أو شهراً، أو عاماً من عذاب المطهر، أو أن يعفى من جميع المدة التي كان لا بد له أن يقضيها في عذاب المطهر عقاباً له على ذنوبه لولا هذا الصك، ولم يكن الصك ليفي من جريمة الإثم، أما هذه الجريمة فقد كانت تعفى حين يغفر القس ذنب التائب النادم أثناء الاعتراف قبل الموت. فصك الغفران، والحالة هذه، معناه أن تعفو الكنيسة بعض العقوبات الدنيوية (أي غير الأبدية) التي يتعرض لها صاحب الخطايا التي غفر أثمها أثناء عملية الكفارة.
وسرعان ما تبدل شأن هذه النظرية البارعة المعقدة بفضل شذاجة الناس أو شراهة الغافرين الذين عهد إليهم توزيع صكوك الغفران أو ادعوا لأنفسهم حق توزيعها. وإذ كان يُسمح لهؤلاء الموزعين أن يحتفظوا لأنفسهم بجزء مما تدره من المال، فقد أغفل بعضهم الإصرار على توبة من يبتاعون الصكوك، أو اعترافهم بذنوبهم، أو صلواتهم، وتركوا لهم جريتهم الكاملة في أن يفسروا الصكوك بأنها تعفيهم من التوبة، ومن الاعتراف، ومن الغفران على يد القساوسة، وبأنهم يستطيعون الاعتماد كل الاعتماد تقريباً على ما يقدمون من المال. وقد وصل الأمر حداً جعل تومس جسكوني مدير جامعة اكسفورد يجأر بالشكوى ويقول:
يقول المذنبون في هذه الأيام: "لست أبالي كم أرتكب من الذنوب أما الله لأن من السهل علي أن أتخلص من كل ذنوبي ومما يترتب عليها من العقاب بالمغفرة وصكوك الغفران بمنحي إياها الباب الذي ابتاعها منه مستورة نظير أربع بنسات أو ست كاني أكسبها في لعبة تنس مع من في مقدرته أن يمنح هذا الغفران". ذلك أن بائعي هذه الصكوك يطوفون بالبلاد ويفرقون خطابات بالمغفرة نظير بنسين تارة ونظير جرعة من الخمر أو الجعة تارة أخرى ... بل إنهم يعطونها نظير استئجار عاهر أو نظير الحب الدنس (75) ولقد ندد البابوات-بونيفاس التاسع في عام 1392،(22/50)
ومارتن الخامس في عام 1420 وسكستس الرابع في عام 1478 - أكثر من مرة بهذه المساوئ وهذا الخطأ في التفكير ولكن حاجتهم إلى المال كانت أشد من أن يستطيعوا معها السيطرة المجدية على هذه العادات السيئة. وكثيراً ما أصدروا القرارات لأسباب عدة يتحير الفكر فيها مع إيمان رجال العلم بهذه النظرية واتهموا الكنيسة بأنها تستغل سذاجة الناس وآمالهم استغلالاً يجللها بالعار (58) وكانت اللغة الرسمية في بعض هذه الحالات كالصكوك التي عرضها يوليوس الثاني في عام 1510 أوليو العاشر في عام (1513) تحمل من المعاني ما يمكن تفسيره تفسيراً مالياً خالصاً (59). وقد وصف أحد الرهبان الفرنسيس من ذوي المراتب العليا وهو غاضب أشد الغضب كيف كانت الصناديق توضع في كنائس ألمانيا كلها لتتلقى الأموال من الذين لم تمكنهم ظروفهم من الذهاب إلى رومة ليشهدوا الاحتفال الذي أقيم فيها عام 1450 فاستطاعوا الآن أن تغفر لهم جميع ذنوبهم بالمال يلقونه في الصناديق ثم حذر الألمان قبل أن يحذرهم لوثر بنصف قرن فقال لهم إن صكوك الغفران وغيرها من الوسائل تستنزف موارهم وتنقلها إلى رومة (60) وحتى رجال الدين أنفسهم كانوا يشكون من أن صكوك الغفران كانت تقتنص الأموال إلى خزائن البابوات وكان خليقاً بهذه الأموال أن تستخدم في الأغراض الكنسية المحلية (61) ويلخص مؤرخ كاثوليكي هذا الموضوع كله بصراحة خليقة بالإعجاب فيقول:
إن النساوئ ذات الصلة بصكوك الغفران تنشأ كلها تقريباً من سبب واحد وهو أن المؤمنين بعد أن يشهدوا مراسيم التكفير وهي الشرط المقرر المعترف به لنيل المغفرة، ويطلب إليهم أن يقدموا من المال ما يتناسب مع ثرائهم وبذلك أصبح المال الذي يؤدى للأعمال الخيرية وهو الذي يجب أن يكون من الأعمال التي لا يلزم بها إنسان، أصبح هذا المال في بعض الحالات هو الشرط الأساسي لغفران الذنوب .. وكثيراً ما أصبح(22/51)
المال لا العمل الصالح هو الغاية المقصودة من الغفران ولسنا ننكر أن العبارات التي صيغت فيها قرارات البابوية يخيل إلى الإنسان معها أنها لا تحيد مطلقاً عن عقائد الكنيسة وإن الاعتراف والندم والأعمال الصالحة المنصوص عليها في هذه العقائد هي الشرط الأساسي لنيل المغفرة، إلا أن الجانب المالي كان يبدو واضحاً في جميع الأحوال وكان للهبات المالية المقام الأول في هذا الأمر كله مما يسربل الكنيسة بالعار ويجعلها مضغة في الأفواه. اتخذت صكوك الغفران شيئاً فشيئاً صورة الصفقات المالية، وأدى هذا إلى كثير من النزاع بين السلطات الزمنية التي كانت تتطلب على الدوام حظها من هذه الموارد (62).
ولا يقل عن بيع صكوك الغفران دلالة على حب الكنيسة للمال قبولها أو طلبها المال أو الهبات أو الوصايا نظير تلاوة الأدعية والصلوات التي يقولون إنها تقصر المدة التي تقتضيها روح الميت في المطهر لتعاقب عن ذنوبها وكان الصالحون الأتقياء من الناس يخصصون من أموالهم جزءاً كبيراً لهذا الغرض لتنجو به روح قريب لهم أو ميت فارق الحياة الدنيا أو ليقصروا المدة هم أنفسهم في المطهر بعد موتهم أو يلغوها إلغاءً تاماً. ولهذا أخذ الفقراء يشكون من أن عجزهم عن أداء الأموال نظير الأدعية والصلوات أو لابتياع صكوك الغفران بجعل الأغنياء على الأرض لا الوادعين هم الذين يرثون ملكوت السموات، ولقد كان كوليس حصيفاً حين امتدح المال لأن "من يمتلك المال يستطيع نقل الأرواح إلى الجنة" كما قال (63).
وازدادت الشكاوى من الكنيسة فبلغت ألفاً أو تزيد فقد غضب غير رجال الدين من إعفاء الكهنوت من الخضوع لقوانين الدولة ومن معاملة المحاكم الكنيسة للمذنبين من رجال الدين باللين الذي يعرض الدولة لأشد الأخطار. وها هو ذا مجلس نورنبرج يعلن في عام 1522 أن المدعي من غير رجال الدين لا يمكن أن ينال العدالة إذا كان المدعي عليه من رجال(22/52)
الكنيسة وكان التقاضي أمام محكمة كنسية وقال منذراً إنه إذا لم يخضع رجال الدين للمحاكم الزمنية فسيثور الناس على الكنيسة في ألمانيا ثورة عاصفة (64)، وجدير بنا أن نقول إن هذه الثورة كانت قد قامت بالفعل قبل ذلك الوقت. وكان من الشكاوى الأخرى ابتعاد الدين عن الأخلاق الكريمة وتوكيد العقيدة والإيمان بدلاً من توكيد المسلك الطيب، (وإن كان المصلحون من هذه الناحية أشد إثماً من الكنيسة نفسها) وجعل الدين مقصوراً على المراسم والطقوس، والتعطل العديم النفع والعقم المظنون بين الرهبان، واستغلال سذاجة الشعب بعرض المخلفات الزائفة والمعجزات الكاذبة وسوء استخدام الحرمان الديني واللعنة الدينية والرقابة التي يفرضها الكهنة على المطبوعات والتجاء محكمة التفتيش إلى أشد ضروب القسوة والتجسس على الناس وسوء استخدام الأموال التي جمعت لإعداد الحملات الصليبية على الأتراك وتوجيهها إلى أغراض أخرى، ومطالبة الكهنة المنحطين إلى هذا الدرك الأسفل بأن يكون لهم وحدهم حق القيام بجميع المراسم الدينية وتقديم القرابين ما عدا عملية التعميد.
وقد تجمعت كل هذه العوامل السالفة الذكر فكانت سبباً في ابتعاد أوربا عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في بداية القرن السادس. ويقول باستور في ذلك "إن احتقار غير رجال الدين وكراهيتهم للكهنة الفاسدين كان من أقوى العوامل في مروق الكثيرين من الدين (65) " وشكا أحد أساقفة لندن في عام 1515 من أن الناس يميلون إلى الإلحاد ميلاً بلغ من سوء العاقبة والانحطاط حداً جعلهم .. ينددون بكل رجل من رجال الدين وإن لم يكن يقل طهراً وبراءة عن هابيل" (66) وها هو ذا ارازمس نفسه يقول إن لقب قس أو كاهن أو راهب أصبح يعد من أشد الإهانات (76) وفي مدينة فيينا أصبح منصب القس في العشرين سنة السابقة على الإصلاح لا يجد من يشغله مع أنه كان قبل ذلك الوقت خير ما يرغب فيه الأهلون (68).(22/53)
ولهذا كله رفع الناس عقيرتهم في جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني مطالبين بإصلاح "الكنيسة إصلاحاً يشمل رأسها وأعضاءها جميعاً". وكان الإيطاليون المتحمسون الثائرون أمثال البريشيائي ويواقم الفلوري، وسفنرولا الفلورنسي قد هاجموا مساوئ الكنيسة دون أن يخرجوا على المذهب الكاثوليكي ولكن اثنين منهم مع ذلك قد حرقوا وهم على قيد الحياة، غير أن الكاثوليك الصالحين ظلوا يأملون أن يتم الإصلاح على يد أبناء الكنيسة المخلصين الموالين لها وكان الكتاب الإنسانيون أمثال أرازمس، وكوليت، ومور، وبوديه يخشون ما يحدثه الهجوم العلني على الكنيسة من اضطراب أمورها واختلال نظامها، فقد كفاها ضعفاً أن ظلت الكنيسة اليونانية بعيدة عن الكنيسة الرومانية مصممة على هذا البعد كل التصميم، وكان كل تمزق في "ثوب المسيح الذي لادرز فيه يهدد كيان العالم المسيحي نفسه بالفناء وكم من مرة حاولت الكنسية مخلصة في معظم الأحوال أن تطهر صفوفها ومحاكمها وأن تسلك في شؤونها المالية مسلكاً يتفق مع الخلق الطيب ويسمو على أخلاق غير رجال الدين في تلك الأيام. ولطالما حاولت الأديرة أن تعود إلى قواعد نسكها القديم ولكن طبيعة الإنسان كانت تنقص كل ما يوضع من الدساتير وحاولت المجالس إصلاح الكنيسة ولكن البابوات عارضوها فأخفقت في أغراضها، وحاول البابوات أنفسهم أن يقوموا بذلك الإصلاح ولكن الكرادلة ورجال الإدارة البابوية هزموا أولئك البابوات ولقد شكا ليو العاشر نفسه في عام 1516 والحسرة تملأ قلبه من إخفاق هذه المحاولات ولسنا ننكر أن بعض المستنيرين من رجال الكنيسة أمثال نقولاس الكوزائي قد حققوا بعض الإصلاحات المحلية، ولكن هذه الإصلاحات نفسها كانت قصيرة الأجل. وأثار التنديد بمعايب الكنيسة والتشنيع عليها من أعدائها ومحبيها على السواء، ثائرة المدارس واضطربت له المنابر وفاضت به كتب(22/54)
الأدب، وأخذ يزداد يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ويستقر في ذاكرة الناس ويستثير غضبهم حنى قضى على ما كان للكنيسة في قلوب الناس من احترام وما كان باقياً من تقاليد واكتسحت أوربا ثورة دينية عارمة كانت أوسع مدى وأعمل أثراً من جميع الانقلابات السياسية التي حدثت في أيامنا الحاضرة.(22/55)
الباب الثاني
إنجلترا: ويكلف، وتشوسر، والعصيان الكبير
1308 - 1400
الفصل الأوَّل
الحكومة
أقسم إدوارد الثاني الملك السادس من آل بلا نتجت في الخامس والعشرين من فبراير سنة 1308 أثناء تتويجه أمام رجال الدين والنبلاء المجتمعين في دير وست منستر، القسم الذي تطلبه إنجلترا في كبرياء من جميع ملوكها.
كبير أساقفة كنتربري: سيدي هل تمنح أهل إنجلترا وتحتفظ لهم وتؤكد لهم بقسمك القوانين والعادات التي منحها إياهم ملوك إنجلترا الأقدمون أسلافك الصالحون المتدينون وخاصة القوانين والعادات والامتيازات التي منحها لرجال الدين والشعب سلفك الملك العظيم القديس إدوارد؟
الملك: إني أمنحهم إياها وأعدهم بها.
كبير الأساقفة: سيدي هل تؤيد أمام الله وأمام الكنيسة المقدسة لرجال الدين وللشعب السلم والوئام في سبيل الله بكل مالك من قوة.
الملك: نعم سأؤيدها.
كبير الأساقفة: سيدي هل تعمل على أ، تكون جميع أحكامك متصفة بالعدالة الحقة والمساواة والحزم والرحمة والصدق وتسهى لها بجميع قواك.
الملك: سأفعل ذلك.
كبير الأساقفة: هل تعد بأن تستمسك بالقوانين والعادات الصالحة(22/56)
التي قد تختارها بلادك وأن تحافظ عليها وهل تدافع عنها وتقويها تكريماً لله وتعظيماً له بأقصى ما لديك من قوة؟.
الملك: أوافق على ذلك وأعد به (1).
وبعد أن أقسم الملك على ومسح بالزيت المقدس وكرس حسب الأصول المرعية عهد بالحكم إلى موظفين مرتشين عاجزين وصرف حياته في اللهو مع بيزجافستون الغلام الذي كان يعشقه. لهذا ثار عليه أعيان البلاد وقبضوا على جافستون وذبحوه (1312) وأخضعوا إدوارد وإنجلترا لحكم الأقلية الثرية والإقطاعية. ولما عاد إدوارد يجلله الخزي والعار بعد أن هزم على أيدي الاسكتلنديين في بنوكبيرن (1314) أخذ يواسي نفسه بحب جديد هو حب هيو المبذر الثالث. وتآمرت زوجته ازابلا الأميرة الفرنسية التي أهملها مع عشيقها روجردي مورتمر على خلعه عن العرش (1326). ثم اغتاله أحد رجال مورتمر في قلعة بركلي (1327)، وتوج ابنه إدوارد الثالث ملكاً على إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وكانت أهم الحوادث في تاريخ إنجلترا في ذلك العهد وأعلاها قدراً هو أن تقررت في عام 1322 سابقة تحتم موافقة جمعية وطنية على كل قانون تسنه الحكومة كي يصبح نافذاً مشروعاً. فقد جرت سنة الملوك الإنجليز منذ زمن طويل إذا ألزمتهم الحاجة أن يدعوا للاجتماع "مجلس الملك" المؤلف من كبار الأعيان ورجال الدين. فلما كان عام 1295 كان إدوارد الأول يحارب فرنسا واستكلندة وويلز فاشتدت حاجته إلى المال والرجال فأمر "كل مدينة، وكل بلدة كبيرة أن تبعث باثنين من مواطنيها الأحرار وكل إقليم أو مقاطعة بأن ترسل فارسين (أقل درجة من النبلاء) إلى جمعية وطنية يتألف منها هي ومجلس الملك أول برلمان إنجليزي. وكان الباعث على هذه الدعوة أن المدن على اختلاف أنواعها كان لديها المال وقد يكون مستطاعاً أن يوافق مندوبوها على إعطائه للملك، أما المقاطعات والأقاليم(22/57)
فكان فيها الملاك المزارعون الذين يصبحون رماة بالسهام والحراب أقوياء، وكان الوقت قد حان لإنشاء هاتين القوتين وجعلهما جزءاً من هيكل الحكومة البريطانية. ولم يكن يدعي للديمقراطية الكاملة. ذلك أن المدن كانت-أو أنها ستكون قبل عام 1400 - قد رفعت عن كاهلها سيادة رجال الإقطاع، فقد قصر حق الاقتراع فيها على أقلية صغرى من الملاك الذكور. ومعنى هذا أن الأشراف ورجال الدين ظلوا كما كانوا حكام إنجلترا، فقد كانوا يملكون معظم الأرض الزراعية ويستخدمون فيها الكثرة الغالبة من السكان إما مستأجرين لها أو أرقاء أرض فيها، وكانوا هم الذين ينظمون قوى البلاد المسلحة ويوجهونها.
واجتمع البرلمان (وهو الاسم الذي سمي به أيام إدوارد الثالث) في القصر الملكي بوست منستر المقابل للدير التاريخي المسمى بهذا الاسم. وجلس فيه عن يمين الملك كبير أساقفة كنتربري ويورك، والأساقفة الثمانية عشر، ورؤساء الأديرة الكبيرة، وجلس عن يساره مائة ممن يحملون ألقاب دوق، ومركيز، وايرل، وفيكونت، وبارون، وتجمع ولي العهد ومجلس الملك قرب العرش، وجلس قضاة المملكة على أكياس من الصوف يذكرهم بأهمية تجارة الصوف لإنجلترا، وقد جاءوا ليدلوا برأيهم في النقط القانونية. ولما افتتحت الجلسة وقف نواب المدن والفرسان-الذين عرفوا فيما بعد بالعموم-عراة الرؤوس أمام حاجز يفصلهم عن رجال الدين والأعيان، وأصبحت الجمعية الوطنية وقتئذ (1295) لأول مرة مكونة من مجلس أعلى ومجلس أسفل. واستمع القسمان مجتمعين إلى الملك أو نائبه وهو يلقي خطاباً (سمي فيما بعد خطبة العرش) يشرح فيه الموضوعات التي سيدور فيها البحث والقرارات التي يراد إصدارها. ثم انسحب رجال "العموم" ليجتمعوا في قاعة أخرى-كانت هي عادة قاعة اجتماع القساوسة في دير وست منستر. وهناك تناقشوا في اقتراحات الملك المعروضة عليهم.(22/58)
فلما انتهت مناقشاتهم انتدبوا "متكلما" ليبلغ المجلس الأعلى ما وصلوا إليه من نتائج، وليعرضوا ملتمساتهم على الملك. ولما انتهت دورة الانعقاد اجتمع المجلسان مرة أخرى ليستمعا إلى رد الملك وليعلنا انفضاض الدورة وكان للملك وحده حق دعوة البرلمان إلى الاجتماع وفض دورة اجتماعاته. وكان كلا المجلسين يطالب لنفسه بحرية المناقشة ويستمتع بها في الأحوال العادية. وكانا في كثير من الأحوال يرفعان إلى الحاكم ما يستقر عليه رأيهما بعبارات قوية منطوقة أو مكتوبة، غير أن الحاكم في كثير من الأحوال كان يأمر بسجن من يشتط في نقده. وكانت سلطات البرلمان تشمل من الوجهة النظرية شؤون التشريع، أما من الوجهة العملية فكان وزراء الملك هم الذين يعرضون على البرلمان مشروعات القوانين التي يقرها، غير أن المجلسين كثيراً ما كانا يقدمان توصيات وشكاوى ويؤخرون الاقتراع على الأموال المطلوبة حتى تستجاب رغباتهم كلها أو بعضها. وكانت "قوة المال" هذه هي كل ما في أيدي "العموم" من سلاح، ولكن سلطتهم هذه زاد شأنها حين زادت نفقات الإدارة وثروة المدن. فلم تكن الملكية والحالة هذه ملكية مطلقة أو دستورية فالملك مثلاً لم يكن يستطيع تغيير سنة البرلمان أو سن قانون جديد بنفسه علناً وبطريقة مباشرة، ولكنه كان خلال معظم العام يحكم دون أن يقيده البرلمان ويصدر قرارات تنفيذية لها أثرها في كل ناحية من نواحي الحياة الإنجليزية. ولم يكن يرقى العرش عن طريق الانتخاب بل عن طريق الوراثة. وكانت ذاته تُعد ذاتاً مقدسة ترعاها الحرمات الدينية، وكانت جميع قوى الدين والعادات والقانون والتربية واليمين التي تتلى عند تتويجه تبث في النفوس طاعته والولاء له. فإذا لم يكف هذا كان قانون الخيانة العظمى ينص على أن يقبض عليه متهماً بعصيان الدولة يجر في الشوارع إلى المشنقة وتنتزع أحشاؤه وتحرق أمام عينيه ثم يشنق بعدئذ (2).
ولما بلغ إدوارد الثالث الثامنة عشر من عمره في عام 1330 تولى(22/59)
شؤون الحكم بنفسه وبدأ عهداً من أكثر العهود حادثات في تاريخ إنجلترا. وقد كتب مؤرخ معاصر له يقول "كان وسيم الخلق، وكان وجهه كأنه وجه إله (3)، وقد ظل حتى أضعفه الإسراف في المسائل الجنسية ملكاً في سمته وفي كل جارحة من جوارحه وكاد يهمل شؤون السياسة المحلية لأنه كان محارباً لا حاكماً، وقد أسلم السلطات إلى البرلمان وهو راضٍ مغتبط مادام البرلمان يمده بما تحتاجه حروبه من المال. وقد ظل طوال حكمه الطويل يستنزف دماء فرنسا فيما كان يبذله من محاولات لضمها إلى تاجه. لكنه كان مع ذلك رجلاً ذا مروءة، كثيراً ما كان شهماً مقداماً، وقد عامل الملك جون الفرنسي حين أسه معاملة يشرف بها بلاط الملك ارثر لو أنها كانت في أيامه. ولما ثم بناء البرج المستدير في وندسور بعد أن سخر في بنائه 722 رجلاً عقد فيه اجتماعاً حول مائدة مستديرة مع المقربين إليه من الفرسان وأقام حفل مثاقفة رأسه بنفسه. ويرى فرواسار قصة لا نستطيع تحقيقها يقول فيها أن إدوارد حاول أن يغوي كونتيسة سلزبوري الحسناء، فلما صدته في أدب ومجاملة أقام حفل ألعاب فروسية لكي يستمتع خلالها بمشاهدة جمالها (4)، وتروي قصة أخرى طريفة أن الكونتيسة ألقت على الأرض بربطة ساق حين كانت ترقص أثناء حفل البلاط، فاختطفها الملك من فوق الأرض وقال "فليجلل العار من تخامره فيه فكرة سوء".
وأصبحت هذه العبارة من ذلك الوقت شعار نوط ربطة الساق الذي أنشأه إدوارد في عام 1349.
وأثبتت البس برز أنها أيسر منالاً من الكونتيسة ذلك أنها وإن كانت متزوجة قد استسلمت للملك النهم، ونالت في نظير ذلك الاستسلام هبات واسعة من الأرض، وكان لها عليه من النفوذ العظيم ما جعل البرلمان يسجل احتجاجه على هذا النفوذ. وصبرت الملكة فيلبا (كما يقول فروسار تابعها المغرم بها) على هذا كله صبر الكرام؛ وسامحته، ولم تطلب إليه وهي(22/60)
على فراش الموت ألا أن يوفي بما قطعه على نفسه من عهود خاصة بالصدقات وألا تختار لنفسك، حين يريد الله أن تفارق هذا العالم قبراً غير أن ترقد إلى جواري. ووعدها بذلك "والدمع يترقرق في عينيه" ثم عاد إلى أليس وأعطاها جواهر الملكية.
وخاض غمار حروبه بجد وشجاعة ومهارة، وكانت الحروب تعد وقتئذ أسمى أعمال الملوك وأنبلها، وكان من يتقاعدون عن الحروب من الملوك يحتقرون، وقد خلع من ملوك إنجلترا ثلاثة يتصفون بهذه الصفة، وكان الموت الطبيعي عاراً لا يستطيع معه إنسان ما أن يبقى حياً، إذا جاز لنا أن نتجاوز بعض الشيء عما في هذا القول من مفارقة تاريخية، وكان كل فرد من أبناء الأسرة الأوربية الشريفة يدرب على الحرب، ولم يكن يستطيع أن ينال السلطان أو الأملاك إلا بالشجاعة في الحروب والحذق في استعمال السلاح. وكان الأهلون يقاسون الأهوال من جراء الحروب، ولكنهم قلما كانوا هم أنفسهم يخوضون غمارها حتى اعتلى هذا الملك العرش، ونسي أبناؤهم ذكرى آلامها، وأخذوا يستمعون إلى قصص الفروسية القديمة التي تروي أمجاد الفرسان، ويتوجون بأحسن الأكاليل رؤوس ملوكهم الذين يريقون من دماء الأجانب أكثر قدر مستطاع.
ولما عرض إدوارد أن يفتح فرنسا لم يكد يجرؤ أحد من مستشاريه على أن يشير عليه بالتراخي والصلح، ولم ترتفع صيحة السلام من ضمائر الأمة إلا بعد أن استمرت الحرب جيلاً من الزمان، وأثقلت كاهل الأهلين حتى الأغنياء منهم بالضرائب الفادحة. وكاد استياء الشعب يبلغ حد الثورة حين تبدلت حملات إدوارد من نصر إلى هزيمة وهددت الاقتصاد القومي بالخراب. وكان إدوارد هذا قد ظل حتى عام 1370 يفيد في الحرب والسياسة من حكمة السير جون تشاندوس وولائه وإخلاصه في خدمته. فلما توفي هذا البطل حل محله في مجلس الملك دوق لا نكستر ابن الملك وهو الذي كان(22/61)
يطلق عليه اسم جون جونت وهو الاسم المشتق من غانت أو غنت التي ولد فيها. وأسلم جون بإهماله حكم البلاد إلى القراصنة السياسيين الذين أثروا على حساب الشعب، ورفع البرلمان عقيرته يطلب الإصلاح، وأخذ الصالحون من الرجال يدعون الله على الأمة سعادتها بالتعجيل بموت الملك، وكان في مقدور ابن آخر من أبنائه يسمى الأمير الأسود-ولعل هذا الاسم مأخوذ من لون درعه-أن يبعث روح القوة والنشاط في الحكومة، ولكنه فارق هذا العالم في عام 1176 على حين أن حياة الملك قد طالت بعد وفاته.
وأصدر "البرلمان الصالح" في ذلك العام قرارات ببعض الإصلاحات، وزج في السجن باثنين من المجرمين وأمر بطرد أليس بروز من البلاط، وأخذ على الأساقفة عهداً بأن يحرموها من حظيرة الدين إذا عادت إلى البلاط مرة أخرى. ولما انتهت الدورة البرلمانية أغفل إدوارد قراراته، وأعاد جون جونت إلى سابق سلطانه وأليس برز إلى فراش الملك، ولم يجرؤ أحد من الأساقفة على أن يوجه إليها التأنيب أو اللوم. ثم رضي الملك العنيد آخر الأمر أن يموت (1377)، وخلفه على العرش ابن للأمير الأسود وتسمى باسم ريشارد الثاني، وكان غلاماً في الحادية عشرة من عمره. وكانت البلاد حين تولى الحكم تضطرب فيها عوامل الفوضى الاقتصادية والسياسية وتختمر فيها أسباب الثورة الدينية.(22/62)
الفصل الثاني
جون ويكلف
1320 - 1384
ترى ما هي الظروف التي جعلت إنجلترا تستجيب لنداء الإصلاح الديني في خلال القرن الرابع عشر؟ أكبر الظن أن أخلاق رجال الدين لم يكن لها إلا دور ثانوي في هذه المسرحية. فقد رضي كبارهم وقتئذ بحياة العزوبة، نعم أننا نسمع أن أسقفاً يدعى بيرنل كان له خمسة أبناء ذكور، ولكن حالته كانت في أغلب الظن حالة شاذة. ويتفق ويكلف ولايخلاند، وجوور، وتشوسر فيما لاحظوه من ميل بعض الرهبان والإخوان إلى الطعام الشهي والنساء الفاسدات، ولكن البريطانيين ما كانوا ليستولي عليهم الغيظ وينتشر بين أمتهم بسبب خروج هؤلاء على هذا الصراط الذي كان الزمن قد مهده لهم من قبل، بسبب الراهبات اللائى كن يأتين إلى الصلاة وفي أيديهن مقاود كلابهن وعلى أذرعهن طيورهن المدللة، أو بسبب الرهبان الذين كانوا يسرعون في صلواتهم المتقطعة غير المتماسكة (وقد خص الإنجليز الفكهون الشيطان بمعاون خاص يجمع له جميع المقاطع التي "تتساقط من أفواه القابضين، والقافزين، والمسرعين، والمتمتمين والسابقين في الوثب والجري" وهم يقومون بصلواتهم المرخمة، ثم كان الشيطان يختص هؤلاء الآثمين بعام في الجحيم جزاء لهم على هذه المقاطع التي يغفلونها أو يطئونها بأقدامهم).
أما الذي كان يقض مضاجع غير رجال الدين ويفت في عضدهم هم ورجال الحكم على السواء فهو الزيادة المطردة في ثروة الكنيسة الإنجليزية وتداولها بين أيدي رجال الدين. نعم إن رجال الدين كانوا يسهمون بأداء(22/63)
عشر إيرادهم للدولة، ولكنهم كانوا يصرون على ألا تفرض عليهم ضريبة إلا بموافقة مجامعهم الدينية. ذلك أنهم كانوا يجتمعون بأشخاصهم أو بمن يختارونهم للنيابة عنهم، في مجامع يرأسها كبير أساقفة كنتربري ويورك، وذلك فضلاً عن انهم كان لهم ممثلون في مجلس اللوردات هم أساقفتهم ورؤساء الأديرة، وكان رجال الدين يقررون في هذه المجالس كل الأمور ذات الصلة بالدين أو برجاله وقد جرت العادة على أن يختار الملك أكبر موظفي الدولة من بين رجال الدين بوصفهم أعظم الطبقات علماً في إنجلترا. وكانت القضايا التي يقيمها العلمانيون على رجال الدين، والتي تمس أملاك الكنيسة، ترفع إلى محاكم الملك، ولكن محاكم الأساقفة كانت هي المختصة بالنظر في الجرائم التي يرتكبها رجال الدين. وكانت الكنيسة في كثير من المدن تؤجر أملاكها للأفراد، وتطالب أن يكون لها السلطة القضائية الكاملة على هؤلاء المستأجرين، حتى إذا ارتكبوا جرائم عادية. وكانت هذه كلها أمور تضايق الأهلين، ولكن أكثر ما كان يضايقهم هو انتقال الثروة من الكنيسة الإنجليزية إلى الباباوات، أي انتقالها في القرن الرابع عشر إلى افنيون أي إلى فرنسا نفسها. وقد قدرت الثروة الإنجليزية التي حصل عليها البابا بأكثر من التي حصلت عليها الدولة أو الملك.
وتألف في بلاط الملك حزب مناهض لرجال الدين، وسنت شرائع تجعل القسط الذي تسهم به الكنيسة في نفقات الدولة أكبر وأعظم ثباتاً مما كان. ولما كان عام 1333 أبى إدوارد الثالث أن يستمر في أداء الجزية التي تعهد جون ملك إنجلترا عام 213 بأدائها للباباوات، وفي عام 1351 حاول البرلمان في "قانون الشروط" أن يضع حداً لسلطان الباباوات على موظفي الكنيسة الإنجليزية وإيراد ممتلكاتها. ونص "قانون السجن والمصادرة" (1353) على أن يحرم من حماية القانون كل إنجليزي يتقاضى في المحاكم الأجنبية (البابوية) في جميع المسائل التي يرى أنها في دائرة اختصاص(22/64)
السلطة الدنيوية. وفي عام 1376 شكا مجلس العموم رسمياً من أن جباة البابوية في إنجلترا يبعثون إلى البابا بمبالغ طائلة من المال، وان الكرادلة الفرنسيين غير المقيمين في إنجلترا يحصلون على إيرادات كبيرة من كراسي الأسقفية الإنجليزية.
وكان زعيم الحزب المناهض لرجال الدين في بلاط الملك هو جون جونت. وكانت الحماية التي بسطها جون على ويكلف هي التي جعلته يموت ميتة طبيعية.
وكان مولد أول المصلحين البريطانيين في هبسول القريبة من قرية ويكلف، من أعمال مقاطعة يوركشير في حوالي عام 1320 ودرس في جامعة أكسفور، وصار أستاذاً للاهوت، وقضى عاماً (1360) بعد ذلك رئيساً لكلية بالبول. ورسم قسيساً، وتلقى من الباباوات عدداً من المناصب أو المرتبات من كنائس الأبرشيات، ولكنه ظل خلال ذلك يدرس في الجامعة. وكان نشاطه الأدبي كبيراً إلى حد روع معاصريه، فقد كتب رسائل في الفلسفة المدرسية عما وراء الطبيعة، وعن اللاهوت، والمنطق، وكتب مجلدين في فن الجدل، وأربعة مجلدات في المواعظ، ورسائل كثيرة متنوعة قصيرة التأثير منها رسالة في السلطة المدنية. وكان معظم ما كتب بلغة لاتينية خالية من الرشاقة عسيرة الفهم من شأنها أن تجعلها قليلة الضرر إلا لعلماء النحو. ولكنه كان يخفي في ثنايا هذا الغموض أفكاراً جد خطيرة، كانت تفصل بريطانيا عن الكنيسة الرومانية قبل أن يفصلها هنري الثامن بمائة وخمس وخمسين عاماً، وتقذف ببيوهيميا في أتون الحرب الأهلية وتسبق جميع أفكار الإصلاح التي نادى بها جون هوس ومارتن لوثر إلا القليل منها.
وبدأ ويكلف عمله بداية سيئة، فاستسلم لمنطق أوغسطين وفصاحته،(22/65)
وبنى عقيدته على مبدأ الجبرية الخطير، وهو المبدأ الذي قدر له أن يبقى حتى يومنا هذا أشبه بالمغناطيس الذي يجذب إليه المذهب البروتستنتي اللاهوتي وينجي القائلين به من العقاب. وفي ذلك يقول ويكلف إن الله يمنح بركته ورحمته لمن يشاء، وقد كتب على كل إنسان مصيره المحتوم في الأزل قبل مولده كتب عليه الخسران أو النجاة إلى الأبد. وليست الأعمال الصالحة هي التي تنجي صاحبها، بل إنها تدل على إن من يعملها قد تلقى رحمة الله ونعمته وأنه ممن اختارهم وخصهم بهذه النعمة وتلك الرحمة ونحن نصدر في أعمالنا حسبما قسمه الله لنا، ومصيرنا هو خلقنا وليس خلقنا هو مصيرنا كما قال هرقليطس. وكان آدم وحواء وحدهما هما اللين استمتعا بحرية الإدارة، ثم خسرا وأبناؤهما من بعدهما هذه الحرية بمعصيتهما.
ولله سيدنا ذو السلطان الكامل علينا، وولاؤنا له ولاء مباشر أشبه ما يكون باليمين التي يقسمها كل إنجليزي أمام الملك، وليس هو ولاء غير مباشر عن طريق ولاء لسيد تابع كما هي الحال في فرنسا الإقطاعية. ومن ثم كانت العلاقة القائمة بين الإنسان والله علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وسيط، ولذلك يجب أن يرفض كل ما تدعيه الكنيسة أو يدعيه أي قس من أن تكون هي أو يكون هو واسطة لا بد منها. وبهذا المعنى يكون كل مسيحي قسيساً وليس في حاجة إلى أن يرسم كذلك والله مالك الأرض وما عليها، وليس في مقدور الآدمي أن يمتلك شيئاً منه بحق إلا بوصفه تابعاً له طائعاً لأمره. وكل ما يحمل وزراً-يكون بذلك عاصياً للملك القدوس-يفقد بذلك كل حق له فيما يملك لأن الامتلاك الحق يتطلب أن يكون المالك متمتعاً بنعمة الله. وواضح مما جاء في الكتاب المقدس أن المسيح قد قصد ألا يكون للحواريين ولمن خلفهم، ولمن رسموا بعدهم مندوبين عنهم ألا يكون لهؤلاء جميعاً أملاك ما وأذن فكل كنيسة، وكل قس يمتلكان شيئاً يعصيان أوامر الله، وهما لذلك آثمان، ومن ثم فهما لا يستطيعان تقديم العشاء الرباني. ومن ثم(22/66)
فإن أعظم ما تحتاجه الكنيسة ويحتاجه رجال الدين من إصلاح هو أن تتخلص ويتخلص رجالها من الأملاك الدنيوية.
وكأن هذا لم يكن يثير من المتاعب ما فيه الكفاية، فاستنتج ويكلف من مذهبه الديني مذهباً آخر من مذاهب الشيوعية النظرية والفوضى النظرية، فقال إن كل شخص تحل عليه نعمة الله وبركته يشارك الله في امتلاك الطيبات، أي أن كل شيء من الوجهة النظرية يمتلكه جميع الصالحين مجتمعين. أما الملك الخاص والحكومة فهما أثر من آثار خطيئة آدم وخطيئة الإنسان التي ورثها عنه أي أنهما متأصلان في الطبيعية البشرية. كما كان ينادي بذلك بعض الفلاسفة المدرسيين. والمجتمع الذي تعمه الفضيلة لا يكون فيه ملك فردي، ولا قانون يضعه الإنسان وتسنه الكنيسة أو الدولة. وخشي ويكلف أن يفسر ذلك المتطرفون الذين كانوا يفكرون وقتئذ في الخروج على الحكومة في إنجلترا تفسيراً حرفياً، فقام يفسر هو شيوعيته على أنها يجب أن تؤخذ بمعناها المثالي، وأن السلطات التي تقوم بمقتضاها هي التي نادى بها القديس بولس والتي أمر بها الله ومن ثم كانت واجبة الطاعة. وقد كرر لوثر في عام 1525 تكراراً يكاد يكون دقيقاً كل الدقة ما لمح به ويكلف في أقواله عن الثورة.
ورأى الحزب المناهض للكنيسة شيئاً من المعنى في تنديد ويكلف بثروة الكنيسة، إن لم يره في شيوعية ويكلف. ولما رفض البرلمان مرة أخرى أن يؤدي الخراج الذي تعهد الملك جون أن يؤديه للبابا (1366) عين ويكلف قساً في خدمة الملك ليعد دفاعاً عن هذا العمل، وعينه إدوارد الثالث في عام 1374 رئيساً لكنيسة أبرشية لوثر وورث ويبدو أنه قصد بذلك أن يكون إيرادها أجراً له يحتفظ به لنفسهِ. ثم عين ويكلف في عام 1376 عضواً في اللجنة المكلفة التي أرسلت إلى بروج لتبحث مع عمال البابا ما تصر عليه إنجلترا من رفض أداء الخراج، ولما أن اقترح جون جونت أن تصادر الحكومة بعض أملاك الكنيسة، دعا ويكلف إلى الدفاع عن هذا الاقتراح(22/67)
في سلسلة من الخطب الدينية يلقيها في لندن. ولبى ويكلف الدعوة (في سبتمبر من عام 1376)، وكان جزاؤه أن وسمه الحزب المناصر لرجال الدين بأنه آلة في يد جونت. وقرر كورتناي أسقف لندن أن يشن هجوماً غير مباشر على جونت، فاتهم ويكلف بأنه رجل مارق خارج عن الدين. واستدعي الواعظ للمثول أمام مجلس من الأحبار في كنيسة القديس بولس في شعر فبراير من عام 1377. وأطاع الأمر، ولكنه جاء ومعه جون جونت تتبعهما حاشية مسلحة. وشجر نزاع بين الجنود وبعض النظارة، قامت على أثره ضوضاء، فرأى الأسقف أن من الحكمة تأجيل المحاكمة، وعاد ويكلف إلى أكسفورد دون أن يمسسه سوء. وبعث كورنتاي إلى روما اتماماً مفصلاً نقل فيه اثنتين وخمسين عبارة من كتب ويكلف، فلما كان شهر مايو أصدر جريجوري الحادي عشر مراسيم بابوية يطعن فيها على ثمانية عشر من أقوال ويكلف، معظمها من رسالتهِ "عن الحكم المدني"، وأمر سدبري كبير الأساقفة والأسقف كورنتاي أن يبحثا الأمر ليعرفا هل لا يزال ويكلف معتنقاً لهذه الآراء، فإذا تبينا أنه لا يزال يعتنقها فعليهما أن يلقيا القبض عليه ويحتفظا به في الأغلال حتى تصدر إليهما تعليمات أخرى.
وكان ويكلف في هذه الأثناء قد كسب تأييد طائفة كبيرة من الرأي العام فضلاً عن تأييد جون جونت ولوردبيرسي لورد نورثمبرلند. وكان البرلمان الذي اجتمع في شهر أكتوبر مناهضاً للكنيسة أشد المناهضة. وكانت حجة القائلين بمصادرة أموال الكنيسة تستهوي كثيرين من الأعضاء، فقد كان هؤلاء يحسبون أنه إذا ما استولى الملك على الثروة التي يستحوذ عليها الأساقفة، ورؤساء الأديرة والرهبان، فإن في وسه أن يقيم بها خمسة عشر نبيلاً يحملون لقب ايرل، وألفاً وخمسمائة فارس، وستة آلاف ومائتين من أتباع الفرسان، وأن يتبقى له بعد ذلك عشرون ألف جنيه. وكانت فرنسا(22/68)
وقتئذ تستعد لغزو إنجلترا، وكانت الخزانة الإنجليزية تكاد تكون خاوية، وبدا أن من الحمق أن يسمح لوكلاء البابا بأن يجمعوا الأموال من الأبرشيات الإنجليزية لبابا فرنسي ولمجلس من الكرادلة كثرته الغالبة من الفرنسيين. وسأل مستشارو الملك ويكلف "هل يحق لمملكة إنجلترا شرعاً، إذا كانت الضرورة تحتم عليها لتعمل لصد ما يتهددها من الغزو الفرنسي، أن تمنع أموال الدولة من الوصول إلى البلاد الأجنبية، وإن طلبها البابا وهدد من يمنعها بالعقاب معتمداً في ذلك على وجوب طاعة أوامره؟ " وأجاب ويكلف عن هذا الاستفتاء بمنشور كان في الواقع دعوة لفصل الكنيسة الإنجليزية عن البابوية وقد جاء في هذا المنشور: "إن البابا لا يستطيع أن يطلب هذا المال إلا على سبيل الصدقة .. ولما كانت أهل البلاد أولى من غيرهم بهذه الصدقات، فإن توجيه صدقات الدولة إلى البلاد الخارجية إذا كانت البلاد نفسها في حاجة إليها، يخرج بها عن نطاق الصدقات ويجعلها حماقة وبلاهة. ورد ويكلف على الدعوة القائلة بأن الكنيسة الإنجليزية جزء من الكنيسة العالمية الكاثوليكية وإن من واجب الكنيسة الإنجليزية لهذا السبب أن تطيعها وتخضع لأوامرها، رد ويكلف على هذه الدعوة بأن أوصى باستقلال إنجلترا الكنسي وقال: "إن الدولة الإنجليزية، بنص الكتاب المقدس يجب أن تكون هيئة واحدة، وأن يكون رجال الدين، واللوردات، والسكان العاديون أعضاء في هذه الهيئة". وقد بلغت هذه الدعوة، التي استبق بها هنري الثامن من الجرأة حداً جعل مستشاري الملك يطلبون إلى ويكلف أن يمتنعون عن الإدلاء بآراء جديدة في هذا الموضوع.
وأجل البرلمان جلساته في يوم 8 نوفمبر. وفي الثامن عشر من ديسمبر نشر الأساقفة-وكانوا قد أعدوا العدة للقتال-قرارات التنفيذ التي أصدرها البابا، وأمروا مدير جامعة أكسفورد أن ينفذ أمر البابا القاضي باعتقال ويكلف. وكانت الجامعة وقتئذ في ذروة استقلالها العقلي، وكانت(22/69)
في عام 1322 قد اتخذت لنفسها حق خلع أي مدير لها لا ترضى عنه دون أن تأخذ في ذلك رأي أسقف لنكولن رئيسها الرسمي الأعلى، وكانت في عام 1367 قد نبذت كل ما كان للأساقفة من إشراف عليها. وأيد نصف كليات الجامعة حق ويكلف في أن يجهر برأيه على الأقل وأبى مدير الجامعة أن يطيع الأساقفة، وأنكر كل حق حبر من الأحبار على الجامعة في المسائل الخاصة بالعقائد، ولكنه أوصى ويكلف في الوقت نفسه بأن يبقى إلى حين في عزلة متواضعاً، غير أنه قلما يوجد بين المصلحين من يستطيع الصمت، ظهر ويكلف في شهر مارس من عام 1378 أمام مجلس الأساقفة في لامث ليدافع عن آرائهِ. ولما أوشك النقاش أن يبدأ تلقى كبير الأساقفة رسالة من والدة الملك إدوارد الثاني تستنكر فيه أي قرار نهائي بإدانة ويكلف، وبينما كانت إجراءات المحاكمة تجري في مجراها شق جمهور من الأهلين طريقه من الشارع إلى قاعة الاجتماع، وأعلن أن الشعب الإنجليزي لا يسمح بقيام أية محكمة للتفتيش في إنجلترا. وخضع الأساقفة لرأي الشعب المتفق مع رأي الحكومة وتأجل اتخاذ قرار وعاد ويكلف مرة أخرى إلى داره دون أن يصيبه أذى، بل إنه في الحق عاد ظافراً منتصراً. وتوفي جوريجوري الحادي عشر في السابع والعشرين من شهر مارس وحدث الانشقاق البابوي الذي قسم البابوية وأضعف سلطان الكنيسة بوجه عام. وعاد ويكلف إلى الهجوم، وأخذ يصدر المنشور تلو المنشور، وكان الكثير منها باللغة الإنجليزية، وكلها تزيد في مخالفته للكنيسة وثورته عليها.
والصورة التي يصور لنا بها تلك السنين هي صورة الرجل الذي أبهظ الجدل كاهله، وجعله كبير السن متزمتاً في آرائه الدينية. ولم يكن بالرجل المتصوف، بل كان إنساناً محارباً ومنظماً، ولعله قد ذهب بمنطقه إلى أبعد حدود التطرف، وأخذ وقتئذ يطلق العنان للقدح والطعن بلا حساب، يطعن على الإخوان الرهبان بسبب دعوتهم إلى التمسك بالتقى، في حين أنهم(22/70)
يجمعون المال ويكدسونه، وكان يرى أن بعض الأديرة إن هي إلا مأوى للصوص، وعششاً للأفاعي، وبيوتاً للأحياء من الشياطين"، وعارض النظرية القائلة بأن فضائل القديسين يمكن أن يستعان بها على إنقاذ الأرواح من المطهر، وقال إن المسيح والقديسين لم يأتوا إلى الناس بشيء من صكوك الغفران، "إن الأحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة أو وثائق المغفرة. وينهبون بذلك أموالهم لعنة الله عليهم .. وما أشد حماقة من يبتاعون هذه الصكوك بهذه الأثمان الغالية؟ وإذا كلن في مقدور البابا أن ينتزع الأرواح من المطهر، فلم لم ينتزعها منه على الفور عملاً بروح الإحسان المسيحية؟ وذهب ويكلف إلى أبعد من هذا في عنفه فقال إن "كثيرين من رجال الدين يدنسون أعراض الزوجات، والعذارى، والأرامل، والراهبات، بكل ضروب الفسق والفجور"، وطالب بأن يحاكم رجال الدين على جرائمهم أمام المحاكم المدنية غير الدينية، وهاجم الكهنة الذين يتملقون الأغنياء، ويزدرون الفقراء، والذين لا يترددون في أن يغفروا ذنوب الأثرياء، ولكنهم يحرمون الفقراء المدقعين من حظيرة الدين لأنهم لا يؤدون العشور للكنيسة، والذين يقضون أوقاتهم في صيد الحيوان والطير ولعب الميسر، ويقصون على الناس أنباء المعجزات الكاذبة. أما أحبار إنجلترا فقد اتهموا بأنهم "ينتزعون من الفقراء أرزاقهم، ولكنهم لا يقاومون الظلم" وبأنهم "يقدرون البنس العطن أكثر مما يقدرون دم المسيح الثمين". ولا يصلون إلا تظاهراً وادعاء ويأخذون الأجر عن كل صلاة دينية يقومون بها ويحيون حياة الترف، فيمتطون الجياد الثمينة، ذات السروج المصنوعة من الفضة والذهب"، وهم نهابون ... خبثاء، ثعالب ماكرة، ... وذئاب ناهشة .. نهمون شرهون .. شياطين .. قردة". وهو بهذه الأقوال يستبق لوثر في لغته "والاتجار بالمقدسات منتشر في جميع أقسام الكنيسة .. وأكثر ما ينتجه هذا الاتجار من الضرر اتجار كنيسة روما لأنه أوسع ضروب الاتجار انتشاراً، تحت ستار ادعاء من القداسة، ولأنه يحرم(22/71)
بلادنا من الرجال والمال أكثر مما يحرمها غيره". وأن ما هو قائم بين الباباوات "في انقسامهم" من تنازع شائن، تبادلهم الحرمان من حظيرة الدين، واقتتالهم على السلطان اقتتالا يجللهم العار" يجب أن يدفع الناس إلى ألا يؤمنوا بالباباوات إلا بقدر ما يتبع هؤلاء تعاليم المسيح"، إن مقام البابا والقسيس في مقام اللورد بل قل في مقام الملك"، في الشؤون الروحية، ولكنه إذا ما جمع لنفسه الأملاك الدنيوية، أو السلطة السياسية، أصبح غير خليق بمنصبه، إن المسيح لم يكن له مكان يريح فيه رأسه أما هذا البابا فيقول عنه الناس إنه يمتلك الإمبراطورية ... وكان المسيح وديعاً ... أما البابا فيجلس على عرشه، ويجعل الأعيان يقبلون قدميه". ثم يشير ويكلف إشارة رقيقة فيقول أن البابا هو عدو المسيح الذي تنبأت به الرسالة الأولى من رسائل الرسول يوحنا، وأنه الوحش الوارد ذكره في سفر الرؤيا، والذي ينبئ بعودة المسيح.
ويقول ويكلف أن هذه المشكلة لا تحل إلا بتجريد الكنيسة من كل الأملاك والسلطات المادية، ويقول أن المسيح وحوارييه قد عاشوا فقراء وأن من واجب القسيسين أن يعيشوا هم أيضاً فقراء، أما الرهبان والإخوان فيجب أن يعودوا إلى ما كانت عليهم قوانين طوائفهم، فيبتعدوا عن كل ملك وترف. والقساوسة "يجب أن يبتهجوا حين تنتزع منهم كل أسباب السيادة الزمنية"، ويجب أن يقنعوا بالطعام والكساء، وأن يعيشوا على الصدقات التي يقدمها الناس إليهم طائعين مختارين. وإذا لم يتخلَ رجال الدين عن ثروتهم ويعودوا باختيارهم إلى الفقر الذي أمرتهم به الشريعة المسيحية، وجب أن تتدخل الدولة فتصادر أملاكهم "ألا يصلح السادة والملوك من شأن رجال الدين، ويرغموا القساوسة على الاستمساك بالفقر الذي أمرهم به المسيح". ومن واجب الملك حين يفعل هذا ألا يخشى ما يصبه عليه البابا من اللعنات، لأن "اللعنة الصادرة من الآدمي أياً كان(22/72)
ليست لها قوة، إلا إذا كانت اللعنة صادرة من الله نفسه". والملوك مسئولون أمام الله وحده، وهم يستمدون سلطانهم منه. ويقول ويكلف في هذا إن الدولة يجب أن تعد نفسها ذات السلطان الأعلى في جميع الشؤون الزمنية، وأن عليها أن تستحوذ على جميع أملاك الكنيسة. بدل أن تقبل المبدأ الذي يقول به جريجوري السابع وبونيفاس الثامن وهو أن سلطة الحكومات الدنيوية يجب أن تخضع هي نفسها للكنيسة، وعلى هذا يجب أن يكون الملك هو الذي يرسم القساوسة.
وكانت سلطة القس تعتمد على حقه في أن يقدم العشاء الرباني، ولهذا ولى ويكلف وجهه نحو هذا القربان مستبقاً في ذلك ما قام به لوثر وكلفن استباقاً فيه كل معانيه، وأنكر ضرورة الاعتراف الجهري أمام القس، ونادى بالعودة إلى الاعتراف الاختياري العام الذي كان يفضله المسيحيون الأولون، ومن أقواله في هذا المعنى: "لا حاجة إلى الاعتراف السري أمام القساوسة .. فذلك اعتراف أدخله الشيطان أخيراً في الدين .. ذلك أن المسيح لم يكن يعمل به، كما لم يعمل به أحد من الحواريين من بعده. وبه استحال الناس الآن عبيداً لرجال الدين، وهو يستخدم الآن أسوأ استخدام للأغراض الاقتصادية والسياسية" و "بهذا الاعتراف السري يستطيع الراهب والراهبة أن يرتكبا الخطيئة معاً" وقد يكون في وسع الصالحين من غير رجال الدين أن يغفروا ذنوب الإثم خيراً مما يستطيع أن يغفرها له القساوسة الأشرار، ولكن الحق الذي لا ريب فيه أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب. ومن واجبنا أن نرتاب بوجه عام في صحة العشاء الرباني الذي يقدمه القس الآثم أو الخارج على الدين، كما أن القس، صالحاً كان، أو طالحاً، لا يستطيع أن يحيل الخبز المقدس إلى جسم المسيح ودمه. ولم يكن شيء يبدو أبشع في نظر ويكلف من تفكيره في أن بعض من يعرفهم من القساوسة يستطيعون أن يأتوا بهذه المعجزة التي هي من صنع الله وحده.(22/73)
وكان ويكلف ينكر فكرة التجسد كما ينكرها لوثر، ولكنه لم يكن ينكر حضور المسيح بحق ويقول أن المسيح كان يحضره حضوراً روحياً، حقيقياً، صادقاً، قوي الأثر، ولكن حضوره هذا كان مع الخبز والنبيذ اللذين لم ينعدم وجودهما كما تدعي الكنيسة. أما كيف يكون ذلك فهو سر غامض لم يحاول كلا الرجلين أن يفسره.
ولم يكن ويكلف يعترف بأن في هذه الأفكار خروجاً على الدين، ولكن فكرة "اتحاد الجوهر" روعت بعض أنصاره، فأسرع جون جونت إلى أكسفورد، وألح على صديقه ألا يذكر شيئاً آخر عن العشاء الرباني (1381)، ورفض ويكلف نصيحته، وعاد فأكد آراءه في اعتراف له أصدره بتاريخ 10 مايو 1381. واندلعت نيران ثورة اجتماعية في إنجلترا بعد شهر من ذلك التاريخ، ارتاع لها كل ذوي الأملاك، وجعلتهم يقاومون كل مذهب فيه خطر على الملكية أياً كان شكلها، كنيسة كانت أو علمانية. وخسر ويكلف إذ ذاك معظم ما كانت تنفحه به الحكومة من تأييد، وكان اغتيال سدبري كبير الأساقفة سبباً في ارتقاء الأسقف كورنتاي ألد أعدائه إلى منصب كبير أساقفة إنجلترا بدلاً منه. وظن كورتناي أنه إذا سمح لفكرة العشاء الرباني التي يقول بها ويكلف أن تنتشر، فإن انتشار سيقضي على منزلة رجال الدين، أي القضاء على أساس سلطة الكنيسة الأدبية والأخلاقية. ولهذا دعا في شهر مايو من عام 1381 مجلساً من رجال الدين ينعقد في دير بلاكفرايز في لندن. وأقنع كبير الأساقفة هذه الجمعية بأن تستنكر أربعة وعشرين من آراء ويكلف قرأها هو من مؤلفاته، ثم بعث بأمر عاجل إلى مدير جامعة أكسفور ليمنع مؤلف هذه الكتب من الاستمرار في التعليم أو الوعظ إلا بعد أن يثبت استمساكه بأصول الدين القويم. وأضاف الملك رتشارد الثاني إلى هذا أمراً أصدره إلى مدير الجامعة بأن يطرد منها ويكلف وجميع مؤيديه، وكان ذلك جزءاً من الخطة(22/74)
التي انتهجها لمقاومة الفتنة التي كادت تطوح به عن عرشه. فما كان من ويكلف إلا أن انسحب إلى أملاكه في لتر وورث، وكان لا يزال وهو فيها تحت حماية جون جونت على ما يبدو.
وارتبك ويكلف وتحير بما أبداه من إعجاب به القس جون بول زعيم الثورة، فأصدر عنه منشورات يتنحى فيها عن العصاة، ويبرأ فيها من كل آراء اشتراكية، ويحث أتباعه على الخضوع لسيادتهم من غير رجال الدين، وأن يصبروا ويصبروا وهم أقوى ما يكونون إيماناً بأنهم سينالون خير الجزاء بعد الموت. لكنه مع ذلك ظل يصدر المنشور تلو المنشور ضد الكنيسة، وأشأ طائفة من "القساوسة الوعاظ الفقراء" لينشروا إصلاحاته بين الشعب. وكان من هؤلاء "الأتباع" من لم يتلقوا من العلم إلا أقله، كما كان منهم رجال من جامعة أكسفورد، وكانوا جميعاً يرتدون أثواباً من الصوف الأسود ويمشون حفاة، كما كان يفعل "الإخوان" الأقدمون، كما كانوا كلهم تعمر قلوبهم حماسة الرجال الذين تكشفت لهم من جديد حقيقة المسيح. وكانت عقيدتهم المتأصلة في نفوسهم هي أن الكتاب المقدس لا يأتيه الباطل بخلاف تقاليد الكنيسة وعقائدها المعرضة للخطأ، وكانوا يصرون على أن يعظوا الناس بلغتهم القومية لا بالطقوس الغامضة التي تتلى عليهم بلغة أجنبية. وكتب ويكلف إلى هؤلاء القساوسة العلمانيين وإلى من يستمعون إليهم من المتعلمين بلغة إنجليزية سهلة قوية خالية من التنميق ثلاثمائة موعظة، وكثيراً من المقالات الدينية. وإذ كان يجث الناس إلى العودة إلى المسيحية كما جاءت في كتاب العهد الجديد، فقد شرع هو ومساعدوه يترجمون الكتاب المقدس ليكون هو المرشد الوحيد المنزه عن الخطأ إلى الدين الحق ولم يكن قد ترجم حتى ذلك الوقت (1381) إلا جزء قليل من الكتاب المقدس إلى اللغة للإنجليزية، وإن كانت ترجمة فرنسية منه كانت معروفة إلى الطبقات المتعلمة، وترجمة من اللغة الإنجليسكسونية، لا تفهمها إنجلترا(22/75)
في أيام ويكلف، قد وصلت إليها في عهد الملك الفرد. ووجدت الكنيسة أن الخارجين على الدين أمثال طائفة الولدرسيين يفيدون كثيراً من الكتاب المقدس، فأخذوا يثبطون عزيمتهم على قراءة التراجم غير المعترف بها، وأخذت تندد بما تتوقعه من فوضى في العقائد الدينية حين تعمد كل شيعة إلى ترجمة الكتاب المقدس لنفسها، وتلون تلك الترجمة بآرائها، وحين يكون كل قارئ حراً في أن يفسر نصوص الكتاب المقدس كما يشاء. ولكن ويكلف كان صادق العزيمة في أن يكون الكتاب المقدس في متناول كل إنجليزي يستطيع القراءة. ويلوح أنه هو نفسه قد ترجم أسفار العهد الجديد، وترك ترجمة العهد القديم لنقولاس هيرفور وجوبير وقد تمت هذه التراجم كلها بعد عشر سنين من موت ويكلف. وكان الأصل الذي ترجم الكتابان عنه هو ترجمة جيروم اللاتينية. لا الترجمة العبرية للعهد القديم أو اليونانية للعهد الجديد. ولم تكن الترجمة نموذجاً يحتذى في النثر الإنجليزي، لكنها كانت حدثاً خطيراً في التاريخ الإنجليزي.
ولما كان عام 1384 دعا البابا أربان السادس ويكلف للمثول بين يديه في روما. ولكن دعوة أخرى كانت ذات سلطان أكبر من سلطان دعوة أربان. ذلك أن المصلح المريض أصيب في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1384 بضربة شلل وقت أم كان يقوم بالقداس ثم وافته المنية بعد ثلاثة أيام من تلك الإصابة. ودفن في لثروت، لكن عظامه قد أخرجت من قبره بناءً على قرار من مجلس كنستانس (4 مايو سنة 1415) وألقيت في مجرى ماء قريب من هذا القبر. ودار البحث عن كتاباته وأبيد كل ما عثر عليه منها.
وكانت آراء ويكلف تحوي كل عناصر الإصلاح الكبيرة، تحوي انهماك رجال الدين في متاع الدنيا، والدعوة إلى إتباع قانون أخلاقي شديد صارم، والعودة من الكنيسة إلى ما جاء في الكتاب المقدس، ومن(22/76)
توما الأكيوني إلى أوغسطين، ومن حرية الإرادة إلى الجبرية، ومن النجاة عن طريق العمل الصالح إلى النجاة باختيار الرحمة الإلهية. وكانت هذه الآراء تحوي كذلك رفض صكوك الغفران، والاعتراف السري للقسيس، وعقيدة التجسد، وأن القس واسطة بين الله والعبد، وتحتج على إرسال الثروة القومية إلى روما، ودعوة الدولة إلى نبذ طاعة البابوية، والهجوم على أملاك رجال الدين (وبذلك مهد الطريق لهنري الثامن). ولو لم تقض الثورة الكبرى على حماية الحكومة لجهود ويكلف، لتأصل الإصلاح الديني وعلت قواعده في إنجلترا قبل أن تشب ثورة الإصلاح في ألمانيا بمائة وثلاثين عاماً.(22/77)
الفصل الثالث
الثورة الكبرى
1381
كان عدد سكان إنجلترا وويلز في عام 1307 يقدر تقديراً غير موثوق به بثلاثة ملايين من الأهلين، أي أنه قد ارتفع ارتفاعاً بطيئاً من 2. 500. 000 وهو ما كان يطن أنه عدد السكان سنة 1066 وهذان الرقمان يوحيان بأنه قد حدث تقدم بطئ أيضاً في الفنون الزراعية والصناعية-وتحديد قوي لعدد السكان بسبب القحط، والمرض والحروب-في جزيرة زراعية ضيقة الرقعة، لا ينتظر منها بمواردها الخاصة أن تعول عدداً كبيراً من الأهلين. وأكبر الظن أن ثلاث أرباع السكان كانوا من الزراع، وأن نصف هؤلاء السكان كانوا من أرقاء الأرض، وكانت إنجلترا من هذه الناحية متأخرة عن فرنسا بقرن من الزمان.
وكانت الفروق بين الطبقات أشد منها في أرض القارة الأوربية وبدا أن الحياة كانت ترتكز على نقطتين الأعيان الطيبين الراحمين أو المتغطرسين من جهة، والخدمات يؤديها الزراع يغلي في صدورهم الغضب أو يحدوهم الرجاء من جهة أخرى. وكان الأعيان سادة كل ما هو لهم والكثير مما يتجاوزوه، إذا استثنينا من ذلك ما عليهم للملك من واجبات محددة وكان لأدواق لانكستر، ونورفوك، وبكنجهام ضياع تنافي ضياع التاج، ولم يكن آل نيفيل وبيرسي قد فقدوا من ثروتهم إلا القليل الذي لا يكاد يذكر، وكان السيد الإقطاعي يحتم على الفرسان الذين يدينون له بالولاء وعلى أتباع هؤلاء أن يخدموه ويدافعون عنه، ويلبسوا ثياب زينته الخاصة. غير أنه كان في وسع الإنسان أن يرقى من طبقة إلى طبقة، وكان في مقدور(22/78)
ابنة تاجر ثري أن تحظى بزوج نبيل ولقب من ألقاب الشرف، ولو أن نشوس قد عاد إلى الحياة بعد موته لدهش إذ رأى أن حفيدته قد أصبحت دوقة وتصنعت الطبقات الوسطى ما استطاعت أن تتصنعه من عادات الأشراف، فبدأ أفرادها يخاطب بعضهم بعضاً في إنجلترا بلفظ سيد وفي فرنسا بلفظ Monsieur، وسرعان ما أصبح كل رجل في كلا البلدين سيداً كما أصبحت كل امرأة سيدة (1).
وكان تقدم الصناعة أسرع من تقدم الزراعة، فلم يحل عام 1300 حتى كادت جميع مناجم الفحم في إنجلترا تستغل، وحتى كان الحديد، والفضة، والرصاص، والقصدير يستخرج من باطن الأرض، وحتى كان تصدير المعادن من أهم الصادرات إلى البلدان الأجنبية، وكان من الأقوال التي تجري على الألسنة أن "قيمة المملكة في باطن الأرض أعظم منها في ظاهرها". وبدأت صناعة الصوف في ذلك القرن تزيد من ثراء إنجلترا فأخذ كبار الملاك ينتزعون الأرض شيئاً فشيئاً من المستأجرين وأرقاء الأرض الذين كانوا يستخدمونها في الزراعة ويحيلون أجزاء واسعة منها إلى مراعٍ لتربية الضأن إلا إن بيع الصوف كان يدر عليهم من المال أكثر مما يدره حرث الأرض، وأتى على تجار الصوف حين من الدهر كانوا فيه أغنى التجار في إنجلترا، وكان في مقدورهم أن يقدموا للملك إدوارد الثالث أموالاً طائلة في صورة ضرائب وقروض، ومع ذلك فقد عمل الملك على خرابهم. ذلك أن إدوارد الثالث قد ساءه أن يرى الصوف الغفل يخرج من إنجلترا ليغذي صناعة النسيج في فلاندرز، فأغرى النساجين بالمجيء إلى بريطانيا
_________
(1) إن هذا اللفظ ترجمة للفظ الإنجليزي. وهو مشتق من اللفظ الإنجليزي الفرنسي "ليفريه" أي التسليم، أو المنحة من طعام أو ثياب يعطيها السيد لمواليه. واتخذت الثياب على مر الزمن صورة حلة رسمية يلبسها أتباع السيد العظيم تفاخراً وأبهة. واتخذت نقابات الحرف هذه العادة، فكان أعضاؤها يلبسون الحلل المميزة لهم أثناء اجتماعاتهم واستعراضهم. وكانت هذه العادة من أسباب الزينة والمرح في "إنجلترا الطروب".(22/79)
(1311 وما بعدها)، وعمل الإنجليز بناء على إرشادهم على إقامة صناعة النسيج فيها، ثم حرم تصدير الصوف واستيراد معظم الأقمشة الأجنبية، ولم ينته القرن الرابع عشر حتى أصبحت صناعة النسيج لا تجارة الصوف أهم مصادر الثروة السائلة في إنجلترا وحتى وصلت إلى مرحلة قريبة من الصناعات الرأسمالية.
وكانت الصناعة الجديدة تتطلب التعاون التام بين عدة حرف-النسيج، والتقصير، والتمشيط، والصباغة، والصق، لم يكن في وسع نقابات الحرف القديمة أن تنظم ما يحتاج إليه الإنتاج الاقتصادي من تعاون، فعمل أصحاب المشروعات الكبرى على جميع الأخصائيين المختلفين من العمال في منظمة واحدة، يشرفون عليها ويمدونها بالمال. على أنه لم يقم في هذه البلاد نظام للمصانع كالذي كان قائماً في فلورنس وفلاندرز، بل ظل معظم العمل يتم في حوانيت صغيرة على يد معلم كبير، وصبيانه، وعدد قليل من البائعين المتجولين، أو يتم في مصانع ريفية صغيرة تدار بقوة الماء، أو في بيوت ريفية حيث كانت الأصابع الدائبة الكادحة تدير الأنوال إذا أتاحت لها أعمالها المنزلية الرتيبة فسحة من الوقت. وقاومت نقابات الحرف النظام الجديد بالإضراب ولكن تفوقه في الإنتاج تغلب على كل ضروب المقاومة، وأصبح العمال الذين ينافسون الصناعات الجديدة في بيع نتائج كدحهم وحذقهم تحت رحمة الذين يمدون هذه الصناعات برؤوس الأموال وبالمدربين، وازدادت سيطرتها عليهم شيئاً فشيئاً وأصبح الكادحون في المدن "لا يدخرون شيئاً لغدهم .. وملابسهم رثة، وبيوتهم قذرة .. يجدون كفايتهم من العيش في أوقات الرخاء، ولكنهم لا يجدون ما يقيم أودهم في أيام الشدة".
وكان جميع الذكور من سكان المدن في إنجلترا معرضين لأن يجندوا للعمل في الأعمال العامة، ولكن كان في وسع الأغنياء منهم أن يشتروا أنفسهم بالمال. وكان الأهلون بوجه عام يعيشون في فقر مدقع، وإن لم يبلغ(22/80)
فقرهم في أغلب الظن من الشدة ما كان عليه في أوائل القرن التاسع عشر، وكان المتسولون في البلاد كثيرون، وقد نظموا أنفسهم تنظيماً يقصد به حماية مهنتهم وحكمها، وكانت الكنائس، والأديرة، ونقابات الحرف تقدم قليلاً من الصدقات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وفاجأ البلاد-وهذه حلها-الوباء المعروف في الموت الأسود، ولم يكن هذا الوباء كارثة حلت بها فحسب، بل كاد يكون ثورة اقتصادية. ذلك أن سكان إنجلترا كانوا يعيشون في جو يصلح للزراعة والإنبات ولكنه يضر بالصحة فقد كانت الحقول خضراء طوال أيام السنة، ولكن الأهلين كانوا يقاسون آلام النقرس، والروماتزم، والربو، وعرق النسا، وذات الرئة، والاستسقاء، وأمراض العين والجلد. وكانت الطبقات كلها تتخم معدتها بالطعام (إن وجدته) وتدفئ أجسامها بالمشروبات الكحولية. وقد وصفهم رتشارد رول في عام 1340 بقوله: "قلما يصل الآن أحد منهم إلى سن الأربعين، وأقل من تلك القلة من يصل إلى سن الخمسين". وكانت النظم الصحية العامة بدائية، فكانت روائع المدابغ العامة، وحظائر الخنازير، والمراحيض تفسد الهواء، وكان الأثرياء وحدهم هم الذين يحصلون على الماء الجاري من أنابيب تمتد إلى بيوتهم، أما كثرة السكان فكانوا ينقلونه من القنوات المغطاة أو من الآبار، وكان أثمن من أن يضيعوه في الاستحمام كل أسبوع. ولهذا كله كانت الطبقات الدنيا ضحايا سهلة للأوبئة التي كانت تفتك بالأهلين من حين إلى حين من ذلك أن الطاعون الدملي انتقل في عام 1349 من نورماندي إلى إنجلترا وويلز ثم انتقل بعد عام من ذلك الوقت إلى اسكتلندة وايرلندة، ثم عاد إلى إنجلترا في أعوام 1361، 1368، 1375، 1382، 1390، 1438، 1464، وقضى في هذه السنين كلها على ثلث سكان البلاد، وهلك فيه ما يقرب من نصف رجال الدين، ولعل بعض المساوئ التي شكت منها الكنيسة(22/81)
الإنجليزية فيما بعد ترجع إلى اضطرارها إلى حشد رجال في خدمتها حشداً سريعاً، وكانت تنقصهم الكفايات التي ينتجها التدريب والخلق القويم، وكان لهذه الظروف أسوأ الأثر في الفن، وتوقف بناء الكنائس أو كاد نحو جيل من الرومان، وفسدت الأخلاق، وانحلت روابط الأسر، وطغت العلاقات الجنسية على القيود التي حاول نظام الزواج أن يقيدها بها مراعاة لمصلحة النظام الاجتماعي، ولم تجد القوانين مشرفين ينفذونها، وكثيراً ما يتجاهلونها.
وتعاون الطاعون مع الحرب للتعجيل باضمحلال النظام الإقطاعي، فقد هجر كثيرون من الزراع الأراضي التي كانوا يستأجرونها ونزحوا إلى المدن بعد أن فقدوا أبناءهم وغيرهم ممن كانوا يساعدونهم في فلاحتها، واضطر الملاك إلى أن يستأجروا عمالاً أحراراً، يؤدون لهم ضعفي ما كانوا يؤدونه قبل من الأجور، وأن يغروا عندهم مستأجرين بشروط خير من الشروط السابقة، وأن يستبدلوا بالمال الخدمات الإقطاعية. وإذ كان الملاك أنفسهم قد اضطروا إلى ابتياع كل ما يشترونه بأثمان عالية، فقد اضطروا إلى أن يطلبوا إلى الحكومة أن تتدخل لتثبيت موازنة الأجور. واستجاب المجلس الملكي إلى هذا الطلب بأمر أهم ما جاء فيه:
لما كان قسم كبير من أفراد الشعب وبخاصة طبقة العمال والخدم قد ماتوا أخيراً بسبب الوباء ... ولما كان الكثيرون يرفضون العمل إلا في نظير أجور باهظة، بل إن بعضهم يفضلون التوسل والتعطل على العمل لكسب أقواتهم، فقد نظرنا نحن فيما قد يحدث فيما بعد من اضطراب مخزن من نقص في الأيدي العاملة وبخاصة بين العمال والفلاحين، وبعد مناقشة هذه المسائل، اتفقنا مع كبار رجال الدين وأعيان البلاد، ورجال العلم واستعنا بهم وتبادلنا وإياهم المشورة أمرنا بما هو آت:
1 - كل شخص صحيح الجسم تقل سنة عن ستين عاماً، وليست له(22/82)
(وسيلة) للعيش، وإذا طلب إليه (شخص آخر أن يعمل) يجب عليه أن يقوم بخدمة من يطلب ذلك إليه، وإلا زج به في السجن حتى يقدم من يضمن قيامه بالعمل.
2 - إذا غادر الخدمة عامل أو خادم قبل الوقت المتفق عليه، حكم عليه بالسجن.
3 - لا يعطى الخادم إلا الأجور القديمة لا أكثر منها.
4 - إذا تقاضى صانع أو عامل أجراً يزيد على ما كان يتقاضاه عادة زج به في السجن.
5 - يجب أن تباع مواد الطعام بأسعار معقولة.
6 - ليس لإنسان أن يعطى شيئاً لمتسول يستطيع العمل.
لكن العمال وأصحاب الأعمال أهملوا هذا القرار إهمالاً واسعاً اضطر معه البرلمان أن يصدر (في التاسع من فبراير سنة 1351 ("قانون العمال" الذي ينص على ألا تزيد الأجور على ما كانت عليه في عام 1346، والذي حدد أثمان عدد كبير من السلع والخدمات وقرر وجوب استخدام الآلات. ثم صدر قانون آخر في عام 1360 ينص على جواز إرغام الزراع الذين يتركون الأرض التي تعاقدوا على زراعتها أو استئجارها قبل انتهاء الموعد المحدد للعقود أو الإيجار على العودة إليها، كما ينص على أن لقضاء الصلح إذا شاءوا أن يسموا هؤلاء المخالفين على جباههم. واتخذت فيما بين عامي 1377، 1381 إجراءات أخرى مختلفة في قسوتها، ولكن الأجور ارتفعت على الرغم من هذه القوانين والقرارات، غير أن الأحقاد التي ولدتها هذه الأعمال في صدور العمال ورجال الحكم أثارت النزاع بين الطبقات وكانت سلاحاً جديداً في أيدي دعاة الفتنة.
وكان للثورة التي تأجج لهيبها على أثر هذه الحوادث أكثر من عشرة مصادر، فقد أخذ الزراع الذين كانوا لا يزالون من أرقاء الأرض يطالبون(22/83)
بحريتهم، وطالب المستأجرون بأن يحددوا إيجار الأرض بأربعة بنسات (1. 67 دولار) للفدان الواحد في السنة. وكانت بعض البلدان لا تزال خاضعة للسادة الإقطاعيين، وكانت هذه تتوق إلى أن تتمتع بالحكم الذاتي، وكان العمال في البيئات المحررة يكرهون الأقلية الغنية من التجار، كما كان التجار المتنقلون يتذمرون من فقرهم وعدم اطمئنانهم على مصادر رزقهم. وكان الزراع في الريف، والعمال في المدن، بل كان قساوسة الأبرشيات أنفسهم-كانوا هؤلاء جميعاً ينددون بسوء الحكم في السنين الأخيرة من عهد إدوارد الثالث، والسنين الأولى من عهد رتشارد الثاني، ويتساءلون لم توالت الهزائم على الجيوش الإنجليز بعد عام 1369، ولم تجن الضرائب الفادحة لتميل هذه الهزائم نفسها. وكان أشد حقدهم ينصب على سدبري كبير الأساقفة وعلى روبرت هاليز وهما كبيرا وزراء الملك الشاب وجون جونت ويتهمونهم بأنهم أنصار الفساد والعجز في دوائر الحكومة وأجدر من يجب أن توجه إليهم التهم.
ولم يكن لواعظ اللورد (أتباع ويكلف) إلا أقل صلة بهذه الحركة، ولكن نصيبهم كان هو تهيئة الأذهان للثورة، فقد كان جون بول زعيمها الفعلي يكرر أقوال ويكلف ويحبذها، وكان وات تيلر يطالب كما كان يطالب ويكلف بالاستيلاء على أملاك الكنيسة. وكان بول، "قس كنت المجنون" (كما كان يلقبه فرواسار)، يعلم الشيوعية لجماعة المصلين معه، وقد صدر قرار بحرمانه من حظيرة الدين في عام 1366. فأصبح بعدئذ واعظاً جائلاً يندد بالمال الحرام الذي جمعه الأحبار والأعيان، ويطالب بعودة رجال الدين إلى الفقر الذي يدعو إليها الإنجيل ويسخر من الباباوات المتنافسين الذين كانوا بانشقاقهم يقتسمون ثياب المسيح. وتعزو إليه الرواية المتواترة ذلك البيت المشهور:
حيث كان آدم يحفر وكانت حواء تقيس(22/84)
من كان وقتئذ السيد العظيم
أي حيث كان آدم يحفر الأرض وحواء تعمل على النول، هل كان في الجنة أقوام مقسمون طبقات، وكان فرواسار ينقا الآراء المعزوة إلى بول في طول يد على شدة عطفه عليها، وإن كان في الوقت نفسه محباً لطبقة الأشراف البريطانيين:
أصدقائي الأعزاء إن الأمور لا تستطيع أن تسير في إنجلترا سيراً حسناً حتى يصبح كل شيء مشاعاً، وحتى لا يكون في البلاد سادة ولا أتباع، وحتى لا يكون الملاك سادة إلا بقدر ما نكون نحن، ألا ما أسوأ ما يعاملوننا به. ولأي سبب يتحكمون فينا ويسترقوننا هذا الاستراق؟ ألسنا جميعاً أبناء آدم وحواء؟ وأي شيء يستطيعون أن يظهروه لنا ليسودوا به علينا؟ ... إنهم ليسموننا عبيداً، وإذا لم نقم بخدمتهم ضربونا بالسياط .. فلنذهب إلى الملك ونحتج إليه، فهو شاب وفي مقدورنا أن نحصل منه على جواب فيه الخير لنا، فإذا لم نحصل عليه فلنعمل بأنفسنا لإصلاح أمورنا (1).
وقبض على "بول" ثلاث مرات وكان في السجن عندما اندلعت الثورة. وبلغ السخط مداه بضريبة الرؤوس التي فرضت عام 1380، وأشرفت الحكومة على الإفلاس، وكادت تخسر جواهر الملك المخزونة، وألحت الحرب في فرنسا مطالبة بأموال جديدة. ففرضت على الشعب ضريبة مقدارها 100. 000 جنيه تجبى من كل نفس تناهز الخامسة عشرة من العمر. واتخذت عناصر الثورة المفرقة بهذه الضريبة الجديدة. وتنكب آلاف الناس طريق الحياة، وكانت حصيلة الضريبة أقل من المطلوب بكثير .. وأرسلت الحكومة مندوبين آخرين للكشف عن الممتنعين عن دفع الضريبة فجمع العامة قواهم متحدين إياهم، ورجموا عملاء الملك إلى خارج مدينة برنتود عام (1381)، وحدث مثل ذلك في مدن فوينج
_________
(1) إلى هنا أنتهت ترجمة المرحوم الأستاذ محمد بدران.(22/85)
دكورنجهام وسنت الينز. وعقدت اجتماعات شعبية للاحتجاج على الضريبة في لندن، وأرسل المجتمعون إلى الثائرين في الريف يشجعونهم ويدعونهم أن ينضموا إلى الثائرين في العاصمة وبذلك يرغمون الملك على ألا يكون هناك رقيق في إنجلترا.
ولقي فريق من الجباة عند دخولهم مدينة كنت مقاومة عارمة، وفي السادس من يونية سنة 1381، حطم جماعة من الغوغاء غياهب السجن في دوشستر، وأطلقوا سراح المسجونين، ونهبوا القلعة. وانتخبوا الثوار في اليوم التالي وات تيلر قائداً لهم. ولا يعرف شيء عن ماضيه قبل ذلك، ومن الواضح أنه كان جندياً مسرحاً، لأنه نظم الجمع المشتت للقيام بعمل موحد، واكتسب طاعته السريعة لأوامره.
وفي الثامن من يونية هاجم الجمع الهائج دور المبغضين إليه من الإقطاعيين والمحامين وموظفي الحكومة، وقد تسلح بالقسى والسهام والهراوات والفؤوس والسيوف، وتلقى مدداً من المتطوعين من جميع قرى كنت تقريباً. وفي اليوم العاشر دخل هذا الجمع مدينة كانتر بري فرحب به أهلها ونهب قصر سدبري كبير الأساقفة، وفتح أبواب السجن، وانتهب دور الأغنياء. وهكذا انظم سكان الجانب الشرقي من كنت بأسره إلى الثورة، وأخذت المدن تنضوي تحت لواء الثورة، واحدة بعد أخرى، وبادر الموظفون المحليون إلى الفرار من وجه العاصمة .. ولجأ الأغنياء إلى مناطق أخرى من إنجلترا، أو اختبئوا في أماكن بعيدة عن طريق الثائرين، أو تجنبوا الأخطار الأخرى بتقديم المساعدة بصورة ما إلى الثورة.
وفي اليوم التالي وجه تيلر جيشه إلى لندن. فلما بلغ مدلستون أفرج عن "جون بول" فانظم إلى فريق الفرسان وأخذ يقدم إليه عظاته كل يوم وقال الآن يبدأ حكم الديمقراطية الذي طالما حلم به ودافع عنه، وتزول جميع الفوارق الاجتماعية، ولن يكون هناك بع الآن أغنياء وفقراء، إقطاعيون وعبيد، بل يكون كل إنسان ملكاً في ذاته (61).(22/86)
ونشبت في الوقت نفسه ثورات مماثلة في نورفولك وسفولك وبيفرلي وبردجوتر وكمبردج واسكس ويدلسكس وستسكس وهرتفورد وسومرست وجز الشعب في يوري سانت ادموند رأس كبير الرهبان وهو الذي حافظ بصلابته على حقول الدير الإقطاعية على المدينة. وقتل المتمرد لشستر عدداً من التجار الفلورنسيين، وظناً منهم أنهم يقطعون الطريق على التجارة البريطانية. وأتلفوا ما وقع تحت أيديهم من الأضابير والعقود أو الوثائق التي تسجل الملكية الإقطاعية أو العبودية، وهكذا أحرق الأهالي في كمبردج وثائق الجامعة، وألقوا في مدينة ولدام كل وثيقة في محفوظات الدير طعمة للنيران.
وفي الحادي عشر من يونية أشرف جيش الثوار الذي نصفه من اسكس وهرتفورد على الضواحي الشمالية لمدينة لندن، وفي الثاني عشر بلغ ثوار كنت مدينة سوزوارك، على الشاطئ الثاني من التيمز مباشرة. ولم يبدأ أنصار الملك مقاومة منظمة واختبأ رتشارد الثاني وسدبري وهيلز في الحصن. وبعث تيلر إلى الملك يطلب مقابلته ورفض طلبه. وأغلق وليام ولورث عمدة لندن أبواب المدينة، ولكن الثوار في داخلها أعادوا فتحها. وفي الثالث عشر رحب الشعب بقوات كنت التي دخلت العاصمة فانظم إليها آلاف العمال. وأمسك تيلر بزمام جموعه في حزم، ولكنه هدأ من ثورتها بأن سمح لها أن تحاصر قصر جون اف جونت. فلم يسرق منه شيء، وقتلت الجماهير شخصاً من المتمردين حاول أن يسرق كأساً من الفضة. بيد أن كل شيء قد دمر، وألقي بالأثاث الفاخر من النوافذ، ومزقت الستائر النفيسة خرقاً، وسحقت الجواهر سحقاً، وأتت النيران على القصر كله، وتناست الجموع بعض المتمردين الذين استبد بهم الطرب وسكروا حتى غابوا عن الوعي في أقبية فذهبوا طعمة للنيران. ثم تحول الجيش بعد ذلك إلى تمبل، وهي قلعة رجال القانون في إنجلترا، وتذكر الفلاحون أن هؤلاء(22/87)
الفقهاء هم الذين صاغوا صكوك عبوديتهم، أو صادروا ممتلكاتهم في مقابل الضرائب، فوضعوا هناك أيضاً محرقة تلتهم الوثائق، وأشعلوا النيران في المباني حتى أتت عليها. وقوض السجن في نيوجيت كما دمر الأسطول. وانظم المسجونون السعداء إلى الغوغاء، وألح التعب على الجموع من الجهود المضنية التي بذلتها لتجمع انتقام قرن كامل في يوم واحد فرقدت في ظاهر المدينة ونامت.
وفي المساء رأى مجلس الملك أن يسمح له بالحديث مع تيلر وهو خير من الرفض على كل حال. وأرسل دعوة إلى تيلر وأتباعه لمقابلة رتشارد في الصباح التالي في ضاحية شمالية تُعرف بـ"مايل اند". وبعد بزوغ الفجر من اليوم الرابع عشر من يونية، ركب الملك، وكان في الرابعة عشرة من عمره، إنقاذاً لحياته، فخرج من القلعة يصحبه جميع مستشاريه ما عدا سدبري وهيلز الذين خافا أن تتعرض حياتهما للخطر. وشقت الجماعة الصغيرة طريقها وسط الجماهير المعادية إلى مايل اند، حيث تجمع الثائرون من اسكس، وتبعهم فريق من جيش كنت على رأسه تيلر الذي أدهشه استعداد رتشارد للاستجابة لجميع المطالب. وهي أن تلغى العبودية في كل أنحاء إنجلترا، وتزول جميع الأعباء والخدمات الإقطاعية، وتحدد قيمة إيجار العقار كما طلب المؤجرون، ويعلن عفو عن جميع الذين اشتركوا في الثورة. وبادر ثلاثون من الكتاب في صياغة مواثيق الحرية والعفو لجميع المناطق التي ثار أهلوها. وبيد أن الملك رفض مطلباً واحداً، وهو أن يسلم للشعب وزراءه وغيرهم من الخونة. وأجاب رتشارد بأن جميع الأشخاص المتهمين بإساءة استعمال السلطة سيحاكمون طبقاً للإجراءات التي ينظمها القانون، ويعاقبون إذا ثبت أدانتهم.
ولما لم يقنع تيلر بهذه الإجابة، ركب في فرقة مختارة من رجاله واتجهوا مسرعين إلى القلعة فوجدوا سدبري يرتل القداس في الكنيسة. فسحبوه(22/88)
إلى الفناء وبسطوه على الأرض ورقبته على كتلة من الخشب. ولم يكن جلاده حاذقاً، ففصل رأسه عن جسده بثماني ضربات من الفأس. ثم جز المتمردون رأس هيلز واثنين آخرين. وثبتوا على رأس كبير الأساقفة تاجه بمسمار نفذ من الجمجمة، ووضعوا الرؤوس على أسنة الرماح، وساروا بها في أنحاء المدينة، ثم علقوها على باب جسر لندن وانقضى ما بقي من ذلك النهار في سفك الدماء. وطالب تجار لندن، الذين أبو المنافسة الفلمنكية الجماهير أن تقتل كل فلمنكي تجده في العاصمة. وكان يقدم إلى المشكوك في جنسيته الخبز والجبن، ويطلب إليه أن يسميهما، فإن نطق اسميهما بلهجة فلمنكية دفع حياته ثمناً لذلك. وقتل في ذلك اليوم نيف ومائة وخمسون من التجار وأصحاب المصارف الغرباء في مدينة لندن وسقط كثير من رجال القانون الإنجليز، وجباة الضرائب وأنصار جون أف جونت بضربات الفؤوس في ثورة انتقامية لا تميز بين مذنب وبرئ. وقتل الصبيان في مختلف المهن والصناعات معلميهم والمدينون دائنيهم. وحتى إذا جاء منتصف الليل انسحب المنتصرون لينعموا بالراحة مرة أخرى بعد أن أشبعوا نهمهم.
وأبلغ الملك بهذه الأحداث فعاد أدراجه إلى مايل اند، ولم يتجه إلى البرج، بل إلى جناح والدته بالقرب من كنيسة سانت بول وقفل في الوقت نفسه عدد كبير من فرق اسكس وهرتفورد راجعين إلى ديارهم، ابتهاجاً بالمواثيق التي سجلت حريتهم. وفي الخامس عشر من يونية بعث الملك رسالة مهذبة، إلى فلول الثوار، يطلب إليهم في ظاهرة شمثفيلد خارج الدرجيت. ووافق تيلر على ذلك ولما كان رتشارد يخاف على حياته فقد قام بالاعتراف وتناول الأسرار المقدسة قبل الموعد المضروب، ثم ركب في حاشية تتألف من مائتي رجل أخفوا سيوفهم تحت أرديتهم غير العسكرية. وتوجه تيلر إلى شمنفيلد ولم يكن معه غير رفيق واحد يحرسه. وتقدم بمطالب جديدة غير معروفة على التحقيق ويبدو أنها كانت تتضمن مصادرة أملاك(22/89)
الكنيسة وتوزيع دخلها على الشعب. وأعقب ذلك نزاع، فقد وصف أحد حاشية الملك، تيلر بأنه لص فأمر تيلر مساعده، بقته فوقف العمدة ولورث في الطريق فما كان من تيلر إلا أن طعن ولورث الذي أنقذه الدرع المستور تحت عباءته وطعن ولورث بخنجره تيلر وأنفذ أحد سراة رتشارد سيفه في تيلر مرتين فعاد تيلر إلى رجاله صائحاً الخيانة، وسقط ميتاً عند أقدامهم فذهلوا من هذه الخيانة المفضوحة وأعدوا سهامهم وتأهبوا لإطلاقها. ومع أن عددهم كان قد أخذ في النقصان إلا أنهم ظلوا قوة لا يستهان بها وقد أحصاهم فروسافرت بعشرين ألف رجل من المحتمل أنهم كانوا يستطيعون الإحداق بحاشية الملك. ولكن رتشارد خرج إليهم في شجاعة وهو يصيح "أيها السادة، أتقتلون مليككم؟ سأكون رئيسكم وقائدكم، وستنالون مني ما تطلبون. وليس عليكم إلا أن تتبعوني إلى الحقول بعيداً " ومضى غير واثق أوعوا كلامه؟ أيتركونه حياً؟ وتردد الثوار. ثم اتبعوه واختلط معظم الحرس الملكي بهم.
أما ولورث فقد ركض بفرسه عائداً إلى المدينة، وأصدر أوامره إلى شيوخ النواحي الأربع والعشرين أن ينضموا إليه بكل القوات المسلحة التي يستطيعون حشدها. وكان كثيرون من المواطنين الذين عطفوا على الثورة أول الأمر قد أخذوا يحسون القلق من جراء أعمال القتال والتخريب، وشعر كل امرئ، يمتلك عقاراً أن أملاكه وحياته في خطر، وهكذا وجد العمدة لفوره جيشاً تحت إمرته يتألف من سبعة آلاف رجل كأنما انشقت عنهم الأرض. فعاد بهم إلى شمثفيلد، وهناك لحق بهم الملك وأحاط به، وعرض عليه أن يعمل السيف في الثائرين. فأبى رتشارد، فهم الذين وهبوا له الحياة عندما كان تحت رحمتهم، وهو لا يريد أن يبدو أقل منهم كرماً وقد أعلن إليهم أنهم أصبحوا أحراراً يستطيعون أن يرحلوا بسلام. وسرعان ما انقشع الذين بقوا من ثوار اسكس وهرتفورد، واختفى عصاة لندن(22/90)
في ديارهم، ولم تبق إلا ثلة كنت فاعترض رجال ولورث المسلحون، طريقهم إلى داخل المدينة ولكن رتشارد أمر أن لا يمسهم أحد بسوء، فتركوا المدينة آمنين، ثم اضطرب نظامهم ثانية على طول طريق كنت القديم. وعاد الملك إلى والدته، التي رحبت به ودموع الفرحة بسلامته في عينيها. وقالت: "آه، يا بني الصحيح، كم تحملت من الألم والعذاب من أجلك اليوم. "فأجاب الصبي": حقاً يا سيدتي أنني أحس ذلك جيداً، ولكن عليك الآن أن تبتهجي وتحمدي الله، لأنني اليوم استعدت ميراثي وكان مفقوداً، واستعدت ملك إنجلترا أيضاً (63).
وأصدر رتشارد في اليوم نفسه وهو الخامس عشر من يونية-وربما كان ذلك بتأثير العمدة الذي أنقذه-قراراً، ينفي من لندن، كل امرئ لم يقض فيها السنة الماضية بأسرها وإلا تعرض للموت صبراً. وأخذ ولورث وجنوده يفتشون في الطرقات والمساكن عن الغرباء، وقبضوا على كثيرين وقتلوا البعض .. وكان بينهم رجل يدعى ستروا، اعترف، تحت وطأة التعذيب من غير شك، أن رجال كنت رسموا خطتهم لينصبوا تيلر ملكاً. وجاء في الوقت نفسه وفد من ثواراسكس إلى ولتام وطلبوا من الملك تصديقاً رسمياً للوعود التي قطعها على نفسه في الرابع عشر من يونية. فأجاب رتشارد بأن هذه الوعود قد صدرت بالإكراه، وليس في نيته أن يبقي عليها، وأخبرهم بنقيض ما توقعوا "لا تزالون أوغاداً، وستظلون أوغاداً"، وتوعد بالانتقام الرهيب من كل رجل يظل على عصيانه المسلح (64). ودعا المندوبون الناخبون أتباعهم أن بعثوا الثورة من جديد، فاستجاب البعض بيد أن رجال ولورث أبادوهم في مذبحة هائلة في الثامن والعشرين من يونية.
وألغى الملك المغيظ الحانق في الثاني من يولية جميع المواثيق وعهود الأمان التي أصدرها إبان الثورة، ومهد الطريق إلى تحقيق قضائي عن هوية(22/91)
زعماء الفتنة وأعمالهم. فقبض على المئات، وحوكموا، وقتل مائة وعشرة أو اكثر. واعتقل جون بول في كفنتري، فاعترف جريئاً بدوره القيادي في الثورة، ورفض أن يطلب العفو من الملك. فشنق، وسحل، وقطعت جثته أربعة، ووضعت رأسه مع رأس تيلر وجاك سترو في مكان رأسي سديري وهيلز لتزين جسر لندن. وفي الثالث عشر من نوفمبر عرض رتشارد على البرلمان تقريراً عن أعماله، وقال، إذا كان المجتمعون من الأساقفة والأعيان والعامة يرغبون في تحرير رقيق الأرض، فإنه يرغب في ذلك أيضاً. ولكن كان جلهم من أصحاب الأراضي، الذين لا يستطيعون أن يقبلوا حق الملك في تجريدهم من أملاكهم، وكانت نتيجة التصويت وجوب الإبقاء على جميع العلاقات الإقطاعية" (65). وعاد الفلاحون المنهزمون إلى محاريثهم، والعمال المنحوسون إلى مغازلهم.
1 - الأدب الجديد
كادت اللغة الإنجليزية تصبح، بعد أن مرت بمراحل بطيئة، وسيلة ملائمة للأدب. فقد أوقف الغزو النورمندي عام 1066، تطور اللغة الانجلوساكسونية إلى الإنجليزية، وظلت الفرنسية هي اللغة الرسمية للمملكة فترة من الزمان. ونشأت بالتدريج مفردات ولهجة جديدة، أساسها ألماني، يخالطها وتزينها كلمات وصيغ غالية. ولعل الحرب الطويلة مع فرنسا قد حفزت الأمة إلى أن تتمرد على السيطرة اللغوية لعدوها. فأعلن عام 1361 أن الإنجليزية هي لغة القانون والمحاكم، واستحدث حامل أختام الملك سابقة دستورية عام 1363 بافتتاحه البرلمان بخطية إنجليزية. وظل العلماء والمؤرخون والفلاسفة (إلى عهد فرنسيس بيكون) يكتبون باللغة اللاتينية لتصل كتاباتهم إلى قراء من دول مختلفة، بيد أن الشعراء ومؤلفي المسرحيات أنشئوا من ذلك بلغة إنجلترا.(22/92)
وأقدم مسرحية باقية بالإنجليزية "من مسرحيات الخوارق"-هي عرض درامي لقصة دينية-أخرجت في مدلاندز. حوالي عام 1350 بعنوان القضاء على الجحيم، وقد مثلت مفاخرة بين الشيطان والمسيح عند مدخل الجحيم وأصبح مألوفاً في القرن الرابع عشر بين نقابات كل مدينة أن تعرض حلقة من مسرحيات الخوارق، بأن تعد النقابة مشهداً، من الكتاب المقدس عادة، وتنقل الممثلين والمعدات في سفينة، وتؤدي المشاهد على مسارح مؤقتة تشيد في الساحات الشعبية في للمدينة، وتعرض نقابات أخرى في الأيام التالية ما يليها من المشاهد من قصص الكتاب المقدس نفسه. وأقدم ما يعرف الآن من هذه الحلقات هي خوارق شستر، التي مثلت عام 1328، حتى إذا جاء عام 1400 عرضت حلقات مشابهة في يورك وبيفولي وكمبردج وكفنتري وريكفيلد ولندن ولقد أثمرت الخوارق اللاتينية، في فترة مبكرة ترجع إلى عام 1182، نوعاً جديداً أطلق عليه "المعجزة" التي تدور حول كرامات بعض القديسين وآلامهم وظهر حوالي عام 1378 نوع آخر-هو المسرحية الأخلاقية-يبرز مغزى أخلاقياً، بتمثيل إحدى الحكايات، لا بما بلغ هذا القالب ذاته في مسرحية "كل إنسان" (1480). ونحن نسمع في فترة مبكرة من القرن الخامس عشر عن قالب مسرحي آخر، أقد عهداً بلا شك وهو "الفاصل" ولم يكن تمثيلية بين تمثيليات، ولكنه عرضاُ يقوم به ممثلان أو أكثر ولا ينحصر موضوعه في الدين أو الأخلاق، وربما كان دنيوياً مرحاً مسفاً مفحشاً. ومثلت فرق من المنشدين الجوالين هذه الفواصل في أبهاء قصور الأمراء أو دور النقابات، وساحات المدن والقرى، أو فناء إحدى الحانات. وأنشأت اكستر عام 1348 أول دار إنجليزية معروفة للتمثيل، هي أول مبنى أوربي وقف على العرض المسرحي وحصص له منذ المنشآت الرومانية الكلاسيكية ولعل الكوميديات قد نشأت عن هذه الفواصل، أما تراجيديات المسرح الاليزابيثي الخصب فلعلها نشأت عن الخوارق والأخلاقيات.(22/93)
وأول قصيدة عظيمة- هي من أعجب وأقوى القصائد-في اللغة الإنجليزية هي الموسومة بعنوان "رؤيا وليام المتعلقة ببترز الحراث". ولا يعرف عن مؤلفها شيء إلا ما يستشف من قصيدته، ونحن إذا افترضنا أنها سيرة ذاتية، فإننا نستطيع أن نسمه وليام لانجلاند ونجعل مولده من عام 1332. ولعله شغل مراتب كنيسة دنيا، ولم يصبح قط قسيساً، وأخذ يجوب الأنحاء حتى بلغ لندن، وحصل على الكفاف، بترتيل المزامير في القداس من أجل الموتى وعاش ماجناُ يتأثم بـ"جشع النظرة وشهوانية الجسد"، وكانت له ابنة لعله تزوج أمها، وعاش معها في خص متواضع في كونهيل. ويصف نفسه بأنه طويل، نحيل، يرتدي إزاراً قاتماً يناسب حطام آماله الغبراء وشغف بقصيدته التي أصدرها ثلاث مرات (1362، 1377، 1349)، وكان يطيل في نسجها كل مرة مثله مثل الشعراء الانجلوسكسونيين، لا يستعمل القافية، وإنما يصطنع النظم الذي يجانس أوائل الكلمات مع اضطراب الوزن.
وبدأ بتصوير نفسه وقد غلبه النوم على أحد تلال مالفرن، فرأى فيما يرى النائم "حقلاً يعج بالناس" جماهير من الأغنياء والفقراء ومن الأخيار والأشرار، ومن الصغار والكبار بينهم سيدة جميلة نبيلة يرمز بها إلى الكنيسة المقدسة. وهو يركع أمامها ويسألها "لا أن تمنحيني كنزاً من الكنوز، ولكن خبريني كيف أنقذ روحي" فتجيب:
إذا امتحنت جميع الكنوز، فالصدق أحسنها .. ومن يصدق بلسانه، ولا يقول غير الصدق، ولا يسيء إلى أحد بعمله، ولا ينوي له الشر بقلبه، فإنه حري في نظر الإنجيل أن يكون إلهاً. وفي منزلة مولانا (67).
ورأى في منام آخر، الكبائر سبع، واتهم الإنسان في كل واحدة منها باللؤم في سخرية لاذعة. وغلب عليه في فترة من الزمن، تشاؤم ساخر جعله يتوقع نهاية قريبة للعالم. وإذا ببترز (بطرس) الحراث يظهر في(22/94)
القصيدة. وهو فلاح نموذجي أمين ودود كريم يثق به الجميع كادح يخلص لزوجته وأطفاله وهو ابن بار للكنيسة دائماً. ورأى وليام في أحلام تالية نفس الرجل يبرز، على أنه المسيح المتجسد في صورة البشر، في صورة بطرس الرسول، في صورة بابا، ثم يختفي بانشقاق الكنيسة ومجيء المسيح الدجال. ويقول الشاعر، إن رجال الدين، لم يعودوا الخلف القادر على إنقاذ الأرواح، فقد فسد معظمهم، إذ يخدعون البسطاء، ويغفرون للأغنياء ويتقاضون ثمن غفرانهم ويتجرون في المقدسات، ويبيعون الجنة نفسها في مقابل فلس واحد. وما الذي يستطيع المسيح أن يفعله في هذه المحنة العامة؟ يقول وليام، عليه أن يعود مرة أخرى، ويتامى على كل الجماعات الحية المتداخلة على ضروب الفساد، ويبحث عن المسيح نفسه.
وفي قصيدة بترز الحراث نصيب من الهذو، أما مجازاتها الغامضة ففيها إملال، لكل قارئ يدرك أن الوضوح، مسئولية معنوية، يجب أن ينهض بها المؤلفون. وهي على ذلك قصيدة صادقة تنكل بالأشرار في غير تعصب، وتصور المشهد الإنساني تصويراً حقاً، وترفع بلسان العاطفة والجمال إلى ذروة لا تضارعها سوى حكايات كانتربري في الأدب الإنجليزي إبان القرن الرابع عشر، وكان تأثيرها عظيماً، حتى لقد أصبح بترز بالنسبة إلى ثوار إنجلترا، رمزاً للفلاح الجريء المستقيم، ولقد امتدحه جون بول لثوار اسكس عام 1381، وبعث اسمه، بعد ذلك بكثير في عصر الإصلاح عند نقد النظام الديني القديم والمطالبة بنظام جديد (69). وختم الشاعر أحلامه بأن تحول منبترز الذي يمثل البابا، إلى بترز الفلاح مرة أخرى وهو يقول في الختام، إذا كنا جميعاً مثل بترز فلاحين بسطاء، نتبع المسيحية فذلك أعظم الثورات وآخرها، ولن يحتاج العالم إلى غيرها أبداً.
أما جون جور، فشاعر أقل من لا نجلد العجيب، خيالاً وأضعف شخصية. ذلك أنه كان من أصحاب الأراضي الأغنياء في كنت. فامتلأ(22/95)
ذهنه بالكثير من عناصر التحذلق والعلم، وكان بليد القريحة. فيما أنشأ بثلاث لغات. وهاجم أيضاً أخطاء رجال الدين، ولكنه كان يرتعد فرقاً من هرطقة المصلحين الإنجليز الأوائل اللولارد وتعجب من وقاحة الفلاحين الذين قنعوا يوماً بالقمح والجعة، وإذا بهم اليوم باللحم واللبن والجبن. ويقول جور ثلاثة أشياء لا ترحم، إذا لم يكبح جماحها: الماء، والنار، والغوغاء، ألح الضيق بجوير المثالي من هذا العالم فانشغل بالآخرة، واعتزل في شيخوخته بصومعة. واتفق السنة الأخيرة من حياته في الصلاة وكف البصر. ولقد أعجب معاصريه بأخلاقياته، وأسفوا على سلوكه وأسلوبه، وتخلصوا منه إلى تشوسر.
2 - جيوفري تشوسر
1340 - 1400
كان رجلاً يتدفق فيه دم إنجلترا المبتهجة وخمرها، رجلاً قادراً على أن يطوي في قلبه الحياة الطبيعية، وأن يرسم وخزها في مرح متسامح، ويصور جميع مراحل المجتمع الإنجليزي، بريشة جد عريضة كريشة هوميروس، وروح شهوانية كروح رابليه.
وكان اسمه، كأكثر مفردات لغته، فرنسي الأصل، ومعناه الإسكاف، وربما كان ينطق شوساير، وللوراثة مداعباتها لأسمائنا، وهي إنما تذكرنا بأن نصوغ أنفسنا طبقاً لهواها .. فهو ابن جون تشوسر، خمار لندني. لقد نال حظاً طيباً من العلم بفضل الكتب والحياة معاً، وينضح شعره بمعرفة الرجال والنساء من ناحية والأدب والتاريخ من ناحية أخرى. ولقد سجل اسم "جيوفري تشوسر" رسمياً عام 1375، وليكن في حاشية دوق كلارنس المقبل. وبعد ذلك بعامين رحل ليحارب في فرنسا، وأسر، ثم افتداه إدوارد الثالث. ونحن نجده عام 1367 أحد الأعيان في مجلس(22/96)
الملك، بمعاش مقداره عشرون مارك سنوياً. وكاد إدوارد كثير الرحلة مع حاشيته وأغلب الظن أن تشوسر كان يصحبه مستمتعاً بجمال إنجلترا وتزوج عام 1366 فيليبا، إحدى وصيفات الملكة، وظل على خلاف معها حتى ماتت واستمر ريتشارد الثاني يجري عليه معاشاً، أضاف إليه جون أمير جونت، عشرة جنيهات كل سنة كما حصل على هبات أخرى من الطبقة العليا وهذا يفسر السبب الذي من اجله لم ينتبه تشوسر إلى الثورة الكبرى مع أنه كان خبيراً بالحياة.
وفي التقاليد الحسنة في تلك الأيام التي كلف الناس فيها بالشعر والفصاحة، أن يوفد الأدباء في مهام سياسية في الخارج. فانتدب تشوسر مع آخرين للمفاوضة على عقد اتفاقية تجارية في جنوة عام 1372، كما ذهب عام 1378، بصحبته سير إدوارد بيركلي، إلى ميلان. ومن يدري لعله لقي هناك بوكاشيو العليل، أو بترارك الطاعن في السن؟ ومهما يكن من شيء فقد كانت إيطاليا نقطة تحول في إلهامه. ذلك أنه رأى فيها الثقافة أكثر صقلاً وعلماً وبراعة من إنجلترا، وتعلم أن يحتفي بالآداب الكلاسية، وباللاتينية منها على وجه خاص، وتحول عن الثائر الفرنسي الذي صاغ قصائده الأولى، إلى الإيطالي في الأفكار، وقوالب النظم والموضوعات. حتى إذا عاد إلى موطنه، وإلى مشاهده وشخصياته، كان قد أصبح فناناً بارعاً، ومفكراً ناضجاً.
وما من امرئ في إنجلترا وقت ذاك استطاع أن يكسب عيشه من القريض، ونحن نعتقد أن معاش تشوسر قد يسر له السكن والغذاء والكساء، ذلك أن مجموع ما حصل عليه عام 1378، كان قريباً من عشرة آلاف دولار بالحساب النقدي في أيامنا، يضاف إلى ذلك المعاش الذي كانت تحصل عليه زوجته من جون اوف جونت ومن الملك. ومهما يكن من شيء فقد أحس تشوسر الحاجة إلى استكمال دخله بالتعيين في مناصب حكومية(22/97)
مختلفة. فعمل اثني عشر سنة (من عام 1374 - 1386) "ومراقباً للجمارك والمكوس" واتخذ له في هذه الفترة مسكناً في قلعة "الدجيت" ودفع في عام 1380، مبلغاً لم يذكر مقداره إلى سيسيليا تشومبين لتتنازل عن ادعائها بأنه أغتصبها. وعين بعد ذلك بخمسة أعوام قاضي الصلح لمقاطعة كنت، وفي عام 1386 سعى حتى انتخب في البرلمان. وكان يقرض شعره في فترات الراحة من العمل. ووصف نفسه في قصيدته "دار الشهرة" بأنه يعود إلى بيته "بعد أن يسدد ما عليه، وينسى نفسه في كتبه، ويجلس جامداً كالصخر، ويعيش كالناسك في كل شيء إلا الفقر والعفة والطاعة. ويقف ملكاتهِ على تقنية كتبه وأغانيه وأناشيده". ويخبرنا بأنه نظم في شبابه "كثيراً من الأغاني وقصائد التشبيب" ولقد ترجم كتاب فينوس "عزاء الفلسفة". في نثر جيد، وجزءاً من قصيدة جويوم دولوريس "قصة الورد" في نظم بارع. وبدأ فيما يمكن أن يسمى المقطعات الشعرية الهامة "دار الشهرة"، "كتاب الدوقة"، "برلمان الدجاج"، "أسطورة النساء الطيبات"، ولقد سبق وأوضح لنا بأنه لم يكن قادراً على إتمامها. وهذه القصائد جهود تنبئ عن طموح وإن كانت تقليداً صريحاً للأصول الأوربية في الموضوع والشكل جميعاً.
ودأب تشوسر على التقليد بل الترجمة في أحسن قصائده المفردة وهي ترويلوس وكريسيد، فاستعار من "الفلستر اتو" لبوكاشيو 2730 بيتاً وأضاف 5696 بيتاً من مصدر آخر أو صاغها بنفسه. ولم يبذل محاولة ما ليخدع القارئ عن هذه الحقيقة، فهو يذكر مصدره مراراً ويعتذر عن عدم ترجمته بأسره، وبعد هذا التحول من أدب إلى آخر مقبولاً ومفيداً فإن الذين نالوا حظاً من كبيراً من التعليم لم يكونوا يستطيعون وقت ذاك أن يفهموا غير لهجتهم الخاصة. فموضوع القصة حق مشاع كما اعتقد مؤلفو التمثيليات من الإغريق والإنجليز في عهد إليزابيث، والفن إنما يتركز في الشكل.(22/98)
وتعد ترويلوس التي نظمها تشوسر على الرغم من جميع هذه النقائص، أول قصيدة، قصصية عظيمة في اللغة الإنجليزية. ولقد وصفها سكوت بأنها "طويلة مملة" وأنها كذلك وقال روزيتي "لعلها أجمل قصيدة قصصية على شيء من الطول في اللغة الإنجليزية"، وهذا أيضاً صحيح. ذلك لأن القصائد الطويلة كلها مملة مهما كان جمالها، فالعاطفة من مقومات الشعر فإذا استغرقت 8386 بيتاً، فإنها تصبح نثراً بسرعة انطفاء الرغبة. ولن تحتاج أي سيدة إلى مثل هذه الأبيات الكثيرة لكي تنام، وقلما تردد الحب وتأمل وماطل وأذعن بهذه البلاغة الفاخرة والأخيلة المطربة، والقافية السهلة السلسة. ولا يضارع هذا النهر العظيم الفياض من النظم سوى رتشارد سون في نثره المتدفق كنهر المسيسبي في تصوير الحب، بأناة، تصويراً نفسياً. ومع ذلك فإن الخطابية المجنحة في سرف وصياغة الكلمات التي لا تحد وسعة المعرفة المعترضة لم تستطيع أن تفسد القصيدة. فهي فوق هذا كله حكاية فلسفية تصور كيف خلقت المرأة للحب، وسرعان ما تحب شخصاً ثانياً إذا طالت غيبة الأول عنها. وفيها شخصية واحدة رسمت وكأنها حية تسعى: بندارس الذي كان في الألياذة قائد جيش ليشيا في طروادة ولكنه يصبح هنا شخصية مفرطة داهية ديوثا جريئاً يقود العاشقين إلى الخطيئة وحسبنا هذه الكلمة تعليقاً عليه. أما ترويلوس فهو محارب مشغول بمدافعة اليونان ويحتقر الرجال الذين يتلكأون على الصدور اللينة ويصبحون عبيد الشهوة، وهو يجن بكريسيد حباً من أول نظرة. ولم يفكر بعد ذلك إلا في جمالها ودلالها ورقتها. وبعد أن انتظرت كريسيد في شوق، مدى ستة آلاف بيت من الشعر، من هذا الجندي الحي أن يصرح بحبه، تقع بين ذراعيهن وقد تنفست الصعداء آخر الأمر، وسرعان ما ينسى ترويلوس عالمين في وقت واحد:
مرت منه جميع الهموم الأخرى.(22/99)
هموم الحصار وهموم خلاص الروح.
وما إن أجهد شوسر نفسه في الحصول على هذا الوجد، حتى يتخطى مسرعاً نعيم العاشقين إلى المأساة التي تنقذ القصيدة من الإملال. فقد هجر والد كريسيد قومه إلى اليونان، فأرسل الطرواديون وقد لاح عليهم الغضب كريسيد إلى هناك في مقابل الأسير أنتينور. وافترق العاشقان البائسان بعد أن قطعا على نفسيهما العهود بالوفاء إلى الأبد. ولما وصلت كريسيد إلى اليونان منحت إلى دياميدس، الذي أوقع أسيرته في شراكه برجولته ووسامته-فاستسلمت في صحيفة واحدة من القصيدة وهو ما كان قد حشد قبل ذلك في كتاب. وفطن ترويلوس إلى ذلك، فبادر إلى الحرب باحثاً عن دياميديس وإذا به يلقى مصرعه برمح اخيل. وختم تشوسر ملحمته الغرامية بابتهال إلى لبثلوث المقدس، بعث بها وقد أنبه ضميره "إلى جوور الأخلاقي لتصححها بسماحتك".
وربما يكون قد بدأ "حكايات كانتبري" عام 1387 وكان مشروعاً رائعاً، أن ينظم إلى جمع مختلف من البريطانيين في حانة تابرد في سوث وارك، حيث تعاطى شوسر أقداحاً كثيرة من الجعة-ثم يركب معهم في عطلة الحج إلى ضريح بكت في كانتربري، ويضع على أفواههم الحكايات والأفكار التي جمعها الشاعر من رحلاته طوال نصف قرن. ولقد استعملت هذه الوسائل لجمع القصص بعضها إلى بعض، قبل ذلك مراراً، ولكن هذه الوسيلة أحسنها جميعاً. ولقد حشد بوكاشيو في مجموعته "ديكاميرون" طبقة واحدة فقط من الرجال والنساء، ولم يظهرهم شخصيات مختلفة، أما تشوسر فخلق حانة زاخرة بالشخصيات، بلغت حداً من الواقعية في عدم التجانس، حتى بدت أقرب إلى الحياة الإنجليزية من الأعلام التاريخية الجامدة، إنهم يعيشون ويتحركون كما يتحرك الأحياء بالضبط، إنهم يحبون ويكرهون، ويضحكون ويبكون، نحن لا نسمع وهم(22/100)
يجسون خلال الطريق الحكايات التي يقصونها فقط، ولكنا نسمع متاعبهم ومشاجراتهم وفلسفاتهم.
ومن الذي يعترض على ذكر هذه الأبيات المخضلة بنضارة الربيع مرة أخرى؟
عندما يحل ابريل بشآبيبه
تكون رياح مارس قد نفذت إلى الجذور،
وغسلت كل يوم كرم برحيق أغصانها،
وتكون الزهرة هي الفضيلة التي أثمرت،
وعندما ألهمت الريح القرية بأنفاسها الحلوة
في كل حقل وكل مرج، أيضاً
النباتات الندية، تكون الشمس الفتية
قد سارت نصف مدارها في برج الحمل،
فترسل بغاث الطير أنغامها،
وهي التي أنفقت الليل بطوله مفتوحة الأعين، ..
ثم يذهب الناس المشوقين إلى الحج ...
إلى الأضرحة البعيدة، المعروفة في بقاع شتى ..
وفي سوثورك في تاباد حيث أقطن
أسعد لأقوم بالحج
إلى كانتربري بغرم خالص كامل،
وجاء إلى المنزل في الليل.
تسعة وعشرون صحبة واحدة،
من أناس مختلفين، التقوا بالصدفة
وألفوا زمراً، وهم جميعاً حجاج،
يتجهون راكبين إلى كانتربري(22/101)
ثم يقدمهم تشوسر الواحد بعد الآخر في رسومه الطريفة من استهلاله
الذي لا يضارع،
وكان بينهم فارس، وهو رجل محترم،
وهو في ذلك الزمان أول من بدأ
الخروج راكباً، فقد كان يحب الفروسية،
والصدق، والشرف، والحرية والتهذيب ..
وقد خاض المعارك الدامية،
وحارب من أجل عقيدتنا في ترامسين ...
ومع أنه كان جديراً بالاحترام، إلا أنه كان حكيماً، يشبه في هيئته
العذراء
ولم يصدر عنه الخبث ولم يقله
في كل حياته، ولم يعرف عنه خلق فظ؟
فلقد كان فارساً كاملاً دقيقاً.
وابن الفارس:
... سيد شاب،
عاشق، وأعزب شهواني ..
وقد توله في عشقه، حتى أنه في كثير من الليالي.
لا ينام أكثر مما ينام العندليب.
وحارس يخدم الفارس والسيد، وراهبة بارعة الجمال:
وكانت هناك أيضاً راهبة، رئيسة راهبات،
وفي بسمتها البساطة والخفر،
وقسمها الأعظم هو بالقديس لويس،
وكانت تدعى مدام اجلنتين.
تحسن ترتيل الصلاة،(22/102)
مفعمة بالغنى الكامل ...
وكانت جد محسنة رحيمة
تجهش بالبكاء، إذا رأت فأراً
وقع في مصيدة، فمات أو جرح
ولها جراء صغار، تطعمها
باللحم المقلي أو اللبن وفتات الخبز،
وتبكي بحرارة إن مات أحدها ..
وتلف معصمها بسوار من المرجان الصغير
وخرزتين مذهبتين ومزخرفتين باللون الأخضر.
ويتلألأ على صدرها دبوس من الذهب،
منقوش على أوله حرف "ا" متوجاً،
وبعده عبارة "الحب ينتصر على الجميع".
يضاف إلى هؤلاء راهبة أخرى، وثلاثة قسس. وناسك مرح "يجب
الصيد"، وراهب لا يضارع في إخراج الاكتتاب من حوافظ المتقين،
ومع أنه كان أرملاً لا ينتعل حذاءاً،
إلا أنه راضياً في مبادئه. يستطيع أن يحصل على فلس، قبل أن
يمضي
ويكلف تشوسر بطالب الفلسفة الشاب أكثر من غيره:
وكان بينهم أيضاً كاتب من أكسفورد،
قطع في دراسة المنطق مرحلة طويلة.
وجواده ضامر مثل الكلب الأعجف،
لقد رأيته غير بدين.
يبدو نحيلاً، غاية في ال تعقل.
تلفه سترة من الخيط،(22/103)
فلم يكن يحصل على صدقة من الكنيسة،
ولم يكن خبيراً بشؤون الدنيا ليحصل على وظيفة.
فوضع لنفسه على رأس السرير.
عشرين كتاباً مجلدة بالأسود أو الأحمر،
عن أرسطاليس وفلسفته.
وهي عنده أفضل من الثياب النفيسة أو القيثارة الطروب ..
وبذل في دراسته فائق عنايته وغاية انتباهه. ولا يلفظ بكلمة لغو.
ولم يكن يسمع إلا متحدثاً عن الفضيلة الأخلاقية. وكان يسره أن يتعلم،
وأن يعلم:
وهناك أيضاً "زوجة باث" وسنتحدث عنها بعد قليل، وراعي كنيسة
فقير "وهو غني بأفكاره وأعماله الدينية" وفلاح، وطحان، على أطراف
أنفه ...... وتقف دونها خصلة من شعر أحمر كالشعر الخشن على أذني
خنزير، وأحد زبائن حانة أوزميل، أو ناظر ضيعة، أو محضر محكمة:
كان وغداً رقيقاً حنوناً،
ولا يجد الناس خيراً منه.
وهو يجاهد للحصول على ربع نبيذ،
وقرينة حسنة تصبح له حظية
اثني عشر شهراً، ثم تخليه وهي حامل
... ويركب معه بائع غفران طيب ..
وجعبته أمامه على حجره،
تمتلئ إلى حافتها بصكوك غفران لا تزال كلها دافئة من روما، وكان هناك تاجر، ورجل قانون، وصاحب أعمال، ونجار ونساج، وصباغ، ومنجد وطباخ وبحار، وكان هناك جيوفري تشوسر نفسه، يقف جانباً في خجل، بديناً من العسير احتضانه "ويفحص الأرض بنظراته كأنما(22/104)
يفتش عن أرنب" ولم يكن مضيفاً أقلهم شأناً، وه صاحب حانة تابارد، الذي يقسم أنه لم يرفه عن جماعة كبيرة العدد كهذه، والواقع أنه عرض عليهم أن يذهب معهم وأن يكون دليلهم، واقترح لكي يقضوا الرحلة الستة والخمسين ميلاً، أن يروي كل حاج قصتين في الذهاب وأخريتين في الإياب، وأن من يروي أحسن قصة، سيتناول العشاء على حساب الجميع، عندما يعودون إلى الحانة. واتفق الكل على ذلك، واكتمل المشهد المتحرك لهذه الملهاة الإنسانية، وبدأ الحج، وروى الفارس المهذب الحكاية الأولى-كيف أن صديقين حميمين بلاجونوارسيت، رأيا فتاة تجمع الأزهار في بستان فوقع كلاهما في حبها، واختصما من أجلها في مبارزة دامية ... لتكون المكافأة السنية لمن ينتصر منهما.
ومن ذا يصدق أن فلما رومنسياً كهذا، يستطيع أن يتحول في بيت واحد، من إطناب الفروسية إلى الإفحاش في قصة الطحان؟ ولكن الطحان كان يحتسي الخمر وتوقع أن عقله ولسانه قد ينفلتان في شراكهم المنصوب. ويعتذر تشوسر عنه وعن نفسه-فيجب عليه أن يسجل كل شيء بإخلاص-ويدعو القارئ المتعفف أن يتجاوزها إلى قصة أخرى "فإن هذا يخدش الحياء؟ والأخلاق والدين". وتبدأ حكاية رئيسة الراهبات بنبرة دينية حلوة، ثم تردد الأسطورة الفاجعة التي تتحدث عن غلام مسيحي، يقال أن يهودياً ذبحه، وكيف أن محافظ المدينة قام بواجبه وقبض على يهودها وعذب عدداً منهم حتى ماتوا. وينتقل تشوسر من هذا الورع الديني في الاستهلاك، إلى حكاية تاجر صكوك الغفران .. إلى سخرية لاذعة بباعة متجولين لصكوك الغفران، وأصبح عمر هذا الموضوع قرناً من الزمان، عندما أذاعه لوثر في العالم، ثم تحول في الاستهلاك إلى حكاية زوجة باث، وبلغ شاعرنا الحضيض في أخلاقياته والذروة في قوته. إنه احتجاج معربد على العذرية والعزوبة، أجرى على لسان فاجر مدرب على شئون الزواج،(22/105)
لسان امرأة حصلت على خمسة أزواج، مذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، ودفنت أربعة منهم، وتبحث السادس ليخفف من سورة شبابها.
لقد دعانا الله إلى أن ننمو ونتكاثر ..
ولم يذكر العدد الذي نبلغه،
الزواج من اثنين أو ثمانية،
فلماذا يتحدث المرء عنه بسوء؟
يا عجباً .. هذا هو الملك الحكيم سيدنا سليمان،
أحسب أنه اتخذ أكثر من زوجة،
كما ترك الله الأمر لي
أن أجدد حياتي كالرجل أكثر من مرة ...
وا أسفاً وا أسفاً أن يعد الحب خطيئة!
ولن نورد هنا اعترافاتها الفسيولوجية، ولا ما يناظرها من اعتراف مذكور في حكاية سنمور، حيث يعكف تشوسر على دراسة تشريح البطن المنتفخة. ويصبح الجو مهيأ عندما نصل إلى جريزلدا المطيعة أبداً، في حكاية أكسفورد الكهنوتية، ولم يستطع بوكاشيو أو بترارك أن يرويا هذه الخرافة التي حلم بها رجل ألح الضيق عليه بنفس الجودة التي رواها بها تشوسر.
ولم يعطنا تشوسر غير ثلاث وعشرين من الحكايات الثمانية والخمسين التي وعدنا بها في المقدمة، ولعله شعر مع القارئ أن الخمسمائة صحيفة تكفي، وأن نبع ابتكاره قد جف. بل إننا نجد في هذا التيار المتدفق فقرات كدرة. تتجاوزها العين الناقدة. ومهما يكن من شيء فإن التيار البطيء العميق، يحملنا على صفحته وينشر جواً من النضارة، كان الشاعر قد عاش على طوال الشواطئ الخضراء، لا عند بوابة لندن-ومع ذلك فليس نهر التاميز بعيداً عن العين. وتعد بعض الأناشيد من ناحية الجمال الخارجي تمرينات أدبية جامدة، ومع ذلك فإن الصورة المتحركة تأتي حية بشعور وحديث(22/106)
طبيعيين مباشرين، وقلما توجد مثل هذه الملاحظة الكاشفة السريعة للناس والأخلاق بين دفتي كتاب واحد، ولن يزودنا غير شكسبير بعد ذلك بمثل هذا الحشد من الصور والتشبيهات والمجازات (ويعتلي بائع صكوك الغفران المنبر ويومئ يميناً وشمالاً بين الجمهور كحمامة على سقف مخزن للحبوب) ولقد أصبحت لهجة شرق مدلاند التي استعملها تشوسر، لغة إنجلترا الأدبية، وكانت مفرداتها قد كثرت إلى الحد الذي يتيح لها التعبير عن جمال الفكر ومناهجه وهكذا صارت لغة الحديث عند الإنجليز للمرة الأولى وسيلة الفن الأدبي العظيم.
وكانت مادة أدبه، كما هو الحال عند شكسبير، مطروقة من قبل. ذلك أن تشوسر استعار قصصه من كل مكان. حكاية الليل من تيسيد لبوكاشيو، وجريزلدا من مجموعة "ديكاميرون"، وأكثر من عشر حكايات من الخرافات الفرنسية. ويفسر المعنى الأخير ما اتسم به تشوسر من فحش، ومع ذلك، فإن أنكر قصصه لا يعرف له مصدر غير شخصه. وليس من شك في أنه كان يشارك كتاب المسرح في عهد اليزابث، في الاعتقاد بأن الأشخاص الذين تدور عليهم يجب أن يعطوا جرعة فاجرة بين حين وآخر لكي يظلوا أيقاظاً، ولقد جعل تشوسر رجاله ونساءه يتكلمون كأنما يناظرون طبقتهم الاجتماعية وأسلوبهم في الحياة، وهو يكرر، أنهم أكثروا من احتساء الجعة الرخيصة. ومرحه في الغالب غير مريض من القلب، تحفزه الشهوة، لا بد أن تكون ممتلئة حسنة الغذاء لقوم من الإنجليز قبل تزمت الطهريين، ولقد مزج هذا المرح مزجاً بارعاً بكل ما في البديهة الإنجليزية الحديثة من حيلة ودهاء.
وكان تشوسر على علم بأخطاء البشر وذنوبهم، وجرائمهم وحماقاتهم وغرورهم، ولكنه أحب الحياة على الرغم من هذا كله، وصبر على كل امرئ لا يسرف في التبجح وقلما يفضح، وحسبه أن يصف. وأن(22/107)
يسخر من نساء الطبقة الوسطى الدنيا في حكاية زوجة باث، ولكنه أعجب بقوتها الحيوية العارمة. وكان قاسياً غير مهذب مع المرأة، قد تكشف كلماته وانتقاداته اللاذعة عن الزوج الجريح المنتقم بقلمه عن حياء لسانه عن التعبير بالليل. وهو على الرغم من ذلك يتلطف في الحديث عن الحب، ولا يعرف نعمة أعظم منه، ويملأ معرضاً كاملاً بصور النساء الطيبات. ولا يعترف بالفضل الذي يرتكز على الوراثة، ويرى "أن الفاضل إنما هو الذي يقوم بعمل فاضل" بيد أنه لا يثق في تردد العامة، والمغفل عنده هو كل من يربط حظه بالشهرة أو يندمج مع الغوغاء.
وكان متحررا إلى حد كبير من خرافات عصره. فعرض بأدعياء اليكاويين، ومع أن الذين سردوا حكاياته ذكروا التنجيم، إلا أن تشوسر نفسه قد استنكره. وكتب إلى ابنه رسالة عن الإسطرلاب، أظهر فيها دراية حسنة بالمعارف الفلكية الشائعة. ولم يكن عالماً متبحراً، وإن كان شغوفاً بإظهار علمه، فحشا صفحاته بفقرات من "بيوشيوس" بل إنه جعل زوجة باث تستشهد "بسينكا". ويورد مشكلات في الفلسفة وعلوم الدين، ولكنه يهز كتفيه أمامها عجزاً ولعله شعر، بما يشعر به الرجل العلمي، بأن الفيلسوف الفطن لا يتوسل في حياته اليومية بمعارفه عما وراء الطبيعة.
أكان مسيحياً مؤمناً؟ لا يوجد شيء يضارع غلظته وفظاظته في هجائه للرهبان، في الاستهلال وفي تضاعيف حكاية "سومنور"، ولكم صوب نفر من المؤمنين المحافظين للإخوان مثل هذه الطعنات. وهو يثير الريب هنا وهناك، حول بعض العقائد الدينية الجامدة، ولم يكن يستطيع أن يفعل أكثر من لوثر في التوفيق بين العلم الإلهي السابق وبين إرادة الإنسان الحرة، وهو يجعل ترويلوس يشرح النظرية الجبرية، ولكنه يرفضها في الاستهلال له. وهو يؤكد اعتقاده في الجنة والنار، ولكنه يعلق على ذلك في شيء من الطول، بأنهما غايتان لا يعود منهما مسافر يشهد على صدق وجودهما.(22/108)
وكانت الشرور تقلق باله وبخاصة تلك التي لا تنسجم مع القدرة المطلقة على الخير. ويجعل "اركمسيت" يتساءل عن العدل الإلهي بعبارات جريئة كعبارات عمر الخيام:
أوه أيتها الربة القاسية، يا من تحكمين
هذه الدنيا برباط من كلمتكِ الخالدة،
وكتبتِ في لوح قدّ من صخر
كلامكِ وعظمتكِ الخالدة،
وماذا تكون البشرية في تقديركِ
أكثر من خراف تزدحم في حقل؟
لأن الإنسان يحق عليه الذبح كغيره من الأنغام.
وهو يعيش أيضاً بين السجن والاعتقال،
ويلم به المرض وتنزل عليه المصائب الكبار.
ولم يقترف ذنباً في كثير من الأحيان، يؤاخذ عليه.
وأي حكم في العلم السابق،
بأن الذنب يعذب البراءة؟ ..
وعندما يموت الحيوان فإنه لا يحس بألم،
ولكن الإنسان بعد أن يموت عليه أن يبكي ويشكو .. وأنا أترك
الجواب عن هذا كله للآلهة.
وحاول تشوسر في سنواته الأخيرة، أن يعوض التقوى التي أفلتت منه في شبابهِ. وألحق بحكايات كانتربري، التي لم تتم "صلاة تشوسر"، يطلب فيها العفو من الله والناس عن مجونه وانشغاله بغرور الدنيا، وأوصى "عندما تحين منيتي انتحبوا على ذنوبي، واعملوا على انقاذ روحي".
وتحول في هذه السنوات الأخيرة من الاستمتاع بالحياة إلى كآبة امرئ، يسترجع، وقد اضمحلت صحته وحواسه، ذكريات شهواته الطائشة(22/109)
في صباه. وفي عام 1381 عينه رتشارد الثاني "مسجلاً لأعمالنا في قصرنا وستمنستر" وغيره من القصور الملكية. ويبدو أن صحته قد ساءت بعد ذلك بعشرة أعوام، مع أنه كان قد تجاوز الخمسين بقليل، ومهما يكن من شيء، فقد أثبتت الأعباء التي أنيطت به أنها فوق طاقته، فصرف عن منصبهِ. ولم نجده بعد ذلك يشغل وظيفة ما. ونضبت موارده المالية. وهان قدره حتى طلب إلى الملك ستة شلنات وثماني بنسات (79). وفي عام 1394 منحه رتشارد الثاني معاشاً مقداره عشرون جنيهاً في السنة مدى الحياة. ولم يكن هذا المعاش يكفيه، فطلب إلى الملك أن يمنحه برميلاً كبيراً من الخمور كل سنة، فأجيب إلى سؤالهِ عام 1389. ولما حكم عليه بأن يسدد ديناً قدره أربعة عشر جنيهاً عجز عن الدفع (80). ومات في الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1400، ودفن في وستمنستر أبي، وهو أول وأعظم الشعراء الكثيرين الذين نهضوا بعد ذلك بنظم الكلام الموزون (1).
3 - رتشارد الثاني
"أقسم عليك بالله أن تدعنا نفترش الأرض ونروي القصص الفاجعة عن وفيات الملوك (81).
يقول هولنشد "كان رتشارد الثاني حسن الهيئة والطويلة والفطرة، إذا لم يؤثر فيها لؤم الذين حوله وخبث سيرتهم .. كان متلافاً، طموحاً، مستسلماً للذات الجسمية. ولقد أحب الكتب، وأعان تشوسر وفرواسارت. وأبدى شجاعة وحضور بديهية، وقام بأعمال حكيمة في الثورة الكبيرة، ولكنه بعد تلك الأزمة المنهكة، تورط في ترف منهك، وترك دفة الحكم إلى وزراء مبددين، فقامت في وجه هؤلاء الرجال معارضة قوية، يتزعمها توماس دوق جلوسستر، ورتشارد ايرل اروندل وهنري بولنجيروك،
_________
(1) قد لا يعود دفنه هناك، إلى شعره ولكنه كان عند وفاته عن مستأجري عقار أبي.(22/110)
حفيد إدوارد الثالث. وسيطر هذا الفريق على "برلمان لا يرحم" برلمان عام 1388، الذي حكم بخيانة عشرة من رجال رتشارد وأعدمهم، فجمع الملك عام 1390، وكان لا يزال شاباً في الثالثة والعشرين، أزمة الأمور في يديه، وحكم البلاد حكماً دستورياً مدى سبع سنوات- أو بعبارة أخرى، حكم متمشياً مع القوانين، والتقاليد، ومنسجماً مع نواب مختارين من الأمة.
وحرم بموت زوجته الملكة آن البوهيمية الموطن (1394) ناصحاً معتدلاً رشيداً وتزوج عام 1396 إيزابل، ابنه شارل السادس، أملاً أن يوطد من وراء ذلك السلام مع فرنسا، وكانت لا تزال صبية في السابعة من عمرها، فأنفق الملك موارده على الحظايا والمقربين من الرجال والنساء وأحضرت الملكة الجديدة معها إلى لندن حاشية فرنسية. وجلب هؤلاء معهم أنماطاً فرنسية من الأخلاق وربما جلبوا أيضاً نظريات فرنسية عن الملكية المطلقة. ولما أرسل برلمان عام 1397 إلى رتشارد قراراً بالشكوى من تبذير بلاطه، أجاب متعاظماً أن الحكم في مثل هذه الأمور ليس من اختصاص البرلمان. ولب اسم العضو الذي اقترح الشكوى، فأذعن البرلمان وحكم على صاحب الاقتراح بالإعدام، ولكن رتشارد عفى عنه.
وسرعان ما ترك جلوسستر واروندل لندن وظن الملك أنهما يتآمران على خلعه، فأمر باعتقالهما وشنق اروندل، وقتل جاوسستر خنقاً (1397).
ومات جون أوف جونت عام 1399، فخلف إقطاعاً عامراً، فصادر رتشارد أملاكه لحاجته إلى تمويل حملة يوفدها إلى ايرلندا، فذعرت الطبقة الأرستقراطية من هذا الصنيع. وانتهز ابن دوق جنت، المنفى المجرد من ميراثه، فرصة انشغال الملك بإعادة الأمن إلى نصابه في ايرلنده، ونزل إلى البر في يورك على رأس جيش صغير، سرعان ما زاد عدده، بانضمام النبلاء الأقوياء له. ووجد رتشارد عند عودته إلى إنجلترا قواته قد نقصت(22/111)
إلى أقصى حد، وأصدقاءه يفرون منه خائفين، فسلم شخصه وملكه إلى بولنجبروك، الذي توج على عرش إنجلترا باسم هنري الرابع (1399) وهكذا انتهت الأسرة البلانتاجينية التي بدأت بالملك هنري الثاني عام 11، وبدأت الأسرة اللانكسترية التي تنتهي بالملك هنري السادس عام 1461. ومات رتشارد الثاني سجيناً في بونيتفراكت (1400)، بالغاً من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وربما كان السبب في موته أنه أصيب، كما يهذب إلى ذلك هولنشد وشكسبير، بنزلة برد في سجنهِ، ولعله قتل غيلة على يد أعوان الملك الجديد.(22/112)
الفصل الرّابع
فرنسا تحاصر
1300 - 1461
1 - المشهد الفرنسي
لم تكن فرنسا عام 1300 المملكة العظيمة التي تصل إليها حدودها اليوم من القناة الإنجليزية إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن الفوج والألب إلى المحيط الأطلسي. وكانت تصل شرقاً إلى نهر الرون فقط. ولقد ضمت في الجنوب الغربي، مساحة كبيرة-جوين وجاسكونيا-إلى التاج الإنجليزي بزواج هنري الثاني من اليانور من أسرة اكويتين (1152)، وفي الشمال أخذت إنجلترا إقليم بونثيو، ومعه ابيفيل، ومع أن الملوك الإنجليز استولوا على هذه الأراضي باعتبارها إقطاعيات، تابعة للملوك الفرنسيين إلا أنهم فرضوا عليها سيادتهم الكاملة. أما بروفانس والدوفينية والكونتية الحرة فقد كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان أباطرتها من الألمان في العادة. ولقد حكم الملوك الفرنسيين حكماً غير مباشر، عن طريق أقربائهم الإمارات، فالوا وأنجوا وبوربون وأنجوليم. وحكموا حكماً مباشراً الربوع الآتية باعتبارها التزاماً ملكياً، وهي نورمانديا وبيكاردي وشامباني، وبواتو وأوفرن ومعظم لانجويدوك، وجزيرة فرنسا-وهي "الجزيرة" التي على الجانب الشمالي من وسط فرنسا وتتركز حول باريس. وكانت أرتو وبلوا ونيفبر وليموج، وأرمانياك ووفالنتينوا يحكمها سادة إقطاعيون يخضعون لملوك فرنسا خضوعاً اسمياً حيناً ويحاربونهم حيناً آخر. وكانت بريتاني وبرجنديا وفلاندرز إقطاعيات فرنسية، ولكنها كانت كما أسماها شكسبير "أقرب إلى الدوقيات الملكية"، تتصرف كأنها دول مستقلة في الواقع. ولم تكن فرنسا قد أصبحت فرنسا بعد.(22/113)
وكانت أهم الإقطاعات الفرنسية وأكثرها تقلباً، في مستهل القرن الرابع عشر، كونتية فلاندرز. ولم تنافس إيطاليا في تقدمها الاقتصادي في أوربا بأسرها شمالي جبال الألب، سوى فلاندرز. وكانت حدودها تتذبذب في غير انتظام في الزمان والمكان، وحسبنا أن نشير إليها، بأنها الإقليم الذي يضم بروج وجنت وبيرز وكورتراي. وتوجد شرقي شيلد، دوقية برابانت، التي كانت تضم وقتذاك انتورب وميشلين (مالين) وبروكسل وتورناي ولوفين. وتقع جنوبي فلاندرز الأسقفيتان المستقلتان: لييح وكامبراي، وكونتية هانو حول فالنسين. وتضم فلاندرز ومع التوسع برابانت ولييج وكامبراي وهانو. وتقع إلى الشمال سبع مقاطعات صغيرة، تؤلف تقريباً هولندا كما نعرفها اليوم. ولم تستطع هذه الأقاليم الهولندية أن تبلغ أوجها حتى القرن السابع عشر، عندما اتسعت إمبراطوريتها، إذا صح التعبير، من رمبرانت إلى بتافيا. وكانت فلاندر وبرابانت عام 1300 قد خنقتها الصناعة والتجارة وحرب الطبقات ووصلت قناة، طولها اثنا عشر ميلاً بروجيس ببحر الشمال، تمخرها مائة سفينة كل يوم، تأتي بالتجارة من مائة ميناء في ثلاث قارات، ويعد اينياس سيلفيوس، مدينة بروجيس، واحدة من أجمل المدن الثلاث في العالم. وألف صاغة بروجيس، فرقة كاملة من حرس المدينة، ونساجو جنت، سبعة وعشرين فرقة من قواتها العسكرية، التي بلغ مجموعها 189. 000 رجل.
وكانت المنظمة النقابية في القرون الوسطى، وهي التي منحت الصانع كرامة الحرية، والاعتزاز بالحذق، تفسح الطريق في صناعات النسيج والمعادن في فلاندرز وبرابانت لنظام رأسمالي (1) يمد فيه الممول رأس المال
_________
(1) نستطيع أن نعرف رأس المال على أنه السلع أو الأموال التي تستخدم في إنتاج السلع للاستهلاك ونعرف الرأسمالي على أنه الذي يوظف رأس المال أو يقدمه، والرأسمالية على أنها نظام اقتصادي أو علمية اقتصادية يسيطر عليها الرأسماليون.(22/114)
والمواد والآلات إلى عمال المصانع الذين يأخذون أجرهم بالقطعة، ولم تعد النقابة تحميهم وأصبح الالتحاق بالنقابة باهظاً، وأصبح آلاف العمال رجال تراحيل-عمال اليومية-يتنقلون من بلد إلى آخر، ومن مصنع إلى مصنع، ولا يجدون إلا عملاً مؤقتاً ويحصلون على أجور تفرض عليهم العيش في مساكن قذرة. ولا تسمح لهم إلا بالقليل من المتاع لا يتجاوز الملابس التي يرتدونها. وظهرت أفكار شيوعية بين العمال والفلاحين، وتساءل الفقراء، لماذا فرض عليهم أن يعيشوا جائعين وصوامع النبلاء ورجال الدين تطفح بالغلال؟ وحكم على جميع اللذين لا يعملون بأيديهم بأنهم من الطفيليين. وشكا أصحاب الأعمال بدورهم، من الخطر الذي يتهدد أموالهم، ومن عدم الاستقرار في الحصول على مواد الصناعة وموسميتها، ومن تعرض شحناتهم للغرق، وتذبذب الأسعار في السوق، ومن الحيل التي يلجأ إليها المتنافسون، والإضراب المتكرر الذي يرفع الأجور والأسعار، واضطربت العملة، فقلت أرباح رجال الأعمال، إلى حد العجز عن الوفاء بالديون. وناصر لويس دي نيفير أمير فلاندرز، أصحاب الأعمال. فثار العامة في بروجز وبيرز يؤيدون الفلاحين المجاورون، وخلعوا لويس، ونهبوا الكنائس، وذبحوا نفراً من أصحاب الملايين. فما كان من الكنيسة إلا أن أصدرت قراراً بحرمان المناطق الثائرة، ومع ذلك فقد أرغم الثائرون القساوسة على ترتيل القداس، وانتحل أحد الزعماء نشيداً يسبق ديودورو بأربعمائة وخمسين سنة، يقسم بأنه لم يقنع حتى يشنق آخر قسيس .. واستغاث لويس بمولاه، ملك فرنسا، فجاء فيليب السادس، وهزم القوات الثائرة في كاسل (1328)، وشنق عمدة بروجز، وأعاد المقاطعة، وجعل فلاندرز تابعة لفرنسا.
وكانت فرنسا على وجه العموم أقل تصنيعاً بكثير من فلاندرز، وبقيت أغلب صناعاتها في مرحلة العمل اليدوي، ولكن ليل ودوراي وكمبراي وأميين اقتبست صناعة النسيج من المدن الفلمنكية القريبة. وعوقت الطرق(22/115)
السيئة والمكوث الإقطاعية التجارة الداخلية، بيد أنها أفادت من القنوات والأنهار التي ألفت شبكة من الطرق الطبيعية الكبيرة عبر فرنسا. وكانت طبقة رجال الأعمال النامية، المتحالفة مع الملوك، قد وصلت عام 1300 إلى مكانة رفيعة في الدولة، وإلى درجة من الثراء أذهلت الإقطاعيين، والنبلاء الفقراء جميعاً. وحكمت قلة من التجار المدن، وسيطرت على النقابات، وأمضت في تقييد الإنتاج والتجارة. وحدثت هنا، كما حدث في فلاندرز، ثورة كادحين في المدن.
فقد انتفض عام 1300 فلاحون فقراء، عرفوا في التاريخ بالرعاة، واصطخبوا في المدن، لما حدث عام 1251، وأخذوا يجمعون في انتفاضتهم العمال الكادحين المتمردين. وساروا جنوباً، يتزعمهم راهب ثائر، وأغلبهم حفاة عراة من السلاح، معلنين أن القدس غايتهم. ودفعهم الجوع إلى انتهاب الدكاكين والحقول، ولما تعرضوا للمقاومة، استطاعوا أن يحصلوا على الأسلحة، ويؤلفوا جيشاً. حتى إذا بلغوا باريس حطموا أبواب السجن، وهزموا قوات الملك. فحبس فيليب الرابع نفسه في اللوفر، وانسحب النبلاء إلى معقلهم، وجبن التجار في دورهم. وواصل الحشد سيره، وزاد عدد أفراده بانضمام المعدمين في العاصمة إليهم، حتى بلغوا أربعين ألفاً من الرجال والنساء ومن الأوباش والأتقياء. وذبحوا فردن وأوخ وتولز جميع من وقع في أيديهم من اليهود. ولما تجمعوا في ايجوز مورت، على البحر الأبيض المتوسط، أحدق بهم عمدة كاركاسون بقواته، وقطع عنهم المؤن، ولبث كذلك حتى مات جميع الثوار من الجوع أو الوباء، وشنق القليلين الذين بقوا منهم.
وأي نوع من الحكومة ذلك الذي يترك فرنسا، تحت رحمة الثروة الجشعة، والفقر الذي لا يعبأ بقانون؟ ولقد كانت حكومة فرنسا أقدر حكومة في أوربا من نواح كثيرة. فإن ملوك القرن الثالث عشر الأقوياء،(22/116)
أخضعوا أمراء الإقطاع للدولة. وأنشأوا محكمة وإدارة قويتين، بموظفين مدنيين مدربين، واستدعوا للاجتماع في مناسبات مجالس مقاطعات أو مجالس عامة وكانت في الأصل تجمعاً عاماً لأصحاب المقاطعات، ثم أصبحت مجلساً استشارياً يتألف من مندوبين عن النبلاء ورجال الدين، والطبقة الوسطى. وأعجبي أوربا كلها بالبلاط الفرنسي، حيث اختلط الأمراء والنبلاء والفرسان الأقوياء بالنساء ذوات الأردية الحريرية، في الحفلات الطريفة، والمجون الرشيق، والمبارزات الصاخبة في برجاس لامع، ببريق الفروسية، ولقد وصف جون ملك بوهيميا باريس بأنها "أعظم مقر للفروسية في العالم" وجاهر بأنه لا يستطيع أن يعيش خارجها. أما بترارك الذي زارها عام 1331 فكان وصفه إياها أقل خيالاً: قال: "إن باريس مدينة عظيمة من غير شك ولو أنها دائماً أقل من شهرتها، وتدين كثيراً لأكاذيب أهلها عنها، والحق أنني لم أشهد مكاناً أقذر منها سوى افينيون. وتضم في الوقت نفسه أعلم الرجال، وهي كالسلة العظيمة تجمع فيها، أندر الثمرات في العالم. ولقد مر على الفرنسيين حين من الدهر، وصفوا فيه بأنهم برابرة لشراستهم. أما الآن، فقد تغير الحال تماماً. فإنهم يمتازون بمزاج مرح، وحب للمجتمعات، وسهولة وتلاعب في الحديث .. وهم ينتهزون كل فرصة لإظهار امتيازهم، وشن الحرب على جميع الأعباء بالتندر والضحك، والغناء والأكل والشراب.
وخلف، فيليب الرابع، لابنه عام 1314 خزانة خاوية أو تكاد على الرغم من مصادرته التي تشبه القرصنة لأموال الداوية واليهود، ومات لويس العاشر بعد حكم قصير (1316) ولم يخلف وريثاً للعرش، وإنما خلف زوجة حاملاً. وما هي إلا فترة حتى توج أخوه باسم فيليب الخامس. وظهر فريق منافس يطالب بالعرش لابنته لويس جان، البالغة من العمر أربع سنوات، ولكن مجلساً من النبلاء ورجال الدين أصدر عام 1316(22/117)
قراره المشهور الخاص بتوارث العرش وهو "أن القوانين والعادات المرعية بين الفرنج تستبعد البنات من وراثة العرش". ومات فيليب (1322) بلا ولد يخلفه، فطبقت القاعدة مرة أخرى لتحول بين ابنته وبين ولاية الملك، ونودي بأخيه ملكاً باسم شارل الرابع. والراجح أن القرار استهدف أيضاً أن يستبعد عن وراثة العرش إيزابل شقيقة فيليب الرابع، وهي التي تزوجت من إدوارد الثاني ملك إنجلترا، وأنجبت إدوارد الثالث عام 312، لأن الفرنسيين صمموا ألا يحكم فرنسا ملك إنجليزي.
ومات شارل الرابع بلا خلف من الذكور (1328) فانتهت بموته دولة الملوك من أسرة كابيتان وعرض إدوارد الثالث، الذي اعتلى عرش إنجلترا قبل ذلك بعلم، على مجلس النبلاء في فرنسا، مطالبته بالعرش الفرنسي، باعتباره حفيداً لفيليب الرابع، وأقرب الأعقاب الأحياء لهيوكابت، فرفض المجلس، على أساس أن أم إدوارد لا تستطيع أن تنقل إليه تاجاً استبعدت هي نفسها عنه بقرار التوريث الذي صدر عامي 1316، 1322. وفضل البارونات عليه ابن أخ لفيليب الرابع، وهو الكونت فالو، وبذلك يكون فيليب الرابع هو الذي بدأ أسرة فالو المالكة، التي حكمت فرنسا، إلى أن استهل هنري الرابع أسرة البربون عام 1589. واعترض على هذا الاختيار إدوارد، ولكنه جاء إلى "أمين" عام 1329، وأعلن خضوعه وأقسم يمين الولاء لفيليب الرابع باعتباره مولاه الإقطاعي على جاسكونيا وجويين وبونثيو. ولما أنضجت إدوارد السنون، وزاد دهاؤه، ندم على خضوعه وحلم مرة أخرى بالجلوس على عرشين في وقت واحد. وأكد له مستشاروه، بأن فيليب الجديد مستضعف، يدبر وشيكاً للخروج في حملة صليبية إلى الأراضي المقدسة. وظهر أن الوقت مناسب للبدء في حرب المائة عام.
2 - الطريق إلى كريسي
1337 - 1347
وطالب إدوارد عام 1337 رسمياً من جديد بالعرش وكان رفض طلبه السبب المباشر للحرب. وأصبحت نورمانديا، بعد فتحها إنجلترا تابعة(22/118)
للملوك الإنجليز، مائة وثمانية وثلاثين عاماً، وأعاد فيليب الثاني فتحها باس م فرنسا (1204) ورأى كثير من النبلاء الإنجليز، الذين انحدروا من أصل نورماندي، في الحرب المقبلة محاولة لاستعادة موطنهم الأصلي واقتطع فيليب الرابع وشارل الرابع جزءاً من مقاطعة جوين الإنجليزية التي كانت عامرة بالكروم، وكانت تجارة النبيذ في بوردو مورداً ثميناً لإنجلترا حتى مات في الدفاع عنها إلى حين عشرة آلاف إنجليزي. أما اسكتلندا فكانت شوكة في جنب إنجلترا، وتحالف الفرنسيون مراراً معها في حروب مع إنجلترا. وكان بحر الشمال عامراً بالسمك، فادعى الأسطول الإنجليزي السيادة على هذه المياه في القناة وخليج بسكاى واستولى على السفن الفرنسية التي سولت لنفسها أن تسخر هذا الادعاء الأول بالسيادة الإنجليزية على البحار. وكانت فلاندرز منفذاً حيوياً للصوف البريطاني، وأنف النبلاء الإنجليز الذين يجز الصوف من أغنامهم والتجار الذين يصدرون هذا الصوف، أن تعتمد سوقهم الأساسية على النية الطيبة لملك فرنسا.
وأمر كونت فلاندرز عام 1336 بحبس جميع البريطانيين هناك، ويبدو أن فيليب السادس أيد هذا العمل وقاية من الدسائس الإنجليزية. فرد إدوارد الثالث على ذلك بأن أمر بالقبض على جميع الفلمنكيين في إنجلترا. وتحريم تصدير الصوف إلى فلاندرز وما هو إلا أسبوع حتى توقفت المغازل الفلمنكية لافتقارها إلى المادة الخام، وتزاحم العمال في الطرقات مطالبين بالعمل. واتحد العمال اليدويون والآليون في جنت معلنين خروجهم عن طاعة الكونت، وانتخبوا متآمرا دعيا هو جاكوب فان ارتفليد حاكماً على المدينة، وأيدوا سياسته التي تنشد صداقة إنجلترا وصوفها (1337) فألغى إدوارد الحظر، وفر الكونت إلى باريس، وأقر أهل فلاندرز جميعاً ديكتاتورية أرتفيلد ووافقوا على الانضمام إلى إنجلترا في حربها مع فرنسا. وفي نوفمبر عام 1337 سار إدوارد الثالث على تقاليد الفروسية(22/119)
وأرسل إلى فيليب السادس إعلاناً رسمياً بأن إنجلترا ستشرع في الحرب بعد ثلاثة أيام.
وكان أول لقاء له أهميته في حرب المائة سنة، معركة بحرية في سلويز بعيداً عن الساحل الفلمنكي (1340)، حطم فيها الأسطول الإنجليزي مائة زاثنتين وأربعين سفينة من المائة والاثنتين والسبعين التي تؤلف الأسطول الفرنسي ثم تركت في العام نفسه جان أميرة فالوا أخت فيليب وحماة إدوارد، ديرها في فونتنل، وألحت على الملك الفرنسي أن يوفدها رسول سلام. فتعرضت في طريقها إلى معسكر القادة الإنجليز لأخطار كثيرة، فوافقوها على عقد مؤتمر وأقنع توسطها البطولي الملكين بأن يعقدا هدنة لمدة تسعة أشهر. وساد السلام بفضل الجهود التي بذلها البابا كليمنت السادس إلى عام 1346.
ولكن حرب الطبقات احتلت المسرح في فترة الصفاء هذه. وكان النساجون المنظمون في جنت يؤلفون أرستقراطية العمل في الأراضي الواطئة. ورفضوا الخضوع لأرتفيلد باعتباره طاغية قاسياً، ومبدداً للأموال العامة، وأداة طيعة في يد إنجلترا والبرجوازية. واقترح أرتفيلد أن تنادي فلاندرز بأمير ويلز حاكماً عليها فجاء إدوارد الثالث إلى سلويز تأكيداً للاتفاق. حتى إذا رجع أرتفيلد من سلويز إلى جنت وجد داره محاطة بجمهور ساخط ودافع عن حياته مؤكداً أنه وطني فلمنكي أصيل، ولكنه سحل وضرب إلى أن فاضت روحه (1345). وأنشأ النساجون ديكتاتورية عمالية في جنت، وبعثوا مندوبين عنهم في أنحاء فلاندرز يدعون العمال للثورة. فاشتبك القصارون مع النساجين وأجلوهم عن الحكم وقتل كثير منهم، وضاق الشعب بالحكومة الجديدة وبسط لويس دي ميل، وكان قد أصبح كونت فلاندرز، سلطانه على جميع مدنها.
وما أن انتهت الهدنة، حتى غزا إدوارد الثالث نورمانديا واجتاحها. وفي السادس والعشرين من أغسطس عام 1346، التقى الجيشان: الإنجليزي(22/120)
والفرنسي، وتأهبا للمعركة الفاصلة. واستمع القادة والرجال من الجانبين إلى القداس، وأكلوا جسم المسيح (1) وشربوا دمه وطلبوا معونة في إجهاز أحدهما على الآخر. ثم تحاربا في شجاعة ووحشية بلا هوادة. واكتسب إدوارد، الأمير الأسود، في ذلك اليوم ثناء والده المنتصر، وصمد فيليب السادس في حومة الوغى، حتى لم يبق من رجاله إلا ستة جنود. وهلك في تلك المعركة الواحدة، ثلاثون ألف رجل، كما ذهب إلى ذلك فرواسار في تقديره غير الدقيق. وأشرف الإقطاع على الموت هناك أيضاً: فوقف فرسان فرنسا الراكبون، المسلحون في رشاقة بالحراب القصار، بلا حول ولا قوة، أمام حائط من الرماح الإنجليزية الطوال المصوبة إلى صدور أفراسهم، بينما نشر حملة القسى من الإنجليز عند الجناحين، الموت بين الفرسان الفرنسيين. وكادت شمس الفروسية تأفل في يوم الحصاد الطويل الذي تنفس فجره قبل ذلك ادريانوبل بتسعمائة وثماني وستين سنة، وجاءت المشاة إلى المقدمة، وضعُفت سيادة العسكرية الأرستقراطية. واستعملت المدفعية في كرسي على نطاق ضيق، وجعلتها صعوبة النقل وحاجتها إلى إعادة التعمير أكثر مشقة وأقل جدوى، ولذلك قصر فلاني فائدتها على صخبها (2).
وقاد إدوارد جيشه من كريسي إلى حصار كاليه، واستخدم المدفع في تحطيم الأسوار (1347). وصمدت المدينة عاماً كاملاً، حتى ألحت المجاعة عليها، فأذعنت لشروط إدوارد، وهو أن يخرج الباقون على قيد الحياة بسلام، إذا توجه ستة من أعيان المدينة إليه، والحبال حول أعناقهم، وفي أيدهم مفاتيح المدينة. وتطوع ستة منهم بالفعل ولما مثلوا أمام الملك، أمر بشنقهم. فجثت ملكة إنجلترا أمامه، تتوسل الإبقاء على حياتهم، فاستجاب لها، وأرسلت الرجال مخفورين إلى دورهم بسلام. وللنساء
_________
(1) كناية عن القربان.
(2) كانت المدفعية قد بلغت قرناً من الزمان، ذلك لأن المدافعين البربر استعملوا المدافع في سجلماسة عام 1347.(22/121)
في التاريخ فضل أعظم من الملوك وهن يخضن بشجاعة معركة يائسة لتحويل الرجال من جفوة التوحش إلى صقل الحضارة.
وهكذا أصبحت كاليه، جزءاً من إنجلترا، ولبثت إلى عام 1558، منفذاً استراتيجياً لبضائعها وجيوشها على القارة. وثارت عام 1348، فحاصرها إدوارد مرة أخرى وحارب بنفسه متنكراً في المعمعة. واستطاع فارس فرنسي، اسمه أوستاس دي ريبومونت، أن يطعن إدوارد مرتين، ولكنه غلب على أمره وأسر، ولما استعاد إدوارد المدينة دعا أسراه النبلاء إلى الغذاء، ووقف اللوردات الإنجليز وأمير ويلز على خدمتهم، وقال إدوارد للفارس الذي طعنه ريبومونت "ياسير أوستاس، إنك أشجع فارس رأيته في العالم المسيحي يهاجم عدوه .. ولذلك فأنا أمنحك تقدير الشجاعة وأجعلك فوق جميع رجال بلاطي". ونزع الملك الإنجليزي عن رأسه إكليلاً نفيساً ووضعه على رأس الفارس الفرنسي، قائلاً:
"أيها السيد أوستاس، إنني أهديك هذا الإكليل .. وأرجوك أن تضعه على رأسك هذا العام في محبتي. وإني لأعلم أنك مقبل على الحياة، نزاع إلى الغزل، مغرم بصحبة السيدات والآنسات، لذلك قل، أينما ذهبت، إنني أعطيتك إياه. وأنا أمنحك حريتك أيضاً بلا فدية، ولك أن تذهب حيث شئت".
وعاشت الفروسية هنا وهناك، بين الجشع والقتل، واقتربت وكادت أساطير أرثر تشبه التاريخ الحي على صفحات فرواسارت.
3 - الموت الأسود وغيره
1348 - 1349
لقد كان الطاعون العظيم محايداً حين دهم إنجلترا العامرة بالغنائم الفرنسية وفرنسا التي أصابتها الهزيمة بالخراب. ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فلقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن(22/122)
الرابع عشر، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر، وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان، هذان وهما عاملان ثابتان متوسيان من ناحية، مع الحرب والمجاعة من ناحية أخرى، على الحد من استغراق الإنسان في النسل. وكان الموت الأسود شر هذه النوازل، ولعله أنوح ملمة طبيعية تعرض لها الإنسان في عصور التاريخ. ولقد وفد على برفانس وفرنسا من إيطاليا، ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بوساطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا. وذهبت رواية، غير محققة في ناربون، إلى أن ثلاثين ألف شخص ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع "ربع سكان العالم المتحضر" وعجزت مهنة الطب أمامه، فلم تكن تعلم سبب المرض (ولقد اكتشف كيتا زاتو، برسن، باسيليات الطاعون الدملي عام 1894)، وكل ما كانت توصي به هو، المعضدات، ومطهرات الجوف، والمنعشات، ونظافة المسكن والجسم، والتبخير ببخار الخل (7). ورفض عدد قليل من الأطباء والقساوسة علاج المرضى، خوفاً من العدوى، ولكن أكثرهم واجهوا المحنة برجولة، وضحى آلاف من الأطباء ورجال الدين بحياتهم. وكان على قيد الحياة ثمانية وعشرون كاردينالا عام 1348 توفي منهم تسعة بعد ذلك بعام واحد، ومن الثمانية والأربعين رئيساً للأساقفة، مات خمسة وعشرون، ومن الخمسة والسبعين والثلثمائة أسقف مات سبعة ومائتان.
وكان للوباء آثاره على جميع نواحي الحياة وطبيعي أن يموت الفقراء، بنسبة أكبر من الأغنياء، فأدى ذلك إلى نقص في العمال، وهجرت آلاف الأفدنة بلا فلاحة، ونفقت ملايين الأنعام. واكتسب العمال قدرة جديدة على المساومة إلى حين، فرفعوا أجورهم، ونفضوا عن كواهلهم كثيراً(22/123)
من الأعباء الإقطاعية، وقاموا بثورات جعلت النبلاء، لا يستطيعون النيل منهم مدى نصف قرن، بل أضرب القسس أنفسهم، من اجل زيادة رواتبهم. وهجر عبيد الأرض، المزارع إلى المدن، واتسعت الصناعة، وحصلت طبقة رجال الأعمال على مغانم جديدة من الأرستقراطية التي تملك الأرض. ونالت الصحة العامة قسطاً من الإصلاح المعتدل. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين، فأدت إلى أمراض عصيبة معدية، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنَّت مثل "الفلاجلان" الذين ساروا عام 1349، كما فعلوا في القرن الثالث عشر، في طرقات المدينة عراة أو يكادون، يضربون أنفسهم في ندم، ويعظون بيوم الحساب، والمدن الفاضلة، ويدعون إلى ذبح اليهود. واستمع الناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار، ومفسري الأحلام، والعرافين، والدجالين وغيرهم من المشعوذين. وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة. وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة. فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار. فقتل اليهود في حوالي خمسين مدينة، يميد من بروكسل إلى برسلو بين عامي 1348 - 1349، وكاد يقضي على النظام الاجتماعي، بموت آلاف من رجال الشرطة، والقضاة وموظفي الحكومة، والأساقفة والقسس. بل إن صناعة الحرب قد تعرضت للاضمحلال، وتلكأت حرب المائة عام، بين حصار كاليه ومعركة بواتييه (1356) في هدنة متراخية، بينما عوض النقص الهائل في صفوف المشاة، برجال بلغ منهم الفقر مبلغاً، جعلهم يرون الحياة تفضل الموت ببضعة شلنات!
وتأسى فيليب السادس، عن الطاعون والهزيمة، بالزواج، وهو في السادسة والخمسين، من بلانش أميرة نافار، البالغة من العمر ثماني عشرة سنة، وهي التي كان ينوي خطبتها لابنه. وتوفي بعد ذلك بسبعة(22/124)
أشهر فقط. وكان هذا الابن، جون الثاني "الطيب" (1350 - 1364)، طيباً حقاً مع النبلاء، وأعفاهم من الضرائب، ومنحهم الأموال ليصيدوا الإنجليز عن أرضهم، وأبقى على أشكال الفروسية ومزاياها جميعاً وخفض سعر العملة، كوسيلة قديمة، للوفاء بديون الحرب، وزاد الضرائب مراراً، على الطبقتين الدنيا والوسطى، وسار في أبهة ليلتقي بالإنجليز عند بواتييه. وهناك أبيد رجاله الخمسة عشر ألفاً من الفرسان والاسكتلنديين، والحشم وذبحوا وأسروا، على يد سبعة آلاف من رجال الأمير الأسود، بل إن الملك نفسه، الذي حارب بعنف، وقاد جيشه بحماقة، كان بين الأسرى هو وابنه فيليب، وسبعة عشر ايرل، وعدد لا يحصى من البارونات، والفرسان، والأعيان. وسمح لمعظمهم أن يفتدوا أنفسهم على الفور، وأطلق سراح كثيرين، بعد أن وعدوا بإحضار الفدية إلى بوردو في عيد الميلاد وعامل الأمير الأسود الملك بما يليق بمقامه من إجلال، واصطحبه على أكف الراحة إلى إنجلترا.
4 - الثورة والتجديد
1357 - 1380
أصيبت فرنسا كلها بالفوضى بعد محنة بواتييه. وكان من نتائج عدم النزاهة والكفاءة في الحكومة، ونقص سعر العملة إلى حد كبير، والمبالغ الباهظة التي دفعت فدية للملك والفرسان، والخراب الذي جره الحرب والطاعون، والضرائب غير المشجعة التي فرضت على الزراعة والصناعة والتجارة، أن قامت الأمة بثورة يائسة. ودعا ولي العهد دوفان (1) وهو
_________
(1) يبدو أنه كان في أول الأمر اسم علم، دلفينوس (دلفان)، ولما تكرر في أسماء الأسرة المالكة غالباً في فينا وأوفرن أصبح (1250) من ألقاب التشريف، وخلع رسمياً عام 1285، على ابن الأكبر لكونت فينا، ومن ثم استعمل دلفيناتوس أو دوفينية للدلالة على الكونتينه التي تتخذ جرينوبل الآن مقراً أساسياً وفي عام 1349 باع الكونت همبولت الثاني صاحب فينوا، الدوفينية بلقبها دوفان إلى شارل صاحب فالوا، ابن الملك جون الثاني. ولما أصبح شارل ملكاً عام 1364، نقل اللقب إلى ابنه الأكبر، وعرف منذ ذلك الابن الأكبر للملك الفرنسي بدوفان فينوا.(22/125)
شارل صاحب فالوا البالغ من العمر تسع عشرة سنة، مجلس الطبقات للولايات الشمالية إلى الانعقاد في باريس. وذلك ليفرض ضرائب جديدة، فأخذ على عاتقه أن ينشئ حكومة برلمانية في فرنسا. وكان لباريس وغيرها من المدن برلمانات منذ عهد طويل، ولكنها كانت جماعات صغيرة معينة، معظمها من رجال القضاء عادة، ومهمتها محصورة في الاستشارة القانونية للحاكم المحلي أو الملك، وتسجيل مراسيمه باعتبارها جزءاً من القانون الفرنسي. واستجوب هذا المجلس، الذي سيطر عليه تحالف مؤقت بين رجال الدين والبرجوازية، مجلس البلاط، لماذا أدت المبالغ الكبيرة التي جمعت للحروب، إلى وجود فرق غير منظمة وهزيمة منكرة، وأمر باعتقال اثنين وعشرين من عملاء الحكومة، كما أمر مديري الخزانة أن يعيدوا المبالغ التي اتهموا باختلاسها. وفرض قيوداً على امتيازات التاج، بل إنه فكر في خلع جون الطيب، وإبعاد أبنائه عن ولاية العهد، وإسناد عرش فرنسا إلى الملك شارل السيء صاحب نافار، وهو من أعقاب هيوكابت. بيد أن المجلس تأثر من خضوع ولي العهد وحكمته، ونادى به نائباً للملك، وأجمعوا رأيهم على إعطائه نفقات، ثلاثين ألف رجل مدججين بالسلاح، ولكن المجلس طالبه في الوقت نفسه أن يطرد الموظفين الفاسدين أو الجهلاء، وحذره من العبث بسعر العملة، وعين لجنة من ستة وثلاثين رجلاً للرقابة على أعمال الحكومة ونفقاتها. وأدان القضاة لإسرافهم على حاشيتهم، وتراخيهم في العمل، فقد كان تقويمهم القضائي متأخراً عشرين سنة، وفرض عليهم أن يفتتحوا جلساتهم عند شروق الشمس، في نفس الوقت الذي يبادر فيه المواطنون الأمناء بالذهاب إلى محال أعمالهم، أو حقولهم. وهذا "القانون العظيم" الذي صدر عام 1357، حرم على النبلاء أيضاً مغادرة فرنسا، أو شن حرب خاصة بهم، ووجه تعليماته إلى السلطات المحلية للمدن، أن تعتقل كل نبيل، يخرج على هذا المرسوم. وتصبح(22/126)
الأرستقراطية بتنفيذه خاضعة للعامة، والنبلاء لطبقة رجال الأعمال وعلى الملك والأمير والبارون أن يطيعوا المندوبين الذين اختارهم الشعب. وكأنه قد قدر لفرنسا أن تحصل على حكومة دستورية، قبل الثورة بأربعة قرون.
ووقع ولي العهد هذا القانون في شهر مارس ولكنه بدأ يتملص منه في أبريل. وطالب الإنجليز بفدية عن أبيه، يؤدي الوفاء بها إلى الخراب، وتوعدوا بالتقدم إلى باريس. وتباطأ الناس في دفع الضرائب، متذرعين بالقاعدة الجديدة التي تقول أنه لا يفرضها غير مجلس الطبقات. وألحت الحاجة الماسة إلى المبادرة بالدفع، ودعا شارل هذا المجلس إلى الاجتماع ثانية في أول فبراير عام 1358، وأنقص في الوقت نفسه سعر العملة ليزيد مورده. وكان لاتين مارسل، التاجر الغني، شأن عظيم في الثاني من فبراير إذ أسهم بنصيب كبير، باعتباره رئيساً لنقابة التجار في صياغة "القانون العظيم" وأتيح له أن يحكم باريس لمدة سنة، فقاد فرقة مسلحة من المواطنين-يرتدون جميعاً قبعات بلوني المدينة الرسميين، الأزرق والأحمر-إلى القصر الملكي وأنب شارل على عدم طاعته لأوامر "القانون العظيم" ولما لم يعلن الأمير طاعته، دفع مارسيل رجاله، فقتلوا اثنين من الحجاب اللذين كانا يحرسان ولي العهد، حتى انتثرت دمائهما على الرداء الملكي.
وأخذ مجلس الطبقات يثير الفزع بهذا العنف الجريء، ومهما يكن من شيء فقد سبق الثورة الفرنسية بأن سن قانوناً _مايو عام 1358) يحصر مهمة التشريع لفرنسا في هذا المجلس، ويفرض على الملك ألا يتصرف في الأمور الهامة إلا بموافقة الولايات، ففر عدد كبير من النبلاء ورجال الدين من فرنسا، وترك كثيرون من الموظفين الإداريين مناصبهم خوفاً على حياتهم. فما كان من مارسيل إلا أن عين مكانهم جماعة من الأهالي. وحاول تجار باريس أن يحكوا فرنسا فترة من الزمان. والتجأ ولي العهد مع النبلاء إلى بيكاردي، وألف جيشاً، ونادى أهل باريس، أن يسلموا(22/127)
إليه زعماء الثورة، وأعد مارسيل العاصمة للدفاع، وأحاطها بأسوار جديدة، واحتل اللوفر، وكان وقتذاك مقر الملك ورمزه.
وفي الوقت الذي احتلت فيه الثورة مدينة باريس، رأى الفلاحون في الريف، أن الفرصة مواتية، للثأر من سادتهم. وكان معظمهم عبيد أرض، تفرض عليهم الضرائب لينعم سادتهم بأسباب الترف ولدفع الفدية عنهم، وينتهبهم الجند وقطاع الطريق، ويعذبون ليشفوا عن مدخراتهم. ولما أهلك الطاعون عدداً عظيماً منهم، وعرضتهم الحروب للمجاعة، ثاروا في عنف لا حد له، وشقوا طريقهم في قلاع الإقطاع، ودقوا أعناق النبلاء التي وصلت إليهم خناجرهم، ووجدوا الخلاص من جوعهم وظمئهم في مخازنهم وأقبيتهم. وكان النبلاء يطلقون على مثال الفلاح الطيب اللقب التقليدي " جاك المغفل"، ونفذ صبر آلاف من هؤلاء، فاندفعوا في أعمال وحشية، وذبحوا سادتهم، واغتصبوا السيدات، وقتلوا الذراري، وألبسوا زوجاتهم حلي اللائى توفين.
وأرسل مارسيل ثمانمائة من رجاله لمعاونة الفلاحين أملاً أن تصرف هذه الثورة الريفية ولي العهد عن مهاجمة باريس. واشتد ساعدهم، وساروا إلى ميوكس التي التجأ إليها أميرات أورليان ونورمانديا، وكثيرات من سيدات الطبقات الراقية، فشاهدن حشداً من عبيد الأرض والمستأجرين يتدفق على المدينة، واستسلمن، معتقدات أنهن فقدن الشرف والحياة. وإذا بفرقة من الفرسان كأنها معجزة من بعض أساطير أرثر، تدخل ميوكس عائدة من الحروب الصليبية وتباغت الفلاحين، وتحصد آلافاً منهم، وتلقي بهم أكواماً في الجداول المجاورة فخرج النبلاء من مخابئهم، وفرضوا الغرامات على القرى عقاباً لها. وساروا في أنحاء الريف، وأعملوا القتل في عشرين ألف فلاح، ولم يفرقوا بين ثائر وبريء (يونيه 1358).
واقتربت قوات ولي العهد من باريس، وقطعت عنها المؤن، ويئس(22/128)
مارسيل من المقاومة بجميع الوسائل، فأهدى التاج إلى شارل السيء، ومهد لرجاله دخول المدينة وأنكر جان مايلادن، صديق مارسيل ويده اليمنى، هذا الصنيع وعده خيانة، فعقد اتفاقاً سرياً مع ولي العهد، وفي الواحد والثلاثين من شهر يولية قتا جان وآخرون مارسيل بضربة فأس. فدخل ولي العهد باريس على رأس النبلاء المسلحين. وكان معقولاً حذراً في تصرفه وعكف على افتداء أبيه، واستعادة الروح المعنوية، والحياة الاقتصادية لفرنسا، وانسحب الرجال الذين حاولوا أن يخلقوا سيادة برلمانية، في صمت وغموض. والتف النبلاء المعترفون بالجميل حول العرش، وأصبح مجلس الطبقات أداة طيعة في يد ملكية زادت شوكتها.
وفي نوفمبر عام 1359 نزل إدوارد الثالث إلى البر بجيش جديد في كاليه. وتنكب باريس، مقدراً الأسوار الجديدة التي شيدها مارسيل، ولكنه أخضع الريف المحيط بها من ريمز إلى شارترز بإبادة المحاصيل، حتى اجتاحت المجاعة باريس مرة أخرى. وطلب شارل الصلح بشروط مهينة. فعلى فرنسا أن تسلم جاسكونيا وجوين إلى إنجلترا بريئة من كل التزام إقطاعي عليها لملك فرنسا، وأن تتنازل أيضاً عن بواتو وبريجوري وكويرسي وسانتونج ورورج وكاليه وبونثيو وأونيس وإنجوموا وأجنوا وليموزين وبيجور وأن تدفع، ثلاثة مليون كراون، ليعود مليكها. وفي مقابل ذلك يتنازل إدوارد، وجميع أعقابه، عن كل ادعاء، في عرش فرنسا، ووقعت معاهدة بريتاني هذه في الثامن من مايو عام 1360، وهكذا ابتلي ثلث فرنسا بالحكم البريطاني، واستشاط منه غضباً. وأرسل اثنان من أبناء الملك جون وهما-دوق انجو ودوق بري-إلى إنجلترا، رهينتين على إخلاص فرنسا للمعاهدة. وعاد جون إلى باريس، وسط قرع الأجراس، وابتهاج النبلاء والدهماء. ولما خرج الدوق انجو على كلمة الشرف، وفر للحاق بزوجته، عاد الملك جون إلى إنجلترا بنفسه، ليكون رهينة في مكان ابنه، مناشداً الدخول(22/129)
في مفاوضات من أجل صلح أخف وطأة. فاستقبله إدوارد على أنه ضيف لا أسير، وكرمه كل يوم على أنه زهرة من زهريات الفروسية. ومات جون في لندن عام 1364، ودفن في كنيسة سانت بول، أسيراً في موته. وأصبح ولي العهد البالغ ستة وعشرين سنة ملكاً على فرنسا باسم شارل الخامس.
واستحق لقب "الحكيم"، الذي أسبغه شعبه عليه، لهذا السبب وحده، وهو أنه عرف كيف ينتصر في معارك، دون أن يحرك يداً. فلقد كانت يده اليمنى، متضخمة دائماً، وذراعه مترهلة، ولم يكن يستطيع أن يرفع حربة، وقيل أن شارل السيء دس له السم. وإذا كان قد فرض عليه أن يعيش مقيداً، فقد أحاط نفسه بمستشارين حكماء. فأعاد تنظيم كل إدارة، وأصلح الجهاز القضائي، وأعاد تكوين الجيش، وشجع الصناعة، وثبت سعر العملة، وأيد الأدب والفن، وجمع في اللوفر المكتبة الملكية، التي زودت النهضة الفرنسية باللصوص القديمة والترجمات، وكانت نواة المكتبة القومية. وسلم للنبلاء الحق في استعادة المكوس الإقطاعية، ولكنه تخطاهم وعين-قائداً عاماً للجيوش الفرنسية-رجلاً بريتانياً اسمه برتراند دي جويسكلين. وهو رجل أسمر، أفطس الأنف، غليظ العنق، ضخم الرأس. ولقد ساعد الاعتقاد، في تفوق هذا "النسر البريتاني" على جميع القادة الإنجليز، على تصميم الملك، استرداد فرنسا من الحكم الإنجليزي. فأرسل عام 1369، إلى إدوارد الثالث إعلاناً رسمياً بالحرب.
وكان رد الأمير الأسود، أن ×ضع ليموج، وأعمل السيف في ثلاثة آلاف بين رجل وامرأة وطفل، وهذا هو مذهبه في التربية السياسية. وثبت أنه لم يكن موفقاً فقد تحصنت كل مدينة في طريقه، وتزودت بالجند، واختزنت المؤن للمقاومة الناجحة، واضطر الأمير إلى أن يقنع، بتخريب الريف، وإحراق المحاصيل، واقتلاع منازل الفلاحين الخاوية،(22/130)
ولم يشأ دي جويسكلان أن يخوض معركة، ولكنه ناوش مؤخرة الأمير، وأسر العلافين، وانتظر أن تشرف القوات الفرنسية على الموت جوعاً. وحدث ما توقعه فانسحبت، وتقدم دي جويسكلان، وأخذت الولايات تعلن تخلصها الواحدة بعد الأخرى من التبعية، وبعد عامين من القيادة الممتازة، والولاء المشترك بين القائد والملك، طرد الإنجليز من فرنسا بأسرها باستثناء بوردو وبرست وشرير، وكاليه، وبلغت فرنسا لأول مرة جبال البرانس. ومات الملك وقائده في العام نفسه (1380) في ذروة النصر.
5 - الملك المجنون
1380 - 1422
الملكية الوراثية تشبه لعبة الميسر، تضع المغفل المحبوب، في مكان الحاكم القدير، فلقد كان شارل السادس في الثانية عشر من عمره عندما توفي أبوه، فعمل أعمامه أوصياء على الملك حتى بلغ العشرين، وسمحوا له أن ينغمس في مجون لا يعرف المسئولية، في الوقت الذي سار فيه نصف أوربا، إلى حافة الثورة. وكان صناع بروجس وعلى رؤوسهم قبعات حمراء، قد اقتلعوا في عام 1359 دار البلدية التاريخية في ثورة جامحة. وفي عام 1366 ثارت الطبقة الدنيا في بيرس، معلنة الحرب المقدسة على الأغنياء. وفي عام 1378 أنشأ الكيومين في فلورنسا، ديكتاتورية الكادحين. وفي عام 1379 بدأ الفلاحون الجائعون في لانجدوك- جنوبي فرنسا- حرب عصابات، استمرت ست سنوات، ضد النبلاء ورجال الدين، تحت لواء قائد أمرهم قائلاً "اقتلوا جميع أصحاب الأيدي الناعمة" وثار العمال في ستراسبورج عام 1380، وفي لندن عام 1381، وفي كلونيا عام 1396. وقامت في جنت، حكومة ثورية من عام 1379 إلى عام 1382. وتوجت ثورة من عمال مدينة روين، بزازاً قوياً وقتل الشعب في باريس، جباة الضرائب التابعين للملك بمطارق من الرصاص (1382).(22/131)
وأمسك شارل السادس بأزمة الحكم في يديه عام 1388، وحكم أربع سنوات، حكماً صالحاً، فاستحق بذلك لقب "المحبوب" ولكنه جن في عام 1392. فلم يعد يعرف زوجته، وطلب إلى المرأة الغريبة عنه. أن تمسك عن توسلاتها. وسرعان ما انفض جميع الناس من حولهِ ولم يكترث به سوى أحط الخدم. ولبث خمسة أشهر لا يبدل ثيابه، ولما رؤى أخيراً أن يغتسل احتاج الأمر إلى اثني عشر رجلاً للتغلب على مقاومتهِ، ولبس تاج فرنسا ثلاثين سنة، أبله يرثى له، بينما تأهب ملك إنجليزي شاب شهم لغزو فرنسا من جديد.
ولقد أبحر هنري الخامس من إنجلترا في الحادي من أغسطس عام 1415، في ألف وثلاثمائة سفينة، وإحدى عشر ألف رجل. فوضعوا مراسيهم في الرابع عشر بالقرب من هارفلير، عند مصب نهر السين. وقاومت هارفلير ببسالة، ولكن بلا جدوى. وسار الإنجليز، تغمرهم العزة بالنصر، ويسرع بهم داء الزرب إلى كاليه. والتقى بهم فرسان فرنسا في اجنكورت، بجوار كريسي (25 أكتوبر). وكأنما لم يتعلم الفرنسيون شيئاً من معركتي كريسي، وبواتييه، إذ ظلوا يعتمدون على الفرسان. ولم يستطع أكثر أفراسهم الحركة بسبب الأحوال، أما الذين استطاعوا التقدم، فقد واجهوا الأوتاد المسننة، التي غرسها الإنجليز، على زاوية الأرض، حول حملة القسى. فارتدت الخيل المتحيرة، وحملت على جيشها، ونزل الإنجليز على هذا الحشد المضطرب، بالقضبان الفؤوس، والسيوف، وقادهم مليكهم هال، ببسالة، وتوتر شديد من الخوف، وكان انتصارهم مذهلاً. ويقدر المؤرخون الفرنسيون، خسائر الإنجليز بألف وستمائة رجل، وخسائر الفرنسيين بعشرة آلاف رجل.
وعاد هنري إلى فرنسا عام 1417، وحاصر روين وأكل المواطنون ما ادخروه من طعام، ثم التهموا جيادهم، وكلابهم وقططهم. وألقى بالنساء(22/132)
والأطفال والطاعنين بالسن، خارج أسوار المدينة، توفيراً للطعام، فبحثوا عن معبر في خطوط الإنجليز، فلم يسمح لهم بالمرور، وظلوا كذلك بلا طعام ولا مأوى بين أقربائهم وأعدائهم، فهلكوا جوعاً، ومات خمسون ألف فرنسي من الجوع، في هذا الحصار الذي لم يرحم. ولما استسلمت المدينة، كبح هنري جماح جيشه من تقتيل الذين بقوا على قيد الحياة، ولكنه فرض عليهم غرامة مقدارها ثلثمائة ألف كراون، ووضعهم في السجن حتى يتسلم حصيلة المبلغ وفي عام 1419، تقدم نحو باريس التي لم يبقَ منها سوى الفساد، والانحلال، والتوحش، وحرب الطبقات. وتجاوز لإذلال ما حدث عام 1360 فقد سلمت فرنسا، بمقتضى معاهدة ترويس (1420)، كل شيء حتى الشرف. وقدم شارل السادس ابنته كاترين، زوجة لهنري الخامس، وتعهد بأن يورثه العرش الفرنسي، ونقل إليه قيادة فرنسا، ولإزالة كل التباس لم يقر ببنوة ولي العهد. ولم تدافع الملكة ايزابيل عن هذا الاتهام بالفسق في مقابل أربعة وعشرين ألف فرنك كل سنة، والواقع أنه لم يكن من السهل على المرأة في البلاط الملكي، لذلك الزمان، أن تعترف من هو والد ابنها على التحقيق. وأنكر ولي العهد المعاهدة، وكان يبسط نفوذه على جنوب فرنسا، ونظم فرق جاسكونيا وأرمانياك امواصلة الحرب. بيد أن ملك إنجلترا بدأ يحكم من اللوفر.
وبعد سنتين مات هنري الخامس بداء الزرب (الدوسنطاريا)، فإن الميكروبات لم توقع المعاهدة، ولما لحق به شارل السادس (1422) توج هنري السادس ملك إنجلترا على فرنسا، وكان دون السنة الأولى من عمره، فحكم دوق بدفورد وصياً عليه. وكان قاسياً في حكمهِ، ولكنه عادل مثل كل إنجليزي، يقدر له أن يحكم فرنسا. فأمن السفر بأن شنق عشرة آلاف رجل من قطاع الطريق في سنة واحدة، وأخذ يراقب منذ ذلك أحوال البلاد. وعاث الجنود المسرحون بالطرق الرئيسية فساداً، وأفزعوا حتى(22/133)
المدن الكبيرة مثل باريس، وديجون. واكتسحت الحرب، نورمانديا بالخراب، من الأمام ومن الخلف، كتيار قاتل خبيث، بل هلك ثلث سكان لانجدوك، وهي تعد أحسن حظاً، وهرب الفلاحون إلى المدن، واعتصموا بالكهوف، أو تحصنوا بالكنائس، كلما اقتربت الجيوش أو أحزاب الإقطاع أو عصابات اللصوص. ولم يعد الكثيرون من الفلاحين إلى ممتلكاتهم المضطربة وإنما عاشوا بالتكفف والسرقة، أو هلكوا من الجوع أو الطاعون. وأقفرت الكنائس، والمزارع ومدن بأسرها وتركت للبلي. وقد كان في باريس وحدها عام 1422، أربعة وعشرون ألف بيت مقفر، وثمانون ألف متسول من مجموع السكان الذي يبلغ عددهم ثلثمائة ألف نسمة. وأكل الناس لحم الكلاب وامعائها. وملأت الطرقات صيحات الأطفال المشرقين على الموت جوعاً.
6 - الحياة بين الأطلال
كانت الأخلاق، كما يتوقع المرء في كل إقليم يصاب بالشلل الطويل المحزن في الاقتصاد والحكومة. ولقد ألف جيوفري دي لاتور لاندري، حوالي عام 1372، كتابين يرشد بهما أطفاله في هذه الفوضى، ولم يبقَ منهما غير ما وجهه إلى بناتهِ. وهو مجلد رقيق لطيف عامر بالحب الأبوي، مشوب بالهم على عفة غير آمنة وبخاصة، في زمن اقترفت فيه نساء كثيرات، الخطايا بلا جزع مما أوقعهن في فضائح مزرية. ورأى الفارس الطيب أن يقاوم هذه المغريات، وذهب إلى أن خير وقاية هي الإكثار من الصلاة. ويعرض الكتاب لعصر، لم يزل متشبثاً بالمشاعر المصقولة، والحس الأخلاقي. ونحن نلتقي بعد ذلك بسبعين سنة بشخصية منكرة، هي شخصية المارشال دي ريز أورتز، وهو رجل غني عظيم وسيد بريتاني. واعتاد أن يدعو الأطفال إلى قلعتهِ. بحجة تدريبهم على الترتيل الكنسي، ثم يقتلهم الواحد بعد آخر ويقدمهم قرباناً للشياطين، التي كان ينشد عندها القوى السحرية.(22/134)
ولكنه قتل من أجل المتعة أيضاً و (لقد أنبئنا) أنه كان يضحك على صياح مرتليه المعذبين أو المحتضرين. واتبع هذا النهج أربع عشر سنة، حتى اجترأ، والد أحد ضحاياه، باتهامه، فاعترف بهذه التفاصيل كلها، وشنق عام 1440 ولولا أنه أساء إلى دوق بريتاني، لما اقتص منه، ذلك لأن الرجال من طبقته قلما كانوا يقدمون إلى ساحة القضاء، مهما كامن جرائمهم ومع ذلك، فإن الأرستقراطية التي ينتمي إليها، كثيراً ما أخرجت الأبطال أمثال الملك جون صاحب بوهيميا، أو جاستون فيوبس دي فوا، الذي أحبه فرواسارت وأثنى عليه. وفي هذه الأوحال الأزهار الأخيرة للفروسية.
وأسهمت أخلاق الشعب في هذا الانحلال. فأصبحت القسوة والخيانة والفساد أمراضاً متوطنة. وكان السوقي والحاكم سواء في قبول الرشوة. وانتشر المجون، وشكا الوزير جرسون من أن أقدس الأعياد تنفق في لعب الورق (1) والميسر والتجديف في الرين. وكان المحتالون والمزيفون واللصوص والصعاليك والشحاذون يسدون الطرقات بالنهار، ويجتمعون بالليل ليستمتعوا بحصادهم، في باريس، في ساحات المعجزات، التي سميت كذلك لأن المتسولين الذين يبدون في المظهر مقعدين، يظهرون هناك فجأة وكل عضو من أعضاء جسمهم في صحة مذهلة.
وفشا اللواط، وشاعت الدعارة، وكاد المجون يصبح عاماً. ودعت فرقة "الآدميين" في القرن الرابع عشر، إلى مذهب العري، وظلت تمارسه علناً إلى أن منعته محاكم التفتيش. وكانت الصور الفاحشة المخلة بالآداب، رائجة كما هي الآن، ويروي جرسون، أنها كانت تباع حتى في الكنائس وأيام الأعياد الدينية. ونظم شعراء مثل ديشان قصائد غرامية
_________
(1) ربما دخل لعب الورق إلى أوربا في القرن الرابع عشر، وأول رواية محققة عنه كانت عام 1379.؟ ويبدو أنها جاءت عن طريق المسلمين عبر أفريقيا وأسبانيا والصليبيين. ويزعم الصينيون أنهم مارسوه مبكراً عام 1120.(22/135)
للسيدات النبيلات. ووصف نيقولا دي كليمانج كبير شماسة باييه، دير منطقته بأنه معبد مخصص للقيام بشعائر فينوس. وكان من المألوف أن يتخذ الملوك والأمراء، خليلات لهم، وكان الكثير من الزيجات الملكية-وزيجات النبلاء ينطوي على أغراض سياسية، ولذلك لم تكن هذه الزيجات جديرة بالحب. واستمرت السيدات، ذوات الحسب والنسب، في مناظرات رسمية، حول جواز العلاقات الجنسية، وأنشأ فيليب الجسور، صاحب برجنديا، في باريس محكمة حب عام 1401. ولقد وجدت وسط هذا الخضم من الاستهتار أو في كنفهِ سيدات فضليات، ورجال شرفاء ونحن نجد لمحة عابرة عن هؤلاء، وفي كتاب عجيب ألفه حوالي عام 1393، رجل مجهول الاسم في الستين من عمرهِ، عرف بأنه مدير باريس: "أعتقد أنه عندما يزف اثنان شريفان طيبان، أحدهما إلى الآخر. فإن كل حب يزول .. إلا حب كل منهما للآخر. وأرى أنهما عندما يصطحبان، يهتم كل منهما بالآخر، أكثر من اهتمامهِ بغيرهِ، ويربط كل منهما على الآخر ويمسك بهِ، ولا رغبة لهما في الحديث أو الإشارة إلا لبعضهما .. وكل متعتهما الخاصة ورغبتهما الكبرى وسرورهما الكامل، إنما هو يمتع أحدهما الآخر ويطيعه".
وأضيف إلى صور هذا العصر اضطهادات اليهود (1306، 1384، 1396) والمجذومين (1321)، ومحاكمة الحيوانات وإعدامها، لإيذاء الناس وتسافدها معهم، والشنق علناً، الذي يدعو إلى حشد متطلع. وكانت الناس تنبش القبور في جبانة الأبرياء في باريس، كلما سقط لحم الميت عن عظمهِ، لإفساح المجال لأموات جدد، وتجمع العظام في غير نظام، في مدافن خاصة بها، على طول الأروقة، التي كانت مع ذلك، أماكن مألوفة، للقاء العاشقين، فأنشئت هناك الدكاكين، ودعت البغايا الزبائن. ورسم أحد الفنانين، مدة شهور على حائط الدير، صورة لرقصة الموت(22/136)
عام 1424، تبدو الشياطين وهي تدور حول نفسها مع الرجال والنساء والأطفال المسوقين في خطوات مرحة متعاقبة إلى الجحيم. وأصبحت هذه الصورة مضموناً رمزياً لعصر يائس، ومثلته إحدى المسرحيات في بروجس عام1449، وصوره ديرل، وهلبين، وبوش في آثارهم الفنية. وغلب التشاؤم على نصف شعر هذا العصر. وهجا ديشان الحياة في كل جوانبها تقريباً، وبدت الدنيا له، كشيخ واهن جشع، مضطرب منحل ولقد ختم كلامه بقولهِ "إن كل شيء سيئ السيرة". ووافقه جرسن قائلاً: "إننا نعيش في شيخوخة الدنيا"، وإن يوم القيامة لقريب. واعتقدت امرأة عجوز، أن كل وخزة ألم في أصابع قدميها، تعلن ذهاب إحدى الأرواح إلى الجحيم، وكان تقديرها معتدلاً، فإن الاعتقاد الشائع وقتذاك أنه لم يدخل الجنة أحد من الناس في الثلاثين سنة الماضية.
وماذا عسى أن يصنع الدين، في تصدع أمة مغلوبة على أمرها؟ لقد كان الباباوات الحبيسون في افنيون يتلقون حماية الملوك الفرنسيين، وأوامرهم في السنوات الأربعين الأول من حرب المائة عام، وكانت معظم الموارد، التي يجمعها ألئك الباباوات من أوربا، تذهب إلى هؤلاء الملوك، تمويلاً لحرب الحياة أو الموت مع بريطانيا، واستطاعت الكنيسة أن تجمع للملكية في إحدى عشر سنة (1345 - 1355) مبلغ 3. 392. 000 فلورن (84. 800. 000 دولار؟) وحاول الباباوات مراراً أن يضعوا حداً للحرب ولكنهم فشلوا. وعانت الكنيسة مشقة مضنية، من جراء الخراب الطويل الذي منيت به فرنسا قرناً من الزمان، فأفقرت مئات الكنائس والأديرة أو خربت، وشاركت الطبقة الدنيا من رجال الدين فيما اتسم به العصر من انحلال الأخلاق. وتجاهل الفرسان والمشاة الدين لا يذكرونه إلا عند المعركة أو الوفاء، ولا بد أنهم ارتابوا، في العقيدة بسبب عدم اكتراث السماء، الذي يدعو إلى الجنون، واعتصم الناس في عصيانهم أوامر الدين(22/137)
بالكنيسة والعقيدة مفزعين، وجملوا أمولهم وهمومهم إلى مزارات العذراء تسكيناً لروعهم، وكانوا يصابون في القداس، بوجد ديني، عندما يستمعون إلى العظات المخلصة للراهب رتشارد أو القديس فنسانت فرر. وابتدعت في بعض البيوت، تماثيل صغيرة تفتح بطونها بلمسة من اليد، فينكشف الثالوث.
وكان معظم قادة الفكر للكنيسة، في هذا العصر، من الفرنسيين. ولم يكن بيير دايلي واحداً من العلماء، أصحاب الرأي فحسب، وإنما كان من أقدر زعماء الكنيسة وأبعدهم عن الفساد، وأحد السياسيين من الرجال، الاكليروس، الذين عالجوا في مجمع كنستانس، الفرقة في البابوية. وكان بين تلاميذه، وهو مدير كلية نافار في باريس، شاب، أصبح فيما بعد، أعلم علماء الدين في جيله. وزار جان دي جرسون الأراضي الواطئة، فأعجب كثيراً من تصوف ريوزبرويك، والورع الجديد عند "أخوة الحياة العادية". فلما أصبح مديراً لجامعة باريس (1395)، فكر في إدخال هذا النوع من التقوى إلى فرنسا على الرغم من نقده أنانية المذهب الصوفي وما فيه من القول بوحدة الوجود واقتنع أخواته الست بقدوته وحججه، ولقد أنبئنا أنهن ظللن عذارى إلى نهاية حياتهن. وذم جوسر، خرافات الدهماء، ودجل التنجيم والسحر والطب، ولكنه اعترف بأن الرقي، ربما يكون لها تأثير بالتسلط على المخيلة (74). ورأى أن معرفتنا بالنجوم، ممعنة في النقص، حنى إننا لا نستطيع، أن نتصور تنبؤات محددة، بل إننا لا نستطيع أن نعين بالضبط مدى سنة شمسية، ولا يمكننا أن نخبر عن الموضع الحقيقي للنجوم، لأن أضواءها تتكسر، في سيرها إلينا، عبر أوساط متعددة. ودعا جوسون إلى ديمقراطية مقيدة، وإلى سيادة المجامع، في الكنيسة، بيد أنه حبذ ملكية قوية في فرنسا، ولعل الأحوال السائدة في بلاده تبرر تناقضه، وهي التي كانت أحوج إلى النظام منها إلى الحرية.(22/138)
وكان رجلاً عظيماً في طرازه وجيله، وكانت فضائله خاصة به، أما أوهامه فمن عدوى عصره، كما يجب أن يقول جيته. وتزعم الحركة التي استهدف التخلص من الباباوات المتنازعين، وقصدت إصلاح الكنيسة، وأسهم في إرسال جون هس وجيروم البراغي إلى الموت.
وأخذت الطبقات العليا، تمدح أشخاصها، وتزين دورها، وسط مظاهر الفاقة التي يعانيها شعبها. وارتدى أفراد العامة البسيط من السترات، والقمصان، والسراويل، والأحذية ذوات الرقاب، وقلدت الطبقات الوسطى الملوك، على الرغم من القوانين الخاصة بالنفقات، فارتدى أفرادها، الأردية الطويلة، وربما كانت قرمزية اللون أو محفوفة بالفراء، كما ارتدى السادة النبلاء الصديريات، والجوارب الطويلة، والألفعة الأنيقة والقبعات الرائشة التي تمسح الأرض عند الانحناءات المهذبة ووضع بعض الرجال قروناً على أصابع نعالهم، لتطابق ما على رؤوسهم من رموز غير جلية. وآثرت سيدات من ذوات الحسب، القبعات المخروطية كأبراج الكنيسة، وكن يشددن أجسامهن بسترات ضيقة وسراويل زاهية اللون، وتنورات من الفرو، تتدلى أطرافها على الأرض في جلال ويظهرن صدورهن بينما يزدن من جمال وجوههن بإسدال النقاب عليها. وبدأت الأزرار تستعمل لحبك الملابس (40)، وكانت قبل ذلك مجرد حلي، ونحن نعكس هذه الحركة الآن. وكن يتلألأن، حتى البدينات منهن، بالحرائر والأنسجة المذهبة والمطرزة، والأشرطة والجواهر على الشعر وعلى الرقبة واليدين والرداء والحذاء، وتحت هذا البريق الوقائي، كثرت عند كل نساء الطبقة العليا تقريباً.
وظلت دور الفقراء كما كانت في القرون السابقة، إلا أن النوافذ من الزجاج شاعت فيها، أما القصور الصغيرة وبيوت الأغنياء في المدن فلم تعد سجوناً مظلمة، كانت قصوراً مريحة حسنة التأثيث بساحات فسيحة بها(22/139)
نوافير ماء، ودرجات محواة عريضة، وطنف معلقة، وسقوف شديدة الانحدار تناطح السماء وتغوص في الثلج، وقد زودت بغرف للخدم، ومخازن، وغرفة للحراسة وأخرى للبواب، وغيرها للبياضات، ومغسل، وقبو للخمر ومخبز، بالإضافة إلى القاعة وغرف النوم لأسرة صاحب البيت. وكانت بعض القصور، كالتي يملكها بيير فوند (1390) وشاتودن (حوالي 1450) ارهاصاً بقلاع اللوار الملكية. وتعد دار الرأسمالي الكبير جاك كور في بورجس، أصون قصور ذلك العهد، وهي عمارة كاملة لها برج قوطي من الحجر المنقوش، وأفاريز وطنف مزخرفة، ونوافذ على طراز عصر النهضة، ولقد أخبرنا، أنه قد تكلف كله حوالي 4. 000. 000 دولار، بحساب النقد في أيامنا. وأثثت بالفاخر من الطنافس: مدافئ فخمة، تدفئ على الأقل، جانباً من الغرفة وسكانها، ومقاعد ومناضد متينة، دأب الصانع على نقشها بالحفر، دون كلل، وأرائك عليها حشيات على طول الجدران مبطنة بقماش (57) مزركش، وخزائن تحف وصواوين ضخمة تعرض الصحاف الذهبية والفضية، تليها أكواب زجاجية أبهى منها، وسجاجيد سميكة، وأرضيات من البلوط المصقول أو قرميد مطلي بالميناء، ومخادع معرشة مرتفعة وعريضة تتسع للسيد وزوجته وطفل أو اثنين. ولقد نام على هذه السرر المريحة رجال القرنين الرابع عشر والخامس عشر ونساءهما، عراة، ولم تكن قمصان النوم قد أصبحت ضرورة لا غنى عنها.
7 - الآداب
ولقد واصل الرجال والنساء تأليف الكتب بين هذه الأطلال ومنها الرسائل الباقية (1322 - 1331) التي وضعها نيقولا من ليرا، وقاموا بإضافات محققة لفهم نصوص الكتاب المقدس، فمهدت الطريق لـ"العهد(22/140)
الجديد" لأرازمس ولترجمة لوثر الألمانية. وغلبت على قصص هذا العصر، الحكايات الغرامية الخفيفة مثل مائة حكاية جديدة التي ألفها انتوان دولاسال أو قصص خيالية عن الفروسية مثل فلور وبلانشفلير. أما الكتاب الذي ألف جيهان ذو اللحية وهو طبيب يسمى السير جون ماندفيل فلا يقل عنها خيالاً، ولقد نشر (حوالي 1370) وصفاً لرحلاته المزعومة في مصر وآسيا وبولنده. وادعى جون أنه زار جميع الأماكن التي وردت أسماؤها في الأناجيل، "الدار التي ذهبت إليها مريم العذراء للتعلم"، والموضع الذي سخنت فيه الماء التي غسل بها إلهنا أقدام الرسل، والكنيسة التي فرت إليها مريم لتدر اللبن من صدرها الجليل، وفيها عمود من الرخام، اتكأت عليه، ولا يزال مرطباً بلبنها، ولم تزل الأرض لينة بيضاء حيث تساقط لبنها الأمثل، وبلغ جون ذو اللحية أوجه في وصفه الصين، فلم تكن فصاحة مقيدة بالعلم إلا قليلاً. ولكنه كان يدنو من العلم، بين الحين والحين، كما هو الحال في قوله كيف ظل أحد الناس يتجه ناحية الشرق إلى أن عاد إلى وطنه الجديد، مثل مستر باسبارتو في رواية جيل فيرن. وشرب مرتين من "نبع الشباب"، ولكنه عاد إلى أوربا كسيحاً بداء النقرس، الذي ربما أصيب به لعدم مغادرته ليبج على الإطلاق.
ولقد ترجمت هذه الرحلات إلى مائة لغة وكان لها وقع أدبي عظيم بين الناس أواخر القرون الوسطى.
وأروع ما أنتجه الأدب الفرنسي، في لبقرن الرابع عشر فيما نعلم هو كتاب "التواريخ" الذي نظمه جان فرواسار. هذا المؤلف ولد في فالنسيين عام 1338، وعكف على نظم الشعر في بواكير حياته، حتى إذا بلغ الرابعة والعشرين، عبر البحر إلى لندن، ليضع أشعاره، عند قدمي فيليبا أميرة هانو، زوجة الملك إدوارد الثالث. فأصبح كاتم سرها، ولقي أشراف الإنجليز، وأعجب بهم إعجاباً صريحاً، جعله غير محايد(22/141)
في تاريخه. وسرعان ما انتزعه غرامه بالرحلة، فساقه إلى اسكتلتد، وبردو وسافوي وإيطاليا. ولما عاد إلى هانو أصبح قسيساً وكاهن شيماي. وهناك صمم على أن يعيد تأليف كتابه نثراً، وأن يتوسع فيه من أوله ومن آخره. ورحل مرة أخرى إلى إنجلترا وفرنسا، يجمع المواد في مثابرة ودأب. حتى إذا عاد إلى شيماي وقف على إتمام هذا التاريخ "النبيل الممتع .. الذي ستشتد الحاجة إليه بعد وفاتي .. ليشجع كل القلوب الباسلة، ويعطلها على مثل شريفة". وليست هناك قصة خيالية أروع منها، والقارئ الذي يبدأ هذه الصفحات، المسهبة، الألف والمائتين، وهو ينوي أن يقفز من قمة إلى قمة، سيجد الأدوية مشوقة أيضاً، وسيسير في القراءة في بهجة وأناة إلى النهاية. ولم يشغف هذا القسيس-مثله في ذلك مثل يوليوس الثاني-بغير الحرب. وفتن بالحركة والشهامة والأرستقراطية، أما العامة فلم يلجوا صفحاته إلا باعتبارهم ضحايا النزاع الذي شجر بين الأشراف. ولم يبحث في الحوافز، واعتمد في ثقة بالغة على الروايات المزوقة والمنحازة، ولم يزعم أنه يفلسف الأخبار. فقد كان إخبارياً فحسب بل إنه أعظم الإخباريين جميعاً.
وتحدد المسرحية العصر الذي تمثل فيه، ولقد احتلت المسرحيات الدينية والأخلاقية التي عرفت باسم "المعجزة" كما احتلت الفواصل والهزليات المسارح المؤقتة التي تشيد في المدن. وأخذت الموضوعات غير الدينية تزداد على الأيام واقترن المرح بالفحش في العادة، بيد أن الموضوعات الدينية ظلت مسيطرة، ولم يستشعر الناس الملل قط من المناظر التي تمثل آلام المسيح. ولقد تخصصت أهم فرقة تمثيلية في هذا العصر وهي فرقة الإخوان الباريسية التي تمثل آلام السيد المسيح في تمثيل قصة الفترة القصيرة التي قضاها المسيح في أورشليم. وبلغت إحدى هذه المسرحيات التي ألفها "أرنول جريبان" خمسة وثلاثين ألف سطر.(22/142)
وكانت للشعر جماعاته أيضاً. فقد أنشأت تولوز عام 1323 أكاديمية للعلم البهيج، وعملت المباريات العامة تحت رعايتها على إحياء فن الشعراء الجوالين "التروبادور" وطابعهم. وتألفت جمعيات أدبية مماثلة في أمين ودواي وفالنسين، وهي التي مهدت الطريق للأكاديمية الفرنسية التي أنشأها ريشيليو. واتخذ الملوك والسراة لهم شعراء مثلما اتخذوا منشدين ومهرجين يلحقون بحاشيتهم. وضم "رينيه الطيب" دوق انجوواللورين، وملك نابلي بالاسم فقط، رهطاً من الشعراء والفنانين إلى بلاطه في كل من نانسي وتاراسكوان وايكس ان بروفنس، ونافس أحسن ناظم للقوافي، حتى لقب "بآخر التروبادور". وبسط شارل الخامس رعايته على أوستاش ديشان، الذي شبب بالنساء، وتزوج ثم شهر بالزواج في قصيدة عنوانها مرآة الزواج، تبلغ اثني عشر ألف بيت ونعى على عصره الشقاء والخسة:
يا عصر الرصاص، أيها الزمن المفسود، أيتها السماء من النحاس،
أيتها الأرض بلا ثمر، مجدبة لا خير فيها،
أيها الناس الملعونون، بكل أسى مفجع ..
أليس من الحق أن أندبكم جميعاً؟
لأنني لا أرى شيئاً في عالم الغد،
المفعم بالحزن الممعن في الاضطراب.
ويشمل في فعاله كل شر.
واليوم يحل زمن البلاء ..
ونشأت كريستين دي بيزان في باريس، على أنها ابنة الطبيب الإيطالي لشارل الخامس، فلما ترملت كان عليها أن تعول ثلاثة أطفال أقارب فوفقت إلى ذلك بأعجوبة بقرض الشعر الرائع وتأليف التاريخ الوطني، وهي تستحق منا تحية عابرة بوصفها أول امرأة في أوربا الغربية استطاعت أن تعيش بقلمها. أما ألين شارتيه فكان أسعد حظاً، فإن قصائده في الحب(22/143)
مثل قصيدته "الفاتنة بلا رحمة" ذات الإيقاع الحسن التي زجر فيها النساء على إخفاء مفاتنهن-قد أسرت الطبقة الأرستقراطية، حتى قيل أن مارجريت أميرة اسكتلندا، التي أصبحت ملكة فرنسا بعد ذلك، قبلت شفتي الشاعر وهو نائم على إحدى الأرائك. وسرد أتين باسكييه، هذه الأسطورة، في قصص خلاب، بعد مرور قرن من الزمان ..
لقد أعجب الكثيرون من هذا الصنيع ولكي أقول الحقيقة فإنني أقرر أن الطبيعة، قد وضعت روحاً جميلة في جسم ممعن في القبح-وهنا قالت السيدة أنهم ألا يعجبوا من هذا الغموض، فليس الرجل، هو الذي رغبت في تقبيلهِ ولكنني قبلت الشفتين اللتين نطقتا بهذه الكلمات الذهبية.
ولم يكن مقدراً على أرق شعراء فرنسا في هذا العصر أن يقول الشعر، إذ كان ابن أخي شارل السادس ووالد لويس الثاني عشر. ولكن شارل دوق أورليان أسر في أجنكور، وأمضى خمساً وعشرين سنة (1415 - 1440) معتقلاً اعتقالاً ليناً بإنجلترا. فغمر الهم قلبه وتأسى بنظم الشعر الرقيق في الغزل ومحنة فرنسا. ولبثت فرنسا بأسرها تنشد أغنيتين في الربيع:
لقد بدل العام وشاحه البارد.
وشاح الريح والمطر والهواء المرير،
وسار مؤتزراً حلة من الذهب.
حلة من الشمس الضاحكة والفصل الجميل،
وما من طائر أو وحش من وحوش الغابة أو الفلاة
إلا ويعلن بصياحه أو غنائه،
إن العام يطوي وشاحه البارد.
بل إن إنجلترا كان فيها فتيات جميلات، فنسي شارل أحزانه عندما مر به الحب الهادئ:
يا إلهي .. ما أجمل أن أراها،(22/144)
يا إلهي الرحيم الودود العادل ..
إن كل فضيلة من الفضائل المختارة التي فيها
لجديرة بالمديح النادر.
ومن ذا الذي يمل جمالها،
النضر كل يوم نضرة لا تضارع؟
يا إلهي .. ما أجمل أن أراها،
يا إلهي الرحيم الودود العادل ..
وسمح له آخر الأمر أن يعود إلى فرنسا، فجعل من قلعته في بلوا، موئلاً بهيجاً للأدب والفن، حيث استقبل فيللون على الرغم من فقرهِ وجرائمه، ولما بلغ شارل من العمر أرذله، ولم يعد قادراً على المساهمة في مرح أصدقائه الشبان، نظم اعتذاره إليهم في أبيات رقيقة، تصلح أن تكتب على قبرهِ:
حي بالنيابة عني جميع الصحاب
الذين تلقاهم الآن في ألفة،
وقل كم أكون سعيداً
إذا أصبحت واحداً من ثلتهم لو كان ذلك ممكناً،
فإن الشيخوخة تقتلني.
ولقد تحكم الشباب في حياتي مرحاً في زمن طال به العهد
ولكنه الآن ولى وذهب.
وكنتُ عاشقاً، ولن يقدر لي أكثر من ذلك أبداً،
ولقد عشتُ في باريس حياة ممعنة في الحرية.
وداعاً فلن أشهد بعد ذلك أياماً طيبة ..
حيّ بالنيابة عني جميع الصحاب.(22/145)
8 - الفن
كان فنانو فرنسا لهذا العهد أكثر تفوقاً من شعرائها، ولكنهم شقوا أيضاً بإمحالها. ولم تقدر لهم هناك رعاية كريمة يعتمدون عليها في المدينة أو الكنيسة أو عند الملك. "والولايات التي عبرت عن كرامة طوائفها، بالمعابد الضخام، وتسامت بهذا التعبير إلى عقيدة لا يرقى الشك إليها، أضعفها وقضى عليها ازدياد سلطان الملك إلى جانب التوسع في الاقتصاد من المجال المحلي إلى المحال القومي ولم تعد الكنيسة الفرنسية تمول أو تلهم، مثل المباني الهائلة، التي ارتفعت على أرض فرنسا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ولقد انحطت العقيدة، كما اضمحلت الثروة، وتبدد الأمل الذي دفع في هذه القرون إلى الحروب الصليبية، وتشييد الكاتدرائيات في وقت واحد أي العمل والصلاة التي تحث عليه-فقد نشوته المنتجة وكان الأمر يحتاج في العمارة إلى طاقة أكبر من طاقة القرن الرابع عشر، ليتم ما بدأه عصر أشد فتوة. وعلى الرغم من هذا فقد أنجز جان رافي كاتدرائية نوتردام في باريس (1351)، وأضافت "رون" كنيسة صغيرة للعذراء عام (1302) إلى كاتدرائية سبق أن أنشئت باسمها، وشيدت بواتييه لكاتدرائيتها عام (1379) واجهتها الغربية الشامخة.
وأخذ الطراز المشع للتخطيط القومي (1275)، يسلم قيادة شيئاً فشيئاً، إلى طراز قوطي هندسي، يعتمد على أشكال اقليدية بدلاً من الخطوط المشعة. وعلى هذا النحو شيدت بودو، كاتدرائيتها (1320 - 1325) وأقامت كان عام (1308) برجاً رشيقاً، مستدق الطرف، على كنيسة سان بيير، ولقد تحطم هذا البرج في الحرب العالمية الثانية، وزودت اكسير كاتدرائيتها بصحن جديد عام (1355)، وأضافت كوتانس عام (1371 - 1386) وأمين عام (1375)، كنائس صغيرة(22/146)
رائعة إلى مزاريهما التاريخيين، وأكدت رون مجدها المعماري بإقامة الكنيسة المجيدة لسانت أوين (1318 - 1545).
ولما تصورت فرنسا أنها منتصرة، في الرابع الأخير من القرن الرابع عشر، أظهر معماريوها طرازاً قوطياً جديداً، مرحاً في روحهِ، مسرفاً في تفاصيل النقوش المحفورة، معقداً مبهرجاً في تفريقاته الزخرفية، مسرفاً إلى حد غير معقول في الزينة. وأصبح العقد القوطي، أو العقد المدبب لقوس متصل، وقتذاك عقداً مخروطياً لقوس مقلوب، كلسان اللهب الذي أعطى هذا الطراز اسمه (المشع). ولم تعد تستعمل تيجان العمد، وتلولبت العمد أو خططت، وأفرط في حفر أماكن المرتل، وحجبت بستائر حديدية من شرائط دقيقة، وأصبحت الزخارف المدلاة كأعمدة الثلج الجامد المتدلي من سقوف المغاور والكهوف، وصارت القباب تيهاً من الأضلاع التي تتراوح بين الظهور الخفاء، وابتدعت فواصل النوافذ، عن الأشكال الهندسية القديمة الجامدة، وفاضت في رشاقة فاتنة وتعمد لا يوصف، وبدت الأبراج وكأنها شيدت من الزخرف، واختفى البناء خلف الزينة. وكانت غرة هذا الطراز الجديد في الكنيسة الصغيرة التي شيدت باسم القديس يوحنا المعمدان عام (1375) في كاتدرائية أمين، وما أن جاء عام 1475)، حنى كان هذا الطراز قد غلب على فرنسا، وبدأ عام 1436، يحقق إحدى معجزاته الرقيقة، وهي كنيسة سان ماكلو في رون. وربما ساعد، على انتصار الطراز المشع في النصف الأول من القرن الخامس عشر، استرداد الثقة وبعث الروح العسكرية على يد جان دارك وشارل السابع، ونمو الثروة التجارية، كما يمثلها جان كير، ونزوع الطبقة البرجوازية، الصاعدة إلى الزينة المترفة. وظل الطراز القوطي في هذا الشكل النسوي، إلى أن أعاد الملوك والنبلاء الفرنسيون من حروبهم في إيطاليا، أفكار عصر النهضة المعمارية الكلاسيكية.(22/147)
ويحمل نمو العمارة المدنية في أعطافهِ، ظهور الطابع الدنيوي لهذا العصر. ورأى الملوك والأمراء، أن هناك ما يكفي من الكنائس، فابتنوا لأنفسهم قصوراً، تكون فتنة للشعب، ومأوى لحظياتهم، وأنفق الأغنياء من نواب المقاطعات، ثروات طائلة على دورهم وأعلنت المجالس البلدية عن غناها بتشييد دور البلدية الفخمة، وصممت بعض المستشفيات مثل مستشفى بون تصميماً جميلاً طليقاً لا بد أنه قد أسبغ الصحة على المرضى. وجمع الباباوات والكرادلة، حشداً منوعاً من الفنانين، وعضدوهم، بيد أن بنائي فرنسا ورساميها مثاليها، كانوا يلتفون حول نبيل أو ملك. وشيد شارل الخامس قصر فنسن عام (1364 - 1373)، والباستيل عام (1369)، واستقدم الفنان واسع الأفق أندريه بونيفو ليحفر صوراً لفيليب السادس، وجون الثاني وشارل نفسه للمقابر الملكية، المصففة، الرائعة، التي تزحم ممشى كنيسة سانت دينيس وسردابها عام (1364). وشيد لويس أمير أورليانز قصر بيرفوند، وكان جون دوق بري، على الرغم من قسوتهِ على الفلاحين، واحداً من أعظم رعاة الفنون في التاريخ.
وهو الذي صور له بونيفيه عام 1402 كتاب المزامير. وهو ليس إلا واحداً من سلسلة المخطوطات المزوقة، الموضوعة بالقرب من القمة، فيما يمكن أن يسمى غرفة الموسيقى، في فنون الرسم. ولهذا السيد الفطن نفسه، صور جاك دي هسدن "الساعات الصغيرة" و "الساعات الجميلة" و "الساعات الكبيرة"، وهي تمثل كتب "الساعات" للصلوات اليومية الكنيسة. وأخرج الإخوان بل جيهنانيكان وهرمان مالويل من لمبورج، الساعات الغنية (1416) وهي خمس وستون منمنمة تصور الحياة في فرنسا ومناظر منها: النبلاء يصيدون، والفلاحون يعملون، ومنظر ريفي يضفي عليه الجليد صفاء. وتعد هذه الساعات الغنية المستورة الآن، حتى عن أعين السائحين، في متحف كونديه في شانتلي، والمنمنمات التي صورت للملك الطيب، رينية صاحب انجو آخر انتصارات فن التزويق، ذلك لأن هذا الفن(22/148)
قد نافسه في القرن الخامس عشر الحفر على الخشب وانتشار المدارس الموفقة في الرسم على الجدران واللوحات في فونتنبلو وأمين وبورجس، وتورومولان وافنيون وديجون إذا لم تتحدث عن أساتذة الفن الذين كانوا يعملون لدوق برجنديا. وأدخل بونيفيه وفان ايكس، طرز التصوير الفلمنكية إلى فرنسا، وكذلك عن طريق سيمون مارتيني وغيره من الإيطاليين في افنيون، وعن طريق الدولة الإنجيفية في نابلي عام (1368 - 1435). ولقد أثر الفن الإيطالي في الفرنسي، قبل أن تغزو الجيوش الفرنسية إيطاليا بزمن طويل. حتى إذا جاء عام 1450، كان الفن الفرنسي، قد نهض على قدميه، وسجل انتسابه إلى هذا العصر بصورة الورع لفيلينوف وهي بلا توقيع، وتوجد الآن في اللوفر.
ويعد جان فوكيه، أول شخصية واضحة، في فن التصوير الفرنسي، ولقد ولد في تور عام (1416)، وتعلم سبع سنوات في إيطاليا (1440 - 1447)، وعاد إلى فرنسا، وهو متحيز للمهاد المعمارية الكلاسية التي أصبحت في القرن السابع عشر، هوساً، على يد نيكولاس بوسان وكلود لورين. ومهما يكن من شيء، فقد رسم صوراً متعددة لأشخاص وهي تكشف بقوة عن مقومات شخصياتهم: مثل جوفينال كبير أساقفة أورسان وحاكم فرنسا- وهو عبوس حازم، وليس ممعناً في التقوى إلى الحد الذي جعله غير صالح للحكم، وأتين شيفالييه وهو القائم على خزانة المملكة- رجل مهموم، منزعج من استحالة الحصول على المال بالسرعة، التي تنفقه بها الحكومة، وشارل السابع نفسه، بعد أن جعلت منه أنييه سورل رجلاً، وآنيته في اللحم الوردي، وتحول على يد فوكيه إلى عذراء هادئة سنية بعينين خفيفتين وصدر بارز وزوق جان لشفاييه، كتاب الصلوات، وبدد ملل إقامة بمناظر، نظرة، من وادي الوار. وتحتفظ رصيعة مطلية بالميناء في اللوفر، بصورة فوكيه كما رأى نفسه-(22/149)
صورة ليس لها مثل رفائيل سيما الأمارة، يصعد إلى أعلى، وإنما صانع بالفرشاة، في رداء العمل، حازم حي، مهموم مصمم، وعلى جبينه سمة قرن كامل من الفقر. مع ذلك، فقد مضت حياته، بلا ملمات من حكم ملك آخر، وارتقى، إلى أن أصبح آخر الأمراء "مصور الملك" لويس الحادي عشر وبعد جهد السنين يأتي بالنجاح، وسرعان ما يأتي الموت بعد ذلك.
9 - جان دارك
1412 - 1431
في عام 1422 نادى ابن شارل السادس عشر الذي تبرأ منه أبوه، بنفسه ملكاً باسم شارل السابع. ونظرت فرنسا في عزلتها، إليه لينقذها، ثم ران عليها يأس عظيم وكان هذا الشاب الجبان، فاتر الهمة عديم الاكتراث في العشرين من عمره، لم يصدق أنه يستحق الملك الذي أعلنه، وربما شارك الفرنسيين شكوكهم في شرعية مولده. وتظهر الصورة التي رسمها فوكيه له، وجهاً حزيناً ساذجاً، تحت عينيه جيوب، وأنف ممتد. وكان متديناًً إلى درجة الفزع، يسمع ثلاث صلوات كل يوم، ولا يترك ساعة من ساعات الكنيسة تمر دون أن يتلو، ما يناسبها من صلاة، وكان يخلوا بين هذه الأوقات، إلى رتل طويل من الحظايا، وأنجب اثني عشر مولوداً فرضهم على زوجته الفاضلة. ورهن جواهره، ومعظم الملابس التي على كاهله، ليمول مقاومة بلاده إنجلترا، ولكنه لم يكن مفطوراً على الحرب، فترك الصراع لوزرائه وقواده. ولم يكن أحد منهم متحمساً أو متيقظاً، وتشاجر بعضهم مع بعض في حقد- اللهم إلا جان ذينو الأمين، والابن غير الشرعي للويس، دوق اورليان. ولما تحرك الإنجليز جنوباً لمحاصرة تلك المدينة عام (1428)، لم يتفقوا على خطة للوقوف في وجههم، وكانت الفوضى، طابع ذلك الزمان، وتقع اورليان، على حنية اللوار، فإن سقطت، انظم الجنوب بأسره، وهو المتردد في الولاء وقتذاك لشارل السابع(22/150)
إلى الشمال، ليجعل من فرنسا مستعمرة إنجليزية. وأخذ الشمال والجنوب معاً يرقبان الحصار، ويصليان من أجل حدوث معجزة.
وأخذت دمريمي القرية البعيدة، الهاجعة إلى جوار الموز على حدود فرنسا الشرقية تراقب الصراع بعاطفة دينية وطنية. وكان الفلاحون هناك من أبناء القرون الوسطى في إيمانهم وشعورهم، في العقيدة والشعور، يعيشون من الطبيعة، ولكن فيما هو فوق الطبيعي، وكانوا واثقين من أن الأرواح تعيش في الهواء المحيط بهم، وأقسم كثير من النساء، أنهن رأينها وتحدثن معها-واعتقد الرجال مثلما اعتقد النساء، وهو ما كان سائداً في أنحاء الريف الفرنسي، أن الإنجليز شياطين، تخفي أذنابها، في أذيال معاطفها وراجت نبوءة في القرية، وهي أن الله سيرسل في يوم من الأيام، فتاة عذراء، تنقذ فرنسا من هؤلاء الشياطين، وتضع حداّ لحكم الحرب الشيطانية. وهمست زوجة عمدة دمريمي، بهذه الآمال إلى جان ابنتها في العماد.
وكان أبوا جان واسمه جاك دارك، فلاحاً ناجحاً، ولعله لم يلق بالاً، إلى مثل هذه الحكايات. وقد عرفت جان التقوى، بين هؤلاء القوم الأتقياء، وأغرمت بالذهاب إلى الكنيسة، وكانت تعترف بانتظام وحرارة وشغلت نفسها بجمع الصدقات للكنيسة وألفت الدواجن والطيور، في حديقتها الصغيرة، أن تأكل من يدها. واتفق لها في أحد الأيام، أن تخيلت، وهي صائمة، أنها رأت، نوراً عجيباً فوق رأسها، وأنها سمعت صوتاً يهتف بها "ياجان كوني طفلة طيبة مطيعة. واذهبي دائماً إلى الكنيسة". وكانت وقتذاك (1424) في الثالثة عشرة من عمرها، وربما أسبغت عليها التغيرات في وظائف أعضائها، مسحة صوفية في هذه المرحلة الممعنة في الانفعال من مراحل حياتها. وتحدثت "هواتفها"- كما نعتت هذه الرؤى- بأحاديث كثيرة طوال السنوات الخمس بعد ذلك، حتى خيل إليها آخر الأمر، أن(22/151)
الملك ميكائيل نفسه يأمرها: "اذهبي لإغاثة ملك فرنسا، ولسوف تستعيدين ملكه .. اذهبي إلى السيد بودريكورت، القائد في فوكولور، وسيقودك إلى الملك". وقال الهاتف في مرة أخرى: "يا ابنة الله، ستقودين الدوفان إلى ريمز، حتى يستطيع هناك أن يحصل على رسامته وتتويجه" ذلك لأن فرنسا كانت تشك في حق شارل الإلهي في الحكم، فلم يحصل على رسامته من الكنيسة، ولكن إذا صب الزيت المقدس على رأسه، فإن فرنسا تقف من ورائه صفاً واحداً وفي ذلك إنقاذها.
وبعد تردد طويل مزعج أطلعت أبويها على رؤياها. فذهل أبوها عندما فكر في فتاة بريئة تضطلع بمثل هذه الرسالة الخيالية، قال إنه لن يسمح لها بذلك وتوعدها بأن يغرقها بيديه. وأراد أن يمعن في تقييدها فأقنع، شاباً قروياً، أن يصرح بأنها وعدته بأن تمنحه يدها بالزواج، فأنكرت قوله، وفرت بعذريتها التي نذرتها لقدسيتها، ولكي تطيع أوامرهم، إلى عم لها، وألحت عليه، أن يأخذها إلى فوكلير عام (1429). وهناك نصح قائد بودريكور، عمها، أن يصفع الفتاة، البالغة من العمر سبع عشرة سنة، وأن يعيدها إلى والديها، ولكن جان لما شقت طريقها، ومثلت أمامه، وصرحت بجنان ثابت، أنها مبعوثة من الله لمساعدة الملك شارل على إنقاذ أورليان، ذاب القائد المتعاظم، فأرسل إلى شينون، وهو يفكر في أن في الفتاة مساً من الشياطين، يطلب إذن الملك بلقائها. وجاء الإذن الملكي، وأعطى بودريكور الفتاة سيفاً، وابتاع لها أهل فوكولير، جواداً، ووافق ستة من الجنود أن يدلوها على الطريق، في الرحلة الطولة المحفوفة بالمخاطر، عبر فرنسا إلى شينون. وتسربلت بزي الرجال العسكري-، سترة وصدار وجوربين طويلين وطماق ومهمازين-وقصت شعرها كالفتيان- ولعلها فعلت ذلك منعاً لتقحم الرجال، وتيسيراً لركوب الجواد اكتساباً لموافقة القواد والجند. وعبرت في رصانة وثقة مدنا، اختلفت في النظر إليها بين الخوف منها باعتبارها ساحرة، أو إجلالها باعتبارها قديسة.(22/152)
وبعد أن قطعت في رحلتها أربعمائة وخمسين ميلاً، في أحد عشر يوماً، بلغت الملك ومجلسه. ومع أن حلته البسيطة، لم تكن تنبئ عن أبهة الملك، فقد عرفته جان (كما أنبئنا-وكيف ترفع الأسطورة يدها من تاريخ هذه الفتاة) لفورها، وحيته بأدب قائلة .. "أمدك الله بطول العمر، أيها الدوفان الكريم ... إن اسمي جان لا بوسل إن إله السموات يتحدث إليك بواسطتي، وهو يقول إنك سترسم وتتوج في ريمز، وتكون وكيلاً لملك السموات، الذي هو ملك فرنسا". وقال أحد القساوسة وهو الذي أصبح راعي كنيسة العذراء، فيما بعد، إنها أكدت للملك، في مجلس خاص، شرعية مولده. وظن بعضهم، أنها قبلت في أول لقاء لها مع شارل، أن يكون رجال الدين أصحاب الحق في تفسير هواتفها، وأنها اتبعت قيادتهم في حديثها مع الملك، وعن طريقها يحل الأساقفة، محل القادة في صياغة السياسة الملكية. ولما كان شارل ما يزال مرتاباً من أمرها، فقد أرسلها إلى بواتييه ليمتحنها العلماء هناك. فلم يجدوا فيها شراً وكلفوا بعض النسوة أن يتأكدوا من عذريتها، واطمأنوا من هذه الناحية الحساسة أيضاً. لأنهم اعتقدوا أن للعذراى، مثلهن في مثل مريم العذراء بعض المزايا باعتبارهن وسائل الله ومبعوثاته.
وكان دينوا، قد أكد للحامية في أورليان، أن الله سيغيثهم قريباً بشخص ما. فلما سمع عن جان، كان بين مصدق ومكذب لآماله، ورجا البلاط، أن يرسلوها إليه تواً. فوافقوا، وأعطوها حصاناً أسحم وأحاطوها بدرع أبيض، ووضعوا بيدها علماً أبيض، مزيناً بزهرة فرنسا، وأرسلوها إلى دينوا، مزودة بجمع من الحرس، يحملون الزاد للمحصورين. ولم يكن من العسير، أن تجد منفذاً إلى المدينة (29 إبريل عام 1429)، فلم يكن الإنجليز، يحدقون بها إحداقاً تاماً، ولكنهم قسموا رجالهم الذين يتراوحون بين ألفين وثلاثة آلاف (أي أقل من حامية أورليان) على اثني عشر(22/153)
حصناً، في أماكن استراتيجية بالضواحي. وحيا أهل أورليان جان، باعتبارها مريم العذراء مجسدة، واتبعوها مؤمنين بها إلى الأماكن المحفوفة بالمخاطر، وصحبوها إلى الكنيسة، يصلون إذا صلت، ويبكون إذا بكت. وترك الجند، حظياتهم بأمرها، وجاهدوا، لكي يثبتوا تطهرهم، ووجد أحد قادتهم وهو لاهير، أن ذلك مستحيلاً، وجاءته فتوى من جان، أن يقسم على عصا قيادته. وهذا المغامر الجاسكوني، الذي نطق بالدعاء المشهور "إلهي مولاي أتوسل إليكَ أن تعمل من أجل لاهير، ما يعمله هو من اجلك لو أنك كنت القائد، وكان لا هيرا هو الله".
وأرسلت جان كتاباً إلى تالبوت، القائد الإنجليزي، تقترح عليه، أن يتحد الجيشان وأن يكونوا إخوة، وأن يتقدموا إلى فلسطين، لتخليص الأرض المقدسة من الترك، ورأى تالبوت، أن هذا يخرج عن نطاق مهمته. وبع ذلك بأيام قلائل، تجاوز فريق من الحامية الأسوار، دون أن يعلموا دينوا أو جان وهاجموا حصناً بريطانياً, فأبلى الإنجليز بلاءً حسناً، وتقهقر، الفرنسيون، ولكن دينوا وجان، سمعا بهذه الفتنة، فركبا جواديهما واستحثا رجالهما أن يعودوا إلى الهجوم من جديد، ونجح الهجوم، وترك الإنجليز مكانهم وفي اليوم التالي هاجم الفرنسيون حصنين آخرين، واستولوا عليهما، وكانت العذراء وسط المعمعة، وفي الصدام الثاني، اخترق سهم كتفها، فضمد الجرح وعادت إلى المعركة. وأخذ مدفع جويوم ديزي، القوي يصب في الوقت نفسه على قلعة الإنجليز في ليه توريل، قذائف، تزن كل منها مائة وعشرين رطلاً. وأعفيت جان من رؤية الفرنسيين وهم يذبحون خمسمائة من الإنجليز عندما سقط هذا المعقل الحصين. وانتهى تالبوت إلى أن قواته، لا تفي بالحصار، فأمرها بالانسحاب شمالاً (8 مايو). وابتهجت فرنسا بأسرها، ورأت في "عذراء أورليان" إرادة الله ولكن الإنجليز، قالوا إنها ساحرة، وأقسموا أن يأخذوها حية أو ميتة.(22/154)
وفي اليوم التالي لانتصارها خرجت جان لتلقى الملك، المتقدم من شينون، فحياها بقبلة، ووافق على خطتها، في السير عبر فرنسا إلى ريمز، وإن كان معنى ذلك المرور بأرض معادية. وقابل جيشه قوات إنجليزية في مونج وبوجنسي وباتاي، وأحرز انتصارات حاسمة، لطخوها بمذابح انتقامية، أفزعت العذراء، ولما رأت جندياً فرنسياً، يذبح أسيراً إنجليزياً، ترجلت عن جوادها، وأمسكت برأس الرجل المحتضر في يديها، وواسته، وأرسلت تطلب كاهناً، يعترف له. وفي الخامس عشر من يوليو، دخل الملك ريمز، وفي السابع عشر، رسم وتوج في احتفالات رائعة في الكاتدرائية العظيمة. ورأى جاك دارك، وهو عائد من دومري ابنته، في زي الرجال، تمتطي صهوة جوادها في أبهة عبر عاصمة فرنسا الروحية، فلم يدع الفرصة تفوته، وضمن بواسطتها، إعفاء قريته من الضرائب. واعترت جان نوبة عابرة، اعتقدت فيها أن مهمتها، قد انتهت، وفكرت، "إن رضى الله أن أرحل وأرعى الأغنام مع أختي وأخي".
ولكن حمى القتال مازجت دماءها. ومع أن نصف فرنسا اعتقد أنها ملهمة ومقدسة، فقد كادت تنسى الآن أنها قديسة، وأصبحت محاربة. كانت حازمة مع جنودها، تؤنبهم في حب، وجردتهم من وسائل التسلية التي يعدها جميع الجنود حقاً لهم، ولما رأت بغيتين في صحبتهم، جردت سيفها من غمده، وضربت إحداهما بقوة، تحطم معها السيف وماتت المرأة، وتبعت الملك وجيشه في غارة على باريس، وكان الإنجليز لا يزالون يحتلونها، وكانت في العربة عند تطهير الخندق الأول، وما أن اقتربت من الخندق الثاني، حتى أصيبت بسهم في فخذها، ولكنها تحث الجنود. وفشل هجومهم، وبلغت إصاباتهم ألفاً وخمسمائة، فلعنوها لأنها ظنت أن الصلاة قد تسكت مدفعاً، ولم يكن ذلك من تجاريبهم. واتهمها بعض الفرنسيات اللائي كن يتسقطن أول إخفاق لها بأنها قادت هجوماً يوم ميلاد العذراء(22/155)
(8 سبتمبر 1429). فانسحبت بفرقتها إلى كومبيين، ولما حاصرها هناك البرغنديون المتحالفون مع الإنجليز، قادت هجوماً ببسالة، ولكنه صد، وكانت آخر من انسحب، ووجدت أبواب المدينة قد أوصدت قبل أن تبلغها. فسحبت عن جوادها، وأخذت أسيرة إلى جون صاحب لكسمبورج (24 مايو 1430) وكرمها هذا السيد وأسكنها في قلاعه في بوليو وبوريفوار.
وأوقعه حسن حظه في مأزق خطير. فإن مولاه، فيليب الطيب صاحب برجنديا، طالب بالغنيمة الثمينة، وحث الإنجليز، سيرجون على أن يسلم الفتاة إليهم، آملين أن يؤدي إعدامها العلني إلى تحطيم ذلك السحر الذي طالما قوى من عزائم الفرنسيين. وأرسلوا بيير كوشون، أسقف بوفيه، الذي طرد من كنيسته لمناصرته الإنجليز، إلى فيليب بالسلطة والمال ليتفاوض على نقل العذراء إلى السلطات الإنجليزية، ووعدوه إن وفق في مهمته، أن ينصبوه كبيراً لأساقفة روين. وكان دوق بدفورد، يدير جامعة باريس، فناشد علمائها، أن ينصحوا فيليب بأن يسلم جان. فقد تكون ساحرة خارجة على الدين، إلى كوشون باعتباره رئيس الكهنوت في المنطقة التي أسرت فيها. ولما وفضت هذه المطالب، قدم كوشون إلى فيليب وجون رشوة مقدارها عشرة آلاف كراون من الذهب. ولم تنجح هذه المحاولة أيضاً، ففرضت الحكومة الإنجليزية حظراً على جميع الصادرات إلى الأراضي الواطئة. فواجهت فلاندرز الإفلاس، وهي أغنى مصدر لموارد الدوق. ووافق جون على الرغم من توسلات زوجته، كما وافق فيليب على الرغم من لقب "الطيب" الذي يتسمى به، على قبول الرشوة آخر الأمر، فأسلما العذراء إلى كوشون، الذي أخذها إلى روين. ومع أنها كانت من الناحية الرسمية هناك، من سجناء محكمة التفتيش، إلا أنها وضعت تحت الحراسة الإنجليزية في برج قلعة، يحتلها ايرل ورويك بصفته حاكم روين. ووضعت الأغلال في قدميها، ولفوا وسطها بقيد وربطت إلى جذع من الخشب.(22/156)
وبدأت محاكمتها في الواحد والعشرين من فبراير عام 1431، واستمرت إلى يوم الثلاثين من مايو. ورأس كوشون المحاكمة، وقام أحد كهانه مدعياً عاماً. ومثل راهب دومينيكي محكمة التفتيش، وأضيف حوالي أربعين من علماء الدين والشريعة إلى هيئة المحكمة. وكانت التهمة هي الهرطقة. وأفتت الكنيسة بأن ادعاء تلقي الوحي الإلهي هرطقة عقوبتها الإعدام، وذلك لكي تقمع الفريق المفزع من المتجرين بالسحر، الذين ابتليت بهم أوربا. فأحرقت الساحرات، لادعائهن القوى الخارقة، والرأي الشائع، بين رجال الكنيسة والمدنيين، أن الذين يدعون مثل هذا الادعاء، يكونون قد حصلوا في الواقع على القوى الخارقة من الشيطان. ويبدو أن بعض قضاة جان، كانوا يعتقدون هذا في قضيتها، وفي رأيهم أن رفضها الاعتراف بأن سلطة الكنيسة باعتبارها، وكيل الله على الأرض، تنسخ أوامر هواتفها، يثبت أنها ساحرة. ثم أخذ أغلبية أعضاء المحكمة بهذا الرأي، ومع ذلك فقد تأثروا من بساطتها الصريحة في أجاباتها، وبتقواها وطهارتها الواضحتين، فقد كانوا بشراً، ويبدو أنهم شعروا بقدر عظيم من الشفقة نحو هذه الفتاة التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، وكان من الواضح أنها ضحية الخوف من الإنجليز. قال وروك بصراحة الجندي "إن ملك إنجلترا قد دفع فيها ثمناً باهظاً، وهو لن يتركها مهما يكن، تموت ميتة طبيعية". واقترح بعض أعضاء المحكمة أن الأمر ينبغي أن يعرض على البابا-وذلك يخلصها ويخلص المحكمة من السلطة الإنجليزية. وأبدت جان رغبتها في أن ترسل إليه، ولكنها عقدت مفاضلة قضت عليها، فإنها تعترف بسلطة العليا في شؤون العقيدة، أما فيما يتعلق بما فعلته إطاعة لهواتفها، فليس لها من قاضٍ غير الله. وأجمع القضاة على أن قولها هذا هرطقة. وقضت في المحاكمة شهوراً أنهكتها، وأقنعت ب، توقع على تنازل عما سبق أن قالته، ثم رأت أنها بهذا ستقضي حياتها سجينة في نطاق القضاء الإنجليزي، فسحب تنازلها، وأحاط الجنود(22/157)
الإنجليز بالمحكمة، وهددوا القضاة بالقتل، إذا لم تمت العذراء حرقاً. وفي الواحد والثلاثين من مايو، اجتمع نفر من القضاة وحكموا عليها الإعدام.
وفي الصباح نفسه، وضعن أكوام مرتفعة من الحطب في ساحة السوق بمدينة روين. ونصبت منصتان بالقرب منها-إحداهما لونشستر كاردينال إنجلترا وأساقفة، والأخرى لكوشون والقضاة، ووقف للحراسة ثمانمائة من الجنود البريطانيين. وأحضرت العذراء في عربة، يصحبها راهب أوغسطيني، واسمه، إسامبار، الذي صادقا إلى النهاية، معرضاً حياته للخطر. وطلبت صليباً، فسلمها أحد الجنود الإنجليز إياه، وقد صنعه من قضيبين من الخشب، فقبلته، ولكنها طلبت أيضاً، صليباً باركته الكنيسة، وأقنع إسامبار الموظفين، أن يحظروا إليها صليباً من كنيسة سانت سوفير. فزمجر الجند من التأخير لأن الوقت أصبح ظهراً. وسأل قائدهم "أتريدوننا أن نتناول غذاءنا هنا؟ ". فانتزعها رجاله من أيدي القساوسة، وساقوها إلى القائمة التي تشد إليها. ورفع إسامبار، أمامها صليباً، وصعد راهب دومينيكي معها إلى المحرقة. وأشعلت أكوام الحطب، وارتفعت ألسنة اللهب إلى قدميها. فلما رأت الراهب الدومينيكي، لا يزال إلى جانبها، ناشدته أن يهبط آمنا. وابتهلت إلى هواتفها، وقديسيها، والملك ميكائيل والمسيح، ودخلت في سكرات الموت. وتنبأ أحد كتاب سر الملك الإنجليزي بحكم التاريخ باكياً .. "قضى علينا، لقد أحرقنا قديسة".
وفي عام 1455 أمر البابا كاليكستاس Calixtus الثالث، بوحي من شارل ال"ابع، أن يعاد فحص الأدلة التي أدينت بها جان، وفي عام 1457 (وكانت فرنسا منتصرة حينذاك) أعلنت المحكمة الدينية التي أعادت النظر في الموضوع، إن الحكم الذي صدر عام 1431، ظالم وباطل. وفي عام 1920 عد البابا بيندكت الخامس عشر عذراء أورليان، بين قديسي الكنيسة.(22/158)
10 - فرنسا تبقى
1431 - 1453
يجب علينا ألا نبالغ في الأهمية الحربية لجان دراك، وربما كان في استطاعة دينوا ولاهير، أن ينقذا أورليان بدونها، فإن خططهما في الهجوم المتهور أحرزت النصر في بعض الوقائع والهزيمة في الأخرى، وكانت إنجلترا تحس تكاليف حرب المائة عام. ولقد وقع فيليب صاحب برجنديا وحليف إنجلترا، معاهدة منفصلة مع فرنسا، بعد أن مل الحرب، وزعزع تخلفه، قبضة الإنجليز على المدن التي غزوها في الجنوب، فتمكنت الواحدة بعد الأخرى من طرد الحاميات الأجنبية عنها. وأجلت باريس، البريطانيين عام 1436 بعد أن ظلت محتلة سبع عشرة سنة، وحكم شارل السابع آخر الأمر في عاصمة ملكه.
ومن عجيب ما يروى، أن هذا الرجل الذي لبث طويلاً كالخيال لا حول له ولا قوة، قد تعلم في ذلك الحين أن يحكم ويختار الوزراء الأكفاء، وأن يعيد تنظيم الجيش ويهدئ من ثورة البارونات وأن يفعل كل ما يحقق الحرية لبلاده، فما الذي أحدث هذا التحول؟ لقد حفزه إليه وحي جان، فما كان أضعفه-فيما يبدو-إذ لم يرفع إصبعاً لإنقاذه .. ويروي أن حماته الجديرة بالاحترام، يولاند أميرة أنجو هي التي أعانته بالرأي السديد، وشجعته على استقبال العذراء ومناصرتها. ونحن-إذا صدقنا الرواية-قلنا إنها قدمت لزوج ابنتها الحظية، التي ظلت تتحكم في قلب الملك عشر سنوات.
وكانت انييه سورل-وهذا اسمها-ابنه سيد في تورين. وكانت يتيمة في طفولتها، فنشأتها على الأخلاق الحميدة، إيزابل دوقة لورين. ثم صحبتها، وهي إذ ذاك في الثالثة والعشرين من عمرها، لزيارة البلاط الملكي في شينون عام (1432) أي بعد عام واحد من وفاة جان. وفتن شارل بجدائل شعرها الكستنائي، وأغرم بضحكتها، فآثرها لنفسه. ووجدتها يولاند سهلة الانقياد، فرأت أن تصطنعها في التأثير على الملك،(22/159)
وناشدت ابنتها ماري، أن تقبل هذه الحظية الأخيرة من حظيات زوجها. واستمرت مخلصة للملك، خائنة لعهود الزواج طوال حياتها، حتى إن ملكاً ممن جاءوا بعد ذلك وهو فرنسيس الأول، وكان صاحب خبرة طويلة بهذه الأمور امتدح، "سيدة الجمال كله" بأنها خدمت فرنسا أكثر من أي راهبة حبيسة في دير. " والتذ شارل طعم الحكمة من هاتين الشفتين". ولقد سمح شارل لها أن تخرجه من عادة الخمول والجبن إلى الجد والعزم. فجمع حوله رجالاً قادرين مثل الياور ريشمون، الذي قاد جيوشه، وجاك كير الذي أعاد الاستقرار إلى مالية الدولة، وجان بيرو، الذي جعلت مدفعيته، النبلاء المعارضين يلوذون الفرار والإنجليز يسرعون إلى كاليه.
وكان جاك كير مغامراً في التجارة، ورجلاً لا يعرف نسبه وحظه من التعليم قليل، ومع ذلك، كان يجيد العد، كما كان فرنسياً اجترأ على أن ينافس بنجاح البندقيين والجنوبيين والقطلانيين في التجارة مع الشرق الإسلامي. وكان يملك سبع سفن تجارية مجهزة، يعمرها بمجرمين يستأجرهم، ومشردين يختطفهم من عرض الطريق، ثم يرسل سفنه تخوض البحار يرفرف عليها علم العذراء. واستطاع أن يجمع أعظم ثروة في فرنسا لعهده، حوالي 27. 000. 000 فرنك، عندما كان الفرنك يساوي ما يقرب من خمسة دولارات بالعملة الهزيلة في أيامنا. وفي عام 1436 عينه شارل مشرفاً على دار سك النقود، وسرعان ما جعله مشرفاً على موارد الحكومة، ومصروفاتها. ولقد أيد مجلس الولايات عام 1439، الملك بحماسة في تصميمه على طرد الإنجليز من الأرض الفرنسية، فشد من عزيمته بقوانين متعاقبة (1443 - 1447) ليستولي على جميع الضرائب في فرنسا-أو بعبارة أخرى جميع الضرائب، التي كان يدفعها المستأجرون لسادتهم الإقطاعيين، فزاد دخل الحكومة سنوياً إذ ذاك إلى 1. 800. 000 كراون، فأصبحت الملكية الفرنسية، منذ ذلك الوقت، تختلف عن الملكية الإنجليزية، في استقلالها(22/160)
عن السلطان المالي للولايات، وتستطيع أن تقاوم نمو ديمقراطية الطبقة الوسطى. وأمد هذا النظام القومي للضرائب، الحكومة بالمال من أجل انتصار فرنسا على إنجلترا، ولكن الملك كان قادراً على زيادة معدل الضريبة، فقد أصبح ذلك وسيلة من وسائل الضغط الملكي، وهو من أسباب اندلاع ثورة عام 1789. وكان لجاك كور شأن كبير في هذا التطور المالي، فاكتسب إعجاب الكثيرين وعداوة قلة من الأقوياء. فقبض عليه عام 1451 بتهمة-لم تثبت أبداً-استأجر عملاء ليدسوا السم لأنييه سورل وأدين ونفي من البلاد وصادرت الدولة جميع أمواله-وهي خطة بارعة للاغتصاب بطريق غير مباشر. ففر إلى روما، حيث نصب، أمير بحر على أسطول بابوي، أرسل لتخليص رودس ومرض في كيوس، ومات هناك عام 1456، بالغاً من العمر إحدى وستين سنة.
وفي ذلك الوقت نفسه سار شارل السابع على منوال كير، فأنشأ عملة مستقرة، وجدد بناء القرى المخربة، وارتقى بالصناعة والتجارة، وأعاد الحيوية الاقتصادية إلى فرنسا. وأمر بتسريح الفرق الخاصة من الجنود، وألحق هؤلاء المسرحين بخدمته، وهكذا تكوّن أول جيش نظامي في أوربا، (1436). وأصدر مرسوماً، نص على أن يجب أن يوجد في كل ناحية، مواطن شديد البأس، منتخب من زملائه، يعفى من الضرائب كلها، وأن يكون مسلحاً، مدرباً على استعمال الأسلحة، مستعداً في كل لحظة، لينضم إلى أمثاله في الخدمة العسكرية للملك. وهؤلاء الرجال الأحرار من حملة القسى هم الذين طردوا الإنجليز من فرنسا.
وما أشرف عام 1449 حتى كان شارل متأهباً للخروج على الهدنة التي وقعت عام 1444. وتعجب الإنجليز وصدموا وكانت قد أضعفتهم المنازعات الداخلية، ووجدوا أن إمبراطوريتهم الآفلة في فرنسا تكلفهم في القرن الخامس عشر ما لا طاقة لهم به كما تثقل عليهم الهند في القرن العشرين،(22/161)
فلقد تكلفت فرنسا على إنجلترا عام 1427 ثمانية وستين ألف جنيه في حين حصلت منها على سبعة وخمسين ألفاً فقط. وحارب الإنجليز بشجاعة ولكن بغير تبصر، إذ اعتمدوا طويلاً على القسى والقضبان، ولم تعد الخطط التي صدت الفرسان الفرنسيين في كرسي وبواتييه تجدي في فورميني (1450) وفي الصمود أمام مدفع بيرو. وفي عام 1449 جلا الإنجليز عن معظم نورمانديا، وتركوا عاصمتها روين عام 1451. وهزم تالبوت العظيم عام 1453 وقتل في كاسنلون، واستسلمت بوردو، وعادت جوين بأسرها فرنسية مرة أخرى، واحتفظ الإنجليز بمدينة كالييه فقط. ووقعت الأمتان في التاسع عشر من أكتوبر عام 1453 المعاهدة التي وضعت حداً لحرب المائة عام.(22/162)
الفصل الخامس
بلاد الغال الخالدة
1453 - 1515
1 - لويس الحادي عشر
1461 - 1483
وكان ابن شارل السابع وولي عهده متعباً على غير العادة. ولقد زوج وهو في الثالثة عشرة من عمره، رغم إرادته (1436) من مارجريت صاحبة اسكتلندا، وكان عمرها إذ ذاك إحدى عشرة سنة، فانتقم لنفسه بإهمالها واتخاذ الخليلات. وأغرمت مارجريت بالشعر، ووجدت السلام الأبدي في الموت المبكر (1444) وقالت وهي تلفظ أنفاسها "تباً للحياة .. امسكوا الحديث عنها .. " وانتقض لويس على أبيه مرتين، وفر إلى فلاندرز بعد المحاولة الثانية، وانتظر نافذ الصب أن يؤول السلطان إليه. وأعانه شارل على بلوغ مأربه، بأن انقطع عن الطعام إلى أن مات (1461)، وحكم فرنسا بذلك واحد من أعجب الملوك وأعظمهم طيلة اثنتين وعشرين سنة.
وكان إذ ذاك في الثامنة والثلاثين، نحيلاً غليظ القلب، غير منغمس في الترف، له عينان مرتابتان وأنف طويل، أقرب إلى الفلاح في مظهره، يتخذ زي الحاج الزاهد الذي يتألف من رداء أغبر خشن وقبعة رثة من اللباد، وكان يصلي كالقديس، ويحكم كأنما قرأ كتاب "الأمير" قبل أن يولد مكيافلي .. واحتقر أبهة الإقطاع، ة وسخر من التقاليد والمراسيم، وبحث في شرعية مولده، وأذهل جميع العروش ببساطته. وعاش في قصر دي تورنل الكئيب بباريس، أو قصر بلسية ليه تور، بالقرب من مدينة تور، كالأعزب، وإن تزوج مرتين، وكان شحيحاً وإن كان يمتلك فرنسا،(22/163)
ولم يحتفظ من الخدم إلا بالنفر الذين كانوا معه في النفي، ولا يأكل من الطعام إلا بمقدار ما يتاح لأحد الفلاحين، ولم يكن مظهره ينبئ عن شيء، وإن كان ملكاً في كل شيء.
فلقد أخضع كل عنصر في شخصه لأرادته المصممة، وكان على فرنسا، أن تتحول بمطرقتهِ، من التمزق الإقطاعي إلى وحدة ملكيو ودولة موحدة، إذ يجب على هذه الحكومة الملكية المركزية أن ترفع فرنسا من رماد الحرب إلى حياة جديدة وبأس جديد، ووقف لوس فكره أثناء الليل وأطراف النهار، على هدفه السياسي، بعقل واضح ماكر، لا يهدأ، مثله في ذلك مثل قيصر، يرى أنه ما من شيء يتحقق، ما دامت له بقية تحتاج إلى عمل. "أما السلام فلا يكاد يحتمل مجرد التفكير فيه"، كما قال كومينيس. ومع ذلك فلم يكن موفقاً في الحرب، وآثر الدبلوماسية والتجسس، والرشوة على استعمال القوة، وجمع الناس حوله لتأييد أهدافه بالإقناع والتملق والتخويف، واحتفظ بحشد كبير من الجواسيس في خدمته في داخل البلاد وخارجها، وكان يدفع مرتبات سرية بانتظام لوزراء ملك إنجلترا ادوارد الرابع. ويستطيع أن يستسلم ويحتمل الإهانة ويتظاهر بالخضوع، وينتظر فرصة للنصر أو الانتقام. ووقع في أخطاء جسام، ولكنه تخلص منها ببراعة مذهلة غير هيابة. ولقد عني بكل ما يتصل بالحكومة من تفاصيل، ولم يكن ينسى شيئاً. وادخر مع ذلك فسحة من الوقت للآداب والفن، فقرأ بنهم، وجمع المخطوطات، وفطن إلى الثورة التي ترهص بها المطبعة، واستمتع بصحبة المثقفين، وبخاصة إذا كانوا "بوهيميين" بالمفهوم الباريسي. وانظم وهو في منفاه بفلاندرز إلى كونت شاروليه، في تأليف أكاديمية للعلماء، الذين أساغوا حذلقتهم بحكايات مرحة على منهج بوكاشيو، ولقد جمع انتوان دي لارسال، بعضها في مصنفه "مائة حكاية جديدة" واشتدت وطأة الملك على الأغنياء، ولم يحفل بالفقراء، وكان(22/164)
معادياً لنقابات العمال، وآثر الطبقة الوسطى باعتبارها أقوى مؤيد له، ولم يرحم الذين يعارضونه أياً كانت طبقتهم وأمر، بعد ثورة بربينيان، بأن تجب مذاكير، كل ثائر منفي، يجسر على العودة. وفي حروبه مع النبلاء حبس بعض الأعداء أو الخونة السنوات الطوال في أقفاص من حديد طولها ثمانية أقدام وعرضها مثل ذلك وارتفاعها سبعة، وهي وسائل ابتكرها أسقف فردان، الذي شغل قفصاً منها بعد ذلك أربع عشرة سنة. واشتد إقبال لويس في الوقت نفسه على الكنيسة، لحاجته إلى معونتها ضد النبلاء والدول، وكانت معه مسبحة لا تكاد تفارق يده، يردد عليها الصلاة الربانية وينقطع لصلاة العذراء، انقطاع راهبة في سكرات الموت، ولقد افتتح عام 1472 صلاة التبشير-وهي صلاة ظهر للعذراء من أجل سلم المملكة. وزار الأضرحة المقدسة، وسجل الآثار الدينية، ورشا القديسين ليقوموا بخدمته، وأخذ العذراء معه في حروبه. ولما قضي، عرض كقديس على حامل في كنيسة في مدينة تور.
وخلق بأخطائه هذه فرنسا الجديدة إذ وجدها مجموعة منحلة من الإمارات الإقطاعية والكهنوتية، فجعل منها أقوى أمة في العالم المسيحي اللاتيني. واجتلب نساجي الحرير من إيطاليا. وعمل المناجم من ألمانيا، وعمل على تحسين الموانئ ووسائل المواصلات، وحماية السفن الفرنسية، وفتح أسواقاً جديدة للصناعة الفرنسية، وجعل حكومة فرنسا حليفة للبرجوازية التجارية والمالية الناهضة. ورأى أن التوسع في التجارة عبر الحدود المحلية والقومية في حاجة إلى إدارة قوية مركزية. ولم يعد الإقطاع ضرورياً لحماية الزراعة والإشراف عليها، وكانت طبقة الفلاحين تحرر نفسها ببطء من العبودية الجامدة، ولقد مضى الزمن الذي كان فيه الأمراء الإقطاعيون يشرعون القوانين الخاصة بهم، ويضربون سكتهم، ويمارسون السيادة على ولاياتهم، وألزمهم شارل بوسائل صالحة وطالحة بالخضوع والنظام واحداً بعد واحد.(22/165)
وقيد حقهم في الاعتداء على أملاك الفلاحين في صيدهم، وأنشأ إدارة بريد حكومية تخترق ولا ياتهم (1464)، وحرم عليهم، أن يخوضوا حروباً خاصة بهم، وطالبهم بالمتأخر من الالتزامات التي أخفقوا في دفعها لسادتهم في الإقطاع وهم ملوك فرنسا.
ولم يكن الأمراء الإقطاعيون يحبونه. فاجتمع ممثلون لخمسمائة أسرة نبيلة في باريس وألفوا جبهة الصالح العام (1464) ليبسطوا أيديهم على امتيازاتهم بشعار الصالح العام. وانظم كونت شاروليه إلى هذه الجبهة، فقد جعلته وراثته لعرش برجنديا مشوقاً لضم شمال شرقي فرنسا إلى دوقيته. ورحل شارل دوق بري وهو شقيق الملك لويس نفسه، إلى بريتاني وتزعم الثورة ... فتجمعت الأعداء والجيوش من كل جانب ضد الملك، ولو استطاعوا أن يتحدوا لقضوا على الملك، وكان أمله الوحيد أن يهزمهم مترفقين فرادى. فاندفع جنوباً عبر نهر آلييه، وأكره قوة معادية على التسليم، وأسرع عائداً إلى الشمال في الوقت المناسب ليحول بين جيش برجندي وبين دخول عاصمته. وادعى كل فريق أنه انتصر في معركة مونتلهيري، وانسحب البرجنديون، ودخل لويس باريس وعاد البرجنديون مع حلفائهم وحاصروا المدينة. ولم يشأ لويس أن يخاطر بدفع الباريسيين إلى الثورة عليه، وهم الذين يأبى عليهم ذكائهم أن يموتوا جوعاً فسلم بمقتضى معاهدة كنفلان (1465) كل ما كان يطلبه أعداؤه تقريباً-الأرض-والمال والمناصب، وأخذ أخوه شارل نورمانديا. ولم يذكر شيء عن صالح الشعب، وكان لا بد من فرض ضرائب على جميع الناس لجمع الأموال المطلوبة. وانتظر لويس وقته الملائم.
وسرعان ما انزلق شارل إلى محاربة الدوق فرنسيس صاحب بريتاني، الذي أسره، وسار لويس إلى نورماندي واستعادها بلا إراقة دماء. ولكن فرنسيس، الذي توقع بحق، أن لويس يطلب بريتاني أيضاً، تحالف مع كونت شاروليه- وكان قد أصبح وقتذاك الدوق شارل الجسور صاحب(22/166)
برجنديا- في معاهدة هجومية، ضد الملك الذي لا رادع له. وشحذ لويس كل وسيلة من وسائل الدبلوماسية، فعقد صلحاً منفرداً مع فرنسيس، واتفق على حضور مؤتمر شارل في بيرون. وكانت نتيجة ذلك، أن سجنه شارل، وأرغمه على التنازل عن بيكاردي والاشتراك في تطويق لييج. وعاد لويس إلى باريس وقد بلغ الحضيض من السمعة والسلطان، بل إن الببغاوات دربت على السخرية منه (1468). وبعد عامين، من تبادل الخيانة والغدر، انتهز لويس فرصة انشغال شارل في جلدرلاند، وسير جيوشه إلى سانت كونتان وأمين وبوفيه. فألح شارل على ادوارد الرابع أن يتحد معه على فرنسا، ولكن لويس أبعد إدوارد عن هذا المشروع بالمال. وكان يعرف كلف إدوارد بالنساء، فدعاه إلى الحضور، ليلهو مع نساء باريس، كما أبدى استعداده أن يعين لادوارد، كاردينال بوربون، ليكون صاحب كرسي الاعتراف الملكي، الذي "يسره أن يحله، إن اقترف خطيئة ما بواسطة الحب والشهامة". واحتال حتى جعل شارل يقع في حرب مع سويسرا، حتى إذا قتل شارل لم يأخذ لويس بيكاردي فحسب وإنما برجنديا نفسها أيضاً (1477). وهدّأ من سورة النبلاء البرجنديين بالذهب، وأرضى الشعب بأن اتخذ له خليلة برجندية.
وأحس عندئذ أنه أصبح من القوة بحيث يستطيع أن يواجه البارونات الذين طالما حاربوه، وقلما لبوا نداءه، أن يخرجوا للحرب من أجل فرنسا. وكان أكثر الأمراء الذين تآمروا عليه عام 1465 قد ماتوا، أو أقعدتهم الشيخوخة. وتعلم خلفاؤهم أن يخشوا ملكاً، يقطع رؤوس الخونة من الأرستقراطية ويصادر ضياعهم، ملكاً أنشأ جيشاً قوياً من المرتزقة، وأنه مستعد على الدوام لجمع الأموال الطائلة لشراء الضمائر ودفع الرشى. وآثر لويس أن ينفق أموال شعبه لا أرواحه، فاشترى سردينيا وروسيلون من أسبانيا. وحصل على روشل بموت أخيه، وأخذ النسون وبلوا عنوة،(22/167)
وألح على رينييه أن يتنازل عن بروفنس للتاج الفرنسي (1481)، وبعد ذلك بعام عادت أنجوومين إلى الملكية، وفي عام 1483 تنازلت فلاندرز، وكانت تنشد معنونة لويس ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، عن كونتية ارتوا مع المدنيتين المزدهرتين اراس ودواي. وهكذا قهر لويس البارونات وسيطر على مجالس البلديات والولايات فأنجز بذلك لفرنسا تلك الوحدة القومية والإرادة المركزية التي أنجز مثلها بعد عشر سنوات هنري الرابع، لإنجلترا، فرديناند وايزابلا لأسبانيا، واسكندر السادس للولايات البابوية. وهذا الصنيع وإن أحل طغيان أفراد كثيرين، إلا أنه كان في ذلك الوقت حركة تقدمية، توطد النظام في الداخل والأمن في الخارج، وتثبت العملة والمقاييس، وتذيب اللهجات في لغة واحدة، وتعين على نمو أدب وطني لفرنسا. ولم تكن الملكية مطلقة، فقد احتفظ النبلاء بسلطات كبيرة، وكانت موافقة مجلس الولايات ضرورية، في العادة لإقرار الضرائب الجديدة. وأعفى النبلاء والموظفون ورجال الدين من الضرائب. أعفى النبلاء على أساس أنهم حاربوا من أجل الشعب، والموظفون لأنهم كانوا يبخسون في الأجر والرشوة، ورجال الدين لأنهم يحمون الملك والوطن بصلواتهم. وكان الرأي العام والعرف السائد يحدان من سلطة الملك، وكانت المجالس المحلية لا تزال تزعم أن أي مرسوم ملكي بقانون لا يصبح نافذاً في مناطقهم إلا إذا وافق الأعضاء عليه ووثقوه. ومهما يكن من شيء فقد فتح الطريق للملك لويس الرابع عشر ونظام "أنا الدولة".
وأخذ لويس نفسه بين هذه الانتصارات جميعاً يذوي جسماً وعقلاً. فسجن نفسه في بليسيه- ليه- تور، خوفاً من الاغتيال، وارتاب في الجميع، وقلما رأى إنساناً، وعاقب على الأخطاء والنقائض بقسوة، وارتدى بين الحين والآخر حللاً تناقض فخامتها أرديته الخشنة في مطلع حكمه(22/168)
وأصبح نحيلاً شاحباً حتى الذين رأوه تعذر عليهم أن يصدقوا أنه على قيد الحياة. وكابد الآلام سنوات من البواسير. وأصيب الفالج في بعض الأحيان. وفي الخامس والعشرين من أغسطس عام 1483، أصابته نوبة من الفالج أفقدته النطق، وما لبث خمسة أيام حتى مات.
فابتهج رعاياه، لأنه أجبرهم على أن يدفعوا ما لا طاقة لهم به من تكاليف هزائمه وانتصاراته، مما زاد الشعب فقراً، وفرنسا عظمة ومجداً، في كنف سياسته التي لا ترحم. ومع ذلك فإن العصور التي جاءت بعده، أفادت من إخضاع النبلاء، وإعادة تنظيم المالية والإدارة والدفاع، ورقيه بالصناعة والتجارة والطباعة، وتكوينه دولة موحدة حديثة. ولقد كتب كومنيس "إذا أحصيت جميع أيام حياته وعقدت موازنة بين المسرات والمباهج وبين آلامه ومتاعبه، فستكون النتيجة، عشرين يوماً محزناً في مقابل يوم واحد بهيج. ولقد دفع هو وجيله ثمن ازدهار فرنسا وأبهتها في المستقبل".
2 - المغامرة الإيطالية
وكان شارل الثامن في الثالثة من عمره عندما مات أبوه فلبثت أخته آن دي بوجيه، ولم تكن تكبره بغير عشر سنين، تحكم فرنسا بتعقل ثمان سنوات. فخفضت نفقات الحكومة، وأعفت الشعب من ربع ضريبة الرؤوس، وأعادت كثيرين من المنفيين، وأطلقت سراح كثيرين من المسجونين، ووفقت في مقاومة محاولات البارونات، "الحرب الحمقاء" (1485)، لاستعادة سيادتهم المحلية التي انتزعها لويس. ولما اشتركت بريتاني مع أورليان ولورين وانجوليم وأورانج ونافار في عصيان آخر، استطاعت بدبلوماسيتها وقيادة لويس دي لاترمويل أن تهزم الجميع، وكانت مظفرة في وضع حد لهذه المشكلة بأن أعدت لزواج شارل من آن صاحبة بريتاني، التي قدمت دوقيتها العظيمة صداقاً لتاج فرنسا (1491). وعندئذ اعتزلت(22/169)
نائبة الملك الحكم وعاشت بقية حياتها، وهي إحدى وثلاثين سنة آمنة في زوايا النسيان.
أما الملكة الجديدة، وإن اتفقت معها في الاسم إلا أن شخصيتها كانت مختلفة تمام الاختلاف، فلقد كانت قصيرة مسحاء نحيفة عرجاء، غليظة الأنف واسعة الفم على وجه قوطي طويل، ولها عقلها الخاص بها، وفيها من الدهاء والبخل ما كان في كل بريتاني. ومع أنها كانت بسيطة في ثيابها، بحلتها وقلنسوتها السوداوين، إلا أنها كانت في المناسبات الرسمية-تتلألأ بالجواهر والثياب الموشاة بالذهب، وهي لا شارل التي قربت الفنانين والشعراء، وكلفت جان بورديشون أن يصور "صلوات آن أميرة بريتاني". ولم تنسَ قط موطنها الحبيب بريتاني وطرائقها في الحياة، فغلفت كبريائها بالتواضع، وعكفت على حياكة الثياب، وكافحت من أحل إصلاح أخلاق الملك وحاشيته.
ويقول برنتوم الثرثار "إن شارل يشغف بالنساء أكثر مما تحتمله، بنيته النحيلة". واقتصر بعد زواجه على خليلة واحدة. ولم يكن يستطيع أن يشكو من منظر زوجته، فلقد كان هو نفسه طويل الرأس أحدب، قسماته تنم عن السذاجة، عيناه واسعتان بلا لون، قصير النظر، وشفته السفلى غليظة ومتدلية، وتردد في الحديث، ويداه ترتعشان في تشنج. ومع ذلك كان حسن الطبع، رحيماً مثالياً في بعض الأحيان. ويقرأ قصص الفروسية، وامتلأ رأسه بفكرة إعادة فتح نابلي لفرنسا وبيت المقدس للعالم المسيحي. وظلت أسرة انجو، تبسط يدها على مملكة نابلي (1268 - 1435) إلى أن انتزعها منهم ألفونسو صاحب أراجون، وانتقلت مطالبة دوقات انجو بملكها إلى لويس الحادي عشر بالوراثة، ثم جهر شارل بالمطالبة. واعتقد مستشاروه أنه آخر إنسان في العالم يستطيع أن يقود جيشاً في حروب كبيرة، ولكنهم أملوا أن تمهد الدبلوماسية طريقه، وأن الاستيلاء على نابلي،(22/170)
سيسمح للتجارة الفرنسية، أن تتحكم في البحر الأبيض المتوسط. وتركوا أرتوا فرانش- كونتيه إلى ماكسمبليان صاحب النمسا وسردينيا وروسيلون لفرديناند ملك أسبانيا وذلك لحماية أطراف المملكة، ورجوا أن يحصلوا على نصف إيطاليا من أجل الأجزاء التي اقتطعت من فرنسا واستطاع لودوفيكو نائب الملك في ميلان أن يجمع جيشاً قوامه أربعون ألف رجل، ومائة مدفع حصار وست وثمانون سفينة حربية. وذلك بفضل الضرائب الباهظة والجواهر المرهونة والقروض التي سحبت من رجال المال في جنوا.
وخرج شارل مبتهجاً (1494)، ولعله لم يرَ بأساً من أن يخلف وراءه أخته وزوجته. فقوبل في ميلان بالترحيب (وكان بينهما وبين نابلي حزازة تريد أن تحسمها). ولم يجد عند سيادته مقاومة ما وخلف بعد مسيره جمعاً من الأبناء غير الشرعيين، ولكنه أبى في شهامة أن يمس عذراء ناشزة جلبها وصيفه لإمتاعه، وما كان منه إلا أن أرسل يطلب حبيبها، ورأس بنفسهِ حفل خطوبتهما، ومنحها صداقاً مقداره خمسمائة كراون. ولم تكن عند نابلي قوة عسكرية تقاوم جيشه فانتصر عليها في يسر ودخلها (1495)، واستمتع بجمال مناظرها، ومطاعمها ونسائها، ونسي بيت المقدس.
ومن الواضح أنه كان من الفرنسيين السعداء، الذين لم يصابوا بذلك المرض التناسلي الذي سمي فيما بعد "بالداء الغالي" لأنه انتشر بسرعة في فرنسا بعد عودة الجنود إليها. وعقدت "محالفة مقدسة" بين الإسكندر السادس والبندقية ولودوفيكو صاحب ميلان (الذي تحول عن ولائهِ السابق) فأرغموا شارل على الجلاء عن نابلي والانسحاب عبر إيطاليا التي تناصبه العداء. وحارب جيشه الآخذ في النقصان معركة غير حاسمة في فورنوفو (1495)، وعاد مسرعاً إلى فرنسا، حاملاً معه مقومات النهضة فيما حمل من أسباب العدوى.
وفي فورنوفو أبدى بيير تيراي سيد بايار، لأول مرة وكان إذ ذاك(22/171)
في الثانية والعشرين من عمره، شجاعة أكسبته نصف اللقب المشهور الذي عرف به وهو "الفارس الذي لا يخاف ولا يلام": ولقد ولد في قصر بايار بإمارة ولي العهد، وهو من أسرة نبيلة، لم يمت رئيس من رؤسائها طوال قرنين إلا في حومة القتال، ولعل بيير أراد في هذا اللقاء، أن يواصل ذلك التقليد. ونفق من تحته جوادان، وظفر بأحد ألوية العدو، فجعله مليكه فارساً تقديراً لبسالتهِ. واستطاع أن يحتفظ في عصر انتشرت فيه الفظاظة والعبث والخيانة بجميع فضائل الفروسية-فقد كان، في غير تظاهر شهماً، مخلصاً في غير خنوع. شريفاً في غير تيه، وخاض اثني عشر حرباً بروح رحيمة مرحة حتى لقبه معاصروه "الفارس الطيب"، وسنلقاه مرة أخرى.
وعاش شارل بعد رحلته إلى إيطاليا ثلاث سنوات. وذهب لمشاهدة مباراة تنس في امبواز فصفع رأسه باب غير محكم، ومات من نزيف في المخ بالغاً من العمر ثمانية وعشرون سنة. ولما كان أبناؤه قد ماتوا قبله، فقد تحول العرش إلى ابن أخيه دوق أورليان، الذي أصبح الملك لويس الثاني عشر (1498) والذي ولد لشارل صاحب أورليان، وهو شاعر عندما كان في السبعين من عمره، وكان لويس عند توليه العرش في السادسة والثلاثين سقيم البنية منذ أمد. وكانت أخلاقه مهذبة على غير عادة ذلك العصر، وسجاياه صريحة توحي بالمحبة، حتى لقد تعلمت فرنسا أن تحبه، رغم حروبه التي لا نفع فيها وكان يبدو متهماً بعدم اللياقة، لأنه طلق عام تتويجه جان دي فرانس، ابنه لويس الحادي عشر، ولكن ذلك الملك العنيد في مرونة ولين هو الذي أرغمه على الزواج من تلك الفتاة التي لا جاذبية لها، عندما بلغ الحادية عشر من عمره فقط. ولم يكن يستطيع أن يحبها، فهو الآن يطلب إلى الإسكندر السادس أن يلغي ذلك الزواج على أساس قرابة العصب، وأن يقر بناءه بالأرملة آن صاحبة بريتاني-(22/172)
في مقابل عروس فرنسية وكونتية ومعاش لابن البابا: قيصر بورجيا-وحملت آن معها دوقيتها كجزء من جهاز العروس. واتخذا مسكنهما في بلوا، وأعطيا فرنسا نموذجاً ملكياً للحب الإخلاص المتبادلين.
ويمثل لويس الثاني عشر سيادة الشخصية على الفكر. ولم يكن في دهاء لويس الحادي عشر، بيد أن له النية الطيبة والرزانة الحسنة، والفطنة، التي تتيح له أن يجسم الكثير من قوته في أعوانه الذي أحسن اختيارهم. وترك الإدارة، ومعظم السياسة، إلى صديق عمره جورج، كاردينال امبواز، فأدار هذا الكاهن الحكيم الطيب، الأمور بحذق، حتى أن الشعب المقلب كان كلما جد أمر، هز كتفيه، وهمس "دع جورج ينهض به". وتعجبت فرنسا عندما وجدت الضرائب المفروضة عليها تخفض، خفض أولاً الثلث ثم العشر. وافق الملك الذي نشأ في النعيم أقل ما يمكن على نفسه وعلى بلاطه، ولم يسمن على حسابه مقربون. وألغى بيع الوظائف، وحرم على الحكام قبول الهدايا، وأباح البريد الحكومي للجمهور. وقيد نفسه بأن يختار، لكل منصب إداري شاغر، واحداً من ثلاثة، تعينهم الهيئة القضائية، وألا يفصل موظفاً من موظفي الدولة إلا بعد محاكمة علنية وثبوت عدم النزاهة أو الكفاية عليه. وسخر بعض الهزليين ورجال البلاط من اقتصادياته ولكنه كان يقابل مزاحهم بروح متسامحة. وقال "قد يقولون لنا بين بذاءاتهم حقائق نافعة، دعهم يسلون نفسهم، وعليهم أن يحترموا شرف النساء ... وخير لي أن أجعل رجال البلاد يضحكون من تقتيري، على أن أجعل شعبي يبكي من تبذيري"، وكانت أفضل وسيلة تسري عنه هي أن تدله على طريقة جديد تنفع الشعب، عن اعترافهم بالجميل له بأن لقبوه "بأبي الشعب" ولا تذكر فرنسا في تاريخها مثل هذا الازدهار.
ومن المؤسف، أن هذا الحكم السعيد تلطخ صحيفته بغزوة أخرى(22/173)
لإيطاليا. وربما نهض لويس وغيره من الملوك بهذه الهجمات، ليشغلوا النبلاء المشاغبين ويتخلصوا منهم، وهم بغير ذلك يزعجون فرنسا بالحروب الداخلية، مهددين بذلك الملكية والوحدة القومية اللتين لم تستقرا بعد. وكان على لويس بعد اثني عشر عاماً من النصر في إيطاليا، أن يسحب جنوده من شبه الجزيرة، ثم خسر معركة مع الإنجليز في جوينجيت، (1513)، وهي التي أطلق عليها الوصف الساخر "معركة المهاميز" لأن الفرسان الفرنسيين، فروا من المعركة بسرعة غير عادية. ووقع لويس صلحاً، وقنع بعد ذلك بأن يكون ملك فرنسا فحسب.
وزاد موت آن (1514) من أحزانه، ولم تنجب له وريثاً للعرش، وزوج، وهو غير راضٍ تمام الرضى، ابنته كلود إلى فرنسيس، كونت انجوليم، ويعد الثاني في ولاية العرش. وألح عليه مساعدوه، أن يتخذ زوجة ثالثة، وكان في الثانية والخمسين، وأن يحجب فرنسيس، الثائر بإنجاب ولد. فقبل ماري تيودور، أخت هنري الثامن، البالغة من العمر ست عشرة سنة، فجعلت الملك يسير في حياة مرحة منهكة وتشبثت بكل ما يجب للجمال والشباب. وتوفي لويس في الشهر الثالث من زواجه (1515) فخلف لزوج ابنته، فرنسا المزدهرة، التي ظلت تذكر بالحب أبا الشعب على الرغم من هزيمتها في عهده.
3 - نهضة القصور
أحس الفن الفرنسي الآن كله، اللهم إلا العمارة الدينية، تأثير الملكية الآخذة بأسباب القوة وفتوحها الإيطالية ذلك لأن الكنيسة تشبثت بالطراز القوطي المشع، في العمارة معبرة عن اضمحلالها بالزينة المسرفة والتفاصيل المبالغ فيها، ولكن هذا الطراز، كان يحتضر، مثله في ذلك، مثل امرأة خليعة تجمع وهي تجود بأنفاسها كل المظاهر النسوية، من رقة وزينة ورشاقة. ومع هذا كله بدأ تشييد بعض الكنائس الفخمة في هذا العصر: سانت ولفرام(22/174)
في ابيفيل، سانت أتين دي مون في باريس، والمزار الصغير المتقن الذي شيدته مرجريت أميرة النمسا في برو، تخليداً لزوجها فيلبرت الثاني ملك سافوي. وأدخلت على المباني القديمة، زخارف جديدة، ووصفت كاتدرائية روين، بابها الشمالي باسم "الباب المكتبي" نسبة إلى حوامل الكتب في صحن الكنيسة، وأنفقت المبالغ التي جمعت للانغماس في أكل الزبد في لنت، على إقامة البرج الجنوبي الرائع، وهو البرج الذي أسمته الفكاهة الفرنسية: "برج الزبدة"، واستطاع كاردينال امبواز أن يحصل على أموال يشيد بها الواجهة الغربية، على الطراز المشع نفسه. ومنح بوفيه، جناح الكنيسة الجنوبي، رائعتها التي لم تتم. ويفوق بابها ونافذتها الوردية معظم الواجهات الرئيسية، وحسّن سينلس، وتور وترويس هياكلها، وشيد جان لوتكسبيه في شارترز، برجاً شمالياً غربياً مشرفاً، وحاجزاً ضخماً للمرتلين، وقد ظهرت فيها أفكار عصر النهضة التي تغلب الخطوط القوطية. أما برج سانت جاك الرائع في باريس، فهو البقية المَرمَّمة من كنيسة، أقيمت في هذا العهد لسانت جيمس الأعظم.
وأفصحت مباني النبلاء المدنية عن الصراع والفوضى في ذلك العصر وأنشئت البلديات للمدن في أراس ودواي وسانت-أومر ونويون وسانت كنتان وكومبيين ودرين وايفريه وأورليان وسومور-وشيدت جرينوبل "دار القضاء" عام 1505، وشيدت روين داراً أكثر بهاءً عام 1494، صممها روبرت انجو ورولان ليرو على الطراز القوطي المزخرف، وأعاد القرن التاسع عشر زخرفتها. ثم جاءت الحرب الثانية فخربتها.
وهذا هو القرن الأول الذي ظهر فيه القصر ذو الطابع الفرنسي، ذلك لأن الكنيسة أخضعت للدولة، فغلب الاستمتاع بالحياة في الدنيا على الاستعداد للآخرة، وأصبح الملوك يستطيعون أن يكونوا آلهة، وأن ينشئوا، تزجية لفراغهم، فردوساً على طول نهر اللوار. وتحول "القصر المنيع" أو القلعة(22/175)
بين عامي 1490، 1530 إلى "قصر الملذات". وطلب شارل الثامن بعد أن عاد من حملته على نابولي، إلى معمارييه، أن يشيدوا له قصراً، في فخامة ما شاهده في إيطاليا. وكان قد أخضر معه المعماري الإيطالي فراجيوفاني جيوكوندو، والمثال الرسام جيدوماتزوني، والنقاش على الخشب دومينيكوبر نابي "بوكادور"، وتسعة عشر فناناً إيطالياً آخرين، وكان بينهم معماري تخصص في المباني الخلوية هو دومينيكو باتشيلو. وهو الذي أصلح قبل ذلك قلعة أمبواز القديمة، وكلف الملك هؤلاء الرجال، يعاونهم بناءون وعمال فرنسيون، أن يحولوها إلى مسكن مترف يليق بالملك "على الطراز الإيطالي". وكانت النتيجة بالغة الفخامة: فقد نهضت بجلال، على منحدر يشرف على النهر الوديع، مجموعة من الأبراج، والقباب والطنف، وزخارف من الرفارف ومخادع وشرفات. وهكذا ولد نوع جديد من العمارة.
فضايق هذا الطراز الوطنين والمحفظين على القديم، بالمزاوجة بين الأبراج القوطية وبين قصور عصر النهضة، وبإحلال الأشكال والتفاصيل الكلاسية، محل الزخرف المشع. وظلت الجدران، والأبراج الأسطوانية والأسقف العالية المنحدرة، والشرفات الخاصة بالدفاع والخنادق العارضة، تتسم بطلع القرون الوسطى، تذكر بالوقت، الذي كان فيه دار المرء، يجب أن تكون قلعته وحصنه في وقت واحد، ولكن الروح الجديدة أخرجت المسكن من غلافه العسكري الكثيف، وعرضت النوافذ وحددتها بخطوط مستقيمة لتسمح بدخول أشعة الشمس، وجملتها بأطر من الحجر المنقور، وزينت الداخل بأنصاف عمد كلاسيكية مربعة وأفاريز وزينات مدلاة وتماثيل ونقوش عربية وزخارف بارزة، وأحاطت البناء بالبساتين والنوافير والأزهار وغابة للصيد أو سهم بسام. ولقد أخلى الظلام في هذه الدور المترفة مكانه للنور، كما انقشع الخوف والكآبة، اللذان اتسمت بهما القرون(22/176)
الوسطى وحل محلها اطمئنان عصر النهضة وجرأته ومرحه. وأضحى حب الحياة طرازاً معمارياً.
ونحن نبالغ في الحكم على هذه القصور في عصرها الأول إذا ألحقنا بها أصلها أو إذا عرضنا لتطورها الكامل. فإن كثيراً منها كان موجوداً قبل ذلك في صورة القلاع، ولم يحدث فيها غير مجرد التعديل، وأكمل القرنان السادس عشر والسابع عشر، هذا الشكل الفني حتى بلغا به الانسجام الأرستقراطي، وغير القرن الثامن عشر هذا الاتجاه وأحل ملحمة فرساي العظيمة، محل روح القصور الغنائية المرحة. وكان قصر شينون الحصين، قديماً، عندما استقبل فيه شارل السابع، جان (1429)، كما مر لوشي بتاريخ طويل باعتباره مرقاً ملكياً وسجناً، عندما وفد عليه لودوفيكو المورو سجيناً (1504) وذلك بعد أن استولى لويس الثاني عشر على ميلان للمرة الثانية. وأصلح جا بوريه، وهو وزير لويس الحادي عشر حوالي عام 1460، قلعة لانجيه، التي أنشئت في القرن الثالث عشر، في شكل، يتسم أساساً بطابع القرون الوسطى، وإن كانت من أحسن القصور الباقية إلى الآن. ويشد شارل دامبواز حوالي عام 1473، في شومون، قصراً آخر على نهج القرون الوسطى، وأقام أخوه الطاردينال في جايون، قصراً حصيناً فخماً (1497 - 1510) أتلفته الثورة الرعناء. ورمم دينوا وهو نبيل "ابن سفاح من أورليان" قصر شاتودن (1464)، وأضاف كاردينال أورليان لونجفيل، جناحاً جديداً لهذا القصر، على الطراز الذي يزاوج بين القوطي وعصر النهضة. ولا تزال في قصر بلوا، أجزاء على نمط القرن الثالث عشر، وقد أنشأ له لويس الثاني عشر، جناحاً شرقياً، في وحدة متجانسة من الآجر والحجر، ومن الأبواب القوطية ونوافذ عصر النهضة، ولكن ذروة فخامته كانت تنتظر فرنسيس الأول.
وكانت المرحلة الأخيرة للنحت القوطي رائعة إلى أقصى حد بالزخرف(22/177)
المنقور ببراعة في المقابر، وبالمحفة في كنيسة برو، حيث تبدو سيبيل أجرّبا، في شكل لا يقل جمالاً عما هي في شارترز أو ريمز. ولكن الفنانين الإيطاليين كانوا يعيدون في الوقت نفسه، صياغة النحت الفرنسي على طراز عصر النهضة، استقلالاً وانسجاماً ورشاقة. وزاد الاتصال بين فرنسا وإيطاليا بفضل زيارة رجال الدين والسفراء والتجار والرحلة، وقامت الأشياء الفنية الإيطالية المستوردة وبخاصة الأدوات الصغيرة المصنوعة من لبرونز، مقام المبعوثين من عصر النهضة من الذوق والشكل الكلاسيين. وتحولت الحركة، بمجيء شارل الثامن وجورج وشارل صاحب امبواز، إلى تيار كتدفق والفنانون الإيطاليون هم الذين أنشأوا "مدرسة امبواز" ذات التأثير الإيطالي في المقر الريفي للملوك. وتعد مقابر الملوك الفرنسيين، في كنيسة سانت دينيس، سجلاً أثرياً، للتحول، ومن جلال النحت القوطي الجهم، إلى الأناقة الرقيقة والزخرف الذي ينم على المرح، الذين اتسم بهما تصميم عصر النهضة، معلنة المجد محتفلة بالجمال حتى في انتصار الموت.
ويتجسم هذا التحول في شخص ميكيل كولومب. ولد عام 1431، ووصف عام 1467 بأنه "أعظم نحات في المملكة الفرنسية قبل أن تغزو فرنسا إيطاليا وتبتلعها بزمن طويل. وكان النحت الغالي من الآن فصاعداً، كله تقريباً من الحجر، فاستورد كولومب رخام جنوا، وحفر عليها صوراً لا تزال عابسة جامدة بمسحة قوطية واضحة، لكنها وضعت في أطر زاخرة بالزينة الكلاسيكية. لقد نقش لقصر جايون، نقشاً بارزاً مرتفعاً يمثل "القديس جورج والتنين"-في صورة فارس لا حياة فيه على صهوة جواد ناشط خفيف الحركة، وهما محاطان بأعمدة وأفاريز ورفرف في تصميم عصر النهضة. وبدأ في "عذراء العمود" المنقوشة على الحجر، لكنيسة سانت جالمييه، وأن كولومب حقق الوداعة الكاملة التي يتسم بها الأسلوب الإيطالي في بساطة الملامح ولطفها، وفي الخطوط الناعمة للشعر المرجل. وربما(22/178)
كان كولومب هو الذي نقر، في شيخوخته "المدفن الشرقي" (1496) في سرداب كنيسة سولزمس (1).
وتأثرت فرنسا في التصوير بالأراضي الواطئة، كما تأثرت بإيطاليا فقد بدأ نيكولاس فرومنت بواقعية هواندية في صورته "بعث لازارو"" ولكنه انتقل عام 1476 من أفنيون إلى ايكس آن بروفانس ورسم لرينيه صاحب انجو الصور ثلاثية الطيات "علّيقة موسى"، وتظهر الصورة الرئيسية فبها، وهي العذراء على العرش، سمات إيطالية مهادها، وفي العذراء السمراء، وموسى المهيب، والمَلَك الفاتن، وكلب الصيد المتحفز والأغنام المخلصين، وهنا أحرزت إيطاليا انتصاراً كاملاً. وطبع تطور مماثل في الأسلوب أعمال "أستاذ مولان"، ولعله جان بريال. فلقد ذهب إلى إيطاليا مع شارل الثامن ثم مع لويس الثاني عشر، فرجع ومعه نصف فنون عصر النهضة في سجل مؤهلاته- فكان رسام منمنمات ونقوش جدارية ومصور أشخاص ومثالاً ومعمارياً. وصمم في نانت- ونقش كولومب على الحجر- المقبرة الرائعة لفرنسيس الثاني دوق بريتاني، وخلد في مولانذكر أوليئه آن وبيير البيجومي، مع الرسوم الجميلة للأشخاص التي توجد الآن في اللوفر.
ولم تحتفظ الفنون الصغيرة بالامتياز الذي كان لها في القرون الوسطى المتأخرة. فقد تحول المزخرفون الفلمنكيون، منذ زمن طويل إلى الموضوعات الدنيوية والمناظر الأرضية. وتمثل منمنمات جان بورديشون في "صلوات آن أميرة بريتاني" (1508) العودة إلى البساطة والتقوى اللتين تتسم بهما القرون الوسطى مثل الأساطير المحببة عن العذراء وطفلها، ومأساة جلجوثا وانتصار القديسين، والرسم رديء والمهاد كلاسية واللون قوي صاف، كل هذا في جو هادئ من التأنق والشعور النسويين. واتخذ الزجاج الملون
_________
(1) استخرجت له صورة في متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك.(22/179)
في هذا العصر-وقد يكون ذلك على سبيل المقابلة- واقعية فلمينكية عند النظرة الأولى لا تلائم النوافذ التي تدخل الضوء الساطع على أرضية الكاتدرائيات، ومع ذلك فإن الزجاج الذي نقش في هذا العصر لاوخ وروين وبوفيه، فيه آثار من روعة القرن الثالث عشر. وأعادت ليموج إشعال أفرانها، التي خمدت طوال قرن كامل، ونافست إيطاليا والبلاد الإسلامية، في طلاء الأواني بالميناء الصافية. ولم يفقد الحفارون على الخشب حذقهم، وذهب رسكين إلى أن مواضع الممثلين في كاتدرائية أمين هي خير ما في فرنسا بأسرها، وأثارت السجاجيد الملونة التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الخامس عشر، انتباه جورج صاند في قصر بريساك (1847)، وأصبحت ذخيرة متحف كلوني في باريس، وفي متحف جوبلنز سجاجيد رائعة (حوالي 1500) تصور موسيقيين يعزفون في حديقة أزهار السوسن.
وكان القرن الخامس عشر مجدباً بصورة عامة في الفن الفرنسي باستثناء عمارة القصور. فلقد حرثت أقدام الجنود الأراضي وأخصبتها بدماء الحروب، ولكن ختام هذه المرحلة، هو الذي شاهد رجال عندهم الوسائل والفراغ نثروا البذور التي استطاع فرنسيس الأول أن يجني ثمارها. فإن صورة فوكيه لنفسه إنما تنم على عصر خنوع وبأس، وتعكس منمنمات تلميذه بورديشون، السلام العائلي في الزواج الثاني للويس الثاني عشر، والطمأنينة المبتسمة للأرض المسترجعة. فقد تجاوزت فرنسا أسوأ عهودها، ويوشك أحسنها أن يجيء.
4 - فرانسوا فيون
1431 - 1480
ومهما يكن من شيء، فإن هذا القرن من الصراع والفوضى قد أفزع، شاعراً فحلاً ومؤرخاً كبيراً. وكانت إحدى النتائج الطبيعية للاقتصاد القومي والحكومة مركزية، أن استعمل الأدب الفرنسي لغة باريس، أياً كان(22/180)
موطن المؤلف: برجنديا أو بريتاني أو بروفانس. وكأنما أثرها فيليب دي كومين على اللاتينية، ليثبت أن الفرنسيين قد نضجوا، وسجل بها مذكراته. وا"تعار لقبه من كومين في فلاندر"، حيث ولد. وهو من أ"رة ممتازة، لأن الدوق فيليب الخامس كان اشبينه، ونشأ في البلاط البرجندي، ولما بلغ السابعة عشر (1564) كان بين موظفي كونت شاروليه. حتى إذا أصبح الكونت، شارل الجسور، وأسر لويس الحادي عشر في بيرون، لم يرضَ كومين عن سلوك الدوق، ولعله تنبأ بسقوطه، فتحول راشداً إلى خدمة الملك. فجعله لويس حاجباً له وأسبغ عليه الإقطاعيات، وأرسله شارل الثاني في وفادات دبلوماسية هامة. وأنشأ كومين في الوقت نفسه أثرين كلاسيين من الأدب التاريخي: أحدهما مذكرات وتاريخ الملك لويس الحادي عشر، وثانيهما تاريخ الملك شارل الثامن-وهما سرد نثري بلغة فرنسية واضحة بسيطة كتبهما رجل عرك الدنيا وشارك في الأحداث التي وصفها.
وهذان الكتابان شاهدان على الثروة غير العادية الأدب الفرنسي في المذكرات. ولهما أخطاؤهما: فالحرب تكاد تستغرقهما وليس فيهما من الطرافة والحياة ما في فرواسار أو فيلاارودين أو جوانفيل، وفيهما كثير جداً من عبارات حمد الله والثناء عليه، ذلك عند الإعجاب بسياسة لويس الحادي عش الغاشمة. وكثيراً ما ينقطع عن السرد ويتعثر في سقطات من اللغو. وعلى الرغم من هذا كله فإن كومين هو أول مؤرخ فلسفي: فهو يبحث عن العلاقة بين العلة والمعلول، ويحلل الشخصيات والحوافز والمزاعم ويحكم على الأخلاق حكماً موضوعياً ويدرس الأحداث والوثائق الأصلية ليوضح طبيعة الإنسان والدولة. ولقد سبق بهذه الملاحظات ميكافلي وجويكشيارديني في تقديره المتشائم للإنسانية في قوله: "لا الفعل الفطري، ولا معرفتنا، ولا حبنا لجارنا ولا شيء آخر غير هذا، يكفي دائماً لأن يمنعنا من استعمال العنف بعضنا مع بعض أو يحول بيننا وبين الاحتفاظ(22/181)
بما كان معنا. أو يصرفنا عن اغتصاب أملاك الآخرين بكل الوسائل الممكنة .. والأشرار يصبحون أكثر شراً على معرفتهم، أما الأخيار فيزداد صلاحهم إلى أقصى حد".
وكان عنده، مثل مكيافلي، أمل في أن كتابه يعلم الأمراء الحيلة أو حيلتين قال:
" ولعل السفلة لا يزعجون أنفسهم بقراءة هذه المذكرات، أما الأمراء ... فقد يقبلون عليها، ويجدون بعض المعارف التي تكافئهم على متاعبهم ... لأنه على الرغم من أن الأعداء والأمراء ليسوا دائماً سواء، فإن، أعمالهم واحدة في العادة، ومن المفيد دائماً أن تخبر عما مضى .. فإن من أعظم الوسائل التي تجعل الإنسان حكيماً، أن يدرس التواريخ .. وأن يتعلم كيف يحدد ويلائم بين أحاديثنا وأعمالنا وبين النموذج والمثال اللذين كان عليهما أسلافنا. وما حياتنا إلا فترة قصيرة، غير كافية لتمدنا بالتجربة عن أشياء جد كثيرة".
واتفق شارل الخامس، أحكم الحكام المسيحيين في عصره، مع ديكومين ووصف "المذكرات" بأنها كتاب صلواته.
وفضل الجمهور القصص الخيالي والمسرحيات الهزلية والهجائيات وفي عام 1508 ظهرت النسخة الفرنسية من "أماديس دي جول" واستمرت حوالي عشر فرق تعرض مسرحيات الخوارق والأخلاقيات والهزليات والمساخر وهي حماقات تسخر من كل إنسان حتى القسس والملوك. وكان بيير جرنجور من أساتذة هذا الفن يكتب ويمثل هذه المساخر بحماسة ونجاح طوال جيل كامل. وأقدم مسرحية هزلية في الأدب الفرنسي هي "السيد بيير باتيلان، ولقد مثلت أول مرة حوالي عام 1464 كما مثلت بعد ذلك بأمد طويل عام 1872. وباتيلان محام فقير يتلهف على القضايا. وهو يلح على بائع صوف أن يبيعه ستة أذرع من الثياب ويدعوه إلى الغداء(22/182)
معه في ذلك المساء ليتسم الثمن. فلما جاء التاجر، كان باتيلان في فراشه يئن من حمى مزعومة. ويصرح أنه لا يعرف شيئاً عن أذرع الثياب والغذاء. فينصرف التاجر مشمئزاً، فيلعن راعي أغنامه، ويتهمه بالتصرف سراً في بعض الخراف، ويجره أمام القاضي. وهنا يبحث الراعي عن محامٍ زهيد الأجر فبعثر على باتيلان، الذي دربه على أن يمثل دور الأبله وأن يجيب على جميع الأسيئلة بثغاء "الشاه" باء، وتحير القاضي من هذا الثغاء وارتبك من خلط التاجر في شكواه بين الراعي والمحامي، فأعطى فرنسا كلمة مأثورة تدعو فيها كل فريق وهي "فلنعد إلى هذه الأغنام" ولما يئس من الحصول على دليل منطقي في هذه الضجة، رفض القضية وطالب باثيلان المنتصر بأجره ولكن الراعي أجابه بثغاء الشاة "با"، ومكر الأبله بالمحتال البارع. وتتكشف لبقصة بكل ما في الروح الغالية من مهاترة. ولعل رابيليه قد ذكر باتيلان عندما فكر في بانورج، وموليير قد تقمص جرنجور والمؤلف المجهول لهذه المسرحية.
والشخصية التي لا تنسى في الأدب الفرنسي في القرن الخامس عشر هي شخصية فرانسوا فيون. فلقد كذب وسرق وغش وارتكب الفاحشة وقتل، مثله في ذلك مثل ملوك عصره ونبلائه، ولكنه كان أكثر تعقلاً. وبلغ الفقر منه مبلغاً جعله لا يملك حتى اسمه. ولقد ولد فرنسوا دي مونتكوربييه (1431) ونشأ في غمرات الطاعون والبؤس بباريس، وتبناه قسيس طيب اسمه جويوم دي فيون، فأخذ فرانسوا لقب هذا "الكفيل" فلطخه بالعار وأسبغ عليه الخلود في وقت واحد، وصبر جويوم على فرار الصبي من المدرسة وعبثه ودفع له نفقات تعليمه في الجامعة، واستراح في زهو عندما حصل فرنسوا على درجة ماجستير في الآداب (1452)، وزوده بالطعام والمسكن في أروقة كنيسة سانت بنوا ثلاث سنوات بعد ذلك منتظراً أن يبلغ الأستاذ مرحلة النضج.(22/183)
وليس من شك في تحول فرنسوا من التقوى إلى الشعر ومن علوم الدين إلى السرقة قد أحزن جويوم وأم فيون وكانت باريس تزخر بالخلعاء والبغايا والدجالين والنشالين والشحاذين وحماة العاهرات والقوادين والسكارى، فما كان من الشاب المستهتر إلا أن اتخذ له أصدقاء في كل طائفة، وعمل ديوثاً فترة من الزمان. ولعله حصل من الدين فوق ما يطيق، ولم يسغ الحياة في الدير، فمن العسر بوجه خاص أن يستجيب ابن رجل الدين للوصايا العشر. وفي الخامس من يونيه عام 1455 بدأ "قسيس يدعى فيليب شرموي، العراك مع فرنسوا (كما يقول بنفسه)، وقطع شفته بمدية، فما كان من فيون إلا أن أصابه بجرح عميق في فخذه، ولم يمضِ أسبوع حتى كان فيليب قد أسلم الروح وأصبح بطلاً بين رفاقه، وخارجاً على القانون يطارده الشرطة، ففر الشاعر من باريس، وظل حوالي سنة مختفياً في الريف.
وعاد هزيلاً شاحباً، جامد الملامح وخشن البشرة، ساهر العين حذر الشرطة، يحطم الأقفال حيناً والجيوب أحياناً، يستشعر الجوع إلى الطعام والحب. وأصبح عاشقاً لصبيه بورجوازية، احتملته حتى تجد فارساً أخيراً منه، يتغلب عليه، فزاد حبه لها، ولكنه سجل ذكراه بعد ذلك بأنها "سيدتي ذات الأنف الأعوج". وأنشأ حوالي ذلك الوقت (1456) "العهد الصغير"، وهو أقصر وصاياه، الشعرية فقد كان عليه أن يفي بديون كثيرة وأن يصلح أخطاء كثيرة أيضاً، ولا يستطيع أن يتنبأ متى يختم حياته على حبل مشنقة. وهو يهجو عشيقته على قلة لحمها، ويبعث بجوربه الطويل إلى روبرت فاليه، "لكي يلبس خليلته رداء أكثر احتشاماً"، وأوصى لبرنيه مارشان "بثلاث حزم من القش أو العشب الجاف، ليضعها فوق الأرض العارية لينام عليها، ويمارس لعبة الحب"، ويمنح حلاقه "أطراف شعري وقصاصاته"، ويترك قلبه، محزوناً شاحباً ميتاً لا إحساس فيه، إلى التي "أبعدت عينها عني".(22/184)
وبعد أن تجرد من كل هذه الثروة، وجد نفسه مفتقراً إلى الخبز واشترك ليلة عيد الميلاد عام 1460 مع ثلاثة آخرين في السطو على كلية نافار، وسرقت العصابة حوالي خمسمائة كراون. ولما اطمأن فرنسوا إلى نصيبه الكبير من هذه المغامرة استأنف إقامته في الريف. واختفى عن نظر التاريخ عاماً واحداً، ثم نجده في شتاء عام 1457 بين الشعراء الذين أكرم وفادتهم، شارل صاحب أورليان، في بلوا ... وأسهم فيون في مباراة شعرية هناك، ولا بد أنه قد أمتع، لأن شارل أبقاه ضيفاً عليه أسابيع، وأفعم كيس الشاب الخاوي بالمال، ثم حدثت بينهما مشادة أو مشاجرة قضت على صداقتهما، وعاد فرانسوا إلى عرض الطريق، ينظم قصيدة اعتذار. وتجول جنوباً إلى بورجس، واستبدل بقصيدة هدية من الدوق جون الثاني أمير بوربون، وطوف حتى بلغ روسلون. ونحن نتصوره من شعره، رجلاً يعيش على الهبات وتاديون، على الفاكهة والجوز والدجاج يلتقطها من المزارع على طوال الطريق، يتحدث إلى الفتيات الريفيات وبنات الهوى في الحانات. مغنياً أو مصفراً على الطريق الكبيرة، يراوغ الشرطة في المدن. ثم لا نقع له على أثر مرة أخرى، وإذا به يظهر فجأة بأحد السجون في أورليان (1460) وقد حكم عليه بالإعدام.
ولسنا نعرف ما الذي أوصله إلى هذا المصير، وكل ما نعرفه أن ماري أميرة أورليان ابنة الدوق الشاعر، دخلت في يولية من هذا العام المدينة رسمياً، وأن شارل احتفل بهذه المناسبة بأن أعلن عفواً عاماً عن المسجونين. فانتقل فيون من الموت إلى الحياة في نشوة من الفرح. وسرعان ما استبد به الجوع فعاد إلى السرقة، فقبض عليه وحوسب على فراره المتنكر قبل ذلك- وزج به في سجن ينفذ منه المطر في قرية مونج- سير- لوار بالقرب من أورليان. وعاش هناك شهوراً مع الجرذان والضفادع يعض على شفتهِ الممزقة، ويقسم ليثأر من عالم يعاقب اللصوص ويترك الشعراء يموتون(22/185)
جوعاً. ولم يكن العالم كله قاسياً. فقد أصدر لويس الحادي عشر، وهو يمر في أورليان، عفواً عاماً آخر. وأختير فيون أنه أصبح حراً، فرقص على حصير السجن الفاند انجو (1). واندفع إلى باريس أو قريباً منها ونظم إذ ذاك وهو عجوز أصلع مفلس في الثلاثين. أعظم قصائده، التي أسماها ببساطة "الأناشيد"، وأطلق أعقابه عليها، وقد ودجدوا الكثير منها يصاغ مرة أخرى في صورة وصايا تهكمية با"م "العهد الكبير" (1461 - 1462).
وهو يهب نظارته إلى المستشفى للمكفوفين المعوزين حتى يميزوا "إن استطاعوا" الطيب من الخبيث والعظيم من الوضيع، بين العظام في مدافن الأبرياء. وسرعان ما استولت عليه إبان حياته فكرة الموت. فتفجع على زوال الجمال وتغنى بأنشودة جميلات الأمس:
قل لي أين، وفي أي أرض للظلال،
تقيم فلورا الجميلة من روما، وأين
تاييس وارشيبياد،
بنتا العم بجمالهما النادر
والصدى، وجماله الخارق
وهو الذي كلما ناداه المرء عند تدفق نهره
أو سار، أجاب من خارج الأرض؟
وماذا صار إليه جليد العام الماضي؟
وهو يرى خطيئة الطبيعة التي لا تغتفر، أن تفتننا بالمحبة ثم تذيبها بين أذرعنا. وأشد قصائد مرارة "مرثية الجميلة صانعة الخوذات":
أين ذلك الجبين الواضح البلوري؟
والحاجبان المقوسان والشعر الذهبي؟
_________
(1) رقصة أسبانية بالصنج.(22/186)
العينان البراقتان، أين هذا الآن،
وقد فتن أحكم الحكماء؟
الأنف الصغير المستقيم الجميل،
والأذن الصغيرة الرقيقة البديعة،
أين الذقن الذي له طابع الحسن، وأين
والشفتان المضمومتان الحمراوان الواضحتان؟
ويستمر الوصف من فتنة إلى فتنة، ولم يترك شيئاً، ثم تذوي كل واحدة منها صلاة مرددة حزينة ...
وتغصن النهدان وانقشعا،
وانسحب الردفان كالنهدين
ولم يعد الفخذان فخذين،
لقد ذبلت جميعاً كما ذبلت العضلات
ومن العجيب أنها تعني هنا المنبار المحشو، وهكذا لم يعد فيون يعشق الحب أو الحياة، فيوصي بجمسه إلى التراب:
إنني أهب جسمي، أيضاً
إلى الأرض، جدتنا
وستجد الديدان فيه مع ذلك غنيمة صغيرة؟
فقد أنهكه الجوع أعواماً طوالاً.
ويترك كتبه إلى أبيه الذي تبناه معترفاً بجميلهِ، وهدية وداعه لأمه العجوز، أنشودة متواضعة ينظمها للعذراء. وهو يطلب الرحمة للجميع إلا الذين زجوا به في السجن: الرهبان والراهبات والمهرجين والمغنين والحشم والشجعان، "أيها الماجنون الذين يبرزون كل مفاتنهم .. أيها المشاغبون والمحتالون والبهلوانات المرحة، والمهرجون يعرضون قردهم، وينشرون سجاجيدهم ... الطيبون البسطاء الأحياء منهم والأموات-إنني أدعوا بالرحمة الشاملة، لكل فرد منكم وللجميع". وهكذا ..(22/187)
وهنا ختام عهد فيون (الكبير والصغير معاً).
ختام عهد فيون المسكين .. فعندما يطويه الموت،
أناشدكم أن تحضروا جنازته،
عندما يصلصل الجرس فوق الرؤوس ..
أيها الأمير، الرقيق كصقر محول،
اسمع ما صنعه مع آخر زفراته،
لقد احتسى رشفة طويلة من رحيق النبيذ الأحمر،
عندما شعر باقتراب منيته.
وعلى الرغم من هذه الوصايا وتحيات الوداع، فإنه لا يستطيع أن يفرغ كأس الحياة متعجلاً. وفي عام 1462 عاد إلى جويوم دي فيون وأروقة الدين، وابتهجت به أمه. ولكن القانون لم يغفل عنه. وطلبت كلية نافار أن يقبض عليه، ووافقت على إخلاء سبيله يشرط أن يدفع نصيبه من السرقة، منذ ست سنوات-أي أن يدفع أربعين كراون سنوياً لمدة ثلاث سنوات. وكان سيئ الطالع في ليلة إخلاء سبيله. لوجوده مع اثنين من رفاقه المجرمين القدامى، عندما دفعهم السكر إلى شغب طعن فيه أحد القساوسة. ويبدو أن فيون كان لا مؤاخذة عليه في هذا الأمر، فانسحب إلى غرفته، وصلى ينشد الطمأنينة، ومع ذلك فقد فبض عليه مرة أخرى، فعذب بصب الماء في حلقه حتى كاد ينفجر، ومما أدهشه أن يحكم عليه بالإعدام شنقاً. ولبث في سجن ضيق، أسابيع، بين اليأس والرجاء وتوقع الموت لنفسه ولصاحبيه فأنشأ وداعاً مؤثراً للعالم:
أيها الناس، أيها الاخوة الذين يعيشون بعدنا،
لا تجعلوا قلوبكم جد قاسية علينا،
فإنكم إن منحتمونا نحن المساكين بعض حسراتكم،
فإن الله سرعان ما يأخذ عنكم هذه الحسرات.(22/188)
نحن هنا خمسة أو ستة معلقون، كما ترون،
وهنا اللحم، الذي كان كله حسن الغذاء،
مأكولاً متعفناً قطعته بعد، مقطعاً ممزقاً،
ونحن العظام نصير مع الجمع إلى تراب ورماد،
لا تدعوا أحداً يضحك علينا نحن الأشقياء،
بل ادعوا إلى الله أن يغفر لنا جميعاً ..
لقد غمرنا المطر وغسلنا نحن الخمسة جميعاً،
وجففتنا الشمس وأحرقتنا، نعم، هلكنا،
فالغربان والجوارح بمناقيرها التي تشوه وتمزق،
قد سلمت أعيننا، وانتزعت لحانا وحواجبنا
أجراً لها، لن نكون أحراراً أبداً،
ولا مرة واحدة، لنستريح، وإنما تتعجلنا هنا وهناك
وتستاقنا بإرادتها الغشوم الرياح المتقلبة،
وتنقرنا الطيور أكثر مما تنقر الفاكهة على أسوار البساتين،
أيها الناس، أقسم عليكم بحب الله، ألا تدعوا كلمة سخر تقال هنا،
ولكن ادعوا الله أن يغفر لنا جميعاً.
وكان لا يزال عنده بصيص من الأمل، فألح فيون على سجانه أن يحمل رسالة إلى أبيه الذي تبناه، ليحمل إلى محكمة البرلمان استئنافاً لحكم واضح الظلم. وتدخل جويوم دي فيون من أجل الشاعر مرة أخرى، وهو الذي يستطيع أن يغفر للناس مرات ومرات، فلا بد أن تكون للشاعر بعض الفضائل تشجع على حبه. وفي الثالث من يناير عام 1463، نطقت المحكمة بحكمها وأمرت بالآتي: .. يلغى الحكم السابق، وبعد أن وضعت(22/189)
في الاعتبار سوء خلق فيون المذكور-ينفى عشر سنوات من المدينة .. وكونتية وباريس. فشكر فرانسوا المحكمة في نشيد مرح، والتمس مهلة ثلاثة أيام "للإعداد لرحلتي ووداع قومي". فسمح له بذلك، وأغلب الظن أنه رأى أباه وأمه للمرة الأخيرة. وجمع أمتعته، وأخذ زجاجة النبيذ وكيس النقود اللذين أعطاهما إياه جويوم الطيب، وتلقى بركاته وخرج من باريس ومن التاريخ. ولم نعد نسمع عنه شيئاً بعد ذلك.
كان لصاً، ولكنه كان لصاً مطرباً، والعالم في حاجة إلى الطرب. وكان يستطيع أن يكون فظاً مريراً كما في أنشودة "ماجو البدينة" ورمى النساء اللائى لا يستجبن لرغباته بالأوصاف المفحشة، وكان يتجاوز الحد في تصريحه بتفاصيل الجسم الإنساني. ونحن نستطيع أن نغتفر هذا كله من أجل الآثام التي اقترفت في مقابل آثامه، والرقة المنبعثة من روحه دائماً، الموسيقى الشجية في شعره. ولقد دفع عقوبة ما كان عليه، وخلف لنا المثوبة فقط.(22/190)
الفصل السّادِس
إنجلترا في القرن الخامس عشر
1399 - 1509
1 - الملوك
وما كاد يجلس هنري الرابع على العرش، حتى تحدته الثورة. فلقد تخلص أوين جلن دُوير من السيطرة الإنجليزية في ويلز إلى حين (1401 - 1408)، ولكن هنري الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الخامس، وكان يوم ذاك أمير ويلز، تغلب عليه بخطة عسكرية مباغتة، ومات أوين جلندوير، بعد لحظات من تبليغه العفو الكامل عنه، من المنتصر الشهم وذلك بعد أن أمضى ثماني سنوات مطارداً في حصون ويلز ونجادها. وقاد هنري برسي ايرل نورثمبرلند، بعض نبلاء الشمال في ثورة، أراد لها أن تساير في الزمن ثورة أوين جلندوير، ضد ملك لم يستطع أن يفي بالعهود التي قطعها لهم على نفسه، في مقابل معونتهم إياه على خلع رتشارد الثاني؛ وقاد هاري، الابن المستهتر للايرل، الملقب "بالمهماز الحاد" (وهو الذي صورة شكسبير شخصية محبوبة بلا مبرر) قوة عسكرية مترددة غير كافية ضد الملك في شروزبري (1403)، وهناك مات الفتى في بطولة حمقاء، وأبلى هنري الرابع في الصفوف الأولى من القتال بلاءً حسناً، وأطهر ابنه "أمير هل" المرح المتلاف شجاعة جديرة بالظفر بأجنكورت وفرنسا. ولم تترك هذه الثورات وغيرها من المتاعب لهنري إلا فسحة ضئيلة من الوقت أو الحماسة للسياسة، وكانت موارده أقل من نفقاته، كما اختلف بلا كياسة مع البرلمان، وختم ملكه بين الفوضى المالية وأصابته بمرض(22/191)
الجذام، وهبوط المستقيم والمرض التناسلي. قال هولنشد "إنه انتقل إلى جوار ربه في السادسة والأربعين من عمره .. في ارتباك عظيم ومتاع قليل".
وتذهب الروايات ويذهب شكسبير إلى أن هنري الخامس قد أمضى شباباً طليقاً ماجناً، وأنه تآمر للاستيلاء على العرش، حتى على أب، أقعده المرض وإن تشبث بالسلطان. ويكتفي المؤرخون المعاصرون بمجرد الإشارة إلى ملذاته، ولكنهم يؤكدون لنا، أنه بعد توليه العرش "تحول إلى رجل آخر، ودرس كيف يكون أميناً شجاعاً مهذباً". وهذا العابث مع السكارى والخليعات، يقف نفسه الآن، على قيادة عالم مسيحي موحد ضد الأتراك الزاحفين، وأضاف إلى ذلك أنه يجب أولاً أن يغزو فرنسا ولقد حقق غايته القريبة بسرعة مذهلة، وهكذا جلس أحد الملوك الإنجليز على عرش فرنسا لحظة مضطربة. وقدم له الأمراء الألمان فروض الولاء وفكروا في تنصيبه إمبراطوراً. وقد نافس قيصر بصورة مجملة في وضع خطط المعارك، وإمداد جيوشه بالمئونة، وحب جنده له. وفي تعريض نفسه لجميع الوقائع والأجواء. ومات فجأة بالحمى في بوادي فنسن (1422) ولما يزل شاباً في الخامسة والثلاثين.
وأنقذ موته فرنسا، وكاد يقوض أركان إنجلترا. وربما كانت شيعته تغري، دافعي الضرائب بإنقاذ الحكومة من الإفلاس، ولكن ابنه هنري السادس كان، عند توليه العرش، في الشهر التاسع من عمره فقط، وكانت النتيجة السيئة أن أغرق نواب الملك الفاسدون والقادة غير الأكفاء، الخزانة في دين تعجز عن تسديده. كما كان الحاكم الجديد أقصر باعاً من الملك، فهو دارس دقيق عصبي المزاج شغوف بالدين والكتب، ترتعد فرائصه من فكرة الحرب، وندب الإنجليز حظهم العاثر الذي أفقدهم ملكاً وأكسبهم قديساً .. وفي عام 1452 أصيب هنري السادس بالجنون على منوال شارل السادس ملك فرنسا. ووقع وزراؤه بعد عام واحد، صلحاً يعترف بهزيمة إنجلترا في حرب المائة عام.(22/192)
وحكم رتشارد، دوق يورك، عامين باعتباره حامياً للملك. وصرفه هنري عن منصبه (1454) في لحظة من لحظات التعقل، فادعى الدوق الغاضب، العرش لأنه من نسل إدوارد الثالث، واتهم الملوك من أسرة لانكستر بأنهم مغتصبون، وانظم سالسبوري ووروك وغيرهم من البارونات في حرب الوردتين-الوردة الحمراء تمثل آل لانكستر والبيضاء آل يورك-التي ظلت إحدى وثلاثين سنة (1454 - 1485) يتحرش فيها النبيل بالنبيل وكأنما تقدم الأرستقراطية الأنجلو نورماندية على انتحار متواصل، وتركت إنجلترا فقيرة ومنعزلة، وكان لا بد أن يسرح الجنود نتيجة لسلام غير مألوف لهم، فكرهوا أن يعودوا إلى زمر الفلاحين، وانظموا إلى كل من الفريقين، ونهبوا القرى والمدن، وقتلوا بلا وازع من ضمير كل من يقف في طريقهم. وقتل دوق يورك في موقعة عند ويكفيلد التي ذكرها جولد سمث في روايته المشهورة (1) (1460)، ولكن ابنه إدوارد ايرل مارش، استمر في الحرب بلا رحمة، وذبح جميع الأسرى، المنتسبين وغير المنت"بين، بينما قادت مرجريت أميرة أنجو، والزوج العقيم لهنري الطيب، آل لانكستر في دفاعهم عن حوزتهم في وحشية لا تعترف بالحياء وانتصر مارش في توتن (1461)، فقضى بذلك على أسرة لانكستر الماكلة، وأصبح أول ملك من أسر يورك، وتلقب بإدوارد الرابع.
ولكن الرجل الذي حكم إنجلترا في واقع الأمر، السنوات الست التالية، هو رتشارد نيفيل، اريل وروك. وهو رأس عشيرة غنية كبيرة العد، وكانت له شخصية آسرة محببة، كما كان داهية في السياسة، بارعاً في الحرب، فإن الفضل إنما يرجع إلى "وروك صانع الملك" في الانتصار في توتن، وهو الذي أجلس إدوارد على العرش. ووقف الملك التي استراح من الصراع،
_________
(1) رواية قسيس ويكفيلد.(22/193)
نفسه على النساء، في حين أحسن وروك الحكم حتى إن إنجلترا بأسرها جنوبي تاين وشرقي ستون (لأن مارجريت كانت لا تزال تحارب) أسبغت عليه جميع ألقاب التشريف ما عدا لقب الملك. ولما ثار إدوارد على الواقع وناصبه العداء، انظم وروك إلى مارجريت وطرد إدوارد من إنجلترا وأعاد هنري السادس إلى السلطة الإسمية (1470) وأخذ يحكم مرة أخرى. ولكن إدوارد نظم جيشاً بمعونة برجنديا. وعبر إلى هل، وهزم وروك وقتله في بارنت وهزم مارجريت في توكسبري (1471) وأمر بقتل هنري السادس في القلعة، وعاش سعيداً في آخر حياته بعد ذلك.
وكان إذ ذاك لا يزال في الواحدة والثلاثين من عمره. ولقد وصفه كومين بقولهِ "كان من أجمل رجال عصره، لا متعة له غير النساء والرقص والتسلية والقنص". ولقد أفعم خزانته بمصادرة ضياع آل نيفيل، وبقبول رشوة من الملك لويس الحادي عشر في مقابل الصلح معه مقدارها مائة وخمسة وعشرون ألف كراون مع وعد بخمسين ألفاً أخرى كل سنة. وبلغ من طمأنينته أن تجاهل البرلمان، الذي كانت فائدته بالنسبة إليه، الموافقة على ما يريد من المال. وأحس بالاستقرار، فاستسلم مرة أخرى للترف والخمول، ولبس الفاخر من الثياب، وأصبح سميناً مرحاً، ومات في الواحدة والأربعين من عمره، وقد بلغ أوج سلطانه واكتملت جوانب شخصيته (1483).
وخلف ولدين: إدوارد الخامس البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، ورتشارد، دوق يورك، في التاسعة. وكان عمهما رتشارد، دوق جلوسستر، خدم الدولة في السنوات الست التي خلت رئيساً للوزارة، في جد وورع وبراءة، حتى إنه لما نصب نفسه نائباً للملك، وافقت إنجلترا عليه بلا معارضة، على الرغم من أطرافه المشوهة وظهره المقوس وملامحه الجافية وكتفه اليسرى المرتفعة على كتفه اليمنى. وسواء أكان الباعث نشوة السلطان(22/194)
أو مجرد الشك في تدبير المؤامرات لخلعه، فإن رتشارد سجن عدداً من الأعيان، وأعدم أحدهم. وفي السادس من يوليو عام 1483 توج نفسه ملكاً باسم رتشارد الثالث، وفي الخامس من الشهر نفسه قتل الأميران الصغيران في القلعة، ولم يعرف أحد من الذي قتلهما. وثار النبلاء مرة أخرى، يقودهم في هذه المرة، هنري تيودور، ايرل رتشمند. ولما التقت قواتهم الصغيرة، بجيش الملك، المتفوق في العدد إلى حد كبير في بوسورث (1485)، رفض معظم جنود رتشارد القتال، ومات في مطاردة يائسة، مفتقراً إلى الملك وإلى جواد .. وانتهت بذلك أسرة يورك المالكة، وبدأ ايرل رتشمند، أسرة تيودور وتلقب بالملك هنري السابع، وهي الأسرة التي تنتهي بإليزابث.
ومارس هنري، تحت وطأة الضرورة، الفضائل والرذائل التي تصور له أن منصبه يتطلبها. ولقد رسم له هلبين صورة جدارية في هوايت هول يبدو فيها طويلاً، ممشوقاً لا لحية له، مفكراً عطوفاً. لا تكاد تنم ملامحه على التدبير الماكر الغامض، والكبرياء العبوس الثابتة، والعزيمة المرنة وإن كانت صلبة في مصابرتها، وهي الصفات التي نقلت إنجلترا من الانحلال والفقر، في عهد الملك هنري السادس، إلى الثروة والسلطة المركزة في عهد هنري الثامن. ويقول بيكون أنه كان يحب "ما تجلبه الخزائن المفعمة للناس من غبطة"، لأنه عرف قدرتها على الإقناع في السياسة. فبرع في فرض الضرائب على الأمة، واستنزف دماء الأغنياء بالصدقات والهدايا بالإكراه، واستغل الغرامات في شراهة لتكون مورداً لخزانته ورادعاً للجريمة، وكان يبتهج كلما رأى القضاة يلائمون بين الغرامة وبين جيب المحكوم عليه، لا بينها وبين المخالفة. وهو أول ملك إنجليزي منذ عام 1216 جعل نفقاته في حدود دخله، وصدقاته وهباته تخفف من وطأة شحه. ووقف نفسه بإخلاص على شؤون الإدارة، وقلل من ملاهيه ليستكمل(22/195)
عمله: وأظلم الشك الدائم حياته، ولم يكن ذلك بغير سبب، فلم يثق في أحد، وكان يخفي أغراضه، ويحقق أهدافه بوسائل مشروعة أو غير مشروعة. وأنشأ محكمة ستارتشمبر لمحاكمة النبلاء المشاغبين، الذين بلغ سلطانهم حداً يخشى منه على التأثير في القضاة المحليين والمحلفين. وذلك في جلسات سرية. واستطاع عاماً بعد عام أن يخضع الأرستقراطية المتخلفة، وطبقة رجال الدين الخائنة للملكية. وعارض بعض الأفراد الأقوياء، القضاء على الحرية وتعطيل البرلمان، ولكن الفلاحون صفحوا، عن ملك كبح جماح سادتهم، وأثنى الصناع والتجار عليه، لعمله الحكيم على النهوض بالصناعة والتجارة. ولقد وجد إنجلترا في فوضى إقطاعية، وحكومة جد فقيرة، لا سمعة لها بحيث تحصل على الطاعة والولاء، وخلف لهنري الثامن دولة محترمة منظمة، مؤتمنة موحدة وفي حالة سلم.
2 - نمو الثروة الإنجليزية
من الواضح أن ثورة عام 1381 العظيمة لم تسفر عن كسب ما. فلم يزل الكثير من فروض العبودية يؤخذ قسراً، بل إن مجلس اللورادت قد رفض بعد ذلك بزمان، في عام 1537 قانوناً يقضي بالتحرير الكامل لعبيد الأرض. وازداد الضيق على "العامة"، وأصبح آلاف من رقيق الأرض المتحررين عمالاً يدويين في المدن لا يملكون شيئاً، وقال توماس مور، إن الأغنام كانت تأكل الفلاحين .. وكانت هذه الحركة طيبة من بعض الوجوه: فقد كانت الأغنام الراعية للكلأ، تسمد الأرض المشرفة على البوار, وما إن جاء عام 1500 حتى كان واحد في المائة من السكان فقط عبيد أرض. فنشأت طبقة من الفلاحين الملاك، الذين يزرعون أرضها بأنفسهم وهي التي منحت تدريجياً للرجل الإنجليزي العادي، الشخصية المستقلة القوية التي صهرت الكومنولث وكونت دستوراً غير مكتوب لحرية غير مسبوقة.(22/196)
ولم يعد النظام الإقطاعي مجدياً، لأن الصناعة والتجارة ارتقيتا بحيث اتخذتا الطابع القومي، وتحولتا إلى اقتصاديات المال المنقول المرتبطة بالتجارة الخارجية. فحينما كان رقيق الأرض ينتج لسيده، لم يكن عنده إلا حافز ضئيل للتوسع أو الإقدام، ولكن عندما يستطيع الفلاح المتحرر والتاجر، أن يبيعا إتناجهما في السوق الحر، فإن الرغبة الملحة في الربح تبعث الحياة الاقتصادية في الأمة، وأخذت القرى ترسل مزيداً من الطعام إلى المدن، وتنتج المدن مزيداً من السلع للوفاء بثمن هذا الغذاء، هكذا تجاوز تبادل الفائض، حدود البلديات القديمة وقيود النقابات لتغمر إنجلترا، وتصل إلى ما وراء البحر.
وتحولت بعض النقابات إلى "شركات تجار" صرح الملك لها أن تبيع المنتجات الإنجليزية في الخارج. وكانت معظم التجارة الإنجليزية تحمل في القرن الرابع عشر على سفن إيطالية، أما الآن فإن البريطانيين يبنون سفنهم، ويسيرونها في بحر الشمال والساحل الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. وقاوم تجار جنوه والاتحاد الهنسياتي، هؤلاء الوافدين الجدد، وحاربوهم بالقرصنة ومصدارة السفن، ولكن هنري السابع، اقتنع بأن تقدم إنجلترا يتطلب التجارة الخارجية، فوضع الملاحة الإنجليزية في حماية الحكومة، وأعد مع أمم أخرى، اتفاقيات تجارية، أقرت النظام والأمن البحريين. حتى إذا وافى عام 1500، كان "التجار المغامرون" في إنجلترا، يسيطرون على بحر الشمال. وكان الملك بعيد النظر فأوفد وهو يستشرف التجارة مع الصين واليابان الملاح الإيطالي جيوفاني كابوتو، الذي عاش إذ ذاك في بريستول باسم جون كابوت، ليبحث عن ممر شمالي عبر الأطلنطي (1497). وقنع كابوت، باكتشاف نيوفوندلاند، والساحل من لبرادور إلى ديلاوير في رحلة ثانية (1498)، ومات في تلك السنة، وتحول ابنه سيباستيان إلى خدمة أسبانيا. وربما لم يدرك الملاح والملك أن هذه الرحلات، استهلت(22/197)
التوسع الإمبراطوري البريطاني؛ وفتحت للتجارة الإنجليزية والمستعمرين البريطانيين، إقليماً يمكن أن يصبح على الأيام-القوة الخلاص لإنجلترا.
ودعّمت الرسوم الجمركية الوقائية، الصناعة القومية، وخفض النظام الاقتصادي، سعر الفائدة، تخفيضاً كبيراً بلغ 5% أحياناً، وقضى قانون هنري السابع (1490) بـ:
"على كل رئيس عمل أو عامل أن يكون في عمله، بين منتصف شهري مارس وسبتمبر، قبل الساعة الخامسة صباحاً، وله نصف ساعة فقط لتناول إفطار، وساعة ونصف لغذائه (في الظهيرة) وهو يستطيع النوم، إن وجد فسحة له في تلك الفترة .. وعليه ألا يترك عمله .. إلا بين الساعة السابعة والثامنة مساء .. ، وعلى كل رئيس عمل وعامل أن يكون في عمله عند انبلاج الصبح وذلك في منتصف سبتمبر إلى منتصف مارس، وألا يغادره إلا بمجيء الليل .. ولا يسمح لأحدهم بالنوم نهاراً".
ومع ذلك فإن العمال كانوا يستريحون ويشربون الخمر أيام الآحاد، إلى جانب إجازة أربع وعشرين يوماً في السنة. ووضعت الدولة أسعاراً عادلة "لكثير من السلع، وقد سمعنا عن اعتقالات حدثت، لتجاوز هذه الأسعار. وكانت الأجور الحقيقية، بالنسبة إلى الأسعار، أعلى بشكل واضح في أواخر القرن الخامس عشر، عما كانت عليه أوائل القرن التاسع عشر.
وأدى ضغط ثورات العمال في إنجلترا، إبان ذلك العصر إلى الحصول على حقوق سياسية والوقوع في أخطاء اقتصادية واستمرت دعوة شبيهة بالشيوعية في كل سنة تقريباً، وذكر العمال مراراً "بأنكم مخلوقون من نفس الطينة والمادة اللتين خلق منهما الأشراف، فلماذا أذن يتريضون ويلعبون، وأنتم تعملون وتكدحون؟ -ولماذا يملكون الكثير جداً مما في هذا العالم من ثروات وكنوز، وأنتم تملكون أقل القليل؟ " وكانت أعمال الشغب(22/198)
كثيرة، ضد التضييق على الأرض المشاع، كما قامت خلافات موسمية بين التجار والعمال، ولكننا نسمع أيضاً عن قلاقل من أجل الديمقراطية المحلية في المدن، وعن تمثيل العمال في البرلمان وعن تخفيض الضرائب.
وفي شهر يونيه عام 1450، سارت قوة منظمة كبيرة من الفلاحين وعمال المدن إلى لندن، وعسكرت في بلاك هيث. وعرض زعيمهم جاك كيد ظلامتهم، في وثيقة منظمة "إن جميع الناس من العامة، لا يستطيعون أن يعيشوا من كد أيديهم وفلاحتهم، بسبب الضرائب والمغارم وغيرها من المظالم". ولا بد أن يلغى هذا الدستور العمالي، وأن تتألف وزارة جديدة. فاتهمت الحكومة زعيمهم كيد بالدعوة إلى الشيوعية (1).
والتقى جنود هنري السادس، وأتباع بعض النبلاء، بجيش الثوار في سنفوكس (18 يونيه سنة 1450) ومما أثار دهشة الجميع أن الثوار انتصروا وتدفقوا إلى لندن. وأمر مجلس الملك تهدئة لخواطرهم باعتقال لورد ساي ووليم كرومر، وهما موظفان مكروهان لابتزازهما الأموال وطغيانهما. وفي الرابع من يوليه، سلما إلى الغوغاء الذين حاصروا القلعة، فحاكمهما الثوار، وقد رفضا الدفاع عن نفسيهما وأعدما. ويقول هولنشد: إن الرأسين رفعا على قضيبين، وحملا عبر الطرقات في موكب مرح، وكان فم كل منهما يصفع بقبلة دامية، بين حين وآخر. وتفاوض كبير أساقفة كانتربري وأسقف ونشستر للصلح، الذي منح بعض المطالب ووعد بالعفو العام. ووافق الثوار وتفرقوا. ومع ذلك فقد هاجم جاك كيد قلعة كوينز بورد في شيبي، فاعتبرته الحكومة خارجاً على القانون، وأصيب بجرح مميت وهو يقاوم اعتقاله وذلك في الثاني عشر من يوليه. وحكم على ثمانية من المتواطئين معه بالإعدام وعفا الملك عن الباقين، فابتهج كلفة رعاياه ابتهاجاً عظيماً".
_________
(1) انظر صورة شكسبير الساخرة لجاك كيد: "سيكون هناك في إنجلترا سبعة أرغفة من التي بنصف بنس تباع ببنس كامل ... وسأجعلها من الكبائر احتساء زجاجة الجعة الصغيرة، إن كل شيء سيكون مشاعاً ...(22/199)
3 - الأخلاق والطباع
كتب سفير البندقية حوالي عام 1500، تقريراً إلى حكومته:
"معظم الإنجليز-سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، وفي جميع الأعمار-حسان وأجسامهم ممشوقة .. وهم يحبون أنفسهم حباً عظيماً، ويحبون كل شيء يتعلق بهم ويعتقدون، أنه ليس في الناس سواهم، وليس هناك عالم آخر سوى إنجلترا، وكلما رأوا غريباً جميلاً قالوا "إنه يشبه الإنجليزي، ومن الأسف الشديد أنه ليس كذلك".
وقد يجيب الإنجليز، بأن معظم هذا الوصف، بشيء من التعديل الضروري ينطبق على كل الشعوب .. ومن المؤكد أنهم كانوا شعباً قوياً في الجسم والأخلاق والحديث. وهم يقسمون بحرارة حتى إن جان دارك أسمتهم دائماً الملاعين.
وكان النساء أيضاً يتكلمون ببساطة، ويتحدثن عن مسائل فسيولوجية وجنسية بحرية، قد تذهل السفسطائيين اليوم. ومزاجهم كحديثهم خشن مفحش. وطباعهم جافية، حتى عند الطبقة الأرستقراطية، وعليهم أن يدربوا ويستأنسوا، بقانون سلوكي صارم. ولقد نشأت الروح الشهوانية التي اتسم بها الإنجليز في عهد أليزابث في القرن الخامس عشر، نتيجة لحياة يكتنفها الخطر والعنف والقحة. وكان على كل امرئ أن يكون شرطي نفسه، مستعداً أن يقابل الصفعة بالصفعة، وأن يقتل عند الضرورة برباطة جأش. وهؤلاء الحيوانات القوية نفسها يمكن أن تكون كريمة، شهمة ورقيقة في بعض الأحيان. فلقد بكى محاربون جفاة، عندما مات سيرجون تشاندوس وهو فارس مغوار، وتظهر رسالة مارجريت باستون إلى زوجها المريض (1443)، كيف يكون الحب، لا عصر له ولا يضارعه شيء.(22/200)
ويجب أن نذكر أن هذه السيدة نفسها، قد هشمت رأس ابنتها، عندما رفضت أن تتزوج من اختاره أبوها.
ونُشّئت البنات في حصانة رصينة واحتشام، لأن الرجال كانوا حيوانات مفترسة، وكانت العذرة عدة اقتصادية في سوق الزواج. ويعد الزواج حادثاً من أحداث تنقل المتاع. فالفتيات قد يتزوجن زواجاً شرعياً في سن الثانية عشرة، والصبيان في سن الرابعة عشرة، حتى بغير موافقة والديهم، ولكن الخطبة كانت تعد في الطبقات العليا تعديلاً للمعاملات المالية، بواسطة الآباء والأمهات، عقب بلوغ الأطفال السنة السابعة من العمر مباشرة. وما دام زواج الحب شاذاً، والطلاق محرماً، فقد شاع الزنا، وبخاصة في الطبقة الأرستقراطية. ويقول هولنشد: "لقد سادت هناك، الرذيلتان الوبيئتان السكر والزنا، مع الفحش البغيض، وبخاصة عند الملك" واختار إدوارد الرابع، بعد أن مر بتجارب عديدة في الحب، جين شور، لتكون الحظية الأثيرة لديه. وقد خدمته بإخلاص نزق، وأثبتت أنها صديقة رحيمة في البلاط لكثيرين من ذوي الحاجات. ولما مات إدوارد، أرغمها رتشارد الثالث أن تجوب شوارع لندن، في ثوب الندم الأبيض وربما كان ذلك استعراضاً لآثام أخيه، وإخفاء لآثامه هو؛ وعاشت حتى بلغت أرذل العمر، محتقرة من أولئك الذين ساعدتهم.
ولم يحدث في التاريخ المعروف إطلاقاً أن شعباً كان يماثل الإنجليز (الذين يتشبثون بالقانون اليوم) في استهتارهم إذ ذاك بالقانون إلى حد بعيد. ولقد جعلت الحرب المائة سنة الناس قساة مستهترين، واستمر النبلاء بعد عودتهم من فرنسا، يحاربون في إنجلترا، واستخدموا جنوداً مسرحين في منازعاتهم. وشارك أبناء الطبقة العليا، التجار الجشعين الذين داسوا كل فضيلة للحصول على المال. وكانت السرقات لا تحصى. وباع التجار الرديء من السلع واصطنعوا الزائف من الموازين، وكاد(22/201)
التدليس في نوع الصادرات ومقدارها يقضي على تجارة إنجلترا الخارجية، في فترة من الفترات. واستغلت التجارة في البحار القرصنة، وكانت الرشوة عامة أو تكاد: وقلما يحكم القضاة دون أن يحصلوا على "هدايا"، وكان جباة الضرائب يرشون، تيسيراً للتخلص منها، ويطلب إلى الضباط المجندين مثل فولستاف الذي صوره شكسبير، أن يتغاضوا عن مدينة من المدن، فقد استطاع الأعداء، أن يشتروا جيشاً إنجليزياً، كان يغزو فرنسا، واشتد جشع الناس للمال وقتذاك إلى حد الجنون كما هو الآن، وأنكر شعراء مثل تشوسر الجشع في شعرهم، ولنهم مارسوه في واقع حياتهم وكان من الممكن أن يتقوض الكيان الأخلاقي للأمة، لولا أن أسسه قد دعمتها حياة البساطة التي اتسم بها الرجل والمرأة في الطبقة العامة، ففي الوقت الذي كان فيه من هم أفضل منهم، يدبرون الحروب والشرور لذلك العصر، احتفظ هؤلاء العامة بالحياة المنزلية وحافظوا على الجنس.
وعاشت جميع الطبقات، ما عدا التجار والعمال، في الريف أطول مدة يستطيعونها كل سنة. وتحولت القلاع التي لم تعد حصينة، بعد انتشار المدفع، ببطء إلى منازل كبيرة. وحل الآجر محل الحجر، ولكن البيوت المتواضعة، كانت لا تزال تقام من الخشب والطين. وفقدت الردهة الوسطى، مساحتها وفخامتها القديمتين وهي التي كانت تستعمل في يوم من الأيام لجميع الأغراض، وتقلصت إلى دهليز يؤدي إلى غرفة معيشة كبيرة، وغرف صغيرة، وقاعة استقبال للحديث الخاص. وضعت السجاجيد على جدران بيوت الأغنياء، وأضاءت النوافذ، وهي من زجاج ملون في بعض الأحيان المدخل الذي كان مظلماً من قبل. أما دخان المواقد الذي كان يترسب قبلاً من النافذة والباب والسقف، فقد جمع في مدخنة، ومدفأة ضخمة تزين غرفة المعيشة. وقد تعلقت السقوف بالخشب والأرضيات بالبلاط، في حين ظلت السجاجيد قليلة نادرة. إذا نحن صدقنا أقوال إراسموس التي يغلب فيها الجانب الأدبي على الدقة في التصوير.(22/202)
"كانت جميع الأرضيات تقريباً من الصلصال، مفروشة بحصير من حلفاء المستنقعات، وقليلاً ما تجدد حتى إن الأسس تظل عشرين سنة، تردد أسافلها بالبصاق والقيء من الناس والكلاب والنبيذ والجعة، وبقايا السمك وغيرها من القاذورات التي لا تسمى، ويتصاعد منها، بتغير الفصول، بخار غير صحي في رأيي".
وكانت المخادع فخمة مزينة بالنقوش المحفورة، ومزودة بالأغطية عليها رسوم أزهار وتعلوها كُنَّة. كما كانت مائدة الطعام، في المنازل المريحة، فنية ضخمة رائعة، بنقوشها البارزة من خشب الجوز أو البلوط ويقوم بالقرب منها، أوفي القاعة بصفة عامة، صوان للأواني أو الفضيات والتحف حيث ترتب للعرض أو الزينة. ونظمت ردهة الجلوس التي أعدت في الأصل للحديث، لتناول الطعام.
وكانوا يتناولون وجبات الطعام الرئيسية نهاراً، وذلك للاقتصاد في زيت الإضاءة و"الغداء" في الساعة العاشرة صباحاً، والعشاء في الخامسة مساءً. وحرص الرجال على ارتداء قبعاتهم عند الجلوس إلى المائدة، ليمنعوا شعورهم الطويلة، من مخالصة الطعام. واحتفظ بالشوك لأغراض خاصة مثل تناول الكامخ أو تجمير الجبن، وظهر استعمال الإنجليز لها على النمط الحديث، أول مرة عام 1463، أما السكين، فقد كان الضيف هو الذي يأتي بها معه، يحملها في جراب، معلق بمنطقته، ويتطلب آداب السلوك إذ ذاك أن يصل الطعام إلى الفم، بواسطة الأصابع. ولم تكن المناديل مستعملة، حتى منتصف القرن السادس عشر، فقد كان على الرجال أن يتمخطوا باليد التي تمسك السكين بدلاً من تلك التي تنقل الطعام إلى الفم. وكانت الفوط غير معروفة، ويحذر الطاعمون بألا ينظفوا أسنانهم بغطاء المائدة، وكانت الوجبات دسمة، ذلك أن الغذاء العادي لواحد من أصحاب الوجاهة، كان يتألف من خمسة عشر أو عشرين صحناً. واحتفظ اللوردات(22/203)
العظام بموائد عظام، فقد كانوا يطعمون يومياً، مائة من الندماء والزوار والحشم، وكان وروك صانع الملك يذبح ستة ثيران كل يوم لمائدته، وأطعم أحياناً خمسمائة مدعو. وكانت اللحم هي الطعام القومي والخضرات نادرة أو غير مجبوبة. والجعة هي الشراب القومي، ولم يكن النبيذ موجوداً أو منتشراً، كما كان الحال في فرنسا أو إيطاليا بيد أن المسموح به من الجعة، هو جالون للفرد كل يوم حتى الراهبات. وقال السير جون فورتسكيو (توفي عام 1470) "لا يشرب الإنجليز الماء، إلا في أوقات معينة لأغراض دينية. أو للتكفير عن الذنب".
وكان الرداء فاخراً عند الطبقة الأرستقراطية. أما البسطاء فكانوا يرتدون جلباباً فضفاضاً وقلنسوة، أو معطفاً قصيراً لايئم العمل، وكلف الموسورون بالقبعات المكسوة بالفراء أو الريش، وأردية مزينة بالزهور، أو سترات مزركشة تنتفخ عند الأكمام، وجوارب طويلة، شكا منها قسيس تنشوسر بقوله "تظهر الساقين في صورة مفزعة منتفخة ينفتق إحداها عن الأخرى بالإضافة إلى أرداف .. وكأنها الجانب الخلفي من قردة في ليلة مقمرة". وارتدى تشوسر نفسه عندما كان تابعاً في حاشية الملك، سترة مشعة وجوربين أحدهما أحمر والآخر أسود. واختفت في القرن الخامس عشر الأحذية المدببة، التي شاعت في القرن الرابع عشر، واستدارت الأحذية واتسعت عند الإصبع الكبير من القدم. أما "زي النساء" فهو يثير السخط، وعلى الرغم من أن محيا بعضهن، ينم على العفة والطيبة الكاملتين، إلا أنهن يبرزن بقلة ردائهن غير المتناسق فتنتهن ودلالهن". ومع ذلك، فإن الصور التي وصلت إلينا، تظهر الجنس المثير، وقد حبس بإحكام في حشد من الملابس من قمة الرأس إلى أخمص القدم.
وتراوحت ألعاب التسلية في الداما والشطرنج، إلى النرد، ومن صيد السمك إلى قنص الوحوش، ومن رمي السهام إلى المبارزة. ودخلت لعبة(22/204)
الورق إلى إنجلترا حوالي نهاية القرن الخامس عشر، وهم لا يزالون يلبسون ملوكهم وملكاتهم، على طراز ذلك العصر. وكان الرقص والموسيقى شائعين كالميسر، وكل إنجليزي تقريباً، يشارك في الأغاني الجماعية، ولقد نافس هنري الخامس جون دستيبل، مع أعاظم الملحنين في ذلك العهد. واعترفت القارة الأوربية بالمغنين الإنجليز. ولعب الرجال التنس، وكرة اليد وكرة القدم وغيرها من ألعاب الكرة القديمة ومي الأطواق، وتصرعوا وتلاكموا، وأعدوا الديكة للعراك، وتراهنوا وتحرشوا بالدببة والثيران. واحتشد الناس لمشاهدة البهلوان والسائرين على الحبال يعرضون فنونهم التي كانت تسري على القدماء، وتدهش المحدثين. واحتفظ الملوك والنبلاء بالمشعوذين والمضحكين والمهرجين، وكان الملك أو الملكة يعينان من يشرف على ألعاب ومشاهد عيد الميلاد، ومنحوه لقب لورد. والنساء يخالطن الرجال في حرية في كل مكان. يحتسين الخمر في الحانات، يركبن وراء كلاب الصيد، ويصدن الصقور، ويصرفن لمشاهدين عن المتصارعين في بعض الدورات، وهن اللائى قادتهن الملكة للتحكيم في رمي الأطواق ومنح التاج الذهبي.
وكانت الرحلة لا تزال مجهدة، وكلن ما من أحد استقر في داره، على ما يبدو-وذلك من مساوئ الزواج من واحدة. والطرق موحلة أو متربة، ولم يميز اللصوص بين عنصر جنس وطبقة أو مهنة. والفنادق بهيجة المنظر على الرغم من قذارتها تزدحم فيها الصراصير والفئران والبراغيث. ويجد كل رجل منهم بائعة هوى، وقلما تجد الفضيلة مخدعاً صالحاً لها هناك. يذهب الفقراء راجلين والأوساط على صهوات الخيل، في جموع مسلحة عادة، ويستعمل الأغنياء عربات، تجرها خيول مطهمة، ونسب ابتكارها إلى رجل مجري في قرية كوكر من أبناء القرن الخامس عشر. وكانت عربات اللوردات مزينة بالنقوش البارزة وموشاة ومذهبة، لها حشيات(22/205)
وستائر وبسط، ومع ذلك فقد كانت أقل راحة من ظهور الإبل، وكانت تترنح كمركب صيد بشراع واحد. ولم تكن السفن خيراً مما كانت عليه في العصر القديم، ولعلها أسوأ حالاً، وأخذت السفينة التي جاءت بالملك جون من بوردو، إلى لندن عام 1357 اثني عشر يوماً.
وانتشرت الجرائم وبلغت المدن من الفقر حداً لا تستطيع معه، إلا أن تستخدم شرطة من المتطوعين غير المأجورين. ولكنه الذكور كان يطلب إليهم جميعاً أن يسهموا في "ملاحقة" مجرم هارب، وكان يبحث عن الموانع في الحكومات الصارمة من أجل القلة الذين يقبض عليهم، وكانت عقوبة السطو الاختلاس والحريق العمد وانتهاك حرمة المعابد المقدسة، كعقوبة القتل والتآمر، وهي الشنق على أقرب شجرة وتترك الجثة ردعاً للآخرين وطعمة الغربان. وانتشر التعذيب-كلل من المتهم والشهود-إبان حكم إدوارد الرابع، واستمر مائتي سنة. وكثر المحامون.
وقد يكون حكمنا على هذا العصر ممعناً في القسوة، متغافلين عن فظائع قرننا المتحضر. ولقد كان سير جون فورتسكيو القوام على العدالة في عهد الملك هنري السادس، أحسن ظناً بعصره، وكتب تمجيداً له مصنفين اشتهر في وقت من الأوقات. وفي محاورة امتدح قوانين إنجلترا. ومجد صحة المحاكمة بواسطة المحلقين، ونعى التعذيب، وكان مثاله، مثل الآلاف الفلاسفة، في تحذير الأمراء الذين يجدر بهم أن يكونوا خدام الشعب المعتصمين بالقانون. ولقد وازن في كتبه "الملكية" أو "حكومة إنجلترا" بين فرنسا وإنجلترا على أساس من العطفة الوطنية: فالناس من فرنسا قد يحكم عليهم بغير محاكمة علنية: وقلما يدعى مجلس الولايات للاجتماع. والملك يفرض الضرائب على الحاجات الضرورية كالملح والخمر. وبعد أن بالغ في تمجيد بلاده على هذا النحو، ختم السير جون كلامه بقوله إن جميع الحكومات، يجب عليها أن تخضع البابا ولو أدى ذلك إلى تقبيل قدميه.(22/206)
4 - اللولارد
أعاد أرندل كبير الأساقفة عام 1407، تأكيد سيادة الشريعة أو القانون الكنسي، على كل تشريع وضعي، وحكم بالكبيرة أو الهرطقة الكاملة على رفض أي مرسوم بابوي. وأقامت الكنيسة بعد ويكليف، وازدادت قوتها في إنجلترا، إبان القرن الخامس عشر، وفاضت الثورة المتدفقة على خزائنها. وشاع الاكتتاب الديني: فإن الأشخاص الذين يتوقعون الموت، كانوا يتبرعون لبناء كنيسة، ولإقامة القداس للتعجيل بدخولهم الجنة. وسيطرت الكنيسة على مجلسي البرلمان، فقد كان لها في مجلس الشيوخ حوالي عشرين أسقفاً وستة وعشرين من رؤساء الأديرة، في حين مل يكن في المجلس من غير رجال الدين سوى سبعة وأربعون عضواً. وأصر هنري السابع-وهنري الثامن فيما بعد- لموازنة ذلك الوضع على تعيين أساقفة ورؤساء أديرتها من بين رجال الدين، ويسر اعتماد الرتب الكهنوتية على الملكية، تسليم رجال الدين، لجهود هنري الثامن في سبيل تحقيق السيادة الملكية على الكنيسة الإنجليزية.
وفي الوقت نفسه استقر وعاظ وكيليف المساكين على نشر أفكارهم المناهضة لرجال الدين. ولقد ذكر أحد مؤرخي الأديرة، في فترة مكبرة، 1382 في مبالغة تنم عن الفزع "أنهم كانوا يتكاثرون بسرعة فائقة، كالبراعم، حتى غمروا المملكة بأسرها .. ومن النادر أن تلقى رجلين في الطريق دون أن يكون أحدهما من تلاميذ وكيليف. ولقد وجدوا الجمهور المستعد للاستماع إليهم بين صفوف عمال الصناعة، وبخاصة نساجي نورفولك. وفي عام 1395 أحس جماعة اللولارد، أنهم بلغوا من القوة حداً، أتاح لهم أن يقدموا إلى البرلمان، بياناً جريئاً بمبادئهم. فقد عارضوا عزوبة رجال الدين، واستحالة القربان دم المسيح ولحمه(22/207)
وعبادة الصور وزيارة القديسين والصلوات على أرواح الموتى، وثروة الكنيسة وكثرة الموقوف عليها، واستخدام رجال الكهنوت في وظائف الحكومة وضرورة الاعتراف بالقسس والاحتفال بالتعاويذ، وعبادة القديسين. وأوصوا في بيانات أخرى، بأن الجميع يجب عليهم أن يعكفوا على قراءة الكتاب المقدس، وأن يتبعوا تعاليمه باعتبارها فوق مراسيم الكنيسة. ورفضوا الحرب باعتبارها منقضة للمسيحية، والترف لأنه منافٍ الأخلاق، وطالبوا بإصدار قوانين خاصة بالنفقات، تفرض على الناس العودة إلى البساطة في الغذاء والكساء، وكرهوا الإيمان، ووضعوا في مقابل صفته القسم، حيناً آخر مثل "أنا متأكد أن" و "إنها الحقيقة"، وكان العقل الطهري ووجهة النظر الطهرية، يتخذان شكلهما في إنجلترا قبل ذلك، ولقد مزج نفر من الوعاظ، الاشتراكية بعقيدتهم الدينية، ولكن معظمهم، كان ينفر من مهاجمة الملكية الخاصة، وسعوا إلى تأييد الفرسان والنبلاء إلى جامب تأييد الفلاحين والعمال.
ومهما يكن من شيء فإن الطبقات العليا لم تستطع أن تنسى المأزق الشديد الذي نجت منه ثورة 1381، ووجدت الكنيسة فيهم، استعداداً جديداً لحمايتها، باعتبارهم قوة استقرار في المجتمع. وهدد رتشارد الثاني ممثلي اللولارد في البرلمان بالاعتقال وأجبرهم على الصمت. وطالب أساقفة إنجلترا عام 1397، الملك بإعدام الهراطقة المتعمدين "أسوة بجميع الممالك الخاضعة للدين المسيحي". ولكن رتشارد الثاني، كره أن يسايرهم إلى هذا المدى، ومع ذلك فقد أصدر هنري الرابع وبرلمانه عام 1401 المرسوم المشهور بحرق جميع الأشخاص الذين تحكم عليهم إحدى المحاكم الدينية بأهم هراطقة بالإصرار، وتباد جميع كتب الهرطقة. وفي العام نفسه، أحرق وليام سوتري، وهو قسيس على مذهب اللولارد، بعد أن شد إلى القائمة الخاصة بالإحراق. وقبض على غيره من أنصار المذهب نفسه، وأجبروا على(22/208)
تغيير آرائهم وعوملوا برفق. وقدم أمير ويلز، إلى هنري الرابع عام 1406، عريضة تقضي بأن دعوة اللولارد، وهجومهم على أملاك الأديرة يهددان كيان المجتمع بأسره. وأمر الملك بزيادة التشدد في محاكمة الهراطقة. ولكن انغماس الأساقفة في سياسة البابوية، جرف نشاطهم، عن الهرطقة والهراطقة إلى حين. وفي عام 1410 أدانت الكنيسة جون بادبي، وهو خياط لولاردي، وأحرق في سوق سمثفيلد. وقبل أن تشعل المحرقة، رجا الأمير هال، بادبي، أن يرجع عن آرائه، وأن يمنح في مقابل ذلك الحياة والمال، فأبى الرجل، وارتقى المحرقة حيث لقي الموت.
وجلس الأمير على العرش عام 1413 باسم هنري الخامس ومنح تأييده الكامل لسياسة القمع. وكان أحد أصدقائه هو سير جون ألد كاسل لورد كوبهام، وهو الذي رأى نظارة مسرحيات شكسبير، بعد ذلك، أنه عين فلستاف. ولقد أبلى ألد كاسل البلاء الحسن في الحرب في سبيل الأمة، ولكنه تسامح مع دعاة اللولارد، وبسط عليهم حمايته في ضياعه بهير فوردشاير وكنت. وطالب الأساقفة بمحاكمته ثلاث مرات، وأبى حضور المحاكمة ثلاثاً، ولكنه استسلم بناءً على دعوة مكتوبة من الملك، وقتل أمام الأساقفة (1413) في نفس الموضع من كنيسة سانت بول، حيث حوكم، ويكلف قبل ذلك بست وثلاثين سنة. وأكد اعتقاده السابق في المسيحية، ولكنه لم يقبل التخلي عن آراء اللولارد في الاعتراف أو القربان. فأدين بالهرطقة، وسجن في برج لندن، وأعطي مهلة أربعين يوماً، على أن يعود عن هذه الآراء، ولكنه بدلاً من ذلك، فر هارباً. وما أن بلغ اللولارد الذين كانوا حول لندن، خبر فراره، حتى جهروا بالثورة، وحاولوا أن يقبضوا على الملك (1414). وفشلت المحاولة، وقبض على بعض الزعماء وأعدموا. واختفى الكاسل، ثلاث سنوات في جبال هيرفورشاير وويلز، ثم قبض عليه آخر الأمر، وأعدم بتهمة الخيانة، ثم أحرق بتهمة الهرطقة (1417)، لأن الدولة والكنيسة طالبت كل منهما بحقها.(22/209)
ونحن إذا قسنا اضطهاد اللولارد إلى غيرهم، نرى أنه كان معتدلاً، وبلغ عدد الذين أعدموا أحد عشر رجلاً بين عامي 1400، 1485. ولقد سمعنا عن طوائف من اللولارد عاشت إلى عام 1521، وفي سنة متأخرة هي سنة 1518، قتل توماس جان على المحرقة، وهو الذي زعم أنه حول سبعمائة شخص إلى المذهب اللولاردي، وأحرق ستة آخرون عام 1521.
وأما فصل هنري الثامن إنجلترا عن روما، وقابلت الأمة هذا التحويل بلا ثورة، فإن اللولارد من حقهم، أن يزعموا، أنهم مهدوا الطريق إلى هذا التحول إلى حد ما.
ونشر ريجفالد تيلوك، أقف تشيشستر عام 1450 كتاباً، اتخذ له عنواناً، على طريقة العصر المقبلة، كبح جماح اللوم الزائد عن الحدلرجال الدين.
كان رداً صريحاً على المذهب اللولاردي، وقد افترض وجود نزعة قوية ضد رجال الدين بين الناس. واقترح القضاء على هذه الآراء، لا بالسجن في المحرقة، ولكن بالاحتكام إلى العقل فحسب. وأمعن الأسقف المتمحس في الاحتكام إلى العقل، حتى أغرم بالعقل ذاته، وأوقعه ذلك في الهرطقة، وألفى نفسه، بفند بالعقل بعض حجج اللولارد، من الكتاب المقدس. ووضع العقل فوق الكتاب المقدس بصورة قاطعة كميزان للحقيقة، في "رسالة من الاعتقاد"-وهو موقف احتاجت أوربا فيه إلى مائتي سنة لاستعادته. وأضاف مؤلف "كبح جماح اللوم الذي لم يكبح جماحه" أن آباء الكنيسة لا يوثق بهم دائماً، وأن أرسطو ليس ثقة لا يناقش، وأن الرسل، لا يد لهم في العقيدة، وأن هبة قسطنطين كانت انتحالاً. وطالب الأساقفة الإنجليز بيكوك المعجب بنفسه بالمثول أمام محكمتهم (1457)، وخيروه بين الرجوع عن آرائه أو الإعدام حرقاً. وكان يكره الإحراق، وقرأ(22/210)
علانية بالرجوع عن أقواله، وشلح عن رتبته الكنسية، واعتزل الناس في دير كنيسة تورني إلى آخر حياته (1460).
5 - الفن الإنجليزي
1300 - 1506
كانت الكنيسة، على الرغم من الهرطقة واللاكهنوتية، من القوة والثراء، بحيث استطاعت أن ترفع فن العمارة الإنجليزية إلى مستوى من التفوق رفيع إلى حد ما. ولقد مول: نمو التجارة وغنائم الحرب: الكاتدرائيات والقلاع والقصور، وأسبغت على أكسفورد وكمبردج جلالاً بما شيدت من دور جميلة للعلم لا تضارع. ولقد أخذت مواد البناء في إنجلترا من رخام بربك ومرمر نوتنجهام إلى غابات شرود وأجر أي مقاطعة، ثم تحولت إلى صروح النبلاء وأبراج اللوردات ذوات الأطراف الدقيقة، والسقوف الخشبية التي كانت تماثل في متانتها وجمالها القباب القوطية من الحجر. واستبدلت بالدعائم القبيحة التي تربط السقف، والتي تصل الجدار بالآخر في صورة متكلفة، الدعائم البارزة المطروقة، تحمل بأكتاف ضخمة من خشب البلوط، والعقد المرتفع فوقها، وبهذه الطريقة، قوصرت بعض من أجمل كنائس إنجلترا صحونها. وهكذا حصلت كاتدرائية سلبي على سقف من خشب البلوط مضلع ومعقد، تضارع الرسوم التي على شكل عقد ومروحة، مما يسقف كنيسة "باث" ومنصة التريتل في "إلي"-والجناح الجنوبي لكنيسة جلوسستر بأحجار متداخلة.
وأعطت نماذج من الزخارف الحجرية المفرغة في النوافذ، ومن تغليف الجدران وحواجز المرتلين، أسماءها لطرز معمارية متعاقبة، تتداخل في الزمان وتختلط عادة في بناء واحد. واصطنع الطراز القوطي ذو الزخارف الهندسية (حوالي عام 1250 - 1315) الأشكال الإقليمية، كما هو الشأن(22/211)
في كاتدرائية اكستر. وانصرف الطراز القوطي الذي توسل بالأقواس في الزخرف (حوالي 1315 - 1380)، عن الرسوم المحدودة، إلى الخطوط التي تتماوج بحرية، التي سبقت في شيء من التحفظ، طراز فرنسا المشع، كما هو الحال في النافذة المستديرة الجنوبية في لكولن. وركز الطراز القوطي الرأسي (حوالي عام 1330 - 1530)، على الخطوط الأفقية والرأسية في داخل العقد، كما في كنيسة هنري السابع في دير وستمنستر. وخفف الألوان الزاهية، التي اتسم بها الزجاج الملون في القرن الثالث عشر، بأصباغ أخف أو بصباغ فضي أو رمادي شاحب، ونافست صور الفروسية الآفة، الأساطير المسيحية، على هذه النوافذ. وبلغ الفن القوطي بذلك أوجه فاضمحلاله.
وقلما عرفت أوربا هذا الشغف بالبناء. فلقد جهدت ثلاثة قرون (1376 - 1517) لكي تشيد الصحن الحالي في دير وستمنستر، ونحن نستطيع أن نحس إحساساً ضيقاً في الهوادج الطوال لتلك السنوات، جهد العقل واليد الذين اشتركا في معل مقام لا يضارع العبقريات الإنجليزية، في خير أعمالها. ويعد تجديد بناء وندسور أقل روعة؛ فلقد ابتنى ادوراد الثالث هناك على مساحة ضخمة، البرج المدور الكبير (1344)، وبدأ ادوارد الرابع (1473) تشييد كنيسة سانت جورج بمنصاتها الجميلة للمرتلين وعقدها الذي على شكل مروحة وزجاجها الملون. وصمم الن دي ولسنجهام، على الطراز القوطي المتوسل بالأقواس في الزخرف، كنيسة رائعة للعذراء وبرج "مصباح" لأيلي. وزودت كاتدرائية جلوسستر ببرج ويسط وعقد للمرتلين ونافذة شرقية ضخمة، وأروقة متسعة، وتعد سقوفها التي على شكل مروحة من عجائب إنجلترا. ووسعت ونشستر صحنها الكبير وزينت واجهتها الجديدة بالطراز الرأسي. وشيدت كفنتري، على هذا النحو الكاتدرائية، التي لم ينفذ منها في الحرب العالمية الثانية، سوى برجها المدبب الفخم. وأقامت(22/212)
ببتر بره، عقدها الشاهق على شكل المروحة، وأكملت يورك منستر صحنها، وأبراجها الغربية ومنصة المرتلين فيها. وكانت الأبراج هي المجد الذي يتوج العصر، تسبغ النبل على كليتي مرتن والمجدلية في أكسفورد ودير فاونتين أبي وكنتربري وجلاستبري ودربي وتونتن وغيرها من مئات الأضرحة. واستعمل وليام الويكهامي الطراز الرأسي في تصميم كلية أكسفورد الجديدة، واتبع هذا النهج وليم وينفليت، وهو معمر آخر في التسعين، في "المربع الكبير" بكلية ايتون، وختمت كلية الملك وكمبردج، العصر بكنيسة قد تغري بنوافذها وعقدها ومنصات مرتلين كاليبان بالعلم وتيمون الأثيني بالصلاة.
وفي الطراز القوطي الرأسي طابع دنيوي واقعي يناسب تماماً عمارة الكليات والقلاع والحصون وأبنية النقابات والبلديات. وشيد أمراء وروك على هذا الطراز في القرنين الرابع والخامس عشر، قلعتهم المشهورة بالقرب من ليمنجتن. وشيدت الجيلد هول في لندن وهي مفخرة الطبقة التجارية في العاصمة، بين عامي 1411، 1435 ولكنها أحرقت في عام 1666. فأعاد كريستوفرورن بناءها، وأضيف إليها الجزء الداخلي الجديد عام 1866 وهو الذي انهار تحت وطأة القنابل في الحرب العالمية الثانية. كما اتخذت دكاكين المدينة، في قوائم نوافذها نموذجاً من الطراز الرأسي، وهي تخلب مع رؤوسها المنقوشة وأفاريزها وطنفها البارزة، ألبابنا بسحر مجد بائد.
ولقد احتفظ فن النحت الإنجليزي في هذا العصر بالسمعة التي غلبت عليه ذلك لأن التماثيل لواجهات الكنائس قد تخلف كثيراً عن العمارة التي كان الغرض منه أن يزينها كما هو الحال في لنكولن واكستر. واستخدمت حواجز المذبح الكبير في كاتدرائية وستمنستر ودير سانت البان، قوالب للتماثيل ولكن هذا شيء لا يؤبه له لكي نضيفه إلى قصتنا. وأجود الأمثلة(22/213)
على هذا الفن إنما توجد في الآثار الجنائزية. ولقد حفرت صورة جميلة لادوارد الثاني على المرمر في كاتدرائية جلوسستر، وللسيدة البانوربرس في بيفرلي منستر واهنري الرابع والملكة جان في كنتر بري، ولرتشادر بوشان في وروك. وبلغ المثالون الإنجليز أوج براعتهم في عرض أزهار أرضهم الخضراء ونباتها. وكان الحفر الجيد يمارس على الخشب: وتبهر منصات المرتلين في ونشستر ولنكولن ونوروتش الأنفاس بالجمال الذي بذل في إظهاره غاية الجهد.
وكان الرسم لا يزال فناً ثانوياً في إنجلترا، تخلف كثيراً عن معاصره في فلاندرز وفرنسا وظل تزيين الكتب القديمة فناً محبباً، ولقد دفع ادوارد الثالث مبلغ ستة وستين جنيهاً في مقابل مجلد مزين للقصص الخيالي. وقدم روبرت من أورمزبي إلى كاتدرائية نوروتش، نسخة مزينة من المزامير تعدها مكتبة بدليان "أجمل مخطوطة إنجليزية" بين مجموعاتها. واضمحل فن المنمنمات بعد عام 1450 بظهور الرسوم الجدارية واللوحات الحائطية، وأفل نجم هذا الفن في القرن السادس عشر قبل ظهور معجزة الطباعة الطريفة.
6 - كاكستون ومالوري
في تاريخ مجهول من القرن التاسع عشر، أنشأ مؤلف، لا يعرف اسمه الآن، أشهر المسرحيات الأخلاقية الإنجليزية، فإن تمثيلية "كل إنسان" عبارة عن مجاز وأخلاقه تجريدات منفرة منفذ البداية، مثل المعرفة والجمال والمقولات الخمسة والرشد والقوة والفضل والمآثر والصداقة القرابة الاعتراف والموت وكل إنسان والله. ونحن نجد في استهلال، أن الله غاضب، لأن وصاياه يتجاهلها تسعة من عشرة أشخاص في ستة أيام من كل أسبوع، فيرسل الموت، ليذكر سكان الأرض، بأنهم لا بد أن(22/214)
يبادروا بالعودة إليه، وأن يقدموا حساباً عن أعمالهم. وهبط الموت من السماء إلى الأرض، في مساحة خط واحد، فوجد كل إنسان قد امتلأ فكره بالنساء والذهب، فما كان منه إلا أن أمره بالانتقال إلى الأبدية. فاحتج كل إنسان بعدم الاستعداد، وطالب بفسحة من الوقت، وقدم ألف جنيه على سبيل الرشوة، ولكن الموت يمنحه مسكناً واحداً-وهو أن يصطحب معه إلى الأبدية صديقاً يختاره. فأخذ الرجل يطلب المزاملة في هذه المغامرة العظيمة، ولكن من طلب مزاملته يعتذر عن نفسه بشجاعة قائلاً:
"إن كنت ستتناول الطعام، وتحتسي الشراب وتبتهج،
أو تغنم معاً صحبة المرأة الشهية،
فإنني لا أتركك ....
فيجيبه كل إنسان: إذاً فتعال معي في رحلتي الطويلة.
الزميل: قسماً بإيماني، لن أذهب معك الآن.
إلا إذا قتلت رجلاً: وأزهقت روحه،
عند ذاك أعاونك صادقاً.
فالتجأ كل إنسان إلى قريبه، إلى ابن عمه÷ الذي رفض الدعوة بحجة "أنني مصاب بتقلص في إصبع رجلي". فناشد الرجل، الفضل لمعاونته، ولكنه كان حبيساً ليست عنده الحرية لتقديم أي مساعدة. فتوسل الرجل آخر الأمر بالمآثر فابتهجت، لأنه لم ينسها تمام النسيان، فقدمته إلى معرفة، التي قادته إلى الاعتراف، الذي طهره. ثم هبطت المآثر معه إلى قبره، ورحبت أناشيد ملائكية بدخول الآثم المطهر إلى الجنة.
ولقد انتصر المؤلف في معظم الأحيان-ولا تقول انتصر تماماً-على قالب درامي عصبي. فإن تشخيص صفة من الصفات، لا يمكن أن يكون لها من الوصف ما للشخص، ذلك لأن كل إنسان عبارة عن تناقض مركب متفاعل، وهو فريد إلا إذا كان واحداً من جماعته، والفن العظيم يجب أن(22/215)
يصور العام عن طريق الخاص كما في هاملت أو كيخوتة، أو أديب أو بانبرج واحتاجت التجربة والعبقرية قرناً آخر، لكي تحول المسرحية الأخلاقية الفاترة، إلى المسرحية الإليزابيثية، التي تصور، الإنسان المتغير إلى ما لا نهاية.
والحادث الأدبي العظيم في إنجلترا إبان القرن الخامس عشر، إنما هو إنشاء أول مطبعة إنجليزية. ولقد هاجر وليم كاكستون، المولود في كنت إلى بروجس للتجارة. وترجم في أوقات فراغه عن الفرنسية، مجموعة من القصص الخيالي الفرنسي. وطلب أصدقاؤه نسخاً من هذه المجموعة، فكان ينسخها لهم بنفسه، ولكنه يخبرنا بأن يده "كلت ولم تعد تستطيع الكتابة الكثيرة بسرعة". وعشيت عيناه من النظر الطويل على الورق الأبيض. ولعله رأى في زياراته إلى كولونيا، إنشاء المطبعة هناك (1466) على يد أولرتش زل، الذي تعلم هذا الفن الجديد في مينز. وأسس في أيام 1471 كولاردمانسيون، مطبعة في بروج ولجأ كاكستون إليها، باعتبارها وسيلة لإخراج نسخ كثيرة من ترجمته. وفي عام 1476 عاد إلى إنجلترا وأنشأ بعد ذلك بسنة في وستمنستر الحروف-ولعلها المطابع-التي أحضرها معه من بروج. وكان قد بلغ إذ ذاك الخامسة والخمسين من عمره، ولم يبقَ له من حياته سوى خمس عشرة سنة، بيد أنه طبع في هذه الفترة ثمانية وتسعين كتاباً، ترجم أكثرها بنفسه عن اللاتينية أو الفرنسية. وكان لاختياره عنوان كتبه، ولأسلوب مقدماته الطريف الخلاب، طابع لا يمحى على الأدب الإنجليزي. ولما توفي (1491) تابع زميله الإلزاسي وينكين دي ورد هذه الثورة.
ولقد حقق كاكستون ونشر عام 1485 نصاً من أروع نصوص النثر الإنجليزي وهو-التاريخ الشريف للملك ارثر وعدد معين من فرسانه. وكان مؤلفها العجيب قد مات وربما كان ذلك في السجن-قبل ذلك بحوالي ست عشرة سنة. فلقد خدم السير توماس مالوري، في حرب المائة سنة،(22/216)
كواحد من حاشية ريتشارد دي بوشان أمير وروك، ومثل وروك في البرلمان عام 1445، ولما شعر بالوحدة في إجازة الحرب، اقتحم دار هيوسمث، واغتصب زوجة الرجل، وسلب بالإكراه مائة شلن من مارجريت كنج ووليم هيلز، ثم اقتحم دار هيوسمث مرة أخرى واغتصب زوجته ثانية. وسرق سبعة بقرات وعجلين وخمساً وثلاثين وثلاثمائة من الغنم، وانتهب كنيسة الرهبان البندكتيين في كومب مرتين، ووضع في غياهب السجن مرتين. ويبدو من غير المعقول أن يؤلف مثل هذا الرجل، تلك الأغنية الرقيقة التي تترنم بالفروسية الإنجليزية وهي التي نسميها الآن "موت الملك آرثر"، وبعد أن اشتد الخلاف، حول مؤلفها قرناً من الزمان، أصبح من المجمع عليه أنها من تأليف السير توماس مالوري إبان سجنه.
وأخذ معظم القصص من الرويايات الفرنسية عن الأساطير المتعلقة بالملك آرثر، فرتبها في سياق مقبول، وصاغها بأسلوب محبب خلاب. وأصدرها لطبقة أرستقراطية تفقد ماضي فروسيتها من فظائع الحرب وأهوالها، ودعا من أجل إلى العودة إلى القيم العليا التي اتسم بها فرسان الملك آرثر متناسياً مظالمهم ومظالم نفسه. ومل آرثر الفسق والفجور فاستقر مع صاحبته الجميلة الجريئة جينفير، وحكم إنجلترا-بل كان أوروبا في الحقيقة-من عاصمته في كاميلون (ونشستر) وطلب إلى فرسانه مائدته المستديرة المائة والخمسين أن يقطعوا على أنفسهم عهداً: "ألا ينتهكوا حرمة أو يقتلوا نفساً ... وألا يكونوا غلاظاً بأي حال من الأحوال، وأن ريحموا من يطلب الرحمة ... وأن يغيثوا النساء الضعيفات، ولو واجهوا الموت دون ذلك.
والحب والحرب هما الموضوعان الممتزجان في كتاب يردد وقائع فرسان لا ضريب لهم، من أجل سيدات وفتيات يفقن الصوف جمالاً وفتنة وكان تريسترام ولانسيلون يجعلان من كل من ملوكهما ديوثاً، ولكنهما يمثلان رغم ذلك الشرف والشجاعة. ولما التقيا وقد تحصن كل منهما(22/217)
بالدرع والخوذة واللامة، تبارزا، وقد اختفت شخصية كل منهما أربع ساعات حتى كل سيفاهما وثلما.
ثم انبرى لانسيلو آخر الأمر قائلاً: أيها الفارس، إنك تبلى في النزال، النبلاء الحسن كأعظم ما رأيت من الفرسان، لذلك أطلب إليك أن تتفضل فتخبرني باسمك. فأجاب تريسترام: سيدي لقد أقسمت ألا أبوح باسمي لأحد. فقال سير لانسيلو، الحق أنني إذا طلبت فلا يحول قسم بيني وبين البوح باسمي. فقال سيرتريسترام، أحسنت، ولذلك فأنا أطلب إليك أن تبوح باسمك. فقال: أيها الفارس الوسيم، إن اسمي سير لانسيلو دي ليك. فقال: سير تريسترام: يا عجباً، ما الذي فعلت؟ فأنت أحب رجال العالم إلي. فقال السير لانسيلو أيها الفارس الوسيم، أخبرني باسمك. فأجاب حقاً، إن اسمي سير تريسترام دي ليون. فقال سير لانسيلو، يا للمسيح، أي مغامرة مرت بي .. وهنا ركع سير لانسيلو وسلمه سيفه. وهنا ركع سير تريسترام بدوره وسلمه سيفه .... واصطحبا إلى صخرة، وجلسا عليها وخلعا خوذتيهما ... وقبل كل منهما الآخر مائة مرة".
وأي قفزة هذه، من تلك المملكة الخيالية، التي لا يعمل فيها أحد من أجل العيش .. كل النساء فيها "منعمات" إلى مادة الواقع الحقيقي إلى رسائل باستون وهي تلك الرسائل الحية التي جمعت أسرة مفرقة على الحب والمال في إنجلترا، إبان القرن الخامس عشر!! ونحن نجد هنا جون باستون، الذي مارس القانون في لندن أو ضواحيها، في حين أخذت مارجريت تربي أطفالها وتدير أملاكه في نوروتش، إن نفسه كلها للعمل وهو جاد، لاذع نزاع إلى المنافسة، أما هي فكلها استسلام، زوجة متواضعة، قادرة، شديدة الحياء، ترتعد لمجرد التفكير في أنها أساءت إليه. وهكذا كان آل جنيفر في صميم العالم الواقعي. ومع ذلك فنحن نجد هنا أيضاً العواطف الرقيقة، والهموم المشتركة بل الخيال، وتعترف مارجريت(22/218)
بروز لسير جون باستون الثاني أنها تحبه، وأنها تأسف، لأن الصداق، الذي تستطيع أن تقدمه له، أقل بكثير من مكانته، "ولكن إن كنت تحبني، كما أثق أنك حقاً كذلك، فإنك لن تتركني لهذا السبب" وهو الذي آلت إليه ثروة آل باستون، فيتزوجها على الرغم من اعتراض أهله، ويموت في غضون سنتين. وهكذا نجد قلوباً رقيقة، تحت السطح الجافي لهذا العصر المضطرب.
7 - الإنسانيون الإنجليز
يجدر بنا ألا ندهش من أن وفرة الدراسة للكلاسيات في إيطاليا لعهد كوزيمو ولورنزو دي مدتشي، لم تثر إلا صدى ضئيلاً في إنجلترا، التي كان تجارها لا يعبأون بالأدب إلا قليلاً، والتي كان نبلاؤها لا يخجلون من أميتهم على الرغم من ثرائها. ورأى السير توماس مور: في مطلع القرن السادس عشر أن أربعين في المائة من الشعب الإنجليزي فقط يستطيعون القراءة. وكانت الكنيسة، والجامعات التي تسيطر عليها، هي التي ترعى الدارسين وحدها. وإلى إنجلترا يرجع الفضل في أن رجالاً أمثال جروسيني وليناكر ولانيمير وكوليت: استطاعوا، في هذه الظروف، وتحت وطأة الحرب المدمرة الضارية، أن يقتبسوا من الشعلة الإيطالية: وأن يحملوا قدراً كافياً من ضوئها وحرارتها إلى إنجلترا، فيجعل ذلك رجلاً مثل أرازمس الحكم الفيصل في الأدب يشعر بأنه في وطنه عندما هبط الجزيرة عام 1499. ووقف الإنسانيون أنفسهم، على دراسة الثقافتين الوثنية والمسيحية على السواء، فأنكرتهم قلة غير ناضجة من "الطرواديين" الذين خافوا أن تأتي هؤلاء اليونان "بالنفائس من إيطاليا، ولكنهم وجدوا من يدافع عنهم بشجاعة ومن يصادقهم بين أكابر رجال الكنيسة، أمثال وليم الوينفليتي، أسقف ونشستر ووليم ورهام رئيس أساقفة كانتربري وجون فيشر، أسقف(22/219)
روشستر، وفيما بعد توماس كاردينال وُلْسي، رئيس قضاة إنجلترا.
واستشعر بعض الدارسين من الإنجليز، منذ زيارة مانويل شريسو لوراس، (1408) لإنجلترا بحمى لا يطفئها في نظرهم غير الرحلة إلى إيطاليا للدراسة أو المجون، ولقد عاد همفري، دوق جلوسستر، من إيطاليا، مغرماً بالمخطوطات، وجمع مكتبة، أثرت فيما بعد، مكتبة بودليان. ودرس جون تيتوفت، إيرل جوارينو الفيروني في فيرارا وجون أرجيرو بولوس في فلورنسه. ثم عاد إلى إنجلترا وبين يديه من الكتب أكثر مما في نفسه من الفضائل. ودرس الراهب وليام تيلي من عام 1464 - 1367 في بادوا وبولونيا وروما، وأحضر معه كثيراً من الآثار الكلاسية، ثم أخذ يدرس اللغة اليونانية في كانتربري.
وكان توماس ليناكر أحد تلاميذه المتحمسين هناك. ولما عاد تيلي، (1487) إلى إيطاليا، اصطحبه ليناكر معه، وظل اثنتي عشرة سنة. ودرس في فلورنسة على بوليتيان وشالكوند يليز وحقق كتباً يونانية لالدس مانوتيوس، وعاد إلى إنجلترا متبحراً في فروع مختلفة من المعرفة، حتى استدعاه الملك هنري السابع، ليؤدب آرثر، أمير ويلز. وأوجد مع جروسين ولاتيمر في أكسفورد "حركة أكسفورد" لإحياء اللغات والآداب القديمة، فألهمت محاضراتهم جون كولت وتوماس مور، واجتذبت أرازمس نفسه. وكان ليناكر أشهر الإنسانيين الإنجليز، يجيد اللغتين اليونانية واللاتينية، وترجم جالينوس، وارتقى بالطب العلمي، وأسس الكلية الملكية الأطباء وأوقف ثروته على تمويل كراسي أستاذية الطب في أكسفورد وكمبردج. وقال أرازاموس، إن الفضل يرجع إليه، في أن الدراسة الجديدة، بلغت من الاستقرار في بريطانيا، حظاً لا يحتاج معه أي إنجليزي إلى أن يرحل إلى إيطاليا في سبيل العلم.(22/220)
وكان وليم جروسين قد بلغ الأربعين عندما انضم إلى ليناكر في فلورنسه. فلما عاد إلى إنجلترا عام 1492، استأجر غرفاً في كلية أكستر وفي أكسفورد وكان يحاضر عن اللغة اليونانية، على الرغم من احتجاج المحافظين الذين كانوا يرتعدون خشية، أن تقضي النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد على ترجمة جيروم اللاتينية الشائعة وهي التي ظلت الحجة ألف سنة، ولكن جروسين أكد من جديد، أنه صحيح المعتقد، مستقيم إلى حد التزمت. ولم ينشأ في نفس الإنسانيين الإنجليز أي عداء للمسيحيين حتى العداء المضمر الخفي، كما حدث لبعض الدارسين في عصر النهضة الإيطالية، ولقد حرص هؤلاء الإيطاليون على التراث المسيحي، وجعلوه مقدماً على جميع عناصر التربية العقلية، ولم يجد أشهر هؤلاء، حرجاً من تولي منصب نائب مطران كنيسة سانت بول.
ولقد كان جون كولت أكبر أبناء سير هنري كولت، وهو تاجر غني أنجب أثنين وعشرين طفلاً وتولى منصب عمدة لندن مرتين. وفي أكسفورد مست الشاب، جذوة الإنسانيين من ليناكر وجروسين "فالتهم بشغف" كتب أفلاطون وأفلوطين وشيشيرون روحل عام 1493 إلى فرنسا وإيطاليا، وقابل أرازمس وبوديه في بالريس، وتأثر بسافونارولا تأثراُ عميقاً في فلورنس، وهاله نزق الكرادلة والبابا اسكندر السادس وتحررهم في روما. ولما عاد إلى إنجلترا، ورث ثروة أبيه، وأصبح من اليسير عليه أن يحرز مكانة مرموقة في السياسة، ولكنه آثر حياة الدرس في أكسفورد وتجاهل التقليد القديم الذي يجعل تدريس علوم الدين وقفاً على القساوسة وأخذ يحاضر أهل روما عن إنجيل القديس بولس، فأحل النقد والشرح للنص الشائع،(22/221)
محل الحذلقة والجدل، وانتعشت جماهيره الغفيرة بطرافة منهجه، وبتركيزه على الحياة الفاضلة باعتبارها أسمى علوم الدين، ولقد وصفه أرازموس الذي رآه في أكسفورد عام 1499، بأنه قديس تغريه الشهوة والترف دائماً، ولكنه "احتفظ بزهرة عذرته إلى وفاته" واحتقر الحياة اليسيرة التي يعيشها الرهبان في زمانه، وأوصى بثروته للأعمال الدينية والخيرية.
وكان يمثل معارضة الكنيسة مع ولائه لها، فقد أحبها على الرغم من أخطائها. وتسائل عن الصدق الحرفي لسفر التكوين، ولكنه قبل القول بأن الكتاب المقدس منزل بالوحي. وسبق المصلحين الدينيين بتأكيده صحة الكتب المقدسة على روايات الكهنوت وأشكاله، ورفضه أن تكون الفلسفة المدرسية للقرون الوسطى، المزيج العقلي المخفف للمسيحية البسيطة، وشكه في قدرة القسس على التطهير بالاعتراف، ووجود المسيح بالفعل في القربان، وفي استنكار الحياة الدنيوية التي يعيشها رجال الدين:
"ولو أن الأسقف الأكبر، الذي نسميه البابا ... كان أسقفاً بحق، لما فعل شيئاً بنفسه، ولكن الله فيه هو الذي يفعل. فإن حاول شيئاً بنفسه، فإنه يكون نافث سم .... لقد حدث هذا كثيراً بالفعل منذ سنوات طوال، وازداد في هذه الأيام زيادة كبيرة، حتى سيطر على جميع أعضاء الكنيسة المسيحية، وإذا لم يقبض المسيح بيده على كنيستنا الممعنة في الاضطراب فإنها تشرف على الموت ..... ، إن أولئك القساوسة اليائسين، الذين يوجد منهم في هذا العصر كثرة هائلة ليترددون في الفجور الشنيع، فهم لا يخشون الخروج من بطن بغي حقيرة إلى هيكل الكنيسة وإلى مذبح المسيح وإلى الأسرار الإلهية .. ولسوف تحل عليهم نقمة الله في يوم من الأيام.(22/222)
وفي عام 1504 نصب كولت نائباً امطران كنيسة سانت بول، ومن هذا المنبر الرفيع عارض بيع الأسقفية، والفساد الناجم عن قوامة رجل واحد على موارد كنائس متعددة. وأثار بآرائه هذه معارضة عنيفة، ولكن ورهام كبير الأساقفة، عمل على حمايته. وكان ليناكر وجروسين ومور، قد استقروا وقتذاك في لندن وقد برئوا من جمود أكسفورد وتعصبها القديم، وشحذت عقولهم زيارات أرازموس وسرعان ما حظوا بتأييد الملك هنري الثامن. وبدا أن كل شيء ممهد لنهضة إنجليزية، ستتحرك مصطحبة، إصلاحاً دينياً سليماً.(22/223)
الفصل السّابع
حادثة في برجنديا
1363 - 1515
1 - الدوقية الملكية
استطاعت برجنديا، بفضل موقعها على الجناح الشرقي لفرنسا حول ديجون، وبفضل السياسة الرشيدة لدوقاتها، أن تخرج من حرب المائة عام دون أن تصاب إلا قليلاً، حتى أصبحت أكثر البقاع ازدهاراً، في العالم المسيحي وراء الألب. ولما انقرضت الأسرة الدوقية البرجندية من آل كابيتان، وعادت الإمارة إلى التاج الفرنسي، منحها جون الثاني إلى رابع أبنائه فليب (1363) مكافأة له على شجاعته في مقاطعة بواتييه. ولقد أحسن، فيليب الجسور، تدبير الأمور في برجنديا، إبان الإحدى والأربعين سنة التي لبثها دوق لبرجنديا، وكان زواجه سياسياً إلى حد كبير، حتى دخلتا في حكمه هانو وفلاندرز وأراتو وفرنش-كونته وأصبحت دوقية برجنديا التي كانت من الناحية الإصلاحية، ولاية فرنسية، دولة مستقلة، عنيت بالتجارة والصناعة الفلمنكيتين، ونعمت برعاية الآداب.
ومد جون الذي لا يخاف، سلطانه بواسطة شبكة دقيقة من المحالفات والدسائس، إلى نقطة الانفجار، وأحست فرنسا أنها لا بد أن تقاوم التحدي. وكان لويس، دوق أورليان، يحكم فرنسا نيابة عن أخيه المجنون شارل السادس، فعقد محالفة بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة، في خطة تقضي بالوقوف في وجه الدوق الذي لا يخاف إلى حد التهور. استأجر لويس جماعة من المغتالين قتلوا جون، فأعقب ذلك صراع عنيف(22/224)
بين الحزب البرجندي والحزب الأرمنياكي-وهم أنصار حمى لويس كونت أرمنياك-من اجل السيطرة على السياسة الفرنسية، ومات جون بدوره مقتولاً بطعنة خنجر من يد مغتال (1419). وأنكر ابنه فليب الطيب كل سبب من أسباب الولاء لفرنسا، وعقد محالفة بين برجنديا وإنجلترا، وضم تورناي ونامور وبرابانت وهولندة وايزلند، ولمبرج ولوفان. ولما عقد الصلح مع فرنسا (1435) فرض الاعتراف بالسيادة العملية لدوقيته، والتنازل عن لكسمبرج، وليج وكامبراي وتراخت. وبلغت برجنديا إذ ذاك أوجها، منافسة في الثروة والسلطان أية مملكة من ممالك الغرب.
وأغلب الظن أن فيليب لم يكسب "الطيب" من القلوب الطيبة. ذلك لأنه لم يكن يترفع عن الغدر والقسوة وسورة الغضب الأهوج. بيد أنه كان ابناً وافياً، وإدارياً بارعاً وأباً محباً حتى لأبنائه الستة عشر غير الشرعيين. وكان كغيره من الملوك شغوفاً بالنساء له أربع وعشرون خليلة، ويصلي ويصوم ويتصدق، وجعل عواصمه-دجون وبروجس وجنت-مراكز الإشعاع الفن للعالم الغربي خارج إيطاليا. وأتاح حكمه الطويل لبرجندنا وولاياتها، من أسباب الترف، ما جعل رعاياه يتسامحون معه ولا يذكر أخطاءه إلا القليل منهم وتدمرت المدن الفلمنكية على حكمه، وتحرقوا شوقاً لرؤية تحول، منظماتهم النقابية وحرياتهم الإقليمية، إلى اقتصاد قومي، في ظل حكومة مركزية. وسحق فيليب وابنه شارل ثوراتهم، ولكنهما سمحا بترضية سليمة، لأنهما أدركا أن أعظم موارد الأمارة إنما تستمد من صناعة هذه المدن وتجارتها وليس من شك أن مناطق الرين السفلى، قبل فيليب كانت تختلف في النظم الاجتماعية وشؤون السياسة، اختلافها في العنصر ولغة الحديث، فضمها في دولة موحدة، وأقر فيها النظام، وأعان على ازدهارها.(22/225)
وأصبح المجتمع البرجندي في بروجس وجنت وليج ولوفان وبروكسل وديجون (1420 - 1460) إذ ذاك أكثر المجتمعات في أوربا صقلاً واجتذاباً للقلوب، لا نستثني من ذلك فلورنسا المعاصرة التي كان يحكمها كوزيمو دي مدتشي. فقد احتفظ أمراء الدوقيات بجميع مظاهر الفروسية، وفيليب الطيب هو الذي أنشأ نظام خبرة الصوف الذهبية (1429)، ويعود بعض الفضل إلى البرجنديين أحلاف إنجلترا، في اتخاذها أبهة الفروسية وبريقها وهذه الفروسية هي التي صقلت السطح الخشن للطباع الإنجليزية، وأسبغت المجد على وقائع هنري الخامس، وبرزت في صفحات فرواسارات ومالوري. ولما تجرد النبلاء البرجنديون من السلطان المستقل، عاشوا في الحاشة أفراداً وأظهروا جميع إمارات الشرف وأبرزوا في الرداء والحلي كل ما يزين التطفل والفجور. وأخذ التجار والصناع يحاكون حاشية الملك في الزي وكانوا يطعمون ويلبسون زوجاتهم كأنما يهيئون المشهد لروينز. وغدا الاكتفاء بالزوجة الواحدة في ظل دوق محب مثله خيانة كبرى للملك. أو الحكومة. ولقد أنجب جون الهينزبر جي المرح أسقف لييج، اثني عشر ابن سفاح .. وكان لجون البرجندي أسقف كامبراي، ستة وثلاثون ابنا وحفيداً خارج نطاق الزواج؛ وهكذا ولد كثير من علية القوم في ذلك العصر، الشيء الذ1ي كان يعمل على تحسين النسل. وكان من اليسير أن توجد البغايا في كل وقت وبأي ثمن في الحمامات العامة. وزعمن في لوفان أنهن صاحبات مساكن، يؤجرنها للطلبة، وكانت الحفلات كثيراً ما تتسم بالبذخ، واستخدم فنانون مشهورون في تصميم المناظر وإعداد الأنوار، وكان الناس يعبرون الحدود والبحار ليشاهدوا المناظر الفخمة تمثل فيها النساء العاريات أدوار الربات والجنيات القديمات.(22/226)
2 - الروح الديني
ونجد مقابل هذا المجتمع الثائر القديسين والمتصوفة، الذين أعطوا هولندة، في كنف أولئك الدوقات مكانة رفيعة في التاريخ الديني. فقد اعتزل القسيس جان فان ريسبرويك منصبه في بروكسل وهو في الخمسين من عمره (1343) وأوى إلى دير أوغسطين في جروينندايل، بالقرب من واترلو، حيث وقف نفسه على التأملات والتأليف الصوفية. وصرح بأن "روح القدس" هي التي كانت تهدي قلمه، ومع ذلك فإن مذهبه في الحلول كاد ينكر خلود الفرد.
"فإن الله ذاته، يحل مع الأبرار، في غيبوبة الكيفيات ... وهو فناء أبدى للنفس .. وتحصل الدرجة السابعة، عندما نكشف وراء كل المعرفة أو وراء العارف بكل شيء، في أنفسنا لا عارف ليس له قرار. وعندما نتجاوز جميع الأسماء التي لله أو الكائنات، فإننا نحتضر، ونتحول إلى لا اسمية أبدية، حيث نفقد أنفسنا ....
ونتأمل جميع هذه الأرواح المبررة، التي فنيت ودخلت وغابت في جوهرها الاسمي، في ظلام غير معروف بلا كيفية".
ولقد شهدت الأرض الواطئة (1) وولاية الراين الألمانية، وفرة من جماعات غير دينية-البيجارديين والبيجوبنيين وإخوان الروح الحر-أثمرت أحوالها الصوفية غالباً التقوى والخدمة الاجتماعية والسكينة والسلم وأدت أحياناً إلى إنكار الأسرار المقدسة على أساس أنها غير ضرورية، وإلى الرضى عن الخطيئة أحياناً لأنها ستفنى بالاتحاد في الله. وتلق جبريت (أو
_________
(1) تستعمل الأرض الواطئة أو المنخفضة في هذا الكتاب بمدلولها الأصلي لتدل بالتقريب على ما يشمل بلجيكا وهولندة الحديثتين.(22/227)
جريت أو جيرار) جروت الدفنتري، قدراً صالحاً من العلم في كولوني وباريس وبراغ، ثم أمضى فترة طويلة في صحبة "ديزبرويك" في جروبندايل، وكان أثره فيه عظيماً جعله يرى أن حب الله هو الغاية في حياته. وبعد رسم شماساً (1379) بدأ يلقي عظاته في مدن هولندة، باللهجة العامية، إلى جماهير ضاقت بهم الكنائس المحلية وكان الناس يتركون أعمالهم وطعامهم ليستمعوا إليه. وكان أرثوذكسي المذهب في تزمت، ويعد نفسه "مطرقة على رؤوس الهراطقة" فهاجم على الرغم من ذلك التحلل الأخلاقي الذي غلب على رجال الدين والمدنيين على السواء وطالب بأن يلتزم المسيحيون بدقة أخلاقيات المسيح ... فاتهم بالهرطقة، وسحب أسقف أترخت، حق حميع الشماسة في الوعظ، وأصدر أحد أنصار حروت وهو فلورس رد يوجمنزون Radewijnszoon، قاعدة شبه رهبانية-شبه شيوعية "لإخوان الحياة العامة" الذين عاشوا في أخوة مدينة ديفنتر وعلى رأسهم جروت، وهم الذين شغلوا أنفسهم بالوعظ-دون أن يحصلوا على مراسيم الرهبانية-وتقضي هذه القاعدة بأن يقوموا بالعمل اليدوي والتعليم والعبادات ونسخ المخطوطات ... ومات جروت في الرابعة والأربعين من عمره (1384) بالجدري، أصابته عدواه وهو يمرض صديقاً له، ولكن أنصاره مدوا سلطانهم عن طريق مائتي شعبة إخوان في هولندة وألمانيا. وجعلت مدارس هؤلاء الإخوان للآثار الكلاسية الوثنية، مكاناً بارزا في مقدراتها، فمهدت بذلك السبيل لمدارس اليسوعيين الذين واصلوا عمل مدارس الإخوان في الإصلاح الديني المعارض. ولقد رحب هؤلاء الإخوان بالطباعة بعد ظهورها مباشرة، واستعملوها في نشر "عبادتهم الحديثة" وكان اسكندر هيجويز في ديفنتر (1475 - 1498) مثالاً لا ينسى للطلاب المجددين في ذلك العصر فهو "المعلم القديس الذي يقف حياته على إرشاد تلاميذه وهدايتهم أخلاقياً فأصلح المقر الدراسي، وركزه حول(22/228)
الآثار الكلاسية، وأكتسب ثناء إيرازمس على صفاء أسلوبه اللاتيني ولما توفي لم يترك شيئاً غير ملابسه وكتبه، ذلك أنه وهب كل شيء سواها للفقراء سراً. ونجد بين طلاب العلم الذين نبغوا في ديفنتر نيقولاس أكوساوى وأرازموس ورودلف أجريكولا وجان دي جرسون ومؤلف كتاب "محاكاة المسيح".
ولسنا نعرف على التحقيق من الذي ألف الكتيب الشائق عن التواضع. ولعله توماس هموكن من مدينة كمبين Kampen من أعمال بروسيا. ولقد جمع في سكينة خلوته بدير سانت اجنس بالقرب من زول، (1380 - 1471) من الكتاب المقدس من أقوال آباء الكنيسة، ومن عبارات القديس برنارد شارحاً التجرد من الدنيا بالتقوى، كما تصوره ويسبرويك روجروت وأعاد صياغة هذا كله في لغة لاتينية وشيقة سهلة.
"ما الذي يجديك في أن تشغل نفسك بجدل عميق في الثالوث؛ إن كنت مجرداً من التواضع، ومكروهاً من الثالوث؟ والحق، أن الكلمات السامية لا تجعل الإنسان مقدماً عادلاً، بيد أن الحياة الفاضلة هي تجعله أثيراً عند الله. وإنه لخير لي أن أحس وخز الضمير من أن أحفظ الكتاب المقدس وأقوال الفلاسفة جميعهم فما الذي يفيدك، إن افتقرت إلى حب الله وإلى فضله؟ باطل الأباطيل والكل باطل، سوى أن تحب الله، وألا تخدم إلا إياه. وأسمى مراتب الحكمة، أن تحتقر الدنيا وتتجه إلى مملكة السماء-ومع ذلك فلا تثريب على التعلم ... لأنه حسن في ذاته كما أن الله قد أمر به، ولكن الضمير الصالح والحياة الفاضلة مفضلان على الدوام.
العظيم بحق هو من يحمل في قلبه حباً عظيماً. والعظيم بحق هو الصغير في نظر نفسه، الذي لا يأبه برفعه الشرف. والحكيم بحق هو الذي يطرح جانباً جميع الأشياء الأرضية باعتبارها روثاً، حتى يغنم صحبة المسيح.
أهرب عن صخب الناس بأسرع ما تستطيع، لأن معالجة الأمور(22/229)
الدنيوية عائق عظيم. والواقع أن من التعاسة أن نعيش على هذه الأرض ... وأنه لأمر عظيم أن نلتزم الطاعة في الحياة، وأن يكون فوقنا رئيس، وألا نكون مخيرين بمشيئتنا. وأمن لنا أن طيع من أن نحكم ... وبذلك تبدو الصومعة التي نسكنها جميلة.
وفي "محاكاة المسيح" بلاغة رقيقة، تعكس البساطة العميقة لعظات المسيح وأمثاله. وهو رادع ضروري دائم لما في العقل الرخو والسفسطة الجوفاء من غرور ذهني. فنحن عندما نكل من مواجهة أعباء حياتنا فإننا نعتصم بالإنجيل الخامس لتوماس اكمبيس. ولكن من ذا يعلمنا ونحن في خضم العالم وأعاصيره كيف تكون مسيحيين؟
3 - برجنديا المشرقة
1363 - 1465
أخذت الولايات الخاضعة للحكم البرغندي على الرغم من أمثال هذه الاستغفارات التوماسية، تنغمس في نشاط عقلي ملحوظ. فلقد جمع الدوقات أنفسهم-وفيليب الطيب أكثرهم في ذلك-المكتبات وشجعوا الأدب والفن. وكثرت المدارس، وسرعان ما أصبحت جامعة لوفان التي أسست عام 1426، مركزاً من مراكز التعليم في أوربا. ولقد سرد جورج كاستيلان "تاريخ دوقات برجنديا" تاريخ الدوقية في كثير من البلاغة الناصعة وقليل من الفلسفة، وإن كان قد عرضه بلغة فرنسية قوية، فأسهم به مع فرواسار وكومين في إجاد تلك الوسيلة المحببة من النثر الواضح الرشيق. وأقامت جماعات خاصة، قاعات للخطابة للتدريب على الخطابة والشعر وتمثيل المسرحيات. وتنافست لغتا المملكة-الفرنسية أو رومانسية الوالون في الجنوب واللهجات التي كان نتكلم بها الفلمنكيون والألمان في الشمال-في إظهار الشعراء، الذين أسدل النسيان عليهم ستاره.
وكان التعبير الأرفع للدوقية يتجسم في الفن. وبدأت أنتورب عام(22/230)
1353 كاتدرائيتها الكبيرة ذات الممرات الكثيرة وأتمتها عام 1518، وشيدت لوفان كنيسة سانت بيير الجميلة في تناسبها-وهي ضحية أخرى للحرب العالمية الثانية. وكان الناس والمدن من الغنى بحيث أصبح من المستطاع أن يقدموا القصور ومباني البلديات، والبهاء نفسه الذي كان يشيد به الكنائس لله. واتخذ الأساقفة الذين حكموا لييج، لأنفسهم ورجال إدارتهم، سكناً في أعظم قصر وأجمله في الأرض المنخفضة. وأنشأت جنت دارها النقابية عام 1325. وبروكسل قاعدة بلديتها في عام 1410 - 1455 ولوفان من عام 1448 - 1463، وأضافت بروجي دار بلديتها بين عامي 1377، 1421، وتوجتها ببرج ناقوس عالمي الشهرة (1393 - 1396) الذي استخدم كمعلم من المعالم للملاحين الضاربين بعيداً في البحر. وبينما عبرت هذه المباني القوطية النبيلة عن كبرياء المدن والتجار، فقد أنفق الدوقات وأفراد الطبقة الأرستقراطية الأموال على تزويد قصورهم وقبورهم بضروب كثيرة ناصعة من النحت والتصوير والزخرفة الخطبة. ولما كان الفنانون الفلمنكيون، قد أخافتهم الحرب من فرنسا، فقد تزاحموا عائدين إلى مدنهم. وحشد فيليب الجسور نجوماً ساطعة من العبقريات، ليزين مقره الصيفي في شارتريز دي شامبمول-وهو دير أريوزي في الحقل الهادي المجاور لريجون.
وأوفد فيليب عام 1386 جان دي مارفي، لكي يصمم له ضريحاً في شارتريز,. ولما توفي مارفي (1389) أتم عمله كلوز سلوتر الهولندي، ولما توفي سلوتر بدوره (1406) واصل العمل تلميذه كلوز، وانتهى الضريح آخر الأمر (1411) فاستقبل رفات الدوق، الذي كان قد مات، قبل ذلك بسبع سنوات. وفي عام 1793 أمر مجلس ثوري في ريجون بهدم الضريح العظيم، فنثر حطامه أو أتلف. وفي عام 1827، جمع رجال الدين في المقاطعة، بعد أن تنفسوا نسيم الحرية، القطع الباقية منه(22/231)
وأودعوها متحف ريجون. ورقد الدوق وزوجته الدوقة مارجريت أميرة فلاندرز في تابوت مرمري جميل على منصة ضخمة من الرخام، وتحتها رسوم أربعين شخصاً يبكون-وهي التي بقيت وحدها من النقوش التسعين-موت الدوقين في حزن صامت رائع. أما باب الكنيسة في شارتريز فإن سلوتر وتلاميذه (1391 - 1394) نقروا خمسة رسوم فاخرة. العذراء تتلقى ولاء فيليب ومارجريت، يقدمها إليها يوحنا المعمدان وكاترين القديسة الاسكتلندية. وأقام سارتر في الصحن أروع أعماله وهو بئر موسى-وهي قاعدة تحمل تماثيل لموسى وداود وارميا وزكريا واشعيا ودنيال، وفقها مشهد الصلب،، ولم يبق منه إلا رأس نبيل مهموم للمسيح تتوجه الأشواك. ولم تشهد أوربا مثل هذا النحت الذي تبدو فيه القوة الفائقة والجرأة الفريدة، منذ أزهى عصور الفن الروماني.
وكانت للمصورين دولة عظيمة كالمثالين. وظل رسامو المنمنمات يحظون برعاية الكبراء .. فلقد دفع كونت وليام أمير هانو، بسخاء من أجل تزيين "أجمل صلوات العذراء" (حوالي 1414) (1). ووضع عبقر مجهول (لعله هوبير فان ايك) نموذجاً ومستوى لألف رسام من الأرض الواطئة للمناظر الطبيعية وذلك بالتقاطه بدقة مجهرية، ثغراً فيه سفن تلقي مراسيها أو تحجز عباب البحر، والركاب يصعدون والملاحون ورجال الشاطئ يقومون بأعمالهم المختلفة، والأمواج تتكسر على شاطئ هلالي، والسحب البيضاء تسير خفيفة عبر السماء-كل هذا في حجم بطاقة الصورة الشمسية. وفي 1392 زين ملكيور برويد رلام اليبرسي دير شارتريز دي شامبول بأقدم لوحة حائطية باقية معبرة خارج إيطاليا. ولكن برويدرلام
_________
(1) وتعرف كذلك باسم صلوات تورين. وذهبت بعض هذه المنمنمات في حريق المكتبة الأهلية بتورين عام 1904، ولكن صوراً فوتوغرافية منها قد بقيت، وبقت أصول متعددة في متحف مدينة تورين.(22/232)
والفنانين الذين نقشوا الحوائط وتماثيل الدير، قد استعملوا أمزجة ألوان تقليدية-خلطوا ألوانهم ببعض المواد الغريبة، وقلما يتحقق بهذه الوسائل التدرج في الظلال والصفاء في الألوان الخفيفة، وقد تقضي الرطوبة على العمل بعد تمامه. وفي فترة مبكرة أي عام 1329 قام جاك كومبير من جنت بتجربة خلط الألوان بالزيت. وطور الفلمنكيون بعد قرن من المحاولة والخطأ هذا التطبيق الفني الجديد، وأحدث ذلك في الربع الأول من القرن الخامس عشر، ثورة في فن التصوير. فعندما صور هوبرفان أيك وأخوه الأصغر جان "تمجيد الحمل" لكاتدرائية سانت بيفن في جنت، لم يؤكد تفوق الزيت كمطية فحسب، ولكنهما أنشآ، إحدى روائع الفن في تاريخ التصوير ومن اجلها أصبحت سانت بيفن مقصداً للزائرين منذ ذلك الوقت.
أما من ناحية الشكل فإن الأثر الذي يعد أعظم آثار الفن التصويري في القرن الخامس عشر، والذي يصفه جيته بأنه "محور تاريخ الفن"، عبارة عن طية من ست لوحات جدارية، مصورة على الخشب، على كل جانب اثنتا عشرة وعندما تفتح الطية، يبلغ طولها إحدى عشرة قدماً، وعرضها أربع عشرة قدماً، وفي وسط الصف الأسفل، منظر خيالي للريف، مع مدينة ذات أبراج عالية-بيت المقدس-ترتفع في المساحة التي وراء التلال، وفي الأرض الأمامية عين "ماء الحياة" وأبعد من هذا إلى الخلف مذبح وعنده حمل يرمز إلى المسيح يتدفق منه دمه القرباني، بينما يتجمع حوله البطارقة والأنبياء والرسل والشهداء والملائكة والقديسون في عبادة خاشعة. وفي الوسط العلوي شخص يجلس على عرش، يشبه شخصية خيّرة لشرلمان له ملامح سامية، ولقد رسم أله الإله الأب-وهو تمثيل غير مطابق للربوبية وإن كان تصوراً نبيلاً لحاكم رشيد وقاض عادل. ولا يتفوق عليه في هذه الصورة إلا شخصية واحدة-هي شخصية(22/233)
العذراء، لها قسمات لطيفة، شقراء تيوتونية، لا تمثل الجمال، بقدر ما تمثل الطهارة والوداعة، وبدت العذراء السستينية أقل نبلاً. وعلى يسار السيدة مريم جمع من الملائكة، وفي أقصى اليسار آدم عاري الجسد. نحيل حزين، يتذكر في بؤس فترة سعيدة من الزمن. "وإلى يمين الإله الأب، يوحنا المعمدان، وهو في زي أكثر ترفاً من راع، يعظ في البرية. وفي أقصى اليمين تقف حواء عارية، مكتئبة غير جميلة، تندب الفردوس المفقود، ولقد ظلت صورتها فترة من الزمن، مثلها في ذلك مثل آدم في الطرف الآخر، تصدم الفلندري الذي ترتعد فرائصه من البرد ولم يألف العرى في الحياة أو الفن. وأعلى صورتها قابيل يقتل أخاه كمدخل رمزي للتاريخ.
والجانب الخلفي من هذه المجموعة يهبط عن الطراز المتسامي للوحات الداخلية. فنجد في الصف الأوسط ملاكاً إلى اليسار ومريم إلى اليمين، تفصلهما مسافة، يصوران البشارة-الوجهان عاريان، والأيدي جميلة إلى حد ظاهر، والأزياء كأروع ما تكون في التصوير الفلمنكي. وفي الأسفل مقطوعة شعرية لاتينية من أربعة أبيات، ذهبت القرون ببعض كلماتها، أما الباقي فهي "بدأ هوبرت فان أيك، هذه المهمة الصعبة، وهو العظيم الذي لا يضارعه في حذقه أحد، وجوهانس الذي يليه في الفن ... شجعتهما وصية "جودوكس فيد. وهذا الشعر في السادس من مايو، يدعوكم لمشاهدةالعمل وقد تم"، وفي البيت الأخير حروف معينة، مجموعها في حساب الجمل 1432؛ وهي السنة التي أنجز فيها هذا الأثر الفني. وكان فيد وزوجته هما الواهبان. ونحن نتسائل: ما هو المقدار الذي رسمه هربرت، والذي رسمه جان؟ إنها مشكلة تستعصي على الحل لحسن الحظ، ومن ثم فقد تظل(22/234)
الدراسات تكتب في الموضوع حتى يختفي (1) أثر الصورة.
وربما كان في هذه الصورة التي تعد بداية مرحلة جديدة في الفن إسرافاً في الأشخاص والمنمنمات: فقد أظهر كل رجل وامرأة وملاك وزهرة وغصن وفرار وحيوان ودرة بصبر وإخلاص بطوليين-وقد أمتعت "ميشيلانجلو" الذي رأى، في الواقعية الفلمنكية، تضحية بالتعبير الأساسي، في سبيل التفاصيل العارضة غير المتصلة بالموضوع. ولبكنه لا يوجد شيء في إيطاليا المعاصرة، يضارع هذه الصورة في المجال والفكرة والتأثير، ولم يتفوق عليها في فترة متأخرة من تاريخ التصوير، إلا سقف الكنيسة السستينية لميشيلانجلو وصور روفائيل الجدارية في الفاتيكان، وربما صورة "العشاء الأخير" لليوناردو، قبل أن تدخل في تحليلها الطويل بل أن أوربا المتعلمة كلها كانت تتحدث عن صورة "تمجيد الحمل" إبان الفراغ من إنشائها. ولقد ناشد الفونسو الهمام، الفنان جان فان أيك، أن يذهب إلى نابلي، ويصور له، أمثال أولئك الرجال والنساء، ذوي الشعر الذهبي الذين كثروا في هذه الصور وإن قل وجودهم في إيطاليا الجنوبية.
وخرج هيوبرت فان إيك من محيط علمنا بعد عام 1432 (2)، ولكننا
_________
(1) لقد بقيت صورة "عبادة الحمل" يرغم كثير من الإصلاحات والأحداث ورممت في الأعوام 1550، 1663، 1825، 1829، 1859، 1839، 1951 ولقد تفككت الأجزاء الرئيسية بواسطة جيش الثورة الفرنسية إلى باريس عام 1794، ثم أعيدت عام 1816. وبيع الجانبان (من غير آدم وحواء) إلى بائع صور فنية (1816)، واشتراهما متحف برلين (1821)، وأعيد إلى جنت بمعاهدة فرساي (1919)، ونقلت المجموعة في الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا حماية لها، وأخذها الألمان عام 1942، وأخفيت عام 1944، في مناجم الملح النمسوية، وأعيدت إلى كنيستها عام 1946، بواسطة جيش الولايات المتحدة الأمريكية.
(2) وينسب إليه بغير تحقيق خمس صور: (نيويورك)، ومريمات الثلاثة عند القبر (مجموعة فير هوتن فان بوتنجن) وصورة صغيرة للعذراء في فرنكفورت، وجانبان لمذبح (نيويورك) تمثيل الصلب والمحاكمة الأخيرة وفيه بوتشيان؟.(22/235)
نستطيع أن نتتبع جان في حياة عاملة مزدهرة. فقد جعله فيليب الطيب حاجباً له (وكان إذ ذاك منصباً له جلاله وسلطانه) وأرسله إلى الخارج في سفارات وكأنه جوهرة من تاج برجنديا. وينسب إليه ما يقرب من أربع وعشرين صورة لا تزال باقية إلى الآن، وتكاد تكون كل واحدة منها عملاً فنياً كبيراً. وفي درسن صورة للعذراء وطفلها، وهي تلي "عبادة الحمل" في إنتاج فان أيك، وتمتدح بولين "الرجل ذا الزهرة"-وجه دميم غير متناسب إلى حد عجيب مع الزهرة الجميلة، وفي حيازة مدينة ملبورن صورة العذراء وطفلها في بلدية إنس "وهي لا تكاد تتجاوز تسع بوصات في ست، ومع ذلك نقدر قيمتها بخمس وعشرين ألف دولار، وتكتنز بروجز صورة العذراء والكاهن بايل-وفيها العذراء رائعة من شعرها المنساب إلى هدبة ردائها المتثني في روعة. والكاهن سمين أصلع طيب وهي أعم صور الأشخاص في القرن الخامس عشر، وتعرض لندن الزوجين حديثاً، جيوفاني أو فلفين ومعه عروسه في قاعة داخلية يتلألأ بمرآة وشمعدان، وحصلت مجموعة فريك في نيويورك، حديثاً بثمن كبير لم يذكر، على صورة للعذراء وطفلها زاهية الألوان معها القديسة بربارا وإليزابث، وفي واشنطن صورة بشارة تمتاز بخداع يوهم بعمق الفراغ وفخامة ثياب جبرائيل، وهما يحولان البصر على مريم، وفي حوزة اللوفر صورة للعذراء والحاجب رولان. وفيها مشهد أخاذ لنهر تَتلوَّي عليه جسر يزدحم بالناس ومدينة ذات أبراج وحدائق مزدهرة، وسلسلة تلال ترتفع مرحبة بالشمس. ونجد في هذه الصورة كلها، إلى جانب الألوان التي تستوعبها إصرار على تصوير الواهين كما كانوا يبدون للعين، بحيث يتم الوجه على الحياة التي عاشها صاحبها، والأفكار والأحاسيس التي صاغت على مر السنين الملامح، لتجعل منها، اعترافاً يفصح عن الشخصية ولقد طرحت جانباً في رسوم الأشخاص هذه الروح المثالية التي اتسمت بها(22/236)
القرون الوسطى، وبدأت تظهر طبيعة حديثة-لعلها تعكس الاتجاه الدنيوي للطبقة الوسطى-بكل مقوماتها.
ولقد حصل فنانون كثيرون آخرون على الشهرة في هذه البيئة وذلك العصر الخصيبين أمثال: بتروس وكريستوس وجاك دارت ووبرت كامين (أستاذ فليمال) ونحن نحني رؤوسنا لهم خاشعين ثم نواصل السير إلى تلميذ كاميين وهو روجر دي لا باستير. ولما أن بلغ روجر السابعة والعشرين من عمره، ذاع صيته، في مسقط رأسه تورناي، فأحرز مرتين الدرجات الثلاث، أو قناني النبيذ الثلاث، التي رصدها لجان فان إيك، ومهما يكن من شيء، فقد لبى الدعوة ليكون مصوراً رسمياً في بروكسل، ومن ثم جعل لاسمه الصيغة الفلمنكية روجيه فان درويدن. وفي عام 1450 وكان قد بلغ الواحدة والخمسين، رحل إلى روما للاحتفال بعيده الخمسيني، ولقي المصورين الإيطاليين، واحتفل به بوصفه أحد مشاهير العالم وربما كان تقدم التصوير بالزيت في إيطاليا بتأثيره. ولما توفي عام 1464 في بروكسل، كان أشهر فنان في أوربا بأسرها.
وبقي فنه في آثار كثيرة. ولقد صور أيضاً فيليب الطيب، ورولان-وزير فيليب لمدة أربعين سنة-وشارل الجسور وغيرهم منن الشخصيات البارزة. وتتسم "صورة سيدة" بجمال يفرق الوصف في المتحف القومي بواشنطن-وهي تجسم المشاكسة والتقوى والتواضع والكبرياء. وكان روجر في فن تصوير الأشخاص رومانسياً لا يبلغ شأن جان فان أيك، ولكنه أظهر في صوره الدينية، دقة وإحساساً مرهفاً، عمقاً في الانفعال وهو ما يفتقر إليه فن جان القوي الواقعي، وربما كانت الروح الإيطالية أو الفرنسية، تتوسل في التعبير بالشكل الفلمنكي، وتبعث بذلك منهج القرون الوسطى.
ولقد سجل روجيه، مثله في ذلك مثل الإيطاليين، الأحداث الحيوية المثيرة، في قصته مريم وابنها: فإن جبريل يعلن فتاة مفزعة أنها ستكون(22/237)
أم الرب، والطفل في المزود، وعبادة المجوس، وصورة القديس لوقا وفيها العذراء وهي ترعى طفلها، وزيارة مريم لإيزابيث، والأم تتأمل طفلها في سعادة، والحضور إلى الهيكل، والصلب، والنزول عن الصليب، والقيامة، ويوم الحشر. وبلغ روجيه في هذا المشهد الأخير أوجه، في مجموعة لوحات لعلها صممت لتضارع "عبادة الحمل" ولكنها غير جديرة بذلك تماماً. ولقد صورت لرولان، وهي الآن في المستشفى الفخم، الذي أسسه الوزير العظيم في بوين. وفي اللوحة الجدارية الوسطى، يجلس المسيح للمحاكمة، وتغلب الرمة عليه عما في صورة ميشلانجياو، ويقف في كلا الجانبين الملائكة بملابسهم البيضاء الناصعة: يحملون وسائل عذابه وموته، ويظهر تحتهم ميكائيل رئيس الملائكة: يضع في الميزان الحسنات والسيئات: وإلى اليسار تركع مريم في خشوع وضراعة، وفي أحد الجانبين يجثو الأبرار في صلاة شكر، وفي الجانب الآخر يقع الأشرار فزعين في الجحيم، وهناك ثلاثة في أشورب تكاد تبلغ في شهرتها هذه الصورة وهي تصور الأسرار المقدسة السبعة في مشاهد رمزية. وأراد روجيه ألا نتمثله، مستغرقاً في وجد ديني، فصور حسناء تغتسل، وشابين يسترقان النظر إليها من خلال شق في الحائط، بفضول تشريحي نهم لا يشيع أبداً.
4 - شارل الجسور
1465 - 1477
تبخر هذا الفوران كله بفضل حدة مزاج شارل المتهور، الملقب خطأ بالجسور. وهو الذي صوره روجيه فان درويدن، في صورة كونت شاروليه الفتى الجميل الحاد ذي الشعر الأسود، الذي قاد جيوش أبيه، في انتصارات دامية، وعرك سلطان أبيه منتظراً وفاته. ففي عام 1465 أحش فيليب الطيب بنفاذ صبره، فسلم إليه مقاليد الحكم، وأشبع بذلك طموح الشاب ونشاطه.
وأبى شارل تقسيم دوقيته إلى ولايات شمالية وأخرى جنوبية تتفرق مكاناً(22/238)
وتتعدد لغة، وأبى فوق ذلك الولاء الإقطاعي الذي يدين به عن بعض هذه الولايات لملك فرنسا، وعن بعضها الآخر لإمبراطور ألمانيا. وكان مشوقاً لتحقيق برجنديا العظمى، مثل لوثارينجيا (لورين) في القرن التاسع، لتكون مملكة وسطى بين ألمانيا وفرنسا، موحدة من الناحية الطبيعية، ذات سيادة من الناحية السياسية. ولقد فكر أحياناً، في أن وفيات بعض أولياء العهود الذين يتداخلون في نسبه في الوقت المناسب، قد تسلمه العروش الفرنسية والإنجليزية والإمبراطورية، وتسمو به إلى مصارف أرفع الشخصيات في التاريخ مكانة. ولقد نظم، تحقيقاً لهذه الأحلام، أحسن جيش عامل في أوربا، وفرض على رعاياه من الضرائب ما لا نظير له في الماضي، وكيف نفسه لمكابدة كل عناء وتجربة، ولم يمنح عقله وجسمه، ولا أصدقاءه وأعداءه، فترة من الراحة والسلام.
ومع ذلك: فقد فكر لويس الحادي عشر، في برجنديا باعتبارها إقطاعية من ملك فرنسا، وحارب تابعه الغني متفوقاً في الخطط والدسائس-فانضم شارل إلى النبلاء الفرنسيين ضد لويس، وغنم مدناً أخرى، والعداوة الدائمة لملك عنيد. وفي هذا الصراع انتقضت دينان ولييج على برجنديا، وأعلنا ولاءهما لفرنسا، كتب بعض المتحمسين في دينان Dinant، على صورة معلقة لشارل، إنه ابن سفاح لقسيس لمستهتر. فهدم شارل أسوار المدينة بالمدافع، وأباحا لجنوده ثلاثة أيام ينهبونها، واسترق جميع رجالها، وشرد كل نسائها وأطفالها، وأحرق جميع مبانيها حتى أصبحت أثراً بعد عين، وألقى بثمانمائة من الثائرين مقيدة أيديهم وأرجلهم من خلاف في نهر الموز (1466) ومات فيليب في شهر يونيو التالي، وأصبح كونت شاروليه، شارل الجسور. فأعاد الحرب مع لويس، وأجبر لييج التي ثارت مراراً بمحاصرتها، على أن تؤيده وتعاونه في هذه الحرب. وقدم سكان المدينة المتضرعون جوعاً، جميع ما يمتلكون ثمناً لحياتهم .. فرفض العرض،(22/239)
وأباح المدينة، ولم ينج من النهب بيت أو كنيسة، وانتزعت كؤوس القربان من أيدي القساوسة وهم يقومون بالصلاة، وأغرق جميع الأسرى الذين عجزوا عن دفع الدية الباهظة (1468).
والعالم، وإن تردى، طويلاً في أعمال العنف، لا يستطيع أن يغتفر لشارل قسوته، وخروجه على تقاليد الإقطاع في حبس مليكه وإذلاله. فلما غزا جلدرلاند، وحصل على الألزاس، وتقدم بخطى إمبراطور ليتدخل في كولونيا ومحاصرة نيس Neuss. بادر جميع جيرانه إلى الوقوف بوجهه. وأسخط بيتر فان هاجنباك، الذي عينه والياً على الألزاس، الناس لفظاظته وجوره وقسوته، فشنقوه، وأعلن الاتحاد السويسري محاربة شارل إلى الموت (1474) ذلك لأن التجار السويسريين كانوا من ضحايا بيتر، والذهب الفرنسي كان يوزع من الناحية العسكرية في سويسرا، والولايات السويسرية، كانت تحس بأن اتساع سلطان شارل خطر يهدد حريتها. فترك نيس، واتجه ناحية الجنوب، فغزا اللورين-موحداً لأول مرة طرفي دوقيته-وسير جيشه عبر جورا، إلى فود. وكان السويسريون أشجع الجنود في عصرهم، فهزموا شارل بالقرب من جرانسن Granson، ثم دحروه بالقرب من مورات (1476) وهكذا اكتُسح البرجنديون، وبلغ الحزن بشارل أن أشرف على الجنون. فاغتنمت اللورين الفرصة ولانتقضت عليه، وأرسل السويسريون الرجال وبعث لويس الذهب لمعاونة الثورة. وألف شارل جيشاً جديداً، وحارب الحلفاء بالقرب من نانس، وهزم في المعركة ولقي الموت (1477). وفي الغداء التهمت الغيلان قطعاً من لحمه العاري، ووجد غارقاً إلى النصف في مستنقع، ووجهه متجمد ملتصق بالجليد. وكان الأربعة والأربعين من عمره. وهكذا اندمجت برجنديا في فرنسا.(22/240)
5 - الفن في الأراضي الواطئة
1465 - 1515
اضمحلت فلاندرز الجنوبية فترة من الزمن بعد فيليب الطيب، ودفعت الاضطرابات السياسية بكثير من النساجين إلى إنجلترا، وكانت صناعة النسيج البريطانية النامية تحصل على تجارتها ومواردها الخامة من المدن الفلمنكية، وما أن جاء عام 1520، حتى أصبح النسيج الإنجليزي يزحم أسواق فلاندرز نفسها. وازدهرت بروكسل وميشلن، وفالنسين بالتفوق في صناعة الشرائط والسجاجيد والفرش والحلي، ونامور بفضل صناعة الجلود، ولوفان بفضل جامعتها وجعتها. وحوالي عام 1480، بدأت القناة التي تصل بروجس بالبحر ترسب الطمي في مجراها، وبذلت جهود جبارة لتطهيرها، وقضت الرمال والرياح على هذه الجهود، ولم تعد السفن التي تمخر عباب البحر، تستطيع الوصول إلى بروجس بعد عام 1464. وسرعان ما هجر تجارتها، ثم صناعها المدينة إلى أنتورب، التي كانت السفن ذوات الغطس الكبير، تدخلها عن طريق مصب نهر شلد. وعقدت أنتورب اتفاقيات مع المصدرين الإنجليز، وشاركت كاليه في تجارة إنجلترا مع القارة الأوربية.
ولقد بقيت الحياة في هولندة بفضل السدود، التي ينبغي أن يعاد بناؤها مراراً، وقد تنهار في أي وقت، ولقد اختل بعضها عام 1470 فأغرق عشرين ألفاً من السكان. وكانت الصناعة الرئيسية الوحيدة هي صيد سمك الرنجة وتجفيفها. وأخرجت هولندة كثيرين من أشهر المصورين في ذلك العصر، ولكنها كانت أفقر من أن تحتفظ بهم، فهاجروا جميعاً إلى فلاندرز ما عدا جيرتجن الذي شرب نحب سنت جانز.
وهناك، حتى في المدينة الآفلة، كان الأغنياء من نواب المقاطعات يرتدون الملابس الفاخرة، ويسكنون بيوتاً من الآجر المتين بها أساس فخم-علقوا(22/241)
على جدرانها حوراً على النسيج من أراس وبروكسل، وزودوها بآنية متلألئة من النحاس الأصفر من دينان. وشيدوا كنائس رائعة مثل كنيسة نوتردام دي سالبون في بروكسل، وكنيسة سانت جاك في أنتورب، وأقاموا برج واجهة كاتدرائية أنتورب حجراً حجراً، وبدأوا في تشييد قاعدة البلدية العظيمة في جنت. وأمدوا المصورين بالمال، وجلسوا أمامهم لتصوير أشخاصهم، وتقربوا إلى السموات بفن يقوم على النذور، وسمحوا لنسائهم بقراءة الكتب. وربما كانت نزعتهم الدنيوية، هي التي حفزت فن التصوير الفلمنكي، في الفترة الثانية من ازدهاره، إلى التركيز على الواقعية والمناظر الطبيعية حتى في الصور الدينية، والبحث عن موضوعات جديدة في الدور والحقول.
واستهل ديرك بوتس الاتجاه الواقعي بمبالغات طبيعية عند أصحاب البدع. ولقد جاء إلى بروكسل من مسقط رأسه هارلم، ودرس هناك على يد روجيه فان درويدن، وأقام في لوفين، وصور لكنيسة سانت بيير مجموعة لوحات جدارية هي "العشاء الرباني الأخير"، ومعها لوحة حائطية موضوعها-عيد الفصح في أسرة يهودية-ويبدو أنها توحي بأن العشاء الرباني الأخير، كان احتفالاً بعشيرة يهودية سنَّية، يقوم بها يهود لا يزالون مؤمنين باليهودية. وصور للكنيسة "استشهاد القديس إيرازس" تصويراً حرفياً مذهلاً؛ جلادان يديران دولاباً، يخرج ببطء، أمعاء القديس المتجرد من الثياب. وفي "استشهاد القديس هيبوليتوس، أربعة جياد تساق في أربع اتجاهات تفصل ذراعي الفريسة ورجليها. وفي "قطع رأس الفارس البريء" نجد فاراً اتهمته إمبراطورة فاشلة في حبه انتقاماً منه، بأنه حاول هتك عرضها، فأمرت بقطع رأسه، وفيها انبطحت الجثة الدامية على الأرض، واطمأن الرأس المنفصل في حجر الأرملة، وكان يتفادى عنفه، في الغالب، بإظهار الطمأنينة الراضية عند المحتضر أو الميت- وفي هذه الصور(22/242)
ألوان حية، ونجد بين حين وآخر منظراً طبيعياً حسناً أو رسماً منظوراً، بيد أن رسومها المتقنة وشخوصها الجامدة والوجوه التي لا حياة فيها، توحي بأن الزمن ليس حكيماً في انتقائه على الدوام.
وقد يكون هوجوفان درجوز، أخذ نسبته من جوز في زيلندة، وهو شاهد آخر على عبقرية هولندة الخصية الآفلة. وفي عام 1467 سمح له بأن ينضم إلى نقابة المصورين في جنت. وكان ذلك إرهاصاً بشهرة التصوير الفلمنكي، حتى إن تاجراً إيطالياً في فلاندوز، وقع اختياره عليه، لكي يصور ثلاثية كبيرة لمستشفى سانتا ماريا نيوفا في مدينة فلورنسا التي كانت تعج بالفنانين. وانتخب هوجر لموضوعه هذه العبارة "إن من حملته قد عبدته". وصورة العذراء بالحجم الطبيعي، يغمرها الخشوع، وهي من الروعة بمكان، وإلى اليسار راع يتنبأ بروعة رفائيل وتيتيان، ويعد المنظر الطبيعي الشتوي، عملاً جديداً، من ناحية الحب المخلص للطبيعة. وأن ما اتسم به فان دوجوز من الواقعية العاتية، والأداء الأصيل، والرسم الدقيق والتحديد المضبوط للشخصية، قد وضعه على قمة المدرسة الفلمنكية في الربع الثالث من القرن الخامس عشر. ولقد دخل أحد الأديرة بالقرب من بروكسل (حوالي 1475)، أما ليجد مزيداً من الهدوء يعينه على العمل، وأما ليتخلص من المخاوف الدينية التي اعترته. وهناك واصل التصوير وأمعن في تعاطي الخمر، (كما يقول راهب زميل له). واستولت عليه فكرة، إن الله قد كتب اللعنة الأبدية، فأظلمت حياته ودفعته إلى الجنون.
ويخبرنا فسباسيانو دا بستيش، أن الدوق فيديريجو صاحب أوربينو Urbino؛ قد أرسل حوالي عام 1468، إلى فلاندرز يطلب مصوراً، يزين غرفة مكتبه، لأنه "لا يعرف أحداً في إيطاليا، يفهم كيف يصور بالألوان الزيتية". فلبى فان فاسنهوف الدعوة، وهو صديق فان درجوز،(22/243)
وأقام في أربينو، وعرف منذ ذاك باسم جوستس فان جنت. فصور للدوق العالم ثماني وعشرين صورة لطائفة من الفلاسفة كما صور لفريق من الإخوان الرهبان في أربينو مذبحاً "تناول الأسرار المقدسة". ومع أن هذه الآثار فلمنكية الأسلوب إلا أنها تسجل تأثيراً متبادلاً بين فلاندرز وإيطاليا، فقد تأثر المصورون الإيطاليون بالفن الفلمنكي في الإقبال المتزايد على استعمال الزيت والنزعة إلى الواقعية، كما تسربت المثالية والحرفية الإيطالية في الفن الفلمنكي.
ونحن نجد أن هانز مملنج، وإن كنا لم نعثر على خبر يفيد زيارته إيطاليا، وقد أدخل في تصويره رشاقة ورقة، لعله اكتسبها من مصوري كولونيا، أو من روجيه فان درويدن، أو لعل هذا التأثير قد جاءه من البندقية وعلى طول الرين إلى مينز. ولقد ولد بالقرب من مينز، وربما اكتسب نسبه من مسقط رأسه مرملنجن، ثم رجل من ألمانيا إلى فلاندرز ويروجس حوالي عام 1465. وهناك، وبعد ثلاث سنوات، طلب إليه سير جون دن، وهو زائر إنجليزي، أن يصور له "العذراء على العرش". فكانت صورة تقليدية في المنهج والآراء. ولكنها تظهر في الوقت نفسه اقتداره الحرفي، ورهافة حسه، وتفرغه للعبادة. ولقد أبرز القديس يوحنا المعمدان، في واقعه فلمنكية والقديس يوحنا الإنجيلي في مثالية ملائكية؛ وكشفت الفردية النامية في الفن، من نفسها في صورة "مملنج" وهو يختلس النظر متلفتاً حول عمود.
وكان مملنج يشبه بروجينو، الذي جاء بعده بقرن من الزمان في رسمه مئات الصور للعذراء، في رقة الأمهات وسكينة الأبرار وهذه الصور معلقة على جدران المتاحف، تراها العين أينما اتحهت في برلين وميونخ وفينا وفلورنسة ولشبونة ومدريد، وباريس ولندن ونيويورك وواشنطن وكليفلند وشيكاغو. وتوجد اثنتان من أحسن هذه الصور بمستشفى ساتت جون في بروجس، ونجد أن مريم تسيطر على صورة "زواج القديسة كاترين الصوفي"، حيث تبدو(22/244)
الفخامة في كل شخصية، وهي تتصدر مرة أخرى "صورة عبادة الطفل" ويلفت النظر فيها المجوسي-وهو شخصية تشبه جوته المستشار الخاص-وفي صورة رحبة الأفق في ميونخ، رسم مملنج جميع الأحداث الرئيسية في حياة المسيح المدونة. وسرد في صورة أخرى بتورينو قصة "الآلام" وعرض فيها أخلاطاً من الرجال والنساء، حتى إن "بروجل" وجد عناء في التفوق عليه في كثرة العدد. وصور من اجل صندوق أرغن في دير بمدينة ناحيرة بأسبانيا، ثلاثة للسيد المسيح تحيط به الملائكة، تضارع صورة "الملاك الموسيقي" للرسام ميلوزد دافورلي التي رسمت قبل ذلك بأعوام، ولم ير متحف أنتوب أنه مغبون عندما دفع مائتين وأربعين ألف فرنك ثمناً لهذه الصور عام 1896. ورسم صورة متعددة الأجزاء لمذبح موضوعها "يوم الحساب" لأياكويوتاني وهو وكيل لورنزودي مديتشي في "بروجس"، ووضعت في سفينة مبحرة إلى إيطاليا، ولكن رباناً هانسياتيا استولى على السفينة، فاحتفظ لنفسه بما كان فيها من أموال وترك الصور تذهب إلى كنيسة العذراء في دنزج.
ولقد صور مملنج في هذه الآثار الرئيسية وفي اللوحات الخاصة بالأفراد، بعض الرسوم الرائعة للأشخاص: مارتن فان نيو ومنيوف و"امرأة"-في مظهر فخم تحت قبعتها العالية وفي أصابعها خواتم كثيرة-وكلاً الصورتين في إحدى مستشفيات بروجس، وصورة "شاب" في معرض لندن للصور، و"عجوز" في نيويورك، وحامل السهم في واشنطن. وهي لا تبلغ الإلهام والعمق اللذين اتسم بهما فن تيتيان أو رفائيل أو هوليين، ولكنها تبلغ السطوح البسيطة بحذق صناع. أما الصور العادية غير الأساسية مثل آدم وحواء، وأم سليمان في الحمام فلا تفتن الناظرين.
وزين مملنج في ختام حياته تقريباً، ضريحاً قوطياً، في مستشفى بروجسن، وقد صمم لكي يستقبل، آثار القديس أرسولا. فقص في ثاني(22/245)
لوحات حائطية، كيف أن السيدة الورعة، خطيبة الأمير كونون، أجلت زواجها حتى تجمع إلى روما، وكيف أبحرت، مع أحد عشر ألف عذراء، في نهر الرين إلى بازل، وقادتهن في رحلة فوق جبال الألب، واعتصمت ببركات البابا وكيف أن هؤلاء الـ 11. 001 وقد استشهد على يد الهون في كلونيا. وبعد ذلك يتسع سنوات (1488)، قص كارياكشيو في صورة، هذه القصة الرائعة المستحيلة في آن واحد، برسم ادق، وألوان أزهى، وذلك لمدرسة القديس أرسولا في البندقية.
وليس من الإنصاف لمملنج ولا لأي مصور آخر، أن ننظر إلى صوره، نظرة كلية، فكل واحدة منها لزمان ومكان معينين ومنهما تحمل خصيصته الغنائية. ونحن إذا نظرنا إليها نظرة عريضة فسنجد لتونا حدوده-ضيقة في الأفق والأسلوب ورتابة شخوصه، حتى رسومه المتواضعة للعذراء بما فيها من شعر ذهبي مرسل، والسطح محبب أو صادق، ويضئ بألوان ناعمة لامعة، ولكن الريشة قلما تنفذ إلى أعماق النفس تحت هذا السطح، إلى سر العزلة، والدهشة، والطموح والهموم. وصور النساء عند مملنج لا حياة فيهن، وكلما جردهن عن ثيابهن، فإننا نصاب بالحزن، عندما نجد أن كل واحدة منهن عبارة عن معدة كبيرة وصدر رقيق. وربما كان الطابع الغالب في تلك الشؤون مختلفاً عما هو عليه الآن، بل أن رغباتنا قد تلقنا المبادئ. ومع ذلك فيجب أن نعترف أن مملنج عندما مات (1495)، كان زعيم مصوري شمالي جبال الألب بإجماع أوليائه ومنافسيه. فإن أحسن فنانون آخرون بأخطائه أكثر من إحساسهم بأخطائهم. فإنهم لا يستطيعون أن يبلغوا مبلغه في رقة الأسلوب وصفاء إحساسه وروعة تلوينه. ولقد ظل تأثيره عظيماً قرناً كاملاً على المدرسة الفلمنكية.
وواصل جيرار ديفيد مذهبه. فلقد جاء إلى بروجس من هولندة حوالي عام 1483، وفتنته رقة مملنج الغنائية، وصوره عن العذراء تكاد تماثل(22/246)
صور مملنج، ولعلهما اقتسما فيما بينهما نموذجاً يصدران عنه. وهي في بعض الأحيان كما صوره "الراحة أثناء الفرار إلى مصر" (واشنطن)، فإنه يتساوى مع مملنج في إظهار وصيانة جمال العذراء، وتفوق عليه في تحديد رسم الطفل. وتحول في كهولته إلى التجارة ورحل إلى أنتورب، وبه انتهت مدرسة بروجس، بينما بدأت مدرسة أنتورب على يد كونتن ماسيس.
وكان ماسيس، ابن حداد في لوفان واستقبل في نقابة سانت لوك للمصورين بأنتوب عام 1491، بالغاً من العمر خمسة وعشرين عاماً. ومن العسير مع ذلك، أن يوافق سانت لوقا على صورة "مأدبة هيرود" حيث كان هيرود يأس يحز بسكين رأس المعمدان المفصول عن جسده، أم على "دفن المسيح" حيث كان يوسف الأريماش، يندف لطع الدم عن شعر الجثة التي لا دم فيها. وتزوج ماسيس مرتين، ودفن سبعة أطفال، فكانت له صلابة في نسج لوحاته، وحموضة في زيوته. وبذلك استطاع أن يصور فاجرة أرادت أن تخدع مرابياً عن نقوده، وأظهر في حالة نفسية أهدأ، صيرفياً يعد ذهبه، بينما تنظر زوجته إليه نظرة يختلط فيها التقدير بالغيرة، أما صور ماسيس للعذراء فهي أكثر إنسانية من صور مملنج، إحداها (في برلين) تقبل وتداعب طفلها كأي أم، وألوان ملابسها التي تتراوح بين الزرقة الناصعة والأرجوانية والحمرة تبرز جمالها. ولما تحول إلى فن تصوير الأشخاص، فإننا نجده ينفذ في ملامح الوجه إلى الشخصية وكان بذلك أكثر توفيقاً من مملنج، كما في الصورة الرائعة "دراسة من أجل صورة شخص" في متحف جاكيمار أندريه في باريس، ولقد لجأ إليه بيتر جيلليس Gillis (1517) عندما أراد أن يرسل إلى توماس مور، صورة صادقة لشخصه وأخرى لأرازمس. وأحسن ماسيس مع تصوير جيلليس، ولكن صورته لأرازمس كانت سيئة الطالع، إذ أعقبتها الصورة التي رسمها هلبين.(22/247)
ولما ذهب "دورد" (1520) وهلبين (1526) إلى أنتوب قدماً إلى ماسيس أسمى أيات الإجلال باعتباره عميد الفن الفلمنكي.
ومع ذلك فقد ظهر في الوقت نفسه في برابانت، أكثر الفنانين أصالة وعبثاً في التاريخ الفلمنكي. ونحن نجد في آثار ماسيس-كما في الغوغاء بنظراتهم الشذراء في "إظهار المسيح للناس" (مدريد) أو الوجوه الدميمة في صورة "عبادة المجوس" (نيويورك) -الوجوه الشوهاء القاسية كالتي صورها ليوناردو في عبثه الساخر بقلمه. ووفق هيرونيمس بوش في استغلال هذه الأضاحيك. ولقد ولد، وأنفق الشطر الأكبر من حياته في بو-ل-ديك (في شمالي برابانت، وهي الآن هولندة الجنوبية)، وأصبح يعرف بصفتها الفلمنكية "هيرتوجنبوش" واختصر أخيراً إلى بوش. وظل يصور الموضوعات الدينية المألوفة فترة من الزمان، واقترب في بعضها كما هو الحال في "عبادة المجوس في مدريد" من العادية. ولكن إحساسه بالمضحك أخذ يسيطر على خياله وفنه. ولعله ارتاع في طفولته من حكايات القرون الوسطى عن العفاريت والأشباح، وعن الشياطين تخرج من وراء كل صخرة، أو تبرز من كل شجرة، وأضحى الآن يستطيع أن يرسم هذه المردة رسمياً كاريكاتورياً، في هجاء يشفى نفسه منها. ويبعدها عن عقله بالمضحك منها. وأنكر بحساسية الفنان وصمات الإنسانية-الشاذ أو الدميم أو المشوه-والتقطهم في مزيج هستيري من الغضب والسرور. بل إنه في المشاهد الرعوية كما في صورة "المولد" (كلونيا)، فإنه يجعل الصدارة لأنف بقرة، وفي "عبادة المجوس" (نيويورك) يختلس الفلاحون النظر من النوافذ ومن الطرقات المسقوفة تحت القناطر، إلى العذراء وطفلها. ومع ذلك فقد رسم في هذه الصورة الأخيرة بحذق يبلغ حد الكمال، صورة جليلة للقديس بطرس، وملكاً زنجياً، يضع وقاره المهيب سائر الشخوص تتضاءل. ولما كان بوش قد بدأ بقصة المسيح، فقد أظلم صوره بوجوه(22/248)
بهيمية وعيون وحشية، متوحشة، وأنوف ضخام وشفاه ممطوطة سمجة نهمة. ولما تحول إلى قصص القديسين، فقد أظهر القديس يوحنا الإنجيلي في صورة رقيقة إلى حد عجيب، في مهاد غير عادي من المشاهد الطبيعية بين جزر وبحر، بيد أنه وضع في أحد الأركان شيطاناً يتأمل-له قلنسوة قسيس وذنب فأر وأرجل حشرة-وينتظر في صبر أن يرث الأرض-وفي صورة "إغراء القديس أنطوني" أحاط الناسك المتوحد اليائس، بفاجرات مبتهجات وتخيلات سحرية-قزم غرست رجلاه في كتفيه وطائر له ساقا ماعز وقرد له أرجل بقرة وفأر تتخطاه عليه ساحرة ومنشد متجول يضع على رأسه جمجمة حصان. وأخذ "بوش" العجائب من الكاتدرائيات القوطية وجعل منها عالماً قائماً برأسه.
وكان أبعد ما يكون عن الواقعية. ولكنه كان ينقل بين حين وحين مشهداً من الحياة، كما في "الابن السفيه"، إلا أنه بالغ هنا في إظهار الدمامة والفقر والخوف. وليست صورته "ركبة الدريس" نسمة في أوائل الربيع، ولكنها تصوير مرير لعبارة "كل الحشائش لحم" وكل شيء مثالي فوق الحمل: شاب يعزف الموسيقى لفتاة تغني، وخلفهما عشيقان يتبادلان القبلات وملاك يجثو على ركبتيه، وفوقهما يرفرف "المسيح" في السحاب. بيد أنه يصور على الأرض قاتلاً، يطعن عدوه المترنح، وقوادة تغوي فتاة على الفجور، ودجالاً يبيع الدواء لكل داء وقسيساً بديناً يتسلم النذور من الراهبات، وعجلات العربة تدهس بعض المحتفلين غير المكترثين. وإلى اليمين، فريق من الشياطين، تعاونهم قردة، يسحبون الأشرار إلى الجحيم. ولقد علق فيليب الثاني ملك أسبانيا الذي غلبت الكآبة عليه هذه القطعة الفنية في الاسكوريال. ووضع بالقرب منها، زميلة لها هي "مباهج الدنيا". وفيها نرى غديراً، يغتسل فيه العرايا من الرجال والنساء، وحوله موكب راكب من العرايا على متون الحيوانات نصفها طبيعي ونصفها الآخر من(22/249)
تهاويل الخيال، ويبرز الشوك والحسك من كل جانب من الصورة، وفي مقدمتها، عريانان يتعانقان في رقصة فالس، بينما يحدق إليهما طائر ضخم في نشوة فلسفية. ويظهر قطاع منها خلق لتكون أصل جميع الشرور، ويظهر قطاع آخر تعذيب الأشرار. وهي معجزة في الإبداع والحذق في الرسم والخيال المريض-وتمثيل بوش خير تمثيل.
وقد يتساءل البعض: هل وجد، حتى في فجر التجديد الحديث، ملايين المسيحيين البسطاء الانفعاليين، المصابين بكابوس مثل هذا؟ وهل كان بوش واحداً من هؤلاء؟ من العسير أن نقول ذلك، فنحن نرى في صورة له تمثله في مكتبة أراس، وقد بدأ في الشيخوخة، تام القوة العقلية والحدة البصرية، كان رحلاً حصيفاً، تجاوز غضبه الهجاء، واستطاع أن ينظر إلى الحياة بمرح برئ سرعان ما يخرج من الحلبة. ولم يكن من الممكن أن يصور هذه الأخيلة الحاذقة، إذا ظلت مستولية عليه. لقد تغلب عليها، وهو أدني إلى الغضب منه إلى السرور، لأن الإنسانية احتضنتها على الدوام. ومما يؤكد أن معاصريه استمتعوا بآثاره، على أنها مرح تصويري، أكثر منها مفازع دينية، رواج صوره المنقولة بالحفر والمطبوعة، وجاء "بيتر بروجل" بعد جيل واحد فاستطاع أن يدرب هذه الشياطين، ويحول أولئك الغيلان إلى حشد مرح سليم، وبعد ذلك بأربعة قرون عكس الفنانون العصابيون، أمراض عصرهم العصبية، أخيلة ساخرة تعبق، معبودهم بوشي.
ويختم هذا الفصل في تاريخ التصوير الفلمنكي بظهور شخصية، أدخل في المنهج التقليدي. ولقد ولد صاحب هذه الشخصية في "موبيج"، ومنها أخذ نسبته "مابوس"، واسمه "جان جوساير" ولقد رحل إلى أنتورب عام 1503، ومن المحتمل أن يكون ذاك، بعد أن ثقف الفن على يد دافيد في بروجس. ودعي عام 1507 إلى بلاط الدوق فيليب البرجندي وهو(22/250)
أحد ثمرات عشق فيليب الطيب، وصحب جان الدوق إلى إيطاليا، وعاد بشيء من الصقل أضيف إلى ريشته، وشوق إلى تصوير العاريات والأساطير الوثنية، ونحن نجد في صورته "آدم وحواء" أنه جعل الجسم العاري جذاباً لأول مرة في الفن الفلمنكي. وفي صوريته مريم والطفل والملائكة والقديس لوقا يرسم العذراء، أصداء لما في إيطاليا من أطفال سمان ومهاد معمارية تتسم بطابع عصر النهضة، قد يرجع الفصل إلى إيطاليا، فيما نراه في صورة "العذاب في الحديقة" من العرض الرائق لضوء القمر. ولكن قوة "جوساير" تركزت في فن تصوير الأشخاص. ولم يصدر فلمنكي، منذ جان فان إيك، هذه الدراسة للشخصية التي نجدها في صورة " جان كاروندليه" في متحف اللوفر، ففيها يركز الفنان على الوجه واليدين، ويكشف عن الغنى الموروث، ويميط اللثام عن الإداري الذي لا يتزعزع، المهوم بأعباء السلطة، وعلى يد ماسيس انتهى الرعيل الأول في التصوير الفلمنكي وهو الذي بلغ حد الكمال في الصور التي أبدعتها مدرسة "فان إيك". وقبس جوساير من إيطاليا، تلك التجديدات الحرفية، والأناقة في الزخرف، والرشاقة في الحطوط، والحذق في إظهار الجلي والقاتم على السواء، وتصوير الأشخاص، وهي السمات التي نجدها في القرن السادس عشر (إذا استثنينا بروجل) تحول التصوير الفلمنكي، عن براعته وعبقريته في حدود وطنه وتتركه ثلابتاُ في تفوقه، حتى بلغ أوجه على يد روبنز وفان ديك.
ولم ينجب شارل الجسور ابناً، ولكن ابنته ماري كانت مخطوبة إلى مكسيمليان صاحب النمسا، وأملاً أن يحمي آل هبسبرج برجنديا من فرنسا. ومع ذلك عندما ضم لويس الحادي عشر الدوقية فرت ماري إلى جنت حيث دفعت الثمن لتكون الملكة الدستورية بموافقة فلاندرز وبرابانت وهانو وهولندة، وهو توقيعها على "قرار امتياز جروت" (فبراير 1488)، الذي ناشدها أن لا تتزوج، وألا تفرض ضريبة أو تعلن حرباً، إلا بموافقة(22/251)
(المقاطعات) أو مجالس الأقاليم الموقعة على القرار. وبهذا المرسوم وغيره من المراسيم الصادرة بعد ذلك، بما فيها المدونة السعيدة كما أطلقت برابانت على تصريحها الخاص بحريتها المحلية، بدأت الأراضي المنخفضة قرناً طويلاً من الصراع في سبيل الاستقلال. ولكن زواج ماري من مكسميليان (أغسطس 1477) جاء بآل هبسبرج الأقوياء إلى "الأراضي الواطئة" حتى إذا توفيت ماري (1482) أصبح مكسميليان نائباً عن الملك. ولما انتخب مكسيميليان إمبراطوراً (1494) أسلم منصب نائب الملك في الأراضي المنخفضة إلى ابنه فيليب. ولما مات فيليب (1506) عينت أخته، مارجريت أميرة النمسا، حاكمة عامة بواسطة الإمبراطور. ولما أعلن أن ابن فيليب، هو شارل الخامس المقبل، قد بلغ سن الملك (1525) ببلوغه الخامسة عشرة، أصبحت الأراضي المنخفضة جزءاً من الإمبراطورية الهبسبرجية الشاسعة، في ظل واحد من أكثر الحكام طموحاً في التاريخ. ولهذا قصة.(22/252)
الفصل الثامن
أوربا الوسطى
1300 - 1460
1 - الأرض والعمل
ما دام الإنسان يعيش تحت رحمة الجغرافية الطبيعية، فقد كتب عليه أن ينقسم بواسطة الجبال والأنهار والبحار، إلى جماعات تتطور في سبه عزلة، مختلف لغاتها وشرائعها، وملامحها التي تتحكم فيها الظروف المناخية وعاداتها وأزياؤها. ودفع الافتقار إلى الأمن الإنسان إلى الشك في الغريب، فأصبح يره ويختصم الملامح الأجنبية المستهجنة، وطرائق العيش للجماعات الأخرى غير جماعته. وهذا التنوع الأخذ في الأرض-من جبال وأودية وأزقة بحرية ومضايق، وخلجان وغدران-الذي جعل أوربا منظراً جامعاً لمباهج شتى، وقد مزق، سكان قارة صغيرة إلى عشرة من الأقوام، يجترون خلافاتهم، ويحسبون أنفسهم في تراث أحقادهم. وهناك فتنة في هذا الخليط من النشأة المختلفة يستطيع المرء أن يطلب الغوث لعالم من الناس، محصور في أساطير بذاتها وأزياء بأعيانها. ومع ذلك، فإن فوق هذه الخلافات وتحتها .. الخلافات في الزي والعادة والعقيدة واللغة، فقد فرضت الطبيعة والحاجة على الإنسان، وحدة اقتصادية وارتباطاً، ويزداد وضوحها وسلطانها كلما حطم الاختراع والمعرفة الحدود. وتستطيع العين المنصفة الشاملة أن ترى، من النرويج إلى صقلية ومن روسيا إلى أسبانيا، الناس لا يختلفون كثيراً في الزي واللغة، وإنما تراهم مشغولين في مهن متماثلة ومصبوبين في قوالب أخلاقية متشابهة، كالفلاحة والتعدي ونسج الملابس(22/253)
وبناء المنازل والهياكل والمدارس، وتربية الناشئين والتجارة بالفائض عن حاجتهم ويشكون النظام الاجتماعي باعتباره أقوى وسيلة للدفاع والبقاء. وسنتأمل لحظة أوربا الوسطى باعتبارها وحدة على هذا الأساس.
فقد كان الشغل الشاغل للإنسان في اسكنديناوه، أن يقهر البرد، وفي هولنده أن يتغلب على البحر، وفي ألمانيا الغابات وفي النمسا الجبال، وتوقف مصير الزراعة وهي أساس الحياة على مدى الانتصارات. وما ـن جاء عام 1300 حتى كانت دورات المحاصيل قد أصبحت عامة في أوربا مضاعفة غلة الأرض. ولكن سكان أوربا الوسطى بين عامي 1347، 1381، قد هلكوا بالطاعون، فعطل موت الفلس خصوبة الأرض. ولقد فقدت ستراسبورج في عام واحد 14. 000 نسمة وكراكاً و20. 000 وبرسلو 30. 000. ولبثت مناجم "هارز" بلا عمال قرناً من الزمان. وواصل الناس الأعمال القديمة معتمدين على صبر الحيوان الأعجم، في حفر الأرض وحرثها. وتوسعت السويد وألمانيا في استخراج الحديد والنحاس، كما كان الغ يستخرج من آخن ودرتمند من سكسونياه والقصدير من هارز والفضة من السويد والبترول والذهب من كارنثيا وترانسلفانيا.
وعمل هذا الفيض من المعادن على تغذية الصناعة النامية التي غدت بدورها تجارة رائجة. وكانت ألمانيا إماماً في التعديل فأصبحت بطبيعة الحال، رائدة في علم المعاد. وظهرت أفران صهر المعادن هنالك في القرن الرابع عشر، فغير تشغيل المعدن بمساعدة المطرقة المائية والطاحونة الدوارة وغدت نورمبرج، عاصمة تجار الحديد واشتهرت بموقعها وأجراسها. وجعلت التجارة والصناعة نورمبرج واجزبرج ومنير وسبير وكلونيا، ومدنا ذوات حكومة مستقلة تقريباً. وبوأت أنهار الرين ومين ولش والدانوب، مدن ألمانيا الجنوبية، وكان الصدارة في المواصلات البرية، مع إيطاليا والشرق. ونشأت بيوت تجارية ومالية، لها أسواق وعملاء إلى مدى بعيد، على طول(22/254)
هذه الطرق، وتوقفت في القرن الخامس عشر على الحلف الهنسياتي اتساعاً وقوة. وكان هذا الحلف لا يزال قوياً في القرن الرابع عشر. مسيطراً على التجارة في مجرى الشمال والبلطيق، ولكن الأقاليم الاسكنديناوية اتحدت عام 1397 لتحطيم الاحتكار، وسرعان ما بدأ الإنجليز والهولنديون بعد ذلك ينقلون سلعهم بأنفسهم. بل إن سمك الرنجة قد تآمر على الهانس، إذ قرر أن يتكاثر في بحر الشمال، بدلاً من البلطيق، ففقدت لوبك وهي من عمد الحلف تجارة الرنجة وأفل نجمها، وغنمت أمستردام هذه التجارة وازدهرت.
وغليت مراجل حرب الطبقات تحت هذا التطور الاقتصادي-بين الريف والمدينة وبين السلدة لملاكك وعبيد الأرض والنبلاء ورجال الأعمال وبين الغرف التجارية ونقابات العمال بين الرأسماليين والصناع وبين الكهنوت والعلمانيين وبين الكنيسة والدولة. وكان رق الأرض في السويد والنرويج وسويسرا أخذا في الزوال بالفعل، ولكنه اتخذ حياة جديدة في المناطق الأخرى من أوربا الوسطى، أما في الدنمارك وبروسيا وسيليزيا وبوميرينا وبرندنبرج، حيث نال الفلاحون حريتهم بتمهيد البراري للزراعة، فقد أعيد رق الأرض في القرن الخامس عشر علي يد أرستقراطية عسكرية، ونحن نستطيع أن ندرك مدى الفظاظة التي اتسم بها هؤلاء الفتيان النبلاء الألمان من مثل سائر ردده فلاحو برندنبرج، وهو يدعو بطول البقاء لجياد السيد الملك، حتى لا يحل العبيد محلها في الركوب. وقنع البارونات والفرسان التيوتون، في أراضي البلطيق أول الأمر، باسترقاق أهل البلاد التي غزوها الصقالبة، وحملهم، نقص الأيدي العاملة بسبب الطاعون والحرب البولندية عام 1409، على أن يسترقوا جميع "الكسالى الذين يتسكعون في الطرق أو في المدن"، وعقدت المعاهدات مع الحكومات المجاورة بشأن تسليم الهاربي من رقيق الأرض.(22/255)
وقرب الأباطرة، الطبقة البرجوازية التجارية، لتجد من غلواء البارونات، فحكم هؤلاء التجار البلديات تماماً، حتى صارت دار البلدية في كثير من الأحيان، هي بعينها الغرفة التجارية. وضعف سلطان النقابات المهنية وأخضعت للقواعد التي تضعها المجالس البلدية تحديداً للأجور، ومنعت من العمل المشترك، وتحول العمال الحاذقون للمهن، المعتزون بخبرتهم، هنا، كما حدث في إنجلترا وفرنسا إلى عمال يدويين بلا حول ولا قوة. وحلول العمال الثورة حيناً بعد حين. وفي عام 1348 استولى عمال مدينة نورمبرج على المجلس البلدي وحكموا المدينة مدة عام، ولكن جنود الإمبراطور أعادوا التجار الأشراف إلى السلطة. وصدر في بروسيا عام 1358 مرسوم يقضي بصلم أذن، كل عامل يضرب عن العمل. واندلعت ثورات الفلاحين في الدنمرك (1340، 1441)، وسكسونيا وسيلزيا برندنبرج وأراضي الرين (1432) والنويج والسويد (1424)، ولكن هذه الثورات كانت منحلة العرى في التنظيم فلم ينتج عنها غير أعمال عنف عارضة. وانتشرت الأفكار الثورية في المدن والقرى. ولقد كتب عام 1478 متطرف مجهول، رسالة يعرض فيها "إصلاحاً يقوم به القيصر سيجيسموند" وهو شخصية خيالية، ذلك على أسس اشتراكية. وهكذا مهد المسرح ببطء لحرب الفلاحين عام 1525.
2 - إقرار النظام
النظام أبو الحضارة والحرية، والفوضى هي القابلة التي تولد الدكتاتورية، من ثم فإن التاريخ يمتدح حيناً بعد حين الملوك. وكانت وظيفتهم في القرون الوسطى أن يحرروا الفرد من السيطرة المحلية وأن يركزوا في يد واحدة، سلطة التشريع والقضاء والعقاب وإصدار السكة وإعلان الحرب. وتباكى البارون الإقطاعي على فقدان الاستقلال المحلي. بيد أن المواطن(22/256)
البسيط رأى خير أن يكون هناك سيد واحد وعملة واحدة وقانون واحد، وقلما أمل الناس في تلك الأيام التي فشت فيها الأمة، أن الملوك أنفسهم قد يختفون من الوجود، ولا يخلفون وراءهم سلطاناً غير القوانين والأخطاء التي اقترفها الناس بحرية.
ولقد حكم اسكنديناوه بعض الملوك الأفذاذ في القرن الرابع عشر فوحد ماجنوس الثاني ملك السويد، قوانين مملكته المتعارضة في مجموعة قوانين منسجمة قومية (1347). ونم أريك الرابع البارونات ودعم السلة المرزية، وأضعفها كريستوفر الثاني وأعادها ولدمار الرابع، وجعل بلاده، إحدى الدول الرئيسية في السياسة الأوربية. ولكن أعظم شخصية في الدول الحاكمة الاسكنديناوية في ذلك العصر، هي شخصية، مارجريت ابنة فالديمار، ولقد زوجت وهي في العاشرة (1363) من هاكون السادس ملك النرويج، وهو ابن ماجنوس الثاني ملك السويد، وبدا أنه قد كتب عليها، بفضل الزواج والم، أن توحد العرشين اللذين تربط بينهما القرابة، ولما قضى أبوها (1375) أسرعت إلى كوبنهاجن ومعها ابنها أولاف وعمره خمس سنوات، وأقنعت الناخبين في البارونات ورجال الدين أن يقبلوا ابنها ملكاً على أن تكون هي نائبة الملك. وبموت زوجها (1380) ورث أولاف تاج النرويج، ولما كان لا يزال في العاشرة من عمره فقد أصبحت مرجريت هناك أيضاً نائبة الملك، وكانت إذ ذاك في السابعة والعشري من عمرها. وأذهلت حكمتها وحياتها وشجاعتها معاصريها، الذين ألفوا عدم الكفاءة. أو العنف في الحكام من الرجال، وأيد السادة الإقطاعيون في الدنمرك والنرويج مفاخرين، هذه الملكة الرشيدة الخيرة، وهم الذين تسلطوا على ملوك كثيرين قبل ذلك. حتى إذا بلغ أولاف سن الرشد (1385) غنمت له دبلماسيتها، حق الجلوس على عرش السويد. ولكنه مات بعد ذلك بسنتين، فظهر أن خطها التي وضعتها في فراسة وبعد نظر، لتوحيد(22/257)
اسكنديناوة قد حبطت بموته. ولكن المجلس الملكي في الدنمارك، لم يجد وريثاً ذكراً يضارع "مارجريت" في القدرة على إقرار الأمن والسلام، فتجاوز القوانين الاسكنديناوية، التي تعارض حكم المرأة، وانتخبها نائبة ملك (1387). وتقدمت إلى أسلو، فاختيرت نائبة ملك النرويج مدى الحياة (1388)، وبعد ذلك بعام، أقصى النبلاء السويديون ملكاً لم يرضوا عنه، ونصبوها ملة عليهم. وأقنعت العروش الثلاثة كلها بأن تبايع أريك أكبر أبناء أخيها، ولياً لعهودها. واستدعت عام 1397 مجالس الدول الثلاث إلى كالمر في السويد، وهناك أعلن أن السويد والنرويج والدنمرك قد اتحدت إلى الأبد، تحت سلطة حاكم واحد، على أن تحتفظ كل واحدة منها بعاداتها وقوانينها. وتوج أريك ملكاً، بيد أنه كان لا يزال في الخامسة عشرة، فاستمرت مارجريت نائبة ملك إلى أن ماتت (1412)، ولم تحظَ حاكم أوربي في ذلك العصر بمملكة متسعة كهذه، أو بحكم موفق كحكمها.
ولم يرث ابن أخيها حكمتها، فجعل أريك الاتحاد، يصبح في الحقيقة إمبراطورية دنمركية، بمجلس في كوبنهاجن يحكم الدول الثلاث. واضمحلت النرويج في هذه الإمبراطورية، وفقدت زعامتها الأدبية التي احتفظت بها من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر. وفي عام 1434 تزعم انجلبركت انجلبركسن ثورة السويد على سيادة الدنمرك، وجمع في أربوجا (1435) مجلساً قومياً من النبلاء والأساقفة وملاك الأراضي وممثلي المقاطعات، وأصبح هذا المجلس المتوسع في تكوينه، وقد استمر خمسمائة سنة، ريخستاج السويد الحالي. وانتخب انجليبروكس وكارك كنتسن نائبي ملك. واغتيل بطل الثورة بعد ذلك بعام، وحك كنتسن السويد نائب ملك، ثم ملكاً، إلى أن مات (1470).
وبدأ في الوقت نفسه كريستيان الأول (1448 - 1481) أسرة(22/258)
ألدنبرج الحاكمة، التي حكمت الدنمرك إلى عام 1863 والنرويج إلى عام 1814. ودخلت أيسلندة في حكم الدنمرك إبان نيابة مرجريت عن الملك (1381). وقد ولى مجد تاريخ الجزيرة وأدبها، ولكنها استمرت تقدم إلى أوربا التي تمزقها الفوضى، درساً لم يلتفت إليه عن كفاءة الحكومة ونظامها.
وكانت أقوى ديمقراطية في العالم وقتذاك مستقرة في سويسرا. ونجد أن البطولة في تاريخ هذه البلاد المنيعة كانت مجسمة في الولايات، وفي عام 1291 بدأت الولايات التي تكتنفها الغابات، ويتحدث أهلوها الألمانية وهي أورى وشوتز وانترفالدن، تؤلف اتحاداً من أجل الدفاع المشترك. وأحرز الفلاحون السويسريون انتصاراً تاريخباً على جيش آل هبسبرج في مورجارتن (1315)، فاحتفظ الاتحاد باستقلال حقيقي بينما اعترف بالسيادة الاسمية للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأضيفت إلى الاتحاد ولايات جديدة: لوسون (1332) وزيورخ (1351) وجلاروس وزج (1352) وبرن (1353)، وأصبح اسم ولاية شوتز يطلق على الجميع عام (1352). وشجعت الحدود الجغرافية على الاستقلال الذاتي وقبل الاتحاد اللغات الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية وطرائق كل منها تبعاً لانحدار أوديتها ومجارى أنهارها، فاحتفظت كل ولاية بإصدار قوانينها بواسطة مجالس ينتخبها المواطنون. وتراوح تمثيل الحرية بين ولاية وأخرى ومن عصر إلى عصر، ولكن جميع الولايات خضعت لسياسة خارجية موحدة وحل منازعاتها بواسطة مجلس اتحادي. ومع أن الولايات يحارب بعضها بعضاً، فإن دستور الاتحاد أصبح وظل مثالاً موحياً بالاتحاد-اتحاد أقاليم تستمتع بالحكم الذاتي تحت أجهزة وقوانين اختيرت بحرية.
وتطلب دفاع الاتحاد عن حريته تدريباً عسكرياً لجميع الذكور وخدمة عسكرية عند الطلب، يتقدم بها جميع الرجال بي العاشرة والستين وأصبح(22/259)
المشاة السويسريون، المسلحون بالحراب والمدربون على النظام الدقيق، أكبر جيش مخوف باهظ التكاليف في أوربا. ورأت الولايات أن تقصد في دخلها، فأجرت فرق جيشها للدول الأجنبية، وجعلت "البسالة السويسرية حيناً من الزمن سلعة تجارية. ولبث الأمراء النمسويون، يدعون لأنفسهم حقوقاً إقطاعية في سويسرا، وحاولوا الحصول عليها أحياناً، فقضى على هذا الادعاء سمباتش (1386) وتافلس (1388)، بمعارك تستحق الذكر في تاريخ الديمقراطية. وأكدت معاهدة كنستانس عام 1446 مرة أخرى، حرية سويسرا الفعلية وولاءها الاسمي الإمبراطورية الفعلية.
3 - ألمانيا تتحدى الكنيسة
كانت ألمانيا أيضاً اتحاداً، ولكن الأجزاء التي تألفت منها، لم تكن تحكم بواسطة مجالس ديمقراطية، وإنما بواسطة أمراء مدنيين أو دينيين، يعترفون بولاء محدود، فقط لرأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وحكم بعض هذه الولايات مثل بفاريا ووتنبرج وثورنجيا وهي وناسو وميس وسكومونيا وبرندنبرج وكارنثيا والنمسا والبلتنيان-دوقات أو كونتات، أو مرغيرفات (1) أو غيرهم من السادة المدنيين، بينما خضعت ولايات أخرى-مثل مجديبرج ومينز وهال وبامبرج وكلونيا وبريمن وستراسبورج وسالزبورج وتربيه وبازل وهلديشين-من الناحية السياسية بدرجات متفاوتة، لأساقفة أو رؤساء أساقفة، وما وافت سنة 1460، حتى كانت حوالي مائة مدينة قد حصلت على مواثيق تحررها بالفعل من حكامها المدنيين أو الدينيين. ويوجد في كل إمارة مندوبين عن الطوائف الثلاث-النبلاء ورجال الدين والعامة-يجتمعون بين حين وآخر في مجلس إقليمي، يحدد عن طريق المال سلطة الأمير. وأرسلت الإمارات والمدن الحرة ممثلين لها إلى الريخستاج أو المجلس الإمبراطوري. وكان يدعى مجلس خاص هو كرفير ستنتاج
_________
(1) المرغريفات: لقب ألماني.(22/260)
أو مجلس المنتخبين، لاختيار الملك، وجرى العرف أن يتألف من ملك بوهيميا ودوق ساكسونين ومارجريت Margrave براندنبرج وكونت بلاتين ورؤساء أساقفة منيز وترير وكولونيا. وكان اختيارهم يسفر عن تنصيب ملك، ويصبح رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، عندما يتوجه البابا، ومن ثم فلقبه قبل التتويج هو "ملك الرومان" والأصل أن يتخذ عاصمة في نورمبرج، وكثيراً ما يتخذها في مكان آخر، حتى في براغ. وارتكز سلطانه على العرف والسمعة، اكثر من اعتماده، على الممتلكات أو القوة، وليست له من الأرض سوى أملاكه الخاصة باعتباره أميراً إقطاعياً مثل كثيرين غيره، وكان يعول على ريخستاج أو الكوفير ستنتاج للحصول على الأموال لإدارة حكومته أو شن الحرب، ولقد فرض هذا التعويل على رجال قادرين من أمثال شارل الرابع أو سيجسمند، سقواً مهيناً في الشؤون الخارجية. وقضى الباباوات الأقوياء في القرن الثالث عشر على أسرة هوهنستوفن، فأنهك ذلك الإمبراطور الرومانية المقدسة التي أنشأها (800) البابا ليو الثالث وشارلمان. أما في عام 1400 فقد كانت ارتباطاً واهياً من ألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولنده وسويسرا.
وبعث الصراع بين الإمبراطورية والبابوية، عندما أختار يوم واحد من عام 1314، فريقان متنازعان من المنتخبين لويس أمير بافاريا وفردريك صاحب النمسا، ملكين متنافسين واعترف البابا يوحنا الثاني والعشرون، من مقره البابوي في الأفنيون بالاثنين كملكين، ولم يجعل أحدهما إمبراطوراً، واحتج بأنه ما دام البابا، لا يملك إلا أن يتوج الملك إمبراطوراً، فيجب أن يسمح له، أن يحكم على صحة الانتخاب، قال الحبر الطموح أكثر من ذلك، بأن إدارة شؤون الإمبراطورية يجب أن تسند إلى البابوية بين وفاة إمبراطور وتتويج آخر. وآثر لويس وفردريك الاحتكام إلى الحرب. وانتصر لويس على غريمه وأسره في موهلدورف (1322) ومن ثم ادعى(22/261)
لنفسه السلطة الإمبراطورية الكاملة. فأمره يوحنا أن يجرد نفسه من جميع الألقاب والسلطات، وأن يمثل أمام المحكمة البابوية لتلقى الحكم بعصيان الكنيسة. فأبى لويس وأصدر البابا قراراً بحرمانه (1324) وطلب إلى جمع المسيحيين في الإمبراطورية أن يخرجوا عن طاعته، وحكم بحرمان كل إقليم يعترف به ملكاً عليه. فتجاهلت معظم ألمانيا هذه المراسيم، لأن الألمان كانوا كالإنجليز، يعدون باباوات أفينيون، خدامها وخلفاء لفرنسا. ولقد بدأ الناس يرون أنفسهم، إبان ضعف العقيدة والبابوية المضطرد، وطنيين أولاً ومسيحيي بعد ذلك. واضمحلت الكاثوليكية، التي تتجاوز القومية، ونشأت القومية وهي بروتستنتية.
وحصل لويس في هذا المأزق على المعونة والتأييد من حلفاء متباينين. ووسمت نشرة البابا يوحنا " Pope John's Bull Cam Inter Nonnulla" (1323) بالهرطقة، القول بأن المسيح والرسل أبوا تملك العقار، وأنه وجه محكمة التفتيش، لتستدعي أمام جلستها "الفرنسسكان الروحانيين" الذين أكدوا هذا الرأي. ورد كثير من الإخوان الرهبان، الاتهام الهرطقة على البابا، وعبروا عن فزعهم المقدس من ثروة الكنيسة، ووصف بعضهم الحبر العجوز بأنه خارج على المسيحية، وقاد ميكل سيزينا، رئيس الروحانيين، أقلية كبيرة منهم، إلى التحالف الصريح مع لويس بافاريا (1324) فتشجع لويس بتأييدهم، وأصدر في مدينة ساشزينها وزن منشوراً ضد "يوحنا الثاني والعشرين"، الذي يدعي أنه البابا، واتهمه بأنه سفاح نصير للظلم، صمم على أن يقوض أركان الإمبراطورية، وطالب بأن يعقد مجلس عام، يحاكم البابا بتهمة الهرطقة.
ومما شجع الملك أكثر من ذلك، ظهور أستاذين من جامعة باريس، في بلاطه بنورمبرج وهما مرسينيوز من بادوا وجون من جاندان-وليس من شك في أن كتابهما "دفاع عن السلام" قد هاجم بابوية أفنيون، في عبارات(22/262)
أدخلت السرور على الملك: "ما الذي تجده هناك غير حشد من تجار الرتب الدينية من كل صقع؟ وماذا غير صحب المتلاعبين بالقضايا، ... وامتهان الرجال الشرفاء؟ أما أنصافهم الأبرياء فيسقط في الحضيض، إلا إذا اشترى بالمال، وردد المؤلفان أقوال الوعاظ الألبجنيين والولدنيزيين في القرن الثالث عشر، وسبقا لوثر بمائتي سنة، وكانت حجتهما أن تعتمد المسيحية، كلية على الكتاب المقدس. ويجب أن يدعى مجلس عام للكنيسة لا بواسطة البابا ولكن بواسطة الإمبراطور، وينبغي أن يحصل على موافقة الأخير في انتخاب أي حبر، والبابا مثله في ذلك مثل أي شخص آخر، عليه أن يخضع للإمبراطور.
وابتهج لويس بذلك، وصم ليذهبن إلى إيطاليا، وليوتجن إمبراطوراً، بواسطة أهل روما. وخرج في أوائل عام 1327 على رأس جيش صغير، وبعض الفرنسيسكان والفيلسوفين، اللذين استخدمهما في تأليف تصريحاته العامة. وأصدر البابا أبريل نشرات جديدة، تقضي بالحرمان على جون ومارسيليوز، وأمر لويس أن يترك إيطاليا. ولكن الفيكونت الحاكم رحب به في ميلان، وتسلم التاج الحديدي، باعتباره الملك الاسمي للمبارديا. وفي السابع من يناير عام 1328، دخل روما، وسط تهليل، جمهور ينكر إقامة البابا في أفنيون. واستقر في قصر الفاتيكان، واستدعى مجلساً للاجتماع في الكابيتول. وظهر أمام الجمع الحاش مرشحاً لتقلد التاج الإمبراطوري وأبدى الجمع موافقته الصاخبة، وفي التاسع عشر من يناير وضع على رأسه التاج المنشود، وكان الذي وضعه هو الأمور سكباراكولونا- عدو البابوية العنيد، الذي حارب قبل ذلك بقرن تقريباً بونيفاس الثامن وتوعده بالموت، والذي رمز ثانية في لحظة، إلى تحدي الدولة الناشئة، للكنيسة الآخذة في الضعف.
ولم يدر في خلد البابا يوحنا قط، وقد بلغ الثامنة والسبعين- أن يهزم-(22/263)
فأعلن حرباً صليبية ليجرد لويس من كل سلطة، وأمر الرومان، أن يطردوه من مدينتهم؛ حتى لا يقعوا تحت طائلة قرار الحرمان، وأن يعودوا إلى طاعة البابوية. فأجاب لويس بعبارات تذكر بسلفه هنري الرابع المحروم من غفران الكنيسة، فعقد اجتماعاً شعبياً آخر، وأصدر أمام الجمع مرسوماً إمبراطورياً، يتهم البابا بالهرطقة والطغيان، ويجرده من منصبه الكهنوتي، وحكم عليه بعقوبة، تقررها السلطة الزمنية. وتألفت لجنة، من رجال الدين ومن العلمانيين، بتوجيه لويس، فعينت بيتر الكورفاري منافساً على كرسي البابوية. وعكس لويس تقاليد ليو الثالث وشارلمان، فوضع التاج البابوي المثلث على رأس بيتر، ونادى به بابا نيقولاس الخامس (12 مايو 1328). ودهش العالم المسيحي، وانقسم إلى معسكرين؛ على نفس الأسس تقريباً التي قسمت أوربا بعد الإصلاح الديني.
وقلبت الأحداث المحلية الصغيرة الموقف رأساً على عقب. فقد عين لويس مارسيوز من بادوا مديراً روحانياً للعاصمة، فأمر هذا الرجل، القساوسة القليلين الذين بقوا في روما، أن يحتفلوا بالقداس كالمعتاد، على الرغم من قرار الحرمان، ثم عذب بعض الذين رفضوا، وعَرّض راهباً أوغسطينياً لجب الأسود على الكابيتول؛ فأحس كثير من الرومان بأن هذه الأعمال تحمل الفلسفة فوق طاقتها. ولم يتعلم الإيطاليون قط، حب التيتون، فلما اغتصب بعض الجنود الألمان، الطعام من الأسواق، دون أن يدفعوا له ثمناً، شبت الفتن. واحتاج لويس إلى المال لينفق على جنده وحاشيته، ففرض جزية مقدارها عشرة آلاف فلرون على المدنيين، ومبالغ مماثلة على رجال الدين واليهود. وبلغت المعارضة حداً من الخطورة جعل لويس يرى أن الوقت قد حان، ليعود إلى ألمانيا. فبدأ في الرابع من أغسطس عام 1328، انسحابه عبر إيطاليا. وفي اليوم التالي احتلت الكتائب البابوية روما، وخربت قصور الذين أيدوا لويس من الرومان، وصودرت(22/264)
أملاكهم لحساب الكنيسة. ولم يبدِ الناس مقاومة، بل عادوا إلى عباداتهم وجرائمهم.
واطمأنت نفس لويس في بيزا بلقاء نصير جديد، هو أشهر فيلسوف في القرن الرابع عشر. فقد فر وليم الأوكهامي من سجن بابوي في أنيون، وعرض على الإمبراطور خدماته قائلاً (عن رواية غير محققة) "دافع عني بسيفك وسأدافع عنك بقلمي". فأصدر كتابات قوية، ولكنه لم يستطع أن ينقذ الموقف. فقد أقصى لويس، جميع العناصر الحاكمة في إيطاليا، وكان أنصاره من الجيبلين، يأملون أن يحكموا شبه الجزيرة لمصلحتهم باسمه، فأحزنهم أن يجدوه يزعم لنفسه السلطات والمصالح جميعها، يضاف إلى ذلك أنه جعلهم يفرضون ضرائب باهظة لخزانته. وكانت قواته ضئيلة لا تناسب مزاعمه، فانصرف عنه كثير من الجيبلين حتى للفيكونت، وعقدوا مع البابا صلحاً بالشروط التي قدروا عليها. وترك منافس البابا، لموارده فاستسلم لضباط البابا الذين قبضوا عليه، وسيق أمام يوحنا الثاني والعشرين، وحبل المشنقة حول عنقه، فألقى بنفسه على قدمي البابا مستغفراً (1328). فعفى عنه يوحنا، وعانقه كضال يعود إلى الكنيسة، وحبسه مدى الحياة.
وعاد لويس إلى ألمانيا، وأرسل الوفود مراراً إلى أفنيون، تعلن سحبه لقراراته السابقة واعتذاراته، من أجل عفو البابا واعترافه. فرفض يوحنا، واستمر في الحرب إلى أن مات (1334). واستعاد لويس بعض نفوذه، عندما بدأت إنجلترا حرب المائة عام، ورغبت في محالفته، واعترف إدوارد الثالث بلويس إمبراطوراً، محيا لويس بدوره، إدوارد، باعتباره ملكاً لفرنسا. فاغتنم مجلس من الأمراء والمطارنة الألمان (في 16 يوليو سنة 1338) فرصة محالفته دولتين كبيرتين ضد البابوية، وقرر، أن اختار ملك ألماني بواسطة الناخبين الألمان، لا تبطله سلطة أخرى، وأعلن مجمع في فرنكفورت الموافقة على المين (3 أغسطس 1338) أن قرارات البابا ضد لويس(22/265)
ملغاة وباطلة. وحكم بأن لقب الإمبراطور وسلطته، متحفاً من الناخبين الإمبراطوريين، ولا يحتاجان إلى إقرار من البابا. وتجاهلت ألمانيا وإنجلترا احتجاجات البابا بندكت الثاني عشر، وبذلك سارا خطورة نحو الإصلاح الديني.
وثمل لويس بالنجاح، فقرر أن يطبق إلى أقصى حد نظريات مارسليوز، وأن يمارس السلطة الدينية والدنيوية معاً، فصرف من عينهم البابا عن صدقات الكنيسة، وعين رجاله في مكانهم، ووضع يده على الأموال التي جمعها جباة البابا من أجل حرب الصليبية، ونسخ زواج مارجريت أميرة كارينثيا-وهي وارثة معظم التيرول-وزفها إلى ابنه، على الرغم مما بينه وبينها من قرابة تجعل الزواج منها من ناحية الشريعة الكنسية باطلاً فأقسم الزوج المرفوض وهو أخوه الأكبر شارل كما أقسم أبوهما جون ملك بوهيميا أن ينتقما منه، ورأى كليمنت السادس، الذي أصبح بابا عام 1342، في هذا رفصة، ليخلص من العدو العنيد للسدة البابوية. واستطاعت الدبلوماسية البارعة أ، تكتسب ناخباً بعد آخر، إلى الرأي الذي يقول، إن السلام والأمن، لا يعودان إلى الإمبراطورية، إلا بخلع لويس وتنصيب شارل ملك بوهيميا إمبراطوراُ، وتعهد شارل بطاعة أوامر البابا، في مقابل تأييده. وفي يوليو عام 1346 اجتمع مجلس ناخبين في رنز، وقرر بالإجماع، أن يكون شارل ملكاً على ألمانيا. وأخفق لويس في أن يجد، أذناً صاغية في افنيون لإلحاحه بالخضوع للبابا، فأعد العدة للحرب حتى الموت دون عرشه، وكان أثناء ذلك مشغوفاً بالصيد وقد بلغ الستين من عمره، وسقط عن جواده وقتل (1347).
وأحس شارل الخامس الحكم، ملكاً وإمبراطوراً. وكرهه الألمان لأنه جعل براغ عاصمة الإمبراطورية، ولكنه أصلح الإدارة في ألمانيا، كما فعل في موطنه، وأمن التجارة والمواصلات، وأنقص الضرائب، واحتفظ بعملة(22/266)
مستقرة، وأمد الإمبراطورية كلها بجيل من الناس ينعم بسلام نسبي. وفي عام 1356، نال شهرة فيها قدر من المغالطة في التاريخ، بإصدار سلسلة من القوانين عرفت "بالنشرة البابوية الذهبية"-وإن كانت قليلاً من كثير من الوثائق تحمل الخاتم الإمبراطوري الذهبي. لعله اقتنع بأن غيابه الطويل عن ألمانيا يتطلب مثل هذا الإجراء، فقد منح الناخبين السبعة سلطات تكاد تمحو سلطة الإمبراطور. وكان على الناخبين أ، يجتمعوا سنوياً ليصدروا التشريعات الخاصة بالمملكة، والملك أو الإمبراطور، مجرد رئيس لهم ويدهم المنفذة. وكانوا في ولاياتهم يملكون السلطة القضائية الكاملة، وملكية المناجم والمعادن الكامنة في الأرض، والحق في ضرب السكة الخاصة بهم، وزيادة الدخل إلى جانب الحق المقيد في إعلان الحرب وإبرام معاهدات السلام. وكانت هذه النشرة بمثابة إقرار ثانوي للحقائق الواقعة، فحاول شارل أن نشئ بواسطتهم اتحاداً تعاونياً من الإمارات. ومع ذلك فقد شغل الناخبون بشئونهم الإقليمية، وأهملوا مسئولياتهم باعتبارهم يؤلفون مجلساً إمبراطورياً، حتى أن ألمانيا ظلت إمبراطورية بالاسم فقط. وقد هيأ الاستقلال المحلي للناخبين على هذا النحو لناخب سكسونيا أن يحمي لوثر، وما أعقب ذلك من انتشار المذهب البروتستانتي.
وحافظ شارل في شيخوخته على ولاية العهد الإمبراطوري لابنه بواسطة الرشوة بالجملة (1378) وتحلى ونسسلوس الرابع ببعض الفضائل، ولكنه كان يدمن الشراب ويحب موطنه الأصلي، فكرة الناخبون منه ذلك وخلعوه (1404). مؤثرين عليه روبرت الثالث الذي يخلف أثراً يذكر في التاريخ. واختير سيجموند أمير لكسمبورج ملكاً على المجر (1387) وهو في التاسعة عشرة من عمره، وانتخب عام 1411 ملكاً على الرومان وسرعان ما حصل على لقب الإمبراطور. وكان رجلاً ذا ملكات منوعة، جذاباً،(22/267)
جميلاً مغروراً وكريماً محبوباً وقاسياً في بعض الأحيان وثقف لغات متعددة وكلف بالأدب لا يفضل عليه سوى النساء والسلطان. وربما مهدت نياته الطيبة له موضعاً صغيراً في جهنم، ولكن شجاعته كانت تخونه في الأزمات. ولقد حول مخلصاً أن يصلح مساوئ الحكومة الألمانية ويقضي على أسباب ضعفها، وأصدر بعض القوانين الصالحة، ونفذ قليل منها، بيد أن الناخبين أحبطوا مساعيه، باستقلالهم الذاتي ومحافظتهم على ما ألفوه وعدم رغبتهم في الإسهام بنصيبهم في نفقات صد هجمات الترك المتقدمين. وأوقف في أعماله الأخيرة ماله ونشاطه على محاربة الهوسيين في بوهيميا. ولما توفي (1437) بكت أوربا فيه، رجلاً كان يمثل التقدم الأوربي فترة من الزمن وإن أخفق في لك شيء إلا الكرامة.
ولقد أوصى شارل الناخبين في بوهيميا والمجر وألمانيا أن يختاروا زوج ابنته، ألبرت أمير هبسبورج. ونعم ألبرت الثاني بالتيجان الثلاثة، ولكنه مات بالدوسنطاريا قبل أن تتفتح قدراته، وفي حملة ضد الأتراك (1440). ولم يخلف ابناً، ولكن الناخبين، اختاروا للتاجين الملكي والإمبراطوري، شخصاً آخر من آل هبسبورج هو فريدريك أمير ستيريا، ومنذ ذاك وقع اختيارهم مراراً على أمير من آل هبسبورج، حتى أصبح السلطان الإمبراطوري في واقع أمره، ملكاً وراثياً، في هذه الأسرة الموهوبة الطموح. وجعل فريدريك الثالث، النمسا، دوقية كبرى، واتخذ آل هبسبورج فينا عاصمة لهم، وأصبح المفروض أن يكون ولي العهد، هو الدوق الأكبر للنمسا، ودخلت الصفة الوراثية في الأخلاق النمساوية والفيناوية كمقوم نسائي رشيق يمتزج بخشونة الشمال المذكرة في نفس التيوتونية.(22/268)
4 - المتصوفة
لقد غرس القرنان الرابع عشر والخامس عشر بذور الإصلاح الديني: وكابد لويس ملك بافاريا وويكليف في انجلترا وهس في بوهيميا، التجربة قبل لوثر وهنري الثامن وكالفن ونوكس وأصبحت ثورة رجال الدين المتزايدة في اسكندناوة والمعفاة من الضرائب عبئاً ثقيلاً على الشعب الحكومة وزعم النقاد أن الكنيسة كانت تملك نصف أراضي الدنمارك، ولها الحق الإقطاعي على كوبنهاجن نفسها. ونزر النبلاء بحسم مشئوم، إلى أملاك لا يحميها إلا العقيدة بل إن المسيحيين المحافظين كانوا ضد الكهنوت. أما في سويسرا فقد كان الاستقلال الأشم للولايات تمهيداً لظهور زونجلي وكالفن. وفي عام 1433 طردت مجديبرج، كبير أساقفتها وهكهانها، وانتقضت بمبرج على حكم الأساقفة، وحاصرت باسو أسقفها في قلعته. وفي عام 1449، وجه أستاذ في جامعة أرفورت (حيث قدر للوثر أن يدرس) إلى البابا نيقولاس الخامس، دفاعاً عن مجالس العامة باعتبارها أعلى سلطة من الباباوات. وانتشرت أصداء من ثورة الهوسيين المجاورة، إلى ألمانيا بأسرها، وحافظت الجماعات الولدنيزية، هنا وهناك، سراً على الهرطقة القديمة والأطماع الشبيهة بالشيوعية. واتجه الورع نفسه إلى تصوف يقترب من الهرطقة.
وأجمع التصوف عند جوهانس إيكهارت، مذهباً من مذاهب وحدة الوجود، لا يعبأ بالكنيسة، ويكاد يتجاهل القانون الديني المحدود. وكان هذا الراهب الدومينيكي على حظ من العلم جعل لقب "أستاذ" جزءاً من اسمه. وصيغت كتاباته الفلسفية بلغة لاتينية متحذلقة، ولو أنها كانت كل أثاره، لما بلغ حظاً من الشهرة أو الخطر. ولكنه كان يدعو بلغة ألمانية منظومة من ديره في كولونيا، إلى مذهبه الجريء في وحدة الوجود مما(22/269)
عرضه لمحكمة التفتيش. واتبع ديونيس الأريوفاغيظ (1) وجوهانز سكوتس ارجينا، فجهد للتعبير عن حسه الغلاب بباله موجود في كل مكان. وهذا الإله غير المحدود، لم يتصوّره إيكهارت، شخصاً أو روحاً، ولكنه وحدة مطلقة خالصة ... هوة بلا كيفية ولا شكل، للإله الصامت الواسع ... حيث لا يرى قط خلاف، لا أب ولا ابن ولا روح القدس، حيث لا يوجد واحد في داره، ولكن حيث تكون جذوة النفس في سلام أكثر مما تكون مع نفسها. ولا يوجد بصفة أساسية سوى هذا الإله الذي لا شكل له ... "الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله. إن الأب ينجيني بلا توقف، فأكون ابنه. وأنا أقول أكثر من ذلك: إنه يُنْجِبُ في ذاتهِ، وفي ذاته ينجبني. والعين التي أرى بها الله هي العين ذاتها التي أرى الله بها ... وعيني وعين الله عين واحدة".
وفي كل فرد قطعة من الله، وعن طريقها تستطيع الاتصال به مباشرة وتستطيع أن تكون ذاته. لا عن طريق شعيرة الكنيسة، ولا حتى عن طريق الكتاب المقدس، ولكن عن طريق هذا الوعي الكوني وحده تستطيع النفس أن تقترب وأن ترى الله. وكلما تجرد الفرد من أغراضه الذاتية والدنيوية، كلما أصبحت هذه الجذوة الإلهية أكثر شفافية وأحد بصراً حتى يكون الله والنفس واحد آخر الأمر، و "نتحول كلية إلى الله". فليست الجنة والأعراف والجحيم أماكن، ولكنها أحوال النفس .. فالافتراق عن الله هو الجحيم، والاتحاد معه هو الفردوس. واشتم كبير أساقفة كلونيا من هذه الأقوال رائحة الهرطقة، فدعا إيكهارت للمحاكمة (1326) فأكد الرجل صحة محافظته على العقيدة واقترح أن يحكم على أقواله باعتبارها مبالغات أدبية، ومع ذلك فقد أدانه الأسقف. فاستأنف الراهب الحكم إلى
_________
(1) قاضي بمحكمة يونانية عليا قديماً.(22/270)
البابا يوحنا الثاني والعشرين ثم تخلص من المحرقة بالموت في الوقت المناسب (1327).
وانتشر تأثيره على يد تلميذين دومينكيين عرفا كيف يحتفظان بمذهبه وفي وحدة الوجود في نطاق أمين. فقد عذب هانيريخ سوسو نفسه، ست عشرة سنة، في زهادة صارمة، وحفر اسم المسيح في لحمه على قلبه؛ وزعم أنه تلقى في فمه دماً من جراح المسيح، وألف كتيبه في "الحكمة الخالدة" باللغة الألمانية. لأن الله كما قال، أوحاه إليه بهذه اللغة. أما جوهانزتولر فقد وصف ديكهارت بأنه "أستاذه الأقدس" ودعا في ستراسبورج وبازل إلى مذهب الاتحاد الصوفي بالله. ونسب لوثر إليه كتاباً عنوانه علم اللاهوت الألماني، وكان تأثير هذا الكتاب، في عميقاً، ببساطة معتقده: الله، المسيح، الخلود.
ونظرت الكنيسة بشيء من الاهتمام إلى المتصوفة الذين تجاهلوا أغلب تعاليمها، وأهملوا شعائرها وزعموا الوصول إلى الله بلا استعانة من القصص أو الأسرار المقدسة. وهنا نجد مبادئ الإصلاح الديني بحكم الفرد على نفسه، وكل إنسان في ذاته قسيس، وليس التبرير في الأعمال الطيبة ولكنه في العقيدة السامية. وفي رأي الكنيسة أن الإيحاءات الخارقة قد تأتي من الشياطين والمجاذيب كما تأتي من الله والقديسين، وأن الأمر يحتاج إلى إرشاد صارم يحفظ الدين من التحلل إلى الفوضى تتألف من ديانات وعلوم دين فردية. ولا يزال هذا الخلاف في الرأي يقسم المخلصين.
5 - الفنون
طال مكث الطراز القوطي في ألمانيا، بعد أن أخلى مكانه، في إيطاليا وفرنسا، لمؤثرات عصر النهضة الكلاسية بأمد طويل. وهو الآن يتوج المدن المزدهرة في أوربا الوسطى بكنائس، لم تبلغ في جلالها المهيب ما بلغته المزارات العظيمة في فرنسا، وهي مع ذلك ترفع الروح بجمالها الهادئ(22/271)
وروعتها غير المتكلفة. ولقد بدأت إبسالا تشيد كاتدرائيتها عام 1287، وفرايبورج السكسونية عام 1283، وأولم عام 1377 (وبها أعلى برج قوطي في العالم) وشرعت فينا في بناء كاتدرائية القديس ستيفن 1304، وسترولزيند كنيسة السيدة مريم عام 1382، ودانزرج كنيسة أخرى للسيدة مريم عام 1425. وأضافت أخن وكلونيا موضع المرتلين في كاتدرائيتهما، وأتمت ستراسبورج "الموسيقى المجمدة" الخاصة بكتدرائيتها عام 1439، وشيدت أكزانتن كنيسة القديس فيكتور الجامعية الأنيقة، وقد خربتها الحرب العالمية الثانية. واعتزمت نورمبرج بأربع كنائس مشهورة، تصقل التقوى بالفن والذوق. وتدين كنيسة لورنز (1278 - 1477) إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ببابها الفخم ونافذتها المستديرة المتلألئة. وكانت كاتدرائية القديس (1304 - 1476) ستيفن معلماً محبباً، فإن سقفها المنحدر يغطي صحن الكنيسة ومماشيها بقنطرة واحدة، وأسقطه إله الحرب عام 1945. وأعيد عام 1309 بناء مماشي كنيسة سبالدوس وأقيم فيها عام 1361 مكان جديد للمرتلين، وتم حوالي عام 1948 بناء أبراجها الغربية وركب بين عامي 1360، 1510 زجاجها الملون البديع. وزودت كنيسة السيدة مريم (1355 - 1361)، بدهليزها المزين بكثير من التماثيل، وأصبحت أثراً بعد عين في الحرب العالمية الثانية، ولكنها أعيدت إلى ما هي عليه، وفي كل يوم عند الظهيرة تنحني بلا كلل تماثيل الناخبين الأربعة، في الساعة المشهورة بالواجهة أمام شارل الرابع، اعترافاً بجميل دستوره المشهور. وكان فن النحت لا يزال ساذجاً، بيد أن الكنائس في برسلاو وهالجارتن وكنيسة سيبالدوس في نورمبرج، كانت تتلقى تماثيل خشبية أو حجرية للعذراء من بعض النبلاء.
ولم تجمل المدن كنائسها فحسب وإنما جملت أيضاً مبانيها العامة وحوانيتها ودورها. وقامت وقتذاك تلك الدور، هرمية السقف المعرش نصفها(22/272)
بالخشب، التي تكسب المدن الألمانية، فتنة مشوقة توحي بجو القرون الوسطى، للعيون العصرية المثالية. وكانت "دار المجلس مركز الحياة الدينية، وهي ملتقى النقابات الكبيرة أحياناً، وقد تحمل حوائطها صوراً جدارية، وكانت أعمال الخشب فيها تحفر عادة بما عرف عن التيوتون من عزم وقوة. وللبهو الكبير في دار المجلس بمدينة نريمن (1410 - 1450) سقف من جذوع الخشب المنقوش، وسلم محوى بأعمدة وحاجز من الخشب المنقوش، وثريات مزخرفة على شكل سفن. ولقد خربت دور المجالس الآتية في الحرب العالمية الثانية: مجلس كلونيا (1360 - 1571) عقد فيه الاجتماع العام الأول للاتحاد الهنسياتي، ومجلس منستر (1335)، حيث أبرمت معاهدة وستفاليا، ومجلس برنزفيك وهي من دور القرن الرابع عشر من المجالس البلدية التي على الطراز القوطي، وفرنكفورت-على-المين (1405) حيث دعا الناخبون إمبراطوراً جديداً لتناول طعام الغداء. وفي مارينبورج، شيد أشياخ الشعب التيوتوني قصرهم الألماني الضخم (1309 - 1380). وقد واجهت دار البلدية كنيسة سيبالدس في نورمبرج، وشيدت (1340) لكي تسع جميع أعضاء ريشستاج الإمبراطورية، ثم رمم ست مرات، فلم يبقَ منه إلا القليل من طابع القرون الوسطى في الشكل. وأقام هبفرتش بارلو، وهو مثال من براج، في ميدان السوق أمام كنيسة العذراء، النبع الجميل (1361) الذي تكثر فيه تماثيل أبطال وثنيين ويهود ومسيحيين وتجسم نورمبرج في القرون الثلاثة بين عامي 1250، 1550 بتماثيلها وكنائسها وعماراتها المدنية، الروح الألماني في أوجه وكماله. وكانت طرقاتها الملتوية في أغلبها ضيقة غير مرصوفة، ومع ذلك فقد كتب بابا المستقبل بيوس الثاني عن نورمبرج.
"عندما يأتي المرء من فرانكونيا السفلي، ويرى هذه المدينة المجيدة، فإن فخامتها تبدو بحق. فإن دخلها، تأكدت مشاعره الأولى بجمال(22/273)
الطرقات وتناسب المنازل، والكنائس .. جديرة بالعبادة جدارتها بالإعجاب. وتسيطر القلعة الإمبراطورية بشموخها على المدينة، وكأنما بنيت دور نواب المقاطعة للأمراء. والحق أن ملوك اسكتلندة يسرهم أن يسكنوا بيوتاً مترفة كالتي يسكنها المواطن العادي في نورمبرج".
أما الفنون الصناعية الصغرى والصناعية في المدن الألمانية، على الخشب والعاج والنحاس والبرونز والحديد والفضة والذهب، فقد بلغت وقتذاك النضج الكامل لنموها في القرون الوسطى. وأنتج الفنانون والنساجون أقمشة مزركشة رائعة تعلق على الحوائط، كما مهد النقاشون على الخشب الطريق لديرر وهولبين، وزين المنمنمون المخطوطات عشية ظهور الطباعة على يد جوتنبرج، ونقش العاكفون على زخرفة الخشب، الأثاث الفخم، وصاغ سباكو الحديد، للكنائس، في القرن الخامس عشر، نواقيس لا مثيل لها في رخاصة حليها. ولم تكن الموسيقى فناً فحسب، ولكنها كانت نصف حياة الفراغ في المدن. ومثلت نورمبرج وغيرها من المدن حفلات تنكرية عظيمة تتألف من التمثيليات والأغاني الشعبية. ولقد عبرت الأغنية الشعبية عن أحاسيس الشعب الدينية أو الغرامية. وشنت الطبقات الوسطى هجوماً جماعياً على مشكلات تعدد الأنغام، ونافست النقابات في تأليف فرق الغناء الجماعي الضخمة، وأخذ القصابون والدباغون وسباكو النواقيس وغيرهم من الرجال الأقوياء يتبارون للحصول على جائزة المغنى الأول في دورات إنشائية صاخبة وأسست أول مدرسة للمغنيين الأوائل في مينز عام 1311، ونشأـ غيرها في ستراسبورج وفرنكفورت على المين وويرزبرج وزيورخ وأوجزبرج ونورمبرج وبراغ. أما الطلاب الذين ينجحون في الحصول على الإجازات الأربع وهي دارس وصديق مدرسة وشاعر ومغن فيمنحون لقب أستاذ. وهبط العنصران الروماني والمثالي إىل الأرض عند(22/274)
النسبيين%=@النسبيون هم الشعراء الألمان الغنائيون الذين شاع مذهبهم من 1150 - 1350م. @ لما حمل نواب المقاطعات الألمان الأغنية، واقعيتهم الشهوانية.
وإذا سيطرت الطبقة التجارية على المدن، فإن جميع الفنون ما عدا عمارة الكنائس، تتخذ اتجاهاً واقعياً. وكان الجو بارداً ورطباً في الغالب لا يشجع على العري، ولم تجد عبادة الجسم أو الكبرياء الجسمي موطناً ملائماً هنا كما كان الحال في إيطاليا إبان عصر النهضة أو في بلاد الإغريق. ولما رسم كونراد وتز الكنستانسي "سليمان وملكة سبأ" ألبسهما وكأنهما يعيشان على جبال الألب في فصل الشتاء. ومع ذلك فقد كان في حوالي عشرة مدن مدارس تصوير في القرن الخامس عشر: ألم وسالزبرج وفرنكفورت وأوجزبرج وميونخ ودرستاد وبازل وأخن ونورمبرج وهمبورج وكولمبار وكولونيا، وبقيت إلى الآن نماذج من هذه المدارس جميعاً ونحن نقرأ في أخبار 1380: "كان في كولونيا في هذا الوقت مصور مشهور اسمه ولهلم، لا يوجد له مثيل في طول البلاد وعرضها. ولقد رسم رجالاً ببراعة يخيل للرائي معها أنهم أحياء" وكان الأستاذ ولهيلم واحداً من كثيرين "على الفطرة". ولقد أنشأ الأستاذ برترام والأستاذ فرانك وأستاذ سانت فيرونيكا وأستاذ مذبح هسترباكر-تحت التأثير الفلمنكي في الغالب نظاماً للتصوير المشترك في ألمانيا، ورسموا موضوعات الإنجيل التقليدية بعاطفة دينية، يمكن إرجاعها إلى إيكهارت والمتصوفة الألمان الآخرين.
وتنتهي بالمصور ستيفن لوكنر، الذي مات في كولونيا عام 1451، هذه المرحلة التمهيدية للتطور، وبذلك نصل إلى أوج المدرسة الأولى. وتعد صورته "عبادة المجوس" مفخرة كاتدرائية كولونيا، وهي تضارع معظم الصور التي أنشئت قبل منتصف القرن الخامس عشر؛ ففيها عذراء جميلة متواضعة معتزة بنفسها في وقت واحد، وطفل مبتهج وحكماء الشرق وهم ألمانيو السحنة ولكنهم حكماء بحق. وتأليفها تقليدي، وتلوينها ناصع بالأزرق(22/275)
والأخضر والذهبي. وفي "عذراء وردة التكعبية وعذراء البنفسج"، صورت الأمهات الشواب المثاليات الألمانيات، ذوات الجمال الرقيق الرصين. بكل ما في إن القرون الوسطى من حِرْفية، تتجه بوضوح إلى التجديد. فقد كانت ألمانيا على أعظم عصورها.
6 - جوتنبرج
ما الذي وضع نهاية للعصور الوسطى؟ أسباب كثيرة أخذت تعمل حلال ثلاثة قرون: فشل الحروب الصليبية، وزيادة معرفة أوربا الناهضة بالإسلام، والاستيلاء على القسطنطينية، وبعث الثقافة الكلاسية الوثنية، وانتشار التجارة بفضل رحلات أسطول هنري الملاح وكلولمبس وفاسكو دا جاما، ونشأة الطبقة التجارية التي مولت مركزية الحكومة الملكية، وتقدم الدولة القومية، متحدية سلطة الباباوات التي تعلو على القومية، وثورة لوثر الموفقة في وجه البابوية، والطباعة.
ولقد كان التعليم كله تقريباً، قبل جوتنبرج، في يد الكنيسة ... وكانت الكتب باهظة الثمن، والنسخ مجهداّ وغير معتنى به أحياناً. واستطاع قليل من الكتاب الاتصال بجمهور كبير ولكن بعد وفاتهم، وكان عليهم أن يكسبوا عيشهم من التعليم، أو الانخراط بفرقة من فرق الرهبان، أو بمعاش يجريه الأغنياء أو صدقات يحصلون عليها من الكنيسة. ويدفع ناشرو كتبهم، النزر اليسير لهم، أولاً يدفعون لهم شيئاً على الإطلاق، بل إذا وجد ناشر يدفع لهم، فإن حق الطبع لم يكن مكفولاً لهم، إلا بمنحة بابوية بين حين وآخر. وكانت المكتبات كثيرة، وأن تكن صغيرة، وكانت الأديرة والكاتدرائيات والكليات وبعض المدن مجموعات متواضعة قلما تزيد على ثلثمائة مجلد، وحفظت الكتب عادة داخل الجدران، وربط بعضها بالسلاسل في المقارئ أو الأدراج. وكان لشارل الخامس ملك فرنسا(22/276)
مكتبة مشهورة بحجمها-910 مجلدات، ولهمفري، دوق جلوسستر 600 مجلد، وربما كانت مكتبة الدير بكنسية السيد المسيح في كنتربري، تضارع في الكبر أي مكتبة خارج حدود الإسلام، وضمت 3. 000 مجلد، عام 1300. وكانت خير مكتبة عامة في إنجلترا هي مكتبة ريتشارد دي بوري سانت ادموندز، الذي سجل غرامة بكتبه في رسالة "حب الكتب" (1345)، وجعل هذه الكتب تشكو من سوء المعاملة التي لقيتها من "ذلك الحيوان من ذوات الساقين الاثنين المسمى امرأة"، الذي أصر على أن تستبدل بها التيل الرقيق أو الحرير.
وزاد الطلب على الكتب بكثرة المدارس وانتشار القراءة ورأت طبقات رجال الأعمال، القراءة مفيدة في شئون الصناعة والتجارة، وفر نساء الطبقتين الوسطى والعليا، بواسطة القراءة، إلى عالم الخيال، يستعضن به عن دنيا الواقع، وما إن جاء عام 1300 حتى كان الوقت الذي لا يستطيع فيه القراءة غير رجال الدين قد ولى أو كاد، وأدى هذا الإقبال المتزايد إلى ظهور جوتنبرج أكثر من أي شيء آخر، حتى عن زيادة مقدار الورق وظهور مداد زيتي. ولقد أحضر المسلمون صناعة الزورق إلى أسبانيا في القرن العاشر، وإلى صقلية في القرن الثاني عشر، وانتقلت إلى إيطاليا في الثالث عشر، وإلى فرنسا في الرابع عشر، وكانت صناعة الورق قد بلغ عمرها قرناً من الزمان عندما جاءت الطباعة. ولما صار ارتداء التيل مألوفاً في أوربا في القرن الرابع عشر، اتخذت صناعة الورق مادتها الرخيصة من خرقه المنبوذة، فهبط سعر الورق وتهاونت سهولة الحصول عليه مع انتشار القراءة، على تقديم مادة الكتب المطبوعة وتسويقها.
أما الطباعة نفسها فكانت كالآثار المطبوعة، أقدم من المسيحية فقد طبع البابليون على الآجر حروفاً أو رموزاً، وطبع الرومان وشعوب كثيرة أخرى على النقود، والخزانون على أوانيهم، والنساجون على الأقمشة، ومجلدو الكتب على أغلفتها، واصطنع كل رجل من الأعيان، في العصور(22/277)
القديمة أو الوسطى، الطباعة، كلما وقع الوثائق بخاتمه، واستخدمت وسائل مماثلة في الخرائط وأوراق اللعب. ويرجع تاريخ الطباعة الحجرية-وهي كتب من لخشب أو المعدن تنقش عليها كلمات أو رموز أو صور-في الصين واليابان إلى القرن الثامن، وربما قبل ذلك. ولقد طبع الصينيون بهذه الطريقة، عملة ورقية، في القرن العاشر أو قبله. وظهرت الطباعة الحجرية في تبريز عام 1294، وفي مصر حوالي 1300، ولكن المسلمين فضلوا النسخ بالخط على الطباعة، ولم يعملوا في هذه الحالة، كما في أحوال كثيرة أخرى، على نقل التقدم الثقافي من الشرق إلى الغرب.
واستعملت طباعة الحروف-وهي الطبع بحرف منفصل متحرك-في الصين منذ عام 1041 - ولقد استخدم وانج تشن عام 1314 حوالي ستين ألف حرف خشبي متحرك، ليطبع كتاباً واحداً في الزراعة، وحاول أول الأمر استخدام حروف طبع معدني، ولكنه وجد أنها لا تستوعب المداد في يسر كالخشب. وكان الحرف المطبعي المتحرك، مع ذلك، قليل التيسير أو الفائدة، للغة أبجدية لها ولكنها تضم أربعين ألف حرف منفصل، ولذلك، ظلت الطباعة الحجرية هي المألوفة في الصين إلى القرن التاسع عشر. وفي عام 1403 طبع إمبراطور كوري، عدداً كبيراً من المجلدات، بواسطة حروف معدنية متحركة، وكانت الحروف تحفر على خشب صلب، وصبت قوالب من عجينة الخزف على تلك النماذج، وفي هذه القوالب صيغت الحروف المعدنية.
أما في أوربا فربما ظهرت الطباعة بالحروف المتحركة في هولندة أولاً. وهي ليست قبل عام 1569، طبقاً للروايات الهولندية. وطبع لورنس البارلمي، كتيباً في الدين بالحروف المعدنية المتحركة عام 1430، بيد أن هذا الشاهد غير محقق. ولم يسمع شيء غير ذلك في هولندة، عن الحروف المتحركة، حتى عام 1473، عندما أقام ألماني من كولونيا، مطبعة(22/278)
في أترخت. ولكن هؤلاء الرجال كانوا قد تعلموا فن الطباعة في منيز.
وولد جوهان جوتنبرج هناك لأسرة ثرية حوالي عام 1400 واسم أبيه جتر فليش ومعناه لحم الأوزة، وآثر جوهان لقب أمه. وعاش معظم سنواته الأربعين الأولى في ستراسبورج، وبيد أنه قام هناك بتجارب في قطع الحروف المعدنية وصبها. وأصبح حوالي عام 1448 مواطناً في مينز. وفي الثاني والعشرين من أغسطس عام 1450 تعاقد مع جوهان فست، وهو صائغ غني، رهن له بمقتضى ذلك العقد، مطبعته في مقابل دين مقداره 800 جلدر، بلغ بعد ذلك 1. 600 جلدر "وربما كان جوتنبرج هو الذي طبع صك غفران، أصدره نيقولا الخامس عام 1451، ولا تزال باقية منه نسخ متعددة، تحمل أقدم تاريخ طبع وهو عام 1454. وقاضى فست جوتنبرج مطالباً إياه بسداد الدين عام 1455، فعجز عن الوفاء وتنازل عن مطبعته. واستمر فست في إدارة المؤسسة مع بيتر سكوفر، الذي استخدمه جوتنبرج صفاً للحروف. ويعتقد البعض أن سكوفر هو الذي طور وقت ذاك، الأدوات الجديدة وفن الطباعة: "مِجْوب" جامد في الصلب المنقوش لكل حرف ورقم وفاصلة، وبيت معدني لتلقي المجاوب، وقالب معدني أيضاً لصف البيوت والحروف في سطر.
وفي عام 1456، أقام جوتنبرج، بمال اقترضه مطبعة أخرى، ومنها أصدر، في تلك السنة أو التي تليها، ما اعتبر بصفة عامة أول كتاب له، مطبوع بالحروف المعدنية المتحركة، وهو النسخة المشهورة الجميلة المنسوبة لجوتنبرج من الكتاب المقدس-وهي مجلد ضخم في 1. 282 صحيفة من القطع الكبير على عمودين. وفي عام 1462 حاصرت جنود أدولف أمير ناسو، مدينة مينز، ففر الطباعون، فنشروا بذلك الفن الجديد، في أنحاء ألمانيا. ولما جاء عام 1463 كان هناك طباعون في ستراسبورج وكولونيا وبازل وأوجزبرج ونورمبرج وإلم. وأما جوتنبرج، وكان أحد الفارين، فقد أقام(22/279)
في إلتفيل، حيث واصل طباعته. وجاهد الأزمات المالية المتلاحقة، حتى تصدق عليه أدولف (1465) بمنحه تضمن له دخلاً يحميه غوائل الدين. ومات بعد ذلك بثلاث سنوات.
وليس من شك في أن حروف الطبع المتحركة، كان لا بد أن تظهر على يد غير جوتنبرج لو لم يولد، إذ دعت إليها، حاجة العصر الملحة، وهذا يصدق على معظم المخترعات. ولقد كتب جويوم فيشيه الباريسي، وهو من أهل باريس عام 1470، رسالة يعبر فيها عن الترحيب الحماسي الذي قوبل به الاختراع وهو يقول: "لقد اكتشف في ألمانيا طريقة جديدة مدهشة لإنتاج الكتب، ولقد حصل حذاقها فنهم، في مينز ومنها نشروه في العالم ... ولسوف ينتشر نور هذا الاكتشاف من ألمانيا، حتى يعم جميع أنحاء الأرض. ولم يرحب به كل الناس. فقد احتج النساخون بأن الطباعة ستقضي على أسباب معاشهم، وعارضته الطبقة العليا بحجة أنه ابتذال آلي، وخشوا أن يقلل من قيمة مكتباتهم الخطية، وارتاب فيه رجال السياسة والدين لاحتمال أن تصبح الطباعة محلية سهلة للآراء الهدامة. ومع هذا كله فقد شقت لنفسها طريق النصر. وفي عام 1464 أقام الألمان مطبعة في روما، وفي عام 1469 أو قبله افتتح ألمانيان آخران دار طباعة البندقية، وفي عام 1470 أدخل ثلاثة من الألمان أيضاً هذا الفن في باريس، وفي عام 1471 وصلت الطباعة إلى هولندة، وفي عام 1472 إلى سويسرا، وفي عام 1473 إلى المجر، وفي عام 1474 إلى أسبانيا، وفي عام 1476 إلى إنجلترا، وفي عام 1482 إلى الدنمرك وفي عام 1482 إلى السويد وفي عام 1490 إلى القسطنطينية. وأصبحت نورمبرج على يد أسرة كوبرجر وباريس على يد الاتيينيين وليون بفضل دوليه والبندقية بفضل ألدوس مانوتيوس وبازل بوساطة أمرباخ وفروبن وزيورخ بوساطة فروشاور وليدن على يد الزيفير، خلايا عامرة بالطباعة والنشر. وسرعان ما أصبح نصف سكان أوربا من القارئين كما لم يحدث ذلك قط(22/280)
من قبل". وأضحت الرغبة في اقتناء الكتب، إحدى عوامل الفوران في "عصر الإصلاح الديني" وإليك ما كتبه دارس من بازل إلى أحد أصدقائه "في هذه اللحظة بالذات، وصل من البندقية، حمل عربة كاملة من الكتب الكلاسية، من خير طبعاً ألدوس. هل تريد شيئاً منها؟ إن كنت تريد أخبرني في الحال، وأرسل النقود، فما تكاد سلعة كهذه تصل، حتى ينهض إليها ثلاثون شارياً لكل مجلد، متسائلين عن الثمن، ويفقأ بعضهم أعين بعض للحصول عليها" واستمرت الطباعة بالحرف المتحرك.
وإذا أردنا أن نصف نتائجها جميعاً، كان لزاماً علينا أن نسجل نصف تاريخ العقل الإنساني الحديث. ووصف أرازمس، في نشوة رواج مؤلفاته، الطباعة بأنها أعظم المكتشفات، ولعله بخس بذلك الكلام والنار والعجلة والزراعة والكتابة والقانون بل لعله قد بخس وصول الإنسان إلى استعمال الألفاظ النكرات الشائعة. وأحلت الطباعة محل المخطوطات الخفية، نصوصاً رخيصة الثمن، تتضاعف بكثرة، في عدد نسخها، التي تمتاز بدقتها وخفة حملها عما كانت عليه من قبل، وتعمل بذلك التوحيد بين المشتغلين بالعلم، حتى أن الدارسين في بلاد شتى، يستطيعون أن يعمل أحدهم مع الآخر بواسطة مراجع إلى صفحات معينة من طبعات معينة. وكثيراً ما كان الكيف ضحية الكم، بيد أن أقدم الكتب المطبوعة، كانت في كثير من الأحوال نماذج فنية للطبع بالحرف المتحرك والتجليد. ولقد أذاعت الطباعة-أو بمعنى آخر يسرت للجمهور-كتيبات رخيصة للإرشاد في الدين والأدب والتاريخ والعلم، فأصبحت أعظم وأرخص الجامعات كلها، تفتح أبوابها للجميع. ولم تثمر الطباعة عصر النهضة، ولكنها مهدت الطريق للتنوير ... للثورتين الأمريكية والفرنسية .. للديمقراطية. وجعلت الكتاب المقدس ملكاً شائعاً. وهيأت الناس لدعوة لوثر بالتحول من الاحتكام إلى الباباوات إلى الإنجيل، وسمحت بذلك بدعوة العقليين من(22/281)
الاحتكام إلى الإنجيل، إلى الاحتكام إلى العقل. وقضت على الاحتكار الكهنوتي للتعليم، وسيطرة القساوسة على التربية. وشجعت آداب اللهجات المحلية، لأن الجمهور الكبير الذي تتطلبه لا يمكن الوصول إليه عن طريق اللغة اللاتينية ويسرت الاتصال والتعاون الدوليين بين العلماء. وأثرت في نوع الأدب وقوامه بإخضاع المؤلفين لجيوب الطبقات الوسطى وأذواقها، بدلاً من إخضاعهم لمن يرعاهم من الطبقتين العليا والكهنوتية، وأعدت بعد الحديث الملفوظ، وسيلة ميسرة لاستيعاب الهذر، أكثر مما عرف العالم إلى زماننا.(22/282)
الفصل التاسع
الصقالبة الغربيون
(1300 - 1571)
1 - بوهيميا
لا يزال الصقالبة إلى الآن أشبه بالموجات البشرية تجيش أحيانا ناحية الغرب إلى الألب، وجنوبا إلى البحر المتوسط، وشرقا إلى الأورال، وشمالا إلى البحر المتجمد، وقد ردهم إلى الغرب بعد ذلك في الثالث عشر، الفرسان الليفونيون والتيوتون، أما في الشرق فقد خضعوا لسيطرة المغول والتتار - وقادت بوهيميا في القرن الرابع عشر الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإصلاح الديني قبل لوثر، كما اتحدت بولندة مع ليتوانيا التي كانت متسعة الأرجاء: فأصبحنا دولة كبيرة، ذات طبقة عليا على حظ رفيع من الثقافة. وتحررت روسيا في القرن الخامس عشر من نير التتار ووحدت إماراتها المبعثرة في دولة ضخمة. وهكذا دخل الصقالبة التاريخ كموجة من موجات المد البشري.
وانتهت أسرة تبرزملد العريقة في بوهيميا بموت ونسسلوس عام 1306 وأعقبتها فترة من الزمان حكم فيها ملوك صغار الشأن ثم جاء الناخبون من البارونات ورجال الدين بجون أمير لكسمبورج، ليؤسس أسرة حاكمة جديدة (1310). وأصبحت بوهيميا بفضل مغامراته الباسلة قلعة منيعة من قلاع الفروسية جيلا من الزمان، وتعذر عليه أن يعيش بلا صولات وجولات حتى إذا ثبت له أن هذه الفروسية لا ضرر منها على الإطلاق، اندفع إلى الحرب في كل مملكة من ممالك أوربا تقريبا. وأصبح من الكلم(23/1)
المأثور في تلك الأزمنة أنه لا يتحقق شئ بغير العون من الله وملك بوهيميا. فالتمست برسكيا التي حاصرتها فيرونا، أن يمد لها يد المعاونة، فوعد بالقدوم إليها، وما كادت الأخبار تشيع بوعده هذا حتى رفع الفيرونيون الحصار واعترفت به مختارة برسكيا وبرجامو وكريمونا وبارما ومودينا بل وميلان أيضاً، سيداً إقطاعياً عليها في مقابل أن يبسط حمايته عليها جميعاً، وقد استطاع هذا الملك بسحر اسمه أن يحصل على معظم ما عجز عن تحقيقه بقوة السلاح فردريك الأول ذو اللحية الحمراء، وفردريك الثاني أعجوبة الزمان وأضافت حروبه الجريئة مساحة من الأرض إلى بوهيميا ولكنها أفقدته عواطف رعاياه، اللذين لم يستطيعوا أن يغتفروا له غيابه الدائم عن بلادهم، التي أهمل إدارتها، وحز في نفوسهم أنه لم يفكر قط حتى في أن يتعلم لغتهم. وفي عام 1336 لازمه مرض عضال كف بصره وهو يخوض معركة صليبية في ليتوانيا. ومع ذلك فإنه عندما علم أن إدوارد الثالث ملك انجلترا زل إلى البر في نورمانديا متجها صوب باريس ركب مع ابنه شارلز في خمسمائة فارس بوهيمي، وعبروا أوربا ليكونوا مددا لملك فرنسا. وحارب الأب والإبن في الطليعة عند كريس. حتى إذا انسحب الفرنسيون، ناشد الملك الكفيف اثنين من فرسانه، أن يربطا جواديهما إلى جانبي جواده وأن يقوداه لمحاربة الإنجليز المنتصرين، قائلا: ((هذه مشيئة الله، ولن يقال إن ملكا على بوهيميا قد فر من حومة الوغى)) وقتل من حوله خمسون - من فرسانه، وأثخن بجرح مميت، ثم نقل وهو يحتضر إلى خيمة الملك الإنجليزي .. فأرسل إدوارد الجثة إلى شارلز ومعها رسالة مهذبة يقول فيها: ((لقد سقط اليوم تاج الفروسية)).
وكان شارلز الرابع ملكاً أقل بطولة وأرشد عقلا. فآثر المفاوضة على الحرب، ولم يكن من الجبن بحيث يقبل الهوان، ومع ذلك فقد وسع من حدود مملكته، وجعل الصقالبة والألمان إبان السنوات الاثنين والثلاثين من(23/2)
حكمه، يعيشون في سلام غير مألوف. وأعاد تنظيم الحكومة، وأصلح القضاء، وجعل براغ من أجمل مدن أوربا. وشيد فيها مقراً ملكيا على طراز اللوفر، والقلعة الشهير كارلشتين أي ((حجر شارلز)) لتكون داراً أمينة لمحفوظات الدولة وجواهر التاج - التي أودعت فيها لا للمباهاة والعرض بل لتكون مالاً احتياطياً منقولاً حصيناً يصلح غطاء للعملة. واستقدم ماثيو الأراسي لكي يصمم كاتدرائية القديس ((فيتوس)) وتوماسو الموديناوى ليرسم صورا جصية على جدران الكنائس والقصور. وعمل على حماية الفلاحين من الاضطهاد ونهض بالتجارة والصناعة. وأنشأ جامعة براغ (1347)، ونقل إلى مواطنيه الولع بالثقافة الذي اكتسبه في فرنسا وإيطاليا وشحذ الحافز الفكري الذي فجر الثورة الهوسية، وأصبح بلاطه مركز الدارسين الإنسانيين البوهيميين، وعلى رأسهم الأسقف جون الاسترساوي صديق بترارك. ولقد أعجب هذا الشاعر الإيطالي بشارلز فوق إعجابه بأي ملك من ملوك ذلك العصر وزارة في مدينة براغ، وناشده أن يغزو إيطاليا، ولكن شارلز كان أرشد فكرا وكان حكمه، على الرغم من نشرته الذهبية هو عصر بوهيميا الذهبي. وهو باق يبتسم، في تمثاله النصفي من الحجر الجيري، في كاتدرائية براغ.
وكان ((ونسيسلوس الرابع)) في الثامنة عشرة من عمره عندما مات أبوه (1378)، ولقد أكسبته فطرته الطيبة، وحبه لشعبه، وترفقه في فرض الضرائب عليهم وبراعته في الإدارة، محبة الجميع ما عدا النبلاء الذين رأوا أن شعبيته تعرض امتيازاتهم للخطر. وانتهت سورات غضبه حيناً وإدمانه الشراب حيناً آخر بهؤلاء النبلاء إلى خلعه، ففاجئوه في مقره الريفي وألقوا به في السجن (1394)، ولم يعيدوه إلا أن اخذوا عليه العهد بأن يمتنع عن الإقدام على أي عمل له أهميته دون موافقة مجلس من النبلاء والأساقفة، ونشأت فتن أخرى، واستدعى سيجسموند ملك البحر، فقبض على أخيه(23/3)
ويسلوس وأخذه أسيراً إلى فينا (1402). وفر الرجل بعد ذلك بأعوام قلائل، واتخذ طريقه عائدا إلى بوهيميا فاستقبله الشعب مبتهجا، واستعاد العرش والسلطان. واختلطت البقية الباقية من قصته بمأساة هس.
2 - جون هس
(1369 - 1415)
كان ونسيسلوس محبوباً مكروهاً في آن واحد، لأنه تسامح مع الهرطقة وتشدد مع الألمان. وأثمر التسلل السريع في بوهيميا من عمال مناجم وأصحاب الحرف والتجار وطلاب العلم، عداوة عنصرية بين التيوتون والتشيك، وكان حس حريا بألا يلقى التأييد من الملك والشعب لولا أنه رمز الكراهية قومية للتفرق الألماني. ولم ينس ونسيسلوس أن رؤساء أساقفة ألمانيا قادوا حركة خلعه عن العرش الإمبراطوري، وتزوجت أخته آن ريتشارد الثاني ملك إنجلترا وفطنت إلى - ولعلها عطفت على - محاولات ويكليف؛ أن يفصل إنجلترا عن الكنيسة الرومانية. وفي عام 1388 خلف أدلبرت رانكونيس مبلغا من المال يعين الطلاب البوهيميين على الذهاب إلى باريس أو أكسفورد. وحصل بعض هؤلاء أو نسخوا بعض مؤلفات ويكليف وحملوها معهم إلى بوهيميا، وأقام ميلتش الكرومريزي وكونراد ولد هوزر، براغ وأقعداها باتهاماتهما لرجال الدين العلمانيين بالخروج على الأخلاق، وواصل ماتياس الجنوني وتوماس الستيتني هذه الدعوة فأيدها الإمبراطور بل أن أرنست كبير الأساقفة قد وافق عليها، وفي عام 1391، أقيمت في براغ كنيسة خاصة سميت كنيسة بيت لحم لتقود حركة الإصلاح. وفي عام 1402 عين جون هس واعظاً لهذه الكنيسة.
ولقد بدأ حياته في قرية هوسينتز، وعرف باسم جون الهوسينتزي الذي اختصره فيما بعد إلى هس. وجاء حوالي عام 1390 إلى براغ وهو(23/4)
طالب فقير وكسب عيشه في الكنيسة، وكان أمله أن ينخرط في زمرة القساوسة، ومهما يكن من شىء، فقد انضم إلى طرائق الشباب البوهيمي جريا على سنة العصر، وهو ما أسمته باريس بعد ذلك ((بالبوهيمية)) المرحة للشباب الجامعي، وحصل عام 1496 على إجازة أستاذ في الآداب، وبدأ يدرس في الجامعة، واختير عام 1401 عميداً لكلية الآداب - أو بعبارة أخرى عميدا للدراسات الإنسانية ورسم في ذلك العام قسيساً، وأصلح حياته حتى اقترب بها إلى زهد الرهبانية، وأصبح باعتباره رأس كنيسة بيت لحم، أشهر واعظ في براغ، وكان بين المستمعين إليه كثيرون من رجال البلاط، وقد نصبته الملكة صوفيا واعظاً لها. وأخذ يلقي عظاته باللغة التشيكية، وعلم رجال كنيسته أن يسهموا بنصيب إيجابي في الصلاة بترتيل الأناشيد الدينية. ولقد أكد الذين اتهموه فيما بعد أنه ردد في السنة الأولى من عمله الكهنوتي شكوك ويكليف حول اختفاء الخبز والنبيذ من العناصر المقدسة في العشاء الرباني. وليس من شك في أنه قرأ بعض مؤلفات ويكليف، ودون نسخاً منها لا تزال باقية بتعليقاته عليها، واعترف في محاكمته أنه قال ((إنني على ثقة من أن ويكليف سينجو، ولكن لو اعتقدت أنه سيعذب لتمنيت أن تكون روحي مع روحه)) ونالت آراء ويكليف عام 1402 في جامعة براغ حظاً من الشهرة جعل القوامين على الإدارة الكهنوتية في الكاتدرائية يتقدمون إلى أساتذة الجامعة بخمسة وأربعين نصاً مختاراً من كتابات ويكليف متسائلين: هل تمنع الجامعة هذه الأقوال؟ - فأجاب عدد من الأساتذة بينهم هس بالنفي، ولكن الأغلبية حكمت أنه لا يجوز منذ ذلك الحين لأي عضو من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، أن يدافع أو ينتصر بصورة علنية أو سرية لقول من هذه الأقوال الخمسة والأربعين.
ولابد أن يكون هس قد تجاهل هذا التحريم، لأن رجال الدين في براغ التمسوا عام 1408 من زبينك كبير الأساقفة أن يزجره، فاستجاب(23/5)
لهم كبير الأساقفة بحذر لأنه كان وقتذاك على خلاف مع الملك. ولكن هس استمر في عطفه على آراء ويكليف فأصدر عليه زبينك وعلى عدد من زملائه قرار الحرمان (1409) حتى إذا أصروا أن يمارسوا وظائفهم الكهنوتية، جعل براغ بأسرها تحت وطأة قرار الحرمان. وأمر بأن تسلم إليه كل ما يوجد من كتابات ويكليف في بوهيميا وأحضرت إليه مائتا مخطوطة، فأحرقها في ساحة قصره. فاستأنف هس القرار إلى البابا المنتخب حديثا يوحنا الثالث والعشرين. فاستدعاه ليمثل أمام المحكمة البابوية، فأبى أن يذهب إليها.
ورغب البابا عام 1411 في الحصول على أموال للقيام بحملة صليبية على لاديسلاس ملك نابولي، فأعلن عرضا آخر لصكوك الغفران. ولما أذيع ذلك في براغ وبدا للمصلحين أن عملاء البابا يبيعون الغفران بالمال، دعا هس ومؤيده الأول جيروم البراغي ضد هذه الصكوك، وناقشا وجود المطهر، واحتجا على جمع الكنيسة للأموال لإهراق الدم المسيحي. وهبط هس إلى القدح فوصف البابا بأنه ((نابش الأموال)) وزاد على ذلك بأنه ضد المسيح. وشارك جانب كبير من الشعب، هس في آرائه وعرض عمال البابا للسخرية والانتقاص، إلى حد جعل الملك يحرم كل دعوة أو عمل بعد ذلك ضد صكوك الغفران. وخرج ثلاثة من الفتيان على هذا المرسوم، فاستدعوا إلى مجلس المدينة، ودافع هس عنهم، واعترف بأن دعوته أثارتهم، فأدينوا وقطعت رؤوسهم. وعمل البابا في تلك الفترة على توجيه حرمانه إلى هس. ولما تجاهل الرجل القرار أصدر يوحنا قراراً بحرمان أي مدينة يأوي إليها (1411). ورحل هس عن براغ مستجيبا لنصيحة الملك وظل معتزلا بالريف عامين.
وكتب في هذين العامين أهم مؤلفاته، بعضها باللاتينية، وبعضها بالتشيكية وتكاد كلها تنطق بوحي ويكليف، وربما ردد بعضها الهرطقة(23/6)
واختصام، الكهنوت مما جلبته شعبه باقية من الولدانيين إلى بوهيميا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ولقد أنكر عبادة الصور والاعتراف السمعي وتعدد الشعائر الأنيقة. وأعطى حركته صفة شعبية وقومية بالانتقاص من قدر الألمان والدفاع على الصقالبة ومقالة عن ((التجارة في الأشياء المقدسة هاجم اتجار رجال الدين بالمقدسات))، وفي ((الموضوع في ستة أخطاء De sex erroribus نعى على القساوسة أخذ أجر على العماد وتثبيته والقداس والزواج والدفن، واتهم بعض رجال الدين في براغ ببيع الزيت المقدس، وأخذ برأي ويكليف في أن القسيس الذي اقترف بيع المقدسات لا يجوز له شرعا أن يناول السر المقدس، أما رسالته عن ((اجتماع مجلس شرفاء المدينة De ecclesia)) فقد أصبحت بمثابة دفاعه وسبب هلاكه في وقت واحد فإن من صفحاتها نقلت الهرطقة التي أحرق من أجلها. فقد اتبع ويكليف في القول بالجبر، وأيد ويكليف ومارسيليز وأكهام في أن الكيسة يجب ألا يكون لها طيبات دينوية وعرف الكنيسة مثل كالفن بأنها ليست هيئة رجال الدين ولا الجمع المسيحي بأسره، ولكنها المجموع الكلي في السماء أو على الأرض للناجين من الخطيئة، وليس البابا رأس الكنيسة، ويجب أن يكون الإنجيل لا البابا مرشد المسيحي. وليس البابا معصوماً، حتى في العقيدة أو الأخلاق، وقد يكون البابا نفسه خاطئاً معتاداً للخطيئة أو هرطقياً. وسلم هس بأسطورة صدقها جمهور كبير في ذلك الزمان (بل صدقها جرسون) فاستغل الكثير مما ورد عن البابا المزعوم يوحنا الثامن (الذي تقول الأسطورة) أنه كشف عن جنسه النسوي بأن وضع برغمه طفلاً مولوداً في شوارع روما. وختم هس كلامه بأنه لا طاعة للبابا إلا إذا اتفقت أوامره مع شريعة المسيح. ((وعصيان البابا الخاطئ إنما هو طاعة للمسيح)).
ولما اجتمع مجلس عام في كنستانس عام 1414 لكي يخلع ثلاثة بابوات(23/7)
متنافسين ويضع برنامجا لإصلاح الكهنوت، بدا للعيان أن فرصة قد سنحت لإعادة الوئام بين الهسيين والكنيسة، وكان الإمبراطور سيجسموند، الوارث الشرعي لونسسلوس الرابع الذي لا عقب له، تواقاً لإقرار السلم وإعادة الوحدة الدينية في بوهيميا. فاقترح أن يتوجه هس إلى كنستانس ويبدأ الصلح من ناحيته. ومنح هس من أجل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر جواز الأمان إلى كنستانس وإبداء رأيه على الملأ أمام المجلس وحرية العودة في أمان إلى بوهيميا إذا رفض هس حكم المجلس. وعلى الرغم من التحذير الملح من معاونيه فقد رحل إلى كنستانس (أكتوبر 1414) يصحبه ثلاثة من النبلاء التشيكيين وعدد من الأصدقاء. وذهب إلى كنستانس في الوقت نفسه تقريبا ستيفن البالكزي وغيره من المعرضين البوهيميين لهس لاتهامه أمام المجلس.
ولما وصل؛ عومل أول الأمر بحفاوة وترك حراً، ولكن ما أن عرض بالكز أمام المجلس بياناً بهرطقات هس، حتى استدعاه أعضاء المجلس واستجوبوه واقتنعوا من إجاباته، بأنه هرطيق كبير، فأمروا بزجه في السجن، فاعتلت صحته، وأشرف في وقت من الأوقات على الموت، وأرسل البابا يوحنا الثالث والعشرون أطباء من قبله لمعالجته، وشكا سيجسموند من أن تصرف المجلس قد خالف جواز الأمان الذي أعطاه لهس، فأجاب المجلس بأنه غير مقيد بصنيعه وبأن سلطته لا تمتد إلى الشئون الروحية، وبأن للكنيسة الحق في أن يعلو حكمها على حكم الدولة إذا أرادت أن تحاكم عدواً للكنيسة، وفي أبريل نقل هس إلى حصن جوتليين على نهر الراين ووضع هناك في الأصفاد. وكان الغذاء الذي يقدم إليه قليلا حتى إنه أصيب بمرض خطير. وأندفع في الوقت نفسه زميله في الهرطقة جيروم البراغي داخلاً إلى كنستانس، وثبت على أبواب المدينة والكنائس وعلى دور الكرادلة، طلباً بأن الإمبراطور والمجلس يجب أن يمنحاه جواز أمان والاستماع إلى ما يقوله علناً. وألح عليه(23/8)
أصدقاء هس فترك المدينة راجعاً إلى بوهيميا، ولكنه توقف في الطريق ليخطب عن سوء معاملة المجلس هس. فقبض عليه وأعيد إلى كنستانس وزج به في السجن.
وفي الخامس من يوليه. سيق هس مكبلاً بعد أن قضى في السجن سبعة أشهر أمام المجلس، ومثل كذلك في السابع والثامن من الشهر نفسه. وسئل عن الآراء الخمسة والأربعين التي سبق أن اتهمت من مؤلفات ويكليف فأنكر معظمها وأيد بعضها. ولما توجه بفقرات من كتابه ((عن الكنيسة)) عبر عن رغبته في حذف ما ينكره الكتاب المقدس (وهو بالضبط نفس الموقف الذي أتخذه لوثر في ورمس) واحتج المجلس بأن الكتاب المقدس يجب أن يفسر بوساطة رؤساء الكنيسة لا بوساطة اجتهاد الأفراد وطالب هس أن يسحب جميع تلك الآراء التي استشهد بها دون تحفظ. وناشده أصدقاؤه ومتهموه أن يوافق ولكنه أبى وفقد النية الطيبة للإمبراطور المتردد، بتصريحه أن الحاكم يفقد شرعية السلطة الدنيوية أو الروحية في اللحظة التي يقترف فيها خطيئة مهلكة. وهكذا أبلغ سيجسموند هس بأن المجلس إذا أدانه بطل جواز الأمان من تلقاء نفسه. وبعد ثلاثة أيام من الاستجواب والجهود التي بذلها الإمبراطور والكرادلة لكي يسحب هس آراءه، أعيد إلى محبسه وسمح المجلس له ولأعضائه بأربعة أسابيع لدراسة الأمر الذي كان معقداً بالنسبة للمجلس أكثر منه بالنسبة لهس. كيف يتأتى لهرطيق أن يعيش دون أن يدمغ ذلك بعدم الإنسانية كل جرائم القتل من أجل الهرطقة التي ارتكبت في الماضي؟ ولقد عزل هذا المجلس بابوات، فهل يتحداه قسيس بوهيمي بسيط؟ أليست الكنيسة وهي إرادة المجتمع الروحية كما أن الدولة إرادته الطبيعية، مسئولة عن النظام المعنوي الذي يحتاج إلى أساس من السلطة التي لا يرقى إليها الخلاف؟ وبدا للمجلس واضحا أن تحدي هذه السلطة كالخيانة العظمى بامتشاق السلاح(23/9)
ضد الملك. وكان على الرأي أن يتطور إبان قرن آخر من الزمان قبل أن يتمكن لوثر من تحد مماثل ويسمح له مع ذلك أن يعيش.
وبذلت محاولات أخرى للحصول على شبهة عدول هس عن آرائه وأوفد الإمبراطور رسلا من لدنه للإلحاح عليه. وكانت إجابته واحدة دائماً، إنه يتنازل عن أي رأي من آرائه لا يؤيده الكتاب المقدس. وفي السادس من يوليه عام 1415، اجتمع المجلس في كاتدرائية كنستانس وأدان كلا من ويكليف وهس، وأمر بإحراق كتابات هس وسلمه للسلطة الزمنية وجرد لتوه من منصبه الديني وسيق خارج المدينة إلى موضع أعدت فيه أكداس من الحطب وطلب إليه للمرة الأخيرة أن ينقذ نفسه بكلمة تنبئ عن تنازله عن آرائه، ولكنه أبى، وأكلته النار وهو يرتل الأناشيد.
وأنكر جيروم في لحظة فزع تغتفر له أمام المجلس تعاليم صديق (10 سبتمبر 1415) ولما أعيد إلى السجن، استعاد شجاعته رويداً. وطالب بأن تسمع أقواله وبعد فترة طويلة سيق أمام المجلس (23 مايو 1416) وبدلا من السماح له بعرض قضيته، طلب إليه أولا أن يرد على التهم العديدة التي وجهت إليه. فاحتج ببلاغة مؤثرة حركت الشكاك الإيطالي الإنساني برجيو براتشيولي الذي جاء إلى كنستانس ليكون كاتما لسر البابا يوحنا الثالث والعشرين: ((أي جور هذا، في أنني أمنح الآن ساعة أدافع فيها عن نفسي، أنا الذي حبست في سجن حقير مدة ثلاثمائة وأربعين يوما، دون أن تتوافر لي وسائل إعداد دفاعي، بينما لغرمائي الحق دائما في أن تستمعوا إليهم؟ إن عقولكم تحكم على بلا مبرر بأنني هرطيق، لقد حكمتم علي بلا مبرر بأنني هرطيق، لقد حكمتم علي بأنني شرير قبل أن تكون عندكم وسيلة ما تعرفون بها أي نوع من الناس كنته. ومع ذلك فأنتم ناس، ولستم آلهة، مخلوقين، ولستم خالدين، أنتم معرضون للخطأ. وكلما ادعيتم بأن ينظر إليكم كمصدر هداية للعالم وجب عليكم الحرص على تأكيد العدالة للناس جميعا. وأنا، الذي تحكمون على قضيته، لا أهمية لي،(23/10)
كما أنني لا أتحدث عن نفسي، لأن الموت يحيق بالجميع، ولكن لا أريد أن أرى عددا كبيرا من الحكماء يقترفون ظلماً، يتخذ سابقة فيكون بذلك أفدح ضرراً من العقاب الذي يفرضه)).
وقُرِئَتْ التهم عليه، واحدة بعد أخرى، وأجاب عن كل منها بلا إنكار حتى إذا سمح له آخر الأمر أن يتحدث بحرية استمال المجلس أو كاد يستميله، بحرارته وصدقه. وعرض بعض القضايا التاريخية التي قتل فيها الناس من أجل معتقداتهم وذكر كيف حكم القساوسة بالإعدام على ستيفن الرسول، وأبدى أنه قلما توجد خطيئة أفدح من أن يقتل القساوسة قسيسا. ورجاه المجلس أن ينقذ نفسه بطلب المغفرة، ولكنه أنكر بدلاً من ذلك عدوله السابق عن آرائه، وأكد اعتقاده في مبادئ ويكليف وهس، ودمغ إحراق هس بأنه جرم لابد أن يعاقب الله عليه. ومنحه المجلس أربعة أيام ليرجع عن رأيه. ولما لم يستغفر أدين (30 مايو) وسيق تواً إلى الموضع نفسه الذي أحرق فيه هس. وسار الجلاد خلفه ليوقد النار في أكداس الحطب فناشده جيروم قائلا: ((تعال أمامي .... أوقدها أمام وجهي، فلو كنت أخاف الموت لما قدر لي أن أجئ إلى هنا)). وظل يردد أحد الأناشيد حتى خنقه الدخان.
3 - الثورة البوهيمية
(1415 - 36)
أثار موت هس، الذي تناقله الإخباريون إلى بوهيميا، ثورة قومية فاجتمع نبلاء بوهيميون ومورافيون وأرسوا إلى مجلس كنستانس (2 سبتمبر 1415) وثيقة وقعها خمسمائة من أعيان التشيك، وناصرت هس وجعلته كاثوليكيا طيبا مستقيما. وأنكرت إعدامه باعتباره إهانة لوطنه، وأعلنت أن الموقعين سيحاربون إلى آخر قطرة من دمائهم دفاعا عن مبادئ المسيح ضد(23/11)
القوانين التي من صنع البشر. وطالب تصريح آخر بألا يطيعوا منذ ذاك من الأوامر البابوبة إلا ما يتفق مع الكتاب المقدس، وأن الذين يحكمون على اتفاقها مع الكتاب المقدس إنما هم هيئة التدريس بجامعة براغ. وحيث الجامعة نفسها، هس باعتباره شهيداً، ومدحت جيروم السجين. واستدعى المجلس النبلاء المتمردين للمثول أمامه للرد على اتهامهم بالهرطقة، ولكن أحداً لم يحضر وأمر بإغلاق الجامعة، بيد أن أغلبية الأساتذة والطلاب ظلوا يواصلون عملهم.
واقترح أحد أتباع هس حوالي 1412 وهوجا كوبك الاستريزيبوي. وجوب بعث العرف المسيحي القديم الخاص بمناولة القربان بصورتيه - النبيذ إلى جانب الخبز - في العالم المسيحي كله. ولما استولت الفكرة على الصفوة والعامة من أنصاره، منحها هس تأييده، فحرمها المجلس، ودافع عن ترك العادة البدائية على أساس أنها مجازفة بسفك دم المسيح.
وبعد موت هس اتخذت جامعة براغ والنبلاء، بقيادة الملكة صوفيا، مناولة القربان بالنوعين جميعاً كأمر من أوامر المسيح، وأصبح كأس العشاء الرباني شعار ((ثورة الأتراكوست)) Utraquist وصاغ أتباع هس عام 1420 مبادئ براغ الأربعة باعتبارها مطالبهم الأساسية وهي: أن القربان يجب أن يتناول خمراً كما يتناول خبزاً، وأن الاتجار بالدين يجب أن يعاقب عليه بحزم وأن ((كلمة الله)) يجب أن يدعى إليها بلا تراخ باعتبارها الأساس الأوحد لحقيقة الدين وشعيرته ويجب أن يوضع حد لاقتناء القساوسة أو الرهبان للممتلكات المادية المتسعة ورفضت أقلية متطرفة من الثائرين تقديس المخلفات الأثرية وعقوبة الإعدام والمطهر والقداس من أجل الموتى. ولقد وجدت جميع عناصر الإصلاح الديني اللوثري في هذه الثورة الهسية.
وكان الملك ونسسلوس الذي عطف على الحركة، وربما فعل ذلك لأنها وعدت بنقل أملاك الكنيسة إلى الدولة، قد أصبح يخشى أن تهدد السلطة(23/12)
المدنية تهديدها للسلطة الدينية وفي المدينة الجديدة التي أضافها إلى براغ لم يعين إلا الذين لا يدينون بالهسية في المجلس، وأصدر هؤلاء الرجال قواعد عقوبات قصد بها القضاء على الهرطقة. وفي 30 يوليو عام 1419 قام جمهور هس بموكب في المدينة الجديدة. وشق له طريقاً حتى بلغ قاعة المجلس، وألقى بأعضائه من النوافذ إلى الطريق، حيث قضى عليهم جمهور آخر. ونظم اجتماع شعبي انتخب أعضاء المجلس الهسيتي وأقر ونسسلوس المجلس الجديد، ثم مات بنوبة قلبية (1419).
وعرض نبلاء بوهيميا أن يقبلوا سيجسموند ملكاً عليهم، إذا اعترف ((بمبادئ براغ الأربعة)). فما كان منه إلا أن طالب جميع التشيك بالطاعة الكاملة للكنيسة وألقى في المحرقة بوهيمياً أبى أن يتبرأ من تناول الكأس الرباني. وأعلن البابا الجديد مارتن الخامس، حملة صليبية ضد الهرطقة البوهيميين وزحف سيجسموند ومعه قوة كبيرة إلى براغ (1420) ونظم الهسيون جيشاً حوالي الليلة السابقة وأرسلت كل مدينة في بوهيميا ومورافيا تقريباً المتطوعين المتحكمين ودربهم جان زيزكا وهو فارس أعور في الستين من عمره وأحرز بهم انتصارات رائعة. ولقد هزموا فرق سيجسموند مرتين. فجمع سيجسموند جيشا آخر ولكن ما أن جاء خبر زائف بأن رجال زيزكا يقتربون، حتى فر الجيش الجديد في غير نظام دون أي يرى عدوا ما. وأسكر رجال زيزكا الطهريين النصر فأخذوا عن خصومهم فكرة القضاء على الخلاف الديني بالقوة وساروا في طول بوهيميا ومورافيا وسيلزيا وعرضها كأنهم عاصفة تقتلع أمامها كل شيء، ينهبون الأديرة ويذبحون الرهبان ويرغمون السكان على قبول مبادئ براغ الأربعة وأصبح الألمان في بوهيميا الذين رغبوا في البقاء على كاثوليكيتهم، الضحايا المفضلة للقوات الهسية وعاشت بوهيميا في الوقت نفسه ومدى سبعة عشر عاما (1419 - 36) بلا ملك.(23/13)
واتحدت عناصر متعددة ومتصارعة لتكون الثورة البوهيمية. فإن المواطنين البوهيمين أسخطهم ما عند المقيمين الألمان من ثروة وما فيهم من تعاظم وأملوا في إجلائهم عن الوطن. وطمع النبلاء في ممتلكات الكنيسة ورأوها تستحق المصادرة. وطمح الكادحون اليدويون أن يحرروا أنفسهم من سادتهم من الطبقة الوسطى. وتاقت الطبقة الوسطى أن تضاعف من قوتها المحدودة ضد النبلاء، في مجلس الدايت الذي كان يحكم براغ والذي يسهم في حكم بوهيميا. وحلم عبيد الأرض وبخاصة من كان منهم يعمل في إقطاعيات الكنيسة، بتقسيم هذه الأراضي المباركة أو تحرير أنفسهم على الأقل من القيود الوبيلة. وقدم بعض صغار رجال الدين الذين ظلمهم رؤساؤهم تأييدهم الصامت للثورة وزودوها بالقيام على الشعائر الدينية التي حرمتها الكنيسة.
ولما ظفر الجيش الهسي بمعظم بوهيميا، أدت غاياتهم المتناقضة إلى انقسامهم فرقاً يقتل بعضها بعضا. وبعد أن استولى النبلاء على اكثر أموال الجماعات الدينية الأرثوذكسية، شعروا بأن الثورة يجب أن تخمد وان يتيحوا الفرصة لمؤثرات الزمن. بينما صخب عبيد الأرض الذين أفلحوها من أجل الكنيسة مطالبين بتقسيمها فيما بينهم باعتبارهم أحراراً فإن الملاك النبلاء طالبوا عبيد الأرض بأن يخدموا السادة الجدد على أسس العبودية السابقة نفسها. وأريد زيزكا الفلاحين، وحاصر فترة من الزمن ((الكأسيين)) أو بعبارة أخرى الهسيين أصحاب الكأس الرباني في براغ الذين أصبحوا محافظين. ولما تعب من الصراع قبل هدنة وانسحب إلى بوهيميا الشرقية وأسس (أخوه حوديب) هدفها تحقيق المبادئ الأربعة وقتل الألمان. ولما مات (1414) أوصى أن يصنع من جلده طبل حربي.(23/14)
وتألفت في تابور فرقة هسية أخرى، ذهبت إلى أن المسيحية الحقة تتطلب تنظيما شيوعيا للحياة. ولقد وجدت في بوهيميا قبل هس جماعات من الوالدينيزيين والبجهاردينيين وغيرهم من الهراطقة الذين لا رادع لهم يمزجون المثل الدينية بالمثل الشيوعية. واحتفظوا بهدوء يحمدون عليه إلى أن اقتلعت قوات زيزكا سلطة الكنيسة من معظم بوهيميا، فظهروا علنا، واستولوا على القيادة المذهبية في تابور. وأنكر كثير منهم ((الوجود الحقيقي)) والمطهر والصلاة للموتى، وكل الأسرار المقدسة ما عدا العماد والعشاء الرباني ولم يشجعوا تقديس المخلفات الأثرية والصور والقديسين، واقترحوا إعادة الشعيرة البسيطة لكنيسة الحواريين. وأنكروا جميع الشعائر والأزياء الكهنوتية التي لم يجدوها في المسيحية الأولى. وعارضوا المذابح وآلات الأرغن الموسيقية وفخامة الزخرف الكنسي وأتلفوا كل ما عثروا عليه من هذه الزينة. وأنقضوا العبادات مثلهم في ذاك مثل البروتستانت المتأخرين، إلى القربان والصلاة والقراءة في الكتاب المقدس والعظة وترتيل الأناشيد، ويقوم على هذه الشعائر رجال دين لا يختلفون في الزي عن غيرهم من المدنيين.
ولقد استخلص معظم التابوريين، الاتجاه الشيوعي من المعتقد بعودة المسيح وحكمه ألف سنة. فإن المسيح سرعان ما يجئ ويوطد مملكته على الأرض، ولا تكون في هذه المملكة ملكية ولا كنيسة ولا دولة ولا تفرقة طبقية ولا قوانين وضعية ولا ضرائب ولا زواج، وفي المؤكد أن المسيح، سيسره عند مجيئه أن يجد عبادة قد أنشئوا مثل هذه المدينة الفاضلة السماوية وطبقت مثل هذه المبادئ في تابور وبعض المدن الأخرى، وقال أستاذ معاصر من أساتذة جامعة براغ: كل شيء هناك على المشاع، ولا يملك أحد شيئا لنفسه وحده، ولذلك عد التملك دائما يستحق مقترفه(23/15)
الموت. وهم يرون أن الجميع يجب أن يكونوا أخوة وأخوات متساويين)).
وقد تحول فلاح بوهيمي إلى فيلسوف، واسمه بيتر تشلجي وذهب في آرائه إلى أبعد من ذلك، وكتب بلغة تشيكية قوية مجموعة من المقالات التولستوية يدعو فيها إلى فوضوية مسالمة. وهاجم الأقوياء والأغنياء، وأنكر الحرب وعقوبة الإعدام وعدهما قتلاً، وطالب بمجتمع لا سادة فيه ولا عبيد، ولا قوانين من أي نوع. وناشد أتباعه أن يتبعوا المسيحية اتباعاً حرفياً، كما وجدوها في العهد الجديد والا يعمدوا إلا البالغين، وأن يديروا ظهورهم للدنيا ومناهجها ولحف اليمين والتعلم والامتيازات الطبقية، وللتجارة وحياة المدينة وأن يعيشوا في فقر اختياري وأن يؤثروا فلاحة الأرض، وأن يتجاهلوا تمام التجاهل الحضارة والدولة. ووجد التابوريون هذه الدعوة السلمية لا تناسب مزاجهم. وشيوعية النساء))، وتحولت الفرقتان في الجدول إلى الحرب. وفي غضون سنوات قلائل تطورت القدرات غير المتساوية إلى تفاوت في القوة والامتياز، ثم إلى تفاوت في السلع آخر الأمر، وحل محل رسل السلام والحرية، مشرعون لا رحمة عندهم يقوم تدبيرهم على الاستبداد الغاشم.
واستمع العالم المسيحي في فزع إلى هذه المسيحية الشيوعية المزعومة، وبدأ الهسيون في البارونات وسكان المدن يتطلعون إلى كنيسة روما باعتبارها المنظمة الوحيدة التي لها من القوة ما يتيح لها أن تقضي على التحلل الوشيك للنظام الاجتماعي القائم وهللوا عندما رحب مجلس بازل بالتوفيق. وذهب وفد من المجلس إلى بوهيميا دون الحصول على موافقة البابا، ووقع مجموعة من المواثيق، صيغت بحيث يفسرها المسالمون من الهسيين والكثالكة بأنها(23/16)
تقبل وترفض مبادئ براغ الأربعة (1433). ولما أبى التابوريون الاعتراف بهذه العهود انضم الهسيون المحافظون إلى الجماعة الأرثوذكسية الباقية في بوهيميا وهاجموا التابوريين المنقسمين على أنفسهم وألحقوا بهم الهزيمة، وقضوا على التجربة الشيوعية (1414) واصطلح مجلس ((الدايت البوهيمي)) مع سيجسموند واعترف به ملكاً (1436).
ولكن سيجسموند الذي ألف أن يتوج انتصاراته بما لا نفع فيه، مات في السنة التالية. وبلغ الحزب الأرثوذكسي، إبان الفوضى التي أعقبت ذلك، المكانة العليا في براغ. وألف قائد محلي قدير هو جورج البوديبرادي جيشا من الهسيين، واستولى على براغ، وأعاد جان روكيكانا إلى كرسي كبير الأساقفة ونصب نفسه حاكما على بوهيميا (1451). ولما أبى البابا نيقولاس الخامس الاعتراف بروكيكانا فكر الأتراكوست في أن يتحولوا بولائهم إلى كنيسة الروم الأرثوذكس ولكن سقوط القسطنطينية في يد الأتراك وضع حداً للمفاوضات وفي عام 1458 اختار مجلس الدايت البوديبرداي ملكا لما رآه من إدارته الفائقة التي وطدت النظام والازدهار في البلاد.
فتحول بجهوده إلى إقرار السلام الديني. وأرسل بموافقة مجلس ((الدايت)) وفداً إلى بيوس الثاني (1462) يطلب التصديق البابوي على عهود براغ فأبى البابا وحرم على المدنيين في كل مكان أن يتناولوا القربان بنوعيه وعمل ((البوديبرادي)) بنصيحة ((جريجور هايمبورج)) وهو فقيه ألماني ودعا عام 1464 ملوك أوربا لكي يؤلفوا اتحاداً دائماً للدول الأوربية له سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وجيش ومحكمة لها حق الحكم في المنازعات الدولية في الحاضر والمستقبل، فلم يجب الملوك على هذه الدعوة، وكانت البابوية المنتعشة من القوة إلى الحد الذي لا تأبه فيه ((بحلف أممي)) وأعلن البابا بول الثاني(23/17)
أن البوديبرادي هرطيق وحرر رعاياه في يمين ولائهم له ودعا الدول المسيحية إلى خلعه (1466)، وأخذ مارتكاس كورفينوس الهنغاري على عاتقه القيام بهذه المهمة، فغزا بوهيميا وتوَّجه فريق من النبلاء الكاثوليك (1469) ملكاً، وعرض البوديبرادي العرش على لاديلاس بن كازيمير الرابع ملك بولندة. وأنهكته الحرب وداء الاستسقاء فمات وله من العمر إحدى وخمسون سنة (1471). وتمجده بوهيميا وهي الآن تشيكوسلوفاكيا، باعتباره أعظم ملوكها بعد شارل الرابع.
ووافق مجلس الدايت على لاديسلاس الثاني وانسحب ماثياس إلى هنغاريا واستغل النبلاء ضعف الشباب في الملك لكي يوطدوا سلطانهم الاقتصادي والسياسي، ولينقصوا من عدد نواب المدن والقرى في مجلس الدايت وأن يعيدوا إلى هوان العبودية الفلاحين الذين حلموا بالمدينة الفاضلة وفر آلاف من البوهيمين إبان هذه الفترة من الثورة والنكسة إلى بلاد أخرى. وفي عام (1) 1485 وقع الحزبان الكاثوليكي والأتراكوست معاهدة كتفاهورا وتعهدا بالتزام السلم ثلاثين سنة.(23/18)
وألف أتباع الثلجكي في بوهيميا الشرقية وموارفيا (1457) فرقة مسيحية جديدة، اسمها كنيسة الأخوة، ووقفوا أنفسهم على حياة زراعية بسيطة على مبادئ العهد الجديد وفي عام 1467 أنكروا سلطة الكنيسة الكاثوليكية وقدسوا قساوستهم ورفضوا المطهر وعبادة القديسين وأرهصوا بمذهب لوثر في التزكية بالعقيدة، وأصبحوا أمل الكنيسة الحديثة التي تدين بالمسيحية، وما أن جاء عام 1500 حتى بلغ أعضاؤها مائة ألف مسيحي. ولقد قضى على هؤلاء ((الإخوان المورافيين)) تقريبا في سورة حرب الثلاثين سنة، وهم إنما عاشوا بفضل جون كومينوس، ولا يزالون موجودين في جماعات مفرقة في أوربا وأفريقيا وأمريكا، وهم يدهشون عالما يتسم بالعنف والشك، بتسامحهم الديني وتقواهم غير المزعومة وولائهم السلمي للمبادئ التي يعتنقوها.
(1) خلط الفرنسيون بين البوهيميون المبعدين والغجر ( Gypsies) الذين وصلوا إبان القرن الخامس عشر إلى أوربا الغربية، مفترضين مجيئهم من بوهيميا فجعلوا أسم بوهيمي يرادف الغجري. واسم جيبسي ( Gypsy) تحريف لاسم إيجبشيان أي مصري، ويوحي بما زعمته القبيلة في أنها جاءت من مصر الصغرى. ويرجع برتن نشأتهم إلى الهند. وسموا في الأراضي البيزنطية باسم الروم - أي الرومان (الشرقيين)، وأطلق عليهم في البلقان وأوربا الوسطى بشتقان من آرزيجان (سزيجاني، زيجر، زنجاري). وهي كلمة يشك في أصلها. وبدأ ظهورهم في السجلات الأوربية في أوائل القرن الرابع عشر بوصفهم جماعات متجولة من أصحاب الحرف والموسيقيين والراقصين والعرافين واللصوص - كما كان الاعتقاد السائد. ووصلوا حوالي عام 1414 إلى ألمانيا وعام 1422 إلى إيطاليا وعام 1427 إلى فرنس وعام 1500 إلى إنجلترا.
وكانوا يقبلون العماد في العادة، ولكنهم تساهلوا في الدين والتزام الوصايا وسرعان ما وقعوا تحت طائلة محاكم التفتيش. وطردوا من إسبانيا (1499) ومن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1500 - 1548) ومن فرنسا (1561). وتنحصر مساهمتهم في الحضارة إذا استثنينا لباسهم المشرق المنوع الألوان والحلي الخاصة بنسائهم الموسرات، في الرقص والموسيقى - وقد أوحى تبادلهم في الألحان بين الحزن والقوة إلى بعض كبار الملحنين والموسيقيين.
4 - بولندة
(1300 - 1055)
إن المحافظة على السلم عسيرة، حتى في المناطق التي تستمد وحدتها ومناعتها من الحواجز الجغرافية، ولنلاحظ كيف تكون المحافظة على هذا السلم أعسر كثيرا في الدول التي تتعرض على أحد حدودها أو أكثر لجيران متعطشين للغزو أبدا، ينزعون إلى التغرير حيناً وإلى القوة حيناً آخر، واختنقت بولندة بعض الاختناق إبان القرن الرابع عشر على يد الفرسان التيوتون واللتوانيين والهنغاريين والمورافيين والبوهيميين والألمان وذلك بالضغط على حدودها وما كاد لاريسلاس ((القصير)) يصبح الأمير الأكبر لبولندة الصغرى أي الجنوبية (1306) حتى واجه حشداً من الأعداء. ورفض الألمان طاعته في(23/19)
بولندة الكبرى أي الغربية واستولى الفرسان على دانزج وبوميرانيا، وتآمر مارجراف - الحاكم العسكري - حارس تخوم براندنبرج للقضاء عليه، وادعى ونسسلوس الثالث صاحب بوهيميا العرش البولندي لنفسه، وجاهد لاريسلاس في هذا الخضم من المتاعب بالسلاح والسياسة والزواج، حتى وحد بولندة الصغرى والكبرى في مملكة متماسكة، وعمل وتوج نفسه ملكاً في كراكاو عاصمته الجديدة (1320). ولما مات بالغاً من العمر ثلاثاً وسبعين سنة (1333) أوصى بعرشه العصي إلى ابنه الوحيد كازيمير الأكبر.
وقد يستكثر البعض هذا اللقب على كازيمير الثالث، لأنه كان يؤثر للمفاوضة والمصالحة، على الحرب، وتنازل عن سيليزيا إلى بوهيميا وعن وميرانيا إلى الفرسان، وقنع بالحصول على غاليسيا حول لواء ومازوفيا حول وارسو، ووقف حكمه مدى سبع وثلاثين سنة على الإدارة، فجعل أقليمه المختلفة تحت ظل قانون واحد، ((يجب ألا تبدو الدولة كوحش كثير الرؤوس)) ووحد بتوحيد، فريق من الفقهاء القانون والعادات المتفاوتة للولايات في قوانين كازيمير - وهي المحاولة الأولى في وضع القوانين البولندية في مجموعة واحدة ... وهي مثال على الاعتداء الإنساني، إذا قورنت بمجموعات القوانين المعاصرة، ولقد حمى كازيمير اليهود والروم الأرثوذكس وغيرهم من الأقليات العنصرية والدينية، وشجع التعليم والفنون وأسس جامعة كراكاو (1364) وشيد الكثير من المباني حتى قال الناس أنه وجد بولندة مبنية من الخشب فأعاد بناءها بالحجر وشجع بحكمته البارعة شئون الأمة الاقتصادية حتى لقبه الفلاحون ((بملك المزارعين)، وأثرى التجار في ظل السلام وأجمعت الطبقات كلها على تلقيبه ((بالكبير)).
ولم يكن له وريث من الذكور، فترك تاجه لابن أخيه لويس الكبير ملك هنغاريا (1370)، أملا أن يحرز لبلاده حماية ملكية منيعة ونصيباً من الحافز الثقافي الذي جلبته الأسرة الإنجفينية من إيطاليا وفرنسا، ولكن(23/20)
لويس حصر اهتمامه في هنغاريا وأهمل بولندة، وأراد أن يجعل النبلاء المزهوين بأنفسهم على ولاء له في غيابه بمقتضى ((امتياز كاتسا)) (1374) الذي ينص على الإعفاء من معظم الضرائب واحتكار المناصب العليا. ولما مات نشبت الحرب في سبيل العرش (1382) واعترف مجلس ((السيم)) أي البرلمان بابنته جادويجا البالغة من العمر إحدى عشر سنة (ملكا)، ولم يقض على الاضطراب إلا زواج جاجللو أمير أمراء ليتوانيا من جادويجا (1386) فوحد بذلك مملكته الشاسعة وبولندة ومنح الحكومة شخصية آمرة.
وكان نمو ليتوانيا ظاهرة كبيرة من ظواهر القرن الرابع عشر فلقد ضم جيديمن وابنه ألجيرد تحت حكمهما الوثني روسيا الغربية بأسرها: بولتسك وبنسك وسولنسك وتشرنيجوف وفولهنيا وكيث وبودوليا وأوكرانيا، وفرح بعض هؤلاء أن وجدوا في ظل الأمراء الكبار، عاصما من القبيلة الذهبية التترية التي جعلت روسيا الشرقية التزاما إقطاعيا لها. ولما خلف جاجللو، ألجيرد (1377) كانت الإمبراطورية اللتوانية، التي تحكم في ويلنو تمتد من البلطيق إلى البحر الأسود وتكاد تصل إلى موسكو نفسها، وكانت هذه هي الهدية التي تقلها جاجللو إلى جادويجا أو بعبارة أخرى كانت بولندة بأسرها هي الصداق الذي قدمته إليه، ولم تتجاوز السادسة عشرة عند زواجها، ولقد نشأت رومانية كاثوليكية محيط أرفع ثقافة اللاتينية عصر النهضة، أما هو فكان في السادسة والثلاثين من عمره، أميا كافرا ولكنه قبل العماد واتخذ لنفسه الاسم المسيحي لاديسلاس الثاني، ووعد أن يدخل ليتوانيا بأسرها في المسيحية.
وكان ذلك اتحاداً مؤقتاً، لأن تقدم الفرسان الألمان ناحية الشرق كان يهدد بالخطر دولتي الزوجين معاً. وتحولت ((جماعة الإخوان في الصليب)) التي وقفت في الأصل على تنصير الصقالبة، إلى فرقة من المحاربين(23/21)
الغزاة يأخذون بحد السيف كل ما يستطيعون اختطافه من الأرض من أصحابها سواء أكانوا وثنيين أم مسيحيين وأنشئوا عبودية إقطاعية غليظة على الأراضي التي أفلحها يوماً من الأيام مزارعون أحرار. وحكم السيد الأكبر عام 1410 من عاصمته مادينبرج، استونيا وليفونيا وكورلند وبروسيا ويوميرانيا الشرقية وبهذا فصل بولندة عند البحر والتقى في ((حرب شالية)) ضروس، جيش السيد الأكبر وجيش جاجللو، ولقد أنبئنا أن كلا منهما كان يتألف من عشرة آلاف من الأشداء - في موقعة بالقرب من جرونيفولد (1410) وهزم الفرسان ولاذوا بالفرا، مخلفين وراءهم أربعة عشر ألف أسير وثمانية عشر ألف قتيل، بينهم السيد الأكبر نفسه. وأقل نجم جماعة الإخوان في الصليب منذ ذلك اليوم سريعا حتى تنازلت في صلح ثورن (1466) عن بوميرانيا وبروسيا الغربية إلى بولندة بما في ذلك ميناء دانزج الحر باعتباره منفذا إلى البحر.
وبلغت بولندة غي عهد كازيمير الرابع (1447 - 92) أقصى اتساعها وذورة قوتها وأوج فنها. ومع أن كازمير كان أميا، إلا أنه ختم كراهية الفروسية للقراءة والكتابة، بأن منح أولاده تعليما كاملا. وخلفت الملكة جادويجا وهي تحتضر، جواهرها للإنفاق على إعادة افتتاح جامعة كراكاو - وهي التي قدر لها أن تعلم في القرن التالي كوبرنيكوس. وتوسل الأدب إلى جانب الفلسفة والعلم باللغة اللاتينية، وكتب جان ولوجوز كتابه الكلاسي ((تاريخ بولندة)) (1478) ودعا عام 1477 فيت ستوس النورمبرجي إلى كاراكاو، فمكث فيها سبع عشرة سنة، وبلغ بالمدينة مكاناً رفيعا في فن ذلك العصر، ولقد نقش لكنيسة سيدتنا مائة وسبعة وأربعين مقعدا للمرتلين، ومذبحاً كبيراً، وهو أربعون قدماً في ثلاثة وثلاثين مع ضريح مركزي للقيامة، وهو في روعة صورة تيتيان ومع ثماني عشرة صورة جدارية تقص حياة مريم وطفلها - وهي صور(23/22)
جدارية جديرة - وإن كانت في الخشب - بأن تضارع الأبواب البرونزية التي حققها غيبرتي لموضع العماد الفلورنسي قبل ذلك بقرن. وحفر ستوس لكتدرائية كراكاو مدفنا فخما من المرمر الأحمر المزرقش لكازيمير الرابع وبلغ النحت القوطي بهذه الآثار في بولندة أوجه ونهايته. أما في عهد ابن كازيمير، وهو سيجسموند الأول (1506 - 48) فقد اتخذ الفن البولندي، لوثرية عصر النهضة الإيطالية الذي تسرب في ألمانيا، وهكذا بدأ عصر جديد.(23/23)
الفصل العاشر
المد العثماني
(1300 - 1516)
1 - الازدهار الثاني في بيزنطة
1261 - 1373
أعيدت الإمبراطورية البيزنطية بلا إراقة دماء في ظل أسرة بلايولوجية جديدة عام 1261، وبقيت برغمها حوالي قرنين من الزمان وانتقص من أطرافها تقدم المسلمين في آسيا وأوربا، وتوسع الصقالبة في مؤخرتها وتناثر الأجزاء المفرقة التي استقلت عنها على يد أعدائها المسيحيين الذين استباحوا القسطنطينية عام 1204 - النورمانديين والبندقيين والجنوبيين. وتخلفت الصناعة في مد الإمبراطورية، ولكن منتجاتها كانت تحمل على سفن إيطالية لا تدفع إيراداً للخزانة. ولم يبق من الطبقة الوسطى كثيرة العدد إلا بقية وفوقها نبلاء مترفون، ومطارنة ذوو ملابس فضفاضة، لم يتعلموا شيئاً من التاريخ ونسوا كل شيء اللهم إلا امتيازاتهم. وتحتهم طبقات من رهبان مشاغبين خلطوا التقوى بالسياسة، وملاك مزارعون هبطوا إلى مستأجرين كما هبط الفلاحون المستأجرون إلى عبيد أرض وحلم العمال اليدويون بمدينة فاضلة تقوم على المساواة. وطردت ثورة في سالونيك (1341) الطبقة الأرستقراطية، ونهبت القصور وأقامت جمهورية شبه شيوعية حكمت ثماني سنوات قبل أن تقضي عليها قوات الجيش المسيرة في العاصمة. وظلت القسطنطينية مركزاً زاخراً بالتجارة بيد أن أحد الرحالة المسلمين لاحظ عام 13330 ((كثيراً من البيوت المهدمة والحقول المبذورة في داخل أسوار المدينة))، وكتب السفير الأسباني روى جونزاله(23/24)
ده كلافيجة حوالي 1409 يقول: ((في كل مكان في أنحاء العاصمة توجد القصور العظيمة والكنائس والأديرة ولكن معظمها أطلال)). فقد هجر المجد ملكة البوسفور.
وفي وسط هذا الاضمحلال السياسي امتزج التراث اليوناني النفيس أبداً في الفلسفة بالتقاليد البيزنطية الشرقية في العمارة والتصوير ليؤلف الأنشودة الثقافية للإمبراطورية الرومانية الشرقية. ولبثت المدارس تشرح أفلاطون وأرسطو وزينون الرواقي، وإن تحاشوا أبيقور باعتباره ملحداً، ونقح العلماء النصوص الكلاسية وذيلوها بالحواشي. وصنف ماكسيموس بلانوديس المبعوث البيزنطي إلى البندقية ((مجموعة الشعر اليوناني)) وترجم الآثار الكلاسية اللاتينية إلى اليونانية وأعاد بناء جسر ثقافي بين بيزنطة وإيطاليا وتوضح سيرة تيودوروس ميتوتشيتيس هذه النهضة الباليولوجية.
فلقد كان كبيرا وزراء أندرونيقوس الثاني وفي الوقت نفسه من أعلم علماء زمانه وأغزرهم إنتاجا ولقد كتب عنه نيقفورس جريجورس وهو عالم ومؤرخ يقول: ((لقد كان يقف جهده كله من الصباح إلى المساء على الشئون العامة، كأنما لا علاقة له بالدراسة ولكنه يصبح بعد مغادرته القصر وفي الجانب الأخير من المساء مستغرقاً في الدراسات بدرجة عالية كأنه دارس لا علاقة له البتة بمهمة أخرى)). وقد ألف تيودوروس في التاريخ والشعر والفلك والفلسفة، بتفوق لا يضارعه فيه يوناني آخر في هذا القرن الرابع عشر. وخسر في الثورة التي خلعت مولاه عن العرش منصبه وداره وماله وألقى به في السجن، واعتلت صحته فسمح له أن ينفق أيامه الأخيرة في دير ((المخلص)) في كورا (أي في الحقول)، الذي زين جدرانه لفسيفساء من أجمل ما في التاريخ البيزنطي.
واستعادت المناظرة القديمة بين الأفلاطونيين والأرسطيين مكانتها، فدافع الإمبراطور جون السادس كانترا كورزين عن أرسطو، بينما ظل(23/25)
أفلاطون إله جمستوس بليثو. ولقد درس هذا الفيلسوف الذي يعد من أشهر السفسطائيين اليونان في بروسيا بآسيا الصغرى، عندما أصبحت هذه المدينة عاصمة الزحف العثماني ودرس على أحد اليهود هناك حكمة الزرادشتيين حتى إذا عاد إلى مسقط رأسه بيلوبونيزس، وقد عاد إليها اسم موريا - ترك فيما يبدو العقيدة المسيحية. واستقر في مسترا، فأصبح قاضياً وأستاذاً في آن واحد. وكتب عام 1400 رسالة يحمل عنوان أفلاطون، ((القوانين)) اقترح فيها أن تحل ديانة الإغريق القدماء محل المسيحية والإسلام، بمجرد تحويل جميع آلهة الأولمب، ما عدا زيوس إلى مشخصات رمزية لعلميات إبداعية أو أفكار، ولم يعرف بليثو أن الأديان تولد ولا تصنع. ومع ذلك فقد اجتمع حوله التلاميذ مشغوفين، وقدر لأحدهم وهو جوهانز يساريون أن يكون الكاردينال الدارس للآثار الكلاسية في إيطاليا، ولقد صحب كل من جمستوس ويسايرون الإمبراطور جون الثامن إلى فرارا وفلورنسة (1438) لحضور المجلس الذي اتفقت في الكنيستان اليونانية والرمانية في علوم الدين وفي السياسة. وفي فلورنسة حاضر جيمستوس عن أفلاطون لصفوة من المستمعين، وكاد يتأثر عصر النهضة الإيطالية. وهناك أضاف كنية بليثو (الكامل) إلى اسمه، وأخذ يلعب باسمه جمستوس ومعناه ((التام)) وأفلاطون وعاد إلى مسترا ولم ينشط في علوم الدين، فأصبح كبير أساقفة ومات بالغا من العمر خمسا وتسعين سنة (1450).
وكان البعث الفني ملحوظاً كعودة الفتوة إلى الآداب. وكانت الموضوعات والرسوم لا تزال كهنوتية، بيد أن لمسة من منظر خلوي أو نسمة من الطبيعة. وفي الفسيفساء التي كشف عنها حديثا ديركورا ((مسجد قاهرية الجامع)) حيوية دافقة جعلت المؤرخين الغربيين يعترفون(23/26)
بأنهم يرون فيها تأثيراً إيطالياً جديداً. وتراخت القبضة الكهنوتية عن الصور الجدارية التي حلت محل الفسيفساء، باهظة النفقة في زخرف الكنائس والقصور وظهرت رسوم من الخيال الرحب والقصص الدنيوي إلى جانب قصص القديسين. ومع ذلك تشبث صناع الأيقونات بالطراز الموروث القديم، أشكال ضامرة ووجوه يحرقها ورع طهري غائبة بصورة أخاذة عن أخلاقيات العصر. وتعرض حينذاك تصوير المنمنمات البيزنطي لانحلال كبير، بيد أن نسج الرسوم التصويرية بالحرير ظل ينتج روائع لا تنافس في العالم الغربي ويعود تاريخ ما يسمى ((زنار شارلمان)) إلى القرن الرابع عشر، أو الخامس عشر، ولقد نسج صانع بارع على قاعدة من الحرير المصبوغ بالزرقة صممها فنان، بخيوط من الفضة والذهب، مشاهد من حياة مريم والمسيح وقديسين مختلفين. وتحققت آثار رائعة مماثلة في التصوير على النسيج في ذلك العصر في سالونيك والصرب وملدافيا وروسيا.
وعادت اليونان مرة أخرى مركزاً للفن العظيم. وما كاد القرن الثالث عشر يشرف على نهايته حتى كان الفرنجة الذين نثروا على الأماكن الكلاسية القلاع البهيجة قد أخلوا السبيل للقوة البيزنطية، وفي عام 1348 أرسل الإمبراطور جون السادس ابنه عمانويل ليكون حاكماً على المورة، فأقام مقرة المحلي على تل مشرف على إسبرطة القديمة. فوفد على العاصمة الجديدة نبلاء وأعيان ورهبان وفنانون وعلماء وفلاسفة وبنيت أديرة فخمة، واحتفظت ثلاثة منها في كنائسها، ببعض صورها الجدارية التي ترجع إلى القرون الوسطى: ديرا متروبوليس وبريليبتوس من القرن الرابع عشر وبانتاتسا من أوائل القرن الخامس عشر، وهذه هي أحسن الجداريات في التاريخ البيزنطي الطويل، وهي تضارع خير ما أنتجته إيطاليا في العصر نفسه من الصور الجدارية بدقة رسمها ورشاقة صورها الفياضة وعمق وإشراق ألوانها، والحق، أنها تدين(23/27)
ببعض ما تتسم به من الروعة إلى كيما بووجيوتو أودكشيو - وهم جميعاً يدينون بالكثير للفن البيزنطي.
وعلى الشاطئ الشرقي لبلاد اليونان، على ارتفاع قمة ((جبل أثوس)) أقيمت الأديرة في القرن العاشر، وظلت تقام هناك في معظم القرون بعد ذلك في القرن الرابع عشر بانتوكراتور الفخم، وفي القرن الخامس عشر دير القديس بول. ولقد نسب إبان فترة التقهقر ((دليل يوناني للتصوير)) يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر، أحسن الجداريات إلى عمانويل بانسيلينوس السالونيكي الذي "أظهر تفوقاً وحذقاً في فنه حتى وضع على رأس جميع المصورين القدماء والمحدثين"، وليس من المستطاع التحقق من تواريخ عمانويل وآثاره فقد يرجع إلى القرن الحادي عشر أو السادس عشر، ولا يستطيع أحد أن يجزم بما صدر عن يده من الصور التي فوق جبل أثوس.
وبينما كان الفن البيزنطي يجتاز هذا الوجد الأخير في تاريخه أفل نجم الحكومة البيزنطية. فقد اضطرب نظام الجيش واضمحل الأسطول، وسيطرت سفن جنوى والبندقية على البحر الأسود، وأخذ القرصان يتجولون في الأرخبيل اليوناني، واستولت على غاليبولي (1306) فرقة مرتزقة من قطلونية - "وهي الشركة القطلونية الكبرى" - وفرضت الإتاوات على تجارة الدردنيل، وأنشأت جمهورية من اللصوص في أثينا (1310)، ولم توفق حكومة في القضاء عليهم وتركوا تحت رحمة شططهم. وانضم الباب كليمنت الخامس عام 1307 إلى فرنسا ونابلي والبندقية في مؤامرة لاستعادة القسطنطينية. وفشلت المؤامرة، بيد أن الأباطرة البيزنطيين لبثوا سنوات كثيرة يستشعرون الخوف من الغرب المسيحي حتى لم يكن عندهم من النشاط والحمية ما يدفعون به الزحف الإسلامي وما كاد هذا الخوف يتبدد حتى كان العثمانيون على الأبواب.(23/28)
ولقد اشترى بعض الأباطرة هلاكهم بأنفسهم. ففي عام 1342 تورط جون السادس كانتاكوزين في حرب أهلية وطلب العون من أورخان سلطان آل عثمان فأرسل إليه أورخان السفن وساعده في الاستيلاء على سالونيك، فما كان من الإمبراطور المعترف بالجميل إلا أن أرسل إليه ابنته تيودورا لتكون زوجة ثانية له، وبعث إليه السلطان بفرق جديدة تتألف من ستة آلاف جندي. وأخذ جون باليولوج على عاتقه أن يخلعه - فما كان من جون كانتاكوزين إلا أن نهب الكنائس القسطنطينية ليدفع إلى أورخان ثمن عشرين ألف جندي تركي آخرين ووعد السلطان بحصن في شيرزونيس بتراقيا، وفي لحطة انتصاره الظاهري انقلب الشعب عليه وعده خائناً، وحولته الثورة في ليلة واحدة من إمبراطور إلى مؤرخ - (1355) فاعتزل في دير، وكتب تاريخ عصره كمحاولة أخيرة لإرباك أعدائه.
ولم يجد جون الخامس باليولوج العرش ذلولاً، فذهب إلى روما مستشفعاً (1369)، ووعد، في مقابل ما يقدم له من عون ضد الأتراك أن يدخل شعبه في طاعة البابوية، وأنكر الكنيسة اليونانية الأورثوذكسية أمام المذبح الكبير للقديس بطرس. ووعد البابا إربان الخامس بأن يمد له يد العون ضد الكفار، وأعطاه رسائل إلى أمراء العالم المسيحي، ولكن هؤلاء الأمراء كانوا منصرفين إلى شؤون أخرى. وبدلاً من أن تقدم له البندقية المساعدة المنشودة اعتبرته رهينة في مقابل الديون اليونانية. وأحضر ابنه عمانويل المال المطلوب، وعاد جون إلى القسطنطينية أفقر مما رحل عنها، وأنكره شعبه لأنه حنث بعهده للمذهب الأرثوذكسي. وفشل في محاولة ثانية للحصول على المدد من الغرب، فاعترف بالسلطان مراد الأول مولى عليه، ووافق على أن يمد الجيش العثماني بالمدد العسكري، وقدم ابنه الحبيب عمانويل ليكون رهينة على الوفاء بتعهده وهدأت ثائرة مراد فترة ما وتنكب بيزنطة، وتحول لإخضاع أمارات البلقان.(23/29)
2 - أمارات البلقان تلتقي بالترك
1300 - 96
لقد كان القرن الرابع عشر إلى ذلك الوقت بالنسبة لإمارات البلقان بمثابة القمة في تاريخها ... وعمل الصقالبة الأشداء في ولاشيا وبلغاريا والصرب والبوسنة وألبانيا على قطع الأخشاب من الغابات والبحث عن المناجم وفلاحة الأرض ورعى قطعان الماشية وكانوا يحرصون على تربية دوابهم. وحمل الصقالبة والإيطاليون والمجربون والبلغار واليونان واليهود تجارة الشرق والغرب من بحر الأدرياتي إلى البحر الأسود ومن البحر الأسود إلى البلطيق، وكانت المدن تدر عليهم الرزق كلما ساروا.
وكان الرجل العظيم من الصرب في هذا القرن هو ستيفن دوشان. ولقد أنجبه والده ستيفن أروس الثالث في انفلاتة قصيرة عن روابط الزوجية وسماه بهذا الاسم المحبوب دوشا - أي الروح - وتوّجه ولياً للعهد حتى إذا جاء ابن آخر شرعي وحمل بدوره ألقاباً محببة، خلع ستيفن أباه، وشنقه وحكم بلاد الصرب بيد قوية مدى جيل كامل. وكتب أحد معاصريه عنه يقول: "كان أطول رجال زمانه وأبشعهم منظراً"، واغتفرت له الصرب كل شيء لأنه شن حرباً مظفرة. فقد درب جيشاً جراراً، وقاده بحنكة، وفتح البوسنة وألبانيا وأبيروس وأكارنانيا وأيتوليا ومقدونيا وتساليا ونقل عاصمة ملكه من بلجراد إلى سكبلجة حيث جمع برلماناً من النبلاء، وناشده أن يوحد ويجمع قوانين ولاياته المختلفة، وكانت ثمرة ذلك هي: "زابونيك تساد دوشانه" أي "مجموعة قوانين القيصر دوشا" (1349) وهي تكشف عن مستوى في التطور القانوني والعرف المتمدين لا يقل كثيراً عما في أوربا الغربية، وأفاد الفن الصربي في القرن الرابع عشر من هذه النهضة السياسية في التمويل وربما في الحافز حتى ضارع الازدهار المعاصر في القسطنطينية والمورة، فأقيمت الكنائس الفخمة، وكانت الفسيفساء فيها أكثر(23/30)
حرية وحياة مما سمح به الاتجاه الكهنوتي المحافظ في العاصمة اليونانية، وفي عام 1355 حشد دوشان جيوشه للمرة الأخيرة. وسألهم هل يؤثرون أن يسروا ضد بيزنطة أم ضد هنغاريا. فأجابوا أنهم على استعداد لمتابعته إلى أي مكان يختاره لقيادتهم. فصاح "إلى القسطنطينية" ومرض في الطريق ومات.
وكانت إمبراطوريته من التنافر إلى حد لا يجمعها غير رجل له ذكاء نافذ ونشاط منظم، فشقت البوسنة عصا الطاعة، والتمست لحظة مواتية، في كنف ستيفن ترتكو، لقيادة البلقان. وحصلت بلغاريا على المرحلة الأخيرة من مراحل عظمتها في عهد جون الإسكندر. وانفصلت ولاشيا، التي كانت في يوم من الأيام جزءاً من الإمبراطورية البيزنطية (1290) وحكمت دلتا الدانوب الشاسعة. وخرجت ملدافيا عن ولائها لهنغاريا (1349). وداهم الترك هذه الدويلات المتنافرة حتى قبل أن يجعل جون الخامس باليولوج من بيزنطة التزاماً إقطاعياً لمراد الأول. وقاد سليمان الابن المقدار للسلطان أورخان الجيوش التركية لمعاونة جون السادس كانتاكوزين، فتسلم أو أخذ مكافأة له، حصن زمبه على الجانب الأوربي للدردنيل (1353) ولما هدم الزلزال غاليبولي المجاورة دخل سليمان المدينة العزلاء واستجاب الأتراك المستعمرون لدعوته فعبروا من الأناضول وانتشروا على طول الشاطئ الشمالي لبحر مرمرة وكادوا يبلغون القسطنطينية نفسها وزحف سليمان بجيش متزايد صوب تراقيا واستولى على أدرنة 01361). وبعد خمس سنوات جعل منها مراد عاصمته الأوربية. وفي هذا المركز صوب الأتراك ضرباتهم مدى قرن من الزمان إلى إمارات البلقان المنقسمة على نفسها.
وأدرك البابا إربان الخامس مغزى هذا التسلل التركي إلى أوربا فاستنفر العالم المسيحي بأسره لحرب صليبية أخرى، فاتجه جيش مؤلف من الصرب والهنغاريين والولاشيين، ببسالة صوب أدرنة. وأقاموا عند نهر مارتزا احتفالاً بزحفهم الذي لم يلق مقاومة، وفيما هم يشربون الأنخاب(23/31)
ويعربدون إذا بهم يفاجئون بهجوم ليلي من قوة تركية صغيرة بالقياس إليهم. وذبح كثيرون قبل أن يتمكنوا من حمل أسلحتهم، وغرق كثيرون آخرون وهم يحاولون الانسحاب عبر النهر وفر الباقون (1371). وفي عام 1385 استسلمت صوفيا وسقط نصف بلغاريا في أيدي العثمانيين. واستولوا عام 1386 على نيس على سالونيك عام 1387. وأصبحت اليونان بأسرها مكشوفة أمام الأتراك.
وأوقفت بوسنة الصغرى الزحف في غضون سنة بطولية واحدة. وضم ستيفن توتكو جنوده إلى جنود الصرب بقيادة لازار الأول وهزموا الأتراك في بلوشنيك (1388). وبعد عام سار مراد غرباً على رأس جيش فيه فرق كثيرة من الجند المسيحيين. والتقى في قوصوة بحلف من الصرب والبوسنين والمجريين والفلاشيين والبلغار والألبان والبولفريين وادعى فارس حربي إسمه ميلوش كوبيلتش، أنه آبق في الخدمة العسكرية وجاسوس واستطاع بذلك أن يشق طريقه إلى خيمة مراد وأن يغتال السلطان فضرب حتى مات. واستثار ابن مراد ووريثه بايزيد الأول الحمية الغضوب في نفوس الأتراك وقادهم إلى النصر. فأسر الملك لازار وقطعت رأسه وأصبحت الصرب إمارة إقطاعية تدفع الجزية للأتراك، وأرغم ملكها الجديد ستيفن لازار فتش على إرسال السلاح والرجال إلى بايزيد، وفي عام 1392 انضمت ولاشيا في عهد جون شيشمان، إلى قائمة الدول البلقانية التي تدفع الجزية للعثمانيين. ولم تقو على الدفاع غير بلغاريا وبيزنطة.
وفي عام 1393 غزا بايزيد بلغاريا. وسقطت ترنوفو لعد حصار دام ثلاثة أشهر، ودنست الكنائس وأضرمت النيران في القصور ودعا زعماء النبلاء إلى اجتماع، ثم أعمل السيف فيهم. فاستصرخ البابا مرة أخرى العالم المسيحي ودعا الملك سيجمسوند ملك هنغاريا، أوربا لحمل السلاح. ومع(23/32)
أن فرنسا كانت مشغولة بصراع حياة أو موت مع إنجلترا إلا أنها أرسلت قوة من الفرسان تحت قيادة كونت نيفير، وجاء كونت هوهنزلون والسيد الأعظم لفرسان القديس يوحنا مع أتباعهما، وأحضر أمير بلتين ثلة من الفرسان البافاريين، وأنكر جون شيشمان تبعية الإقطاعية وجاء بجنده ليحارب تحت قيادة الملك الهنغاري.
وسار الجيش المتحد الذي يتألف من ستين ألفاً من الجنود الأشداء عبر الصرب وحاصر الحامية في نيكوبوليس. وبلغهم التحذير بأن بايزيد في طريقه، ومعه جيش من آسيا لرفع الحصار، فوعد الفرسان الفرنسيون وقد لعبت الخمر والنساء برؤوسهم بأن يبيدوا هذا الجيش، وقالوا مفاخرين لو سقطت السماء على الأرض فسيرفعونها برماحهم، أما بايزيد فقد اقسم ليربطن جواده بالمذبح الرفيع في كنيسة القديس بطرس في روما ووضع ضعف قواته في المقدمة بخطة حربية بادية الوضوح. فاندفع الفرسان الفرنسيون وسط هذه القوات مستشعرين للنصر، ثم وسط عشرة آلاف من الانكشارية ثم وسط خمسة آلاف من الفرسان الأتراك، ثم هجموا مصعدين في غير تبصر أحد التلال، وإذا بهم يواجهون وراء القمة مباشرة الجزء الرئيسي من الجيش التركي المؤلف من أربعين ألفاً من حملة الرماح. وحارب النبلاء ببسالة وكانوا بين قتيل وأسير ولائذ بالفرار، وباندحارهم وقع الاضطراب في صفوف المشاة المتحالفين خلفهم. ومع ذلك فقد كان الهنغاريون والألمان يردون الأتراك على أعقابهم بينما كان ستيفن لازار فتش أمير الصرب يقود خمسة آلاف من المسيحيين ضد الجيش المسيحي وانتصر في موقعة نيكوبوليس الحاسمة لمصلحة السلطان (1396).
وثارت ثائرة بايزيد عندما رأى الجم الغفير من رجاله صرعى في حومة القتال، وعندما سمع ما زعمته الحامية التي أنقذت من أن المحاصرين المسيحيين قتلوا أسراهم من الترك، فأمر بقتل أسراه البالغين عشرة آلاف(23/33)
رجل. وسمح لكونت نيفير أن يتخير أربعة وعشرين فارساً في مقابل الفدية التي يحضرونها. وذبح آلاف من المسيحيين في مقتله دموية استمرت من طلوع الشمس إلى فترة متأخرة من المساء، حتى توسل قواد السلطان أن يخلي سبيل الباقين. وظلت بلغاريا منذ ذلك اليوم إلى عام 1878 ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية وبذلك استولى بايزيد على معظم اليونان، ثم اتجه صوب القسطنطينية.
3 - السنوات الأخيرة للقسطنطينية
1373 - 1453
لم تكن هناك حكومة جديرة تماماً بالسقوط كالحكومة البيزنطية. فلم ترسل فرقاً من الجنود إلى الجيوش المسيحية في مارتزا وقوصوه أونيكوبوليس لأنها فقدت الرغبة في الدفاع عن نفسها وعجزت عن إقناع اليونان الممعنين في السفسطة بأن الاستشهاد في سبيل الوطن عمل مجيد ونبيل، فقد جهزت اثني عشر ألف جندي للسلطان عام 1379 والفرق البيزنطية هي التي أجبرت بأمر جون السابع باليولوجس مدينة فيلادلفيا البيزنطية بآسيا الصغرى على التسليم للأتراك (1390).
ولما واصل بايزيد حصار القسطنطينيين (1402) كانت الإمبراطورية البيزنطية قد انحسرت في عاصمتها. وسيطر بايزيد على شاطئ بحر مرمرة وتحكم في الدردنيل وحكم معظم آسيا الصغرى والبلقان تقريباً وتنقل في أمن بين عواصمه الأسيوية والأوربية. ويبدو أن الساعة الأخيرة للمدينة المحاصرة قد حانت. وكان اليونان المشرفون على الموت جوعاً يلقون بأنفسهم من الأسوار، ويلجئون إلى الأتراك لكي يطعموا. وفجأة ظهر من الشرق الإسلامي مخلص ((كافر)) للحدود الأمامية للعالم المسيحي. وهو تيمور الأعرج - تيمورلنك الكبير - الذي عزم على أن يضع حداً لنمو القوة العثمانية ووجودها. ولما أخذت حشود التتار تطوي الأرض متجهة إلى الغرب رفع بايزيد الحصار عن القسطنطينية وعاد ليعيد جمع قواته في الأناضول. والتقى التتار والأتراك في أنقرة (1402) فهزم(23/34)
بايزيد ووقع أسيراً وانحسر المد التركي فترة جيل. وبدأ أن الله قد ناصر آخر الأمر المسيحيين.
واستعادت بيزنطية بفضل حكم عمانويل الثاني السديد، معظم اليونان وأجزاء من تراقية. ولكن محمد الأول أعاد تنظيم الجيش التركي وتحول به مراد الثاني من الهزيمة المنكرة إلى انتصارات باهرة. وكان جنود الإسلام لا يزالون، يستلهمون من اعتقادهم بأن الشهيد في سبيل الإسلام له الجنة. وحتى ولو لم تكن هناك جنة وحور عين، فإن فيهم من الإنصاف ما يجعلهم يرون الجمال في بنات يونان (1). أما المسيحيون فلم يكونوا على هذا القدر من الأنصاف، فإن اليونان الكاثوليك كانوا يمقتون الرومان الكاثوليك، وكان الفريقان مكروهين بدورهما. ولما أخذ البنادقة يقنصون اليونان الكاثوليك في جزيرة كريت ويعملون السيف في رقابهم انضم البابا أربان الخامس إلى بترارك في تهنئة أمير البندقية على حمايته للكنيسة الواحدة الصادقة (1350) ولقد نفر الشعب وصغار القساوسة من كل محاولة لإعادة توحيد المسيحية اليونانية واللاتينية - وصرح أمير بيزنطي بأنه يفضل أن يرى العمامة التركي في القسطنطينية على القبعة الحمراء لكاردينال روماني. وكرهت معظم الحكومات البلقانية جيرانها أكثر من كراهيتها للأتراك، وآثر البعض أن يخضع للمسلمين، الذين لا يفرضون ضرائب أكثر مما يفرضه الحكام المسيحيون واضطهادهم للهرطقة أقل أو هم لا يضطهدونها على الإطلاق ويسمحون بأربع زيجات.
وفي عام 1422 أعاد مراد الثاني الهجوم على القسطنطينية. وأرغمته ثورة في الولايات البلقانية على رفع الحصار. وسمح لجون الثامن باليولوجس أن يحكم في سلام نسبي بشرط أن يدفع جزية باهظة للأتراك. وأعاد مراد فتح اليونان وسالونيك ومعظم ألبانيا. وقاومت الصرب ببساطة تحت إمرة
_________
(1) أثبتت الوقائع قوة إيمان المسلمين وهو الإيمان الذي جعلهم يطوون رقعة الأرض بالفتوح على الرغم من قلة عددهم وعتادهم وأقام دولتي الفرس والروم. (المترجم)(23/35)
جورج برانكوفتش، وألحق جيش موحد من الصرب والهنغاريين إمرة هانياد جانوس الهزيمة بمراد عند كونوفتزا (1444) وحكم بارنكوفتش الصرب إلى أن مات بالغاً من العمر تسعين سنة (1456) ووقع مراد، بعد انتصارين من فارنا ووقعة قوصوه الثانية (1448)، صلحاً مع الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر باليولوجس وانسحب إلى أدرنة ومات هناك (1451).
ولقد جلس محمد الثاني الملقي بالفاتح على العرش العثماني وهو في الواحدة والعشرين من عمره. وأيد المعاهدة التي أبرمت مع قسطنطين وأرسل ابن أخيه أورخان ليتعلم (وربما ليكون جاسوساً) في البلاط البيزنطي ولما تحدت دول إسلامية أخرى سلطانه على آسيا الغربية جعل جنود يعبرون المضايق وترك ممتلكاته الأوربية تحت إمرة وزيره خليل باشا المعروف بصداقته لبيزنطة. وكان قسطنطين يتحلى بالشجاعة يتحلى بالشجاعة أكثر من الذكاء، فأبلغ الوزير أنه إذا لم يضاعف المعاش الذي يدفع لرعاية ابن أخي محمد فإن بيزنطة ستجعل أورخان مطالباً بالسلطنة العثمانية. ويبدو أن قسطنطين قد رأى أن الثورة في آسيا فرصة لإضعاف الأتراك في أوربا. ولكنه أهمل أن يحافظ على محالفاته في الغرب ومواصلاته بالجنوب. وعقد محمد الصلح مع أعدائه من المسلمين ومع البندقية وولاشيا والبوسنة وهنغاريا. وعبر ثانية إلى أوربا وشيد حصناً منيعاً على البوسفور مشرفاً على القسطنطينية، ومن ثم أمن المعبر المكشوف الذي تحوزه جنوده بين القارتين، وتحكم في التجارة كلها التي تدخل البحر الأسود. وظل ثمانية أشهر يجمع المواد والرجال. واستأجر صناع المدافع المسيحيين، ليصنعوا له أكبر مدفع عرف لذلك العهد، يرمى بقذائف وزنها ستمائة رطل، وفي يونية عام 1452، أعلن الحرب، وبدأ الحصار الأخير للقسطنطينية ومعه مائة وأربعون ألف رجل.
ودافع قسطنطين بعزم اليائس وجهز جنوده السبعة آلاف بمدافع صغيرة ورماح وقسى وسهام وبنادق ساذجة ترمي قذائف من الرصاص في(23/36)
حجم الجوزة، وكان لا ينام إلا لحظات خاطفة، وأشرف كل ليلة على إصلاح ما يصيب الأسوار من عطب في غضون النهار. ومع ذلك فإن الحصون القديمة أخذت تنهار أكثر فأكثر تحت وطأة قذائف المنجنيق ومدفعية الأتراك المتفوقة، وهكذا انتهى تحصين المدن في القرون الوسطى بالأسوار. وفي التاسع والعشرين من مايو شق الأتراك طريقهم عبر خندق مكتظ بجثث قتلاهم. ودخلوا كالموج المتلاطم من فوق الأسوار ومخترقين إياها إلى المدينة التي أخذها من كل جانب، وضاعت حشرجة المحتضرين في طبول الموسيقى العسكرية وأبواقها. وحارب اليونان بشجاعة آخر الأمر، وكان الإمبراطور الصغير في كل مكان من حومة الوغى، واستشهد النبلاء الذين كانوا معه عن بكرة أبيهم دفاعاً عنه. ولما أحاط به الأتراك صاح قائلا: ((ألا يوجد مسيحي يضرب عنقي)). وخلع عن نفسه رداءه الإمبراطوري وحارب كجندي عادي واختفى في طريق جيشه الصغير، ولم يسمع عنه شيء قط بعد ذلك.
وقتل المنتصرون الألوف، حتى توقفت كل محاولة للدفاع. ثم بدءوا النهب والسلب الذي يجنح إليه الظافرون والذي طال تعطشهم إليه، وأخذ كل بالغ ينتفع به في العمل غنيمة، واغتصبت الراهبات كغيرهن من النسوة في ثورة من الشهوة لا تعرف التمييز، ووجد السادة والخدم من المسيحيين بعد أن زال عنهم الكساء الذي يدل على مكانتهم، أنفسهم متساوين فجأة في العبودية التي لا تمييز فيها وكبح جماح النهب والسلب هوناً ما، فعندما رأى محمد الثاني رجلاً مسلحاً تدفعه عاطفته الدينية يتلف الممر الرخامي لكنيسة القديسة صوفيا، ضربه بسيفه الملكي الأحدب، وأعلن أن كل المباني يجب أن تصان لتكون غنيمة ينظمها السلطان. وحولت كنيسة القديسة صوفيا إلى مسجد بعد التطهير المناسب فأزيلت عنها كل الإمارات المسيحية، وطليت فسيفساؤها بالبياض ونسي ما كان عليها خمسمائة سنة، وصعد مؤذن في نفس اليوم الذي(23/37)
سقطت المدينة فيه أو في يوم الجمعة التالي له إلى أعلى برج من أبراج أيا صوفيا ودعا المسلمين للصلاة فيها جماعة لله الناصر؛ وأدى محمد الثاني فريضة الصلاة في أشهر مزار في العالم المسيحي.
وهز الاستيلاء على القسطنطينية كل عرش في أوربا. فقد سقط الحصن الذي طالما حمى أوربا من آسيا أكثر من ألف سنة، فإن القوة والعقيدة الإسلاميتين اللتين أمل الصليبيون فر ردهما إلى داخل آسيا، قد شقتا الآن طريقهما على جثة بيزنطة، وعبرتا البلقان إلى أبواب هنغاريا؛ ورأت البابوية، التي حلمت بإخضاع جميع المسيحيين اليونان لحكم روما، بفزع سرعة تحول الملايين من سكان جنوب شرقي أوربا إلى الإسلام. وأصبحت طرق التجارة التي كانت مفتوحة في يوم من الأيام للسفن الغربية في يد أجنبية، تفرض عليها المكوس في وقت السلم أو تسدها المدافع في وقت الحرب، وهجر الفن البيزنطي موطنه ولجأ إلى روسيا. بينما اختفى تأثيره في الغرب بالقضاء على عزمه. وأخذت هجرة العلماء إلى إيطاليا وفرنسا، التي كانت قد بدأت عام 1397، تزداد وتثمر في إيطاليا الدعوة إلى إنقاذ اليونان القديمة. وإذا أخذنا بوجه من الوجوه فإنه لم يضع شيء، إلا أن الموتى قد ماتوا. فقد أتمت بيزنطة دورها، وأسلمت مكانها، في موكب الإنسانية الذي يتألف من البطولة والقتل ومن النبل والخسة.
4 - هانيادي جانوس
(1387 - 1456)
وكان سكان هنغاريا البالغ عددهم حوالي سبعمائة ألف في القرن الرابع عشر مزيجاً من المجر والبانونيين والسلوفاك والبلغار والخزر والباتزيناك والكومان والسلافونيين والكرواتيين والروس والأرمن والولاشيين والبوسنويين والصرب. والخلاصة أن أقلية من المجر كانت تحكم الأغلبية من الصقالبة. وبدأت تتكون في المدن الناشئة إبان القرن الرابع عشر طبقة وسطى تجارية وأخرى من عمال(23/38)
الصناعة - ولما كان هؤلاء في الغالب مهاجرين من ألمانيا وفلاندر وإيطاليا فقد أضيفت خلافات عنصرية إلى الكيان الجنسي المعقد.
وانتهت بموت أندرو الثالث أسرة أرباد المالكة (907 - 1301) فقسمت الحرب التي اندلعت في سبيل العرش الأمة أكثر مما هي عليه، ولم يعد السلام إلا عندما جعلت الطبقة العليا من النبلاء الملكية بالانتخاب، ووضعوا تاج القديس ستيفن على رأس شارلز روبرت أمير أنجو (1308). فأحضر معه فكرات فرنسية من إقطاع وفروسية وفكرات إيطالية عن التجارة والصناعة فنهض بمناجم الذهب الهنغارية وشجع المشروعات وضرب السكة، وطهر القضاء ومنح الأمة إدارة مناسبة. وأصبحت هنغاريا في عهد شارلز وابنه لويس دولة غربية وذلك رغبة في الحصول على معاونة الغرب أمام الشرق المتكاثر.
وكتب فولتير ((لقد حكم لويس الأول هنغاريا حكماً سعيداً أربعين سنة (1342 - 82) وحكم بولندة اثنتي عشرة سنة (حكما غير موفق كذاك) ولقبه شعبه بالكبير، الذي يستحقه عن جدارة، ومع ذلك فإن هذا الأمير قلما يعرف في أوربا (الغربية) لأنه لم يحكم قوماً يستطيعون أن ينقلوا شهرته وفضائله إلى أمم أخرى. وما أقل الذين يعلمون أنه كان في القرن الرابع عشر، لويس الكبير في جبال الكربات)) .... ومزجت أخلاقه بين الثقافة المدنية ومشاعر الفروسية بالحمية والقدرة العسكريتين. ولقد انغمس في الحروب بين حين وآخر ليثأر لمقتل أخيه في نابلي وليستعد من البندقية الثغور الدلماشية التي اعتبرتها هنغاريا زمنا طويلا منافذها إلى البحر، وليضع حداً للتوسع العدواني وتركيا وذلك يجعل كرواتيا والبوسنة وبلغاريا الشمالية تحت سيطرة هنغاريا ونشر بالقدرة والمبدأ مثل الفروسية الأعلى بين النبلاء، ورفع مستوى الأخلاق والعادات بين شعبه. وحقق الفن القوطي الهنغاري في عهده وعهد أبيه أجمل آثاره،(23/39)
ونحت نيقولاس كولوزفاري وأبناؤه من التماثيل البارعة مثل تمثال القديس جورج الذي يوجد الآن في براغ. وأسس لويس عام 1367 جامعة بيس، ولكنها اختفت مع الكثير من أمجاد هنغاريا في القرون الوسطى في الصراع الطويل المضني مع الأتراك.
واستمتع سيجسموند الأول وهو زوج ابنة لويس بحكم كان من الممكن أن يؤدي طوله (1387 - 1437) إلى وضع سياسة طويلة بعيدة النظر. ولكن أعماله كانت فوق طاقته. فقاد جيشاً جراراً ضد بايزيد في نيكوبوليس، ولم ينج من الكارثة إلا بحياته. وأدرك أن الزحف التركي قد أصبح أخطر مشكلات أوربا، وبذل عناية فائقة وأموالا لا تكفي لتحصين الحدود الجنوبية، وشيد عند ملتقى الدانوب بالساف حصن بلغراد الكبير. بيد أن انتخابه لإدارة الإمبراطورية جعله يهمل هنغاريا إبان غيبته الطويلة في ألمانيا، كما أن حصوله على تاج بوهيميا قد وسع من مسئولياته دون أن يزيد في قدراته.
وغزا الأتراك المنتشرون هنغاريا بعد سنتين من وفاته. وأثمرت الأمة في هذه الأزمة أشهر أبطالها. ولقد حصل هانيادي جانوس على لقبه من قلعة هانيادي في ترانسلفانيا، وهو معقل منيع منح لأبيه لحسن بلائه في الحرب ودرب جانوس - أي جون - على الحرب كل يوم تقريبا في صباه. وبرز بانتصاره على الأتراك في سيمندريا، وجعله الملك الجديد، لاديسلاس الخامس، كبير القواد على الجيوش التي تقاوم الأتراك. وأصبح رد العثمانيين على أعقابهم هو الشغل الشاغل في حياته. فلما دخلوا ترانسلفانيا قاد لمحاربتهم فرقاً حديثة التنظيم تلهبها وطنيته وقيادته. وفي هذه الوقعة بذل سيمون كيمني، الاثير في الأدب الهنغاري، حياته في سبيل قائده. وكان قد علم أن الأتراك طلب إليهم أن يفتشوا عن هانيادي ويقتلوه، فناشد سيمون قائده أن يتبادل الأزياء وإياه فسمح له بذلك.(23/40)
ومات تحت وطأة الهجمات المركزة عليه، بينما قاد هانيادي الجيش إلى النصر (1442) وأرسل مراد الثاني فرقاً جديدة تتألف من ثمانين ألف رجل إلى الجبهة، فاستدرجهم مخيلا إليهم أنه يتراجع، إلى ممر ضيق -لا يسمح إلا لجزء يسير منهم بالقتال دفعة واحدة، وانتصرت خطة هانيادي مرة أخرى. وأزعجت مراد الثورات في آسيا، فسعى إلى الصلح ووافق على دفع تعويض مادي. فوقع الملك لاديسلاس وحلفاؤه هدنة مع مندوبين عن مراد، هدنة تدعو الفريقين إلى الإخلاد إلى السلم. وأقسم لاديسلاس على الكتاب المقدس، واقسم سفراء الترك على القرآن (1442).
ولكن الكاردينال جوليانو شيزاريني، القاصد الرسول في بودا، ما لبث أن وجدالوقت مناسبا للهجوم. فإن مراداً ينقل جيشه إلى آسيا وبذلك يستطيع أسطول إيطالي يتحكم في الدردنيل أن يحول بينه وبين العودة واحتج الكاردينال الذي عرف باستقامته وقدرته، بأن القسم لكافر لا يقيد المسيحي. ونصح هانيادي بالإخلاء إلى السلم، وأبت الفرقة الصربية أن تحنث بالقسم. ووافق مندوبو الأمم الغربية شيزاريني، ووعدوا بأن يسهموا بالمال والرجال في حرب صليبية مقدسة. ولم ير لاديسلاس بدا من التسليم، وقاد بنفسه هجوماً على مواقع الأتراك. ولم يأت المدد الموعود من الغرب، وراغ الجيش العثماني المؤلف من ستين ألف رجل من الأشداء، من أمير البحر الإيطالي وعبروا عائدين إلى أوربا. وفي فارنة بالقرب من البحر الأسود ألحق مراد هزيمة منكرة بجند لاديسلاس البالغ عددهم ألفا (1444) وكان حامل اللواء في الجيش التركي يرفع المعاهدة الممتهنة على رمح. فنصح هانيادي الملك بالانسحاب ولكنه أمر بالتقدم. وناشده هانيادي أن يبقى في المؤخرة، بيد(23/41)
أن الملك اندفع إلى المقدمة، وقت. ولم يسترد شيزاريني شرفه ببذل حياته.
وحاول هانيادي بعد ذلك بأربع سنوات أن يرفع البلاء. فشق طريقه عبر الصرب المعادية له، والتقى بالإتراك في قوصوه في معركة حامية استمرت ثلاثة أيام. واندحر الهنغاريون ولاذ معهم هانيادي بالفرار. واختفى أياما في بطيحة ماء، وبرز، بعد أن أشرف على الموت جوعاً. فعرف الصرب وأسلموه إلى الأتراك. وأطلق سراحه بعد أن وعد بألا يقود جيشاً على أرض الصرب بعد ذلك.
وفي عام 1456 حاصر الأتراك بلغراد. وصوب محمد الثاني على القلعة المدفعية الثقيلة التي هدمت أسوار القسطنطينية. ولم يعرف الأوربيين قبل ذلك قصفاً عنيفاً بالقنابل كهذا. وقاد هانيادي الدفاع بحنكة وشجاعة لم يغفلها الشعر الهنغاري قط. وآثر المحاصرون، آخر الأمر خوض المعركة على الموت جوعاً، فاندفعوا من الحصن، وشقوا طريقهم إلى المدفع التركي، وهكذا انتصروا على العدو انتصاراً حاسماً فتخلصت هنغاريا ستين سنة بعد ذلك من أي هجمة إسلامية. وبعد أيام قلائل من هذا الدفاع التاريخي مات هانيادي بالحمى في خيمته. وتمجده هنغاريا باعتباره أعظم رجالها.
5 - المد في عنفوانه
(1453 - 81)
تابع الأتراك فتح البلقان واستسلمت الصرب آخر الأمر عام 1459، وظلت ولاية تركية إلى عام 1804. واستولى محمد الثاني على كورنثه بعد أن حاصرها وأثينا دون أن يرفع رمحاً (1458) ومنح الفاتح، مثله في ذلك مثل قيصر، الأثينيين شروطاً سهلة احتراماً لأسلافهم وأبدى اهتماماً ينم عن الثقافة بالآثار الكلاسية وحق له أن يبتهج، لأنه لم ينتقم من الصليبيين فحسب وإنما ثأر لوقعة مرثون أيضاً. وقبلت البوسنة، التي(23/42)
لقبت عاصمتها وثغرها راجوسة بأثينا الصقلية لمظهرها الثقافي، الحكم التركي عام 1463 وقبلت الإسلام في يسر أذهل الغرب.
وكان أشجع غرماء الترك في النصف الثاني من القرن الخامس عشر هو إسكندر بك الألباني. واسمه الحقيقي جورج من كاستريوتا، ولعله كان من أسرة صقلية متواضعة، ولكن الأساطير المحببة لشعبه تجعله من أسرة ملكية أبيروسية وتسبغ عليه شباباً مغامراً. ولقد أنبئنا أنه قدم في صباه رهينة لمراد الثاني، وأنه نشأ في بلاط العثمانيين بأدرنة. وأحب السلطان فيه الشجاعة والاحتمال حتى عامله كأحد أبنائه وجعله ضابطا في الجيش التركي. ودخل في الإسلام وسمى لهذا الاسم إسكندر بك - أي الأمير إسكندر وبعد أن قاد الأتراك في وقائع كثيرة ضد المسيحيين ندم على ارتداده عن المسيحية واحتال للفرار. وأنكر الإسلام، واستولى على العاصمة الألبانية كروجا من حاكمها التركي وأعلن العصيان (1442) وأرسل محمد الثاني الجيش تلو الجيش لمعاقبته، فهزمها جميعها إسكندر بك بسرعة تحركاته العسكرية وبراعته في المراوغة وشغل محمد بحروب أكبر، فمنحه هدنة عشر سنوات (1461). ولكن مجلس شيوخ البندقية والبابا بيوس الثاني أقنعوا إسكندر بك بأن يخرج على الهدنة ويواصل الحرب (1463). وتوعد محمد المسيحيين باعتبارهم كفاراً حانثين بوعودهم وعاد إلى حصار كروجا. وأبلى إسكندر بك بلاءً حسنا في الدفاع عنها مما أضطر السلطان إلى رفع الحصار مرة أخرى، وبين حطام النصر مات إسكندر بك (1468) واستسلمت كروجا عام 1479، فأصبحت ألبانيا ولاية تابعة لتركيا.
وفي الوقت نفسه ابتلع محمد الذي لا يشبع الموره وأطرابزنده ولسبوس ونجر وبونت (أثيوبيا القديمة) والقرم. وفي عام 1477 عبر جيش من(23/43)
جيوشه الأيزونزو وخرب الجانب الشمالي الشرقي لإيطاليا على مسيرة اثنين وعشرين ميلا من البندقية وعاد إلى الصرب محملا بالغنائم. وسلمت البنتدقية التي استولى علها الفزع والتي حاربت طويلا دفاعاً عن ممتلكاتها في بحري أيجه والأدرياتي، بكل حق لها في كروجا وسكوتاري، ودفعت تعويضاً مقداره عشرة آلاف بندقي (1). أما أوربا الغربية التي فشلت في معاونة البندقية، فقد أنكرت عليها أن تبرم وتحافظ على الصلح مع الكافر. ووصل الأتراك بذلك إلى الأدرياتي، ولم يعد هناك ما يفصلهم عن إيطاليا وروما والفاتيكان، غير جانب ضيق من البحر، عبره قيصر بقارب صغير. وفي عام 1480 أرسل محمد جيشاً عبر هذا الجانب الصغير لمهاجمة مملكة نابولي. واستولى على تورنتو في يسر، وأعمل السيف في نصف عدد السكان البالغ اثنين وعشرين ألف نسمة، واسترق الباقين وشطر أحد كبار الأساقفة نصفين. واصبح مصير المسيحية ووحدانية الزوجة معلقاً في كفه ميزان. وأنهى فيرانت ملك نابولي حروبه مع فلورنسة، وأرسل خير فرقة لاستعادة تورنتو. وكان محمد قد ورط نفسه في حصار رودس ومات أثناء المغامرة، وظلت رودس مسيحية إلى عهد سليمان ورفع الأتراك قبضتهم عن تورنتو عادوا إلى ألبانيا (1181). وتوقف المد العثماني عن السير لحظة.
6 - النهضة الهنغارية
(1456 - 90)
في نصف القرن الذي ظفر فيه هانيادي لهنغاريا بالأمن، قاد ابنه ماتياس كورفينوس بلاده إلى أوجها التاريخي. وكان في السادسة عشرة من عمره
_________
(1) الدوقات هي البندقي، عملة أجنبية قديمة تنسب إلى البندقية وتستعمل أيضا عياراً للذهب.(23/44)
فقط عند جلوسه على العرش، ولم يكن فيه سمت الملوك، إذ كانت ساقاه قصيرتين- بالقياس إلى جذعه، ولا يبدو طويل القامة إلا إذا امتطى صهوة جواد، ومع ذلك فقد كان له صدر مصارع وذراعه وقوته وإقدامه، وبعد تتويجه بوقت غير طويل تحدى إلى مبارزة فردية فارساً ألمانيا ضخم الجثة عظيم القوة، صرع في جولة واحدة في مدينة بودا جميع منافسيه، وتوعد ماتياس غريمه بأن يشنق إذا أخفق في المبارزة بكل ما أوتي من عزيمة وبراعة. وأكد المؤرخون الهنغاريون بأن الملك الشاب وقد حفزه هذا المأزق العصيب قضى على العملاق مبرماً. وأنضجت الأيام ماتياس حتى أصبح جندياً باسلا وقائداً محنكاً، فهزم الأتراك كلما التقى بهم، واستولى على مورافيا وسيليزيا ولكنه أخفق في فتح بوهيميا وخاض أربعة حروب ضد الإمبراطور فريدريك الثالث، وأخذ فينا وألحق بها النمسا (1485)، وكانت الإمبراطورية النمساوية والهنغارية في الواقع هنغارية.
وجعلت انتصاراته الملكية متفوقة على الطبقة النبلاء بعض الوقت، وكانت مركزية الحكم هما كما كانت في غرب أوربا طابع العصر، وضارع بلاطه في بودا وفي القصر الملكي في فيسجراد أية أبهة ملكية وجدت في ذلك العهد، وأصبح كبار النبلاء خدامه، واشتهر سفراؤه بفخامة أرديتهم وخدمهم وحشمهم، وكانت دبلوماسية ماتياس ماكرة غير مترددة، ودودة سخية، فقد اشترى بالذهب ما يكلف ضعفه بالحرب، ووجد في الوقت نفسه الوقت والحماسة لإصلاح كل إرادة في الحكومة؛ وليعمل بنفسه كإداري يقظ وقاض إمبراطوري. وأخذ يتجول متخفيا بين أفراد الشعب والجند والمحاكم، فاختبر لتوه سلوك موظفيه، وأصلح من شأنهم بالمنافسة والعدل وبغير محاباة أو خوف وعمل ما يستطيعه لحماية الضعيف من القوى، والفلاحين من سادتهم المغتصبين. وبينما استمرت الكنيسة تزعم أن البلاد ملك بابوي، فإن ماتياس قد عين ونظم تعيين الأساقفة واستمتع بحماسته عندما(23/45)
عين صبيا إيطاليا في السابعة من عمره أساقفة هنغاريا فأرسل تجار مدينة فرارا، رداً على هذه الفكاهة، إلى كبير الأساقفة الجديد مجموعة من اللعب.
وتزوج ماتياس عام 1476 بياتريس أميرة أرجون، ورحب في هنغاريا بالروح النابولية المرحة والأذواق الإيطالية المصقولة لحفيده الفونسو الهمام. وشجع الاتصال بين هنغاريا ونابولي تلك القرابة الأنجوية (1) بين الأسرتين المالكتين، ولقد تعلم في إيطاليا كثير من رجال الحاشية في بودا. وتشبه ماتياس نفسه بالحكام المستبدين لعصر النهضة الإيطالية، في نزعاته الثقافية إلى جانب اتجاهه الميكافلي في الحكم، وأرسل لورنزوده مدتشي نقشين بارزين من البرونز صنعها فيروكشيه وأوفد لودوفيكو ألمورو، ليوناردو دافنشي؛ ليصور العذراء وطفلها للملك الهنغاري مؤكداً للفنان أنه من القلائل الذين يستطيعون تقدير الصورة العظيمة. وقام فيليبينوليبي بعمل صورة أخرى للعذراء وطفلها وذلك لكورفينوس؛ وزين تلاميذه القصر الملكي في إذترجوم بالصور الجدارية؛ ووضع نحات إيطالي تمثالاً نصفياً لبياتريس؛ ولعل الصائغ المشهور، كارادوسو، وهو من مدينة ميلانو هو الذي صمم صورة المسيح على الصليب البارعة في أذترجوم؛ ونقش بينيدتو داميانو زخارف القصر في بودا؛ وشيد إيطاليون مختلفون هيكل الكنيسة الصغيرة على طراز عصر النهضة في القسم الداخلي من العاصمة.
واتبع النبلاء والمطارنة الملك، في رعاية الفنانين والعلماء، بل إن المدن المشهورة بالتعدين في داخل البلاد قد وجد فيها من الأغنياء من يرفعون من قدر الثروة، بالإنفاق على الفن، وشيدت دور جميلة مدنية ودينية لا في بودا وحدها ولكن في فيزجراد وتانا وأنترجوم وناجيفا وفاك أيضاً، وزين مئات
_________
(1) نسبة إلى أنجو.(23/46)
من النحاتين والمصورين هذه المباني. ووضع جيوفاني دلمانا تماثيل مشهورة لهانيادي جانوس وغيره من الأبطال الهنغاريين وتألفت في كسا، مدرسة صحيحة للفنانين، ولقد نقش هناك "المعلم ستفين" وغيره، للمذبح الكبير لكنيسة القديسة اليزابث، حظاراً زخرفياً، تبدو تماثيله الأساسية إيطالية في صقلها ورشاقتها وجمالها، ونحت فريق آخر في الصخر لكنيسة بزترزبانيا نقشاً بارزاً عظيماً، وهو "المسيح في بستان الزيتون"، يدهش من رآه بتفاصيله الدقيقة وتأثيره الدرامي، وظهرت قوة مماثلة في التعبير والفن في الصور الهنغارية التي بقيت من ذلك العصر، مثل ما نجده في "صورة مريم" تزور إليزابث، رسمها "المعلم م. س" وهي الآن في متحف بودابست ولقد تلف أوضاع كل الفن تقريبا الذي أثمرته تلك المرحلة المشرقة من تاريخ هنغاريا إبان الغزو العثماني في القرن السادس عشر، وبعض التماثيل يوجد الآن في أسطنبول، نقلها إليها الأتراك المنتصرون.
وكانت اهتمامات ماتياس أدبية أكثر منها فنية، كما كان دارسو الكلاسيات الأجانب منهم والوطنيون محل ترحيب في بلاطه، ويحصلون على رواتب كبيرة لوظائف اسمية في الحكومة. وكتب أنطونيو بوتفيني تاريخا لهذا العهد بلغة لا تينية على منوال ليفي، وجمع جانوس فيتيز، كبير أساقفة حران، مكتبة عامرة بالكتب الكلاسية القديمة، وخصص الأموال لإرسال شباب الدارسين لتعلم اليونانية في إيطاليا. وأنفق أحد هؤلاء وهو جانوس بانونيوس سبعة أعوام في مدينة فرارا، وسمح له بأن يكون في حلقة لورنزو وبفلورنسة، وأدهش البلاط بعد أن عاد إلى هنغاريا، بأبياته اللاتينية ومحاضراته اليونانية. وكتب بونفين عندما تحدث بانونيوس باليونانية، "نعتقد أنه لا بد وأن يكون قد ولد في أثينا" ولعل إيطاليا وحدها هي التي كان يجد فيها المرء، مثل هذه الكوكبة من الفنانين والعلماء ويحصلون على معاش لهم في بلاط ماتياس، وذلك في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. وتعد الرابطة(23/47)
الأدبية للدانوب من أقدم الجمعيات الأدبية في العالم، وقد أسست في بودا عام 1497.
وجمع كورفينوس مثل معاصريه من آل المدتشي الآثار الفنية والكتب وأصبح قصره متحفا للتماثيل والقطع الفنية، وتذهب روايته إلى أنه كان ينفق على الكتب ثلاثين ألف كرون كل عام، وهي في أكثر الأحوال مخطوطات أنفق الكثير على تزيينها ولم يكن مع ذلك مثل فيديريجودا مونتيفلتر ويرفض الكتب المطبوعة، فلقد أسست مطبعة في بودا عام 1473، أي قبل دخول الطباعة بثلاثة أعوام. وكانت مكتبة كورفينوس التي ضمت عشرة آلاف مجلد عند وفاة ماتياس؛ أجمل مكتبات القرن الخامس عشر خارج إيطاليا. ولقد وضعت هذه الكتب في قصره بمدينة بودا وخصصت لها قاعتان فسيحتان؛ لهما نوافذ من الزجاج الملون تطل على الدانوب؛ وكانت الرفوف كثيرة النقوش؛ والكتب مجلدة في معظمها برق الغزال وعليها ستائر من المخمل المزركش. ويظهر أن ماتياس قرأ بعض هذه الكتب، وتوسل بكتاب ليفي على الأقل طلبا للنعاس، ولقد كتب إلى أحد دارسي الكلاسيات "أيها العلماء؛ ما أسعدكم! إنكم لا تجاهدون في سبيل المجد المصبوغ بالدم وفي سبيل تيجان الملوك؛ وإنما تجاهدون في سبيل أكاليل الغار التي تتوج الشعر والفضيلة. بل إنكم تستطيعون أن ترغمونا على نسيان ضجيج الحرب".
ولم تعش السلطة المركزية التي نظمها ماتياس إلا فترة وجيزة بعد وفاته (1490). ولقد بعثت قوة كبار الأمراء وسيطروا على لاديسلاس الثاني، واختلسوا الموارد التي كان ينبغي أن تنفق على فرق الجيش فانفض الجيش وعاد الجنود إلى دورهم؛ وبدد النبلاء، الذين أعفوا من الضرائب، دخلهم وجهدهم في حياة معربدة صاخبة، بينما كان الإسلام يهدد الحدود، والفلاحون الذين استنزفهم الاستغلال؛ يتهيئون للثورة. وفي عام 1514 أعلن مجلس الدايت الهنغاري حربا صليبية على الأتراك، وعن حاجته لمتطوعين واستجاب(23/48)
جم خفير من الفلاحين لفداء الصليب إذا لم يجدوا فارقاً كبيراً بين الحياة والموت. ولما وجدوا السلاح في أيديهم، انتشرت بينهم هذه الفكرة وهي لماذا ننتظر حتى نقاتل الأتراك البعيدين، في حين أن النبلاء المبغضين قريبون؟ وقادهم جندي اسمه جيورجي دوزا في ثورة عارمة فاكتسحوا هنغاريا بأسرها، يحرقون جميع القلاع ويقتلون جميع النبلاء الذين يقعون في أيديهم- رجالا ونساء وأطفالا- فطلب النبلاء النجدة من كل ناحية ... جنداً نظاميين ومرتزقة، وفاجئوا الفلاحين غير المنظمين وعذبوا زعماءهم تعذيباً مروعاً. ومنع دورزا ومعاونوه من الطعام أسبوعين. ثم ربط إلى عرش حديدي محمي بالنار ووضع على رأسه تاج محمي بالنار أيضا، ووضع في يديه صولجان محمي بالنار. وسمح لرفاقه المشرفين على الموت جوعاً أن ينزعوا اللحم المشوي عن جسده وهو لا يزال حياً يعي. وقد تحتاج النقلة من الهمجية إلى الحضارة قرناً من الزمان، أما التحول من الحضارة إلى الهمجية فإنما يحتاج إلى يوم واحد.
ولم يذبح الفلاحون لأنهم كانوا لا يعوضون بغيرهم، ولكن القانون الثلاثي (1514) يقرر: "أن التمرد الحديث .... يضع في كل وقت وصمة الخيانة على كاهل الفلاحين، ومن أجل ذلك فقد تنازلوا عن حريتهم وأصبحوا خاضعين لسادتهم الملاك في عبودية دائمة غير مشروطة .... وكل نوع من أنواع الملكية يحوزه المالك الإقطاعي، وليس من حق الفلاح أن يطلب العدل ويحتكم إلى القانون ضد أحد النبلاء. وبعد ذلك باثني عشر عاما سقطت هنغاريا في يد الأتراك.(23/49)
الفصل الحادي عشر
البرتغال تستهل الثورة التجارية
1300 - 1517
لقد جعلت البرتغال الصغيرة من نفسها في هذا العصر، دولة من أغنى وأقوى دول أوربا، مع انه لم يكن لها من المزايا الطبيعية غير ساحل يطل على البحر ولم تبلغ هذه المكانة إلا بالعزيمة الخالصة والمغامرة الجسور. ولقد أنشئت الملكية فيها عام 1139، فبلغت حكومتها ولغتها وثقافتها مكانة وطيدة في عهد أحب حكامها إليها وهو دينيز "العامل" الإداري والمصلح والبناء والمعلم، وداعي الفنون والمكابد الحاذق للأدب والحب. ولقد نضج ابنه أفونسو الرابع بعد حوادث إعدام وقائية، فأصبح عهده مثمراً، ربطت فيه التجارة النامية مع إنكلترا، في اتحاد سياسي بين الأمتين لا يزال باقياً إلى اليوم. ووجه فونسو ابنه بدرو إلى الزواج من دونا كنستانزا مانويل، توكيداً لمحالفة رشيدة مع قشتالة الآخذة في القوة. فاستجاب الابن وتزوجها، ولكنه استمر على حبه إينيه ده كاسترو، وهي من أصل ملكي. ولما مات كنستانزا، كانت إينيه عقبة في سبيل زواج ديبلوماسي اّخر لبدرو، وأمر أفونسو بها فقتلت (1335) على مضض. ولقد أورد كامبونز، الذي يعد ملتن البرتغالي هذه القصة الغرامية المشهورة في ملحمته القومية، وهي لوزياد:
وهكذا جاءت جماعة القتلة ضد إينيه ...
وأنفذ الوحوش سيوفهم في نهديها الأبيضين ...(23/50)
وفي سورة غضب صبغوا باللون القرمزي،
ولن يكون هناك انتقام سماوي بعد ذلك مثله.
واحتفظ بدرو بالرغبة في الثأر، حتى إذا ورث العرش بعد عامين من هذا الحادث اقتص من القتلة، ونبش القبر عن جثمان حبيبته وتوجها ملكة، ثم أعاد دفنها بما تستحقه من مراسيم ملكية. وحكم بقسوة غذتها هذه المأساة.
وثمة قصة أقل شأناً حكم خلفه. ذلك أن فرناندو الأول فقد رأسه وقلبه في سبيل ليونورا، زوجة أمير بومبيرو، وفك خطبته لأميرة قشتالية، وتزوج من ليونورا على الرغم من زوجها الذي على قيد الحياة ومن كنيسة قد أهينت. وبعد أن توفي فرناندو (1383)، ادعت انها نائبة الملك، وجعلت ابنتها بياتريز الملكة، وخطبتها إلى جون الأول ملك قشتالة. وثار الشعب لأنه توقع أن يصبح إقطاعاً تابعاً لقشتالة، وأعلن مجلس نواب اجتمع في كوامبرا أن العرش البرتغالي انتخابي واختار دون جُوَا- جون- ابن بدرو من أبيه ملكاً على البرتغال. وأخذت قشتالة على نفسها، أن توطد ملك بياتريز بالقوة، فحشد جون جيشاً، واقترض خمسمائة من حملة السهام من إنجلترا، وهزم القشتاليين في ألجوباروتا، وذلك في الخامس عشر من أغسطس عام 1385 - وهو اليوم الذي يحتفل به سنوياً على انه عيد استقلال البرتغال.
وهكذا افتتح جون الكبير حكمه الذي استمر ثماني وأربعين سنة، كما بدأ أسرة- بين افز- التي جلست على العرش قرنين من الزمان. واعترف بالإدارة وأصلح القانون والقضاء، وجعلت اللغة البرتغالية هي اللغة الرسمية، وبدأ أدبها في الظهور. وكان العلماء هنا، كما كانوا في أسبانيا، يستعملون اللغة اللاتينية، حتى القرن الثامن عشر، ولكن فاسكو دا لوبيرا كتب باللغة القومية قصة فروسية، أما ديس دا(23/51)
جولا (1400) التي أصبحت بعد ترجمتها أشيع كتاب غير ديني في أوربا. وعبر الفن القومي عن نفسه مزدهيا في كنيسة سانتا ماريا دا فكتوريا، التي شيدها في باطلها جون الأول، تمجيداً لوقعة ألجوباروتا، وهي تضارع كاتدرائية ميلان في الحجم، وكنيسة نوتردام في باريس، في الفخامة المعقدة للركائز والأبراج. وفي عام 1436 أضيفت كنيسة صغيرة جميلة التصميم والزخرف تستقبل رفات الملك ابن السفاح".
ومجد في بنيه. فخلفه دورات- إدوارد- وأحسن الحكم مثله تقريباً ووحد بدرو القوانين، واستهل- هنريك -"هنري الملاح" الثورة التجارية التي قدر لها تغير خريطة الكرة الأرضية. ولما استولى جون الأول على سبتة من المغاربة (1415) خلف هنري البالغ من العمر إحدى وعشرين سنة حاكماً على هذا المعقل المنيع، وهي عند مضيق جبل طارق تماماً. وفتنته روايات المسلمين عن تمبكتو والسنغال والذهب والعاج والعبيد التي يمكن الحصول عليها على طول الساحل الغربي لأفريقيا، فعزم الشاب الطموح على أن يكتشف تلك الربوع ويضمها إلى البرتغال. فربما قاده نهر السنغال الذي تحدث عنه من اخبروه، صوب الشرق إلى منابع نهر النيل وإلى بلاد الحبشة المسيحية، وبذلك يُفتتح طريق مائي عبر إفريقيا من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر- ومن ثم إلى الهند، ويتحطم الاحتكار التجاري للتجارة مع الشرق، وتصبح البرتغال دولة كبرى. وقد يدخل سكان الإقليم بعد فتحه في المسيحية ويحصر الإسلام في أفريقيا من الشمال ومن الجنوب بدول مسيحية، ويصير البحر الأبيض المتوسط آمناً للملاحة المسيحية. ويبدو أن هنري لم يفكر في طريق يدور حول أفريقيا، ولكن هذا الطريق كان ثمرة جهده.
ولقد أقام حوالي عام 1420 في ساجرس على الرف الجنوبي الشرقي للبرتغال وأوربا، داراً لاستخلاص الأخبار المتعلقة بالمعرفة والمغامرة(23/52)
البحريتين. وجمع ودرس هناك، هو ومعاونوه، وفهم فلكيون ورسامو خرائط من اليهود والمسلمين في مدى أربعين سنة تقارير الملاحين والرحالة، وسيروا إلى البحار المحفوفة بالمخاطر، سفناً خفيفة، مزودة بالأشرعة والمجاديف، ويقوم عليها من ثلاثين إلى ستين رجلاً. وكان أحد قباطنة هنري قد أعاد كشف مادريه (سنة 1418)، التي سبق أن رآها البحارة الجنوبيون قبل ذلك بسبعين سنة ثم عفّا عليها النسيان، ولقد طور وقتذاك المستعمرون البرتغاليون مواردها، وسرعان ما عوضت غله من السكر وغيره من المنتجات، نفقات الاستعمار، وشجعت الحكومة البرتغالية الاستجابة لمطالب هنري إلى المال ولاحظ جزر الآزور على خريطة إيطالية رسمت عام 1351، فأرسل جنزالو كابرال للبحث عنها. وتحقق مراده وبين عامي 1432 - 44، ضم الجواهر البحرية، الواحدة بعد الأخرى إلى التاج البرتغالي.
بيد أن أفريقيا هي التي استهوته أكثر من غيرها. ولقد أبحر البحارة القطلونيون والبرتغاليون، ما يقرب من تسعمائة ميل على طول الساحل الغربي إلى بوجا دور (1341 - 46). ومع ذلك، فإن النتوء الكبير للقارة العظيمة الممتد غرباً في المحيط الأطلسي، قد ثبط همم البحارة في الكشف عن الجنوب، فانسحبوا إلى أوربا متعللين بحكايات عن المواطنين المفزعين، وعن بحر تشتد كثافة الملح فيه إلى حد لا تستطيع معه أن تشقه أي سفينة، وعن دلائل تؤكد أن كل مسيحي يجاوز بوجا دور ينقلب إلى زنجي. ولقد رجع القبطان جيليان إلى سامبرس بأعذار مشابهة عام 1433، فأمره هنري أن يعيد الكرة، وطالبه أن يعود ببيان واضح عن الأراضي والبحار جنوبي الرأس المحرم. وأدى هذا التحريض بجيليان إلى أن يصل إلى مسافة تبعد مائة وخمسين ميلا عن بوجادرو (1435) وأذهله ما رآه من وفرة النبات في المناطق الاستوائية، مناقضاً ما قاله أرسطو وبطليموس، من أن(23/53)
الصحارى هي التي توجد فقط تحت الشمس المحرقة، وبعد ذلك بست سنوات أبحر نونو ترستاو، إلى رأس بلانكو، وعاد إلى موطنه ومعه بعض الزنوج الأشداء، الذين سرعان ما عمدوا واستعبدوا، وشغلهم الأمراء الإقطاعيون في المزارع البرتغالية، وكانت أول نتيجة هامة لجهود هنري، هي افتتاح تجارة الرقيق. وزود الأمير بمعونة مالية جديدة. وأبحرت سفنه لتستكشف وتنصر الأهلين في الظاهر، ولتحصل على الذهب والعاج والعبيد في الواقع.
وعاد القبطان لانزاروت عام 1444 ومعه مائة وخمسة وستون زنجياً، وقد شرعوا في فلاحة أراضي فرقة يسوع المسيح الرهبانية العسكرية. ولقد وصف معاصر برتغالي اقتناص هؤلاء الزنوج بقوله:
كان رجالنا يهتفون، "القديسة ياجو، القديس جورج، البرتغال". ويسقون عليهم فيقتلون أو يخطفون كل من تقع عليه أيديهم. وقد تشاهد هناك أمهات يهربن بأطفالهن، وأزواجاً يفرون بزوجاتهم وكل منهم يبذل- قصاراه للنجاة. يقفز بعضهم في البحر، ويرى بعضهم أن يختبئ في أركان أخصاصهم، وخبأ البعض أطفالهم تحت الشجيرات ... حيث كان رجالنا يعثرون عليهم. والله الذي يمنح كل إنسان ما يستحق من جزاء وهب رجالنا آخر الأمر في اليوم النصر على أعدائهم، وتعويضا لهم على ما بذلوه من عناء في خدمته أخذوا مائة وخمسة وستين بين رجال ونساء وأطفال، ولم يحسب القتلى في هذا العدد".
ولم يأت عام 1448 حتى كان قد أحضر إلى البرتغال نيف وتسعمائة عبد، ويجب أن نضيف أن المسلمين في شمال أفريقيا قد سبقوا المسيحيين في نشر تجارة الرقيق، وكان زعماء الزنوج أنفسهم يبتاعون الرقيق من البرتغاليين في مقابل الذهب والعاج، وكان الإنسان سلعة للوحوش الآدمية المفترسة.
ولقد بلغ دينيز دياز عام 1445 الجبل الخصب الداخل في البحر المعروف بالرأس الأخضر، واكتشف لانزاروت عام 1446 مصب نهر السنغال،(23/54)
وعثر كادا موستو عام 1456 على جزر الرأس الأخضر. وفي هذه السنة مات الأمير هنري، ولكن المغامرة استمرت بالحافز الذي منحها إياه وبالغنم الاقتصادي الذي يمولها. وعبر جواو ده سانتارم خط الاستواء (1471). ووصل دو يوجو كاو إلى نهر الكونغو (1484)، وأخيراً شق بارثلميودياز، بعد نصف قرن من حملة هنري الأولى، طريقه وسط العواصف وإغراق السفن، حتى طاف بأقصى الطرف الجنوبي لأفريقيا (1486). وابتهج عندما وجد أنه يستطيع بذلك الإبحار شرقا، فالهند مستقيمة أمامه، وقد بدت في قبضته تقريبا، ولكن رجاله المتعبين أرغموه على العودة، فندب البحار القاسية التي خلعت قلوب رجاله فأطلق على الطرف الجنوبي لأفريقيا اسم رأس النداب، ولكن الملك جون الثاني، رأى الهند بعد الانحناءة أطلق على الموضع اسم رأس الرجاء الصالح.
ولم يعش دياز أو الملك ليريا تحقق الحلم الذي أثار البرتغال بأسرها وهو طريق مائي كامل إلى الهند، واستشعر الملك عمانويل الغيرة للثروة والتشريف اللذين جلبهما كلمبوس إلى إسبانيا فكلف عام 1497 فاسكودا. جاما أن يبحر حول إفريقيا إلى الهند، ولقد أبحر القبطان البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاما، وقد أغمته العواصف أن يتخذ طريقا دائريا ما يقرب من خمسة آلاف ميل وسبعة وثلاثين يوما حتى بلغ رأس الرجاء الصالح، ثم رحل أربعة آلاف وخمسمائة ميل في مائة وثمانية وسبعين يوما أخرى .. تتخللها المخاطر والأهوال حتى بلغ كاليكوت وهي ملتقى رئيسي للتجارة بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب في آسيا، وألقى مراسيه هناك في العشرين من مايو عام 1498، أي بعد عشرة أشهر وأثنى عشر يوماً من تركه لشبونة، وما أن هبط إلى البر حتى قبض عليه باعتباره قرصانا ًونجا من الإعدام بأعجوبة. وتغلب بشجاعته النادرة ومنطقه الخلاب على ارتياب الهنود فيه وغيرة المسلمين منه وظفر بالترخيص للبرتغاليين(23/55)
بالتجارة وأخذ معه مقداراً عظيما من الفلفل والزنجبيل والقرفة وجوز الطيب والجواهر وترك كاليكوت في التاسع والعشرين من أغسطس في رحلة شاقة استغرقت سنة عائداً إلى لشونة. وهكذا وجد البرتغاليون آخر الأمر طريقا إلى الهند متحرراً من نقل السلع من سفينة إلى أخرى ومن المكوس المفروضة على الطرق البحرية والبرية في إيطاليا عبر مصر وبلاد العرب وفارس. وكانت النتائج الاقتصادية أكثر حيوية لأوربا مدى قرن كامل من تلك التي نجمت عن اكتشاف أمريكا.
ولم يفكر البرتغاليون إلى عام 1500 في محاولة الإبحار غربا لأنهم اعتزلوا بالوصول إلى الهند الحقيقية، بينما كان الملاحون الإسبان تخبطون في جزر الهند المزعومة بالبحر الكاريبي. بيد أن بدرو كبرال وقع على البرازيل في تلك السنة بعد أن جرفته الرياح من الطريق الذي سلكه إلى الهند عن طريق إفريقيا، وفي هذه السنة أيضاً أعاد جاسبار كورت ريال اكتشاف لبرادور. وفي عام 1503 اكتشف أمريجو فيسبوتشي في ظل العلم البرتغالي ريوبلاتا وباراجواي، وعثر ترستاو داكونها على الجزيرة التي تحمل اسمه في النصف الجنوبي من المحيط الأطلسي. ومع ذلك فقد رأى السياسيون البرتغاليون، البرازيل قليلة الغناء في حين أن كل حمولة تأتي من الهند تملأ خزانة الملك وجيوب التجار والملاحين.
واحتفظت الحكومة البرتغالية بالسيطرة الكاملة على التجارة الجديدة، ما دامت التجارة تحتاج إلى حماية عسكرية صارمة. وكان التجار المسلمون قد وطدوا أقدامهم منذ أمد طويل في المراكز الهندية، وانضم إليهم بعض ذوي النفوذ من الهنود في مقاومة الغزو البرتغالي، واختلطت إذ ذاك التجارة بالحرب والمال بالدم في هذه الثورة التجارية العارمة. وأصبح أفونسوده ألبوكرك أول حاكم على الهند البرتغالية عام 1509 وشن هجوما بعد هجوم على المسلمين والهندوس حتى استولى على عدن وهرمز على الساحل العربي(23/56)
وحصنهما. كما استولى على جوا في الهند وملقة في شبه جزيرة الملايوا، ومن ملقة أحضر إلى بلاده غنيمة مقدارها مليون بندق. وأصبحت البرتغال بفضل تسلحها على هذا النحو سيدة التجارة الأوربية مع الهند وجزر الهند الشرقية مدى مائة وخمسين سنة. ووطد التجار البرتغاليون أقدامهم شرقاً حتى بلغوا مولوكاس (1512) وابتهجوا إذ وجدوا جوز الطيب والتوابل وللقرنفل في جزر التوابل هذه ألذ طعماً وأرخص ثمناً منها في الهند. ولم يقنع البوكرك بما حققه فأبحر ومعه عشرون سفينة إلى البحر الأحمر واقترح على ملك الحبشة المسيحي أن يجمعوا قوتهما ليحفرا قناة من النيل الأعلى إلى البحر الأحمر وبذلك يحولان مجرى النهر ويجعلان مصر الإسلامية بأسرها صحراء قاحلة. وأرغمت المتاعب البوكرك راجعاً إلى جوا حيث مات 1515. وفي العام التالي فتح دوارت جولهو، الصين الكوشينية (1) سيام للتجارة البرتغالية، وفي عام 1517 أنشأ فرناو بيرز ده اندراد علاقات تجارية مع كانتون وبيكين.
وأصبحت الإمبراطورية البرتغالية- وهي أول إمبراطورية استعمارية حديثة- أوسع الإمبراطوريات رقعة في العالم، لا تضارعها إلا الإمبراطورية التي تتكون لأسبانيا في الأمريكتين. وأضحت لشبونة سوقا تجارية نافقة، ترسو في مياهها سفن لآتية من بلاد رومانسية بعيدة. ووجد تجار أوربا الشمالية أن تفشل البندقية وجنوى في الحصول على السلع الآسيوية بأرخص الأسعار. وحزنت إيطاليا على احتكارها المفقود للتجارة الشرقية. وأصيبت النهضة الإيطالية بضربات قاضية على يد كولمبوس وفاسكو دا جاما ولوثر في جيل واحد، فضعف أمرها وذبلت، بينما سبقت البرتغال وأسبانيا، اللتان سيطرتا على البحار المفتوحة في الازدهار الدول التي على المحيط الأطلسي.
_________
(1) أخص دولة نامية الجنوب في الهند الصينية الفرنسية.(23/57)
وانتعش الأدب والفن بهذا المجد الطريف. وأخذ فرنار لوبس يصف مدى عشرين سنة (1334 - 54) "تاريخه" الضخم الذي سرد فيه قصة البرتغال تتدفق في السرد وقدرة التشخيص يضارعان ما عند فروسار. واستهل جيل قيسانت الدراما البرتغالية بمسرحيات صغيرة للبلاط وفصول تمثل في الأعياد العامة (1500) وظهرت مدرسة برتغالية في التصوير، اتخذت قدوتها في غلاندرز ولكنها حققت مزاجها ومزاياها الخاصة. وبلغ نوتوجونكالفز شأو مونتانيا وكاد يضارع آل فان ايكس، في مجموعة صورة القاتمة التي رسمها لدير القديس سانت فنسنت. فإن الصور الجدارية بدائية في المنظور والنسق، بيد أن صور الأشخاص الخمسة والخمسين- وأحسنها صورة هنري الملاح- تبرز الشخصية الفردية ببراعة واقعية. وأراد الملك عمانويل المحدود أن يخلد ذكرى رحلة فاسكودا جاما المظفرة، فكلف المعماري جواد القشتالي، أن يشيد بالقرب من لشبونه دير بلم (1500) الفخم على الطراز القوطي المشع. وهكذا دخلت البرتغال في عصرها الذهبي.(23/58)
الفصل الثاني عشر
أسبانيا
1300 - 1517
1 - الشهيد الأسباني
1300 - 1469
لقد وجدت أسبانيا في جبالها وقايتها ومأساتها في وقت واحد: فقد منحتها أمناً نسبياً من الغزو الخارجي، ولكنها عوقت تقدمها الاقتصادي ووحدتها السياسية وإسهامها في الفكر الأوربي. ولقد عاش في ركن صغير من الشمال الغربي شعب نصف بدوي من الباسك وكانوا ينتقلون بأغنامهم من السهول إلى التلال ثم يهبطون إلى السهول مرة أخرى تبعاً لتقلبات الفصول. ومع أن كثيرين من الباسك كانوا رقيق أرض، إلا أنهم جميعاً زعموا نبل المحتد، وحكمت ولايتهم الثلاث نفسها تحت السيادة الواهية لقشتالة أو نافار. وظلت نافار مملكة قائمة برأسها، حتى ضم فرديناند الكاثوليكي قسمها الجنوبي إلى قشتالة (1555) بينما أصبحت البقية الباقية منها إقطاعاً ملكياً تابعاً لفرنسا. وتملكت أراجون سردينيا منذ عام 1326 وتبعتها جزر البليار عام 1354. وصقلية عام 4409. وزادت ثروة أراجون نفسها بفضل صناعة وتجارة بلنسية وطركونة وسراقسطة وبرشلونة- وهي عاصمة ولاية قطلونية ضمن مملكة أراجون. وكانت قشتالة أقوى الممالك الأسبانية وأوسعها رقعة، وقد حكمت المدن الآهلة أفيدو وليون وبرجس وبلد الوليد وسلامنكا وقرطبة وأشبيلية وطليطلة،(23/59)
وهي عاصمتها، ولعب ملوكها أدوارهم أمام أكبر عدد من النظارة وفي سبيل أعظم المخاطر في أسبانيا.
وأصلح ألفونسو الحادي عشر (1312 - 50) قوانين قشتالة ومحاكمها وحول منافسات النبلاء إلى حروب تشن على المسلمين، وشجع الأدب والفن، وكافأ نفسه بخليلة نجيبة. ولقد حملت له زوجته ابناً شرعياً واحداً، نشأ في ظروف غامضة وإهمال وحقد وأصبح فيما بعد بدرو الغشوم ومن الواضح أن اعتلاءه على العرش ولما يناهز الخامسة عشرة (1350) جلب اليأس لأبناء الفونسو التسعة غير الشرعيين، فقد أقصوا جميعاً عن البلاد، وأعدمت أمهم ليونورا ده جزمان، ولما جاءت عروسه الملكية بلانش البوربونية من فرنسا من تلقاء نفسها، تزوجها وأنفق ليلتين معها ثم أمر أن يدس لها السم متهماً إياها بالتآمر (1361) وتزوج عشيقته ماريا ده باديلا، التي تؤكد الأسطورة أن جمالها بلغ من الخلابة حداً، جعل فرسان البلاط يشربون بنشوة ماء اغتسالها. وكان بدرو محبوباً في الطبقات الدنيا التي أيدته إلى النهاية المريرة، ولكن المحاولات المتكررة من اخوته غير الأشقاء لإقصائه عن العرش، قد دفعته إلى مجموعة من الدسائس والقتل وانتهاك الحرمات، تقف في وجه كل حكاية وتلطخها بالدم. واستطاع هنري التراستاماري، أكبر أبناء ليونورا أن ينظم ثورة موفقة ويقتل بدرو بيديه ويصبح هنري الثاني ملك قشتالة (1369).
ولكننا نظلم الأمم إذا حكمنا عليها من ملوكها، لأنهم اتفقوا مع مكيافلي في أن الأخلاق لم تجعل للملوك. وبينا نجد الحكام يتلهون بالقتل الفردي أو المتخذ صفة القومية، فإن الشعب الذي بلغ عدده ملايين عام 1450، هو الذي أنشأ حضارة أسبانيا، ومع أنهم كانوا يعتزون بنقاء أرومتهم إلا أنهم كانوا مزيجاً غير ثابت من الكلت والفينيقيين والقرطاجنيين والرومان والقوط الغربيين والوندال والعرب والبربر واليهود، وعند سفح الكيان(23/60)
الاجتماعي قليل من العبيد، وطبقة من الفلاحين ظلوا رقيق لأرض إلى عام 1471، وفوقهم العمال اليدويون والصناع وتجار المدن، وفوق أولئك وهؤلاء الفرسان ( caballeros) في طبقات رفيعة من الشرف، والنبلاء الذين يعتمدون على الملك (أبناء الأسر العريقة bidalgos والنبلاء المستقلون ( proceres) وإلى جانب هؤلاء المدنيين طبقات الكهنوت تبدأ من قساوسة الأبرشيات فالأساقفة ورؤساء الأديرة وتنتهي برؤساء الأساقفة والكرادلة. ولكل مدينة مجلسها البلدي ( conseijo) وهي ترسل مندوبين عنها، ينضمون إلى النبلاء والمطاردة في المجالس الإقليمية والقومية، والأصل النظري أن مراسيل الملوك تتطلب موافقة هذه المجالس لتصبح قوانين. ونظمت الأجور وشروط العمل والأسعار ومعدل الفائدة على الأموال، المجالس البلدية أو النقابات. وتعثرت التجارة بسبب الاحتكارات الملكية والمكوس الحكومية التي تفرضها الدولة أو الأقاليم على الواردات والصادرات وتنوع الموازين والمقاييس وبالعملات المتدهورة وقطاع الطرق وقرصان البحر الأبيض المتوسط ورفض رجال الدين للحساب واضطهاد المسلمين- الذين غذوا معظم الصناعة والتجارة بالقوة البشرية- واليهود، الذين كانوا يدبرون شئون المال. وافتتح مصرف حكومي في برشلونة (1401) يضمان لودائع المصرف، وصدرت صكوك للتعامل، وأنشئ تأمين بحري قرابة عام 1435.
ولما كان الأسبان يجمعون في أرومتهم بين الأصول السامية والأصول المناهضة للسامية، لذلك احتفظوا بحرارة إفريقيا في دمائهم، وكانوا يميلون مثلهم في ذلك البربر، إلى الوداعة والعنف في القول والعمل فيهم سورة وفي عقولهم تطلع وفضول، وهم أغرار ويؤمنون بالخرافة إلى حد مخيف واحتفظوا باستقلال للروح وكرامة للشجاعة حتى في النكبات والفقر. كانوا يحبون اقتناء المال ولقد فطروا على ذلك، ولكنهم لم يحتقروا الفقراء ولم(23/61)
يلعقوا نعال الأغنياء. واحتقروا العمل وتقاعسوا عنه، بيد أنهم احتملوا الشدائد برباطة جأش، كانوا كسالى ومع ذلك غزوا نصف العالم الجديد. وظمئوا إلى المغامرة والعظمة والفروسية، وكانوا يستمتعون بالمخاطر ولو كانت بالتفويض فحسب، فإن مصارعة الثيران، وهي من لآثار كريت وروما كانت قد أصبحت لعبة قومية تقليدية رسمية زاخرة بالألوان محكمة، تعلم الشجاعة والبراعة الفتية وسرعة الخاطر. ولكن الإسبان تناولوا مباهجهم بشيء من الكآبة، وهم يشبهون الإنجليز المحدثين (وعلى خلاف إنجليز عصر إليزابث) ولقد أضفى جدب التربة وظلال المنحدرات الجبلية على نفوسهم كآبة جارفة، وكانت أخلاقهم جادة مستقيمة كاملة وهي أحسن كثيراً من المحافظة على صحة أبدانهم، وكان كل إسباني مهذباً، بيد أن القليلين منهم، كانوا مفتولي الأجسام، وازدهرت صور ألعاب من الفروسية وسط القاذورات التي اكتنفت الجماهير. وأصبحت مسألة الشرف عقيدة، وكانت النساء في إسبانيا ربات وسجينات أما زي الطبقات العليا فكان بسيطا في أيام الأسبوع ويتحول إلى الأبهة أيام الآحاد والأعياد بالحرير الزاهي والقباء المكشكش والملون المحزم والذهب. وكلف الرجال بالعطور والكعوب العالية، ولم يقنع النساء بفتنتهن الطبيعية فخلبن ألباب الرجال بالبنيقة والمخرمات والخمار يخفي وجوههن واتخذت المطاردة الجنسية آلاف الأشكال وتنكرت في آلاف الصور، وجاهدت صنوف الإرهاب الديني والقوانين الصارمة ومسائل الشرف، في الحد من تلك المطاردة ولكن فينوس انتصرت على الجميع، وزادت خصوبة النساء على غلة الأرض.
وكانت الكنيسة في إسبانيا حليفاً لا ينفصل عن الدولة، ولم تدخل بابا روما في حسابها إلا قليلاً، وتقدمت بمطالب كثيرة لإصلاح البابوية حتى عندما أعطتها إسكندر السادس الذي لا يعترف بالإصلاح، وفي سنة 1513 حرم الكاردينال اكزيمينس نشر صكوك الغفران التي قدمها(23/62)
يوليوس الثاني في إسبانيا لإعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ونتج ذلك أن الملك عد رئيساً للكنيسة الإسبانية، ولم ينتظر فرديناند في هذا الشأن، هنري الثامن ليعلمه، ولم تكن إسبانيا في حاجة إلى إصلاح ديني يجعل الكنيسة والدولة أو الدين والقومية شيئا واحداً، وحصلت الكنيسة على امتيازات مادية كجزء من هذا الاتفاق غير المكتوب في ظل دولة تعتمد عليها اعتماداً واعياً في توطيد النظام الأخلاقي والاستقرار الاجتماعي والعمل على قياد الشعب لها. ولم يكن موظفوها، حتى الطبقات الدنيا منهم، يخضعون إلا للمحاكم الكهنوتية. وامتلكت مساحات كبيرة من الأرض، يفلحها مستأجرون لها، وكانت تتسلم عشر غلة العقارات الأخرى، ولكنها كانت تدفع ثلث هذا العشر للخزانة، ولقد أعفيت من الضرائب علاوة على إيطاليا. ومن الواضح أن أخلاق الأكليروس ونظام الأديرة، كانت فوق مستوى القرون الوسطى، بيد أن اتخاذ الحظايا قد شاع وسمح به كما حدث في غير إسبانيا واستمر الزهد في إسبانيا بينما أخذ يفترض شمالي جبال البرانس، بل إن العشاق كانوا يجلدون أنفسهم ليذيبوا مقاومة ما في السيدات من حنان وخفر أو ليحصلوا على شيء من الوجد الماسوشي (1).
وكان الناس على ولاء شديد للكنيسة والملك، لأن عليهم أن ينتظموا لمحاربة أعدائهم الألداء المسلمين ونجاح، ولقد عرض الصراع لتخليص غرناطة على أنه حرب في سبيل العقيدة المقدسة، فسارت مواكب حاشدة من الرجال والنساء والأطفال، الأغنياء منهم والفقراء، أيام الأعياد في الطرقات صامتين في حزن أو مرددين الأناشيد، وأمامهم تماثيل كبيرة تجسم العذراء أو أحد القديسين. واعتقدوا اعتقاداً راسخاً بأن العالم الروحي هو بيئتهم الحقيقية وموطنهم الأبدي. والحياة الدنيا إلى جانبه
_________
(1) الماسوشية ضرب من الانحراف الجنسي يقوم على إيلام البدن.(23/63)
إنما هو شر وحلم مؤقت. وكرهوا الهراطقة باعتبارهم خائنين للوحدة والمبدأ القوميين، ولا اعتراض لهم على إحراقهم، وهذا هو أقل ما يستطيعون أن يبذلوه من اجل إلههم الذي انتهكت حرمته ولم تنعم الطبقات الدنيا بشيء من التعليم المدرسي إلا قليلاً وهو ديني فحسب. ولما وجد كورتز القوي بين المكسيكيين الوثنيين، شعيرة تشبه القربان المسيحي- شك بأن الشيطان هو الذي علمهم إياها لكي يضلل الفاتحين.
وشجع على قوة انتشار الكاثوليكية في أسبانيا تلك المنافسة الاقتصادية بين الأسبان وبين المسلمين واليهود، الذين كانوا يؤلفون عشر عدد السكان في أسبانيا المسيحية. ومن الأمور السيئة في نظرهم أن يحتل المسلمون غرناطة الخصيبة، وأكثر من هذا مضايقة لهم أولئك المدجنون- أي المسلمين الذين لم ينتصروا، الذين عاشوا بين الأسبان المسيحيين والذين أدت براعتهم في التجارة والحرف إلى حسد شعب تستعبده الأرض استعباداً بدائياً. أما الأسبان اليهود فلم يصفح عنهم قط. ولقد اضطهدتهم أسبانيا المسيحية مدى ألف سنة: فقد أخضعوهم لضرائب مهنية وقرون مغتصبة ولمصادرة الأموال والاغتيال والتعميد الإجباري، وأرغموهم على الاستماع إلى العظات المسيحية، وحرضوهم حتى في معابدهم أحياناً على التنصر، بينما جعل القانون تهود المسيحي جريمة عقوبتها الإعدام، ودعوا أو ألزموا على الاشتراك في مناظرات مع علماء الدين المسيحي، وهم فيها بين اثنتين إما أن تحيق بهم هزيمة فاضحة أو يحصلون على انتصار محفوف بالمكاره. وأمروا هم والموديجار عدة مرات أن يرتدوا شارة مميزة، وكانت في العادة دائرة حمراء توضع على الكتف في أرديتهم وحرم على اليهود أن يستأجروا خادماً مسيحياً، ولم يسمح لأطبائهم أن يعالجوا المرضى المسيحيين، ورجالهم الذين يعاشرون امرأة مسيحية يقتلون.
ولقد حرض راهب فرنسسكاني عام 1328 في عظاته بمدينة ستلا من(23/64)
أعمال نافار، المسيحيين أن يعملوا القتل في خمسة لآلاف يهودي وأن يحرقوا منازلهم، وفي عام 1391 أثارت عظات فرنان مارتينيز الجماهير في كل مركز كبير بأسبانيا، أن يقتلوا كل من يجدونه من اليهود الذين يرفضون التحول إلى المسيحية. وفي سنة 1410 تحركت بلد الوليد وغيرها من المدن ببلاغة فيسنت فرر الذي يشبه القديس المتعصب، فأمرت أن يحصر اليهود والمسلمون أنفسهم في أحياء معينة- جوديريا أو ألباما- تغلق أبوابها من غروب الشمس إلى شروقها وربما كانت هذه العزلة من أجل حمايتهم.
واستغل اليهود كل فرصة للتطور بما أتسموا به من الصبر والعمل والذكاء فتكاثروا وازدهرت أحوالهم حتى تحت وطأة هذه العوائق. وأحب بعض ملوك قشتالة، أمثال الفونسو الحادي عشر وبدرو الغشوم، اليهود وعينوا الناهبين منهم في المناصب الرفيعة. وجعل الفونسو دون يوسف الأسيجي وزيراً لماليته، واختار يهودياً آخر هو يوسف ابن وقار طبيباً خاصاً له، فأساءا استعمال منصبيهما، واتهما بالتآمر فسجنا وماتا في السجن. وتكررت الحادثة مع صمويل يوسف أبي لافيسه فقد عين قواماً على خزانة الدولة في عهد بدرو، فجمع ثروة طائلة، فحكم الملك بقتله. وكان صمويل قد شيد قبل ذلك بثلاث أعوام (1357) في مدينة طليطلة معبداً يهودياً جميلاً على بساطته، على الطراز التقليدي، وهو الذي حوله فرديناند إلى الكنيسة المسيحية "الترنسيتو" وتحافظ الحكومة عليها اليوم باعتبارها أثراً من الآثار العبرية- الإسلامية في أسبانيا وكانت حماية بدرو لليهود من سوء طالعهم، ذلك لأن هنري أمير تراستامارا- عندما عزله من الملك، أعمل الجنود المنتصرون السيف في ألف ومائتي يهودي (طليطلة 1353)، وتبعت ذلك مذابح أسوأ، عندما أحضر هنري(23/65)
إلى أسبانيا "الصحاب الأحرار" الذين جمعهم دي جيكلان من أوشاب فرنسا ..
وآثر آلاف من اليهود الأسبان التعميد على الفزع من النهب والقتل، فلما أصبحوا مسيحيين من الناحية الشرعية استطاع هؤلاء المنتصرون أن يرقوا سلم الحياة الاقتصادية والسياسية، وفي المهن بل وفي الكنيسة ذاتها وأصبح بعضهم من كبار رجال الكهنوت والآخرون من مستشاري الملوك. وأكسبتهم مواهبهم المالية نجاحاً يثير الحسد، في جمع الدخل القومي وتدبيره. وأحاط بعضهم نفسه بمظاهر الشرف الأستقراطي، وجعل بعضهم نجاحه عدوانياً واضحاً، ووصم الكاثوليك الغضاب، هؤلاء المنتصرين بهذا الاسم الفظيع "حلوف العرب المورسكو" ( marranos) ومع ذلك فإن الأسر المسيحية التي كانت عراقة نسبها أكثر من مالها، أو التي كانت تحترم القدرة من الناحية العملية، قبلت الإصهار إليهم. وبهذه الطريقة ساط الشعب الأسباني وبخاصة طبقاته العليا، الدم اليهودي بصورة مادية ملموسة. وكان لفرديناند الكاثوليكي وتوركيمادا قاضي محكمة التفتيش أسلاف من اليهود. وأطلق البابا بول الرابع على خصمه الذي يحاربه فيليب الثاني، وعلى الأسبان "أنهم بذرة لا قيمة لها من اليهود والمسلمين".
2 - غرناطة
(1300 - 1492)
وصف ابن بطوطة موقع غرناطة على أنه لا يضارعه موقع مدينة أخرى في العالم ... وحولها من كل جانب بساتين وحدائق ومراعي مزهرة وكروم، وفيها مباني جليلة. واسمها العربي غرناطة - ومعناه غير محقق؟ ونصرها الفاتحون الأسبان وجعلوه (جرانادا Granada) ومعناه الممتلئ بالحبوب - ولعله مأخوذ من شجرة الرمان التي فيما جاورها. ولم يطلق الاسم على المدينة فقط، وإنما أطلق على إقليم يضم شريش وجيان(23/66)
والمربة ومالقا وغيرها من المدن، ويبلغ عدد سكانه نحوا من أربعة ملايين نسمة. ونهضت العاصمة، التي كانت تضم عشر هؤلاء السكان مثل "برج المراقبة" إلى قمة تسيطر على واد رائع، يكافئ العناية بالري والزراعة على أساس علمي بمحصولين في السنة. وقام على حراسة المدينة من أعدائها المحيطين بها سور عليه ألف برج، واتخذت الأرستقراطية قصوراً رحبة جميلة التصميم، ورطبت نوافير المياه في الميادين العامة سعير الشمس، وعقد السلطان أو الأمير أو الخليفة بلاطه في أبهاء الحمراء الرحبة.
وكانت الحكومة تأخذ سبع غلة الأرض كلها، وربما أخذت الطبقة الحاكمة مقداراً مماثلا كنفقات للإدارة الاقتصادية والقيادة العسكرية، ووزع الحكماء والنبلاء بعض مواردهم على الفنانين والشعراء والدارسين والعلماء والمؤرخين والفلاسفة، وتولوا جامعة سمح فيها لعلماء المسيحيين واليهود أن يكونوا أساتذة وعمداء أحياناً. ونقش على أبواب الكلية خمسة أسطر: "دعائم الدنيا أربعة: علم الحكماء، وعدالة العظماء، وصلوات الأبرار، وأقدام الشجعان". وأسهم النساء في الحياة الثقافية بحرية، ونحن نعرف بعض أسماء العالمات في غرناطة الإسلامية. ولم يمنع التعليم السيدات مع ذلك، من تحريض رجالهم، لا على العواطف العارمة بل على حب الفروسية ومبارزاتها، وقال أحد ظرفاء العصر: "يميز النساء بدقة ملامحهن ورشاقة أجسامهن وطول شعورهن وتموجها، وبياض أسنانهن وخفة حركاتهن التي تسر الناظرين ... وسحر حديثهن، وعطر أنفاسهن، وكانت النظافة الشخصية ورعاية الصحة العامة أكثر تقدماً منها في العالم المسيحي المعاصر. وكانت الأزياء والأخلاق رائعة وزينت المباريات الفروسية أو المهرجانات أيام الأعياد. والأخلاقيات سهلة، ولم تكن أعمال العنف نادرة بيد أن الكرم والشرف الإسلاميين اكتسبا مدح المسيحيين. فقد قال مؤرخ أسباني: "لقد اشتهر سكان غرناطة بأنهم أهل(23/67)
للثقة، إلى حد أن كلمتهم كان يعتمد عليها أكثر من اعتمادنا على عقد مكتوب". وبين هذه التطورات العظيمة اعتصر الترف النامي قوة الأمة ودعا التفكك الداخلي إلى الغزو الخارجي.
وما أن دعمت أسبانيا المسيحية ببطيء ممالكها وزادت في ثرواتها حتى نظرت بعين العداوة الحسود إلى تلك الإمارة المزدهرة المحاصرة التي تحدت ديانتها المسيحية بأنها شرك كفور والتي قدمت ثغورها، منافذ خطيرة لدولة من الكفار يضاف إلى ذلك أن تلك الحقول الأندلسية الخصبة قد تعوض كثيراً من فدادين الأرض القاحلة في الشمال. ولم تحتفظ غرناطة بحريتها، إلا لأن أسبانيا الكاثوليكية، قد انقسمت إلى مذاهب وملوك. بل إن الإمارة المعتزة بنفسها وافقت (1457) على دفع جزية سنوية إلى قشتالة. ولما أبى أمير مغامر هو علي أبو الحسن أن يستمر على دفع رشوة السلام هذه (1466) لم يجبره هنري الرابع على الدخول في الطاعة لأنه كان منغمساً في ملذاته. بيد أن فرديناند وإزابيلا سرعان ما أرسلا الوفود بعد اعتلائهما العرش مطالبة بمواصلة دفع الجزية. فأجاب الأمير على بجرأة مهلكة: " قولوا لملوككم إن ملوك غرناطة الذين دفعوا الجزية قد ماتوا وإن سكتنا التي نتعامل بها الآن ليست سوى حداً لسيوف". ولم يعلم أبو الحسن بأن فرديناند أقوى منه سلاحاً وادعى السخط على غزوات المسيحيين على الحدود فباغث الثغر المسيحي الزهراء واستولى عليها، وساق أهلها جميعاً إلى غرناطة لبيعهم بيع العبيد (1481) فأن مركيز فارس بنهب المعقل الإسلامي المنيع الحامة (1482) وهكذا بدأ فتح غرناطة.
وعمل الحب على تعقيد الحرب. فقد فتن أبو الحسن بإحدى جواريه حتى أن زوجته السلطانة عائشة أثارت الشعب لخلعه عن العرش وتتويج ابنها أبي عبد الله، الذي عرفه الغربيون باسم ( Boabdil) ، (1482) ففر(23/68)
أبو الحسن إلى مالقة وسار جيش أسباني لمحاصرة المدينة، وأبيد كله تقريباً في ممرات سلسلة جبال أجاركيه، على يد فرق لا تزال موالية للأمير المخلوع، وثارت غيرة أبي عبد الله على انتصارات أبيه العسكرية فسار على رأس جيش من غرناطة لمهاجمة قوة مسيحية بالقرب من الأشانة وحارب بشجاعة، ولكنه هزم وأخذ أسيراً. واشترى خلاصة بأن وعد بمساعدة المسيحيين ضد أبيه. وبأن يدفع للحكومة الأسبانية أثنى عشر ألف دوكات كل سنة. وفي الوقت نفسه نصب عمه أبو عبد الله المشهور بلقب عز زغرل "أي الشجاع" نفسه أميراً على غرناطة، ونشبت حرب أهلية ثلاثية بين الأب ولابن والعم على العرش الغرناطي، ومات الأب واستولى لابن على الحمراء، وانسحب العم إلى وادي آش Guadix حيث حاول مراراً أن يهاجم الأسبان كلما وجدهم عبد الله أن يقلد عمه فامتنع عن الوفاء بوعده ودفع الجزية وأعد عاصمته لمقاومة الهجوم الذي لا مفر منه.
فوزع فرديناند وإيزابلا ثلاثين ألف رجل على الحقول التي تمد غرناطة بالغذاء ليكتسحوها. فأتلفت الطواحين ومخازن الغلال ودور الفلاحين والكروم وغياض الزيتون والبرتقال، وحوصرت مالقة ليمنعوها من تلقي المؤن إلى غرناطة أو إرسالها وصمدت مالقة للحصار حتى أكل سكانها كل ما تقع عليه أيديهم من الخيل والكلاب والقطط، وكانوا يموتون بالمئات من الجوع أو المرض. وأرغمها فرديناند على أن تسلم بلا قيد ولا شرط، واستعبد الأثني عشر ألف الذين بقوا من سكانها، ولكنه سمح للأغنياء منهم بأن يفتدوا أنفسهم بتسليم كل ما يملكونه. واستسلم عز زغرل وأصبح إقليم غرناطة بأسره خارج العاصمة في أيدي المسيحيين.
وشيد الملكان الكاثوليكان، فسطاطاً كاملاً لجندهم، حول القلعة المحاصرة وأطلقوا عليها اسم سانتافيه، وانتظروا أن يموت أهلها جوعاً،(23/69)
ليجعلا مفخرة الأندلس تحت رحمتها، وخرج الفرسان المسلمون من غرناطة، يطلبون مبارزة فرسان الأسبان فرداً لفرد، واستجاب هؤلاء بعزم مماثل، بيد أن فرديناند لما رأى أن خير المحاربين من رجاله يقتلون واحداً بعد واحد، على أساس خطة الفروسية هذه، وضع حداً لتلك المبارزة، وقاد أبو عبد الله قواته في هجوم يائس، لكنهم ردوا على أعقابهم وأنفذت الرسائل تطلب العون من سلطان تركيا ومصر، ولم يتلقوا شيئاً، فقد كان العالم الإسلامي منقسماً على نفسه كالعالم المسيحي.
ولم يجد أبو عبد الله بداً من توقيع شروط التسليم التي أسبغت شرفاً نادراً على الفاتحين. ذلك لأنه سمح لأهل غرناطة أن يحتفظوا بمالهم ولغتهم وزيهم ودينهم وشعائرهم، ولهم أن يحتكموا إلى شريعتهم وقضائهم ولا تفرض عليهم ضرائب إلا بعد ثلاث سنوات، وعند ذلك يؤخذ منهم ما كان يجبيه الحكام المسلمون، وكان على المدينة أن تفتح أبوابها لاحتلال الأسبان، وللمسلمين حق الهجرة من المدينة إذا شاءوا، ويجب أن توفر وسائل المواصلات لمن يرغب في العبور إلى إفريقية الإسلامية.
ومع ذلك فقد احتج أهل غرناطة على استسلام أبى عبد الله. وتهددته الثورة حتى دفع بمفاتيح المدينة إلى فرديناند (2 يناير 1492) وركب مع أقاربه وفرسانه الخمسين، وسط صفوف المسيحيين، إلى إمارته الجبلية الصغيرة التي كان عليه أن يحكمها تابعاً لقشتالة، ومن فوق الصخور الشماء التي عبر عليها ألقى نظرة أخيرة على المدينة الرائعة التي فقدها، ول اتزال هذه القنة تسمى آخر زفرة للعربي El Ulxtimo Sospiro del Moro وأنبته أمه على بكائه قائلة " أبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
ودخل في الوقت نفسه الجيش الإسباني بالمدينة. ورفع الكاردينال مندوزا صليباً فضياً عظيماً فوق الحمراء، وركع فرديناند وإيزابلا في ساحة(23/70)
المدينة شكراً لله الذي أخرج الإسلام من إسبانيا بعد إحدى وثمانين وسبعمائة سنة.
3 - فرديناند وإيزابلا
يعد القرن الذي يقع بين موت هنري أمير ترستمارا (1379)، واعتلاء فرديناند لعرش أرجوان، فترة ركود لإسبانيا. فقد تعاقبت مجموعه من الحكام الضعفاء وسمحوا للنبلاء بأن يعيثوا في الأرض فساداً بتنازعهم، وكانت الحكومة مهملة فاسدة، ولم يكن هناك رادع للثأر الشخصي، وكثرت الحروب الأهلية إلى حد أن الطرق لم تكن آمنة للتجارة، وكثيراً ما احتلت الجيوش الحقول، حتى اضطر الفلاحون إلى تركها جرداء. ولقد جون الثاني القشتالي فترة طويلة (1406 - 54) وكان كلفه بالموسيقى والشعر قد جعله لا يعنى بشئون الدولة، وتبعه تملك هنري الرابع الوبيل، وهو الذي اكتسب لقب إنريك العقيم بعدم كفايته الإدارية وعبثه بالعملة وبعثرة الموارد على المقربين الطفيليين. وأوصى بعرشه إلى جوانا، التي ادعى أنها ابنته، وأنكر النبلاء الغضاب أبوته وقدرته على الإنجاب، وأجبروه على أن يستخلف أخته إيزابلا ولكنه أعاد تأكيد بنوة جوانا وحقها في الحكم عندما جاءته الوفاة (1474) ومن هذا الاضطراب المعطل للمرافق، صاغ فرديناند وإيزابيلا النظام والحكم اللذين جعلا أسبانيا أقوى دولة في أوربا مدى قرن من الزمان.
ومهد السفراء لتحقيق ذلك بإقناع إيزابيلا، وهي في الثامنة عشرة من عمرها أن تتزوج ابن عمها فرديناند، البالغ من العمر سبع عشرة سنة فقط (1469) وكان العروسان معا من نسل هنري أمير ترستامارا، وكان فرديناند قد أصبح بالفعل ملكاً على صقلية، وإذا مات أبوه يصبح ملكاً على أرجوان ايضاً، فجمع الزواج لذلك ثلاث دول في مملكة قوية واحدة،(23/71)
وامتنع بول الثاني من إعطاء الوثيقة البابوية المطلوبة لتجعل زواج أبناء الأعمام شرعياً، وزيفت الوثيقة المنشودة على يد فرديناند وأبيه وكبير أساقفة برشلونة، وبعد أن تم هذا الصنيع صدرت وثيقة أصلية عن البابا سكتوس الرابع، وبقيت صعوبة مادية أكبر هي فقر العروس، الذي أبى أخوها أن يعترف بالزواج، وفقر العريس الذي أنهمك أبوه في الحرب، انهماكاً يجعله لا يستطيع إقامة حفل ملكي، ويسر محام يهودي طريق السياسة الخالصة، بأن قدم قرضاً مقداره عشرون ألف سولدس سددتها إيزابيلا عندما أصبحت ملكة على قشتالة (1) (1474).
وتحدى حقها في اعتلاء العرش أفرنسو الخامس ملك البرتغال الذي تزوج من جوانا. وحددت الحرب في تورو النتيجة إذ قاد فرديناند القشتاليين إلى النصر (1476) وبعد ذلك بثلاث سنوات ورث عرش أراجون وهكذا أصبحت إسبانيا بأسرها ما عدا غرناطة ونافار في ظل حكومة واحدة. وظلت إيزابلا ملكة على قشتالة فقط، وحكم فرديناند أراجون وسردينيا وصقلية وشارك في حكم قشتالة واحتفظ لإيزابلا بالإدارة الداخلية لقشتالة، ولكن المواثيق والمراسيم الملكية كانت توقع منهما معا، وحملت العملة الجديدة رأسيهما معاً. وجعلت صفاتهما الحميدة فرديناند وإيزابلا أكثر زوجين ملكيين تأثيراً في التاريخ.
_________
(1) كانت وحدة العملة القشتالية في القرن الخامس عشر هي المارافيدي النحاسية وكل 1807 من هذه العملة تساوي سويلد وأراجوني، وكل 34 تصبح ريالاً فضيا و 374 تصبح اكسكود وأودوكات ذهبية وأن تغير سعر هذه العملات يجعل من الصعب أن نفترض المكافئة لها من العملة الحديثة. ولكن لما كان أجر العامل في أسبانيا إبان القرن الخامس عشر نحواً من ستة مارافيدي يومياً، فلن نكون مبالغين إذا جعلنا المارافيدي يعادل 76% من الدولار في عملة الولايات المتحدة عام 1924 والسويد ويعادل 20و1 دولار والريال يعادل 28و2 دولار والأسكودو يعادل 25 دولار.(23/72)
وكانت إيزابلا ذات جمال لا يعادله جمال، هكذا قال رجال حاشيتها أي أنها كان لها نصيب من الجمال، كانت متوسطة القوام، ذات عينين زرقاوين وشعر كستنائي يميل إلى الحمرة. ونالت من التعليم حظا أكبر من فرديناند، وكانت أقل منه ذكاء وأرق حاشية. وكانت تستطيع أن ترعى الشعراء وأن تتحدث إلى الفلاسفة الحذرين، ولكنها آثرت صحبة القساوسة. واختارت أكثر الأخلاقيين تزمتاً ليكونوا أصحاب هدايتها واعترافها. ومع أنها زفت إلى زوج غير أمين فيبدو أنها حافظت على العهود الزوجية الكاملة إلى النهاية، وعاشت في عصر مائع كعصرنا إلا أنها كانت نموذجاً للفخر. ظلت وسط الموظفين الفاسدين والسفراء المنحرفين صريحة مستقيمة لا يتطرق إليها الفساد. ولقد ربتها أمها على الصرامة في اتباع السنة والتقوى، وتوسعت إيزابلا فيهما إلى حد التقشف، وكانت شديدة قاسية في القضاء على الهرطقة بمقدار ما كانت رحيمة كريمة في كل أمر آخر. وكانت الرقة نفسها بالنسبة لأطفالها، وسند الوفاء لأصدقائها. وبذلت وأعطت في سعة للكنائس والأديرة والمستشفيات. ولم تمنعها أرثوذكسيتها من اتهام بعض بابوات عصر النهضة بالخروج على الأخلاق. وتفوقت في كل من الشجاعة المادية والمعنوية، ولقد صمدت للنبلاء الأقوياء وأخضعتهم ونظمتهم واحتملت بهدوء أقصى ضروب الحرمان. وواجهت بشجاعة تنتقل منها إلى غيرها أهوال الحرب وأخطارها. ورأت أن من الحكمة أن تحرص على مظهر الملكة أمام الشعب وغالت في المظاهر الملكية إلى حد البذخ في الحلل والحلي، أما في حياتها الخاصة فقد كانت بسيطة الثياب، معتدلة في طعامها وتزجي فراغها بالتطريز الدقيق للكنائس التي تؤثرها. وعملت بضمير حي في القيام بشئون الحكومة وأخذت على عاتقها المبادأة في الإصلاحات الرشيدة ونهضت بالقضاء وربما كانت في ذلك صارمة أكثر من اللازم، ولكنها صممت على أن ترفع مملكتها من(23/73)
الاضطراب الذي لا يعرف قانوناً إلى سلم يعتصم بالقانون ووضعها المعاصرون الأجانب أمثال باولو وجيوفيو وجويشياردين والفارس بايار، بين أقدر ملوك العصر، وشبهوها بالبطلات العظيمات في التاريخ القديم. وقدسها رعاياها، بينما احتملوا بصبر نافذ.
ولم يستطع أهل قشتالة أن يغتفروا لفرديناند أنه دخيل عليهم - أي أرجوني ورأوا فيه نقائض كثيرة حتى وهم يمجدون انتصاراته باعتباره رجل دولة وسياسيا ومحارباً ووازنوا بين مزاجه الفاتر المتحفظ وبين حرارة الملكة في عطفه، وبين انطوائه الحذر وبين صراحتها المستقيمة، بين تقتيره وكرمها، بين كزازته في معاملة معاونيه وبين انبساط يدها بالمكافأة على ما يقدم لها من خدمات، بين صبواته وبين قناعتها الهادئة، ولم ينكروا عليه إنشاءه لمحاكم التفتيش ولا استغلاله لعواطفهم الدينية كسلاح من أسلحة الحرب، فقد استحسنوا حملته على الهرطقة وفتحه غرناطة وطرده اليهود والمسلمين الذين لم ينتصروا، وكان أكثر ما يحبون فيه أقل ما يعجب الخلف. فلم نسمع احتجاجاً على صرامة قوانينه - قطع اللسان على السب والإحراق حياً على اللواط ولاحظوا أنه يجنح إلى العدالة بل إلى التساهل، إذا لم يمنع ذلك امتيازاً شخصياً أو يعطل سياسة قومية وأنه يستطيع أن يقود جيشه بشجاعة وبراعة، إن آثر مساجلة العقول بالمفاوضة أكثر من منازلة الإنسان في الحرب وأن بخله لم يكن للإنفاق على أسباب الترف الشخصي ولا بد أنهم تثبتوا من عاداته التي تؤثر الاعتدال ورباطة جأشه في الملمات، واتزانه عند النجاح، واختيار الرشيد لمعاونيه، وجهده المبذول بلا كلل على شئون الحكومة وشعبه وراء أهداف بعيدة بكياسة مملة ووسائل حذرة. واغتفروا له الظهور بوجهين باعتباره سياسيا وكثرة حنثه بوعده، ألم يحاول جميع الحكام غيره بوسائل مماثلة أن يدعوا قرابتهم له ويحتالوا على إسبانيا؟ ولقد قال متجهما "إن ملك فرنسا يشكو أنني خدعته مرتين. إنه يكذب، ذلك الغبي لقد(23/74)
خدعته أكثر من عشر مرات". ودرس مكيافلي بعناية سيرة فرديناند وأفاد من دهائه ومدح أعماله ... بأنها كلها عظيمة وبعضها صادق. ووصفه أنه أفضل ملك في العالم المسيحي. وكتب جويكشيارديني " ما أعظم الفرق بين أقوال هذا الأمير وأفعاله، وكيف يضع خططه في عمق وتكتم". ورأى البعض أنه محدود. ولكن الحق أن حظه الموفق إنما كان في تدابيره للأحداث بعناية وانتهازه للفرص السانحة وإذا أحكم التوازن بين فضائله وجرائمه، فإنه يبدو أنه دفع إسبانيا بوسائل شريفة وأخرى دنيئة، من أجزاء متناثرة عقيمة متعددة الألوان، إلى وحدة وقوة جعلتاها في الجيل التالي المسيطرة وحدها على أوربا.
ولقد تعاون فرديناند مع إيزابلا على إعادة الاستقرار للأنفس والأموال في قشتالة، وفي بعث السانتا هرمانداد أو الآخر ة المقدسة لتكون حرسا أهليا محليا لتحافظ على النظام، وفي إنهاء السطو في الطرق العمومية والدسائس الجنسية في البلاط، وفي إعادة تنظيم المحاكم وتوحيد القوانين، وفي استرداد أراضي الحكومة التي سلمها الملوك السابقون بغير اكتراث إلى المقربين، وفي أخذ النبلاء بالطاعة الكاملة للتاج، وهنا أيضا، كما كان الحال في فرنسا وإنجلترا، أسلمت الحرية والفوضى الإقطاعيات إلى النظام المركزي للملكية المطلقة وتنازلت المجالس البلدية بدورها عن امتيازاتها، وقلما اجتمعت المجالس الإقليمية وكان اجتماعها في الغالب للموافقة على أموال تمنح للحكومة، وذبلت ديمقراطية واهية الجذور وماتت في ظل ملك صلب المراس. بل ان الكنيسة الإسبانية التي كانت عزيزة على الملكين الكاثوليكيين (1) los reyes catolicas انتزع منها جانب من ثرواتها وكل حقها في التشريع المدني، وأصلحت إيزابلا أخلاق رجال الدين بصراحة، وأكره البابا سكتوس
_________
(1) أي الملكان الكاثوليكيان - لقد أسبغه على فرديناند وإيزابلا البابا إسكندر السادس عام 1494.(23/75)
الرابع، على التنازل للحكومة عن حق تعيين كبار رجال الكهنوت في الكنيسة الإسبانية ورقي الكهنة القادرون أمثال بدرو جنزالس ده مندوزا واكسمنس ده نيروس، لينصبوا كبار أساقفة دفعة واحدة لطليطلة ورؤساء وزراء في الدولة.
وكان الكاردينال اكسمينس شخصية إيجابية قوية كالملك، ولقد انحدر من أسرة نبيلة وإن كانت رقيقة الحال، فذهب في طفولته للكنيسة، وأحرز في جامعة سالامنكا وهو في سن العشرين، إجازات الدكتوراه في كل من القانونين المدني والكنسي. وعمل سنوات قسيسا وناظراً لمندوزا في أسقفية سيجونزا وكان ناجحاً ولكن غير سعيد، ولم يأبه بالجاه أو المناصب، فالتحق بأكثر فرق الأديرة صرامة في أسبانيا - وهي الفرنسيسكان الملتزمون بالأوامر والنواهي Observantine Franciscans". ولم يبهجه غير الزهد فكان ينام على التراب أو الأرض الصلبة ويكثر من الصوم ويضرب نفسه بالسياط، ويلبس قميصا من الشعر على جلده. وفي عام 1492 اختارت إيزابلا الورعة هذا المتعبد النحيل راعيا لكنيستها الخاصة ومتلقيا لاعترافاتها. وقبل ولكن بشرط وهو أن يسمح له بالاستمرار في سكن الدير والتزام قواعد الفرنسسكان الصارمة، وجعلته رئيسها المحلى، واستجابت لإلحاحه في الإصلاح العسير. ولما رشحته إيزابلا كبيراً لأساقفة طليطلة (1495) رفض قبول المنصب، ولكنه استسلم بعد إباء ستة أشهر لنشرة بابوية تأمره بالخدمة. وكان قد أشرف على الستين من عمره، ويبدو أنه كان يرغب صادقا أن يعيش راهبا. واستمر على طباعه الخشنة وهو مطران إسبانيا ورئيس المجلس الملكي، وكان يلبس تحت الأردية الفخمة التي يتطلبها منصبه، ذلك الجلباب الفرنسسكاني الخشن، وتحته قميص الشعر كما اعتاد قبل ذلك. وطالب جميع فرق الرهبان في الأديرة بأن تجرى نفس الإصلاحات التي أجرتها فرقته(23/76)
فعارضه كبار رجال الدين ولكن الملكة أيدته وكأنما تجرد القديس فرنسيس من تواضعه وزود فجأة بقوتي برنارد ودومنيك وقدرتيهما.
ولم يكن ليرضى هذا القديس العبوس، أن يجد يهوديين لم ينتصرا لهما مكانة مرموقة في البلاط. أحدهما من أكثر مستشاري إيزابلا ثقة وهو إبراهام سنيور، وقد أخذ هو وإسحاق إبرابانيل يجمعان الموارد لفرديناند وينظمان تمويل حرب غرناطة. وكان الملك والملكة وقتذاك معنيين بالمنتصرين بصفة خاصة آملين أن يأتي وقت يصبح فيه هؤلاء مسيحيين مخلصين وأجرت إيزابلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سراً ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467) وبلد الوليد (1470) وقرطبة (1472) وسيجوفيا (1474) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية أيضاً، ودبر الملك والملكة الفتيان الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي إعادة محاكم التفتيش إلى إسبانيا.
4 - وسائل محكمة التفتيش
نحن اليوم غير متحققين ومختلفون في آرائنا حول أصل العالم والإنسان ومصيرهما حتى إننا أمسكنا في معظم البلاد، عن معاقبة الناس لمجرد أنهم يختلفون عنا في معتقداتهم الدينية. ونحن إنما نوجه تسامحنا الحاضر إلى أولئك الذين يناقشون مبادئنا السياسية والاقتصادية، ونحن نفسر مذهبنا الثابت المروع على أساس أن أي شك في وجه ادعائنا الذي نقيم عليه الدليل، يهدد تماسكنا وبقاءنا القوميين. ولقد كان المسيحيون واليهود والمسلمون(23/77)
إلى منتصف القرن السابع عشر، اكثر تشبثا بالدين مما نحن عليه الآن، وكانت علوم الملام هي أثمن وأوثق ما يملكون، ونظروا إلى أولئك الذين ينكرون هذه المذاهب كأنما يهاجمون أصول النظام الاجتماعي وجوهر الحياة الإنسانية. واعتقاد كل جماعة بصحة مذهبها جعلتها متشددة إلى حد التعصب ودمغ الآخرين بأنهم كفار.
وانتشر مبدأ محكمة التفتيش في يسر بين الأشخاص الذين لم تتأثر مذاهبهم الدينية بالتعليم والرحلة، والذين كانت عقولهم أكثر خضوعاً لحكم العادة والخيال. واعتقد جميع مسيحي القرون الوسطى تقريباً عن طريق تعليمهم في الطفولة والوسط الذي عاشوا فيه بأن الكتاب المقدس من وحي الله بكل لفظ فيه، وأن ابن الله قد أنشأ الكنيسة المسيحية مباشرة. وبدا أنه ينتج عن هذه المقدمات أن الله يريد أن تكون جميع الأمم مسيحية وأن الإيمان بديانات غير مسيحية- أو ضد المسيحية على التحقيق- يعد كبيرة في حق الله. يضاف إلى ذلك، أنه ما دامت كل هرطقة مادية تؤدي بالضرورة إلى عقاب أبدي فإن المختصين منها قد يعتقدون (ويظهر أن كثيرين منهم قد اعتقدوا بإخلاص) أنهم بإرهاق روح هرطيق، إنما ينقذون الهدى الكامن فيه وربما أنفذوه هو نفسه من الجحيم الأبدي.
ومن المحتمل أن إيزابلا، التي عاشت في جو علماء الدين، قد شاركت في هذه الآراء. ولعل فرديناند، الذي كان رجلا صلبا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعضها، ولكن يبدوا أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكماً، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابلا قراراً (أول نوفمبر 1478) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. وأبرز شيء في هذا القرار هو إعطاء السلطة لملوك إسبانيا.(23/78)
أن يعينوا هيئة محاكم التفتيش، التي كانت في صورها السابقة، تختار بوساطة رؤساء فرق الفرنسسكان والدومنيكان المحلية. وهكذا أصبح الدين هنا خاضعا للدولة مدى ثلاثة أجيال، وكان قضاة هذه المحاكم يرشحهم الملوك فقط من الناحية العملية، ثم يعينهم البابا، ويستمدون سلطتهم من هذا القرار البابوي، وظلت المنظمة كهنوتية، ووسيلة من وسائل الكنيسة وفي الوقت نفسه وسيلة من وسائل الدولة. وكان على الدولة أن تدفع نفقاتها وأن تحصل على دخلها الخالص ويراقب الملوك تفاصيل أعمالها، وإليهم قد تستأنف أحكامها. وآثر فرديناند بمحبته هذه الوسيلة من بين جميع وسائل حكمه. ولم تكن أهدافه أول أمرها مالية، فقد غنم من الأموال المصادرة للمحكوم عليهم ولكنه رفض رشاوى مغرية من الضحايا الأغنياء للتأثير على القضاة، وكان همه منصباً على توحيد أسبانيا.
وأعطى القضاة سلطة استخدام المعاونين من رجال الدين ومن المدنيين كمحققين ومنفذين للأحكام. ووضعت المنظمة برمتها بعد عام 1483 تحت إمرة وكالة حكومية، هي هيئة التفتيش العامة وتسمى عادة "مجلس محكمة التفتيش العليا والعامة " Concejo de la Suprema-y General Inquisicior، وشمل تشريع محكمة التفتيش جميع المسيحيين في أسبانيا، ولم تمس اليهود الذين لم ينتصروا، ووجهت أهوالها إلى المنتصرين الذين يشك أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو الإسلام وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المنتصر إلى عام 1492 آمنا على نفسه أكثر من المعمد. وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش؛ ولكن مطالبهم رفضت، وقاوم اليسعيون تشريعها نصف قرن ولكنهم غلبوا على أمرهم أيضاً. والحد الوحيد لقوة الهيئة العليا إنما هو سلطة الملوك، بل(23/79)
أن هذا الحد قد أهمل في القرون المتأخرة. وطالبت محكمة التفتيش وتلقت عادة التعاون من جميع الموظفين المدنيين.
وشرعت محكمة التفتيش القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشوراً دينياً "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش. وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه. (ولم يكن يسمح في القرن السادس عشر مع ذلك باتهام الأقربين ووعد المبلغون بالسرية الخالصة والحماية التامة، وأوقع حرم صارم- أي حرمان ولعنة- على هؤلاء الذين يعرفون هرطيقاً ويخفونه. فإن ظل يهودي معمد يأمل في عودة المسيح، وإذا حافظ على قواعد الطعام التي في الشريعة الموسوية وإذا اعتبر السبت يوم عطلة وعبادة أو غير ملابسه لذلك اليوم، وإذا احتفل بأي وجه من الوجوه بيوم من أعياد اليهود، وإذا ختن أي واحد من أطفاله أو أسماه باسم عبري، أو باركهم دون أن تقوم بعلامة الصليب، وإذا صلى بحركات رأسه أو ردد مزموراً من مزامير الكتاب المقدس دون أن يضيف تمجيد الله في الأعالي، وإذا اتجه بوجهه إلى الحائط وهو يحتضر، فإذا فعل هذا وأمثاله، كانت عند رجال التفتيش من الشواهد على الهرطقة السرية التي لابد من إبلاغها إلى المحكمة فوراً. ولكل من يشعر بأنه اقترف هرطقة فله في خلال "مهلة صفح" أن يأتي إلى المحكمة ويعترف بها، فيحكم عليه بغرامة أو تفرض عليه كفارة ويصفح عنه بشرط أن يكشف عن كل ما يعرفه عن هراطقة آخرين.
ويلوح أن قضاة محكمة التفتيش كانوا يفصحون بعناية القرائن التي جمعها المبلغون والمحققون. حتى إذا اقتنعت المحكمة بالإجماع بإدانة شخص من الأشخاص فأنها تصدر أمراً بالقبض عليه. ويتحفظ على المقبوض عليه(23/80)
في سجن انفرداي، حيث لا يسمح لغير عملاء محكمة التفتيش بالتحدث إليه، ولا يزوره أحد من أقربائه. وكان يقيد بالسلاسل عادة. ويطلب إليه أن يستحضر معه فراشه وملابسه، وأن يدفع جميع نفقات محبسه وطعامه. فإذا لم يقدم المال الكافي لهذا الغرض فإنه يباع القدر المناسب من متاعه ليفي بالمبلغ المطلوب. أما باقي أمتعته فيحجز عليه بوساطة مندوبي محكمة التفتيش حتى لا يخبأ أو يتنازل عنه هرباً من المصادرة. وفي معظم الأحوال يباع جانب منه لإعانة من يعجزون عن العمل من أسرة الضحية.
وعندما يدفع المقبوض عليه للحضور أمام المحاكمة فإن المحكمة وقد سبق وأن حكمت عليه بأنه مذنب، تلقى على كاهله عبء إثبات براءته. وكانت المحكمة سرية خاصة وعلى المدافع عن نفسه أن يقسم على أنه لن يشفى أية واقعة من الوقائع في حالة إطلاق سراحه. ولا يستدعى شهود إثبات التهمة إليه، ولا يذكر له اسم أحد، وبرز قضاة التفتيش هذا الإجراء بأنه ضروري لحماية مبلغهم. ولم يكن يخبر المتهم أولا عن التهم الموجهة ضده، وإنما يستدعى لمجرد الاعتراف بتقصيره كما تقضى بذلك العقيدة والعبادة الصحيحتان وأن يشي بكل الأشخاص الذين يتهمون بالهرطقة. فإن أقنع اعترافه المحكمة فقد يصدر عليه حكم غير الإعدام، وإذا أبى الاعتراف سمح له باختيار محامين للدفاع عنه، ويتحفظ عليه في الوقت نفسه في سكن انفرادي. وفي كثير من الأحوال كان يعذب ليكره على الاعتراف وتستمر القضية عادة شهوراً، ويكفي التقييد بالسلاسل في السجن الانفرادي غالباً للحصول على أي اعتراف.
ولم يكن يلجأ إلى التعذيب إلا بعد أن يقترع عليه أغلبية قضاة المحكمة على أساس أن الذنب محتمل، وإن كانت القرائن لا تقطع به. ويؤجل التعذيب الذي يحكم به على هذا النحو غالباً على أمل أن الفزع منه يدفع إلى الاعتراف ويبدو أن قضاة التفتيش اعتقدوا بإخلاص أن التعذيب خدمة(23/81)
للمدافع عن نفسه وهو الذي سبق أن عد مذنباً، فقد يكسبه بالاعتراف عقاباً أخف، بل أنه إذا حكم بإعدامه بعد اعترافه يحصل من قسيس على المغفرة تنجيه من الجحيم؛ ومع ذلك، لم يكن الاعتراف بالذنب كافياً، فقد يلجأ إلى التعذيب مع مدافع عن نفسه لإكراهه على ذكر شركائه في الهرطقة أو الجريمة. وربما عذب الشهود المتناقضون للكشف عمن يذكر الحقيقة منهم؛ وقد يعذب العبيد ليقيموا الدليل على ساداتهم. ولم يكن هناك حد في السن ينقذ الضحايا، ذلك أن فتيات في الثالثة عشرة ونسوة في الثمانين قد ألزمن العذراء (1)، بيد أن قواعد محكمة التفتيش الأسبانية حرمت التعذيب بالنسبة للمراضع أو ذوي القلوب الضعيفة أو المتهمين بهرطقات صغيرة كالأخذ بالرأي الشائع الذي يقول إن الزنا خطيئة صغيرة يصفح عنها. ويجب أن يحال بين التعذيب وبين إصابة الضحية بعاهة مستديمة، ولا بد أن يوقف كلما أمر الطبيب المسئول، ولا ينفذ إلا بحضور قضاة التفتيش المنوط بهم القضية، وأحد الأعيان وكاتب للتسجيل وممثل للأسقف المحلي. واختلفت الوسائل باختلاف الزمان والمكان. وقد توثق يد الضحية خلف ظهرها ويعلق منهما أو يربط وثاقه حتى يعجز عن الحركة تماماً، ثم يقطر الماء في حلقه حتى يشرف على الاختناق؛ وقد تربط يداه ورجلاه بالحبال ربطاً وثيقاً حتى تقطع اللحم إلى العظام. ولقد أنبئنا أن وسائل التعذيب التي استعملتها محكمة التفتيش الأسبانية كانت أخف مما استخدمته محاكم التفتيش البابوية السابقة، أو مما توسلت به المحاكم المدنية في ذلك العصر. وكان أهم وسائل التعذيب السجن الطويل الأمد.
ولم تكن محكمة التفتيش تتألف من مدع وقاض ومحلفين فقط، ولكنها أصدرت أيضاً أوامر خاصة بالعقيدة والأخلاق وأنشأت مراتب للعقوبات وكانت رحيمة في معظم الأحوال، وتتسامح في جزء من العقوبة بسبب
_________
(1) وهي آله تعذيب تمط الجسم.(23/82)
سن المحكوم عليه أو جهله أو فقره أو سكره أو سمعته الحسنة بصفة عامة. وكانت أخف العقوبات هي التعنيف. وأقسى منها هو الإكراه على المجاهرة بالإقلاع عن الهرطقة أمام الناس- التي تترك حتى البريء ميسوماً بها إلى آخر حياته، وكان يطلب عادة إلى المعاقب بالأشغال الشاقة أن يحضر القداس بانتظام، ومرتدياً لباس الإدانة " sanbenito" وهو جلباب رسم عليه صليب برّاق. وربما عرض في الطرقات وقد جرد من ثيابه إلى وسطه وحمل شعار جريرته. وقد يحرم هو وذووه من المناصب العامة إلى الأبد. أو ينفى من مدينته، وقلما ينفى خارج أسبانيا. وقد يجلد من عشر جلدات إلى مائة جلدة إلى الحد الذي لا تزهق فيها روحه. وكانت هذه العقوبة تطبق على النساء كما تطبق على الرجال. وقد يلقى به في السجن أو يدفع به إلى السفن- وهو ما أوصى فرديناند بأنه أنفع للدولة، وربما دفع غرامة مادية أو صودرت أمواله. وقد اتهم بعض الموتى بالهرطقة في أحوال متعددة وحوكموا بعد الموت وحكم عليهم بالمصادرة فيفقد الورثة في هذه الحالة ميراثهم. وكان المبلغون عن الهراطقة الموتى يمنحون من 30% إلى 50% من المتحصل. ودفعت الأسر المفزعة من هذه المحاكمات ذات الأثر الرجعي للمبلغين في بعض الأحيان "مصالحات" تأميناً لهم من مصادرة ميراثهم فأصبحت الثروة خطراً على صاحبها وإغراء للمبلغين والمفتشين والحكومة. حتى إذا انسابت الأموال في خزائن محكمة التفتيش فإن موظفيها أصبحوا أقل اهتماماً بالمحافظة على العقيدة الصحيحة من الحصول على الذهب وانتشر الفساد انتشاراً مروعاً.
وكانت العقوبة القصوى هي الإحراق في المحرقة. وهي للذين حكم عليهم بأنهم اقترفوا هرطقة عظيمة، ولم يعترفوا قبل بدء المحاكمة، ولأولئك الذين اعترفوا في الوقت المناسب وخففت عنهم عقوبتهم أو صفح عنها ولكنهم ارتدوا إلى الهرطقة. وصرحت محكمة التفتيش نفسها بأنها لم تقدم(23/83)
على القتل قط، وقصاراها أنها كانت تسلم المحكوم إليه إلى السلطات المدنية، وقد علمت أن القانون الجنائي يجعل في المحرقة نافذاً في جميع العقوبات على الهرطقة الكبيرة أو التي لا توبة عليها. وإن حضور رجال الكهنوت عند المحرقة يدل على مسؤولية الكنيسة، ولم يكن المشهد الخاص بالإيمان هو مجرد الإحراق، لكنه الاحتفال المؤثر المروع كله بالنطق بالحكم والتنفيذ. ولم يكن مقصوداً على ترويع المخالفين في السر، وإنما لتهذيب الشعب كأنما يطلعونها مقدما على الحساب.
وكان الإجراء في أول أمره بسيطاً فإن الذين يحكم بإعدامهم يقادون إلى الساحة العامة، وكانوا يوثقون بأربطة على كومة حطب، بينما يجلس قضاة التفتيش في أبهة على منصة تواجهها، ويطلب للمرة الأخيرة إلى المحكوم عليه أن يدلي باعترافه، وتقرأ عليه الأحكام، وتشعل النيران، ويبلغا الفزع منتهاه. بيد أن كثرة الإحراق وفقد بعض سلطانها النفسي، جعل الاحتفال أكثر تعقيداً ورهبة وعنى بإظهاره بكل أسباب العناية والنفقة، التي يتطلبها إخراج مسرحي كبير. وكان يحدد ميعاده كلما أمكن ذلك للاحتفال بالاعتلاء على العرش أو الزواج أو الزيارة من ملك أو ملكة أو أمير أسباني. وكان يدعى موظفو البلديات والحكومة وهيئة محكمة التفتيش والقسس والرهبان المحليون، بل في الواقع كان يطلب حضورهم. وفي أمسية التنفيذ ينضم هؤلاء الأماثل إلى موكب كئيب يسير في طرق المدينة الرئيسية ليضع صليب محكمة التفتيش الأخضر فوق مذبح الكاتدرائية أو الكنيسة الرئيسية. وتبذل محاولة أخيرة للحصول على اعترافات المحكوم عليهم، فيستسلم كثيرون منهم، وتخفف أحكامهم إلى السجن فترة من الزمن أو مدى الحياة. وفي الصباح التالي يساق المسجونون وسط الجموع الغفيرة إلى إحدى ساحات المدينة. وفيهم الدجالون والمجدفون في الدين والمضارون (1) والهراطقة والمرتدون، وفي
_________
(1) المتزوج من امرأتين.(23/84)
الأيام المتأخرة كان يساق البروتستانت، وينتظم الموكب أحياناً دمى تمثل المحكوم عليهم غيابياً او- صناديق تحمل عاظم الذين حكم عليهم بعد الموت. وفي الباحة على مدرج مرتفع أو أكثر، يجلس قضاة محكمة التفتيش ورجال الدين من قساوسة ورهبان وموظفو المدينة والدولة، يرأسهم الملك بين حين وآخر. وتذاع عظة، يؤمر بعدها جميع الحضور بترديد يمين الطاعة لحكام محكمة التفتيش المقدس وعهد ينكر ويحارب الهرطقة بجميع أشكالها وفي كل مكان. ثم يساق المسجونون واحداً بعد واحد، أمام المحكمة، وتتلى عليهم الأحكام الخاصة بهم. ويجب علينا ألا نتخيل معارضة باسلة لذلك، وربما كان كل سجين في هذه المرحلة مشرفا على التلف الروحي والانهيار البدني. بل إنه قد ينقذ حياته في هذه اللحظة بالاعتراف. وفي تلك الحالة تقنع محكمة التفتيش بجلده ومصادرة أمواله وسجنه مدى الحياة، وإذا لم يعترف إلا بعد صدور الحكم عليه، فإنه يغنم الرحمة بشنقه قبل إحراقه، ولما كانت الاعترافات في اللحظة الأخيرة كثيرة، فقد أصبح إحراق الأحياء نادراً نسبياً، أما الذين يحكم عليهم بالهراطقة الكبيرة، وينكرون ذلك إلى النهاية، يحرمون (وظل ذلك مرعيا إلى عام 1725) من الكنيسة المقدسة، ويتركون برغبة محكمة التفتيش للجحيم الأبدي. أما الذين تخفف أحكامهم فيعادون إلى السجن، والذين لم تقبل توبتهم فيدفع بهم إلى السلطة المدنية، مع تحفظ وردع بعدم إراقة دم. ويساقون إلى خارج المدينة وسط حشود تجمعت من مسافات بعيدة للفرجة على هذا المشهد من مشاهد العطلة. حتى إذا وصلوا إلى مكان التنفيذ شنق المعترفون ثم أحرقوا بينما يحرق المعاندون أحياء. وتظل النيران تغذى بالوقود حتى تصير العظام رماداً، ينتثر على الحقول والجدران. ثم يعود القساوسة والمشاهدون إلى مذابحهم ودورهم مقتنعين، بأن قرباناً قدم استعطافاً لإله غاضب من الهرطقة. وهكذا أعيد القربان البشري.(23/85)
5 - تقدم محكمة التفتيش
(1480 - 1516)
عين فرديناند وإيزابلا القضاة الأوائل لمحكمة التفتيش في سبتمبر من عام 1480، لمنطقة إشبيلية. ففر كثيرون من الإشبيليين المتنصرين إلى الريف، وبحثوا عن الملجأ الأمين عند السادة الإقطاعيين، وكانت عند أولئك رغبة في حمايتهم، ولكن قضاة التفتيش هددوا البارونات بالحرمان من غفران الكنيسة ومصادرة الأموال، فما كان منهم إلا أن سلموا اللاجئين، أما في المدينة نفسها فقد دبر بعض المتنصرين المقاومة المسلحة ولكن التدبير أفشى، وقبض على الضالعين في هذا التدبير وسرعان ما امتلأت السجون. وتبعت ذلك محاكمات متعجلة غضوب، واحتفل بأول محرقة أثمرتها محكمة التفتيش الإسبانية في السادس من فبراير لعام 1481 بإحراق ستة من الرجال والنساء. وما أن جاء الرابع من نوفمبر للعام نفسه، حتى كان قد أحرق ثمانية وتسعون ومائتا شخص وسجن مدى الحياة تسعة وسبعون شخصاً.
وفي عام 1483 عين البابا أسكستوس الرابع بترشيح وطلب من فرديناند وإيزابلا، راهباً دومينيكيا، هو توماس ده تور كيمادا، مفتشاً عاماً لإسبانيا بأسرها، وكان مؤمناً متعصباً لا يتطرق الفساد إليه، يحتقر الترف ويعمل بحماسة شديدة ويحتفل بفرصته السانحة ليخدم المسيح بتصيد الهراطقة وكان يؤنب قضاة التفتيش على التساهل، ونقض كثيراً من أحكام البراءة وطالب الربانيين في طليطلة مهدداً إياهم بالموت أن يبلغوا عن الذين ارتدوا إلى اليهودية. وفزع البابا إسكندر السادس من قسوته، وهو الذي سبق أن مدحه على أخلاقه لعمله، فأمره (1494) أن يشرك في سلطته مفتشين عامين آخرين. وتجاوز توركيمادا هذين الزميلين؛ واحتفظ برآسة حازمة عليهما. وجعل محكمة التفتيش حكومة في داخل الحكومة تضارع سلطة الملوك. وأحرقت محكمة التفتيش في سوداد ريال بدافع منه في ستين (1483 - 84) اثنين وخمسين شخصاً وصادرت أموال مائتين وعشرين شريداً(23/86)
وعاقبت مائة وثمانين تائباً. وفي مدى سنة واحدة من نقل المفتشين لمقرهم الرئيسي إلى طليطلة قبضوا على سبعمائة وخمسين يهودياً متنصراً وصادروا خمس أموالهم، وحكموا عليهم بأن يسيروا في مواكب حاشدة في ستة أيام جمعة، يضربون أنفسهم بسياط من القنب، وفي هذه السنة (1486) أقيمت محرقتان أخريان وأحرقت رفات ألف وستمائة وخمسين تائباً. وبذلت جهود مماثلة في بلد الوليد ووادي لوب وغيرهما مند مدن قشتالة.
وقاومت أراجون محكمة التفتيش بشجاعة يائسة. فقد أغلق حكام تيرول أبواب المدينة في وجه المفتشين. فما كان من هؤلاء إلا أن أصدروا قرار الحرمان على سكانها وأوقف فرديناند مرتبات موظفي المجلس البلدي، وسير جيشاً يكره الأهلين على الطاعة، أما الفلاحون المجاورون الذين كانوا على عداء دائم للمدينة؛ فقد هرعوا يؤيدون محكمة التفتيش، التي وعدتهم بالإعفاء من جميع الإيجارات والديون التي عليهم لأشخاص المتهمين بالهرطقة. واستسلمت مدينة تيرول وأعطى فرديناند المفتشين سلطة تفي كل شخص يشكون في أنه اشترك في المقاومة، وفي سرقوسة انضم إخوة المسيحيين القدماء إلى الإخوة "المسيحيين الجدد" في الاحتجاج على دخول محكمة التفتيش مدينتهم، ومع ذلك فلما أقيمت محكمة التفتيش هناك اغتال بعض المتنصرين أحد رجالها (1485) وكان ذلك خطأ مهلكاً، لأن الأهلين المفزعين احتشدوا في الطرقات صائحين "احرقوا المتنصرين" وسكن كبير الأساقفة من روع الغوغاء بأن وعد بالمحاكمة السريعة. وقبض على جميع المتآمرين تقريباً وأعدموا، وقفز أحدهم ليلقى مصرعه من البرج الذي سجن فيه؛ وحطم آخر مصباحاً من الزجاج وابتلع شظاياه، ثم وجد ميتاً في محبسه. ورفض مجلس الكورتيس في بلنسية، السماح للمفتشين بمزاولة عملهم، فأمر فرديناند بالقبض على كل من يحول بينهم وبين أداء مهمتهم، واستسلمت بلنسية. وخنق الملك تأييداً للتفتيش الحريات التقليدية لأرجون، الواحدة(23/87)
بعد الأخرى؛ وأثبت اتحاد الكنيسة مع الملكية، بقرارات الحرمان والجيوش الملكية، بأنه أقوى من أن تقاومه مدينة أو ولاية بمفردها. وحددت في بلنسية وحدها عام 1488 تسعمائة وثلاثة وثمانون حكماً بالهرطقة وأحرق مائة رجل.
فكيف نظر الباباوات إلى اصطناع محاكم التفتيش كأداة من أدوات الدولة ليس من شك في أن عدداً من البابوات قد حاولوا أن يوقفوا مثل هذا الإفراط وأن يبسطوا حمايتهم على ضحايا التفتيش بين حين وآخر، منكرين هذا التحكم المدني؛ ومدفوعين في الغالب بالعواطف الإنسانية مع إدراكهم للمصاريف الباهظة التي تدفع للتصديق على أحكام محكمة التفتيش. فقد أصدر البابا سكستوس الرابع عام 1482 منشوراً بابوياً لو نفذ لوضع حداً لمحكمة التفتيش في أراجون؛ وشكا فيه من أن المفتشين يبدون طمعاً في الحصول على الذهب أكبر من الإخلاص للدين، وأنهم سجنوا وعذبوا وأحرقوا مسيحيين مؤمنين بشهادة مريبة من أعدائهم وعبيدهم وأمر بأن على المفتش في المستقبل ألا يباشر مهمته إلا بحضور بعض ممثلي الأسقف المحلي والحصول على موافقتهم؛ وأن يعلن المتهمون بأسماء الذين اتهموهم واتهاماتهم ولا يبيت المسجونون إلا في سجون الكنيسة؛ وأن يسمح للشاكين في الظلم الواقع عليهم أن يقدموا ظلاماتهم إلى السدة الأسقفية المقدسة، وأن يؤجل كل تصرف في القضية حتى يحكم في الاستئناف، وأن يحصل جميع المتهمين بالهرطقة، على حكم البراءة إذا اعترفوا وتابوا؛ وبذلك يصبحون في حل من المحاكمة والاضطهاد بسبب هذه التهمة. وكل الإجراءات السابقة المناقضة لهذا المرسوم تعد باطلة وملغاة، وكل من يخرج على هذه القواعد في المستقبل يكون عرضة للحرمان من غفران الكنيسة. لقد كان مرسوما متنوراً وأحكامه توحى بصدقة ومع ذلك فيجب أن نلاحظ اقتصاره على أراجون التي أنفق المتنصرون فيها بسخاء في سبيل الحصول عليه. ولما رفضه فرديناند(23/88)
وقبض على مبلغيه وطالب المفتشين بأن يواصلوا عملهم، لم يتخذ البابا سكستوس إجراء آخر؛ اللهم إلا تعطيله لمفعول قراره بعد ستة أشهر من إصداره.
وأخذ المتنصرون اليائسون يصبون الأموال صبا في مدينة روما، مناشدين الحصول على فتاوى شرعية وبراءة من استدعاء محكمة التفتيش لهم أو حكمها عليهم. وقبلت هذه الأموال، وأعطيت الفتاوى، بيد أن المفتشين الأسبان الذين يبسط عليهم الملك حمايته جملة تجاهلوها، وكان الباباوات في حاجة إلى حماية فرديناند وإلى المنحة الأسبانية السنوية، فلم يصروا على تلك الفتاوى، وكان المال يدفع في سبيل الحصول على قرار بالعفو فيصدر ثم يسحب بعد ذلك. وعمل الباباوات بين حين وآخر على تأكيد سلطتهم مستدعين المفتشين إلى روما للرد على اتهامات وجهت إليهم بسوء السلوك. وحاول إسكندر السادس أن يخفف من قسوة المحكمة. وأمر يوليوس الثاني بمحاكمة المفتش لوسيرو على سوء استعماله لسلطته، وأصدر قرار الحرمان على مفتش طليطلة. ومع ذلك فقد عد ليو المهذب العالم، القول بعدم إحراق الهراطقة، من الهرطقة التي تستوجب اللوم.
كيف كان موقف الشعب الأسباني من محكمة التفتيش؟ لقد عارضتها الطبقات العليا والإقليمية المتعلمة معارضة ضعيفة، أما عامة المسيحيين فقد أيدوها عادة. وأظهرت الجماهير التي احتشدت عند المحرقة تعاطفا واهنا، وأبدوا دائما عداوة فعالة للضحايا، وحاولوا في بعض الأماكن قتلهم حتى لا ينجيهم اعترافهم من المحرقة. وتجمع المسيحيون لابتياع أمتعة المحكوم عليهم المصادرة بالمزاد.
كما بلغت كثرة الضحايا؟ قدر ليورنت (1). بأنهم بلغوا بين عامي
_________
(1) جوان أنطونيو ليورنت، قسيس إسباني، كان أمينا عاما لمحكمة التفتيش في سنة 1889 إلى سنة 1801 وانتدبه يوسف بونابرت عام 1809 لفحص محفوظات محكمة التفتيش وكتابة تاريخها. وقد ترك إسبانيا مع الفرنسيين المسيحيين ونشر تاريخه عن محكمة التفتيش في باريس عام 1817(23/89)
1480 و 1488 ثمانية آلاف وثمانمائة أحرقوا، وستة وتسعين ألفا وأربعمائة وتسعين عوقبوا، وبين عامي 1480 - 1508 بواحد وثلاثين ألفا وتسعمائة وأثنى عشر أحرقوا ومائتين وواحد وتسعين ألفا وأربعمائة وأربعة وتسعين حكم عليهم بعقوبات صارمة، وكانت هذه الأرقام في معظمها تخمينية. ويرفضها اليوم بصفة عامة المؤرخون البروتستنت ويعدونها تطرفا في المبالغة، يذهب مؤرخ كاثوليكي إلى أنه قد أحرق ألفان بين عامي 1480و1504، وألفان آخران حتى سنة 1758. وأحصى كاتب سر إيزابلا واسمه هرناندو ده بولجر عدد الذين أحرقوا، بألفين قبل عام 1490 وفاخر ذوريتا أمين محكمة التفتيش بأنها أحرقت أربعة آلاف في إشبيلية وحدها هناك ضحايا في معظم المدن الأسبانية، بل في الإمارات التابعة لأسبانيا مثل البليار وسردينيا وصقلية والأراضي الواطئة وأمريكا.
ونقص معدل الإحراق بعد عام 1500. ولا تصور الإحصائيات أياً كانت الفزع الذي عاش فيه العقل الأسباني في تلك الأيام والليالي. فقد كان على الرجال والنساء حتى في ستر منازلهم، أن يرقبوا كل كلمة يتلفضونها بها حتى لا يؤدى بهم نقد عارض إلى سجن محكمة التفتيش. لقد كان ضغطا عقليا لا نظير له في التاريخ.
هل نجحت محكمة التفتيش؟ نعم، نجحت في تحقيق غرضها الذي أعلن عنه، وهو تخليص أسبانيا من الهرطقة الصريحة. فإن الفكرة القائلة بأن اضطهاد المعتقدات لا تأثير له أبداً، ضلال، فقد سحق الألبيجينزيين والهيجونوت في فرنسا، والكاثوليك في إنجلترا في عهد إليزابث والمسيحيين في اليابان- وانتزعت، في القرن السادس عشر، الجماعات الصغيرة التي عطفت على البروتستانتية في أسبانيا. ولعلها قوت من ناحية أخرى البروتستانتية في ألمانيا وإسكنديناوه وإنجلترا بإثارة خوف قتال في نفوس شعوبها، مما قد يحيق بهم، إذا أعيدت الكاثوليكية.(23/90)
ومن العسير أن نقدر نصيب محكمة التفتيش في القضاء على الفترة المزدهرة من تاريخ أسبانيا، الواقعة بين كولومبس وفيلاسكيه (1492 - 1660) وبلغت هذه الفترة أوجها بمجيء سرفانتس (1547 - 1616) لوب ده فيجا (1562 - 1635) وذلك بعد انتشار محاكم التفتيش في أسبانيا بمائة عام. ولقد كانت محكمة التفتيش نتيجة كما كانت سبباً لقوة المذهب الكاثوليكي، وسيطرته على الشعب الإسباني، وإن هذه الحالة الدينية، قد نمت خلال قرون في الصراع، ضد المسلمين: ولعل انحلال إسبانيا من جراء حروب شارل الخامس وفيليب الثاني وضعف الاقتصاد الإسباني بفضل انتصارات بريطانيا في البحر والسياسة التجارية للحكومة الأسبوعية، كان أشد تأثيراً في اضمحلال إسبانيا من أهوال محكمة التفتيش. ولقد أظهر الحكم بإعدام العرافين في أوربا الشمالية ونيو إنجلند نزوعاً في الشعوب البروتستانتية قريباً لما في محكمة التفتيش الإسبانية, ومن العجيب أن نقول إن محكمة التفتيش الإسبانية قد عاملت العرافة بتعقل وعدتها وهما يستحق الإشفاق والعلاج لا العقاب. ولم تكن محكمة التفتيش وإحراق العرافين سوى تعابير عن عصر مصاب بالإيمان، الباعث على القتل، لفرط ثقته بعلوم الدين، كما تعود بعض أسباب أو سياسية, ويجب علينا أن نحاول تفهم مثل هذه الحركات بمصطلحات زمانها، ولكنها تبدت لنا الآن أكبر جريمة لا تغتفر من الجرائم التاريخية. ذلك لأن عقيدة سائدة لا تنازع عدو ومهلك للعقل الإنساني.
6 - هجرة إسرائيل
كان الغرض من محكمة التفتيش أن ترهب جميع المسيحيين المحدثين والقدامى على السواء ليتمسكوا بالسنة الظاهرة على الأقل، على أمل أن يقضى على الهراطقة في مهدها وأن الجيل الثاني أو الثالث من اليهود المعمدين سوف(23/91)
ينسون يهودية أسلافهم. ولم تكن هناك نية للسماح لليهود المعمدين أن يرحلوا عن إسبانيا، فلما حاولوا الهجرة حرمها عليهم فرديناند ومحكمة التفتيش ولكن مذا كان مصير اليهود غير المعمدين؟ لقد ظل حوالي مائتين وخمسة وثلاثين ألفاً منهم في إسبانيا المسيحية. فكيف السبيل إلى تحقيق الوحدة الدينية للدولة، إذا سمح لهؤلاء أن يمارسوا شعائر عقيدتهم وأن يصرحوا بها؟ ورأى توركيمادا استحالة ذلك، وأوصى بإكراههم على التنصر أو نفيهم.
فتردد فرديناند. ذلك أنه كان يعرف القيمة الاقتصادية لقدرة العبرانيين في التجارة والمالية. ولكنه أخبر أن اليهود عنفوا المتنصرين منهم، وحاولوا أن يعيدوهم إلى اليهودية، بشرط واحد هو أن يكون ذلك سراً. واتهم طبيبه رباس ألتس، وهو يهودي معمد، بأنه علق في رقبته كرة ذهبية تحتوي على صورة له على هيئة فيها تنجيس الصليب، ويبدو أن التهمة غير صحيحة ولكن هذا الطبيب أحرق (1488). وزيفت رسائل نصح فيها زعيم يهودي في القسطنطينية، رئيس الجماعة اليهودية في أسبانيا بأن يسرق ويدس السم للمسيحيين كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقبض على متنصر بتهمة وجود رقاقة مقدسة في جعبته، وعذب مراراً فتكراراً حتى وقع على عبارة مفادها أن ستة من المتنصرين ومثلهم من اليهود قتلوا طفلا مسيحياً، ليستعملوا قلبه في شعيرة سحرية، دبرت لتؤدى إلى هلاك جميع المسيحيين والقضاء الكامل على المسيحية. وكانت اعترافات الرجل المعذب يناقض أحدهما الآخر ولم يبلغ عن فقد طفل من الأطفال، ومع ذلك أحرق أربعة من اليهود، بعد أن انتزع لحم اثنين منهم بوساطة كلابة متوهجة وربما أثرت هذه الاتهامات وأمثالها في نفس فرديناند، ومهما يكن من شئ فقد مهدت لرأى عام يطلب إجلاء اليهود غير المعمدين عن أسبانيا. ولم تعد المساهمة الاقتصادية لليهود حيوية بعد أن استسلمت غرناطة (5 نوفمبر 1491)(23/92)
وانتقل النشاط التجاري والصناعي من المسلمين إلى المسيحية. وجعل التعصب الشعبي الذي تلهبه المحرقة وعظات الرهبان، السلام الاجتماعي مستحيلا، إلا إذا قامت الحكومة بحماية اليهود أو طردهم.
وفي 30 مارس 1492 - وهي سنة مزدحمة بالأحداث في تاريخ أسبانيا وقع فرديناند وإيزابلا مرسوم نفي اليهود. ومؤداه أن جميع اليهود غير المعمدين، أيا كانت أعمارهم أو أحوالهم، عليهم أن يتركوا أسبانيا في موعد غايته 31 يوليه، ولا يسمح لهم بالعودة، ومن يفعل عقوبته الإعدام، ولهم أن يتخلصوا من متاعبهم في هذه الفترة القصيرة بأي ثمن يحصلون عليه ولهم أن يأخذوا معهم المتاع المنقول وصكوك المعاملات دون النقد من ذهب وفضة. وقدم أبراهام سنيور وإسحاق ابرابانل، للملكين مبلغاً كبيراً من المال ليسحبا مرسومهما ولكنهما رفضا. ولم يقم اتهام ملكي على اليهود سوى رغبتهم في إغراء المتنصرين للارتداد إلى اليهودية. وصدر ملحق لذلك المرسوم، يجعل الضريبة إلى آخر العام يجب أن تجبى على جميع أملاك اليهود ومبيعاتهم. أما الديون المستحقة على المسيحيين والمسلمين فلا تدفع إلا عند بلوغ سن الرشد، عن طريق العملاء الذين يستطيع المنفيون العثور عليهم، أو تحلى هذه المطالب بخصم لمشترين مسيحيين. وهكذا انتقلت أموال اليهود في هذه المدة الإجبارية القصيرة إلى أيدي المسيحيين بجزء ضئيل من قيمتها. فكانت الدار تباع في مقابل حمار والكرمة في مقابل قطعة من القماش. وأحرق بعض اليهود في نوبة يأس منازلهم "أليجمعوا قيمة للتأمين عليها؟ " وتنازل بعضهم الآخر عنها للمجلس البلدي. ووضع المسيحيون أيديهم على المعابد وحولوها إلى كنائس. وتحولت مدافن اليهود إلى مراع. وذاب في شهور قليلة، الجانب الأكبر من ثروات اليهود الأسبان، التي كدسوها خلال قرون. وقبل ألف يهودي تقريبا التنصر، وسمح لهم بالبقاء، وترك أسبانيا أكثر من مائة ألف في موكب خروج طويل كئيب.(23/93)
وقبل رحيلهم زوجوا جميع أطفالهم الذين فوق الثانية عشرة. وساعد الصغار الكبار، وأعان الأغنياء الفقراء. وسار الحجيج على متون الخيل أو الحمير وفي العربات أو على الأقدام. وناشد المسيحيون الطيبون-من رجال دين ودنيا- المنفيين عند كل منعطف أن يذعنوا للتعميد. فقابل الربانيون ذلك بأن أكدوا لأشياعهم بأن الله سيهديهم إلى أرض الميعاد، وذلك بأن يفتح لهم معبرا في البحر كما فعل لآبائهم في القديم. وانتظر المهاجرون الذين أجمعوا في قادس يملؤهم الأمل بأن يتفرق الماء ويسمح لهم بالعبور إلى إفريقيا دون أن تبتل أقدامهم. فلما إنجاب عنهم الوهم دفعوا الأجور الباهظة للنقل بالسفن وفرقت العواصف أسطولهم الذي كان يتألف من خمس وعشرين سفينة، وردت ست عشر منها إلى أسبانيا حيث آثر الكثيرون من اليهود اليائسين التعميد على دوار البحر. وتحطمت السفينة بخمسين من اليهود بالقرب من صقلية، فسجنوا عامين ثم بيعوا رقيقاً. ولم يجد الآلاف الذين أبحروا من جبل طارق ومالقة وبلنسية أو برشلونة، في العالم المسيحي بأسره إلا إيطاليا الراغبة في استقبالهم بدافع إنساني.
كانت البرتغال أكثر الأهداف ملاءمة للمهاجرين. فقد وجدت فيها من قبل جماعة كبيرة من اليهود، وبلغ بعضهم مكانة من الثراء والمركز السياسي في كنف ملوك لا يضمرون لهم عداوة. ولكن جون الثاني أفزعه عدد اليهود الإسبان-ربما بلغوا ثمانين ألفا - الدين تدفقوا عليها. فمنحهم مهلة ثمانية أشهر، عليهم أن يرحلوا بعدها. وتفشى بينهم الطاعون وانتشر منهم إلى المسيحيين، الذين طالبوا بإجلائهم فوراً. فيسرجون خروج اليهود المهاجرين بأن هيأ لهم سفنا بأجور زهيدة، بيد أن الذين اعتصموا منهم بهذه السفن، تعرضوا للسرقة والاغتصاب، وألقي بكثيرين على شواطئ غير مأهولة وتركوا للموت جوعاً أو ليسبيهم المسلمون ويبيعونهم. وهام مائتان وخمسون يهودياً على ظهر سفينة في البحر أربعة(23/94)
أشهر؛ ترفض ميناء بعد ميناء نزولهم، لأن الطاعون لما يزل متفشيا بينهم. واعتقل قرصان بسكاي إحدى السفن ونهبوا ركابها ثم إستاقوا السفينة إلى مالقة، حيث خير القسس والحكام اليهود بين التعميد أو الموت جوعا. وبعد أن مات خمسون منهم زودت السلطات الباقين بالخبز والماء وطالبتهم بالإيجار إلى إفريقيا.
وما أن انتهت مهلة الثمانية أشهر، حتى باع جون الثاني بيع الرقيق، أولئك اليهود المهاجرين الذين بقوا في البرتغال وانتزع الأطفال دون الخامسة عشرة من آبائهم وأرسلوا إلى جزر القديس توماس لينشئوا تنشئة مسيحية. ولما ذهبت التوسلات إلى منفذي المرسوم عبثاً، فقد آثرت بعض الأمهات إغراق أنفسهن وأطفالهن، على تحمل الآم فراقهم، ومنحهم خليفة جون واسمه مانويل فرصة جديدة يجمعون فيها أنفاسهم، فقد حرر أولئك الذين استرقهم جون وحرم على القسس أن يثيروا الدهاء على اليهود، وأمر محاكمة أن ترفض جميع المزاعم بأن اليهود قتلوا أطفال المسيحيين باعتبارها حكايات خبيثة. ولكن مانويل خطب إيزابيلا في الوقت نفسه، وهي ابنة فرديناند وإيزابيلا ووريثتهما، حالما أن يوحد العرشين في فراش واحد ووافق الملكان الكاثوليكيان بشرط أن مانويل ينفي من البرتغال جميع اليهود غير المعمدين سواء أكانوا مواطنين أم مهاجرين. وخضع مانويل لهذا الشرط، مؤثرا الجاه على الشرف وأمر جميع اليهود والمسلمين في مملكته أن يتنصروا أو يطردوا من البلاد (1496). ولما وجد أن فئة قليلة منهم آثرت التنصر، وكره أن تباد المهن والصناعات التي تفوق فيها اليهود أم جميع الأطفال اليهود دون سن الخامسة عشرة، أن يفصلوا عن آبائهم وينصروا كرهاً. وعارض رجال الدين الكاثوليك هذا الجراء، ولكنه نفذ. فقد روى أحد الأساقفة "رأيت أطفالاً كثيرين يسحبون إلى حوض التعميد من شعورهم". واحتج بعض اليهود على ذلك بوأد أطفالهم ثم قتل أنفسهم،(23/95)
وأصبح مانويل شرساً، فعطل اليهود، ثم أمرهم بأن ينصروا كرهاً. فسحلوا إلى الكنائس، الرجال من لحاهم والنساء من شعورهن، وقتل كثيرون منهم نفسه في الطريق وأرسل المتنصرون البرتغاليون رسالة إلى البابا إسكندر السادس يرجون توسطه ولا يعرف رده، ولعله كان في مصلحتهم، لأن مانويل منح إذ ذاك (مايو 1491) جميع المتنصرين كرها إذنا رسمياً مدته عشرون سنة لا يقدمون أثناءها إلى أي محكمة بتهمة التشيع لليهودية. ولكن مسيحي البرتغال رفضوا منافسة اليهود معمدين وغير معمدين، فإذا جادل يهودي في معجزة تنسب إلى كنيسة في لشبونه فإن الغوغاء يمزقونه إربا (1506)، وانتشرت المذابح ثلاثة أيام لا يمنعها أحد، وقتل فيها ألفا يهودي ودفن مئات منهم أحياء. وأنكر المطارنة الكاثوليك هذه السورة من الغضب، وقتل راهبان دومينيكان حرصا على الشغب. واستتب السلام، أو كاد، باستثناء هذه الأحداث مدى جيل من الزمان.
وتم خروج اليهود الرهيب من إسبانيا. بيد أن الوحدة الدينية لم تكن قد تحققت بعد: فقد بقى المسلمون. ذلك أن غرناطة سقطت، ولكن سكانها المسلمين منحوا الحرية الدينية. وانتدب كبير الأساقفة هرناندو ده تالافيرا، حاكماً على غرناطة. فنفذ الميثاق في شئ من السرية وحاول أن يستدرج المسلمين إلى التنصير بالرفق والعدل. ولكن اكسيمينيس لم يوافق على مثل هذا الاعتناق للمسيحية. فألح على الملكة، بأن العهد لا يحافظ عليه مع الكافرين، وأقنعها بأن تصدر مرسوماً (1499) يخير المسلمين بين الدخول في المسيحية وبين مغادرة إسبانيا. وذهب بنفسه إلى غرناطة، وتسلط على طلبيرة وأغلق المساجد، ونصب المحارق العامة التي التهمت جميع الكتب والمخطوطات العربية التي وصلت إليها يده، وأشرف(23/96)
على التنصير الإجباري بالجملة. وكان المسلمون يمسحون الماء المقدس عن أطفالهم عندما يبتعدون عن عين القسيس ونشبت الثورات في المدينةوالولاية، وسحقت. وخير جميع المسلمين في قشتالة وليون بمقتضى مرسوم ملكي صدر في الثاني عشر من فبراير لعام 1502 بين الدخول في المسيحية ومغادرة البلاد وأعطوا لذلك مهلة غايتها آخر إبريل من العام نفسه. واحتج المسلمون بأن أسلافهم عند ما حكموا معظم إسبانيا، فإنهم سمحوا بالحرية الدينية، إلا في القليل النادر، للمسيحيين الذين تحت سلطاتهم، ولكن الملكين لم يتأثرا بهذا الاحتجاج وحرم على الأطفال الذكور دون الرابعة عشرة والإناث دون الثانية عشرة أن يغادروا إسبانيا مع آبائهم وسمح للأمراء الإقطاعيين بأن يحتفظوا بأرقائهم المسلمين على أن يوضعوا في الأغلال. ورحل الألوف، أما الباقون فقبلوا أن ينصروا بفلسفة أكبر مما فعل اليهود وتعرضوا باعتبارهم عربا موريسكيين " morisccos" محل اليهود المعمدين لتحمل عقوبات محكمة التفتيش على عودتهم إلى ديانتهم السابقة وترك إسبانيا إبان القرن السادس عشر ثلاثة ملايين من المسلمين المتظاهرين بالمسيحية ووصف الكاردينال ريشليه مرسوم عام 1502 بأنه "أمجد حادث في إسبانيا منذ عهد الرسل". واستطرد قائلا: "الآن أصبحت الوحدة الدينية في مأمن، وأوشك عهد من الازدهار أن يبزغ".
وفقدت إسبانيا كنزاً لا يقدر بخروج التجار وأصحاب المهن والدارسين والأطباء والعلماء من اليهود والمسلمين، وأفادت الأمم التي تلقتهم من الناحيتين الاقتصادية والفكرية. ولما لم يعد يعرف الشعب الإسباني منذ ذاك غير ديانة واحدة، فقد أذعن تماماً لرجال الدين وتنازل عن كل حق له(23/97)
في التفكير إلا في حدود العقيدة التقليدية. وآثرت إسبانيا أن تحتفظ بطابع القرون الوسطى، وسيان كان ذلك لخيرها أو لشرها، في حين اندفعت أوربا نحو التقدم العصري بفضل الثورات التجارية والطبوغرافية والفكرية والبرتستانتينية.
7 - الفن الإسباني
لقد عبرت العمارة الإسبانية المتشبثة بالطراز القوطي تعبيراً قوياً عن ذلك الطابع للقرون الوسطى. ولم يسخط الشعب على المرويدات (1) التي أعانت ضمير الملوك والنبلاء على إنفاق المال أو السياسة الدينية، لبناء الكتدرائيات الضخام كما دفعت إلى الإسراف في الزينة باهظة النفقة والنحت والتصوير الرائعين على القديسين الأثيرين لديهم وعبادة أم الرب بكل مشاعرهم. وأقيمت كتدرائية برشلونة في بطئ بين عامي 1298، 1448: وبين فوضى الطرق الضيقة ترتفع أعمدتها الساحقة وبابها الذي لا مزية له وصحنها المنيف بينما لا تزال أروقتها ذوات النوافذ الكثيرة تصلح ملجأ يعتصم الناس فيه من جهاد النهار. ومدت بلنسية وطليطلة وبرجوس وبرغشت ولاردة وطراكونة وسرقسطة وليون أو زينت معابدها التي كانت موجودة من قبل، بينما أقيمت معابد جديدة في شقة وبمبلونة التي تعد أروقتها من الرخام الأبيض، ذوات النقش الرشيق، تعد في جمال أبهاء الحمراء. وفي عام 1401 قررت هيئة الكتدرائية في إشبيلية أن تشيد كنيسة تبلغ من العظمة والجمال حداً يجعل الذين يشاهدونها في الأجيال المقبلة يرون أننا مجانين لإقامتها. "فأزال المعماريون المسجد المتهالك الذي يقوم على المكان المختار لبناء الكنيسة ولكنهم أبقوا على أسسه، وعلى تخطيطه ومئذنته
_________
(1) المرويدات جمع مرويدة، وهي عملة إسبانية تساوي ربع بنس إنجليزي فإذا كانت ذهبية بلغت قيمتها 14 شلنا.(23/98)
الجيرالدا، البديعة. وظلوا يضعون حجراً طوال القرن الخامس عشر حتى أكملت إشبيلية تشييد أكبر بناء قوطي في العالم (1)، وقال عنها تيوفيل جوتييه: "إن كنيسة نوتردام في باريس قد تسير منتصبة القامة في صحنها. " ومع ذلك فإن نوتردام كاملة، وكتدرائية إشبيلية فسيحة. وعمل سبعة وستون نحاتاً وثمانية وثلاثون مصوراً من موريللو إلى جويا على تزيين هذا الكهف العظيم للآلهة.
واقترح المعماري جويللو موبو في حوالي عام 1410 على هيئة كنيسة جيرونا أن يزيل الأعمدة والعقود، التي تقسم داخلها إلى صحن ممرات، وأن يوحد الجدران بعقد واحد عرضه ثلاثة وسبعون قدما. ونفذ ذلك، وهكذا أصبح لصحن كتدرائية جيرونا أعرض عقد قوطي في العالم المسيحي. وكانت نصراً للهندسة وهزيمة للفن. وشيدت أضرحة لم تبلغ هذه الضخامة أبان القرن الخامس عشر في بربنيان ومانريزه واسترقة وبلد الوليد. وتوجت شقوبية عمارتها بتشييد كتدرائية على شكل حصن عام 1472، وأتمت سجيونزا أروقتها المشهورة عام 1507، وبدأت سلمنقة في إقامة مزارها الجديد عام 1531 وترتفع في كل مدينة كبيرة في أسبانيا، ما عدا مدريد، كتدرائية تبدو من الخارج بناية ضخمة في جلال رائع وداخلها يسترحم الشمس بظلامه الدامس ويروع النفس بالتقوى، ومع ذلك تبدو زاهية بالألوان الناصعة التي يتسم بها فن التصوير الأسباني، وبتماثيلها الملونة وبريق الجواهر والفضة والذهب. وهذه هي دور الروح الإسباني، الخاضع في خوف المتكبر في وحشية.
وعلى الرغم من هذا كله وجد الملوك والنبلاء كما وجدت المدن،
_________
(1) على مساحة مقدارها 125 ألف قدم مربع، وكتدرائية القديس بطرس على مساحة تبلغ 230 ألف، ومساحة مسجد قرطبة 600 ألف.(23/99)
الأموال لتشييد القصور الباهظة. وكان بطرس الغشوم وفرديناند وإيزابلا وشارك الخامس يعيدون تشكيل القصر" Alcazar" الذي صممه معماري مسلم في إشبيلية عام 1181، وقام بمعظم الترميم مسلمون منغرناطة حتى ليبدو البناء أخا ضعيفا للحمراء. ولقد شيد دون بدرو انرنيكز على طراز إسلامي مشابه، لأمر القلعة " Alcala" في إشبيلية (1500) قصراً منيفاً، وهو قصر بيلاطس وكأنما يكرر الدار التي يقال أن بيلاطس، أسلم من بابه المسيح للصلب ولقد زود ديوان بلنسية (1500) للبلاط المحلي بصالون دوراد وينافس في فخامته سالا دل ماجيور كونسيجليو، في قصر الدوج في البندقية.
وكان فن النحت لا يزال خادما للعمارة والعقيدة، يزحم الكنائس الإسبانية بتماثيل العذراء من المرمر أو المعدن أو الحجر أو الخشب، وهنا تجد التقوى تتجسم في أشكال دينية صارخة، أو زهدية جافية، يذكيها اللون ويضاعف من إثارتها للروع كآبة صحونها. ويفاخر الفن الأسباني خاصة بالحواجز المنقوشة والملونة المقامة خلف منضدة المذبح، وأنفقت مبالغ طائلة اغتصبت تحت وطأة التهديد بالموت، لجمع أحدق الصناع-والاحتفاظ بالمصممين والنقاشين والنحاتين والدور دور الذين يذهبون أو يدمشقون (1) السطوح والاستوفادور الذين يصبغون الثياب والحلي والانكارنادور في الضريح. يلونون الأجزاء التي تحكى اللحم، وعمل الجميع معا أو بالتناوب في الضريح وخلف المذبح الرئيسي لكتدرائية إشبيلية حاجز يتألف من خمسة وأربعين قسما (1483 - 1519) - ويصور الأساطير المحببة، في تماثيل ملونة أو مذهبة سانت جيمس في كتدرائية طليطلة في خشب شربين مذهب وبواقعية متجهمة سيرة أكبر قديس أسبانيا تمجيداً.
_________
(1) يدمشقون يزخرفون بزخارف دمشقية.(23/100)
وقد يمثل الأمراء والمطارنة في فن النحت؛ ولا يكون ذلك إلا على قبورهم التي توضع في الكنائس أو للأديرة التي تعد المداخل إلى الجنة وعلى هذا النحو دفنت دونا منسيا أنريكيز، دوقة البوكرك في حدث منقور نقراً جميلاً، وهو الآن موجود في متحف الجمعية الأسبانية في نيويورك، وحفر يابلو أرتيز لكتدرائية طليطلة، تابوتين فخمين لدون الفاروده لونا وزوجته. وصمم جيل ده سيلوى في دير ميرا فلورس الكاثوسي بالقرب من برغشت، مدفناً على الطراز الإيطالي لوالدي الملكة وأخوتها. وبلغ من ابتهاج إيزابلا بهذه المدافن الشهيرة للرفات الملكية إنها عندما علمت بمصرع وصيفها، جوان ده باديلا (الذي كان شجاعاً في استهتار حتى أطلقت عليه "معتوهى" بإصابة في رأسه إبان حصار غرناطة، كلفت ده سيلوى، أن ينقر مدفنا ملكيا لضم رفاته، ونافس جيل مرة أخرى أحسن ما في فن النحت الإيطالي في عصره.
وليس هناك فن أكثر تمييزاً من الفن الاسباني، ومع ذلك فليس بينها ما أسلم للتأثير الأجنبي بخشوع مثله. وخضع أول أمره، بطبيعة الحال، للتأثير الإسلامي، الذي استقر طويلاً في شبه الجزيرة، وإن استمد جذوره من العراق وفارس وأدخلت في الطراز الأيبيرى، دقة في الصناعة، وكلفا بالزينة فلما تضارع في أي بقعة من بقاع العالم المسيحي. أما في الفنون الصغرى، حيث يحتل الزخرف المكان الأكبر، فإن إسبانيا قلدت فيها أساتذتها العرب ولم تتفوق عليهم فيها قط. فترك الخزف بأكمله للمدجنين، الذين لم يضارعهم في لمعان آثارهم سوى الصينيين، والذين زادت قراميدهم الملونة-وبنوع أخص الزلزلي الأزرق-من أبهة الأرضيات والمذابح والنوافير والجدران والسقوف في أسبانيا المسيحية. كما أن الحذق الإسلامي نفسه، قد جعل المنسوجات الإسبانية من المخمل والحرير والمخرم-أدق ما في العالم المسيحي من نوعه. وهذا الحذق يبدو مرة أخرى في المصنوعات الجلدية(23/101)
الإسبانية، وفي الزخارف العربية "أرابسك" وفي الحواجز المعدنية وفي أوعية السر المقدس الدينية وفي النقش على الخشب الذي تصنع منه الحواجز خلف المذبح ومقاعد الشمامسة والأقبية وتسللت تأثيرات متأخرة من التصوير البيزنطي ثم من فرنسا وبرجنديا والأراضي الواطئة وألمانيا. واستمد النحت والتصوير الأسبانيان واقعيتهما الرائعة من الهولنديين والألمان - وهي الواقعية التي أظهرت رسوم العذراء مخيفة بالقدر الذي يجعل سنها ملائمة لأن تكون أم المصلوب، على الرغم من رأي ميشيل انجيلو من أن العذرة التي تبتعث الشباب - ولقد انحسرت جميع هذه التأثيرات إبان القرن السادس عشر أمام انتصار الطراز الإيطالي الذي شمل القارة الأوربية.
وسار التصوير الأسباني في تطور مماثل، ولكنه تقدم ببطيء، وربما كان ذلك لأن المسلمين لم يبذلوا في هذا المجال معاونة أو توجيها. وكانت الصور الجدارية القطلونية في القرنين الثاني والثالث عشر، أحط من حيث التصميم، من الرسوم على جدران كهف التاميرا التي تعود إلى ما قبل التاريخ في إسبانيا. ومع ذلك فما جاء عام 1300 حتى أصبح التصوير الفتنة التي تأخذ بالألباب في شبه الجزيرة بأسرها، وصور فنان صوراً جدراية كثيرة ولوحات ضخمة على المذبح، وقد بقي بعضها مما يرجع إلى عام 1345 مدة طويلة أكثر ما يستحق-وفي عام 1428 زار جان ايك، إسبانيا وأدخل معه تأثيراً فلمنكياً قوياً. وأرسل ملك أرجون بعد ذلك بثلاثة أعوام، لويس دلو، ليدرس دلو في بروجس، ولما عاد صور لويس صورة مغرقة في الفلمنكية هي "عذراء مجلس الشورى". وأخذ المصورون الأسبان منذ ذاك، وإن ظلوا يفضلون الألوان غير اللامعة، يغمسون ألوانهم في الزيت شيئا فشيئا.
وبلغ عصر البدائيين في التصوير الإسباني، ذروته على يد بارتلومة برميجو (المتوفى عام 1498) وقد حفر نفسه اسماً في فترة مبكرة عام 1447(23/102)
بصورته سانتو دومنجو المعلقة في البرادو. أما صورتا: سانتا انجراسيا التي اشتراها متحف جاردنر في بوسطن، وسانت ماكايل الموجودة في مجموعة ليدي ليدلو، فإنهما جديرتان برفائيل، الذي جاء بعده بجيل من الزمان. ولكن أحسنها جميعها هي صورة بيتا (1490) في كتدرائية برشلونة: وفيها جيروم أصلع على عينيه نظارات، ومريم سمراء أسبانية تمسك بابنها الكسيح الهزيل الذي لا حياة فيه، وفي مهاد الصورة أبراج أورشليم تظللها سماء قريبة، وإلى اليمين صورة جافية للمنعم الكاهن ديسبلا، غير مرجل الشعر غير حليق اللحية، يشبه قاطع طريق تائباً محكوماً عليه، ويوحي تصور برميزو المريض للإنسانية. وهنا نجد أن الرشاقة الإيطالية تتحول إلى قوة اسبانية، وتحتفل الواقعية بانتصارها في الفن الإسباني.
واستمر التأثير الفلمنكي في فرناندو جاليجوس، وأثمر رائعة مذهلة بـ" فارس من جماعة قلعة رباح"، صورها ميجويل سييثيوم وهو فلمنكي في حاشية إيزابلا، وهي من أجمل صور الأشخاص في المعرض القومي بواشنطن. ولكن التأثير الإيطالي بدأ مرة أخرى عندما عاد بدرو برجوت إلى إسبانيا بعد تمرس طويل في إيطاليا. وناك درس مع بييرو دلافرنشسكا وميلوزودا فورلي، وتمثل طرقتهما الهادئة في التظليل. ولما أراد فيديريجو أمير أربينو، مصورين يزينون قصره، اختار جستوس فون جنت وبيرو سبانيولو، ولما توفى الدوق (1582) جلب بدور فن التكليل معه إلى إسبانيا، ورسم لوحات مذبح مشهورة في طليطلة وأبلة والصور المنسوبة إليه في اللوفر والبريرا والرادو ومتحف كليفلند، فلَم يؤيد شهرته الحالية، أباعتباره فيلاسكين الملوك الكاثوليك؟ ولكنها تبدو في الرسم والتأليف أعظم من جميع الآثار التي ظهرت في إسبانيا قبلهم.
وأخذت العوامل الأجنبية تتفاعل ببطيء مع العبقرية الوطنية لتمهد الطريق لظهور الآثار الفنية الناضجة التي قام بها الونزوكواللو والجريكو في عهد فيليب(23/103)
الثاني، وانتصارات فيلاسكيه وزرباران وموريللو في عصر إسبانيا الذهبي إبان القرن السابع عشر. والعبقرية موهبة فردية من القوة والإرادة. ولكنها في الوقت نفسه ميراث اجتماعي للنظام والقدرات تشكلت على الأيام وتمثلها النمو والعبقرية تولد وتصنع في آن واحد.
8 - الأدب الإسباني
وكان على النفوذ الإيطالي في الأدب أن يتريث في الوقت الذي تبادلت فيه أسبانيا لتأثير مع فرنسا في القرون الوسطى. وربما أخذ التروبادور في برفانس عن أسبانيا الإسلامية والمسيحية، قوالبهم وأخيلتهم الشعرية ومع ذلك فقد أرسل جون الأول ملك أرجون وفدا إلى شارك الرابع ملك فرنسا (1388) يطلب مجيء-التروبادور من تولوز إلى برشلونة، لينشئوا فيها فرعا من فرقتهم، الحكمة المرحة وتحقق له ذلك وعقدت المطارحات الشعرية في برشلونة وطرطوشة على النهج البروفانسي، وشغفت الأقلية المتعلمة في أرجون وقشتالة بنظم الشعر وإلقائه. وأنشد منشدون جوالون القصائد الغنائية في الحب أو العقيدة أو- الحرب بمصاحبة آلات وترية بسيطة.
وإذا كان الجيل الثاني فقد أيد جون الثاني ملك قشتالة النماذج الشعرية الإيطالية. وانتشرت في شبه الجزيرة الأيبيرية طرائف النظم الإيطالي وأوزانه عن طريق نابولي وصقلية، حيث حكم الإسبان، وعن طريق جامعة بولونيا، حيث تعلم الشباب الأسبان مثل آل بورجيا، ووجد دانتي بترارك مقلدين لهما مشغوفين بهما باللسان القشتالي. وكانت مقطعات الشعراء الأسبان الغنائية تجمع بين وآخر في دواوين الشعر الغنائي cancioneros، وهي أناشيد فروسية العاطفة بتراركية الأسلوب. واستورد ماركيز سنتيلانا- وهو سياسي وباحث وراعية للأدب وشاعر- قالب المقطوعة الغنائية في إيطاليا، وسرعان ما صنف تاريخا للأدب. وقلد جوان ده مينا، دانتي(23/104)
تقليداً صريحاً في ملحمة شعرية، عنوانها "قصر التيه" وقد فعلت الكثير لتجعل اللغة القشتالية لغة أدبية، مثلما فعلت الكوميديا الإلهية، للغة الحديثة التسكانية وسبق دون جوان مانويل في الوقت نفسه بوكاشيو، في كتابة حكايات درامية اقتبس شكسبير من إحداها الشخصية التي لا يمكن تصديقها لبتروشيو في ترويضه النمرة.
وظلت الرومانس تجد لها مدخلا لكل الطبقات القراء. وترجمت أماديس داجولا إلى الإسبانية (1500) على يد جارسا أردونية، الذي أكد لقرائه، أنه استحدث في الأصل البرتغالي تنقيحا كبيراً، وما دامت هذه الترجمة قد ضاعت فنحن لا نستطيع أن نخالفه. أماديس ابن غير شرعي لأميرة بريطانية خيالية، وقد ألقت به أمها في البحر. فأنقذه فارس اسكتلندي وصار وصيفاً لملكة اسكتلنده. ويترك ليوزيرات ملك إنجلترا ابنته أوريانا التي تبلغ من العمر عشرة أعوام في البلاط الاسكتلندي، ليخمد ثورة مغتصب لملكه. وتعين الملكة أماديس الذي يبلغ من العمر أثنى عشر عاما وصيفاً لأوريانا قائلة "هذا الطفل يقوم على خدمتك" .. فأجابت إن هذا يسرها. واحتفظ الطفل بهذه الكلمة في قلبه، على نحو لم تفارقه بعد ذلك قط ... ولم يكل قط، طوال أيام حياته من خدمتها. وهكذا بقي حبهما ما بقيا، ولكن أماديس الذي لم يعرف مطلقاً مدى حبها له، رأى نفسه جسوراً في أن يحصر أفكاره فيها وقد أدخل في اعتباره عظمتها وجمالها، ولم يجسر قط، أن يتفوه بكلمة معها وهي أيضاً، وان أحبته من قلبها، حرصت على ألا تكلمه أكثر مما تكلم غيره، ولكن عينيها وجدت السلوى العظيمة في أن تبدي لقلبها أعظم ما تحبه في الدنيا.
ومن المطمئن أن نعلم أن حبهما قد انتصر بزواجهما، بعد محن بلغت من الكثرة في القصة قبل الزواج، ما بلغته بعد ذلك في الحياة. وفي هذه الحكاية الطويلة لحظات كثيرة تزخر بالعاطفة وبعضها يتسم بالنبل، وإذا(23/105)
كان سرفانتيس، قد أقسم أن يمحو كل هذا النوع من القصص الخيالي فإنه أبقى هذه باعتبارها أحسنها.
وتعد الرومانس مورداً من موارد الدراما، التي انبثقت ببطيء من مسرحيات المعجزات والأخلاقيات، في صورة الهزليات الشعبية ومسرحيات التنكر الخاصة بالبلاط. وأقدم وقت معلوم في تاريخ الدراما الإسبانية هو عام 1942، عندما ظهرت على المسرح المحاولات الدرامية لجوان دل انسينا وسار فرناندو ده روجاس وهو من المتنصرين خطوة أخرى نحو الدراما بتأليفه La Celestina، " القوادة" (1499) وهي قصة تسرد قصتها في كل شكل حوار، وتنقسم إلى اثنين وعشرين فصلا، وكانت أطول من أن تمثل على المسرح، بيد أن تشخيصها الحي وحوارها المشرق قد مهدا للكوميديا الإسبانية الكلاسيكية.
وكانت الكنيسة تعمل على تعويق الدراسات وتشجيعها معاً. بينما فيينا أخذت محكمة التفتيش تراقب الفكر، فإن صفوة رجال الدين قد عملوا الكثير من أجل التربية والتعليم. وجلب الإيطاليون من أمثال بيترو ومارتيره وانجييرا، الذي جاء إلى إسبانيا عام 1487، أخبار الحركة الإنسانية، كما عاد الأسبان الذين تعلموا في إيطاليا بعدوى التحمس لها. واستجاب بيتر مارتير لطلب الملكة فافتتح في بلاطها، كما فعل الكوبن لشرمان ذلك بسبعة قرون، مدرسة لتعليم الآداب واللغات الكلاسيكية. ودرست الأميرة جوانا اللاتينية في جد ومثابرة قبل أن تصاب بالجنون. وكتب بيتر نفسه التواريخ الأولى للكشوف الجغرافية في أمريكا، بعنوان"في أمور المحيطات وفي أمور الكرة الأرضية الجديدة (1504) " De rebvs Oceanis et novo orbe والكلمتان الأخيرتان تسايران استعمال فسبوتشي (1502؟) لهما قبل ذلك لتدل على العالم الجديد.
وأسهم الكاردينال اكسيمنيس، الذي كان إيمانه صارماً حاداً كالصلب في الحركة الكلاسيكية. وقد أسس عام 1499 كلية الدوفنسو، وفي عام(23/106)
1508 جامعة القلعة. وهناك بدأ، عام 1502، تسعة من اللغوين تحت إشرافه بأحد الأعمال الكبيرة للنهضة العلمية، وهو "الكتاب المقدس (1) بعدة لغات" Biblia polyglotta compluti وهو أول نسخة كاملة للكتب المقدسة المسيحية باللغات الأصلية. ولقد أضاف الناشرون إلى النص العبري الماسوريتي للعهد القديم والنص اليوناني للعهد الجديد. على عمود مقابل أو تعليق؛ الترجمة اليونانية وترجمة جيروم اللاتينية وشرحا سريانيا للتوراة. فتح ليو العاشر، لمعاوني اكسيمنيس، خزائن مخطوطات الفاتيكان، ونشر ثلاثة من اليهود المتنصرين علمهم العبري، وتم تحقيق هذه النصوص عام 1517 ولكن المجلدات الستة لم تطبع إلا عام 1522. وأحس اكسيمنيس بالوفاة، فاستحث علماؤه. قائلا: "لا تضيعوا وقتاً في تنفيذ عملنا المجيد، وإلا، فقدتم في خضم حوادث الحياة داعيكم أو قدر على أن أندب فقد أولئك الذين خدماتهم أعظم في نظري من كنوز الدنيا وأمجادها"، وقدم إليه المجلد الأخير قبل وفاته بأشهر قليلة مع تحيات أصدقائه. وقال لهم إنه لا يوجد بين جميع أعمال إدارته ما هو أحق من هذا بتهيئتهم. وشرع إصدار نصوص أرسطو بالطريقة نفسها، مع ترجمة لاتينية جديدة لها، ولكن المنية حالت بينه وبين ذلك.
9 - موت الملك
سبقت إيزابلا وزيرها الناشط في المغامرة الكبرى فقد كانت على الرغم من قساوتها، امرأة عميقة الإحساس، احتملت ملمات أشد وطأة من الحروب. فقد دفنت أمها عام 1496. ومات من أطفالها العشرة خمسة عند الولادة أو في سن الطفولة، ومات اثنان آخران في الشباب المبكر.
_________
(1) نسبة إلى كمبلوتم، ومعناها مثمر، وهو الاسم اللاتيني القديم لمدينة القلعة.(23/107)
وفقدت ابنها الوحيد عام 1497، وهو أملها الوحيد في وراثة طبيعية للعرش، كما ماتت أحب بناتها عام 1498، وهي ملكة البرتغال، التي ربما وحدت شبه الجزيرة توحيداً سلمياً لو قدرت لها الحياة. وكابدت وسط هذه الضربات المأساة اليومية وهي تشاهد ابنتها جوانا، التي كانت وقتذاك ولية للعهد، تفقد عقلها ببطيء.
وكانت جوانا قد تزوجت فيليب الجميل، دوق برجندي وابن الإمبراطور مكسيمليان الأول (1946) وأنجبت منه إمبراطورين مقبلين هما شارل الخامس وفرديناند الأول. وأهمها زوجها فيليب إما لمزاجها المتقلب، أو لسفاهتها، واستمر على اتصال بإحدى سيدات بلاطها في بروكسل، وجزت جوانا شعرها الخلاب فأقسم زوجها ألا يضاجعها-وسمعت إيزابلا بهذا كله. فوقعت مريضة وفي الثاني من أكتوبر عام 1504 كتبت وصيتها. بأن يحتفل بجنازتها أبسط احتفال وأن المال المدخر من هذا الصنيع يجب أن يوزع على الفقراء، وأن تدفن في دير فرنسسكاني داخل الحمراء، وأضافت: ولكن إذا رأى مولاي الملك أن يكون جدثه في مكان آخر وصيتي أن ينقل جثماني إلى جواره، وأن الاتحاد الذي نعمنا به في هذه الدنيا، وقد تقتضي رحمة الله أن تتحد معاً روحانا مرة أخرى في الآخرة، ويمثله اتحاد جسمينا في الثرى" وماتت في الخامس عشر من نوفمبر عام 1504 ودفنت كما أوصت، حتى إذا مات فرديناند نقل جثمانها ليدفن إلى جواره في كتدرائية غرناطة. وكتب بيتر مارتير "لقد فقدت الدنيا أنبل زينتها، لا أعرف أحداً من جنسها في العصور القديمة أو الحديثة، جديرة على الإطلاق بأن يوضع اسمها مع هذه المرأة التي لا تضارع". (لقد كانت مرجريت ملكة السويد بعيدة عن مجال إدراكه، كما أن إليزابث ملكة إنجلترا كانت كذلك لم تأت بعد).
وقد عينت وصية إيزابلا، فرديناند ليكون نائب ملك على قشتالة(23/108)
من أجل فيليب الذي تمثلته الأراضي الواطئة ومن أجل جوانا التي تسرع الخطى نحو الاعتصام بالجنون. وكان أمل فرديناند أن يمنع سقوط العرش الأسباني في يد آل هبسبرج، في شخص شارل بن فيليب، فبادر وهو في الثالثة والخمسين إلى الزواج (1505) من جرمين ده فوا، ابنة أخي لويس الثاني عشر، والبالغة من العمر سبعة عشر عاماً، ولكن الزواج ضاعف من سخط النبلاء القشتاليين على مولاهم الأرجواني. وماتت ثمرة هذا الزواج في سن الطفولة. فطالب فيليب بعرش قشتالة، ووصل إلى أسبانيا ورحب به النبلاء (1506) بينما انسحب فرديناند إلى مقره باعتباره ملكاً على أرجون. وبعد ذلك بثلاثة أشهر مات فيليب، واستعاد فرديناند ملك قشتالة باسم ابنته المخبولة. وظلت جوانا لالوكا، ملكة من الناحية القانونية، وعاشت إلى عام 1555، ولم تترك قصرها في تورديزبلاس إطلاقاً، بعد عام 1507، وكانت تأبى الاغتسال أو ارتداء الثياب ولم تكل يوماً عن النظر من خلال إحدى النوافذ إلى المدافن التي تضم رفات الزوج الخائن الذي لم تنقطع عن محبته.
وحكم فرديناند حكماً مطلقاً وهو نائب ملك أكثر مما كان وهو ملك فقد تحرر من تأثير إيزابلا الملطف، وتحولت عناصر الصلابة والانتقام في شخصيته إلى التصلب الصارم. وكان قد استعاد قبل ذلك روسيلون وسردينيا (1493) كما فتح جونز الو أمير قرطبة باسمه نابولي عام 1503. ونقض ذلك معاهدة وقعها فيليب مع لويس الثاني عشر في ليون تقسم مملكة نابولي بين أسبانيا وفرنسا: وأكد فرديناند للعالم بأن فيليب تجاوز تعليماته. وأبحر إلى نابولي واستولى بشخصه على عرشها (1506) وساوره الشك في رغبة جونزالو في العرش لنفسه! ولما عاد إلى أسبانيا (1507) أخذ معه القبطان الكبير وأسلمه إلى عزلة عدها معظم أهالي أسبانيا إذلالاً لا يستحقه.(23/109)
وسيطر فرديناند على كل شئ إلا الزمن. وغاضت ينابيع الإرادة والنشاط فيه شيئاً فشيئاً. وطالت فترات راحته. وأصابه الإنهاك مبكراً، فأهمل شئون الحكومة، وأصبح نافذ الصبر قلقاً، سيئ الظن إلى حد المرض بأوفى خدامه له. وأضناه الأستسقاء والربو، وتعذر عليه التنفس في المدن ففر في يناير عام 1516 جنوبا إلى الأندلس، آملاً أن يقضي الشتاء في ريفه الطلق. ولكنه مرض في الطريق، وأقنع آخر الأمر بأن يتأهب للموت. فعين أكسيمينيس ليكون نائب الملك على قشتالة، كما عين ابنه غير الشرعي كبير أساقفة سرقسطة، نائب الملك على أرجون. وبات في الثالث والعشرين من يناير عام 1516 في السنة الرابعة والستين من عمره، والثانية والأربعين من حكمه.
ولا غرابة في أن يمتدحه ميكافلي: كان هنا ملك قام بدور الأمير قبل أن يفكر مؤلفه في كتابته. فقد جعل فرديناند من الدين أداة للسياسة القومية والحربية، وغمر وثائقه بعبارات التقوى ولكنه لم يسمح لاعتبارات الأخلاق قط أن يتغلب على مقاصد الضرورة أو الغنم. ولا يستطيع أحد أن يشك في قدرته وكفاءته في الإشراف على الحكومة، واختياره الفطن لوزرائه وقواده ونجاحه المستمر في الدبلوماسية والاضطهاد والحرب. أما من الناحية الشخصية فلم يكن جشعاً ولا مبذراً، وكانت شهرته تنزع إلى تحقيق السلطة أكثر من تحقيق الترف، وكان جشعه من أجل بلاده، يريدها موحدة قوية. ولم يؤمن بالديمقراطية، وتضاءلت في كنفه الحريات المحلية وماتت وكان مقتنعاً بأن النظم الإقليمية القديمة لا يمكن التوسع فيها بنجاح أمة تضم ولايات وعقائد ولغات جد كثيرة. وكان عمله وإيزابلا معه أن يحل الملكية محل الفوضى والقوة محل الضعف ومهد الطريق لشارل الخامس أن يحتفظ بالسيادة الملكية على الرغم من فترات غيبته الطويلة، كما مهد الطريق لفيليب الثاني ليركز الحكومة كلها في رأس واحد(23/110)
قاصر. وكان آثماً من أجل تحقيق هذه الأغراض بما يعد في زماننا همجية وتعصباً وقسوة غير إنسانية، ولكن يعد عند معاصريه نصراً مجيداً من أجل المسيح.
وحافظ أكسيمنيس باعتباره نائب الملك بحماسة على حكم العرش المطلق، ولعله كان بديلا من الارتداد إلى الانقسام الإقطاعي. وهو وإن كان في الثمانين من عمره، فقد حكم قشتالة بإرادة صلبة، وقضى على كل محاولة من الإقطاع أو المجالس البلدية لاستعادة سلطاتها السابقة، فلما سأله بعض النبلاء بأي حق يمنع امتيازاتهم، لم يشر إلى وثيقة إسناد المنصب إلى شخصه وإنما أشار إلى المدفعية في فناء قصره. ومع ذلك كانت إرادة السلطة عنده نابعة لإحساسه بالواجب، لأنه استحث الملك الشاب شارك مراراً على أن يترك فلاندرز وأن يحضر إلى أسبانيا ليتولى ملكها. ولما جاء شارل (17 سبتمبر 1517) سارع اكسيمنيس شمالا لاستقباله. ولكن مستشاري شارل الفلمنكيين أيدوا نبلاء قشتالة في إعطائه تقريراً ضد إدارة الكاردينال وشخصيته، حتى بعث الملك، وكان لا يزال فتى غير ناضج في السابعة عشرة من عمره، إلى اكسيمنيس ورسالة يشكره فيها على خدماته، مرجئا مقابلته مطالبا إياه بأن يسحب إلى مقره الديني في طليطلة لينعم براحة يستحقها. وبعث بعدها برسالة أخرى يعفي المتزمت العجوز من جميع المناصب السياسية، وبلغته الرسالتان متأخرتين حتى لا يضاعفا من إذلاله، فقد مات في الثامن من نوفمبر عام 1517 بالغاً من العمر واحداً وثمانين عاماً. وعجب الناس من أنه على الرغم من صلاحه في الظاهر فقد جمع الثروة الشخصية الضخمة التي خلقتها وصيته إلى جامعة القلعة.
وختم لإسبانيا عصراً غنيا بالأمجاد والأهوال والرجال الأقوياء. ويوحي الأعقاب على هذه الأحداث بأن انتصار التاج على المجالس النيابية والولايات قد أزال الوسيلة التي كانت الإسبانية تستطيع بواسطتها أن تعبر وتحافظ(23/111)
على استقلالها وتنوعها وأن توحيداً قد استتب في مقابل أن يسيطر على أسبانيا جهاز يعمل على قمع الفكر الأصيل في أوليات الأشياء وأواخرها، وأن إجلاء اليهود والمسلمين الذين لم يتنصروا، قد أنقص من القوة البشرية المعاملة في التجارة والصناعة في نفس الوقت الذي تطلب اكتشاف العالم الجديد فيه التوسع والتقدم الاقتصاديين، وأن تورط أسبانيا المستمر في سياسات وحروب فرنسا وإيطاليا (ثم فلاندرز وألمانيا وإنجلترا) وضعت أثقالا لا تحتمل على كاهل موارد الأمة في المال والرجال، بدلا من تحويل السياسة ولمغامرة في عهد فرديناند وإيزابلا باصطلاحات لا يستطيع شعب أوربي في عصرهما فهمهما. فقد اضطهدت جميع الفرق الدينية، اللهم إلا قليلا من المسلمين ومنكري تعميد الأطفال، المخالفة في الدين، واستعملت جميع الحكومات، إيطاليا وفرنسا الكاثوليكيتان وألمانيا وإنجلترا البروتستانتيان، القوة في توحيد العقيدة الدينية، واستشعرت جميع الدول الظمأ إلى ذهب جزائر الهند-الشرقية والغربية- وكلها توسلت بالحرب والدهاء الدبلوماسي لتؤكد بقاءها وتوسع حدودها أو تزيد من ثروتها.
ولم تكن المسيحية عند جميع الأمم المسيحية حكما بالوسائل وإنما كانت وسائل إلى الحكم، وكان المسيح أثيراً عند الشعب وميكافلي أثيراً عند الملوك. وقد حضرت الدولة الإنسان من بعض الوجوه، ولكن من ذا الذي يحضر الدولة؟.(23/112)
الفصل الثالث عشر
نمو المعرفة
(1300 - 1517)
1 - السحرة
لم يزل القرنان اللذان صور تاريخهما الأوربي تصويراً مجملا سريعاً في الفصول السابقة، يعدان جزءاً مما اصطلح على تسميته بالعصر الوسيط وهو ما نستطيع أن نحدده تحديداً تقريبياً بأنه سيرة أوربا بين قسطنطين وكولمبس، أي من 325 إلى 1492. وإذا أردنا أن نلخص الآن العلم والتربية والفلسفة في غرب أوربا إبان القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فيجب أن نتذكر أن الدراسات العقلية كان عليها أن تحارب من أجل الحصول على التربية والهواء في غابة من الخرافة والتعصب والخوف. وبين أحداث القحط والطواعين والحروب، وفي الفوضى الضاربة على البابوية الشاردة والمنقسمة على نفسها بحث الرجال والنساء في القوى الخفية عن بعض التفاسير لما ينزل بالإنسانية من شقاء خفي وعن قوة سحرية ما تتحكم في الأحداث، وعن ضرب من الفرار الصوفي من الواقع المرير، وسارت حياة العقل متعثرة في وسط من العرافة والسحرة واستحضار الأرواح وقراءة الكف وفراسة الدماغ والاستنباء بالعدد والعيافة والطيرة والتنبؤ وتفسير الأحلام وطوالع النجوم والتحويل الكيميائي للمواد والعلاج بالخوارق وللقوى الخفية في الحيوان والمعدن والنبات. ولا تزال هذه الأعاجيب حية في أعطافنا اليوم. وتظفر هذه أو تلك منها بالولاء الصريح أو الخفي من كل واحد منا تقريباً ولكن تأثيرها الحالي في أوربا اليوم أقل بكثير من سلطانها في العصور الوسطى ..(23/113)
ولم تدرس النجوم من أجل هداية السفن أو تحديد المواسم الدينية فحسب وإنما درست من أجل التنبؤ بما يقع على الأرض من أحداث وما يخبأ للأشخاص من مصير. ويبدو أن التأثير النافذ للمناخ والفصول وعلاقة المد والجزر بالقمر والتوقيت القمري للطمث عند المرأة واعتماد الزراعة على أحوال السماء وكيفياتها، إنما تبرر مزاعم التنجيم بأن سماء اليوم تكشف عن أحداث الغد. وكانت أمثال هذه التنبؤات تنشر بانتظام (كما هو الحال الآن) وتبلغ جمهوراً كبيراً متعطشاً لها. ولم يكن الأمراء يجسرون على القيام بحملة أو واقعة أو رحلة أو تشييد بناء إلا إذا حصلوا على تأكيد من المنجمين بأن النجوم في أوضاع ملائمة لهذه الأغراض. ولقد حرص هنري الخامس ملك إنجلترا على الاحتفاظ بإسطرلاب ليرسم خريطة السماء، ولما جاء زوجته المخاض قرأ بنفسه طالع الطفل وكان بلاط متياس كورفينوس الذي يضم صفوة المثقفين يرحب بالمنجمين ترحيبه بعلماء الإنسانيات.
واعتقد الناس أن الملائكة تهدي النجوم، وأن الهواء يزخر بالأرواح الخفية، بعضها من الجنة وبعضها من الجحيم. وسكنت العفاريت كل مكان وبخاصة مخدع الإنسان، وينسب إليها بعض الرجال ما يسلب منهم بالليل كما نسب إليها بعض النساء ما يصيبهن في غير أوانه، وأجمع علماء الدين على أن أمثال تلك الخطيات الخبيثات لهن وجود حقيقي ويستطيع كل امئ ساذج في كل منعطف وكل لحظة أن يخرج من عالم الحس إلى مملكة من الكائنات والقوى المسحورة. ولكل شئ طبيعي صفات خارقة. وكانت كتب السحر من أروج الكتب في ذلك العصر. ولقد عُذب أسقف كاهورز وجلد وألقى به في المحرقة (1317) بعد أن اعترف بأنه أحرق تمثالاً من الشمع للبابا يوحنا الثاني والعشرين آملاً أن يلقى الأصل، مصير الشمع، كما وعد بذلك فن السحر. واعتقد الناس أن فطير القربان بتقديس القسيس ينزف دم المسيح إذا خدش.(23/114)
وخبت شهرة الكيماويين، ولكنهم استمروا في أبحاثهم الأمينة وخدعهم البراقة على السواء وفي الوقت الذي أنكرتهم فيه المراسيم الملكية والبابوية فقد أقنعوا بعض الملوك الكيمياء قد تفعم الكنوز متى نضبت. وكان السذج يبتلعون "الذهب المذاب" الذي أكد لهم أنه يشفي كل شئ إلا الغفلة (ولا يزال المرضى والأطباء يتعاطون الذهب في علاج داء المفاصل) ..
ونافس علم الطب في كل خطوة من خطواته، التنجيم وعلوم الدير والدجل. ونسب الأطباء تقريباً تشخيص مرض من الأمراض إلى البرج الذي ولد أو مرض فيه المريض، وهكذا كتب الجراح العظيم جي ده شولياك (1363): "إذا جرح امرؤ في عنقه والقمر في برج الثور، فالإصابة خطيرة" ومن أقدم الوثائق المطبوعة، تقويم نشر في منيز (1462) يبين أحسن الأوقات من ناحية طوالع النجوم لفصد الدم. ونسبت الأوبئة بين جمهرة الناس إلى اجتماع سيئ الطالع بين النجوم. وأرجح ملايين المسيحيين، الشفاء إلى العقيدة وربما كان ذلك لخيبة أملهم في الطب. وذهب آلاف إلى ملوك فرنسا وإنجلترا يستشفون من الدرن الخنزيري بلمسة ملكية ويبدوا أن هذه العادة قد بدأت بلويس التاسع الذي أدت قداسته إلى الاعتقاد بقدرته على عمل المعجزات. وظن الناس أن قوته، قد انتقلت منه إلى خلفائه، كما انتقلت عن طريق إيزابلا أميرة فالوا. وهي أم إدوارد الثالث، إلى ملوك إنجلترا. وحج آلاف أكثر إلى أضرحة تشفي المرض؛ وحولوا بعض القديسين إلى أطباء متخصصين، وهكذا اكتظت كنيسة القديس فينوس بالمصابين بداء الرقص الزنجي، إذ ساد الاعتقاد بأن هذا القديس متخصص في علاج هذا المرض وأصبح قبر بييرده لكسمبورج، وهو كارينال مات في الثانية عشرة من عمره بسبب غلوائه في الزهد، مزاراً محبباً، ونسب شفاء ألف وتسعمائة وأربعة وستين(23/115)
شخص إلى قدرة عظامه السحرية، وذلك في خلال خمسة عشر شهراً من وفاته. وراجت صناعة الدجالين، ولكن القانون بدأ يقاومهم. ففي عام 1382 حكم على روجر كليرك، الذي ادعى علاج المرضى بالرقي، أن يسير في شوارع لندن راكباً وقد علقت المباول حول عنقه.
واعتقد معظم الأوربيين في السحر، أو بعبارة أخرى، في قوة بعض الأشخاص على التحكم في الأرواح الشريرة والحصول على معاونتها- لقد كانت القرون المظلمة متنورة نسبياً في هذه الناحية. ولقد أنكر القديسان بونيفاس واجوبارد الاعتقاد في السحر باعتباره ذنباً وعملا يوجب السخرية، وجعله شارلمان جريمة يعاقب مقترفها بالإعدام وكان يشنق كل شخص يتهم بصناعة السحر، وحرم البابا جريجوري السابع هلديبراند، على محكمة التفتيش، أن تحاكم السحرة على أنهم السبب في العواصف والطواعين ولكن تأكيداً الوعاظ لحقيقة جهنم ومكائد إبليس أذكى الاعتقاد الشعبي في وجود الشيطان وشره في كل مكان أو وجود أحد أعوانه، وكم من عقل مريض أو نفس يائسة اعتصمت بفكرة استحضار أمثال هذه الشياطين لمعاونتها. واتهم بالسحر أنواع شتى من الناس، يدخل فيهم البابا بونيفاس الثامن. ولقد شنق الرجل الأرستقراطي انجراند ده ماريني بتهمة السحر عام 1315، وأمر البابا جون الثاني والعشرون عام 1317 بقتل عدد من الأشخاص غير المعروفين، لأنهم دبروا اغتياله مستعينين بالشياطين. وأنكر جون مراراً الالتجاء إلى الشياطين وأمر باضطهاد من يقترفه، وفرض العقوبات عليه، ولكن الناس فسروا مراسيمه بأنها تؤيد اعتقادهم في وجود القوى الشيطانية وإمكان الانتفاع بها. وتضاعف الاتهام بالسحر بعد عام 1320، وشنق كثير من المتهمين أو ألقي بهم في المحرقة. وساد في فرنسا الرأي القائل بأن شارل السادس قد أصيب بالجنون بوسائل سحرية، واستخدم ساحران لإعادة العقل إليه، فلما أخفقا جز رأساهما (1397).(23/116)
وفي عام 1397 أصدرت كلية الدين بجامعة باريس، ثمانية وعشرين مقالة تحرم السحر، وإن اعترفت بقدرته بين حين وآخر. وعد قاضي القضاة جرسون أن من الهرطقة أن يناقش المرء وجود الشياطين أو نشاطها.
أما الكهانة فهي ممارسة السحر بوساطة أشخاص نسبوا إلى عبادة إبليس باعتباره كبير الشياطين الذين يعملون على استخدامها في اجتماعات ليلية أو سبتية. ويذهب الاعتقاد الشعبي إلى أن السحرة، وأغلبيتهم من النساء يزودون بقوى خارقة في مقابل عبادتهم لإبليس. وانتدابهم على هذا الوجه يجعلهم يسيطرون على النواميس الطبيعية، ويجلبون النحس أو الموت لمن يريدون. وأيد علماء أمثال اراومس وتوماس مور وجود الكهانة في الواقع، وشك فيها بعض القسس في كلونيا، وأيدت وجودها جامعة كلونيا. وزعم معظم رجال الكنيسة- ويوافقهم في ذلك بعض المؤرخين من غير رجال الدين إلى حد ما- أن الاجتماعات السرية بالليل إنما هي تعلات لعلاقات جنسية مختلطة ولتحريض الشباب على الفسق، واعترف بعض السحرة اعترافا مزعوماً أو بالأعمال الشريرة التي أسندت إليهم، وذلك إما بوساطة وهم مخبول، وإما للتخلص من التعذيب، ولعل هؤلاء السحرة الشعبيين قد قاموا بما يشبه التحذير النهائي لمسيحية مثقلة، وبنزعة ترفيهية من ناحية ومتمردة من ناحية أخرى لعبادة إبليس باعتباره العدو القوي لإله يحكم على كثير من المباهج بالكبت ويلقى بكثير من الأرواح في الجحيم، وقد تذكر هذه الشعائر الخفية وتؤكد من جديد العقائد في الأعياد الوثنية لآلهة الأرض والحقل والغابة الخاصة بالتناسل والإخصاب أمثل باخوس وبريابوس وسيريس دفلورا.
واجتمعت جهود الأوساط المدنية والدينية علة قمع ما رأوه أكبر فساد وكفر. وانتدب عدد من البابوات- في الأعوام 1374 و1409(23/117)
و1347 و1451 وبخاصة البابا إنوسنت الثامن عام 1484 - عملا في المحكمة التفتيش للتصرف مع السحرة باعتبارهم هراطقة منبوذين، تصيب جرائمهم ووسائلهم الثمرات والأرحام بالأذى، وقد تحول مزاعمهم جماعات بأسرها إلى الشيطنة واعتمد البابوات اعتماداً حرفياً على آية في سفر الخروج (الإصحاح 22: الآية 18) "لن تترك ساحرة تعيش". ومع ذلك فإن المجالس الكنيسة فبل سنة 1446 كانت تكتفي بالعقوبات المعتدلة إلا إذا كان المذنب السابق عنه قد عاد إلى سابق إجرامه. ولقد أحرقت محكمة التفتيش عام 1446، عددا من السحرة في هيلدلبرج، وأحرقت عام 1460 أثنى عشر رجلا وامرأة في أراس، وأطلق عليهم الفودوا كما أطلق على الهراطقة ( waldenses) وقام السحرة في فرنسا برحلة عبر الأطلنطي حتى أطلقت كلمة فودوويزم voodooism على سحر الزنوج في المستعمرات الفرنسية في أمريكا. وفزع جاكوب سبرنجر قاضي محكمة التفتيش الدومينيكي فزعاً شديداً من انتشار السحر فأصدر عام 1487 دليلا رسميا لمطاردة السحرة عنوانه: "مطرقة السحرة". وقدم مكسميليان الأول وكان إذ ذاك ملك الرومان لهذا الدليل برسالة تقريظ قال فيها أعظم أثر هائل ضد الخرافة أنتجه العالم. وقال سبرنجر إن هؤلاء النسوة الشريرات بتقليب خميرة شيطانية في قدر أو بوسائل أخرى، يستطعن إحضار أسراب من الجراد والديدان لتلتهم محصولا كاملا، وهن يستطعن أن يصبن الرجال بالعقم ويجعلن النساء عقيمات، ويغضن لبن المرضع أو يجهضن الحامل، ويستطعن بنظرة واحدة فقط أن يجلبن الحب أو الكراهية، المرض أو الوفاة. ويخطف بعضهن الأطفال ويشوينهم ويأكلونهم. ويستطعن رؤية الأشياء عن بعد ويتنبأن بالجو، وفي إمكانهن أن يحولن أنفسهن أو غيرهن إلى حيوانات، وختم بحثه بقوله إن ذلك لأن النساء أخف رؤوسا وأكثر(23/118)
شهوة من الرجال، وأضاف أنهن، إلى هذا كله، وسائل محبوبة دائمة لإبليس. ولقد أحرق ثمانية وأربعين منهن في مدى خمس سنوات. ومنذ عهده، زاد هجوم رجال الدين على صناعة السحر حتى بلغ أوجه في القرن السادس عشر، في كنف الكاثوليك والبروتستانت على السواء، وبهذا الضرب من العنف الهائل تفوقت الأزمنة الحديثة، على العصور الوسطى. وفاخر أحد موظفي محكمة التفتيش عام 1554، بأن محكمة التفتيش، قد أحرقت ثلاثين ألفا من السحرة على الأقل، وإذا تركوا بلا عقاب فقد ينزلن الخراب بالعالم كله.
ولقد ألفت كتب كثيرة في هذا العصر لمحاربة الخرافات وتحتوي كلها على خرافات. ووجه أجوستينو ترينفو إلى البابا كلمنت الخامس، رسالة ينصحه أن يحرم السحر الخفي ولكن ترينفو رأى أن الطبيب لا يغتفر له أن يجري فصاداً في مراحل معينة من أوجه القمر. ووجه البابا جون الثاني والعشرون ضربات قاسية للكيمياء (1317) والسحر (1337)، ونعى ما ظنه انتشاراً متزايداً لتقديم القرابين إلى الشياطين، وأخذ العهود على إبليس وصناعة التماثيل والخواتم والأمزجة للأغراض السحرية، وأصدر قراراً تلقائياً بالحرمان ضد جميع الذين يمارسون هذه القوانين، ولكنه أضمر اعتقاداً في قدرتها.
وكان نيقولا أرزم هو الخصم العنيد للتنجيم في ذلك العصر، وقد توفي وهو أسقف ليزيوه عام 1382. وسخر من المنجمين، الذين لا يستطيعون تحديد جنس الطفل قبل ولادته وإن زعموا أنهم يستطيعون التنبؤ بمصيره على الأرض بعد ولادته، وقال أرزم إن مثل هذه الطوالع حكايات يسردها الزوجات العجائز وكتب مردداً عنوان شيشرون وجهده قبل ذلك بأربعة عشر قرناً عن: "قراءة الغيب" في الرد على مزاعم العرافين ومفسري الأحلام وأمثالهم. ولقد سلم وسط شكه في العلوم الخفية بصفة(23/119)
عامة، بأن الأحداث يمكن أن تفسر بأنها من عمل الشياطين أو الملائكة. وقبل فكرة "عين الحسود". وظن أن المجرم يعتم المرآة بنظره فيها. وأن نظرة الوشق (1). قد تخترق الحائط. واعترف بالمعجزات التي في الكتاب المقدس، ولكنه رفض التفسيرات الخارقة إذا كانت العوامل الطبيعية تكفي للتفسير وقال نيقولا: إن كثيرين من الناس يصدقون السحر لأنهم يفتقرون إلى معرفة العلل والتطورات الطبيعية. وهم يقبلون بالسماع ما لم يروه، ولذلك قد تصبح أسطورة-مثل ساحر يتسلق حبلا ألقى به في الهواء- عقيدة شائعة (وهذه هي أول رواية تذكر فيها أسطورة تسلق الحبل) واحتج أرزم تبعاً لذلك بأن انتشار عقيدة ما ليس دليلا على صدقها بل إذا شاهد كثير من الناس حادثة تناقض تجربتنا العادية للطبيعة فيجب أن تتردد في تصديقهم. يضاف إلى ذلك أن الحواس من السهل خداعها فإن ألوان الأجسام وأشكالها وأصواتها تختلف تبعاً لمسافة أعضاء الحواس وأضوائها وحالاتها، والجسم وهو ساكن قد يبدو متحركا، والتحرك قد يبدو ساكنا، وتبدو قطعة النقود الموضوعة في قاع قنينة مملوءة بالماء، أبعد منها في قنينة فارغة. ويجب أن تفسر الأحاسيس بالفعل، وهذا أيضاً عرضة للخطأ. ويقول أرزم، إن خدع الحواس والفعل تفسر كثيراً من الأعاجيب التي تنسب إلى القوى الخارقة أو السحرية.
وعلى الرغم من هذا التقدم الجريء نحو الروح العلمي، فإن الخرافات القديمة بقيت أو عدلت أشكالها فحسب. ولم تكن مقصورة على الدهماء فقد دفع إدوارد الثالث ملك مبلغاً باهظاً من المال للحصول على قارورة، كان على يقين من أنها من مخلفات القديس بطرس وعرضت على شارل الخامس ملك فرنسا في سانت شابل، قارورة، قيل إنها تحوي بعض
_________
(1) الوشق: حيوان أصغر من الفهد قصير الذيل(23/120)
دم المسيح وسأل حكماءه وعلماء الدين عنده عن صحتها، فردوا متحفظين بالإيجاب. وفي هذا الجو جاهدت التربية والعلم والطب والفلسفة لتنمو.
2 - المعلمون
إن نهضة التجارة والصناعة قد أضيفت أهمية جديدة على التعليم. وإذا كانت معرفة القراء والكتابة تعد ترفا غالي الثمن في نظام زراعي فإنها تعتبر ضرورة لا غنى عنها في عالم المدينة الذي تغلب التجارة عليه. وقد أقر القانون أخيراً هذا التحول، ذلك أن ملاك الأرض الإقطاعيين في إنجلترا التمسوا عام 1391 من رتشارد الثاني تأييد القانون القديم الذي يحرم على رقيق الأرض أن يرسل ابنه إلى مدرسة دون أن يحصل على موافقة سيده ويقضى بتعويض المالك عن العجز في الأيدي العاملة بالمزرعة. ورفض رتشارد هذا الالتماس، أما في عهد خلفه فقد صدر قانون يسمح لأي رجل بأن يرسل من يشاء من أولاده إلى المدرسة. وفي ظل هذا القانون الذي أطلق حرية التعليم تضاعف عدد المدارس الأولية في حين بقيت في الريف المدارس التي يشرف عليها الرهبان. أما في المدن فإن الكنائس والمستشفيات والبيع والطوائف الحرفية كانت تمول المدارس الكبيرة وكان الالتحاق بها اختياريا بعد أنه شاع حتى في القرى.
وكان المعلمون في العادة من القسس ولكن نسبة المعلمين من غير رجال الدين ارتفعت في القرن الرابع عشر. وكان برنامج الدراسة يركز على الوعظ، والعقيدة الدينية والصلوات الأساسية والقراءة والكتابة والحساب والغناء والجلد بالسياط، ولقد كان الجلد بالسياط عماد التعليم حتى في المدارس الثانوية وفسر أحد رجال الدين ذلك بقوله: "يجب قمع أرواح الأولاد". وسلم معه الآباء بذلك وربما كان الأمر على هذا النحو. ولقد حثّت أجنس باستون مربي ابنها الخامل قائلة: "اجلده، إذا لم ينصلح حاله، فأنا أوثر أن يدفن حياً على أن أراه يضيع بسبب الإهمال".(23/121)
تابعت المدارس الثانوية سياسة التربية الدينية وأضافت غليها قواعد اللغة وكانت لا تشمل النحو والصرف والإنشاء فحسب، بل كانت تشمل اللغة أيضاً كما أنها هذبت أدب روما الكلاسيكي وتعلم الطلبة من أبناء الطبقة المتوسطة قراءة اللاتينية وكتابتها وإن كان هذا قد حدث بلا اكتراث وذلك باعتبارها من الضروريات للاشتغال بالتجارة الخارجية والعمل بالكنيسة. وكانت أحسن المدارس الثانوية أبان ذلك العهد تلك التي أنشأها في هولندا وألمانيا إخوان "الحياة المشتركة" وكان بمدرسة ديفنتر ألفا طالب. وكان لويليام الأوكهامي، أسقف ونشستر الثري المقدام فضل السبق في إنشاء أولى المدارس العامة في إنجلترا وهي معاهد تعتمد على الإعانات التي تتلقاها من الأفراد والهيئات العامة لتزود عدداً محدوداً من الأولاد بالمعلومات وتعدهم للالتحاق بالكلية. وحذا هنري السادس حذوه فأسس عام 1440 مدرسة ايتون ومُنحت الكثير من المال لإعداد الكبار وللالتحاق بكلية الملك بكمبردج.
وكان تعليم النساء، اللهم إلا بعض كريمات العقائل، مقصوراً على البيت بعد المرحلة الابتدائية. وتعلم كثير من نساء الطبقة الوسطى مثل مارجريت باستون كتابة الإنجليزية السليمة وألم بضع نفر من النساء بالأدب والفلسفة. أما أبناء الطبقة الأرستقراطية فقد تلقوا تعليما يختلف عما يلقن في المدارس إذ كانوا حتى سن السابعة يدرسون على يد نساء البيت ثم يرسلون للعمل كوصفاء عند نبيل من الأقرباء أو الجيران وهناك بعيداً عن التأثر بالإفراط في المحبة يتعلمون القراءة والكتابة والدين وقواعد السلوك من السيدات والقس المحلي وفي سن الرابعة عشر يصبحون تابعين أي خدما كبارا لسيدهم. وفي ذلك الوقت يكونون قد تعلموا ركوب الخيل والرماية والصيد والمقارعة والقتال. أما سعة الاطلاع فقد تركوها لأتباعهم.
وفي غضون ذلك كانت هذه تطورا تراثا من أعظم ما ورثوه من العصور الوسطى وهو-الجامعات-وفي الوقت الذي خمد فيه أوار الحماسة(23/122)
للعمارة الكنسية اشتدت حدة الحماسة لإنشاء الكليات وفي هذه الفترة شهدت أكسفورد إنشاء كليتي أكستر وأورييل وكلية الملك والكلية الجديدة وكليات لنكولن وأول سولز وماجدالين وبراسينوز وكليات الجسد الطاهر ومدرسة اللاهوت. ولم تكن عندئذ كليات بالمعنى الحديث للكلمة بل كانت قاعات، أو أماكن يقيم فيها مختار من الطلبة وكان يعيش فيها أو يكاد عشر الطلبة في أكسفورد وكان رجال الدين يدرسون معظم المواد بالجامعة في فصول دراسية أو في قاعات للمحاضرات متناثرة في أنحاء المدينة. وتمسك الرهبان البندكتيون والفرنشسكان والدومينيكان وغيرهم من طوائف الرهبان بكلياتهم المعهودة في أكسفورد وتخرج من هذه الكليات الملحقة بالأديرة نفر من ألمع الرجال في القرن الرابع عشر، من بينهم دونز سكوتوس وويليام الأوكهامي وكلاهما ألحق بعض الضرر بدراسة اللاهوت الأرثوذكسي وكان الدارسون للقانون يتلقون تدريبهم في لندن، في خانات المحاكم وفي أكسفورد لم يكن هناك تعاطف بين سكان المدينة وبين الطلبة في الكليات-أي بين المواطنين وطلاب العلم، فقد حدث في عام 1355 أن اندفع المعسكران المتعاديان إلى حرب مكشوفة وقتل كثير من الأبطال حتى عرف هذا العام باسم عام "المذبحة الكبرى".
وعلى الرغم من إدخال عقوبة الجلد بالسياط في جامعات إنجلترا (عام 1350) فإن الطلبة كانوا فئة مشاغبة وإذا كان قد حرم عليهم ممارسة الألعاب الرياضية داخل جدران كلياتهم فإنهم عددوا نشاطهم في المجون واحتساء الخمر والصيد والقنص وكانت الحانات والمواخير تلقى رواجا بفضل رعايتهم. وانخفض عدد الملتحقين بأكسفورد من ذروته في القرن الثالث عشر إلى نحو ألف وبعد طرد ويكليف تقاصت الحرية الأكاديمية بشدة الرقابة الأسقفية.
ولقد أفادت كمبرج من الخلاف مع ويكليف ومن الفزع من اللولارد(23/123)
فمنع المحافظون المتزمتون أولادهم من الالتحاق بأكسفورد وبعثوا بهم إلى الجامعة الصغرى، وعلى هذا فإنه ما أن أشرف القرن الخامس عشر على الانتهاء حتى كان عدد الطلبة المقيدين بالجامعتين المتنافستين متساويا. وأنشئت قاعات جديدة في كامبردج: مايكل هاوس ويونيفرسيتي أوكلير وجبروك وجونفيل وكايوس وترينيتي وكوريس كرسيتي وكمجز وكويدة سانت كاترين وجيزوس وكريست وسانت جون. وقد أصبحت هذه كليات بالمعنى المفهوم عندنا- مثل قاعات الإقامة في أكسفورد إبان القرن الخامس عشر لأن عدداً متزايداً من المعلمين آثروها ورأوا أنها أصلح الأماكن التي تجتذب محاضراتهم فيها أكبر عدد من المستمعين وكانت الفصول تبدأ في الساعة السادسة صباحاً وتستمر حتى الساعة الخامسة بعد الظهر.
وفي غضون ذلك أنشأت اسكتلندا وأيرلندة بدافع من فقرهما جامعات سانت اندروز وجلاسجو وابردين وكلية ترينتي والمعاهد الأربعة في دبلن التي شاءت الأقدار أن تصب العبقرية، جيلا بعد جيل، في الحياة الفكرية في الجزر البريطانية، أما في فرنسا فقد عانى التعليم-مثل أي شئ آخر من حرب المائة عام ومع ذلك فإن الإقبال المتزايد على المحامين والأطباء بالإضافة إلى ما يحبب الناس في الوظيفة الدينية قد شجع إنشاء جامعات جديدة في افنيون Aviignon وأورليانز وكاهور وجرينوبل وأورانج واكس آن بروفانس وبواتييه وكان وبوردو وفالنس نانت وبورج. وأصبحت جامعة باريس في القرن الرابع عشر قوة تتحدى البرلمان وتزجى النصح للملك وتعمل كمحكمة استئناف في شرح علم اللاهوت الفرنسي واعترف معظم المشتغلين بالتعليم في القارة الأوربية بأنها جامعة "كون الأكوان" Universitas universit atis، ولعل هذا يرجع إلى أن الملكية كانت توشك على الانهيار. وأدى ارتفاع شأن الجامعات الإقليمية والأجنبية إلى قلة عدد الطلبة المقيدين في جامعة باريس بل إن كلية الآداب وحدها اشتهرت بأنها(23/124)
تضم ألف مدرس وعشرة آلاف طالب في عام 1406، وكان بالجامعة كلها عام 1490 ما يقرب من عشرين ألفاً. عاونت على إيوائهم نحو خمسين كلية. وكان النظام هناك أقل صرامة عما هم عليه في أكسفورد والأخلاق التي تمتدح في الطلبة قد آثرت رجولتهم لا دينهم وأضيفت إلى المنهج الدراسي برامج في اللغات الإغريقية والكلدية والعبرية.
وأنشأت أسبانيا جامعاتها الرائدة في القرن الثالث عشر في بالانسيا وسلمنقة ولاردة وارتفع شأن جامعات أخرى في برايبجنان ووشقة وبلد الوليد وبرشلونة وسرقسطة وبالما وسيجونرا وبلنسية القلعة وإشبيلية. وخضعت هذه المعاهد لرقابة دينية صارمة وكان لعلم اللاهوت المقام الأول فيها. ومهما يكن من أمر، فقد خصص في جامعة القلعة أربعة عشر كرسيا (أستاذية) لعلم النحور والصرف والأدب والبلاغة واثنا عشر كرسياً للاهوت والقانون الكنسي، وظلت جامعة القلعة فترة ما أعظم مركز تعليمي في أسبانيا، وفي عام 1525 كان عدد الطلبة المقيدين بها سبعة آلاف. وقدمت المنح للطلبة المعوزين وكان ويتحكم في مرتب الأستاذ عدد طلابه. وكان يطلب من كل أستاذ أن يستقبل كل أربع سنوات ولا يكون صالحاً للتعيين من جديد إلا إذا كان عمله مرضياً. وفي لشبونة وفي عام 1300 أنشأ الملك دينيز جامعة ولكن شغف الطلبة جعله ينقلها إلى كويمبرا ولا تزال هذه الجامعة من مفاخرها حتى اليوم.
وكانت الحركة الفكرية في هذه الفترة بأوربا الوسطى أقوى منها في فرنسا أ, أسبانيا، فقد أنشأ شارل الرابع عام 1347 جامعة براغ التي سرعان ما تزعمت الحركة الفكرية لشعب بوهيميا وغدت لسانها الناطق. وظهرت جامعات أخرى في كراكو وفيينا وبيكس وجنيف وارفورت وهايدلبرج وكولونيا وبودا، وفورتسبرج وليبتسيج وروستوك ولوفين وترين وفرايبورج - أم- برايسجاو وجريفسفالد وبازيل وانجو لشتادت وبرسبورج وماينز(23/125)
وتوبنجن وكوبنهاجن وأوبسالا وفرانكفورت-آن- أودر وفيتنبرج. وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر كانت هذه المعاهد تعج بأفواج الطلاب والمناظرات. وكان في كراكو وحدها 18338 تلميذاً في آن واحد وكانت الكنيسة تقدم معظم المال ومن الطبيعي أن يطلق عليها لحن الفكر، ولكن الأمراء والنبلاء والمدن ورجال الأعمال أسهموا في التبرع للكليات وتقديم المنح الدراسية. فقد زود الأمير فرديريك صاحب ساكسونيا جامعة فيتنبرج جزئياً بالمال المحصل من بيع صكوك الغفران والذي رفض أن يرسله إلى روما. وأنشئت لفلسفة الكلام كراسي أستاذية في الفلسفة بينما ارتقى شأن العلوم الإنسانية خارج أسوار الجامعة ولذلك انضمت معظم جامعات ألمانيا إلى الكنيسة إبان عهد الإصلاح الديني باستثناء جامعتين مهمتين: ارفورت التي درس فيها لوثر وفيتنبرج التي كان يدرس بها.
3 - العلماء
كان المزاج العلمي لا يكاد يشبع بين جهابذة العلماء أكثر مما يشيع بين عامة الناس. وكانت روح العصر تميل إلى "الإنسانيات" بل إن حركة إحياء الدراسات الإغريقية تجاهلت علم الإغريق. وفي مجال الرياضيات وقفت الأرقام الرومانية حجر عثرة في سبيل التقدم، وبدا أنها لا تنفصل عن الثقافة اللاتينية ثم إن الأرقام الهندية العربية ظهرت وكأنها بدعة إسلامية وقوبلت بعدم اكتراث وبخاصة شمال الألب. وقد استخدم ديوان القرن الثامن عشر. ومع ذلك فإن توماس برادواردين الذي مات بوباء الطاعون عام 1349 بعد مرور شهر من تكريسه كبيراً لأساقفة كنتر بري- أدخل إلى انجلترا عدة نظريات عربية في حساب المثلثات وكان تلميذه رتشارد والنجفورد رئيس دير سانت ألبان عالماً رائداً من علماء الرياضيات في القرن الرابع عشر، وكتابه"الجزء الرابع من شرح الجيب" أول مؤلف كبير في(23/126)
حساب المثلثات في أوربا الغربية، وقد مات بالجذام في الثالثة والأربعين وهو يأسف على الوقت الذي اختلسه من اللاهوت للعلم.
وكان نيكول أريزم من أنشط رجال الدين ومع ذلك فإنه اقتحم بنجاح مجال أثنى عشر علما ومهد الطريق إلى الهندسة التحليلية بتطوير الاستخدام المنهجي للإحداثيات وباستعمال الخطوط البيانية لإيضاح زيادة الدالة. وقد لعب بفكرة البعد الرابع ولكنه نبذها. وهو مثل الكثيرين من معاصريه أشار إلى قانون جاليليو الذي يقول إن سرعة الجسم الساقط تتزايد بانتظام طوال الفترة التي يستغرقها في سقوطه، وفي تعليق على كتاب أرسطو، كتب يقول: إننا لا نستطيع أن نثبت بأي تجربة أن السماء تتعرض لحركة يومية وأن الأرض لا تتعرض لها فثمة أسباب وجيهة تدل على أن الأرض وليست السماء تتعرض لحركة يومية. وقد لجأ أورزم إلى النظام البطليموسي وإن كان قد أعان على الإعداد لنظرية كوبرنيكوس.
وعندما نذكر أنه في ذلك الوقت لم يكن يوجد منظار مقرب ولا آلة تصوير ليرصد المرء بهما السماء أو يسجل ما يحدث فيها فإنه من الأمور المشجعة أن نسجل مقدرة وذكاء الفلكيين من المسلمين واليهود والمسيحيين في العصور الوسطى. وقد وصف جان دي لينيه، بعد سنوات من مشاهداته الشخصية، أوضاع ثمان وأربعين نجماً بدقة لا يضارعه فيها سوى المسلمين وحسب ميل دائرة البروج في حدود سبع ثوان عن أحدث تقدير. وعرض جان دي مير وفيرين دي بوفال (1344) إصلاح التقويم اليولياني الذي كان يسبق الشمس- بحذف اليوم التاسع والعشرين من فبراير كل أربعة أعوام خلال الأربعين سنة التالية (التي كان يمكن أن تخطئ بالزيادة). وقدر لهذا الإصلاح أن ينتظر حتى عام 1582 ولا يزال في انتظار تفاهم دولي وإخلاص متبادل.(23/127)
ولقد خلص ويليام ميرل علم الرصيد الجوي من علم الفلك بتسجيل الطقس خلال 2556 يوماً. واكتشف راصدون وملاحون مجهولون خلال القرن الخامس عشر انحراف الإبرة المغناطيسية: فهي لا تشير إلى الشمال تماماً بل تميل نحو الزوال الفلكي بزاوية صغيرة وإن كانت مهمة وهي كما لاحظ كولمبس تختلف من مكان إلى مكان. وأعظم شخصية بين علماء الرياضيات والفلك في هذا العهد جوهان مولر المعروف في لتاريخ باسم زجيو مونتاس منذ مولده عام 1439 قرب كنيجربرج في فرانكونيا السفلى. وقد التحق في الرابعة عشر بجامعة فيينا حيث كان جورج فون بورباخ يقدم الإنسانيات وآخر ما وصل إليه الإيطاليون في الرياضة والفلك وكلا الرجلين بلغ سن النضوج مبكراً ومات في سن غضة: فقد مات بورباخ في الثامنة والثلاثين ومولر في الأربعين. وصمم مولر على أن يتعلم اليونانية لكي يقرأ كتاب: "المجسطي" في الفلك لبطليموس بلغته الأصلية فذهب إلى إيطاليا ودرس اليونانية على يد جوارينو دي فيرونا والتهم كل النصوص التي وقعت في يده سواء كانت باليونانية أو باللاتينية عن الفلك والرياضيات ثم عاد إلى فيينا وهناك قام بتدريس هذه العلوم بنجاح حتى لقد استدعاه ماتياس كورفينوس إلى بودا ثم انطلق إلى نورمبرج حيث بنى له أحد أغنياء الطبقة المتوسطة أول مرصد أوربي وجهزه مولر بآلات أقامها أو حسنها بنفسه. وإنا لنحس بنسيم العلم النقي في خطاب كتبه إلى زميل له من علماء الرياضة عام 1464: "لست أدري متى يتوقف قلمي. إنه سوف يستهلك كل أوراقي إذا لم أتوقف عن الكتابة. إن المسائل تخطر لي واحدة إثر الأخرى وكثير منها جميل بحيث أتردد أيها أضع بين يديك". وفي سنة 1475 استدعاه سكستوس الرابع إلى روما لإصلاح التقويم وهناك مات رجيو مونتانوس بعد عام.
وقد حدت حياته القصيرة من منجزاته. ووضع تخطيطا لمؤلفات في الرياضيات والطبيعة والتنجيم والفلك، وكان يأمل أن يشرف على نشر القديم(23/128)
من تلك العلوم. ولم تجد طرقها للوجود والبقاء إلا شذرات من هذه الأعمال وقد أكمل خلاصة"المجسطية" لبورباخ وألف مقالاً بعنوان "في المثلثات" De triangulis، وهو أول كتاب خصص لحساب المثلثات وحده. ويبدو أنه كان أول من رأى استخدام المماسات في الحسابات الفلكية وسهلت جداوله عن جيوب الزوايا وظلالها الحسابات الفلكية لكوبر نيكوس. ووضع جداول فلكية تمتاز بدقة لا نظير لها في الجداول التي وضعت من قبل. وأثبتت طريقته في حساب درجات الطول والعرض أنها نعمة وبركة للملاحين.
وأصدر عام 1474 تقويماً بعنوان: "اليوميات" Ephemerides أوضح فيه الوضع اليومي للكواكب السيارة خلال الأعوام الاثنتين والثلاثين القادمة ومن هذا الكتاب تنبأ كولمبس بخسوف القمر الذي سيملأ بطون رجاله الجياع في اليوم التاسع والعشرين من شهر فبراير عام 1504.
وقد وضعت الملاحظات التي أبداها رجيومونتانوس، عن مذنب هالي أسس علم الفلك الحديث الخاص بالمذنبات. ولكن تأثيره الشخصي في حياته كان أعظم من تأثير كتبه فقد ساعت محاضراته المشهورة على إحداث إشراقة ذهنية في نورمبرج في شباب دورر وإليه يرجع الفضل في شهرة المدينة بآلاتها وخرائطها الملاحية. ولقد رسم أحد تلاميذه، مارتن بهايم بالألوان على الرق أقدم كرة أرضية معروفة عام 1492 وهي لا تزال محفوظة في المتحف الألماني لنورمبرج.
ولا تدين الجغرافي الحديثة بوجودها للمتخصصين في هذا العلم بقدر ما تدين للبحارة والتجار والمبشرين والمبعوثين والجنود والحجاج. وقد استخدم ربابنة السفن الأسبان من قطالونيا خرائط ممتازة وكان دليل الربان لمواني البحر الأبيض المتوسط الذي كانوا يستخدمونه في القرن الرابع عشر لا يقل دقة عن خرائط الملاحة في عصرنا. ولما كانت الطرق التجارية للشرق قد(23/129)
سقطت في أيدي الترك فقد طور المستوردون الأوربيون طرقاً برية جديدة تخترق أراضي المغول وبعد أن قضى أوديريك أف بوردنون الراهب الفرنشيسكاني ثلاث سنوات في بكين (1323 - 1326م) كتب تقريراً إيضاحياً عن رحلته إلى الصين عبر الهند وسومطره وعن رحلة عودته عبر التبت وإيران. وروى كلافيجو-كما سنرى-قصة خلابة عن بعثته إلى تيمور. وأما جوهان شنيتبرجر البافاري الذي أسره الأتراك في نيكوبوليس عام 1396 فقد قام بجولة استغرقت ثلاثين عاماً في تركيا وأرمينيا وجورجيا وروسيا وسيبيريا وكتب في مؤلفه"كتاب النهضة" Reisebuch أول وصف لسيبيريا لكاتب من غرب أوربا. وفي سنة 1500 نشر جوان دي لاكوزا أحد ربابنة سفن كولمبس خريطة متسعة للعالم توضع لأول مرة بالرسوم الجغرافية استكشافات سيده وفاسكودي جاما وآخرين. كانت الجغرافية دراما متحركة في القرن الخامس عشر ومن أعظم الرسائل أثراً في الجغرافية بصفة خاصة "صورة العالم" che Imago mundi (1410) للكارينال بييردايلي وهي التي شجعت كولمبس على القيام برحلته بوصفها المحيط الأطلسي بأنه يمكن عبوره في بضعة أيام إذا كانت الريح مواتية. وكان هذا الكتاب واحداً من ست مؤلفات كتبها هذا القسيس المجتهد في الفلك والجغرافية والأرصاد الجوية والرياضيات والمنطق وما وراء الطبيعة وعلم النفس وإصلاح التقويم والكنيسة، وعند ما وجه إليه اللوم لتخصيصه وقتاً طويلاً كهذا للدراسات الدنيوية أجاب بأن على رجل الدين أن يطلع دائماً على العلم بل إنه كان يرى أن في التنجيم شيئاً من العلم وعلى أسس من التنجيم تنبأ بأن المسيحية سوف تتعرض لتغيير كبير في خلال مائة عام كما تنبأ بأحداث تهز العالم في عام 1789.
وخير فكرة في القرن الرابع عشر كانت في علم الطبيعة ويرجع الفضل إلى دبتريش أوف فرايبورج في أنه قدم لنا بالذات تفسيرنا الحديث(23/130)
لقوس قزح وأنه يتكون نتيجة انكسارين وانعكاس واحد لأشعة الشمس من قطرات الماء .. ولجان بوريدان مؤلف رائع في الطبيعة النظرية ومما يؤسف له أنه اشتهر بفضل حماره فحسب ولعله لم يكن صاحبه (1). وقد ولد بورديان قرب آراس قبل عام 1300 وتلقى علومه ثم درس في جامعة باريس. وهو لم يعلل دوران الأرض اليومي حول الشمس فحسب بل إنه أسقط من علم الفلك المعارف الملائكية التي نسب إليها أرسطو وأوكونياس مسار الأجرام السماوية وحركاتها وقال بورديان: "لا حاجة بنا بعد اليوم إلى تفسير حركاتها أكثر من أنها بدأت تتحرك أصلاً بإذن الله وبقانون قوة الدفع- أن أي جسم يتحرك يستمر في الحركة ما لم تمنعه قوة موجودة". وهنا كان لبورديان فضل السبق على جاليلو وديكارت ونيوتن. واستطرد قائلاً إن حركة النجوم تحكمها نفس القوانين الآلية التي تتحكم في الأرض. وهذه الآراء التي تعد الآن رثة بالية كان لها أثر عظيم في هدم آراء الناس في العصور الوسطى. وهي تكاد تؤرخ لبداية الطبيعة الفلكية.
ونقل تلاميذ بوريدان آراءه إلى ألمانيا وإيطاليا وتأثر بها ليوراند وكوبرنيكوس وبرنو وجاليلو ثم حملها ألبرت أمير ساكسونيا إلى الجامعة التي أنشأها في فيينا عام 1364 ونقلها مارسيليوس فون انجهن إلى الجامعة التي أسسها في هيدلبرج عام 1386 وكان ألبرت أول من نبذ رأي أرسطو القائل أن الفراغ مستحيل، وطور فكرة وجود مركز الجاذبية في
_________
(1) لا توجد حكاية "حمار بوريدان" في أعماله الباقية ومع ذلك فهي رواية مأثورة عن عصر خليق بالاحترام، ولعلها وردت في إحدى محاضراته. وقد أثبت جان أن الإرادة عندما تواجه الاختيار بين أمرين تجد لزاماً عليها أن تختار ما يرى العقل أنه أكثر نفعاً. وعلى ذلك انتهى أحد الأذكياء إلى القول إنه لو وضع حمار جائع على بعدين متساويين من حزمتين من العلف، شهيتين ومتساويتين فإنه لن يجد سبباً يدعوه إلى تفضيل إحداهما على الأخرى، وإذا لم يكن هناك طعام آخر فإنه قد يهلك جوعاً.(23/131)
كل جسم وسبق مبادئ جاليلو عن التوازن في حالة السكون والعجلة المنتظمة للأجسام الساقطة وتمسك بأن تعرية الجبال بسبب الماء وارتفاع الأرض التدريجي أو بعوامل بركانية تعد قوى معوضة في الجيولوجيا_ وهي فكرة خلبت لب ليوراندو.
وأحرز علم الميكانيكا العملية بعض التقدم المتواضع واستخدمت الطواحين الهوائية المعقدة لضخ الماء وصرفه من الأرض وطحن الغلال وللقيام بأعمال يومية أخرى. واستخدمت القوة المائية في الصهر والنشر وفي تشغيل منفاخ الفرن والمطرقة الميكانيكية وآلات غزل الحرير وكان المدفع يسبك ويثقب وكان الصلب يصنع بكميات كبيرة الحجم وأقيمت أفران الصهر العالية في أوربا الشمالية إبان القرن الرابع عشر ونذكر الثاقب الجيد في سنة 1373 وكان سحب الأسلاك يمارس في نورمبرج في القرن الخامس عشر ووردت صورة مضخة تتكون من دلاء مركبة على سلسلة لانهاية لها في مخطوط عام 1438. وفي رسم للمهندس كونرادكيزر وهو من أتباع هس (1405) توجد أقدم صورة معروفة للحركة المترددة التي تتحول إلى حركة دوارة: ذراعان يتحركان على التعاقب ويديران في دقة اسطوانة بينما تدير المكابس عمود المحور لسيارة.
وكانت الحاجة ماسة إلى ميكانيكية أفضل لقياس الوقت لنمو حجم التجارة والصناعة. وقسم الرهبان والفلاحون النهار إلى عدد بعينه من الفترات في كل الفصول وجعلوا الفترات في فصل الصيف أطول منها في فصل الشتاء. وتطلبت الحياة في المدينة تقسيمات للوقت أكثر تجانساً فصنعت إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر ساعات الحائط وساعات معصم يقسم فيها اليوم إلى أجزاء متساوية طوال العام. وفي بعض الأماكن كانت الساعات ترقم من واحد إلى أربع وعشرين كما يجري عليه العمل لضبط الوقت عند العسكريين في عصرنا. وفي أواخر عام 1370 كانت(23/132)
بعض الساعات الكبيرة مثل التي صنعت في سان جوتارد وفي ميلان تدق الرقم بأكمله. وقد ثبت أن هذا إسراف في الضجيج. وما أن حل عام 1375 حتى كان اليوم مقسماً بانتظام إلى نصفين كل منهما به اثنتا عشرة ساعة.
وكانت القاعدة الأساسية في الساعة الآلية ثقلا يدير عجلة ببطيء ويتحكم في دورانها ترس بمقدار سن واحدة في فترة معينة من الزمن. ولقد وضعت هذه الساعة التي تقيس الوقت حوالي عام 1271. ولأقيمت أول ساعات آلية كبيرة في برج للكنائس أو قباب يمكن رؤيتها من مساحات بعيدة في أي مدينة. ومن أوائل هذه الساعات ما ركب في دير سانت ألبانز على يد ريتشارد والنجفورد وكانت لا تبين الساعات والدقائق في اليوم فحسب بل كانت تبين أيضا الجزر والمد وحركات الشمس والقمر، وأما الساعات التي صنعت فيما بعد فقد أضيف إليها مزيج من الأجهزة المبتكرة في الساعة الكبيرة في كتدرائية ستراسبورج (1352) وكان يظهر فيها ديك يصيح ثلاثة من أعضاء الجسم، وكانت ساعة الكاتدرائية في ولز تستخدم صورة متحركة للشمس إلى الساعة ونجما صغيرا على دائرة داخلية لتبين الدقيقة ودائرة لتبين أي يوم في الشهر وعلى منصة فوق المزواة أربعة من الفرسان يبرزون ويهاجمون كلما دقت الساعة وفي إحدى الساعات التي صنعت في القرن الخامس عشر في فيينا كانت هناك رأس مهرج يفتح فمه الهائل ليلتهم تفاحة من أحد الحجاج ولكنه لا يكاد يطبق عليها فمه حتى تختطف منه هذه الملهاة تمثل كل ساعة من ساعات اليوم خلال مئات الأعوام ولا تزال هذه الساعة موجودة. وقد أقيمت عام 1506(23/133)
ساعة مماثلة في نورمبرج وأوقفتها الحرب العالمية الثانية بجفاء عن العمل ثم استأنفت عروضها المسرحية في سنة 1953.
ولصنع الساعات الصغيرة استبدل بالثقل المعلق زنبرك حلزوني عام 1450 شريط من الصلب الرقيق على شكل حلقة صغيرة أو طاردة وتحدث بفكها تدريجيا الأثر الذي يحدثه الثقل على العجلة البطيئة. وما أن أشرف القرن الخامس عشر على نهايته حتى أصبحت الساعات الصغيرة متوفرة بعضها كبير في الحجم في حجم الكف والبعض الآخر صغير في حجم اللوزة وكثير منها بيضي الشكل مثل "بيض نورمبرج" التي صنعها بيتر هيل (1510) وطبقت قاعدة الثقل والترس والعجلة لأغراض أخرى بحيث أصبحت الساعة الآلية سببا في صنع عشرات الآلاف من الآلات المتعددة.
وبينما كان علم الطبيعة بشيراً بالثورة الصناعة كانت الكيمياء القديمة تنمو ببطيء في علم الكيمياء وفي نهاية هذا العصر كان الكيميائيون قد اكتشفوا ووصفوا الزنك والبزموث والكبريت الحي وحجر الأثمد (الأنتيمون) والفورين القلوي الطيار ومواد أخرى كثيرة وقطروا الكحول وبخروا الزئبق وصنعوا حامض الكبريتيك بتسخين الكبريت وأعدوا الأثير والماء الملكي وصبغة قرمزية تفوق الصبغات التي تستعمل الآن وأورثوا علم الكيمياء الطريقة التجريبية التي أثبتت أنها أعظم ما وهبه علم العصور الوسطى للعقل الحديث.
وكان علم النبات لا يزال في الأغلب مقصورا على كتيبات في الفلاحة أولا يعدو كتاباً يصف أعشاباً ونباتات طيبة. وكان من رأى هنري أوف هيس (1325 - 1397) أن أنواعاً جديدة، بخاصة بين النباتات، يمكن أن تتطور طبيعياً عن أنواع قديمة وكان هذا رأيه قبل داروين بخمسمائة عام. وليس من شك في أن إقامة معارض ملكية أو بابوية للوحوش(23/134)
وتربية الحيوانات والطب البيطري وعجالات في القنص أو صيد السمك أو تربية النحل أو دود القز وحكايات خرافية أبطالها من الحيوانات تروي قصصا منها ما له مغزى أخلاقي وكتبا في فن رياضة الصقور مثل كتاب رآه فيبوس (1387) من تأليف جاستون الثالث كونت أوف فو، قد جمعت بلا قصد مادة لعلم الحيوان.
وكان لا بد للتشريح والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) من الاعتماد على تشريح الحشرات وعلى إصابات الجنود والحالات العرضية التي يحتم فيها القانون تشريح لمعرفة سبب الوفاة. وكان المسيحيون المؤمنون يحسون بأنهم على حق في الاعتراض على تشريح جثث الآدميين فالمفروض أنهم على الرغم من وفاتهم سيبعثون من القبور وأبدانهم سليمة يوم الحساب، وكان من الصعب الحصول على جثث لدراسة التشريح خلال القرن الرابع عشر وأتيح لعدد قليل جداً من الأطباء شمال الألب قبل عام 1450 رؤية جثة بشرية بعد تشريحها ومع ذلك فإن جي دي شولياك أقنع السلطات في أفنيون عام 1360 بأن تحول لمدارس الطب جثث المجرمين الذين ينفذ فيهم حكم الإعدام لإجراء تشريع لها. وكانت عمليات التشريح تتم أمام طلبة في البندقية عام 1368 وفي مونبلييه عام 1377 وفي فلورنسا عام 1388 ولاردة عام 1391 وفي فيينا عام 1404. وشيدت جامعة بادوا عام 1445 أول مشرحة معروفة وكانت النتائج لا نهاية لها عالم الطب.
4 - المعالجون
كانت أوربا الشمالية متخلفة بنصف قرن أو أكثر عن إيطاليا في علم لطب وممارسته شأنها في ذلك الأدب والفن بل إن إيطاليا لما تصل ثانية عام 1300 إلى ما وصل إليه جالينوس وسورانوس في الطب قبل ذلك بألف(23/135)
عام، ولكن مدارس الطب في مونبلييه وباريس وأكسفورد أحرزت تقدماً لا بأس به، وكان أعظم الجراحين في هذا العصر من الفرنسيين. وكانت المهنة وقتئذ منظمة تماماً وتدافع بشدة عن امتيازاتها ولكن لما كان الطلب على العلاج يزيد كثيراً عن عدد الأطباء فإن تجار الأعشاب الطبية بائعي لعقاقير والقابلات والأطباء المتجولين والحلاقين والجراحين- ولا ضرورة لذكر أدعياء الطب- نافسوا في كل مكان الأطباء المتمرسين. وأما الجمهور الذي كان يصاب بالمرض بسبب المعيشة الخاطئة ثم يبحث عن تشخيص لا يخطئ وعلاج رخيص يتم به الشفاء في ليلة واحدة فقد كان يجأر بالشكاوي المعتادة من الأطباء المرتزقة والسفاحين ورأى فرواسار أن "هدف كل الرجال الطب أن يحصلوا على مرتبات كبيرة" وكأن هذا لم يكن مرضاً متوطناً بالنسبة لكل الحضارات.
وكان أهم رجال الطب إبان هذا العصر الجراحين ولم يكونوا قد أقنعوا بعد الأطباء بالاعتراف بهم على قدم المساواة، والحق أن جامعة باريس كانت لا تقبل طالبا في مدرسة الطب في القرن الرابع عشر إلا بعد أن يقسم أنه لن يجري أية عملية جراحية. بل إن الحجامة التي أصبحت علاجا لكل الأمراض حرمت على الأطباء وكانت تترك لتابعيهم. ولجأ الناس إلى الحلاقين لإجراء عمليات كثيرة إلا أن الحلاقين الجراحين كانوا إبان ذلك الوقت يهجرون ممارسة الحلاقة ويتخصصون في الجراحة، وكان هناك أربعون من هؤلاء الحلاقين في باريس عام 1365، وفي إنجلترا استمروا يزاولون المهنة عام 1540. وصدر عام 1372 قانون قصر عملهم في فرنسا على علاج "الجروح التي ليس من شأنها تسبب الوفاة" ولذلك فإن العمليات الكبيرة لا يمكن أن يجريها إلا "أساتذة الجراحة" الأخصائيون، وصدر عام 1505 مرسوم بإنشاء كلية ملكية للجراحين في أدنبرة.(23/136)
واعظم المتخصصين في الجراحة في النصف الأول من القرن الرابع عشرهم هنري دي موند فيل وجي دي شولياك ولعل فرواسار سجل أن موندفيل ظل فقيراً حتى آخر يوم في حياته على الرغم من أعماله كانت دائماً في رواج وأنه قام بعمله على الرغم من إصابته بالربو والسل. وقد استوعب كتابه "الجراحين" Chirurgia (1306 - 20) وهو أول مؤلف في الجراحة الفرنسي، الميدان كله بإتقان وجدارة تبوأ بهما- الجراحون مكانا مرموقاً وكان أعظم ما أسهم به تطبيق وتطوير طريقة تعلمها من تيودوريك بورجونيوني في بولونيا لعلاج الجروح بالتطهير الكامل ومنع التقيح وتسرب الهواء وعمل الضمادات بالنبيذ، وقد دافع عن الطريقة التي ابتدعها بأن من قبول رأى جالينوس أو غيره من الثقات القدامى بلا مناقشة، وكتب يقول مستخدما صفة محببة في العصور الوسطى: "إن المؤلفين المعاصرين بالنسبة للقدامى منهم يشبهون قزما يركب فوق كتف عملاق فهو يرى كل ما يراه العملاق بل ويرى أبعد منه".
وقد أنجب الجيل الذي جاء بعده أشهر الجراحين في العصور وهو جي دي شولياك وهو من أصل ريفي في قرية ريفية أخذ منها اسمه، وقد أثر في سادة القصر فجعلهم يتكفلون بنفقات تعليمه في تولوز ومونبلييه وبولونيا وباريس، وفي عام 1342 أصبح طبيبا خاصا للبابا في أفينون. واحتفظ بهذا المنصب الصعب ثمانية وعشرين عاماً وعندما اجتاح وباء الطاعون أفنيون لم يغادر موقعه ومد يد العون للضحايا وأصيب بالوباء ولم ينج من لموت إلا بمعجزة، وقد ارتكب أخطاء جسيمة مثل أي إنسان إذ كان تارة يعزو انتشار الوباء إلى اقتران بين الكواكب في ساعة نحس وتارة يتهم اليهود بأنهم يهدفون إلى تسميم أبناء العالم المسيحي وأخر التئام الجروح بنبذه طريقة موندفيل في اللصقات والمراهم ولكنه عاش معظم حياته وفيا لأرفع تقاليد مهنته العظيمة. ويعد مؤلفه Chirurgia magna، (1363)(23/137)
الجامع في فن الجراحة" أكمل بحث في الجراحة وأكثر تنسيقا وأغزر مادة من الرسائل التي ألفت قبل القرن السادس عشر.
وواكبت الصحة الجماعية والفردية بصعوبة تقدم الطب فلم تكن النظافة الشخصية شيئاً مقدساً بل إن ملك إنجلترا كان لا يستحم إلا مرة واحدة كل أسبوع وكان يغفل الاستحمام أحيانا ... وكان الألمان يستخدمون حمامات عامة- أحواضاً واسعة يقف فيها المستحمون أو يجلسون عراة الأجسام وأحيانا فيها الجنسان معا. وكان في أولم وحدها 168 حماماً عام 1489 وفي كل أنحاء أوربا- دون استثناء للطبقة الأرستقراطية دائماً- كانت نفس القطعة من الملابس ترتدى شهورا أو سنوات أو أجيالاً.
وكان في كثير من مدن ما يكفيها من الماء ولكنه كان لا يصل إلا إلى بضع منازل وكان معظم الأسر أن يجلبوا الماء من أقرب نافورة أو بئر أو ينبوع. وظل هواء لندن ملوثا برائحة الماشية المذبوحة إلى أن حرمت المذبحة عام 1371 وكانت المراحيض تنغص حياة الناس السهلة في الريف. ولم يكن في منازل لندن إلا مرحاض واحد لكل السكان وخلا كثير من أي مرحاض وكانت ما فيها من براز في الأفنية أو الطرقات. وكانت آلاف الفضلات تلقى في نهر التيمز صدر عام 1357 قانون يحرم ذلك وإن استمر الحال على ما هو عليه وفي سنة 1388 أقر البرلمان أول قانون للصحة العامة يسري في جميع أنحاء إنجلترا وقد دفعه إلى هذا انتشار الوباء أكثر من مرة "نظراً لأن كثيراً من الغائط والنفايات القذرة والأمعاء والذبائح والمواد الأخرى تلقى وتوضع في الحفر والأنهار والمياه الأخرى ... ونظراً لأن الهواء يتلوث ويفسد إلى حد كبير فتنتشر كل يوم أمراض كثيرة وأسقام أخرى لا تطاق بين السكان وبين الآخرين ممن يترددون أو يسافرون إلى هناك فقد تم الإنفاق والرضى على نشر(23/138)
هذا الإعلان- في أنحاء إنجلترا ... إ جميع من يلقون ويضعون مثل هذه الأشياء المقلقة للراحة سيجبرون على إزالتها تماماً ... وإلا تعرضوا لعقوبة الغرامة من مولانا الملك".
وقد صدرت قوانين مماثلة في فرنسا في مثل هذا الوقت وفي سنة 1383 أمرت السلطات في مارسيليا، مقتفية أثر سلطات راجوزا (1377) بعزل الأشخاص المصابين بالوباء لمدة أربعين يوماً- بالحجر الصحي. واستمرت الأوبئة في انتشار- الحمى الدخنية في إنجلترا (1486 - 1508) ومرض الخناق والجدري في ألمانيا (1492) - إلا أن العدوى بها قد تضاءلت وقلت الوفيات. وعلى الرغم من التهاون في الرعاية الصحية فإن المستشفيات كانت كثيرة نسبيا فقد كان في إنجلترا 460 مستشفى عام 1500 وكان في يورك وحدها ستة عشر مستشفى.
وتجاوز علاج المجانين شيئاً فشيئاً مرحلة احترام الخرافات والأوهام والقسوة الهمجية إلى مرحلة العلاج العلمي، فقد حدث عام 1300 أن نشبت جثة فتاة ادعت أنها الشبح المقدس وأحرقت بأمر من رجال الدين، ولقيت فتاتان عبرتا عن إيمانهما بما ادعته، مصرعهما بالجلوس على الخوازيق وفي سنة 1359 فوض كبير أساقفة طليطلة السلطات المدنية في إحراق إسباني حياً وكان قد ادعى أنه أخ ميكائيل كبير الملائكة وأنه يتردد على السماء والجحيم كل يوم.
وتحسنت الأمور في القرن الخامس عشر إذ أن راهباً يدعى جان جوفر، امتلأ قلبه عطفاً على المجانين الذين كانت الغوغاء تتابعهم في الشوارع بصفير الاستهزاء أنشأ مستشفى للمجانين (1409) وحذت السلطات حذوه في مدن أخرى وتحولت مستشفى سانت ماري أوف بيت لحم التي أسست في لندن عام 1247، إلى مستشفى للمجانين عام 1492 وأصبحت(23/139)
كلمة "بيت لحم" التي حرقت إلى كلمة"بدلام"- مرادفة لمستشفى المجانين.
وكان الذين يثبت إصابتهم بالجذام منبوذين من المجتمع وإن كان الجذام قد اختفى أو كاد من أوربا الغربية في القرن الخامس عشر وحل محله مرض الزهري، ولعله مرحلة متطورة لمرض الزهري المعروف من قبل في فرنسا وربما كان مرضا وافدا من أمريكا وظهر أخيرا في إسبانيا عام 1493 وفي إيطاليا عام 1495 ثم انتشر انتشارا واسعاً في فرنسا حتى أطلق عليه اسم الوباء الغالي (1).
وقد اجتاح بعض المدن في ألمانيا فالتمست إعفاءها من الضرائب- وما أن أشرف القرن الخامس عشر على نهايته حتى سمعنا عن استخدام الزئبق في علاجه. وأخذ تقدم الطب في ذلك الوقت كما هو الآن يسابق بشجاعة كل مستحدث في المرض.
5 - الفلاسفة
على الرغم من أن عصر واضعي النسق قد انقضى كانت لا تزال في أوج قوتها والحق زعزعت أركان العقيدة المسيحية في القرن الرابع عشر. وانتهى تذبذب علماء اللاهوت في الفلسفة بفضل تحول في الرأي: فقد اهتم قادة الفكر مثل بوريدات بالعلم اهتماما كبيرا وبالاقتصاديات مثل أريزم وبالنظافة الكنسي مثل نيكولاس الكوزي وبالسياسة مثل بيير ديبوا ومارسيليوس البادوي. وكان هؤلاء الرجال أن أندادا في الفكر لالبرتوس ماجينوس وتوما الأكويني وسيجيردي باربان ودونس سكوتوس وظلت فلسفة الكلام-كمنهج للجدل والعرض وكمحاولة لإظهار ارتباط العقل بالإيمان-تسود الجامعات في الشمال واعتبر الأكويني قديسا عام 1323 وبعد ذلك أحس أتباعه من الدومينيكان وبخاصة في لوفين وكولونيا أن من دواعي الشرف أن يتمسكوا بعقيدة في مواجهة كل التحديات.
_________
(1) نسبة إلى بلاد الغال.(23/140)
أما معارضوه من الفرنشسكان الثابتين على العهد فقد آثروا أن يتبعوا أوجستين ودونس سكوتوس. وصدم ويليام ديراند من سان بورسان، وهو أحد الرهبان الدومينكان المتحررين، طائفته عندما انخرط بين أتباع سكوتوس وعندما بلغ الثامنة والثلاثين (عام 1308) بدأ في كتابة حاشية مفصلة وفرغ منها في سن متقدمة. ولقد نبذ أثناء تقدمه آراء أرسطو والأكويني ورأى أن يغلب العقل على حجة كل عالم مهما كان حظه من الشهرة أو الخطر "وهنا كان فيلسوفاً له نصيب من حاسة الفكاهة". وبينما ظل صراحة وفياً لآراء علماء اللاهوت فإنه مهد السبيل لأسمية أوكهام المتشددة وذلك باستعادة المذهب التصويري لأبيلار: الأشياء الفردية فقط التي تبقى وكل الأفكار المجردة أو العامة ليست إلا أقرب التصورات للعقل. وأطلق أصدقاء وليام عليه اسم دكتور ريزولوتيسيموس أما خصومه فأطلقوا عليه اسم دوروس دوراندوس -ديران الصلب- وكانوا يعللون أنفسهم بأن نيران جهنم سوف تلين قناته في النهاية.
وكان ويليام الاوكهامي أشد صلابة ولكنه لم ينتظر حتى يلقى حتفه حرقاً، وقضى حياته بأسرها في جدل حاد ولم تخف حدته إلا بالسجن من آن لآخر وتحت ضغط الأيام ليعبر عن حرارته في صيغة الفلسفة الكلامية ولم يسلم في الفلسفة إلا بسلطان التجربة والعقل. وكان يتحمس لنظرياته ويمسك بخناق نصف أوربا دفاعا عن آرائه. وهو بحياته ومغامراته وأهدافه يسبق إلى تمثيل فولتير ومغامراته وأهدافه. ولعله كان أعظم منه أثراً.
ولا نستطيع أن نقول أين أو متى ولد على وجه التحديد، ولعله ولد في أوكهام بمقاطعة سورى حوالي نهاية القرن الثالث عشر. واندرج في سلك طائفة الفرنشسكان وهو بعد صبي صغير وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره أرسل إلى جامعة أكسفورد باعتباره صبيا ذكيا سيكون ولا ريب ضوء(23/141)
مشرقا في الكنيسة. وفي أكسفورد وربما في باريس، أحس بتأثير راهب فرنشسكاني آخر داهية هو دونس سكوتوس لأنه على الرغم من أنه عارض"زاقعية" سكوتوس فإنه دفع بنقد سلفه التعقلي للفلسفة واللاهوت بضع خطوات نحو مذهب الشك الذي يذيب الفوارق بين العقائد الدينية والقوانين العلمية. وقام بالتدريس ست سنوات في أكسفورد وربما يكون قد درس في باريس. ويبدو أنه كتب تعليقات على فلسفة أرسطو وبيتر لومبارد قبل عام 1324 - وهو لا يزال حدثا في العشرين وأعظم أثر هو كتاب"الجامع لكل علم المنطق Summa totius logicae " وهو موجز لكل قواعد المنطق.
ويبدو الأمر لأول وهلة صورة من صحراء جرداء في تقطيع أوصال المنطق والمصطلحات اللغوية التكنولوجية، موكب لا حياة فيه من التعريفات والتقسيمات والتفريعات والصفات المميزة والتصنيفات والمهارات. وعرف أوكهام كل شيء عن "علم المعاني" وأسف لعد دقة الاصطلاحات المستعملة في الفلسفة وقضى نصف الوقت في محاولة توخي الدقة فيها أكثر من قبل. واستاء من الصرح القوطي للتجريدات يركب أحدهما الآخر كالعقود في الطبقات الموضوعة إحداها فوق الأخرى، والتي أثارها الفكر في القرون الوسطى. ولا نستطيع أن نجد في أعماله الباقية بالدقة الصيغة المشهورة التي سميت في التراث بإسم "مبضع أوكهام" الذاتيات لا تتضاعف بحيث تتجاوز الحاجة. ولكنه عبر عن المبدأ بمصطلحات أخرى مراراً وتكراراً -التعددية (في الذاتيات أو العلل أو العوامل) لا تثبت (أو تفترض) إلا لضرورة، و"من العبث أن نبحث عن إنجاز أو شرح بافتراض أو علل يمكن تفسيرها بأقل منها"، ولم يكن المبدأ جديداً فقد قبله الأكويني واستخدمه سكوتوس ولكنه بين يدي أوكهام أصبح سلاحاً قاتلاً يقطع به مئات الأوهام الغامضة والتجريدات العظيمة.(23/142)
وبتطبيق المبدأ على نظرية المعرفة رأى أوكهام أنه لا داعي لأن يفترض كمصدر ومادة للمعرفة، أي شيء أكثر من الاحساسات ومن هذه تنشأ الذاكرة (إحساس ينعش) والإدراك (إحساس يفسر من خلال الذاكرة) والخيال (ذاكرات متحدة) والتوقع (ذاكرة تنعكس) والفكرة (ذاكرة تقارن) والتجربة (ذاكرة تفسر من خلال الفكرة). "لاشيء يمكن أن يكون موضوعاً للحس الداخلي (الفكرة) إلا إذا كان موضوعاً للحس الخارجي (الشعور) ". وها هو المذهب التجريبي للوك قبل ظهوره بثلاثمائة عام.
وكل ما ندركه خارج نفوسنا هو ذاتيات فردية-أشخاص معينين وأشياء وأفعال وأشكال وألوان وأذواق وروائح وضغوط ودرجات حرارة وأصوات، والكلمات التي تعبر بها عن هذا هي "كلمات أول قصد" أو المراد الأولى وتشير مباشرة إلى ما ننشرها على أنها حقائق خارجية، وبتدوين وتجريد الملامح العامة للذاتيات المماثلة التي أدركت على هذا النحو يمكنا أن نصل إلى أفكار عامة أو مجردة-رجل، فضيلة، ارتفاع، حلاوة، حرارة، فصاحة. والكلمات التي تعبر بها عن هذه التجريدات هي كلمات "القصد الثاني" وتشير إلى المفاهيم المستخلصة من المدركات. وهذه "العموميات" لا تختبر في الإحساس فهي تعبيرات ودلالات وأسماء لتعليمات نافعة للغاية (وخطرة) في الفكر أو العقل وفي العلم والفلسفة واللاهوت، وهي ليست أشياء توجد خارج العقل. وأن كل شئ خارج العقل مفرد ويساوي عددياً واحداً.
والعقل شئ رائع ولكن استنتاجاته لا تكون لها معنى إلا إذا كانت تشير إلى التجربة-أي إلى إدراك الذاتيات الفردية، أو إلى أداء الأفعال الفردية وإلا فإن استنتاجاته تكون من قبيل العبث وقد تكون تجريدات خادعة وما أكثر اللغو قولا وكتابة بإساءة فهم الأفكار على أنها أشياء(23/143)
والتجريدات على أنها حقائق. إن الفكرة المجردة لا تقوم بوظيفتها إلا عندما تؤدي إلى بيانات معينة عن أشياء معينة.
ومن هذا المذهب الاسمي طرق أوكهام في تهور لا يبقى ولا يذر كل ميدان في الفلسفة واللاهوت. وأعلن أن كلا من الميتافيزيقيا والعلم تعميمات مقلقة لأن تجربتنا ليست إلا عن ذاتيات معينة في مساحة وزمن محصورين في نطاق ضيق ولذلك فإنه من الغرور أن نفترض على وجه الشمول والدوام صحة القضايا والقوانين الطبيعية التي نستمدها من هذا القطاع الصغير من الحقيقة فتصاغ معرفتنا وتحدد بوسائلنا وطرقنا في إدراك الأمور (وهذا هو رأي كانت قبل ظهور كانت) وهي تبقي حبيسة في سجن عقولنا ويجب ألا يدعي أنها الحقيقة الموضوعية أو النهائية عن أي شئ.
أما بالنسبة للروح فإنها تجريد أيضاً وهي لا تظهر أبداً في احساساتنا أو مدركاتنا سواء أكانت خارجية أم داخلية وكل ما ندركه هو الإرادة والذات (الأنا) التي تؤكد نفسها في كل فعل وكل فكرة. والعقل نفسه وكل مجد ينسب للذهن آلات للإرادة، والذهن ليس الإرادة التفكير تبحث عن غاياتها بالفكر"وهذا هو رأى شوبنهاور".
ويبدو أن الله نفسه لا يصمد أمام هذه الفلسفة الحادة. ولم يجد أوكهام (مثل كانت) أية قوة باقية في أي من المناظرات التي دارت لإثبات وجود الله. ورفض الأخذ برأي أرسطو القائل أن سلسلة الحركات أو العلل تجبرنا على أن نفترض الحركة الأولى أو العلة الأولى. ولم يَعِدْ غير مدرك ردة لا نهائية للحركات والأسباب أكثر من المحرك الثابت أو العلة التي لا سبب لها في لاهوت أرسطو، ونظراً لأنه لا يمكن أن يعرف شئ إلا بطريق الإدراك المباشر فإنه لن يتيسر لنا الحصول على معرفة واضحة بأن الله موجود.(23/144)
ولا يمكن للعقل أن يرى أن الله قادر على كل شئ أو لا حد لقدرته، وعالم بكل شئ أو لطيف أو واحد، كما أن العقل لا يستطيع أن يثبت أن الله ثالث ثلاثة، أو أن الله إنساناً ليكفر عن خطيئة آدم وحواء بعصيانهما أو أن ابن الله في القربان المقدس، ثم إن التوحيد ليس مطابقاً للعقل أكثر من الشرك، وربما يكون هناك أكثر من عالم يحكمها أكثر من إله.
إذن ماذا يبقى من البناء للعقيدة المسيحية؟ أساطيرها الجميلة وأناشيدها وفنها وفي ما نصت عليه من أخلاق من وحي الله أم أملها الحصين؟ وقد تراجع أوكهام أمام هدم العقل للاهوت وفي محاولة يائسة لإنقاذ نظام اجتماعي قائم على شريعة أخلاقية تقوم على عقيدة دفينة رأى التضحية بالعقل على مذبح الإيمان، وربما يكون الله موجوداً على الرغم من أنه لا يمكن إثبات هذا وأنه وهب كلا منا روحا خالدة. ويجب أن نميز، كما أشار ابن رشد ودنس سكوتوس، بين الحقيقة اللاهوتية وبين الحقيقة الفلسفية، وأن نقبل متواضعين في مجال الإيمان ما يرتاب فيه العقل الفخور بنفسه.
وكان من قبيل المبالغة أن تقبل الكنيسة هذه الحاشية الذنبية التي تكرم العقل العملي كفارة لذنب أوكهام لقيامه بنقد العقل المحض. فأمر البابا جون الثاني والعشرين بتكوين مجلس تحقيق من رجال الدين للنظر في "الهرطقات البغيضة" التي اقترفها الراهب الشاب واستدعاه ليمثل أمام المحكمة البابوية في أفينون، وجاء أوكهام، لأننا مجده عام 1328 في سجن بابوي هناك، مع راهبين من الفرنشسكان وفر الثلاثة وهربوا إلى إيجسمورتس واستقلوا قارباً صغيراً والتقطتها سفينة أخذتهم إلى لويس ملك بافاربا في بيزا. وحرمهم البابا من غفران الكنيسة بينما أسبغ عليهم الإمبراطور حمايته. واصطحب ويليام لويس إلى ميونخ وانضم هناك إلى مارسيليوس من بادوا وعاش في دير فرنشسكاني مناهض للبابا وأصدر منه سيلا من الكتب والنشرات ضد سلطان وهرطقة البابوات بعامة وجون الثاني والعشرين بخاصة.(23/145)
وكما فاق أوكهام في ميتافيزيقياته الشكية عند سكوتس فإنه في نظريته العملية دفع مهاجمة مارسيليوس البادوي للأكليروس نتائج جريئة. وأعمل مبضعه في العقائد والشعائر التي أضافتها الكنيسة إلى المسيحية الأولى وطلب العودة إلى عقيدة أبسط وعبادة "العهد الجديد".
وفي لجاجة عنيدة نشر كتابه "مائة لسان" Centiloqium theologicum في علم اللاهوت واحتكم إلى مائة عقيدة للكنيسة ورأى أن كثيراً منها يؤدى منطقياً إلى نتائج سخيفة لا تحتمل؛ فمثلا إذا كانت مريم أم الله وكان الله والدنا جميعاً فإن مريم تكون أما لوالدها. وناقش أوكهام الخلافة الرسولية للبابوات وعصمتهم من الخطأ، وعلى النقيض من ذلك أكد أن كثيرا منهم كانوا هراطقة وأن بعضهم كانوا مجرمين وطالب بمعاملة رقيقة للهرطقة ورأى أن التعبير عن الرأي يجب أن يترك حرا إلا بالنسبة لنشر الزيف المتعمد. ورأى أن المسيحية في حاجة إلى العودة من الكنيسة إلى المسيح ومن الثروة والسلطان إلى البساطة في الحياة والخضوع لحكم الشريعة ويجب ألا تكون الكنيسة مقصورة على رجال الدين وحدهم بل يجب أن تضم المجتمع المسيحي بأسره. وهذه الزمالة الكاملة بما فيها النساء يجب أن تختار ممثلين لها يكون من بينهم نساء وتدعوهم إلى عقد مجلس عام وهذا المجلس يجب أن يختار البابا ويرأسه ويجب أن يكون على رأس الكنيسة والدولة شخص واحد.
ويجب أن تكون الحكومة نفسها خاضعة لإرادة الشعب لأنه يملك كل السلطة النهائية على وجه الأرض. وهو يفوض حقه في التشريع والإدارة إلى ملك أو إمبراطور على أساس أنه سوف يصدر القوانين لصالح الجميع. وإذا كان الصالح العام يقتضي هذا فإن الملكية الخاصة يمكن أن تلغى. وإذا ارتكب الحاكم خطأ جسيما فإن حقيقة العقيدة الدينية تقضي عليه(23/146)
بالصيام. وقد مات متأثراً بالطاعون عام 1349 أو عام 1350 وهو لا يزال في زهرة العمر.
ونحن لا نعرف إلا القليل عن مصير أوكهام فهو لم يجد في جعة ميونخ عزاء له عن نبيذ باريس الذي افتقده، وقد قارن نفسه بجون الإنجيلي في باتموس وغن كانت لم تواته الجرأة على التخلي عن حماية الإمبراطور. وطبقاً لرواية أحد الفرنشسكان المعاصرين وقع الراهب المتمرد في آخر سني عمره إقرارا ينكر فيه هرطقاته، ولعل تصالح لويس مع الكنيسة جعلت هذا أمراً يمليه العقل والرشد، وربما وليام قد أحس بأن التساؤل عن حقيقة عقيدة دينية أمر سخيف. ومات متأثراً بالطاعون عام 1349 أو عام 1350 وهو لا يزال في مقتبل العمر.
وقبل وفاته بزمن طويل اعترف به كأقوى مفكر في عصره وارتجت الجامعات بالجدل حول فلسفته. وقبل كثير من علماء اللاهوت وجهة نظره في أن العقائد الأساسية للدين المسيحي لا يمكن إثباتها بالعقل وأن التمييز بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية كان واسع الانتشار في القرن الرابع عشر كما تنتشر اليوم المهادنة المفهومة ضمنا بين التحقيق العلمي والخدمة الكهنوتية الدينية. وفي أكسفورد تكونت مدرسة من أتباع أوكهام أطلقت على نفسها اسم "الحياة العصرية" (كما سمي أبيلارد مذهبه التصوري قبل ذلك بثلاثمائة عام) وسخرت من الواقعية الميتافيزيقية لسكوتوس أكويتاس. وكان انتصار العصريين بخاصة ساحقة في جامعات أوربا الوسطى فإن هس في راغ ولوثر في أرفورت كانا يتلقيان المذهب الاسمي وربما يعزى تمردهما إليه. وفي باريس منعت سلطات الجامعة (1139 - 40) تدريس آراء أوكهام ولكن كثيراً من تلاميذه وبعض الأساتذة هللوا له باعتباره حاملا للواء الفكر الحر وحدث أكثر من مرة أن تقاتلت الأحزاب(23/147)
المعارضة كما يحدث الآن، بالكلمات واللطمات في المقاهي أو في الشوارع. ولعل توماس أكمبس Thomas a Kemps أدان الفلسفة في كتاب "محاكاة المسيح" كرد فعل ضد آراء أوكهام وقد لعب أوكهام دوراً، وإن اقتصر على صوت، في تأليب الحكومة الوطنية ضد الكنيسة العالمية وقد أثرت دعوته إلى أن يكون رجال الدين فقراء في ويكليف كما أن هجماته على البابوية واستنصاره الدائم للإنجيل والمسيحية الأولى بدلا من الكنيسة مهدت لظهور لوثر الذي عده أوكهام من أعظم أساتذة فلسفة الكلام وأكثرهم عبقرية إذ عبر سلفا في مذهبه في الاختيار ومذهبه في الفردية عن الروح القوية لعصر النهضة ثم إن مذهبه في الشك انتقل إلى راموس ومونتيني وربما إلى أرازموس، ومذهبه وتحديده الذاتي للمعرفة بالأفكار رمز إلى بركلي كما أنه سبق "كانت" بمحاولته إنقاذ الإيمان عن طريق"العقل العملي" وعلى الرغم من أنه مثالي من الناحية الفلسفية فإن تأكيده أن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة جعله يتبوأ مكاناً مرموقا في موكب الفلسفة الإنجليزية التجريبية من روجر وفرانسيس بيكون من خلال هوبز ولوك وهيوم وميل ومن سبنسر إلى برتراند راسل. واقتحامه الطارئ لميدان العلم الطبيعي-وإدراكه لقانون القصور الذاتي ورأيه في العمل على بعد-حث المفكرين من جان بوريدان إلى إسحق نيوتن والنتيجة العامة شأنه في هذا شأن دونس سكوتوس، هو تقويض الغرض السياسي لفلسفة الكلام- وأن العقيدة المسيحية في القرون الوسطى يمكن إثباتها بالعقل وقد حافظت فلسفة الكلام حتى القرن السابع عشر، على وجود باهت بعد الموت ولكنها لم تسترد قوتها بعد هذه الصفعات.
6 - المصلحون
بينما كان ابن خلدون يضع قواعد علم الاجتماع في العالم الإسلامي كان(23/148)
بيير ديبوا ونيكول أرزم ومارسيليوس البادوي ونيكولاس الكوزاوي يطورون في العالم المسيحي الدراسات التي تبحث العلاقة بين الأقارب وأن كانت أقل تنسيقا. وقد خدم ديبوا ملك فرنسا فيليب الرابع كما خدم أوكهام ومارسيليوس الملك لويس البافاري بتوجيه حملات فكرية ضد البابوية. وفي ابتهال لشعب فرنسا للملك ضد البابا يونيفاس (1308) وفي رسالة عن استرداد الأرض المقدسة أوصى المدره الغيور على هذا المبدأ بأن تجرد البابوية من كل أملاكها الدنيوية وسلطانها الزمني، وأن يرفض حكام أوربا الخضوع لسلطات البابا في محاكمهم وأن تنفصل الكنيسة الفرنسية عن روما وتخضع للسلطة الزمنية والقانون. وفضلا عن هذا فإن ديبوا مضى قدماً إن كل أوربا يجب تتحد تحت لواء ملك فرنسا باعتباره إمبراطورا يتخذ عاصمته في القسطنطينية وأن تكون هذه قلعة تناهض الإسلام وأنه يجب إنشاء محكمة دولية تفصل في المنازعات بين الأمم وأن تعلن مقاطعة اقتصادية لكل أمة مسيحية تبدأ الحرب ضد أمة مسيحية أخرى وأن تتاح للنساء الفرص التعليمية نفسها وأن تكون لهن نفس الحقوق السياسية كالرجال.
ويبدو أن أحدا لم يعر هذه الآراء التفاتا ولكنها اقتحمت التيارات الفكرية التي قوضت صرح البابوية. وبعد مرور قرنين على وفاة ديبوا اتبع هنري الثامن، الذي لم يسمع عنه ولا ريب، برنامجه هو وويكليف في الدين وفي مطلع القرن التاسع عشر أقام نابليون إلى حين أوربا المتحدة تحت الزعامة الفرنسية وجعل من البابا أسيرا للدولة. وليس من شك في أن ديبرا من زمرة المشتغلين بالشريعة الناهضين الذين كانوا يطمحون إلى ألا يقوم رجال الدين بتوجيه سياسة الحكومة. وقد فاز في معركته ونحن نجني اليوم ثمار انتصاره.
وقد كتب أورزم الذي أثار كثيرا من المناقشات الحامية حوالي سنة(23/149)
1355 مقالات صريحة واضحة في الأدب الاقتصادي، عن الأصل والطبيعة والشرعة وتغيير العملة وقال إن عملة البلد ملك للجماعة لا للملك فهي منفعة اجتماعية وليست عائدا ملكياً وللحاكم أو الحكومة تنظم إصدارها ولكن يجب أن يحافظ على قيمتها المعدنية ولا يخفضها رأى ملك يخفض قيمة العملة لص. وفضلا عن هذا فإن العملة الرديئة (وفقا لقانون جريشام) تطرد العملة الجيدة من التداول والناس يخفون أو يصدرون العملة الجيدة والحكومة غير الأمينة لن تتلقى في دخولها سوى العملة البخسة. ولم تكن الآراء التي رددها أورزم مثلاً عليا فحسب بل إنه درسها بصفته مربياً، لابن جون الثاني. وعندما أصبح هذا الطالب شارل الخامس استفاد الملك الشاب، بعد تدهور للعملة، من تعليمات أستاذه واستعاد شتات أموال فرنسا بعد أن تخلصت من الحرب على أساس سليم شريف.
كان مرسيليوس البادوي ذا مزاج أكثر تقلبا من أورزم: كان فيلسوفاً لا يلين بالفردية فخورا بفكره وشجاعته وكان يجعل فلسفته السياسية جزءا لا ينفصل من حياته القلقة. وكان ابنا لوثق عقود في بادوا ودرس الطب في الجامعة ولعله يدين ببعض تطرفه المناهض للأكليروسية إلى جو من مذهب الشك الذي يرجع إلى ابن رشد الذي وجده بترارك وفضحه في الجيل نفسه. وعندما انتقل إلى باريس أصبح مديرا للجامعة وشغل هذا المنصب عاما. ثم ألف عام 1324 بشيء من التعاون مع جون الجندواني أعظم رسالة أثرت على السياسة بالعصور الوسطى وهي "المدافع عن السلام".
ولما كان المؤلفات أن الكنيسة سوف تستنكر كتابهما فقد فرا إلى نورمبرج ووضعا نفسيهما تحت جناح الإمبراطور لويس البافاري ثم حاربا البابا. ولم يتوقعا من محارب شديد المراس مثل جون الثاني والعشرين أن يقابل بالهدوء دفاعهما الشديد عن السلام. وقد برهن هذا الكتاب على أن(23/150)
السلام في أوربا يقوضه النزاع بين الدولة وبين الكنيسة وأنه يمكن استعادة السلام والحفاظ عليه بوضع الكنيسة بكل ممتلكاتها والعاملين بها تحت نفس السلطة الإمبراطورية أو الملكية مثل باقي الجماعات والأموال، ومن الخطأ (كما جاء في البحث) أن تقتني الكنيسة ممتلكات، فليس في الكتاب المقدس ما يبرر هذا الاقتناء.
وعرف المؤلفات الكنيسة كما فعل أوكهام بأنها طائفة المسيحيين بأكملها. وكما كان الشعب الروماني، صاحب السيادة الحقيقي في القانون الروماني، وكان هذا الشعب هو الذي يفوض في سلطته القناصل أو الشيوخ أو الأباطرة فإن على الجماعة المسيحية أن تفوض في سلطاتها، ممثليها من رجال الأكليروس وان كان لا يجب أن تسلم لهم قيادها، ويجب أن يكون هؤلاء مسؤولين أمام الشعب الذي يمثلونه وادعاء البابا أنه يستمد سلطته من بطرس الرسول خطأ تاريخي في نظر مارسيليوس إذ لم يكن بطرس أقوى سلطة من باقي الرسل ولم يكن لأساقفة روما في أوائل عهدهم في القرون الثلاثة الأولى سلطة تزيد عن سلطة الأساقفة في كثير من العواصم القديمة الأخرى وكان يرأس المجالس العامة الأولى الإمبراطور أو نوابه وليس البابا، وأي مجلس عام ينتخبه شعب العالم المسيحي يجب أن يفسر الكتب المقدسة ويعرف العقيدة الكاثوليكية ويختار الكرادلة وهؤلاء يجب عليهم أن يختاروا البابا. ويجب على رجال الأكليروس بما فيهم البابا أن يخضعوا للقضاء المدني والقانون في جميع الأمور الدنيوية، ويجب أن تعين الدولة رجال القسس كلما رأت أنهم غير جديرين بمناصبهم وتراقب الهبات الكنسية والمدارس التابعة للكنيسة ودخلها وترفه عن الفقراء من فائض دخول الكنيسة.
ها هو صوت الدولة الوطنية الطاغية يرتفع مرة أخرى. وما إن أخضع الملوك البارونات والكومونات بفضل مؤازرة الطبقات الوسطى الناهضة(23/151)
حتى أحسوا بأنهم بلغوا من القوة حدا جعلهم يرفضون ادعاء الكنيسة بأن لها السيادة على السلطة المدنية. وانتهز الحكام الزمنيون الفرصة التي أتاحت لهم انحطاط السلطة الدولية والأدبية للكنيسة وأخذوا يحملون بالسيطرة على كل وجوه الحياة في ممالكهم بما فيها الدين والكنيسة وكانت هذه النتيجة تستحق الكفاح في الإصلاح الديني. وبعد انتصار الدولة على الكنيسة مرحلة نهائية في العصور الوسطى.
(في سنة 1535 أمر هنري الثامن، وهو في أوج تمرده على الكنيسة، بترجمة كتاب المدافع عن السلام ونشره على نفقة الحكومة) وبعد أن اقترح مارسيليوس، مثل أوكهام ولوثر، أن يستبدل بسلطة الكنيسة سلطة الشعب، اضطر، بسبب النظام الاجتماعي ومن أجل سلامته الشخصية أن يستبدل بها سلطة الحكومة. ولكنه لم يرفع من شأن الملوك حتى يصبحوا غيلانا قادرين على كل شئ فق كان يتطلع من وراء انتصار الدولة إلى اليوم الذي يمارس فيه الشعب فعلا سيادته التي طالما ود فقهاء القانون أن يقلدوها له. ودافع عن الديمقراطية في مجال الإصلاح بين رجال الكنيسة، فعلى كل طائفة مسيحية أن تختار ممثلا لها في مجالس الكنيسة وعلى كل أبرشية أن تختار قساوستها وتراقبهم وتطردهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويجب ألا يحرم عضو في الأبرشية دون موافقتها، وطبق مارسيليوس مبادئ مماثلة على الحكومة المدنية وإن كان قد أدخل عليها بعض التعديل على استحياء:
طبقاً لحقيقة ورأى أرسطو، نعلن أن المشرع- الدافع الأول والصحيح لسن القانون- يجب أن يكون هو الشعب- طائفة المواطنين بأكملها أو قسمها الأثقل وزناً، تأمر وتقرر بمحض اختيارها أو إرادتها، وتعبر عن رأيها شفوياً في جمعية عمومية للمواطنين ... وأقول قسمها الأثقل وزنا، آخذا في الاعتبار عدد الأشخاص وصفاتهم معاً في الجماعة التي يسن من أجلها القانون. وطائفة المواطنين بأسرها أو قسمها الأثقل وزناً إما أن تسن(23/152)
القانون مباشرة أو تعهد بهذه المهمة إلى بعض أو إلى فئة قليلة، ولكن هذه الأخيرة لا تكون، أو لا تستطيع أن تكون، المشرع بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فهي تعمل فقط في مجال هذه الأمور- ولهذه الفترات التي تخول لها من المشرع الأول ... وفي رأيي أن المواطن هو كل من يشارك في الجماعة المدنية بسلطة متداولة أو سلطة قضائية على حسب رتبته، وعلى أساس هذه التعريفات يفرق القصر والعبيد والأجانب والنساء عن المواطنين ... وخير قانون يصدر هو الذي يكون نتيجة مداولة وثمرة إرادة الجماعة بأسرها ... ويمكن لأغلبية منها، بسرعة أكثر من سرعة أية أقسام منها، إصدار أي قانون يقترح سنه لأن أي طائفة بأكملها أعظم سلطانا وثروة من أية أقسام منفصلة.
وهذا بيان عظيم بالنسبة لعصره (1324) ولا شك أن ظروف العصر تبرر ما صاحبه من تردد. بل إن مارسيليوس لم يكن بوسعه أن يدافع عن المساواة في التصويت بين جميع البالغين في أوربا حيث كان من العسير أن تجد واحداً يستطيع القراءة بين كل عشرة وحيث كانت الموصلات صعبة والانقسامات الطبيعية راسخة لا تتزعزع بمرور الزمن. والحق أنه رفض الديمقراطية الكاملة التي تتحدد فيها السياسة والتشريع بعدد الألوف (مجموعة من الناس المعوزين) ولتصحيح هذا الفساد في جمهورية كان يريد من الأفراد أن تكون لهم سلطة سياسية مناسبة لمكانتهم في المجتمع، وإن لم يقل كيف ومن يحكم على هذا. وأفسح مكانا للملكية ولكنه أضاف أن "الحاكم الذي ينتخب أفضل بكثير من الحكام الذين يتبوأون مناصبهم بالوراثة" فالملك يجب أن يكون نائباً وخادماً للجمهور وإذا أساء السلوك فإن من حق الجمهور أن يخلعه.
ولهذه الآراء أصل يرجع للقرون الوسطى بل إن لها أصلا قديماً، فقد منح المحامون الرومان والفلاسفة الكلاميون بانتظام الشعب سيادة نظرية(23/153)
وكانت البابوية نفسها ملكية انتخابية إذ كان البابا يطلق على نفسه اسم "خادم أجراء الله" وقد وافق توما الأكويني على رأي جون أف سالسبوري القائل بحق الشعب في خلع أي ملك يخالف القانون. ولكن قلما بلغت هذه الآراء في العالم المسيحي درجة تصل إلى صيغة واضحة لحكومة برلمانية، وها هو رجل في القرن الرابع عشر جمع بين أراء أنصار الإصلاح الديني من البروتستانت والمؤيدين للثورة الفرنسية.
وكان مارسيليوس سابقاً جداً لعصره فلن يهدأ لحظة واحدة إذ ارتفع شأنه بسرعة بإرتفاع شأن لويس البافاري وسقط كذلك بسقوطه. عندما عادى لويس الباباوات طلب منه أن يطرد مارسيليوس باعتباره هرطيقاً ولا ندري شيئاً عن النتيجة، ويبدو أن مارسيليوس مات عام 1343 وهو منبوذ من الكنيسة التي حاربها ومن الدولة التي عمل على رفع شأنها.
ولعل نجاحه المؤقت ما كان ليتحقق لو لم تخول مهنة القانون الناهضة للدولة سلطة تنافس سلطة الكنيسة. فقد رفع المحامون" القانون الوضعي" للدولة إلى جانب، وغالباً ضد، القانون الكنسي، وعلى أطلال القانون الإقطاعي والشيوعي، وانتشر هذا القانون الملكي أو الدنيوي على الأيام وتغلغل في أمور الناس. وأخرجت مدارس القانون في مونبليه وأورليانز وباريس قانونيين يتصفون بالجرأة والدهاء، وقد استخدموا القانون الروماني لتكوين نظرية الحق الإلهي والسلطة المطلقة لسادتهم من الملوك وذلك مقابل الادعاءات البابوية. وكانت هذه الآراء أقوى منها في أي مكان آخر إذ انتشرت هناك في صورة شعارات مثل "أنا الدولة" و"الملك الشمس" كما سادت في إسبانيا مهدت بذلك إلى الحكم المطلق لفرديناند وشارل الخامس وفيليب الثاني بل إن ويكليف في إنجلترا قال بسلطة غير محدودة للملك المقدس. وعارض النظرية أعضاء مجلس اللوردات والعموم وأصر سيرجون(23/154)
فورتيسكو على أن الملك الإنجليزي لا يستطيع أن يصدر قوانين دون موافقة البرلمان وأن القضاة الإنجليز ملزمون بمقتضى قسمهم أن يحكموا وفقاً لقانون البلاد مهما كانت رغبة الملك ولكن إنجلترا ركعت بدورها أمام حكام مستبدين في عهد هنري السابع وهنري الثامن وإليزابث. وبين استبدادي البابوات وأندادهم من الملوك اعتصمت بعض النفوس المثالية بفكرة "الفانون الطبيعي" وهو يقوم على عدالة إلهية متغلغلة في الضمير الإنساني ومنصوص عليها في الأناجيل وهو قانون أعلى من أي قانون من صنع الإنسان. ولم تعبأ الدولة أو الكنيسة بهذا المفهوم وظل في المهاد معترفاً به ومتجاهلا في الوقت نفسه وإن ظل هذا المفهوم حياً واهياً. وقد تبنى في القرن الثامن عشر إعلان الاستقلال الأمريكي والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان ولعب دوراً صغيراً في ثورة قوضت لبعض الوقت عروش الحكام المستبدين الذين حكموا العالم وحارب نيكولاس الكوزاوي استبداد البابوية ثم استسلم لها.
وفي خلال حياته المتقلبة أظهر أفضل وجه للمسيحية المنظمة بالنسبة لألمانيا التي لم تكن تطمئن إلى الكنيسة. وقد جمع في إهاب شخصيته القوية خير عناصر العصور الوسطى التي تلائم حياته وذلك باعتباره فيلسوفاً وإدارياً وعالماً باللاهوت وقانونياً. وقد ولد في كولس قرب تريير (1401) وجمع بين التضلع في القانون والتخصص في الدين في مدرسة "إخوان الحياة المشتركة في ديفنتر" وفي عام قضاه بهيدلبرج تأثر بمذهب أوكهام الاسمي وفي بادوا تأثر بمذهب الشك عن ابن رشد بعض الوقت وفي كولونيا تشرب التراث الأورثوذكسي لألبرتوس ماجنوس وتوما الأكويني. لقد كانت فيه كل العناصر التي تجعل منه أكمل مسيحي في عصره.
ولم يتخل قط عن نزعته الصوفية التي انتقلت إليه من مايستر أكهارت(23/155)
فكتب مؤلفاً كلاسياً في التصوف عنوانه: "رؤية الله" وفي دفاع فلسفي عن مثل هذه الرؤى"دفاع عن الجهل العليم" Apologia doctae ignoranitae صاغ عبارة مشهورة هي "الجهل العليم" ورفض المذهب العقلي الكلامي الذي يبحث في إثبات علم اللاهوت بالعقل وذهب إلى أن كل المعارف الإنسانية نسبية وغير ثابتة فالحقيقة خفية في الله. وأعرض بوجه عام عن التنجيم وإن كان قد أنهك في بعض الحسابات الفلكية مستسلماً في ذلك للأوهام الشائعة في عهده وظن أن نهاية العالم ستكون عام 1734. وفي وسط حياة تزخر بالنشاط الكنسي حافظ أولا وقبل كل شئ على الفكرة العلمية وحث على القيام بمزيد من التجربة ومزيد من المقاييس وأشار إلى زمن سقوط الأجسام من شتى الارتفاعات ودرس أن الأرض "لا يمكن أن تكون ثابتة ولكنها تتحرك مثل غيرها من النجوم فكل نجم يتحرك مهما بدا لنا ثابتاً، وكل مدار فلكي دائري والأرض ليست مركز العالم إلا كما تعد أي نقطة مركزا لعالمك لانهائي. وكانت هذه الآراء استعارات حكيمة حينا ولمحات ذكية حيناً آخر.
وذهب نيكولاس عام 1433 إلى بازيل ليقدم للمجلس الكنسي هناك مطالب صديق إلى كبير أساقفة كولونيا. وسقطت حجته ولكنه انتهز الفرصة ليقدم للمجلس على خلاف من البابا - عملا هو ثمرة لخطة مشهورة في تاريخ الفلسفة. وأطلق عليه اسم: De concordontia Catholica " الائتلاف الكاثوليكي" وكان الهدف العام الذي يرمي إليه هو أن يتوصل إلى اتفاق بين المجالس وبين البابوات وقد صور الكنيسة وحدة عضوية لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها بنجاح إلا من خلال التعاون الوثيق بين أجزائها وذلك في قياس محكم وتركيب متقن. وبدلا من أن يستنتج نيكولاس، كما فعل البابوات، أن الأجراء يجب أن تسترشد بالرأي فإنه رأى أن مجلساً عاماً هو الذي يمكن أن يمثل ويعبر عن ويوحد عناصر الكنيسة التي يعتمد بعضها على البعض(23/156)
الآخر. وردد آراء الأكويني ومارسيليوس بل وسبق آراء روسو وجيفرسون في فقرة مثالية: "كل قانون يعتمد على قانون طبيعي وإذا تناقض معه فإنه لا يمكن أن يكون قانوناً صحيحاً" ... وبما أن الناس قد خلقوا أحراراً فإن أية حكومة توجد فقط بموافقة رعاياها ورضاهم فحسب ... والقوة الملزمة لأي قانون يتضمنها هذا الاتفاق وهذا الرضا صراحة أو ضمنا فالشعب صاحب السيادة يفوض في سلطانه بعض الجماعات الصغيرة المزودة بالتعليم أو الخبرة لسن القوانين أو تطبيقها غي أن هذه الجماعات تستمد سلطاتها العادلة من رضا المحكومين وعندما تفوض الجماعة المسيحية في سلطاتها مجلساً عاماً للكنيسة فإن المجلس وليس البابا هو الذي يمثل السلطة العليا في الدين. وفضلا عن هذا فإن البابا لا يستطيع أن يستند فيما يدعيه من حق شرعي مطلق، إلى هبة قسطنطين المفترضة لأن الهبة اختلاف وأسطورة. إن للبابا الحق في عقد مجلس عام ولكن مثل هذا المجلس يمكنه أن يخلعه إذا رآه غير لائق بمنصبه. ونفس المبادئ يمكن أن تطبق على الأمراء الزمنيين. وربما تكون الملكية الانتخابية خير حكومة تتاح للناس في حالتها الفاسدة الحالية ولكن يجب على الحاكم الدنيوي، كما يجب على البابا، أن يعقد بانتظام مجلساً نيابياً ويجب أن يخضع للقوانين التي يصدرها هذا المجلس.
وكان مثالاً يحتذى للبطاركة في أخريات أيامه فعندما رسم كاردينالاً عام 1448 أصبح شخصية كاثوليكية مصلحة. وقام بجولة مجهدة في هولندا وألمانيا وعقد خلالها مجمعات مقدسة إقليمية وأحيا النظام الكنسي وأصلح أديرة الرهبان والراهبات وهاجم تسرى القسس وارتقى بتعليم رجال الأكليروس ورفع على الأقل لفترة ما المستوى الخلقي لرجال الدين والشعب. وقد كتب العلامة أبوت تريتيميوس: "ظهر نيكولاس الكوزاوي في ألمانيا كملاك ينشر النور والسلام وسط الظلام والشك وقد أعاد وحدة الكنيسة ودعم سلطة رأسها الأعلى وزرع بذرة ثمينة في حياة جديدة.(23/157)
ويمكن لنيكولاس أن يضيف إلى ألقابه الأخرى لقب عالم بالإنسانيات فقد أغرم بالكلاسيات القديمة وشجع على دراستها وفكر في طبع المخطوطات اليونانية التي أحضرها بنفسه من القسطنطينية لتوزيعها على نطاق واسع وكان يتسم بتسامح العلامة الحقيقي فقد طالب بتفاهم متبادل بين الأديان كالأشعة المختلفة المنبعثة من حقيقة أزلية واحدة وذلك في كتاب "حوار حول السلام" الذي ألفه في نفس العام الذي سقطت فيه القسطنطينية في أيدي الأتراك. وفي فجر الفكر الحديث عندما كانت حرية الرأي سما نافعا كتب هذه الكلمات السليمة النبيلة:
"إنها لمتعة أن تعرف وأن تفكر وأن ترى الحقيقة بعين العقل. وكلما تقدم المرء في السن وجد في هذا متعة أكبر ولما كان الحب هو حياة القلب فإن حياة العقل في السعي وراء المعرفة وحقيقة الحياة. ووسط حركات الزمن والعمل اليومي وتناقضات الحياة وارتباطاتها فإننا يجب أن نرفع أبصارنا بلا خوف صوب قبة السماء الصاخبة ونحاول الحصول على إدراك أشد رسوخا لأصل كل خير وجمال ومدى قدرة قلوبنا وعقولنا وثمار العقول البشرية كلها خلال القرون وظواهر الطبيعة الرائعة حولنا على أن نذكر دائماً أن العظمة الحقة إنما تكمن في التواضع وحده ولا يمكن الإفادة من المعرفة والحكمة إذا كانتا تسيطران على حياتنا.
ولو قد ظهر كثيرون من أمثال نيكولاس لما قدر لمثل لوثر أن يوجد.(23/158)
الفصل الرابع عشر
غزو البحر
1492 - 1517
1 - كولمبس
لقد كان "قدراً ظاهراً" أن يجرؤ امرؤ في هذا العصر على اقتحام مخاطر الأطلنطي ليكتشف الهند أو "كاثي" إذ تحدثنا الأسطورة عن وجود "أطلانتس" عبر البحر بل إن الأساطير المتأخرة ذهبت إلى وجود نبع وراء الأطلنطي تنمح مياهه الشباب الدائم. وأدى فشل الحملات الصليبية إلى ضرورة كشف أمريكا وكانت لسيطرة الأتراك على شرقي البحر الأبيض المتوسط وما اقترفه العثمانيون في القسطنطينية والأسر الملكية المناهضة للمسيحية في فارس وتركستان من إغلاق الطرق البرية ومنع المرور فيها سببا في جعل الطرق القديمة للتجارة بين الشرق والغرب باهظة التكاليف ومحفوظة بالمخاطر. وتشبثت إيطاليا وفرنسا ببقايا تلك التجارة على الرغم من كل عوامل التثبيط من ضرائب الطرق والحرب ولكن البرتغال وإسبانيا كانتا بعيدتين جدا في الغرب وكان من الصعب عليهما الاستفادة من مثل الاتفاقات وكانت مشكلتهما لا تحل إلا بالعثور على طريق آخر وقد وجدت البرتغال طريقا حول أفريقيا ولم يعد أمام إسبانيا إلا أن تجرب حظها في المرور غرباً.
وقد أدى تقدم المعرفة إلى إثبات كروية الأرض منذ عهد بعيد وشجعت أخطاء العلم ذاتها على الأقدام وذلك بإساءة تقدير عرض المحيط الأطلنطي وبتصوير آسيا على أنها أرض سهلة للغزو والاستثمار في الطرف الأقصى.(23/159)
ولقد وصل البحارة الاسكنديناويون عامي 986 و 1000 إلى لبرادور وعادوا يحملون نبأ العثور على قارة جديدة فسيحة، وزار كرستوفر كولمبس أيسلندا عام 1477، إذا صدقنا القصة التي رواها بلسانه، ومن المسلم به أنه سمع الروايات المأثورة التي تردد في فخر رحلة لايف اريكسونى إلى فنلنده Vindland.
كان المال هو كل ما تحتاجه المغامرة الكبرى وقتذاك أما الشجاعة فكانت متوفرة. وقد سجل كولمبس نفسه في المايورازو mayorazzo أو الوصية التي حررها قبل أن يقوم برحلته الثالثة عبر الأطلنطي أنه من مواليد جنوا. حقا أنه كان في محرراته الموجودة لدينا يتسمى بالاسم الأسباني كريستوبال كولون ولم يستخدم قط اسمه الإيطالي كريستوفورو كولومبو ولكن المعتقد أن هذا كان بسبب كتابته بالأسبانية لأنه عاش في إسبانيا أو لأنه كان يقوم برحلاته البحرية لحساب ملك إسبانيا لا لأنه ولد في إسبانيا. ومن المحتمل أن يكون أجداده أسبانيين من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية وهاجروا إلى إيطاليا، والدليل قوي على أن الدم العبري يسري في عروق كولمبس وعلى ميله لليهود. وكان والده نساجا ويبدو أن كريستوفورو امتهن هذه المهنة بعض الوقت في جنوا وسافونا، وقد ورد في الترجمة الذاتية التي كتبها ابنه فرديناند أنه درس التنجيم والهندسة وعلم الكون (الكوزموجرافيا) في جامعة بافيا وإن لم يدرج اسمه في سجلات الجامعة، وها هو يقول لنا بنفسه إنه أصبح بحارا في الرابعة عشرة من عمره لأن كل طريق في جنوا يؤدي إلى البحر.
وهاجم القراصنة عام 1476 سفينة كان كولمبس بها نحو لشبونة وأغرقت هذه السفينة. ويروى أنه سبح ستة أميال حتى وصل إلى الشاطئ مستعيناً ببعض الحطام ولكن يبدو أن أمير البحر العظيم أطلق(23/160)
لخياله العنان إذ يقول إنه سافر بعد بضعة شهور إلى إنجلترا بحارا أو قبطانا ثم سافر إلى آيسلنده فلشبونة وهناك تزوج واستقر واشتغل برسم الخرائط الجغرافية، وكان حموه بحارا خدم الأمير هنري الملاح، وليس من شك أن كولومبوس سمع بعض الحكايات الممتعة عن شاطئ غينيا، ولعله انضم عام 1482 كضابط إلى الأسطول البرتغالي الذي أبحر حذاء هذا الشاطئ إلى مينا، وقرأ باهتمام كتاب البابا بيوس الثاني Historia rerum gestarum " تاريخ الأجناس" وكثيراً من التعليقات مما أوحى إليه بفكرة الطواف بحرا حول إفريقيا.
ولكن دراساته مالت به شيئاً فشيئاً نحو الغرب وعرف أن سترابون روى في القرن الأول من عصرنا محاولة للطواف حول الكرة الأرضية وكان يعلم ما كتبه سينيكا: "بعد سنوات سيأتي عصر يطلق فيه المحيط قيود الأشياء وتظهر أرض فسيحة ويكشف فيه النبي تيفيس عوالم جديدة ولن تكون ثولي (أيسلندة؟) أقصى طرف للأرض"، وقد قرأ "كتاب سير ماركوبولو الذي امتدح ثروات الصين وحدد وضع اليابان على بعد 1500 ميل شرق قارة آسيا. وكتب أكثر من ألف ملاحظة في نسخته من كتاب بيير دالي (صورة العالم) Imago mundi وقبل التقدير الراجح لمحيط الأرض بأنه يبلغ من 18,000 إلى 10,000 ميل ويربط هذا بتحديد بولولمكان اليابان حسب أن أقرب الجزر الأسيوية على بعد 5,000 ميل غرب لشبونة وقد سمع عام 1474 عن خطاب كتبه الطبيب الفلورنسي باولو توسكانيلي لملك البرتغال ألفونسو الخامس عليه بأنه اكتشاف طريق أقصر للهند من الطريق حول أفريقيا وذلك بالسفر بحرا لمسافة 5000 ميل غربا. وكتب كولومبوس إلى توسكانيلي وتلقى منه ردا مشجعا ونضجت الفكرة في ذهنه.(23/161)
وحوالي عام 1484 عرض على جون الثاني ملك البرتغال أن يجهز ثلاث سفن للقيام بحركة استكشافية لمدة عام عبر الأطلنطي والعودة منها على أن يعين كولومبس أمير بحر أعظم للمحيط وحاكما دائما لكل الراضي التي يكتشفها، وأن يحصل على عشر كل الإيراد والمعدن الثمين الذي تحصل عليه البرتغال من تلك الأراضي (ومن الواضح أن فكرة نشر المسيحية كانت ثانوية بالنسبة للاعتبارات المادية). وقدم الملك العرض إلى لجنة من العلماء فرفضوه على أساس أن تقدير كولومبوس للمسافة عبر الأطلنطي بأنها لا تعدو 2400 ميل أقل بكثير من الحقيقة (كان هذا التقدير صحيحاً تقريباً للمسافة من جزر كاناري إلى جزر الهند الغربية) وعرض ملاحان برتغاليان عام 1485 مشروعاً مماثلاً على الملك جون ولكنهما وافقا على تمويله بنفسيهما فمنحهما جون بركته وهذا أضعف الإيمان، وانطلقا عام 1487 متخذين طريقاً أقرب للشمال تحف به الرياح الغربية الشديدة ثم عادا بخفي حنين. وجدد كولومبوس طلبه عام 1488 فدعاه الملك لمقابلته وأقبل كولومبوس في الوقت المناسب ليشهد العودة الظافرة لبارثولوميودياس من رحلة ناجحة طاف فيها حول أفريقيا. ولما كانت الحكومة البرتغالية تطمع في اكتشاف طريق إلى الهند يمر بأفريقيا فإنها تخلت عن فكرة البحث عن طريق عبر الأطلنطي فتحول إلى جنوا والبندقية ولكنهما بدورهما لم يقدما له أي تشجيع لأن اهتمامهما كان موجهاً لاكتشاف طريق للشرق بالإتجاه شرقاً. وفوض كولمبس أخاه في جس نبض هنري السابع ملك إنجلترا فدعاه إلى مقابلته ولكن عندما وصلت الدعوة إلى كولومبس كان قد وضع نفسه في خدمة أسبانيا. وكان عندئذ (1488) في حوالي الثانية والأربعين من عمره. طويلاً نحيلاً له وجه مستطيل وبشرة حمراء قانية وأنف معقوف وعينان زرقاوان بوجه نمش وشعره أحمر فاتح بدأت تتخلله الشعرات البيضاء ويوشك أن يشتعل شيباً، وقد وصفه ابنه وأصدقاؤه(23/162)
بأنه رجل متواضع، رزين، وديع، فطن، معتدل في طعامه وشرابه، تقي للغاية. وزعم آخرون أنه كان معجباً بنفسه، يعرض الألقاب التي منحت له ويبالغ فيها وأنه رفع أجداده إلى طبقة النبلاء في خياله وكتاباته وأنه ساوم بشدة للحصول على نصيب من ذهب العالم الجديد. ومهما يمن الأمر فإنه كان يستحق أكثر مما طلب. وكان بين الفينة والفينة ينحرف عن العمل بالوصايا العشر فقد حدث في قرطبة أن أنجبت منه بياتريس انكريكيز ولداً غير شرعي عام 1488 وذلك بعد وفاة زوجته. ولم يتزوج منها كولومبس وإن كان قد وفر لها كل شيء في حياته ولم ينسها في وصيته ولما كان معظم علية القوم في تلك الأيام النشيطة قد أنجبوا أبناء من علاقات عارضة فإنه يبدو أن أحداً لم يعر هذا الحادث اهتماماً.
وفي غضون ذلك كان قد قدم التماسه إلى إيزابيلا صاحبة قشتالة (أول مايو سنة 1486) فأحالتها إلى جماعة من المستشارين يرأسهم صاحب القداسة رئيس أساقفة طلبيرة. وبعد أن تشاوروا طويلاً قدموا تقريراً ذكروا فيه أن الخطة غير عملية واحتجوا بأن آسيا تقع على مسافة أبعد من ناحية الغرب مما ظن كولومبس ومع ذلك فإن فرديناند وإيزابيلا منحاه راتباً سنوياً قدره 000و12 مارافيدس (840 دولاراً؟) وزوداه عام 1489 بخطاب يأمران فيه كل البلديات الأسبانية بأن توفر له الطعام والمأوى ولعلهما كانا يريدان أن يحتفظا بحق الاختيار بالنسبة لمشروعه لئلا يمنح قارة لملك منافس بطريق المصادفة ولما رفضت لجنة طلبيرة المشروع مرة أخرى بعد أن تداولت بشأن الخطة قرر كولومبس أن يقدم المشروع إلى شارل الثامن ملك فرنسا غير أن فراي جوان بيريز رئيس رهبان دير لارابيدا أثناه عن عزمه ورتب له مقابلة مع إيزابيلا فأرسلت إليه 000و20 مارافيدس لمواجهة نفقات رحلته إلى مقر قيادتها في مدينة سانتافي المحاصرة(23/163)
وذهب هناك واستمعت في رقة إلى حجته ولكن مستشاريها عارضوا الفكرة مرة أخرى فاستأنف استعداداته للذهاب إلى فرنسا (يناير سنة 1492).
وعند هذه المرحلة الحرجة حرك يهودي متنصر سير التاريخ فقد لام لويس دي سانتاندر، وزير مالية فرديناند، إيزابيلا لافتقارها إلى الخيال والعزيمة، وأغراها بأن لها لوح بالأمل في أن تحول آسيا إلى المسيحية وأقترح أن يمول الحملة بنفسه بمعاونة أصدقائه وأيده في فكرته يهود آخرون -دون إيزاك أبرابانل Abrabanel وخوان كابريرو وأبراهام سنيور، وتأثرت إيزابيلا بالفكرة وعرضت أن ترهن جواهرها لرفع قيمة المبلغ المطلوب ولكن سانتاندر رأى أن هذا الإجراء غير ضروري وأقترض مبلغ 000و400و1 مارافيدس من جماعة الرهبان التي كان أميناً لصندوقها وأضاف إليه مبلغ 000و350 من جيبه الخاص كما حصل كولومبس بطريقه ما على مبلغ 000و250 علاوة على ما سبق.
وفي السابع من أبريل عام 1492 وقع الملك الأوراق الضرورية ثم أعطى عندئذ أو بعد ذلك لكولومبس خطاباً إلى خان كاثاي، وكان هذا في الصين وليس في الهند التي كان يأمل كولومبس أن يصل إليها والتي ظن حتى لآخر لحظة في حياته أنه قد اكتشفها.
وفي الثالث من أغسطس أبحرت سانتاماريا (سفينة أمير البحر) وبنتا ونينيا Nina من بالوس وعلى ظهرها ثمانية وثمانون رجلاً ومؤن تكفيهم لمدة عام.(23/164)
2 - أمريكا
واتجهوا جنوباً نحو جزر كاناري ينشدون الرياح من الشرق قبل أن يواجهوا الغرب. وبعد إقامة طويلة في الجزر أقدموا على السير في خط مواز لخط عرض ثمان وعشرين (6 سبتمبر) في مكان لا يبعد جنوباً بدرجة تكفي لينعموا بالرياح التجارية ونحن نعلم أنهم لو اتجهوا جنوباً أكثر من ذلك لقصروا المسافة إلى أمريكا وجنبوا أنفسهم ما لاقوه من عناء في طريقهم إليها وكان الطقس لطيفاً وكتب كولومبس في سجل سير السفينة "مثل جو أبريل في الأندلس والشيء الوحيد الذي ينقصنا هو سماع صوت البلابل". واعتراهم القلق ثلاثة وثلاثين يوماً وكان كولومبس يقلل من المخصصات الغذائية التي تصرف لرجاله بنسبة الأميال التي يقطعونها كل يوم ولكن نظراً لأنه بالغ في تقدير سرعته فإن بياناته كانت صحيحة برغم أنفه.
وعندما استمر سكون الرياح غير طريقه وإذ ذاك شعر البحارة، أكثر من أي وقت مضى -بالضياع في خضم البحر وهم يسيرون فيه على غير هدى. وفي التاسع من أكتوبر صعد ربانا السفينتين بنتا ونينيا على ظهر السفينة وطالبا بإلحاح بالعودة فوراً إلى إسبانيا فوعدهما كولمبوس بأنه سيحقق رغبتهما إذا لم يروا الأرض خلال ثلاثة أيام وفي العاشر من أكتوبر تمرد بحارة سفينته ولكنه هدأ من ثورتهم بأن تعهد لهم بنفس الشيء. وفي الحادي عشر من أكتوبر التقطوا من المحيط غصناً أخضر يحمل أزهاراً فعاودتهم الثقة في قائدهم. وفي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي والقمر بدر تقريباً صاح روديجودي تريانا القائم بالحراسة (الأرض! الأرض!) أخيراً هاهي الأرض ..(23/165)
وعندما أقبل الفجر رأوا جماعة من الوطنيين العراة على الشاطئ وكلهم معتدلو القامة. واستقل القباطنة الثلاثة قاربا بصحبة رجال مسلحين جدفوا بهم نحو الشاطئ وركبوا وقبلوا الأرض وحمدوا الله وأطلق كولمبس على الجزيرة اسم سان سلفادور المخلص المقدس- واستولى عليها باسم فرديناند وإيزابلا والمسيح. واستقبل المتوحشون مستعبديهم في المستقبل بدماثة المتحضرين. وكتب أمير البحر: "ما دمت قد عرفت انهم قوم يمكن تحريرهم وهدايتهم إلى أبينا المقدس عن طريق الحب لا القهر فلكي نكسب صداقتهم أعطيت لبعضهم قلانس حمراء وللبعض الآخر خرزاً وأشياء أخرى كثيرة تافهة القيمة سرتهم كثيراً. ولقد ظلوا أصدقاء أوفياء لنا وهذه أعجوبة. واقبلوا فيما بعد سابحين إلى قوارب السفينة واحضروا معهم ببغاوات وخيوطاً من القطن ... وأشياء أخرى كثيرة فأعطيناهم في مقابلها خرزات صغيرة ... وأخيراً تبادلوا معنا كل ما يملكون وهم راضون كل الرضى".
ولعل خبر "المتوحش المسالم السلس" الذي فتن روسو وشاتوبريان وهويتمان قد بدأ عندئذ وفي ذلك المكان ولكن كان من بين الأمور التي عرفها كولمبس عن الجزيرة أن هؤلاء الوطنيين كانوا عرضة لغارات تقوم بها جماعات أخرى من الوطنيين لاسترقاقهم وأنهم أنفسهم أو أسلافهم تغلبوا على أهالي البلد الأصليين. وبعد رسوهم بيومين كتب في يومياته ملاحظة مشئومة: "إن هؤلاء الناس غير حاذقين في استخدام الأسلحة ويمكن إخضاعهم بخمسين رجلا وحملهم على القيام بكل ما يريده المرء". ولكن لم يكن في سان سلفادور للأسف أي ذهب. وفي الرابع من أكتوبر أقلع الأسطول الصغير بحثاً عن سيبانجو-اليابان- والذهب. وفي الثامن والعشرين من أكتوبر رسوا على كوبا وهناك أحسن الأهالي بدورهم التصرف وحاولوا أن ينضموا لضيوفهم في إنشاد (ايف ماريا) وبذلوا جهدهم في رسم علامة(23/166)
الصليب. وعندما عرض عليهم كولمبس الذهب ابدوا له ما يدل على انه سيجد بعضه في نقطة بالداخل أطلقوا عليها اسم كوبانا كان-أي وسط كوبا- واعتقد أنهم يقصدون بهذا الخان العظيم أو خان الصين العظيم فأرسل أسبانيين معهما أوراق اعتماد دبلوماسية ليجدا هذا الحاكم المراوغ وعادا دون أن يلتقيا بالخان وإن كانا قد جاءا بقصة ممتعة عن الحفاوة التي استقبلا بها في كل مكان كما أنهما قدما أول تقرير للأوربيين عن التبغ الأمريكي فقد شاهدوا رجلا وامرأة من الأهالي يدخنان أعشاب التبغ وهي ملفوفة في سيجار أدخلاه في الأنف وغادر كولمبس كوبا وهو يشعر بخيبة الأمل (4 ديسمبر) وأخذ معه عنوة خمسة من الشباب الوطنيين ليقوما بمهمة الترجمة وسبع نساء للترفيه عنهم وقد مات الجميع وهم الطريق إلى أسبانيا.
وفي غضون ذلك كان مارتين الونزوبينزون الربان الأول في أسطول كولمبس قد هجره وانطلق بسفينته لينقب عن الذهب لحسابه الخاص. وفي الخامس من ديسمبر وصل كولمبس إلى هايتي وهناك ظل أربعة أسابيع وهو يلاقي من الأهالي كل الترحيب وحفاوة. وعثر على بعض الذهب وشعر أنه غدا قاب قوسين أو أدنى من الخان ولكن سفينته المعقود لها لواء القيادة اصطدمت بسلسلة من الصخور وحطمتها الأمواج والصخور عشية يوم عيد الميلاد الذي كان قد فكر بالاحتفال به كأسعد يوم في حياته. ومن حسن الحظ أن السفينة نينيا كانت على مقربة منه فأنقذت البحار واقتحم الأهالي الطيبون أمواج البحر في قواربهم للمعاونة في إنقاذ معظم الشحنة قبل أن تغرق السفينة وواسى زعيمهم كولمبس فعرض عليه ضيافته وقدم له الذهب وأكد له أن هناك كمية وفيرة من هذا المعدن القاتل في هايتي. فحمد أمير البحر الله على الذهب وسامحه على تحطيمه لسفينته وكتب في يومياته أنه فرديناند وإيزابلا سيكون عندهما الآن من الأموال ما يكفي لغزو الأرض المقدسة. وتأثر بسلوك الأهالي الحسن فترك قسما من بحارته يتوطنون لارتياد الجزيرة(23/167)
بينما عاد إلى أسبانيا ليقدم تقريراً عن اكتشافاته. وفي السادس من يناير سنة 1493 عاد بنزون وانضم إليه بسفينته بنتا وقبل كولمبس اعتذاره فقد كان يمقت العودة وليس معه إلا سفينة واحدة. وفي السادس عشر من يناير بدأ رحلة العودة للوطن.
كانت رحلة طويلة تعسة فطوال شهر يناير كانت الرياح معاكسة وفي الثاني والعشرين من فبراير هبت ريح عاصفة صفعت السفينتين الصغيرتين ولم يكن طول كل منهما يتجاوز سبعين قدماً وبينما كان كولمبس ورفيقه يقتربان من شاطئ الأزور تخلى عنه بنزون مرة أخرى مؤملاً أن يكون أول من يصل إلى أسبانيا بالأنباء العظيمة عن اكتشاف آسيا وألقت السفينة مراسيها بعيداً عن سانتا ماريا في شاطئ الأزور (17 فبراير) وانطلق نصف البحارة إلى الشاطئ للقيام بالحج إلى مزار للعذراء فاعتقلتهم السلطات البرتغالية وألقت بهم في السجن لمدة أربعة أيام بينما كان كولمبس يتميز غيظا على الشاطئ ثم أطلق سراحهم وأقلعت السفينة نينيا مرة أخرى ولكن عاصفة أخرى دفعتها بعيداً عن طريقها المرسوم ومزقت قلوعها فاغتم البحارة ونذروا أن يقضوا أول يوم يطئون فيه الأرض صائمين على الخبز والماء وأن يعملوا بالوصايا العشر. وفي الثالث من مارس رأوا شاطئ البرتغال وعلى الرغم من أن كولمبس علم أنه كان يخاطر بالوقوع في ورطة دبلوماسية فإنه قرر أن يرسو في لشبونه وفضل هذا على محاولة قطع الأميال المائتين وخمسة وعشرين الباقية للوصول إلى باولوس مستعينا بقلع واحد. واستقبله جون الثاني بحفاوة ورممت السفينة نينيا وفي الخامس عشر من مارس وصلت إلى باولوس بعد "عناء وهول لا حد لهما" (كما قال كولمبس) بعد مرور 193 يوما من مغادرة ذلك الميناء. وكان مارتن بنزون قد رسا شمالي أسبانيا قبل ذلك ببضعة أيام وبعث برسالة إلى فرديناند وإيزابيلا ولكنهما(23/168)
رفضا أن يقابلاه هو أو رسوله ودخلت السفينة بنتا باولوس بعد يوم من وصول السفينة نينيا وفر بنزون يغمره الفزع ويجلله العار الذي جلبه على وطنه ولازم فراشه حتى مات.
3 - مياه المرارة
ورحب الملك والملكة بكولومبس في برشلونة وعاش في البلاط ستة شهور وانعم عليه بلقب "أمير البحر الأوقيانوس ويقصد به الأطلنطي غرب شواطئ الأزور". ونصب حاكما على العالم الجديد أو كما وصف نفسه "نائب الملك وحاكم عام الجزر وأراضي آسيا والهند". وعندما شاع أن جون الثاني يجهز أسطولا لعبور الأطلنطي استغاث فرديناند بالبابا ألكسندر السادس. وطلب منه أن يحدد حقوق أسبانيا في "البحر الأوقيانوس"فعين البابا الأسباني، في سلسلة من المنشورات (1493) لأسبانيا ملكية كل الأراضي التي لا تدين بالمسيحية في الغرب، وللبرتغال كل الأراضي في الشرق ويفصل بينهما خط وهمي مرسوم بحيث يمر من الشمال إلى الجنوب على بعد 270 ميلا غرب الأزور وجز الرأس الخضراء ولكن البرتغاليين رفضوا قبول هذا الخط الفاصل وأوشكت الحرب أن تنشب بين الحكومتين المتنافستين لولا أنهما وافقتا في معاهدة تورديسيلاس (7 يونية سنة 1494) على أن يمر ذلك الخط موازيا لخط الزوال الطولي على بعد 250 فرسخا غرب جزر الرأس الخضراء بالنسبة للاكتشافات التي تمت قبل ذلك التاريخ، ولكن على بعد 370 فرسخا غربا بالنسبة للاكتشافات التي تتم بعد ذلك. (يقع الطرف الشرقي للبرازيل شرق هذا الخط الثاني) وقد أطلقت منشورات بييترو مارتيري وانجييرا رأى كولمبس بأنه قد وصل إلى آسيا واستمر هذا الوهم حتى طاف ماجلان حول الكرة الأرضية.(23/169)
وقام فرديناند وإيزابيلا يحدوهما الأمل في الحصول على الذهب بتزويد كولومبس بأسطول جديد يتكون من سبع عشرة سفينة مجهزة بألف ومائتي بحار وحيوانات للشروع في تربية قطعان من الماشية والأغنام في جزر الهند وخمس من رجال الدين لتلقي اعترافات الإسبانيين ولهداية "الهنود". وقد بدأت الرحلة الثانية من إشبيلية يوم 25 سبتمبر سنة 1493 وبعد تسعة وثلاثين يوما (مقابل سبعين يوماً في الرحلة الأولى) شاهد الحارس جزيرة أطلق عليها كولمبس اسم "دومينيكا" لأنهم كانوا في يوم الأحد. ولم ينزلوا إلى الأرض هناك لأن أمير البحر اشتم رائحة فريسة أكبر. ومر خلال مجموعة جزر الأنتيل الصغرى في أقصى الغرب وتأثر كثيراً بعدها فأطلق عليها "إحدى عشر ألفاً من العذارى". وهي لا تزال جزراً عذراء وتابع رحلته واكتشف بويرتوريكو، وتمهل هناك قليلا ثم أسرع ليرى ما حدث للمستوطنين الأسبان الذين تركهم في هايتي منذ عشرة شهور فلم يجد منهم رجلا على قيد الحياة، إذ أن الأوربيين طافوا بالجزيرة وسطوا على الذهب الأهالي وسبوا نساءهم وأقاموا فردوسا استوائيا عاش فيه كل رجل مع خمس نساء وتنازعوا فيما بينهم وقتل بعضهم بعضا أما الباقون فقد قضى عليهم الهنود الذين انتهكت حرماتهم.
وسارت سفن الأسطول شرقاً بحذاء شاطئ هايتي، وفي الثاني من يناير عام 1494 أنزل أمير البحر رجالا وشحنة لتأسيس مستعمرة جديدة أطلق عليها اسم "إيزابيلا". وبعد أن أشرف على بناء مدينة وبعد ترميم سفنه سافر ليرتاد كوبا. وعندما عجز عن الطواف حولها استنتج أنها قارة آسيا ولعلها شبه جزيرة الملايو. وفكر في الالتفاف حولها والدوران بالكرة الأرضية ولكن سفنه لم تكن مجهزة لهذه الرحلة. فعاد إلى هايتي (29 أكتوبر سنة 1494) وهو يتساءل ماذا حدث لمستعمرته الجديدة. وصدم عندما وجد أنها تصرفت كالمستعمرة السابقة وأن الإسبانيين اغتصبوا(23/170)
النساء الوطنيات ونهبوا مخازن طعام الأهالي وخطفوا أولاد الوطنيين ليخدموهم كالعبيد وأن الوطنيين قتلوا كثيراً من الأسبان على سبيل الانتقام. وقامت البعثات التبشيرية بمحاولة صغيرة لتنصر الهنود وانضم راهب إلى جماعة الساخطين الذين عادوا إلى إسبانيا ليقدموا للملك والملكة تقريرا لا يشجع عن موارد هايتي الذائعة الصيت. وقد أصبح كولومبس نفسه الآن تاجرا للعبيد إذ أرسل حملات لأسر 1,500 وطني وأعطى للمستوطنين أربعمائة من هؤلاء وبعث إلى أسبانيا بخمسمائة مات منهم مائتان أثناء الرحلة وبيع الباقون في إشبيلية ولكنهم ماتوا بعد بضع سنوات بعد أن عجزوا عن تكييف أنفسهم مع المناخ البارد، ولعلهم لم يحتملوا همجية المدينة وترك كولومبس لأخيه تعليمات بنقل المستعمرة من إيزابلا إلى موقع أحسن في سانتو دومينجو (ثيودادتريخليو الآن) وسافر إلى إسبانيا (10 مارس سنة 1496) ووصل إلى قادس بعد رحلة تعسة استمرت ثلاثة وتسعين يوماً. وأهدى للملك والملكة الهنود وسبائك الذهب ولم تكن بالكثير، إلا أنها خففت من الشكوك التي ثارت لدى البلاط حول الحكمة من صب مزيد من الأموال في الأطلنطي ولم يشعر أمير البحر بالارتياح وهو فوق الأرض، فقد كان ملح البحر يجري في عروقه فالتمس تزويده بثماني سفن على الأقل للقيام بمحاولة أخرى بحثا عن الثروة، ووافق الملك والملكة وفي مايو عام 1498 سافر كولمبس مرة أخرى.
وقد اتجهت الرحلة الثالث نحو الجنوب الغربي إلى خط عرض عشرة ثم سارت غربا في هذا الخط المستقيم. وفي الحادي والثلاثين من يوليو شاهد البحارة جزيرة كبيرة أطلق عليها القائد التقي اسم "ترينيداد". وفي الحادي والثلاثين من أغسطس رأى قارة أمريكا الجنوبية وربما كان ذلك قبل أو بعد فسبوتشي. وبعد استكشاف خليج باريا أبحر-نحو الشمال الغربي ووصل إلى سانتو دو مينجو يوم 31 أغسطس فوجد أن المستعمرة الثالثة قد بقيت ولكن كان ربع الخمسمائة من الأسبان الذين تركهم عام 1496(23/171)
يشكون من مرض الزهري، وانقسم المستوطنون إلى فريقين متعاديين وكانا عندئذ على حافة الحرب. ولتهدئة التذمر أقطع كولمبس كل رجل مساحة كبيرة من الأرض وسمح له باسترقاق الوطنيين والإقامة فيها، وأصبحت هذه قاعدة تتبع في المستعمرات الأسبانية، وأنهكت الصعاب وخيبات الأمل وداء النقرس ومرض في العينين قوى كولومبس في ذلك الوقت فانهار تحت وطأة هذه المشكلات وكان ذهنه يتكدر بين الفينة والفينة واصبح يستثار بسهولة؛ متذمراً مستبداً، شحيحاً، جائراً في عقابه أو عقابه أو هذا على الأقل ما زعمه كثير من الأسبان فقد تميزوا من الغيظ تحت حكم رجل إيطالي. وأدرك أن مشكلات إدارة المستعمرة كانت دخيلة عليه بالنسبة لتدريبه ومزاحه. وأرسل في أكتوبر عام 1499 بعثتين إلى أسبانيا مع التماس لفرديناند وإيزابيلا لتعيين نائب للملك يساعده في حكم الجزيرة.
واخذ الملكان بكلمته وعينا فرانشسكو دي بوباديلا ولكنهما ذهبا إلى أبعد مما طلب أمير البحر فخولا نائبهما سلطة كاملة بل سلطة تفوق سلطة كولمبس. ووصل بوباديلا إلى سانتو دومينجو بينما كان كولمبس غائبا وسمع كثيرا من الشكايات من الأسلوب الذي كان يحكم به كريستوفورو وأخواه بارتولومي ودييجو ما تسمى الآن باسم هسبانيولا وعندما عاد كولمبس ألقى به بوباديلا في غياهب السجن والأغلال في ذراعيه والسلاسل في قدميه وبعد إجراء تحقيق أرسل النائب الأخوة الثلاثة إلى أسبانيا (أول أكتوبر عام 1500) وعندما وصل كولمبس إلى قادس كتب خطاباً مؤثراً إلى أصدقائه في البلاط "لقد انقضت سبعة عشر عاما منذ حضرت لأخدم هذين الأميرين بمشروع جزر الهند، ولقد أضاعا من عمري ثمانية أعوام في النقاش وفي النهاية رفضاه كأن الأمر دعابة. ومع ذلك لم أيأس ... وها أنذا قد وضعت هناك تحت إمرتهم أرضاً تزيد عما(23/172)
لديهم في أفريقيا وأوربا وأكثر من 10. 700 جزيرة ... وفي سبع سنوات قمت أنا بمشيئة الله، بهذا الغزو، وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه المكافأة وأتطلع إلى التقاعد قبض على بلا جريرة وأرسلت للوطن مصفدا بالأغلال ... ووجهت إلى تهمة الحقد على أساس الاتهامات التي وجهها إلى مدنيون ثاروا وأرادوا الاستيلاء على الأرض ... إني أرجو من مراحمكم أن تقرأوا جميع أوراقي بحماسة المسيحيين المخلصين الذين وضع فيهم سموهما ثقتهما وأن تفكروا مليا كيف ألوث شرقي وخلقي في أواخر أيامي دون سبب، أنا الذي جاء من أقصى البلاد لخدمة هذين الأميرين دون أن ألقي منهما عدالة ولا رحمة".
وكان فرديناند مشغولا بتقسيم مملكة نابلي مع لويس الثاني عشر، ومرت ستة أسابيع قبل أن يأمر بإطلاق سراح كولمبس وأخويه ودعوتهم إلى البلاط واستقبلهم الملك والملكة في قصر الحمراء وواسياهم وأعادا لهم الاعتبار وإن كانوا لم يصلوا إلى سلطاتهم في العالم الجديد. وكان الملكان ملزمين بشروط التسليم أو الاتفاقية التي وقعاها عام 1492 بتخويل كولمبس سلطاناً كاملاً على الأراضي التي اكتشفها، ولكنهما شعرا بأنه لم يعد جديراً بممارسة هذه السلطة فعينا دون نيكولاس دي أوفاندو حاكماً جديداً على جزر الهند. ومهما يكن من أمر فإنهما سمحا لأمير البحر أن يحصل على كل حقوقه من أملاكه في سانتو دومينجو وكل ما يستحق له حتى ذلك الوقت من التنقيب عن الذهب ومن التجارة. وعاش كومبس ما بقي من عمره في رغد من العيش. ولكنه لم يكن راضياً. وألح على الملك والملكة أن يمداه بأسطول آخر ومع أنهما لم يتبينا بعد ما إذا كان "مشروع جزر الهند" سيعود عليهما بربح صاف فإنهما شعرا بأنهما يدينان له بمحاولة أخرى. وبدأ كولمبس رحلته الرابعة من قادس بأربع سفن على ظهرها مائة وأربعون رجلاً منهم(23/173)
أخوه
بارتولومي وابنه فرناندو، وذلك في اليوم التاسع عام 1502. وفي التاسع والعشرين من يونيه أحس بزوبعة في الجو وفي مفاصله، فرسا في بقعة آمنة من شاطئ هاييتي قرب سانتو دوينجو، وكان في الميناء الرئيسي ثلاثون سفينة على وشك الإبحار إلى إسبانيا. وبعث كولمبس برسالة إلى الحاكم يبلغه فيها بأن إعصاراً سوف يهب وأشار عليه بأن يؤخر سفر السفن قليلاً، ولكن أوفاندو أعرض عن هذا التحذير وأرسل الأسطول وهبت الزوبعة الهوجاء ونجت منها سفن أمير البحر ولم يصبها إلا أقل الضرر، أما سفن أسطول الحاكم فقد تحطمت جميعاً إلا واحدة وغرق خمسمائة رجل ومنهم بوباديلا وغاصت في أعماق البحر شحنة من الذهب.
وليس من شك في أن كولمبس بدأ عندئذ أصعب الشهور الحافلة بالأسى في حياته المضطربة -فقد استأنف سيره غرباً ووصل إلى هندوراس وارتاد شاطئ نيكاراجوا وكوستريكا مؤملاً أن يجد مضيقاً يتيح له أن يطوف بالأرض. وفي الخامس من ديسمبر عام 1502 هبت ريح عاصفة مصحوبة بالمطر وصف كولمبس في يومياته قوتها العاتية: "ظللت تائهاً لمدة تسعة أيام وضاعت كل بارقة أمل في الحياة. لم تر عيناي قط بحراً كهذا هائجاً عالي الأمواج، يغطيه الزبد. إن الرياح لم تمنع تقدمنا فحسب بل إنها لم تتح لنا أية فرصة للسير وراء لسان من الأرض يعتصم به من العاصفة ومن ثم اضطررنا إلى مواصلة السير في هذا المحيط الملعون ونحن نتقلب فيه كالقدر حين يغلي على النار، ولم تبد السماء قط مخوفة كما بدت في هذا اليوم فقد ظلت يوماً وليلة ترسل شواظا من نار يلسعنا كالسنة اللهب. وتفجر البرق بشدة حتى أنني كنت في كل مرة أتساءل عما إذا كانت الرياح قد حطمت صواري وانتزعت قلوعي. وكانت ومضات البرق تتوالى بعنف وبصورة مروعة حتى اعتقدنا جميعاً أن السفن توشك أن تنفجر.(23/174)
ولم تتوقف الأمطار عن الهطول طوال ذلك الوقت. وأنا لا أقول أنها كانت تمطر فقد كانت المياه تتدفق حتى خيل إلى أنه طوفان آخر. وكان الرجال منكوهي القوى وتمنوا الموت ليضع حداً لآلامهم المروعة".
وإلى جانب ما كانت تحدثه الريح والمطر والبرق وسلسلة الصخور القريبة من فزع هب إعصار عاقص ينشر الرذاذ البحر وكان قريبا جداً إلى درجة الخطورة من السفن وبدأ الماء إلى أعلى بحيث يطاول السحب فتناول كولمبس كتابه وقرأ فيه كيف هدأ المسيح العاصفة في كابيرناوم ثم تعوذ من الإعصار ورسم في السماء بسيفه وإذ ذاك يقال لنا إن قمة الماء انهارت وانتهى هياج البحر بعد مرور أثنى عشر يوماً مروعة، ورسا الأسطول في ميناء قرب الطرف الشرقي الحالي لقناة بنما، وهناك احتفل كولمبس ورجاله بعيد الميلاد عام 1502 وبرأس السنة الجديدة عام 1503 وقلوبهم مثقلة بالحزن دون أن يدور بخلدهم أن المحيط الهادي لا يبعد عنهم إلا أربعين ميلاً.
وتوالت المصائب. فبينما كان ثلاثة عشر بحاراً يجدفون في قارب من قوارب سفينة القيادة نحو النهر للحصول على ماء عذب هاجمهم الهنود ولقي جميع الأسبان مصرعهم ما عدا رجل واحد وضاع القارب. واضطروا إلى التخلي عن سفينتين أتى السوس عليهما ولم تعودا صالحتين للملاحة أما السفينتان الباقيتان فقد كان بهما كثير من الخروق وكان لا بد من تشغيل المضخات ليل نهار وأخيراً أثبت السوس أنه أقوى من الرجال ولم يكن هناك بد من إرساء السفينتين الباقيتين على شاطئ جامايكا (25 يونيه سنة 1503). وهناك أقام البحارة البائسون سنة وخمسة وكانون يعتمدون في طعامهم على صداقة الأهالي المتقلبة والذين لم يكن لديهم أنفسهم ما يستغنون عنه إلا النذر القليل. وتطوع ديجو منديز، الذي كان لرباطة جأشه في مواجهة كل هذا الضيق في عدم تردي كولمبس في هوة اليأس، أن يرأس(23/175)
جماعة من ستة من المسيحيين وعشرة من الهنود ويستقلوا قارباً منحوتاً من جذع شجرة لقطع 455 ميلا- منها ثمانون ميلا لا ترى بالبصر من فوق الأرض- إلى سانتو دومينجو لطلب النجدة. ونفد زادهم من الماء في تلك المغامرة ومات بضعة هنود. ووصل منديز إلى هدفه ولكن أوفاندو لم يقدم أو يستغني عن سفينته حتى مايو عام 1404 لنجدة أمير البحر. وما أن حل شهر فبراير حتى خفض هنود جامايكا هداياهم من الطعام للملاحين الذين جنحت سفنهم إلى الحد الذي بدأ فيه الأسبان يتضور ون جوعاً، وكان مع كولمبس تقويم رجيومونتانوس الفلكي الذي جاء بحساباته خسوف للقمر يوم 29 فبراير، فاستدعى زعماء الوطنين وأنذرهم بأن الله غاضب بسبب سماحهم بتجويع رجاله وأنه يحجب عنهم ضوء القمر فسخروا منه ولكن عندما بدأ الخسوف سارعوا بإحضار الطعام إلى السفن. وعندئذ طمأنهم كولمبس وقال إنه دعا الله أن يعيد للقمر ضياءه وأنه وعده سبحانه وتعالى أن الهنود سيطعمون المسيحيين جيداً بعد هذا. وعاد القمر للظهور.
ومرت أربعة شهور أخرى قبل أن يصلهم العون وحتى ذلك الوقت كانت السفينة التي أرسلها أوفاندو قد اتسعت خروقها فلم يكن أمامها إلا أن تعود إلى سانتو دومينجو وسافر كولمبس مع أخيه وابنه في سفينة أشد متانة إلى إسبانيا فوصلوا في اليوم السابع من نوفمبر بعد رحلة طويلة واجهوا فيها العواصف، واغتم الملك لأنه لم يعثر على مزيد من الذهب ولم يكتشف مضيقا يوصل إلى المحيط الهندي، ولم يجد فرديناند وإيزابلا التي كانت تحتضر، وقتاً لمقابلة البحار الذي اشتعل رأسه شيباً بعد عودته أخيراً من البحر. وكانت عشوره "من هايتي لا تزال تدفع له ... وكان يشكو من داء النقرس لا من الفاقة. وعندما وافق فرديناند أخيراً على مقابلة كولمبس لم يستطيع أمير البحر وقد بدا أكبر عمراً من سنواته الثمانية والخمسين. أن يتحمل مشاق الرحلة إلى بلاط الملك في سيجوفيا إلا بصعوبة بالغة وطالب بالألقاب والحقوق(23/176)
والدخول التي وعد بها عام 1492، فاعترض الملك وعرض عليه ضيعة كبيرة في قشتالة فرفض كولمبس. ولاحق البلاط إلى سلمنقة وبلد الوليد، وهناك مات يوم 20 مايو سنة 1506 محطم الجسد كسير الفؤاد ولم يتيسر قط لأحد أن يعيد رسم خريطة الأرض على نحو هذا النحو.
4 - المنظور الجديد
والآن بعد أن أضاء كولمبس الطريق اندفع مائة ملاح آخر إلى العالم الجديد، ويبدو أن هذا الاسم قد استخدمه لأول مرة تاجر فلورنسي يطلق اسمه الآن على الأمريكتين فقد أرسل آل مديتشي إلى أسبانيا أمير يجو فسبوتشي ليقوم على شئون مصرف فلورنسي وفاز عام 1495 بعقد ينص على إعداد اثنتي عشرة سفينة لفرديناند وأصيب بحمى الكشف وزعم في خطابات أرسلها فيما بعد (1503 - 1504) لأصدقاء في فلورنسا أنه قام بأربع رحلات إلى ما أسماه بالعالم الجديد وأنه في إحدى هذه الرحلات في اليوم السادس عشر من يونيه عام 1497، وصل إلى قارة أمريكا الجنوبية. ولما كان جون كابوت قد وصل إلى جزيرة كيب بريتون في خليج سانت لورانس في اليوم الرابع والعشرين من يونيه عام 1497 وشاهد كولمبس فنزويلا عام 1498 فإن قصة فسبوتشي تنسب له أنه أول أوربي وصل إلى قارة في نصف الكرة الغربي منذ عهد لايف أريكسون (سنة 1000) ولكن ما اتسمت به روايات فسبوتشي من عدم الدقة وما خالطها من اضطراب ألقى ظلالا من الشك على مزاعمه ومما يجدر ذكره أن كولمبس، والذي كان في وسعه عندئذ أن يحكم على مدى وثوق أخبار فسبوتشي عهد إليه عام 1505 بخطاب لتسليمه إلى دييجو ابن أمير البحر. وفي سنة 1508 نصب فسبوتشي كبيراً لجميع الربانية في أسبانيا واحتفظ بهذا المنصب حتى وفاته.
وقد نشرت نسخة لاتينية من إحدى رسائله في سان دييه (اللورين)(23/177)
في أبريل عام 1507. واستشهد مارتن فالدسيمولر، أستاذ (الكوزموجرافيا) علم الكون بجامعة سان دييه، بهذا الخطاب في "مقدمة لعلم الكون" الذي نشره هناك في تلك السنة وقبل رواية فسبوتشي واعتبرها جديرة بالثقة واقترح أن يطلق اسم أمريجي على ما نسميها الآن أمريكا الجنوبية.
وفي سنة 1538 استخدم جير هاردوس ميركانور اسم "أمريكا" في إحدى خرائطه الشهيرة وأطلقه على كل نصف الكرة الغربي. ومن المتفق عليه أن فسبوتشي قام عام 1499 إن لم يكن عام 1497، مع ألونزو دي أوخيد بارتياد شاطئ فنزيلا وفي سنة 1500 عقب اكتشاف كابرال مصادفة للبرازيل ارتاد فيسنت Vicente بنزون، وكان رباناً للسفينة نينيا في رحلة كولمبس الأولى، الشاطئ البرازيلي واكتشف الأمازون. وفي سنة 1513 شاهد فاسكونونييزدي بالبوا المحيط الهادي واكتشف بونس دي ليون، فولريدا، وهو يحلم بالعثور على ينبوع الشباب. وكان للاكتشافات التي بدأها هنري الملاح وتبعه فيها فاسكودا جاما وبلغت أوجها في عهد كولمبس وانتهت بماجلان، أثر في قيام أعظم ثورة تجارية في التاريخ قبل اختراع الطائرة. فتحت البحار الغربية والجنوبية للملاحة والتجارة وأنهت عهد البحر الأبيض المتوسط في الحضارة وبدأت عهد الأطلنطي. وكلما ازداد تدفق الذهب من أمريكا إلى أسبانيا ازداد التدهور الاقتصادي في ولايات البحر الأبيض المتوسط بل وفي تلك المدن الواقعة في جنوب ألمانيا مثل أوجسبرج ولومبرج، التي كانت ترتبط تجارياً بإيطاليا. ووجدت دول الأطلنطي في العالم الجديد مخرجاً لفائضها من السكان ولطاقاتها الاحتياطية ولمجرميها هناك أسواقاً رائجة لبضائعها الأوربية. وازدهرت الصناعة في أوربا الغربية وطالبت بالاختراعات الآلية وبأشكال أحسن من الطاقة مما أدى إلى الثورة الصناعية. واستوردت نباتات جديدة من أمريكا لإثراء الزراعة الأوربية-البطاطس والطماطم والخرشوف والقرع العسلي(23/178)
والذرة. وأدى تدفق الذهب والفضة إلى رفع الأسعار وتشجيع أصحاب المصانع وإنهاك قوى العمال وزيادة الدائنين والإقطاعيين وأثارت في أسبانيا حلم السيطرة على العالم وقضت عليه.
ولم تكن الآثار الأدبية والذهنية لهذه الاكتشافات بأقل من النتائج الاقتصادية والسياسية فقد انتشرت المسيحية فوق رقعة واسعة من نصف الكرة الأرضية وكسبت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من الأنصار في العالم الجديد أكثر مما سلبهم منها الإصلاح الديني في العالم القديم. وتلقفت أمريكا اللاتينية اللغتين الإسبانية والبرتغالية اللتين أثمرتا أدبا قويا مستقلا. ولم تتمسك أخلاق الأوروبيين بهذه الاكتشافات إذ تدفقت وحشية الأوربيين، التي لا تخضع لقانون، إلى أوربا مع البحارة والمستوطنين العائدين وجاءت بالإفراط في العنف والشذوذ الجنسي. وتأثر الفكر الأوروبي كثيراً بالكشف عن هذه الشعوب والعادات والمعتقدات الدينية الكثيرة وعانت المذاهب الدينية من الاحتكاك المتبادل بل إنه في الوقت الذي كان البروتستانت والكاثوليك يشتبكون في حروب مدمرة من أجل مذاهبهم المتخاصمة فإن هذه المذاهب كانت تذوب في الشكوك التي يثيرها التثقيف وما يستتبع ذلك من تسامح.
يضاف إلى كل هذا أن الاعتزاز بالعمل الفذ ألهم العقل البشري في اللحظة التي كان فيها كوبرنيكوس على وشك أن يقلل من الأهمية الكونية للأرض وسكانها إذ شعر الناس أن شجاعة العقل البشري قد تغلبت على دنيا المادة. وأنكر الاختصار والشعار السائد في القرون الوسطى لجبل طارق- لا شيء خلفه - وأصبح هذا الشعار الآن - خلفه الكثير - وزالت كل الحدود وأصبح العالم مفتوحا وبدا كل شئ ممكنا. والآن بدأ التاريخ الحديث بموجة طاغية تتسم بالإقدام والتفاؤل.(23/179)
الفصل الخامس عشر
أرازموس الرائد
1469 - 1517
1 - تربية عالم بالإنسانيات
ولد أعظم عالم بالإنسانيات عام 1466 أو عام 1469 في روتردام أو بالقرب منها وهو الابن الثاني غير الشرعي لجيرارد وهو كاتب في أدنى الدرجات. وأمه مرجريت ابنة طبيبة وأرملة. ويبدو أن الأب رسم قسيساً عقب هذه الكارثة ولا ندري كيف سمي الصبي بالاسم السخيف ديزيدريوس أرازموس ومعناه الحبيب المرغوب فيه. ولقد علمه مدرسوه الأوائل القراءة والكتابة باللغة الهولندية ولكنه عندما ذهب ليدرس مع أخوة الحياة المشتركة في ديفنتر غرم لأنه كان يتحدث بلغته الوطنية فقد كانت اللغة اللاتينية هناك "الزاد الرئيسي للتعليم" وكانت التقوى تراعى بحزم كوسيلة من وسائل التربية والتهذيب- ومع ذلك فإن الأخوة كانوا يشجعون على دراسة كلاسيكيات وثنية مختارة وبدأ أرازموس في ديفنتر يمسك بزمام اللغة اللاتينية والأدب بصورة مذهلة.
ومات والده حوالي عام 1484 وخلف الوالد ضيعة متواضعة لولديه ولكن الأوصياء عليهما بددوا معظمها ووجهوا الشابين اليافعين للانخراط في سلك الرهبنة لأنها لا تحتاج إلى امتلاك شئ على الإطلاق فاحتجا إذ كانا يرغبان في الالتحاق بالجامعة، وأخيراً أمكن إغراؤهما- بوعد أرازموس بالحصول على كثير من الكتب كما قيل لنا. أما الابن الأكبر فقد رضى بمصيره وارتفع شأنه فأصبح "سكيراً مدمنا وأن لم يكن فاجراً سافلا". وأخذ ديزيدريوس على نفسه العهود كأي راهب أوغسطيني في ديراماوس في(23/180)
ستين. وحاول أن يحب حياة الدير جهد استطاعته بل إنه كتب مقالا بعنوان: De contemptu mundi " تأملات في الوجود"، ليقنع نفسه بأن الدير هو المكان المناسب لصبي له روح متعطشة ومعدة منهوكة ولكن معدته أرهقها الصيام وأصابها الغثيان حينما كانت تُشَم رائحة السمك. ومع ذلك فإن العهد الذي قطعه على نفسه بالخضوع أثبت أنه أشد قساوة من نذره العفة، ومن يدري؟ لعل مكتبة الدير كانت تعوزها الكلاسيات. وأشفق عليه رئيس الدير وأعاره ليعمل كاتب سر لهنري البرجيني أسقف كمبراي. وقبل أرازموس عندئذ (1492) أن يرسم قساً ولكنه أينما اتجه نازعته نفسه إلى أن يضع قدمه على مكان آخر. كان يحسد الذين التحقوا بالجامعة بعد إنهاء تعليمهم المحلي. وكانت باريس تفوح بشذا العلم والهوى الذي قد يسمم الحواس المرهفة عبر مسافات بعيدة. وأغرى ديزيديريوس الأسقف على إرساله إلى جامعة باريس بعد أن خدمه بكفاءة بضع سنوات وانطلق وليس معه إلا ما يقوم بأوده. وكان ينصت في صبر نافذ إلى المحاضرات ولكنه كان يلتهم الكتب. وكان يشهد المسرحيات والحفلات وينقب بين الفينة والفينة عن المفاتن الأنثوية، ويقول في إحدى محاوراته أن ألطف طريقة لتعلم الفرنسية هي أن تتلقاها عن بنات الليل ومع ذلك فقد أغرم بالأدب .. أغرم بتلك الكلمات الموسيقية السحرية التي تفتح بابا يلج منه المرء إلى عالم الخيال والبهجة. وعلم نفسه اليونانية وأصبحت أثينا أفلاطون ويوروبيدس وزينون وأبيقوروس مألوفة لدية مثل روما سيشرون وهوراس وسينيكا فكلا المدينتين كانتا حقيقتين بالنسبة له مثلهما في ذلك مثل شاطئ السين الأيسر. وكان سينيكا في نظره مسيحياً صالحاً مثل سانت بول ونمطياً أحسن منه (وهي وجهة نظر لعله لم يكن فيها سليم الذوق تماما) ورحل باختياره في غمرات الماضي واكتشف لورنزو فالا، فولتير نابولي واستطاب طعم اللاتينية الأنيقة والجرأة المتهوسة اللتين تسم تكفله بهما بكشف زيف قصة "هبة قسطنطين" وقد لاحظ(23/181)
أخطاء جد خطيرة في النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس وتساءل أليست الأبيقورية أحكم وسيلة للعيش. وقد أفزع أرازموس علماء اللاهوت فيما بعد وخفف عن بعض الكرادلة بسعيه في التوفيق بين أبيقور والمسيح. وكانت أصداء أصوات دونس سكوتس وأوكهام لا تزال تتردد في باريس والمذهب الأسمي يعلو نجمه ويهدد العقائد الأساسية مثل التجسيد والثالوث. وقوضت هذه السقطات الفكرية أرثوذكسية القس الشاب ولم يترك له إلا الإعجاب العميق بأخلاقيات المسيح.
وأكب على قراءة الكتب وغالي في ذلك إلى درجة غير محمودة. وقام بإعطاء دروس خصوصية لبعض الفتيان من الطلبة لزيادة موارده وذهب ليعيش مع أحدهم ومع ذلك لم يكن لديه ما يوفر له حياة هانئة. وألح على أسقف كامبراي قائلا: "إن كلا من جلدي وكيسي في حاجة إلى أن يملأ: الأول باللحم والثاني بالعملات. اعمل وفق ما يمليه عليك كرمك". واستجاب له الأسقف بلطفه المعهود ودعاه طالب يدعى لوردأف فير Vere إلى قصره في تورنيهيم في الفلاندرز وسر أرازموس عندما وجد في ليدي آن أف فير نصيره للعبقرية وتعرفت فيه على هذه المزية وعانته بمنحة سرعان ما استنفدها. وأخذه طالب غنى آخر هو ماونتجوي إلى إنجلترا (1499) وهناك في البيوت الأرستقراطية الواسعة في الريف وجد العالم المكدود دنيا رحبة تحفل باللذة الرفيعة وانقلب ماضيه في الدير إلى ذكرى يقشعر لها بدنه. وأبلغ صديقاً له في باريس عن تقدمه في خطاب من خطاباته التي لا تحصى ولا تقلد وهي الأثر الباقي له الآن: "إننا نتقدم. ولو كنت عاقلاً لسارعت بالمجيء إلى هنا ... آه لو عرفت ما ننعم به في بريطانيا ... ولأذكر لك إحدى المباهج الكثيرة: هنا حوريات لهن تقاطيع ملائكية في غاية الرقة والرأفة ... وعلاوة على ذلك فثمة أسلوب للحياة لا يمكن الثناء عليه تماماً فحيثما تذهب يستقبلونك بالقبلات على يديك وعندما ترحل(23/182)
يشبعونك بالقبلات وإذا عدت فإن تحياتك ترد إليك ... وأينما يتم اجتماع فهناك تحيات وافرة وحيثما تلتفت تجدها تلاحقك. أواه يا فاوستوس! لو ذقت مرة عذوبة هذه الشفاه وشذاها لتمنيت أن تكون سائحاً لا لمدة عشر سنوات مثل سولون بل طوال حياتك في إنجلترا".
والتقى أرازموس في بيت ماونتجوى في جرينوتش بتوماس مور، وكان حينئذاك لا تتجاوز سنة الثانية بعد العشرين ولكنه مع ذلك كان له من المكانة ما استطاع به أن يقدم العالم إلى قدر له بعد ذلك أن يكون هنري الثامن. وسره في أكسفورد على الأغلب عدم الكلفة في صحبة الطلبة وفي الكلية كما سرته أحضان ربات البيوت الريفية. وهناك تعلم كيف يحب جون كوليت الذي أذهل عصره باعتناقه المسيحية على الرغم من أنه كان محققا وعلامة في علم الأديان القديمة وتأثر أرازموس بتقدم علم الإنسانيات في إنجلترا: "عندما أسمع عزيزي كوليت يخيل إلي أني أستمع لأفلاطون نفسه. من لا يعجب في جروسين يرى عالما كاملا للمعرفة مثل هذا؟ ماذا يمكن أن يكون أذكى وأعمق من حكم ليناكر؟ وماذا أبدعت الطبيعة أكثر رقة وحلاوة وسعادة من عبقرية توماس مور؟ ".
لقد اثر هؤلاء الرجال تأثيراً عميقاً في إصلاح حال أرازموس فتحول من شاب مغرور طائش، أسكرته خمر الكلاسيات وفتنة النساء، إلى عالم جاد مدقق تواق لا إلى المال والشهرة فحسب ولكن إلى تحقيق عمل مفيد دائم. وعندما غادر إنجلترا (يناير عام 1500) كان قد استقر عومه على أن يدرس وينشر النص اليوناني للعهد الجديد لأن الجوهر الخالص لتلك المسيحية الحقة في نظر المصلحين وعلماء الإنسانيات على السواء، قد أخفته وموهت عليه العقائد وتكاثرها على مر القرون.
وأظلمت ذكرياته الجميلة عن هذه الزيارة الأولى لإنجلترا بما حدث في الساعة الأخيرة. فبينما كان يجتاز الجمارك في دوفر صادرت السلطات(23/183)
المبلغ الذي منحه له أصدقاؤه وكان يقدر بنحو عشرين جنيهاً (2000 دولار) لأن القانون الإنجليزي يحرم تصدير الذهب أو الفضة. وزاد الطين بلة أن أحدهم، وإن لم يكن محاميا كبيراً، أشار عليه خطأ بأن التحريم لا يسري إلا بالنسبة للعملة الإنجليزية، فغيرها أرازموس ولم تجد إنجليزيته المتعثرة ولا لاتينيته المختلة في الانحراف بصرامة القانون التي لا ترحم واستقل أرازموس سفينة إلى فرنسا وهو خالي الوفاض بالفعل. قال: "لقد عانيت من الغرق قبل أن أذهب إلى البحر".
2 - المشائي
وبعد إقامة بضع شهور في باريس نشر أول عمل هام له وهو مجموعة أقوال مأثورة وتضم 818 مثلا أو شاهداً، معظمها لمؤلفين من القدامى. وكان إحياء المعرفة. أي الأدب القديم- قد وضع تقليداً دارجاً بأن يزين المرء آراءه باقتباس من مؤلف يوناني أو لاتيني، ونرى هذا التقليد بصورة متطرفة في مقالات مونتيني وفي كتاب "تشريح السوداء" لبرتون. وتريث هذا التقليد في القرن الثامن عشر في عهد الخطابة الجدلية بإنجلترا. وأرفق أرازموس كل قول مأثور بتعليق، يشير عادة إلى الاهتمام السائد ويمليه ذكاء يمتزج بالسخرية والهجاء. وقد علق قائلا: "ورد في الكتاب المقدس أن القسس يلتهمون خطايا الناس فيجدون أن الخطايا عسيرة الهضم ولا بد من أن يرتشفوا أحسن الأنبذة للخلاص منها". وكان الكتاب نعمة للكتاب والمتحدثين وبيع منه الكثير لمدة عام استطاع فيه أرازموس أن يعول نفسه دون الاعتماد على أحد. وعلاوة على هذا فإن كبير الأساقفة وارهام استحسن الكتاب على الرغم من لذعاته وأرسل للمؤلف مبلغاً من المال على سبيل المنحة وعرض عليه الإقامة في إنجلترا. ومهما يكن من أمر فإن أرازموس لم يكن على استعداد لترك القارة والإقامة في جزيرة وفي الأعوام الثمانية التالية(23/184)
نشر بضع نسخ منقحة من الأقوال المأثورة وزاده إلى 3260 نصاً مدوناً وظهرت له في حياته ستون طبعة وصدرت له ترجمات عن اللاتينية الأصلية إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والهولندية وكلها من أكثر الكتب رواجا في عصرنا.
وعلى الرغم من هذا كله كانت الظروف غير مواتية والطعام لا يكتفي واشتد بأرازموس الضيق فكتب (12 ديسمبر عام 1500) إلى صديقه جيمس بات وكان مريبا لابن ليدي آن أف فير يسأله: "أرجو أن تشير لها إلى ما سوف أحققه لها بتعليمي من جاه يزيد عما يحققه لها القسس الآخرون الذين تحتفظ بهم. إنهم يتلون عظات عادية أما أنا فأكتب ما يعيش إلى الأبد. وهم بلغوهم السخيف لا يسمعون إلا في كنيسة أو اثنين أما أعمالي فسوف يقرؤها كل من يعرف اللاتينية واليونانية في كل بلد من بلاد العالم. وما أكثر رجال الدين غير المتعلمين في كل مكان أما أمثالي فقلما يجود بهم الزمان. أرجو أن تكرر كل هذا لها ما لم تكن كثير الوساوس فلا تستطيع أن تقول بعض الكذبات من أجل صديق".
وعندما فشلت هذه المفاوضة كتب مرة أخرى يقترح أن يقول بات للسيدة أن أرازموس يوشك أن يكف بصره ثم أردف قائلا: "أرسل لي أربع قطع ذهبية أو خمسا من مالك الخاص على أن تستردها من مال الليدي". ولما لم يقع بات في هذا الشرك كتب أرازموس مباشرة إلى السيدة وشبهها بأنبل البطلات في التاريخ وأجمل محظيات سليمان وتنبأ لها بشهرة خالدة. واستسلمت لهذا الزهو الأخير وتلقى أرازموس هدية مادية واستعاد بصره. وكان يغتفر للكاتب طبقاً لتقاليد هذا العهد أن يطلب معونة من يرعونه لأن الناشرين لم يكونوا على استعداد وقتذاك لمؤازرة المؤلفين ولو كان لهم قراء عديدون. وكان في استطاعة أرازموس أن يحصل على مرتبات وأسقفيات بل ومنصب كاردينال ولكنه رفض هذه العروض المرة(23/185)
تلو المرة لكي يظل "رمحاً طليقاً" متحرر الفكر وفضل أن يستجدي ويكون حراً ولا يفسد وهو يرسف في الأغلال، وانتقل إلى لوفان عام 1502 فراراً من الطاعون فعرض عليه أوربان الاوترختي مدير الجامعة منصب أستاذ ورفض أرازموس وعندما عاد إلى باريس استقر فيها ليكسب عيشه بقلمه- وهي واحدة من أحدث المحاولات الأولى في هذا المشروع المتهوس. وترجم خطب سيشرون وهيكوبا ليوروبيدس ومحاورات لوشيان، وليس من شك في أن الفيلسوف الشاك الظريف أسهم في تشكيل عقلية أرازموس وأسلوبه. وقد كتب أرازموس عام 1504 إلى صديق له: "عجبا! بأي ظرف وبأي سرعة يعالج لوشيان ضرباته فيحول كل شئ إلى سخرية ولا يترك شيئاً يمر دون أن يسخر منه. وأقسى ضرباته موجهة إلى الفلاسفة ... نظر إلى دعاواهم غير الطبيعية وإلى الرواقيين بسبب عجرفتهم التي لا تحتمل ... وهو لا يجد حرجا في السخرية من الآلهة ومن هنا خلع عليه لقب ملحد - وهو شرف رفيع أضفاه عليه الزنادقة أصحاب الوساوس".
وفي زيارة ثانية لإنجلترا (1505 - 1506) انضم إلى كوليت وقاما بالحج إلى ضريح سانت توماس في بيكيت بكانتربري وسجل وصفا لهذه الرحلة بأسماء مستعارة وذلك في إحدى محاوراته. ولقد روى لنا كيف أساء جراتيان (كوليت) إلى دليلهم الراهب عندما أبدى رأيه وقال: "إن قدراً ضئيلا من الثروة التي تستخدم في تزيين الكاتدرائية يمكن توجهها لتخفف وطأة الفقر في كانتربري"، وروي أيضاً كيف عرض عليهم الراهب لبناً قال إنه من ثدي العذراء و"قدرا مذهلا من العظام" لا بد من تقبيله باحترام وكيف عصى جراتيان فرفض أن يقبل حذاء قيل إن بيكيت لبسه وكيف عرض الدليل على جراتيان قطعة قماش يزعمون أن القديس استعملها في تجفيف(23/186)
جبينه وفي أنفه كما لو كانت منة عظمى وتذكارا مقدساً، وظل يسوق الحجج والبراهين على هذا فقطب جراتيان جبينه وتمرد. وعاد العالمان بالإنسانيات إلى لندن وهما يأسفان على الإنسانية.
وهناك أسعد الحظ أرازموس إذ كان طبيب هنري السابع يعتزم إرسال ولدين له إلى إيطاليا فعهد إلى أرازموس بمرافقتهما "كدليل عام ومشرف" وأقام مع الولدين عاما في بولونيا وأخذ يلتهم المكتبات ويضيف كل يوم جديدا إلى اشتهاره بحبه للعلم والمعرفة واللسان اللاتيني. وكان إلى ذلك الوقت: يرتدي مسوح أوغسطيني-وهو عبارة عن ثوب أسود ومعطف وقلنسوة وقبعة بيضاء يحملها عادة على ذراعيه ولكنه في عام (1506) نبذ هذا الزي واستبدل ثوب كاهن علماني أقل وضوحا وادعى أنه حصل على إذن بهذا الاستبدال من البابا يوليوس ثم أقام في بولونيا كأنه فاتح عسكري غير أنه عاد إلى إنجلترا عام 1506 لأسباب لا نعرفها وألقى محاضرات في اليونانية بجامعة كمبردج بيد أننا نجده يعود إلى إيطاليا عام 1508 وبعد طبعة موسعة لمجموعته في الأمثال السائرة لمطبعة الدوس مانوتيوس في البندقية. وعندما مر بروما (1509) فتنته عيشة الكرادلة الرغدة وأخلاقهم السامية وثقافتهم الرفيعة وسر من - كما أن لوثر كان قد فجعته بروما في السنة الماضية - الغزوات التي قامت بها الموضوعات والوسائل الوثنية في عاصمة العالم المسيحي. ومما استاء له أرازموس كثيرا سياسة يوليوس الثاني العسكرية وحدته ومطارداته وهو يتفق في هذا مع لوثر ولكنه يتفق أيضاً مع الكرادلة الذين كانوا يرحبون بحرارة بكثرة تغيب البابا العنيد ورحبوا بحضور أرازموس لاجتماعاتهم وعرضوا عليه منصباً دينياً إذا أقام في روما.
وما كادت تطيب له الإقامة من المدينة الخالدة حتى أرسل له ماونتجوي(23/187)
رسالة يبلغه فيها أن هنري السابع مات وأن صديق علماء الإنسانيات أصبح هنري الثامن وأن الأبواب والمناصب الرفيعة جميعا ترحب الآن بأرازموس إذا ما عاد إلى إنجلترا. ووصلت مع خطاب ماونتجوي رسالة من هنري الثامن نفسه: "بدأ تعارفنا عندما كنت صبيا. وقد ازداد الاحترام الذي تعلمت أن أكنه لك بفضل تنويهك المشرف بي في كتاباتك وبالطريقة التي استخدمت بها مواهبك في إبراز الحقيقة المسيحية وبما أنك قد حملت هذا العبء وحدك فأسعدني بمعاونتك وحمايتك إلى أقصى حد يمتد له سلطاني ... إن سلامتك ثمينة بالنسبة لنا جميعاً ... ومن ثم فإني أرى أن تتخلى عن كل فكرة بالإقامة في مكان آخر وتعال إلى إنجلترا وثق أنك ستلقي ترحيباً حاراً. وعليك أن تذكر شروطك وثق أنها ستكون سخية ومشرفة كما تشاء. واذكر انك قلت يوماً أنك ستتخذ من هذا البلد موطناً لك في شيخوختك بعد أن تكون قد تعبت من التجوال. وإني لأتوسل إليك بكل ما هو مقدس وصالح أن تفي بوعدك هذا ولسنا الآن في مركز يتيح لنا أ~ن نعرف قيمة علمك أو نصيحتك وسوف نعتبر وجودك بيننا أثمن ما نمتلك ... وإذا كنت في حاجة إلى الاستمتاع بوقت فراغك فلن نسألك شيئاً سوى أن تجعل من مملكتنا موطناً لك ... تعال إلى إذن يا عزيزي أرازموس وليكن حضورك بمثابة إجابة لدعوتي" فكيف يمكن أن ترفض دعوة رقيقة كريمة كهذه؟ أن لسان أرازموس ينعقد حتى لو نصبته روما كردينالاً، ففي إنجلترا حيث يحيط به أصدقاء من ذوي النفوذ ويحميه ملك قوي يستطيع أن يكتب بحرية ويعيش بحرية في أمان وودع علماء الإنسانيات في روما في شئ من التبرم، إلى القصور الرحبة والمكتبات ... إلى الكرادلة الذين ناصروه ... واتخذ طريقه مرة أخرى فوق جبال الألب إلى باريس فانجلترا.(23/188)
3 - الهجاء
ومكث هناك خمس سنوات ولم يتلق طوال هذا الوقت من الملك سوى التحية بين الفينة والفينة. ترى هل كان هنري مشغولا جداً بالعلاقات الخارجية أم بالأهل والأقارب؟ وظل أرازموس ينتظر وهو يتميز غيظاً. وخف مونتجوي لنجدته بمنحة. ونفحه وارهام بدخل أبرشية في كنت، وعينه جون فيشر أسقف روشستر ومدير جامعة كامبردج أستاذاً لليونانية بمرتب سنوي قدره 13 جنيها (1. 300 دولار) ولرفع هذا الدخل بالقدر الذي يسمح بالاحتفاظ بخادم وجواد أهدى أرازموس مطبوعاته إلى أصدقائه الذين استجابوا له في تردد.
وفي السنة الأولى من هذه في إنجلترا كتب أرازموس في بيت توماس مور وفي خلال سبعة أيام أشهر كتاب له "الثناء على الطيش" وكان عنوانه اليوناني Encomium moriae تورية لاسم مور وإن كانت كلمة Moras باليونانية تعني طائش وكلمة Moria تعني الطيش واحتفظ أرازموس بعمله مخطوطا لمدة عامين ثم انطلق بعدها بفترة وجيزة إلى باريس لنشره (1511) وطبعت منه في حياته أربعون طبعة وترجم إلى أثنتي عشرة لغة والتهمه رابيليه وفي عهد متأخر عام 1632 وجده ملتون في يد "كل إنسان" في كامبردج.
ولم يستخدم أرازموس كلمة Moria بمعنى طيش وسخف وجهل وغباء فحسب بل بمعنى سورة فكرية وغريزة وعاطفة وبساطة أمية مقابل حكمة وعقل وحساب وفكر. ويقول لنا إن الجنس البشري بأسره يدين بوجوده للطيش إذ أي شئ أسخف من مطاردة الذكر المتعددة الأشكال للأنثى وإكباره المحرم للحمها وعاطفته المشبوبة للتسافد؟ وأي إنسان يدفع مقابل هذا التناقض(23/189)
في الانتفاخ ارتباطا مدى الحياة بالزواج من واحدة؟ وأي امرأة في كامل قواها العقلية تدفع في مقابل هذا آلام الأمومة وشدائدها؟ أليس من السخرية أن تكون الإنسانية ثمرة عارضة لهذا الندم المتبادل؟ لو أن الرجال والنساء توقفوا وتأملوا ملياً لضاع كل شئ.
وهذا يوضح ضرورة الطيش وحماقة الحكمة إذ هل يمكن أن توجد الشجاعة إذا حكم العقل؟ وهل يمكن أن تتحقق السعادة؟ إن سفر الجامعة كان على حق في الاعتقاد بأن "من زادت معرفته زادت أحزانه وفي الحكمة الكثيرة أسى كثير؟ " من يكون سعيداً إذا تكشفت له حجب المستقبل؟ إنه لمن حسن الحظ أن العلم والفلسفة عاجزان وأن الناس يجهلونهما وأنهما لا يحدثان ضرراً عظيما لجهل الجنس الذي لا غنى عنه. وإن الفلكيين "يقدمون لك بأبعاد إبريق أو جرة ولكن الطبيعة تهزأ بظنونهم الواهية. والفلاسفة يزيدون المرتبك ارتباكاً والمظلم ظلاماً وهم يبددون الوقت والعقل على أمور تافهة منطقية أو ميتافيزيقية تذهب أدراج الرياح، وخير لنا أن نرسلهم بدلا من جنودنا لمحاربة الأتراك الذين سوف يتراجعون في ذعر أمام هذا اللغو المربك! والأطباء ليسوا أفضل مهم فكل فنهم كما يمارس الآن هو فن مركب يمزج الخداع بالتضليل". أما علماء اللاهوت فإنهم: "يقولون لك إلى الهنة عن كل الإجراءات المتوالية للقدرة على كل شئ في خلق العالم ويفسرون لك الطريقة الدقيقة للخطيئة الأولى مستمدة من أول آبائنا ويرضونك ويقولون لك كيف أن .. المسيح حملت به العذراء ويوضحون لك في الرقاقة المقدسة كيف يمكن أن توجد الحوادث دون محمول عليه ... وكيف يمكن أن يوجد جسم واحد في أماكن متعددة في وقت واحد وكيف أن جسد المسيح في السماء يختلف عن جسده فوق الصليب أو في القربان المقدس.(23/190)
وفكر أيضاً في اللغو الذي يتمثل في معجزات وأعاجيب- رؤى ومزارات شافية واستدعاء للشيطان و "أمثال الشبح المخيف الوهمي".
إن هذه السخافات ... تجارة رابحة وتأتي بدخل يضمن عيشاً رغداً لهؤلاء القسس والرهبان كما أنهم يكسبون من وراء هذا الخداع ... ماذا عساي أن أقول عن هذا سوى أن أهلل لخداع الغفران والسماحة وأن أحافظ عليهما؟ وأني بهذه أحسب الزمن الذي تقتضيه كل روح في المطهر، وأخصص لها بقاء أطول أو أقصر حسبما يشترون عدداً أكبر أو أقل من صكوك الغفران التافهة والإعفاءات المعروضة للبيع؟ أو ماذا يقال من سوء عن آخرين يزعمون أنهم سيحصلون على الثراء والمناصب الرفيعة واللذة والحياة العريضة ويبلغون أرذل العمر بل وينالون بعد وفاتهم مقعداً على يمين المسيح وذلك بقوة هذه التعاويذ السحرية أو بالعبث بحبات سبحاتهم وهم يتمتمون ببعض الدعوات والابتهالات (التي اخترعها بعض مدعي الدين إما للهو أو للاستفادة منها على الأرجح)؟.
ويستمر الهجو على حساب النساك والرهبان وأعضاء محكمة التفتيش والكرادلة والبابوات. فالنساك يضجرون الناس بالسؤال ويعتقدون أنه يمكن الاستيلاء على السماء بالمثابرة على ترتيل المزامير المنومة ورجال الأكليروس العلماء يتحرقون شوقاً إلى المال. "إنهم ماهرون في فن الاقتناء ... ضريبة العشور والقرابين وأجور العائد ... الخ". وكل رجال الأكليروس على اختلاف طوائفهم ورتبهم يتفقون في الرأي على إعدام الساحرات أما البابوات فليس بينهم وبين الرسل أي تشابه في "ثرواتهم ومناصبهم وسلطاتهم القضائية ووظائفهم وإعفاءاتهم وتراخيصهم وامتيازاتهم ... والحفلات وضرائب العشور وصكوك الحرمان من الكنيسة وأوامر التحريم" ورغبتهم العارمة في المواريث ودبلوماسيتهم العالمية وحروبهم الدموية فكيف يمكن أن يكتب البقاء لكنيسة إذا خلت من الطيش وبساطة الإنسانية الساذجة؟(23/191)
وقد أثار كتاب "الثناء على الطيش" غضب علماء اللاهوت وكتب مارتن دريسيوس إلى أرازموس " لا بد أن تعرف أن كتابك" "طيش Maria" قد أثار إزعاجاً كبيراً حتى بين من كانوا قبلاً من أشد المحبين بك المخلصين لك. ولكن الهجو في هذا الدمار المرح كان خفيفاً إذا قيس بما اتسمت به سورته التالية. وكان ثالث وآخر عام قضاه في التدريس بجامعة كامبدرج (1513) هو العام الذي توفى فيه البابا يوليوس الثاني وظهر في باريس عام 1514 تعريض ساخر أو حوار يسمى Julius exclusus وقد بذل أرازموس جهداً صادقاً، لا يصل إلى حد الإنكار الصريح، ليخفي أنه المؤلف له، ولكن المخطوط تداولته أيدي أصدقائه وأدرجه موردون تحفظ بين أعمال أرازموس. ولعله يمثل لنا نموذجاً متطرفاً لأرازموس الهجاء، أن البابا المحارب بعد وفاته يجد أبواب السماء مغلقة في وجهه ويمنعه من دخولها القديس بطرس العنيد:
يوليوس: كفى. أنا يوليوس الليجوري. و. أ
بطرس: و. أماذا تعني؟ وباء أعظم؟
يوليوس: بل ولي أعظم أيها الخبيث.
بطرس: حتى لو كنت أعظم من ذلك من ثلاثة أضعاف ... فلن تدخل هنا إلا إذا كنت أيضاً أفضل من ذلك أضعافاً مضاعفة.
يوليوس: ياللوقاحة! إنك لم تزد عن قديس طوال هذه العصور أما أنا فقديس وسيد قداسة، بل إني القداسة ذاتها، وعي مستندات تثبت هذا.
بطرس: أليس هناك فرق بين أن تكون مقدساً وبين أن تدعي مقدساً؟ دعني أنظر إليك عن قرب. آه! أرى سمات زندقة شدشدة ... مسوح قسيس ولكن تحتها سلاح يقطر دماً(23/192)
وعينان وحشيتان وفم متعجرف وجبين وقح وجسد وصمته كله بالآثام. وأنفاس تفوح منها رائحة الخمر وبدن أسقمه التبذل والفسوق. نعم. هدد كما تشاء ... سأقول لك من أنت ... أنت يوليوس الإمبراطور الذي عاد من الجحيم ...
يوليوس: اسكت وإلا أصدرت قراراً بحرمانك ....
بطرس: تحرمني أنا؟ بأي حق؟ أود أن أعرف.
يوليوس: خير الحقوق فأنت لست إلا قساً ولعلك لست كذلك .. فأنت لا تستطيع أن ترسم كاهنا. افتح. آمرك أن تفتح.
بطرس: يجب أن تثبت أولا جدارتك ...
يوليوس: ماذا تعني بالجدارة؟.
بطرس: هل علمت العقيدة الحقة؟
يوليوس: لا لم أعلمها أنا. فقد كنت مشغولاً بالقتال. وثمة رهبان يعنون بالعقيدة إذا كان لهذا الأمر أية أهمية.
بطرس: هل كسبت أرواحاً للمسيح بالقدوة الحسنة؟
يوليوس: لقد أرسلت كثيراً منها إلى الجحيم.
بطرس: هل قمت بأي معجزات؟
يوليوس: أف إن المعجزات أكل عليها الدهر وشرب.
بطرس: هل كنت مواضباً على صلواتك؟
يوليوس: إن يوليوس الذي لا يقهر ليس ملزماً بالإجابة على صياد مسكين. ومهما يكن من أمر فإنك ستعرف من أنا وماذا أعمل. أنا ليجوري أولاً ولست يهودياً مثلك، وكانت أمي شقيقة بابا العظيم سيكوستوس الرابع وقد جعل مني البابا رجلاً ثرياً بفضل ممتلكات الكنيسة- وأصبحت كاردينالاً. وقد(23/193)
ألمت بي بعض المحن إذ أصبت بالجدري الفرنسي وأقصيت عن بلدي وطردت منها ومع ذلك كنت أرف طوال ذلك الوقت أني سأكون البابا يوما ... وتحقق هذا بمساعدة الفرنسيين من ناحية، والأموال التي اقترضتها بفائدة من ناحية أخرى، وبالوعود التي بذلتها من ناحية ثالثة. وما كان في استطاعة كرويزوس أن يسك كل النقود التي احتاج إليها هذا الأمر. وسوف يقول لك عن هذا المصرفيون. ولكني نجحت وفعلت من أجل الكنيسة والمسيح أكثر مما فعل أي بابا قبلي.
بطرس: ماذا فعلت؟
يوليوس: رفعت الدخل .. ابتدعت وظائف جديدة وبعتها ... وقمت بإعادة سك النقود وربحت مبلغاً كبيراً من هذا الطريق. لاشيء يمكن أن يتم بغير المال. ثم ألحقت بولونيا بالسلطة البابوية ... وشددت آذان كل أمراء أوربا. وخرقت المعاهدات واحتفظت بجيوش عظيمة في الميدان. وغمرت روما بالقصور وتركت خمسة ملايين في الخزانة بعد وفاتي ...
بطرس: ولماذا أخذت بولونيا؟
يوليوس: لأستولي على دخلها ...
بطرس: وماذا جرى لفرارا؟
يوليوس: كان الدوق تعساً منكراً للجميل، فقد اتهمني بالتجار بالمقدسات والرتب والوظائف الديني ووصفني بأني أتجر بالرتب الكهنوتية ... لقد أردت دوقية فراراً لأحد أبنائي الذين تستطيع الكنيسة أن تعتمد على إخلاصهم وكان قد طعن بالخنجر كاردينال بافيا.(23/194)
بطرس: ماذا؟ بابوات لهم زوجات وأولاد؟
يوليوس: زوجات؟ لا ليس من الزوجات، ولكن لماذا لا يكون لهم أولاد؟
بطرس: وهل كانوا على حق فيما نسبوه إليك من جرائم؟
يوليوس: هذا أمر لا علاقة له بالدعوى ...
بطرس: أليست ثمة وسيلة لإزاحة بابا شرير؟
يوليوس: سخف! من يستطيع أن يزيح أعلى سلطة بين الناس؟ إن البابا يمكن تقويمه بمجلس عام ولكن أي مجلس عام لا يمكن أن ينعقد إلا بموافقة البابا ومن ثم فإنه لا يمكن عزله مهما كانت الجريمة التي يرتكبها.
بطرس: حتى لو ارتكب جريمة قتل؟
يوليوس: نعم ... بل حتى لو قتل أحد والديه.
بطرس: ألا يعزل لو زنى؟
يوليوس: نعم حتى لو زنى بالمحارم.
بطرس: ألا يعزل لو مارس الاتجار بالرتب الكهنوتية؟
يوليوس: نعم ولو اقترف ستمائة حادثة من حوادث الاتجار بالرتب الكهنوتية.
بطرس: ألا يعزل لو قتل أحدا بالسم؟
يوليوس: نعم حتى لو انتهك المقدسات.
بطرس: ألا يعزل لو ارتكب كل هذه الجرائم مجتمعة؟
يوليوس: حتى لو زدت عليها 600 جريمة، فليست ثمة قوة تستطيع أن تعزل البابا.(23/195)
بطرس: يا له من امتياز عجيب يتمتع به خلفائي - أن يكونوا من أخبث الناس ومع ذلك ينجون من العقاب. ويا لها من كنيسة تعسة تلك التي لا تستطيع زحزحة مثل الوحش عن كاهلها .. إن على الناس أن يثوروا ويرجموا بحجارة الرصف رأس مثل هذا الشقي ... لو أن الشيطان فكر في أن يصطفي قساً لما وجد خيراً منك. أي دليل قدمته على أنك رسول؟
يوليوس: أليست زيادة موارد كنيسة المسيح عملا من أعمال الرسل؟
بطرس: ولكن كيف زدت موارد الكنيسة؟
يوليوس: ملأت روما بالقصور ... وبفرق من الخدم والجنود وآلاف الوظائف ...
بطرس: إن الكنيسة لم تعرف شيئاً من هذا عندما أنشأها المسيح ...
يوليوس: إنك تفكر في القصة القديمة عندما أشرفت على الموت جوعاً وأنت بابا وحولك حفنة من الأساقفة الفقراء المطاردين. لقد عفَّا الزمن على كل هذا ... أنظر الآن إلى كنائسنا الفخمة ... أساقفة مثل الملوك ... وكرادلة تحيط بهم مظاهر العظمة .. خيول وبغال أعنتها من الذهب والجواهر وحدواتها من الذهب والفضة. أنا الحبر الأعظم فوق الجميع يحملني الجنود على كرسي ذهبي فوق أعناقهم وألوح بيدي في جلال للجماهير التي تعبدني، وأنصت إلى دوي المدافع وأنغام البوق ودقات الطبول وأرقب العربات الحربية والجماهير الصاخبة والمشاعل التي تضئ الطريق والميدان وأشهد ملوك الأرض وهم يحاولون تقبيل قدمي قداستي ... أنظر إلى كل هذا وقل لي أليس(23/196)
هذا رائعا؟ لعلك تدرك أي أسقف تعس فقير كنت بالقياس إلي ...
بطرس: يا لك من شقي وقح! لقد توسلت بالغش والربا والمكر للوصول إلى منصب البابوية ... لقد حملت روما الكافرة على أن تؤمن بالمسيح أما أنت فقد عدت بها إلى الكفر. إن بولص لم يتحدث عن المدن التي اجتاحها ولا الفرق التي قتلها ... بل تحدث عن حطام السفن والقيود والإهانات والسياط ... كانت هذه انتصاراته الرسولية وهذه كانت أمجاد قائد مسيحي. وعندما كان يفخر بعمل فإنما يفخر بالأرواح التي استنقذها من براثن الشيطان وليس بما اكتنز من أكوام الدوكات ...
يوليوس: هذه كلها أخبار أسمعها لأول مرة.
بطرس: ربما فقد كنت مشغولا بمعاهداتك وبروتوكولاتك، وجيوشك وانتصاراتك، فلم يتسع لك الوقت لقراءة الأناجيل ... أنت تدعي أنك مسيحي مع أنك لست أفضل من أي تركي فأنت تفكر كالتركي ولا تقل عنه فجورا (1). وإذا كان ثمة فرق بينكما فهو أنك أسوأ.
يوليوس: إذن فلن تفتح الأبواب؟
بطرس: سأفتحها لأي شخص آخر سواك أما أنت فلا ...
يوليوس: إذا لم تخضع فسوف أستولي عنوة على مكانك ... إنهم يقومون الآن بتدمير شامل تحتنا وقريبا سيكون لدي 60. 000 شبح يقفون ورائي.
_________
(1) لعل المؤلف يقصد الترك العثمانيين (المترجم)(23/197)
بطرس: أيها الرجل الشقي! أيتها الكنيسة التعسة ... لا عجب أن يقل عدد المتقدمين للدخول هنا ما دامت الكنيسة يحكمها أمثالك. ومع ذلك فلا بد أن في العالم خيراً أيضاً ما دام هذا الحضيض من الظلم يمكن أن يقبل من رجل لا لشيء إلا لأنه يحمل اسم البابا.
وهذا بالطبع رأي خاطئ من جانب واحد فما كان في وسع محتال داعر مثل هذا أن يحرر إيطاليا من غزاتها وأن يستبدل بالقديس بطرس، مايكل أنجيلو ورافائيل الجديدين، المكتشفين، الموجهين والمطورين، وأن يوجد الحضارتين المسيحية والكلاسيكية في مكان الفاتيكان وأن يقدم لمهارة رافائيل ذلك المظهر للفكر العميق والعناية الفائقة اللتين صورا في صورة يوليوس الشخصية التي لا مثيل لها والموجودة في قاعة أوفيزي. وفي الوقت الذي يدعو فيه أرازموس المسكين كل القسس إلى تقشف الرسل نراه هو نفسه يلح في طلب المال من أصدقائه، ويكشف عن طبع العهد الثائر، أن قسيسا يجد لزاما عليه أن يكتب اتهاما قاسيا لبابا. وفي سنة 1518 - السنة الثانية من عهد لوثر-كتب بيتر جليس إلى أرازموس من أنتورب: "أن كتاب Julius exclusus" " يوليوس المنفي" يباع هنا في كل مكان. وكل إنسان يشتريه وكل واحد يتحدث عنه، فلا عجب إذا ما لام المصلحون فيما بعد أرازموس لأنه قرع جرس الإنذار للتمرد ثم هرب بنفسه.
وفي سنة 1514 ظهر مؤلف آخر بقلم أرازموس أزعج العالم المستنير في أوربا الغربية وكان قد ألف ابتداء من عام 1497 محاورات شكلية احترافا لتعليم الأسلوب اللاتيني والحديث، وإن قد ناقش عرضاً ضروباً شتى من الموضوعات الشائقة الكفيلة بإيقاظ الطلبة من نعاسهم(23/198)
اليومي. ونشر صديقه بياتوس رينانوس، بإذن منه، سلسلة من هذه المحاورات باسم "العبارات الخاصة بالحديث العادي" Familiarium colloquiorim formulae وهي أشكال من الأحاديث المألوفة بقلم أرازموس الروتردامي، لا تفيد في صقل كلام صبي فحسب، بل تكون أيضاً شخصيته. وأضيفت إلى الطبعات التالية محاورات أخرى فأصبحت أغنى مؤلف لأرازموس من حيث المادة "هي مزيج غريب-مناقشات حادة حول الزواج والأخلاق وحض على التقوى وعرض للأمور المنافية العقل والمساوئ في سلوك ومعتقدة وتتخللها فكاهات لاذعة أو خطرة وكلها بلغة لاتينية اصطلاحية شائقة ولا بد أنها أصعب في الكتاب من لغة الحديث الرسمية بين المتعلمين". وكتب مترجم إنجليزي عام 1724 يقول: "ليس ثمة أصلح للقراءة من كتاب "يكاد يهدم تماماً كل الآراء والأوهام البابوية بأسلوب شائق تعليمي"، وفي هذا مبالغة ولكن ليس من شك في أن أرازموس استخدم بطريقته المرحة"كتابه في الأسلوب اللاتيني" في مهاجمة نقائض رجال الأكليروس. وأدان الاتجار بمخلفات القديسين، وإساءة استخدام أوامر الحرمان من الكنيسة، واقتناء البطاركة والقسس للأموال، والمعجزات الزائفة التي يخدع بها البسطاء، وعبادة القديسين لأغراض دنيوية، والمبالغة في الصيام والتناقضات المروعة بين مسيحية الكنيسة ومسيحية المسيح وحمل بَغِياَّ على أن تثنى على الرهبان باعتبارهم من عملائها المخلصين. وحذر سيدة شابة تريد الاحتفاظ ببكارتها فطلب منها أن تتحاشى "هؤلاء الرهبان المفتولي العضلات ذوي الكروش البارزة ... فالعفة عرضة للخطر في الدير أكثر من تعرضها له خارجه" ورثي لتعظيم شأن البكارة وهلل للنكاح باعتباره أسمى من العزوبة، وأسف لأن الناس تحرص على معاشرة الجياد الصافنات للأفراس الأصيلة بينما يزفون في الزيجات القائمة على المصلحة المالية عذارى سليمات إلى رجال هدهم المرض، واقترح منع الزواج من المرضى بالزهري أو من(23/199)
الأشخاص المصابين بعجز شديد أو مرض خطير ... وتمتزج بهذه التأملات الرصينة فقرات من الفهاة الفظة. وكان الأولاد يطالبون بتشميت الناس عندما يعطسون ولا يطالبون بهذا عندما يضطرون. وكانت أية امرأة حامل يدعو لها الناس بدعاء وحيد: "ألا فلتهب السماء هذا الحمل الذي في بطنك ... سهولة الخروج كما وهبته سهولة الدخول". وكان الختان أمرا ممتدحا "لأنه يخفف من حكة الجماع". وثار حوار طويل بين "الشاب والبغي" انتهى بالتأكيد بإصلاح السيدة.
وشكا النقاد من أن هذه المحاورات كانت طريقة تنطوي على التهور لتعليم الأسلوب اللاتيني، وزعم أحدهم أن كل الشباب في فرايبورج أفسدتهم هذه المحاورات واعتبر شارل الخامس استخدامه في المدرسة جريمة يعاقب عليها بالإعدام. واتفق هنا لوثر في الرأي مع الإمبراطور: "سوف أحرف على أولادي قراءة محاورات أرازموس حتى لو كنت على فراش الموت". وأكد نجاح الكتاب ما أثاره من حنق وبيع منه 24,000 نسخة بعد نشره وحتى عام 1550 لم يفقه في التوزيع إلا الكتاب المقدس. وفي الوقت نفسه كاد أرازموس أن يجعل الكتاب المقدس ملكا خاصا له.
4 - العلامة
وغادر إنجلترا في يوليو سنة 1514 وشق طريقه خلال الضباب والعادات إلى كاليه وهناك تلقى من رئيس ديره الذي نسبه في ستين، خطابا يشير فيه إلى أجازته انتهت منذ مدة طويلة وأنه يحسن به أن يعود ليقضي ما بقي من عمره تائباً مستغفراً فانزعج لأن رئيس الدير يستطيع، طبقاً للقانون الكنسي، أن يدعو السلطة الزمنية إلى الزج به مرة أخرى في السجن. والتمس أرازموس لنفسه عذراً ولم يتعجل رئيس الدير الأمر ولكن، لكي(23/200)
يتحاشى العلامة تكرار الحيرة، وطلب من أصدقائه الإنجليز ذوي النفوذ أن يكفلوا له من ليو العاشر إعفاءه من التزاماته كراهب.
وبينما كانت تجرى هذه المفاوضات اتخذ أرازموس طريقه أعلا الراين إلى بازيل وعرض على الناشر فروين مخطوط أهم مؤلف له، وهو مراجعة نقدية للنص اليوناني للعهد الجديد مرفقا بترجمة لاتينية وتفسير.
كان عملا أملاه الحب والاعتزاز بالنفس يتعرض مؤلفه وناشره للخطر على السواء: فقد استغرق الإعداد سنوات وسوف يكون الطبع والنشر من الأعمال الشاقة الكثيرة النفقات. والزعم بتفوق الترجمة، على نسخة جيروم اللاتينية، التي ظلت مقدسة مدة طويلة باعتبارها نسخة لاتينية للكتاب المقدس، قد تدينه الكنيسة، ومن المحتمل ألا تغطى المبيعات النفقات. وخفف أرازموس المخاطرة بإهداء العمل إلى ليو العاشر. وأخيراً نشر فروين في فبراير سنة 1516 "الأداة الجديدة الكاملة التي حققها ونقحها بمنتهى الدقة أرازموس الروتردامي Instrumentum omme, diligenenter ab Erasmo Rat, recognitum et emendatum. وصدرت بعدها طبعة تغيرت فيها كلمة الأداة بالوصية Instrumentum to Testamentum وقدم أرازموس في أعمدة متقابلة النص اليوناني كما راجعه بنفسه مع ترجمته اللاتينية ويبدو أن معرفته باللغة اليونانية كانت غير كاملة ومن ثم فهو يشترك مع جماعي الحروف في المسئولية عن أخطاء كثيرة. ومن وجهة النظر العلمية كانت الطبعة الأولى من العهد الجديد باليونانية المعدة للنشر بعد الطبع أقل من مثيلها التي أتمها وطبعها جماعة من العلماء لحساب الكاردينال أكسيمينيس عام 1514 وإن كانت لم تقدم للجمهور إلا عام 1522. وقد دل هذان العملان على تطبيق التعليم الإنساني لأدب- المسيحية الأولى وعلى بداية هذا النقد الإنجيلي الذي استعاد الكتاب المقدس في القرن التاسع عشر إلى مجال التأليف الإنساني وما يتعرض له من زلل.(23/201)
ونشرت مذكرات أرازموس في مجلد منفصل وقد كتبت بلغة لاتينية اصطلاحية واضحة مفهومة لكل خريجي الكليات في هذا العهد وكانت لها قاعدة عريضة من القراء وعلى الرغم من أنها كانت متفقة مع الإجماع فإنها سبقت كثيرا من التفسيرات التي ابتدعت في البحث التالي. وقد حذف في طبعته الأولى Comma Johanneum " الوصل اليوحني" (إصحاح يوحنا 7: 5) الذي أكد الثالوث ولكن الذي تلفظه اليوم النسخة المنقحة الصحيحة باعتباره مما دس في القرن الرابع.
ونشرت قصة المرأة التي اتهمت بالزنى وإن كان قد أشار إلى أن من المحتمل أن تكون كاذبة (إصحاح يوحنا 53: 7 و 11: 8) كما نشر الأثنتي عشرة آية الأخيرة من إنجيل مرقس وأشار في أكثر من موضع إلى الفرق بين المسيحية الأولى والحالية. وعلق على إصحاح متى 227: 23: "ترى ماذا يقول جيروم لو رأى لبن العذراء يعرض للبيع بالمال، ويضفي عليه من التكريم ما يضفي على حسد المسيح المقدس، والزيوت الإعجازية وأجزاء الصليب الحقيقي التي تكفي إذا جمعت لشحن سفينة كبيرة؟ هنا قلنسوة سانت فرانسيس وهناك تنورة العذراء أو مشط سانت آن ... لا تقدم كأشياء بريئة معاونة للدين ولكن كجوهر للدين نفسه وكلها تعبث ببساطة الناس من خلال شح القسس وهرطقة الرهبان"
ولوحظ أن إصحاح متى 12: 19 ينص على "لقد خصى بعضهم نفسه من أجل مملكة السماء" وقيل هذا للنصح بالعزوبة في الدير وكتب أرازموس "أننا ندرج بين هذه الطائفة هؤلاء الذين دفعوا إلى حياة العزوبة بالغش أو بالإرهاب حيث يسمح لهم بالزنى ويحظر عليهم الزواج وهكذا يعدون قسسا مسيحيين إذا احتفظوا علنا بخليلة ويحرقون إذا اتخذوا زوجة. وفي رأيي أن الآباء الذين يعتزمون نذر أولادهم للكهنوت الذي يقتضي العزوبة(23/202)
يكونون أرق قلباً لو خصوهم في طفولتهم بدلا من تعرضهم كلية لهذا الإغراء والخضوع للشهوة".
وفي رسالة تيموثاوس 2: 3: هناك الآن أعداد ضخمة وحشود هائلة من القسس علمانيين ونظاميين. ومن الشائع أن قلة منهم تتمسك بالعفة وأن الجانب الأكبر منهم يسقطون في حمأة الشهوة والزنى بالمحارم والفجور. وليس من شك في أنه من الأفضل أن يسمح لهؤلاء الذين لا يستطيعون التمسك بالعفة بزوجات شرعيات وبهذا ينجون من هذا الدنس البذئ التعس.
وأخيراً عزف أرازموس اللحن الأساسي للمصلحين في تعليق عام على إصحاح متى 30: 11 - ألا وهو العودة من الكنيسة إلى المسيح: "حقا إن قيد المسيح يكون لطيفاً وحمله خفيفاً إذا لم تضف الشرائع الإنسانية التافهة شيئاً لما عرضه هو نفسه. إنه لم يأمرنا إلا بأن يحب بعضنا بعضا وليس ثمة ما يصعب على المودة أن تلطف من حدته وتخفف من مرارته. فكل شئ من السهل تحمله طبقا للطبيعة، ولا شئ يتفق مع طبيعة الإنسان أحسن من فلسفة المسيح التي لا هدف لها إلا إعادة البراءة والتكامل للطبيعة الهاوية ... وقد أضافت الكنيسة لها أشياء كثيرة يمكن الاستغناء عن بعضها دون الإضرار بالإيمان ... مثل كل تلك العقائد الفلسفية عن طبيعة الإنسان وتمييز الأشخاص. وما أكثر القواعد والأوهام التي تعرفها عن الثياب ... وما أكثر أيام الصيام التي استنت ... وماذا نقول عن العهود .. وعن سلطة البابا وإساءة استخدام صُكوك الغفران والتحلل؟ .. هل يرضى الناس أن يدعوا المسيح يحكم بمقتضى شرائع الإنجيل وألا يبحثوا بعد ذلك عن دعم طغيانهم الجامح بقوانين من صنع البشر؟ ".
ولعل التفسيرات هي التي أتاحت للكتاب نجاحاً لا بد أنه أذهل المؤلف والناشر على السواء. وقد وزعت الطبعة الأولى في ثلاث سنوات ثم صدرت(23/203)
للكتاب طبعات جديدة ومنقحة بلغت تسعة وستين قبل وفاة أرازموس. ووجه للعمل نقد عنيف وأشير إلى ما تضمنه من أخطاء كثيرة. ولقد دمغ الدكتور جوهان أيك، الأستاذ بجامعة انجولشتادت وأول خصيم للوثر، بالعار بيان أرازموس المتضمن أن اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد أقل شأنا من اللغة اليونانية التي كان يتكلم بها ديموستين. ومهما يكن من أمر فإن ليو العاشر وافق على العمل. وطلب البابا أدريان السادس من أرازموس أن يعمل للعهد القديم ما قام به نحو العهد الجديد ولكن مجلس ترنت أدان ترجمة أرازموس وأعلن أن النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس لجيروم هي النسخة اللاتينية الأصلية من الكتاب المقدس. وسرعان ما عد العهد الجديد لأرازموس عملاً متخلفاً من الناحية الدراسية العلمية وإن كان أثره عظيما باعتباره حدثا في تاريخ الفكر، فقد يسر ورحب بالترجمات الوطنية التي ظهرت في أعقابه. ونقول فقرة متحمسة في المقدمة: "بودي لو قرأت أضعف امرأة الأناجيل ورسائل القديس بولص. بودي لو ترجمت هذه الكلمات إلى جميع اللغات لا ليقرأها الاسكتلنديون والايرلنديون فحسب بل ليقرأها أيضاً الأتراك والمشارقة.
وإني لأود أن ينشد الحارث لنفسه وهو يسير وراء المحراث ويترنم بها النساج على أنغام الماكوك يهون بها المسافر من مشقة رحلته ... قد نأسف على دراسات أخرى أخذناها على عاتقنا ولكن ما أسعد المرء الذي يفاجئه الموت وهو مشغول بها.
إن هذه الكلمات المقدسة تعطيك نفس صورة المسيح وهو يتكلم ويبرئ المرضى، وهو يموت ثم يرفع مرة أخرى، وتجعله حاضراً بحيث لو مثل أمام عينيك لما رأيته حقا أوضح من هذا".
واغتبط أرازموس لكفاية مطبعة فروبن والعاملين بها فأصدر (في نوفمبر سنة 1516) طبعة نقد فيها ترجمة جيروم وأعقبها بنصوص مماثلة(23/204)
منقحة وكلاسية لآباء الكنيسة وصحح 4. 000 خطأ في النص الذي تلقاه من سينيكا وكانت خدمات هذه خدمات جوهرية للدارسين.
وروى ثانية قصة العهد الجديد بتفسيرات (1517) تطلبت هذه المهام الإقامة من مرة في بازيل وان حدد ارتباط جديد إقامته قرب البلاط الملكي في بروكسل. وكان شارل آنذاك ملكا على قشتالة وحاكماً للأراضي المنخفضة ولم يكن عندئذ قد أصبح الإمبراطور شارل الخامس، وكان لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ومع ذلك فإن عقله المرهف كان يهيم حول اهتمامات مختلفة، واقتنع فعلا بأن بلاطه يمكن أن يزداد تألقاً إذا كان بين مستشاريه العالمين ببواطن الأمور الكاتب البارز في عصره. وأصدر أمراً بهذا وقبل أرازموس - لدى عودته من بازبل (1516) - المنصب الفخري بمرتب متواضع. وعرض عليه منصب ديني كورتراي مع وعد بأسقفية فرفضه وكتب لأحد أصدقائه يقول: "هاك حلم يسليك". وتلقى وأعرض عن دعوات بالتدريس في جامعات ليبزج وأنجولشتادت.
وحاول فرانسس الأول أن يفرق بينه وبين شارل بطلب ينطوي على التملق وهو أن ينظم إلى بلاط فرنسا فرفض أرازموس العرض بلطف ورقة.
وفي الوقت نفسه كان ليو العاشر قد أرسل إلى لندن التحليلات المطلوبة، وفي مارس من عام 1517 سافر أرازموس إلى لندن وتسلم رسائل البابا التي تحله من التزاماته نحو الدير ومن وصمة اللقاطة. وأضاف ليو إلى الوثائق الرسمية مذكرة شخصية: "ابني الحبيب: تمنياتنا لك بالصحة مع بركاتنا الرسولية. إن ما من الله به عليك من حياة طيبة وخلق قويم، ولوذعيتك النادرة وأفضالك الرفيعة لا تشهد عليها آثار دراساتك التي اشتهرت في كل مكان فحسب بل يشهد عليها أيضا إجماع آراء معظم المتعلمين. وقد أننت عليك رسائل أميرين ذائعي الصيت هما ملك إنجلترا، وملك فرنسا الكاثوليكي وهذه هيأت لنا سبباً لكي نخصك بمنة فريدة وفضل خاص.(23/205)
ومن ثم أجبنا التماسك ونحن راضون ومستعدون لكي نعلن محبتنا الشديدة لك عندما تهيئ الفرصة إما بنفسك أو عندما تسنح بطريق الصدفة. ونظن بحق أن جهدك المقدس الذي يبذل باستمرار للصالح العام سوف يلقى تشجيعاً وقدراً عظيماً من الاهتمام بمكافآت مناسبة".
ولعلها كانت رشوة حكيمة لسلوك حسن، ولعلها كانت لفتة صادقة من بلاط متسامح إنساني، وفي أية حالة فإن أرازموس لم ينس قط هذه المجاملة البابوية وسوف يجد دائماً من الصعب أن يتحلل من كنيسة تحملت في صبر لذع نقده.
5 - الفيلسوف
وعند عودته إلى بروكسل وجد نفسه فريسة الإغراء بالتمسك بالحرص نظراً لما استقبل به من ترحاب ودي في البلاط الملكي. وأخذ منصبه كمستشار خاص بجد، ونسي أن المؤلفين اللامعين قلما تتوفر فيهم صفة الحنكة السياسية. وألف في عجلة عام 1516 الحافل بالأعمال كتابه: "تربية أمير مسيحي" الذي يفيض بالتفاهات التي كانت سائدة قبل ظهور كتاب ميكافيلي عن السلوك الذي يجب أن يتبعه ملك. وكتب في إهدائه لشارل بصراحة تتسم بالجرأة: "إنك تدين للعناية الإلهية في الفوز بمملكتك دون الإضرار بأحد ولسوف تظهر حكمتك على الوجه الأكمل إذا استطعت أن تحافظ فيها على السلام والهدوء". وكان ارازموس، مثل معظم الفلاسفة، يعد الملكية أهون الأشكال الحكومية شراً، وكان يخشى الشعب ويعده "وحشاً متقلباً متعدد الرؤوس". وكان يستنكر مناقشة الشعب للقوانين والسياسة ويرى أن فوضى الثورة أسوأ من أي استبداد للملوك، بيد أنه أشار على أميره المسيحي أن يتقي شر تركيز الثروة، فالضرائب لا تفرض إلا على الكماليات، ويجب تقليل الأديرة وزيادة المدارس، وعلاوة على كل هذا يجب ألا ينشب قتال(23/206)
بين الحكومات المسيحية- ولا حتى ضد الأتراك. "خير لنا أن نتغلب على الأتراك بالتقوى في حياتنا لا بالأسلحة. وهكذا يتم الدفاع عن الإمبراطورية المسيحية بنفس الوسائل التي أسست بها أصلا". "ماذا تولد الحرب ألا الحرب؟ - ولكن الدماثة تدعو إلى الدماثة والعدالة تدعو إلى العدالة".
ولما كان شارل وفرانسس قد ثارت بينهما العداوة فإن أرازموس وجه الدعوة تلو الدعوة للسلام وامتدح الملك الفرنسي في حالة عابرة من المصالحة وتساءل كيف يمكن أن يفكر أحد في شهر الحرب على فرنسا "أطهر جزء في العالم المسيحي وأعظمه ازدهاراً". ووصل إلى ذروة الفصاحة المتحمسة في كتابه (الشكوى من السلام 1517).
"أمر في صمت على مآسي الحروب القديمة ولن أركز الحديث إلا على الحروب التي نشبت في خلال هذه السنوات الأخيرة. أين الأرض أو البحر الذي لم يحارب فيه الناس بطريقة من أقسى ما يمكن؟ وأين النهر الذي لم تصطبغ مياهه بدم الإنسان ... بالدم المسيحي؟ يا للعار العظيم! إنهم يتصرفون بقسوة في المعركة تزيد على قسوة غير المسيحيين، وبوحشية تفوق وحشية حيوانات الغاب .. وكل (هذه الحروب) نشبت بسبب نزوات الأمراء على حساب الإضرار بالناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعارك ... وليس بين الأساقفة والكرادلة والبابوات، وهم كهنة المسيح، من يخجل من بدء الحرب التي لعنها المسيح. ما هو الشيء المشترك بين الخوذة وتاج الأسقف؟ ويا أيها الأساقفة، يا من يحملون لواء الرسل، كيف تجرءون على أن تعلموا الناس أموراً كثيرة عن لحرب في نفس الوقت الذي تعلمونهم فيه تعاليم الرسل؟ إن السلام ولو كان جائراً أفضل من الحروب ولو كانت تمليها العدالة".
قد يفد الأمراء والقواد من الحرب ولكن الجماهير تتحمل المآسي والنفقات. وقد يكون من الضروري أحياناً شن حرب دفاعاً عن النفس(23/207)
ولكن حتى في الحالات قد تكون رشوة العدو أشد حكمة من شرور الحرب. فليرفع الملوك منازعاتهم إلى البابا. وقد يكون هذا إجراء غير علمي في عهد يوليوس الثاني إذ كان هو نفسه رجلا محارباً، أما ليو العاشر وهو "حبر متعلم تقي أمين" فإنه سيحكم بالعدل ويرأس فعلا محكمة دولية. ووصم أرازموس القومية بأنها لعنة للبشرية وتحدي الساسة أن يبتدعوا حكومة عالمية. وقال: "إني أتمنى أن أكون مواطناً عالمياً" واغتفر لبودي حله لفرنسا ولكنه قال: "في رأيي أنه أقرب للحكمة أن تكون علاقاتنا مع الأشياء والناس أساساً مثل اعتبار العالم البلد المشترك بالنسبة لنا جميعاً".
كان أرازموس أضعف الناس حماساً للقومية في عهد الإصلاح الذي رفع من شأن القومية. وكتب يقول: "إن أسمى شئ هو أن يستحق المرء أن ينسب إلى الجنس البشري".
ويجب ألا نتوقع من أرازموس أن يقدم لنا أي مفهوم واقعي للطبيعة البشرية أو عن أسباب الحروب أو عن سلوك الحكومات فهو لم يواجه قط المشكلة التي كان يعالجها في مكيافيلي في تلك السنوات نفسها. وهل كان في وسع حكومة أن تبقى إذا مارست الأخلاق التي تحث المواطنين على اتباعها. كانت وظيفة أرازموس أن يبتر الأغصان من شجرة الحياة لا أن يبني فلسفة إيجابية متينة. بل إنه لم يكن واثقاً من أنه مسيحي، فكثيراً كتب: "إن الذين ينكرون وجود الله ليسوا ملحدين كهؤلاء الذين يصورونه تعالى متزمتاً". وكان لا يكاد يؤمن بأن العهد القديم من كلام الله لأنه أقر برغبته في "أن يرى العهد القديم كله يبطل" إذا كان يهدئ من الحنق على رويخلين. وسخر من الروايات المأثورة عن مينوس ونوما بأنهما كانا يغريان شعبيهما بالخضوع لتشريع غير لطيف بنسبته إلى الآلهة. ولعله راوده الشك في أن موسى كان يتبع نفس السياسة. وعبر عن دهشته لأن(23/208)
"مور" رضى بالحجج التي تساق لإثبات خلود النفس ورأى أن العشاء رمز وليس معجزة، ومن الواضح أنه راوده الشك في الثالوث وفي تجسد الإقنوم الثاني وفي ولادة العذراء، وكان على مور أن يحميه من مراسل أعلن أن أرازموس قد اعترف في خلوة بعدم إيمانه. وطرح للنقاش واحداً بعد الآخر العادات التي درج عليها المسيحيون في عهده-صكوك الغفران والصيام والحج والاعتراف السري والرهبانية والعزوبة الأكليريكية وعبادة مخلفات القديسين والصلوات للقديسين وحرق الهراطقة. وقدم تفسيرات مجازية أو منطقية لكثير من فقرات الكتاب، المقدس، وقارن قصة آدم وحواء بقصة بروميثيوس، وأشار بتفسير الكتب المقدسة تفسيراً يلتزم أقل ما يمكن المعنى الحرفي، وحول عذاب الجحيم إلى الألم الدائم للعقل الذي يصحب الإثم المعتاد. ولم يذع شكوكه بين الناس لأنه لم يكن لديه أساطير مواسية أو رادعة يقدمها بدلا من الأساطير القديمة. وكتب يقول: "إن التقوى تستلزم منا أن نخفي الحقيقة أحيانا وأن نحرص على ألا نظهرها دائماً كما لو كان لا يهم متى وأين أو لمن نظهرها، ولعلنا نجد لزاماً علينا أن نتفق مع أفلاطون في أن الأكاذيب مفيدة للناس".
وعلى الرغم من هذا الميل الشديد للمذهب العقلي فقد ظل أرازموس ظاهريا متفقاً مع المحافظين ولم يعدم قط محبته للمسيح وللأناجيل وللطقوس الدينية الرمزية التي رفعت بها الكنيسة من شأن التقوى. وابتدع شخصية في محاورته تقول "إذا كان ثمة شئ شائع الاستعمال عند المسيحيين لا يتنافر مع الكتب المقدسة فإني أراعيه لهذا السبب بحيث لا أسئ إلى الناس الآخرين".
وكان يحلم بأن يستبدل باللاهوت: فلسفة المسيح، وسعى إلى التنسيق بين هذه الفكرة وبين رأى كبار الوثنيين. ووصف أفلاطون وشيشرون وسينكا بعبارة "ملهم من الله" ولم يقبل أن يحرم هؤلاء الرجال من الخلاص(23/209)
وكان لا يكاد يستطيع أن يمتنع عن الصلاة على الروح القديس سقراط. وطلب من الكنيسة أن تختصر المذاهب الجوهرية للمسيحية "إلى أقل عدد ممكن وأن تترك للباقي حرية الرأي". ولم يدافع عن التسامح الكامل مع كل الآراء (ومن يفعل؟) ولكنه اتخذ موقفاً رفيقاً منحازاً نحو الهرطقة الدينية. وكان مثله الأعلى في الدين هو محاكاة المسيح ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نسلم بأن ممارسته للشعائر كانت أقل من أن توصف بأنها مطابقة لتعاليم الكنيسة الإنجيلية.
6 - الإنسان
كيف عاش فعلا؟ لقد أقام إبان هذا العهد (1517) معظم وقته في الفلاندرز في بروكسل وأنتوب ولوفان-وسكن في خلوة أعزب مع خادم وإن كان كثيراً ما قبل ضيافة ذوي الثراء الذين كانوا يتسابقون على صحبته باعتبارها امتيازا اجتماعيا واحتفالا فكريا.
وكان أنيقاً قفي أذواقه وكانت أعصابه ومشاعره رقيقة إلى الحد الذي كان كثيراً ما يتألم فيه خشونات الحياة الشديدة. وكان يشرب النبيذ بكثرة ويتفاخر بقدرته على حمل الكأس بثبات، ولعل هذا كان بسبب داء النقرس والحصوات التي كانت تضايقه، ولكنه كان يعتقد أن النبيذ يخفف من ألمه بتوسيع شرايينه.
وفي عام 1514 وهو في الخامسة والأربعين أو الثامنة والأربعين من عمره وصف نفسه قائلا إنه: "عليل أشيب الرأس ... يجب ألا يشرب سوى النبيذ" ويجب أن "يكون متأنقا في طعامه". وكان الصيام لا يناسبه، وكان يتميز غيظا من السمك؛ ولعل الصفراء عنده لونت لاهوته. وكان قليل النوم مثل معظم الناس الذين لا تعرف عقولهم المشغولة متى يأوون إلى الفراش، وكان يواسي نفسه بأصدقائه وكتبه "يخيل إلى إني أنتزع من نفسي(23/210)
عندما أحجز عن عاداتي في الدراسة. إن بيتي هو المكان الذي توجد فيه مكتبتي".
وكان يلح في طلب النقود بكل ما عرف من مثابرة عن قسيس أبرشية، وذلك لشراء الكتب إلى حد ما. وكان يتلقى معاشات منتظمة من مونتجوى ووارهام وهدايا عينية مثل مبلغ الثلاثمائة فلورين (7500 دولار؟) من جان ليه سوفاج رئيس بورجنديا، وحقوق تأليف تزيد عن تلك التي كسبها أي مؤلف آخر في عصره.
وكان يتنصل من أي حب للمال ويقول إنه يبحث عنه لأنه، كأي رجل بلا موارد، يخشى ألا يجد ما يؤمنه في وحدته عندما يبلغ أرذل العمر. وفي الوقت نفسه استمر يرفض الوظائف المربحة التي كان يمكن أن توسع دخله على حساب حريته.
كان مظهره أولا لا يؤثر في الناس، فقد كان قصير القامة نحيل البدن أصفر الوجه ضعيف البنية، خافت الصوت، وكان يؤثر في الناس بيديه الحساستين وأنفه الأقنى وعينيه الزرقاوين الرماديتين تلمعان ببريق الذكاء، وكلامه حديث يدل على عقلية خصبة لماحة من أحسن العقليات في هذا العصر اللامع، وكان أعظم الفنانين من معاصريه أبناء الشمال يتوقون إلى رسم صورة له، فوافق على أن يجلس أمامهم لأن هذه الصور كانت تلقى ترحيبا من أصدقائه باعتبارها هدايا، وصوره كينتان ماسيس عام 1517 وهو مستغرق في الكتابة وملتف بمعطف ثقيل يقيه برد الحجرات في تلك القرون وأهديت هذه الصورة إلى مور. ورسم ديرر صورة بالفحم لأرازموس عام 1520، ونقش له حفرا ملفتا للنظر عام 1526، وهنا أضيفت لمسة الريشة الألمانية تماما على "الأوربي الطيب" سحنة هولندية. وقال الجالس "إذا كنت أبدو كهذه الصورة فأنا محتال كبير". وتفوق هولبين على(23/211)
كل هذه الجهود في صور كثيرة رسمها لأرازموس إحداها في تورين وثانية في إنجلترا وثالثة في بازيل وأحسنها في اللوفر- وكلها روائع رسمها أعظم مصور للوجوه في الشمال، وهنا كان العلامة قد أصبح فيلسوفاً هادئاً متأملاً وإن كان سوداوياً إلى حد ما، وسلم في نفور لحياد الطبيعة المتواكل وفناء العبقرية. وكتب عام 1517 يقول: "يجب أن نتحمل ما يأتي به حظنا وقد هيأت عقلي لتقبل كل حدث". وهي فلسفة رواقية لم يحققها قط ... وقال عن شاب طموح: "إنه يحب المجد ولكنه لا يعرف ما يكفله المجد من عناء". ومع ذلك فإن أرازموس مثل كثير من ذوي النفوس النبيلة، كان يواصل العمل ليلاً ونهاراً ليتغلب على هذا العبء.
وبدت أخطاءه واضحة للعيان، أما فضائله فكان لا يعملها إلا المخلصين من أصدقائه، وكان في وسعه أن يتسول بلا خجل، ولكن كان في وسعه أيضا أن يعطي، وكثيراً ما كانت تشيع في حرارة مدحه روح متمردة. وعندما وجه بفيفركورون Piefferkorn هجومه إلى رويخلين كتب أرازموس إلى أصدقائه من الكرادلة في روما، وساعد على الحصول على الحماية للعالم بآداب اللغة العبرية المتعب، وكان يفتقر إلى التواضع والاعتراف بالجميل، فقد كان هذا من الصعب على رجل يخطب وده البابوات والملوك.
وكان يضيق ذرعا بالنقد ويستاء منه. وكان أحيانا عليه بطريقة تعسفية في هذا العصر الشهير بالجدل، وشاطر في مناهضة السامية حتى مع علماء عصر النهضة، وكانت اهتماماته في أضيق الحدود كما كانت قوية، فقد أولع بالأدب عندما كان يلبس ثوب الفلسفة، وبالفلسفة عندما كانت تترك المنطق للحياة؛ ولكنه تجاهل تقريبا العلم والمسرح والموسيقى والفن. وسخر من معظم نظم الفلك التي كانت تختال على المسرح وسخرت معه النجوم. وليس في كل مراسلاته العديدة تقرير للألب أو لعمارة أكسفورد(23/212)
وكامبردج أو لتصوير رافائيل أو لنحت مايكل أنجيلو الذين كانوا يعملون ليوليوس الثاني عندما كان أرازموس بروما (1509)، ثم إن الترتيل القوي في الأبرشيات المقومة آذى فيما بعد أسماعه المهذبة. وكانت حاسة الفهاكة عنده عادة تتسم بالدقة والرقة، وكانت رابيلية ولكنها في الغالب ساخرة، وانقلبت مرة إلى سخرية لا تتسم بالإنسانية كما حدث عندما كتب إلى صديق عندما سمع بأجرام بعض الهراطقة: "سأرثي لهم أقل إذا رفعوا ثمن الوقود ولا سيما أن الشتاء على الأبواب".
ولم تكن من صفاته الأثرة الطبيعية أو الأنانية التي يتسم بها كل الرجال، بل كان يتصف بذلك الغرور الخفي المحبب أو الإعجاب بالذات الذي لولا لأنسحق الكاتب أو الفنان في ألأندفاع القاسي للعالم يتسم بعدم الاكتراث.
وكان يحب الإطراء ويوافق عليه على الرغم ممن كانوا ينكرون عليه ذلك من آن لأخر. وكان لأحد أصدقائه: "أن خير النقاد يقولون أني أكتب أحسن من أي إنسان على ظهر الأرض". وكان هذا حقاً وأن كان باللاتينية فحسب، فقد كان يكتب بفرنسية رديئة ويحدث قليلا بالهولندية والإنجليزية، وكان "يتذوق العبرية بطرف اللسان فقط" وكان يعرف اليونانية معرفة ناقصة ولكنه كان يجيد تماماً اللغة اللاتينية، وكان يستخدمها باعتبارها لغة حية يمكن تطبيقها على معظم التفاهات والأشياء الحقيرة غير اللاتينية في عهده. وقد اغتفرت أجيال قرن مشغوفة بالكلاسيات معظم أخطاءه نظراً لما يمتاز به أسلوبه من إشراقة زاهية. وما تتسم به تقديراته للأشياء، بأقل من قيمتها، من سحر عجيب، وما تتصف به سخريته من تهكم لاذع. وتضارع رسائله خطابات سيشرون في البلاغة والدماثة وتفوقها حيوية وفطنة. وفضلا عن هذا فقد تفرد بلغة لاتينية خاصة به، ولم تكن تقليداً للغة سيشرون بل كانت كلاماً حياً قويا طيعا،(23/213)
ولم تكن صدى لألفاظ مضى عليها 1500 عام. وكانت رسائله مثل رسائل بترارك مطمع أنظار الأدباء والأمراء بعد حديثه المثير وهو يقول لنا، ولعل هذا بشيء من الرخصة الأدبية، أنه كان يتسلم كل يوم عشرين رسالة ويكتب أربعين خطابا. ونشرت منها بضع مجلدات في حياته بعد أن فتحها مؤلفها بعناية حتى يقرأها من يتم بعده. وكان بين من يراسلونه ليو العاشر وأدريان السادس والملكة مارجريت ملكة نافار والملك سيجموند الأول ملك بولندا وهنري الثامن وموروكوليه وبيركايمار. وكتب مور المتواضع: "لا أستطيع أن أتخلص من شعور نزوى بالغرور .. عندما يخطر ببالي أني سأكون موضع ثناء من خلف بعيد لصداقتي لأرازموس".
ولم يضارعه في شهرته كاتب آخر من معاصريه، اللهم إلا إذا اعتقدنا أن لوثر كاتب. وأبلغ بائع كتب في أكسفورد عام 1520 أن ثلث مبيعاته كانت من أعمال أرازموس. وكان له أعداء كثيرون وبخاصة بين علماء اللاهوت في لوفان، غير أنه كان له مريدون في اثنتي عشرة جامعة، وكان هناك علماء للإنسانيات في أوربا ينادون به قدوة وزعيما. وفي ميدان الأدب كان يمثل عصر النهضة ومذهب الإيمان بالإنسان مجتمعين- عبادتهما للكلاسيات ولأسلوب لاتيني مصقول واتفاق الجنتلمان (السادة المهذبين) على ألا يختلفا مع الكنيسة وألا يزعجا أساطير الجماهير التي لا غنى عنها، على شريطة أن للكنيسة أن تغض النظر عن الحرية الفكرية لطوائف المتعلمين وتسمح بتقويم مفاسد وسخافات رجال الدين تقويما داخليا قانونيا. وقد هلل أرازموس مثل كل علماء الإنسانيات لتبوء ليو العاشر منصب البابوية، فقد تحقق حلمهم - وها هو عالم بالإنسانيات وعلامة وسيد مهذب، يمثل اتحاد النهضة والمسيحية معا، قد ارتقى أعظم العروش. وليس من شك في أنه سوف يتم تطهير سلمي للكنيسة، وينتشر التعليم، وسيحافظ الناس(23/214)
على شعيرتهم المحببة وإيمانهم الذي يجدون فيه العزاء وإن كان العقل البشري سوف يكون حراً.
وظل هذا الأمل يراود أرازموس حتى بداية عهد لوثر تقريباً، ولكنه في اليوم التاسع من سبتمبر عام 1517 كتب من أنتورب إلى توماس، كرينال يورك، عبارة تنذر بالويل: "في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك ثورة عظيمة توشك على الوقوع". وفي أقل من شهرين وقعت الثورة.(23/215)
الفصل السادس عشر
ألمانيا قبيل عهد لوثر
1453 - 1517
1 - عصر آل فوجر
كان التوفيق حلفا لكل الطوائف في ألمانيا ما عدا الفرسان في السنوات الخمسين الأخيرة قبل عهد الإصلاح الديني، ولعل ارتفاع منزلة الفلاحين هي التي زادت من استيائهم على ما بقى من إحساسهم بالعجز. إذ كانت قلة منهم لا تزال من طائفة عبيد الأرض منهم ملاكا، وكانت غالبيتهم مزارعين مستأجرين يدفعون الإيجار إلى السادة الإقطاعيين إنتاجا عينيا أو يقدمون لهم خدمات أو نقوداً. وكان المستأجرين يشكون من ظلم السادة، من أيام العمل الإثني عشر والتي تصل إلى ستين يوما في بعض الأحوال والتي حتمت التقاليد أن يبذلوها لهم في كل عام، ومن استرداد الأرض من عامة الناس، تلك الأرض التي جرى العرف على الأضرار التي لحقت بالمحاصيل من صيادي السيد وكلابهم ومن سياسة القضاء المتحيزة في المحاكم المحلية، وكان الملاك يسيطرون عليها، ومن الضريبة على الموتى التي كانت تفرض على أسرة المستأجر عندما يخل موت عميدها بالعناية بالأرض. وثار الملاك الفلاحون غضبا بسبب الضرائب المضاعفة التي كان لزاما عليهم أن يدفعوها على القروض المطلوبة لنقل محصولاتهم وعلى حبس الرهن السريع للمزارع بوساطة المرابين، وكانوا يقدمون القروض للملاك الذين يتضح لهم عجزهم عن السداد. ولقد(23/216)
أضمرت كل عواطف الفلاحين العداء لضريبة العشور السنوية التي تفرضها الكنيسة على محاصيلهم وماشيتهم.
وأضرم هذا التذمر نيران ثورات الفلاحين فانتشرت خلال القرن الخامس عشر، وقام الفلاحون حول ورمز بثورة لا طائل تحتها عام 1432، واختاروا حذاء أحد الفلاحين علماً لهم، وكان حذاءً طويلا يكسو الساق من الرسغ إلى الركبة، وعلقوه على الشواخص، كما رسموا صورته على الأعلام. وأصبح رباط الحذاء العنوان المحبب لعصابات المتمردين من الفلاحين في عهد لوثر.
ولقد أعلن عام 1476 راعي أبقار يدعى هانز بوخم أن أم الإله قد كشفت له أن مملكة السماء على الأرض غدت قريبة دانية ولن يكون هناك أباطرة ولا بابوات ولا أمراء أو سادة إقطاعيون، وأن جميع الرجال سيكونون أخوة وجميع النساء أخوات، الكل يشاطر على قدم المساواة ثمار الأرض، وأن الأراضي والغابات والمراعي ستكون مشاعا وملكا للجميع. وأقبل آلاف الفلاحين ليستمعوا إلى هانز وانضم له أحد القسس وابتسم أسقف فيرتسبورج في تسامح ولكن عندما طلب هانز من أتباعه أن يحضروا معهم في الاجتماع القادم كل الأسلحة التي يستطيعون جمعها أمر الأسقف بالقبض عليه وأطلق جنوده النار على الجمهور الذي حاول إنقاذه وفشلت الحركة.
وفي عام 1491 هاجم الفلاحون في ضيعة رئيس دير لرهبان في كيمبتين في الألزاس ديره، وزعموا أنهم أكرهوا على أن يكونوا رقيقاً للأرض بوثائق مزيفة. وعقد الإمبراطور فرديدريك الثالث معهم مصالحة. وبعد مرور سنتين أعلن أتباع أسقف ستراسبورج ثورة رباط الحذاء، وطالبوا بإنهاء الضرائب الإقطاعية وضرائب العشور الكنسية وإلغاء كل الديون وقتل كل اليهود. وفكروا في الاستيلاء على مدينة شلتستادت، فقد كانوا يأملون أن(23/217)
يمدوا سلطانهم على الألزاس. وعلمت السلطات بالمؤامرة وقبضت على الزعماء وعذبتهم ثم شنقتهم وأفزعت الباقين فأعلنوا الخضوع إلى حين. وفي عام 1502 كون فلاحو أسقف سبيير عصابة "رباطة الحذاء" من 7000 رجل وتعاهدوا على إنهاء الإقطاع ومطاردة كل القسس والرهبان وقتلهم. واسترداد ما كانوا يعتقدون أنه كان مشاعا لأجدادهم. وأفشى أحد الفلاحين سر الخطة على كرسي الاعتراف فاتحد رجال الدين والنبلاء على إحباطها وعذب زعماء المتآمرين وشنقوا.
وفي عام 1512 نظم جوس فريتز حركة مماثلة قرب فرايبورج - ام- برايزجاو، وكان من شأنها أن تبقى على الله والبابا والإمبراطور وأن تقضي على كل ملكية إقطاعية وضرائب يفرضها الإقطاعيون. غير أن واحداً من الفلاحين أكره على الانضمام لهذه الرابطة وأفشى سرها للقس الذي اعترف أمامه فاعتقلت السلطات الزعماء وعذبتهم وفشلت الثورة، إلا أن جوس فرتز عاش إلى أن انضم إلى ثورة الفلاحين عام 1525، وفي عام 1517 تكونت جماعة من 90. 000 فلاح في ستيريا وكارنثيا وتعاهدوا على القضاء على الإقطاع هناك وظلت عصاباتهم لمدة ثلاثة شهور تهاجم القلاع وتقتل بالسادة، وأخيراً أرسل الإمبراطور ماكسمليان، وكان يعطف على قضيتهم وإن لم يرض عن توسلهم بالعنف، قوة صغيرة من الجنود وأرغمتهم على السلم على مضض. ولكن المسرح كان معداً لحرب الفلاحين وللشيوعية اللامعمدانية في الإصلاح الديني بألمانيا.
وفي غضون ذلك كانت تقوم في عالمي الصناعة والتجارة بألمانيا ثورة أملاها الأمر الواقع. كانت معظم الصناعات لا تزال يدوية وإن تزايدت عليها سيطرة رجال الأعمال الذين يقدمون المواد الخام ويملونها ويشترون الإنتاج النهائي ويبيعونه، وكانت صناعة التعدين تتقدم بسرعة وجنيت أرباح عظيمة من استخراج الفضة والنحاس والذهب، وأصبحت سبيكة الذهب(23/218)
أو الفضة عندئذ وسيلة لاختزان الثروة، ومكنت حقوق التعدين لأمراء الأقاليم- وبخاصة أمير ساكسونيا وكان يحمي لوثر- مكنت بعضهم من مقاومة البابا والإمبراطور معاً. وسكت نقود فضية يعتمد عليها وتضاعف عدد النقد وتم أو كاد التوصل إلى اقتصاد يرتكز على النقد، وأصبحت حيازة سبيكة فضية أمراً شائعا في الطبقتين الوسطى والعليا، وعرضت بعض الأسر مناضد أو مقاعد من الفضة وتراكمت في الكنائس الألمانية، أوعية وكئوس قداس وجفان بل وتماثيل من الفضة أو الذهب، وجعلت الأمراء يميلون إلى إصلاح ديني يسمح لهم بتصفية الثروة الكنسية. وقد تعجب أنياس سيلفيوس عام 1458 عندما رأى أصحاب حانات في ألمانيا يقدمون بانتظام الشراب في كئوس فضية وتساءل: "أية امرأة، لا بين طبقة النبلاء فحسب بل بين طبقات الدهماء، لا تتألق بالتحلي بالذهب؟ - وهل أذكر شكائم الخيول المزينة بنقوش بارزة من خالص الذهب و ... أسلحة وخوذات تلمع بالذهب؟ " وأصبح الممولون الآن قوة سياسية عظيمة، واستبدل بمقرضي النقود من اليهود مؤسسات تديرها عائلات مسيحية من الولزين والهوخستيتر والفوجر، وكلهم من أرجسبورج وكانت عاصمة المال في العالم المسيحي في نهاية القرن الخامس عشر. ولقد أصبح جوهان فوجر، وهو ابن نساج، تاجراً للمنسوجات وترك عند وفاته (عام 1409) ثروة صغيرة من 3. 000 فلورين (75. 000 دولار؟) وتوسع ابنه جاكوب في العمل وعندما مات (1469 ترك ثروة تعد السابعة بين الثروات في أوجسبورج، واستطاع أولريخ وجاكوب الثاني أبناء جاكوب أن يرقوا بالمؤسسة إلى مكان الصدارة بتقديم المال إلى الأمراء في ألمانيا والنمسا وهنغاريا، وذلك في مقبل الحصول على دخول المناجم أو الأراضي أو المدن. ومن هذه الاستثمارات التي تعتمد على المضاربة جمع آل فوجر أرباحاً فاحشة وما أن عام 1500 حتى كانوا أغنى أسرة في أوروبا.(23/219)
وكان جاكوب الثاني عبقري الأسرة لا يبارى، فقد كان مقداماً قاسياً مجداً. ودرب نفسه، على طريقة الرواقيين، بدراسة كل مرحلة من مراحل العمل وكل تقدم في مسك الدفاتر والصناعة والمتاجرة والتمويل. وطالب فرد من آل فوجر في سبيل مصلحة الأسرة وأسس المبدأ القائل بألا سلطة لأحد في المؤسسة سوى فرد من آل فوجر ولم يسمح لعلاقاته السياسية بالتأثير في قروضه. وكون اتحادات مع المؤسسات الأخرى للتحكم في سعر المنتجات المختلفة ومبيعاتها، ولذلك عقد عام 1498 هو وأخوته اتفاقاً مع تجار أوجسبورج يقضي "بتضييق الخناق" على سوق البندقية في النحاس ورفع السعر. وفي عام 1488 أقرضت الأسرة 15. 000 فلورين للأرشيدوق سجيسموند النمساوي وتسلمت ضمانا للقرض كامل إنتاج مناجم الفضة في شفارتر إلى أن يتم سداد القرض. وفي عام 1492 اتفق آل فوجر مع آل تورزوس من كراكا وعلى قيام اتحاد (كارتل) لاستغلال مناجم الفضة والنحاس في هنغاريا وللحفاظ على "أعلى سعر ممكن" للمنتجات، وما أن حل عام 1501 حتى كان آل فوجر يقومون بمشروعات واسعة للتعدين في ألمانيا والنمسا وهنغاريا وبوهيميا وإسبانيا. وعلاوة على هذا فإنهم استوردوا المنسوجات وصنعوها وتاجروا في الأقمشة الحريرية والقطيفة والفراء والتوابل وثمار الليمون والذخائر والمجوهرات ونظموا نقلا سريعا وخدمة بريدية خاصة، وما أن حل عام 1511 وأصبح جاكوب الثاني المدير الوحيد للمؤسسة حتى كانت أصولها قد وصلت إلى 196,791 جيلدر، وفي عام 1527 (بعد عامين من وفاه) قدر رأسمالها بمبلغ 2. 021. 202 جيلدر (50. 000. 000 دولار) - بواقع ربح سنوي قدره خمسون في المائة خلال ستة عشر عاماً.
ولقد حصل جانب من هذا الربح من علاقات آل فوجر بالأباطرة(23/220)
والبابوات إذ قدم أولريخ فوجر قروضا لفردريك الثالث وأصبح جاكوب الثاني آل هابسبورج في القرن السادس عشر بفضل قروض آل فوجر وعلى الرغم من أن جاكوب لم يعبأ بتحديد الكنيسة للفوائد ومحاولات رجال الكنيسة أن يحددوا "ثمنا عادلا" لسلع المستهلكين فإنه ظل كاثوليكياً، وقدم القروض لرجال الدين للوفاء بنفقات ترقيتهم، وحصل مع أولريخ (عام 1494) على حق إدارة أموال البابا في ألمانيا واسكنديناوة وبوهيميا وهنغاريا، وكان جاكوب فوجر في السنوات الأخيرة من عمره مواطناً مبجلاً ومكروهاً في ألمانيا، وهاجمه بعض الكاثوليكيين باعتباره مرابياً كما هاجمه بعض النبلاء بسبب رشوته لهم للظفر بمنصب أو نفوذ، وبعض التجار لاحتكاراته التي أثارت حسدهم، وسخط عليه كثير من العمال لإلغائه لوائح التجارة والمال في العصور الوسطى، ومعظم البروتستانت لتصديره الأموال الألمانية إلى البابوات. ولكن الأباطرة والملوك والأمراء والبطاركة بعثوا له بالرسل وخاطبوه كأنه أحد الحكام ورسم ديرر وبورجكمير وهولبين الكبير صورة شخصية له بدا فيها رجلا واقعيا بسيطا صارما. وأنعم عليه ماكسمليان بلقب كونت الإمبراطورية، وحاول جاكوب أن يكفر عما ارتكبه من خطايا لجمع ثروته ببناء 106 منزلا للفقراء من الكاثوليك بأوجسبرج (1)، وأنشأ معبداً صغيرا في الكنيسة سانت آنا لتدفن فيه رفاته ومات بوسط جو مضمخ بالقداسة وخلف ملايين الجيلدرات، ولم يعقب ذرية فقد حرمته الحياة أعظم عطاياها.
ويمكننا أن نقول إنه هو الوحيد الذي افتتح عصر الرأسمالية ونمو الاحتكارات الخاصة وسيطرة رجال الأعمال بأموالهم على السادة الإقطاعيين
_________
(1) لا تزال هذه المستعمرة "فوجيراي" موجودة وهي تتقاضى اثنين وأربعين بفنينج (ستة وثمانين سنتا) من الأسرة كل عام.(23/221)
الذين يملكون الأرض، وكان التعدين وصناعة المنسوجات يرتكزان على أنظمة رأسمالية أي يشرف عليهما من يقدمون رأس المال- في نهاية القرن الخامس عشر، على نسق زعامة الفلاندرز وإيطاليا في صناعة المنسوجات قبل ذلك بمائة عام.
وكان الرأي السائد في العصور الوسطى هو أن الملكية الفردية وديعة عامة إلى حد ما: فحقوق المالك تحددها احتياجات الجماعة التي أتاح نظامها له الفرص والتسهيلات والحماية. وربما في ظل القانون الروماني- وكان قد حجب وقتذاك الفقه الألماني- بدأ المالك يرى أن ملكيته مطلقة وشعر بأن له الحق في أن يفعل بملكه ما يشاء. ولذلك لم يبد من الخطأ لآل فوجر وآل هوخستيتر وغيرهم من "أمراء التجار" أن (يضيقوا الخناق) على إنتاج ثم يرفعوا سعره أو يكونوا اتحادات (كارتلات) لتحديد الناتج والتحكم في التجارة أو أن يمارسوا الاستثمارات بحيث يغشون صغار حاملي الأسهم. وفي عديد من الأمثلة نجد تاجرا يضع وكلاءه على أبواب المدينة ومعهم أوامر بأن يشتروا كل البضائع الواردة من صنف معين حتى يبيعها بالسعر الذي يفرضه في المدينة. وقد اشترى أمبروز هوخستيتر كل ما أمكن الحصول عليه من الزئبق ثم رفع سعر بيع التجزئة بمقدار 75 في المائة. واشترت شركة ألمانية فلفلا من ملك البرتغال بمبلغ 600. 000 جيلدر بسعر يزيد على السعر العادي على شريطة أن يتقاضى الملك سعراً أعلى من كل مستوردي الفلفل من البرتغال إلى ألمانيا. وعن طريق هذه الاتفاقات والاحتكارات من ناحية، وعن طريق تزايد الثروة وزيادة الطلب على البضائع من ناحية من أوروبا الوسطى وأمريكا ارتفعت الأسعار بين عامي 1480 و 1520 بسرعة لا نظير لها إلا في قرننا هذا. وقال لوثر شاكياً: "في خلال زمن قصير وبسبب الربا والشح أصبح من كان في وسعه سابقا(23/222)
أن يعيش بمبلغ مائة جيلدر لا يستطيع الآن أن يعيش بمبلغ مائتين". وهي حكاية رويت أكثر من مرتين.
وقد شهدت العصور الوسطى تفاوتا شاسعاً في السلطة السياسية، وأضاف عصر آل فوجر الجديد تباينا اقتصاديا لم تعرفه أوروبا منذ عهد أصحاب الملايين والعبيد في إمبراطورية روما، فبعض التجار الرأسماليين في أوجسبرج أو نورمبرج كان عند كل منهم ثروة تعادل 5. 000. 000 فرنك (25. 000. 000 دولار؟) واشترى الكثيرون مكانة بين الأرستقراطيين صاحبة الأرض وارتدوا دروعا عليها شعارهم وعوضوا احتقار الأشراف "بإسراف مبالغ فيه"، فقد كان جواكيم هوخستيتر وفرانزباو مجارتنر ينفقان 5. 000 فلورين (125. 000 دولار؟) على مأدبة واحدة أو يقامران في لعبة واحدة بمبلغ 10. 000 فلورين، وقد أثارت بيوت رجال الأعمال الأغنياء الفاخرة الأثاث والزخارف الفنية استياء طبقة النبلاء ورجال الدين والدهماء على سواء، وانضم الوعاظ والكتاب والثوريون في ثورة عارمة ضد المحتكرين، وطالب جايلر فون كايزرسبرج بأن "يطاردوا كالذئاب ما داموا لا يخشون الله ولا الناس وينشرون المجاعة والعطش والفقر". وميز أولريخ فون هوتن أربعة طوائف من اللصوص: لتجار وفقهاء القانون والقسس والفرسان، ورأى أن التجار إنما أخطر هؤلاء اللصوص جميعا. "وطالب مجلس الريخستاج في كولون كل السلطات المدنية بأن تتخذ الإجراءات" بحزم وشدة (ضد كل الشركات الرأسمالية التي تتوسل بالاحتكار والربا). وتكرر صدور مثل هذه القوانين من مجالس نيابية أخرى ولكن بلا جدوى؛ فقد كان بعض المشرعين أنفسهم يستثمرون أموالهم في المحلات التجارية الكبرى، وهدأت سورة غضب حماة القانون بمنحهم أسمها، كما أن كثيراً من المدن ازدهرت بنمو التجارة الحرة.
كانت ستراسبورج وكولمار وميتز وأوجسبورج ونورمبرج وأولم وفيينا(23/223)
وراتيسبون (رجنزبورج) وماينز وسبييار وفورمز وكولون وترير وبريمين ودورتموند وهامبورج وماجديبرج ولوبيك وبرسلاو مراكز نشاط اقتصادي مزدهرة بالصناعة والتجارة والآداب والفنون. وكانت هي وسبعة وسبعون مدينة أخرى "مدناً حرة" أي مدناً تسن قوانينها الخاصة وترسل ممثلين لها للمجالس النيابية الإقليمية والإمبراطورية ولا تخضع سياسياً إلا للإمبراطور، وكان بدوره مديناً لها بالعون المالي أو العسكري إلى حد لا يستطيع معه أن يقيد حرياتها. وعلى الرغم من أن هذه المدن كانت تحكمها طوائف حرفية يسيطر عليها رجال الأعمال فإن كل واحدة منها تقريبا كانت حكومة تستهدف الصالح العام. وطبقا للطريقة التي تراعي مصلحة الجماعة وذلك إلى الحد الذي كانت فيه تنظم الإنتاج والتوزيع والأجور والأسعار وصفة السلعة بقصد حماية الضعيف من القوي وتوفير احتياجات المعيشة للجميع. ونحن نطلق عليها الآن بلاداً (1) لا مدناً طالما أن عدد السكان لم يتجاوز في أي منها 52. 000 نسمة ومع ذلك فقد كانت آهلة بالسكان كما كان الحال عليه قبل منتصف القرن التاسع عشر وأكثر ازدهاراً من أي عهد قبل جوته، وإينياس سيلفيوس وهو إيطالي مزهو بنفسه كتب عنها عام 1458 يقول:
لم تكن ألمانيا أغنى ولا أشد تألقا منها قبل اليوم ... ويمكن أن يقال دون مبالغة أنه ليس في أوروبا بلد تبزها أو تفوقها في جمال مدنها فهي تبدو طلية جديدة كأنها شيدت بالأمس ولن تجد حرية زائدة مثل هذه في أية مدن أخرى ..
ولا يمكن أن نجد مدينة في أوربا أكثر فخامة من كولون بكنائسها العجيبة ومبنى البلدية فيها وأبراجها وقصورها ومواطنها المبجلين من أوساط
_________
(1) جمع بلدة لتمييزها عن المدينة.(23/224)
الناس وجداولها العظيمة ... كما أنه ليس ثمة مدينة في العالم تبز أوجسبورج في الثروة. وفي فينا قصور وكنائس تحسدها حتى إيطاليا".
ولم تكن أوجسبورج مركزا للمال في ألمانيا فحسب بل كانت أيضاً الحلقة التجارية الرئيسية التي تربط بنيها وبين إيطاليا المزدهرة آنذاك. وتجار أوجسبورج هم الذين كان لهم الفضل في بناء وإدارة الفوندا كوتيديسكو في البندقية التي زين جدرانها جيورجيوني وتيتيان بصورهما الجصية، وكانت أوجسبورج وثيقة الاتصال بإيطاليا حتى أنها رددت صدى النهضة الإيطالية، وآزر تجارها الأدباء والفنانين وأصبح بعض الرأسماليين بها مثالاً يحتذى في السلوك والثقافة إن لم يكن في الأخلاق. ومن ثم نجد أن كونراد بوليتنجر، وهو مأمور أو عمدة في سنة 1493، كان دبلوماسياً وتاجرا وأدبياً وفقيهاً وعالماً باللغتين اللاتينية واليونانية وأثرياً ورجل أعمال.
وكانت نورمبرج مركزا للفنون والحرف اليدوية أكثر منها للصناعة أو المال على نطاق واسع، وكانت طرقاتها لا تزال ملتوية حسب ما كان متبعا في القرون الوسطى تظللها طبقات بارزة أو شرفات، وأسقفها المغطاة بالقرميد الأحمر وجملوناتها العالية القمة ومشربياتها تكون صورة غير متناسقة في مهادها الريفي وجدول بجنيتز الضخم. ولم يكن الناس بها في بحبوحة من العيش كما هم في أوجسبورج ولكنهم مبتهجون دمثو الخلق ويحبون اللهو والتبذل في مهرجانات مثل الكرنفال الذي يشتركون فيه كل عام ويرتدون فيه الأقنعة وأزياء التنكر ويرقصون. وهناك أخذ هانز ساكس وكبار المغنيين ينشدون ألحانهم المرحة، وارتقى البرخت ديرر بالتصوير والحفر الألمانيين إلى ذروتهما، وهناك قام صاغة الذهب والفضة شمال الألب بصنع زهريات غالية الثمن وأوعية للكنيسة وتماثيل صغيرة، وهناك قام العاملون بالأشغال المدنية بتشكيل ألف تكوين للنبات والحيوان(23/225)
والإنسان من البرنز أو شكلوا الحديد في سياجات أو ستائر جميلة، وهناك كان قاطعو الخشب من الكثرة إلى حد يجعلنا نعجب كيف تيسرت لهم سبل العيش. وأصبحت كنائس المدن مخازن ومتاحف للفن لأن كل طائفة حرفية أو نقابة أو أسرة ثرية كانت ترسل عملا فنياً جميلاً إلى مزار قديس يحمي الزمار. واختار رجيومونتانوس مدينة نورمبرج موطناً له وقال: "لأني أجد هناك دون صعوبة كل الأدوات الخاصة بعلم الفلك وإنه لأيسر لي هناك أن أظل على صلة بالمتعلمين في كل البلاد لأن نورمبرج، بفضل رحلات تجارها المستمرة يمكن أن تعد مركزاً لأوربا. ومن مميزات نورمبرج أن أشهر تجارها فيليبالد بيركهايمر كان أيضاً عالماً بالإنسانيات متحمساً وراعياً للفنون وصديقاً حميماً لديرر، وقد أطلق أرازموس على بيركهايمر: "فخر ألمانيا العظيم".
وعكرت صفو التجارة بين ألمانيا وإيطاليا رحلات داجاما وكولمبس وسيطرة الترك على بحر إيجة وحروب ماكسمليان مع البندقية، فانتقلت الصادرات والواردات الألمانية شيئاً فشيئاً على طول الأنهار الكبيرة إلى بحر الشمال وبحر البلطيق والمحيط الأطلسي وانتقلت الثروة والسلطان من أوجسبورج ونورمبرج إلى كولون وهامبورج وبريمن وإلى أنتورب بصفة خاصة. وشجع آل فوجر وآل ويلز هذا الاتجاه بأن جعلوا من أنتورب مركزاً رئيسياً لعملياتهم. وأدت حركة المال والتجارة الألمانيين نحو الشمال إلى فصل شمال ألمانيا عن الاقتصاد الإيطالي ودعمت مركزها بحيث استطاعت حماية لوثر من الإمبراطور والبابا. ولعل جنوب ألمانيا ظل مخلصاً للكاثوليكية لأسباب مغايرة.(23/226)
2 - الدولة
كيف كانت ألمانيا تحكم في هذا العصر التشكيلي الحرج؟
لقد كان الفرسان، أو أبناء الطبقة النبيلة الدنيا، الذين حكموا الريف بصفتهم أتباعاً للسادة الإقطاعيين، يفقدون مركزهم العسكري والاقتصادي والسياسي. وكانت فرق الجنود المرتزقة الذين يستأجرهم الأمراء أو المدن، والمجهزين بالأسلحة النارية والمدافع، تبيد فرق الفرسان الذين كانوا يلوحون بالسيوف في عجز وقصور، وكانت الثروة التجارية ترفع الأسعار والنفقات وتتفوق على ملكية الأرض باعتبارها مصدراً للسلطان، وكانت المدن توطد استقلالها والأمراء يركزون في أيديهم السلطة والقانون. وثأر الفرسان قليلاً بالترصد للتجارة التي كانت تمر في طريقهم، وعندما احتج التجار والبلديات أكد الفرسان حقهم في شن حروب خاصة. وقد وصف كومين، ألمانيا في هذا العهد بأنها تزخر بالقلاع التي يمكن في أي وقت أن يتدفق منها "لصوص من البارونات" وأتباعهم المسلحون، ويسلبون التاجر المسافر والفلاح على السواء. وجرت عادة بعض الفرسان أن يقطعوا الأيدي اليمنى لمن يسلبون من التجار. وعلى الرغم من أن جيتز فون برليخينجن فقد هو نفسه يده في خدمة أميره، فقد ايتبدل بها يداً حديدية، وتزعم عصابات من الفرسان، لا لمهاجمة التجار فحسب، بل لمهاجمة المدن أيضاً، "نومبرج-دار مستادت وميتز وماينز (1512). ووجه صديقه فرانزفون سيكنجن تهماً ضد مدينة ورمس ونهب ضواحيها وقبض على أعضاء مجلس الشورى فيها وعذب عمدتها وقاوم كل المحاولات التي قامت بها الفرق الإمبراطورية للقبض عليه ولم يكن من المستطاع إخضاعه إلى حين إلا عندما تلقى منحة سنوية ليخدم الإمبراطور. وانضمت اثنتان وعشرون مدينة في سوابيا- وبصفة خاصة أوجسبرج وأولم وفرايبورج وكونستانس إلى(23/227)
الطبقة الرفيعة من النبلاء لإعادة تكوين عصبة سوابيا (1488) وهذه المدن وغيرها من الاتحادات كبحت جماح الفرسان اللصوص ونجحت في أن تعلن عدم شرعية الحرب الأهلية، ومع ذلك فإن ألمانيا كانت قبيل عهد لوثر مسرحاً للفوضى الاجتماعية والسياسية، فقد كان يسودها حكم شامل للقوة".
وأسهم الأمراء الزمنيون ورجال الدين الذين تصدروا القلاقل فيها بجشعهم وعملاتهم ورسوم جماركهم المختلفة وتنافسهم المضطرب على الثروة والنصب وتشويههم للقانون الروماني، وذلك لكي يمنحوا أنفسهم سلطة مطلقة أو تكاد تكون على حساب الشعب والفرسان والإمبراطور. وتصرفت بعض الأسر تصرف الملوك الغير المسئولين من أمثال بيوت هوهنز ولرن في براندنبرج وفيتين في ساكسونيا وفيتلسباخر في البلاتينات ودوقات فيرتتيمبرج، فما بالك بآل هابسبرج في النمسا. ولو كان سلطان الإمبراطور الكاثوليكي على الأمراء الألمان أعظم من هذا لفشلت حركة الإصلاح الديني أو تأجلت. ثم إن إعراض كثير من الأمراء عن روما كان اتجاها آخر نحو الاستقلال المالي والسياسي.
وأكدت شخصية الأباطرة في هذا العهد ضعف الحكومة المركزية. وكان فردريك الثالث (حكم من 1440 إلى 1493) فلكيا وكيميائيا يغرم بهدوء حدائقه في جراتر الذي يتطلع إليه البحاثة لدرجة أنه سمح لشلسوج هولشتين وبوهيميا والنمسا وهنغاريا بأن تنفصل عن الإمبراطورية، ولكنه قام في حوالي نهاية العام الثالث والخمسين من حكمه بخطوة لإنقاذها وذلك بخطبة ماري، وريثة شارل الجسور دوق بورغنديا، لابنه ماكسمليان. وعندما حفر شارل لنفسه قبراً ثلجياً عام 1477 ورث آل هابسبورج الأراضي الواطئة.
وبدأ ماكسمليان الأول (حكم من 1493 إلى 1519) الإمبراطور المنتخب(23/228)
والذي لم يتوج قط، حكمه بكل ما يبشر بالنجاح. وابتهجت الإمبراطورية كلها لملامحه الجميلة وأخلاقه الطيبة ورقة مشاعره الوديعة وبشاشته الجياشة وكرمه وشهامته وشجاعته ومهارته في المبارزة والصيد، وكأنه إيطالي من عصر النهضة ارتقى عرشاً ألمانيا. بل أن مكيافيلي تأثر به ووصفه بأنه "أمير عاقل زكي يخشى الله، وحاكم عادل، وقائد عظيم، يقتحم الأخطار ويتحمل المشقة كأصلب الجنود عوداً ... نموذج يحتذى لكثير من الفضائل الخلقية بأمير" .. ولكن "ماكس" لم يكن قائدا عظيما، وكان يفتقر إلى الذكاء الخبيث المطلوب من أمير في نظر مكيافيلي كان يحلم باستعادة عظمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة باسترداد ممتلكاتها. السابقة ونفوذها في إيطاليا فغزا شبه الجزيرة مرارا وتكرارا في حروب لا طائل تحتها، رفض مجلس الدايت، وكان في هذا عمليا، أن يمولها. وسمح لنفسه بالتفكير في خلع يوليوس الثاني القوي وتنصيب نفسه بابا وإمبراطورا في الوقت نفسه. وقد برر (مثل زميله المعاصر شارل الثامن ملك فرنسا) مطامعه الإقليمية بأنها تمهيد ضروري لهجوم ساحق على الأتراك، ولكنه عجز عن وضع خطة مدعمة من الناحيتين الدستورية والمالية. وكان لا يستطيع أن يحقق بالوسائل كما يتمنى الغايات. وكان في بعض الأوقات فقيرا إلى الحد الذي كان يعوزه المال لسداد ثمن عشائه. وسعى لإصلاح الإدارة في الإمبراطورية ولكنه انتهك إصلاحاته ذاتها فماتت معه. وكان يفكر كثيرا في مدى سلطة آل هابسبورج وبعد أن لاقى أكثر من فشل في الحرب عاد إلى سياسة والده القائمة على الزيجات الدبلوماسية. وعلى هذا فإنه قبل عرض فرديناند بخطبة جوانا إلى ابنه فيليب وكانت ضعيفة العقل إلى حد ما ولكنها قدمت إسبانيا دولة صداقا لها. وفي عام 1515 خطب لحفيدته ماري وحفيده فرديناند، للويس وأن ابن وابنة لاديسلاس ملك بوهيميا وهنغاريا، وقتل لويس في موهاكس (1526) وأصبح فرديناند ملكا على بوهيميا وهنغاريا (بقدر ما سمح الأتراك) وبلغ سلطان آل هابسبرج أوسع مداه.(23/229)
وكانت أحب سمات ماكسمليان عشقه وتشجيعه للموسيقى والتعليم والأدب والفن. وأكب في حماس على دراسة التاريخ والرياضيات واللغات. ولقد ثبت لنا أنه كان في وسعه أن يتحدث بالألمانية واللاتينية والإيطالية والفرنسية والإسبانية والوالونية والفلندية والإنجليزية، ويقال إنه تحدث في حملة حربية واحدة مع سبع قواد أجانب بلغاتهم السبعة المختلفة. ومزج لهجات جنوب وشمال ألمانيا في لغة ألمانية يفهمها الجميع وهي التي أصبحت لغة الحكومة الألمانية وكتاب لوثر المقدس والأدب الألماني، وذلك بفضل جهوده والاقتداء به إلى حد ما. وحاول، وهو بمنجاة من الحروب، أن يكون مؤلفاً، وترك مصنفات عن فن الدروع والمدفعية والعمارة والصيد وسيرته الخاصة، وفكر في اقتناء مجموعة تستوعب مخلفات ونقوشاً من ماضي ألمانيا ولكن أعوزته الأموال من جديد. واقترح على البابوات إصلاح التقويم، وقد حققوا فكرته بعد ثمانين عاماً. وأعاد تنظيم جامعة فينا وأسس كراسي أستاذية جديدة للقانون والرياضيات والشعر والبلاغة، وجعل من فينا أزهر مركز للتعليم في أوروبا لفترة ما. ودعا علماء الإنسانيات الإيطاليين إلى فينا، وعهد إلى كونرادوس سلتس أن يفتح هناك أكاديمية للشعر والرياضيات. وناصر علماء للإنسانيات مثل بويتنجر وبيركهايمر وجعل من روتخلين Reuchlin المضطهد مونت بالاتاين الإمبراطوري. ومنح مكافآت لبيتر فيشر وفايت ستوس وبورجكمير وديرر والفنانين الآخرين الذين تألقوا في عهده. وأمر بإقامة قبر مزخرف في انزبروك ليضم رفاته، وقد ترك دون أن يتم بناؤه عند وفاته ولكنه أتاح فرصة لتماثيل بيترفيشر الجميلة لتيودوريك وأرثر. ولو كان ماكسمليان عظيما بقدر عظمة أفكاره لكان نداً للإسكندر وشارلمان.
وفي آخر سنة من حكم الإمبراطور رسم ديرر صورة أمينة له - تمثله منهوك القوي وقد انزاحت عنه الأوهام، وكسر شوكته بؤس الزمن المثير للجنون. وقال هذا الرجل الذي كان يوماً روحاً مرحة "ليس في الأرض(23/230)
مسرة لي. وا أسفاه على أرض ألمانيا السكينة" ولكنه بالغ في الحديث عن فشله، فقد ترك ألمانيا والإمبراطورية (ولو لم يكن هذا عن طريق التنمية الإقتصادية) أقوى مما وجدهما عليه إذ ارتفع عدد السكان وانتشر التعليم وبدأت فيينا تصبح فلورنسا أخرى. وسرعان ما صار حفيده، الذي ورث نصف أوروبا الغربية، أقوى حاكم في العالم المسيحي.
3 - الألمان
(1300 - 1517)
ربما كانوا إبان ذلك العهد أصح الشعوب أبداناً وأقواهم جسداً وأشدهم حيوية في أوروبا، فإنهم، كما نراهم في لوحات فولجيموت وديرر وفي صور كراناخ وهولبين، أناس أقوياء البنية غلاظ الأعناق كبيرو الرؤوس، لهم قلوب سوداء، على تمام الأهبة لالتهام العالم، واستساغته بشراب الجعة. كانوا أجلافا ولكنهم ظراف تخفف من ورعهم نزواتهم الشهوانية. وكان في وسعهم أن يكونوا غلاظ الأكباد كما تدل على ذلك أدوات التعذيب المروعة التي اعتادوا استخدامها مع المجرمين؛ ولكنهم مع ذلك كانوا رحماء كرماء قلما عرضوا تزمتهم الديني بوسائل بدنية، إذ لقيت محاكم التفتيش في ألمانيا مقاومة باسلة وكان نصيبها القمع عادة. لقد جبل الألمان بنفوسهم القوية على المرح الذي يتسم بإدمان الشراب أكثر مما يتسم بالفطنة الجافية، ولقد أدى هذا كله إلى تبلد حسهم بالمنطق والجمال وحرمهم من ظرف العقلية الفرنسية أو الإيطالية ودهائها وتعثرت نهضتهم الهزيلة في غمرة حماستهم الزائدة لتفسير الكتاب المقدس ومع ذلك فقد كان عندهم إصرار ثابت وصناعة منظمة وشجاعة فائقة في الفكر الألماني مكنتهم من كسر شوكة سلطان روما وأتاحت لهم فرصة أن يصبحوا أعظم علماء في التاريخ. وهم شعب نظيف بالقياس إلى غيرهم من الأمم فالاستحمام عادة وطنية. وكل بيت حسن التنسيق فيه حمام حتى في المناطق الريفية. والحمامات العامة العديدة توفر أكثر من حمام(23/231)
إذ يستطيع الرجال هناك أن يحلقوا ذقونهم وتستطيع النساء أن يصففن شعورهن كما كانت توفر فيها ضروب مختلفة من التدليك وكان يسمح فيها بالشرب والمقامرة ويمكن أن يجد فيها كل من يضيق ذرعاً بالزوجة الواحدة خلاصاً. وكان الناس من الجنسين يستحمون عادة معاً وهم يرتدون ملابس محتشمة وإن لم تكن هناك قوانين تحرم المغازلة، ولقد قال أحد الدارسين الإيطاليين بعد أن زار بادن - بادن عام 1417: "ليست هناك في العالم حمامات أكثر ملاءمة من هذه لإنجاب النساء".
ولا يمكن أن يتهم الألمان إبان ذلك العهد بأنهم من أنصار مذهب التطهير إذ كان حديثهم ورسائلهم وأدبهم ومرحهم تتسم أحيانا بالجفاء إذا قيست بمعايير عصرنا، ولكن هذا يتفق مع قوة أبدانهم وأرواحهم، فهم من جميع الأعمار يشربون ويفرطون في ممارسة الجنس إبان شبابهم. وكانت مدينة ارفورت عام 1501 في نظر لوثر الورع لا تفضل ماخوراً أو مشرباً للجعة. ولقد وافق الحكام الألمان - من رجال الدين ومن العلمانيين على السواء على رأى سانت أوجستين والقديس توما الأكويني بأنه يجب أن يسمح بالبغاء إذا كانت النساء بمنأى عن الإغراء أو الاغتصاب. وكانت بيوت البغاء تحصل على ترخيص وتفرض عليها ضريبة. وإنا لنقرأ عن أساقفة ستراسبورج وماينز الذين كانوا يحصلون على دخول من المواخير بل إن أسقف فيرتسبورج أعطى ماخوراً تابعاً للبلدية إلى جراف فون هيننبرج باعتباره إقطاعية تدر دخلا. وكانت الضيافة لكبار الزوار تشمل وضع بيوت للسيدات تحت تصرفهم، وقد كرم الملك سيجموند بهذا الامتياز في برن (1414) وفي أولم (1434) بإخلاص أرضاه كل الرضا حتى أنه شكر مضيفه علنا من أجله، والنسوة غير المرخصات كنّ ينشئن أحياناً بيوتاً غير قانونية، وفي عام 1492 شكت البغايا المرخصات للعمدة من هذه المنافسة غير العادلة فحصلن عام 1508 على إذن بمهاجمة البيوت غير القانونية وقمن(23/232)
بذلك فعلا، وكان التردد على بغي يقابل بالصفح باعتباره خطيئة مغتفرة، وإن كانت طبيعية، وذلك في نظر القانون الأخلاقي الساري في أوروبا في أواخر العصور الوسطى، ولعل انتشار الزهري بعد عام 1492 جعل منه وباء فتاكاً.
وكان الزواج إتحاداً بين الملكيات كما هو الشأن في كل مكان آخر والحب يعد نتيجة طبيعية للزواج لاسبباً معقولا له. وكانت الخطبة ملزمة كالزواج والزفاف يتم في حفلات مترفة بين جميع الطبقات. وربما استمرت الاحتفالات أسبوعاً أو اثنين وكان شراء الزوج يكلف غاليا كالاحتفاظ بالزوجة. وكان للذكر نظرياً سلطة مطلقة ولكنها كانت أكثر واقعية في الأفعال منها في الكلام. ونلاحظ أن السيدة ديرر كان لديها كلام كثير تقوله لزوجها. وقد كانت نساء نورمبرج من الجرأة بحيث اجتذبن الإمبراطور ماكسمليان وهو نصف عار من الفراش وألقين غطاء حول جسمه ثم إستقنه في رقصة ليلية مرحة إلى الشارع.
وتذهب أسطورة قديمة إلى أن بعض الرجال من الطبقات العليا في القرن الرابع بألمانيا كانوا يضعون حزاماً للعفة "من الحديد حول وسط زوجاتهم وأفخاذهن ويغلقونه بقفل ويأخذون معهم المفتاح وذلك عندما يسافرون في رحلات يغيبون فيها طويلاً عن الوطن. وثمة آثار لهذه العادة في البندقية بالعصور الوسطى في فرنسا وفي القرن السادس عشر وإن كانت الزوجة أو العشيقة تلبس الحزام طواعية وتعطي المفتاح للزوج أو العشيق ضماناً لإخلاصها للزوج أو العشيق.
وازدهرت حياة الأسرة. ويحصى سجل تاريخي بارفوت ثمانية أو عشرة أولاد لكل زوجين في المعدل ولم تكن الأسرة التي تضم خمسة عشر ولداً بالنادرة، وهذه الأعداد تشمل أبناء السفاح لأن الأطفال غير الشرعيين، اللذين كثروا كانوا يؤخذون عادة إلى بيت الوالد بعد زواجه. وشاع استخدام الألقاب في القرن الخامس عشر وكثيراً ما أشارت(23/233)
إلى مهنة السلف أو إلى موطنه الأصلي وإن كانت بين آن وآخر تجمد دعابة لحظة في صراحة الزمن. وكان يراعي الضبط والحزم في البيت وفي المدرسة، بل إن ماكس الذي صار إمبراطورا فيما بعد كثيراً ما تلقى الصفعات، ويبدو أن هذا لم يسبب ضررا إلا للأب أو المدرس. وكانت البيوت الألمانية وقتذاك (1500م) أكثر البيوت راحة في أوروبا إذ كانت درجاتها متسعة ولها درابزين متين وفيها أثاث ضخم ومقاعد وثيرة وخزائن منحوتة ونوافذها من الزجاج الملون وأسرة لها كلة وجدرانها مطنفسة وأرضيتها مكسوة بالسجاد وفيها مواقد منبعجة ورفوف تزخر بكتب أو أزهار أو آلات موسيقية أو عليها طبق فضي ومطابخ تتألق بكل الأوعية الصالحة لإقامة مأدبة ألمانية.
وشيدت البيوت من الخارج في عظمها من الخشب، وكثيراً ما شبت فيها الحرائق، وكانت الطنف المتدلية والشرفات تظلل الطرقات، ولم يكن في المدن الكبيرة إلا قليل من الطرقات المرصوفة، ولم تعرف إنارة الشوارع إلا في ليالي الأعياد وكانت الحياة خارج البيوت غير مأمونة بالليل. وكان صغار المجرمين ينافسون في الكثرة الخنازير والبقر التي كانت تهيم في الطريق على غير هدى. ولم تكن هناك شرطة نظاميون، وكانت توقع عقوبات صارمة لردع الجريمة فقد كانت عقوبة السرقة الموت أو قطع الأذنين في حالة السرقة الخفيفة. وكانت تقطع ألسنة الكفار والمجدفين أما المنفيون الذين يعودون إلى نومبرج دون مبرر شرعي فكانت تسمل عيونهم. وكانت النساء اللاتي يقتلن أزواجهن يدفن أحياء أو يعذبن بملاقط تسخن إلى درجة الاحمرار ثم يشنقن. ومن بين آلات التعذيب التي عرضت فيما مضى في شلوس أو قلعة نورمبرج صناديق ممتلئة بأحجار مدببة يسحق بها جسد الضحية وتروس تمد بها أطرافها ومواقد لحرق كعوب أقدامها وإطارات مدببة من الحديد لثنيها من الجلوس أو الاستلقاء أو النوم ثم العذراء(23/234)
الحديدية الملعونة التي كانت تستقبل المحكوم عليه بذراعين من الصلب وتحيطه بهما في حضن شائك ثم ترخي ذراعيها وتدعه يسقط دامي الجسد من أثر اختراق المسامير محطم العظام ليموت موتاً بطيئاً في جب تدار فيه مدى وقضبان مدببة.
وساوت الأخلاق السياسية الأخلاق العامة في انحلالها فتفشت الرشوة وبلغت أقصاها في قمة الكيان الاجتماعي، وشاع الغش في السلع وذلك على الرغم من دفن رجلين وهما على قيد الحياة في نورمبرج لغشهما النبيذ (1456)، وكانت التجارة - التضحية بالأخلاق في سبيل المال - قوية في جميع الأعمار، فالمال لا الإنسان هو مقياس كل شئ، ومع ذلك فإن هؤلاء الأوساط المتزاحمين المتدافعين من المواطنين تبرعوا بمبالغ كبيرة على سبيل الإحسان. وكتب لوثر: "في العهود البابوية كان الناس يتبرعون بكلتا اليدين في جذل وبولاء عظيم. كانت السماء تمطر صدقات وإنشاءات وهبات. كان أجدادنا من السادة والملوك ومن الأمراء وغيرهم من الشعب، يتبرعون بسخاء، أجل، إلى درجة تغمر كل شئ، للكنائس والأبرشيات والمنح الدراسية والمستشفيات، ومن دلالات هذا العهد الدنيوي أن كثيراً من تركات المحسنين أو قفت" لا على الهيئات الدينية فحسب" ولكن على مجالس المدن لتوزيعها على الفقراء.
وأصبحت الأخلاق أشد جفاء في فرنسا وإنجلترا وفي ألمانيا أيضا عندما خلفت حكومة السراة بالمال حكومة الأرستقراطية بالميلاد في السيطرة على الاقتصاد. وكان السكر رذيلة وطنية وقد ندد به كل من لوثر وهوتن على الرغم من أن هوتن فضله على "مخاتلة الإيطاليين وسرقة الأسبان وزهو الفرنسيين" ولعل بعض الانغماس في الشراب يرجع إلى التوابل الحريفة التي استخدمت في إعداد وجبات الطعام. ولقد أعوز(23/235)
التهذيب آداب المائدة ووصلت "الشُّوَك" إلى ألمانيا في القرن الرابع عشر ومع ذلك فقد آثر الرجال والنساء أن يستخدموا أصابعهم في تناول الطعام. بل ان واعظا في القرن السادس عشر أدان "الشوَك" باعتبارها مخالفة لإرادة الله " الذي لو كان يريد منا أن نستخدم الشوك لما منحنا أصابع".
وكان اللباس فخماً، أما العمال فكانوا يكتفون بارتداء قلنسوة أو قبعة من اللباد وقمصان قصيرة وسراويل متداخلة - أو تحشر في أحذية طويلة الرقبة، وكانت الطبقات الوسطى تضيف إلى هذه الملابس صدرية وسترة مفتوحة مبطنة أو تزين حوافها بالفراء. وكان ذوو الأنساب يدخلون في منافسة محمومة مع جامعي الجلدرات في روعة ثيابهم. وكانت قبعات الرجال عند هاتين الطبقتين عبارة عن لفائف معقدة متسعة من القماش الثمين تزين حافاتها أحيانا بالريش أو الشرائط أو اللآلئ أو الذهب، أما القمصان فكانت من الحرير غالبا، كما كانت الأثواب الخارجية الزاهية تبطن بالفراء وربما تخللها خيوط من الفضة. وكانت الثريات من النساء يضعن على رؤوسهن تيجانا من الذهب أو قلانس مطرزة بالذهب ويضفرن شعورهن بخيط ذهبي، وأما العذارى الخفيرات فكن يغطين رؤوسهن بمناديل من الموسلين يربطنها تحت الذقن.
وقد زعم جايلر فون كايزرسبرج أن النساء الأنيقات كن يمتلكن خزائن للملابس تقدر بنحو 4000 فلورين (10. 000 دولار؟) وكان الرجال يحلقون ذقونهم ويعنون بشعر رؤوسهم ويعنون بتعهد ضفائرهم. لاحظ خصلات شعر ديرر التي كانت موضع اعتزازه وخصائل شعر ماكسمليان الجميلة. واتخذت الخواتم شعارا على الطبقة الاجتماعية أو للتخييل بالانتماء إليها كما هو الحال الآن، وقد قال كونرادوس سيلتس إن الأزياء تغيرت في ألمانيا بسرعة أكبر منها في أي مكان آخر، وحدث هذا كثيراً(23/236)
في أزياء الرجال وفي أزياء النساء. وربما فاق الرجال النساء في فخامة الزي في مناسبات الأعياد.
وكانت المهرجانات متعددة وهي استمرار لروح القرون الوسطى المولعة بالتظاهر وعرض المرح مع تأجيل العمل والتحلل من الوصايا العشر. وكان عيد الميلاد لا يزال يتسم بالمسيحية على الرغم مما صاحبه من الآثار الوثنية. وأما شجرة عيد الميلاد فإنها ابتدعت في القرن السابع عشر.
وكانت كل مدينة تحتفل بمهرجان أو عيد لقديسها الحامي لها وكان الرجال والنساء يرقصون معا في الشوارع ويسود المرح الجميع وكأنه أمر محتوم، ولا يمكن لأي قديس أو واعظ أن يقلل من بهجة العربدة العنيفة. وكان الرقص يتحول أحيانا إلى جنون وبائي كما حدث في متيز وكولونيا واكس عام 1374 أو في ستراسبورج عام 1412. كان بعض من يعانون من رقصة سانت فيتوس في بعض هذه الحالات يلتمسون الشفاء من كانوا يعتقدون أنه مس شيطاني وذلك بالرقص حتى يسقطوا من الإعياء كما يفعل بعض الشبان المتهوسين اليوم. ووجد الرجال متنفسا لغرائزهم في الصيد والقنص أو في ممارسة رياضة المبارزة القاتلة. وكان آلاف الرجال والنساء يسافرون متذرعين غالبا بحجة التردد على مزار وينتقلون في ابتهاج أليم على صهوة الجياد أو على ظهور البغال أو في عربات أو على مقاعد تحمل على الأكتاف ويتحملون مشاق الطرق غير الممهدة والخانات القذرة. وكان بعض الأشخاص المرهفي الحس يسافرون كلما أمكنهم ذلك، بالقارب على صفحة نهر الراين ونهر الدانوب أو على غيرهما من مجاري الماء في وسط أوروبا. وما إن حل عام 1500 حتى كانت هناك خدمة بريدية متاحة للجميع تربط المدن الكبرى.
والكل معا في الصورة رجل واحد من شعب قوي ناشط سعيد(23/237)
لا يرضى بعد أن يرسف في أغلال الإقطاع أو ظلم روما. وقد غلب بالاعتزاز بالقومية الألمانية كل انقسام سياسي، وكبح جماح الأباطرة الذين رأوا أنفسهم فوق الوطن، والبابوات الذين اعتقدوا أنهم فوق الطبيعة، وهكذا قدر للإصلاح الديني أن ينتصر على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وعلى البابوية أيضا. وفي عام 1500 نشبت الحرب بين التيوتون والرومان وكان النصر مرة أخرى حليف ألمانيا كما حدث في القرن الخامس من قبل.
4 - نضج الفن الألماني
وقدوم هذا العهد الجديد إنما يتجلى مظاهره في الفن. وربما كان من العسير علينا أن نصدق هذه الحقيقة. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن الطلب كان يتزايد على الفنانين الألمان في أوربا بسبب تفوقهم في كل فن حرفي، في أشغال الخشب والحديد والنحاس والبرونز والفضة والذهب والحفر والتصوير والنحت والعمارة، وذلك في أوج عصر النهضة الإيطالية من مولد ليوناردو (1452) إلى وفاة رافاييل (1520). ولعل فيليج فابري الأولمي قد كتب عام 1484 بدافع الوطنية أكثر منه بدافع عدم التحيز وها هو يقول: "عندما يريد أي امرئ أن يحصل على قطعة مصنعة من الدرجة الأولى من البرونز أو الحجر أو الخشب فإنه إنما يستخدم حرفياً ألمانيا. لقد رأيت صانعي مجوهرات وصاغة وقاطعي أحجار وصانعي عربات من الألمان وهم ينتخبون آثارا رائعة بين الغزاة المسلمين بل إنهم فاقوا اليونان وبزوا الإيطاليين في الفن. وبعد نحو خمسين عاما اكتشف إيطالي آخر أن هذا لا يزال صحيحاً فقد كتب باولو جيوفو: "إن الألمان يكتسحون أمامهم كل شئ في الفن ولا يسعنا نحن الإيطاليين الخاملين إلا أن نبعث لألمانيا في طلب عمال مهرة". واشتغل المهندسون المعماريون الألمان لحساب(23/238)
فلورنسا وأسيسي وأرفييقو وسيينا وبرشلونة وبورجوس واستدعاهم ذوو الشأن لإتمام "القبة" في كاتدرائية ميلان. وقد خلب فايت ستوس ألباب الأهلين في مدينة كراكاو، وحظى ديرر بتكريم البندقية، واكتسح هوالبين الصغير إنجلترا.
وبلغت العمارة الكنسية أوجها في القرنين الثالث عشر والخامس عشر. ومع ذلك فإن أبناء جيل واحد من المواطنين في ميونخ شيدوا على الطراز القوطي الأخير، كنيسة سيدتنا وقاعة المدينة القديمة "أولدتان". وفي العقدين الأولين من القرن السادس عشر أتمت فرايبورج في ساكسونيا (منصة جوقة الترتيل) وشيدت أوجسبرج بيعة آل فوجر، وانتهت كاتدرائية ستراسبورج من بناء بيعة لورانس، وأضيفت مشربية جميلة إلى مقر كان الأبرشية في كنيسة سيبالدوسكيرس في نورمبرج. وفي مجال عمارة البيوت في هذا العهد شيدت أكواخ جذابة بأسقفها من القرميد الأحمر، وطبقاتها العليا مصنوعة من الخشب، وشرفاتها تجملها الأزهار وطنف رحبة تحمي النوافذ من الشمس أو الجليد. وهكذا واجه الألمان، بما عرف عنهم من إقدام، ارتفاع جبال الألب البافارية في مناخ ميتنفالد الصعب بجمال بيوتهم البسيط الحبيب.
وكان النحت من أمجاد هذا العصر. فازداد عدد صغار النحاتين، وكان من الممكن أن يلمعوا ويصبحوا نجوماً كبيرة لو قدر لهم أن يكونوا في مجرة أقل إشراقاً: نيكولاس جيرهارت وسمون لاينبرجر وتيلمان ريمنشنيدر وهانزباكوفن، وها هي نورمبرج وحدها تنجب في جيل واحد ثالوثاً من الأساتذة لا يكاد يبزهم أحد في عهد مماثل بأية مدينة في إيطاليا. ولا شك أن حياة فايت ستوس تصلح أن تكون قصة مدينتين؛ فقد تربى في نورمبرج، وحاز قصب الشهرة مهندس وبان للجسور ومعماري وحفار ونحات ومصور، وعندما بلغ الثلاثين من عمره ذهب إلى كراكاو وقام هناك بأحسن أعمال على الطراز القوطي الأخير المشع الذي عبر به عن ورع البولنديين وقابليتهم(23/239)
للإثارة في الوقت نفسه. وعاد إلى نورمبرج (1496) ومعه ما يكفي من الأموال لشراء بيت جديد ولعقد قرانه على زوجة ثانية، وقد أنجبت منه خمسة أطفال أضافتهم إلى أولاده الثمانية من زوجته السابقة ... واعتقل فيت وهو في أوج مجده لأنه شارك، وربما كان هذا عن غير قصد، في عملية تزييف، ودمغ بإحراق خديه معاً وحرم عليه أن يغادر نورمبرج مرة أخرى، غير أن الإمبراطور ماكسمليان عفا عنه وأعاد له حقوقه المدنية (1506) ومع ذلك فإن ستوس ظل منبوذاً من المجتمع إلى أن انتهت حياته الطويلة المؤلمة. وفي عام 1517 حفر مجموعة كبيرة من الأعمال تمثل بشارة التحية الملائكية، وأحاط تمثالين - يعدان من أعظم أعمال النحت الخشبي وأقربها إلى الكمال - بإكليل من الورد وأحاط هذا بسبحة ألحق بها سبع رصيعات كبيرة تصور أفراح العذراء وتوج الجميع، وهي كلها من خشب شجر الزيزفون من مخلفات الأيام السعيدة في المدينة الكبيرة. وحفر ستوس لكنيسة سيبالدسكريش صليباً من الخشب لا يضارعه أبداً صليب آخر من نوعه (1520). وفي هذا العام حصل له ابنه أندرياس، بصفته رئيس دير رهبان الكارميليت بنورمبرج، على أتعاب مقابل تصميم مذبح لكنيسة في بامبرج. وبينما كان الفنان منهمكاً في هذا العمل استولى أنصار الإصلاح الديني على نورمبرج واستبدل بأندرياس راهب آخر لأنه ظل كاثوليكيا. وتشبث فيت نفسه بالعقيدة النيرة التي استلمها في فنه. وتوقف دفع أتعابه عن عملية المذبح وظل العمل ناقصاً. وأمضى ستوس السنوات العشرة الأخيرة من حياته كفيفاً يعتزل الناس وهو كظيم. فقد ماتت قبله زوجتاه وهجره أولاده، ونبذه الناس في عصر استغرقتهم فيه دراسة اللاهوت، ولم يدركوا أنهم إنما كانوا يفقدون عام 1533 أعظم حفار على الخشب في التاريخ وهو في الثالثة والتسعين.(23/240)
وعاش في نفس المدينة وفي هذا العهد فنان في أشغال البرونز مبرز أيضاً في أسلوبه وإن كان قد عاش حياة هادئة هانئة. وقد صور بيتر فيشر الأكبر نفسه في كوة بجدار، وتعد هذه الصورة من أشهر إنتاجه، ونراه بها عاملاً بسيطاً جاداً قصير القامة مكتنز الجسم، ذا لحية كاملة يرتدي مئزراً جلدياً حول وسطه ويمسك بيديه مطرقة وأزميلا. وقد كرس هو وخمسة من أبنائه عشر عاماً (1508 - 1519) لإتمام رائعتهم مقبرة زيبالد، القديس الحامي لنورمبرج. وتكلف المشروع كثيراً ونفذت الأموال المخصصة له، ومع ذلك لم يتم إنجاز العمل، وعندئذ حث أنتون توخر المواطنين على الاكتتاب في مبلغ 800 جيلدر (20. 000 دولار؟) كان يحتاجه المشروع. وهذه الرائعة لا تثير الإعجاب لأول نظرة، ويبدو أنها لا تضارع هيكل أوركانيا في فلورنسا (1348)، ثم إن الحلزونات والدلفينات، التي يرتكز على ظهورها البناء، ليست على الأرجح حاملات لمثل هذا الثقل الهائل، إلا أن فحصها عن قرب يكشف عن كمال مذهل في أجزاء البناء. والتابوت الرئيسي المصنوع من الفضة مزين بأربع رسوم بارزة تمثل معجزات القديس .. وترتفع حوله الأعمدة البرونزية لظلة من الطراز القوطي، عليها نقش دقيق من زخارف عصر النهضة، وتتصل من أعلى بعقد معدني جميل على الأعمدة، حول القاعدة، وفي الطنف، وفي كوات الظلات العليا صور الفنانون سكانا حقيقيين من الوثنيين، وتماثيل لعبريين أو مسيحيين - تريتونات (آلهة البحر) وقنطروسات ونيريدات (حوريات البحر)، وسيرانات وموزيات والفاونات وهرقل وتيزيوس وشمشون والأنبياء وعيسى والرسل وملائكة يعزفون ألحاناً أو يلهون مع أسود أو كلاب، وبعض هذه التماثيل لا يزال في صورة بدائية، وكثير منها تم نحته بدقة دنانيلو أو غييرتي، وهي كلها تسهم بوضوح في إدراك متنوع للحياة. وتضارع(23/241)
تماثيل بطرس وبولس ومتى ويوحنا لوحة (الرسل الأربعة) التي صورها ديرر بعد سبع سنوات في نورمبرج نفسها.
ويقال إنه لم يأتي إلى نورمبرج في هذه العقود الأولى من القرن السادس عشر أمير أو حاكم إلا وزار مسبك بيترفيشر. وقد ألح الكثيرون في طلب أعماله الفنية. وعرض عدد كبير من الكنائس أعماله من الشمعدان النحاسي الكبير في كنيسة لونز وقبر ماكسمليان الأول في أنزبروك. وحذا أولاده الخمسة حذوه في النحت وإن كان اثنان منهم قد وافتهما المنية قبله. ومعروف أن هرمان فيشر الأصغر الذي مات في الحادية والثلاثين من عمره (1517) قد سبك زخرفاً بارزاً جميلا من البرونز لمقبرة الكردينال كازيمير في كاتدرائية كراكاو.
وكما تفوق آل فيشر في أشغال البرونز وفيت ستوس في أعمال الخشب فإن آدم كرافت بز كل معاصريه في النحت على الحجر. وقد صوره المؤرخون الألمان هو وبيتر فيشر الأكبر وسباستيان لينديناست (الذي صمم تماثيل الأمراء المتملقين على ساعة كنيسة العذراء) في صورة فنانين وأصدقاء أوفياء، "كانوا مثل الأخوة. كانوا يلتقون كل يوم جمعة، حتى عندما بلغوا من الكبر عتياً، ويدرسون معاً كأنهم صبية يتمرنون حسبما تدل عليه التصميمات التي نفذوها في اجتماعاتهم. ثم كانوا يفترقون وقد ألهاهم العمل عن تناول الطعام أو الشراب". ولعل آدم ولد في نفس العام الذي ولد فيه بيتر (1460؟) وكان مثله في البساطة والأمانة والورع والشغف برسم صورته الشخصية. ونحت عام 1492 لكنيسة زيبالدوس مقبرة لزيبالدوس شرييار عليها نقوش بارزة تمثل آلام المسيح عند الصلب والبعث وأعجب هانز رامهوف، وهو تاجر ثري بهذه البراعة فعهد إلى كرافت أن يصمم كأساً يحمل خبز ونبيذ القربان المقدس في كنيسة لورنتس(23/242)
قام آدم بصنع بيت القربان المقدس على هيئة هيكل رشيق عال من الطراز القوطي الأخير ويعد معجزة في الصياغة الدقيقة للحجر يرتفع طبقة بعد طبقة حتى يبلغ ارتفاعه أربعة وستين قدماً، ويستدق ليصبح قوساً يشبه رأس صولجان الأسقف، وتنبض الأعمدة بالحياة إذ تزخر برسوم القديسين، أما أبواب "البيت" فتحركها الملائكة، وأما الأوجه المربعة فقد نقش عليها رسوم بارزة تمثل مناظر من حياة المسيح، ويرتكز البناء الطلق الهواء كله بطريقة غريبة على ثلاثة تماثيل جاثية - آدم كرافت واثنان من مساعديه. وليس في الصورة الشخصية أي أثر للتملق، فالملابس بالية ومهلهلة من أثر الكد والنصب، والأيدي خشنة واللحية كثة والوجه العريض المرفوع إلى أعلا منكب على تصور العمل وتنفيذه. وعندما انتهت هذه الرائعة التي تأخذ بالألباب عاد كرافت إلى موضوعه الأثير فنحت سبع أعمدة من الحجر الرملي عليها مناظر تمثل آلام المسيح عند الصلب منها ستة موجودة الآن بالمتحف الألماني وأحدها واسمها "الدفن" تمثل الفن التيوتوني الأنموذجي وتمتاز بواقعية جريئة لا تحتاج إلى استكمال وتنطوي على الورع والإيمان.
واستمرت الفنون الصغرى في انتهاج نفس الصنع وطرق نفس الموضوعات وكان رسامو المنمنمات لا يزالون تنهال عليهم الطلبات للحفاظ على الطوائف الحرفية الناجحة. ورسم كبار الفنانين أمثال ديرر وهولبين تصميمات للزجاج الملون وليس من شك في أن هذا الفن الذي تدهور في فرنسا وإنجلترا وصل آنذاك إلى ذروة الإتقان في ألمانيا. وفي هذه الفترة حصلت كنيسة لونز وكاتدرائية أولم وكولونيا على نوافذ لها شهرة عالمية، ولم تكن هذه النوافذ مقصورة على الكنائس، فقد كان في دور النقابات الحرفية والقلاع بل وفي البيوت الخاصة بعض نوافذ من الزجاج الملون. وكانت المدن من أمثال نورمبرج وأوجسبورج ويجينزبورج وكلونيا وماينز تفخر بصناعها المهرة الفنانين: وهم صانعو الأدوات المعدنية الذين(23/243)
رفعوا من شأن المشاعل والثريات والصحاف والجرار والأقفال والصواني والصاغة الذين لقيت منتجاتهم، من الملاعق إلى الهياكل، تقديراً عظيماً في أرجاء أوربا، وعمال النسيج الذين نسجوا الطنافس والسجاجيد والثياب الكهنوتية والرداء المنمق لطبقة الأشراف، والنساء المتعبدات، وكن يبلين أناملهن ويرهقن عيونهن لكسوة الهياكل والقسس بالمطرزات والحرير. ولم يكن الحفارون قط في أي عهد مضى أحسن حالا منهم في هذا العهد، فإن ميكائيل فولجيموت قد حفر من الخشب أثنى عشر محراباً من أروع الأعمال، إلى جانب الرسم على الفنانين بديعتين لكنيسة لورنتس، ثم علم ديرر كيف يفوقه في هذا الفن.
وتطور فن الحفر بنقش رسم على لخشب أو النحاس في القرن الخامس عشر حتى أصبح فناً ناضجاً يجله الناس تماماً كالتصوير. وهذبه كبار المصورين ووصل به مارتن شونجاور إلى درجة الكمال. وبعض أعماله في الحفر-تعذيب المسيح وعمل الصليب والقديس جون في ياتموس وأغواء القديس أنتونى، تعد من أعظم الأعمال الفنية في كافة العهود.
وأصبح الفن الإيضاحي في الكتب بوساطة النقوش مناسبا وشائعة وسرعان ما حل محل الزخرف وتضاعف عدد أشهر اللوحات في هذا العهد بأعمال الحفر التي كانت تباع في أكشاك في المكتبات والأسواق والمهرجانات، وأظهر لوكاس فان ليدن نبوغاً مبكراً مذهلاً في هذا المجال. فقد حفر لوحته "محمد" وهو في الرابعة عشرة من عمره ولوحته "المسيح وعلى رأسه إكليل الشوك" وهو في السادسة عشرة من عمره (1510) وقارب الكمال في صورة ماكسمليان التي نقشها على النحاس واستخدم الحفر الإبري وذلك بآلة مدببة تقذف شظية أو حافة من المعدن المقتطع بطول خطوط الرسم، في صورة "سيد كتاب البيت" التي نقشها فنان مجهول حوالي عام(23/244)
1480. أما الحفر بتغطية سطح معدني بالشمع ونقش رسم بالحفر الشمع وصب حامض لينخر في الخطوط البارزة فإنه تطور من النقش على السلاح إلى الحفر على ألواح معدنية يمكن أن تطبع بها النقوش، ويبدو أن دانييل هوبفر وهو صانع قام بصنع أول "كليشيه" سجله التاريخ عام 1504 ومارس بورجكماير وديرر الفن الجديد في غير إتقان. ولعل لوكاس فان ليدن قد تعلم هذا الفن من ديرر غير أنه سرعان ما فاقه وملك ناصيته.
وكان هذا العصر أعظم عصور ألمانيا في التصوير. وقد تأثر المصورون الألمان في النصف الثاني من القرن الخامس عشر بالمدرستين الهولندية والإيطالية كما تأثروا بمصورهم مملنج المبعد عن وطنه فتدرجوا من صرامة الفن القوطي وفظاظته إلى خط يتسم بمزيد من الرشاقة، ورسم صور تتحرك في يسر في مناظر طبيعية تعكس الحياة المنزلية للبورجوازية الظافرة؛ وظلت الموضوعات الدينية هي الغالبة، وإن كانت الموضوعات الدنيوية قد أخذت تزحف قدما وأخلت النقوش الهيكلية الطريق للصور المرسومة على الخشب ولم يعد المحسنون الأثرياء يقنعون بالسير في ركاب جماعة دينية، فطلبوا أن ترسم لهم صور شخصية هم فيها كل شئ. وبرز المصورون أنفسهم من حالة إغفال الأسماء في العصور الوسطى إلى الفرديات المتميزة، وأخذوا يوقعون بإمضاءاتهم على أعمالهم تشبثا بالخلود.
ومع ذلك فإن صاحب لوحة "حياة العذراء" التي رسمت في كولونيا حوالي عام 1470 لا يزال مجهولا، وقد ترك هذا الفنان لوحة "العذراء والقديس برنار" ورسم فيها عذراء ألمانية حقيقية تعتصر من ثديها اللبن للطفل، أمام راهب ورع لا يكاد يومئ إلى كلب السماء الذي طارد أبيلارد.
ويعد ميكائيل باشير واحداً من أوائل الفنانين الذين نقلوا أسماءهم كما نقلوا أعمالهم. ولا تزال كنيسة سانت ولفجانج الأبرشية في سالتسكا مرجوت(23/245)
تعرض النقش الهيكلي الضخم الذي يبلغ طوله ستة وثلاثين قدما والذي حفره وصوره لها في السنوات من 1479 إلى 1481 وقد أسهمت دراسة المنظور في هذا الصور المرسومة على الخشب وفي تعليم الفن الألماني.
وأظهر مارتن شونجاور في تصويره حذق حفار مثقف وحس روجير فان دير فيدن المرهف. وقد ولد شونجاور عام 1445 في أوجسبورج واستقر في كولمان وطور هناك مدرسة للحفر والتصوير لعبت دوراً عظيما في بلوغ الفنون إلى الأوج في عهد ديرر وهولبين.
وفي كل عام كانت المدن النامية في الجنوب تسلب زعامة الفن الألماني من كولونيا والشمال. وفي أوجسبورج، مركز التجارة مع إيطاليا، أدخل هانز بورجكماير في لوحاته لمسات زخرفية إيطالية ومزج هانز هولبين الأكبر الزخرف الإيطالي برصانة الطراز القوطي. وخلف هانز فنه لولديه أمبروز وهانز اللذين صورهما باعتزاز في لوحاته. ولم يلمع اسم أمبروز في التاريخ ولكن هانز الصغير أصبح أحد أمجاد ألمانيا وسويسرا وإنجلترا، وكان أعظم سلف لديرر هو ماتياس جوتهارت الذي أصبح معروفا للخلف باسم ماتياس جرونيفالد بسبب خطأ ارتكبه أحد الباحثين. وقد تعلم سحر المصور من شونجاور في كولمار وذلك في مجال الوراثة الاجتماعية القديمة جدا للفن. ثم أضاف إليها تعطشه للشهرة والوصول إلى الكمال وتدرب في أناة في غنت وشبييار وفرانكفورت واختار ستراسبورج موطنا له (1479). ولعله رسم هناك أول رائعة له وهي صورة شخصية ثنائية لفيليب الثاني صاحب هانو - ليختنبرج وزوجته. والحق أن ديرر نفسه لا يستطيع أن يبزها لما يتجلى في هذه اللوحة من إدراك عميق وجمال في التنفيذ. وعاد جرونيفالد للتجوال من جديد وعمل بعض الوقت مع ديرر في بازل حيث رسم "صورة رجل" المعروضة الآن في نيويورك ثم قام(23/246)
مرة أخرى بأعمال حفر في الخشب مع ديرر في نورمبرج. واستقر عام 1503 في زليجنشتادت وهناك طور في نهاية الأمر أسلوبه المتميز الناضج - رسم مناظر من الإنجيل بإحساس مرهف ومقدرة هائلة. وعينه كبير الأساقفة ألبرخت مصورا للبلاط في ماينز (1509) ولكنه عزل جرونيفالد عندما أصر على الثناء على لوثر (1526). وتزوج وصادفه سؤ الطالع ثم انسحب وعاش في عزلة تقبض الصدر لعلها ألقت بعض الظلال السوداء على التظليل في فنه.
ومن أروع أعماله - وربما كان أعظم أعمال التصوير الألماني - الهيكل المتعدد الثنيات الذي أعده لدير في آيزن عام 1513 ويعرض اللوح الأوسط العذراء وابنها بلون ذهبي يشع بالضياء على طريقة الفنان تورنر، على مهاد من البحار النائية، ولكن اللوح البارز الذي لا ينسى رسمت عليه صورة بشعة لصلب المسيح: تمثله وهو في النزع الأخير وقد غطت جسده الجروح والعرق الممتزج بالدم، وأطرافه تتلوى من الألم، ومريم مغشي عليها بين ذراعي القديس يوحنا، وماجدالين تتميز غضباً ويرتسم على أساريرها حزن مريب، ولا تزال هناك ألواح أخرى يمكن أن تكون في ذاتها لوحات عظيمة: جوقة من الملائكة بأسلوب قوطي في البناء المعماري تتداخل فيه الألوان الحمراء والبنية الزاهية، ولوحة مرعبة اسمها "إغواء القديس أنتوني" وصورة للقديس نفسه، وناسك في غابة تزخر بالأرواح الشريرة والأشجار التالفة، وكابوس بوشي يبدو أنه يرمز إلى أحلام أنتوني. وفي غلبة اللون والضوء والإحساس بالخط والشكل والتصور فإن هذه السورة المسرحية في المقدرة التصويرية هي ذروة التصوير الألماني القوطي قبيل انتصار الخط والمنطق في فن ديرر الذي مد يديه في اشتياق إلى إنسانية وفن عصر النهضة الإيطالي على الرغم من تشبثه بصوفية ألمانيا في العصور الوسطى.(23/247)
5 - ألبرخت ديرر
(1471 - 1517)
لم يسبق لأمة أخرى غير ألمانيا أن اختارت بالإجماع أحد أبنائها ليكون ممثلا لها في الفن- فقد وقع اختيار البروتستانت والكاثوليك وأهل الشمال وأهل الجنوب على الفنان ديرر. وفي اليوم السادس من أبريل عام 1928، وبمناسبة الذكرى السنوية الأربعمائة لوفاته طرح الريخستاج في برلين ومجلس المدينة في نورمبرج الأمور السياسية والمذهبية جانباً، وذلك لتكريم فنان تحبه ألمانيا أكثر من أي فنان آخر. وفي غضون ذلك عرض خبراء الفنون دون طائل مبلغ 1. 000. 000 دولار لشراء لوحة - اسمها "عيد أكاليل الورد"، وهي لوحة تقاضى عنها ديرر مبلغ 110 جيلدر (2. 750 دولار؟).
وكان والده الهنغاري صائغا استقر به المقام في نورمبرج. وكان ألبرخت الابن الثالث من ثمانية عشر ولدا مات معظمهم في سن الطفولة وتعلم الولد في مرسم أبيه كيف يرسم بالقلم الرصاص والفحم والريشة وكيف يحفر بالنقاش، ودرب نفسه على قوة الملاحظة وتمثيل الأشياء والموضوعات بتفصيل لا يعرف الكلل، حتى أن كل شعرة تقريباً في بعض لوحاته تبدو وكأنها تلقت ضربة خاصة بها وحدها من الفرشاة. وكان الوالد يأمل أن يخلفه ابنه في حرفته كصائغ إلا أدعن لرغبة الشاب في أن يتوسع في نطاق فنه. فأرسله إلى فولجيموت ليتمرن هناك (1486) وتدرج ألبرخت في عمله ببطئ ومكنت له عبقريته في الطموح والمثابرة والصبر. وقال: "لقد حباني الله بفضيلة الجد فحسن تعليمي ولكني اضطررت أن أتجاوز عن قدر كبير من الإزعاج الذي سببه لي أعوانه" ونظراً لأنه لم تسنح له فرصة كبيرة لدراسة الجسم العاري فإنه تردد على الحمامات العامة ورسم أجساماً في جمال أبولو وذلك بقدر ما سمحت له الظروف هناك. وكان هو نفسه يحاكي(23/248)
أبولو بعض الشيء في تلك السنوات. وقد وصفه أحد أصدقائه في اعتزاز بقوله: له جسم رائع متين البناء معتدل القوام جدير بما يحمله من عقل نبيل ... وجه ذكي الملامح وعينان تلمعان وجيد طويل وصدر عريض وخصر نحيل ومنكبان قويان وساقان ثابتتان، أما يداه ففي وسعك أن تقول إنك لم تر قط يدين تبزهما في الرشاقة. أما حديثه فعذب شائق حتى ليتمنى المرء ألا ينتهي أبداً.
واجتذبته أعمال الحفر التي قام بها شونجاور فاتخذ طريقه إلى كولمار (1492) وإذا به يجد الأستاذ قد مات فتعلم قدر المستطاع من إخوة شونجاور ثم رحل إلى بازل حيث تعلم من جرونيفالد أسرار الفن الديني الخالص وكان قد أصبح رساماً بارعاً. وتحمل طبعة من رسائل سان جيروم نشرت في بازل عام 1492 على صفحتها الأولى صورة شخصية للقديس رسمها ديرر، ونالت هذه الصورة استحسان النقاد حتى تنافس ناشرون عديدون للحصول على أعماله المستقبلية. ومهما يكن من أمر فإن أباه حثه على العودة للوطن ليتزوج من الفتاة التي اختارها له إبان غيابه. وعاد إلى نورمبرج واستقر هناك وعاش مع زوجته أجنس فراي (1494).
وقد رسم نفسه قبل ذلك في صورة شاب يرتدي زياً يكاد يكون زي امرأة ويصفف شعره مثلها تقريبا، معتزاً بنفسه وخجولاً في الوقت ذاته يرتاب في العالم ويتحداه، وفي عام 1498 وكان لا يزال معجباً بوسامته ولحيته أيضاً رسم لنفسه صورة شخصية في زي نبيل شاب يرتدي ملابس فاخرة وعلى رأسه قلنسوة لها شرابة تبرز منها خصل طويلة من الشعر البني، وتعد هذه اللوحة من أعظم الصور الشخصية التي رسمها فنان لنفسه في جميع العصور. ورسم نفسه مرة أخرى عام 1500 في ملابس أكثر بساطة والوجه مستطيل بين خصل غزيرة من الشعر تتهدل فوق الكتفين، وفي العينين النافذتين بريق غامض ويبدو أن ديرر رسم نفسه هنا في صورة خيالية تشبه صورة(23/249)
المسيح لا عن زهو يتسم بالزندقة ولكن لأن له رأياً ردده كثيراً كأمر مسلم به وهو أن أي فنان عظيم هو الناطق بلسان الله وبوحي منه تعالى. وكان الغرور هو الدعامة التي يستند إليها في عمله، إذ أنه لم يضاعف من عدد صوره الشخصية فحسب، ولكنه أفسح لنفسه أيضاً مكاناً في كثير من لوحاته. وكان في بعض الأوقات يتمسك بأهداب التواضع ويدرك في أسى أن قدراته محدودة، وقال لبيركهايمر "عندما يثني علينا فإننا نشمخ بأنوفنا ونصدق كل ما قيل عنا ولكن من يدري؟ لعل أستاذا ساخرا يضحك علينا من وراء ظهورنا". أما بالنسبة لغير هذا فقد كان سليم الطوية ورعاً مخلصاً كريماً سعيداً بقدر ما تسمح الظروف.
ولم يستطيع أن يعيش مسلوب اللب مع زوجته؛ فقد انطلق إلى إيطاليا بعد زواجه بوقت قصير وخلفها وراءه. وكان قد سمع عما يطلق عليه "النمو الجديد" للفنون في إيطاليا بعد أن ظلت دفينة ألف عام. وعلى الرغم من أنه لم يسهم مطلقاً في هذا البعث للأدب الكلاسي والفلسفة والفن التي واكبت عصر النهضة فإنه كان تواقاً لأن يرى من المصدر الأصلي مباشرة ما الذي حبا الإيطاليين بهذا التفوق في الرسم والنحت والنثر والشعر. وأقام بصفة أساسية في البندقية ولم تكن النهضة قد بلغت فيها أوج الازدهار ولكنه عندما عاد إلى نورمبرج (1495) كان قد تلقى بوسيلة ما الحافز الذي أطلق شرارة طاقة الإنتاج السريعة في خلال السنوات العشر التالية. وفي عام 1507 ذهب إلى إيطاليا مرة أخرى بعد أن اقترض مبلغ مائة فلورين (2500 دولار؟) من بيركهايمر وأقام فيها هذه المرة عاماً ونصف عام.
ودرس أعمال ماتنيا وسكوارسيوني في بادو ونسخ في تواضع بعض الرسوم وسرعان ما اعترف به بليني وفنانون آخرون من البندقية رساما بارعا ونالت لوحة "عين أكاليل الورد"، التي رسمها لكنيسة ألمانية، الاستحسان حتى من الإيطاليين، وكانوا لا يزالون يعدون معظم الألمان(23/250)
برابرة. وعرض عليه سيد البندقية منصبا دائماً إذا أقام هناك ولكن زوجته وأصدقاءه ألحوا عليه في العودة إلى نورمبرج. ولاحظ أن الفنانين في إيطاليا أحرزوا مكانة اجتماعية رفيعة مكانة تفوق مكانة زملائهم في ألمانيا وقرر أن يطالب بمنزلة اجتماعية مماثلة عند عودته وكتب يقول: "إني هنا سيد مهذب أما في الوطن فأنا طفيلي" أي غير منتج لسلع مادية. وأبهجه الاهتمام بالفن في إيطاليا وكثرة الفنانين وما يدور بينهم من صراع ومناقشات الذكية والحادة التي تدور حول نظريات الفن. وعندما شرح له جاكوبودي بارباري مبادئ بييرو ديلا فرانشسكا وغيره من الإيطاليين عن النسب الرياضية للجسد البشري الكامل قال ديرر إنه "يؤثر أن يشرح له هذا خير عنده من أن يتلقى مملكة جديدة". واعتاد في إيطاليا رسم "الجسم العاري" فنيا، وقد ثقف ذلك بدراسة التماثيل القديمة وفي الوقت الذي حافظ في أعماله على الطابع التيوتوني والمسيحي فإنه شغف بالفن الوثني الذي يعجب به الإيطاليون وسعى في سلسلة طويلة من المقالات أن يعلم مواطنيه من الفلاحين أسرار المنظور والنسب والتلوين. وانتهى الأسلوب القوطي في رسم الألماني بهاتين الرحلتين اللتين قام بهما ديرر إلى إيطاليا، وهكذا قبل الجيل الألماني، الذي رفض أن يتبع روما في الدين، أن يسير على نهج إيطاليا في الرسم.
وظل ديرر نفسه في حالة توتر خلاق، وإن اتسم بالتردد بين العصور الوسطى وعصر النهضة، وبين الاتجاه الصوفي الألماني والإقبال الإيطالي على الدنيا ولم تتغلب في روحه قط بهجة الحياة التي رآها في إيطاليا على التأمل في الموت. وإذا استثنينا صوره الشخصية فإن موضوعاته ظلت برمتها تقريبا دينية، وكان كثير منها صوفية. ومع ذلك كان الفن دينه الحقيقي. كان يعبد الخط الكامل ويؤثره بالعبادة على محاكاة المسيح. وقد أظهر حتى في أعماله الدينية اهتمام الفنان الشديد بكل الأشياء التي تعرض له حتى في(23/251)
الحياة اليومية العادية ورسم مثل ليوناردو كل شئ تقريبا .. صخورا وجداول ماء وأشجارا وجيادا وكلابا وخنازير، وجوها قبيحة وأشكالا قميئة وكائنات خيالية لها شكل عجيب أو مروع. ورسم ساقه اليسرى كما ترى في أوضاع مختلفة وبعج وسادة لتتخذ سبع أشكال مختلفة لدراستها بريشته التي لا تعرف الكلل. وحشد في عمله معرضا حقيقيا للحيوان ورسم أحيانا مدينة كاملة لتكون مهادا لإحدى لوحاته. وصور حياة الناس وأعمالهم في الريف بنشوة وفكاهة. وكان يحب الألمان فرسم رؤوسهم الضخمة وسمات وجوههم التي تنزع إلى الحمرة دون احتجاج وعرضهم في البيئات غير المتوقعة حتى في روما أو فلسطين وهم يرتدون دائما ملابس فاخرة مثل أبناء الطبقة الوسطى من السراة ويتدثرون ويتلفعون وكأنهم يتقون برد ألمانيا، ورسمه وصف أثنوجرافي لأجيال نورمبرج، وكان أهم عملائه الأثرياء من التجار الذين خلد ذكرهم في لوحاته - ومع ذلك فقد تلقى مكافآت من الدوقات والأمراء المختارين في الإمبراطورية، وأخيرا من ماكسمليان نفسه، وكما كان تيسيان يحب أن يصور طبقة الأشراف والملوك، فإن ديرر كان يألف تصوير أبناء الطبقة الوسطى، ولقد جعلت هذه الصورة، التي حفرها على الخشب، الإمبراطور يبدو كما وصفه لويس الثاني عشر "عمدة أوجسبورج". ورسم ديرر مرة واحدة في حياته النبالة في صورة - وهي صورة خيالية لشارلمان.
وله ست وثلاثون صورة شخصية تعد من أحسن أعماله التي تقربها العين ويسر بها الفؤاد، لأنها بسيطة وحسية دنيوية زاخرة بما يميزها من شخصيات. انظر إلى صورة هيرونيموس هولتسشوهر عضو مجلس الشيوخ في نورمبرج، رأس ينم على القوة ووجه صارم الملامح وشعر ناحل على جبهة عريض ولحية مهذبة في تناسق تام وعينان حادتان كأنه يرقب بهما السياسيين، ومع ذلك فإن فيهما شروع في بريق. نحن أمام رجل طيب القلب(23/252)
مرح حسن الشهية. أو تأمل صورة ويليبالد بيركهايمر، وهو أعز أصدقاء ديرر، رأس ثور يخفي عقل علامة ويشير إلى شهوات معدة جارجانتوا. ومن كان يتوقع أن وجه فردريك الحكيم الضخم، حكيم ساكسونيا، بتقاطيعه المتغضنة المهدلة، يخفي وراءه الأمير المنتخب الذي تحدى البابا ليحمي لوثر؟ إن كل صور الأشخاص تقريبا تخلب اللب. صورة أوزفولت كريل الذي يبدو تركيزه الحاد حتى في عروق يديه أو صورة برناردفون رستن بالصدار الأزرق الرقيق والقبعة العريضة الفخمة والعينين المتأملتين لفنان مستغرق أو صورة جاكوب موفيل عمدة نورمبرج، وهي استغراق في الفكر للتعبد الجاد، وهي تلقى بعض الضوء على عظمة المدينة وثرائها، أو صورتا والد ديرر وهو يبدو في إحداهما منهوك القوى من النصب عام 1490، وفي الثانية خائر القوى إلى أقصى حد عام 1497، أو صورة سيد مهذب في البرادو - رجواة مجسمة تدنسها القسوة والجشع، أو صورة اليزابث توخر وهي تحمل خاتم زواجها متطلعة إلى إتمام الزواج في خفر، أو صورة سيدة من البندقية التي اضطر ديرر من أجلها أن يسافر إلى إيطاليا ليجد الجمال والقوة. وقلما تجد في صور من رسمهم من الذكور رقة، وهي تخلو من الرشاقة، وإن بدت فيها دائماً قوة الشخصية. قال: "إن ما لا يفيد في الرجل ليس جميلا"، وكان يهتم بالواقع وحكايته بأمانة أكثر من اهتمامه بجمال القسمات أو الشكل، وقد أشار إلى أن الفنان يستطيع أن يرسم بالرصاص أو يصور بالزيت صورة جميلة لشيء قبيح أو لموضوع كريه. كان تيوتونيا فطر على الجد وتقديس الواجب والإخلاص، وقد ترك الجمال والرشاقة للسيدات وركز على القوة في الرجال.
ولم يكن مبرزاً في التصوير، ولم يكن الرسم ينسجم مع ذوقه، ولكن زيارته لإيطاليا أثارت فيه الرغبة في أن ينشد اللون والخط معاً. وصور هيكلا متعدد التنيات عرف فيما بعد باسم مذبح درسدن، وذلك لفردريك صاحب ساكسونيا(23/253)
والكنيسة الملحقة بقصره في فيتنبرج. وهنا نجد أن الأساليب الإيطالية في النسبة والمنظور قد شكلت إطار الأجسام بأسلوب ألماني بحت: سيدة ألمانية تمثل العذراء، وأستاذ يمثل القديس أنتوني، وشماس معمداني ألماني يمثل القديس سباستيان، والنتيجة صورة فذة. وأبدع منها الصور والنقوش الهيكلية لباومجارتنر في ميونخ: صورة رائعة للقديس يوسف والعذراء مريم فوق مهاد معماري من الأطلال الرومانية. ولكن صدر الصورة قد شوهته أقزام سخيفة، أما صورة عبادة المجوس في الأوفيزي فهي انتصار للون يتمثل في رداء العذراء الأزرق والثياب الفخمة التي يرتديها الملوك الشرقيون، ولوحة المسيح بين الأطباء تبين عيسى الوسيم، له خصلات شعر فتاة، ويحيط به ثقات نحارير من ذوي اللحى والوجوه المتغضنة - أحدهم يشبه صورة هزلية كله أنف وأسنان. وصورة عيد أكاليل الورد تضارع الصور الإيطالية في هذا العهد، بتكوينها البارع وجمال الأم والطفل معا وروعة اللون بصفة عامة، وتعد أعظم لوحة لديرر، ولكن على المرء أن يجازف بقطع كل الطرق إلى براغ ليشاهدها. وفي فينا وبرلين لوحات جذابة من عمل ديرر لمريم العذراء؛ وفي نيويورك لوحة للعذراء والطفل مع القديسة آن، وهي تقدم لنا فتاة ألمانية رقيقة، تمثل العذراء، وسيدة سامية سمراء تمثل أمها، وما أروع اللوحات في البرادو التي تصور آدم وحواء، فهنا نتوقف لحظة لنجد فناناً ألمانيا يظهر لنا جمال أنثى صحيحة البدن وهي عارية. ولقد ثبط من همة ديرر المكافأة القاصرة التي حصل عليها من التصوير، وربما أوهن من عزيمته اضطراره إلى تكرار الموضوعات الدينية القديمة، فتحول بصورة متزايدة إلى عمل يدر عليه ربحاً أكثر، ويتسم بمزيد من الأصالة، وهو نحت الخشب والحفر، لأن لوحا واحداً في هذه الحالة يكفي لصنع ألف نسخة يمكن نقلها بسهولة إلى كل سوق في أوروبا، ويمكن أن تزود ألف مجلد مطبوع بالرسم نفسه.(23/254)
كانت براعة ديرر تتجلى في رسم الخط وكان الرسم مملكته التي لا يبزه فيها رجل من الأحياء وقتذاك، بل إنه في هذا المجال أذهل برقته المتناهية الإيطاليين المزهوين بأنفسهم. ولقد شبه أرازموس كرسام بأستاذ قديم بارع في الخط فقال: إن أبيلز كان يتعين باللون ... أما ديرر فما الذي لا يستطيع أن يعبر عنه بلون واحد؟ ... والنسب والإيقاعات المنسجمة؟ كلا إنه يرسم ما لا يمكن تصويره - النار وأشعة الضوء والرعد .. والبرق .. وكل الأحاسيس والانفعالات في رقة، وعقل الإنسان بأسره وهو يعكس نفسه بسلوك الجسد، بل إنه يكاد يرسم الصوت نفسه، وهو يضع هذه الأشياء أمام الأعين بأصلح الخطوط خطوط، سوداء، ومع ذلك فإنك لو نشرت عليها ألواناً لأضررت بالعمل الفني. ثم أليس عجيباً أن يحقق فنه دون أن يتوسل باللون ما حققه أبيلز متوسلاً بها؟
ورد ديرر على هذا الإطراء بحفر صورة شخصية لارازموس (1526) ولم يجلس من أجلها أرازموس أمامه ولكنه رسمها عن صورة من عمل ماسيس، وهي إن كانت لا تضارع هذه الصورة الشخصية، ودون الصورة التي رسمها هولبين؛ فإنها من روائع الرسم مع هذا كله، وذلك للبراعة في تصوير ثنيات العباءة وظلالها وتجاعيد الوجه واليدين والأوراق المطوية للكتاب المفتوح.
وقد خلف لنا ديرر أكثر من ألف صورة معظمها يعد معجزات من التصميم الواقعي أو المعبر عن الورع أو الخيال الخارق، وبعضها صور هزلية صريحة، وإحداها تصور السن والحكمة في دقة متناهية، ومن آن لآخر يكون الموضوع من ذلك النوع الذي لا ينبض بالحياة، كما في لوحة الطاحونة، أو مجرد خضرة خالصة مثل لوحة "المرج"، أو حيواناً مثل صورة رأس فيل البحر. وتحتشد عادة النباتات والوحوش حول أشخاص أحياء، كما في اللوحة المركبة "السيدة العذراء مع حشد من الحيوانات"، أما الموضوعات الدينية فهي أقل أعماله نجاحاً، ومع ذلك فإننا يجب أن نستثني وتقدر اللوحة الرائعة المسماة(23/255)
"يدا رسول يصلي". وأخيراً فثمة دراسات رائعة في الأساطير القديمة مثل لوحة أبولو وصورة أورفيوس.
وقد حول ديرر نحو 250 من رسوماته إلى أعمال من الخشب المحفور المنحوت ومائة إلى حفر، وهاتان المجموعتان تمثلان أروع جانب يستحق التقدير من تراثه. ولقد حفر بنفسه التصميمات حتى مدار القرن، ثم عهد فيما بعد بحفر الخشب إلى آخرين. وما كان، بغير هذا التعاون، ليستطيع أن يصور مثل هذا القطاع الواسع من الحياة. وقد بدأ بتصوير رسوم لكتب مثل الفارس "فون تورن"و"الطيش" لسباستيان برانت، ورسم بعد عشرين عاماً صوراً هامشية لكتاب الصلوات الخاص بماكسمليان. وجرب ريشته في رسم الجسم العاري، ونجح نجاحاً عظيماً في لوحة "حمام الرجال" ولم يبلغ الشأن نفسه في صورة "حمام النساء"، وقد أفاد في كليهما كدافع ثوري للفن الألماني الذي كان قد أعرض عن رسم الجسم العاري باعتباره عملاً فاضحاً أو تبديداً للأوهام. واشتهرت أعمال الحفر في الخشب، التي صورت حياة العذراء وآلام المسيح عند الصلب، فقد غدا في وسع النساء المتعبدات وقتذاك أن يتأملن، وهن يصطلين بجوار مدافئهن، صورة مطبوعة تبين خطبة يوسف ومريم، وكان الألمانيون العمليون يسرهم أن يجدوا في صورة إقامة العائلة المقدسة في مصر كل التفاصيل المريحة للألفة والجد اللذين عرف بهما الشعب التيوتوني-مريم تحيك الثياب، ويوسف يعمل وهو جالس على دكته، وأطفال عليهم مسحة ملائكية يحضرون الحطب دون أن يطلب أحد ذلك منهم. وثمة سبع وثلاثون صورة من أعمال حفر الخشب الصغير- "آلام المسيح الصغرى"- وإحدى عشرة صورة أكبر-"آلام المسيح الكبرى"- عرضت قصة تعذيب المسيح ووفاته في آلاف البيوت، ونبه شوق الرأي العام لترجمة لوثر للعهد الجديد. وثمة سلسلة أخرى من الصور زينت سفر الرؤيا وبعضها حفر على الخشب مثل "الفرسان الأربعة في سفر الرؤيا" والقديس مايكل يقاتل التنين وكانت من النضارة والوضوح(23/256)
بحيث ظل لذهن الألماني قرونا طويلة يفكر في سفر الرؤيا كما عبر عنها ديرر برسومه.
وتجاوز مرحلة حفر الخشب إلى فن يحتاج إلى مزيد من الجهد هو فن النقش، وحاول بين الفينة والفينة النقش بالحفر الإبري، كما في الصورة المظللة "العائلة المقدسة" وكان عادة يعمل بإزميل. و"سقوط الإنسان" نقش على النحاس في أشكال تليق باليونان وفي نسبة وتناسق جديرين بالإيطاليين مع ما عهد في ديرر من إسراف في رسم الحيوان والنبات، حيث نجد إن لكل وحدة تقريباً دلالة رمزية بالنسبة له ولجيله. وبرزت إناث عاريات في روعة لم يسبق لها مثيل في الفن الأماني من المعدن، وذلك في صورة "وحش البحر" و"الصراع بين الفضيلة واللذة"، بخلفية من المناظر الخلوية رسمت ببراعة.
أما الستة عشرة صورة من الحفر والتي تكون "آلام المسيح منقوشة" فإنها أقل تأثيراً من صورة "تعذيب المسيح" المحفورة على الخشب، ولكن صورة القديس ايوستاس فهي مجموعة من الرسم الحية: خمس كلاب وجواد وغابة، وحشد من الطيور وسلسلة من القلاع فوق تل، وغزال يحمل صليباً بين قرنيه، ويتوسل إلى الصياد أن يعفيه من القتل ويغريه بأن يصبح قديساً.
وبلغ ديرر في عامي 1513 و1514 الذروة كرسام في ثلاث رائعات من الحفر، فالفارس والموت والشيطان نسخة قوية من موضوع كئيب من القرون الوسطى .. فارس صارم الملامح بالدروع والسلاح، يمتطي صهوة جواد فيروكشي، تكتنفه صورة قبيحة للموت والشيطان، ومع ذلك فإنه يتقدم إلى الأمام في إصرار منتصراً للفضيلة على كل شئ، ويبدو أن أحداً لا يصدق أنه يمكن نقش صورة في المعدن بمثل هذه المبالغة والدقة في التفاصيل. فصورة القديس جيروم في قاعة درسه، توضح مرحلة أهدأ من انتصار(23/257)
المسيحي .. القديس العجوز الأصلع منحن فوق مخطوطته يكتب على ما يبدو في ضؤ هالته وعلى الأرض، ومعه في هدوء أسد وكلب، وعلى أسكفة النافذة تجثم جمجمة في سكون مبين، وما يبدو في نظر كل الناس قبعة زوجته معلقة على الحائط، وكل الحجرة مرسومة بمنظور روعيت فيه القواعد، ورسمت فيها كل الظلال وأشعة الشمس بدقة فائقة. وأخيراً فإن النقش، الذي أطلق عليه ديرر اسم "السوداء"، يكشف عن ملاك يجلس في وسط أنقاض مبنى لم يتم، وتحت قدميه خليط من الأدوات الميكانيكية والآلات العلمية، ويتدلى من منطقته كيس ومفاتيح رمزاً للثروة والسلطان، ويستند برأسه مفكراً على إحدى راحتيه، وعيناه تحملقان حولها ما في شئ من الدهشة وشئ من الفزع. أتراه يتساءل لأي غرض يبذل كل هذا الجهد، وما فائدة هذا البناء، والهدم والبناء، وهذا السعي الحثيث وراء الثروة والسلطان والجري وراء السراب الذي يسمى الحقيقة ومجد العلم هذا وبلبلة ذوي الفكر وهو يكافحون عبثا الموت المحتوم؟ وهل يمكن أن يكون ديرر في بداية العصر الحديث نفسه قد أدرك المشكلة التي واجهها العلم الظافر وهي مشكلة الوسائل التقدمية التي أساءت استخدامها الغايات التي لا تتغير؟
وهكذا دخل ديرر عصر لوثر بالرسم تلو الرسم والتصوير وراء التصوير، بدأب جهيد وصبر يختلفان عن تسويف ليوناردو وترف رافائيل، واشترى حوالي عام 1508 البيت الذي أضفى الشهرة على نورمبرج، وقد دمر منه. وكان الطابقان فيه من الحجر، أما الطابقان الثالث والرابع فمن الخشب المكسو بالملاط، وفوق طنف بارز يجثم طابقان آخران تحت السقف الهرمي. وهناك عاش ديرر تسعة عشر عاماً في بؤس غير مفرط مع زوجته العقيم. وكانت أجنس ربة بيت بسيطة وتعجب لماذا يمضى ألبرخت هذا الوقت الطويل في دراسات لا تسمن ولا تغنى من جوع، أو مع أصدقاء يدمنون(23/258)
الشراب. كان يتحرك في دوائر لا تستطيع أن تدركها بعقلها القاصر وكان يهملها من الناحية الاجتماعية، وكثيراً ما كان يسافر دون أن يصحبها معه، ولكنه عندما اصطحبها معه إلى الأراضي الواطئة، كان يتناول غذاءه مع الشخصيات المشهورة أو مع أحد ضيوفه ويترك زوجته تتناول طعامها في (المطبخ الأعلى) مع خادمتهما. وفي عام 1504 انضمت إلى ديرر والدته الأرملة لتعيش معهما في البيت واستمرت معهما عشر سنوات. والصورة التي رسمها لها تثير عطفنا على الزوجة - ولم تكن جد فاتنة - ولقد رأى أصدقاؤه في أجنس امرأة سليطة اللسان، لا تستطيع أن تشارك ديرر حياته الفكرية المستغرقة.
وفي سنواته الأخيرة تمتع أستاذ نورمبرج بشهرة تعم قارة أوربا، باعتباره رائداً للفن الألماني ومفخرة له. وفي عام 1515 منحه الإمبراطور معاشاً متواضعاً قدره مائة فلورين في عام (2,500 دولار؟)، وكان يدفع له بصورة غير منتظمة، لأن دخل ماكسمليان كان لا يتفق أبداً مع خططه.
وعندما مات ماكسمليان توقف المعاش، فقرر ديرر أن يزور الأراضي الواطئة ويطلب تجديد معاشه من شارل الخامس. وأخذ معه مجموعة منوعة من الرسوم والصور الزيتية لبيعها أو يقايض عليها في هولندا أو في الفلاندرز. واستطاع بذلك أن يدفع كاف نفقات الرحلة تقريباً. وتكاد تبدو في اليوميات التي احتفظ بها عن جولته (يوليو 1520 - يوليو 1521) وإن لم تكن تماماً - شخصية مثل التي كتبها بوزويل بعد قرنين آخرين، فهي تسجل نفقاته ومبيعاته ومشترياته وحفلات تكرينه، وتكشف عن عناية ابن الطبقة الوسطى بالتفاصيل المالية، وابتهاجاً لفنان بالاعتراف بعبقريته، وهو أمر يغتفر له. ولقد حصل ديرر على الحق في تجديد معاشه بعد مطاردة شارل في اثنتي عشرة مدينة، وهكذا استطاع أن يخصص باقي رحلته لمشاهدة مناظر الأراضي الواطئة وأبطالها. وأذهلته ثروة غنت وبروكسل وبروجز وروعتها،(23/259)
ومذبح آل فان أيك المتعدد الطيات في كنيسة سانت بافون. وكاتدرائية أنتوب "التي لم أر لها مثيلا في الأراضي الألمانية". والتقى بأرازموس ولوكاس فان ليدن وبرنايرت فان أورلي وآخرين من وجهاء الأراضي الواطئة، ورحبت به طوائف الفنانين في تلك المدن، وأصيب بالملاريا في مستنقعات تسيلاند المليئة بالبعوض فأتلفت صحته فيما بقي له من عمر.
ويقول في صفحة من يومياته: "لقد اشتريت كراسة لوثر الدينية بخمس بنسات فضية وأعطيت واحدة لإدانة هذا الرجل القوي". وفي أنتورب (مايو 1521) سمع شائعة تقول إن لوثر "قبض عليه غدراً" وهو يرحل عن مجلس نواب (دايت) ورمز، ولم يعرف ديرر أن هذا الإبعاد إنما قصد به حماية هذا المصلح العظيم وخشي أن يكون لوثر قد قتل فكتب في يومياته دفاعاً حاراً عن الثائر متوسلاً بأرازموس أن يخف لنجدة أنصاره: "إذن فقد اختفى هذا الرجل الذي أنار عقله الروح القدس ليتابع الحقة ... وإذا كان قد تعذب فإن هذا في سبيل الحقيقة المسيحية ضد البابوية غير المسيحية التي تعمل ضد حرية المسيح وتستنزف دماءنا وعرقنا لتقتات به وتعيش في ترهل في الوقت الذي تحيا فيه الشعوب في مسغبة. رباه! إن الناس لم تسحق قط بمثل هذه القسوة تحت وطأة القوانين التي من صنع البشر، كما حدث لهم تحت كرسي الأسقفية الرومانية ... إن كل إنسان يرى مدى الوضوح الذي أعلنت به العقيدة في كتب لوثر وكيف أنها تطابق ما ورد في الإنجيل المقدس. إننا يجب أن نصون هذه الكتب من أن تحرق بل دعونا نقذف في النار الكتب التي تعارضه ... وأنتم أيها المسيحيون الأتقياء جميعاً ابكوا معي حزنا على فقد هذا الرجل، وصلوا للرب أن يرسل لنا هادياً آخر. وأنت ياأرازموس الروتردامي أين تقيم؟ ألا ترى الظلم والاستبداد الأعمى للسلطات الحاكمة الآن؟ استمع ألي يا فارس المسيح واركب بجانب سيدنا كما هو حالك ... أنت أيضا تستطيع أن تفوز(23/260)
بتاج الشهيد. اجعل صوتك مسموعاً يا أرازموس، فعسى الله الذي يحكم على أعمالك أن يظهر تمجيده فيك":
وعندما عاد ديرر إلى نورمبرج وقف حياته كلها تقريبا على الفن الذي يتسم بالطابع الديني، مع الاهتمام الفائق بالأناجيل من جديد. وأتم عام 1526 أعظم مجموعة من لوحاته - الرسل الأربعة - وهي تسمية غير صحيحة لأن مرقس المبشر الإنجيلي لم يكن واحدا من الحواريين الأثنى عشر، ولكن لعل هذا الخطأ يشير إلى البروتستانت في العودة من الكنيسة إلى الأناجيل. واللوحتان من بين الممتلكات التي يعتز بها "بيت الفن" والذي جمعت فيه ميونخ، التي أضرت بها الحرب، مجموعتها الفنية الشهيرة. وإحدى اللوحتين تصور يوحنا وبطرس، والأخرى تصور مرقس وبولس، والأربعة كلهم يرتدون ثياباً زاهية اللون، لا تكاد تتفق مع قديسين من عامة الصيادين، وفي هذه الملابس عكف ديرر على تصوير المثال الإيطالي بينما أكد تأثير بيئته الألمانية في الرؤس العريضة الضخمة. ولعل هذه الصور قصد بها أن تكون أجنحة لمذبح ثلاثي الطيات في كنيسة كاثوليكي. ولكن مجلس نورمبرج أعلن عام 1525 تأييده للإصلاح الديني. فتخلى ديرر عن فكرة عمل صورة مذبح، وقدم اللوحات إلى المدينة، وألحق بكل لوحة نقوشا تؤكد بإصرار أهمية الأناجيل؛ وعلى الرغم من وجود المفاتيح في يد بطرس - وهي تعد عادة أداة تمثل الكنيسة الرسمية المقدسة وسلطات الكنيسة - فإن من الممكن تفسير هذه اللوحات بأنها عهد ديرر البروتستانتي.
ولم يبق من عمره آنذاك إلا عامان وكان يعاني من نوبات متعاقبة من حمى الملاريا حطمت وروحه معا. ولقد رسم في عام 1522 آخر صورة له باسم رجل الأحزان، وتصوره عاريا أشعث الشعر شاحب الوجه، عليلا يقاسي من الألم، ويمسك في يديه سوط تعذيب المسيح، وظل مع ذلك(23/261)
يعمل إلى النهاية وعندما مات (6 أبريل سنة 1528) بالغاً من العمر سبعة وخمسين عاما ترك من الرسوم والصور المحفورة في الخشب والنقوش إلى جانب 6000 فلورين - ما يكفي لإعالة عائلته في يسر كئيب، وذلك فيما تبقى لها من العمر. وها هو بير كهايمر يقول في رثائه: "خير صديق لي في حياتي" وكتب نقشاً تذكارياً متواضعاً على القبر: "ما كان فانياً من ألبرخت ديرر يرقد تحت هذه الربوة".
ولقد افتقد ديرر الغاية السامية باعتباره فناناً، ذلك لنه ضحى بمهمة الفن العظمى في سبيل مهمة أقل وزنا .. كان يفتتن برؤية الأشكال العابرة للأشخاص والأماكن والأشياء، وهي تدب فيها الحياة تحت يديه إلى حد جعله يستغرق بصفة أساسية في تصوير الواقع - سواء أكان جميلاً أم قبيحاً، له معنى أو لا معنى له - ولم يكن يمزج إلا عرضاً العناصر المتناثرة للإدراك الحسي لتكتفل في خيال خلاق، ثم تعود مجسمة في خط أو لون وجمال مثالي، يكشف لنا عن أهداف يسعى إلى تحقيقها أو يكشف عن رؤى تيسر الفهم أو تحقق الهدؤ، ولكنه ارتفع إلى مستوى نداء عصره فحفر في الخشب أو نقش على النحاس سيرة ذاتية لجيله المترصد المنتج وأن ريشته أو قلمه الرصاص ومنقاشه أو فرشاته استدعت الأرواح الخفية للرجال المقتدرين الذين وطأوا بأقدامهم مسرح ذلك العصر.
ولقد جعل تلك الحقبة من الزمن تعيش لنا أربعة قرون بكل ما فيها من حماسة وولاء وخوف ووهم، واحتجاج وحلم وورع ... كان ألمانيا.
6 - علماء الإنسانيات الألمان
كانت ألمانيا بلداً فتياً في الآداب مثلما كانت في الحياة والفن ... وانتشر تعلم القراءة والكتابة، وصدرت الكتب متدفقة من ستة عشر ناشرا(23/262)
في بازيل، وعشرين في أوجسبورج، وواحد وعشرين في كولونيا، وأربعة وعشرين في نورمبرج. ولقد كان هناك أنطون موبيرجر الذي استخدم وحده أربعا وعشرين مطبعة ومائة رجل، وكان الاتجار في الكتب يحتل جانبا كبيرا من التجارة الرائجة بالأسواق في فرانكفورت وسالزبورج ونوردلينجن وأولم، حتى قال أحد المعاصرين الألمان "إن كل إنسان اليوم يريد أن يقرأ ويكتب". وكتب آخر يقول: "لا نهاية للكتب الجديدة التي تؤلف". وتضاعف عدد المدارس في المدن، وكانت كل مدينة تقدم مكافآت أو منحا دراسية للطلبة الفقراء من الممتازين، وأنشئت تسع جامعات جديدة في هذه السنوات للتعليم الجديد. ونهضت أكاديميات أدبية في ستراسبورج وأوجسبورج وبازيل وفيينا ونورمبرج وماينز، وفتح أبناء الطبقة الوسطى الأغنياء أمثال بويتنجر وبيركهايمربل والإمبراطور ماكسمليان نفسه مكتباتهم وعرضوا مجموعاتهم الفنية للناس، وتبرعوا بأموالهم للدارسين المتلهفين للدرس، وكان كبار رجال الدين أمثال جوهان فون دالبرج أسقف ورمس وألبرخت البراندنبرجي، كبير أساقفة ماينز، أنصاراً مستنيرين للدراسة والشعر والفن، ورحبت الكنيسة في ألمانيا بعصر النهضة، وهي في هذا كانت تحذو حذو البابوات، ولكنها تشددت في الدراسات اللغوية لنصوص الكتاب المقدس وآباء الكنيسة. وطبعت النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس ستا وعشرين طبعة في ألمانيا بين عامي 1453 و 1500، وكانت هناك عشرون ترجمة للكتاب المقدس قبل ترجمة لوثر. وليس من شك في أن انتشار العهد الجديد بين الناس قد أعدهم لتقبل ما أعلنه لوثر متحديا لتناقض الأناجيل مع الكنيسة، وأن قراءة العهد القديم أسهمت في تهويد البروتستانت للمسيحية من جديد.
وكانت الحركة الإنسانية في ألمانيا بادئ الأمر-وبعد شغفها بلوثر- أكثر مطابقة للعقيدة كما علم اللاهوت منها في إيطاليا، ولم يكن لألمانيا ماض قديم مثل إيطاليا ولم يتح لها أن أفادت من غزو روما الإمبراطورية(23/263)
لها وتعليمها، ولم يكن هناك رباط مباشر بينها وبين العهد القديم غير المسيحي وكانت ذاكرتها لا تكاد تتجاوز القرون التي دانت فيها المسيحية، وكان تضلعها في العلم لا يكاد يقتحم ما قبل عهد آبائها المسيحيين، وكانت نهضتها إحياء للمسيحية الأولى أكثر منها إحياء للآداب والفلسفة الكلاسية. وطوى الإصلاح الديني النهضة في ألمانيا.
ومع ذلك فإن مذهب الإيمان بالإنسان في ألمانيا اقتدى بزعامة إيطاليا، إذ أن بوجيو باتشيوليني وإنياس سيلفيوس وآخرين من علماء الإنسانيات جاءوا معهم بالبذرة عند زيارتهم لألمانيا، كما أن الألمان من الطلبة والحجاج ورجال الدين والتجارة والدبلوماسيين الذين زاروا إيطاليا عادوا وهم يحملون معهم - ولو عن غير قصد-لقاح عصر النهضة. ولقد تلقى رودولفوس اجريكولا، وهو ابن قسيس هولندي يرعى أبرشية، الكثير من التعليم في ارفورت وكولونيا ولوفان، ووقف سبع سنوات من عمره على التعليق في دراسات اللاتينية واليونانية في إيطاليا، ثم عاد ليدرس في جروتنجن وهيدلبرج وورمس. وتعجب أهل العصر من فضائله غير المألوفة من الجماهير. التواضع والبساطة والأمانة والورع والعفة. وكتب باللغة اللاتينية ما يكاد يكون جديراً يشيشرون، وتنبأ بأن ألمانيا سوف "تبدو يوما وهي لا تقل لاتينية عن اللاتيوم". والحق أن هولندة أجريكولا قد أنجبت في الجيل التالي أرازموس وهو عالم باللغة اللاتينية إلى حد يتيح له أن يحس بأنه في وطنه لو قدر له أن يعيش في روما تاسيتوس وكوينتيليان.
وأصيب أجريكولا في رحلة قام بها إلى روما بالحمى التي قضت عليه في هيدلبرج وهو في الثانية والأربعين من عمره (1485).
وكان يضارعه في النفوذ -لا في دماثة الطبع- جاكوب ويمفيلنج، وكان مزاجه حاداً بقدر ما كانت لاتينية رقيقة. وقرر ناظر المدرسة الألماني(23/264)
هذا أن يرفع ألمانيا إلى مستوى إيطاليا في التعليم والآداب، فوضع خططا لإنشاء نظام المدارس العامة، وأسس جمعيات من المتعلمين، وأدرك مع ذلك مدى الخطورة إذا تحقق التقدم الفكري دون أن يصحبه تطور أخلاقي. وتساءل قائلا: "ما فائدة تعليمنا إذا كانت أخلاقنا غير شريفة بفعل التناظر أو صناعتنا كلها لا تقترن بالورع، أو معركتنا كلها لا تحث على حب جارنا، أو كانت كل حكمتنا تفتقر إلى التواضع؟.
ويعد جوهانس تريثميوس راهب سبونهايم آخر علماء الإنسانيات المحافظين وهو الذي كتب عام 1496: "لقد ولت إلى غير عودة أيام تشييد الأديرة، أما أيام هدمها فآتية لا ريب فيها". ووصف سلتس، وهو عالم إنسانيات أقل إخلاصاً زميله تريثميوس بأنه "زاهد في الشراب، يزدري لحم الحيوان ويعيش على الخضر والبيض واللبن، كما كان يفعل أسلافنا في الوقت الذي ... لم يكن هناك أطباء يشرعون في تركيب أدوية لداء النقرس والحمى". وأصبح في خلال حياته القصيرة متفننا في علوم جمة، بارعا في اللغات اللاتينية واليونانية والعبرية وآدابها، وقد قام بمراسلة أرازموس وماكسمليان والأمراء الإمبراطوريين المختارين، وشخصيات مشهورة أخرى وفسر عامة الناس في هذا العهد معارفه المكتسبة على أساس نظرية تذهب إلى أنه كان يملك قوى خفية خارقة. ومهما يكن من أمر فإنه مات وهو في الرابعة والخمسين من عمره (1516).
وكان كونرادوس سيلتس أقوى علماء الإنسانيات الألمان غيرة وأعظمهم أثراً، ولقد كان من مدينة وكأنه أديب جوال عجول يدرس في إيطاليا وبولندة وهنغاريا، ويعلم في كولونيا وهيدلبرج وكراكاو وبراغ وماينز وفيينا وانجولستادت وبادوا ونورمبرج، وكشف عن مخطوطات ثمينة كانت مهملة مثل مسرحيات هورتسويذا، وخرائط قديمة مثل تلك الخريطة(23/265)
التي أعطاها لبويتنجر وحملت اسمه. وكان يجمع حوله الدارسين أينما ذهب ويبث فيهم شغفه بالشعر والأدب الكلاسي والآثار الألمانية القديمة. وفي عام 1447 توَّجه الإمبراطور فردريك الثالث في نورمبرج أميراً للشعراء في ألمانيا. وأسس سيلتس في ماينز (1941) جمعية الراين الأدبية الواسعة النفوذ وكانت تضم علماء وفقهاء في الدين وفلاسفة وأطباء ومؤرخين وشعراء ومحامين، أمثال أولريخ تسازيوس الفقيه القانوني الضليع وعلماء أمثال بيركهايمر وتريثموس ورويخلين وويمفيلنج. وأنشأ في فيينا، بأموال زوده بها ماكسمليان، أكاديمية للشعر أصبحت فيما بعد قسماً محترماً من الجامعة يعيش فيه الأساتذة والطلبة معاً في البيت نفسه وينهضان بالعمل ذاته. ويبدو أن سيلتس خسر عقيدته الدينية في خلال دراساته، فقد أثار مثل هذه الأسئلة: "هل تحيا الروح بعد الموت؟ " و"هل هناك إله حقاً؟ " وفي أسفاره اصطحب نماذج كثيرة من الجنس اللطيف ولكنه لم يصحب واحدة منهن إلى المذبح، وانتهى أمره إلى أن يقول في غبطة: "ليس هناك تحت الشمس أحلى من عذراء جميلة بين ذراعي رجل تبدد همومه".
ولقد انتشر هذا الانحلال المريب وأصبح بدعة بين علماء الإنسانيات الألمان في العقود الأخيرة قبل لوثر. وكتب أيوبان هيسى Heroides Christiane " الاستشهاد المسيحي" (1514) بلغة لاتينية سليمة، وقلد فيه أوفيد في المجون أكثر مما قلده في الشكل، وتضمن خطابات حب من المجدلية إلى عيسى، ومن مريم العذراء إلى الأب المقدس، ولكي يقرن الفعل بالقول عاش في انحلال مثل تشليني وفاق في الشراب جميع من نافسوه ولم ير بأساً في أن يفرغ في بطنه دلوا من الجعة في جرعة واحدة.
ومهما يكن من أمر فإن كوثرادوس موتيانوس روفوس استطاع أن يوفق في رفق بين مذهب الشك والدين، ولقد اكتفى بعد أن فرغ من الدراسة في ديفنتر وارفورت وفي إيطاليا، بمنصب ديني متواضع في جوتا ووضع(23/266)
على بابه هذا الشعار، "أيها السكون المقدس السعيد" Beata tranquilte، وجمع حوله الطلبة المعجبين وعلمهم "أن يقدروا أحكام الفلاسفة وأن يضعونها فوق أحكام القساوسة" ولكنه حذرهم حذرهم، بأنهم يجب أن يخفوا شكوكهم في العقيدة المسيحية عن الجمهور بالإقبال بأسلوب مهذب على إقامة الشعائر والمراسيم الدينية وقال: " إننا لا نقصد بالإيمان مطابقة ما نقول للواقع بل نعني رأياً بأن الأمور المقدسة تقوم على الفطرة والإقناع الذي ينشد المنفعة". واعترض على إقامة القداس للموتى باعتباره أمراً لا فائدة منه وعلى الصيام باعتباره شيئاً غير مرغوب فيه وعلى الاعتراف السري باعتباره عملاً يثير الارتباك. ورأى أن الكتاب المقدس يحتوي على حكايات خرافية كثيرة مثل حكاية يونان وأيوب، ومن يدري؟ لعل المسيح لم يمت حقاً على الصليب! فقد كان اليونان والرومان مسيحيين دون أن يحسوا ما داموا قد عاشوا في استقامة، وليس من شك في أنهم ذهبوا إلى الجنة. ويجب أن يكون الحكم على العقائد والشعائر مبنياً لا على أساس دعاواها الحرفية ولكن على أساس آثارها الأخلاقية. فإذا كانت ترقى بالنظام الاجتماعي والفضيلة عند الفرد فيجب أن يتقبلها الجمهور دون مناقشة، وطلب موتيانوس من مريديه أن يعيشوا حياة طاهرة، وأقسم في سنواته الأخيرة قائلا: لسوف أحول دراساتي إلى ورع ولن أتعلم من الشعراء أو الفلاسفة أو المؤرخين إلا ما يرقى بالحياة المسيحية. وبعد أن عاش بكل ما تقدمه الفلسفة من عزاء مات تحفه بركات الكنيسة (1526).
وليس من شك في أن استياء المحافظين من مذهب الشك الذي شاع بين علماء الإنسانيات المتأخرين قد بلغ عنفوانه عند أرق علماء هذا العصر وأرحبهم صدراً فقد لاحظ جوهانس رويخلين التقليد الذي درج عليه الناس في العصور الوسطى من جمع المعارف من أثني عشر مركزاً بفضل انتشار اللغة اللاتينية باعتبارها لغة التعليم في أوربا الغربية. وفي مدرسة النحو تمبلدته(23/267)
فورتسهايم وفي جامعات فرايبورج وباريس وبازيل وأورليانز وبواتييه، وفي لينز وميلان وفلورنسا وروما تابع دراسة اللاتينية واليونانية والعبرية والقانون بحماسة تصل تقريباً إلى حد التعصب، ولقد غير اسمه على عادة علماء الإنسانيات الألمان- وهو مشتق من كلمة rauchen الألمانية بمعنى يدخن- إلى كابينو المأخوذة من كلمة kapnos اليونانية بمعنى التدخين. وألف وهو في العشين من عمره معجماً للغة اللاتينية طبع مرات. وفي روما أعطاه جوهانس أرجيروبولس قطعة صعبة من كتاب المؤرخ ثوسيديدس ليترجمها، فما كان من رويخلين إلا أن استجاب فوراً حتى صاح اليوناني العجوز: "الآن يفر اليونان وراء الألب". ولم يكن الطالب الشهم يترك حاخاما يمر دون أن يتعلم منه شيئاً من العبرية، ويزعم موتيانوس أنه سمع أن رويخلين أعطى دارساً يهودياً عشر قطع ذهبية ليشرح له عنى عبارة عبرية، وربما كان هذا حلم عالم بالإنسانيات.
وأقنع بيكو ديلا ميراندولا، رويخلين أن ينشد الحكمة في كابالا. وبمقارنة ترجمة جيروم للعهد القديم بالنص العبري الأصلي أشار "كابنيو" إلى كثير من الأخطاء فيما اعتاد علماء اللاهوت الاستشهاد به كنص لا يرقى الشك إليه. وعندما بلغ الثانية والثلاثي من عمره عين أستاذاً للعبرية في جامعة هيدلبرج. وليس من شك في أن معجم اللغة العبرية وكتاب قواعد هذه اللغة اللذين ألفهما قد أتاحا دراسة اللغة العبرية والعهد القديم على أساس علمي وأسهما في أن يكون للكتب المقدسة المدونة بالعبرية تأثير قوى على الفكر البروتستانتى.
وحجب إعجابه بالعبرية شيئاً فشيئاً شغفه بالكلاسيات، فقد كتب يقول "إن اللغة العبرية لم يمسها الزيف وهي جامعة تؤثر الإيجار إنها اللغة التي تحدث بها الله للإنسان وهي التي تحدث بها الإنسان للملائكة وجهاً لوجه"(23/268)
واحتفظ بعقيدته السلفية أثناء دراساته جميعاً وإذا كان قد شابها قليل من التصوف فإنه قدم كل كتاباته وتعاليمه بإخلاص إلى سلطات الكنيسة.
وتحالفت طائفة من الظروف الغربية فجعلت منه بطلا لعصر النهضة الألمانية، إذ حدث في عام 1508 أن أصدر جوهانس بفيفر كورن، وهو حاخام تحول إلى قسيس، كتاب "مرآة اليهود" أدان فيه اضطهادهم وبرأهم من الجرائم الأسطورية التي شاع اتهامهم بها ولكنه حثهم في الوقت نفسه على أن يتخلوا عن إقراض النقود وعن التلمود وأن يدخلوا في المسيحية وقدم إلى الإمبراطور - وكان يؤازره في ذلك رهبان الدومينيكان في كولونيا - توصية بمصادرة جميع الكتب العبرية ما عدا العهد القديم، فأمر ماكسمليان بتسليم جميع كتب الأدب اليهودي، التي تنتقد المسيحية إلى بفيفر كورن لكي تفحصها جامعات كولونيا وارفورت وماينز وهيدلبرج وجاكوب فان هوجسترايتن رئيس محكمة التفتيش في كولونيا ورويخلين بفضل تضلعه في اللغة العبرية، وأشار الجميع ما عدا رويخلين بمصادرة الكتب وإحراقها، وهكذا أثبت رأى الإقليمية الذي يمثله رويخلين أنه معلم من معالم تاريخ التسامح الديني، فقد قسم الكتب اليهودية إلى سبع طوائف، إحداها يتكون من أعمال تسخر صراحة من المسيحية وهذه يجب أن تحرق أما الباقي وتشمل التلمود فيجب الحفاظ عليها حتى ولو كان هذا لمجرد أن لها قيمة كبيرة بالنسبة للمعرفة المسيحية، وقال بفيفر كورن إن لليهود حقا في أن تكون لهم الحرية في الرأي كمواطنين بالإمبراطورية ولأنهم لم يرتبطوا بأي التزام نحو المسيحية.
وتحدث رويخلين في رسائله الخاص عن بفيفر كورن فقال إنه "حمار" لم يتيسر له أن يحسن فهم الكتب التي اقترح إتلافها. وكان رد بفيفر كورن على هذه المجاملات أن أصدر كتاب "مرآة اليد". وقد هاجم فيه رويخلين(23/269)
وعدة أداة رشاها اليهود. فرد عليه رويخلين طعنة بطعنة وأصدر كتاب "مرآة العين" الذي أثار عاصفة بين المحافظين. وشكت كلية اللاهوت في كولونيا إلى رويخلين أن كتابه قد أسعد اليهود كثيراً وطالبوه أن يسحبه من التداول. وحرم ماكسمليان بيعه فاستغاث رويخلين بالبابا ليو العاشر فأحال الأمر إلى مستشارين مختلفين فقرروا أن الكتاب لا ضرر منه، فما كان من ليو إلا أن يوقف الدعوى وأكد لعلماء الإنسانيات حوله أنه لن يلحق رويخلين أي أذى.
وفي غضون ذلك اتهم بفيفر كورن وأنصاره من رهبان الدومينيكان رويخلين أمام محكمة التفتيش في كولونيا بأنه كافر بالمسيحية وخائن لعهدها، فتدخل كبير الأساقفة وأمر بإحالة القضية إلى روما التي أحالتها بدورها إلى محكمة سبيير الأسقفية فبرأت رويخلين، ولجأ الدوينيكان بدورهم إلى روما وأمرت الكليات الجامعية في كولونيا وارفورت وماينز ولوفان وباريس بإحراق كتب رويخلين.
وأنه لأمر عجيب - ودليل مبين على الحيوية الثقافية في ألمانيا في هذا العصر أن يتصدى للدفاع عن رويخلين عدد كبير من المشهورين وقتذاك: أرازموس وبيركهاميمر وبويتنجر وأويكولا مبادوس البازيلي وفيشر أسقف روشستر وأولريخ فون هوتن وموتيانوس وايوبان هس ولوثر وميلانكستون، بل ودافع عنه بعض كبار رجال الدين من أنصار علماء الإنسانيات كما كان الحال في إيطاليا. وأعلن الأمراء الإمبراطوريون المختارون والأمراء وثلاثة وخمسون مدينة تأييدهم لرويخلين. وجمعت رسائل من المدافعين عنه ونشرت، وذلك مثل "رسائل من رجال مشهورين إلى يوحنا رويخلين" Clarorum viorum pistolae ad johanem Reuchlin. وفي عام 1515 أصدر علماء الإنسانيان كتابا أشد خطراً هو صفحة 324 (آخر الصفحة)(23/270)
أي رسائل من رجال مغمورين إلى الأستاذ المبجل أورتونيوس جراتيوس أستاذ الأدب في كولونيا. وتعد هذه الرسائل في تاريخ الأدب. وأحرزت نجاحا كبيراً إلى حد أن طبعة موسعة صدرت منها عام 1516 ثم نشر ملحق لها بعد عام. وادعى المؤلفون أنهم رهبان أتقياء معجبون بجراتيوس وأعداء لرويخلين، وأخفوا شخصياتهم تحت أسماء مستعارة عجيبة - نيكولاوس كابريمولجيوس (حالب لبن الماعز) ويوهانس بيليفكس (صانع الجلد) وسمون فورست (السجق) وكونرادوس أونكبيونك. واشتكى الكتاب من السخرية التي وجهها إليهم الشعراء (كما كان يطلق على علماء الإنسانيات الألمان) وذلك بلغة لاتينية أسيئت صياغتها عمداً، قلدوا فيها أسلوب رجال الأديرة، وطالبوا في إلحاح بمقاضاة رويخلين: وفي الوقت نفسه فضحوا جهلهم المطلق وفظاظة أخلاقهم وغلظة عقولهم، وناقشوا نسائل تدعو للسخرية في رصانة على نحو ما يفعل أنصار فلسفة الكلام واستشهدوا بآيات من الكتاب المقدس لتخفيف العبارات البذيئة - وسخروا بلا تيقظ من الاعتراف السمعي وبيع صكوك الغفران وتبجيل مخلفات القديسين ومن سلطة البابا، وهي الموضوعات نفسها التي تناولها الإصلاح الديني. وحارت كل الأوساط الأدبية في ألمانيا في التعرف على شخصيات مؤلفي هذه المجلدات: ولم يسلم الناس إلا فيما بعد بأن كروتوس روبيانوس الارفورتي وهو أحد مريدي موتيانوس، قد كتب معظم ما ورد بالطبعة الأولى وأن هوتن كتب معظم ما ورد بالملحق. وتميز ليو العاشر غضبا فحرم قراءة أو حيازة الكتاب وأدان رويخلين ولكنه أحل له نفقات محاكمة سبيير (1520)، وانسحب رويخلين وهو شيخ منهوك القوى في الخامسة والستين ليعيش في الغمرات ونسبه الناس بغير صخب في غمار تألق الإصلاح الديني.(23/271)
واختفت حركة علماء الإنسانيات الألمانية بدورها في وهج هذه النار التي أضرمت كل شئ وتعرضت لحرب شعواء من معظم الجامعات من ناحية ومن رجال الإصلاح الديني الذين دخلوا معها في صراع من أجل الحياة من ناحية أخرى، فدعموا قضيتهم بعقيدة دينية ركزت على خلاص الروح في العالم الآخر. ولم تترك الناس إلا فسحة ضئيلة من الوقت يتدارسون فيها الحضارة الكلاسية أو يصلحون من أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، وحكم علماء الإنسانيات الألمان على أنفسهم بالهزيمة عندما فشلوا في الارتقاء بالأدب اليوناني إلى مستوى الفلسفة اليونانية.
وبالدخول في جدل عقيم أو الإغراق في صوفية أقل نضجا من صوفية اكهارت، لم يتركوا أعمالا عظيمة إذ أن كتب قواعد اللغة والمعاجم التي كان رويخلين يؤمل أن تكون "أثرا خالدا له يبقى أكثر من النحاس الأصفر" سرعان ما طويت في غياهب النسيان. ومع ذلك فمن يدري أن لوثر كان يجرؤ على أن يطلق قذائفه التي تشبه قذائف داود على تيتزل والبابوات إذا لم يكن عقل ألمانيا قد تحرر إلى حد ما من الرعب من أنصار الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على يد علماء الإنسانيات. لقد كان أتباع رويخلين وموتيانوس أقلية قوية في أرفورت حيث درس لوثر لمدة أربع سنوات وأصبح شاعر ألماني في هذا العهد وتغذى بلبان علم الإنسانيات رسولاً متحمساً للإصلاح الديني.
7 - أولريخ فون هوتن
لم يكن هناك عمالقة في عالم الأدب الألماني في هذا العهد قبل لوثر، إذ لم يكن هناك سوى حيوية وخصب عجيبين. وكان الشعر يكتب ليقرأ جهرة. ومن ثم يلقى ترحيباً في الكوخ وفي القصر. واستمر تمثيل(23/272)
مسرحيات العشاء الرباني وآلام المسيح، التي يغشاها ورع شديد مموه باهتمام قوي بالفن الدرامي.
وما أن حل عام 1450 حتى قامت الدراما الشعبية الألمانية قد تحولت نحو التعليق بالدنيا إلى حد كبير. وتضمنت حتى في خلال التمثيليات الدينية، هزليات ساذجة، وأحياناً فاضحة، من "الفارس". وشاع المرح في الأدب وانتشرت نوادر تيل أولنشبيجل وهذره في ألمانيا وقتذاك، وهو المخادع الجوال، (ومعنى اسمه حرفيا مرآة البومة)، ولم ينج من حيله المرحة عامي أو قسيسي؛ ففي عام 1512 نشرت نوادره وأظهر العصر والأدب بل والفن، الرهبان والقسس وهم يسبحون إلى جهنم، وازدهر الهجاء في جميع الأشكال الأدبية.
وأشد هجاء في هذا العهد تضمنته مسرحية سفينة الحمقى بقلم سباستيان برانت، ولم يكن في وسع أحد أن يتوقع عملا يشيع فيه مثل هذا المرح من أستاذ في القانون والأدب الكلاسي في بازيل؛ فقد تخيل برانت أسطولا (نسبة في رحلة وأطلق عليه فيما بعد اسم سفينة) مزوداً برجال بلهاء، ويحاولون أن يشقوا عباب بحر الحياة، ويحاول أبله وراء الآخر أن يسير في اختيار على المسرح، وتتحمل طائفة تلو أخرى سوط لذعات كلمات المحامي الغاضبة - الفلاح والميكانيكي والشحاذ والمقامر والبخيل والمرابي والفلكي والمحامي ومدعي العلم والمحتال والفيلسوف والقسيس. ومثّلت المسرحية أيضاً زهو الرجال الجشعين وكسل الطلبة وخسة التجار وخيانة الأجراء- كل هؤلاء ينالون نصيبهم من الضربات، ويحتفظ برانت باحترامه للكاثوليكي الورع المستمسك بعقيدته والذي يرقب حياته على أساس الظفر بالجنة.
وقد طبع هذا الكتاب طبعة فاخرة، وزين بالصور التي توضع كل فقرة هجاء لاذعة في الحكاية، وحاز الكتاب قصب السبق في غرب أوربا، وترجم(23/273)
إلى اثنتي عشرة لغة، وكان أوسع الكتب انتشاراً في هذا العهد بعد الكتاب المقدس.
وإذا كان برانت قد مس بسوطه رجال الدين برفق فإن توماس مورنر، وهو راهب فرنشسكاني، هاجم الرهبان والقسس والأساقفة والراهبات بهجاء مقنع فاق ف حدته وغلظته وذكائه هجاء برانت. ولقد قال مورنر إن القس يعني بالمال أكثر مما يعنى بالدين، وهو يتملق رعايا أبرشيته من أجل الحصول على كل دانق، ثم يدفع مقداراً مما جمعه إلى الأسقف التابع له ليسمح له باتخاذ خليلة، أما الراهبات فإنهن يمارسن الحب خفية، والراهبة التي تنجب أكبر عدد من الأولاد تختار رئيسة للدير. ومهما يكن من أمر فإن مورنر اتفق في الرأي مع برانت على وجوب الإخلاص للكنيسة واتهم لوثر بأنه أشد بلاهة. ورثى لضعف الإيمان عند المسيحي والفوضى الضاربة أطنابها في العالم الديني، وذلك في قصيدة مؤثرة بعنوان "ضعف الإيمان عند المسيحيين".
وإذا كانت الشعبية الهائلة التي حظيت بها هذه القصائد الهجائية قد أماطت اللثام عن الاحتقار الذي يكنه حتى الكاثوليكيين المخلصين لرجال الدين، فإن أدب الهجاء العنيف الذي تميز به أولريخ فون هوتن قضى على كل أمل في أن تصلح الكنيسة من نفسها، ودعا إلى الثورة الصريحة. وقد ولد أولريخ من أسرة تنتمس إلى الفرسان في فرانكونيا، وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره أرسل إلى دير فولدا على أمل أن يصبح راهباً. وبعد وضعه بست سنوات تحت الاختبار هرب (1505) وعاش عيشة طالب متجول وأخذ يؤلف الشعر ويلقي القصائد يستجدي بها العيش، وكثيراً ما يقضى ليلة بلا مأوى، وإن كان لا يعدم الوسائل لمطارحة فتاة الغرام وهي فتاة تركت بصمتها في دمه. وأنهكت الحمى جسده أو كادت، وكثيراً ما كانت تشل ساقه اليسرى من أثر القروح والأورام، وكان حاد الطبع يستثار بسهولة، مثله في ذلك مثل كل عليل، ومع ذلك وجده أيوبان هسى محبوباً كما هو، واصطحبه أسقف(23/274)
كريم إلى فيينا حيث رحب به علماء الإنسانيات، ولكنه اختلف معهم وانتقل إلى إيطاليا. ودرس في بافيا وبولونيا، وصوب قذائف من القصائد الساخرة ضد البابا جوليوس الثاني، وانضم إلى جيش ألماني من الغزاة لكي يحصل على الطعام، ثم قفل أدراجه عائدا إلى ألمانيا وهو في أقصى حالات الإعياء.
وابتسم له الحظ إلى حين في ماينز: فقد كتب قصيدة مدح في كبير الأساقفة الشاب ألبرخت فتلقى منه 200 جيلدر (5. 000 دولار؟) اعترافاً بالجميل. وكان بلاط ألبرخت وقتذاك يعج بعلماء الإنسانيات، وكان الكثيرون منهم من المفكرين الأحرار الذين لا يتمتعون بالاحترام. وبدأ هوتن هناك يكتب مقالته في كتاب "رسالة من رجال مغمورين"، والتقى هناك أيضاً بأرازموس، وخلب العالم الكبير لبه بسعة اطلاعه وذكائه وسحره. وبدأ مرة أخرى ينشد شمس إيطاليا مستعيناً بالمال الذي حصل عليه من ألبرخت والمعونة التي تلقاها من والده الذي رق لحاله، وكان في كل محطة يتوقف فيها ينسف طائفة علماء اللاهوت والرهبان المنافقين الفاسدين. "وأرسل من عاصمة البابوية إنذار إلى كروتوس روبيانوس هذا نصه: أرجو أن تتخلى يا صديقي عن رغبتك في مشاهدة روما، فإن ما تنشده هناك لم يعد موجودا ... قد تعيش من السلب والنهب، وقد ترتكب جريمة قتل أو تنتهك حرمة المعابد ... وقد تعربد وتستسلم للشهوات وتنكر وجود الله في السماء، ولكن إذا أتيت إلى روما محملا بالمال فثق بأنك ستلق من الناس أعظم احترام. إن الفضيلة وبركات السماء تباع هنا، بل إن في وسعك أن تشتري الحق في أن ترتكب ما شئت من الخطايا في المستقبل، وليس من شك في أنك تكون معتوهاً لو تمسكت بالأخلاق الطيبة؛ فالناس العقلاء سيكونون أشراراً".
وفي سخرية مرحة أهدى إلى ليو العاشر (1517) طبعة جديدة من رسالة فالا المدمرة عن "هبة قسطنطين" الخيالية، وأكد للبابا أن أغلب أسلافه من البابوات كانوا طغاة مستبدين ولصوصاً ومغتصبين، وأنهم حولوا(23/275)
الجزاء في العالم الآخر إلى دخل لأنفسهم، وقد وقع هذا العمل في يد لوثر فزاد من سخطه على البابوية.
وعلى الرغم مما تتسم به كثير من قصائد هوتن من عنف وقدح، فإنها حققت له شهرة موزعة على أنحاء ألمانيا. وعندما عاد إلى الوطن عام 1517 أضافه كونراد بويتنجر في نورمبرج وتوج ماكسمليان، بناء على اقتراح هذا العالم الثري، هوتن أميراً للشعراء. وألحقه ألبرخت وقتذاك بخدمته الدبلوماسية وأرسله في بعثات مهمة وصلت إلى باريس. وعندما عاد هوتن إلى ماينز (1518) وجد ألمانيا في ثورة بسبب مقالات لوثر عن صكوك الغفران، ولا بد أنه ابتسم عندما رأى صاحبه كبير الأساقفة المستهين بالأمور متورطاً في موقف لا يحسد عليه. وكان لوثر قد استدعى إلى أوجسبورج لمواجهة الكاردينال كاجيتان، وليدفع عن نفسه تهمة الهرطقة. وتردد هوتن، فقد كان مرتبطاً، عاطفياً ومالياً، بكبير الأساقفة، ولكنه أحس بنداء الحرب في دمه فامتطى جواده وسافر إلى أوجسبورج.
8 - الكنيسة الألمانية
ترى كيف كانت الكنيسة الألمانية في شباب لوثر؟ لقد ظهرت إشارة في استعداد كبار رجال الدين أن يتقبلوا النقد الموجه للكنيسة ونقادها. وكان هناك بعض الملحدين المشتتين ضاعت أسماءهم في غمرات الزمن، ويذكر أرازموس "هناك بيننا أناس يعتقدون مثل أبقراط أن الروح تموت مع الجسد"، ووجد بعض المتشككين بين علماء الإنسانيات، ومتصوفون أنكروا ضرورة الكنيسة أو القسس كوسطاء بين الله والإنسان، وأكدوا التجربة الدينية الباطنية كبديل للشعائر والقربان المقدس، وكانت هنا وهناك جيوب صغيرة من الولدانيين الذين أنكروا التفرقة بين القسس والعامة، وكان في شرق ألمانيا(23/276)
بعض الهيسيين الذين وصفوا البابا بأنه خصيم للمسيحية، وفي أيجر دمغ أخوان هما جون وليفين بن أوجسبورج صكوك الغفران ووصفوها بأنها أمر يدعو إلى السخرية (1466).
وأعلن جوهان فون فييل، وهو أستاذ من أرفورت، في مواعظة أن الجبر والاختيار بفضل الله، ورفض الاعتراف بصكوك الغفران والقربان المقدس والصلوات للقديسين وأعلن: "إني لأحتقر البابا والكنيسة والمجالس ولا أعبد إلا المسيح". وأدانته محكمة التفتيش، فتراجع عما قال، ومات في السجن (1481)، وقد ناقش فيسيل جانسفورت، الذي اشتهر خطأ بإسم جوهان فيسيل، الاعتراف والحل، وصكوك الغفران والمطهر، واتخذ من الكتاب المقدس الحكم الوحيد على العقيدة وجعل الإيمان المصدر الوحيد للخلاص، وإذن فها نحن أولاء أمام لوثر في جملة. وفي عام 1522 قال لوثر: "لو كنت قرأت مؤلفات فيسيل من قبل لظن أعدائي أن لوثر قد اقتبس كل شيء منه، إذ أن آرائنا تتفق إلى حد كبير".
ومع ذلك فإن الدين في جملته كان يزدهر في ألمانيا، وكانت الغالبية العظمى من الناس محافظين، وكانوا أتقياء بين خطاياهم وكئوسهم، وكادت الأسرة الألمانية أن تصبح كنيسة في ذاتها، إذ كانت الأم تقوم بمهمة الواعظ والأب يقوم بدور القسيس، وكان أفرادها يكثرون من الصلاة، وكانت كتب الأسرة الخاصة بالتعبد لا يخلو منها بيت. أما الذين لا يستطيعون القراءة فكانت توفر لهم كتب مصورة Biblia Pauperum تصور قصص المسيح ومريم والقديسين، وكانت صورة العذراء عديدة كصور عيسى، والتسابيح تتلى في كثير من التكرار المشوب بالأمل. وأسس جاكوب شبرنجر عضو محكمة التفتيش جمعية من الرهبان لتكرار تلاوتها، وثمة صلاة ألمانية كانت تخاطب الثالوث الوحيد المشهور: "المجد للعذراء والأب والابن".(23/277)
وكان بعض رجال الدين متدينين كالناس، ولابد أنه كان هناك بعض القسس المخلصين للعقيدة- ولو أن أسماءهم قلما كانت تسمع وسط ضجيج الشر- يمكن أن ينشروا مثل هذا الورع الذائع أو يدعموه بين الناس. وكان لقسيس الأبرشية، حظية أو زوجة يعترف بها القانون العام. ولكن يبدوا أن الألمان الذين لا يخشون الإقدام قد اغتفروا هذا الصنيع باعتباره سلوكاً أفضل من التخالط الجنسي، ثم ألم يتمرد الباباوات أنفسهم في هذا العهد الذي شاعت فيه الشهوات على العزوبة؟ أما بالنسبة لرجال الدين النظاميين، وهم هؤلاء الذين تعرضوا للخضوع لنظام صارم في الدير، فإن كثيراً من طوائفهم شغلوا أنفسهم وقتذاك بالإصلاح الذاتي الجاد. وقد استقر رهبان البندكتين في شيء من رغد العيش بالدير ونعموا بالترف الدنيوي، واستمر فرسان التيوتون في انحلالهم الأخلاقي وقساوتهم العسكرية وأطماعهم الإقليمية، ولكن رهبان الدمينيكان والفرنشسكان والرهبان الأوغسطينين عادوا إلى التزام قواعدهم وقاموا بأعمال كثيرة في مجال البر العملي، وكان الزهاد الأوغسطينيون أشد الرهبان حماسة لهذا الإصلاح الديني، وكانوا في الأصل نساكاً أو رهباناً زاهدين ولكنهم تجمعوا فيما بعد طوائف وحافظوا في إخلاص واضح على عهودهم الرهبانية من تقشف وعفة وخضوع، وتعلموا إلى درجة تكفي لشغل كثير من كراسي الأستاذية في الجامعات الألمانية. وكانت تلك هي الطائفة التي اختار لوثر أن ينتمي إليها عندما قرر أن يصبح راهباً.
وكانت الشكاوى ضد رجال الدين الألمان موجهة أساساً إلى البطاركة بسبب ثرائهم وانغماسهم في النعيم الدنيوي. فقد كان بعض الأساقفة والرهبان أن يهيمنوا على اقتصاد مساحات كبيرة وصلت إلى حوزة الكنيسة وإدارتها، وكانوا سادة إقطاعيين متوجين أو مكللين، غير أنهم لم يكونوا(23/278)
دائماً متسامحين، وكان رجال الدين هؤلاء يتصرفون مثل أناس تعلقت قلوبهم بالدنيا لا كرجال نذروا أنفسهم لعبادة الله، ويزعم الرواة أن كثيراً منهم كانوا يذهبون في مركباتهم لصحبة حظاياهم إلى مجالس الدايت الإقليمية أو الاتحادية. وقد لخص جوهانس جانس، وهو بطريرك كاثوليكي متعلم ومؤرخ مساوئ الكنيسة الألمانية قبيل عهد الإصلاح الديني، ولعله كان قاسياً جداً في حكمه فقال:
"إن التناقض بين الهيام بالتقوى والجشع الدنيوي، بين الزهد الورع والتماس النفع الذي يتنافى بين طوائف المجتمع الأخرى. وفضلاً عن هذا فإن الوعظ ورعاية الأرواح كانا يلقيان إهمالاً تاماً من كثيرين من القسس ورجال الدين. واستشرى الشح والخطيئة الفادحة بين رجال الدين من جميع الرتب والطوائف في غمرة تلهفهم على زيادة الموارد الدينية والدخول والضرائب والأجور العائدة إلى حد، وكانت الكنيسة الألمانية أغنى الكنائس في العالم المسيحي، ويقدر البعض أن ما يقارب من ثلث الأراضي في البلاد كان بين أيدي الكنيسة، وأدى هذا إلى أمر يستحق اللوم بين السلطات الدينية، إذ أخذت تنشد دائماً ممتلكاتها وكانت مباني الكنيسة ومؤسساتها تستوعب أكبر جزء من الأرض في كثير من المدن.
وفي قلب الكهنوتية ذاتها كان هناك أيضاً تناقض ملحوظ في الدخل، فقد كانت الطوائف الدنيا من رجال الدين في الأبرشيات، الذين كانوا يستمدون رواتبهم الاسمية فقط من ضرائب العشور غير الثابتة، يضطرون في كثير من الأحايين -بدافع المسغبة، إن لم يكن بدافع إغراء الحرص- إلى الاشتغال بتجارة لا تتفق بتاتاً مع مناصبهم، وكانت تعرضهم إلى الاحتقار من رعايا أبرشياتهم، ومن جهة أخرى فإن الطوائف العليا من رجال الدين كانت(23/279)
تنعم بثراء فاحش لا حد له لا حد له، وكان كثير من رجالها لا يعانون شيئاً من وخز الضمير في التظاهر بطريقة ممقوتة تثير غضب الشعب وحسد الطبقات العليا وازدراء كل العقول الجادة .. وجأرت الأصوات بالشكوى في كل مكان من الارتزاق المهين بالمقدسات .. ومن المبالغ التي ترسل على دفعات، ومن الضرائب التي تدفع للبابا من الأرباح السنوية، ومن مال الرشوة.
وبدأ إحساس مرير بمقت الإيطاليين يتفشى شيئاً فشيئاً، حتى بين رجال من أمثال كبير الأساقفة برتولد فون هنيبرج، ممن كانوا أبناء مخلصين للكنيسة المقدسة. وكتب يقول في اليوم التاسع من سبتمبر عام 1496: "يجب على الإيطاليين أن يكافئوا الألمان على خدماتهم وألا يستنزفوا دماء الهيئة الكهنوتية بسلب الذهب على دفعات".
وكان من الممكن الألماني أن تغتفر لأساقفتها تعلقهم بالدنيا، لو أنها أعفيت من ادعاءات الباباوات ومطالبهم، وقد استاءت روح القومية الناهضة من مزاعم البابوية أنها لا تعتبر أي إمبراطور حاكماً شرعياً إلا إذا أيده الباب، وأن من حقها خلع الأباطرة والملوك إذا أرادت. واستمر الصراع قائماً بين السلطتين الزمنية والدينية على التعيينات في المناصب وعلى تداخل الاختصاصات بين القضاء المدني والمحاكم الأسقفية، وعلى حصانة رجال الدين من تطبيق جميع التشريعات المدنية تقريباً. وتطلع الأشراف الألمان في غيظ وحسد لممتلكات الكنيسة الغنية، وأسف رجال الأعمال لأن الأديرة التي تطالب بالإعفاء من الضرائب تنافسهم في مجالس الصناعة والتجارة. وكان النزاع في هذه الرحلة قائماً على أمور مادية أكثر مما هو قائم على اختلافات دينية، وهاهو مؤرخ كاثوليكي آخر يقول:
"كان إجماع الرأي في ألمانيا أن المحكمة الرومانية ركزت الضغط في مسألة(23/280)
الضريبة إلى درجة لا تحتمل ... وارتفعت الشكوى مرة بعد أخرى من أن مستحقات المحكمة العليا والضرائب التي تدفع للبابا من أرباح العام ... ونفقات الرسامة للكهان قد زيدت بلا مبرر أو توسع فيها بطريقة غير قانونية، وأن صكوك غفران جديدة كثيرة صدرت دون موافقة أساقفة البلد، وأن ضريبة عشور تلو أخرى قد فرضت من أجل حرب صليبية ثم حولت إلى غرض آخر. بل إن رجالاً كرسوا حياتهم للكنيسة والمحكمة البابوية ... كثيراً ما أعلنوا أن شكاوى الألمان من روما كانت في معظمها قائمة على أساس سليم من وجهة النظر المالية".
وفي عام 1457 وجه مارتن ميير رئيس الوزراء خطاباً لخص فيه المتاعب التي تعاني منها ألمانيا من جانب المحكمة الرومانية قال فيها:
إن اختيار البطاركة كثيراً ما يؤجل دون داع ويحتفظ بالمراتب الرفيعة والمناصب للكرادلة وأمناء سر البابا، وهاهو الكاردينال بيكولوميني نفسه قد منح أرضاً براحاً في ثلاث مقاطعات ألمانية بصورة غير عادية لم يسمع بمثلها من قبل. كانت الوعود بالمناصب والإقطاعيات تبذل بلا حساب، وكانت الجزية والضريبة تجمع بالتعسف، ولا يمنح المدينون مهلة للسداد، ومن المعروف أن الضرائب التي تجبى كانت أكثر من المبالغ المستحقة، وكانت الأسقفيات تمنح لا لأكثر رجال الدين جدارة بل لصاحب أكبر عطاء. وكانت صكوك غفران جديدة تصدر يومياً، وضرائب عشور للحرب تقرض دون استشارة البطاركة الألمان لا لغرض إلا لجمع المال. وكانت القضايا التي ينبغي أن تعرض في الوطن تحول بسرعة إلى المحكمة الرسولية، وقد عومل الألمان كما كانوا برابرة أغبياء وأغنياء واستنزفت منهم الأموال بألف حيلة ماكرة .... وقد ظلت ألمانيا سنوات طويلة تتمرغ في التراب تنتحب على فاقتها ومصيرها المحزن، أما الآن فإن أشرافها استيقظوا من النوم وقرروا أن يتخلصوا من نير العبودية وأن يستعيدوا حريتهم العريقة.(23/281)
وعندما أصبح الكاردينال بيكولوميني عام 1458 البابا بيوس الثاني، واجه هذا التحدي، فطلب من ديترفون ايزنبورج مبلغ 20. 500 جيلدر قبل أن يؤيد ترشيحه لمنصب كبير أساقفة ماينز (1459)، فما كان من ديتر إلا أن رفض دفع المبلغ بحجة أنه تجاوز كل ما كان يدفع من قبل، فأصدر البابا قراراً بحرمانه من غفران الكنيسة، ولكن ديتر تجاهل هذا الحرمان وأيده في هذا أمراء من الألمان، وعهد ديتر إلى محام من نورمبرج يدعى جريجور هايمبرج بإثارة الرأي العام لمنح المجالس الدينية سلطة أعلى من سلطة البابوات، فذهب هايمبرج إلى فرنسا لرفع دعوى جماعية ضد لبابوية، وخيل البعض فترة ما أن الأمم الشمالية سوف تتنصل من الولاء لروما، ولكن عملاء البابا انتزعوا من الحركة الواحد بعد الآخر من أنصار ديتر وعين مكانه أدولف الناساوى. واشتبك جيشا الأسقفين في حرب هزم فيها ديتر، ووجه إلى الزعماء الألمان تحذيراً بأنهم ما لم يقفوا معا فإنهم سيسامون الخسف والضيم واحداً بعد الآخر. وكان هذا الإعلان إحدى الوثائق الأولى التي طبعها جوتنبرج.
ولم يهدأ استياء الألمان بهذا النصر الذي أحرزه البابوات، وبعد أن تحول مبلغ كبير من المال من ألمانيا إلى روما في اليوبيل عام 1500 طالب مجلس الدايت في أوجسبورج بضرورة إعادة هذا القدر من المال إلى ألمانيا. وشكا الإمبراطور ماكسمليان من أن البابا سحب من ألمانيا دخلا يزيد مائة مرة عما يستطيع هو نفسه أن يجبيه منها. وفي عام 1510، وكان وقتذاك في حالة حرب مع البابا يوليوس الثاني، طلب من عالم الإنسانيات ويمفيلنج إعداد قائمة بشكاوي ألمانيا ضد البابوية، وفكر في فترة من الزمن أن يقترح فصل الكنيسة الألمانية عن روما، ولكن ويمفيلنج أثناه عن عزمه بحجة أنه لن يجد تأييداً دائما من الأمراء، ومع ذلك فإن كل التطورات الاقتصادية في هذا العهد مهدت لثورة لوثر. وليس من شك في أن اختلافا في المصالح(23/282)
المادية مهد أيضاً للإصلاح الديني في ألمانيا، فطالب الأمان بوضع حد لتفق الأموال الألمانية إلى إيطاليا، أي إلى نهضة إيطاليا تمول الشعر والفن بالذهب الوارد من وراء جبال الألب.
وواكب حركة المعاداة لرجال الدين الورع بين الناس. وها هو راع أمين يكتب "إن روحاً ثائرة من الكراهية للكنيسة ورجال الدين قد تفشت بين الجماهير في مختلف أرجاء ألمانيا ... إن صيحة الموت للقساوسة "التي طالما ترددت في السر همساً أصبحت الآن كلمة السر التي تردد كل يوم". كان هذا العداء المعروف حاداً إلى درجة أن محكمة التفتيش التي ارتفع شأنها وقتذاك في إسبانيا كانت لا تكاد تجرؤ على إدانة أي أحد في ألمانيا. وصدرت كتيبات عنيفة اللهجة حافلة بالهجوم على الكنيسة، وكان رفيقاً بالكنيسة الألمانية بقدر ما كان عنيفاً على الكرسي الأسقفي الروماني.
وانضم بعض الرهبان والقساوسة إلى حملة الهجوم، وأثاروا أبرشياتهم ضد الترف الذي يعيش فيه كبار رجال الدين. وجاء الحجاج العائدون من يوبيل عام 1500 إلى ألمانيا بقصص فظيعة - ومبالغ فيها كثير من الأحيان- عن البابوات المنحلين والسموم البابوية وصخب الكرادلة وعن وثنية وخسة عامة، وأقسم كثير من الألمان أنهم سيسحقون هذا الطغيان مرة أخرى، كما حطم أسلافهم سلطان روما عام 476. وتذكر آخرون ما لقيه الإمبراطور هنري الرابع على يد البابا جريجوري السابع من إذلال في كانوسا، واعتقدوا أن الوقت قد حان للانتقام، وفي عام 1521 قال الياندر، القاصد الرسولي للبابا، محذرا ليو العاشر من ثورة وشيكة ضد الكنيسة: "إنه منذ خمس سنوات سمع من كثير من الألمان أنهم لا ينتظرون إلا أحد الحمقى، ليفتح فمه ضد روما".
وكانت آلاف العوامل والمؤثرات الكهنوتية والفكرية والعاطفية(23/283)
والاقتصادية والسياسية والخلاقية، تتجمع بعد قرون من التعويق والاضطهاد في دوامة تقذف بأوربا في أعظم فورة شهدتها منذ غزو البرابرة لروما. ثم إن إضعاف البابوية بالنفي في أفنيون والانقسام في صفوف البابوية وانهيار النظام في الأديرة وترهب رجال الدين والترف الذي يرفل فيه البطاركة وفساد مجالس القضاء الرومانية ووجوه النشاط المتسم بالإقبال على الدنيا للبابوات وأخلاقيات الكسندر السادس وحروب يوليوس الثاني والمرح المستهتر الذي عرف به ليو العاشر والتجار في المخلفات المقدسة وبيع صكوك الغفران وانتصار الإسلام على العالم المسيحي في الحروب الصليبية إلى جانب التركية وازدياد الاتصال بالعقائد غير المسيحية وتدفق العلم العربي والفلسفة العربية وتدهور مكانة الفلسفة الكلامية في ظهور فلسفة سكوتس اللاعقلانية وشك أوكهام وفشل حركة التوفيق في الإصلاح والكشف عن الحضارة الوثنية القديمة واكتشاف أمريكا واختراع الطباعة وانتشار القراءة والكتابة والتعليم وترجمة الإنجيل وقراءته والإدراك الجديد للتناقض بين فقر الرسل وبساطتهم وبين ثراء الكنيسة الفاحش والثراء المتزايد لألمانيا وإنجلترا واستقلالهما الاقتصادي ونمو طبقة وسطى ترفض التسليم بقيود رجال الدين ومزاعمهم والاحتجاج على تدفق الأموال إلى روما وتحويل القانون والحكم إلى الأغراض الدنيوية وفتوة القومية وتقوية الملكيات والتأثير القومي للغات والآداب الشعبية وتفاعل الميراث الفكري الذي خلفه الوالدانيون وويكليف وهس والمطالبة الصوفية بالتخفف من الطقوسية في سبيل ديانة تلتحم بالشخصية والروحية وتتسم بالاتصال المباشر بالإنسان ... إن هذه كلها كانت تتحد في سبيل عارم سوف يحطم عرف والروابط ويمزق أوربا إلى أمم ومذاهب، وسوف يكتسح أمامه أكثر فأكثر دعائم المعتقدات المأثورة وما تقدمه من عزاء، ولعلها تؤذن ببداية النهاية لسلطان المسيحية على الحياة العقلية للرجل الأوربي.(23/284)
الكتاب الثاني
الثورة الدينية
1517 - 1564(24/2)
الفصل السادس عشر
لوثر: الإصلاح الديني في ألمانيا
1517 - 1524
1 - تيتزل
أصدر البابا ليو العاشر في اليوم الخامس عشر من مارس عام 1517 أشهر صكوك الغفران. ومما يؤسف عليه - وإن كان له ما يسوغه - أن الإصلاح الديني فرض عليه أن يحارب في عهد سلطة بابوية جمعت في روما كثيراً من ثمار عصر النهضة وجانباً كبيراً من روحها؛ فلقد أصبح ليو، ابن لورنزو العظيم، وقتذاك عميداً لأسرة مديتشي، التي غذّت عصر النهضة في فلورنسا، وكان بحاثة وشاعراً وسيداً مهذباً رقيق القلب كريماً، يعشق الأدب الكلامي والفن الرقيق. وكان حسن الأخلاق في وسط منحل، ويميل بطبعه إلى المرح المشروع الذي يشيع البهجة في النفوس، وأضحى مثالاً للسعادة في مدينة كانت منذ قرن خراباً بلقعاً. وكانت كل أخطائه جميعاً سطحية، إذا استثنينا سطحيته هو نفسه، ولم يكن يفرق إلا قليلاً بين مصلحة أسرته ومصلحة الكنيسة، وبدد أموال البابوية على شعراء أصالتهم محل شك وعلى حروب هي موضع نظر، وكان متسامحاً في العادة يستطيب الهجاء الموجه ضد رجال الدين الوارد في كتاب "الثناء على الطيش" لأرازموس، وقد عمل إلا في فترات عارضة بالاتفاق غير المكتوب الذي منحت بموجبه الكنيسة في عصر النهضة حرية لا بأس بها للفلاسفة والشعراء والعلماء - الذين كانوا يوجهون أحاديثهم باللاتينية - إلى الأقلية المتعلمة وإن تركوا عقيدة - الجماهير الراسخة دون مساس.(24/3)
وكان ليو ابن مصرفي اعتاد أن يبادر إلى إنفاق المال، وبخاصة على الآخرين. وورث خزائن بابوية مفعمة بالأموال من يوليوس الثاني وأفرغها قبل أن يموت. ولعله لم يبالِ كثيراً بالكنيسة الضخمة التي فكر يوليوس في إنشائها وشرع في ذلك إلا أن كنيسة القدّيس بطرس القديمة لم تكن صالحة للترميم، وكان لابد أن تتدفق مبالغ كبيرة لإنشاء الكنيسة الجديدة ووجدت سلطات الكنيسة من العار عليها أن تدع هذا المشروع العظيم يُقبر في مهده. ولعله عرض في شيء من التردد أن يمنح في عام 1517 صك غفران لكل مَن يسهم في نفقات تكملة هذا المعبد العظيم. واحتج الحكام في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وأسبانيا لأن ثروات بلادهم كانت تستنزف، ولأن اقتصادياتها القومية تتعرض للضرر بالحملات المتكررة لتحويل المال إلى روما، وكان ليو أحرص ما يكون على إرضاء الملوك وهم أقوياء: فوافق على أن يحتفظ هنري الثمن بربع الأموال التي تجمع من إنجلترا وقدم قرضاً قدره 175000 دوكات إلى الملك شارل الأول (الإمبراطور شارل الخامس فيما بعد) في مقابل الأموال المنتظر جمعها من أسبانيا ووافق على أن يحتفظ فرانسيس الأول بجزء من المبلغ الذي يجمع في فرنسا، أما ألمانيا فقد قوبلت بمعاملة أقل كرماً، فلم تكن فيها ملكية قوية تستطيع أن تساوم البابا ومهما يكن من الأمر، فإن الإمبراطور ماكمليان نال مبلغاً متواضعاً قدره 3000 فلورين من الإيرادات، وفوض آل فوجر في أن يأخذوا من الأموال التي تجمع مبلغ 20000 فلورين كانوا قد أقرضوه لألبرخت البراندنبرجي لكي يدفعها للبابا لتثبيته في منصب كبير أساقفة ماينز. ولسوء الحظ كانت تلك المدينة قد فقدت ثلاثة من كبراء أساقفتها في عشر سنوات (1504 - 1514) ودفعت مرتين نفقات باهظة للحصول على تأييد البابا، ومن ثم اقترض البرخت ليعفيها من الدفع مرة ثالثة - ووافق ليو وقتذاك على أن يتولى رئيس الأساقفة الشاب توزيع صكوك الغفران في ماجدبرج وهالبرشتادت وفي ماينز أيضاً. وكان يصحب كل واحد من واعظي(24/4)
ألبرخت وكيل لآل فوجر يراجع المصروفات والإيرادات وكان يحتفظ بأحد مفاتيح الخزانة التي تضم الأموال (1).
وكان جوهان تيتزل وكيل ألبرخت الأول، وهو راهب دومينيكاني اكتسب مهارة وشهرة في جمع المال. وكان عمله الرئيسي منذ عام 1500 توزيع صكوك الغفران، وكان يلقى عادة في هذه المهام عون رجال الدين المحليين وإذا دخل مدينة استقبله موكب من القساوسة والحكام والأتقياء من العامة وهم يحملون الأعلام والشموع ويرتلون الأناشيد ويرفعون نشرة صك الغفران عالية فوق وسادة من المخمل أو وسادة مذهبة في حين تقرع الكنيسة أجراسها وتعزف على آلات الأرغن فيها وهكذا استطاع تيتزل (2) بفضل هذه المساندة أن يقدم بصفة مؤثرة صك غفران كامل لهؤلاء الذين يعترفون بخطاياهم وهم نادمون ويسهمون في بناء كنيسة جديدة للقديس بطرس حسب ما تسمح به مواردهم:
ألا فليرحمك الرب يسوع المسيح ويغفر لك بفضل ما لقي من آلام مقدسة وأنا بتفويض منه ومن رسوليه المباركين بطرس وبولس، ومن البابا المقدس منح لي وعهد به الي في هذه الأجزاء إن احلك أولاً من كل لوم ديني مهما كانت الطريقة التي تعرضت لها، ثم من كل خطاياك ومن كل تجاوز للحدود وكل إفراط في الملذات مهما بلغت من الجسامة، بل حتى من أي إثم تحتفظ بتقريره وإدراكه السدة البابوية، وبقدر ما يمتد نطاق سلطان الكنيسة المقدسة أعفيك من كل عقاب تستحقه في المطهر بسبب هذه الآثام، وأعيدك إلى القربان المقدس للكنيسة وإلى البراءة والطهر اللذين حزتهما في العماد، ولهذا فإنك عندما تموت ستغلق أمامك أبواب العذاب وتفتح لك أبواب جنة النعيم، وإذا لم تمت الآن فإن هذا الفضل سوف يظل في أوج قوته عندما تصبح على وشك الموت باسم الأب والابن والروح القدس (3).
وكانت هذه الصفقة الرائعة بالنسبة إلى مؤمن تتفق مع المفهوم الرسمي(24/5)
لصكوك الغفران بالنسبة للأحياء، وها هو اسم تيتزل يتردد مرة أخرى خلال الخطاب المتضمن لتعليمات أسقفه عما استغنى عن الاعتراف التمهيدي إذا لجأ المتبرع إلى تقديم صك الغفران لروح في المطهر. ويقول مؤرخ كاثوليكي: ليس من شك في أن تيتزل أعلن طبقاً لما كان يتصوره من العقيدة المسيحية وفق التعليمات المخولة له أنه لا داعي لشيء سوى تقديم المال للحصول على صك غفران للميت في غير ما حاجة إلى الندم أو الاعتراف. ومن تعاليمه أيضاً، طبقاً للرأي الذي كان يعتنقه، أن صك الغفران يمكن أن يُمنح لأي روح معينه ويكون له أثر لا يخيب. وبناء على هذا الغرض فإن مما لا شك فيه أن مذهبه كان متفقاً مع هذا المثل السائر: "ما أن ترن قطع النقود في الخزانة حتى تقفز الروح من نار المطهر". ولم تنص نشرة البابا الخاصة بصكوك الغفران على أي دليل لهذا الرأي. وكان رأياً غامضاً لأنصار فلسفة اللاهوت ... ولم يكن يمثل عقيدة ما للكنيسة (4).
وسمع مايكونيوس، وهو راهب فرنسسكاني ربما كان معادياً للدومينيكان بصنيع تيتزل فكتب تقريراً عن هذا العام 1517، يقول: "إن ما قاله هذا الراهب الجاهل وبشر به أمر لا يصدق. لقد أعطى خطابات مختومة ضمنها أن الخطايا التي يعتزم المرء أن يرتكبها سوف تخفر له، وقال إن البابا يملك سلطاناً يفوق سلطان الرسل والملائكة والقديسين، بل يفوق سلطان العذراء مريم نفسها، لأن هؤلاء جميعاً كانوا أتباعاً للمسيح أما البابا فانه ند للمسيح". وقد يكون في هذا مبالغة، ولكن مثل هذا الوصف يمكن أن يقدمه أي شاهد عيان يشير إلى ما يثيره تيتزل من مقت. ومثل هذا العداء يبدو في الشائعة التي ذكرها لوثر (5) في ارتياب والتي استشهد بها تيتزل عندما قال في هال إنه إذا حدث المستحيل أغتصب الرجل أم الرب فإن صك الغفران كفيل بأن يمحو عنه هذا الإثم. وحصل تيتزل على شهادات من السلطان المدنية والكهنوتية في هال بأنهم لم يسمعوا القصة قط (6). كان بائعاً متحمساً ولكنه لم يكن يفتقر تماماً إلى الضمير.(24/6)
وكان يمكن أن ينجو من حكم التاريخ لو لم يقترب كثيراً من أراضي فردريك الحكيم الأمير المختار لسكسونيا (1) وكان فردريك حاكماً ورعاً حسن التدبير، ولم يكن لديه اعتراض من الناحية النظرية على صكوك الغفران وقد جمع 19000 من مخلفات القديسين في كنيسة قصره بفيتنبرج (7)، واتخذ التدابير اللازمة للحصول على صك غفران يرتبط بتوقيرها كما حصل على صك غفران آخر للمتبرعين بالأموال اللازمة لبناء قنطرة في تورجاو، وعهد إلى تيتزل بأن يعلن عن فوائد هذا الصك البابوي (8)، ومهما يكن من أمر فإنه أمسك من البابا الكسندر السادس (1501) المبلغ الذي جمع في إمارة سكسونيا بموجب صك غفران يمنح مقابل التبرعات اللازمة للحرب الصليبية ضد الأتراك، وقال إنه سوف يرفع يده عن المال عندما تتجسم الحرب الصليبية في صورة مادية، ولما لم يتحقق هذا قط احتفظ فردريك الحكيم بالأموال واستخدمها في بناء جامعة بفيتنبرج (9). وحرم في أرضه وقتذاك التبشير بصك غفران عام 1517 مدفوعاً بنفوره من السماح لعملة ساكسونيا بالهجرة، أو لعل هذا كان بدافع من التقارير عن مبالغات تيتزل؛ بيد أن تيتزل اقترب كثيراً من الحدود حتى أن أهالي فيتنبرج عبروا الحدود للحصول على صك الغفران، وجاء عدد من المشتركين لهذه "الرسائل البابوية" بها إلى مارتن لوثر أستاذ علم اللاهوت في الجامعة وطلبوا منه أن يشهد بفاعليتها فرفض، وترامى الرفض إلى مسامع تيتزل فتوعد لوثر وهكذا خلد اسمه في التاريخ.
_________
(1) في عام 1485 قسمت أملاك آل فتين إلى اقليمين. وكان القسم الأصغر والأغنى، ويشمل ليفزج ودرسدن من نصيب الابن الأصغر الدوق ألبرت، وأصبح هذا القسم باسم دوقية ساكسونيا أو ساكسونيا الألبرتية. أما القسم الأكبر وهو أقل سكاناً ويشمل فيتنبرج وفيمار فأصبح من نصيب الأخ الأكبر وهو إيرنست الأمير المختار الإمبراطوري وعرف باسم ساكسونيا إمارة المختار أو ساكسونيا الإيرنستية، وكان لهذا القسم شأن يذكر في حركة الاصلاح الديني.(24/7)
كان قد أساء تقدير خصام الأستاذ إذ أن لوثر سرعان ما ألّف باللاتينية وخمسة وتسعين رسالة أطلق عليها اسم Disoutatio pro declaratione virtutis indulgentiarum " بحث في بيان قوة صكوك الغفران". ولم يعتبر آراءه من قبيل الهرطقة ولم تكن كذلك بكل تأكيد. وكان لا يزال كاثوليكياً متحمساً ليست لديه أدنى فكرة لقلب الكنيسة ... كان غرضه أن يدحض الادعاءات المغالى فيها بشأن صكوك الغفران وأن يصحح المساوئ التي تنشأ عن توزيعها. وشعر بأن سهولة اصدار صكوك الغفران والاتجار فيها على نطاق واسع قد أضعف الاحساس بالندم الذي يجب أن يثيره ارتكاب الاثم، وجعل الخطيئة تبدو أمراً تافهاً يمكن تسويته ودياً بصفقة تُعقد مع بائع يتجر بالغفران، ومع ذلك فإنه لم ينكر "السلطة" البابوية في غفران الخطايا، وسلم بسلطة البابا في إحلال (إعفاء) النادم المعترف من العقوبات الدنيوية التي يفرضها عليه رجال الكنيسة ولكن من وجهة نظر لوثر هي أن سلطة البابا في تحرير الأرواح من المطهر أو في تقليل مدة عقابها، هناك تتوقف لا على السلطة التي تمثلها مفاتيح بطرس الرسول والتي لا تصل إلى أبعد من القبر - ولاكن تتوقف على تأثير الشفاعة لصلوات البابا، وهي قد تُسمع وقد لا تُسمع (الرسائل: 20 - 22) يضاف إلى هذا كله أن لوثر قال إن كل المسيحيين يشاركون آلياً في خزينة الفضائل التي كسبها المسيح والقديسون حتى وإن لم ينص خطاب بابوي بالغفران على منحهم مثل هذا النصيب. وأعفى البابوات من مسؤولية مبالغات الوعاظ، ولكنه أردف في خبث: "إن التبشير المطلق العنان بالغفران يجعل من الصعب حتى على الناس المتعلمين، أن ينقذوا الاحترام الواجب من التساؤلات الذكية اللماحة للعامة: لم لا يفرغ البابا مطهراً من أجل الحب المقدس والحاجة الملحة للأرواح الهائمة هناك إذا كان يفتدي ... عدداً من الأرواح من أجل المال التعس الذي يبني به كنيسة؟ (رسائل من 81 - 82).(24/8)
وفي وقت الظهيرة في اليوم الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1517 ألصق هذه الرسائل على الباب الرئيسي لكنيسة القصر في فيتنبرج، وفي اليوم الأول من نوفمبر في يوم عيد جميع القديسين عرضت هناك المخلفات المقدسة التي جمعها الأمير المختار، وكان من المتوقع حضور جمع غفير. ولا شك أن عملية اعلان هذه الرسائل على الجمهور، والتي قام بها مقدمها لمواجهة كل المتحدين، كانت عادة قديمة في جامعات القرون الوسطى وأن الباب الذي استخدمه لوثر في لصق هذا الاعلان به، كان قد استخدم بانتظام لوحة النشرات الأكاديمية. وقدم لهذه الرسائل بدعوة ودية تقول:
بدافع من الحب للعقيدة والرغبة في تسليط الضوء عليها سوف تناقش الآراء التالية في فيتنبرج تحت رعاية الأب الموقر مارتن لوثر، أستاذ الآداب واللاهوت المقدس والمحاضر الثبت لنفس العلم في ذلك المكان. ولهذا يرجو من هؤلاء الذين لا يستطيعون الحضور والجدال شفوياً أن يفعلوا هذا بخطاب.
وقام لوثر بترجمة هذه الرسائل إلى الألمانية ووزعها على الناس لكي يتأكد من أنه سوف تفهم على أوسع نطاق. وارسل نسخة من هذه الرسائل إلى ألبرخت كبير أساقفة ماينز بجرأة لا نظير لها، وهكذا بدأ الاصلاح الديني في جو من الرقة والورع وعن غير قصد.
2 - تكوين لوثر
ترى ما هي ظروف الوراثة والبيئة التي صاغت من راهب مغمور، في مدينة لا يتعدى سكانها ثلاثة آلاف نسمة داود الثورة الدينية؟ كان أبوه هانز رجلاً صارماً فظاً يستثار بسهولة، ومناهضاً لرجال الدين، وكانت أمه امرأة خجولاً متواضعة تكرس كثيراً من أوقاتها للصلاة، وكان كلاهما مقتصداً. وعمل هانز فلاحاً في موهرا ثم اشتغل بالتعدين في مانسفيلد، إلا أن(24/9)
مارتن ولد في أيسليبين في اليوم العاشر من نوفمبر عام 1483، وأعقب والده بعده ستة أطفال. وكان هانز وجريتا يؤمنان بالعصا كوسيلة سحرية لتقويم الأخلاق، ويقول مارتن إن أباه ثابر على ضربه يوماً حتى إنهما ظلا زمناً طويلاً يناصب كل منهما الآخر العداء، وفي مناسبة أخرى جلدته أمه حتى سال دمه لأنه سرق جوزة. وقال مارتن مفكراً فيما بعد: "إن الحياة الخشنة القاسية التي عشتها معهما هي التي دفعتني إلى أن ألجأ فيما بعد إلى الدير وأصبح راهباً" (10). وليس من شك في أن صورة الرب التي نقلها له والداه عكست مزاجهما الخاص. أب قاسٍ وقاضٍ صارم يطالب بفضيلة عبوس ويطلب استرضاءه دائماً ويلعن أخيراً الجانب الأكبر من البشر ويدعو عليهم بأن يخلدوا في النار. وكان والداه كلاهما يؤمنان بوجود سحرة وعفاريت وملائكة وشياطين من فصائل متعددة وتخصصات متنوعة، وحمل مارتن معه حتى النهاية معظم هذه الخرافات. وهكذا أسهم دين قام على الفزع في بيت يحتفل بالتأديب الصارم في تكوين شباب لوثر وعقيدته الدينية.
والتحق بمدرسة في مانسفيلد كان الطلبة يتلقون فيها مزيداً من العصي وكثيراً من الوعظ وجُلد فيها مارتن خمس عشرة مرة في يوم واحد لأنه أخطأ في اعراب اسم. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره نقل إلى مدرسة ثانوية تديرها جمعية دينية في ماجدنبرج، وفي سن الرابعة عشرة حول إلى مدرسة سانت جورج في أيزيناخ، وأمضى ثلاث سنوات سعيدة نسبياً اقام فيها بمنزل السيدة كوتا المريح. ولم ينسَ لوثر قد قولها إنه ليس على ظهر الأرض ما هو أثمن للرجل من حب إمرأة فاضلة. وكانت هذه نعمة لم يظفر بها إلا بعد اثنين وأربعين عاماً، وفي هذا الجو الصحي استكمل السحر الطبيعي للشباب، إذ كان سليماً معافى صريحاً ومنشرحاً من الناحية الاجتماعية. وكان يحسن الغناء والعزف على العود.
وأرسله والده الميسور الحال عام 1501 إلى الجامعة في أرفورت، وكان(24/10)
برنامج الدرس يركز على اللاهوت والفلسفة، وكانت لا تزال كلامية ولكن المذهب الاسمي لأوكهام كان قد انتصر هناك، ولعا لوثر قد فطن إلى رأي أوكهام الذي يذهب إلى أن البابوات والمجالس الدينية يمكن أن تخطئ، وكان من رأيه أن فلسفة الكلام في أية صورة من صورها غير مستحبة حتى انه امتدح لصديق له "إلا يتعلم الروث الذي يقدم باعتباره فلسفة" (11).
وكان في أرفورت بعض علماء الانسانيات المعتدلين، وتأثر بهم قليلاً ولكنهم لم يهتموا به عندما وجدوه يحتفل بالعالم الآخر. وتعلم قليلاً من اليونانية والنزر اليسير من العبرية ولكنه قرأ أمهات الكتب الكلاسيكية باللاتينية، وحصل على 1505 على درجة الماجستير في الآداب، فأرسل له أبوه المزهو به نسخة غالية من مجموعة قوانين البلد هدية بمناسبة تخرجه. واغتبط عندما بدأ ابنه في دراسة القانون. وفجأة بعد شهرين من هذه الدراسة قرر الشاب أن يصبح راهباً، الأمر الذي أفزع والده.
وهذا القرار يعبر عن التناقض في خلقه، فقد كان قوياً يفيض بالحيوية إلى حد الانغماس في الشهوات، وكان من الواضح أنه خلق لحياة يرضي فيها الغرائز الطبيعية، ومع أنه لقن في البيت والمدرسة عن اقتناع أن الإنسان آثم بطبعه، وأن الاثم معصية لإله قادر على كل شيء شديد العقاب، فإنه لم يوفق قط، في الفكر أو في السلوك، بين غرائزه الطبيعية وبين معتقداته المكتسبة. ويبدو أنه عندما كان يمر بالتجارب الغرامية العادية ونزوات المراهقة لم يستطع أن ينظر إلى هذه التجارب على أنها مراحل من التطور، بل رأى أنها من أعمال شيطان نذر نفسه للإيقاع بالارواح في لعنة أبدية لا فكاك منها. وكان مفهومه الذي لقن له عن الله لا يكاد يشمل أي عنصر من الحنان، ولم يكن لصورة مريم المواسية موضع كبير في هذا اللاهوت القائم على الخوف، ولم يكن يسوع هذا هو الابن المحب الذي لا يستطيع أن يرفض طلباً لأمه، بل كان عيسى في يوم الدينونة الذي كثيراً ما صوّر في(24/11)
الكنائس، المسيح الذي هدد الخاطئين بعذاب جهنم الأبدي. وليس من شك في أن الفكرة المتواترة عن الجحيم وضعت غشاوة على عقل كان شديد التمسك بتعاليم الدين بحيث نسيها وهو ينتهب لذة الحياة كل يوم. وبينما كان عائداً يوماً من بيت أبيه في أرفورت (يوليو سنة 1505) واجهته عاصفة رهيبة، ولمع البرق حوله، وأصابت الصاعقة شجرة قريبة منه؛ وخيل للوثر أن هذا انذار من الله وأنه ما لم يكرس أفكاره للخلاص فسوف يفاجئه الموت ويلقى حتفه دون أن يسمع اعترافه وتطارده اللعنة. ترى اين يستطيع أن يحيا حياة ينصرف فيها إلى التعبد؟ إن هذا لا يتيسر إلا حيث يقيم حاجزاً بينه وبين العالم والشهوة والشيطان، بين أربعة جدران، أو يقهر النفس بالانصراف إلى التقشف، ونذر عهداً للقديسة آن أنه لو نجا من هذه العاصفة فسوف يصبح راهباً.
وكان هناك عشرون ديراً في أرفورت فاختار واحداً عرف بالإخلاص في مراعاة قواعد الأديرة، وهو دير الرهبان الأوغسطينيين، ودعا أصدقاءه جميعاً وشرب وغنى معهم في حفل قال لهم إنه يقوم به لآخر مرة وفي اليوم التالي استقبل في خلوة بدير كمبتدئ في الرهبنة، وقام بأحقر الأعمال في تواضع لا يخلو من الاعتزاز بالنفس، وتلا الصلوات مراراً وتكراراً كمن نوّم نفسه تنويماً مغناطيسياً، وتجمد جسده في مضجع بارد وصام وعذب نفسه، أملاً في أن يطرد من جسده الشياطين وقال: "كنت راهباً ورعاً أراعي أحكام الطائفة التي أنتمي إليها بشدة إلى حد أنه ... إذ قد قدر لراهب أن يدخل الجنة عن طريق الرهبنة فإني أدخلها لا محالة ... ولو أن هذا الأمر طال أكثر من هذا لكنت عذبت نفسي حتى الموت بالسهر والصلاة والقراءة وغيرها من الأعمال" (12). وفي إحدى المناسبات عندما اختفى عن الاعين بضعة أيام اقتحم اصدقاؤه عليه خلوته فوجدوه يرقد على الأرض غائب الوعي، وكانوا قد أحضروا معهم عوداً وعزف عليه واحد منهم فاسترد قواه وشكرهم. وفي سبتمبر عام 1506 أقسم قسماً مغلظاً بأن يلتزم(24/12)
الخصاصة والعفة والطاعة، وفي مايو عام 1507 رُسم قساً ومحضه زملاؤه الرهبان نصيحة ودية وأكد له أحدهم أن عذاب المسيح إنما هو تكفير عن طبيعة الإنسان الخاطئة وأنه فتح للتائب أبواب الجنة.
وما قرأه لوثر عن الصوفيين الألمان وبخاصة عن تاولر أعطاه أملاً في أن يجتاز الثغرة الرهيبة بين روح تنزع بطبيعتها إلى الخطيئة وبين إله مقسط قادر على كل شيء. ثم وقعت في يديه رسالة بقلم جون هس فساورته شكوك عقائدية زادت من اضطرابه الروحي. وتساءل قائلاً: "ترى لماذا أحرق رجل استطاع أن يكتب بمثل هذه الروح المسيحية وبهذه القوة؟ لقد أغلقت الكتاب وأشحت بوجهي وقلبي جريح" (13). وأولى جوهان فون شتاوبتز، وهو قسيس اقليمي من الرهبان الأوغسطينيين، الراهب القلق، اهتماماً أبوياً، وأمره أن يستبدل بالتقشف قراءة الكتاب المقدس وتعاليم القدّيس أوغسطين بكل عناية. وأعرب الرهبان عن جزعهم لم أصابه فأعطوه كتاباً مقدساً باللاتينية - وكان وقتذاك من المقتنيات النادرة - بالنسبة لأي فرد.
وفي أحد أيام عام 1508 أو عام 1509 استرعت انتباهه عبارة وردت في رسالة القدّيس بولس إلى الرومان (1: 17) "إن الحق يحيا بالإيمان" وقادته هذه الكلمات في بطئ إلى العقيدة التي تذهب إلى أن الإنسان يمكن أن يزكى - أي يرجع إلى الصواب وينجو من النار - لا بالأعمال الطيبة التي لا يمكن أن تكفي أبداً للتكفير عن معصيته لإله لا حد لقدرته، بل بالإيمان المطلق بالمسيح وبتكفيره عن خطايا البشر. ووجد لوثر في تعاليم أوغسطين فكرة أخرى لعلها جددت من مخاوفه - تلك هي القدر - أن الله قدر حتى قبل الخليقة أن تحظى بعض الأرواح بالخلاص وأن يزج بالباقي في جهنم، وأن الاختيار تم بمشيئة الله أن يكون الخلاص بالتضحية بالمسيح. ومن هذا المجال الصريح فر مرة أخرى إلى أمله الأساسي في الخلاص عن طريق الأيمان.
وحول عام 1508 نقل إلى دير أوغسطين في فيتنبرج بناء على توصية من(24/13)
شتاوبيتز، وعين في وظيفة معلم للمنطق والفيزياء، ثم عين أستاذاً للاهوت في الجامعة. وكانت فيتنبرج عاصمة الشمال - وقلما كانت محل إقامة - لفردريك الحكيم وقال أحد المعاصرين عنها: "مدينة فقيرة لا أهمية لها بيوتها خشبية صغيرة، قديمة قبيحة الشكل" ووصف لوثر السكان بقوله: "إنهم سكارى يفتقرون إلى التهذيب منغمسون في العربدة إلى حد يجاوز الاعتدال، وقد اشتهروا بأنهم أشد الناس إدماناً على الشراب في ساكسونيا التي كانت تعد أعظم مقاطعة في ألمانيا يغرم أهلها بالشراب". وقال لوثر إن الحضارة انتهت على بعد ميل من الشرق وبدأت الهمجية وظل هناك الجانب الأكبر من حياته إلى نهاية أيامه.
ولا بد أنه قد أصبح راهباً مثالياً وقتذاك لأنه أرسل في اكتوبر من عام 1510 مع زميل له من الرهبان، إلى روما في مهمة غامضة للرهبان الأوغسطينيين، وكان أول رد فعل عنده لدى مشاهدته المدينة رهبة مشوبة بالورع، فسجد ورفع يديه وهتف يقول: "سلاماً عليكِ يا روما المقدسة! " وقام بكل الشعائر شأنه شأن أي حاج، وانحنى في إجلال أمام مخلفات القديسين وصعد على السلم المقدس Scala Santa وهو يسير على ركبتيه، وزار عشرين كنيسة وظفر بكثير من صكوك الغفران، حتى انه تمنى أو كاد لو كان والداه ميتين حتى يستطيع أن ينقذهما من المطهر. وارتاد المنتدى الروماني ولكن كان من الواضح أنه لم يتأثر بفن عصر النهضة، وكان رافائيل ومايكل أنجيلو ومئات غيرهما قد بدءوا في تزيين العاصمة. وظل سنوات عديدة بعد القيام بهذه الرحلة دون أن يقوم بتعليق واضح جلي على تعلق رجال الدين الرومان بالدنيا، أو على الانحلال الخلقي الذي كان شائعاً وقتذاك في المدينة المقدسة. ومهما يكن من أمر فإنه بعد عشر سنوات رصف روما عام 1510 بأنها "تدعو للمقت" ولا يزال من هذا المزيد في ذكرياته التي تبتسم بالخيال المتوقد، والتي تخطر له أحياناً في أحاديثه حول مائدة الطعام في سن الشيخوخة،(24/14)
وقال إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت العشاء" (14). ومن المحتمل أنه لا يتيسر له الدخول في أوساط رجال الكهنوت الكبار ولم تكن له معرفة مباشرة بأخلاقهم المنحلة التي لا شك فيها.
وارتقى بسرعة في المناصب التعليمية بعد عودته إلى فيتنبرج "فبراير عام 1511" ونصب نائباً للأسقف في طائفته. وألقى محاضرات في الكتاب المقدس، وقام بالوعظ بانتظام في كنيسة الأبرشية ونهض بعبء العمل في وظيفته بجد وولاء، ويقول عالم كاثوليكي مشهور: "إن خطاباته الرسمية تنم على اهتمام شديد بالذين ساورتهم الشكوك وتفيض بعطف رقرق على الآثم وتفصح عن لمسات عميقة من الشعور الديني والرأي العملي النادر وإن كانت لم تخلُ من تشويه نصائح لها اتجاهات مخالفة للعقيدة، وعندما اجتاح الطاعون فيتنبرج عام 1516 لزم مكانه بشجاعة، ورفض أن يتخلى عنه على الرغم مما أبداه أصدقاؤه من قلق" (15). وخلال هذه السنوات (1512 - 1517) تحولت آراؤه الدينية ببطء عن المذاهب الرسمية للكنيسة، وبدأ يتحدث عن "لاهوتنا" مقابل ما كان يدرس في ارفورت. وفي عام 1515 عزا ما أصاب العالم من فساد إلى رجال الكهنوت الذين قالوا للناس كثيراً جداً من أمثال وحكايات خرافية من إبداع البشر وليست من الكتب المنزلة. واكتشف عام 1516 مخطوطة ألمانية مجهولة المؤلف أيد ما بها من التقوى الصوفية رأيه في اعتماد الروح الكلي في الخلاص على رحمة الله إلى حد أنه أعدها للنشر وطبعها باسم "لاهوت ألماني Theologia Germanica". ووجه اللوم إلى المبشرين بصكوك الغفران لاستغلالهم سذاجة الفقراء، وبدأ في مراسلاته الخاصة يبرهن على أن "ضد المسيح" الوارد في الرسالة الأولى ليوحنا شبيه بالبابا (16). ودعاه الدوق جورج صاحب ألبرتين سكسونيا عام(24/15)
1517 إلى الوعظ في برسدن، فأثبت بالدليل أن مجرد قبول فضائل المسيح يحقق الخلاص للمؤمن. وشكا الدوق من أن مثل هذا التشدد في الإيمان أكثر من الفضيلة "سوف يجعل الناس مغرورين ومتمردين فحسب" (17)، وبعد ثلاثة شهور تحدى الراهب المشهور العالم إلى مناظرته في الرسائل الخمس والتسعين التي علها في كنيسة فيتنبرج.
3 - الثورة تتخذ شكلاً
قد توحي الصورة التي حفرها كراناخ على الخشب عام 1520 أن لوثر في عام 1517 كان راهباً حليق الرأس متوسط القامة رشيق الجسم إلى حين، وله عينان واسعتان ينما على العزم الجاد، وأنف كبير وذقن يدل على قوة العزيمة ووجه يفصح في هدوء لا في لجاجة عن الشجاعة وقوة الشخصية، ومع ذلك فإنه كتب هذه الرسائل بدافع من الغضب المتسم بالاخلاص لا عن جرأة حمقاء ولم يرَ فيها الأسقف الحلي شيئاً من الهرطقة ولكنه نصح لوثر في لطف ألا يكتب شيئاً آخر في الموضوع لفترة ما. وقد هل المؤلف نفسه ما أثاره من غضب. وفي مايو عام 1518 أبلغ شتاوبتز أن أمله الحقيقي هو أن يقضي حياته في عزلة هادئة ولكنه كان يخدع نفسه فقد كان تلذ له المعركة.
وأصبحت الرسائل حديث الطبقة المتعلمة في ألمانيا. كان الآلاف ينتظرون احتجاجاً كهذا، وهللت الحركة المضادة لرجال الدين وانطلقت من عقالها إذ وجدت صوتاً يعبر عنها. وقل الإقبال على شراء صكوك الغفران. ولكن كثيراً من أنصاره تصدوا لمواجهة التحدي وأجاب تيتزل، بمعاونة بعض المحترفين، في "مائة وست رسالة مضادة" (ديسمبر عام 1517). ولم يسلم فيها باي شيء ولم يقدم أي اعتذار بل "إنه أصدر في بعض الأحيان(24/16)
حكماً لا يقبل التفاهم مؤيداً لآراء لاهوتية بحتة لا تكاد تتفق مع أعظم الدراسات دقة" (18). وعندما وصل هذا المؤلف إلى فيتنبرج وعرضه بائع جوال للبيع تألبت عليه جمهرة من طلبة الجامعة، وأحرق المخزون لديه وقدره 800 نسخة في ساحة السوق - وهو إجراء استهجنه لوثر في جذل. ورد على تيتزل في "عظة حوول صكوك الغفران والرحمة"، وختمها بقوله في تحد لا نظير له: "إذا كنت هرطيقاً في نظر مَن تعاني أكياس نقودهم من الحقائق التي أذكرها فإني لا أبالي كثيراً بصياحهم لأنه لا يقول هذا إلا مَن رانت على عقولهم غشاوة فلم يعرفوا قط الإنجيل" (19).
وأمطر جاكوب فان هوجسترايتن الكولوني، لوثر ووابلاً من عبارات التنديد، واقترح أن يحرق على السارية، وأصدر جوهان إيك، نائب مدير جامعة أنجولشتادت كتيباً باسم Obeilsci ( مارس عام 1518) اتهم فيه لوثر بنشر "السم البوهيمي" (هرطقات هس) وتقويض النظام الاكليروسي بأسره.
وفي روما نشر سيلفستر بريرياس، رقيب الأدب البابوي حواراً "يؤيد فيه سيادة البابا المطلقة بألفاظ لا تخلوا تماماً من المبالغة وبخاصة عندما يبسط نظريته إلى نقطة خاصة بالتجارة في صكوك الغفران ليس لها سند ولا عليها دليل" (20).
وردّ لوثر في كتيب اسمه Resolutiones قرارات (أبريل عام 1518) وأرسل نسخاً منه إلى أسقفه المحلي وإلى البابا - مع تأكيدات بالمحافظة والطاعة في كلتا الحالتين وتحدث النص في رفق عن ليو العاشر: "على الرغم من أن في عالم الكنيسة رجالاً يجمعون بين العلم والقداسة فإن من سوء طالع عصرنا مع ذلك أنهم لا يستطيعون أن يمدوا يد العون للكنيسة ... وها نحن أولاء نجد حبراً أعظم لا يباري هوليو العاشر، يمتاز بكمال وعلم هما بهجة لكل آذان الناس الطيبين، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل وحده أرق الرجال(24/17)
قلباً في مثل هذه البلبلة الكبيرة بين الامور مهما كان جديراً بأن يحكم في أوقات خير من هذه؟ ... إننا في هذا العصر لا نستحق إلا بابوات من أمثال يوليوس الثاني وألكسندر السادس ... إن روما نفسها - نعم روما، أكثر من الكل، تسخر الآن من الناس الطيبين، ترى في أي جزء من العالم المسيحي غير روما، حصن بابيلون الحقيقي، يهزأ الناس بحرية من أحسن الأساقفة؟ " وأكد لليو مباشرة خضوعاً غريباً بقوله: "أيها الاب المبارك أقدم تحت أعتاب قداستك تذللي وخضوعي بكل ما أكونه وما أملك. هيا وسارع، واقتل وادعِ واستدعِ واستحسن واستهجن إذا راق ذلك في نظرك. إني سأقر بأن صوتك هو صوت المسيح، إذ يقيم في جسدك ويتحدث. وإذا كنت أستحق الموت فلن ارفض أن أموت" (21).
ومهما يكن من أمر فإن كتابة قرارات Resolutiones كما لاحظ مستشارو ليو أكد أن المجلس المسكوني أعلى رتبة من البابا، وتحدث مستخفاً عن المخلفات المقدسة وعن الحجج وأنكر فضائل القديسين الزائدة ونبذ كل الإضافات التي قام بها البابوات في القرون الثلاثة الأخيرة على نظرية صكوك الغفران وممارستها، ولما كانت هذه مصدراً له أهميته للدخل البابوي ولما كان ليو في حيرة لا يدري كيف يمول مشروعاته الإنسانية ومنازله وحروبه وإدارة وتنفيذ برنامج بناء الكنيسة أيضاً فإن الحبر الأعظم الذي استبد به القلق، والذي لم يعبأ في مبدأ الأمر بالنزاع باعتباره ضجة عابرة بين الرهبان، تصدى للأمر وأخذه وقتذاك على عاتقه واستدعى لوثر إلى روما (7 يوليو سنة 1518).
وواجه لوثر قراراً حرجاً فحتى إذا عامله أرق البابوات برفق فإنه قد يجد نفسه ملزماً بإيثار الصمت في أدب واعتقال نفسه في دير روماني وسرعان ما ينساه هؤلاء الذين يهتفون له الآن. وكتب إلى جورج سبالاتان القسيس الخاص بالأمير المختار فردريك يقترح عليه أن يبادر الأمراء الألمان بحماية(24/18)
مواطنيهم من التسليم الإجباري لإيطاليا فوافق الأمير إذ كان يجل لوثر الذ كان له الفل في نجاح جامعة فيتنبرج، وفضلاً عن هذا فإن الإمبراطور ماكس رأى أن لوثر ورقة رابحة يمكن أن يلعب بها في نزاعه الدبلوماسي مع روما فأشار على الأمير المختار أن "يهتم جداً بذلك الراهب" (22).
وفي هذا الوقت نفسه كان الإمبراطور قد دعا المجلس النيابي الإمبراطوري إلى الاجتماع في أوجسبورج للنظر في طلب البابا فرض ضريبة على ألمانيا للمعاونة في تمويل حملة صليبية جديدة ضد الأتراك فرجال الاكليروس (كما رأى ليو) يجب أن يدفعوا عشر دخلهم والعلمانيون جزءاً من أثني عشر جزءاً من دخلهم، وكل خمسين من أرباب البيوت يجب أن يجهزوا رجلاً ورفض المجلس النيابي بل أنه على النقيض سجل مرة أخرى ... المظالم التي كانت تهيئ الدعامة التي قام عليها لوثر، وأوضح للقاصد الرسولي أن ألمانيا كثيراً ما فرضت على نفسها الضرائب للحملات الصليبية فوجدت أن الأموال تنفق في أغراض البابا الأخرى وأن الناس يعارضون بشدة أية تنازل آخر عن المال لإيطاليا وأن المبالغ السنوية التي تدفع للبابا عن ريع أول عام ورسوم التثبيت الديني ونفقات القضايا الكنسية المحالة إلى روما كانت عبئاً ثقيلاً لا يطاق، وأن التبرعات الألمانية كانت تعطى مثل ثمار البرقوق إلى القساوسة الإيطاليين. وقال أحد النواب إن مثل هذا الرفض الجريء للمطالب البابوية لم يعرف قط في تاريخ ألمانيا (23). وعندما لاحظ ماكسمليان روح الثورة بين الأمراء كتب إلى روما ينصح بالحرص في معاملة لوثر، ولكنه وعد بالتعاون في القضاء على الهرطقة.
وكان ليو ميالاً أو مضطراً إلى التسامح، والحق أن مؤرخاً بروتستانتياً عزا انتصار الاصلاح الديني إلى اعتدال البابا (24) واستبعد الأمر بمثول لوثر أمامه في روما، وبدلاً من ذلك أمره بأن يمثل أمام الكاردينال كاجيتان في أوجسبورج وأن يجيب على التهم الموجهة إليه بالخروج على النظام والهرطقة. وأصدر(24/19)
تعليماته إلى قاصده الرسولي بأن يعرض على لوثر صفحاً كاملاً ومناصب في المستقبل إذا تراجع عن أقواله وأقر بذلك وإلا فإنه سوف يطلب من السلطات الزمنية أن ترسله إلى روما (25). وفي الوقت نفسه أعلم ليو عن نيته في تقديم تكريم لفردريك طالما تطلع إليه الأمير المختار الورع - ألا وهو "الوردة الذهبية" التي كان البابوات يمنحونها للحكام الزمنيين الذين يودون أن يخصّوهم بأرفع هباتهم، ولعل ليو عرض وقتذاك أن يؤيد فردريك كوارث للعرش الامبراطوري (26).
وقابل لوثر في أوجسبورج الكردينال كاجيتان وهو متسلح بجواز أمان من الإمبراطور (12 - 14 أكتوبر عام 1518)، وكان الكردينال رجلاً متضلعاً في اللاهوت ويعيش حياة مثالية، ولكنه أساء تفسير وظيفته على أنه قاضٍ وليس دبلوماسياً، ورأى أولاً وقبل كل شيء أن الأمر مسألة تتعلق بالنظام الكنسي وضبطه: هل يسمح لراهب أن ينتقد علناً رؤساءه - الذين أقسم أن يدين لهم بالطاعة وأن يدافع عن آراء أدانتها الكنيسة؟ ورفض أن يناقش صحة آراء لوثر أو خطأها وطالبه بأن يسحب أقواله وأن يتعهد بألا يعكر صفو الكنيسة. ولم يستطع أحدهما صبراً على الآخر، وعاد لوثر إلى فينبرج دون أن يتوب وطلب كاجيتان من فردريك أن يرسله إلى روما فأبى فردريك. وكتب لوثر بياناً شائقاً عن المقابلات نشر في أرجاء ألمانيا، وعندما قدمه إلى صديقه فينتسل لينك أضاف قائلاً: "أرسل لك عملي التافه لكي ترى ما إذا كنت مخطئاً في رأيي، طبقاً لتعاليم بولس، أن المناهض الحقيقي للمسيحية يسيطر على البلاد الروماني وأنا أعتقد أنه أسوأ من أي تركي" (27). وفي خطاب أكثر اعتدالاً بعث به إلى الدوق جورج طالب بقوله: "يجب القيام بإصلاح ديني عام للطبقات الروحية والزمنية" (28) والمعروف أن هذه هي المرة الولى التي استخدم فيها الكلمة التي أضفت على ثورته اسمها التاريخي.(24/20)
واستمر ليو في محاولاته للتوفيق، فأصدر نشرة بابوية في التاسع من نوفمبر عام 1518 أنكر فيها كثيراً من المزاعم المتطرفة التي نسبت إلى صكوك الغفران، فهذه لا تمحو الآثام أو الذنوب ولكنها تعفي فحسب من العقوبات الدنيوية التي فرضتها الكنيسة - لا الحكام الزمنيون - أما بالنسبة لإطلاق سراح الأرواح من المطهر فإن سلطة البابا محدودة بصلواته التي يبتهل فيها إلى الله أن يمنح روح ميت البركة الزائدة للمسيح والقديسين. وفي الثامن والعشرين من نوفمبر قدم لوثر طلباً إلى مجلس عام يستأنف فيه حكم البابا. وفي ذلك الشهر نفسه عهد ليو إلى كارل فون ميلتيتز، وهو نبيل من الطبقات الصغرى في روما، بأن يأخذ "الوردة الذهبية" إلى فردريك وأن يقوم أيضاً بجهد سلمي للعودة بلوثر "إبن الشيطان" إلى حظيرة الطاعة (29).
وعندما وصل ميلتيتز إلى ألمانيا دهش عندما وجد أن نصف أهالي البلد يجاهرون بالعداء للسدة الرومانية وأن من بين كل خمسة من أصدقائه في أوجسبورج ونورمبورج ثلاثة يؤيدون لوثر. وفي ساكسوني كان الشعور المناهض للبابوية قوياً إلى حد أنه تنصل من كل الدلائل التي تشير إلى أنه مبعوث بابوي. وعندما التقى بلوثر في ألتن بورج (3 يناير سنة 1519) وجده صريحاً يؤثر أن يقرع الحجة بالحجة ولا يهاب أحداً. وربما كان لوثر في هذه المرحلة يتوق في اخلاصه إلى الحفاظ على وحدة العالم المسيحي الغربي. وقام بتنازلات كريمة: أن يلزم السكوت إذا التزم خصومه بذلك وأن يكتب رسالة يعلن فيها خضوعه للبابا وأن يقر علناً بصحة الصلوات للقديسين وبحقيقة المطهر وبفائدة صكوك الغفران في الإعفاء من العقوبات الكنسية وأن ينصح الناس بالولاء المسالم للكنيسة، وفي غضون ذلك يجب أن تعرض تفاصيل الخلاف على أسقف ألماني يقبله الطرفان (30) للفصل فيها. فسر ميلتيتز كثيراً وانطلق إلى ليبتسيج واستدعى تيتزل وعنّفه على تطاوله واتهمه بالكذب وخيانة الأمانة وعزله فانزوى تيتزل في ديره ومات بعدها بقليل (11 أغسطس سنة 1519) وتلقى، وهو على فراش الموت، خطاباً(24/21)
رقيقاً من لوثر يؤكد له فيه أن بيع صك الغفران لم يكن غلا مناسبة وليس سبباً للفتنة و "أن المسألة لم تكن قد بدأت من أجل ذلك ولكن أن للموضوع الوليد أبا آخر" (31). وفي الثالث من مارس كتب لوثر رسالة إلى البابا يعلن فيها خضوعه التام فرد عليه ليو بروح وديّة (29 مارس) ودعاه للحضور إلى روما ليدلي باعترافه، وعرض عليه مالاً لتغطية نفقات رحلته (32). ومهما يكن من أمر فإن لوثر، في تناقض صريح كان قد كتب إلى سبالاتان في الثالث عشر من مارس: "إني في حيرة لا أدري هل البابا مناهض للمسيح أم أنه رسوله" (33). ورأى أن في هذه الظروف أن من الأسلم له أن يبقى في فيتنبرج.
وهناك كانت الكلية والطلبة والمواطنون يعطفون في الغالب على قضيته، ولقد أسعده بصفة خاصة أن يلقى التأييد من شاب ألمعي، عالم بالإنسانيات واللاهوت، كان قد عينه الأمير المختار عام 1518 وهو في الحادية والعشرين من عمره لتدريس اللغة اليونانية بالجامعة. وكان فيليب شفارتسرت (الأرض السوداء) قد صبغ اسمه بالهيلينية وغيرّه إلى ميلانكتون على يد عمه العظيم رويخلين، كان رجلاً صغير القامة ضعيف البنية، يعرج في مشيته، وله تقاطيع لطيفة، وحاجبان مرتفعان، وعينان تنمان عن الخجل، وقد أصبح مفكر الاصلاح الديني هذا محبوباً في فيتنبرج إلى حد أن خمسمائة أو ستمائة من الطلبة كانوا يتجمهرون في قاعة محاضرته، بل إن لوثر نفسه الذي وصفه بأنه "ستحلى بكل فضيلة معروفة للإنسان" (34) كان يجلس في تواضع بين تلاميذه. وقال أرازموس: "إن ميلانكتون رجل رقرق الحاشية فحتى أعداؤه يذكرونه بالخير (35).
وكان لوثر يلذ له الصراع بينما كان ميلانكتون يؤثر المسالمة والتراخي، وكان لوثر يؤنبه أحياناً على أنه حليم أكثر مما يجب، إلا أن أنبل جانب للوثر وأشده اعتدالاً قد اتضح في حبه الذي لم ينقطع لرجل يختلف عنه في المزاج والسياسة. "لقد خلقت للحرب والقتال مع الأحزاب والشياطين، ومن هنا فإن كتب عاصفة خليقة بمحارب. لابد أن أجتث جذور جذوع(24/22)
الأشجار وبقاياها وأن أنتزع الأشواك وأقلم نباتات الأسوار وأن أردم الحفر، فأنا خبير بالإحراج وأستطيع أن أقتحم فيها طريقاً وأن أهيّئ الامور، أما الأستاذ فيليب فإنه يسير في رفق وهدوء ويفلح الأرض ويزرع ويبذر ويسقي وهو مسرور كما حباه الله في سخاء" (36).
وثمة أستاذ آخر في فيتنبرج لمع ببريق أشد من بريق ميلانكتون ذلك هو أندرياس بودينشتاين، المعروف من محل ميلاده باسم كارلشتادت، وقد انضم إلى هيئة التدريس بالجامعة وهو في الرابعة والعشرين من عمره (1504) وفي الثلاثين عين أستاذاً لكرسي الفلسفة التومية واللاهوت. وفي اليوم الثالث عشر من ابريل عام 1517 سبق احتجاج لوثر التاريخي بنشر 152 مقالاً ضد صكوك الغفران. وكان في مبدأ الأمر معارضاً للوثر ولكنه سرعان ما تحول إلى نصير غيور حتى لقد قال عنه الثائر العظيم "إنه أشد تحمساً مني للأمر" (37). وعندما تحدى إيك في كتابه Obelisci رسائل لوثر دافع عنها كارلشتادت في 406 قضية منطقية واحدى هذه القضايا المنطقية تحتوي على أول بيان محدد بالألمانية عن الاصلاح الديني الألماني وعن سلطة الإنجيل العليا على مراسيم الكنيسة وتقاليدها. فرد إيك وتحداه أن يدخل معه في مناظرة علنية، فوافق كارلشتادت في الحال وقام لوثر بعمل التدابير اللازمة، ثم نشر إيك بياناً أورد فيه قائمة بثلاثة عشر مقالاً عرض أن يقيم عليها الدليل في المناظرة. وجاء في إحداها "نحن ننكر أن الكنيسة الرومانية لم تكن أعلى من الكنائس الأخرى قبل عهد سيلفستر وقد اعترفنا لشاغل كرسي بطرس بأنه خليفة المسيح ونائبه". ولكن لوثر وليس كارلشتادت هو الذي أثار في كتابه "قرارات" Resolutiones مسألة أن السلطة الرومانية في القرون الأولى من المسيحية لم يكن لها من السلطان ما يزيد على سلطان عدة أساقفة آخرين من أساقفة الكنيسة، وشعر لوثر بأن هذا التحدي موجه له وزعم أن مقال إيك قد حرره من عهده الذي قطعه على نفسه بالتزام السكوت وقرر أن ينظم إلى كارلشتادت في المبارة اللاهوتية.
وفي يوليه عام 1519 انطلق المحاربان إلى ليبتسيج يصحبهما ميلانكتون(24/23)
وستة اساتذة آخرون، ويرافقهما 200 طاب من فيتنبرج في عربات ريفية وهم مسلحون ومسربلون بالدروع وكأنهم مقبلون على معركة، والحق أنهم كانوا يدخلون أرضاً معادية للوثر. وفي القاعة الكبيرة المفروشة بالطنافس في قلعة بلايسينبورج ووسط جمهرة من المشاهدين المتلهفين وتحت رئاسة الدوق المحافظ جورج صاحب ألبرتين ساكسوني بدأ إيك وكارلشتادت المثاقفة بين القديم والجديد (27 يونيه). ولم يكد أحد في ليبتسبورج يعبأ بأن إمبراطوراً جديداً سوف يُنتخب غداً في فرانكفورد الواقعة في المين.
وبعد أن عانى كارلشتادت أياماً من براعة إيك العالية في المناظرة ناب لوثر عن فيتنبرج. وكان المعياً قوي الحجة في النقاش، ولكنه كان قليل المبالاة إلى درجة التهور، فأنكر بشدة رئاسة أسقف روما في أيام المسيحية الأولى وذكر أشد مستمعيه كراهة بأن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الواسعة الانتشار لا تزال ترفض سيادة روما. وعندما هاجم إيك رأي لوثر وقال إنه إنما يردد وجهة نظر هس التي أدانها مجلس كونستانس، رد لوثر بقوله إن المجالس المسكونية يمكن أن تخطئ وأن كثيراً من آراء هس كانت صحيحة وعندما انتهى هذا الجدل (8 يوليه) كان إيك قد وصل إلى غرضه الحقيقي - وهو أن يستدرج لوثر إلى أن يرتكب بنفسه جريمة هرطقة محددة، فقد تحول الاصلاح الديني من خلاف صغير حول صكوك الغفران إلى تحدٍ كبير للسلطات البابوية على العالم المسيحي.
وانطلق إيك إلى روما وقدم إلى السدة البابوية تقريراً عما دار من نقاش وأوصى بحرمان لوثر من غفران الكنيسة، ولكن ليو لم يكن متعجلاً إلى هذا الحد إذ كان لا يزال يراوده الأمل في حل سلمي ثم إنه كان بعيداً جداً عن ألمانيا فلم يدرك مدى ما بلغته الثورة، كما أن مواطنين بارزين مبجلين من أمثال جوهان هولتسشوهر ولازاروس شبينجلر وفيليبالد بيركهايمر، دافعوا عن لوثر ودعا ديرر له بالنجاح وكان علماء الانسانية يطلقون(24/24)
وابلاً من الكتيبات تطعن في البابوي بكل ما استوعبه العصر من نقد جارح. وعندما وصل أولريخ فون هوتن إلى أوجسبورج عام 1518 تحول بقصائده ضد نداء ليو بجمع الأموال للحرب الصليبية وأعرب عن أمله في أن يذهب الجباة إلى الوطن بحقائب خاوية. وعندما بلغته أنباء المناظرة في ليبتسيج حيا لوثر كمحرر لألمانيا وشرع قلمه ابتداء من ذلك الوقت سيفاً مسلطاً للدفاع عن الاصلاح، وانخرط في سلك فرسان فرانتس فون سيكنجن - الذين كانوا يتلهفون على الثورة - وأغراه على أن يقدم إلى لوثر كل التأييد والحماية اللتين يمكن لعصبته المسلحة أن تزوده بهما، ورد لوثر معبراً عن تقديره الحار، ولكنه لم يكن على استعداد لاستخدام القوة دفاعاً عن شخصه.
وفي مارس عام 1520 نشر هوتن مخطوطة ألمانية قديمة كتبت في عيد الإمبراطور هني الرابع (حكم من 1056 - 1106)، وكانت تؤيد هنري في صراعه مع البابا جريجوري السابع، وأهدى الكتاب إلى الإمبراطور الشاب شارل الخامس إشارة إلى أن ألمانيا تتوقع منه أن ينتقم لإذلال هنري وهزيمته. وقال هوتن إن تحرير ألمانيا من روما أشد إلحاحاً من صد الأتراك. "في الوقت الذي رأى فيه أجدادنا أنه لا يخلق بهم أن يخضعوا للرومان عندما كان هؤلاء أعظم أمه حربية في العالم نجد أننا لا نخضع لهؤلاء العبيد المخنثين المنغمسين في حمأة الشهوة والترف فحسب بل إننا نعرض أنفسنا للاغتصاب ونهيّئ لهم إرضاء شهواتهم الحسية" (38). وفي أبريل عام 1520 أصدر هوتن أول سلسلتين من Gesprache وهو محاورات منظومة لعبت دوراً لا يفوقه إلا مؤلفات لوثر، وذلك في الإعراب عن الرغبة القومية في الاستقلال عن روما واستنهاضها ووصف روما بأنها: "دودة ضخمة تمتص الدماء". وصرّح بأن "البابا زعيم لص وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة ... وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة وبالوعة ليس لها قرار من الظلم.(24/25)
ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟ " (39)، وأقام أرازموس الحجة مع هوتن ليلطف من أسلوبه وحذره ودياً بأنه في خطر وعرضة للقبض عليه. واختبأ هوتن نفسه في قلاع سيكينجن واحدة إثر أخرى ولكنه استمر في حملته. ونصح الأمير المختار فردريك باستيلاء السلطة الزمنية على كل ثروة الأديرة، وأوضح الوجوه السامية التي يمكن لألمانيا أن تنفق فيها الأموال التي ترسل سنوياً إلى روما (40).
ولكن مركز الحرب ظل في فيتنبرج الصغيرة. وفي ربيع عام 1520 نشر لوثر موجزاً به ملاحظات عنيفة استشهد بها أحدث المزاعم التي لا تلين والتي يرددها علماء اللاهوت المحافظون عن سيادة البابوات وسلطانهم. وقابل لوثر التطرف بالتطرف: إذا كانت روما تؤمن وتعلم بمعرفة البابوات والكرادلة (التي أرجو ألا تكون تلك هي الحالة) فإني أعلن بحرية في هذه الكتابات بأن المناهض للمسيحية الحقيقي يجلس في معبد الرب ويحكم في روما - بابل هذه المصبوغة بلون الارجوان - وأن مجلس تلك العشيرة الرومانية هو هيكل الشيطان ... وإذا استمر هياج أنصار روما على هذا النحو فلن يكون أمامنا من علاج سوى أن يتولى الأباطرة والملوك والأمراء، تحيط بهم القوة والأسلحة، مهاجمة هذه الأوبئة في العالم وحسم الأمر بالسيف لا بالكلمات ... وإذا كنا نقضي على اللصوص بالمشانق ونضرب أعناق الناهبين بالسيوف ونلقي بالهراطقة في النار فلماذا لا نهاجم أيضاً بالأسلحة أساتذة الدمار هؤلاء، أعني هؤلاء الكرادلة وهؤلاء البابوات وكل هذه البالوعة من سدوم الرومانية التي أفسدت كنيسة الرب بلا حدود، ونغسل أيدينا في دمائهم؟ " (41).
وأصدر كارلشتادت فيما بعد في العام نفسه "كتيباً" De Canonicis Scripturis Libelus جعل فيه الكتاب المقدس يعلو على البابوات والمجالس(24/26)
الدينية والتقاليد والأناجيل أعلى من الرسالات الإنجيلية، ولو أن لوثر اتبع هذا الخط الأخير لكانت البروتستانتية قد أصبحت أقل بولسية وأوغسطينية وجبرية كان كتاب Libellus على رأس عصره في الشك في تأليفٍ مؤسٍ للاسفار الخمسة (التوراة) وصحة الأناجيل ولكنه كان ضعيفاً في حجته الرئيسية: فقد قرر صحة الكتب الإنجيلية استناداً إلى الروايات المأثورة عن القرون الأولى ثم رفض الرواية التي تؤيد الكتب الثابتة على هذا النحو.
وتشجع لوثر بتأييد ميلانكتون وكارلشتادت وهوتن وسيكنجن فكتب إلى سبالاتان (11 يوليه سنة 1520): "لقد ألقيت النرد. وأنا أحتقر الآن غضب الرومان بقدر ما أحتقر رضاهم. ولن أهادنهم إلى الأبد ... فليدينوا ويحرقوا كل ما يمت لي بصلة، وأنا في مقابل هذا سوف أفعل لهم الكثير ... إني لم أعد اليوم أخشى أحداً وسوف أنشر كتاباً باللغة الألمانية عن الاصلاح المسيحي وهو موجه ضد البابا بلهجة عنيفة كما لو كنت أوجهها إلى مناهض للمسيحية" (43).
4 - نشرات بابوية ملتهبة
أصدر ليو العاشر في اليوم الخامس عشر من شهر يونيه عام 1520 نشرة أدان فيها واحداً وأربعين بياناً للوثر، وأمر بأن تُحرق علناً مؤلفاته التي ظهرت فيها، وأنذر لوثر بأن يتراجع عن أخطائه وأن يعود إلى حظيرة الدين. وإذا رفض أن يأتي إلى روما في خلال ستين يوماً ويسحب أقواله علناً فإنه سوف يُبتر من عضوية العالم المسيحي بحرمانه من غفران الكنيسة، وسوف يعرض عنه كل المؤمنين باعتباره هرطيقاً، وسوف تتوقف العبادة في جميع الأماكن التي يقيم فيها، وعلى جميع السلطات الزمنية أن تطرده من أملاكها أو تسلمه إلى روما.
وأعلن لوثر نهاية عهد التسامح بنشر أول كتاب من الكتيبات الثلاثة(24/27)
التي كونت برنامج الثورة الدينية. وكان حتى هذا الوقت قد كتب باللغة اللاتينية مخاطباً الطبقات المستنيرة، أما الآن فإنه كتب باللغة الألمانية - كوطني ألماني - خطاباً مفتوحاً إلى أشراف الأمة الألمانية المسيحية بشأن إصلاح طبقة رجال الدين، وشمل نداءه "استغاثة بالنبيل الشاب" الذي كان قد اختير منذ عام امبراطوراً باشم شارل الخامس "وأنعم به الله علينا ليكون زعيماً لنا وبهذا ينعش في كثير من الأفئدة آمالاً كباراً في الخير" (43). وهاجم لوثر "الجدران الثلاثة" التي شيدتها البابوي حول نفسها وهي: التمييز بين رجال الأكليروس والعلمانيين وحق البابا في أن يفسر الكتاب المقدس على هواه، وحقه المطلق في دعوة مجلس عام للكنيسة، وقال لوثر إن كل هذه الدعاوى الدفاعية يجب أت تُهدم. فأولاً ليس هناك فرق حقيقي بين رجال الأكليروس والعلمانيين إذ أن كل مسيحي ينصب قساً بالتعميد ومن ثم فإن على الحكام الزمنيين أن يمارسوا سلطاتهم "دون عائق أو اعتراض بغض النظر عما إذا كانوا يسيئون إلى البابا أو الأسقف أو القس ... وكل ما نص عليه القانون الكنسي مما يناقض ذلك من خالص بنات أفكار الوقاحة الرومانية" (44). وثانياً: أن كل مسيحي يُعد قساً فإن له الحق في أن يفسر الكتب المقدسة طبقاً لما يراه (45). وثالثاً: يجب أن يكون الكتاب المقدس مرجعنا الأخير للعقيدة أو أداء الشعائر فالكتاب المقدس لا يقدم أية بينة على حق البابا المطلق في دعوة مجلس. وإذا كان ينشد بالحرمان من غفران الكنيسة أو التحريم أن يمنع مجلساً، "فإننا يجب أن نستخف بسلوكه كأنه تصرف رجل مجنون ونقذفه بحرمانه معتمدين في ذلك على الله ونقمته بقدر الإمكان" (46) ويجب دعوة مجلس في أقرب وقت وعليه أن يفحص المفارقة الفظيعة في أن زعيم العالم المسيحي يعيش في ترف دنيوي يفوق ما يحلم به أي ملك ولابد أن يضع هذا حداً لاستيلاء رجال الدين الإيطاليين على التبرعات الألمانية وأن يقلل إلى واحد في المائة من "زمرة الهوام" الذين يشغلون في روما مناصب دينية تدر عليهم دخلاً دون أن يؤدوا عملاً ويعيشون بصفة أساسية على الأموال التي يسلبونها من ألمانيا.(24/28)
"لقد قرر البعض أن أكثر من 300000 جولدن تجد طريقها كل عام من ألمانيا إلى إيطاليا ... وها نحن أولاء نصل إلى لب الموضوع ... كيف يتأتى أن يكون لزاماً علينا نحن الألمان أن نتسامح في مثل هذه السرقة ومثل هذا السلب لأملاكنا على يدي البابا؟ ... وإذا كنا بحق نشنق اللصوص ونضرب أعناق السارقين بالإكراه فكيف نسمح للشره الروماني أن يفلت من العقاب؟ ذلك لأنه أكبر لص وسارق بالإكراه جاء أو يمكن أن يجيء إلى العالم بل وشرهم قاطبة بالاسم المقدس للمسيح والقديس بطرس ومَن في وسعه بعد هذا أن يتحمل أو يلزم السكوت؟ " (47).
لماذا يتحتم على الكنيسة الألمانية أن تدفع هذه الجزية الدائمة إلى سلطة؟ فليتخلص رجال الدين الألمان من تبعتهم لروما ولينشئوا كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفة ماينز. إن أوامر الاستجداء يجب أن تقل ويجب أن يُسمح للقساوسة بالزواج ويجب ألا تؤخذ عهود الرهبنة قبل سن الثلاثين، وأن تلغى التحاريم والحج وشعائر القداس على أرواح الموتى ... والعطلات (ما عدا أيام الآحاد) وعلى الكنيسة الألمانية مصالحة الهسيين في بوهيميا، إن هس أحرق دون أن يشفع له حصوله على جواز الأمان من الإمبراطور، وفي أية حال فإننا "يجب أن نتغلب على الهراطقة بالكتب لا بالحرق" (48) "ويجب أن يُنبذ كل قانون كنسي وألا يكون هناك إلا قانون واحد يطبق على رجال الدين والعلمانيين على السواء" - "يجب علينا فوق كل شيء أن نطرد من الأراضي الألمانية مبعوثي البابا بكل ما لهم من قوى" - وهي التي يبيعونها لنا مقابل مبالغ كبيرة من المال - لإقرار الأرباح الجائرة، للتحلل من الأقسام والعهود والاتفاقيات بحجة أن البابا له سلطة القيام بهذا العمل - وإن كان هذا خداعاً لا مراء فيه ... وإذا لم يكن هناك أضاليل خبيثة أخرى لإثبات أن البابا هو المناهض الحقيقي للمسيحية فإن هذا الشيء يكفي لإثبات هذا. أتسمع هذا أيها البابا، ولا أقول أقدس الرجال بل أكبرهم إثماً؟(24/29)
ثق بأن الله رب السموات سوف يقوض عرشك قريباً ويغرقه في هاوية الجحيم ... يا سيدي المسيح أطل علينا من عليائك ودع يوم قصاصك يشرق ودمر عش الشيطان في روما! (49).
وأصبح هذا الهجوم العنيف الذي قام به رجل ضد سلطة تشمل كل أوربا الغربية، حديث ألمانيا، فالحذرون من الرجال عدّوه من قبيل الافراط والتهور وعدّه الكثيرون من بين أعظم الأفعال البطولية في تاريخ ألمانيا. وسرعان ما نفدت أول طبعة من كتاب "خطاب مفتوح" وشغلت مطابع في تمبرج بإخراج طبعات جديدة. وكانت ألمانيا مثل إنجلترا، مهيأة لتقبل الدعوة إلى القومية ولم يكن هناك إبان هذا العهد دولة اسمها ألمانيا على الخريطة ولكن كان هناك ألمان بدءوا يشعرون بأنفسهم كشعب. وبما أن هس قد أكد وطنيته البوهيمية، وبما أن هنري الثامن لم ينبذ العقيدة الكاثوليكية بل رفض أن يمتد سلطان البابا إلى إنجلترا، فإن لوثر وقتذاك زرع بذرة الثورة لا في صحارى اللاهوت بل في الأرض الخصبة لروح ألمانيا القومية وحيثما فازت البروتستانية حملت القومية العلم.
وفي سبتمبر عام 1520 أصدر إيك وجيروم ألياندر منشور الحرمان من غفران الكنيسة في ألمانيا فرد عليهم لوثر الطعنة باصدار بيان ثانٍ هو "الأسر البابلي للكنيسة" (6 أكتوبر) ولما كان موجهاً إلى علماء اللاهوت والدارسين فإنه عاد إلى الكتابة باللاتينية، ولكن سرعان ما ترجم البيان وكان له تأثير عظيم على العقيدة المسيحية قارب تأثير "خطاب مفتوح" على التاريخ الديني والسياسي. فكما قاسى اليهود طويلاً من الأسر في بابل فإن الكنيسة كما أنشأها المسيح، وكما نص عليه في العهد الجديد قد تعرضت للأسر ما يزيد على ألف عام تحت حكم البابوية في روما. وفي خلال تلك الفترة تعرض دين المسيح إلى الفساد في الإيمان والأخلاقيات والشعائر. وبما أن المسيح قد أعطى حوارييه نبيذاً وخبزاً في العشاء الأخير فإن الهسيين كانوا(24/30)
على حق فيما ذهبوا إليه: إذ يجب أن يتناول القربان المقدس بكلا الشكلين كما يشاء الناس، والقس لا يغير الخبز والنبيذ إلى جسد ودم المسيح، فليس هناك قس يملك هذه القدرة الصوفية، ولكن المسيح سيجيء روحياً ومادياً لكل مَن يتناول القربان المقدس لا عن طريق أي تحول معجز على يد أحد القساوسة بل سيجيء بإرادته وقوته، فهو حاضر في القربان المقدس مع الخبز والنبيذ عن طريق التجاسد لا عن طريق التجسيم (50). ورفض في هلع الفكرة التي تذهب إلى أن القس يقدم المسيح إلى أبيه في القداس قرباناً للتكفير عن خطايا البشر ولو أنه لم يجد ما يفزعه في الفكرة التي تقول إن الرب قد سمح للبشر بأن يصلبوا الرب قرباناً للرب تكفيراً عن خطايا البشر.
وأضاف بعض المستحدثات الأخلاقية إلى هذه الأمور الدينية التي تدق على الفهم، فالزواج ليس قرباناً مقدساً لأن المسيح لم يقطع على نفسه عهداً بأن يبث فيه الرحمة الإلهية وقال "إن زيجات الأقدمين لم تكن تقل قداسة عن زيجاتنا كما أن زيجات الكفار ليست أقل صحة من زيجاتنا" (51). وعلى ذلك يجب ألا يحرم الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين "فكما آكل وأشرب وأنام وأمشي ... وأتعامل مع وثني أو يهودي أو تركي أو هرطيقي فإن في وسعي أن أتزوج من أي واحدة من نسائهم، فلا تبالوا بالقانون الذي سنه الأحمق لتحريم هذا ... إن الشخص الوثني سواء كان رجلاً أو امرأة خلقه الله كما خلق القدّيس بطرس والقديس بولس أو القديسة لوسي" (52). وأي امرأة تتزوج من رجل عنين يجب أن يسمح لها، إذا وافق زوجها، بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً ويجب أن يسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها وإذا أبى الزوج فإنها تستطيع بحق أن تطلق منه. ومع ذلك فإن الطلاق مأساة لا نهاية لها، ولعل تعدد الزوجات خير منه (53). ثم أضاف لوثر التحدي إلى الهرطقة وانتهى إلى أن يقول "إني أسمع إشاعة إن نشرات بابوية جديدة ولعنات بابوية تُرسل ضدي تتضمن حثاً على سحب أقوالي (54) ...(24/31)
وإذا كان هذا حقاً أود أن يكون هذا الكتاب جزءاً من الانكار الذي أقوم به".
وكان حرياً بمثل هذه السخرية أن تزيغ ميلتيتز عن حلمه بالمهادنة. ومع ذلك فإنه سعى مرة أخرى إلى لوثر (11 أكتوبر سنة 1520) وأقنعه بأن يرسل للبابا ليو خطاباً يتنصل فيه من أي قصد في مهاجمته شخصياً ويعرض القضية باعتدال للاصلاح وسوف يحاول ميلتيتز من جانبه أن يكفل له إلغاء النشرة، فما كان من لوثر البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاماً "والفلاح ابن الفلاح" كما كان يدعو نفسه مفاخراً، إلا أن كتب خطاباً لم يضمنه اعتذاراً بل نصيحة ابوية تقريباً إلى خليفة القدّيس بطرس وسليل آل مديتشي البالغ من العمر خمسة وأربعين عاماً. وأعرب عن احترامه للبابا كفرد ولكنه استنكر في غير هوادة فساد البابوية في الماضي والمحكمة البابوية في الحاضر: "إن ما تتمتع به من سمعة وشهرة في حياتك الطاهرة الذيل أمر معروف تماماً وأسمى من أن يكون مجالاً للهجوم ... ولكن سدتك البابوية التي تسمى المحكمة الرومانية والتي لا يمكنك أنت أو أي انسان أن تنكر أنها أكثر فساداً مما كان عليه أهل بابل أو سدوم والتي بقدر ما أستطيع أن أرى، تتسم بخبث غوى لا أمل فيه قبيح الصيت - فهذه السدة أنا أزدريها ... ولقد أصبحت الكنيسة الرومانية أكبر وكر داعر للصوص وأعظم المواخير التي يندى لها الجبين ومملكة الاثم والموت والجحيم ... ولطالما ساءني يا صاحب المقام السامي ليو إنك تُنصَّب بابا في هذه العهود لأنك خليق بأيام خير منها ...
"ولذلك أرجو" يا عزيزي ليو أن تستمع إلى تلك الأقوال المعسولة التي لا تجعلك بشراً سوياً وترفعك إلى مصاف أنصاف الآلهة لكي تأمر ... بما تشاء فأنت خادم الاجراء وبعد كل الرجال الآخرين في مركز خطير يرثى له. فلا يخدعك هؤلاء الذين يدعون أنك سيد العالم ... الذين(24/32)
يهرفون بأن لك سلطاناً على السماء والجحيم والمطهر ... إن الذين يعلون قدرك فوق المجلس وفوق الكنيسة العالمية يخطئون. والذين ينسبون إليك الحق في تفسير الكتاب المقدس يخطئون لأنهم ينشدون تحت ستار اسمك أن يرسوا قواعد خبثهم في الكنيسة، ومما يؤسف له أن الشيطان من خلالهم قد أحرز نجاحاً تحت حكم أسلافك. والخلاصة لا تصدق أحداً يعلي من قدرك، وصدق هؤلاء الذين يضعون من شأنك (55).
وأرسل لوثر مع هذا الخطاب ثالث بياناته وأطلق عليه اسم "عجالة في الحرية المسيحية" (نوفمبر عام 1520) وشعر بأنه "ما لم أكن مخدوعاً فإنها الحياة المسيحية بأسرها في شكل موجز" (56). وعبّر هنا باعتدال يخلو من الرقة عن مذهبه الأساسي - أن ذلك الإيمان وحده لا الأعمال الصالحة هي التي تخلق المسيحي الصادق وتخلصه من عذاب النار. لأن الإيمان بالمسيح هو الذي يجعل الإنسان صالحاً وأعماله الصالحة تترتب على ذلك الإيمان. "فالشجرة تحمل الثمار أما الثمرة فلا تحمل الشجرة" (57). والإنسان القوي الإيمان بالله والذي يكفّر عن تضحية المسيح لا ينعم بحرية الإرادة فحسب ولكن ينعم بأعمق الحريات كلها: التحرر من نداء الجسد ومن كل القوى الشريرة ومن اللعنة الأبدية بل ومن القانون لأن الانسان الذي تتدفق فضيلته تلقائياً من إيمانه في غنى عن الأوامر بالاستقامة (58). ومع ذلك فإن هذا الإنسان الحر يجب أن يكون خادماً لكل الناس لأنه لن يكون سعيداً إذا عجز عن عمل كل ما في وسعه لإنقاذ الآخرين كما ينقذ نفسه. إنه بالإيمان يرتبط بالله وبالحب مع جاره. وكل مسيحي مؤمن يُعَد قساً يقوم بالخدمات الدينية.
وبينما كان لوثر يكتب تلك الرسائل التاريخية كان إيك والياندر يواجهان الثورة الدينية مباشرة وأحرزا نجاحاً في إعلان نشرة الحرمان من غفران الكنيسة في مايسين ومرسيبورج وبراندينبورج، أما في نورمبورج فإنهما(24/33)
لم يستخلصا إلا الاعتذارات من بيركهايمر وشينجلر وفي ماينز طرد كبير أساقفتها ألبرخت من بلاطه هوتن بعد أن هادن فترة الاصلاح الديني وسجن طابعي كتب هوتن وصودرت كتب لوثر في أنجولستادت وأحرقت في ماينز ولوفان وكولونيا، ولكن في ليبتسيج وتورجاو وديبيلين لُطخت النشرة المعلقة بالقذارة ومُزقت وفي أرفورت انضم كثير من الأساتذة ورجال الدين في رفض عام للاعتراف بالنشرة، وألقى الطلبة بكل ما وصل إلى أيديهم من النسخ في النهر، وأخيراً فر إيك من المسرح الذي شهد انتصاراته قبل ذلك العام (59).
وندد لوثر بالاعلان في سلسلة من الكتيبات التي تقطر مرارة وفي إحدى هذه الكتيبات أعلن موافقته الكاملة على آراء هس، وحوالي 31 من أغسطس عام 1520 استغاث بالامبراطور طالباً الحماية مثل "برغوث واحد يجرؤ على مخاطبة ملك الملوك" وفي السابع عشر من نوفمبر نشر استغاثة رسمية من البابا بمجلس للكنيسة. وعندما علم أن مبعوثي البابا يحرقون كتبه قرر أن يرد عليهم بالمثل؛ فأصدر نداء إلى الشباب التقي المثقف في فيتنبرج لكي يتجمع خارج بوابة "الستر" في المدينة صباح يوم 10 ديسمبر، وهناك أمسك بيديه نشرة البابا وقذف بها في النار مع بعض المراسيم الكنسية ومجلدات من لاهوت أصحاب الفلسفة الكلامية، ورمز في عمل واحد إلى رفضه للقانون الكنسي وفلسفة الأكويني وكل سلطة للكنيسة تأخذ بسياسة القمع. وجمع الطلبة كتباً أخرى من نفس النوع في ابتهاج وألقوا بها في النار لتظل مشتعلة حتى ساعة متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم. وفي الحادي عشر من ديسمبر أعلن لوثر أنه لا يمكن لإنسان الخلاص ما لم يتبرأ من حكم البابوية (60) وهكذا حرّم الراهب البابا من غفران الكنيسة.(24/34)
5 - المجلس النيابي في ورمس
ولقد ظهر على المسرح وقتذاك ممثل ثالث قام منذ تلك اللحظة بطور كبير واستمر ثلاثين عاماً وذلك في الصراع بين اللاهوت والحكومات. ولسوف يفرض نفسه على سردنا التاريخي في اثني عشر فصلاً أو يزيد.
واستهل الرجل، الذي قُدّر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، سيرته بميراث ملكي وإن يكن مدنساً، فجده من جهة أبيه الإمبراطور ماكسمليان وجدته ماري البورغندية ابنة شارل الجسور، وجده من جهة أمه فرديناند وجدته إليزابلا، أما أبوه فهو فيلب المجيل ملك قشتالة الذي ارتقى العرش في السادسة والعشري ومات وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأمه هي جوانا لالوكا التي جنت عندما بلغ شارل السادسة، وعاشت حتى بلغ الخامسة والخمسين من عمره. ولقد ولد في غنت (24 فبراير سنة 1500) ونشأ في بروكسل وظل فلمنكي اللسان والطبع إلى أن اعتزل الحكم نهائياً في إسبانيا. ولم تغفر له هذا إسبانيا ولا ألمانيا ولكنه بمرور الوقت تعلم الحديث بالالمانية والأسبانية والإيطالية والفرنسية، وكان يستطيع أن يلتزم الصمت في اللغات الخمس. وحاول أدريان الأوترختي أن يعلمه الفلسفة ولكنه لم يصب نجاحاً يذكر، وتلقى على يدي هذا الأسقف الصالح تأديباً صارماً، يتفق مع عقيدة المستمسكين بأهداب الدين، وربما تشرب مع ذلك في منتصف العمر نزعة شك خفية من مستشاريه ورجال بلاطه الفلمنكيين الذين شاع بينهم قدر يكتنفه الرضا من عدم المبالاة بالعقيدة على طريقة أرازموس.
ولكم شكا بعض القساوسة من اطلاق حرية الرأي الديني بين حاشية شارل (61). واعتصم بالتقوى ولكنه عكف على دراسة فن الحرب. وقرأ كومينيس وتعلم في مرحلة الطفولة حيل الدبلوماسية وعدم تمسك الدول بالأخلاق.
وعند وفاة أبيه (1506) ورث ألفراندرز وهولندة وكونتيه فرانش وادعاء الحق في حكم برغنديا. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره نهض(24/35)
بمسئولية الحكم ووقف نفسه على الادارة، وفي السادسة عشرة أصبح شارل الأول ملك أسبانيا وصقلية وساردينيا ونابلي وأمريكا الاسبانية، وفي التاسعة عشرة طمح إلى أن يصبح امبراطوراً، وكان فرانسيس الأول ملك فرنسا يصبوا إلى الشرف نفسه في ذلك الوقت أيضاً، وسر الأمراء المختارون الإمبراطوريون بدماثة أخلاقه إلا أن شارل أنفق 850000 فلورين ليكسب هذه المباراة واستطاع أن يفوز بها (1519). واضطر في سبيل جمع هذا المبلغ الطائل إلى أن يقترض مبلغ 543000 فلورين من آل فوجر، وهكذا أصبح شارل (62) منذ ذاك صديقاً لآل فوجر، كما أصبح آل فوجر أوفياء له، ولكنه لما تأخر في سداد القرض أرسل له جاكوب فوجر الثاني مذكرة حادة اللهجة: من المعروف جيداً أن جلالتكم ما كنتم تستطيعون الحصول إلى الشرف الإمبراطوري لولا مساعدتي وفي وسعي أن أثبت ذلك بالبيانات المسجلة من جميع المندوبين ولم أنشد في هذا منفعتي الخاصة ... واني أطلب بكل احترام أن تتفضلوا ... باصدار الأمر بإعادة المبلغ الذي كنت قد دفعته هو والفائدة دون تأخير (63).
وواجه شارل جانباً من التزامه بمنح آل فوجر حق الاستيلاء على رسوم الجمارك في ميناء أنتورب (64)، وعندما أوشك آل فوجر على الخراب نتيجة لغزوات الأتراك لهنغاريا هب لنجدتهم بمنحهم حق الاشراف على المناجم الاسبانية (65)، ومنذ ذلك الوقت صار مفتاح كثير من التاريخ السياسي "فتش عن المصرفي".
وهذا الفتى الذي وجد نفسه في التاسعة عشرة من عمره زعيماً بالاسم لكل وسط أوربا وغربها ما عدا إنجلترا وفرنسا والبرتغال والولايات البابوية قد يميز بالصحة الضعيفة التي ضاعفت من تقلباته ... كان شاحب الوجه قصير القامة، تبدو عليه البساطة، له أنف حاد أقنى، وذقن ينم على التحدي، خافت الصوت رصين السمات، وكان رقيق القلب لطيف المعشر بطبعه، ولكنه سرعان ما تعلّم أن الحاكم يجب أن يحافظ(24/36)
على المسافة والاتجاه وأن السكوت نصف الدبلوماسية، وأن روح الفكاهة الصريحة تكدر عبير جلال الملك. وعندما التقى به ألياندر عام 1520 كتب إلى ليو العاشر يقول: "في رأيي أن هذا الأمير قد وهب ... فطنة تفوق عمره وأنه يخفي في رأسه أكثر مما يبدو على وجهه" (66). ولم يكن متوقد الذكاء إلا في الحكم على الرجال - مما يكسبه نصف المعركة، وكان يرتفع إلى مستوى الأزمات التي تواجهه بالجهد الجهيد - بيد أن ذلك كان يتكلف الكثير حقاً. ثم إن استمرار وهنه في الجسم والعقل جعله يفتر إلى أن يتأزم الموقف ويضطره إلى اتخاذ قرار حاسم وعندئذ يواجهه بعزم مفاجئ واصرار يتسم بالدهاء. كانت الحكمة تواتيه لا بالسليقة ولكن بالتجارب.
وفي الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1520 انطلق شارل الخامس، ولم يكن أكبر سناً من القرن الذي وجد فيه، إلى مدينة آخن بلدة شارلمان ليتوج فيها، وانطلق الأمير المختار فردريك لحضور الحفل ولكنه اضطر إلى التوقف في كولونيا بسبب داء النقرس، وهناك قدم له ألياندر التماساً آخر للقبض على لوثر، فما كان من فردريك إلا أن استدعى أرازموس وطلب منه النصيحة، فدافع أرازموس عن لوثر وأشار إلى أن هناك عيوباً صارخة في الكنيسة، وقال إن الجهود التي تُبذل لإصلاحها يجب ألا تُقمع، وعندما سأله فردريك ما هي الأخطاء الرئيسية التي ارتكبها لوثر: "خطأين: هاجم البابا في تاجه، والرهبان في بطونهم" (67). وناقض صحة النشرة البابوية وقال إنه يرى أنها لا تتفق مع ما عرف به ليو العاشر من رقة الحاشية (68) وأبلغ فردريك القاصد الرسولي أن لوثر قدم التماساً وأن لوثر يجب أن يظل طليقاً إلى أن يبت في هذا الالتماس.
وردّ الإمبراطور بالجواب نفسه ... كان قد وعد الأمراء المختارين كشرط لانتخابه، ألا يُدان ألماني دون محاكمة عادلة في ألمانيا. ومهما يكن من أمر فإن مكانته جعلت - مذهب المحافظة على الدين لا مندوحة عنه.(24/37)
وكانت أسبانيا تعترف به ملكاً عليها اسميا أكثر من اعتراف ألمانيا به إمبراطوراً عليها وهي بلد ينفر من نظام الحكم المركزي، ولم يعد رجال الدين في أسبانيا يحتملون طويلاً ملكاً يترفق بالهراطقة. يُضاف إلى ذلك أن الحرب مع فرنسا كانت تلوح في الأُفق ولسوف يدور القتال حول ميلان باعتبارها مغنماً، ومن هنا كان تأييد البابا يساوي جيشاً بأسره ... كانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة مرتبطة بالبابوية بمائة وشيجة، وليس من شك في أن سقوط احداها سوف يلحق بالأخريات ضرراً بليغاً فكيف يستطيع الإمبراطور أن يحكم مملكته المتناثرة المتباينة دون أن يلقى العون من الكنيسة في النظام الأخلاقي والادارة السياسية؟ كان كبار وزرائه إلى ذلك الوقت من رجال الدين كما أنه كان في حاجة إلى أموال الكنيسة ونفوذها لحماية هنغاريا من الأتراك.
كان شارل يقلب في ذهنه هذه المشاكل على اختلافها، وكانت تشغله أكثر من مسألة راهب مشاكس، فدعا مجلساً نيابياً امبراطورياً لعقد اجتماع في ورنس، ولما اجتمع هناك كبار النبلاء ورجال الدين ممثلو المُدن الحرة (27 يناير عام 1521) إذا بلوثر هو الموضوع الرئيسي في المناقشة وليس من شك في أن القوى التي كانت تعد للاصلاح الديني خلال قرون بلغت أوجها في مسرح من أعظم المسارح الدرامية في التاريخ الأوروبي. ويقول مؤرخ كاثوليكي: لقد امتدحت الطائفة العظمى لنبلاء الألمان محاولات لوثر وأيدتها". بل إن إلياندر نفسه كتب تقريراً قال فيه: "إن ألمانيا بأسرها ترفع السلاح ضد روما والعالم كله يصرخ مطالباً بمجلس يجتمع على الأرض الألمانية. ولقد أصبحت النشرات البابوية التي تنص على الحرمان من غفران الكنيسة تثير السخرية وامتنع عدد كبير من الناس عن تناول القربان المقدس للتكفير ... أما مارتن فإنه يصور وفوق رأسه هالة ويقبل الناس هذه الصورة. ولقد بيعت منها مقادير هائلة حتى أني عجزت عن الحصول على(24/38)
صورة واحدة ... وأنا لا أستطيع أن أخرج إلى الطرقات خشية أن يرفع الألمان سيوفهم في وجهي ويصرون بأسنانهم غضباً عن رؤيتي وإني لأرجو من البابا أن يمنحني صك غفران كامل وأن يرعى إخوتي وأخواتي إذا أصابني مكروه" (70).
وهبّت عاصفة من الكتيبات المناهضة للبابوية زادت من الإثارة وقال ألياندر في أسى أن عربة لا تسع كل هذه المقالات البذيئة. وأصدر هوتن، من قلعة سيكنجن في ابيرنبورج على بعد أميال قليلة من ورمس، نشرة تضمنت هجوماً محموماً ضد رجال الدين الألمان: "اذهبوا أيها الخنازير القذرة ... ارحلوا عن الهيكل المقدس أيها التجار المبتذّلون ولا تلمسوا المذابح بايديكم الدنسة ... كيف تجرءون على إنفاق المال المخصص لأغراض دينية في مظاهر الترف وفي التبذل والأبهة بينما الناس الشرفاء يتضورون جوعاً؟ لقد فاضت الكأس. ألا ترون أن نسمة الحرية قد بدأت تهب؟ " (71) وكان تعاطف الناس مع لوثر قوياً إلى حد أن كاهن الاعتراف عند الإمبراطور الراهب الفرنشكاني جان جلابيون اختلى بجورج سبالاتان راعي كنيسة فردريك في محاولة للتوفيق بين الطرفين. وأعرب عن عطفه الكبير على كتابات لوثر الأولى، ولكن "الأسر البابلي جعله يشعر كما لو كان قد جُلد بالسياط وضُرب بمقبض السيف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ... " وأشار إلى أنه لا يمكن أن يقوم أساس سليم لعقيدة دينية تعتمد على الكتاب المقدس لأن "الانجيل يشبه شمعاً طرياً يستطيع كل انسان أن يفتله أو يمطه على هواه". وسلم بالحاجة الملحة إلى إصلاح كهنوتي. والحق أنه كان قد حذّر إمبراطوره التائب من أن "الله سوف يعاقبه هو وكل الأمراء إذا لم يحرروا الكنيسة من مثل هذه المساوئ التي تنطوي على الغرور". ووعد بأن شارل سوف ينجز الاصلاحات الكبرى خلال خمس سنوات. وحتى ذلك الوقت وبعد كل تلك الثورات اللوثرية المردعة كان يعتقد أن السلام ممكن إذا تراجع لوثر عما قاله (72). ولكن لوثر ابى عندما أخطر بذلك في فيتنبرج ....(24/39)
وفي الثالث من مارس قدم ألياندر إلى المجلس النيابي (الدايت) اقتراحاً بالادانة الفورية للوثر فاحتج المجلس بأن الراهب يجب ألا يدان دون سماع أقواله، وعلى ذلك وجه شارل دعوة إلى لوثر للحضور إلى ورمس ليؤدي الشهادة ... عن تعاليمه وكتبه. وكتب له يقول: "لا حاجة بك إلى الخوف من التعرض لأي عنف أو ازعاج لأننا أعطيناك جواز الأمان" (73). وتوسل أصدقاء لوثر إليه ألا يذهب وذكروه بجواز الأمان الذي كان الإمبراطور سيجسموند قد أعطاه لهس وأرسل أدريان الأوترختي، وكان وقتذاك كاردينالاً لتورتوزا، ثم نصب بابا بعد قليل، التماساً إلى الإمبراطور تلميذه السابق طلب فيه أن يتجاهل جواز الأمان وأن يقبض على لوثر ويرسله إلى روما، وفي اليوم التالي من أبريل غادر لوثر مدينة فيتنبرج، وعندما وصل إلى أرفورت حياه حشد كبير من بينهم أربعون أستاذاً من الجامعة باعتباره بطلاً. وعندما اقترب من ورمس سارع سبالاتان وأرسل له تحذيراً ألا يدخل المدينة وأن يقفل راجعاً على جناح السرعة إلى فيتنبرج. فردّ عليه لوثر بقوله: "على الرغم من أن في ورمس كثيراً من الشياطين بقدر عدد طوب القرميد على الأسطح فسوف أذهب إلى هناك" (74). وانطلقت عصبة من الفرسان إلى لقائه ومرافقته إلى المدينة (16 أبريل). وانتشر نبأ وصوله في الطرقات فتجمع 2000 حول عربته، وقال ألياندر "يخيل إلي أن العالم بأسره أقبل لرؤيته بل وحتى شارل حجب في الظلال".
وفي يوم 17 ابريل مثل لوثر في رداء الرهبان أمام المجلس النيابي (الدايت) الإمبراطور وستة أمراء مختارون محكمة رهيبة من الأمراء والنبلاء والبطاركة وأوساط الناس وجيوم إلياندر مسلحاً بسلطة بابوية ووثائق رسمية وفصاحة قضائية ورصّت على منضدة قريبة من لوثر مجموعة من الكتب. وتصدى جوهان إيك - ولم يكن صاحب مناظرة ليبتسيج بل موظفاً عند كبير أساقفة ترير - وسأله هل هذه الكتب من تأليفه وهل هو(24/40)
على استعداد لإنكار كل هذه الهرطقة التي تضمنها؟ ومرّت لحظة على لوثر وهو واقف أمام هذا الجمع الذي يمثل هيئة الإمبراطوريّة والسلطة النيابية وجلال الكنيسة، فخانته شجاعته وأجاب بصوت خافت حي أن الكتب من تأليفه وأما بالنسبة للسؤال الثاني فإنه التمس منحه مهلة للتفكير فأمهله شارل يوماً. وعندما عاد إلى مسكنه تلقى رسالة من هوتن يناشده فيها الثبات في موقفه، وأقبل كثير من أعضاء المجلس النيابي لزيارته زيارة خاصة لتشجيعه ويبدو أن الكثيرين كانوا يحسون بأن جوابه النهائي سوف يكون نقطة تحول في التاريخ.
وفي يوم 18 أبريل واجه المجلس النيابي بثقة كاملة، وكانت قاعة المجلس تموج بالحاضرين إلى حد أن الامراء المختارين وجدوا صعوبة بالغة في الوصول إلى مقاعدهم ووقف معظم الحضور. وسأله إيك عما إذا كان على استعداد لإنكار المؤلفات التي كان قد كتبها كلياً أو جزئياً، فأجاب بأن تلك الأجزاء التي تناولت المفاسد الكهنوتية صحيحة بإجماع الآراء فقاطعه الإمبراطور بصوت جهوري دوى في القاعة "لا". ولكن لوثر استأنف حديثه وهاجم شارل نفسه فقال: "إذا أنكرت ما قلت في هذا الوقت فإني أفتح الباب لمزيد من الطغيان والزندقة وسوف يصبح هذا كله أسوأ ما يكون إذا ظهر أني فعلت هذا بناء على طلب الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة". أما بالنسبة للفقرات العقائدية في كتبه فقد وافق على أن يسحب أي فقرة منها إذا ثبت أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس، فأبدا إيك على هذا باللاتينية اعتراضاً عبّر على وجهة نظر الكنيسة: "يا مارتن إن التمسّك بسماع ما جاء في الكتاب المقدس هو نفس ما كان يتذرع به دائماً الهراطقة إنك لا تفعل شيئاً سوى أن تكرر الأخطاء التي ارتكبها ويكليف وهس ... كيف تدعي أنك الوحيد الذي يفهم معنى آيات الكتاب المقدس؟ وهل تضع حكمك فوق حكم كتبه كثيرون من الرجال المشهورين وتزعم أنك تعرف أكثر مما يعرفون(24/41)
جميعاً؟ ليس لك الحق في أن تدخل في المناقشة العقيدة الأرثودكسية المقدسة التي لقنها المسيح المشرّع الكامل والتي نشرها الرسل في أرجاء العالم، والتي ختمت بدماء الشهداء وأكدتها المجالس المقدسة وعرفتها الكنيسة ... والتي يحرم علينا البابا والامبراطور مناقشتها خشية ألا ينتهي النقاش. إني أسألك يا مارتن. أجب بأمانة وصدق بغير مواربة - هل تنكر أو لا تنكر كتبك والأخطاء التي تحتويها؟ " (75) فرد لوثر بجوابه التاريخي بالألمانية: مادام جلالتكم وسيادتكم تريدون جواباً بسيطاً فغني سأجيب بغير مواربة ... ما لم تدينني آية في الكتاب المقدس أو الحجة الواضحة (وأنا لا أقبل سلطة البابوات والمجالس الدينية لأن كل منهم يناقض الآخر) فان ضميري أسير لكلمة الله. وأنا لا أستطيع أن أسحب شيئاً من أقوالي. ولن افعل هذا، لأن مخالفة ضميري ليس من الصواب والأمن في شيء. أسأل الله العظيم. آمين" (76) (1).
فواجهه إيك بأنه لا يمكن إثبات أي خطأ في المراسيم العقائدية التي أصدرتها المجالس، فرد عليه لوثر بأنه على استعداد لإثبات مثل هذه الأخطاء، ولكن الإمبراطور اعترض قائلاً بلهجة قاطعة: "هذا يكفي. ما دام أنه أنكر المجالس فإننا لا نود سماع كلمة أخرى" (78). وعاد لوثر إلى مسكنه وقد أنهكه الصراع ولكنه كان واثقاً من أنه قدّم شهادة طيبة فيما أسماه كارلايل "أعظم لحظة في التاريخ الحديث للإنسانية" (79).
كان الإمبراطور لا يقل رجفة عن الراهب. ولما كانت تجري في عروقه الدماء الملكية ولأنه ألف السلطة فإنه اعتقد أن من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان أن حق كل فرد في تفسير الكتاب المقدس وقبول المراسيم المدنية أو الدينية أو رفضها طبقاً لهواه الشخصي وما يمليه عليه ضميره سوف
_________
(1) ليس في وسعنا أن نؤكد صحة الكلمات المشهورة التي حفرت على النصب التذكاري الفخم الذي أُقيم تخليداً للوثر في ورمس - "هنا أقف ولا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر". ولم ترد الكلمات في النسخة المطابقة لرد لوثر كما هو مثبت في سجلات المجلس النيابي (الدايت) لأول مرة في أول رواية طبعت لخطابه (77).(24/42)
يعجل بتقويض أسس النظام الاجتماعي لأن هذا كما بدا له قائم على قانون أخلاقي يستمد بدوره قوته من الأحكام الخارقة للعقيدة الدينية.
وفي اليوم التاسع عشر من ابريل دعا كبار الأمراء إلى مؤتمر عقده في حجراته الخاصة وقدّم لهم بياناً عن الولاء والنية مكتوباً بالفرنسية ويبدو أنه كتبه بنفسه: "إني أنحدر من صلب سلسلة طويلة من الاباطرة المسيحيين لهذه الأمة الألمانية النبيلة ومن ملوك أسبانيا الكاثوليكيين ومن أرشيدوقات النمسا ودوقات برغنديا. وكانوا جميعاً اوفياء حتى الموت لكنيسة روما، ولقد دافعوا عن العقيدة الكاثوليكية ومجد الرب وقد عزمت على أن أحذو حذوهم. إن راهباً واحداً يسير ضد المسيحية بأسرها كما عرفت منذ ألف عام لابد أن يكون على خطأ مبين، ومن ثم فإني قررت أن أخاطر ببلادي واصدقائي وجسمي ودمي وحياتي وروحي ... وبعد أن استمعت أمس إلى دفاع لوثر المتشبث برأيه فإني آسف لأني تأخرت طويلاً في اتخاذ الاجراءات ضده. وضد تعاليمه الزائفة. لن يكون لي معه شأن آخر. وفي وسعه أن يعود فقد منحته جواز الأمان ولكن عليه أن يمتنع عن الوعظ أو إحداث أية فتنه ولسوف أحاكمه على أنه هرطيق سيّئ السمعة وإني أطلب منكم أن تدلوا بآرائكم كما وعدتموني" (80).
فوافق أربعة من الأمراء المختارين على هذا الاجراء وامتنع فردريك صاحب سكسونيا ولودفيج صاحب بالاتينيت عن ابداء رأيهما - وفي تلك الليلة - 19 ابريل ثبت أشخاص مجهولون على باب قاعة المدينة وفي أماكن أخرى من ورمس إعلاناً كبيراً يحمل حذاء الفلاح رمز الثورة الاجتماعية. وأفزع هذا بعض رجال الدين والحوا شخصياً على لوثر بإحلال الوئام محل الخصام مع الكنيسة. ولكنه أيد تصريحه للمجلس النيابي. وفي السادس والعشرين من ابريل بدأ رحلة العودة إلى فيتنبج وأرسل ليو أوامر تقضي باحترام جواز الأمان (81)، ومع ذلك فإن الأمير المختار فردريك خشي أن يحاول رجال الشرطة الإمبراطوريّة القبض على لوثر بعد انتهاء مفعول جواز الأمان(24/43)
يوم 6 مايو، فرتب - بعد أن رضي لوثر بهذا على مضض - كميناً له في طريق عودته إلى وطنه، كما لو كان من عمل قطاع الطرق واخذه خفية إلى قلعة فارتبورج.
وفي السادس من مايو قدم الإمبراطور للمجلس النيابي، وكان عدد أعضائه قد انخفض بسبب رحيل الكثيرين، المسودة التي أعدها ألياندر عن منشور ورمس وفيه يتهم لوثر بأنه "دنّس الزواج واستخف بالاعتراف وأنكر وجود جسد الرب ودمه. ثم إنه جعل القربان المقدس يتوقف على إيمان مَن يتناوله. إنه وثني في إنكاره للإرادة الحرة. إن هذا الشيطان الذي يرتدي مسوح راهب قد جمع الأخطاء القديمة في بركة آسنة منتنة، بل وابتدع أخطاء جديدة أنه ينكر سلطة الرؤساء، ويشجع العلمانيين على أن يغسلوا أيديهم من دم رجال الدين. وتعاليمه تدعو إلى العصيان والانقسام والحرب والقتل والسرقة والحرق عمداً وإلى انهيار العالم المسيحي وهو يحيا حياة بهيمية. لقد أحرق المراسيم البابوية، إنه يحتقر الحرمان من غفران الكنيسة والسيف على السواء. وهو يلحق بالسلطة المدنية من الأذى أكثر مما يلحق بالسلطة الكهنوتية للكتاب المقدس الذي يفسره على هواه. لقد أمهلناه واحداً وعشرين يوماً من 15 ابريل ... وعندما تنقضي هذه المهلة فليس لأحد أن يؤويه ولسوف يدان أتباعه ايضاً. أما كتبه فيجب أن تمحى من ذاكرة الإنسان" (82).
وبعد يومين من تقديم هذا المنشور حول ليو العاشر تأييده السياسي من فرانسيس الأول إلى شارل الخامس. ووافق المجلس النيابي (الدايت) المجرد من السلطة على المنشور، وفي اليوم السادس والعشرين من مايو أصدره شارل رسمياً فحمد ألياندر الرب وامر بإحراق كتب لوثر أينما وجدت.
6 - الراديكاليون
كانت فارتبورج في حد ذاتها قطعة من العذاب الكئيب، فقد كانت القلعة القديمة تجثم على قمة جبل على مسيرة ميل من إيزيناخ، وكانت مختفية(24/44)
عن أنظار العالم وعن أنظار الإمبراطور أيضاً. واقام لوثر هناك مدة تقرب من عشرة شهور (4 مايو سنة 1521 إلى 29 فبراير سنة 1522) في غرفة مظلمة مجهزة بفراش ومنضدة وموقد وجذع شجرة يستخدم كمقعد. وكان يحرس القلعة بضعة جنود، ويعنى بالأراضي حارس، ويقوم بخدمة لوثر صبيان يعملان وصيفين له. ورأى أن من الأوفق، ولعل هذا كان من قبيل التنكر المحلي، أن يخلع مسوح الرهبان، ولبس رداء فارس، وأطلق لحيته، وأصبح وقتذاك يعرف باسم جورج النبيل الألماني الشاب، وخرج للصيد ولكنه لم يستطب قتل الارانب في الوقت الذي لا يزال فيه كثير من المناهضين للمسيحية بنجوة من القتل. وأسقمه الكسل والأرق وكثرة الطعام وشرب الجعة وأصيب بالبدانة وأخذ يسب ويلعن كما يفعل أي نبيل الماني شاب وكتب يقول: "ليتني أُحرق على جمرات ملتهبة فهذا خير لي من أن أتعفن هنا ... بودي أن أخوض غمار المعركة" (83). ولكن وزير فردريك نصحه بأن يظل في مخبئه لمدة عام ريثما تهدأ حماسة شارل. ومهما يكن من أمر فإن شارل لم يبذل أي جهد للعثور عليه أو لاعتقاله.
وراودت الشكوك والأوهام لوثر في خلوته الفكرية وتساءل أيمكن أن يكون على حق وأن يكون مثل هؤلاء الأحبار على ضلال؟ وهل كان من الحكمة أن يقوض دعائم عقيدة راسخة؟ وهل مبدأ الاجتهاد الشخصي نذير بنشوب الثورة والقضاء على القانون؟ إذا كنا نصدق القصة التي رواها في أخريات أيامه فإن أصواتاً غريبة كانت تزعجه ... أصواتاً لم يستطع تفسيرها إلا بأنها من صنع الشياطين وأكد أنه رأى الشيطان في مناسبات عديدة وقرر أن الشيطان رجمه يوماً بالجوز (84). وتذهب أسطورة مشهورة إلى أن لوثر قذفه يوماً بزجاجة حبر ولكنها أخطأته (85). وكان يسلي نفسه بكتابة خطابات ناصعة العبارة لأصدقائه وأعدائه وبتأليف عجالات في علم اللاهوت وبترجمة العهد الجديد إلى الألمانية وقام في إحدى المرات برحلة خاطفة إلى فيتنبرج ليزكي نار ثورة.(24/45)
وكان تحديه لرجال الدين في ورمس وبقاؤه على قيد الحياة قد أدارا رؤوس أتباعه وجعلهم يتيهون اعجاباً.
وفي أر فورت هاجم الطلبة وأصحاب الحرف والفلاحون أربعين بيتاً في الأبرشيات وهدموها وأتلفوا مكتبات ومحفوظات وقتلوا عالماً بالإنسانيات (يونيه 1521)، وفي خريف ذلك العام المثير هجر الرهبان الأوغسطينيون في أرفورت الدير وبشروا بالعقيدة اللوثرية ونددوا بالكنيسة باعتبارها "أم الجمود والخيلاء والشح والترف والجهود والهرطقة" (86).
وحينما ألّف ميلانكتون في فيتنبرج كتابه Loci Communes rerum theologicarum (1521) - وهو أول عرض منهجي للاهوت البروتستانتي. طالب زميله الاستاذ كارلستادت، وكان قد أصبح وقت ذاك رئيساً للشمامسة في كنيسة القلعة، بأن يتلى القداس (إذا كان لابد منه) باللغة الوطنية وأن يتناول القربان المقدس بالنبيذ والخبز دون أن يسبقه اعتراف أو صوم، كما يجب أن تُرفع الصور الدينية من الكنائس وأن يتزوج رجال الدين- من رهبان وقساوسة علمانيين- وأن ينجبوا. واتخذ كارلشتادت خطوة بالزواج من فتاة في ربيعها الخمس عشر (19 يناير سنة 1522) وكان هو في الأربعين من عمره.
ولم يستنكر لوثر هذا الزواج ولكنه كتب يقول: "يا للسماء! أيقبل أهالي فيتنبرج أن يقدموا زوجات للرهبان؟ " (87) ومع ذلك فإنه وجد في الفكرة ما يجذبه لأنه بعث إلى سبالاتان (21 نوفمبر سنة 1521) برسالة عن "عهود الرهبنة" دافع فيها عن نبذهم لهذه العهود. فتباطأ سبالاتان في نشره لأنه كان صريحاً بصورة تخالف التقاليد إذ كان يسلم بأن الغريزة الجنسية أمر طبيعي لا يمكن قمعه ويعلن أن عهود الرهبنة من غوايات الشيطان وأنها تضاعف الآثام. وكان لابد من مرور أربع سنوات قبل أن يتزوج لوثر نفسه إذ يبدو أن تقديره المتأخر للمرأة لم يلعب دوراً في افتتاح عهد الاصلاح الديني.(24/46)
ومضت الثورة قدماً ففي اليوم الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1521 ناول ميلانكتون القربان المقدس بكلا الطريقتين وهنا ظفر الأواكويستيون في بوهيميا بنصر جاءهم على مهل، وتوقفت تلاوة القداس في دير لوثر يوم 23 أكتوبر وخرج ثلاثة عشر راهباً من الدير يوم 12 نوفمبر وتقدموا للزواج، وسرعان ما خلت نصف أديرة ألمانيا على إثر خروج مماثل. وفي الثالث من ديسمبر دخل بعض الطلبة وسكان المدينة وهم مسلحون بالمدى كنيسة الأبرشية في فيتنبرج وطردوا القساوسة من المذابح ورجموا بعض المصلين الذين كانوا يؤدون الصلاة أمام تمثال العذراء. وفي الرابع من ديسمبر هدم أربعون طالباً مذابح دير الفرنشيسكان في فيتنبرج وفي اليوم نفسه زار لوثر، وكان لا يزال متنكراً في زي نبيل ألماني شاب، المدينة خفية وأقر زواج الرهبان ولكنه حذر رجال الدين والعلمانيين من الالتجاء إلى العنف وقال: "إن الإكراه ليس حقاً مطلقاً للجميع ولكنه يجب أن تمارسه السلطات الشرعية" (88). وفي اليوم التالي عاد إلى فارتبورج وبعد ذلك بقليل أرسل إلى سبالاتان لنشر كتاب: "تحذير" جاد لكل المسيحيين يحذرهم من العصيان والثورة فقد خشي إذا انتشرت الثورة الدينية بسرعة أو إذا أصبحت ثورة اجتماعية أن تنفر منها طبقة النبلاء وتقضي على نفسها، غير أن صفحاته الأولى ذاتها كانت موضع انتقاد لأنها كانت تحض على العنف.
"يخيل إليَّ أن المحتمل أن يكون هناك خطر من الثورة، وأن القساوسة والرهبان والأساقفة والطبقة الروحية بأسرها يمكن أن تتعرض للقتل أو الابعاد إلى المنفى ما لم يصلحوا من أنفسهم تماماً وبصورة حادة، ذلك لأن الرجل العادي كان يتذكر دائماً في فزع الضرر الذي حاق به في المال والجسد والروح وأصبح هدفاً للاستفزاز. لقد أمعنوا في اختباره إلى حد بعيد وحمّلوه ما لا طاقه له به بلا وازع من ضمير. ولم يكن في وسعه، هذا ولم يشأ، أن يتحمله بعد ذلك واستطاع أن يتعلل بحجة قوية لكي يضرب(24/47)
في كل اتجاه بمدقات الحنطة والهراوات كما يهدد الفلاحون بالقيام بهذا العمل. وأنا الآن لست مستاء أن أسمع أن رجال الدين قد وصلوا إلى مثل هذه الحالة من الخوف والقلق. ولعلهم عادوا إلى رشدهم وخففوا من استبدادهم الجنوني ... بل إني سوف أمضي إلى أبعد من هذا. لو أن لي عشرة أجساد واستطعت أن أنال من الله منة فيقتص منهم (أي من رجال الدين) بالوسائل الرفيقة (ذيل الثعلب غزير الشعر) التي تؤدي إلى الوفاة أو العصيان فإني أهب أجسادي العشرة كلها للموت وأنا مغتبط "في سبيل الفلاحين الفقراء" (89). وأردف يقول: "ومع ذلك فإن على الأفراد أن يتحاشوا الالتجاء إلى القوة فالله منتقم جبار".
"إن العصيان أمر غير معقول وهو بصفة عامة يضر الأبرياء أكثر مما يضر الآثمين. ولذلك فإن العصيان ليس من الصواب، في شيء، مهما كان الدافع لأصحاب المصلحة فيه، ذلك لأن الضرر الذي ينجم عنه يتجاوز دائما قدر ما يتم من الاصلاح ... عندما يتخلص السيد فلان (أي سيد) من قيده فإنه لا يستطيع أن يميز الخبيث من الطيب ويضرب خبط عشواء وعندئذ لا مناص من وقوع ظلم فظيع ... إن عواطفي ستكون دائماً، ولسوف تظل، مع أولئك الذين يوجه التمرد ضدهم" (90).
واستمرت الصورة سليمة إلى حد ما. وفي يوم عيد الميلاد منذ عام 521 أقام كارلستادت القداس باللغة الألمانيّة، وهو يرتدي ملابس مدنية ودعا الجميع إلى تناول القربان المقدس بأخذ الخبز في أيديهم والشرب من كأس القداس.
وفي ذلك الوقت تقريباً دعا جابرييل تسفيلينج، وهو أحد زعماء الطائفة الأوغسطينية، مستمعيه إلى إحراق الصور الدينية وهدم المذابح حيثما وجدت.
وفي السابع والعشرين من ديسمبر صب "الأنبياء" الذين وصلوا من تسفيكا الزيت على النار. وكانت هذه المدينة من أعظم المُدن الصناعية(24/48)
في ألمانيا، وفيها عدد كبير من السكان يشتغلون بالنسيج في ظل بلدية أعضاؤها من السادة التجار، وشجعت حركة اجتماعية من العمال بأصداء وذكريات تجربة التابورية التي قمعت وأثارت بوهيميا القريبة، وأصبح توماس مينتسر راعي كنيسة سانت كاترين للنساجين الناطق بلسانهم والمعبر عن آمالهم وأصبح في الوقت نفسه نصيراً متحمساً للإصلاح الديني، وعندما أدرك أن تعظيم لوثر للإنجيل باعتباره القاعدة الوحيدة قد أثار التساؤل عمّن يفسر النص أعلن منتسر وإثنان من رفاقه- وهما نيكولاس ستورك النساج وماركوس شتيبنز العالم- أنهم وحدهم مؤهلون ليكونوا مفسرين للكتاب المقدس فقد أحسوا بأنهم يوحى إليهم من الروح القدس. وصرحوا بأن هذه الروح المقدسة أمرتهم بأن يؤجلوا العماد إلى حين بلوغ سن الرشد لأن القربان المقدس لا يكون له أثر إلا بالإيمان وهو أمر لا ينتظر من الأطفال. وتنبئوا بأن العالم سيتعرض قريباً لخراب شامل يهلك فيه كل الفجار- بما فيهم جميع القساوسة الجامدين بصفة خاصة، وتبدأ بعد ذلك على الأرض مملكة الرب الشيوعية (91) وفي عام 1521 سحق تمرد قام به النساجون وأقصى ثلاثة من "رسل تسفياكو" وانطلق منتسر إلى براغ فأخرج منها وحصل على أبرشية في الشتد في ساكسونيا". وذهب ستور إلى وشتينز إلى بيتنبرج وكان لهما أثر طيب على ميلانكتون وكارلشتادت أثناء غياب لوثر.
وفي يوم 6 يناير سنة 1522 تبدد جميع الأوغسطينيين في فيتنبرج، وفي يوم 22 يناير كان انصار كارلشتادت قد بلغوا حظاً كبيراً من القوة في المجلس البلدي إلى حد أنهم عملوا على إصدار مرسوم يقضي برفع كل الصور من كنائس فيتنبرج، وتحريم القداس إلا إذا أقيم بالشكل المبسط الذي ينادي به كارلشتاد. وأدخل كارلشتاد صورة لصلب المسيح ضمن الصور الممنوعة وحرم مثل المسيحيين الأوائل عزف الموسيقى في(24/49)
العبادات وقال: "إن ألحان الأرغن الفاجرة تدعو إلى التفكير في أمور الدنيا، ففي الوقت الذي ينبغي فيه أن نتأمل في آلام المسيح التي تذكرنا باسطورة بيراموس Byramus Thibes ... ابعدوا آلات الأرغن والأبواق والناي إلى المسرح" (92).
وعندما أرجأ مندوبو إزالة الصور قاد كارلشتاد اتباعه إلى داخل الكنائس، ومزقت الصور والصلبان من فوق الجدران ورجم القساوسة الذين قاوموهم ايضاً بالأحجار (93). وقبل كارلشتاد رأي أنبياء تسيفاكاو- أن الله يخاطب الناس مباشرة كما يخاطبهم من خلال الاسفار المقدسة، بل ويتكلم مع بسطاء العقول والقلوب أكثر مما يتكلم مع المتبحرين في اللغات والكتب- ولما كان هو نفسه علامة فإنه أعلن أن المدارس والدراسات تصرف الناس عن التقوى وأن المسيحيين حقاً سوف يعرضون عن كل الآداب والعلوم والفنون وعن التعليم ويصبحون فلاحين أميين أو حرفيين. وصرف أحد أتباعه وهو جورج مور طلبة المدرسة الذين يدرس لهم وحرض الآباء على أن يحافظوا على براءة أطفالهم من التأثر بالآداب والعلوم والفنون وترك عدد كبير من الطلاب الجامعة وانكفأوا إلى بيوتهم ليتعلموا حرفة يدوية وقالوا إنه لا حاجة بهم بعد هذا إلى الدراسة.
وعندما سمع لوثر بهذا خشي أن يجد نقاده المحافظون ما يؤيد نبوءاتهم التي رددها بأن رفضه التسليم بالسلطة الكنسية سوف يفصم عرى النظام الاجتماعي بأكمله. وتحدى لوثر أمر الإمبراطور وضرب عرض الحائط بالحماية التي أسبغها عليه الأمير المختار إذا سعى شارل للقبض عليه. فغادر قلعته وعاد إلى ارتداء مسوح الرهبان وحلق شعر رأسه وسارع بالعودة إلى فيتنبرج، وفي يوم 9 مارس عام 1522 بدأ سلسلة مؤلفة من ثماني عظات تدعو بشدة الجامعة والكنائس والمواطنين إلى مراعاة النظام، ذلك لأنه لم يكن يحبذ وقتذاك أي التجاء إلى العنف، ولمَ لا؟ ألم يحرر الملايين من الناس من(24/50)
عسف الكنيسة دون أن يرفع شيئاً أكثر من القلم؟ وقال: "اتبعوني فأنا أول مَن اختصه الله بهذا الأمر والرجل الذي كشف له سبحانه وتعالى عن كلمته التي لابد أن أبشركم بها. ولذلك أقول إنكم قد ارتكبتم خطأ بشروعكم في القيام بهذا العمل دون ... تستشيروني أولاً (94) ... امهلوني بعض الوقت ... ولا تظنوا أن المظالم تمحى بتدمير الهدف الذي يساء التصرف فيه. إن الناس يمكن أن يضلوا بالنبيذ والنساء فهل نحرم شرب النبيذ ونقضي على النساء؟ لقد عبد الناس الشمس والقمر والنجوم فهل ننتزعهما من السماء (95)؟ " إن الذين يريدون الاحتفاظ بالصور والتماثيل والصلبان وسماع الموسيقى أو ترتيل القداس يجب ألا يتدخل أحد في شئونهم فهو نفسه قد اقر الصور الدينية (96). واتفق على ضرورة إقامة القداس وفقاً للشريعة التقليدية في إحدى كنائس فيتنبرج وعلى تناول القربان المقدس في كنيسة أخرى بالخبز وحده في المذبح العالي وبالخبز والنبيذ في مذبح جانبي ... وقال لوثر إن الشكل لا يهم إلا قليلاً والمهم هو الروح التي يتناول بها القربان المقدس.
كان في أحسن حالاته وأعظم الناس استمساكاً بالمسيحية في تلك العظات الثمانية التي القاها في ثمانية أيام. ولقد خاطر بكل شيء لكي يتمكن من كسب فيتنبرج والعودة بها إلى حظيرة الاعتدال، ونجح في ذلك، وسعى أنبياء تسفيكا لتحويله إلى آرائهم وعرضوا أن يقرءوا أفكاره كدليل على أنهم يتلقون الوحي من الله فقبل التحدي وأجابوا بأنه يضمر لأفكارهم عطفاً خفياً فرد جلاءهم البصري إلى الشيطان، وامرهم بمغادرة فيتنبرج وعندما فصل كارلشتادت من وظائفه بقرار من مجلس مدينة أُعيد تكوينه، أخذ أبرشية في أورلامينديه، وندد من فوق منبرها لوثر ووصفه بأنه: "كاهن نهم ... وبابا فيتنبرج الجديد" (97). ولقد سبق كارلشتاد جماعة الكويكر فتخلى عن كل الثياب الكهنوتية وارتدى معطفاً رمادياً بسيطاً(24/51)
واستغنى عن الالقاب وطلب أن يدعى "الأخ أندرياس" ورفض قبول مرتب عن قيامه بالخدمة الدينية، وعمل على كسب عيشه بالمحراث ورفض كل استخدام للعقاقير وفضّل الصلاة على الدواء ودافع عن تعدد الزوجات باعتباره أمراً لم يحرمه الإنجيل، وتبنى وجهة نظر رمزية محضة فيما يختص بالقربان المقدس، وذهب لوثر بناء على طلب الأمير المختار إلى أورلاميندية ليعظ ضد كارلشتادت ولكنه أخرج من المدينة ورُجم بالحجارة والطين (98). وعندما انهارت ثورة الفلاحين خشي كارلشتادت أن يُقبض عليه بتهمة التحريض فسعى إلى مكان أمين مع لوثر وحصل عليه. وبعد جولة طويلة وجد الراديكالي ملجأه الأمين بالعمل أستاذاً في بازيل حيث قضى نحبه في هدوء على 1541 في جو مدرسي.
7 - أسس الإيمان
استأنف لوثر طريقه العام غير المستقيم باعتباره قساً لطائفة واستاذاً في الجامعة - ودفع له الأمير المختار مرتباً قدره 200 جيلدر (5000 دولار) سنوياً وكان كل طالب يضيف إليه أتعاباً زهيدة مقابل حضور محاضرته.
وعاش لوثر صحبة راهب آخر، وكان كل منهما يرتدي ملابس عامة الناس في دير أوغسطيني مع طالب يقوم بخدمتها وقال: "كان فراشي لا يُرتب لمدة عام كامل حتى يصبح قذراً تفوح منه رائحة العرق، ومع ذلك كنت أواصل العمل طوال النهار فإذا جن الليل أكون منهوك القوى إلى حد أني أتهاوى في الفراش دون أن أدري أن هناك خطأ ما" (99). وكان العمل الشاق يغفر له شهيته المفتوحة وفي هذا يقول: "إني آكل كبوهيمي وأشرب كألماني والحمد لله آمين" (100).
وكان يعظ كثيراً ولكن في إيجاز يتسم بالاشفاق، وبلغة بسيطة أخاذة تستولي على ألباب مستمعيه الأجلاف. وكانت رياضته الوحيدة هي الشطرنج(24/52)
والعزف على الناي، ويبدو أنه كان يجد متعة أكبر في الساعات التي يقضيها في مهاجمة "البابويين". كان أقوى مَن عرفه التاريخ في الجدل لا يصده عنه شيء. وكانت كل كتاباته تقريباً صراعاً ممتزجاً بعبارات لاذعة تفيض سخرية وطعناً. وترك خصومه يتأنقون في اللاتينية الرفيعة بحيث لا يقرأ لهم إلا قلة من الباحثين وكان هو أيضاً يكتب باللاتينية عندما يريد مخاطبة العالم المسيحي بأسره، بيد أن الجانب الأكبر من أهاجيه الّفه بالألمانية أو كان يترجم فوراً إلى الألمانية لأن ثورته كانت وطنية ولا يبزه مؤلف ألماني آخر في وضوح ألفاظه أو قوة أسلوبه وفي مباشرة عباراته وحدتها اللاذعة وفي تشبيهاته الموفقة والتي كانت أحياناً تبعث على الإبتهاج في ألفاظ تمتد جذورها في كلام الناس وتلائم العقلية القومية.
ووافقت الطباعة أغراضه باعتبارها بدعة أرسلتها العناية الإلهية فيما يبدو فاستخدمها ببراعة لا ينضب لها معين، وكان أول مَن جعل منها آلة للدعاية والحرب ولم تكن هناك وقتذاك جرائد ولا مجلات، وكانت المعارك تذكيها الكتب والعجالات والرسائل الخاصة التي دبجت للنشر. وارتفع عدد الكتب المطبوعة، في ألمانيا من 150 عام 1518 إلى 990 عام 1524، وذلك بحافز من ثورة لوثر، وكانت أربعة أخماس هذه الكتب تؤيد الإصلاح الديني أما الكتب التي كانت تدافع عن العقيدة المحافظة فقد كان من الصعب أن تجد مَن يشتريها، في حين كانت مؤلفات لوثر هي أكثر الكتب رواجاً في هذا العصر، وكانت لا تباع في المكتبات فحسب بل كانت تُباع عند الباعة الجائلين والطلبة المسافرين أيضاً، وقد أحضرت 1400 نسخة في سوق واحدة بفرانكفورت، بل إن ما بيع منها في باريس عام 1520 فاق ما بيع من أي كتاب آخر. وفي مطلع عام 1519 صدرت لفرنسا وايطاليا واسبانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترا. وكتب أرازموس عام 1521 يقول: "إن كتب لوثر في كل مكان وبكل لغة ولن يصدق أحد مدى تأثيره في الناس" (101).(24/53)
ورجح الأثر الأدبي القوي للمصلحين كفة المطبوعات من جنوبي أوروبا إلى شمالها حيث ظلّت على هذا الوضع منذ ذلك. كانت الطباعة هي الاصلاح الديني، ولا شك أن جوتنبرج هو الذي جعل نجاح لوثر ممكناً.
وكان أعظم عمل قام به لوثر هو ترجمة الإنجيل إلى الألمانية كانت ثماني عشرة ترجمة مثلها قد تمت من قبل ولكنها اعتمدت على نسخة جيروم اللاتينية من الكتاب المقدس، وحفلت بالأخطاء وصيغت عباراتها بأسلوب سقيم، وكانت صعوبات الترجمة عن الأصل مروعة ولم تكن هناك بعد معاجم من العبرية أو اليونانية إلى الألمانية وكل صفحة من النص تثير مائة مسألة في التفسير، وكانت اللغة الألمانية ذاتها لا تزال تفتقر إلى الدقة والاحكام في التركيب، واستخدم لوثر في ترجمة العهد الجديد النص اليوناني الذي كان أرازموس قد نشره مع نسخة لاتينية عام 1516، وأكمل هذا الجزء عام 1521 ونشر عام 1522. وبعد عمل دائب استمر أكثر من اثني عشر عاماً، ووسط كفاح دائم في مجال علم اللاهوت نشر لوثر العهد القديم بالألمانية، ولكن بمساعدة ميلانكتون وعدد من الباحثين اليهود وبرغم عدم دقة الدراسة في هذه الترجمات فإنها كانت من الأحداث المهمة في هذا العهد، فقد افتتحت الأدب الألماني وأصلها اللغة الألمانية الجديدة الرفيعة في ساكسونيا العليا - باعتبارها اللغة الأدبية الألمانية. ومع ذلك فإن الترجمات كانت غير أدبية عن عمد، وعلى نهج اللغة الدارجة، وقد فسر لوثر منهجه بطريقته الواضحة المعهودة فقال: "ينبغي ألا نطلب، كما يفعل الحمير، من الحروف اللاتينية أن تعلمنا كيف نتحدث الألمانية بل يجب أن نسأل الأمهات في بيوتهن والأطفال في الشوارع وعامة الناس في السوق ... يجب أن نسترشد بهم في الترجمة ولسوف يفهموننا ويعرفون أننا نخاطبهم بالألمانية) (102). ومن هنا كان لترجمته في ألمانيا نفس الأثر والجلال اللذين حظيت بهما نسخة الملك جيمس المترجمة بعد قرن: كان لها تأثير حميد لا حد له على لغة الحديث القومية ولا تزال أعظم عمل نثري في الأدب القومي.(24/54)
وطبعت في فيتنبرج مائة ألف نسخة من عهد لوثر الجديد إبان حياته، وظهرت في أمكنة أخرى إثنتا عشرة طبعة لم يرخَّص بها وعلى الرغم من المنشورات التي تحرم تداولها في براندنبرج وبافاريا والنمسا فإنها أصبحت أكثر الكتب رواجاً في ألمانيا وظلت كذلك.
وأثمرت ترجمات الإنجيل كنتيجة وعامل مساعد معاً وأعانت على أن تستبدل باللاتينية اللغات الوطنية والآداب التي واكبت الحركة القومية والتي سايرت هزيمة الكنيسة العالمية في بلاد لم تكن قد تلقت اللغة اللاتينية وغيرتها.
ولما كان لوثر قد أكبّ طويلاً على الكتاب المقدس وورث وجهة نظر القرون الوسطى عن صدوره من الله فإنه جعله عن محبة خالصة المصدر الأوحد لعقيدته الدينية وشريعتها. ومع أنه قبل بعض الروايات المأثورة التي لا تقوم على ما جاء في الكتاب المقدس - مثل تعميد الطفل والراحة يوم الأحد - فإنه رفض أن يسلّم بحق الكنيسة في أن تضيف إلى المسيحية عناصر لا تعتمد على ما جاء في الكتاب المقدس وإنما تعتمد على عرفها وسلطتها مثل المطهر وصكوك الغفران وعبادة مريم والقديسين وكان كشف فالا عن "هبة قسطنطين" (هبة أوربا الغربية المزعومة للبابوات) باعتبارها أضحوكة عتيقة في التاريخ قد زعزع إيمان الآلاف من المسيحيين في الوثوق بروايات الكنيسة وشكك في الشرعية الملزمة لمراسيمها وفي عام 1537 ترجم لوثر نفسه رسالة فالا إلى الألمانية. فالرواية يقوم بها انسان عرضه للزلل أما الكتاب المقدس فقد قبلته أوربا بأسرها تقريباً وعدته كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ثم إن العقل أيضاً يبدو ضعيفاً بالقياس إلى الإيمان في وحي من لدن الله. وقال "نحن المساكين، الناس التعساء ... نسعى في غرور إلى فهم الجلال الذي يدق على الفهم لنور عجائب الله التي لا تدرك ... ونحن نتطلع بعيون مغمضة، مثل حيوان الخلد، إلى مجد الله" (103). وقال لوثر: "أنت(24/55)
لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر".
"إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تماماً منافية للمعقول وزائفة. فإذن كيف يعتقد ذلك الأحمق الصغير الماكر أن هناك شيئاً يمكن أن يكون أكثر مجافاة للعقل واستحالة من أن المسيح يعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه في العشاء الأخير؟ ... أو أن الموتى سيبعثون من جديد يوم القيامة؟ ... أو أن المسيح ابن الله حملت به مريم العذراء وولدته ثم غدا رجلاً يتعذب ثم يموت ميتة مخجلة على الصليب؟ (105) ... إن العقل هو أكبر عدو للإيمان ... إنه أفجر صنائع للشيطان كبغي فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها ... فاقذفها بالروث في وجهها ... وأغرقها في العماد" (106).
وأدان لوثر الفلاسفة الكلاميين لأنهم سلموا للعقل بكثير من الأمور ولأنهم حاولوا أن يثبتوا العقائد المسيحية بالخضوع لمقتضى العقل ولأنهم حاولوا أن يوفقوا بين المسيحية وبين فلسفة أرسطو ذلك الوثني الداهية المغرور اللعين (107).
ومع ذلك فإن لوثر خطا خطوتين في اتجاه العقل: جعل الموعظة، وليس الاحتفال مركز شعيرته الدينية وأعلن في الأيام الأولى لثورته بحق كل فرد في تفسير آيات الكتاب المقدس لنفسه. واستن قانونه الخاص بصحة أسفار الكتاب المقدس: إلى أي مدى تتفق مع تعاليم المسيح؟ وقال "إن كل ما لا يبشر بالمسيح ليس رسولياً حتى لو كتبه القدّيس بطرس أو القدّيس بولس ... وكل ما يبشر بالمسيح يكون رسولياً حتى لو صدر من يهوذا وبيلاطس أو هيرودس" (108). ورفض التسليم برسالة جيمس وأطلق عليها اسم: "رسالة الهشيم" لأنه لم يستطع أن يوفق بينها وبين رأي بولس(24/56)
في التبرير بوساطة الإيمان، واستراب في أن الرسالة من عمل العبريين إذ بدا أنها تنكر صحة التوبة بعد العماد (ولذلك فإنها تؤيد الذين ينكرون التعميد النصراني) وقدر أولاً أن سفر الرؤيا مزيج لا يدرك من ضروب الوعد والوعيد "لا هي رسولية ولا هي نبوية" (109).
"أما سفر عزرا الثالث فإني أقذف به في نهر ألبا" (110). وعلى الرغم من أنه يقوم على عقلية وثنية وأن معظم أحكامه التي تقوم على شريعة الكتاب المقدس قبلها النقاد الإنجيليون المتأخرون وقالوا إنها ذكية وسليمة. وقال: "إن أحاديث الأنبياء لم يدون منها شيء بانتظام في حينه بل جمعها مريدوهم وسامعوهم فيما بعد ... ولم تكن أمثال سليمان من عمل سليمان". ولكن خصومه الكثالكة أكدوا أن الاختبارات التي وضعها للحكم على الصحة والوحي كانت ذاتية وتحكمية وتنبأوا أن نقاداً آخرين سيحذون حذوه ويرفضون الاعتراف بكتب مقدسة أخرى حسب أهوائهم وآرائهم حتى لا يبقى شيء من الكتاب المقدس يعتبر أساساً للعقيدة الدينية.
وباستبعاد الاستثناءات السالفة فإن لوثر دافع عن الكتاب المقدس باعتباره صحيحاً بحذافيره وحرفياً. وسلّم بأنه لو لم ترد قصة يونس في الحوت في الكتاب المقدس لسخر منها وعدها خرافة وبالمثل حكايتا عدن والحية، ويوشع والشمس ولكنه قال متّى قبلنا القول بقداسة الكتاب المقدس، فلابد أن هذه القصص بالإضافة إلى الباقي حقيقة من كل وجه. ورفض محاولات أرازموس والباقين للتوفيق بين الكتاب المقدس والعقل عن طريق التأويل المجازي (111) وعدّها من قبيل الإلحاد. ولما كان قد فاز بالطمأنينة الذهنية لا عن طريق الفلسفة ولكن عن طريق الإيمان بالمسيح كما صورته الأناجيل، فإنه اعتصم بالكتاب المقدس باعتباره الملاذ الأخير للروح، وعارض علماء الانسانيات وعبادتهم للكلاسيات الوثنية فعرض الكتاب المقدس لا باعتباره نتاج فكر بشري، بل باعتباره بركة من الله وعزاء للبشر.
وقال: "إنه يعلّمنا أن نرى ونشعر وندرك ونفهم معنى الإيمان والأمل(24/57)
والبر بطريقة مغايرة لما يستطيع أن يفعله العقل البشري وعندما تضيق صدورنا بالشر فإنه يعلّمنا كيف تشع هذه الفضائل الضوء لكي يبدد الظلام وكيف أن هناك حياة أخرى خالدة بعد هذه الحياة الهزيلة التعسة التي نحياها على الأرض" (112).
وعندما سُئل عن الأساس الذي استند إليه في أن الكتاب المقدس من وحي الله أجاب ببساطة أنه استند إلى تعاليمه ولا يمكن غلا لأُناس ألهمهم الله أن يكوّنوا مثل هذا الإيمان العميق الذي هو عزاء للنفس.
8 - لاهوت لوثر
وعلى الرغم من أن لاهوته قام على تصديق حرفية ما جاء بالكتب المقدسة فإن تفسيره احتفظ لا شعورياً بالروايات المأثورة في القرون الوسطى المتأخرة. وجعلته قوميته عصرياً أما لاهوته فيمت إلى عصر الإيمان. وكانت ثورته موجهة ضد النظام الكاثوليكي وطقوسه أكثر منها ضد العقيدة الكاثوليكية ولازمه معظم هذه الثورة إلى النهاية. بل إنه حذا في ثورته حذو ويكليف وهس ولم ينتهج أي منهج جديد. فثورته مثل ثورتهما تكمن في رفض البابوية والمجالس الدينية والمراتب الكهنوتية والاهتداء بأي شيء آخر للعقيدة غير الكتاب المقدس، وقد وصف مثلهما البابا بأنه مناهض للمسيحية ووجد مثلهما الحماية في رحاب الدولة. وتواصل الفكر من ويكليف إلى هس إلى لوثر يعد الخيط الرئيسي للتطور الديني من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر. فقد كان تواصل الفكر من الناحية اللاهوتية قد اعتصم بآراء أوغسطين عن القدر والرحمة، وهذه الآراء كانت لها بدورها جذور في رسائل بولس الذي لم يعرف المسيح قط. وقد تساقطت تقريباً جميع العناصر الوثنية التي شابت المسيحية عندما اتخذت البروتستانتية شكلها(24/58)
المرسوم وانتصرت الهيبة اليهودية على الاغريقية وفاز الانبياء على أرسطو رائد فلسفة الجدليين وأفلاطون رائد علماء الانسانيات وحول بولس باعتباره أقرب إلى مصاف الأنبياء منه إلى مصاف - الرسل - المسيح إلى تكفير عن خطيئة آدم وحجب العهد القديم العهد الجديد أظلم يهوه وجه المسيح.
وكان مفهوم الله عند لوثر يهودياً، وكان في وسعه أن يتكلم بفصاحة عن رحمة الله وعفوه إلا أن صورة الله القديمة باعتباره منتقماً ثم صورة المسيح باعتباره القاضي الأخير أكثر استقراراً في نفسه، ولقد آمن دون أن يسجل أي اعتراض بأن الله قد أغرق كل البشر تقريباً في الطوفان وأنه أحرق سدوم وأهلك الأراضي والناس والامبراطوريات بنفثة من غضبه وإشارة من يده. ورأى لوثر أن "قلة قدر لها أن تنجو وأن كثرة كثيرة لحقتها اللعنة إلى الأبد" (113). ونبذت من القصة الأسطورة التي تخفف من هول تلك الصورة وهي التي تتناول الدور الذي تقوم به مريم في الشفاعة وبقي فيها اليوم الآخر بكل ما فيه من فزع شديد للبشر الخاطئين بطبيعتهم. وكان الله في عضون هذا كله قد سلط الوحوش المفترسة والديدان والنسوة الخبيثات على الناس عقاباً لهم على خطاياهم. وكان لوثر يذكر نفسه بين الفينة والفينة بأننا لا نعلم شيئاً عن الله إلا أنه قوة مدركة كونية موجودة. وعندما سأله شاب لحوح من علماء اللاهوت: أين كان الله قبل خلق العالم؟ أجابه بأسلوبه الخطابي الفظ عن طريقة جونسون "كان يبني جهنم لهذه الأرواح الفضولية المقلقة المغرورة من أمثالك" (114).
ولقد أخذ الجنة والجحيم قضية مسلّمة وآمن بنهاية مبكرة للعالم (115). ووصف جنة حافلة بالمسرات وفيها كلاب مدللة "لها شعر ذهبي يلمع كالأشجار الكريمة" (116)، وهي منحة طيبة لأطفاله الذين أعربوا عن اهتمامهم بمصير كلابهم المدللة. وتحدث في ثقة مثل الأكويني عن الملائكة وقال إنها أرواح كريمة لا أجساد لها. ولقد تصور لوثر الإنسان أحياناً عظمة لا نهاية لها يتنازعها(24/59)
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهم الذين يعزى إلى اختلاف مشاربهم وإلى جهودهم كل الظروف التي تحيط بمصير الإنسان وفي هذا إقحام للزرادشتية في لاهوته. كما سلّم تسليماً كاملاً بالمفهوم السائد في القرون الوسطى عن الشياطين التي تهيم في الأرض وتوسوس للناس وتغويهم بالإثم وتعرضهم للنحس وتمهد للإنسان طريقه إلى جهنم. وقال: "إن كثيراً من الشياطين تهيم في الغابات والمياه والبراري وفي الأماكن المظلمة المليئة بالبرك وهي متأهبة أبداً لإيذاء الناس، وبعضها يهيم في السحب الكثيفة السوداء" (117).
وقد يكون بعض هذا الاعتقاد إبداعاً تربوياً واعياً لمخاوف خارقة نافعة، ولكن لوثر كان يتحدث بغير كلفة عن الشياطين ويبدو أنه صدق كل ما قيل عنهم. وقال "إني أعرف الشيطان حق المعرفة"، وذكر بالتفصيل أحاديثهم مع بعضهم بعضاً (118). وكان أحياناً يفتن الشيطان بالعزف على الناي واحياناً كان يفزع الشيطان المسكين (119) بأن يرميه بأقذع السباب (120). وأصبح من عادته أن يعزو إلى الشيطان الأصوات المخيفة التي تصدر من الجدران وهي تتقلص من البرودة في الليل وذلك عندما كان يستيقظ على هذه الأصوات، وكان في وسعه أن يستنتج وهو واثق أنها من عمل الشيطان، وهو يحوم حوله وأن يستأنف نومه في هدوء (121). ونسب إلى فعل الشيطان ظواهر مختلفة لا تسر. سقوط البَرَد والرعد والحرب والطاعون، أما الحوادث السعيدة كلها فهي في نظره من فعل الله (122). وكان يجد صعوبة في إدراك كل ما نسميه القانون الطبيعي. ويبدو أن كل التراث الشعبي التيتوني عن الطيف الصخّاب أو الروح التي تحدث الضجة قد صدقه لوثر بحذافيره والشياطين يؤثر أن تتقمص أجساد الثعابين والقردة (123). وكان لوثر يرى أن الفكرة القديمة التي تذهب إلى أن في وسع الشياطين أن تضاجع النساء وأن تنجب منهن أطفالاً فكرة صائبة، بل إنه أشار في مثل هذه الحالة بضرورة إغراق الطفل الذي يولد نتيجة لهذه العلاقة (124). وقبل السحر والعرافة على أنهما من الحقائق المسلّم بها وكان يرى أن إحراق الساحرات على السارية (125) واجب(24/60)
مسيحي بسيط، وكان يشاطره في معظم آرائه معاصروه سواء أكانوا من الكثالكة أم من البروتستانت.
ثم إن الاعتقاد في قوة الشياطين وقدرتها على الوجود في كل مكان بلغ في القرن السادس عشر درجة قصوى لم تسجل في أي عصر آخر وقد أفسد هذا الاهتمام بالشيطان كثيراً من اللاهوت البروتستانتي.
وازدادت فلسفة لوثر قتامة بالاقتناع بأن الإنسان بطبعه شرير وميال للإثم (1)، وقد انتزعت الصورة الإلهية من قلب الإنسان عقاباً لعصيان آدم وحواء ولم يبقِ فيه إلا الميول الطبيعية. وها هو يقول: "ليس هناك مَن هو مسيحي أو ورع بفطرته ... والناس والجماهير بعيدة عن روح المسيحية ولسوف تكون هكذا ... والأشرار يفوقون دائماً الأخيار عدداً" (126). بل إن أعمال الشر في الرجل الخير تفوق في عددها أعمال الخير لأنه لا يستطيع أن يهرب من فطرته وكما قال بولس: "لا أحد بار، لا أحد". وشعر لوثر "بأننا أبناء الغضب وكل أعمالنا ونياتنا وأفكارنا لا تساوى في الميزان أمام آثامنا" (127). ومن جهة سير أعمال الخير فإن كل واحد منا يستحق العذاب المقيم، وكان لوثر يقصد بعبارة "أعمال الخير" بصفة خاصة تلك الأشكال من الورع الطقسي الذي أوصت به الكنيسة - الصيام والحج والابتهالات إلى القديسين والقداسات للموتى وصكوك الغفران والمواكب والتبرعات للكنيسة ولكنه ضمّنها أيضاً "كل الأعمال مهما كانت صفتها" (128) ولم يشك في مدى الحاجة إلى الاحسان والحب لتوفير حياة صحية اجتماعية ولكنه أحس (2) بأنه حتى لو كانت هناك حياة مباركة بمثل هذه الفضائل فإنها لا تستطيع أن تفوز بسعادة أزلية ويقول "غن الإنجيل لا يبشر بشيء من الجزاء عن الأعمال وإن مَن يقول إن الإنجيل نص على أن الأعمال هي وسيلة
_________
(1) أو كما يجب أن نقول يولد الإنسان بغرائز تتفق مع مرحة الصيد ولكنها في حاجة إلى كبح مستمر في الحضارة.
(2) أُنظر الطوبوات - إصحاح متّى 5: 3 - 11.(24/61)
الخلاص أقول له بصراحة تامة إنه كاذب" (129). ولا يمكن لقدر من الأعمال الصالحة - فكل منها إهانة لإله لا حد لقدرته - أن تكفّر عن الذنوب التي اقترفها خير الناس. ولا يمكن أن تكفّر عن خطايا البشر إلا تضحية المسيح المفتدية - آلام ابن الله وموته -، ولا يمكن أن ينجينا من عذاب جهنم إلا الإيمان بهذا التكفير الإلهي. وكما قال بولس للرومان: "إذا كنت تقر بلسانك أن الرب يسوع وإذا كنت تؤمن في قرارة فؤادك بأن الله قد رفعه من بين الأموات فإنك سوف تنجو" (130). وهذا الإيمان هو الذي "يبرر" - يجعل الإنسان باراً على الرغم مما اقترف من ذنوب ويجعله صالحاً للخلاص، وقد قال المسيح نفسه "كل مَن يؤمن ويُعمَّد سوف ينجو أما مَن يكفر فسوف تلحقه اللعنة" (131). وقال لوثر مستنتجاً منطقياً: "ولهذا فإن أول ما يجب أن يهتم له كل مسيحي هو أن يطرح جانباً كل يقين في الأعمال وأن يقوي إيمانه وحده شيئاً فشيئاً" (132) واستطرد قائلاً في فقرة أزعجت بعض علماء اللاهوت وإن كانت قد أراحت كثيراً من الخاطئين:
"إن يسوع المسيح ينحني ويدع الخاطئ يقفز فوق ظهره وهكذا ينقذه من الموت ... أية تعزية للارواح التقية أن يعتصم بالمسيح على هذا النحو وأن تلفه في خطاياي وخطاياك وخطايا العالم بأسره وتعده هكذا يحمل خطايانا جميعاً! ... وعندما ترى أن خطاياك تلصق به فعند إذ تنجو من الخطيئة والموت والجحيم ... إن المسيحية ليست إلا ممارسة متصلة للإحساس بأنك لا ترتكب خطيئة على الرغم من أنك تقترفها وأن خطاياك إنما توضع على كاهل المسيح. حسبك أن تعرف الحَمَل الذي يحمل خطايا العالم والخطيئة لا يمكنها أن تُفرِّق بيننا وبينه حتى لو ارتكبنا ألف جريمة زنى كل يوم أو مهما ارتكبنا من جرائم القتل، ألا تعد هذه بشرى طيبة أن تعرف إنساناً غارقاً في الخطايا إلى أذنيه فيأتي الإنجيل يقول له: "كن على ثقة وآمن تُغفر لك خطاياك من الآن فصاعداً؟ حالما يقتلع هذا الحائل تُغفَر لك خطاياك وليس ثمة شيء آخر تعمل من أجله" (133).(24/62)
ولعل هذا كان المقصود به تعزية وانعاش بعض الأرواح المرهفة الحس التي كانت تجزع كثيراً بسبب ما اقترفت من خطايا. واستطاع لوثر أن يتذكر كيف أنه قد غالى يوماً في جسامة ذنوبه ورأى أنها لا تغتفر ولكن الأمر بدا عند بعضهم يشبه كثيراً قول تيتزل المزعوم "أسقط قطعة نقدية في الصندوق تتبدد ذنوبك كلها" وكان الإيمان وقتذاك يفعل الأعاجيب التي زعموا من قبل أنها تتحقق بالاعتراف والتحلل من الذنوب والصدقة وصك الغفران. ومع ذلك فهناك فقرة تسترعي الانتباه: وجد لوثر الغيور الثائر كلمة طيبة يقولها عن الخطيئة ذاتها وقال عندما يغوينا الشيطان بإلحاح مزعج فقد يكون من الحكمة أن نستسلم لإغرائه ونقترف ذنباً أو اثنين.
"إسعَ يا مجتمع رفاقك الطروبين واشرب واقصف وانطلق بالفحش وسل نفسك فلابد للمرء أن يقترف أحياناً ذنباً كراهية واحتقاراً للشيطان حتى لا يعطيه الفرصة لكي يجعله يشعر بتأنيب الضمير على مجرد أشياء لا تستحق الذكر، فالمرء يضل إذا اشتد فزعه من أن يقترف ذنباً ... أه! ... بودي لو كان في استطاعتي أن أجد ذنباً عظيماً حقاً يقذف بالشيطان! " (134).
ولقد دعت هذه الأحكام العرضية المرحة إلى التأويل، وفسر بعض أتباع لوثر شخصيته بأنه يتسامح في الفجور والزنى والقتل واضطر أستاذ من أنصاره إلى نصح الوعاظ المؤثرين بأن يحرصوا على الاقلال ما أمكن من القول بأنه يمكن الحصول على البراءة من الذنب بالإيمان وحده (135).
ومهما يكن من أمر فإن لوثر كان لا يقصد بالإيمان التسليم العقلي بغرض فحسب ولكنه كان يقصد المكابدة الحيوية الشخصية لاعتقاد عملي، وكان على ثقة من أن الاعتقاد الكامل في أن عفو الله منح بسبب موت المسيح تكفيراً عن ذنوب البشر يجعل الإنسان أولاً وقبل كل شيء صالحاً إلى الحد الذي يجعل مجوناً عارضاً تشيع فيه شهوة الجسد لا يترتب(24/63)
عليه ضرر دائم، ذلك لأن الإيمان سرعان ما يعود بالخاطئ إلى الصحة الروحية، ووافق من صميم قلبه على فائدة الأعمال الصالحات (136). غير أن ما أنكره هو فاعليتها في سبيل الخلاص. وقال "إن الأعمال الصالحات لا تخلق رجلاً صالحاً ولكن الرجل الصالح يقوم بأعمال صالحات" (137). وماذا يجعل الرجل صالحاً؟ الإيمان بالله والمسيح.
وكيف يتأتى لإنسان أن يصل إلى مثل هذا الإيمان الذي ينجيه من عذاب الجحيم؟ إنه لا يصل إليه عن طريق أعماله التي يثاب عليها بل انه منحة يهبها الله، بغض النظر عن هذه الأعمال، إلى مَن يشاء أن ينجيه من عذابه وكما قرر بولس وهو يتذكر قصة فرعون "إن الله يتغمد برحمته مَن يشاء ويحرم منها مَن يشاء" (138). والله قدّر مَن اصطفاهم للسعادة الأبدية أما الباقون فقد تركهم محرومين من رحمته ملعونين ومخلدين في نار جهنم (139).
"هذه هي ذروة الإيمان: أن تؤمن بأن الله، الذي ينجي من عذابه قلة من عباده والذي يعاقب الكثرة منهم، غفور رحيم وأنه تعالى عادل، إذ سبق في تقديره أن قضى علينا باللعنة الأبدية لأنه ... ويبدو أنه يرضى بتعذيب الأشقياء. وإذا استطعت بأي جهد عقلي أن أدرك كيف يكون الله رحيماً في الوقت الذي يصدر عنه الكثير من الغضب والظلم فلن تكون بي حاجة إلى الإيمان" (140).
وهكذا نرى أن لوثر في غمرة رد فعله القروسطي (1) ضد كنيسة عصر النهضة التي ارتدت إلى عصر الوثنية ثق عاد لا إلى العقيدة الأوغسطينية فحسب ولكنه عاد إلى الترتوليانية: الإيمان بما لا يصدق، وبدا له أن من الفضيلة أن يؤمن بالقدر لأنه كان بالنسبة للعقل أمراً لا يصدق، ومع ذلك فقد رأى بالمنطق العسير أنه إنما دفع إلى هذا الاعتقاد بعدم قابلية الأمر للتصديق، وها هو عالم اللاهوت الذي كتب ببلاغة لا تضارع عن "حرية الإنسان
_________
(1) نسبة إلى القرون الوسطى(24/64)
المسيحي" قد رأى وقتذاك (1525) في إحدى رسائله أنه إذا كان الله قادراً على كل شيء فلابد أنه السبب الوحيد لكل ما يصدر من أفعال بما فيها أعمال الإنسان وأنه إذا كان الله عليماً بكل شيء فإنه يعرف كل شيء مسبقاً وكل شيء لابد أن يحدث كما سبق في علمه وعلى ذلك فإن كل الأحداث في كل زمان قد قُدّرت بإرادته تعالى وأصبحت قدراً محتوماً للأبد. وانتهى لوثر مثل أسبينوزا إلى أن الإنسان "ليس حراً مثل كتلة من الخشب أو صخرة أو كتلة من الصلصال أو عموداً من الملح" (141). ومع ذلك فإنه لأمر أكثر غرابة أن تحرم الحكمة الإلهية نفسها الملائكة، لا، بل والله نفسه من الحرية فإنه تعالى يجب أن يعمل كما سبق في علمه فحكمته هي قدره.
ولقد فسر أحد المجانين هذه العقيدة كما شاء له هواه: ضرب شاب عنق أخيه وعزا هذا إلى فعل الله الذي لم يكن هو إلا عبده العاجز فحسب، وحطم أحد المناطقة جسد زوجته بعصبية حتى ماتت وهو يصرخ "الآن تمت إرادة الأب" (142).
وتتدرج معظم هذه الاستنتاجات ضمناً في لاهوت القرون الوسطى، وقد استخلصها لوثر من بولس إلى أوغسطين في تزمت لا يلين وبدا راغباً في قبول لاهوت القرون الوسطى إذا تجرد من سلطان كنيسة عصر النهضة، فقد كان في وسعه أن يكون أكثر تسامحاً في قبول حتمية وجود جمهرة كبيرة من الملعونين منه في الخضوع لسلطان بابوات يشتطون في جمع الضرائب بصورة فاضحة. ورفض التسليم بالتعريف الكهنوتي للكنيسة بأنه هي الأسقفية وعرّفها بأنها جماعة المؤمنين بالله وبآلام المسيح تكفيراً عن ذنوب البشر ولكنه ردد العقيدة البابوية عندما كتب يقول: إن كل الناس الذين ينشدون الوصول إلى الله ويعملون من أجل هذا الوصول بأية وسيلة أخرى غير التوسل بالمسيح (مثل اليهود والأتراك والبابويين والقديسين(24/65)
الزائفين والهراطقة ... إلخ) يسيرون في ظلام دامس سادرين في الخطأ ولابد من أن يموتوا آخر الأمر ويضيعوا في آثامهم" (143). وهنا ولدت من جديد في فيتنبرج تعاليم يونيفاس الثمن ومجلس روما (1302) التي تقول: "لا خلاص للإنسان خارج الكنيسة".
وأعظم مادة ثورية في لاهوت لوثر هي تجريد القسيس من منصبه وإباحته للقساوسة الحصول على راتب لا بصفته موزعين لا غنى عنهم للقربان المقدس ولا باعتبارهم وسطاء مختصين بين الله والناس ولكن بصفتهم خادمين اختارتهم كل أبرشية للوفاء بحاجاتها الروحية، ولسوف يبدد هؤلاء القساوسة، بزواجهم وتنشئتهم لأسرة هالة القداسة التي جعلت نظام القسوسة قوياً رهيباً، فهم سيكونون "أولاً بين أنداد" ولكن أي انسان في وسعه عند الحاجة أن يقوم بوظائفهم بل يحل تائباً من ذنبه. وعلى الرهبان أن يتخلوا عن عزلتهم الأنانية وحياة الدعة التي يعيشونها في الغالب وأن يتزوجوا ويكدحوا مع الآخرين، فالرجل الذي يجر المحراث والمرأة التي تشتغل في المطبخ يعبدان الله خيراً مما يفعل الراهب وهو يتمتم بصلوات غير مفهومة في تكرار يجلب النعاس. ولابد أن تكون الصلاة هي الصلة الروحية المباشرة بين العبد وربّه ولا تكون ابتهالات بقديسين شبه أسطوريين، ومن رأي لوثر أن عبادة القديسين لم تكن معايشة ودية موازية بين عزلة الحي وقداسة الموتى، كانت ردة إلى عبادة الأصنام البدائية المشركة (144).
أما القرابين المقدسة التي كان ينظر إليها على أنها حفلات يقيمها القساوسة للحصول على الغفران من الرب فأن لوثر هون من شأنها بقسوة فهي لا تنطوي على قوى معجزة وفاعليتها تتوقف لا على أشكالها وصيغها ولكن على إيمان مَن يتلقاها، وتثبيت العماد والزواج والرسالة الأسقفية للقساوسة والمسيح المغالى فيه للمحتضر ليست إلا طقوساً لم يرتبط بها أي وعد يعفو الله في الكتاب المقدس ويمكن للدين الجديد أن يستغني عنها. أما العماد فهناك بينة(24/66)
عليه في مثال يوحنا المعمدان ويمكن استبقاء الاعتراف السمعي باعتباره من المقدسات على الرغم مما يحيط من شكوك بالأساس الذي يستند إليه في الكتاب المقدس (1). وأعظم قربان مقدس هو عشاء الرب أو العشاء الرباني. ويرى لوثر أن الفكرة التي تذهب إلى أن القسيس يمكنه بتعويذة من كلماته أن يغير الخبز إلى المسيح سخيفة تنطوي على التجديف، ورأى مع ذلك أن المسيح يهبط من السماء بمحض مشيئته ليكون حاضراً بطريق التجسد مع الخبز والنبيذ في القربان المقدس. وليس القربان المقدس سحراً كهنوتياً ولكنه معجزة إلهية دائمة (145).
ولا شك أن عقيدة لوثر في القربان المقدس وإحلاله عشاء الرب محل القداس ونظريته عن الخلاص بالإيمان لا بالأعمال الصالحات قد قوضت دعائم سلطة رجال الكهنوت في شمال ألمانيا.
وأخذ لوثر يروج لهذا النهج فرفض الاغتراف بالمحاكم الأسقفية والقانون الكنسي وأصبحت المحاكم المدنية في أوروبا اللوثرية هي المحاكم الوحيدة كما أصبحت السلطة الزمنية هي السلطة الشرعية الوحيدة. وعين الحكام الزمنيون موظفي الكنيسة وانتزعوا أملاكها وبدأوا في الاشراف على مدارسها مبرات الأديرة. وظلت الكنيسة والدولة مستقلتين إحداهما عن الأخرى من الناحية النظرية وإن أصبحت الكنيسة بالفعل خاضعة للدولة. وهكذا قدر للحركة اللوثرية التي كان يعتقد أنه الحياة بأسرها للاهوت أن تقدم، بلا قصد ورغم أنفها، ذلك التحول الشامل نحو الدنيوية الذي أصبح الموضوع الأساسي في الحياة العصرية.
9 - الثورة
عندما سعى بعض الأساقفة إلى اسكات لوثر وأتباعه أطلق صرخة مدوية غاضبة كانت بمثابة الناقوس المنذر بالثورة تقريباً، ففي كتيب "ضد
_________
(1) استدل به في الشعيرة اللوثرية الإعتراف الجماعي بالاثم على أن يتبعه الإبراء العام.(24/67)
النظام الذي يطلق عليه بهتاناً اسم النظام الروحي للبابا والأساقفة" (يوليو 1522) دمغ البطاركة ووصفهم بأنهم "أكبر الذئاب" جميعاً وناشد كل الألمان الصالحين أن يطردوهم بالقوة.
"كان من الخير أن يُقتل كل أسقف وأن تُقتلع جذور كل مؤسسة أو دير، فهذا أفضل من أن تُزهق روح واحدة فما بالك بفقد كل الارواح من أجل بهرجهم التافه وعبادة الأوثان. ما فائدة هؤلاء الذين يعيشون غارقين في الشهوات ويتغذون بعرق الآخرين وكدحهم؟ ... إنه إذا رضوا بكلمة الله وسعوا إلى حياة الروح فإن الله يكون معهم ... أما إذا لم يستمعوا إلى كلمة الله وثاروا غضباً وتوعدوا بالحرمان والحرق والقتل وبكل شر مستطير، فماذا يستحقون غير ثورة عارمة تكتسحهم من فوق ظهر الأرض؟ ولسوف تبتسم إذا حدث هذا. إن كل مَن يتبرع بالجسد أو بالمتاع أو الشرف للقضاء على حكم الأساقفة هم أطفال الله الأعزاء ومسيحيون صادقون" (146).
وفي هذا الوقت انتقد لوثر الدولة انتقاده للكنيسة، فقد آلمه تحريم بيع عهده الجديد أو حيازته في المناطق التي تخضع لحكام من المحافظين فكتب في خريف عام 1522 رسالة عنوانها "عن السلطة الزمنية: إلى أي حد يجب أن تطاع". وبدأها بأسلوب ودي للغاية فأقر عقيدة القدّيس بولس عن الخضوع المدني والأصل الإلهي للدولة. ومن الواضح أن هذا كان يتناقض مع تعاليمه الخاصة التي تقول بالحرية الكاملة للمسيحي. وأوضح لوثر أنه على الرغم من أن المسيحيين المخلصين ليسوا في حاجة إلى قانون ... ومع أن أحداً منهم لن يواجه الآخر بالقانون أو القوة فإنهم يدب أن يطيعوا القانون وأن يكونوا قدوة لغالبية الناس من غير المسيحيين المخلصين لأن فطرة الإنسان التي تجنح للإثم في غيبة القانون سوف تمزق المجتمع إرباً. ومع ذلك فإن سلطة الدولة يجب أن تنتهي حيث يبدأ ملكوت الروح. مَن(24/68)
هم هؤلاء الأمراء الذين يأخذون على عواتقهم أن يفرضوا على الناس ما يقرأونه أو ما يعتقدونه؟
"لابد أن تعرفوا أن الأمير الحكيم يندر وجوده حقاً منذ بداية الخليقة مثله في ذلك مثل الأمير الورع. فالأمراء في العادة أكبر الحمقى أو أسوأ الأفاقين على ظهر الأرض. إنهم السجانون والجلادون الذين يسلطهم الله على عباده، وهم أدوات الله التي تحقق غضبه تعالى بعقاب الأشرار وللمحافظة على السلام بين الناس ... ومهما يكن من أمر فإني بكل إخلاص أنصح هؤلاء الناس الذين طمس الله على ابصارهم أن ينتبهوا إلى القول الموجز في المزمور 107: (27) "إن الله تعالى ينزل سخطه على الأمراء" وإني أقسم لكم بالله أن هذه العبارة الموجزة لو أصبحت سيفاً مسّلطاً على أعناقكم بسبب خطئكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، وذلك على الرغم من أن كل واحد منكم متين البنيان كالتركي ولن يجديكم فتيلاً تميزكم غضباً وتحمسكم للكلام فقد تحقق فعلاً جانب كبير منه، لأن ... الرجل العادي يتعلم كيف يفكر ... ثم إن الجماهير وعامة الناس تستجمع نقمتها على الأمراء وعلى الناس بعد هذا الا يعانوا من طغيانهم وغرورهم فهذا ما لا يستطيعونه ولن يسمحوا به. فيا أيها الأمراء والسادة الاعزاء تمسكوا بأهداف الحكمة واهتدوا بهديها. إن الله لن يتسامح معكم بعد هذا ولم يعد العالم ذلك الذي كنتم فيه تطاردون الناس وتسوقونهم كالأنعام" (147).
واتهمه رئيس وزراء بافارى بأن هذه دعوة للثورة تتسم بالخيانة، وندد بهذه الرسالة الدوق جورج ووصفها بأنها إفك وحث الأمير المختار فردريك على أن يصادرها. ولكنه على العكس من ذلك سمح بتوزيعها بما عهد فيه من اتزان. ترى ماذا كان يقول الأمراء لو أنهم قرأوا رسالة لوثر إلى فنتسل لينك Wanzel Link، (19 مارس 1522)؟ "إننا ننتصر على الطغيان البابوي الذي طالما سحق ملوكاً وأمراء فكيف لا يسهل علينا إذن أن نتغلب(24/69)
على الأمراء أنفسهم نطأهم بنعالنا" (148). أو ماذا هم قائلون إذا أطلعوا على تعريفة للكنيسة؟ "أعتقد أنه لا توجد على ظهر الأرض إلا كنيسة مسيحية عامة، حكيمة كالعالم ولكنها كنيسة مقدسة وهي ليست إلا جماعة القديسين ... وأعتقد أن كل الأشياء على المشاع في هذه الجماعة أو في هذا العالم المسيحي، وكل ما يملكه الإنسان من متاع ملك للآخر ولا يوجد شيء ملك لأحد فحسب" (149).
كانت هذه سورة عارضة يجب ألا تؤخذ بمعناها الحرفي؛ فالواقع أن لوثر محافظاً بل ورجعياً في السياسة والدين بمعنى أنه كان يريد أن يعود بالناس إلى المعتقدات والرسائل الأولى في القرون الوسطى، وكان يعد نفسه ممن يردون الأشياء إلى أصولها وأنه ليس مبتدعاً. وكان يمكن أن يقنع بالحفاظ على المجتمع الزراعي الذي عرفه في طفولته واستمراره مع إدخال بعض وجوه التحسين التي تتسم بالبر. واتفق في الرأي مع الكنيسة في القرون الوسطى في إدانة الربا إلا أنه أضاف بطريقته المرحة أن الربا بدعة من عمل الشيطان وأسف لنمو التجارة الخارجية ووصف التجارة بأنها: "مهنة مرذولة" (150) واحتقر هؤلاء الذين يكسبون معاشهم بشراء السلعة بثمن رخيص وبيعها بثمن غالٍ. وندد بالمحتكرين الذين كانوا يتآمرون لرفع الأسعار لأنهم "لصوص ظاهرون للعيان"، وقال: "لَكَم تحسن السلطات صنعاً لو أخذت من هؤلاء الناس كل ما يملكون وطردتهم من البلاد" (151) ورأى أن الوقت قد حان لوضع "شكيمة في فم آل فوجر" (152)، وانتهى إلى راي ينذر بالويل في رسالة عاصفة عنوانها: "عن التجارة والربا" (1524):
"ينبغي أن ينظر الملوك والأمراء إلى هذه الأشياء وأن يحرموها بمقتضى قوانين صارمة، ولكني أسمع أن لهم مصلحة فيها وهكذا يتحقق قول إشعيا: "لقد أصبح الأمراء رفاقاً للصوص" وأنهم ليشنقون اللصوص الذين سرقوا جولدن أو نصف جولدن ولكنهم يتاجرون مع مَن يسلبون العالم بأسره ...(24/70)
وهكذا يشنق اللصوص الكبار صغارهم؛ وكما قال كاتو عضو الشيوخ الروماني: "الأغرار من اللصوص يزج بهم في السجن ويطرحون لآلات التعذيب بينما يسير اللصوص المعروفون للناس في الخارج يرفلون في الحرير ويتحلون بالذهب". ولكن ما هو حكم الله على هذا في آخر الأمر؟ إنه سوف يفعل ما يقوله لحزقيال: أمراء وتجار، لص مع آخر لسوف يصهرهم الله معاً كما يصهر الرصاص والنحاس أو كما تحترق مدينة؛ فبالمثل لن يكون هناك أمراء ولا تجار بعد هذا. وفي هذه المرة أخشى أن يكون هذا على الباب" (153).
وقد كان.(24/71)
الفصل السابع عشر
الثورة الاجتماعية
1522 - 1536
1 - الثورة الصاعدة
لقد كان الفرسان المسغبون ينتظرون في صبر نافد فرصة مواتية للثورة على الأمراء والبطارقة والممولين. وكان شارل الخامس بعيداً عن البلاد في أسبانيا عام 1522، وفرق سيكينجن ينتابها القلق بسبب تعطلها عن العمل، وكانت الأراضي الغنية التي تمتلكها الكنيسة مباحة ويمكن الاستيلاء عليها بسهولة. وكان هوتن يدعوا للعمل، وكان لوثر قد دعا الشعب الألماني إلى تطهير الأرض من مضطهديه.
وفي الثالث عشر من أغسطس وقد عدد من الفرسان في لاندوا تعهداً بالعمل الموحد، وحاصر سيكينجن مدينة تريز وقذفها بمنشورات تحرض الناس على الانضمام إليه لخلع كبير الأساقفة الحاكم، ولكنهم لم يحركوا ساكناً، وجمع كبير الأساقفة فرقاً، وقادها بنفسه، ثم قام بخمس هجمات مضادة، فرفع سيكينجن الحصار عن المدينة وتراجع إلى قلعته في لاندوشتول. وهاجم كبير الأساقفة القلعة بعنف، وأصيب سيكينجن بجرح قاتل وهو يدافع عنها، ثم استسلم في اليوم السادس من مايو عام 1523 ومات في اليوم السابع من مايو. وخضع الفرسان للأمراء وسرحوا الجنود العاملين بجيوشهم الخاصة وتشبثوا في قسوة يائسة بالضرائب الإقطاعية المفروضة على الفلاحين التي كانوا يعتمدون عليها في معاشهم.(24/72)
وتنبأ لوثر بهذا التصدع فتنصل من الثورة قبل فوات الأوان (19 ديسمبر سنة 1522) واستمر نجمه في صعود. وكتب الأرشيدوق فرديناند لأخيه الإمبراطور (1522) "غن قضية لوثر تمتد جذورها عميقة في الإمبراطوريّة بأسرها إلى حد أنه ليس هناك شخص واحد من كل ألف في عصمة منها" (1). وكان الرهبان والقساوسة يقبلون زرافات إلى مذبح الزوجية الجديد. وترددت في كنيستي لورنز وزيبالدوس بنورمبرج "كلمة الله" - وهي العبارة التي أطلقها المصلحون على عقيدة تقوم على الكتاب المقدس فحسب. وأخذ الوعاض الإنجيليون ينتقلون بحرية في أرجاء شمالي ألمانيا ويستولون على منابر قديمة ويشيدون منابر جديدة، ولم ينددوا بالبابوات والأساقفة باعتبارهم "خدماً للشيطان" فحسب، ولكنهم نددوا أيضاً بالسادة الزمنيين باعتبارهم "مستبدين ظالمين" (2). ومهما يكن من أمر فإن السادة الزمنيين كانوا هم أنفسهم ممن اهتدوا بهدى العقيدة الجديدة: فيليب الهسي وكازيمير البراندنبرجي وأولريخ الفيرتيمبرجي وأرنست اللينيبرجي وجو صاحب ساكسونيا. بل إن إيزابيلا شقيقة الإمبراطور كانت من أتباع لوثر.
وكان الأستاذ القديم لشارل قد أصبح الآن البابا أدريان السادس (1521) فأرسل إلى مجلس النواب في نورمبرج (1522) طلباً بالقبض على لوثر واعترافاً صادقاً بالأخطاء التي تردت فيها الكنيسة: "إننا نعلم تمام العلم أن أموراً كثيرة تستحق المقت قد تجمعت حول منصب البابا منذ سنين عديدة. وقد أسيء استخدام الأشياء المقدسة واعتدي على القوانين حتى إنه في كل شيء كان هناك تغيير إلى الأسوأ، فلا عجب إذا كان المرض قد زحف من الرأس إلى الأعضاء، من البابوات إلى مَن يلونهم في المناصب. لقد حِدْنا نحن جميعاً، من البطارقة ورجال الدين، عن الطريق المستقيم، ومنذ عهد بعيد لم يعمل واحد منا عملاً صالحاً، لا أحد بتاتاً ... ولذلك ... فإننا سوف نبذل كل ما في طاقتنا من جهد لإصلاح المحكمة الرومانية قبل(24/73)
كل شيء آخر، وهي التي ربما كانت سبباً في كل هذه الشرور ... إن العالم بأسره يتوق إلى مثل هذا الإصلاح" (3).
ووافق المجلس على أن يطلب من الأمير المختار فردريك كبح جماح لوثر، ولكنه تساءل لماذا يجب أن يدان لوثر لأنه أشار إلى المظالم التي ارتكبها رجال الدين والتي أيدتها السلطات وقت ذلك. وعندما وجد المجلس أن اعتراف البابا ليس فيه ما يكفي من التفاصيل أرسل له قائمة خاصة ضمنها مائة مظلمة من ألمانيا ضد الكنيسة واقترح أن ينظر بعين الاعتبار إلى هذه الشكاوى، وعلاجها بواسطة مجلس وطني يعقد في ألمانيا برئاسة الإمبراطور.
واستمع المجلس النيابي نفسه، وكانت تغلب عليه طائفة النبلاء، في عطف إلى الاتهامات الموجهة ضد الاحتكاريين بأنهم يثيرون على حساب الشعب وكتبت إحدى اللجان إلى المُدن الكبرى في ألمانيا تطلب منها إبداء رأيها فيما إذا كانت الاحتكارات ضارة وهل يجب تنظيمها أو القضاء عليها. وردت مدينة أولم بأنها شر مستطير وأن المؤسسات التجارية يجب أن تكون مقصورة على الأب وابنه وزوج ابنته، أما أوجسبورج موطن آل فوجر فأنها قدمت دفاعاً كلاسياً عن المشروعات التجارية الكبيرة وحرية التجارة وعن الأرامل والأيتام:
"إن العالم المسيحي (أم ينبغي أن نقول العالم بأسره؟) غني بسبب العمل، وكلما اتسع حجم العمل في بلد ما ازداد رخاء شعبه ... وحيث يكثر عدد التجار تزداد فرص العمل ... ومن المستحيل تحديد حجم الشركات ... فكلما اتسع حجم معاملاتها وازداد عددها كان هذا خيراً لكل إنسان. وإذا لم يكن للتاجر مطلق الحرية في القيام بأعماله في ألمانيا فإنه سوف ينطلق إلى مكان آخر فتخسر ألمانيا ... وإذا لم يستطع القيام بالعمل بعد أن يتجاوز قدراً معيناً فماذا هو صانع فائض أمواله؟ ... من الخير أن يترك التاجر وشأنه، وألا توضع أية قيود على مقدرته أو على رأس ماله،(24/74)
إن بعض الناس يتحدثون عن تحديد طاقة الربح في الاستثمارات. وهذا سوف ... يؤدي إلى ظلم فادح وضرر بالغ بإبعاد معاش الأرامل والأيتام وبقية المعذبين الذين يستمدون دخلهم من الاستثمارات في هذه الشركات" (4).
وأصدر المجلس النيابي تشريعاً بألا يزيد رأسمال الشركات عن 50000 جيلدر وإلزامها بتوزيع الأرباح كل سنتين وتقديم حساب علني، وألا يُقرض المال بفوائد ربوية، وألا يشتري تاجر أكثر من قدر معيّن من أية سلعة في أي فصل من فصول السنة، وأن تحدد الأسعار بمقتضى القانون. واستعان التجار بشارل الخامس فأيدهم لأسباب سبق بيانها. ولما كان كثير من حكام المُدن يشاطرون في أرباح الاحتكارات فإن مراسيم نورمبرج سرعان ما أصبحت حبراً على ورق.
وأرسل كليمنت السابع، البابا الجديد، إلى جلسة تالية للمجلس النيابي (يناير عام 1524) الكاردينال لورزو كامبيجيو ومعه مطالب جديدة بالقبض على لوثر، وسخرت الجماهير من القاصد الرسولي في أوجسبورج واضطر إلى دخول نورمبرج سراً حتى يتجنب المظاهرات المعادية، وكان من حظه الإذلال عندما رأى 3000 شخص من بينهم شقيقة الإمبراطور يتلقون القربان المقدس بكلا نوعيه من راعٍ من أتباع لوثر. فحذر المجلس النيابي من أن الثورة الدينية إذا لم تقمع في مهدها فإنها سوف تقوض دعائم السلطة المدنية وتهدم النظام، ولكن المجلس النيابي رد عليه بأن أية محاولة لقمع الحركة اللوثرية بالقوة سوف تنتهي بـ "ثورة وعصيان ومذبحة ... ودمار شامل" (5) وبينما كانت تدور المداولات بدأت الثورة.
2 - حرب الفلاحين
1524 - 1526
أتاحت الثورة الدينية الكادحين في الحقول أيديولوجية تستهوي الأفئدة(24/75)
وتعبر عن مطالبهم بالحصول على نصيب أكبر في رخاء ألمانيا المتزايد. يضاف إلى هذا أن الشدائد التي كانت قد حفزت أهل الريف للقيام بأثنتي عشرة ثورة مازالت تثير إلى حد ما في ذهن الفلاح اضطرباً، والحق أن هذا الاضطراب المحموم ازداد شدة في الوقت الذي تحدى فيه لوثر الكنيسة وانتهر الأمراء وحطم سدود النظام والرهبة، وجعل من كل إنسان قساً وأعلن حرية الإنسان المسيحي. وكانت الكنيسة والدولة في هذا العهد بألمانيا مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً - وكان رجال الدين يلعبون دوراً كبيراً في النظام الاجتماعي والإدارة المدنية - إلى حد أن تقويض ما يتمتع به رجال الدين من هيبة وسلطان قد أزال أكبر عائق للثورة. وقد استمر والولدانيون والبغارديون وإخوة الحياة المشتركة في تقليد قديم يذهب إلى تأسيس آراء متطرفة من نصوص وردت بالكتاب المقدس. وكان تداول العهد الجديد مطبوعاً لطمة لطبقة المحافظين من رجال الساسة والدين ذلك لأنه فضح ما قام به رجال الدين من تراضٍ مع طبيعة الإنسان وطرق العيش في الدنيا كما كشف عن شيوعية الرسل وعطف المسيح على الفقراء والمضطهدين.
وكان العهد الجديد في هذه الأمور بمثابة "بيان شيوعي" حقيقي بالنسبة للمتطرفين في هذا العصر. ووجد فيه الفلاحون وطبقة الكادحين على السواء ضماناً إلهياً لكي يحلموا بمدينة فاضلة (يوتوبيا) تلغى فيها الملكية الخاصة ويرث فيها الفقراء الأرض.
وفي عام 1521 وزع في ألمانيا كتيب عنوانه karsthans أي جون المذراة، وقد ضمن الحماية للوثر هذا "الرجل ذو الفأس" والقلم، ونشر في العام نفسه ملحق يدافع عن قيام أهل الريف بانتفاضة ضد الكثالكة من رجال الدين (6) وطالب ينهانس إبرلين في كتيب آخر صدر عام 1521 بالتصويت العام للذكور، وبتبعية كل حاكم وكل موظف للمجالس الشعبية المنتخبة، وبإلغاء كل المؤسسات الرأسمالية، وبالعودة إلى تحديد أثمان(24/76)
الخبز والنبيذ كما كانت في القرون الوسطى، وبتعليم كل الأطفال اللاتينية واليونانية والعبرية والفلك والطب (7).
وصدر عام 1522 كتيب عنوانه "احتياجات الأمة الألمانية" نسب زوراً إلى الإمبراطور فردريك الثالث المتوفى ودعا إلى إلغاء "كل المكوس والرائب وجوازات السفر والغرامات" وإلغاء القانون الروماني والقانون الكنسي وتحديد حجم العمل في المؤسسات برأسمال قدره 10000 جيلدر وباستبعاد رجال الدين من الحكومة المدنية وبتصفية ثروة الأديرة وتوزيع المبالغ المحصلة على الفقراء (8). وأعلن أوتوبر ونفيلز (1524) أن دفع ضرائب العشور إلى رجال الدين أمر مخالف لما جاء بالعهد الجديد. ومزج الوعاظ الإنجيلية البروتستانتية بالآمال اليوتوبية، وكشف أحدهم أن الجنة مفتوحة الأبواب للفلاحين ومغلقة في وجوه الأشراف ورجال الدين، ونصح آخر الفلاحين بأن يكفوا عن إعطاء المال للقساوسة أو الرهبان، وأشار منتس وكارلشتادت وهوبماير على مستمعيهم بأن "المزارعين والعاملين بالمناجم ودارسي الحنطة يفهمون نصن الإنجيل وفي وسعهم أن يعلّموها للناس خيراً من قرية بأسرها ... من الرهبان والقساوسة ... أو المتفقهين في اللاهوت"، وأرد كارلشتادت يقول: "بل وخيراً من لوثر" (9). وتنبأت التقاويم وطائفة المنجمين بقيام ثورة عام 1524 وكأنها كانت بهذا تعطي إشارة البدء في العمل. ومما يذكر أن يوهانس كوكلايوس وهو عالم إنسانيات كاثوليكي حذر لوثر عام 1523 بأن "عامة الناس في المُدن والفلاحين في الأقاليم سوف يقومون لا محالة بثورة ... إذ سممت أفكارهم الكتيبات والخطب التي لا تحصى والحافلة بالسباب والتي نشرت أو أعلنت بينهم بفصاحة وإطناب ضد السلطة البابوية والسلطة الزمنية على السواء" (10). ولكن لوثر والوعاظ ومؤلفي الكتيبات لم يكونوا السبب في الثورة لأن الأسباب إنما تكمن بحق في المظالم التي حاقت بطبقة الفلاحين، وإن كان من الممكن أن يقال إن إنجيل لوثر وأتباعه المتطرفين قد "صبوا الزيت على(24/77)
اللهب" (11) وحولوا استياء المضطهدين إلى أوهام يوتوبية وإلى عنف لم يكن في الحسبان وإلى انتقام شديد.
وتشبث سلوك توماس منتسر بكل إثارة حفل بها العصر، فما أن عين واعظاً في آلشتدت (1522) حتى طالب بإبادة الكفار - أي الأرثوذكس أو المحافظين - بحد السيف وقال: "إن الكفار لا حق لهم في العيش إلا بقدر ما تسمح لهم بهذا الصفوة" (12). واقترح على الأمراء أن يقودوا الشعب في ثورة شيوعية ضد رجال الدين والرأسماليين وعندما لم يظهر الأمراء أنهم أهل لانتهاز هذه الفرصة استنفر الناس لقلب الأمراء أيضاً "ولكي يقيموا مجتمعاً مهذباً كالمجتمع الذي كان يفكر فيه أفلاطون ... وأبيليوس مؤلف "الحمار الذهبي" (13) وكتب يقول: "إن كل الأشياء على المشاع ويجب أن توزع حسب ما تقتضيه الحاجة وطبقاً للاحتياجات العديدة للجميع. وأي أمير أو كونت أو بارون يرغب عن قبول هذه الحقيقة بعد تذكيره بها في حزم يجب أن تقطع رأسه أو يشنق" (14). وتسامح الأمير المختار فردريك في هذا الإنجيل وعدّه من قبيل الهزل، ولكن أخاه الدوق جون وابن عمه الدوق جورج إنضما في الرأي إلى لوثر بضرورة إقصاء منتسر عن وظيفته كراعي أبرشية (1524) وأخذ الرسول الحانق يضرب في الأرض وينتقل من مدينة إلى مدينة ويعلن خلاص "إسرائيل" وقرب ظهور مملكة الرب على الأرض (15).
ووجد في مدينة ميلهاوزن الحرة في نورينجيا مناخاً سياسياً لطيفاً. فهناك جمعت صناعة النسيج عدداً كبيراً من طبقة الكادحين، وكان هينريخ بفيفر، وهو راهب سابق، قد بدأ هناك حركة لانتزاع المجلس البلدي من أيدي الأقلية من الأشراف. وبشر منتسر ببرنامجه المتطرف عمال المدينة وطبقة الفلاحين في المناطق المجاورة، وفي يوم 17 من مارس عام 1525 خلع أتباع بفيفر ومنتسر المسلحون الأشراف وأقاموا "مجلساً دائماً" ليحكم ميلهاوزن.(24/78)
وطبقاً لما يقوله ميلانكتون طرد المتطرفون المظفرون الرهبان وجردوا الكنيسة من أملاكها (16)، ومهما يكن من أمر فلم يكن من المستطاع الوثوق بعالم من علماء اللاهوت في هذا العصر، ليقدم بلا تحيز تقريراً عن أعمال الخصوم ووجهات نظرهم ولم تنشأ جامعة أمم (كومونويلث) شيوعية، وأثبت بفيفر أنه أقدر في الناحية العملية من منتسر، وطوع الثورة للوفاء بحاجات الطبقة المتوسطة. وتوقع منتسر مسبقاً مهاجمة الفرق الإمبراطورية، فنظم جيشاً من العمال والفلاحين وأعد له طائفة من رجال المدفعية الثقيلة في دير "الرهبان الحفاة" وكانت الصيحة التي أطلقها بين رجاله هي "إلى الأمام والحديد لا يزال ساخناً واجعلوا سيوفكم دائماً ساخنة بالدماء" (17).
وفي نحو هذا الوقت نفسه كانت ثورات الفلاحين تزلزل جنوب ألمانيا، ولعل عاصفة البرد الهوجاء (1524) التي قضت على كل الآمال المعقودة لجني محصول في شتيلنجن كانت بمثابة الزناد الذي أشعل نار الثورة. ولم تكن هذه المقاطعة القريبة من شافهاوزن تبعد كثيراً عن سويسرة لكي يشعر أهلها مثل الفلاحين الأشداء الذين كانوا قد حرروا أنفسهم هناك من كل شيء إلا مظاهر السلطة الإقطاعية. وفي 24 أغسطس عام 1524 جمع هانزميلر حوله بعض الفلاحين من شتيلنجن بناء على إيحاء من منتسر وكون لهم رابطة باسم "الأخوة الانجيلية" وتعهد بتحرير المزارعين في أرجاء ألمانيا، وسرعان ما انظم إليهم المستأجرون الساخطون من راهب ريخيناو أسقف كونستانس وكونتات فردينبورج مونتفورت ولوبفين وسولتس. وما أن انتهى عام 1524 حتى كان هناك حوالي 30000 فلاح مدججين بالسلاح في جنوب ألمانيا، ورفضوا دفع الضرائب التي تفرضها الدولة وضرائب العشور الكنسية والضرائب الإقطاعية وأقسموا على الظفر بالحرية أو الموت.
وفي مارس 1525 صاغ في ميمينجن مندوبوهم، بإرشاد البروتستانت من أتباع تسفينلجي أو بتأثيره، البنود الأثني عشر التي أشعلت النار في نصف ألمانيا.(24/79)
"إلى سلام القارئ المسيحي ورحمة الله من خلال المسيح".
هناك الكثيرون من المناهضين للمسيحية انتهزوا أخيراً فرصة انعقاد مجلس للفلاحين لازدراء الإنجيل قائلين أليس هذا ثمرة الإنجيل الجديد؟ وهل لابد ألا يمتثل أحد وأن يتمرد الجميع ... لقلب السادة الروحيين والزمنيين أو ربما لقتلهم؟ إن كل النقاد الكافرين والأشرار يجدون الجواب على هذه الأسئلة في البنود التالية لكي يزيلوا أولاً هذا اللوم عن كلمة الله وثانياً ليبرروا بطريقة مسيحية عدم امتثال الفلاحين بل وثورتهم.
فأولاً نعرب أن ملتمسنا وطلبنا المتواضع وأن إرادتنا ومشيئتنا جميعاً هي أن يتحقق لنا في المستقبل قوة وسلطان يهيئان لجماعة بأسرها أن تختار راعياً وأن تعينه وأن يكون لها الحق في عزله ...
ثانياً: بما أن ضريبة العشور قد نص عليها العهد القديم ووردت في العهد الجديد فإننا سوف ... ندفع ضريبة العشر من الحبوب ولكن بطريقة صحيحة ... وسوف يجمع هذه في المستقبل ويتسلمها رئيس كنيستنا الذي تعينه الجماعة ومن هذه الضريبة يجب أن يمنح الراعي ... مرتباً متواضعاً وكافياً لمعيشته هو وأسرته ... وأن يوزع الباقي على الفقراء والمحتاجين الذين يعيشون في القرية نفسها ... أما ضريبة العشر الصغيرة فلن ندفعها على الإطلاق، لأن الله قد خلق الماشية لكي ينتفع بها الناس دون قيد ...
ثالثاً: لقد جرت العادة حتى الآن على أن يعتبرنا الناس متاعاً خاصاً لهم، وهذا أمر يدعو للأسى، لأن المسيح كفّر عن سيئاتنا جميعاً وافتدى بدمه الزكي المراق الأدنياء والعظماء على السواء ... ومن ثم فإنه مما يتفق وتعاليم الكتاب المقدس أن نكون أحراراً ولسوف نحون أحراراً (هكذا) ... ونحن نخضع عن طواعية لحكامنا المختارين والمعينين (الذين عينهم لنا الله) في جميع الأمور المسيحية الصحيحة ولا تخالجنا أية ريبة في أنهم سوف يحررونا من نير العبودية أو يريننا في الإنجيل أننا أرقاء ...(24/80)
سادساً: أن لنا شكوى مريرة بسبب الخدمات التي تتزايد من يوم إلى آخر ...
ثامناً: لقد لحق بنا ضرر بليغ لأن الكثيرين منا مستأجرون أراضي لا تكفي غلتها لسداد قيمة ما ندفعه من إيجار لها ولأن الفلاحين يتعرضون للخسارة والخراب. فليدع السادة أناساً من الشرفاء يفحصون الأراضي المستأجرة المذكورة ويحددون الإيجار العادل ... لأن كل عامل يستحق أجره ...
عاشراً: لقد أصبنا بضرر بالغ لأن البعض انتزعوا لأنفسهم ملكية مراعٍ من الحقول المشاعة والتي كانت يوماً ملكاً للجماعة ...
حادي عشر: سوف نعمل على إلغاء الضرائب المفروضة على الوفاء إلغاءً تاماً. ولن نتحملها ولن نسمح بنهب أموال الأرامل والأيتام على هذا النحو المخجل.
ثاني عشر: إذا تبين لنا أن ثمة خطأ في بند أو أكثر من البنود الموضحة بفضل كلمة الله فإننا نتراجع عنها إذا أيدت لنا هذا أدلة من الكتاب المقدس (18).
وتشجع زعماء الفلاحين بتصريحات لوثر نصف الثورية وبعثوا إليه بنسخة من البنود وطلبوا منه أن يناصرهم، فرد عليهم بكتيب نشر في أبريل عام 1525 وعنوانه: "تنبيه إلى السلام" وأثنى على عرض الفلاحين بالخضوع لأي قصاص ينص عليه الكتاب المقدس وتعرض للاتهامات التي وجهت وقتذاك إلى خطبه ومقالاته بأنها قد أشعلت نار الثورة فأنكر مسئوليته عنها وأشار إلى أنه كان يحث الناس على الخضوع للسلطة الدينية ولكنه لم يسحب نقده للطبقة الحاكمة وقال:
"لا يوجد على ظهر البسيطة مَن نشكره على هذه الثورة الخبيثة إلا أنتم أيها الأمراء والسادة، وبخاصة أنتم أيها الأساقفة العميان والقساوسة والرهبان(24/81)
المجانين يا مَن قست قلوبكم على الإنجيل المقدس رغم أنكم تعلمون أن ما جاء به صحيح وأنكم لا تستطيعون أن تدحضوه. وفضلاً عن هذا فإنكم في حكومتكم الزمنية لم تفعلوا شيئاً إلا التنكيل برعاياكم وسلب أموالهم لكي تنعموا بعيشة رغدة ترضي كبرياءكم. لقد فاضت الكأس حتى لم يعد الفقراء من عامة الناس يتحملون أكثر من ذلك. وإذن ما دمتم السبب في سخط الله فإن غضبه تعالى سوف يحيق بكم لا محالة إذا لم تصلحوا من وسائلكم في الوقت المناسب.
إن الفلاحين يحشدون قواهم ولابد أن يؤدي هذا إلى خراب ألمانيا ودمارها وتحطيمها بقتل الناس في قسوة وسفك الدماء ما لم يقبل الله توبتنا ويجنبنا هذا المصير (19).
ونصح الأمراء والسادة الإقطاعيين بأن يعترفوا بعدالة كثير من البنود وحثهم على انتهاج سياسة تتسم بالرأفة، ووجه إلى الفلاحين خطاباً صريحاً أقر فيه بما أصابهم من أضرار، ولكنه توسل إليهم أن يحجموا عن استخدام العنف وعن الانتقام، وتنبأ بقوله إن الالتجاء إلى العنف سوف يترك الفلاحين في وضع أسوأ مما كانوا فيه من قبل. وتنبأ أيضاً بأن أي ثورة سوف تصم بالعار حركة الإصلاح الديني وأنه سوف يلام على كل شيء. وعارض استيلاء كل أبرشية على ضرائب العشور وقال إنه يجب على الناس الخضوع للسلطات إذ أن لها الحق في فرض ما تراه من ضرائب لمواجهة نفقات الحكومة وأن حرية الرجل المسيحي يجب أن تفهم على أنها حرية روحية لا تتعارض مع العبودية بل ولا الرق. وقال:
ألم يتخذ إبراهيم وأبناؤه الآخرون والأنبياء عبيداً؟ اقرأ ما يعلمه لنا القدّيس بولس عن الخدم الذين كانوا جميعاً أرقاء في ذلك العهد ... ومن ثم فإن بندكم الثالث لا يسري على الإنجيل فهذه المادة تساوي بين الناس جميعاً وهذا مستحيل، ذلك لأن مملكة دنيوية لا تستطيع أن تقف على قدميها(24/82)
ما لم تكن هناك درجات متفاوتة بين الأشخاص بحيث يكون البعض منهم أحراراً والبعض مسجونين والبعض سادة والآخرون رعايا (20).
ولو اتبعت نصيحته الأخيرة لجنبت ألمانيا كثيراً من سفك الدماء والدمار:
"تخيروا من الأشراف بعض الكونتات واللوردات ومن المُدن بعض أعضاء المجلس وعالجوا هذه الأمور واحسموها بطريقة ودية. وأنتم أيها السادة تخلوا عن عنادكم واقلعوا قليلاً عن طغيانكم واضطهادكم حتى يتنفس الفقراء من الناس ويجدوا متسعاً للعيش. وعلى الفلاحين بدورهم أن يعلموا أنفسهم وأن يتخلوا عن بعض المطالب التي تدق على فهمهم وترتفع عن مستوى إدراكهم" (21).
ومهما يكن من أمر فإن زعماء الفلاحين شعروا بأن الأوان قد فات للتراجع عما اعتزموه لأنهم سيتعرضون للعقاب عاجلاً أو آجلاً في أية مصالحة. وأحزنهم هذا التحول من لوثر وعدّوه خائناً واستمروا في الثورة. وتشبث بعضهم حرفياً بحلم المساواة: كان على الأشراف أن يجردوا قلاعهم من السلاح ويعيشوا كما يعيش الفلاحون وأوساط الناس وكان عليهم أن يكفوا عن امتطاء صهوات الجياد لأن هذا يرفعهم فوق مصاف أتباعهم. وكان لابد من إبلاغ القساوسة أنهم منذ ذلك الوقت خدم لرعايا أبرشياتهم لا سادة لهم وأنهم سوف يُطردون إذا لم يتشبثوا بنصوص الكتب المقدس فحسب (22). وانهالت المطالب بالبريد من العمال في المُدن، ونددت باحتكار الأغنياء للوظائف في المدينة، وباختلاس الموظفين المنحرفين للأموال العامة وبارتفاع الأسعار الدائم في الوقت الذي ظلّت فيه الأجور ثابتة لا تتغير. وقال أحد المتطرفين لسوف يكون من الخير لخلاص الروح ألا يكون البطارقة على هذه الدرجة من الثراء وألا يعيشوا في مثل هذه الرفاهية وأن تقسم أملاكهم على الفقراء. واقترح فندل هبلر وفردريك فايجانت تصفية(24/83)
كل أملاك الكنيسة للوفاء بالحاجات الدنيوية وأن تُلغى كل الرسوم للنقل والرسوم الجمركية وألا يُستخدم في كل أنحاء أوروبا إلا نوع واحد من السكة ونظام واحد من الأوزان والمكاييل (24).
وكان يتزعم هذه الحركة زعماء مختلفو المشارب: كان هناك إثنان من أصحاب الحانات هما جورج ميتزلر وميترن فويرباخر، وكان هناك جيكلاين رورباخ الخراط الطروب، وبعض قدامى الجنود والقساوسة السابقين وفارسان من عصبة سيكنجن المهزومة - فلوريان جيير وجيتزفون برليخنجن "ذو اليد الحديدية" وشاء القدر أن يقع اختيار هاوبتمان وجيته فيما بعد على هذين الرجلين فجعلا منهما بطلين لمسرحيات شائقة. وكان كل زعيم مطلق السلطان بين جماعته، وقلما كان يوفق بين عمله وعمل الآخرين، ومع ذلك فإن الثورة اشتعلت في ربيع عام 1525 في اثنتي عشرة منطقة متفرقة في نفس الوقت، واستولت جماعة من العمال على السلطة الإدارية في البلدية في هايلبرون وروتنبرج وفيرتسبورج، وأعلنت حكومة الكومون الظافرة في فرانكفورت على الماين أنها سوف تمثل منذ ذاك سلطة المجلس البلدي والعمدة والبابا والإمبراطور مجتمعين. وفي روثنبورج طرد القساوسة من الكاتدرائية وحطمت التماثيل الدينية وهدمت بيعة وسويت بالأرض (27 مارس سنة 1525) وأفرغ الناس مخازن النبيذ التي يملكها رجال الدين وهم منتشون بخمر النصر (25). وتخلت المُدن الخاضعة للسادة الإقطاعيين عن ولائها لهم ونادت المُدن الخاضعة للأساقفة بإنهاء امتيازات رجال الدين، وثارت غضباً مطالبة بتخصيص أملاك رجال الدين للأغراض الدنيوية، وانضمت دوقية فرانكونيا بأسرها تقريباً إلى الثورة. وأقسم كثير من السادة والأساقفة ممن لم يستعدوا للمقاومة، أنهم يقبلون المطلوبة منهم، وذلك من أمثال أساقفة سبيير وبامبرج ورهبان دير كمبتين ودير هرتسفيلد واعتنق الكونت ويليام الهنييرجي أرقاءه واستدعى الكونت جورج والكونت ألبرخت(24/84)
الهوهنلوهي للمثول أمام زعماء الفلاحين للانخراط في سلك الهيئة الجديدة وقالوا: "تعال هنا أيها الأخ جورج والأخ ألبرخت واقسما للفلاحين أن تكونا لهم كإخوة لأنكما لم تعودا الآن سيدين بل أصبحتما فلاحين" (26). واستقبلت معظم المُدن ثورات أهالي الريف بترحيب قلبي، وأيد الثورة كثير من رجال الدين من الرتب الدنيا الذين كانوا يمقتون السلطة الكهنوتية، ووقعت أول مواجهة خطيرة في لايبهايم على نهر الدانوب قرب أولم (4 أبريل سنة 1525) إذ استولى على المدينة 3000 فلاح تحت لواء قسيس ناشط هو جاكوب فيهى واحتسوا كل ما عثروا عليه من نبيذ ونهبوا الكنيسة وحطموا الأرغن وصنعوا لأنفسهم طزالق من الثياب الكهنوتية وبايعوا في سخرية واحداً من جمعهم أُجلس على المذبح، وارتدى مسوح قسيس (27). وقام بحصار لابهايم جيش من الجنود المرتزقة استأجرته العصبة السوابية ويقوده جورج فون تروخسيس وهو قائد قدير، وأفزع الفلاحين غير المدربين فاستسلموا وقطعت رؤوس فيها وأربعة من الزعماء الآخرين. أما الباقون فقد عفت العصبة عنهم، وإن كانت فرقها قد أحرقت كثيراً من أكواخ الفلاحين.
وفي يوم الجمعة الحزينة 15 أبريل سنة 1525 قام بحصار مدينة فايتسبرج (قرب هايلبرون) ثلاثة من جماعات الثوار تحت قيادة متسلرجيير ورورباخ، وكان يحكم هذه المدينة الكونت لودفيج فون هلفشتاين الذي كان يمقته الناس بسبب قسوته وشدته. واقترب من الأسوار وفد من الفلاحين وطلب المفاوضة فقام الكونت وفرسانه بهجوم مفاجئ وذبحوا كل أعضاء الوفد. وفي يوم الأحد الموافق لعيد الفصح اقتحم المهاجمون الأسوار بمساعدة بعض أهالي المدينة ومزقوا أجساد الأربعين رجلاً المدججين بالسلاح، والذين اهتموا بالمقاومة وأسر الكونت وزوجته (وهي ابنة الإمبراطور الراحل ماكسمليان) وستة عشر فارساً، وأصدر رورباخ، دون مشاورة متسلر(24/85)
أو جيير، أمراً للسبعة عشر رجلاً بالمرور بين صفين من الفلاحين المسلحين بالحراب لتأديبهم، وعرض الكونت أن يقدم كل أمواله فدية لهم ولكن هذا العرض رفض كوسيلة مؤقتة، وتوسلت إليه الكونتيسة في تذلل محموم أن يبقي على حياة زوجها ولكن رورباخ أمر اثنين من رجاله بأن يسنداها حتى تشهد نشوة الانتقام. وبينما كان الكونت يسير إلى حتفه وصل وابل من الخناجر والرماح ذكره الفلاحون بما ارتكب من أعمال وحشية وصاح أحدهم: "لقد ألقيت بأخي في غياهب اسجن لأنه لم يرفع قبعته من على رأسه وأنت تمر به". وصرخ آخرون: "لقد سخرتنا كالثيران في نير العبودية ... لقد قطعت يدي والدي لأنه قتل أرنباً في حقلك ... لقد داست خيولك وكلابك وصيادوك محاصيلي ... لقد استنزفت منا آخر بنس لدينا". وفي خلال نصف الساعة القادمة لقي الستة عشر فارساً دتفهم بالمثل. أما الكونتيسة فقد سمح لها بأن تنسحب إلى دير (28).
كانت عصابات الفلاحين تثير الشغب في كل أرجاء ألمانيا تقريباً. ونهبت الأديرة أو أكرهت على دفع مبالغ كبيرة على سبيل الفدية. ويقول بعضهم في خطاب أرسل يوم 17 أبريل عام 1525: "في كل مكان يجاهر الثائرون ... بنيتهم في قتل كل رجال الدين الذين لا يتنصلون من ولائهم للكنيسة ويعلنون عن عزمهم على تدمير كل الأديرة وقصور الأساقفة واستئصال شأفة الدين الكاثوليكي تماماً من البلاد" (29). ولعل في هذا شيئاً من المبالغة ولكن في وسعنا أن نسجل أن الثوار استولوا على كثير من المُدن وأكرهوا الأرشيدوق فرديناند على الموافقة على أن يكون الوعظ منذ ذلك الوقت طبقاً لنصوص الكتاب المقدس - وهو مطلب بروتستانتي خاص وذلك في بافاريا والنمسا والتيرول حيث لقيت البورتستانتية اضطهاداً ظاهراً. وفي ماينز فر كبير الأساقفة ألبرخت ولم يستطع مواجهة العاصفة وإن قام نائبه بإنقاذ كرسي الأسقفية وذلك بتوقيع المطالب الاثني عشر وبدفع فدية قدرها 15000 جيلدر، وفي الحادي عشر من شهر أبريل رفض أهالي مدينة(24/86)
بامبرج الاعتراف بسلطة الأسقف الإقطاعية ونهبوا قصره وأحرقوه وجردوا بيوت المحافظين من رجال الدين مما فيها وانتشرت الثورة في الألزاس انتشار النار في الهشيم، وما أن أشرف شهر أبريل على نهايته حتى أصبح كل كاثوليكي وكل ملك ثري في المقاطعة يخشى على حياته. وفي الثامن والعشرين من شهر أبريل هاجم جيش عدته 20000 من الفلاحين زايرن مقر أسقف ستراسبورج ونهبوا ديره وفي يوم 13 مايو استولوا على المدينة وأجبروا كل رجل رابع على الانضمام إليهم ورفضوا دفع كل ضرائب العشور وطالبوا بانتخاب جميع الموظفين فيما بعد عدا الإمبراطور عن طريق الاقتراع الشعبي وبأن يكونوا عرضة للعزل (30).
وفي بريكسين بالتيرول نظم ميكائيل جاسماير، وهو سكرتير سابق للأسقفية، ثورة هاجمت كل رجال الدين المحافظين ونهبت الدير المحلي (12 مايو) وظلّت عاماً تهدد الأمن، ولا يستطيع أحد قمعها. ويقول أحد المؤرخين في هذا العهد ممن كانوا لا يتعاطفون مع الثوار إنه في جميع أودية نهري اين واتش كانت هناك - جماهير غفيرة وصراخ وهرج شديدان وكان من الصعب على أي إنسان صالح أن يسير في الطرقات وقال إن السلب والنهب أصبحا شائعين إلى الحد الذي كان فيه الأتقياء يشعرون بالإغراء للاشتراك فيهما" (31). وفي فرايبورج - أم - برايسجاو نهب الفلاحون القلاع والأديرة وأكرهوا المدينة على الانضمام إلى "الاخوة الانجيلية"، (24 مايو) وفي الشهر نفسه أقصت عصابة من الفلاحين أسقف فيرتسبورج عن قصره وأقاموا وليمة بما عثروا عليه في مخازنه. وفي شهر يونيو أقي ماتياس لانج كبير الأساقفة المعروف بحبه للقتال من قصره إلى قلعته التي تشرف على المدينة، وفي نيوشتادت في البلاتينيت دعا الأمير المختار لودفيج زعماء الفلاحين للعشاء بعد أن أحاط به 8000 منهم واستجاب لمطالبهم دون امتعاض (32).
وفي هذا قال أحد المعاصرين: "ها نحن أولاء نرى أهالي القرى وسيدهم(24/87)
يجلسون جنباً إلى جنب ويأكلون ويشربون معاً ويبدو أنه يكن لهم مشاعر الود وأنهم يبادلونه هذا الشعور.
وفي وسط هذا السيل من الأحداث أصدر لوثر من مطبعة فيتنبرج نحو منتصف مايو عام 1525 كتيباً عنوانه: "معارضة لجموع الفلاحين التي تقوم بالسلب والقتل". وأفزعت لهجته الحادة الأمير والفلاح والأسقف وعالم الإنسانيات على السواء فقد راعَ لوثر تزايد العصاة الساخطين وخشي وقوع انقلاب ضد كل سلطة شرعية وحكومة في ألمانيا وآلمته الاتهامات التي تقول إن تعاليمه الخاصة قد أطلقت الفيضان من عقاله فتحول وقتذاك دون تحفظ إلى جانب السادة المعرضين للخطر وقال: "لم أجسر في كتاب سابق على الحكم على الفلاحين لأنهم عرضوا أن يسلكوا الطريق المستقيم وأن يتعلموا ... ولكن قبل أن أتطلع حولي تناسوا ما عرضوه وعمدوا إلى العنف وقاموا بالسلب والنهب واسلموا قيادهم إلى الهياج وتصرفوا كالكلاب المسعورة ... إن ما يقومون به من عمل الشيطان بل إنه بصفة خاصة من عمل إبليس (منتسر) الذي يحكم في ميلهاوزن ... يجب أن أبدأ بوضع خطاياهم أمام أعينهم ... ثم يجب أن أعلم الحكام كيف يسوسون أنفسهم في هذه الظروف ...
إن أي إنسان يمكن إثبات شغبه يعد خارجاً على سنة الله وقانون الإمبراطوريّة ومن ثم فإن أول مَن يقتله ويفعل خيراً ولا يرتكب إثماً ... ذلك لأن الثورة تأتي معها بأرض مليئة بالقتل وسفك الدماء وترمل النساء وتيتم الأطفال وتقلب كل شيء رأساً على عقب ... ولهذا دعوا أي إنسان يستطيع أن يقتل ويذبح ويطعن، سراً وعلناً، وضعوا نصب أعينكم أنه لا شيء أكثر فتكاً أو ضرراً أو خبثاً من الثورة ... إن هذا لا يختلف عن حالة المرء الذي يجد نفسه مضطراً إلى قتل كلب مسعور وإذا لم تضربه فإنه سوف يقضي عليك ومعك بلد بأسره ...
ورفض التسليم بإجازة الكتاب المقدس المزعومة للشيوع وقال: "إن(24/88)
الإنجيل لا يجعل الأمتعة على الشيوع إلا بالنسبة لمن يفعلون، بإرادتهم الحرة، ما كان الرسل والحواريون يفعلونه في الإصحاح الرابع. إنهم لم يطلبوا مثل فلاحينا المجانين في سورة غضبهم عندما يطالبون بأن تكون أمتعة الآخرين سواء كانت لبيلاطس أم لهيرود - مشاعاً لهم وأنهم لم يطلبوا تطبيق هذا إلا على أمتعتهم. ومهما يكن من أمر فإن فلاحينا سوف يحصلون على أمتعة الآخرين باعتبارها مشاعاً لهم ويحتفظون بأمتعتهم لأنفسهم، فما أروع هؤلاء من مسيحيين! أعتقد أنه لم يبق الشيطان في الجحيم وان الشياطين جميعاً قد انطلقت إلى الفلاحين".
أما الحكام الكثالكة فإنه عرض عليهم غفرانه إذا قضوا على العصاة دون محاكمة. وأوصى الحكام البروتستانت بالصلاة والندم والمفاوضة ولكن إذا ظل الفلاحون على عنادهم: "عندئذ سارعوا بامتشاق الحسام لأن أي أمير أو سيد يجب أن يتذكر في هذه الحالة أنه كاهن لله وأنه أداة نقمته تعالى (الرومان 13) الذي يمتشق من اجله الحسام لضرب رقاب هؤلاء الأتباع ... وإذا كان في وسعه أن يعاقب ولا يفعل - حتى لو كان العقاب أن يستل الحياة ويسفك الدماء - فإنه يبوء بإثم كل جرائم القتل والشرور التي يرتكبها هؤلاء الأتباع ... وعندئذ على الأتباع أن يستمروا بلا اكتراث ودون أن يعذبهم الضمير في النضال كالأبطال مادامت قلوبهم تحقق بين ضلوعهم ... وإذا خطر لأحد أن هذا صعب جداً فليتذكر أن الثورة لا تحتمل وأن دمار العالم أمر متوقع في كل ساعة" (33).
وكان من سوء حظ لوثر أن تصل هذه الرسالة الغاضبة إلى قرائها في الوقت الذي بدأت فيه الطبقات المالكة في إخضاع الثورة. وتلقى المصلح ثناء لا يستحقه على الإرهاب بالقمع ومن غير المحتمل أن يكون السادة المعرضون للخطر قد تأثروا بالكتيب إذ كانوا بطبعهم يميلون إلى معاملة العصاة بقسوة تكون رادعاً لهم ولا تمحى ذكراها من أذهانهم وقد أخذوا(24/89)
بعض الوقت يعللون الفلاحين البسطاء بالوعود والأماني وبهذا أغروا الكثير من العصابات بالتفرق وفي غضون ذلك نظم السادة جيوشهم وسلحوها.
وفي ذروة الفتنة مات فردريك الأمير المختار (5 مايو عام 1525) وكان رجلاً هادئاً يؤثر السلام ويسلم بأنه هو وباقي الأمراء قد ظلموا الفلاحين ورفض أن ينضم إليهم في اتخاذ إجراءات الانتقام وترك لخلفه الدوق جون نصائح ملحة بالتزام الاعتدال، بيد أن الأمير المختار الجديد شعر بأن سياسة أخيه كانت تعتمد على اللين وهو أمر يجافي الحكمة فانضم بقواته إلى قوات هنري دوق برونزفيك وفيليب لاندجريف الهسي وزحفوا جميعاً لمهاجمة معسكر منتسر خارج ميلهاوزن. وكانت جيوش الخصوم لا تفوقهم إلا عدداً - كان كل منها يتكون من 8000 رجل من الأشداء بيد أن معظم الرجال في قوات الدوقات كانوا من الجنود المدربين، بينما كان الفلاحون، على الرغم من مدفعية منتسر البسيطة، يتسلحون بأسلحة ليست جيدة أو رديئة ويفتقرون إلى النظام ويتفشى بينهم الاضطراب بسبب ما يساورهم من رهبة بالسليقة. واعتمد منتسر على فصاحته ليقوي من عزائم الفلاحين وأمهم في الصلاة وفي ترتيل الأناشيد وأطلقت مدفعية الأمير أول ستار من نيرانها فصرعت مئات من الثوار وفر الباقون مذعورين إلى مدينة فرانكنهاوزن (15 مايو سنة 1525) وطاردهم المنتصرون وقتلوا منهم 5000 وحكم على ثلاثمائة أسير منهم بالإعدام فتشفع لهم نساؤهم والتمسوا العفو عنهم رحمة بهن، فأُجبن إلى طلبهن على شريطة أن تحطم النساء رأسي قسيسين كانا قد حرضا على الثورة وتم تنفيذ هذا بينما كان الدوقات المنتصرون يرقبون هذا المشهد (34). واختفى منتسر ثم قبض عليه وعذب حتى أقر بخطأ وسائله ثم قطع رأسه أمام القادة والأمراء ودافع بفيفر ومعه 1200 جندي عن مدينة ميلهاوزن ولكنهم غلبوا على أمرهم، وأُعدم بفيفر وباقي القواد أما المواطنون فقد نالوا العفو على أن يدفعوا فدية إجمالية قدها 40. 000 جيلدر (1. 000. 000 دولار؟).(24/90)
وفي غضون ذلك استولى طروخسيس على مدينة بيبلنجن ( Boblingen) بطريقة المفاوضة وحول مدافعه من داخل أسوار المدينة وأطلقها على معسكر للثوار خارجها (12 مايو)، وأجهز فرسانه على الفلاحين الذين نجوا من نيران هذه المدفعية وقضى هذا على الثورة في فيرتمبرج. ثم تحول تروخسيس إلى فاينزبرج وأحرفها حتى سويت بالأرض وشوى في بطئ جسد جيكلاين رورباخ الذي تزعم "مذبحة فاينزبرج". ثم زحف طروخسيس ليهزم قوات الفلاحين في كينجز هوفن وأنجولشتادت هزيمة منكرة، واستولى على فيتسبورج وأطاح برؤوس واحد وثمانين من الثوار اختارهم ليكونوا عبرة للآخرين (5 يونيه). وفر فلوريان جيير من فيرتسبورج ليعيش في غياهب النسيان وظل أسطورة يرددها الناس في اعتزاز واستسلم جيتزفون برليخنجن في الوقت الملائم وعاش ليحارب مع شارل الخامس ضد الأتراك ومات على فراشه وفي قلعته بالغاً من العمر إثنين وثمانين عاماً (1526) وسقطت مدينة روثنبرج في 20 يونيه وسرعان ما تلتها مدينة ممينجن وسحقت الثورة في الألزاس بعد مصرع 2000 إلى 6000 رجل في ليبشتلين وتسابيرن ( Zabern) (17 - 18 مايو) وما أن حل يوم 27 مايو حتى كان قد قتل نحو 20. 000 فلاح في الألزاس وحدها وفي كثير من الحالات كان هواء المُدن تشيع فيه رائحة الموت (35) وأمر ماركجراف كاسينير Markograf Casimir بقطع رؤوس بعض مَن استسلم من فلاحيه وشنق البعض الآخر. وفي الحالات المخففة قطع أيديهم أو سمل عيونهم (36)، وتدخل الأمراء العقلاء في آخر الأمر في تخفيف همجية الانتقام، وفي نهاية شهر أغسطس أصدر المجلس النيابي في أوجسبورج أمراً كتابياً حث فيه على الاعتدال في توقيع العقوبات وفرض الغرامات وتساءل شريف فيلسوف قائلاً: "أين نجد فلاحين يقومون بالوفاء لأغراضنا إذا قتل كل الثوار؟ " (37).
واستمرت الثورة عاماً في النمسا وفي يناير عام 1526 أعلن ميكائيل جاسمايين في أنحاء التيرول أعظم البرامج الثورية تطرفاً وقال: "يجب القضاء(24/91)
على كل الكفار (أي غير البروتستانت) الذين يضطهدون "كلمة الله" الحقة أو يظلمون الرجل العادي. ويجب أن تزول الصور والمزارات من الكنائس وأن تتلى القداسات ويجب أن تُهدم أسوار المُدن والأبراج والحصون وألا تبقى إلا القرى وأن يتمتع جميع الناس بالمساواة. ويجب اختيار الموظفين والقضاة بالاقتراع العام الذي يشترك فيه الذكور البالغون كما يجب إيقاف دفع الإيجارات والمكوس للسادة الإقطاعيين فوراً وأن تجمع ضرائب العشور على أن تُعطى لسلطات الكنيسة التي خضعت للإصلاح الديني وللفقراء. ويجب أن تحول الأديرة إلى مستشفيات أو مدارس، أما المناجم فيجب أن تؤمم وعلى الحكومة أن تحدد الأسعار (38). وقدر لجاسمايير أن يهزم التي أرسلت لقتاله باستراتيجية ذكية، واستمر هذا الحال بعض الوقت غير الفرق أن أعداءه تفوقوا عليه أخيراً في الدهاء وفر إلى إيطاليا وأفرد الأرشيدوق فرديناند ثمناً لرأسه وفاز بالمبلغ إثنان من القتلة الإسبانيين عندما اغتالاه في غرفته ببادوا (1528).
ولم تفقد ألمانيا من الأرواح والأملاك ما فقدته في ثورة الفلاحين إلا في حرب الثلاثين عاماً. فقد هلك من الفلاحين وحدهم نحو 130. 000 في ساحة القتال أو على نطع التكفير، وتم تنفيذ حكم الإعدام في 10. 000 رجل تحت حكم العصبة السوابية. وامتلأت أعطاف جلاد تروخسيسس زهواً لأنه قتل بيديه المدربتين 1200 رجل محكوم عليه بالإعدام. أما الفلاحون أنفسهم فقد دمروا مئات القلاع والأديرة وأقفرت مئات القرى والمُدن من ساكنيها أو أصبحت خراباً بلقعاً أو فرضت عليها تعويضات باهظة، وتشرد ما يزيد على 50. 000 فلاح وأخذوا يهيمون في الطرقات العامة أو يختبئون في الغابات، وترملت آلاف النساء وتيتم الآلاف من الأطفال ولكن قلوب المحسنين لم ترق لهم، أو لعل جيوبهم كانت خاوية وكان المتمردون قد أحرقوا في كثير من الحالات المواثيق التي تسجل الضرائب المستحقة عليهم(24/92)
للسادة الإقطاعيين فحررت وثائق جديدة أحيت من جديد هذه الالتزامات وكانت في بعض الحالات أكثر رفقاً بهم وفي أحيان أخرى أكثر تشدداً عما كانت عليه من قبل ومنحت امتيازات للفلاحين في النمسا وبادن وهس أما في المناطق الأخرى فقد اشتد أزر العبودية وقدر لها أن تستمر شرق الألب حتى القرن التاسع عشر. وأجهضت بوادر الديمقراطية وقمع الحركات الفكرية واشتدت الرقابة على النشر في عهد السلطات الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء. وفقدت النزعة الإنسانية قوتها وأخلت لهجة عصر النهضة في الحياة والأدب الحب السبيل إلى اللاهوت والورع والتأمل في الموت.
واندثر الإصلاح الديني نفسه أو كاد يندثر في حرب الفلاحين. وعلى الرغم من المتنصلين من لوثر والتشهير به فغن الثورة تألقت بألوان وأفكار بروتستانتية: وكانت التطلعات الاقتصادية تغلف بعبارات أضفى عليها لوثر مسحة من القداسة ولم تكن الشيوعية إلا مجرد عودة إلى الإنجيل. وفسر شارل الخامس "الثورة" بأنها "حركة لوثرية" (39) واعتبر المحافظون نزع البروتستانت ملكية رجال الدين بمثابة أعمال ثورية تقف على قدم المساواة مع نهب الفلاحين للأديرة. وفي الجنوب جدد الأمراء والسادة الذين استبد بهم الفزع ولاءهم للكنيسة الرومانية. وفي أماكن عديدة مثل بامبرج وفيرتسبورج اعدم رجال حتى من طبقة الملاّك لأنهم اعتنقوا اللوثرية (40). وقلب الفلاحون أنفسهم ظهر المجن للإصلاح الديني وعدوه غواية وخيانة، وأطلق بعضهم على لوثر اسم "الدكتور ليجثر" أي "الدكتور الكذاب" و "المنافق صنيعة الأمراء" (41). وظل سنوات بعد الثورة لا يحظى بأي شعبية حتى انه قل ما كان يجرؤ على مغادرة فيتنبرج ولو كان هذا لكي يحضر وفاة والده على فراشه (1530). وكتب يقول (15 يونيه عام 1525) "لقد نسوا كل ما فعله الله للناس عن طريقي والآن ها هم السادة والقساوسة والفلاحون يتجمعون كلهم ضدي ويتوعدونني بالموت" (42).(24/93)
ولم يكن من شيمته أن يسلّم أو يعتذر. وفي يوم 30 مايو عام 1525 كتب إلى نيكولاس أمسد ورف يقول: "في رأيي أنه من الخير أن يُقتل الفلاحون جميعاً ولا يهلك الأمراء والحكام لأن أهل الريف امتشقوا السيف دون أن يعتصموا بسلطان إلهي" (43). وفي يوليو عام 1525 نشر "خطاباً مفتوحاً بشأن الكتاب الصعب ضد الفلاحين". وقال إن مَن ينتقدونه لا يستحقون الرد عليهم فقد كشفت انتقاداتهم أنهم ثائرون في قرارة نفوسهم مثل الفلاحين وأنهم لا يستحقون الرحمة، وقال: "ينبغي أن يأخذ الحكام بتلابيب هؤلاء الناس ويجبرونهم على إمساك ألسنتهم" (44).
"دار بخلدهم أن هذا الرد صعب جداً وأن هذا تحريف للكلام ولا يقصد به غلا تكميم أفواه الناس فإني أجيب بأن هذا صحيح، إن أي ثائر لا يستحق عناء الرد عليه لأنه لن يتقبل الجدل. والرد على مثل هذا الفم هو لكمة تدمي الأنف، إن الفلاحين لن يصيخوا السمع، ففي آذانهم وقر ويجب أن تفتح بطلقات الرصاص حتى تقفز رؤوسهم من فوق أكتافهم. إن مثل هؤلاء التلاميذ في حاجة إلى تأديب بمثل هذه العصى. إن مَن لا يستمع إلى كلمة الله عندما ترتل برفق يجب أن يستمع إلى الجلاد عندما يأتي ومعه الفأس ... أما عن الرحمة فأنا لن اسمع أو أعرف شيئاً ولكني سوف أهتم بإرادة الله التي تتضمنها كلمته ... إذا شاء جل وعلا أن يصب عليك جام نقمته وأن يحجب عنك رحمته، فيما تفيدك الرحمة؟ ألم يأثم شاؤول بإبداء الرحمة لعماليق عندما فشل في تنفيذ غضب الله كما أمر؟ وأنتم يا مَن ترفعون عقيرتكم مطالبين بالرحمة وتمتدحونها مدحاً شديداً لماذا لم تنادوا بها عندما كان الفلاحون ساخطين، يقتلون ويسرقون ويحرقون وينهبون حتى أصبح الناس يفزعون لمرآهم أو عند سماع أخبارهم؟ لماذا لم يبدوا الرحمة للأمراء والسادة الذين أرادوا أن يقضوا عليهم قضاء مبرماً؟ ".
واستطرد لوثر يقول إن الرحمة واجبة على المسيحيين في شؤونهم الخاصة،(24/94)
أما باعتبارهم من موظفي الدولة فيجب أن يراعوا العدالة أكثر من الرحمة لأن الإنسان منذ عصى آدم وحواء ربهما، فطر على الشر إلى حد أنه غدا في حاجة إلى حكومة وقوانين وعقوبات لكبح جماحه. إننا ندين بالاحترام للجماعة التي تتهددها الجريمة أكثر مما ندين للمجرمين الذين يهددون الجماعة.
"لو تحققت نيات الفلاحين فلن يكون هناك رجل شريف في مأمن منهم ولكن على كل مَن يملك فلساً أكثر من أي إنسان آخر أن يقاسي بسبب هذا. لقد بدأوا هذا الأمر وما كانوا ليتوقفوا هناك، لسوف يجلل العار النساء والأطفال ولسوف يتعودون أيضاً على قتل أحدهم الآخر، ولن يكون هناك سلام أو أمان في أي مكان. هل سمع أحد عن شيء لا يمكن كبح جماحه أكثر من غوغاء من الفلاحين عندما تمتلئ بطونهم ويملكون زمام السلطة؟ ... إن الحمار يتلقى الضربات أما الناس فيحكمون بالقوة" (45).
وقد تصدمنا اليوم عبارات لوثر المتطرفة حول حرب الفلاحين لأن النظام الاجتماعي توطد بحيث نفترض استمراره ونستطيع أن نعامل برفق هؤلاء القلائل الذين يعكرون صفوه بعنف، ولكن لوثر واجه الحقيقة القاسية وهي أن عصابات الفلاحين تحول شكاواها العادلة إلى نهب لا يفرق بين العدو والصديق وتهدد بخرق القانون وقلب الحكومة والإنتاج والتوزيع في ألمانيا. وبررت الحوادث تحذيره بأن الثورة الدينية التي خاطر من أجلها بحياته سوف تتعرض للخطر الشديد بسبب الرجعية المحافظة التي كانت مضطرة إلى أن تتبع ثورة فاشلة. وربما شعر بأنه مدين شخصياً بعض الشيء للأمراء والأشراف الذين كانوا قد أسبغوا عليه الحماية في كينبرج ورومس والفارتبورج، ولعله كان يتساءل مَن ينقذه من شارل الخامس وكليمنت السابع إذا كفت سلطة الأمراء عن حماية الإصلاح الديني، والحرية الوحيدة التي رأى إنها تستحق الكفاح من أجلها هي حرية عبادة الله والتماس الخلاص طبقاً لما يمليه ضمير المرء.(24/95)
وأية أهمية في أن يكون المرء أميراً أو عبداً في هذا الموجز للحياة الأبدية؟ إننا يجب أن نتقبل حالتنا هنا دون تذمر مرتبطين بالجسد والواجب ولكن متحررين روحياً وبرحمة الله.
ومع ذلك فقد كان للفلاحين قضية ضده إذ أنه لم يتنبأ بالثورة الاجتماعية فحسب بل قال إنها لن تسوءه وإنه سوف يحييها بابتسامة حتى لو غسل الناس أيديهم في دماء الأساقفة، ثم إنه كان قد قام بثورة أيضاً وعرض النظام الاجتماعي للخطر بل وسخر من سلطة لا تقل قداسة عن سلطة الدولة. ولم يقم بأي اعتراض على نزع السلطة الزمنية للملكية رجال الدين فكيف كان في وسع الفلاحين أن يكون لهم حظ أفضل إذا لم يلجأوا إلى القوة ما دام حق التصويت كان محرماً عليهم ومادام مضطهدوهم كانوا يلجأون إلى القوة. لقد أحس الفلاحيون أن الدين الجديد قد أضفى صفة القداسة على قضيتهم، وأثار فيهم الأمل ودفعهم إلى العمل ثم تخلى عنهم في الساعة الحاسة الحاسمة. وفي يأس غاضب اصبح بعضهم ملحداً ساخراً (46) وعاد كثيراً منهم أو من أطفالهم برعاية اليسوعيين إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. واتبع بعضهم المتطرفين الذين أدانهم لوثر وسمعوا وهم يتلون العهد الجديد دعوة إلى الشيوعية.
3 - اللامعمدانيون يجربون الشيوعية
(1534 - 1536)
لا نستطيع أن ندرك مدا الحماسة التي صاحبت الأقليات المتدينة الثائرة، في تحزبها لانقلاب واحد أو آخر من انقلابات الثورة الدينية في القرن السادس عشر، ولو أدى بها إلى الموت على الخازوق، إلا إذا لاحظنا مدى الحماسة المتأججة التي يعتنق به معاصرونا الهرطقات الاقتصادية.
وقد اتخذت أشد الوظائف الجديدة تطرفاً اسم اللامعمدانيين (المعمدين من جديد)، وذلك من إصرارها على أن التعميد، إذا تلقاه المرء في(24/96)
طفولته، يجب أن تعاد مراسيمه عند البلوغ، بل إن من الخير أن يؤجل، كما فعل يوحنا المعمدان، إلى أن يتمكن المتلقي الراشد من اعتناق العقيدة المسيحية بعلمه واختياره.
وكانت هناك طوائف انشعبت إليها هذه الطائفة. أما الذين اتبعوا هانز دنك ولودفيج هيتزر فقد أنكروا ألوهية المسيح: فهو في نظرهم ليس إلا أشد الناس ورعاً وقد كفّر عن خطايانا لا بعذابه فوق الصليب، ولكن لأنه كان قدوة لنا في حياته (47) ورفع دنك من قدر ضمير الفرد، وجعله فوق الكنيسة والدولة، بل والكتاب المقدس ذاته. واتبع معظم اللامعمدانيين منهجاً تطهرياً، يتسم بتزمت في الأخلاق، وبساطة في السلوك والزي. ولقد شجعهم رأي لوثر المتهور القائل بحرية المسيحيين، فأدانوا كل حكم يقوم على العنف واستنكروا كل مقاومة للحكومة بالعنف، ورفضوا قبول الخدمة العسكرية، على أساس أن المرء يرتكب إثماً لا شك فيه، إذا قضى على حياة إنسان. أبوا أن يحلفوا اليمين مثل المسيحيين الأوائل، ولم يستثنوا من هذا القسم يمين الولاء للأمير أو الإمبراطور. وكانت تحيتهم العادية "سلام الله عليك" وهي ترديد للتحية عند اليهود والمسلمين، وتعد التحية الرائدة للصيغة التي اتخذتها طائفة الكويكر. وفي الوقت الذي اتفق فيه لوثر وزونجلي وكالفن ونوكس مع البابوات على عبث التسامح الديني، أخذ اللامعمدانيون يبشرون به بل ويمارسونه، وكتب أحدهم وهو بالتازار هيبماير أو دفاع عنه عام 1524 (48). وأعرضوا عن الالتجاء إلى رجال الإدارة ورفع الدعاوى ... كانوا فوضويين تولستويين قبل ظهر تولستوي بثلاثة قرون، وبعد ظهر بيتر شيلتسكي بقرن كامل، ولعلهم قبسوا منه عقيدتهم. وورث بعض اللامعمدانيين، عن وعي أو غير وعي، عقيدة التابوريين البوهيميين أو الأخوان المورافيين، ونادوا بشيوعية الأمتعة (49). وإذا صدقنا ما قاله المؤرخون من الخصوم فإن قلة منهم اقترحت شيوعية(24/97)
الزوجات (50). ومهما يكن من أمر فإن الطائفة رفضت بصفة عامة أية مشاركة إجبارية في الامتعة، ودافعت عن مبدأ العون الاختياري المتبادل. وتمسكت بأن الشيوعية سوف تكون آلية وشاملة في ملكوت السماء (51).
ولقد استلهمت كل جماعات اللامعمدانيين سفر الرؤيا. وتوقع عودة المسيح المبكرة بصفة يقينية إلى الأرض. وأكد كثير من المؤمنين أنهم يعرفون موعد مجيئه. وحددوا الساعة واليوم. ومن هنا كان لابد من القضاء على كل الكفار - وهم هنا كل الناس ما عدا اللامعمدانيين - بحد سيف الرب، ولابد أن يعيش الصفوة يحفهم المجد في فردوس أرضي بلا قوانين ولا زواج. وينعمون بفيض زاخر من أطايب كل شيء (52). وعلى هذا فإن الناس الذين يحدوهم هذا الأمل سلحوا أنفسهم ضد الكدح ووحدانية الزوجة.
وظهر اللامعمدانيون لأول مرة في سويسرا. ولعل مسيحية تدعوا إلى السلام قد تسربت من ثورة الولدان في جنوب فرنسا والبيغارد في الأراضي المنخفضة، وتبنى قليل من المثقفين هنا وهناك كما في بازل فكرة إقامة مجتمع شيوعي. ولعل بعض الفقرات الشيوعية في "المدينة الفاضلة"، كما صورها مور، قد حفزت العلماء الذين تجمعوا حول أرازموس هناك، وأصبح ثلاثة من أعضاء تلك الحلقة زعماء لامعمدانيين وهم: كونراد جريبل وفيلكس مانز الزيوريخي وبالتازار هيبماير الوالد شوتي في حدود النمسا المواجهة. وفي 1524 زار مينزر والد شوت وجاء كارتشاتادت إلى زيورخ، وتكونت طائفة من اللامعمدانيين في زيورخ باسم "الروحانيين" أو "الإخوان"، وأخذت تبشر بالتعميد عند البلوغ وبمجيء المسيح، ورفضت الاعتراف بالكنيسة والدولة، واقترحت وضع نهاية لتقاضي الفائدة والضرائب وإلغاء الخدمة العسكرية وضرائب العشور وتحريم حلف اليمين.(24/98)
ولقد كان أولريخ زونجلي في ذلك الوقت يكسب إلى صفه مجلس زيورخ الكبير، ويستميله لآرائه البروتستانتية، التي تضمنت إشراف السلطات الزمنية على الدين، وناشد "الإخوان" أن يخففوا من كراهيتهم للدولة وأن يقبلوا التعميد في الطفولة، ولكنهم أبوا. واستدعاهم المجلس إلى مناظرة عامة (17 يناير سنة 1525)، وعندما فشل في تحويلهم عن آرائهم، أمر بأن يغادر المدينة آباء الأطفال الذين لم يعمّدوا. وندد اللامعمدانيون بالمجلس، وأطلقوا على زونجيلي لقب التنين العجوز، وتظاهروا في الطرقات وهم يصيحون "الويل لزيورخ! " (53). واعتقل زعمائهم ونفوا عن المدينة، وأتاح لهم هذا نشر عقائدهم، وتولى سانت - جول وابنتسيل الحركة، وأثارت هذه برن وبازيل وكسب هيبماير إلى صفه والدشوت بأسرها، وجلس في ابنتسيل 1200 رجل وامرأة ممن ارتضوا حرفياً كلمات المسيح: "لا تحمل هماً لطعامك" وأخذوا ينتظرون أن يأتي الله ويطعمهم (54).
وليس من شك فبي أن النجاح الظاهر الذي أحرزته حرب الفلاحين في ربيع عام 1525 وقد رفع من شأن هذه التحولات، ولكن فشلها شجع طبقات الملاّك في المُدن السويسرية على اتخاذ إجراءات قمع مشددة، واعتقل مجلس زيورخ مانز (يوليو)، ثم جريبل، ثم هيبماير، وأمر بزج كل اللامعمدانيين المتشبثين بآرائهم في سجن البرج، ليعيشوا على الخبز القفار والماء وان "يتركوا حتى يموتوا وتبلى أجسادهم" (55). وحدث هذا لجريبل وأغرق مانز، أما هيبماير فقد عدل عن رايه واطلق سراحه، وأنكر ردته وأخذ على عاتقه أن يهدي أهل أوجسبورج ومورافيا، وقطع رأس هيتزر في كونستانس بتهمة اللامعمدانية والزنى - وأظهرت المقاطعات التي تدين بالبروتستانتية والكاثوليكية أنها لم تكن أقل نشاطاً في قمع هذه الطائفة، وما أن حل عام 1530 حتى لم يبقَ في سويسرة إلا عصابات سرية لا يؤبه لها.(24/99)
وفي غضون ذلك كانت الحركة قد انتشرت، كما تنتشر أي إشاعة، في أنحاء جنوب ألمانيا، وتملكت المرتدين حماسة فياضة للقيام بدعاية للمذهب الإنجيلي، وحولهم ذلك إلى رسل متحمسين للعقيدة الجديدة. وأحرز دنك وهيبماير في أوجسبورج نجاحاً سريعاً بين عمال النسيج والطبقة الوسطى الدنيا، وما أن قارن كثير من عمال المناجم في التيرول ما هم فيه من مسغبة، وما ينعم به من ثراء آل فوجر وآل هوخشتتر، الذين كانوا يملكون المناجم، حتى اعتنقوا اللامعمدانية عندما انهارت ثورة الفلاحين، أما في ستراسبورج فإن الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت أتاح للطائفة أن تتضاعف دون أن يلحظ ذلك أحد لبعض الوقت. إلا أن كتيباً صدر عام 1528 حذر السلطات من أن "مَن يعلم الناس أن كل الأشياء يجب أن تكون على المشاع لا يخطر بباله إلا إثارة الفقراء ضد الأغنياء، والرعايا ضد الحكام الذين عينهم الله" (56). وفي هذا العام أصدر شارل الخامس مرسوماً ينص على أن إعادة التعميد تُعَد جريمة عظمى. وصدق مجلس سبيير Speyer النيابي (1529) على مرسوم الإمبراطور وأمر بإعدام اللامعمدانيين أينما وجدوا وحالما يقبض عليهم كما يقضى على الوحوش المفترسة، ذلك دون أية محاكمة. وكتب مؤرخ لامعمداني تحقيقاً عن النتيجة، ولعله كان مغالياً، بأسلوب كتاب سير القديسين المسيحيين الأوائل:
عُذّب البعض على المخلعة، وشُدّت أطرافهم حتى انتزعت، وأُحرق البعض الآخر حتى غدت أجسادهم رماداً وهباء منثوراً، وشوي لحم البعض فوق أعمدة أو مزقوا إرباً بكماشات ملتهبة إلى درجة الاحمرار ... وشنق آخرون فوق الأشجار، أو قطعت رؤوسهم بالسيف أو ألقي بهم في لجة الماء ... ومات بعضهم جوعاً أو هلكوا في غياهب السجون المظلمة ... وأعتُبر البعض منهم أصغر سناً من أن ينفذ فيهم حكم الإعدام فضربوا بالعصي، وظل الكثيرون منهم سنوات في غياهب السجون ... وختمت على خدودهم أرقام تركت فيها أخاديد ... أما الباقون فقد طوردوا(24/100)
كالبوم والغربان، التي لا تجرؤ على الطيران بالنهار واضطروا في أغلب الأوقات إلى الاختفاء والعيش بين الصخور والشقوق أو في الغابات أو في الكهوف والحفر (57) ...
ويقول سابستيان فرانك أحد المعاصرين أنه ما أن حل عام 1530 حتى كان 2000 لامعمداني قد نُفذ فيهم حكم الإعدام، وفي أنزيشايم إحدى مُدن الألزاس أُعدم 600، وفي سالزبورج سُمح لمن تاب منهم بأن يقطع رأسه قبل وضعه على المحرقة، أما الذين لم يتوبوا فقد شويت أجسادهم على نار بطيئة حتى لاقوا حتفهم (1528) (58). وألف اللامعمدانيون أناشيد مؤثرة للإشادة بذكر هذه الحوادث، التي استشهد فيها الآلاف واصبح معظم مؤلفي هذه الأناشيد شهداء بدورهم.
وعلى الرغم من هذه المذابح فإن الطائفة ازدادت عددا، وانتقلت إلى شمالي ألمانيا. ورحب بعض الأشراف في بروسيا وفيرتمبورج باللامعمدانيين باعتبارهم فلاحين مسالمين مجتهدين. ويقول أحد المؤرخين الأوائل من أنصار لوثر إن وادي الفيرا في ساكسونيا كان يزخر بهم، وأنهم زعموا في أرفورت أنهم أوفدوا 300 مبعوث لهداية الناس المشرفين على الهلاك. وفي ليبيك سيطر جيرجن فولنفيفر المتهم باللامعمدانية على المدينة (1533 - 34). وفي مورافيا أحرز هيبماير تقدماً لعقيدته المعتدلة التي فسرت الشيوعية بأنها ليست الملكية على المشاع، بل الاستمساك بأن "على المرء أن يطعم الجائع ويروي ضمأ العطشان ويكسو العاري لأننا في الحقيقة لسنا مطلقي التصرف في ممتلكاتنا ولكننا وكلاء أو موزعون لها فحسب". وكسب هانزهوت (59)، الذي ألهبته تعاليم منتسر، قلوب اللامعمدانيين في مورافيا من هيبماير بتبشيرهم بشيوعية كاملة في الأمتعة. وأعاد هيبماير إلى فيينا، حيث أُحرق على السارية وأُلقي بزوجته وهي مقيدة الأطراف في نهر الدانوب (1538).
وأسس هوت وأتباعه مركزاً شيوعياً في أوستراليتز، حيث رفضوا(24/101)
قبول كل خدمة عسكرية، وكأنهم كانوا يتنبئون بمجيء نابليون، ونددوا بكل صورة من صور الحرب، واقتصر هؤلاء اللامعمدانيون في أعمالهم على فلاحة الأرض والأعمال الصغيرة، وحافظوا على شيوعيتهم زهاء قرن تقريباً. واسبغ الأشراف من ملاّك الأراضي حمايتهم عليهم، لأنهم كانوا يثرون الضياع بكدحهم الواعي. وكانوا يقومون بالمشاركة في الزراعة، ويشتري لهم موظفو الكومون المواد اللازمة للزراعة وللحرف اليدوية، ويوزعونها عليهم ويدفع جانب من ثمن بيع المنتجات كإيجار للمالك ويوزع الباقي طبقاً لحاجة كل فرد ولم تكن الأسرة هي الوحدة الاجتماعية بل البيت، وكان يحتوي على عدد يتراوح بين 400، 2000 شخص وفيه مطبخ مشترك ومغسل ومدرسة ومستشفى ومعصرة للخمر يشترك فيها الجميع. وكان الأطفال بعد فطامهم يربون بلا فوارق بينهم وإن ظل تحريم تعدد الزوجات كما هو. ومنع هذا المجتمع الشيوعي بمرسوم إمبراطوري صدر عام 1622 في حرب الثلاثين عاماً، وخُيّر أعضاؤه بين أن يعتنقوا الكاثوليكية أو ينفوا من البلاد. وذهب بعض المنفيين إلى روسيا، وذهب البعض الآخر إلى المجر ولسوف نسمع عنهم مرة أخرى.
وفي الأراضي المنخفضة بشر ملشيور هوفمان، وهو دباغ من سوابيا، بإنجيل لامعمداني لاقى نجاحاً فائقاً. وانتهى تلميذه جان ماتيس في ليدن إلى الرأي القائل بأنه لن يكون في الوسع الانتظار في أناة لمجيء أورشليم جديدة، بل يجب المبادرة إلى تحقيقها فوراً وبالقوة إذا لزم الأمر. وأوفد في أرجاء هولندة اثني عشر رسولاً لإعلان الأخبار السارة، وكان أقدرهم حائكاً صغير السن يدعى جان يويكلزون المعروف في التاريخ باسم جون الليديني وفي أوبرا ميير بير باسم (النبي). وكان، دون أن يتلقى تعليماً نظامياً، حاد الذهن خصيب الخيال وسيم الهيئة ذرب اللسان قوي الإرادة. وكتب مسرحيات أخرجها بنفسه، ونظم الشعر، وعندما وقعت في يده(24/102)
كتابات توماس منتسر شعر بأن كل أشكال المسيحية، التي تختلف عما كان ميلهاوزن قد حصلها وفقدها، تفتقر إلى الحمية والإخلاص. وسمع ما قاله جان ماتيس وغدا نصيراً للامعمدانية (1533). وكان وقتذاك في الرابعة والعشرين من عمره وفي تلك السنة قبل دعوة مشئومة للحضور إلى منستر عاصمة وستفاليا الغنية الآهلة بالسكان لإلقاء عظاته.
وكانت منستر، بحكم تسميتها باسم الدير الذي نمت حوله، تابعة إقطاعياً لأسقفها ولرجال الكاتدرائية، ومع ذلك فإن نمو الصناعة والتجارة قد استحدثت فيها درجة من الديمقراطية. فقد كانت حشود الوطنيين، الذين يمثلون سبع عشرة طائفة حرفية، يختارون كل عام عشرة من المنتخبين، وكانوا بدورهم يختارون مجلس المدينة. ولكن الأقلية الثرية كان يتوفر فيها الجانب الأكبر من الكفاية السياسية، ومن الطبيعي أن تسيطر على المجلس.
وفي عام 1525 قدمت الطبقات الدنيا في غمرة حماستها لثورات الفلاحين ستة وثلاثين مطلباً إلى المجلس فسلم لها بالقليل منها وسخر من الباقي وأرجأ النظر فيها، وأقام برنارد روتمان، وهو واعظ من أنصار لوثر، من نفسه لسان حال هذا التذمر، وطلب من جان ماتيس أن يوفد بعض اللامعمدانيين الهولنديين لنصرته. فجاء جون الليديني (13 يناير سنة 1534) وسرعان ما اقبل جان ماتيس بنفسه. وخشي "حزب النظام" حدوث تمرد فأعد العدة لكي يدخل الأسقف فرانزفون فالديك المدينة مع 2000 من جنوده، فحاربهم الأهلون بقيادة ماتيس وروتمان وجون الليديني في الطرقات، وأجلوهم عن المدينة، وسيطروا عسكرياً على منستر (10 فبراير سنة 1534). وأجريت انتخابات جديدة وفاز اللامعمدانيون بالمجلس واختير اثنان منهم وهما كنيبر دولنجك وكيبفبرويك عمدتين وبدأت التجربة المنيرة.(24/103)
ووجدت منستر نفسها على الفور في حالة حرب، يحاصرها الأسقف وجيشه المدعم، وفي حالة فزع من أن تتحد سريعاً كل قوى النظام والتقاليد في ألمانيا ضدها. ولكي يحمي المجلس الجديد نفسه ضد المعارضة الداخلية اصدر مرسوماً يقضي بأن يخير جميع المعارضين اللامعمدانيين بين قبول إعادة التعميد أو مغادرة المدينة. وكان هذا إجراءاً قاسياً لأنه كان يعني إكراه الشيوخ، والنساء الحاملات للأطفال، والأطفال الحفاة إلى الركوب أو السعي مشياً من المدينة إلى قلب الشتاء بألمانيا. وخلال هذا الحصار أعدم كلا الجانبين بلا رحمة أي شخص وجدوه يعمل لصالح العدو.
وألغى المجلس تحت وطأة الحرب وحل محله مجلس شعبي ولجنة تنفيذية للأمن، وكان يرأس كلاً منهما زعماء من رجال الدين. ولقي ماتيس حتفه وهو يقاتل في هجوم فاشل لفك الحصار (5 أبريل سنة 1534) ومن ثم تولى جون الليديني حكم المدينة باعتباره ملكاً لها.
وكانت الشيوعية التي أرست دعائمها وقتذاك تعني اقتصاد الحرب، ولعل هذا ما يجب أن تكون عليه كل شيوعية صارمة، ذلك لأن الناس ليسوا متساوين بفطرتهم، ولا يمكن إغراؤهم بمشاطرة الآخرين أمتعتهم وثرواتهم إلا عندما يستشعرون خطراً جوهرياً مشتركاً، وتتفاوت الحرية في الداخل بتفاوت الأمن في الخارج وتتحطم الشيوعية تحت وطأة السلام. وخشي المحاصرون أن يفقدوا حياتهم إذا لم تتحقق لهم الوحدة، واستهوتهم العقيدة الدينية والفصاحة التي لا مفر منها، فقبلوا حكومة دينية اشتراكية (60)، وكان يراودهم أمل يائس بأنهم إنما يحققون القدس الجديدة، التي وردت في سفر الرؤيا. وأطلق على أعضاء لجنة الأمن العام اسم أكابر الأسباط الأثني عشر لإسرائيل، وأصبح جون الليديني ملك إسرائيل، ولعل جون أراد أن يُدخل في أذهان البسطاء معنى من معاني الوقار المفيد لمنصبه المقلقل فارتدى هو وأعوانه ملابس فخمة تركها لهم بعض السراة من المنفيين، واتهم(24/104)
الأعداء الزعماء المتطرفين بأنهم كانوا متخمين في الوقت الذي أشرف فيه الأهالي المحاصرون على الموت جوعاً، والدليل غير مقنع وذلك لأن الزعماء يستشعرون دائماً بأن عليهم التزاماً ملحاً بالمحافظة على صحتهم. وقد وزع الجانب الأكبر من أدوات الترف المصادرة على الشعب. وكتب أحدهم "يقول إن أفقر الناس منا كانوا يطوفون وهم يرتدون ثياباً فاخرة" (61) ثم ماتوا جوعاً في شيء من الأبهة.
وبطريقة أخرى كانت الشيوعية في منستر محدودة وتحت الاختبار، وطبقاً لما رواه شاهد من الخصوم أصدر لحكام أمراً، يقضي بأن تكون الممتلكات على المشاع (62)، ولكن في الحقيقة ظلت الملكية الخاصة عملياً في كل شيء ما عدا المجوهرات والمعادن الثمينة وغنائم الحرب. وكانت وجبات الطعام تقدم على الشيوع، ولكن كان لا يتناولها إلا المشتغلون بالدفاع عن المدينة. وعند تقديم هذه الوجبات كان يقرأ إصحاح من الكتاب المقدس وتنشد أناشيد قدسية. وعين ثلاثة من الشماسين لإمداد الفقراء بحاجاتهم، ولتوفير المواد لهذه الصدقات أغري البقية من الأثرياء أكرهوا على التنازل عن فائض أموالهم. وخصصت الأرض الصالحة للزراعة داخل المدينة لكل أسرة طبقاً لعدد أفرادها. وأكد أحد المراسيم سيادة الزوج التقليدية على الزوجة (63).
وكان ينظم الأخلاق العامة قوانين عامة، وشجعت الراقصات والألعاب والتمثيليات الدينية تح الإشراف، ولكن كان السكر والمقمرة ويعقب مَن يرتكبهما بقسوة، وكان البغاء محرماً والفجور والزنى من الجرائم التي تستحق أقصى عقاب، ودفعت زيادة عدد النساء بسبب قرار كثير من الرجال الزعماء على أن يصدروا أمراً يستند إلى السوابق في الكتاب المقدس، وبأن تصبح النساء غي المرتبطات رفيقات للزوجات - وكن في واقع الأمر حظايا (64). ويبدو أن النساء اللاتي ارتبطن حديثاً قد تقبلن الموقف على أسا أنه أفضل من العيش في عزلة وحرمان. واحتج بعض المحافظين في المدينة(24/105)
ونظموا ثورة، وسجنوا الملك، ولكن سرعان ما قلي جنودهم حتفهم بعد أن سلبت الخمر عقولهم، وذلك على يد جنود اللامعمدانيين ولعبت النساء دوراً بطولياً في انتصار القدس الجديدة واتخذ جون، بعد أن أطلق سراحه وأعيد إلى عرشه. عدة زوجات (كما يقول المؤرخون من خصومه)، وحكم المدينة حكماً يتسم بالعنف والطغيان (65). ولابد أنه كان يتصف ببعض الصفات اللطيفة لأن آلاف الناس تحملوا حكمه وعرضوا للتضحية بأرواحهم في خدمته. وعندما طالب بمتطوعين يسيرون وراءه في هجوم مضاد على معسكر الأسقف انخرط في خدمته عدد كبير من النساء أكثر مما رأى أنه من الحكمة أن يستخدمن، وعندما طلب "رسلاً" لاقتحام الطريق لطلب العون من جماعات اللامعمدانيين الأخرى حاول اثنا عشر رجلاً أن يخترقوا خطوط الأعداء، وقبض عليهم جميعاً وقتلوا، واندفعت فجأة امرأة متحمسة مستلهمة قصة جوديث، إلى الخارج لاغتيال الأسقف، وحيل بينها وبينه، وأعدمت.
وعلى الرغم من أن الكثيرين من اللامعمدانيين في ألمانيا وهولندا رفضوا التجاء طائفتهم الأخوية في منستر للقوة فإن الكثيرين منهم هتفوا استحساناً للثورة. وتمتمت كولونيا وترير وأمستردام وميدن بصلوات لامعمدانية دعت فيها بنجاح اللامعمدانية وأبحرت من أمستردام خمسون سفينة (22 مارس و 25 مارس سنة 1535) تحمل إمدادات للمدينة المحاصرة، ولكن السلطات الهولندية فرقتها كلها بدداً. وفي الثامن والعشرين من مارس استولت عصابة من اللامعمدانيين على دير في وست فريزلاند، وحصنته بعد أن سمعت صدى ثورة منستر، ولكنها غلبت على أمرها، وفقد من أفرادها ثمانمائة.
وعندما واجهت قوى الإمبراطوريّة المحافظة من البروتستانت والكاثوليك على السواء هذه الثورة التي استشرت حشدت جنودها لقمع حركة(24/106)
اللامعمدانية في كل مكان. وها هو لوثر الذي كان قد أشار عام 1528 بالرفق مع الهراطقة الجدد ينصح عام 1530 بشهر السيف ضدهم، لا باعتبارهم "كفّاراً بل بوصفهم من كبار مثيري الشغب" (66) وأذعن ميلانكتون، وأرسلت مدينة تلو أخرى المال والرجال للأسقف. وأصدر المجلس النيابي في ورمس (4 أبريل سنة 1535) أمراً بفرض ضريبة على كل ألمانيا لتمويل الحصار. وهكذا استطاع الأسقف وقتذاك أن يحيط بالمدينة ويحرمها من كل إمداداتها، وعندما واجه الملك جون المجاعة وخور العزيمة أعلن أن كل مَن يرغب يستطيع مغادرة المدينة، فانتهز الفرصة كثير من النساء والأطفال وبعض الرجال. أما الرجال فكان نصيبهم الشجن أو القتل على أيدي جنود الأسقف، وأما النساء فقد أبقوا على حياتهم للاستفادة بهن في أداء خدمات مختلفة. وأنقذ أحد المهاجرين حياته بأن عرض على المحاصرين أن يريهم جانباً من الأسوار خالياً من الحماية، فتسلقته قوة، واقتحمت أحد الأبواب بإرشاده (24 يونيه) وسرعان ما تدفق إلى المدينة بضع آلاف من الجنود. وكانت المجاعة قد انشبت أنيابها في المحاصرين، بحيث لم يبقَ منهم إلا 800 رجل من القادرين على حمل السلاح، وتحصنوا بمتاريس في السوق، ثم استسلموا مقابل وعد بمنحهم جواز الأمان لمغادرة منستر، وعندما سلموا أسلحتهم ذبحوا عن بكرة أبيهم. وفتشت البيوت وعثر فيها على أربعمائة من الأحياء كانوا مختبئين فقتلوا، وربط جون الليديني واثنان من أعوانه على الساريات، وخمش كل جزء من أجسادهم بكماشات ملتهبة إلى درجة الاحمرار حتى (أصيب بالغثيان تقريباً كل مَن كانوا وقوفاً في السوق من الرائحة المنتنة"، وشدت ألسنتهم حتى تدلت من أفواههم، وأخيراً طعنت قلوبهم بالخناجر (67).(24/107)
واستعاد الأسقف المدينة، وزاد سلطانه السابق، وأصبحت كل أعمال السلطات المدنية عرضة من الآن فصاعداً للاعتراض من الأسقف، واستعادت الكاثوليكية سلطانها المظفر، وخشي اللامعمدانيون في أرجاء الإمبراطوريّة على أرواحهم، فنبذوا كل عضو في طائفتهم يتهم باستخدام القوة، ومع ذلك أعدم الكثيرون من هؤلاء الهراطقة المسالمين. وأشار ميلانكتون ولوثر على فيليب الهسي بإعدام كل مَن انضموا إلى الطائفة (68)، وشعر الزعماء المحافظون أن مثل هذا التهديد الخطير للنظام الاقتصادي والسياسي الذي توطدت أركانه يجب أن يعاقب بقسوة لا تعرف الغفران.
وتقبل اللامعمدانيون الدرس وأجلوا الشيوعية إلى العصر الألفي (عصر حكم المسيح ألف سنة) وأسلموا أنفسهم إلى ممارسة ما يتفق مع مبادئهم عن الحياة الرصينة البسيطة التقية المسالمة - التي لا تغضب الدولة.
وقام ميثو سيمونز، وهو قس كاثوليكي اعتنق مذهب اللامعمدانية (1531)، بإرشاد أتباعه من الهولنديين والألمان إرشاداً بارعاً جداً إلى حد أن "المينونيين" عاشوا على الرغم من كل ما تعرضوا له من محن، وكونوا كوميونات زراعية ناجحة في هولندة وروسيا وأمريكا. وليس هناك علاقة قرابة واضحة بين اللامعمدانيين في القارة الأوروبية وبين جماعة الكويكر الإنجليز والمعمدانيين (جماعة البابتست) الأمريكيين. إلا أن رفض جماعة الكويكر للحرب والإيمان، وإصرار جماعة المعمدانيين (البابتست) على التعميد عند البلوغ مستمدان من نفس تقاليد العقيدة الدينية والسلوك، التي اتخذت أشكالاً متعددة (69) في سويسرة وألمانيا وهولندة. وتشترك هذه الجماعات تقريباً في صفة واحدة، وهي تصميمها على تقبل العقائد التي تخالف عقائدها في سلام. وأن علم اللاهوت الذي ساندها(24/108)
وقت الشدة والفقر والاستشهاد لا يكاد يتفق مع فلسفتنا العابرة، وإن كانت أيضاً بصدقها وولائها ومسالمتها قد أثرت تراثنا وكفّرت عن إنسانيتنا المدنسة. (1)
_________
(1) هاجر فرع من اللامعمدانيين (1719) من ألمانيا إلى بنسلفانيا، واستقر في جرمانتاون أو بالقرب منها. وهؤلاء الدونكر يبلغ عددهم الآن زهاء 200. 000 وفي عام 1874 غادر روسيا كثير من اللامعمدانيين، الذين ينحدرون من أصل مورافي، واستقروا في جنوب داكوتا والبرتا. وفي شرق بنسلفانيا لا يزال المينونيون الأمينيون - وأطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى جاكوب أمين وهو زعيم عاش في القرن السابع عشر- يرفضون رسمياً استخدام الأمواس والأزرار وطرق السكك الحديدية والسيارات ومشاهدة الصور المتحركة وقراءة الجرائد، بل إنهم لا يستخدمون الجرارات، ومع ذلك فإن مزارعهم تعد من أنجح المزارع وأكثرها تنسيقاًً في أمريكا، وبلغ تعداد المينونيين 400. 000 عام 1949.(24/109)
الفصل الثامن عشر
زونجلى- الإصلاح الديني في سويسرة
(1477 - 1531)
1 - كثير في القليل
Multum in Parvo ?
دعم نجاح المقاطعات السويسرية في صد الهجوم الذي قام به شارل الجسور (1477) اتحادها وأشعل جذوة اعتزازها بقوميتها، وشجعها على مقاومة المحاولة التي قام بها ماكسمليان لإخضاعها اسماً وفعلاً للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وثارت منازعات على تقسيم الغنائم عقب هزيمة بورغنديا، فدفعت بالمقاطعات إلى حافة الحرب الأهلية، إلا أن فيلسوفاً ناسكاً بمجلس ستانز النيابي وهو نيكولاوس فون ديرفلو- الأخ كلاوس في الذاكرة السويسرية- أقنعها بأن تركن إلى السلام.
وانضمت مقاطعة إثر مقاطعة إلى الاتحاد، ليزداد قوة، فقبلت فيه فرايبورج وسولوثورن عام 1481، وبازيل وشافهاوزن عام 1501، وابنتسيل عام 1513، وغدا الاتحاد بعد أن انضمت إليه ثلاث عشرة مقاطعة، تتحدث كلها باللهجات الألمانية- ما عدا فريبورج وبرن، فقد كان الحديث يدور فيهما بالفرنسية- جمهورية اتحادية: وكانت كل مقاطعة تنظم شئونها الداخلية، أما علاقاتها الخارجية فكانت تحكمها سلطة تشريعية عامة.
وكانت الهيئة التشريعية الوحيدة للمجلس النيابي الاتحادي تتكون من عدد مماثل من النواب عن كل مقاطعة. ولم تكن الديمقراطية كاملة، فقد(24/110)
حرمت عدة مقاطعات من التصويت الأقليات من رعاياها، يضاف إلى هذا أن سويسرا لم تكن نموذجاً يُحتذى في حب السلام.
ولقد انتهزت المقاطعات من 1500 - 1512 فرصة تفكك وحدة إيطاليا، واستولت على بلينزونا ولوكارنو ولوجانو وبعض المناطق الأخرى جنوب الألب، واستمرت في تأجير خدمات الفرق السويسرية- بموافقتها- السلطات الأجنبية. ولكن الاتحاد تخلى عن التوسع الإقليمي بعد هزيمة حملة الحراب السويسرية في موقعة مارينانو Marignano (1515) ، وتبنى سياسة تتسم بالحياد، ووجه فلاحيه الأقوياء وصناعه المهرة، وتجارة الكثيري الموارد إلى تنمية حضارة، تعد من أعظم الحضارات في التاريخ.
وكانت الكنيسة في سويسرة لينة العريكة وفاسدة، كما كانت في إيطاليا، وأسبغت الرعاية على علماء الإنسانيات، الذين احتشدوا حول فروبن وأرازموس في بازل، ومنحتهم قسطاً وافراً من الحرية. وأصبح هذا دعامة من دعائم التسامح الخلقي، الذي ساد هذا العصر، فاستمتع القساوسة السويسريون بالحظايا (1). وكان أحد الأساقفة السويسريين يتقاضى من رجال الدين التابعين له أربعة جيلدرات عن كل طفل يولد لهم، وجمع في عام واحد 1522 جيلدر من هذا المصدر (2). وشكا من أن الكثيرين من القساوسة يقامرون، ويترددون على الحانات، ويثملون علناً (3)، دون أن يدفعوا رسماً للأسقفية. وبدأت عدة مقاطعات، وبخاصة زيورخ، في الإشراف المدني على رجال الدين، وفرضت الضرائب على أملاك الأديرة. وزعم أسقف كونستانس أن زيورخ بأسرها إقطاعية تابعة له، وطالب بخضوعها له وبضرائب العشور المفروضة عليها، ولكن البابوية كانت جد مرتبكة باتجاهات السياسة الإيطالية، فلم تستطع أن تؤيد مزاعمه بالفعل. ولقد وافق البابا يوليوس الثاني في عام 1510 على أن يدير مجلس المدينة في جنيف الأديرة، وأن يضع قواعد للأخلاق العامة في نطاق سلطته (4)،(24/111)
وذلك مقابل الحصول على بعض الفرق من جنيف. ومن ثم فإن روح الإصلاح الديني كانت قد تحقق في زيورخ وجنيف قبل ظهور أفكار لوثر بسبع سنوات، وهي سيادة السلطة الزمنية على السلطة الدينية وأصبح الطريق ممهداً أمام زونجلي وكالفن لوضع الأسس المختلفة التي رأوا أنها تزيل هوة الخلاف بين الكنيسة والدولة.
2 - زونجلى
إن زيارة يقوم بها المرء إلى محل ميلاد هولدرايخ، أو أولريخ زونجلى، لتوحى له بالقاعدة غير المضطردة التي تذهب إلى أن العظماء من الرجال إنما يولدون في بيوت متواضعة. ولقد استهل أعظم المصلحين الدينيين العقلانيين، الذين جانبهم التوفيق حياته (أول يناير عام 1484) في كوخ صغير بقرية فيلد هاوس، التي تربض في وادٍ جبلي على بعد خمسين ميلاً جنوب شرقي زيورخ في مقاطعة سانت-جولد الحالية، سقف جملوني منخفض، وجدران من ألواح ثقيلة، ونوافذ مقسمة إلى مربعات، وأرضيات مكونة من ألواح مصمتة ضخمة، وسقوف واطئة، وحجرات مظلمة، ودرجات تحدث صريراً، وأسرّة متينة من خشب البلوط، ومنضدة وكرسي ورف للكتب؛ وهذا البيت التاريخي يدل على بيئة كان الانتخاب الطبيعي فيها يتم بصورة صارمة، أما الانتخاب الخارق للطبيعة فقد كان يبدو أملاً لا غنى عنه، وكان والد أولريخ كبير القضاة في هذه القرية الصغيرة المغمورة أما أمه فكانت شقيقة قس معتزة بنفسها. وكان الابن الثالث من بين ثمانية أبناء يتنافسون على الظفر بإعجاب شقيقتين، ويبدو أنه قد قدر عليه أن يكون قساً منذ نعومة أظفاره.
وأسهم عمه، وهو نائب الأسقف في كنيسة قرب فيزين، في تعليمه مع والديه، وكان له الفضل في أن يكون زونجلى نزعة إنسانية اتساع أفق، تميز بها بوضوح عن لوثر وكالفن. وعندما بلغ الصبي العاشرة من(24/112)
عمره أرسل إلى مدرسة لاتينية في باويل، وفي الرابعة عشرة دخل كلية في برن يرسها أحد الأهلين من أنصار الكلاسية المبرزين. ودرس من السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة في جامعة فيينا، في الفترة التي ازدهرت فيها الدراسات الإنسانية، في عهد كونراد سيلتس. وكان يسري عن نفسه ما يلاقيه من عناء بالعزف على العود والقيثار والكمان والناي والسنطير.
وفي الثامنة عشرة من عمره عاد إلى بازيل، ودرس اللاهوت على يد توماس فيتنباخ، الذي هاجم قبل الأوان عام 1508 صكوك الغفران وعزوبة رجال الدين والقداس. وحصل زونجلى على درجة الماجستير، وهو في الثانية والعشرين من عمره، (1506) ورُسم قساً، واحتفل بإقامة أول قداس له في فيلدهاوس وسط الأقارب المبتهجين، واشترى بمبلغ مائة جيلدر جمعت له وظيفة راعي أبرشية (5) في جلاروس على بعد عشرين ميلاً.
وهناك تابع دراساته في الوقت الذي كان يؤدي فيه واجباته بغيرة وحماسة، وتعلم اليونانية ليقرأ العهد الجديد بلغته الأصلية، وقرأ بحماسة مؤلفات هوميروس وبندار وديموكريتوس وبلوتارك وشيشرون وقيصر وليفي وسينيكا وبلني الأصغر وتاسيتوس، وكتب تعليقاً على مؤلف لوسيان الشكاك الفكه، وتبادل الرسائل مع بيكوديلا ميراندولا وأرازموس، ووصف أرازموس بأنه "أعظم فيلسوف وعالم باللاهوت"، وزاره موقراً إياه (1515)، وكان يقرأ له كل ليلة قبل أن ينام. وقد درج، مثل أرازموس، على أن يسلق بلسان لاذع فساد رجال الدين، وأن يسخر بفطرته من التطرف في العقيدة، وأن يرفض بشدة الرأي القائل بأن قدامى الفلاسفة والشعراء يصلون نار جهنم: "وأقسم أنه يؤثر أن يشاطر سقراط أو سينيكا حظه المقدور ولا يتلقى الأنعام من البابا" (6). ولم يسمح لعهود الكهنوتية بأن تحرمه من ملذات الجسد، فكانت له علاقات مع نساء مترخصات، وظل منغمساً في ملذاته هذه حتى تزوج في عام 1514.(24/113)
ولم تعبأ بأفعاله جموع المصلين عنده، وظل البابوات يدفعون له حتى عام 1520 معاشاً قدره خمسون فلورين، نظير تأييده لهم ضد الحزب المناصر للفرنسيين في جلاروس. واصطحب من عام 1513 إلى عام 1515 فرقة الجنود المرتزقة السويسرية في جلاروس إلى إيطاليا، بصفته واعظاً لها، وبذل أقصى ما في وسعه لكي يحمل الجنود على الحفاظ على ولائهم للقضية البابوية، إلا أن صلته بالحرب في المعارك التي دارت في نافارو ومارينيانو، جعلته يعارض بشدة أي تدبير لبيع شجاعة الجنود السويسريين للحكومات الأجنبية.
وفي عام 1516 فاز الحزب الفرنسي في جلاروس، وأصبحت له اليد الطولى فانتقل زونجلى إلى أبرشية في أنيزيدلن بمقاطعة شفيتز، وهنا اصطبغت عظته بصبغة بروتستانتية حتى قبل قيام ثورة لوثر، ونادى عام 1517 باعتناق دين يعتمد على الكتاب المقدس فحسب وأبلغ كبير الأساقفة الكاردينال ماتهويس شينر أن في الكتاب المقدس إجازة ضعيفة للبابوية، ولقد هاجم في أغسطس عام 1518 مساوئ بيع صكوك الغفران، وحرض رهبان البندكتيين على أن يرفعوا من المزار الذي أقاموه للعذراء، والذي يعود عليهم بالربح الوفير، نقشاً يعدون فيه الحجاج بـ "الغفران الكامل لجميع الخطايا التي اقترفوها واعفائهم من العقاب أيضاً" (7). وعاد بعض الحجاج من زيورخ إلى قساوستهم برواية حماسية عن وعظه. وفي العاشر من ديسمبر عام 1518 قبل الدعوة لتنصيبه "قساً" أو "قسيساً للشعب" في جروسمنستر أو الكنيسة الكبرى في زيورخ أعظم المُدن السويسرية جرأة، وكان في ذلك الوقت يقترب من النضج في الروح المعنوية والتعقل. وقام بإلقاء سلسلة من العظات فسر فيها، من النص اليوناني، العهد الجديد بأسره ما عدا سفر الرؤيا، الذي لم يكن يحبه، وكان يطوي بين جوانبه شيئاً من الصوفية، التي أسهمت في تكوين لوثر. وليس لدينا صورة شخصية له،(24/114)
أخذت إبان حياته، ولكن معاصريه وصفوه بأنه رجل وسيم أصهب صريح النسب، له صوت شجي، يستولي على ألباب جموع المصلين في كنيسته، ولم يكن يضارع لوثر في الفصاحة أو التفسير، ومع ذلك فإن عظاته كانت مقنعة، لما تتسم به من صدق وصفاء، وسرعان ما استجابت زيورخ بأسرها لتأثيره. وأيده رؤساءه من رجال الدين عندما استأنف حملته ضد بيع صكوك الغفران. وقد اجتاز في أغسطس عام 1518 برنهاردن سمسون الراهب الفرنسكاني من ميلان ( Bernhardin Samson) مضيق سانت جوتار، وأصبح تيتزل سويسرا. وقدم صك غفران من البابا ليو إلى الأغنياء على ورق الورشمان نظير ريال، وإلى الفقراء، وقابل بضع بنسات، وبتلويحة من يده أعفى كل الأرواح التي هلكت في برن من عذاب المطهر. واحتج زونجلى، وظاهره في هذا الاحتجاج أسقف كونستانس، ولما كان ليو العاشر على علم بشيء من الأحداث الجارية في ألمانيا، فقد استدعى رسوله المتلاف. وفي عام 1519 انتشر وباء الطاعون في زيورخ، وقضى على ثلث السكان في خلال نصف عام. ولازم زونجلى مقره، وواصل العمل ليلاً ونهاراً في العناية بالمرضى، وأصيب هو نفسه بعدوى المرض، واشرف على الهلاك، وما أن عوفي حتى غدا أعظم شخصية في زيورخ، تحظى بالشعبية، وبعثت إليه بالتهاني بعض الشخصيات المرموقة، التي تقيم بعيداً عنه، من أمثال بيركهايمر وديرر. ونصب عام 1521 كبيراً للقساوسة في جروسمنستر، وأصبح وقتذاك من القوة بحيث استطاع أن ينادي في سويسرة بالإصلاح الديني.
3 - إصلاح زونجلى الديني
ولقد تغيرت شخصية راعي الأبرشية في كنيسته، دون وعي منه تقريباً، وإن كان هذا التغيير نتيجة طبيعية لم تلقاه من تعليم غير عادي ... كانت الموعظة قبله هينة الشأن، ويكاد القداس والقربان المقدس أن يستغرقا(24/115)
معظم الخدمة الدينية، وقد جعل زونجلى الموعظة المسيطرة في إقامة الشعائر الدينية، وأصبح معلماً لا يقل براعة عنه واعظاً، وكلما ازدادت ثقته اشتد إقناعه بأن المسيحية يجب أن تعود إلى بساطتها الأولى في النظام والعبادة. ولقد استفزته ثورة لوثر ورسائله ورسالة هس "عن الكنيسة"، فما أن حال عام 1520 حتى كان يهاجم علناً الرهبانية والمطهر والتوسل بالقديسين، وبرهم أكثر من هذا على أن دفع ضرائب العشور للكنيسة يجب أن يكون بمحض الاختيار، كما جاء في الكتاب المقدس. ورجاه الأسقف الذي يتبعه أن يسحب هذه العبارة، ولكنه أصر عليها وأيده مجلس المقاطعة، بأن أصدر أمراً لكل القساوسة المعينين في نطاق اختصاصه، أن تقتصر عظاتهم على ما وجدوه في الكتاب المقدس. وفي عام 1521 أقنع زونجلى المجلس بمنع تطوع الجنود السويسريين في صفوف الفرنسيين، وبعد مرور عام امتد الحظر حتى شمل كل الدول الأجنبية، وعندما استمر الكاردينال شينر في تجنيد الفرق السويسرية للبابا، أوضح زونجلى لجمهور المصلين عنده أن الكاردينال كان لا يرتدي قبعة حمراء دون داعي لأنها "إذا عصرت لرأيت دم أقرب الأقربين يقطر من ثناياها" (8). ولما لم يجد في العهد نصاً يحرم اللحم في الصوم الكبير، فقد سمح لرعايا أبرشيته بأن يتجاهلوا أوامر الكنيسة الخاصة بهذا الصوم الكبير. واحتج أسقف كونستانس، فرد عليه زونجلى في كتاب عنوانه (بداية ونهاية) تنبأ فيه بثورة عالمية ضد الكنيسة ونصح البطارقة بأن يقلدوا قيصر وأن يطووا حولهم أرديتهم، ويموتوا في جلال ووقار. والتمس، هو وعشرة من القساوسة الآخرين، من الأسقف أن يضع حداً لفجور رجال الدين، وذلك بأن يسمح بزواج رجال الكهنوت (1522). وكان في إبان ذلك العهد يحتفظ بسيدة تدعا أنا راينهارد بصفة عشيقة أو زوجة له في الخفاء. وتزوجها علناً عام 1524 قبل زواج لوثر من كاترين فون بورا بعام.
وقد سبق هذا الانفصام النهائي من الكنيسة جدلان ذكرا الناس بمناظرة(24/116)
لوثر وإيك في ليبزج، وكانت لهما أصداء بعيدة في جدل أنصار الفلسفة الكلامية في جامعات العصور الوسطى.
ولما كانت سويسرة جمهورية نصف ديمقراطية فلم يروعها رأي زونجلى. الذي يذهب إلى أن الخلافات بين آرائه وآراء خصومه المحافظين يجب أن تلقى إذناً صاغية غير متحيزة، وأخذ مجلس زيورخ الكبير على عاتقه باغتباط مهمة الحكم على رجال الدين، فدعا الأساقفة أن يرسلوا ممثلين لهم فحضروا بكامل أهبتهم واحتشد منهم نحو ستمائة في قاعة المدينة، للاشتراك في الجدل المثير (25 يناير سنة 1523).
وعرض زونجلى سبعة وستين بنداً يدافع عنها:
1 - يخطئ كل مَن يقول أن الإنجيل لا يساوي شيئاً، إذا لم ترض عنه الكنيسة.
15 - يتضمن الإنجيل الحقيقة بأكملها في وضوح وجلاء ...
17 - المسيح هو الكاهن الأعظم الخالد الوحيد، والذين يزعمون أنهم كهنة عظام، إنما يعارضون في الحقيقة شرف المسيح وجلاله.
18 - أن المسيح الذي ضحى بنفسه يوماً فوق الصليب، قد قام بالتضحية الكافية والدائمة للتكفير عن خطايا كل المؤمنين، ومن ثم فإن القداس ليس تضحية، وإنما هو تذكرة للتضحية الوحيدة على الصليب ...
24 - المسيحيون غير مكلفين بأية أعمال لم يأمر بها المسيح، ويمكنهم أن يأكلوا في جميع الأوقات كل أنواع الطعام ...
28 - كل ما يبيحه الله ولم يحرمه حلال. ومن ثم فإن الزواج مباح لكل الناس.
34 - لا أساس للسلطة الروحية التي يطلق عليها اسم (الكنيسة) في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح.
35 - إلا أن السلطة الزمنية تؤيدها تعاليم المسيح وسنته (إصحاح لوقا 2 - 5 وإصحاح متّى 22، 21) ...(24/117)
49 - لا أعرف فرية أعظم تحريم الزواج الشرعي على القساوسة، بينما يباح لهم اتخاذ حظايا على شريطة دفع غرامة. ياللعار!.
57 - إن الكناس المقدس لا يعرف شيئاً عن المطهر ...
66 - على جميع الرؤساء الروحيين أن يبادروا بالتوبة، وأن ينصبوا صليب المسيح وحده وإلا هلكوا. إن البلطة موضوعة على الجذر (9).
ورفض جوهان فاير - الأسقف العام لأبرشية كونستانس هذه الآراء تفصيلاً، وطالب بأن تطرح أمام جامعات كبير أو أمام مجلس عام للكنيسة، ورأى زونجلى أن هذا لا ضرورة له. فبعد أن أصبح العهد الجديد وقتذاك في متناول الناس باللغات الدارجة، صار في وسع الجميع أن يحصلوا على كلمة الله ليحكموا على هذه الآراء وهذا يكفي ... ووافق المجلس وأعلن أن زونجلى بريء من الهرطقة، وأمر كل رجال الكهنوت في زيوريخ بأن تكون عظاتهم مقصورة على ما يجدون له سنداً في الكتاب المقدس، وهنا تولت الدولة أمر الكنيسة كما حدث بألمانيا في عهد لوثر.
وقبل معظم القساوسة - بعد أن ضمنت لهم الدولة الآن رواتبهم - أمر المجلس. وتزوج الكثيرون منهم وتعمدوا باللغة الدارجة وأغفلوا أمر القداس وتخلوا عن تقديس الصور. وبدأت عصبة من المتحمسين في إتلاف الصور والتماثيل بلا تمييز في كنائس زيوريخ. وانزعج زونجلى من انتشار العنف على هذا النحو فرتب مناظرة أخرى (26 أكتوبر سنة 1523) حضرها 550 من عامة الناس و 350 من رجال الكهنوت. وتمخضت عن أمر صدر من المجلس يقضي بأن تتولى لجنة من أعضائها زونجلى، إعداد كتيب يتضمن تعليمات، توضح العقيدة للناس، وأن يتوقف في غضون ذلك العنف بجميع صوره. وألف زونجلى بسرعة "مقدمة قصيرة في المسيحية" أرسلت لجميع رجال الدين في المقاطعة.
واحتجت السلطة الكهنوتية الكاثوليكية، وأيدها في الاحتجاج المجلس(24/118)
النيابي للاتحاد الذي اجتمع في لوسون (26 يناير سنة 1524)، في الوقت نفسه تعهد بالقيام بإصلاح كهنوتي، غير أن مجلس المدينة تجاهل هذه الاحتجاجات.
وصاغ زونجلى عقيدته بتوسع في رسالتين باللاتينية: "الدين الحقيقي والزائف ( De vera et false religione) (1925) (Ratio fidei) (1530) وقبل لاهوت - الكنيسة الأساسي - إله ثلاثي التوحد، وهبوط آدم وحواء من الجنة، وتجسد الأقنوم الثاني، وولادة العذراء والتكفير، ولكنه فسر "الخطيئة الأصلية" لا بأنها لوثة إثم ورثناه من "آبائنا الأوائل" ولكن بأنها نزعة غير اجتماعية، تكمن في طبيعة الإنسان (10). وقد اتفق في الرأي مع لوثر بأن الإنسان لن يستطيع أبداً أن يحصل على الخلاص بالأعمال الصالحات، بل يجب أن يؤمن بالقدرة التكفيرية لموت المسيح المقترن بالتضحية. واتفق في الرأي أيضاً مع لوثر وكالفن في موضوع القدر: كل حادث وبالتالي المصير الأزلي لكل فرد قدره الله، ولابد أن ينفذ كما قدر سبحانه، ولكن الله لم يقدر اللعنة الأبدية إلا على الذين أعرضوا عن آيات الإنجيل، التي بسطت عليهم، وكل طفل (من أبوين مسيحيين) يموت، وهو طفل، يكتب له الخلاص، حتى ولو لم يعمد، لأنه أصغر من أن يرتكب خطيئة. وجهنم حق، أما المطهر فهو "خرافة ... مهنة مربحة لمن ابتدعوه" (11) وليس في الكتاب المقدس إشارة عنه، أما القرابين المقدسة فإنها ليست وسائل معجزة بل رموزاً نافعة لرحمة الله. والاعتراف السري لا ضرورة له، وليس في وسع قسيس أن يغفر لأحد - خطيئته - فالله وحده هو الغفور، وإن كان من المفيد غالباً أن نسر بمتاعبنا إلى قسيس (12)، وليس العشاء الرباني، أكلاً فعلياً لجسد المسيح، ولكنه رمز لاتحاد الروح بالرب والفرد بالجماعة المسيحية.
وحافظ زونجلى على القربان المقدس باعتباره جزءاً من الصلاة التي(24/119)
يقرها الإصلاح الديني، وناول القربان بالخبز والنبيذ معاً، ولكنه لم يناوله إلا أربع مرات في العام. وفي ذلك الاحتفال العرضي أبقى على جانب كبير من القداس، وإن أخذ جمهور المصلين والقس يتلونه باللغة الألمانية في سويسرة. أما في باقي السنة فقد كان يستبدل القداس بالعظة الدينية. وأصبح سلطان الشعيرة على الحواس والتصور تابعاً لتأثير مخاطبة العقل. وهو مقامرة تتسم بالتهور على الذكاء الشعبي وقدرة الأفكار على الثبات، ولما كان من الضروري أن يستبدل بكنيسة معصومة من الخطأ إنجيلاً لا تشوبه شائبة ليكون نبراساً للعقيدة والسلوك، فإن الترجمة الألمانية للعهد الجديد التي قام بها لوثر، أعدت باللهجة الألمانية في سويسرة، وعهد إلى هيئة من العلماء ورجال الدين برئاسة قداسة ليوجود إعداد نسخة بالألمانية من الكتاب المقدس بأسره، وقد نشر هذه النسخة كريستيان فروشاوا عام 1534 في زيوريخ، قبل أن تظهر نسخة لوثر - وهي خير منها - بأربع سنوات.
وفي امتثال صادق للوصية الثانية، ودلالة على عودة المسيحية البروتستانتية إلى تقاليدها اليهودية الأولى، أمر مجلس مدينة زيوريخ برفع كل الصور الدينية ومخالفات القديسين وزينات من كنائس المدينة، بل إن آلات الأرغن أبعدت عنها، وترك الصحن الداخلي الفسيح لكنيسة جروسمنستر عاطلاً كئيب المنظر، كما هو اليوم. وحقاً أن بعض الصور كان سخيفاً بصورة لا يقبلها العقل، وبعضها كان مهيباً للاستسلام للخرافة والوهم بحيث يستحق الإتلاف، إلا أن جانباً منها كان جميلاً، إلى حد دفع هينريخ بولينجر خلف زونجلى إلى أن يحزن لفقدها. وكان لزونجلى نفسه موقف متسامح من التماثيل التي لا تعبد باعتبارها أصناماً خارقة الصنع (13)، ولكنه صفح عن عملية التقويض باعتبارها زجراً لعبادة الأصنام (14)، وسمح للكنائس القروية في المقاطعة بأن تحتفظ بتماثيلها، إذا كانت هذه رغبة غالبية جموع المصلين. واحتفظ الكثالكة ببعض الحقوق المدنية ولكنهم لم يقبلوا في الوظائف العامة(24/120)
وعوقب كل مَن يحضر القداس بغرامة، وحرم (15) مبدأ أكل السمك بدل من اللحوم يوم الجمعة. وأغلقت أديرة الرهبان والراهبات (باستثناء دير واحد) أو حولت إلى مستشفيات أو مدارس، وبرزت الرهبان والراهبات من الدير لعقد زواجهم، وألغيت أعياد القديسين، واختفت طقوس الحج والماء المقدس والقداسات التي كانت تقام للموتى.
وعلى الرغم من أن كل هذه التغييرات لم تتم حتى عام 1524 فإن الإصلاح الديني حتى ذلك الوقت، كان قد بلغ درجة من الرقي في عهد زونجلى وفي زيورخ، تفوق ما بلغه في عهد لوثر وفي فيتنبرج، وكان لوثر وقتذاك راهباً أعزب لا يزال يردد القداس.
وشكلت زيورخ مجلساً خاصاً، في نوفمبر عام 1524، يتكون من ستة أعضاء لإعداد الاتفاقات اللازمة لفض المشاكل العاجلة أو الدقيقة، التي كانت تعاني منها الحكومة، وتم بين زونجلى وهذا المجلس نوع من التفاهم، اتخذ شكلاً ما، إذ سلم له بتنظيم كل الشئون الخاصة برجال الدين والعلمانيين على السواء. وكان المجلس في كل من المجالين يتبع قيادته. وأصبحت الكنيسة والدولة في زيورخ منظمة واحدة، على رأسها زونجلى بصفة غير رسمية، وفيها ارتضى الإنجيل (كما هو الحال بالنسبة للقرآن في الإسلام) المصدر الأول والحكم الأخير للشريعة. وتحقق في زونجلى، كما تحقق في كالفن فيما بعد، المثل الأعلى للنبي الذي يرشد الدولة، كما تصوره العهد القديم.
وما أن حقق زونجلى هذا النجاح التام والسريع في زيورخ حتى قلب عيناً متسائلة في المقاطعات التي تدين بالكاثوليكية، وتساءل ألا يمكن كسب سويسرة بأسرها لصف الشكل الجديد للعقيدة القديمة.(24/121)
4 - إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون
ولقد مزق الإصلاح الديني "الاتحاد" ويبدو أنه قدر له أن يقضى عليه. وآثرت برن وبازيل وشافهاوزن وآبنتسل والجريزونيون أن تناصر زيورخ، أما باقي المقاطعات فقد ناصبها العداء. وكونت خمس مقاطعات - وهي لوسرن وأورى وشيفتيز وأونترفالدن وتسوج - حلفاً كاثوليكياً لقمع كل الحركات الهسية واللوثرية والزونجلية (1524)، وحث الأرشيدوق فرديناند النمساوي كل الولايات الكاثوليكية على أن تقوم بعمل موحد، ووعدها بتقديم المساعدة. وليس من شك في أنه كان يطمح في أن يستعيد سلطات آل هامبسبورج في سويسرة. وفي السادس عشر من يوليو وافقت كل المقاطعات باستثناء شافهاوزن على إقصاء زيورخ من المجالس النيابية الاتحادية في المستقبل. وردت زيورخ وزونجلى على هذا بإرسال مبشرين إلى مقاطعة ثورجاوي لإعلان الإصلاح الديني. وقبض على واحد من هؤلاء، إلا أن بعض الأصدقاء أنقذوه، وساروا في حشد هائج نهب ديراً وأحرقه، وحطم التماثيل في عدة كنائس (يوليو 1524)، وأعدم ثلاثة من الزعماء، وثارت روح عسكرية بين الطرفين. وروّع أرازموس، وهاله الظهور في بازيل خشية أن يرى متعبدين أتقياء يثورون بعد سماع وعظهم ويخرجون من الكنيسة "كرجال تملكتهم جنة، يرتسم الغضب والهياج على أساريرهم ... كمحاربين يسيرون وراء قائدهم للقيام بهجوم قوي" (16). وهدد ست مقاطعات بأن تترك الاتحاد إذا لم يوقع العقاب على زيورخ.
وأشار زونجلى، وقد أعجبه القيام بدوره الجديد كقائد حربي على زيورخ بأن تزيد من عدد جيشها وطاقة دار صناعة أسلحتها، وأن تنشد التحالف مع فرنسا، وأن تشعل ناراً وراء فرديناند بالتحريض على الثورة(24/122)
في التيرول وبعد تورجاو وسان-جال بمنحهما أملاك الأديرة مقابل تأييدهما لها. وعرض على الحلف الكاثوليكي السلام بثلاث شروط:
أن يسلم لزيورخ دير سان-جال الشهير وأن يتخلى عن الحلف النمساوي وأن يسلم إلى زيورخ توماس مورنر الهجاء اللوسرني، الذي طالما وجه نقداً لاذعاً في كتاباته للمصلحين الدينيين. وسخر الحلف من هذه الشروط، فأمرت زيورخ ممثليها في سان-جال بالاستيلاء على الدير فأطاعوا (28 يناير 1529) وخفت حدة التوتر في فبراير إثر أحداث في بازيل.
كان زعيم البروتستانت في "أثينا سويسرة" هو جوهانس هاوسشاين، الذي أسبغ على اسمه صفة الهلينية، ومعناه مصباح البيت، وأطلق على نفسه اسم أويكو لامباديوس. وقد نظم الشعر باللاتينية، وهو في الثانية عشرة من عمره، وسرعان ما أتقن اللغة اليونانية فيما بعد، وكان لا يفوقه في إتقان اللغة العبرية إلا رويخلين، وذاع صيته كمصلح ديني وأخلاقي رقيق العاطفة في كل شيء إلا الدين، وذلك من فوق منبره في كنيسة سانت مارتن، وفي كرسي الأستاذية للاهوت في الجامعة. وما أن حل عام 1521 حتى كان يهاجم مساوئ كرسي الاعتراف وعقيدة التجسد وعبادة العذراء. وحياة لوثر عام 1523، وتبنى عام 1525 برنامج زونجلى الذي يشمل اضطهاد اللامعمدانيين، ولكنه رفض التسليم بالقدر وعلم الناس أن "خلاصنا يأتي من الله أما هلاكنا فمن أنفسنا" (17). وعندما أعلن مجلس مدينة بازيل، وقد رجحت فيه وقتذاك كفة البروتستانت، حرية العبادة (1528) احتج أويكو لامبادموس وطالب بتحريم القداس.
واجتمع في 8 فبراير عام 1529 ثمانمائة رجل في كنيسة الفرانسسكان وبعثوا بطلب إلى المجلس التمسوا فيه ضرورة تحريم القداس وعزل كل الكثالكة من مناصبهم وبسريان دستور أكثر ديمقراطية، وتشاور المجلس في الأمر،(24/123)
وفي اليوم الثاني أقبل مقدمو الالتماس إلى السوق، وهم مدججون بالسلاح، وعندما حل الظهر ولم يصل المجلس بعد إلى قرار تحرك الحشد نحو الكنائس بالمطارق. وحطموا كل التماثيل الدينية التي وجدوها (18). ووصف أرازموس الواقعة في خطاب له بعث به إلى بيركهايمر:
لقد رفع الحدادون والعمال كل الصور من الكنائس، وانهالوا بالشتائم على تماثيل القديسين والصليب نفسه. بصورة تدعوا إلى الدهشة، لعدم حدوث معجزة، بعد أن رأينا كيف اعتاد الناس الكثير منها دائماً عندما يساء إلى القديسين أدنى إساءة. أنهم لم يبقوا على تمثال واحد في الكنائس أو في الدهاليز أو في الأروقة أو في الأديرة. وطمست الصور الجدارية بوساطة تغطيها بطبقة من الجير، وألقي في النار بكل ما يمكن حرقه ودق الباقي حتى استحال إلى شظايا. ولم يستبق شيء بدافع الحب أو المال (19). وتلقف المجلس التلميح وسوط بإلغاء القداس إلغاء كاملاً، وغادر بازيل أرازموس وبياتوس رينانوس وكل الأساتذة في الجامعة تقريباً. وعاش أويكو لمباديوس المظفر حتى شهد اندلاع نيران الثورة، ولكنه لم يعمر إلا سنتين، إذ سرعان ما مات بعد وفاة زونجلى.
وفي مايو عام 1529 أحرق على الخازوق مبشر بروتستانتي من زيورخ، حاول أن يقدم عظاته في مدينة شفيتر. وأقنع زونجلى مجلس مدينة زيورخ بإعلان الحرب، ورسم خطة الحملة، وقاد بنفسه فرق المقاطعة. وأوقفهم رجل يدعى لانديمان أيبلي الجلاروسي في كابيل، التي تقع على بعد عشرة أميال جنوبي زيورخ، وتوسل إليهم أن يمنحوه، على سبيل الهدنة، ساعة يتفاوض فيها مع الحلف. وساور زونجلى الشك في أن الأمر ينطوي على خيانة، وآثر أن يتقدم بجيشه فوراً إلا أن حلفاءه من أهل بيرن تغلبوا عليه هم وجنوده الذين تآخوا بالفعل مع جنود العدو عبر الحدود الفاصلة بين المقاطعتين وبين اللاهوتيين، واستمرت المفاوضات ستة عشر يوماً(24/124)
وأخيراً رجحت كفة التعقل بين السويسريين، ووقعت اتفاقية كابيل الأولى للسلام (24 يونية 1529) وكانت شروط الاتفاقية انتصاراً لزونجلى، إذ وافقت المقاطعات بموجبها على دفع تعويض لزيورخ، وإنهاء تحالفها مع النمسا، وحظر مهاجمة أي من الطرفين للآخر بسبب الفوارق الدينية، وعلى أن يترك للناس في "الأراضي المشتركة" التابعة لمقاطعة أو أكثر أن يقرروا بأغلبية الأصوات تنظيم حياتهم الدينية. ومهما يكن من أمر فإن زونجلى لم يرضَ عن هذا الاتفاق، فقد طالب بإطلاق حرية البروتستانت في الوعظ بالمقاطعات الكاثوليكية، ولم يتلقَ ما يفيد إجاباته إلى طلبه، وتنبأ بوقوع تصدع قريب للسلام.
واستمرت الاتفاقية سارية المفعول ثمانية وعشرين شهراً، وفي خلال هذه الفترة القصيرة بذلت محاولة لتوحيد صفوف البروتستانت في سويسرة وألمانيا. وكان شارل الخامس قد فض نزاعه مع كليمنت السابع، وأصبح كل منهما وقتذاك حراً في أن ينضم بقواته لمحاربة البروتستانت، ولكن هؤلاء كانوا يمثلون قوة سياسية عظيمة، فقد كان نصف سكان ألمانيا من أتباع لوثر، وكان كثير من المُدن الألمانية - أولم وأوجسبورج وفيرتمبيرج وماينز وفراكفورت - على - وشتراسبورج - تتعاطف بشدة مع أتباع زونجلى، وعلى الرغم من أن المناطق الريفية في سويسرة كانت تدين بالكاثوليكية، فإن معظم المُدن فيها كانت تدين بالروتستانتية. وكان من الواضح أن حماية النفس من الإمبراطوريّة والبابوية قد تطلبت اتحاد البروتستانت ولم يقف في الطريق إلا اللاهوت.
وأخذ فيليب لاندجراف الهيسي زمام المبادرة بدعوة لوثر وميلانكنون وآخرين من البروتستانت الألمان لمقابلة زونجلى وأويكو لانبيادوس وآخرين من البروتستانت السويسريين في قصره بماربورج شمالي فرانكفورت. وتقابل الحزبان المتناظران في 29 سبتمبر سنة 1529، وأقدم(24/125)
زونجلى في سخاء على التسليم ببعض الأمور وأزال ما ساور لوثر من شك في أنه يتشكك في ألوهية المسيح، وقبل العقيدة النيقاوية والمذهب القائل بالخطيئة الأصلية. ولكنه لم يتراجع عن رأيه في القربان المقدس باعتباره رمزاً وذكرى أكثر منه معجزة. وكتب لوثر بالطباشير على مائدة المؤتمر هذه الكلمات المنسوبة للمسيح: "هذا جسدي" ولم يقبل أن يفسرها إلا تفسيراً حرفياً. ووقع الطرفان اتفاقاً. تضمن أربعة عشر بنداً، ولكنهما اختلفا في موضوع القربان المقدس (3 أكتوبر) ولم يكن اختلافهما متسماً بالود، ورفض لوثر أن يصافح اليد التي مدها إليه زونجلى، وقال: "إن روحك تختلف عن روحنا". واستخلص اعترافاً لاهوتياً من سبعة عشر بنداً يشمل "التجاسد"، وأقنع الأمراء اللوثريين برفض التحالف مع أي جماعة لا توقع على كل البنود السبعة عشر (20). واتفق ميلانكتون في الرأي مع أستاذه، وكتب يقول لقد أبلغنا أتباع زونجلى إننا عجبنا كيف تسمح لهم ضمائرهم بأن ينادونا باخوتهم في الوقت الذي يتمسكون فيه بأن عقيدتنا خاطئة (21). وهنا تتضح روح العصر في جملة واحدة. وفي عام 1532 حث لوثر الدوق البرخت البروسي على ألا يسمح لأي شخص من أتباع زونجلى بالإقامة في أرض بلاده، وإلا حطت عليه اللعنة الأبدية.
وكان كثيراً جداً مطالبة لوثر بأن يجتاز في خطوة واحدة المسافة من العصور الوسطى إلى الحديثة، فقد كان تأثره بدين القرون الوسطى عقيماً جداً، إلى حد أنه لم يستطع أن يتحمل صابراً أية جحود لأركانه الأساسية؛ وأحس، كأي كاثوليكي متدين، أن عالمه الفكري سوف ينهار، وأن معنى الحياة بأسره سوف يذوى، إذا خسر أي عنصر أساسي من عناصر العقيدة التي كانت قد صاغته، والحق أن لوثر كان أقرب المحدثين إلى القرون الوسطى.
وعاد زونجلى بعد أن حطمه هذا الفشل إلى زيورخ، التي أصبحت تموج بالاضطراب تحت وطأة دكتاتوريته. وعم الإستياء من قوانين النفقات(24/126)
الصارمة، وعرقلت التجارة بالاختلافات الدينية بين المقاطعات، ولم يرض الحرفيون عن صوتهم الضئيل في الحكومة، وفقدت عظات زونجلى المختلطة بالسياسة إلهامها وسحرها. وكان شعوره بالتغيير قوياً إلى الحد الذي طلب فيه من المجلس الأذن له بالبحث عن أبرشية في مكان آخر، ولكنه أقنع بالبقاء.
وخصص جانباً كبيراً من وقته آنذاك للكتابة، وأرسل عام 1530 رسالته ratio fidei إلى شارل الخامس، الذي لم يبد منه ما يدل على أنه تلقاها.
وفي عام 1531 وجه إلى فرانسس الأول رسالة عنوانها "عرض موجز وواضح للعقيدة المسيحية"، وفي هذه الرسالة عبر عن اقتناعه، الآرازموسي بأن أي مسيحي سوف يجد عند وصوله إلى الفردوس كثيراً من اليهود والوثنيين الأجلاء، إنه لن يجد آدم وإبراهيم وإسحق وموسى وإشعيا فحسب ... ولكنه سيجد أيضاً هرقل وتيزيوس وسقراط وأرستيد ونوما وكاميلوس وكاتو الكبير والصغير وسيبيو الكبير والصغير، وقال: "وباختصار ليس هناك رجل صالح ولا عقل مقدس ولا روح مخلصة، منذ بداية العالم إلى نهايته، لن نراها هناك مع الله. ماذا يمكن أن نتصور أنه أكثر بهجة للنفس ومسرة الفؤاد وسموا بالروح من هذا المنظر" (22). وذعر لوثر لهذه الفقرة إلى حد أنه انتهى إلى أن زونجلى لابد أن يكون "وثنياً" (23)، واتفق الأسقف بوسويه في الرأي في هذه المرة مع لوثر، فاستشهد بهذه الفقرة ليثبت أن زونجلى (24) كافر لا أمل في إصلاحه.
واجتمع في 15 مايو عام 1531 مجلس من زيورخ وحلفائها، وصوت لإكراه المقاطعات الكاثوليكية على السماح بحرية الوعظ على أرضها، وعندما رفضت المقاطعات اقترح زونجلى إعلان الحرب عليها غير أن حلفاءه آثروا أن يفرضوا عليها حصاراً اقتصادياً، فما كان من المقاطعات الكاثوليكية إلا أن أمسكت عن الواردات وأعلنت الحرب. وسار من جديد(24/127)
جيشان متناظران، وتقدم زونجلى مرة أخرى وحمل العلم، وتقابل الجيشان مرة ثانية في كابيل (11 أكتوبر سنة 1531) - جيش الكاثوليك ويضم 8000 رجل وجيش البروتستانت ويضم 1500 - واشتبك الجيشان في هذه المرة وانتصر الكاثوليك. وكان زونجلى البالغ من العمر سبعة وأربعين عاماً من بين 500 رجل قتلوا من أهل زيورخ. ومزق جسده إلى أربعة أجزاء، ثم أحرق على محرقة نصبت فوق الروث (25). وعندما سمع لوثر بموت زونجلى هتف يقول "إن هذا حكم السماء على كافر (26) وانتصار لنا" (27) ويروى أنه قال: "كم أود من أعماق قلبي لو أمكن إنقاذ حياة زونجلى ولكني أخشى أن يحدث العكس لأن المسيح قال إنه: "ملعون كل مَن يكفر به" (28").
وخلف هينريخ بولنجر في زيورخ سلفه زونجلى، أما في بازيل فقد اضطلع أوزوالد بيكونيوس بالعبء بعد وفاة أويكو لامبيادوس، وتجنب بولينجر الخوض في الأمور السياسية، وأشرف على مدارس المدينة، وتستر على اللاجئين من البروتستانت، ووزع أموال البر على المحتاجين، بغض النظر عن المذهب الذي يعتنقونه، وانضم إلى ميكونيوس وليوجود في صياغة أول إقرار للسويسريين البروتستانت من أتباع زونجلى الذي ظل جيلاً كاملاً التعبير الرسمي عن آراء زونجلى، واستخلص مع كالفين اتفاق تيوجورينوس (1549) Consensus Tigurinus الذي حمل زيورخ والبروتستانت من أهالي جنيف على تكوين "كنيسة تؤمن بالإصلاح الديني".
وعلى الرغم من هذا الاتفاق الوقائي فإن الكاثوليكية استعادت في السنين الأخيرة كثيراً من أرضها المفقودة في سويسرة. ويرجع جزء من ذلك إلى انتصارها في كابيل، وليس من شك في أن إثبات قضايا اللاهوت أو عدم إثباتها في التاريخ إنما يتم بالتنافس في المذبحة أو في إثراء الموارد. واعتنقت الكاثوليكية سبع مقاطعات - وهي لوسرن وأورى وشفيتز(24/128)
وتسوج وأوفترفالدن وفريبورج وسولوثورن. وتمسكت أربع مقاطعات بالبروتستانتية نهائياً ... وهي زيورخ وبازل وبيرن وشلافهاوزن، أما بقية المقاطعات فقد ظلت تتأرجح بين العقيدتين لا يستقر رأيها على قرار على مجه اليقين، ووفق فالنتين تشودي، خلف زونجلى في جلاروس، بين وجهتي النظر، بأن قال بإقامة قداس في الصباح للكاثوليك، وإلقاء عظة حسب تعاليم الكنيسة الإنجيلية - من الكتاب المقدس لا غير - في المساء للبروتستانت، وناقش مبدأ التسامح المتبادل بين الطرفين، وقوبل بالتسامح، وكتب مدونة تاريخية، اتسمت بعدم التحيز، إلى حد أنه لا يستطيع امرؤ أن يجزم بالعقيدة التي كان يؤثرها، فحتى في ذلك العصر كان هنالك مسيحيون.(24/129)
الفصل التاسع عشر
لوثر وأرازموس
(1517 - 1536)
1 - لوثر
بعد أن أجملنا الظروف الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية، والفكرية، التي شهدت مهد الإصلاح الديني، نرى لزاماً علينا أن نعد من عجائب التاريخ في ألمانيا أن يتمكن رجل واحد من أن يجمع، بلا قصد هذه التأثيرات في ثورة، غيرت في صورة قارة. ولسنا في حاجة إلى المبالغة في دور البطل هنا، ذلك لأن قوى التغيير كان يمكن أن تجد تجسيماً آخر لها، إذا استمر لوثر في خضوعه. ومع ذلك فإن منظر هذا الراهب الخشن، وهو واقف في شك وفزع، لا يستقر على قرار، ضد أقوى النظم حصانة، وأشد العادات قداسة في أوروبا، يجعل الدم يغلي في العروق، ويشير مرة أخرى إلى المسافة التي قطعها الإنسان وهو ينحدر من الطين أو القرد.
ترى كيف بدا ذلك الرجل، الذي كان صوت عصره المدوي، كما كان قمة من قمم التاريخ الألماني؟ لقد كان في عام 1526، كما صوره لوكاس كراناخ (1)، وهو في الثالثة والأربعين من عمره في مرحلة التحول من النحافة إلى البدانة، صارم القسمات وإن لم يخلُ من لمحة مرح قوية، وله شعر مجعد لا يزال حالك السواد، وأنف ضخم، وعينان سوداوان لامعتان - قال خصومه إن الشياطين تظهر فيهما للعيان. وكانت له سحنة صريحة(24/130)
لا تخفي شيئاً جعلته يصلح للدبلوماسية. وثمة صورة شخصية رسمها له فيما بعد كراناخ أيضاً (1532) ظهر فيها لوثر في هيئة رجل منبسط الأسارير، له وجه مستدير عريض يجعل الناظر يحكم بأنه رجل يستمتع بالحياة. وتخلى عام 1524 عن مسوح الراهب، واتخذ لباس واحد من عامة الناس، فكان يرتدي ثوب المدرس حيناً، ويلبس سترة وسراويل عادية حيناً آخر، ولم يتعفف عن رتق هذه الثياب بنفسه. وقد شكت زوجته مرة من أن هذا الرجل العظيم اقتطع رقعة من سراويل ولده، ليصلح بها من شأن سراويله.
ولقد انزلق إلى الزواج بطريق السهو، واتفق في الرأي مع القدّيس بولس بأنه خير للمرء أن يتزوج ولا يحرق، وصرح بأن الجنس أمر فطري وضروري كالطعام (2)، واحتفظ بالفكرة السائدة في القرون الوسطى، والتي تذهب إلى أن الجماع أمر آثم، حتى في الزواج، ولكن "الله يستر الخطيئة" (3)، وندد بالعذرة باعتبارها انتهاكاً لسنة الله التي تقضي بالتناسل والتكاثر وإذا "لم يستطع واعظ بالإنجيل أن يعيش محتفظاً بعفته دون أن يتزوج، فلنسمح له باتخاذ زوجة، لأن الله خلقها بلسماً لذلك الجرح" (4). وكان يعد طريقة البشر في التناسل منافية للعقل بعض الشيء، على الأقل عند تأمل الماضي، ورأى أنه "لو استشارني الله في الأمر لأشرت عليه بأن يستمر في خلق جيل من البشر بتشكيلهم من الطين مباشرة كما خلق آدم" (5). وكان مفهومه عن المرأة تقليدياً وألمانياً، فالله قد خلقها للحمل والطهي والصلاة لا لأي شيء آخر، وهو القائل "إنتزع النساء من تدبير شئون المنزل، تجدهن لا يصلحن لشيء" (6). و "إذا أنهك الحمل النساء، ولقين حتفهن، فليس في هذا ضرر دعهن يلاقين حتفهن ما دمن يحملن، فقد خلقن لهذا" (7). ويجب على المرأة أن تمنح زوجها الحب، وأن تحافظ على شرفه، ولا تعصي له أمراً، وعليه أن يحكمها، ولكن برفق، ويجب عليها أن تلزم(24/131)
مجالها وهو البيت، ولكنها تستطيع هناك أن تفعل بالأطفال ببنانها أكثر مما يستطيع الرجل أن يفعل بقبضتيه (8). وبين الرجل والزوجة يجب ألا يكون هناك ملكي وملكك وذلك لأن كل الممتلكات يجب أن تكون بينهما على المشاع (9).
وكان لوثر يكن كراهية الذكر العادية للمرأة المتعلمة، وقال عن زوجته "بودي أن تتلو النساء صلاة الرب قبل أن ينبسن بشفة" (10)، ولكنه ازدرى الكتاب الذين ألفوا مقالات في هجو النساء، وقال: "مهما يكن في النساء من عيوب فإننا يجب أن نردعهن في الخلوة برفق ... لأن المرأة قارورة هشة" (11). وعلى الرغم من صراحته الفظة في أمور الجنس والزواج، فإنه لم يكن يخلو من الإحساس بالاعتبارات الجمالية، ويقول: "الشعر أجمل زينة للمرأة. وقد اعتادت العذارى قديماً أن يرسلن شعورهن، إلا إذا كن يرتدين ثياب الحداد، وأنا أحب أن ترسل النساء شعورهن حتى يسقط على ظهورهن، فهو منظر من أروع المناظر وألطفها" (12). (وكان هذا حرياً بأن يجعله أكثر ليناً مع البابا إسكندر السادس الذي عشق شعر جوليافارنيزي المرسل).
ويبدو أن لوثر لم يتزوج لإشباع حاجة من حاجات الجسد. وقال في نوبة من المرح، إنه قد تزوج لإرضاء والده، وعلى الرغم من أنف الشيطان والبابا، ولكنه استغرق وقتاً طويلاً لكي يستقر على رأي في هذا الموضوع ثم حسم الأمر له. وعندما تركت بعض الراهبات ديرهن بناء على توصية منه أخذ على عاتقه أن يجد لهم أزواجاً. ولم يبق في آخر الأمر منهن واحدة لم تتزوج، إلا كاترين فون بورا، وهي امرأة كريمة المحتد على خلق قويم، ولكنها لم تخلق لتثير عاطفة متعجلة، وكانت قد وضعت أنظارها على طالب شاب من فيتنبرج، ينحدر من سلالة نبيلة، وفشلت في أن توقعه في حبائلها، وعملت مربية لكي تكسب ما يسد رمقها. واقترح عليها(24/132)
لوثر أن تتزوج من الدكتور جلاتس، فردت عليه بأنها لا تقبل هذا الدكتور، ولكن ليس لديها مانع من الزواج من هرامسدوف أو الدكتور لوثر. وكان لوثر في الثانية والأربعين من عمره وقتذاك، بينما كانت كاترين في السادسة والعشرين، ورأى أن التفاوت في السن يحرم عليه هذا الزواج، غير أن أباه حثه على أن يحافظ على اسم الأسرة. وهكذا تزوج الراهب السابق في 27 يونية سنة 1525 من الراهبة السابقة.
ومنحهما الأمير المختار الدير الأوغسطيني لكي يتخذا منه مقراً لهما ورفع مرتب لوثر إلى 300 جيلدر (7. 500 دولار) في العام، ثم زيد هذا المرتب فيما بعد إلى 400، ثم إلى 500. واشترى لوثر مزرعة أدارتها كاتي، وأحبتها وأنجبت له ستة أطفال، وتعهدتهم بالرعاية في اخلاص، ولبت كل احتياجات مارتن المنزلية من معصرة للخمر بالبيت، وبركة للسمك، وحديقة للخضر، وربت له الدواجن والخنازير. وقد أطلق عليها اسم "سيدى كاتي" وأشار بهذا إلى أن في وسعها أن تضعه في موضعه إذا ما نسي خضوع الرجل بيولجياً للمرأة، ومع ذلك فقد كان عليها أن تتحمل الكثير من ثوراته العاصفة بين آن وآخر، وثقته التي تصل إلى حد عدم التبصر، وذلك لأنه كان لا يعبأ قط بالمال، وكان كريماً إلى حد التهور، ولم يتسلم من كتبه حقوق التأليف، على الرغم من أنها عادت بثروة طائلة على ناشريها، وتميط رسائله إلى كاترين أو عنها اللثام عن حبه المتزايد لها، وعن زواج موفق بصفة عامة. ولقد ردت بطريقته الخاصة ما قيل له في شبابه "إن أعظم نعمة يمنحها الله للإنسان زوجة تقية رقيقة، تخشى الله وتحب البيت" (13).
وكان أباً صالحاً يعرف بالفطرة كيف يمزج على أحسن وجه بين التأديب والحب. ويقول: "عاقب إذا لم يكن هناك بد من ذلك ولكن قدم قطعة الحلوى (بونبون) مع العصا" (14) وألف أغنيات لأطفاله، وغناها معهم، وهو يعزف على العود، وتعد خطاباته إلى أطفاله من درر الأدب الألماني.(24/133)
وإذا كان قد استطاع بقوة شكيمته أن يواجه إمبراطوراً في الحرب، فإن شجاعته قد انهارت بموت ابنته الأثيرة ماجدالينا، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وقال: "إن الرب لم يهب أسقفاً نعمة كبرى في ألف عام كما وهبها لي ممثلة فيها" (15). وكان يتلو الصلوات ليلاً ونهاراً، طالباً لها من الله الشفاء وقال: "رباه إني أحبها كثيراً، ولكن إذا شاءت إرادتك تعالى أن تأخذها، فإني أتخلى عنها لكم عن طيب خاطر" (16). وقال لها: "إبنتي الصغيرة العزيزة لينا، إنكِ تحبين أن تظلي هنا مع أبيكِ. أتريدين أن تذهبي إلى ذلك الأب الآخر؟ ". فأجابت لينا: "نعم يا أبتاه كما يشاء الله". وعندما قضت نحبها بكاها طويلاً بكاء مريراً، وبينما كانت توسد في الثرى، خاطبها قائلاً كما لو كانت حية ترزق: "أنتِ تحبين وسوف تنهضين وتشرقين كالنجوم والشمس. إنه لأمر غريب أن يعرف الإنسان إنها ترقد في سلام، وإن كل شيء على ما يرام، ومع ذلك يشعر بالأسى والحزن" (17).
ولم يقنع بستة أطفال فآوى في بيته كثير الغرف بالدير أحد عشر يتيماً من أولاد أخيه وأخته، ورباهم، وكثيراً ما جلس معهم إلى المائدة، وتجاذب معهم أطراف الحديث في غير ملل، وحزنت كاترين لاحتكارهم إياه. وأبدى بعضهم ملاحظات جريئة على حديثه معهم حول المائدة. وليس من شك في أن حصيلة 6596 تدوين لأحاديثه تضارع أحاديث جونسن لبوزويل، وأحاديث نابليون المدونة، في الوزن والذكاء اللماح والحكمة.
ويجب علينا عند الحكم على لوثر أن نتذكر أنه لم يعد سلفاً أحاديث المائدة هذه، وقل بين الرجال من تعرض تماماً إلى استراق السمع من البشر، فهنا لا في المجادلات التي كانت في ميدان المعركة اللاهوتية، نجد لوثر في بيته على سجيته. وندرك، أولاً وقبل كل شيء أنه كان إنساناً لا مجرد(24/134)
دواة، وأنه عاش حياته وكتب عنها. ولا يمكن شخص صحيح الجسم أن ينفس على تلذذه بأطايب الطعام وشراب الجعة، أو استمتاعه المثمر بكل المباهج، التي استطاعت كاترين بورا أن توفرها له. ولعله كان حرياً به أن يكون، بدافع الحرص، أكثر تحفظاً في هذه الأمور، ولكن التحفظ جاء مع المتطهرين، ولم يعرفه الإيطاليون في عصر النهضة، ولا الألمان في عهد الإصلاح الديني، بل إننا نجد أن أرازموس الرقيق يصدمنا بحديثه الفسيولوجي الصادق. كان لوثر يأكل بإفراط، ولكنه استطاع ردع نفسه بالصوم الطويل، وكان يفرط في الشراب ولكنه كان يبدي الأسف، ويعد الشرب رذيلة قومية، ومع ذلك فإن الجعة كانت ماء الحياة بالنسبة للألمان، كالنبيذ بالنسبة للإيطاليين والفرنسيين، وكان يمكن أن يكون الماء سماً زعافاً قي تلك الأيام الخوالي، ومع ذلك فإننا لم نسمع قط عن إفراطه في السكر حتى يفقد صوابه، وقال: "إذا كان الله يغفر لي إني صلبته بالقداسات عشرين عاماً مضت، فإنه يستطيع أن يتحملني لأني أتناول شراباً طيب المذاق، من آن لآخر، لكي أكرمه" (18).
وبدت أخطاؤه واضحة للعين والأذن، فقد كان الفخر يشيع وسط تعبيراته الدائمة عن التواضع. وكان عقيدياً ضد العقيدة، مفرطاً في الحماسة لا يبدي أية مجاملة لخصومه، ويتشبث بالخرافات، في الوقت الذي يسخر فيه من الخرافة، ويندد بالتعصب ويمارسه في الوقت نفسه - وهكذا لم يكن قدوة للصلابة أو مثلاً أعلى للفضيلة، ولكنه رجل جمع متناقضات الحياة، وإنسان مزقه بارود الحرب، وقد اعترف قائلاً "لم أكن أتوانى عن الانقضاض على خصومي بلسان حاد، ولكن ما فائدة الملح إذا لم يكن لاذع الطعم؟ " (19) وتحدث عن المراسي البابوية، فوصفها بأنها قذارة وروث (20)، وقال عن البابا إنه: "بذرة الشيطان" أو الملازم، ووصفه بأنه خصم للمسيحية، أما الاساقفة فقد نعتهم بأنهم "ديدان" وهراطقة كفرة "وقردة جهلة" وتحدث عن الرسامة الكهنوتية فقال إنها بمثابة دمغ إنسان "بشارة(24/135)
البهيم في سفر الرؤيا"، وقال عن الرهبان إنهم أسوأ من الجلادين أو السفاحين أو على أحسن الفروض "براغيث فوق فراء الرب القادر" (21) ولنا أن نتصور إلى أي حد كان المستمعون إليه يجدون متعة في هذا العبث. وقد قال: "إن الجزء الوحيد من جسم الإنسان الذي اضطر البابا إلى إعفائه من رقابته هو العجز! " (22) وكتب يصور رجال الدين الكاثوليك بقوله: "إن نهر الراين لا يكاد يتسع لكي يغرق فيه كل عصبة المغتصبين الرومانيين الملاعين ... كرادلة ومطارنة وأساقفة ورهبان" (23) أو إذا نقص الماء "لعل الله يرضى بأن يرسل عليهم صليباً من النار والكبريت كالذي قضى على سودوم وعمورة" (24)، وهذا يذكر الإنسان بالتعليق الذي صدر من الإمبراطور جوليان: "ليس هناك حيوان مفترس أشد ضراوة من عالم لاهوت غاضب" (25). ولكن لوثر عجب مثل كلايف لاعتداله وقال: "يعتقد الكثيرون إني شديد الشراسة ضد البابوية، ولكني على النقيض من ذلك أشكو من أنني، للأسف لين العريكة إلى حد كبير. وكم أود أن أنفث صاعقة ضد البابا والبابوية، وأن تكون كل ريح صاعقة (36): ولسوف ألعن وأنتهر الأفاقين حتى أثوي في لحدي، ولن ينالوا مني كلمة مهذبة ... لأني لا أستطيع أن أصلي دون أن أصب اللعنات في الوقت نفسه. وإذا كنت مدفوعاً إلى أن أهتف "تبارك اسمك" فإنني يجب أن أضيف أن "اسم البابوية ملعون رجيم مغضوب عليه". وإذا كان ثمة ما يدفعني إلى أن أهتف "لتأتي مملكتك" فإني مضطر إلى أن أضيف "البابوية ملعونة، رجيمة، هالكة لا محالة. والحق أني أتلو صلواتي سنوياً على هذا النحو كل يوم وسراً في قلبي دون توقف (27)، وإني لا أعمل أبداً على خير وجه إلا عندما أستلهم الغضب، ذلك أني أستطيع، عندما أكون غاضباً أن أكتب، وأن أصلي، وأن أعظ على خير وجه، لأن مزاجي بأسره يستثار، وإدراكي يزداد حدة" (28)، ومثل هذه العاطفة البلاغية كانت تتفق مع روح العصر. ويعترف الكاردينال جاسكيه العلامة قائلاً: "إن بعض الوعاظ وكتاب الرسالات من طائفة المحافظين كانوا(24/136)
يضارعون لوثر في هذه الناحية" (29). وكان الطعن متوقعاً من المتصارعين في مجال الفكر، ويستطيبه المستمعون، وكان الشك يخامر الناس في أن الأخلاق المهذبة دليل على الجبن. وعندما وجهت زوجة لوثر اللوم إليه بقولها: "أنت فظ للغاية يا زوجي العزيز" - رد عليها مجيباً: "إن الغصن يمكن قطعه بسكين الخبز أما شجرة البلوط فتستلزم الفأس" (30) وإن جواباً ليناً يمكن أن يطفئ سورة الغضب، ولكنه لا يستطيع أن يقلب البابوية رأساً على عقب، وحري بأي إنسان هذب حاشيته الكلام الدمث، أن يتنكب معركة مميتة مثل هذه. وقد اقتضى الأمر جلداً صفيقاً - أغلض من جلد أرازموس - لنبذ الأوامر البابوية والحرمان من غفران الكنيسة وأوامر التحريم الإمبراطوريّة.
واقتضى الأمر أيضاً إرادة قوية، وهذه كانت صخرة القاع بالنسبة إلى لوثر، ومن هنا كانت ثقته بنفسه وعقيدته وشجاعته وتعصبه. ومع ذلك فإنه كان لا يخلو من بعض الفضائل الرقيقة، ففي أواسط عمره كان مثلاً أعلى في الروح الاجتماعية والمرح، ودعامة قوية لكل مَن هم في حاجة إلى العزاء أو العون. ولم يشمخ بأنفه أو يتأنق في ملبسه، ولم ينسَ قط أن أباه كان فلاحاً، واستهجن نشر مجموعة أعماله، وطلب من قرائه أن يدرسوا الكتاب المقدس بدلاً منها، واعترض على إطلاق اسم "لوثرية" على الكنائس التي كانت تتبع زعامته. وعندما كان يعظ كان يحدث سامعيه باللغة التي يفهمونها. وكان لدعابته مسحة ريفية غذ كانت خشنة مرحة متحللة من كل القيود، مثل عذابات "رابيليه"، وقال شاكياً: "إن أعدائي يفحصون عن كثب كل ما أفعل، فإذا ضرطت في فيتنبرج فإنهم يشمون ريح الضرطة في روما" (31). وقال: "ترتدي النساء النقاب بسبب الملائكة، أما أنا فارتدي السراويل بسبب البنات" (32). وليس من شك في أن الكثيرين منا قد أطلقوا مثل هذه الدعابات الساخرة، ولكنهم(24/137)
لم يجدوا مثل هؤلاء الرواة القساة. والرجل الذي تفوه بمثل هذه الدعابات كان يحب الموسيقى وهي هذا الجانب من عبادة الأوثان؛ وهو نفسه الذي ألف لهم أناشيد رقيقة أو عاصفة، وأسلمها - وفي هذا تحامل لاهوتي كان راكداً لحظة من الزمن - إلى أناشيد متعددة الأصوات، استخدمت من قبل في الكنيسة الرومانية، وقال: "لن أتخلى عن موهبتي الموسيقية المتواضعة مقابل أي شيء مهما كان عظيماً ... وأنا أرى أنه ... ليس هناك فن بعد اللاهوت يمكن أن يضارع الموسيقى، لأنها وحدها بعد اللاهوت تمنحنا ... راحة القلب ومسرة الفؤاد" (33).
وأدى به لاهوته إلى أخلاقيات تؤمن باللين، لأنه علمه أن الأعمال الصالحة لا تكسب صاحبها الخلاص إذا لم تقترن بالإيمان بافتداء المسيح للناس، كما أن الخطيئة لا يمكن أن تضيع الخلاص، إذا بقي مثل هذا الإيمان. وكان يرى أن خطيئة ترتكب بين آن وآخر، قد تشجعنا على اجتياز الصراط المستقيم. وعندما سئم رؤية جسد ميلانكتون وهو يذوي من اثر الوساوس الكئيبة حول زلات صغيرة تتعارض مع القداسة، قال له مداعباً في مرح أصيل: "أكثر من الخطايا، فالله لا يغفر إلا لرجل غارق في الخطايا إلى أذنيه"، ولكنه يسخر من المفتي المصاب بفقر الدم (34) ومع ذلك فإن من السخف أن نصدر حكماً على لوثر بالإدارة على اساس هذا المزاح العارض. وثمة أمر واضح في جلاء وهو أن لوثر لم يكن متطهراً وهو يقول: "إن مشيئة الله الحبيب هي أن نأكل ونشرب ونمرح" (35). ويقول: "إني أنشد المتعة وأتقبلها حيثما أجدها ونحن نعلم الآن، ولله الحمد، أننا نستطيع أن نكون سعداء وضمائرنا مرتاحة" (36). ونصح أتباعه بأن يحتفلوا ويرقصوا يوم الأحد. وأقر ألعاب التسلية ولعب الشطرنج، ووصف اللهو بورق اللعب، بأنه تحويل لا ضرر منه للعقول (37)، التي لم تنضج بعد، وقال كلمة حكيمة عن الرقص: "إن الرقصات أعدت لكي تعلم الدماثة بين(24/138)
الصحبة، وتعقد الصداقة والتعارف بين الشبان والفتيات، وهنا يمكن ملاحظة صلاتهم، وترتيب لقاء شريف عابر بينهم، وأنا نفسي لا مانع عندي من حضوري معهم في بعض الأحايين، ولكن الشباب سيكون أقل إمعاناً في الرقص لو أنني فعلت" (38). وأراد بعض الوعاظ البروتستانت تحريم اللهو، ولكن لوثر كان أكثر تسامحاً وقال: "يجب على المسيحيين ألا يعرضوا عن اللهو، لأن فيه أحياناً فظاظة وفحشاً، فما أحراهم، من أجل هذه الأسباب نفسها، أن يتخلوا أيضاً عن الكتاب المقدس" (29).
فإذا نظرنا لكل هذه الاعتبارات، فإن مفهوم لوثر عن الحياة كان صحياً باعثاً على المرح، إلى درجة ملحوظة لإنسان كان يعتقد أن "كل النوازع الفطرية ليست بعيدة عن الرب أو ضده" (40)، "وأن كل تسعة أرواح من عشرة قدر عليها الله أن تخلد في الجحيم" (41). والحق أن الرجل كان خيراً من لاهوته إلى حد كبير.
وكان عقله قوياً وإن غامت عليه إلى حد بعيد روائح عفن شبابه، وصبغته الحرب باللون الأحمر، فحالت بينه وبين التفكير في فلسفة عقلانية. وكان يعتقد، مثل معاصريه، في الغيلان والساحرات والشياطين، وقدرة الضفادع (42) البرية الحية على الشفاء، والكوابيس الخبيثة، التي تبحث عن العذارى في حمّاماتهن أو في مخادعهن، وتفزعهن ويدفعن بهن إلى الأمومة (43). وسخر من التنجيم، واستخدم مع ذلك في حديثه اصطلاحاته أحياناً، وامتدح الرياضيات، من حيث أنها "تعتمد على الأدلة والبراهين الثابتة" (44)، "وأعجب بما توصل إليه الفلك في جرأة في مجال النجوم، ولكنه، شأنه في هذا شأن جميع معاصريه، رفض النظام الكوبرنيقي في الفلك، باعتباره مناقضاً للكتاب المقدس، وأصر على أن العقل يجب أن يلزم الحدود التي وضعتها له العقيدة الدينية.
وليس من شك في أنه كان محقاً في حكمه الذي يذهب إلى أن الشعور،(24/139)
وليس الفكر، هو عصا الميزان بالنسبة للتاريخ، فالناس الذين يصوغون الأديان يحركون العالم، أما الفلاسفة فإنهم، جيلاً بعد جيل، يغلفون بعبارات جديدة الجهل الفائق للجزء ينصب نفسه حبراً على الكل. وعلى هذا فإن لوثر كان يصلي، بينما كان أرازموس يفكر تفكيراً منطقياً. وبينما كان أرازموس يتملق الأمراء، كان لوثر يخاطب الرب - وقتذاك في كبرياء امرئ، خاض بعزم، معارك في سبيل الرب، فأصبح له الحق في أن يسمع وقتذاك كطفل ضل في فضاء لا نهاية له، وكان واثقاً أن الرب يقف في جانبه، فواجه عقبات يصعب التغلب عليها وانتصر. وقال: "إني أحتمل حقد العالم بأسره، ومقت الإمبراطور والبابا وكل بطانتهم. حسن باسم الرب إلى الأمام! " (45) وكان لديه من الشجاعة ما يكفي لأن يتحدى أعداءه، فلم يكن يدور بخلده ما يدفعه للشك في صدقه. كان يعتقد أن عليه أن يفعل ما ينبغي عليه أن يفعل.
2 - الهراطقة المتعصبون
إن من المفيد ملاحظة كيف انتقل لوثر من التسامح إلى العقيدة بازدياد قوته ويقينه. ومن بين "الأخطاء"، التي اتهم بها البابا ليو العاشر في منشوره Exsurge Domine لوثر، أنه قال: "إن حرق الهراطقة مخالف لإرادة الروح القدس" وفي خطاب مفتوح إلى طبقة النبلاء المسيحيين (1520) نصب لوثر "كل رجل قساً"، وأعطاه الحق في أن يفسر الكتاب المقدس، وفق حكمه الخاص، وفي ضوء فهمه الشخصي (46)، وأضاف قائلاً: "يجب أن نقهر الهراطقة بالكتب لا بالإحراق" (47) وفي مقال له بعنوان عن السلطة الزمنية (1522) كتب يقول:
إن الله هو المتصرف في الروح ولن يسمح لأحد سواه أن يسيطر عليها. ونحن نود أن نجعل هذا واضحاً جلياً، بحيث يفهمه كل إنسان، ولطي يرى نبلاؤنا وأمراؤنا وأساقفتنا إلى أي حد تبلغ حماقتهم، عندما ينشدون(24/140)
إكراه الناس ... على الإيمان بشيء أو بآخر ... لأن الإيمان أو الكفر مسألة ترجع إلى ضمير كل إنسان ... إن السلطة الزمنية يجب أن تقنع بالالتفات إلى شئونها الخاصة، وأن تسمح للناس بأن يؤمنوا بشيء أو بآخر حسبما يستطيعون، وكما يشاءون، وألا تكره أحداً على شيء بالقوة، لأن الإيمان عمل يتم بحرية ولا يكره عليه أحد ... والإيمان والهرطقة لا يشتدان إلا عندما يعارضهما الناس بالقوة الغشوم، بلا سند من كلمة الله (48).
وفي خطاب بعث به لوثر إلى الأمير المختار فردريك (21 أبريل سنة 1524) طلب منه التسامح مع منتسر وآخر من أعدائه. وقال له: "يجب ألا تمنعهما من الكلام، يجب أن تكون هناك طوائف ويجب أن تتعرض كلمة الله لمعركة ... دعنا نترك بين يديه تعالى الصراع، ونطلق الحرية لصدام العقول". وبينما كان الآخرون يدافعون. وفي عام 1528 عندما كان الآخرون يدافعون عن عقوبة الإعدام للامعمدانيين أشار بأنه لم يثبت عليهم الشغب فإنه يجب أن يكتفي بنفيهم.
وعلاوة على هذا فإنه أوصى في عام 1530 بأن تخفف العقوبة على جريمة الكفر من الإعدام إلى النفي. حقاً أنه تحدث في هذه السنوات الحرة كما لو كان يتمنى من أتباعه ومن الله أن يغرقوا البابويين جميعا، أو يتخلصوا منهم، بيد أن هذا كان مجرد "حملة خطابية"، لم يكن يقصدها بصفة جدية. ولقد كتب في يناير عام 1521: "لست أريد أن يدافع أحد عن الإنجيل بالعنف أو القتل"، وفي شهر يونية من ذلك العام وجه اللوم للطلبة في أرفورت، لأنهم هاجموا القساوسة، ومهما يكن من أمر فإنه لم يعارض في "تخويفهم" قليلاً لتحسين لاهوتهم (50). وفي مايو عام 1529 أدان خططاً، أعدت لتحويل الأبرشيات الكاثوليكية عنوة إلى البروتستانتية، وفي أواخر عام 1531 أخذ يلقن الناس "نحن لا نستطيع ولا يجب أن نكره أي إنسان على اعتناق العقيدة" (51).(24/141)
ولكن من الصعب على رجل يمتاز بخلق متين وإيجابي مثل لوثر أن يدافع عن التسامح، بعد أن أصبح مركزه آمناً إلى حد ما. فرجل مثله، على يقين من أنه يحمل كلمة الله، لم يكن بوسعه أن يتسامح فيما يتناقض معها. وكان التحول إلى التعصب أسهل فيما يختص باليهود. فحتى عام 1537 كان لوثر يرى، أن من الواجب أن يغتفر لهم احتفاظهم بعقيدتهم الخاصة، "ما دام الأغنياء من بابواتنا وأساقفتنا والسفسطائيين من فلاسفتنا ورهباننا، هؤلاء الأجلاف الحمقى، تعاملوا مع اليهود، بأسلوب يدفع أي مسيحي إلى أن يفضل أن يكون يهودياً. والحق أني لو كنت يهودياً، ورأيت مثل هؤلاء المعتوهين والحمقى يشرحون معنى المسيحية، لآثرت أن أكون خنزيراً لا مسيحياً ... وأنا أود أن أنصح كل امرئ وأرجوه أن يعامل اليهود برفق، وأن يفقههم الكتاب المقدس، وبوسعي أن أتوقع في هذه الحالة أن يجيئوا إلينا زرافات ووحداناً" (52). ولعل آرثر قد أدرك أن البروتستانتية كانت في بعض مظاهرها عودة إلى الدين اليهودي، وذلك في رفضها للرهبانية والعزوبة المفروضة، على رجال الكهنوت، وتشديدها على العهد القديم والأنبياء والمزامير، وتبنيها (باستثناء لوثر نفسه) لأخلاقيات جنسية أشد صرامة مما تتطلبه الكاثوليكية. وقد خاب أمله عندما لم يقم اليهود بحركة مماثلة نحو البروتستانتية، وساعده عداؤه لتقاضي فائدة على أن ينقلب ضد مقرضي الأموال من اليهود، ثم ضد اليهود بصفة عامة، وعندما نفى جون الأمير المختار اليهود من ساكسونيا (1537)، رفض لوثر التماساً يهودياً للتوسط في الأمر. وفي كتابه حديث المائدة جمع بين "اليهود والبابويين" ووصفهم بأنهم تعساء كفرة ... "وأن الطائفتين جوربان صنعا من قطعة قماش واحدة" (53). واستغرق في سنواته الأخيرة في نوبة غضب جامح ضد السامية، وندد باليهود، ووصفهم بأنهم "أمة من أناس غلاظ كفرة متكبرين خبثاء ممقوتين" وطالب بإشعال النار في مدارسهم وهياكلهم حتى تتقوض دعائمها، وقال:(24/142)
ودعوا كل مَن يستطيع أن يلقي عليهم كبريتاً وزفتاً، وإذا كان في وسع أحد أن يقذفهم بوابل من نار جهنم، فإنه يحسن صنعاً لو فعل هذا ... وهذا ما يجب عمله كرامة لربنا وللمسيحية، حتى يرى الله أننا مسيحيون حقاً. ولتحطم بيوتهم وتدمر أيضاً ... ولتنتزع منهم كتب صلواتهم وتلمودهم وكتابهم المقدس بأسره أيضاً، وليحرم على حاخاماتهم أن يلقنوا الناس تعاليمهم بعد ذلك من الآن فصاعداً، وإلا عوقبوا بالإعدام، ولتغلق في وجوههم الشوارع والطرق العامة، وليحرم عليهم الاشتغال بالربا، ولتؤخذ منهم كل أموالهم وكل ما يكنزون من الذهب الفضة، ولتوضع في الحفظ والصون. وإذا لم يكفِ هذا كله فليطردوا من البلاد كما لو كانوا كلاباً مسعورة (54).
ولم يحدث قط أن غلبت الشيخوخة على لوثر، ففي عام 1522 كان لا يزال متحدياً للبابوات وكتب يقول: "إني لا أقبل أن يحكم على عقيدتي أحد حتى لو كان من الملائكة، وكل مَن لا يتلقى عقيدتي بالقبول لن يستطيع الخلاص" (55). وما أن حل عام 1529 حتى استخلص فروقاً دقيقة بين العقيدتين وقال:
"لا يجوز إكراه إنسان على اعتناق عقيدة، ولكن ليس لأحد أن يلحق بها ضرراً. فليقدم خصومنا ما لديهم من اعتراضات، وليستمعوا إلى ردودنا، فإذا ما اهتدوا فيها ونعمت، وإذا لم يفعلوا فليمسكوا ألسنتهم ويؤمنوا بما يشاءون ... ولكي نتجنب المتاعب يجب، إذا أمكن، إلا نعاني من التعاليم المتناقضة في نفس الولاية ويجب أن يكره الجميع بما فيهم الكفار على الامتثال على الوصايا العشر وحضور الصلاة في الكنيسة، والتلاؤم معها في ظاهر السلوك (56).
وهكذا اتفق لوثر وقتذاك مع الكنيسة الكاثوليكية في أن المسيحيين في حاجة إلى يقين ثابت ومذاهب محددة، وإلى كلمة الله الحقة، التي(24/143)
يستطيعون أن يحيوا بها ويموتوا عليها، ولما كانت الكنيسة في القرون الأولى من المسيحية قد انقسمت وضعفت بكثرة الطوائف الجامحة، فقد أحست بأنها مضطرة إلى تحديد عقيدتها، وإقصاء كل المخالفين لها، ولهذا فإن لوثر، وقد راعه وقتذاك تنوع الطوائف المتنازعة، التي نبتت من بذرة الحكم الخاص، انتقل خطوة خطوة من التسامح إلى التعصب المذهبي، وقال شاكياً:
"إن كل الناس الآن متأهبون لانتقاد الإنجيل، فكل أحمق مأفون تقريباً أو كل سفسطائي مهرف، يجب أن يكون، حقاً، دكتوراً في اللاهوت". وآلمه ما وجهه إليه الكاثوليك من نقد جارح بأنه أطلق عقال فوضى، لا تجد مَن يكبح جماحها، في العقائد والأخلاقيات، وانتهى في الرأي مع الكنيسة إلى أن النظام الاجتماعي في حاجة إلى شيء من حسم المناقشة، وشيء من السلطة المنظمة، ليخدمها باعتبارها مرساة للعقيدة" فكيف يجب أن تكون هذه السلطة؟ على هذا السؤال أجابت الكنيسة بأن هذه السلطة هي الكنيسة نفسها لأن الكائن الحي وحده هو القادر على تعديل نفسه وكتبه المقدسة إلى صورة مغايرة لا مفر منها، وقال لوثر: "لا، إن السلطة الوحيدة والأخير يجب أن تكون الكتاب المقدس، مادام الجميع يسلمون بأنه كلمة الله".
وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية من هذا الكتاب المنزه عن الخطأ وجد أمراً صريحاً يزعمون أنه صدر من فم الرب، وهو يقضي بإعدام الهراطقة: "إياك أن تشفق عينك عليه وإياك أن تخفيه". حتى لو كان "أخاك أو ابنك أو زوجتك في حضنك ... ولكنك يجب أن تقتله لا محالة، ويجب أن تكون يدك هي أول يد تنفذ فيه حكم الإعدام". وعلى أساس تلك الرخصة الرهيبة، تصرفت الكنيسة في إبادة طائفة الإلبيجنسن في القرن الثالث عشر، وكانت تلك اللعنة الإلهية بمثابة شهادة معتمدة لما(24/144)
قامت به محاكم التفتيش من إحراق. وعلى الرغم مما اتسم به حديث لوثر من عنف، فإنه لم يصل قط إلى درجة القسوة التي عاملت بها الكنيسة مَن يخالفونها في الرأي، ولكنه سار قدماً في نطاق وحدود سلطته، لإقحامها سلمياً بقدر ما استطاع. وفي عام 1525 استعان بلوائح موجودة خاصة بالرقابة في ساكسونيا وبراندنبرج لسحق "العقائد الخبيثة" التي يعتنقها اللامعمدانيون وأنصار زونجلى، وفي عام 1530 نصح، في تفسيره للمزمور الثاني والثمانين، الحكومات بإعدام كل الهراطقة، الذين ينادون في عظاتهم بإثارة الشغب، أو مناهضة الملكية الخاصة، وقال: "إن هؤلاء الذين يعارضون في تعاليم مادة واضحة في العقيدة ... مثل المواد التي يحفظها الأطفال عن العقيدة، كالمادة التي تقول "إذا نادى أي واحد في تعاليمه بأن المسيح ليس إلهاً بل مجرد إنسان" (60). ورأى سباستيان فرانك أن هناك حرية في التعبير عن الرأي والعقيدة بين الأتراك أكثر مما يوجد في الولايات اللوثرية، وانضم ليوجد من أنصار زونجلى إلى كارلشتادت في وصف لوثر بأنه بابا آخر. ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نلاحظ أن لوثر عاد إلى سابق شعوره بالتسامح في أخريات أيام حياته. ولقد نصح في آخر عظة له بالتخلي عن كل المحاولات للقضاء على الهرطقة عنوة، وقال: "يجب تحمل الكثالكة واللامعمدانيين في صبر حتى يوم القيامة، عندما يتولى أمرهم المسيح" (61).
وقد صارع مصلحون دينيون آخرون لوثراً، وفاقوه في مطاردة الهراطقة فقد حث بوسر الستراسبورجي السلطات المدنية في الولايات البروتستانتية على إبادة كل مَن يعتنق ديناً "زائفاً"، وقال: "إن مثل هؤلاء الناس أسوأ من القتلة، وأنه يجب القضاء حتى على زوجاتهم وأولادهم وماشيتهم" (63)، وقبل ميلانكتون، الرقيق الحاشية نسبياً، أن يرأس التفتيش العلماني الذي قمع حركة اللامعمدانيين في ألمانيا بالسجن أو الموت. وتساءل قائلاً: "لماذا نشفق على أمثال هؤلاء الناس أكثر من الله؟ ". ذلك لأنه كان مقتنعاً بأن(24/145)
الله قد قضى على كل اللامعمدانيين بعذاب جهنم (63). وأوصى باعتبار رفض تعميد الطفل، أو رفض الخطيئة الأصلية، أو عدم الأيمان بالوجود الحقيقي للمسيح في القربان المقدس، جرائم تستحق أن يعاقب عليها بالإعدام (64). وأصر على عقوبة الموت لكل طائفي يعتقد أن الكفرة قد يظفرون بالخلاص، أو لكل مَن يشك في أن الإيمان بأن المسيح يمكنه، باعتباره الذي كفّر عن خطايا البشر، أن يغير آثماً بفطرته إلى رجل من الأبرار (65). وهلل، كما سوف نرى، لإعدام سيرفيتوس. وطالب الحكومة بأن تجبر كل الناس على حضور الصلوات الدينية البروتستانتية بانتظام (66). وطالب بالقضاء على كل الكتب، التي تعارض أو تعوق انتشار التعاليم اللوثرية، وعلى هذا فإن كتابات زونجلى وأتباعه وضعت رسمياً في قائمة الكتب الممنوعة في فيتنبرج (67)، وبينما كان لوثر ينفي الكثالكة من المناطق التي يحكمها الأمراء اللوثريون، آثر ميلانكتون توقيع العقوبات البدنية، واتفق الاثنان في الرأي بأن السلطة المدنية مرتبطة بواجب نشر "شريعة الرب" ورفع شأنها. أي رفع شأن مذهب لوثر (68). ومهما يكن من أمر فإن لوثر أشار بأنه حيث توجد طائفتان في ولاية فإن الأقلية يجب أن تخضع للأغلبية: ففي إمارة تغلب عليها الكثلكة يجب على البروتستانت أن يخضعوا ويهاجروا، وفي مقاطعة ترجح فيها كفة البروتستانت يجب على الكثالكة أن يخضعوا ويرحلوا، وإذا قاوموا فإنهم يجب أن يعاقبوا بشدة (69).
وقبلت السلطات البروتستانتية، وهي في هذا قد حذت حذو السوابق الكاثوليكية، الالتزام بالحفاظ على المواءمة الدينية.
وأصدر مجلس المدينة في أوجسبورج (18 يناير سنة 1537)، مرسوماً يحرم العبادة الكاثوليكية ويقضي بنفي كل مَن لا يقبل اعتناق العقيدة الجديدة، بعد ثمانية أيام.
وبعد انقضاء هذه المهلة من العفو بعث المجلس بالجند للاستيلاء على(24/146)
كل الكنائس والأديرة، وأزيلت كل المذابح والتماثيل، وأقصي كل القساوسة والرهبان والراهبات. وأصدرت (70) فرانكفورت - الواقعة إلى الماين - قانوناً مماثلاً، وانتشرت موجة الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية، وتحريم إقامة الصلوات الكاثوليكية في الولايات التي يسيطر عليها البروتستانت (71)، وانتهج البروتستانت فرض رقابة على المطبوعات وكانت قد فرضت فعلاً في مناطق كاثوليكية، وعلى هذا أصدر جون الأمير المختار في ساكسونيا، بناء على طلب لوثر وميلانكتون، (عام 1528) منشوراً يحرم نشر أو بيع أو قراءة الأدب الزونجلي أو اللامعمداني، أو التبشير بعقائدهما أو تعليمهما وجاء فيه: "على كل مَن يعلم بحدوث شيء من هذا، أو قيام أي أحد بعمله، سواء أكان أجنبياً أو من المعارف، أن يبلغ إلى ... الحكام في هذا المكان لكي يلقى القبض على الآثم ويعاقب في الوقت المناسب ... وهؤلاء الذين يعلمون بارتكاب مخالفات لهذا الأمر ... ولا يقومون بالإبلاغ عنها، يعاقبون بالإعدام أو مصادرة ممتلكاتهم" (72).
وتبنى البروتستانت سياسة الحرمان من غفران الكنيسة والرقابة أيضاً مقتدين في هذا بالكثالكة. وأعلن حزب أوجسبورج عام 1530 حق الكنيسة اللوثرية في حرمان كل عضو يرفض الاعتراف بعقيدة لوثرية أساسية (73) من غفران الكنيسة. وقال لوثر مفسراً: "على الرغم من أن الحرمان من غفران الكنيسة في البابوية قد أسيء استعماله بطريقة مخجلة، وجعل منه البابويون مجرد تعذيب للناس فإننا يجب أن نعاني منه حتى نكفر، ولكن يجب أن نحسن استخدامه كما أمر المسيح" (74).
3 - العلماء الإنسانيون والإصلاح الديني
إن العقيدة المتعصبة للمصلحين الدينيين، وعنف كلامهم وتشيعهم الطائفي واحتقارهم، وتدميرهم للفن الديني، ولاهوتهم القائل بالجبر قضاء وقدراً وعدم اكتراثهم بالتعليم الدنيوي وتأكيدهم المتجدد للشياطين والجحيم،(24/147)
وتركيزهم على الخلاص الشخصي في حياة بعد القبر، كل هذه شاركت في تنفير علماء الإنسانيات من الإصلاح الديني، فقد كان المذهب الإنساني ردة وثنية إلى الثقافة الكلاسية، أما البروتستانتية فقد كانت عودة تتسم بالورع إلى أوغسطين الحزين، إلى المسيحية الأولى، بل إلى الدين اليهودي في العهد القديم، وتجدد النضال بين الهلينية والعبرية. وكان علماء الإنسانيات قد أحرزوا تقدماً ملحوظاً داخل حظيرة الكاثوليك وقبضوا على زمام البابوية في شخص نيكولاس الخامس وليو العاشر، ولم يتسامح معهم البابوات فحسب، بل إنهم أسبغوا عليهم حمايتهم، وعاونوهم على استرداد الكنوز الضائعة من الأدب والفن الكلاسيين، وكل هذا على أساس الفهم الضمني بأن كتاباتهم سوف توجه، فرضاً باللاتينية، إلى الطبقات المتعلمة، ولن تهدم العقيدة الكاثوليكية عند الناس.
ووجد علماء الإنسانيات، وقد أزعجهم وقتذاك هذا الاتفاق الودي المريح، أن أوروبا التيتونية كانت أقل مبالاة بهم وبثقافتهم الأرستقراطية منها بالحديث الحار عن الروح للوعاظ الجدد الذين يتكلمون باللغة الوطنية، والذي يدور حول الرب والجحيم والخلاص الفردي. وسخروا من كل المناقشات المتحمسة التي ثارت بين لوثر وإيك، وبين لوثر وكارلشتادت، وبين لوثر وزونجلى، باعتبارها معارك حول نتائج، اعتقدوا أنه قضي عليها منذ عهد بعيد، أو انطوت في غمار النسيان برقة. ولم يستسيغوا اللاهوت وأصبحت السماء والجحيم أساطير بالنسبة إليهم، وأقل حقيقة من ميثولوجيا اليونان وروما. ورأوا أن البروتستانتية خيانة لعصر النهضة، وأنها كانت تستعيد كل المذاهب الفوق الطبيعية واللاعقلية والشيطانية التي رانت بالظلام على عقلية القرون الوسطى، وقد شعروا بأن هذا لم يكن تقدماً، بل رجعية ... كان إخضاعاً من جديد للعقل المتحرر لسيطرة الأساطير البدائية للسوقة. واستاءوا من طعن لوثر للعقل ومن تمجيده للعقيدة كما كان يعرفها البطارقة أو الحكام من البروتستانت. وماذا بقي للإنسان من(24/148)
تلك الكرامة التي كان بيكوديلا ميراندولا قد وصفها بمثل هذا النبل، إذا كان كل شيء حدث على ظهر الأرض - كل بطولة وكل تضحية، وكل تقدم في أدب السلوك الإنساني يستحق الذكر - مجرد عمل آلي، قام به أناس عاجزون تافهون، لتحقيق ما سبق في علم الله، وتنفيذ أوامره التي لا نعرفها؟.
وليس من شك في أن علماء الإنسانيات الذين افتقدوا الكنيسة، وإن كانوا لم يتركوها قط - وينفي لينج وبياتوس رينانوس وتوماس مورنر وسيباستيان برانت - قد سارعوا وقتذاك إلى الإعراب عن ولائهم.
وابتعد عن لوثر كثير من علماء الإنسانيان الذين هللوا لصورة لوثر الأولى باعتبارها إصلاحاً شاملاً لظلم مخجل، وذلك كلما تشكل اللاهوت والجدل الديني للبروتستانت. وها هو فيليبالد بيركهايمر وهو هليني وسياسي، كان قد أيد لوثر علناً، حتى أنه حرم من غفران الكنيسة في المسودة الأولى للمنشور Exsurge Domine راعه عنف كلام لوثر وقطع صلته بالثورة، وفي عام 1529 وبينما كان لا يزال ينتقد الكنيسة كتب يقول:
"لا أنكر أن كل أعمال لوثر لم تبد عبثاً في مبدأ الأمر، مادام لا يوجد رجل صالح يستطيع أن يرضى عن كل تلك الأخطاء والضلالات التي تراكمت، تدريجياً في المسيحية. وعلى هذا فإني كنت أرجو أنا وآخرون أن يستخدم دواء ما لمثل هذه الآفات العظيمة، ولكني كوفئت بخديعة قاسية، لأنه قبل استئصال شأفة الأخطاء الآنفة الذكر، تسللت أخطاء لا تغتفر أشد جسامة، إذا قورنت بها الأولى، فإنها تبدو من قبيل عبد الأطفال ... لقد وصلت الأمور إلى معبر دفع الأفاقين الإنجيليين إلى إظهار زملائهم البابويين، وهم يرتدون مسوح الفضيلة ... ولابد أن لوثر(24/149)
بلسانه اللاذع، الذي لا يعرف الخجل، قد انزلق إلى الخبل أو استلهم الشيطان" (75).
ووافق موتيانوس على هذا وكان قد حيى لوثر ووصفه بأنه "نجم الصباح في فيتنبرج" وسرعان ما شكا من أن لوثر "تعتريه لوثة مجنون" (76) أما كروتوس روبيانوس، الذي كان قد مهد الطريق للوثر بـ "خطابات من أناس مغمورين" فإنه فر عائداً إلى حظيرة الكنيسة عام 1521. وأرسل رويخلين إلى لوثر خطاباً رقيقاً، ومنع إيك من إحراق كتب لوثر في أنجولشتادت، ولكنه ندد بابن أخيه ميلانكتون، لأنه تبنى اللاهوت اللوثري ومات بين ذراعي الكنيسة. وأما جوهانس دوبينيك كوكلايوس فقد ناصر لوثر في مبدأ الأمر، ثم انقلب عليه في عام 1522، وبعث له برسالة أنبه فيها قائلاً.
"هل تظن أننا نريد العفو أو الدفاع عن آثام رجال الدين وشرهم؟ نسأل الله النجاة؟ إننا لنفضل أن نستأصل شأفتهم، مادام هذا يمكن أن يتم بطريقة مشروعة ... ولكن المسيح لا يعلمنا مثل هذه الطرق التي تعمل بها على تلك الصورة المؤذية مع خصم المسيح" و"مواخير" و "أعشاش الشيطان" و "بالوعات" وألفاظ سب أخرى لم يسمع بها أحد من قبل فما بالك بالتهديدات بالضرب بالسيف وسفك الدماء والقتل يا لوثر! إن المسيح لم يعلمك قط هذه الطريقة في العمل" (77).
ولعل علماء الإنسانيات في ألمانيا قد نسوا بذاءة أسلافهم الإيطاليين - فيليلفو وبوجيو وكثيرين غيرهما - تلك البذاءة جعلت لوثر يسارع بأن يشرع قلمه المتمرد العنيد. ولكن أسلوب لوثر في العراك لم يكن إلا سطحاً لاتهامهم. ولاحظوا - كما لاحظ لوثر - فساد الأخلاق والسلوك في ألمانيا، وعزوا ذلك إلى تفكك السلطة الكهنوتية وإسقاط اللوثريين "للأعمال الصالحات"، باعتبارها مبرراً للخلاص. وساءهم انتقاص البروتستانت(24/150)
للتعليم ومساواة كارلشتادت بين العلامة التحرير وبين الفلاح، وتهون لوثر من شأن التضلع في العلم والحصافة، وأعرب أرازموس عن الرأي العام لعلماء الإنسانيات. وهنا سلم ميلانكتون (78) بهذا الرأي في حزن - وهو يذهب إلى أنه حيث تنتصر اللوثرية ينحط شأن الآداب (أي التعليم والأدب) (79). ودفع البروتستانت هذه التهمة بقولهم إن هذا يرجع إلى أن التعليم بالنسبة لعالم الإنسانيات يعني، أولاً وقبل كل شيء، دراسة الكلاسيات الوثنية والتاريخ الوثني. وشغلت الكتب والمجلات في المجادلات الدينية الذهن والمطابع في ألمانيا وسويسرة مدة جيل بأسره، حتى فقد كل شيء آخر من أشكال الأدب (غير الهجو) تقريباً جمهوره. ووجدت دور النشر مثل دار فروبن للنشر في بازيل والاطلانسي في فيينا عددا قليلاً من المشترين للمؤلفات العلمية التي أصدرتها وكلفتها غالياً، حتى أشرفت على الإفلاس (80) وحجب تعصب المنافسين النهضة الألمانية الفتية، ووصل مسار مسيحية عصر النهضة نحو التوفيق بينها وبين الوثنية إلى نهايته.
وظل بعض علما الإنسانيات مثل أيوبان هيس وأورلريخ فون هوتن مخلصين للإصلاح الديني، وانتقل هس من موقع إلى موقع معاد إلى ارفورت ليجد أن الجامعة قد هجرها روادها. ومات وهو يقرض الشعر في مابورج (1540) وهرب هوتن، بعد سقوط سيكنجن، إلى سويسرة، ولجأ إلى السرقة للحصول على طعامه، وهو في الطريق (81)، وبحث عن ارازموس في بازيل (1522)، وهو يعاني من المرض والخصاصة، على الرغم من أنه كان قد دمغ علناً عالم الإنسانيات بأنه جبان، لأنه لم ينضم إلى المصلحين الدينيين (82). ورفض أرازموس أن يراه وزعم أن موقده لا يصلح لتدفئة عظام هوتن. ونظم الشاعر الآن قصيدة بعنوان "تحذير" ندد فيها بأرازموس ووصفه بأنه زنديق مارق، يفرق كفرخ الدجاج، ووعد بأن يمسك عن نشرها إذا دفع له أرازموس، ولكن أرازموس خيب ظنه، وحث هوتن على التزام جانب الحكمة وتسوية خلافاتهما سلميا،(24/151)
غير أن هوتن كان قد سمح بتداول النسخة الخطية لقصيدته الهجائية بين الخاصة، ووصل ذلك إلى علم أرازموس ودفعه هذا إلى الانضمام إلى رجال الدين في بازيل في طلبهم بإلحاح من مجلس المدينة إقصاء الهجاء الحانق، وبعث هوتن بقصيدته "تحذير" إلى المطبعة وانتقل إلى مولهاوس. وهناك تجمع حشد من الغوغاء. وهاجم البيت الذي لاذ به، ففر مرة أخرى، وقبض عليه زونجلى في زيورخ (يونية 1533)، وقال المصلح الديني وهو هنا كريم خير أكثر من عالم الإنسانيات "انظروا ... إلى هذا المخرب، انظروا إلى هوتن الرهيب، الذي نراه مغرماً جداً بالناس وبالأطفال؛ إن هذا الفم الذي تهم منه أعاصير على البابا لا ينفث غير الرقة والطيبة" (83). وفي غضون ذلك رد أرازموس على "تحذير" في رسالة كتبها على عجل وعنوانها Spongia Erasmi advrsus aspergimes Hutteni، ( أي إسفنجة أرازموس على مطاعن هوتن) وكتب إلى مجلس المدينة في زيورخ محتجاً على "أكاذيب" هوتن التي تحدث بها عنه وأوصى بنفي الشاعر (84). ولكن هوتن كان يحتضر وقتذاك، فقد أنهكته حرب الأفكار وأتلف الزهري صحته وأطلق زفرته الأخيرة (29 أغسطس سنة 1523) فوق جزيرة في بحيرة زيورخ، بالغاً من العمر خمساً وثلاثين عاماً، وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى ملابسه وقلمه.
4 - أرازموس: حاشية على آرائه
(1517 - 36)
إن رد الفعل عند أرازموس بالنسبة إلى الإصلاح الديني يثير مناقشة حامية بين المؤرخين والفلاسفة. ترى أية طريقة خير للبشرية - هجوم لوثر المباشر على الكنيسة أم سياسة أرازموس التي تعتمد على المصالحة السلمية والإصلاح الديني على درجات؟ إن الإجابات تكاد تحدد نمطين من الشخصية: هما المحاربون "ذوو العقول الجامدة" الذين يعتصمون بالعمل والإرادة، والمهادنون "ذوو العقول المرنة في الفكر والشعور". لقد كان لوثر رجل عمل أساساً. وكانت أفكاره قرارات وكتبه أفعالاً. وكان تفكيره في(24/152)
مضمونه لا يختلف عن تفكير رجال القرون الوسطى الأولى، ولكنه في النتيجة يشبه تفكير المحدثين الأوائل، ولقد عاونت شجاعته وحسمه للأمور القومية أكثر من لاهوته على تأصيل العصر الحديث. وكان لوثر يتحدث بلهجة ألمانية قوية، تنبض بالرجولة إلى الشعب الألماني، فأثار أمّةً ودفعها إلى القضاء على سلطة دولية، أما أرازموس فكان يكتب بلغة لاتينية رشيقة رقيقة لجمهور دولي، إلى صفوة عالمية من خريجي الجامعات. وكان شديد الحساسية لا يصلح لأن يكون رجل عمل، يمتدح السلم ويتوق إليه، بينما كان لوثر يشهر الحرب ويجد فيه متعة. كان إماماً في الاعتدال، يستهجن التطرف والمغالاة ... وهرب من ميدان العمل إلى ميدان الفكر، ومن اليقين المتسم بالتهور إلى الشك المنطوي على الحذر، وعرف الكثير ليرى أن الحق أو الخطأ ليسا جميعاً في جانب واحد، ورأى الجانبين كليهما، وحاول أن يوفق بينهما فسحق في وسطهما.
وصفق لمقالات لوثر، وأرسل في مارس عام 1518 نسخاً منها إلى كوليه ومور، وكتب إلى كوليه يقول: "إن المحكمة الرومانية قد كشفت عن وجهها برقع الحياء. أي شيء يفوق في القحة صكوك الغفران هذه؟ " (85) وكتب في أكتوبر إلى صديق آخر يقول:
"سمعت أن لوثر يتفق معه في الرأي كل الناس الصالحين، وإن قيل إن كتاباته ليست كلها في مستوى واحد. وأعتقد أن هذه المقالات سوف يرضى عنها الجميع، اللهم إلا قلة ضئيلة لا تتفق معه في رأيه حول المطهر، الذي يعتمدون عليه في كسب عيشهم، ولا يريدون أن ينتزع من أيديهم ... وأنا أدرك أن الحكومة الملكية للكاهن الأعظم الروماني (وهذا حل تلك الحكومة البابوية الآن) هي وباء يجتاح العالم المسيحي، على الرغم من أن وعاظاً يفتقرون إلى الحياء يمتدحونها في كل الظروف، ومع ذلك فإني لا أكاد أعرف هل من اللائق أن أمس هذا القرح المكشوف، لأن هذا(24/153)
فرض واجب على الأمراء، ولكني أخشى أن يتآمروا مع الحبر الأعظم للحصول على قدر من الغنائم" (86).
وعاش أرازموس الجانب الأكبر من حياته وقتذاك في لوفان، وأسهم في تأسيس Collegium Trilingue قي الجامعة، بكراسي أستاذية في اللاتينية واليونانية والعبرية، وفي عام 1519 منحه شارل الخامس معاشاً، فاشترط أرازموس لقبوله أن يحتفظ باستقلاله جسداً وعقلاً، ولكنه إذا كان بشراً، فإن هذا المعاش، مضافاً إليه ما كان يتلقاه من كبير أساقفة وارهام ولورد ماونتجوي، قد قام بدور ما في صياغة موقفه نحو الإصلاح الديني.
وفي الوقت الذي جاوزت فيه ثورة لوثر مرحلة نقد بيع صكوك الغفران إلى رفض الاعتراف بالبابوية والمجالس الدينية، تردد أرازموس، فقد كان يأمل أن تتقدم عجلة إصلاح الكنيسة بالالتجاء إلى الإرادة الواعية للبابا ذي النزعة الإنسانية. كان لا يزال يجل الكنيسة باعتبارها (خيل إليه هذا) مؤسسة للنظام الاجتماعي والأخلاق الفردية لا بديل عنها، وعلى الرغم من اعتقاده أن لاهوت المحافظين قضى عليه ما تخلله من لغو، فإنه كان لا يثق بحكمة الإفتاء الفردي أو الشعبي لتطوير شعيرة أو عقيدة أكثر نفعاً، ذلك أن رجاحة العقل لا تتأتى إلا عن طريق تقطر الاستنارة العقلية، من الفئة القليلة المتفقهة، إلى الكثرة الغالية. وأقر بأنه كان له دور في تمهيد الطريق أمام لوثر، فقد كانت رسالته "الثناء على الطيش"، التي كان يتداولها وقتذاك الآلاف من القراء في أرجاء أوروبا، تسخر من الرهبان والمشتغلين باللاهوت، وتشدد من لذع خطابات لوثر المقذعة الجافية، وعندما اتهمه الرهبان المشتغلون باللاهوت بأنه وضع البيضة التي فقست تحت لوثر، رد عليهم في تأفف: "نعم ولكن البيضة التي وضعتها خرجت منها دجاجة، أما البيضة التي فقسها لوثر فقد خرج منها ديك من ديوك(24/154)
المصارعة" (87). ولقد قرأ لوثر نفسه رسالة "الثناء على الطيش" كما قرأ تقريباً غيرها من كل ما نشره أرازموس، وقال لأصدقائه إنه إنما يقوم بصياغة مباشرة لما قاله عالم الإنسانيات الشهير، أو ما ألمح إليه منذ سنوات عديدة مضت، وكتب في 18 مارس عام 1519 إلى أرازموس في تواضع واحترام ينشد صداقته وعونه ضمناً.
وكان على أرازموس وقتذاك أن يتخذ قراراً حاسماً في حياته. وكان في مأزق بين أمرين أحلاهما مر. إذا تخلى عن لوثر فسوف يوسم بالجبن، وإذا اشترك مع لوثر في عدم الاعتراف بالكنيسة الرومانية فإنه لن يخسر فحسب بل ثلاثة مرتبات، ويفقد ما أسبغه عليه ليو العاشر من حماية ضد المشتغلين باللاهوت، الذين يعملون للحيلولة دون نشر العلم، وسيجد نفسه مضطراً إلى التخلي عن خطئه واستراتيجيته بشأن إصلاح الكنيسة عن طريق تحسين العقول والأخلاقيات في الرجال دوي النفوذ. وكان قد أحرز (كما اعتقد) تقدماً حقيقياً في هذا المجال مع البابا ورئيس الأساقفة وارهام والأسقف فيشر ونائب الأسقف كوليه وتوماس مور وفرانسس الأول وشارل الخامس، ولم يرض هؤلاء الرجال بالتأكيد أن يتخلوا عن الكنيسة. حقاً إنهم كانوا على استعداد لأن يحجموا عن تقويض نظام كان في نظرهم مرتبطاً بطريقة مبهمة مع حكومة الأمراء في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي، ولكن يمكن تجنيدهم في حملة لتخفيف الخزعبلات والأهوال في عقيدة راجحة الكفة، وفي تطهير رجال الدين وتعليمهم، وفي السيطرة على الرهبان وإخضاعهم للتبعية، وفي حماية حرية الفكر من أجل تقدم العقل.
إن تغيير ذلك البرنامج بانقسام العالم المسيحي انقساماً شديداً إلى شطرين متحاربين، وبلاهوت، يأخذ بالقدرية وبعدم أهمية الأعمال الصالحات، سوف يبدو في نطر هؤلاء الرجال، بل وبدا لأرازموس، الطريق إلى(24/155)