، قوة وسلطان، على كل مَن لم يولد أو ولد(25/219)
أو سوف يولد من أعلى، وهذا الميلاد من جديد يتم على يد الروح القدس، وهو يعمل في أفئدة أصفياء الرب فتمتلئ إيماناً لا يتزعزع بوعد الرب. وبهذا الإيمان يدركون يسوع المسيح.
8 - وذلك الرب والأب البار نفسه ... برحمته وحدها اختارنا في يسوع المسيح ... قبل خلق العالم ...
16 - إننا نؤمن بإخلاص شديد، بأنه كانت منذ البداية، ولا تزال، وسوف تكون إلى نهاية العالم، كنيسة أي صحبة وجماعة من الناس اختارهم الله، لكي يعبدوه بحق، ويحتضنوه بالإيمان الصحيح بيسوع المسيح ... وخارج هذه الكنيسة لا توجد حياة ولا نعيم أبدي. ومن ثم فإننا نمقت بشدة كفر مَن يؤكدون أن الناس يعيشون، وهم يراعون الإنصاف والعدل سوف يظفرون بالخلاص أياً كان الدين الذي يعتنقونه.
21 - نحن لا نقر إلا اثنتين من المقدسات: التعميد والعشاء الرباني ... لا لأننا نتصور تحول الخبز إلى جسد الرب الطبيعي ... ولكننا نؤمن بأن صنيع الروح القدس إنما يعني أن المؤمنين بالاستخدام الصحيح لمائدة الرب يأكلون جسد السيد يسوع ويشربون دمه.
24 - نعترف ونقر بأن الإمبراطوريات والممالك والمستعمرات والمُدن أقيمت بفضل الله ... في الغالب وبصفة رئيسية للملوك والأمراء والحكام، وذلك من أجل الحفاظ على كل ما يتصل بالدين وتطهيره، ولهذا فإنهم لا يعينون من أجل السياسة المدنية وحدها، ولكن من أجل المحافظة على الدين الصحيح ومنع عبادة الأوثان والخرافة أياً كانت أيضاً (49).
وترتب على هذا الاعتراف أن المجلس النيابي الإسكوتلندي الآخذ بأسباب الإصلاح الديني رفض التسليم بالسلطة القضائية للبابا، وجعل العقيدة والشعيرة اللتين تبناهما الإصلاح الديني إجباريين، ومنع إقامة القداس وإلا تعرض مَن يقيمه للعقوبة البدنية ومصادرة أمواله عند ارتكاب أول جريمة، والنفي(25/220)
عند ارتكابه لها للمرة الثانية، والإعدام إذا ارتكبها مرة ثالثة. ولكن لما كان النبلاء الذين يتحكمون في المجلس النيابي يريدون الأرض أكثر مما يريدون سفك الدماء، وبما أنهم لم يتبعوا اللاهوت الكالفيني حرفياً فإن مطاردة هؤلاء الإسكوتلنديين الذين ظلوا كثالكة، بقي معتدلاً نسبياً، ولم يصل قط إلى توقيع عقوبة بدنية. وبعد أن سمح للنبلاء برفض الاعتراف بالمطهر باعتباره أسطورة، ادعوا أنهم غبنوا في جانب من ذمتهم المالية بالهبات التي قدمها أجدادهم من الأرض أو المال لدفع أتعاب لقساوسة يرتلون قداسات من أجل الموتى، الذين قدر عليهم طبقاً للاهوت الجديد، الخلاص أو اللعنة قبل خلق العالم، ولهذا فإنه يمكن التعبير في بهجة عن نزع ملكية الكنيسة بأنه استرداد للأموال المختلسة، وأغلقت معظم الأديار الإسكوتلندية، واستولى النبلاء على ثروتها ولم تدبر الحكومة في مبدأ الأمر أي مورد للقساوسة الكالفينيين، وكان هؤلاء قد استخدموا كمعاونين إيدولوجيين في الثورة، ولكن النبلاء كانوا قد فقدوا وقتذاك الاهتمام باللاهوت. وكان نوكس ورفقاؤه من الوعاظ الذين خاطروا وضحوا بالكثير من أجل النظام الجديد قد توقعوا، أن تستخدم أملاك الكنيسة في مساندة الكنيسة الإسكوتلندية ورجال الأكليروس بها. والتمسوا من المجلس النيابي إقرار هذا التدبير فلم يتلقوا جواباً، ولكن خصص لهم في آخر الأمر سدس الأسلاب. ووجد أن هذا يقصر عن تحقيق مطالبهم فانقلبوا ضد الأرستقراطية النهمة وبدأ الحلف التاريخي بين أتباع الكنيسة المشيخية الإسكوتلندية والديمقراطية.
وتفردت حركة الإصلاح الديني الإسكوتلندي بين حركات الإصلاح الديني جميعاً بأنه لم يسفك فيها إلا أقل قدر من الدماء، وكانت مع ذلك أبقاها، وقاسى الكثالكة في صمت، وهرب أساقفتهم وقبل معظم قساوسة الأبرشيات التغيير باعتباره ليس أسوأ من ظلم الأساقفة وزياراتهم التفتيشية.(25/221)
وفقدت المناطق الريفية مفارق طرقها الجانبية، وهجرت مزاراتها القديمة، التي كان الحجاج يشدون إليها الرحال، ولم يعد القديسون يهيئون للناس عطلات يرتاحون فيها. وليس من شك في أن نفوساً كثيرة قد حزنت على الماضي وبالغت في مثاليته. وليس من شك أيضاً في أن كثيرين أخذوا يترقبون، والأمل يراودهم، مجيء ملكتهم الشابة من فرنسا.
ولقد ضاع الكثير مما كان يشيع المرح والجمال في الحياة. والكثير مما كان وحشياً وقاسياً وخداعاً، ولسوف تحدث أمور كثيرة جافة كئيبة، ومع ذلك لم يكن هناك بد من التغيير.
وخفت وطأة تبادل التهم وهيأ الناس أنفسهم، لتقبل النظام الجديد، وأصبح التقاء مواقف ما يشبه العقيدة بالصفوف المشايعة للملكية، والتي يقترب بعضها من بعض، بعد نعمة كبرى، لأنه سيضع حداً للحروب المريرة بين الإسكوتلنديين والإنجليز، وسرعان ما تمنح الأمة الأضعف البلد الأقوى ملكاً. وبريطانيا ستصبح مملكة واحدة.(25/222)
الفصل الثامن والعشرون
هجرات الإصلاح الديني
1517 - 1560
1 - المشهد الإسكنديناوي
(1470 - 1523)
ما أن حل عام 1500 حتى كانت تقوى الناس قد جعلت الكنيسة تسيطر على اقتصاد إسكنديناوة. وكانت الكنيسة تملك نصف الأرض في الدنمرك، وكان يفلحها مستأجرون في منزلة تقرب من الرق (1). وكانت كوبن هاجن نفسها إقطاعية للكنيسة، ورجال الأكليروس والنبلاء يتمتعون بالإعفاء من ضرائب الأرض. أما النبلاء فلأنهم اشتركوا في الحرب على نفقتهم الخاصة، وأما رجال الأكليروس فلأنهم نظموا العبادة والأخلاق والتعليم والبر.
وكانت الجامعات في كوبنهاجن وأبسالا بالطبع في أيدي رجال الكنيسة، وكانت الكنيسة تتقاضى سنوياً عشر كل ناتج أو دخل يُحَصَّل خارج مجال الكنيسة، وتقاضت رسماً صغيراً على كل بناء يقام وكل طفل يولد وكل اثنين يتزوجان وكل جثة تدفن، وطالبت بالتبرع بيوم عمل في السنة من كل فلاح. ولم يكن في وسع أحد أن يرث عقاراً، دون أن يقدم عنه حصة للكنيسة، باعتبارها محكمة إشهاد للتثبيت من صحة الوصايا (2). وكان يدافع عن هذه الضرائب بأنها تمول الخدمة الكهنوتية في الكنيسة، ولكن الشكاوى ارتفعت بأن الكثير من متحصلات المعاملات التجارية ذهبت لكي يعيش الأساقفة في أبهة ملكية. وأزعج تجار الدنمرك السيادة الهنزية في بحري الشمال والبلطيق، فتميزوا غيظاً من المنافسة الإضافية للنبلاء ورجال الأكليروس، الذين كانوا يصدرون فائض إنتاج ضياعهم في سفنهم الخاصة غالباً. وفي(25/223)
إسكنديناوة كما في غيرها من البلاد، تطلع النبلاء في شوق إلى أراضي الكنيسة. ولقد حدث هناك، كما حدث في كل موضع آخر صراع بين القومية، وبين الكنيسة التي تسمو على كل قومية، وأيدت الكنيسة في كل البلاد الثلاث اتحاد كلمار الإسكنديناوي، الذي كان كريستيان الأول ملك الدنمرك قد جدده (1457). ولكن حزباً قومياً يتألف من سكان المُدن والفلاحين رفض الاعتراف بالاتحاد، باعتباره في الحقيقة سيادة دنمركية، ونادوا بستن ستور الأصغر نائب ملك يحكم أمة مستقلة (1512). ودافع رئيس الأساقفة جوستاف ترول من أبسالا - وكانت وقتذاك عاصمة للسويد - عن الاتحاد، فأقاله ستن ستور الصغير وأمر البابا ليو العاشر بإعادته إلى وظيفته فرفض ستور. وحرم ليو تقديم الخدمات الدينية في السويد وفوض كريستيان الثاني ملك الدنمرك في غزو السويد ومعاقبة نائب الملك، وفشلت أول محاولة لكريستيان، واضطر إلى توقيع هدنة، ولكنه حمل معه عند العودة إلى كوبنهاجن عدة رهائن كضمان لالتزام السويديين بنصوص الهدنة، وكان جوستاف فازا أحد هذه الرهائن. وظفر كريستيان في حملة ثانية بنصر حاسم، ومات ستور متأثراً بالجروح، التي أصيب بها في المعركة. وأعدت أرملته على عجل جيشاً احتفظ بستكهولم لمدة خمسة شهور أمام حصار دنمركي، وأخيراً سلمت مقابل وعد قدمه قائد كريستيان بالحصول على عفو عام. وفي 4 نوفمبر توج كريستيان ملكاً على السويد على يد ترول الظافر الذي أعيد إلى وظيفته.
وفي السابع من نوفمبر استدعى كبار السويديين الذين أيدوا ستور للمثول أمام الملك في قلعة ستوكهولم. واتهمهم ممثل لترول بارتكاب جرائم عظمى بخلعهم كبير الأساقفة وتدمير قلعته، وطالب الملك بالانتقام منهم لهذه الأخطاء. وعلى الرغم من العفو العام الذي صدر فقد حكم على سبعين من كبار السويديين بالإعدام. وقطعت رؤوسهم في الثامن من نوفمبر في الميدان(25/224)
الكبير، وقبض على آخرين عديدين في التاسع من نوفمبر وأعدموا، وأضيف إلى مَن قتلوا في هذه المذبحة بعض المشاهدين الذين أعربوا عن تعاطفهم مع المحكوم عليهم، وصودرت أملاك الموتى لصالح الملك، وصرخ كل السويديين من الرعب، وقال الناس إن اتحاد كالمار أغرق في "حمّام الدم بستوكهولم" وانحطت مكانة الكنيسة كثيراً في نظر الجماهير لأنها بدأت المذبحة. وقد رأى كريستيان أن يجعل حكمه آمناً بالقضاء على عقول الحزب القومي. والحق أنه مهد طريق العرش للرهينة الشاب الذي قدر له أن يحرر السويد.
واسمه جوستافوس أركسون، ولكن ذريته أطلقوا عليه اسم فازا، وهو مشتق من كلمة vasa السويدية و fascis. اللاتينية ومعناها حزمة من العصى ظهرت في شعار أسرته. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره أرسل ليدرس في أبسالا، وعندما بلغ العشرين من عمره استدعي لبلاط ستور الصغير الذي تزوج أختاً غير شقيقة لجوستافوس من أمه، وهناك تلقى مزيداً من التعليم على يد رئيس الوزراء، الأسقف همينج جاد، وفي عام 1519 فر من المراقبة في الدنمرك واتخذ طريقه إلى لوبك، وأقنع أعضاء مجلس الشيوخ فيها (وكانوا في عداء دائم للدنمرك)، أن يقرضوه مالاً ويعيروه سفينة، وعاد إلى شواطئ بلاده (31 مايو سنة 1520)، وأخذ يضرب على غير هدى وهو متنكر أربعة شهور أو كان يختبئ في قرى مغمورة. وفي نوفمبر وصلت الأنباء إليه بأن ما يقرب من مائة من الوطنيين المخلصين، ومنهم أبوه، قتلوا في ستوكهولم، فامتطى صهوة أسرع جواد استطاع العثور عليه، وركب شمالاً إلى موطنه مقاطعة داليكارليا، وصمم على أن ينضم هناك من ملاّك الأراضي الجسورين طلائع جيش يمكن أن يحرر السويديين من الدنمركيين.
وكانت حياته وقتذاك ملحمة جديرة بأن يتغنى بها هوميروس. فقد مضى(25/225)
يسير في طرقات ثلجية، والتمس الراحة في بيت زميل سابق له في المدرسة. وقدم له هذا الصديق واجبات الضيافة ثم انطلق ليخطر الشرطة الموالية للدنمركيين أن الرهينة الهاربة يمكن القبض عليها وقتذاك، غير أن الزوجة أنذرت جوستافوس ليلوذ بالفرار. وبعد أن قطع راكباً عشرين ميلاً وجد ملجأ لدى قسيس أخفاه أسبوعاً. وسافر بعد ذلك ثلاثين ميلاً وحاول أن يحرض مدينة راتفيك على الثورة بيد أن أهلها لم يكونوا قد سمعوا بعد بقصة حمام الدم ولم يصدقوها. فركب فازا وسار في مروج متجمدة خمسة وعشرين ميلاً شمالاً إلى مورا، وتوسل مرة أخرى للفلاحين أن يقوموا بثورة، بيد أنهم أصغوا إليه متشككين في تبلد. ووجد نفسه منبوذاً وتملكه اليأس لحظة، فاستدار بفرسه نحو الغرب، وتخلى عن البحث عن ملجأ في النرويج. وقبل أن يصل إلى الحدود أدركه رسول من مورا، ورجاه أن يعود، وتعهد له بأنه سوف يجد وقتذاك أذناً صاغية بروح تفيض حماسة مثل روحه. فقد سمع الفلاحون أخيراً بأنباء الرعب في ستوكهولم، وعلاوة على هذا انتشرت شائعة بان الملك كان يفكر في القيام برحلة يخترق فيها السويد، وأنه أمر بإقامة المشانق في كل مدينة كبرى. وتقرر فرض مكوس جديدة على شعب كان يكافح من أجل الحياة أمام جشع السادة واستبداد المبادئ الأساسية. وعندما خاطب جوستافوس المواطنين في مورا مرة أخرى أعطوه حرساً مكوناً من ستة عشر من سكان المناطق الجبلية، وأقسموا أن يسلحوا أنفسهم، وينظموا صفوفهم، ويسيروا وراءه حيثما يقودهم لمقاتلة الدنمركيين.
ولم يعرفوا وقتها سوى الأقواس والسهام وفئوس الحرب، وعلمهم فازا كيف يصنعون الرماح والحراب برؤوس من حديد. ودربهم بكل حمية يطويها بين جوانحه شاب يحفزه حب الوطن والسلطة، وبهذه الحماسة استولوا على فستيريس ثن ابسالا، وفر كبير الأساقفة ترول مرة أخرى، وكسب الجيش النامي في صبر وتصميم مقاطعة إثر أخرى من الحاميات الدنمركية.(25/226)
ولم يستطع كريستيان الثاني الحضور ليتولى بنفسه قيادة قواته لأنه واجه في بلده ذاتها حرباً أهلية إلا أن أسطوله أغار مراراً على الشواطئ السويدية، وبعث جوستافوس برسل إلى لوبك لكي يطلبوا سفناً حربية. وجهزت المدينة التجارية عشرة سفن صرفت نشاط الأسطول الدنمركي، وذلك مقابل وعد بالحصول على مبلغ كبير. وفي السابع من يونية سنة 1523 نادى الثوار المنتصرون، في ركسراد جديدة بقائدهم ملكاً باسم جوستافوس الأول، وفي العشرين من يونيه استسلمت ستوكهولم واتخذ فازا منها بعد ذلك عاصمة له. وفي غضون ذلك كان كريستيان الثاني قد خلع عن عرشه في الدنمرك، وتخلى خلفه فريدريك الأول عن كل المطالب الدنمركية في السيادة على السويد. وانتهى اتحاد كالمار (1397 - 1523) وبدأت أسرة فازا.
2 - الإصلاح الديني السويدي
كان جوستافوس لا يزال شاباً في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن فارع الطول، كما نعهد في الرجال من أهل الشمال، ولكنه كان يتمتع بقوة بدنية مثل أي قرصان إسكنديناوي، وكان وجهه المستدير متورداً بحمرة الصحة، ولحيته الصفراء الطويلة تضفي عليه وقار الملك أكثر من دلالتها على سنه، وكانت أخلاقه رائعة بالنسبة إلى ملك، بل إن الكنيسة التي قدر له أن ينبذها بعد ذلك بوقت قصير لم تستطع أن تجادل في تقواه. ووقف نفسه على القيام بأعباء الحكم بنشاط لا يعرف الأناءة، جعله ينزلق أحياناً إلى التوسل بالعنف أو الاستبداد، بيد أن ظروف السويد عند ارتقائه العرش كانت تبرر أو تكاد طبعه وحكمه المطلق. وقد ترك آلاف الفلاحين، غمرة فوضى الحرب، حقولهم دون أن يزرعوها، وهجر عمال التعدين مناجمهم، ودمر الصراع المدن، وخفضت قيمة العملة وأفلست الخزانة العامة، وأزهقت أرواح أصحاب(25/227)
العقول المدبرة في البلاد في "حمّام الدم". واعتبر البارونات الإقطاعيون الباقون على قيد الحياة جوستافوس حديث النعمة، ونظروا باحتقار إلى ادعائه الحق في الحكم. ودبرت المؤامرات لخلعه فقضى عليها بيد من حديد. وكانت فنلندة، التي كانت جزءاً من السويد، لا تزال في أيدي الدنمركيين، وكان سورن نوربي أمير البحر الدنمركي يحتفظ بجزيرة جوتلاند الاستراتيجية، وضجت لوبك مطالبة بسداد قروضها.
وكانت أول حاجة ملحة استشعرتها الحكومة مال يدفع للقوات المسلحة التي تحميها، ثم للموظفين الذين يقومون على شؤونها، أو وعد بدفع هذا المال، ولكن الضرائب في السويد أيام فازا كانت تكاد تكلف في جبايتها أكثر من المتحصل منها لأن الذين كان في وسعهم وحدهم أن يدفعوها كانوا أقوياء جداً إلى الحد الذي يقاومون فيه جبايتها. وخضع جوستافوس لما اقتضته الحاجة الملحة من تخفيض قيمة العملة مرة أخرى، بيد أن العملات الرديئة سرعان ما هبطت إلى قيمتها الفعلية، وكانت إيرادات الدولة أسوأ مما كانت عليه من قبل، ولم تكن في السويد إلا جماعة واحدة غنية - هي طبقة رجال الأكليروس، فتحول جوستافوس اليهم، وطلب منهم المساعدة، واعتقد أن من العدل أن تخفف ثروة الكنيسة وطأة الفقر الذي يرزح تحته الشعب والحكومة. وكتب عام 1523 رسالة إلى الأسقف هانز براسك من لنكوبنج، يطلب فيها هبة قدرها 5. 000 جيلدر للدولة. فاحتج الأسقف ثم أذعن. وأرسل فازا طلباً عاجلاً إلى كنائس السويد وأديارها بضرورة تسليم كل الأموال والمعادن الثمينة، التي ليست ضرورية لمواصلة خدماتها، إلى الحكومة بصفة قرض، ونشر قائمة بالمبالغ التي يتوقع الحصول عليها من كل مصدر. ولم تكن الاستجابة إليه كما توقع، وبدأ يتساءل: ما إذا كانت الحكمة تقضي منه أن يفعل كما كان يفعل الأمراء اللوثروين في ألمانيا - فيصادر ثروة الكنيسة تلبية لحاجات(25/228)
الدولة. ولم ينسَ أن أغلب كبار رجال الأكليروس قد عارضوا الثورة، وأنهم عضدوا حكم كريستيان الثاني في السويد.
وفي عام 1519 عاد أولاوس بترى، وهو ابن صاحب مصنع حديد سويدي بعد أن قضى بضع سنوات في الدراسة بفيتنبرج، وسمح لنفسه ببعض الهرطقات، وهو شماس في المدرسة الكاتدرائية في سترانجنارس وقال إن المطهر أسطورة، وإن الصلوات يجب أن يخاطب بها الله وحده وان الاعتراف يوجه إليه وحده، وإن الدعوة إلى ما ورد في الإنجيل من شعيرة القداس. وبدأ الناس يتداولون رسائل لوثر في السويد. فألح براسك على فازا أن يمنع بيعها، فأجاب الملك بأن "تعاليم لوثر عرضت على قضاة عدول فلم يجدوا فيها زيفاً (3) ". ولعله رأى أن من حسن السياسة الاحتفاظ على سبيل الاحتياط بهرطيق يساوم الكنيسة عليه.
وأصبحت الأمور أشد إثارة عندما رفض البابا أدريان السادس أن يصادق على تعيين قاصده الرسولي جوهانس ماجنوس رئيساً لأساقفة أبسالا، واقترح إعادة جوستاف تروي عدو الثورة. فأرسل فازا إلى مجلس شورا الفاتيكان رسالة كان حرية وقتذاك (1523) بأن تفزع هنري الثامن وتسعده فيما بعد:
إذا كان عند أبينا المقدس أي اهتمام بسلام بلدنا فإنه يسرنا أن نراه يصادق على اختيار قاصده الرسولي ... وسوف نستجيب لرغبات البابا فيما يختص بإصلاح الكنيسة والدين. ولكن إذا أيد قداسته أنصار كبير الأساقفة ترول الموصومين بالجريمة، مخالفاً بذلك كرامتنا وسلامة رعايانا، فإننا سوف نسمح لقاصده الرسولي بالعودة إلى روما، وسوف ندبر أمور الكنيسة في هذه البلاد بمقتضى السلطة المخولة لنا باعتبارنا ملكاً.
وأدت وفاة أدريان وانصراف كليمنت السابع بجهوده لمقاومة لوثر وشارل الخامس وفرانسيس الأول، إلى ترك فازا حراً في المضي قدماً بالإصلاح(25/229)
الديني السويدي، فعين أولاوس بترى في كنيسة سانت نيكولاس استكهولم، وعين لورانتيوس شقيق أولاس أستاذاً للاهوت في جامعة أبسالا، ورفع مصلحاً دينياً ثالثاً وهو لورانتيوس أندريا إلى رتبة رئيس شمامسة الكاتدرائية. ودافع أولاوس بترى عن اللوثرية في مناظرة دارت بينه وبين بيترجال (27 ديسمبر سنة 1524) في مقر الأسقفية بالكاتدرائية، برئاسة الملك وقضى فازا بفوز أولاوس، ولم ينزعج عندما اتخذ أولاس زوجة له (1525)، قبل زواج لوثر باربعة شهور، ومهما يكن من أمر فإن الأسقف براسك فزع بسبب هذه المخالفة لرهبانية رجال الأكليروس، وطلب من الملك أن يقضى على بترى بالحرمان. فأجاب جوستافوس بأن أولاوس يجب أن يعاقب إذا كان قد ارتكب خطأ، ولكن "يخيل إلي أن من العجب أن يعاقب المرء بسبب الزواج (وهو شعيرة لا يحرمها الله)، ولا يقع المرء تحت طائلة الحرمان بسبب الفسوق وغيره من الآثام (4) " وبدلاً من أن يحكم على بترى لأنه خالف القانون انتدبه هو وشقيقه لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة السويدية. وساعدت النسخة المترجمة إلى اللغة الدارجة، كما حدث في كثير من البلاد الأخرى، على تكوين اللغة القومية وتحرير الدين القومي. وعد جوستافوس، مثل معظم الحكام، أي إجراء يقوم به لتدعيم مركز بلاده أو عرشه مسارياً للأخلاق، وحرص على ترقية الأساقفة الذين يذعنون لخططه إلى مرتبة المطرانيات السويدية ووجد أسباباً لا يستطيع دفعها لنزع ملكية أراضي الأديار، ولما كان قد تقاسم الأسلوب مع النبلاء فإنه فسر ذلك بأنه إنما كان يعيد إلى العلمانيين ما أغرى أجدادهم على أن يهبوه للكنيسة، وشكا البابا كليمنت السابع من أن القساوسة السويديين كانوا يتزوجون، ويقدمون القربان بالخبز والنبيذ، ويهملون شعيرة المسح الأخير ويغيرون شعيرة القداس وبعث بنداء للملك بأن يظل مخلصاً للكنيسة، ولكن جوستافوس كان قد قطع شوطاً بعيداً فلم يستطع أن يتراجع، وكانت(25/230)
العقيدة المحافظة حرية بأن تخرب خزائنه، ونادى في مجلس فستيريس (1527) بالإصلاح الديني علناً.
كان اجتماعاً تاريخياً في تكوينه ونتائجه معاً. فقد اجتمع أربعة أساقفة وأربعة من كبار القساوسة وخمسة عشر عضواً الركسراد Riksraad و129 نبيلاً واثنان وثلاثون من أوساط الناس وأربعة عشر نائباً لعمال المناجم و104 ممثلاً للفلاحين، وكان هذا مجلساً وطنياً يمثل أعرض قاعدة بين المجالس في القرن السادس عشر. وطرح كبير وزراء الملك اقتراحاً ثورياً أمام المجلس، فقال إن الدولة قد افتقرت إلى المال إلى حد عجزها عن القيام بتبعاتها لخير الشعب، وأن الكنيسة كانت غنية جداً إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحول جانباً كبيراً من ثروتها إلى الحكومة، ويبقى لها مع ذلك ما يكفي لأن تقوم بجميع التزاماتها. وحارب الأسقف براسك لآخر لحظة من أجل مثله العليا وأملاكه العقارية، فأعلن أن البابا قد أمر رجال الأكليروس بالدفاع عن أملاكهم. وصوت المجلس في صف القائلين بإطاعة البابا. ورأى جوستافوس أن يقامر على كل شيء برمية واحدة، فأعلن أنه إذا كان هذا حكم المجلس والأمة فإنه سيستقيل ويرحل عن السويد، وظل المجلس في نقاش مستمر طوال ثلاثة أيام. ووقف الأوساط ورجال الفلاحين إلى جانب الملك، وكان لدى النبلاء سبب وجيه للتحرك في الاتجاه نفسه، واقتنع المجلس آخر الأمر بأن فازا أعظم قيمة للسويد من أي بابا، فوافق على رغبات الملك. وتحولت الأديار في فترة العطلة أو في ختام مجلس فستيريس إلى إقطاعيات للملك، وإن سمح للرهبان بالإفادة منها، وتقرر إعادة كل الأملاك التي منحها النبلاء للكنيسة منذ عام 1454 إلى ورثة الواهبين، وأن يسلم الأساقفة قصورهم إلى التاج، وحرم على الأساقفة أن يسعوا إلى الحصول على تأييد البابا لتعيينهم، وتقرر أن يسلم رجال الأكليروس إلى الدولة كل دخل ليست شعائرهم الدينية في حاجة إليه، ووضع حد للاعتراف السري، وتقرر أن تعتمد العظات كلها على الكتاب المقدس وحده. وكان الإصلاح الديني في السويد، بصورة قاطعة أكثر منه في أي مكان آخر، تأميماً للدين وانتصاراً للدولة على الكنيسة.(25/231)
وعاش فازا بعد هذه الأزمة ثلاثاً وثلاثين عاماً، وظل حتى النهاية حاكماً مطلقاً ... قوياً ولكنه يعمل لخير شعبه ... وكان مقتنعاً بأن السلطة المركزية وحدها هي التي تستطيع أن تعيد النظام والرخاء إلى السويد، وأنه في مهمة معقدة كهذه لا يستطيع أن يتوقف عند كل خطوة ليستشر مجلساً متروياً. وبفضل تشجيعه وتنظيمه صبت مناجم الشمال حديدها في أدوات الحرب السويدية، واتسعت رقعة الصناعة، وأبرمت معاهدات تجارية مع إنجلترا وفرنسا والدنمرك وروسيا أوجدت أسواقاً للسلع السويدية، وجلبت إلى السويد منتجات من أثنى عشرة بلداً، وأضفت تهذيباً جديداً وثقة على حضارة كانت قبله معتقلة في سذاجة ريفية وأمية. وازدهرت السويد وقتذاك كما لم تزدهر من قبل.
واشتبك جوستافوس في عدة حروب، وقمع أربع ثورات وعقد قرانه على ثلاث زوجات على التعاقب، وأنجبت له الأولى ولداً أصبح فيما بعد أريك الرابع عشر، وأنجبت له الثانية خمسة أولاد وخمس بنات أما الثالثة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها وهو في السادسة والخمسين فقد عمرت بعده ستين عاماً. وأغرى الرجسراد Rigsraad بأن يقبل أبناءه ورثة للعرش وأن يجعل وراثة العرش مقصورة على الذكور كقاعدة تتبع في الملكية السويدية.
وصفحت السويد عن حكمه المطلق لأنها أدركت أن النظام أصل الحرية وليس ثمرة لها. وعندما مات (29 سبتمبر سنة 1560)، بعد حكم دام سبعة وثلاثين عاماً دفن في كاتدرائية أبسالا في احتفال صدر عنه بالحب وتميز بالشرف وهو لم يمنح شعبه الحرية الشخصية التي كانوا يستحقونها بصفة خاصة فيما يبدو، ولكنه منحهم حرية جماعية من السيطرة الأجنبية في الدين أو الحكم، وقد هيأ الظروف التي استطاعت أمته في ظلها أن تصل إلى درجة(25/232)
النضج في مجالات الاقتصاد والأدب والفن. كان الأب الحقيقي للسويد الحديثة.
3 - الإصلاح الديني الدنمركي
كان كريستيان الثاني ملك الدنمرك (حكم 1513 - 23) شخصية لامعة مثل جوستافوس فازا الذي هزمه في السويد. وقد أكرهه البارونات على التوقيع على شروط استسلام مهينة ثمناً لانتخابه، فأحاط نفسه بمستشارين من الطبقة المتوسطة وتجاهل الريجسراد Rigsraad ( مجلس النواب) الدنمركي، المكون من الأعيان من ذوي النسب، وعين أم عشيقته الهولندية الجميلة كبيرة لمستشاريه ولابد أن هذا المجلس الخاص كان يتمتع بشيء من المقدرة والروح، لأن سياسة كريستيان الوطنية كان بناءة بقدر ما كانت مغامراته الأجنبية فاشلة لا طائل تحتها، وعمل جاهداً في تدبير الملك، وأصلح حكم المُدن، وراجع القوانين، وقضى على القرصنة، ومهد الطرق، وشرع في إقامة نظام بريدي عام، وألغى أسوأ آفات الرق، وأبطل عقوبة الإعدام على ممارسة السحر، ونظم الإعانة للمحتاجين، وفتح المدارس للفقراء، وجعل التعليم إجبارياً، وطول جامعة كوبنهاجن، فأصبحت مكاناً يشع بالضياء وملاذاً للعلم. وتعرض لعداء لويك بتقييد سلطة الهانز Hanse، وشجع التجارة الدنمركية وأسبغ عليها حمايته، ووضع حداً للعادة الهمجية التي خولت للقرويين المقيمين بجوار البحر الحق في نهب كل السفن التي تتحطم على شواطئهم.
وأرسل ليو العاشر عام 1517 جيوفاني أركمبولدو إلى الدنمرك ليعرض صكوك الغفران، فندد بول هلجزن، وهو راهب كرملي بما بدا له بيعاً لصكوك الغفران هذه، وهو بذلك سبق رسائل لوثر (5). واشتجر النزاع بين القاصد الرسولي وبين الملك حول تقسيم هذه المبالغ المتحصلة من البيع. وهرب أركمبولدو إلى لوبك بجانب منها، وصادر كريستيان الباقي، عندما(25/233)
وجد كريستيان أسباباً وجيهة لاعتناق البروتستانتية دفعاً للمظالم الحقيقية التي ارتكبتها الكنيسة وثروتها القائمة، عين هلجزن في منصب بجامعة كوبنهاجن، حيث تزعم أرازموس الدنمرك الفصيح هذا، إلى حين، حركة للإصلاح الديني. وعندما تحول هلجزن إلى رجل يأخذ بأسباب الحيطة أرسل كريستيان إلى فردريك الحكيم الأمير المختار لسكسونا، كي يبعث إليه بلوثر نفسه، أو يبعث إليه على الأقل بعالم في اللاهوت من مدرسة لوثر. وجاء كارلشتادت، ولكنه لم يمكث طويلاً. واصدر كريستيان قانوناً بالإصلاح الديني: لا يجوز رسامة أحد دون أن يكون قد درس دراسة كافية ليفسر الإنجيل باللغة الدنمركية، ولا يستطيع رجال الأكليروس قانوناً أن يملكوا عقاراً، أو يتسلموا تركات ما لم يتزوجوا، وأمر الأساقفة بأن يتخففوا من الترف الذي يعيشون فيه، وفقدت المحاكم الكنسية الاختصاص القضائي، عندما يتعلق الأمر بنظر قضية خاصة بالملكية، وخولت محكمة عليا، عينها الملك، السلطة النهائية في الشئون الكنسية والمدنية على السواء. ومهما يكن من أمر فإنه عندما وضع مجلس دايت ورمس لوثر تحت نير الحرمان الإمبراطوري، أوقف كريستيان إصلاحاته وأشار هلجون بعقد صلح مع الكنيسة.
وبينما كانت هذه السياسة الوطنية التي انتهجها كريستيان تثير شعبه فقد أزمة الموقف بفشله في الشئون الخارجية. وأدت قسوته في السويد إلى أن ينقلب عليه كثير من الدنمركيين. وأعلنت لوبك الحرب عليه بسبب هجماته على السفن الهانزية، وتجاهل النبلاء ورجال الأكليروس، الذين نفرتهم منه الضرائب المرتفعة والتشريع المعادي، ودعواته لعقد مجلس وطني، ونادوا بعمه الدوق فريدريك أف شلسفيج - هولشتين، ملكاً جديداً للدنمرك، وفر كرستيان إلى الفلاندرز مع الملكة زوجته، شقيقة شارل الخامس البروتستانتية، وعقد صلحاً مع الكنيسة، مؤملاً أن يجد مملكة لقداس،(25/234)
وقبض عليه وهو يقوم بمحاولة، لا طائل تحتها، لاستعادة عرشه، وعاش سبعة وعشرين عاماً في سجون سوندربورج، لا رفيق له إلا قزم نرويجي أحمق. وقادته سبل المجد إلى رمسه، يجلله الخزي والعار رويداً (1559).
ولم يجد فردريك الأول ما كان ينشده من سعادة في ظل تاجه المهدد، فقد رضى به النبلاء ورجال الأكليروس بشروط كثيرة، أحدها أنه لن يسمح أبداً لهرطيق بالوعظ في الدنمرك، وبينما كان هلجزن يواصل نقده لنقائض الكنيسة، حول وقتذاك معظم مناظراته، التي تشتعل حماسة، ضد البروتستانت، وألح على أن إصلاحها دينياً، يتم بالتدريج خير من ثورة يسودها الشغب. ولكنه لم يستطع أن يقف في وجه التيار. فقد كان الدوق كريستيان، ابن فردريك، لوثرياً قبل ذلك، وتزوجت ابنة الملك، بموافقته، البرخت البراندنبرجي الرئيس اللوثري السابق للفرسان النيوتون، وفي عام 1526 مال فردريك مع الريح، وعين هانزتاوزن قساً خاصاً له، وكان قد درس على يد لوثر. فترك تاوزن ديره، وتزوج ودافع علناً عن آراء لوثر. ووجد فردريك أن من المناسب أن يأمر بأن تدفع له لا للبابا، رسوم التصديق على تعيين الأساقفة. وتشجع الوعاظ اللوثريون وتضاعف عددهم، وطلب الأساقفة نفيهم، فرد عليهم فردريك بأنه لا ولاية له على أرواح الناس، وأنه قرر أن يترك العقيدة حرة - وهو إجراء غير مألوف للغاية. وظهرت عام 1524 ترجمة للعهد الجديد باللغة الدنمركية، ونشر كريستيان بدرسن عام 1529 نسخة أفضل من الأولى، دفعت الحركة البروتستانتية دفعة كبيرة. وكان الناس يتلهفون على وضع حد لضرائب العشور التي تدفع لرجال الأكليروس، فقبلوا اللاهوت الجديد، وما أن حل عام 1530 حتى كان اللوثريون يسيطرون على كوبنهاجن وفيبورج. وفي ذلك العام عقدت مناظرة في المجلس بكوبنهاجن، بين زعماء الكاثوليك والبروتستانت، وقضى الملك والشعب بفوز البروتستانت، وظل الاعتراف(25/235)
بالعقيدة الذي قدمه هناك هانز تاوزن مدى عقد من الزمان، المذهب الرسمي للوثريين الدنمركيين.
وكانت وفاة فردريك (1533) مقدمة الفصل الأخير من الإصلاح الديني الدنمركي. فقد انضم كبار التجار في الدنمرك إلى أعدائهم القدامى في لوبك، وقاموا بمحاولة لإعادة كريستيان إلى العرش، وقاد الكونت كريستوفر أف أولدنبرج قوات لوبك وأطلق اسمه على هذه الحرب فسميت باسم "حرب الكونت"، وسقطت كوبنهاجن في يده، وأخذت لوبك تحلم بحكم الدنمرك بأسرها. بيد أن أوساط الناس والفلاحين نظموا صفوفهم تحت علم كريستيان ابن فردريك، وتغلب جيشهم على أولدنبرج، واستولى على كوبنهاجن بعد حصار ضربه حولها دام عاماً (يوليو سنة 1536). وقبض على جميع الاساقفة، ولم يطلق سراحهم، إلا بعد أن وعدوا بالبقاء إلى جانب النظام البروتستانتي وانعقد المجلس الوطني في أكتوبر سنة 1536، وأنشأ رسمياً كنيسة الدولة اللوثرية، ورئيسها الأعلى كريستيان الثالث. وصودرت جميع أملاك الأسقفيات والأديار لصالح الملك، وفقد الأساقفة كل صوت لهم في الحكم. وقبلت النرويج وأيسلندة كريستيان الثالث وتشريعه، وكتب النصر التام للوثرية في إسكنديناوة (1554).
4 - البروتستانتية في شرقي أوربا
نعمت بولندة بعصرها الذهبي في عهد سجسموند الأول (1506 - 48) وابنه سجسموند الثاني (1548 - 72). وكانا رجلين على حظ من الثقافة والذكاء، وراعيين متذوقين للأدب والفن، وكلاهما منح للفكر والعبادة حرية، وعلى الرغم من أنها لم تكن كاملة، فإنها جعلت معظم أمم أوربا تبدوا قروسطية إذا قورنت ببولندة. وتزوج سجسموند الأول بونا سفورزا المرحة الموهوبة (1518)، وهي ابنة الدوق جيا بجاليازو أمير(25/236)
ميلان، وأحضرت معها إلى كراكو بطانة من رجال الحاشية والعلماء، وبدلاً من أن يتبرم بهم الملك، رحب بهم باعتبارهم جسراً يصل بينه وبين النهضة، وتملكت الأرستقراطية نزعة إلى الترف بارتداء الثياب المنمقة واقتناء الرياش الثمينة، وأصبحت اللفة أكثر صقلاً، والأخلاق أكثر تهذيباً، وازدهرت الآداب والفنون، وكتب أرازموس (عام 1523): "إني أهنئ هذه الأمة ... التي بلغت فيها العلوم وفقه القانون والأخلاق والدين وكل ما يفصلنا عن الهمجية درجة من الازدهار تستطيع بها أن تنافس أرفع الأمم شأناً وأعظمها مجداً (6"). وسيطرت بونا على زوجها بجمالها ورشاقتها ودهائها، فأصبحت ملكة فعلاً، وملكة في الزي على السواء. وكان ابنها سجسموند الثاني عالما بالإنسانيات ولغوياً وخطيباً وميالاً إلى التزيي بزي النساء (7). وأضرت الحروب هذه العهود اللامعة لأن بولندة كانت مشتبكة مع السويد والدنمرك وروسيا في نزاع على السيطرة على بحر البلطيق وموانيه، وفقدت بولندة بروسيا، بيد أنها ضمت مازوفيا وتشمل وارسو (1529) وليفونيا وتضم ريجا (1561). وكانت بولندة في هذا العصر دولة أوربية كبرى.
وفي غضون ذلك تسلل الإصلاح الديني من ألمانيا وسويسرة. وقد عودت حرية العبادة، التي ضمنها التاج البولندي لرعاياه من الروم الكاثوليك، الأمة على التسامح الديني، وجعلت ثورة الهسيين والأتراكويين في بوهيميا المجاورة. والتي دامت قرناً من الزمان، بولندة لا تعبأ إلى حد ما بالسلطة البابوية البعيدة. وكان الأساقفة، الذين يعينهم الملك، رجالاً مثقفين محبين لوطنهم، من أنصار الإصلاح الكنسي، مع الاعتصام بحيطة أرازمية، ويؤيدون الحركة الإنسانية تأييداً عظيماً، ومهما يكن من أمر فإن هذا لم يخفف من شدة الحسد الذي تطلع به النبلاء، وسكان المُدن، إلى أملاكهم ومواردهم. وازدادت الشكاوى من استنزاف الثروة(25/237)
القومية إلى روما، ومن صكوك الغفران التي تكلف مشتريها غالياً بصورة غير معقولة، ومن اتجار رجال الدين بالمقدسات والرتب والوظائف الدينية، ومن ارتفاع نفقات التقاضي أمام المحاكم الأسقفية. واستاء صغار النبلاء الزلاخته Sziachka بصفة خاصة من إعفاء رجال الأكليروس من الضرائب ومن جباية رجال الأكليروس لضرائب العشور من النبلاء أنفسهم. ولعل بعض البارونات من ذوي النفوذ قد استمعوا في تعاطف إلى نقد لوثر للكنيسة، لأسباب اقتصادية، وكان لما يتمتع به اللوردات الإقطاعيون من شبه سيادة الفضل في إسباغ الحماية على الحركات البروتستانتية المحلية، كما كان لاستقلال الأمراء الألمان الفضل في إمكان نشوب الثورة وحماية لوثر. ودافع راهب دانزج على رسائل لوثر ودعا إلى القيام بإصلاحات كنسية، وتزوج وارثة (1518)؛ وانتهج واعظ آخر نهج لوثر فعلاً إلى حد أن عدة جماعات من المصلين أزالت كل الصور الدينية من كنائسها (1522)، وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل منابر الوعظ في دانزج في أيدي البروتستانت. وعندما قدم بعض رجال الأكليروس في براونزبرج البولندية البروسية الشعيرة اللوثرية وشكا كبراء القساوسة في الكاتدرائية إلى أسقفهم، رد بأن "لوثر بنى آراءه على الكتاب المقدس وكل مَن يشعر بأن في مقدوره أن يدحضها فليضطلع بالعبء (1510) (8"). وأقنع سجسموند الأول بفرض رقابة على المطبوعات، ومنع دخول كتابات لوثر، غير أن كاتم سره وكاهن الاعتراف الفرنسسكاني الخاص ببونا إعتنقا العقيدة المحرمة سراً وكسبتهما إلى صفها، وأهدى كالفن عام 1539 كتابه "تعليق على القداس" لولي العهد.
وعندما الأمير ملكاً باسم سجسموند الثاني انتشرت اللوثرية والكالفينية على السواء بسرعة. وترجم الكتاب المقدس إلى اللغة البولندية، وبدأت اللغة الدارجة تحل محل اللغة اللاتينية في الشعائر الدينية. وأعلن(25/238)
القساوسة المبرزون مثل جان لاسكي تحولهم إلى البروتستانتية. وفي عام 1548 انتقل الاخوة البوهيميون من بلادهم إلى بولندة، وسرعان ما كانت هناك ثلاثون جمعية سرية من طائفتهم في البلاد: وقام رجال الأكليروس الكاثوليك بمحاولة لاتهام بعض أفراد صغار النبلاء Szlachta بالهرطقة ومصادرة أملاكهم، فأدت إلى قيام كثير من صغار النبلاء بالثورة ضد الكنيسة (1552) وصوت المجلس النيابي الوطني لعام 1555، وأقر الحرية الدينية لكل العقائد التي تعتمد على "كلمة الله الخالصة"، وأسبغ صفة الشرعية على زواج رجال الأكليروس، ومناولة القربان المقدس بالخبز والنبيذ، وكان الإصلاح الديني في بولندة في أوج ازدهاره.
وتعقد الموقف في بولندة بتطور أقوى حركة للقائلين بوحدة الكنيسة، إبان القرن السادس عشر في أوربا، وفي أوائل عام 1546 نوقشت محاولات سرفيتوس المنكرة للقول بالتثليث، وذلك في هذا الشرق الأقصى من العالم المسيحي اللاتيني، وزار لايليوس سوكينوس بولندة عام 1551 وترك خمائر من الأفكار المتطرفة، وواصل جيورجيو بلاندرانا الحملة، وفي عام 1561 أصدرت الجماعة الجديدة اعترافاً بالعقيدة. وواصل أعضاؤها الخلط الذي اتسم به لاهوت سرفيتوس، فقصروا الألوهية الكاملة على الرب الأب، ولكنهم جاهروا بالإيمان بالمولد الخارق للمسيح ووحيه الإلهي ومعجزاته وبعثه وصعوده. ورفضوا التسليم بفكرتي الخطيئة الأولى وتكفير المسيح عن خطايا البشر، وسلموا بالتعميد والقربان المقدس كرمزين فحسب، ولقنوا الناس أن الخلاص يتوقف فوق كل شيء على العمل الواعي بتعاليم المسيح. وعندما أدان المجمع المقدس الكالفيني في كراكو (1563) هذه العقائد، أنشأ القائلون بوحدة الكنيسة لهم كنيسة منفصلة. ولم تبلغ الطائفة أوج ازدهارها إلا على يد فاوستوس(25/239)
سوكينوس ابن أخ لايليوس، الذي وصل إلى بولندة عام 1579.
وحاربت الكنيسة الكاثوليكية هذه التطورات بالاضطهاد والكتابات والدبلوماسية، وفي عام 1539 أرسل أسقف كراكو إلى المحرقة امرأة في الثمانين من عمرها بتهمة أنها رفضت عبادة القربان المقدس (9). وتصدى استانسلاوس هوزيوس، أسقف كولم في بروسيا، والكاردينال فيما بعد، لتعبئة الهجوم المضاد بمقدرة وحماسة، وعمل جاهداً من أجل الإصلاح الكنسي، ولكنه لم يكن متعاطفاً مع اللاهوت البروتستانتي أو الشعيرة البروتستانتية. وبناء على اقتراحه أرسل لودوفيكوليبومانو أسقف فيرونا إلى بولندة مندوباً بابوياً، وعين ديوفاني كومندوني، أسقف زانتي قاصداً رسولياً في كراكو. وكسبوا تأييد سجسمون الثاني الفعال للكنيسة بتأكيد الانقسامات بين البروتستانت وتضخيم صعوبة تنظيم الحياة المعنوية للأمة بمثل هذه العقائد الضارة المذبذبة. وفي عام 1564 جاء هوزيوس وكمندوني باليسوعيين إلى بولندة. وضمن هؤلاء الرجال المدربون المخلصون مناصب استراتيجية في النظام التعليمي، واستمالوا آذان الشخصيات البارزة، وإعادة الشعب البولندي إلى اعتناق العقيدة التقليدية.
وكان البوهيميون من البروتستانت قبل لوثر، ولم يجدوا في أفكاره ما يفزعهم إلا قليلاً. وقبل جانب كبير من الألمان على الحدود الإصلاح الديني. وكان الاخوة البوهيميون ويبلغ عددهم حوالي عشرة في المائة من مجموع السكان البالغ 400. 000 نسمة، أشد تمسكاً بالبروتستانتية من لوثر. وكان 60 في المائة أتراكويين كاثوليك تناولوا القربان المقدس بالنبيذ وبالخبز على السواء، وتجاهلوا احتجاج البابوات (10). وما أن حل عام 1560 حتى كان ثلثا سكان بوهيميا من البروتستانت، ولكن فرديناند أدخل اليسوعيين عام 1561، وتحول التيار إلى العقيدة الكاثوليكية المحافظة.(25/240)
وعرفت هنغاريا الإصلاح الديني عن طريق المهاجرين الألمان وهم يحملون أنباء لوثر، ذلك الرجل الذي استطاع أن يتحدى الكنيسة والإمبراطورية وعاش مع ذلك. وتطلع الفلاحون الهنغاريون الذين ظلمهم الإقطاع الذي تساعده الكنيسة، بشيء من التحيز للبروتستانتية يمكن أن تضع حداً لضرائب العشور والمكوس التي تجبيها الكنيسة، وتطلع البارونات الإقطاعيون بعيون جشعة إلى أملاك الكنيسة الشاسعة، التي كانت منتجاتها تنافس منتجات أراضيهم، ورأى عمال المُدن، الذين أصيبوا بعدوى مبادئ المدينة الفاضلة، أن الكنيسة هي العقبة الكبرى التي تقف في طريق أحلامهم، وانهمكوا في نشوات تحطيم التماثيل، وتعاونت الكنيسة في إقناع الحكومة باعتبار اعتناق البروتستانتية جريمة يستحق مرتكبها الإعدام. وسعى الملك فرديناند في غربي هنغاريا جاهداً للحصول على مصالحة، وأراد أن يسمح لرجال الأكليروس بالزواج وبتقديم القربان المقدس بصورتيه المعروفتين، وانتشرت البروتستانتية بلا قيود في شرقي هنغاريا في ظل حكم تركي ينظر باحتقار وبلا مبالاة إلى الاختلاف بين المذاهب المسيحية، وما أن حل عام 1550 حتى بدا أن هنغاريا بأسرها سوف تصبح بروتستانتية. ولكن الكالفينية بدأت وقتذاك تنافس اللوثرية في هنغاريا، وأيد المجريون، وهم بفطرتهم مناهضون للألمان، النمط السويسري من الإصلاح الديني "وما أن جاء عام 1558 حتى كان الكالفينيون من الكثرة إلى حد أنهم استطاعوا عقد مجمع مقدس في زنجر"، كان له أثره الكبير. وشطرت مراكز القوى المتنافسة للإصلاح الديني الحركة إلى شطرين، وعاد كثير من الموظفين أو مَن تحولوا من عقيدتهم، ممن ينشدون الاستقرار الاجتماعي أو الهدوء الفكري إلى الكاثوليكية، وفي القرن السابع عشر استعاد اليسوعيون بزعامة ابن أحد الكالفينيين، هنغاريا إلى حضيرة الكاثوليكية.(25/241)
5 - شارل الخامس والأراضي المنخفضة
كانت تجارة نافقة في بلاد الفلاندرز إبان نضج شارل أفضل من الانصراف إلى صناعة ضعيفة مشتتة. وساد الكساد في بروجس وغنت، وعاشت بروكسل باعتبارها قصبة فلمنكية، وكانت لوفان تشكل اللاهوت وتصنع الجعة وأنتورب تتحول - وسوف تكون عند حلول عام 1550 - أغنى مدينة في أوربا وأكثرها حركة وعملاً. وحولت التجارة الدولية والمال ذلك الميناء الهزيل على نهر شلدت العريض الصالح للملاحة بفضل انخفاض المكوس الجمركية على الواردات والصادرات والارتباط السياسي مع أسبانيا وبورصة متخصصة، وشعارها يقول بأنها أنشئت ad usum mercatorum cuiusque gentis ac linguae ( ليفيد منها التجار القادمون من كل البلاد والمتحدثون بجميع الألسنة (11) ". وكان القيام بمشروع أي عمل حراً من قيود الطائفة الحرفية والحماية البلدية، التي أبقت الصناعة القروسطية غير متقدمة لحسن الحظ. وفتح المصرفيون الإيطاليون هناك وكالات وأقام "التجار المغامرون" الإنجليز مستودعاً وركز آل فوجر وجوه نشاطهم التجاري، وبنى الهانز مؤسستهم العظيمة بيت الشرقيين (1564). وشهد الميناء 500 سفينة تدخل إليها أو تغادرها كل يوم و 5. 000 تاجر يشتغلون بتبادل السلع. وكانت حوالة مالية مسحوبة على أنتورب وقتذاك أشيع شكل للعملة الدولية. وفي هذه الفترة حلت أنتورب بالتدريج محل لشبونة، وأصبحت أكبر ميناء أوربي لتجارة التوابل، وكان الوكلاء الفلمنكيون يشترون حمولات السفن الداخلة إلى لشبونة قبل أن تفرغ ثم ترسل مباشرة إلى أنتورب لتوزيعها في شمالي أوربا. وكتب سفير البندقية يقول: "لقد حزنت لرؤية أنتورب لأني شهدت مدينة تبز البندقية (12) "، وكان يشهد التحول التاريخي للزعامة التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الأطلنطي. وحفزت هذه التجارة الصناعة الفلمنكية فانتعشت حتى في غنت،(25/242)
وأمدت الأراضي المنخفضة شارل الخامس بمبلغ 1. 500. 000 جنيه (37. 500. 000 دولار) سنوياً، وهو يعادل نصف دخله الكلي (13).
واستجاب بمنح الفلاندرز وهولندة حكماً صالحاً معتدلاً، اللهم إلا في مجال الحرية الدينية - وهي هبة لم يكد يدركها أصدقاؤه أو أعداؤه. وكانت سلطته من الناحية الدستورية مقيدة بتعهده الذي أقسم على تنفيذه بمراعاة مواثيق المُدن والمقاطعات وقوانينها المحلية، وبالحقوق الشخصية والعائلية، التي حافظ عليها سكان المُدن بشجاعة، وبمجالس الدولة والمالية، ومحكمة للاستئناف أنشئت لتكون جزءاً من الإدارة المركزية. وكان شارل بوجه عام يحكم الأراضي المنخفضة حكماً غير مباشر عن طريق نواب يقبلهم المواطنون: أولاً عمته، وحاضنته ومربيته مرجريت النمساوية، ثم شقيقته ماري، ملكة هنغاريا السابقة، وهما امرأتان تتمتعان بكفاءة وإنسانية ومهارة. ولكن شارل أصبح أشد استبدادً باتساع رقعة الإمبراطوريّة وأقام حرساً أسبانياً في المُدن المتكبرة، وقمع بقسوة أي مخالفة خطيرة لسياسته الدولية، فعندما رفضت غنت أن تصوت على قرار بالاعتمادات العسكرية التي طلبها ومنحتها له المُدن الأخرى، أخمد شارل الثورة باستعراض قوة لا جدال فيها، واقتضى إعانة مالية وتعويضاً، وألغى الحريات التقليدية التي كانت تتمتع بها البلدية، واستُبْدِل بالحكومة المختارة محلياً موظفون معينون من قبل الإمبراطور (1540) (14). ولكن لم يكن هذا المتبع في الأغلب. وعلى الرغم من هذه القسوة العارضة فقد ظل شارل يحظى بشعبية بين رعاياه في الأراضي المنخفضة، ونال الثقة لما حققه من استقرار سياسي ونظام اجتماعي، وطدا دعائم الرخاء الاقتصادي، وعندما أعلن تنازله عن العرش حزن كل المواطنين تقريباً (15).
وسلم شارل بالنظرية المتداولة القائلة بأن السلام القومي والقوى يتطلبان حدة المعتقد الديني، وخشي أن تؤدي البروتستانتية في الأراضي المنخفضة(25/243)
إلى تعريض جناحه للخطر في نزاعه مع فرنسا وألمانيا اللوثرية، فأيد الكنيسة تأييداً كاملاً في قمع الهرطقة في الفلاندرز وهولندة. وكانت حركة الإصلاح الديني هناك معتدلة قبل لوثر، ودخلت بعد عام 1517، مثل ما دخلت اللوثرية ومذهب المنكرين للتعميد من ألمانيا، والزونجيلية والكالفينية من سويسرة والألزاس وفرنسا. وسرعان ما ترجمت رسائل لوثر إلى الهولندية وشرحها وعاظ في انتورب وغنت ودوردرخت واترخت وتسفولى ولاهاي. وتزعم الأخوة الرهبان الدومنيكان حركة معارضة نشيطة دحضوا فيها آراء خصومهم، وقال أحدهم إنه يود لو استطاع أن ينشب أسنانه في زور لوثر، وإنه لن يتردد في أن يذهب لتناول العشاء الرباني والدم يلطخ فمه (16). ورأى الإمبراطور، وهو لا يزال شاباً، أن يخمد الهياج بنشر "إعلان ملصوق" بناء على طلب البابا، يحرم طباعة مصنفات لوثر أو قراءتها. وفي العام نفسه أمر الحاكم العلمانية بتنفيذ منشور ورمس في سائر الأراضي المنخفضة ضد كل مَن يعرض آراء لوثر. وفي اليوم الأول من يوليو عام 1523 أرسل هنري فوس وجوهان إيك، وهما راهبان أوغسطينيان إلى المحرقة في بروكسل، فكانا أول شهيدين من البروتستانت في الأراضي المنخفضة. وسجن هنري الزتفيني، وهو صديق وتلميذ للوثر، ورئيس الدير الأوغسطيني في أنتورب، وفر، وقبض عليه في هولستاين وأحرق هناك (1524) وكان تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام بمثابة إعلان لآراء المصلحين الدينيين.
وعلى الرغم من الرقابة فإن ترجمة لوثر للعهد الجديد انتشرت على نطاق واسع، وتداولها الناس في هولندة بحماسة أكثر من الفلاندرز الغنية. وكانت هناك أمنية لإعادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، فنشأ عنها أمل، بعد مرور ألف عام، في عودة المسيح مبكراً، وإنشاء أورشليم جديدة لا تكون فيها حكومة، ولا زواج ولا ملكية، وامتزجت بهذه الأفكار نظريات(25/244)
شيوعية عن المساواة وتبادل العون بل "والحب الحر (17) ". وتكونت جماعات تنكر التعميد في أنتورب وماسترخت وأمستردام. وجاء ملشيور هوفمان من أمدن إلى أمستردام عام (1531) وأعاد جون الليدني عام 1534 الزيارة يحمل معه يحمل معه عقيدة المنكرين للتعميد من هارلم إلى منستر. وقدر أن ثلثي السكان في بعض المُدن الهولندية كانوا من المنكرين للتعميد. بل إن العمدة في ديفنتز تحول لنصرة القضية. وشحذت المجاعة الحركة، فأصبحت ثورة اجتماعية. وكتب صديق لأرازموس عام 1534 يقول "إن اشتعال حماسة المنكرين للتعميد في هذه المقاطعات يجعلنا نشعر بقلق بالغ لأنه يتصاعد مثل ألسنة اللهب ولا تكاد توجد بقعة أو مدينة لا تتأجج فيها سراً شعلة التمرد (18"). وحذرت ماري الهنغارية الإمبراطور؛ وكانت وقتذاك نائبة له، من أن الثوار قد وضعوا خطة لانتهاب كل ضروب الملكية من النبلاء ورجال الأكليروس والأرستقراطية التجارية، وتوزيع الغنائم على كل رجل حسب حاجته (19). وفي عام 1535 أرسل جون الليديني مبعوثين لتدبير ثورة في نفس الوقت يقوم بها المنكرون للتعميد في عدة محلات هولندية، وبذل الثوار جهود الأبطال، فقد استولت جماعة على دير في فريزلاند الغربية، وحصنته، وحاصرهم الحاكم بالمدفعية الثقيلة، ومات 800 وهم يدافعون دفاعاً لا أمل فيه، (1535) وفي 11 مايو اقتحم بعض المنكرين للتعميد المسلحين قاعة المدينة في أمستردام واستولوا عليها، فطردهم سكان المدينة، ونكلوا بالزعماء، وانتقموا منهم انتقاماً مفزعاً من رجال مفزعين، فاستلت الألسنة، ومزقت القلوب من أجساد الأحياء، وألقي بها في وجوه المحتضرين أو الموتى (20).
وظن شارل أن ثورة شيوعية تتحدى البناء الاجتماعي بأكمله، فاستقدم محكمة التفتيش إلى الأراضي المنخفضة، وخول موظفيها سلطة سحق الحركة وكل الهرطقات الأخرى، مهما قضى ذلك على الحريات المحلية. وأخذ(25/245)
بين عامي 1521 و 1555 يصدر الإعلان الملصق بعد الإعلان ضد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية أو الانشقاق الديني. وقد كشف أعنف هذه الإعلانات (25 سبتمبر سنة 1550) عن تدهور الإمبراطور، ووضعت الأسس التي قامت عليها ثورة الأراضي المنخفضة ضد ابنه:
لا يحق لأحد أن يطبع أو يكتب أو ينسخ أو يخفي أو يبيع أو يشتري أو يعطي في الكنائس أو في الشوارع أو غير ذلك من الأماكن أي كتاب أو رسالة من تأليف مارتن لوثر، أو جون أو يكولا مباديوس، أو أولريخ زونجلى، أو مارتن بوسر، أو جون كالفن، أو غيرهم من الهراطقة، الذين استهجنت أعمالهم الكنيسة المقدسة ... ولا يحق له أن يحطم أو يؤذي بأي صورة أخرى تماثيل العذراء المقدسة، أو القديسين الذين اعترفت بهم الكنيسة ... وليس له أن يعقد اجتماعات سرية أو اجتماعات غير قانونية، أو يحضر أي اجتماع من هذه الاجتماعات، التي يدعو فيها أنصار الهراطقة المذكورين ويعمدون ويدبرون مؤامرات ضد الكنيسة المقدسة والصالح العام ... ونحن نمنع جميع الأشخاص العلمانيين من أن يتحدثوا أو يجادلوا في أمر يتعلق بالكتب المقدسة جهراً أو سراً ... أو أن يقرأوا أو يعلموا أو يفسروا الكتب المقدسة، ما لم يكونوا قد درسوا اللاهوت في حينه، أو اعترفت بهم إحدى الجامعات المشهورة، أو يرحبوا بأي رأي من آراء الهراطقة المذكورين ... وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها فيما يلي ... الرجال (تقطع رؤوسهم) بالسيف والنساء يدفن أحياء إذا لم يصررن على أخطائهن، وإذا أصررن عليها فإنهن يعدمن حرقاً، وفي كلتا الحالتين تصادر أملاكهن كلها لمصلحة التاج.
وتمنع كل الأشخاص أن ينزلوا عندهم أو يستضيفوا أو يزودوا بالطعام أو الدفء أو الملابس أو يؤيدوا بأية طريقة أخرى أي امرئ يعتقد أنه هرطيق، أو يشتبه في أن له سمعة سيئة كهرطيق، وكل من يتخلف(25/246)
عن التنديد بأي واحد من هؤلاء الذين نأمر بإدانتهم يكون عرضة للعقوبات المذكورة آنفاً ... وكل مَن يعرف شخصاً موصوماً بالهرطقة يجب أن يبلغ عنه ويسلمه ... ويكون للمبلغ، في حالة الإدانة، الحق في نصف أملاك المتهم ... ولكي لا يكون لدى القضاء والموظفين أي ذريعة - بحجة أن العقوبات جسيمة جداً وشديدة، ولم ينص عليها إلا لإثارة الفزع في قلوب المجرمين - ليوقعوا عليهم عقوبة أقل مما يستحقون (نأمر) بأن يعاقب المجرمون حقاً بالعقوبات التي أعلنا عنها سابقاً، ونحظر على جميع القضاة أن يغيروا أو يخففوا العقوبات بأية طريقة، ونحظر على أي أحد، في أي ظرف أن يطلب منا، أو من أي أحد أو سلطة، أن يمنح عفواً عن، أو أن يقدم التماس في صالح، هؤلاء الهراطقة أو المنفيين أو الهاربين، وإلا تعرض للحكم عليه إلى الأبد بعدم الأهلية لتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، ولأن يعاقب بعقوبة يقضى بها عليه بطريقة تحكمية (21).
وعلاوة على هذا كان يطلب من أي شخص يدخل البلاد المنخفضة أن يوقع على تعهد بالولاء للعقيدة المحافظة بحذافيرها (22).
وتحولت الأراضي المنخفضة عن طريق هذه المنشورات اليائسة، إلى ساحة قتال بين الشكلين للقديم والجديد من المسيحية، وقدر سفير البندقية في بلاط شارل أن 30. 000 شخص، وهم كل المنكرين للتعميد تقريباً، هلكوا عام 1546 في هذه المذبحة الإمبراطوريّة الطويلة (23)، التي قتل فيها الآمنون من المواطنين، وخفض تقدير آخر أقل إثارة عدد الضحايا إلى 10. 000 شخص (24). وبقدر ما كان الهولنديون المنكرون للتعميد مهتمين، بقدر ما نجحت محكمة التفتيش الكارولينية، وظل بقية منهم على قيد الحياة في هولندة بإبداء عدم المقاومة، وهرب بعضهم إلى إنجلترا، حيث أصبحوا من أنصار البروتستانتية النشطين في عهد إدوارد السادس(25/247)
وإليزابث. وانهارت الحركة الشيوعية في الأراضي المنخفضة بعد أن روعها الاضطهاد وخنقها الرخاء.
ولكن عندما انحصرت موجة المنكرين للتعميد تدفق نهر من الهوجينوت المطاردين إلى الأراضي المنخفضة من فرنسا، وجاءوا معهم بإنجيل كالفن، وراقت الحماسة الصارمة القائلة بالحكم الديني للهرطقة الجديدة، لمن ورثوا تقاليد المتصوفة وإخوان الحياة المشتركة، وكان قبول كالفن للعمل باعتباره كرامة بدلاً من أن يعد لعنة، وللثورة باعتبارها بركة بدلاً من أن تعد جريمة، وللنظم الجمهورية باعتبارها أكثر موافقة من الملكية للمطامح السياسية لطبقة رجال الأعمال، يحتوي على أجزاء تلقى ترحيباً متفاوتاً من كثير من العناصر بين السكان. وما أن حل عام 1555 حتى كانت هناك جماعات كالفينية للمصلين في إيبرس وتورناي وفالنسينس وبروجس وغنت وأنتروب، وكانت الحركة تنتشر في هولندة ويرجع الفضل إلى الكالفينية لا إلى اللوثرية، أو مذهب المنكرين للتعميد، في أن ابن شارل سوف يحصر خلال جيل مرير، في صراع قدر له أن يشطر الأراضي المنخفضة إلى قسمين، ويحرر هولندة من السيطرة الإسبانية، ويجعلها موطناً وملجأ من أعظم المواطن والملاجئ للفكر الحديث.
وفي عام 1555 طرح شارل الخامس كل أحلامه ما عدا حلمه بأن يموت في طهارة، وتخلى عن أمله في قمع البروتستانتية في ألمانيا والأراضي المنخفضة أو مهادنة الكاثوليكية في مجلس ترنت، وتخلى عن طموحه في زعامة البروتستانت والكاثوليك والألمان والفرنسيين، في زحف رائع يقوم به ضد سليمان والقسطنطينية والتهديد التركي للعالم المسيحي. وقد أدى إفراطه في الطعام والشراب والعلاقات الجنسية وحملاته المنهكة وأعباء منصب واجه صدمة تغيير ثوري إلى تحطيم جسده وتبلد سياسته وتحطيم(25/248)
إرادته. وكان يشكو من قروح، وهو في الثالثة والثلاثين، واكتهل في الخامسة وأصيب وهو في الخامسة والأربعين بالنقرس والربو وسوء الهضم والتأتأة، وكان وقتذاك يقضي نصف وقت يقظته في ألم، ووجد أنه من الصعب عليه أن ينام، وكثيراً ما كانت الصعوبة التي يجدها في التنفس تجعله يجلس منتصباً طوال الليل، وكانت أصابعه مشوهة بداء المفاصل، إلى درجة أنه لم يكد يستطيع أن يقبض على القلم، الذي وقع به على صلح كريبي. وعندما قدم كوليني رسالة من هنري الثاني، لم يستطع شارل أن يفتحها إلا بصعوبة وقال متسائلاً: "ما رأيك في يا سيدي أمير البحر؟ ألست فارساً رائعاً يستطيع أن يهاجم ويحطم حربة، أنا الذي لا أستطيع أن أفتح خطاباً إلا بعد مشقة كبيرة؟ (25) ". ولعل قسوته العارضة وشيئاً من الوحشية التي هاجم بها البروتستانتية في الأراضي المنخفضة، ترجع إلى نفاد صبره بسبب آلامه. وأمر بقطع أقدام الأسرى من الجنود الألمان المرتزقة، الذين حاربوا في صفوف فرنسا، على الرغم من أن ابنه الذي قدر له أن يكون فيليب الثاني الصلب الرأي، طلب لهم الرحمة (26)، وقد حزن حزناً مريراً دام طويلاً لوفاة زوجته الحبيبة إيزابلا (1539)، ولكنه سمح في حينه بحضور عذارى لا حول لهن ولا طول إلى مخدعه (27).
ودعا في خريف عام 1555 إلى عقد اجتماع لمجلس الطبقات في الأراضي المنخفضة، يوم 25 أكتوبر، واستدعى إليه فيليب من إنجلترا. وفي قاعة دوقات برابانت الواسعة المغطاة بالسجاجيد في بروكسل حيث اعتاد فرسان الجزة الذهبية أن يعقدوا اجتماعاتهم، اجتمع النواب والنبلاء والحكام من سبع عشرة مقاطعة في نطاق حرس من الجند المدججين بالسلاح. ودخل شارل يستند على كتف وليام أف أورانج، الذي قدر له أن يكون عدواً لابنه في المستقبل. وتبعه فيليب مع نائبة الإمبراطور ماري الهنغارية، ثم أمانويل فيليبرت أف سافوي، ومستشارو الإمبراطور، وفرسان الجزة(25/249)
الذهبية، وكثير من الأعيان الآخرين الذين أقبلت عليهم الدنيا يوماً قبل أن تنساهم. وعندما جلس الجميع نهض فيليبرت وشرح في إسهاب ووضوح اغتبط لهما شارل، الأسباب الصحية والعقلية والسياسية التي حدت بالإمبراطور إلى إبداء رغبته في أن يتنازل عن حكم الأراضي المنخفضة لابنه. ثم وقف شارل نفسه وهو يتكئ من جديد على أمير أورانج الوسيم فارع القامة، وتحدث ببساطة، وفي صميم الموضوع، ولخص كيف ارتقى إلى أن بلغ آفاقاً متسعة من السلطان على التعاقب وتحدث عن ذوبان حياته في الحكم. وتذكر أنه زار ألمانيا تسع مرات وإسبانيا ستاً وفرنسا أربعاً وإنجلترا وأفريقية مرتين، وقام بإحدى عشرة رحلة بالبحر واستأنف كلامه قائلاً:
هذه هي المرة الرابعة التي أفكر فيها في الذهاب لإسبانيا من الآن ... ولم يسبق أن جربت شيئاً سبب لي مثل هذا الألم العظيم ... الذي أشعر به وأنا أفترق عنكم من اليوم دون أن أترك خلفي ذلك السلام والهدوء اللذين طالما رغبت في تحقيقهما ... ولكني لم أعد قادراً على مباشرة شئوني دون أن أشعر بتعب شديد يسري في بدني، وبالتالي ألحق بالدولة الضرر ... وإن ما يتطلبه تحمل المسؤولية من اهتمام عظيم، وما تسببه خور بالغ للعزيمة، وصحتي التي تدهورت من قبل، كل هذه لم تعد تترك لي القوة اللازمة للحكم ... وينبغي لي في حالتي هذه أن أقدم لله والانسان حساباً خطيراً إذا لم أطرح السلطة عن كاهلي ... وأن ابني، الملك فيليب قد وصل إلى سن تكفي لأن يكون قادراً على حكمكم، وهو، كما ارجو، أمير صالح لكل رعاياي المحبوبين (28).
وعندما تهالك شارل متألماً في مقعده نسى الحاضرون خطاياه واضطهاده وهزائمه، رثاء لرجل عمل جاهداً مدى أربعين عاماً، حسب ما أملته عليه آراؤه وسمحت به قدرته، تحت وطأة أثقل الالتزامات في عصره، وبكى كثير من السامعين. ونصب فيليب رسمياً حاكماً للأراضي المنخفضة، وحلف(25/250)
يميناً مغلظة (كما سوف يذكر بها فيما بعد) أن يراعى كل القوانين والحقوق التقليدية للمقاطعات. وفي أوائل عام 1556 سلم له شارل تاج إسبانيا، بكل ممتلكاته في العالم القديم والعالم الجديد، واحتفظ شارل باللقب الإمبراطوري، وكان يأمل أن ينقله لابنه قريباً، ولكن فرديناند احتج، وفي عام 1558 تنازل الإمبراطور عن لقبه لأخيه. وسافر شارل بحراً في السابع عشر من سبتمبر سنة 1556 من فشلنج إلى أسبانيا.
6 - إسبانيا
أ- ثورة العامة
1520 - 1522
كانت نعمة مشكوكاً فيها لإسبانيا أن يصبح الملك شارل الأول (1516 - 56) الإمبراطور شارل الخامس (1519 - 58). وولد وتربى في الفلاندرز: وتعلم مناهج الحياة الفلمنكية، واكتسب الأذواق الفلمنكية، إلى أن تغلبت عليه روح إسبانيا في سنواته. ولم يكن في وسع الملك إلا أن يصبح جزءاً صغيراً من الإمبراطور، الذي كان مشغولاً تماماً بالإصلاح الديني والبابوية وسليمان وبارباروسا وفرانسيس الأول، وشكا الإسبان أنه لم يمنحهم إلا القليل من وقته، وأنه أنفق الكثير من مواردهم البشرية والمادية في المحلات التي كانت في الظاهر لا تهم المصالح الأسبانيّة، وكيف كان في وسع إمبراطور أن يتعاطف مع نظم جماعية جعلت إسبانيا تتمتع بنصف ديمقراطية، قبل مجيء فرديناند الكاثوليكي، وكانت تتوق كثيراً إلى أن تستعيدها؟.
وقام بأول زيارة لمملكته (1517) ولم تكسبه حب أحد، وعلى الرغم من مضي عشرين شهراً عليه وهو ملك، فإنه كان لا يزال لا يعرف الإسبانيّة وكان عزله الفظ لأكسيمينس صدمة للدماثة الإسبانية. وجاء يحيط فلمنكيون، ظنوا إسبانيا بلداً همجياً تنتظر مَن يحلبها. وعين الملك البالغ من العمر سبعة عشر عاماً هذه الديدان الطبية في أعلى المناصب، ولم تخفِ المجالس التشريعية الإقليمية المختلفة التي يسيطر عليها صغار النبلاء، نفورها وعدم رضاها(25/251)
عن ملك أجنبي. ورفض المجلس التشريعي في قشتالة أن يعترف له باللقب، ثم اعترف به على كره منه حاكماً، تشترك معه في الحكم أمه المعتوهة جوانا، وجعله يفهم أنه لابد من أن يتعلم الإسبانيّة، ويعيش في إسبانيا، وألا يعين مزيداً من الأجانب في أي منصب. وقدمت المجالس التشريعية طلبات مماثلة. ووسط مظاهر الإذلال التي تعرض لها شارل تلقى أنباء بأنه انتخب إمبراطوراً، وأن ألمانيا كانت تدعوه للحضور لكي يتوج. وعندما سأل المجلس التشريعي في بلد الوليد (وكانت وقتذاك العاصمة) أن يمول الرحلة مني بالفشل والخيبة، وساد هرج هدد حياته. وحصل آخر الأمر على المال من المجلس التشريعي في كورونا وأسرع إلى الفلاندرز. ولكي يجعل الأمور محفوفة بالمخاطر أضعافاً مضاعفة أرسل نواباً corregidores لحماية مصالحه في المُدن، وترك مربيه السابق أدريان كاردينال أترخت نائباً له في إسبانيا.
وثارت البلديات الإسبانيّة واحدة وراء الأخرى في "ثورة أعضاء الكومون" ونفوا النواب corregidores وقتلوا بعض النواب الذين صوتوا بالموافقة على منح أموال لشارل، وتحالفوا فيما يعرف باسم Santa Communidad الذي تعهد بالإشراف على الملك. وانضم النبلاء ورجال الكنيسة وأوساط الناس إلى الحركة ونظموا في أفيلا (أغسطس سنة 1520) الـ Santa Iunta أو الاتحاد المقدس ليكون بمثابة حكومة مركزية. وطالبوا بضرورة اشتراك المجالس التشريعية مع المجالس الملكية في اختيار نائب الملك، وعدم شنَّ حرب بغير موافقة المجالس التشريعية، وألا يحكم المدينة النواب بل يحكمها قضاة، أو عمد يختارهم المواطنون (29). ودافع أنطونيو دي أكونيا أسقف سمورة علناً عن قيام جمهورية، وحول أتباعه من رجال الأكليروس إلى محاربين ثوريين، وقدم موارد أسقفية للثورة. وعين جوان دي باديلا، وهو نبيل من طليطلة، قائداً لقوات الثوار. فقادها لتستولي على نورديسيلاس، وأخذ جوانا لالوكا رهينة،(25/252)
وحثها على أن توقع وثيقة، تخلع فيها شارل، وتعين نفسها ملكة، وكانت عاقلة في جنونها، فرفضت.
ولم يكن لدى أدريان ما يكفي من الجند لقمع الثورة، فاستغاث بشارل وطلب منه العودة، وألقى تبعة قيام الثورة صراحة على تحكم الملك وحكمه الغيابي. ولم يحضر شارل، ولكنه وجد هو أو مستشاروه سبيلاً لإشاعة الانقسام والانتصار. فقد حذر النبلاء أن الثورة كانت تهديداً لطبقات أصحاب الأملاك وللتاج على السواء، والحق أن الطبقات العاملة، التي ظلمت منذ عهد بعيد بالأجور الثابتة، والعمل سخرة، وتحريم الاتحاد، كانت قد استولت من قبل على السلطة في عدة مُدن. وفي بلنسية والمنطقة المجاورة لها قبض الجرمانيا Germania أو اخوة أبناء الطوائف الحرفية على الزمام، وسيطروا على لجان العمال. وكانت هذه الدكتاتورية البروليتارية نقية على غير العادة، وفرضت على آلاف المغاربة الذين ظلوا في المقاطعة أن يختاروا بين التعميد والموت. وقتل آلاف من الذين رفضوا في عناد (30). وثار العامة في ماجوركا، الذين عاملهم سادتهم كالعبيد، ثورة مسلحة، وخلعوا الحاكم المعين من قبل الملك، وذبحوا كل نبيل لم يستطع أن يفلت منهم. وتخلت كثير من المُدن عن روابطها مع الإقطاعيين ومستحقاتها لهم، وفي مدريد وسجونزا ووادي الحجارة أقصت الحكومة البلدية الجديدة كل النبلاء والأعيان من المناصب، وقتل الأشراف هنا وهناك، وفرض الاتحاد Iunta ضرائب على أملاك النبلاء السابق إعفاؤها. وأصبح النهب عاماً، وأحرق العامة قصور النبلاء وذبح النبلاء العامة. وانتشر الصراع بين الطبقات في أرجاء إسبانيا.
وقضت الثورة على نفسها بالتوسع في أهدافها، توسعاً جاوز حدود طاقاتها، وانقلب عليها النبلاء، وحشدوا قواتهم، وتعاونوا مع قوات الملك، واستولوا على بلنسية، وأطاحوا بالحكومة البروليتارية، بعد أيام سقط فيها(25/253)
قتلى من الجانبين (1521)، وانقسم جيش الثوار، عندما بلغت الأزمة ذروتها، إلى فرقتين متنافستين بقيادة باديلا ودون بدرو جيرون، وانقسمت الجماعة السياسية إلى أحزاب، يناصب بعضها بعضاً العداء، وواصلت كل مقاطعة ثورتها، دون تآزر مع باقي المقاطعات.
وانطلق جيرون، وانضم إلى الملكيين الذين استولوا من جديد على تورديسلاس وجوانا. أما جيش باديلا الذي تضاءل عدد جنوده فقد هزم هزيمة منكرة في فيلالار، وأعدم باديلا. وعندما عاد شارل إلى إسبانيا (يوليو سنة 1522) ومعه 4. 000 جندي ألماني، كان النبلاء قد فازوا بالنصر، وقد أضعف النبلاء والعامة بعضهم بعضاً إلى حد أنه استطاع أن يتغلب على البلديات والطوائف الحرفية، ويروض المجالس التشريعية، ويوطد أركان ملكية تكاد تكون مطلقة. وقد قمعت الحركة الديمقراطية تماماً بحيث ظل كل العامة الأسبان خائفين خاضعين، حتى القرن التاسع عشر. وخفف شارل سلطته بالدماثة، وأحاط نفسه بالنبلاء، وتعلم الحديث بلغة إسبانية سليمة، وسرت إسبانيا عندما علق قائلاً إن الإيطالية هي اللغة اللائقة لكي تتحدث بها النساء، والألمانية هي لغة الأعداء، والفرنسية لغة الأصدقاء، والإسبانية لغة الرب (31).
ب- البروتستانت الإسبان
لم تكن هنا إلا قوة واحدة تستطيع أن تتحدى شارل - هي الكنيسة - وكان نصيراً للكاثوليكية، ولكنه مناهض للبابوية. وسعى، مثل فرديناند الكاثوليكي، إلى جعل الكنيسة الإسبانيّة مستقلة عن البابوات ونجح في هذا إلى حد أن التعيينات في مناصب الكنيسة ودخول الكنيسة إبان حكمه كانت في يديه، واستخدمت لرفع شأن السياسة الحكومية: ولم تكن هناك حاجة للإصلاح الديني في إسبانيا، كما هو الحال في فرنسا، لكي تتبع الكنيسة(25/254)
الدولة. ومع ذلك فإن الحماسة للعقيدة المحافظة الإسبانيّة، إبان نصف مدة حكمه، التي قضاها في مملكته، استحثته إلى حد أنه في سنواته الأخيرة لم يكن هناك أمر (باستثناء قوة آل هايسبرج) يهمه أكثر من قمع الهرطقة.
وبينما حاول البابوات أن يخففوا من وطأة محكمة التفتيش فإن شارل أيدها حتى وفاته. وكان مقتنعاً بالهرطقة في الأراضي المنخفضة كانت تؤدي بها إلى الفوضى والحرب الأهلية، وصمم أن يمنع حدوث مثل هذا التطور في إسبانيا.
وأخمدت محكمة التفتيش الإسبانيّة سورة غضبها، ولكنها مدت رقعة اختصاصها القضائي في عهد شارل. فاضطلعت بعبء الرقابة على المصنفات، وقامت بتفتيش كل مخزن للكتب، وأمرت بإحراق الكتب الموصومة بالهرطقة (32). واستقصت حالات الانحراف الجنسي وعاقبت عليها: ووضعت قواعد نقاء الدم Limpieza، التي أغلقت كل طرق التمييز أمام ذرية المتحولين إلى غير دينهم Conversos وكل مَن عاقبتهم المحكمة. وكانت تنظر إلى المتصوفة نظرة قاسية، لأن بعض هؤلاء ادعوا أن صلتهم المباشرة بالله أعفتهم من حضور الصلاة في الكنيسة، وأضفى آخرون على حالات وجدهم الصوفي طعماً جنسياً مشبوهاً. وأعلن الواعظ العلماني بدرو رويز دي الكراز أن الجماع هو اتحاد بالرب حقاً، وقال الأخ الراهب فرانسيسكو أورتيز مفسراً أنه عندما يرقد مع زميلة متصوفة جميلة فإنه لا يرتكب خطيئة من خطايا الجنس، بل ينعم بمتعة روحية (33). وعاملت محكمة التفتيش برفق هؤلاء المتنورين Alumbrados واحتفظت بأقسى إجراءاتها ضد البروتستانت في إسبانيا.
وكما حدث في شمالي أوربا وقعت مناوشة أرازمية قبل معركة البروتستانت، وهتف بعض رجال الكنيسة المتحررين استحساناً لانتقادات علماء الإنسانيات لأخطاء رجال الأكليروس، ولكن أكسيمنيس وآخرين(25/255)
كانوا قد قوموا من قبل المظالم البارزة أكثر من غيرها، قبل مجيء شارل. ولعل اللوثرية كانت قد تخللت أرض إسبانيا مع الألمان والبلجيكيين المتكلمين بالفلمنكية في الحاشية الملكية. وأدانت محكمة التفتيش ألمانيّاً في بلنسية عام 1524، لأنه جاهر بالتعاطف مع لوثر، وحكم على فلمنكي بالسجن مدى الحياة عام 1528، لتشككه في المطهر وصكوك الغفران، وأحرق في المحرقة فرانسيسكو دي سان رومان، أول مَن عرف من اللوثريين الأسبان عام 1542، بينما كان المشاهدون المتحمسون يطعنونه بسيوفهم. واعتنق جوان ديازاف كوينكا، الكالفينية في جنيف، فاندفع أخوه الفونسو من إيطاليا ليحوله مرة أخرى إلى العقيدة المحافظة، وعندما فشل الفونسو عمل على قتله (1546) (34) وسجن جوان جيل، أو أجيديو، وهو كبير قساوسة متعلم في أشبيلية، لمدة عام بسبب وعظه ضد عبادة الصور والصلاة للقديسين وفاعلية الأعمال الصالحات في الفوز بالخلاص. ونبشت عظامه بعد وفاته وأحرقت، وواصل رفيقه كبير القساوسة كونستانتينو بونس ديلافوينتي، دعايته، ومات في سجون محكمة التفتيش. وأحرق أربعة عشر من زملاء كونستانتينو، ومنهم أربعة رهبان وثلاثة نساء، وحكم على عدد كبير بعقوبات مختلفة، ودك البيت الذي اجتمعوا فيه حتى سوي بالأرض.
وتطورت جماعة نصف بروتستانتية أخرى في بلد الوليد، وهنا تورط نبلاء من ذوي النفوذ ورجال دين من أصحاب الرتب الرفيعة. ووشي بهم لمحكمة التفتيش، وقبض عليهم جميعاً تقريباً وحكم عليهم بالإدانة، وحاول البعض مغادرة إسبانيا فقبض عليهم وأعيدوا. وكان شارل الخامس وقتذاك يستحم في يوستى، فأوصى بعدم إظهار أية رحمة في معاملتهم، وقطع رأس النائبين وإحراق مَن يرفضون التوبة. وفي يوم أحد الثالوث الموافق 21 مايو سنة 1559 أعدم أربعة عشر من المحكوم عليهم أمام جمع متهلل (35). وتراجع الجميع عما قالوا إلا واحداً، وعوملوا برفق، وقطعت رءوسهم، أما أنطونيو(25/256)
دي هرزويلو الذي رفض التوبة فقد أحرق حياً. وسمح لزوجته ليونور دي سيزنيروس البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاماً بالسجن مدى الحياة. وبعد أن أمضت عشر سنوات في السحن، عدلت عن إنكارها لما قالت وجاهرت بهرطقتها، وطالبت أن تحرق حية مثل زوجها فأجيبت إلى ملتمسها (36). وعرض ستة وعشرون آخرون من المتهمين للحرق أحياء في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1559، أمام حشد مكون من 200. 000 شخص، يرأسه فيليب الثاني. وحرقت ضحيتان وهما حيتان وخنق عشرة.
وكان بارتلومي دي كارانزا، رئيس أساقفة طليطلة ورئيس أساقفة إسبانيا، أشهر فريسة وقعت في براثن محكمة التفتيش في هذه الفترة. وكان باعتباره من الكومنيكان قد قام بنشاط كبير من مطاردة الهراطقة والإيقاع بهم، وعينه شارل مبعوثاً له في مجلس ترنت، وأرسله إلى إنجلترا لحضور زواج فيليب والملكة ماري. وعندما انتخب رئيساً للأساقفة (1557) كان الاختيار بالإجماع ما عدا صوته. ولكن بعض "البروتستانت" الذين قبض عليهم في بلد الوليد شهدوا بأن كارانزا كان قد تعاطف سراً مع آرائهم، ووجد أنه كان قد راسل المصلح الديني الإسباني الإيطالي جاون دي فالديس، واتهمه عالم اللاهوت ذو النفوذ ملشيور كانو بأنه كان يعضد العقيدة اللوثرية في التزكية بالإيمان. ولم يقبض عليه إلا بعد سنتين من ارتفاع شأنه ووصوله إلى أعلى منصب كنسي في إسبانيا، ونستطيع أن نحكم من هذا على مدى قوة محكمة التفتيش. وظل سبعة عشر عاماً معتقلاً في سجن أو غيره، بينما كانت تصرفاته في حياته ورسائله تتعرض للفحص والاستقصاء في طليطلة وروما. وأعلن جريجوري الثالث عشر أنه "مشتبه فيه بشدة" بالهرطقة وأمره بأن ينكر ستة عشر ادعاء، وأوقفه لمدة حمس سنوات عن مباشرة وظيفته. وتقبل كارانزا الحكم في ذلة،
وحاول أن(25/257)
يؤدي الكفارات التي فرضت عليه، ولكنه مات في خلال خمسة أسابيع بعد أن أنهكه السجن والإذلال (1556).
وبموته زال خطر البروتستانتية عن إسبانيا، وحدث أن أعدم حوالي 200 شخص بين عامي 1551 و 1600، لما نسب إليهم من هرطقات بروتستانتية - أي بواقع أربعة أشخاص كل عام. وقد تجمد طبع الناس، الذي كان قوامه من كراهية المغاربة واليهود، التي تأصلت جذورها قروناً طويلة، في عقيدة محافظة لا تتزعزع، وامتزجت الكاثوليكية وحب الوطن، ووجدت محكمة التفتيش أن من اليسير أن تسحق، في خلال جيل أو جيلين، المغامرة الإسبانيّة العابرة التي اتسمت بفكر مستقل.
جـ- الإمبراطور يموت
1556 - 1558
وقام شارل الخامس في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1556 بالدخول إلى إسبانيا لآخر مرة. واستغنى في برجوس عن خدمات معظم الذين كانوا قد عملوا معه ومنحهم مكافآت، وودع شقيقته، ماري الهنغارية والينورا، أرملة فرانسيس الأول. وأبديا رغبتهما في مشاركته اعتزاله في الدير، ولكن القواعد منعتهما، فاتخذا لهما مسكناً في موضع لا يبعد كثيراً عن هذا الشقيق الذي يبدو أنه لم يكن هناك مَن يحبه وقتذاك سواهما. وبعد أن أقيمت له عدة احتفالات في الطريق، وصل قرية جوانديلا في وادي بلازنسيا، على مسيرة نحو 120 ميلاً غربي مدريد، ولبث هناك عدة شهور، ريثما أكمل العمال الحجرات التي أمر بتجهيزها وتأثيثها في دير يوستى (سانت جوستوس) على مسيرة ستة أميال. وعندما قام بالمرحلة الأخيرة من رحلته (3 فبراير سنة 1557)، لم ينتقل إلى خلوة في دير بل إلى قصر ريفي فسيح، اتسع لإقامة المقربين من تابعيه الخمسين. وابتهج الرهبان بوجود ضيف عظيم مثله، بيد أنهم اكتأبوا عندما(25/258)
وجدوا أنه ليس لديه النية في أن يشاركهم حميتهم ونظامهم، فقد كان يأكل ويشرب كميات كبيرة، كما كان يفعل من قبل - أي بإفراط، وكانت عجات السردين وسجق الأسترمادورا وفطائر ثعبان السمك، ولحم الحجل المملح والديوك الخصية السمينة وأنهار من النبيذ والجعة، تختفي في كرشه الإمبراطوري، واضطر أطباؤه إلى أن يصفوا له كميات كبيرة من السنامكي والراوند للتخلص من الزيادة في وزنه.
وبدلاً من أن يتلو شارل تسابيحه وأوراده ومزاميره كان يقرأ رسائل من ابنه أو يملي رسائل له، وكان يعرض عليه النصيحة في كل وجه من وجوه الحرب واللاهوت والحكم. وأصبح في العام الأخير من عمره متعصباً متطرفاً قاسياً، وأوصى بتوقيع عقوبات وحشية "لاستئصال جذور" الهرطقة، وأسف لأنه كان قد سمح للوثر بالهرب منه في ورمس. وأمر بجلد أي امرأة مائة جلدة إذا اقتربت من أسوار الدير قاب قوسين أو أدناه (37). وراجع وصيته لكي ينص فيها على إقامة 30. 000 قداس من أجل طمأنينة روحه. ويجب ألا نحكم عليه من أعماله في أيام الشيخوخة هذه، ولعل لوثة خبل قد انتقلت إليه بالوراثة من أمه.
وفي أغسطس عام 1558 انقلب النقرس الذي يشكو منه إلى حمى ملتهبة. وعاودته هذه بصورة متقطعة، وأخذت تشتد يوماً بعد يوم، وظل شهراً يتعذب بكل آلام النزع الأخير قبل أن تزهق روحه (21 سبتمبر سنة 1558). وفي عام 1574 أمر فيليب بنقل الجثة إلى الأسكوريان حيث يرقد تحت نصب تذكاري فخم.
وكان شارل الخامس أكبر فاشل في عصره، بل إن فضائله كانت أحياناً بؤساً وشقاء للإنسانية. ومنح إيطاليا السلام، ولكن لم يتم هذا إلا بعد مرور عقد من الزمان. تعرضت فيه للتخريب، وبإخضاعها(25/259)
هي والبابوية لإسبانيا، وجف عود النهضة الإيطالية تحت رئاسته الكئيبة، وهزم فرانسيس وأسره، ولكن ضاعت منه في مدريد فرصة ملكية ليبرم معه معاهدة كانت حرية بأن تنقذ ما كل الوجوه ومائة ألف روح. وعاون في إعادة سليمان إلى بلاده في فيينا، وصد بارباروسا في البحر الأبيض المتوسط، وقوى مركز آل هايسبورج، ولكنه أضعف الإمبراطوريّة، وفقد اللورين وسلم بورغنديا، وأحبط أمراء ألمانيا محاولة لتركيز السلطة هناك، وكانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة منذ عهده نسيجاً واهياً، تنتظر نابليون ليحكم بإعدامها، وفشلت جهوده لسحق البروتستانتية في ألمانيا، وترك الأسلوب الذي انتهجه في قمعها في الأراضي المنخفضة تراثاً محزناً لابنه. وكان قد وجد المُدن الألمانية مزدهرة وحرة، وتركها ترزح ألماً تحت وطأة إقطاع رجعي، وعندما جاء إلى ألمانيا كانت تنبض بالحياة، فيها أفكار ونشاط تبز بهما أية أمة أخرى في أوربا وعندما تنازل عن عرشه كانت ضعيفة واهنة روحياً وفكرياً، وظلت جدباء مدى قرنين. وكانت السياسة التي انتهجها في ألمانيا وإيطاليا سبباً واهياً لما لحقهما من ضعف، أما في إسبانيا فكان عمله هو الذي سحق حرية البلديات وقوتها، وكان حرياً بأن يبقي إنجلترا في حظيرة الكنيسة بإقناع كاثرين أن تسلم بحاجة هنري إلى وريث، وبدلاً من أن يفعل ذلك أجبر كليمنت على اتخاذ موقف فيه تذبذب، يؤدي إلى الخراب.
ومع ذلك فإن استبصارنا المتأخر هو الذي يرى أخطاءه وجسامتها، وفي وسع حسنا التاريخي أن يصفح عنها باعتبارها متأصلة بجذورها في قيود بيئته العقلية وفي أوهام العصر العاتية. وكان اقدر سياسي بين معاصريه، ولكنه لم يكن كذلك إلا بمعنى أنه عالج بشجاعة أعمق موضوعات النزاع في أوسع مدى وصلت إليه. وكان رجلاً عظيماً حطت من شأنه مشكلات عصره وحطمته.(25/260)
ونفذت إلى حكمه الطويل حركتان أساسيتان، وكانت أعظمهما نمو القومية في عهد ملكيات تنزع إلى المركزية، وفي هذه لم يكن له فيها نصيب. وأعظمها من الناحية الدرامية ثورة دينية، حفزت إليها الانقسامات والمصالح القومية والإقليمية. وقبلت شمالي ألمانيا وإسكنديناوة اللوثرية، أما جنوب ألمانيا وسويسرة والأراضي المنخفضة فقد انقسمت إلى طائفتين بروتستانتية وكاثواليكية، وأضحت إسكوتلندة كاللفينية مشيخية، وإنجلترا كاثوليكية أنجيلكانية أو بيوريتانية كالفينية. وظلت إيرلندة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال موالية لبابوية بعيدة أو مهذبة. ومع ذلك نشأ تكامل واهٍ، وسط ذلك الانقسام المزدوج: فقد وجدت الولايات المستقلة المعتزة بنفسها أنها في حاجة إلى بعضها البعض، لضمان استقلالها، كما لم يحدث من قبل، وأنها مرتبطة بصورة متزايدة في نسيج اقتصادي، وأنها تؤلف مسرحا رحيباً لمناهج سياسية متشابكة العلاقات، وحروب وقانون بأدب وفن. كانت أوربا التي عرفها شبابنا تتخذ شكلها.(25/261)
الفصل التاسع والعشرون
توحيد روسيا
1300 - 1584
1 - الشعب
في سنة 1300 لم يكن لروسيا وجود. وكان معظم القسم الشمالي يتبع ثلاث مدن دولة تحكم نفسها بنفسها، وهي نوفجرد Novgorod، فياتكا Viatka، بسكوف Pskov. وكانت المقاطعات الغربية والجنوبية خاضعة للتوانيا. أما في الشرق فأن إمارات موسكو وريازان وسوزدال ونجنى نفجرد وتفر Tver، ادعت كل منها لنفسها حق السيادة، ولم يربطها بعضها ببعض إلا اشتراكها في الخضوع "للقبيلة الذهبية".
وقد اتخذت "القبيلة الذهبية Golden Horde" هذه التسمية من اللفظة التركية أوردو Ordu ومعناها "المخيم"، أما وصفها "بالذهبية" فيرجع إلى الخيمة ذات القبة، والتي كانت موشاة بغطاء من الذهب، وكانت مقر قيادة "باتو الرائع" حفيد جانكيزخان، وبعد أن تم لهؤلاء الآسيويين الغزاة فتح جنوب روسيا وغرب آسيا، شيدوا عاصمتهم في "سراي" Sarai على أحد فروع نهر الفولجا الأدنى، وهناك تقاضوا جزية سنوية من الأمراء الروس. وكانت "القبيلة" موزعة بين الزراعة وارعي المتنقل، وكانت الأسرات الحاكمة من المغول، أما بقية السكان فكان معظمهم من الأتراك، وقد أطلق على القبيلة اسم "تتار" نسبة إلى قبائل "تاتا Ta-ta" من صحراء(26/1)
جوبى، وهي قبائل بدأت في القرن التاسع الزحف المغولي نحو الغرب، وكانت النتائج الأساسية التي ترتبت على طول خضوع روسيا "للقبيلة" نتائج اجتماعية: وهي استبداد أدواق موسكو، وولاء الأهالي ولاء ذليلاً لأمرائهم، والمركز الوضيع للمرأة في المجتمع، وتنظيم حكومة موسكو وفقاً لأساليب التتار من النواحي العسكرية والمالية والقضائية. وقد عاقت سيطرة التتار محاولة روسيا لمدة قرنين من الزمان أن تصبح دولة أوربية غربية.
وواجه الشعب الروسي أشق الظروف بعدم اكتراث رواقي صامت، اللهم إلا أنهم في غمرة آلامهم وأحزانهم، وجدوا في أنفسهم الشجاعة لممارسة الغناء. ونعتهم أعداؤهم بالخشونة والقسوة والخيانة والخبث والعنف (1). ولاشك أن الكد والنصب، وقسوة المناخ، كل أولئك أكسبهم صلابة، على أن ما تميزوا به من الصبر وروح المرح والمودة وكرم الضيافة، كان غيه تعويض كبير لهم، إلى حد أنهم مالوا إلى الاعتقاد بأنهم "أكثر إنسانية"، وأنهم "ملح الأرض" (إشارة إلى ما جاء في إنجيل متى: 5 - 13): لقد أدخلوا قسرا إلى المدنية بقوانين همجية وعقوبات رهيبة، من ذلك - كما روى لنا- أن المرأة التي تقتل زوجها كانت تدفن حية حتى عنقها، وأن السحرة والمشعوذين كانوا يحرقون أحياء في قفص من حديد، وأن مزيفي النقود كان يصب في حلوقهم معدن مصهور (2). وكأي شعب يقاوم البرد كان الروس يدمنون المشروبات الروحية إلى حد فقدان الوعي أحياناً، كما كانوا يضيفون إلى طعامهم التوابل التماساً للدفء. واستمتعوا بالحمام الساخن، وكانوا يستحمون أكثر من معظم الأوربيين، وكان من أوامر الدين عندهم أن تخفي المرأة مفاتن جسمها وشعرها، كما دمغ الدين النساء بأنهن أولياء الشيطان، ومع دلك تساوين بالرجال أمام القانون، وكثيراً ما شاركن في تسليتهم أو في الرقص، وهو ما كان محرماً باعتباره خطيئة. وكانت الكنيسة الروسية تحض بشدة على مكارم الأخلاق، وتحرم(26/2)
عقد الزيجات واقتراب الرجل من المرأة في أيام الصوم الكبير. ومن ثم كانت صرامة الشريعة حائلا دون نزوع الشعب إلى الإفراط في الانغماس فيما يكاد أن يكون المسرة الوحيدة التي تركت له، وكان الوالدان هما اللذان يدبران شئون الزواج، وكان يتم في سن مبكرة، فكانت البنت في سن الثانية عشرة والولد في سن الرابعة عشرة يعتبران صالحين للزواج. وكانت مراسم العرس معقدة تصحبها الأشياء الرمزية القديمة والأفراح التي كان مطلوباً من العروس في أثنائها أن تلزم الصمت الموسوم بالحياء، ولسوف تعوض عن ذلك فيما بعد. وكان ينتظر منها أن تقدم إلى والدة زوجها غداة العرس ما يثبت أنه بنى بعذراء، وكان الحريم يبقين في طابق أعلى بعيداً عن الرجال، وكانت سلطة الرجل في الأسرة مطلقة مثلها في ذلك مثل سلطة القيصر في الدولة.
وسما الورع عند الروس بالفقر حتى جعل منه سبيلاً إلى الجنة. وكان كل بيت مهما صغر أو كبر يضم غرفة مزدانة بالأيقونات أو الصور المقدسة، بمثابة مكان للصلاة من حين لآخر. وكان الزائر الصالح يحيى هذه الصور المقدسة قبل التسليم على أهل البيت. وكانت النساء الصالحات يحملن مسابح أينما ذهبن. وكانت الابتهالات تتلى بمثابة تعاويذ ورقى سحرية، ومن ثم- كما يروى كتاب مشهور من القرن السادس عشر اسمه "كتاب الأسرة Domostroi " فإن ابتهالات معينة تكرر في اليوم 600مرة لمدة ثلاث سنوات، قد تؤدى إلى تجسد الآب والابن والروح القدس في شخص المتضرع (3). ومع ذلك كان هناك كثير من المظاهر الجميلة في هذه الديانة الممتلئة بالخرافات. فكان الناس في صبيحة يوم عيد الفصح يحيون بعضهم بعضاً بهذه الألفاظ البهيجة " المسيح قام". وفي ظل هذا الأمل هان أمر الموت إلى حد ما. فإذا حانت منية الرجل الطيب الوقور سدد ديونه وأعفى المدينين له، وأعتق واحداً أو أكثر من أرقائه، ووزع(26/3)
الصدقات على الفقراء والكنيسة، ولفظ الأخيرة وكله أمل وثقة في الدار الآخرة.
وعملت الكنيسة الروسية على تقوية الورع عن طريق فن العمارة والرسوم الحائطية والأيقونات والعظات القوية وحفلات التنويم المغناطيسي، والترانيم التي يشترك في إنشادها عدد كبير من المرتلين، والتي كانت تبدو وكأنها تخرج من أخفى أعماق النفس أو المعدة، وكانت الكنيسة لساناً قوياً ناطقاً باسم الدولة، وتثاب على الخدمات التي تؤديها في تعليم الآداب والأخلاق وتقويم السلوك وتوطيد دعائم النظام الاجتماعي بأوفى مثوبة. وكانت الأديرة كثيرة ضخمة. من ذلك أن "دير الثالوث الأقدس" الذي أسسه القديس سرجيوس في سنة 1335، كان قد جمع في عام 1600 من الأراضي الشاسعة ما يحتاج إلى أكثر من مائة ألف فلاح لزرعها. وفى مقابل ذلك وزعت الأديار الصدقات على الروس، وكان بعضها يطعم 400 شخص في اليوم، وفي إحدى سنوات القحط كان دير فولوكولامسك Volokolamsk يطعم سبعة آلاف شخص يومياً. وكان الرهبان يقطعون على أنفسهم عهداً بالتزام العفة، ولكن الكهنة كانوا يضطرون إلى الزواج. وكان معظم هؤلاء "الآباء" أميين، ولكن الشعب لم يكن يعيب عليهم ذلك. وكان مطارنة موسكو في معظم الأحوال أكثر أهل زمانهم كفاية ومقدرة وعلماً، وكانوا يبذلون ثرواتهم للحفاظ على الدولة، ويوجهون الأمراء على طريق الوحدة الوطنية. وكان سانت ألكسيس هو الحاكم الفعلي لروسيا طوال توليه منصبه (1354 - 1370). إن الكنيسة الروسية بكل أخطائها التي ربما تكون قد فرضتها عليها مهامها- نقول إن هذه الكنيسة في عصر التكوين والتشكيل هذا، كانت بمثابة العامل الأبرز والأهم في تمدين الشعب الذي صبرته وحشياً مصاعب الحياة وضراوة طبيعة الانسان ذاته.(26/4)
وحين رفضت الكنيسة الروسية في 1448 اندماج الكنيسة اليونانية مع الكاثوليكية الرومانية في مجلس فلورنسة، أعلنت استقلالها عن البطريرك البيزنطي، وبعد ذلك بسنوات خمس حين سقطت القسطنطينية في يد الأتراك، أصبحت موسكو عاصمة المذهب الأرثوذكسي. وحوالي 1505 كتب راهب متحمس إلى أمير عظيم في موسكو "اعلم الآن أن سلطان المسيحية بأسرها قد آل إليك، لأن روما الأولى وروما الثانية (يقصد روما والقسطنطينية) قد سقطتا، أما الثالثة فهي صامدة، ولن يكون هناك رابعة، لأن إمبراطوريتك المسيحية سوف تدوم إلى الأبد" (4).
وكادت الكنيسة أن تكون النصير أو الراعي الوحيد للآداب والفنون، ومن ثم كانت هي التي توجهها. ولم تكن أجود الآداب مدونة. وكانت أغاني الشعب رددتها ألسنة الناس من جيل إلى جيل هي التي تذيع وتمجد قصص حبهم أو أعراسهم أو أحزانهم أو فصولهم أو اعيادهم أو موتاهم، وكان هناك أناشيد مألوفة لقديسين مرموقين وأبطال قدامى ومآثر أسطورية، مثل مآثر سادكو Sadko تاجر نفجرد. وكان المكفوفون والعرج يطوفون بالقرى ينشدون مثل هذه الأغاني والأناشيد والتراتيل المقدسة. وكان كل الأدب المكتوب تقريباً مقصوراً على الأديرة، وكان يخدم الأغراض الدينية.
وكان الرهبان هم الذين وصلوا عندئذ برسم الأيقونات إلى فن كامل، فكانوا يأتون بلوحة صغيرة من الخشب، مغطاة بالقماش أحياناً، ينشرون عليها طبقة لزجة ومن ثم يرسمون عليها الصورة ويضعون الألوان، ثم يغطونها بالطلاء ويضعونها في إطار معدني. وكانت الموضوعات تحددها السلطات الدينية، أما الأشكال والسمات فكانت تقتبس من النماذج البيزنطية، وعادوا بها أدراجهم في تطور مستمر عبر فسيفساء القسطنطينية إلى رسوم الاسكندرية الهلينستية. وأحسن أيقونات هذا العصر هي صورة لا يعرف(26/5)
اسم صاحبها تمثل "المسيح يرقى عرش السماء"موجودة في كاتدرائية صعود العذراء في موسكو، وصورة دخول المسيح إلى اورشليم- وهي من عمل مدرسة نفجرد، والثالوث المقدس للراهب أندريه روبليوف في دير الثالوث المقدس. ورسم روبليوف وأستاذه تيوفانس االاغريقي، لوحات جصية جدارية تجمع بين الطراز البيزنطى الجريكو في فلاديمير وموسكو ونفجرد، ولكن الزمن أعمل أثره فيها.
إن كل حاكم كان يبرز عظمته ويريح ضميره ببناء كنيسة أو دير، أو تخصيص الأوقاف والهبات لهذا أو تلك. وقد انضمت الأشكال والحوافز من أرمينية وفارس والهند والتبت ومنغوليا وإيطاليا واسكنديناوه- انضمت إلى التراث البيزنطي السائد، لتشكل عمارة الكنيسة الروسية، بما فيها من جمال نعدد الوحدات، والقبة المذهبة في الوسط، والقباب البصلية الشكل التي صممت بطريقة رائعة لمنع تراكم مياه المطر والثلوج. وبعد سقوط القسطنطينية وطرد التتار قل اعتماد روسيا على الفن البيزنطي والفن الشرقي، وجاء التأثير من الغرب ليعدل من الطراز السلافي. وفي سنة 1472 راود الأمل إيفان الثالث في أن يرث حقوق الأباطرة البيزنطيين وألقابهم، ومن ثم تزوج" زو باليولوغوس Zoe" ابنه أخي آخر حكام الامبراطورية الشرقية، وكانت قد نشأت في روما وتشربت شيئاً من بواكير عصر النهضة، وقد جلبت معها بعض العلماء الاغريق، وأظهرت إيفان على الفن الإيطالي، وربما كان بإيحاء منها إرساله لأول بعثة روسية إلى الغرب (1474)، وقد أصدر إليها توجيهاته بالحصول على الفنانين الايطاليين لموسكو. وقبل الدعوة ريودلفو فيرافانتي البولوني الذي كان يلقب بأرسطو بسبب تعدد مواهبه، ثم تصيد المبعوثون الروس بعد ذلك بييرو سولاريو، والفيزيونوفي وعدة فنانين آخرين، وهؤلاء الايطاليون هم الذين أعادوا بناء الكرملين مع معاونين وعمال من الروس.(26/6)
وكان يوري دلجوروكى Vuri Delgoruki قد أسس موسكو سنة 1156 بأن أقام سوراً حول داره (فيللا)، التي كانت تقع في موقع استراتيجي عند التقاء نهرين، فكان هذا الحصن " Kreml" أول شكل للكرملين. واتسع مع الزمن هذا النطاق، وقامت الكنائس والقصور داخل سياج مرصوص من البلوط، ونذر إيفان الثالث نفسه لتعديل هذه المجموعة بأكملها. ومن الواضح أن فييرافانتي Fieravante هو الذي أعاد بناء كاتدرائية صعود العذراء القديمة في الكرملين (1475 - 1479) حيث توج القياصرة فيما بعد وبقى الطراز بيزنطيا مع زخرفة إيطالية. وأضاف مهندسون معماريون من بسكوت داخل نطاق الكرملين "كاتدرائية عيد البشارة" الصغيرة (1484 - 1489). ثم أقام ألفزيو Alevisio في الكرملين كاتدرائية رئيس الملائكة (1505 - 1509). وفيما بين 1485 - 1508 أعاد سولاريو وآخرون تسوير المنطقة بالآجر القرنفلي على طراز قلعة سفورزسكو في ميلان (5). وهكذا- ترى أنه من وسط روسيا الزاخر المعابد، ومن قلب هذه الوحدة المتسلطة التي تركزت فيها السلطتان الدنيوية والدينية، وسط أمراء موسكو العظام ومطارنتها حكمهم ونفوذهم على النبلاء والتجار والفلاحين، ووضعوا بالدماء والعظام وبالتقي والورع أسس واحدة من اقوى الامبراطوريات في العالم.
2 - أمراء موسكو
ظلت موسكو مغمورة حتى عهد دانيال اسكندروفتش في أواخر القرن الثالث عشر, ووسعت رقعتها الداخلية حتى جعلت منها إمارة صغيرة, ويعزو الادراك التاريخي المتأخر (6) - نمو موسكو إلى موقعها على نهر موسكو الصالح للملاحة الذي كان متصلا عن طريق ممر بري قصير, بنهر الفولجا شرقاً، وأنهار أوكا والدون والدنيبر جنوبا وغرباً. وطمع يوري دانيال فتش بن دانيال أمير موسكو في الاستيلاء على إمارة سوزدال المجاورة،(26/7)
وكانت عاصمتها فلاديمير غنية نسبياً، كما طمع في ذلك ميكائيل أمير تفر Tver. واقتتل الفريقان للحصول على الجائزة فكانت الغلبة لموسكو، وقتل ميكائيل وضم إلى قائمة القديسين. ونمت موسكو، واتخذ إيفان الأول، أخر يوري لقبي أمير موسكو العظيم، ودوق فلاديمير العظيم.
وكان إيفان الأول، بوصفه جامعاً للجزية الروسية لحساب خان التتار، يتقاضى أكثر مما كان يرسله أو يحوله، ومن ثم أثرى وازدهر بطريقة شريرة مؤذية. وجعله جشعة للمال ينبز بلقب " Kalita" ومعناه "حقيبة المال". ولكنه بذلك حمى الامارات من حملات التتار لمدة ثلاث عشرة سنة نعمت فيها بالهدوء. وتوفي إيفان سنة 1341 على أنه راهب حليق شعر الرأس، وأطلقوا من حوله بخور القداسة. وورث عنه ابنه سيميون المتكبر ميله إلى جمع الضرائب. ولما كان يدعى السلطان على كل الولايات فإنه أطلق على نفسه اسم الأمير الأعظم على كل الروس، ولكن هذا لم يحل بينه وبين الموت بالطاعون (1353)، وكان إيفان الثاني حاكماً وديعاً يؤثر السلام، وفي عهده اجتاحت روسيا حرب قتل فيها الأخ أخاه. وتميز ابنه ديمتري بكل الصفات التي تتطلبها الحرب والقتال، فهزم كل منافس له وتحدى خان التتار. وفي 1380 جميع ماماي خان جيشاً من التتار والمرتزقة الجنوبيين وغيرهم من المتعطلين المتشردين، وتقدم به نحو موسكو. وقابل ديمتري وحلفاؤه الروس هذا الجحفل عند كوليكوفو Kulikovo قرب نهر الدون وأنزلوا به الهزيمة (1380)، وفاز بلقب دونسكوى Donskoi وعاود التتار الكرة بعد عامين بمائة ألف رجل، ولكن الروس، وقد غرتهم وأرهقتهم نشوة النصر، لم يستطيعوا أن يواجهوا التتار بقوة مماثلة. واستولى التتار على موسكو، وذبحوا أربعة عشرة ألفاً من السكان وأحرقوا المدينة برمتها. وعقد فاسيلى الأول، ابن ديمتري، صلحاً مع التتار، وضم نجنى نفجرد، وأرغم نوفجورود وفياتكا على قبوله أميراً عليها.(26/8)
واقتبس أمراء موسكو العظام أساليب الطغيان والاستبداد عند التتار، وربما كان هذا بديلا عن فوضى الجهل، وأدارت دفة الحكم على الأسلوب البيزنطي بيروقراطية في ظل حكومة فردية مطلقة طابعها العنف والدهاء، خاضعة لمجلس من أبناء الطبقة العليا ذوى الامتيازات ( Boyars) الذين كانوا يقدمون مشورتهم وخدماتهم للأمير، وكانوا في نفس الوقت قادة الجيش وحكام الأقاليم والقائمين على التنظيم، والحماة والمستغلين للفلاحين شبه الأحرار الذين كانوا يفلحون الأرض. وهاجر مستعمرون مغامرون الى الأقاليم غير المستقرة وجففوا المستنقعات وأخصبوا الأرض بحرق الغابات والأدغال واستهلكوا الأرض نتيجة اسرافهم وقصر نظرهم في فلحها، ثم انصرفوا عنها ضرباً في الأرض حتى وصلوا البحر الأبيض وجبال الأورال، واتخذوا سبيلهم سرباً إلى سيبريا، وفي السهول المترامية الأطراف بلا نهاية كانت المدن كثيرة ولكنها صغيرة، وكانت البيوت مبنية من الخشب والطين، وكان مقدراً لها أن تحترق وتنقض على مدى عشرين سنة على الأكثر. وكانت الطرق غير معبدة وأقل إزعاجاً في الشتاء حيث كانت تكسوها الثلوج وتملؤها الزحافات والأحذية العالية. وآثر التجار الأنهار على الطرق، ونقلوا تجارتهم في بطئ على الماء أو الجليد بين الشمال والجنوب، مع بيزنطة والمسلمين وعصبة الهانسا (وقد تكونت من بعض المدن الحرة في شمال ألمانيا والدول المجاورة، تكونت في العصور الوسطى بقصد التجارة). وربما كانت هذه التجارة المنتشرة هي التي تغلبت على النزعة الفردية لدى الأمراء وفرضت توحيد روسيا. وكان فاسيلى الثاني (1425 - 1462) الملقب باسم تمنى Temny - الأعمى- لأن أعداءه فقأوا عينيه - هو الذي قضى على تمرد العصاة وألزمهم الطاعة، عن طريق التعذيب وبتر الأطراف والجلد، وترك لابنه روسيا قوية إلى درجة تضع معها نهاية لمخازي حكم التتار.(26/9)
وصار إيفان الثالث هو (العظيم)، لأنه هو الذي أنجز هذه المهمة، ووحد روسيا. لقد خلق للشدائد، وكان مجرداً من المبادئ الخلقية، لا يتورع عن شىء، حاد الذهن ماكراً حذراً عنيداً قاسياً، وكان يقود جيوشه إلى النصر على مسافات بعيدة، وهو مستقر في مكانه في الكرملين، وكان يعاقب على العصيان أو العجز والقصور عقاباً وحشياً، بأن يعذب أو يضرب بالسياط أو يبتر أطراف حتى أعضاء المجلس، أو يقطع رأس طبيب أخفق في علاج ابنه، وهكذا بمثل هذه الصرامة كان يسيطر على حاشيته، حتى أن النساء ليغمى عليهن لمجرد نظرة منه. وأطلقت عليه روسيا اسم "الرهيب" حتى التقت بحفيده.
وكانت إمارة نفجرد أيسر فتوحاته، وكان ينظر في تطلع جشع إلى هذه السوق المزدهرة الخاضعة للضريبة، ولقد حرضه تجار موسكو على القضاء على منافسيهم في الشمال (7). وسيطر الأمير العظيم على السهول الممتدة بين موسكو ونفجرد، حيث كانت الجمهورية التجارية تشتري المواد الغذائية اللازمة لها وتبيع بضاعتها، ولم يكن على إيفان إلا أن يغلق هذا المخزن المورد للحبوب وتلك السوق، لكى تقع المدينة الدولة في ضائقة وتفلس، أو تخضع وتستسلم. وبعد ثمان سنوات توالت فيها الحرب والهدنة، تنازلت الجمهورية عن استقلالها (1478) ونقل 7000 من صفوة سكانها إلى سوزدال، وطردت عصبة الهانسا، وورث تجار موسكو أسواق نفجرد، وورث أميرهم دخلها.
وما أن ضم إيفان مستعمرات الجمهورية المندثرة حتى بسط حكمه على فنلندة والمنطقة المتجمدة والأورال. وخضعت بسكوف في الوقت المناسب حفاظاً على الأشكال الجمهورية فيها تحت سيادة الأمير العظيم. وتلمست تفر أسباب الحماية عن طريق التحالف مع لتوانيا، ولكن إيفان سار إلى المدينة بنفسه واستولى عليها دون أن يضرب ضربة واحدة، وتبعتها روستوف Rostov(26/10)
واياروسلافل laroslavl. ولما مات أخوة إيفان رفض أن تؤول مخصصاتهم إلى ورثتهم، وضمها الى ممتلكاته، وانحاز أخ له - أندريه - إلى لتوانيا فقبض عليه واعتقله، ومات أندريه في السجن، فبكى إيفان، ولكنه صادر أملاكه. إن السياسة لا قلب لها.
وبدا أن التحرر من ربقة التتار مستحيل، ولكن ثبت أنه أمر يسير. ذلك أن بقايا الغزاة المغول - الأتراك كانوا قد استقروا في ثلاث جماعات متنافسة متنافرة، وتركزوا في سراى Sarai وقازان Kazan وفي القرم، وكان إيفان يضرب كلا منها بالأخرى حتى وثق أنها لن تتحد ضده. وفي 1480 امتنع إيفان عن دفع الجزية، وقاد خان أحمد جيشاً كبيراً من الفولجا حتى ضفاف نهري أوكا وأوجرا جنوب موسكو. وقاد إيفان جيشاً قوامه 150. 000 رجل إلى الضفاف المقابلة، وواجه العدوان بعضهما بعضاً لعدة شهور دون أن تقع بينهما معركة. وتردد إيفان في أن يغامر بعرشه وحياته في رمية واحدة، كما خشى التتار مدفعيته التي أدخل عليها تحسينات. ولما تجمدت الأنهار، ولم تعد تحمى الجيوش بعضها من بعض، أصدر إيفان أوامره بالانسحاب، وبدلا من تعقب الجيش المنسحب، انسحب التتار كذلك، حتى وصلوا إلى سراى (1480)، وكان انتصاراً هائلاً ولكنه مضحك، ومنذ ذلك الحين لم تدفع موسكو جزية إلى التتار. وسمى الأمير العظيم نفسه الحاكم المطلق، أى الذي لا يدفع الجزية لأحد. واستدرج الخانات المتنافسون إلى محاربة بعضهم بعضاً، وهزم أحمد وذبح، وانقضى سلطان المغول في سراى، واندثرت "القبيلة الذهبية".
وبقيت لتوانيا. ولم يطق الأمير العظيم ولا مطران موسكو الصبر على السلام، ما دامت أواكرانيا وكييف وروسيا الغربية تحتفظ بقوة تهدد موسكو دوما، وتدعو الأرثوذكس إلى المسيحية اللاتينية. وزعم إيفان أن ثمة مؤامرة لاغتياله، واتخذ من ذلك ذريعة لشن حرب مقدسة لتخليص(26/11)
المديريات المغرر بها (1492). فما كان من أمراء لتوانيا الذين استشعروا القلق في ظل اتحاد الرومان الكاثوليك البولندي إلا أن فتحوا أبوابهم أمام جيوش إيفان. وتوقف الاسكندر أمير لتوانيا العظيم في فدروشا Vedrosha وهزم (1500). ورتب البابا الاسكندر السادس هدنة لمدة ست سنوات. وفي نفس الوقت احتفظت موسكو بالأقاليم التي كسبتها - إلى الغرب من نهر سوز Sozch بما في ذلك شر نيجوف Chernigov حتى سمولنسك تقريباً وكان إيفان الثالث قد بلغ آنذاك الثالثة والستين فترك تخليص البقية لحفدته.
إن حكم إيفان الذي دام ثلاثا وأربعين سنة يعدل في أهميته أى حكم آخر في تاريخ روسيا قبل القرن العشرين. وسواء كان مدفوعاً بشهوة المال وحسب السيطرة أو بإيمانه الراسخ بأن أمن الروس وازهارهم يتطلبان توحيد روسيا، فإن إيفان الثالث حقق لبلده ما كان يؤيده لويس الحادى عشر لفرنسا، وهنري السابع لانجلترا، وفرديناند وايزابلا، لأسبانيا، والاسكندر السادس للولايات البابوية، ولقد كشف تزامن هذه الأحداث عن تقدم القومية والملكية، الأمر الذي قضى على سلطان البابوية الأسمى فوق الأمم والقوميات. وفقد أبناء الطبقة العليا استقلالهم، وأرسلت الامارات الجزية إلى موسكو، واتخذ إيفان لقب "ملك روسيا بأسرها". ويحتمل أن زوجته الاغريقية أوصته بأن يتخذ كذلك لقب "قيصر"، وهو لقب روماني إغريقي. ولقد اتخذ النسر الامبراطوري المزدوج شعاراً قومياً، وادعى وراثة السلطة السياسية والدينية لبيزنطة الغابرة، واقتبست من بيزنطة نظريات الحكومة وأعيادها ومراسمها، وكذلك فعلت الكنيسة، بوصفها من أدوات الدولة، بعد أن دخلت إلى روسيا المسيحية البيزنطية والأبجدية البيزنطية الاغريقية وأشكال الفن البيزنطي، وبقدر ما كانت بيزنطة شرقية لقربها من آسيا، فإن روسيا التي كانت قد اصطبغت بالصبغة الشرقية بسب حكم التتار لها، أصبحت من وجوه كثيرة مملكة شرقية مغايرة للغرب غريبة عنه غامضة لديه.(26/12)
2 - إيفان الرهيب
1533 - 1584
تابع فاسيلي الثالث إيفانوفتش 1505 - 1533 توحيد روسيا، وضم سمولنسك إلى مملكته، وأرغم إمارتي ريازان ونفجرد- سفرسكى على الاعتراف بسيادته. وقال أحد كتاب الحوليات الروس "ليس سوى الأطفال الرضع هم الذين استطاعوا أن يكفكفوا الدمع، عندما خضعت لحكم فاسيلى (1510) جمهورية بسكوف التي كانت يوماً مزهوة بنفسها". كانت روسيا آنذاك دولة أوربية كبرى. وتبادل فاسيلى الرسائل على قدم المساواة مع مكسيمليان الأول وشارل الخامس وسليمان القانوني وليو العاشر. وعندما حاول بعض أبناء الأرستقراطية أن يحدوا من استبداده كبح جماحهم بكلمة احتقار واحدة هي "فلاحون". ثم قطع رأس أحد النبلاء. ولما لم ينجب من زوجته أولاداً، فإنه طلقها وتزوج من هيلينا جلنسكى، وهي سيدة مصقولة بارعة مستبدة. وبعد موته صارت وصية على ابنها إيفان الرابع فاسيليفتش البالغ من العمر ثلاث سنوات. وعند موتها عاود أعضاء المجلس أبناء الطبقة العليا شغبهم، وتولت أحزابهم المتناحرة زمام الحكم تباعاً، ونشروا الفوضى والخلل في المدن نتيجة عنفهم، واستنزفوا في الحرب الأهلية دماء الفلاحين الروس البؤساء العاجزين.
وفي غمرة هذه المنازعات كاد الملك الصغير "سيد روسيا بأسرها" أن يكون مهملاً متجاهلاً بل محروماً بائساً في بعض الأحيان. ولما كان يبصر بضروب الوحشية في كل مكان من حوله، فإنه حسبها أسلوباً مقبولاً في السلوك، ومن ثم اختار أعنف ضروب الرياضة، ونشأ شاباً نكدا متقلب المزاج متشككاً. وفجأة، عندما كان بعد ولداً في الثالثة عشرة من عمره، (1544) ألقى إلى كلابه أندريه شويبسكى زعيم أحد أحزاب(26/13)
النبلاء، وتولى زمام الأمور في الدولة، وبعد ثلاث سنوات قام مطران موسكو بتتويجه قيصراً، ثم أمر القيصر بأن ترسل إليه نخبة من العذارى النبيلات من مختلف أنحاء المملكة، واختار منهن أنستاسيا رومانوفا وتزوج منها، ومن لقب أسرتها سوف يتحدد عما قريب لقب أسرة حاكمة.
وفي 1550 دعا أول جمعية وطنية من جميع أنحاء روسيا، واعترف أمامها بجميع أخطائه في شبابه، ووعد بإقامة حكومة عادلة رحيمة. ولعله تحت تأثير الاصلاح في ألمانيا واسكنديناوه، درست الجمعية اقتراحاً بمصادرة أملاك الكنيسة لتدعيم الدولة. ورفض هذا الاقتراح، ولكن اتخذ قرار آخر متصل به، بمقتضاه استردت كل الأراضي المنقولة للكنيسة وغير الخاضعة للحجز، كما ألغيت كل الهبات التي منحت للكنيسة أيام كان إيفان قاصراً. ولم يعد للأديار حق حيازة أية ممتلكات دون موفقة القيصر. وهدأ بال رجال الدين نوعاً ما عندما عين إيفان الكاهن سلفستر مرشداً روحياً له، واتخذ منه ومن ألكسيس أداشيف وزيرين له، وبفضل هذين المعاونين القديرين كان إيفان في سن الحادية والعشرين سيداً على مملكة تمتد من سمولنسك إلى الأورال، ومن المحيط المتجمد إلى بحر قزوين تقريباً.
وكان همه الأول تقوية الجيش، والموازنة بين قوى النبلاء المعادين له، عن طريق هيئتين مسئولتين أمامه: فرسان القوزاق ومشاة سترلتس Strieltsi (1) ، مزودة بالهركوبة ( Harquebus) - نوع من الأسلحة النارية اخترع في القرن الخامس عشر. ونشأ القوزاق في هذا القرن من طبقة الفلاحين الذين كان مقامهم في جنوب روسيا بين المسلمين والمسكوف يقتضيهم أن يكونوا دوما على أهبة الاستعداد للقتال عند أول صيحة، كما هيأ لهم
_________
(1) مشتقة من معنى إطلاق النار. أما القوزاق فيحتمل أنها محرفة عن لفظة تركية معناها مغامر.(26/14)
فرصاً تتعذر مقاومتها لسلب القوافل التي كانت تنقل التجارة بين الجنوب والشمال. وجموع القوزاق الأصليون هم قوزاق نهر الدون في جنوب شرقي روسيا، وقوزاق زابوروج Zaporogue في الجنوب الغربي، وكانوا جمهوريات شبه مستقلة، ومن الغريب أنه كان يسود بينهم نظام ديموقراطي، حيث كان أرباب البيوت يختارون رئيساً تنفيذياً لجمعية منتخبة. وكانت كل الأرض ملكاً عاماً مشتركاً، ولكنها تؤجر إلى الأسرات بصفة فردية لاستخدامها استخداماً موقوتاً، وكانت الطبقات كلها متساوية أمام القانون (8). واصبح فرسان القوزاق، بسبب اشتهارهم بالشجاعة الهائلة، الدعامة الأولى لإيفان الرابع داخل البلاد وفي الحرب.
وكانت سياسته الخارجية بسيطة، فهو يريد أن تربط روسيا بين بحر البلطيق وبحر قزوين. وكانت كازان واستراخان والقرم لا تزال في قبضة التتار الذين كانوا لا يفتأون يطالبون موسكو بالجزية، ولكن عبثاً. وكان إيفان على يقين من أن أمن روسيا ووحدتها يتطلبان امتلاكها لهذه الأجزاء، والتحكم في نهر الفولجا حتى منابعه. وفي 1552 قاد القيصر الشاب 150. 000 رجل إلى أبواب كازان وحاصرها لمدة خمسين يوماً. ولكن المسلمين - وكان عددهم 30. 000 - قاوموا وصمدوا في عناد تحدوهم الروح الدينية وهاجموا أعداءهم في غارات متكررة، وعندما أسر نفر منهم وعلقوا على أعواد المشانق أمام الأسوار سدد إخوانهم المدافعون إليهم السهام صائحين: "خير لهؤلاء الأسرى أن يموتوا بأيدي بني وطنهم النظيفة من أن يهلكوا بأيدي المسيحيين الدنسة (9). ولما وهنت عزائم المحاصرين واصابهم القنوط بعد شهر من الاخفاق، أرسل إيفان إلى موسكو في طلب صليب عجيب، فما أن ظهرت هذه الأعجوبة أمام جنوده حتى ثارت حميتهم من جديد، وكان الله يحارب مع الجانبين. وبث مهندس ألماني الألغام في الأسوار فانهارت، واندفع الروس إلى المدينة صائحين "الله(26/15)
معنا"، واعملوا الذبح في كل من لم يباعوا بوصفهم رقيقاً. وروى أن إيفان ذرف الدمع حسرة على المغلوبين قائلاً: "إنهم ليسوا مسيحيين، ولكنهم رجال" وأسكن إيفان فلول المسيحيين في الأطلال. وهتفت روسيا بأنه أول سلافي يستولي على معقل تتري، واحتفلت بالنصر، كما احتفلت فرنسا بصد المسلمين في معركة تور سنة 732. وفي 1554 استولى إيفان على استراخان، وأصبح نهر الفولجا قناة روسية تماماً. وظلت القرم في يد المسلمين حتى 1774. ولكن قوزاق نهر الدون أحنوا رءوسهم آنذاك لحم موسكو.
وما أن حرر إيفان حدوده في الشرق حتى ولى شطره متلهفاً نحو الغرب. وكان يراوده حلم تجارة روسية تتدفق غرباً وشمالاً عبر الأنهار الكبرى إلى البلطيق، وكان يحسد غرب أوربا على التوسع الصناعي والتجاري، وكان يلتمس للاقتصاد الروسي منفذاً يربط به نفسه بهذا التوسع. وفي 1553 أرسل تجار لندن سير هبو ولفبي Hugh Willoughlby وريتشارد تشانسلر لايجاد طريق في المنطقة المتجمدة حول اسكنديناوة وصولا إلى الصين، فأبحرا من هاروك Harwich في ثلاث مراكب، وهلك اثنان من الملاحين في الشتاء في لابلند، ولكن تشانسلر وصل إلى الموقع الذي أسماه البريطانيون أركنجلسك، على اسم الملاك ميكائيل، وشق تشانسلر طريقه وسط مئات الأخطار والصعاب إلى موسكو، فعقد معه إيفان، ثم مع أنطوني جنكنسني فيما بعد، معاهدات تخول "شركة لندن والمسكوف" امتيازات تجارية خاصة في روسيا.
ولكن هذه المعاهدات كانت بالنسبة لإيفان مجرد ثقوب، ولم تكن باباً أو منفذاً إلى الغرب، وأراد أن يستجلب فنيين من ألمانيا، وحشد له من هؤلاء 123 في لوبك، ولكن شارل الخامس رفض السماح لهم بالخروج. وكان النهر الكبير دوينا الجنوبي يجري من قلب روسيا ألى البلطيق قرب(26/16)
ريجا، ولكنه يجري عبر ليفونيا المعادية. ولم تكن منابع دوينا والفلجا بعيدة بعضها عن بعض، ومن ثم يمكن ربط النهرين بقنوات، وهنا، يحكم "القدر المقدور" كان الطريق المائي الذي يمكن أن يعوض روسيا عن عدم تناسب أراضيها المترامية الأطراف مع سواحلها وثغورها، ومن ثم يمكن أن يتصل بحر البلطيق ببحر قزوين والبحر الأسود، كما يمكن أن يلتقي الشرق والغرب. وفي تبادل السلع والأفكار قد يستطيع الغرب أن يسدد شيئاً من دينه الثقافي القديم للشرق.
وعلى ذلك فإن إيفان في سنة 1557 ابتكر ذريعة لمهاجمة ليفونيا، وأرسل إليها بجيش تحت قيادة شاه على، الذي كان أخيراً خان التتار على كازان. واجتاح الجيش البلاد بطريقة وحشية، فأحرق الدور والمحاصيل، واستبعد الرجال واغتصب النساء حتى الموت. وفي 1558 استولى جيش روسي آخر على نارفا التي تبعد عن البلطيق بثمانية أميال. واستنجدت ليفونيا اليائسة ببولندة والدانمارك والسويد وألمانيا، وارتعدت أوربا الوسطى بأسرها فزعا من مشهد الطوفان السلافي الذي وصل إلى الغرب، كما وصل في القرن السادس إلى نهر الألب. واستثار ستيفن باثوري حمية البولنديين وقادهم إلى الانتصار على الروس عند بولتسك (1582). ولما حلت الهزيمة بإيفان سلم ليفونيا إلى بولندة.
وقبل هذه النكسة الحاسمة بزمن طويل، كان اخفاق حملات إيفان قد أدى إلى الثورة في الداخل، حيث كان التجار الذين كان إيفان يسعى إلى إثرائهم بفتح طرق جديدة للتجارة، قد فقدوا صوابهم بسب هذه الحرب المدمرة الباهضة التكاليف. وعارض النبلاء هذه الحرب لأنها لا بد أن توحد بين دول البلطيق، بسلاحها المتفوق، ضد روسيا التي ما زالت إقطاعية في تنظيمها السياسي والعسكري. وفي أثناء الحرب وفيما قبلها كان إيفان قد ارتاب في مؤامرات النبلاء ضد عرشه، وفي اثناء مرض كاد يقضي عليه(26/17)
(1553) علم أن جماعة قوية من النبلاء كانوا يدبرون أن يبعدوا، عند موته، ابنه ديمتري ويتوجوا الأمير فلاديمير الذي كانت أمه تمنح الجيش عطايا كثيرة، وكان أقرب مستشاريه سلفستر وأداشف ضالعين مع النبلاء، ولمدة سبع سنوات بعد الارتياب فيهما، أبقى إيفان على هذين الموظفين في مواقع السلطة، ثم طردهما في 1560، ولكن دون عنف. ومات سلفستر في أحد الأديار، وقضى أداشف نحبه في إحدى الحملات على ليفونيا، وهاجر عدة نبلاء إلى بواندة وحملوا السلاح ضد روسيا، وفي 1564 لحق الأمير كوربسكي Kurbsky صديق إيفان الحميم والقائد العام، بهؤلاء الهاربين، زاعما أن القيصر يدبر قتله، ومن بولندة أرسل كوربسكي إلى إيفان ما يصل إلى أن يكون أعلاناً للحرب عليه، متهماً إياه بأنه مجرم مجذوم. وتدعى الأساطير أن إيفان عندما قرأ عليه الخطاب دق إحدى قدمي حامله بالمسامير في الأرض بضربة من العصا الملكية، ولكن القيصر تنازل فرد على كوبسكي بدفع يقع في اثنتين وستين صفحة، وكان رداً بليغاً مشوشاً، عاطفياً مليئاً بمقتبسات من الكتاب المقدس، عدد فيه دسائس النبلاء لخلعه. واعتقاداً منه بأنهم كانوا قد دسوا السم لأنستاسيا، تساءل إيفان: " لماذا فرقتم بيني وبين زوجتي؟ ألم تأخذوا مني وليدي الصغير؟ لم يحدث قط أن ذبح أحد من النبلاء ... لقد فتشت عبثاً عن رجل يستشعر الشفقة بي، ولكني لم أجد أحداً (10) ". وكتب كوربسكي في أخريات أيامه تأريخاً قاسياً عدائياً لإيفان، وهو أهم مرجع لنا في إرهاب إيفان.
إن هذه المؤامرات ومغادرة البلاد توضح لنا أشهر حادث متميز في عهد إيفان. وفي 12 ديسمبر 1564 غادر إيفان موسكو مع أسرته وأيقوناته وكنوزه، مع قوة صغيرة من الجنود، وسار إلى مقره الصيفي في اسكندروفسك. وأرسل إلى موسكو بيانين، زعم الأول أن النبلاء(26/18)
والبيروقراطية والكنيسة تآمروا ضده وضد الدولة، وأنه لذلك "مع اشد الأسف" اعتزل الآن العرش، ليعيش في عزلة. أما البيان الثاني فقد أكد فيه لأهل موسكو أنه أحبهم وأن لهم أن يبقوا واثقين من نياته الطيبة دوما. والحق أنه نمسك بمحاباة العامة والتجار ضد الأرستقراطية، وقد شهد بذلك ما قامت به الطبقتان الوسطى والدنيا آنذاك، فقد انفجروا يرددون صيحات التهديد ضد النبلاء ورجال الدين، مطالبين بأن يشخص إلى القيصر وفد من الأساقفة والنبلاء، ليرجوه في العودة إلى العرش، وتم ذلك وقبل إيفان "أن يتولى أمر الدولة من جديد"، بشروط يحددها هو فيما بعد.
وعاد إيفان ألى موسكو في فبراير 1565، ودعا الجمعية الوطنية من رجال الدين والنبلاء، وأعلن أنه سيعدم زعماء المعارضة ويصادر أملاكهم، وأنه من الآن فصاعدا سيتولى كل السلطة دون استشارة النبلاء أو الجمعية، وأنه سينفى كل من يخالف أوامره العالية ومراسيمه، ولما كانت الجمعية تخشى ثورة الجماهير فقد استسلمت وانحلت، وقرر إيفان أن روسيا سوف تنقسم في المستقبل إلى قسمين: الأول "زمستشينا Zemstchina أو مجموعة المقاطعات، ويظل تحت حكم النبلاء ومجلسهم "الدوما"، ويخضع لضريبة إجمالية يفرضها القيصر، ويكون تابعاً له في الشئون العسكرية والخارجية، ويكون فيما عدا ذلك حراً يتمتع بحكم ذاتي. والقسم الثاني "أوبرشنينا Oprichnina - الممتلكات المستقلة " يحكمه هو أى إيفان، ويتكون من الأراضي التي يخصصها هو "الطبقة المنفصلة Oprichniki " التي يختارها القيصر للشرطة ولادارة نصف المملكة هذا، ولحمايته من الشغب، ولتقوم بحمايته هو شخصياً، ولتقدم له الخدمات العسكرية الخاصة به. واختير الموظفون الجدد- وكانوا في البداية ألفاً وبلغ عددهم في النهاية ستة آلاف، اختيروا على الأخص من بين صغار أبناء النبلاء، ولما لم يكن لديهم(26/19)
أرض، فقد كانوا على استعداد لتأييد إيفان مقابل الضياع التي منحهم إياها. واقتطع جزء من هذه الأراضي من أملاك التاج، والجزء الأكبر منها من أملاك النبلاء الثوار التي صودرت. وبنهاية عصر إيفان كانت هذه "الممتلكات المستقلة - أوبرشنينا" تشمل نصف روسيا تقريباً، وكثيراً من موسكو وأهم طرق التجارة. وكان هذا الانقلاب مماثلاً لما حاوله بطرس الأكبر بعد ذلك بمائة وخمسين عاماً: الارتفاع بطبقة جديدة إلى السلطة السياسية، والارتقاء بالتجارة والصناعة في روسيا. وفي مثل هذا القرن الذي كانت فيه القوة العسكرية كلها من الوجهة العملية في قبضة الأستقراطية، تطلب المشروع شجاعة مفرطة في القيصر الذي لم يتزود إلا بجنده الخصوصيين، وبالتأييد الهزيل الذي لا يعتد به من جانب والجماهير. ويؤكد لنا بعض المعاصرين أن إيفان - في هذه الفترة الدقيقة - وهو آنذاك في سن الخامسة والثلاثين، كان يمثل ابن العشرين (11)
واتخذ إيفان آنذاك الاسكندروفسك مقراً دائماً، وحولها إلى قلعة محصنة. وربما كان التوتر الذي انتابه بسبب ثورته ضد النبلاء بالاضافة إلى الاخفاق في الحرب الطويلة الأمد مع ليفونيا، سبباً في اعتلال عقله الذي لم يكن قط كامل الاتزان. ولقد ألبس حراسه غفارات سوداء، وهي لباس الكهنة، وقلنسوات ضيقة، وأطلق على نفسه لقب رئيس الرهبان، ورتل مع فرقة المرتلين، وشهد معهم القداس يومياً، وكم خر ساجداً أمام المذبح في حماسة حتى تكررت إصابات جبهته بالكدمات. وزاد هذا من الفزع الذي بثه في روسيا التي بدأت تحس نحوه بمزيج من التبجيل له والاشفاق عليه، وحتى أفراد "الطبقة المنفصلة" Oprichnikii كانت تمثل أمامه في ذله وخشوع حتى أطلق عليهم أنهم حاشيته أو بلاطه.
واقترن انقلاب إيفان بالارهاب، شأنه في ذلك أى انقلاب آخر، وقبض على معارضيه وأعدموا دون شفقة أو رحمة، وجاء عرض(26/20)
لأحداث هذه السنوات (1560 - 1570) دونه أحد الرهبان، ويحتمل أن يكون معادياً، أن عدد قتلى غضبه بلغ 3470. ويقول هذا العرض التأريخي أن الضحية كان في الغالب يعدم "مع زوجته" أو "مع وزوجته وأطفاله"، وفي حالة واحدة "مع عشرة من الرجال جاءوا لمساعدته (12). واعدم الأمير فلاديمير مع أمه، أما أولاده فقد أبقى إيفان على حياتهم ووفر لهم أسباب العيش. ويقال إن القيصر طلب إلى الرهبان أن يصلوا من أجل نفوس ضحاياه. ودافع إيفان عن إعدامهم بأن هذا هو العقاب المعتاد لجريمة الخيانة وخاصة زمن الحرب. وقد سلم أحد ممثلي بولندة بهذه الحجة، وتضرع إنجليزي شهد شيئاً من هذه المجزرة قائلاً: "ندعو الله أن نتمكن من تعليم ثوارنا العنيدين واجبهم نحو أميرهم بالطريقة نفسها (13).
وجاءت ذروة هذا الارهاب في نفجرد. وكان إيفان قبل ذلك بفترة وجيزة قد منح رئيس الأساقفة مبلغاً كبيراً من المال لاصلاح الكنائس، وظن أ، هـ كان بذلك محبوباً من رجال الدين هناك على الأقل. ولكنه أبلغ أنه قد وجدت وثيقة، ليست بالضرورة غير مزيفة، خلف صورة للعذراء في أحد أديار نفجرد، وفيها عهد بالتعاون بين نفجرد وبسكوف مع بولندة لمحاولة خلع القيصر. وفي الثاني من يناير 1570 انقضت على المدينة قوة عسكرية قوية يقودها الأوبرشنيكي، وأعملت النهب والسلب في الأديرة، وقبضت على 500 من الرهبان والكهنة. وفي 6 يناير وصل القيصر إلى هناك، وأمر أن يجلد بالسياط حتى الموت كل من لم يستطع من رجال الدين هؤلاء أن يدفع فدية قدرها 50 روبلا، كما جرد رئيس الأساقفة من ثوبه وسجن. وجاء في "سجل أحداث نفجرد الثالث" أنه قد أعقب هذا مذبحه الأهالي التي دامت خمسة أسابيع. وفي بعض الأحيان كان خمسمائة فرد يذبحون في اليوم الواحد، وتقول البيانات الرسمية أن عدد القتلى بلغ 2770، واحتج إيفان بأنهم 1505 فقط. ولما استقر في الأذهان أن التجار، وهم متلهفون(26/21)
على إعادة فتح باب التجارة مع الغرب، قد شاركوا في المؤامرة، فقد أحرق جنود القيصر كل حوانيت المدينة، ودمرت بيوت التجار في الضواحي، وحتى البيوت في المزارع المجاورة للمدينة لحقها التدمير. وما لم يكن رواة الأحداث في الأديار قد بالغوا في وصف المذبحة، فإنه يجدر بنا أن نعود بالذاكرة إلى عقاب شارل الجرىء لثوار لييج 1468، وأعمال السلب والنهب في روما على يد جنود شارل الخامس 1527 لنجد أمثلة شبيهة بانتقام إيفان الوحشي. ولم تستعد نفجرد قط تفوقها القديم في الحياة التجارية في روسيا. واتجه إيفان بعد ذلك إلى بسكوف حيث حظر على جنوده السلب والنهب، ثم عاد أدراجه إلى موسكو حيث احتفل في حفلة تنكرية ملكية بإفلاته من مؤامرة خطيرة.
إن حكماً مثل هذا ممتلئاً بالفتن والشغب لا يكاد يساعد على التقدم الاقتصادي أو إنجاز الأعمال الثقافية. لقد انتعشت التجارة وقت السلم وانتكست زمن الحرب. وفي الأراضي المخصصة لطبقة الأوبرشنيكي، وفي سائر الأراضي فيما بعد، كان الفلاح مرتبطاً قانوناً بالأرض، على أساس أنه وسيلة للنهوض بالزراعة المستمرة فيها (1581) على أن نظام الرق الذي كان نادراً في روسيا قبل 1500، صار في 1600 قانوناً من قوانين الأرض. وكانت الضرائب باهظة فاحشة، واندفع التضخم المالي بشدة، فكان الروبل في 1500 يساوي 94، وفي 1600 يساوي 24 من الروبلات في 1910 (14). وليس بنا من حاجة إلى تتبع الهبوط إلى أبعد من ذلك، إلا لنعلم، كدرس من دروس التاريخ، أن النقود هي آخر شىء يجدر بالانسان أن يدخره.
وأرغم إسراف الأسر القصير النظر في الإنجاب وإرهاق التربة، الناس على هجرة متواصلة لا تهدأ إلى أراض بكر. فلما اجتاز المهاجرون جبال الأورال وجدوا أمامهم مملكة للتتار سكانها من قبائل البشكير المسلمة(26/22)
Bashkirs وقبائل أوستياك (قبائل من الفنلنديين والماجيار في غرب سيبيريا) نعرف عاصمتها باسم سيبير Sibir ( وهي من ألفاظ القوزاق). وفي 1581 جند سيمين ستروجانوف 600 من القوزاق وأرسلهم تحت قيادة إرماك تيموفيفتش لغزو هذه القبائل، وقد تم له ذلك، وأصبحت سيبيريا الغربية جزءاً من المملكة الروسية المتضخمة. أما إرماك الذي كان من زعماء قطاع الطرق فقد مجدته الكنيسة الأرثوذكسية، وضمته إلى قائمة القديسين.
وكانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا، لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، على حين كان سلطان إيفان محدوداً. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تقيد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مرخص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع - مثل هنري الثامن - يزهو بعلمه في اللاهوت. وانغمس مرة في مناقشة عامة في الكرملين مع كاهن لوثري من بوهيميا، ويجب أن نسلم بأنه، وهو أعنف القياصرة، أدار المناقشة في كياسة أكثر مما بدا في النازعات الدينية في ألمانيا المعاصرة (15). ولكن إيفان لم يتصرف بمثل هذه الكياسة مع رجل لاهوتي آخر، ذلك أنه ذات يوم أحد في سنة 1568 أثناء الصلاة في كنيسة الصعود، رفض فيليب مطران موسكو أن يمنح إيفان البركة الي توسل إليه فيها، وطلب القيصر ذلك ثلاث مرات ولكن دون جدوى، ولما سأل أتباعه عن سبب لهذا الرفض، بدأ فيليب يعدد جرائم إيفان وفسوقه، فصاح القيصر: "هدئ من روعك وامنحني البركة" فأجاب المطران: "إن سكوتي يوقعك في الخطيئة ويستوجب هلاكك". وغادر إيفان المكان دون أن يمنح البركة. وظل فيليب شهراً تعروه الدهشة والعجب والقلق،(26/23)
ولكن لم يمس فيه بسوء. وبعده دخل أحد خدم القيصر الكاتدرائية وقبض على المطران وساقه إلى أحد السجون في تفر. ولا يعلم مصيره علم اليقين، ولكن الكنيسة الروسية تؤيد القول بأنه أحرق حياً. وفي 1652 ضم إلى قائمة القديسين، وبقيت رفاته حتى 1917 موضع إجلال وتبجيل في كنيسة صعود العذراء.
وظلت الكنيسة تنتج معظم الأدب والفن في روسيا. ودخلت الطباعة في سنة 1491، ولكن اقتصر المطبوع طوال هذا العهد على كتب الصلوات وكان زعيم العلماء آنذاك هو المطران مكاريوس، الذي شرع في 1529، بمعونة بعض السكرتيرين في جمع ما تبقى من آداب بلده في اثنى عشر مجلداً ضخماً، ومرة أخرى نرى أن معظمها كان دينياً تماماً، وفي الكثير الغالب يتعلق بالأديار ووقائع التاريخ حسب ترتيب حدوثها. وألف سلفستر معلم الاعتراف لايفان كتاباً مشهوراً هو "كتاب الأسرة"، بمثابة دليل للاقتصاد المنزلي والسلوك، والخلاص الأبدي، وإنا لنلحظ فيه حث الزوج على أن يضرب زوجته برفق، وتعليمات دقيقة لآداب البصق والمخاط (16). ولم يكن إيفان نفسه، كما تدل رسائله، أقل كتاب هذا العصر براعة وقوة.
وكان أروع إنتاج فني روسي في عهد إيفان هو كنيسة "بازل المبارك" التي لا تزال قائمة بعيداً عن الكرملين في أحد أطراف الميدان الأحمر. ولدى عودة القيصر من حملاته الظافرة ضد كازان وأستراخان (1554) شرع في بناء ما أسماه كاتدرائية "شفاعة العذراء" وهي التي نسب إليها انتصاراته بحكمة. وحول هذا المقام المتوسط من الحجر، شيدت فيما بعد سبعة معابد من الخشب خصصت لقديسين كان إيفان قد تغلب على أعدائه في أيام أعيادهم. وتوج كل معبد منها بقية رشيقة مزدانة بالرسوم، وكانت القباب كلها بصلية الشكل، وإن اختلفت زخرفة كل منها. وأضفى آخرها وهو(26/24)
الذي أقيم للقديس بازل في 1588: أضفى اسمه في وقت لاحق، على هذه المجموعة الرشيقة الفاتنة. وتنسب أسطورة لا يمكن التغاضي عنها هذه العمارة إلى أحد الايطاليين، وتروى كيف أن إيفان فقأ عينيه لئلا ينافس هذه التحفة الفنية الرائعة. ولكن اثنين من الروس: بارما وبوستنيكوف هما اللذان وضعا التصميم، ولكنها اقتبسا بعض حركات عصر النهضة في زخرفتها فحسب (17). ويوم أحد السعف من كل سنة، كجزء من حكمة الدولة، سار سادة موسكو ورجال الدين فيها في موكب رهيب إلى هذه الكاتدرائية، على حين امتطى المطران صهوة جواد مزودة بآذان صناعية، ليقلد الحمار الذي قيل إن السيد المسيح كان يركبه عند دخوله أورشليم، وسار القيصر على قدميه يقود حصان المطران في تواضع وخشوع ممسكاً بلجامه، وكانت تحف بالموكب الأعلام والصلبان والأيقونات وحملة المباخر، على حين ردد الأطفال عبارات الشكر والثناء تضرعاً إلى السماء لتبارك الحياة في روسيا. وما أن وافى عام 1580 حتى بدا أن إيفان قد انتصر على كل أعدائه. وكان قد بقى على قيد الحياة عدد من الزوجات، وبنى بزوجة سادسة. وفكر في اتخاذ زوجة أخرى عن طريق المضارة الودية (18) (الزواج باثنين في وقت واحد). وكان له أربعة أولاد، مات أولهم في طفولته، وكان الثالث فيودور يعاني من تخلف عقلي. أما الرابع ديمتري، فزعموا أنه كان بنوبات صرع. وفي أحد أيام شهر نوفمبر 1580 أنب القيصر زوجة ابنه الثاني " إيفان" وضربها، لما بدا له من أنها ترتدي ثوباً ينافي الحشمة والوقار، فأجهضت، فما كان من ابن القيصر إلا أن وجه اللوم إلى أبيه، فضرب القيصر ابنه في سورة الغضب دون ترو بالعصا الملكية على رأسه فمات الابن لتوه من أثر الضربة. فجن جنون القيصر ندماً على فعلته، وقضى أيامه ولياليه يصرخ صراخاً عالياً من الحزن والأسى. وكان يقدم(26/25)
تنحيه عن العرش صباح كل يوم، ولكن حتى أعضاء المجلس أنفسهم أصبحوا الآن يؤثرونه على أبنائه. وعاش إيفان ثلاث سنين بعد ذلك، ثم أصابه مرض غريب، جعل جسمه يتورم وتنبعث منه رائحة منتنة. وفي 18 مارس 1584 قضى نحبه وهو يلعب الشطرنج مع بوريس جودونوف، وتناثرت الاشاعات تتهم بوريس بأنه دس له السم، واعد المسرح لأوبرا عظيمة في تاريخ القياصرة.
ويجدر بنا ألا نظن أن إيفان الرابع كان مجرد غول متوحش. ونظراً لطول قامته وقوته كان يمكن أن يكون وسيماً، لولا أنفه العريض المسطح الذي كان يعلو شارباً منتشراً ولحية كثة حمراء. لقد ترجمت خطأ لفظة Groznyi بلفظة الرهيب Terrible والأرجح أنها تعني "المرعب" Awesome، مثل لفظة أغسطس التي أطلقت على القياصرة (الرومان). وقد أطلق على إيفان الثالث نفس اللقب كذلك. وفي نظرنا، وحتى في نظر معاصريه القساة، كان إيفان الرابع قاسياً تواقاً إلى الانتقام بشكل يدعو إلى الاشمئزاز، وقاضياً لا يستشعر الرحمة. لقد عاصر محاكم التفتيش في أسبانيا، وإحراق سرفيتس (1)، وعادة هنري الثامن في ضرب العنق، واضطهاد الملكة ماري، ومذبحة سانت برثلميو. ويقال إنه عندما سمع بهذه المذبحة أنكر همجية الغرب (19) (ولو أن أحد البابوات رحب بالمذبحة وامتدحها). لقد كان ثمة أشياء تثير غيظه وحنقه، وتذكى النار في مزاج سريع الانفعال أكسبته الوراثة والبيئة عنفاً. ويقول شاهد عيان إنه كان في بعض الأحيان "يرغى من فمه - كما يفعل الحصان" (20) نتيجة مضايقة صغيرة أو انزعاج يسير. ولقد اعترف القيصر بخطاياه وجرائمه بل بالغ فيها أحياناً ولم يكن على أعدائه إلا أن ينتحلوا منها اتهاماتهم له.
_________
(1) Servetus 1511، 1553 طبيب وعالم لاهوت أسباني أحرق وهو مشدود إلى خازوق في جنيف لاتهامه بالزندقة.(26/26)
وأكب على الدرس والتحصيل في حماسة، وجعل من نفسه أحسن متعلم من غير رجال الدين في بلده وفي زمانه. وكان يتميز بروح المرح والدعابة، ويضحك ضحكات عالية بملء شدقيه، ولكن غالباً ما كانت ابتسامته تنم على الدهاء المخيف. غطى شروره بالنيات والمقاصد الرائعة، فكان يريد أن يحمي الفقير والضعيف من الغني والقوي، ويحابي التجار والطبقات الوسطى كبحاً لجماح الأرستقراطية الاقطاعية المشاكسة، كما كان يرغب في فتح باب للتجارة والأفكار على الغرب، ويزود روسيا بطبقة جديدة من الاداريين الذين لا يتقيدون- كما تفيد أعضاء المجلس من ابناء الطبقة العليا- بالأساليب العتيقة الجامدة، ويحرر من ربقة التتار، وينتشلها من وهدة الفوضى إلى الوحدة. وكان القيصر همجياً يناضل نضالاً وحشياً ليرقى سلم الحضارة.
وأخفق إيفان لأنه لم ينضج قط إلى حد السيطرة على النفس. وكادت أن تنسى في غمرة الانقلاب تلك الاصلاحات التي كان قد خططها. وترك الفلاحين خاضعين لملاك الأرض خضوعاً أشد وأنكى من ذي قبل. وأوصد بالحروب أبواب التجارة، وساق الرجال القادرين إلى أسلحة العدو، وشطر روسيا إلى قسمين متناحرين، وسار بها إلى الفوضى. وضرب لشعبه مثلاً مفسداً للقسوة المتسمة بالورع وللأهواء الجامحة. وقتل أحسن أبنائه مقدرة وكفاية، وأسلم عرشه إلى شخصية ضعيفة أدى عجزها إلى الحرب الأهلية. لقد كان إيفان واحداً من كثيرين من رجال عصره، الذين يمكن أن يقال عنهم إنه كان من الخير لبلادهم وللإنسانية جمعاء ألا يولدوا قط.(26/27)
الفصل الثلاثون
عبقرية الإسلام
1258 - 1520
صمد العالم الإسلامي من 1095 إلى 1291 أمام سلسلة من الحملات الدينية العنيفة، مثل تلك الحملات الدينية العنيفة التي أخضع بها فيما بعد البلقان، وحول ألفاً من الكنائس إلى مساجد. ودفعت سبع حملات صليبية حث عليها اثنا عشر من البابوات، نقول دفعت بملوك أوربا وفرسانها ورعاعها ضد قلاع المسلمين في آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر وتونس. وعلى الرغم من إخفاق هذه الهجمات آخر الأمر، فإنها أضعفت نظام هذه الدول الإسلامية ومواردها إضعافاً خطيراً. وكان الصليبيون قد نجحوا في أسبانيا حيث هزم المسلمون واخرجوا، ولكن بقاياهم تجمعوا في غرناطة التي تأخر قدرها المحتوم بعض الوقت، وكان النور مانديون الأشداء قد أخذوا صقلية من المسلمين. ولكن أين هذه الجراح والتمزيق من انقضاض المغول الوحشي المدمر (1219 - 1258) على بلاد ما وراء النهر وفارس والعراق؟ وتعرضت مراكز إشعاع الحضارة الإسلامية، المدينة تلو الأخرى، للسلب والنهب والمذابح والحريق- بخاري، سمرقند، بلخ، نيسابور، الري، هراة، بغداد. وأسقطت الحكومات الإقليمية والمحلية، وأهملت القنوات وتركت للرمال التي تذروها الرياح، وأكرهت التجارة على الفرار، ودمرت المدارس والمكتبات، وتشتت الدارسون ورجال العلم أو ذبحوا أو استعبدوا. وتحطمت روح الإسلام لنحو قرن من الزمان(26/28)
ثم انبعثت من جديد في بطئ. ثم اكتسح تتار بتمورلنك غربي آسيا بدمار جديد، وشق الأتراك العثمانيون طريقهم عبر آسيا الصغرى إلى البسفور، ولم تعرف حضارة أخرى في التاريخ مثل هذه الكوارث عدداً وانتشاراً وشمولاً.
على أن المغول والتتار والأتراك أتوا بدمهم الجديد ليحل محل أنهار الدماء البشرية التي كانوا سفكوها. وكان الاسلام قد صار مترفاً فاتر الهمة، وكانت بغداد- مثل القسطنطينية- فقد فقدت إرادتها في امتشاق الحسام للدفاع عن النفس، وأغرم الناس هناك بالحياة اللينة الهينة الرخية إلى حد الإشراف على الموت. أن تلك الحضارة الرائعة- مثل الحضارة البيزنطية، أينعت لتذوى وتذبل،. ولكنها كانت غنية - مثل اليونان القديمة وإيطاليا النهضة - إلى حد القدرة على تمدين غزاتها، بفضل ما أنقذ من شتاتها وذكرياتها، وأنشأت فارس تحت حكم خانات المغول حكومة مستنيرة وأنتجت أدباً جيداً وفناً عظيماً، وشرفت التاريخ بعالم جليل هو رشيد الدين. وفيما وراء النهر، بنى تيمورلنك وعمر، بشكل مؤثر، قدر ما كان قد خرب ودمر. ووسط حملات السلب والنهب التي كان يشنها، توقف ليكرم حافظ الشيرازي. وفي الأناضول كلن الأتراك فعلاً متحضرين، وكان الشعراء بينهم من الكثرة قدر كثرة المحظيات أو الخليلات. وفي مصر استمر المماليك في إقامة الأبنية بناء العمالقة الجبابرة. وفي غربي إفريقية أنجب الإسلام فيلسوفاً مؤرخاً، كان يبدو إلى جانبه أعظم علماء المسيحية المعاصرة بمثابة حشرات صغيرة تقع في الشرك وتموت جوعاً وسط عناكب الفلسفة النصرانية في العصور الوسطى. وفي نفس الوقت كان الإسلام ينتشر في الهند إلى أقصى الشرق.(26/29)
1 - الأيلخانات في فارس
1265 - 1337
عندما سار ماركوبولو في 1271 عبر فارس ليرى الصين على عهد قبلاي خان، وجد نفسه إمبراطورية المغول. ولم يكن التاريخ قد سجل من قبل قط مملكة مترامية الأطراف مثلها. ففي الغرب لامست شواطئ نهر الدنيير في روسيا، وفي الجنوب شملت القرم والعراق وفارس والتبت والهند حتى ضفاف نهر الكنج. وفي الشرق طوقت الهند الصينية والصين وكوريا، وفي الشمال كان يقع موطنهم الأصلي منغوليا. وفي كل هذه البلاد تعهد حكام المغول الطرق، ونهضوا بالتجارة، وقاموا على حماية السائحين والمسافرين، وأطلقوا حرية العبادة لمختلف العقائد.
لقد أسس هولاكو حفيد جنكيزخان، بعد تدمير بغداد 1258، عاصمة جديدة اسمها المراغة شمال غربي فارس. ولما مات 1265 أصبح ابنه "أباقا" خان أو أمير فارس، وخضع خضوعاً غير ثابت لقبلاي خان، على بعد الشقة بينهما. ومن هنا بدأت أسرة الأيلخانية التي حكمت فارس والعراق حتى 1337. وكان أعظم أفراد هذه الأسرة هو غازان خان، الذي كاد أن يكون أقصر رجال جيشه قامة، ولكن أرادته كانت أقوى من أسلحتهم. وطرح غازان ولاءه للخان للأكبر في منغوليا أو الصين وجعل من دولته مملكة مستقلة، واتخذ من تبريز عاصمة لها، وقدم إليه الرسل من الصين والهند ومصر وإنجلترا وأسبانيا. وقد أصلح الإدارة، وثبت العملة، وحمى الفلاحين من ملاك الأرض ومن اللصوص، وساد الرخاء بدرجة تذكر ببغداد في أزهى أيامها. وشيد في تبريز مسجداً ومدرستين وأكاديمية للفلسفة ومرصداً ومكتبة ومستشفى. ووقف دخول أراض معينة، وقفاً دائماً للإنفاق على هذه المنشآت، ووفر لها أعظم العلماء والأطباء ورجال(26/30)
العلم في ذاك العصر. وكان هو نفسه واسع الثقافة. وكان يعرف عدة لغات، واضح أن من بينها اللاتينية (1). وشيد لنفسه مقبرة بلغت من الفخامة والضخامة مبلغاً ظن معه أن موته (1304) كان بمثابة دخوله ظافراً منتصراً إلى مقر أشرف وأعظم.
ووصف ماركو بولو تبريز بأنها "مدينة عظيمة متألقة". وقال عنها فرا أودريك Fra Oderic، (1320) " إنها أجمل مدينة في العالم للتجارة، فهنا توجد أية سلعة بكميات وفيرة .... " ويقول المسيحيون هنا "إن الدخل الذي كانت تدفعه المدينة لحاكمها يفوق ما تدفعه فرنسا كلها لمليكها " (2) هذا بالإضافة إلى "المباني الأنيقة والمساجد الفخمة"، "وأروع الحمامات في العالم" (3). وقدر أودريك أن عدد سكانها يبلغ مليوناً من النفس.
وتابع أولجايتو السياسة المستنيرة التي انتهجها أخوة غازان. وشهد عصره بعضاً من أروع العمارة والزخرفة في تاريخ فارس، وان سيرة قاضي قضاته رشيد الدين فضل الله لتوضح ازدهار التعليم والثقافة والآداب في هذا العصر. وولد رشيد الدين سنة 1247 في همذان، وربما كان أبواه من اليهود، كما قال أعداؤه، مستشهدين بسعة اطلاعه وعلمه بالشريعة الموسوية. ولقد خدم رشيد الدين الخان أباقا كطبيب له، وغازان بوصفه كبيراً للوزراء، وأولجايتو بوصفه صاحب بيت المال. وشيد في إحدى الضواحي شرقي تبريز حياً جديداً أسماه "ربع الرشيد"، وهو مركز جامعي فسيح. وفي رسالة له محفوظة في مكتبة كمبردج يصف هذا المركز فيقول:
"لقد شيدنا نزلاً شاهقاً يناطح السحاب، و 1500حانوت تفوق الأهرام في رسوخها، و 30. 000 منزل فاتن، كما(26/31)
شيدت فيها الحمامات الصحية والحدائق الغناء والمخازن والمطاحن ومصانع النسيج والورق. ونزح الناس من كل حدب وصوب إلى هذا الربع، وكان من بينهم مائتان من قراء القرآن. وزودنا بالمساكن 400 آخرين من العلماء ورجال اللاهوت ورجال القانون وعلماء الحديث، في شارع سمي "شارع العلماء". وأجرينا على هؤلاء جميعاً رواتب يومية وأرزاقاً ومخصصات سنوية للملابس، ومبالغ من المال لشراء الصابون والحلوى. وأتينا كذلك بألف طالب، وأصدرنا الأوامر بصرف الأرزاق والمخصصات اليومية لهم، حتى يتفرغوا في راحة وأمان، لطلب العلم ونفع الناس به. كما حددنا كذلك، من الطلبة، وكم منهم يدرسون مع كل أستاذ أو معلم. وبعد التحقق من صلاحية كل طالب وقدرته على فرع الدراسة الذي يريد التخصص فيه، أمرناه بأن يتعلمه.
وأولينا عنايتنا ورعايتنا بصفة خاصة وبطرق شتى، لخمسين طبيباً ماهراً جاءوا من الهند والصين ومصر وسوريا. فأمرنا بأن يترددوا على دار الشفاء كل يوم، وأن يتعهد كل منهم عشرة طلاب صالحين لدراسة الطب، ويدربهم على ممارسة هذا الفن الجليل. كما أمرنا بأن يعهد إلى أطباء النظارات والجراحين وأطباء العظام الذين يعملون بدار الشفاء، بخمسة من أبناء موظفينا وحاشيتنا ليتعلموا طب العيون والجراحة وطب العظام. ولكل هؤلاء الرجال شيدنا حياً خلف دار الشفاء ... سمي "شارع الأطباء". كذلك استقرت كل جماعة من أرباب الحرف ورجال الصناعة الذين أتينا بهم من مختلف البلاد، في شارع سمي باسمها" (4).(26/32)
وخليق بنا أن يتولانا أشد العجب والدهشة لرجل وجد، مع إسهامه النشيط إدارة شئون المملكة، من الوقت والمعرفة ما استطاع معه تدوين خمسة كتب في اللاهوت، وأربعة في الطب وفي نظم الحكومة، وكتاباً من عدة مجلدات في تاريخ العالم. وفوق ذلك يؤكد لنا أحد المسلمين المعجبين أن رشيد الدين استطاع أن يخصص لتأليفه فترة ما بين صلاة الفجر وشروق الشمس. ومهما يكن من أمر فإن هناك أياماً تتلبد فيها السماء بالغيوم حتى في أذربيجان. وقضى رشيد الدين سبع سنين في كتاب "جامع التواريخ" ونشره في مجلدين ضخمين، ويقتضي نشره بالإنجليزية سبع مجلدات. وضمنه بيانات جوهرية عن المغول من جنكيزخان إلى غازان، وعن مختلف الدول والأسرات الإسلامية في شرقي العالم الإسلامي وغربيه، وعن فارس واليهود قبل بعثة الرسول وبعدها، وعن الصين والهند، مع دراسة مستفيضة لبوذا والبوذية، مع موجز مبسط لأعمال وأفكار ملوك أوربا وبابواتها وفلاسفتها، ويشهد كل الذين قرءوا هذه المجلدات- ولو أنها لم تترجم بعد إلى أية لغة أوربية- بأنها أقيم عمل في النثر الأدبي في فارس. ولم يستفد رشيد الدين من محفوظات حكومته فحسب، ولكنه استخدم كذلك علماء من الصين ليؤمنوا له المعاهدات الصينية وغيرها من الوثائق، ويبدو أنه قرأها مع غيرها من المراجع العربية والعبرية والتركية والمغولية، والتركية والمغولية، كل في لغته الأصلية (5).
ورغبة في نقل هذه المجموعة الوافية من التواريخ إلى الأعقاب رغم الزمن والحرب، أرسل رشيد الدين نسخاً من هذا الكتاب إلى المكتبات هنا وهناك، وترجم إلى العربية ووزع. وخصص أموالاً لكتابة نسخة بالعربية وأخرى بالفارسية في كل عام، لإهدائها إلى إحدى المدن في العالم الإسلامي. على أن كثيراً من هذا الكتاب مع مؤلفاته الأخرى قد ضاع، وربما يرجع هذا إلى الكارثة السياسية التي حلت به. ذلك أنه في سنة 1312 أشرك الأمير أو لجابتو على شاه مع رشيد الدين في الإشراف على بيت المال. وفي زمن "أبى سعيد"(26/33)
الذي خلف أولجابتو، نشر على شاه مختلف الاتهامات ضد زميله رشيد الدين، وأغرى الخان بأن رشيد الدين وأبنه إبراهيم كانا قد دسا السم لأولجابتو. فعزل المؤرخ (رشيد الدين) وسرعان ما أعدم (1318) وهو في سن السبعين، مع أحد أبنائه، وصودرت ممتلكاته، وحرمت مؤسساته من العطايا والمنح، ونهبت ضاحية "ربع رشيد" ودمرت.
وقام أبو سعيد بترضية متأخرة، ذلك أنه عين ابنا آخر من أبناء المؤرخ وزيراً له، ونهج غياث الدين سبيل الحكمة والعدالة في إدارة دفة الحكومة. وأعقب موت أبى سعيد فترة من الفوضى، ووضعت نهاية لحكم أسرة الأيلخانية، وانقسمت مملكتهم إلى ولايات صغيرة دمرتها الحرب، وخلصها الشعر.
2 - حافظ الشيرازي
1320 - 1389
ما كان أكثر من ينظم القصيد في فارس. وكان الملوك يكرمون الشعراء اللذين لم يتقدم عليهم في الحظوة بهذا التكريم والتبجيل إلا الحظايا والحظاظون والقواد. وفي زمن حافظ طبقت الآفاق شهرة عشرين من الشعراء، وذاع صيتهم من البحر المتوسط إلى نهر الكنج، ومن اليمن إلى سمرقند، ولكنهم جميعاً، على أية حال، أحنوا رءوسهم إجلالاً لشمس الدين محمد- المشهور باسم حافظ الشيرازي - وأكدوا له أنه بز "الشيخ سعدي" الشاعر الرخيم نفسه. وارتضى حافظ هذا التقدير، وأخذ يحدث نفسه في احترام قائلاً:
"قسماً بالقرآن الذي تعيه في صدرك يا حافظ، لم أر قط أجمل من شعرك" (6).
"وحافظ" لفظة معناها "الذكور" الذي يحفظ ويتذكر، وهو لقب(26/34)
أطلق على كل من حفظ القرآن كله - مثل شاعرنا - ولم يعرف تاريخ ميلاده، وأبواه غير معرفين. وسرعان ما أقبل على الشعر. وكان أول من رعى الشاعر واحتضنه هو "أبو إسحق " الذي عينه غازان خان حاكماً على جنوب إيران. وأولع أبو إسحق بالشعر أيما ولع، وأهمل شئون الحكومة. ولما جاءه النذير بأن بعض القوات المعادية تعد العدة لمهاجمة عاصمة "شيراز"، قال إنه لسفيه ذلك الرجل الذي يضيع مثل هذا الربيع الجميل في الحرب، ولكن قائداً متلبد الشعور هو "مبارز الدين محمد بن المظفر" استولى على شيراز وقتل أبا إسحق (1352)، وحرم شرب الخمر وأغلق كل حانة في المدينة. وفي هذا كتب حافظ مرثية حزينة قال فيها:
"ولو أن الخمر تبعث السرور، والريح تنشر أريج الورود،
لا تشربوا الخمر على أنغام القيثارة لأن المحتسب يقظ،
وخبئوا الطاس في أكمام عباءاتهم المرقعة،
لأن الزمن يسفك الدماء، كما ينسكب الخمر من عين الإبريق الدامعة،
واغسلوا بدموعكم ما تلطخ بالخمر من أرديتكم
لأن هذا موسم الورع وزمن التقشف والتعفف" (7).
ولما وجد خليفة ابن المظفر أن تحريم الخمر أمر غير عملي، أو تبين أن شاربي الخمر أسلس قياداً وأيسر حكماً من المتطهرين المتزمتين، أعاد فتح أبواب الحانات، وخلد حافظ اسمه.
وسار شاعرنا على تقاليد الفرس في نظم من القصائد في الخمر، واعتبر في بعض الأحيان أن زجاجة من الخمر "تسمو على تقبيل العذارى" (8)، ولكن حتى الكروم تجف وتذوى بعد ألف مقطع من الشعر، وسرعان ما تبين حافظ أن الحب، عذرياً كان أو عملياً، لا يستغنى عنه الشعر.(26/35)
"هل تعرف ما هو الحظ السعيد؟ إنه الظفر بنظرة إلى غادة
هيفاء، إنه التماس صدقة منها في زقاقها، وازدراء أبهة الملك" (9).
وبدا له الآن أن الحرية ليست حلوة مثل حلاوة العبودية في الحب.
"إن عمرنا قصير، ولكن طالما أننا قد نفوز
بالمجد وهو الحب، فلا تحتقر
الاصغاء إلى توسلات القلب،
فإن سر الحياة سوف يبقى فيما وراء العقل.
فاهجر عملك إذن وقبل حبيبتك الآن.
إنى لأمنح العالم كله هذه النصيحة الغالية،
عندما تتفتح أزهار الربيع، وتهجر الريح الطاحون
وتنزلق برفق لتقبل الغصن المورق.
أى حسناء شيراز، امنحيني أمنية الحب،
ومن أجل شامتك - تلك الحبة من الرمل العالقة
بصفحة خد من اللؤلؤ - سوف يمنحك حافظ
كل بخاري، وكل سمرقند.
آه لو دخلت مع القدر في رهان مرة،
لحاولت برمية واحدة، مهما كان الثمن،
لألتقط أنفاسي، أيها الحب اجمع بيننا،
فما حاجتي بعد ذلك إلى الجنة،
إن الذي خلق غدائر شعرك من ذهب وفضة،
وجمع بين الوردة الحمراء والوردة البيضاء
وأسلم إليهما خدك في شهر العسل
أليس بقادر على أن يمنحني الصبر، وأنا ابنه (10) ".(26/36)
ويبدو أنه آخر الأمر، قد هدأت نفسه بالزواج، فلو فسرنا قصائده الرقيقة تفسيراً صحيحاً، فإنه وجد زوجة وأنجب عدة أطفال، قبل أن يحزم أمره بين النساء والخمر. ويبدو أنه في بعض أشعاره يرثيها ويتألم لفراقها:
"سيدتي، يا من حولت بيتي
إلى فردوس حين حللت به،
من عند الله أحاطها بعنايته، كانت طاهرة، مبرأة من الثم،
جميلة المحيا مثل القمر، عاقلة،
وعيناها ذواتي النظرة العطوفة الناعمة
كانتا تشعان فتنة لا حدود لها
ثم حدثني قلبي: هنا سوف يستقر بي المقام!
فإن هذه المدينة تتنفس بحبها في كل ركن منها.
ولكنها نقلت إلى عالم بعيد قصي،
للأسف لم يعرفه قلبي، وا أسفاه أيها القلب المسكين
إن نجماً خبيثاً شريراً أعمل أثره
فأرخى قبضة يدي التي كانت تمسك بها، ووحدها بعيداً
رحلت من كانت تسكن في صدري" (11).
ومهما يكن من أمر فقد ألف المقام، وركن إلى العزلة الهادئة، وقلما ارتحل إلى خارج شيراز، وقال إنه يترك لقصائده أن تجوب الأرض بدلاً من شخصه، وكم دعى إلى بلاط كثير من الملوك والأمراء. واقنع للحظة وجيزة بقبول دعوة من السلطان أحمد بالاقامة في القصر الملكي في بغداد (12)،(26/37)
ولكن حبة لشيراز أبقاه حبيساً بها، وكان يشك في أن بالجنة نفسها مثل هذه الأنهار الفاتنة أو مثل هذه الورود الحمراء في شيراز. وكان بين الحين والحين يوجه قصائد المديح إلى أمراء الفرس في عصره أملا في عطايا أو جوائز تخفف من ألم الفقر الذي كان يعاني منه، لأنه لم يكن في فارس ناشرون لينقلوا نفثات البراع عبر البحار، وكان على الفنان (أى الشاعر) أن ينتظر على أبواب النبلاء والملوك. والحق أن شاعرنا "حافظ" كاد أن يرحل يوماً إلى الخارج، ذلك أن أحد أمراء الهند لم يبعث إليه بالدعوة فحسب، بل زوده كذلك بالمال اللازم لنفقات الرحلة، فأقلع حافظ ووصل إلى هرمز على الخليج الفارسي، وكان على وشك الركوب في السفينة فهبت عاصفة هوجاء حولته عن عزمه، وحببت إليه الاستقرار. فعاد أدراجه إلى شيراز، وبعث إلى الأمير الهندي بقصيدة بدلاً من شخصه.
ويضم ديوان حافظ 693 قصيدة معظمها غنائية، وبعضها رباعيات، وبعضها الآخر شذرات غير واضحة المعنى. وهي أصعب في ترجمتها من أشعار دانتى، زاخرة بقواف كثيرة مما يجعل منها في الانجليزية شعراً غير مصقول محطم عقول الوزن، كما تعج بالاشارات والتلميحات المبهمة التي كانت تبهج عقول الناس في ذاك الزمان، ولكنها الآن ثقيلة على السمع في الغناء، والأفضل أن توضع نثراً في الغالب:
"كاد الليل أن ينصرم، حين جذبني أريج الورود، فدلفت إلى
الحديقة، مثل العندليب، أفتش عن بسم للحمى التي انتابتني،
وهناك في الظل تألقت وردة، وردة حمراء كأنها مصباح محجب،
فحدقت النظر في محياها،
إن الوردة فاتنة لمجرد أن وجه محبوبتي فاتن .... وماذا يكون
عبير المروج، والنسيم الذي يهب في الحديقة، إذا لم يكونا(26/38)
لخد محبوبتي الذي يشبه الخزامى (التيوليب)؟
وفي ظلمة الليل حاولت أن أطلق قلبي من رباط غدائر شعرك
ولكني أحسست بلمسات خدك ورشفت رحيق شفتيك، وضممتك
إلى صدري. ولفني شعرك وكأنه لهب. وألصقت شفتي
بشفتيك، وأسلمت قلبي ونفسي لك كأنهما فدية (13).
وكان حافظ إحدى النفوس الموهوبة الصادية المنهوكة، التي تستجيب وتتأثر - عن
طريق الفن والشعر والمحاكاة والرغبة شبه اللاواعية، تستجيب وتتأثر بالجمال إلى حد الرغبة في عبادته، فترغب بالعينين وبالألفاظ وبأطراف الأنامل، أن تعبد أي شكل جميل، سواء كان نحتاً على حجر أو رسماً أو آدمياً أو زهرة، ونعاني في صمت مكبوت كلما ألم بها الجمال. ولكن هذه النفوس أيضاً تجد فيما تفاجأ به كل يوم من فتنة أو سمو أو جمال جديد، بعض المغفرة لقصر عمر الجمال ولسلطان الموت. ولذلك خلط حافظ التجديف بالعبادة، وانساق في هرطقة غاضبة حتى في الوقت الذي كان فيه يثنى على "الواحد الأحد الخالد" وهو المصدر الذي يفيض منه كل جمال على الأرض.
والتمس كثير من الناس أن يضفوا عليه احتراماً ووقاراً، بتفسير خمرة بأنها نشوة روحية، وحاناته بأنها أديار، ولهبه بأنها "النار المقدسة". صحيح أنه أصبح متصوفاً وشيخاً، وارتدى ملابس الدراويش، ونظم قصائد صوفية غامضة، ولكن معبوداته الحقيقية كانت الخمر والنساء والغناء، وبدأت حركة لمحاكمته بوصفه زنديقاً كافراً، ولكن أفلت منها بالتوسل بأن قصائد الهرطقة كان يقصد بها أن يعبر عن آراء المسيحيين، لا عن آرائه هو. ومع ذلك كتب يقول:
"أيها التحمس، لا تظن أنك بمنجاة من خطيئة الكبرياء،
فليس الفرق بين المسجد وكنيسة الكفار سوى الغرور" (14).(26/39)
والكافر هنا بطبيعة الحال هو المسيحي. وبدا في بعض الأحيان لحافظ أن "الإله " ما هو إلا شيء اختلقته آمال الإنسان:
"وهذا الذي يسوقنا في هذه الأيام التي تمر كوميض البرق،
هذا الذي نعبده رغم معرفتنا بمن يفنيه أو يذبحه،
أنه هو نفسه قد يتولاه الحزن والأسى، لأننا حين نفترق
سيختفي هو أيضاً في هذا اللهيب نفسه" (15).
ولما مات حافظ كانت عقيدته مشكوكاً فيها، وكان مذهب المتعة عنده لاصقاً به إلى حد الاعتراض على تشييع جنازته في احتفال ديني، ولكن أصدقاءه أنقذوا الموقف بتفسير أشعاره بالمجاز والاستعارة. وجاء بعد ذلك جيل دفن رفاقه في حديقة أطلقوا عليها "الحافظية" تزدان بورود شيراز، وتحققت نبوءة الشاعر بأن قبره سيكون "مزاراً يحج إليه عشاق الحرية من جميع أنحاء العالم". وعلى لوح مقبرة حافظ المصنوع من المرمر نقشت إحدى قصائده، وهي عامرة بالروح الدينية العميقة أخيراً. وفيها:
"أين أنباء الوحدة؟ حتى أنهض
من التراب، سوف أصحو لأرحب بك!
إن نفسي مثل الطائر الزاجل، حنيناً منها إلى الجنة،
سوف تصحو وتتوجع من شرور العالم التي أطلقت من عقالها.
وعندما يهتف بي صوت حبك لأكون عبداً لك
سوف أصحو إلى ما هو أعظم كثيراً من السيادة
على الحياة والعيش، والزمن والعمر الفاني.
صب يا إلهي من سحب نعمتك الهادية
شآبيب الرحمة التي تسرع إلى قبري
قبل أن أنهض، مثل التراب الذي تذروه الرياح من مكان إلى مكان،
إلى ما وراء علم الإنسان.(26/40)
وعندما تعرج بقدميك المباركتين إلى قبري،
سوف تحضر بيدك الخمر والإغراء إلي،
ولسوف يرن صوتك في طيات ملاءتي الملفوفة،
ولسوف أنهض وأرقص على غناء قيثارتك.
ورغم شيخوختي، ضمني ليلة إلى صدرك،
فإني، عندما ينبثق الفجر ليوقظني،
بنضارة الشباب في خدي، من بين أحضانك سوف أنهض.
انهض! دع عيني تسح وتمرح في نعمتك العظيمة!
أنت الهدف الذي حاول كل الناس الوصول إليه،
أنت المحبوب الذي يعبده حافظ، ووجهك
سوف يأمره أن ينبعث من الدنيا ومن الحياة ويصحو (16).
3 - تيمور
1336 - 1405
عرفنا أول عرفنا عن التتار أنهم قوم رحل من آسيا الوسطى، وأنهم أنسباء وأقرباء، وجيران للمغول، وشاركوهم في الحملات على أوربا، ووصف كاتب صيني من القرن الثالث عشر تحدرهم، وصفاً كثير الشبه بما صور به المؤرخ جوردانيز أمة الهون قبل ذلك بألف سنة، فالتتار قصار القامة، كريهو الطلعة والمحيا للغرباء عنهم، يجهلون القراءة والكتابة، مهرة في الحرب، يسددون سهامهم دون أن تطيش من فوق ظهر جواد مسرع، ويحافظون على استمرار جنسهم أو عرقهم بالمواظبة على تعدد الزوجات. وكانوا في هجراتهم وحملاتهم ينقلون معهم كل متاعهم وأسراتهم - الزوجات والأولاد والجمال والخيول والغنم والكلاب، ويرعون الحيوانات(26/41)
فيما بين المعارك، ويتغذون بلحومها وألبانها، ويتخذون الملابس من جلودها. وكانوا يأكلون بنهم وشراهة عند توافر المؤن، ولكن كانوا يحتملون الجوع والعطش والقيظ والقر، "بصبر أكثر من أي شعب آخر في العالم " (17). وكانوا يتسلحون بالسهام المكسوة أطرافها أحياناً بالنفط الملتهب، وبالمدافع، وبكل معدات العصور الوسطى للحصار، ومن ثم كانوا أداة صالحة مستعدة لكل من كان يحلم بتأسيس إمبراطورية منذ كان في المهد صبياً.
وعندما مات جنكيزخان (1227) وزع ملكه على أبنائه الأربعة. فأعطى جغتاي الاقليم المحيط بسمرقند، وحدث أن أطلق اسم هذا الابن على قبائل المغول أو التتار التي حكمها. وولد تيمور (أي الحديد)، في مدينة "كش Kesh" في بلاد ما وراء النهر، لأمير إحدى هذه القبائل. وطبقاً لما رواه كلافيجو Clavijo أدى "سوط الله" الجديد هذه المهمة منذ نعومة أظفاره: فنظم عصابات من صغار اللصوص لسرقة الغنم والماشية من المراعي المجاورة (18). وفقد في إحدى هذه المغامرات إصبعيه الوسطى والسبابة من يده اليمنى، وفي مغامرة أخرى أصيب بجرح في عقبه، ومن ثم عرج بقية أيام حياته (19) فلقبه أعداؤه Timur-i-Lang أى تيمور الأعرج، ولكن الغربيين غير المدققين، مثل مارلو حرفوا هذا الاسم إلى Tamburlane أو Tamerane. وقد وجد تيمور فسحة من الوقت لتلقي قليل من التعليم، وقرأ الشعر، وعرف الفرق بين المبادئ والانحلال. ولما بلغ سن السادسة عشرة ولاه أبوه زعامة القبيلة. وآوى إلى أحد الأديار، لأن هذا الرجل العجوز (الوالد) قال عن الدنيا إنها ليست "أفضل من زهرية من الذهب مليئة بالثعابين والعقارب" (1) وقيل إن الوالد نصح ابنه أن يرعى الديانة دوماً،
_________
(1) هذا، على اية حال، منقول من مذكرات تيمور (5، 1) المظنون أنه أملاها في أعوامه الأخيرة، ولكن يشك في صحتها.(26/42)
واتبع تيمور هذه الوصية إلى حد تحويل الرجال إلى مآذن (تكديس بعضهم فوق بعض للتنكيل بهم).
وفي سنة 1361 عين خان المغول "خوجة الياس" حاكماً على بلاد ما وراء النهر، وعين تيمور مستشاراً له، ولكن الشاب النشيط لم يكن قد نضج بعد لممارسة فن الحكم، وتشاجر بعنف مع سائر موظفي خوجة الياس، وأجبر على الهروب من سمرقند إلى الصحراء ... فجمع حوله عدداً من المحاربين الشبان، وضم عصبته إلى عصبة أخيه الأمير حسين الذي كان في مثل ظروفه. وتجولوا من مكمن إلى مكمن، حتى تحجرت أجسامهم ونفوسهم بسب الأخطار والتشرد والفقر، إلى واتاهم بعض الحظ حين استخدموا لقمع فتنة في سيستان Sistan، وما أن اشتد عود الأخوين حتى أعلنا الحرب على خوجة الياس وخلعاه وذبحاه. وأصبحا حاكمين في سمرقند على قبائل جغتاي (1365)، وبعد ذلك بخمس سنوات تآمر تيمور على ذبح الأمير حسين، وأصبح السلطان الوحيد.
وتروى سيرة حياته المشكوك فيها، عن عام 769هـ (1367م): "دخلت عامي الثالث والثلاثين، ولما كنت دوماً قلق البال لا يقر لي قرار، فقد كنت تواقاً إلى غزو بعض البلاد المجاورة" (20). وكان يقضي أيام الشتاء في سمرقند، وقل أن انقضى ربيع دون أن يخرج فيه إلى حملة جديدة. وقد لقن المدن والقبائل في بلاد ما وراء النهر أن تتقبل حكمه طواعية أو سلماً لا حرباً. وفتح خراسان وسيستان، واخضع المدينتين الغنيتين هراة وكابول، وأحبط المقاومة والتمرد بما كان ينزل من عقاب وحشي. ولما استسلمت مدينة سبزاوار Sabzawar بعد حصار كلفه كثيراً، أسر ألفين من رجالها، "وكدسهم أحياء، الواحد فوق الآخر، وضرب عليهم بنطاق من الآجر والطين، وأقام منهم مئذنة، حتى إذا استقين الرجال جبروت غضبه، لا يعود يغويهم شيطان الصلف والكبرياء". وهكذا روى القصة مادح(26/43)
معاصر (21). وغفلت مدينة زيرية Zirih عن هذه الحقيقة وأبدت مقاومة، فأقام الغازي من رؤوس أبنائها عدداً أكبر من المآذن. واجتاح تيمور أذربيجان واستولى على لورستان وتبريز، وأرسل فنانيهما إلى سمرقند. واستسلمت أصفهان في 1387 وارتضت بقاء حامية من التتار بها، فلما غادر تيمور المدينة انقض السكان على الحامية وذبحوا رجالها. فعاد تيمور بجيشه وانقض على المدينة وأمر كل فرد في جيشه أن يأتيه برأس واحد من الفرس. وقيل إن سبعين ألفاً من رءوس الأصفهانيين علقت على أسوار المدينة أو أقيمت منها أبراج تزين الشوارع (22). فلما سكن روع تيمور وهدأت نفسه خفض الضرائب التي كانت المدينة تدفعها لحاكمها، ودفعت سائر مدن فارس الفدية دون ضجة.
وتقول أسطورة أطراف من أن تصدق، إنه في شيراز في 1387، دعا تيمور أشهر مواطني المدينة إلى المثول بين يديه، وقرأ عليه غاضباً سطوراً (من الشعر) كانت قد قدمت فيها مدينتا بخاري وسمرقند من أجل الخال في خد سيدة، وقيل إن تيمور شكا غاضباً وهو يقول: "إني بضربات سيفي اللامع الصقيل أخضعت معظم الأرض المعمورة لأزين بخاري، وسمرقند، مقر حكومتي، وأنت أيها التعس الحقير تريد أن تبيعهما من أجل شامة سوداء في خد سيدة تركية في شيراز! " وتؤكد الرواية أن حافظ انحنى أمام الأمير وقال: "وا أسفاه أيها الأمير، أن هذا التبذير هو سبب البؤس الذي تراني فيه". واستساغ تيمور هذا الجواب فأبقى على حياة الشاعر ومنحه هدية سنية. ومما يؤسف له أن أحداً من كتاب سيرة تيمور المتقدمين لم يورد ذكر هذه الحادثة الطريفة (23).
وعند ما كان تيمور في جنوبي فارس جاءته الأبناء بأن طقطميش خان القبيلة الذهبية انتهز فرصة غيابه ليغزو بلاد ما وراء النهر، بل حتى ليعمل السلب والنهب في المدينة الجميلة بخاري التي قدرها حافظ بنصف خال على(26/44)
خد سيدة، فسار تيمور ألف ميل إلى الشمال (تصور مشاكل التموين في مثل هذه المسيرة)، ورد طقطميش إلى الفولجا. وسار جنوباً وغرباً وأغار على العراق وجورجيا وأرمينية، وهو يذبح في طريقه كل السادة الذين دمغهم بأنهم "شيوعيون مضللون" (24). واستولى في 1393 على بغداد بناء طلب سكانها الذين لم يعودوا يحتملون جور سلطانهم أحمد بن أويس. ولما رأى تدهور العاصمة أمر معاونيه بإعادة بنائها، وفي نفس الوقت أضاف إلى حريمه نخبة من الزوجات، وغلى حاشيته واحداً من اشهر الموسيقيين، ولجأ السلطان أحمد إلى بايزيد الأول سلطان العثمانيين في بروسة. وطلب تيمور تسليم السلطان أحمد، فرد بايزيد بأن هذا أمر يخدش تقاليد الضيافة عند الأتراك.
وكان من الممكن أن يتقدم تيمور إلى بروسه، لولا أن طقطميش عاود غزو بلاد ما وراء النهر، فاكتسح التتري المهتاج جنوبي روسيا، وبينما كان طقطميش مختبئاً في البرية، اجتاح مدينتي القبيلة الذهبية: سراي واستراخان. ولما لم يجد تيمور أية مقاومة، تقدم بجيشه غرباً من الفلجا إلى الدون، وربما كان من خطته أن يضم روسيا كلها إلى مملكته. وأقسام الروس في البلاد الصلوات في حرارة وحمية، وحملت "عذراء فلاديمير" إلى موسكو، بين صفوف الضارعين الراكعين وهم يصيحون: "يا أم الاله، خلصي روسيا". وساعد فقر السهوب على إنقاذها. ولما وجد تيمور أنه لا غناء في هذه السهول الجرداء ولا شيء فيها يمكن سلبه، ارتد إلى الدون وقاد جنوده المنهوكين الجياع إلى سمرقند (1395 - 1396).
وتجمع كل الروايات على أنه كان في الهند ثروات تشتري مائة روسيا، وأعلن تيمور أن حكام المسلمين في شمال الهند شديدو التسامح مع الهندوس الوثنيين الذين يجب عليهم اعتناق الاسلام أو تحويلهم إليه. وسار تيمور، وهو في الثالثة والستين من العمر على رأس جيش قوامه 92. 000 رجل(26/45)
(1398). وعلى مقربة من دلهي التقى بجيش سلطانها محمود، فهزمه، وذبح مائة ألف (؟) سجين، ونهب العاصمة، وجلب معه إلى سمرقند كل ما استطاعت جنوده ودوابه أن تحمل من ثروات الهند الأسطورية.
وفي 1399، ولم تكن قد محيت من ذاكرته قصة أحمد وبايزيد الأول، تقدم مرة ثانية، وعبر فارس إلى أذربيجان، وخلع ابنه المبذر المضيع الذي كان حاكماً عليها، وشنق الشعراء والوزراء الذين كانوا قد أغروا الشاب بالانغماس في اللهو، واجتاح جورجيا. ولما دخل آسيا الصغرى حاصر سيواس، واغتاظ لطول مقاومتها، فدفن أربعة آلاف جندي مسيحي أحياء- أو أن مثل هذه القصص من دعاية الحرب؟ ورغبة منه في حماية جناح جيشه عند مهاجمة العثمانيين، أرسل رسولاً إلى مصر مقترحاً ميثاق عدم اعتداء، ولكن سلطان المماليك أودع الرسول السجن، واستأجر سفاحاً لقتل تيمور. وباء المشروع بالإخقاق. وبعد إخضاع حمص وحلب وبعلبك ودمشق، سار التتري إلى بغداد التي طردت كل الموظفين الذين عينهم هو. واستولى عليها بثمن باهظ، وأمر جنوده البالغ عددهم عشرين ألفاً بأن يحضر إليه كل منهم رأس واحد من الأهالي. وتم له ما أراد- أو هكذا قيل: أغنياء وفقراء، رجالاً ونساء، شيباً وشباناً، فكلهم دفعوا ضريبة الرأس هذه، وكدست رءوسهم على شكل أهرام مروعة أمام أبواب المدينة (1401). وأبقى الغزاة على مساجد المسلمين وعلى أديار الرهبان والراهبات، وسلبوا ودمروا ما عداها تدميراً تاماً، حتى العاصمة التي كانت يوماً مدينة زاهرة باهرة لم تعد سيرتها الأولى إلا في أيامنا هذه بفضل زيت البترول.
وإذا أيقن آنذاك تيمور أنه يمكنه أن يطمئن على ملكه عن اليمين وعن الشمال، أرسل إلى بايزيد إنذاراً نهائياً للتسليم. ولكن سلطان الأتراك الذي زادت ثقته بنفسه يفضل انتصاره في معركة نيقوبوليس 1396،(26/46)
أجاب بأنه سوف يسحق جيش التتار ويتخذ من زوجة تيمور الأثيرة جارية له (25) والحم أقدر قائدين في زمانهما في أنقرة 1401، وأرغمت استراتيجية تيمور أعدائه الأتراك على القتال بعد أن أرهقتهم وأنهك قواهم طول السير. وهزم الأتراك هزيمة منكرة وأخذ بايزيد أسيراً. وابتهجت القسطنطينية، وظل العالم المسيحي بمنجاة من الأتراك لمدة نصف قرن بفضل التتار. وواصل تيمور سيره في اتجاه أوربا إلى بروسه واحرقها، وحمل معه من المدينة المكتبة البيزنطية والأبواب الفضية. وتقدم نحو البحر المتوسط، وانتزع أزمير من أيدي فرسان رودس، وذبح السكان، وقدمت جنوه التي كانت لا تزال تحتفظ بخيوس وفوشيا وميتلين خضوعها ودفعت الجزية. وأفرج سلطان مصر عن رسول ملك التتار، وانخرط في الزمرة الممتازة، زمرة التابعين الخاضعين لسلطان تيمور. وعاد تيمور أدراجه الى سمرقند، وهو أقوى حكام عصر، حيث امتد ملكه من أواسط آسيا إلى النيل ومن البسفور إلى الهند. وبعث إليه هنري الرابع ملك إنجلترا بالتهنئة، كما أوفدت إليه فرنسا أسقفاً يحمل الهدايا. وأرفد إليه هنري الثالث ملك قشتالة بعثة شهيرة برياسة روى جونزاليز كلافيجو.
وإنا لمدينون لمذكرات كلافيجو بمعظم ما نعلمه عن بلاط تيمور. فقد غادر قادس في 13 مايو 1403، ومر بالقسطنطينية وطرابزون وأرضروم, وتبريز وطهران (التي وردت الآن لأول مرة على لسان أحد الأوربين) ونيسابور، ومشهد، حتى وصل سمرقند في 31 أغسطس 1404. وكان قد توقع لسبب ما، أن هناك قوماً من السفاكين الكريهى الطلعة. وما كان أشد دهشته لكبر عاصمة تيمور وازدهارها، وفخامة المساجد والقصور، وسلوك سادتها وعاداتهم الحميدة، وثراء البلاط وترفه، واحتشاد للفنانين والشعراء حول تيمور احتفاء به وتكريماً له.(26/47)
وكانت المدينة آنذاك قد مضى على بنائها أكثر من ألفى عام، وكانت تضم نحو مائة وخمسين ألف نسمة مع "مجموعة من أعظم الدور وأجملها"، مع كثير من القصور "التي تضللها الأشجار"، بهذا كله رجح كلافيجو أن سمرقند "أكبر من أشبيلية"، هذا بخلاف الضواحي المترامية. وكان الماء يرفع إلى البيوت من نهر يجري بالقرب من المدينة، وكست مياه الري المنطقة الخلفية بالخضرة. وتضوع الهواء بعبير البساتين والكروم. وتوافرت المراعي للأغنام والماشية، ونمت المحاصيل الكثيرة. وكان في المدينة مصانع للمدافع والدروع والأقواس والسهام والزجاج والخزف، والمنسوجات المتناهية في اللمعان بما فيها "القرمزي" وهو الصباغة الحمراء، ومنه اشتقت اللفظة الإنجليزية Crimson. وكانت المدينة تضم التتار والأتراك والعرب والفرس والعراقيين والأفغانيين والكرجيين والأرمن والكاثوليك والنساطرة والهندوس، ممن يعملون في الحوانيت أو في الحقول، ويسكنون في بيوت من الطوب أو من الطين أو الخشب، أو يسرحون ويمرحون في المدينة على ضفة النهر، كل يمارس شعائره الدينية في حرية تامة، ويدعو لعقيدته المتعارضة مع سائر العقائد. وكانت تحف على جوانب الشوارع الرئيسية الأشجار والحوانيت والمساجد والمدارس والمكتبات، وكان هناك مرصد، وكان ثمة جادة رئيسية عريضة تقطع، في خط مستقيم، المدينة من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، وكان القطاع الرئيسي من هذا الطريق العام مغطى بالزجاج (26).
وفي 8 سبتمبر استقبل إمبراطور التتار كلافيجو، الذي مر بساحة فسيحة "نصبت فيها خيام كثيرة من الحرير"، وسرادقات مطرزة بالحرير، وكانت الخيمة هي المسكن المألوف لدى التتار، وكان لتيمور نفسه في هذه الساحة خيمة يبلغ 300 قدم، كما كان هناك أيضاً قصور ذوات أرضية من الرخام أو القرميد، مزودة بأثاث متين مرصع بالأحجار(26/48)
الكريمة، وكله مصنوع أحياناً من الفضة أو الذهب. ووجد كلافيجو ملك التتار جالساً القرفصاء على وسائد من الحرير "تحت مدخل أجمل قصر" قبالة نافورة يندفع منها عامود من الماء الذي انصب في حوض يتحرك فيه التفاح بلا انقطاع. وكان تمور يرتدي عباءة من الحرير ويلبس قبعة عالية واسعة مرصعة بالياقوت واللآلىء. وكان هذا العاهل طويل القامة نشيطاً يقظاً، أما الآن وهو في سن الثامنة والستين، فقد كان منحنياً ضعيفاً متوجعاً، وكاد أن يكون كفيفاً. وكان يستطيع بشق النفس أن يرفع جفنيه ليرى السفير.
وحصل تيمور من الثقافة على ما يمكن أن يحتمله رجل عمل، فقرأ التاريخ؛ وجمع الفن والفنانين، وصادق الشعراء والعلماء، واستطاع عند الاقتضاء أن يتحلى بأجمل العادات. واستوى غروره مع قدرته، مما لم يتفوق فيه أحد عليه في زمانه. وقدر تيمور على العكس من قيصر، أن القسوة جزء ضروري من الاستراتيجية، ولكنه، إذا صدقنا ضحاياه، غالباً ما يبدو آثماً متهماً بالقسوة لمجرد الانتقام. فإنه حتى في إدارته المدنية كان يسرف في الحكم بالإعدام، حتى على محافظ اتبع سياسة الظلم في المدينة، أو على جزار تقاضي للحم ثمناً أكثر مما ينبغي (27). إنه نفذ سياسة القسوة والعنف بوصفها ضرورية لحكم شعب لم يألف القانون بعد. وبرر مذابحه على أنها وسيلة لإرغام القبائل المخالفة للقانون والنظام على اتباع النظام ومتطلبات الأمن في دولة موحدة قوية. ولكنه مثل سائر الغزاة والفاتحين أحب القوة لذاتها، وأحب الغنائم والأسلاب من أجل العظمة التي يمكن أن تغطي الغنائم تكاليفها.
وفي 1405 شرع في فتح منغوليا والصين، يراوده حلم إنشاء دولة تضم نصف العالم، وتربط بين البحر المتوسط وبحر الصين. وكان جيشه يتألف من مائتي الف من الرجال الأشداء. ولكنه قضى نحبه في أتار(26/49)
Ottar على الحدود الشمالية من مملكته، وكانت آخر أوامره أن يتابع جيشه سيره، ولبرهة بسيطة تقدم جواده الأشهب المسرج، دون أن يمتطيه صاحبه، وهو يسير الهوينا في خطى متزنة - تقدم الحشد. ولكن جنوده كانوا على يقين من أن عقل قائدهم وإرادته كانتا تشكلان نصف قوتهم، فعادوا على عجل إلى أوطانهم وهم في حداد على موت القائد، وقد كتب لهم الخلاص من هذه المهمة. وشيد له بنوه في سمرقند مقبرة فخمة هي "مقبرة الأمير"، وهي عبارة عن برج تعلوه قبة ضخمة بصلية الشكل، مكسوة واجهتها بالآجر ذي الطلاء الأزرق الجميل الفيروزي المائل للخضرة.
وتحطمت إمبراطورية تيمور بموته، وكادت الأقاليم الغربية أن تنهار في الحال. وكان لزاماً أن يقنع أولاده بالشرق الأوسط. وكان أعقل أفراداً أسرة تيمور هو شاه رخ الذي رخص لابنه أو لوج في أن يحكم بلاد ما وراء النهر من سمرقند، على حين حكم الوالد نفسه خراسان من هراة، وتحت حكم خليفتي تيمور هذين أصبحت العاصمتان مركزين متنافسين على ازدهار التتار وثقافتهم، ازدهاراً وثقافة تعدلان أياً من مثيلاتهما في أوربا في ذات العصر (1405 - 1449). وكان شاه رخ قائداً قديراً يحب السلام، وقد شجع الفنون والآداب، وأسس في هراة مكتبة ذائعة الصيت. وقال أحد أمراء أسرة تيمور "إن هراة هي جنة الدنيا" (28). أما أولوح بك فقد رعى رجال العلم، وشيد في سمرقند أعظم مرصد في ذاك العصر. وقال أحد كتاب السير المنمقين من المسلمين:
"كان عالماً، عادلاً، بارعاً نشيطاً، على درجة كبيرة من المعرفة بعلم الفلك، على حين أنه في علوم البلاغة كان شديد التدقيق. وسمت مكانة رجال العلم في عصره إلى ذروتها. وفي الهندسة فسر أدق المسائل، أما في علم الظواهر الكونية(26/50)
(الكوزموجرافيا) فقد شرح كتاب بطلمبوس. ولم يجلس على العرش ملك مثله قط حتى اليوم. وسجل ملاحظات عن النجوم بالتعاون مع العلماء الأولين. وأسس في سمرقند كلية لا يمكن أن يوجد لها الأقاليم المتاخمة السبعة مثيل من جمالها ومكانتها وقيمتها" (29).
ولكن هذا النموذج الفريد للرعاية قتل في 1449 بيد ابن غير شرعي له. واستمرت هذه الثقافة العالية التي تميزت بها أسرة تيمور على عهد السلطان "أبو سعيد" والسلطان "حسين بن بيقره" في هراة حتى نهاية القرن الخامس عشر. وفي 1501 استولى مغول الأوزبك على سمرقند وبخارى، وفي 1510 انتزع الشاه الصفوى هراة وبابور، وفر آخر حكام أسرة تيمور إلى الهند وأسس هناك أسرة مغولية جعلت من دلهي الإسلامية بعاصمة رائعة في روعة رومه على عهد أسرة مديتشي.
4 - المماليك
1340 - 1517
بينما كان الإسلام في آسيا يعاني الغزو المتكرر والثورات، استغل سلاطين المماليك (1250 - 1517) مصر التي سادها استقرار نسبي إذ ذاك. وقضى الموت الأسود على ازدهار البلاد لفترة من الزمن، ولكن في أثناء هذه التقلبات استمر المماليك يوفقون بين الإدارة القادرة والمصالح الفنية من جهة والاختلاسات والفظائع من جهة أخرى. ومهما يكن من أمر، فإنه في 1318 بدأت بالسلطان الملك الناصر بن برقوق أسرة المماليك البرجية التي ساد عهدها الترف والدسائس والعنف والانحلال الاجتماعي، وخفضوا قيمة النقد، حتى على عادة الحكومات، وفرضوا الضرائب الباهظة على ضروريات المعيشة، وأساءوا استغلال احتكار الدولة(26/51)
لسكر والفلفل. وفرضوا في الإسكندرية رسوماً باهظة على تجارة أوربا مع الهند، مما دعا تجار الغرب إلى البحث عن طريق إلى الهند حول أفريقية. وخسرت مصر على مدى جيل بعد رحلة فاسكوداجاما (1498) كثيراً من نصيبها الذي كان يوماً هائلاً، من التجارة بين الشرق والغرب، وأوقعت هذه الكارثة الاقتصادية البلاد في حالة من الفقر المدقع إلى درجة أن السلطان سليم الأول لم يلق إلا مقاومة ضعيفة، حين أنهى حكم المماليك، وجعل من مصر ولاية عثمانية.
وظلت القاهرة من 1258 حتى 1453 أجل وأزهى مدن العالم الإسلامي وأكثرها ازدحاماً بالسكان. ووصفها ابن بطوطة وصفاً رائعاً في 1326، وقال عنها ابن خلدون الذي زارها 1383 إنها "عاصمة الكون، جنة الدنيا، مكتظة بجميع أجناس البشر، عرش الملكية، مدينة ازدانت بالقصور والدور الفخمة والرهبنات والأديار والكليات، مضيئة بنجوم العلم والمعرفة، جنة يرويها النيل حتى ليبدو أن الأرض تقدم ثمارها إلى الناس على سبيل الهدية والتحية" (30) - وربما كان الفلاحون المنهوكون يعترضون على هذا.
وعكست مساجد مصر في ذاك العصر قساوة الحكم أكثر مما عكست ألوان السماء. فلم يكن هنا إيوانات أو بوابات من الطوب المصقول أو القرميد الملون، كما كان الحال في آسيا الإسلامية، بل كانت جدران حجرية ضخمة جعلت من المسجد قلعة أكثر منه بيتاً للعبادة. وكان مسجد السلطان حسن (1356 - 1363) عجيبة عصره، ولا يزال أفخم آثار الفن المملوكي. وذهب المقريزي المؤرخ إلى أنه "فاق كل ما بنى من مساجد (31) " ولكنه كان قاهرياً محباً لوطنه. وتروى أسطورة غير مؤكدة كيف أن السلطان جمع مشاهير المهندسين من بلاد كثيرة، وطلب إليهم أن يذكروا له أعلى صرح على البسيطة، وأمرهم بأن يشيدوا صرحاً أعلى منه، فذكروا له قصر خسرو الأول في مدينة طيسفون (مدينة بابلية على نهر دجلة) الذي يرتفع الجزء الباقي من مدخله 105 من الأقدام فوق سطح الأرض. فبنى العمال(26/52)
جدران المسجد الجديد، بعد أن سرقوا حجارة الأهرام المتهدمة، على ارتفاع مائة قدم، وزادوا فوقها إفريزاً (كورنيش) بارتفاع 13 قدماً وشيدوا في أحد الأركان مئذنة بارتفاع 280 قدماً. وإن هذا المبنى الشاهق ليترك انطباعاً في نفوس الغربيين، ولكنه قل أن يسر الناظرين منهم. ومهما يكن من شيء فإن أهل القاهرة كانوا فخورين به، إلى حد أنهم ابتدعوا أو استعاروا خرافة تقول بأن السلطان قطع يد المهندس حتى لا يصمم تحفة رائعة تضارع هذه، وكأن المهندس يصمم بيده وكانت مساجد المقابر أكثر فتنة وجذباً للأنظار، رغم الغرض الذي بينت من أجله، وقد بناها سلاطين المماليك خارج أسوار القاهرة لتضم رفاتهم. من ذلك أن السلطان الظاهر برقوق الذي بدأ حياته عبداً شركسياً، انتهى أمره في مجد صامت، راقداً في مقبرة من أفخم هذه المقابر.
وكان قايتباى أعظم البناة بين المماليك البرجية، فبالرغم من أن الحرب مع الأتراك أنهكته، فقد دبر الأموال لتشييد المباني النفيسة في مكة والمدينة والقدس، وجدد في القاهرة قلعة صلاح الدين والجامع الأزهر، وبنى داخل العاصمة مسجداً ذا زخارف منسقة. وتوج قايتباى أعماله في أخريات أيامه، بمسجد تذكاري من الجرانيت والرخام، ذي زخرفة رائعة ومئذنة عالية ذات شرفات، وقبة مزينة بنقوش هندسية، مما جعل هذا المسجد مأثرة من المآثر الأقل قيمة للفن الإسلامي.
وانتشرت الفنون الصغيرة في عهد المماليك. وصنع النقاشون على العاج والعظام والخشب ألفاً من المنتجات الجميلة، من صناديق الأقلام إلى المنابر، وهي منتجات كان يتخيلها الذوق، ويقوم على تنفيذها العمل المتواصل والمهارة. وحسبك في هذا أن تلقي نظرة على منبر مسجد قايتباى خارج أسوار المدينة في متحف فكتوريا وألبرت. وبلغ التطعيم بالذهب والفضة(26/53)
ذروته أيام هذه الأسرات الدموية. أما مصانع الخزف المصري التي كانت قد ابتدعت ألفاً من البدع والأشياء الغربية في آلاف السنين السحيقة في القدم، فإنها أخرجت الآن للعالم الزجاج المطلي بالمينا ومصابيح المساجد والكؤوس والزهريات المزدانة بالصور أو الزخرفة التشكيلية من المينا الملونة، والمرصعة بالذهب أحياناً. وبمثل هذه الطرق وبكثير غيرها لا يحصيها العد، خلع الفنانون المسلمون على الجمال شكلاً خالداً، وبذلك عوضوا عن وحشية ملوكهم أو كفروا عنها.
5 - العثمانيون
1288 - 1517
يبدأ التاريخ بعد اختفاء الأصول. فلا أحد يعرف أين نشأ الأتراك. "فذهب بعض الناس إلى أنهم كانوا قبيلة فنلندية أوجرية Finno-Ugric ( شعب أسيوي شرقي الأورال) من الهون، وأن اسمهم يعني "خوذة" وهي في إحدى اللهجات التركية Durko. وقد شكلوا لغاتهم من اللغتين المغولية والصينية، وأدخلوا بعد ذلك ألفاظاً فارسية أو عربية، وهذه اللهجات التركية هي الوسيلة الوحيدة لتصنيف المتكلمين منهم بوصفهم أتراكاً. واتخذت واحدة من هذه العشائر اسمها من اسم زعيمها سلجوق. ونمت بالنصر تلو النصر، وتكاثرت سلالتها، وحكموا في القرن الثالث عشر فارس والعراق وسوريا وأسيا الصغرى. وفرت عشيرة أخرى من أقرباء العشيرة الأولى، بقيادة زعيمها طغرل، أر، من خراسان في نفس القرن، حتى لا يكتسحها طوفان المغول. واستخدمها سلجوق أمير قونية بآسيا الصغرى، في الأعمال الحربية، وأقطعها جزءاً من الأرض لرعي ماشيتها.
وفي 1288 (؟) مات أرطغرل، فاختير ابنه عثمان، وهو إذ ذاك في الثلاثين من عمره، ليخلف أباه، ومنه اشتق اسم "العثمانيين". ولم(26/54)
يطلقوا على أنفسهم اسم الأتراك قبل القرن التاسع عشر، بل أطلقوه على الشعوب شبه الهمجية في تركستان وخراسان. وفي 1290 رأى عثمان أن السلجوقيين أضعف من أن يقفوا في طريقه، فأعلن نفسه أميراً مستقلاً على ولاية صغيرة في الشمال الغربي من آسيا الصغرى، وفي 1299 تقدم بقواته غرباً إلى بني شير. ولم يكن عثمان قائداً عظيماً، ولكنه كان مثابراً صبوراً، وكان جيشه صغيراً، ولكنه مكون من رجال ألفوا في ديارهم ركوب الخيل أكثر مما ألفوا السير على الأقدام، رجال أرادوا أن يغامروا بحياتهم الشاقة من اجل الأرض أو الذهب أو النساء أو السلطان، وكانت تقع بينهم وبين بحر مرمرة مدن بيزنطية ناعسة سيئة الحكم هزيلة الدفاع. فحاصر عثمان واحدة منها وهي بروسه، وأخفق أول الأمر في الاستيلاء عليها، ولكنه عاود الكرة بعد الكرة، حتى استسلمت المدينة أخيراً لابنه أورخان، في الوقت الذي كان يرقد فيه عثمان على فراش الموت في بني شير (1326).
واتخذ أورخان من بروسه، التي تقدست برفات أبيه، عاصمة جديدة للعثمانيين. وساقته الرغبة في المزيد من السلطان إلى البحر المتوسط، المركز العتيق للتجارة والثروة والمدنية. وفي نفس العام سقطت فيه بروسه، انتزع نيقوميديا التي صارت فيما بعد أزميد، وفي 1330 استولى على نيقية التي أصبحت أزنيق، وفي 1336 استولى على برجاموم التي أصبحت برجامه. وكانت تلك المدن العريقة في القدم والتي تفوح منها رائحة التاريخ، مراكز للحرف والتجارة، وقد اعتمدت في المواد الغذائية والأسواق اللازمة لها على الجماعات الزراعية المحيطة بها والتي كان العثمانيون قد استولوا عليها في ذاك الحين، وكان على هذه المدن أن تعيش على هذه البقاع الداخلية أو أن تموت جوعاً. فلم تقاوم طويلاً، لأنها كانت قد عانت من ظلم حكامها البيزنطيين، كما سمعت بأن أورخان لم يثقل الكواهل بالضرائب، وأنه رخص في حرية العقيدة - وكان كثير من هؤلاء المسيحيين في الشرق الأدنى هراطقة مرهقين:(26/55)
نساطرة أو من القائلين بأن للمسيح طبيعة واحدة. وسرعان ما ارتضى العقيدة الإسلامية جزء كبير من الأراضي المفتوحة، وهكذا تحل الحرب المشاكل اللاهوتية، على حين كانت هذه المشاكل قبل الحرب تقف عاجزة محيرة. ومذ وسع أورخان ملكه على هذا الشكل، فقد اتخذ لنفسه لقب سلطان العثمانيين. وعقد أباطرة بيزنطة أواصر السلام معه، واستأجروا جنوده، وسمحوا لابنه سليمان في بناء معاقل على أرض أوربا. وقضى أورخان نحبه وهو في الواحدة والسبعين من عمره، بعد أن خلد ذكراه بين جوانح شعبه.
وكون خلفاؤه من بعده أسرة قل أن يوجد لها في التاريخ مثيل، في هذا المزيج من القوة الحربية والمهارة والمقدرة الإدارية والقسوة الوحشية، والإخلاص الرفيع للآداب والعلوم والفنون. وكان مراد الأول أقل أفراد هذه الأسرة جاذبية، ولما كان أمياً فإنه كان يبصم بأصابعه المغموسة في المداد على الوثائق، على غرار القتلة المغمورين. ولما قاد ابنه صاوندجي ثورة إجرامية فاشلة ضده، فقأ مراد عينيه وقطع رأسه، وأرغم آباء الثوار على قطع رءوس أبنائهم (32). ودرب مراد جيشاً لا يكاد يقهر، وفتح معظم أراضي البلقان، ويسر خضوعهم له بأن أقام لهم حكومة أقدر من تلك التي عرفوها على عهد السيطرة المسيحية.
وورث بايزيد الأول عرش أبيه في ميدان القتال في قوصوه (1389). ذلك أنه بعد أن قاد الجيش إلى النصر أمر بإعدام أخيه يعقوب الذي كان قد قاتل ببسالة في ذاك اليوم العصيب. واصبح قتل الأخوة على هذا النحو قاعدة منتظمة عند سلاطين آل عثمان بعد الجلوس على العرش، طبقاً للمبدأ القائل بأن التمرد على الحكومة يؤدي إلى التمزق، إلى حد أنه يجدر التخلص في أول فرصة ممكنة ممن يحتمل أن يطالبوا بالعرش. وأحرز بايزيد لقب(26/56)
"بلدرم أي الصاعقة"، لسرعته في خططه الحربية، ولكن أعوزه فن الحكم الذي تميز به أبوه، وأضاع بعض طاقته الجبارة في المغامرات النسائية، وقدم ستيفن لازارفتش، حاكم الصرب من قبل السلطان، أخته لتنضم إلى حريم السلطان، وأصبحت هذه السيدة دسبوانا زوجته الأثيرة لديه، وغرست فيه الولع بشرب الخمر وإقامة المآدب السخية، وربما أضعفت عن غير عمد حيويته كرجل. وتألق غروره وكبرياؤه حتى سقوطه. وبعد أن هزم بايزيد فرسان أوربا في نيقوبوليس، أطلق سراح كونت نفرز Nevers مع دعوة ممتازة للمبارزة، رواها أو عدل فيها فروسار Froissor، قال:
"أي جون، إني أعلم جيداً أنك سيد عظيم في بلدك، وأنك ابن سيد عظيم. أنت شاب يافع، وربما تلاقي بعض اللوم أو العار لأنك وقعت في هذه المغامرة في بداية عهدك بالفروسية، وأنك تخلصاً من اللوم وإنقاذاً لشرفك" ربما تحشد قوة من الرجال لمحاربتي. ولو ساورني الشك أو الخوف قبل رحيلك، لأجبرتك على أن تقسم بشريعتك وعقيدتك، أنك لا أنت ولا أحد من زمرتك، سوف تشهر السلاح ضدي ولكني لن ألزمك أو ألزم أحداً من أتباعك بمثل هذا القسم أو الوعد. ولكني سأفعل ذلك عندما تعود إلى وطنك وإلى مسراتك، لتجمع من القوة ما تشاء، ولا تدخر وسعاً، واخرج إلى قتالي، ولسوف تجدني دوماً على أهبة الاستعداد لاستقبالك واستقبال عصيتك .. واطلع من تشاء على هذا الذي أقول لك، فإني قادر على القتال، ومستعد على الدوام للتوغل في العالم المسيحي" (33).
ولما أسر تيمورلنك السلطان بايزيد عامله بكل إجلال واحترام؛(26/57)
على الرغم من الرسائل المهينة التي كانا قد تبادلاها على مدى عام، وأمر تيمور بفك أغلال السلطان وأجلسه إلى جانبه، وأكد له أنه سيبقى على حياته، واصدر تعليماته بأن تنصب ثلاث خيام فخمة لحاشيته، ولكن عندما حاول بايزيد الهرب، احتجز في غرفة ذات نوافذ مسدودة بالحواجز، وقد بالغت الأساطير فقالت إنها قفص من حديد. ومرض بايزيد، فدعا تيمورلنك أحسن الأطباء لمعالجته، وأرسل السيدة دسبوانا لتسهر على رعايته ومواساته، ولم تجد هذه المساعدات شيئاً لبعث القوى الحيوية في السلطان المحطم ومات بايزيد بعد عام من هزيمته.
وأعاد ابنه محمد الأول تنظيم حكومة العثمانيين وقوتهم، وعلى الرغم من أنه فقأ عيني أحد المطالبين بالعرش وقتل آخر، فإنه اكتسب لقب السيد المهذب، بفضل سلوكه الكيس اللطيف وحكمه العادل، وسنوات السلم العشر التي منحها للعالم المسيحي، وكان لمراد الثاني مثل هذه المشارب، فآثر الشعر على الحرب، ولكن، ولكن عندما نصبت القسطنطينية مزاحماً له ليخلعه، ونقضت المجر عهد السلم، أثبت مراد الثاني في وارنه (1444) أنه قائد كأحسن ما يكون القواد. ثم عاد إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى، حيث عقد مرتين في كل أسبوع اجتماعاً للشعراء والعلماء، وقرأ الشعر وتحدث في العلوم والفلسفة. واقتضت ثورة في أدرنه عودته إلى أوربا، فأخمدها، وقهر هونياد في قوصوه. وعندما مات في 1451، بعد أن قضى في الحكم ثلاثين عاماً، وضعه المؤرخون المسيحيون في مصاف أعظم حكام عصره. وقد أمر في وصيته بأن يدفن في بروسه في مصلى متواضع غير مسقوف، "حتى تنزل عليه رحمة الله وبركاته مع شروق الشمس والقمر، وسقوط المطر والندى على جدته" (34).
وتساوى محمد الثاني مع أبيه في الثقافة والفتوحات والفطنة السياسية وطول الحكم، وليس في العدل ولا في النبل. فنقض المعاهدات الوثيقة،(26/58)
ولطخ انتصاراته بالمذابح غير الضرورية. وكان يتسم في مفاوضاته واستراتيجيته بدهاء الشرق. وسئل يوماً عن خططه فأجاب: "لو أن شعرة من لحيتي عرفت لانتزعتها" (35). وتحدث السلطان بخمس لغات، وكان واسع الاطلاع في عديد من الآداب، بارعاً في الرياضيات والهندسة ورعى الفنون، وأجرى معاشات على ثلاثين شاعراً عثمانياً، وبعث بالهدايا الملكية إلى شعراء في فارس والهند. وجاء بعده في المرتبة الثانية كنصير للأدب والفن وزيره الأكبر محمود باشا، فأعان هو وسيده كثيراً من الكليات والمؤسسات الدينية، حتى أطلق على السلطان "أبو الأعمال الخيرية". وكان محمد أيضاً "أبا الانتصارات". فقد خرت القسطنطينية له ولمدافعه، وبفضل مدافعه أصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية، وأمام جيوشه ودبلوماسيته وقعت دول البلقان في أسر العبودية. ولكن هذا الفاتح الذي لا يقاوم، لم يتغلب على نفسه أو يكبح جماحها، فما أن بلغ الخمسين حتى كان قد أنهك قواه بكل ألوان الإفراط الجنسي، ولم تجد العقاقير نفعاً في تجديد حيويته، حتى أدرجه حريمه آخر الأمر في عداد الأموات. وقضى نحبه في سن الواحدة والخمسين في اللحظة التي بدا فيها أن جيشه على وشك غزو إيطاليا وضمها إلى العالم الإسلامي.
وأدى النزاع بين أبنائه إلى تولى بايزيد الثاني العرش. ولم يكن بالسلطان الجديد نزوع إلى الحرب، ولكن عندما استولت البندقية على قبرص وتحدت سيطرة الأتراك على شرق البحر المتوسط، أفاق السلطان وضلل مخادعيه بميثاق للسلام، حتى بنى أسطولاً من 270 سفينة ودمر أسطول البندقية بعيداً عن شواطئ اليونان. وأغار جيش تركي على شمال إيطاليا حتى وصل غرباً إلى فيشنتزا (1502). فتوسلت البندقية لعقد الصلح ومنحها بايزيد شروطاً سخية، ثم ركن إلى الشعر والفلسفة من(26/59)
جديد. وخلعه ابنه سليم على العرش (1512) ولم يلبث بايزيد أن مات، وقيل إنه مات مسموماً.
إن التاريخ، من بعض الوجوه، ليس إلا تعاقباً لموضوعات متعارضة، فإن الطباع والأشكال السائدة في عصر ينكرها ويبرأ منها العصر الذي يليه، والذي يضيق ذرعاً بالتقاليد، ويتحرق لهفاً إلى التجديد: فالكلاسيكية تنجب الرومانتيكية، وهذه تلد الواقعية، وهذه تأتي بالتأثرية، كما تدعو فترة إلى الحرب العدوانية. فقد ازدرى سليم الأول بسياسة السلم التي انتهجها والده. وكان سليم قوى الجسم قوى الإرادة، عزوفاً عن المسرات وأسباب المتعة، ولوعا بالصيد والقنص وحياة المعسكر، واستحق لقب "العبوس" لأنه شنق تسعة من ذوى قرباه منعاً لأية فتنة أو تمرد، وشن الحرب تلو الحرب من أجل الفتح والغزو. ولم تزعجه إغارة إسماعيل الصفوي شاه فارس على الحدود التركية. فقطع سليم على نفسه عهداً بأن يشيد ثلاثة مساجد ضخمة في القدس، وبودا وروما، إذا من الله عليه بالنصر على الفرس (36). وإذ أثار النعرة الدينية في شعبه إلى حد القتال. فإنه تقدم نحو إسماعيل، واستولى على تبريز، وجعل من شمالي أرض الجزيرة ولاية عثمانية. وفي 1515 حول مدافعه ورجاله الانكشارية إلى المماليك، وضم سوريا وبلاد العرب ومصر إلى مملكته (1517). وحمل من القاهرة إلى القسطنطينية أسيراً مكرماً هو "خليفة المسلمين"وهو أكبر مقام ديني عند المسلمين. وأصبح سلاطين العثمانيين بعد ذلك - مثل هنري الثامن - أصحاب السلطة الدينية كما كانوا أصحاب السلطة الزمنية (سادة الدين والدولة).
وفي أوج مجد قواته وعظمتها، جهز سليم لغزو رودس والعالم المسيحي. فلما تمت كل الاستعدادات، أصيب بالطاعون فقضى عليه (1520). وأمر ليو العاشر الذي كان قد ارتعد فرقاً لنقدم سليم أكثر مما ارتعد لظهور مارتن لوثر - أمر الكنائس المسيحية بإقامة الصلوات شكراً لله.(26/60)
6 - الأدب الإسلامي
1400 - 1520
نظم سليم العبوس نفسه قصائد من الشعر المقفى، وورث ابنه سليمان القانوني ديواناً ملكياً ضم قصائده المجموعة، مثل ما ورثه إمبراطورية تمتد من الفرات إلى الدانوب والنيل، وإنك لترى أثنى عشر من السلاطين وكثيراً من الأمراء، من بينهم الأمير جم الذي أجزل أخوه بايزيد الثاني العطاء لملوك المسيحية وبابواتها ليحتجزوا الأمير في معتقل لائق، نقول إنك لترى هؤلاء السلاطين والأمراء بين 2200 شاعر عثماني طبقت شهرتهم الآفاق في القرون الستة الأخيرة (37). واقتبس معظم هؤلاء الشعراء من الفرس أشكال شعرهم وأفكاره، وفي بعض الأحيان لغته، وواصلوا، في معين من القصيد لا ينضب، تمجيد عظمة الله، وحكمة الشاة أو السلطان، وارتعاد شجرة السرو حسداً عندماً يقع نظرها على السيقان النحيلة الناصعة البياض للحبيبة. وقد ألفنا الآن نحن في الغرب هذه المفاتن إلى حد أننا لم نعد نهتز لهذه التشبيهات الهائلة. ولكن "الأتراك الفظعاء" الذين كانت نساؤهم متدثرات من الأنف إلى أخمص القدم بشكل كله إغراء، اهتزوا إلى الأعماق بهذه الإيحاءات الشعرية، وهذا الشعر الذي غيرت ترجمته من طبيعته، والذي لا يؤثر فينا شعرة، كان يحفزهم إلى التقي والورع وإلى تعدد الزوجات وإلى الحرب.
وإنا لنختار في خيال ساذج، من بين ألف من الموتى الخالدين، ثلاثة أسماء لا تزال غريبة غير مألوفة لدى المجتمعات المحلية في الغرب. من هؤلاء أحمدي، وهو من سيواس (المتوفى 1413) الذي نهل أول ما نهل من الأستاذ الفارسي النظامي، وقد كتب أحمدي "اسكندرنامة" أي كتاب الإسكندر، وهو ملحمة ضخمة في أسلوب قوي غير مصقول، لم تتناول(26/61)
قصة غزو الفرس للإسكندر فحسب، ولكن تضمنت كذلك تاريخ الشرق الأدنى وديانته وعلومه وفلسفته من أقدم العصور إلى عهد بايزيد الأول. ويجدر بنا أن نكف عن الاقتباس لأن الترجمة الإنجليزية أشبه شيء بكابوس يجثم على الصدر. أما شعر أحمد باشا (المتوفى 1496) فقد ابتهج به السلطان محمد الثاني إلى حد أنه عين الشاعر وزيراً له. ولكن الشاعر وقع في غرام خادم جميل من حاشية الإمبراطور الذي كان به مثل هذا الميل، فما كان منه إلا أن أمر بإعدام الشاعر وأرسل أحمد إلى مولاه قصيدة غنائية تفيض رقة، حتى أن محمداً وهبه الغلام، ولكنه نفى الاثنين إلى بروسه (38). وهناك أوى أحمد إلى داره شاعراً شاباً قدر له في الحال أن يبزه، ونظم نجاتي (المتوفى 1508)، وكان اسمه الحقيقي عيسى - نظم قصيدة غنائية مدح محمد الثاني، وربطها في عمامة صفى السلطان وزميله في لعبة الشطرنج، ودفع فضول محمد الثاني به إلى الوقوع في الشرك، وفض اللفيفة وقرأ القصيدة، واستدعى ناظمها وعينه موظفاً في القصر الملكي. وأبقاه بايزيد الثاني ناعماً بالحظوة والثراء. وكتب نجاتي الذي انتصر بشكل بطولي على الازدهار والنجاح، بعض القصائد الغنائية التي تستحق أعظم الثناء والتقدير في الأدب العثماني.
ومهما يكن من أمر، فإن فطاحل الشعر الإسلامي كانوا لا يزالون من الفرس. وكان بلاط حسين ببقرة في هراة يعج بالعنادل المغردة، حتى أن وزيره مير على شيرنواى شكا قائلاً: "لو انك مددت قدميك لرفست بهما ظهر شاعر". فرد عليه شاعراً آخر بقوله: "وكذلك تفعل أنت لو سحبتهما (39) ". وكان مير على شير (المتوفى 1501)، إلى جانب معاونته في حكم خراسان، ورعايته للأدب والفن، وذيوع صيته في رسم المنمنات والتلحين - نقول كان شاعراً فحلاً، فكان ميسيناس وهوراس زمانه في وقت معاً. ومن فيض رعايته المستنيرة استمد العون والسلوى المصوران بهزاد(26/62)
وشاه مظفر، والموسيقيون قول محمود وشائقي نائي وحسين يودي، والشاعر الإسلامي الكبير في القرن الخامس عشر ملا نور الدين عبد الرحمن جامي (المتوفى 1492).
ووجد جامي في حياته الطويلة الهادئة فسحة من الوقت ليكتسب شهرته عالماً ومتصوفاً وشاعراً. فشرح باعتباره من رجال الصوفية، في نثر رقيق، الفكرة الصوفية القديمة، وهي أن الاتحاد البهيج بين النفس البشرية وبين الحبيب، وهو الله سبحانه وتعالى، لا يتأتى إلا إذا أيقنت النفس أن الإنسان ليس غلا وهماً وسراباً، وأن كل الأشياء في الدنيا هي مجموع من الأشباح العبرة التي تتلاشى في ضباب الفناء. ومعظم قصائد جامي عبارة عن تصوف منظوم شعراً، ممزوج بشيء من الحسية الجذابة. ويقص علينا سلمان وأبسال حكاية طريفة تشير إلى أن الحب الإلهي يسمو على الحب الدنيوي. وسلمان هو ابن شاه يون (أيونيا) وقد ولد من غير أم (وهذا شيء أصعب بكثير من التوالد العذري) وقد تولت تربية الأمير الجميلة أبسال التي افتتنت به حين بلغ الرابعة عشرة من العمر، وقد غزت قلبه وأسرته بما اصطنعت من أسباب التجميل والتطرية:
"أحاطت سواد عينيها بسواد الإثمد
حتى تحوله إلى ليل وهو في وضح النهار،
وزينت وزججت الحواجب فوقهما.
لتصيبه إذا ضل هناك، وشعرها الذي يتضوع منه المسك
صففته في لفائف أفعوانية كثيرة
كمن فيها "الإغراء" فوق خدها
الذي أضاءت ورده بندى قرمزي
ووضعت هناك حبة دقيقة من المسك
لتوقع في الشرك طائر هذا القلب الحبيب(26/63)
وقد نمر أحياناً فتطلق ضحكة تكسر بها
ياقوتة شفتيها اللتين تحفظان بينهما اللآلى
أو تنهض وكأنها على عجل، فتقعقع خلاخيلها الذهبية،
وعلى نداءاتها المفاجئة. تأتي
تحت قدميها الفضيتين بالتاج الذهبي (40).
وهو تاج الأمير وريث العرش بلا منازع، ويستسلم الأمير دون عناء لهذه المغريات، ولبعض الوقت ينعم الاثنان - الولد والسيدة في حب مشبوب. فيؤنب الملك هذا الشاب على مثل هذا العبث، ويأمره أن ينجو بنفسه إلى الحرب والحكم. ولكن سلمان بدلاً من ذلك يهرب مع أبسال على ظهر جمل، "وكأنهما لوزتان حلوتان في قشرة واحدة"، حتى إذا وصلا إلى البحر صنعا قارباً وسارا به "شهراً" وأتيا إلى جزيرة مكسوة بالخضرة، مليئة بالأزهار العطرة والطيور المغردة، والثمار والفاكهة التي تتساقط تحت قدميها بكثرة. ولكن في جنة عدن هذه يتحرك ضمير الأمير فيؤنبه، ويفكر في مهام الملك التي أغفلها، ويحث الأمير محبوبته أبسال على العودة معه إلى يون، ويحاول أن يدرب نفسه على الاضطلاع بأعباء الملك، ولكنه موزع بين الواجب والجمال، إلى حد أنه كاد آخر الأمر أن يجن، وانضم إلى أبسال في محاولة للانتحار، فبنيا محرقة، وقفزا إليها، وبد كل منهما في يد الآخر، وأنت النيران على أبسال، ولكن سلمان يخرج سالماً ولم يحترق. والآن وقد تطهرت نفسه، فإنه يرث العرش ويشرفه. وكل هذا مجاز يفسره جامي بأن الملك هو الله، وسلمان هو النفس البشرية، وأبسال هي نشوة الشهوة، والجزيرة السعيدة هي جنة الشيطان التي تضل فيها النفس عن مصيرها الإلهي، أما المحرقة فهي نار تجربة الحياة، التي تتلاشى فيها الرغبات الشهوانية، أما العرش الذي ترقى إليه النفس المطهرة فهو عرش الله. ومن العسير أن نعتقد أن شاعراً أن يصدر مفاتن(26/64)
المرأة بهذا الشكل الحساس، يمكن أن يطلب إلينا اجتنابها اللهم إلا بين الفينة والفينة.
وفي جرأة عوض عنها ما تمخضت عنه تجاسر جامي فعالج، شعراً من جديد، الموضوعات الأثيرة لدى اثنى عشر من الشعراء قبله: يوسف وزليخة، ليلى والمجنون، وفي تصدير فصيح يعيد تقرير النظرية الصوفية: نظرية الجمال الإلهي والجمال الدنيوي:
في "القفر البدائي"، حيث لم تعط الحياة أية علامة على
وجودها، ورقد الكون مختبئاً منكراً نفسه، كان ثمة شيء.
إنه الجمال المطلق يظهر نفسه لنفسه فقط، وبنوره هو وحده.
مثل أجمل النساء في غرفة زفافها المحفوفة بالأسرار، كان ثوبها نقياً
لا تشوبه أية شائبة، ولم تعكس أية مرآة وجهها، ولم يمر
المشط قط بخصلات شعرها، ولم يحرك النسيم العطر قط شعرة
واحدة منها، ولم يأو قط أي عندليب على صفحة خدها الوردي ..
ولكن الجمال لا يطيق أن يبقى مجهولاً. انظر إلى زهرة التوليب
فوق قمة الجبل، وهي تنفذ في الصخر فرعها الغض لأول بسمة
من بسمات الربيع ... كذلك الجمال الأبدي أتى من الأماكن المقدسة
للأسرار ليشع في كل الآفاق وفي كل النفوس، وثمة شعاع واحد
انطلق من هذا الجمال الأبدي، واخترق الأرض والسموات، ومن ثم
تكشف وظهر في مرآة المخلوقات. وأصبحت كل ذرات الكون
بمثابة مرايا تعكس كل منها ناحية من نواحي العظمة الأبدية.
وسقط شيء من تألقها على الوردة والعندليب، فأصابهما شيء
من جنون الحب البائس واتقدت حماستهما ناراً، وجاء ألف من
الفراشات لتهلك في اللهب، وهي التي أضفت على قمر كنعان لمعانه
الساطع الذي أصاب زليخة بالجنون (41)(26/65)
إن جامي يهبط من علياء سمائه ليصف جمال الأميرة زليخة في تكرار
وإسهاب يتقدان حماسة، حتى إلى حد وصف "حصن العفة والملمس
الحرام فيها".
وكان نهداها بمثابة كرتين من نور بالغ النقاوة أو فقاعتين
تقفزان حديثاً من نافورة كافور، أو رمانتين صغيرتين تنموان
على غصن واحد، لا يستطيع أي طامع جريء أن يمسهما
بإصبعه (42).
إن زليخة ترى يوسف في المنام، فتقع في غرامه لأول ظهوره. ولكن أباها يزوجها من وزيره بوتيفار. ثم ترى يوسف بشخصه رأي العين معروضاً للبيع في سوق الرقيق فتشتريه وتغريه، ولكنه يرفض صداقتها والتفاهم معها، فيصيبها الهزال. ويموت الوزير، ويحل يوسف محله، ويتزوج زليخة، وسرعان ما ينتاب الهزال الاثنين، إلى حد الموت آخر الأمر. إن حب الله هو الحقيقة وهو الحياة، إنها قصة قديمة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يركن إلى هذه المواعظ؟
7 - الفن في آسيا الإسلامية
في كل البقاع التي وصل إليها الإسلام من غرناطة إلى دلهي وسمرقند، استخدم الملوك والنبلاء العباقرة والعبيد لبناء المساجد والمقابر، والرسم على الآجر وإحراقه، ونسج الحرائر والسجاجيد وصبغها، وطرق المعادن، والحفر على الخشب والعاج، وزخرفة المخطوطات بالألوان المائية والخط، واستمسك الخانات والتيموريون والعثمانيون والمماليك، وحتى الأسرات الصغيرة التي حكمت الأجزاء الضعيفة من العالم الإسلامي، استمسكوا جميعاً بالتقليد الشرقي، وهو تلطيف السلب بالشعر، وتلطيف القتل بالفن.(26/66)
وفي قرى الريف وفي قصور المدن أخرجت الثروة جمالاً، ونعمت قلة محظوظة بقرب أشياء تغري اليدبلمسها، وتغري العين بالنظر إليها.
وكان المسجد لا يزال مجمع الفن الإسلامي. فالطوب والقرميد أكسبا المئذنة جمالاً شاعرياً، وأبواب الخزف المزخرف جعلت من ضوء الشمس ألواناً براقة، وأبرز المنبر الأشكال المتعرجة المحفورة أو التطعيم المعقد في الخشب، ووجهت فخامة المحراب قلوب المصلين إلى مكة. وقدمت المصبعات والثريات مشبكاتها المعدنية إجلالاً وولاء لله. وجعل السجاد من الأرض البلاط مكاناً ليناً وهيأ لركبتي المصلى سجوداً وثيراً. وغلفت المصاحف المذهبة بالحرير الثمين. وعجب كلافيجو "من المساجد الجميلة المزدانة بالآجر الأزرق والذهبي (43) "، وفي أصفهان أقام أحد وزراء أولجايتو في مسجد الجمعة محراباً بات فيه الجص العادي من مفاتن الزخرفة العربية والنقش. وشيد أولجايتو نفسه في "سلطانية " ضريحاً فخماً (1313) أراد أن ينقل إليه رفات على والحسين (كان الخان أولجايتو شيعيا). ولكن خطته أخفقت إخفاقاً محموداً، فإن عظام الخان ووريت الترب في هذا الضريح المهيب. وتتسم أطلال المسجد في فارامين (1326) بالضخامة والجلال.
وأولع تيمور بالبناء، وسرق أفكار العمارة، كما سرق الفضة والذهب من ضحايا أسلحته. وآثر الضخامة بوصفه فاتحاً، وكأنما هي ترمز إلى إمبراطوريته وإلى إرادته، ومثل محدثي الثراء أغرم باللون وأسرف في الزخرفة،. وافتتن بالآجر الأزرق المطلي في هراة، فاستقدم خزافين من فارس إلى سمرقند ليكسوا بالطوب اللامع واجهات المساجد والقصور في عاصمته، وسرعان ما أشرقت المدينة وتألقت بالخزف الفخم. ولحظ في دمشق قبة بصلية الشكل تنبعج فوق القاعدة ثم يستدق طرفها إلى أعلى حتى يصبح مدبباً، فأمر مهندسيه أن يأخذوا تصميمها وأبعادها قبل أن(26/67)
تسقط في الحريق العام، وتوج سمرقند بمثل هذه القباب، ونشر هذا الطراز بين الهند وروسيا، حتى إنك لتراه سائداً من تاج محل إلى الميدان الأحمر. ولما عاد من الهند أحضر معه الفنانين والصناع المهرة: فأقاموا له في ثلاثة أشهر مسجداً ضخماً هو "مسجد الملك" له بوابة ارتفاعها مائة قدم، وسقف مرفوع على 480 عموداً من الحجر. وشيد لأخته "تشوشوك بيكا" ضريحاً لتدفن فيه، أصبح تحفة العمارة في عصره (44). وعندما أمر ببناء مسجد تخليداً لذكرى زوجته الأثيرة لديه، بيبى خاتون، أشرف على البناء بنفسه، وألقى باللحوم إلى العمال في الحفائر، ونفح الصناع المهرة المجتهدين بالنقود، وحثهم أو أجبرهم على العمل ليل نهار، حتى أقبل الشتاء وتوقف البناء، وأخمدت حماسته.
وأنجز خلفاؤه فناً أكثر نضجاً. ففي "مشهد" على الطريق بين طهران وسمرقند استخدمت "جوهر شاد" زوجة "شاه رخ" المغامرة، المهندس المعماري قوام الدين في بناء المسجد الذي يحمل اسمها (1418)، وهو أروع نتاج الهندسة الإسلامية الفارسية وأغناه بالألوان (45). وفيه تحيط المآذن المزودة بالفوانيس الرائعة بالضريح وكأنها تحرسه، وتؤدي أربعة مداخل فخمة إلى فناء رئيسي، كسبت واجهة كل منها بآجر من الخزف المزخرف، "لا مثيل لها من قبل ومن بعد" (46) - تحفة الزمان - تتحدى اللون في مائة شكل من الزخرفة العربية "الأرابسك" والرسوم الهندسية والحركات الزهرية والخط الكوفي الفخم، وأضفت شمس فارس على هذا مزيداً من البريق والتألق. وفوق الجزء الجنوبي الغربي من الرواق ذي الأعمدة المؤدى إلى حرم المسجد ارتفعت مئذنة من الآجر الأزرق تناطح السماء، وعلى الباب بحروف بيضاء على أرضية زرقاء نقش إهداء الملكة، وهو إهداء يفيض فخراً وتقى:
إن عظمتها العريقة في المجد، شمس سماء الطهارة والعفة ....(26/68)
جوهر شاد، خلد الله عظمتها وأدام طهارتها! من مالها الخاص،
ولخبر آخرتها، ومن أجل اليوم الذي يحاسب فيه المرء على
ما قدمت يداه، تقرباً إلى الله وشكراً له سبحانه .. .. شيدت
هذا المسجد الجامع العظيم، هذا البيت المقدس، في عهد السلطان
المعظم، سيد الحكام، والد نائب الملك، شاه رخ أدام الله
ملكه وإمبراطوريته، وزاد على الأرض صلاحه وعدله
وكرمه (47).
ولم يكن مسجد جوهر شاد إلا واحداً من جملة مبان جعلت من مشهد رومه "المذهب الشيعي"، وهناك على مدى ثلاثين جيلاً، شيد أتباع الإمام الرضا مجموعة كبيرة من العمائر فخامتها بالألباب، ذوات مآذن جميلة وقباب فاخرة، ومداخل كسيت واجهاتها بالآجر اللامع أو بصفائح الفضة أو الذهب، وساحات تعكس فسيفساءها الزرقاء والبيضاء أو خزفها المزخرف أشعة الشمس. وهنا في هذا المنظر العريض الخلاب بأشكاله وألوانه، استخدم الفن الفارسي كل سحره ليمجد أحد أولياء الله الصالحين ويرهب الحاج الزائر حتى يعمر قلبه بالتقوى والإيمان.
ومن أذربيجان إلى أفغانستان ارتفع في هذا العصر في أرض الإسلام ألف مسجد: ذلك أن بيوت العبادة لها من القيمة الكبيرة لدى الإنسان ما لفاكهة الأرض، ولكن عندنا أهل الغرب المحصورين في خلايا العقل، لا تعني هذه الأضرحة إلا أسماء جوفاء، بل قد يزعجنا أن نحيها ونكرمها بتلك الانحناءات الجافة المقتضبة. وماذا يعنينا أن جوهر شاد قد حصلت لرفاتها الطاهرة على مقبرة جميلة في هراه، وأن شيراز جددت عمارة مسجدها الجامع في القرن الرابع عشر، وأن يزد وأصفهان قد أضافتا محرابين فاخرين إلى مسجدي الجمعة فيهما؟ الحق أننا بعيدون جداً، من حيث الزمان والمكان والتفكير، إلى حد لا نشعر معه بهذه العظمة والجلال،(26/69)
كما أن هؤلاء الذين يقيمون الصلاة في تلك المساجد لا يستهويهم كثيراً اجتراءاتنا القوطية أو الصور الحسية في عصر النهضة، على أنه جدير بنا مع ذلك أن نتأثر ونحن وقوف على أطلال الجامع الأزرق في تبريز (1437 - 1467) ونستعيد في الذاكرة الفخامة التي اشتهر بها يوماً خزفه الأزرق المزخرف وزخرفته العربية الذهبية، كما لا يغيب عن أذهاننا أن محمد الثاني وبايزيد الثاني شيدا في القسطنطينية (1463 - 1497) مساجد تكاد تنافس عظمة كنيسة أياصوفيا. وقد اقتبس العثمانيون التصميمات البيزنطية والأبواب الفارسية والقباب الأرمينية وأفكار الزخرفة الصينية، ليشكلوا مساجدهم في بروسه ونيقيا ونيقوميديا وقونيه. لقد كان الفن الإسلامي لا يزال في أوجه في هندسة العمارة على الأقل.
وثمة فن واحد فحسب استطاع أن ينهض وبصمد أمام فن العمارة في الإسلام: (كما صمد داود أمام جوليات - التوراة، صموئيل الأول، الإصحاح 17: 4، 49). فربما حظي الخطاطون ورسامو المنمنمات الصابرون الذين زخرفوا الكتب بأصغر وأدق زخارف وصور وخطوط رمزية بالفرشاة أو القلم - ربما حظي هؤلاء بنصيب من التكريم والإجلال أكثر مما حظي به بناة المساجد. وقد رسمت صور الأشخاص، ولم يبق منها إلا قليل. وامتثل العثمانيون علانية لتعاليم الكتاب المقدس والقرآن في تحريم نحت الصور الشخصية، ولكن محمد الثاني استقدم جنتيل بلليني من البندقية إلى القسطنطينية (1480) ليرسم صورته، وهي المعلقة الآن في المتحف الوطني في لندن. كما توجد نسخ من صورة زعموا أنها لتيمور. على أن المغول الذين اعتنقوا الإسلام، بصفة عامة، آثروا تقاليد الفن الصيني على المحظورات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. فأدخلوا من(26/70)
الصين على الزخرفة الفارسية التنين والعنقاء وأشكال السحاب وهالات القداسة والوجوه الشبيهة بالأقمار، وزاوجوا بينها، بطريقة خلاقة، وبين الأساليب الفارسية في اللون الشفاف والخط الخالص. وكانت الأساليب المختلطة متماثلة إلى حد بعيد، فإن رسامي المنمنمات الصينيين والفرس، على حد سواء، رسموا لطبقة الأرستقراطيين الذين يحتمل أن ذوقهم كان رفيعاً جداً، والأرجح أنهم حاولوا إرضاء الخيال والحواس أكثر من تمثيل الأشكال الموضوعية.
وكانت المراكز العظمى للزخرفة الإسلامية في هذا العصر هي تبريز وشيراز، هراة. ويحتمل أنه قد جاء من تبريز في عهد الأيلخانات، للورقات الخمس والخمسون من كتاب "شاه نامه"، (كتاب الملوك للفردوسي) - وهي من عمل رسامين مختلفين في القرن الرابع عشر. ولكن رسم المنمنمات الفارسية بلغ الذروة في هراة على عهد التيموريين، وقد استخدم شاه رخ طائفة كبيرة من الفنانين، وأسس ابنه بيسنقر ميرزا كلية خاصة بالخط والمنمنمات. ومن مدرسة هراة هذه جاءت الشاهنامة (1429) وهي معجزة اللون البراق والجمال الدافق، وهي الآن محفوظة بعناية في مكتبة قصر جلستان في طهران، وتكاد لا يمسها أحد إلا إجلالاً وتعظيماً. إن رؤيتها لأول مرة أشبه شيء باكتشاف قصائد كيتس (الشاعر الإنجليزي Keats) .
وكان كمال الدين بهزاد، هو كيتس الزخرفة الحقيقي أو رافائيل الشرق. لقد عركته تجارب الحياة، وويلات الحرب وتقلباتها، فعكس هذا كله بالفن، ولد بهزاد في هراة حوالي سنة 1440، ودرس في تبريز، ثم عاد إلى هراة ليرسم للسلطان حسين بن بيقرة، ووزيره المتعدد الجوانب (شاعر وموسيقي ومصور) مير على شيرنوائي. وعندما أصبحت هراة مركزاً للأوزبك ولحملات المصورين، قصد بهزاد ثانية إلى تبريز. وكان من بين أوائل المصورين الفرس الذين وقعوا على أعمالهم، ولكن بقايا فنه قليلة فعلاً(26/71)
ومتباعدة. وثمة منمنمتان في دار الكتب المصرية بالقاهرة تمثلان "بستان سعدي" وتعرضان حلقة لبعض رجال الدين يتدارسون فيها أسراره. وتحمل المخطوطة تاريخ سنة 1489، أما العبارة المكتوبة في نهايتها فتقول "رسمها العبد المذنب بهزاد". ويضم متحف فرير في واشنطن صورة "شاب يرسم"، وهي نسخة منقولة عن جنتيل بلليني وقعها بهزاد، وفيها تكشف الأنامل الرقيقة عن الفنانين الرسام والمرسوم كليهما. وليس من المحقق كثيراً أنه هو الذي رسم المنمنمات الموجودة في المتحف البريطاني؛ وهي نسخة مخطوطة "المنظومات الخمس" للشاعر نظامي، وفي نفس الخزانة توجد مخطوطة "ظفر نامه" أي سجل انتصارات تيمور.
ومن العسير أن تفسير هذه البقايا شهرة بهزاد المنقطعة النظير. إنها تنم على إدراك حسي للأشخاص والأشياء، وعلى حرارة اللون ومداه، وعلى حيوية في التنفيذ تشملها جميعاً دقة رقيقة في التخطيط. ولكنها لا تكاد توازن بالمنمنمات التي رسمت لدوق بري Berry، قبل ذلك بقرن من الزمان تقريباً، ومع ذلك فإن معاصري بهزاد أحسوا بأنه كان قد أحدث انقلاباً في الزخرفة بنماذجه الأصلية في التأليف، ومناظره الطبيعية الزاهية وصور شخوصه المفصلة بعناية والتي تكاد تقفز إلى الحياة. وعنه قال المؤرخ الفارسي خواندمير الذي كان يقارب الخمسين من العمر حين مات بهزاد (حوالي 1523)، ربما بدافع التحيز لصداقته له: "إن براعته في التصوير والتصميم قد طمست ذكرى غيره من مصوري العالم. إن أنامله الموهوبة بمزايا خارقة محت صور سائر الفنانين من بني آدم" (48). وجدير بنا أن يهذب من ثقتنا أن نفكر ملياً في أن هذا قد كتب قبل يرسم ليوناردو دافنسي "العشاء الأخير" ويرسم ميكل أنجيلو "سقف كنيسة سستين"، وقبل أن يرسم رافائيل "غرف الفاتيكان: ". ومن المحتمل أن خواندمير لم يكن قد سمع بأسمائهم قط.(26/72)
وانحط فن الخزف في هذه الحقبة عما كان عليه في عهد سلاجقة الري وكاشان. أما مدينة الري فقد تركتها الزلازل وغارات المغول أثراً بعد عين، وأما كاشان فقد خصصت معظم أفرانها لصناعة الطوب. على أن مراكز جديدة للخزف قامت في سلطانية ويزد وتبريز وهراة وأصفهان وشيراز وسمرقند، وكان الخزف المزخرف الفسيفسائي آنذاك هو الإنتاج المفضل: فصنعت بلاطات صغيرة من الخزف، رسمت كل منها بلون معدني واحد، وطليت فأصبحت ذات بريق يتطلب أشد العناية لبقائه. وحين كان حماة الفن في يسر وثراء استخدم البناءون الفرس هذا الخزف المزخرف، لا للمحاريب والزخرفة فحسب، بل استخدموه كذلك في تغطية سطوح كبيرة من أبواب المساجد أو جدرانها، وثمة نموذج أخاذ في محراب مسجد بابا قاسم (حوالي 1354) في متحف متروبوليتان للفن في نيويورك.
واحتفظ صناع المعادن في الإسلام بمهارتهم، فصنعوا الأبواب والثريات البرونزية للمساجد من بخاري إلى المغرب (مراكش)، ولو أن شيئاً منها لم يضارع تماماً "أبواب الجنة" التي صنعها جيبر Ghiberti (1401 - 1452) في بيت المعمودية بفلورنسه، وقد صنعوا أحسن أسلحة العصر- الخوذات المخروطية الشكل لكي تجعل الضربات الهاوية تنحرف، والدروع من الحديد البراق مطعمة بالفضة والذهب والسيوف المرصعة بالنقوش الذهبية أو الأزهار المصنوعة من الذهب. كما صنعوا النقود الجميلة، كما صنعوا الرسوم النافرة أو الميداليات الكبيرة مثل تلك التي عليها صورة جانبية لمحمد الفاتح البدين القصير، وشمعدانات برونزية كبيرة حفر عليها الخط الكوفي الفاخر أو الأشكال الزهرية، كما صبر وزينوا المباخر ومحفظة الكتابة والمرايا وعلب الجواهر والمجمرات والقوارير والأباريق والطشوت والصواني، بل حتى المقص والفرجار كانوا يزينونها بالنقوش بطريقة فنية. ومثل هذا التفوق مشهود به للفنانين والصناع المهرة(26/73)
المسلمين الذين اشتغلوا بقطع الجواهر أو المعادن النفيسة، أو الذين حفروا العاج أو الخشب أو رصعوه. والنسيج الباقي للآن عبارة عن قطع أو أجزاء صغيرة. ولكن المنمنمات تصور لنا تشكيلة واسعة من المنتجات الجميلة من الكتان الرفيع في القاهرة إلى الخيام الحريرية في سمرقند. والحق أن الذي أثار بسرعة حسد أوربا، هم أولئك المزخرفون الذين صمموا الأنماط والطرز المعقدة ولكنها مع ذلك منطقية: القماش المقصب (البروكار) والقطيفة والحرائر، للمغول والتيموريين، بل حتى البسط التركية. وفيما يسمونه الفنون الصغرى قاد الإسلام العالم.
8 - الفكر الإسلامي
أفلت شمس العلم والفلسفة وضاع مجدها، لأن الدين كان قد كسب معركته ضدهما، في الوقت الذي كان فيه يتراجع ويستسلم في الغرب المراهق. وكان الذين يحظون بالشرف الرفيع هم رجال الدين والدراويش والنساك والأولياء، أما العلماء فقد قصدوا إلى استيعاب نتائج أبحاث أسلافهم، أكثر مما قصدوا إلى إمعان النظر في الطبيعة من جديد. وكان آخر تقدم أو محاولة نشيطة في الفلك الإسلامي في سمرقند حين صاغ راصد النجوم في مرصد أولوج بك في سنة 1437 الجداول الفلكية التي حظيت بأعظم التقدير في أوربا حتى القرن الثامن عشر. وقاد ملاح عربي مزود بجداول وخريطة عربية، فاسكودا جاما من أفريقية إلى الهند في المرحلة التاريخية التي وضعت نهاية لسيطرة الإسلام الاقتصادية (49).
وفي الجغرافيا أنجب المسلمون شخصية عظيمة فذة في هذا العصر. ففي سنة 1304 ولد في طنجة محمد عبد الله بطوطة الذي طاف بدار الإسلام- العالم الإسلامي- لمدة أربع وعشرين سنة ثم عاد إلى المغرب(26/74)
ليقضي نحبه في فاس. وإن يوميات هذا الرحالة لتوحي بمدى انتشار الإسلام الواسع، فهو يذهب إلى أنه قطع في رحلته 75. 000 ميل (أكثر من أي إنسان آخر قبل عصر البخار)، كما زعم أنه رأى غرناطة وشمال أفريقية وتمبكتو ومصر والشرقين الأدنى والأوسط وروسيا والهند وسيلان والصين، وأنه زار كل حاكم مسلم في هذا العصر. وفي كل مدينة كان يقدم احتراماته أولا إلى العلماء ورجال الدين ثم بعد ذلك إلى الملوك والحكام. وإنا لنرى النزعة الإقليمية عندنا منعكسة عليه حين يعدد "الملوك السبعة العظام في العالم"، وكأنهم مسلمون فيما عدا واحداً صينياً (50). إنه لا يصف الأشخاص والأماكن فحسب، بل يصف كذلك حيوان كل منطقة ونباتها والمعادن والأطعمة والأشربة والأسعار في مختلف البلاد، وكذلك المناخ ومظاهر الطبيعة والعادات، والأخلاق والطقوس الدينية والمعتقدات، وهو يتحدث بكل إجلال عن السيد المسيح والسيدة العذراء. ولكنه يشعر ببعض الارتياح والرضا حين يشير إلى أن "كل حاج يزور كنيسة القيامة في القدس يدفع رسوماً للمسلمين" (51). وعندما عاد إلى فارس روى كل تجاربه ومشاهداته، فأنزله سامعوه منزلة القصاص، ولكن الوزير أمر أحد سكرتيريه بتدوين ما أملاه ابن بطوطة من مذكرات. وضاع الكتاب وكاد أن ينسى، حتى وجد أخيراً أثناء الاحتلال الفرنسي الحديث للجزائر.
وفيما بين سنتي 1250، 1350 كان أعظم الكتاب إنتاجاً في التاريخ الطبيعي من المسلمين. فكتب محمد الدميري بالقاهرة كتاباً في علم الحيوان يقع في 1500 صفحة وكان الطب لا يزال قلعة سامية، (أي علماً برز فيه الجنس السامي). فكانت المستشفيات كثيرة في العالم الإسلامي. وشرح طبيب من دمشق هو علاء الدين بن النفيس الدورة الدموية الرئوية (1260) قبل سرفيتس (طبيب أسباني، القرن 16) بنحو 270سنة،(26/75)
ونسب طبيب من غرناطة هو ابن الخطيب "الموت الأسود"إلى مرض معد، وأشار بالحجر الصحي للمصابين- معارضاً بذلك قول رجال الدين بأنه انتقام إلهي من خطايا الإنسان وآثامه. واشتمل بحثه "في الطاعون" (حوالي 1360 على هرطقة مشهورة: "يجب أن يكون من القواعد المقررة لدينا أن أي برهان مأخوذ من تقاليد "أتباع محمد" ينبغي أن يخضع للتعديل إذا تعارض تعارضاً واضحاً صريحاً مع الدليل الذي تأتي به الحواس (53).
وكان العلماء والمؤرخون كثيرين مثل الشعراء. وكانوا يكتبون باللغة العربية وهي لغة الاسبرانتو في العالم الإسلامي، كما جمعوا كثير من الأحوال بين الدرس والتأليف وبين النشاط السياسي والإداري. ومثال ذلك أبو الفداء الدمشقي، فقد اشترك في اثنتي عشرة حملة حربية، وكان وزيراً للملك الناصر في القاهرة، ثم عاد إلى سوريا حاكماً على حماه، وجمع مكتبة ضخمة، وألف مجموعة من الكتب تعتبر قمة مثيلاتها في هاتيك الأيام. وفاق بحثه في الجغرافيا "تقويم البلدان" في اتساع مداه، أي مؤلف أوربي من نوعه في عصره، وقد قدر فيه أن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وأشار إلى السائح حول العالم يكسب أو يفقد يوماً في مسيرة غرباً أو شرقاً، وكان كتابه "المختصر في أخبار البشر" هو التاريخ الإسلامي الأساسي المعروف لدى الغرب.
ولكن الاسم اللامع في كتابة التاريخ في القرن الرابع عشر هو عبد الرحمن ابن خلدون. فهنا نجد رجلاً ذا وزن وقيمة حتى في أعين أهل الغرب رجلاً عركته التجارب والسياحة وفن الحكم الذي مارسه عملياً، وهو مع ذلك حسن الاطلاع على الفن والأدب والعلوم والفلسفة في عصره، يكاد يحيط بالجوانب الإسلامية في هذا كله في "تاريخ للعالم". وإن مولد مثل هذا الرجل في تونس (1332) وارتفاع مكانته هناك، ليوحيان إلينا(26/76)
بأن ثقافة شمالي أفريقية لم تكن مجرد صدى للإسلام في آسيا، بل كان لها طابع وحيوية خاصتان بها، وتقول سيرة حياة ابن خلدون: "لم أزل منذ نشأت وناهزت منكباً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقلاً بين دروس العلم وحلقاته .... ".
وقضى الموت الأسود على أبوابه وعلى كثير من المعلمين، ولكنه تابع دراسته "إلى أن شددت بعض الشيء" (54). وهذا ضرب من الوهم يتميز به الشباب. وعين في العشرين من عمره سكرتيراً لسلطان تونس، ثم لسلطان فاس في الرابعة والعشرين، وفي سن الخامسة والعشرين دخل السجن. ثم انتقل إلى غرناطة وأرسل سفيراً لها لدى بطرس القاسي في أشبيلية. وعندما عاد إلى أفريقية أصبح الوزير الأول للأمير أبى عبد الله في "بجاية" ولكن كان لزماً عليه أن يفر لينجو بنفسه عندما خلع سيده وقتل. وأرسلته مدينة تلمسان في سنة 1370 مبعوثاً لها إلى غرناطة، ولكن اعتقله في الطريق إليها أحد أمراء المغرب العربي، وبقى ابن خلدون أربع سنوات في خدمة هذا الأمير ثم لجأ إلى حصن بالقرب من وهران، وهناك (1377) كتب "مقدمة تاريخه" وهي مقدمة "لتاريخ العمران". ولما كان في حاجة إلى كتب أكثر مما استطاعت وهران أن تمده بها فإنه عاد إلى تونس، ولكن هناك تألب عليه من ذوي النفوذ فيها، فانتقل إلى القاهرة (1384)، وكانت شهرته كعالم قد طبقت الآفاق، وازدحم حوله الطلاب حين كان يحاضر في الجامع الأزهر، وأجرى عليه السلطان برقوق راتباً "كما كانت عادته مع العلماء" (55). وعين قاضياً للمالكية، فطبق القوانين بصرامة شديدة وأغلق الملاهي مما أدى إلى هجوه وعزله من منصبه، فاعتزل الحياة العامة ثانية. ثم أعيد إلى منصب قاضي القضاة، وصحب السلطان ناصر الدين فرج في حملة ضد تيمور، وهزمت القوات المصرية، فالتمس ابن خلدون ملجأ له في دمشق، وحاصرها تيمور،(26/77)
وكان مؤرخاً آنذاك في سن الشيخوخة، فرأس وفداً يلتمس من التتري المنتصر شروطاً لينة رفيقة وأحضر- مثل أي مؤرخ آخر، مخطوطة تاريخه معه، وقرأ على تيمور الجزء الخاص به وسأله أن يصحح له معلوماته، وربما كان قد تعمد مراجعة الصفحات قبل ذلك لهذا الغرض نفسه. ونجحت الخطة، وأطلق تيمور سراحه، وما لبث أن عاد لبن خلدون مرة أخرى قاضياً للقضاة في القاهرة، ومات وهو في هذا المنصب، في سن الرابعة والسبعين (1406).
وألف ابن خلدون وسط هذه الحياة القلقة موجزاً عن فلسفة ابن رشد، وأبحاثاً في المنطق والرياضيات، ومقدمة ابن خلدون، وتاريخ البربر، وشعوب الشرق، والكتب الثلاثة الأخيرة فقط هي الباقية، وهي تشكل في مجموعها "تاريخ العالم" (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر). والمقدمة واحدة من الروائع في الأدب الإسلامي وفي فلسفة التاريخ، فهي إنتاج "حديث" إلى درجة مذهلة لعقلية عاشت في العصور الوسطى. ويرى ابن خلدون أن التاريخ "فرع هام من الفلسفة" (56)، وينظر نظرة عريضة واسعة إلى مهمة المؤرخ:
"اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال" (57). (ص 33 من مقدمة ابن خلدون طبعة كتاب الشعب- القاهرة 1969).(26/78)
واعتقاداً منه بأنه أول من كتب التاريخ بهذه الطريقة، فإنه يسأل القارئ الصفح عن أية أخطاء لم يكن في الإمكان تجنيها فيقول:
"وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف
بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء،
والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد، لا بعين
الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء.
فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة،
والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة
لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل" (58).
(المصدر السابق، ص 10)
ثم هو يأمل في أن يكون كتابه هذا عوناً على الأيام الحالكة التي تنبأ بها:
وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله،
وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم
محدث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليفة والآفاق
وأجيالها، والعوائد والنحل لأهلها، ويقفو مسلك المسعودى
لعصره، ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده (59) ".
(المصدر السابق، ص 31).
ويخصص ابن خلدون بعض صفحات يملؤها الزهو والفخر، يشير فيها إلى أخطاء بعض المؤرخين. ويحس بأنهم ضلوا في مجرد ترتيب الأحداث ترتيباً زمنياً، وقل أن ارتفعوا إلى مستوى إيضاح الأسباب والنتائج. وتقبلوا الخرافة بمثل الارتياح الذي تقبلوا به الحقيقة تقريباً، وقدموا إحصاءات مبالغ فيها، وفسروا أشياء كثيرة جداً بقوى خارقة(26/79)
للطبيعة، أما بالنسبة له، فهو يعتزم أن يعول كلية على العوامل الطبيعية في تفسير الحوادث. ولسوف يحكم على ما يكتبه المؤرخون في ضوء التجارب الراهنة للجنس البشري، ويرفض أي حدث مزعوم يعتبر الآن مستحيل الوقوع. فإن التجربة يجب أن تفصل في صحة التقاليد أو فسادها (60). وكان منهجه في "المقدمة" هو أن يعالج أولاً فلسفة التاريخ، ثم يتناول أشغال الناس ومهمتهم وبراعاتهم، وأخيراً يعرض لتاريخ العلوم والفنون، وهو يدون في مجلدات متعاقبة التاريخ السياسي لمختلف الأمم، الواحدة تلو الأخرى، متعمداً التضحية بوحدة الزمان في سبيل وحدة الحضارة، كيف تنشأ، وكيف يحتفظ بها وكيف تنمي الآداب والعلوم والفنون، ولماذا تبلى (61)، فالإمبراطوريات- مثل الأفراد- لها حياة ولها مسارات خاصة بها. إنها تنشأ وتنضج وتضمحل (62) فما هي أسباب هذا التعاقب؟
والأحوال الأساسية في هذا التعاقب هي أحوال جغرافية. ذلك أن للمناخ تأثيراً عاماً ولكنه أساسي. فالشمال البارد ينتج آخر الأمر، حتى في أناس أصلهم من الجنوب، جلداً أبيض اللون وشعراً خفيفاً، وعيوناً زرقاء وميلاً إلى الجدية. أما الأقاليم المدارية فتنتهي بمرور الزمن إلى الجلد الأسمر والشعر الأسود، "وتغلب الروح الحيوانية"، وخفة في العقل والمرح وسرعة التنقل بين المسرات مما يؤدي إلى الغناء والرقص (63). ويؤثر الطعام في الخلق. فالغذاء الثقيل المكون من اللحوم والتوابل والحبوب بسبب بلادة الجسم والعقل، والاستسلام السريع للقحط أو العدوى. أما الغذاء الخفيف، مثل هذا الذي تتناوله شعوب الصحراء، فإنه يساعد على رشاقة الأجسام وصحتها، وعلى سلامة العقول. وعلى مقاومة المرض (64). وليس ثمة تفاوت فطري في القدرة الكامنة بين شعوب الأرض: فإن تقدمهم(26/80)
أو تأخرهم تحدده الأحوال الجغرافية، ويمكن تغييره بتغيير هذه الأحوال، أو بالهجرة إلى مكان آخر (65).
أما الأحوال الاقتصادية فهي أقل قوة فقط من الجغرافية. ويقسم ابن خلدون المجتمعات إلى رحل ومقيمة أو مستقرة تبعاً لوسائل الحصول على القوت، ويعزو معظم الحروب إلى الرغبة في الحصول على مصدر للغذاء أكثر وفرة. فالقبائل الرحل لابد أن تغزو إن عاجلاً أو آجلاً، الجماعات المستقرة المتوطنة، لأن هؤلاء الرحل مرغمون بحكم ظروف حياتهم على التمسك بالصفات الحربية مثل الشجاعة وقوة الاحتمال والجلد والتماسك. وقد يدمر الرحل حضارة، ولكنهم لا يستطيعون إقامة حضارة قط. فإن الشعب المقهور يمتص دماء الرحل وثقافتهم. ولا يستثنى من ذلك العرب الرحل. والحرب أمر طبيعي طالماً أن الشعب غير قانع أبداً لأمد طويل بما لديه من غذاء. إن الحرب هي التي تنشىء السلطان السياسي وتجدده، ومن ثم كانت الملكية هي الشكل المألوف للحكومة. وقد سادت في كل حقب التاريخ تقريباً (66). وقد تنشىء السياسة المالية مجتمعاً أو تهدمه، فإن فرض الضرائب الباهظة أو دخول الحكومة إلى مجال الإنتاج والتوزيع، يمكن أن يخمد أو يقضي على الحوافز والمغامرة والمنافسة، ويقتل البقرة الحلوب التي تدر الدخل (67). ومن جهة أخرى فإن الإفراط في تركيز الثروة قد يمزق المجتمع إرباً بإذكاء نار الثورة (68).
وثمة قوى معنوية في التاريخ. وفي تماسك الناس تدعيم للإمبراطوريات، وأفضل وسيلة لتأمين هذا هو غرس عقيدة واحدة وممارستها. ويتفق ابن خلدون مع البابوات ومحاكم التفتيش والمصلحين الدينيين البروتستانت على عقيدة واحدة.
وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب. والتغلب إنما يكون(26/81)
بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم". وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف. وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبالله التوفيق، لا رب سواه (69). المصدر السابق، ص 142).
وليس الدين عوناً في الحرب فحسب، بل إنه كذلك خير عون على النظام في المجتمع، وعلى اطمئنان النفس وهدوء البال عند الناس فرادى. ولا يتأنى هذا إلا بعقيدة دينية تتقرر بلا مساءلة ولا جدال. إن الفلاسفة ليبتدعون مئات الأساليب، ولكن واحداً منهم لم يقع على بديل للدين، كمرشد ومصدر إلهام للبشر في حياتهم "وما دام الإنسان لا يستطيع فهم الدنيا، فإن من الخير له أن يتقبل العقيدة التي ينقلها إليه مشرع ملهم تلقى الوحي، يعرف ما فيه خيرنا ونفعنا أكثر مما تعرف نحن، ويشرع لنا ما ينبغي علينا أن نؤمن به وما ينبغي علينا أن نفعل (70)، وبعد هذه المقدمة الرشيدة ينتقل مؤرخنا الفيلسوف إلى تفسير للتاريخ قائم على المذهب الطبيعي.
إن كل إمبراطورية تمر بأطوار متعاقبة:
1 - تحط قبيلة متنقلة منتصرة رحالها لتنعم بما أفاء الله به عليها من فتح رقعة من الأرض أو ولاية. "إن أقل الأقوام حضارة أعظمها فتوحاً" (71).(26/82)
2 - وكلما ازدادت العلاقات الاجتماعية تعقيداً، اقتضى الأمر سلطة أكثر تركيزاً بغية المحافظة على النظام، فيصبح الرئيس القبلي ملكاً.
3 - وفي هذا النظام المستتب، تنمو الثروة، وتتصاعد المدن، ويرتقي التعليم والآداب، وتجد الفنون من يرعاها، وتبزغ شمس العلوم والفلسفة. ويؤذن التوسع في سكنى المدن والحياة الناعمة بفضل الثراء، ببداية الاضمحلال.
4 - إن المجتمع الذي أثرى يبدأ في إيثار المسرة والترف والدعة على العمل أو المغامرة أو الحرب، ويفقد الدين سيطرته على الإنسان وعقيدته، وتنحط الفضائل والأعمال الحربية، ومن ثم يكون الاتجاه إلى استخدام الجنود المرتزقة للدفاع عن المجتمع، ومثل هؤلاء تعوزهم حماسة الروح الوطنية والعقيدة الدينية، وكأن الثروة التي لا يحسن الدفاع عنها تغري بمهاجمتها ملايين الجياع المضطربين فيما وراء الحدود.
5 - إن الحملات الخارجية أو الدسائس الداخلية، أو كلتيهما معاً تسقط الدولة (72).
تلك كانت دورة الزمن بالنسبة لرومه، والمرابطين والموحدين في أسبانيا، والإسلام في مصر وسوريا والعراق وفارس، وهي تجري دائماً على هذا المنوال (73).
تلك هي قلة قليلة من آلاف الأفكار التي جعلت من "مقدمة ابن خلدون" أشهر نتاج فلسفي في القرن الذي عاش فيه. وكان لابن خلدون أفكاره الخاصة به كل شيء تقريباً، فيما عدا الدين الذي يرى أنه ليس من الحكمة أن يكون فيه مبتكراً. وعلى حين أنجز عملاً ضخماً من أمهات الكتب في الفلسفة يصرح بأن الفلسفة خطيرة، وينصح قراءه بأن يتركوها وشأنها (74). ويحتمل أنه قصد ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) واللاهوت، أكثر مما قصد(26/83)
الفلسفة بمعناها الأوسع، كمحاولة لرؤية أحوال الإنسان من وجهة نظر أكثر شمولاً. إنه يتحدث في بعض الأحيان كما تتحدث أبسط امرأة عجوز في السوق، فيسلم بالمعجزات والسحر، و "العين الشريرة"، والخواص الغامضة لحروف الهجاء، ونبوءات الأحلام، والأمعاء، أو طيران الطيور (75). وهو مع ذلك يعجب بالعلوم، ويقر بتفوق اليونان على المسلمين في هذا المضمار، ويرثى لتدهور الدراسات العلمية في الإسلام (76). ويستنكر الكيمياء القديمة- ويعترف بشيء من الإيمان بالفلك (77).
وثمة سقطات معينة أخرى يجدر إيرادها. ذلك أنه على الرغم من ابن خلدون كان رحب الأفق، قدر رحابة الإسلام، إلا أنه شاطر الإسلام كثيراً من تحديداته، فلم يجد في مجلدات مقدمته الثلاثة إلا سبع صفحات للكلام عن المسيحية. ولم يورد ذكر اليونان والرومان وأوربا في العصور الوسطى غلا عرضاً. وعندما دون تاريخ شمال أفريقية ومصر الإسلامية والشرقين الأدنى والأوسط، اعتقد ذلك أنه قد روى "تاريخ الشعوب" (78). وهو في بعض الأحيان جاهل جهلاً معيباً يؤاخذ عليه، فيذهب إلى أن أر سطو كان يعلم من رواق وسقراط من دن (79). أن كتابته الفعلية في التاريخ تتخلف كثيراً عن مقدمته النظرية، ومجلداته عن البربر والشرق عبارة عن سجل جاف موحش لأنساب الأسرات وتسلسلها، ودسائس القصر، والحروب الصغيرة. ومن الواضح أنه قصد أن تكون هذه المجلدات تاريخاً سياسياً فحسب، وكتب المقدمة بوصفها تاريخاً للثقافة، ولو أنها على الأرجح نظرة عامة في الثقافة.
ولكي تستعيد تقديرنا وإجلالنا لبن خلدون، جرى بنا أن نتساءل فقط عن أي عمل مسيحي في القرن الرابع عشر يمكن أن يضارع "المقدمة". وربما كان بعض المؤلفين القدامى قد تناولوا جانباً من هذا الميدان الذي طرقه ابن خلدون. وكان أحد أبناء جلدته، وهو المسعودى (المتوفى 956) قد(26/84)
عالج في كتاب مفقود الآن، تأثير الدين والاقتصاد والسلوك والبيئة علة شخصية الشعب وقوانينه، كما تناول أسباب الاضمحلال السياسي (80). ومهما يكن من أمر فقد أحس ابن خلدون، وله بعض الحق، أنه خلق علم الاجتماع. إننا لا نستطيع، في أي أدب كان قبل القرن الثامن عشر، العثور على فلسفة للتاريخ، أو على منهج لعلم الاجتماع، يمكن أن يباري في قوته ومداه ودقة تحليله منهج ابن خلدون. إن رائد فلسفة التاريخ في عصرنا قد حكم على مقدمة ابن خلدون بأنها أعظم تأليف من نوعه أنتجه عقل بعد في أي زمان أو مكان (81). وقد يقارن به كتاب هربرت سبنسر "مبادىء علم الاجتماع" 1876 - 1896، ولكن كان لسبنسر معاونون كثيرون. إننا على أية حال قد نتفق مع مؤلف ممتاز مشهور في تاريخ العلوم "على أن أهم مؤلف تاريخي في العصور الوسطى" (82) هو مقدمة ابن خلدون.(26/85)
الفصل الحادي والثلاثون
سليمان القانوني
1520 - 1566
1 - الإسلام في أفريقية
1200 - 1566
إنه من العسير علينا، نحن المحصورين في العالم المسيحي، أن ندرك أنه منذ القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، كان الإسلام متفوقاً على أوربا من النواحي الثقافية والسياسية والعسكرية. وحتى في أيام اضمحلاله في القرن السادس عشر، ساد من دلهي وما وراءها حتى كازابلنكا، ومن أدرنه إلى عدن، ومن تونس إلى تمبكتو. ويحدثنا ابن بطوطة الذي زار السودان 1353 أنه وجد هناك حضارة مشرفة تحت راية الإسلام، وكتب بعد ذلك مؤرخ من السود هو عبد الرحمن السعدي (1650)، تاريخاً كشافاً بارعاً، يصف مكتبات خاصة تضم 1600 مجلد في تمبكتو، ويصف المساجد الضخمة التي تشهد أطلالها بمجد غابر.
وحققت أسرة الماريني (1195 - 1270) الاستقلال لبلاد المغرب ونهضت بفاس ومراكش إلى مصاف المدن الكبرى، وكان في كل منهما مداخل جليلة ومساجد مهيبة ومكتبات عامرة بذخائر العلم والمعرفة، ومدارس قائمة وسط أعمدة ظليلة، وأسواق صاخبة يمكن أن يشتري المرء منها أي شيء بنصف الثمن. وكان يقطن فاس في القرن الثالث عشر نحو 125. 000 نسمة، وربما كان هذا أكبر من سكان أية مدينة في أوربا، باستثناء القسطنطينية ورومه وباريس. وفي مسجد القيروان وهو مقر أقدم جامعة في المغرب درس الدين والعلوم جنباً إلى جنب، وقد جذبت هذه الجامعة إليها الطلبة المتعطشين من كل بقاع الإسلام في أفريقية، والمعلمين(26/86)
والمحامين ورجال الدين ورجال الحكم، ليدرسوا مناهج شاقة لمدة تتراوح بين ثلاث سنين واثنتي عشرة سنة. وكان الأمير يعقوب الثاني الذي حكم بين 1269 - 1286 من فاس أو من مراكش، من أكثر الأمراء استنارة في قرن تقدمي. ونأى حاكماً عادلاً ومحسناً خيراً حكيماً، لطفي الدين بالفلسفة، ونأى بنفسه عن التعصب الأعمى، وشجع الاتصال الودي بالأوربيين. واستقبلت هاتان المدينتان كثيراً من اللاجئين من أسبانيا، وأحضر هؤلاء معهم حوافز جديدة للاستزادة من العلوم والفنون والصناعة. وإن ابن بطوطة الذي كان قد رأى معظم العالم الإسلامي المترامي الأطراف ليسمى مراكش "جنة الدنيا".
ويدهش السائح الحديث في طريقه من فاس إلى وهران، عندما يجد في تلمسان بقايا متواضعة لما كان في القرن الثالث عشر مدينة تضم 125. 000 نسمة. وكان بها 64 مسجداً بقي منها ثلاثة فقط: الجامع الكبير (1136)، ومسجد أبى الحسن (1298) ومسجد الحلاوي (1353) وهي من أجمل المساجد في العالم الإسلامي، فيها أعمدة الرخام والفسيفساء المعقدة، والمحاريب الرائعة، الساحات ذوات العقود والخشب المحفور والمآذن السامقة، وهي باقية لتكون شاهداً على العظمة الغابرة التي كادت أن تنسى. وهنا احتفظت أسرة عبد الواحد لمدة ثلاثة قرون (1248 - 1337، 1359 - 1553) بحكم كفل للمسيحيين واليهود الحرية الدينية، كما رعت الآداب والفنون، وبعد أن استولى الأتراك على المدينة، فقدت أهميتها كمركز للتجارة، واضمحلت وانزوت في ظلال التاريخ.
وإلى الشرق من المغرب، ازدهرت الجزائر بفضل مزيج من التجارة والقرصنة. وقام ثغر الجزائر الجميل، نصف مختبئ في خليج نصف دائري تحف به الصخور، المؤلف من طبقات بعضها فوق بعض من شقق(26/87)
وقصور تمتد من البحر المتوسط إلى كسبه، نقول هيا هذا الثغر القرصان ومراكبهم مخبأ آمناً مفضلاً لديهم، وحتى منذ أيام بومبي كان قرصان هذا الشاطئ يغيرون على المراكب العزل. ومنذ 1492 أصبحت الجزائر ملجأ للمغاربة المسلمين الفارين من أسبانيا. وقد التحق كثير منهم بسفن القراصنة، وانقضوا بسورة الانتقام على أية سفن مسيحية يتربصون لها. وتضاعف عدد القرصان واشتدت جرأتهم، فكونوا أساطيل قوية في مثل قوة الأساطيل الوطنية وأغاروا على الشواطئ الشمالية للبحر المتوسط، وطرابلس (1509 - 1510).
ودخل الميدان في 1516 قرصان جبار نشيط، أطلق عليه الإيطاليون لقب بربروسه، بسبب لحيته الحمراء، واسمه الحقيقي خير الدين خضر. وكان يونانياً من لسبوس حضر مع أخيه هورش Horash لينخرط في سلك القرصان. وعلى حين وصل بنفسه إلى مرتبة القيادة في الأسطول، قاد هورش جيشاً ضد الجزائر، وطرد الحامية الأسبانية ونصب نفسه حاكماً على المدينة، ومات أثناء القتال (1518)، فاحتل خير الدين مكان أخيه، وأدار شئون الحكم بقوة ومهارة. وقصد خير الدين، رغبة منه في تثبيت مركزه، إلى القسطنطينية حيث عرض على السلطان سليم الأول السيادة على طرابلس وتونس والجزائر في مقابل قوة تركية كافية للاحتفاظ بسلطانه بوصفه حاكماً من قبل السلطان على هذه الأقاليم. ووافق سليم، وأكد سليمان هذه الاتفاقية. وفي 1533 أصبح خير الدين بطل الإسلام في الغرب بأن هيأ لسبعين ألفاً من المغاربة العبور إلى أفريقية من أسبانيا القاسية غير المضيافة. ولما عين بربروسه أول قائد عام للأسطول التركي برمته، أغار بأربع وثمانين سفينة تحت إمرته على المدينة على شواطئ صقلية وإيطاليا، وأسر آلافاً من المسيحيين بيعوا بيع الرقيق. ورسا بربروسه قرب نابلي،(26/88)
وكاد ينجح في أسر جيوليا جنزوجا كولونا التي اشتهرت بأنها أجمل سيدة في إيطاليا، إلا أنها فرت شبه عارية ممتطية جواداً، وبمعيتها فارس واحد بوصفه حارساً لها، فلما وصلت إلى المكان المقصود أمرت بإعدامه لأسباب أغفلت ذكرها ويمكن استنتاجها.
ولكن بربروسه كان يهدف إلى غنيمة أبقى على الأيام من سيدة جميلة، فأنزل إلى البر جنوده الانكشارية، وتقدم نحو تونس (1534). وكانت أسرة بني النفيس قد حكمت تلك المدينة حكماً صالحاً منذ 1326، وازدهرت الآداب والفنون تحت رعايتهم، ولكن مولى حسن الذي كان أميراً آنذاك، كان قد باعد بينه وبين الأهالي بوحشيته وقساوته، وما أن اقترب بربروسه حتى لاذ الأمير بالفرار فسقطت تونس دون إراقة الدماء. وضمت إلى ملك آل عثمان، وأصبح بربروسه سيد البحر المتوسط.
ووقع العالم المسيحي في محنة ثانية، لأن الأسطول التركي كان يستطيع في أية لحظة أن يهيء للإسلام الدخول إلى جنوب إيطاليا. ومن الغريب حقاً أن فرانسوا الأول (ملك فرنسا) كان متحالفاً إذ ذاك مع تركيا، كما كان البابا كليمنت السابع حليفاً لفرنسا. ومن حسن الحظ أن كليمنت قضى نحبه (25 سبتمبر 1534) فخلفه البابا بول الثالث الذي تعهده لشارل الخامس بالمال اللازم لمهاجمة بربروسه، وعرض أندريه دوريا تعاون أسطول جنوده تعاوناً كاملاً في هذه الحملة. وفي ربيع 1535 جمع شارل الخامس في كاجلياري في سردينيا 400 سفينة وقوة قوامها ثلاثون ألف رجل. وعبر البحر المتوسط، وحاصر لاجولتا، وهو حصن يسيطر على خليج تونس، وسقط الحصن بعد قتال دام شهراً، وتقدم الجيش الإمبراطوري نحو تونس. وحاول بربروسه وقف تقدمه، ولكنه هزم ولاذ بالفرار. وحطم الأرقاء المسيحيون في تونس أغلالهم وفتحوا الأبواب، ودخل شارل المدينة دون مقاومة، وأباح لجنوده السلب(26/89)
والنهب لمدة يومين، حتى لا يتمردوا. فلقي آلاف من المسلمين حتفهم. ودمرت حصيلة قرون من الفنون في يوم أو يومين، وحرر الأرقاء المسيحيون وسط مظاهر الابتهاج، ووقع في براثن العبودية من بقى من السكان المسلمين. وأعاد شارل الأمير مولى حسن كحاكم تابع يؤدي له الجزية، وأبقى حامية في كل من بونا ولاجولتا، وعاد هو إلى أوربا.
فر بربروسه إلى القسطنطينية، وبنى بأموال من سليمان أسطولاً جديداً مكوناً من مائتي سفينة. وفي يولية 1537 ألقت هذه القوات مراسيها في تارنتو، وضرب الحصار على العالم المسيحي ثانية. وتشكلت "العصبة المقدسة" من جديد من البندقية والبابوية والإمبراطورية، وجمعت مائتي سفينة بعيداً عن كورفو، وفي 27 سبتمبر اشتبك الإسطولان المتصارعان في القتال عند مدخل خليج أمبراسيا، في نفس المياه التي التقى فيها أنطونيوس وكيلوباترة مع أكتافيوس في معركة أكتيوم. وكانت الغلبة لبربروسه، وأصبح مرة أخرى سيد البحار، وسار شرقاً واستولى في طريقه على ممتلكات البندقية في بحر إيجة واليونان بعضها إثر بعض، وأرغم البندقية على عقد لصلح منفرد.
وحاول شارل أن يكسب بربروسه للالتحاق بخدمته بما أغدق عليه من هدايا، وبما عرض عليه من أن يكون ملكاً نابعاً له على شمالي أفريقية، ولكن خير الدين آثر جانب الإسلام وإغراءه. وفي أكتوبر 1541 قاد شارل ودوريا حملة ضد الجزائر، ولكن جيش بربروسه أوقع بها الهزيمة في البر كما هبت عليها عاصفة مدمرة في البحر، ورد بربروسه على العدوان بالمثل، بالإغارة على كالابريا والنزول في أوستيا ثغر مدينة رومه، وارتعدت العاصمة الكبيرة في عقر دارها فرقاً، ولكن بول الثالث كان آنذاك على علاقات حسنة مع فرانسوا فعوض بربروسه، ادعاء بمجاملة حليفه عن كل ما أخذه من أوستيا نقداً، ورحل عنها في سلام (1). وابحر إلى طولون،(26/90)
حيث لقى أسطوله ترحيباً ممن كانوا في الواقع فرنسيين، وطلب أن تكف أجراس الكنيسة عن القرع طالما كانت "سفن الله" في الميناء لأن أصواتها تقض مضجعة، وكان مطلبه قانوناً. واشترك مع أسطول فرنسي في الاستيلاء على نيس وفيلفرانش من الإمبراطور. وفي سن السابعة والسبعين اعتزل القرصان المنتصر الظافر تحيط به كل مظاهر الإجلال والتكريم، ليقضي نحبه في فراشه 1546، وقد بلغ الثمانين.
وسقطت بونا ولاجولتا ثانية في أيدي المسلمين. ووصلت الإمبراطورية العثمانية من الجزائر إلى بغداد. ولم تجرؤ سوى دولة إسلامية واحدة على تحدي سيطرتها على العالم الإسلامي.
2 - فارس تحت حكم الصفويين
1502 - 1576
إن بلاد فارس التي كانت قد نعمت بفترات كثيرة من الخصب الثقافي، كانت الآن تمر بحقبة أخرى من الحيوية السياسية والابداع الفني. وعندما أسس الشاه إسماعيل الأول الأسرة الصفوية (1502 - 1736) كانت فارس تعاني فوضى التمزق بين ملوك ضعاف، فكان العراق ويزد وسافان وفيروزكة ودياربكر وكاشان وخراسان وقندهار وبلخ وكرمان وأذربيجان، كلها ولايات مستقلة بعضها عن بعض. وفي حملات جبارة لا ترحم، غزا إسماعيل أمير أذربيجان معظم هذه الإمارات واستولى على هرة وبغداد، وجعل ثانية من تبريز عاصمة لمملكة قوية. ورحب الناس بهذه الأسرة من بني جلدتهم، تلك الأسرة التي تألق مجدها فيما أسبغت على البلاد من وحدة وقوة، وعبروا عما يختلج في نفوسهم ببعث جديد للفن الفارسي.
إن لارتقاء إسماعيل إلى الملك قصة لا تصدق، ذلك أنه كان في سن الثالثة عندما مات أبوه (1490)، وفي الثالثة عشرة شرع يكسب لنفسه عرشاً، وفي نفس السن لبس التاج وصار شاه فارس. ويصفه المعاصرون(26/91)
بأنه "شجاع مثل ديك المصارعة الصغير"، "نشيط رشيق مثل الأساطير" (من آلهة الغابات عند الإغريق له ذيل وأذنا فرس)، قوى عريض المنكبين، ذو شوارب رهيبة، وشعر أحمر براق. وكان يستخدم ببراعة سيفاً جباراً بيده اليسرى. وكان في الرمي بالقوس أوديسيوس آخر، يصيب بقوسه سبع تفاحات من عشر مرصوصة على صف واحد (2). ويروي أنه كان "أنيساً لطيفاً كالبنت"، ولكنه قتل أمه (أو زوجة أبيه)، كما أمر بإعدام 300 من المومسات في تبريز، وذبح الآلاف من الأعداء (3). وقال سائح هندي إنه كان محبوباً لدى الشعب حتى "نسى اسم الله"في فارس ولم يذكر إلا إسماعيل وحده (4).
وكمن سر نجاح إسماعيل في الدين والجرأة. وكان المذهب الشيعي هو السائد في فارس، أي "أشياع" علي، صهر محمد أو زوج ابنته، ولم يعترف الشيعة بخلفاء شرعيين غير علي وحلفائه الاثنى عشر وهم "الأئمة"، ولما كان الدين والحكومة غير منفصلين في الإسلام، فإن لمثل هذا الخليفة، طبقاً لهذه النظرية حقاً إلهياً في الجمع بين السلطتين الدينية والزمنية. وكما اعتقد المسيحيون أن المسيح سوف يعود ليؤسس مملكته على الأرض، كذلك اعتقد الشيعة أن الإمام الثاني عشر - محمد بن الحسن - لم يمت قط، وأنه سوف يظهر من جديد في يوم من الأيام ليقيم حكمه المبارك على الأرض. وكما أدان البروتستانت الكاثوليك بأنهم ارتضوا التقاليد جنباً إلى جنب مع الكتاب المقدس كدليل أو مرشد إلى العقيدة الصحيحة، كذلك اتهم الشيعة أهل السنة - وهم الغالبية الذين يعتنقون العقيدة الإسلامية الصحيحة، الذين وجدوا أن الطريق المستقيم ليس في القرآن وحده بل كذلك في كل ما أتى الرسول كما جاء في تقاليد أصحابه وأتباعه. وكما ترك البروتستانت الصلاة على القديسين وأغلقوا الأديرة، لم يشجع الشيعة التصوف وأغلقوا أروقة الدراويش، التي كانت مثل أديار أوربا في بدايتها، مراكز لكرم الضيافة(26/92)
والبر والإحسان. وكما أطلق البروتستانت على مذهبهم اسم "الدين الحق"، اتخذ الشيعة اسم "المؤمنين" (5) (المعتقدون الحقيقيون). ولا يؤاكل المتمسك بمذهبه سنياً أبداً، وإذا وقع ظل مسيحي على طعام شيعي وجب أن ينبذ الطعام على أنه دنس (6) (1).
وادعى إسماعيل أنه من نسل الإمام السابع "صفي الدين" (نقاء العقيدة)، وباسمه سميت الأسرة الجديدة. وأعلن إسماعيل أن المذهب الشيعي هو المذهب الوطني والرسمي لفارس، وأنه الراية المقدسة التي حارب في ظلها، ومن ثم وحد قومه في إخلاص يتسم بالتقي والورع ضد المسلمين السنيين الذين طوقوا فارس - الأوزبك والأفغان في الشرق، والعرب والأتراك والمصريين في الغرب. ونجحت خطته. وكان شعبه يعبده على أنه قديس (ولي من أولياء الله الصالحين)، وكان رعاياه يثقون في قوته الإلهية لحمايتهم، إلى حد أن بعضهم رفض أن يلبس الدرع في المعركة (7).
وما أن إسماعيل بهذا السند الملتهب حماسة - وهو الشعب - حتى أحس أنه من القوة بحيث يستطيع أن يتحدى جيرانه. وكان الأوزبك الذين حكموا بلاد ما وراء النهر، قد بسطوا سلطانهم حتى خراسان، فانتزع منهم هراة وطردهم من فارس، ولما اطمأن إلى سلامته في الشرق ولى وجهه شطر الغرب ضد العثمانيين. واضطهد كل من الطرفين الآخر آنذاك بقوة مقدسة. وقيل في رواية غير موثوقة إن السلطان سليماً قتل أو سجن، قبل الذهاب إلى القتال (1514)، أربعين ألفاً من الشيعة في نطاق مملكته، وإن إسماعيل شنق بعض السنيين الذين كانوا يشكلون الغالبية في تبريز، وأمر الباقين بأن يرتلوا يومياً أدعية يلعنون فيها الخلفاء الثلاثة الأولين على
_________
(1) تلك مبالغات من المؤلف، أثبتناها لمجرد الأمانة في النقل، ولعل القارئ لا يعيرها التفاتاً. (المترجم)(26/93)
اعتبار أنهم اغتصبوا حق علي في الخلافة. ومهما يكن من أمر، فإن الفرس وجدوا الشيعة في معركة جالديران عاجزين أمام مدفعية سليم العبوس وجنده الانكشارية. واستولى سلطان العثمانيين على تبريز، وأخضع شمالي أرض الجزيرة (1516)، ولكن جيوشه تمردت، فتقهقر وعاد إسماعيل إلى عاصمة ملكه تحف به كل عظمة ومجد يمكن أن يحاط بهما ملك عسكري. وانحط الأدب أثناء حكمه المضطرب القلق، ولكن الفن ازدهر تحت رعايته، فقد كان يرعى المصور بهزاد، وقدر أنه يساوي نصف فارس (8). ومات إسماعيل في سن الثامنة والثلاثين، بعد أن قضى في الحكم 24 عاماً. وخلف عرشه لابنه البالغ من العمر عشر سنوات 1524.
وكان الشاه طهماسب الأول ضعيف الإيمان جباناً، سوداوي المزاج كئيباً مترفاً منغمساً في اللذات، وقاضياً خشناً، يرعى الفنون ويمارسها، شيعياً تقياً، كما كان معبود شعبه، وربما تحلى ببعض فضائل أخفاها عن عيون التاريخ. إن التوكيد المستمر على الدين أربك الحكومة كما قواها، وذلك أنه من أجل الدين شنت الحرب اثنتي عشرة مرة، وظل العالم الإسلامي في الشرقين الأدنى والأوسط ممزقاً متنابذاً من 1508 إلى 1638، وأفاد العالم المسيحي من هذه الفرقة، حيث انقطع سليمان القانوني عن شن هجماته على الغرب، ووجه حملاته نحو فارس. وفي ذلك كتب سفير فرديناند في القسطنطينية يقول: "إن فارس هي التي تقف حائلاً بيننا وبين الدمار" (9). وفي 1533 قاد الوزير الأكبر إبراهيم باشا جيشاً تركياً نحو أذربيجان، واستولى في طريقه على الحصون الواحد تلو الآخر، بتقديم الرشوة إلى القواد الفرس، وأخيراً استولى على تبريز وبغداد دون أن يضرب ضربة واحدة (1534). وبعد أربع عشرة سنة، وفي أثناء هدنة مع فرديناند، قاد سليمان جيشاً آخر ضد "الرءوس الحمراء الوضيعة" (وهو الاسم الذي أطلقه الأتراك على الفرس)، وانتزع(26/94)
إحدى وثلاثين مدينة، ثم استأنف هجماته على العالم المسيحي. وفيما بين عامي 1525، 1545، عاود شارل المفاوضة مع فارس المرة بعد المرة، بافتراض التنسيق بين المسيحيين والفرس للوقوف في وجه سليمان. وابتهج الغرب حين تولت فارس الهجوم وانتزعت أرضروم. ولكن سليمان عاد في 1554 واكتسح مساحات كبيرة من فارس، وأرغم طهماسب على عقد صلح بقيت مقتضاه بغداد والقسم الأدنى من أرض الجزيرة تحت حكم الأتراك.
وثمة شيء أكثر إمتاعاً من الصراعات الكئيبة تلك هي الرحلات الجريئة المغامرة التي قام بها أنطوني جنكنسون إلى بلاد ما وراء النهر وفارس، بحثاً عن طريق بري إلى الهند والصين، وكمان مسلك إيفان الرهيب في هذا الموضوع لطيفاً ودياً، فقد رحب بجنكنسون في موسكو، وبعث به سفيراً له لدى حكام الأوزبك في بخاري، ووافق على السماح بدخول البضائع الإنجليزية إلى روسيا معفاة من الرسوم الجمركية، ومرورها في نهر الفولجا عبر بحر قزوين، وكتبت للرحالة النجاة من عاصفة هوجاء في هذا البحر، واصل بعدها الرحلة إلى فارس ووصل إلى قوزين سنة 1516. وهناك سلم طهماسب رسائل التحية من ملكة بعيدة، بدا للفرس أنها سيدة قليلة الشأن تحكم قوماً من الهمج، وكان الفرس ميالين إلى عقد اتفاقية تجارية، ولكنهم عندما أعلن جنكنسون أنه مسيحي، أمروه بمغادرة البلاد، قائلين: "ليس بنا من حاجة إلى مصادقة الكفار". وبعد أن انصرف من حضرة الشاه، جاء أحد الخدم فغطى بالرمل المطهر آثار أقدام المسيحي التي دنست قصر الشيعة (10).
وبموت طهماسب (1576) انفضت أطول فترة حكم لأي حكم من الحكام المسلمين عدا واحداً. ولكنها فترة من أشد الفترات امتلاء بالنكبات. ولم يتميز هذا العهد بأية آداب يعتز بها الفرس في ذاكرتهم، إذا لم تستثن(26/95)
مذكرات بابر Babur الذي أبعد عن بلده. ولكن الفن على عهد الصفويين، ولو أنه سيبلغ ذروته متأخراً عنهم، بدأ في هذين العهدين (عهد إسماعيل وابنه) ينتج أعمالاً تتسم بالعظمة والتألق والنقاوة التي تميزت بها منتجات فارس الغنية لمدة اثنين وعشرين قرناً. وقد أبرزت مقبرة "هارون الولاية" في أصفهان كل ما أودع في الرسم الكلاسيكي الفارسي من دقة ورقة، وأزهى الألوان، وتقطيع الفسيفساء الخزفية المزخرفة. كما توج بوابة مسجد الجمعة الكبير نصف قبة معقدة. وأسس كذلك في هذا العصر في شيراز "مسجد جامع" آخر، ولكن الزمن لم يبق على شيء منه.
وثمة أمثلة كثيرة دلت على أن أشغال التذهيب الدقيقة والخط صمدت على تعاقب الزمن أكثر مما صمدت آثار العمارة، وبرزت العناية التي بذلها المسلمون في إخراج الكتاب (المخطوطات) حتى كادت تجعل منه معبوداً يحوطه الإجلال والحب. إن العرب الذين كانوا فخورين بكل شيء افتتنوا افتتاناً مستساغاً مغفوراً لهم بحروف الهجاء عندهم، تلك التي وهبت لهم من نفسها سطوراً من جمال حسي. فالفرس، فوق كل شيء جعلوا من الخط فناً لتزيين محاريب مساجدهم وأبوابهم، والمعادن التي يصنعون منها أسلحتهم، والفخار الذين يصنعون منه أعمال الخزف، ونسيج سجاجيدهم، ثم المصاحف ودواوين الشعراء، وكل أولئك تعتز به الأجيال على أنه متعة للعين وبهجة للنفس. أما خط "النستعليق (1) Nastaliq،
_________
(1) للخط العربي أسلوبان رئيسيان هما الكوفي والنسخ. عرفهما المسلمون في القرن السابع الميلادي وهو مبدأ التاريخ الإسلامي. وأدخل على هذين النوعين بعض التعديل على مر العصور في بعض أنحاء العالم الإسلامي، وظهر في القرن الثالث عشر الميلادي في إيران نوع من الخط يعرف بالتعليق ومن مميزاته ميل حروفه من اليمين إلى اليسار في اتجاهها من أعلى إلى أسفل. وابتكر الخطاط مير علي التبريزي في القرن الخامس عشر "النستعليق" يحتفظ بمميزات النسخ والتعليق معاً. وهو نوع أكثر رشاقة من غيره من الخطوط "من كتاب الفنون الإسلامية لمؤلفه م. س ديمانه. ترجمة أحمد عيسى ص 76 - 86، دار المعارف بالقاهرة 1954". (المترجم)(26/96)
(أو الخط المائل) الذي كان قد ازدهر في عهد التيموريين في تبريز وهراة وسمرقند، فقد عاد إلى تبريز على عهد الصفويين، وذهب معهم إلى أصفهان. وكما ضم المسجد عديداً من الفنون بعضها إلى بعض، كذلك جمع الكتاب بين الشاعر والخطاط ورسام المنمنمات والمجلد (الذي يقوم بالتجليد) في تعاون يتسم بالتفاني والإخلاص والورع.
وظل فن التذهيب مزدهراً في بخاري وهراة وشيراز وتبريز. ويضم متحف الفنون الجميلة في بوسطن مخطوطة رائعة لشاهنامة الفردوسي، بإمضاء عراجي محمد القوام الشيرازي (1552)، وفي متحف كليفلند نسخة أخرى من عمل مشهدي الكاتب (1538)، ويضم متحف المتروبوليتان للفن نيويورك نموذجاً من أروع نماذج التذهيب والخط في تبريز، وهي صحيفة العنوان في مخطوطة "المنظومات الخمس" لنظامي (1525). وانتقل مركز التذهيب الإسلامي إلى تبريز حين اختارها بهزاد مقراً له (1510). وفي أثناء معركة جالديران خبأ الشاه إسماعيل الصفوي المصور بهزاد والخطاط محمود النيسابوري في كهف، بوصفهما أثمن ما يمكن أن يقتنى (11). ورسم أقاميرك، تلميذ بهزاد، في تبريز واحدة من أروع المنمنمات في هذا العصر، وهي صورة "تتويج خسرو وشيرين" (1539) وهي محفوظة الآن في المتحف البريطاني. وعلم ميرك بدوره الفن لتلميذه "سلطان نور الذي ولد في أسرة غنية، ولكنه تجاهل حقيقة أن لديه من الوسائل ما يستطيع معها أن يكون لاهياً تافهاً، فأصبح(26/97)
"اللؤلؤة التي لا تقدر بثمن" في بلاط شاه طهماسب لأنه فاق كل أهل زمانه في الخط والتذهيب، وفي تصميم أغلفة الكتب والسجاجيد، وفيما بين عامي 1539و1543 نسخ مخطوطة المنظومات الخمس لنظامي ووضحها بالرسوم، وثمة صفحة رائعة في المتحف البريطاني تمثل الملك خسرو ممتطياً صهوة جواد قرنفلي اللون، وهو ينعم النظر وسط نقوش النباتات والزهور ذوات اللون الأخضر والأسمر والذهبي، إلى شيرين وهي نصف عارية تستحم في بركة فضية. وثمة صورة أروع وأزهى ألواناً، للرسول وقد أسرى به في السموات السبع على حصانه المجنح "البراق" (ليزور الجنة والنار، هكذا في النص الإنجليزي) والأشكال عبارة عن جمال مجسم، ولكن المصور تعمد لأسباب دينية، ألا يكون بها تقاطيع مميزة فردية، فقد كان الفنان مهتماً بالزخرفة أكثر منه بالتشخيص، وبالجمال الذي يكون موضع التقدير والاحترام، وهو جمال يمكن الوصول إليه أحياناً إذا كان ذاتياً أو شخصياً، أيسر من الوصول إلى الحقيقة التي تفلت دائماً إذا كانت موضوعية. وقد بلغ التذهيب ذروته في هذه المنمنمات.
وحظيت المنسوجات والسجاجيد بمثل هذه العناية المحببة إلى النفس، ولم يبق شيء من منسوجات هذه العهود، ولكن المنمنمات تصورها. وتفوق مصممو السجاد وعماله المهرة في عهد الصفويين. وبدا أن السجاد عنصر أساسي في حضارة الإسلام. ولم يجلس المسلمون أو يأكلوا على الكراسي، ولكن على الأرض المفروشة بالسجاد. وهناك سجادة خاصة للصلاة عليها في العادة رموز دينية وآيات قرآنية، يسجد عليها المسلمون في صلواتهم. وكانت السجاجيد مفضلة كهدايا للأصدقاء أو الملوك أو المساجد، ولذلك أهدى شاه طهماسب عشرين سجادة كبيرة وكثيراً من السجاجيد الصغيرة من الحرير والذهب إلى السلطان سليم الثاني عند ارتقائه عرش آل عثمان 1566. وثمة معالم مميزة من التصميم حددت سجاد هذا(26/98)
العصر، وكأنها بستان، ففيها رسوم النباتات والأزهار، ومنظر الصيد والزهريات والرسوم المضلعة والمشجرة أو الرسوم النافرة أو البارزة، وحول هذه الأشكال الأساسية توجد الزخرفة العربية المتعرجة، مع أشرطة السحب المستمدة من الفن الصيني، ورموز ذات معان سرية لدى مبتكرها، وحيوانات تمثل نمط الحياة، ونباتات وزهور تعطي أريجاً ممثلاً في خيوط، وطابعاً بهيجاً، وسرى في هذا الكل المعقد منطق فني، أو تناغم طباقي في الخيوط أدق من موسيقى بالسترينا (ملحق موسيقى دينية في إيطاليا في القرن السادس عشر) وأجمل من شعر جوديفا (1).
ويعود تاريخ بعض القطع الباقية حتى الآن من السجاد الإيراني إلى هذا النصف الأول من القرن السادس عشر. وإحداها ذات رسوم بارزة، وبها ثلاثون مليون عقدة من الصوف على سداة من الحرير (380 عقدة في البوصة المربعة)، ظلت مفروشة لعدة قرون في أحد مساجد أردبيل، وهي الآن موزعة بين متحف فكتوريا وألبرت في لندن ومتحف لوس أنجلوس. وفي أحد أطرافها خرطوشة كتب عليها بيت من شعر حافظ، وتحته عبارة الفخر: "من صنع العبد .... مقصود الكاشاني في سنة 946 هجرية"، أي 1539م (12). كذلك يوجد في متحف لوس أنجلوس "ساط التتويج" الهائل الذي استخدم في تتويج إدوارد السابع 1901، وكان من بين أعظم النفائس في متحف بولدي بتزوللي في ميلان، قبل تدميره في الحرب العالمية الثانية، سجادة بها مناظر صيد من صنع غياث الدين جامي من مدينة يزد، وهو الذي يحتل في رسوم السجاد مكانة بهزاد في المنمنمات.
_________
(1) تقول أسطورة إنجليزية إن Godiva طلبت من زوجها لورد كوفنترى دفع الضرائب الباهظة التي يشكو منها الأهالي. فاشترط لتحقيق مطلبها أن تمتطي جواداً وتسير به في سوق البلدة وهي عارية، لا يغطي جسمها إلا شعرها. (دائرة المعارف البريطانية) (المترجم)(26/99)
أما سجادة "دوق أنهالت" في مجموعة دوفين فقد حظيت بشهرة عالمية بأرضيتها الذهبية الصفراء: مع زخرفة عربية رائعة ذات الألوان القرمزي والوردي والأزرق الفيروزي. إن السجاد والكتاب من أعظم المميزات التي تميزت بها فارس على عهد الصفويين وهي مميزات لا يستطيع أن يتحداها أو يمارى فيها أحد، وهي تحتل في ذاكرة الجنس البشري مكانة رقيعة.
3 - سليمان القانوني والغرب
خلف سليمان القانوني أباه سليم الأول في 1520، وهو إذ ذاك في سن السادسة والعشرين. وقد كسب لنفسه شهرة لشجاعته في القتال وكرمه في صداقته، وقدرته في إدارة الولايات التركية. وهيأت له تقاطيعه المليحة وسلوكه المهذب أن يقابل بالترحيب في القسطنطينية التي شقيت بسليم العبوس، ووصفه إيطالي رآه عقب توليه العرش مباشرة بأنه طويل نحيل قوي، ذو عنق طويل جداً، وأنف متقوس جداً ولحية وشوارب خفيفة، وبشرة شاحبة رقيقة، ووجه صارم هادئ، وبدا وكأنه طالب أكثر منه سلطان (13). ووصفه إيطالي بعد ثماني سنوات بأنه "شاحب إلى حد رهيب ... مكتئب، زير نساء عجول، ومع ذلك فهو في بعض الأحيان وديع مهذب"، أما غسلين دي بوسبك Ghislain de Busbeq سفير آل هبسبرج لدى الباب العالي، فقد وصف بطريقة تكاد تكون ودية رقيقة ألد أعداء آل هبسبرج فقال:
لقد كان له دائماً طابع الرجل الحذر اليقظ
المعتدل. وحتى في بواكير أيامه، حين كانت قواعد
الحكم في تركيا تجيز الصفح عن الخطايا، لم يكن(26/100)
في حياته ما يعاب عليه، لأنه حتى في أيام شبابه
لم يدمن على الخمر، ولم يقترف أياً من الجرائم
غير الطبيعية أولئك الذين جنحوا إلى تشويه أعماله وتصرفاته
أن يدسوا ضده شيئاً أسوأ من إفراطه في حب
زوجته ... ومن الحقائق المعروفة جيداً أنه منذ
اتخذ منها خليلة شرعية، كان مخلصاً لها كل
الإخلاص، برغم أنه لا يوجد في القوانين ما يمنع
من اتخاذ خليلات كذلك (14) ".
إنه وصف جدير بالملاحظة، ولكنه يتسم بالملق الشديد. ولا ريب في أن سليمان كان أعظم وأنبل سلاطين آل عثمان، وأنه كان يضارع أي حاكم في عصره من حيث الكفاية والحكمة والخلق، ولكنا سوف نراه بين الحين والحين موصوماً بالقسوة والحقد والانتقام. ومهما يكن من أمر، فلنبدأ على سبيل التجربة، بالنظر إلى صراعه مع العالم المسيحي.
طال أمد الصراع العسكري بين المسيحية والإسلام آنذاك نحو 900 سنة. فقد بدأ حين انتزع العرب المسلمون سوريا من الإمبراطورية، كما غزا فيها المغاربة المسلمون أسبانيا. وثأر العالم المسيحي لهذا الغزو، وفي الحروب الصليبية التي غطى فيها الطرفان أطماعهما الاقتصادية وجرائمهما السياسية بستار من شعارات دينية وحماس ديني، انتقم المسلمون بالاستيلاء على القسطنطينية والبلقان وطردت أسبانيا المغاربة. ودعا البابوات الواحد تلو الآخر إلى شن حملات صليبية جديدة ضد الأتراك، كما أقسم سليم الأول أن يشيد مسجداً في قلب رومه. واقترح فرانسوا الأول على الدول(26/101)
الغربية أن تقضي على دولة الأتراك قضاء مبرماً، وتقتسم ممتلكاتها فيما بينها، باعتبارها غنائم من الكفار (15). وأحبط هذه الخطة انقسام ألمانيا في الحروب الدينية، وثورة الكوميونات (الوحدات الإدارية) الأسبانية ضد شارل الخامس، ونكوص فرانسوا الأول نفسه عن اقتراحه وتفكيره من جديد في التماس العون من سليمان ضد شارل. وربما كان لوثر قد أنقذ سليمان، كما كانت اللوثرية مدينة له بفضل كبير.
إن كل حكومة تكافح لتوسيع رقعتها، لتزيد من مواردها ودخولها من جهة، وإيجاد ارض حاجزة حامية بين حدودها وعاصمتها من جهة أخرى. وارتأى سليمان أن أحسن وسيلة الدفاع هي الهجوم، فاستولى على معاقل المجر في ساباكس وبلغراد، ولما شعر بالاطمئنان والأمن في الغرب، وجه قواته ضد رودس حيث احتفظ المسيحيون هناك تحت حكم فرسان القديس يوحنا، بقلعة منيعة تقع مباشرة على الطرق المؤدية من القسطنطينية إلى الإسكندرية وسوريا، وبدا لسليمان أن هذا معقل خطير أجنبي في بحر هو بدون هذا المعقل بحر تركي، والحق أن سفن القرصنة عند الفرسان انقضت على تجارة المسلمين في أحد طرفي البحر المتوسط (16)، كما انقض قراصنة المسلمين على تجارة المسيحيين في الطرف الآخر. وكان مصير المسلمين الذبح إذا أسرهم الفرسان في حملاتهم (17). كما اعترض الفرسان طريق السفن التي تنقل الحجاج إلى مكة، إذا ساورهم الشك في أن لها أغراضاً عدائية. ويقول مؤرخ مسيحي: "على أي الأحوال لم يكن سليمان بحاجة إلى ما يبرر الهجوم على رودس" (18): ويضيف مؤرخ إنجليزي مشهور إلى هذا قوله: "كان من مصلحة النظام العام أن تضم الجزيرة إلى مملكة الأتراك" (19).
وشن سليمان هجومه ومعه ثلاثمائة سفينة وثلاثمائة ألف رجل. واستمر المدافعون عن الجزيرة بقيادة رئيسهم الأكبر العجوز فيليب دي فيليرز دى ليل- آدم ( Phiiuppe de Villers de Lile-Adam) ، يقاتلون محاصريهم(26/102)
لمدة 145 يوماً، وأخيراً استسلموا بشروط مشرفة، منها أن يغادر الفرسان وجنودهم الجزيرة في أمان، كما يكون، في مدى عشرة أيام، للسكان الباقين الحرية الدينية الكاملة, مع إعفائهم من الجزية لمدة خمس سنوات، وفي يوم عيد الميلاد طلب سليمان أن يرى فيليب، فواساه وامتدح دفاعه الباسل ونفحه هدايا ثمينة، كما أبدى السلطان لوزيره إبراهيم: "أنه أسف أشد الأسف لاضطراره إلى إرغام هذا المسيحي على أن يغادر في شيخوخته وطنه وممتلكاته (20). وفي أول يناير 1523 أبحر فرسان القديس يوحنا إلى جزيرة كريت، ثم غادروها بعد ثماني سنين إلى وطن أكثر دواماً في مالطة. ولطخ سليمان انتصاره بإعدام ابن الأمير جم وحفيدة الأطفال لنهم اعتنقوا المسيحية، وقد يستخدمون، كما استخدم جم، في المطالبة بالعرش العثماني.
وفي أوائل سنة 1525، تلقى السلطان سليمان كتاباً من فرانسوا الأول، كما استقبل أسيراً من لدن شارل الخامس، يطلبان منه مهاجمة المجر، والإسراع إلى نجدة ملك فرنسا. فأجاب السلطان: "إن جوادنا مسرج، وسيفنا معلق به" (21). إنه على أية حال كان عازماً على غزو المجر منذ زمن طويل. فسار في أبريل 1526 بجيش قوامه مائة ألف رجل وثلاثمائة مدفع. وحث البابا كليمنت السابع الحكام المسيحيين ليهبوا لمساعدة الدولة المهددة، على حين نصح لوثر الأمراء البروتستانت أن يلزموا أوطانهم. لأن من الواضح أن الأتراك زوار من عند الله، ومقاومتهم هي بمثابة مقاومة الله (22). وبقي شارل الخامس في أسبانيا. وكان من نتيجة ذلك هزيمة أدبية ومادية في وقت معاً، وكان من الممكن استرداد المجر لو تعاون الكاثوليك والبروتستانت، والإمبراطور والبابا في العمل معاً. ولكن الزعماء اللوثريين ابتهجوا بفوز الأتراك. ونهب جيش الإمبراطور رومة.
وفي 1529 عاد سليمان فحاصر فيينا بمائتي ألف رجل. ومن برج(26/103)
سانت ستيفن استطاع كونت نيقولا فون سالم الذي عهد إليه فرديناند بالدفاع عن المدينة - أن يرى السهول والتلال المحيطة بها مغطاة بخيام العثمانيين وجندهم وأسلحتهم. وفي هذه المرة دعا لوثر أتباعه ليشاركوا في المقاومة، لأن من الواضح أنه إذا سقطت فيينا، ستكون ألمانيا هي الهدف الثاني لهجوم العثمانيين. وذاعت الأنباء في كل أنحاء أوربا أن سليمان أقسم أن يخضع كل أوربا للعقيدة الوحيدة الصحيحة وهي الإسلام. وشق مهندسو الألغام الأتراك الخنادق، الواحد بعد الآخر، على أمل نسف الأسوار أو إحداث الانفجارات داخل المدينة، ولكن المدافعين وضعوا أوعية من الماء في مواطن الخطر (23)، وراقبوا الحركات التي قد تدل على العمليات الخفية تحت الأرض. وأقبل الشتاء وعجز خط مواصلات الأتراك الطويل عن توفير المؤن. وفي 14 أكتوبر أهاب السلطان برجاله أن يبذلوا محاولة أخيرة حاسمة. ووعد بجوائز ومكافآت سخية، ولكن الأرواح والأجسام معاً كانت كارهة غير راغبة، وصد الهجوم مع خسائر فادحة، وأمر سليمان بالتقهقر، وقد ملأه الحزن. وكانت أول هزيمة يلقاها، ولو أنه احتفظ بنصف المجر، وحمل معه إلى القسطنطينية تاج سانت ستيفن، وفسر سليمان لشعبه أنه عاد دون أن ينتصر لأن فرديناند (الذي قبع طيلة الحصار آمناً في براج) كان قد رفض أن يحارب، ووعد السلطان بأنه قريباً جداً سوف يصيد شارل ذاته، الذي تجاسر على أن يسمى نفسه إمبراطوراً، وينتزع منه بالقوة السيادة على الغرب.
ونظر الغرب إلى السلطان ووعيده بعين الجد، وساد الذعر روما. وفرض البابا كليمنت السابع، الذي كان وطيد العزم لأول مرة، الضرائب حتى على الكرادلة، لتوفير المال اللازم لتحصين أنكونا وسائر الثغور التي يمكن أن يدخل منها العثمانيون إلى إيطاليا.
وفي أول أبريل 1532 تقدم سليمان نحو الغرب مرة أخرى. وكانت(26/104)
مغادرة العاصمة مشهداً أحسن إخراجه، فكان يتقدم المسيرة 120 مدفعاً، يتبعها 8000 من الانكشارية وهم خيرة جنود المملكة، وسار بعد ذلك ألف جمل تحمل المؤن، وألفان من صفوة الخيالة لحراسة الراية المقدسة - نسر الرسول - يتبعهم آلاف من أبناء الأسرى المسيحيين يرتدون ملابس من ذهب، وقبعات حمراء مزودة بالريش، يلوحون مزهوين بالحراب في شجاعة بريئة، أما حاشية الملك وحرسه فكانوا رجالاً أشداء ذوي طلعة بهية، وامتطى السلطان بينهم جواداً كستنائي اللون مرتدياً القطيفة القرمزية الموشاة بالذهب تحت عمامة بيضاء مرصعة بالأحجار الكريمة. وسار وراءه الجيش الذي يبلغ في جملته نحو مائة ألف رجل. ومن ذا الذي يستطيع مقاومة مثل هذه الأبهة والقوة؟ ليس إلا العناصر والزمن!
ولكي يقابل شارل هذا التيار الجارف، تلقى، بعد توسلات كثيرة، منحه من مجلس الديت الإمبراطوري ليجند أربعين ألف رجل ويعد ثمانية آلاف جواد، وقدم هو وفرديناند بالإضافة إلى ذلك، ثلاثين ألف رجل على حسابهما الخاص. وبهذه القوة التي تجمعت في فيينا وعدتها 78. 000 رجل، انتظرا الحصار. ولكن السلطان عوق في جونز Guns وهي مدينة صغيرة محصنة تحصيناً شديداً، ولكن حاميتها لم تزد على 700 رجل أحبطوا لمدة ثلاثة أسابيع كل محاولة بذلها الأتراك لاختراق الأسوار التي نقبوها إحدى عشرة مرة، وفي كل مرة كانت الحامية المدافعة تسد الثغرات بالمعادن والجثث والاستماتة في الدفاع. وأخيراً أرسل سليمان جواز مرور وبعض الرهائن إلى القائد - نيقولا جوريشتز Jurischitz - يدعوه إلى عقد مؤتمر، فحضر واستقبله الوزير الأكبر بمظاهر الحفاوة والتكريم، وقد امتدحوا شجاعته وقيادته، مع شيء من الحزن والأسى، وأهداه السلطان رداء الشرف، وضمن له عدم القيام بأي هجوم آخر، وأعاده إلى قلعته برفقة حرس رائع من الضباط الأتراك، وسار إلى فيينا هذا(26/105)
"السيل الجارف" من الجيش الذي لا يقهر، والذي أوقع به الهزيمة سبعمائة رجل فحسب.
وهناك أيضاً لم يحظ سليمان بفريسته، فإن شارل لم يكن ليخرج للقتال، فقد كان من الحمق والغباء أن يضيع مزايا دفاعاته ليقامر بالقتال في ميدان مكشوف. وقدر سليمان أنه لو كان قد أخفق في الاستيلاء على فينا التي كان يسيطر عليها عشرون ألف جندي ليس لهم إمبراطور أو ملك ظاهر في الميدان، فإنه لا يكاد يحسن صنعاً أمام 78. 000 ينفخ فيهم روح الحماسة والحياة ملك كان قد أعلن صراحة وعلى رءوس الأشهاد أنه يرحب بالموت ويستعذبه في هذا الصراع كخاتمة شريفة نبيلة لهذه الحياة الدنيا، وهي خاتمة يصبو إليها كل مسيحي. وانصرف السلطان، وخرب ونهب في طريقه ستيريا والقسم الأدنى من النمسا، وأخذ كثيراً من الأسرى ليشرف بهم تقهقره. وربما كان من المزعج له أن يسمع أنه حين كان يتسكع جيئة وذهاباً دون جدوى عبر أراضي المجر، كان أندريا دوريا قد طارد الأسطول التركي حتى اختفى، واستولى على بتراس وكورون على شاطىء البلوبونيز.
ولما أرسل فرديناند إلى القسطنطينية مبعوثاً يطلب الصلح رحب به سليمان وقال إنه سوف يعقد الصلح "لا لمدة سبع سنوات، ولا لخمس وعشرين سنة، ولا لمائة سنة، ولا لقرنين من الزمان، أو ثلاثة قرون، ولكن في الحق إلى الأبد، إذا لم ينقضه فرديناند نفسه"، وإنه سوف يعامل فرديناند كابن له (24). على أنه طلب ثمناً فادحاً، وهو انه ينبغي على فرديناند أن يرسل غليه مفاتيح مدينة جرو Grau، رمزاً للخضوع والولاء، وكان فرديناند وشارل كلاهما متلهفين على تحرير أسلحتهما ضد المسيحيين، إلى حد أنهما كانا مستعدين لتقديم بعض التنازلات للأتراك. وأرسل فرديناند مفاتيح المدينة(26/106)
وأطلق على نفسه "ابن سليمان"، واعترف بسيادة سليمان على معظم أراضي المجر (22 يونية 1533). ولم يعقد الصلح مع شارل، واسترد السلطان بتراس وكورون، وراوده حلم بسط سلطانه على فيينا وتبريز.
وفي 1536 استولى على تبريز، ثم عاد إلى الغرب. وطرح الدين جانباً، وارتضى أن يتعاون مع فرانسوا الأول في حملة أخرى ضد شارل. وعرض على الملك أحسن الشروط وهي أنه لا صلح مع شارل إلا عند تسليم جنوده وميلان وفلاندرز إلى فرنسا، ثم السماح للتجار الفرنسيين بالإبحار والبيع والشراء داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية، على أن يعامل الأتراك بالمثل، ومنح قناصل فرنسا في الإمبراطورية الولاية القضائية المدنية والجنائية على الرعايا الفرنسيين فيها، كما يتمتع هؤلاء الرعايا بالحرية الدينية الكاملة (25). وهكذا أصبحت "الامتيازات الأجنبية" كما وقعت في هذه الاتفاقية، نموذجاً يحتذى فيما جاء بعد ذلك من معاهدات بين الدول المسيحية ودول الشرق.
ورد شارل على ذلك بتكوين حلف يضم الإمبراطورية والبندقية والبابا وانضم إليه فرديناند وهكذا أصبح قصير الأمد جداً ما كان مقدراً أن يكون أبدياً. وعانت البندقية وطأة الهجوم التركي وفقدت ممتلكاتها في بحر إيجة وشاطئ دلماشيا، ووقعت صلحاً منفرداً (1540). وبعد سنة واحدة توفي دمية سليمان أو تابعه الحاكم في بودا، وجعل سليمان من المجر ولاية عثمانية. وأرسل فرديناند بعثة إلى تركيا تطلب الصلح، وأخرى إلى فارس تحرض الشاه على مهاجمة الأتراك. فتقدم سليمان نحو الغرب (1543) واستولى على جرو وستولوزنبرج، وضم مزيداً من أراضي المجر إلى الباشا (الحاكم التركي) في بودا. وفي 1547، حين كان مشغولاً بالفرس، منح الغرب هدنة لمدة خمس سنوات، ولكن الطرفين نقضاها. حيث توسل البابا بول الرابع إلى الأتراك أن يشنوا الهجوم على فيليب الثاني الذي(26/107)
كان بابوياً أكثر من البابوات (26). وأطلق موت فرانسوا وشارل يدي فرديناند في الوصول إلى الصلح. وفي صلح براج 1562، اعترف فرديناند بحكم سليمان في المجر وملدافيا، وتعهد بدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دوكات، ووافق على دفع تسعين ألفاً كمتأخرات.
وبعد عامين آخرين لحق بأخيه. وهكذا بقي سليمان على قيد الحياة بعد موت ألد أعدائه، وكم من البابوات لم يعمر هو بعدهم؟ لقد بسط سلطانه على مصر وشمال أفريقية، وآسيا الصغرى وفلسطين وسوريا، والبلقان والمجر. وسيطرت البحرية التركية على البحر المتوسط. وأثبت الجيش التركي شجاعته الفائقة شرقاً وغرباً وأثبتت الحكومة التركية جدارتها وقدرتها في فن الحكم والدبلوماسية، قدر ما كان لمنافسيها. وفقد المسيحيون رودس وبحر إيجة والمجر، وعقدوا صلحاً ذليلاً مهيناً. وبات العثمانيون آنذاك أكبر دولة في أوربا وأفريقية، إن لم يكن في العالم كله.
4 - الحضارة العثمانية
أولاً- الحكومة
هل كان العثمانيون متحضرين؟ الحق أن الانطباع بأن العثمانيين كانوا متبربرين همجيين إذا قورنوا بالمسيحيين ليس إلا وهماً قصد به تقربة الذات. فإن أساليبهم في الزراعة وعلومهم كانت على الأقل تضارع ما كان منها لدى الغرب. فالأرض كان يفلحها مستأجرون من الرؤساء الإقطاعيين، الذين كان عليهم في كل جيل أن يستحوذوا على أراضيهم بخدمة السلطان بطريقة مرضية، في الإدارة وفي الحرب. وباستثناء النسيج والخزف، وربما الأسلحة والدروع، لم تكن الصناعة قد أقامت بعد نظام المصانع، كما كان الحال في فلورنسه وفي فلاندرز، ولكن الحرفيين الأتراك كانوا مشهورين بمنتجاتهم الممتازة. ولم يشعر الأغنياء أو الفقراء بالأسى والحزن(26/108)
لانعدام النظام الرأسمالي. ولم يبلغ التجار المسلمون في القرن السادس عشر من النفوذ السياسي أو المركز الاجتماعي، ما بلغه نظراؤهم في أوربا الغربية. وتميزت التجارة بين الأتراك بعضهم البعض بالأمانة النسبية، ولكن بين الأتراك والمسيحيين كان المال مستباحاً. وتركت التجارة الأجنبية في معظمها للأجانب. وسارت قوافل المسلمين، في صبر وجلد، على الطرق البرية التي كانت معروفة في العصور القديمة والوسطى، إلى آسيا وأفريقية، حتى عبر الصحراء، وكانت الأنزال الصحراوية، ومعظمها أسسه سليمان، تقدم للتاجر أو السائح أماكن للاستراحة على الطريق. وسيطرت سفن المسلمين حتى سنة 1500 على الطرق البحرية من القسطنطينية والإسكندرية، عبر البحر الأحمر إلى الهند وجزر الهند الشرقية، حيث كان التبادل يتم مع البضائع التي حملتها السفن الشراعية الصينية. وبعد أن فتحت رحلة فاسكودا جاما وانتصارات البوكرك البحرية- فتحت الهند أمام التجار البرتغاليين، فقد المسلمون سيادتهم على المحيط الهندي، ودخلت مصر وسوريا وفارس والبندقية طور اضمحلال تجاري عام.
وكان التركي رجل بر وبحر معاً. وكان اهتمامه بالدين أقل من اهتمام معظم سائر المسلمين، ولكنه كذلك نظر بعين الإجلال والإكبار إلى الصوفية والدراويش والأولياء، واستمد شريعته من القرآن، وتلقى تعليمه في المسجد، ونبذ في عبادته، مثل اليهود، الصور المنحوتة ونظر إلى المسيحيين على أنهم مشركون وثنيون. وكان الدين والدولة شيئاً واحداً، وكان القرآن والسنة هما القانون الأساسي، وكان العلماء الذين فسروا القرآن هم أنفسهم أيضاً المعلمين والمحامين والقضاة ورجال القانون في المملكة. وأمثال هؤلاء العلماء هم الذين جمعوا في عهد محمد الثاني وسليمان الأول مجموعات القوانين العثمانية النهائية.
وكان المفتي، أو شيخ الإسلام، على رأس جماعة العلماء، وكان أعلى(26/109)
قاض في البلاد بعد السلطان والوزير الأكبر. ولما كان الموت حتماً مقضياً على السلاطين، وكانت جماعة العلماء قائمة دوماً، فإن هؤلاء المشرعين الدينيين هم الذين حكموا الحياة اليومية في الإسلام. ولما كانوا يفسرون الحاضر على أساس من شرائع الماضي، فقد تشبعوا بروح المحافظة وأسهموا في ركود الحضارة الإسلامية بعد وفاة سليمان. وعزز الإيمان بالقضاء والقدر- أو كما يقول قسمة الإنسان أو نصيبه- روح المحافظة هذه: أي أنا حيث أن الله قدر نفس حظها، فإن ضجر الإنسان بما قسم له ضرب من البعد عن الدين والتعمق فيه، فكل شيء في هذه الدنيا، والموت خاصة، هو من أمر الله ويجب الرضا به دون تذمر أو شكوى. وقام بين الحين والحين من ذوى التفكير الحر من يتحدث بصراحة بالغة، ولكن نادراً ما كان يحكم عليه بالإعدام. ومهما يكن من أمر، فإن العلماء عادة أجازوا قدراً كبيراً من حرية الفكر، ولم يكن في تركيا الإسلامية محاكم تفتيش.
وتمتع المسيحيون واليهود في ظل العثمانيين بقدر كبير من الحرية الدينية، وسمح لهم بتطبيق شرائعهم في الأمور التي لا يكون المسلمون طرفاً فيها (27). واحتضن محمد الثاني الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية عمداً، لأن انعدام الثقة المتبادل بين اليونان والروم الكاثوليك أفاد الأتراك في مقاومة الصليبيين. وعلى الرغم من أن المسيحيين انتعشوا تحت حكم السلاطين، فإنهم عانوا ضعفاً شديداً. فقد كانوا في حقيقة الأمر عبيداً أرقاء، ولكن كان في مقدورهم إنهاء الوضع بالدخول في الإسلام، وفعل الملايين منهم ذلك. وأما الذين رفضوا فكانوا مبعدين عن الجيش، لأن الحروب الإسلامية كانت في ظاهرها مقدسة من أجل الكفار إلى الإسلام. وخضع مثل هؤلاء المسيحيين لضريبة خاصة بدلاً من الخدمة العسكرية. وكانوا عادة فلاحين مستأجرين يدفعون عشر إنتاجهم إلى مالك الأرض، وكان(26/110)
لزاماً عليهم أن يقدموا واحداً من كل عشرة أبناء لهم، حتى ينشأ تنشئة إسلامية في خدمة السلطان.
وكان السلطان والجيش والعلماء هم الدولة. وإذا وجه السلطان النداء، جاء كل رئيس إقطاعي ومعه قواته المجندة ليشكلوا فوق الخيالة الذين بلغ عددهم في عهد سليمان 130. 000 رجل. وكان سفير فرديناند ينظر بعين الحسد إلى أبهة تجهيزاتهم: ملابسهم المصنوعة من البروكار (الحرير المقصب) أو الحرير ذي اللون القرمزي أو الأصفر الفاتح أو الأزرق القاتم، وأطقم الخيل التي تتألق بالذهب والفضة والجواهر، فوق أحسن جياد رأتها عينا بوسبك Busbeq وتكونت صفوة المشاة من أبناء الأسرى ودافعي الجزية المسيحيين الذين كانوا ينشئون على خدمة السلطان في قصره، أو في إدارة البلاد، وفوق كل شيء في الجيش، حيث كانوا يسمون الانكشارية أو العسكر الجديد. وكان مراد الأول قد أنشأ هذه الفرقة الفذة (1360)، كوسيلة لتجريد رعاياه المسيحيين من الشباب الذي يحتمل أن يكون مصدر خطر. ولم يكن عددهم كبيراً- نحو عشرين ألفاً في عهد سليمان. وكانوا يتلقون تدريباً عالياً على كل المهارات الحربية، وكان محرماً عليهم الزواج أو الاشتغال بالأعمال الاقتصادية، ويلقنون الروح العسكرية والمجد الحر والعقيدة الإسلامية، وكانوا شجعاناً في الحرب، قدر ما كانوا ساخطين قلقين وقت السلم، وجاء بعد هؤلاء الجنود المتفوقين، الميلشيا (جند الطوارئ)، وكانوا نحو مائة ألف، أشرف السباهي والانكشارية على تدريبهم وتغذيتهم بالروح العسكرية. وكانت الأسلحة المفضلة لا تزال هي القوس والنشاب والرماح، وكانت الأسلحة النارية في بداية استعمالها، وفي الاشتباكات عن قرب كانت القضبان الشائكة والسيوف القصيرة هي المفضلة. وكان الجيش والعلوم العسكرية على عهد سليمان أفضل ما في العالم من نوعهما في ذاك(26/111)
العصر، ولم يضارع أي جيش آخر جيش سليمان في سلاح المدفعية أو في الخنادق والهندسة العسكرية أو النظام والروح المعنوية، أو في العناية بصحة الجنود، أو في تموين الأعداد الهائلة من الجنود على مسافات بعيدة. ومهما يكن من أمر فإن الوسيلة كانت ممتازة لمجرد خدمة غاية معينة، وأصبح الجيش غاية في حد ذاته، حيث كان لزاماً، للحفاظ على نظامه وكبح جماحه، أن يخوض الحروب، وبعد سليمان أصبح الجيش، والانكشارية فوق كل شيء- سادة على السلاطين.
وكان المجندون الذين تحولوا إلى الإسلام من أبناء المسيحيين يشكلون غالبية الهيئة الإدارية في الحكومة التركية المركزية. وكان حقاً علينا أن نتوقع أن يخشى السلطان المسلم أحاطته برجال يحبون "الزعيم الوطني الألباني" اسكندربرج، ويحنون إلى دين آبائهم، والأمر على النقيض من ذلك، فإن سليمان آثر هؤلاء المتحولين عن دينهم، لأن في الإمكان تدريبهم منذ نعومة أظفارهم على مهام محددة في الإدارة. والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر (28)، ولو كانت عرضة للرشوة بشكل يسيء إلى سمعتها، وضم الديوان- وهو بمثابة الوزارة في الحكومات الغربية- كبار رجال الإدارة تحت رئاسة الوزير الأكبر عادة. وكان لهذا الديوان سلطات استشارية أكثر منها تشريعية. وكانت توصياته تصبح عادة قانوناً بمقتضى قانون أو مرسوم من سلطان. وكانت السلطة القضائية يتولاها القضاة والأئمة (كبار القضاة) من العلماء. ولحظ أحد المراقبين الفرنسيين نشاط المحاكم وسرعة البت في المحاكمات وصدور الأحكام (29)؛ كما اعتقد مؤرخ إنجليزي كبير أن "سير القضاء في عهد الحكام العثمانيين الأولين كان في تركيا أفضل منه في أية بقعة في أوربا، وأن رعايا السلطان المسلمين كانوا أدق نظاماً من معظم(26/112)
الجاليات المسيحية، وأن الجرائم كانت أندر" (30). وكان الانكشارية يقومون بوظيفة الشرطة في شوارع القسطنطينية التي يحتمل خلوها من حوادث القتل أكثر من أية عاصمة أوربية أخرى (31). وفضلت الأقاليم التي وقعت تحت الحكم الإسلامي- رودس، اليونان، البلقان- فضلت هذا الحكم على أحوالها السابقة في ظل حكم الفرسان أو البيزنطيين أو البنادقة، حتى بلاد المجر نفسها ارتأت أن الأحوال فيها صارت تحت حكم سليمان إلى أحسن مما كانت عليه أيام آل هبسبرج (32).
وكانت معظم مكاتب الإدارة في الحكومة المركزية مستقرة في "السراي" أي المساكن الإمبراطورية- وهي ليست قصراً، ولكن مجموعة مبان وحدائق وساحات، تضم السلطان وحريمه وخدمه ومعاونيه وثمانين ألفاً من البيروقراطية. وكان لهذا النطاق الذي يبلغ محيطه ثلاثة أميال وباب واحد ذو زخرفة رائعة، أطلق عليه الفرنسيون "الباب العالي"، وهو اصطلاح حدث في شيء من لغو الحديث، أن قصد به الحكومة التركية نفسها. وجاء في المقام الثاني بعد السلطان في هذا التنظيم المركزي الوزير الأكبر. وأصل الكلمة عربية ومعناها حامل الأثقال، والحق أن الوزير نهض بأعباء ثقيلة، فكان على رأس الديوان، والبيروقراطية، والقضاء، والسلك الدبلوماسي، كما أشرف على العلاقات الخارجية، وأجرى التعيينات الكبرى، كما قام بأدق المهام الرسمية في أكثر الحكومات الأوربية ولعاً بالرسميات. وأما أشق التزامات الوزير فهي إرضاء السلطان في كل هذه الأمور. حيث كان الوزير عادة مسيحياً ثم أسلم. وبعبارة أدق، هو عبد، ويمكن أن يلقى حتفه دون محاكمة من سيده، واثبت سليمان نفاذ بصيرته وسداد رأيه باختيار وزرائه الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في نجاحه. وكان إبراهيم باشا (إبراهيم الحاكم) يونانياً أسره قراصنة المسلمين وأحضروه إلى سليمان باعتباره عبداً يبشر بحسن المستقبل.(26/113)
ووجد سليمان أنه متعدد القدرات إلى حد أنه وكل إليه الأكثر فالأكثر من الصلاحيات والمهام، وأجرى عليه راتباً سنوياً قدره 60 ألف دوكات (1. 500. 000 دولار؟) وزوجه من أخت له، وآكله بانتظام، واستمتع بحديثه ومعزوفاته الموسيقية وبمعرفته باللغات، والآداب، وحسن اطلاعه على أمور الدنيا. وعلى الطريقة الشرقية الأنيقة أعلن السلطان سليمان أن "كل ما يقوله إبراهيم ينبغي أن يعتبر كأنه صادر من ذات فيه الذي ينثر اللآلئ (33). تلك كانت واحدة من أعظم صداقات التاريخ، حتى في أساطير اليونان القديمة.
وثمة حكمة واحدة كانت تعوز إبراهيم- تلك هي أن يخفي زهوه الداخلي بتواضع خارجي أو ظاهري. لقد كان لديه كثير من السباب التي تجعله يزهو بنفسه، فهو الذي سما بالحكومة إلى أعلى درجات المقدرة والكفاية، وبفضل دبلوماسيته هو استطاع أن يشيع الفرقة والانقسام بين دول الغرب بتدبير التحالف مع فرنسا، وهو الذي أعاد الهدوء إلى آسيا الصغرى وسوريا ومصر، حين سار سليمان بجيشه إلى المجر، بإصلاح المساوئ ومعاملة الجميع بالعدل والكياسة. وكذلك كان له العذر في أن يكون حذراً متوجساً، فإنه لم يزل عبداً، وكلما ارتفع رأسه، ازداد رقة ودقة ذلك الخيط المعلق منه سيف السلطان المسلط على رقبته. وقد أغضب الجيش حين حرم عليه سلب تبريز وبغداد، وحاول منعه من سلب بودا. واستطاع في هذا السلب أن ينقذ جزءاً من مكتبة ماتياس كورفينوس، وثلاثة تماثيل من البرونز لهرمز وأبوللو وأرتميز، ووضعها أمام قصره في القسطنطينية، وحتى سيده المتحرر اضطرب لهذه الإساءة الموجهة إلى الوصية السامية بتحريم النحت، واتهمته ثرثرة الناس بامتهان القرآن. وأقام في بعض الأحيان حفلات تفوق في نفقتها وبهائها حفلات السلطان، واتهمه أعضاء الديوان بأنه يتحدث وكأنه يقود السلطان كأسد أليف(26/114)
موثوق بالقيود. واغتاظت روكسيلانا محظية الحريم من نفوذ إبراهيم، ويوماً بعد يوم، وبفضل إصرار النساء، ملأت أذن الإمبراطور بالشبهات والشكاوي، حتى اقتنع السلطان أخيراً، وفي 31 مارس 1536، وجد إبراهيم مخنوقاً على فراشه، ويحتمل أن يكون ذلك بأمر ملكي. وهذا عمل ينافس في وحشيته إحراق سرفيتس أو بركوين.
وأكثر وحشية من هذا بكثير، قانون قتل الأخوة الإمبراطوريين. وقد عبر عنه محمد الثاني صراحة في سجل القوانين: "إن غالبية المشرعين أعلنوا أن اللامعين من أبنائي الذين يتولون العرش، يكون لهم الحق إعدام اخوتهم تأميناً في الدنيا، وعليهم أن يعملوا طبقاً لهذا" (34). وبهذا حكم محمد الفاتح، في هدوء، بالإعدام على السلالة الملكية ما عدا الكبار منهم. وثمة سيئة أخرى من سيئات النظام العثماني، وهي أن تؤول ممتلكات المحكوم عليه بالإعدام، إلى السلطان الذي كان لذلك دائماً، تحت تأثير الإغراء بتحسين موارده المالية، يصم أذنيه دون أي نداء أو رجاء ولا بد من أن نضيف أن سليمان قاوم هذا الإغراء. وعلى النقيض من مثل هذه المساوئ في الحكم الفردي المطلق، يمكن أن نعترف بديمقراطية غير مباشرة في الحكومة العثمانية، تلك هي أن الطريق إلى للرفعة والمكانة العالية، فيما عدا السلطنة، كان مفتوحاً أمام جميع المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام ومهما يكن من شيء، فربما برهن نجاح السلاطين الأوائل على أن قدرة الأرستقراطية وراثية حيث لم يكن هناك أية حكومة معاصرة احتفظت بمثل هذا المستوى العالي من القدرة والكفاية لأمد طويل، كما كان الحال في العرش العثماني.(26/115)
ثانياً- الأخلاق
إن تباين الطرق والأساليب عند العثمانيين والمسيحيين أوضح بشكل صارخ التنوع الجغرافي والزمني في القوانين الأخلاقية. فقد ساد تعدد الزوجات بهدوء حيثما كانت المسيحية البيزنطية حديثاً جداً قد اقتضت رسمياً أحادية الزواج، واختبأت المرأة في أروقة الحريم أو وراء برقعها أو خمارها، حيثما كانت يوماً قد اعتلت عرش القياصرة. ولبى سليمان في إخلاص وتفان كل حاجيات حريمه دون شيء من وخزات الضمير التي ربما شوشت أو عززت المغامرات الجنسية الطائشة التي كان يقوم بها فرانسوا الأول أو شارل الخامس أو هنري الثامن أو الإسكندر السادس. إن المدنية التركية. مثل المدنية اليونانية، احتفظت بالمرأة بعيداً عن الأنظار والأضواء، وأجازت قدراً كبيراً من حرية الانحراف الجنسي. إن اللواط عند العثمانيين ازدهر حيثما كانت "الصداقة عند اليونان" قد كسبت يوماً المعارك وألهمت الفلاسفة.
أحل القرآن للأتراك الزواج من أربع بالإضافة إلى عدد من الجواري (في النص الإنجليزي خليلات)، ولكن قلة من الناس تحتمل مثل هذا البذخ والتبذير. وكثيراً ما ابتعد العثمانيون المحاربون عن وزوجاتهم اللائي ألفوا معاشرتهن، واتخذوا وزوجات أو خليلات من أرامل وبنات المسيحيين الذين قهروهم أو غزوا بلادهم، ولم تتدخل في سبيل ذلك أية حزازات عنصرية، فكم لقي أحر الترحاب بأذرع مفتوحة نساء يونانيات أو صربيات أو البانيات أو مجريات أو إيطاليات أو روسيات أو مغوليات أو فارسيات أو عربيات، واصبحن أمهات لأطفال كانوا على قدم المساواة يعتبرون أبناء شرعيين عثمانيين. وكاد الزنى أن يكون غير ضروري في مثل هذه الظروف، وإذا حدث كانت عقوبته صارمة،(26/116)
فكانت المرأة الزانية تلزم بشراء حمار تركبه وتطوف به المدينة، وكان الزاني يجلد مائة جلدة، ثم يقبل جلادة ويكافئه. وكان الرجل يستطيع أن يطلق زوجته بمجرد الإعلان أو الإفصاح عن قصده (أو أن يقسم يمين الطلاق)، أما الزوجة فلم تكن تستطيع أن تخلص نفسها إلا برفع دعوى معقدة معوقة.
وظل سليمان أعزب حتى سن الأربعين. فمنذ أسر تيمور زوجة بايزيد الأول- والمزعوم أنه هو وبني عشيرته من التتار آذوها وأساءوا معاملتها- فإن سلاطين آل عثمان، لتفادي أية مهانة أخرى مثل هذه، استنوا قاعدة ألا يتزوجوا، وألا يشاركهم فراشهم إلا الجواري (35). وضم حريم سليمان نحو 300 جارية كلهن مشتريات في السوق أو أسيرات في الحرب وكلهن تقريباً من أصل مسيحي. وإذا توقع النسوة زيارة السلطان ارتدين أجمل ثيابهن ووقفن صفوفاً لتحيته، وكان هو يسلم على أكبر عدد منهن، قدر ما يسمح به وقته، ويضع منديله على كتف من نالت إعجابه منهن بصفة خاصة. حتى إذا قضى وطره وانسحب في ذاك المساء، طلب إلى من تلقت المنديل أن تعيده إليه، وفي صباح اليوم التالي كان يهدي إليها ثوب من قماش من ذهب، وتزداد مخصصاتها. وقد يبقى السلطان في الحريم ليليتين أو ثلاثاً ينثر هباته السخية، ثم يعود إلى قصره ليقضي ليله ونهاره بين الرجال. وقلما ظهر النساء في قصره أو أشتركن في الولائم أو الحفلات الرسمية. ومع ذلك اعتبر الانضمام إلى الحريم شرفاً عظيماً. وإذا بلغت أي من نزيلات الحريم الخامسة والعشرين من عمرها دون أن تحظى يوماً بالمنديل، أعتقت. وكانت في العادة تجد وزجاً ذا مكانة عالية. ولم يؤد هذا النظام في حالة سليمان إلى انحلال جثماني، لأنه كان يتميز في معظم الأمور باعتدال رائع.
ولم يكن اختلاط الجنسين سائداً في الحياة الاجتماعية لدى العثمانيين.(26/117)
ومن ثم كانت تعوزها ما تشيعه فيها فتنة النساء والثرثرة الضاحكة من بهجة. ومع ذلك كان السلوك مهذباً قدر ما كان في المسيحية. وربما كان أكثر تهذيباً من أية بقعة أخرى باستثناء الصين والهند وإيطاليا وفرنسا. وكان عدد الأرقاء المحليين كبيراً، ولكنهم كانوا يعاملون معاملة إنسانية، وكانت ثمة قوانين كثيرة لحمايتهم. وكان إعتاقهم أمراً ميسوراً (36). وعلى الرغم من أن العناية بالصحة العامة كانت قليلة، فإن النظافة الشخصية كانت شائعة. وانتقل إلى تركيا نظام الحمامات العامة الذي يبدو أن الفرس أخذوه عن سوريا الهلينستية. وكانت هذه الحمامات في القسطنطينية وغيرها من المدن الكبرى في الإمبراطورية العثمانية تبنى من الرخام وتزين بزخارف أخاذة. وكان بعض القديسين المسيحيين يفخرون بأنهم تجنبوا استعمال الماء، على حين فرض على المسلمين الوضوء والتطهر قبل الدخول إلى المسجد أو أداء الصلاة. والحق أن النظافة في الإسلام كانت لاحقة للتدين والتقوى. ولم تكن آداب المائدة لديهم أفضل منها في العالم المسيحي، فكان الأكل بالأصابع في أطباق خشبية حيث لم يكن ثمة شوك. ولم تتناول الخمر في المنازل قط، ولكن الكثير منها كان يحتسي في الحانات، ولكن الإدمان عليها كان أقل منه في الغرب (37). واستعمل المسلمون القهوة في القرن الرابع عشر، ولقد سمعنا أول ما سمعنا عنها في الحبشة، ومنها انتقلت إلى شبه الجزيرة العربية، ويقال إن المسلمين استخدموها في الأصل بغية مساعدتهم على دوام اليقظة والتنبه أثناء تعبدهم (38). ولم يرد لها ذكر على لسان أي كاتب أوربي قبل سنة 1592 (39).
ومن الناحية الجثمانية كان التركي قوياً متين البنيان، مشهوراً بالجلد وقوة الاحتمال. وكم دهش بوسبك عندما شهد بعض الأتراك يتلقون مائة جلدة على أخمص القدم أو على رسغ القدم، "حتى لتنكسر عليهم أحياناً جملة عصى من خشب القرانيا دون أن تصدر عنهم أية صرخة (40). واحتفظ(26/118)
التركي دوماً بمظهر الوقار، تساعده ملابسة على إخفاء سخافات البدانة الناتجة عن البطنة. وارتدى عامة الشعب الطربوش، ولف المتأنقون حول عمامة، وكان كلا الجنسين يهوى الأزهار. واشتهرت الحدائق التركية بتعدد الألوان فيها، ومن هناك، فيما يبدو، انتقل إلى أوربا الغربية الليلك والتيولب، والسنط، والغار وغيرها. وكان ثمة ناحية جمالية عند الأتراك، كان من العسير أن تكشف عنها حروبهم. وإنا لندهش مما يرويه السياح الأوربيون من أن الأتراك لم يكونوا، فيما عدا زمن الحرب، "قساة بالطبيعة"، ولكن طيعين، وديعين .... مهذبين، أليفين"، و "شفوقين بصفة عامة" (41). وشكا فرانسيس بيكون من أنهم بدوا أشد رفقاً بالحيوان منهم بالإنسان (42). وما كانت القسوة لتنفجر إلا إذا تهددت سلامة العقيدة، وهنا لم يكن التركي يكظم غيظه أو يحد من انفعاله، بل كانت تثور ثائرته.
وكان التشريع التركي صارماً في الحرب بصفة خاصة. فلم يؤخذ أي عدو بأية رحمة أو هوادة، وكانوا يبقون على حياة النساء والأطفال، أما الأعداء القادرون الأشداء فقد يذبحون، ولو لم يكونوا مسلحين أو لم يقاوموا، وحتى دون أن يقترفوا إثماً (43). ومع ذلك فإن كثيراً من المدن التي استولى عليها الأتراك نهضت أكثر مما نهضت المدن التركية التي استولى عليها المسيحيون. من ذلك أن إبراهيم عندما استولى على تبريز وبغداد 1534، حرم على جنوده سلب المدينتين أو إيذاء سكانهما. كذلك، عندما انتزع سليمان تبريز ثانية 1548، حماها من السلب والنهب أو الذبح، ولكن عندما استولى شارل الخامس على تونس 1535 لم يستطع دفع رواتب جنوده إلا بإباحة السلب والنهب. ومهما يكن من شيء فإن القانون التركي نافس القانون المسيحي في العقوبات الوحشية، فقطعت يد السارق حتى تقل قدرته على السرقة (44).(26/119)
وكانت الأخلاق الرسمية بمثل ما كانت عليه في العالم المسيحي. فكان الأتراك يفخرون بوفائهم لكلمتهم وعهودهم، وحافظوا على بنود الامتيازات التي منحوها لأعدائهم، ولكن رقيب الآداب التركي، مثل نظيره- سانت جون كابسترانو مثلاً- كان يرى أنه ليس ثمة وعد أو عهد يلزم المؤمن بشيء يتعارض مع مصلحة أو واجبات دينه، وأن السلطان يمكنه أن يبطل المعاهدات التي عقدها هو أو أسلافه (45). وذكر السياح المسيحيون أن التركي العادي يتسم "بالأمانة وروح العدل .... حب الخير والنزاهة والإحسان" (46). ولكن الأتراك أصحاب الناصب كانوا عادة يرتشون بسهولة، ويضيف مؤرخ مسيحي، أن معظم الموظفين الأتراك كانوا مسيحيين من قبل (47)، ولكن يجدر بنا أن نضيف شيئاً آخر، وهو أنهم ربوا تربية إسلامية. فالباشا التركي في ولايته، مثل البروقنصل (حاكم الإقليم)، الروماني، كان يبادر إلى جمع الثروة، قبل أن تثور وساوس سيده فيستبدل به شخصاً غيره. إنه كان يتقاضى من رعاياه الثمن الذي كان قد دفعه لتعيينه. وكان بيع المناصب شائعاً في القسطنطينية أو القاهرة، قدر شيوعه في باريس أو روما.
ثالثاً- الآداب والفنون
كانت تهيئة السبل لتحصيل العلوم والمعارف أو نقلهما هي أضعف حلقة في الحضارة العثمانية. وكان التعليم الشعبي مهملاً بصفة عامة. وضآلة العلم والمعرفة أمر خطير. وكان التعليم على الأغلب مقصوراً على الطلاب الذين يقصدون إلى دراسة التربية أو القانون أو الإدارة، وكانت مناهجها طويلة قاسية. وقضى محمد الثاني وسليمان وقتاً طويلاً في إعادة تنظيم المدارس وتحسينها. ونافس الوزراء سادتهم السلاطين في إغداق الهبات على هذه الكليات أو المدارس الملحقة بالمساجد. ونعم المدرسون في هذه(26/120)
المعاهد بمراكز اجتماعية ومالية أعلى من نظرائهم في العالم المسيحي اللاتيني. وكانت محاضراتهم تنصب رسمياً على دراسة القرآن، ولكنهم سعوا كذلك إلى دراسة الآداب والرياضيات والفلسفة، ولكن خريجيهم، ولو أنهم كانوا أكثر تحصيلاً في فروع الدين منهم في العلوم، ساروا جنباً إلى جنب مع الغرب في الهندسة وفن الحكم.
وكانت قلة ضئيلة من السكان فقط تعرف القراءة، ولكن هؤلاء تقريباً كانوا ينظمون الشعر، ولا يستثنى من ذلك السلطان سليمان نفسه، وكان الأتراك- مثل اليابانيين- يعقدون مسابقات عامة يتلو فيها الشعراء ما جادت به قرائحهم، وكان السلطان سليمان يطيب له، مجاملة وكياسة منه- أن يرأس مثل هذه المباريات الشعرية. ولقد كرم الأتراك مائة شاعر في هذا العصر، ولكن انغمارنا في عظمتنا ومصطلحاتنا نحن، تركنا جهلة، لا نعلم شيئاً حتى من أمر شاعرهم الغنائي العظيم محمود عبد الباقي الذي شهد أربعة عهود، لأنه وإن كان في سن الأربعين عندما توفي سليمان، فإنه عمر بعده أربعة وثلاثين عاماً. وقد تخلى عن مهنته القديمة، وهي السراجة ليعيش على شعره. وكان من المحقق أن تعضه الحاجة بأنيابها لو لم يسعفه سليمان بوظيفة لا عمل فيها، وجمع سليمان المدح إلى الكسب، فنظم قصيدة يثنى فيها على تفوق شعر عبد الباقي، ورد عبد الباقي الدين فكتب مرثية قوية يندب فيها موت سليمان، وعلى الرغم من أن الترجمة نفقد رواءها بالتماس المحافظة على تعدد القوافي في الأصل، فقد يتكشف فيها بعض الانفعال والروعة:
أمير فوارس الحظ، يا من لفرسه الجرىء المعد للقتال،
حيثما كر أو فر كان مقيداً، كانت له الأرض كلها ساحة نزال!
أنت يا من لبريق سيفه أحنى المجرى رأسه!(26/121)
أنت يا من يعرف الفرنجة حق المعرفة وميض شارته المخيف!
مثل ورقة الورد الغضة وضع وجهه برفق في التراب،
فتلقته الأرض، الخازن الأمين، وأودعته كالجوهرة في حرز.
الحق أنه كان إشعاعة المكانة الرفيعة والمجد العظيم،
الشاه، الاسكندر وعليه إكليل دولة دارا المسلحة،
وأمام التراب الذي تحت قدميه أحنى الكون رأسه خفيضاً.
وبمثابة مقام العبادة على الأرض كان باب جناحه الملكي.
لقد جعلت أصغر هباته من أحقر متسول أميراً،
فاق في الندى والجود، وفي الرحمة والرأفة أي ملك ......
لقد لاقى من هذا الكون الحزين المتقلب نصباً، فلا تحسبه،
وهو بجوار ربه قد تخلى عن مكانته وعن مجده.
أي عجب إذا لم تر أعيننا شيئاً من الحياة أو من الدنيا بعد ذلك!!
إن جماله البارع، مثل الشمس والقمر، قد أفاض على الأرض نوراَ ...
فلتبك الآن سحب الدم قطرة قطرة، ولتنحن خفيضة!!
وبهذا الألم المبرح الحزين فلتمطر عيون النجوم دمعاً سخياً مريراً،
ودخان زفرات القلوب يظهر أن السماء الحالكة السواد تحترق ...
إن الطائر، أي روحه، قد طار عالياً إلى السموات مثل الهامة،
ولم يخلف وراءه سوى قليل من العظام على الأرض تحته ...
وليكن خالداً مجد خسرو في السموات العلى!!
ولتنزل رحمة الله على نفس الملك وروحه- ووداعاً!! (48).
وكان الأتراك في شغل شاغل بغزو الدول القوية إلى حد أنهم لم يجدوا فسحة من الوقت للفنون الدقيقة التي كان الإسلام حتى الآن قد اشتهر وتميز بها. وقد أنتج الأتراك منمنمات تميزت ببساطة التصميم وسعة التفكير في الأسلوب. أما التصوير التشخيصي أو التمثيلي فقد ترك للمسيحيين المفترين(26/122)
الذين ظلوا في هذا العصر يزينون جدران كنائسهم وأديارهم باللوحات الجصية، فنرى مانويل بانسلينوس- الذي ربما استعار بعض الحوافز من الصور الحائطية الإيطالية في عصر النهضة- قد زين بالجص كنيسة بروتاتون على جبل آثوس (1535 - 1536)، برسوم أكثر انطلاقاً وجرأة ورشاقة من رسوم العصور البيزنطية. واستقدم السلاطين فنانين من الغرب والشرق- جنتيل بالليني من البندقية، وشاه فالى، ووالي جان، وهما من رسامي المنمنمات في فارس الهرطوقية. وفي التربيعات المطلية لم يكن الأتراك في حاجة إلى مساعدة خارجية، فقد استخدموها إلى درجة تبهر الأبصار، واشتهرت مدينة ازنيق (بآسيا الصغرى) بصناعة الخزف، وتخصصت أشقودرة وبروسة، وهيريك في آسيا الصغرى في المنسوجات، فقد ترك البروكار (المقصبات) والقطيفة- بما فيهما من رسوم الأزهار في اللونين القرمزي والذهبي- التي أخرجتها هذه المدن، أثراً شديداً وانطباعاً قوياً في رسامي البندقية والفلاندرز. وكان السجاد التركي يعوزه البريق الشاعري الذي تميز به السجاد الفارسي، ولكن طرزه الفخمة وألوانه الدافئة أثارت الإعجاب في أوربا. وقد أغرى كلبير ملكيه لويس الرابع عشر بأن يأمر النساجين الفرنسيين بتقليد بعض قطع السجاد في القصر السلطاني في تركيا. ولكن دون جدوى، لأن تفوق المسلمين في هذه الصناعة ظل بعيداً عن متناول المهارة الغربية.
وبلغ الفن التركي ذروته في مساجد القسطنطينية (لم يطلق على المدينة اسم اسطنبول رسمياً إلا في سنة 1930). ففي تاريخ فارس أو التاريخ الإسلامي، لم يضارع عظمة عاصمة سليمان، حتى ولا مدينة مشهد مع فخامة عمائرها المزدحمة، ولا أصفهان في عصر الشاه عباس، ولكن ربما ضارعتها برسوبوليس على عهد كورش. فإن مساجد الآستانة اقتسمت مع الله غنائم العثمانيين في انتصاراتهم، وهي آثار تعبر، في وقت معاً، عن(26/123)
التقوى والزهو وعن تصميم السلاطين على إرهاب شعبهم بالفن قدر إرهابه بالأسلحة. ونافس سليمان جده محمد الفاتح في تشييد سبعة مساجد تتفق مع جلاله وعظمته، وفاق أحدها، وهو الذي حمل اسمه (1556) كنيسة أيا صوفيا في جمالها، حتى في محاكاته إياها في مجموعة القباب الصغرى المحيطة بالقبة الرئيسية الوسطى، على أن المآذن هنا، تلك التي ارتفعت مقصورات الآذان الثلاث فيها إلى ارتفاع رهيب، كانت بمثابة إضافة متألقة تتطابق مع القاعدة الضخمة. أما الداخل فكان كنزاً مربكاً من الزخرفة: نقوش ذهبية على الرخام أو الخزف وأعمدة من الحجر السماقي، وعقود من الرخام الأبيض أو الأسود، ونوافذ من الزجاج الملون في إطار من حجر مشجر، والمنبر المحفور وكأنه وقف على مدى الحياة. وربما كان بذخاً أكثر مما ينبغي إجلاله، وتألقاً أكثر مما ينبغي لمقام الصلاة. إن الذي وضع تصميم هذا المسجد وسبعين مسجداً أخرى ألباني اسمه سنان، وقيل إنه عاش إلى سن العاشرة بعد المائة.
رابعاً- سليمان نفسه
إن الغرب هو الذي أطلق على سليمان لقب "العظيم"، ولكن شعبه هو الذي سماه "القانوني" أي جامع القوانين، بسبب مساهمته في تدوين القانون العثماني. ولم يكن مهيباً أو عظيماً في مظهره، ولكن في حجم تجهيزات جيوشه، وفي مدى اتساع حملاته، وفي زينة عاصمته، وفي تشييد المساجد والقصور، والقناطر المائية المشهورة، عظيماً في روعة كل ما يحيط به وفي حاشيته، ثم عظيماً بطبيعة الحال في قوة حكمه، وفي كل ما وصل إليه أو حققه. ووصلت إمبراطوريته من بغداد إلى مدى تسعين ميلاً من فيينا، و120 ميلاً من البندقية ملكة الأدرياتيك السابقة. وباستثناء فارس وإيطاليا،(26/124)
كانت كل المدن التي زخرت بألوان المعرفة اليهودية والمسيحية أو المعرفة القديمة، داخلة في نطاق ملكه: قرطاجة، ممفيس، صور، نينوى، بابل، تدمر، الإسكندرية، بيت المقدس، أزمير، دمشق، أفسوس، نيقية، أثينا، وطيبة اليونانية. ولم يضم الهلال قط يوماً، مثل هذه البقاع والبحار الكثيرة في منحناه الأجوف.
وهل كان تفوق حكمه يتناسب مع أتساعه؟ يحتمل أن يكون الجواب سلبياً، ولكن ينبغي أن نقرر هذا عن أية مملكة مترامية الأطراف، فيما عدا فارس في عهد الأخمينيين، وروما في عصر الأنطونينيين. إن الرقعة المحكومة كانت شاسعة إلى حد يتعذر معه إدارتها من مركز واحد قبل ظهور وسائل المواصلات والنقل والطرق الحديثة. لقد دب الانحلال والفساد في الحكومة، ومع ذلك قال لوثر: "يقال إنه لم يكن ثمة حكومة زمنية أفضل من حكومة الأتراك" (49). وفي مجال التسامح الديني كان سليمان أجرأ وأكرم من أنداده المسيحيين الذين ذهبوا إلى أن الانسجام الديني أمر ضروري للقوة الوطنية. ولكن سليمان رخص للمسيحيين واليهود في ممارسة ديانتهم في حرية تامة، وقال الكاردينال بول "إن الأتراك لا يلزمون الآخرين باعتناق عقيدتهم، ولهذا الذي لا يهاجم ديانتهم، أن يفصح عن أية عقيدة يعتنقها، وهو آمن" (50). وفي نوفمبر 1561 حين كانت إسكتلنده وإنجلترا وألمانيا اللوثرية تعتبر الكثلكة جريمة، كما كانت إيطاليا وأسبانيا تعتبران البروتستانتية جريمة، أمر سليمان بالإفراج عن سجين مسيحي، "غير راغب في تحويل أي فرد عن دينه بالقوة" (51). لقد جعل من إمبراطورية مأوى آمناً لليهود الفارين من محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال.
لقد اتضحت عيوبه في علاقاته العائلية أكثر منها في حكومته. والجميع متفوقون على أنه- برغم حروبه التي بررها بأنها هجوم من أجل الدفاع- كان رجلاً مهذباً، رحيماً كريماً إنسانياً، عادلاً (52). ولم يعجب به(26/125)
شعبه فحسب، بل أحبه كذلك. وكان إذا ذهب إلى المسجد يوم الجمعة، لزم الناس الصمت التام عند مروره، وانحنى هو تحية لهم جميعاً- أيا كانوا يهوداً أو مسيحيين أو مسلمين- وكان يقضي في المسجد ساعتين. ولم نسمع عنه أنه كان يلازم الحريم إلى الحد الذي يضعف من صحته وقوته، مثل ما حدث لبعض السلاطين من بعده، ولكنا نجده شديد الإحساس سريع التأثر بانفعالات الحب، حتى إنه لينسى ما تقتضيه مكانه من حكمة وحذر وعدل، بل عاطفة الأبوة وحنانها.
وفي أوائل حكمه كانت محظيته الأثيرة لديه جارية شركسية تعرف باسم "وردة الربيع" اتسمت بهذا الجمال الأسمر المليح التقاطيع، الذي تميزت به لعدة قرون نساء الأقاليم الواقعة حول الطرف الشرقي للبحر الأسود. وأنجبت له هذه المرأة طفلاً، وترعرع الطفل مصطفى حتى أصبح شاباً جميلاً قادراً محبوباً. وعهد إليه سليمان بعدة مناصب وتبعات هامة، ودربه ليكون وريثاً للعرش قدر ما يكون جديراً به. ولكن في أثناء هذا الحب، ظهرت في الأفق "خوريم"- "أي الضاحكة"- وهي أسيرة روسية أطلق عليها الغرب "روكسيلانا" كسبت قلب السلطان وانتزعته من محظيته الشركسية. وبقى السلطان ثملاً بجمال خوريم ومرحها وإغوائها وخداعها حتى اكتملت فصول الرواية ووقعت المأساة. وكسر السلطان القاعدة التي استنها الحديثون من أسلافه، واتخذها وزوجة (1534)، وابتهج أيما ابتهاج بما أنجبت له من بنين وبنات. ولكن لما كبرت سن السلطان وبات متوقعاً أن يعتلي مصطفى عرش أبيه، أوجست خوريم خيفة على مصير أبنائها، الذين يمكن أن يلقوا حتفهم، قانوناً، على يد السلطان الجديد. ونجحت في تزويج ابنتها من رستم باشا الذي أصبح الوزير الأكبر في 1544، وكان عن طريق زوجته يشاطر خوريم مخاوفها من سطوة مصطفى في المستقبل.
وكان مصطفى، في نفس الوقت، قد أرسل لتولي حكم ديار بكر،(26/126)
واشتهر ببسالته ولباقته وكرمه، واستخدمت خوريم كل مواهبها وتأثيرها في تحطيمه، وألقت في روع سليمان أن مصطفى يحاول أن يكسب شعبية، تطلعاً منه إلى انتزاع العرش. واتهم رستم باشا الشاب بأنه يتودد سراً إلى الانكشارية ليقفوا إلى جانبه، وساور الشك السلطان المنهوك الذي كان آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وزاد ارتيابه، ثم تولاه العجب، وأخيراً آمن بصحة ما زعموا، فذهب بنفسه إلى إرجلي Eregli، ودعا مصطفى إلى خيمته، وما أن ظهر حتى عاجله بضربة أودت بحياته (1553). عند ذاك وجدت خوريم ورستم باشا أن من اليسير إغراء السلطان بقتل ابن مصطفى لئلا يحاول الثأر لأبيه، وعين سليم ابن خوريم أميراً ووريثاً للعرش، وماتت خوريم راضية مطمئنة (1558)، ولكن بايزيد، وهو أخو سليم، الذي وجد أن مصيره المحتوم هو الذبح، أعد جيشاً يتحدى به أخاه، واشتعلت نيران الحرب الأهلية، وهزم بايزيد وفر إلى فارس (1559). ولكن الشاه طهماسب، لقاء ثلاثمائة ألف دوكات من سليمان ومائة ألف من سليم، سلم المناضل من أجل العرش، وشنق بايزيد (1561)، كما أعدم أبناؤه الخمسة محافظة على الأمن الاجتماعي. ويروى أن السلطان المتألم توجه إلى الله بالشكر والحمد على موت هذه الذرية المزعجة، وعلى أنه يستطيع الآن أن يعيش في سلام (53).
ولكن السلطان وجد السلام أمراً لا يحتمل، وأطال التفكير فيما ترامى إليه من أنباء تقول بأن فرسان القديس يوحنا الذين اقتلعهم من رودس، عادت إليهم قوتهم في مالطة، وأنهم كانوا ينافسون قراصنة الجزائر في غاراتهم الضارية وفكر السلطان ملياً، وهو آنذاك في سن الحادية والسبعين، هل في الإمكان أن تصبح مالطة جزيرة إسلامية، ومن ثم يكون البحر المتوسط حرماً آمناً للمسلمين. وفي أبريل 1564 أرسل أسطولاً مكوناً من 150 سفينة عليها ألف رجل ليستولوا(26/127)
على الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي. وقاتل الفرسان ببسالتهم المعهودة تحت قيادة الداهية البارع جان دي لافالت، واستطاع الأتراك الاستيلاء على حصن سانت إلمو بتضحية ستة آلاف رجل، ولم يستولوا على شيء بعده، وأرغمهم وصول الجيش الإسباني على رفع الحصار.
وما كان السلطان العجوز المهيب، سليمان القانوني، ليختم حياته بهذه الخاتمة المرة. وكان مكسيمليان الثاني الذي خلف فرديناند على عرش الإمبراطورية قد منع الجزية التي تعهد الوالد بدفعها للسلطان، وهاجم المخافر الأمامية التركية في هنغاريا، وقرر السلطان القيام بحملة أخرى فقط، وصمم على أن يقودها بنفسه (1566). وسار بمائة ألف رجل عبر صوفيا ونيش وبلغراد، وفي ليلة 5 - 6 سبتمبر، وفي أثناء حصار حصن زيجتفار، أسلم السلطان الروح، وهو منتصب في خيمته. وكان مثل فاسبازيان، مزهواً بنفسه إلى حد لا يرتضي معه أن يموت وهو راقد. وفي 8 سبتمبر سقط الحصن،، ولكن الحصار كلف الأتراك حياة 30 ألفاً من الرجال. وكان الصيف مدبراً، فعقدت الهدنة، وعاد الجيش أدراجه حزيناً مغموماً إلى القسطنطينية لا يحتمل معه النصر بل جثمان الإمبراطور.
هل ينبغي لنا أن نصدر على سليمان حكماً ونضعه في المرتبة التي يستحقها؟ إننا إذا قارناه بنظرائه في الغرب لوجدناه في بعض الأحيان أكثر تمدناً وحضارة، وفي أحيان أخرى أكثر همجية ووحشية. ومن بين الحكام الأربعة الكبار في هذا النصف الأول من القرن السادس عشر، يستوقف نظرنا فرانسوا على أنه أكثرهم تمدناً وحضارة، على الرغم من غروره المتهور واضطهاداته المترددة، على أنه مع ذلك نظر إلى سليمان على اعتباره حاميه وحليفه الذي بدونه كان يمكن أن يحطم، إن سليمان حالفه في صراعه الذي استمر طوال حياته مع الغرب. فالحق أن الإمبراطور مكسيمليان الثاني استأنف دفع الجزية للباب العالي 1568؛ وأن شارل الخامس(26/128)
كان قد أوقف تقدم السلطان عند فيينا، ولكن أي جيش مسيحي جرؤ على الاقتراب من القسطنطينية؟ لقد كان سليمان سيد البحر المتوسط، وبدا لبعض الوقت أن روما ظلت مسيحية لأنه هو وبربروسه سمحا بذلك. أن السلطان حكم إمبراطوريته حكماً صالحاً يتسم بعدم التحيز، ولكن كان نجاحه أكبر بكثير من شارل المسكين الذي كان يناضل ضد تمزيق ألمانيا بين الأمراء، وكان سليمان حاكماً مطلقاً مستبداً، بحكم العرف الذي لا نزاع فيه وبرضا شعبه، فهل حظي استبداد هنري الثامن في إنجلترا أو شارل في إسبانيا بمثل هذا الحب والثقة من الشعب؟ وكان شارل لا يكاد يكون قادراً على إصدار حكم الإعدام على ابنه لمجرد الارتياب في خيانته، ولكن شارل في شيخوخته كان يرسل الصيحات مطالباً بدم الهراطقة، واستطاع هنري أن يبعث بالزوجات وبالكاثوليك وبالبروتستانت إلى المشنقة أو المحرقة، دون أن يتخلف وجبة واحدة عن طعامه. أما التسامح الديني عند سليمان، ولو كان محموداً، فإنه بالمقارنة، يصم مثل هذا إعدام بوصمة الهمجية والوحشية.
لقد شن سليمان حروباً كثيرة، وذبح نصف ذريته، وأمر بذبح وزير مبدع دون إنذار أو محاكمة، إنه ارتكب الأخطاء التي تلازم السلطة المطلقة غير المحدودة، ولكنه كان أعظم وأقدر حكام عصره دون منازع.(26/129)
الفصل الثاني والثلاثون
اليهود
1300 - 1564
1 - التائهون
روى روجر وندوفر Wendover R. في كتابه Flores Historiarum (1228) أن أحد رؤساء أساقفة أرمينيا كان يزور دير القديس ألبان في أوائل القرن الثالث عشر، فسئل عن القصة التي تقول بأن يهودياً كان قد تحدث إلى السيد المسيح، لا يزال على قيد الحياة في الشرق الأدنى، فأكد رئيس الأساقفة للرهبان أنها صحيحة. وأضاف المرافق أن رئيس الأساقفة كان قد تناول الغداء مع هذا الرجل الخالد قبل مغادرته أرمينيا بوقت قصير، وأن اسم هذا الرجل، على الطريقة اللاتينية "كارتوفيلس". وأنه لما هم السيد المسيح بمغادرة محكمة بلاطس البنطي، ضرب كارتوفيلس السيد المسيح على ظهره وقال له: "أسرع". وأن يسوع قال له: "إني ذاهب، ولكنك سوف تبقى حتى أحضر". وكرر أرمنيون آخرون زاروا دير سانت ألبان في سنة 1252 نفس القصة، وزاد عليها القصص الشعبي، وبدل من اسم التائه، وروى كيف أنه في كل مائة عام أو نحوها، يصاب بمرض عضال، ويروح في سبات عميق يفيق منه شاباً يمتلئ رأسه بذكريات لا تزال حية عن محاكمة المسيح وموته وبعثه. وانقطع ورود القصة على الألسنة فترة، ولكنها ظهرت من جديد في القرن السادس عشر. وادعى أوربيون غلب عليهم التأثر، أنهم رأوا "أحشويروش" (1) - وسمي الآن
_________
(1) Ahasuerus، التوراة- سفر عزرا، الإصحاح 4، الآية 6. (المترجم)(26/130)
اليهودي الخالد، أو اليهودي التائه- رأوه في همبرج (1547، 1564) وفي فيينا (1599)، وفي لوبك (1601) وفي باريس (1644)، وفي نيوكاسل (1790)، وأخيراً في ولاية يوتا في غرب الولايات المتحدة (1868). وتلقت أوربا، التي كانت تفقد إيمانها، بالترحاب هذه الأسطورة على أنها برهان يؤكد من جديد ألوهية المسيح وبعثه، وضمان جديد لمجيئه ثانية. وعندنا أن الأسطورة رمز كئيب لشعب فقد وطنه في السنة الحادية والسبعين من بداية المسيحية، وبات يتيه في الأرض في قارات أربع، وعانى الاضطهاد والتعذيب المرة بعد المرة، قبل أن يسترد موطنه القديم في خضم زماننا المتقلب المزعزع (1).
ولاقى يهود "الشتات" هؤلاء أقل العناء والشقاء في ظل السلاطين الأتراك والبابوات في فرنسا وإيطاليا، وعاشت الأقليات اليهودية آمنة في القسطنطينية وسالونيك وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين والجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقية وأسبانيا تحت حكم العرب. وتسامح البربر معهم كارهين. على أن سيمون ديوران ترأس مستوطنة مزدهرة في الجزائر، وعاشت الجالية اليهودية في الإسكندرية- كما وصفها الحبر أوباديا برتينورو في 1488 - حياة طيبة، وشربوا الخمر بكثرة، وتربعوا على البسط كما فعل المسلمون، وخلعوا نعالهم عند دخول المعبد أو بيت أحد الأصدقاء (2). وكتب اليهود الألمان الذين لجئوا إلى تركيا إلى أقربائهم وصفاً خماسياً للحياة الطيبة التي ينعمون بها هناك (3). ورخص الباشا (الوالي) العثماني في فلسطين لليهود هناك في أن يبنوا معبداً على جبل صهيون. وحج بعض اليهود الغربيين إلى فلسطين، واعتقدوا أن من حسن حظهم أن تفيض أرواحهم في الأرض المقدسة، والأفضل منها في أورشليم بالذات.
ومهما يكن من أمر، فإن الذي كان يستأثر بتفكير اليهود ويستهوي قلوبهم في هذا العصر تركز في الغرب الذي لا يغفر ولا يصفح. فقد لاقوا(26/131)
اقل الأحوال شقاء في إيطاليا المستنيرة. وفي نابلي سعدوا بصداقة روبرت ملك أبحو، وازدهروا في أنكونا وفيرارا وبادوا والبندقية وفيرونا ومانتوا وفلورنسه وبيزا وغيرها من خلايا النهضة. قال إرزم 1518 "يوجد في إيطاليا كثير من اليهود، ولكن لا يكاد يوجد في أسبانيا مسيحيون (4) ". وكانت إيطاليا تقدر التجارة والموارد المالية تقديراً عظيماً، ومن ثم كان لليهود الذين تولوا هذه المرافق الضرورية فيها شأن كبير، باعتبارهم دعامة حافزة منشطة في الاقتصاد. أما ما كان يطلب من اليهود قديماً من وضع شارة أو ارتداء لباس مميز فقد تجاهله الإيطاليون في شبه الجزيرة بصفة عامة، وارتدى اليهود الموسرون زي الإيطاليون من مثل طبقتهم، والتحق الشباب اليهودي بالجامعات، وتزايد عدد المسيحيين الذين يدرسون العبرية.
وبين آونة وأخرى كان بعض رجال الدين المسيحي الذين يبغضون اليهود، مثل القديس يوحنا أوف كاببسترانو، قد يهيج حفيظة سامعيه، ليطالبوا بالتطبيق الكامل للقوانين الكنسية المتشددة الخاصة بالتجريد ضد اليهود. ولكن على الرغم من أن كابسترانو كان يلقى تأييداً من البابا يوجينيوس الرابع والبابا نيقولا الخامس، فإن تأثير بلاغته كان تأثيراً عابراً في إيطاليا. وهاجم راهب آخر من طائفة الفرنسيسكان هو برناردينو أوف فلتر، اليهود مهاجمة صاخبة عنيفة، إلى حد أن السلطات المدنية في ميلان وفرارا وفلورنسه أمرته بالتزام الصمت أو الرحيل. ولما عثر على طفل في سن الثالثة ميتاً بالقرب من بيت أحد اليهود في ترنت (شمال إيطاليا) في سنة 1475، أعلن برناردينو أن اليهود قتلوه، فألقى الأسقف بكل يهود ترنت في السجن، واعترف بعضهم تحت وطأة التعذيب بأنهم ذبحوه وشربوا من دمه، باعتبار أن هذا من طقوس عيد الفصح عندهم. واحرق كل يهود ترنت حتى الموت، وحفظ جثمان الطفل "سيمون الصغير"، وعرض على أنه "بقايا مقدسة"، وحج آلاف من السذج المؤمنين إلى المزار الجديد،(26/132)
وانتشرت قصة الفظاعة المزعومة عبر جبال الألب إلى ألمانيا فزادت من حدة شعور العداء ضد "السامية" هناك. واتهم سناتو البندقية القصة بأنها كذوبة دينية، وأمر كل السلطات في نطاق الولاية القضائية للبندقية بحماية اليهود. وقدم من بادوا إلى ترنت اثنان من المحامين لفحص الأدلة، ولكن الأهالي هناك مزقوهما تقريباً. واستحثوا البابا سكستس الرابع على ضم سيمون إلى قائمة القديسين ولكنه أبى، وحرم تمجيد سيمون باعتباره قديساً (5). ومهما يكن من شيء، فإن سيمون أعلن قديساً في سنة 1582.
وفي روما نعم اليهود لعدة قرون بظروف مواتية في الحياة، وبالحرية أكثر مما لاقوا في أي مكان آخر في العالم المسيحي، من جهة لأن البابوات كانوا مثقفين، ومن جهة أخرى لأن المدينة كان يحكمها ويتنازعها حزباً أورسيئي وكولانا، وكلتا الجماعتين كانت مشغولة بالقتال بينهما، إلى حد يتعذر معه التفرغ لعداوة الآخرين، وربما كان ثمة سبب آخر هو أن الرومان كانوا أوثق ارتباطاً بالجانب العملي في المسيحية منهم بالتعصب لديانتهم. ولم يوجد آنذاك حي خاص باليهود في رومه، ولكن معظمهم عاش في حي العبرانيين على الضفة اليسرى من نهر التيبر. ولم يكونوا ملزمين بذلك، فقد قامت كنائس المسيحيين (6). ولكن ظل بعض الظلم يقع عليهم، فكانت بعض الضرائب تفرض عليهم من أجل الإنفاق على الألعاب الرياضية، وكانوا يرغمون على إرسال ممثلين عنهم للاشتراك فيها وهم أنصاف عرايا، وهذا أمر يتنافى مع أعراف اليهود وأذواقهم. وظلت العداوة العنصرية باقية، فمثل اليهود في رسوم كاريكاتورية في المسرح الروماني، وفي الروايات الهزلية في الملاهي، ولكن اليهوديات كن يقدمن على أنهن مهذبات جميلات. لاحظ التناقض بين باراباس(26/133)
وأبيجيل في رواية مارلو "يهودي مالطة"، وبين شيلوك وجسيكا في رواية شكسبير "تاجر البندقية".
وعامل البابوات، إجمالاً، اليهود معاملة كريمة بالقدر الذي ينتظر من رجال مجدوا المسيح على أنه المخلص، وأنكروا عقيدة اليهود على انه لم يأت بعد، وعندما أنشئت محاكم التفتيش أعفى البابوات من سلطتها القضائية اليهود الذين لم يتحولوا عن دينهم. وكانت المحكمة تستطيع أن تستدعي أمثال هؤلاء اليهود، بسبب مهاجمتهم للمسيحية، أو محاولتهم رد المسيحي إلى اليهودية فحسب. "إن اليهود الذين لم يكفوا قط عن إعلان إيمانهم باليهودية تركوا، إجمالاً، دون إزعاج" (7) من الكنيسة، ولكنهم لقوا الإزعاج من الدولة أو من الأهالي. وأصدر عدة بابوات مراسيم بقصد التخفيف عن حدة العداوة الشعبية. وبذل البابا كليمنت السادس جهداً شاقاً في هذا السبيل، فجعل مدينة أفنيون البابوية ملجأ رحيماً لليهود الفارين من الحكومة الوحشية في فرنسا (8). وفي 1419 أعلن مارتن الخامس إلى العالم الكاثوليكي:
"من حيث أن اليهود خلقوا على صورة الرب،
وان بقية منهم لا بد يوماً أن تخلص. ومن حيث
أنهم توسلوا إلينا لحمايتهم، فإننا سيراً على نهج
أسلافنا، نأمر بألا يزعجهم أحد في معابدهم،
وألا يهاجم أحد قوانينهم وحقوقهم وأعرافهم،
وألا يعمدوا قسراً، وألا يكرهوا على حضور
الأعياد المسيحية أو وضع شارات جديدة، وألا
يعترض سبيلهم في إقامة علاقات العمل بينهم وبين
المسيحيين (9).(26/134)
وأصدر يوجينيوس الرابع، ونيقولا، كما سنرى، تشريعاً مقيداً لليهود، ولكن بالنسبة لسائر البابوات كما يقول جرايتز "من بين سادة إيطاليا كان البابوات أكثرهم وداً وصداقة لليهود" (10) وكثير منهم: الإسكندر السادس، يوليوس الثاني، ليو العاشر- تجاهلوا المراسيم القديمة، وعهدوا بحياتهم إلى أطباء يهود. وشاد كتاب يهود معاصرون، شاكرين، بالأمن الذي تمتع به قومهم في ظل بابوات أسرة مديتشى (11). وكان أحدهم وهو كليمنت السابع، "صديقاً كريماً لإسرائيل (12).
ويقول مؤرخ إسرائيلي عالم:
إن هذا كان ذروة عصر النهضة. واعتبر جماعة
متعاقبة من البابوات المثقفين المهذبين المترفين
المشهود لهم بالحكمة في روما أن تقدم الثقافة جزء هام
من عملهم في تعزيز المصالح الدينية للكنيسة
الكاثوليكية. "ولذلك اتجهوا من أواسط القرن
الخامس عشر، فما بعده، إلى التغاضي عن التفاصيل
المزعجة في القانون الكنسي .... وإلى إظهار التسامح
الكبير مع غير الكاثوليك. وكان رجال المصارف
المقرضون اليهود يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الحركة
الاقتصادية في ممتلكاتهم، على حين أن البابوات وهم
رجال دنيا واسعوا الآفاق، قدروا كل التقدير مناقشتهم
مع الأطباء اليهود وغيرهم ممن اتصلوا بهم. ومن ثم
فإن هؤلاء البابوات أهملوا إهمالاً يكاد يكون تاماً كل
التعليمات والقواعد التي كان آباء الكنيسة قد أصدروها،
وصنفها في عداد القوانين مجلساً لاتيران الثالث
والرابع. ولما رأى سائر إيطاليا هذا المثل(26/135)
الرائع أمام أعينهم- أمراء مديتشى في فلورنسه،
إستنسى في فيرارا، جنزاجو في منتوا، حذوا إلى
حد كبير حذو البابوات. إن اليهود، ولو أنهم قد
أزعجتهم بين الحين والحين فترات من العنف
أو التعصب- مثال ذلك عندما سيطر سافونا رولا
على فلورنسه 1497 - امتزجوا بجيرانهم وشاركوهم
حياتهم، بدرجة لا يكاد يكون لها مثيل من قبل.
وقاموا بنصيب ممتاز في جوانب معينة في النهضة ...
عكسوها في حياتهم هم أنفسهم وفي أنشطتهم الأدبية
باللغة العبرية، وأسهموا بإضافات هامة في الفلسفة
والموسيقى والمسرح. وكانوا شخصيات حبيبة
في بلاط كثير من المراء الإيطاليين (13).
إن بعضاً من الشخصيات التي كانت يوماً مشهورة لتكشف لنا عن هذه الفترة المشرقة في العلاقات بين المسيحيين واليهود. ولد إمانويل بن سولومون الحارومي (الرومي) وفي نفس السنة التي ولد فيها دانتي (1265) وأصبح صديقاً له، وكان رجلاً من رجال النهضة قدر ما يستطيع يهودي مخلص أن يكونه. وكان يحترف الطب، كما كان واعظاً، وعالماً دينياً، وعالماً من علماء النحو، ومن المشتغلين بالعلوم، ومن أصحاب المال والأعمال، وشاعراً، و "مؤلفاً لأغان ماجنة كثيراً ما جاوزت حدود الحشمة" (14). ولما كان يتقن العبرية كل الإتقان: فإنه أدخل إلى هذه اللغة المقطوعة الشعرية ذات الأربعة عشر بيتاً ( Sonnet) وكاد ينافس الإيطاليين في الفصاحة والسلاسة والروح، ولم يظهر أي شاعر يهودي قط قبل "هين" مثل ما أظهر إمانويل من موهبة الهجاء والروعة والذكاء. وربما كان إمانويل قد تشرب بعض مبادئ مذهب ابن رشد في الشك،(26/136)
الذي ساد في ذاك العصر، فإن إحدى قصائده تعبر عن نفوره من السموات بما فيها من أناس أطهار (ذهب إلى أن النساء الدميمات الخلقة هن فقط الفضليات)، وعن إيثاره للجحيم، حيث توقع أن يجد فيها أكثر الجميلات إغراء في كل الأزمان. وألف في شيخوخته قصيدة ضعيفة يقلد فيها دانتي في "السماء والجنة". ولم يكن ثمة في اليهودية مطهر، مثلها في ذلك مثل المذهب البروتستانتي. وكان إمانويل أكرم من دانتي، فأفسح في الجنة مجالاً لكل "الأبرار في العالم بأسره" (15)، متبعاً في ذلك نهج تقاليد أحبار اليهود. على أنه أدخل أرسطو إلى الجحيم لأنه انتهى إلى خلود الكون.
وثمة روح مرح جذل شبيهة بهذا الذي أسلفنا، أضفت سلاسة وحيوية على كتابات كالونيموس بن كالونيموس، وشاهد روبرت ملك نابلى في إحدى زياراته لبرفانس هذا العالم الصغير ذا الاسم الجميل، وأخذه معه إلى إيطاليا. وكان كالونيموس في البداية متفرغاً إلى العلوم والفلسفة، وترجم أرسطو وأرشميدس وبطليموس وجالن والفارابي وابن رشد إلى العبرية، وكتب بروح أخلاقية عالية. ولكنه وجد أنه من اليسير عليه أن يتمثل طباع المرح والبهجة في نابولي ويتشربها. فلما انتقل إلى رومه أصبح هوراس اليهود (شاعر روماني في القرن الأول ق. م) يهجو هجاء لطيفاً أخطاء المسيحيين واليهود وأخطاءه هو نفسه، ونقاط الضعف فيهم وفي شخصه. وندب حظه لأنه ولد رجلاً، فإنه لو كان امرأة، لما كان عليه أن يطيل التنقيب والتفكير في التوراة والتلمود ويحفظ مبادئ القانون البالغ عددها 613. وسخرت روحه المرحة من التلمود. وتوحي الشعبية التي حظي بها هجاؤه لدى اليهود الرومان بأنهم لم يكونوا أنقياء متدينين بالقدر الذي كان عليه أخوانهم الأكثر شقاء في سائر البلاد.
ولم تحي النهضة الدراسات اليونانية فحسب بل العبرية كذلك. ودعا الكاردينال أجديو دي فيتربو العالم اليهودي إيليا لفيتا من ألمانيا إلى رومة(26/137)
(1509)، وبقى العالم اليهودي ثلاثة عشر عاماً ضيفاً مكرماً في قصر الكاردينال يعلمه العبرية، ويتلقى عنه اليونانية. وبفضل جهود إجديو، ورخلين، وآخرين من التلامذة المسيحيين الذين يتلقون العلم عن المعلمين اليهود، أنشئت كراسى اللغة العبرية، في كثير من الجامعات والأكاديميات في إيطاليا. وحظي إيليا دل مديجو الذي كان يعلم العبرية في بادوا بتقدير عظيم هناك، رغم رفضه التحول عن دينه، إلى حد أنه لما حدث خلاف عنيف بين الطلبة المسيحيين حول بعض الشئون الثقافية، عينت السلطات الجامعية والسناتو في البندقية دل مديجو للتحكيم، فعالج الموضوع بحزم ولباقة، وخرج الجميع راضين. ودعاه بيكو دللا ميراندولا ليعلم العبرية في فلورنسة، وهناك انضم إيليا إلى الحلقة الإنسانية لأسرة مديتشى، ولا زلنا نراه من بين الشخصيات التي رسمها بينوتزو جوتزولى على جدران قصر مديتشى. ولم يشجع هذا العالم فكرة بيكو عن وجود بعض عقائد مسيحية في "القبالة" (1)، بل على النقيض من ذلك، سخر من سفر الرؤيا على أنه مجموعة من سخافات حمقاء.
وكان اليهود القاطنون في شمال جبال الألب أقل حظاً من اليهود إيطاليا. فقد طردوا من إنجلترا في سنة 1290، ومن فرنسا في سنة 1306، ومن فلاندرز في سنة 1370. ودعوا إلى فرنسا ثانية في 1315 شريطة أن يعطوا الملك ثلثي أي مال يكونون قد جمعوه من فوائد القروض التي عقدوها قبل طردهم (16). وما أن انتهت مكاسب الملك من هذه العمليات حتى نفى اليهود ثانية في سنة 1321. وعادوا في الوقت الناسب ليلقوا التأنيب على "الموت الأسود" ويحملوا مسئوليته، ونفوا مرة أخرى (1349)، وأعيدوا من
_________
(1) Cabala فلسفة دينية سرية ابتدعها بعض أحبار اليهود، قائمة على تفسيرات غامضة للكتاب المقدس (المترجم)(26/138)
جديد (1360) ليقدموا قروضاً مالية ويسهموا بمهارتهم، عوناً منهم على افتداء ملك فرنسا الذي أسر في إنجلترا. ولكن في عام 1394 اختفى في ظروف غامضة إسرائيلي ارتد إلى المسيحية. واتهم اليهود بقتله، واعترف بعض اليهود تحت وطأة التعذيب، بأنهم كانوا قد نصحوا هذا المرتد بالعودة إلى اليهودية، وثار الرأي العام، وأمر شارل السادس كارهاً، بنفي الجنس المنهوك ثانية.
وكان في براغ جالية يهودية قوية، ذهبوا إلى هناك ليستمعوا إلى عظات رائد "هس (1) " وهو ميلز Miliez، لأنه أظهر اطلاعاً واسعاً وتقديراً كبيراً للتوراة. ودرس هس العبرية، وقرأ التعليقات العبرية، واقتبس عن راشى وموسى بن ميمون. وأطلق التابوريون الذين مضوا بإصلاحات هس أشواطاً حتى باتت قريبة من الشيوعية- على أنفسهم "الشعب المختار" وأطلقوا أسماء "إدوم، ومؤاب، وعمالق"، على الولايات الجرمانية التي شنوا عليها الحرب. ولم تكن جيوش هس، على أية حال، تستنكف عن قتل اليهود، عندما استولوا على براغ (1421)، ولم يتركوا لهم الخيار: الارتداد أو الجزية، مثل المسلمين، بل إن أيسر خيار كان: الارتداد إلى المسيحية أو الموت (17).
ومن كل الدول المسيحية تأتي بولندة في المحل الثاني بعد إيطاليا في حسن وفادتها لليهود، وفي 1098، 1146، 1196 هاجر يهود كثيرون من ألمانيا إلى بولندة، فراراً من الموت على أيدي الصليبيين، ولقوا ترحيباً وازدهرت أحوالهم هناك، وفي 1207 أصبح بعضهم يمتلك ضياعاً واسعة. وفي 1264 منحهم الملك بوليسلاف التقي صكاً بالحقوق المدنية. وبعد الموت
_________
(1) Huss أحد رجال الإصلاح الديني وأحد الشهداء في بوهيميا (1369 - 1415). (المترجم)(26/139)
الأسود انتقل عدد أكبر من الألمان إلى بولندة، ورحبت بهم هناك الأرستقراطية الحاكمة، بوصفهم خميرة تقدمية اقتصادية في أمة لازالت تفتقر إلى طبقة وسطى. وثبت كازيمير الثالث الأكبر (1333 - 1370) حقوق اليهود البولنديين ووسعها، وضمن الدوق الأعظم فيتوفست Vitovst هذه الحقوق ليهود لتوانيا. ولكن في 1407، أبلغ أحد الكهنة شعب الكنيسة في كراكاو أن اليهود قد قتلوا طفلاً مسيحياً، وأخذوا يمتعون أنظارهم بدمه. وحرض هذا الاتهام على وقوع المذابح. وجدد كازيمير الرابع حريات اليهود وزاد فيها (1447)، وقال: "نريد أن يشعر اليهود الذين نرغب في أن نحميهم من أجل مصلحتنا، ومصلحة خزانة الدولة- أن يشعروا بالراحة في ظل حكمنا الخير" (18). واتهم رجال الدين الملك، وأنذره أولسنيكى رئيس الأساقفة بسوء المصير في الجحيم، وألقى يوحنا كابسترانو، الذي جاء إلى بولندة ممثلاً للبابا، خطباً ملتهبة مثيرة في سوق بلدة كراكاو (1453)، ولما هزم الملك في الحرب ارتفعت الصيحات بأن عقاب الله قد نزل به لمساندته الكفار. ومذ كان في حاجة إلى تأييد رجال الدين للدخول في حرب أخرى، فإنه ألغى صك حريات اليهود. ووقعت المذابح المنظمة في 1463، 1494، وربما كان لمنع هذه الهجمات أن طلب إلى يهود كراكاو بعد ذلك أن يقطنوا ضاحية "كازيمييريه".
وفي تلك الضاحية وفي غيرها من المراكز في بولندة ولتوانيا، زاد اليهود عدداً وازدهاراً بعد أن ذللوا كل العقبات، وفي عهد سجسمند الأول أعيدت لهم حرياتهم فيما عدا حرية الإقامة. وظلوا على علاقة طيبة مع سجسمند. وفي 1556 اتهم ثلاثة من اليهود في بلدة سوخاشيف، بطعن "القربان المكرس" حتى أدمى، وأعلنوا براءتهم، ولكنهم أعدموا حرقاً بأمر من أسقف خلم Khelm. واستنكر سجسمند الثاني هذه العملية على أنها "أكذوبة دينية" قصد بها أن يثبت لليهود والبروتستانت أن الخبز المقدس كان قد تحول(26/140)
فعلاً إلى جسد المسيح ودمه، وقال الملك "لقد صعقت لهذه الجريمة البشعة، وإني لا يعوزني حسن الإدراك إلى حد يجعلني أومن بأنه يمكن أن يكون هناك دم في القربان (19)، ولكن بموت هذا الملك المتشكك، انتهت فترة المشاعر الطيبة بين الحكومة واليهود في بولندة.
وعاش اليهود حقبة من الزمن في سلام في ألمانيا في العصور الوسطى. وعملوا بجد ونشاط على طول المنافذ التجارية النهرية الكثيرة، وفي المدن الحرة والثغور، وحتى رؤساء الأساقفة أنفسهم كانوا يطلبون ترخيصاً من الإمبراطور لإيواء اليهود. وبمقتضى المرسوم البابوي (1355) شارك الإمبراطور شارل الرابع الناخبين الإمبراطوريين امتيازهم في الانتفاع باليهود، أي حق الناخبين في استقبال اليهود في دوائرهم، وحمايتهم واستخدامهم، وابتزاز أموالهم. وفي ألمانيا، كما كان الحال في إيطاليا، تلهف الطلاب على تفهم التوراة في نصوصها الأصلية ومن ثم درسوا العبرية. وحفز النزاع بين رخلين وبفركورن إلى هذه الدراسة، كما قوت طباعة التلمود كاملاً لأول مرة (1520) من هذا الحافز.
وبلغ تأثير اليهودية ذروته في الإصلاح الديني. ومن الوجهة الدينية، كان هذا الإصلاح رجوعاً إلى أصل العقيدة البسيطة والأخلاق الصارمة في صدر المسيحية اليهودية. فإن عداء البروتستانتية للصور الدينية والتماثيل، كان عوداً إلى عداء السامية "للصور المنحوتة". واحتفلت بعض الفرق البروتستانتية بيوم السبت (مثل اليهود). وإن إنكار عبادة العذراء، وعبادة القديسين ليقترب كثيراً من التوحيد الصارم عند اليهود. كما أن ارتضاء القساوسة الجدد للزواج والجنس، جعلهم أشبه بأحبار اليهود، منهم بالكهنة الكاثوليك. إن نقاد رجال الإصلاح الديني اتهموهم "بالتهود"، وأسموهم "أشباه اليهود" أو "أنصاف اليهود" (20). وقال كارلستاد نفسه إن ملانكتون (من رجال الإصلاح اللوثري في ألمانيا) أراد أن يرجع إلى موسى(26/141)
وشريعته. وضم كلفن تهمة "التهود" إلى آثام سرفيتس السيئة، وسلم الأسباني بأن دراساته العبرية أثرت عليه في مناقشة لاهوت التثليث. وأعاد حكم كلفن في جنيف إلى الأذهان تسلط الكهنة في إسرائيل القديمة. واتهم زونجلى بأنه متهود لأنه درس العبرية مع اليهود، وبنى كثيراً من عظاته وتعليقاته على النص العبري للتوراة. واعترف بأنه مفتون باللغة العبرية:
لقد ألفيت "اللغة المقدسة" فوق كل ما يعتقده الناس، لغة مهذبة رشيقة جليلة. وعلى الرغم من فقرها في عدد الكلمات، فإن أحداً لا يشعر بهذا النقص، لأنها تستخدم حصيلتها من الألفاظ بأساليب شتى. والحق أنى قد أجرؤ على القول بأن الإنسان إذا أدرك جلالها ورشاقتها، لوجد أنه ليس هناك لغة أخرى تستطيع أن تعبر عن الكثير بمثل هذا العدد القليل من الألفاظ، وبمثل هذه التعابير القوية. وليس ثمة لغة مثلها غنية بأساليب التصوير المتعددة الجوانب الزاخرة بالمعاني. وليس هناك لغة مثلها تبهج القلب وتنفذ إليه بسرعة (21).
ولم يكن لوثر متحمساً إلى مثل هذا الحد. وقال شاكياً: "كيف أبغض قوماً يقحمون على الناس لغات كثيرة كما يفعل زونجلي، فقد تحدث على المنبر باليونانية والعبرية في همبرج" (22). وهاجم لوثر في نزق شيخوخته وخرفه، اليهود وكأنه لم يتعلم منهم شيئاً. وليس ثمة إنسان بطل في رأى دائنه. وفي نشرة عن "اليهود وأكاذيبهم" (1542) أفرغ لوثر وابلاً من الحجج ضد اليهود، على أنهم كانوا قد أبوا أن يرتضوا المسيح إلهاً، وأن ما عانوا طوال حياتهم أثبت غضب الله عليهم، وأنهم دخلاء على أراضي المسيحيين، وأنهم كانوا وقحين في ثرائهم القائم على الربا، وأن التلمود أجاز الخداع والسرقة والسلب وقتل المسيحيين، وانهم سمموا العيون والآبار، وذبحوا(26/142)
أطفال المسيحيين ليستخدموا دماءهم في الطقوس الإسرائيلية. وقد رأينا في دراستنا له في شيخوخته كيف أنه نصح الألمان بإحراق بيوت اليهود، وإغلاق معابدهم ومدارسهم، ومصادرة ثرواتهم، وتجنيد رجالهم ونسائهم في أعمال السخرة، وأن يخير جميع اعتناق المسيحية أو قطع ألسنتهم. وفي عظة ألقاها قبل موته بوقت قصير، أضاف أن الأطباء اليهود كانوا يتعمدون تسميم المسيحيين (23). وساعدت هذه التصريحات على أن تجعل البروتستانتية- وهي المدينة كثيراً لليهودية- أشد عداوة للسامية من الكاثوليكية الرسمية، ولو أنها ليست في هذا المجال أكثر من جماهير الكاثوليك الذين أثروا على الناخبين في سكسونيا وبراندنبرج ليطردوا اليهود من هذه البقاع (24). لقد أشاعوا هذه النغمة في ألمانيا على مدى عدة قرون، وأعدوا شعبها لإبادة الجنس حرقاً.
2 - على السفود
لماذا كان المسيحيون واليهود يمقتون بعضهم بعضاً؟ لا ريب أنه كان هناك سبب يسود بينهم باستمرار، ذلك هو الصراع الحاد بين العقائد الدينية، حيث كان اليهود يشكلون تحدياً ثابتاً معمراً للمعتقدات المسيحية الأساسية.
وأدى العداء الديني إلى فصل عنصري جاء في أول الأمر طوعاً، ثم بات قسراً فيما بعد، حيث انبثق في إنشاء أول حي يهودي في سنة 1516. وأبرز هذا الفصل العنصري الاختلافات في اللباس وطرق الحياة والملامح والصلاة والكلام. وشجع هذا التباين على عدم الثقة والخوف المتبادلين بين الطرفين. وولد هذا الخوف كراهية. وحول اليهود ما ألفوا من منع زواجهم من المسيحيين مفخرة لهم. وتمخض اعتزازهم بجنسهم عن تباهيهم بأنهم سلالة ملوك قد حكموا إسرائيل ألف سنة قبل ظهور المسيح. واحتقروا المسيحيين بوصفهم مشركين يؤمنون بالخرافات، وأنهم يتصفون بشيء من(26/143)
بطئ الفهم، ولكنهم يتشدقون بعبارات ملؤها الرياء المهذب على حين يأتون بأعمال وحشية لا يستشعرون فيها الرحمة، ويعبدون "أمير سلام" على حين يشن الأخوة الحرب تلو الحرب ضد أخوتهم. كما احتقر المسيحيون اليهود على أنهم كفرة غرباء لا يؤلفون. ويروي توماس مور قصة سيدة تقية صعقت عندما علمت أن السيدة العذراء كانت أصلاً يهودية، فاعترفت بأنها لن تستطيع بعد ذلك أن تكن "لأم الإله" ما كانت تكنه لها من حب من قبل (25).
وأصبحت قصة القربان المقدس مأساة لليهود. فقد طلب إلى المسيحيون أن يؤمنوا بأن الكاهن كان يحول رقائق الخبز غير المخمر إلى جسد المسيح ودمه، وقد ارتاب في هذا بعض المسيحيين، مثل "طائفة المتمتمين (1) "، وربما أمكن أن يقوى من هذا الاعتقاد ما روى من قصص عن بعض رقائق الخبز المكرس التي تقطر دماً عند أية وخزة من سكين أو دبوس. ولكن من ذا الذي يقدم على هذه الفعلة الشنيعة غير اليهود؟ وفي القرون الخيرة من العصور الوسطى كانت مثل هذه الأساطير التي تروي عن القربان الذي يقطر دماً كثيرة جداً. وفي حالات عديدة: في نيوبرج (بالقرب من باسو) 1338، وفي بروكسل 1369، أدت هذه المزاعم إلى ذبح اليهود وإحراق بيوتهم. وأقيم في كاتدرائية سانت جود ول في بروكسل مصلى خاص لتخليد ذكرى القربان الذي أدمى 1369، واحتفل بهذه المعجزة سنوياً في عيد يطلق عليه Flemish Kermess، (26) . واعترف أحد الكهنة في نيوبرج بأنه كان قد غمس قرباناً غير مكرس في الدم وخبأه في إحدى الكنائس ثم اتهم
_________
(1) Lollards جماعة من المصلحين السياسيين والدينيين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وهم في إنجلترا اتباع جون ويكلف الذي استقت نظرياته كثيراً من نقاط الإصلاح البروتستانتي الذي جاء فيما بعد. (الترجمة)(26/144)
اليهود بطعنه (27). وينبغي أن نضيف إلى هذا أن رجال الكنيسة المستنيرين مثل نيقولا أوف كوزا دمغ أساطير هجمات اليهود على القربان بأنها ضروب من القسوة مخزية.
واستترت المنافسات الاقتصادية وراء العداء الديني. فعلى حين امتثل المسيحيون لأمر البابا بتحريم الفوائد الربوية، حصل اليهود على ما كاد يكون احتكاراً لإقراض النقود في العالم المسيحي. ولما تجاهل بعض أصحاب المصارف المسيحيين هذا التحريم، هبت شركات مثل Strozzi, Pitti, Bordi في فلورنسه، وولزرز Fuggers, Hochstetters, Welsers في أوجزبرج، هبت تتحدى هذا الاحتكار، ومن ثم تركزت هنا إثارة جديدة للخواطر، وتقاضى الطرفان, المسيحيون واليهود، كلاهما نسبة عالية من فوائد القروض، مما يعكس المغامرة بإقراض النقود في اقتصاد غير مستقر، زاد من زعزعته ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة. وغامر المقرضون اليهود أكثر مما فعل منافسوهم. وباتت ديون اليهود على المسيحيين غير محققة وغير مأمونة تكتنفها مخاطرة كبيرة، فقد تعلن السلطات الكنسية تأجيل الدفع، كما حدث في الحروب الصليبية، وربما فرض الملوك، وقد فرضوا بالفعل، على اليهود ضرائب يصادرون بها أموالهم، أو ابتزوا القروض منهم قسراً وإلا طردوهم وأحلوا مدينيهم من ديونهم أو تقاضوا نصيباً من المسموح بجمعه من الأموال. وفي شمال الألب ظلت كل الطبقات تقريباً، فيما عدا رجال الأعمال، تعتبر الفائدة رباً، ودمغوا بالإجرام أصحاب المصارف اليهود، وخاصة من يقترضون منهم. ومذ كان اليهود بصفة عامة أكثر رجال المال خبرة وتجربة، فقد استخدمهم الملوك في كثير من الأقطار لإدارة الشئون المالية في الدولة. وكانت رؤية اليهود الأثرياء يتقلدون مناصب مريحة ويجمعون الضرائب من الناس تثير استياء الشعب وسخطه.(26/145)
ومع هذا كله، رحبت بعض المجتمعات المسيحية بأصحاب المصارف من اليهود: وقدمت لهم فرانكفورت امتيازات خاصة شريطة تقاضيهم نسبة32% فقط، على حين تقاضوا من آخرين 43% (28)، وقد نرى في هذا ما يثير نفورنا الشديد، ولكنا نسمع عن مقرضي نقود مسيحيين بلغ ما تقاضوه 266%، وتقاضى آل هولز هورز في نورمبرج 220% في 1304، وتقاضى المقرضون المسيحيون في برنديزي 240% (29). كما نسمع عن مدن طالبت بعودة أصحاب المصارف اليهود باعتبارهم أكثر تساهلاً ورفقاً من نظرائهم المسيحيين. واشترطت رافنا، في معاهدة مع البندقية، وجوب إرسال ماليين يهود إليها لفتح حسابات مصرفية للنهوض بالزراعة والصناعة (30).
وأضافت الروح القومية نغمة جديدة إلى أنشودة البغض والكراهية. وذهبت كل أمة إلى أنها بحاجة إلى وحدة عرقية ودينية. وطالبت بامتصاص اليهود فيها أو تحولهم عن دينهم. وكانت عدة مجالس كنسية، كما كان بعض البابوات يكرهون اليهود بشكل يتسم بالعدوان. وحرم مجلس فيينا (1311) أي تعامل بين المسيحيين واليهود. واستن مجلس زمورا (1313) قاعدة بأن يبقوا في حالة خضوع وعبودية صارمة. وجدد مجلس بال (1431 - 1433) القوانين الكنسية التي تحرم على المسيحيين معاشرة اليهود، أو خدمتهم، أو استخدامهم كأطباء، وأصدرت التعليمات إلى السلطات المدنية بعزل اليهود في أحياء مستقلة، وإلزامهم بوضع شارة مميزة، والتحق من حضورهم عظات تهدف إلى تحويلهم عن دينهم (31). ولم يطق البابا يوجينيوس الرابع، الذي كان في نزاع مرير مع مجلس بال، أن يتفوق عليه هذا المجلس في إزعاج اليهود، فأكد التجريد من الحقوق الذي وضعه هذا المجلس، وأضاف أنه يجب ألا يكون اليهود مؤهلين لأية وظيفة عامة، وألا يرثوا أية ممتلكات مسيحية، وألا يشيدوا مزيداً من المعابد، وأن يقبعوا في دورهم خلف الأبواب والنوافذ المغلقة(26/146)
في أسبوع الآلام، (احتياط حكيم ضد عنف المسيحيين)، أضف إلى ذلك أنه لا يعتد قانوناً بشهادة اليهود ضد المسيحي. وشكا يوجينيوس من أن بعض اليهود افتروا على يسوع ومريم في أحاديثهم. ويحتمل أن هذا كان صحيحاً (32). فإن الكراهية تولد الكراهية. وأصدر يوجينيوس بعد ذلك موسوماً آخر يقضي بأنه وجد يهودي يقرأ التلمود، فلابد من مصادرة أملاكه. وفوض البابا نيقولا الخامس القديس يوحنا كابسترانوا (1447) ليراقب أن كل مادة في هذا التشريع المذل توضع يده على ممتلكات أي يهودي تولى علاج فرد مسيحي (33).
وعلى الرغم من كل هذه المراسيم كان سلوك جمهور المسيحيين مع اليهود يتسم بتلك الروح الطيبة التي تسيطر على كل الناس تقريباً، رجالاً ونساء. بل وعلى الحيوانات، إذا لم يعترض سبيلهم أو يمس مصالحهم شيء. ولكن من الجائز أن يوجد في معظم الجماعات أقلية لا تتورع عن ممارسة أعمال القسوة إذا أمكن القيام بها مع الإفلات من العقوبة بصفة جماعية. ومن هذا القبيل جماعة "الباستير"، وقد نشئوا كرعاة مرتبطين بالأرض المقدسة، وجذبوا أنظار الدهماء من الناس لدى مرورهم بفرنسا (1320)، فقد عقدوا العزم على قتل كل من يصادفهم من اليهود الذين رفضوا التعميد. وفي تولوز اعتصم نحو 500 من اليهود بأحد الأبراج، فحاصرهم حشد هائج من الغوغاء، وخيروهم بين التعميد أو الموت، وحاول محافظ المدينة عبثاً إنقاذهم. ولما أدرك اللاجئون أن المقاومة ضرب من المحال، أمروا نفراً من الأقوياء فيهم بأن يذبحوهم. وقيل إنهم جميعاً بهذه الطريقة لقوا حتفهم فيما عدا واحداً، عرض الإبقاء على حياته، مع الإذعان للتعميد، ولكن الحشد الثائر مزقه إرباً. وبمثل هذه الطريقة استأصل نحو 120 جالية يهودية في جنوب فرنسا وشمال أسبانيا ولم يخلفوا وراءهم إلا بقية معدمة (34). وفي 1321 أحرق في شينون(26/147)
120 يهودياً بتهمة تسميم الآبار (35)، وفي 1336 أعلن أحد المتعصيين الألمان أنه تلقى الوحي من عند الله يأمره بقتل اليهود ثأراً لموت المسيح، فجمع حوله نحو خمسة آلاف من الفلاحين، أطلقوا على أنفسهم اسم Armleder نسبة لشريط من الجلد ربطوه حول أذرعهم، وجلسوا خلال الألزاس وأراضي الراين، وقتلوا كل يهودي عثروا عليه. واجتاحت حمى القتل بافاريا وبوهيميا ومورافيا والنمسا (1337) وحاول البابا بندكت الثاني عشر وقفها دون جدوى، ولكن في راتسبون وفيينا فقط أمكن حماية اليهود بطريقة فعالة، أما في الأماكن الأخرى فقد عذب الآلاف من اليهود وقتلوا (36).
وكان الموت السود كارثة خاصة حلت باليهود في العالم المسيحي. لقد أودى الطاعون نفسه بحياة المغول والمسلمين في آسيا، وهناك لم يفكر أحد في إلقاء اللوم على اليهود، ولكن في أوربا الغربية حيث جن جنون الأهالي لهول الوباء وما أحدثه من دمار، اتهم اليهود بتسميم الآبار في محاولة لاستئصال المسيحيين. ونسج الخيال المسعور كثيراً من التفاصيل. فقيل بأن يهود طليطلة أرسلوا رسلهم بصناديق ملآى بالسم الذي صنعوه من السحالي والعظاءات (نوع من الزواحف) وقلوب المسيحيين، إلى جميع الجاليات اليهودية في أوربا، مع توجيهات بإلقاء هذه السموم المركزة في الآبار والعيون. ودمغ الإمبراطور شارل الرابع هذا الاتهام بالسخف الذي لا يعقل، وكذلك فعل البابا كليمنت السادس (37)، وأيد كثيرون من عمد المدن والمجالس البلدية هذا الرأي، ولكن ذلك كله لم يأت بنتيجة تذكر، وساد بين المسيحيين اعتقاد باطل بأن الطاعون لم يكن يمس اليهود بسوء. وربما كانت الحمى في بعض المدن أقل فتكاً باليهود منها بالمسيحيين. تبعاً لاختلاف القوانين الصحية والرعاية الطبية (38) , ولكن في بعض الأماكن مثل فيينا، راتسبون، أفنيون، روما، عانى اليهود من الطاعون ما عانى(26/148)
المسيحيون (39)، ومع ذلك عذب اليهود حتى اعترفوا بتوزيع السم (40). وأغلق المسيحيون آبارهم وعيونهم، وشربوا ماء المطر أو الثلج المذاب، وانتشرت المذابح الرهيبة في فرنسا وأسبانيا وألمانيا. وفي إحدى المدن في جنوب فرنسا ألقيت الجالية اليهودية بأسرها في النار. وأحرق كل اليهود في سافوي، وحول بحيرة ليمان وفي برن وفريبورج وبروكسل. ومرة أخرى استنكر كليمنت السادس هذا الإرهاب وهذه التهمة, وأعلن براءة اليهود، وأشار إلى أن الطاعون كان شديداً حيث لا يوجد يهود، قدر شدته في أي مكان آخر، وحث رجال الدين على أن يكبحوا جماح الناس في أبرشياتهم، وحرم من الكنيسة كل من قتل اليهود أو اتهمهم ظلماً وافتراء، ولكن في ستراسبورج، على أية حال، شارك الأسقف في توجيه الاتهام، وحرض المجلس البلدي، على كره من المجلس، على أن ينفى كل اليهود. ورأى الجمهور أن هذا الإجراء معتدل، فطرد المجلس وعين مجلساً غيره، أمر بالقبض على كل اليهود في المدينة، وهرب بعض هؤلاء إلى الريف ولكنهم لقوا حتفهم بأيدي الفلاحين. وبقى ألفان من اليهود في المدينة فأودعوا السجون، وفرض عليهم التعميد، فأذعن نصفهم، ورفض الباقون فأحرقوا (14فبراير 1439). وبلغ مجموع من أبيدوا نحو 510 جاليات يهودية في أوربا المسيحية نتيجة هذه المذابح (41). وهلك عدد أكبر من ذلك، ففي سرقسطة على سبيل المثال، عاش واحد من بين كل خمسة من اليهود بعد الموت الأسود وما صحبه من اضطهادات (42). وقدر لي Lea أن 3000 من اليهود قتلوا في أرفورت، 12000 في بافاريا (43). وفي فيينا بناء على نصيحة الحبر جونة Jonah تجمع كل اليهود في المعبد وقتلوا أنفسهم بأيديهم، وحدث مثل هذا الانتحار الجماعي في ورمز، أوبنهايم، كرمز Krems، فرانكفورت (44). وحمل الذعر آلافاً من اليهود على الفرار من أوربا الغربية إلى بولندة أو تركيا. وقد يكون من(26/149)
العسير أن نعثر، قبل زماننا أو في سجلات للوحشية، على أية أعمال أشد وحشية من قتل اليهود بالجملة في الموت الأسود.
وزحف اليهود الذين عمروا بعد الموت الأسود، وئيداً إلى المدن التي كانت قد سلبتهم، وأعادوا بناء معابدهم، ولكن اشتد شعور الكراهية نحوهم، حيث نسب الخطأ إليهم. وفي 1385 أودع السجون كل اليهود في مدن "العصبة السوابية" وعددها36 مدينة، ثم أطلقوا سراحهم على شريطة إلغاء كل الديون التي لليهود، ونال هذا الإجراء كل الرضا في نورمبرج بصفة خاصة لأنها كانت قد اقترضت منهم ما يعادل نحو 700. 000 دولار (45). وفي 1389 ذبح عدد من اليهود بتهمة أنهم كانوا قد انتهكوا قدسية قربان مكرس. وبنفس التهمة أحرق 14 يهودياً في بوتزن (1399) (46). ولأسباب مختلفة طرد اليهود من كولون (1424)، ومن سيبير Speyer (1435) ، ومن ستراسبورج وأوجزبرج (1439)، ومن ورزبرج (1498)، ومن أولم (1499). وأقر مكسيمليان الأول طردهم من نورمبرج على أساس أنهم "قد كثر عددهم وأنهم بفضل معاملاتهم الربوية وضعوا أيديهم على ممتلكات كثير من أفاضل المواطنين، وجروهم إلى مهاوي البؤس والعار" (47). وفي 1446 أودع كل اليهود في نطاق براندنبرج السجون وصودرت بضائعهم باتهامات دمغها ستيفن أسقف المدينة بأنها تخفي وراءها الجشع والطمع، "لقد تصرف تصرفا جائراً أولئك الأمراء الذين دفعهم جشعهم المفرط إلى القبض تصرفاً جائراً أولئك في غياهب السجون دون مبرر عادل. وهم يرفضون أن يعوضوهم عما ابتزوا منهم" (48). وفي 1451 فرض نيقولا كاردينال كوزا, وهو من أكثر الرجال استنارة في القرن الخامس عشر، على اليهود المقيمين في حدود ولايته وضع الشارة. وبعد ذلك بعامين بدأ يوحنا كابسترانو بوصفه ممثلاً للبابا نيقولا الخامس،(26/150)
مهمته في ألمانيا وبوهيميا ومورافيا وسيلزيا وبولندة. واتهم في عظاته الملتهبة اليهود بقتل الأطفال وتدنيس القربان، وهي اتهامات كان قد دمغها البابوات بأنها خرافات قتالة. وأخرج أدواق بافاريا كل العبرانيين من دوقيتهم بعد أن ألهبهم "سوط اليهود". هذا. أما جودفري أسقف ورزبرج الذي كان قد منح اليهود امتيازاتهم كاملة في فرانكونيا، فإنه عاد الآن فنفاهم، وفي المدينة تلو المدينة قبض عليهم وألغيت كل الديون التي كانت لهم. وفي برسلار سجن عدد من اليهود بناء على طلب كابسترانو, وأشرف هو بنفسه على التعذيب الذي انتزع من بعضهم أي اعتراف أمر كابسترانو بالإدلاء به، وعلى أساس هذا الاعتراف أعدم أربعون منهم حرقاً (2 يونية 1453). ونفى اليهود الباقون، ولكن أطفالهم انتزعوا منهم وعمدوا بالقوة (49). وضم كابسترانو إلى القديسين 1690.
وإن محنة اليهود في راتسبون لتوضح حقيقة هذا العصر. فقد زعم هانز فوجل، وهو يهودي تنصر أن أحد الأحبار واسمه إسرائيل برونا، في الخامسة والسبعين من العمر كان قد ابتاع منه طفلاً مسيحياً وقتله، ليستخدم دمه في أحد الطقوس اليهودية. وآمن الناس بصحة الاتهام، وتعالت صيحاتهم مطالبين بعقوبة الموت للحبر العجوز. وألقى الإمبراطور فريدريك الثالث بالإفراج عنه. ولم يجرؤ المجلس على الامتثال للأمر، ولكنه قبض على فوجل، وأبلغه أنه لا مناص عن موته، وطلب إليه أن يعترف بخطاياه. فأقر أن برونا بريء، وأفرج عن الحبر. ولكن ترامت الأنباء إلى راتسبون عن اعتراف بعض اليهود تحت وطأة التعذيب بقتل طفل مسيحي في ترنت. وهنا نشا من جديد الاعتقاد بصحة اتهام فوجل، فأمر المجلس باعتقال كل يهود راتسبون ومصادرة بضائعهم، وتدخل فرديك، وفرض على المدينة غرامة قدرها ثمانية آلاف جيلدر، ووافق المجلس على إطلاق سراح اليهود(26/151)
إذا دفعوا هذه الغرامة، وفوقها مبلغ 10 آلاف جيلدر بصفة كفالة (250. 000 دولار؟). فأجاب اليهود بأن هذا المبلغ (18. 000 جيلدر) يزيد على كل ما تبقى لهم من ممتلكات، ومن ثم يتعذر عليهم دفعه. وقضوا في السجن عامين آخرين. ثم أطلق سراحهم بعد أن أقسموا اليمين بألا يغادروا راتسبون وألا يحاولوا الانتقام. على أن رجال الدين أهاجوا الشعور لطردهم وهددوا بالحرمان من الكنيسة كل تاجر يبيع اليهود شيئاً. ولم يبق في سنة 1500 سوى 24 أسرة يهودية، وطرد هؤلاء في 1519 (50).
ووصف طرد اليهود من أسبانيا، فيما أسلفنا من قبل، بأنه عملية مهمة بالنسبة لتاريخ تلك البلاد. وتجدد في البرتغال اضطهادهم عندما سمح البابا كليمنت السابع، بتحريض من شارل الخامس، للأساقفة البرتغاليين بإنشاء محكمة التفتيش (1531) بقصد فرض الشعائر المسيحية على "المسيحيين الجدد"، ومعظمهم من اليهود الذين كانوا قد عمدوا رغم إرادتهم. وطبق قانون توركيمادا الصارم، وبثت العيون والأرصاد لملاحظة ارتداد أي من المتنصرين إلى شيء من الطقوس الدينية اليهودية، وسجن الألوف من اليهود، وحرمت عليهم الهجرة، لأن مهامهم الاقتصادية كانت لا تزال ضرورية للاقتصاد البرتغالي. وحرم على المسيحيين شراء شيء من أملاك اليهود منعاً لهم من الهرب، وأرسل مئات من هؤلاء إلى المحرقة لمحاولتهم مغادرة البلاد، وصعق كليمنت لهذه الإجراءات، وربما أثرت فيه هدايا اليهود، فأبطل سلطة محكمة التفتيش البرتغالية، وأمر بإطلاق سراح كل من أمرت بسجنهم، وإعادة بضائعهم المصادرة. ونص مرسومه الصادر في 17 أكتوبر 1532 على بعض مبادئ إنسانية للتعامل مع المرتدين عن المسيحية.
لما كانوا قد سيقوا إلى التعميد قسراً، فلا يجوز أن يعتبروا أعضاء
في الكنيسة. وإن في معاقبتهم على الهرطقة والانتكاس
إلى شعائرهم الأولى، خرقاً لمبادئ الإنصاف والمساواة،(26/152)
والأمر يختلف فيما يتعلق بأبناء وبنات الموارنة الأولين فإنهم
يتبعون الكنيسة كأعضاء مختارين غير مكرهين. وبما انهم
نشأوا في أحضان أقرباء لهم من اليهود، وشاهدوا هذا
النموذج ماثلاً دوماً تحت بصرهم، فإنه من القسوة أن
نعاقبهم بمقتضى قانون الكنيسة، بتهمة التردي في أساليب
اليهود ومعتقداتهم. إنهم يجب أن يظلوا في أحضان
الكنيسة بالمعاملة الحسنة (51).
ويتبين أن كليمنت كان مخلصاً من رسالة بها عند ما شعر بدنو أجله، إلى القاصد الرسولي في البرتغال في 26 يوليو 1534، يأمره بالإسراع بإطلاق سراح المسجونين المرتدين (52).
وتابع البابا الثالث بذل الجهد لمعاونة اليهود البرتغاليين، وأطلق سراح 1800 من المسجونين، ولكن عندما عاد شارل من حملته التي كانت في ظاهرها ناجحة ضد تونس، طالب، مكافأة له، بإعادة محكمة التفتيش في البرتغال، ووافق بول على كره منه (1536)، ولكن بشروط بدا للملك جون الثالث أنها تنسخ موافقته - منها ضرورة مواجهة المتهم بمن اتهمه. وإثبات حق المحكوم عليه في استئناف الحكم أمام البابا. وساعد مرتد متعصب المحققين بأن علق على جدران كاتدرائية لشبونة إعلاناً جريئاً جاء فيه: "أن المسيح المخلص لم يظهر بعد، وأن يسوع ليس هو المخلص، وأن المسيحية محض افتراء" (53). ولما كان من الواضح أن مثل هذه العبارات قصد بها إيذاء اليهود، فإن لنا أن نرتاب بحق في أحد العملاء المحرضين. وعين بول لجنة من الكاردينالات لفحص إجراءات محكمة التفتيش البرتغالية. وقد جاء في تقريرها:
إذا اتهم مسيحي زائف - وغالباً ما يكون ذلك عن طريق
شهود مفترين - ساقه المحققون إلى منعزل موحش لا يرى(26/153)
فيه أرضاً ولا سماء، وأقل ما يقال إنه لا يخاطب فيه
صديقاً يواسيه أو يسعفه. ويتهمونه بمقتضى شهادة غامضة
ولا ينبئونه بالزمان أو المكان الذي اقترف فيه الجريمة التي
يحاكم من أجلها. ويسمح له فيما بعد باختيار محام عنه
غالباً ما يقوده إلى طريق المحرقة، بدلاً من الوقوف إلى
جانبه والدفاع عن قضيته. دع مخلوقاً منكود الحظ يقر
بأنه مسيحي مؤمن حقاً، وينكر إنكاراً قاطعاً الخطايا التي
سيقت لاتهامه، فإنهم يسلمونه إلى النار، ويصادرون
بضاعته. أو دعه يدفع بأنه مذنب في كذا وكذا من
الأعمال، ولو أنها ارتكبت عن غير قصد، فإنهم يعاملونه
بالطريقة نفسها، مدعين بأنه ينكر عناداً نياته ومقاصده
السيئة. أو دعه يعترف اعترافاً كاملاً صريحاً بصحة ما
اتهم به، فإنهم يسومونه أشد ضروب الحرمان، ويحكمون
عليه بالبقاء في زنزانة كئيبة مظلمة لا يرى فيها النور، ويسمون
هذا "معاملة المتهم بالرحمة والرأفة والبر المسيحي" وحتى
الذين يفلحون في إثبات براءتهم يحكم عليهم بدفع غرامة، حتى
لا يقال إنه قبض عليهم بلا سبب. أما المتهمون المودعون في السجون
فإنهم يعذبون بكل آلات التعذيب حتى يقروا بما وجه إليهم
من اتهامات. وكثيرون يقضون نحبهم في السجن. أما
الذين يطلق سراحهم. فإنهم هم وذوي قراهم يدمغون
العار الأبدي (54).
لقد أرهقت التطورات السياسية البابا بول، وأقض مضجعه خطر فقدان أسبانيا والبرتغال، كما كان البابا قد فقد ألمانيا، والبابا كليمنت إنجلترا، ولكن بول على الرغم من ذلك بذل قصارى جهده للتخفيف من حدة محاكم(26/154)
التفتيش، ولكن الإرهاب كان يستشرى يوماً بعد يوم، حتى وجد يهود البرتغال، بكل وسيلة يائسة، مهرباً من مضيفيهم، وانضموا إلى إخوانهم في أسبانيا سعياً وراء ركن يقبعون فيه بالعالم المسيحي أو أرض الإسلام، ويمكن أن يحتفظوا فيه بشريعتهم مع الإبقاء على حياتهم.
3 - الشتات الثاني
إلى أين يذهب اليهود؟ إن جزيرتي سردينيا وصقلية اللتين كانوا قد قطنوا فيهما لمدة ألف سنة من قبل، قد شملهما، بالإضافة إلى أسبانيا، المرسوم الذي أصدره فريناند بطردهم. وما جاءت 1493 حتى كان آخر يهودي قد غادر بالرمو. وفي نابولي استقبل فرانت الأول والإخوان الدومينيكان والجالية اليهودية المحلية، آلاف اللاجئين بالترحاب. ولكن شارل الخامس أصدر في سنة 1540 مرسوماً بطرد اليهود من نابولي.
وكان في جنوة لزمن طويل قانون يحدد دخول أعداد إضافية من اليهود. ولما وصل المرتدون من أسبانيا 1492، لم يسمح لهم بالبقاء لأكثر من بضعة أيام قليلة. ولقد وصفهم مؤرخ جنوي بأنهم أشباح بالغة الهزال والشحوب والنحول، عيونهم غائرة، ولا يفرقهم عن الموتى سوى قدرتهم على الحركة" (55). ومات الكثير منهم جوعاً، وحملت الأمهات أطفالاً موتى، وباع بعض الآباء أبناءهم ليدفعوا أجر الانتقال من جنوى. واستقبل نفر قليل من المنفيين في فيرارا، ولكن طلب إليهم أن يضعوا شارات صفراء (56) وربما كان هذا بمثابة احتياط ضد انتشار المرض.
وكانت البندقية لعهد طويل مأوى لليهود. وكم من محاولات كانت قد بذلت لإخراجهم منها (1395 - 1487) ولكن السناتو تولى حمايتهم لأنهم كانوا يسهمون إسهاماً هاماً في الاقتصاد والمال، ويتولون الجزء الأكبر من تجارة الصادرات في البندقية، وكانوا نشيطين في استيراد الصوف(26/155)
والحرير من أسبانيا، والتوابل واللؤلؤ من الهند (57). ولفترة طويلة كانوا يقطنون، بمحض اختياراهم الحي الذي سمي باسمهم (حي اليهود). وفي 1516 وبعد تشاور مع زعماء اليهود، قضى السناتو بأن يقطن كل اليهود، فيما عدا نفر قليل مرخص لهم بصفة خاصة، في قطاع من المدينة عرف باسم Ghetto أي حي خاص، والظاهر أن هذا اللفظ مأخوذ عن كلمة getto، أو مسبك كان هناك (58). وأمر السناتو كل اليهود المرتدين بمغادرة البندقية، وقد شجع المسيحيون المنافسون هذا الإجراء. على أن بعض التجار المسيحيين عارضوه لأنه يهدد بفقدان أسواق معينة، وخاصة في العالم الإسلامي، ولكن شارل الخامس استخدم كل نفوذه في الموضوع، ونفذ مرسوم الطرد (59). على أنه لم يمض وقت طويل حتى زحف التجار اليهود إلى البندقية ثانية، وحل المنفيون من البرتغال محل اليهود المتنصرين الذين طردوا، وأصبحت اللغة البرتغالية لبعض الوقت هي لغة اليهود البنادقة.
واستقبل البابا الإسكندر استقبالاً كريماً في رومه كثيراً من المنفيين من شبه جزيرة إيبيريا، وازدهرت أحوالهم في عهد جوليوس الثاني، وليو العاشر، وكليمنت السابع، وبول الثالث. وأباح كليمنت للمرتدين ممارسة الطقوس اليهودية في حرية تامة، مؤمناً بأنهم غير ملزمين بأي تعميد إجباري (60). وفي أنكونا، ثغر الولايات البابوية على الأدرياتيك، حيث كان اليهود عنصراً نشيطاً في التجارة الدولية، أنشأ كليمنت مأوى لليهود الذين أعلنوا عن ديانتهم وضمن لهم عدم التحرش بهم. أما بالنسبة للبابا بول الثالث فيقول الكاردينال سادوليتو: "لم يغدق أي من البابوات على المسيحيين من التكريم والحفاوة والامتيازات والمنح مثل ما أغدق بول الثالث على اليهود. إنهم لم يحظوا بالمساعدة فقط بل إنهم تزودوا كذلك عملياً بالمنافع والامتيازات (61) ". وشكا(26/156)
أحد الأساقفة من أن اليهود المرتدين عند دخولهم إلى إيطاليا أسرعوا بالعودة إلى ممارسة الطقوس اليهودية وختان أطفالهم المعمدين، تحت بصر البابا والأهالي، في الغالب. وتحت ضغط هذه الانتقادات أعاد بول محاكم التفتيش في رومه (1542)، ولكنه، وقف إلى جانب المرتدين طوال حياته (62).
وتحول خلفاؤه - وقد ضيقت عليهم الخناق انتكاسة عن أساليب الرفق واللين التي سادت عصر النهضة - تحولوا إلى سياسة إزعاج اليهود وإقلاق بالهم. وطبقت المراسيم البابوية القديمة. وفرض بول الرابع (1555 - 1559) على كل معبد أن يسهم بعشرة دوكات (250دولار؟) في إقامة دار للمتنصرين ليتلقى فيها اليهود تعاليم المسيحية. وحرم عل اليهود استخدام خدم أو مرضعات مسيحيات أو علاج مرضى مسيحيين، أو أن يبيعوا المسيحيين شيئاً غير الملابس القديمة، أو أن يقيموا مع المسيحيين أية معاملات أو علاقات ممنوعة. وما كان لهم أن يستعملوا إلا التقويم المسيحي. وهدمت كل معابد اليهود في رومه إلا واحداً، وحرم على اليهودي أن يمتلك عقاراً، وإذا كان لأحد منهم أي عقار فعليه أن يبيعه في بحر ستة شهور، وبهذه الطريقة استطاع المسيحيون أن يشتروا بما يعادل 500. 000 كراون (12. 500. 000 دولار) من أملاك اليهود بخمس قيمته الفعلية (63). وانحصر كل اليهود الذين بقوا آنذاك في رومه (1555) في حي منعزل عاش فيه عشرة آلاف شخص في كيلومتر مربع فقط، وشغلت عدة أسرات حجرة واحدة. وتعرض الحي، بسبب انخفاض مستواه، للفيضان الدوري لنهر التيبر، حتى جعل من هذه البقعة مستنقعاً ملوثاً بالطاعون (64). وأحيط الحي بأسوار كئيبة تغلق أبوابها في منتصف الليل وتفتح عند الفجر، فيما عدا أيام الأحد والعطلات المسيحية فإنها تظل مغلقة طوال اليوم. وألزم اليهود بأن يلبسوا خارج هذا المعزل زياً مميزاً - للرجال(26/157)
قبعة صفراء، للنسوة خمار أو شارة صفراء - وأقيمت أحياء منعزلة مثل هذا في فلورنسا وسيينا؛ وبمرسوم من البابا في أنكونا وبولونيا، وكانت تسمى هناك Enferno (65) ( الجحيم). واصدر بول الرابع أمراً سرياً بوضع كل المرتدين في انكونا في سجون محكمة التفتيش وبمصادرة بضائعهم. وأحرق هناك أربعة وعشرون رجلاً وامرأة واحدة أحياء بتهمة أنهم هراطقة مرتدون (1556) (66) وأرسل سبعة وعشرون يهودياً للتجديف على السفن الشراعية إلى الأبد (67). وكان هذا بالنسبة ليهود إيطاليا انتقالاً من عصر ذهبي إلى شفق شاحب.
وتسللت حفنة من اللاجئين اليهود إلى فرنسا وإنجلترا على الرغم من القوانين التي تنص على إبعادهم. وكانت ألمانيا كلها تقريباً مغلقة في وجوههم. وقصد كثيرون إلى أنتورب، ولكن سمح لنفر قليل منهم فقط بالإقامة لمدة تزيد على شهر. وأسس ديوجومنديس - وهو برتغالي مرتد - في أنتورب فرعاً للبنك الذي كانت أسرته قد أسسته في لشبونة. وفي 1532 لاقى من النجاح ما حدا مجلس أنتورب على القبض عليه مع خمسة عشر آخرين بتهمة ممارسة اليهودية. وتدخل هنري الثامن الذي استخدم منديس وكيلاً مالياً، وأطلق سراح ثلاثة عشر، بعد دفع غرامة فادحة، وهذا هو "الغرض الأسمى" من كل حالات القبض. وانتقل اليهود الآخرون إلى أمستردام حيث كان من الممكن أن تنتعش أحوالهم بعد تحرر هولندة من نير أسبانيا سنة 1589.
أما هؤلاء اللاجئون الذين التمسوا مأوى في الأراضي الإسلامية التي لا تخضع مباشرة لسيطرة سلطان تركيا، فقد صاروا إلى حالة أحسن بقليل منها في العالم المسيحي. وأطلق المغاربة النار على اليهود الذين حاولوا أن يحطوا رحالهم في أوران والجزائر وبوجيا، ولقي عدد وفير منهم حتفهم. ولما منعوا من الدخول إلى المدن أقاموا معزلاً مرتجلاً من الأكواخ من خشب الأشجار، وشبت النيران في أحد الأكواخ، فالتهمت المستوطنة عن آخرها(26/158)
مع كثير من اليهود، أما الذين قصدوا إلى فاس فقد وجدوا الأبواب موصدة دونهم، فاحتلوا بعض الحقول وعاشوا على الأعشاب وجذور الشجر، وقتل الأمهات أطفالهن خيراً من أن يرينهم يموتون جوعاً. وباع الآباء أبناءهم في مقابل قطعة من الخبز. وأنى الطاعون على مئات من الأطفال والشبان. وهاجم القراصنة وسرقوا الأطفال ليبيعوهم بيع الرقيق (68). ومزق القتلة أجسام اليهود عساهم يعثرون على مجوهرات اعتقدوا أن اليهود قد ابتلعوها (69). وبعد كل هذه المصائب والكوارث، أنشأ الذين عمروا بعدها، في شجاعة لا تصدق، في ظل ألوان من الضعف والعجز لا نهاية لها، جاليات يهودية جديدة في المغرب العربي. وفي الجزائر، خاطر سيمون ديوران الثاني بحياته المرة بعد المرة، لحماية المنفيين، وتنظيمهم بشكل يوفر شيئاً من الأمن. وفي فاس أصبح يعقوب بيراب أشهر علماء التلمود في زمانه.
ولقي المنفيون من أسبانيا، استقبالاً إنسانياً في القاهرة تحت حكم سلاطين المماليك والعثمانيين، وسرعان ما سموا إلى زعامة الجالية اليهودية. وألغى سليم الأول وظيفة Nagid " الأمير" وفيها كان يتولى أحد الأحبار تعيين سائر الأحبار، ويشرف على شئون كل اليهود في مصر، وبعد ذلك أصبح لكل جالية يهودية أن تختار حبراً لها وان تتولى شئونها الداخلية بنفسها، وأنهى حبر القاهرة الجديد وهو داود بن أبي زمرة وهو مهاجر أسباني - استخدام التقويم البابلي القائم على تقسيم الزمن إلى فترات - الذي كان يهود أسيا وأفريقية يستعملونه - وحثهم على اقتباس تقويم آخر (كما فعل يهود أوربا في القرن الحادي عشر) وهو تقويم قائم على حساب السنين منذ بدء الخليقة الذي حدد مؤقتاً بعام 3761 قبل الميلاد.
وحيثما ذهب يهود أيبيريا ( Sephardic) حظوا بالزعامة الثقافية، والسياسية(26/159)
في الغالب، على اليهود المحليين. ففي سالونيك أصبحوا، وظلوا حتى 1918، غالبية عددية بين السكان، حتى أن اليهود غير الأسبان الذين جاءوا ليعيشوا في هذه المدينة، كان لزاماً عليهم أن يتعلموا اللغة الإسبانية. وفي ظل هذه السيطرة اليهودية، كانت سالونيك لفترة من الزمن أكثر المراكز التجارية ازدهاراً في شرق البحر المتوسط.
ورحب السلطان بايزيد الثاني في تركيا باليهود المنفيين، لأنهم أحضروا معهم، على وجه الدقة، تلك المهارات اللازمة للحرف والصناعات اليدوية والتجارة والطب. مما لم تكن تركيا قد توسعت فيه وطورته إلا في أقل الحدود. وقال بايزيد عن فرديناند الكاثوليكي: "إنكم تقولون إن فرديناد ملك حكيم عاقل ذلك الذي أفقر بلاده وأغنى بلادنا" (70). وخضع اليهود، شأنهم شأن غير المسلمين في أرض الإسلام، لضريبة الرأس، ولكن هذه الضريبة أعفتهم من الخدمة العسكرية. وبقي معظم يهود تركيا فقراء، ولكن كثيراً منهم أثرى وسما إلى مراكز النفوذ. وسرعان ما أصبح كل أطباء القسطنطينية تقريباً من اليهود. وكان طبيب سليمان من ذوي الحظوة لديه، إلى درجة أنه أعفاه وأعفى أسرته من كل الضرائب وبرز اليهود في الناصب الدبلوماسية في عهد سليمان، حتى أن السفراء المسيحيين كان لزاماً عليهم أن يتوددوا إليهم تقرباً إلى السلطان. وكان لأنباء اضطهاد اليهود في أنكونا على يد بول الرابع وقع شديد في نفس سليمان، واحتج عليها لدى البابا (9 مارس 1556) وطلب الإفراج عن رعايا تركيا من اليهود في أنكونا، وفعلاً أطلق سراحهم (71). وآوى جراسيا منديزيا، وهو أحد أفراد أسرة منديس الذين اشتغلوا بالأعمال المصرفية، إلى اسطنبول ليجد فيها أخيراً الأمن والطمأنينة، بعد أن أتى كثيراً من أعمال البر(26/160)
والخير في أنتورب وفيرارا والبندقية، ولقي جزاء سنمار من الإساءة والأذى.
وفي عهد الأتراك استقبلت الأرض المقدسة مرة أخرى، القوم الذين كانوا قد أضفوا عليها القداسة أول الأمر. ولما كانت القدس مقدسة لدى المسيحيين والمسلمين، قدر ما هي مقدسة لدى اليهود، فإنه لم يسمح بالإقامة فيها إلا لعدد محدود من العبرانيين. أما في صفد في الجليل الأعلى، فقد ازداد عدد اليهود وارتفعت مكانتهم الثقافية بسرعة، حتى أن يعقوب بيراب حاول أن ينشئ هناك جمعية Sonhedrin (1) ، تكون بمثابة هيئة عليا تتولى الحكم بين جميع اليهود. وكانت تلك فكرة جريئة. ولكن اليهود كانوا موزعين في شتى البلاد متباينين في اللغة وطرق الحياة، إلى حد لا يسمح بتوحيد الحكم. وعلى الرغم من ذلك فإن اليهود في أرض الإسلام وفي العالم المسيحي، كانوا في صلواتهم يتضرعون إلى الرب "ليجمع شتاتهم ويلم شملهم من أركان الأرض الأربعة". وفي يوم الكفارة Yom Kippur، وفي يوم الفصح يجتمع اليهود في كل مكان في العالم حول الأمل الذي تشبثوا به فأبقى عليهم وسط المحن، ويرددون: "سنكون في العام القادم في فلسطين" (72).
4 - فن البقاء
إن قدرة اليهود على الإقامة من كبوتهم وتخطى المحن التي حلت بهم، لهي إحدى عجائب التاريخ التي تترك في النفس انطباعاً، وهي جزء من المرونة البطولية التي أظهرها البشر عامة بعد كوارث الحياة.
_________
(1) Sanhedrin: جمعية هي بمثابة المحكمة العليا والمجلس الأعلى لشعب اليهود القديم، جمعت بين المهام الدينية والمدنية، وتكونت من 71 عضواً تحت رئاسة الكاهن العظم. ألغيت بعد تدمير أورشليم في سنة 70م. (الترجمة)(26/161)
ولم يكن التمييز العنصري أسوأ إهانة لحقتهم، فقد كانوا أكثر أمناً وسعادة فيما بينهم، منهم وسط الجمهور الذي يضمر لهم العداء، والفقر أمكنهم أن يتحملوه لأنهم كانوا ألفوه لعدة قرون، ولم يكن خاصاً بهم، والحق أن فخرهم بالثراء العارض كان أقرب احتمالاً من شعورهم بالفقر الذي عانوه منذ أزمان سحيقة. أما أنكى الجراح، مهما كان الباعث عليه، فهي الشارة أو الزي المميز الذي دمغهم بأنهم محتقرون منبوذون بين الناس. وكتب مؤرخ اليهود العظيم في مرارة يقول:
إن شارة اليهودي كانت بمثابة إغراء للصبية المتشردين بإهانة حامليها وقذفهم بالأوحال، وإيحاء لجموع الرعاع الحمقى بالانقضاض عليهم وإساءة معاملتهم، بل حتى قتلهم، كما هيأت للطبقة العليا فرصة نبذ اليهود ونهبهم أو نفيهم. وأسوأ من هذا العار الخارجي، أثر الشارة في اليهود أنفسهم. فقد اعتادوا أكثر فأكثر على مركزهم الحقير المذل، وفقدوا كل إحساس باحترام الذات. فأهملوا مظهرهم الخارجي ... وأصبحوا أكثر فأكثر لا يعنون بحديثهم لأنهم لم يسمح لهم بارتياد دوائر الثقافة، أما فيما بينهم فكانوا يفهمون بعضهم بعضاً برطانة غامضة" وفقدوا كل تذوق للجمال وإحساس به. وأصبحوا إلى حد ما حقراء كما أرادهم أعداؤهم أن يكونوا (73).
إن هذا وصف يتسم بالمبالغة والتعميم أكثر مما ينبغي، فكم من اليهود احتفظوا بكبريائهم وتألقوا في ملابسهم الفاخرة، وإنا لنسمع المرة بعد المرة عن بنات يهوديات اشتهرن بجمالهن، وعن Judisch التي تطورت في القرن السادس عشر إلى لغة ألمانية فيها اقتباسات عبرية وسلافية. كانت تنتج أدباً قوياً متنوعاً حينما كتب جرايتز كتابه "تاريخ اليهود". وعلى(26/162)
أية حال، فإن أكبر جريمة ارتكبت في تلك القرون هي الحط عمداً من قدر شعب بأسره، وقتل النفس بلا شفقة أو رحمة.
وكان الجزء الذي لا يتجزأ من هذه الجريمة وأساسها، استبعاد اليهود من كل الأعمال والأشغال تقريباً، فيما عدا التجارة والشئون المالية. ولأسباب سبق إيجازها (74)، ولأن الكنيسة كانت تطالب بعشر غلة الأرض المنزرعة، تراجع اليهود أكثر فأكثر عن زراعة الأرض، وأخيراً حرم عليهم امتلاك الأراضي (75). ولما كان محرماً عليهم الانضمام إلى النقابات (التي كانت رسمياً منظمات مسيحية دينية) فإنهم لم يتمكنوا من الدخول إلى عالم الصناعة، وطوقت الاحتكارات المسيحية عملياتهم التجارية. وعلى الجملة وجدوا أنفسهم، في معاملاتهم مع المسيحيين، محدودين بنطاق ضيق من الصناعة والتجارة وتسليف النقود. وفي بعض البقاع كان محرماً عليهم أن يبيعوا للمسيحيين شيئاً سوى البضائع القديمة المستعملة، وفقدوا، بعد القرن الثالث عشر، تفوقهم السابق في عالم المال، ذلك التفوق الذي كان يثير حقد الآخرين وحسدهم، ولكن رأسمالهم السائل، ومعرفتهم بلغات العالم، واتصالاتهم الدولية عن طريق أقربائهم المنتشرين في كل مكان، كل أولئك مكنهم من تحقيق مركز عال في التجارة الأجنبية للدول المسيحية. وكان دور اليهود في هذا المجال هائلاً إلى حد أن الدول التي طردتهم، خسرت الكثير من حجم تجارتها الدولية. أما تلك التي رحبت بهم فكسبت هذا المجال. وهذا سبب واحد، وليس السبب الرئيسي، في أن أسبانيا والبرتغال اضمحلتا، على حين انتعشت هولندة، وفي أن أنتورب أسلمت زعامتها التجارية إلى أمستردام.
وكان لليهود عزاء وإنقاذ في أن تحكمهم، في شئونهم الداخلية، قوانينهم وأعرافهم وأحبارهم ومجالسهم الدينية. ففي اليهودية، كما هو الحال في(26/163)
الإسلام، نجد الدين والقانون والأخلاقيات شيئاً واحداً لا يتجزأ. فقد اعتقدوا أن الدين يتمشى مع الحياة على طول الخط. وفي 1310 صاغ الحبر يعقوب بن أشر القانون والطقوس والأخلاقيات اليهودية في "أربعة لوائح"، حلت محل "تعاليم الأحبار" التي وضعها ابن ميمون (1170)، مع سجل وضعت فيه كل تشريعات التلمود وأحكام الجيونيم Geonim، واصبحت كلها ملزمة لجميع اليهود في كل مكان. وأصبح كتاب "الجداول الأربعة" المرشد المتفق عليه أية قوانين حبرية أو أحكام حتى 1565،.
وقوضت مصائب القرنين الرابع عشر والخامس عشر أركان التنظيم الاجتماعي لدى اليهود، ومات من الأحبار، كما مات من القساوسة، عدد كبير جداً، في الموت الأسود، ووضعت عمليات الاضطهاد والطرد وحياة اللاجئين، خاتمة للقانون اليهودي. ووجد يهود أيبريا من العسير عليهم أن يتقبلوا لغات وأعراف الجاليات اليهودية التي عرضت انضمامها إليهم، فأقاموا معابد خاصة بهم واحتفظوا بلغتهم الإسبانية أو البرتغالية. ووجدت في كثير من المدن تجمعات منفصلة من اليهود الإسبانيين أو البرتغاليين أو الإيطاليين أو اليونانيين أو الألمان، ولكل طائفة حبرها وعادتها وصدقاتها وأحقادها (76). وفي وسط هذه الأزمة أنقذت الأسرة اليهودية شعب اليهود، فإن الإخلاص المتبادل بين الآباء والأبناء، وبين الأخوة والأخوات هيأ جواً من الاستقرار والأمن. وانتهت قرون الفوضى في الأعراف والعادات اليهودية عندما أصدر الحبر يوسف كارو من صفد كتاب "تنسيق الشريعة Shulchan Aruch" ( البندقية 1564 - 1565)، سجل فيه الدين والقانون والأعراف اليهودية مرة أخرى، ولكن مذ بنى كارو تشريعه على اليهودية الإسبانية أساساً، فإن يهود ألمانيا وبولندة أحسوا بأنه لم بول إلا عناية يسيرة لتقاليدهم وتفسيراتهم للقانون. وأضاف الحبر موسى إسرل Esserles من كراكاو إلى "تنسيق الشريعة" "تنسيق التنسيق" (1571) صاغ فيه(26/164)
خلافات الأشكنازي مع قانون كارو الذي كان في معظمه أسبانيا. وبهذا التنقيح بقي كتاب "تنسيق الشريعة" حتى وقتنا هذا مرجع اليهود ذوي العقيدة الصحيحة، وكأنه "جستنيان أو بلاكستون" إذا قلت عن اليهودي إنه امتثل لكل التعاليم التي وردت في "تنسيق الشريعة" فهذا ذروة المديح والثناء.
ولما كانت صياغة جرت للقانون اليهودي مبنية على التلمود، فيمكن - أو هل يمكن؟ - أن نتصور الذعر الذي تابع به اليهود تقلبات كتابهم المقدس الثاني. وفي القسم الأدبي من التلمود، وهو قسم أقل وثوقاً، ويسمى "هجادة Haggada"، توجد بعض أجزاء تهزأ ببعض معتقدات مسيحية معينة، وقد مهد اليهود المتحولون إلى المسيحية طريقهم إليها بسخريتهم من هذه الأجزاء. ووقف العمل بالتلمود بأسره. وعلى الرغم من هذه الحركات التي بلغت ذروتها في حملة بفركورن على رخلين، شجع ليو الثالث طبع التلمود لأول مرة (الندقية1520)، ولكن جوليوس الثالث دلل على انتهاء عصر النهضة بأن أمر محكمة التفتيش بإحراق نسخ التلمود الموجودة في إيطاليا (1553)، واقتحمت بيوت اليهود، وأخذت آلاف من النسخ، واشتعلت النيران في الهواء الطلق في الكتب اليهودية في رومه وبولونيا ورافنا وفيرارا وبادوا والبندقية ومانتوا. على أن ميلان رفضت الإذعان لمرسوم الإحراق (77). وناشدت الجمعيات اليهودية البابا أن يلغى مرسومه، وظل هو يماطل والكتب تحرق. ولكن بيوس الرابع بأنه يمكن طبع التلمود بعد إخضاعه للرقابة. وبعد ذلك راقب اليهود المنشورات والمطبوعات الخاصة بهم (78).
وبقى "الزهار Zahar" وهو نص "القبالة" اليهودية. سليمان لم يمس بسوء لأن بعض العلماء الكاثوليك ذهبوا إلى أنهم وجدوا فيه أدلة على ألوهية المسيح. وكان الزهار قد كتب 1295 بقليل، بوصفه حلقة من سلسلة(26/165)
من المؤلفات التي تنقل القبالة أي "التقاليد السرية" لليهود الذين وجدوا أن أماناً من الفقر والاضطهاد والاضطراب العقلي في التأمل في الرموز الخفية الدينية للأرقام والحروف والقراءة العكسية للألفاظ والاسم الذي يفوق الوصف للرب، وهكذا. وتجمع اليهود المحزونون في حلقات خاصة يلتمسون، بالصوم والبكاء وبالتقشف الصارم وبتفسير القبالة، أن ينزل عليهم وحي جديد، فيما يتعلق، فوق كل شيء، بمجيء "المخلص" الذي قد يخلص إسرائيل من كل أحزانها.
إن الذين حاولوا أن يستشعروا العمق الذي لم يسبق له مثيل للآلام التي عاناها اليهود في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، يمكنهم أن يدركوا مثل هذا اللجوء - الذي يمكن أن يغتفر، إلى التصوف الذي يجدون فيه السلوى والعزاء، وخداع النفس المتكرر الذي يلجأ إليه هؤلاء اليهود البائسون، باعتقادهم أن "المخلص" كان قد جاء بالفعل. وفي 1524 امتطى شاب يهودي عربي وسيم أطلق على نفسه اسم داود روبيني، جواداً أبيض عبر شوارع رومه إلى الفاتيكان، وقدم نفسه إلى البابا كليمنت السابع على أنه شقيق ورسول ملك يهودي قال إنه يحكم في بلاد العرب قبيلة يهودية قديمة تدعى قبيلة روبين. وقال داود إن مليكه لديه 300. 000 جندي غير كاملي العتاد، وإذا أمدهم البابا وأمراء أوربا بالسلاح، فإن القبيلة تستطيع عندئذ أن تطرد المسلمين من فلسطين. واهتم كليمنت بالأمر وعامل بالحفاوة التي تليق بمقامه بوصفه سفيراً. وسر يهود روما أن يروا يهودياً يلقى مثل هذا التكريم. وأمدوه بكل ما يحافظ به على صفته الدبلوماسية السامية. ولما تلقى دعوة من جون الثالث ملك البرتغال أبحر مع حاشية كبيرة على سفينة تحمل العلم اليهودي.
وسحر جون بمقترحات داود إلى حد أنه أوقف اضطهاد المنتصرين وجن من الفرح جنون يهود البرتغال الذين عمد معظمهم ضد إرادتهم،(26/166)
وأعلن كثيرون منهم عن اعتقادهم بأن داود كان هو "المخلص"، وأجرى ديوجو بيرز - وكان قد تنصر وأصبح سكرتيراً للملك، أجرى لنفسه عملية الختان، ليثبت يهوديته، وغير اسمه إلى سليمان مولخو، وأخذ طريقه إلى تركيا وأعلن أن داود هو البشير "المخلص" الذي سوف يصل هو بشخصه في سنة 1540. ولم يكن روبيني قد ادعى أنه المخلص أو البشير بمجيئه، وإنما كان دجالاً حالماً، أراد مالاً وسفناً وأسلحة. وأثار هرب بيرز (مولخو) شكوك الملك جون، فأمر روبيني بمغادرة البلاد، ورحل داود، وأوقف على شاطئ أسبانيا وقبضت عليه محكمة التفتيش. وأمر شارل الخامس، بإطلاق سراح روبيني، مرضاة للبابا كليمنت على ما يبدو. وقصد روبيني إلى البندقية (1530)، واقترح على السناتو وجوب تسليح أوربا، للقيام بهجوم ضد الأتراك.
وفي الوقت نفسه جاء إلى أنكونا، وحصل على جواز مرور من البابا، وتجول في إيطاليا، وبشر باليهودية بحرارة وحماس في روما. ولما سعت محكمة التفتيش إلى القبض عليه، بوصفه منتصراً مرتداً، أنقذه كليمنت وأخرجه سالماً من المدينة. وعلى الرغم من أن ملخو كان قد فقد آنذاك إيمانه بداود روبيني، فإنه انضم إليه في مهمة طائشة إلى راتسبون، حيث توسلا إلى شارل الخامس أن يمد المتنصرين بالسلاح ليحاربوا المسلمين. ولكن شارل قبض عليهما وأحضرهما معه إلى مانتوا. وهناك حكم على ملخو بالإعدام حرقاً. وفي اللحظة الأخيرة صدر عنه عفو إمبراطوري شريطة عودته إلى المسيحية، فأبى ورحب بالاستشهاد (1532). وأرسل روبيني إلى أسبانيا وهناك ألقت به محكمة التفتيش في غيابه السجن، ومات حوالي 1536، والظاهر أنه مات مسموماً، وزحف يهود أوربا كسيري القلوب إلى معازلهم وتصوفهم ويأسهم.(26/167)
5 - الفكر اليهودي
ما كان لنا أن نتوقع من عهد "الشتات الثاني" أن ينتج أية ثقافة رفيعة بين اليهود. فقد استنزفت طاقتهم المهمة الوحشية التي واجهوها، مهمة البقاء على قيد الحياة. وتعطل التعليم الذي كانوا قد برزوا فيه وأتقنوه نتيجة للتنقل وانعدام الأمن في الحياة. وعلى حين شقت أوربا المسيحية طريقها إلى النهضة فرحة منتعشة، انصرف يهود أوربا إلى المعزل و"القبالة" وحرمت عليهم "الوصية الثانية" الإسهام في حركة إحياء الفنون. وكان بين اليهود عدد كبير من العلماء، ولكنهم انهمكوا في التلمود. وكان منهم النحويون مثل بروفيات دوران وأبراهام دي بالم. والمترجمون مثل أسحق بن بولكار، الذي نقل مؤلفات الغزالي إلى العبرية، ويعقوب مارتن الذي ترجم ابن سيناء وابن رشد وابن ميمون وليفي بن جرسون إلى اللاتينية. وأزعج إيليا لفيتا اليهود المتدينين بإقناعهم بشكل حاسم (1538) بأن التوراة المزودة بالملاحظات وعلامات الحركة وإشارات الوقف (المازورة Masoretic) ، لم تكن أقدم من القرن الخامس الميلادي.
وتوضح ملحمة آل أبرابانل Abrobanels تقلبات الفكر اليهودي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد ولد دون أسحق أبرابانل في لشبونة 1437، واستخدمه ألفرنسو الخامس ملك البرتغال وزيراً للمالية. ولكنه جمع بين مشاغله الرسمية والدراسات الدينية والتاريخية، وجعل من داره الرحيبة صالوناً للعلماء ورجال العلم ورجال الأعمال. ولما توفي ألفونسو فقد أبرابانل الحظوة الملكية، وهرب إلى أسبانيا(26/168)
(1484)، وهناك تفرغ إلى كتابة تعليقات على ما دون عن تاريخ الكتاب المقدس، حتى دعاه فرديناند الكاثوليكي ليتولى منصباً. وقضى أسحق ثماني سنوات في تدبير الشئون المالية في قشتالة. وكافح لدرء الكارثة التي حلت باليهود في سنة 1492، فلما أخفق في ذلك، انضم إليهم في خروجهم المحزن. وفي نابلي استخدمته الحكومة. ولكن الغزاة الفرنسيين (1495) نهبوا داره، ودمروا مكتبته الحافلة بنفائس الكتب المنتقاة، وأجبروه على الفرار إلى كورفو. وهناك كتب، ما كان لا بد لأي يهودي أن يكتب في هذه السنوات: "إن زوجتي وأولادي وكتبي بعيدة عني، ولقد تركت وحيداً غريباً في بلد غريب" (79). واتخذ طريقه إلى البندقية، وهناك عين في منصب دبلوماسي (1503). وفي غمرة تقلبات الحظ هذه، وجد فسحة من الوقت ليؤلف بعض أعمال فلسفية ولاهوتية، ليس لها الآن قيمة تذكر. ولكنه وضع المبدأ الذي يقول بأن الأحداث والأفكار التي وردت ي الكتب المقدسة يجب تفسيرها على ضوء الحياة الاجتماعية والسياسية في عصرها. وسمح له بأن يقضي السنوات الست الأخيرة من عمره في أمن وسلام غير مألوفين.
وكان أبناؤه زينة لحياته. فتألق صمويل أبرابانل في سالونيك وعين وزيراً للمالية في نابولي، وحظي بحب قومه لكثرة ما أتى من أعمال البر والخير. أما يهوذا ليون أبرابانل- ليو العبري- فقد زها وسما قدره كطبيب في جنوه ونابلي حتى أصبح مشهوراً مثل شهرة "ليون مديجو". ودرس علوماً كثيرة، وكتب الشعر، وغامر بدراسة ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). وعين في 1505 طبيباً لجنزالو أمير قرطبة، ولكن بعد ذلك بعامين اختلف "الكابتن الأعظم" مع فرديناند، ولحق ليون بأبيه في البندقية. ولقي كتابه "حوار الحب" (كتب 1502، ونشر في 1535) جمهوراً كبيراً من القراء بين الإيطاليين في عصر النهضة، الذين كان التحليل الفلسفي للحب عندهم(26/169)
بمثابة مقدمة أو لحن مصاحب لانتصارات الحب. إن الجمال الفكري: جمال النظام والتخطيط والاتساق، بسمو على الجمال المادي أو جمال الجسم، هذا ما حاول "الحوار" أن يدلل عليه. إن أسمى الجمال هو النظام والتخطيط والاتساق في الكون، وهذا هو المظهر الخارجي للجمال الإلهي. وينشأ الحب على مراحل: من الإعجاب والسعي وراء الجمال المادي فالجمال الفكري فالجمال الإلهي، ويبلغ ذروته في حب الله فكراً وعقلاً، أي فهم النظام الكوني وتقديره حق قدره، والرغبة في الاتحاد مع الله، وربما كانت مخطوطة هذا الكتاب معروفة لدى كاستليانو الذي أجرى على لسان "بمبو Bembo" حديثاً يهدف إلى مثل هذه الغابة، في "البلاط Cortigiono" (1528) أما الكتاب المطبوع فربما وجد سبيله عبر قرن من الزمان إلى يدي سبينوزا ليتأثر بفكرته عن "الحب العقلي لله" (80).
وفضل يهود البرتغال المشتتون على هذا الحب السماوي، الشعر المنثور المشبوب العاطفة باللغة البرتغالية، في قصيدة أوسك Usque: " عزاء لأحزان إسرائيل" (فيرارا 1553). فقد صور تعاقب الانتصارات والكوارث على الشعب اليهودي، وواساه بأنه لا يزال "شعب الله المختار". فقد عاقبهم الله آثامهم، ولكن آلامهم طهرتهم، ومهما أوتى الإنسان من قوة رهيبة وحشية، فلن يستطيع أحد أن يخدعهم ويصرفهم عن مصيرهم الإلهي إلى السعادة والمجد.
وتراخى اليهود عن الإسهام في حركة العلوم تراخياً لم يكن منه مناص، بسبب الأحداث والتقلبات التي عاناها الشعب، والتي طال أمدها. ولم يكن التعرض للخطر والفقر وعدم الاستقرار، هي وحدها التي عوقت الجهود العلمية، ولكن واحداً من أجل الأحبار وأعظمهم نفوذاً، هو سليمان بن إبراهام بن أدربت، في برشلونه، كان في بداية هذه الفترة، قد حرم - تحت طائلة "الحرم، أو الحرمان الديني"- تدريس العلوم أو الفلسفة لأي(26/170)
يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، على أساس أن مثل هذا التعليم يفسد العقيدة الدينية. وعلى الرغم من ذلك لخص أسحق إسرائيلي الصغر، من طليطلة، علم الفلك في عصره (1320)، ووضح التقويم اليهودي والتسلسل الزمني لتواريخ الأحداث. ووضع عمانويل بونفيس من تاراسكون، جداول فلكية قيمة، واستبق التفاضل والتكامل الأسى والعشري. كذلك فإن إبراهام كرسكاس، من ميورقه، وهو "رئيس الخرائط والبوصلات لحكومة أراجون"، وضع في 1377 خريطة للعالم، إلى حد أن أراجون أرسلتها هدية ثمينة إلى شارل السادس ملك فرنسا، وهي الآن من أثمن ما تقتنيه المكتبة الوطنية هناك. وكان يهوذا كرسكاس، وهو ابن إبراهام سالف الذكر، أول مدير لمرصد هنري الملاح البحري في سجر Sagres، وساعد في رسم خريطة لمكتشفاته. ومهد كتاب بدرو نونز "رسالة عن الكرة الأرضية" الطريق أمام العالم الجغرافي مركيتور Mercator وفن رسم الخرائط الحديث. وحدد كتاب جراسيا دي أورتا عن "العقاقير الطبية" مرحلة متميزة في علم النبات، وأسس طب المناطق الحارة.
وكان أبراهام زاكوتو شخصية عظيمة فذة في مجال العلم عند اليهود في القرن الخامس عشر. وجمع عندما كان يقوم بالتدريس في سلمنقة (1473 - 1478) كتابه "التقويم الدائم" وقد استعملت جداوله الفلكية، كدليل للملاحة في رحلات فاسكودا جاما وكابرال وألبوكيرك ثم في رحلات كولمبس بعد 1496. وكان زاكوتو من بين اللاجئين من أسبانيا (1492)، ووجد ملجأ مؤقتاً في البرتغال، وقد استشاره البلاط في الإعداد لرحلة فاسكودا جاما إلى الهند، وكانت السفن مزودة بالإسطرلاب الذي أدخل عليه هو تحسينات. ولكن في سنة 1497 لم يمهله الاضطهاد وقذف به خارج البرتغال كذلك. وأخذ يضرب في الأرض فقيراً معدماً لعدة سنوات حتى(26/171)
انتهى به المطاف في تونس، وهناك تعزى في أخريات حياته بكتابة تاريخ قومه. أما تلميذه يوسف فسنهو Vecinho، طبيب جون الثاني ملك البرتغال، فقد أرسل ليرسم خطوط العرض وانحراف الشمس على ساحل غينيا. وأثبتت الخرائط التي أعدت أنها ذات قيمة كبيرة لفاسكو دا جاما. وكان فسنهو عضواً في اللجنة التي أحال إليها جون الثاني مقترحات كولمبس للبحث عن طريق من الغرب إلى جزر الهند (1484) وشارك في قرار الرفض (81).
وظل الأطباء اليهود أفضل من يجد الناس في البحث عنهم ويلتمسون عندهم البرء في كل أوربا. وعلى الرغم من إزعاجهم بالإدانات والاتهامات الدينية والقيود الرسمية والمخاطرة بحياتهم في معالجة ذوي الشأن من المسيحيين، كانوا ذوي حظوة لدى البابوات والملوك. ولم تكن إضافاتهم آنذاك إلى علم الطب بارزة، باستثناء إضافات دي أورتا إلى طب المناطق الحارة، ولكن أماتوس لوسيتانوس ضرب مثلاً لتقاليد مهنته وتقاليد قومه. وأخرجته محكمة التفتيش من البرتغال التي كان قد أخذ منها اسمه اللاتيني، فعاش متنقلاً من أنتورب إلى فيرارا إلى روما، ثم استقر به المقام في أنكونا (1594) حيث كان كثيراً ما يستدعي لعلاج نفس البابا جوليوس الثالث الذي ناضل من أجل تحطيم التلمود. وكان، حتى آخر حياته، يستطيع أن يقسم أنه لم يكن يهتم قط بالمكافأة ولم يقبل قط أية هدية قيمة، وأنه كان يخدم الفقراء بلا أجر، وأنه لم يكن يفرق في ممارسة مهنته بين مسيحي أو يهودي أو تركي، وأن أية صعاب، مثل بعد المكان أو عدم ملاءمة الوقت، لم تكن لتثنيه عن تلبية أي نداء. وكشفت سجلات عمله (1563) عن سبعمائة حالة كان قد عالجها، وكان الأطباء في كل أوربا يدرسون هذه المذكرات ويقتنونها، ودعا ملك بولندة أماتوس ليكون طبيباً خاصاً له، ولكنه آثر أن يبقى في أنكونا. ولكنه أرغم في 1556 على استئناف تجواله، عندما طالب بول الرابع كل يهود إيطاليا بالتحول إلى المسيحية أو الإلقاء في السجون.(26/172)
وكان للقرار الذي أصدره الحبر ابن أدريت بتأجيل تدريس العلوم والفلسفة لليهود إلى سن الخامسة والعشرين، أثر أقل على الفلسفة منه على العلم، وفي فرنسا أقل منه في أسبانيا. وكان أثر ابن ميمون لا يزال قوياً على اليهود الذين احتالوا على البقاء في جنوب فرنسا وتجاسر يوسف كاسي على كتابة رسائل في المنطق وعلم الأخلاق لتوجيه ابنه، ودافع عن التقليد الفلسفي المتحرر الذي كان ابن ميمون قد عرضه لأول مرة في مؤلفه "دلالة الحائرين" وقد أنجب هذا الضرب من التقليد المتحرر مفكراً يهودياً عظيماً هو ليفي بن جرسون Ben Gerson الذي يعرف عند المسيحيين باسم جرسونيدس، الذي عاش، كما عاش معظم الفلاسفة اليهود، على "الطبابة" أي مهنة الطب، وحقق المثل الأعلى الذي قصده أبقراط في الطبيب الفيلسوف. ولد ابن جرسون في باجنول 1288، في أسرة من العلماء، وعاش معظم سنى حياته في أراجون وبربينان وأفنيون، وانصرف إلى عمله آمناً مطمئناً في ظل حماية البابوات، ولا يكاد يوجد علم من العلوم لم يعالجه أو مسألة فلسفية لم يعرض لها. وكان على علم واسع بالتلمود، وأسهم في رياضيات الموسيقى، ونظم الشعر.
وكان ابن جرسون من علماء عصره اللامعين في الرياضيات والفلك، وفي 1321 استبق الطريقة التي اتبعها فيما بعد موروليكو (1575) وباسكال (1654) في إيجاد عدد التباديل البسيطة لعديد من الأشياء بالاستنتاج الرياضي، ومهدت رسالته في حساب "المثلثات" الطريق أمام رجيومونتانوس، ولقيت تقديراً واسعاً إلى حد البابا كليمنت السادس أصدر تكليفاً بترجمتها إلى اللاتينية، مثل Chordis,de Sinibus و Arcubus (1342) . وقد اخترع، أو في الواقع أدخل تحسيناً على العصا التصالبية لقياس ارتفاع النجوم، وبقى هذا طوال قرنين من الزمان نعمة كبرى للملاحة. وقد أجرى ملاحظاته الفلكية الخاصة به، وأظهر(26/173)
مقدرة كبيرة في نقده لطريقة بطليموس. وبحث، ولكنه رفض، الفرضية القائلة بأن الشمس هي مركز الكون بطريقة توحي بأن قلة قليلة من الناس كانت تشايعه في عصره. وهذب آلة التصوير القاتمة واستخدمها مع العصا التصالبية ليحدد، بشكل أدق، الاختلافات في القطر الظاهر للشمس والقمر.
وكما أن علوم بن جرسون نبعت عن الرياضيين والفلكيين العرب، كذلك كانت فلسفته مبنية على دراسة نقدية للتعليقات التي وضعها ابن رشد في شروحه لفلسفة أرسطو. ودون ليفي فيما بين عامي 1319 - 1321 تعليقاته ابن رشد، استوعب فيها رسائل أرسطو في المنطق والفيزياء والفلك والأرصاد الجوية وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم النفس والميتافيزيقا، وأضاف إلى هذه الدراسات بطبيعة الحال قراءاته العديدة المتكررة لابن ميمون. وجمعت فلسفته ومعظم دراساته في العلوم في مؤلف بالعبرية وضع عنوانه بأسلوب عصره "معارك الله" Battles of the Lord (1317 - 1329) ، وهو يأتي في المحل الثاني بعد كتاب ابن ميمون "دلالة الحائرين" في الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى، ويتابع محاولة ابن ميمون في التوفيق بين الفكر اليوناني والعقيدة اليهودية. فإذا تدبرنا الجهود المشابهة التي قام بها ابن رشد وتوماس الأكويني للتوفيق بين الإسلام والمسيحية وبين أرسطو، لكدنا نقول بأن أثر أرسطو على لاهوتيات العصور الوسطى كان فاتحة انحلالها وتفسخها، وبداية الانتقال من عصر الإيمان إلى عصر العقل. وسعى جرسونيدس إلى التخفيف من امتعاض المتدينين بالإعلان عن استعداده للتخلي عن أفكاره وآرائه إذا ثبت أنها مناقضة للكتاب المقدس- وتلك حيلة أو مراوغة يلجأ إليها العلماء. على أنه استخدم العقل إلى مدى بعيد، في أبحاثه عن الله والكون وأبدية العالم وخلود النفس، ولما تعارضت نتائجه مع الكتاب(26/174)
المقدس، فسره بعنف أدى بنقاده إلى تغيير اسم مؤلفه إلى "معارك ضد الله" (82). وقال ليفي إنه يجدر بنا ألا نأخذ بالمعنى الحرفي قصصاً مثل قصة يوشع الذي أوقف الشمس، فهذه القصة وأشباهها من "المعجزات"، ربما كانت أحداثاً طبيعية نسيت أو لم تعرف أسبابها (83). وأخيراً أفصح عن مذهبه العقلاني دون قناع، "إن التوراة لا يمكن أن تمنعنا من أن نعتبر حقاً ما يلح علينا عقلنا في الإيمان به" (84).
واشتق جرسونيدس وجود الله مما قد يسميه هولباخ الملحد "نظام الطبيعة" فإن قانون الكون ونظامه يكشفان عن "عقل كوني" ويضيف هو إلى هذا، الحجة الغائية: وهي أن معظم الأشياء في الطبيعة الحية تبدو مخصصة كوسيلة إلى غاية. وتزود العناية الإلهية كل كائن حي بوسائل حماية الذات والتطور والتكاثر. والعالم بوصفه كوناً أو نظاماً، خلق في الوقت المناسب، ولكن ليس من العدم. فقد سبق أن وجدت منذ الأزل كتلة جامدة هامدة لا شكل لها، وزودها الكون بالحياة وبالشكل. وهناك بين الله وبين الأشكال المخلوقة قوة وسيطة سماها جرسونيدس، وهو في هذا يحذو حذو أرسطو، "عقلاً نشيطاً أو خلاقاً". ويوجه انبثاق الذكاء الإلهي كل الأشياء، ويصبح النفس التي يحملها الإنسان بين جنبيه. ولما كانت النفس تعتمد على أحاسيس الإنسان فهي فانية. وبما أنها أي النفس، تفهم الكليات وتعي نظام العالم ووحدته فإنها تصبح قصداً جزءاً من "العقل" النشيط الذي هو خالد.
ورفض اليهود فلسفة جرسونيدس على أساس أنها في جوهرها شكل من فلسفة ابن رشد، عقلانية قد تؤدي في النهاية بالعقيدة الدينية. ودرس المفكرون المسيحيون فلسفته، وتأثر بها اسبينوزا. ولكن قلوب المفكرين اليهود وعقولهم، عبر عنها في إخلاص أكبر، حسداي بن أبراهام كرسكاس(26/175)
الذي كان قد تغذى بلبان "المحافظة" عند سليمان بن أدريت، وقد ولد كرسكاس 1340 في برشلونه، وعاش في فترة اتسمت بالعداء الشديد للسامية، وقبض عليه بتهمة تدنيس القربان، وما لبث أن أطلق سراحه، ولكن ابنه قتل، وهو على وشك الزواج في مذابح 1391. وقوى الاضطهاد من عقيدة حسداي، لأنه بفضلي الإيمان بإله عادل وسماء تعوض عن كل أذى وشر، استطاع أن يحتمل ممتلئة بالجور والآلام. وبعد انقضاء سبع سنوات على استشهاد ابنه، نشر بالأسبانية رسالة حاول فيها أن يفسر للمسيحيين لماذا ينبغي ألا يطلب إلى يهودي أن يتقبل المسيحية. وحاول في كياسة واعتدال أن يدلل على أن مبادئ المسيحية في الخطيئة والتثليث والحبل بلا دنس والتجسد والكفارة وتحول دم القربان إلى دم المسيح ولحمه، تنطوي على تناقضات لا يمكن تجاوزها واستحالات سخيفة مضحكة. ومع ذلك فإنه حين كتب مؤله العظيم "نور الرب" (1410) اتخذ فيه موقفاً كان يمكن أن يدافع المسيحيون من خلاله عن هذه النظريات: ذلك أنه أنكر العقل وألح في إخضاعه للإيمان حسداي حبراً رسمياً ولكنه شارك الأحبار رأيهم بأن الاضطهادات المتكررة كانت عقاباً إلهياً لتعريض الديانة التي جاءت عن طريق الوحي لخلخة عقلانية. وإذا كان قد كتب في الفلسفة، فلم يكن ذلك إعجاباً منه بها، بل لإثبات ضعف الفلسفة والعقل، وتوكيد الحاجة إلى الإيمان والعقيدة. وأنكر محاولات ابن ميمون وجرسون في التوفيق بين اليهودية وأرسطو، وتساءل: من هو ذلك الإغريقي الذي كان على الرب أن يتفق معه؟ واعترض على فكرة أرسطو بأن أسمى صفات الله هي المعرفة، بل هي الحب على الأرجح، لأن الله هو الخير المطلق. وسلم كرسكاس بأن العقل لا يستطيع أن يوفق بين سابق علم الله وحرية الإنسان، ومن ثم يجب ألا نرفض الحرية(26/176)
بل نرفض العقل. وينبغي أن نؤمن بالله، وبالإرادة الحرة والخلود، من أجل طمأنينة نفوسنا وهدوء بالنا وسلامة معنوياتنا، وليس بنا من حاجة إلى الادعاء بإثبات هذه المعتقدات عن طريق العقل. ويجب أن نختار بين عقلنا الفخور الضعيف الذي يزعزع الإيمان ويورث اليأس، وبين إيماننا المتواضع بكلمة الله، التي يمكن عن طريقها وحدها أن نحتمل ألوان المهانة والظلم في الحياة.
وكان كرسكاس آخر هذه الصفوة اللامعة من فلاسفة اليهود في العصور الوسطى، ولم يقدره قومه حق قدره بين عشية أو ضحاها، لأن تلميذه يوسف ألبو أنظار قراء الفلسفة بكتابه الأكثر إمتاعاً "المبادئ الأساسية"، الذي جمع بين ابن ميمون وكرسكاس عن طريق الانتقاء، مما جعله أكثر انسجاماً من أي من الرجلين، مع اليهودية الصحيحة التي لم تكن مستعدة للتسليم بعدم عقلانية الإيمان. وبعد موت ألبو اعتزل اليهود الفلسفة، والتاريخ تقريباً، حتى جاء سبيبوزا. إن المذابح، والاضطرابات، والفقر المدقع، وقيود الإقامة والمناصب، كانت قد حطمت روحهم وأنقصت عددهم إلى أدنى مستوى منذ سقوط أورشليم سنة 70م (85). ووجد الشعب المحتقر المنبوذ له ملجأ في الأغاني الحزينة، وفي رفاق المعبد المواسين، يراودهم الأمل في مغفرة من عند الله، وفي معذرة من أهل الأرض، وفي الجنة التي في السماء. وعكف العلماء بكليتهم على التلمود، وحصروا تفكيرهم في شرح قانون الخلاص، على حين اتبع بعضهم تعاليم "القبالة" فانصرفوا إلى التصوف الذي سما بالبؤس إلى(26/177)
حد التوهم بأنهم يرقون به إلى السماء. وأحجم الشعر اليهودي عن الغناء، ورفعت إثارة منه رأسها بين الحين والحين تتحدى العاصفة، أو تلطف من سخرية القدر، بالمرح الموسوم بالمرارة واللهفة والذكاء المشوب بالالتواء. وما كان لليهود أن يصحوا من سباتهم الطويل الناجع، ويستعيدوا مكانهم في ذهن عالم لا يحده زمان، ولا مكان فيه للعنصرية، حتى يهودي أمستردام المتواضع أن يوحد بين اليهودية والسكولاستية (الفلسفة المدرسية) والديكارتية في إدماج رفيع للدين والعلم.(26/178)
الكتاب الرابع
ما وراء الستار
الفصل الثالث والثلاثون
حياة الناس
1517 - 1564
1 - الاقتصاد
إن مسرحية الصراع الديني والسياسي الحربي الذي ملأ جبهة القرن السادس عشر، كانت من بعض النواحي سطحية. ذلك أنها لم تظهر إلا انطلاقاً من مسرحية أعمق، مثلت خلف مشاهد التاريخ أو تحت المسرح الفخم- أعنى معركة الإنسان اليومية الأبدية مع التربة والعناصر (الماء والهواء والتراب والنار) والفقر والموت. وماذا كانت، فوق كل شيء هبات ومراسيم البابوات والبروتستانت، والسخافات المتزاحمة في الأساطير القتالة، وزهو الملوك والأباطرة وتعاقبهم، وما كان ينتابهم من أمراض مثل النقرس والزهري، إذا قورن كل أولئك بالكفاح المرير من أجل الغذاء والمأوى والكساء والصحة والزوجة والولد والحياة؟
إن قرى أوربا في تلك الحقبة، كان لا بد لها ليلاً ونهاراً أن تحذر وتحترس من الذئاب والخنازير البرية، أو أي خطر يتهدد قطعانهم(26/179)
ومساكنهم. لقد عمرت مرحلة الصيد داخل عصر الزراعة، وكان لزاماً على الإنسان أن يقتل أو يُقتل، ويسرت أسلحة الدفاع طريقة (روتين) الكدح والعمل. وكانت آلاف الحشرات ووحوش الغابة وطيور السماء تنافس الفلاح في ثمار غرسه وكده ونصبه، والأمراض الخفية تهلك القسم الأكبر من ماشيته. وربما أصبحت الأمطار سيولاً جارفة أو فيضانات غامرة، وربما انقطعت حتى تذبل الحياة كلها. وكان الجوع دائماً يتربص بالناس، ولم يفارق الخوف من الحريق مخيلتهم قط. وكثيراً ما انتابتهم الأمراض، والأطباء على مسافات بعيدة منهم. وفي كل عشر سنين تقريباً ربما اختطف الطاعون من الأسرة فرداً عزيزاً أو له قيمته عند تعرض الأرض للخطر. وكان يموت في سن الطفولة طفلان من بين كل خمسة أطفال، ويموت ثالث قبل بلوغ (1)، ومرة واحدة على الأقل في كل جيل كان ضابط التجنيد يأخذ أحد الأبناء للجيش، وكانت الجيوش تحرق القرى وتنهب الحقول، وكان عشر المحصول بعد الحصاد يذهب إلى مالك الأرض، وعشر ثان إلى الكنيسة. وكانت الحياة على الأرض تصبح جحيماً لا يحتمله الجسم أو الروح، لولا أن شيئاً من السعادة يتخلل ابتهاج الأطفال وألعاب المساء في البيت، وإطلاق الأغاني ولعب الخمر بالرءوس في الحانات، والأمل نصف المصدق ونصف المشكوك فيه حياة أخرى أكثر رحمة وشفقة. هكذا كان إنتاج الغذاء الذي أطعم البارونات في الحصون والملوك في قصورهم والكهنة في محاريبهم، والتجار والصناع في المدن، والأطباء والمعلمين والفنانين والشعراء ورجال العلم والفلاسفة، وأخيراً، وأقلهم شأناً، رقيق الأرض أنفسهم. فالمدنية عالة على الإنسان الذي يحمل آلة العزق.
وكان علم الزراعة من خصائص هذا الزمان. ونشأ تقدم الإنتاجية أساساً من استبدال الملكية الكبيرة بالملكية الصغيرة. وأدخل مالكو الأرض(26/180)
الجدد من التجار والرأسماليين إلى البقاع الريفية الراكدة لهفة شديدة على الربح الذي زاد الإنتاج والبؤس كليهما معاً. وأدخل المستوردون المغامرون إلى أوربا مخصباً أو سماداً جديداً غنياً بالفوسفات والنتروجين - وهو روث الطيور الذي يجتمع على شواطئ بيرو. وتأقلمت في تربة أوربا نباتات وشجيرات من آسيا أو أمريكا، مثل البطاطس وشجرة المغنولية (نبات جميل الزهر)، والأغاف الأمريكي، والفلفل والدهلية (زهر جميل)، والكبوسين (أبو خنجر) ... وأحضر التبغ من المكسيك إلى أسبانيا 1558. وبعد ذلك بسنة واحدة أرسل جان نيكوت السفير الفرنسي في لشبونة بعض بذوره إلى كاترين دي مديتشي، وقد جزى التاريخ هذا السفير خير الجزاء فأطلق اسمه على أحد السموم.
ونمت صناعة صيد السمك بازدياد السكان، ولكن الإصلاح الديني سدد ضربة قاضية إلى تجار السردين بإباحة اللحوم يوم الجمعة، وتقدم التعدين بالتنظيم الرأسمالي. وكانت نيوكاسل تصدر الفحم في 1549، وضاعف أصحاب المناجم إنتاجها بحث العمال على بذل جهود أعظم وأكثر نظاماً، وتحسين وسائل تنقية المعدن الخام. وفي هذه السطور ينقلنا جورج أجريكولا إلى منجم في القرن السادس عشر:
إن أهم أنواع العمال هم المعدنون، الجرافون، الرافعون، الحمالون، الفرازون، الغسالون، الصاهرون ... وكانت ساعات الليل والنهار الأربع والعشرين، تنقسم إلى ثلاث نوبات كل منها سبع ساعات، والساعات الثلاث الباقية تتوسط النوبات، ليدخل العمال في أثنائها إلى المنجم أو يغادروه. وتبدأ النوبة الأولى الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الثانية عشرة وتنتهي في السابعة مساء. وهاتان نوبتان نهاريتان في الصباح وبعد الظهر. أما الثالثة، وهي النوبة الليلية، فتبدأ في(26/181)
الثامنة مساء وتنتهي في الثالثة صباحاً. ولا تفرض هذه النوبة الثالثة على العمال إلا إذا دعت الضرورة إليها. وفي هذه الحالة .. كانوا يسهرون على ضوء المصابيح الليلية، وحتى لا يغلبهم النعاس في هذه الساعات المتأخرة، أو لشدة التعب، كانوا يخففون من وطأة هذا العمل الطويل الشاق بالغناء الذي كانوا مدربين عليه، أو لم يكن غير سار لهم كلية. ولم يكن يباح في بعض المناجم لأي من العمال العمل نوبتين متعاقبتين، لأنه كان كثيراً ما يغلب عليه النعاس في المنجم من شدة الإجهاد من كثرة العمل إلى حد مفرط. وكان يباح ذلك في أماكن أخرى لأن العامل لا يستطيع العيش على أجر نوبة واحدة، وخاصة إذا ارتفع ثمن الحاجيات.
ولا يشتغل العمال أيام السبت، لأنهم يبتاعون فيها كل ما يلزمهم من ضرورات الحياة، كذلك لا يعملون أيام الآحاد والأعياد السنوية. ولكنهم في هذه المناسبات يخصصون ساعات النوبة للأغراض الدينية. ومهما يكن من أمر فإن العمال لا يستريحون ... إذا اقتضت الظروف أن يعملوا، فقد يجبرهم عليه أحياناً اندفاع الماء أو انهيار وشيك الوقوع. وفي مثل هذه الحالات لا يعتبر العمل في أيام العطلة أمراً لا يتفق مع الدين. وفوق ذلك، فإن العمال من هذه الفئة أقوياء أشداء ألفوا هذا الكدح والمشقة منذ ولادتهم (2).
وفي 1527 عين جورج أجريكولا طبيباً لمدينة جوتشمستال Goochimsthal. وفي مدينة التعدين انصرف جورج بين الحين والحين إلى التعدين، وهناك، وفي أماكن أخرى تحمس جورج وافتتن بدراسة تاريخ التعدين وعملياته وعلم المعادن، وعكف على البحث عشرين عاماً، أكمل بعدها (1550) "رسالته عن المعادن" وهي رسالة ممتازة في موضوعها بالنسبة لعصرها، لها من القيمة(26/182)
مثل ما لروائع كوبرنيكس وفيساليوس التي ظهرت في نفس العقدين من السنين، ولقد وصف في تفصيل دقيق آلات التعدين والصهر وتقنياتها وعملياتها، واستخدم الفنانين في توضيحها بالرسوم. وهو أول من جزم بأن البزموت ولأنتيمون معدنان أوليان حقيقيان، وميز نحو عشرين صنفاً من المعادن لم تكن معروفة من قبل. وكان أول من شرح تركيب عروق الخام في طبقات الصخور من رواسب معدنية خلفتها مجاري المياه التي تنساب في الأرض وتحت الأرض (1) (3).
وحظي التعدين وعلم المعادن والمنسوجات بأكبر نصيب من التحسينات الآلية (الميكانيكية) التي ينسب الفضل فيها لهذا العصر. وإن أول سكك حديدية لهي تلك التي كانت تجر أو تدفع عليها العربات التي تحمل الخام. وفي عام 1533 أضاف جوهان جورحن إلى عجلة الغزل- التي كانت تدار حتى ذلك العهد باليد- ذراعاً (دواسة) تدار بواسطة القدم، ومن ثم تكون يد الغزال طليقة، وسرعان ما ضوعف الإنتاج بهذه الطريقة. وازداد الوثوق بدقة الساعات وصغر حجمها، وزينت بالحفر والنقوش والجواهر وطليت بالمينا. واقتنى هنرى الثامن ساعة دقيقة الحجم، تملأ مرة واحدة كل أسبوع. على أن أحسن ساعات العصر كان معدل الخطأ فيها نحو 15 دقيقة في كل يوم (4).
وتعثرت المواصلات والنقل خلف التجارة والصناعة. وتوسعت الخدمات البريدية إلى حد نقل المراسلات الخاصة خلال القرن السادس عشر، وحث الانقلاب التجاري على بناء السفن، وصارت السفن أرفع وأعمق، فساعد
_________
(1) نبذ أجريكولا "عصا الاستنباء" أو الغصن المتشعب" (وهي التي كانت غالباً ما تستعمل آنذاك للتعرف على وجود المعادن تحت الأرض) باعتبارها غير ذات نفع. ولكن عدادات جيجر تميل إلى تقدير هذه العصى المشجعة.(26/183)
ذلك على ثباتها وازدياد سرعتها. وزاد عدد الصواري من واحد إلى ثلاثة، والأشرعة إلى خمسة أو ستة (5). ولم يقتصر السباق بين فرنسوا الأول وهنرى الثامن، على الحرب والحب واللباس، بل تعداه إلى ابتناء السفن، وكان لكل منهما مركب فخم بني بناء على طلبه لإشباع نزواته، به دور علوي، يرفرف عليه في زهو واعتزاز علم البطولة الذي أرضى غرور كل منهما. وكانت سفينة أوائل القرن السادس عشر تستطيع أن تقطع في البحر المتوسط عشرة أميال في الساعة في الطقس المعتدل، ولكن السفن الثقيلة المصممة للمحيط الأطلسي كانت أسعد حظاً، حيث كانت تقطع 125 ميلاً في اليوم. وكانت أسرع رحلة برية هي رحلة حامل البريد، الذي كان يركب لمسافة خمسة وثمانين ميلاً في اليوم. ومع فأن الأنباء الهامة كانت عادة تصل من البندقية إلى باريس أو مدريد في عشرة أيام أو أحد عشر يوماً. ولعل أحداً لم يقدر آنذاك أية راحة ينعم بها نتيجة لوصول الأنباء متأخرة إلى حد يتعذر معه اتخاذ أي إجراء بشأنها. وكان معظم السفر بالبر على ظهور الخيل، ومن هنا جاءت الحلقة الحديدية الثقيلة المثبتة في باب مدخل كل بيت، يشد إليها حبل تقيد به الدابة. وتضاعف عدد العربات، ولكن الطرق بلغت من الرخاوة حداً لا يصلح كثيراً لمرور العجلات، ومن ثم كان لزاماً تزويد العربات بستة من الجياد أو أكثر لتجرها في الأوحال التي يتعذر تفاديها، وما كان يتوقع من العربات أن تقطع أكثر من عشرين ميلاً في اليوم. وظلت المحفات التي يحملها الخدم تستعملها السيدات ذوات اليسار في تنقلهن، أما عامة الشعب فكانوا يسيرون على الأقدام عبر القارة.
وكان السفر مألوفاً رغم الطرق والخانات. وذهب إرزم إلى أن خانات فرنسا كانت مقبولة محتملة، وعلى الأخص لأن النادلات الصغيرات "يقهقهن ويقمن بحيل وألعاب مرحة، وإذا غادرت المكان كن يحيينك بالعناق"،(26/184)
"كل ذلك مقابل أجر زهيد" ولكنه رمى أصحاب الخانات الألمان بالفظاظة وغلظة الطباع والبطء والقذارة:
إذا فرغت من تدبير أمر جوادك تدخل إلى غرفة المدفأة، بالحذاء العالي الساقين، والأمتعة والأوحال وغيرها، لأن هذه حجرة عامة لجميع القادمين. وفي غرفة المدفأة تخلع حذاءك، وتلبس نعليك وتبدل قميصك إذا شئت. وهناك ترى رجلاً يمشط رأسه وآخر ... يتجشأ الثوم ... وإنك لتسمع من فوضى اللغات واللهجات كما لو كنت في مبنى برج بابل ... وفي رأيي أنه ليس ثمة شيء أخطر من التنفس في مثل هذا الجو الخانق، وخاصة إذا كانت أجسام الناس مفتحة بفعل الحرارة ... وثمة شيء لا أرى ذكره .... ثم النساء والأنفاس الكريهة المنتنة .... ولا ريب أن كثيرين مصابون بالجدري أو الزهري الأسباني، أو كما يسيمونه الفرنسي. ولو أنها أمراض منتشرة في كل بلد (6).
إذا جرت الأمور على هذا النحو، حقاً، في بعض الخانات، فيمكن أن نغتفر خطأ أو اثنين للتجار المتجولين الذين يحطون رحالهم في هذه الخانات ويحتملون متاعبها في عملية ربط القرية بالقرية، والأمة بالأمة، في نسيج اقتصادي دائم الاتساع والانتشار. فقد فتح في كل عقد من السنين طريق جديد، براً كما فعل تشانسلر في روسيا، وبحراً كما تم في آلاف الرحلات البحرية المغامرة. وقد اتجر (شيلوك شكسبير) أي اليهود مع إنجلترا ولشبونة وطرابلس ومصر والهند والمكسيك (7). وكان لجنوى مستعمرات تجارية في البحر الأسود وأرمينية وسورية وفلسطين وأسبانيا. فلقد عقدت الصلح مع الباب العالي، وباعت الأسلحة إلى تركيا التي كانت في حرب ضد العالم المسيحي. والتقطت فرنسا هذه الفكرة، وعقدت اتفاقات خاصة بها مع(26/185)
سلاطين تركيا. وبعد 1560 سيطرت على تجارة البحر المتوسط، وكانت أنتورب تتلقى البضائع في كل لحظة، وتنقلها بالسفن إلى كل مكان في العالم.
ولمواجهة متطلبات هذا الاقتصاد المتوسع، حسن رجال المصارف من خدماتهم وأساليبهم. ولما ارتفعت نفقات الحرب بالانتقال من فرق الإقطاع المجندة الذين أحضروا معهم أقواسهم وسهامهم ورماحهم وسيوفهم، إلى جيوش وطنية أو جنود مرتزقة مزودين بالأسلحة النارية والمدافع، وتدفع الدولة رواتبهم وأجورهم- اقترضت الحكومات مبالغ لم يسبق لها مثيل من أصحاب المصارف. وكانت الفائدة التي تدفعها الحكومات أو تعجز عن دفعها، تقيم مؤسسة مالية، أو تقوض أركان أخرى. وكان أصحاب المصارف يقترضون مدخرات الشعب نظير فائدة، ليمولوا بها الصفقات الضخمة في التجارة والصناعة. وكانت صكوك التبادل تحل محل الشحنات الثقيلة المرهقة من العملة المتداولة أو البضائع. واختلفت معدلات فوائد القروض ولم يكن هذا الاختلاف نتيجة لجشع المقرضين، بقدر ما هو نتيجة للثقة في المقرضين. ومن ثم كانت المدن الحرة الألمانية التي سيطر عليها تجار يتميزون بالدفع الفوري العاجل، تستطيع أن تقترض بفائدة قدرها5%، على حين أن فرنسوا الأول اقترض بفائدة قدرها 10%، وشارل الخامس بفائدة قدرها 20%. وانخفض سعر الفائدة تبعاً للاستقرار الاقتصادي.
وسكت مقادير وفيرة من العملة السائلة من معدني الذهب والفضة اللذين استخرجا من مناجم ألمانيا والمجر وأسبانيا والمكسيك وبيرو، وجاء المدد الجديد من المعادن النفيسة في الوقت الناسب، لأن البضائع كانت قد تزايدت أسرع مما تزايدت العملة. وكان جزء من ثمن واردات آسيا يدفع في صورة صادرات، والجزء الباقي نقداً من الذهب أو الفضة، ومن ثم هبطت(26/186)
الأسعار في غضون السنين التي سبقت قيام كولمبس برحلاته، إلى حد تعويق المغامرات والتجارة. وبعد تطوير المناجم في أوربا واستيراد الذهب والفضة من أفريقية وأمريكا، فاقت كميات المعادن النفيسة إنتاج السلع، فارتفعت الأسعار، وانتعشت الأعمال وابتهج أصحابها، وزحزح الاقتصاد الجديد القائم على النقود المتحركة الاقتصاد القديم الذي تركز في امتلاك الأرض أو سيطرة النقابات على الصناعة، واحتل مكانه.
وكانت النقابات في دور الانحلال. وكانت قد نشأت وقويت في عهد تحكم المجلس البلدية وحماية الإنتاج المحلي، ولم تكن على درجة من التنظيم تسمح لها بتقديم رأس المال. أو بالشراء بالجملة من الموارد النائية، أو باستخدام أساليب المصانع وتقسيم العمل، أو الوصول بمنتجاتها إلى الأسواق البعيدة. وكانت منذ القرن الثالث عشر وما بعده قد ضربت حولها نطاقاً من العزلة الأرستقراطية وسوأت ظروف العمل، حتى بات من اليسير سوق العمال المهرة إلى أحضان رب العمل صاحب رأس المال، وكان عامل الربح هو الذي يحركه ويزوده بالحيوية والنشاط، ولكنه عرف كيف يجمع المدخرات إلى رأس المال، وكيف ومن أين يشتري الآلات والمواد الخام ويدير المناجم، ويؤسس المصانع، ويجند لها العمال، ويقسم العمل، ويخصص العمال لكل فرع منه، وبفتح الأسواق الأجنبية ويصل إليها، ويمول الانتخابات ويسيطر على الحكومات. وكانت الإمدادات الجديدة من الذهب والفضة تدعو بصوت عال إلى استثمارات تدر الربح الوفير. وبات الذهب الأمريكي رأس مال أوربا. وخلقت الرأسمالية "سحر المنافسة"، وحفزت إلى المغامرة، وأنتجت السعي المحموم وراء المزيد من الطرق الاقتصادية للإنتاج والتوزيع، ولم يكن ثمة مفر من أن تخلف وراءها القناعة الذاتية التي اتسم بها رجال النقابات. وتتركهم يتهادون في أساليبهم النمطية الرئيسية القديمة. ولقد فاق النظام(26/187)
الجديد في إنتاجه النظام كماً لا كيفاً، لأن التجار كانوا ينادون بإنتاج كميات كبيرة ليسددوا بصادراتهم الصناعية ثمن الواردات من الشرق.
وكانت الثروة الجديدة محصورة إلى حد كبير، في أيدي التجار وأصحاب رءوس الأموال وأصحاب المصانع، وحلفائهم في الحكومة، وظل بعض النبلاء يجمعون الثروة عن طريق الضياع الواسعة التي يستأجرها مئات المستأجرين، أو الحظائر التي تمد صناعة النسيج بالصوف. على أن الغالبية من ملاك الأرض الأرستقراطيين وجدوا أنفسهم محصورين بين شقي الرحى: الملوك من جهة، والمدن التي سيطر عليها رجال الأعمال من جهة أخرى، وانحطت قوتهم السياسية. وكان عليهم أن يقنعوا بكرم المحتد وشرف الأرومة. وشاركت الطبقة الكادحة النبلاء مصائب التضخم، فمن سنة 1500 إلى سنة 1600 ارتفع ثمن القمح الذي صنع منه الفقراء رغيف الخبز إلى 150% في إنجلترا، و 200% في فرنسا، 300% في ألمانيا. وفي سنة 1300 كان سعر البيض في إنجلترا 4 بنسات لكل 120 بيضة، وارتفع ثمن المقدار نفسه إلى بنسات في سنة 1400، وإلى 7 بنسات في سنة 1500، وإلى 42 بنساً في سنة 1570 (8). وارتفعت الأجور، ولكن في بطئ أكثر، لأن الحكومات كانت تتولى تنظيمها. وحدد قانون 1563 في إنجلترا الأجر السنوي للفلاح المستأجر بمبلغ قدره 12 دولار، ولعامل المزرعة 9. 50، وللخادم الرجل 7. 25، علماً بأن القوة الشرائية لهذه المبالغ في سنة 1563 تفوق مثيلتها في 1954 خمساً وعشرين مرة، فوصلت الأجور إلى نحو 180 دولاراً سنوياً. على أننا يجب أن نلاحظ أن الطعام والإقامة كانتا تضافان إلى هذه الأجور، وجملة القول أن التغييرات الاقتصادية في القرن السادس عشر تركت الطبقات العاملة أفقر نسبياً(26/188)
وأضعف سياسياً، من ذي قبل. فقد أنتج العمال السلع التي كانت تصدر ثمناً للكماليات المستوردة التي جعلت حياة نفر قليل من الناس مشرقة باسمة ناعمة.
واتسم الصراع بين الطبقات بمرارة، قل أن عرف لها مثيل منذ عهد سبارتاكوس (زعيم ثورة العبيد 71 ق. م.) وخير شاهد على ذلك ثورة الأهالي في أسبانيا، وحرب الفلاحين في ألمانيا، وثورة كت Ket في إنجلترا. وكثرت الإضرابات، ولكنها كانت تخمد بائتلاف أرباب العمل مع الحكومة. وفي 1558 قررت نقابة عمال النسيج التي كان يسيطر عليها السادة أن أي عامل يرفض العمل بمقتضى الشروط التي يضعها رب العمل يسجن لأول مخالفة، ثم يضرب بالسياط ويوصم بالعار في الثانية. وكانت قوانين التشرد في عهد هنري الثامن وإدوارد السادس من القسوة والوحشية إلى حد أن قلة قليلة من العمال تجاسروا على أن يوجدوا متعطلين بلا عمل. ونص قانون 1547 على أن أي عامل قادر من الناحية الجسمانية يترك عمله ليتسكع في البلاد كالمتشردين، يجب أن يدمغ صدره بحرف " V" ( الحرف الأول من Vagabond متشرد)، ويدفع به بوصفه عبداً رقيقاً إلى أحد المواطنين في الجهات المجاورة، لمدة عامين، ليعيش على "الخبز والماء وقليل من الشراب وحثالة اللحم"، فإذا لم يرتدع وتكرر منه التشرد، دمغ على خده أو جبهته بحرف " S" (Slave عبد) وحكم عليه بالاسترقاق طيلة حياته (9). وبفضل الشعب الإنجليزي، وكان فخراً وشرفاً له، أنه لم يمكن تطبيق هذه الإجراءات وسرعان ما أبطلت، ولكنها تكشف عن طباع حكومات القرن السادس عشر. وأصدر جورج دوق سكسونيا قراراً بالا ترفع أجور عمال المناجم في منطقته، وألا يسمح لعامل بترك عمله للبحث عن عمل في مكان آخر، وألا يستخدم رب العمل عاملاً كان قد أثار الاستياء في منجم(26/189)
آخر، وأجاز القانون صراحة أو ضمنا تشغيل الأطفال. وقام الأطفال في فلاندرز بصناعة المخرمات برمتها، وحرم القانون اشتغال البنات فوق سن الثانية عشرة في هذه المهنة (10). أما قوانين الاحتكارات والمضاربات والربا فكان مصيرها أو المراوغة في التنفيذ.
وتصادف ظهور الإصلاح الديني مع قيام الاقتصاد الجديد. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تناهض "الأعمال والمشروعات والتجارة" في حساسية بالغة. فلم يتفق كل هذا مع مزاج الكنيسة. وكانت قد أدانت فوائد القروض، وأجازت من الناحية الدينية قيام النقابات، وقدست الفقر وانتقدت الثراء، وأعفت العمال من العمل أيام الآحاد والعطلات التي كانت كثيرة، إلى حد أنه في 1550 بلغ عدد الأيام التي لا عمل فيها 115 يوماً في السنة في الأقطار الكاثوليكية (11). وربما كان لهذا أثره في الإبطاء بالتصنيع والإثراء في هذه البلاد. ودافع رجال اللاهوت، بموافقة الكنيسة، عن فكرة تحديد "أسعار عادلة" لضرورات الحياة بمقتضى القانون، وكان توماس الأكويني قد وصم السعي إلى المال، بعد الوفاء بحاجيات الإنسان، بأنه "جشع آثم"، وحكم بأن أية مقتنيات أو مدخرات فائضة عن الحاجة، "تخصص بمقتضى القانون الطبيعي لإغاثة الفقراء وإسعافهم" (12). وشارك لوثر في هذه الآراء، ولكن التطور العام للبروتستانتية تعاون، دون وعي، مع الانقلاب الرأسمالي. وألغيت عطلات القديسين، وكان من نتيجة ذلك زيادة العمل ورأس المال معاً. ولقي المذهب الديني الجديد تأييداً ودعماً من رجال الأعمال، وجزاء مجاملة مثلها، فنظر البروتستانت إلى الثروة بعين الإجلال والإكبار، وأثنوا على التدبير والاقتصاد، وشجعوا العمل على أنه فضيلة، وارتضوا الفائدة على أنها مكافأة مشروعة لمخاطرة المرء بمدخراته.(26/190)
2 - القانون
لقد كان عصراً قاسياً رهيباً، انسجمت قوانينه مع اقتصاد لا يرحم، وإملاق مخزٍ وفن كئيب، ولاهوت تخلى ربه عن المسيح وتبرأ منه.
وكانت الجريمة أمراً طبيعياً، بين سكان كتب على معظمهم الفقر والفاقة في الدنيا، واللعنة في الآخرة. وكان القتل منتشراً بكثرة في كل الطبقات. وتدلى الخنجر من حزام أي رجل ذي وزن، أما الضعفاء فقد اعتمدوا على القانون في إصلاح أخطائهم. وكانت جرائم الهوى والانفعال كثيرة جداً قدر كثرتها في روايات شكسبير. فلم يكن في زمرة الرجال أي "عطيل" أخفق في ذبح زوجته التي اشتبه في سلوكها. واعتبر المسافرون قطع الطرق أمراً مفروغاً منه أو قضية مسلماً بها، فساروا في جماعات. وكان عدد اللصوص في المدن التي لم تزل غير مضاءة ليلاً، وفيراً قدر وفرة العاهرات. وكان لزاماً أن يكون بيت الرجل حصناً منيعاً. وفي أوج عظمة فرنسوا الأول، أعملت السلب والنهب في باريس في وضح النهار عصابة من اللصوص أطلق عليها اسم "الأولاد الأشرار". ويروي لنا برانتوم، رواية غير موثوقة كما تعودنا منه، كيف أن شار التاسع رغب في أن يعرف كيف ينفذ النشالون أفانينهم، "فأمر شرطته بدعوة بعضهم إلى حفلة راقصة ملكية، وطلب بعد انتهاء الحفل أن يرى غنائمهم، فوجد أن ما جمعوه من نقود وحلى وملابس بلغ دون تباه أو تفاخر، في هذا المساء، ما قيمته عدة آلاف من الدولارات، مما ظن معه أن الملك سيموت من كثرة الضحك". ورخص لهم في الاحتفاظ بحصيلة فنهم ودراستهم، ولكنه ضمهم إلى الجيش لأن مماتهم خير من بقائهم على قيد الحياة (13). فإذا صنفنا، باعتبارها جرائم، الغش في السلع، والمغالطة التي تتسم بها حيل رجال الأعمال، وتفشى الرشوة في المحاكم، والاستيلاء على أملاك الكنيسة، وتوسيع الحدود بالغزو(26/191)
والفتح، نقول إذا صنفنا هذه كلها في عداد الجرائم، لوجدنا أن واحداً من بين كل اثنين في أوربا لص، وقد نضفي على بعضهم الحصانة الأكليريكية، وقد نسلم بوجود حرفي أمين هنا أو هناك. فإذا أضفنا إلى ذلك شيئاً من إحراق المباني عمداً، وبعضاً من حوادث اغتصاب الفتيات، وقليلاً من الخيانة، لبدأنا ندرك المشاكل التي تواجهها قوات النظام وحماة القانون.
وقد نظمت قوات النظام والقانون هذه، لتوقيع العقاب، أكثر منها لمنع الجرائم، وكان رجال الشرطة في بعض المدن الكبرى، مثل باريس، هم حفظه الأمن، وكان لكل قسم في المدينة مراقبوه وحراسه، ولكل أبرشية شرطتها. ولكن ضبط الأمن والنظام كان في المدن سيئاً إجمالاً. وأجهد رجال الحكم أنفسهم في مكافحة الطبيعة البشرية، وأخيراً قدروا أنه من الأفضل والأقل تكلفة، الحد من الجرائم بفرض عقوبات بالغة الشدة وتنفيذها علناً أمام أعين الناس ... وكان هناك عشرات من الجرائم الرئيسية: القتل، الخيانة، الهرطقة، تدنيس المقدسات والمعابد، السحر، السلب، التزوير، التزييف، التهريب، الإحراق عمداً، الحنث بالقسم، الزنى، اغتصاب الفتيات (إذا لم يسو بالزواج)، اللوط، "الانغماس في الشهوات البهيمية"، غش الموازين والمقاييس، إفساد الطعام، تخريب الممتلكات ليلاً، الهروب من السجن، الإخفاق في محاولة الانتحار، وقد تكون العقوبة ضرب العنق بدون ألم أو تعذيب نسبياً، وهذا امتياز اختص به عادة السيدات وأفاضل الرجال، أما من هم أقل مكانة فكانوا يشنقون. أما الهراطقة وقتلة الأزواج فكانوا يحرقون. أما السفاحون البارزون فكانوا يشدون أطراف الواحد منهم (يديه ورجليه) إلى أربعة خيول يجري كل منها في اتجاه مضاد حتى يتمزق جسم المجرم. واصدر هنري الثامن في 1531 قانوناً يعاقب من يدس السم، بالغلي حياً (14)، كما نفعل نحن الأكثر وداعة ورقة بالمحار أو السمك.(26/192)
ونص قانون محلي في سالزبرج بان يحرق المزور أو يغلى حتى الموت. وأن يقطع لسان الحانث في اليمين من رقبته. أما الخادم الذي يضاجع زوجة سيده أو ابنته أو شقيقته فيضرب عنقه أو يشنق (15). وأحرقت جولين رابو في آنجرز (1531) لأنها كانت قد قتلت طفلها أثر ولادة مؤلمة (16). وهناك أيضاً، إذا صدقنا ما رواه بودن، عدة أفراد أحرقوا أحياء لتناولهم اللحم يوم الجمعة، ورفضهم الندم على ما فعلوا، أما الذين أظهروا الندم فكانت عقوبتهم مجرد الشنق (17). وكانت العادة أن تترك جثة المشنوق معلقة حتى تنهش الغربان لحمها، ليكون عظة وعبرة للأحياء، وفي الجرائم الصغرى كان يجلد الرجل أو المرأة أو تقطع إحدى يديه أو قدميه أو أذنيه، أو انفه، أو تفقأ إحدى عينيه أو كلتاهما، أو يكوى بالحديد المحمى. وهناك جنح أخف كان عقابها السجن الذي تختلف فيه ظروف المعاملة بين المجاملة والخشونة، أو تعذيب المذنب بآلة خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلاه ويداه، أو إدخال أيدي المذنب ورأسه في آلة خشبية تسمى "المشهرة"، أو الجلد، أو التعذيب على كرسي التغطيس. وكان السجن وفاء للدين معروفاً شائعاً في جميع أنحاء أوربا. وبصفة عامة كان قانون العقوبات في القرن السادس عشر أشد قساوة منه في العصور الوسطى، ولقد عكس الفوضى الأخلاقية في ذاك العصر.
ولم يكن الناس يستاءون من هذه العقوبات الصارمة، بل لقد أحسوا ببعض السرور والابتهاج في مشاهدة تنفيذها وساعدوا في بعض الأحيان في التنفيذ. ولما اعترف مونتكوكولى تحت وطأة التعذيب، بأنه كان قد سمم، أو حاول أن يسمم، فرانسيس، الابن العزيز المحبوب لفرانسوا الأول، مزقت أوصاله حياً، بربط أطرافه إلى أربعة خيول جرت في أربعة اتجاهات، (ليون 1536) وقيل إن الجمهور مزق بقايا جسمه إلى قطع(26/193)
صغيرة، وفتت أنفه، واقتلع عينيه، وحطم فكيه، ومرغ رأسه في الوحل، وجعله يموت ألف مرة قبل أن يفارق الحياة (18).
وهناك إلى جانب القوانين التي شرعت للجرائم، وضعت "القوانين الزرقاء أو قوانين المتطهرين" ضد اللهو والتسلية التي يظن أنها تجافي التقي والورع، أو البدع التي تنافي العرف بشكل حاد، فقد اقتضى القانون العرفي في العالم الكاثوليكي أكل السمك في أيام الجمعة، كما اقتضته قوانين الدولة في إنجلترا البروتستانتية في عهد إدوارد السادس دعماً لصناعة صيد الأسماك، وتدريباً للرجال على ركوب البحر من أجل الأسطول (19). وكان الميسر دائماً غير مشروع، ودائماً شائعاً مرغوباً فيه. وأمر فرانسوا، الذي عرف أساليب اللهو والتسلية، بالقبض على من يلعبون الورق أو النرد في الحانات أو نوادي الألعاب (1526) ولكنه أباح إقامة "يانصيب" عام (1539). وقلما كان القانون يعاقب على إدمان الخمر، على حين اعتبر البطالة والخمول جريمة رئيسية تقريباً. أما قوانين التبذير أو الإنفاق بسخاء- وهي التي وضعت لضبط الأغنياء الجدد الذين ينفقون إنفاقاً مريباً يدعو إلى الاشتباه، والمحافظة على فوارق الطبقات، فقد حددت هذه القوانين، الأزياء والزينة والأثاث ووجبات الطعام وواجبات الضيافة. ويقول لوثر "عندما كنت صبياً كانت الألعاب محرمة، حتى أن صانعي أوراق اللعب، والعازفين على المزمار والممثلين لم يكن يسمح لهم بشهود الأسرار المقدسة. أما من كانوا قد اشتركوا في الألعاب، أو حضروا حفلات الألعاب أو الروايات، فكانوا يجعلون هذا موضوع اعتراف أمام القسيس" (20). وعاشت هذه المحرمات بعد الإصلاح الديني. وبلغت ذروتها في أخريات القرن السادس عشر.
وثمة بعض العزاء في أن التطبيق قل أن كان على قدر صرامة القانون،(26/194)
وكان التهرب أمراً ميسوراً. وكم من قاض أو محلف، بدافع الشفقة أو التخويف أو بفضل الرشوة- أطلق سراح كثير من الأوغاد مقابل عقوبة يسيرة أو غرامة. وكانت قوانين اللجوء إلى الكنيسة لا يزال معمولاً بها في عهد هنري الثامن. وكانت المرونة في التطبيق، على أية حال، تتوازن مع استعمال التعذيب لانتزاع الاعترافات أو البيانات. وهناك كانت قوانين هنري الثامن، على الرغم من كونها أقسى القوانين في تاريخ إنجلترا- نقول كنت متقدمة عن زمانها (21)، لأنها حرمت التعذيب إلا إذا رؤى أن للجريمة علاقة بالأمن القومي (32)، ويمكن أن يكون الإبطاء في محاكمة المتهم تعذيباً أيضاً. فقد شكا كورتيز الأسباني إلى شارل الخامس من أن المتهمين، حتى بأخطاء يسيرة، طال بقاؤهم في السجن عشر سنين أو نحوها، قبل أن يحاكموا، وأن المحاكمات قد تتلكأ لمدة عشرين عاماً (23).
وترعرع المحامون وتضاعف عددهم مع اضمحلال جماعة الكهنة، وملئوا مناصب السلطة القضائية والبيروقراطية العالية، ومثلوا الطبقات الوسطى في الجمعيات الوطنية والبرلمانات الإقليمية، وحتى الطبقة الأرستقراطية ورجال الدين اعتمدوا على المحامين في القضايا المدنية، وتكونت منهم في فرنسا طبقة جديدة: "نبلاء الرداء- الروب"، أو على حد قول رابليه الهجاء الفرنسي "القطط ذوات الفراء". واختفى القانون الكنسي في الأقطار البروتستانتية. وحلت فلسفة التشريع محل اللاهوت "كأداة للمقاومة" في الجامعات. وعاد القانون الروماني إلى الحياة في الأقطار اللاتينية، وسيطر على ألمانيا في القرن السادس عشر، وعاش القانون المحلي معه جنباً إلى جنب في فرنسا. أما في إنجلترا فقد فضلوا عملية "القانون العرفي". ولكن كان لقوانين جستنيان بعض الأثر في تشكيل وتدعيم الحكم المطلق الذي أقامه هنري الثامن. على أنه في(26/195)
بلاط هنري الثامن نفسه، ألف قسيسه الخاص توماس ستاركي (1537) "حواراً" كانت الفكرة الأساسية فيه أن القوانين يجب أن تفرض إرادة الملك، وأن الملوك يجب أن يخضعوا للانتخاب والعزل.
لا يمكن أن يطول حكم هذه البلاد حكماً صالحاً،
أو الاحتفاظ فيها بسياسة حكيمة، طالما أنها تحكم بإرادة
فرد لم يتم اختياره بطريق الانتخاب، بل أنى إلى العرش بالتعاقب
الطبيعي. فقلما شهدنا أن الذين يأتون إلى العرش أو الممالك
عن طريق هذا التعاقب، كانوا جديرين بتولي هذه المناصب
السامية والسلطات العالية .... وأي شيء أبغض إلى الطبيعة من
أن تحكم أمة بأسرها وفق إرادة أمير؟؟ وأي شيء أكثر تنافياً
مع العقل من أن شعباً برمته يحكمه من يعوزه العقل عموماً؟؟ ..
وليس ثمة إنسان يستطيع أن يخلق أميراً حكيماً عاقلاً ممن ينقصه
الذكاء والحصافة بالطبيعة ... ولكن في مقدور الإنسان أن
ينتخب ويختار من يتوفر فيه العقل والعدالة معاً، فينصبه
أميراً، ومن ثم يخلع الطاغية المستبد (24).
وكان موضع العجب والغرابة أن يموت ستاركي موتاً طبيعياً بعد عام واحد من كتابه "حواره" الذي لم يطبع إلا بعد 334 سنة من تدوينه.
3 - الأخلاق
كيف كان سلوك الناس في العالم المسيحي اللاتيني؟ إنه لجدير بنا ألا يضللنا جهرهم بالإيمان بالدين، حيث لم يكن ذلك في الغالب إلا ولعاً بالشقاق والمشاكسة، أكثر منه ورعاً وتقوى. فإن نفس الشخص العنيد الذي يستطيع أن يتشدد في إيمانه يستطيع أن يكون عنيفاً كذلك في تجديفه، وإن البنات اللائى ينحنين متظاهرات بالرزانة والاحتشام أمام تماثيل العذراء،(26/196)
أيام الأحد، ليصبغن وجناتهن بالحمرة ويتجملن طيلة الأسبوع يحدوهن الأمل، وكثيرات منهن انزلقن تحت تأثير الإغراء والغواية، لمجرد عرض فكرة الزواج. وما كان من الميسور حماية العذارى وعذرتهن وبتولتهن إلا بالتمسك بكل أهداب العرف والأخلاق والقانون والدين وسلطة الوالدين والتعليم، و "حدود للشرف". ولكن ما كان أكثر الاحتيال على الانزلاق. إن الجنود الذين عادوا من الحملات التي كان الخمر والنساء فيها عزاءهم وتسليتهم الأساسية، وجدوا من المؤلم لهم ومن العسير عليهم أن يروضوا أنفسهم على العفة والامتناع عن شرب الخمر. وانغمس الطلبة في الفسق والفجور، واحتجوا بأن الزنى خطيئة عرضية تغتفر" (25)، ويمكن أن يتجاوز عنها المشرعون المستنيرون. ولقد أعلن روبرت جرين أنه في كمبردج كان قد "أفنى زهرة شبابه بين أوغاد فاجرين لا يقلون عنه دعارة" (26). وكثيراً ما ظهر الراقصات على المسرح، او في أي مكان آخر، "عاريات تماماً" (27). ومن الواضح أن هذه بدعة من أقدم البدع في الدنيا- ولقد نظر الفنانون بازدراء إلى قواعد السلوك الجنسي ونظمه (28)، واتفق اللوردات والسيدات مع الفنانين في ذلك. وكتب برانتوم: "إن الطبقات العليا استخفت بقواعد السلوك عند العذارى وما يحوم حولهن من شكوك، وكم من آنسات أعرفهن في دنيا العظماء، لم يأخذن معهن بكارتهن إلى فراش الزوجية" (29). ولقد لحظنا نوع القصة التي بدا أن مرجريت نافار الجميلة سمعتها دون أن تحمر وجنتاها خجلاً. وكم زخرت المكتبات بكتب الأدب الخليع المكشوف، التي تدفع فيها أثمان عالية في نهم شديد (20). وكان لأرتينو (هجاء لاذع في إيطاليا في القرن الخامس عشر) في باريس شعبية قدر شعبيته في رومه"، ولم يحس رابليه، الكاهن بأنه من الجائز أن ينقص المبيع من ملحمته "جارجنتوان Gargantuan" بحشوها بكلام جعل أرتينو يسارع لإخفائه. ووجد(26/197)
الفنانون سوقاً رائجة للصور الجنسية، بل حتى للانحرافات المصورة (31)، وكان الباعة المتجولون في الشوارع، وحماة البريد واللاعبون الجوالون يبيعون روائع الصور للتي من هذا القبيل، حتى في المعارض والأسواق الخيرية الكبرى (32). لقد وجدت كل ألوان الابتذال والانحراف لها مكاناً فسيحاً في تلك الحقبة (33). مثلما وجدته في الصفحات التي دونها برانتوم والتي تتسم بالأرستقراطية (34).
وزاد الدخل من البغاء وارتفع شأنه. وحدث في هذا العصر أن أطلق على من يمارسه "سيدات البلاط"- (في مقابل رجال البلاط). وقدم بعض القواد البغايا إلى جيوشهم، حرصاً منهم على حماية سيدات البلاد التي يحتلونها (35). ولكن نسبة الأمراض السرية ارتفعت إلى حد الوباء تقريباً. وكم أصدرت الحكومة تلو الحكومة من تشريعات ضد "بنات الهوى"التعيسات. وعلى حين أكد لوثر أن الرغبة الجنسية أمر طبيعي، نراه قد كافح للإقلال من البغاء، وبتحريض منه حرمته كثير من مدن ألمانيا اللوثرية (36). وفي 1560 جدد ميشيل دى لوبيتال مستشار فرنسا قوانين لويس التاسع ضد هذه الرذيلة، والظاهر أن أوامره نفذت.
وفي الوقت نفسه نجد أن الشهوة الحمقاء للجسد من أجل الجسد، أورثت ظمأ النفس إلى النفس، وإلى كل ما كان يزدان به التودد والحب الرومانتيكي من رقة وكياسة، وتدفقت الدماء التي تغلي في العروق في النظرات المختلسة والرسائل الغرامية والقصائد الغنائية والمقطوعات الشعرية والأناشيد والقطع الغزلية والهدايا المشجعة واللقاءات السرية. ورحبت بعض الشخصيات المهذبة أو السيدات اللعوبات من إيطاليا وكاستليوني، بالتسلي بحب أفلاطوني تكون فيه السيدة والرفيق المتودد إليها صديقين حميمين، ولكن محافظين على الطهارة والعفة، ولكن مثل هذا اللون من كبح جماح النفس لم يكن من شيمة هذا العصر، فقد كان الرجال شهوانيين بطريقة مكشوفة، وأحب النساء هذه(26/198)
الحلة فيهم، وكثر شعر الغرام، ولكنه كان مقدمة لأفتناص النساء.
وبالنسبة للزواج، بقي الآباء واقعيين إلى حد عدم السماح للمحب باختيار رفيقة الحياة، فقد كان الزواج في شريعتهم زفافاً إلى الضيعة أو الثروة أو المكانة الاجتماعية (زواج المصلحة)، ونصح إرزم الذي كان شديد الإحساس بمفاتن المرأة، لا بالزواج، نصح الصغار بالزواج ممن يختاره الكبار، على أن يتركوا الحب ينمو بالمزاملة والمرافقة أفضل من أن يذبل ويذوي بإشباع الشهوة (37)، واتفق رابليه معه في هذا الرأي (38). وعلى الرغم من هؤلاء الثقاة، ثار عدد متزايد من الشباب، مثل جان د ألبرت، على الزيجات المبنية على الثروات والعقارات الثابتة. ونعي روجر أسكام معلم الملكة اليصابات: "أن عهدنا بعيد جداً عن النظام والامتثال القديمين، حتى أن الشبان، بل والبنات أنفسهن- اصبح الجميع يجرءون على الزواج رغم أنف الأب والأم والنظام السليم وكل شيء (39). وفزع لوثر حين علم بأن ابن ميلانكتون خطب لنفسه عروساً دون استشارة أبيه، وأن أحد صغار القضاة في وتنبرج أعلن صحة هذه الخطبة، ورأى المصلح الديني (لوثر) أن هذا سيسيء حتماً إلى سمعة وتنبرج. وفي 22 يناير 1544 كتب في الجامعة:
إن لدينا عدداً وفيراً من الشبان من مختلف البلاد، وان سباق
البنات ليشتد، وأنهن ليجرين وراء الرفاق في حجراتهم وقاعاتهم
وحيثما استطعن إليهم سبيلاً، ليعرضن عليهم حبهن الطليق. ولقد
سمعت أن كثيراً من الآباء أمروا أبنائهم ... بالعودة إلى بيوتهم ...
قائلين إننا نعلق الزوجات حول رقاب أبنائهم ... وفي يوم الأحد
التالي ألقيت عظة قوية أدعو الرجال إلى اتباع السبيل القويم والقاعدة
اللتين وجدتا منذ بدء الخليقة ... أعني أن يزوج الآباء أبنائهم
بعضهم من بعض بروية وحسن نية، دون أن يرتبط الأبناء بارتباط(26/199)
تمهيدي .. فإن مثل هذه الارتباطات من ابتداع البابا الممقوت،
أوحى بها إليه الشيطان ليحطم ويمزق سلطة الآباء التي منحها الله
إياهم وأوصى بها لهم بصفة جدية (40).
وكان يمكن تنظيم عقود الزواج للأولاد والبنات ابتداء من سن الثالثة، ولكن كان من الميسور فسخها إذا لم تتحقق. وكانت السن الشرعية للزواج الرابعة عشرة للولد والثانية عشرة للبنت. وكان من المستطاع التجاوز عن العلاقات الجنسية بعد الخطبة وقبل الزفاف، وحتى قبل الخطبة، في السويد وفي ويلز، كما كان في بعض المستعمرات الأمريكية فيما بعد، وكان يسمح للحبيبين بالاشتراك في فراش واحد دون أن يخلعا ملابسهما، ولكنهما كانا يذكران بالاحتفاظ بملاءة بينهما حتى لا يلتصق جسماهما (41). ولم يعد الزواج في البلاد البروتستانتية سراً مقدساً، وما حل عام 1580 حتى بات الزواج المدني يزاحم الزواج على يدي الكاهن. وارتأى لوثر وهنري الثامن وإرزم والبابا كليمنت السابع أن الزواج من امرأتين يمكن أن يرخص فيه تحت شروط معينة، وخاصة إذا كان بديلاً للطلاق. واتجه رجال الدين من البروتستانت شيئاً فشيئاً إلى إباحة الطلاق، وكان ذلك في أول الأمر بسبب الزنى فحسب، وكانت هذه الجريمة أكثر شيوعاً في فرنسا، على الرغم من عادة قتل الزوجة الزانية هناك. وكان الحب غير المشروع جزءاً من الحياة العادية للسيدات الفرنسيات ذوات المركز الاجتماعي المرموق (42). وكان البيت الذي يضم زوجاً وزوجتين أمراً مألوفاً كثيراً في فرنسا، مثال ذلك البيت الذي كان يضم هنري الثالث وكاترين دى مدينتشي وديان دى بواتييه، وكانت الزوجة الشرعية (المعقود عليها) ترتضي هذا الوضع في كياسة مرة ساخرة، كما يحدث أحياناً في فرنسا اليوم.
وباستثناء الطبقة الأرستقراطية، كانت المرأة قبل الزواج معبودة(26/200)
وألهه، وبعده خادمه. وكانت الزوجة تقوم بواجبات الأمومة خير قيام أدون صعوبة أو تردد، وتبتهج وتفاخر بكثرة الأولاد، وتحتال على أن تسوس رب البيت. وكان النساء قويات معتادات على العمل الشاق من طلوع الشمس إلى مغربها، ويقمن بحياكة معظم الملابس اللازمة لأسراتهن. وكن في بعض الأحيان يعملن مع المقاولين الرأسماليين. وكان النول جزءاً أساسياً من البيت. وفي إنجلترا كان معظم النساء غير المتزوجات غزالات، أما سيدات البلاط الفرنسي فكن شيئاً آخر، ولقد شجعهن فرانسوا الأول على تجميل أجسامهن وملابسهن. واستطعن في بعض الأحيان تحويل السياسة الوطنية بفعل "القذائف الموجهة" التي تطلقها مفاتنهن. وورد من إيطاليا على فرنسا، حركة نسائية، ولكنها لم تلبث أن خمدت، لأن النساء أدركن أن قوتهن وشهرتهن شيء مستقل عن السياسة والقانون. وكان كثير من نساء الطبقة العليا على درجة عالية من الثقافة. وفي باريس، وفي غيرها، بدأ الصالون الفرنسي آنذاك يتشكل، حيث جعلت السيدات المثقفات ذوات اليسار من بيوتهن ملتقى رجال الدولة والشعراء والفنانين والعلماء والأساقفة والفلاسفة، وثمة مجموعة أخرى من السيدات الفرنسيات بقين متمسكات بأهداب الفضيلة، في هدوء، وسط العاصفة الهوجاء- عاصفة الجنس- مثل آن أوف فرانس، وآن أوف برتياني، وكلود، ورينيه. وبصفة عامة، فإن الإصلاح الديني الذي نبت في تربة تيوتونية (ألمانيا وشمال أوربا) عمل على تدعيم فكرة المجتمع الأبوي وسلطان الأب على المرأة والأسرة. كما وضع الإصلاح حداً لتمجيد المرأة في عصر النهضة، بوصفها نموذجاً للجمال وعاملة على تمدين الرجل، كما أدان الكنيسة بالتساهل في الانحرافات الجنسية، ومهد الطريق بعد موت لوثر لجفاء المتطهرين (الحركة البيوريتانية).
وتدهورت الأخلاق الاجتماعية بنشوء الروح التجارية وشدة الاهتمام بالربح، والإحجام المؤقت عن أعمال البر والإحسان والصدقات. ووجد(26/201)
الخداع والتضليل والخيانة- وهي أمور طبيعية في الإنسان- أساليب وفرصاً جديدة، منذ حلت اقتصاديات المال محل النظام الإقطاعي، ومنذ تملك الأغنياء الجدد السندات المالية أكثر مما تملكوا الأرض، وكانوا قليلاً ما يرون الأفراد الذين أفادوا من كدهم وعرقهم، فأن هؤلاء الأغنياء لم يكن لديهم من تقاليد المسئولية والكرم ما كان قد ذهب وولى مع الثروة القائمة على امتلاك الأرض (43). وكانت التجارة والصناعة في العصور الوسطى قد ارتضتا الضوابط الأخلاقية المتمثلة في توجيهات النقابات والمجالس المحلية والكنيسة، ولكن الرأسمالية الجديدة رفضت كل هذه القيود، وجرت الناس إلى منافسة عنيفة طوحت بالقوانين القديمة عرض الحائط (44). وحلت الحيل التجارية محل الموسومة بالتقي والورع. وضجت نشرات الإعلان في ذاك الزمان بالتحذيرات من غش الأطعمة وسائر المنتجات بالجملة. وشكا مجلس الديت في انسبروك 1518، من أن المستوردين "يضيفون الآجر المسحوق إلى الزنجبيل، ويخلطون الفلفل بمواد غير صحية" (45). ولحظ لوثر أن التجار "عرفوا كيف يحتالون على زيادة وزن التوابل- مثل الفلفل والزنجبيل والزعفران- بوضعها في أقبية رطبة، وأنه ليس ثمة سلعة واحدة لا يستطيعون أن يجنوا من ورائها أرباحاً طائلة بالغش في الكيل أو العد أو الوزن أو استحداث ألوان مصطنعة ... وليس ثمة نهاية لحيلهم" (46). ووصم سناتو البندقية حمولة سفينة من الأصواف الإنجليزية بأنها مغشوشة من حيث الوزن والصنع والحجم (47).
وكان الناس في الأقطار اللاتينية لا يزالون يقبلون على أعمال البر والإحسان والصدقات بصدور منشرحة، كما كان الحال في العصور الوسطى، وأنفقت الأسرات النبيلة جزءاً كبيراً من دخولها في الهبات والصدقات (48). وورثت ليون عن القرن الخامس عشر منظمة ضخمة للصدقات المحلية أمدها المواطنون بالأموال بسخاء عن طيب خاطر (49). أما(26/202)
في ألمانيا وإنجلترا فلم تكن الأيدي مبسوطة إلى هذا الحد. وبذل لوثر كل ما في وسعه ليعيد نظام الصدقات الذي كان قد اختل بمصادرة الأمراء لأملاك الأديرة، ولكنه اعترف بأن جهوده لم تكلل بالنجاح. ورثى "لأن الناس في عهد البابوية كانوا محسنين وتصدقوا عن طيب خاطر (50)، ولكنهم في ظل شريعة الإنجيل لم يعودوا يعطون شيئاً، وبات كل فرد يسلب الآخر ... ولن يتصدق أحد بفلس واحد" (51). ونقل إلينا لاتيمر (من رجال الإصلاح الديني البروتستانتي في إنجلترا في القرن السادس عشر) رواية مشابهة: " لم يقس قلب لندن قط كما هو حالها الآن، فإذا مات أحد الأغنياء في الأزمنة الغابرة، كان ذووه يرصدون مبالغ كبيرة من المال لإغاثة الفقراء ... أما الآن فقد تجمدت المروءة وانقضى عهدها (52). وأبلغ الكاردينال بول لندن، أن مدينتين في إيطاليا تصدقتا بأكثر مما تصدقت به إنجلترا بأسرها (53). وانتهى فرود إلى أنه "لما انتشر الصدق، تقلص البر والعدل في إنجلترا" (54). ويحتمل أنها ليست البروتستانتية، ولكنها الروح التجارية والكفر هما اللذان انقضا الصدقات والإحسان.
واشتد الفقر حتى أصبح يشكل أزمة اجتماعية، فإن المستأجرون المطرودين والعمال المهرة العاطلين والجنود المسرحين هاموا على وجوههم في الطرقات أو الأكواخ المصنوعة من القش يسألون الناس أو يسلبونهم ليعيشوا. وقدر عدد المعوزين في أوجزبرج بسدس السكان وفي همبرج بخمسهم، وفي لندن بربعهم (55). وصاح المصلح الديني توماس لفر يوما "يا رب يا رحيم، ما هذا العدد الضخم من الفقراء والضعفاء والعرج والعمى والمقعدين والمرضى ... والذين يرقدون أو يزحفون في الشوارع الموحلة" (56) وكان لوثر الذي امتلأ قلبه بالرحمة قدر ما اتسم لسانه بالقسوة، من أول من أدركوا أن الدولة يجب أن تتولى عن الكنيسة رعاية المعوزين وإنقاذهم. وفي حديثه "إلى أشراف المسيحية في الأمة الألمانية" (1520) اقترح(26/203)
أن تتكفل كل مدينة بالمعوزين فيها. وفي أثناء تغيبه في ورتبرج، نظم أتباعه المتطرفون في وتنبرج- صندوقاً جماعياً لرعاية الأيتام، ودفع مهور البنات الفقيرات، وترتيب منح دراسية للطلبة المحتاجين، وإقراض الأموال للأسرات التي أخنى عليها الدهر، وفي سنة 1525 اصدر لوثر توجيهاً بإنشاء صندوق عام. حث فيه المواطنين ورجال الدين في كل قسم على أن يفرضوا على أنفسهم ضريبة يسهمون بها في تكوين رصيد يقدمون منه قروضاً بدون فائدة للمحتاجين أو غير القادرين على العمل (57). وفي 1522 عينت أوجزبرج ستة "حماة الفقراء" ليشرفوا على توزيع المساعدات عليهم، وتبعتها نورمبرج في الحال، ثم ستراسبورج ويرسلاو (1523)، وراتسبون ومجدبرج (1524).
وفي تلك السنة كتب أسباني من دعاة الحركة الإنسانية، جوان لويس فيفز لمجلس مدينة بروجز نشرة عنوانها: "إعانة الفقراء". وقد لحظ انتشار الفقر وسط نمو الثروة، وأنذر بأن الإفراط في عدم المساواة في الملكية قد يولد ثورة مدمرة. وكتب يقول: "كما أنه من الخزي والعار على رب الأسرة في بيته الهانئ أن يسمح لفرد فيه أن يعاني مهانة العري أو الرأسمال البالية، فإنه كذلك ليس من اللائق بولاة الأمور في المدينة أن يحتملوا حالة مواطنين يتضورون جوعاً وبؤساً" (58). ووافق فيفز على أن يجبر على العمل كل قادر عليه، وألا يسمح لأحد بالتسول، ولكن ما دام كثيرون غير قادرين على العمل فعلاً، فيجب أن يدبر لهم مأوى في الملاجئ أو المستشفيات أو المدارس التي تنفق عليها البلد "على أن يقدم لهم الطعام والرعاية الطبية والتعليم الابتدائي مجاناً، ويجب أن تتخذ تدابير خاصة للمتخلفين عقلياً. وجمع ايبر Ypres بين أفكار فيفز والسوابق الألمانية في هذا المجال، ونظم في 1525 صندوقاً جماعياً وحد أموال(26/204)
الصدقات في رصيد واحد ووكل توزيعها إلى رياسة واحدة. وطلب شارل الخامس (1531) نسخة من خطة ايبر. وأرسل هنري الثامن توجيهاً مماثلاً إلى أبرشبات إنجلترا (1536). واحتفظت الكنيسة في البلاد الكاثوليكية بإرادة أموال الصدقات.
وبقي الخلق السياسي مطبوعاً بالمكيافيلية. واعتبر نظام الجاسوسية أمراً مسلماً به. وكان من المتوقع أن يبلغ جواسيس هنري الثامن في روما عن أخطر محادثات الفاتيكان وأكثرها سرية (59). وكانت الرشوة عملية تقليدية، وتدفقت في سخاء أكثر بعد تدفق الذهب من أمريكا. وتسابقت الحكومات على نقض المعاهدات. ونافست الأساطيل المسيحية والتركية بعضها بعضاً في أعمال القرصنة. وبعد تدهور نظام الفروسية انحطت أخلاقيات الحرب إلى ما يشبه الهمجية ونهبت أو أحرقت المدن التي كانت قد أخفقت في مقاومة الحصار، وذبح الجنود المستسلمون أو استبعدوا حتى تدفع عنهم الفدية. أما القوانين والمجاملات الدولية التي كانت سائدة في حالة خضوع الملوك أحياناً لتحكيم البابوات، فقد اختفت في فوضى التوسع القومي والعداء الديني. واعترف المسيحيون ببعض الضوابط الخلقية تجاه غير المسيحيين، وبادلهم الأتراك نفس المعاملة. واسر البرتغاليون زنوج أفريقية واستعبدوهم. ونهب الغزاة الأسبان المواطنين الأمريكيين واستعبدوهم وقتلوهم، دون أن يخفوا عزمهم الأكيد على تحويل الدنيا الجديدة إلى المسيحية، وكانت حياة الهنود الحمر في أمريكا في ظل الحكم الأسباني مريرة تعيسة إلى حد انتحار الآلاف منهم (60)، بل حتى في العالم المسيحي نفسه في ذاك العصر كثرت حوادث الانتحار إلى درجة مروعة (61). واغتفر بعض دعاة الحركة الإسبانية إهلاك النفس. ولكن الكنيسة حكمت بأنه يؤدي إلى الجحيم مباشرة، ومن ثم يكون المنتحر كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن كل ما في الإصلاح الديني، ولو أنه في نهاية الأمر أصلح من(26/205)
الأخلاق في أوربا- دمر الفضائل العلمانية. ولقد نعي بيركهيمر وهانز ساكس- وكلاهما متعاطف مع لوثر- أن فوضى السلوك العشوائي غير المنظم قد سادت بعد انهيار السلطة الدينية (62). وكان لوثر كعادته، صريحاً جداً في هذه النقطة:
كلما تقدمنا إلى الأمام، ازداد العالم سوءاً .... فمن الواضح جداً كيف أن الناس أصبحوا نهمين قساة بذيئين وقحين شريرين أكثر بكثير مما كانوا عليه في ظل البابوية (63) .. فنحن الألمان اليوم موضع سخرية كل الأقوام والشعوب ووصمة عار لهم، ونحن نعتبر قطيعاً مخزياً كئيباً من الخنازير .... نحن نكذب ونسرق، ونفرط في الطعام والشراب، وننغمس في كل رذيلة (64) ... وإن الشكوى عامة من أن شبان اليوم منحلون فوضويون تماماً، وأنهم لا يستبيحون لأنفسهم أن يزدادوا علماً ومعرفة. ويروح نساء وتنبرج وبناتها ويجئن في كل مكان عاريات، وليس هناك من يعاقبهن أو يصحح أخطاءهن، ساخرات من "كلمة الرب" هازئات بها (65).
ووصف واعظ لوثري، أندريا مسكولوس، عصره (1560) بأنه فاسق غير أخلاقي، إذا قورن بالألمان في القرن الخامس عشر (66). واتفق معه في ذلك كثير من زعماء البروتستانت (67). وتأوه كلفن قائلاً "إن المستقبل يفزعني، ولست أجرؤ على التفكير فيه. أن الهمجية سوف تجرفنا إلا إذا هبط الرب من السماء (68). وأنا لنسمع من هذا القبيل عن اسكتلندة وإنجلترا (69). ولخص فرود، وهو النصير المتحمس لهنري الثامن، الموضوع باعتدال وإنصاف، فقال:
إن الحركة التي بدأها هنري الثامن، بالحكم عليها بنتائجها الحالية(26/206)
(1550) أسلمت البلاد آخر الأمر إلى مجرد مغامرين. إن الناس
استبدلوا بخرافة من أكبر مساوئها أنها فرضت ظلاً من الاحترام
والطاعة، خرافة أخرى، مزجت الطاعة بإيمان متسم بطابع
المضاربة. وتحت هذا التأثير المميت، بدأت تختفي، لا أسمى فضائل
التضحية بالنفس فحسب، بل أبسط واجبات الاستقامة والأمانة
والفضيلة والأخلاق. وأصيبت الحياة الخاصة بدنس بدا لخلاعة
رجال الدين الكاثوليك أنه البراءة والطهر ... ومن بين الفئة
الصالحة التي لم يمسها الدنس، لا يزال من الممكن العثور على
أفاضلهم في جانب الإصلاح (70).
وقد لا يكون من اليسير أن تنسب هذا الانحطاط الخلقي في ألمانيا وإنجلترا، إلى فك لوثر لقيود الجنس، وازدرائه "للأعمال الصالحة"، أو إلى المثل السيئ الذي ضربه هنري الثامن بانغماسه في المغامرات الجنسية وقسوته البالغة، فقد ساد فسوق مشابه- ومن بعض النواحي أكثر انطلاقاً- في إيطاليا البابوية في ظل البابوات في عصر النهضة، وفي فرنسا الكاثوليكية تحت حكم فرانسوا الأول. وربما كان السبب الرئيسي في انحلال الخلق في أوربا الغربية هو نمو الثروة. وثمة سبب أصيل يدعم هذا، هو تزعزع الإيمان، لا في المبادئ الكاثوليكية فحسب، بل في أساسيات وأصول العقيدة المسيحية كذلك. فقد رثى أندريا مسكولوس "أنه ليس هناك من يعبأ بالجنة أو الجحيم، ولا يفكر أحد في الله أو في الشيطان" (71). وينبغي في مثل هذه التصريحات الصادرة عن الزعماء الدينيين، أن تتجاوز عن مبالغات المصلحين اليائسين من ضآلة التحسينات التي أدخلتها إصلاحاتهم الدينية على الحياة الأخلاقية. وإذا كان لنا أن نصدق الوعاظ، فإن الناس لم يكونوا أفضل بكثير فيما مضى، وقد لا يكونون أفضل بكثير في القرون التالية. ففي مقدورنا أن نتبين في عصرنا هذا كل خطايا القرن السادس عشر وآثامه،(26/207)
وأن نتبين خطايانا وآثامنا في كل ما اقترفه الناس في ذاك القرن، طبقاً لما تيسر لديهم من وسائل وأساليب.
وأنا لنجد في نفس الوقت أن الكاثوليكية والبروتستانتية كلتيهما، كانتا قد أقامتا ودعمتا أساسين لانبعاث الروح المعنوية والأخلاقية: تهذيب سلوك رجال الإكليروس بالزواج أو بالزهد والتعفف، والتوكيد على أن البيت هو الملاذ الأخير للإيمان والحشمة واللياقة. وقد يأتي اليوم حين يرجع الرجال والنساء بأبصارهم إلى الوراء، في حسد خفي، إلى القرن السادس عشر، حيث كان أسلافهم أشراراً وأحراراً إلى الحد الذي كانوا عليه يومذاك.
4 - آداب السلوك
كان الحكم على الناس آنذاك، مثل ما هو حادث اليوم، بعادتهم أكثر منه بأخلاقهم. لقد تجاوز الناس، بقدر أكبر من طيب النفس، عن الخطايا التي ارتكبت بأقل قدر من الوحشية. وأعظم قدر من الكياسة. وفي هذا المجال كانت إيطاليا هي الرائدة، شأنها في كل شيء باستثناء المدفعية واللاهوت. وكان الناس شمال جبال الألب، فيما عدا القشرة الرقيقة الخارجية في سكان فرنسا وإنجلترا، أفظاظاً غلاظاً، إذا قورنوا بالإيطاليين في هذا، كثير من الفرنسيين الذين سحرت ألبابهم فتوحاتهم في إيطاليا في ميادين الحرب وآداب السلوك، ولكن المتبربرين الهمجيين كانوا يتوقون إلى التمدن وارتقاء سلم الحضارة. وحذا رجال البلاط وسيداته والشعراء والمفسدون في الأرض من الفرنسيين حذو الإيطاليين ونهجوا نهجهم. وسار الإنجليز الهوينا خلفهم. وترجم كتاب كاستليونى " رجل البلاط" (1528) إلى الفرنسية في 1537، وإلى الإنجليزية في 1561، واختلفت الدوائر الأدبية(26/208)
على تعريف الرجل المهذب. ولقيت كتيبات آداب السلوك رواجاً كبيراً. ولقد ألف إرزم واحداً منها. وأصبح الحديث فناً في فرنسا، كما كان فيما بعد في حانة مرميد في لندن (كان يجتمع فيها بن جونسون وشكسبير وغيرهما من الكتب. في عصر اليزابيث). وعبرت مباريات الأجوبة البارعة السريعة جبال الألب من إيطاليا حول الوقت الذي انتقل فيه كذلك فن المبارزة بالسيف. وكان الحديث أكثر صقلاً وتهذيباً في فرنسا عنه في ألمانيا. وكان الألمان يسحقون الرجل بالفكاهة، أما الفرنسيون فكانوا يخزونه في ذكاء وفطنة. وكانت حرية الكلام وسيطاً أساسياً في ذاك العصر.
ومنذ كان تحسين المظهر الخارجي أيسر من تهذيب النفس، فإن الطبقات الصاعدة في المدنيات الناشئة في الشمال أولت ملابسها قسطاً أكبر من العناية. وارتدى عامة الناس ملابس بسيطة للغاية - كما نرى في جماهير بروجل (مصور فلمنكي): قبعات على شكل الفنجان، وبلوزات فضفاضة ذوات أكمام منتفخة، وسراويل (بنطلونات) ضيقة تصل إلى الأحذية المريحة، ويتركز هذا التشكيل البشع على حقيبة قبيحة، مزدانة بزخارف براقة، تتدلى أمام انفراج ساقي الرجل. أما الرجال الموسرون في ألمانيا فقد غلفوا أجسامهم الجبارة في طيات كثيرة فضفاضة من القماش، تعلوها قبعات عريضة تبدو فوق الرأس وكأنها فطيرة ذات مصاطب أو طبقات. أما نساء ألمانيا، فالظاهر أنه كان محرماً عليهن أن يلبسن إلا زي مديرات المنزل أو الطباخات. وفي إنجلترا أيضاً ملابس الرجال أجمل وأكثر بهجة من ملابس النساء، حتى جاءت الملكة اليزابيث فبزتهم بما ارتدته من أزياء لا يحصها العد. وجرى هنري الثامن شوطاً بعيداً في الإسراف في ملابسه، وكان يجملها وزينها بالألوان والحلي والأنسجة الثمينة. ويقول هولنشد إن دوق بكنجهام كان يرتدي- في زواج الأمير آثر من كاترين أوف أراجون- عباءة(26/209)
من شغل الإبرة، مغطاة بفراء النمور، قدرت بنحو 1500 جنيه (150. 000 دولار؟)، وحرمت القوانين على أي رجل دون رتبة فارس، أن يقلد فخامة الملابس التي يرتديها من هم أعلى منه مكانة. وغطت الإنجليزيات أجسامهن بالملابس الضيقة من العنق إلى أخمص القدم، ذات أكمام تصل إلى المعصم، مع زركشة بالفراء على حروف الثياب، وأحزمة مثبتة بحلي معدنية، وقلادة أو مسبحة، وكانت النساء بصفة عامة تلبس من المجوهرات أقل مما يلبس الرجال.
وفي عهد فرانسوا الأول الذي كان يقدر الشيء حق قدره، فتحت النساء الفرنسيات الجزء الأعلى من ثيابهن وكشفن عن صدورهن المنتفخة، وشققن أرديتهن إلى آخر فقرة من ظهورهن. وإذا لم ينتفخ الصدر الطبيعي إلى حد كاف، وضعن عليه مشداً يجعله عالياً منتفخاً (72)، وضيقت الملبس وأحكمت فيما تحت الثديين، وضغطت على الخصر (73)، مع أكمام منتفخة، وانتشرت من التنورة أسلاك من الخلف وعلى الحافة. واضطرتهن الأحذية العالية الكعوب إلى المشية المتبخترة الرشيقة. وكان يباح للمرأة ذات المكانة العالية - وليس لغيرها- أن يكون لثوبها ذيل، وكلما ارتفع قدرها زاد طول الذيل. وقد يطول الذيل، إذا سمحت مرتبة الشرف، إلى سبع ياردات، وكان يمشيٍ وراء السيدة وصيفة أو خادم ليمسك به ويرفعه عن الأرض. وفي طراز آخر الأزياء قد تغطي السيدة رقبتها بطوق أحكم شده بأسلاك. وعذب الرجال أنفسهم بشيء غريب مماثل في المناسبات الرسمية، وفي 1535 لحظ سرفيتس "أنه لنساء أسبانيا عادة قد يظن في فرنسا أنها همجية، تلك هي أنهن كن يثقبن آذانهن ويعلقن فيها أقراطاً ذهبية غالباً ما تكون مرصعة بالأحجار الكريمة" (74). وما جاءت سنة 1550 حتى كانت نساء تلبس الأقراط، بل حتى الرجال كذلك (75). واستمرت الجواهر والحلي(26/210)
محتفظة سلطانها منذ زمن سحيق. وارتدى الرجال في فرنسا قمصاناً من الحرير مع صادرات من القطيفة، وحشوا أكتافهم، وكسوا أرجلهم بسراويل قصيرة ضيقة، وحافظوا على رجولتهم بحقيبة منضدة بالأشرطة أو الجواهر أحيانا. وعلى النقيض من عادات القرن الخامس عشر قصروا شعر الرأس وأرخوا لحاهم. أما النساء فقد احتفظن بشعرهن في تصفيفات متنوعة لا تشجع على وصفها. فكان مضفراً معقوصاً ملفوفاً في شباك، مليئاً بالضفائر العارية، مزداناً بالأزهار، براقاً بالجواهر، متضمخا بالزيوت العطرية، مصبوغاً ليتمشى مع الأناقة وأسلوب العصر، ومرفوعاً على شكل أبراج أو أهرام فوق الرأس. وكان من غير الممكن أن تستغني السيدة الأنيقة عن الحلاق في هذا الزمان، فإن تقدم العمر بدا آنذاك قدراً محتوماً أسوأ من الموت.
وإلى أي حد كانت الأجسام نظيفة تحت هذه اللفائف والزخارف؟ لقد تحدث كتاب من القرن السادس عشر عنوانه "مقدمة للسيدات الشابات" عن "نساء لم يعنين قط بنظافة أجسامهن، اللهم إلا الأجزاء التي يمكن أن تقع عليها العين ... أما ما تحت قمصانهن الكتانية فقد بقي قذراً (76). وثمة مثل ساخر يقول بأن العاهرات هن الوحيدات اللائى غسلن أكثر من وجوههن وأيديهن (77). وربما ازدادت النظافة بازدياد الفسق والفجور. فقد كشفت النساء من أجسامهن عن أجزاء أكثر من ذي قبل، وجعلنها نهباً لأنظار الكثير من الناس. ومن ثم اتسع نطاق النظافة. وأصبحت آنذاك كثرة الاستحمام، مع تفضيل الماء المعطر، وخاصة في فرنسا، جزءاً من العادات الطيبة. وقل عدد الحمامات العامة يتضاعف عدد الحمامات الخاصة، ولم تكن هذه عادة مزودة بالمياه الجارية، بل اعتمد فيها على السلطانية (الكوز) والحوض. وظلت شائعة مستحبة في القرن(26/211)
السادس عشر، حمامات البخار التي كانت قد جاءت إلى أوربا الغربية بعودة الصليبيين إليها في القرون الثالث عشر.
وفي البلاد البروتستانتية حل البيت تقريباً محل الكنيسة، كمركز للعبادة والصلوات. وأدى الوالد مهمة الكاهن في الصلوات اليومية وتلاوة الإنجيل والترانيم، وعلمت الأم أبناءها مبادئ العقيدة الدينية. وفي الطبقات المتوسطة سارت الرفاهية جنباً إلى جنب مع التقوى والتدين. فهذا هو العصر الذي تطورت فيه المنضدة ذات الحوامل والألواح الخشبية الملتحمة بعضها ببعض إلى وحدة ذات أرجل متينة، وتطور المقعد الخشبي والوسائد إلى كرسي مريح "منجد" وسرير منقوش ذي أربعة قوائم، فوقه مظلة - وأصبح كل أولئك رمزاً للاستقرار الأدبي واليسار المالي. وصنع الأثاث والأطباق المعدنية محل الأطباق الخشبية، كما حلت الملاعق المصنوعة من القصدير أو الفضة محل تلك المصنوعة من الخشب. وكانت البيوت واسعة فسيحة لأن الأسرات كانت كبيرة، لأن النساء كن يلدن في كل عام تقريباً، ولكن دون جدوى، لأن نسبة الوفيات بين الأطفال كانت عالية. وكان جون كولت أكبر اثنين وعشرين طفلاً. وحين بلغ سن الثانية والثلاثين، كان كل أخوته قد ماتوا. وكان لأنطون كوبرجر صاحب المطبعة في نورمبرج - خمسة وعشرون طفلاً، وقد عمر هو بعد موت اثني عشر منهم، وكان ديرر واحداً من ثمانية عشر طفلاً، يبدو أن ثلاثة منهم فقط بلغوا سن الرشد (78). واستكمالاً للأسرة كانت هناك حيوانات منزلية مدللة كثيرة قدر كثرة عدد الأولاد تقريباً. وكانت الببغاوات قد جاءت من جزر أليفة أثيرة في البيت (79). وكان هناك كثير من الكتب التي تعلم النساء والأطفال طرق العناية بالكلاب والطيور وتربيتها.(26/212)
وكانت وجبات الطعام هائلة. ولم تكن الخضراوات مستساغة، بل كان الناس يزدرونها، ثم أقبلوا عليها شيئاً فشيئاً. وشاع آنذاك أكل الكرنب والجزر والراوند والبطاطس والفول والفريز. وكانت الأكلة الرئيسية في الساعة الحادية عشرة صباحاً وتأخر العشاء إلى السابعة مساء، وكلما سمت الطبقة تأخرت ساعة تتناول العشاء. وكانت الجعة والنبيذ هما المشروبان الرئيسيان في كل وجبات الطعام حتى الإفطار. وكان من طرق توماس مور إلى الشهرة أنه تناول الماء بديلاً عنهما. وحوالي 1550 استحضر الأسبان الشكولاته (الكاكاو) من المكسيك، ولم يكن البن قد تقاطر بعد من بلاد العرب إلى أوربا الغربية. وفي 1512 حددت أسرة دوق نور ثمبرلاند ربع جالون من الجعة لكل فرد فيها في كل وجبة طعام حتى للأولاد في سن الثامنة. وكان استهلاك الجعة في كوفنتري في القرن السادس عشر ربع جالون يومياً لكل رجل وامرأة وولد (80). وقد اشتهرت مصانع الجعة في ميونيخ منذ القرن الرابع عشر (81). وكان شرب الخمر شائعاً في إنجلترا حتى جاءت "ماري اللعينة" (ماري تيودور 1516 - 1558) فاستهجنته. ولكنه ظل مألوفاً في الدنيا، وتناول الفرنسيون الخمر في اتزان اكثر، لأن الجو عندهم لم يكن بارداً إلى هذا الحد.
وعلى الرغم من الفقر والظلم، استمر الناس يتمتعون بكثير من نعم الحياة، وحتى الفقراء أنفسهم كان لهم حدائق، وأصبحت زهرة التيوليب هواية وطنية في هولندة، وكان قد أحضرها لأول مرة حوالي 1550 بوسبك سفير الإمبراطور في القسطنطينية. وكانت البيوت الريفية نمطاً ساراً في إنجلترا وفرنسا. وظل القرويون يحتفلون بأعيادهم الموسمية في عيد الربيع (أول مايو)، عيد الحصاد، عيد كل القديسين، وغيرها كثير، واحتفل الملوك بعيد الربيع وتوجوا أنفسهم بأكاليل(26/213)
الزهور، وكان فيما يتسلى به سراة القوم أحياناً مهرجانات مثيرة للفقراء، من ذلك عندما دخل هنري الثامن ليون في احتفال مهيب في 1548، وربما كان جمهور الشعب يشهد على مسافة معقولة، اللوردات في مباريات السيوف - وقد بطلت هذه الرياضة بعد موت هنري الثاني. وأصبحت المواكب الدينية أكثر وثنية، عند اقتراب عهد هنري الثامن من عصر إليزابث. وفي القارة أباحت الأخلاقيات المتساهلة للنساء العرايا أن يمثلن بعض الشخصيات التاريخية أو الأسطورية، واعترف ديرر بأنه هو نفسه افتتن بمثل هذا العرض في أنتورب 1521 (82).
وكانت هناك الألعاب. وقد أفرد رابليه فصلاً لتسجيلها، فعلية أو خيالية، وصور بروجل نحو مائة منها في إحدى لوحاته. وكان في تعذيب الدببة ومصارعة الثيران الديكة تسلية للجمهور، وروضت كرة القدم ولعبة الكرات الخشبية والملاكمة والمصارعة شباب العامة، وطردت عنهم الأرواح الشريرة، وكان في باريس وحدها، للطبقة الأرستقراطية، فيها 1502 من الملاعب للتنس، في القرن السادس عشر (83). ومارست كل الطبقات الصيد، ولعبت الميسر ولعبت بعض السيدات النرد. ولعب بعض الأساقفة الورق بنقود (84). وتجول الممثلون المهرجون والبهلوانات واللاعبون في الريف، وعرضوا أفانينهم وألعابهم على اللوردات نظير جعل يتقاضونه. وفي داخل البيوت لعب الناس الورق والشطرنج والنرد وعشرات من الألعاب غيرها، وكان الرقص أحب أنواع التسلية. ويقول رابليه "وذهب الجميع بعد العشاء إلى الأبكة، الممتلئة بالصفصاف، يلاحق بعضهم بعضاً، وهناك على العشب الأخضر، على الأنغام الشجية من المزمار وموسيقى القرب رقص الجميع برشاقة، فكانت رياضة لطيفة سماوية يلذ للإنسان مشاهدتها (85). وفي يوم عيد الربيع في إنجلترا كان أهل القرية يتجمعون حول "عمود مايو"(26/214)
المزين بالأزهار والأشرطة بشكل بهيج، ورقصوا رقصاتهم الساذجة الممتلئة حيوية، ويبدو أنهم بعد ذلك راحوا يقبلون ويعانقون بعضهم بعضاً مما يذكر بعيد فلورا إلهة الزهور عند الرومان. وكانت ألعاب عيد مايو في عهد هنري الثامن تشمل "الرقص العربي" الذي كان قد جاء من عرب أسبانيا عن طريق الرقصة الإسبانية "فندنجو" بالصنوج. ورقص الطلبة في أكسفورد وكمبردج في مرج بالغ الصخب، إلى درجة أنه كان لا بد من أن يحرم وليم ويكهام هذا العبث بالقرب من تماثيل الكنيسة. وأقر لوثر الرقص، واستساغ بنوع خاص "الرقصة التربيعية"، مع الانحناءات الودية والعناق والتمايل الرقيق، بين المشتركين في الحلبة" (86) ورقص ملانكنون الوقور. وفي ليزج في القرن السادس عشر أقام الآباء في المدينة بانتظام حفلات راقصة حتى يتمكن الطلبة من التعرف على "أشرف وأجمل بنات ذوي المكانة وأعضاء السناتو والمواطنين" (87). وكثيراً ما ترأس شارل السادس حفلة الرقص في البلاط الفرنسي. واستقدمت كاترين دي مديتشي إلى فرنسا راقصات إيطاليات، وهناك في أخريات أيام الملكة الأم التعسة ظهرت رقصات أرستقراطية جديدة. وقال جان تابور، في كتاب من أقدم الكتب عن فن من أقدم الفنون: "إن الناس كانوا يمارسون الرقص ليروا هل يتمتع الحبيبان بصحة جيدة، وهل يتناسب كل منهما الآخر، وفي نهاية الرقص كان يسمح للشاب أن يقبل خطيبته ليستوثق من أن رائحة أنفاسها طيبة ... وبهذه الطريقة يصبح الرقص ضرورياً لبساس المجتمع سياسة حسنة (88). وتطورت الموسيقى بفضل مصاحبة الرقص، من الأشكال الصوتية وجوقة المنشدين إلى استخدام الآلات وتأليف الألحان، مما جعلها فناً بارزاً ذا شأن في عصرنا.(26/215)
الفصل الرابع والثلاثون
الموسيقى
1300 - 1564
1 - الآلات
إن شعبية الموسيقى في تلك القرون لتصحح وتلطف من النغمة الكئيبة الحزينة التي يميل التاريخ إلى أن يضفيها على تلك الحقبة ويقرنها بها. وأنا لنسمع الناس، من آن لآن، يغنون في غمرة الثورة الدينية وما اتسمت به من إثارة ومرارة. وكتب صاحب المطبعة العاطفي آتيين دولية "إني لا أعبأ بشيء من ملذات الطعام والألعاب، والحب، ولكن الموسيقى وحدها ... تأسرني وتأخذ بمجامع قلبي، وتذيبني في نشوتها" (1). ومن النغمات الصافية المنبعثة من صوت إحدى الآنسات أو مزمار جيد، إلى فن مزج الألحان المتعددة الأصوات عند دبريه Depres أو بالسترينا، عوضت كل الأمم وكل الطبقات بالموسيقى عن الروح التجارية وعن اللاهوت في ذاك العصر. ولم يغن كل فرد فحسب، ولكن فرانسيسكو لاندينو شكا من أن كل فرد لحن وألف (2). وبين الأغاني الشعبية البهيجة أو الحزينة في القرية إلى القداسات الكبيرة المهيبة في الكنيسة، ظهرت مئات الأشكال الموسيقية التي استخدمت إيقاعاتها في الرقص والحفلات والولائم والمغازلات والبلاط والمواكب والمهرجانات والصلوات. لقد غنى العالم بأسره.
وكان يواكب تجار أنتورب كل يوم إلى السوق المالية فرقة موسيقية. ودرس الملوك الموسيقي، لا باعتبارها امتيازاً لطيفاً أو ميكانيكياً، بل لأنها(26/216)
سمة المدنية ومنبع من منابعها. وتحمس ألفونسو العاشر ملك أسبانيا وثابر على جمع الأغاني للسيدة العذراء، وتودد جيمس الرابع ملك اسكتلنده إلى مارجريت تيودور بموترة المفاتيح (آلة موسيقية تعتبر الأصل الذي نطور عنه البيانو Clavichord) والمزهر (العود). واصطحب شارل الثامن ملك فرنسا معه فرقة المنشدين الملكية في حملاته على إيطاليا. وغنى شارل الثاني عشر بأعلى صوته مع فرقة المنشدين في البلاط. وألف ليو العاشر بعض الأغاني الفرنسية (3). أما هنري الثامن وفرانسوا الأول فقد تودد كل منهما إلى الآخر وتحداه باستخدام فرق المنشدين المتنافسة في ساحة Cloth of Gold. ووصف لويس ميلان البرتغال في 1540 بأنها "بحر حقيقي من الموسيقى" (4). وكان لبلاط ماتياس كورفينوس في بودا فرقة منشدين قدروا أنها تعادل فرقة البابا، وكان في كراكاو على عهد سجسمند الثاني مدرسة عظيمة للموسيقى، وكانت ألمانيا تعج بالغناء عندما كان لوثر شاباً. كتب الإسكندر أجريكولا 1484 يقول: "إن عندنا هنا في هيدلبرج مغنيين يرأسهم رجل يستطيع أن يلحن لثمانية أصوات أو أثنى عشر صوتاً" (5). وفي ماينز ونورمبرج وأجزبورج وغيرها من المدن ظل " راعي الشعر والموسيقى" يزين الأغاني الشعبية والقطع الإنجليزية بأبهة المتحذلقين وزخارف فن مزج الألحان، وربما كانت الأغاني الشعبية الألمانية أفضل مثيلاتها في أوربا. وكانت الموسيقى في كل مكان مهما التقى وشرك الحب.
وعلى الرغم من أن كل الموسيقى تقريباً كانت في هذا العصر صوتيه، فإن الآلات المصاحبة كانت متنوعة قدر تنوعها في الفرق الموسيقية الحديثة. وكانت هناك آلات وترية مثل الشنطير (آلة موسيقية قديمة تشبه القانون)، والقيثار، والقانون، والشوم (آلة موسيقية خشبية قديمة)، والعود، والفيول (وهو نوع من الكمان). ثم آلات النفخ مثل الناي، والمزمار،(26/217)
والزمخر (مزمار ذو أنبوبة خشبية مزدوجة وفم معدني ملتو)، والبوق، والمترددة (الترومبون) والبوق (شكل قديم آخر) ومزمار القرب، ثم آلات النقر مثل الطبل والجرس، والمصفقة والمخشخشة والصنوج بأنواعها، ثم الآلات ذات المفاتيح مثل الأرغن، وموترة المفاتيح، والبيان القيثاري، والسبينت (تشبه البيان)، والعذراوية (شبيهه ببيان صغير ليس له قوائم)، وكانت هناك أنواع أخرى كثيرة، وكان للعديد منها متنوعات فاتنة شتى اختلفت باختلاف الزمان والمكان، وكان في كل بيت مثقف واحدة أو أكثر من الآلات الموسيقية. وكان في بعض البيوت خزائن خاصة لحفظها. وكثيراً ما كانت هذه الآلات تحفاً فنية منقوشة نقشاً محبباً يرضى الخيال والذوق، تتوارثها الأسرات جيلاً بعد جيل بوصفها ذخائر وتذكارات ثمينة. وكانت بعض الأراغين مصنوعة بشكل بارع محكم، قدر البراعة والإحكام في واجهات الكاتدرائيات القوطية. وخلد ذكر الرجال الذين صنعوا الأراغين لبعض الأسرات الحاكمة الألمانية في نورمبرج لمدة قرن من الزمان. وكان الأرغن هو الآلة الموسيقية الرئيسية المستخدمة في الكنيسة، وإن لم تكن الوحيدة، بل كان هناك أيضاً المزمار، وموسيقى القرب والطبول والمترددة (الترومبون)، بل حتى الطبلة النقارية، وكلها تدعو بأصواتها المتنافرة إلى الصلاة والعبادة.
وكان العود هو الآلة المفضلة لمصاحبة مغن واحد، وهو من أصل آسيوي، شأنه في ذلك شأن كل الآلات الوترية، جاء مع المغاربة إلى أسبانيا، وهناك، مثل الفهيولا، (نوع من الكمان) ارتفع شأنه حتى صار الآلة الوحيدة المستعملة، التي ألفت من أجلها أقدم موسيقى آلية خالصة معروفة. وصنع جسمه عادة من الخشب والعاج، على شكل الكمثرى، وزود تجويفه بثقوب على شكل وردة، وكان له ستة،(26/218)
وفي بعض الأحيان اثنا عشر زوجاً من الأوتار تنفر بواسطة الأصابع، وكان عنقه مقسماً بعتبات من النحاس إلى سلم مدرج، وملواه منحرف إلى الخلف من العنق. وإذا أمسكت غادة حسناء بالعود في حضنها وداعبت أوتاره بأناملها وأضافت صوتها إلى أنغامه لاستطاع كيوبيد أن يوفر سهماً. ومهما يكن من أمر فقد كان من العسير الاحتفاظ في العود بدرجة النغم الصحيحة لأن استمرار شد الأوتار يسبب التواءها وتشويهها. وقال أحد الظرفاء إن عازف عود بلغ من العمل ثمانين عاماً، قضى منها ستين عاماً في ضبط النغم في عوده (6).
واختلف الكمان (الفيول) عن العود في امتداد أوتاره على مشط، وأن العزف عليه بواسطة قوس، ولكن القاعدة الأساسية واحدة فيهما- ذلك أن ذبذبات الشد ترتطم بالأوتار فوق صندوق ذي ثقوب لتعميق الصوت. وصنعت الفيول على ثلاثة أحجام: الكبير وهو باس فيولا داجامبا"، وكانوا يمسكون به بين الأرجل مثل البديل الحديث له - الفيولونسيل Violoncello، والصغير وهو الفيول العالي النغم (فيولا دابراكسيو)، ويمسكون به على الذراع. وأخيراً الفيول المثلث، وفي القرن السادس عشر تطور النوع الثاني (فيولا دابراكسيو) إلى الكمان. وفي القرن الثامن عشر بطل استعمال الفيولا.
وكان الاختراع الأوربي الوحيد في الآلات الموسيقية هو لوحة المفاتيح التي تطرق بواسطتها الأوتار بطريق غير مباشر، بدلا من نقرها أو حنيها مباشرة، وأقدم الأشكال المعروفة، وهي موترة المفاتيح Clavichord ظهرت لأول مرة في القرن الثاني عشر، وقد عمرت حتى عدلها جوهان سباستيان باخ. وأقدم نموذج باق لها (1537) محفوظ في متحف المتروبوليتان في نيويورك، وصنع في القرن الخامس عشر نوع أقوى هو(26/219)
البيان القيثاري harpsichord، وقد مكن من تعديل الأنغام باختلافات الضغط، وأضيف في بعض الأحيان لوحة ثانية للمفاتيح، لتوسيع سلم النغم، وساعدت الوقفات والتفرقات على إبداع معجزات الصوت، وكان الأسبينت Spinet والعذراوية Virginal - والأول إيطالي والثانية شبه إنجليزية - شكلين مختلفين من البيان القيثاري، وكانت الآلات ذات المفاتيح مثل الفيول والعود، تحظى بأعظم التقدير لجمالها ونغماتها معاً. وكانت تشكل عنصراً جميلاً من عناصر البهجة والزينة في بيوت الأغنياء.
ولما تقدمت الآلات من حيث مدى النغم ونوعيته، ومن حيث تعقد عملها، تطلب النجاح في العزف عليها المزيد من المران والمهارة، وازداد عدد الجمهور في الحفلات التي يكون العزف فيها على آلة واحدة أو أكثر، دون أن يكون فيها غناء، وبرز عازفون على الأرغن والعود. وارتحل كونرادبومان Paumann ( المتوفى 1473) عازف الأرغن الضرير في نورمبرج من بلاط إلى بلاط، وأقام حفلات موسيقية، استحق لبراعته وامتيازه فيها لقب فارس. وشجعت أمثال هذه التطورات على تأليف الموسيقى من أجل الآلات وحدها. ومن الواضح حتى القرن الخامس عشر، أن كل الموسيقى الآلية تقريباً كان قد قصد بها أن تصاحب الغناء أو الرقص، ولكن هناك في هذا القرن عدة لوحات تعرض بعض الموسيقيين يعزفون دون أن يرى فيها أثر لغناء أو رقص، وأقدم ما بقي من الموسيقى للآلات وحدها هي "جاميسانى Gamisandi" (1452) ، وهي لكنراد بومان، وقد ألفت في الأصل لتوجيه العزف على الأرغن، ولكنها شملت أيضاً عدداً من القطع للعزف المنفرد، وأنقض تطبيق أتافيانو دي بتروسكي للحروف المعدنية المتحركة في طبع الموسيقى (1501) تكاليف نشر تأليف الموسيقى الآلية وغيرها، واقتصرت الموسيقى الموضوعة للرقص على عروض مستقلة، ومن ثم كان تأثير أشكال الرقصات على الموسيقى الآلية. وأدت ألحان "الحركات"(26/220)
المؤلفة لسلسة متعاقبة من الرقصات إلى ظهور السيمفونية والموسيقى الرباعية، التي احتفظت أجزاؤها أحياناً بأسماء الرقصات، وفضل العود والفيول والأرغن والبيان القيثاري للعزف المنفرد أو عزف الأوركسترا، وتمتع ألبرتو داريبا في بلاط فرنسوا الأول وهنري الثاني بشهرة عظيمة كعازف على العود، إلى حد عندما توفي أنشد شعراء فرنسا الترانيم الحزينة على قبره.
2 - سيطرة الموسيقى الفلمنكية
1430 - 1590
كانت الأغاني والرقصات الشعبية هي المعين الذي لا ينضب الذي اشتقت منه أشكال الموسيقى غير الكنسية أصولها وصيغها وموضوعاتها الرئيسية حتى القداسات، ربما اشتقت منها بعض الأغاني القصيرة مثل "وداعاً يا أحبائي"، وتنوعت الأغاني الفرنسية من الأغاني التوقيعية للمغنين في الشوارع، وأغاني الشعراء الغنائيين البسيطة (التروبادو) إلى أغاني غليوم دي ماشو وجوسكوين دبريه المعقدة المتعددة الأصوات.
وكان ماشو (1300 - 1377) سيد ذلك" الفن الجديد "الذي كان قد بسطه وشرحه فيليب دي فيتدي في 1325 - وهو عبارة عن موسيقى استخدمت الإيقاع الثنائي بالإضافة إلى الإيقاع الثلاثي، وهو ما أقره "الفن القديم" والكنيسة. وكان ماشو شاعراً وعالماً وموسيقياً وكاهناً في كاتدرائية ريمس، وربما كان كذلك رجلاً مملوءاً حماسة وغيرة، لأنه كتب بعض قصائد الحب الغنائية التي لم تهدأ حرارتها بعد. وبرع في أثنى عشر شكلاً موسيقياً من الأغاني الراقصة والعاطفية، والقصائد الغنائية ذات اللازمة المتكررة والقصائد الغزلية، والقصائد الدينية، وموسيقى القداس، ويعزى إليه أقدم قداس متعدد الأصوات - لحنه رجل واحد. ولو أنه من(26/221)
رجال الكنيسة، في حركة صبغ الموسيقى المتعددة الأصوات بالصبغة العلمانية وإخراجها من حيز إيقاع القصائد الدينية والقداس إلى الإيقاع الأكثر انطلاقاً ومرونة في موسيقى الأغاني العلمانية.
وفي تلك القرون كان الإنجليز موسيقيين، ولكنهم لم ينافسوا الإيطاليين في اتساق الأصوات في اللحن (ومن ذا الذي ينافسهم؟)، ولا الفلمنكيين في تعدد الأصوات، ولكن أغانيهم، بين الحين والحين، بلغت من العذرية والرقة حداً لا يضارعهم فيه إلا أعمق الأغاني الفرنسية. وقوبل المغنون الإنجليز في مجلس كنستانس بالتهليل والهتاف، وفي هذا الجيل ألف هنري الخامس بطل أجنكورت، قداساً لا يزال يحتفظ بعظمته وقداسته. وكانت المقطوعات التي ألفها جون دنستابل (1370 - 1453) تعزف في كل البقاع من اسكتلنده إلى روما. ولعبت دوراً في تشكيل أسلوب المدرسة الفلمنكية.
وكما كانت الفلانذر قد استهلت فن التصوير في القرن الخامس عشر، كذلك شهدت الموسيقى فيها عصراً من أبهى وأعظم عصورها، في وسط النبلاء والمواطنين الأثرياء المحبين للفنون. وكتب جوهانس فوير Johannes Verwere حوالي 1490 يقول: "عندنا اليوم - إلى جانب العدد الكبير من مشاهير المغنيين، يظهر إلى الوجود، عدد لا حصر له تقريباً، من الملحنين الذين تتميز أعمالهم بعذوبة الصوت، وما سمعت أو نظرت إلى تأليفهم إلا ابتهج قلبي (7) ". وربما وضع المعاصرون دوفاي وأوكيجم ودبريه في مرتبة سواء من سلم العبقرية والخير، مع جان فان إيك وكلو سلوتر وروجيبر فاندرويدن، وهنا في تعدد الأصوات في المدرسة الفلمنكية، عاشت أوربا الغربية آخر طور من أطوار الروح القوطية في الفن: الورع الديني الذي لطفه المرح الدنيوي والأشكال المتينة في قاعدتها وتركيبها،(26/222)
الغضة الرقيقة في تطويرها وزخرفتها. وحتى إيطاليا التي كانت معادية للفن القوطي، انضمت إلى أوربا الغربية في الاعتراف بتفوق الموسيقي الفلمنكية وسموها، وفي الاسترشاد بالفلاندرز في تحسين موسيقى فرق المرتلين الأسقفية، وفرق بلاط الأمراء. والف الإمبراطور مكسيمليان الأول، وقد سحرته موسيقى بروكسل، فرقة للمرتلين في فيينا، على نسق الفرق الفلمنكية، وأخذ شارل الخامس موسيقيين فلمنكيين إلى أسبانيا، وأخذ الأرشيدوق فرديناند نفراً منهم إلى النمسا، وأخذ كريستيان الثاني مجموعة أخرى منهم إلى الدنمرك. وقال كافللو البندقي "إن منبع الموسيقى في الأراضي المنخفضة" (8). وبهذه السيطرة الفلمنكية اجتازت الموسيقى الاحترافية الحدود الضيقة التي وضعتها القومية في ذاك العصر.
وقاد الطريق غليوم دوفاي، الذي ولد في هينوت Hainaut (1399) وتدرب كتلميذ منشد في كاتدرائية كمبراي، وسما بفرقتها إلى مراتب الشهرة العالمية. وكانت القداسات التي أنشدها هناك، تنشدها كل الأوساط الموسيقية في جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وقد تبدو الألحان الباقية منها ثقيلة بطيئة في الآذان المرهفة الإحساس بخفة الحياة الحديثة وسرعتها، ولكنها ربما كانت صالحة في الكاتدرائيات الضخمة وفرق المنشدين البابوية المهيبة. وهناك أغنية أكثر التئاماً مع ذوقنا، وهي أغنية متعددة الأصوات تنساب أنغامها الحزينة انسياباً رقيقاً "ولى النهار" The Day is going to sleep وقد نتخيل فرقة بملابسها الرسمية تغني مثل هذه الأغنية في الأروقة القوطية في كمبراي، أو إيبر أو بروكسل أو بروجز أو غنت أو ديجون، ونحس أن العمارة والتصوير والملابس والموسيقى وآداب السلوك في ذاك العصر الحماسي الزاهي النابض بالحياة، شكلت جميعها كلاً متراكباً فنياً متسقاً، على حين أنها جميعها متنوعات تنتشر فيها فكرة رئيسية واحدة.(26/223)
وتطورت أساليب درفاي وأذاعها في كل أنحاء أوربا أعظم معلمي الموسيقى أثراً، ربما في أي عصر من العصور، جوهانس أوكيجيم، الذي ولد في فلاندرز (1430)، وقضى معظم سني حياته يقدم الموسيقى ويعلمها في بلاط فرنسا. وكان يهيم شغفاً بمقطوعة اسمها " canon" وهي شكل من أشكال الفوجة، يشكل فيه الصوت (المغني) الأول الكلمات واللحن، ويتلوه بعض الفواصل، ثم يكرره الصوت الثاني، ويتلوه فاصل، ثم الصوت الثالث وهكذا، في طباق منساب، تحدي تعقيده المجهد المغنين، وسحر الملحنين، وقد هرع إليه هؤلاء وأولئك من كل أقطار العالم الكاثوليكي لينهلوا من فيض مهارته الفنية وينقلوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكتب مؤرخ قديم: "لقد نقل عن طريق تلاميذه إلى جميع الأقطار فن تعدد الأصوات الطباقي وشكل الفوجة سالف الذكر canon وينبغي أن يعتبر أوكيجم- لأن ذلك يمكن إثباته بالتسلسل "الأسلوبي"- يعتبر مؤسس كل المدارس ابتداء من مدرسته إلى مدارس العصر الحالي (9). ولكن مذ كتب هذا في 1833، فإن أوكيجم لا يعتبر مسئولاً عن موسيقى القرن العشرين، وعند وفاته 1495 ألف موسيقيو أوربا مقطوعات حزينة تخليداً لذكراه، وكتب له إرزم مرثية. إن الأسماء، حتى أسماء الخالدين، مكتوبة على الماء.
وأصبح تلاميذ أوكيجم زعماء الموسيقى في الجيل التالي، وقد قدم جوسكين دبريه من هينوت إلى باريس، وتتلمذ لعدة سنوات على أوكيجم، ثم اشتغل "رئيس فرقة الكنيسة" في فلورنسه وميلان وفيرارا، وكتب للدوق أركول الأول مقطوعة اسمها Miserere سرعان ما دوى صيتها في كل أوربا الغربية، وبعد سنوات ست قضاها في فرقة كنيسة سستين عاد إلى باريس (1494) ليعمل رئيساً لفرقة لويس الثاني عشر. ومن أنبل أعماله "الحزن على جوهانس أوكيجم" وهي رثاء لأستاذه المتوفى، وقد حذا(26/224)
حذوه لبعض الوقت في تلحين القداسات والقصائد الدينية في شكل الفوجة التي أسلفنا ذكرها، وهو يجمع الصوت على الصوت، فيما يشبه المسائل الرياضية من حيث التتابع والاتساق. فلما اكتملت مهارته. واستتبت له السيادة في "فن الموسيقى" بلا منازع، ترك التقنية، وكتب قصائد وتراتيل دينية وأغنيات علمانية في طراز من الألحان أكثر بساطة، أعقبت فيه الموسيقى الكلمات وزينتها، بدلا من إرهاقها، في فوجة سريعة التغير، أو بدلاً من مد المقطع إلى أغنية، ولما قضى المعلم وتلميذه نحبهما، اصبح من العادة أن يسمى أوكيجم "دوناتللو"، وأن يسمى دبريه "ميكل أنجيلو" الفن الموسيقي.
ورعى البلاط الفرنسي الموسيقى وشجعها باعتبارها زهرة الثروة والقوة، ولقد صورت سجادة قديمة يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 1500، وهي الآن محفوظة في متحف جوبلين في باريس، أربعا من السيدات وثلاثة من الشبان وراهباً أصلع، مجتمعين في بستان حول نافورة، وكان أحد الصبية يعزف على العود، وإحدى البنات على القيثار، وكانت سيدة وقورة تعزف على أرغن سهل الحمل، ولقد قصد الشعراء الفرنسيون أن تكون قصائدهم صالحة للغناء. وخصصت "أكاديمية القصر" لإحكام الاتحاد بين الموسيقى والشعر، وحتى في عصرنا هذا، لا يبدو الواحد منهما كاملاً بدون الآخر، وتفوق كليمنت جانكين- وهو أحد تلاميذ دبريه - في الأغاني الوصفية. ولا تزال أغنيته "أغنية القبرة" (1521) تصدح فوق عدة قارات.
وعكست الموسيقى الأسبانية تقوى الشعب وبسالته، لقد تراوح هذا الفن- بعد تهجينه وإخصابه بما دخل عليه مؤثرات عربية وإيطالية وبروفانسية وفرنسية وفلمنكية - تراوح بين القصائد الأندلسية الحزينة التي ينشدها صوت واحد (المونودية)، وللقداسات العظيمة المتعددة الأصوات بالأسلوب الفلمنكي. وسما واحد من أعظم ملحني القرن السادس عشر،(26/225)
هو كريستوبال مورال بفن تعدد الأصوات إلى درجة عالية، ونقل فنه إلى تلميذه الأكثر شهرة توماس لويس دي فكتوريا. وسار كل في اتجاه مضاد، فأنتج التراث العربي الألحان الصالحة للعود، ولحن لويس دي ميلان ومجول دي فونللانا Miguel de Fuenllana للكمان، وعزف عليها أغنيات زاحمت الأغاني الألمانية في مداها وقوتها.
واستمر الموسيقيون الفلمنكيون يقتحمون إيطاليا حتى ظهر بالسترينا. واستقدم لورنزو دي مديتشي إلى فلورنسه هنريخ إيزاك بعد أن استوعب فن الطباق الموسيقي في الفلاندرز، ليعلم أبناء العظماء، ومكث هناك أربع سنوات، وألف موسيقى لأغاني لورنزو. ولما اقض مضجعه الغزو الفرنسي لإيطاليا، انتقل إلى خدمة مكسيمليان الأول في أنسبروك، حيث ساهم في تشكيل الأغنية الألمانية، وعاد إلى إيطاليا في عام 1502، وخصص له الإمبراطور ليو العاشر تلميذه السابق معاشاً، ووضعت قداساته وقصائده الدينية وأغانيه في مرتبة أعظم موسيقى العصر، وعلى الأخص ثمان وخمسين مقطوعة ذات أربعة أجزاء، لاحتفالات القداس طوال السنة الدينية.
وسما أورلاندو دي لاسو بالمدرسة الفلمنكية إلى الذروة، وضرب بتوفيقه في مهنته وحياته أروع الأمثال، لاتساع مجال الموسيقيين في عصر النهضة وارتفاع مستواهم الاجتماعي. وعندما كان تلميذاً في فرقة المنشدين في موطنه هينوت سحر سامعيه، إلى حد أن خطفه مرتين أولئك الذين تمنوا أن يستفيدوا من صوته، وأخيراً، وهو في سن الخامسة عشرة (1545؟)، سمح أبواه لفرديناند جونزاجا أن يصحبه معه إلى إيطاليا. وفي سن الرابعة والعشرين أصبح رئيس فرقة المنشدين في كنيسة سانت جون لاتيران في روما. وفي 1555 استقر به المقام في أنتورب، ونشر "أول كتاب في القصائد الغزلية الإيطالية"، وهي قصائد غنائية علمانية أضفى عليها كل(26/226)
زخارف فن مزج الألحان الفلمنكي. وفي نفس العام أصدر مجموعة من أغان من أصل نابوليتاني (من مدينة نابلي) ومن الأغاني الفرنسية، وأربع قصائد دينية قصيرة، ولقد عكست هذه المجموعة التقلب المتسم بالحكمة في حياة دى لاسو، بين المتعة الدنيوية والقوة الشجية، وأنا لنجد لمحة عن بيئته في أنتورب في إهدابه إحدى قصائده إلى الكاردينال بول، وأخرى إلى الكاردينال جرانفيل هو الذي هيأ للملحن الشاب العمل في إدارة فرقة المنشدين للدوق في ميونخ (1556). وأحب أورلاندو بافاريا قدر حبه إيطاليا، واتخذ له زوجة من أحد البلدين، كما اتخذ اسمه من البلد الآخر، وعمل لدى أدواق بافاريا حتى الممات.
وضاعف أورلاندو السعيد، موزار القرن السادس عشر، الألحان الستمائة والستة والعشرين التي ألفها نظيره. ودرس سلم النغم في كل الأشكال الموسيقية السائدة، وأحرز في كل منها شهرة فائقة في كل أنحاء أوربا. وبدا أنه على نفس القدر من المعرفة والبراعة في غزليات الحب النقي، وأغاني الحب الطائش، وقداسات الورع الصوفي. وعين في 1563 رئيس فرقة المنشدين في الكنيسة، وألف آنذاك لألبرت الخامس لحناً موسيقياً لمزامير التوبة السبعة، وأعجب الدوق بهذه الموسيقى حتى أنه كلف الفنانين بتسجيلها على الورق "البرشمان" وزخرفتها بالمنمنمات، وتجليدها بجلد الماعز الأحمر الفاخر في مجلدين من القطع الكبير، محفوظين الآن ضمن أثمن مقتنيات مكتبة الدولة في مدينة ميونيخ المحبة للفنون.
واجتذبت أوربا كلها النجم الجديد. وعندما زار دي لاسو باريس (1571) عرض عليه شارل التاسع 1200 جنيه سنوياً (30. 000 دولار؟) سنوياً، ليبقى عنده، فرفض، ولكنه أهدى شارل وكاترين دي مديتشي(26/227)
كتاباً في الأغاني الفرنسية، يقول عنه برانتوم إنه من أعذب ما سمعت باريس، وقد روت إحدى الأغنيات مناقب العاصمة الفرنسية في حبها للعدالة والسلام- وكان هذا قبل مذبحة سانت برثلميو بعام واحد. ولما عاد دي لاسو إلى ميونيخ أهدى آل " uggers" مجموعة من القصائد اللاتينية القصيرة والغزليات الإيطالية والأغاني الألمانية والأغاني الفرنسية، إن هذا الملحن لم يكن صعلوكاً رومانتيكياً، بل كان خبيراً بأساليب الحياة في الدنيا. وفي عام 1574 سافر إلى رومه على نفقة الدوق البرت، وأهدى جريجوري الثالث عشر مجلداً من القداسات، وتسلم منه "وسام المهماز الذهبي" بل إن الله خص أعمال دي لاسو بأعظم التقدير، ذلك أنه في يوم عيد الجسد (1584) هبت عاصفة هوجاء هددت بإلغاء الموكب الديني الذي اعتاد اجتياز شوارع ميونيخ، وعندما عزمت فرقة المنشدين مقطوعة أورلاندو "تأمل وانظر كيف أن الله كريم"، انقطع المطر وأشرقت الشمس. وفي مثل هذا اليوم، فيما بعد، كانت تلك المقطوعة تعزف، لنضمن سماحة السموات.
وفي 1585 عندما كبرت سن دي لاسو، وثاب إلى التوبة، نشر "كتابه الخامس في الغزليات" الذي طبق فيه الشكل على الموضوعات الروحية، وهي من أعظم ألحانه إثارة للمشاعر. وبعد ذلك بخمس سنوات، التاث عقله وغاب عنه وعيه، فلم يعد بعرف زوجته. وكاد لا يتحدث في شيء إلا الموت، ويوم الحساب الأخير، وزيادة الراتب. وحظي بهذه الزيادة، ومات (1594) فائزاً ظافراً مخبولاً.
3 - الموسيقى والإصلاح الديني
كان الإصلاح الديني ثورة في الموسيقى، قدر ما كان ثورة في اللاهوت والطقوس وعلم الأخلاق والفن. لقد كانت الطقوس الكاثوليكية(26/228)
أرستقراطية، أو شعائر فخمة متأصلة في تقاليد منيعة لا تنتهك حرمتها، متعالية تعالياً صريحاً عن الشعب، في اللغة والملابس والرموز والموسيقى. وبهذه الروح، عرف رجال الدين أنفسهم بأنهم الكنيسة، وذهبوا إلى أن الناس قطيع يساق إلى حسن الخلق والخلاص بالخرافات والأساطير والعظات والمسرحيات وكل الفنون. وبهذه الروح كان القداس سراً خفياً مقصوراً فهمه على فئة قليلة، واتصالاً خارقاً بين الكاهن والرب. وكان الكاهن يرتل القداس، ومعه فرقة المنشدين من الذكور، منعزلة عن المصلين. ولكن في الإصلاح الديني فرضت الطبقات الوسطى وجودها وحقوقها، واصبح الشعب هو الكنيسة، ورجال الدين ممثليه، والقداس باللغة الوطنية، وكان لا بد أن تكون الموسيقى واضحة مفهومة، يمكن أن تقوم فيها جماعة المصلين بدور فعال، أصبح في آخر الأمر قيادياً.
وأحب لوثر الموسيقى، وقدر فن تعدد الأصوات والطباق الموسيقي، وفي 1538 كتب متحمساً يقول:
"إذا شحذ الفن الموسيقى الطبيعية وصقلها يبدأ الإنسان يدرك
في عجب ودهشة حكمة الله العظيمة البالغة حد الكمال، في
موسيقاه الرائعة، حيث يقوم صوت واحد بدور بسيط، ويغني
حوله ثلاثة أو أربعة أو خمسة أصوات أخرى، تثب وتنطلق هنا
وهناك، تزين الدور البسيط، وكأنها رقصة تربيعية في السماء.
إن هذا الذي لا يجد في هذا معجزة تفوق الوصف من عند الله،
ليس إلا غبياً حقيراً لا يستحق أن يعتبر إنساناً" (10).
وكان لوثر في نفس الوقت تواقاً إلى موسيقى دينية يمكن أن تحرك مشاعر الناس، بالتحام الإيمان بالغناء عن طريق الموسيقى. وفي 1524 تعاون مع جوهان والتر، رئيس فرقة المنشدين في الكنيسة لدى الأمير(26/229)
فردريك الحكيم لإنتاج أولى التراتيل البروتستانتية التي وسعت وأدخل عليها تحسينات كثيرة في الطبعات المتعددة. وكان جزء من كلماتها مأخوذاً من الترانيم الكاثوليكية، وجزء آخر مقتبساً من أغاني رئيس فرقة المنشدين، وجزء ثالث مكتوباً بقلم لوثر الشاعري تقريباً، وجزء آخر مأخوذاً من الأغاني الشعبية بعد نقلها إلى موضوعات دينية. ويقول لوثر "ليس للشيطان حق في كل الألحان الجيدة (11). وألف لوثر بعض الموسيقى، وألف والتر جزءاً آخر، واقتبس قسم ثالث من المقطوعات الكاثوليكية المعروفة آنذاك. واستمرت الكنائس اللوثرية لمدة قرن تقريباً، تدخل القداسات المتعددة الأصوات في طقوسها، ولكن حلت اللغة الوطنية محل اللاتينية شيئاً فشيئاً، ونقص دور القداس، وزاد غناء المصلين، وانتقلت أغاني فرقة المنشدين من الطباق إلى شكل إيقاعي متناسق ايسر، سعت فيه الموسيقى إلى متابعة الكلمات وتفسيرها، ومن موسيقى فرقة المنشدين التي ألفها لوثر ومعاونوه لمصاحبة تلاوة قصص الإنجيل، جاءت الموسيقى العظيمة في الكنيسة البروتستانتية في القرن الثامن عشر، وبلغت الذروة في موشحات هاندل وقداساته وموشحات جوهان سباستيان باخ وتراتيله.
ولم يكن كل مؤسسي البروتستانتية يحبون الموسيقى مثلما أحبها لوثر، فإن زونجلي، ولو أنه نفسه موسيقار، استبعد الموسيقى كلية من الصلوات الدينية، وحرم كلفن كل الموسيقى الكنسية، فيما عدا غناء المصلين المتساوي النغمات. ولكنه أباح الغناء الطباقي المتعدد الأصوات في البيت، فاستمد أتباعه الهيجونوت في فرنسا جزءاً من قوتهم وشجاعتهم من إنشاد المزامير والترانيم على أنغام الموسيقى بأصوات متعددة. ولما ترجم كليمنت مارو المزامير إلى اللغة الفرنسية شعراً، أعجب بها كلفن إلى حد أنه تجاوز عن المقطوعات الطباقية التي وضعها كلود جوديمل، وقد أضفت حقيقة أن هذا الملحن البروتستانتي لقي حتفه في مذبحة سانت برثلميو،(26/230)
مزيداً من القدسية على كتاب مزاميره المقدس. وبعد مارو بعام، لم يخف أسقف كاثوليكي حسده للدور الذي كانت قد لعبته هذه الترجمات والمقطوعات في الإصلاح الديني الفرنسي. "وكان حفظ المزامير عن ظهر قلب، لدى الهيجونوت سمة الطائفة التي ينتمون إليها، وفي المدن التي يكثر عددهم فيها، يمكن أن تسمع النغمات المنبعثة من أفواه للعمال، ومن القرى من أفواه الكادحين الذين يفلحون الأرض (12) ". لقد ميزت الصبغة الديمقراطية التي صبغت بها الموسيقى الدينية البلاد التي عم فيها الإصلاح الديني حيث سترت هذه الصبغة الديموقراطية قيام العقيدة ببهجة الموسيقى التي تسري عن النفس.
4 - بالتسرينا
1526 - 1594
ظلت الكنيسة الكاثوليكية الراعي الرئيسي للموسيقى مثل غيرها من الفنون، وتقدمت الموسيقى الكاثوليكية، شمال جبال الألب، على الأسس التي وضعتها المدرسة الفلمنكية، وثبت هذا التقليد إيزاك في النمسا ودى لاسو في بارفايا. ووجه لوثر في 1550 خطاباً من أكرم خطاباته إلى لودفيج سنفل يحييه فيه ويطري موسيقاه التي كان يؤلفها في ميونيخ، ويثني على الأدواق الكاثوليك هناك لأنهم "يرعون الموسيقى ويجلونها" (13).
وكان فريق المنشدين كنيسة سستين هو النموذج الذي احتذاه الملوك والأمراء في تأسيس كنائسهم طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وحتى بين البروتستانت كان أروع شكل للتأليف الموسيقي هو القداس. وكانت فرقة المنشدين البابوية هي التي تقوم بالقداس في أروع أشكاله. وكان أعظم ما يطمع فيه أي مغن هو أن يلتحق بهذه الفرقة، التي كانت لذلك قادرة على أن تضم إليها أحسن أصوات الذكور في أوربا الغربية.(26/231)
وكان الكاستراتي، الذين كانوا يسمون آنذاك "الخصيان"- أول من أدخلوا إلى فرقة سستين، حوالي 1550، وسرعان ما أظهر بعد ذلك غيرهم في البلاط البافاري، وكانوا يخصون الأولاد بموافقتهم، وكانوا يغرونهم بأن أصواتهم العذبة الندية ستكون أكبر نعمة وتعويض لهم عن الإنجاب والإخصاب- تلك ميزة وحشية كانت في متناول كل من يطلبها بصفة عامة.
وكانت الكنيسة- مثل أي نظام قديم معقد، لا بد أن يخسر كثيراً بأية بدعة غير موفقة- كانت تتسم بروح المحافظة في الطقوس والشعائر، حتى أكثر منها فيما يتعلق بالعقيدة. أما المؤلفون فكانوا على النقيض من ذلك، يضيقون ذرعاً بالأساليب القديمة، كما كانوا كذلك في كل العصور، وكان التجريب في نظرهم هو حياة فنهم. وكافحت الكنيسة في كل هذه القرون، لمنع التكلف في الفنون الجديدة، ورقة الطباق الفلمنكي، من أن يضعفا وقار القداس الكبير وعظمته. وفي سنة 1322 أصدر البابا جون الثاني والعشرين قراراً صارماً ضد البدع الموسيقية والزخرفة، وأمر بأن تلتزم موسيقى القداس بالأغنية البسيطة الوحيدة، أي الأغنية الجريجورية، كأساس لها، ولا تبيح إلا التناغم الذي يمكن أن يكون مفهوماً للمصلين، وبعمق التقوى في نفوسهم أكثر مما يلهيهم عنا. وظل الأمر مطاعاً لمدة قرن من الزمان، ثم جاءت المراوغة في تنفيذه من أن بعض المنشدين الجهير (الصوت العميق الخفيض) أعلى من المكتوب بجواب واحد. واصبح هذا الجهير الزائف هو الخدعة المفضلة في فرنسا. وظهرت التعقيدات من جديد في موسيقى القداس، وبدأ إنشاد خمسة أو ستة أو ثمانية أجزاء بالفوجة والطباق، جرت فيها كلمات الطقوس الدينية الواحدة عقب الأخرى في فوضى احترافية، أو غرقت في زخارف موسيقية وضعها المغنون وفق أهوائهم. وأدى تكييف أنغام شعبية للقداس، حتى إلى إقحام كلمات بذيئة على النص المقدس. واتفق أن عرفت بعض القداسات بمصادرها العلمانية مثل قداس(26/232)
"وداعاً يا أحبائي" أو قداس "في ظل الشجرة" (14). واستاء إرزم المتحرر نفسه من زيف "فن القداس" حتى أنه احتج على ذلك في ملاحظة دونها في طبعته التي نشرها "للعهد الجديد":
إن الموسيقى الكنسية الحديثة ألفت بحيث لا يستطيع أحد من جماعة المصلين أن يتبين كلمة واحدة متميزة. إن المنشدين أنفسهم لا يفهمون ما ينشدون ... لم يكن ثمة موسيقى (كنسية) أيام القديس بولص، حيث كانت الكلمات تنطق بوضوح. إن الكلمات اليوم لا تعني شيئاً. إن الناس يذرون أعمالهم ويقصدون إلى الكنيسة ليستمعوا إلى جلبة وضجيج لم يكن لهم بهما عهد في المسارح اليونانية والرومانية. ينبغي أن تسك النقود لشراء الأراغين وتدريب الأولاد على إطلاق الصيحات والصرخات (15).
واتفقت جماعة الإصلاح في الكنيسة مع إرزم في هذه المسألة. فمنع جيبرتي أسقف فيرونا استعمال أغاني الحب أو الألحان الشعبية في أبرشيته، كما حرم مورون أسقف مودينا كل الموسيقى "المصورة" أي المزخرفة بكل تفاصيل الإثارات والأفكار الرئيسية. وحث المصلحون الكاثوليك في مجلس ترنت على استبعاد كل الموسيقى المتعددة الأصوات من كل حفلات الكنيسة، وعلى العودة إلى الإنشاد الجريجوري ذي الصوت الواحد، ولكن ربما كان من الممكن أن يساعد ميل البابا بيوس الرابع إلى قداسات بالسترينا، على إنقاذ "تعدد الأصوات" في الكنيسة الكاثوليكية.
لقد اشتق جيوفني لويجي بالسترينا اسمه من اسم مدينة صغيرة في الريف الروماني كانت قد دخلت التاريخ في العصور القديمة تحت اسم "براينستي". وإنا لنجده في 1537، وهو إذ ذاك في الحادية عشرة من عمره، بين تلاميذ فرقة المنشدين في سانتا ماربا مجيوري في روما، ولم يكن قد بلغ(26/233)
الحادية والعشرين حين عين رئيساً للفرقة في كاتدرائية مسقط رأسه. فلما توطد مركزه على هذا النحو، تزوج من لوكريشيا دي جوريس، وكانت على شيء من اليسار، وعندما تقلد أسقف بالسترينا منصب البابوية تحت اسم جوليوس الثالث، اصطحب معه رئيس فرقته إلى رومه، وعينه رئيس معبد جوليا في كنسية القديس بطرس، الذي كان يتدرب فيه المنشدون لكنيسة سستين. وأهدى الملحن الشاب إلى البابا الجديد أول كتاب له في "القداسات" (1554) عرض أحدها معزوفة ثلاثية الألحان بمصاحبة منشد واحد لأغنية بسيطة، وأحب البابا هذه القداسات إلى حد أنه منح بالسترينا عضوية فرقة المنشدين في كنيسة سستين. وبدا موقف جيوفني شاذاً، بوصفه رجلاً متزوجاً، وسط هذه الجماعة التي كان أفرادها مترهبين عادة، مما أثار بعض المعارضة. وكان بالسترينا على وشك أن يهدي البابا كتاباً في الغزليات، لولا أن جوليوس عاجله الموت (1555).
ولم يعمر مارسلس الثاني أكثر من ثلاثة أسابيع بعد ارتقائه عرش البابوية. وأهدى الملحن إلى ذكراه (1555) مقطوعته الشهيرة "قداس البابا مارسلس" التي لم تنشر، أو هكذا كانت تسمى حتى 1567. وطرد البابا بول الرابع ذو المبادئ البيوريتانية الجامدة الأعضاء المتزوجين في فرقة منشدي سستين، وخصص لكل منهم معاشاً ضئيلاً. وما لبث بالسترينا أن عين رئيساً لفرقة المنشدين في كنيسة سان جون لاتيران، ولكن هذه الوظيفة، ولو أنها سدت رمقه، لم توفر له نفقات نشر تآليفه الموسيقية. وعاد العطف البابوي يضلله بارتقاء بيوس الرابع عرش البابوية (1559). وتأثر بيوس أيما بمقطوعة lmproperia التي أعدها بالسترينا لاحتفال "الجمعة الحزينة"، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هذه المقطوعة جزءاً لا يتجزأ من الطقوس في كنيسة سستين، وظل زواج(26/234)
بالسترينا يحول بينه وبين فرقة سستين، ولكن ارتفع شأنه بتعيينه (1561) رئيساً لفرقة سانتا ماريا مجيوري.
وبعد ذلك بعام واحد بحث مجلس ترنت الذي انعقد ثانية، مشكلة تنظيم الموسيقى الكنسية، لتتسق مع روح الإصلاح الجديدة، ورفض الاقتراح القائل بمنع "تعدد الأصوات" منعاً باتاً. وأقر حل وسط يحث السلطات الدينية "على أن تستبعد من الكنائس كل موسيقى ... تقدم شيئاً من الدنس أو الفجور، حتى يظل بيت الله مشهوداً له بأنه بيت التعبد والصلاة (1)، وعين بيوس الرابع لجنة قوامها ثمانية من الكاردينالات لتنفيذ هذا القرار في أبرشية رومه. وتروي قصة لطيفة أن اللجنة كانت على وشك تحريم الموسيقى المتعددة الأصوات، حين توسل أحد الأعضاء وهو الكاردينال شارل بوروميو، إلى بالسترينا أن يؤلف قداساً يمكن أن يظهر الانسجام الكامل بين تعدد الأصوات والتقي والتدين، واستجاب بالسترينا وألف، وأنشدت الفرقة ثلاثة قداسات أمام اللجنة، أحدها "قداس البابا مرسلس". ولم ينفذ "تعدد الأصوات" من الحكم عليه بالفناء إلا الاتحاد الوثيق بين السمو الديني والبراعة الفنية المهذبة في الموسيقى في هذه القداسات. على أن قداس البابا مرسلس كان قد مضى على تأليفه آنذاك عشر سنوات. ومهما يكن من أمر فإن العلاقة الوحيدة المعروفة بين بالسترينا وهذه اللجنة، هي أنها زادت من راتبه (16). على أننا مع ذلك قد نؤمن بأن الموسيقى التي كان بالسترينا قد قدمها في فرق روما، بفضل إخلاصها للكلمات، وتجنبها للمثيرات الدنيوية وإخضاعها الفن الموسيقي للمقاصد الدينية، قد لعبت دوراً كبيراً في توجيه اللجنة إلى إجازة الموسيقى المتعددة الأصوات (17). وثمة حجة أخرى تضاف تأييداً "لتعدد الأصوات" تلك هي أن تأليف بالسترينا الدينية استغنت، بشكل طبيعي،
_________
(1) أحس بيوس العاشر (1903)، وبيوس الثاني عشر (1955) أنه من الضروري تكرار هذه التعليمات.(26/235)
عن "زخارف الآلات"، وكانت مكتوبة دائماً تقريباً بالأسلوب الكنسي، أي للأصوات فقط.
وفي 1571 أعيد تعيين بالسترينا رئيساً لفرقة كنيسة جوليا، وبقي في هذا المركز حتى موته. وفي نفس الوقت كان إنتاجه غزيراً بلا حدود بلغ في جملته 93 قداساً، و426 ترنيمة تجاوبية، وتقدمه للذبيحة الإلهية، وأغنية دينية ومزموراً وعدداً كبيراً من الغزليات. وكان بعض هذه مبنياً على موضوعات علمانية. ولكن بالسترينا لما تقدمت به السنون، حول حتى هذا الشكل إلى أغراض دينية. وتضمن "كتابه الأول في الغزليات الروحية" (1581) بعضاً من أجمل مقطوعاته. وربما لونت المآسي الشخصية موسيقاه أو شوهتا، فقد توفي ابنه أنجلو في 1576، تاركاً في رعايته حفيدين عزيزين، ماتا بعد ذلك بسنوات قليلة. وتوفي ابن آخر له حوالي 1579. ولكن موت زوجته في 1580 دفعه إلى التفكير في أن يترهب. على أنه تزوج ثانية في بحر سنة واحدة
إن وفرة إنتاج بالسترينا ونوعيته المذهلتين رفعتاه إلى مرتبة الزعامة على الموسيقى الإيطالية، إن لم تكن الأوربية بأسرها. إن وضعه نشيد الإنشاد Song of Solomon في تسع وعشرين قصيدة دينية (1584)، و "مراثي أرمياء" 1588، و Stabat Mater and Magificat 1590، ثبتت شهرته وقوته الصامدة. وفي 1592 اشترك منافسوه الإيطاليون في إهدائه "مجموعة من مزامير المساء". وكرموه بأنه "الأب المشترك لكل الموسيقيين". وفي أول يناير 1594 أهدى كريستينا دوقة تسكانيا العظيمة "الكتاب الثاني من الغزليات الروحية" التي جمع فيها ثانية بين الإخلاص الديني والبراعة الموسيقية. وبعد ذلك بشهر واحد قضى نحبه وهو في التاسعة والستين من العمر، ونقش على قبره تحت اسمه "أمير الموسيقى". وينبغي ألا نتوقع أن نقدر بالسترينا اليوم حق قدرهن إلا إذا كانت(26/236)
نفوسنا نحن متشبعة بالروح الدينية. وإننا لنسمع اليوم موسيقاه في وضعها السليم بوصفها جزءاً من طقوس مهيبة، وحتى في هذه الطقوس قد تتركنا جوانبنا الفنية مشدوهين أكثر منا متأثرين. وبالمعنى الحرفي، أي في واقع الأمر، إن الوضع الصحيح لا يمكن أن يعود أبداً، لأن موسيقى بالسترينا كانت موسيقى الإصلاح الكاثوليكي، فهي النغمة الكئيبة للنكسة الصارمة ضد الابتهاج الحسي في النهضة الوثنية، أو قل هي ميكل أنجيلو باقياً على قيد الحياة بعد رافائيل، أو بول الرابع يحل محل ليو العاشر، أو ليولا يحل مكان بمبو، أو كلفن يخلف لوثر. إن ترشيحاتنا المعاصرة ليست إلا معياراً عابراً غير معصوم من الخطأ، وذوق الفرد- وخاصة إذا أعوزته القدرة الفنية والتصرف والإحساس بالخطيئة- إنما هو أساس واه نقيم عليه مقياساً للحكم في الموسيقى واللاهوت. ولكن نستطيع أن نتفق جميعاً على أن بالسترينا، بلغ بفن "تعدد الأصوات" الديني درجة الكمال، في عصره. وأنه، مثل معظم كبار الفنانين، وقف على قمة حد من التطور في الإحساس والتقنية، وتسلم تقليداً فأتمه وأكمله، لقد ارتضى النظام، وعن طريقه وزد موسيقاه بتركيب وبنية، أو رسوخاً معمارياً في وجه أعاصير التغيير الهوجاء. ومن يدري، فربما جاء عصر ليس ببعيد، أرهقته أصوات الأوركسترا العالية الطنانة ورومانسيات الأوبرا- ليجد في موسيقى مثل موسيقى بالسترينا عمقاً في الإحساس، وانسياباً عميقاً هادئاً في الألحان، يصلحان بطريقة أفضل للتعبير عن النفس الإنسانية المتطهرة من غرور العقل والقوة، رابضة مرة ثانية، في تواضع وخشوع وخشية، أمام الوجود الأبدي الذي يطبق عليها.(26/237)
الفصل الخامس والثلاثون
الأدب في عصر رابليه
1517 - 1564
1 - في صناعة الكتب
اتخذ حافز الإعلان عن النفس صورة جديدة بعد جوتنبرج، هي رغبة الكتاب الملحة في طبع مؤلفاتهم. على أن هذا الحافز كان غالي الثمن، لأن حتى التأليف الوحيد المعروف آنئذ كان "الامتياز الخاص" الذي تمنحه السلطات المدنية أو الكنسية لطبع كتاب بعينه، وهو منحة استثنائية، بدونها كان في استطاعة الناشرين المتنافسين، حتى في البلد الواحد، أن يسطوا على أثر حين يشاءون، وكان الناشر عادة-إذا راج الكتاب الذي ينشره-ينقد المؤلف أتعاباً، ولكن المطبوعات الوحيدة تقريباً التي غلت من الربح ما يكفي لحصول المؤلف على أتعابه هي الروايات الشعبية، وقصص السحر أو المعجزات، والنشرات الجدلية التي كان شرط رواجها أن تحشي بالمطاعن. أما الكتب العلمية والثقافية فكانت محظوظة إن غطت نفقاتها. وكان الناشرون يشجعون المؤلفين على إهداء هذه الآثار إلى كبار رجال الدولة أو الكنيسة أو إلى أثرياء الأعيان والأشراف بأمل الحصول على منحة لقاء هذا الزلفى.
واجتمعت الطباعة والنشر عادة في بيت واحد. وكان الرجل أو الأسرة المشتغلان بهما عنصراً حيوياً في مدينتهما وجيلهما. أما الشهرة عن طريق الطباعة وحدها فقط فكانت نادرة، وقد أفلح كلود جرامون الباريسي(27/1)
في إحرازها بنبذة حرف الطباعة "القوطي" الذي اتخذه الطباعون الألمان نقلاً عن حروف المخطوطات، وبتصميمه حروف طباعة "رومانيا" (حوالي 1540) مبنياً على خط الكتابة الكارولنجي الصغير المنتشر في القرن التاسع كما طوره الإنسانيون الإيطاليون والمطبعة الألدية. واختار الطباعون الفرنسيون والإنجليز هذا الحرف الروماني، أما الألمان فقد تمسكوا بالحرف القوطي حتى القرن التاسع عشر. وما زالت أنماط من حروف الطبع تحمل اسم جرامون.
وتزعمت ألمانيا العالم في ميدان النشر. فقامت بيوت نشر نشيطة في بازل وستراسبورج وأوجزبورج ونورمبرج وفتنبرج وكولونيا وليبزج وفرانكفورت ومجدبورج. وكان الناشرون وتجار الكتب يلتقون مرتين كل عام في سوق فرانكفورت، فيشترون الكتب ويبيعونها ويتبادلون الأفكار. وأصدر طباع فرانكفورتي أول جريدة (1548) -وكانت ورقة توزع في السوق وتروي آخر الأحداث. وأصبحت أنتورب مركزاً للنشر حين عمد كرستوفر بلانتن إلى دكان التجليد الذي يملكه فحوله إلى مطبعة (1555)، وبعد عامين أرسل 1200 مجلد إلى سوق فرانكفورت. أما في فرنسا فكانت ليون مركزاً لصناعة الكتاب، وأتاحت لها مائتان من مؤسسات الطباعة أن تتحدى باريس بوصفها العاصمة الفكرية للبلاد.
وكان إتيين دولية الطباع والأديب الإنساني شعلة ليون المتأججة بالثورة. ولد في أورليان، وتلقى علومه في باريس، ثم أولع بشيشرون. "إنني لا أستحسن سوى المسيح وتللي". ولما سمع بأن كفر يحظى بحرية غير عادية في بادوا سارع إليها، وهناك تبادل الشعر الساخر البذيء مع الشكاكين من المتأثرين بفلسفة ابن رشد. وفي تولوز أصبح الروح المحركة لجماعة حرة التفكير تهزأ البابويين واللوثريين على حد سواء، فلما نفي(27/2)
قصد ليون فيها واكتسب سمعة بكتابات الأشعار والمقالات، ولكنه قتل طباعاً أثناء احتدام الجدل بينهما، ففر إلى باريس حيث حصلت له مارجريت النافارية على عفو الملك. وهناك صادق مارو ورابليه، ثم تشاجر معهما. ولما عاد إلى ليون أنشأ مطبعة وتخصص في نشر الكتب المهرطقة، واستدعته محكمة التفتيش، وحاكمته وسجنته، فهرب من السجن، ولكنه قبض عليه أثناء زيارته ابنه خفية، وفي 3 أغسطس 1546 أحرق حياً.
أما أبرز الناشرين الفرنسيين فكانوا آل إتيين، وهم أسرة ثابرت على الطباعة مثابرة آل فوجير على التمويل. بدأ هنري إتيين مطبعته في باريس حوالي 1500، وواصل العمل من بعده أبناؤه فرانسوا وروبير وشارل، وإلى هؤلاء الأربعة تدين فرنسا بأفخر طبعاتها للآداب اليونانية واللاتينية. وصنف روبير قاموساً للغة اللاتينية (1532) أصبح سنداً أساسياً لجميع القوامس اللاتينية الفرنسية التالية له. وغدت اللاتينية لغة ثانية لآل إتيين يتكلمونها بانتظام داخل الأسرة. وامتدح فرانسوا الأول عملهم وأيد مارجريت في الدفاع عنهم ضد السوربون، وحضر في إحدى المناسبات اجتماعاً للفيف من الأدباء التقوا في حانوت روبير. وفي رواية مشهورة أن الملك ظل ينتظر في صبر ريثما يفرغ روبير من تصحيح تجربة طباعة عاجلة. وقدم فرانسوا المال الذي أتاح لروبير تكليف جرامون بتصميم وصب طقم طباعة جديداً للحروف اليونانية فيه من الجمال ما جعله نموذجاً لمعظم الطباعة اليونانية التالية. واستنكرت السوربون تلهي الملك بالثقافة الهيلينية، وقال أحد أساتذتها يحذر "البرلمان" (1539) "إن نشر المعرفة اليونانية والعبرية سيعمل على تدمير الدين كله". أما العبرية فكان رأي أحد الرهبان فيها "أنه من المعلوم جيداً أن كل من تعلموا العبرية أصبحوا من فورهم يهوداً" (1). ولما لاحقت السوربون روبير وأرهقته طوال ثلاثين عاماً نقل مطبعته إلى(27/3)
جنيف (1552) وهناك أمام اللثام سنة وفاته (1559) عن ميوله البروتستنتية بنشره طبعة من "مبادئ كالفن". واحتفظ ابنه هنري إتيين الثاني بسمعة الأسرة إذ أصدر في باريس طبعات جميلة من الآداب القديمة، وصنف معجماً للغة اليونانية (1572) في خمسة مجلدات لا تزال إلى يومنا أكمل المعاجم اليونانية قاطبة. غير أنه أثار حقد السوربون عليه بنشره كتاباً سماه "دفاع عن هيردوت" (1566) أشار فيه إلى النظائر من المعجزات المسيحية والعجائب الغريبة التي رواها المؤرخ اليوناني ولجأ هو الآخر إلى جنيف، ولكنه وجد نظام الحكم الكالفني لا يقل تعصباً عن السوربون.
وكثير من مطبوعات هذا النصر نماذج تحتذي في الطبع والحفر والتجليد، فقد حل محل الأغلفة نصف المعدنية، الثقيلة، الشائعة في القرن الخامس عشر، أغلفة خف وزناً وأرخص ثمناً مصنوعة من الجلد أو الورق المتين أو الرق. ومن أمثلة هذا التقدم أن جان جرولييه دسيرفيير، وزير مالية فرنسا في 1534، كلف المجلدين بتجليد كتبه البالغ عددها 3. 000 بجلد الماعز المشرقي تجليداً بلغ من الأناقة حداً يضعها في صف أجمل الكتب إطلاقاً. وغدت المكتبات الخاصة الآن لا حصر لها، وفتحت المكتبات العامة في كثير من المدن-مثل كركاو (1517)، وهامبورج (1529)، ونورمبرج (1538)، وفي عهد فرانسوا الأول نقلت المكتبة الملكية القديمة التي جمعها شارل الثامن من اللوفر إلى فونتنبلو، وأثرتها مجموعات جديدة من الكتب وأغلفة فاخرة، وأصبحت هذه "المكتبة الملكية" بعد الثورة الفرنسية "المكتبة الأهلية". وقد دمر كثير من المكتبات الديرية في حركة الإصلاح البروتستنتي، ولكن الكثير منها انتقل إلى أيدي الأفراد ووجد كل ثمين فيها طريقه إلى دور الكتب العامة. لقد ضاع في التاريخ الكثير، ولكن احتفظ بالكثير جداً مما له قيمته وليس في استطاعة فرد ولو أوتي مائة عمر أن يستوعبه.(27/4)
2 - المدارس
كان من الطبيعي أن تعمد الثورة الفرنسية حيناً إلى تمزيق نظام غربي أوربا التعليمي لأنه جلّه كان خدمة تابعة للكنيسة، ولم يكن في الإمكان تحدي نفوذ رجال الدين التقليديين بنجاح ما لم تحطم هيمنتهم على التعليم. وقد أنحى لوثر باللوم على مدارس ذلك العهد الثانوية التي تركز على تعليم اللغات القديمة، وقال إنها تعلم الطالب "من اللاتينية الرديئة ما يكفي لإعداده قسيساً وتمكينه من تلاوة القداس ... ومع ذلك يظل طوال حياته جهولاً مسكيناً لا يلح لشيء" (2). أما الجامعات فبدت له مغامرات للقتلة، وهياكل للإله ملخ، ومجامع للفساد "لم يظهر على الأرض" ... ولن يظهر ... ما هو شر منها. " وخلص من هذا إلى أنها "لا تصلح إلا لهدمها وتسويتها بالتراب" (3). واتفق ملانكتون مع لوثر في الرأي، لأن الجامعات تحول طلابها إلى الوثنية (4). وتقبل الآباء الذين يضنون بنفقات تعليم أبنائهم، رأي كارلشتات، و "أنبياء" زفيكالو، والقائلين بتجديد المعمودية، في غير تردد-وهو أن التعليم زخرف لا غناء فيه، وخطر على الأخلاق، ومعوق للخلاص. وكانت حجة بعض الآباء أنه ما دام التعليم الثانوي موجهاً إلى حد كبير لإعداد الطلاب ليكونوا قساوسة، وما دامت هذه المهنة قد بارت سوقها، إذن فليس من المنطق أن يبعثوا بأبنائهم إلى الجامعات.
كان دعاة الإصلاح البروتستنتي يتوقعون أن يفرد جانب من دخل الأملاك الكنسية التي استولت عليها الدولة لإنشاء مدارس جديدة تحل محل تلك الآخذة في الزوال عقب إغلاق الأديار. ولكن "الأمراء والأشراف" على حد قول لوثر "شغلوا بشئون عالية وهامة- شئون كهف الخمور والمطبخ والمخدع- فلم يعد لديهم متسع من الوقت" لمد يد المعونة إلى التعليم. وكتب يقول في 1524 "إن المدارس في الولايات الألمانية ترك الآن في كل مكان لتصبح خراباً يباباً" (5). وما وافى عام 1530(27/5)
حتى كان هو وملانكتون يرثيان ما أصاب الجامعات الألمانية من تدهور وانحلال (6). ففي إرفورت هبط عدد الملتحقين بالجامعة من 311 في عام 1520 إلى 120 في عام 1521، وإلى 34 في عام 1524، وفي روستوك هبط العدد من 300 في عام 1517 إلى 15 في عام 1525، وفي هيلدبرج كان في ذلك العام من الأساتذة عدد أكثر ممن كان فيها من الطلاب. وفي 1526 لم يلتحق بجامعة بال سوى خمسة طلاب (7).
وجاهد لوثر وملانكتون لإصلاح ما فسد. فناشر لوثر في "رسالته إلى العمد" (1524) السلطات الزمنية أن تنشئ المدارس. وفي عام 1530 تخطى زمانه بكثير فاقترح أن يقرر التعليم الأولي إجبارياً وأن يوفر للأطفال على حساب الدولة (8). أما الجامعات التي أعيد تأسيسها تدريجياً تحت الرعاية البروتستنتية فقد أوصي ببرنامج دراسة لها يتركز حول الكتاب المقدس، ولكنه يحوي أيضاً تعليم اللاتينية واليونانية والعبرية والألمانية والقانون والطب والتاريخ و "الشعراء والخطباء ... الوثنيين منهم أو المسيحيين (9) ". أما ملانكتون فقد جعل من إحياء التعليم مهمته الأولى، ففتح الكثير من المدارس تحت قيادته وبتشجيعه. وما وافت نهاية القرن السادس عشر حتى أصبح في ألمانيا 300 مدرسة. ثم وضع "خطة مدرسية" (1527) لتنظيم المدارس والجامعات، وألف كتباً مدرسية في النحو اللاتيني واليوناني، وفي البيان والمنطق وعلم النفس والأخلاق واللاهوت. ودرب آلاف الطلاب على الاضطلاع بالتعليم في المعاهد الجديدة. وقد لقبه وطنه بمعلم ألمانيا اعترافاً بجميله. وانتقلت جامعات شمالي ألمانيا الواحدة تلو الأخرى إلى أيد بروتستنتية: فتنبرج (1522)، وماربورج (1527)، وتوبنجن (1535)، وليبزج (1539) وكونجزبرج (1558). وطرد الأساتذة أو الطلاب المعارضون "للعقيدة الإنجيلية الصادقة الصحيحة" كما قال أولريش دوق فورتمبرج. ومنع الكالفنيون من دخول الكليات اللوثرية، والبروتستنت من دخول الجامعات التي لم تزل في أيدي الكاثوليك. ويمكن القول بصفة(27/6)
عامة إنه بعد صلح أوجزيورج (1555) حرم على الطلبة الألمان أن يختلفوا إلى المدارس التابعة لمذهب آخر غير الذي يدين به أمير المقاطعة (10).
هذا وقد أتيح للتعليم الجديد أن يحرز تقدماً هائلاً على يد يوهان شتروم حين أنشأ مدرسة ثانوية "جمنازيوم" في ستراسبورج (1538)، ونشر في ذلك العام نبذة كان لها نفوذ كبير عنوانها "في فتح مدارس الآداب بالطريقة الصحيحة". وكان ككثيرين غيره من زعماء الفكر في وسط أوربا قد تلقى علومه على يد "إخوان الحياة المشتركة". ثم قصد لوفان وباريس حيث التقى برابليه. ولعل رسالة جارجانتوا الشهيرة في التعليم صدى لتأثير الرجلين المتبادل. ومع أن شتروم في "التقوى المقترنة بالحكمة" الهدف الأول للتعليم، فإنه أكد تأكيداً متزايداً أهمية دراسة اليونانية واللاتينية وآدابهما، وقد انتقلت هذه العناية والدقة في تعليم الآداب القديمة إلى مدارس ألمانيا الثانوية التالية، فربت جيش العلماء والأدباء الذي غزا العالم القديم وقتله بحثاً وتنقيباً في القرن التاسع عشر.
أما مدارس إنجلترا قد قاست أكثر حتى من مدارس ألمانيا نتيجة للثورة الدينية. وذابت مدارس الكاتدرائيات والأديار والنقابات والأوقاف في لهيب الهجوم على رذائل الكنيسة وتراثها. وكان أكثر طلاب الجامعات يفدون إليها من هذه المدارس، فلما توقف هذا السيل لم تخرج أكسفورد سوى 173 من حملة بكالوريوس الآداب، وكمبردج سوى 191 في عام 1548، وفي عامي 1547 و1550 لم تخرج أكسفورد منهم أحداً. (11) وأحس هنري الثامن بالمشكلة، ولكن حاجاته إلى المال للحرب أو لزيجاته العديدة حددت من قدرته، فاكتفى بإنشاء كلية ترنتي بكمبردج (1546) وبتمويل كراس بمنح ملكية في اللاهوت، والعبرية واليونانية، والطب، والقانون. وفي هذه الفترات قامت الهيئات الخاصة الخيرية بإنشاء كلية كوربس كرستي، وكلية كرايست تشيرس، وكلية سانت جون، وكلية ترنتي(27/7)
بأكسفورد، وكلية ماجدلين بكمبردج. وقامت اللجنة الملكية التي أوفدها كرومويل إلى أكسفورد وكمبردج (1535) لتستولي الملك على براءاتهما وأوقافهما بإخضاع الكلية والمنهج للإشراف الحكومي. وهكذا قضى بضربة عاجلة على سلطان الفلسفة الكلامية في إنجلترا، وذرت في الريح-حقيقية لا مجازاً-أعمال دنزسكوتس (12)، ونحن القانون الكنسي جانباً، وشجعت الدراسات اليونانية واللاتينية، وصبغ المنهج بالصبغة العلمانية إلى حد كبير-ولكن الدجماطيقية لم تمت. فقد اشترط قانون صدر في 1553 على جميع طلاب الدرجات الجامعية أن يتعهدوا كتابة بقبول "مواد الدين الانجليكانية".
أما في فرنسا وفلاندر الكاثوليكيتين فقد تدهورت الجامعات لا من حيث أوقافها وعدد طلابها، بل من حيث قوة الحياة الفكرية وحريتها. وفتحت جامعات جديدة في رامس ودواي وليل وبيزانسون. ونافست جامعة لوفان جامعة باريس في عدد الطلاب (5000)، وفي الدفاع عن لون من الكاثوليكية التقليدية بداً متطرفاً حتى في نظر البابوات. وكان طلاب جامعة باريس كثيرين (6000)، ولكنها لم تعد تجتذب أي عدد مذكور من الطلاب الأجانب أو تتسامح كما كانت تفعل إبان عنفوانها في القرن الثالث عشر مع خميرة الأفكار الجديدة المنشطة. أما كلياتها فسيطرت عليها كلية اللاهوت-السوربون-حتى كاد يصبح هذا الاسم مرادفاً لاسم الجامعة. ورأى مونتيني في منهج اللاهوت والآداب القديمة المنقاة نمطاً سطحياً من الاستذكار والامتثال. أما رابليه فلم يتعب من ذم الشكليات المدرسية والتدريبات المنطقية السائدة في السوربون، وضياع سني الدراسة في مناظرات أبعدت في حرص عن الاهتمام الفعلي بالحياة الإنسانية. وأما كليمان مارو فقد صرح بقوله "إنني على استعداد للتضحية عن طيب خاطر بنصيبي في الجنة لو أن هؤلاء الوحوش الكبار (أي(27/8)
الأساتذة) لم يدمروا شبابي" (13). ووجهت قوة الجامعة وسلطانها كله، لا لمقاومة البرتستنت الفرنسيين فحسب، بل الإنسانيين الفرنسيين أيضاً.
وبذل فرانسوا الأول ما وسعه لحماية الثقافة الفرنسية من مثبطات المحافظين المنبعثة من السوربون. وكان قد شرب من خمر إيطاليا والتقى ببعض رجال الكنيسة ممن تعمقوا أدب اليونان والرومان. وبحض من جيوم بوديه، والكردينال جان دبليه، ومارجريت المثابرة في غير كلل-قدم المال لإنشاء مدرسة مستقلة عن الجامعة (1529)، متفرغة بوجه خاص للدراسات الإنسانية. وبدئ بتعيين أربعة من "الأساتذة الملكيين" اثنان منهم لليونانية واثنان للعبرية، وسرعان ما أضيفت كراس للاتينية والرياضات والطب والفلسفة. وكان التعليم فيها مجاناً (14). وأصبحت هذه "الكلية الملكية" التي عدل اسمها فيما بعد إلى "كلية فرنسا" باعثة النشاط في الدراسات الإنسانية الفرنسية، وملاذ العقل الفرنسي الذي يجمع بين الحرية والنظام.
أما أسبانيا فقد قيض لها جامعات ممتازة برغم تحمس الدولة الكاثوليكية التقليدية، فكان عددها أربع عشرة عام 1553، شملت ما أسس منها حديثاً في طليطلة وسنتياجو وغرناطة. أما جامعة سلامنكا التي ضمت سبعين أستاذاً و6778 في عام 1584 فتثبت للمقارنة بأية جامعة أخرى من جامعات ذلك العهد. وأما جامعات إيطاليا فقد واصلت ازدهارها، فكان بجامعة بولونيا في 1543 سبعة وخمسون أستاذاً بكلية الآداب، وسبعة وثلاثون بكلية الحقوق، وخمسة عشر بكلية الطب. وكانت بادوا مقصد الطلاب المغامرين الوافدين من شمال الألب. وقدمت بولندة الدليل على عصرها الذهبي بقولها 15. 338 طالباً دفعة واحدة في جامعة كركاو (15)، وفي بوزنان خصص "اللوبرانسكياموم" الذي أنشأه الأسقف يوحنا لوبرانسكي (1519) للأبحاث والدراسات الإنسانية.(27/9)
ويمكن القول على الجملة أن الجامعات في البلاد الكاثوليكية أوفر حظاً منها في البلاد البروتستنتية في هذا القرن العنيف.
على أن المعلم لم يلق ما هو خليق به من تقدير، وكان مغموط الأجر إلى حد أليم. كان الأستاذ في "الكلية الملكية" بفرنسا يتقاضى 200 كراون في العام (5000 دولار؟)، ولكن هذا كان استثناء نادراً. وكان الأساتذة في جامعة سلامنكا يختارهم الطلاب بعد فترة اختبار يعرض فيها الأساتذة المتنافسون عينات من محاضراتهم. وكان أكثر التعليم بالمحاضرات، وأحياناً تضفي عليها الحياة بالمناظرات. وكان أخذ المذكرات يحل عند كثير من الطلبة محل الكتب الدراسية، أما القواميس فنادرة، وأما المعامل فمجهولة علمياً إلا للمشتغلين بالكيمياء القديمة. وكان الطلاب يسكنون حجرات رخيصة سيئة التدفئة ويقعون فريسة للمرض بسبب قذارة الطعام ونقصه. وكان كثير منهم يشتغلون لتغطية نفقات الكلية. وتبدأ الفصول في السادسة صباحاً وتنتهي في الخامسة بعد الظهر. وكان النظام صارماً، يجوز بمقتضاه جلد الطلبة حتى من قارب منهم التخرج. وكان الطلاب يلتمسون الدفء في مشاجرات الشوارع وفي كئوس النبيذ وأحضان البغايا إذا تيسر لهم المال. وهكذا كانوا بطريقة أو بأخرى يحصلون قسطاً محدوداً من التعليم.
أما فتيات الطبقات الدنيا فظللن أميات، وكان كثيرات من بنات الطبقات الوسطى يظفرن بتعليم مدرسي متواضع في أديار الراهبات، أما الفتيات الغنيات فلهن مربون خصوصيون. وقد فاخرت هولندة بعدة سيدات يمكن مغازلتهن باللاتينية، وربما يستطعن تصريف الأفعال خيراً من تصريف الأسماء والضمائر والصفات. واشتهرت في ألمانيا زوجة يوتنجر وشقيقات بركهيمر وبناته بثقافتهن. وفي فرنسا كانت النساء المحيطات بالملك فرانسوا يجملن عبارات الغزل بمحسنات يقتبسنها من الآداب القديمة.(27/10)
وفي إنجلترا كانت بعض النساء المثقفات-كبنات مور، وجين جراي، و "ماري الدموية"، وإليزابيث-مضرب المثل في سعة المعرفة والإطلاع.
وينتمي إلى هذا العصر معلمان شهيران. أما أقلهما شأناً فهو السير توماس إليوت، الذي وضع في كتابه "الحاكم" (1513) خطة تعليم تيسر إعداد الطلاب العريقي النسب للاشتغال بشئون الحكم. وقد بدأ كتابه بنقد الفجاجة الثقافية التي يتردى فيها نبلاء الإنجليز، وقارنهما بما روي عن ثقافة رجال الأعمال عند اليونان والرومان، ونقل ما روي عن الفيلسوف الكلبي ديوجين "حين رأى رجلاً جاهلاً جالساً على حجر فقال: انظر كيف يجلس حجر على حجر" (16).
وفي رأي إليوت أن الصبي متى بلغ السابعة يجب أن يعهد به إلى مرب يختار بعناية، فيعلمه مبادئ الموسيقى والتصوير والنحت، حتى إذا ناهز الرابعة عشرة تعلم وصف الكون والمنطق والتاريخ، ودرب على المصارعة والصيد والرمي بالقوس الطويل والسباحة والتنس، دون كرة القدم لأنها لعبة سوقية "ليس فيها غير الثورة الوحشية والعنف الظاهر". ويجب أن يعلم الصبي الآداب القديمة في كل مرحلة من مراحل تعليمه-فيبدأ بالشعراء، ثم المؤرخين، ثم القواد، ثم الفلاسفة، ويضيف إليوت إلى هذا الكتاب المقدس، وتكاد الإضافة تبدو فكرة لاحقة، وهو بهذا يعكس الخطة التعليمية التي وضعها لوثر. ويفضل إليوت الآداب القديمة على الكتاب المقدس برغم توكيداته. فهو يقول "رباه، يا لها من حلاوة لا نظير لها في كلمات كتب أفلاطون وشيشرون، وفي مادة هذه الكتب التي جمعت بين الرزانة والعذوبة، واقترنت فيها الحكمة الرائعة بالبلاغة الإلهية، والفضيلة المطلقة باللذة التي لا تصدق"، وهكذا "فإن هذه الكتب تكاد تكفي في ذاتها لإعداد الحاكم الكامل الممتاز (17) ".
أما ثاني المعلمين وهو جوان فيف، أكثر الأدباء الإنسانيين إنسانية،(27/11)
فقد اختط هدفاً أوسع وترسم طريقاً أرحب. ولد في بلنسية في 1492 ورحل عن أسبانيا وهو في السابعة عشرة، ولم يرها بعد ذلك قط. وقد درس في باريس فترة أتاحت له حب الفلسفة واحتقار الفلسفة الكلامية، وحين بلغ السادسة والعشرين ألف أول تاريخ حديث للفلسفة. وفي السنة ذاتها تحدى الجامعات بهجوم على الطرائق السكولاستية في تعليم الفلسفة. فقد شعر بأن خطة النهوض بالفكر بالطريق المناظرة لا تشجع إلا الشجار العقيم حول مسائل لا وزن لها. ورحب إرزمس بالكتاب وأوصى مور بأن يقرأه، وقال في أدب إنه يخشى أن "يحجب .. فيف .. إرزمس. (18) " وعين فيف أستاذاً للدراسات الإنسانية في لوفان (1519) ربما بنفوذ إرزمس. ثم نشر بتشجيع إرزمس طبعة من كتاب أوغسطين "مدينة الله" عليها شروح ضافية وأهداها إلى هنري الثامن، وتلقى منه رداً رأى فيه من الود ما حمله على الانتقال إلى إنجلترا (1523). ورحب به مور والملكة كاترين التي تنتمي إلى وطنه (أسبانيا). وعينه هنري واحداً من أساتذة الأميرة ماري الخصوصيين. وربما ألف كتابه "في تربية الأطفال" لإرشادها (1523). وسارت الأمور على ما يرام إلى أن أعرب عن استنكاره لطلب هنري فسخ زواجه. فأوقف هذا راتبه واعتقله في بيته ستة أسابيع. ولما أطلق سراحه عاد إلى بروج (1528) وهناك أنفق سني حياته الباقية.
وإذا ظل مثالياً وهو في السابعة والثلاثين فقد وجه إلى شارل الخامس نداءً إرزمياً يدعوه فيه إلى إنشاء محكمة دولية للتحكيم بديلاً عن الحرب (1529) وبعد عامين أصدر أكبر كتبه، وهو أكثر رسائل النهضة الأوربية التعليمية تقدماً، وفيه دعا إلى تعليم موجه إلى "ضروريات الحياة، وإلى شيء من النهوض سواء بالجسد أو العقل، وإلى تربية الاحترام وزيادته (19) " وقال(27/12)
إن على التلميذ أن يدخل المدرسة "كأنه يدخل هيكلاً مقدساً" ولكن دراسته فيها يجب أن تعده ليكون مواطناً كريماً نافعاً، وأن تغطي هذه الدراسات الحياة بأسرها مع مراعاة اتصالها بعضها ببعض كما تؤدي وظائفها في الحياة. ويجب أن تدرس الطبيعة كما تدرس الكتب، فالأشياء تعلم الطالب أكثر مما تعلمه النظريات، فليلاحظ إذن العروق والأعصاب والعظام وسائر أعضاء الجسم في تشريحها وفي أداء وظائفها. وليسأل المزارعين والصيادين والرعاة والبستانيين، وليفد من خبراتهم، فإن هذه المعلومات التي يلتقطها ستكون أنفع له من "الثرثرة السكولاستية التي أفسدت كل فروع المعرفة باسم المنطق" (20). وينبغي أن تظل الدراسات القديمة المنقاة خصيصاً للشباب جزاءاً حيوياً من المنهج، ولكن يجب أن يدرس أيضاً التاريخ الحديث والجغرافيا. كذلك يجب أن تدرس اللغات القومية كما تدرس اللاتينية، وكل هذه بالطريقة المباشرة المستعملة في الحياة اليومية.
لقد كان فيف متقدماً جد على جيله، فلم يفطن إليه ذلك الجيل، وتركه يموت فقيراً، وقد ظل كاثوليكياً إلى النهاية.
3 - العلماء
كانت المهمة المميزة للجامعات والأكاديميات والعلماء الإنسانيين في عصر النهضة هي جمع تراث العالم القديم، عالم اليونان والرومان، وترجمته ونقله إلى جيل الشباب في أوربا الحديثة. وقد أنجزت هذه المهمة على وجه رائع، وكان الكشف عن وحي العالم القديم كاملاً.
بقي رجلان يجب أن يخلد ذكرهما كاهنين لهذا الوحي، وأول الرجلين هو جيوم بوديه، الذي بلغ الثانية والستين وهو يعطل النفس بأن يجعل باريس وارثة للدراسات الإنسانية الإيطالية، ثم رأى هذا الأمل يتحقق(27/13)
حين أنشأ فرانسوا الكلية الملكية. وقد بدأ بوديه دراساته في كبره بدرس القانون، فظل زهاء عشر سنوات يدفن نفسه في "قوانين جستنيان". ورغبة في تفهم هذه النصوص تفهماً أفضل، وهي لاتينية اللغة بيزنطية المعاني، راح يدرس اليونانية على يوحنا لاسكارس، ويدرسها في إخلاص وتفان حملا مدرسه عند رحيله أن يوصي له بمكتبته الثمينة العامرة بالكتب اليونانية. فلما نشر وهو في الحادية والأربعين كتابه (1508) Annotationes in xxlv libros Pandectarum توفرت للمرة الأولى في فقه النهضة، دراسة لخلاصة جستنيان تستهدف هذه الخلاصة ذاتها وبيئتها، بدلاً من أن تنحيها هوامش الشراع لعباراتها. وبعد ست سنوات أصدر أثراً جليلاً آخر من آثار البحث العميق ( De asse et Partibus) وهو في ظاهرة نقاش للعملات والمقاييس القديمة، ولكنه في حقيقته درس شامل للأدب القديم فيما يتصل بالحياة الاقتصادية. وأوقع من هذا "تعليقاته على اللغة اليونانية" (1529)، وهو كتاب مفكك الترتيب، ولكنه بالمعلومات والإرشادات المعجمية، بحيث وضع بوديه على رأس جميع الهيلنستيين الأوربيين. وأرسل له رابليه خطاباً أعرب فيه عن احترامه وتقديره. أما إرزمس فكانت تحيته له أنه غار منه. لقد كان إرزمس رجل دنيا ولم يكن الدرس إلا جزءاً من الحياة عنده، أما بوديه فكان الدرس والحياة عنده شيئاً واحداً. كتب يقول "إن فقه اللغة هو الذي ظل طويلاً رفيقاً وشريكاً لي، بل كان لي الخليلة التي ارتبطت بي بكل مواثيق الحب ... ولكنني اضطررت إلى إرخاء ربط هذا الحب الذي ينهشني ... حتى يكاد يدمر صحتي (21) ". وكان يحزنه أن يضطر إلى اقتناص بعض الوقت من دراساته ليأكل وينام. وفي لحظات لهوه تزوج وأنجب أحد عشر طفلاً. وفي الصورة التي رسمها له جان كلويه (المحفوظة بمتحف الفن المتروبولتاني في نيويورك) تبدو عليه مسحة من تشاؤم.(27/14)
ولكن فرانسوا الأول لا بد قد وجد فيه شيئاً من الحيوية لأنه عينه أميناً لمكتبة فونتنبلو، وكان يحب أن يكون هذا العالم العجوز قريباً منه حتى في رحلاته. وفي إحدى هذه الرحلات مرض بودي بالحمى، وقد ترك تعليمات دقيقة بألا يصحب جنازته أي احتفال. وفارق هذه الدنيا في هدوء (1540). أما الأثر الذي خلده فهو كلية فرنسا.
ولم تكن باربس إبان حياته قد استوعبت بعد الحياة الثقافية لفرنسا. كان للدراسات الإنسانية اثنا عشر وطناً فرنسياً: منها بورج وبوردو ومونبلييه، وأهم من هذه كلها ليون، التي امتزج فيها الحب والدراسات الإنسانية، ونساء الطبقة الراقية والأدب، امتزاجاً ساراً مبهجاً. وفي آجن، التي ما كان أحد ليبحث فيها عن إمبراطور، هيمن يوليوس قيصر سكاليجر على مسرح فقه اللغة بعد موت بوديه هيمنة الإمبراطور المستبد. ولعل بادوا مسقط رأسه (1484). وقد وفد على آجن وهو في الحادية والأربعين، وفيها عاش حتى مات (1558). وكان كل العلماء يخشون بأسه لشدة تمكنه من لغة القدح اللاتينية، وقد اكتسب شهرة حين هاجم إرزمس لغضه من شأن "الشيشرونيين" أي المتمسكين بلاتينية شيرون دون غيرها. وانتقد رابليه، ثم انتقد دوليه لانتقاده رابليه. وفي مجلد من كتابه Exercitationes فحص كتاب جيروم كاردان De subtilitate وأخذ على عاتقه أن يثبت أن كل ما أكده الكتاب زائف، وكل ما أنكره صحيح. وكان كتابه في النحو اللاتيني أول أجرومية لاتينية مبنية على مبادئ علمية. أما تعليقاته على أبقراط وأرسطو فممتازة، سواء من حيث أسلوبها أو من حيث إسهامها في العلم. وكان ليوليوس خمسة عشر طفلاً أصبح أحدهم أعظم علماء الجيل التالي. وقد أسهم كتاب يوليوس Poetice الذي نشر بعد موته بأربع سنوات، وما قام به ولده من دراسات، وما أثر به الإيطاليون الذين(27/15)
تبعوا كاترين مديتشي إلى فرنسا-كل هذا أسهم في تحويل تيار الدراسات الإنسانية الفرنسية وردها من الدراسات اليونانية إلى اللاتينية.
وقد أهدت حركة إحياء الدراسات اليونانية للثقافة عطاءً ممتازاً هو ترجمة أميو لكتاب بلوتارخ "التراجم". كان أميو أحد الرجال الكثيرين الذين حظوا برعاية مارجريت. وقد عين بنفوذها أستاذاً لكرسي اليونانية واللاتينية في بورج. وكوفئ على ترجماته لدافنيس خلوا وغيرها من قصص الحب اليونانية، على طريقة ذلك العصر العجيبة السخية، بمنحه رئاسة دير غني. وإذ كفل له الرزق على هذا النحو تنقل كثيراً بين أرجاء إيطاليا إرضاء لميوله الأثرية واللغوية. ولما نشر كتابه "التراجم" (1559) قدم له بدعوة بليغة لدراسة التاريخ بوصفه "خزانة البشرية"، والمتحف الذي يحتفظ بمئات الأمثلة للفضيلة والرذيلة، وللحكم الصالح والطالح، ليسترشد بها بنو البشر؛ وكان كنابليون يرى كتاب بلوتارخ في التاريخ معلماً للفلسفة خيراً من الفلسفة ذاتها. ومع هذا فقد اضطلع بعد هذا بترجمة كتاب بلوتاريخ Moralia أيضاً، وقد رقي إلى أسقفية أوجزير، ومات هناك معمراً في الثمانين (1539). أما لترجمته لكتاب بلوتارخ "التراجم" فلم تكن صحيحة دقيقة في كل جزء منها، ولكنها كانت أثراً أدبياً في ذاته، تميز بأسلوب طبيعي فردي لا يقل عن أسلوب الأصل. أما تأثيره فكان هائلاً. وقد استمتع به مونتيني أيما استمتاع، وانصرف عن فرنسا القديس بارتلميو إلى هذا الأثر القديم الذي أضفت عليه الترجمة روعة وسموا. واختار شكسبير ثلاث تمثيليات من ترجمة نورث القوية المنقولة عن ترجمة أميو، وأصبح المثال الذي رسمه بلوتارخ للبطل نموذجاً حاكاه عشرات الثوار وكتاب المسرحيات. وأعطى هذا الكتاب Vies des hommes illustres للأمة مجمعاً من الأبطال المشهورين خليقاً بأن يحرك ما تنطوي عليه الروح الفرنسية من الفضائل الأكثر رجولة وأشد قوة.(27/16)
4 - النهضة الفرنسية
(الميلاد الجديد)
من الأشياء المألوفة والمغتفرة أن تطلق عبارة "الميلاد الجديد"، وهي عبارة حافلة بالمعاني الإضافية، على الفترة الممتدة بين ارتقاء فرانسوا الأول العرش (1515) واغتيال هنري الرابع (1610). كان هذا الازدهار البهي للشعر والنثر والعادات الاجتماعية والفنون والملابس الفرنسية في جوهره نضجاً أكثر منه ميلاداً جديداً. فقد استطاع الاقتصاد الفرنسي والروح الفرنسية أن يفيقا من حرب المائة عام بفضل ما أتيح للناس من مرونة صابرة وما استجد من نمو التربة التي ألقيت فيها البذار حديثاً. وكان لويس الحادي عشر قد منح فرنسا حكومة منظمة ممركزة قوية، ومنحها لويس الثاني عشر عقداً مثمراً من السلام. وظلت إبداعية العصر القوطي الحرة، الطليقة، الغريبة الأطوار، حية متوازنة غالبة على رابليه، الذي بلغ إعجابه بالآداب القديمة مبلغاً جعله يقتبس منها كلها تقريباً. ولكن اليقظة الكبرى كانت كذلك ميلاداً جديداً. فقد تأثر الأدب والفن الفرنسيان تأثراً لا ريب فيه بما أتيح لها من علم أوثق بالثقافة القديمة والأشكال الكلاسيكية. واستمرت هذه الأشكال وهذا المزاج الكلاسيكي- الذي يغلب الفكر المنظم على العاطفة المشبوبة- في الدراما والشعر والتصوير والنحت والمعمار الفرنسي زهاء ثلاثة قرون. أما العوامل المخصبة في هذا الميلاد الجديد فهي الكشف والغزو الفرنسيان لإيطاليا، والدراسة الفرنسية لآثار والفقه والآداب الرومانية وللآداب والفنون الإيطالية، وتدفق الفنانين والشعراء الإيطاليين على فرنسا. وأسهمت عوامل كثيرة أخرى في بلوغ هذه النهاية السعيدة: كالطباعة ونشر النصوص القديمة وترجمتها، والرعاية التي حظي بها العلماء والشعراء والفنانون من الملوك الفرنسيين ومن عشيقاتهم ومن مارجريت النافارية ومن رجال الكنيسة والأشراف، ومن إلهام النساء القادرات(27/17)
على تذوق ألوان أخرى من الجمال غير جمالهن. كل هذه العناصر تضافرت للعمل على ازدهار فرنسا.
كان لفرانسوا الأول- الوريث لهذا التراث كله- تابع هو الشاعر الذي أدى مهمة الانتقال من القوطي إلى الكلاسيكي ومن فيون إلى النهضة. دخل هذا الشاعر- واسمه كليمان مارو- التاريخ صبياً مرحاً في الثالثة عشرة يروح عن الملك بالقصص الظريفة والردود الذكية البارعة. وبعد سنوات هش فرانسوا لأنباء مغامرات الفتى ومشاجراته مع "جميع سيدات باريس"، فقد وافقه على أنهن في الحق فاتنات جداً:
"إن المرأة الفرنسية كاملة لا عيب فيها
فالسرور رائدها، وهي لا تعبأ المال،
والفرنسيات- مهما قلت فيهن أو سخرت منهن-
هن أروع أعمال الطبيعة" (22).
كان مارو يثرثر بالشعر كأنه النبع الفوار، وقلّما اتصف شعره بالعمق، ولكنه كان في الكثير الغالب مشوباً بالعاطفة الرقيقة. كان شعر مناسبات، وحديثاً في أبيات قصيرة، أو أغنيات شعبية، أو قصائد غزلية صغيرة، أو أغنيات ذوات لوازم متكررة، أو هجائيات ورسائل تذكرك بهوراس أو مارتيال، وقد لاحظ في شيء من الغيظ أن النساء (برغم اعتراضه على هذا السلوك) يسهل إغراؤهن بالماس أكثر من القصائد العاطفية:
"حين تجد الغواني عشيقاً ثرياً يلوح بماسة أمام عيونهن الضاحكة الخضراء فإن رءوسهن تدور. أتضحك مما أقول؟ ملعون من يخطئ هنا. فالفضيلة العظمى لهذا الحجر الكريم هي التي تنشر الضباب أمام عيونهن. وإن عطايا وهدايا كهذه لأفضل من الجمال والحكمة والتوسلات. إنها تنوم الوصيفات، وتفتح الأبواب الموصدة كأنها السحر، وتعمي(27/18)
عيون المبصرين، وتسكت نباح الكلاب. والآن أما زلت تكذبني؟ ".
وفي 1519 أصبح مارو وصيفاً خاصاً لمارجريت ووقع في غرامها ممتثلاً، وذكرت الأقاويل أنها بثته شكوى بشكوى، وأكبر الظن أنه لم ينل منها غير مذهبها. فقد عود نفسه الآن على التعاطف المعتدل مع قضية البروتستنت في فترات غرامياته. وتبع فرانسوا إلى إيطاليا، وحارب في بافيا وأبلى فيها بلاء الأبطال، ونال شرف الأسر مع مليكه، ثم أطلق سراحه- ولا عجب، فإن أحداً لا يتوقع أن يفتدي شاعر بالمال. ولما عاد إلى فرنسا جهر بأفكاره البروتستنتية في صراحة حملت أسقف شارتر على أن يستدعيه ويعتقله اعتقالاً كريماً في القصر الأسقفي. ثم أطلق سراحه بشفاعة مارجريت، ولكن سرعان ما قبض عليه لمساعدته المسجونين على الفرار من البوليس. وأطلق فرانسوا سراحه بكفالة وأخذه إلى بايون ليتغنى بمفاتن عروسه الجديدة إليانور البرتغالية. وبعد أن قضى في السجن فترة أخرى لأكله لحم الخنزير في الصوم الكبير تبع مارجريت إلى كاؤر ونيراك.
وسرعان ما تجددت الحملة على البروتستنت الفرنسيين نتيجة لحركة الملصقات. ونمى إلى مارو أن مسكنه في باريس فتش، وأن أمراً صدر بالقبض عليه (1535). وخاف ألا يجد مخبأ يكفي لإخفائه ولو كان مخدع مارجريت. ففر إلى إيطاليا لاجئاً إلى الدوقة رينيه في فررا. ورحبت به الدوقة، كأن فرجيلاً جديداً قد وصل من مانتوا، ولعلها كانت تعلم أنه يحب أن يربط اسمه باسم بوبليوس فرجيليوس مارو، ولكنه كان أكثر شبهاً بأوفيد العاشق المرح، أو بشاعره المفضل فيون، الذي أشرف على نشر قصائده، وترسم خطاه في حياته. ولما أذاع الدوق إركولي الثاني أنه اكتظ بالبروتستنت، انتقل كليمان إلى البندقية. وهناك بلغ فرانسوا عرض العفو عن المهرطقين المرتدين(27/19)
عن ضلالهم. فأعلن مارو ارتداده، لأنه رأى أن نساء باريس جديرات بتضحية العقيدة،. ومنحه الملك بيتاً وحديقة، وحاول كليمان أن يعيش عيشة السادة البرجوازيين.
ثم طلب إليه فرانسوا فاتابل الذي كان يدرس العبرية في الكلية الملكية أن يترجم المزامير شعراً فرنسياً، وشرحها له كلمة كلمة. فترجمها شعراً رخيماً ونشرها مشفوعة بإهداء جميع العبارة إلى الملك. وأعجب بها فرانسوا إعجاباً حمله على أن يهدي نسخة خاصة منها إلى شارل الخامس، الذي كان صديقاً له في تلك الفترة. وبعث شارل إلى الشاعر بمائتي كراون (5000 دولار؟). وترجم مارو مزيداً من المزامير ونشرها في 1543 مع إهداء إلى غرامه الأول "سيدات فرنسا". ووضع لها جوديميل موسيقي كما رأينا، وبدأ نصف فرنسا ينشدها. ولكن إعجاب لوثر وكالفن أيضاً بها شكك السوربون، فشمت فيها رائحة البروتستنتية، أو لعل مارو عاد إلى التمتمة بهرطقاته في محنة نجاحه. وتجددت الحملة عليه، ففر إلى جنيف، ولكنه وجد المناخ اللاهوتي فيها أشد صرامة مما تحتمله صحته، فتسلل إلى إيطاليا ومات في تورين (1544) في التاسعة والأربعين، تاركاً ابنة غير شرعية لرعاية ملكة نافار.
5 - رابليه
أ- رابليه الإنسان
أن مؤلف "أمتع وأنفع ما روي من قصص" (23) هذا المؤلف الفذ، الواسع الحيلة، الشكاك، المرح، المثقف، البذيء- رأت عيناه النور في 1495، ابناً لموثق غني في شينون. وأدخل في سن مبكرة جداً ديراً فرانسسكانيا. وقد شكا بعد ذلك من أن النساء "يحملن الأطفال تسعة شهور تحت قلوبهن ... ولكنهن لا يطقن تربيتهم تسع سنوات ...(27/20)
ويكفي أن يضفن ذراعاً من القماش إلى ثيابهم ويحلقن شعرات لا أدري كم عددها من قمة رءوسهم ليحولنهم طيوراً بضع كلمات". وهو يعني جز شعورهم وتحويلهم رهباناً. وقد ارتضى الغلام حظه هذا لميله إلى الدرس، ولعله كإرزمس اجتذبته مكتبة الدير إلى الكتب. وهناك التقى براهبين أو ثلاثة آخر راغيين في دراسة اليونانية، وقد شدهم هذا العالم القديم الفسيح الذي فتح لهم الدرس والبحث مغاليقه. وأحرز فرانسوا من التقدم ما جعل بوديه نفسه يبعث إليه بخطاب ثناء. وبدا أن الأمور تسير على ما يشتهي. وفي عام 1520 رسم شكاك المستقبل قسيساً، ولكن نفراً من كبار الرهبان شموا الهرطقة في فقه اللغة، فاتهموا الهلنستيين الشبان بشراء الكتب بالأتعاب التي يتلقونها نظير الوعظ بدلاً من تسليمها للخزانة العامة. وحبس رابليه وراهب آخر حبساً انفرادياً، وحرما الكتب وهي لهما نصف الحياة. ونمى إلى بوديه هذا الاتجاه الرجعي فلجأ إلى فرانسسوا الأول، وأمر الملك بإطلاق سراح الأديبين ورد امتيازاتهما. وبفضل شفاعة أخرى صدر مرسوم بابوي أذن لرابليه بتغيير تبعيته وإقامته الديرتين. فترك الفرنسسكان، ودخل بيتاً بندكتياً في ماييزيه (1524)، وهناك أعجب به الأسقف جوفروا دستيساك إعجاباً حمله على أن يتفق مع رئيس الدير على السماح لرابليه بالذهاب حيث شاء للدرس؛ ذهب رابليه، ونسي أن يعود.
وبعد أن جرب عدة جامعات دخل مدرسة الطب في مونبليه (1530). ولا بد أنه كان قد حصل تعليماً سابقاً في الطب، لأنه نال درجة البكالوريوس في الطب عام 1531. على أنه لأسباب لا نعلمها لم يواصل دراسته لنيل الدكتوراه، بل عاد إلى تجواله حتى استقربه النوى في ليون في 1532، وجمع بين ممارسة الطب ودراساته الأدبية، شأنه في ذلك شأن سرفيتوس، ثم اشتغل مساعد تحرير للطباع سباستبان جريفيوس ونشر عدة نصوص(27/21)
يونانية وترجم حكم أبقراط إلى اللاتينية. وانزلق برضاه إلى تيار الدراسات الإنسانية الذي كان يومها في عنفوان تدفقه في ليون. وفي 30 نوفمبر 1532 بعث بنسخة من "يوسيفوس" إلى إرزمس بخطاب زلفى يستغرب من رجل في السابعة والثلاثين، ولكنك تشم في رائحة ذلك العصر الجياش بالحماسة:
"بعث إلى جورج دارمناك مؤخراً ... بتاريخ فلافيوس يوسيفوس ... وطلب إلى ... أن أرسله إليك. وقد تحينت هذه الفرصة مشتاقاً، يا أكثر الآباء إنسانية، لأدلل لك بالتقدير الشاكر على احترامي العميق لك وعلى ولائي البنوي. أقول هل دعوتك بأبي؟ أجدر بي أن أدعوك بأمي لو اتسع لذلك صدرك. فكل ما نعرف عن الأمهات، اللائي يغذين ثمرة بطونهن قبل أن يرينها وقبل أن يعرفن حتى ما ستكون عليه، واللائي يرعينها ويحمينها من قسوة الجو، كل هذا صنعته أنت بي، أنا الذي لم يكن وجهي معروفاً لك ولا كان اسمي المغمور ليستطيع أن يستهويك. لقد ربيتني وغذوتني من ذلك الصدر الطاهر، صدر معرفتك المقدسة. وكل ما أنا عليه، وكل ما أساويه، إنما أنا أدين به لك وحدك. ولو لم أجهر بهذه الحقيقة لكنت أشد الناس عقوقاً. تحية مرة أخرى أيها الأب المحبوب، يا شرف وطنك، ويا عماد الأدب، ويا نصير الحقيقة الذي لا يقهر" (24).
وفي نوفمبر من ذلك العام (1532) نجد رابليه طبيباً في الأوتيل- ديو، وهو مستشفى مدينة ليون، يتقاضى راتباً قدره أربعون جنيهاً (1000 دولار؟) في العام. ولكن يجب ألا نحسبه عالماً أو طبيباً مثالياً. صحيح أن ثقافته كانت منوعة وهائلة. فيبدو أنه كان كشكسبير له معرفة مهنية في ميادين شتى- كالقانون والطب والأدب واللاهوت والطهو والتاريخ والنبات والفلك والميثولوجيا. وهو يشير إلى مئات الأساطير القديمة، ويقتبس من عشرات المؤلفين القدامى، ونراه أحياناً(27/22)
يعرض علمه الواسع عرض الهواة. ولكنه شغل بالحياة شغلاً لم يتح له وقتاً لبلوغ الدقة الشديدة في دراسته، ولم تكن الطبعات التي نشرها نماذج تحتذي في دقة التفاصيل. لم يكن في طبعه أن يكون أديباً إنسانياً متفانياً كإرزمس أو بوديه، فلقد كان يحب الحياة أكثر من الكتب. والصورة التي تركت لنا عنه صورة رجل تروع الناظر طلعته، فارع القامة حلو الوجه، ينبوع للثقافة ومحدث يشع نوراً وناراً (25). ولم يكن سكيراً كما استنتجت خطأ رواية قديمة متواترة من تحياته للسكارى ومن خمرياته. بل إنه على العكس عاش عيشة مهذبة غلى حد معقول، هذا إذا استثنينا طفلاً غير شرعي أنجبه، (26) ولم يعش سوى فترة قصيرة بحيث يمكن اعتباره خطيئة بسيطة. وقد كرمته أسمى عقول جيله، بما فيهم نفر عديد من أحبار الكنيسة. وكان في الوقت نفسه يتصف بكثير من صفات الفلاح الفرنسي، فيجد لذة في أنماط الفلاحين الصرحاء المرحين الذين يلقاهم في الحقول وال شوارع ويستمتع بفكاهاتهم وضحكهم وبقصصهم الطويلة وعباراتهم البذيئة المتفاخرة. وقد طغت شهرته دون عمد منه على شهرة إرزمس لأنه جمع هذه القصص، وربط بينها، وحسنها، ووسعها، وأضفى عليها الكرامة بالعلم الكلاسيكي ورفعها إلى مقام الهجاء البناء، وضمنها في حرص ما حوته من فحش وبذاءة.
ومن هذه القصص قصة كانت آنئذ ذائعة في كثير من أنحاء الريف، روت أخبار مارد لطيف يدعى جارجانتوا، وتحدثت عن شهيته الوحشية، وعن غرامياته ومظاهر قوته العظيمة، وكانت تنتشر هنا وهناك تلال وصخور ذكرت الروايات المحلية أنها تساقطت من سلة جارجانتوا أثناء مروره. وكانت هذه الأساطير لا تزال تروى في عام 1860 في الكفور الفرنسية التي لم تسمع قط برابليه. وقد دون كاتب مجهول- ربما كان رابليه نفسه- على سبيل التفكه بعض هذه الخرافات وطبعها(27/23)
في ليون في كتاب سماه "الأخبار العظيمة الثمينة للمارد الكبير الهائل جارجانتوا" (1532). وراج الكتاب بسرعة حملت رابليه على التفكير في كتاب ملحق له عن ابن جارجانتوا. وهكذا ظهر في سوق ليون المنعقدة في أكتوبر 1532، غفلاً عن اسم المؤلف، كتاب عنوانه "الأعمال المرعبة المخيفة وأفعال البسالة التي قام بها بنتاجرويل الأشهر". وكان هذا الاسم قد استعمل من قبل في بعض الدرامات الشعبية، ولكن رابليه أضفى على صاحبه مستوى وعمقاً جديدين. ونددت السوربون والرهبان بالكتاب لبذاءته، وراج رواجاً حسناً. واستمتع به فرانسوا الأول، ووجد بعض رجال الدين لذة في قراءته. على أن رابليه لم يعترف بأنه مؤلف إلا بعد مرور أربعة عشر عاماً، فقد خشي أن يعرض للخطر سمعته كأديب، إن لم يعرض حياته.
وكان لا يزال شديد التعلق بالدرس، حتى أهمل واجباته في المستشفى فطرد. ولعله كان ملاقياً عنتياً في كسب قوته لولا أن جان دبلليه أسقف باريس والمشارك في تأسيس كلية فرنسا أخذ رابليه معه طبيباً في بعثة إلى إيطاليا (يناير 1534). ولما عاد رابليه إلى ليون في إبريل نشر في أكتوبر "قصة جارجانتاو الكبير، أبي بنتاجرويل، وحياته المرعبة جداً". وقد حوى هذا المجلد الثاني، الذي أصبح بعد ذلك الجزء الأول من الكتاب كله، هجاءً لرجال الدين حمل السوربون على التنديد به مرة أخرى. وسرعان ما راجت القصتان المنشورتان معاً رواجاً بز كل كتاب في فرنسا باستثناء الكتاب المقدس و "محاكاة المسيح" (27). وقد قيل أن الملك فرانسوا ضحك وصفق استحساناً في هذه المناسبة أيضاً.
ولكن لصق الإعلانات البروتستنتية المهينة في ليلة 17 - 18 أكتوبر 1534 على مباني باريس وعلى باب قصر الملك نفسه بدل الملك من حامي الأدباء الإنسانيين إلى مضطهد المهرطقين. وكان رابليه قد(27/24)
أخفى مرة ثانية أنه مؤلف الكتاب، ولكن الشكوك الكثيرة حامت حوله، وحق له أن يخشى أن تطالب السوربون برأس الكتاب البذيء بعد أن حملت الملك في ركابها. وهنا بادر جان دبلليه مرة أخرى إلى إنقاذه، واختطف الكنسي الطيب الذي أصبح الآن كردينالاً ذلك الأديب الطبيب، والكاتب البذيء، من مخبئه في ليون وأخذه إلى روما (1525). وكان من حظ رابليه أن يجد على كرسي البابوية رجلاً مستنيراً. فاغتفر له بولس الثالث إهماله واجباته الديرية والكهنوتية وأذن له بممارسة الطب. وعكف رابليه- على سبيل التعويض والتفكير- على تنقية الطبعات التالية من كتابه، "المؤيد يومئذ تأييداً مضاعفاً"، من الفقرات التي تسيء إساءة شديدة إلى الذوق التقليدي. ولما احتال عليه إتيين دوليه فنشر دون إذنه طبعة غير منقاة، شطب اسمه من قائمة أصدقائه. ثم عاد إلى الدرس في مونبلييه برعاية الكردينال، ونال الدكتوراه في الطب، وحاضر الجماهير الكبيرة هناك، ثم عاد إلى ليون ليستأنف حياته طبيباً وأديباً. وفي يونيو 1537 ذكر دوليه أنه في درس تشريح شرح أمام جماعة من الطلاب جثة مجرم نفذ فيه حكم الإعدام.
بعد هذا لا نعرف عن حياته المتقبلة غير نتف من هنا وهناك. كان في حاشية الملك خلال الاجتماع التاريخي بين فرانسوا الأول وشارل الخامس في إيجمورت (يوليو 1538). وبعد عامين نجده في تورين طبيباً لجيوم دبلييه، شقيق الكردينال، بعد أن أصبح سفيراً لفرنسا في سافوا. وحوالي هذه الفترة وجد الجواسيس في رسائل رابليه فقرات أحدثت ضجة في باريس فسارع إلى العاصمة وواجه الموقف بشجاعة. ثم برأه الملك (1541)، وعلى الرغم من تنديد السوربون من جديد بجارجانتوا وبنتاجرويل عين فرانسوا المؤلف المطارد في وظيفة حكومية صغيرة هي وظيفة مأمور العرائض، ومنحه إذنا رسمياً بنشر(27/25)
الجزء الثاني من بنتاجرويل الذي أهداه رابليه شاكراً إلى مارجريت النافارية. وقد أثار هذا الجزء من الاضطراب في أوساط اللاهوتيين ما رأى معه رابليه أن من الحكمة أن يلتجئ إلى متز، وكانت يومها جزءاً من الإمبراطورية. وهناك قضى عاماً يشتغل طبيباً بمستشفى المدينة (1546 - 47). وفي 1548 رأى أن لا خطر عليه في الرجوع إلى ليون، وفي 1549 عاد إلى باريس. وأخيراً حصل له جماعته من رجال الكنيسة على وظيفة قسيس لأبرشية مودون الواقعة إلى الجنوب الغربي من العاصمة مباشرة، وهكذا عاد هذا الكهل المزعج، المطارد، إلى ثيابه الكهنوتية. ويبدو أنه وكل إلى مرءوسيه أداء واجبات وظيفته الدينية واكتفى بالانتفاع بإيرادها (28). وكان على قدر علمنا لا يزال قسيس مودون حين نشر ما هو الآن الجزء الرابع من كتابه (1552)، وفي هذا الموقف شيء من الشذوذ. وقد أهداه إلى أوديه كردينال شاتيون، بإذن منه على الأرجح، وواضح أنه كان في فرنسا إذ ذاك بين رجال الكنيسة نفر أوتوا ثقافة كرادلة النهضة الإيطالية وتسامحهم. على أن السوربون نددت بالكتاب، وحظر "البرلمان" بيعه. وكان فرانسوا الأول ومارجريت قد ماتا، ولم يجد رابليه حظوة لدى هنري الثاني المكتئب المزاج. فغاب عن باريس حيناً ثم عاد إليها سريعاً. وهناك مات بعد مرض طويل. وتروي قصة قديمة أنه حين سئل عن فراش الموت إلى أين يتوقع أن يمضي أجاب "أما ماض لأبحث عن "ربما" كبيرة" (29) إنها أسطورة، ويا للأسف.
ب- جارجانتوا
تنبئ مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب (أو الجزء الثاني في الأصل) للتو بمذاق الكتاب كله ورائحته:
"يا أشرف السكارى وأذيعهم صيتاً، وأنتم يا أغلى الفتيان المرحين،(27/26)
المفترى عليهم، (لأنه إليكم أنتم دون سواكم أهدي كتاباتي) ... لو أنكم تأملتم شكل سقراط وقدرتموه حسب مظهره الخارجي لما ساوى في نظركم قشرة بصلة ... إنكم يا تلاميذي الطيبين وغيركم من الحمقى المرحين، المؤثرين الراحة والدعة، إذ تقرءون العناوين السارة لبعض الكتب التي نخترعها ... تتسرعون في الحكم بأنه ليس فيه سوى النكات والدعابات الساخرة والحديث الفاجر والأكاذيب المروحة عن النفس ... ولكن ... حين تطلعون على هذا المقال ستجدون ... تعليماً ذا تفكير أعمق وأكثر تجرداً ... سواء فيما يتصل بديننا أو شئون الحكم العام والحياة الاقتصادية ... وقد يتكلم أحمق مغرور مشوش العقل بشر عن كتبي، فلا تعبأوا به، وامرحوا الآن يا أبنائي، واشرحوا صدوركم، واقرأوا بابتهاج ... هيا إلى آخر كلمة".
وهذا الكلام منقول عن ترجمة أوركهارت الشهيرة، التي تتجاوز الأصل أحياناً، ولكنها هنا تلتزمه بدقة، حتى لتذكر الكلمات العنيفة التي لم يعد مسموحاً بها في حديث المثقفين. وفي هاتين الفقرتين تطالعنا روح رابليه وهدفه: الهجاء الجاد مغلفاً في تهريج يخفف من عنفه، وملطخاً أحياناً بسناج خالص. ونحن نمضي في هذه المغامرة على ما فيها من خطر، شاكرين لأن الكلمة المطبوعة لا تنبعث منها رائحة خبيثة، آملين أن نعثر وسط هذا الكوم من القمامة على بعض الأحجار الكريمة.
ويبدأ جارجانتوا بسلسلة نسب فريدة تحاكي أنساب التوراة شكلاً. أما أبو المارد فهو جرانجوزييه ملك يوتوبيا، وأما أمه فهي جارجاميل، حملته أحد عشر شهراً، ولما بدأت آلام مخاضها اجتمع أصدقاء الأسرة ليسمروا وهم يحتسون النبيذ، زاعمين أن الطبيعة تكره الفراغ. ويقول الأب الفخور لزوجته بلهجة من لا يعرف الألم "أمضى بشجاعة النعجة؛ وأخرجي لنا هذا الغلام بسرعة، وسنعكف بعدها على العمل فوراً ...(27/27)
لنصنع غيره". وتتمنى الزوجة لحظة أن يلقى حظ أبيلار؛ ويقترح هو أن ينجز ما تتمناه للتو، ولكنها تعود فتعدل. أما جارجانتوا الجنين فإذ وجد المنفذ العادي للوليد مسدوداً بقابض أخذ في غير أوانه، فقد "دخل وريد جارجاميل الأجوف" وتسلق حجابها الحاجز وعنقها، ثم "انبثق من الأذن اليسرى". وما أن ولد حتى راح يصيح، ويصيح بصوت علا حتى أسمع إقليمين: "الشراب! الشراب! الشراب! " وخصص لطعامه 17. 913 صفيحة من اللبن، ولكنه منذ البدء أبدى إيثاره للنبيذ.
ولما آن أوان تعليم المارد الصغير وتهيئته لارتقاء العرش، عين له مرب خاص هو الأستاذ جوبلان الذي أحله فتى غبياً، لأنه حشا ذاكرته بالحقائق الميتة وأربك عقله بحجج الكلاميين. واضطر جارجانتوا إلى سلوك سبيل يائس، فنقل الغلام ووضعه في رعاية الأديب الإنساني بونوكراتيس. وانطلق الأستاذ وتلميذه إلى باريس لتحصيل أحدث تعليم فيها. وكان جارجانتوا يركب فرساً ضخمة قطع ذيلها الهفاف الغابات الفسيحة أثناء مرورها، وهكذا أصبح جزء من فرنسا سهلاً. ولما بلغا باريس التقى جارجانتوا برجاً من أبراج نوتردام واستهوته أجراس الكاتدرائية فسرقها ليعلقها حول عنق فرسه. وبدأ بونوكراتيس من جديد تعليم المارد الذي أفسد تعليمه، وذلك بإعطائه مسهلاً هائلاً ليطهر أمعاءه ومخه جميعاً، ولا غرو فكلاهما وثيق الصلة بالآخر. فلما تنقى جارجانتوا على هذا النحو أولع بالتعليم وبدأ بحماسة يدرب جسده وعقله وخلقه في وقت معاً. فدرس الكتاب المقدس والآداب القديمة والفنون؛ وتعلم أن يعزف على العود والبيان وأن يستمتع بالموسيقى. وكان يجري ويقفز ويصارع ويتسلق ويسبح، ومارس الركوب والدفع بمنكبيه والمهارات التي يحتاج إليها المقاتل في الحرب، والصيد ليربي شجاعته،(27/28)
ولكي ينمي رئتيه كان يصيح حتى سمعته باريس كلها. وزار صناع المعادن وقاطعي الأحجار والصياغ والكيميائيين والنساجين وصانعي الساعات والطباعين والصباغين ودرس حرفهم "بإعطائهم شيئاً يشربونه" وكان في كل يوم يشارك في عمل بدني نافع، ويذهب أحياناً لحضور محاضرة أو مشاهدة تجربة أو الاستماع إلى "مواعظ الوعاظ الإنجيليين" (وتلك غمزة بروتستنتية).
وفجأة استدعى جارجانتوا وهو يتلقى هذا التعليم كله إلى مملكة أبيه لأن ملكاً آخر يدعى بكروشول أعلن الحرب على جرنجوزييه. لماذا؟ إن رابليه يسرق هنا قصة من كتاب بلوتارخ "حياة بيروس" ويروي أن قواد بكروشول راحوا يفاخرون بما يستطيعون فتحه من بلاد تحت قيادته: فرنسا وأسبانيا والبرتغال والجزائر وإيطاليا وصقلية وكريت وقبرص ورودس واليونان وأورشليم ... ويغتبط بكروشول وتنتفخ أوداجه. غير أن فيلسوفاً عجوزاً يسأله: " وما نهاية كل هذه المتاعب والأسفار؟ " ويجيب بكروشول: "حين نعود سنجلس ونستريح ونبتهج". ويقترح عليه الفيلسوف هذا الرأي "ولكن هبك لم تعد إلى وطنك قط لطول الرحلة وخطرها، أفلا يحسن بنا أن نستريح من الآن؟ " وصاح بكروشول "كفى. امضوا بنا قدماً. إنني لا أخشى شيئاً ... وليتبعني من يحبني" (1 - 33). وتكاد فرس جارجانتوا تنهي الحرب مع بكروشول بالفوز عليه لأنها أغرقت آلافاً من رجال العدو بدفقة بسيطة واحدة من بولها.
ولكن بطل الحرب الحقيقي هو الأخ يوحنا، وهو راهب أحب القتال أكثر من الصلاة، وسمح لتطلعه الفلسفي أن يغامر في مسالك أكثر خطراً. فهو يتساءل مثلاً "ما السبب في أن فخذي السيدة النبيلة تبدوان دائماً غضتين ربطتين؟ "- ومع أنه لا يجد في كتب أرسطو أو بلوتارخ ما ينيره في هذه المشكلة الجذابة، فإنه هو نفسه يجيب إجابات(27/29)
غنية في العلم بفنون الأفخاذ. وقد أحبه كل رجال الملك، وهم يقدمون له من الطعام والنبيذ ما يشتهي، ويدعونه لخلع رداء الرهبنة حتى يستطيع ابتلاع المزيد من الطعام، ولكنه يخشى أن لا تتوفر له الشهية الطيبة لو خلعه. ويذم المؤلف جميع النقائص التي يرمي بها المصلحون البروتستنت جماعة الرهبان، عن طريق هذا العضو المرح من أعضاء هذه القبيلة: كالكسل والشره والإسراف في الشرب والتمتمة بالصلوات والعداء للدرس والأفكار كلها، اللهم إلا رقعة متضائلة منها. يقول الأخ يوحنا: "في ديرنا لا نعكف على الدرس أبداً مخافة أن نصاب بالتهاب الغدة النكفية". (1 - 39).
واقترح جارجانتوا أن يكافئ الراهب على حسن بلائه في الحرب بتعيينه رئيساً على دير قائم. ولكن يوحنا رجا بدل هذا أن يوفر له المال لتشييد دير جديد له قوانين "تناقض قوانين الأديار كلها" فيجيب أولاً ألا تقام حوله أي أسوار تحصره، وأن يكون نزلاؤه أحراراً في تركه حين يشاءون. ثانياً: يجب ألا تمنع النساء من دخول الدير، ولكن لا يدخله منهن سوى "الجميلات الحسنات الصورة الدمثات الخلق" ممن تتراوح أعمارهن بين العاشرة والخامسة عشرة. ثالثاً: لا يقبل من الذكور سوى ما كان بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، على أن يكونوا وسيمي الوجوه كريمي المولد والطباع، ولا يسمح للسكيرين أو المتعصبين بالدخول، ولا للمتسولين أو المحامين أو القضاة أو الكتبة أو المرابين أو الجشعين النهابين أو المنافقين المتزلفين بدخول الدير. رابعاً: لا يسمح بنذور للعفة أو الفقر أو الطاعة؛ فللأعضاء أن يتزوجوا وأن يستمتعوا بالمال وأن يكونوا أحراراً في جميع شئونهم. ويطلق على الدير اسم تليمي أي "ماشئت"، أما قانونه الوحيد فهو "افعل ما تريد" لأن "الناس الأحرار الطيبي العنصر الحسني التربية الكريمي المعشر أتوا بالطبع(27/30)
غريزة وحافزاً يدفعانهم للفعال الفاضلة ويبعدانهم عن الرذيلة، وهذه الغريزة اسمها الشرف" (1 - 57). وقد قدم جاجارنتوا المال اللازم لإقامة هذه الفوضى الأرستقراطية، وارتفع بناء الدير حسب المواصفات التي وضعها رابليه في تفصيل أغرى المعماريين برسم رسوم له. وقد زوده بمكتبة ومسرح وحمام سباحة وملعب للتنس وآخر لكرة القدم وكنيسة صغيرة وحديقة وأرض للصيد وبساتين فاكهة واسطبلات و9332 حجرة. لقد كان فندقاً أمريكياً مقاماً في بلد للنزهة. على أن رابليه نسي أن يزود الدير بمطبخ أو أن يدلنا على من يقوم بالأعمال الوضيعة في هذا الفردوس.
جـ- بنتاجرويل
بعد أن خلف جارجانتوا أباه على العرش جاء دوره في الإنجاب والتربية. فحين بلغ من العمر أربعمائة وثمانين وأربعة وأربعين عاماً أنجب بنتاجرويل من زوجته باديبيك التي ماتت وهي تلد الغلام فبكى عليها جارجانتوا "كما تبكي البقرة" و "ضحك كما يضحك العجل" حين رأى ولده القوي البدن. وشب بنتاجرويل حتى استفحل حجمه. وفي إحدى وجباته ابتلع رجلاً عن غير قصد، ولم يكن بد من إخراجه بعملية تعدين في قناة المارد الصغيرة الهضمية، ولما ذهب بنتاجرويل إلى باريس ليتلقى تعليمه العالي أرسل له جارجانتوا رسالة تشم فيها عبير النهضة الأوربية: -
ولدي الأعز:
.... مع أن المرحوم أبي الطيب الذكر جرانجوزييه بذل ما وسعه من جهد لييسر لي الإفادة من جميع نواحي العلم والمعرفة السياسية، ومع أن جهدي وعكوفي على الدرس قابلاً رغبته هذه بل جاوزاها، فإن(27/31)
الزمن كما تعلم جيداً لم يكن يومها مواتياً كما هو الآن للتعلم ... لقد كان زمناً مظلماً تحجب سماؤه غيوم الجهالة وينبعث فيه شيء من نحس القوط ونكبتهم، القوط الذين دمروا كل الأدب الطيب حيثما استقرت أقدامهم، ذلك الأدب الذي رد بفضل الله في عصري إلى سابق إشراقه وكرامته بحيث لا يكاد يسمح لي الآن بدخول الصف الأول في مدرسة ثانوية للصبيان ....
أما اليوم فقد زودت عقول الناس بشتى العلوم، وأحييت العلوم القديمة التي ظلت منقرضة أجيالاً كثيرة، وأعيدت لغات الثقافة إلى نقائها القديم- وأعني اليونانية (التي يخجل الإنسان بدونها من أن يعد نفسه أديباً أو عالماً)، والعبرية، والعربية، والكلدية، واللاتينية. كذلك شاع استعمالها الطباعة، أنيقة دقيقة بحيث لا يمكن تصور ما هو أرقى منها ...
وفي نيتي ... أن تتعلم اللغات تعليماً كاملاً ... أما التاريخ فلا يفتك حفظ أي جزء منه ... وأما الفنون الحرة كالهندسة والحساب والموسيقى فقد أتحت لك تذوقها حين كنت بعد صبياً ... فامض فيها قدماً ... وأما الفلك فادرس كل أصوله، ولكنك دعك من التنجيم ... لأنه ليس سوى غش وغرور خالصين ... وأما القانون المدني فإني أريدك أن تحفظ نصوصه عن ظهر قلب ثم تبحثها مسترشداً بالفلسفة ... وأما أعمال الطبيعة فإني أود أن تدرسها بدقة ... ولا يفتك أن تطلع بعناية على كتب الأطباء اليونان والعرب واللاتين، ولا تحتقر التلموديين، والقبلانيين، واستكثر من التشريح لتلم إلماماً تاماً بذلك العالم الصغير، أعني الإنسان. كذلك أعكف في بعض ساعات النهار على درس الكتاب المقدس: أولاً العهد الجديد باليونانية، ثم العهد القديم بالعبرية ...(27/32)
ولكن بما أن الحكمة كما قال سليمان الحكيم لا تدخل عقلاً شريراً، والعلم بدون ضمير ليس إلا مجلبة لخراب النفس، فإن من واجبك أن تخدم الله وتحبه وتخشاه ... كن خدوماً لكل جيرانك وأحبهم كما تحب نفسك، واحترم معلمك وتجنب حديث من لا ترغب في التشبه بهم، ولا تضيع المواهب التي منحك الله إياها. فإذا رأيت أنك حصلت كل ما يجب تحصيله من العلم في تلك الناحية، فعد إليَّ لكي أراك وأمنحك بركتي قبل أن أموت ...
أبوك
جارجنتوا (30)
وعكف بنتاجرويل على الدرس في حماسة، وتعلم لغات كثيرة، وكان من الممكن أن يكرس وقته كله للقراءة والدرس لولا أنه التقى ببانورج. وهنا أيضاً يبرز التابع أكثر من السيد، بأوضح حتى من بروز الراهب يوحنا، كما يحجب سانشو بانزا أحياناً شخصية سيده دون كخوته. فرابليه لا يجد في جارجانتاو ولا في بنتاجرويل المجال الطليق لدعاباته البذيئة وألفاظه الصاخبة، إنما هو في حاجة إلى هذا المخلوق- الذي فيه أثر من الوغد، ومن المحامي، ومن الشاعر فيون، ومن الفيلسوف- ليستخدمه أداة للهجو. وهو يصف بانورج (ومعنى الاسم: مستعد لعمل أي شيء) بأنه نحيل كالقط الجائع، يسير في حذر شديد "كأنه يمشي على قشر بيض" وأنه إنسان شهم وإن شابه بعض الفجور، وأنه "عرضة لضرب من المرض ... يسمى الإعسار"، وأنه نشال، "ومتشرد فاسق، ومحتال، وسكير ... ورجل داعر جداً، ولكنه فيما عدا ذلك خير الناس في هذه الدنيا وأكثرهم فضيلة" (2 - 14، 16). وعلى فم بانورج يسوق رابليه أشد نكاته فحشاً ... كان بانورج يمقت على الأخص ما درجت عليه نساء باريس من تزرير(27/33)
أقمصتهن في أعلى ظهورهن، فقاضى النساء في المحكمة، ولعله كان خاسراً دعواه، ولكنه هدد بأن يبدأ عادة مماثلة في سراويل الرجال، وهنا أمرت المحكمة بأن يترك النساء فتحة متواضعة ولكنها سالكة من الأمام (2 - 17). وحدث أن غضب بانورج من امرأة احتقرته، فرش ثوبها وهي راكعة للصلاة في الكنيسة بسائل حيوان مدلل شديد الشهوة، فلما قامت تبعها جميع كلاب باريس الذكور- وعددها 600. 014 في ولاء إجماعي لا يعرف الكلل (2 - 21، 22). ويولع بنتاجرويل بهذا الوغد تخفقاً من الفلسفة، برغم أنه أمير بلغ غاية التهذيب، فيدعوه لمصاحبته في كل رحلاته.
وبينما تمض القصة في جذل إلى الجزء الثالث يناقش بانورج موضوع زواجه بين وبين نفسه وبينه وبين غيره. فيعدد ما للمشروع وما عليه خلال مائة صفحة فيها المشرق، والكثير فيها ممل، ولكننا في هذه الصفحات نلتقي بالرجل الذي تزوج امرأة خرساء، والفقيه الشهير بريدلجوس الذي ينتهي إلى أكثر أحكامه سلامة برمي الزهر، وتستوحي مقدمة الجزء الرابع لوكيان فتصف "مجمعاً للآلهة" في السماء، وجوبيتر يشكو من الفوضى اللا أرضية، التي تسود الأرض، والثلاثين حرباً المستعرة في وقت واحد، والكراهية المتبادلة بين الشعوب، وانقسامات اللاهوتيين، وأقيسة الفلاسفة "فماذا نحن فاعلون بهذه الحرب حرب راموس وجالان- هذين اللذين يحرشان باريس كلها بعضها ببعض؟ "- ويشير عليه الإله بريابوس بأن يحول هذين البطرسين Pierres إلى صخرتين ( Pierres) ، وهنا نرى رابليه يسطو على تورية من الكتاب المقدس.
ثم يعود إلى الأرض فيسجل في الجزئين الرابع والخامس (1) رحلات
_________
(1) نشر الجزء الرابع في 1562 بعد موت رابليه بتسع سنوات. ولعل الخمسة عشر فصلاً الأولى قد خلفها رابليه (31)، أما الفصول الاثنان والثلاثون الباقية فنسبتها إليه مشكوك فيها.(27/34)
طويلة أشبه برحلات جلفر، خرج فيها بنتاجرويل وبانورج والأخ يوحنا وأسطول يوتوبي ملكي ليبحثوا عن "معبد القارورة المقدسة"، وليسألوا هل يحسن بيانورج أن يتزوج. وبعد عشرات المغامرات، وبعد التنديد بأصوام "الصوم الكبير"، وبكارهي البابا من البروتستنت، وبعباد البابا من المتعصبين، وبالرهبان، وبتجار الآثار المزيفة، وبالمحامين (القطط ذات الفراء)، وبالفلاسفة الكلاميين، وبالمؤرخين، تنتهي الرحلة إلى المعبد. وعلى بوابته كتابة يونانية تقول: "إن في النبيذ لحقاً". وفي نبع قريب قارورة غمرت في النبيذ إلى نصفها ينبعث منها صوت يقرقر قائلاً "ترنك"، وتقول الكاهنة باكبوك: إن النبيذ خير الفلسفات، وإن "ما يميز الإنسان ليس الضحك بلا شرب .... النبيذ الرطب اللذيذ". ويسعد بانورج أن تؤيد الكاهنة ما كان يعرفه طوال الوقت، فيصمم على أن يأكل ويشرب ويتزوج ويتحمل العواقب كما يخلق الرجال، وهو ينشد أغنية عرسية بذيئة، ثم تصرف باكبوك الجماعة بعد أن تمنحها هذه البركة "ليحفظكم ذلك المحيط الفكري الذي يوجد مركزه في كل مكان، ولا يوجد له نهاية في أي مكان، والذي تدعوه الله، في رعايته القوية القادرة". (5 - 47). وهكذا تختتم القصة العظيمة بمزيج مثالي من البذاءة والفلسفة.
د- مضحك الملك
أي معنى يتوارى خلف هذا الثراء، وهل من حكمة في هذا السيل الدافق من المرح الفاليرني- البريابي؟ يقول رابليه وهو يجري الكلام على لسان أحد حمقاه "نحن مهرجي الريف فينا شيء من الجلافة، نميل إلى تحطيم الألفاظ وتفكيك أوصالها". (5 - 18). إنه يحب الألفاظ، وعنده منها معين لا ينضب، وهو يخترع مئات من الكلمات الجديدة(27/35)
ويشتقها كشكسبير من كل حرفة ومهنة، ومن كل ميدان في الفلسفة أو اللاهوت أو القانون. وهو يضع قوائم بالنعوت أو الأسماء أو الأفعال، وكأنما يلذه تأملها (3 - 38)، ثم يستكثر من المترادفات في النشوة من الإطناب، ولقد هذا الحشو من قبل حيلة قديمة في المسرح الفرنسي (32). وهو جزء من فكاهة رابليه التي لا حد لها ولا ضابط، وفيض تتضاءل أمامه حتى فكاهة أرستوفان أو موليير. أما بذاءته فوجه من وجوه هذا الفيض الذي لا يمكن التحكم فيه. ولعل بعضها رد فعل للنسك الديري، وبعضها لا مبالاة تشريحية لا تستغرب من طبيب، وبعضها تحد جرئ للحذقلة، وكثير منها يساير أسلوب العصر، وما من شك في أن رابليه قد غلا في فحشه غلوا شديداً، حتى أننا بعد أن نقرأ عشر صفحات أو نحوها من التفاصيل الملوثة بالتبول والتناسل والإفراز والغازات نمل القراءة وننصرف عنها. ولم يكن بد من مجيء جيل جديد من التأثر الكلاسيكي ليروض هذا الفروان البركاني ويخضعه للنظام.
على أننا نغتفر هذه العيوب لأن أسلوب رابليه ينطلق معنا في يسر كما انطلق معه؛ إنه أسلوب خال من التكلف والصنعة الأدبية، أسلوب طبيعي سهل متدفق، وهو بالضبط الأداة لسرد قصة طويلة. والسر في حيوية رابليه هو الخيال مضافاً إليه النشاط مضافاً إليهما الوضوح، وهو يرى مئات الأشياء التي لا يراها معظمنا، ويلحظ دقائق لا حصر لها في اللباس والسلوك والحديث، ثم يجمع بينها بطريقة خيالية غريبة، ويطلق هذه الأخلاط يطارد بعضها البعض فوق صفحاته الضاحكة.
ثم تراه يستعير يمنة ويسرة جرياً على عادة جيله، معتذراً عن هذا بما اعتذر به شكسبير من أنه يجود كل شيء يسرقه. فهو يتناول مئات من نتف الأمثال الواردة في كتاب إرزمس "أداجيا" (33)، ويحكى(27/36)
الكثير مما سبقه في "مدح الحماقة" أو "الأحاديث"، وهو يتمثل خمسين موضوعاً من بلوتارخ، وذلك قبل سنوات من ترجمة آميو التي فتحت سجل العظماء هذا لأي لص من لصوص الأدب. وهو ينتحل من كتاب لوكيان "الحديث السماوي" وقصة فولنجو عن الخروف الذي أغرق ذاته، ويجد في كوميديات عصره قصة الرجل الذي ندم على أنه شفي زوجته من الخرس، ويستعمل عشرات الأفكار التي توحي بها الخرافات والقصص الصغيرة التي انحدرت من فرنسا الوسيطة. وحين يصف رحلات بنتاجرويل نراه يعتمد على الحكايات التي نشرها رواد الدنيا الجديدة والشرق الأقصى. ومع ذلك، فعلى الرغم من هذه الاستعارات كلها، ليس هناك مؤلف أكثر منه أصالة، ولسنا نجد في غير شكسبير وسرفانتيس مخلوقات واسعة الخيال، مفعمة بالقوة والحياة، كالراهب يوحنا، أو كبانورج. على أن رابليه نفسه هو أهم خلق خلقه الكتاب، إنه مزيج من بنتاجرويل، والراهب يوحنا، وبانورج، وإرزمس، وفيزاليوس، ويوناثان سويت؛ مزيج ثرثار، فوار، محطم للأصنام، عاشق للحياة.
وتعشقه للحياة هو الذي جعله يسلخ جلود أولئك الذين جعلوها أقل فتنة وإغراء. ولعله قسا بعض الشيء على الرهبان الذين لم يستطيعوا مشاركته ميوله أدبياً وإنسانياً، ولا بد أن محامياً أو محامين قد أنشبا براثنهما فيه، لأنه يمزق فراء المحامين في غل شديد. يقول محذراً قراءه "أنصتوا إلي، إن عشتم ست دورات أولمبية فقط مضافاً إليهما عمر كلبين، فسترون قطط القانون هؤلاء سادة على أوربا بأسرها". ولكنه يسوط أيضاً القضاة، والمدرسين، واللاهوتيين، والمؤرخين، والرحالة، وباعة صكوك الغفران، والنساء. ولا تكاد تعثر في الكتاب كله على كلمة طيبة عن النساء، وتلك هي أشد نقط رابليه عمىً، ولعلها الثمن الذي(27/37)
دفعه راهباً وقسيساً وأعزب لافتقاره طول حياته إلى الحنان.
وقد اختلف المتشيعون له في أمره، أهو كاثوليكي أم بروتستنتي أم حر التفكير أن ملحد. فهو في رأي كالفن ملحد. أما عاشقه أناطول فرانس فينتهي إلى هذا الحكم "في اعتقادي أنه لم يصدق في أي شيء" (34). وكان أحياناً يكتب كأشد ما يكون الكلبيون سخرية من الناس واحتقاراً لهم، كما ترى في لغة الغنام في حديثه عن أمثل الطرق لإخصاب الحقول (4 - 7). كان يتهكم بالصوم، وبصكوك الغفران، وبرجال محاكم التفتيش، وبالمراسيم البابوية، ويلذه شرح الشروط التشريحية المطلوبة في المرشح للبابوية (4 - 48). ويبدو أنه لم يؤمن بالجحيم (2 - 30). وتراه يردد حجج البروتستنت الذي قالوا إن البابوية تنزح أموال الشعب (4 - 53)، وأن كرادلة روما يحيون حياة البطنة والنفاق (4 - 58 - 60). وكان يتعاطف مع المهرطقين من الفرنسيين، وقد قال إن بنتاجرويل لم يطل مكثه في تولوز لأن القوم هناك "يحرقون حكامهم أحياء كما تشوي الرنجة الحمراء". - مشيراً بذلك إلى إعدام أستاذ قانون مهرطق (2 - 5) ولكن يبدو أن ميوله البروتستنتية اقتصرت على الإنسانيين من البروتستنت دون غيرهم. ولقد تبع إرزمس في إعجاب، ولكنه لم يمل إلى لوثر إلا في اعتدال، وقد صدف في اشمئزاز عن جزمية كالفن وغلوه. كان يتسلح في كل شيء إلا عدم التسامح، وكان كجميع الإنسانيين إذا أكرهوا على الاختيار يؤثر الكاثوليكية بأساطيرها وعدم تسامحها وفنونها، على البروتستنتية بقدريتها وعدم تسامحها ونقائها. وكثيراً ما أكد إيمانه بالعقائد الأساسية في المسيحية، ولكن لعل هذا كان من قبيل الحصانة في رجل كان على استعداد في سبيل الدفاع عن آرائه لأن يلقى عقاب الحرق دون سواه. وقد أحب تعريفاً لله حباً جعله (أو جعل من أكمل كتابه)، يعيده غير مرة (3 - 13، 5 - 147). ويبدو أنه آمن بخلود النفس(27/38)
(2 - 8، 4 - 27)، ولكنه آثر بوجه عام حديث الموضوعات الداعرة على حديث الأخرويات. ولقد اتهمه فاريل بالارتداد لأنه قبل وظيفة كاهن مودون (35). ولكن هذا القبول كما فهمه واهب الوظيفة ومتلقيها على حد سواء لم يكن سوى سبيل إلى الرزق.
أما إيمانه الحقيقي فكان بالطبيعة، ولعله في هذه الناحية كان لا يقل عن جيرانه المحافظين إيماناً وسذاجة. لقد آمن بأن قوى الطبيعة تعمل للخير في النهاية، ولم يقدر حيادها نحو الناس والحشرات على السواء حق قدره. وكان كروسو، وعلى النقيض من لوثر وكالفن، ويؤمن بطبيعة الإنسان الخيرة، أو يثق كغيره من الإنسانيين بأن التعليم الجيد والبيئة الطيبة كفيلان بجعل الإنسان خيراً. وقد نصح الناس كما نصحهم مونتيني بأن يتعبوا الطبيعة، ولعله كان ينظر بعد اهتمام خبيث بما قد يحدث عندها للمجتمع والحضارة. وقد يبدو في وصفه لدير تيليمي مبشراً بالفوضى الفلسفية، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فهو لا يسمح بدخول الدير إلا لمن يؤهله حسن تربيته وتعليمه وإحساسه بالشرف لامتحانات الحرية.
لقد كانت "البنتاجرويليه" فلسفته النهائية. وعلينا ألا نخلط بين هذه الكلمة وبين كلمة بنتاجرويليون، التي تعني عشباً مفيداً ليس في حقيقته غير القنب، وفائدته النهائية أنه يصلح لصنع أربطة رقبة مناسبة للمجرمين. أما البنتاجرويلية فهي العيش على طريقة بنتاجرويل في عشرة لطيفة متسامحة مع الناس والطبيعة، وفي استمتاع شاكر بكل طيبات الحياة، وفي تقبل بشوش لما يصيبنا من تقلبات ومن نهاية لا مفر منها. وقد عرف رابليه هذه البنتاجرويلية مرة بأنها "ضرب من فرح الروح كامن في احتقار أحداث الحياة" (4 - المقدمة). وهي تجمع بين فلسفات الرواقي زينون، والكلبي ديوجين، والفيلسوف أبيقور:(27/39)
وخلاصتها تحمل كل الأحداث الطبيعية برباطة جأش، والنظر دون تضرر إلى جميع الحوافز والعمليات الطبيعية، والاستمتاع بكل لذة سليمة دون كبت ديني متزمت أو تبكيت لاهوتي للضمير. لقد كان بنتاجرويل "يتقبل كل شيء برضى، ويفسر كل فعل بأحسن نية، لا يناكد نفسه ولا يزعجها ... لأن كل ما تحويه الأرض من متاع ... لا يساوي أن تضطرب من أجله عواطفنا أو تختل، وأن نفكر أو نحير بسببه حواسنا أو أرواحنا" (3 - 2). ويجب ألا نبالغ فيما تحويه هذه الفلسفة من عنصر أبيقوري، فخمريات رابليه لفظية أكثر منها كحولية، وهي لا تنسجم تماماً مع ما وصفه به أحد معاصريه من أنه رجل "طلق المحيا لطيف الوجه هادئة" (36). أما الخمر الذي احتفى به فهو خمر الحياة. إن هذا الأمير المزعوم لمدمني الخمر يضع على فم جارجانتوا عبارة تصوغ في بضع كلمات تحدي العصر الذي نعيش فيه "إن العلم بغير ضمير ليس إلا مجلبة لخراب النفس". (2 - 8).
ولقد اعتزت فرنسا برابليه أكثر من اعتزازها بأي من عمالقة القلم فيها باستثناء مونتيني ومولير وفولتير. ووصفه إتيين باسكييه الذي عاش في قرنه بأنه أعظم كتاب العصر. وحين تصلبت عادات المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر تحت المخرمات والباروكات، وطغت الأشكال الكلاسيكية، فقد رابليه بعض مكانته في ذاكرة الأمة، ولكن حتى في تلك الفترة اعترف موليير وراسين ولافونتين بتأثرهم به، وأحبه فونتينيل، ولابرويير، ومدام دسفنيه، وانتحل باسكال تعريفه لله. أما فولتير فقد بدأ باحتقار جلافته، وانتهى بالولاء له. وحين تغيرت اللغة الفرنسية استعصى فهم رابليه على القراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ولعله اليوم أكثر شعبية في البلاد الناطقة بالإنجليزية منه في فرنسا. ذلك أن السر تومس أوركهارت نشر في 1653(27/40)
و1693 ترجمة للجزأين الأول والثالث صاغها في إنجليزية قوية لا تقل حيوية وتدفقاً عن الأصل الفرنسي. ثم أكمل بيتر دمويته الترجمة في 1708، وبفضل جهود هذين الرجلين أصبح جارجانتوا وبنتاجرويل من عيون الأدب الإنجليزي. ولقد سرق منه سويفت كأنما يستند إلى حق انتمائه إلى الأكليروس، ولا بد أن ستيرن وجد في الكتاب خميرة لسخريته اللاذعة. إنه أحد الكتب التي لا تنتمي إلى أدب بلد بعينه بل إلى الأدب العالمي ..
6 - رونسار وجماعة البليارد
(النجوم السبعة) Pl (iade
كان فيض غامر من الشعر يتدفق خلال هذه الفترة على فرنسا. وقد وصل إلى علمنا أسماء نحو 200 شاعر فرنسي لمعوا إبان حكم فرانسوا الأول وأبنائه، ولم يكن هؤلاء الشعراء أصواتاً جوفاء تصرخ في برية لا تعبأ بهم، بل مقاتلين يخوضون معركة أدبية-معركة الشكل ضد المضمون، ورونسار ضد رابليه-قررت طبيعة الأدب الفرنسي حتى عصر الثورة.
ولقد ألهمتهم حماسة معقدة، فهم من ناحية يتوقون إلى مباراة اليونان والرومان في نقاء الأسلوب وكمال الشكل، ومنافسة كتاب السونيتات الإيطاليين في رشاقة الكلام وجمال الأخيلة، ولكنهم من ناحية أخرى مصممون على ألا يكتبوا باللاتينية كالأدباء الذين علموهم وأثاروا حماستهم، بل بلغتهم القومية وهي الفرنسية، وهم في الوقت ذاته يريدون أن يلينوا ويهذبوا هذه اللغة التي ما زالت خشنة، وذلك بتعليمها الألفاظ والعبارات والتراكيب والأفكار التي سرقوها بحكمة من الآداب الكلاسيكية. وافتقار رواية رابليه إلى الشكل المحدد، بما يتخللها من أحداث عرضية، جعلها في نظرهم إناءً خشناً من الطين شكل باليد على عجل ثم أعوزه(27/41)
الطلاء والصقل. لذلك اعتزموا أن يضيفوا إلى حيوية رابليه "الأرضية" ضبطاً للشكل الصمم للغاية، وللشعور الخاضع لحكم العقل.
وبدأت الحملة الكلاسيكية في ليون إبان حياة رابليه نفسه. فقد أنفق موريس سيف جانباً من حياته فيما خاله تحديداً لموقع قبر لورا حبيبة بترارك، ثم كتب 446 مقطعاً شعرياً لحبيبته ديلي، ومعهد الطريق أمام رونسار بفضل ما تميز به شعره من رقة حزينة. وكان أقدر منافسيه في ليون امرأة تدعى "لويز لابيه" راحت وهي مدججة بسلاحها الكامل تقاتل كأنها جان دارك أخرى في برببنيان، ثم هدأت ثائرتها بزواجها من صانع حبال أغضى-على طريقة الفرنسيين اللطيفة-عن غرامياتها الجانبية. كانت تقرأ اليونانية واللاتينية والإيطالية والأسبانية، وتعزف على العود عزفاً ساحراً، وتحتفظ بصالون لمنافسيها وعشاقها، وقد كتبت بضع قصائد من أسبق وأروع ما كتب من سونيتات في اللغة الفرنسية. وحسبنا للحكم على شهرتها أن نستشهد بجنازتها (1566) التي قال مؤرخ إخباري أنها "كانت انتصاراً. فقد حمل نعشها مخترقاً المدينة ووجهها مكشوف ورأسها مكلل بتاج من الزهور. لقد عجز الموت عن أن يشوهها، وجلل أهل ليون قبرها بالزهور والدموع". (37) وعن طريق شعراء ليون هؤلاء انتقل الأسلوب والمزاج البتراركيان إلى باريس ودخل إلى جماعة البلياد.
وكانت البلياد ذاتها صدى يردد الكلاسيكية. ذلك أن إسكندرية القرن الثالث قبل الميلاد كان فيها كوكبة من شعراء سبعة أطلق عليهم هذا الاسم مأخوذاً من الثريا التي خلدت ذكر بنات أطلس وبليوني الاسطوريات. على أن رونسار، ألمع نجوم البلياد الفرنسي، قل أن استعمل هذا اللقب، وكانت نماذجه التي حاكاها هي أناكريون وهوراس(27/42)
لا ثيوقريطس أو كليماخوس الإسكندريان. وفي 1548 التقى في فندق صغير بتروين ييواكيم دبلليه Du Bellay، وائتمر معه على توجيه الشعر الفرنسي صوب الكلاسيكية وضما إلى مشروعهما أربعة شعراء شبان آخرين هم: أنطوان دباييف، وريمي بيللو، وإتيين جوديل، وبونتيس دتيار، ثم انضم إليهم أيضاً الأديب جان دورا الذي كان لمحاضراته عن الأدب اليوناني في كلية فرنسا وكلية كوكيريه الفضل في تأجيج حماستهم للشعراء اليونان الغنائيين. وأطلقوا على أنفسهم لقب البريجارد (اللواء) وأقسموا أن ينقذوا ربة الشعر الفرنسي من أيدي جان دمونج ورابليه الخشنة، ومن بحور فيون ومارو المفككة. وكانوا يشمئزون من لغة جارجانتوا وبنتاجرويل الصاخبة وحكمتها المستترة، ولم يروا أي ضابط كلاسيكي في تلك الأفعال والنعوت المختلطة ولا في تلك التدفقات البذيئة، ولم يجدوا فيها أي شعور بجمال شكل المرأة أو الطبيعة أو الفن. ولاحظ أحد أعدائهم من النقاد أنهم سبعة شعراء، فأطلق عليهم لقب "البلياد". ولكن انتصارهم جعل من هذا اللقب ناراً على علم.
في 1549 أذاع الشاعر دبلليه البرنامج اللغوي لهذه الجماعة في كتابه "دفاع عن اللغة الفرنسية وجلاء لها". فأما الدفاع فقد قصد به أن في الاستطاعة تمكين الفرنسية من التعبير عن كل ما عبرت عنه اللغات القديمة، وأما الجلاء فقصد به أن في استطاعة الفرنسية أن تكتسب بريقاً جديداً، وأن تصقل ذاتها وتجلو نفسها بنبذ الكلام الخشن الذي يسود النثر الفرنسي، والأغاني الشعبية، والقصائد القصيرة المتكررة الأزمات، والألوان القديمة من الشعر الفرنسي، وأن تجدد وتثري ذاتها باقتباس العبارات ودراسة الأشكال الكلاسيكية، كما توجد في أناكريون وثيوقراطيس وفرجيل وهوراس وبترارك. ولا غرو فقد أصبح بترارك في نظر جماعة الشعراء السبعة كاتباً كلاسيكياً، وغدت السونيت أكمل الأنماط الأدبية قاطبة.(27/43)
أما "بيير رونسار" فقد حقق في شعره تلك المثل التي أعرب عنها دبلليه في نثره الرائع. وهو سليل أسرة خلعت عليها النبالة مؤخراً، فقد كان أبوه رئيس خدم فرانسوا الأول، وعاش بيير حقبة من حياته في البلاط الملكي الفخم. وكان تابعاً للدوفن فرانسوا، ثم لمادلين التي تزوجت جيمس الخامس ملك إسكتلندة، ثم مرافقاً للأمير الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الثاني. وكان يصبو إلى المشاركة في المغامرات الحربية، ولكنه ابتلي بالصمم وهو بعد في السادسة عشرة. ومن ثم فقد أغمد سيفه وجرد عوضاً عنه قلمه. والتقى بشعر فرجيل صدفة، فرأى فيه كمالاً في الشكل واللفظ لا لهد فرنسا به. وأخذ دوريه بيده فانتقل به من اللاتينية إلى اليونانية، وعلمه قراءة أناكريون واسخيلوس وبندار وارستوفان. وصاح به الفتى "سيدي! لم أخفيت عني هذه الكنوز طوال هذا الزمن؟ " (38) وحين بلغ الرابعة والعشرين التقى بالثائر دبلليه. ومن ذلك التاريخ وزع وقته بإخلاص بين الأغاني والنساء والخمر.
وقد أكملت "قصائده الغنائية Odes" (1550) هذه الثورية الغنائية. وكانت تقليداً صريحاً لهوراس، ولكنها أدخلت هذا اللون في الشعر الفرنسي، ووقفت القصائد على قدميها سواء في نقاء اللغة أو جمال العبارة أو إحكام الشكل. وبعد عامين اتخذ بترارك نموذجاً له في 183 قصيدة من السونيتات التي نشرها في ديوانه "غراميات" وبلغ فيها من الرشاقة والصقل ما لم ييزه أحد قط في الشعر الفرنسي. وكان يكتب ليتغنى الناس بشعره، وقد لحنت له قصائد كثيرة في حياته، بعضها لحنه كبار الموسيقيين أمثال جانكان وجوديميل. وكان في قصائده يغري النساء اللاتي يتغزل فيهن بتلك الدعوة القديمة، دعوة الاستمتاع بالحياة ما دام حسنهن مضيئاً، ولكنه حتى في هذا الموضوع القديم راح يعزف نغمة أصيلة، كتنبيه فتاة حذرة إلى أنها ستندم يوماً ما لأنها فوتت فرصة الغواية من(27/44)
شاعر شهير مثله. يقول: "حين يتقدم بك العمر كثيراً، إذ تجلسين في المساء إلى المدفأة تتحدثين وتخيطين على ضوء شمعة، ستنشدين قصائدي وتقولين في عجب: لقد أذاع رونسار اسمي يوم كنت جميلة. عندها لن يكون من بين خدمك الذين يسمعون بنبأ كهذا-حتى ولو بعث طنين المناسج النوم إلى أجفانهم-من لا يفيق وهو يسمع اسمي، ليباركك على ما حظيت به من مديح خالد. عندها سأكون راقداً تحت الثرى، شبحاً بلا عظم، ثاوياً تحت الآس. وستكونين يومها عجوزاً قد احدودب ظهرها وهي جالسة إلى المدفأة، وستأسفين على حبي وعلى ازدرائك الفخور. فاستمعي إليَّ وعيشي الآن دون انتظار لغد، واقطفي منذ اليوم ورود الحياة".
وكانت عظمة الأسلوب تليق ببلاط كاترين دمديتشي التي جلبت معها إلى فرنسا حاشية إيطالية حملت بترارك فيما حملت من كتب. وما لبث الشاعر الجديد-بمشيته المختالة برغم ما مسه من صمم، وبقوامه العسكري وشعر رأسه ولحيته الذهبي، ووجهه الشبيه بوجه هرمز كما وصفه براكسيتيليس-أن أصبح أثيراً لدى كاترين، وهنري الثاني، وماري ستيوارت، بل وإليزابث ملكة إنجلترا التي أهدته خاتماً من الماس بوصفها ابنة خاله السابعة عشرة. ووجدت أسطورة البلياد اليونانية الرومانية ترحيباً، وحين تحدث الشعراء عن أوليمبوس قدر البلاط لهم هذه التحية. (39) فهنري هو النظير لجوبيتر، وكاترين هي المقابل لجونو، أما ديان فهي ديانا، وأكدت هذا التشابه التماثيل التي نحتها المثال جوجون.
وبعد موت هنري واصل شارل التاسع مصادقة رونسار، دون أن تسفر هذه الصداقة عن نتيجة طيبة. ذلك أن الملك الشاب كان يبغي أن ينظم له الشاعر ملحمة عن فرنسا تطاول ملحمة الأنيادة. وكتب الملك المغفل يقول: "أستطيع أن أعطي الموت، أما أنت فتستطيع أن تعطي(27/45)
الخلود (40). " وبدأ رونسار نظم "الفرنسيادة" المنشودة، ولكنه ألفى ربة شعره أقصر نفساً من أن تجري هذا الشوط الطويل، وما لبث أن أقلع عن المحاولة المزعومة، وعاد إلى غنائياته وحبه. وقضى أيامه في دعة وسلام حتى أدركته الشيخوخة وهو في مأمن من ضجيج الدنيا، محافظاً في السياسة والدين دون ما خطر، مكرماً من شباب الشعراء، محترماً من الجميع إلا من الموت. وقد وافته منيته في 1585 ودفن في تور، ولكن باريس منحته جنازة أولمبية مشى فيها كل أعيان العاصمة ليسمعوا أسقفاً يرتل "قصيدة جنائزية".
أما الشعراء الذين خلعوا عليه لقب الإمارة فقد أصدروا كثيراً من دواوين الشعر، ولكن شعر ميت برغم رقته. وكان أكثرهم كسيدهم وثنيين يعلنون كثلكتهم المحافظة حين يروقهم إعلانها، ويحتقرون الهيجونوت المتزمتين، وكانوا أرستقراطيين كبرياء، ودماً أحياناً، وإن خوت جيوبهم، يكتبون لدائرة من القراء أتيح لها من الفراغ ما يكفي للاستمتاع بالشكل. ورد رابليه على خصومتهم بالسخرية من حذلقتهم، ومن تقليدهم الوضيع للبحور والعبارات والنعوت اليونانية والرومانية، ومن ترديدهم التافه للموضوعات القديمة وللأخيلة والمراثي البتراركية. وفي هذا الصراع بين المذهبين الطبيعي والكلاسيكي تقرر مصير الأدب الفرنسي. فأما شعراء فرنسا وكتاب مآسيها المسرحية فآثروا الطريق المستقيم الضيق، طريق البناء الكامل والجمال المنحوت الدقيق؛ وأما كتاب النثر فقد استهدفوا إمتاع القراء بقوة مادتهم دون سواها. ومن ثم بات الشعر الفرنسي قبل عصر الثورة عصياً على الترجمة، فأنت لا تستطيع تحطيم إناء الشكل ثم إعادة صبه في قالب أجنبي، على أن هذين النهرين التقيا في فرنسا القرن التاسع عشر، وامتزج نصفا الحقيقة، واقترن المضمون بالشكل، وعقد اللواء للنثر الفرنسي.(27/46)
7 - وايات وصري
مر التأثير الإيطالي بفرنسا وبلغ إنجلترا، لا فيضاً دافقاً بل نهراً ينطلق إلى البحر بمخارج كثيرة. فالعلم والدرس اللذان شغلا جيلاً ألهما الأدب في الجيل التالي، وأصبح وحي اليونان والرومان المقدس إنجيل النهضة. ففي عام 1486 مثلت مسرحيات بلوتوس في إيطاليا، ثم انتقلت سريعاً إلى بلاطي فرانسوا الأول وهنري الثامن والمتنافسين. وفي عام 1508 افتتحت مسرحية كالاندرا للكاتب ببينا عهد الملهاة الكلاسيكية المكتوبة باللغة الوطنية في إيطاليا. وفي عام 1552 بدأت المأساة الكلاسيكية المكتوبة بالفرنسية في فرنسا بمسرحية جوديل "كليوبطره أسيرة"، وفي عام 1553 أخرج نيكولاس أو دال أول ملهاة إنجليزية ذات شكل كلاسيكي، قال ناقد عنها "إن مسرحية رالف رويستر دويستر تشم فيها رائحة بلوتس" (41). وهذا حق، ولكنك تشم فيها أيضاً رائحة إنجلترا، ورائحة هذه الفكاهة القوية التي كان شكسبير مزعماً أن يقدمها للدهماء من رواد المسارح الإليزابيثية.
وتجلى التأثير الإيطالي في أروع صورة في الشعر إبان حكم أسرة تيودور. كان أسلوب العهد الوسيط لا يزال حياً في بعض القصائد الشعبية الجميلة مثل "العذراء غير السمراء" (1521)، ولكن حين انصرف الشعراء الذين أظلهم الملك الشاب هنري الثامن برعايته إلى قرض الشعر اتخذوا بترارك وأشعاره الغنائية "الكانزونييري" مثلاً يحتذونه. وقبل ارتقاء إليزابيث العرش بسنة واحدة نشر رتشرد توتل، أحد الطباعين اللنديين، كتاباً سماه "منوعات" كشفت فيه قصائد رجلين من رجال البلاط البارزين عن انتصار بترارك على تشوسر، وانتصار الشكل الكلاسيكي على فيض حماسة العهد الوسيط. أما أول الرجلين، وهو السر توماس وايات Wyatt فقد قام برحلات كثيرة إلى فرنسا وإيطاليا بوصفه دبلوماسياً(27/47)
في خدمة الملك، وجلب معه بعض الإيطاليين ليعاونوه في تهذيب أصحابه وتمدينهم. ولقد أحرق أصابعه بنار الحب كما يخلق برجل بلاط أصيل يعيش في عصر النهضة. وفي رواية أنه كان واحداً من عشاق آن بولين الأوائل، وأنه سجن فترة قصيرة حين أرسلت إلى برج لتدن (42). وقد ترجم أثناء ذلك سونيتات بترارك، وكان أول من ضغط الشعر الإنجليزي في تلك الصورة المحكمة.
فلما مات وايات بالحمى وهو يعد في التاسعة والثلاثين (1542) تلقى القيثارة من يده شاعر رومانسي آخر من بلاط هنري يدعى هنرد هوارد (إيرل أف صري Surrey) . وتغنى صري في شعره بمفاتن الربيع، وأنحى باللوم على الصبايا العازفات بحبه، وأقسم ليكونن وفياً إلى الأبد لكل منهن بدورها. وقد ولع بالمغامرات الليلية في لندن، وقضى في السجن فترة عقاباً له على تحديه غريماً في مبارزة، وقدم للمحاكمة جزاء أكله اللحم في الصوم الكبير، وحطم بعض النوافذ بقوسه العابثة. وقبض عليه ثانية، ثم أفرج عنه، وأبلي في الحرب على أرض فرنسا بلاءً حسناً دفاعاً عن وطنه إنجلترا. ولما عاد راح يداعب فكرة ارتقاء العرش الإنجليزي على مسمع من الناس، فحكم عليه بالشنق وانتزع أحشائه وتقطيعه أرباعاً، واكتفى من ذلك كله بضرب عنقه (1547).
كان الشعر ترفاً عارضاً وسط حياة صري العنيفة. وقد ترجم بعض أجزاء من الإنيادة، وأدخل الشعر المرسل في الأدب الإنجليزي. وخلع على السونيت الشكل الذي استخدمه شكسبير فيما بعد. وقد وجه إلى أحد شعراء الرومان أنشودة رعوية حزينة تتغنى بحياة الريف الرتيبة ومما يشيع فيها من سلام وطمأنينة، ربما حين توقع أن مسالك المجد الذي لا حق لصاحبه فيه قد تورده موارد الحتوف. "أي مارتيال، إليك الأشياء التي ألفيتها مفضية إلى الحياة السعيدة: الزهد في المال الذي لا يكسب بالعرق،(27/48)
والأرض المثمرة، والفكر الهادئ، والصديق الكفؤ لصديقه، لا بغضاء ولا شحناء، لا تغيير في السلطة ولا في الحكومة، حياة سليمة خلت من المرض، وأسرة متصلة الأجيال، وطعام بسيط لا ترف فيه، وحكمة صادقة مقرونة بالبساطة، وليل خلا من كل هم، لا تستبد فيه الخمر بالعقل، وزوجة وفية لا تلج في النقاش، ونوم يزجي الليل، ورضى بما ملكت يداك، لا تخشى الموت ولا تخاف صولته".
8 - هانز زاكس
في القرن الذي تلا مقالات لوثر تاه العقل الألماني في جدل المائة عام الذي مهد لحرب الثلاثين عاماً. وبعد عام 1530 توقف نشر الكتب الكلاسيكية القديمة إلى حد كبير، وقل عموماً عدد الكتب المنشورة، وحل محلها سيل من الرسائل الجدلية. فراح راهب فرنسسكاني اسمه توماس مورنز ذو قلم حاد يسوط الناس يمنة ويسرة بسلسة كتيبات عن الأوغاد أو الحمقى (طائفة الأوغاد، مجمع الحمقى) ... وكلها منقول بتوسع من كتاب برانت Narrenschiff سفينة الحمقى (1). وكثير من الحمق الذين هاجمهم مورنز كانوا من رجال الكنيسة، وفي البداية ظنه الناس لوثرياً، ولكنه أعلن أن لوثر "كلب صيد متوحش، ومارق مجنون، غبي، مجدف" (43). فوصله هنري الثامن بمائة جنية.
أما سبستيان فرانك فكان أنبل من صاحبه وأصفى معدناً. وكان كاهناً في أوجزبورج حين أقبلت حركة الإصلاح البروتستنتي، فرحب بها ثورة جريئة تمس إليها الحاجة، وأصبح بعد ذلك قساً لوثرياً
_________
(1) نقل الكسندر باركلي مثل هذا عن برانت في كتابه "سفينة الحماقات" (1509) مضيفاً إليه طعنات من عنده.(27/49)
(1525). وبعد ثلاث سنوات تزوج من أوتيلي ببهام، وكان أخوتها من القائلين بتجديد العماد، فعطف على هذه الطائفة المضطهدة، وندد بالتعصب اللوثري، فطرد من استراسبورج، واحترف صناعة الصابون في أولم ليكسب قوته. وسخر من تحكم النبلاء الألمان في سلامة العقيدة، فقال: "إذا مات أمير فأدخل خليفته مذهباً آخر، أصبح هذا المذهب للتو كلمة الله" (44). "تتسلط على جميع الناس اليوم غيرة مجنونة تزعم أننا يجب أن نؤمن ... أن الله إلهنا وحدنا، وأنه لا جنة ولا إيمان ولا روح ولا مسيح إلا في مذهبنا". أما إيمانه فكان الألوهية الكونية التي لا توصد باباً. "إن قلبي ليس غريباً عن أي إنسان. فلي أخوة بين الترك والبابويين واليهود وجميع الشعوب (45) ". وكان يتوق إلى "مسيحية ... حرة لا مذهبية ... لا يقيدها أي شيء خارجي" حتى ولا الكتاب المقدس (46). وأقصته أولم هي الأخرى إذ صدمتها هذه المشاعر التي لا تليق بجيله، فعمل طباعاً في بال، وهناك مات شريفاً برغم فقره (1542).
ثم انغمس الشعر والدراما الألمانيان في اللاهوت انغماساً أفقدهما صفة الفن وأحالهما بعض أسلحة القتال. وفي هذه الحرب استحل الكتاب كل جعجعة وجلافة وفحش في القول. ولو أنك استثنيت الأغاني الشعبية والتراتيل لما وجدت للشعر أثراً إلا في وابل من طلقات القوافي المسمومة. ولم تعد الجماهير تتذوق مسرحيات القرن الخامس عشر الدينية التي ينفق على إخراجها بسخاء، فحلت محلها مهازل شعبية تتهكم بلوثر أو البابوات.
على أن ألمانيا لم تعدم بين الحين والحين رجلاً يطفو فوق هذا الحقد والعنف ليرى الحياة كاملاً متكاملاً. ولو أن هانز زاكس استمع إلى قضاة نورمبرج لظل صانع أحذية كما كان؛ ذلك أنه حين نشر تاريخاً منظوماً لبرج بابل دون أن يحصل على الإذن المدني بطبعه، صادروا الكتاب(27/50)
وأكدوا لصاحبه أن الشعر ليس ميدانه ما في ذلك ريب، وأمروه أن يلتزم قوالب أحذيته (47). ولكن هانز كان يتمتع ببعض الحقوق التي نالها بفضل مروره بالمراحل العادية التي أهلته لأن يصبح رئيس فرقة المغنين. ولعل المفارقة التي تبدو لنا في كونه حذاء وشاعراً تنتفي إذا لاحظنا أن نقابة الغزالين والحذائين التي انتمى إليها كانت تمارس بانتظام الغناء الكورالي، وتعزف في حفلات موسيقية عامة ثلاث مرات في السنة. ولهذه النقابة، وفي أية مناسبة أخرى، كان زاكس يكتب الأغاني والتمثيليات في مثابرة وجد وكأنه يلوك في فمه مسامير أحذيته.
وعلينا ألا نحسبه شاعراً عظيماً، فما هو إلا صوت عاقل مبتهج يعلو وسط قرون من الكراهية. وكان شغله الشاغل هم البسطاء من الناس لا العباقرة، وتمثيلياته كلها تقريباً تدور حول هؤلاء. بل إن الله نفسه يبدو في هذه التمثيليات أحد العامة الخيرين ويتكلم كما يتكلم قسيس الناحية. وبينما راح معظم الكتاب يتبلون صحائفهم بالمرارة أو التبذل أو فحش القول، كان هانز يصور ويمجد فضائل المحبة والواجب والتقوى والوفاء الزوجي والحب الأبوي والبنوي. وقد بدأ بنشر قصائد (1516). تستهدف "زيادة الثناء على الله والتحدث بمجده" و "مساعدة إخوانه على أن يحبوا حياة التوبة" (48). وظلت هذه الروح الدينية تبعث الدفء في كتاباته إلى النهاية. وقد نظم نصف الكتاب المقدس، مستخدماً نص الترجمة التي قام بها لوثر، وحياة هانز ولقبه بـ "بلبل فتنبرج" الذي سينقي الدين ويرود الفضيلة. "استيقظوا؛ استيقظوا؛ فقد بزغ الفجر، وهأنذا أسمع في الغابات أنشودة تتردد. إنه البلبل العظيم تصدح موسيقاه فوق السهل والجبل. هاهو الليل يتلاشى في الغرب، والصبح يطلع من الشرق، والفجر يقبل فيطرد غيوم الليل المنصرم" (49).
وأصبح زاكس الآن شاعراً ملحمياً لحركة الإصلاح البروتستنتي،(27/51)
وراح يندد بأخطاء الكاثوليك في إصرار ساخر. فكتب التمثيليات عن الأوغاد من الرهبان، وأرجع قبيلتهم إلى الشيطان، ونشر مسرحيات كاريكاتورية ساخرة وهزليات تعرض على سبيل المثال كاهناً يغوي فتاة أو يتلو القداس وهو مخمور. وفي 1558 نشر "تاريخاً منظوماً للبابة جوانا"-وهي قصة خرافية تقبلها معظم الوعاظ البروتستنت على أنها تاريخ. ولكن هانز ندد باللوثريين أيضاً، ورماهم بالتناقض الفاضح بين حياتهم وعقيدتهم. "إنكم معشر اللوثريين جلبتم على الإنجيل أشد الاحتقار بسبب نهمكم للحم، وضجيجكم الصاخب، وذمكم للكهنة، وشجاركم وسخريتكم وسبابكم وغير ذلك من مظاهر سلوككم الشائن (50). " وشارك الكثيرين في الحزن على ما شاب الجيل من جري وراء الكسب وفساد في الخلق.
ونحن إذا استثنينا فكرة فاجنر المثالية، وجدنا على الجملة أن هانز زاكس ربما كان الممثل للرجل الألماني الطيب برغم ما يشوبه من فجاجة وجلافة، والذي لا بد كان أغلبية في الجنوب على الأقل. ونحن نراه سعيداً في بيته، مترنماً بشعره طوال أربعين عاماً. ولما ماتت زوجته الأولى (1560) تزوج وهو في الثامنة والستين من حسناء في ربيعها السابع والعشرين، وظل ينعم بالحياة برغم هذه المحنة. ولا بد لنا من إنصاف عصر ومدينة مكنا حذاء من أن يصبح في ظلهما أديباً إنسانياً، وشاعراً، وموسيقياً، وأن يقتني مكتبة كبيرة ويستعملها، وأن يتعلم الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية، وأن ينظم 6000 قصيدة، وأن يعيش متمتعاً بقسط لا بأس به من الصحة والسعادة حتى وافته المنية وقد بلغ الثانية والثمانين.(27/52)
9 - ربه الشعر الإيبيرية
1515 - 55
كانت هذه فترة مفعمة بالنشاط والحيوية في أدب البرتغال. ذلك أن حافز الاكتشاف المثير، والثروة المنتشرة بفضل التوسع في التجارة، والتأثير الإيطالي، والأدباء الإنسانيين في كويمبرا ولشبونة، والرعاية التي بسطها بلاط مثقف-كل هذا تضافر لإحداث ازدهار سيبلغ ذروته في "لوزيادات" كاموينز (1572). ونشبت معركة مرحة بين "المدرسة القديمة"-مدرسة جل فيتشنتي الذي تعلق بالموضوعات والقوالب القومية، ومدرسة أبناء القرن الخامس عشر (ويقابله عندنا السادس عشر) الذين اتبعوا صادي مراندا في تحمسه للنماذج والأساليب الإيطالية والكلاسيكية. قد ظل فيتشنتي-وهو "شكسبير البرتغالي"- طوال أربعة وثلاثين عاماً مهيمناً على المسرح بفصوله التمثيلية البسيطة ... ورضى البلاط عنه، وتوقع منه إحياء كل حدث ملكي بمسرحية، وحين دب الشقاق بين الملك والبابا، سمح لجل بأن يهجو البابوية في غير تحرج حتى قال الياندر بعد أن شاهد إحدى هذه التمثيليات في بروكسل "ظنتني في قلب سكسونيا استمع إلى لوثر" (51). وكان هذا الكاتب المسرحي الخصب يكتب تارة بالإسبانية، وتارة بالبرتغالية، وتارة بكلتيهما، متخللاً كتاباته بنتف من الإيطالية والفرنسية واللاتينية الكنسية والعامية الريفية. وكثيراً ما كان يقطع حركة المسرحية- كشكسبير- بأشعار غنائية تتسلل إلى قلوب الشعب. وكان جل كشكسبير ممثلاً كما كان كاتب تمثيليات ومديراً للمسرح ومشرفاً على تنظيم مكان وزمان المشاهد المسرحية، وكان إلى ذلك من خيرة صاغة الذهب في جيله.
وفي 1524 عاد فرانشسكو صادي مراندا من إيطاليا بعد أن قضى فيها ست سنوات وجلب معه الحمى الكلاسيكية التي أتت بها النهضة. وكما(27/53)
فعل رونسار وجماعة البلياد في فرنسا، وسبنسر وسدني في إنجلترا، رأى مراندا أن يضفي الكرامة والوقار على الأدب القومي بصوغ موضوعاته وبحوره وأسلوبه على غرار القوالب الكلاسيكية. وقد سلك بترارك في عداد الكلاسيكيين- شأنه في ذلك شأن يواكيم دبلليه- وقدم السونيت لمواطنيه. وكما فعل جوديل، كتب مراندا أول مأساة كلاسيكية بلغته القومية (1550)، وكان من قبل (1527) قد ألف أول ملهاة نثرية برتغالية ذات شكل كلاسيكي. أما صديقه برنارديم ربيرو فنظم شعراً ريفياً بأسلوب فرجيل، وعاش مأساة على طريقة تاسو، فقد أثار بغرامه بإحدى نساء البلاط ضجيجاً عالياً انتهى بنفيه من وطنه، ثم عفا عنه ورضى عنه مليكه، وأخيراً مات مجنوناً (1552).
وقد سجلت مدرسة من المؤرخين تنبض كتبهم بالحياة الانتصارات التي أحرزها المستكشفون. ومن هؤلاء المؤرخين كاسبار كوريا الذي ارتحل إلى الهند وارتقى في السلم الوظيفي حتى أصبح أحد سكرتيري ألبوكيرك، وندد بفساد الموظفين الحكوميين، ثم قتل في ملقا في 1565. وقد ألف إبان هذه الحياة النشيطة، في خمسة مجلدات، كتاباً سماه "خلاصة موجزة" للفتح البرتغالي للهند، مفعماً بالأوصاف البهية التي اتسم بها عصر التوسع هذا. أما فرناو لوبيس دي كاستانهيدا فقد قضى نصف حياته في الشرق، وأنفق جهداً امتد عشرين عاماً في كتابة "تاريخ لكشف البرتغال وفتحها للهند". أما جواو دي باروس فقد شغل عدة وظائف إدارية في "بيت الهند" بلشبونة على مدى أربعين عاماً، وأخجل سلفه بزهده في جمع المال. وكانت المحفوظات والسجلات جميعها في متناوله، فألف بينها في تاريخ اكتفى بتسميته "آسيا" ولكن الكتاب اكتسب اسماً آخر هو "العقود" لأن ثلاثة من مجلداته الأربعة الضخمة تناول كل منها فترة عشر سنوات تقريباً، والكتاب في ترتيبه ودقته(27/54)
ووضوحه بثبت للمقارنة بأي مؤلف تاريخي معاصر له باستثناء أعمال مكيافللي وجويتشارديني. ولو أخذ رأي أمته الفخورة لأنكرت هذين الاستثنائيين، فقد خلعت على باروس لقب "ليفي البرتغالي".
كانت اللغة القشتالية قد أصبحت اللغة الأدبية لأسبانيا. وعاشت اللهجات الجليقية والبلنسية والكتلونية والأندلسية في الحديث الدارج، وأصبحت اللهجة الجليقية اللغة البرتغالية، ولكن استخدام القشتالية لغة للدولة والكنيسة أيام فرديناند وإييزابيللا وكسيمينيس ارتفع بهذه اللهجة إلى مقام لا يضارع، ومنذ ذلك العهد إلى يومنا هذا كان رنينها القوى الأداة المعبرة عن أدب أسبانيا. وقد أبدى بعض كتاب هذا العصر ولعاً باللغة. فضرب أنطونيو دي جيفارا المثل في البحوث اللغوية والمحسنات البلاغية. وقد أعانت ترجمة اللورد بيرنرز لكتاب جيفارا "مزولة الأمراء" (1529) على صياغة ذلك التأنق اللفظي الذي يتسم به كتاب جون لابلي Euphues واللعب السخيف بالألفاظ الذي نلحظه في كوميديات شكسبير الأولى.
وتغنى الأدب الأسباني بالدين والحب والحرب. وبلغ الولع بروايات الفروسية مبلغاً حمل مجلس النواب الأسباني في 1555 على أن يوصي بحظرها قانوناً، وقد صدر هذا المرسوم فعلاً في أمريكا الإسبانية، ولو أنه نفذ في أسبانيا لكان من الجائز أن نحرم من دون كخوته". ومن بين الروايات التي أبقى عليها الكاهن أثناء تنقيته لمكتبة "الفارس" رواية ألفها جورجي دي مونتيمايور تدعى Diana enamorata (1542) ، وهي تقليد لرواية "أركاديا" التي كتبها الشاعر الأسباني الإيطالي ساناتزارو (1504)، وقد قلدها هي الأخرى السر فليب سدني في قصة أركاديا (1590). ورواية موننيمايور النثرية الشعرية مثال من مئات الأمثلة على تغلغل النفوذ الإيطالي في الأدب الأسباني، وهنا أيضاً نرى المغلوب(27/55)
وقد غلب غالبيه. وترجم جوان بوسكان " Cortigiano" لكاستليوني نثراً لا يقل روعة عن الأصل، ووافق على اقتراح الشاعر البندقي نافاجيرو بتعميم شكل السونيت في أسبانيا.
وللتو تقريباً التقى صديقه جاركيلازو دي لافيجا بالسونيت إلى مرتبة الكمال في اللغة القشتالية. وكان ككثيرين من كتاب هذه الفترة الأسبان سليل أسرة عريقة، إذ أن أباه كان سفيراً لفرديناند وإيزابللا في روما. وقد ولد جاركيلازو بطليطلة عام 1503، ونذر للجندية مثل صباه. وفي 1532 أبلى أحسن البلاء في رد الترك عن فينا، وفي 1535 جرح مرتين جراحاً خطيرة في حصار تونس، وبعد ذلك بشهور شارك في حملة شارل الخامس الفاشلة على بروفانس. وفي فريجي تطوع بأن يقود هجوماً على قلعة تعرقل تقدم الجيش، وكان أول المتسلقين لسور القلعة، فتلقى ضربة على رأسه قضت عليه بعد أيام وهو في الثالثة والثلاثين. وفي إحدى قصائده السبعة والثلاثين التي تركها لصديقه بوسكان تسمع نغمة تتردد في كل الحروب: يقول "والآن أصابت اللعنة أشد ما أصابت جيلنا هذا، وكل ما مضى يتغير من سيئ إلى أسوأ، وأحس كل منا وطأة الحرب-حرب تتلوها حرب، ونفي وأخطار ورعب-وكلنا سئم في صميم نفسه من رؤية دمه مراقاً على رمح وهو حي لأن الرمح لم يصب هدفه. وقد فقد بعض القوم بضاعتهم وكل متاعهم، وذهب كل شيء، حتى اسم المنزل والأسرة والزوجة والذكرى. وما جدوى هذا كله؟ أبعض الشهرة؟ أم شكران الأمة؟ أم مكان في التاريخ؟ سيكتبون يوماً كتاباً، وعندها سنرى" (52).
ولم يعش ليره، ولكن مئات الكتب خلدت ذكراه في إعزاز كبير. وسجل المؤرخون موته باعتباره أحد أحداث عصره الكبرى. وطبعت أشعاره في مجلدات سهلة التداول حملها الجنود الأسبان في جيوبهم(27/56)
إلى عديد من الأقطار. ولحن الموسيقيون الأسبان شعره قصائد غنائية، وأحال كتاب المسرحيات حوار قصائده الرعوية تمثيليات.
أما المسرحية الأسبانية فتوقفت عن الحركة، ولم تدر أنها عما قليل ستكون قريعاً للمسرحية الإليزابيثية. وكانت الملهاة ذات الفصل الواحد، والهزليات الناقدة، والفصول المأخوذة من الروايات الشعبية، يمثلها الممثلون الجوالون في الميادين العامة أو في أفنية الفنادق الصغيرة، وأحياناً في مقر أمير أو بلاط ملك. وقد حقق لوبي دي رويدا، الذي خلف جل فيتشنتي باعتباره أهم مورد للفصول التمثيلية لهذه الفرق، لنفسه الشهرة، وأعطانا لفظاً جديداً، بمهرجيه (البوبو).
وكثر عدد المؤرخون. وعين شارل الخامس جونزالو فرنانديز دي أوفيدو مؤخراً رسمياً للدنيا الجديدة، وأنجز عملاً متوسط الجودة هو تأليف كتاب ضخم سيئ الترتيب سماه "التاريخ العام والطبيعي لجزر الهند الغربية" (1535)، وقد أثرى خلال الأعوام الأربعين التي قضاها في أمريكا اللاتينية بفضل التنقيب عن الذهب، وساءه كتاب "قصة خراب جزر الهند" (1539 وما بعدها) الذي فضح فيه بارتلمي دلاس كازاس الاستغلال القاسي للعمال الوطنيين المستعبدين في المناجم الأمريكية. وكان لاس كازاس قد أبحر مع كولمبوس في 1502، وأصبح أسقفاً لكيابا بالمكسيك، وكرس حياته كلها تقريباً للدفاع عن قضية الهنود الحمر. وقد وصف في "مذكراته" التي وجهها للحكومة الإسبانية السرعة التي يموت بها الوطنيون في ظروف العمل الشاقة التي فرضها عليهم المستعمرون. فقال إن الهنود لم يألفوا غير العمل الخفيف بسبب حرارة مناخهم وبساطة طعامهم، ولم يستخرجوا الذهب من مناجمهم بل قنعوا بأخذه من سطح الأرض أو من قيعان(27/57)
الجداول الضحلة، ولم يستعملوه إلا حيلة. وقد قدر لاس كازاس أن السكان الوطنيين لجزر الهند تناقصوا من 12. 000. 000 (وهو رقم مغالي فيه ولا ريب) إلى 14. 000 في ثمانية وثلاثين عاماً (53). وانضم المرسلون الدومنيكان والجزويت إلى لاس كازاس في الاحتجاج على هذا الرق الهندي (54)، وكانت إيزابللا لا تفتأ تندد به (55). ووضع فريداند وكسيمينيس شروطاً رحيمة بعض الشيء لتجنيد العمال الهنود (56)، ولكن تعليمات هؤلاء السادة بشأن معاملة الوطنيين كانت تلقي الإهمال في أغلب الأحيان أثناء استغراقهم الشديد في شئون السياسة الأوربية.
وقام جدل صغير حول فتح المكسيك. ذلك أن فرانشسكو لوييز دجومارا كتب يروي قصة هذا السطو الظالم في انحياز شديد لكورتيز. واحتج برنال دياز ديل كاستيللو على الرواية بأن ألف في 1568 "التاريخ الحقيقي لفتح إسبانيا الجديدة" وفيه دان كورتيز على اختصاصه نفسه بكل مفاخر الفتح ومكاسبه دون أن يترك إلا أقل القليل للجنود البواسل من أمثال برنال، هذا مع ثنائه على كورتيز مما يستحقه. والكتاب يستهوي القارئ لأنه يزخر بشهوة الحركة وبهجة الانتصار والدهشة البريئة مما كانت ترفل فيه مكسيك الأزاتكة من ثراء وترف. يقول "حين شاهدت ما أحاط بي من مناظر قلت لنفسي هذه جنة الدنيا" ثم يضيف "وهذا كله دمر" (57).
وقد نسبت أنضج المؤلفات في تاريخ إسبانيا، وأشهر رواية إسبانية كتبت في هذه الفترة، إلى كاتب واحد، اسمه ديجو أورتادو دي مندوزا ولد بغرناطة بعد أن فتحها فرديناند بنحو أحد عشر عاماً. وكان أبوه قد ظفر بالمجد لحسن بلائه في حصارها، فعين حاكماً للمدينة بعد سقوطها. وتلقى الفتى علومه في سلمنقة، وبولونيا، وبادوا، فحصل ثقافة عريضة في اللاتينية واليونانية والعربية، وفي الفلسفة والقانون، وراح(27/58)
يجمع النصوص الكلاسيكية بحماسة أمير من أمراء النهضة، وحين أراده سليمان القانوني أن يحدد المكافأة التي يختارها جزاء خدمات معينة أداها للباب العالي، لم يطلب سوى بعض المخطوطات اليونانية. وقد حظي بمكانة مرموقة خلال خدمته الدبلوماسية لشارل الخامس في البندقية وروما ومجمع ترنت، ولما وبخه البابا بولس الثالث على حملة رسالة جافة من شارل إلى البابا، أجاب بكل كبرياء النبيل الأسباني: "إنني فارس، وكان أبي فارساً قبلي، وبهذا الوصف أرى أن واجبي يقتضيني أن أصدع بأوامر سيدي الملك، دون أن يساورني أي خوف من قداستكم، ما دمت أراعي واجب التبجيل لنائب المسيح. إنني خادم لملك أسبانيا .. وما دمت ممثلاً له فأنا في مأمن حتى من سخط قداستكم" (58).
وتتشكك الأبحاث الحديثة في صحة نسبة أول رواية بطلها متشرد ( Picaresque) في الأدب الأوربي لمندوزا، واسم الرواية "حياة ومغامرات لازاريللو دي تورميس". ومع أنها لم تطيع إلا عام 1553 فالراجح أنها كتبت قبل ذلك بأعوام كثيرة. ومما يثير الغرابة أن سليلاً لأسرة لا تفوقها في النبالة إلا الأسرة المالكة يختار لصاً ليكون بطلاً للقصة، وأشد غرابة أن رجلاً ربي في صباه ليكون قسيساً يهجو رجال الدين هجواً لاذعاً خمل محكمة التفتيش على حظر أي طبعات جديدة من الكتاب قبل تنقيته من جميع الشوائب المؤذية (59). ولازاريللو (1) هذا صبي متشرد يتعلم حيل السرقات الصغيرة أثناء اشتغاله قائداً لمتسول مكفوف، ثم يرتقي إلى جرائم أكبر حين يعمل خادماً لكاهن، ثم لراهب، ثم لقسيس كنيسة خاصة، ثم لناظر زراعة، ثم لبائع متجول لصكوك
_________
(1) ومعناها "لعازر الصغير"، إشارة إلى لعازر المسكين الوارد في إنجيل لوقا الإصحاح 16، ثم أصبح "متسولاً صغيراً" ثم صبياً يقود شحاذاً أعمى.(27/59)
الغفران. ولكن حتى هذا اللص الشاب، المتمرس بشئون هذه الدنيا، تروعه بعض الغرائب التي لجأ إليها بائع صكوك الغفران المتجول ترويجاً لبضاعته. يقول "يجب أن أعترف أنني-ككثيرين غيري-كنت مخدوعاً وقتها فحسبت سيدي آية في القداسة" (60). وقد أدخلت هذه الرواية المرحة "أسلوب المتشرد" gusto picaresco في القصص، وابتعثت عدداً لا يحصى من الروايات المقلدة لها، والتي بلغت الذروة في أشهر قصص التشرد، وهي جيل بلا (1715 - 35) لمؤلفها ألان لساج Lesage.
واعتكف مندوزا في غرناطة بعد أن نفي من بلاط فيليب الثاني لأنه جرد سيفه في جدل بينه وبين غريم، وهناك نظم أشعاراً خفيفة فيها من التحرر ما حال دون طبعها وهو حي، ثم روى قصة ثورة المغاربة في 1568 - 70 في "تاريخ حرب غرناطة" في نزاهة وإنصاف للمغاربة حبسا هذا الكتاب أيضاً عن النشر، فلم يتيسر طبعه إلا في 1610، ولم يطبع منه وقتها غير جزء واحد، واتخذ مندوزا من صالوست مثلاً يحتذيه ولكنه تفوق عليه، وسرق من تاسيتوس موضوعاً أو اثنين، ولكن يمكن القول على الجملة أن كتابه كان أول مؤلف أسباني تجاوز مجرد السرد الإخباري أو الدعاية إلى التاريخ الواقعي المفسر بإدراك فلسفي، والمعروض بمهارة أدبية. ومات مندوزا عام 1575 وهو في الثانية والسبعين، وكان من أكثر الشخصيات تكاملاً في عصر حفل بالرجال المتكاملين.
في هذه الصفحات العجلى يدخل الضمير دائماً في سباق مع الزمن، وينبه القلم المستعجل إلى أنه، كالمسافر المسرع، إنما يمس السطح فقط. فكم من ناشرين ومعلمين وعلماء وأدباء ورعاة للعلم وشعراء وروائيين وثوار متهورين جاهدوا نصف قرن لينتجوا هذا الأدب الذي ضغطناه(27/60)
في هذه الصفحات. كم من روائع أغفلنا اسمها، وأمم ضربنا صفحاً عن ذكرها، وأشخاص كانوا يوماً في عداد العباقرة الخالدين أهملناهم إلا من كلمات معدودات! ولكن لا حيلة لنا في هذا. فالمداد ينضب، ويجب قبل نضوبه أن نقنع بما يسفر عنه رشاشة وخطوطه من صورة غائمة لرجال ونساء يتخففون برهة من عناء اللاهوت والحرب، ويحبون أشكال الجمال كما يحبون سراب الحقيقة والقوة، يبنون الألفاظ وينحتونها ويصورونها-إلى أن يجد الفكر فناً يكسوه، وتمتزج الحكمة بالموسيقى، وينهض الأدب ليتيح لأمة أن تتكلم، ولعصر أن يصب روحه في قالب شكل في شغف كبير ليصونه الزمن نفسه وينقله خلال مئات الكوارث تراثاً للبشرية.(27/61)
الفصل السادس والثلاثون
الفن في عصر هولبين
1517 - 1564
1 - الفن، والإصلاح البروتستنتي، والنهضة
لقد فرض على الفن أن يقاسي من جراء حركة الإصلاح البروتستنتي، ولو لمجرد إيمان البروتستنتية بالوصايا العشر. ألم يقل الرب الإله، "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض" (خروج 20 - 4) فأنى للفن التصويري أن يعيش بعد هذا التحريم الشامل؟ فأما اليهود فقد صدعوا بالأمر وأغفلوا الفن. وأما المسلمون فكادوا يغفلونه، واكتفوا بجعل فنهم فناً زخرفياً، تجريدياً إلى حد كبير، يمثل في أغلبه الأشياء، وقل أن يمثل الأشخاص، ولا يمثل الله أبداً. واتبعت البروتستنتية هذا الخط السامي بعد أن كشف العهد القديم من جديد، وأما الكاثوليكية التي طغى تراثها اليوناني الروماني على أصلها اليهودي فقد تجاهلت هذا التحريم المرة بعد المرة. وشكل النحت القوطي القديسين والآلهة من الحجر، وصور الرسم الإيطالي قصة الكتاب المقدس، ونسيت النهضة كل النسيان هذه الوصية الثانية وسط ازدهار الفن التصويري ازدهاراً رائعاً. فلعل هذا الخطر القديم قصد به تحريم التصوير لأغراض السحر؛ وكان لرعاة الفن في إيطالية النهضة من الفطنة وسلامة الإدراك ما جعلهم يضربون صفحاً عن تحريم بدائي لم يعد له الآن معنى.(27/62)
وكانت الكنيسة، وهي أعظم رعاة الفن قاطبة، قد استخدمت الفنون لتنشئ غير المتعلمين على عقائد الإيمان وأساطيره. وبدا ذا الاستخدام أمراً معقولاً في نظر رجل الدولة الكنسي، الذي شعر بأن الأساطير ضرورة لا غنى عنها للأخلاق. ولكن حين احتالت الكنيسة بأساطير- كأسطورة المطهر- لتجمع المال الذي تنفقه في مختلف وجوه الإسراف والفساد، تمرد المصلحون- ولهم العذر- على التصوير والنحت اللذين يثبتان الأساطير في عقول الناس. وفي هذا الأمر كان لوثر معتدلاً، حتى إذا اضطره الأمر لمراجعة الوصايا. "أنا لا أزعم أن على الإنجيل أن يدمر كل الفنون كما يعتقد بعض المؤمنين بالخرافات. فأنا على العكس أتمنى أن أرى جميع الفنون .... تخدمه تعالى وهو الذي خلقها ووهبنا إياها. إن ناموس موسى لم يحرم سوى تمثال الله" (1). وفي عام 1526 دعا أتباعه إلى "مهاجمة ... الوثنيين الذين يعبدون عدو المسيح (بابا روما) بالتصوير" (2). وحتى كالفن، الذي كان أتباعه أشد محطمي الأصنام حماسة، وافق على التماثيل موافقة محدودة فقال: "لست شديد التزمت بحيث أحكم بتحريم كل التماثيل ... ولكن بما أن فن التصوير والنحت ... آت من الخالق، فإني أريد أن تصان ممارسة الفن نقية مشروعة. لذلك يجب ألا يرسم أو ينحت شيء إلا ما يرى بالعين (3) ". ولكن المصلحين الأقل إنسانية من لوثر، والأقل حذراً من كالفن، آثروا تحريم الصور والنحت الدينيين بتاتاً، وتجريد كنائسهم من الزخارف إطلاقاً. وأقصى "الصدق" الجمال لأنه كافر. أما في إنجلترا وإسكتلندة وسويسرة وشمالي ألمانيا فكان التدمير بالجملة وبلا تمييز. وأما في فرنسا فقد صهر الهيجونوت أوعية الذخائر والنفائس الدينية وغيرها من الآنية التي عثروا عليها في الكنائس التي وقعت في أيديهم. وعلينا أن نتصور غيرة رجال خاطروا بحياتهم ليصلحوا الدين قبل أن نستطيع فهم سورة(27/63)
الغضب التي دمرت في لحظات الانتصار تلك التماثيل التي عاونت على إخضاعهم. لقد كان التخريب وحشياً وهمجياً، ولكن الذنب فيه يجب أن يلقي على تلك المؤسسة التي ظلت قروناً تضع العقبات في طريق إصلاح ذاتها.
وانتهت حياة الفن القوطي في هذه الفترة، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي لم تكن سوى سبب واحد من أسباب موته. صحيح أن الانتقاض على الكنيسة الوسيطة رافقه زهد في طرز العمارة والزخرفة التي طالما اقترنت بهذه الكنيسة. بيد أن الفن القوطي كان يحتضر حتى قبل أن يتكلم لوثر. كان يشكو في فرنسا الكاثوليكية شكواه في ألمانيا وإنجلترا المتمردتين؛ لقد احترق في وهج ناره، وكانت النهضة كما كانت حركة الإصلاح البروتستنتي كارثة عليه. ذلك أن النهضة أقبلت من إيطاليا التي لم تحب القوطي قط، والتي سخرت منه حتى وهي تقتبسه، وقد انتشرت النهضة أكثر ما انتشرت بين المتعلمين الذين لم يستطع تشككهم المهذب أن يتفهم ذلك الإيمان المشبوب، إيمان الحروب الصليبية وعهد القوط، وإذ تقدمت حركة الإصلاح البروتستنتي، أصاب الكنيسة ذاتها، التي وجدت في العمارة القوطية التعبير الفني الأسمى لها، فقر شديد من جراء فقدها بريطانيا وألمانيا وإسكندناوة، ومن جراء الغارات التي شنها الملوك الكاثوليك على دخلها بحيث لم تقو على تمويل الفن بالسخاء الذي مولته به من قبل، أو على تقرير الذوق والطراز الفني. وراحت النهضة- تلك الحركة ذات التأثير الدنيوي والوثني-تؤكد يوماً بعد يوم ميولها ونزعاتها الكلاسيكية التي تغلبت على التقاليد المقدسة، تقاليد الإيمان والشكل الوسيطين. وتخطى الناس-في غير تقوى-قروناً من التقوى والخوف ليستعيدوا من جديد مشاعر العصر القديم الشبوبة، مشاعر حب العالم وحب اللذة. وأعلنت الحرب على الفن القوطي بوصفه(27/64)
فن الهمج الذين دمروا الإمبراطورية، وعاد إلى الحياة الرومان المغلوبون، فبنوا معابدهم من جديد، وأخرجوا من ظلام الإهمال تماثيل آلهتهم، وأمروا إيطاليا أولاً، ثم فرنسا وإنجلترا، أن تستأنف ذلك الفن الذي تجسد فيه مجد اليونان وعظمة الرومان. وهكذا هزمت النهضة الفن القوطي، أما في فرنسا فقد هزمت الإصلاح البروتستنتي.
(2) فن النهضة الفرنسية
1 - مرض البناء
خاض الفن القوطي معركة في المعمار الكنسي الفرنسي ليمد في أجله حيناً، ونجح في معركته. فأضافت بعض الكاتدرائيات القديمة عناصر جديدة كانت بالضرورة قوطية، وهكذا أكملت كنيسة القديس بطرس بمدينة كان خورسها الشهير، وبنت كنيسة بوفيه جناحها الجنوبي، وبذل الفن القوطي جهد المحتضر تقريباً حين شيد جان فاست فوق معبد هذا الجناح برجاً ارتفع 500 قدم (1553). فلما انهارت هذه الجرأة الشامخة في عيد الصعود عام 1573 وسقط البرج فوق الخورس المتهدم، كانت الكارثة رمزاً لخاتمة أنبل الطرز في تاريخ العمارة.
وارتفعت في هذه الفترة مفاخر قوطية أقل من هذه شأناً في بونتواز وكوتانس وأكثر من عشر مدن فرنسية أخرى. وفي باريس التي تكشف كل نظرة إليها عن معجزة من معجزات ماض مؤمن، بنيت كنيستان قوطيتان جميلتان: سانت إتيين دمون (1492 - 1626)، وسانت أوستاش (1532 - 1654). غير أن ملامح النهضة تسللت إليهما: كالحجاب الحجري الفخم الذي يستدير فوق الخورس في كنيسة سانت إتيين، والعمد المركبة والتيجان شبه الكورنثية في سانت أوستاش.
كان حلول عمارة النهضة اللادينية محل العمارة القوطية الكنسية انعكاساً(27/65)
لذوق فرانسوا الأول، ولإتكاء النزعة الإنسانية على اللذة الدنيوية دون الرجاء السماوي. وانصرفت الآن كل ثمرات الازدهار الاقتصادي، والرعاية الأرستقراطية، ونزعة اللذة الوثنية- هذه كلها التي غذت من قبل نيران الفن في إيطالية النهضة، انصرفت إلى تغذية الجهود المخلصة التي بذلها المعماريون والرسامون والنحاتون والخزافون والصائغون في فرنسا. واستقدم الفنانون الإيطاليون إلى فرنسا ليمزجوا بين مهاراتهم وعناصرهم الزخرفية وبين ما تخلف من الأشكال القوطية. وتضافرت روعة التصميم الإيطالي، وواقعية التصوير الفلمنكي، وذوق الأرستقراطية الفرنسية وجمالها الخنثوي، لتنتج في فرنسز فناً تحدى تفوق الفن الإيطالي وورث هذا التفوق. ولم يقتصر هذا الفن على باريس وحدها، بل جاوزها إلى فونتنبلو، ومولان، وتور، وبورج، وأنجيه، وليون، وديجون، وأفنيون، وإكس أن بروفانس.
وكان على رأس الحركة ملك أحب الفن حب المتيم المتحمس ولكن في فهم وتمييز. وتركت روح فرانسوا الأول الخلية المشرقة طابعها على المعمار خلال حكمه. وكان يقول لفنانيه الجرأة الجرأة! " (4) ويتركهم ليجربوا بطريقة لم تسمح بها حتى إيطاليا من قبل. وقد تبين براعة الفنانين الفلمنك في تصوير الأشخاص، فاحتفظ بجان كلويه رساماً لبلاطه، وطلب إلى جوس فان كليف أن يرسم صوراً له ولحاشيته. ولكن إيطاليا كانت ملهمته في جميع فنون الصقل والزخرفة. فقد زار ميلان وبافيا وبولونيا وغيرها من المدن الإيطالية عقب انتصاره في مارنيانو (1515)، وراح يدرس في حسد عمارة هذه المدن ورسومها وفنونها الصغيرة. وقد نقل تشلليني عنه قوله: "أذكر جيداً أنني فحصت خيرة الأعمال الفنية التي أبدعها عظم الفنانين في إيطاليا كلها" (5). ولعل هذه المبالغة أن تكون من صنع تشلليني المتحمس. على أن(27/66)
فازاري يلاحظ في مواضع كثيرة شراء فرانسوا الأول للآثار الفنية الإيطالية بوساطة عملاء له في روما وفلورنسة والبندقية وميلان. وبفضل هذه الجهود استطاعت "موناليزا" ليوناردو، و "ليدا" ميكل أنجيلو، و "فينوس برونزينو وكيوبيده"، و "مجدلية" تيشان (تزيانو)، ومئات الزهريات والمداليات والرسوم الصغيرة والصور الزيتية وقطع النسيج المرسومة- استطاعت هذه كلها أن تعبر جبال الألب لتستقر آخر المطاف في اللوفر.
ولو كان الأمر بيد هذا الملك المتحمس لاستقدم نوابغ الفنانين الإيطاليين جميعاً. وكان هذا يقضي إغراءهم بإغداق المال عليهم. قال لتشلليني واعداً "سأتخمك ذهباً" وجاءه بنفينوتو ومكث فترات متقطعة (1541 - 45)، كانت كافية لإرساء قدم الصياغة الفرنسية في تقليد من التصميمات البديعة والأساليب الفنية الرائعة. وكان دومنيكو برنابي "بوكادورو" قد وفد على فرنسا أيام شارل الثامن، فوكل إليه فرانسوا الأول رسم "أوتيل دفيل" جديد لباريس (1532). وقد استغرق إنجازه قرابة قرن، وأحرقه كومون 1817، فبني من جديد وفق التصميم الذي وضعه بوكادورو. وأقبل ليوناردو في شيخوخته (1516)، وقدمت إليه دنيا الفن والنبالة الفرنسية فروض العبادة، ولكنا لا نعرف له أثراً أبدعته يداه في فرنسا. وجاء أندريا ديل سارتو (1518)، ولكنه سرعان ما هرب. وأغرق جوفاني باتيستا "إلروسو" بالرحيل عن فلورنسة (1530) فأقام بفرنسا حتى مات منتحراً. وتلقى جيولو رومانو دعوات عاجلة، ولكن مانتوا كانت تفتنه بسحرها؛ على أنه أوفد مساعده النابغة فرانشسكو بريماتيتشيو (1532)، وجاء فرانشسكو بللجرينو، وكذلك جاكومو دا فنيولا، ونيكولو دللاباتي، وسبستيانو سرليو، وربما كثيرون غيرهم. وشجع الفنانون الفرنسيون في الوقت ذاته على الذهاب إلى إيطاليا ودراسة قصور فلورنسة وفراراً وميلان وكنيسة القديس(27/67)
بطرس الجاري تشييدها في روما. ولم يحدث مثل هذا النقل الفني للدم الثقافي منذ أن غزا الفن والفكر اليونانيان روما القديمة.
وساء الفنانين الوطنيين والفلمنلكيين هذا الإغواء الإيطالي، وسجل تاريخ العمارة الفرنسية احتدام معركة ملكية طوال نصف قرن (1498 - 1545) بين طراز قوطي تأصلت جذوره في التربة الفرنسية وسط حب الناس له وتعلقهم به، وبين البدع الإيطالية المتسللة إلى فرنسا في أذيال الفاتحين المغلوبين. وتجلى الصراع في الحجر في قصور اللوار، ففيها ظل الفن القوطي صاحب الكلمة العليا، وسيطر مهرة البنائين الغالبين على تصميم البناء: قلعة إقطاعية يحيط بها خندق يحميها، وأبراج أشبه بالحصون تعلو في الأركان في سمت عمودي جليل، ونوافذ فسيحة ذات عمد لتغري الشمس بالدخول، وأسطح مائلة تنزلق من فوقها الثلوج، ورواشن ناتئة من السقوف كأنها المونوكلات. على أنه سمح للغزاة الإيطاليين بخفض الباكية المدببة لتعود إلى شكلها المستدير القديم، وبتنظيم الواجهات في صفوف من النوافذ المستطيلة المدعمة بالعمد والمتوجة بالقواصر، وزخرفة الداخل بزخارف كلاسيكية من الأعمدة والتيجان والأفاريز والقوالب والحليات المدورة والنقوش العربية والحليات القرنية المنحوتة الممثلة للنبات والزهر والفاكهة والحيوان وصدور الأباطرة والآلهة الأسطورية. كان الطرازان القوطي والكلاسيكي من الناحية النظرية متناقضين، ولكنه مزج الفرنسيين بينهما في هذا الجمال المتسق بفضل التمييز والذوق الفرنسيين أعان على جعل فرنسا يونان العالم الحديث.
وتسلطت على فرنسا، أو قل على فرانسوا "حمى البناء" كما سماها قائد أخذ منه العجب كل مأخذ (6). فأضاف إلى قصر بلوا القديم (1515 - 19) للمملكة كلود جناحاً شمالياً كان مهندسه المعماري فرنسياً يدعى جاك سوردو، ولكن الطراز الذي بناه به كان طراز النهضة(27/68)
بعينه. وإذ رأى سوردو من غير المناسب أن يبني سلماً داخل الجناح المضاف فقد صمم رائعة من روائع العصر المعمارية- وهي بيت للسلم حلزوني خارجي يرقى في برج مثمن، بثلاثة طوابق، إلى بهو معمد أنيق يبرز من السطح، وكل طابق يحليه زخرف فاخر من شرفة منحوتة.
وبعد أن ماتت مليكته المرهقة، وجه فرانسوا شغفه بالمعمار إلى شامبور، وتقع على ثلاثة أميال جنوبي اللوار وعشرة أميال شمال شرقي بلوا. وكان أمراء أورليان قد بنوا هناك استراحة للصيد، فبنى فرانسوا عوضاً عنها قصراً غلب عليه الطراز القوطي، وبلغ اتساعه حداً احتاج معه إلى جهد 1. 800 عامل على مدى اثني عشر عاماً، ولا غرو فقد احتوى على 440 حجرة، ومرابط لخيل يصل عددها إلى 1. 200. وأبدع مصمموه الفرنسيون رسم واجهته الشمالية ولكنها اختلطت بمتاهة من الأبراج، و "الفوانيس"، والقمم، والزخارف المنحوتة. وميزوا داخل القصر ببيت للسلم حلزوني فخم جداً، فريد بممره المزدوج الذي يفصل المصعد عن المهبط. وكان فرانسوا يؤثر شامبور ويراها مكاناً ممتعاً للصيد، وفيها أحبت حاشيته أن تحتشد في كل زينتها، وفيها قضى سني عمره الأخيرة. وقد دمر الثوار في 1793 معظم الزخرف الداخلي للقصر بدافع الانتقام المتأخر من إسراف الملوك الفرنسيين، وهناك قصر آخر شيد على عهد فرانسوا- وهو قصر مدريد في غابة بولون- وقد حلاه جيرولامو ديللا روبيا بواجهة من الخزف الإيطالي (الميوليك)، ولكنه دمر تدميراً تاماً أيام الثورة.
على أن الإسراف لم يقتصر على الملك وحده. ذلك أن كثيراً من مساعديه شادوا لأنفسهم قصوراً ما زالت تبدو وكأنها مجلوبة من أرض الجان. ومن أروعها آزيه- لو- ريدو، على جزيرة في الآندر، أما صاحبه(27/69)
جيل برتيلو، الذي بناه في 1521، فلم يكن خازناً لفرنسا عبثاً، وبنى توما بوييه كبير مأموري الضرائب في نورماندية قصر شينونسو (1513 وما بعدها)، وأعاد جان كوتو وزير المالية بناء قصر مانتنون، وشيد جيوم دمونمورنسي في شانتبي (1530) قصراً فخماً كان ضحية أخرى من ضحايا الثورة. وبنى ابنه آن دمونمورنسي، أحد كبار موظفي الأمن في فرنسا، قصر إيكوان (1531 - 40) على مقربة من سان دنيس. ورمم جان ليبرتون، وزير الدولة، قصر فيللاندريه، وأكمل شارل دسبيني قصر أوسيه. أضف إلى هذه كلها "أوتيلات" أو قصور فالنسي، وسمبلانسي في تور، واسكوفيل في كان، وبرنوي في تولوز، ولالمون في بورج، وبور- ترولد في روان، وعشرات غيرها، وكلها من نتاج هذا العهد المسرف، وفي وسعنا أن نحكم الآن على مدى ثراء النبلاء وفقر الشعب في تلك الفترة.
وأحس فرانسوا أن قصر فونتنبلو الذي يسكنه لا يفي بأغراضه، فقرر أن يعيد بناء ما بناه لويس السابع ولويس التاسع من قبل، لأن فونتنبلو كانت كما قال تشلليني "أحب بقاع المملكة إلى الملك". لذلك رمم البرج المحصن والكنيسة. أما باقي القصر فهدم، وأقام جيل دبريتون وبيير شامبيج مكانه، بطراز النهضة، مجموعة من القصور ربط بينها "بهو فرانسوا الأول" الرشيق. أما مظهر القصر فلم يكن جذاباً، ولعل الملك رأى- كما رأى أقطاب التجارة بفلورنسة- أن واجهة ضخمة لقصر قريب جداً من المدينة قد تثير حسد الجماهير. فاحتفظ بميوله الجمالية ليشبعها بزخرفة الداخل، واعتمد في هذه المهمة على فنانين إيطاليين نشئوا على التقاليد الزخرفية التي أرساها رفائيل وجوليو رومانو.
وظل إل روسو- الذي اشتق لقبه هذا من تورد وجهه- عشر سنوات (1531 - 41) عاكفاً على زخرفة بهو فرانسوا الأول. ويصف فازاري(27/70)