ولا ضميراً، فرض فيه الضرائب على كل شيء، بما في ذلك العهر، والميسر، والربا، ويتّهمه أمين سره الخاص بأنه أغوى مائتي عذراء وامرأة متزوجة، وأرملة، وراهبة (11). ولكنه كان ذا مواهب عالية في شئون السياسة والحرب، جمع أموالاً طائلة، وقاد بنفسه قوة من الجند تدين له هو نفسه بالولاء. ولعله كان يستطيع أن يستولي على الولايات البابوية من جريجوري، وأن يرغم جريجوري نفسه على الخضوع لسلطانه خضوع المفلس الذليل.
وتباطأ يوحنا الثالث والعشرون في دعوة المجلس العام إلى الانعقاد في بيزا أكثر ما يستطيع. ولكن سجسمند أصبح في عام 1411 ملكاً على الرومان والرئيس غير المتوج، ولكنه الرئيس المعترف به، للدولة الرومانية المقدسة. وقد أرغم يوحنا على أن يدعو مجلساً عاماً إلى الانعقاد، واختار مدينة كنستانس مكاناً لانعقاده لتحررها من الإرهاب الإيطالي وقابليتها للتأثر بالنفوذ الإمبراطوري. واتخذ سجسمند الكنيسة سنداً له ودعامة كما فعل قسطنطين آخر من قبله، فدعا جميع الأحبار، والأمراء، واللوردة، ورجال القانون في العالم المسيحي إلى حضور المؤتمر. وأجاب الدعوة كل من كان منهم في أوربا عدا البابوات الثلاثة وأتباعهم. وبلغ عدد من لبوا الدعوة وجاءوا حين سمحت لهم بذلك مراكزهم العالية، من الكثرة مبلغاً اقتضى جمعهم نصف عام. ولمّا رضى يوحنا الثالث والعشرون آخر الأمر أن يفتتح المجلس في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1414، لم يكن قد قدم إلاّ جزء صغير من البطارقة الثلاثة؛ والتسعة والعشرين كردنالاً، والثلاثة والثلاثين من رؤساء الأساقفة، والمائة والخمسين أسقفاً، والمائة من رؤساء الأديرة، والثلاثمائة من علماء اللاهوت، والأربعين من مندوبي الجامعات، والستة والعشرين من الأمراء، والمائة والأربعين من النبلاء، والأربعة الآلاف من رجال الدين، نقول إنه لم يكن قد قدم إلاّ عدد صغير من هؤلاء. ولو أنهم(20/10)
حضروا جميعاً لكان هذا المجلس أكبر المجالس في التاريخ المسيحي، ولكان أعظم شأناً بعد مجلس نيقية (325) الذي قرر عقيدة الكنيسة المسيحية. وبينا كان سكان كنستانس في الأوقات العادية حوالي سنة آلاف نسمة، فقد أفلحت وقتئذ في أن تأوي وتطعم خمسة آلاف مندوب حضروا المجلس، وأن تمدهم فوق ذلك بحاجاتهم، وبجيش من الخدم، والأمناء، والأطباء، والبائعين الجائلين. والدجالين، والشعراء المداحين، وبألف وخمسمائة من العاهرات (12).
وما كاد المجلس يضع جدول أعماله حتى فوجئ بانسحاب البابا الذي دعاه إلى الانعقاد انسحاباً أشبه ما يكون بالأعمال المسرحية. ذلك أن البابا يوحنا الثالث والشرين قد هاله أن يعلم أن أعداءه كانوا يتأهبون لأن يعرضوا على المجلس سجلاً يحوي تاريخ حياته، وجرائمه، وتبذله. وأشارت عليه إحدى اللجان بأنه يستطيع النجاة من هذه الفضيحة إذا وافق على الانضمام إلى جريجوري وبندكت وأن ينزل الثلاثة عن عرش البابوية في وقت واحد (13). ووافق يوحنا على ذلك، ولكنه فر على حين غفلة من كنستانس متخفياً في زي سائس (20 مارس عام 1415) ووجد له ملجأ في قصر في شافهوزن مع فردريك أرشيدوق النمسا وعدو سجسمند. ثم أعلن في التاسع والعشرين من شهر مارس أن جميع الوعود التي قطعها على نفسه في مدينة كنستانس قد أرغم عليها إرغاماً بالقوة الجبرية، وأنها ليست لها من القوة ما يلزمه بالوفاء بها. وفي اليوم السادس من إبريل أصدر المجلس قراراً مقدساً وصفه أحد المؤرخين بأنه "أشد الوثائق الرسمية ثورية في تاريخ العالم" (14):
"إن مجلس كنستانس المقدس، الذي هو مجلس عام، والمنعقد انعقاداً قانونياً في الروح المقدس، لحمد الله، وللقضاء على الانشقاق القائم الآن، ولتوحيد كنيسة الله وإصلاحها بما في ذلك رأسها وأعضاؤها- إن هذا المجلس يأمر؛ ويعلن، ويقرر ما يأتي: أولاً، يعلن أن هذا المجلس(20/11)
المقدس ... يمثل الكنيسة المجاهدة، ويستمد معونته من المسيح رأساً، وعلى جميع الناس مهما تكن طبقتهم ومنزلتهم، بما فيها البابوات أيضاً، أن يطيعوا هذا المجلس في كل ما له صلة بشئون الدين، وفي القضاء على هذا الانشقاق، ولإصلاح الكنيسة إصلاحاً شاملاً في رياستها وأعضائها. وهو يعلن كذلك أن أي إنسان مهما تكن مرتبته، أو صفته، أو منزلته، بما في ذلك البابا أيضاً، يأبى أن يطيع الأوامر، والقوانين، والفروض، والقواعد التي يقرّها هذا المجلس المقدس، أو أي مجلس آخر ينعقد انعقاداً صحيحاً بقصد القضاء على الانشقاق أو إصلاح الكنيسة، يضع نفسه طائلة العقاب الحق ... وستتخذ إذا اقتضى الأمر وسائل أخرى للاستعانة بها في تطبيق العدالة (15) ".
واحتج كثيرون من الكرادلة على هذا القرار، فقد خشوا أن يكون فيه قضاء على حق مجمع الكرادلة في انتخاب البابا؛ ولكن المجلس تغلب على معارضتهم، ولم يكن لهم بعد ذلك إلاّ شأن صغير في نشاطه.
وأوفد المجلس وقتئذ لجنة إلى يوحنا الثالث والعشرين تدعوه إلى النزول عن عرش البابوية، فلمّا لم تتلقّ منه جواباً صريحاً قبلت (في 25 مايو) ما عرض عليها من التهم الأربع والخمسين التي وجّهت إليه والتي تنص على أنه كافر، كاذب، متجر بالمقدسات والمناصب الكهنوتية، خائن، غادر، فاسق، لص (16)؛ وكانت هناك ست عشرة تهمة أخرى استبعدت لشدة قسوتها (17). وفي اليوم التاسع والعشرين من مايو قرر المجلس خلع يوحنا الثالث والعشرين، وقبل هو القرار بعد أن تحطمت آخر الأمر جميع آماله. وأمر سجسمند بأن يسجن في قلعة هيدلبرج طوال فترة انعقاد المجلس، وأفرج عنه في عام 1418، ووجد في شيخوخته ملجأ ومقاماً عند كوزيموده ميديتشي.
واحتفل المجلس بانتصاره باستعراض طاف جميع أنحاء مدينة كنستانس،(20/12)
فلما عاد إلى العمل وجد نفسه في مأزق حرج؛ ذلك أنه إذا اختار باباً آخر عاد إلى ما كان في العالم المسيحي من انقسام ثلاثي، لأن كثيراً من أقاليمه كانت لا تزال تطيع بندكت أو جريجوري. وأنقذ جريجوري المجلس من ورطته بعمل دل على دهائه وشهامته: فقد وافق على أن يستقيل بشرط أن يسمح له بأن يدعو المجلس مرة أخرى ويخلع عليه الصفة الشرعية بما له من سلطة بابوية. ودعا المجلس إلى الانعقاد بهذه الصفة الجديدة، وقبل استقالته جريجوري في الرابع من شهر يوليه سنة 1415، وأيد صحة من عيّنهم في مناصبهم، واختاره حاكماً من قبل البابا على أنكونا حيث عاش هدوء طيلة السنتين الباقيتين من حياته.
أمّا بندكت فقد أصرّ على المقاومة، ولكن كرادلته تخلّوا عنه وتصالحوا مع المجلس، ولمّا حلّ اليوم السادس والعشرون من يوليه خلعه المجلس، فآوى إلى القصر الحصين الذي تقيم فيه أسرته في بلنسية، حيث مات في سن التسعين، وهو لا يزال يعد نفسه بابا بحق. وأصدر المجلس في شهر أكتوبر قراراً يحتم دعوة مجلس عام آخر إلى الانعقاد في خلال خمس سنين، وفي اليوم السابع عشر من نوفمبر اختارت لجنة المجلس الانتخابية الكردنال أدوني كولنا Oddone Colonna لمنصب البابوية، وتسمّى باسم البابا مارتن الخامس Martin V؛ وارتضاه العالم المسيحي بأجمعه، وبذلك انقضى عهد الانشقاق الأعظم بعد فوضى دامت تسعاً وثلاثين سنة.
وهكذا وصل المجلس إلى غرضه الأول، ولكن نجاحه في هذه النقطة حال بينه وبين تحقيق غرضه الآخر وهو إصلاح المسيحية. ذلك أنه لمّا جلس مارتن الخامس على عرش البابوية استمسك بكل ما لها من سلطان وامتيازات، فأغضب بذلك سجسمند الذي هو الرئيس الأعلى للمجلس، ثم لجأ إلى المجاملة والدهاء فأخذ يخاطب كل طائفة من الجماعات القومية الممثلّة في المجلس ويفاوضها في عقد معاهدة معها على حدة خاصة بإصلاح الكنيسة.(20/13)
وعمل على إثارة المنافسة بين كل طائفة والأخرى حتى اقنع كل واحدة منها بقبول أقل قدر من الإصلاح، صاغه في عبارة غامضة يستطيع كل حزب أن يفسرها تفسيراً يدّعي فيه أنه هو الفائز، وأنه صاحب الفضل في كل إصلاح. واستسلم المجلس له لأنه ملّ النزاع، فقد ظل يكدح ثلاث سنين، حنّ أعضاؤه بعدها إلى أوطانهم، وشعروا بأن مجلساً مقدساً يعقد فيما بعد يستطيع أن يحل مشكلة الإصلاح بتفاصيل أوفى وأكثر دقّة من هذا المجلس. وفي الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 1418 أعلن المجلس فض جلساته.(20/14)
الفصل الثالث
انتصار البابوية
1418 - 1447
لم يستطع مارتن الخامس أن يعود إلى روما بعد انتخابه مباشرة وإن كان هو من أهل روما. ذلك أن الطرق الموصلة إليها كانت في قبضة براتشيو دا منتونى Braccio da Montone الأفاق المغامر، ولهذا رأى مارتن أن بقاءه في جنيف، ثم في مانتوا، وفلورنس آمن له وأسلم. ولما وصل أخيراً إلى روما (1420) روعته حال المدينة، وما حاق بمبانيها من خراب وبأهلها من بؤس وشقاء، فقد كانت عاصمة العالم المسيحي أقل بلاد أوربا حضارة.
وإذا كان مارتن قد جرى على السنة السيئة التي جرى عليها أسلافه فعين في المناصب ذات المرتب الضخم والسلطان الكبير أقاربه من آل كولنا، فما كان ذلك إلا ليقوى أسرته ليضمن لنفسه السلامة في قصر الفاتيكان. ولم يكن لديه جيش، ولكن الولايات البابوية التي كانت تحيط بها من كل جانب جيوش نابلي، وفلورنس والبندقية، وميلان. وكانت هذه الولايات قد وقع معظمها مرة أخرى في أيدي طائفة من الطغاة الصغار، يسمون أنفسهم نواب البابا ولكنهم كادوا في أثناء الانشقاق البابوي يكونون سادة مستقلين في ولاياتهم. وقد ظل رجال الدين في لمباردي قروناً طوالا يناصبون أساقفة روما العداء. وكان فيما وراء جبال الألب عالم مسيحي مضطرب أضاعت البابوية فيه معظم ما كان لها من احترام، وكان يأبى أن يمدها بشيء من العون المالي.
وواجه مارتن هذه الصعاب كلها وتغلب عليها بشجاعته وقوة عزيمته؛(20/15)
فقد اعتمد بعض المال لبناء أجزاء من عاصمته، وإن كان قد ورث خزانة تكاد تكون خاوية، وأفلح بما اتخذه من إجراءات قوية في طرد قطاع الطرق من روما والطرق المؤدية لها؛ وهدم حصناً للصوص في منتيليبو Monteipo، وأمر بقطع رؤوس زعمائهم (15)؛ وأعاد النظام إلى روما، وجمع في كتاب واحد قوانينها البلدية، وعين رجلا من أوائل الكتاب الإنسانيين هو بجيو برتشيوليني Poggio Bracciolini أميناً لسره، وعهد إلى جنتيل دا فبريانو، وأنطونيو بيزنيلو، ومساتشيو أن ينقشوا المظلمات التي في كنيستي سانتا ماريا مجيوري والقديس يوحنا في اللاتران؛ واختار رجالا من ذوي المواهب والأخلاق الكريمة أمثال جوليانو تشيزاريني Guiliano Cesarini، ولويس ألماند Louis Allemand، ودومينيكو كبرانيكا Domenico Capranica وبرسبيرو كولنا Prospero Colonna أعضاء في مجمع الكرادلة. وأعاد تنظيم أداة الحكم القانونية حتى تؤدي مهمتها على أحسن وجه، ولكنه لم يجد طريقة يحصل بها على ما يلزمه من المال إلا بيع المناصب والخدمات الدينية. ولما كانت الكنيسة قد عاشت قرناً كاملاً بغير إصلاح، ولكنها لا تستطيع البقاء أسبوعاً واحداً بغير مال، فقد حكم مارتن بأن المال ألزم للكنيسة من الإصلاح. ومن أجل هذا تذرع بمرسوم كنستانس فدعا مجلساً عاماً ينعقد في بافيا عام 1423. ولم يلب الدعوة إلى هذا المجلس إلا عدد قليل، وحتم انتشار الطاعون نقله إلى سينا، ولما عرض أن تكون له السلطة المطلقة أمره مارتن بأن ينفض، وأطاع الأساقفة أمره لخوفهم أن يفقدوا كراسيهم. وأراد مارتن أن يترضى نزعة الإصلاح فأصدر في عام 1422 قراراً بابوياً، فصل فيه بعض التغيرات الرائعة في إجراءات أداة الحكم البابوية وطريقة تمويلها؛ ولكن قامت في سبيل ذلك الإصلاح مئات من العقبات والاعتراضات، وما لبثت هذه الاقتراحات أن عفا عليها الزمان وجر عليها النسيان ذيوله. وفي عام 1430(20/16)
بعث مندوب ألماني في روما إلى أميره برسالة تكاد تكون نذيراً بالإصلاح الذي جاء فيما بعد:
"أصبح الشره صاحب السلطان الأعلى في البلاط البابوي، وهو يبتكر في كل يوم له أساليب جديدة ... لابتزاز المال من ألمانيا بدعوى أداء أجور رجال الدين. وهذا هو سبب الأصوات التي ترتفع بالتذمر والألم ... وستثار كذلك أسئلة خاصة بالبابوية، وإلا فإن الناس سينفضون يدهم آخر الأمر من طاعة البابا فراراً من هذا الابتزاز الظالم للأموال؛ واعتقادي أن هذا المسلك الأخير سترتضيه كثير من البلاد (19).
وواجه البابا الذي خلف مارتن ما تجمع لدى البابوية من مشاكل مواجهة الراهب الفرنسيسي التقي الخاشع الذي لم يعد نفسه لتصريف الشئون السياسية. ذلك أن البابوية كانت حكومة أكثر مما كانت دينا؛ وكان لابد أن يكون البابوات رجال حكم، ومحاربين في بعض الأحيان، وقلما كان في مقدورهم أن يكونوا من أولياء الله الصالحين. نعم إن يوجنيوس الرابع كان من هؤلاء الأولياء في بعض الأحيان، وإنه كان عنيداً، صلب القناة لا يلين، وإن داء الرثية الذي كان يلازمه ويسبب له آلاماً مبرحة في يديه لا تكاد تفارقه قط، مضافاً إلى متاعبه الجمة، قد جعله ضجراً ملولا، محباً للعزلة، منطوياً على نفسه. ولكنه كان يعيش معيشة النساك، مقلا من الطعام، لا يشرب غير الماء، قليل النوم، مجداً كثير العمل، حريصاً على أداء واجباته الدينية بإخلاص وضمير حي، لا يحمل الحقد على أعدائه، جواداً سخياً بماله، لا يحتفظ بشيء لنفسه، بلغ من تواضعه أنه كان لا يرفع عينيه عن الأرض (20). ومع هذا كله قلما نجد من البابوات من كان له من الأعداء ما كان لهذا البابا.
وكان من أول هؤلاء الأعداء هم الكرادلة الذين انتخبوه. فقد أرادوا أن يتقاضوا ثمن أصواتهم وأن يحموا أنفسهم من أن يحكمهم رجل بمفرده(20/17)
كما كان يحكمهم مارتن، فأقنعوه بأن يوقع مرسوماً Capitula - ومعناها الحرفي عناوين - يعدهم فيه بأن يطلق لهم حرية الكلام ويؤمنهم في مناصبهم، وأن يجعل لهم السيطرة على نصف إيرادهم، وأن يشاورهم في جميع الشؤون الهامة. وأصبحت "هذه الامتيازات" سنة متبعة وسابقة جرى بها العمل في الانتخابات البابوية طوال عصر النهضة. يضاف العمل في الانتخابات البابوية طوال عصر النهضة. يضاف إلى هذا أن يوجنيوس جعل آل كولنا أعداء له أقوياء. فقد أعتقد أن مارتن أقطع هذه الأسرة كثيراً من أملاك الكنيسة، فأمر بأن ترد إليها أجزاء كثيرة من هذه الأملاك، وأمر بتعذيب أمين مارتن السابق تعذيباً كاد يفضي إلى موته لكي ينتزع منه معلومات عن هذا الموضوع. وشن آل كولنا الحرب على البابا، ولكنه هزمهم بقوة الجند الذين أرسلوا إليه من مدينتي فلورنس والبندقية، غير أنه أثار بعمله هذا عداء روما نفسها. واجتمع بمدينة بازل في هذه الأثناء المجلس الذي دعا إليه مارتن، وكان اجتماعه في السنة الأولى من عهد البابا الجديد (1431)؛ واقترح مرة أخرى تأييد المجالس الكنسية العامة على البابوات. فما كان من يوجنيوس إلا أن أمره بأن ينفض؛ ولكنه لم يطع أمره، وطلب إليه أن يمثل أمامه، وبعث بجند من ميلان يهاجمونه في روما. وانتهز آل كولنا هذه الفرصة ليثأروا لأنفسهم منه، فدبروا ثورة في المدينة، وأقاموا حكومة جمهورية (1434)، وفر يوجنيوس في قارب صغير سار به نحو مصب التيبر، بينما كان العامة يرشقونه بالسهام، والحراب، والحجارة (21)، واتخذ له ملجأ في فلورنس، ثم في بولونيا، وظل هو وحكومته منفيين عن روما تسع سنين.
وكانت الكثرة الغالبة من المندوبين الذين حضروا مجلس بازل من الفرنسيين. وكان غرضهم، كما قال أسقف تور في صراحة، "إما أن ينتزعوا الكرسي الرسولي من الإيطاليين، وإما أن يجردوه من سلطانه بحيث لا يهمهم بعدئذ أين يكون مقره". وعملاً بهذه القاعدة استولى المجلس على(20/18)
امتيازات البابوية واحداً بعد آخر: فأصدر هو صكوك الغفران؛ ومنح الإعفاءات من الفروض الدينية، وعين الموظفين الدينيين، وطلب أن تؤدى له هو لا للبابا باكورة مرتبات رجال الدين. وأصدر يوجنيوس قراراً آخر بحل المجلس، فرد عليه بأن أعلن خلعه هو (1439)، واختار أمديوس الثامن من سافوي بابا في مكانه باسم فليكس الخامس؛ وبهذا تجدد الانشقاق في البابوية مرة أخرى. وأراد شارل السابع ملك فرنسا أن يتم هزيمة يوجنيوس البادية للعيان، فعقد في بورج (1438) جمعية من كبار رجال الدين، والأمراء، ورجال القانون، كلهم من الفرنسيين، وأعلنت هذه الجمعية سيادة المجالس على البابوات، وأصدرت قرار بورج التنظيمي الذي ينص على أن المناصب الكهنوتية يجب أن تملأ من ذلك الحين بمن تنتخبهم جماعات الرهبان أو القساوسة، ولكن من حق الملك أن يصدر " توصيات"، وحرم استئناف الأحكام إلى المجلس البابوي الأعلى إلا بعد أن تستنفذ جميع الاحتمالات القضائية في فرنسا؛ ومنع جمع بواكير مرتبات القساوسة للبابا (22). وبذلك أوجد هذا التنظيم في واقع الأمر كنيسة فرنسية مستقلة رئيسها ملك فرنسا نفسه. واتخذ مجلس عقد في مينز بعد عام من ذلك الوقت قرارات مماثلة لهذه أنشئت بمقتضاها كنيسة قومية في ألمانيا؛ وكانت كنيسة بوهيميا قد انفصلت عن البابوية أثناء الثورة الهوسية Hussite؛ ووصف كبير أساقفة براج البابا بأنه "وحش سفر الرؤيا" (23)، ولاح أن صرح الكنيسة كله قد تحطم، وأصبح لا يرجى شعب صدعه، وأن الإصلاح القومي للكنيسة قد توطدت دعائمه قبل لوثر بمائة عام.
وكان الأتراك هم الذين أنقذوا يوجنيوس. ذلك أنه لما اقترب الأتراك العثمانيون من القسطنطينية قرر البيزنطيون أن مدينتهم خليقة بأن يكون فيها قداس روماني، وأن عودة الاتحاد بين المسيحية اليونانية والرومانية تمهيد لا بد منه للحصول على معونة عسكرية من الغرب. وبناء على هذا بعث الإمبراطور(20/19)
يوحنا الثامن ببعثة إلى مارتن الخامس (1431) تعرض عليه اجتماع مجلس من رجال الكنيستين. وبعث مجلس بازل بمندوبين إلى يوحنا (1433) يقولون له إن المجلس أعلى سلطة من البابا، وإنه تحت حماية الإمبراطور سجسمند، وأنه سيرسل المال والجند للدفاع عن القسطنطينية إذا ما تعاملت الكنيسة اليونانية مع المجلس لا مع البابا. وأرسل سجسمند وفداً من عنده يعرض معونته بشرط أن يعرض الاقتراح الخاص باتحاد الكنيستين على مجلس جديد يدعوه هو نفسه إلى الانعقاد في فيرارا. وقرر يوحنا أن يظاهر يوجنيوس، واستدعى البابا إلى فيرارا من ثبتوا على ولائهم له من رجال الدين؛ وغادر كثيرون من رجال الأحبار، ومنهم شيراريني ونقولاس الكوزائي بازل وجاءوا إلى فيرارا، لأنهم شعروا أن أهم ما في الأمر هو مفاوضة اليونان. وطالت جلسات مجلس بازل، ولكنها كانت مفعمة بالغضب المتزايد، وأخذت مكانته تزداد انحطاطاً يوماً بعد يوم.
وأثار مشاعر أوربا كلها ما ترامى إليها من الأنباء عن عودة الوحدة إلى العالم المسيحي بعد انقسامه بين الكنيستين اليونانية والرومانية منذ عام 1045. وفي الثامن من فبراير عام 1438 قدم إلى البندقية، التي كانت لا تزال مدينة بيزنطية إلى حد ما، الإمبراطور البيزنطي، والبطريق يوسف بطريق القسطنطينية، وسبعة عشر من رؤساء الأساقفة اليونان، وعدد كبير من أساقفة الكنيسة اليونانية، والرهبان والعلماء. واستقبلهم يوجنيوس في فيرارا بأبهة لا نشك في أنها لم تكن لها قيمة كبيرة في نظر اليونان الذين اعتادوا على الاحتفالات الفخمة في بلادهم. ولما افتتح المجلس جلساته اختيرت عدة لجان لإزالة ما بين الكنيستين من خلاف على حقوق البابا في الرياسة، وعلى استعمال الخبز الفطير، وطبيعة الآلام التي تعانى في المطهر، وعلى انتقال الروح القدس من الأب والابن أو إليه. وظل العلماء ثمانية أشهر يجادلون في هذه المسائل، ولكنهم لم يصلوا فيها إلى اتفاق. وانتشر الطاعون في بلدة(20/20)
فيرارا في هذه الأثناء، ودعا كوزيموده ميديتشي المجلس أن ينتقل إلى فلورنس، على أن يستضيفه هو وأصدقاؤه. وتم هذا الانتقال بتلك الصورة؛ ويؤرخ بعضهم بداية النهضة الإيطالية بدخول العلماء اليونان إلى فلورنس في ذلك الوقت (1439). وهنا تم الاتفاق على أن الصيغة التي يقبلها اليونان -وهي أن "الروح القدس يصدر من الأب عن طريق الابن (22) ( ex Patre per filium Procedit) - تعني بالضبط ما تعنيه الصيغة الرومانية وهي أنه "يصدر من الأب والابن" ex Patre Filioque procedit؛ ولم يستهل شهر يونية سنة 1439 حتى تم الاتفاق كذلك على طبيعة آلام المطهر. أما حقوق البابا في الرياسة فقد أثارت نقاشاً حاراً، حتى لقد أنذر الإمبراطور اليوناني أن ينفض المجلس. غير أن بيساريون Bessarion كبير أساقفة نيقية، وهو بطبيعته رجل مسالم يسعى إلى الصلح، استطاع التوفيق بين الطرفين إذ عثر على صيغة تعترف بسلطة البابا العامة، ولكنها تحتفظ بما كان للكنائس الشرقية وقتئذ من حقوق وامتيازات. وقبلت هذه الصيغة، ولما حل اليوم السادس من شهر يولية عام 1439 قرأ بيساريون باللغة اليونانية كما قرأ سيزاريني باللغة اللاتينية في الكاتدرائية الكبرى التي أقام فيها بروتيلسكو منذ ثلاث سنين لا أكثر قبتها الفخمة، نقول قرأ هذا وذاك المرسوم الذي وحدت به الكنيستان، وقبل الحبران كلاهما الآخر، وخر جميع أعضاء المجلس وعلى رأسهم الإمبراطور ركعاً أمام يوجنيوس الذي كان يبدو منذ وقت قريب إنساناً طريداً مرذولا.
لكن ابتهاج المسيحية كان قصير الأجل. ذلك أنه لما عاد الإمبراطور اليوناني وحاشيته إلى القسطنطينية، قوبلوا بالإهانات والشتائم، فقد رفض رجال الدين والشعب الخضوع إلى روما. وحافظ يوجنيوس على نصيبه في هذا الاتفاق، وأرسل الكردنال سيزاريني إلى بلاد المجر على رأس جيش للانضمام إلى قوات لادسلاس Ladislas وهنيادي Hunyadi،(20/21)
وانتصرت هذه القوات عند نيش Nish على الأتراك ودخلت مدينة صوفيا ظافرة في مساء يوم عيد الميلاد عام 1443، ثم بدد شملها مراد الثاني في وارنه عام 1444، وسيطر الحزب المعارض للاتحاد في القسطنطينية على الموقف، ولم ير البطريق جريجورى الذي أيد هذا الاتحاد بداً من الفرار إلى إيطاليا. واستطاع جريجورى بعدئذ أن يشق طريقه بالقوة عائداً إلى صوفيا، وفيها قرأ مرسوم الاتحاد في عام 1452؛ ولكن الشعب ظل من ذلك الحين يتجنب الاتصال بالكنيسة الكبرى؛ ولعن رجال الدين المعارضون للاتحاد كل من يؤيدونه، ورفضوا أن يغفروا ذنوب كل من حضروا قراءة المرسوم، وأهابوا بالمرضى أن يموتوا دون تناول القداس بدل أن يتناولوه من يد قس "اتحادي" (24). ورفض بطارقة الإسكندرية، وإنطاكية، وبيت المقدس قرارات "المجلس الناهب" الذي عقد في فيرارا (24). ويسر محمد الثاني الأمر باتخاذ القسطنطينية عاصمة للدولة التركية (1453)، ومنح المسيحيين الحرية التامة في العبادة، وعين جناديوس Gennadius، وهو من ألد أعداء الوحدة بطريقاً في القسطنطينية.
وعاد يوجنيوس إلى روما في عام 1443؛ بعد أن قضى مبعوثه القائد والكردنال فيتليسكي Vitelleschi على الجمهورية المضطربة، وعلى أسرة كولنا المشاكسة بوحشية لا تضارعها وحشية الوندال أو القوط. وكان مقام البابا في فلورنس قد علمه تطور الآداب الإنسانية والفنون في عهد كوزيموده ميديتشي، وكان العلماء اليونان الذين شهدوا مؤتمر فيرارا وفلورنس قد أثاروا فيه الاهتمام بحفظ المحفوظات القديمة التي قد يضيعها أو يتلفها سقوط القسطنطينية المرتقب. ولهذا ضم إلى أمنائه بجيو، وفلافيو بيوندو، وليوناردو برونى، وغيرهم من الكتاب الإنسانيين الذين يستطيعون مفاوضة اليونان باللغة اليونانية. وجاء بالراهب أنجيلكو إلى روما، وعهد إليه نقش المظلمات في معبد القداس بقصر الفاتيكان. وكان يوجنيوس(20/22)
يعجب بالأبواب البرنزية الكبرى التي صبها جيبرتي Ghiberti لمكان التعميد في كنيسة فلورنس، ولهذا عهد إلى فيلاريتي Filarete أن يصب أبواباً مثلها لكنيسة القديس بطرس القديمة (1433). ومن الأمور ذات البال، أن هذا المثال لم يضع على أبواب أشهر الكنائس في العالم المسيحي اللاتيني تماثيل المسيح، ومريم، والرسل فحسب، بل وضع معها أيضاً صور المريخ، وروما، وهيرون، ولياندر، وجوبتر، وجنيميد، ولم يكتف بهذا بل أضاف إليها ليدا والبجعة وإن كان عمله هذا لم يثر حتى في ذلك الوقت أي تعليق. وهكذا جاء يوجنيوس في ساعة انتصاره على مجلس بازل بالنهضة الوثنية إلى روما.(20/23)
الباب الخامس عشر
النهضة تستحوذ على إيطاليا
1447 - 1492
الفصل الأول
قصبة العالم
لمّا اعتلى البابا نقولاس الخامس أقدم عرش في العالم (1)، لم يكن حجم روما يبلغ معشار حجم المدينة التي كانت تضمّها أسوار أورليان (270 - 275م)، وكانت أضيق رقعة وأقل سكاناً (80. 000 نسمة) (1) من البندقية، وفلورنس، وميلان. ولم يكن لها مورد لماء الشرب ثابت يعتمد عليه بعد أن دمّر البرابرة سقاياتها الكبرى، نعم إنه قد بقى لها بعض السقايات الصغيرة، وبعض العيون، وكثير من الأحواض والآبار، ولكن كثيرين من السكان كانوا يستقون من ماء التيبر (2). وكانت كثرة السكان تعيش في السهول غير الصحية، معرضة لفيضان النهر وعدوى الملاريا تتسرب إليها من المناقع المجاورة. وكان تل الكبتولين يسمّى الآن منتي كبرينو Monte Caprino لأن المعز ( Capri) كانت ترعى على سفوحه. وكان تل البلاتين ملجأً ريفياً، يكاد يخلو من السكان، وأصبحت القصور القديمة التي اشتق اسمه منها محاجر مترية. وكانت البرجو فاتيكان Borgo
_________
(1) هذا لأننا نعتقد أن القصة القائلة بأن الأسرة الإمبراطورية اليابانية قد تأسست في عام 660 ق. م خرافة لا تستند إلى دليل.(20/24)
Vatican ( مدينة الفاتيكان) ضاحية صغيرة على الضفة الأخرى من النهر مقابلة لوسط المدينة مكدّسة حول ضريح القديس بطرس المتهدّم. وكانت بعض الكنائس مثل كنيسة سانتا ماريا مجيوري (القديسة مريم الكبرى) أو سانتا تشيتشيليا جميلة من داخلها ولكنها بسيطة من خارجها؛ ولم يكن في روما كنيسة تضارع كنيسة فلورنس أو ميلان؛ أو دير يضارع التشيرتوزا دي بافيا Certosa di Pavia، كما لم يكن فيها قاعة عامة تسمو إلى مكانة البلادسافينشيو (قصر فيتشيو) أو، كما لم يكن فيها قاعة عامة تسمو إلى مكانة البلادسافينشيو (قصر فيتشيو) أو الكاستيلوا اسفورديسكو Casello Sforzesco أو حتى البلاتسا بيليكو (القصر العام) في سينا. وكانت شوارع المدينة كلها تقريباً أزقة موحلة أو متربة؛ وقليل منها مرصوف بالحصباء. ولا يضاء فيها أثناء الليل إلاّ عدد قليل؛ ولم تكن تكنس إلاّ في أخص المناسبات، كعيد عام أو دخول شخصية جد خطيرة دخولاً رسمياً.
وكان عماد المدينة من الناحية الاقتصادية يجيء بعضه من المراعي وإنتاج الصوف، والماشية التي ترعى في الحقول القريبة منها، ولكن الجزء الأكبر منه يجيء من إيراد الكنيسة. وكانت الزراعة قليلة أو منعدمة، والتجارة أقل من القليل، أما الصناعة والتجارة الخارجية فقد كادتا تختفيان من الوجود لافتقارهما إلى الحماية وتعرضهما لاعتداء اللصوص وقطّاع الطريق. ولم تكد توجد في المدينة طبقة وسطى ـ فلم يكن فيها إلاّ الأشراف، ورجال الدين، والعامة- وكان الأشراف يمتلكون كل ما لم يقع في حوزة الكنيسة من الأراضي إلاّ القليل الذي لا يستحق الذكر، وكانوا يستغلون الفلاحين بلا وازع من رحمة ولا ضمير خليقين بالمسيحي الصحيح. وكانوا يقضون على العصيان بقسوة، ويتقاتلون فيما بينهم على أيدي الأوشاب السفاحين الأشدّاء، الذين يحتفظون بهم ويدربونهم على الضرب والفتك لينفذوا أغراضهم. واغتصبت الأسر الكبيرة- وخاصة أسرة كولنا وأسرة أرسيني- المقابر والحمامات، ودور التمثيل، وغيرها من المنشآت القائمة(20/25)
في روما أو بالقرب منها، وحولتها إلى قلاع خاصة؛ وكانت قصورها الريفية مشيّدة بحيث تؤدي الأغراض الحربية، أو يبذلون جهدهم ليتولوا هم اختيار هؤلاء البابوات والسيطرة عليهم. وكثيراً ما أشاعوا الاضطراب الذي أدى إلى فرار البابوات من المدينة؛ حتى لقد كان البابا بيوس الثاني يدعو الله أن يجعل مدينة غير روما عاصمة ملكه (3). ولمّا أن حارب سكسنس الرابع واسكندر السادس أولئك الأعيان كانت حروبهما مجهوداً يغتفر لهما للتمتّع ببعض الأمن الذي لابد منه للكرسي البابوي.
وكان رجال الدين هم الذين يحكمون روما عادة، لأنهم كانت بأيديهم موارد الكنيسة على اختلاف أنواعها ينفقون منها. وكان الأهلون يعتمدون على ما ينصب في المدينة من الذهب الوارد من الأقطار المختلفة، وعلى ما يستطيع رجال الكنيسة أن يستخدموهم فيه من الأعمال بفضل هذا الذهب، وعلى الصدقات التي يستطيع البابوات أن يمدوهم بها منه. ولم يكن من شأن أهل روما أن يتحمّسوا لأي إصلاح في الكنيسة يقلّل من أنصباب هذا الذهب فيها. وإذ كانوا عاجزين عن العصيان الصريح فقد استبدلوا به الهجاء اللاذع الذي لا يضارعه في هذا هجاء آخر في أية مدينة غير روما في أوربا كلها. من ذلك أن تمثالاً في البياتسا نافونا Piazza Navona، وهو في أكبر الظن تمثال لهرقول، قد أطلق عليه اسم باسكوينو Pasquino- ولعل هذا الاسم قد أخذ من اسم خياط قريب منه- واتخذ لوحة تلصق عليها أحدث عبارات القذف والطعن، وكانت في العادة عبارة عن نكت باللغة الإيطالية أو اللاتينية، وكانت توجه في أكثر الأحيان إلى البابا الحاكم، وكان أهل روما قوماً متدينين في المناسبات الخاصة على الأقل؛ فكانوا يتزاحمون لتلقّي البركة من البابا، ويفخرون بأن يحذو حذو السفراء فيقبّلوا قدميه؛ ولكن لمّا أعجز داء الرثية البابا سكستس الرابع عن أن يظهر(20/26)
أمامهم في الموعد المقرر لمنح هذه البركة وجّهوا إليه أقذع ما في جعبة أهل روما من السباب. ويضاف إلى هذا أن البابوات أصبحوا، بعد أن ألغى بوجينيوسش الرابع الجمهورية في روما، حكّام المدينة الزمنيين، وبذلك كان يوجّه إليهم ما يوجّه إلى الحكومات من شتائم. وكان من سوء حظ البابوية أن يكون مقرها بين أكثر أهل إيطاليا خروجاً على القانون.
وكان البابوات يشعرون بأن لهم الحق كل الحق في أن يطالبوا لأنفسهم بقسط من السلطة الزمنية ورقعة من الأرض يمارسون فيها هذه السلطة. ذلك بأنهم وهم رؤساء منظمة دولية، لا يقبلون أن يكونوا أسرى في أيدي دولة بمفردها كما كانت حالهم في واقع الأمر في أفنيون. فإذا ما ضيق عليهم إلى هذا الحد عجزوا لا محالة عن أن يقدّموا للناس جميعاً خدماتهم نزيهة من غير تفرقة بينهم؛ وعجزوا أكثر من هذا عن أن يحققوا حلمهم العظيم وهو أن يكونوا الحكّام الروحيين لجميع الحكومات. ولقد كانت "هبة قسطنطين" المزعومة وثيقة واضحة التزوير (كما اعترف بذلك نقولاس باستئجار فلاّ "، ولكن إهداء بيبين إيطاليا الوسطى للبابوية (755)، ذلك الإهداء الذي أيده شارلمان، (773) من الحقائق التاريخية التي لا شك فيها. وكان البابوات قد سكّوا لهم عملة خاصة منذ عام 782 إن لم يكن قبل ذلك التاريخ (4)، ولم يرتّب أحد في حقهم هذا قروناً طوالا. وكان توحيد السلطات المحلية، الإقطاعية أو الحربية، يسير في الولايات البابوية سيره في غيرها من الأمم الأوربية. فإذا كان البابوات من أيام نقولاس الخامس إلى أيام كلمنت السابع قد حكموا الولايات الخاضعة لهم حكم الملوك أصحاب السلطة المطلقة، فقد كانوا يتّبعون في هذا ما جرى به العرف في زمانهم، وكان من حقهم أن يشكّوا إذا قام مصلحون مثل جيرسن Gerson مدير جامعة باريس يطالب بالدمقراطية في الكنيسة ولكنه يستنكرها في الدولة. والحق أنه لا الدولة ولا الكنيسة كانت مستعدة للدمقراطية في(20/27)
الوقت الذي لم تكن الطباعة قد أخذت فيه تعم وتنتشر. ذلك أن نقولاس الخامس قد ارتقى عرش البابوية قبل أن يطبع جوتنبرج الكتاب المقدس بسبع سنين، وقبل أن يصل فن الطباعة إلى روما بثلاثين سنة، وقبل أن ينشر ألدوس مانوتيوس أول كتاب من كتب الآداب القديمة. وملاك القول أن الديمقراطية ترف لا يستمتع به إلاّ إذا تثقفت العقول وساد الأمن والسلام.
وكان حكم البابوات الزمني ينبسط مباشرة على ما كان الأقدمون يسمّونه إقليم لاتيوم (وهو إقليم لادسيو في هذه الأيام)، وعلى جزء صغير من الإقليم المحصور بين تسكانيا، وأمبريا، ومملكة نابلي، والبحر الترهيني. وكانوا فضلاً عن هذا يدّعون أنهم أصحاب أمبريا نفسها وولايات الحدود، ورومانيا Romogna ( وهي رومانيا Romania القديمة). ويتكون من هذه الأصقاع الأربعة منطقة عريضة تمتد في عرض إيطاليا من البحر إلى البحر، وتضم نحو ست وعشرين مدينة كان البابوات متى شاءوا يحكمونها بأيدي نائبين عنهم أو يقسمونها بين حكّام الأقاليم الأخرى. وفضلاً عن هذا وذاك كان البابوات يدّعن أن صقلية ومملكة نابلي كلها إقطاعيتان باباويتان، مستندين في ذلك إلى اتفاق عقد بين البابا إنوسنت الثالث وفردريك الثاني؛ وأصبح أداء هاتين الدولتين جعلاً إقطاعياً للبابوية من أكبر أسباب النزاع بين حاكميها والبابوات. يضاف إلى هذا كله أن الكونتة ماتلدا كانت قد أوصت للبابوات (1107) بتسكانيا كلها تقريباً، بوصفها من ممتلكاتها الإقطاعية الخاصة، بما في ذلك فلورنس، ولوكا، وبستويا، وبيزا، وسينا، وأردتسو؛ وكان البابوات يطالبون بأن تكون لهم على جميع هذه الأملاك حقوق السادة الإقطاعية، ولكنهم قلّما كانوا يستطيعون أن ينفّذوا مطلبهم هذا ويجعلوه من الحقائق الواقعة.
وكانت البابوية تعاني الأمرّين من جرّاء الفساد الداخلي، وعجزها(20/28)
الحربي والمالي، واشتباك الأحوال السياسية الأوربية بالإيطالية، والشئون الكنسية بالزمنية؛ وظلت وتلك حالها تكافح قروناً طوالا للمحافظة على ممتلكاتها التقليدية وتحول بينها وبين أن يمتلكها رؤساء العصابات الأفّاقون المستأجرون، وأن تعتدي عليها الدول الإيطالية الأخرى. مثال ذلك أن ميلان حاولت أكثر من مرة أن تمتلك بولونيا، وأن البندقية استولت على رافنا، وحاولت أن تضم إليها فيرارا، وأن نابلي حاولت أن تبسط سلطانها على لاتيوم. وقلّما كان البابوات يعتمدون في صد هذه الهجمات على جيشهم الصغير المؤلف من الجنود المرتزقين، بل كانوا يثيرون هذه الدول الطامعة بعضها على بعض؛ لينشئوا بذلك نوعاً من توازن القوى السياسية، ويحاولون أن يحولوا بين أية واحدة منها وبين أن يصبح لها من القوة ما يمكّنها من أن تلتهم الأملاك البابوية. ولقد كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini محقيّن حين أرجعا بعض أسباب تمزّق إيطاليا إلى هذه السياسة البابوية؛ ولقد كان البابوات على حق في الجري عليها لأنها كانت سبيلهم الوحيدة للمحافظة على استقلالهم الروحي والسياسي عن طريق سلطانهم الزمني.
وأحس البابوات بوصفهم حكّاماً سياسيين أنهم مضطرّون إلى استخدام نفس الأساليب السياسية التي يستخدمها أندادهم الحكّام الزمنيون. فكانوا يوزعون- وأحياناً يبيعون- المناصب والرتب الكهنوتية إلى ذوي النفوذ، حتى القصَّر منهم، لكي يوفوا بما عليهم من الديون السياسية، أو يحققوا أغراضاً سياسية، أو يكافئوا أو يعينوا رجالاً من الأدباء أو الفنانين. وكانوا يزوجون أقاربهم في الأسر ذات القوة السياسية. وكانوا يستخدمون الجيوش كما فعل يوليوس الثاني، أو أساليب الخداع كما استخدمها ليو العاشر (5)، للوصول إلى أغراضهم. وكانوا يغضّون النظر عن قيام درجات من البيروقراطية الخسيسة ـ كانوا يفيدون منها في بعض الأحيان- أكبر الظن(20/29)
أنها لم تكن أشد خسّة مما كانت تتصف به معظم حكومات تلك الأيام. ولم تكن شرائع الولايات البابوية أقل شدة من شرائع غيرها من الدول، فكان مندوبو البابوات يشنقون اللصوص ومزيّفي النقود ويرون هذا شراً مريراً لابد للحكومات أن تسلكه. وكان معظم البابوات يعيشون معيشة بسيطة إلى الحد الذي تجيزه المظاهر والحفلات الرسمية الفخمة التي تتطلبها مناصبهم في زعمهم؛ وإن أسوأ القصص التي نقرأها عنه لهي أقاصيص غير مستندة إلى أساس صادق أذاعها عنهم هجّاءون غير مسئولين مثل برني Berni، أو طلاب المناصب الذين لم ينالوا بغيتهم أمثال أرتينو Artino، أو عملاء السلطات مثل آل إنفسورا Infessura المعادين للبابوية عدا شخصياً عنيفاً أو عداء دبلوماسياً. أما الكرادلة الذين كانوا يعرفون شئون الكنيسة الدينية والسياسية، فكانوا يرون أنفسهم شيوخاً في مجلس دولة غنية، وينظّمون حياتهم على أساس هذا الوضع، وشاد الكثيرون منهم لأنفسهم قصوراً فخمة، وناصر كثيرون غيرهم الآداب والفنون، وأباح بعضهم لأنفسهم الاتصال بالمحاظي والعشيقات، ولم يتحرجوا في اتباع القانون الأخلاقي السائد في أيام الاستهتار التي يعيشون فيها.
وواجه البابوات بوصفهم قوة روحية مشكلة التوفيق بين النزعة الإنسانية الأدبية وبين المسيحية. ولقد كانت النزعة الإنسانية نصف وثنية، وكانت الكنيسة قد أخذت على عاتقها اجتثاث أصول الوثنية وتقطيع فروعها، سواء كان ذلك في عقائدها أو في فنها. وكانت قد شجعت تدمير الهياكل والتماثيل الوثنية أو أباحت هذا التدمير. مثال ذلك أن كنيسة أرفيتو الكبرى كانت قد شُيّدت توّاً بالرخام الذي أخذ بعضه من كرارا وبعضه الآخر من الآثار الرومانية القديمة؛ وأن مندوباً بابوياً باع كتل الرخام المأخوذة من الكلوسيوم لكي تحرق ويصنع منها الجير (6)؛ وأن قصر البندقية قد بدء في تشييده في عام 1461 لا قبل بتدمير المدرج الفلافي. وقد استخدم نقولاس(20/30)
نفسه، في حماسته المعمارية حمل ألفي عربة وخمسمائة من الرخام وصخور الترافرتين أخذها من الكلوسيوم، ومن حلبة مكسيموس وغيرهما من العمائر القديمة لكي يعيد بها بناء كنائس روما وقصورها (7). وكان انتهاج عكس هذه الخطة، والاحتفاظ بما بقى من الآثار الفنية والأدبية الرومانية واليونانية القديمة يتطلبان ثورة في التفكير الكنسي. وكانت منزلة النزعة الإنسانية في الأدب قد علت علوّاً كبيراً، وكانت الدوافع التي وراس الحركة الوثنية الجديدة قد اشتدت وقويت، والصبغة التي اصطبغ بها زعماؤها قد عظم تأثيرها، بحيث لم تر الكنيسة بدّاً من أن تجد مكاناً لهذه التطورات التي حدثت في الحياة المسيحية، وإلاّ خسرت الطبقات المثقفة في إيطاليا، ولعلها تخسر بعد ذلك هذه الطبقات في أوربا كلها. ومن أجل هذا احتضنت النزعة الإنسانية في أيام نقولاس الخامس، وانحازت بشجاعة ونبل إلى جانب الأدب الجديد والفن الجديد وتولت زعامتهما، وظلت مائة عام- تعد من أكثر الأعوام بهجة ورواء- (1447 - 1534) تتيح لعقل إيطاليا قدراً عظيماً من الحرية- الحرية التي لا يفيد منها العقل كما يقول فيليلفو- وللفن الإيطالي مناصرة، وفرصاً، ودوافع قائمة على التمحيص والتمييز جعلت روما مركز للنهضة، ومكّنتها من أن تستمتع بعصر من أكثر العصور لألاء في تاريخ البشرية.(20/31)
الفصل الثاني
نقولاس الخامس
1447 - 1455
نشأ توماسو بارنتوتشيلي Fommosso Parentucelli نشأة فقيرة في سار دسانا، ولكنه استطاع بطريقة ما أن يلتحق بجامعة بولونيا، وأن يقضي فيها ست سنين. ولما نفذ ماله غادرها إلى فلورنس واشتغل مربياً خاصاً في بيتي رينلدو دجلي ألبتسي Rinaldo degli Albizzi وبلاده استرتسي Palla de Strozzi. ولمّا كثر ماله عاد إلى بولونيا وواصل الدرس وحصل وهو في سن الثانية والعشرين على درجة دكتور في اللاهوت. وعيّنه نقولو دجلي البرجاتي Niccolo degli Albergati، كبير أساقفة بولونيا مشرفاً على شئون بيت رياسة الأسقفية وأخذه إلى فلورنس ليكون في خدمة يوجنيوس الرابع حين كان هذا البابا يقضي عهد منفاه الطويل. واصبح هذا القس في السنين التي قضاها بفلورنس من أصحاب النزعة الإنسانية، دون أن يخرج بذلك على المبادئ المسيحية، وصار صديقاً حميماً لبرتي، ومارسوبيني، ومانتي، وأورسبا، وبجيو، وانضم إلى مجتمعاتهم الأدبية. وسرعان ما التهب قلب تومس ساردسانا، كما كان الإنسانيون يسمّونه، بنار تحمسهم للآداب القديمة، فكان ينفق كل دخله تقريباً في شراء الكتب، ويقترض المال لابتياع المخطوطات الغالية الثمن، وجهر بأمله في أن يمكّنه ماله يوماً ما من أن يجمع في مكتبة واحدة جميع الكتب العظيمة في العالم. وترجع نشأة مكتبة الفاتيكان إلى هذا المطمع العظيم (9). واستخدمه كوزيمو في عمل فهارس المكتبة المرقسية، وابتهج توماسو لوجوده بين مخطوطاتها؛ وقلّما كان يعرف أنه يعد نفسه لأن يكون أول بابوات النهضة.
وظل عشرين عاماً يقوم بخدمة ألبرجاتي في فلورنس وبولونيا. فلمّا(20/32)
مات كبير الأساقفة (1443) عيّن يوجنيوس بارنتونشيلي خلفاً له؛ ثم عيّنه البابا بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت كردنالاً متأثراً في ذلك بعلمه، وصلاحه، ومقدرته الإدارية. وانقضى عام آخر، ومات يوجنيوس، ووجد الكرادلة أنفسهم في مأزق حرج بين أحزاب أرسيني وكولنا فرفعوا بارنتوتشيلي إلى عرش البابوية. وصاح هو في وجه فسبازياتو دا بستتشي Vespasiano da Bisticci قائلاً: "منذا الذي كان يظن أن عاملاً فقيراً يدق الجرس عند قسيس يصبح بابا، ويحدث بذلك الاضطراب في صفوف المتكبرين؟ " (10) وابتهج الإنسانيون في إيطاليا بهذا الاختيار ونادى أحدهم فرانتشيسكو بربارو Franceso Barbaro بأن رؤيا أفلاطون قد تحققت: فقد أصبح الفيلسوف ملكاً.
وكان لنقولا الخامس - وهذا هو الاسم الذي اختاره لنفسه - ثلاثة أهداف: أن يكون بابا صالحاً، وأن يعيد بناء روما، وأن يحيي الآداب والعلوم والفنون القديمة. وسلك في أعمال منصبه السامي مسلك التواضع والكفاية العظيمة، لا يكاد ينقطع عن مساع شئونه ساعة من ساعات النهار، واستطاع أن يحتفظ بعلاقات الود والصداقة بين كل من ألمانيا وفرنسا. وأدرك البابا المعارض فليكس الخامس أن نقولاس لن يلبث أن يكتسب ولاء العالم المسيحي كله، فتخلّى عن جميع دعاواه، وعفا عنه نقولاس فضلاً منه وكرماً؛ وانتقل المجلس الثائر الآخذ وقتئذ في الانحلال من بازل إلى لوزان ثم انفض (1449)؛ وانتهت بذلك حركة المجالس الكنسية، وانشعب الصدع الذي حدث في البابوية. غير أن المطالبة بإصلاح الكنيسة ظلت تجيء من وراء جبال الألب؛ وأحس نقولاس بأنه عاجز عن القيام بهذا الإصلاح أمام معارضة جميع ذوي المناصب الكبيرة الذين سيفقدون مناصبهم حتماً إذا ما تم هذا الإصلاح المنشود. وكان يأمل أن الكنيسة إذا ما تزعمت حركة إحياء العلوم، ستستعيد م كان لها من مكانة فقدتها(20/33)
في أفنيون، وفي عهد الانشقاق. ولسنا نعني أن مناصرته للعلوم كانت منبعثة عن غايات سياسية، فنحن لا يخالجنا شك في أنها كانت رغبة صادقة تكاد تكون هياماً؛ فقد قام في أيامه الأولى برحلات شاقة فوق جبال الألب بحث فيها عن المخطوطات، وكان هو الذي كشف في بازل عن مؤلفات ترتليان.
والآن وقد امتلأت خزائنه بإيرادات البابويةـ فقد شرع يبعث العمال إلى أثينة والقسطنطينية، وإلى كثير من المدن في ألمانيا وإنجلترا ليبحثوا عن المخطوطات اليونانية واللاتينية، وثنية كانت أو مسيحية؛ ويشتروها أو ينسخوها. وحشد في الفاتيكان طائفة كبيرة من النساخين والناشرين، ولم يكد يترك كاتباً إنسانياً في إيطاليا إلاّ استدعاه إلى روما. وفي ذلك يقول فسبازيانو معجباً به وإن كان في قوله كثر من المبالغة: "وأقبل العلماء من جميع أنحاء العالم على روما في أيام البابا نقولاس، بعضهم من تلقاء أنفسهم، وبعضهم إجابة لطلبه" (1). وكافأهم على أعمالهم بسخاء لا يقل عن سخاء خلفاء المسلمين الذين تهز مشاعرهم نغمات الموسيقى أو قصائد الشعراء. من ذلك أن لورندسو فلا الخاضع لسلطان البابا تلقّى 500 دوقة (12. 500؟ دولار) لأنه ترجم كتاب توكيديدس إلى اللغة اللاتينية، ونال جوارينو دا فيرونا 1500 دوقة نظير ترجمة استرابون، ومنح نقولو بيترتي Niccolo Petrotti خمسمائة دوقة نظير ترجمة بوليوس، وكلّف بجيو بترجمة كتاب ديودور الصقلي؛ وأغلر ثيودورس جادسا Theodorus Gasa بالمجيء من فيرار ليخرج ترجمة لكتب أرسطو؛ ومنح فيليلفو بيتاً في روما، وضيعة في الريف، وعشر آلاف دوقة ليترجم الإلياذة والأوديسة إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ضخامة هذه المكافآت أن تردد بعض العلماء في قبولها، ولكن البابا تغلّب على التردد بأن حذّرهم بشيء من الفكاهة قائلاً" "لا ترفضوا، فقد لا تجدوا نقولاس آخر" (12) ولمّا أن(20/34)
أخرجه الوباء من روما إلى فيرارا، أخذ مترجميه ونسّاخيه خشية أن يهلك الوباء واحداً منهم (13). على أنه في الوقت عينه لم يهمل ما يمكن أن نسمّيه الأدب المسيحي القديم. فقد عرض خمسة آلاف دوقة على من يستطيع أن يأتيه بإنجيل متّي بلغته الأصلية؛ واستخدم جيانتسومانتي وجورج الكربزوني ليترجما كتب سيريل Cyril، وباسل، وجريجوري تريانزين وجريجوري النتشائي وغيرها من الآداب الدينية؛ وعهد إلى مانتي وطائفة من مساعديه بأن يخرجوا ترجمة جديدة للكتاب المقدس عن النسخة العبرية الأصلية واليونانية، لكن موته حال دون هذا العمل أيضاً. وتمت هذه التراجم اللاتينية في عجلة، وكانت تشوبها كثير من العيوب، ولكنها فتحت لأول مرة كتب هيرودوت، وتوكيديدس، وأكسانوفون، وبولبيوس، وديودور، وأبيان، وفيلون، ونيوفرا سطوس، لطلاب العلم الذين لا يستطيعون قراءة اللغة اليونانية. وكتب فيليلفو مشيراً إلى هذه التراجم يقول: "لم تفن اليونان، بل هاجرت إلى إيطاليا، التي كانت في الأيام الخالية تسمى اليونان الكبرى" (14). ويقول مانتي معبّراً عن شكره واعترافه بالجميل، تعبيراً تعوزه الدقة العلمية، إن ما ترجم من الكتب في الثمان السنين التي جلس فيها نقولاس على عرش البابوية أكثر ممّا ترجم في الخمسة القرون السابقة بأجمعها (15).
وكان نقولاس يحب مظهر الكتب وشكلها كما كان يحب ما تحتويه صحائفها. وكان هو نفسه خطاطاّ؛ وأمر بأن يكتب له التراجم كتبة مهرة على الرق؛ وأن تجلّد أوراقها بالقطيفة القرمزية اللون، وأن تكون لها مشابك من الفضة. ولمّا كثر عدد كتبه - حتى بلغ أخيراً 824 مخطوطاً لاتينياً و352 مخطوطاً يونانياً - وضمّت هذه الكتب إلى مجموعات البابوات السابقين نشأت مشكلة المكان الذي توضع فيه هذه المجلدات الخمسة الآلاف - أكبر مجموعة من الكتب في العالم المسيحي - بحيث يضمن انتقال هذه(20/35)
الذخيرة كاملة إلى الخلف، وكان تشييد دار الكتب في الفاتيكان من أصدق أماني نقولاس.
وكان بنّاءً كما كان عالماً تحريرياً، وقد صمم منذ جلس على عرش البابوية على أن يجعل روما خليقة بزعامة العالم. وكان عيد من أعيادها قد اقترب موعده إذ كان يحل في عام 1450. وكان ينتظر قدوم مائة ألف زائر إليها في هذا العيد، وينبغي ألاّ يجدوا روما خربات رثّة بالية، وتطلبت كرامة الكنيسة والبابوية أن يطالع حصن المسيحية الحصين زائريه (بمبان فخمة، تجمع بين حسن الذوق والجمال من جهة والفخامة والضخامة من جهة أخرى" بحيث "يرفع هذا من شأن كرسي الرسول بطرس". هكذا صرّح نقولاس بغرضه وهو على فراش الموت معتذراً عمّا قصّر فيه. وقد أعاد بناء أسوار المدينة وأبوابها الكبرى، ورمّم سقاية ماء فرجيني Aqua Vergine، وأمر أحد الفنانين بأن ينشئ فسقية عند مصبّها تزدان بها. وعهد إلى ليون ألبرتي بأن يخطط القصور، والميادين العامة، والشوارع الفسيحة، تقيها من الشمس والمطر البواكي المعمّدة. وأمر برصف كثير من الشوارع، وتجديد كثير من الجسور، ورمّم حصن سانت أنجيلو. وأقرض أعيان المواطنين الأموال ليساعدهم على بناء القصور التي تزدان بها روما. وجدّد برناردو رسلينو، إطاعة لأمره، كنائس سانتا ماريا مجبوري، وسان جيوفني لاترنو، وسان بولو، وسان لورندسو القائمة خارج أسوار المدينة، والكنائس الأربعين التي كان جريجوري الأول قد خططها لتكون محطات للصليب (16). ووضع تصميمات فخمة لبناء قصر جديد للفاتيكان يغطي بحدائقه جميع تل الفاتيكان، ويسع البابا وجميع موظفيه، وكرادلته، وجميع المكاتب الإدارية التابعة للحكومة البابوية. وعاش حتى أتم حجراته الخاصة (التي شغلها فيما بعد اسكندر السادس وسمّاها جناح بورجيا)، والمكتبة (وهي الآن البيناكوتيكا(20/36)
فاتيكانا) والحجرات التي نقشها رفائيل فيما بعد. واستدعى بينيديتو بنتفجلي من بروجيا، واندريا دل كستنانيو من فلورنس لينقشوا رسوماً جصية - لم يبق لها أثر الآن - على جدران الفاتنكان؛ وأقنع الراهب أنجيلكو - وكان وقتئذ شيخاً طاعناً في السن - بأن يعود إلى روما لينقش في معبد البابا نفسه قصص القديس اصطفانوس، والقديس لورنس، وفكر في أن يهدم باسلقا القديس بطرس المتداعية، وأن يشيّد فوق قبره أروع كنيسة في العالم، وقُدّر ليوليوس الثاني أن يشرع هو في تحقيق هذا الغرض الجليل.
وكان يأمل أن يحصل على ما يلزمه من المال لتحقيق هذه الأغراض كلها مما يرد إلى روما في ذلك العيد القريب. وأعلن نقولاس أن هذا العيد سيكون احتفالاً بعودة السلام والوحدة إلى الكنيسة؛ ووافق ذلك هوى في نفوس شعوب أوربا. وتوافد الحجاج من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني بكثرة لم يسبق لها من قبل مثيل، وشبّههم شهود عيان بأسراب من النمل، وبلغ الزحام في روما درجة اضطر معها البابا إلى أن يحدد أقصى مدة يقيمها أي زائر فيها بخمسة أيام في أول الأمر، ثم بثلاثة، ثم بيومين اثنين. وحدث في يوم من الأيام أن قتل مائتا شخص حين تدافع الناس فهووا في نهر التيبر. فما كان من نقولاس بعدئذ إلاّ أن أمر بهدم بعض البيوت ليفسح الطريق إلى كنيسة القديس بطرس. وجاء الحجاج معهم بهدايا فاقت في قيمتها ما كان يتوقعه نقولا نفسه، ووفت بنفقات مبانيه الجديد، وما خصصه من المال للعلماء والمخطوطات (17). وعانت المدن الإيطالية الأخرى نقصاً في النقود لأن الأموال "كلها تدفقت في روما" ولكن أصحاب النزل في روما، ومبدّلي النقود والصيارفة، والتجار جنوا أرباحاً طائلة، حتى استطاع نقولاس أن يودع في مصرف آل ميديتشي وحده مائة ألف فلورين (2. 500. 000؟ دولار) (18). واشتد تذمر البلاد الواقعة وراء جبال الألب من انصباب الذهب إلى إيطاليا.(20/37)
وحتى في روما نفسها شوّه بعض التذمر هذا الرخاء الطارئ. ذلك أن حكم نقولاس لهذه المدينة كان حكماً مستنيراً عادلاً كما يراه هو، وكان قد وعد بتحقيق بعض الآمال الجمهورية، بأن رشّح أربعة من المواطنين يعيّنون هم في المستقبل جميع موظفي البلدية، ويشرفون على شئون الضرائب التي تجبى من المدينة. ولكن أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان وهم الطبقة التي كانت تتولى حكم المدينة حين كان البابوات يقيمون في أفنيون وفي عهد الانشقاق، لم يرضوا عن الحكومة البابوية القائمة فيها، كما استاء العامة من تحويل الفاتيكان إلى قصر محصن يقوى على صد أي هجوم يماثل الهجوم الذي أدى إلى طرد يوجنيوس من روما. وكانت الأفكار الجمهورية التي ينادي بها أرنلد البيشائي، وكولا دي ريندسو Cola di Rienzo لا تزال تثير كثيراً من العقول. وحدث في السنة التي تربّع فيها نقولاس على عرش البابوية أن ألقى زعيم من أهل المدينة يدعى استفانو بركارو Stefaco Porcaro خطبة حماسية نارية يطالب فيها بإعادة الحكم الذاتي إلى المدينة؛ فما كان من نقولاس إلاّ أن نفاه من المدينة نفياً مريحاً، إذ عيّنه حاكماً لأنياني، ولكن بروكورو استطاع أن يعود إلى العاصمة، وأن ينادي بنداء الحرية أمام جمع مهتاج في حفلة مقنعة. ونفاه نقولاس مرة أخرى إلى بولونيا، ولكنه ترك له حريته الكاملة ولم يفرض عليه إلاّ أن يظهر كل يوم أمام المندوب البابوي في المدينة. بيد أن استفانو، الذي لم يكن شيء يثبّط همته أو يقعد به عن العمل، استطاع وهو في بولونيا أن يدبر مؤامرة محكمة أشرك فيها ثلاثمائة من أتباعه في روما. وكانت النية مبيتة على أن يهاجم المتآمرون قصر الفاتيكان في يوم عيد الغطاس أثناء قيام البابا والكرادلة بالقداس في كنيسة الرسول بطرس، ثم يستولوا على ما فيه من كنوز ليتمكنوا بها من إقامة جمهورية، ثم يلقوا القبض على نقولاس نفسه ويتخذوه أسيراً (19). وغادر بركارو بولونيا أسيراً (في 26 ديسمبر سنة(20/38)
1452) وانضم إلى المتآمرين عشية يوم الهجوم المدبر. ولكن غيابه عن بولونيا عرف، وجاء رسول إلى الفاتيكان يحذر البابا من المؤامرة. واقتفى أثر استفانو، وعثر عليه، وزج في السجن، وضرب رأسه في اليوم التاسع من يناير في سانت أنجيلو. وعد الجمهوريون قتله اغتيالاً، وندد الكتاب الإنسانيون بالمؤامرة وعدّوها خيانة مروعة للبابا الخير الصالح.
وروع نقولاس، وتبدلت حاله لمّا تبين له أن قسماً كبيراً من أهل المدينة يرونه طاغية مهما تكن فعاله الخيّرة. وأقضّت مضجعه الظنون السيئة، وملأ الغضب صدره، وعذبه مرض الرثية، فأخذ ينحدر انحداراً سريعاً نحو الشيخوخة. ولمّا جاءته الأنباء بأن الأتراك استولوا على القسطنطينية فوق خمسين ألفاً من جثث المدافعين عنها، وأنهم اتخذوا كنيسة أياً صوفياً مسجداً (1453)، خيل إليه أن ما ناله في أثناء بابويته كان بهرجاً كاذباً وعبثاً باطلاً قصير الأجل. وأهاب بالدول الأوربية أن تضم صفوفها لتقوم بحملة صليبية تستعيد بها حصن المسيحية الشرقية الحصين، وطالب بعشر إيراد أوربا الغربية بأجمعه ليمول به هذه الحملة، وتعهّد بأداء جميع إيرادات الأملاك البابوية، والحكومة البابوية، وغيرها من الموارد الكنسية؛ ثم طال بوقف جميع الحروب المستعرة بين الأمم المسيحية، وإلا حرم القائمون بها من حظيرة الدين، لكن أوربا أصمت أذنيها عن سماع النداء. وقال الناس إن الموال التي جمعها البابوات السابقون لتمويل حروب صليبية استخدمت في أغراض أخرى. وآثرت البندقية أن تعقد مع الأتراك اتفاقاً تجارياً، وأفادت ميلان من متاعب البندقية فاستردت برستشيا، ونظرت فلورنس بعين الرضا إلى فقدان البندقية تجارتها مع الشرق (20). وأحنى نقولاس رأسه أمام الحقيقة الواقعة، وبرد دم الحياة في عروقه. وتوفى الرجل في عام 1455 في الثامنة والخمسين من عمره بعد أن أنهكته متاعب الدبلوماسية غير المجدية وجوزي على خطايا أسلافه.(20/39)
لكنه أعاد السلام إلى داخل الكنيسة، وأعاد النظام والمجد إلى روما، وأنشأ أعظم مكتبة في أوربا كلها، ووفق بين الكنيسة والنهضة، ولم يدنس يده بالحرب، ولم يتحيز لذوي القربى، وبذل ك لما يستطيع من الجهد ليخرج بأوربا من النزاع المؤدي إلى الانتحار. وكان هو نفسه يحيا حياة بسيطة وسط موارد لم يسبق لها في ضخامتها مثيل، وكان محباً للكنيسة ولكتبه، ولم يسرف إلاّ في عطاياه. وقد عبّر إخباري محزون عن شعور إيطاليا حين وصف البابا العالم بأنه رجل "حكيم، عادل، خيّر، رحيم، مسالم، شفيق، محسن، متواضع ... متصف بجميع الفضائل" (21). نعم إن هذا هو حكم المحبين، وقد لا يرى بركورو هذا الرأي، ولكن لا بأس من أن نسجل هذا الحكم.(20/40)
الفصل الثالث
كلكستس الثالث
1455 - 1468
وكان تفرق إيطاليا هو الذي قرر نتيجة انتخاب البابا الذي خلف نقولاس: ذلك أن الكرادلة قد عجزوا عن الاتفاق على اختيار أحد الكرادلة الإيطاليين، فعمدوا من أجل ذلك إلى اختيار كردنال أسباني هو أفنسو بورجيا Alfonso Borgia الذي تسمّى باسم كلمنت الثالث. وكان البابا الجديد قد بلغ السابعة والسبعين من العمر، وكان موته مرتقباً بعد قليل، فتتاح بذلك للكرادلة فرصة اختيار أخرى قد تكون أعود عليهم بالفائدة، وكان كلكستس متخصصاً في القانون الكنسي بارعاً في الدبلوماسية، ولذلك كان ذا عقلية قانونية، قليل العناية بالعلوم القديمة التي شغف بها نقولاس. وضعف في عهده شأن الكتّاب الإنسانيين الذين لم تكن لهم أصول ثابتة في روما إذا استثنينا منهم فلا Valla الذي ظل بعد أن صلحت حاله أميناً للبابا.
وكان كلكستس رجلاً صالحاً يعطف على أقاربه، فلم تنقض على تزويجه عشرة أشهر حتى رفع إلى مقام الكردنالية اثنين من أبناء أخيه - هما لويس جوان داميلا Luis Juan da Maila، وردريجو بورجيا - ودن جيمي البرتغالي Don Jayme، وكانت سنّهم على التوالي خمسة وعشرين عاماً، وأربعة وعشرين، وثلاثة وعشرين. وكان يعيب ردريجو (الذي أصبح فيما بعد البابا أسكندر السادس) شيء آخر وهو أنه كان رجلاً صريحاً مستهتراً في أمور عشيقاته؛ لكن كلكستس مع ذلك منحه أكثر المناصب كسباً في البلاط البابوي - فجعله نائب رئيس الحكومة البابوية (1457)، ثم عيّنه في العام نفسه قائداً عاماً للقوات البابوية. وهكذا(20/41)
بدأت محاباة الأقارب، وهي الخطة التي اتبعها البابوات، واحداً بعد واحد فوهبوا المناصب البابوية لأبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من أقاربهم، وكانوا في كثير من الأحيان أبناء البابا نفسه، وأغضب كلكستس الإيطاليين إذ أحاط نفسه برجال اختارهم من بلده فأضحت روما الآن يحكمها القطلانيون. على أن البابا كانت تدعوه إلى ذلك أسباب معقولة: منها أنه كان أجنبياً في روما؛ وأن الأعيان والجمهوريون كانوا يحيكون المؤامرات ضده، وكان يريد أن يكون بالقرب منه رجال يعرفهم، يحمونه من الدسائس - بينما كان يوجّه اهتمامه إلى أهم ما يعنيه - ألا وهو الحرب الصليبية. هذا إلى أن البابا كان يريد أن يكون ثمة نفر من أصدقائه في مجمع الكرادلة الذي لا ينفك لجعل البابوية ملكية انتخابية ودستورية، تخضع في جميع قراراتها للكرادلة بوصفهم مجلساً للشيوخ أو مجلساً مخصوصاً، وكان البابوات يقاومون هذه الحركة، وأفلحوا في التغلب عليها، كما كان الملوك يحاربونها، وكما أفلحوا في القضاء عليها، لا فرق بين هؤلاء وأولئك. وكان النصر في كلتا الحالتين حليف الملكية المطلقة؛ ولكن لعل استبدال الاقتصاد القومي بالاقتصاد المحلي، واتساع مجال العلاقات الدولية وتعقّدها، يتطلبان، إلى وقت ما، تركيز الزعامة والسلطان. وأنهك كلكستس آخر قطرات نشاطه في محاولته غير المجدية لإثارة أوربا والأهابة بها إلى مقاومة الأتراك. ولمّا مات احتفلت روما بانتهاء حكم "البرابرة" لها. ولمّا رشّح الكردنال بكولوميني Piccolomini خلفاً له، ابتهجت روما كما لم تبتهج من قبل لاختيار أي بابا في خلال المائتي العام الأخيرة.(20/42)
الفصل الرابع
بيوس الثاني
1458 - 1464
بدأ إنياسلفيو ده بكولوميني Enea Silvio de Piccolomini حياته في عام 1405 في بلدة كرستيانو القريبة من سينا. وكان أبواه فقيرين ولكنهما من أروما مجيدة. ودرس القانون في جامعة سينا، ولكن القانون لم يرق له، لأنه كان يميل إلىالأدب، غير أنه أكسب عقله وحدة وانتظاماً في التفكير، وأعدّه لواجبات الإدارة والسياسة. ودرس الآداب الإنسانية في فلورنس على فيليلو، وظل من ذلك الوقت ذا نزعة إنسانية، ثم عيّنه الكردنال كبرانيكا أميناً له ورافقه إلى مجلس بازل، وهناك اجتمع مع طائفة من أعداء بوجنيوس الرابع؛ وبقي بعد ذلك كثيراً من السنين يدافع عن حركة المجالس ضد سلطان البابوية، ثم اشتغل وقتاً ما أميناً لفليكس الخامس البابا المعارض. ولكنه أدرك أنه قد راهن على الجواد الخاسر، فأغرى أحد الأساقفة بأن يقدمه للإمبراطور فردريك الثالث، وما لبث أن عين في منصب في البلاط الملكي، حتى إذا كان عام 1442 رافق فردريك إلى النمسا، وظل مرتبطاً به بعض الوقت.
ولم تبد عليه في تلك السنين التي كان يتكون فيها عقله نزعة خاصة، وكل ما في الأمر أنه كان إنساناً نشيطاً يرقى إلى المناصب، غير ذي مبادئ يحرص عليها، أو هدف يبتغيه غير النجاح؛ فقد كان يتنقل من جانب إلى جانب دون أن يدب اليأس إلى قلبه، ومن امرأة إلى امرأة وهو مرح متقلب تقلباً يبدو له - كما كان يبدو لمعظم معاصريه - أنه هو التدريب الصحيح لواجبات الزوجية، وشاهد ذلك أنه كتب إلى صديق له رسالة يقصد بها التغلب على عناد فتاة تؤثر الزواج على الفجور (22). وكان له(20/43)
عد من الأبناء غير الشرعيين بعث بواحد منهم إلى أبيه وطلب إليه أن يربيه، واعترف له بأنه "ليس أكثر قداسة من داود، ولا حكمة من سليمان" (23)؛ وكان في وسع الشاب الخبيث أن يقتبس من الكتاب المقدس ما يؤيد أغراضه. وكتب رواية من طراز كتابات بوكاتشيو، ترجمت إلى اللغات الأوربية كلها تقريباً، وكانت مما يجابه به لمّا تولى منصبه الديني. وقد تردد طلايلا في لبس المسوح، وإن كان يعلم أن رقيه في المستقبل يتطلب أن ينخرط في سلك رجال الدين؛ وذلك لأنه كان يشك كما يشك أوغسطين في قدرته على التعفف (24). وكتب يعارض مبدأ عدم زواج رجال الدين (25).
ولكنه احتفظ وسط هذا التقلب كله بالإخلاص للأدب. ذلك أن إحساسه المرهف بالجمال، وهو ذلك الإحساس الذي أفسد أخلاقه، قد جعله يهوى الطبيعة، ويولع بالأفكار؛ وهو الذي كوّن أسلوبه الذي جعله أكثر الكتّاب إمتاعاً، وأفصح الخطباء في القرن الخامس عشر كله. وقد كتب في فروع الأدب كلها تقريباً ـ وكانت كلها إلاّ القليل باللغة اللاتينية؛ كتب في القصص، والشعر، والفكاهات الشعرية، والحوار، والمقالات، والتواريخ، والأسفار، والجغرافية؛ وكتب الشروح والتعليقات، والمذكرات، وكتب مسلاة، وكانت كلها بتحمس وظرف لا يقلاّن في ذلك عن أجمل ما في كتابات بترارك النثرية. وكان يسعه أن يكتب أية وثيقة من وثائق الدولة، ويعد أو يرتجل خطبة بمهارة تقنع قارئها أو سامعها، وتأثر بسلاستها عقل من يطّلع عليها. وكان من خصائص ذلك العصر أن إينياس سلفيوس Aeneas Sylvius بدأ من لا شيء ولكنه ارتقى إلى مقام البابوية على سن قلمه. ولسنا ننكر أن أشعاره لم يكن لها من العمق أو القدر ما يخلدها، ولكنها بلغت من الرقة حداً جعله يتلقى تاج العشر من فردريك الثالث (1442) دليلاً على اغتباطه بشعره. وكان لمقالاته(20/44)
سحر وخفة عوضا ما كان ينقص كاتبها من قوة العقيدة أو التمسك بالمبدأ، وكان يسعه أن ينتقل من حديث عن "شقاء حياة البلاط" (26) التي يقول فيها إن "الرذائل كلها تنصب في بلاط الملوك كما تنصب مياه الأنهار في البحار" إلى رسالة في "طبيعة الخيل والعناية بها". وكان من الخصائص الأخرى لذلك العصر أن خطابه الطويل في التربية ـ الذي كتبه إلى لادسلاس ملك بوهيميا، ولكنه كان يقصد نشره - لم يقتبس فيه إلاّ من الكتّاب الوثنيين، اللهم إلاّ عبارة واحدة اقتبسها من غيرهم، وأنه لم يضرب إلاّ أمثلة مستمدة من هؤلاء الكتّاب، وأنه نظم عقود المديح لدراسات الإنسانية، وحث الملك على أن يعد أبناءه لتحم لمشاق الحرب وتبعاتها لأن "المسائل الجدية لا تسوّيها القوانين بل قوة السلاح" (27). وتعد مذكراته التي كتبها عن أسفاره خير ما كتب من نوعها في أدب النهضة كله، ذلك أنه لم يكتف بوصف المدن والمناظر الريفية وصفاً ذا فتنة ومتعة؛ بل وصف فوق ذلك صناعات البلاد التي زارها، وغلاتها، وأحوالها السياسية، ونظمها الحكومية، وعادات أهلها وأخلاقهم، ولم يكتب أحد بعد بترارك عن الريف بمثل ما كتب هو من حب وإعزاز. وكان هو دون غيره من الإيطاليين في قرون عدة الذي أحب ألمانيا؛ وكان يجد كلمة طيبة يقولها عن الصخابين من أهل المدن الذين يملأون الهواء بأغانيهم ويملأون بالجعة بطونهم، بدل أن يغتال بعضهم بعضاً في الشوارع. وكان يصف نفسه بأنه حريص على أن يرى مختلف الأشياء (28)، وكن من أقواله المأثورة التي يكررها على الدوام "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال" (29). وحول قلمه المطواع لكتابة التاريخ، فكتب عدة تراجم قصيرة للمشهورين من معاصريه؛ وكتب سيرة بترارك، وتاريخ الحرب الهوسية Hussite Wars، وموجزاً لتاريخ العالم. ثم وضع خطة لكتابة تاريخ العالم وجغرافيته أكبر من التاريخ السابق، وظل يعمل فيه وهو بابا، وأتم قسمه الخاص بآسية والذي عني(20/45)
كولمبس بقراءته (30). وكان وهو بابا يكتب من يوم إلى يوم مذكرات Commentaria يسجل فيها تاريخ حكمه حتى مرض مرضه الأخير. وكان وهو في هذه المرحلة من حياته "يقرأ ويملي حتى وهو راقد على فراشه حتى منتصف الليل، كما يقول معاصرة بلاتينا Platina، ولم يكن ينام أكثر من خمس ساعات أو ست" (31). وكان يعتذر لأنه يقضي وقت البابوية في الأعمال الأدبية ويقول: "إنا لم نختلس وقتاً من واجباتنا؛ بل إننا منحنا الكتابة من الوقت ما كان يجب أن نقضيه في النوم؛ وقد حرمنا شيخوختنا من الراحة حتى نورث الأجيال القديمة لما نعرف أنه خليق بأن يخلّد" (32).
وبعث الإمبراطور باينياس سلفيوس رسولاً إلى البابا في عام 1445. واعتذر الرجل الذي هاجم يوجنيوس مائة مرة اعتذاراً تأثر من فصاحته الباب الرحيم فلم يسعه إلاّ أن يعفو عنه، وأصبحت روح إينياس من ذلك اليوم ملكاً ليوجنيوس. ورسم قسيساً (1446)، ولمّا بلغ الحادية والأربعين من العمر ركن إلى العفة والطهارة، وعاش من ذلك الحين معيشة مثالية، واحتفظ بولاء فردريك للبابوية؛ واستطاع بسياسته الحصيفة، الملتوية في بعض الأحيان، أن يعيد ولاء الناخبين والأحبار الألمان إلى الكرسي الرسولي. وأيقظت زياراته لروما وسينا حبه لإيطاليا من جديد، فحل روابطه بفردريك شيئاً فشيئاً، وأحكمها ببلاط البابا (1455). لأنه كان يرغب على الدوام في أن يعود إلى معمعان السياسة وإلى موطنه الأول؛ ذلك أنه في روما سيكون في مركز الحركة كلها؛ ومن يدري لعله وهو في وسط الحادثات الصاخبة وتقلباتها يتنسَّم عرش البابوية. فلمّا كان عام 1449 عين أسقفاً لسينا، وفي عام 1456 أصبح الكردنال بكولوميني.
ولمّا حل الوقت الذي يجب أن يختار فيه خليفة لكالكستس، أراد الإيطاليون في المجمع المقدس أن يتفادوا اختيار الكردنال دستونيفيل Cardinal d' Estouteville، فأعطوا أصواتهم لبكولوميني. لأن الكرادلة(20/46)
الإيطاليين صمموا أن يحتفظوا بالمجمع المقدس إيطالياً صميماً؛ وكان تصميمهم هذا مبنياً على أسباب شخصية وعلى خوفهم من أن البابا الغير الإيطالي قد يعيد الانشقاق إلى العالم المسيحي بانحيازه إلى بلاده، أو بنقل كرسي البابوية من إيطاليا. ولم يجابه أحد إينياس بذنوب شبابه، ولم يتردد الكردنال ردريجو المرح في أن يدلي له بصوته في غير مواربة؛ وأحست الكثرة الغالبة أن الكردنال بكولوميني، وإن لم يرتد القلنسوة الحمراء (1) إلاّ من عهد قريب، كان واسع التجربة، كما كان دبلوماسياً ناجحاً واسع الاطلاع على شئون ألمانيا المتعبة، وعالماً يرفع بعلمه مكانة البابوية.
وكان وقتئذ في الثالثة والخمسين من العمر، وكانت حياته الكثيرة المغامرات قد أثرت كثيراً في صحته حتى بدا وكأنه شيخ طاعن في السن. وبينما هو مسافر من هولندا إلى إسكتلندة (1435)، إذ اضطرب البحر اضطراباً بعث في نفوس المسافرين أشد الهول والانزعاج - حتى لقد استغرقت الرحلة من سلويس Sluys إلى دنبار Dunbar اثني عشر يوماً - فأقسم إذا نجا أن يسير حافي القدمين إلى أقرب ضريح للعذراء. وحدث أن كان هذا الضريح في هويت كيرك Whitekirk على بعد عشرة أميال من المكان الذي نزل فيها. وبرَّ بيمينه، ومشى المسافة كلها وهو حافي القدمين فوق الثلج والجليد، وأصيب بداء الرثية وظل يعاني منه أشد الآلام ما بقى من حياته، ولم يحل عام 1458 حتى كان مصاباً بحصاة في الكلوتين، وبسعال مزمن. وغارت عيناه، وامتقع لون وجهه، "ولم يكن في وسع الناس أحياناً" كما يقول بلاتينا "أن يقولوا إنه حي إلاّ حين يسمعون صوته" (33). وكان وهو بابا يعشي عيشة بسيطة يراعي فيها جانب الاقتصاد؛ وكانت نفقات بيته في الفاتيكان أقل ما سجله التاريخ من نفقات هذا البيت.
_________
(1) أي لم يصبح كردنالاً (المترجم).(20/47)
وكان إذا أمكنته واجبات منصبه يأوي إلى ضاحية في الريف، يعيش فيها كما يعيش القروي الشريف المتواضع لا كما يعيش البابوات" (34). وكان أحياناً يحضر مجمع الكرادلة أو يستقبل السفراء، في ظلال الأشجار أو بين غياض أشجار الزيتون، أو إلى جوار عين باردة أو ماء جار. وكان يسمي نفسه من قبيل التورية سلفارم أماتور Silvarum Amator أي محب الغابات.
وقد اشتق اسمه البابوي من عبارة فرجيل التي يكررها كثيراً وهي prius Aeneas أي إينياس التقي. وإذا جاز لنا أن نتغاضى عمّا في ترجمة هذه الصفة من خطأ قليل أجَلَّه العرف، قلنا إنه عاش عيشة ينطبق عليها هذا الوصف. فقد كان تقيّاً، أميناً في أداء واجباته، خيّراً، متسامحاً، معتدلاً، حليماً، كسب قلوب جميع الناس حتى الساخرين من أهل روما. ولمّا كبر تخلى عن شهوانية شبابه، وأصبح من الناحية الأخلاقية بابا نموذجياً. ولم يحاول قط أن يخفي ما كان له في أيامه الأولى من مغامرات في الحب، أو ما قام به من دعوة للمجالس الكنسية المعارضة للبابوية، ولكنه أصدر قراراً يستنكر فيه ما فعل (1463)؛ ويضرع فيه إلى الله وإلى الكنيسة أن يغفرا له أخطاءه وذنوبه. وخاب رجاء الكتّاب الإنسانيين الذين كانوا يتوقعون أن يبسط عليهم البابا ذو النزعة الإنسانية رعايته ويغدق عليهم عطاياه، وذلك حين وجدوا أنه لا يؤدي إليهم أجوراً عالية، وإن كان يستمتع بصحبتهم، وإن عيّن بعضهم في مناصب إدارية في حكومته البابوية؛ بل كان يحتفظ بأموال البابوية ليجهز بها حملة صليبية على الأتراك. على أنه ظل في أوقات فراغه إنساني النزعة: فقد كان يعنى اشد العناية بدراسة الآثار القديمة، ونهى عن تدمي شيء آخر منها؛ وأمن أهل أربينو Arpino لأن شيشرون ولد في تلك المدينة؛ وأمر بترجمة هوميروس ترجمة جديدة، وعين بلاتينا وبيندو في أمانته العلمية. واستقدم مينو دا فيسولي Mino da Fiesole ليقوم ببعض أعمال النحت في كنائس روما، كما استقدم(20/48)
فلبينو لبي Eilippino Lippi لينقشها. وأطلق العنان لخيلائه بأن شيّد من تصميم وضعه برنارو رسلينو، كنيسة كبرى وقصر بكولوميني في بلدته كرسنيانو Corsignano التي سمّاها بيندسا Pienza باسمه. وكان يفخر بكرم محتده فخر الفقراء العريقي النسب، وأفرط في ولائه لأصدقائه وأقاربه إفراطاً أضر بمصالح الكنيسة، فقد أصبحت الفاتيكان في أيامه خلية بكولومينية.
وكانت مدة بابويته تزدان بعالمين من جلة العلماء، أحدهما فلافيو بيندو Flavio Biondo الذي كان أميناً للبابوية من أيام نقولاس الخامس، والذي كان رمزاً للنهضة المسيحية. وكان فلافيو مولعاً بالآثار القديمة، أنفق نصف حياته في كتابة تاريخها ووصف بقاياها؛ ولكنه كان طوال الوقت مسيحياً تقياً، صادق الإيمان، لا ينقطع عن أداء الشعائر الدينية. وكان بيوس يعرف له قدره ويتخذه مرشداً له وصديقاً، ويفيد من مرافقته في زيارة الآثار الرومانية. ذلك أن بيندو كان قد كتب موسوعة من ثلاثة أجزاء أسماها روما العالمة، روما الظافرة، وإيطاليا الباهرة، سجّل فيها تخطيط إيطالي القديمة، وتاريخها، وأنظمتها، وشرائعها، ودينها، وعاداتها، وفنونها. وأعظم من هذه الموسوعة على عظمتها كتابه المسمى تاريخ انحطاط الرومان وهو سبيه بكتاب "اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها"، وإن كان أكبر منه حجماً، وهو يصف أحوالها من 476 حتى 1250، أي في أولى الفترات العصيبة من العصور الوسطى. ولم يكن بيندو صاحب أسلوب أدبي رفيع، ولكنه كان مؤرخاً يفرق بين الغث والثمين، وكانت مؤلفاته هي التي قضت على الأقاصيص الخرافية التي كانت تحتفظ بها المدن الإيطالية وتعزو بها نشأتها إلى أصول طروادية أو غير طروادية. وكان العمل الذي أخذ على عاتقه القيام به أعظم من أن تتسع له سنو بيندو الخمس والسبعون؛ ولهذا لم يتمه حين توفى في عام 1463؛ ولكنه ضرب(20/49)
به المثل للمؤرخين الذين جاءوا بعده في الدراسة الواسعة النزيهة.
وكان الكردينال جون بيساريون أداة حية لنقل الثقافة اليونانية التي كانت تدخل وقتئذ إلى إيطاليا. وكان مولده في طربزون، وتلقّى في القسطنطينية دراسة واسعة في العشر، والخطابة، والفلسفة اليونانية؛ وواصل دراسته على الفيلسوف الأفلاطوني الذائع الصيت جمستوس بليثو Gemistus Pletho في مسترا Mistra. ثم قدم إلى مجلس لورنس بوصفه كبيراً لأساقفة نيقية، وكان له شأن عظيم في توحيد الكنيستين اليونانية واللاتينية. ولمّا عاد إلى القسطنطينية، نبذه صغار رجال الدين والشعب هو وغيره من "الاتحاديين". وعيّنه البابا يوجنيوس كردنالاً (1439)، وانتقل بيساريون إلى إيطاليا ومعه مجموعة قيّمة من المخطوطات. فلمّا قدم إلى روما أصبح بيته ندوة للكتّاب الإنسانيين؛ وكان بجيو، وفلا، وبلاتينا، من أقرب المقربين إليه من الأصدقاء؛ وكان فلا يسميه "أعلم العلماء الهلنستيين بين اللاتين"، وأكثر العلماء اللاتينيين تهذيباً بين اليونان (35). وقد أنفق كل دخله تقريباً في شراء المخطوطات أو نسخها. وترجم هو نفسه كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، ولكنه وهو من مريدي جمستوس كان يؤثر عليه أفلاطون؛ وكان يتزعم المعسكر الأفلاطوني في الجدل العنيف الذي حمى وطيسه وقتئذ بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين. وانتصر أفلاطون في هذه الحرب وانتهت بذلك سيطرة أرسطو الطويلة على الفلسفة الغربية. ولمّا عين البابا نقولاس الخامس بيساريون قاصداً رسولياً له في بولونيا ليحكم منها رومانيا وأقاليم التخوم، قام بيساريون بواجبات الحكم خير قيام، فلم يسع إلاّ أن يسميه "ملك السلام". وقد عهد إليه بيوس الثاني بعدة مهام دبلوماسية شاقة في ألمانيا التي أخذت مرة أخرى تغلي فيها مراجل الثورة على الكنيسة الرومانية. ولمّا قربت منيته أوصى بمكتبته إلى مدينة البندقية، حيث لا تزال تكوّن جزءاً لا تقدّر قيمته من المكتبة المرقسية Biblioteca Marciana.(20/50)
وكاد ينتخب للجلوس على عرش البابوية في عام 1471، ثم مات بعد عام من ذلك الوقت، وهو موضع الإجلال والتكريم في جميع أنحاء العالم لعلمه الغزير.
وأخفقت بعثته إلى ألمانيا. ويرجع بعض السبب في إخفاقها إلى أن الجهود التي بذلها بيوس الثاني لإصلاح الكنيسة لم تفلح، ويرجع البعض الآخر إلى أن محاولة جديدة بذلت لتحصيل العشور لتمويل حملة صليبية، قد بعثت كراهية الشعوب التي وراء جبال الألب لروما. وعين بيوس في بداية ولايته لجنة من كبار الأحبار لوضع منهاج للإصلاح؛ وقبل في ذلك مشروعاً عرضه عليه نقولاس الكرسائي وأعلنه في مرسوم بابوي، ولكنه لم يجد أحداً في روما يريد الإصلاح، لأن نصف من فيها من الكبار كانوا يجنون نفعاً كبيراً من المفاسد التي طال عليها العهد؛ وتغلب الجمود والمقاومة السلبية على جهود بيوس؛ وكانت الصعاب التي واجهها في الوقت عينه في ألمانيا، بوهيميا، وفرنسا قد استنفذت قواه، كما أن الحرب الصليبية التي كان يدبر أمرها قد استنفذت جميع عواطفه الدينية، وتطلبت منه المال الكثير. ولهذا قنع بأن يلوم الكرادلة على حياتهم الشهوانية. وأن يقوم من حين إلى حين ببعض الإصلاحات المتقطعة في نظم الأديرة. وأصدر في عام 1463 آخر نداء إلى الكرادلة قال فيه:
يقول الناس إنّا نسعى وراء اللذة، وجمع الثراء، وإنّا متغطرسون، نمتطي البغال السمينة، والأمهار الجميلة، ونجر أذيال أثوابنا من خلفنا، ونطل بوجوهنا المستديرة المكتنزة من تحت القبعة الحمراء، والقلنسوة البيضاء، ونربي الكلاب للصيد، وننفق الكثير من المال على الممثلات والطفيليين والطفيليات، ونضن بالقليل على شئون الدين. وإن لهم لبعض الحق فيما يقولون: ذلك أن من بين الكرادلة وغيرهم من الموظفين في بلاطنا من يحيون هذا النوع من الحياة. وإذا شئتم الحقيقة قلت لكم إن(20/51)
الترف والأبهة الكاذبة قد زاد في بلاطنا على الحد؛ وهذا هو الذي جعل الناس يمقتوننا مقتاً يمنعهم من أن يستمعوا لنا، حتى حين ننطق بما هو حق ومعقول. وماذا تظنون أنا فاعلوه في هذه الحال التي تجللنا العار؟ ... يجب علينا أن نبحث عن الوسائل التي كسب بها أسلافنا ما كان لهم من سلطان واحترام في داخل الكنيسة ... ثم علينا بعد ذلك أن نحتفظ بسلطاننا بهذه الوسائل ذاتها. إن الذي سما بالكنيسة الرومانية وجعلها سيدة العالم كله هو الاعتدال، والعفة، والطهارة، والغيرة على الدين ... واحتقار الدنيا، والرغبة في الاستشهاد (46).
وقدّر على البابا أن يقاسي إخفاقاً في اتصالاته بالدول الأوربية مع أنه لاقى قبل أن يجلس على عرش البابوية نجاحاً مطرداً في مهامه الدبلوماسية. نعم إن لويس الحادي عشر قد أتاح له نصراً قصير الأجل بإلغائه قرار بورج التنظيمي، ولكن لويس عاد فألغى هذا الإلغاء في واقع الأمر لما رفض بيوس أن يساعد بين أنجو فيما كان يدبره من الخطط لاسترداد نابلي. وواصلت بوهيميا ثورتها التي ألهب لظاها جون هوس John Huss؛ ذلك أن الإصلاح الديني كان قد بدأ فيها قبل أيام لوثر Luther بقرن كامل، وكان ملكها الجديد جورج بوديبراد George Podebrad يمدّها بمعونته القديمة. وظل رجال الدين على اختلاف درجاتهم يؤيدون الأمراء الألمان في مقاومتهم لجباية العشور، وجددوا الصيحة القديمة صيحة عقد مجلس عام لإصلاح الكنيسة والإشراف على أعمال البابا. ورد بيوس على هذا بإصدار قرار اللعن الذي يندد بأي محاولة ترمي إلى عقد مجلس عام لا يوافق البابا على عقده، ويكون هو الداعي إليه، ويحرم هذه الدعوة؛ وبرر هذا القرار بقوله إنه إذا كان في مقدور المعارضين لسياسة البابوات عقد هذا المجلس في أي وقت من الأوقات، تعرضت حقوق البابا التشريعية للأخطار على الدوام، وشل النظام الكنسي من أوله إلى آخر.(20/52)
ولقد أفسد هذا النزاع ما كان يبذله البابا من جهود لتوحيد أوربا ضد الأتراك، وجهر يوم تتويجه نفسه بارتياعه الشديد من تقدم المسلمين بازاء نهر الدانوب في طريقهم إلى فينا، واختراقهم بلاد البلقان إلى البوسنة. وكانت بلاد اليونان، وإبيروس، ومقدونية، والصرب، والبوسنة تتساقط كلها في أيدي المسلمين. ومنذا الذي كان يستطيع أن يقول متى يعبرون البحر الأدريادي وينقضون على إيطاليا؟ ولم يمض على تتويج بيوس شهر واحد حتى أرسل إلى جميع الأمراء المسيحيين يدعوهم للانضمام إليه في مؤتمر كبير يعقد في مانتوا ليضعوا الخطط التي تكفل حماية العالم المسيحي الشرقي من تيار العثمانيين الجارف.
ووصل هو إلى مانتوا في السابع والعشرين من مايو عام 1459، يرتدي أفخم الأثواب الخاصة بمنصبه الرفيع، واخترق المدينة في محمل يحف به أعيان المدينة وموظفو الكنيسة. وألقى على الجموع المحتشدة لاستقباله خطبة من أقوى الخطب التي ألقاها في حياته وأعظمها تأثيراً. ولكن أحداً من ملوك الأقاليم الواقعة وراء جبال الألب وأمراءها لم يلب الدعوة، بل لم يرسل واحد منهم ممثلين لهم الحق في أن يزجوا بدولتهم في الحرب. ذلك أن النزعة القومية قد بلغت وقتئذ من القوة ما يجعل البابوية تتضرع بغير جدوى أمام عروش الملوك. وحث الكرادلة البابا على الرجوع إلى روما؛ ولم يكونوا فضلاً عن هذا راغبين في أن ينزلوا عن عشر إيرادهم لتمويل الحرب الصليبية المرتقبة. فمنهم من انغمسوا في ملاذهم، ومنهم من جابهوا بيوس بسؤاله هل يريد منهم أن يموتوا بالحمى في صيف مانتوا الشديد الحرارة؟ وانتظر البابا قدوم الإمبراطور زمناً طويلاً؛ ولكن فردريك الثالث آثر أن يعلن الحرب على المجر يريد بذلك أن يضم إلى ملكه الأمة التي كانت أنشط الأمم استعداداً لمقاومة الأتراك، آثر هذا على القدوم لمساعدة الرجل الذي قدم له فيما مضى أجل الخدمات. واشترطت فرنسا لمعونتها أن يؤيدها البابا في حملة لها(20/53)
على نابلي، وتلكأت البندقية خشية أن تكون أملاكها الباقية لها في بحر إيجة أولى ضحايا الحرب التي تنشب بين أوربا المسيحية والأتراك. وجاءت أخيراً بعثة في شهر أغسطس من فليب الطيب دوق برغندية؛ وفي سبتمبر أقبل فرانتشيسكو وتبعه غيره من أمراء إيطاليا؛ وعقد المؤتمر أولى جلساته في السدس والعشرين من هذا الشهر بعد أربعة أشهر من قدوم البابا؛ ومرت أربعة أشهر أخرى في الجدل والنقاش، واستطاع فليب آخر الأمر أن يضم برغندية وإيطاليا إلى جانب في خطته المرتقبة للقيام بحرب مقدسة، وذلك بعد أن اتفق المؤتمرون على تقسيم الأملاك التركية وقتئذ والأملاك البيزنطية السابقة بين الدول المنتصرة. وقد طلب إلى جميع المسيحيين من غير رجال الدين أن يتبرعوا بجزء من ثلاثين من دخلهم، وإلى جميع اليهود بجزء من عشرين منه، ومن جميع رجال الدين بجزء من عشرة من هذا الإيراد. وعاد البابا إلى روما وهو يكاد يكون خائر القوى من أثر ما بذله من جهود، ولكنه أمر بإنشاء أٍطول بابوي، وأعد العدة رغم ما كان ينتابه من أمراض الرثية، والسعال، والحصاة، لأن يقود الحملة الصليبية بنفسه.
ولكنه مع ذلك كان يهاب الحرب بفطرته، ويحلم بأن ينال النصر عن طريق السلم. ولعل ما كان يشاع من أن محمداً الثاني الذي كانت أمه مسيحية يميل في السر إلى دينها قد بعث الشجاعة في قلب بيوس، فوجّه إلى السلطان (1461) دعوة حارة لقبول إنجيل المسيح كانت أبلغ ما كتب حتى ذلك الوقت:
"إذا اعتنقت المسيحية، لم يبق أمير على وجه الأرض يفوقك في المجد أو يضارعك في السلطان. ولئن فعلت لنعترفن بك إمبراطوراً على اليونان وعلى بلاد الشرق، وتصبح البلاد، التي استوليت عليها بالقوة، والتي تحتفظ بها ظلماً وعدواناً، ملكاً لك مشروعاً ... وما أعظم السلم التي(20/54)
يؤدي إليها هذا العمل وأكملها، إذن لعاد إلى الوجود عصر أغسطس الذهبي الذي يتغنى به الشعراء. فإذا انضممت إلينا فلن يلبث الشرق كله أن يعتنق الدين المسيحي. إن إرادة واحدة تستطيع أن تبسط لواء السلم على العالم كله، وهذه هي إرادتك! " (37).
ولم يرد محمد الثاني على هذه الرسالة؛ ذلك أنه، مهما تكن آراؤه الدينية، كان يعلم أن الذي يحميه آخر الأمر من قوى أوربا الغربية ليس هو وعود البابا، بل الحماسة الدينية التي تضطرم في قلوب شعبه. وانقلب بيوس رجلاً أكثر واقعية من قبل، فأخذ يجمع العشور من رجال الدين، وهيأت له الأقدار في عام 1462 حظاّ غير مرتقب، وذلك حين عثر في أرض من الأملاك البابوية في طلفا Tolfa في غربي لاتيوم على رواسب من حجر الشب، واستخدم عدة آلاف من الرجال ليعملوا في استخراج هذه المادة العظيمة القيمة للصباغين؛ وسرعان ما كانت مناجمها تدر على الكرسي البابوية نحو مائة ألف فلورين كل عام، وأعلن بيوس أن هذا الكشف من المعجزات، وأنه معونة من عند الله للحرب التي سيشنها على الأتراك (38)، وأضحت الولايات البابوية في ذلك الوقت أغنى دولة في أوربا، تليها في ذلك البندقية التي لا تنقص عنها إلاّ قليلاً، ثم نابلي، فميلان، ففلورنس، فمودينا، فسينا، فمانتوا (39).
وأيقنت البندقية أن البابا جاد في غرضه مصمم على بلوغه، فأسرعت في استعدادها. ولكن الدول الأخرى تلكأت، أو أمرت تقديم معونة رمزية، وواجهت جباة الضرائب اللازمة للحملة الصليبية مقاومة عنيفة في كل مكان تقريباً. وفترت همة فرانتشيسكو اسفوردسيا في مد يد المساعدة لهذا المشروع بحجة أنه سيؤدي إلى تقوية البندقية إذ يعيد إليها ما فقدته من أملاكها ومن تجارتها، وضنت جنى بالثمان السفن ذات الصفوف الثلاثة(20/55)
من المجاديف وهي المعونة التي وعدت بتقديمها. وحث دوق برغندية البابا على أن يؤجل العمل إلى يوم يكون فيه أسعد حظاً من أيامه تلك؛ ولكن بيوس أعلن أنه ذاهب إلى أنكونا، لينتظر فيها انضمام الأسطولين البابوي والبندقي، ثم يعبر بهما إلى راجوسا Ragusa، وينضم إلى قوات اسكندر بك في البوسنة، وماثياس كرفينوس Mathias Corvinus الهنغاري، ثم يتولى بنفسه قيادة الحملة الزاحفة على الأتراك. واحتج الكرادلة كلهم تقريباً على هذه الخطة؛ ذلك أنهم لم يكونوا يرغبون في اختراق بلاد البلقان، وحذروا البابا من أحوال البوسنة التي كانت تعج بالمارقين من الدين ويفشو فيها الطاعون. غير أن البابا المريض حمل الصليب، وودع روما التي لم يكن يتوقع أن يراها مرة أخرى، وأقلع بأسطوله إلى أنكونا (18 يونية سنة 1464).
وفي هذا الأثناء كانت الجيوش التي يظن أنها ستقابله قد ذابت كأنما كان ذلك بسحر ساحر شرقي. فأما الجيوش التي وعدت بها ميلان في أول الأمر فلم تأت، وأما التي بعثت بها فلورنس فقد كانت مجهزة تجهيزاً بلغ من الضعف حداً جعلها عديمة النفع؛ ولمّا وصل بيوس إلى أنكونا (19 يولية) وجد أن معظم الصليبيين الذين تجمعوا فيها قد غادروها لأنهم سئموا الانتظار، وقاسوا المتاعب في سبيل الحصول على الطعام. وفشا الطاعون في أسطول البندقية بعد أن غادر أمواهها الضحلة؛ وأخر وصوله اثني عشر يوماً. وبقى بيوس بعض الوقت في أنكونا بعد أن فت في عضده احتفاء الجند، وعدم ظهور أسطول البنادقة، واشتدت عليه العلة حتى كادت تقتله. ثم تراءى له الأسطول آخر الأمر، وبعث البابا بسفائنه لتستقبله في عرض البحر، وأمر فحمل هو نفسه إلى نافذة يستطيع أن يرى منها المرفأ. ولمّا اقترب الأسطولان المتحدان بحيث يمكن أن تراهما العين توفي البابا (14 أغسطس سنة 1464). واستعادت البندقية أسطولها،(20/56)
وتفرق من كان باقياً من الجند، وأخفقت الحملة الصليبية. ذلك هو البابا الألمعي المتعدد المواهب الذي ارتقى إلى الدرجات العلا، والذي أحرز وسط الصعاب الجمة نصراً بعد نصر حتى وصل إلى عرش العروش، فزانه لعلوم الدنيا وفضائل المسيحية، وشرب كأس الإخفاق والإذلال، والهزيمة حتى الثمالة، لكنه قد كفر عن خطايا شبابه بخشوعه وتقواه في رجولته، وسربل أقرانه الساخرين منه ثوب العار بنبل موته.(20/57)
الفصل الخامس
بولس الثاني
1464 - 1471
كثيراً ما تذكرنا سير عظماء الرجال بأن أخلاق الإنسان يمكن أن تتكون بعد مماته. فإذا استطاع الحاكم مثلاً أن يدلل المؤرخين الإخباريين الذين يلتفون به، فقد يرفعونه بعد موته إلى مكان القداسة، وإذا ما أساء إليهم فقد يسمون جثته بعد مماته بميسم العار، أو يلطخونها بالقار، وشاهد ذلك أن بولس تنازع مع بلاتينا، وأن بلاتينا كتب سيرته التي يعتمد عليها معظم ما كتب عن بولس، وأسلمه للخلف وحشا ملء إهابه الغرور، والأبهة الكاذبة، والشره.
وكان لهذا الاتهام بعض ما يبرره، وإن لم يزد هذا المبرر على أكثر مما يوجد في أية سيرة لا يخفف البر حدتها. لقد كان بيترو ياربو، كردنال سان ماركو، يفخر بجمال مظهره كما يفخر بذلك الناس كلهم تقريباً؛ ولما أن اختير بابا اقترح أن يسمى فورموزوس Formosus - أي الوسيم الخلق - وأكبر الظن أن ذلك كان من قبيل المزاح. لكنه رضى أن يعدل عن رأيه، واتخذ لقب بولس الثاني. وكان بسيطاً في حياته، ولكنه كان يعرف ما للفخامة من تأثير يخدر نفوس من حوله، فاحتفظ لنفسه ببلاط فخم، وكان سخياً جواداً في استضافة أصدقائه وزائريه. ولمّا دخل المجمع المقدس الذي اختاره بابا تعهد بأنه إذا اختير سيشن الحرب على الأتراك كما تعهد غيره من البابوات، وأن يعقد مجلساً عاماً، وأن يحدد عدد الكرادلة بأربعة وعشرين، وألاّ يتجاوز عدد أقارب البابا من بينهم كردنالاً واحداً، وألاّ يرفع أحداً إلى رتبة الكردنالية إذا لم يبلغ سن الثلاثين، وأن يستشير الكرادلة في جميع الشئون الخطيرة. فلمّا تم انتخاب بولس نبذ كل ما أخذه(20/58)
على نفسه من مواثيق بحجة أنها تناقض التقاليد والسلطات المرعية التي رفع الزمان شأنها. واسترضى الكرادلة بأن جعل أدنى حد لإيرادهم السنوي أربعة آلاف فلورين (100. 000؟ دولار). وكان وهو ابن أسرة من التجار يعتز بالفلورينات، والدوقات، والسكوديات، والجواهر التي تظهر ثراء المرء أمام الأعين. وكان يلبس تاجاً بابوياً تزيد قيمته على قيمة قصر من القصور. وكان وهو كردنال يشغل أوقات الصائغين بصنع الجواهر، والمدليات، والحلي المنقوشة التي كان يتجلى بها ثراءه بأجّل المظاهر؛ وقد جمع هذه كلها مع مخلفات الفن القديم الغالية الثمن في قصر سان ماركو الفخم الذي بناه لنفسه عند قاعدة الكبتول (1). ولكنه رغم حبه الجم للجمال لم ينحط إلى بيع المناصب الكهنوتية، ومنع بيع صكوك الغفران، وحكم روما حكماً عادلاً وإن لم يكن رحيماً.
وشر ما يذكره عنه الخلف هو نزاعه مع الإنسانيين الرومان. فقد كان بعض هؤلاء أمناء للبابا أو الكرادلة، وكانت كثرتهم الغالبة تشغل مناصب أقل من هذا المنصب شأناً، فكانوا "كتّاب مختصرات" أو حفظة سجلات للحكومة البابوية. وفصل بولس هذه الجماعة كلها، ووزع عملها على إدارات أخرى، فأصبح نحو سبعين من أولئك الكتّاب الإنسانيين بلا عمل أو عينوا في مناصب أقل من مناصبهم السابقة أجراً. ولسنا نعلم أكان هذا إجراء يراد به الاقتصاد أم كان يقصد به تخليص "هيئة المختصرين" من أهل سينا الثمانية والخمسين الذين عينهم فيها بولس الثاني، وكان أفصح أولئك الإنسانيين المفصولين لساناً هو بارتولميو ده ساتشي Bartolommeo ds Sacchi الذي اتخذ له اسماً لاتينياً هو بلاتينا اشتقه من موطنه بيادينا Piadena القريبة من كريمونا؛ وقد طلب إلى البابا أن يعيد
_________
(1) وأهدى بيوس الرابع هذا القصر إلى البندقية، ومن ثم عرف فيما بعد باسم قصر البندقية Pilazza Venezia. وقد اتخذه بنيتو مسولويني مقره الرسمي أثناء الحكم الفاشي.(20/59)
الكتّاب المفصولين إلى مناصبهم، فلمّا رفض بولس طلبه وجّه إليه خطاب تهديد، فأمر بولس بالقبض عليه، وأبقاه أربعة أشهر في سانت أنجيلو، مقيداً بسلاسل ثقال. واستطاع الكردنال جندساجا أن يطلق سراحه، ولكن بلاتينا كان يسعه، كما ظن بولس، أن يظل يترقب فرصته.
وكان زعيم الإنسانيين في روما هو يوليو بمبونيو ليتو Julio Pomponio Leto، ويقال إنه ابن غير شرعي للأمير ساتسفرينو من سالرنو. ووفد يوليو على روما في شبابه، واتصل بفلا وأصبح من تلاميذه، خلفه أستاذاً للغة اللاتينية في الجامعة. وأولع بالأدب الوثني ولعاً جعله يعيش في روما كما كانت في أيام كاتو وقيصر ومعاصريهما لا كما هي في عهد نقولاس الخامس أو بولس الثاني. وكان أول من نشر كتابي فارو Varro وكولوملا القديمين في الزراعة، واتبع القواعد التي وضعاها في العناية بكرومه. وبقى الرجل قانعاً راضياً بشعره العلمي، يقضي نصف وقته بين الآثار التاريخية، يتحسر على نهبها وتخريبها، وصبغ اسمه صبغة لاتينية فسمة نفسه بمبونيوس لينوس، وكان يسير إلى حجرة دراسته في ثياب رومانية. وقلّما كانت قاعة من القاعات تتسع للجموع التي تحتشد عند مطلع الفجر لتستمع إلى محاضراته، وبلغ من شدة الزحام أن كان بعض الطلاب يفدون في منتصف الليل كي يجدوا لهم مكاناً. وكان يحتقر الدين المسيحي، ويتهم وعاظه بالنفاق، ويدرب تلاميذه على آداب الرواقيين لا على آداب المسيحيين. وقد جعل بيته متحفاً للعاديات الرومانية، وملتقى لطلاب المعارف الرومانية ومعلميها؛ وقد نظمهم حوالي عام 1460 في مجمع علمي روماني، اتخذ أعضاؤه لهم أسماء رومانية، وسموا أبناءهم وقت تعميدهم أسماء رومانية أيضاً، واستبدل بالدين المسيحي عبادة دينية هي عبادة عبقرية روما؛ ومثل مسالي لاتينية، واحتفل بتأسيس روما احتفالات وثنية سمى الأعضاء الذين يقومون بالخدمة فيها القديسين وأطلق على ليتوس اسم الكاهن الأعظم وكان من الأعضاء(20/60)
المتحمسين من يحلم بإعادة الجمهورية الرومانية (40).
وتقدم أحد المواطنين إلى الشرطة البابوية في أوائل عام 1468 بتهمة قال فيها إن المجمع العلمي يأتمر بالبابا ليخلعه ويعتقله. وأيد التهمة بعض الكرادلة، وأكدوا للبابا أن إشاعة راجت في روما تقول إنه سيموت بعد وقت قصير. وأمر بولس باعتقال ليتوس، وبلاتينا وغيرهما من زعماء المجمع، فكتب بمبونيوس معتذراً متذللاً ومعلناً اعترافه بالدين القويم؛ فأطلق سراحه بعد العقاب اللائق بأمثاله، وواصل محاضراته ولكنه حرص على أن يجعلها مطابقة للدين، حتى أن أربعين من الأساقفة شيعوا جنازته بعد موته (1498) أما بلاتينا فقد عذب ليقر بوجود مؤامرة. ولم يعثر قط على دليل يثبت وجودها، ولكن بلاتينا ظل في السجن عاماً كاملاً رغم ما كتب من رسائل الاعتذار التي تزيد على عشر. وأعلن بولس حل المجمع بحجة أنه معشش الإلحاد، وحرّم تدريس الآداب الوثنية في مدارس روما. وأجاز البابا الذي خلفه إعادة فتح المجمع بعد أن عدل وأصلح، وعهد إلى بلاتينا بعد أن تاب وأناب الإشراف على مكتبة الفاتيكان؛ وفيها وجد المادة التي أخذ منها سيرته الواضحة الظريفة للبابوات، ولمّا وصل في كتابته إلى بولس الثاني انتقم لنفسه منه، ولعله لو احتفظ بتهمه لسكستس الرابع لكان أكثر عدلاً وإنصافاً.(20/61)
الفصل السادس
سكستس الرابع
1471 - 1484
كان من بين الكرادلة الثمانية عشر الذين اجتمعوا ليختاروا البابا الجديد، خمسة عشر إيطالياً؛ وكان ردريجو بورجيا Raderigo Borgia اسبانياً، ودستوتفيل d'Estouteville فرنسياً، وبيساريون Bessarion يونانياً. ووصف أحد الذين اشتركوا في انتخاب الكردنال فرانتشيسكو دلا روفيري Francesco della Rovere هذا الانتخاب بأنه كان نتيجة "الدسائس والرشوة" ( ex arbitus et corruptelis) (41) ، ولكن يبدو أن هذا القول لا يعني إلاّ أن بعض الكرادلة قد وعدوا ببعض المناصب ثمناُ لأصواتهم. وكان البابا الجديد مثلاً فذاً لتكافؤ الفرص (بين الإيطاليين) ومقدرتهم على أن يصلوا إلى عرش البابوية. فقد ولد لأسرة من الفلاحين في بيكوريلي Pecorille القريبة من سافونا Savona. وكثيراً ما انتابه المرض في طفولته، ولذلك نذرته أمه إلى القديس فرانسس وهي تدعو إلى الله أن يمن عليه بالشفاء. ولمّا بلغ التاسعة من عمره أرسل إلى دير من أديرة الرهبان الفرنسيس ثم انضم فيما بعد إلى المنوريين Minorites. ثم اشتغل بعدئذ مربياً خاصاً في أسرى الروفيري التي اتخذ أسمها اسماً له. ودرس الفلسفة واللاهوت في باريس، وبولونيا، وبدوا، واشتغل بتدريس العلمين في هذه المدن وفي غيرها لفصول بلغ ازدحامها أن قيل أن كل عالم إيطالي من علماء الجيل التالي يكاد يكون تلميذه.
ولمّا صار، وهو في السابعة والخمسين من عمره، البابا سكستس الرابع اشتهر بأنه من العلماء المشهورين بغزارة علمهم واستقامة أخلاقهم. وتبدل الرجل بين يوم وليلة تبدلاً من أغرب ما حدث في التاريخ فأصبح سياسياً(20/62)
ومحارباً. ولمّا وجد أن أوربا منقسمة على نفسها وأن حكومتها فاسدة، وأن هذا الانقسام والفساد يحولان بينها وبين الأقدام على حرب صليبية ضد الأتراك استقر رأيه على أن يكر س جهوده الدنيوية لإصلاح أحوال إيطاليا. وقد وجدها هي أيضاً لا تخلو من الانقسام - فقد كان الحكام المحليون يتحدون سلطة البابا في الولايات البابوية، وكان في لاتيوم حكم غاشم يقوم به النبلاء متجاهلين سلطان البابا، وفي روما غوغاء بلغ من اختلال نظامهم أن رجموا محمله في موكب التتويج بالحجارة لأنهم غضبوا من حدوث اصطدام نشأ من وقوف الفرسان فجاءة. وكان سكستس يعتزم إعادة النظام إلى روما، وتقوية سلطان القاصد الرسولي في الولايات البابوية، وإخضاع إيطاليا لحكم البابا الذي يعمل على توحيدها.
وكان سكستس تحيد به الفوضى من كل جانب، وكان قليل الثقة بالغرباء، شديد التأثير بصلات القربى؛ ولهذا حبا أبناء أخوته الجشعين بمناصب تدر عليهم المال والسلطان. وكان من أشد المحن التي لاقاها في أيام رياسته الدينية أن من يحبهم أعظم الحب كانوا شر الناس جميعاً، وأنهم استغلوا مراكزهم استغلالاً سافلاً جلب عليهم احتقار إيطاليا بأجمعها. وكان أحب الناس إليه بيترو (أو بيرو) رياريو Pietro (Piero) Riario ابن أخيه - وهو شاب وسيم الطلعة إلى حد ما، مرح، فَكِه، مجامل، كريم، ولكنه مولع بالترف والشهوات الجسمية ولعاً لم تستطع معه المناصب الكهنوتية التي حباه بها البابا والتي تدر عليه المال الوفير أن توفي بمطالب هذا الراهب الذي كان من قبل معدماً متسولاً. وعينه سكستس كردنالاً في الخامسة والعشرين من عمره (1471)، ونفحه بأسقفيات تريفيزو وسنجاليا Senigallia، واسبالاتو، وفلورنس، كما نفحه بمراكز أخرى عالية الشأن، درت عليه دخلاً قدره ستون ألف دوقة (1. 500. 000؟ دولار) كل عام. وكان بيرو ينفق هذا الدخل كله، وأكثر منه، في شراء آنية من الفضة والذهب، والثياب الجميلة، والسجف المنقوشة، والأقمشة(20/63)
المطرزة، وعلى الحاشية الفخمة، وحيوانات الصيد التي تكلفه الأموال الطائلة، وعلى مناصرة المصورين، والشعراء، والعلماء. وكانت حفلاته ـ ومنها مأدبة دامت ست ساعات استقبل فيها هو وجوليانو Guiliano ابن عمه في روما أليونورا Eleonora ابنة فيرانتي Ferrante. وقد بلغ البذخ فيها درجة لم ير لها نظير منذ أيام لوكلس Lucullus أو نيرون. وأخل السلطان باتزان عقله فقام برحلة كرحلات القواد المظفرين في فلورنس، وبولونيا، وفيرارا، والبندقية، وميلان، كرم في كل واحدة منها كما يكرم كل أمير يجري في عروقه الدم الملكي، وكان يعرض فيها عشيقاته يرتدين أفخم الثياب، وكان في هذه الرحلات يعد العدة ليكون بابا بعد ممات عمه أو قبل مماته. ولكنه توفي قبل أن يعود إلى روما (1474) من إسرافه على نفسه. وكان وقتئذ في الثامنة والعشرين من عمره بعد أن أنفق 200. 000 دوقة في عامين وبعد أن استدان ستين ألفاً أخرى (42). وعين أخوه جيرولامو قائداً لجيوش البابا، وسيداً لامولا Imola وفورلي Forli. وقد تحدثنا عنه بما فيه الكفاية عند كلامنا على هذين البلدين. وعين ابن أخ آخر للبابا مديراً لشرطة روما، ولمّا مات دلا روفيري الذي يحتاج إلى باب خاص في هذا الكتاب حين يصبح البابا يوليوس الثاني. وكانت حياته طيبة صالحة إلى حد معقول، وقد ارتفع إلى عرش البابوية بعد أن تغلب على كل ما في طريقه من صعاب بقوة عقلة وخلقه.
وأحدثت الخطط التي وضعها سكستس لتقوية الولايات البابوية اضطراباً لدى الحكومات الإيطالية الأخرى. فقد كان لورندسو ده ميديتشي كما ذكرنا من قبل يعمل على ضم إمولا لفلورنس؛ ولكن سكست سبقه في مسعاه واتخذ آل باتسي Pazzi مصرفيين للبابوية بدل الميديتشيين؛ فما كان من لورندس إلاّ أن عمل على خراب آل باتسي المالي؛ ورد هؤلاء بأن حاولوا قتله. ووافق سكستس على المؤامرة ولكنه استنكر(20/64)
القتل، وقال للمتآمرين "افعلوا ما شئتم على شريطة أن تتجنبوا القتل" (43). وأسفرت هذه الأعمال عن حرب دامت (1478 - 1480) حتى هدد الأتراك باجتياح إيطاليا. فلمّا زال هذا الخطر، أتيحت لسكستس مرة أخرى فرصة تحرير الولايات البابوية. وحدث في أواخر عام 1480 أن انقرضت أسرة أرديلفي Ordelaffi في فورلي، وأن طلب أهلها إلى البابا أن يستولي على المدينة، فما كان من سكستس إلاّ أن أمر جيرولامو أن يتولى حكم إمولا وفورلي جميعاً. وعرض جيرولامو أن تكون الخطوة التالية هي الاستيلاء على فيرارا، وأقنع سكستس وحكومة البندقية بأن يشتركا في حرب يشنونها على الدوق إركولي Ercole (1482) . وبعث فيرانتي صاحب نابلي جنداً للدفاع عن صهره؛ وساعدت فلورنس وميلان أيضاً فيرارا، وهكذا وجد البابا أنه قد ألقى بإيطاليا كلها في أتون الحرب وهو الذي بدأ عهده بالسعي إلى نشر لواء السلام على ربوع أوربا. وأحاطت به نابلي من الجنوب، وفلورنس من الشمال، وأزعجه اضطراب الأحوال في روما، فعقد الصلح مع فيرارا بعد عام من الفوضى وسفك الدماء. ولمّا رفض البنادقة أن يحذوا حذو هاتين المدينتين أصدر قراراً بحرمانهم، وانضم إلى فلورنس وميلان في محاربة حليفته السابقة.
وكان أعيان العاصمة قد شهروا أن من حقهم أن يجددوا منازعاتهم التي تُسَرُّ بها نفوسهم متبعين في ذلك سنّة الرئيس الديني المحب للحرب. وكان من العادات المألوفة الطريفة في روما أن ينهب قصر الكردنال حين يختار بابا. وحدث حين كان أهالي روما ينهبون قصر أحد كرادلة آل روفيري أن أصيب شاب من أعيان المدينة يدعى فرانتشيسكو دي سانتا كروتش Francesco di Santa Croce بجرح من بد أحد أبناء أسرة فالي Vall وثأر هذا الشاب لقريبهم بشج رأس فرانتشيسكو. وثأر برسبيرو دي سانتا كوتشي بأن قتل بيرو مرجاني Piero Margani. وانتشر القتال في جميع أنحاء المدينة، وانضمت أسرة أرسيني والقوات البابوية إلى سانتا كروتشي،(20/65)
ودافع آل كولنا عن أسرة فالي، وأسر لورندسو أدوني كولنا Lorenzo Oddoni Colonna، وحوكم، وعذب حتى اعترف، ثم أعدد في سات أنجيلو، وإن كان أخوه فبريدسيو Fabridizio قد اسلم سكستس حصنين من حصون آل كولنا أملاً في إنقاذ حياة لورندسو. وانضم برسبيرو كولنا إلى نابلي في حربها ضد البابا، وعاث في أرض الكمبانيا فساداً، وأغار على روما. واستأجر سكستس ربرت مالاتيستا Robert Malatesta من ريميني ليقود جنود البابا. وهزم ربرت جيوش نابلي وآل كولنا في كمبو مورتو Campo Morto، وعاد ظافراً إلى روما، حيث مات من الحمى التي أصيب بها في مستنقعات كمباتيا. وحلب جيرلامو رياريو محله وبارك سكستس رسمياً المدفعية التي صوبها ابن أخيه على حصون آل كولنا. ولكن جسم البابا انهار بتأثير الأزمات التي توالت عليه وإن ظل روحه متعطشاً إلى القتال. وفي شهر يونية من عام 1484 أصيب هو أيضاً بالحمى. وجاءته الأخبار في الحادي عشر من أغسطس بأن حلفاءه قد عقدوا الصلح مع البندقية غير عابئين باحتجاجه؛ ورفض هو التصديق على هذا الصلح، ولكنه مات في اليوم الثاني.
لقد كان سكستس من كثير من الوجوه مثلاً سابقاً ليوليوس الثاني، كما كان جيرولامو رياري مثلاً لحياة سيزاري بورجيا. كان سكستس قساً استعمارياً شديد الشكيمة يحب الفن، والحرب، والسلطان، ويعمل لنيل مآربه دون وخز من ضمير أو مراعاة لآداب، ولكنه يعمل إليها بهمة وحشية وشجاعة لا تفتر أو ينال غرضه. ولقد خلق لنفسه أعداء. كما خلق غيره من البابوات محبي الحرب؛ وقد حاول هؤلاء الأعداء أن يضعفوا قواه بتسوئة سمعته. من ذلك أن بعض الثرثارين عللوا إسرافه في تأييد(20/66)
بيترو وجيرولامو بأنهما من أولاده (44)، ووصفهما آخرون مثل إنفيسورا Infessura بأنه كان يعشقهما، ولم يترددوا في أن يتهموا البابا "باللواط" (45) (1). على إن الصورة التي لدينا للبابا سيئة دون حاجة إلى هذه التهم التي لا يقبلها العقل ولا تجد لها ما يؤيدها. فقد كان سكستس يمول حروبه ببيع المناصب الكهنوتية لمن يؤدي عنها أغلى الأثمان، بعد أن استنفذ على أبناء اخوته كل ما خلفه بولس الثاني من الأموال الطائلة. ويروى عنه سفير بندقي معاد له قوله إن "البابا لا يحتاج إلاّ إلى قلم وحبر لينال كل ما يرغب فيه"47). ولكن هذا القول يصدق بهذا القدر نفسه على معظم الحكومات الحديثة، التي لا تختلف قراطيسها ذات الربح في كثير من الأحوال عن الوظائف الدينية ذات المرتب الضخم والعمل القليل التي كان البابوات يبيعونها بالمال. على أن سكستس لم يقنع بهذه الوسيلة. فقد احتكر لنفسه بيع الغلال في جميع الولايات البابوية؛ وكان يبيع أحسنها في خارج هذه الولايات، وأسوأها لشعبه، ويجني من وراء ذلك أرباحاً طائلة (48). وكان قد تعلّم هذه الحيلة من حكام زمانه مثل فيرانتي صاحب نابلي، وفي ظننا أنه لم يطلب لنفسه أكثر مما كان يطلبه غيره من الأفراد المحتكرين لو كانوا في مكانه؛ ذلك أن من قوانين علم الاقتصاد غير المسطورة أن ثمن أية سلعة إنما يعتمد على غفلة المشتري. ولكن الفقراء تذمروا - وإنّا لنغفر لهم تذمرهم - لأنهم رأوا أن جوعهم يتخذ وسيلة لإشباع ترف آل رياريو. وخلّف سكستس وراءه رغم هذه وغيرها من الأساليب التي اتبعها لجمع المال، ديوناً يبلغ مجموعها 150. 000 دوقة (3. 750. 000؟ دولار).
_________
(1) كتب استفانو إنفيسورا تاريخاً لروما في القرن الخامس عشر مستمداً من سجلات الأسر ومن ملاحظاته الخاصة. وكان استفانو هذا جمهورياً متحمساً، يرى أن البابوات حكام مستبدون؛ وكان فوق ذلك من أشياع آل كولنا؛ ولهذا كله فإنّا لا نستطيع أن نثق به حين يروي تفاصيل قصص عن آثام البابوات لا نجد ما يؤيدها في مصادر أخرى.(20/67)
وكان ينفق قدراً كبيراً من دخله على الفن والأشغال العامة؛ وقد حاول عبثاً أن يجفف المستنقعات الموجودة حول فولنيو، وكان يحلم على الأقل بتجفيف مستنقعات بنتيني Pontine، وأمر بتخطيط شوارع روما الكبرى من جديد وجعلها مستقيمة خالية من الالتواء، ووسّعها، ورصفها، وأصلح موارد مياه الشرب، وأعاد بناء الجسور، والسوار، والأبواب، والأبراج، وأقام على نهر التيبر جسر سستو Ponte Sisto المسمى باسمه، وشاد مكتبة جديدة للفاتيكان ومن فوقها معبد سستيني، وأنشأ مرنمة سستيني Cistine Choir، وأعاد بناء مستشفى سانتو اسبريتو Santa Spirito المخرب الذي كان يبلغ 365 قدماً في الطول ويتسع لألف مريض. وأعاد تنظيم جامعة روما وفتح للجمهور متحف الكبتولين الذي أنشأه بولس الثاني قبله، فكان هذا المتحف بذلك أول المتاحف العامة في أوربا. وشيدت في أيام ولايته، وبتوجيه بتيشيو بنتيلي في الغالب، كنيستا سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace وسانتا ماريا دلا بوبولو Santa Maria della Popolo، ورممت كنائس أخرى كثيرة. ونحت مينو دا فيسولي Mino da Fiesole واندريا برنيو Andrea Bregno في كنيسة سانتا ماريا دلا بوبولو قبراً فخماً للكردنال كرستوفورو دلا روفيري Cristoforo della Rovere ( حوالي 1477) كما صور بنتو رتشيو في كنيسة سانتا ماريا ببلدة إراكوئيل Aracoeli حياة القديس برنردينو السنائي مظلمات من أجمل ما وجد من المظلمات في روما (حوالي 1484).
وكان الذي صمم معبد سستينو هو جيوفني ده دلتشي Giovanni de Dolci؛ وكان تصميمه بسيطاً متواضعاً ليقيم فيه البابوات وكبار رجال الدين الصلوات شبه الخاصة. وكان معبداً جميلاً يحتوي على ستر رخامي لحرمه من صنع مينو دا فيسولي، وعلى مظلمات واسعة تقص على الجدار الجنوبي مناظر من حياة موسى، وعلى الجدار الشمالي مناظر مقابلة لها من(20/68)
حياة المسيح. واستدعى سكستس إلى روما لتصوير هذه المناظر أعظم الفنانين في زمانه: بوجينو، وسنيوريلي، وبنتورتشيو، ودومنيكو، وبندتوغرندايو، وبتيتشلي، وكوزيمو روزلي، وبيرو دي كوزيمو. وعرض سكستس جائزة إضافية لأحسن صورة من الصور الخمس عشرة التي رسمها هؤلاء الفنانون هناك. وكان روزلي يدرك تفوق غيره عليه في التصميم فقرر أن يخاطر بكل شيء في سبيل بهجة التلوين؛ وكان زملاؤه الفنانون يسخرون من إسرافه في اللونين اللازوردي والذهبي، ولكن سكستس منحه الجائزة.
واستدعى البابا المحارب مصورين آخرين إلى روما، ونظمهم في نقابة ترعاهم شفيعها القديس لوقا، وكان سكستس هو الذي قام له ملتسو دا فورلي بخير أعماله. فقد جاء هذا الفنان إلى روما حوالي عام 1472 بعد أن درس مع بيرو دلا فرانتشيسكا، وصوّر في كنيسة سانتي أبستولي مظلماً يمثل صعود المسيح أثار حماسة فاساري؛ وقد اختفى هذا المظلم كله ما عدا قطعاً قليلة منه حين جدد بناء الكنيسة في عام 1702 وما بعدها. وصورتا الملك وعذراء البشارة المحفوظتان في معرض أفيزي ظريفتان رقيقتان، وأظرف منهما صورة الملكين الموسيقيين Angeli Musicanti أحدهما يعزف على الكمان والثاني على العود ـ الموجودة في الفاتيكان. وخير ىيات ملتسو الفنية على الإطلاق هي المظلم المصور في مكتبة الفاتيكان، والذي نقل بعدئذ على القماش. وقد صُوّر في هذا المظلم القائم أمام عمد المكتبة المزخرفة وسقفها أصدق تصوير وأقواه ستة أشخاص: سكستس راكعاً، ضخماً، فخماً؛ وعن يمينه بيترو رياري المرح؛ ويقف أمامه جوليانو دلا روفيري القاتم اللون الطويل القامة؛ ويركع أمامه بلاتينا صاحب الجبهة العالية يتلقى أمر تعيينه أميناً للمكتبة، ومن خلفه جيوفني دلا روفيري والكونت جيولامو رياريو؛ تلك صورة حية لحبر كانت أيامه مليئة بالأحداث.(20/69)
وكانت مكتبة الفاتيكان في عام 1475 تحتوي 2527 مجلداً باللغتين اللاتينية واليونانية، فأضاف إليها سكستس 1100 مجلد غيرها، وفتح لأول مرة أبوابها للجماهير. وأعاد الكتّاب الإنسانيين إلى سابق مكانتهم وإن لم يكن يؤدي إليهم الأموال بانتظام لانشغاله عنهم بغيرهم من الأعمال. واستدعى فيليلفو إلى روما، وظل هذا الرجل رب السيف والقلم متحمساً في مديح البابا حتى تأخر له مرتبه السنوي البالغ 600 فلورين (15. 000دولار) واستدعى يوآنس أرجيوبولس Joannes Argyropoulos من فلورنس إلى روما، حيث كانت محاضراته في اللغة اليونانية وآدابها يحضرها الكرادلة، والأساقفة، والطلاب الأجانب مثل ريتشلين. واستدعى سكستس إلى روما كذلك العالم الألماني جوهان مولر رجيو منتانس Johann Muller Regiomontanus ـ وعهد إليه إصلاح التقويم اليولوسي، ولكن مولر توفي بعد عام من مجيئه (1476) وكان لابد أن يتأخر إصلاح التقويم مائة عام أخرى (1582).
ومن أغرب الأشياء أن يصبح راهب من الفرنسسكان وأستاذ للفلسفة واللاهوت أول بابا يوجه النهضة وجهة دنيوية ـ أو إن شئت الدقة أن يصبح أول بابا من بابوات النهضة يهتم أعظم ما يهتم بدعم سلطان البابوية وجعلها أعظم القوة السياسية في إيطاليا. ولعلنا إذا استثنينا حالة فيرارا Ferrara التي أدى حكامها الأمناء ما عليهم من الالتزامات الإقطاعية، قلنا أن سكستس كان محقاً كل الحق في سعيه لأن يجعل الولايات البابوية بابوية بحق، ولأن يجعل روما وما حولها مكاناً أميناً للبابوات. وربما غفر له التاريخ، كما غفر ليوليوس الثاني اتخاذه الحرب وسيلة لبلوغ هذه الغايات. وربما أقر أن دبلوماسيته لم تكن إلاّ إتباعاً للمبادئ التي كانت تسير عليها الدول الأخرى والتي لا تتقيد بالقيود الأخلاقية. ولكن التاريخ لا يجد شيئاً من المتعة في أن يشهد أحد البابوات يأتمر مع المغتالين، ويبارك المدافع، أو يخوض غمار(20/70)
الحرب بقوة ارتاع لها أهل زمانه. لقد كان موت ألف رجل عند كامبومورتو خسارة في الأرواح أكبر مما حدث في أية معركة شبت نارها حتى ذلك الوقت في إيطاليا أثناء النهضة. وكان ممّا زاد انحطاط الأخلاق في بلاط روما التحيز للأقارب بلا مبالاة، وبيع الرتب الكهنوتية بلا حياء، والقصف الفاحش الذي كان سنّة يجري عليها أقارب البابا. بهذه الأساليب وغيرها مهّد سكستس السبيل إلى إسكندر السادس، وكان له نصيب في انحلال إيطاليا الأخلاقي، لأنه استجاب لدواعي هذا الانحلال. وكان سكستس هو الذي نصّب توركويمادا Torquemada رئيساً لمحكمة التفتيش الأسبانية؛ وسكستس هو الذي أثار ما في روما من وباء الهجاء والإباحية فخوّل محكمة التفتيش الحق في أن تحرّم طبع أي كتاب لا ترغب هي في طبعه. وكان خليقاً عند موته بأن يعترف بأنه عاجز عن القيام بأمور كثيرة - ضد لورندسو، ونابلي، وفيرارا، والبندقية، وحتى آل كولنا أنفسهم لم يكونوا قد أخضعوا بعد. لكنه نجح نجاحاً باهراً في ثلاثة أمور: فقد جعل روما مدينة أصح وأكثر جمالاً مما كانت قبله، وحباها بالهواء الطلق الذي أفاد أهلها قوة، وأعاد البابوية إلى مكانها بين أقوى الدول الملكية في أوربا.(20/71)
الفصل السابع
إنوسنت الثامن
1484 - 1492
أكدت الفوضى التي ضربت أطنابها في روما بعد موت سكستس عجزه عن بلوغ أهدافه. ذلك أن الفوغاء نهبوا الأهراء البابوية، وسطوا على مصارف الجنويين، وهاجموا قصر جيرولامو رياريو، وجرّد خدّام الفاتيكان هذا القصر من أثاثه، وتسلحت أحزاب النبلاء، وأقيمت المتاريس في الشوارع، واضطر جيرولامو أن يقف حملته على آل كولنا، ويعود على رأس جنوده إلى المدينة، فعاد آل كولنا إلى الاستيلاء على كثير من حصونهم. ودعا مجمع مقدس عاجل في الفاتيكان تبودلت فيه الوعود والرشا (49) بين الكردنال بورجيا والكردنا جوليانو دلا روفيري، وأدت إلى انتخاب جيوفني باتستا تشيبو الجنوي Giovanni Battista Cibo of Genoa وتسمى باسم إنوسنت الثامن.
وكان عند انتخابه في الثانية والخمسين من عمره، طويل القامة، وسيم الطلعة، لطيف المعشر، مسالماً وديعاً إلى حد الضعف، متوسط الذكاء والتجربة، وقد وصفه أحد معاصريه بأنه "غير جاهل كل الجهل" (50). وكان له على الأقل ابن وابنة، ولكنه كان له في أغلب الظن غيرهما من الأبناء (51)، يعترف بهم صراحة، ولمّا ارتدى الثياب الكهنوتية عاش كما يظهر عيشة العزاب. وكان الفكهون من أهل روما يكتبون النكات عن أبنائه، ولكن قل من الرومان من كان يأخذ على البابا هذا الإخصاب في أيام شبابه؛ غير أنهم اعترتهم الدهشة حين احتفل بزواج أبنائه وأحفاده في الفاتيكان.
والحق أن إنوسنت بعد أن صار بابا قد قنع بأن يكون جداً، وأن يستمتع(20/72)
بالحب الأبوي والراحة المنزلية. وقد منح بوليتيان مائتي دوقة لأنه أهدى إليه ترجمة لكتاب هيرودوت، ولكنه فيما عدا هذا قلّما كان يعبأ بالكتّاب الإنسانيين. وظل يعمل على مهل مستعيناً بغيره من الرجال لتجديد بناء روما وتجميلها، فاستخدم أنطونيو بلا يولو في بناء بيت بلفدير في حدائق الفاتيكان، واندريا مانتنيا في تصوير المظلمات في معبد مجاور لهذا البيت؛ لكنه كان في الأغلب الأعم يترك تشجيع الآداب والفنون لكبار الموظفين والكرادلة. وجرى على هذه السنّة نفسها، سنّة ترك الأمور تجري في أعنتها، فهد بشئون السياسة الخارجية إلى الكردنال دلا روفيري، ثم إلى لورندسو ده ميديتشي. وعرض المصرفي الثري أن يزوج ابنته مدالينا Maddelena ذات البائتة الكبيرة من فرانتشيسكو تشيبو ابن البابا؛ ووافق إنوسنت على هذا الزواج، وعقد حلفاً مع فلورنس (1487)، وترك من ذلك الحين الفلورنسي المجرب المسالم يقود السياسة البابوية، واستمتعت إيطاليا بسلم دامت خمس سنين.
وحدثت في عهد جم حادثة. أشبه ما تكون بالتمثيليات المضحكة يستمتع بها أهل زمانه، وكانت من أعجب التمثيليات التي حدثت في التاريخ. وتفصيل ذلك أن بايزيد الثاني وجم ابني محمد الثاني أوقدا نار حرب داخلية بعد موت أبيهما (1481) في نزاعهما على عرش آل عثمان. ولمّا هزم جم في بروصة أراد أن ينجو من القتل بالاستسلام إلى فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس (1482). وأبقاه رئيس الفرسان بيير دو بسون Pieere d'Aubusson عنده يهدد به بايزيد. وارتضى السلطان أن يؤدي إلى الفرسان 45. 000 دوقة كل عام لإنفاقها على جم في الظاهر ولكنها في الحقيقة كانت إغراء لهم على ألاّ يشجعوا جم على المطالبة بعرش السلطنة العثمانية، وألاّ يتخذوه عوناً نافعاً لهم في شن حرب صليبية مسيحية على الأتراك. وأراد دوبسون أن يضمن سلامة هذا الأسير(20/73)
الذي يدر المال الكثير فبعثه ليقيم تحت حراسة الفرسان في فرنسا. وعرض كل من سلطان مصر، وفرديناند وإزبلا ملك أسبانيا وملكتها، وماتياس كرفينوس Matthias Corvinus ملك المجر، وفيرانتي Ferrante ملك نابلي، وإنوسنت نفسه، عرض كل واحد من هؤلاء مبالغ طائلة على أوبسون إذا رضى بأن ينقل جم إلى بلده ليكون فيها مشمولاً بعنايته. وفاز البابا إذا رضى بأن ينقل جم إلى بلده ليكون فيها مشمولاً بعنايته. وفاز البابا بذلك لأنه وعد رئيس الفرسان بقلنسوة حمراء (1) فضلاً عن الدوقات، وأنه ساعد شارل الثامن ملك فرنسا على أن يتزوج آن صاحبة بريطاني ويحصل بذلك على هذه المقاطعة لنفسه. وبناء على هذا سار "التركي العظيم" كما كن جم يسمى في ذلك الوقت، في الثالث عشر من شهر مارس عام 1489 في موكب فخم من الفرسان مخترقاً شوارع روما حتى وصل إلى قصر الفاتيكان حيث سجن سجناً يستمتع فيه بضروب الترف والمجاملة. وأراد بايزيد أن يضمن حسن مقاصد البابا فبعث إليه بمرتب ثلاث سنين نفقة لجم، ثم بعث إليه في عام 1492 رأس حربة أكد له أنه هو الذي نفذ في جنب المسيح. وشك بعض الكرادلة في هذا، ولكن البابا أعد العدة لنقل هذا الأثر من أتكونا إلى روما، ولمّا وصل إلى "باب الشعب" (بورتا دل بوبولو Porta del Popolo) تلقّاه هو بنفسه وحمله في موكب فخم رهيب إلى الفاتيكان، ورفعه الكردنال بورجيا عالياً ليعظّمه الناس ثم عاد بعدئذ إلى عشيقته.
وقد وجد إنوسنت صعوبة كبيرة في موازنة دخله ونفقاته رغم المعونة السخية التي يحبا بها السلطان الكنيسة. ولهذا أخذ يجري على الستة التي جرى عليها سكستس الرابع، ومعظم حكام أوربا. فملأ خزانته بالأموال التي كان يتقاضاها من طلاب المناصب الكبيرة، ولمّا وجد ما في هذا من نفع كبير أنشأ مناصب جديدة وعرضها للبيع؛ فرفع أمناء البابوية إلى
_________
(1) أي أن يعينه كردنالاً. (المترجم)(20/74)
ستة وعشرين وحصل بذلك على 62. 400 دوقة؛ ثم رفع عدد حاملي الأختام، وكان واجبهم الثقيل هو مهر القرارات البابوية بخاتم من الرصاص، إلى اثنين وخمسين، وجنى من ذلك 2500 دوقة من كل واحد عينه في المنصب الجديد. ولقد كان يسع الإنسان ألاّ يرى في هذه الأعمال ما هو أسوأ من ضريبة تؤدي نظير تأمين على منصب لولا أن من أدوا هذا المال لم يكونوا يعوضون أنفسهم عمّا أدوه بمرتبهم الضخم فحسب بل بابتزاز المال بأسفل الطرق في مناصبهم. من ذلك أن اثنين من أمناء البابا أقرّا بأنهما زورا في عامين أكثر من خمسين مرسوماً بابوياً أحلاّ فيها بعضهم من الفروض الدينية؛ وغضب البابا من هذا العمل فأمر بشنق الرجلين وإحراق جثتيهما لأنهما تجاوزا في السرقة الحد الذي يجيز منصباهما (1489) (52). وبدا أن كل شيء في روما يمكن شراؤه، من الإعفاء من الأحكام القضائية إلى مقام البابوية نفسه (53). ويحدثنا أنفيسورا الذي لا يوثق بكثير من أقواله أن رجلاً ضاجع ابنتيه ثم قتلهما قد عفا عنه بعد أداء ثمانمائة دوقة (54). ولمّا سئل الكردنال بورجيا عن السبب في عدم إقامة الحد، أجاب كما تقول الرواية: "إن الله لا يريد أن يموت الآثم، بل يريد أن يعيش ويؤدي الثمن" (55). وكان فرانتشيسكو تشيبو Franceschetto Cibo وغدا مجرداً من الذمة والضمير، وكان يشق طريقه إلى بيوت الأهلين "لأغراض دنيئة"؛ ويحرص على أن يستولي على قدر كبير من الغرامات التي تحصلها المحاكم الكنسية في روما، لينفقه في الميسر. وقد خسر في إحدى الليالي 14. 000 دوقة (350. 000؟ دولار) كسبها منه الكردنال رفائيلي رياريو Raffaelle Riario، ثم شكا إلى البابا بأنه خدع في اللعب، وحاول إنوسنت أن يسترد له المال، ولكن الكردنال أقر بأنه أنفقه على البلاتسا دلا كنتشيليربا Palazza della Cancelleria الذي كان يشيّده.(20/75)
وكان تحويل البابوية إلى سلطة زمنية - انهماكها في السياسية، والحرب، وشئون المال ـ سبباً في امتلاء هيئة الكرادلة برجال اشتهروا بمقدرتهم الإدارية، ونفوذهم السياسي، وقدرتهم على أن يؤدوا أثمان مناصبهم. وقد أضاف إنوسنت إلى مجمع الكرادلة ثمانية آخرين كثرتهم غير صالحة قط لشغل هذه المناصب السامية، مع أنه وعد ألاّ يزيد عدد أعضاء هذا المجمع على أربعة وعشرين. وبذلك خلع لقب كردنال على جيوفني ده ميديتشي، وكان كثير من الكرادلة رجالاً متعلمين تعليماً عالياً، خيّرين، مناصرين للآداب، والموسيقى، والتمثيل، والفن. وكانت قلة منهم نقية طاهرة؛ وكان منهم من لم يتجاوزوا المراتب الصغرى في السلك الكهنوتي ولم يصبحوا قسيسين. لكن الكثيرين منهم كانوا رجال دنيا، تتطلب منهم واجباتهم السياسية، والدبلوماسية، والمالية أن يشتغلوا بالشئون الدنيوية، وكانوا قادرين على أن يواجهوا أمثالهم من الموظفين في الحكومات الإيطالية أو حكومات البلاد التي ما وراء جبال الألب بنفس الكفاية العلمية والدهاء السياسي. ومنهم من حذا حذو النبلاء الإيطاليين، فحصنوا قصورهم واحتفظوا برجال مسلحين يحمونهم من هؤلاء النبلاء، ومن غوغاء روما، ومن غيرهم من الكرادلة (57) (1) ولعل باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي العظيم قد أفرط في القسوة بسبب مهامهم الدنيوية حين قال:
لقد كانت المنزلة المنحطة التي وضع فيها لورندسو ده ميديتشي مجمع الكرادلة أيام إنوسنت الثامن قائمة لسوء الحظ على أساس صحيح. فقد كان الكرادلة أسكانيو اسفوؤدسا Ascanito Sforza، ورياريو، وأرسيني
_________
(1) حدث في مجمع الكرادلة عقد في شهر يونية عام 1486 أن لام الكردنال بورجيا زميله الكردنال بالو لأنه ثمل، فرد عليه بالو بأن قال للكردنال الذي أصبح فيما بعد البابا إسكندر الثالث أنه "ابن الزانية".(20/76)
واسكا لفيناتوس Scalfenatus، وجان ده لا بالو Jean de la Balue وجوليانو دلا روفيري، وسافلي Savelli، وردريجو بورجيا من أبرز الكرادلة الزمنيين، سرت إليهم عدوى الفساد الذي كان منتشراً في إيطاليا بين الطبقات العليا في عصر النهضة. فقد أحاطوا أنفسهم في قصورهم الفخمة بأكبر ما تتيحه المدنية الراقية من أعظم ضروب الترف؛ فكانوا يعيشون كما يعيش الأمراء الزمنيون، ويبدو أنهم كانوا يحسبون أن أثوابهم الكهنوتية ليست إلاّ زينة تتطلبها مراتبهم. وكانوا يصيدون، ويقامرون، ويقيمون الولائم وضروب التسلية الفخمة ويشتركون في جميع ضروب المرح التمثيلي الذي تجري به المساخر المقنعة؛ وينغمسون في الفساد الخلقي الطليق من كل قيد؛ وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على ردريجو بورجيا (58).
وكان الفساد المنتشر في تلك الطبقة العليا صورة من الفوضى الأخلاقية السائدة في روما كما كان من أسباب انتشارها. فقد كان العنف، واللصوصية، والسلب والنهب، والرشوة، والتآمر، والانتقام من الأعمال اليومية العادية. وكان كل صباح يكشف في الأزقة عن رجال قتلوا في أثناء الليل. وكان قطاع الطرق يترصدون الحجاج وسفراء الدول، ويجردونهم أحياناً من ثيابهم حين يقتربون من عاصمة العالم المسيحي (59). وكانت النساء يهاجمن في الشوارع وفي البيوت. وسرقت قطعة من الصليب الحق مغلفة بالفضة من مكان المقدسات في كنيسة سانتا ماريا في تراستيفيري Trastevere، ثم وجد خشبه مجرداً من غلافه الفضي في كرمة (60). وكان هذا التشكك الديني واسع الانتشار؛ وشاهد ذلك أن أكثر من خمسمائة أسرة في روما أدين أفرادها بالإلحاد في الدين ثم عفي عنهم بعد أن أدوا غرامات. ولعل حكومة البابا المأجورة في روما كانت خيراً من محكمة التفتيش المأجورة السفاحة التي كانت أعمالها تروع أسبانيا في تلك الأيام. وحتى القساوسة أنفسهم لم يكونوا مبرئين من(20/77)
الشكوك الدينية، من ذلك أن أحدهم قد اتّهم بأنه استبدل بعبارة التجسد الواردة في القداس عبارة أخرى من عنده تقول: "أيها المسيحيون البلهاء، يا من تعبدون الطعام والشراب وتتخذونهما إلهين من دون الله! " (61).
ولما قربت ولاية البابا إنوسنت من نهايتها ظهر المتنبئون يلعنون اقتراب القيامة، وعلا في فلورنس صوت سفنرولا يصم ذلك العهد بأنه عهد المسيح الدجال.
وفي ذلك يقول أحد الإخباريين: "في العشرين من شهر سبتمبر حدث اضطراب شديد في مدينة روما، أغلق التجار على أثره حوانيتهم، ورجع من كانوا في الحقول والكروم إلى بيوتهم مسرعين؛ وكان سبب ذلك ما أعلن من أن البابا إنوسنت قد مات" (62). ورويت قصص غريبة عمّا حدث في ساعات وفاته، فقيل إن الكرادلة وضعوا جم تحت حراسة خاصة خشية أن يستحوذ عليه فرانتيسكتو تشيبو، وإن الكردناليين يورجيا ودلا روفيري كادا يتلاكمان إلى جانب سرير الميت. وإنفيسورا الذي لا يوثق بأقواله هو مصدر الرواية القائلة إن ثلاثة أولاد ماتوا من كثرة ما نقل من دمائهم إلى البابا المحتضر أملاً في إنقاذ حياته (63). وأوصى إنوسنت بثمانية وأربعين ألف دوقة (600. 000؟ دولار) لأقاربه، ومات ودفن في كنيسة القديس بطرس؛ وغطى أنطونيو بلايونو خطيئاته بضريح فخم.(20/78)
الباب السادس عشر
آل بورجيا
1492 - 1503
الفصل الأول
الكردينال بورجيا
ولد أظرف بابوات النهضة على الإطلاق في أكساتيفا Xativa من أعمال أسبانيا في اليوم الأول من شهر يناير عام 1413. وكان والداه ابني عم كلاهما من آل بورجيا، وهي أسرة يمكن أن تعد من الأشراف. وتلقّى ردريجو Roderigo تعليمه في أكساتيفا، وبلنسيةـ وبولونيا، ولمّا أصبح عمه كردنالاً ثم البابا كلكستس الثالث Calixtus III فتح أمام الشباب طريق التقدم في السلك الكهنوتي. وانتقل ردريجو إلى إيطاليا وغير اسمه إلى بورجيا، وأصبح كردنالاً وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولمّا بلغ السادسة والعشرين عين نائباً لقاضي القضاة أي رئيساً للحكومة البابوية وقام بواجبات منصبه بحزم وكفاية، ونال بعض الشهرة في حسن الإدارة، وعاش عيشة التقشف، واتخذ له كثيراً من الأصدقاء من كلا الجنسين، ولم يكن بعد قساً- ولن يكون حتى يبلغ السابعة والثلاثين من العمر.
وكان في أيام شبابه وسيم الخلق، جذاباً حلو الطبع، حاراً في عشقه، مرحاً في مزاجه، قوياً مقنعاً في بلاغته وفكاهته المرحة. وقد بلغ في هذه الصفات كلها درجة يصعب معها على النساء أن يقاومنه. وإذا كان ردريجو(20/79)
قد نشأ في جو التساهل الأخلاقي الذي كان يسود إيطاليا في القرن الخامس عشر، حيث يرى كثيرين من رجال الدين والقساوسة يبيحون لأنفسهم التمتع بالنساء، فقد قرر ردريجو أن يستمتع بكل النعم التي منحهم ومنه إياها الله سبحانه. يروى أن بيوس الثاني لامه مرة لحضوره "رقصاً خليعاً مثيراً للشهوات" 1460، ولكن البابا قبل اعتذار ردريجو وأبقاه نائباً لقاضي القضاة ومعينه وموضع ثقته (1). وفي ذلك العالم ولد لردريجو ابنه الأول بدرو لويس Pedro Luis أو جيء له به، وولدت له كذلك ابنته جيرولاما التي تزوجت في عام 1482 (2). أو جيء له بها. ولسنا نعرف من كانت أم ابنة أو ابنته. وعاش بدرو في أسبانيا حتى عام 1488ثم انتقل في ذلك العام إلى روما حيث مات بعد مجيئه إليها بقليل. ورافق ردريجو بيوس الثاني إلى أنكونا في عام 1464 وهناك أصيب بمرض تناسلي خفيف "لأنه لم ينم بمفرده" على حد تعبير طبيبه (3).
ثم عقد حوالي عام 1466 صلة أكثر دواماً من صلاته النسائية السابقة مع فانتسا ده كاتاني Vanozza de' Catanei، وكانت وقتئذ في حوالي الرابعة والعشرين من العمر. وكان من سوء الحظ أنها تزوجت بدومينيكو دا رنيانو Domenico d'Arignano ولكن دومينيكو تركها في عام 1476 (4). وولدت فانتسا لردريجو (الذي أصبح قساً في عام 1468) أربعة أبناء: جيوفني في عام 1474، وسيزاري في عام 1476، ولكرديسيا في 1480، وجيوفري في 1481. وقد نسب هؤلاء إلى فانتسا على شاهد قبرها. واعترف بهم ردريجو أبناء له في أوقات مختلفة (5). ويوحي وجود هؤلاء الأبناء به واحداً بعد واحد وجود علاقة بين ردريجو وفانتسا بمفردها (1)؛ ولعل الكردنال بورجيا إذا قورن بغيره من رجال الكنيسة يمتاز بقسط من الوفاء والاستقرار
_________
(1) وقد كان رسكو Roscoe حكيماً حين قال: "يبدو أن علاقته بفانتسا كانت علاقة إخلاص وانتظام؛ وأنه كان يراها زوجة شرعية، وإن كانون القانون ينكرها بطبيعة الحال" (6).(20/80)
في علاقاته النسائية. وكان أباً خيّراً رحيماً؛ وكان مما يؤسف له أن ما بذله من الجهود لترقية أبنائه في المناصب الكنسية لمن يكن على الدوام مما يرفع من شأن الكنسية. ولمّا أن تطلع ردريجو إلى كرسي البابوية وجد لفانتستا زوجاً متسامحاً، وعمل على أن تعيش في رخاء ونعيم. وقد ترملت مرتين، وتزوجت بعد ترملها، ثم عاشت في عزلة بعيدة عن المظاهر الفخمة، وابتهجت حين علا صيت أبنائها وأثروا، وحزنت لفراقها إياهم، واشتهرت بعدئذ بالتقي والصلاح، وتوفيت في السادسة والسبعين من عمرها. (1518)؛ وأوصت بأملاكها العظيمة القيمة للكنيسة. وأرسل ليو العاشر رئيس تشريفاته للاشتراك في موكب جنازتها (7).
وإنا لنخطئ في فهم معنى التاريخ إذا حكمنا على أسكندر السادس من وجهة النظر الأخلاقية في عصرنا هذا ـ أو على الأصح في أيام شبابنا. وكان معاصروه ينظرون إلى خطيئاته الجنسية قبل أن يرقى عرش البابوية على أنها آثام مرذولة حسب قوانين الكنيسة لا أكثر، ولكنهم يرونها بالنسبة للجو الأخلاقي السائد في زمانه من الصفات التي يتسامح فيها ويعفى عنها، بل إن الرأي العام حتى أثناء الجيل المحصور بين الوقت الذي أنب فيه بيوس ردريجو على استهتاره وارتقائه عرش البابوية قد أصبح اكثر تسامحاً في نظره إلى الانحراف الجنسي وعدم إطاعة قانون الكنيسة الذي يفرض العزوبة على رجال الدين. بل إن بيوس الثاني نفسه كان له أطفال من عشيقاته في أيام شبابه، قبل أن ينتظم في سلك رجال الدين، ولقد دعا هو نفسه في وقت من الأوقات إلى إباحة زواج القساوسة؛ كذلك كان لسكستس الرابع عدة أبناء، وجاء إنوسنت الثامن بأبنائه إلى الفاتيكان. ولقد ندد بعضهم بأخلاق ردريجو، ولكن يبدو أن أحداً لم يذكر شيئاً عن هذه الأخلاق حين انعقد المجلس المقدس ليختار خلفاً إنوسنت. وكان خمسة بابوات منهم نقولاس الخامس ذو الفضائل المعقولة قد عينوه في مناصب موفورة الدخل خلال تلك السنين كلها، وعهدوا إليه بمهام شاقة ووضعوه في مناصب عظيمة(20/81)
التبعة؛ ويلوح أنهم لم يعبأوا قط بما كان له من أبناء كثيرين (إذا استثنينا منهم بيوس الثاني في وقت من الأوقات) (9). وكان كل الذي عنوا بملاحظته في عام 1492 هو إنه قد عيّن مرتين نائباً لرئيس المحكمة البابوية العليا، وأنه قضى في ذلك المنصب خمساً وثلاثين، وأن خمسة من البابوات المتعاقبين عينوه وأعادوا تعيينه فيه؛ وأنه قام بمهامه بجد وحزم ملحوظين، وأن فخامة قصره في الظاهر تخفي وراءها حياة خاصة بسيطة إلى حد عجيب. وقد وصفه ياقوبو دا فلتيرا في عام 1486 بأنه: "رجل ذو ذكاء يمكّنه من عمل أي شيء يريد، وذو عقل كبير؛ وهو خطيب سريع البديهة، فطن بطبيعته، حاذق حذقاً عجيباً في تصريف الأمور" (10). وكان أهل روما يحبونه، لأنه متّعهم بالألعاب؛ ولمّا أن بلغته أنباء سقوط غرناطة في أيدي المسيحيين متّعهم بمصارعة الثيران على الطراز الأسباني.
ولعل الكرادلة الذين اجتمعوا في المجمع المقدس قد تأثروا أيضاً بثروته لأن المناصب الإدارية التي تولاها في خلال حكم خمسة من البابوات قد جعلته أغنى الكرادلة الذين شهدتهم روما إذا استثنينا دستوتفيل من هذا التعميم وكانوا يعتمدون عليه فيما سيمنحه من الهدايا القيّمة لمن يعطونه أصواتهم في الانتخاب، ولم يخيب هو رجاءهم فيما أمّلوه. فقد وعد الكردنال أسفوردسا بأن يعينه نائباً عنه في المحكمة البابوية العليا، كما وعده بعدة مناصب تدر عليه إيراداً كبيراً، وبقصر آل بورجيا في روما. أما الكردنال أرسيني فقد وعده بأسقفية قرطاجنة الأسبانية وإيراد كنائسها، وببلدتي منتيتشيلي وسريانو، وبأن يتولى حكم أقاليم الحدود. ووعد الكردنال سافيلي Savelli بتشيفيتا كستيلانا Civita Castellana وأسقفية مايورقة، وما إلى ذلك. وقد وصف إنفيسورا هذه الأعمال بأنها: "توزيع إنجيلي لبضائعه على الفقراء"- (11). على أنها لم تكن من الأعمال الغير مألوفة، فقد كان يستخدمها كل مرشح للبابوية، في كثير من المجاميع المقدسة الماضية، كما يستخدمها كل مرشح للمناصب(20/82)
السياسية في هذه الأيام. ولسنا واثقين من أن الرشا النقدية كان لها أيضاً نصيب في هذا الانتخاب (12). وقد كان صاحب الصوت الحاسم هو الكردنال غراردو Gherardo وهو رجل في السادسة والتسعين من عمره "لا يكاد يحتفظ بقواه العقلية" (13). واندفع الكرادلة جميعاً آخر الأمر فانضموا إلى الجانب الفائز حتى كان انتخاب ردريجو بورجيا بإجماع الآراء (10 أغسطس سنة 1492). ولما سئل أي اسم يريد أن يسمى به وهو بابا أجاب بقوله: "باسم الإسكندر الذي لا يقهر". وكانت هذه بداية وثنية لولاية دينية وثنية.(20/83)
الفصل الثاني
إسكندر السادس
وكان اختيار المجمع المقدس هو الاختيار الذي يريده الشعب. ولم يحدث أن كان ابتهاج الناس بانتخاب البابا مماثلاً لابتهاجهم في هذه المرة (14)، كما كان تتويج واحد من البابوات أفخم من تتويجه. لقد ابتهج الشعب بالموكب الفخم المؤلف من الخيول البيضاء، والأشخاص الرمزيين، والسجف المنقوشة، والصور الملونة، والفرسان، والعظماء، والجنود الرماة، والخيالة الأتراك، والقساوسة السبعمائة، والكرادلة في أثوابهم ذات الألوان الزاهية، وأخيراً بالإسكندر نفسه، وهو في الواحدة والستين من العمر، ولكنه رائع المنظر، منتصب طويل القامة، يفيض صحةً ونشاطاً وكبرياءً. "رصين الوجه مهيب الطلعة" كما يصفه شاهد عيان (15)، يبدو كأنه إمبراطور حتى وهو يبارك الجموع المحتشدة. ولم يكن أحد غير عدد قليل من ذوي الأصالة أمثال جوليانو دلا روفيري وجيوفني ده ميديتشي يبدي مخاوفه من أن يستخدم البابا الجديد، المعروف بأنه أب مغرم بأبنائه، سلطانه في رفع شأن أسرته بدل أن يستخدمه في تطهير الكنيسة وتقويتها.
وبدأ أعماله بداية حسنة. فقد حدثت في روما في الستة والثلاثين يوماً بين موت إنوسنت وتتويج الإسكندر مائتان وعشرون من حوادث الاغتيال التي عرفت. ولكن البابا الجديد ضرب المثل بأول قاتل قبض عليه؛ فقد شنق هذا المجرم، وشنق معه أخوه، وهدم بيته، وارتضت المدينة هذه القسوة، وأخفت الجريمة رأسها؛ وعاد النظام إلى روما، وأبتهجت إيطاليا كلها إذ وجدت يداً قوية تقبض على أزمة الشئون (16).
وكان الأدب والفن يترقبان من يأخذ بناصرهما. وقد وجدا في الإسكندر(20/84)
نصيرهما، فقد شاد البابا الجديد كثيراً من المباني داخل روما وخارجها، وتبرع بالمال الذي أنشئ به سقف جديد لكنيسة سانتا ماريا مجيوري مضافاً إلى هدية من الذهب الأمريكي من عند فرديناند وإزبلا، وأعاد تخطيط ضريح هدريان فأحاله إلى قصر سانت أنجيلو الحصين، وأعاد زخرفته من الداخل ليجعل منه سجوناً انفرادية للمساجين البابويين، وأجنحة مريحة للبابوات المنهكين. وأنشأ بين هذا القصر والفاتيكان طريقاً مغطىً طويلاً وقاه من شارل الثامن في عام 1494، وأنجى كلمنت السابع من مكيدة لوثرية أثناء أنتهاب روما. واستخدم بنتورتشيو في تزيين مسكن بورجيا في الفاتيكان، فأعيد بناء أربع من حجره الست، وفتحت للجمهور أيام ليو الثامن؛ وتحتوي كوة في واحدة منها صورة رائعة للإسكندر نفسه - ذات وجه مشرق، وجسم ممتلئ سليم، وأثواب فخمة. وفي حجرة أخرى صورت مريم تعلم الطفل القراءة، وقد وصفها فاساري (17) بأنها صورة لجويليا فارنيزي Guilia Farnese وهي عشيقة مزعومة للبابا. ويضيف فاساري إلى قوله السابق أن الصورة تحتوي أيضاً "رأس البابا إسكندر تزدان به" ولكنّا لا نرى صورة له واضحة هناك.
وأعاد بناء جامعة روما، واستدعى إليها طائفة من المعلمين الممتازين وكان يؤدي إليهم أجورهم بانتظام لم يسمع بمثله في تلك الأيام. وكان يحب التمثيل، ويسره أن يمثل طلاب المجمع العلمي في روما بعض المسالي والتمثيليات الراقصة في الحفلات التي تقيمها أسرته؛ وكان يؤثر الموسيقى الخفيفة على الفلسفة الثقيلة؛ ومن أعماله أنه أعاد الرقابة على المطبوعات في عام 1501 بأن أصدر مرسوماً يحرم أي كتاب إلاّ بعد أن يوافق عليه كبير الأساقفة المحلي. ولكنه ترك حرية واسعة للهجاء والمناظرة. وكان يضحك عليه سيزاري بورجيا من وجوب تأديب هؤلاء الهجائين.(20/85)
وقال يوماً لسفري فيرارً: "إن روما مدينة حرة يستطيع كل إنسان فيها أن يقول أو يكتب ما يشاء. وهو يقولون عني كثيراً مما يسوءني ولكنني لا أبالي يما يقولون" (18).
وكان تصريفه شئون الكنيسة في السنين الأولى من ولايته تصريفاً يشهد له بالقدرة والكفاية إلى حد غير مألوف. ومن الأدلة على ذلك أن إنوسنت السابع ترك الخزانة مدينة، "في حاجة إلى كل ما وهب الإسكندر من مقدرة لإصلاح حال المالية البابوية، وتطلبت منه موازنة الميزانية سنتين كاملتين" (18).
وقد تذرع إلى ذلك بإنقاص عدد موظفي الفاتيكان، وتخفيض النفقات، ولكن السجلات كان يعتني بحفظها وتدوينها، وكانت مرتبات الموظفين تؤدى في أوقاتها (19). وكان الإسكندر يواظب على إقامة المراسم الدينية الشاقة التي يستلزمها منصبه بأمانة، ولكنه كان يملها ملل الرجل الكثير المشاغل. وكان رئيس تشريفاته رجلاً ألمانياً يدعى جوهان بركهارد Hojann Burchard، عمل على تخليد شهرة مولاه وسوء سمعته بأن دوّن في يومياته كل ما شاهده تقريباً بما في ذلك الكثير مما كان الإسكندر يود ألاّ يطلع عليه الناس. وقد وفى الإسكندر للكرادلة بما وعدهم به في المجمع المقدس، بل إنه كان أكثر سخاء لمن كانوا أطول الناس مقاومة له أمثال الكردنال ده ميديتشي، وعين بعد سنة من توليته أثني عشر كردنالاً جديداً وزيادة على الكرادلة الأصليين. ومن هؤلاء من كانوا ذوي مقدرة وكفاية حقة، ومنهم من عينوا استجابة لرغبة بعض السلطات السياسية التي كان من الحكمة استرضاؤها؛ وكان اثنان منهم صغيري السن إلى حد يدعو للقيل والقال، وهما إبوليتو دست ولم يكن يتجاوز الخامسة عشرة وسيزاري بورجيا وكان في الثامنة عشرة؛ ومنهم ألسندو فرنيزي الذي كان مديناً بمنصبه إلى أخته جويليا فرنيزي وهي في اعتقاد الكثيرين(20/86)
عشيقة البابا. وكان أهل روما طويلو اللسان، الذين لم يدركوا وقتئذ أنهم سيلقبون ألسندرو في يوم من الأيام بولس الثالث، يسمونه الكردنال ذا التنورة. وغضب جوليانو دلا رو فيري أقوى الكرادلة الشيوخ حين وجد أنه وهو الذي كان يسيطر على إنوسنت الثامن ليس له نفوذ عند الإسكندر بعد أن اتخذ الكردنال اسفوردسا مستشاره الأمين وقربه إليه، وانتابته نوبة من القنط فذهب إلى كرسيه الأسقفي في أستيا وأنشأ لنفسه حرساً مسلحاً، ثم فر إلى فرنسا بعد عام من ذلك الوقت، وطلب إلى شارل الثامن أن يغزو إيطاليا، ويعقد مجلساً عاماً، ويخلع الإسكندر الذي لا يتورع عن بيع المناصب الكهنوتية.
وكان الإسكندر في ذلك الوقت يواجه المشاكل السياسية القائمة أمام بابوية تكتنفها القوى الإيطالية التي تأتمر بها من كل جانب. وكانت الولايات البابوية قد وقعت مرة أخرى في أيدي طغاة محليين، يدعون أنهم خدام الكنيسة ولكنهم انتهزوا الفرص التي أتاحها لم إنوسنت الثامن فاستردوا الاستقلال الفعلي الذي فقدوه هم وأسلافهم في عهد ألبرنوز أوسكستس الرابع. وكانت الدول المجاورة للمدن البابوية قد استولت على بعض هذه المدن، فاستولى نابلي مثلاً على سورا Sora وأكويليا في عام 1467، استولت ميلان على تورلي في عام 1488. ولها كان أول واجبات الإسكندر هو أن يخضع هذه الولايات تحت حكم بابوي مركزي، يفرض عليها الضرائب، كما أخضع ملوك أسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا السادة الإقطاعيين. وكانت هذه هي المهمة التي عهد بها إلى سيزاري بورجيا والتي أنجزها بسرعة وقسوة جعلت مكيفلي يعجب به ويدهش من مقدرته.
وكان أقرب إلى روما وأشَّد مضايقة للبابا وإقلاقاً لراحته النبلاء أشباه المستقلين الخاضعون للبابا نظرياً والمعادون له والخطرون عليه فعلاً. وكان(20/87)
ضعف البابوية من الناحية الزمنية منذ أيام بنيفاس الثامن (المتوفى عام 1303) قد ترك لهؤلاء النبلاء سيادة إقطاعية على ضياعهم شبيهة بما كان لأمراء الإقطاع في العصور الوسطى، فكانوا يسنون لأنفسهم قوانينهم، وينظمون جيوشهم، ويحاربون، كلما شاءوا، حروبهم الخاصة غير مبالين بالبابوات أنفسهم، وقد أدى هذا كله إلى اضطراب النظام وكساد التجارة في لاتيوم. ولم يمض على ارتقاء الإسكندري عرش البابوية إلاّ قليل من الوقت حتى باع فرانتشيسكتستو كسيبو إلى فرجينو أرسيني Virginio Orisini ضياعاً خلفها له والده إنوسنت الثامن بمبلغ 40. 000 دوقة (500. 000 دولار)؛ ولكن أرسيني هذا كان ضابطاً كبيراً في جيش نابلي؛ وكان قد تلقى من فيرانتي الجزء الأكبر من المال الذي ابتاع به الضياع، والواقع أن نابلي كانت قد امتلكت في الأراضي البابوية حصنين ذوي مركزين حربيين خطيرين (22). ورد الإسكندر على هذا بأن عقد حلفاً مع البندقية، وميلان، وفيرارا، وسينا، وبتجنيد جيش، وتحصين الأسوار القائمة بين سانت أنجيلو والفاتيكان. وخشي فرديناند الثاني ملك أسبانيا أن يؤدي الهجوم المشترك على نابلي إلى القضاء على سلطان أرغونة في إيطاليا، فأقنع الإسكندر وفيرنتي أن يتفاوضا؛ ونفح أرسيني البابا بأربعين ألف دوقة نظير احتفاظه بالأملاك التي اشتراها، وخطب الإسكندر لابنه جيوفري، وكان وقتئذ في الثالثة عشرة من عمره، سانتشيا Sancia حفيدة ملك نابلي الحسناء (1494).
وكافأ الإسكندر فرديناند على وساطته الموفقة بأن منحه الأمريكتين. ذلك أن كولمبس كان قد كشف "جزائر الهند" بعد شهرين من تولية الإسكندر ومنح فرديناند وإزبلا تلك البلاد. غير أن البرتغال طالبت بملك العالم الجديد بالاستناد إلى مرسوم صدر من كالكستس Calixtus الثالث (1479)، يؤيد فيها امتلاكها جميع الأراضي الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي. وردت أسبانيا على هذا بان المرسوم لم يكن يقصد غير الأراضي(20/88)
الواقعة على الشاطئ الشرقي من ذلك المحيط. وكانت نيران الحرب وشيكة الاشتعال بين الدولتين حين أصدر الإسكندر مرسومين (في الثالث والرابع من شهر مايو سنة 1493) يمنحان أسبانيا جميع الأراضي المكتشفة في غرب خط وهمي يمتد من أحد القطبين إلى القطب الثاني على بعد مائة فرسخ إسباني من جزائر أزوره والرأس الأخضر، كما يمنح البرتغال جميع الأراضي المكتشفة في شرقه، مشترطاً ألاّ تكون الأراضي ما يسكنه المسيحيون، وأن يبذل الفاتحون كل ما أوتوا من جهد في أن ينشروا الدين المسيحي بين رعاياهم الجدد. ولم تكن "منحة" البابا بطبيعة الحال إلاّ تأييداً لحق الفتح بالسيف، ولكنها حافظت على السلم في شبه جزيرة أيبريا؛ ويبدو أن أحداً لم يفكر قط في أن لغير المسيحيين أي حق في الأراضي التي يسكنونها.
وإذا كان في مقدور الإسكندر أن يوزع القارات، فقد وجد كثيراً من الصعوبة في الاحتفاظ بالفاتيكان. فقد حدث عقب وفاة فيرنتي صاحب نابلي (1494) أن استقر رأي شارل الثامن على غزو إيطاليا وإعادة نابلي إلى أملاك فرنسا. وخشي الإسكندر أن يخلع من عرشه فخطا تلك الخطوة الخطيرة وهي طلب المعونة من سلطان الأتراك. ولهذا بعث في شهر يولية من عام 1494 بأمين له يدعى جيورجيو بتشياردو Giorgio Bocciardo ليحذر بايزيد الثاني من عزم شارل على دخول إيطاليا والاستيلاء على نابلي، وخلع البابا أو السيطرة عليه، وتحريض جم على المطالبة بعرش آل عثمان، واستغلال هذا في حرب صليبية ضد القسطنطينية. وعرض الإسكندر أن ينضم إلى البابوية، ونابلي، ضد فرنسا، وربما انضمت إليهم أيضاً البندقية. واستقبل بايزيد بنتشياردو بالحفاوة المأثورة عن الشرقيين، ورده بالأربعين ألف دوقة المستحقة عليه نظير نفقات جم يصحبه رسول من عنده إلى الإسكندر. ولمّا وصل بتشياردو إلى سنغاليا Sengallia قبض عليه(20/89)
جيوفني دلا روفير أخو الكردنال الحانق، واستولى على الأربعين ألف دوقة، وعلى خمس رسائل قيل إنها مرسلة من السلطان إلى البابا. وتشير إحدى هذه الرسائل على البابا بأن يقتل جم ويرسل جثته إلى القسطنطينية على أن يؤدي السلطان عقب وصولها ثلاثمائة ألف دوقة (3. 750. 000؟ دولار): (تستطيع بها يا صاحب العظمة أن تبتاع أملاكاً لأبنائك) (23)، وأرسل الكردنال دلا روفيري صوراً من هذه الرسائل إلى ملك فرنسا. وقال الإسكندر إن الكردنال قد زور الرسائل، وأنه اخترع القصة من أولها إلى آخرها. والشواهد التي لدينا تؤيد رسالة البابا إلى بايزيد، ولكنها لا تؤيد رد السلطان وتنطق بأنه في أغلب الظن مزيف (24). وكانت البندقية ونابلي قد دخلتا من قبل في مفاوضات مثل هذه مع الأتراك، وسنرى فرانسيس الأول يحذو حذوهما فيما بعد؛ ذلك أن الدين عند الحكام إنما هو أداة من أدوات السلطان.
وأقبل شارل، وتقدم مجتازاً ميلان الصديقة، وأرهب فلورنس واقترب من روما (ديسمبر عام 1494). وساعده آل كولنا باستعدادهم لغزو العاصمة. واستولى أسطول فرنسي على أستيا - مرفأ روما على منصب التيبر - وهدد بمنع وصول الحبوب إليها من صقلية. وأعلن كثيرون من الكرادلة، ومنهم اسكانيو اسفوردسا تأييدهم لشارل؛ وفتح فرجينو أرسيني قصوره للملك، وتوسل إليه نصف الكرادلة في روما أن يخلع البابا (24). وانسحب الإسكندر إلى قصر سانت أنجيلو، وبعث مندوبين عنه ليفاوضوا الفاتح. ولم يكن شارل يريد أن يثير أسبانيا ضده بإقدامه على خلع البابا، بل إن هدفه كان الاستيلاء على نابلي التي لم يكن ثراؤها يغيب قط عن عقول ضباطه. ولهذا عقد الصلح مع الإسكندر مشترطاً أن يسمح لجيوشه باختراق لاتيوم دون عائق، وأن يعفو البابا عن الكرادلة الذين انضموا إلى شارل، وأن يسلمه جم. وقبل الإسكندر هذه الشروط، وعاد(20/90)
إلى الفاتيكان، واستمتع بركوع شارل ثلاث ركعات أمامه، وتفضل فمنعه من أن يقبل قدمي البابا، وتلقّى من الملك "طاعة" فرنسا الرسمية - أي تخليه عن جميع خططه التي كانت تهدف إلى خلع البابا. وزحف شارل على نابلي في الخامس والعشرين من يناير ومعه جم، ومات جم في الخامس والعشرين من فبراير على أثر نزلة شعبية، ويقول بعضهم إن الإسكندر الماكر سقاه بطيئاً، ولكن أحداً لم يعد يصدق هذه القصة (25).
وما كاد الفرنسيون يرحلون حتى استرد الإسكندر شجاعته. وأكبر الظن أنه أيقن في ذلك الوقت أن ولايات بابوية قوية، وجيشاً صالحاً، وقائداً محنكاً لا غنى عنها لسلامة البابوات من سيطرة أصحاب السلطة الزمنية (26). ولهذا عقد مع البندقية، وألمانيا، وأسبانيا، وميلان حلفاً مقدساً (31 مارس من سنة 1495) هدفه في ظاهر الأمر الدفاع المتبادل ومحاربة الأتراك، ولكنه يهدف في السر إلى طرد الفرنسيين من إيطاليا. وعرف شارل السر، وارتد إلى بيزا عن طريق روما؛ وأراد الإسكندر أن يتحاشى الاصطدام به فراح إلى أرفينو وبروشيا. ولما فر شارل عائداً إلى فرنسا دخل الإسكندر روما دخول الظافرين، وطلب إلى فلورنس أن تنظم إلى الحلف، وأن تطرد منها سفنرولا صديق فرنسا وعدو البابا أو ترغمه على السكوت، وأعاد تنظيم الجيش البابوي، ووضع على رأسه جيوفني أكبر أبنائه الأحياء، وأمره أن يفتح حصون آل أرسيني الثائرة ويضمها لأملاك البابوية. (1496). ولكن جيوفني لم يكن قائداً محنكاً فهزم في سريانو Soriano وعاد إلى روما يجلله العار، وأنغمس في الشهوات التي أدت في أغلب الظن إلى موته المبكر. لكن الإسكندر رغم هذا استرد الحصون التي بيعت لفرجينو أسيني، كما أسترد أستيا من الفرنسيين. وبدا له أنه تغلب على كل الصعاب، فأمر بنتورتشيو أن ينقش على جدران الجناح البابوي في سانت أنجيلو مظلمات تمثل انتصار البابا على الملك. وكان الإسكندر وقتئذٍ قد وصل إلى ذروة مجده.(20/91)
الفصل الثالث
الآثم
وحمدت له روما حسن إدارته الداخلية ونجاحه رغم تردده في سياسته الخارجية، ولامته لوماً خفيفاً على مغامرات حبه، ولوماً عنيفاً على سعيه لتوفير الثراء لأبناءه، وحقدت عليه لتعيينه في مناصب الدولة بروما حشداً كبيراً من الأسبان كان منظرهم الأجنبي ولغتهم الأجنبية مثاراً لغضب الإيطاليين. وكان عدد ضخم من الأسبانيين من أقارب البابا قد هرعوا إلى روما "حتى لم تعد مائة بابوية تكفي ذلك الحشد من أبناء الأعمام"؛ كما يقول شاهد عيان (27). وكان الإسكندر وقتئذ قد أصبح إيطالياً كاملاً في ثقافته، وسياسته، وأساليبه ولكنه لا يزال يحب أسبانيا، ويتحدث بالإسبانية أكثر مما يجب مع سيزاري ولكريدسيا، ورفع إلى مقام الكردنالية تسعة عشر أسبانياً، وأحاط نفسه بخدم ومساعدين قطلانيين، حتى لقبه الإيطاليون الحاسدون آخر الأمر "البابا الهجين" (28) يشيرون بذلك إلى انحداره من يهود أسبانيين اعتنقوا المسيحية. ورد الإسكندر على هذا بقوله إن كثيرين من الإيطاليين، وبخاصة في مجمع الكرادلة، قد غدروا به، وإنه لا بد أن يجمع حوله طائفة من الأنصار يرتبطون معهم برباط الولاء الشخصي القائم على علمهم بأنه هو حاميهم الأوحد في روا.
وكان هو، وأمراء أوربا حتى زمن نابليون، يقولون هذا القول عينه ليبرروا ترقية أقاربهم إلى مناصب الثقة والسلطان. وقد ظل البابا (1)
_________
(1) أنظر ما يقوله كريتون Creighton: " لم يكن الحلفاء ممن يوثق بهم في الظروف السياسية الإيطالية المزعزعة إلا إذا اعتمد إخلاصهم على بواعث المنفعة الخاصة لهم. ولهذا فإن الإسكندر السادس اتخذ صلات الزواج في أسرته وسيلة يحيط بها نفسه بحزب سياسي قوي. ولم يكن يثق بأحد غير أبنائه يتخذهم أدوات لتنفيذ خططه" من كتاب م. كريتن M. Creighton " تاريخ البابوية في عهد الإصلاح الديني" الجزء الثالث 263. وهذا الأسقف الأنجليكاني لا يضارعه في نزاهته وغزارة علمه في هذا الميدان إلا أمانة لدفج فن باستون Ludwig von Paston وعلمه الواسع في كتابه "تاريخ البابوات" وكان وجود هذين التاريخين العظيمين خليقاً أن يمحو من زمن يعيد غيوم الأقاصيص الخرافية التي نشرها الكتاب المتحزبون حول بابوات النهضة.(20/92)
فترة من الوقت يأمل أن يعينه ابنه جيوفني على حماية الولايات البابوية، ولكن جيوفني ورث عن أبيه حسه المرهف نحو النساء غير مصحوب بقدرته على حكم الرجال. وأدرك الإسكندر أن ابنه سيزاري دون سائر أبناءه هو الذي أوتي العزيمة والصرامة اللتين لا بد منهما لخوض غمار السياسة الإيطالية في ذلك العصر المليء بالعنف، فخلع عليه عدداً كبيراً من المناصب الدينية تدر عليه إيراداً يفي بنفقات هذا الشاب ذي السلطان المطرد الزيادة. وحتى لكريدسيا الظريفة نفسها اتخذت أداة سياسية، فالفت نفسها وقد ارتقت إلى حكم إحدى المدن أو إلى فراش الدوق جليل الشأن. وكان البابا يحب لكريدسيا حباً أدى ببعض المغتابين النمامين إلى اتهامه بمضاجعتها وتصويره بالوالد الذي ينافس أبناءه في عشقها (29). وقد حدث في مرتين اضطر فيهما ألكسندر إلى الغياب عن روما أن عهد إلى لكريدسيا بحجرة في الفاتيكان وخولها حق فض رسائله وتصريف جميع الشؤون العادية. وكان تخويل النساء مثل هذه السلطة كثير الحدوث في بيوت الحكام بإيطاليا - كما حدث في فيرارا، وأرمينو، ومانتوا - ولكن هذا العمل روع روما نفسها وهي المتخمة بالمفاسد. ولما أن قدم جيوفري وسانتشيا من نابولي بعد زفافهما، خرج سيزاري لكريدسيا لاستقبالهما، وهرول الأربعة إلى الفاتيكان، وسعد الإسكندر بقربهم. وفي ذلك يقول جوتشيارديني Guicciardini " لقد اعتاد غير الإسكندر من البابوات أن يخفوا فضائحهم بأن يسموا أبنائهم أبناء أخواتهم، ولكن الإسكندر كان يسره أن يعرف العالم كله أنهم أبناءه (30).(20/93)
وكانت روما قد غفرت للبابا علاقته بفانتسا الساذجة، ولكنها دهشت لعلاقته بجويليا التي تنقلت من عشيق إلى عشيق. واشتهرت جويليا فرنيزي Gullia Farnese بجمالها الرائع وخاصة بشعرها الذهبي؛ فإذا أرسلته ووصل إلى قدميها كان له منظر يلهب دم رجال أقل توقداً من الإسكندر. وكان أصدقاؤها يلقبونها "الجميلة La Belle". ويصفها سانودو Sanudo بأنها "محبوبة البابا، وأنها فتاة رائعة الجمال، قوية الإدراك، رحيمة، ظريفة (31). ووصفها إنفيسورا في عام 1493 فقال إنها شهدت مأدبة زواج لكريدسيا في الفاتيكان، وسماها "محظية الإسكندر؛ وأطلق ماتارتسو المؤرخ البيرولوجي هذا اللقب ذاته على جويليا ولكنه في أغلب الظن كان ينقل عن إنفيسورا، وسماها أحد الظرفاء الفلورنسيين في عام 1494 "عروس المسيح Sposa di Cristo" وتلك عبارة لا تطلق عادة إلاّ على الكنيسة (32). وقد حاول بعض العلماء أن يطهروا اسم جويليا بحجة أن لكريدسيا التي دل البحث عن نقاء سريرتها - ظلت صديقتها إلى آخر أيامها، وأن أرسينو أرسيني Orsino Orsini زوج جويليا بنى معبداً تكريماً لذكراها الشريفة (33). وولدت جويليا في عام 1492 ابنة سميت لورا Laura، قيدت رسمياً منسوبة إلى أرسيني، ولكن الكردنال ألسندرو فارنيزي اعترف بأن الطفلة ابنة الإسكندر نفسه (34) (1). وينسب إلى البابا أيضاً ابن غامض خفي ولد له من امرأة أخرى حوالي عام 1498 ويعرف في يومية بركهار باسم الطفل رومانوس Infans Romanus، (35) . وليست نسبته إلى البابا مؤكدة، ولكن زيادة واحد أو نقصه في عدد أولئك الأبناء أمر غير ذي بال.
وليس ثمة شك في أن الإسكندر هذا كان رجلاً شهوانياً حار الدم
_________
(1) يرى باستور في الجزء الخامس هامش ص (417) أن هذا دليل قاطع على إثم الإسكندر، ولكن المغتابين المعادين للبابا قد سوءوا سمعته تسويئاً يجعل المشفقين عليه لا يتسرعون في الحكم على أخلاقه استناداً إلى هذا الدليل.(20/94)
إلى درجة لا تتفق قط مع العزوبة. والشواهد على ذلك كثيرة: منها أنه أقام احتفالاً عاماً في الفاتيكان مثلت فيه مسلاة (فبراير، 1503)، وأنه استمتع في هذه المناسبة بكثير من ضروب الملاهي، وسره أن يلتف حوله عدد من النساء الرائعات الجمال، وأن يجلسن على مقاعد منخفضة عند قدميه. ذلك أنه كان رجلاً، ويبدو أنه كان يشعر بما يشعر به كثيرون من رجال الدين في تلك الأيام، وهو أن فرض العزوبة على رجال الدين خطأ وقع فيه هلدبراند، وأن الكرادلة أنفسهم يجب أن يسمح لهم بأن يستمتعوا بلذة صحبة النساء، وإحنهن. وكان يظهر لفانتسا مشاعر الحنان الزوجي، ولعله كان يظهر لجويليا الحب الأبوي. لكن إخلاصه لأبنائه، الذي كان يتغلب في بعض الأحيان على إخلاصه لمصالح الكنيسة، يمكن أن يتخذ حجة تبرر بها حكمة القانون الكنسي الذي يفرض العزوبة على القسيسين.
وكان الإسكندر في السنين الوسطى من ولايته، وقبل أن يطغى عليه فيها سيزاري بورجيا، تتصف بكثير من الفضائل. نعم إنه كان في تصريف الشئون العامة مهيباً ذا شمم وكبرياء، ولمنه في أحواله الخاصة مرحاً، طيب السريرة، بشوشاً، حريصاً على الاستمتاع بالحياة، يستطيع أن يضحك ملء شدقيه حين يرى من نافذة غرفته استعراضاً للرجال المقنعين "ذوي أنوف مزيفة طويلة كبيرة الحجم في شكل عضو التذكير" (36).
وكان وقتئذ بديناً إلى حد ما إذا جاز لنا أن نثق بصورته وهو يصلي التي رسمها له بنتورتشيو والتي يبدو لنا أنها صورة صادقة. ومع هذا فإن كل ما كتب عنه يشهد بأنه كان مقتصداً في طعامه وشرابه، وأن مائدته كانت تبلغ من البساطة حداً ينفر منه الكرادلة (37). وأنه لم يكن يرعى حق بدنه أثناء قيامه بالشئون الإدارية، فكان يقضي في العمل جزءاً كبيراً من(20/95)
الليل، ويراقب بجد ونشاط شئون الكنيسة في جميع أنحاء العالم المسيحي.
ترى هل كان استمساكه بالدين المسيحي تصنعاً ورياءً؟ أكبر الظن لا. ودليلنا على ذلك أن رسائله حتى التي تختص منها بجويليا مليئة بعبارات التقى التي لم تكن من مستلزمات الرسائل الخاصة (38). ولقد كان هو رجل نشاط وعمل تغلبت عليه أخلاق زمانه السهلة غير المتحرجة، حتى لم يكن يرى، إلاّ في القليل النادر من الأوقات، أن ثمة تناقضاً بين حياته وبين مبادئ الأخلاق المسيحية. وكانت كمعظم الذين يستمسكون بقواعد الدين كاملة، يسلك مسلك رجال الدنيا كاملاً. ويبدو أنه كان يشعر أن البابوية في الظروف المحيطة بها في عهده تحتاج إلى حاكم سياسي لا إلى ولي من أولياء الله الصالحين. وكان يعجب بالتقى والصلاح، ولكنه كان يظن أن هذا من مستلزمات الرهبنة والحياة الخاصة، لا من صفات يضطر إلى أن يعامل في كل خطوة من خطواته طغاة، دهاة، يعملون للكسب والسلطان، أو دبلوماسيين غادرين لا ذمة لهم ولا ضمير. وانتهى به الأمر إلى اتباع جميع أساليبهم، واصطناع أكثر ما تحوم حوله الريب من حيل من سبقوه في البابوية.
واضطرته حاجته إلى المال لأداء نفقات حكومته وحروبه، فباع المناصب، واستولى على ضياع الموتى من الكرادلة، واستغل عيد سنة 1500 أتم استغلال، فكان الإعفاء من الواجبات الدينية والإذن بالطلاق يمنحان على أنهما عملان مربحان في المساومات السياسية. مثال ذلك أن لادسلاس ملك المجر دفع 30. 000 دوقة نظير إلغاء زواجه ببياتريس أميرة نابلي؛ ولو أن هنري الثامن قد وجد بابا كالإسكندر يتعامل معه، لبقى إلى آخر أيامه حامي حمى الدين. ولمّا لاح أن العيد سيخفق من الناحية المالية لأن الذين كانوا يريدون الحج قعدوا في منازلهم خوفاً من اللصوص، أو الوباء أو الحروب، لم يشأ الإسكندر أن يخسر ما قدره لنفسه من مال، وجرى على(20/96)
سنة أسلافه البابوات، فأصدر مرسوماً بابوياً (4 مارس سنة 1500) يفصل فيه ما يستطيع المسيحيون أداءه من المال ليحصلوا على الغفران الذي كانوا سيحصلون عليه بالحج إلى رومة؛ وبأي ثمن يستطيع التائبون أن يغفر لهم زواجهم من المحارم؛ وكم يؤدي رجل الدين لكي يغفر له بيع المناصب أو "الشذوذ" (39). وأمر في السادس عشر من ديسمبر أن يمد العيد حتى يوم الغطاس. ووعد الجباة دافعي المال بأن أموالهم ستستخدم في حرب صليبية على الأتراك، ووفى بهذا الوعد بالنسبة إلى الأموال المجموعة من بولندة والبندقية، ولكن سيزاري بورجيا استخدم ما تجمع من الأموال فيما شنه من الحروب لاستعادة الولايات البابوية (40).
وأراد الإسكندر أن يزيد حفلات العيد جلالاً فعين في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1500 اثني عشر كردنالاً جديداً بلغ مجموع ما أدوه ثمناً لمناصبهم 120. 000 دوقة؛ ويقول جوتشيارديني إن هذه المناصب "لم يرق إليها أكثر الناس جدارة بها بل كانت من نصيب من يؤدون فيها أغلى الأثمان" (41). ثم عين في عام 1503 تسعة كرادلة آخرين حصل منهم على أثمان مجزية (42). وأنشأ كذلك في هذه السنة ذاتها ثمانين منصباً في الحكومة البابوية لا موجب لها على الإطلاق، وبيع كل منصب من هذه المناصب بسبعمائة وستين دوقة كما يقول جوستيانيني Guistianini سفير البندقية وأحد أعداء البابا (43). ولصق أحد الهجائين على تمثال بسكوينو (1503) هذا الهجاء اللاذع: "إن المفاتيح ومذابح الكنائس والمسيح يبيعها الإسكندر؛ وحق له أن يبيعها، فقد أدى هو ثمنها" (44).
وكان القانون الكنسي ينص على أن تعود أملاك رجال الدين إلى الكنيسة بعد وفاتهم، إلاّ إذا قضى البابا غير هذا (45). وكان الإسكندر يقضي بغير هذا على الدوام إلاّ إذا كان المتوفى من الكرادلة. واستجاب الإسكندر لضغط سيزاري بورجيا وإلحاحه فجعل الاستيلاء على الثروة التي يتركها(20/97)
وراءهم كبار رجال الكنيسة من المبادئ العامة المقررة، وجاءت بهذه الطريقة أموال موفورة إلى بيت المال. وخدع كثيرون من الكرادلة البابا بمنح هبات كثيرة من أموالهم قبل وفاتهم، ومنهم من عمد في أثناء حياته إلى إنفاق أموال كثيرة لإعداد أنصاب تذكارية لهم تبقى بعد موتهم. ولمّا مات الكردنال ميشيل (1503) جرد عملاء البابا من فورهم بيته من كل ما كان فيه، وقبض البابا ثمنه، إذا صدقنا ما يقوله جوستنيانا، البالغ مائة وخمسين ألف دوقة. وكان مما يشكو منه الإسكندر أنه لم يتسلم منه نقداً سوى 23. 832 دوقة (46).
وسنرجىء هنا البحث المفصل فيما يعزى للإسكندر أو سيزاري بورجيا من دس السم لكبار رجال الكنيسة الذين تطول أعمارهم، ولكننا نقبل مؤقتاً النتيجة القائلة بأنّا "لا نجد قط دليلاً يثبت أن الإسكندر قد دسّ السم لإنسان" (47). على أن قولنا هذا لا يثبت براءته، وربما كان هو أمهر من أن يترك وراءه للتاريخ ما يدينه؛ لكنه مع ذلك لم ينج من الهجائين والنمامين، وغيرهم من الظرفاء الذين كانوا يبيعون نكاتهم القاتلة إلى أعداءه، وقد رأينا كيف كان سنادسارو يسلط شعره القاتل المقفى على البابا وولده أثناء النزاع الذي شجر بين البندقية ونابلي؛ كذلك سخر أنفيسورا قلمه للتشنيع على البابا خدمةً لآل كولنا، وكان جيرونيمو منشيوني Geronimo Mancioni في يد بارونات سافلي أقوى من فرقة عسكرية. وكان من الوسائل التي استخدمها الإسكندر نفسه في حروبه مع نبلاء كمبانيا، أن أصدر في عام 1501 مرسوماً بابوياً يفصل فيه الجرائم التي ارتكبها آل سافلي وكولنا. وكان أشد من هذا مبالغة - الرسالة الذائعة الصيت التي كتبها منتشيوني والمسماة "رسالة إلى سلفيوسافلي" يعدد فيها رذائل الإسكندر وسيزاري بورجيا وجرائمهما. وقد نشرت هذه الوثيقة في مدى واسع، وكان لها أثر كبير في تصوير الإسكندر بصورة وحش في قسوته(20/98)
وشذوذه (48). وفاز الإسكندر في حرب السيف، ولكن أعداءه النبلاء، الذين لم يكبح جماحهم عدوه البابا يوليوس الثاني ظفروا به في حرب القلم ونقلوا صورته التي صوروه بها إلى التاريخ.
ولم يكن يبالي قط بالرأي العام، وقلما كان يرد على السباب التي ضاعفت من غير رحمة عيوبه الحقة. لقد عقد الرجل العزم على إقامة دولة قوية، وكان يظن أن هذه الدولة لا تقام بالأساليب المسيحية. وكان استخدامه لأدوات السياسة المأثورة التقليدية - الدعاوة، والخداع، والدسائس، والنظام، والحرب - لابد أن يسيء إلى أعيان روما، ودول إيطاليا الذين يرون أن من مصلحتهم أن يسود الضعف والفوضى في البابوية نفسها وفي ولاياتها. وكان الإسكندر في بعض الأحيان يقف ليحكم على حياته حسب المقاييس الإنجيلية، ثم يقر بأنه كان يبيع الرتب الكهنوتية، وأنه فاسق، وأنه قضى بالحرب على حياة بني الإنسان. وقد فقد مرة مبادئه المكيفلية التي لا تقيد صاحبها بالتبعة الأخلاقية، واعترف بذنوبه وأقسم أن يصلح من أمره وأمر الكنيسة.
وكان يحب ابنه جيوفني حباً يفوق لكريدسيا نفسها؛ ولما أنبه ابنه بدرو لويس حرص الإسكندر على أن يهب جيوفني دوقية غنية في أسبانيا.
وكان من اليسير أن تحب فتاة هذا الصبي، فقد كان وسيماً، رقيقاً، مرحاً. ولكن الأب الشفوق بولده لم يكن يرى أن الشاب خلق للحب بل للحرب؛ ولهذا عينه قائداً للجند، وأثبت القائد الشاب أنه غير كفء لهذا العمل، فقد كان جيوفني يرى أن امرأة جميلة أثمن من فتح مدينة. وفي الرابع عشر من شهر يونية تعشى مع أخيه سيزاري وغيره من الضيوف في بيت أمه فاثندسا، وافترق جيوفني عن سيزاري وسائر الضيوف وهو عائدون، وقال إنه يريد أن يزور سيدة من معارفه.(20/99)
ولم يُر حياً بعد تلك الساعة. ولما لوحظت غيبته طلب البابا أن يبحث عن أبنه الحبيب، واعترف صاحب زورق أنه رأى جثة تلقى في نهر التيبر في ليلة الرابع عشر من الشهر؛ ولما سئل لِمَ لَم يبلغ عنها، قال أنه شاهد في حياته مائة حادث من هذا النوع، وإنه تعلم ألا يشغل باله بها. وفتش مجرى النهر، ووجدت الجثة، مطعونة في تسعة مواضع مختلفة؛ ويلوح أن الدوق الشاب هاجمه عدد من الأشخاص؛ وحطم الحزن قلب الإسكندر وأدى به إلى أن يغلق على نفسه باب غرفته الخاصة، ويمتنع عن الطعام، وكان أنينه يسمع في الشارع نفسه.
وأمر أن يبحث عن القتلة، ولكن لعله ارتضى بعد قليل من الوقت أن يبقى الحادث في طي الخفاء. وكانت الجثة قد عثر عليها بالقرب من قصر أنطونيو بيكو مير ندولا Antonio Pico della Mirandola ويقال إن الدوق أغوى ابنته الحسناء؛ ويعزو كثيرون من المعاصرين ومنهم أسكالونا Scalona سفير مانتو مقتله إلى جماعة من السفاحين المتشردين أستأجرهم الكونت لهذا الغرض؛ ولا يزال قولهم هذا أقرب التفاسير احتمالاً (49). ويعزو آخرون ومنهم سفيرا فلورنس وميلان في روما هذه الجريمة إلى أحد أبناء أسرة أرسيني التي كانت وقتئذ مشتبكة مع البابا في حرب (50)؛ ويقول بعض الثرثارين النمامين إن جيوفني غازل أخته لكريدسيا، وإن مقتله كان بأيدي بعض أتباع زوجها جيوفني اسفوردسا (51). ولم يتهم أحد في ذلك الوقت سيزاري بورجيا، ويبدو أن سيزاري، وهو وقتئذ في الحادية والعشرين من عمره، كان على أتم وفاق مع أخيه؛ فقد كان كردنالاً، وكان يسير في طريق الرقي الخاص به، ولم يغير هذا الطريق ويسلك طريق الجندية إلا بعد أربعة عشر شهراً من الحادث؛ ولم يفد شيئاً ما من مقتل أخيه، ولم يكن هو ليتنبأ بأن جيوفني سيفارقه في طريقه وهما عائدان من بيت فاندسا. ولم يرتب الإسكندر وقتئذ(20/100)
في سيزاري، بل إنه فعل ما يدل على عكس هذا، فعينه مصفياً لتركته. وكان أول ما ورد من الأقوال عن أن سيزاري هو القاتل في رسالة كتبها بنيا Pinga سفير فيراراً في الثاني والعشرين من فبراير عام 1498 بعد ثمانية عشر شهراً من وقوع الحادث، ولم يربط الرأي العام بينه وبين الجريمة إلا بعد أن كشف عن كل ما في أخلاقه من قوة وقسوة؛ وحينئذ فقط اتفق مكيفلي وجوتشيا رديني على اتهامه بها. ولعله كان قادراً على ارتكابها في مرحلة أخرى من مراحل تطوره لو أن جيوفني عارضه في أمر من الأمور الحيوية؛ ولكنا نكاد نجزم أنه برئ من هذه الجريمة.
ولما أسترد البابا سلطانه على نفسه جمع مجلساً من الكرادلة (19 يونية سنة 1497)، وتلقى تعازيهم وأبلغهم أن "دوق غنديا كان أحب إليه من أي شخص في آخر العالم"، وقال إن هذه المصيبة "هي أكبر المصائب التي يمكن أن تحل به" عقاباً له من عند الله على ذنوبه، ثم أضاف "ولقد عقدنا العزم على أن نصلح من شأن حياتنا، وأن نصلح الكنيسة .... وستكون المناصب من هذه الساعة وقفاً على من يستحقونها، تعطى حسب أصوات الكرادلة. ولن نتحيز قط لأقاربنا، وسنبدأ الإصلاح بإصلاح أنفسنا، ثم نسير به في جميع مراتب الكنيسة حتى ننجز العمل كله" (53). وعينت لجنة من ستة كرادلة لتعد برنامجاً للإصلاح؛ وأخذت تعمل بجد وقدمت للإسكندر مرسوماً بهذا الإصلاح بلغ من عظم الشأن درجة لو نفذت معها مواده لنجت الكنيسة من حركات الإصلاح الديني التي حدثت في هذه الفترة ومن حركة الإصلاح المضادة. غير أنه لما سئل الإسكندر كيف تقوم موارد البابوية، بغير المال الذي يدفع نظير التعيين في المناصب الكنسية، بالوفاء بنفقات الحكومة، لم يجد جواباً شافياً. ولكن لويس الثاني عشر يتأهب في ذلك الوقت لغزو إيطاليا(20/101)
مرة أخرى، وعرض سيزاري بورجيا أن يسترد الولايات البابوية "نائبي البابا" المعاندين. واستحوذ على روح البابا ذلك الأمل العظيم وهو إيجاد صرح قوي يهب الكنيسة سلطاناً مادياً ومالياً في عالم متمرد غير مستقر. ولهذا أخذ يرجئ الإصلاح من يوم إلى يوم؛ ثم نسيه آخر الأمر وسط الانتصارات المثيرة التي نالها ولد له أخذ يفتح له مملكة، ويجعله ملكاً بحق.(20/102)
الفصل الرابع
سيزاري بورجيا
وكان لدى الإسكندر أسباب كثيرة للفخر بالابن الذي أصبح الآن أكبر أبنائه، فقد كان سيزاري أشقر شعر الرأس واللحية، كما يريد كثير من الإيطاليين أن يكونوا، حاد البصر، فاره الطول، معتدل القامة، قوي البنية، ثابت الجنان لا يعرف الخوف له سبيلاً إلى قلبه. ويقال عنه، كما يقال عن ليونادرو إنه لا يستطيع أن يلوي حذاء فرس بيده العارية. وكان يمتطي صهوة الجياد الجامحة التي كان يجمعها لأسطبله. وكان يخرج إلى الصيد بتلهف الكلب الذي شم رائحة الدم. وقد أدهش جماعة من الناس في أثناء عيد روما حين قطع رأس ثور في مصارعة للثيران في أحد ميادين روما بضربة واحدة من يمينه. وفي اليوم الثاني في شهر يناير سنة 1502، ركب إلى حلبة مصارعة للثيران نظمها هو في ميدان سان بيترو، ومعه تسعة غيره من الأسبان، وهاجم بمفرده وبيده حربته ثوراً من اثنين هما أشد الثيران وحشية أطلقا في الحلبة؛ فقد نزل عن جواده وأخذ يصارعه راجلاً بعض الوقت، حتى إذا أثبت ما يكفي من بسالته ومهارته ترك الحلبة إلى المحترفين (54). وقد أدخل هذا الصراع إلى رومانيا Romagna كما أدخله إلى روما؛ ولكنه رد إلى أسبانيا بعد أن قتل فيه عدد من المصارعين الهواة.
ونحن إذا ما صورناه في صورة وحش ضار أخطأنا في هذا التصوير أشد الخطأ؛ وقد وصفه أحد معاصريه بأنه: "شاب عظيم النشاط إلى حد لا يضارعه أحد فيه، وذو استعداد ممتاز، بشوش، بل قل مرح، عالي الهمة على الدوام" (55). ووصفه آخر بقوله إنه "يفوق أخاه دوق(20/103)
غنيديا في منظره وذكائه" (56). وقد أدرك الناس دماثة أخلاقه، واعجبوا بملبسه الغالي البسيط، ونظرته المسيطرة الآمرة، وطلعة الرجل الذي يشعر بأنه قد ورث العالم. وكانت النساء يعجبن به ولكنهن لا يحيينه، فقد كن يعرفن أنه يستخف بهن حين يتصل بهن وحين ينبذهن. وكان قد درس من القانون في جامعة بروجيا ما يكفي لأن يقوي من حدة ذهنه الفطرية؛ ولم يكن يجد إلاّ القليل من الوقت ينفقه في قراءة الكتب أو في "تثقيف" عقله، وإن كتب الشعر من آن إلى آن كما يفعل كل الناس، وبلغ منه أن كاد يزدهي على شاعر بين موظفيه. وكان يقدر الفن تقدير العارف على التفريق بين الطيب منه والخبيث؛ وشاهد ذلك أنه لما رفض الكردنال رفائلو رياريو أن يبتاع صورة لكيوبيد لأنها لم تكن قديمة بل كانت من صنع شاب فلورنسي غير مشهور يدعى ميكل أنجيلو عرض فيها سيزاري ثمناً عالياً.
وما من شك في أنه لم يخلق ليكون من رجال الدين؛ ولكن الإسكندر الذي كانت له أسقفيات لا إمارات تحت تصرفه عيّنه كبيراً لأساقفة بلنسية (1492)، ثم كردنالاً (1493)؛ ولم يكن أحد من الناس يرى أن هذه مناصب دينية بحق، بل كانت في نظر الناس وسائل تدر دخلاً على الشبان الذين لهم أقارب ذوو نفوذ، والذين يستطاع تدريبهم لتصريف شئون أملاك الكنيسة والإشراف على موظفيها. وتدرج سيزاري في المراتب الكهنوتية الصغرى، ولكنه لم يصبح قط قساً. ولما كان قانون الكنيسة يحرم الأبناء غير الشرعيين من الكردنالية، فقد أعلن الإسكندر بمرسوم صادر في 19 م سبتمبر سنة 1493 أنه ابن شرعي لفاندسا ودارنيانو d'Arignano. ولم يكن من الأمور الهينة أن يصفه البابا سكستس الرابع في مرسوم أصدره في 16 أغسطس سنة 1482 بأنه ابن "ردريجو، الأسقف ونائب رئسي المحكمة". وغض الجمهور النظر عن هذا التناقض، واكتفى بالابتسام.(20/104)
فقد اعتاد أن يرى الأكاذيب القانونية تستر الحقائق التي لم يحن بعد وقت إعلانها.
وسافر سيزاري إلى نابلي في عام 1497 بعد قليل من وفاة جيوفني، مندوباً من قبل البابا، وكان من حظه أن توّج ملكاً من الملوك. ولعل لمس التاج قد أثار وقتئذ عواطفه، فلمّا عاد إلى روما ألح على أبيه أن يسمح له بالتخلي عن منصبه الكنسي؛ ولم تكن ثمة وسيلة لتخليه عنه إلاّ بأن يعترف الإسكندر صراحة أمام مجمع الكرادلة بأن سيزاري ابن غير شرعي له. وهذا ما صرح به فعلاً، وأعقبه إعلان يقول إن تعيين النغل الشاب كردنالاً مخالف للقانون (17 أغسطس عام 1498) (57). ولمّا عادت إلى سيزاري بنوته غير الشرعية، أنهمك بكليته في الأعمال السياسية.
وكان الإسكندر يرجو أن يرضى فدريجو Federigo الثالث ملك نابلي بسيزاري زوجاً لابنته كارلتا Carlotta؛ ولكن فدريجو كانت له ميول غير هذه الميول. وساء ذلك البابا أشد إساءة، فولى وجهه شطر فرنسا يرجو أن يستعينها على استعادة الولايات البابوية. وواتته الفرصة حين طلب إليه لويس الثاني عشر أن يبطل زواجاً أرغم عليه في شبابه وادعى الآن أنه لم يصل إلى غايته. ولما حل شهر أكتوبر من عام 1479 أرسل الإسكندر ابنه سيزاري إلى فرنسا يحمل إلى الملك مرسوماً بالطلاق ومائتي ألف دوقة يخطب بها زوجة له. وسر لويس هذا الطلاق، وسره فوق ذلك إذن البابا بزواج آن البريطانية أرملة شارل الثامن، فعرض على سيزاري يد شارلوت دالبرت Chorlotte'd Albert أخت ملك نبرة؛ ولم يكتف بهذا بل منح سيزاري لقب دوق فلنتنوا Valentinois وديوا Diois، وهما مقاطعتان فرنسيتان للبابوية عليهما بعض الحق القانوني. وفي شهر مايو من عام 1499 تزوج الدوق الجديد فلنتينو Valentino - وهو الاسم الذي تسمى به بعدئذ في إيطاليا - شارلوت الثرية؛ الحسناء، الطيبة؛ وأقامت رومة،(20/105)
حين أبلغها الإسكندر النبأ، معالم الأفراح، وأطلقت الألعاب النارية ابتهاجاً بزواج أميرها. وأوجب هذا الزواج على البابوية أن تعقد حلفاً مع ملك يستعد علناً لغزو إيطاليا ويستولي على ميلان ونابلي. وبذلك لم يكن جرم الإسكندر في عام 1499 أقل من جرم لودفيكو وسفونارولا في عام 1494. وأفسد هذا الحلف جميع أعمال الحلف المقدس الذي كان للإسكندر يد في عقده سنة 1495 ومهد السبيل لحروب يوليوس الثاني. وكان سيزاري بورجيا من بين الأعيان الذين ساروا في ركاب لويس الثاني عشر إلى ميلان في السادس من أكتوبر سنة 1499، وقد وصف كستجليوني الذي كان فيها وقتئذ دوق فلنتينو بأنه أطول رجال حاشية الملك قامة وأعظمهم جمالاً (58). ولم يكن كبرياؤه يقل عن مظهره. وقد نقش على خاتمه: "أفعل ما يجب أن تفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون". أما سيفه فقد نقشت عليه مناظر من حياة يوليوس قيصر؛ وكان يحمل شعارين: فكان على أحد وجهيه: "ألقى النرد" وعلى الوجه الآخر: "إما قيصر أو لا أحد" (59).
ووجد الإسكندر أخيراً في هذا الشاب الجريء والمحارب السعيد القائد الذي ظل يبحث عنه زمناً طويلاً ليقود قوات الكنيسة المسلحة ويستعيد بها الولايات البابوية. وأمده لويس بثلاثمائة من حملة الرماح الفرنسيين، وجند أربعة آلاف من الغسقونيين والسويسريين، وألفين من المرتزقة الإيطاليين. وكان هذا جيشاً أقل مما يحتاج إليه للتغلب على اثني عشر من الحكام المستبدين، ولكن سيزاري كان تواقاً إلى هذه المغامرة. وأراد البابا أن يضيف الأسلحة الروحية إلى الأسلحة العسكرية، فأصدر مرسوماً يعلن فيه ذلك الإعلان الخطير وهو أن كترينا اسفوردسا وابنها أنافيانو يمتلكان إمولا وفورلي - وبندلفو مالاتستا يمتلك ريميني - وجويليو فارانو Giulio Varano يمتلك كمرينو - وأستوري منفريدي Astorre Manfredi يمتلك فائندسا - وجويدويلدو يمتلك أربينو - وجيوفني اسفوردسا يمتلك بيزارو - لأنهم(20/106)
اغتصبوا أرضين، وأملاكاً وحقوقاً تختص بها الكنيسة قانوناً وعدلاً، وأنهم جميعاً طغاة مستبدون أساءوا استخدام سلطتهم، واستغلوا رعاياهم، وأن عليهم الآن أن يتخلوا عن أملاكهم أو يطردوا منها قوةً واقتداراً (60). ولربما طاف بخاطر الإسكندر - كما يتهمه بعضهم - أن يضم هذه الإمارات كلها في مملكة واحدة يحكمها ابنه. ولكنه لم يكن يفكر جدياً في هذا العمل، ذلك أنه كان يدرك بلا ريب أن خلفاءه لن يسكتوا، وأن الدول الإيطالية لن تسكت، زمناً طويلاً على هذا الاغتصاب الذي هو أشد مخالفة للقانون، وأكثر بغضاً لهم، من أي حكم يراد أن يحل محله. وربما كان سيزاري نفسه يحلم ببلوغ هذه الغاية؛ وكان مكفيلي يرجو تحقيقها، ويسره أن يرى يداً قوية مثل يد سيزاري توحد إيطاليا وتخرج مها جميع الغزاة؛ غير أن سيزاري نفسه ظل حتى آخر أيام حياته يعلن أنه لا غاية له غير أن يسترد ولايات الكنيسة للكنيسة، وأنه يقنع بأن يكون حاكماً على رومانيا Romagna من قبل البابا (61).
وزحف سيزاري على رأس جيشه في شهر يناير من عام 1500 على فورلي بعد أن اجتاز جبال الأبنين؛ وسلمت إمولا من فورها لمندوبه، وفتح أهل فورلي أبوابها ترحيباً به، ولكن كترينا اسفوردسا فعلت ما فعلته قبل اثني عشر عاماً من ذلك الوقت فامتنعت هي وحاميتها في القلعة ودافعت عنها دفاع الأبطال. وعرض عليها سيزاري شروطاً سهلة، ولكنها آثرت أن تقاتل، واستطاعت القوات البابوية بعد حصار قصير أن تقتحم القلعة وتعمل السيف في رقاب المدافعين عنها. وأرسلت كترينا إلى روما، واستضيفت ضيفة لا ترغب فيها في جناح بلفدير بقصر الفاتيكان، وأبت أن تنزل عن حقها في حكم فورلي وإمولا، حاولت الفرار، فنقلت إلى سانت أنجيلو؛ ثم أطلقت سراحها بعد ثمانية عشر شهراً، وآولت إلى دير للنسا. وكانت امرأة باسلة، ولكنها كانت سليطة صخابة (62)، وحاكمة(20/107)
إقطاعية من أسوأ طراز، وكان رعاياها وغيرهم من أهل رومانيا Romagna يرون أن قيصر منتقم بعثه الله ليطهر البلاد من الظلم والاستبداد اللذين داموا عصوراً طوالاً" (63).
ولكن انتصار سيزاري الأول كان قصير الأجل، فقد تمرد جنوده الأجانب لأنه لم يجد ما يكفي من المال لأداء أجورهم، وما كاد يسترضيهم، حتى استدعى لويس الثاني عشر الفرقة الفرنسية لتساعده على استرداد ميلان التي استعادها لدوفيكو من وقت قريب. وسار سيزاري على رأس الباقين من جنوده إلى روما، واستقبل فيها استقبالاً لا يكاد يقل مهابة عن استقبال القواد الرومان المنتصرين. وابتهج الإسكندر بانتصار ابنه، وفي ذلك يقول سفير البندقية: "إن البابا أكثر ابتهاجاً مما رأيته في أي وقت من الأوقات" (64). وعين سيزاري نائباً عن البابا في المدن المفتوحة، وشرع من ذلك الحين يدفعه الحب الشديد إلى قبول نصائح ولده؛ وامتلأت خزائنه بالأموال التي جمعها من عيد روما ومن بيع مناصب للكرادلة، واستطاع سيزاري بفضلها أن يضع خطة حملة أخرى. وكان أول ما عمله أن عرض مبلغاً مغرياً من المال على باولو أرسيني ليقنعه بأن ينضم هو ورجاله إلى القوات البابوية؛ وجاء باولو كما جاء على أثره عدد آخر من النبلاء. وبهذه الضربة الماهرة قوى سيزاري جيشه، وحمى روما من غارات البارونات أثناء غياب الجيوش البابوية وراء الابنين. ولعل هذه المغريات نفسها، وما بذله لمناصريه من وعود بالغنائم هي التي ضمن بها خدمات جيان بولو بجليوني سيد بورجيا وجنوده، واستخدم بها فيتيلتسو فيتلي Vitelozzo Vitolli ليقود مدفعيته. وبعث إليه لويس الثاني عشر بلواء صغير من حملة الرماح، ولكن سيزاري لم يعد يعتمد على الإمدادات الفرنسية. فلما تم له هذا الاستعداد هاجم في سبتمبر من عام 1500 بتحريض الإسكندر القصور التي يحتلها آل كولنا وسفلى المعادين له في لاتيوم.(20/108)
واستسلمت له هذه القصور الحصينة واحداً بعد واحد، وسرعان ما كان في مقدور الإسكندر أن يطوف وهو آمن طواف المنتصر بالأقاليم التي فقدتها البابوية من زمن طويل؛ واستقبل في كل مكان بالترحاب من الشعب (65)، لأن رعايا البارونات الإقطاعيين لم يكونوا يحبونهم.
ولمّا بدأ سيزاري حملته الكبرى الثانية (أكتوبر عام 1500) كان تحت إمرته جيش مؤلف من 14. 000 جندي، ومعه حاشية من الشعراء، وكبار رجال الدين، والعاهرات لخدمة جنوده. وعرف بنيلفو مالاتستا أنهم زاحفون على ريميني فأخلاها قبل ووصلهم إليها، وفر جيوفني اسفوردسا من بيزارو، ورحبت المدينتان بمقدم سيزاري وعدتاه محرراً لهما، لكن استوري مانفريدي قاومه في فائندسا، وأيده أهلها بإخلاص ولاء؛ وعرض عليه بورجيا شروطاً للتسليم كريمة رفضها منفريدي؛ ودام حصار المدينة طوال الشتاء، ثم استسلمت فائندسا آخر الأمر بعد أن وعدها سيزاري بأن يكون رحيماً بأهلها جميعاً. وكان مسلكه مع أهلها بعد استسلامها حسناً، وأثنى على منفريدي ودفاعه القوي ثناءً مستطاباً أحبه من أجله - كما يبدو - القائد المهزوم ولبث معه ضمن حاشيته أو أركان حربه. وفعل هذا الفعل نفسه أخر أصغر لأستوري، وإن كان هو ومنفريدي قد أجيز لهما أن يذهبا إلى حيث شاء (66)، وظلا شهرين يسيران في ركاب سيزاري في جميع تجواله، ويعاملان معاملة إجلال ولكنهما ما أن وصلا إلى روما حتى زج بهما فجأة في قصر سانت أنجيلو الحصين، حيث بقيا عاماً كاملاً، حتى إذا كان اليوم الثاني من شهر يونيه سنة 1502 قذفت مياه نهر التيبر بجثتيهما على الشاطئ. ولسنا نعرف السبب الذي من أجله قتلهما سيزاري أو الإسكندر، وستظل هذه الحادثة كغيرها من الحوادث الكثيرة التي تبلغ المائة عدا من الأسرار الغامضة التي لا يسبر غورها إلاّ العارفون.
وأخذ سيزاري بعد أن أضاف "رومانيا" إلى ألقابه يدرس الخريطة، وقرر بعد دراستها أن يتم الواجب الذي عهد به إليه أبوه. وكان(20/109)
قد بقى عليه أن يستولي على كينو وأربينو. ولا شك في أن أربينو كانت بابوية في شرائعها، ولكنها كانت دولة نموذجية من جهة النظر السياسية في تلك الأيام؛ وبدا أن من العار أن يخلع عن عرشها شخصان محبوبان مثل جويدويلو وإلزبتا، ولعلهما في هذه الأيام الأخيرة كان يقبلان أن يكونا نائبين عن البابا بالاسم وبالفعل معاً. ولكن سيزاري كان يدعى أن تلك المدينة تسد أسهل طريق له إلى البحر الأدريادي، وأن في مقدورها إذا وقعت في أيد معادية له أن تقطع عليه سبل الاتصال مع سيزارو وريمني. ولسنا نعرف هل وافق الإسكندر على هذه الحجج؛ ويبدو أن ذلك بعيد احتمال، لأنه أقنع جويدويلدو في ذلك الوقت بأن يعير جيش البابوية مدافعه (67). وأقرب من هذا إلى العقل أن سيزاري خدع أباه، أو بدل خططه. وسواء كان هذا أو ذات فإنه بدأ حملته الثالثة في الثاني عشر من يونيه عام 1502 وبصحبته ليوناردو دافنشي كبيراً لمهندسيه؛ وكان متجهاً في الظاهر نحو كميرينو Camerino. لكنه بدل خطته على حين غفلة، فاتجه نحو الشمال، واقترب من أربينو بسرعة لم يجد معها حاكمها المريض متعساً من الوقت للعرب إلاّ بشق الأنفس. وترك هذا الحاكم المدينة تسقط في يدي سيزاري دون أن تدافع عن نفسها (21 يونيه). وإذا كان هذا الفتح قد تم بعلم الإسكندر وموافقته، فإنه يكون من أدنأ أنواع الغدر وأوجبها للاحتقار في التاريخ، وإن كان مكفيلي يبتهج بما ينطوي عليه من مكر ودهاء. وعامل المنتصر أهل المدينة برقة شبيهة برقة السنانير، ولكنه استحوذ على ما كان للدوق المغلوب من مجموعات فنية ثمينة وباعها ليؤدي بها رواتب جنده.
واستولى قائده فيتيلي Vitelii في هذه الأثناء على أردسو التي كانت تابعة لفلورنس من زمن طويل، ويبدو أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه وعلى مسئوليته. وارتاع مجلس السيادة فأرسل أسقف فلتيرا، ومعه مكفيلي، ليستغيث بسيزاري في أربينو. واستقبلهم القائد بلطف كان له(20/110)
الفضل في بلوغه ما يصبو إليه. فقد قال بهم: "إني لم آت إلى هنا لأكون طاغيةً مستبداً، بل جئت لأقضي على الطغاة المستبدين" (68). ووافق على أن يمنع زحف فيتيلي، وأن يعيد أردسو إلى طاعة فلورنس، وطلب في نظير هذا ان توضع سياسة محددة المعالم للصداقة المتبادلة بينه وبين فلورنس. وظل الأسقف أنه مخلص في قوله، وكتب مكفيلي إلى مجلس السادة بحماسة غير دبلوماسية يقول:
إن هذا السيد جليل عظيم، وإنه ليبلغ من الجرأة حداً يبدو معه كل مشروع مهما عظم شأنه صغيراً في عينه. وهو يحرم نفسه من الراحة ليظفر بالمجد ويستحوذ على الأمصار، ولا يجد الخطر ولا التعب سبيلاً إلى نفسه. وهو يصل إلى المكان الذي يريده قبل أن يدرك الناس من نواياه؛ وهو يكسب محبة جنوده، وقد اختارهم من أحسن الناس في إيطاليا. وأدى هذا كله إلى نصره وقوته، وساعده على ذلك حظه الموفق على الدوام" (69).
وسلمت كميرينو في 20 يوليه إلى قواد سيزاري، وعادت الولايات البابوية بابوية كما كانت من قبل. وحكمها سيزاري بنفسه أو على أيدي نوابه حكماً صالحاً يبرر ما كان يدعيه من أنه تل عروش الطغاة؛ وبلغ من ذلك أن هذه المدن كلها، إذا استثنينا منها أربينو فائندسا، حزنت لسقوطه (70). وسمع سيزاري أن جيان فرنتشسيسكو جندساجا (أخا إلزبتا وزوج إزبلا) ذهب هو وجماعة من الأشخاص البارزين إلى ميلان ليستعدوا عليه لويس الثاني عشر، فأسرع باختراق إيطاليا، وواجه أعداءه، ولم يلبث أن استعاد رضا الملك (أغسطس سنة 1502). ومما هو جدير بالملاحظة أن يجمع أسقف، ومليك، ودبلوماسي اشتهر يجمع هؤلاء على الإعجاب بسيزاري ويؤمنوا بعدالة مسلكه وأهدافه.(20/111)
لكن إيطاليا كانت مع ذلك لا تخلو من رجال في أماكن مختلفة منها يتمنون سقوطه. فالبندقية مثلاً، وإن كانت قد منحته مواطنيتها الفخرية، لم يكن يسرها أن تعود الولايات البابوية قوية كما كانت من قبل، وأن تسيطر على جزء كبير من شاطئ البحر الأدريادي. وامتعضت فلورنس وهي تفكر أن فورلي التي لا تبعد عن أرضها أكثر من ثمانية أميال كانت في يدي شاب عبقري في شئون السياسة والحرب مجرد من الضمير ولا يحسب حساباً للعواقب. وعرضت بيزا عليه أن يتولى أمرها؛ فرفض هذا العرض في أدب؛ ولكن من يدري، فقد يبدل خطته كما بدلها وهو في طريقه لكميرينو. وربما كانت الهدايا التي بعثت بها إزبلا له ستاراً يخفي ما تشعر به هي ومانتوا من استياء لاغتصابه أربينو. ولقد خربت انتصاراته بيوت آل كولنا وسافلي، وكذلك آل أرسيني وإن لم يصب هؤلاء ما أصاب بيوت الأسرتين الأوليين، وكانوا جميعاً يترقبون الساعة التي يستطيعون فيها أن يكونوا حلفاً معادياً له. ولم يكن "أحسن رجاله"، الذين قادوا فيالقه ونالوا له النصر، واثقين من أن خطوته التالية لن تكون هي الهجوم على بلادهم هم أنفسهم، ومنها ما كانت تطالب به الكنيسة. وكان جيان بولو بجليوني ترتعد فرائصه فرقاً من استحواذ سيزاري على بورجيا، كما كانت ترتعد فرائص جيوفني بنتيفجليو لحكمه بولونيا؛ وكان باولو أرسيني، وفرانتشيسكو أرسيني، ودوق جرافيو يتساءلون كم من الزمن يمضي قبل أن يفعل سيزاري بآل أرسيني ما فعله بآل كولنا. وقد ثارت ثائرة فيتيلي بعد أن اضطر إلى التخلي عن أردسو، فدعا هؤلاء ومعهم ألفيرتو Oliveretto صاحب فرمو ويندلفو بيتروتشي صاحب سينا وممثلين لجويدوبلدو للاجتماع في لامجيوني La Mageone على بحيرة تراز ميني Lake Trasimeen ( سبتمبر سنة 1502). واتفقوا في هذا الاجتماع على أن يوجهوا جيوشهم ضد(20/112)
سيزار ي فيقبضوا عليه، ويخلعوه، ويقضوا على حكمه في رومانيا وأقاليم التخوم، ويعيدوا الأمراء الذين تلت عروشهم. وكانت هذه مؤامرة قوية واسعة النطاق، لو أنها نجحت لكانت سبباً في القضاء على الخطط التي أحسن تدبيرها الإسكندر وولده.
وبدأت المؤامرة بسلسة من الانتصارات الباهرة. فقد نظمت الفتن في أربينو وكميرينو واستعين على تنظيمها بأهل المدينتين، وطردت الحاميات البابوية منهما، وعاد جويدوبلدو إلى قصره (18 أكتوبر سنة 1502)؛ ورفع الأمراء الساقطون رؤوسهم في كل مكان، وأخذوا يضعون الخطط لاستعادة ما كان لهم من سلطان. ووجد سيزاري فجاءة أن قواده يعصون أوامره، وأن قواه قد نقصت إلى حد يستحيل عليه معه أن يحتفظ بفتوحه، واسعفه الحظ في هذه الأزمة فمات الكردنال فيراري Ferrari، وأسرع الإسكندر فاستولى على الخمسين ألفاً من الدوقات التي تركها وراءه، وباع بعض المناصب التي كان الكردنال يتولاها، وأعطى ما حصل عليه إلى سيزاري، فبادر هذا بتجييش جيش جديد قوامة ستة آلاف جندي. وأخذ الإسكندر في ذلك الوقت يتفاوض وحده مع المتآمرين، وبذل لهم وعوداً سخية، ورد الكثيرين منهم إلى طاعته، فلم ينته شهر أكتوبر حتى عقدوا جميعهم الصلح مع سيزاري. وكان هذا عملاُ دبلوماسياً رائعاً مدهشاً؛ وقبل سيزاري معذرتهم بصمت المتشكك المرتاب، ولم يفته أن يلاحظ أن آل أرسيني لا يزالون يستولون على حصون دوقية أربينو وإن كان جويدوبلدو قد فر منها مرة أخرى.
وفي شهر ديسمبر حاصر قواد سيزاري تنفيذاً لأمره بلدة سنجاليا القائمة على البحر الأدرياوي، وسرعان ما استسلمت المدينة، ولكن قائد الحصن أبى أن يسلمه إلاّ لسيزاري نفسه، فأرسل رسولاّ إلى الدوق في سيسينا، فاستحث الخطى بإزاء الساحل ومن ورائه ثمانمائة من أشد جنوده إخلاصاً له.(20/113)
فلما بلغ سنجاليا حيا زعماء المؤامرة الأربعة - فيتيدلدسو فيتلي، وباولو، وفرانتشيسكو أرسيني، وألفرتو - تحية طيبة في الظاهر، ودعاهم إلى مؤتمر يعقدونها معه في قصر الحاكم؛ فما جاءوا أمر بالقبض عليهم، وأمر في تلك الليلة نفسها (31 ديسمبر سنة 1502) بخنق فيتلي وألفرتو. أما باولو وفرانتشيسكو أرسيني فقد أودعا السجن حتى يفاوض سيزاري أباه في شأنهما؛ ويبدو أن آراء الإسكندر كانت تتفق مع آراء ولده؛ وفي اليوم الثامن عشر من يناير أعدم الرجلان.
وازدهى سيزاري بضربته الحاذقة في سنجاليا؛ فقد كان يظن أن من حقه على إيطاليا أن تشكره إذ أنجاها بهذه الوسيلة الطريفة من أربعة رجال لم يكتفوا بأن يكونوا إقطاعيين مغتصبين لأراضي الكنيسة، بل كانوا فوق ذلك مستبدين رجعيين ظالمين لرعاياهم الضعفاء المساكين. ولربما أحس بقليل من وخز الضمير لأنه اعتذر عن فعلته لمكيفلي بقوله: "إن من الخير أن نقتنص الذين أثبتوا براعتهم في اقتناص غيرهم" (72). ووافقه مكيفلي على هذا أتم الموافقة؛ وكان في ذلك الوقت يرى أن سيزاري أعظم الناس بسالة وحكمة في إيطاليا كلها. ويرى باولو جيوفيو paolo Giovio، المؤرخ والأسقف، في القضاء على المتآمرين الأربعة "حيلة من أظرف الحيل" (73). وأرادت إزبلا دست أن تضمن لنفسها النجاة فأرسلت تهنئ سيزاري على فعلته، كما أرسلت إليه مائة قناع يتسلى بها "بعد كفاحه وتعبه في هذه الحملة المجيدة"، وأثنى لويس الثاني عشر على هذه الضربة ووصفها بأنها "عملاً خليقاً بأيام روما المجيدة (74) ".
وكان في وسع الإسكندر وقتئذ أن يعبر عن غضبه الشديد من المؤامرة التي دبرت ضد ولده، ومن المدن التي استردتها الكنيسة، فادعى أن لديه من الأدلة ما يثبت أن الكردنال أرسليني قد ائتمر مع أقاربه لاغتيال سيزاري (75)، ثم أمر باعتقال الكردنال وطائفة أخرى من المشتبه فيهم(20/114)
(3 يناير سنة 1503)، واستولى على قصره وصادر كل أملاكه. وقضى الكردنال نحبه في السجن في الثاني والعشرين من فبراير، ولعل موته كان بسبب اهتياج أعصابه وانهيار قواه، وإن كانت روما تقول إن البابا قد سمه.
وأشار الإسكندر على سيزاري أن يستأصل شأفة آل أرسيني بأجمعهم من روما وكمبانيا؛ لكن سيزاري لم يكن مثله شديد الرغبة في هذا العمل، ولعله هو أيضاً كان منهوك القوى؛ فأجل عودته إلى العاصمة بعض الوقت، ثم شرع على كره منه (76) في محاصرة حصن جيوليو أرسيني الحصين في تشيري Ceri (14 مارس من عام 1503). واستخدم في هذا الحصار - ولعله استخدم في غيره أيضاً - بعض الآلات الحربية التي اخترعها ليوناردو. ومن هذه الآلات برج متحرك يتسع لثلاثمائة رجل، ويمكن رفعه إلى أعلى أسوار العدو (77). واستسلم جويليو، ورافق سيزاري إلى الفاتيكان يطلب إليها الصلح؛ وارتضى الإسكندر أن يصطلح على شرط أن ينزل آل أرسيني عن جميع قلاعهم في الأملاك البابوية؛ وقبل جويليو هذا الشرط. وكانت بروجيا وفيمو قد قبلتا في هدوء حاكمين عليهما بعث بهما سيزاري. ولم تكن بولونيا قد استردت بعد، لكن فيرارا ارتضت مسرورة أن تكون لكريدسيا دوقة لها. وإذا استثنينا هاتين الإمارتين الكبيرتين - وهما اللتان شغلتا خلفاء الإسكندر - استطعنا أن نقول إن البابوية استردت أملاكها بتمامها، وبهذا وجد سيزاري بورجيا نفسه وهو في الثامنة والعشرين من عمره يحكم مملكة لا يضارعها من حيث اتساع رقعتها في شبه الجزيرة إلاّ مملكة نابلي؛ وأجمع الناس كلهم على أنه أقوى رجال إيطاليا وأعلاهم شأناً.
وظل بعدئذ وقتاً ما هادئاً هدوءاً غير معتاد في الفاتيكان. ولقد كنا نتوقع أن يرسل في ذلك الوقت في طلب زوجته، ولكنه لم يفعل. وكان قد تركها في فرنسا عند اسرتها، وكانت قد ولدت له طفلاً في أثناء غيابه(20/115)
في الحرب؛ وكان يكتب إليها ويرسل لها الهدايا أحياناً، ولكنه لم يرها بعد قط. وعاشت دوقة فالنتنوا عيشة متوسطة منعزلة في بورج Bourge أو في قصر لاموت في La Motte feuilly في الدوفينيه؛ يداعبها الأمل في أن يبعث في طلبها أو أن يأتي هو إليها. ولمّا أن نكب وتخلى عنه من حوله حاولت أن تذهب هي إليه، ولمّا مات علقت الستر السوداء على بيتها، وظلت تلبس ثياب الحزن عليه حتى توفيت. ولعله كان يبعث في طلبها فيما بعد لو أنه أتيحت له فترة من السلم دامت أكثر من بضعة أشهر، وأكثر من هذا احتمالاً أنه لم يكن ينظر إلى زواجه بها إلاّ على أنه صفقة سياسية لا أكثر، وأنه لم يكن يشعر نحوها بشيء من الحنان. ويبدو أنه لم يكن بفطرته حنوناً إلاّ بقدر معتدل، وأنه كان يحتفظ بهذا القدر للكريدسيا التي كان يحبها حباً هو كل ما يستطيع أن يحب به امرأة. وشاهد ذلك أنه وهو يسرع من أربينو إلى ميلان مع لويس الثاني عشر ليخادع بذلك أعداءه، خرج عن خط سيره ليزور أخته في فيرارا وكانت وقتئذ في أشد حالات المرض. ووقف عند فيرارا مرة أخرى وهو عائد من ميلان، واحتضنها بين ذراعيه، بينما كان الأطباء يحجمونها، وبقى معها حتى زال عنها الخطر (78). وجملة القول أن سيزاري لم يكن قد خلق للزواج؛ وكانت له عشيقاته، ولكن عشقه لم يدم لأيهن طويلاً؛ وسبب ذلك أن حرصه على السلطان كان يستنفذ كل جهوده، فلا يترك لأية امرأة مكاناً تنفذ منه إلى نفسه وتستولي على عواطفه.
ولمّا كان في روما كان يعيش معيشة العزلة، ويكاد يكون مختفياً عن الناس؛ وكان يقضي الليل في العمل وقلما كان يراه أحد بالنهار. ولكنه كان يشتغل بجد حتى في الوقت الذي يبدو أنه يستريح فيه من عناء الأعمال؛ وكان يفرض رقابة شديدة على عماله في الولايات البابوية، ويعاقب من يسيئون استخدام سلطتهم، وأمر بإعدام واحد منهم لقسوته(20/116)
واستغلاله نفوذه؛ وكان على الدوام يجد من الناس من يحتاجون إلى أن يعلمهم كيف يحكمون رومانيا أو يحافظون على النظام في روما. وكان الذين يعرفونه يقدرون ذكاءه، وقدرته على أن ينفذ مباشرة للب الموضوع الذي يعالجه، واغتنامه كل فرصة تتيحها له الظروف وإقدامه على العمل السريع الحاسم المثمر. وكان محبوباً من جنده، لأنهم كانوا يعجبون في السر بنظامه الذي ينجيهم من المهالك بقسوته: وكانوا يوافقون كل الموافقة على كل ما يلجأ إليه من الرشا، وأساليب المكر والخداع التي قلل بها من عدد أعدائه وأضعف بها عنادهم، وأنقص من عدد المعارك الحربية التي خاضها جنوده وعدد قتلاهم فيما خاضوه منها (79). وكان الدبلوماسيون يغصبون إذ يجدون أن هذا القائد الشاب السريع الحركة الذي لا يهاب الردى يفوقهم في القدرة على التفكير والمحاجة والدهاء، وأن في مقدوره إذا دعت الحاجة أن يكون مثلهم في الكياسة والفصاحة والفتنة.
وقد جعلته نزعته إلى السرية هدفاً سهلاً للهجائين في إيطاليا، وللشائعات الوقحة التي كان في وسع السفراء المعادين أو الأشراف الساقطين أن يخترعوها عنه أو ينشروها. وليس في استطاعتنا الآن أن نميز الحقيقة من الخيال في هذه التهم الفظيعة. ومن هذه الأقوال الواسعة الانتشار أنه كان من عادة الإسكندر وولده أن يعتقلا الأغنياء من رجال الكنيسة لتهم تذاع عنهم، ثم يطلقاهم إذا أدوا مبالغ كبيرة من المال فدية أو غرامة. فقد قيل مثلاً إن أسقف تشيوينا سجن في قلعة سانت أنجيلو بدعوى أنه ارتكب جريمة لم تذع حقيقتها، ثم أطلق سراحه بعد أن دفع للبابا عشرة آلاف دوقة (81).
وليس في وسعنا أن نقول أهذه عدالة أم لصوصية؛ ولكننا إنصافاً للإسكندر يجب ألاّ ننسى أنه كان من عادة المحاكم الكنسية والمدنية في(20/117)
تلك الأيام أن تحم في الجرائم بغرامات كبيرة تؤدى للمحكمة بدل السجن الذي يكلف الدولة نفقات باهظة. ويقول جوستنياني سفير البندقية وفيتوربو سوديرني سفير فلورنس إن اليهود كثيراً ما كانوا يعتقلون متهمين بالإلحاد، وإن الطريقة الوحيدة التي يستطيعون بها إثبات إيمانهم هي أداء مبالغ ضخمة للخزانة البابوية (82). وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن روما اشتهرت في تلك الأيام بحسن معاملة اليهود، ولم يكن أي يهودي يعد من الملاحدة، أو يقدم لمحكمة التفتيش لأنه يهودي.
وتتهم كثير من الشائعات آل بورجيا بتسميم الكرادلة لتعجل بعودة ضياعهم إلى الكنيسة. وخيّل إلى الناس أن بعض هذه الحوادث ثابت صحيح - يؤيد صحته التواتر لا البراهين - ولذلك ظل المؤرخون البرتستنت بوجه عام يصدقونه حتى زمن يعقوب بركها ردت (1818 - 1897) الفطن الأريب (83)؛ وكان باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي يعتقد أن "من الأمور المرجحة كل الترجيع أن سيزاري سم ميشيل ليحصل بذلك على ما يريده من المال" (84). وقد بنى حكمه هذا على أن مساعد شماس في عهد يوليوس الثاني (وهو الشديد العداء للإسكندر) يدعى أكوينو دا كلوريدو Aquino da Colloredo أقر بعد أن عذب أنه سم الكردنال ميشيل بتحريض الإسكندر وسيزاري (85). وقد يعذر مؤرخ في القرن العشرين إذا شك في اعترافات تنتزع من صاحبها بالتعذيب؛ ولقد أثبت إحصائي مغامر أن نسبة الوفيات بين الكرادلة لم تكن في أيام الإسكندر أعلى منها في العهود السابقة له أو اللاحقة (86)؛ ولكن الذي لا شك فيه أن روما كانت في الثلاث السنين الأخيرة من حكمه ترى أن أشد الأخطار أن يكون الرجل كردنالاً وغنياً (87). وقد كتبت إزبلا دست إلى زوجها تحذره بأن يكون حريصاً كل الحرص فيما يقوله عن سيزاري لأنه " لا يتردد مطلقاً في أن يدبر المؤامرات للقضاء على ذوي قرباه" (88). والظاهر أنها(20/118)
صدقت القصة التي تروى عن قتله دوق غنديا. وكان الثرثارون من أهل روما يتحدثون عن سم بطيء المفعول يسمونه الكنتريلا Cantarela أهم عناصره الزرنيخ، ويقولون إنه إذا وضع مسحوقه في الطعام أو الشراب - وحتى في نبيذ العشاء الرباني نفسه - فإنه يحدث موتاً بطيئاً يصعب تبع سببه. غير أن المؤرخين في هذه الأيام يرفضون بوجه عام ما يروى من القصص عن الموت البطيء في أيام النهضة ويرون أنها من خلق الخيال، وإن كانوا يعتقدون أن آل بورجيا في حالة أو حالتين قد سموا بعض الكرادلة الأغنياء" (89) (1). وقد تؤدى البحوث في مستقبل الأيام إلى تكذيب هذه الحالات بأجمعها.
ورويت قصص شر من هذه عن سيزاري. منها واحدة تؤكد لنا أنه أراد مرة أن يسلي الإسكندر ولكريدسيا فأطلق في فناء عدداً من المسجونين حكم عليهم بالإعدام، ثم وقف هو في مكان أمين وأظهر حذقه في الرماية بإطلاق سهام قاتلة عليهم واحداً بعد واحد بينما كانوا هم يبحثون عن عاصم لهم من سهامه (90). والمصدر الوحيد لهذه القصة هو كابيلو مندوب البندقية: ونحن في هذه الحال بين اثنتين، فإما أن السياسي كاذب في قوله وإما أن سيزاري قد أتى هذا الأمر حقاً، ولكن أول الفرضين أرجح في رأينا من ثانيهما.
أما أبعد فضائع آل بورجيا عن العقل فهي التي تظهر في يوميات بيركهارد Burchard رئيس التشريفات في عهد الإسكندر، وهي يوميات
_________
(1) يميل الباحثون بوجه عام إلى تبرئته من أفظع ما يرمى به من التهم الأخلاقية، وإن كانوا ينبذون جميع المحاولات الباطلة التي يراد بها إظهار الإسكندر في صورة المثل الأعلى للبابوات. وتبقى بعد هذا تهمة التسميم السري بسبب جشعه المالي، وهي تهمة يبدو أنها ثابتة، أو قريبة من الثبات، في حالة واحدة لا أكثر، ولكن هذه الحالة قد يستدل منها على أن حالات أخرى صحيحة. "تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History المجلد أول، ص 242".(20/119)
يوثق بها عادة. ففيها نجد تحت تاريخ 10 أكتوبر من عام 1501 وصفاً لعشاء في جناح سيزاري يورجيا في قصر الفاتيكان، أخذت فيه العاهرات العاريات يجرين وراء عدد من الكستناءات نثرت على الأرض والإسكندر ولكريدسيا ينظران إليهن (91). وتظهر هذه القصة أيضاً في أقوال المؤرخ البروجي ماتارتسو الذي ينقلها عن بركهارد (لأن اليوميات كانت لا تزال سراً مكنوناً) بل أخذها عن الشائعات التي انتشرت من روما في أنحاء إيطاليا ويقول: "إن هذا كان معروفاً في طول البلاد وعرضها" (92). فإذا كان هذا صحيحاً فإن من العجيب ألاّ يرد له ذكر في تقرير سفير فيرارا، وقد كان وقتئذ في روما، وعهد إليه فيما بعد أن يفحص عن اخلاق لكيدسيا، وهل تليق بأن تتزوج ألفنسوا ابن الدوق إركولي. بل إن هذا السفير قد أثنى عليها أعظم الثناء في تقريره هذا (كما نرى ذلك بعد)؛ فإمّا أن يكون الإسكندر قد رشاه وإمّا أنه لم يلتفت إلى الشائعات التي لا يقوم عليها الدليل. ولكن ترى كيف وصلت هذه القصة إلى يوميات بركهارد؟ فهو لا يدّعي أنه كان من الحاضرين في هذا المجلس، ومن أبعد الأشياء أن يكون من حاضريه لأنه كان من ذوي الأخلاق القويمة. وهو لا يضمن مذكراته عادة إلاّ ما يشهده من الحوادث، أو ما ينقل إليه مؤيداً بالدليل. ترى هل أقحمت القصة إقحاماً في المخطوط؟ إن كل ما بقى من المخطوط الأصلي لا يزيد على ست وعشرين صفحة تبحث كلها في أحوال الفترة التي أعقبت مرض الإسكندر الأخير. أما ما بقى من اليوميات فإنه لا توجد منه إل نسخ منقولة عنها، وكل هذه النسخ تذكر القصة، ولربما كانت قد دسها فيها كاتب معاد ظن أنه يستطيع تفكهة التاريخ الجاف بقصة من القصص الطريفة، أو لعل بركهارد قد أجاز مرة للشائعات أن تتسرب إلى مذكراته، أو لعل النسخة الأصلية قد نبهت إلى أن هذه القصة من الشائعات لا أكثر، وأكبر الظن أن هذه القصة تعتمد على مأدبة أقيمت فعلاً، وأن الزخرف المكفهر قد أضافه إليها الحقد أو الخيال. وقد كتب(20/120)
فرنتشيسكو بيي سفير فلورنس، وهو الذي كان على الدوام من أعداء آل بورجيا لأن فلورنس كانت في جميع الأوقات على خلاف معهم، كتب في غداة هذا الحادث يقول: إن البابا ظل يسير إلى ساعة متأخرة من الليلة السابقة في جناح سيزاري، وأنه كان في هذا الجناح "رقص وضحك" (93). ولم يرد في قوله هذا ذكر للعاهرات. وليس من المعقول أن يخاطر البابا، الذي كان يبذل غاية الجهد ليزوج ابنته من وارث دوقية فيرارا، بإفساد سعيه في هذا الزواج وفي عقد حلف دبلوماسي جليل الخطر بالنسبة له، وذلك بأن يسمح للكريدسيا بأن تشهد مثل هذا المنظر (94).
ولننتقل الآن إلى لكريدسيا نفسها.(20/121)
الفصل الخامس
لكريدسيا
1480 - 1519
كان الإسكندر يعجب بولده، ولعله كان يخافه، ولكنه كان يحب ابنته بكل ما في الطبيعة البشرية من عاطفة قوية. ويبدو أنه كان يجد في جمالها المتوسط، وفي شعرها الذهبي الطويل (الذي بلغ من الثقل حداً يسبب لها الصداع)، وفي قوامها الخفيف المتزن حين ترقص (95)، وفي إخلاصها البنوي له في كل ما عاناه من تحقير وحرمان، نقول يبدو كأنه كان يجد في هذا كله متعة أكثر مما وجده يوماً من الأيام في مفاتن فانتسا أو جويليا. ولم تكن ذات جمال بارع غير معتاد، ولكنها وصفت في أيام شبابها بأنها حلوة الوجه docle ciera؛ وقد احتفظت بهذا "الوجه الحلو" إلى آخر حياتها التقية بين ما كان يحيط بها من فظاظة وانحلال، وفي خلال ما مر بها من مرارة الطلاق، وارتياعها وهي ترى زوجها يقتل، وتقول إنها تكاد ترى مقتلة بعينها. ويدل على احتفاظها به أن ذلك من الأقوال التي تتردد على ألسنة الشعراء في فيرارا.
وتتفق الصورة التي رسمها لها بنتو رتشيو والمحفوظة في جناح آل يورجيا في الفاتيكان مع وصفها لهذا في أيام شبابها.
وذهبت لكريدسيا إلى دير النساء لتتلقى فيه تعليمها كما كانت تذهب إليه كل من تستطع أداء نفقات هذا التعليم من البنات الإيطاليات، وانتقلت في سن غير معروفة من بيت أمها فانتسا إلى بيت دنا أدريانا ميلا، وهي عمة للإسكندر. وفي هذا البيت عقدت صداقة وثيقة دامت طول حياتها مع جويليا فرنيزي Giulia Farnese كنة أدريانا، وعشيقة والدها المزعومة. وقد وهبت لكريدسيا كل ما يستطيع الحظ الطيب أن يهبها إياه ما عدا(20/122)
البنوة الشرعية. ولهذا نشأت في جو من الأنوثة المرحة المبتهجة، وكان الإسكندر سعيداً لسعادتها.
وانتهى هذا الشباب الذي لم يتسرب إليه الهم بالزواج؛ وأكبر الظن أنها لم يسئها قط أن أباها هو الذي اختار لها زوجاً؛ فقد كان هذا هو العادة المألوفة في زواج البنات الإيطاليات؛ ولم يكن لينشأ عن هذا الاختيار من الشقاء أكثر مما ينشأ عن اعتمادنا نحن على الحكمة الكامنة في الاختبار القائم على الحب الغرامي. وكان الإسكندر يرى، كما يرى أي حاكم سواه، أن زواج أبنائه يجب أن يكون سبيلاً لضمان مصالح الدولة، وما من شك في أن هذا أيضاً كان يبدو أمراً معقولاً لا غبار عليه في عيني لكريدسيا. وكانتنابلي وقتئذ عدوة للبابوية، وميلان عدوة لنابلي؛ ولهذا فإن زواجها الأول قيدها وهي في سن الثالثة عشرة بجيوفني اسفوردسا سيد بيزارو، وابن أخي لدفيكو، ونائب حاكمميلان (1493)؛ وكان وقتئذ في سن السادسة والعشرين، وأخذ الإسكندر يشبع حبه الأبوي بتهيئة بيت للزوجين في قصر الكردنال دسينو القريب من الفاتيكان.
ولكن أسفوردسا كان مضطراً إلى الإقامة في بيزارو بعض الوقت، ومن أجل ذلك اصطحب زوجته الشابة معه. وقد ذبلت نضرتها في هذه الشواطئ النائية، بعيدة عن أبيها المغرم بها، ومباهج روما ومتعتها، ولم تنقض على انتقالها إلاّ بضعة أشهر حتى عادت إلى العاصمة. ولحق بها جيوفني فيها فيما بعد، ولكنه ظل بعد عيد الفصح من عام 1497 في بيزارو وبقيت هي في روما. وفي الرابع عشر من شهر يونية طلب إليه الإسكندر أن يفصم عرى الزوجية بحجة أن الزوج عنين - وهي الحجة الوحيدة التي يرى القانون الكنسي أنها تجيز فصم عرى الزواج؛ وآوت لكريدسيا بعدئذ إلى دير النساء لتدفن فيها حزنها أو عارها، أو لتقطع ألسنة الوشاة (96). ثم قتل أخوها دوق غنديا بعد بضعة أيام من ذلك الوقت،(20/123)
وتهامس الفكهون المتظرفون من أهل روما أن مقتله كان بأيدي عملاء اسفوردسا لأنه حاول إغواء لكريدسيا (97). وأنكر زوجها أنه عنين، وأشار إلى أن الإسكندر كان يضاجع ابنته. وعين البابا لجنة، يرأسها اثنان من الكرادلة، لتنظر هل بلغ الزواج غايته، وأقسمت لكريدسيا أنه لم يبلغها، وأكدت اللجنة للإسكندر أنها لا تزال عذراء. وعرض لدفيكو على جيوفني أن يثبت قدرته الجنسية أما لجنة تضم المندوب البابوي في ميلان، ولكن جيوفني رفض هذا العرض، ولسنا نجد مأخذاً عليه في رفضه. بيد أنه وقّع وثيقة رسمية يعترف فيها بأن الزواج لم يبلغ غايته، ورد إلى لكريدسيا بائنتها البالغ قدرها 31. 000 دوقة، وفصمت عروة الزوجية في 20 ديسمبر من عام 1497. وولدت لكريدسيا لزوجيها التاليين أبناء وإن لم تلد أبناء لجيوفني؛ ولكن زوجة اسفوردسا الثالثة ولدت في عام 1505 ولداً يظن أنه ولده (98).
وكان يظن من قبل أن الإسكندر إنما فصم عقدة الزواج، ليستطيع عقد زواج آخر أكثر فائدة سياسية من الزواج الأول. ولكنا لا نجد دليلاً يؤيد هذا الادعاء؛ وأكثر من هذا احتمالاً أن لكريدسيا قد أفصحت عن الحقيقة المحزنة. ولم يشأ الإسكندر أن يبقيها بلا زوج؛ فأخذ يسعى إلى التقرب من نابلي ألد أعداء البابوية؛ وعرض على الملك فدريجو أن يزوج لكريدسيا من دن ألفنسو دوق بستشيجلي Besceglie، وهو ابن نغل لألفنسو الثاني ولي عهد فدريجو. ووافق الملك على هذا العرض، ووقع عقد الخطبة الرسمي (في يونية سنة 1498). وكان وكيل فدريجو في هذا الزواج هو الكردنال اسفوردسا، عم جيوفني مطلق لكريدسيا. وشجع لدفيكو صاحب ميلان فيدريجو على قبول هذه الخطة (99)، ويبدو أن عم جيوفني لم يسئه قط فصم عرى الزوجية الأولى، واحتفل بالزفاف في الفاتيكان في شهر أغسطس التالي.(20/124)
ويسرت لكريدسيا الأمور بأن أحبت زوجها؛ ويسرها فوق ذلك أن تكون له بمنزلة الأم، فقد كانت هي وقتئذ في الثامنة عشرة من عمرها وهو بعد طفل في السابعة عشرة. ولكن كان من سوء حظهما أن يكونا شخصين ذوي شأن في العالم، وأن يكون للسياسة مكان في فراشهما الزوجي. ذلك أن نابلي رفضت أن تقدم زوجة لسيزاري بورجيا فذهب إلى فرنسا يطلب فيها هذه الزوجة (أكتوبر سنة 1498). وتحالف الإسكندر مع لويس الثاني عشر عدو نابلي اللدود؛ وساء بستشيجلي الشاب أن يجد روما تتفاوض مع وكلاء ملك فرنسا، فما كان منه إلاّ أن فر مسرعاً إلى نابلي. وحطم هذا الفرار قلب لكريدسيا؛ وأراد الإسكندر أن يسترضيها، ويجبر قلبها المكلوم فعينها نائبة عنه في اسبليتو (أغسطس عام 1499)؛ وعاد ألفنسو فانضم إليها هناك، وزارهما الإسكندر في نيبي، وطمأن الشاب، وعاد بهما إلى روما؛ وفيها وضعت لكريدسيا ولداً سمى ردريجو باسم أبيها.
ولكن سعادتهما كانت في هذه المرة أيضاً قصيرة الأجل؛ ذلك أن ألفنسو قد امتلأ بغضاً لسيزاري يورجيا، وربما كان سبب ذلك البغض أن ألفنسو نفسه كان متوتر الأعصاب حاد المزاج، أو لعل سببه أن سيزاري يورجيا كان في نظره رمزاً للحلف الفرنسي مع البابوية، وبادله سيزاري بغضاً ببغض وزاد عليه الاحتقار. وحدث في مساء اليوم الخامس عشر من يولية سنة 1500 أن هجم على ألفنسو جماعة من السفاحين المأجورين أثناء خروجه من كنيسة القديس بطرس. وأصيب ألفنسو بعدة جراح، ولكنه استطاع أن يصل إلى بيت كردنال سانتا ماريا في برتيكو. واستدعيت لكريدسيا له فلمّا رأته أغمى عليها، ولكنها سرعان ما أفاقت، وأخذت هي وأخته سانتشيا تعنى به أعظم عناية. وأرسل الإسكندر حرساً مؤلفاً من خمسة عشر رجلاً ليدفع عنه أذى آخر، ونقه ألنسو على مهل؛ وأبصر يوماً ما سيزاري يسير في حديقة قريبة منه، ولم يكن يخالجه أدنى شك في(20/125)
أن هذا هو الرجل الذي استأجر من كانوا يريدون قتله، فأمسك بقوس وسهم وأطلق السهم يريد أن يقتله به. وأخطأ السهم الهدف خطأً يسيراً، ولم يكن سيزاري بالرجل الذي يتيح لعدوه فرصة أخرى، فاستدعى حراسه، وبعث بهم إلى حجرة أفنسو، ويبدو أنه أمرهم بقتله؛ فوضعوا وسادة على وجهه ومازالوا يضغطون بها عليه حتى مات مختنقاً، وبما كان ذلك على مرأى من زوجته وأخته (10). وصدق الإسكندر رواية سيزاري للقصة، وأمر بدفن ألفنسو في غير احتفال وبذل كل ما في وسعه لمواساة لكريدسيا التي كان خطبها أفدح من أن يواسى.
وانزوت لكريدسيا فيبيبي، وهناك كتبت رسائلها المسماة أتعس الأميرات وأمرت بإقامة الصلوات تطلب بها الرحمة لألفنسو. ومن الغريب أن سيزاري زارها في بيبي (أول أكتوبر سنة 1499)؛ ولمّا يمض على موت ألفنسو أكثر من شهرين ونصف شهر، وأنها استضافته طول الليلة. ذلك أن لكريدسيا كانت صبوراً لينة الجانب؛ ويبدو أنها أخذت مقتل زوجها على أنه رد فعل طبيعي من أخيها على محاولة قتله. ويلوح أنها لم تكن تعتقد أن سيزاري هو الذي استأجر السفاحين الذين حاولوا اغتيال ألفنسوا ولم يفلحوا في محاولتهم؛ وإن كان يخيل إلينا أن هذا هو أرجح التفاسير لهذه المأساة التي هي إحدى المآسي الغامضة في عصر النهضة؛ ولقد أظهرت في المدة الباقية من حياتها كثيراً من الشواهد على أن حبها لأخيها لم تمحه جميع هذه المحن. ولعل حبه لها وحب أبيها، اللذين يبلغان من القوة كل ما تستطيع العاطفة الإنسانية الجائشة، هو الذي جعل الفكهين من أهل روما، أو بالأحرى من أهل نابلي (101) المعادية، يتهمونها على الدوام بمضاجعة أبيها وأخيها، حتى لقد وصفها أحد الكتّاب ذلك الوصف الجامع الموجز بأنها: "ابنة البابا، وزوجته، وزوجة ابنه" (102). وصبرت على هذا أيضاً وهي هادئة مستسلمة؛ ولقد أجمع المطلعون الباحثون(20/126)
في هذه الفترة أن هذه كلها اتهامات قاسية لا نصيب لها من الصحة (103)؛ ولكن هذه المطاعن ظلت تدنس اسمها عدة قرون (1).
ولسنا نرجح أن سيزاري قتل ألفنسو ليزوجها من بعده زواجاً أكثر نفعاً من الوجهة السياسية. فقد عرضت بعد فترة الحزن على كبير من أسرة أرسيني، ثم على آخر من أسرة كولنا- وهما زواجان لا يبلغان من الفائدة السياسية مبلغ زواجها من ابن وارث عرش نابلي. ولسنا نسمع بأن الإسكندر عرض على إركولي دوق فيرارا أن يزوجها من ابنه ألفنسو (104)، إلاّ في نوفمبر من عام 1500، كما أننا لم نسمع إلاّ في سبتمبر من عام 1501 أنها خطبت له. ويلوح أن الإسكندر كان يأمل أن فيرارا التي يحكمها زوج ابنته، ومنتوا التي ارتبطت مع فيرارا بالزواج من زمن بعيد ستكونان في واقع الأمر ولايتين بابويتين؛ وأيد سيزاري هذه الخطة لأنها تؤمن له فتوحه أكثر من ذي قبل، وتضع في يده قاعدة طيبة يهجم منها على بولونيا. وتردد إركولي وألفنسو للأسباب التي سبق تفصيلها؛ وكان ألفنسو قد عرضت عليه يد كونتة أنجوليم Angouleme ولكن الإسكندر أضاف إلى عرضه وعداً ببائنة ضخمة، وبما يكاد يكون إلغاءً تاماً للجزية التي كانت فيرارا تعطيها للبابوية. على أن أحداً رغم هذا كله لا يصدق أن أسرة من أقدم الأسر الحاكمة في أوربا، وأعظمها ثراء كان يقبل لكريدسيا زوجة لدوقها المرتقب لو أنها كانت تصدق القصص القذرة التي كان يذيعها سراً الكتّاب النمامون في روما. وإذ لم يكن إركولي أو ألفنسو قد رأيا لكريدسيا حتى ذلك الحين، فإنهما جريا على الخطة المألوفة في مثل هذا الزواج السياسي، وطلبا إلى سفير فيرارا
_________
(1) انظر تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History المجلد الأول ص 239: "لا شيء ابعد عن لكريدسيا الحقيقية من لكريدسيا التي يصفها كتّاب المسرحيات والروايات الغرامية.(20/127)
في روما أن يبعث لهما بتقرير عن شكلها وأخلاقها، وميزاتها. وجاءهم الرد الآتي:
سيدي العظيم: ذهبت اليوم مع دن جيرارد سراتشيني Gerardo Saraceni في زيارة إلى السيدة العظيمة لكريدسيا لنبلغها احترامنا بوصفنا نائبين عن فخامتكم وعن جلالة دن ألفنسو. وتحدثنا إليها طويلاً في مختلف الشئون. وخرجتا من حديثنا معها على أنها غاية في الذكاء والظرف، وأنها سيدة غاية في الرشاقة. والنتيجة التي وصلنا إليها أنك يا صاحب الفخامة ودن ألفنسو العظيم ستسرون منها غاية السرور. فهي فضلاً عن رشاقتها الفائقة في كل شيء، متواضعة، ودودة، مؤدبة؛ وهي إلى هذا كله مسيحية مؤمنة تخاف الله. وستذهب غداً للاعتراف، وستتناول العشاء الرباني في أسبوع عيد الميلاد. وهي في منتهى الجمال، ولكن سحر أدبها وظرفها ليدهشنا أكثر من جمالها؛ وجملة القول أن أخلاقها تنفي عنها كل مظنة "السوء". بل أننا على العكس منن هذا لا نجد فيها إلاّ كل ما هو خليق بالثناء ... روما في 23 ديسمبر سنة 1501.
خادمكم
جوانس لوكاس Joannes Lucas، (105)
واقتنع صاحبا الفخامة والجلالة من آل استنسي وبعثا بطائقة فخمة من الفرسان تصحب العروس من روما إلى فيرارا. وأعد سيزاري بورجيا من عنده مائتي فارس لهذا الغرض عينه، كما أعد طائفة من الموسيقيين والمهرجين لتسليتها في رحلتها الشاقة. ودل الإسكندر على افتخاره وسعادته بأن أمدها بحاشية من 180 شخصاً تضم خمسة أساقفة. وحمل جهازها على عربات صنعت لهذه الرحلة خاصة، وعلى مائة وخمسين بغلاً؛ وكان من هذا الجهاز حلة تبلغ قيمتها 150. 000 دوقة (187500؟ دولار)، وقبعة قيمها عشرة آلاف دوقة، و 200 صدرة كلفت كل(20/128)
واحدة منها مائة دوقة (106). وبدأت لكريدسيا سفرها في اليوم السادس من يناير عام 1502 بعد أن استأذنت سراً من والدتها فائندسا، وعبرت إيطاليا للانضمام إلى طيبها، وأخذ الإسكندر بعد أن ودعها ينتقل في الموكب من مكان إلى مكان، ليلقي عليها نظرة أخرى وهي ممتطية صهوة جوادها الأسباني الصغير المكسو كله بالجلد والذهب، وظل يرقبها حتى اختفت عن الأنظار هي وحاشيتها التي تضم ألف رجل وامرأة، ولعله كان يظن أنه لن يراها مرة أخرى.
وأكبر الظن أن روما لم تشهد قط من قبل مثل هذا الموكب يخرج منها، كما أن فيرارا لم تشهد قط موكباً مثله يدخلها. واستقبل لكريدسيا بعد رحلة دامت سبعة وعشرين يوماً، الدوق إركولي ودن ألفنسو على رأس موكب كبير من الأعيان، والأساتذة، وخمسة وسبعين من الرماة حملة الأقواس، وثمانين من النافخين في الأبواق والمزامير، وأربع عشرة عربة مستوية السطح تحمل سيدات من بنات الأسر الكريمة في ثياب فخمة. ولمّا بلغ الموكب الكنيسة الكبرى نزل من أبراجها رجلان ممن يمشون على الحبال، وقدّما التحية لكريدسيا. ولمّا بلغ الموكب قصر الدوق، أطلق سراح جميع المسجونين؛ وابتهج الشعب بجمال دوقته المقبلة وبسماتها، وسعد ألفنسو بأن كانت له هذه الزوج العظيمة الفاتنة (107).(20/129)
الفصل السادس
انهيار سلطان آل بورجيا
يبدو أن الإسكندر قضى سني حياته الأخيرة سعيداً موفقاً. فقد تزوجت ابنته في أسرة من الأدواق، وكانت فيرارا كلها تجلّها وتعظمها؛ كذلك أنجز ولده ما عهده إليه بوصفه قائداً وحاكماً؛ وكانت الولايات البابوية مزدهرة ذات حكومة ممتازة. ويصف سفير البندقية البابا في تلك السنين بأنه مرح نشيط، يبدو أنه مرتاح الضمير "لا ينغّص عليه حياته شيء". وقد بلغ في أول يناير من عام 1501 سن السبعين ولكنه، كما يصفه السفير: "يخيل إلى من يراه أنه ينقص في السن يوماً عن يوم، " (108).
وحدث في الخامس من شهر أغسطس من عام 1503 أن كان الإسكندر، وسيزاري، وجماعة غريهما يتعشون في الهواء المطلق في بيت الكردنال أدريانو كرنتينو Adriano da Corneto الخلوي غير البعيد عن الفاتيكان، وبقوا جميعاً في حديقة المنزل حتى منتصف الليل لأن حرارة الجو داخل الدار لم تكن تطاق. فلمّا كان اليوم الحادي عشر أصيب الكردنال بحمى شديدة دامت ثلاثة أيام ثم زالت. وفي اليوم الثاني عشر أصيب البابا وولده بحمى وقيء واضطرا لملازمة الفراش. وتحدثت روما كعادتها عن السم وقال النمامون إن سيزاري أمر بدس السم للكردنال ليحصل على ماله، وإن الضيوف كلهم تقريباً أكلوا خطأ من الطعام المسموم. لكن المؤرخين الآن متفقون مع الأطباء الذين عالجوا البابا على أن الحمى هي عدوى من الملاريا سببها طول التعرض لهواء الليل في روما في منتصف الصيف (109). وقد أصيب بهذا المرض نفسه نصف آل بيت(20/130)
البابا، وكان كثير من هذه الإصابات مميتاً (110)، وقد مات بها في روما عدة مئات في ذلك الفصل عينه.
وظل الإسكندر ثلاثة عشر يوماً بين الحياة والموت، يستعيد صحته تارة حتى يستطيع عقد المجالس الدبلوماسية؛ بل حدث في الثالث عشر من أغسطس أن تسلى بلعب الورق. وحجمه الأطباء عدة مرار، ولعلهم قد أخذوا من دمه في إحداها أكثر مما يجب، بحيث استنزفوا قواه الطبيعية. وتوفي البابا في الثامن عشر من أغسطس؛ وما لبثت جثته أن أصبحت سوداء اللون كريهة الرائحة، تؤيد زعم من يشيعون بأنه مات مسموماً. ويقول بركهارد إن النجارين والمجدفين كانوا يتفكهون، ويجدفون وهم يجدون من الصعب عليهم أن يحشروا الجثة المنتفخة في التابوت الذي أعد لها (111). ويضيف الثرثارون أنهم رأوا شيطاناً صغيراً ساعة أن مات الإسكندر يحمل روحه إلى الجحيم (112).
وأبتهج أهل روما لموت البابا الأسباني؛ وانتشر الشغب في المدينة، وطرد "القطلانيون" منها أو قتلوا وهم في طريقهم إلى خارجها، ونهب الغوغاء بيوتهم، وحرق مائة بيت منها. ودخل المدينة جنود آل كولنا وأرسني المسلحون في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من أغسطس غير عابئين باحتجاج مجمع الكرادلة. وفي ذلك يقول جوتشيارديني الوطني الفلورنسي:
"وتجمع أهل روما بسرعة لا يكاد يصدقها الإنسان، وتزاحموا حول جثة الباب في كنيسة القديس بطرس، ولم يكن في مقدورهم أن يشبعوا عيونهم من منظر ذلك الأفعوان الهالك الذي طمس على قلوب العالم كله، وأعمى بصائره بمطامعه التي تجاوزت كل حد، وبغدره البغيض، وما أرتكبه من أعمال القسوة الرهيبة التي لا يحصى لها عدد، وفجوره الوحشي، وعرضه للبيع كل ما هو مقدس وغير مقدس دون تفرقة بين هذا(20/131)
وذاك (113). ويتفق مكيفلي مع جوتشيارديني فيقول إن الإسكندر:
لم يؤثر عنه إلاّ الخداع، وإنه لم يكن يفكر في غير هذا طول حياته كلها، ولم يقسم قط إنسان أيماناً أقوى من أيمانه بإنجاز الوعود ثم ينقض هذه الأيمان فيما بعد، ولكنه مع هذا نجح في كل شيء لأنه كان ملماً كل الإلمام بهذا الجزء من العالم (114).
وقد بينت هذه الأحكام على فرضين أساسيين أولهما أن القصص التي كانت تروى في روما عن الإسكندر صادقة، وثانيهما أن الإسكندر لم يكن محقاً في سلوك السبل التي سلكها لاستعادة الولايات البابوية. ويشترك المؤرخون الكاثوليك في الطعن على أساليب الإسكندر وأخلاقه، وإن كانوا يدافعون عن حقه في استعادة سلطان البابوية الزمني. ومن ذلك ما يقول باستور الأمين:
"إن الناس بوجه عام يصفونها بأنه حيوان لا إنسان، ويلصقون به كل أنواع الجرائم الشنيعة. ولكن البحث النقدي الحديث يحكم عليه حكماً أعدل من هذا، وينفي عنه بعض ما يلصق به من أشنع التهم؛ غير أننا وإن كان م واجبنا أن نكون حذرين في قبول القصص التي يرويها معاصرو الإسكندر عنه دون بحث وتحقيق، وإن كان الفكهون الحاقدون من الرومان قد وجدوا متعة لهم في أكل لحمه ميتاً دون رحمة، فوصفوا حياته في مطاعنهم الشعبية ونكاتهم الشعرية أوصافاً قذرة لا يصدقها إنسان، نقول إنه وإن كان من واجبنا أن نكون حذرين في قبول هذا كله فإن ما ثبت عليه من هذه التهم ليضطرنا إلى رفض ما يبذل في هذا الأيام من محاولات ترمي إلى تبرئته، لأن في هذه المحاولات عبثاً بالحقيقة لا يليق ... ويستحيل علينا من وجهة النظر الكاثوليكية أن نتجاوز الحد اللائق في لوم الإسكندر وتعنيفه.
وكان المؤرخون البروتستنت كراماً في حكمهم إلى الإسكندر، فاصطنعوا(20/132)
معه اللين في بعض الأحيان. فقد كان وليم رسكو William Roscoe من أوائل الذين قالوا كلمة طيبة عن البابا وذلك في كتابه الشهير حياة ليو العاشر وبابوية (1827):
"مهما تكن جرائمه، فإن الذي لا شك فيه إنها قد بولغ فيها كثيراً، فليس ثمة من ينكر أنه قد صرف جهوده في رفع شأن أسرته، وأنه استخدم السلطة التي أسبغها عليه منصبه في فرض سيطرته الدائمة على إيطاليا في شخص ابنه، ولكن يبدو أننا نظلم الإسكندر إذا وصمناه بقسط خاص غير عادي من السفالة والإسفاف في الوقت الذي كان فيه أمراء أوربا كلهم تقريباً يحاولون تحقيق مطامعهم بوسائل لا تقل إجراماً عن وسائله. فينا كان لويس ملك فرنسا، وفرديناند ملك أسبانيا يتآمران للاستيلاء على مملكة نابلي واقتسامها بينهما، ويستخدمان في ذلك أساليب من الغدر لا يمكن أن نوفيها ما تستحقه من المقت واللعنات، فإن للإسكندر بلا ريب أن يظن نفسه محقاً في كبح جماح البارونات المشاكسين، الذين ظلوا أجيالاً طوالاً يمزقون أملاك الكنيسة بالحروب الداخلية، وفي إخضاع صغار الأمراء في رومانيا، وهم الذين كانوا يعترفون له بحق السيادة عليهم، والذين حصل معظمهم على أملاكهم بوسائل لا نجد لها ما يبررها، وهي أبعد عن العدالة من الوسائل التي استخدمها هو ضدهم. أما التهم التي يعتقد بصدقها كثيرون من الناس، وما يعزى إليه من الصلة الإجرامية بينه وبين أخته ... فليس من العسير أن نثبت بعدها عن الصواب. يضاف إلى هذا أن رذائل الإسكندر كان يصحبها، وإن لم يعوضها، كثير من الصفات الطيبة العظيمة التي يجب ألاّ نم بها صامتين في حكمنا على أخلاقه ... وإن أشد الناس عداوة لها لا ينكرون أنه ذو عبقرية فذة، وذاكرة عجيبة، وأنه كان فصيح اللسان، يقظاً، بارعاً في تصريف جميع شئونه (116) ".
وقد أوجز الأسقف كريتن Creighton أخلاق الإسكندر وأعماله(20/133)
بما يتفق بوجه عام مع حكم رسكو عليه، وكان أكثر رأفة به من باستور (117). وثمة حكم آخر متأخر عن حكم هؤلاء جميعاً وهو أرحم به منهم ونعني حكم العالم البروتستنتي رتشرد جارنت Richard Garnett في تاريخ كيمبردج الحديث:
"لقد كسبت أخلاق الإسكندر بلا ريب من بحوث المؤرخين المحدثين. وقد لكان من الطبيعي أن يظهر بمظهر الظلم والفجور رجل اتهم بهذه الجرائم الكثيرة، وكان بلا ريب مصدر الكثير من الفضائح. غير أ، هذا الوصف أو ذلك لا يليق به. لقد كان العامل الأساسي في أخلاقه كلها فطرته الغزيرة الفياضة. ويسميه سفير البندقية الرجل "الجسدي" وهو لا يقصد بهذا أن يعزو إليه أية نقيصة من النقائص الخلقية، بل يقصد أنه رجل حاد الطبع، عاجز عن السيطرة على عواطفه وانفعالاته النفسية. وكانت طبيعته هذه مبعث الحيرة للإيطاليين الهادئين غير دوي العواطف الجياشة من رجال الصنف الدبلوماسي الذي يكثرون بين الحكام ورجال السياسة؛ وقد أساءوا كثيراً إلى الإسكندر بعجزهم عن فهمه على حقيقته، مع أنه في واقع الأمر لم يكن أقل إنسانية من معظم أمراء زمانه بل كان يفوقهم كثيراً في هذا المجال. وكانت هذه الغريزة الجسدية العارمة مصدر كثير من الخير والشر فيه. ذلك أنها قد ساقته إلى شهوانية عارمة من نوع ما، وإن كان في نواح أخرى معتدلاً زاهداً، وسبب ذلك أنه لم تكن تقيده مبادئ أخلاقية قوية أو أفكار روحية مستمدة من الدين. أما في صورتها التي هي أدعى إلى الإجلال والتقدير، وهي حبه لأسرته فقد ساقته هذه النزعة إلى الاعتداء على جميع مبادئ العدالة، وإن لم يفعل حتى في هذه الناحية أكثر من قيامه بعمل ضروري محتوم لا يمكن أداؤه "بالماء المقدس" كما قال أحد عماله. لكن دماثة أخلاقه ومرحه قد أبعداه عن الاستبداد بالمعنى العادي لهذا اللفظ ... فقد كان في العادة يعنى بمصالح شعبه من الناحية المادية، ولهذا يعد من(20/134)
خير الحكام في زمانه، وكان في حكمه يضارع خير حكام تلك الأيام من الناحية العملية. غير أن عدم تقيده في سياسته بالمبادئ الأخلاقية قد أفسد عليه ما كان يستطيع أن يدركه ببصيرته القوية النفاذة، ذلك أنه كانت تعوزه الحكمة العليا التي تمكنه من أن يدرك خصائص الفترة التي يعيش فيها ويتنبأ بمجريات أمورها، ولم يكن يعرف للمبدأ معنى" (118).
والذين لهم ما للإسكندر من إحساس مرهف بمفاتن النساء ورشاقتهن لا تطاوعهم نفوسهم على أن يقذفوه بالحجارة بسبب عشقه وهيامه بالنساء، ذلك أن ما يؤخذ عليه في هذه الناحية قبل أن يرتقي عرش البابوية لم يكن فيه من الفضائح أكثر مما في مغامرات إينياس سلفيوس Aeneas Sylius المحب إلى المؤرخين، أو يوليوس الثاني الذي أكرمته الأيام فغفرت له آثامه. ولم يسجل التاريخ أن هذين البابوين قد عينا بعشيقاتهما وأبنائهما كما عنى الإسكندر بعشيقاته وأبنائه. والحق أن الجو الذي كان يحيط بالإسكندر كان فيه من خصائص الأسرة والمنزل ما كان يجعله رجلاً خليقاً بالاحترام إلى حد ما، لو أن قوانين الكنيسة وعادات إيطاليا في عصر النهضة، وألمانيا وإنجلترا في زمن الإصلاح الديني، قد أجازت زواج رجال الدين. ذلك أن خطاياه لم تكن خطايا ارتكبها ضد الطبيعة البشرية، بل كانت ضد القواعد التي تلزم رجال الدين بأن يظلوا عزاباً، وهي القواعد التي رفضها نصف العالم المسيحي بعد قليل من ذلك الوقت. وليس في مقدورنا أن نقول إن صلته بجويليا فرنيزي كانت صلة جسدية؛ ومبلغ علمنا أن فائندسا، ولكريدسيا، وزوج جويليا لم يعترضوا قط على هذه الصلة؛ ولعلها لم تكن أكثر من المتعة البسيطة التي يجدها الرجل السوي فيما تستمتع به امرأ ة جميلة من جاذبين ومرح وحيوية.
ومن واجبنا حين نحكم على أعمال الإسكندر السياسية أن نفرق بين غاياته ووسائله. فأما غاياته فقد كانت كلها غايات مشروعة- هي استعادة(20/135)
"ميراث الرسول بطرس" (وأهم ما فيه لا تيوم القديمة) من البارونات الإقطاعيين أصحاب النظام الفاسد المضطرب، وأن يسترد من الطغاة المغتصبين الولايات التي هي من أملاك الكنيسة من أقدم الأزمنة. وأما الوسائل التي استعان بها الإسكندر وسيزاري على تحقيق هذه الغايات فقد كانت هي بعينها التي استعانت بها جميع الدول الأخرى في ذلك الوقت وذلك المكان - الحرب، والدبلوماسية، والخداع، والغدر، وخرق المعاهدات، والتخلي عن الحلفاء. لقد كان ترك الإسكندر الحلف المقدس، وشراؤه الجنود الفرنسيين والمعونة الفرنسية بتسليم ميلان لفرنسا، من الجرائم الكبرى في حق إيطاليا؛ وأن هذه الوسائل لتشمئز منها نفوسنا إذا استخدمها البابا تعهد أن يحافظ على مبادئ المسيح. وأياً كان الخطر الذي تتعرض له الكنيسة في أن تصبح خاضعة لسلطان حكومة مسيطرة عليها - كما خضعت لفرنسا أيام وجودها في افنيون - إذا ما فقدت أملاكها، فقد كان أفضل لها أن تضحي بسلطتها الزمنية كلها، وأن تعود فقيرة كما كان صيادو الجليل، من أن تلجأ إلى الأساليب الدنيوية لتحقيق أغراضها السياسية. ذلك أنها حين لجأت إلى هذه الوسائل ووفرت لها ما يلزمها من المال قد كسبت دولة وخسرت ثلث العالم المسيحي.
ولنعد إلى سيزاري بورجيا فنقول إنه بعد أن شفى شفاءً بطيئاً من المرض الذي قضى على حياة البابا، وجد نفسه محوطاً بما لا يقل عن عشرة أخطار لم يكن يتوقعها. ومن ذا الذي كان يتنبأ بأنه هو وأباه سيعجزان كلاهما عن العمل في وقت واحد. فبينا كان الأطباء يحمونه استرد آل كولنا المخلوعون من رومانيا، تشجعهم البندقية يطالبون باستعادة إماراتهم؛ وكان غوغاء روما الذين أفلت الآن زمامهم بعد أن مات(20/136)
الإسكندر يتحفزون لنهب الفاتيكان في أية لحظة من اللحظات. وينهبون الأموال التي يعتمد عليها سيزاري في أداء رواتب جنده. فلم ير سيزاري بداً من أن يرسل عدداً من الرجال المسلحين إلى الفاتيكان؛ وأرغم هؤلاء الكردنال كسانوفا Cassanuova بقوة السيف على أن يسلمهم ما في الخزانة من الأموال؛ وهكذا فعل سيزاري ما فعله يوليوس قيصر قبل خمسة عشر قرناً من ذلك الوقت. فقد جاء إليه الجند بمائة ألف دوقة ذهباً، كما جاءوا إليه بصحاف وجواهر قيمتها ثلاثمائة ألف دوقة؛ وأرسل في الوقت عينه سفناً وجنوداً ليمنع بها الكردنال جوليانو دلا روفيري أقوى أعدائه من الوصول إلى روما؛ وكان يحس بأنه إن لم يستطع إقناع المجمع المقدس بانتخاب بابا من أنصاره فقد ضاعت كل آماله.
وأصر الكرادلة على أن يجلو جنود سيزاري وآل أرسيني وكولنا عن روما حتى يستطيعون أن يختاروا البابا الجديد في جو خال من الإرهاب. ووافق الأطراف الثلاثة على هذا المطلب، فانسحب سيزاري ورجاله إلى تشفيتا كستلانا Civita Castellana، في الوقت الذي دخل فيه الكردنال جوليانو روما، وتزعم في مجمع الكرادلة القوى المعادية لآل بورجيا. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1503 اختارت الأحزاب المتنافسة. في مجمع الكردنال فرانتشيسكو بكولوميني Francesco Piccolomini بابا مرضاة لجميع الأطراف المتنازعة، وتسمى باسم بيوس الثالث، تكريماً لعمه إبنياس سلفيوس. وكان بيوس رجلاً غزير العلم طيب الخلق، وإن كان أيضاً أباً لأسرة كبيرة (119). وكان وقتئذ في الرابعة والستين من عمره مصاباً بخراج في ساقه. وكان من أصدقاء سيزاري ولذلك سمح له بالعودة إلى روما، ولكن بيوس مات في الثامن عشر من شهر أكتوبر.
وأيقن سيزاري أنه لا يستطيع وقتئذ أن يمنح انتخاب الكردنال دلا روفيري وهو بلا ريب أقدر رجل في المجمع المقدس. لهذا عقد سيزاري(20/137)
اجتماعاً خاصاً مع جوليانو وأزالا في ظاهر الأمر ما كان بينهما من عداء: فقد وعد جوليانو بتأييد الكرادلة الأسبان (الأوفياء لسيزاري)، ووعده جوليانو إذا اختير للبابوية بتثبيته دوقاً على رومانيا وقائداً للجيوش البابوية. وابتاع جوليانو أصوات بعض الكرادلة الآخرين برشا بسيطة (120). وبذلك اختير جوليانو دلا روفيري بابا (في 31 أكتوبر سنة 1503) واتخذ لنفسه اسم يوليوس الثاني كأنه يريد أن يكون نفسه قيصراً، وأن يفوق الإسكندر. وأجل تتويجه حتى اليوم السادس والعشرين من نوفمبر لأن المنجمين تنبأوا باقتران بعض الكواكب في ذلك اليوم اقتراناً يبشر بالخير.
ولم تنتظر البندقية مطلع نجم سعيد، فقد استولت على ريميني، وحاصرت فائندسا، وكشفت عن نيتها في أن تستولي على كل ما تستطيع الاستيلاء عليه من رومانيا قبل أن تتمكن الكنيسة من إعادة تنظيم قواها. وأمر يوليوس سيزاري بالتوجه إلى إمولا وتجيش جيش جديد لحماية الولايات البابوية. ووافق سيزاري على هذا وسار إلى أستيا معتزماً أن يبحر منها إلى بيزا. لكن رسالة جاءت إليه من البابا وهو في بيزا تأمره بأن يسلم ما في يديه من حصون رومانيا. وارتكب سيزاري في تلك الساعة خطأً موبقاً يوحي إلينا بأن المرض قد أفسد عليه رأيه إذ رفض أن يطيع أمر البابا، وإن كان من واجبه أن يعلم حق العلم أنه أمام رجل لا يقل عنه في قوة إرادته إن لم يفقه. وأمره يوليوس أن يعود إلى روما؛ وأطاع سيزاري الأمر، فلمّا عاد قبض عليه في منزله. وجاءه جويدوبلدو الذي أعيد في ذلك الوقت إلى أربينو، ثم عيّن فوق ذلك قائداً للجيوش البابوية ليرى سليل آل بورجيا الساقط؛ وأذل سيزاري نفسه أمام الرجل الذي خلعه ونهب أملاكه، وأطلعه على كلمة السر في الحصون، وأعاد إليه بعض نفائس الكتب والستر المزركشة التي بقيت بعد نهب أربينو، وتوسل(20/138)
إليه أن يتوسط بينه وبين يوليوس. ورفضت تشيزينا Cesena وفورلي أن تطيعا كلمة السر حتى يطلق سراح سيزاري، ولكن يوليوس رفض أن يطلق سراحه إلاّ بعد أن يقنع قلاع رومانيا بالتسليم إلى البابا؛ وتوسلت لكريدسيا إلى زوجها أن يساعد أخاها؛ ولكن ألفنسوا (ولم يكن وقتئذ قد جلس على عرش الدوقية بل كان فقط ولي عهد لها) لم يفعل شيئاً. فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى إزبلادست؛ ولم يكن حظها معها بأحسن من حظها مع أفنسو، ولعلها هي وألفنسو قد عرفا أن يوليوس لن يتحول عن رأيه، فلم ير سيزاري آخر الأمر بداً من أن يطلب إلى مؤيديه في رومانيا أن يسلموا الحصون؛ وأطلق البابا سراحه، ففر إلى نابلي (19 إبريل سنة 1504).
ورحب به فيها جندسالوده كردويا (جندسالو القرطبي) الذي أمنه على حياته أثناء مروره بها. وعادت إليه شجاعته أسرع من عودة بصيرته فنظم قوة صغيرة، وبينا كان يستعد إلى الإبحار بها إلى بيومبينو Piombino ( بالقرب من لغورن Leghorn) إذ قبض عليه جندسالو بأمر فرديناند ملك إسبانيا؛ وكان يوليوس هو الذي دفع هذا "الملك الكاثوليكي" إلى العمل لأنه لم يشأ أن يثير سيزاري في البلاد حرباً أهلية. ونقل سيزاري إلى أسبانيا في شهر أغسطس وظل يعاني مرارة السجن عامين كاملين. وحاولت لكريدسيا مرة أخرى أن تطلق سراحه ولكنها لم توفق. كذلك دافعت عنه زوجته التي هجرها عند أخيها جان دالبرت Jean d'Albert ملك نبرة، ودبرت له الخطة للهرب، وخرج سيزاري من السجن مرة أخرى وأصبح طليقاً في نبرة في شهر نوفمبر من عام 1506. وسرعان ما واتته الفرصة ليرد لدا لبرت الجميل. ذلك أن كونت لرين Leirn، وهو من أتباع الملك خرج على سيده، فتولى سيزاري قيادة جزء من جيش جان وهاجم به حصن الكونت في فيانا Viana. وخرج الكونت على رأس(20/139)
الحامية من الحصن وهجم على سيزاري، فصده هذا، وتعقب القوة المهزومة بتهور وقلة مبالاة؛ وجاء المدد إلى الكونت وقتئذ، وهجم عدوه، وفر جنو سيزاري القلائل، ولم يثبت إلاّ هو نفسه ورفيق له واحد، وحارب حتى أثخن بالجراح ومات في القتال (12 مارس سنة 1507) وهو في سن الحادية والثلاثين.
وكانت هذه خاتمة شريفة تحيط بها الريب. ذلك أ، في حياة سيزاري بورجيا أشياء كثيرة لا تروقنا، نذكر منها كبرياؤه وتبجحه، وإهماله زوجته الوفية، ومعاملته النساء كأنهن أدوات لملذاته العابرة، وقسوته على أعدائه في بعض الأحيان - مثال ذلك حكمه بالإعدام على جويليوفارنو Giulio Varno صاحب كميرينو Camerino وعلى ولديه؛ وقتله فيما يبدو اثنين من أبناء منفريدي Manfredi؛ وهي قسوة تناقض كل التناقض رأفة الرجل الذي يتسمى باسمه (1). وكان يعمل عادة بالمبدأ القائل إن تحقيق أغراضه يبرر في رأيه كل وسيلة يستخدمها لهذه الغاية، فالغاية في رأيه تبرر الوسيلة. لكننا نذكر مع هذا أنه كان يجد نفسه محوطاً بالأكاذيب، وأنه استطاع أن يتفوق في الكذب على من عداه حتى كذب عليه يوليوس. ونكاد نجزم بأنه لم تكن له يد في مقتل أخيه جيوفني، ولكن أكبر الظن أنه هو الذي حرّض السفاحين على قتل دوق بستشجيلي Bisceglie، ولعله كانت تنقصه - بسبب مرضه - القدرة على مواجهة مصاعبه بشجاعة وكرامة؛ وكان موته هو العمل الوحيد الذي شرفت به حياته.
ولكنه حتى هو كان يتصف ببعض الفضائل، فما من شك في أنه كان ذا كفاية غير عادية مكنته من أن يرقى هذا الرقي السريع، وأن يتعلم بهذه السرعة فنون الزعامة، والتفاوض، والحرب. ولمّا أن عهد إليه بذلك الواجب الشاق، واجب استعادة سلطة البابا في الولايات البابوية، ولم يكن
_________
(1) يربد يوليوس قيصر (المترجم).(20/140)
تحت لوائه إلاّ قوة صغيرة، قام بهذا الواجب بحركة سريعة مدهشة، ومهارة في الفنون العسكرية، واقتصاد في الوسائل. ولمّا عهد إليه أن يحكم وأن يفتح، حبا رومانيا بأكثر ما استمتعت به منذ قرون من عدالة في الحكم ورخاء في السلم. ولمّا أمر بأن يطهر الكمبانيا من الأتباع العصاة المتمردين المشاكسين، قام بهذا العمل بسرعة يصعب على يوليوس قيصر نفسه أن يبزه فيها؛ ولعله حين طافت هذه الأعمال العظيمة برأسه قد راوده الحلم الذي راود بترارك ومكيفلي: وهو أن يهب إيطاليا، بالفتح إذا لزم الأمر، الوحدة التي تمكنها من أن تقف في وجه قوتي فرنسا وأسبانيا المرتكزتين (1). ولكن انتصاراته، وأساليبه، وقوته، وأعماله السرية الخفية، وهجماته السريعة التي لا يحصى لها عدد، جعلته سوط عذاب على إيطاليا بدل أن تجعله عاملاً على تحريرها. ذلك أن عيوبه الخلقية كانت سبباً في القضاء على ما أنجزه من الأعمال بقوته العقلية. وكانت مأساته الأساسية أنه لم يتعلم قط أن يحب.
ولنقل مرة أخرى كلمة موجزة عن لكريدسيا: ألا ما أكبر الفرق بينها وبين أخيها الذي هوى من حالق مجده، في تواضعها، وهناءتها في سنيها الأخيرة. ذلك أنها، وقد كانت في روما مضغة في فم كل نمام،
_________
(1) "أضحت هذه الأمم" -فرنسا، وأسبانيا، وإنجلترا، وهنغاريا- "وقتئذ دولاً ملكية قوية ليس في مقدور تلك الإضمامة المفككة من الدويلات" الإيطالية "أن تقف في وجهها. ولقد كان يسع رجلاً مثل سيزاري بورجيا، في أغلب الظن، أن ينجيها لو أنه كان يقوم بأعماله في أوائل القرن الخامس عشر لا في نهايته ... وكان أقرب ما حدث إلى الوحدة فيها هو إقامة سلطة البابا الزمنية التي كان الإسكندر ويوليوس أكبر العاملين عليها. ولسنا ننكر أن ما استخدم من الوسائل لإنشائها كثيراً من ضعف لو لم تنشأ، والثمرة الطيبة التي أثمرها وجودها بعد أن أصبحت هي كل ما بقى في إيطاليا من آثار الكرامة والاستقلال". تاريخ كيمبريدج الحديث، المجلد الأول ص 252.(20/141)
قد أحبها أهل فيرارا ورأوا فيها مثلاً أعلى للفضائل النسوية (121). فقد حاولت فيها أن تنسى جميع محن ماضيها ومآسيه؛ واستعادت مرح شبابها ولم تخرج في ذلك عن حدود الاعتدال والأناة، وأضافت إلى مرحها هذا اهتماماً كريماً بحاجات غيرها من الناس. وقد أثنى عليها أريستو، وتيبليو Tibaldeo، وبمبو وتيتو، وإركولي اسفوردسا في أشعارهم ثناء جنت منه أكبر الفائدة؛ فقد وصفوها بأنها "أجمل فتاة" ولم يشر أحد منهم إليها بسوء. ولعل بمبو أراد أن يكون لها كما كان أبلار لهلواز Heloise (1) ، وقد أضحت لكريدسيا وقتئذ تجيد عدة لغات فتتكلم الإسبانية، والإيطالية، والفرنسية، وتقرأ "قليلاً من اليونانية وأقل منها من اللاتينية". ويقول بعضهم إنها كانت تقرض الشعر بهذه اللغات جميعاً (122)، وقد أهدى إليها ألدوس مانيتيوس Aldus Manitius الطبعة التي أصدرها من ديوان استرتسي Strozzi وأشار في المقدمة إلى أنها عرضت عليه أن تمول مشروعه العظيم في الطباعة (123).
وقد وجدت بين هذه المشاغل العلمية الكثيرة متسعاً من الوقت حملت فيه لزوجها الثالث ثلاثة بنين وبنتاً واحدة. وقد سر منها ألفنسو على طريقته الدافقة العارمة. من ذلك أنه لما دعاه الداعي إلى مغادرة فيرارا في عام 1506 أنابها عنه في حكمها، فقامت بواجبات الحكم فيها بحكمة وحسن بصيرة جعلتا أهل فيرارا يميلون إلى مسامحة الإسكندر إذ تركها في وقت ما تشرف على شئون الفاتيكان.
_________
(1) كان أبلار أول الأمر معلماً لهلواز، ثم هام بها وانتهى حبهما بأشد المآسي وأروعها في التاريخ. وقد دارت بينهما رسائل أدبية تعد من أشهر الرسائل في آداب العصور الوسطى. وقد ترجمت هذه الرسائل إلى كثير من اللغات ومنها اللغة العربية. أنظر قصتهما ورسائلهما في كتابنا: "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)(20/142)
وكرست جهودها في السنين الأخيرة من حياتها لتربية أبنائها وتعليمهم، ولأعمال البر والرحمة، وأضحت راهبة فرنسيسية من الطبقة الثالثة. ووضعت في الرابع عشر من شهر يولية عام 1519 طفلها السابع، ولكنه مات قبل أن يرى الضوء، ولم تغادر قط فراش المرض، حتى إذا كان اليوم الرابع والعشرون من ذلك الشهر ماتت وهي في سن التاسعة والثلاثين لكريدسيا بورجيا التي ظلمها الناس أكثر مما ظلمت هي نفسها.(20/143)
الباب السابع عشر
يوليوس الثاني
1503 - 1513
الفصل الأول
المحارب
إذا ما وضعنا أمامنا صورة رفائيل الفاحصة العميقة ليوليوس الثاني حكمنا من فورنا بأن جوليانو دلا روفيرى كان من أقوى الشخصيات التي جلست على كرسي البابوية. ذلك أننا نرى في الصورة رأساً ضخما ينحني من فرط الإجهاد ومن التواضع المتوالي، وجبهة عريضة عالية، وأنفاً كبيراً ينم عن العناد، وعينين وقورتين، عميقتين، نفاذتين، وشفتين منطبقتين تشهدان بالصلابة والعزيمة، ويدين مثقلتين بأختام السلطة، ووجهاً مكتئباً يكشف عما في السلطة من خداع. وهذا هو الرجل الذي ظل عشر سنين يقذف بإيطاليا في أتون الحرب والاضطراب، والذي حررها من الجيوش الأجنبية، وهدم كنيسة القديس بطرس القديمة، واستدعى برامنتى ومائة غيره من الفنانين إلى رومة؛ وكشف، ونمى، ووجه مايكل أنجيلو ورفائيل، وقدم للعالم على أيديهم كنيسة للقديس بطرس جديدة، وسقفاً جديداً لمعبد سستينى وقاعات الفاتيكان. ذلك رجل ليس كمثله كثيرون في الرجال.
وأكبر الظن أن طبعه الحاد كان يميزه منذ نشأته. وكان مولده بالقرب(20/144)
من سافونا Savona، لسكستس الرابع، وقد وصل إلى الكردنالية في السابعة والعشرين من عمره، وظل فيها قلقاً ساخطاً ثلاثا وثلاثين سنة قبل أن يرقى إلى المنصب الذي كان يرى أنه حقه الواضح، ولم تكن عنايته باليمين التي أقسمها بأن يبقى عزباً أكثر من عناية معظم زملائه (1) فقد قال كبير حجابه في الفاتيكان بعدئذ إن يوليوس الثاني لم يكن يسمح بأن تقبل قدمه لأن "المرض الفرنسي" كان يشوهها (2). وكانت له ثلاث بنات غير شرعيات (3)، ولكن مشاغله الكثيرة في محاربة الإسكندر لم تكن تتيح له وقتا ما لإظهار العطف الأبوي الذي كان يظهره الإسكندر نفسه والذي كان يغضب المنافقين من بني الإنسان. وكان يكره الإسكندر لأنه في رأيه دخيل إسباني، ولا يرى أنه يليق للبابوية، ويسميه نصابا، ومغتصبا (4)، وقد بذل كل ما في وسعه لخلعه، ولم يتورع حتى من استعداء فرنسا على إيطاليا ودعوتها إلى غزوها. وكان الإسكندر يشن الحرب باسمه أما يوليوس فكان يخوضها بشخصه، فقد لصبح البابا ابن الستين من العمر جنديا، وكان ارتداء الثياب العسكرية أيسر له من المسوح البابوية، وكان يحب المعسكرات وحصار المدن، وتصويب المدافع ومشاهدة الهجمات توجه أمام عينيه. وكان يسع الإسكندر أن يعبث ويلعب؛ أما يوليوس فكان يجد اللعب من أشق الأعمال لأنه يحب أن يواجه الناس برأيه فيهم؛ "وكثيراً ما كانت لغته تتجاوز كل الحدود في وقاحتها وعنفها" و "كان هذا العيب يزداد زيادة واضحة كلما تقدمت به السن" (5). ولم تكن شجاعته، كما لم تكن لغته، تعرف لها حدا؛ وكان حين تنتابه العلة المرة بعد المرة أثناء حروبه يحير أعداءه إذ يستعيد صحته وينقض عليهم مرة أخرى.
وكان لا بد له أن يفعل ما فعله الإسكندر فيبتاع بالمال عدداً قليلا من الكرادلة لييسروا له سبيله إلى عرش البابوية، ولكنه شهر بهذه العادة في(20/145)
مرسوم له أصدره عام 1505. وإذا لم يكن قد أسرع في إصلاح هذه العادة إسراعا يسبب له المتاعب، فإنه قد رفض التحيز للأقارب رافضا يكاد يكون تاما، وقلما كان يعين أحداً من أقاربه في منصب ما. بيد أنه كان يحذو حذو الإسكندر في بيع المناصب الكنسية والترقي إلى الدرجات العليا فيها، وقد أغضب ألمانيا ببيع صكوك الغفران وبناء كنيسة الرسول بطرس (6). وكان حسن الإدارة لموارده المالية، وينفق المال في شؤون الحرب وعلى الفن في وقت واحد، وترك لليو في خزانته بعض المال الزائد على حاجته. وقد أعاد النظام الاجتماعي إلى روما بعد أن ضعف هذا النظام في السنين الأخيرة من بابوية الإسكندر، وحكم ولايات الكنيسة حكما صالحا امتاز بالحكمة في تعيين الموظفين وحسن توجيههم؛ وسمح لآل أرسيني وكولنا بالعودة إلى احتلال حصونهم، وسعى لكسب ولاء هاتين الأسرتين القويتين بالزواج بينهما وبين أقاربه.
ولما ارتقى كرسي البابوية وجد ولايات الكنيسة مضطربة، ووجد أن نصف أعمال الإسكندر وسيزاري بورجيا قد تصدعت؛ فقد استولت البندقية على فائندسا، ورافنا، وريميني (1503)، وعاد جيوفني اسفوردسا إلى بيزارو، وأصبح آل بجليوني مرة أخرى سادة في بروجيا، وآل بنتيفجلي سادة في بولونيا. وكان ما فقده من إيراد هذه المدن يهدد الإدارة البابوية بالإفلاس، وكان يوليوس يتفق مع الإسكندر في أن استقلال الكنيسة الروحي يتطلب امتلاكها الدائم للولايات البابوية؛ وارتكب من أول الأمر الخطأ الذي ارتكبه الإسكندر إذ استعان بفرنسا - وبألمانيا وإسبانيا أيضاً- على أعدائه الإيطاليين. ووافقت فرنسا على أن ترسل ثمانية آلاف من جنودها نظير تعيين ثلاثة من رجالها الدينيين في مناصب الكرادلة؛ ووعدت نابلي، ومانتوا، وأربينو، وفيرارا، وفلورنس بأن ترسل إمدادات صغيرة. وفي أغسطس من عام 1506 خرج يوليوس(20/146)
من روما على رأس قوته الصغيرة -المكونة من أربعمائة فارس، ومن حرسه السويسري، وأربعة كرادلة. وعين جويدو يلدو، دوق أربينو الذي عاد إلى حكمها، قائداً عسكرياً للجيوش البابوية، ولكن البابا سار على رأسها بنفسه- وكان ذلك منظراً لم تره روما من عدة قرون. وظن جيان باولو بجليوني أنه لا يستطيع هزيمة هذا الحلف، فجاء إلى أرفيتو، واستسلم للبابا، وطلب إليه المغفرة. وزمجر الإسكندر قائلا: "إني أغفر لك خطاياك الجسدية ولكني سأعاقبك عليها جميعا حين ترتكب أول خطيئة صغرى" (7).
واعتمد يوليوس على سلطته الدينية فدخل بروجيا بحرس قليل العدد، وكان في استطاعة بجليوني أن يأمر رجاله بالقبض عليه وإغلاق أبواب المدينة وهو في داخلها، ولكنه لم يجرؤ على هذا العمل. ودهش مكيفلي، وكان وقتئذ قريباً منه، إذ أضاع بجليوني هذه الفرصة التي كان يستطيع فيها أن "يعمل عملاً خالد الذكر؛ فقد كان في وسعه أن يكون أول من يظهر للقساوسة عدم احترام الناس لمن يحيا حياتهم ويحكم مثل حكمهم، وكان في مقدوره أن يضرب ضربة تبلغ من العظمة حدا يرجح ما فيها من إثم، وكل ما قد يعقبها من أخطار" (8). وكان مكيفلي يعارض في أن تكون للبابوية سلطة زمنية كما كان يعارض في ذلك معظم الإيطاليين، ويعارض كذلك البابوات الذين كانوا ملوكاً. ولكن بجليوني كان أيضاً يخشى على حياته ويعرف قيمها، ولعله كان يرى أن نجاة روحه أجل شأناً من شهرته بعد موته.
ولم يقض يوليوس في بروجيا إلا وقتاً قصيراً، فقد كانت بولونيا هدفه الحقيقي؛ ولهذا قاد جيشه الصغير في الطرق الوعرة واجتاز به جبال الأبنين إلى سيزينيا، ثم انقض على بولونيا من الشرق؛ بينما كان الفرنسيون يهاجمونها من الغرب. وأيد يوليوس هذا الهجوم بمرسوم بابوي يقضي بحرمان آل بنتيفجلي وأشياعهم، ويعرض فيه الغفران الشامل على كل من(20/147)
يقتل أي واحد منهم. وكان هذا طرازاً جديداً من الحرب، ولم يجد معه بنتيفجلي بدا من الفرار، ودخل يوليوس المدينة في هودج محمول على أكتاف الرجال، وحياه أهلها تحية محررهم من الظلم والاستبداد (11 نوفمبر سنة 1506). فلما تم له ذلك أمر مايكل أنجيلو بأن يقيم له تمثالاً في مدخل سان بيترونيو San Petronio، وعاد بعدئذ إلى روما وسار في شوارعها راكباً عربة النصر وحياه أهلها تحية قيصر المنتصر.
ولكن البندقية كانت لا تزال تمتلك فائندسا، ورافنا، وريميني؛ وكانت عاجزة عن أن تقدر روح البابا الحربية. وجازف يوليوس بإيطاليا في سبيل الاستيلاء على رومانيا، فاستنجد بفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا لإخضاع البندقية ملكة البحر الأدرياوي. وسنرى فيما بعد استجابتها في حلف كمبريه (1508) لهذه الدعوة، وأنهم لم يحرصوا على مساعدة يوليوس بل كانوا يحرصون على تقطيع أوصال إيطاليا؛ أما يوليوس فإنه بانضمامه إلى تلك الدول قد غلب غضبه الحق من البندقية على حبه إيطاليا. وبينما كان حلفاؤه يهاجمون البندقية بجيوشهم وجه إليها يوليوس مرسوماً بالحرمان واللعنة يعد من أصرح المراسيم وأقواها في التاريخ كله. وكتب النصر ليوليوس، وردّت البندقية المدن المختلسة إلى الكنيسة، وقبلت أشد الشروط إذلالاً لها، وتلقى مندوبوها غفران البابا ومحو اللعنة في موكب طويل آلم أرجلهم وركبهم أشد الألم (1510). وندم يوليوس في ذلك الوقت على استنجاده بالفرنسيين، فبدل سياسته معهم وأخذ يعمل على طردهم من إيطاليا، وأقنع نفسه بأن الله يبدل سياسته المقدسة تبعاً لهذا. ولما أن أبلغه السفير الفرنسي نبأ انتصار الفرنسيين على البنادقة، وأضاف إلى هذا النبأ أن "هذه إرادة الله" رد عليه يوليوس مغضباً بقوله "إن هذه إرادة الشيطان".
ثم حول نظراته العسكرية نحو فيرارا. فها هي ذي إقطاعية بابوية لا ينكر(20/148)
أحد تبعيتها له، ولكن الإسكندر اكتفى منها بعد خطبة لكريدسيا بجزية رمزية. يضاف إلى هذا أن الدوق ألفنسو، بعد أن انضم إلى فرنسا في الحرب ضد البندقية بناء على طلب البابا، رفض أن يعقد الصلح معها بناء على طلب البابا نفسه، وبقى حليفاً لفرنسا. ولهذا صمم يوليوس على أن تصبح فيرارا ولاية بابوية بقضها وقضيضها. وبدأ حملته بمرسوم بابوي بحرمانها من حظيرة الكنيسة (1501)، وبهذا المرسوم أصبح صهر أحد البابوات ابناً جائراً ومصدر هلاك ودمار في نظر بابا آخر. واستولى يوليوس على مودينا دون عناء كبير، وبمساعدة البندقية. وبينما كان جنود البابا يستريحون في المدينة ارتكب هو خطأ موبقاً بذهابه إلى بولونيا؛ حيث وردت إليه الأنباء على حين غفلة بأن جيشاً فرنسياً يقف على أبوابها بأوامر تقضي بمساعدة ألفنسو. ولم يكن في وسع الجيوش البابوية أن تقوم بمساعدته لبعدها وقتئذ عن المدينة، ولم يكن في داخل بولونيا أكثر من تسعمائة جندي، كما أنه لم يكن من المستطاع الاعتماد على مقاومة أهل المدينة للغزاة الفرنسيين لأن المندوب البابوي الكردنال ألدوزي Alidosi كان قد سامهم الخسف. وتملك اليأس فترة من الوقت يوليوس وكان وقتئذ مصاباً بالحمى وطريح الفراش، ففكر في أن يتجرع السم (10)، وأوشك أن يوقع مع فرنسا صلحاً مذلاً، وإذا المدد يصل إليه من إسبانيا والبندقية. وارتد الفرنسيون، وبعث يوليوس وراءهم بمنشور مقذع يحرمهم فرداً وجماعة من حظيرة الدين.
وكانت فيرارا في ذلك الوقت قد سلحت نفسها تسليحاً قوياً رأى يوليوس معه أن قواه لا تكفي للاستيلاء عليها. غير أنه لم يشأ أن يحرم وقتئذ من مجده العسكري فسار بنفسه على رأس جيش إلى حصار ميراندولا Mirandola، وهي مركز أمامي من مراكز دوقية فيرارا. (1511). ومع أنه كان وقتئذ في السادسة والثمانين من عمره، فقد سار فوق الثلج الكثيف الطبقات، وخالف السوابق الماضية بأن خاض غمار الحرب في(20/149)
الشتاء، ورأس المجالس العسكرية الفنية، ووجه العمليات الحربية ومواقع المدفعية، وفتش على جنده بنفسه، وأولع بحياة الجندية، ولم يسمح لأحد بأن يفوقه في الشتائم والنكات العسكرية (11). وكان الجنود أحياناً يسخرون منه ويضحكون، ولكنهم كانوا في الأغلب الأعم يثنون على بسالته. ولما أن قتلت نيران العدو جندياً كان بجانبه، انتقل إلى موضع آخر من الميدان، ولما أن وصلت قذائف مدفعية ميراندولا إلى هذا الموضع الثاني، عاد إلى موضع الأول، وهز كتفيه المقوستين استخفافاً بخطر الموت. واستسلمت ميراندولا بعد مقاومة دامت أسبوعين، وأمر البابا بأن يعدم جميع من يوجد فيها من الجنود الفرنسيين؛ ولعل الطرفين قد دبرا معاً أن لا يوجد فيها أحد من أولئك الجنود. وحمى البابا المدينة من النهب، وفضل أن يطعم جيشه ويموله بأن يبيع ثماني كردناليات جديدة (12).
وذهب إلى بولونيا ينشد الراحة، ولكنه ما لبث أن حاصره فيها الفرنسيون مرة أخرى؛ ففر منها إلى ريميني، وأعاد الفرنسيون آل بنتيفجلي إلى الحكم. ورحب الأهلون بعودة حكامهم الظالمين المطرودين، ودمروا القصر الحصين الذي أنشأه يوليوس من قبل، وحطموا التمثال الذي أقامه له مايكل أنجيلو، وباعوا قطعه البرونزية إلى ألفنسوا دوق فيرارا. وصب هذا الدوق الصارم ذلك البرونز وصنع منه مدفعاً سماه لاجويليا تكريماً منه للبابا. ورماه البابا بقرار آخر حرم فيه كل من اشترك في القضاء على السلة البابوية في بولونيا. ورد الجنود الفرنسيون على هذا بالاستيلاء على ميرندولا من جديد؛ ووجد يوليوس في ريميني وثيقة موقعاً عليها من الكرادلة ملصقة بباب كنيسة سان فرانتشيسكو، تدعو إلى عقد مجلس عام في مدينة بيزا في أول سبتمبر من عام 1511، لبحث مسلك البابا.
وعاد يوليوس إلى روما محطم الجسم، تكتنفه المصائب من كل جانب ولكنه لم تذله الهزائم. وفي هذا يقول جوتشيارديني:(20/150)
لقد وجد البابا نفسه وقد خدعته آماله الكاذبة أشد الخداع؛ ولكنه كان يبدو في مظهره شبيهاً بما وصف به كتاب الخرافات القديمة أناتيوس Anataeus الذي كان إذا لمس الأرض كلما قطع أوصاله البطل هرقل عادت إليه قواه ومِرَّته. فقد كان للشدائد على البابا هذا الأثر نفسه؛ ذلك أنه حين كان يبدو في أشد حالات الانقباض واليأس، لا يلبث أن يستعيد نشاطه، ويعود مرة أخرى أصلب مما كان عوداً وأكثر مما كان ثباتاً وأقوى إصراراً وعزيمة.
وأراد أن يقوم بحركة مضادة لحركة الكرادلة المتذمرين، فدعا إلى عقد مجلس عام في قصر لاتران في التاسع عشر من إبريل سنة 1512. وظل يكدح ليلاً ونهاراً لينشئ حلفاً ضد فرنسا. وأوشك أن ينجح في غرضه وإذا هو يصاب بحمى شديدة الوطأة (17 أغسطس سنة 1511). وظل بين الحياة والموت ثلاثة أيام كاملة، حتى إذا كان اليوم الحادي والعشرون من شهر أغسطس أغمي عليه إغماءه بلغ من طولها أن استعد الكرادلة لعقد مجمع مقدس لاختيار خلفه. ودعا بمبيو كولنا Pompeo Colonna أسقف ريتي Rieti في الوقت عينه أهل روما إلى الثورة على حكم البابا مدينتهم وإعادة جمهورية ريندسو Rienzo. ولكن البابا أفاق من الإغماءه في اليوم الثاني والعشرين، وتغلب على أطبائه، وشرب جرعة كبيرة من النبيذ؛ ولشد ما أدهش جميع الناس، وخيب ظن الكثيرين منهم، بشفائه من مرضه؛ وزالت الحركة الجمهورية وعفت آثارها من روما. وأعلن يوليوس في الخامس من أكتوبر أنه أنشأ حلفاً مقدساً من البابوية، والبندقية، وإسبانيا، وفي السابع عشر من نوفمبر انضم إليه هنري الثامن ممثلاً إنجلترا. فلما حصل على هذا التأييد، جرد الكرادلة الذين دعوا إلى مجلس بيزا من مناصبهم، وحرم اجتماع هذا المجلس؛ ولما أذن مجلس السيادة في فلورنس بناء على أمر ملك فرنسا بأن يجتمع المجلس المحرم في(20/151)
بيزا؛ أعلن يوليوس الحرب على فلورنس وأخذ يعمل في الخفاء لعودة آل ميديتشي. واجتمع في بيزا سبعة وعشرون من رجال الكنيسة وممثلون لملك فرنسا، وبعض الجامعات الفرنسية، (5 نوفمبر 1911)؛ ولكن أهل المدينة غضبوا غضبة تنذر المجتمعين بالخطر، ولم تكن فلورنس نفسها راضية عن هذا العمل، فاضطر المجلس للانتقال إلى ميلان (12 نوفمبر) حيث كان في مقدور المؤتمرين المنشقين أن يتجملوا وهم آمنون سخرية الشعب تحت حماية الجنود الفرنسيين.
ولما كسب يوليوس هذه المعركة، معركة الأساقفة، عاد مرة أخرى إلى حرب السلاح، واستعد لها بأن ابتاع التحالف مع السويسريين الذين سيروا جيشاً ليهاجم الفرنسيين في ميلان؛ ولكن هذا الهجوم أخفق، وعاد السويسريون إلى بلادهم، فلما حل عيد الفصح في الحادي عشر من إبريل عام 1512 أوقع الفرنسيون بقيادة جاستن ده فوا Gaston de foix وبمعونة مدفعية ألفنسو القوية هزيمة منكرة بجيش حلف رافنا المختلط، وانتقلت رومانيا كلها تقريباً تحت سيطرة فرنسا. وتوسل كرادة يوليوس إليه أن يعقد الصلح، ولكنه أبى؛ واحتفل المجلس المنعقد في ميلان بهذا النصر المؤزر بأن أعلن خلع البابا؛ وضحك يوليوس من هذا الإعلان. وفي اليوم الثاني من شهر مايو حملوه في هودج إلى قصر لاتران، حيث افتتح مجلس لاتران الخامس، ولم يلبث إلا قليلاً حتى تركه يتطور تطوره البطيء، وأسرع هو إلى ميدان القتال.
وفي اليوم السابع عشر من شهر مايو أعلن أن ألمانيا قد انضمت إلى الحلف المقدس ضد فرنسا. واشترى يوليوس السويسريين مرة أخرى فدخلوا إيطاليا عن طريق التيرول Tirol وزحفوا ليلقوا جيشاً فرنسياً أفسد نظامه النصر وموت قائده. وكان الزاحفون أكبر عدداً من الفرنسيين فترك هؤلاء رافنا، وبولونيا، وميلان نفسها، وانسحب الكرادلة المنشقون إلى(20/152)
فرنسا؛ وفر آل بنتيفجلي مرة أخرى، وأصبح يوليوس سيد بولونيا وإقليم رومانيا؛ وانتهز هذه الفرصة للاستيلاء على بارما، وبياتشندسا، وكان يأمل الآن أن يستولي على فيرارا التي لم يعد في وسعها أن تعتمد على مساعدة تأتيها من فرنسا. وعرض ألفنسو أن يأتي إلى روما ويطلب الغفران وشروط الصلح إذا أمنه البابا على حياته في الذهاب والعودة؛ وأجابه يوليوس إلى طلبه، وجاء ألفنسو، وتفضل البابا فغفر له؛ ولكنه لما رفض أن يستبدل بفيرارا بلدة أستي Asti الصغيرة، أعلن يوليوس أن ما وعده به من الأمان غير قائم، وأنذره بالسجن والاعتقال. وأحس فبريدسيو كولنا Fabrizio Colonna الذي كان مكلفاً بحراسة الدوق في مجيئه أن شرفه قد مس، فساعد ألفنسو على الهرب من رومة؛ فعاد إلى فيرارا بعد أن قاسى أشد الأخطار في الطريق، وفيها عاد مرة أخرى يسلح حصونه وأسواره.
وفي ذلك الحين أخذ يضمحل ما كان يتمتع به البابا المحارب من نشاط جبار، فآوى إلى فراش المرض في أواخر شهر يناير من عام 1513 مصاباً بعدة أدواء. وقال الثرثارون النمامون الذين لا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلوبهم إن مرضه هو النتيجة التي تعقب "الداء الفرنسي"، وقال غيرهم إن منشأه الإفراط في الطعام والشراب (14): ولما لم يفلح كل علاج في تخفيف وطأة الحمى، استسلم للموت، وأصدر التعليمات التي تتبع في موكب جنازته، وحث مجلس لاتران على أن يواصل عمله دون انقطاع، واعترف بأنه من أشد الآثمين، وودع الكرادلة، ومات شجاعاً كما عاش شجاعاً (20 فبراير 1513). وحزنت عليه روما بأجمعها، واحتشد لتوديع جثمانه وتقبيل قدميه جمع كبير لم يسبق له مثيل.
وبعد فليس في وسعنا أن نقدر منزلته في التاريخ إلا بعد أن ندرسه بوصفه محرراً لإيطاليا، ومشيداً لكنيسة القديس بطرس؛ وأكبر نصير للفن عرفته البابوية في تاريخها كله. غير أن معاصريه كانوا على حق حين(20/153)
نظروا إليه على أنه حاكم ومحارب أولاً وقبل كل شيء. فقد كانوا يخشون نشاطه الجبار، واندفاعه، ولعناته وغضبته الشديدة التي يبدو أنها إذا اندلع لهيبها لا تخمد أبداً. ولكنهم كانوا يشعرون أن وراء عنفه روحاً في وسعها أن ترحم وتحب (1). ولقد رأوه يدافع عن الولايات البابوية بقسوة وشدة غير مقيدة بمبدأ أو ضمير كما كان آل بورجيا يفعلون، ولكنه لم يكن يسعى إلى عظمة أسرته؛ وكان الناس جميعاً، إذا استثنينا أعداؤه وحدهم، يمجدون أهدافه، حتى في الوقت الذي كانوا يرتجفون فيه من ألفاظه، ويأسفون لما يلجأ إليه من وسائل. ولم يحسن يوليوس حكم الولايات التي استردها كما كان يحسنه سيزاري بورجيا، لأن ولعه الشديد بالحرب كان يحول بينه وبين إصلاح أداة الحكم؛ ولكن فتوحه كانت فتوح باقية على مدى الزمان، حتى لقد بقيت الولايات البابوية من ذلك الحين موالية للكنيسة إلى أن قضت ثورة عام 1870 على سلطة الباباوات الزمنية. ولقد أخطأ يوليوس - كما أخطأت البندقية، وكما أخطأ لدوفيكو والإسكندر، في استدعاء الجيوش الأجنبية إلى إيطاليا، ولكنه أفلح في ما لم يفلح فيه سابقوه ولاحقوه وهو تطهير إيطاليا من تلك القوات بعد أن أدت مهمتها. ولعله قد أضعف إيطاليا حين أنجاها من أعدائها، وعلم "البرابرة" أن في وسعهم أن يحاربوا حروبهم في سهول لمباردي ذات الشمس الساطعة. ولقد كانت في عظمته عناصر من القسوة، وكانت الرغبة في الكسب هي التي دفعته إلى مهاجمة فيرارا والاستيلاء على بياتشندسا وبارما. ولم يكن يحلم بالاحتفاظ بأملاك الكنيسة المشروعة فحسب، بل كان يحلم فوق ذلك بأن يجعل نفسه سيد أوروبا، والآمر المطاع للملوك. وقد شهر به جوتشيارديني لأنه "جاء للكرسي الرسولي بدولة استخدم فيها قوة السلاح، وسفك فيها دماء المسيحيين، بدل أن يعنى
_________
(1) أنظر حبه الشديد لفدريجو ابن إزبلادست، وقد بلغ من هذا الحب أن المغتابين لم يستنكفوا أن يفسروه أقذر تفسير.(20/154)
بأن يضرب للناس مثلاً في الحياة الصالحة" (16). ولكنا يصعب علينا أن ننتظر من يوليوس، في زمانه ومكانه، أن يتخلى عن الولايات البابوية للبندقية وغيرها من المعتدين، وأن يجازف بجعل الكنيسة تعتمد على الأسس الروحية دون غيرها، وذلك في الوقت الذي لم يكن فيه كل العالم الذي حوله يعترف بحق ما إلا للذين يسلحون أنفسهم بالقوة المادية. لقد كان هو ما يجب أن يكونه في ظروف وقته وفي الجو الذي كان يعيش فيه، ولقد غفرت له الأيام ما ارتكبه من ذنوب.(20/155)
الفصل الثاني
العمارة الرومانية
1492 - 1513
كان تشجيع الفن أبقى أعمال يوليوس؛ ذلك أن حاضرة النهضة انتقلت في أيامه من فلورنس إلى روما، وفيها وصلت النهضة في الفن إلى ذروتها في الأدب والعلم. ولم يكن يوليوس كثير العناية بالأدب، لأن الأدب كان أهدأ وأكثر أنوثة من أن يوائم مزاجه، أما الضخامة في الفن فكانت توائم فطرته وحياته، ولهذا أخضع للعمارة كل ما عداها من الفنون، وترك وراءه كنيسة جديدة للقديس بطرس لتكون دليلاً خالداً على روحه، ورمزاً للدين الذي أنجى سلطانه الزمني. وإن من عجائب النهضة ومن أسباب الإصلاح الديني أن يمد يوليوس بالمال برامنتي، ومايكل أنجيلو ورفائيل ومائة غيرهم من الفنانين، وأن يجد المال اللازم لأكثر من عشر حروب، ثم يترك وراءه في الخزانة البابوية مائة ألف فلورين.
ولم يستقدم رجل غيره إلى روما مثل هذا العدد الذي استقدمه هو من الفنانين؛ فقد كان هو مثلاً الذي استدعى جويوم ده مارسلات Guillaume de Marcillat من فرنسا ليركب النوافذ الزجاجية الملونة لكنيسة سانتا ماريا دل بوبولو. وكان مما يمتاز به تفكيره وإدراكه أنه حاول التوفيق بين المسيحية والوثنية في الفن، كما حاول ذلك نقولاس الخامس في الأدب؛ وهل مصورات رفائيل إلا تناسق مقرر بين الأساطير والفلسفة القديمتين، وبين اللاهوت والشعر العبريين، وبين العاطفة والعقيدة المسيحيتين؟ وأي شيء يمكن أن يمثل اتحاد الفن والشعور الوثنيين والمسيحيين غير الباب والقبة، والعمد الداخلية، والتماثيل والصور الملونة، ومقابر كنيسة(20/156)
القديس بطرس؟ وحذا حذو البابا كبار رجال الدين والأعيان، ورجال المصارف والتجار الذين امتلأت بهم روما بعد أن زاد فيها الثراء، فشادوا القصور تكاد تضارع في فخامتها قصور الأباطرة العظام، ينافس بها بعضهم بعضاً في الثراء، وشقت شوارع رئيسية واسعة خلال المدينة وفيما كان عليه تخطيطها في العصور الوسطى من فوضى واضطراب، وفتحت مئات من الشوارع الفرعية الجديدة لا يزال واحد منها يحمل اسم البابا العظيم،، وقصارى القول أن روما القديمة قامت من بين خرائبها وأنقاضها وأضحت من جديد موطناً لقيصر من القياصرة العظام.
وإذا ما استثنينا كنيسة القديس بطرس كان لنا أن نقول إن ذلك العصر كان في روما عصر القصور لا عصر الكنائس. وكانت هذه القصور من الخارج بسيطة متماثلة في مظهرها! فكانت واجهة القصر على شكل مستطيل كبير مقام من الآجر، أو الحجر، أو الجص، وكان مدخله من الحجر يزين في العادة برسوم، وفي كل طابق صفوف متماثلة من النوافذ، من فوقها قوصرات مثلثة إهليجية الشكل، وتكاد تعلوها على الدوام شرفة تكون رشاقة شكلها الخارجي محكاً خاصاً للمهندس وموضعاً لعنايته. وكان أصحاب الثراء الموفور يخفون وراء الواجهة المتواضعة ما لا حصر له من الزخرف والأبهة التي قلما تقع عليها عين الشعب الغيور الحاسدة: فقد كان من خلف هذه الواجهة بئر مركزية تحيط بها أو تفصلها عما حولها درج عريضة من الرخام؛ وكانت في الطابق الأرضي حجرات بسيطة تستخدم لإنجاز الأعمال أو خزن المتاع، وفي الطابق الأول -أو الثاني كما يسميه الأمريكيون- حجرات الاستقبال والولائم الرحبة، ومعارض الفن، أرضها من الرخام أو القرميد الصلب الملون، وفيها الأثاث، والطنافس، والأنسجة البديعة في مادتها وأشكالها، والجدران تقويها العمد المربوعة؛ والسقف ذات اللوحات المزخرفة الغائرة مستديرة، أو مثلثة، أو ماسية الشكل، أو مربعة،(20/157)
وعلى الجدران والسقف صور من صنع الفنانين الذائعي الصيت، تمثل في العادة موضوعات وثنية، لأن الطراز الحديث في تلك الأيام كان يقضي بأن يحيا السادة المسيحيون، حتى رجال الدين منهم، وسط مناظر مستقاة من الأساطير القديمة. وفي الأطباق العليا كانت الحجرات الخاصة بالسادة والسيدات، والخدم أصحاب الأزياء الخاصة، والأطفال والمراضع والمربيات، والمعلمين الخصوصيين والمعلمات، والوصيفات. وكان للكثيرين من الناس من الثراء ما يمكنهم من أن يتخذوا لهم فضلاً عن تلك القصور بيوتاً خلوية في الريف أو الضواحي يلجأون إليها من صخب المدينة أو حر الصيف. وقد تخفي هذه البيوت الريفية الكثير من الجلال، والزخرف، وأسباب النعيم، والروائع الفنية التي أخرجتها أيدي رفائيل، وبيروتشي، وجويليورومانو، وسباستيانو دل بيمبو Sebastino del Piombo ... وقد كانت هندسة القصر والبيت الريفي السالفة الذكر فناً أنانياً في كثير من نواحيه؛ تظهر فيه الثروة المنتزعة من العمال الذين لا تقع عليهم عين الثري، ولا يحصيهم عد، ومن الأراضي القاصية، وتفخر بالزخرف الزاهي الذي تستمتع به أقلية من أصحاب الثراء. ولقد كانت بلاد اليونان القديمة وأوربا في العصور الوسطى أنبل روحاً وأرق طبعاً في هذه الناحية. ذلك أن هذه أو تلك لم تكن تنفق ثروتها في الترف والملاذ الخاصة، بل كانت تنفقها في تشييد الهياكل والكنائس التي كانت ملك الناس جميعاً ومصدر فخرهم وإلهامهم، وكانت بيوت الشعب كما كانت بيوت الله.
وكان اثنان من بين المهندسين المعماريين في روما في عهد الإسكندر السادس أخوين، وكان ثالث ابن أخ لهما. وأحد هذين الأخوين هو جوليانوا دا سنجلو Guiliano da Sangallo، الذي بدأ حياته مهندساً عسكرياً في جيش فلورنس، ثم انتقل إلى خدمة فيرانتي صاحب نابلي؛ وأصبح صديقاً لجوليانو دلا روفيري، في الأيام الأولى من كردناليته.(20/158)
وحول جوليانو المهندس لجوليانو الكردنال دير جرتا فيراتا Grottaferrata إلى حصن حصين؛ وهو الذي صمم السقف ذا اللوحات الغائرة المزخرفة في كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وكفتها بأول ما جيء به من الذهب من القارة الأمريكية. ورافق الفنان الكردينال دلا روفيري في منفاه، وشاد له قصراً في سافونا، وانتقل معه إلى فرنسا، ثم عاد إلى روما لما اعتلى نصيره آخر الأمر عرش البابوية. وطلب إليه يوليوس أن يعرض عليه رسوماً لكنيسة القديس بطرس الجديدة؛ فلما فضل البابا عليها رسوم برامنتي، وجه المندس الشيخ اللوم إلى البابا، ولكن يوليوس كان يعرف ما يريده هو لا ما يريده له غيره. وعاش سنجلو بعد أن مات برامنتي ويوليوس، وعيّن فيما بعد مشرفاً على أعمال رفائيل ومساعداً له في بناء كنيسة القديس بطرس، ولكنه مات بعد عامين من تعيينه في ذلك المنصب. وكان أخوه الأصغر دا سنجلو قد قدم في هذه الأثناء من فلورنس ليكون مهندساً معمارياً وعسكرياً للإسكندر السادس، وشاد ليوليوس كنيسة سانتا ماريا دي لوريتو Santa Maria di Loreto ذات الروعة والفخامة، وشرع كذلك أنطونيو بكوني دا سنجلو Antonio Picconi da Sangallo ابن أخيهما في عام 1512 في بناء أفخم قصور النهضة على الإطلاق وهو قصر فرنيزي Pallazo Farnese.
غير أن أعظم الأسماء كلها في عمارة ذلك العصر هو اسم دوناتو برامنتي Donato Bramante. وكان قد بلغ السادسة والخمسين من عمره حين قدم إلى روما من ميلان (1499)، ولكن دراسته للخرائب بروما ألهبت في صدره حماسة الشباب وأثارت فيه رغبة قوية في أن يطبق الأشكال الرومانية القديمة على مباني النهضة، وقد بدأ هذا التطبيق في بناء دير للرهبان الفرنسيس قريب من سان بيترو San Pietro في منتوريا Montoria إذ خطط معبداً صغيراً Tempietto ذا عمد وسقف مستدير شبيه كل الشبه بالمعابد الرومانية القديمة إلى حد دعا المهندسين إلى دراسته وقياس أبعاده، كأنه آية من آيات الفن(20/159)
القديم كشفت حديثاً. وانتقل برامنتي من هذه البداية إلى عدد من الروائع الفنية الأخرى: منها الطريق المقنطر المسقوف في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace، والبهو الظريف في سان داماسو ... وغمره يوليوس بالمطالب، سواء منها ما يختص بالعمارة وما يختص بالهندسة العسكرية. فأنشأ طريق جويليا Via Guilia، وأتم قصر بلفدير، وبدأ الشرفة المكشوفة في قصر الفاتيكان، ووضع رسماً جديداً لكنيسة القديس بطرس. وقد بلغ شغفه بعمله درجة لم يكن يعنى معها بالمال، حتى اضطر يوليوس أن يأمره بأن يقبل مناصب تدر عليه إيراداً يفي بنفقاته (17). لكن بعض منافسيه اتهموه باختلاس أموال البابا، وباستخدام المواد الرخيصة في مبانيه (18). أما غيرهم فقد وصفوه بأنه شخص مرح كريم الطبع، جعل بيته مقاماً مفضلاً لبروجينو، وسنيوري، وبنتورتشيو، ورفائيل وغيرهم من أهل الفن في روما.
وكان قصر بلفدير قصراً صيفياً مشيداً للبابا إنوسنت الثامن، ويقوم على ربوة تبعد نحو مائة ميل عن سائر مباني الفاتيكان. وقد اشتق اسمه من البل فدير bel vedere أي المنظر الجميل الذي يمتد أمامه، وتسمت باسمه بعدئذ عدة تماثيل وضعت في حجراته أو في فنائه. وكان يوليوس من زمن طويل مولعاً بجمع روائع الفن القديم، وكان أثمن ما يملكه منها تمثال لأبلو كشف في أثناء بابوية إنوسنت الثامن، فلما ارتقى عرش البابوية وضعه في فناء البلفدير، وأصبح أبلو بلفدير من أشهر تماثيل العالم على الإطلاق. وأنشأ رامنتي للقصر واجهة جديدة وفناء جديد ذا حديقة، ووضع خطة لتوصيله بقصر الفاتيكان نفسه بطائفة من المباني والحدائق الجميلة، ولكنه هو ويوليوس عاجلتهما المنية قبل أن تنفذ هذه الخطة.
وإذا ما عزونا سبب النهضة بوجه عام إلى بيع صكوك الغفران لتبني بالمال الذي تجمع من هذا البيع كنيسة القديس بطرس، كانت أهم حادثة(20/160)
في ولاية يوليوس هي هدم كنيسة القديس بطرس القديمة وبدء الكنيسة الجديدة. وتقول الرواية المأثورة أن الكنيسة القديمة قد بناها البابا سلفستر Sylvester الأول (326)، فوق قبر الرسول بطرس بالقرب من حلبة نيرون. وفي هذه الكنيسة توج كثير من الأباطرة من أيام شارلمان وما بعدها، وكثير من البابوات. وقد وسعت رقعتها المرة بعد المرة حتى كانت في القرن الخامس عشر باسلقا رحبة ذات صحن وجناحين مزدوجين تحيط بهما كنائس، وأمكنة للصلاة، وأديرة. ولكنها ظهر عليها قبيل أيام نقولاس الخامس أثر الأحد عشر من القرون التي مرت بها، فظهرت شقوق طويلة في الجدران، وخشي الناس أن تنهار في أي وقت من الأوقات، وقد تنهار على من فيها من المصلين. ومن أجل هذا كلف برناردو رسيلينو Bernardo Rosellino وليون باتستا ألبيرتي Leon Battista Alberti في عام 1452 بأن يقويا هذا الصرح بإنشاء جدران له جديدة. وما كاد العمل يبدأ حتى توفي نقولاس، ووقف من جاء بعده من البابوات العمل فيها لحاجتهم إلى المال في الحروب الصليبية. فلما كان عام 1505 صمم يوليوس الثاني، بعد أن فحص عدة رسوم مختلفة ورفضها جميعاً، أن يهدم الكنيسة القديمة ويبني ضريحاً جديداً كله فوق المكان الذي قيل إنه قبر القديس بطرس. ولهذا دعا عدداً من المهندسين أن يعرضوا عليه رسوماً لها. وفاز برامنتي وكان مشروعه يقضي ببناء باسلقا جديدة على شكل صليب يوناني (ذي ذراعين متساويتين في الطول)، وأن يتوج ملتقى الجناحين الفرعيين بقبة ضخمة؛ وقال بالعبارة الذائعة الصيت التي تعزى إليه إنه سيقيم قبة الباتثيون على باسلقا قسطنطين. وكان برامنتي يعتزم أن يمتد الصرح الفخم على 28. 900 ياردة مربعة -أي أكثر من المساحة التي تشغلها كنيسة القديس بطرس في هذه الأيام بأحد عشر ألفاً وستمائة من الياردات المربعة. وبدئ في حفر الأساس في شهر إبريل من عام 1506، وفي 11 إبريل نزل(20/161)
يوليوس، وكان وقتئذ في الثالثة والستين من عمره، على سلم طويل مهتز من الحبال إلى عمق كبير ليضع حجر الكنيسة الأساسي. وسار العمل ببطيء لأن يوليوس أخذ يزداد انهماكاً في الحرب وتزداد نفقاته عليها. ثم توفي برامنتي في عام 1514، وهو لا يعرف لحسن حظه إن مشروعه لن ينفذ.
وصدمت مشاعر كثيرين من المسيحيين الصالحين حين فكروا في أن الكنيسة الكبرى القديمة المعظمة سوف تهدم. وعارضت كثرة الكرادلة في هدمها أشد المعارضة، وشكا كثيرون من الفنانين من أن برامنتي قد حطم في غير مبالاة ما كان في صحن الكنيسة القديم من عمد وتيجان ظريفة، وقالوا إنه لو بذل أكثر مما بذل من عناية لاستطاع أن يحتفظ بها سليمة. ونشر أحد الكتاب فيه هجاء بعد ثلاث سنين من موت المهندس قال إن القديس عنف برامنتي أشد التعنيف حين وصل إلى باب كنيسته، وإنه منع من دخول الجنة. ويزيد الهجاء على ذلك قوله: ولكن برامنتي لم يعجبه نظام الجنة مطلقاً، أو الطريق الشديد الانحدار الموصل إليها وقال: "سأنشئ طريقاً جديداً، واسعاً، مريحاً، تستطيع الأرواح الضعيفة الطاعنة في السن أن تسير فيه على ظهور الخيل، ثم أنشئ بعد ذلك جنة جديدة تحوي مساكن مبهجة للصالحين الأبرار". فلما رفض بطرس هذا العرض طلب برامنتي لأن ينزل إلى جهنم، ويبني فيها جحيماً خيراً من جحيمها القديم، لأن هذا الجحيم قد طال به العهد فكاد بلا شك يحترق عن آخره. ولكن بطرس عاد فسأله: "قل لي بحق، ما الذي دعاك إلى هدم كنيستي؟ " وحاول برامنتي أن يهدئ من غضبه فقال: "إن البابا ليو سيشيد لك كنيسة جديدة"، فرد عليه الرسول بقوله: "عليك إذن أن تنتظر عند باب الجنة حتى يتم ذلك العمل" (19).
وتم العمل فعلاً في عام 1626.(20/162)
الفصل الثالث
رفائيل الشاب
1 - نشأته
لما مات برامنتي عين ليو العاشر خلفاً له في منصب المشرف على العمل في كنيسة القديس بطرس الجديدة مصوراً شاباً في الحادية والثلاثين من عمره، ينوء لصغر سنه بعبء ذلك العمل الضخم، وهو إقامة قبة برامنتي، ولكنه أصبح أسعد الفنانين في التاريخ كله، وأعظمهم نجاحاً، وأقربهم إلى القلوب.
وبدأ الحظ يبسم له من يوم أن ولد لجيوفني ده سانتي Giovanni de' Santi حامل لواء المصورين في أربينو في ذلك الوقت. وقد بقيت لدينا صور من عمل جيوفني، وهي توحي بأنه ذو ذكاء عادي؛ ولكنها تدل على أن رفائيل- وهو اسم أجمل الملائكة جميعاً- نشأ محباً أعظم الحب للتصوير؛ وكثيراً ما كان بعض الفنانين يزورون جيوفني ويقيمون في منزله. وكان جيوفني ملماً بفن زمانه إلماماً يمكنه أن يكتب في تاريخ أربينو المقفى كتابة تنم عن العقل والذكاء في أكثر من عشرة من المصورين والمثالين الإيطاليين وأمثالهم من الفلمنكيين. وتوفى جيوفني ولما يتجاوز رفائيل السابعة من عمره، ولكن يلوح أن الأب كان قد بدأ يغرس حب الفن في نفس ولده. وأكبر الظن أن تيموتيو فيتي Timoteo Viti، وكان قد عاد من بولونيا إلى أربينو في عام 1405 بعد أن درس مع فرانتشيا Francia، واصل تعليم رفائيل، وجاء إليه بما كان قد أخذه عن فرانتشيا، وتورا، وكستا. ونشأ الغلام في تلك الأثناء في محيط من(20/163)
يستطيعون الاتصال بالبلاط؛ وكان المجتمع الرقيق الظريف الذي وصفه كستجليوني بعدئذ في كتابه المسمى رجل الحاشية قد أخذ ينشر بين الطبقات المتعلمة في أربينو دماثة الخلق، ورقة الأدب، والحديث، وهي الصفات التي أظهرها رفائيل بفنه وحياته. وفي المتحف الأشمولي Ashmolean Museum بأكسفورد صورة عجيبة تعزى إلى رفائيل في الفترة الواقعة بين عامي 1497 و 1500، وتظن الرواية المتواترة أنها تمثله هو. ووجهه في هذه الصورة يكاد يكون وجه أنثى، أما عيناه فرقيقتان كعيون الشعراء. وهذه هي المعارف التي سنلتقي بها مرة أخرى فيما بعد، وسنلتقي بها أكثر قتاماً وفيها القليل من القلق والبلبال، في الصورة الجذابة التي رسمها لنفسه (في عام 1506 في الغالب) والمحفوظة في معرض بتي Pitti.
فليتصور القارئ ذلك الشاب كما تظهره الصورة الأولى وهو ينتقل في السادسة من عمره من أربينو التي يسودها الهدوء والنظام إلى بروجيا كان فيها بروجينو الذي طبقت شهرته جميع أنحاء إيطاليا؛ وأحس أعمام رفائيل الذين كانوا يتولون أمره أن مواهب الشاب البادية للعيان خليقة بأن تتلقى التعليم من أعظم المصورين في إيطاليا. وكان يسعهم أن يرسلوه إلى ليوناردو في فلورنس حيث يستطيع أن يتشرب ما في فن ذلك الأستاذ من نزعة للغموض والخفاء؛ ولكن الفنان الفلورنسي العظيم كان يتصف بشيء خاص به، شيء غير مألوف أو، بعبارة أخرى، شيء يساري، شيء مشئوم- في عشقه- لا يروق في أعين كل الأعمام الصالحين. يضاف إلى هذا أن بروجيا كانت أقرب إلى أربينو من فلورنس، وأن بروجينو كان عائداً من بروجيا (1499) ومعه جميع الحيل التطبيقية (2) التي يعرفها المصورون الفلورنسيون ويطبقونها في يسر ودون كلفة. وهكذا ظل الغلام الوسيم ثلاث سنين يعمل عند بترو فانوتشي Pietro Vannucci، ويساعده في(20/164)
زخرفة الكمبيو Cambio، حتى ألم بجميع أسراره، وعرف كيف يصور العذارى زرقاء خاشعة كعذارى بروجيو نفسه. وكانت تلال أمبريا Umbria، وخاصة ما كان منها فوق أسيسي وحولها، زالتي كان في وسع كما أرجو أن يبصرها من هضبة بروجيا، وكانت هذه التلال تمد المعلم والطالب وفيض كامل من الأمهات الساذجات الوفيات ذوات الشباب الجميل، ولكن الجو الفرنسيسي الذي يستنشقنه كان يصوغهن فيجعل منهن أمهات تقيات موثوق بتقواهن.
ولما عاد بروجينو إلى فلورنس (1502) بقي رفائيل في بروجيا ووقع عليه عبء المطالب التي نماها أستاذه في تلك البلدة للصور الدينية. ففي عام 1503 رسم لكنيسة القديس فرانسس صورة تمثل تتويج العذراء توجد الآن في الفاتيكان: وفيها يقف الرسل ومعهم مجدلين حول تابوت خال، ويتطلعون إلى أعلى حيث يقف المسيح فوق السحب ويضع تاجاً على رأس مريم، بينما يحييها الملائكة بالعود والرق. وتبدو في هذه الصور شواهد كثيرة على عدم النضوج: فالرؤوس ليس فيها ما يكفي من الانفرادية، والوجوه قليلة التعبير، والأيدي ليست حسنة التشكيل، والأصابع جامدة غير لينة، والمسيح نفسه أكبر بلا شك من أمه الجميلة، وهو يتحرك حركات سمجة كأنه ناشئ حديث التخرج. ولكن رفائيل أظهر في صورة الملائكة الموسيقيين - في رشاقة حركاتهم، وهفهفة أثوابهم، وفي الخطوط الخارجية لمعارفهم- ما سوف يكونه في المستقبل.
ويبدو أن الصورة لاقت نجاحاً؛ وشاهد ذلك أن كنيسة أخرى تدعى كنيسة سان فرانتشيسكو في تشتا دي كاستلو Citta di Castello تبعد نحو ثلاثين ميلاً من بروجيا طلبت إليه أن يرسم لها صورة مثل الصورة السابقة هي صورة الأسبوسالدسيو Sposalizio أو زواج العذراء (المحفوظة في بريرا brera) . وتكرر في هذه الصور بعض أشكال الصورة الأولى،(20/165)
وتحذو في شكلها حذو صورة مماثلة لها من عمل بروجينو. ولكن العذراء نفسها تبدو عليها سمات نساء رفائيل ورشاقتهن - في الرأس المائل في تواضع، والوجه الحنون الحيي، والانحناء الخفيف في الكتف والذراع والثياب. ومن خلف العذراء امرأة أكثر منها مرحاً وحيوية، شقراء جميلة. وإلى اليمين شاب في ملابس ضيقة تدل على أن رفائيل قد عكف على دراسة الجسم البشري؛ والأيدي كلها الآن حسنة الرسم وبعضها جميل.
وكان بنتورتشيو قد تعرف حوالي ذلك الوقت برفائيل في بروجيا فدعاه إلى سينا ليكون مساعداً له؛ وفيها رسم رفائيل صوراً تخطيطية، وأخرى تمهيدية، لبعض المظلمات الرائعة التي يقص بها بنتورتشيو في مكتبة الكنيسة أجزاء من قصة إينياس سلفيوس قصصاً خليقة بالبابوات. واسترعت أنظار رفائيل في تلك المكتبة طائفة من التماثيل القديمة الطراز. هي تماثيل ربات الجمال التي جاء بها الكردنال بكولوميني من روما إلى سينا. ورسم الفنان الشاب صورة سريعة لهذه التماثيل، ليساعد بها ذاكرته على ما نظن. ويبدو أنه وجد في هذه الصور الثلاث العارية عالماً مختلفاً، وأخلاقاً مختلفة، عما انطبع في ذهنه في أربينو وبروجيا - عالماً كانت فيه المرأة إلهة مبتهجة من ربات الجمال، بدل أن تكون أم الإله الحزينة، وتعد فيه عبادة الجمال عملاً مشروعاً لا يقل في ذلك عن تعظيم العفة والطهارة. ونما في ذلك الوقت الجانب الوثني من رفائيل، وهو الذي أمكنه في مستقبل الأيام من رسم نساء عاريات في حمام أحد الكرادلة، ووضع فلاسفة اليونان إلى جانب القديسين المسيحيين في حجرات الفاتيكان، وتطور هذا الجانب تطوراً هادئاً ملازماً لتلك الناحية من طبعه وفنه الذين أنتجا فيما بعد صورتي قداس بلسينا Bolsena وعذراء سستيني. وسنجد في صور رفائيل أكثر مما نجده في أي بطل آخر من أبطال النهضة، الإيمان المسيحي والبعث الوثني يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وانسجام.(20/166)
وعاد رفائيل بعد زيارته إلى سينا أو قبل هذه الزيارة بزمن قصير إلى أربينو حيث قضى قليلاً من الوقت؛ وهناك رسم لجويدو بلدو صورتين ترمزان في أغلب الظن لانتصار الدوق على سيزاري بورجيا: وهما صورتا القديس ميخائيل والقديس جورج، وكلتاهما في متحف اللوفر. ومبلغ علمنا أن الفنان لم يفلح قبل ذلك الوقت في تمثيل العمل والحركة مثل ما أفلح رفائيل في هاتين الصورتين؛ فصورة القديس جورج وهو يستل سيفه ليهوي به على الهولة، بينما يقفز جواده على خلفيتيه من شدة الرعب، وتنشب الهولة مخالبها في ساق الفارس، ذلك كله يدهش الناظر بقوته ولكنه مع ذلك يسر العين برشاقته؛ وهكذا بدأ رفائيل الرسام يعرف قدر نفسه.
وتدعوه وقتئذ فلورنس كما دعت من قبله بروجينو ومائة غيره من المصورين الشبان. ويبدو أنه شعر بأنه إن لم يعش فترة من الزمان في تلك الخلية الحافزة التي ديدنها التنافس والنقد، فيتعلم فيها مباشرة وعن كثب آخر تطورات الخطوط والتأليف واللون، في المظلمات والتصوير الزلالي والزيتي، إن لم يفعل هذا وذاك فلن يكون أكثر من رسام إقليمي، موهوب ولكنه محدود المجال، قدر عليه آخر الأمر أن يظل مغموراً في بيته وفي المدينة التي ولد بها. ومن أجل هذا رحل إلى فلورنس في أواخر عام 1504.
وفيها سلك كعادته مسلك الرجل المتواضع، فدرس أعمال النحت القديمة وقطعاً من فن العمارة جمعت في المدينة، وذهب إلى الكارميني Carmine ونقل صور ماساتشيو Masaccio، وبحث عن الصور التمهيدية التي أعدها ليوناردو وميكل أنجيلو لتكون صوراً في قاعة المجلس في قصر فيتشيو. ولعله التقى هنا بليوناردو، وما من شك في أنه خضع وقتاً ما إلى تأثير هذا الأستاذ الذي يحير كل من يخضع له؛ وبدا له وقتئذ أن جميع الصور التي أخرجتها مدارس الفن في فيرارا، وبولونيا، وسينا، وأربينو(20/167)
إذا قيست إلى صورتي عبادة المجوس، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل، والقديسة آن بدت وكأنها ميتة لا حياة فيها؛ بل إن عذارى بروجينو لم تكن إذا قيست إليها إلا دمى جميلة، أو فتيات غير ناضجات من بنات الريف وهبن على حين غفلة قداسة غير موائمة لهن. تُرى كيف كانت لليوناردو هذه الرشاقة في رسم الخطوط، وهذه المهارة في تصوير الوجوه، وهذا الإتقان في تمثيل ظلال الألوان؟ وما من شك في أن رفائيل قلد صورة موناليزا في صورة مدالينا دوني Maddalena Doni ( المحفوظة في بتي Pitti) ، وإن كان قد حذف منها ابتسامتها لأن سيدة دوني لم تكن فيما يبدو تبتسم؛ ولكنه أجاد تصوير جسم السيدة الفلورنسية القوي المتين البناء، ويديها الناعمتين، المكتنزتين، المتخمتين، اللتين تمتاز بهما صاحبات المال المنعمات، ونسيج الثياب الغالي ذي اللون الجميل الذي يكسب هذا الشكل إجلالاً ومهابة. وصور رفائيل في الوقت عينه زوجها أنجيلو دوني Angelo Doni أسمر اللون، يقظاً، صارماً.
وانتقل من عند ليوناردو إلى الراهب بارتولميو، فزاره في صومعته في سان ماركو، ودهش مما شاهده في فن الراهب الحزين من حنان التعبير، وحرارة الشعور، ورقة الخطوط الخارجية، وانسجام التأليف، وعمق الألوان وكمالها. وزار الراهب بارتولميو رفائيل بعدئذ في روما عام 1514 ودهش هو أيضاً كما دهش رفائيل قبله من السرعة التي علا بها شأن الفنان المتواضع حتى بلغ ذروة المجد في عاصمة العالم المسيحي. والحق أن رفائيل قد بلغ هذه الدرجة من العظمة لأنه كان في مقدوره أن يسرق بنفس الطهارة التي كان يسرق بها شكسبير، ولأنه كان بمقدوره أن يجرب وسيلة بعد وسيلة وطرازاً بعد طراز، ويأخذ من كل طراز ما فيه من عناصر ثمينة، ثم يخرج ما أخذه منها مدفوعاً بتحمسه للخلق وللإبداع فيجعل منه أسلوباً لا شك في أنه أسلوبه الخاص دون سواه.(20/168)
ولقد استحوذ على تقاليد التصوير الإيطالي الفنية جزءاً جزءاً وما لبث أن بلغ بها حد الكمال.
وكان في هذه الفترة الفلورنسية (1504 - 1505، 1506 - 1507) قد شرع يرسم صوراً تطبق الآن شهرتها العالم المسيحي وغير العالم المسيحي. ففي متحف بودابست Budapest مثلاً صورة شاب -لعلها صورة له هو- له نفس البيرية (1) ونظرة العينين الجانبية التي نشاهدها في صورة معرض بتي. ورسم رفائيل وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره صورة مادنا دل غراندوقا Madonna del Granduca أي سيدة الدوق الأكبر (معرض بتي) التي صور وجهها ذا الشكل البيضي الكامل، وشعرها الحريري، وفمها الصغير، وجفونها الشبيهة بجفون نساء ليوناردو وقد خفضتها في حب حزين، نقول إنه صور هذه المعارف ليعارض بها معارضة قوية قناعها الأخضر ورداءها الأحمر. وكان فرديناند الثاني دوق تسكانيا الأكبر يجد من السرور في مشاهدة هذه الصورة ما يحمله على أن يأخذها معه في أسفاره- ومن هنا اشتق اسمها. ولا تقل عن هذه جمالاً صورة مادنا دل كارديلينو Madonna del Cardellino أي سيدة الحسُّون (2) (في متحف أفيزي)، فالطفل المسيح في هذه الصورة آية رائعة من آيات التفكير، ولكن القديس يوحنا، الذي يصل ظافراً بالطائر مقبوضاً عليه يلعب به، بهجة للعقل والعين، ووجه العذراء يمثل تمثيلاً لا يمكن أن ينمحي من الذاكرة حنان الأم الشابة المتسامحة. وقد أهدى رفائيل لورندسو ناسي Lorenzo Nasi هذه الصورة بمناسبة زفافه؛ ولكن زلزالاً حدث في عام 1547 هدم بيت ناسي وحطم الصورة؛ ثم جمعت قطعها بحذق وعناية لا يستطيع أحد معها أن يحدس ما أصابها
_________
(1) Beret لباس للرأس. (المترجم)
(2) طائر أوربي صغير براق اللون من طيور الزينة. (المترجم)(20/169)
إلا بيرينسون Berenson بعد أن شاهدها في متحف أفيزي. لكنه كان في صورة السيدة في المرج (المحفوظة في متحف فينا) أقل توفيقاً منه في الصورة السابقة، وإن كان رفائيل يرسم لنا فيها منظراً طبيعياً فذا، مغموراً في ضوء المساء الأزرق الخفيف المتساقط على الحقول الخضراء، والمجرى الأملس المستوي السطح، والمدينة ذات الأبراج، والتلال النائية. وصورة البستاني الجميل (متحف اللوفر) لا تكاد تستحق أن توصف بأنها صورة أجمل السيدات الفلورنسيات. فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل من صورة سيدة المرج، وهي تمثل يوحنا المعمدان من أنفه إلى قدمه تمثيلاً مضحكاً سخيفاً، ولا يرفع من شأنها إلا صورة الطفل المثالية وهو واقف بقدميه المكتنزتين على قدم العذراء العارية، رافعاً عينيه نحوها في حب وثقة. وأحسن صور ذلك العهد وأعظمها طموحاً نحو الكمال صورة مادنا دل بلداتشينو (سيدة المظلة) Madonna del Baldacchino ( المحفوظة في معرض بتي) - وفيها ترى الأم العذراء جالسة فوق مظلة، يفتح طياتها ملكان، ويقف إلى جانبيها قديسان، ويغني عند قدميها ملكان آخران. والصورة كلها عمل تقليدي عرفي سبب شهرتها الوحيد أنها من صنع رفائيل.
وقطع مقامه في فلورنس عام 1505 ليزور بروجيا ويقوم فيها بعملين، أحدهما هو ستار المذبح الذي رسم عليه صورة لراهبات دير القديس أنطونيوس، وهو الآن من أنفس الصور في معرض نيويورك الفني. وفيه نجد العذراء في داخل إطار منحوت نحتاً جميلاً، جالسة على عرش، تشبه "راهبة" وردسورث Wordsworth التي "تتقطع أنفاسها من العبادة"؛ والطفل في حجرها يرفع إحدى يديه ليبارك الرضيع القديس يوحنا؛ وفيها صورتان لسيدتين- هما القديسة تشيتشيليا والقديسة كترين الإسكندرية- تحيطان بالعذراء. ويرى في مقدمه الصورة القديس بطرس(20/170)
عابساً، والقديس بولس يقرأ، وفي مشكاة في أعلاها يرى الله الأب يحيط به الملائكة، ويبارك أم ابنه ويمسك العالم بإحدى يديه. وفي إحدى اللوحات يصلي المسيح على جبل الزيتون والرسل نائمون، وفي لوحة أخرى ترفع مريم جسم المسيح الميت ومجدلين تقبل قدميه الجريحتين. وإن ما في الصورة من تأليف كامل لأشتاتها، وصورة القديسات التي تأخذ بمجامع القلوب، وهن يفكرن في قلق. والفكرة القوية التي أوحت بصورة بطرس المنفعل، والمنظر الفذ للمسيح وهو على الجبل، كل هذا يجعل هذه الصورة التي رسمت لآل كولنا الروائع التي أخرجها رفائيل لا ينازعها في ذلك منازع. ورسم الفنان في تلك السنة نفسها سنة 1506 صورة أقل من هذه روعة: صورة سيدة (محفوظة الآن في المعرض القومي بلندن) لأسرة أنسيدي Ansidie. فيها ترى العذراء على عرشها الضيق، تعلم الطفل القراءة، وإلى يسارها نقولاس قديس باري Bari في ثيابه الأسقفية الفخمة منهمك أيضاً في الدرس؛ وإلى يمينها يوحنا المعمدان وقد بلغ فجاءة سن الثلاثين بينا رفيقه في اللعب لا يزال طفلاً، وهو يشير بإصبعه التقليدية إلى ابن الله.
ويبدو أن رفائيل سافر من بروجيا إلى أربينو مرة أخرى (1506)، وفيها رسم لجويلدوبلدو صورة أخرى للقديس جورج (توجد الآن في ليينجراد) يمسك هذه المرة برمح، وهو في هذه الصورة فارس شاب وسيم مغطى بالزرد تكشف زرقته البراقة عن ناحية أخرى من براعة رفائيل. وأكبر الظن أنه في هذه الزيارة نفسها قد رسم لأصدقائه أكثر صوره الذاتية شهرة (معرض بتي)، وفيها يلبس بيرية سوداء فوق عذائر من الشعر الطويل الأسود؛ ووجه لا يزال في نضرة الشباب، لم يظهر فيه بعد أثر لشعر اللحية؛ وأنف طويل، وفم صغير، وعينين رقيقتين - وقصارى القول أن الوجه كله من الوجوه التي تطالعنا في كل(20/171)
حين وهو أشبه ما يكون بوجه كيتس Keats - ويكشف عن روح طاهرة ناضرة مرهفة الحس بكل ما في العالم من جمال.
وعاد إلى فلورتس في أواخر عام 1506، وفيها رسم بعض صوره الأقل من الصور السابقة شهرة ومنها الصورة المعروفة باسم صورة نقوليني كوبر " Niccolini Cowper"، وهي صورة العذراء والطفل (واشنجتن). وسبب تسميتها بالاسم الأول أن إيرل كوبر الثالث فر بها من فلورنس خلسة مخبأة في بطانة فرش عربته. وليست هي من أحسن صور رفائيل، ولكن أنردو ملون Andrew Mellon ابتاعها بمبلغ 850. 000 دولار ليضمها إلى مجموعته (1928) (20). وبدأ رفائيل وهو في فلورنس عام 1507 صورة أعظم من هذه كثيراً هي صورة دفن المسيح الموجودة في معرض آل بورجيا. وقد كلفته برسمها لكنيسة سان فرانتشيسكو في بروجيا السيدة أطلنطا بجليوني Atlanta Baglioni التي خرت راكعة فوق ابنها المحتضر في شارع المدينة قبل سبع سنين من ذلك الوقت، ولعلها أرادت أن تعبّر عن حزنها بحزن مريم على ولدها. وقد اتخذ رفائيل صورة بروجيا التي تمثل الوديعة نموذجاً له، فألف بين أجزاء صورته تأليفاً بارعاً لا يكاد يقل في قوته عن تأليف منتينيا Montegna: ففيها يرى المسيح الميت الضامر الجسم يحمله في غطاء شاب متين البنية قوي العضلات ورجل ملتح مجهد؛ وفيها أيضاً صورة رائعة لرأس يوسف الأرمتيائي of Arimathea، وصورة جميلة لمجدلين وهي تنحني فوق الجثة، ومريم أم المسيح فاقدة وعيها في أحضان المحيطات بها من النساء. وقصارى القول أن كل من في الصورة يختلف في موقفه عن غيره، ولكنهم جميعاً قد صوروا تصويراً دقيقاً من حيث تشريح الجسم، ورشيقاً لا يقل عن رشاقة كريجيو، Corregio، وقد امتزجت فيها الألوان الحمراء، والزرقاء، والبنية، والخضراء امتزاجاً ألف منها وحدة متناسقة مشرقة، بين منظر طبيعي جميل شبيه بمناظر(20/172)
جورجيوني تظهر فيه صلبان جلجوثا Golgotha الثلاثة تحت سماء المساء.
وتلقّى رفائيل وهو في فلورنس عام 1508 دعوة غيرت مجرى حياته. ذلك أن فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الجديد كان ابن أخي يوليوس الثاني، وكان برامنتي الذي يمت بصلة القرابة البعيدة لرفائيل من المقربين وقتئذ للبابا؛ ويلوح أن الدوق والمهندس أوصيا يوليوس برفائيل، وسرعان ما تلقى المصور الشاب دعوة بالمجيء إلى رومة. وقد سره أن يسافر إليها لأن روما لا فلورنس، كانت وقتئذ المركز المثير الحافز لعالم النهضة. وكان يوليوس قد مل رؤية جويليا فرنيزي تمثل كذباً صورة العذراء على جدران جناح آل بورجيا بعد أن أقام في هذا الجناح أربع سنين، ورغب لذلك أن ينتقل إلى الحجرات الأربع التي كان يسكنها في وقت ما نقولاس الخامس العظيم. وأراد أن تزين هذه الحجرات بصور توائم ما فطر عليه من بطولة وما يبتغيه من أغراض. وسافر رفائيل إلى روما في صيف عام 1508.
2 - رفائيل ويوليوس الثاني
1508 - 1513
قّلما اجتمع في مدينة عدد من الفنانين العظام منذ أيام فيدياس مثل العدد الذي اجتمع منهم في روما في تلك الأيام. لقد كان فيها ميكل أنجيلو يحفر صوراً للقبر الضخم المنشأ ليوليوس، كما كان ينقش سقف معبد سستيني، وكان برامنتي، يخطّط كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ والراهب جيوفني فنان فيرونا البارع في الحفر على الخشب يحفر أبواباً وكراسي، ومقاعد للحجرات؛ وكان بيروجينو، وسنيوريلي، وبرودسي، وسودومان ولتو، وبنتورتشيو، كان هؤلاء قد نقشوا بعض الجدران؛ وكان أمبروجيو فبا Ambrogio Foppa المسمى كردسا Caradossa تشيليني زمانه بصنع الذهب على اختلاف أشكاله.(20/173)
وعهد يوليوس إلى رفائيل بنقش حجرة التوقيعات Stanza della Sewnatora التي سميت بهذا الاسم لأن البابا كان يستمع فيها لاستئناف الأحكام ويوقع العفو عمن صدرت عليهم أحكام نهائية. وقد سرته النقوش الأولى التي قام بها هذا الشاب في هذه الحجرة، ورأى فيه عاملاً له ممتازاً طيعاً، في مقدوره أن ينفذ الأفكار العظيمة التي يمتلئ بها ذهن البابا؛ وبلغ من هذا السرور أن فصل من خدمته بروجينو، وسنيوريلي، وسودوما؛ وأمر أن تغطى رسومهم بالجير، وعرض على رفائيل أن ينقض هو جميع جدران الحجرات الأربع. غير أن رفائيل أقنع البابا بأن يحتفظ ببعض الأعمال التي قام بها الفنانون الأولون؛ لكن معظم هذه النقوش غطيت حتى تكون للنقوش الكبرى وحدة التفكير والتنفيذ. ونال رفائيل على نقش كل حجرة 1200 دوقة (15. 000 دولار)، وقضى في الحجرتين اللتين نقشهما ليوليوس أربعة أعوام ونصف عام؛ وبلغ وقتئذ السادسة والعشرين من العمر.
وكان تصميم حجرة التوقيعات فخماً سامياً؛ فقد كان المراد من النقوش أن تمثل اتحاد الدين والفلسفة، والثقافة القديمة والدين المسيحي؛ والكنيسة والدولة، والأدب والقانون، اتحاد هذه كلها في حضارة النهضة. ولعل البابا هو الذي تصور الفكرة العامة، واختار الموضوعات بعد استشارة رفائيل وعلماء بلاطه - إنغيرامي Inghirami وسادوليتو Sadoleto ثم بمبو وبينا Bibiena فيما بعد. وقد رسم رفائيل، في نصف الدارة الكبرى التي يكونها أحد الجدران الجانبية، الدين ممثلاً في أشخاص الثالوث والقديسين، اللاهوت في صورة أباء الكنيسة وعلمائها وهم يبحثون طبيعة الدين المسيحي مركزاً في عقيدة العشاء الرباني. وفي وسعنا أن ندرك هذا(20/174)
من الدراسات الثلاثين المبدئية التي قام بها لكي يستعد لرسم صورة النقّاش في موضوع العشاء الرباني. فقد درس لهذا الغرض صورة يوم الحساب التي رسمها الراهب بارتولميو في كنيسة سانتا ماريا نوفا في فلورنس، والصورة التي رسمها هو لعبادة الثالوث في كنيسة سان سفيرو في بروجيا، وعلى أساس هاتين الصورتين وضع خطته.
وكانت النتيجة التي تمخض عنها هذا العمل منظراً كاملاً فخماً رائعاً، يكاد يحيل أكثر المتشككين عناداً إلى رجل مؤمن بأسرار الدين. وقد رسم في قمة العقد خطوطاً متشععة تتقارب حتى تجتمع إلى أعلى، ويخيل معها إلى الناظر أن الصور العليا تنحني إلى الأمام؛ أما في أسفل العقد فإن الخطوط المجتمعة في الطور الرخامي تكسب الصورة عمقاً. وفي القمة يرى الله الأب - في صورة إبراهيم الوقور الرحيم - يمسك الكرة الأرضية بإحدى يديه، ويبارك المنظر باليد الأخرى. ويجلس الابن أسفل منه، عرياناً إلى وسطه، كأنه في قوقعه؛ وإلى يمينه مريم خاشعة متعبدة، وإلى يساره المعمدان وهو لا يزال ممسكاً بعصا الراعي يتوجهها الصليب، وأسفل منه يمامة تمثل الروح القدس وهو الشخص الثالث من الثالوث المقدس؛ فكأنك ترى في هذه الصورة كل شيء. وجلس على سحابة زغبية حول المسيح المنقذ أثنا عشر شخصاً عظيماً ممن ورد ذكرهم في العهد القديم أو التاريخ المسيحي: آدم في صورة رجل رياضي كأشخاص ميكل أنجيلو، يكاد يكون عارياً من الثياب؛ وإبراهيم؛ وصورة فخمة لموسى، وفي يده ألواح الشريعة؛ وداود ويهوذا مكابيوس، وبطرس، وبولس، والقديس يوحنا يكتب إنجيله؛ ويوحنا الأكبر، والقديس اسطفانوس، والقديس لورنس، وشخصان آخران لا تعرف هويتهما على وجه التحقيق، وبين هؤلاء جميعاً وفي السحب يقفز ملائكة من مختلفي الطبقات والأصناف يدخلون في هذه السحب ويخرجون، ومنهم من(20/175)
يدورون الهواء على أجنحة الأغاني. ويفرق هذا الجمع السماوي ويضمه ملكان في الحشد الأرضي الأسفل منه يمسكان بالإنجيل، ومسهدة (1) تحتو يعلى القربان المقدس. وتجتمع حول هذا المشهد طائفة مختلفة من رجال الدين لتبحث المشاكل اللاهوتية: وتضم هذه الطائفة القديس جيروم، ومعه ترجمته اللاتينية للإنجيل وأسده؛ والقديس أوغسطين يملي كتابه مدينة الله؛ والقديس أمبروز في ثيابه الأسقفية، والبابا أنكليتس Anacletus والبابا إنوسنت الثالث؛ والفلاسفة أكويناس وبنا فنتورا، ودنزاسكوتس؛ ودانتي العنيد، متوجاً بما يشبه الشوك؛ والراهب أنجيلكو الظريف وسفنرولا المغضب (وتمثل صورته انتقاماً آخر ليوليان من الإسكندر السادس)؛ وأخيراً نجد في ركن من الصورة برامنتي صديق رفائيل وحاميه أصلع الرأس دميم الخلقة. وقد وصل الفنان الشاب في جميع هذه الصور البشرية إلى درجة مدهشة من الانفرادية، جعلت كل وجه من وجوههم ترجمة لصاحبه لا يرى العقل ما يمنعه من قبولها؛ وخلع على كثيرين منهم كرامة فوق الكرامة الآدمية تسمو بالصورة كلها وبالموضوع كله وتكسبه جلالاً ونبلاً. وأكبر الظن أننا لا نجد في كل ما رسم قبل ذلك الوقت صورة نجحت في تمثيل ملحمة عظيمة العقيدة المسيحية كما نجحت في تمثيلها هذه الصورة.
ولكن هل يستطيع هذا الشاب نفسه، وهو الآن في الثامنة والعشرين من عمره، أن يمثل - بهذه العظمة ذاتها - الدور الذي يضطلع به العلم والفلسفة بين الآدميين؟ إنّا لا نجد دليلاً على أن رفائيل كان واسع القراءة والاطلاع على الكتب؛ لقد كان يتحدث بفرشاته، ويستمع بعينيه، ويعيش في عالم من الأشكال والألوان ليس للألفاظ فيه إلاّ شأن حقير، إلاّ إذا عبرت عنها الأعمال ذات الخطر التي يقوم بها الرجال والنساء.
_________
(1) وعاء كنسي يعرض فيه القربان المقدس. (المترجم)(20/176)
وما من شك في أنه قد أعد بنفسه لهذا العمل بالقراءة السريعة، وبالانغماس في كتابات أفلاطون وديوجين ليرتيوس، ومارسيلو فنتشينو Marsilio Ficino، وبالحديث القليل ذي الخطر مع العلماء، وذلك لكي يسمو في ذلك الوقت إلى فكرته العليا فيصور مدرسة أثينة - المشتملة على نحو خمسين صورة لخص فيها قروناً غنية بالتفكير اليوناني، جمعها كلها في لحظة خالدة تحت عقد ذي لوحات غابرة في رواق معمد وثني ضخم. وهناك على الجدار وفي مواجهة صورة تأليه الفلسفة مباشرة التي تحتويها صورة الجدل نرى تمجيد الفلسفة: نجد أفلاطون ذا الجبهة الشبيهة بجهد الإله جوبتر، والعينين الغائرتين، وشعر الرأس واللحية الأبيض الطويل المرسل، يرفع إصبعه إلى أعلى مشيراً بها إلى مكانته الكاملة؛ ونرى أرسطو يسير هادئاً ساكناً بجواره وهو أصغر منه بثلاثين عاماً، وسيماً مبتهجاً، يمد يده وراحتها إلى أسفل، كأنه يريد أن ينزل بمثالية أستاذه العليا فيرجعها إلى الأرض وإلى حدود الممكنات؛ وترى سقراط يعد نقط نقاشه على أصابعه، وألقبيادس المسلح يصغي إليه وهو بادي الحب؛ وفيثاغورس يحاول أن يحصر في جداول مؤتلفة متوافقة موسيقى الأكوان، وسيدة حسناء قد تكون أسبازيا؛ وهرقليطس يكتب ألغازاً إفيزيه Ephesian وديوجين وقد رقد عارياً في غير مبالاة على الدرج الرخامية؛ وأرخميدس يرسم أشكالاً هندسية على لوح من الاردواز ليعلم أربعة غلمان مكبين على الدرس؛ وبطليموس الفلكي وزرداشت يتبادلان كرات سماوية؛ وغلاماً إلى اليسار يهرول في اهتمام شديد متأبطاً كتباً، وهو بلا شك يبحث عمن يكتب له ذكرياته، وصبياً مجداً جالساً في أحد الأركان يدون مذكرات، وترى إلى اليسار فيدريجو مانتو ابن إزبلا، ومدلل يوليوس، يطل بنصف عين؛ وترى كذلك برامنتي مرة أخرى؛ ثم نرى رفائيل نفسه متواضعاً مختفياً لا يكاد يرى، وقد طر الآن شاربه. وهناك غير هؤلاء كثيرون(20/177)
نترك للعلماء ممن يتسع وقتهم للنقاش والجدل أن يتناقشوا في حقيقة أشخاصهم، وكل ما نقوله هنا أن مجتمعاً من الحكماء مثل هذا المجتمع لم تضمه من قبل صورة من الصورة، بل لعل أحداً لم يفكر قط في أن تضعه. وأكثر من هذا أن هذه الصورة ليس فيها كلمة واحدة عن الإلحاد، ولا فيلسوف واحد ممن حرق بسبب آرائه؛ بل إن هذا المسيحي الشاب الذي كان يتمتع بحماية بابا أكبر من أن يشغل نفسه بالفروق بين خطأ وآخر، قد جمع فجاءة بين كل أولئك الوثنيين، وصورهم بأخلاقهم وبإدراك عجيب وعطف كبير، ووضعهم حيث يستطيع علماء الدين أن يروهم ويتبادلوا الأخطاء معهم، وحيث يستطيع البابا، خلال الفترات التي بين كل وثيقة وأخرى أن يتدبر سير التعاون بين أفكار البشر ونشأتها. وتمثل هذه الصورة عي وصورة الجدل المثل الأعلى لتفكير النهضة - تمثل عهد الوثنية القديم والدين المسيحي يعيشان معاً مؤتلفين منسجمين في حجرة واحدة. وإذا نظر الإنسان إلى هذه اللوحات المتنافسة في تفكيرها وتأليفها، وفنها رأى فيها ذروة من فن التصوير الأوربي التي لم يرق إليها أحد حتى يومنا هذا.
بقيت بعد ذلك حجرة ثالثة، أصغر من الحجرتين السابقتين تتخللها نافذة يبدو معها أن وحدة الموضوع في الصورة التي ترسم عليها مستحيلة. ولهذا كان من الاختيار الرائع الموفق أن يمثل على سطح هذا الجدار الشعر والموسيقى. وهكذا خفف من ثقل الحجرة المثقلة باللاهوت والفلسفة وأضفى عليها كثيراً من البهجة والآلاء المستمد من عالم الخيال المطرب المنسق، بحيث تستطيع الألحان اللطيفة أن ترسل نغماتها الصامتة خلال القرون في أرجاء تلك الحجرة التي تصدر منها أحكام بالحياة أو الموت لا تقبل نقضاً. وفي مظلم فرناسوس Parnassus هذا نرى أبلو جالساً تحت أشجار الغار على قمة الجبل المقدس يستمد من كمانه الكبير "ترانيم خالية من النغم"؛ وإلى جانبه إحدى ربات الشعر متكئة في رشاقة وراحة،(20/178)
تكشف عن صدرها الجميل إلى القديسين والحكماء المصورين على الجدران المجاورة؛ ونرى هومر ينشد أشعاره السداسية الأوتاد في نشوة المكفوفين؛ وترى دانتي ينظر في صرامة لا تقبل مسالمة أو مهادنة إلى هذه الزمرة الطيبة من الشعراء والظرفاء؛ وترى سابفو، وهي أجمل من أن تكون لزبية Lesbian، تضرب على قيثارتها؛ وفرجيل وهوراس، وأوفد، وتيبلوس، وغيرهم من المغنين الذين اختيروا ليمثلوا عصوراً متعاقبة، تراهم يختلطون مع بترارك، وبوكاتشيو، وأريستو، وسنادسارو وغيرهم من شعراء إيطاليا الأحداث منهم عهداً والأقل منهم شأناً. وهكذا يوحي الفنان الشاب بأن "الحياة إذا خلت من الموسيقى كانت خطأ من الأخطاء" (21)، وأن نغمات الشعر، وخيالاته قد ترفع الآدميين إلى درجات لا تقل سمواً عن درجات الحكمة القصيرة النظر، واللاهوت وما فيه من وقاحة.
وعلى الجدار الرابع الذي تخترقه أيضاً نافذة كرَّم رفائيل مكانة القانون في الحضارة. فقد صور في مشكاة صورة تمثل الفطنة، والقوة، والاعتدال؛ وصور على أحد جانبي النافذة القانون المدني في صورة الإمبراطور جستنيان ينشر مجموعات القوانين، وعلى جانبها الآخر القانون الكنسي في صورة البابا جريجوري العاشر ينشر المراسيم البابوية. وأراد هنا أن يتملق سيده المحنق الغاضب فصور جريجوري في صورة يوليوس، وكانت هذه أيضاً صورة قوية ذات روعة. ورسم الفنان في دوائر السقف المزخرف، وأشكاله السداسية ومستطيلاته، آيات صغيرة من آياته الفنية مثل حكم سليمان وأشكالاً رمزية تمثل اللاهوت والفلسفة، وفقه القانون، وعلم الهيئة، والشعر. وبهذه الصور وأمثالها من النقوش على الأصداف وبعض المدليات التي تركها سووما تمت زخرفة حجرة التوقيعات.
وأفرغ رفائيل في هذا العمل كل ما كان له من جهد، ولم يبلغ بعد(20/179)
قط ما بلغه فيه من مستوى رفيع ممتاز، ولهذا فإنه حين بدأ في عام 1511 يزخرف الحجرة الثامنة التي تسمى الآن حجرة إليودورو باسم أهم صورة فيها، بدا أن الإلهام التصوري للبابا والفنان قد فقد قوته وناره. ولم يكن من السهل أن ينتظر من يوليوس أن يخصص جناحه كله لتمجيد الاتحاد بين الثقافة الرومانية واليونانية القديمة وقتئذ أن يخصص عدداً قليلاً من الحجرات لتخليد ذكريات من الكتب المقدسة وقصة المسيحية. ولعله أراد أن يركز إلى ما يتوقعه من طرد الفرنسيين من إيطاليا، فاختار لإحدى نواحي الحجرة الوصف الحي الواضح الموجود في كتاب المكابيين الثاني والذي يقول إن هليودورس وجماعته الوثنيين حاولوا اختلاس كنوز معبد أورشليم (186 ق. م) فهجم عليهم ثلاثة من الملائكة المحاربين. ونرى في هذه الصورة الكاهن الأكبر أنياس Onias راكعاً عند المذبح أمام خلفية معمارية من العمد العظيمة، واللوحات الغائرة، يطلِب العون من الله. وإلى اليمين ملاك راكب شديد الغضب يدوس القائد السارق، ويتقدم منقذان سماويان غيره ليهاجما الكافر الساقط، الذي تتناثر على الأرض نقوده المسروقة. وإلى اليسار يجلس يوليوس الثاني جلال هادئ يرقب طرد الغزاة، ويحتقر الفنان بوضعه هذا الدقة التاريخية احتقاراً لا يسعنا إلاّ أن نشهد له بالسمو في التفكير. ويختلط عند قدميه جماعة من النساء اليهوديات برفائيل (وهو الآن رجل ملتح وقور) وبصديقيه مركنتونيو رايمندي Morcantonia Raymondi الحفار، وجيوفني دي فلياري Giovanni di Foliari أحد أمناء البابا. ولا يرتفع هذا المظلم إلى الدرجة التي يرتفع إليها مظلم الجدل أو مدرسة أثينة؛ فقد خصص كله تخصيصاً واضحاً لا خفاء فيه لتمجيد حبر واحد من الأحبار وموضوع واحد سريع الزوال، مضحياً في ذلك بالوحدة في التأليف؛ ولكنه مع ذلك آية فنية بلا ريب، تنبض بالعمال، ذات فخامة معمارية، ويكاد ينافس ميكل(20/180)
أنجيلو في إظهار التشريح العضلي وقت الغضب.
وصور رفائيل على جدار آخر قداس بلسينا Bolsena. فقد حدث حوالي عام 1263 أن ارتاع قسيس بوهيمي من بلسينا (القريبة من أرفيتو)، كان يرتاب في أن الخبز المقدس يتحول حقاً إلى جسد المسيح ودمه، إذ رأى نقطاً من الدم تنضح من الخبز الذي كرسه تواً في القداس. وأراد البابا إربان الرابع أن يخلد هذه المعجزة فأمر ببناء كتدرائية في أرفيتو، كما أمر بأن يحتفل في كل عام بعيد الجسد الطاهر. ورسم رفائيل هذا المنظر الرائع رسماً رائعاً عظيماً، ترى فيه نظرات القس المرتابة في الخبز المقدس ينضح منه الدم، والقندلفت الذي خلفه يدهش من هذا المنظر؛ وفي أحد الجوانب نساء وأطفال وفي الجانب الآخر الحرس السويسري، وهؤلاء يعجزون عن رؤية المعجزة، فلا يتحركون. ويبدو عجزهم عن هذا التحرك واضحاً لا خفاء فيه. ويحدق الكردنالات رباريو واسكنر Schinner وغيرهما من رجال الكنيسة في هذا المنظر إحداقاً تمتزج فيه الدهشة بالرعب. وفي الجهة المقابلة للمذبح يرى يوليوس الثاني راكعاً على مركع نحت عليه صور مضحكة عجيبة يتطلع في مهابة وهدوء، كأنه قد عرف طوال الوقت أن الخبز المقدس سيسيل منه الدم. وإذا نظرنا إلى هذه الصورة من الناحية الفنية حكمنا أنها من أحسن مظلمات الحجر: فقد وزع رفائيل أشخاصه بمهارة حول النافذة التي في الجدار وفوقها؛ وصورهم بثبات في الخطوط وعناية في التنفيذ، وخلع على أجسادهم وثيابهم حدة في العمق وقوة في التلوين. وتمثل صورة يوليوس الراكع البابا نفسه في آخر سنة من حياته. ومع أنه لا يزال هو المحارب القوي الصارم، وملك الملوك الفاجر، فإنك تراه رجلاً أنهكه الكدح والجهد والكفاح تلوح عليه سمات الموت واضحة.
وأخرج رفائيل وهو يقوم بهذه الأعمال الكبرى عدة صور للسيدات ذات روح خليقة بالخلود، منها صورة العذراء ذات التاج التي يعود فيها إلى(20/181)
طرازه التقي المتواضع، ومنها مادنا دلا كاسا ألبا Madonna della Casa Alba أي "سيدة البيت الأبيض" - وهي مدرسة طريفة في ألوان قرنفلية، وخضراء، وذهبية، خطوطها كبيرة منسابة كخطوط عرافات ميكل أنجيلو. وقد ابتاع أندرو ملن Andrew Mellon هذه الصورة من حكومة السفيت بمبلغ 1. 166. 400 دولار. وصورة مادنا دي فولينو Madonna di Foligno المحفوظة في الفاتيكان هي صورة عذراء جميلة وطفلها فوق السحاب، يشير إليها المعمدان المصفر الوجه، ويقدم لها القديس جيروم البدين واهب هذه الصورة: سجسمندو ده كنتي سيد فولينو وروما. ويرقى رفائيل في هذه الصورة إلى مجد جديد في الألوان الزاهية متأثراً في ذلك بنفوذ سبستيانو دل بيمبو Sebastiano del Piombo الفنان البندقي. ومادنا دلا بيستشي Madonna della Pesce أي "سيدة السمك" (المحفوظة في برادو) جميلة في جميع أجزائها: في وجه العذراء ومزاجها؛ وفي الطفل - الذي لم تسم على صورته صورة غيرها من رسم رفائيل، وفي صورة طوبيت الشاب يقدم لمريم السمك الذي ردت صورته قوة البصر لأبيه، وفي ثوب الملاك الذي يقوده، وفي صورة رأس الأب القديس جيروم. وتضارع هذه الصورة من حيث التأليف، واللون، والضوء صورة مادنا سستيني نفسها.
وآخر ما نقوله في هذا المجال أن رفائيل قد ارتقى بالتصوير الملون في هذه الفترة إلى مستوى لم يرق إليه أحد يغره فيما بعد إلاّ تيشيان. لقد كانت الصورة الملونة من نتاج عصر النهضة المميزة له، وهي صورة أخرى من تحرر الفرد تحرراً نبيلاً عزيزاً على النفس في هذا العصر عثر المباهاة والتفاخر. وليست الصور التي رسمها رفائيل كثيرة العدد ولكنها كلها ترقى إلى أعلى مستوى في الفن، ومن أجملها كلها صورة بندو ألتوفيتي. ومنذا الذي تستطيع نفسه أن تحدثه بأن هذا الشاب الظريف، اليقظ رغم ظرفه،(20/182)
الصحيح الجسم النافذ البصر، الجميل جمال الفتيات، لم يكن شاعراً بل كان مصرفياً، وأنه كان من أنصار الفنانين من رفائيل إلى تشيليني؟ وكان هذا الشاب حين صوره رفائيل في الثانية والعشرين من عمره؛ ثم وافته المنية في روما عام 1556 بعد أن بذل جهداً نبيلاً مضنياً جر عليه الوبال ليحفظ به استقلال سينا من اعتداء فلورنس. وكانت هذه هي الفترة التي أخرج فيها رفائيل أعظم صوره على الإطلاق وهي صورة يوليوس المحفوظة في معرض أفيزي (حوالي 1512)؛ ولسنا نستطيع أن نقول إن هذه هي الصورة الأصلية التي خرجت من يد رفائيل، فقد تكون نسخة أخرى منها الصورة احتفظ بها في المرسم، وقد رسم النسخة العجيبة الفذة من هذه الصورة في قصر بتي منافسه الكبير المصور تيشيان. أما الصورة الأصلية فلم يعرف مصيرها بعد.
وتوفي يوليوس نفسه قبل أن تتم صور حجرة إليودورا ولم يكن يدري هل يستطيع إتمام المشروع العظيم مشروع نقش الحجرات الأربع. ولكن كيف يستطيع بابا مثل ليو العاشر المفتن بالشعر وبالفن افتتاناً لا يقل في عمقه عن افتتانه بالدين، أن يتردد في إتمام المشروع؟ وقد قدر للشاب الآتي من أربينو أن يجد في ليو أوفى صديق له، وهكذا عرف صاحب عبقرية السعادة الحية تحت رعاية بابا سعيد أسعد سني حياته.(20/183)
الفصل الرابع
ميكل أنجيلو
1 - الشاب
1475 - 1505
تركنا إلى آخر هذا الباب الحديث عن أحب المصورين والمثالين إلى يوليوس، أي عن الرجل الذي يضارعه في مزاجه ورهبته، وفي قوة روحه وعمقها، أعظم الرجال في السجلات البشرية وأكثرهم حزناً.
كان والد ميكل أنجيلو هو لدوفيكو دي بوناروتي سيموني Lodovico di Lionardo Buonerroti Simoni محافظ بلدة كبريسي Caprese الصغيرة القائمة على الطريق الذي يصل فلورنس باردسو، وكان لدوفيكو يقول إنه يمت بصلة القرابة البعيدة إلى كونتات كانوسا Canossa وقد تفضل واحد منهم فاعترف بهذه الصلة؛ وكان ابنه ميكل أو ميخائيل أو ميكائيل يفخر على الدوام بأن في عروقه لتراً أو لترين من دم النبلاء، غير أن البحث الذي لا يرحم قد اثبت أنه مخطئ في هذا (22) ".
وكان مولده في كبريسي في السادس من شهر مارس عام 1475، وقد سمي باسم أحد الملائكة الكبار كما سمي رفائيل باسم واحد منهم. وكان ميكل أنجيلو رابع أخوة أربعة؛ وربى بالقرب من محجر للرخام عند ستنيانو Settignano فتنفس بذلك تراب النحت منذ مولده. وقد قال فيما بعد إنه رض الأزاميل والمطارق مع لبن مرضعته (23). ثم انتقلت الأسرة إلى فلورنس حين بلغت سنه ستة أشهر، وفي هذه البلدة تلقى من التعليم ما مكنه فيما بعد من أن يكتب شعراً إيطالياً جيداً. ولم يتعلم اللغة اللاتينية، ولم يخضع كل الخضوع لسحر العهود القديمة كما خضع له كثير(20/184)
من الفنانين في ذلك العصر؛ بل كان ذا نزعة عبرية لا رومانية أو يونانية قديمة؛ وكان في رومة بروتستنتياً أكثر ممّا كان كاثوليكياً.
وكان يفضل الرسم على الكتابة - التي هي - في رأيه إفساد للتصوير. وأسف والده لهذه النزعة، ولكنه خضع لها آخر الأمر، ووضع ميكائيل وهو في سن الثالثة عشرة ليتتلمذ على دمنيكو غيرلندايو Dominico Ghirlandio، أشهر المصورين في فلورنس وقتئذ. وكان العقد يلزم الشاب بأن يقيم مع دمنيكو ثلاث سنين" ليتعلم فن التصوير"؛ على أن يتقاضى أجراً قدره ستة فلورينات في السنة الأولى، وثمانية في الثانية، وعشرة في الثالثة، بالإضافة إلى الطعام والمسكن فيما نظن. وكان الشاب يكمل ما يناله من التعليم على يدي لندايو بأن يظل على الدوام مفتوح العينين أثناء تجواله في فلورنس فيرى في كل شيء تحفة فنية. وفي ذلك يقول صديقه كنديفي Condivi: " فكان لذلك يتردد على سوق السمك، يدرس فيها أشكال زعانفه وظلال ألوانه، وألوان عيونه، وكل ما يتصل به؛ وقد أبرز كل هذه التفاصيل بأعظم ما يكون من الجد والمهارة في صوره" (24).
ولم يكد يتم العام مع غرلندايو حتى اجتمعت عليه الفطرة والمصادفة فحولته إلى النحت؛ وكان له، كما كان لكثيرين غيره من طلاب الفن، أن يدخل بكامل حريته الحدائق التي وشع فيها آل ميديتشي مجموعات التماثيل والعمارة القديمة. وما من شك في أنه قد نسخ صوراً من بعض الألواح الرخامية باهتمام خاص وحذق خاص؛ وشاهد ذلك أنه لمّا أراد لورندسو أن ينشئ في فلورنس مدرسة للنحت، طلب إلى غرلندايو أن يبعث إليه ببعض الطلاب الذين تلوح عليهم مخايل النجابة في هذه الناحية؛ فبعث إليه دمنيكو بفرانتشيسكو جانتشي Franceso Ganacci وميكل أنجيلو بوناروتي. وتردد والد الغلام في السماح له بالانتقال من(20/185)
فن إلى فن، وكان يخشى أن ينتهي الأمر بولده إلى أن يكلف بقطع الحجارة؛ والحق أن ميكائيل قد استخدم بعض الوقت في القيام بهذا العمل، فكان يقطع الحجارة للمكتبة اللورنتية. ولكن الغلام ما لبث أن أخذ ينحت التماثيل. والعالم كله يعرف قصة تمثال فاون (1) الرخامي. وكيف نحت ميكائيل قطعة من الرخام عثر عليها مصادفة في صورة فاون عجوز، وكيف لاحظ لورندسو وهو مار بهذا التمثال أن هذا الشيخ الطاعن في السن يندر أن تكون أسنانه كاملة كما تظهر في التمثال، فما كان من ميكائيل إلاّ أن أصلح هذا الخطأ بضربة واحدة خلع بها سنّاً من فكه الأعلى. وسر لورندسو من إنتاج الغلام وحسن استعداده، فأخذه إلى بيته وعامله فيه معاملة الآباء للأبناء. وظل الفنان الشاب عامين كاملين (1490 - 1492) يقيم في قصر آل ميديتشي، يطعم دائماً على مائدة واحدة مع لورندسو، وبولتيان، وبيكو، وفنتشينو، وبلشي Pulci، ويستمع إلى أكثر الأحاديث استنارة في السياسة، والأدب، والفلسفة، والفن. وخصه لورندسو بحجرة طيبة، ووظف له خمس دوقات (62. 50؟ دولار أمريكي) كل شهر لمصروفه الخاص. وكان كل ما يخرجه ميكائيل من التحف الفنية يبقى ملكاً خاصاً به يتصرف فيه كما يشاء.
ولولا بيترو ترجيانو Pienro Torrigiano لكانت هذه السنون التي قضاها ميكائيل في قصر آل ميديتشي سني نشأة سعيدة في حياة الشاب. وتفصيل ذلك أن بيترو ساءه في يوم من الأيام استهزاء ميكائيل "فما كان مني" (كما قال هو نفسه لسلني) "إلاّ أن قبضت يدي ولكمته لكمة على أنفه أحسست معها أن عظمه وغضروفه قد تحطما تحت عظام أصابعي كأنهما بقسماط هش، وسيحمل اثر ضربتي هذه معه إلى قبره" (25). وهكذا كان؛ فقد كان أنف ميكل أنجيلو يبدو طوال الأعوام الأربعة والسبعين
_________
(1) Faun رب الحراج عند الرومان الأقدمين. (المترجم)(20/186)
التالية مكسور العرنين ولم يكن هذا الحادث ليرقق من طبعه.
وفي هذه السنين نفسها كان سفنرولا يذيع تعاليمه المتزمتة النارية التي يدعو فيها إلى الإصلاح. وكثيراً ما كان ميكائيل يذهب ليستمع إليه، ولم ينس قط تلك المواعظ أو الرجفة الباردة التي كانت تسري في دمه الغض حين تنفذ في سكون الكتدرائية الغاصة بالمستمعين صيحة رئيس الدير الغاضبة معلنة ما سوف يحل بإيطاليا الفاسدة من دمار. وبقى شيء من روح سفنرولا بعد موته في نفس ميكل أنجيلو: بقى منها الرعب مما يراه حوله من فساد خلقي، وكراهيته الشديدة للاستبداد، وشعوره الحزين من سوء المصير. واجتمعت هذه الذكريات والمخاوف فكانت من العوامل التي شكلت أخلاقه، ووجهت مَنحته وفرشاته؛ فكان وهو مستلق على ظهره في نقش معبد يذكر سفنرولا؛ وكان وهو يرسم صورة يوم الحساب يستعيده حياً في خياله، ويقف بإرعاد الراهب وإبراقه خلال القرون.
وتوفي لورندسو في عام 1492 وعاد ميكل بعد موته إلى بيت أبيه وواصل عمله في النحت والتصوير، وأضاف وقتئذ تجربة عجيبة إلى ما تلقاه من تعليم. ذلك أن رئيس مستشفى سانتو أسبريتو (الروح القدس) Santo Spirito سمح له أن يشرح الأجسام البشرية في حجرة خاصة. وبلغت الأجسام التي شرّحها من الكثرة حداً غثيت من معدته، فظلت بعض الوقت لا تستبقي فيها طعاماً أو شراباً. ولكنه تعلم التشريح ولاحت له فرصة سخيفة يظهر فيها علمه هذا حين طلب إليه بيرو ده ميديشي أن يصنع من الثلج تمثال رجل في بهو القصر؛ فأجابه ميكل إلى ما طلب، وأقنعه بيرو بأن يعود إلى الحياة في قصر آل ميديتشي (يناير سنة 1494).
وحدث في عام 1494 أن هرب ميكل أنجيلو في إحدى نوبات اضطرابه الكثيرة إلى بولونيا مخترقاً ثلوج جبال الأبنين. وتقول إحدى القصص إن صديقاً له رأى فيما يرى النائم تحذيراً له من سقوط بيترو؛ ولكن(20/187)
لعل فطنته هي التي نبهته مقدماً إلى هذا المصير؛ ومهما يكن من شيء فإن فلورنس قد لا تكون في هذه الحال مكاناً أميناً لشخص له ما لميكل أنجيلو من الحظوة عند الميديتشيين. وأخذ وهو في بولونيا يعنى عناية كبيرة بدراسة النقوش التي صورها ياقوبو دلا كوبرتشيا على واجهة سان بترونيو؛ ثم طلب إليه أن يتم قبر القديس دمنيك، فنحت له ملكاً رائعاً رشيقاً؛ وانذره في ذلك الوقت مثالو بولونيا المجتمعون في منظمة لهم بأنه، وهو الشخص الأجنبي المتطفل، إذا ظل ينتزع العمل من أيديهم، فإنهم سيتخلصون منه بإحدى الأساليب الكثيرة التي ابتكرها عصر النهضة. وكان سفنرولا في ذلك الوقت قد أصبح صاحب السيادة في فلورنس، وامتلأ جو المدينة بالفضيلة وبالحديث عن الفضيلة. وعاد إليها ميكل في عام 1495.
ووجد فيها نصيراً له في شخص لورندسو دي بيرفرانتشيسكو Lorenzo di Pierfranceso الذي ينتمي إلى فرع آخر من أسرة ميديتشي. وقد نحت له تمثال كيوبد النائم الذي كان له تاريخ عجيب. فقد اقترح عليه لورندسو أن يعالج سطح التمثال حتى يبدو كأنه تمثال قديم؛ ووافق ميكل على هذا الاقتراح؛ ثم بعث لورندسو بالتمثال إلى روما حيث بيع لأحد التجار بثلاثين دوقة، وباعه هذا التاجر إلى رفائلو رياريو Raffaello Riario كردنال ده سان جيورجيو بمائتي دوقة. وبيع بعدئذ إلى سيزاري بورجيا، وباعه سيزاري إلى جويدو بلدو صاحب أربيني؛ واسترده سيزاري حين استولى على تلك المدينة، وأرسله إلى إزبلا دست، ووصفته إزبلا هذه بأنه " لا نظير له بين جميع أعمال الأيام الحديثة" (26). ولسنا نعرف شيئاً من تاريخه بعدئذ.
وقد صعب على ميكل، رغم كفاياته المتعددة، أن يكسب قوته بأعماله الفنية في مدينة يكاد عدد الفنانين فيها يبلغ عدد سكانها. ودعاه أحد عمال رياريو إلى روما، وأكد له أن الكردنال سيعهد إليه بعمل، وأن(20/188)
رومة مليئة بأنصار الفن أصحاب الثراء. وهكذا انتقل ميكل أنجيلو في عام 1496 إلى العاصمة وهو مفعم القلب بالأمل، وخص بمكان في بيت الكردنال. وتبين أنرياريو غير كريم؛ غير أن ياقوبو جالو Iacopo Gallo، أحد رجال المصارف عهد إلى ميخائيل أن ينحت تمثالاً لباخوس وآخر لكيوبد. يوجد أولهما الآن في متحف برجيلو Bargello بفلورنس والآخر بمتحف فكتوريا وألبرت بلندن. وتمثال باخوس صورة غير ممتعة لإله الخمر الشاب وهو في حالة سكر شديد؛ ورأس التمثال صغير لا يتناسب مع جسمه، كما يليق بالسكير، ولكن الجسم متقن التصوير أملس ناعم نعومة خنثوية. وكيوبد شاب جاثم أكثر شبهاً بالشاب الرياضي منه بإله الحب، ولعل ميكل أنجيلو لم يسمه بهذا الاسم الذي لا يتفق مع صورته؛ وإذا نظرنا إليه من حيث هو تحفة من تحف النحت حكمنا من فورنا بأنه تحفة ممتازة. فقد ميز فيه الفنان من البداية أو فيما يكاد يكون من البداية، عمله بأن أظهر صاحب التمثال في لحظة من لحظات العمل وفي موقف من مواقفه. ذلك أنه لم يكن كاليونان يفضل في الفن مواقف الراحة وعدم العمل، لا نستثني من ذلك إلاّ تمثال بييتا Pieta؛ ومثل هذا يقال - مع الاستثناء ذاته - عن حب اليونان للتعميم أي تصوير أنماط عامة؛ أما ميكل أنجيلو فكان يؤثر تصوير الفرد خيالياً في فكرته، واقعياً دقائقه؛ ولم يقلد الأشكال القديمة، إلاّ في ملابسها؛ أما بقية أعماله فكانت خاصة به، فهي لم تكن مولداً جديداً للصورة القديمة، بل كانت خلقاً فذاً وإبداعاً على غير مثال يحتذيه.
وأعظم ما أخرجه الفنان أثناء مقامه الأول في روما هو تمثال بييتا وهو الآن أحد الآيات الفنية التي تفتخر بها كنيسة القديس بطرس. وقد وقع العقد الذي أنشئ بمقتضاه هذا التمثال الكردنال جان ده فليير Jean de Villier سفير فرنسا في البلاط البابوي (1498). وكان الأجر(20/189)
المتفق عليه هو 45 دوقة (8525؟ دولاراً)؛ والزمن الذي يتم فيه سنة واحدة، وأضاف المصرفي صديق ميكائيل ضمانه الكريم:
أتعهد، أنا ياقوبو جالو، بشرفي إلى السيد المبجل، أن المدعو ميكل أنجيلو سيتم العمل المذكور في خلال عام واحد، وأنه سيكون أجمل عمل في الرخام تستطيع أن تتباهى به روما في هذه الأيام؛ وأن أستاذاً أياً كان في أيامنا هذه لن يستطيع أن يصنع خيراً منه ... وأتعهد كذلك بشرفي إلى المدعو ميكل أنجيلو أن الكردنال المبجل سيؤدي الأجر حسب المواد المدونة المبينة في هذا العقد (27).
وإناّ لنجد بعض العيوب في هذه المجموعة الرائعة من صورة الأم العذراء التي تمسك بابنها الميت في حجرها: فالثياب فيها تبدو كثيرة مسرفة في الكثرة، ورأس العذراء صغير لا يتناسب مع جسمها، وهي تمد يدها اليمنى في حركة لا تناسبها، ووجهها وجه امرأة في مقتبل العمر لا يشك أحد في أنها أصغر من ابنها. ويقول كنديفي Condivi إن ميكل أنجيلو رد على هذه الشكوى الأخيرة بقوله:
ألا تعلمون أن النساء الطاهرات يحتفظن بنظارتهن أكثر ما يحتفظ بها غير الطاهرات منهن؟ وأكثر ما يكون هذا في حالة عذراء لم تتسرب إلى قلبها في يوم من الأيام شهوة يمكن أن يتأثر بها الجسم! بل إنّي لأذهب إلى أبعد من هذا فأجازف بالاعتقاد بأن نضرة الشباب الطاهرة، التي احتفظت بها لأسباب طبيعية، ربما فاضت عليها لتقنع العالم بأن الأم عذراء طاهرة إلى غير أجل محدود (28).
ذلك خيال يبعث في النفس السرور خليق بأن نغفر لصاحبه ما فيه من بعد عن المعقول، ولا يلبث معه الإنسان أن يألف الوجه الظريف، الذي لا تمزقه الآلام، والهادئ في حزن صاحبته وألمها، كما يألف صورة الأم المستسلمة لإرادة الله، والتي يعزيها عن آلامه أن تحتفظ(20/190)
في تلك اللحظات الأخيرة بالجسم العزيز الذي طهر من جراحه، وتحرر من عوامل حقده، يرقد فيحجر المرأة التي حملت به ولم يفارقه جماله حتى في ساعة موته. وإنّا لنجد في هذه المجموعة الساذجة كل ما تتضمنه الحياة من لباب، ومآس، وفداء! نجد فيها سلسلة التوالد التي تخلد بها المرأة حياة الجنس البشري، ونجد فيها الموت الذي لا مفر منه والذي هو العقاب المحتوم لكل مولد؛ والحب الذي يسمو بالفناء بما يخلعه عليه من رحمة وحنان ويتحدى كل موت بمولد جديد. ولقد كان فرانسس الأول محقاً حين قال إن هذه الصورة هي أجمل ما أبدعه ميكل أنجيلو على الإطلاق (29)؛ ذلك أنها لم يخرج أحسن منها فنان آخر في تاريخ النحت كله، ولربما جاز لنا أن نستثني من هذا التعميم الفنان اليوناني غير المعروف الذي نحت تمثال دمتر المحفوظ في المتحف البريطاني.
ولم يكن نجاح بييتا سبباً في شهرة ميكل أنجيلو فحسب - وهي شهرة خليقة بأن يستمتع بها كل إنسان، بل إن هذا النجاح قد در عليه المال الكثير الذي كان أله على استعداد لأن يستمتعوا معه به. ذلك أن أباه فقد بسبب سقوط آل ميديتشي المنصب الصغير الذي حباه به لورندسو الأكبر؛ وكان الأخ الأكبر لميكائيل قد دخل أحد الأديرة؛ وأمّا الأخوان الصغيران فكانا فتيين مسرفين، وبذلك اصبح ميكائيل عماد تلك الأسرة، وكان يشكو من هذه الحال التي فرضتها عليه الظروف ولكنه كان كريماً سخياً مع أسرته.
وأكبر الظن أن اضطراب أحوال أسرته المالية هو الذي دعاه إلى فلورنس، فعاد إليها في عام 1501 حيث عهد إليه في شهر أغسطس من ذلك العام نفسه بعمل فذ. ذلك أن مجلس الأعمال (الأبراري Operai) في كتدرائية المدينة كان يمتلك كتلة كبيرة من رخام كراراً ارتفاعها ثلاث عشرة قدماً ونصف قدم، ولكنها ظلت مطروحة على الأرض لا ينتفع بها(20/191)
مائة عام كاملة لعدم انتظام شكلها. وسأل المجلس ميكل أنجيلو هل يستطاع نحت تمثال منها، فوافق على أن يحاول ذلك، ووقع معه مجلس الكنيسة ونقابة الصوف عقد القيام بالعمل وقد جاء فيه:
إن الأستاذ الجليل ميكل أنجيلو ... قد اختير لكي يصور، ولينجز ويتم إلى حد الكمال تمثالاً لرجل وهو التمثال المسمى الضخم Il gigante والذي يبلغ ارتفاعه تسع أذرع ... على أن يتم العمل في خلال عامين يبدءان من شهر سبتمبر، وأن يتقاضى مرتباً قدره ستة فلورينات في الشهر، وأن يمده المجلس بما يحتاجه لإنجاز هذا العمل من العمال، والخشب وما إلى ذلك؛ وحين يتم صنع التمثال يقدر مستشارو النقابة ومجلس العمال ... هل يستحق مكافأة أكثر، على أن يترك هذا لذمتهم (30).
وظل المثال يكدح في هذه المادة القاسية عامين ونصف عام، حتى انتزع منها بجده وبطولته تمثال داود، وانتفع بكل إصبع من ارتفاعها، ثم دعا مجلس العمل في 25 يناير سنة 1504 مجلساً من كبار رجال الفن في فلورنس ليقرروا أين يوضع التمثال الضخم كما كانوا يسمون تمثال داود. وكان المجتمعون هم كوزيموروزيلي Cosimo Roselli، وساندروبتيتشلي، وليوناردو دافنشي، وجليانو وأنطونيو داسينجلو، وفلبينولبي، ودافد غرلندايو، وبروجينو، وجيوفني بفيرو Giovanni Piffero ( والدتشليني)، وبيودي كوزيمو. ولم يتفق هؤلاء على المكان، فتركوا ذلك آخر الأمر لميكل أنجيلو، فطلب أن يقام التمثال على رصيف قصر فيتشيو؛ ووافق مجلس السيادة على هذا الطلب؛ ولكن عملية نقل التمثال الضخم من المصنع القريب من الكنيسة إلى القصر تطلبت أن يعمل في ذلك أربعين رجلاً أربعة أيام؛ وكان لابد من تعلية أحد المداخل بهدم جدار فوقه كي يمر فيه التمثال، وتطلب رفعه في مكانه واحداً وعشرين يوماً أخرى. وظل(20/192)
قائماً في فراغ مدخل القصر المكشوف معرضاً للجو، وعبث الأطفال وللثورة عليه؛ وتقول للثورة لأنه كان بمعنى ما إعلاناً صريحاً للتقدمية المتطرفة، ورمزاً للجمهورية الفخورة التي عادت إلى الوجود، وتهديداً صارماً للمغتصبين. ولمّا عاد آل ميديتشي إلى السلطة في عام 1513 لم يمسوه بسوء؛ ولكن لما قامت الثورة التي انتزعت السلطة منهم مرة أخرى (1527) سقط عليه مقعد ألقى من إحدى نوافذ القصر فحطم ذراع التمثال اليمني. وجمع فرانتشيسكو سيلفياتي Francesco Salviati وجيورجيو فاساري، وكانا وقتئذ غلامين في السادسة عشرة من العمر، القطع المحطمة واحتفظا بها، وضم عضو آخر من أسرة ميديتشي جاء فيما بعد، وهو الدوق كوزيمو، هذه الأجزاء وثبتها في مكانها. وفي عام 1873 نقل داود بعد جهد جهيد، إلى مجمع الفنون الجميلة Accaademea della Bell Arti بعد أن أثر فيه الجو فشوه معالمه، ولا يزال فيها يحتل مكان الشرف، وهو أحب التماثيل إلى الشعب في فلورنس.
لقد كان هذا العمل من أعمال البطولة، وهو بهذا الوصف لا يمكن أن نوفيه حقه من الثناء، تغلب فيه الفنان بحذق كبير على الصعاب الآلية وإذا ما حكم عليه الإنسان من ناحية الحماسة استطاع أن يجد فيه بعض العيوب! فاليد اليمنى أكبر مما ينبغي أن تكون، والعنق مفرط في الطول، والساق اليسرى أطول في جزئها الذي تحت الركبة مما يليق، والإلية اليسرى ليست متضخمة بالقدر الذي يجب أن تتضخم به أية إلية سليمة. وكان بيروسدريني رئيس الجمهورية يرى أن الأنف مفرط في الضخامة، ويروي فاساري قصة - لعلها مختلفة - تقول إن ميكل أنجيلو صعد سلماً وهو يمسك في يده بعض التراب، وتظاهر بأنه سينحت قطعة من أنف التمثال، وأن يتركه سليماً كما كان، ثم أسقط تراب الرخام من يده أمام رئيس الجمهورية، وأن الرئيس أعلن بعدئذ أن التمثال قد صلح. والأثر(20/193)
العام الذي يحدثه التمثال فيمن ينظر إليه يقطع لسان كل ناقد! فالهيكل الرائع، الذي لم يضخمه ميكل أنجيلو كما ضخم التماثيل التي نحتها لأبطاله المتأخرين، وبنية الجسم المصقول، والمعارف القوية الرقيقة رغم هذه القوة، والخياشيم المتوترة من الاهتياج، والتجهم المنبعث من الغضب، ومظهر العزيمة المشوبة بشيء من الحياء حين يواجه الشاب جالوت الرهيب ويستعد لملء مقلاعه والقذف به - كل هذه أشياء تجعل داود أشهر تمثال في العالم كله إذا استثنينا من ذلك تمثالاً واحداً لا غير (1). ويرى فاساري أنه "يفوق كل ما عداه من التماثيل قديمها وحديثها لاتينية كانت أو يونانية" (31).
وأدت لجنة الكنيسة إلى ميكل أنجيلو أربعمائة فلورين أجراً لتمثال داود وإذا أدخلنا في اعتبارنا انخفاض النقد فيما بين عامي 1400 و 1500 جاز لنا أن نقدر هذا المبلغ بما يقرب من 5000 دولار حسب قيمة النقد في عام 1952. ويبدو أن هذا أجر قليل لعمل دام ثلاثين شهراً، ونحن نظن أنه قام في خلال تلك المدة بمهام أخرى. والحق أن المجلس ونقابة الحرف قد استخدماه أثناء عمله في نحت تمثال داود في نحت تماثيل أخرى، يبلغ ارتفاع الواجد منها ست أقدام ونصف قدم، للرسل الاثني عشر كي توضع في الكتدرائية. وقد أمهل اثنتي عشرة سنة للقيام بهذا العمل، واتفق على أن يُؤدّى له فلورينان كل شهر، وأن يبني له بيت يقيم فيه من غير أجر. ولم يبق من هذه التماثيل الأخيرة إلاّ تمثال الرسول متي الذي لا يظهر إلاّ نصفه من الكتلة الحجرية كأنه تمثال من عمل Rodin. وإذا نظرنا إليه في مجمع فلورنسي العلمي أدركنا أحسن من ذي قبل ما كان يعنيه ميكل أنجيلو حين عرَّف النحت بأنه الفن "الذي يعمل بقوة الانتزاع"،
_________
(1) يجب أن يكون هذا الاستثناء هو تمثال هرمس لبركتليز، ولكن أغلب الظن أن الناس يرون أنه تمثال الحرية المقام في مرفأ نيويورك.(20/194)
وما قاله مرة أخرى في إحدى قصائده: "إن مجرد إزالة السطح من الحجر الصلب الخشن يكفي لأن يخلق منه صورة تزيد وضوحاً كلما واصل الإنسان النحت (32) " وكثيراً ما كان يقول عن نفسه إنه يبحث عن الصورة المخبوءة في الحجر، فيزيل سطحه كأنه يسعى للعثور على عامل منجم دفن تحت أنقاض الصخور الهاوية.
ونحت حوالي عام 1505 لتاجر فلمنكي تمثال العذراء الجالسة في كنيسة نتردام في بروج. وقد أثنى على هذا التمثال ثناءً جمّاً، ولكنه من أضعف ما أخرجته يد الفنان - فالثياب بسيطة تخلع على صاحبها الوقار، ورأس الطفل لا يتناسب مطلقاً مع جسمه، ووجه العذراء عابس حزين، كأنها تحس أن كل ما وقع خطأ في خطأ. وأعجب من هذا شكل العذراء في الصورة الملونة التي رسمت (1505) لأنجيلو دوني Angelo Doni. والحق أن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى كثيراً بالجمال، بل كان يهتم بالأجسام، ويفضل منها أجسام الذكور، وكان يمثلها في بعض الأحيان بكل ما في أشكالها الظاهرة من عيوب، وفي أحيان أخرى لكي تنقل إلى الناس عظة أو فكرة، ولكنه قلّما كان يهدف إلى التقاط الجمال وحبسه في الحجر الخالد. وهو في هذه الصورة الأخيرة يسيء إلى الذوق السليم بوضعه صفاً من الشبان العارين على سور خلف العذراء. ولسنا نقصد بهذا إنه كان يتحول إلى النزعة الوثنية، فهو يبدو مسيحياً مخلصاً بل قل متزمتاً، غير أن افتتانه بالجسم الآدمي في هذه الصورة قد تغلب على تقواه كما تغلب عليها في صورة يوم الحساب. كذلك كان شديد الاهتمام بتشريح الأجسام في أوضاعها المختلفة، وفيما يحدث للأعضاء، والأطراف، والهيكل، والعضلات حين يغير الجسم وضعه. فهنا مثلاً تتكئ العذراء إلى الخلف، لتتلقى، فيما يبدو الطفل يسلمه لها القديس يوسف من وراء كتفها. والتمثال منحوت نحتاً ممتازاً ولكن الصورة لا حياة فيها، وتكاد تكون تصويراً خالياً من اللون؛ وكثيراً(20/195)
ما قال ميكل أنجيلو إن التصوير لم يكن هو العمل الذي يبرع فيه.
لهذا نعتقد أنه لم يغتبط قط حين دعاه سدريني (1504) ليرسم له نقشاً جدارياً في ردهة المجلس الكبير بقصر فيتشيو، بينا كان بغيضه ليوناردو دافنشي ينقش جداراً مقابلاً له. وكان ميكل أنجيلو يبغض ليوناردو لأسباب كثيرة - لآدابه الأرستقراطية، وثيابه الغالية التي يتباهى بها، واتباعه من الشبان الحسان؛ ولعله كان يبغضه كذلك لأنه كان حتى ذلك الوقت أكثر منه نجاحاً وأوسع شهرة في التصوير. ولم يكن أنجيلو واثقاً من أنه وهو المثال يستطيع أن ينافس ليوناردو في التصوير، ولكنه قرر أ، يجرب حظه وكان ذلك منه دليلاً على الشجاعة. وكانت الصورة التخطيطية الأولية عبارة عن لوحة من الورق على قماش من التيل مساحتها 288 قدماً مربعة. ولم يكد يتقدم بضع خطوات في هذه الصورة التخطيطية حين تلقى دعوة من روما: ذلك أن يوليوس كان في حاجة إلى أحسن المثالين في إيطاليا كلها. واستشاط مجلس السيادة غضباً، ولكنه سمح لميكل أنجيلو بأن يلبي الدعوة. ولعله هو لم يأسف لترك القلم والفرشاة، والعودة إلى العمل المجهد الذي كان يحبه.
2 - ميكل أنجيلو ويوليوس الثاني
1505 - 1513
وما من شك في أنه قد أدرك لأول وهلة أنه سيكون من أشقى الناس مع يوليوس، فقد كانا متماثلين إلى حد كبير. فكلاهما متقلب المزاج ذو أهواء؛ والبابا متغطرس حاد الطبع، والفنان مكتئب فخور. وكلاهما جبار في روحه وهدفه، لا يقر لغيره بالتفوق عليه، ولا يقبل التراضي أو النزول عن بعض مطالبه، يتنقل من هدف عظيم إلى آخر مثله، ويطبع شخصيته على زمنه، ويجد ويكدح بنشاط جنوني إلى حد خيل إلى الناس بعد وفاتهما أن إيطاليا قد خارت قواها فلم تبق لها جهود.(20/196)
وسار يوليوس على السنة التي جرى عليها الكرادلة منذ زمن بعيد، فأراد أن ينشئ لعظامه تابوتاً يشهد حجمه وفخامته بما كان له من عظمة ويخلدها للأجيال الطويلة من بعده. وكان ينظر بعين الحسد إلى القبر الجميل الذي فرغ أندريا سان سوفينو Andrea Sansovino في كنيسة سان ماريا دل بوبولو. وعرض ميكل أنجيلو أن يكون هذا القبر أثراً ضخماً طوله سبع وعشرون قدماً وعرضه ثمان عشرة، يزينه أربعون تمثالاً: يرمز بعضها إلى الولايات البابوية التي استردت، ويمثل بعضها فنون التصوير، والهندسة المعمارية، والنحت، والشعر، والفلسفة، واللاهوت - أسرها كلها البابا القوي الذي لا تقف قوة ما أمام سلطانه؛ وترمز تماثيل أخرى إلى أسلافه الكبار كموسى مثلاً؛ ومنها يمثلان ملكين، أحدهما يبكي لانتقال يوليوس من الأرض، والآخر يبتسم لدخوله الجنة؛ وفي أعلى هذا النصب الضخم ينشأ تابوت جميل تحفظ فيه رفات البابا المتوفى. واقترح أن تنقش على أوجه هذا النصب نقوش من البرنز تروي جلائل أعمال البابا في الحرب، والحكم والفن. وكان في النية إقامة هذا كله عند منبر كنيسة القديس بطرس، وكان هذا المشروع يتطلب كثيراً من أطنان الرخام، وآلاف الدوقات، ويحتاج نحته إلى عدد كبير من السنين تقتطع من حياة المثال. ووافق يوليوس على المشروع، وأعطى أنجيلو ألفي دوقة ليبتاع بها لرخام المطلوب، وأرسله إلى كراراً وأمره أن يختار منها أحسن عروق الرخام. وأبصر ميكل وهو فيها تلاً مطلاً على البحر، وفكر في أ، ينحت هذا التمثال نفسه في صورة إنسان ضخم، إذا أضيء من أعلاه كان منارة يهتدي بها الملاحون من بعيد؛ غير أن قبر يوليوس أعاده مرة أخرى إلى روما. ولمّا وصلها ما اشتراه من الرخام، ووضع في كومة كبيرة بالقرب من مسكنه بجوار كنيسة القديس بطرس، عجب الناس(20/197)
من ضخامة حجمه وكثرة ما أبتيع من المال، وابتهج لذلك قلب يوليوس.
لكن المسرحية استحالت إلى مأساة. ذلك أن برامنتي كان يحتاج إلى المال ليشيد به كنيسة القديس بطرس الجديدة، فكان ينظر شزراً إلى هذا المشروع الضخم؛ هذا إلى أنه كان يخشى أن يحل ميكل أنجيلو محله فيصبح فنان البابا المقرب إليه؛ ولهذا استعان بنفوذه على تحويل أموال البابا وحماسه إلى غير طريق الضريح المقترح. وكان يوليوس نفسه يعد العدة لشن الحرب على بروجيا وبولونيا (1506)؛ ورأى أن الحرب تتطلب الكثير من المال، وأن الضريح يمكن أن يؤجل حتى تسود السلم. ولم يكن أنجيلو في هذه الأثناء قد أعطى مرتبه، وكان قد أنفق في شراء الرخام كل ما أعطاه يوليوس من المال مقدماً، وأنفق من ماله الخاص ما يحتاجه لتأثيث البيت الذي أعده البابا. ولهذا ذهب إلى قصر الفاتيكان في يوم سبت النور من عام 1506 يطلب المال؛ فقيل له إن عليه أن يعود في يوم الاثنين التالي؛ فلمّا عاد قيل له أن يجيء في يوم الثلاثاء. وأجيب هذا الجواب نفسه في أيام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس. ولمّا جاء يوم الجمعة طرد وقيل له في غلظة إن البابا لا يحب أن يراه. فعاد إلى منزله وكتب إلى يوليوس الرسالة التالية:
أيها الأب المبارك: لقد طردت اليوم من القصر بناءً على أوامرك؛ ومن أجل هذا أبلغك أنك إذا احتجت إليّ بعد هذه الساعة فعليك أن تطلبني في غير روما (33).
وأمر ميكل أن يبتاع ما اشتراه من أثاث لبيته، وركب الجواد إلى فلورنس، فلمّا بلغ بجيبنسي Poggibonsi لحقه بعض الرسل، ومعهم رسالة من البابا يأمره فيها أن يعود من فوره إلى روما. وإذا كان لنا أن نصدق روايته هو (ولقد كان رجلاً غاية في الصدق والأمانة) فإنه رد على البابا بقوله إنه لن يعود إلاّ إذا وافق البابا على أن يوفي بالشروط التي تفاهما عليها لبناء الضريح، ثم واصل السير إلى فلورنس.(20/198)
وهناك عاد إلى العمل في الرسم التمهيدي لمعركة بيزا. ولم يختر لموضوعه حرباً حقيقية بالذات، ولكنه اختار لها اللحظة التي دعا فيها فجاءة الجند الذين كانوا يسبحون في نهر الآرنو إلى القتال. ذلك بأن ميكل لم يكن يهتم بالمعارك، بل كان يرغب في أن يدرس ويصور أجسام الرجال العارية في كل وضع من الأوضاع؛ وقد أتاح له هذا الموضوع فرصته المرتقبة؛ فقد أظهر رجالاً يخرجون من النهر، وآخرين يجرون لأخذ أسلحتهم، وغيرهم يحاولون أن يلبسوا جوارب في سوقهم المبتلة، وبعضهم يقفزون أو يركبون الخيل، وبعضهم يعدلون دروعهم، وآخرين يجرون إلى المعركة عراياً كما ولدتهم أمهاتهم: ولم يكن في هذه الصورة منظر طبيعي خلفي، لأن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى قط بالمناظر الطبيعية، أو بشيء ما في الطبيعة عدا الأجسام البشرية. ولمّا أتم الصورة التمهيدية وضعها إلى جانب صورة ليوناردو في بهو البابا في كنيسة سانتا ماريا نوفلا؛ وظلت الصورتان المتنافستان فيها مدرسة يتلقى منها دروساً في التصوير مائة من الفنانين أمثال أندريا دل سارتو، وألنسو بيرجويتي Alonso Berrugueet، ورفائيل، وياقوبو سان سنوفينو Iacopo San Sanovino، وبيرينو دل فاجا Perino del Vaga، ومائة غيرهم. ونقل تشيليني Cellini صورة ميكل أنجيلو حوالي عام 1513، ووصفها وصف الشاب المتحمس بقوله إنها: " بلغت من الروعة درجة ليس في كل ما بقى من آيات الفن القديم أو الحديث ما يرقى إلى الذروة التي سمت إليها. ولم يصل ميكل أنجيلو القدسي أيام تقواه فيما بعد إلى نصف الذروة من القوة التي وصّل إليها هذه الصورة، وإن كان قد أتم معبد سستيني العظيم" (34).
تلك مبالغة لا نقول بها نحن. إن الصورة نفسا لم ترسم الرسم النهائي، والرسم التمهيدي قد فقد، ولم يبق من النسخ التي نقلت عنه إلاّ قطع صغيرة. وبينما كان ميكل أنجيلو يعمل في الرسم التمهيدي بعث البابا يوليوس بالرسالة(20/199)
تلو الرسالة إلى مجلس السيادة في فلورنس، يأمره فيها بأن يعيده إلى روما. وكان سدريني يحب الفنان ويخشى عليه إذا عاد إلى رومة، فأخذ يحاور ويداور؛ حتى إذا جاءته الرسالة الثالثة من البابا، رجا أنجيلو أن يلبي الأمر، وقال إن عناده يعرّض السلام بين فلورنس والبابا للخطر. وطلب أنجيلو أن يعطي ضماناً بسلامته يمضيه كردنال فلتيرا Voltera. وحدث في أثناء هذا الأخذ والرد أن استولى يوليوس على بولونيا (نوفمبر سنة 1506)؛ فلمّا تم له ذلك أرسل إلى فلورنس أمراً باتاً صريحاً يطلب فيه قدوم ميكل أنجيلو إلى بولونيا للقيام بعمل هام. وعبر ميكل مرة أخرى ثلوج الأبنين مسلحاً برسالة من سدريني إلى يوليوس يرجو فيها البابا "أن يظهر له حبه، وأن يعامله بالحسنى". غير أن يوليوس قابله وهو عابس مقطب الوجه، وأخرج من الحجرة أسقفاً جرؤ على أن يؤنب الفنان على عدم امتثاله أمر البابا، وعفا عن أنجيلو بألفاظ خشنة غليظة، وعهد إليه بمهمة تتفق مع ما جبل عليه البابا من الصفات فقال: "أريد منك أن تجعل تمثالي ضخماً وأن تصبه من البرونز، وأنا أريد أن أقيمه على واجهة سان بترونيو" (35). وسر ميكل أن يعود إلى فن النحت، وإن لم يكن واثقاً من قدرته على أن ينجح في صب تمثال لشخص جالس يبلغ ارتفاعه أربع عشرة قدماً. وخص يوليوس هذا العمل بأربعة آلاف دوقة، ولكن ميكل أبلغه فيما بعد أنه أنفق المبلغ جميعه عدا أربعة دوقات في شراء المواد اللازمة للعمل، وبذلك لم ينل جزاء له على كدحه سنتين كاملتين في بولونيا سوى هذا الجزاء الضئيل. وكان العمل شاقاً موئساً لا يقل في ذلك عن الجهد الذي وصفه تشيليني والذي تطلبه صب تمثال رسيوس وإقامته في شرفة لكنيسة؛ فقد كتب هذا المثال إلى أخيه بونروتو Buonarroto يقول: "إني أكد ليلاً ونهاراً؛ وإذا اضطررت إلى أن أبدأ العمل كله من جديد، فلست أظن أن حياتي تطول حتى أتمه" (56). وأقيم التمثال في مكانه فوق المدخل الرئيسي للكنيسة في شهر فبراير من عام 1508؛ وعاد ميكل إلى فلورنس في شهر مارس،(20/200)
وأكبر الظن أنه كان يتمنى ألاّ يرى يوليوس مرة أخرى، وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت صهر التمثال كما سبق القول لتصنع منه مدافع.
ولم يكد يفرغ من العمل حتى استدعاه البابا فرجع إلى روما، وساءه أن يعرف أن يوليوس لا يرغب في نحت الضريح العظيم، بل يطلب إليه أن ينقش معبد سكستس الرابع. وتردد ميكل في أن يواجه مشكلتي المنظور والتناسب والتصغير في نقش سقف يعلو فوق الأرض ثماني أقدام وستين قدماً؛ فاحتج مرة أخرى بأنه مثال لا مصور؛ وأوصى باستخدام رفائيل في هذا العمل لأنه أجدر به منه. ولكن البابا لم يأبه لصيته. وأخذ يوليوس يأمره ويتملّقه، ويتعهد بأن يؤجره ثلاثة آلاف دوقة (37. 500؟ دولار). وكان ميكل يخشى البابا ويحتاج إلى المال؛ فقبل المهمة الشاقة التي لا توافق هواه، وهو كاره يردد قوله: "ليست هذه صناعتي". وبعث إلى فلورنس يطل بخمسة مساعدين مدربين على الرسم؛ وأنزل المحالات السمجة التي نصبها برامنتي، وأقام محالاته مكانها، وبدأ العمل، فأخذ يقيس ويرسم السقف الذي تبلغ مساحته عشرة آلاف قدم مربعة، ووضع الخطة العامة، ورسم الصور التمهيدية لكل جزء من أجزائه، بما في ذلك البندريلات، والحلي البارزة والهلالية. وقدر عد الأشكال كلها بثلاثمائة وثلاثة وأربعين شكلاً؛ وقام بدراسة أولية كثيرة بعضها دراسات للأحياء. ولمًا أتم إعداد الرسم التمهيدي الأخير حمل فوق المحالات ووضع في السقف؛ متجهاً بوجهه إلى الخارج ملتصقاً بالسطح الذي طلي حديثاً بالجص، كل جزء منه في المكان المقابل له. ثم حفرت خطوط في الجص من فوق الرسوم، ورفعت بعدئذ الصور التمهيدية، وبدأ يلون الرسم.
وظل أنجيلو يعمل في سقف سستيني أكثر من أربع سنين - من مايو عام 1508 إلى أكتوبر 1512. ولم يكن العمل يدوم بلا انقطاع، فقد كانت تتخلله فترات تطول وتقصر يقف فيها مثال ذلك الفترة التي ذهب(20/201)
فيها إلى بولونيا ليلح على يوليوس في طلب المال. ولم يكن يعمل وحده، فقد كان له معاونون يطحنون الألوان، ويعدون الجص، ولعل منهم من كان يرسم أو يلون بعض الأشكال الصغيرة، وإن بعض المظلمات لتدل على أنها من صنع أيد أقل من يديه حذقاً. ولكن الفنانين الخمسة الذين استدعاهم إلى روما سرعان ما فصلوا من العمل؛ ذلك أن طراز أنجيلو في التفكير، والتخطيط، والتلوين، كان يختلف عن طرازهم وعن تقاليد فلورنس اختلافاً رأى معه أنهم يعطلونه أكثر مما يعينونه. هذا إلى أنه لم يكن يعرف كيف يقوم بالعمل مع غيره من الأعوان، وكان من أسباب سلواه، وهو فوق المحالات أنه بمفرده، يستطيع أن يفكر وهو هادئ وإن يكن وهو متألم، ويستطيع أن يحقق بشخصه قول ليوناردو: "إن كنت وحدك كان لك السلطان الكامل على نفسك". وزاد يوليوس الصعاب الفنية بصعاب خلقها بنفسه، وذلك بتعجله إتمام العمل العظيم وإظهاره للناس. وفي وسع القارئ أن يتصور البابا الشيخ، يصعد الإطار الواهن الذي نصب ليؤدي إلى مكان الفنان، ثم يبدي له إعجابه ويسأله في كل مرة: "متى ينتهي العمل؟ " فيكون الجواب درساً في الشرف والاستقامة: "سينتهي حين أفعل كل ما أعتقد أن الفن يتطلبه ويراضيه" (37) فيرد عليه يوليوس مغضباً: "أتريد أن أقذف بك من فوق هذه المحالة؟ " (38). وخضع أنجيلو فيما بعد لإلحاح البابا واستعجاله فأنزل المحالات قبل أن يصقل العمل الصقل الأخير. وفكر يوليوس وقتئذ في أن من الواجب أن يضاف قليل من الذهب إلى هذا المكان أو ذاك، ولكن الفنان المتعب أقنعه بأن الزخارف الذهبية لا تليق بصور الأنبياء أو الرسل. ولمّا نزل ميكل عن المحالة آخر مرة، كان منهوك القوى هزيل الجسم، شيخاً قبل الأوان. وتقول إحدى القصص إن عينيه لم تكونا تقويان على مواجهة ضوء الشمس لطول ما اعتادتا من الضوء الضعيف في المعبد (39)، كما تقول قصة أخرى إن القراءة وهو ناظر(20/202)
إلى أعلى وقتئذ أيسر له من أن يقرأ وهو يمسك الصفحة تحت عينيه (40).
وكانت الخطة الأولى التي أرادها يوليوس لنقش السقف لا تزيد على تصوير طائفة من الرسل، ولكن ميكل أنجيلو حمله على أن يقبل بدلها خطة أوسع وأكثر نبلاً. ونتيجة لهذا قسم ميكل القبة المحدبة إلى ما يزيد على مائة لوحة بأن صور فيها عمداً تتخللها حليات، وزاد من خداع الأبعاد الثلاثة بإضافة صور لشبان أقوياء يرمقون الأطناف أو يجلسون على تيجان العمد. وصور أنجيلو على اللوحات الكبرى الممتدة على طول قمة السقف حوادث من سفر التكوين: عملية الخلق الأولى تفصل بين الضوء والظلمة؛ والشمس، والقمر، والكواكب تنشأ وتتكون بأمر الخالق الأعظم الذي صور على هيئة إنسان مهيب جليل، صارم الوجه، قوي الجسم، ذي لحية وأثواب تهفهف في الهواء. وفي لوحة أخرى تمتد اليد اليمنى لله العلي الأعلى، وهو هنا أجمل شكلاً وملامح مما هو في الصورة السابقة، ليخلق آدم، ويمسك بيده اليسرى ملاكاً جميل الصورة. وتعد هذه اللوحة أروع ما صوره ميكل أنجيلو. وفي صورة ثالثة يُخرِج الله، وهو الآن رب أكبر في السن تبدو عليه سمات الأبوة، حواء من ضلع آدم؛ ويأكل آدم وحواء فاكهة الشجرة المحرمة، ويطردان من الجنة. ويُعِد نوح وأبناؤه قرباناً يقربان لله ويعلو الطوفان؛ ويحتفل نوح بعيد من الأعياد يُشرب فيه كثير من الخمر. وكل ما في هذه اللوحات مأخوذ من كتاب العهد القديم، وكله من القصص العبري، ذلك أن ميكل أنجيلو من أتباع الأنبياء الذين ينذرون بآخرة العالم، وليس من المبشرين الذين ينشرون إنجيل الحب.
وصور أنجيلو في البندريلات التي فوق كل عقد اثنين من العقود صوراً رائعة لدانيال، وإشعيا، وزكريا، ويوئيل، وحزقيال، وإرميا، ويونان. أما البندريلات الأخرى فقد صور فيها المتنبآت الوثنيات(20/203)
اللاتي يعتقد الناس أنهن بشرن بالمسيح: سيبيل اللوبية الرشيقة، تمسك في يدها كتاباً مفتوحاً يتحدث عن المستقبل؛ وسيبيل القومائية المكتئبة، الشقية، القوية، والمتنبئة الفارسية، العالمة، ومتنبئة دلفي، ومتنبئة أرثريا؛ تلك هي الرسوم الملونة التي تضارع تماثيل فيدياس؛ فالحق أن الإنسان ليظن أن هذه كلها تماثيل لا صوراً ملونة؛ وأن ميكل أنجيلو قد جند للعمل في فن غريب عليه، فأحاله إلى الفن الذي يوائمه. واحتفظ الفنان في المثلث الكبير الذي في نهاية السقف، وفي مثلثين آخرين في النهاية الأخرى بموضوعات العهد القديم، بالحية الفظة في البيداء، وبانتصار داود على جالوت، وبشنق هامان، وبقتل يهوديت لهلوفرينس. ثم صوّر أنجيلو في آخر الأمر مناظر يوضح فيها نسب مريم والمسيح، وكأنه فعل هذا بعد أن أعاد مرة ثانية إلى التفكير يريد أن يذعن لأمر غير راغب فيه.
وليس فذ هذه الصور كلها صورة تضارع في فكرتها، أو رسمها، أو تلوينها، أو طريقتها الفنية صورة مدرسة أثينة لرفائيل؛ ولكنها إذا نظر إليها في مجموعها كانت أعظم عمل قام به أي فنان في تاريخ التصوير كله. ذلك أن الأثر الكلي الناشئ من تكرار التفكير وشدة العناية يفوق كثيراً الأثر الذي ينطبع في الذهن إذا ما نظر الإنسان إلى الحجرات. ففي صورة رفائيل نحس بالكمال الفني الذي وفق صاحبه فيه كل التوفيق، ونرى اجتماع التفكير الديني والمسيح في وداعة ورقة، أما في صورة أنجيلو فلسنا ندرك فقط الدقة العظيمة في مراعاة الأصول الفنية التطبيقية - في المنظور، وطول الأشكال وقصرها، واختلاف المواقف والأوضاع اختلافاً يضارع سواه؛ بل ندرك فوق هذا قوة العبقرية وأثرها في نفوسنا، العبقرية التي تكاد تبلغ من القدرة على الخلق ما تبلغه صورة الله جل شأنه، التي تهب عليها الريح وهي ترفع آدم عن ظهر الأرض.
وهنا أيضاً أطلق ميكل أنجيلو العنان لعاطفته المسيطرة عليه، فجعل(20/204)
موضوع فنه وهدفه الذي يبتغيه هو الجسم الآدمي، وإن كان المكان الذي يعمل فيه هو مصلى البابوات. ولقد كان، كما كان اليونان الأقدمون، أقل عناية بالوجه وما ينطق به، منه بالجسم كله مجتمعاً. وإنّا لنجد سقف سستيني نحو خمسين من الذكور العارين وعدداً قليلاً من النساء العاريات؛ وليس فيه مناظر طبيعية، ولا نباتاً إلاّ في صورة خلق النبات، ولا نرى فيه نقوشاً من الطراز العربي؛ وفيه يصبح الجسم الآدمي، كما هو في مظلمات سنيوريلي في أرفيتو، الوسيلة الوحيدة للزخرف كما هو الوسيلة الوحيدة لتمثيل المعاني والأفكار المجردة. وكان سنيوريلي المصور الوحيد، كما كان ياقوبو دلاكويرتشيا Jacopo della Querica المثال الوحيد، الذي عني ميكل أنجيلو بالأخذ عنه والتعلم منه. وشاهد ذلك أن كل بقعة صغيرة في السقف خلت من تصميم الصورة العامة قد شغلت بصورة إنسان عار، لا يعنى فيها بالجمال بقدر ما يعنى بالقوة والجسم الرياضي. وليس في هذه الصور ما يوحي بالغريزة الجنسية، بل الذي فيها هو الكشف الدائم عن الجسم بوصفه أعلى ما يتجسم فيه النشاط، والحيوية، والحياة نفسها. ولقد احتج بعض ذوي النفوس الضعيفة الحائرة على كثرة ما في بيت الله من الأجسام العارية، ولكننا لا نجد في السجلات ما يدل على أن يوليوس اعترض عليها؛ ذلك أن البابا كان واسع الأفق في تفكيره بقدر ما كان واسعاً في عداواته؛ وكان يدرك عظمة الفن حين تقع عليها عينيه. ولعله كان يفهم أنه لم يخلد اسمه بالحروب التي انتصر فيها، بل خلده بأن أطلق العنان للنزعة القدسية، القوية، العجيبة، التي كانت تضطرب في نفس أنجيلو فاستطاعت أن تلهو في قبة مصلى البابا.
ومات يوليوس بعد أربعة أشهر من إتمام نقوش سقف سستيني؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ يقترب من ذكرى مولده الثامن والثلاثين؛ وكان قد حمل لواء المثالين الإيطاليين جميعهم بتمثالي داود وبيتا؛ أما بهذا(20/205)
السقف فقد ضارع في التصوير رفائيل أو بزه؛ وكأنه لم يبق أمامه عالم آخر يفتحه؛ وما من شك في أن أحداً من الناس، حتى هو نفسه، قلّما كان يظن أنه سيعيش من الزمان أكثر من خمسين سنة أخرى، وأن أشهر صوره، وأكثر تماثيله نضوجاً، لم تخرج إلى الوجود بعد. وقد حزن لوفاة البابا العظيم، ولم يكن يدري هل يولع ليو بغريزته بالفن النبيل كما كان يولع به يوليوس؛ ولهذا آوى إلى مسكنه يترقب ما له في ذمة المستقبل.(20/206)
الباب الثامن عشر
ليو العاشر
1513 - 1521
الفصل الأول
الكردينال الغلام
إن البابا الذي خلع اسمه على عصر من أزهى العصور وأكثرها خلوداً في تاريخ روما ليدين بتاريخه الكنسي إلى ما كان لأبيه من دهاء سياسي وخطط سياسية بارعة، ذلك أن سكستس الرابع كاد يقضي على لورندسو ده ميديتشي، وكان لورندسو هذا يرجو أن يعلو سلطان أسرته وأن يكون أبناؤه وحفدته آمنين على أنفسهم ومراكزهم في فلورنس إذا كان أحد أبناء هذه الأسرة من بين أعضاء مجمع الكرادلة، يشغل مكاناً في الدوائر الداخلية للكنيسة. ولذلك أخذ يعد ابنه الثاني جيوفني للمنصب الكنسي وكاد يفعل به هذا منذ مولده. ولمّا بلغ الغلام العاشر من عمره (1482) حلق شعر يافوخه (1)، وما لبث أن نفخ بمناصب ذات أجر من غير عمل؛ فقد عين وصياً على بعض أملاك الكنيسة، على أن يكون له الفائض من ريعها. وفي السنة الثامنة عين رئيساً لدير فون دوس Font Douce في فرنسا، وفي سن التاسعة كانت له رياسة دير باسنيانو Passignano ذات الإيراد الضخم،
_________
(1) كان هذا في طقوس الكنيسة الكاثوليكية تمهيداً للتعيين في المناصب الكنسية. (المترجم)(20/207)
وفي الحادية عشرة كان رئيساً لدير منتي كسينو ذي الذكريات التاريخية؛ وقبل أن يختار جيوفني للجلوس على عرش البابوية كان قد اجتمع له ستة عشر من هذه المناصب (1). وقد عيّن وهو في سن الثامنة كبيراً للموثقين البابويين، ثم عين كردنالاً في سن الرابعة عشرة (1).
وقد زود هذا الحبر بكل ما يتاح لأبناء الواسعي الثراء من ضروب التربية والتعليم؛ فنشأ بين العلماء، والشعراء؛ ورجال الحكم، والفلاسفة، وعين مارتشيلو فنتشينو Marcilio Ficino مربياً به، وتعلم اللغة اليونانية على دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondylese، والفلسفة على برناردو دا ببينا Bernardo Bibbiena الذي أصبح فيما بعد أحد كرادلته. وأشرب، مما في قصر والده وما حوله من مجموعات فنية ومن حديث حول الفن، حب الجمال الذي كاد يكون له ديناً حينما نضجت سنه. ولعله قد أخذ عن والده سخاءه العظيم وعدم مبالاته بالمال، كما أخذ عنه حياته المرحة، التي تكاد تكون أبيقورية، وهاتان الصفتان هما اللتان امتازت بهما حياته وهو كردنال وكذلك وهو بابا، وكانت لهما آثار بعيدة المدى في العالم المسيحي. ولمّا بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بالجامعة التي أنشأها والده في بيزا، وظل فيها ثلاث سنين يدرس الفلسفة واللاهوت، والقانون الكنسي والمدني. ولمّا بلغ السادسة عشرة سمح له علناً بأن ينضم إلى مجمع الكرادلة في روما؛ وقد بعثه إليه لورندسو (12 مارس من عام 1492) مزوداً برسالة تعد من أكثر الرسائل طرافة في التاريخ.
من واجبك ومن واجبنا جميعاً نحن الذين يهتمون بمصلحتك أن نعتقد أن الله حبانا بعنايته؛ وليس ذلك لما أفاضه على بيتنا من النعم ومظاهر التبجيل والتكريم فحسب، بل لأنه فضلاً عن هذا وأعظم منه قد أسبغ
_________
(1) يجب أن نذكر أنه كان في وسع الشخص أن يكون كردنالاً دون أن يكون قساً، وأن الكرادلة كانوا يختارون لمقدرتهم السياسية، وصلاتهم لا لصفاتهم الدينية.(20/208)
علينا، في شخصك أنت، أعظم ما استمتعنا به حتى الآن من عز وكرامة، وهذه النعمة التي أنعمها علينا، والتي هي في حد ذاتها من أجل النعم، ليزيد من قدرها ما يصاحبها من الظروف، وخاصة ما كان منها متصلاً بشبابك وبمكانتنا نحن في العالم. ولهذا فإن أول ما أعرضه عليك، هو أنه ينبغي لك أن تسبح بحمد الله، وأن تذكر على الدوام أن كل ما نالك من خير ليس مرده ما تتصف به من فضائل، أو فطنة، أو حسن تدبير، بل إن مرده هو فضل الله عليك، وهو دين لا تستطيع أن توفيه إلاّ بالتقوى؛ والعفة، وأن تجعل حياتك مثلاً يحتذى. وإن ما يفرضه عليك أداء هذا كله من واجبات ليزداد ويعظم لأنك قد بانت عليك في سنيك المبكرة مخايل تدل على أن العالم سيجني منك هذه الثمار الطيبة متى نضج عقلك وجسمك ... فاعمل إذن على أن تخفف العبء الملقى على كرامتك المبكرة، بالتزام النظام في حياتك، وبمثابرتك على دراسة العلوم التي تؤهلك لمنصبك. ولشد ما سرّني إذ علمت أنك في خلال العام المنصرم، قد أكثرت من تناول العشاء الرباني ومن الاعتراف، وأنك فعلت هذا من تلقاء نفسك. ولست أعتقد أن ثمة طريقة ينال بها رضاء الله خيراً من أن تعتاد أداء هذه الواجبات وأمثالها ...
وإني لأعلم حق العلم أنك، وأنت تقيم الآن في روما بؤرة المظالم والشرور جميعها، ستزداد في وجهك الصعاب حين تحاول أن تأخذ نفسك بالتزام هذه النصائح. نعم إن تأثير القدوة الطيبة لا يزال منتشراً قائماً لم تدرس معالمه، ولكنك ستلتقي في أكبر الظن، بأقوام يحاولون جهدهم إفساد خلقك وإغراءك بارتكاب الإثم؛ ذلك أنه ليس بخاف عليك أن ما بلغته من مكانة سامية في هذه السن المبكرة قد جر عليك حسد الحاسدين؛ وأن الذين عجزوا عن أن يحولوا بينك وبين هذه المكانة السامية لن يدخروا وسعاً في الحط منها وذلك بإغرائك على أن تأتي من الأعمال ما تفقد به تقدير(20/209)
الشعب لك، فيدفعونك بهذا إلى الهاوية التي تردوا هم فيها، ولهم في شبابك ما يغريهم ويؤكد لهم في ظنهم أنهم لا شك ناجحون فيما يحاولون. فحصّن نفسك إذن لملاقاة هذه الصعاب بكل ما تستطيع من قوة العزيمة، لأن الفضائل لا تزال في هذه الأيام ضعيفة الشأن بين إخوانك في مجمع الكرادلة. ولست أنكر بطبيعة الحال أن من بينهم رجالاً صالحين، أوتوا قسطاً كبيراً من العلم والمعرفة، يضربون بحياتهم أحسن الأمثلة لغيرهم من الناس، وأنا أوصيك بأن تتخذ هؤلاء قدوة لك، وأن تسلك في حياتك مسلكهم، فأنت إذا حذوت حذوهم وسرت على سيرتهم، ازداد تقدير الناس لك وانتشر صيتك بقدر ما تميزك سنك ومكانتك عن غيرك من زملائك. بيد أني أنصحك بأن تباعد ما بينك وبين ملق المتملقين؛ وأحذر الخيلاء والمظاهر الباطلة في سلوكك وحديثك؛ ولا تتصنع الزهد، وحتى الجد نفسه لا تبد مسرفاً فيه؛ وأرجو أن تفهم في مستقبل الأيام معنى هذه النصيحة وتسير عليها سيراً يفوق كل ما أستطيع الإفصاح عنه.
على أنك لست بغافل عمّا للأخلاق التي ينبغي لك أن تتخلق بها من شأن عظيم، لأنك تعلم حق العلم أن العالم المسيحي على بكرة أبيه سوف يزدهر ويعمّه الرخاء إذا اتصف الكرادلة بما يجب أن يتصفوا به من أخلاق طيبة؛ ذلك أنهم إن كانوا كذلك كان البابا حتماً من الصالحين في جميع الأوقات. وطمأنينة العالم المسيحي، كما تعلم، إنما تعتمد على وجود البابا الصالح. فاعمل إذن على أن تكون بحث إذا كان سائر الكرادلة مثلك، كان لنا أن نرجو نيل هذه النعمة الشاملة. وليس من السهل أن أسدي إليك نصائح مفصلة دقيقة تسترشد بها في سلوكك وحديثك، ولهذا فحسبي أن أنصحك بأن تكون العبارات التي تستخدمها في حديثك مع الكرادلة وغيرهم من ذوي الدرجات العلي خالية من التشامخ، يزنيها تقديرك واحترامك لمن يحدثك ... على أن من الخير لك في زيارتك هذه لومة - وهي أولى(20/210)
زياراتك لهذه المدينة، أن تصغي إلى غيرك من الناس لا أن تكثر أنت من التحدث إليهم ...
واجعل عدتك وثيابك في المناسبات الرسمية دون الدرجة الوسطى لا فوقها، واعلم أن البيت الجميل، والأسرة الحسنة التنظيم أفضل من الحاشية الكبيرة والمسكن الفخم ... وأن الحرير والجواهر لا تليق بمن هم في مثل مركزك؛ وإنك لتستطيع أن تظهر ذوقك بأحسن مما تظهره هذه الثياب والجواهر بأن تحصل على عدد قليل من الآثار القديمة الظريفة، أو بجمع الكتب الجميلة الشكل، وبأن يكون أتباعك من المتعلمين الحسني التربية لا بالكثيرين. وادع غيرك إلى دارك أكثر مما تتلقى الدعوات إلى دور غيرك، وإن كان عليك ألا تسرف في هذه أو تلك. وليكن طعامك بسيطاً، ومارس الرياضة البدنية بالقدر الكافي؛ لأن من يلبسون الثياب التي تلبسها سرعان ما تصيبهم الأمراض إذا لم يعنوا بأجسامهم أعظم العناية ... واعلم أن قلة الوثوق بالناس عن الحد الواجب حير من الإسراف في الثقة بهم. وثمة قاعدة ألفت إليها نظرك وهي لدى أفضل من كل ما عداها: استيقظ من النوم مبكراً، فإن هذا الاستيقاظ المبكر لن يفيدك صحة في الجسم فحسب، بل إنه سيمكنك فوق ذلك من أن تنظّم أعمال اليوم وتنجزها؛ وإذ كان مركزك يحتم عليك القيام بأعمال متعددة، كأداء الصلوات والخدمات الدينية؛ والدرس، والاستماع إلى ذوي الحاجات وما إلى ذلك، فإنك ستفيد من هذه النصيحة أكبر فائدة ... وسيطلب إليك في أغلب الظن أن تتوسط لدى البابا في ظروف معينة. ولكن عليك ألاّ تكثر من الإلحاح عليه ومضايقته، لأن مزاجه يجعله أعظم ما يكون سخاء على أقل الناس إلحاحاً برجائهم ومطالبهم. إن عليك أن تراعى هذه النصيحة لئلاّ تغضبه، وألاّ يفوتك أن تتحدث إليه في بعض الأوقات في موضوعات أحب إلى النفس من هذه الشفاعات؛(20/211)
وإذا كان لابد لك أن تطلب إليه منه، فاطلبها بالتواضع والخضوع الذين يسرانه ويوائمان مزاجه. استودعك الله (2).
وتوفي لورندسو قبل أن يمضي بعد هذا الوقت شهر واحد، ولم يكد جيوفني يصل إلى "بؤرة الفساد والظلم". حتى عجّل بالعودة إلى فلورنس ليؤيد بيرو أخاه الأكبر في أن يرث سلطانه السياسي المزعوم. وكان من المصائب القليلة التي لاقاها جيوفني في حياته أنه كان في فلورنس حين سقط بيرو عن عرشه. ولم يجد هو وسيلة للنجاة من غضب المواطنين على آل ميديتشي، ذلك الغضب الذي لم يفرقوا فيه بين أفراد هذه الأسرة، إلا أن يتخفى في زي راهب فرنسيسي، وأن يشق طريقه وهو متخف في هذا الزي بين الجماهير المعادية، وأن يطلب الالتحاق بدير سان ماركو الذي سخا عليه أسلافه بالهبات، ولكنه كان وقتئذ تحت سيطرة سفنرولا عدو أبيه. ولهذا أبى الرهبان قبوله فيه، فاختفى وقتاً ما في إحدى ضواحي المدينة، ثم اتخذ سبيله فوق الجبال لينضم إلى أخوته في بولونيا؛ وقد تجنب الذهاب إلى روما لأنه كان يكره الإسكندر السادس؛ وعاش ست سنين هارباً أو منفياً، ولكن يلوح أنه لم يكن في خلالها يعوزه المال. وقد زار في هذه الأثناء مع جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد الباب كلمنت السابع) وبعض أصدقائه ألمانيا، وفلاندرز، وفرنسا. ثم اصطلح آخر الأمر مع الإسكندر فاتخذ مقامه في روما (1500).
وأحبه كل من كان في تلك المدينة. فقد كان متواضعاً، بشوشاَ، سخياً في غير تظاهر، وقد بعث بهبات قيّمة إلى معلميه بوليتيان وكلكنديلس، وأخذ يجمع الكتب والتحف الفنية؛ وحتى دخله الكبير نفسه لم يكد يفي بما يقدمه من هبات الشعراء، والفنانين، والموسيقيين، والعلماء. وكان يستمتع بجميع فنون الحياة وطيباتها؛ بيد أن جيوتشيارديني Guicciardini الذي لم يكن قلبه يخلو من كره للبابوات، يصفه بأنه "قد اشتهر بأنه إنسان(20/212)
طاهر الذيل، مبرأ من كل نقيصة خلقية" (3)؛ وقد هنأه ألدوس مانوتيوس Aldus Manutius بحياته التقية النقية" (4).
وبدأت الأقدار تعاكسه من جديد حين عينه يوليوس الثاني مندوباً بابوياً يحكم بولونيا وإقليم رومانيا (1511)، ورافق الجيش البابوي إلى رافنا؛ وخاض المعركة وهو أعزل يشجع الجند ويشد عزائمهم؛ وأطال المكث فوق ما ينبغي في ميدان الهزيمة؛ يصلي على الموتى، حتى قبضت عليه سرية يونانية تعمل في خدمة الفرنسيين المنتصرين. ولمّا سيق أسيراً إلى ميلان، سرّه أن يرى أن الجنود الفرنسيين أنفسهم قلّما كان يعنيهم أمر الكرادلة المنشقين ومجلسهم الذي لا يستقر في مكان، وأنهم كانوا يحرصون على المجيء إليه لينالوا بركته، ومغفرته، ولعلم أيضاً قد جاءوا لينالوا رفده. واستطاع أن يفر من آسريه الرفيقين به، وأن ينضم إلى القوات البابوية - الإسبانية التي نهبت براتو Prato واستولت على فلورنس، واشترك مع أخيه جوليانو في إعادة آل ميديتسي إلى سلطانهم (1512)؛ ثم استدعى بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت إلى روما ليشترك في اختير من يخلف يوليوس على عرش البابوية.
ولم يكن وقتئذ قد جاوز السنة السابعة والثلاثين من عمره، وقلّما كان يتوقع أنه هو نفسه سيختار بابا. وقد دخل المجمع المقدس محمولاً على محفة يعاني آلام ناسور في الشرج (5). واحتدم النقاش أسبوعاً، اختير بعده جيوفني ده ميديتشي بابا (11 مارس سنة 1513)، ويلوح إن الرشا لم تكن من أسباب هذا الاختيار، وتسمى باسم ليو العاشر؛ ولم يكن قد رسم بعده قسيساً، ولكن هذا النقص قد تدور في 15 مارس.
ودهش الناس جميعاً من هذا الاختيار وابتهجوا له؛ فقد سرهم وأثلج صدورهم، بعد دسائس الإسكندر وسيزاري بورجيا السوداء وحروب يوليوس واضطراباته هو وأحفاده، أن يتزعم الكنيسة في ذلك الوقت شاب(20/213)
امتاز وهو لا يوال فتياً بقلبه الطيب السمح، وكياسته ودماثة خلقه ومجاملته، ومناصرته السخية للآداب والفنون، وأن يقودها كما يبدو في طريق السلام. ولم يخش ألفنسو صاحب فيرارا، الذي حاربه يوليوس بلا هوادة، المجيء إلى روما؛ ورد إليه ليو كل ما كان له في دوقيته من امتيازات، وشكر له الأمير هذه اليد فأمسك بركاب ليو حين امتطى جواداً بيسير في موكب التتويج في السابع عشر من شهر مارس. وكانت هذه الحفلات التي أقيمت بمناسبة تتويجه فخمة لم سبق لها مثيل من قبل أنفقت فيها مائة ألف دوقة (6). وقدم فيها المصرفي أغستينو تشيجي Agostino Chigi مركبة نقش عليها باللغة اللاتينية ذاك النقش الذي يعلن فيه أمل الشعب: "لقد حكمت من فيل فينوس" (أي الإسكندر)، "وحكم بعدئذ المريخ" (يريد يوليوس)، و "الآن تحكم بالاس Pallas" و (الحكمة) وطاف الناس بشعار أكثر من هذا إيجازاً وإحكاماً: "كان المريخ، وتكون بالاس، وأنا فينوس، سأكون أبداً" (7). وابتهج الشعراء، والمثالون، والمصورون، والصيّاغ؛ وانبعثت في قلوب الكتّاب الإنسانيين آمال بعودة عصر أغسطس الذهبي, وقصارى القول أن أحداً لم يتربع على كرسي البابوية من قبل أن تحف به هذه البشائر والآمال والبهجة التي تغمر قلوب الشعب على بكرة أبيه.
وإذا جاز لنا أن نصدق الملفقين من كتّاب ذلك العصر فإن ليو نفسه قد قال لأخيه وهو منشرح الصدر: "فلنستمتع بالبابوية ما دام الله قد وهبنا إياها" (8). ولعل هذا القول مدسوس عليه، وحتى إن صح لا يدل على شيء من عدم الاحتشام، بل ينم على روح جذلة، لا تنسى أن تكون كريمة كما تكون سعيدة، وهي لا تدري وقد واتاها الحظ السعيد أن تصف العالم المسيحي كأنه يتمخض بالثورة على الكنيسة.(20/214)
الفصل الثاني
البابا السعيد
وبدأ ليو عمله بداية طيبة إلى أبعد حد، فعفا عن الكرادلة الذين دبروا مؤتمر بيزا وميلان المعادي له، وانتهى بذلك خطر الانقسام؛ ووعد ألاّ يمس الضياع التي يتوفى عنها الكرادلة، ووفى بهذا الوعد. وأعاد افتتاح مجلس لاتران، ورحب بمندوبيه بلغته اللاتينية البليغة. وأدخل على الكنيسة بعض إصلاحات صغيرة، وخفف الضرائب؛ ولكن مرسومه الذي دعا فيه إلى الإصلاحات الكبرى (3 مايو سنة 1514) لقي مقاومة شديدة من الموظفين الذين كانوا يخشون من أن تنقص هذه الإصلاحات من دخلهم، ولهذا لم يبذل جهداً كبيراً في تنفيذه (9) وقال في هذا: "سأتدبر الأمر، لأرى كيف أستطيع أن أرضي كل إنسان" (10) لقد كان هذا هو طبعه، وكان طبعه هذا سبباً فيما حاق به من بلاء.
وليست الصورة التي رسمها له رفائيل (المحفوظة في بتي) والتي أخرجها بين عامي 1517 و 1519 مشهورة شهرة صورة يوليوس، ولكن ليو نفسه ملوم على هذا بعض اللوم! فقد كان حين صور أقل عمقاً في التفكير، وأقل بطولة في العمل، وأقل قدرة في قرارة نفسه. ولم تكن هذه الصفات لتكسب ظاهر وجهه وجسمه روعة وجلالاً. وكانت الصورة صادقة إلى أبعد حدود الصدق. فقد أظهرته رجلاً ضخماً، يتجاوز الحظ الأوسط في الطول، كما يتجاوزه أكثر من هذا في وزن الجسم. وقد اختفت بدانته التي تقلل من هيبته تحت ستار ثوبه المصنوع من المخمل الأبيض والموشى بالفراء الثمين، والحرملة الحمراء القرمزية؛ له يدان ناعمتان رخوتان، جردتا في الصورة من الخواتم الكثيرة التي تزينهما في الأوقات العادية؛(20/215)
ومنظار للقراءة يساعد عينيه القصيرتي النظر؛ ورأس مستدير وخدان منتفخان، وأنف ضخم وأذنان عريضتان؛ وتمتد بعض الخطوط الدالة على الحقد والضغينة من الأنف في طرفي الفم، وعينان ثقيلتان، وجبهة عابسة بعض العبوس ذلك هو ليو الذي كشرت له الدبلوماسية عن نابها، ولعله قد آلمته حركة الإصلاح التي كانت قاسية عليه، وليس هو ليو الصياد والموسيقي المرح، ونصير الآداب والفنون الجواد الكريم؛ الرجل المثقف الذي ينتهب اللذات، والذي ابتهجت روما بتتويجه أعظم ابتهاج. وإذا ما شئنا أن ننصفه وجب أ، نضم سجل حياته إلى صورته، ذلك أن الرجل منا رجال كثيرون عند مختلف الرجال وفي مختلف الأوقات؛ وليس في مقدور أبرع مصور أن يظهر كل هذه الصفات في وجه إنسان ما في لحظة واحدة.
وكانت الصفة الأساسية في أخلاق ليو، والتي هي وليدة حياته المحظوظة هي طيبة قلبه. فقد كان يجد كلمة طيبة يقولها لكل من يلقاه، وكان يرى خير النواحي في كل إنسان عدا البروتستنت (الذين لم يكن يسعه أن يبدأ بفهمهم)؛ وكان يسخو على كثيرين من الناس سخاء استنزف كثيراً من أموال الكنيسة، وكان من أسباب حركة الإصلاح الديني. ونحن نسمع الشيء الكثير عن أدبه، ورقة حاشيته، وكياسته، وبشاشته، ومرحه حتى في أوقات المرض والألم (فقد أجريت له عدة جراحات لاستئصال ناسوره ولكنه كان يعود بعدها على الدوام، وكان في بعض الأحيان يجعل تحركه عذاباً ليس بعده عذاب). وكان يترك لغيره من الناس، على قدر ما يستطيع، أن يحيوا حياتهم كما يشاءون. وقد تغلبت القسوة على اعتداله وحنوه الأصليين حين تبين له أن بعض الكرادلة يأتمرون به ليقتلوه. ولقد كان شديداً صارماً مجرداً من الرحمة في بعض الأوقات، فعل ذلك مع فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري رجل أربينو وجيان باولوبجيلوني رجل بروجيا (11).(20/216)
وكان يسعه أن يكذب كما يكذب الدبلوماسي إذا أرغمته الظروف على الكذب، وكان من حين إلى حين يتفوق على الساسة الغادرين الذين يريدون أ، يوقعوه في حبائلهم. لكنه كان في أكثر الأحيان ذا قلب رحيم؛ ونتبين هذا حين نهى (دون جدوى) عن استعباد الهنود الأمريكيين، وحين بذل كل ما في وسعه ليقاوم وحشية محاكم التفتيش التي كان يلجأ إليها فرديناند الكاثوليكي (12). وكان رغم نزعته الدنيوية العامة يؤدي جميع واجباته الدينية بذمة وأمانة، فكان يصوم، ولا يرى أي تناقض أساسي بين الدين والمرح، وقد اتهم بأنه قال لبمبو يوماً ما: "إن الأجيال جميعها لتعلم حق العلم كيف أفدنا من هذه الخرافة - خرافة المسيح"؛ ولكن المصور الوحيد الذي ورد فيه هذا القول هو مؤلًّف جدلي عنيف يسمى موكب البابوات The Pageant of Popes كتبه حوالي 1574 رجل إنجليزي لا شأن له يدعى جون بيل john Bale، وحتى بايل الذي لا يؤمن بدين ورسكو Rosucoe البروتستنتي يرفضان هذه القصة ويعتقدان أنها هي نفسها خرافة (13).
وكانت متعه ومسرّاته تختلف من الفلسفة إلى المهرجين الماجنين. وكان قد تعلم على مائدة أبيه أن يقدر الشعر، والنحت، والتصوير، والموسيقى، والخط الجميل، وزخرفة الكتب، والمنسوجات الرفيعة الجميلة، والمزهريات والزجاج، وكل أشكال الجمال مع جواز استثناء أصلها ومعيارها وهو المرأة؛ وكانت رعايته للفنانين والشعراء جرياً منه في روما على التقاليد الكريمة التي كان يسير عليها أسلافه في فلورنس، وإن كان استمتاعه بالفنون شاملاً شمولاً لا يصل به إلى حد الذي يجعله هادئاً مرشداً للذوق الفني. وقد كانت طبيعته السهلة مانعة له من أن يعني بالفلسفة عناية جدية، وكان يعرف أن النتائج والأحكام المستخلصة من المقدمات المنطقية كلها زعزعة غير أكيدة، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء(20/217)
تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي Bernard Accolti ( المسمى يونيكو أريتينو Unico Aretino لأنه ولد في أدسو ولأنه لم يكن يجاريه أحد في سموله ارتجاله الشعر والقطع الموسيقية) بفضل الأجور التي نالها من ليو أن يشتري دوقية نيبي Nepi الصغيرة؛ وحصل منه يهودي عازف على العود على قصر ولقب كونت؛ وعُيّن المغني جبريل مرينو Gabrial Merino كبير أساقفة (14) ووصلت جوقة المرنمين في الفاتيكان بفضل تشجيع ليو ورعايته إلى درجة من السمو لم يسبق لها من قبل مثيل. وكان رفائيل صادقاً كل الصدق حين صور البابا وهو يقرأ كتاباً في الموسيقى الدينية. وكان ليو يجمع الآلات الموسيقية لجمالها وحسن أنغامها، وكان منها أرغن مزدان بقطع من المرمر يرى جستليوني أنه أجمل أرغن رآه أو سمعه.
كذلك كان ليو يحب أن يحتفظ في بلاطه بعدد من المازحين والمهرجين؛ وكان هذا مما يتفق مع ما أعتاده أبوه ومعاصروه من الملوك، ولم تروع له روما التي كانت تحب الضحك حباً لا يزيد عليه إلاّ حب الثروة والجماع، وقد يبدو لنا إذا عدنا بنظرنا إلى تلك الأيام الخالية أن مما تعافه نفوسنا أن تتردد أصداء النكات الخفيفة والقبيحة في أرجاء البلاط البابوي بينما كانت ثورة الإصلاح الديني الجامعة تشعل نارها في ألمانيا. ومما يحكى عن ليو أنه قد سره مرة أن يرى أحد المهرجين من رهبانه يبتلع حمامة دفعة واحدة، أو أربعين بيضة متتابعة (15)؛ وأنه قد قبل مسروراً من وفد برتغالي حين شاهد قداسته (16). وإذا جيء له بشخص يستطيع بفكاهته، أو صورته المشوهة، أو بلاهته أن يدخل السرور عليه، كان هذا طريقاً(20/218)
مؤكداً لكسب رضاه (17). ويبدو أنه كان يحس بأن الترويح عن نفسه بهذه الوسائل من حين إلى حسن يشغله عن آلامه الجسمية، ويخفف عن نفسه عبء المتاعب النفسية، ويطيل حياته (18). وكانت له عادة تمت بصلة إلى عادات الأطفال وتقلل من حقد الحاقدين عليه. ذلك أنه كان يلعب الورق أحياناً مع الكرادلة، ويبيح للجمهور أن يشاهد اللعب حتى إذا فرغ منه وزع قطعاً من الذهب على الحاضرين.
وكان الصيد أحب ضروب التسلية إليه؛ فقد كان هذا مانعاً له من البدانة التي كان مستعداً لها بطبيعته، وكانت تمكنه من الاستمتاع بالهواء الطلق وبمناظر الريف بعد أن كان سجيناً في الفاتيكان. وكان له إسطبل به كثير من الجياد يخدمها مائة سائس؛ وكان من عادته أن يفرغ في شهر أكتوبر كله للصيد والقنص. وكانت أطباؤه يحبذون هذه العادة أعظم التحبيذ، ولكن باريس ده جراسيس Paris de Grassis كبير تشريفاته كان يشكو من أن البابا يظل منتعلاً حذاءيه الثقيلتين زمناً طويلاً "لا يستطيع أحد معه أن يقبل قدميه"، وكان ليو يضحك من هذا بكل قلبه (19). ونحن نرى البابا أرق حاشية مما نراه في صورة رفائيل حين نقرأ أن الفلاحين. أهل القرى كانوا يفدون عليه لتحيته حين يمر في طرقهم، وأنهم كانوا يقدمون له عطاياهم المتواضعة - وأن البابا كان يجزل لهم العطاء حتى كان هؤلاء ينتظرون بشوق زائد رحلات الصيد التي يقوم بها. وكان يهب بناتهم الفقيرات بائنات الزواج، ويؤدون ديون المرضى والطاعنين في السن، وآباء الأسر الكبيرة (20). وكان أولئك الأقوام السذج يخلصون له الحب أكثر من الألفين من الرجال الذين تتألف منهم حاشيته في الفاتيكان (1).
_________
(1) وكان المكان المحبب الذي ينزل فيه ليو خلال رحلات الصيد هذه هو البيت الريفي المعروف بقصر مجليانا Magliana وكان هذا القصر قد شيد لسكستس الرابع ووسّعه إنوسنت الثاني ويوليوس الثاني، وزينه جيوفني دي بيترو الأمبري (المعروف باسم لو أسبانيا Lo Spagna) ليوليوس بمظلمات تمثل أبلو روبات الفن. وصمم رفائيل لمعبده (بين 1513 و 1520) ثلاث مظلمات بقى منها اثنان حتى الآن في متحف اللوفر. والراجح أن لو أسبانيا قد صورها من صور تمهيدية لرفائيل.(20/219)
بيد أن بلاط لو لم يكن مجرد بؤرة للتسلية والمرح، بل كان إلى هذا ملتقى رجال الحكم المسئولين، ومن بينهم ليو نفسه، وكان مركز ذوي الأحلام، والعلم، والفكاهة في روما، والمكان الذي يقيم فيه العلماء، ورجال التربية، والشعر، والفنانون، والموسيقيون، ويلقون فيه أعظم الترحيب؛ وكان هو الذي تصرف فيه الأعمال الكنيسة الجدية، وتقدم فيه الاحتفالات الفخمة لاستقبال المبعوثين الدبلوماسيين، وتؤدب فيه المآدب الغالية، وتمثل فيه المسرحيات أو تقام فيه الحفلات الموسيقية، وينشد فيه الشعر، وتعرض فيه روائع الفن. وما من شك في أنه كان أرقى بلاط في العالم كله في ذلك الوقت. والحق أن بلاط ليو قد بلغ بفضل ما بذله البابوات من أيام نقولاس إلى ليو نفسه من الجهود لإصلاح قصر الفاتيكان وزخرفته، وحشد العدد الجم من عباقرة الأدب والفن، وأقدر السفراء في أوربا بأجمعها، نقول إن بلاط ليو قد بلغ بفضل هذا ذروة آداب النهضة وبهجتها، ولا نقول إنه قد بلغ ذروة الفن لأنه كان قد بلغ هذه الذروة في عهد يوليوس. ولم يشهد التاريخ قبل أيامه ثقافة بالقدر الذي شهده منها في هذا العهد، لا نستثني من ذلك عصر بركليس في أثينة أو عصر أغسطس في رومة (22).
وعم الرخاء المدينة واتسعت رقعتها بفضل ما كان يجري في شرايينها الاقتصادية من ذهب ليو، ويقول سفير الفاتيكان في هذا إن عشرين ألف بيت قد بنيت في روما في الثلاثة عشر عاماً التي تلت ارتقاءه عرش(20/220)
البابوية، وقد شاد أكثرها القادمون الجدد من شمالي إيطاليا الذين قدموا إليها بعد هجرة عصر النهضة. وازدحم فيها الفلورنسيون بوجه خاص لينالوا رفد البابوية الفلورنسية. وقد باولو جيوفو Paolo Giovo الذي كان يتبختر في البلاط البابوي سكان روما في ذلك الوقت بخمسة وثمانين ألفاً (23)، ولسنا ننكر أنها لم تكن قد بلغت بعد ما بلغته فلورنس او البندقية من جمال، ولكنها كانت بإجماع الآراء محور المدنية الغربية؛ وقد سماها مارتشيلو ألبريني Marcello Alberini في عام 1527، "ملتقى العالم كله" (24). ولم يغفل ليو، وسط ملاهيه وشئونه الخارجية، عن تنظيم استيراد الطعام وتحديد أثمانه، وإلغاء الاحتكارات، وابتياع بعض السلع بأجمعها للتحكم في أثمانها (1)، وخفض الضرائب، ووزع العدالة بغير محاباة، وبذل جهده لتجفيف المستنقعات البنتية Pontine Marshes، وعمل على تقدم الزراعة في الكمبانيا، وواصل أعمال الإسكندر ويوليوس في شق الشوارع في روما وتحسينها (30). وسار على نهج أبيه في فلورنس فعنى بالضروريات والكماليات فاستخدم الفنانين لينظموا له المواكب الفخمة، وشجع الاحتفالات المقنعة عيد المساخر، وبلغ من أمره أن سمح بإقامة مصارعات الثيران التي جاء بها آل بورجيا في ميدان القديس بطرس نفسه. ذلك أنه كان يرغب في أن يشترك الشعب في مرح العصر الذهبي الجديد وسعادته.
وسارت المدينة على نهج البابا، وأطلقت للمرح والبهجة العنان، فأسرع رجال الدين، والشعراء، والطفيليون، والقوادون، والعاهرات إلى روما ليعبوا كأس السعادة عبا. وكان الكرادلة وقتئذ أغنى من الأشراف القدامى، بفضل ما حباهم به البابوان، وخاصة ليو نفسه، من المناصب التي جاءتهم بالإيراد من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وبينا كان
_________
(1) هذا هو الذي يسمونه في عالم التجارة "ركناً Corner" ( المترجم)(20/221)
أولئك الأشراف القدامى ينحدرون إلى هاوية الاضمحلال الاقتصادي والسياسي، كان دخل بعض الكرادلة يبلغ ثلاثين ألف دوقة في العام (أي نحو 375. 000دولار) (31). فاستطاعوا بذلك أن يسكنوا في مساكن فخمة، يقوم فيها على خدمتهم ثلاثمائة من الخدم في بعض الأحيان (32)، وتزدان بكل ما عرف في ذلك الوقت من روائع الفن والترف. ولم يكونوا يرون أنهم رجال دين بقدر ما كانوا يرون أنهم رجال حكم، ودبلوماسيون، ومديرون؛ لقد كانوا هم مجلس الشيوخ الروماني، وكانوا يريدون أن يحيوا كما أحيا أعضاء مجلس الشيوخ. وكانوا يسخرون من أولئك الأجانب الذين يتطلبون منهم أن يحيوا حياة التقى والعفة التي يحياها القساوسة؛ وكانوا يزنون السلوك، كما يزنه كثيرون من أبناء عصرهم، بموازين الجمال لا بالموازين الأخلاقية، فلم يكونوا يرون بأساً من خرق بعض الأوامر الإلهية إذا تجملوا في خرقها وفعلوا ذلك بظرف وذوق سليم. وقد أحاطوا أنفسهم بالغلمان، والموسيقيين، والشعراء، والكتّاب الإنسانيين، وكانوا من حين إلى حين يتناولون عشاءهم مع محاظي البلاط (33). ويأسفون أشد الأسف لأن ندواتهم كانت خالية من النساء، فها هو ذا الكردنال بينا يقول "إن روما على بكرة أبيها تنادي بأنّا لا ينقصنا هنا إلاّ سيدة تكون هي واسطة عقد الندوة" (34). وكانوا يحسدون فيرارا، وأربينو، ومانتوا لما تستمتع به من هذه الناحية، ولشد ما اغتبطوا حين جاءت إزبلا دست لتبسط أثوابها ومفاتنها النسوية على حفلاتهم التي لم تكن تضم إلاّ الذكور.
وبلغ الظرف، والذوق، ولطف الحديث، وتقدير الفن غايته ذلك الوقت، ونالت الفنون والآداب على اختلاف أنواعها أعظم التشجيع، ولسنا ننكر أنه كان هناك حلقات مثقفة في العواصم الصغرى،(20/222)
وأن كستجليوني كان يفضل ندوات أربينو الهادئة على حضارة روما الزاهية، الومضية، الصاخبة، التي تجتمع فيها كل الأجناس، غير أن أربينو لم تكن إلاّ جزيرة صغيرة من الثقافة، أما روما فكانت مجرى دافقاً أو بحراً عجاجاً. وأقبل عليها لوثر ورآها، وهاله ما رأى واشمأزت منها نفسه، ثم جاءها إرزمس Erasmus ورآها وافتتن بها افتتاناً بلغ حد النشوة (35). ونادى مائة شاعر وشاعر بأن العصر الذهبي قد عاد.(20/223)
الفصل الثالث
العلماء
في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1513 أصدر ليو مرسوماً بضم معهدين من معاهد العلم افتقرا إلى المال: هما كلية القصر المقدس أي الفاتيكان، وكلية المدينة، وأصبح المعهدان من ذلك الوقت هما جامعة روما، وخصص لهما بناء لم يلبث أن عرف باسم سابيندسا Sapienza (36) . وكان هذا المعهدان قد ازدهرا في أيام البابا اسكندر، ولكنهما اضمحلا في عهد يوليوس الذي استولى على أموالهما لينفقها في الحروب، والذي كان يفضل السيف على الكتاب. وأمد ليو الجامعة الجديدة بالمال بسخاء وظل يسخو عليها حتى تورط هو الآخر في سباق للتدمير. فقد جاء إليها بعدد جم من العلماء الممتازين المخلصين لعلمهم، فلم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى كان في المعهد الجديد ثمانية وثمانون أستاذاً - منهم خمسة عشر في الطب وحده - يتقاضى الواحد منهم ما بين 50 فلورينا و 530 (من 825 إلى 6625؟ دولاراً) في العام. وكان ليو في تلك السنين الأولى من ولايته يبذل كل ما في وسعه ليجعل الكليتين المجتمعتين أعظم جامعات إيطاليا علماً وأكثرها ازدهاراً.
وكان من أفضاله أنه أنشأ في هذه الجامعة دراسة اللغات السامية. ذلك أنه خصص في جامعة روما كرسياً لتعليم اللغة العبرية، وعين تيسيو أمبروجيو Teseo Ambrogio لتدريس اللغتين السريانية؛ والكلدانية في جامعة بولونيا. ورحب ليو حين أهدى له كتاب في نحو اللغة العبرية ألفه أجاتشيو جويداتشريو Agacio Guidacerio؛ ولمّا علم أن سانتي بجنيني Sante Pagnini كان يترجم العهد القديم من الأصل العبري إلى اللغة اللاتينية،(20/224)
طلب أن يرى أنموذجاً من الترجمة؛ فلمّا رآه أعجبه، وتعهد من فوره بأن يتكفل بنفقات هذا المشروع الشاق الكبير.
وكان ليو أيضاً هو الذي أعاد دراسة اللغة اليونانية بعد أن أخذت دراستها في الاضمحلال. وشرع في ذلك بأن دعا إلى روما العالم الشيخ جون لسكارس John Lascaris الذي كان يعلّم اللغة اليونانية في فلورنس، وفرنسا، والبندقية، ونظم بمساعدته مجمعاً علمياً في روما، منفصلاً عن الجامعة. وكتب بمبو على لسان ليو (في 7 أغسطس سنة 1513) خطاباً إلى ماركس موسوروس Marcus Musurus أكبر مساعدي مانوتيوس Manutius يطلب فيه إلى هذا العالم أن يحصل من بلاد اليونان على "عشرة، أو أكثر من عشرة حسبما يرى، من الشبان المتبحرين في العلم، المشهود لهم بالأخلاق الفاضلة لتؤلف منهم حلقة من الدراسات الحرة، ولكي يتلقى عليهم الإيطاليون العلم باللسان اليوناني وحسن الانتفاع به" (37). وبعد شهر من ذلك الوقت نشر مانوتيوس طبعة أفلاطون التي أتمها موسوروس من قبل، وأهدى الطابع العظيم هذا الكتاب إلى البابا. ورد عليه ليو بأن منح ألدوس دون غيره الحق في أن يعيد طبع كل ما أصدره ألدوس من الكتب اليونانية أو اللاتينية حتى ذلك الوقت، وما سيطبعه في خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة التي سيظل فيها وحده صاحب هذا الحق. وأعلن فوق هذا أن كل من يتعدى على هذا يحوم من حظيرة الدين، ويعرض نفسه للعقاب. وكان هذا الامتياز الفردي في طباعة المؤلفات هو الوسيلة التي تمنح بها النهضة طابعاً ما حق طبع الكتاب الذي أنفق المال على إعداده. غير أن ليو أضاف إلى هذا الامتياز وصيته بأن يكون ما يطبع من كتب ألدوس معتدل الثمن، وقد كان.
وأنشئت الكلية اليونانية في بيت آل كولتشي Colocci على الكويرنال Quirinal، وأقيمت هناك أيضاً مطبعة لطبع الكتب الدراسية والشروح(20/225)
للطلاب. وأنشئ حوالي ذلك الوقت عينه في فلورنس "مجمع علمي ميديتشي" شبيه به للدراسات اليونانية؛ وجمع فارينو كامرتي Varlno Camerti - الذي اتخذ لنفسه اسماً لاتينياً هو فافورينوس Favorinus - بتشجيع ليو أحسن معجم يوناني - لاتيني نشر في عالم النهضة حتى ذلك الوقت.
وكادت غيرة البابا على الآداب القديمة تكون ديناً له وعقيدة. وشاهد ذلك أنه تلقى من البنادقة "عظماً من كتف ليفي" بنفس التقوى التي يتلقى بها أثراً من آثار كبار القديسين (38)، وانه أعلن بعد جلوسه على كرسي البابوية بقليل أنه سيكافئ بسخاء كل ما يحصل له على أي مخطوط في الأدب القديم لم ينشر بعد. ثم إنه فعل ما فعله أبوه فأرسل مبعوثيه وعماله إلى البلاد الأجنبية ليبحثوا عمّا عساه أن يكون فيها من المؤلفات القديمة، وعن كل الأشياء ذات القيمة وثنية كانت أو مسيحية، وأن يبتاعوها له، وكان في بعض الأحيان يوفد الوفود لهذا الغرض خاصة لا لغرض سواه، ويزودهم بالرسائل للملوك والأمراء يطلب إليهم فيها أن يعاونوا أولئك الرسل في البحث والتنقيب. ويبدو أن عماله كانوا في بعض الأحيان يسرقون هذه المخطوطات إذا لم يستطيعوا شراءها؛ ويلوح أن هذا هو ما فعلوه في الستة الكتب الأولى من حوليات تاسيتوس التي وجدوها في دير كورفي Corvey بوستفاليا Westphalia، لأن لدينا رسالة ممتعو موجهة إلى هيتمرس Heitmers عامل البابا كتبها ليو نفسه أو أمر بكتابتها بعد أن تم طبع هذه الحوليات ونشرها:
لقد بعثنا بنسخة من الكتب بعد أن روجت وطبعت مجلدة تجليداً جميلاً إلى رئيس الدير وإلى رهبانه، لكي يضعوها في مكتبتهم بدلاً من النسخة التي أخذت منها، وإذا كنا نريد فوق ذلك أن يعرفوا أن هذا الاختلاس قد عاد إليهم بالخير أكثر مما عاد عليهم بالأذى، فقد وهبنا كنيستهم غفراناً جماعياً (39).
وأعطى ليو فلبو بروالدو Filipo Beroaldo المخطوط المختلس، وأمره(20/226)
أن يصلح النص وينشره، على أن يطبعه طبعة أنيقة ولكنها في صورة سهلة القراءة. وكان مما ورد في كتاب التكليف هذا:
لقد كان من عادتنا، حتى في السنين الأولى من حياتنا، أن نرى أ، لا شيء مما وهبه الخالق لخلقه أجل شأناً وأعظم نفعاً - لا نستثني من ذلك إلاّ العلم به وعبادته الدقة - من هذه الدراسات التي هي زينة الحياة الإنسانية ومرشدها إلى الخير؛ والتي يمكن فوق هذا تطبيقها على كل وضع خاص من أوضاع الحياة والانتفاع بها فيه؛ والتي هي سلوى الإنسان في الشدة، ومصدر بهجته وشرفه في الرخاء. والتي لولاها لحرم الإنسان كل ما هو جميل في الحياة وكل ما يزدان به المجتمع. ويبدو أن المحافظة على هذه الدراسات وتوسيع نطاقها يقف على أمرين: عدد العلماء، وتزويدهم بكفايتهم من النصوص الممتازة. فأما الأمر الأول فإنّا نرجو ببركة الله، أن نظهر رغبتنا الأكيدة في أن نكافئ أولئك العلماء الممتازين ونكرمهم وحرصنا على هذه المكافأة وذلك التكريم أكثر مما أظهرناها من قبل، وإن كان ذلك الحرص وتلك الرغبة هما منذ زمن بعيد مصدر سرورنا الأكبر .... أما الحصول على الكتب، فإناّ نحمد الله أن أتاح لنا في ذلك أيضاً الفرصة التي نستطيع بها إسداء الخير لبني الإنسان (40).
وكان ليو يظن أن الكنيسة هي التي تعين ما يفيد بني الإنسان من كتب الأدب، وشاهد ذلك أنه جدد مرسوم الإسكندر الذي يفرض رقابة الكنيسة على الكتب.
وبددت بعض الكتب التي جمعها أسلاف ليو حين نهب قصر آل ميديتشي (1494). غير أن ديرسان ماركو كان قبلئذ قد ابتاع بعض هذه الكتب، وكان ليو وهو لا يزال كردنالاً قد ابتاع الكتب التي نجت من النهب بمبلغ 2652 (33. 150؟ دولاراً) ونقلها إلى قصره في روما. ثم أعيدت(20/227)
هذه المكتبة إلى فلورنس بعد موت ليو، وسنعرف مصيرها فيما يلي من الصفحات.
وكانت مكتبة الفاتيكان قد بلغت من الضخامة حداً تحتاج معه إلى طائفة من العلماء للعناية بها. ولمّا جلس ليو على كرسي البابوية كان كبير أمنائها توماسر إنغيرامي Tommaso Inghirami - وهو من أبناء الأشراف، وشاعر، ومحدث مشهود له بالذكاء وحسن الفكاهة والتألق في ندوات الفكهين البارعين. ثم كان إلى ذلك ممثلاً، أطلق عليه من قبيل السخرية اسم فيدرا Fedra لنجاحه في تمثيل دور فيدرا Phaedra في مسرحية هبوليتس Hippolytus لسنكا. ولمّا مات في حادثة من حوادث شوارع المدينة عام 1516 حل محله في أمانة المكتبة فلبو بروالدو الذي قسم قلبه وعواطفه بين تاسيتوس والحظية العالمية إمبيريا Imperia، وكتب شعراً لاتينياً بلغ من الجودة أن كانت له ست ترجمات إلى اللغة الفرنسية إحداها بقلم كليمان مارون Clement Maron. وكان جيرولامو أليندرو Girolamo Aleandro الذي أصبح أميناً في عام 1519، رجلاً حاد الطبع، غزير العلم، عظيم المواهب، يتكلم اللغات اللاتينية، واليونانية، ويتكلم العبرية بطلاقة جعلت لوثر يخطئ في أصله فيظنه يهودياً. وقد حاول في مجلس أجزبرج (1520) أن يصد تيار البروتستنتية، وكانت حماسته في ذلك أقوى من حكمته. وقد رفعه بولس الثالث إلى مقام الكردنالية (1535)، ولكن أليندر توفي بعد أربع سنين من ذلك الوقت لإسرافه في عنايته بصحته وفي تعاطي الأدوية (41). وقد غضب أشد الغضب لأنه أعفي من عمله حين بلغ الثانية والستين من العمر، وأساء إلى أصدقائه باعتراضه الشديد على تصرفات القدرة الإلهية (42).
وكثرت المكتبات الخاصة وقتئذ في روما، فقد كان للإسكندر نفسه مجموعة عظيمة من الكتب أوصى بها إلى البندقية، وكان عند الكردنال(20/228)
جريماني محسود إرزمس ثمانية آلاف مجلد مكتوبة بلغات مختلفة، أوصى بها إلى كنيسة سان سلفادور بمدينة البندقية حيث دمرتها النار. وكان للكردنال سادوليتو مكتبة قيمة وضعها في سفينة ليرسلها إلى فرنسا، فغرقت في البحر. وكانت مكتبة بمبو غنية بما فيها من دواوين أشعار بروفنسال والمخطوطات الأصلية مثل مخطوطات كتب بترارك؛ وانتقلت هذه المجموعة إلى أربينو، ومنها انتقلت إلى الفاتيكان. وحذا العلمانيون الأغنياء أمثال أجستينو تشيجي Agostino Chigi حذو البابوات والكرادلة في جمع الكتب، واستخدام الفنانين ومد يد المعونة للشعراء ورجال العلم.
وكثر هؤلاء جميعاً في روما على عهد ليو على كثرة لم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد. وكان كثيرون من الكرادلة أنفسهم علماء؛ ومنهم من أصبحوا كرادلة لأنهم كانوا قبل ذلك علماء قضوا في خدمة الكنيسة زمناً طويلاً؛ ونذكر من هؤلاء أجيديو كانيزيو Egidio Canisio، وسادوليتو، وببينا. وقد اعتاد معظم الكرادلة في روما أن يناصروا الآداب والفنون بما يكافئون بها أصحابها على إهدائهم أعمالهم ومؤلفاتهم، ولم يكن يفوق بيوت الكرادلة رياريو، وجريماني، وببينا، والدوزي، وبتوتشي، وفارنيزي، وسدريني، وسانسفرينو، وجندسا، وكازينيو، وجويليوده ميديتشي لم يكن يفوق بيوت هؤلاء إلاّ بلاط البابوات بوصفه ملتقى أصحاب المواهب العقلية والفنية في المدينة. وقد كان لكستجليوني الوديع الطبع الدمث الخلق الذي كسب به صداقة رفائيل المحب الودود وميكل أنجيلو الصارم العنيد، كان لكستجليوني هذا ندوة متواضعة خاصة به.
وكان ليو بطبيعة الحال أكبر المناصرين على الإطلاق، فلم يكن أحد في مقدوره أن ينشئ نكتة شعرية لاتينية يخرج من عنده دون عطاء. وكان العلم في أيامه يؤهل صاحبه، كما كان يؤهله في أيام نقولاس الخامس(20/229)
لمنصب من المناصب الرسمية الكثيرة في الكنيسة، وأضيف الشعر إلى العلم في أيام ليو. فأما أصحاب المواهب الصغرى فكانوا يصبحون كتبة، ومختزلين، وأمّا من هم أكبر من هؤلاء موهبة فكانوا يصبحون قساوسة في الكنائس الكبرى، وأساقفة، وكبار موثقين؛ وأما الممتازون منهم أمثال سادوليتو، وببينا، فقد صاروا كرادلة. وترددت أصداء خطب شيشرون وبلاغته في روما مرة أخرى، وكان أسلوب الرسائل يعلو ويهبط بانتظام كأنه الألحان الموسيقية، كما كان شعر فرجيل وهوراس ينساب من ألف رافد ورافد إلى نهر التيبر ملتقاه الطبيعي. وقد حدد بمبو نفسه مستوى أسلوب الكتابة، فقد كتب إلى إزبلا دست يقول: "أن يخطب الإنسان كما كان يخطب شيشرون خير له من أن يكون بابا (43) ". وبز صديقه وزميله ياقوبو سادوليتو معظم الكتّاب الإنسانيين بأن جمع بين الأسلوب اللاتيني البليغ والخلق الذي لا تشوبه شائبة. وكان بين كرادلة ذلك العصر كثيرون من ذوي الاستقامة والخلاق الفاضلة؛ وكانت الكثرة الغلبة من كتّاب عصر ليو الإنسانيين أفضل أخلاقاً وأرق مزاجاً من أمثالهم في الجيل الذي قبله (44)، وإن كان بعضهم قد ظلوا وثنيين في كل شيء ما عدا عقيدتهم الرسمية، ولقد كان من القوانين غير المسطورة ألاّ ينطق سيد مهذب بكلمة نقد للكنيسة المتسامحة من الناحية الخلقية السخية في مناصرة العلم والأدب والفن مهما تكن عقائده أو شكوكه.
وقد اجتمعت هذه الصفات كلها في برناردو دوفيسي دا بينا Bernardo Dovizi da Bibbiena - فقد كان عالماً، وشاعراً، وكاتب مسرحيات، ودلوماسياً، وخبيراً في الفن، ومحدثاً، ووثنياً، وقساً، وكردنالاً؛ غير أن الصورة التي رسمها رفائيل له لم تظهر إلاّ جزءاً قليلاً منه - عينيه الخبيثتين، وأنفه الحاد؛ ذلك أنها غطت صلعته بقبعة حمراء،(20/230)
كما غطت مرحه بوقار لم يكن من عادته. وكان خفيف القدم، والحديث، والروح، يفر من ظروف الدهر كلها بابتسامة. ولمّا استخدمه لورندسو الأكبر أميناً له ومربياً لأبنائه، اشترك مع هؤلاء الأبناء في الهجرة التي حدثت عام 1494؛ ولكنه دل على مهارته بذهابه إلى أربينو حيث فتن هذه الدائرة المتحضرة بنكاته الشعرية، وأنفق بعض فراغه في كتابه مسرحية بذيئة تدعى كالندرا Calandra وتمثيلها (حوالي عام 1505)، وهذه المسرحية هي أقدم المسرحيات الإيطالية النثرية. واستدعاه يوليوس الثاني إلى روما، وعمل برناردو لانتخاب ليو بابا بأقل قدر من الجلية والاحتكاك، فجازاه ليو على هذا بأن عينه من فوره كبير الموثقين الرسوليين، ثم عينه في اليوم الثاني صراف البيت البابوي، ولم تمض ستة أشهر حتى عينه كردنالاً. ولم تمنعه مناصبه السامية من أن يضع في خدمة ليو خبرته العظيمة بالفنون وتنظيم مواكبه في الحفلات. ومثلت مسرحيته في حضرة البابا واستمتع بها ولم يعترض عليها. ولمّا أرسل قاصداً رسولياً إلى فرنسا، شغف حباً بفرانسس الأول، وكان لابد من استدعائه لأه أرق حساسية من أن يصلح للمناصب الدبلوماسية، وزخرف له رفائيل حمامه بصورة تاريخ فينوس وكيوبدة وهي طائفة من الصور تروي انتصار الحب، وكلها تقريباً مرسومة على طراز صور مدينة بمبي القديم، وتقحم المسيحية في عالم لم يسمع قط بالمسيح؛ وكان الكردنال نفسه هو الذي اختار هذه الزخارف. وتظاهر ليو بأنه لم يلاحظ شذوذ ببينا الجنسي وظل وفياً له إلى آخر أيامه.
وكان ليو يحب التمثيل - يحب المسلاة بجميع أشكالها ودرجاتها من أبسط الهزليات الماجنة إلى أكثر الملاهي غموضاً كمسرحيات ببينا ومكيفلي. وقد افتتح في أول سنة من ولايته دار تمثيل على الكبتول، شهد فيها عام 1518(20/231)
تمثيلاً لمسرحية أريستو Ariosto المسماة سبوزيتي Suppositi وضحك من كل قلبه من النكات الملتبسة المعاني التي كانت تتفرع من حبكتها - كالعبارات التي يلقيها شاب من الشبان ليغوي بها فتاة (45). ولم يكن هذا التمثيل المطرب تمثيلاً لمسالي فحسب، بل كان يشمل فوق ذلك وضع مناظر مسرحية فنية (وكان الذي رسمها في هذه المسرحية بالذات رفائيل نفسه)، ورقصاً فنياً، وموسيقى بين الفصول تتكون من أغان وفرقة من العازفين على العود والكمان، وأرغن صغير، والنافخين في القرون، والقرب، والفيف.
وقد كُتب في عهد ليو كتاب من أكبر الكتب التاريخية في عهد النهضة، كتبه باولو جيوفيو. وكان باولو هذا من أبناء كومو Como، وكان يمارس فيها وفي ميلان وروما صناعة الطب، ولكن الحماسة الأدبية التي انبعثت في البلاد عندما جلس ليو على كرسي البابوية أوحت إليه بأن يخصص ساعات فراغه لكتابة تاريخ العصر الذي يعيش فيه - من غزو شارل الثامن لإيطاليا حتى ولاية ليو - وأن يكتبه باللغة اللاتينية. وسمح له بأن يقرأ القسم الأول من هذا الكتاب على ليو، فلمّا سمعه قال بكرمه المعتاد إنه أفصح وأظرف ما كتب في التاريخ منذ عهد ليفي Livy، وأجازه عليه بأن خصص له معاشاً من فوره. ولمّا توفي ليو، استخدم جيوفيو ما أسماه "قلمه الذهبي" في كتابة ترجمة لحياة ليو شاد فيها بنصيره الراحل، كما استخدم "قلمه الحديدي" للشكوى من البابا أدريان السادس الذي لم يعبأ به. وواصل في هذه الأثناء الكدح في تاريخ عصره حتى وصل به آخر الأمر إلى عام 1547. ولمّا نهبت روما في عام 1527 أخفى المخطوط في إحدى الكنائس، ولكن أحد الجنود عثر عليه، وطلب إلى المؤلف أن يبتاع كتابه؛ ولكن كلمنت السابع أنقذ باولو من هذه المذلة إذ أقنع اللص بأن يقبل بدل المال يؤدي إليه فوراً، منصباً في أسبانيا؛ وعيّن(20/232)
جيوفيو في الوقت نفسه أسقفاً لنوتشيرا Nocera. وأثنى الناس على كتاب التاريخ وعلى التراجم التي أضيفت إليه لأسلوبه السلس الواضح، ولكنهم عابوا عليه عدم العناية بتحري الحقائق، والتحيز الظاهر فيما يصدره من أحكام. وقد أقر جيوفيو في صراحة وعدم مبالاة بأنه يمدح أشخاص قصته إذا كانوا هم أو أقاربهم قد سخوا عليه، وأنه كان يندد بهم إذا كان هؤلاء قد ضنوا عليه بالعطاء.(20/233)
الفصل الرابع
الشعراء
لقد كان البابا أعظم مفاخر ذلك العصر، وكان كل إنسان في روما - من البابا نفسه إلى مهرّجيه - يقرض الشعر، كما كان يقرضه كل إنسان في اليابان في عهد الساموراي Samurai، من الفلاح إلى الإمبراطور، وكان كل إنسان قريباً يصر على أن يقرأ آخر أبيات قالها إلى البابا السمح. وكان البابا يحب المهارة في الارتجال، وكان هو نفسه بارعاً في هذا؛ وكان الشعراء يتبعونه أينما ذهب بقوا فيهم وقصائدهم الطوال، وكان هو في العادة يجيزهم عليها بطريقة ما، وإن كان في بعض الأحيان يكتفي بأن يرد عليها بارتجال بعض النكت الشعرية اللاتينية. وقد أهدى له ألف كتاب، أجاز أنجيلو كويتشي على واحداً منها بأربعمائة دوقة (5. 000؟ دولار)؛ لكنه حين أهدى إليه جيوفني أو جوريلي Giovanni Augurelli رسالة بالشعر عنوانها كريسوبيا Chrysopoeia - أي فن صنع الذهب باستخدام الكيمياء - أرسل إلى المؤلف كيسا خلوا من النقود. ولم يكن يجد متسعاً من الوقت يقرأ فيه جميع الكتب التي قبل أن تهدى إليه؛ وكان من هذه الكتب المهداة التي لم يقرأها طبعة من ديوان روتليوس ناماتيانوس Ruititius Namatianus - وهو شاعر روماني عاش في القرن الخامس الميلادي - كان يدعو إلى مقاومة المسيحية لأنها في رأيه سم مضعف للأعصاب، ويطالب بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية القوية المتصفة بصفات الرجولة (47). أما أريستو - الذي ربما بدا لليو أنه يجد ما يكفيه من العناية في فيرارا - فلم يكافئه إلاّ بمرسوم بابوي يحرّم سرقة شعره. وبَرِم أريستو من هذا وابتأس لأنه كان يرجو أن ينال مكافأة تتناسب مع طول ملحمته.(20/234)
ولما خسر ليو أريستو قنع من فوره بشعراء أقل منه لألاء وأقصر نَفَساً؛ وكثيراً ما كان سخاؤه يضله فيؤدي به إلى مكافأة ذوي المواهب السطحية نفس المكافأة التي يمنحها العباقرة. من ذلك أن جيدو بستومو سلفستري Guido Postumo Sitvestri، أحد أشراف بيزارو، كان قد قاتل بعنف، وكتب بعنف، ضد الإسكندر ويوليوس لاستيلائهما على بيزارو وبولونيا. فلمّا ارتقى ليو عرش البابوية بعث إليه بقصيدة ظريفة يمتدحه فيها ويوازن بين سعادة إيطاليا في عهد البابا الجديد، وما كانت عليه من البؤس والاضطراب في العهود السابقة. وقدّر له البابا عمله وأجازه عليه بأن رد له ما صودر من ضياعه، واتخذ رفيقاً له في صيده. لكن جيدو مات بعد قليل من ذلك الوقت، ويقول بعض معاصريه إنه مات من كثرة ما كان يتناوله من الطعام على مائدة ليو (48). وأسرع أنطونيو تيبلديو Antonio Tebaldeo، الذي كان قد نال بعض الشهرة في قول العشر في نابلي، إلى روما عقب انتخاب ليو، ونال منه (كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها) خمسمائة دوقة جزاء له على نكتة شعرية مشهية (49)، وسواء كانت هذه الرواية صادقة أو كاذبة فإن البابا عيّنه مشرفاً على جسر سورجا Sorga وجمع المكوس ممّن يعبروه حتى "يستطيع تيبلديو بهذا أن يعيش عيشة راضية" (50). ولكن يبدو أن المال الذي قد يعين على إنماء مواهب العلماء، قلّما يشحذ عبقرية الشعراء. فأخذ تيبلديو يكتب قصائد المدح، وأصبح يعتمد بعد موت ليو على صدقات بمبو، ولم يعاد يبارح فراش النوم وغن كان لا يشكو من شيء إلاّ من فقد شهيته لشرب الخمر" كما يقول صديق له. وطال حياته وهو مستريح مستلق على ظهره، وتوفي في الرابعة والسبعين من عمره. ونبغ فرانتشيسكو ماريا ملدسا Franseco Maria Molza من أهل مودينا بعض النبوغ في الشعر قبل إرتقاء ليو، ولكنه سمع بحب البابا للشعر(20/235)
وسخاته للشعراء، ترك أهله، وزوجته، وأبناءه، وهاجر إلى روما، حيث أنساه إياهم افتتانه بسيدة رومانية. وقال في روما قصيدة رعوية قصيرة بليغة اسمها حورية تبيرينا La ninfa Tiberina يمتدح بها فوستينا منتشيني faustina Mancini، وهجم عليه أحد المجرمين وأصابه بجرح بليغ. وغادر الرجل روما بعد وفاة ليو، وانضم إلى بولونيا إلى حاشية الكردنال إبوليتو ده ميديتشي، الذي كان في بلاطه، على حد قولهم، ثلاثمائة شاعر، وموسيقى وفكِه. وكانت قصائد ملدسو الإيطالية أظرف ما قيل من الشعر في ذلك الوقت لا تستثنى من ذلك قصائد أريستو نفسها. وكانت أغانيه تضارع أغاني بترارك في أسلوبها، وتفوقها في حرارتها، وذلك لأن ملدسو كان يتقلب على نيران الحب واحدة بعد واحدة، وكان على الدوام يحترق بها. ومات بداء الزهري في عام 1544.
وكان حكم ليو يزدان باثنين من كبار صغار الشعراء أحدهما ماركنطونيو فلامينو Marcantonio Flamino الذي يظهر ذلك العهد في أضواء سارة - يظهر عطف البابا الدائم على رجال الأدب، ويكشف عمّا كان يحبو به فلامينو ونافاجيرو Navagero وفرانكستورو Francastoro وكستجليوني من صداقة لا يحسد أحدهم عليها غيره؛ وإن كانوا الأربعة شعراء؛ كما يكشف عن الحياة النظيفة التي كان يحياها أولئك الرجال في عصر كانت فيها الإباحية الجنسية مماّ تتغاضى عنه كثرة الناس. وقد ولد فلامينو في سرافالي Serravalle من أعمال فينيتو Veneto، ووالده هو جيان أنطونيو فلامينو Gianatonia Flamino وهو أيضاً شاعر. ودرب الوالد ابنه على قرض الشعر وشجعه عليه، مخالفاً في ذلك ألفاً من السوابق، وبعثه وهو في السادسة عشرة من عمره ليهدي إلى ليو قصيدة قالها الشاب يدعو فيها إلى حرب صليبية على الأتراك. ولم يكن ليو ممن يرتاحون إلى الحروب الصليبية، ولكنه أظهر ارتياحه لشعر الشاب، وكفل له مواصلة التعلم في روما. وتولاّه كستجليوني(20/236)
بعنايته، وجاء به إلى أربينو (1515)؛ ثم بعث الوالد بابنه فيما بعد ليدرس الفلسفة في بولونيا. ثم استقر الشاعر أخيراً في فتيربو Viterbo في رعاية الكردنال الإنجليزي رجنلدبول Reginald Pole. وامتاز عن غيره بأن رفض منصبين عاليين، منصب أمين ليو مشتركاً في ذلك مع سودوليتو، ومنصب أمين لمجلس ترنت، وكان يحصل على تأييد وهبات جمة من كثير من الكرادلة رغم ارتيابهم في أنه يعطف على حركة الإصلاح البروتستانتي. وكان طوال تجواله كله يتوق للحياة الهادئة والهواء النظيف اللذين يجدهما في بيت أبيه الريفي بالقرب من إمولا. وكانت قصائده كلها تقريباً باللغة اللاتينية كما كانت كلها تقريباً قصائد قصارا في صور أغان، وأناشيد رعاة، ومراث، وترانيم، ورسائل للأصدقاء من طراز رسائل هوراس، ولكنه يعود فيها مرة بعد مرة إلى حبه لمرابضه الريفية القديمة:
سأبصرك الآن مرة أخرى، وسيبتهج ناظري لرؤية الأشجار التي غرستها يد أبي، وسيفيض قلبي فرحاً حين أتذوق قليلاً من النوم الهادئ في غرفتي الصغيرة. وكان يشكو من أنه سجين في ضوضاء روما وصخبها، ويحسد صديقاً له صوّره بأنه يختفي في ملجأ قروي يقرأ "كتب سقراط" و "لا يفكر مطلقاً في التكريم التافه الذي يمنحه إياه الجمهور الحقير" (52) وكان يحلم بالتجوال في الوديان الخضراء مع فلاحي فرجيل ورعاة ثيوفريطس ويتخذهم له رفاقاً. وأشد أشعاره تأثيراً هي الأبيات التي كتبها إلى أبيه وهو على فراش الموت:
"لقد عشت يا أبتاه عيشة طيبة سعيدة، لم تكن فيها بالفقير ولا بالغني، حصلت فيها على كفايتك من العلم ومن الفصاحة، وكنت على الدوام قوي الجسم، سليم العقل؛ بشوشاً تقياً لا يجاريك في تقواك أحد. حتى إذا أتممت الثمانين من عمرك انتقلت إلى شواطئ الآلهة المباركة. ارحل إليها يا أبتاه، وخذ بعد قليل ابنك معك إلى مقعدك الأعلى في السماء".(20/237)
وكان ماركو جيرولامو فيدا Marco Girolamo Vida أطوع لأغراض ليو من غيره من الشعراء. وقد ولد ماركو هذا في كريمونا، وأتقن اللغة اللاتينية، وبرع فيها براعة أمكنته من أن يكتب بها كتابة ظريفة القصائد التعليمية في ن الشعر نفسه، أو في تربية دود القز، أو في لعبة الشطرنج. وقد سر ليو من هذا سروراً حمله على أن يرسل في طلب فيدا، ويثقله بالهبات، ويرجوه أن يتوج آداب ذلك العصر بملحمة لاتينية في حياة المسيح. وهكذا بدأ فيدا ملحمة الكرستيادة Christiad التي مات ليو السعيد قبل أن يراها. وحذا كلمنت الشابع حذو ليو في رعاية فيدا، وحباه بمنصب أسقف ليعيش منه، ولكن كلمنت أيضاً مات قبل أن تنشر الملحمة (1535). وكان فيدا راهباً قبل أن يبدأها، وأسقفاً حين فرغ منها، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه عن الإشارات المتصلة بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة التي كانت تملأ الجو نفسه في أيام ليو، وإن بدت مضطربة سخيفة في نظر الذين أخذوا ينسون أساطير اليونان والرومان ويجعلون المسيحية نفسها أساطير أدبية. فنحن نرى فيدا في هذه الملحمة يقول عن الإله الأب إنه "أبو الآلهة مسخر السحاب"، وإنه "حاكم أوليس"؛ ولا ينفك يصف يسوع بأنه هيروس ويأتي بالفرغونات؛ وربات الانتقام، والقنطورات، والأفاعي الكثيرة الرءوس (1) لتطالب بموت المسيح. لقد كان هذا الموضوع النبيل خليقاً ببحر من الشعر أكثر مواءمة له بدل أن يقلد الشاعر الإنياذة. وليست أجمل الأبيات في شعر فيدا هي التي يخاطب بها المسيح في الكرستيادة، بل هي التي يخاطب بها فرجيل في فن الشعر وهي أبيات تعز على الترجمة ولكننا سنحاول نقلها فيما يأتي:
_________
(1) كل هذه كائنات خرافية غريبة ورد ذكرها في الأساطير اليونانية القديمة. (المترجم)(20/238)
أي مجد إيطاليا! يا أسطع الأضواء بين الشعراء! وإنّ لنعبدك بما نقدمه لك من الأكاليل والبخور والأضرحة؛ وإليك ننشد على الدوام ما أنت خليق به من التسابيح القدسية، ونستعيد ذكراك بالترانيم: مرحباً بك يا أعظم الشعراء قداسة! إن ثناءنا عليك لا يزيد قط من مجدك، وليس هذا المجد في حاجة إلى أصواتنا. ألا فأقبل وانظر إلى أبنائك، وصب روحك الدافئة في قلوبنا الطاهرة، أقبل يا أبتاه، وامزج نفسك بأرواحنا.(20/239)
الفصل الخامس
صحوة إيطاليا
كان من أسباب قوة الروح الوثنية في ذلك العصر وجود الفن القديم فيها ونجاته من الدمار؛ وكان بجيو، وبيندو، وبيوس الثاني قد نددوا بتدمير المباني الرومانية القديمة وقاوموا هذا التدمير، ولكنه ظل مع ذلك يجري في مجراه، وأكبر الظن أنه قد ازداد حين استطاعت روما بما تدفق فيها من المال أن تشيد عمائر جديدة أكبر من عمائرها القديمة وتستخدم فيها بقايا هذه العمائر في عمل الجير. واستخدم بولس الثاني جدار الكلوسيوم الحجري في بناء قصر سان ماركو؛ ودم سكستس الرابع معبد هرقول وحوّل أحد جسور نهر التيبر إلى قذائف للمدافع، وانتزعت المواد التي بنيت بها كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وفسقيتان عامتان، وقصر للبابا في الكويرينال، انتزعت هذه كلها من معبد الشمس. بل إن الفنانين أنفسهم كانوا همجاً مخربين دون أن يشعروا، فهاهو ذا ميكل أنجيلو مثلاً يستخدم أحد العمد في معبد كاستروبلكس ليصنع منه قاعدة لتمثال ماركس أورليوس الفارس، وهاهو ذا رفائيل يأخذ جزءاً من عمود آخر في هاذ المعبد نفسه ليصنع منه تمثالاً ليونان (يونس)، واقتلعت المواد اللازمة لبناء معبد سستيني من تابوت هدريان، وأخذ الرخام الذي شيدت به كنيسة القديس بطرس كله تقريباً من المباني القديمة؛ وانتزعت إلى هذا الضريح الجديد نفسه أحجار القدمة (1)؛ والدرج، والقوصرة من هيكل أنطونيوس وفوستينا، وأقواس النصر التي أقيمت لفابيوس مكسيموس وأغسطس، وهيكل
_________
(1) الجدار المحيط بالرملية التي يتجالد فيها المتجالدون. (المترجم)(20/240)
رميولوس بن مكسنتيوس. وهدم البناءون الجدد أو جردوا في أربع سنين بالضبط (من 1546 - 1549) هياكل كاستروبلكس، ويوليوس قيصر، وأغسطس (55). وكانت حجة أولئك الهدامين أنه قد بقى في البلاد بعد هذا الهدم كفايتها من الآثار الوثنية، وأن الخربات القديمة المهملة تشغل فراغاً عظيم القيمة، وتحول دون إعادة بناء المدينة بنظام حسن، وأن المواد التي يستولون عليها كانت في معظم الأحوال تستخدم في تشييد كنائس مسيحية لا تقل عن هذه الآثار القديمة جمالاً، وهي بطبيعة الحال أحب منها إلى الله. وكانت الأتربة التي تراكمت فوق هذه الآثار على مدى الأيام دون أن تستبين العين فعلها قد دفنت في الوقت عينه السوق الكبرى وغيرها من الأماكن التاريخية تحت طبقات متتالية من الثرى، والأنقاض، والنبات، حتى أصبحت السوق تحت مستوى ما يحيط بها من أرض المدينة بثلاث وأربعين قدماً؛ وقد ترك موضعها حتى أصبح نعظمه أرضاً للرعي سميت "حقل البقر" Campo Vaccino. ألا إن الزمان هو أكثر عوامل التخريب والتدمير.
وكان تدفق الفنانين والكتّاب الإنسانيين على روما سبباً في إبطاء سرعة التدمير، وفي إيجاد حركات تهدف إلى المحافظة على الآثار القديمة. وأخذ البابوات يجمعون آثار النحت الوثنية وقطعاً من الأبنية القديمة يضعونها في متحف الفاتيكان والكبتول؛ كما أخذ بجيو، وآل ميديتشي، وبجنيوس ليتوس، ورجال المصارف، والكرادلة يجمعون كل ما يستطيعون الحصول عليه من الآثار القديمة ذات القيمة ليكوّنوا منها لأنفسهم مجموعات خاصة. ومن أجل هذا اتخذت كثير من تحف النحت القديمة طريقها إلى قصور الأفراد وحدائقهم؛ وبقيت فيها حتى القرن التاسع عشر؛ ووجدت من ثم أسماء مثل فاون (1) بربيني، وعرش لدوفيزي Ludovisi وهرقول فرنيزي.
_________
(1) Faun إله الحراج عند الرومان. (المترجم)(20/241)
واهتزت روما كلها من نشوة الفرح حين كشف المنقّبون (1506) بالقرب من حمامات تيتوس عن مجموعة من التماثيل جديدة كثيرة التعقيد. وأرسل يوليوس الثاني جوليانو دا سنجا ليو لفحصها، وذهب أيضاً ميكل أنجيلو لهذا الغرض، ولم يكد جوليانو يبصر التمثال حتى صاح من فوره: "هذا هو اللاكؤن الذي ذكره بلني" واشتراه يوليوس ليضعه في قصر بلفدير، ووظف لمن عثر عليه ولابنه معاشاً سنوياً طول حياتهما قدره 600 دوقة (7500؟ دولار)؛ ذلك أن روائع النحت القديمة قد أضحت في ذلك الوقت عظيمة القيمة. وشجعت هذه المكفآت المنقبين عن التحف الفنية؛ وحدث بعد عام من ذلك الوقت أن عثر واحد منهم على مجموعة أخرى هي هرقول مع الطفل تلفوسي، ولم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى عثر على أدريانا النائمة، وأضحى الحرص على كشف التحف الفنية القديمة لا يقل قوة عن التحمس للكشف عن المخطوطات القديمة. وكانت هاتان العاطفتان صفتين قويتين من صفات ليو. ففي أيام ولايته كشف عمّا يسمّونه الأفطبنوس وعن تمثالي النيل والتيبر، وقد وضع هذان التمثالان في متحف الفاتيكان. وكان ليو يبتاع بالمال كلمّا استطاع من الجواهر، والحلي المنقوشة، وغيرها من روائع الفن المتفرقة التي كانت في وقت ما ملكاً لآل ميديتشي، ويضعها كلها في قصر الفاتيكان. وأخذ ياقوبو مدسوكي Jacopo Mazochi وفرانتشيسكو ألبرتيتي بفضل مناصرته ينقلان مدى أربعة أعوام كل ما يعثران عليه من نقوش على الآثار الرومانية، وواصلا بذلك ما قام به قبلهما الراهب جيوكندو وغيره من الرهبان. ثم نشرا هذه النقوش باسم النقوش القديمة في المدن الرومانية (1521)، وكان نشرها حادثاً هاماً في علم الآثار الرومانية القديمة.
وفي عام 1515 عين ليو رفائيل مشرفاً على الآثار القديمة؛ ووضع(20/242)
المصور الشاب بمعونة مدسوكي، وأندريا فلفيو، وفابيو كلفا، وكستجليوني. وغيرهم من الفنانين خطة أثرية واسعة؛ وفي عام 1518 وجه إلى ليو رسالة يستحلف فيها هذا الحبر الجليل أن يستعين بسلطان الكنيسة على حفظ جميع الآثار الرومانية القديمة. وقد تكون ألفاظ الرسالة هي ألفاظ كستجليوني، أما روحها القوية ففيها نغمة رفائيل:
"إنا حين نفكر في قداسة تلك الأرواح القديمة ... وحين نبصر جثة هذه المدينة الجليلة، أم العالم وملكته، وقد تدنست هذا التدنيس الشائن ... لا يسعنا إلاّ أن نتصور كم من الأحبار قد أجازوا تخريب المعابد، والتماثيل، والعقود وغيرها من المباني القديمة. التي تنطق بمجد من شادوها! ... ولست أتردد في القول إن روما الجديدة هذه بأجمعها التي نشاهدها أمامنا الآن، مهما بلغت من العظمة ومهما حوت من جمال وازدانت بالقصور، والكنائس، وغيرها من الصور الفخمة - لست أتردد في القول إن روما هذه قد أمسكها الجير الذي صنع من الرخام القديم" ...
وتذكرنا هذه الرسالة بمقدار ما حدث من التدمير حتى في خلال السنوات العشر التي قضاها رفائيل في روما؛ وهي تلقي نظرة عامة على تاريخ العمارة، وتندد بالهمجية الفجة التي كان يتسم بها الطرزان الرومنسي والقوطي (واللذين يسميان فيها القوطي التيوتوني)، وتمجد الأنماط اليونانية - الرومانية، وتراها نماذج لكمال وحسن الذوق؛ وتقترح الرسالة أخيراً تكوين هيئة من الخبراء، وتقسيم روما إلى الأقسام الأربعة عشر التي حددها أغسطس في الزمن القديم، على أن يمسح كل قسم منها مسحاً دقيقاً وأن يسجل كل ما فيه من الآثار القديمة. غير أن موت رفائيل المبكر الذي أعقبه بعد قليل موت ليو قد أخر تنفيذ هذا المشروع الجليل زمناً طويلاً.
وظهر تأثير هذه المخلفات المكتشفة في كل فرع من فروع الفن(20/243)
والتفكير، وتأثر بها يرونلسكو، وألبرتي، وبرامنتي؛ ووصل هذا الأثر إلى الدرجة العليا حتى لم يكن الفن عند بلاديو Palladio إلاّ صورة أخرى من الأشكال القديمة تكاد تكون خاضعة لها كل الخضوع. وكان جبرتي ودوناتليو قد حاولا من قبل أن يتخذا الأشكال القديمة نماذج لهما، فلّما جاء ميكل أنجلو وصل في تقليد الفن القديم إلى درجة الكمال في تمثال بروتس، ولكنه بقي فيهما عداه هو ميكل أنجلو نفسه صاحب النفس القوية غير الخاضعة للفن القديم. وحول الأدب علوم الدين المسيحية إلى أساطير وثنية واستبدل أو ليس بالجنة، أما في التصوير فقد ظهر تأثير الفن القديم في صورة موضوعات وثنية وأجسام عارية وثنية لم تخل منها الموضوعات المسيحية نفسها. وحسبنا دليلاً على هذا أن رفائيل نفسه محبوب البابوات قد رسم صوراً لسيكي Psyhe (1) ، وفينوس وكيوبد على جدران القصور؛ وكانت الرسوم القديمة والزخارف العربية تعلو العمد وتمتد على الطنف والأفاريز في ألف بناء من أبنية روما.
وظهر انتصار الفن القديم بأجلى مظاهره في كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ وقد عين ليو فيها برامنتي: رئيساً للأعمال. واحتفظ به في هذا المنصب أطول وقت مستطاع؛ ولكن المهندس المعماري الطاعن في السن أقعده داء الرثية، ولذلك عهد إلى الراهب جيوكندو أن يساعده في عمل الرسوم التخطيطية؛ بيد أن جيوكندو نفسه كان يكبر برامنتي الذي كان في السبعين من عمره، بعشر سنين. وفي شهر يناير من عام 1514 عين ليو جوليانو دانسجليو، وهو أيضاً في سن السبعين، للإشراف على العمل؛ ولمّا حضرت برامنتي الوفاة حضر البابا أن يعهد بالمشروع إلى رجل في مقتبل العمر، وذكر له اسم رفائيل بالذات. وأرتأى ليو أن يحب المشكلة حلاً وسطاً؛ فعين في شهر أغسطس من عام 1514 الشاب روفائيل
_________
(1) في الأساطير الرومانية القديمة أميرة حسناء دبت الغيرة من جمالها في قلب فينوس جمالها. (المترجم)(20/244)
والشيخ الراهب جيوكندو مديرين مشتركين للمشروع؛ وقضى رفائيل بعض الوقت يعمل بهمة وحماسة في العمل الذي لم يكن يتفق مع مزاجه وهو عمل المهندس المعماري؛ وقال إنه لن يعيش بعد ذلك الوقت إلاّ في روما يغريه بهذا "حبه في بناء كنيسة القديس بطرس ... أعظم بناء رآه الإنسان حتى ذلك الوقت"؛ ثم يقول بعد ذلك بتواضعه المعروف.
"ستبلغ تكاليف المشروع مليون دوقة ذهبية، وقد أمر البابا بتخصيص 60. 000 للعمل، وهو لا يفكر في زيادتها؛ وقد ضم إليَّ راهباً تعوزه الخبرة تجاوز سن الثمانين، وهو يرى أن هذا الراهب لن يعيش طويلاً، ولهذا اعتزم قداسته أن يجعلني أفيد من علم هذا الصانع الممتاز حتى أبلغ أعظم درجة من الكفاية في فن المعمار، الذي يعلم الراهب من أسراره ما لا يعرفه سواه .... والبابا يستقبلنا ويستمع إلينا كل يوم، ويظل وقتاً طويلاً يحدثنا عن مشروع البناء.
وتوفي الراهب جيوكندو في أول شهر يوليو من عام 1515 وفي اليوم نفسه انسحب جوليان دلسنجلو من جماعة المصممين. وبذلك أصبح الرئيس الأعلى للعمل كله، فرآى أن يستبدل بتخطيط برامنتي لقاعدة الكنيسة تخطيطاً آخر على شكل صليب لاتيني غير متساوي الأذرع، ووضع تصميماً لسقف مقبب أثبت أنطونيو دلنسجلوا (ابن أخي جوليانو) أنه ثقيل لا تتحمله العمد التي يقوم عليها. وفي عام 1517 عين أنطونيو مهندساً معمارياً مشتركاً مع رفائيل، ولكن الخلاف نشأ بينهما في كل خطوة من خطوات العمل، وكثرت في الوقت عينه أعمال رفائيل في التصوير، ففقد اللذة في المشروع. وحدث أيضاً أن أعوز المال ليو، فحاول أن يجمع ما يستطيعه منه ببيع صكوك الغفران، وكانت نتيجة هذا أن اصطدم بدعاة الإصلاح الديني الألماني (1517). ولم يتقدم بناء كنيسة القديس بطرس إلاّ بعد أن عهد إلى ميكل أنجيلو بالعمل في عام 1546.(20/245)
الفصل السادس
ميكل أنجيلو وليو السادس
كان يوليوس الثاني قد ترك أموالاً لمنفذي وصيته ليستخدموها في إتمام القبر الذي صممه له ميكل أنجيلو أو بالأحرى لينفذوا صورة مصغرة من هذا التصميم. وأخذ الفنان يقوم بهذا الواجب خلال السنين الثلاث الأولى من بابوية ليو، وتلقى من منفذي الوصية في السنين 6100 دوقة (76. 250؟ دولاراً). والراجح أن معظم الأجزاء الباقية من هذا الأثر حتى الآن قد أنشئت في ذلك الوقت هي وتمثال قيام المسيح في كنيسة سانتا ماريا وهي تمثال لشخص رياضي عار وسيم ستر فيما بعد حقواه بغطاء من البرونز ليتفق مع ذوق عصر من ستروه. ويصف ميكل أنجيلو في خطاب له كتبه في شهر مايو من عام 1518 كيف جاء سنيورلي Signorelli إلى مرسمه، واقترض منه جويليا (8000؟ دولار) لم يردها له أبداً، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "ورآني أعمل في تمثال من الرخام يبلغ ارتفاعه أربع أذرع ويداه مشدودتان وراء ظهره" (57). وأكبر الظن أن هذا التمثال هو أحد التماثيل الأسرى وهي تماثيل يراد بها تصوير المدن أو الفنون التي أسرها البابا المحارب؛ وفي متحف اللوفر تمثال ينطبق عليه وصفها: فهو يمثل شخصاً مفتول العضلات عارياً إلاّ من قطعة من النسيج تستر حقويه، ويداه مربوطتان خلف ظهره برباط بلغ من شدته أن الحبال غائرة في لحمه. ويرى بالقرب منه أسير أجمل منه عار إلاّ من عصابة ضيقة حول الصدر؛ وهنا لم يغتال الفنان في إبراز العضلات، والجسم يجمع بين الصحة والجمال متناسبين ويظهر فيه الفن اليوناني بأكمل مظاهره. وفي المجمع العلمي(20/246)
بمدينة لفورنس تماثيل لأربعة من العبيد، كان يقصد بها فيما يظهر أن تكون عمداً في صورة نساء يستند عليها ما فوقها من بناء القبر. ويوجد هذا القبر الناقص الآن في كنيسة يوليوس في سان بيترو ببلدة فنكولي Vincoli، وهو يمثل عرشاً فخماً ضخماً، ذا عمد منحوتة نحتاً ظريفاً، وعليه صورة موسى- وهي صورة مخلوق ضخم فظيع غير متناسب الأجزاء ذي لحية وقرنين وجبهة تنم عن الغضب الشديد، يمسك بيده ألواح الشريعة. وإذا شئنا أن نصدق قصة بعيدة عن المعقول يرويها فاساري، فإن اليهود كانوا يشاهدون في كل سبت وهم يدخلون الكنيسة ليعبدوا هذا التمثال، لا على أنه من صنع البشر بل على أنه شيء إلهي" (58). ونرى ليحا عن يسار موسى وراشل عن يمينه، وهما تمثالان يسميهما ميكل: "الحياة العاملة المفكرة" أما ما بقى من الأشكال على القبر فقد نحتها مساعدوه في غير عناية: ومن هذه صورة للعذراء فوق صورة موسى، وعند قدميها صورة يوليوس الثاني نصف متكيء، وعلى رأسه التاج البابوي. والأثر كله عمل ناقص يمثل كدحاً غير متواصل في سنين متفرقة ما بين 1506 و 1545، وهو عمل مضطرب مرتبك، ضخم، غير متناسق وسخيف.
وبينما كان الفنان وأعوانه ينحتون هذه الأشكال، لاحت لليو - ولعل ذلك كان أثناء إقامته في فلورنس - فكرة إتمام كنيسة سان لورندسو في تلك المدينة. وكانت هذه الكنيسة أولاً ضريح آل ميديتشي، وتضم قبور كوزيمو، ولورندسو وكثيرين غيرهما من أفراد تلك الأسرة. وكان برونكسكو قد بنى الكنيسة، ولكنه لم يتم واجهتها. ولهذا طلب ليو إلى رفائيل، وجوليانو داسنجلو، وباكشيو دا نيولو Baccio d'Agnolo، وأندريا، وياقوبو سانسو فينو أن يعرضوا عليه. تصميماً يضعونه لإتمام واجهتها. لكن ميكل أنجيلو بعث إلى البابا بتصميم وضعه هو، ويظهر أنه وضعه من تلقاء نفسه، وقبله ليو لأنه رآه أحسن من كل ما عرض عليه.(20/247)
ومن ثم فإنه لا يصلح أن يوجه اللوم إلى البابا، كما وجهه إليه الكثيرون لأنه إلهي ميكل عن عمله في قبر يوليوس. وبعث ليو بميكل إلى فلورنس ومنها ذهب إلى كرارا ليقطع من محاجرها أطناناً من الرخام. ولمّا عاد إلى فلورنس استأجر مساعدين لمعاونته في العمل، ثم تشاحت معهم، وردهم على أعقابهم، وقضى بعض الوقت يفكر ولا يعمل شيئاً فيما ألقي عليه م عمل لا يستريح له، هو عمل المهندس المعماري. وحدث أن استولى الكردنال جويليو ابن عم ليو على بعض الرخام الذي لم يكن ينتفع به ليستخدمه في الكنيسة؛ فغضب لذلك ميكل ولكنه ظل يتباطأ في العمل، حتى إذا كان عام 1520 أعفاه ليو أخيراً من العقد الذي وقعه، ولم يطلب حساباً عن المال الذي دفعه مقدماً للفنان. ولمّا أن طلب سيستيانو دل بيمبو إلى البابا أن يعهد إلى ميكل أنجيلو بعمل آخر، لم يستجب ليو لهذا اطلب. فقد كان يقر لميكل أنجيلو بتفوقه في الفن، ولكنه قال: " إنه رجل مزعج، كما ترى ذلك أنت بنفسك، ولا أرى سبيلاً إلى الاتفاق معه": ونقل سيستيانو هذا الحديث إلى صديقه، وأضاف إليه قوله: " لقد قلت لقداسته إن أساليبه المزعجة لم تسبب أذى لأي إنسان، وإن إخلاصك للعمل العظيم الذي وهبت نفسك له وحده الذي يجعلك تبدو مزعجاً لغيرك من الناس" (59).
ترى ما هذا الإزعاج الذي اشتهر به ميكل أنجيلو. إنه أولاً وقبل كل شيء جهده العظيم، وهو تلك القوة العاصفة، المضنية التي كانت تعذب جسم ميكل أنجيلو، ولكنها أبقت عليه مدى تسع وثمانين سنة؛ وهي ثانياً قوة في الإرادة ظلت تسخّر هذا الجهد وتوجهه نحو هدف واحد - هو الفن - وتغفل كل ما عداه تقريباً. والجهد الذي توجهه إرادة جامعة موحدة يكاد يكون هو التعريف الصحيح للعبقرية. ولقد كان ذلك الجهد الذي يرى في الحجر الذي لا شكل له تحدياً له، ثم ينشب فيه مخالبه، ويدقه بمطرقته،(20/248)
ويحفره بمثقبه حتى ينكشف عن شيء ذي معنى، هو نفس القوة التي اكتسحت أمامها وهي غاضبة كل ما يحولها عن غرضها من سفاسف الحياة، فلا تفكر في الملبس، ولا النظافة، ولا المجاملات السطحية؛ ثم أخذت تتقدم نحو غايتها تقدماً إن لم يكن أعمى فقد كان على عينيه غماء، يسير فوق وعود حانثة، وصداقات خاسرة، وصحة منهوكة، وأخيراً فوق روع محطمة، تترك الجسم والعقل مهشمين، ولكنها تنجر العمل - تنجز أروع الصور، وأروع الآثار المنحوتة، وعدداً من أعظم المباني، التي تمت في ذلك الزمن. ولقد صدق ميكل أنجيلو حين قال: "إذا أعانني الله فسأخرج أجمل ما شهدته إيطاليا في حياتها كلها" (60).
وكان ميكل أنجيلو أقل الناس وسامة في عصر اشتهر بجمال الجسم وفخامة الثياب. كان متوسط الطول، عريض المنكبين، نحيل الجسم، كبير الرأس، مرتفع الجبهة، أذناه بارزتان إلى ما بعد وجنتيه، وصدغاه بارزان إلى ما بعد الأذنين، وجهه مستطيل قاتم، وأنفه أفطس، وعيناه صغيرتان حادتان، وشعر رأسه ولحيته أشمط - هكذا كان ميكل أنجيلو في مقتبل عمره. وكان يرتدي ملابس قديمة، ويتعلق بها حتى تصبح وكأنها جزء من جسمه، ويبدو أن كان يطيع نصف نصيحة أبيه: "أحرص على ألا تغتسل، حُكَّ جسمك ولكن لا تغتسل" (61). وكان، هو الرجل الغني، يعيش معيشة الفقراء، معيشة الاقتصاد، يأكل أي شيء تصل إليه يداه، ويكتفي أحياناً بكسرة من الخبز. ولمّا كان في بولونيا، كان هو والعمال الثلاثة الذين يشتغلون معه يسكنون في حجرة واحدة، وينامون على سرير واحد. ويقول عنه كنديفي: "وكان وهو في عنفوان الصبا ينام في ثياب النهار، لا يخلع منها شيئاً حتى حذاءيه الطويلين، اللذين كان يحتذيهما على الدوام لأنه كان لديه استعداد للإصابة بتقلص(20/249)
العضلات .... وكان في بعض فصول السنة يظل محتذياً هذين الحذاءين زمناً بلغ من طوله أنه إذا خلعهما انسلخ جلده مع جلد الحذاء" (62). ويقول فاساري في هذا: "إنه لم يكن يرغب في أن يخلع ثيابه، لا لسبب إلاّ لأنه لا يريد أن يضطر إلى لبسها مرة أخرى" (63).
وكان يفخر بكرم محتده المزعوم، ولكنه كان يفضل الفقراء على الأغنياء، والسذج على ذوي العقول الراجحة، وكدح العامل على ما يتيحه الثراء من فراغ وترف. وكان يخرج عن معظم مكسبه ليعول أقاربه العاجزين؛ وكان يحب العزلة، لا يطيق أن يتحدث بضع كلمات إلى ذوي العقول الخاملة؛ وكان أينما وجد يتابع أفكاره الخاصة. وكان قليل العناية بالنساء الحسان، واقتصد الكثير من المال بالتزام العفة ... ولمّا أن أظهر أحد القساوسة أسفه لأن ميكل أنجيلو لم يتزوج ولم ينجب أبناء رد عليه ميكل أنجيلو بقوله: "إن الفن عندي أكثر من زوجة، وهو زوجة سببت لي ما يكفيني من المتاعب؛ أما أبنائي فهم الأعمال التي سأخلفها، وإذا لم تكن هذه الأعمال ذات قيمة كبيرة، فلا أقل من أنها ستبقى بعض الوقت" (64) ولم يكن يطيق وجود النساء في بيته، وكان يفضل عليهن الذكور في رفقته وفي فنه على السواء. وقد رسم النساء ولكنه رسمهن دائماً وهن أمهات ناضجات، ولم يرسمهن وهن فتيات فاتنات ساحرات. ومن الغريب أنه هو وليوناردو كانا فيما يلوح لا يحسان بجمال المرأة الجثماني، مع أن معظم الفنانين كانوا يرونه منبع الجمال. بل الجمال نفسه مجسداً. وليس لدينا ما نستدل منه على أنه كان لائطاً، ويبدو أن كل ما كان لديه من نشاط يمكن أن ينصرف إلى الاتصال الجنسي، كان يستنفذه عمله. ولمّا كان في كرارا كان يقضي اليوم كله راكباً جواده، يصدر التعليمات إلى قاطعي الحجارة ومعبدي الطريق، ويقضي المساء في مسكنه يدرس(20/250)
الخطط في ضوء الصباح، ويحسب النفقات، ويرتب أعمال الغد. وكانت تنتابه فترات يبدو فيها خاملاً، ثم تتملكه فجاءة حمى الإنتاج، فلا يبالي بأي شيء حتى انتهاب روما.
وقد حال انهماكه في العمل بينه وبين صداقة الناس، وإن كان له بعض الأصدقاء الأوفياء، "وقلّما كان صديق أو غير صديق يطعم على مائدته" (65). وكان يقنع بصحبة خادمه الأمين فرانتشيسكو ديجلي أمادوري Franecesco degli Amadore الذي ظل خمساً وعشرين سنة يعنى به، وظل كثيراً من السنين يشاركه فراشه. وقد اغتنى فرانتشيسكو من هبات ميكل، ولمّا مات (1555) تفطر قلب الفنان حزناً عليه. أما في معاملة غيره من الناس فقد كان حاد الطبع سليط اللسان، عنيفاً في نقده، سريعاً في غضبه، يرتاب في كل الناس. وكان يصف بروجيا بأنه أبله، وعبّر عن رأيه في صور فرانتشيا بأن قال لابن فرانتشيا الوسيم إن والده يرسمن الأشكال بالليل أحسن مما يرسمه منها بالنهار" (66). وكان فرانتشيا يغار من نجاح رفائيل وحب الناس إياه؛ ومع أن كلا الفنانين كان يحب صاحبه فإن مؤيديهما انقسموا إلى فئتين متشاحنتين، حتى بلغ من أمرهم أن بعث ياقوبو سانسو فينو برسالة إلى ميكل يسبه فيها سباً قاذعاً ويقول: "لعنة الله على ذلك اليوم الذي تنطق فيه بأي خبر عن أي إنسان على ظهر الأرض (67) ". ولقد مرت به أيام قليلة ينطبق عليها هذا الوصف، منها أن ميكل شاهد صورة لألفنسو دوق فيرارا من عمل تيشيان فقال إنه لم يكن يظن أن الفن يمكن أن يصنع هذا الصنع العجيب، وإن تيشيان وحده هو الخليق بأن يسمى مصوراً (68). وكان مزاجه المرير، وطبيعته المكتئبة هما المأساة التي لازمته طول حياته؛ فكانت تمر به أوقات يشتد فيها اكتئابه حتى يشرف على الجنون،، استحوذ عليه خوف الجحيم حتى ظن أن فنه(20/251)
من الخطايا، وأخذ يتبرع بالبائنات إلى الفقيرات من الفتيات ليسترضي بذلك ربه الغضوب (69). وسبب له إحساسه المرهف اضطراباً في الأعصاب جلب عليه شقاء لم يكد يفارقه يوماً واحداً. انظر إلى ما كتبه لوالده في عام 1508 لا بعد: "لقد مضت الآن خمسة عشر عاماً منذ استمتعت بساعة واحدة من الطمأنينة" (70). ولم يستمتع بعدئذ بكثير من هذه الساعات، وإن كان قد بقى من عمره ثمان وخمسون سنة.(20/252)
الفصل السابع
رفائيل وليو العاشر
1513 - 1520
يرجع بعض السبب في إهمال ليو لميكل أنجيلو إلى أن البابا كان يحب الرجال والنساء ذوي الخلق المعتدل المتزن، كما يرجع بعضه الآخر إلى أنه لم يكن شديد الحب لفن العمارة أو إلى الضخامة في الفن بوجه عام، فقد كان يفضل الجوهرة النفيسة على الكنيسة الكبرى، ويفضل الزخارف الصغرى على الآثار الضخمة. وقد شغل كردسا Caradossa، وسانتي ده كولاسيا Santi de Cola Sabba، ومشيلي نارديني Michele Nardini وغيرهم من الصياغ بصنع الجواهر، والنقش عليها، والمدليات، والنقود، والآنية المقدسة. وترك وراءه بعد وفاته مجموعة من الحجارة النفيسة، والياقوت، والياقوت الأزرق (الصغير)، الزمرد، والماس، واللؤلؤ، وتيجان البابوات والأساقفة، وترك من الصور ما تبلغ قيمته 204. 655 دوقة أي أكثر من 2. 500. 000 دولار. على أننا يجب أن نذكر أن الجزء الأكبر من هذه الثروة قد ورثها من أسلافه، وأنها كانت جزءاً من الكنوز البابوية التي لا يصيبها تخفيض قيمة العملة المتداولة.
وقد دعا نحو عشرين من المصورين إلى روما، ولكن رفائيل يكاد يكون هو المصور الوحيد الذي عني به حقاً. لقد جرب ليوناردو ثم طرده لأنه كان في رأيه مهذاراً مضيعاً لوقته، وجاء الراهب بارتولميو إلى روما في عام 1514 ورسم صورة للقديس بطرس وأخرى للقديس بولس. ولكن هواء روما وما فيها من حركة وما تثيره في النفس من اهتياج لم توافقه، فل يلبث أن عاد إلى الهدوء الذي اعتاده في دير فلورنس، وأحب ليو عمل سودوما، ولكنه لم يكد يجرؤ على أن يترك هذا المستهتر يجول حراً في قصر(20/253)
الفاتيكان؛ واستحوذ جوليو ده ميدتشي ابن عم ليو على سبستيانو دل بيمبو.
وكان رفائيل يتفق مع ليو في مزاجه وذوقه جميعاً، فقد كان كلاهما أبيقورياً ظريفاً أحال المسيحية لذة ومتعة، ونعم بالجنة على ظهر الأرض، ولكن كلاهما كان يكدح بقدر ما كان يعبث. وقد أثقل ليو الفنان السعيد بالواجبات: إتمام الحجرات، وتخطيط الرسوم المبدئية للأقمشة التي يزدان بها معبد سستيني، وزخارف شرفات الفاتيكان، وبناء كنيسة القديس بطرس، وحفظ التحف الفنية الرومانية القديمة. وقبل رفائيل هذه المهام كلها، وقبلها مسروراً بها راغباً فيها؛ ووجد فوق ذلك من وقته متسعاً لرسم نحو عشرين من الصور الدينية، وعدة مجموعات من المظلمات الوثنية، ونحو خمسين من صور العذراء وغيرها كانت كل واحدة منها بمفردها خليقة بأن تأتيه بالثروة الطائلة والصيت العريض. واستغل ليو وداعته ولين جانبه. فكان يطلب إليه أن ينظم له احتفالاته، وأن يرسم المناظر اللازمة لإحدى التمثيليات، وأن يصور له فيلاً كان يحبه (71). ولعل الإجهاد والحب هما اللذان قصّرا أجل رفائيل.
ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه في عنفوان القوة ونعيم الرخاء. وقد كتب في أول يولية سنة 1514 رسالة إلى عمه "العزيز سيمون ... الذي أعزه كما أعز أبي"، وكان سيمون هذا قد لامه لإصراره على البقاء عزباً، وكانت رسالته إلى عمه هذا تنم عن ثقته بنفسه واغتباطه بهذه الثقة قال:
أما عن الزوجة، فلا بد أن أخبرك أني أحمد الله كل يوم على أني لم أتزوج بمن قدرت لي أن أتزوجها، أو بغيرها من النساء ... ولقد كنت في هذه المسألة بالذات أعقل منك ... ولست أشك في أنك سترى الآن أنني بحالي التي أنا عليها خير ممّا كنت أكونه لو تزوجت ... إن لي مالاً في روما يبلغ 3000 دوقة، ودخلاً مؤكداً لا يقل عن خمسين دوقة أخرى. وقد وظف لي قداسة البابا مرتباً قدره 300 دوقة نظير إشرافي(20/254)
على إعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ولن ينقطع عن هذا المرتب طول حياتي .... وهم يعطونني فوق هذا كل ما أطلبه نظير عملي. ولقد شرعت في زخرفة ردهة كبيرة لقداسة البابا سأتقاضى من أجلها 1200 كرون ذهبي. ومن هذا ترى حتماً يا عمي العزيز أنني أعمل ما يشرّف أسرتي وبلدي (72).
ولمّا بلغ الواحدة والثلاثين من عمره أدرك أنه دخل في دور الرجولة، فربى لحية سوداء أراد أن يستر بها شبابه؛ وعاش في رغد، بل قل في أبهة في قصر شاده برامنتي وابتاعه رفائيل بثلاثة آلاف دوقة، وارتدى من الثياب ما يرتديه شباب الأسر الشريفة؛ وكان إذا زار قصر الفاتيكان صحبته حاشية كحاشية الأمراء من تلاميذه وعملائه. وأنبه على هذا ميكل أنجيلو بأن قال له: "إنك تسير ومن خلفك حاشية كأنك قائد جيش"، فرد عليه رفائيل بقوله: "وأنت تسير وحدك كالجلاّد" (73). وكان لا يزال وقتئذ فتى طيب القلب، مبرءاً من الجسد، ولكنه شديد الحرص على أن يسمو على غيره من الناس، ولم يكن من التواضع بالقدر الذي كان عليه من قبل (وأنّى له أن يكون كذلك)، ولكنه كان على الدوام يقدّم العون لغيره، ويهدي أصدقاءه روائع فنه، ولقد بلغ من أمره أن كان معيناً ونصيراً للفنانين الأقل منه حظاً وموهبة. ولكن فكاهته كانت لاذعة في بعض الأحيان؛ مثال ذلك أن كردنالين زارا مرسمه في يوم من الأيام، فأخذا يتسليان بذكر عيوب في صوره - فقالا مثلاً إن وجوه الرسل مسرفة في الاحمرار - فرد عليهم بقوله: "لا تعجبوا من هذا، يا صاحبي العظمة، فلقد رسمتها بهذا الشكل عامداً، أليس من حقنا أن نظن أن أصحابها ستعلوهم حمرة الخجل في السماء حين يرون الكنيسة يحكمها رجال من أمثالكم؟ " (74). على أنه مع ذلك كان يقبل ما يصحح له من أغلاط من غير أن يغضب، كما حدث في تصميم بناء كنيسة القديس بطرس. وكان في وسعه أن يثني(20/255)
على طائفة من الفنانين بتقليد روائع فنهم، دون أن يفقد مع ذلك استقلاله وما يمتاز له من موهبة الابتكار، ولم يكن في حاجة إلى الوحدة يرجع فيها إلى نفسه.
على أن أخلاقه لم تسم كما سمت آدابه؛ ولم يكن في مقدوره أن يصور النساء بتلك الصور الجذابة لو لم يكن قد افتتن بمحاسنهن، وقد كتب أغاني في الحب على ظهر رسومه؛ واتخذ له طائفة من العشيقات واحدة بعد واحدة؛ ولكن يبدو أنه ما من أحد - بما في ذلك البابا نفسه - يظن أن من كان مثالاً عظيماً لا يحق له أن يستمتع بمثل هذه المتع. وهاهو ذا فاساري، بعد أن وصف شذوذ رفائيل الجنسي لا يرى فيما يبدو أي تعارض في أن يقول بعد صفحتين من هذا الوصف إن "اللذين يحاكمونه في حياته الفاضلة سيثابون على ذلك في الجنة" (75). ولمّا أن سأل كستجليوني رفائيل أين يجد نماذج النساء الحسان اللاتي يصورهن، أجابه بأنه يخلقهن خلقاً في خياله بأن يجمع عناصر الجمال المختلفة التي تمتاز بها مختلف النساء (76)؛ ومن ثم كان في حاجة إلى أمثلة منهن متعددة. ومع هذا فإن في أخلاقه وفي أعماله طابعاً صحيحاً يرفع من قدر الحياة، ووحدة وطمأنينة وصفاء في سيرته وسط ما كان يحيط به من نزاع، وفرقة، وحسداً، ومثالب كانت تسود ذلك العصر. ولم يكن يعبأ بالشئون السياسية التي يحترق بلظاها ليو وإيطاليا كلها، ولعله كان يشعر بأن الخصومات التي تتكرر من حين إلى حين بين الأحزاب والدول الطامعة في السلطان، وفي الامتيازات، إن هي إلاّ الزبد الذي يعلو أمواج التاريخ، والذي لا بد أن يذهب جفاء، وأن ليس لشيء ما قيمة ونفع إلاّ الإخلاص للكمال، والجمال، والحق.
وترك رفائيل البحث عن الحقيقة لمن كانوا أكثر منه جرأة وحماسة، وقنع بخدمة الجمال دون غيره؛ فواصل في السنة الأولى من حكم ليو نقش! حجرة إليودورو Stanza d'Eliodoro. فقد شاءت الظروف أن يختار(20/256)
يوليوس منظر الالتقاء التاريخي بين أتلا Atilla وليو الأول (452). ليكون النقش الثاني من أهم النقوش الجدارية في حجرته، وليجعله رمزاً لطرد البرابرة من إيطاليا. وكان رفائيل في تصويره قد جعل ملامح ليو الأول هي بعينها ملامح يوليوس الثاني، ولكن حدث وقتئذ أن اعتلى عرش البابوية ليو العاشر. فما كان من رفائيل إلاّ أن عدل رسمه فجعل ليو هو ليو. وكان أكثر من هذه المجموعة الكبيرة نجاحاً صورة أصغر منها رسمها رفائيل في عقد فوق نافذة في هذه الحجرة من نفسها. وهنا اقترح البابا الجديد أن يكون موضوع الصورة نجاة بطرس من السجن على يدي أحد الملائكة؛ ولعله أراد بهذا أن يخلد ذكرى نجاته من ميلان. واستعان رفائيل بكل ما وهبه الفن من قدرة التأليف والتكوين ليبعث الوحدة والحياة في الصورة التي قسمتها النافذة إلى ثلاثة مناظر: منظر الحراس النائمين إلى اليسار، وملك يوقظ بطرس في أعلى النافذة، وملك إلى اليمين يقود الرسول الحائر الذي يداعب الناس أجفانه إلى الحرية. وإن ما يشع في حجرة السجن من تألق الملك يسطع على دروع الجند ويغشى أبصارهم؛ والهلال الذي ينعكس نوره على السحب فيجعلها ناصعة البياض، إن هذا وذاك ليجعلان هذه الصورة نموذجاً فنياً لدراسة الضوء.
وكان الفنان الشاب ظمئاً إلى تطبيق للفن جديد. وكان برامنتي قد أخذ صديقه في السر، دون إذن من ميكل أنجيلو، ليشاهد المظلمات التي في قبة سستيني قبل تمامها. وتأثر رفائيل بمنظرها أشد التأثر، ولعله أحس، بما لا يزال يصحب كبرياءه من تواضع، بأنه ماثل في حضرة فنان أعظم منه عبقرية وإن كان أقل منه رقة ولطافة. وترك رفائيل هذه المؤثرات الجديدة تحركه في موضوعات المظلمات التي صورها على سقف حجرة هليدورس وفي أشكال هذه المظلمات: فقد مثل فيها الله يظهر إلى نوح؛ وإبراهيم يضحّي بولده، وحلم يعقوب، والأجمة المحترقة. ويظهر أيضاً(20/257)
في صورة النبي إشعيا التي رسمها لكنيسة القديس أوغسطين. وشرع في عام 1514 ينقش الحجرة التي عرفت باسم حجرة حريق المدينة Stanza dell' Incendio del Borgo، ويريد بالمدينة الجزء المحيط بالفاتيكان من روما. وتفصيل هذا أن إحدى قصص العصور الوسطى تروي أن البابا ليو الثالث أطفأ حريقاً كان ينذر بالتهام هذا الجزء من المدينة، ولم يكلفه هذا اكثر من أن يرسم أكثر من الصورة التمهيدية لهذا الرسم الجداري، ثم عهد إلى تلميذه جيان فرانتشيسكو بني Gianfransesco Penni بإتمامها وتلوينها. وهي مع هذا صورة قوية في تأليفها، ومن طراز رفائيل الممتاز الذي يروي فيه حادثات الأيام. وقد مزج رفائيل في هذه الصورة القصة الرومانية القديمة بالقصة المسيحية، فصور إلى اليمين إينياس وسيما مفتول العضلات يحمل أباه أنكبسيز Anchises الشيخ ذا العضلات القوية لينجيه من اللهب، وهناك أيضاً صورة أخرى متقنة الرسم إلى أبعد حد تمثل رجلاً عارياً يتعلق في أعلى جدار البناء المحترق، ويتأهب لإلقاء نفسه على الأرض؛ ويظهر في هذه الصور الثلاث العارية تأثير ميكل أنجيلو في رفائيل. لكن ثمة صوراً أكثر اتفاقاً مع نزعة رفائيل نفسه، منها صورة أم مرتاعة تطل من فوق الجدار لتسلم طفلها إلى رجل يقف فوق الأرض على أطراف أصابع قدميه. وترى بعين عمد فخمة جماعات من النساء يتلمسن معونة البابا، فيأمر من إحدى الشرفات النار أن تخمد. ولا يزال رفائيل في هذه الصورة في عنفوان مجده.
ورسم رفائيل الرسوم التمهيدية لبقية الصور التي في هذه الحجرة؛ ولعل تلاميذه قد ساعدوه حتى في هذه الصور الباقية نفسها. ومن الرسوم التمهيدية رَسَمَ بيرينول فاجا Perino del Vaga فوق النافذة صورة قسم ليو الثالث وهو يبرئ نفسه أمام شارلمان (800)؛ وصوَّر جويليو رومانو وهو تلميذ(20/258)
آخر أعظم من التلميذ السابق على الجدار المجاور لباب الحجرة واقعة أستيا التي رد فيها ليو الرابع (وهو يظهر في الصورة شديد الشبه بليو العاشر) الغزاة المسلمين (849). وجويليو رومانو هو الفنان الوحيد من أهل روما الذي علا نجمه في فن النهضة. وصوّر أولئك التلاميذ النابهون في أماكن أخرى صوراً لملوك أحسنوا إلى الكنيسة، وجعلوا هذه الصور مثالية لا واقعية. وفي الصورة الأخيرة صورة تتويج شارلمان يصبح ليو العاشر هو ليو الثالث بعينه، ويصوّر فرانسس الأول كأنه شارلمان يحقق (بالنيابة عن شارلمان) أمله في أن يكون إمبراطوراً. والحقيقة أن هذه الصور تمثل التقاء ليو بفرانسس في بولونيا في العام السابق (1516).
ورسم رفائيل رسوماً تخطيطية مبدئية للحجرة الرابعة وهي المعروفة بردهة قسطنطين Sala Constantino؛ وقد رسمت هذه الصور ولونت بعد وفاته برعاية البابا كلمنت السابع. وكان ليو في هذه الأثناء يستحثه على أن يبدأ بزخرفة الشرفات المكشوفة التي بناها برامنتي لكي تحيط بفناء القديس دماسوس St. Damasus بالفاتيكان. وكان رفائيل نفسه هو الذي أكمل تشييد هذه الشرفات؛ ثم صمم وقتئذ (1517 - 1519) لسقف واحدة منها اثنين وخمسين مظلماً تروي قصص الكتاب المقدس من خلق العالم إلى يوم الحساب. وقد عهد بالتصوير نفسه إلى جويليو رومانو، وجيان فرانتشيسكو بني، وبرينودل فاجا، وبليدورو كلدارا داكر فجيو Potidoro Caldara da Caravaggio، وغيرهم؛ بينما قام جيوفني دا يوديني Giovanni de Udine بزخرفة العمد المربوعة، والأجزاء الداخلية من العقود بصور رائعة ونقوش عربية الطراز في الجس وبالألوان. وقد استخدمت أحياناً في مظلمات الشرفات هذه موضوعات مما عولج في سقف سستيني، ولكنها أخف منها يداً، وأقل منها تصنعاً، وأكبر مرحاً؛ لا تهدف إلى الفخامة أو التعالي بل تصور حادثات لطيفة كصورة آدم وحواء(20/259)
وأبنائهما يستمتعون بفاكهة الجنة، وصورة إبراهيم يستقبل الملائكة الثلاثة، واسحق يعانق رفقة، ويعقوب وراحيل عند البئر، ويوسف وزوجة فرعون، والتقاط موسى، وداود وباثشيع، وعبادة الرعاة. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الصور الصغيرة لا يمكن أن تضارع صور ميكل أنجيلو، فهذه في عالم غير عالم تلك ومن صنف غير صنفها - لأنها تمثل عالماً ذا رشاقة نسوية، لا عالماً ذا قوة عضلية؛ وهي شاهد على رفائيل المرح في الخمس السنين الأخيرة من حياته؛ على حين أن سقف سستيني إنما يمثل ميكل أنجيلو في عنفوان قوته.
ولعل ليو قد دبَّ في قلبه شيء من الغيرة من جمال هذا السقف، ومما أفاءه على حكم يوليوس من مجد، فلم يكد يعتلي العرش حتى فكر في تخليد عهده بنقش جدران معبد سستيني بصور الطنافس المزركشة. ولم يكن في إيطاليا من النساجين ممن يضارعون تساجي فلاندرز، وظن ليو أنه لم يكن في فلاندرز من المصورين من يضارعون رفائيل. ولهذا عهد إلى هذا الفنان (1515)، أن يرسم عشر صور تمهيدية تمثل مناظر من أعمال الرسل. وقد ابتاع روبنز (1630) ستاً من هذه الصور في بركسل لتشارلس الأول ملك إنجلترا، وهي الآن محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت بلندن، وتعد من أعظم ما رسم من الصور في أي عصر من العصور. وقد أغدق عليها رفائيل كا ما لديه من علم في التأليف، والتشريح، والتأثير المسرحي؛ وقلّما يوجد في ميدان التصوير كله قطع نفوق صورة معجزة جر السمك، أو عهد المسيح إلى بطرس، أو موت أنانياس، أو بطرس يداوي الأعرج، أو بولس يعظ في أثينة - وإن كان شكل بولس الجميل في هذه الصورة الأخيرة مسروق من مظلمات مساتشيو في فلورنس.
وأرسلت الرسوم التمهيدية العشرة إلى بركسل، حيث أشرف برنارت(20/260)
فان أورلي Bernaert van Orley، الذي تتلمذ على رفائيل في روما، على نقل هذه الرسوم على الحرير والصوف. وتمت سبع من هذه الطنافس في فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنين، وتم صنع العشر كلها قبل عام 1520؛ وفي السادس والعشرين من ديسمبر عام 1519 علقت سبع منها على جدران سستيني ودعي لمشاهدتها الصفوة المختارة من أهل روما. وذهل الحاضرون من جمالها وروعتها، فقال باريس ده جراسيس Paris de Grassis في يومياته: "وذهل كل من في الكنيسة حين وقعت أعينهم على هذه الستر، وأجمعوا كلهم بلا استثناء على ا، هـ ليس في العالم كله ما هو أجمل منها" (77). وقد أنفق على كل واحدة منها ألفا دوقة (25. 000؟ دولار)، وكانت نفقاتها جميعاً من أسباب إقفار خزائن ليو وإغرائه على بيع صكوك الغفران والمناصب الكنسية (1). وما من شك في أن ليو قد أحس وقتئذ بأنه التقى هو ورفائيل مع يوليوس وميكل أنجيلو في معركة فنية في كنيسة واحدة وأنهما قد انتصرا في هذه المعركة.
وإن ما يتصف به رفائيل من خصب في الإنتاج وهو في سن السابعة والثلاثين أعظم من خصب ميكل أنجيلو في سن التاسعة والثمانين - نقول إن ما يتصف به من خصب في هذه السن ليجعل من الصعب علينا أن ننصفه حين نصف روائع أعماله الفنية وصفاً موجزاً شاملاً، وذلك لأن كل عمل من أعماله تقريباً كان آية خليقة بأن تخلد. لقد رسم صوراً في الفسيفساء، والخشب، والجواهر، وعلى المدليات، والفخار، والآنية البرنزية،
_________
(1) رهنت هذه الطنافس عند موت ليو ليخفف ثمنها من الضائقة المالية التي حلت بالبابوية؛ ثم أصابها تلف شديد في أثناء انتهاب روما، فمزقت إحداها إرباً، وبيعت اثنتان منها إلى القسطنطينية، ثم ردت كلها إلى معبد سستيني في عام 1554؛ وصارت تعرض في كل عام في عيد الجسد الطاهر على العشب في ميدان القديس بطرس. وقد أمر لويس الرابع عشر أن ترسم لها صور بالزيت. اغتصبها الفرنسيون في عام 1798، وأعيدت مرة ثانية إلى الفاتيكان في عام 1808. وهي معروضة هناك الآن في قاعة خاصة بها تدعى ردهة الطنافس.(20/261)
والنقوش المحفورة البارزة، وصناديق العطور، وعلى التماثيل، والقصور. واضطراب ميكل أنجيلو حين سمع أن رفائيل صنع نموذجاً لتمثال يونس راكباً حوته، وأن المثال لفلورنسي لورندستو لتي Lorenzetto Lotti نحت من هذه النماذج تمثالاً رخامياً له. ولكن النتيجة أعادت إليه سكينته لأن رفائيل بعمله هذا قد خرج من ميدانه الخاص وهو ميدان التصوير الملون، ولم يكن في خروجه هذا حكيماً. لكنه كان أكثر توفيقاً في ميدان العمارة لأن صديقه برامنتي كان يرشده في هذا الميدان. ولمّا عهد إليه حوالي عام 1514 العمل في كنيسة القديس بطرس، طلب إلى صديقه فابيو كلفو Fabio Calvo أن يترجم له كتاب فتروفيوس Vitrivius إلىاللغة الإيطالية، وشغف منذ ذلك الحين حباً بالطرز المعمارية الرومانية القديمة ووسر ليو من استمراره في العمل في شرفة برمنتي سروراً جعله يعينه مديراً لجميع المصالح المعمارية والفنية في الفاتيكان. وشاد رفائيل بعض القصور الممتازة في روما، واشترك في تخطيط فلا ماداما Villa Madama للكردنال جويليو ده ميديتشي. على أن هذا العمل يرجع معظم الفضل فيه إلى جويليو رومانو المهندس المعماري، والمصور، وإلى جيوفنيدا أوديني Giovanni da Udine الذي قام بزخرفته ولم يبق من آيات رفائيل المعمارية إلاّ قصر بندلفيني Palazzo Pandolfini الذي بنى بعد موته على أساس رسومه التخطيطية، ولا يزال هذا القصر معدوداً ن أجمل القصور في فلورنس. وسخر رفائيل بعدئذ مواهبه لخدمة صديقه المصرفي تشيجي Chigi وكان ذلك منه تضحية تعلّي من قدره. وقد شاد لهذا الصديق معبداً في كنيسة سانتا ماريادل بوبولو، وبنى لجياده اسطبلات (الاسطبلات الشجيانية Stalle Chigiani 1514) تليق لأن تكون قصوراً. وإذا شئنا أن نفهم رفائيل، وروما في عهد ليو، حق الفهم، وجب علينا أن نتريث قليلاً لنلقي نظرة على ذلك الرجل العظيم تشيجي.(20/262)
الفصل الثامن
أجستينو تشيجي
يمثل أجستينو تشيجي طائفة من أهل روما: طائفة أغنياء التجار أو رجال المصارف، وأصلهم عادة من غير أهلها علا شأنهم على شأن نبلاء الرومان الأقدمين، ولم يكن يعلو عليهم في سخائهم على الفنانين والكتّاب إلاّ سخاء الكرادلة والبابوات. وكان مولده في سينا، وكأنما طَعِم الدهاء في الشئون المالية مع طعامه اليومي. وقبل أن يبلغ الثالثة والأربعين من عمره أصبح أكبر مقرضي المال الإيطاليين إلى الجمهوريات والمماليك مسيحية كانت أو غير مسيحية. وكان يمول التجارة المتبادلة بين أكثر من عشرة بلاد من بينها تركيا، وحصل بعقد من يوليوس الثاني على احتكار الشب والملح (78). وفي عام 1511 أتاح ليوليوس سباً جديداً من أسباب الحرب على فيرارا - ذلك أن الدوق ألفنسو قد جرؤ على أن يبيع الملح بثمن أقل مما يستطيع أجستينو أن يتقاضاه (79). وكان لشركته فروع في كل مدينة إيطالية كبيرة، كما كان لها فروع في القسطنطينية، والإسكندرية، والقاهرة، وليون في فرنسا، ولندن، وأمستردام، وكانت مائة سفينة وسفينة تمخر عباب اليم رافعة رايته، كما كان عشرون ألف رجل عمالاً مأجورين عنده. وكان بضعة ملوك وأمراء يبعثون إليه بالهدايا، وكان أحسن جواد عنده هدية من سلطان تركيا؛ ولمّا زار البندقية (وكان قد أقرضها 125. 000 دوقة) وضع مقعده بجوار مقعد الدوج نفسه (80). ولمّا سأله ليو العاشر عن مقدار ثروته أجابه أن الرد على ذلك مستحيل، ولعل الباعث له على هذا الجواب هو التهرب من الضرائب، على أن دخله السنوي كان يقدر بنحو 70. 000 دوقة (875. 000؟ دولار). وكانت صحافه الفضية(20/263)
وجواهره تعدل ما عند نبلاء روما كلهم مجتمعين. وكان سريره محفوراً في العاج ومرصعاً بالذهب والحجارة الكريمة، وكانت أدوات حمامه من الفضة (81). وكان له اثنا عشر من القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق، أجملها كلها بيت تشيجي الريفي القائم على الضفة الغربية لنهر التيبر. وكان الذي خططه هو بلدساري بروتشي، وزينه بالصور بروتشي ورفائيل، وسودوما، وجويلي رومانو، وسبستيانو دل بيمبو؛ وقد وصفه الرومان حين تم بأنه أفخم قصور روما بأجمعها.
وكان لموائد تشيجي من الشهرة ما يضارع شهرة موائد لوكلس Lucullus في أيام قيصر. ولمّا أتم رفائيل بناء أسطبلاته وقبل أن توضع فيها جياد أجمل من الرجال، استقبل فيها أجستينو البابا ليو وأربعة عشر من الكرادلة في عام 1518، وأقام لهم فيها مأدبة كان يتباهى بأنها كلفته ألفي دوقة (25. 000؟ دولار). وقد سرقت في أثناء هذه الحفلة الممتازة صحاف فضية كبيرة، وأكبر الظن أن اللذين سرقوها خدم في حاشية بعض المدعوين. وأمر تشيجي ألاّ يجري أي تفتيش، وأظهر دهشته في لطف ومجاملة من قلة ما سرق (82). ولمّا انتهت المأدبة، ورفعت الطنفسة الحريرية، وطنافس الجدران، والأثاث الدقيق، ملأت الاسطبلات بمائة جواد.
وأقام المصرفي الثري بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت حفلة عشاء أخرى، وأقامها هذه المرة في شرفة القصر الريفي المطلة على نهر التيبر، وكانت الصحاف الفضية، بعد الفراغ من كل صنف من الطعام، تلقى في النهر على مشهد من المدعوين، حتى يتأكدوا من أن أية صفحة منها لن تستعمل أكثر من مرة واحدة. ولمّا انتهت المأدبة استخرج خدم تشيجي الصحاف من النهر بشبكة كانت قد وضعت سراً في مجراه تحت نافذة الشرفة (83). وحدث في مأدبة عشاء أقيمت في قاعة القصر الريفي في 28 أغسطس 1519 أن قدم الطعام لكل مدعو وفيهم البابا ليو واثنا عشر كردنالاً - في صحاف من(20/264)
الفضة أو الذهب نقش عليها شعاره، وتاجه، ودرعه، وأطعم كل واحد منهم نوعاً خاصاً من السمك، واللحم، والخضر، والفاكهة، والمشهيات، والنبيذ المستورد حديثاً من بلده أو منطقته لهذا الغرض خاصة.
وحاول تشيجي أن يكفر عن هذا التظاهر الوضيع بالثراء، بمناصرته الأدب والفن مناصرة سخية كريمة - من ذلك أنه أدى إلى العالم كرنيليو بنينيو Corneiio Benigo من فيتيربو Viterbo نفقات طبع أشعار بندار، وأنه أنشأ في بيته مطبعة تلك المؤلفات؛ وكانت الحروف اليونانية التي عملت لتلك المطبعة تفوق في جمالها الحروف التي استخدمها ألدوس مانوتيوس في نشر قصائده قبل ذلك بعامين. وكان هذا أول نص يوناني طبع في روما (1515). وبعد عام من ذلك الوقت أصدرت المطبعة طبعة صحيحة من ثيوقريطس. وكان أجستينو نفسه واسع المعرفة، ولكنه كان يفخر بأن من أصدقائه بمبو، وجيوفيو، وأرتينو نفسه. وقد أغدق أرتينو هذا المال بسخاء، وكان يتباهى بإنفاق هذا المال. وكان أكثر ما يحبه بعد المال وعشيقته هو جميع أنواع الجمال التي يستطيع الفن أن يصورها. وكان ينافس ليو فيما يعهد به من الأعمال إلى الفنانين، وقد فاقه كثيراً في تفسيره الوثني للنهضة، وجمع في قصوره في المدينة وضواحيها مقادير من التحف الفنية تكفي لإنشاء متحف من المتاحف. ويبدو أنه كان يعتقد أن قصره ليس بيتاً فحسب، بل هو إلى ذلك معرض عام للفن يسمح للجماهير أن تدخله من حين إلى حين.
وحدث في ذلك القصر الذي أقيمت فيه مأدبة العشاء السالفة الذكر في 25 أغسطس سنة 1519، أن تزوج تشيجي بعشيقته الوفية التي ظل يعيش معها طوال الست السنين السابقة، وقام بمراسيم الزواج البابا ليو نفسه. لكنه توفي بعد ثمانية أشهر من ذلك الوقت بعد أيام قليلة من موت رفائيل.(20/265)
وقسم الجزء الأكبر من ثروته التي قدرت بثمانمائة ألف دوقة (10. 000. 000 دولار) بين أبنائه. وعاش لورندسو أكبر هؤلاء البناء عيشة البذخ والفساد، وحكم عليه بالجنون في عام 1553. أما بيت تشيجي الريفي الواقع على ضفة التيبر فقد بيع إلى الكردنال ألسندرو فرنيزي الثاني بثمن زهيد حوالي عام 1580؛ وأطلق عليه من ذلك الحين اسم الفارنيزينا Farensina.(20/266)
الفصل التاسع
رفائيل (خاتمة المطاف)
وكان رفائيل قد قبل أن يقوم للمصرفي المرح الظريف بأعمال فنية منذ عام1510، وفي عام 1514 رسم له صوراً جصية ملونة في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace. وكان المكان الذي خصص لهذه الصور ضيقاً غير منتظم؛ ولكن رفائيل جعله يبدو صالحاً للرسم بأن وزع عليه صوراً لأربع عرافات - تومائية، وفارسية، وفريجية، وتيبورتية، وهن متنبئات وثنيات سلبتهن قواهن في هذا الرسم الملائكة المحيطة بهن. وصورهن رشيقة لأن رفائيل كان يصعب عليه أن يصور شيئاً خالياً من الرشاقة. ويظن فاساري أنهن أجمل ما أنتجه الفنان الشاب؛ والصور جميعها ما عدا صورة العرافة التيبورتية محاكاة ضعيفة لعرافات أنجيلو. أما صورة هذه الكاهنة الأخيرة الهزيلة الجسم التي أوهنها الكبر، وروعها المستقبل البشع الذي تتنبأ به، فهي صورة ذات قوة مبتكرة مسرحية. وتقول قصة لا يمكن الرجوع بها إلى ما قبل القرن السابع عشر، إن شيئاً من سوء التفاهم حدث بين رفائيل والقائم على أموال تشيجي خاصاً بالأجر الذي يتقاضاه الفنان عن هذه الصور. وكان رفائيل قد أخذ منه خمسمائة دوقة، ولكنه طلب المزيد من الأجر بعد أن أتمها؛ وظن خازن أموال تشيجي أن الخمسمائة من الدوقات التي أخذها رفائيل هي كل ما يحق له أن يأخذه. وعرض رفائيل أن يعين الخازن فناناً خبيراً ليقدر قيمة الرسوم؛ فاختار الخازن ميكل أنجيلو لهذا الغرض ووافق رفائيل على هذا الاختيار. وحكم ميكل أنجيلو، رغم ما يزعم الناس وجوده بينه وبين رفائيل من غيرة، أن كل رأس في الصورة يساوي مائة دوقة. ولمّا جاء الخازن(20/267)
المذهول بهذا الحكم إلى تشيجي أمره المصرفي بأن يؤدي إلى رفائيل أربعمائة دوقة أخرى وحذره قائلاً: "واستعمل معه الرفق حتى يرضى بهذا القدر، لأنه إن اضطرني إلى أداء اجر الأثواب التي تلبسها العرافات أفلست لا محالة" (84).
وكان من واجب تشيجي أن يصطنع الحذر، لأن رفائيل كان في ذلك العام نفسه يرسم مظلماً أنيقاً في قصر تشيجي الريفي - وهو مظلم غلاطية. وقد أخذ قصته من جيوسترا Giostra تأليف بولتيان، ومضمون القصة إن بوليفيموس Polyphemus السيكلوب (1) Cyclops الأعور يحاول إغراء الحورية غلاطية بأغانيه ومزماره، ولكنها تبتعد عنه في ازدراء - كأنها تقول: من هي التي ترضى أن تتزوج فناناً؟ - ثم تسلم الزمام إلى دلفينين يجذبان سفينتها الصدفية الشكل إلى البحر. وتقف إلى جانب غلاطية حورية ممتلئة الجسم مرحة يمسك بها تريتون قوي، وفي السحب عدد من آلهة الحب (كيوبد) يطلقون سهاماً كثيرة يؤيدون بها الحب القائم بينهما. وتتجلى النهضة الوثنية في هذه الصورة بأجلى مظاهرها، ويغتبط رفائيل إذ يصور النساء كما يجب أن يكن حسب ما يصورهن خياله الساطع.
وفي عام 1516 نقش حمام الكردنال بببينا مظلمات تمجد فينوس وانتصار الحب. وفي عام 1517 نقش سقف القاعدة الوسطى في قصر تشيجي الريفي وزواياه بصور أكثر من الصور السابقة تبذلاًّ. فقد هداه خياله المرح في هذه المرة إلى قصة استمدها من كتاب التناسخ لأبوليوس Apuleius. وخلاصة هذه القصة أن سيكي Psyche ابنة أحد الملوك تستثير بجمالها حسد فينوس، فتأمر هذه الإلهة الحقود ابنها كيوبد أن يوحي إلى سيكي بأن تحب أحقر رجل في الوجود. ويهبط كيوبد إلى
_________
(1) أحد الجبابرة في الأساطير اليونانية. (المترجم)(20/268)
الأرض ليؤدي رسالته، ولكنه لا يكاد يمس سيكي حتى يهيم بها حباً. ويزورها في ظلمة الليل، ويأمرها أن تكبت في نفسها غريزة حب الاستطلاع فلا تسأله من هو. غير أنها لا يسعها إلاّ أن تنهض من فراشها ذات ليلة، وتضيء مصباحاً، فتتبين أنها تنام مع أجمل الأرباب كلهم. ولكنها في اضطرابها تسقط منها نقطة من الزيت على كتف إله الحب، فيستيقظ من نومه ويؤنبها لفرط تشوفها، ويتركها وهو غاضب غير عالم أنه إذا حرمت المرأة من غريزة حب الاستطلاع في مثل هذه الأحوال أدى هذا إلى فساد أخلاق المجتمع. وتخرج سيكي هائمة على وجهها في الأرض محزونة يائسة وتضع فينوس كيوبد في السجن لأنه عصى أمه، وتشكو إلى جوبتر من ضعف النظام السماوي، فيرسل جوبتر عطارد ليأتيه بسيكي وتصبح بعدئذ أمة مغواة عند فينوس. ويهر بكيوبد من سجنه ويرجو جوبتر أن يهبه سيكي. ويقع الإله في حيرة إذ يجد نفسه وسط مطالب متعارضة، فيدعو أرباب أولمبس للنظر في هذا الأمر. وينحاز هو إلى كيوبد مدفوعاً إلى هذا بما جبل عليه من التأثر بمفاتن الذكور؛ أما الآلهة الآخرون ذو القلوب الرقيقة فيطلبون إطلاق سراح سيكي، ورفعها إلى مقام الإلهات، وإعطائها لكيوبد؛ ويحتفلون في المنظر الأخير بزواج كيوبد وسيكي ويقيمون لهذه المناسبة وليمة يطعمون فيها طعام الآلهة. ويؤكد رواة القصة أنها كلها رموز واستعارات، وأن سيكي تمثل النفس البشرية، التي تدخل الجنة بعد أن يطهرها العذاب؛ لكن رفائيل وتشيجي لم يريا في هذه القصة أية رموز دينية، وإنما هي فرصة أتيحت لهما ليتأملا كمال الأجسام البشرية في الذكور والإناث على السواء. لكننا نرى مع ذلك نزعة رفائيل الشهوانية رقةً وظرفاً يفلان سلاح المتزمتين؛ ويبدو أن ليو المتسامح الدمث المرح لم يجد في هذه الرسوم ما يأخذه على الرجلين. وليس رفائيل في هذه الصور إلاّ الأشكال والتأليف؛ أما في عدا هذا فإن جويليو رومانو(20/269)
وفرانتشيسكو بني هما اللذان صورا المناظر الملونة بعد أن خططها رفائيل، ثم أضاف إليها جيوفني دا أوديني أكاليل جذابة مغرية مثقلة بالأزهار والثمار. وهكذا نرى أن مدرسة رفائيل الفنية قد أصبحت منطقة انتقال لا يكاد يوجد أدنى شك في أن ثمارها النهائية ستكون صورة ما من وصر الجمال.
ولم تمتزج الوثنية والمسيحية امتزاجاً ممتعاً كامتزاجهما في صور رفائيل. فهذا الفتى ذو النزعة الدنيوية الذي كان يعيش كما يعيش الأمراء، ويحب كثيراً من النساء حباً عابراً مؤقتاً، والذي كان يعبث على السقف (إذا جاز هذا التعبير) بالذكور العراة والنساء العاريات، نقول إن هذا الفتى نفسه رسم في تلك السنين (1513 - 1520) عدداً من أكثر الصور جاذبية في التاريخ كله. وكان رغم شهوانيته الظاهرة المكشوفة يعود دائماً إلى العذراء موضوعه الحبيب، فقد رسم لها خمسين صورة، يساعده فيها أحياناً أحد تلاميذه كما في صورة مادنا دل أمباناتا Madonna dell' Impannata ( العذراء المؤفخرة) (1)؛ ولكنه كان في معظم الأحيان يعمل في هذا الطراز من الصور بيده هو، وفي قلبه مسحة من تقى أمبريا Umbria القديم. وفي هذه السنة التي نتحدث عنها (1515) رسم عذراء سستيني لدير سان سستو San Sisto القائم في بياتشندسا (2)، وهي في الواقع مجموعة من الأشكال في شكل هرم كامل يحتوي على صورة الشهيد القديس سكستس الطاعن في السن، والقديسة بربارا المتحاشمة المفرطة قليلاً في الجمال وفي
_________
(1) التأفخر من الأفخارستيه وهو المذهب القائل إن المسيح يتجسد في العشاء الرباني من غير أن يصيبه تغير في الجوهر. (المترجم)
(2) وقد اشتريت هذه الصورة في عام 1753 لفردريك أغسطس الثاني ملك سكسونيا بمبلغ 60. 000 ثالر Thaler ( أي نحو 450. 000؟ دولار)، وظلت مائتي عام تقريباً أشهر كنوز معرض درسدن Dresden. وقد اغتصب الروس المنتصرون من ألمانيا هذه الصورة مع صورة "الليلة المقدسة" لكريجيو، وصورة فينوس لجيورجيوني ونحو 920. 000 تحفة فنية أخرى بعد الحرب العالمية الثانية (85).(20/270)
فخامة الملبس؛ وثوب العذراء الأخضر اللون فوق مسة من الاحمرار، تهفهفه ريح السماء، وصورة المسيح الطفل الذي يبدو إنساناً يحق في سذاجته وشعره الأشعث؛ ووجه العذراء الوردي الساذج تعلوه مسحة من الحزن والدهشة (كأن لافرنرينا التي ربما كانت نموذج هذه الصورة قد أدركت أنها غير أهل لهذا الوضع)، والسجف التي يزيحها المكان وراء العذراء لتيسر بينهما إلى الجنة: هذه هي أحب الصور إلى العالم المسيحي كله، وأحب ما رسمته يد رفائيل إلى العالم أجمع. ولا تكاد تقل عن هذه ظرفاً ورقةً رغم التزامها الشكل التقليدي صورة الأسرة المقدسة تحت شجرة البلوط (المحفوظة في برادو Prado) ، وهي التي تسمى أيضاً لابيرلا La Perla ( عذراء اللؤلؤة). وفي صورة عذراء سيديا أو سجيولا Seggiola ( الموجودة في بتي) نرى النزعة الدينية أقل منها في الصورة السابقة والنزعة البشرية أكثر ظهوراً. فالعذراء أم إيطالية صغيرة السن مرحة ذات عواطف هادئة تضم طفلها السمين ويبدو على محياها الحب الممتزج بغريزة المِلكية والرعاية، وهو يلتصق في وجل بجسمها، كأنه قد سمع بإحدى الأساطير التي تروي قصة قتل الأطفال البريئين، إن صورة للعذراء تغفر له كثيراً من صور فرنارين.
والصور التي رسمها رفائيل للمسيح قليلة إذا قورنت بغيرها من الصور. ذلك أن روحه المرحة كانت تأبى أن تفكر في تصوير العذاب والألم، أو لعله كان يدرك كما يدرك ليوناردو استحالة تصوير الموضوعات الإلهية. وكان من هذه الصور القليلة صورة المسيح يحمل الصليب التي رسمها في عام 1517 لدير سانتا ماريا دلو إسبازيو Maria dello Spasino في مدينة بالرم، والتي سميت من أجل ذلك لو اسبازيمو دي تشيتشيليا La Spasimo di Cicilia وأكبر الظن أن بتي كان يساعده في رسمها. ويقول فاساري إنه كان لهذه(20/271)
الصورة تاريخ مليء بالمغامرات: فقد هبت عاصفة على السفينة التي كانت تحملها إلى صقلية فحطمتها؛ وطفت الصورة الموضوعة في قفص على سطح الماء ووصلت سالمة إلى جنوي، لأن "الرياح والأمواج الثائرة نفسها قد أكبرت وأجلت هذه الصورة الرائعة". كما يقول فاساري. ونقلت الصورة سفينة أخرى وأقيمت في بالرم حيث "أضحت أوسع شهرة من جبال فلكان" (86). وفي القرن السابع عشر أمر بها فليب الرابع ملك أسبانيا فنقلت سراً إلى مدريد. وليس المسيح في هذه الصورة إلاّ رجلاً مغلوباً منهوك القوى لا يلوح عليه أنه يحمل رسالة ارتضاها وقام بأدائها. لكن رفائيل وفق أكثر من هذا في الإيحاء بالألوهية في صورة أخرى هي صورة رؤيا حزقيال وإن كان يستعير آلهة الأجل في هذه الصورة من صورة خلق آدم لميكل أنجيلو.
ومن الصور التي رسمت في هذه الفترة أيضاً صورة القديسة تشيتشيليا التي لا تكاد تقل شهرة عن صورة عذراء سستيني. وكان سبب رسمها أن سيدة من بولونيا أعلنت في خريف عام 1513 أنها سمعت أصواتاً سماوية تأمرها بأن تقيم معبداً للقديسة تشيتشليا في كنيسة سان جيوفني دل منتي San Giovanni del Monte. وتعهد أحد أقاربها بأن يبني المعبد، وطلب إلى عمه الكردنال لورندسو بتشي Lorenzo Pucci أن يطلب إلى رفائيل صورة قياسية للمذبح نظير ألف اسكودي Scudi ذهبي. وأناب رفائيل عنه جيوفني دا أوديني في رسم الآلات الموسيقية، وأتم هو الصورة في عام 1516 وأرسلها إلى بولونيا مع رسالة رقيقة إلى فرانتشيا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ولا حاجة بنا إلى أن نعتقد أن فرانتشيا قد ذهل بجمال هذه الصورة ذهولاً أحس معه بما فيها من روعة، وشعر بأن ما ينبعث من نغمات من آلاتها الموسيقية يكاد يكون نغمات سماوية، وأدرك جمال صورة القديس(20/272)
بولس في "حلم اليقظة"، والقديس يوحنا في نشوة لا تكاد تقل عن نشوة البنات، وتشيتشليا الجميلة، ومجدلين الأجمل منها - والتي خلع عليها هنا طهراً ساحراً- والأضواء الحية والظلال الملقاة على الأثواب وعلى قدمي مجدلين.
وفي هذه الفترة أيضاً رسمت صورة أخرى رائعة منها صورة بلدساري كستجليوني (متحف اللوفر) وهي إحدى الصور التي عمل فيها رفائيل بذمة وضمير حي، وهي قوة الإغراء، ولا تزيد عليها في قيمتها من صور رفائيل إلاّ صورة يوليوس الثاني. وفيها تقع عين الإنسان أولاً على غطاء الرأس الزًّغبي، ثم يستلفته بعدئذ ثوب الفراء، واللحية الكثة، فيخيل إليه أن الجرل أحد شعراء المسلمين أو فلاسفتهم، أو حاخام إسرائيل صوّره رمبرانت Rembrandt؛ ويشاهد بعد ذلك العينين الرقيقتين، والفم، واليدين المقبوضتين، وكلها تكشف عن وزير إزبلا الثاكل ذي العقل الرحيم، والعاطفة الجائشة، وقد انتقل إلى بلاط ليو. وخليق بالإنسان أن يطيل التأمل في هذه الصورة قبل أن يقرأ كتاب "حامل الرسائل The Courier". وتظهر صورة ببينا Bibbiena الكردنال في آخر سني حياته وقد ملّ رؤية صور فينوس وارتضى المسيحية.
ولسنا نستطيع الجزم بأن صورة لادنا فيلاتا La donna Velata من صنع رفائيل، ولكنا نكاد نجزم بأنها هي التي يقول فاساري إنها صورة عشيقة رفائيل؛ فملامحها هي الملامح التي استعان بها على رسم صورة مجدلين وصورة تشيتشيليا نفسها في صورة القديسة تشيتشيليا التي سبق الكلام عليها، ولعلها أيضاً الملامح التي نشاهدها في عذراء سستيني - وهي هنا سمراء متحاشمة، يتدلى من رأسها قناع طويل، وحول جيدها عقد من الجواهر،(20/273)
وتلتف على جسمها أثواب فضفاضة تستهوي العين. وأكبر الظن أن صورة لافرنرينا La Fornarina المحفوظة في المعرض البرغيزي Borghese هي أيضاً من صنع رفائيل، ولكنها لا تمثل عشيقته في وضوح كما كان يظن الخبراء الأقدمون. ومعنى كلمة فرترينا الخبازة أو زوجة الخباز أو ابنته، ولكن هذا الاسم وأمثاله كحداد أو نجار لا يعني حتماً أن صاحبه ينتسب إلى هذه المهنة. وليست هذه السيدة فانتة ساحرة إلى حد كبير، ذلك أن المرء لا يجد فيها النظرة المتواضعة التي تجعل من هذه الإيحاءات غير المتواضعة أكثر فتنةً وسحراً (1). ويبدو أن من غير المعقول أن تكون صورة السيدة ذات القناع المتواضعة هي صورة لنفس هذه السيدة التي توزع المتع السريعة في جرأة على طالبها؛ ولكنا لسنا بحاجة إلى البحث في هذا فقد كان لرفائيل أكثر من عشيقة.
بيد أنه كان أكثر وفاءاً لعشيقته مما ينتظره الإنسان من الفنانين الذين يتأثرون بالجمال أكثر مما يتأثرون بالعقل. وشاهد ذلك أنه لما حثه الكردنال ببينا على أن يتزوج ماريا ببينا ابنة أخيه لم يقبل رفائيل إلحاحه إلاّ وهو كاره (1514) مع أنه كان مديناً للكردنال بأعمال درت عليه المال الكثير، ثم أخذ يتملص من إتمام الزواج شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، وتقول الرواية المأثورة إن ماريا أثر فيها هذا الإرجاء فماتت حزينة كسيرة القلب (87). ويشير فاساري إلى أن رفائيل كان يرجئ هذا الزواج أملاً منه بأنه سيصبح كردنالاً؛ والزوج عقبة كبرى في سبيل هذا المنصب السامي؛ أما العشيقة فإنها من العقبات التي يمكن التغلب عليها. ويبدو أن الفنان كان يجعل عشقته قريبة منه يسهل عليه الوصول إليها حينما كان يقوم بعمله. ولمّا أن وجد تشيجي أن المسافة بين قصره الريفي الذي كان رفائيل يصور فيه تاريخ سيكي
_________
(1) وفي معرض أفيزي خبازة أخرى أجمل من هذه من صنع بستيانو دل بيمبو.(20/274)
ومسكن عشقته تضيع على الفنان كثيراً من وقته، جاء المصرفي بالسيدة وأسكنها في شقة من هذا القصر؛ ويقول فاساري إن "ذلك هو السبب في إتمام العمل" (88). ولسنا نعرف هل هذه هي السيدة التي انغمس معها رفائيل في "الدعارة الطليقة غير المألوفة" هي التي يعزو إليها فاساري سبب موته (89).
وكانت آخر صورة له إحدى تفسيراته السامية لقصة الإنجيل. ذلك أن الكردنال جويليو ده ميدشتشي كلّف رفائيل وسبستيانو دل بيمبو في عام 1517 أن ينقشوا ستار مذبح لكنيسة نربونة التي عينه فرانسيس الأول أسقفاً لها، وكان سبستيانو يحس من زمن بعيد أن موهبته الفنية لا تقل عن موهبة رفائيل إن لم تسم عليها، وإن لم يكن مثله معترفاً له بهذه الموهبة. وهاهي ذي الفرصة قد لاحت له لإثبات موهبته. واختار لموضوعه "ارتفاع المجذوم الأبرص" واستعان بميكل انجيلو في رسم الصورة الأولية. واستثارت المنافسة رفائيل فسما إلى فوزه النهائي، واختار لموضوعه رواية منى لحادث جبل تابور:
"وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه .... ولمّا جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثياً له وقائلاً يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألمن شديداً، ويقع كثيراً في النار وكثيراً في الماء، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه (90) ".
وأخذ رفائيل هذين المنظرين كليهما ووحدهما، وتعسف كثيراً في وحدة الزمان والمكان. فالمسيح يظهر فوق قلة الجبل يسبح في الهواء. وقد تبدل وجهه من فرط النشوة، وظهرت ثيابه بيضاء ناصعة لسقوط الضوء عليها من السماء. وعلى أحد جانبيه موسى وعلى الجانب الآخر إيليا،(20/275)
ومن تحتهم الرسل الأربعة المحببون يرقدون فوق هضبة. وعند سفح الجبل يظهر أب يائس يدفع إلى الأمام ابنه المسلوب العقل، وتركع الأم هي وامرأة أخرى، وكلتاهما رائعة الجمال، إلى جان بالغلام وتطلبان إلى الرسل التسعة المجتمعين إلى اليسار علاجاً للغلام. ويفزع أحد أولئك الرسل وهو منكب على كتاب يقرؤه، ويشير رسول آخر إلى المسيح الذي بدلته النشوة، ويقول إنه هو وحده الذي يستطيع أن يعالج الغلام. وقد اعتاد النقاد أن يثنوا على الجزء الأعلى من الصورة ويصفوا المجموعة السفلى منها بالخشونة والعنف؛ وهذه المجموعة هي التي رسمها جويليو رمانو؛ ولكن الحقيقة أن مقدمتها السفلى تحتوي صورتين من أجمل الصور هما صورة القارئ الفزع، والمرأة الرائعة ذات الكتف العارية والأكواب المتلألئة الساطعة.
وبدأ رفائيل العمل في صورة تجلّي المسيح عام 1517 ولكنه توفي قبل الفراغ منها. ولسنا نعرف ما في قصة فاساري من الصدق لأنه كتبها بعد ثلاثين عاماً من وقوع الحادث. وإلى القارئ هذه القصة:
"لقد أطلق رفائيل العنان لملذاته الخفية إلى أقصى حد؛ وحدث بعد ليلة حمراء صاخبة أنه عاد إلى بيته وقد انتابته حمى شديدة، واعتقد الأطباء أن قد أصابه برد شديد. ولم يعرف هو بسبب اضطرابه، فحجمه الأطباء خطأ منهم وقلة دراية، وبذلك اضعفوا حسمه وهو في أشد الحاجة إلى ما يعيد إليه قوته، فما كان منه إلاّ أن كتب وصيته، بعد أن أخرج عشيقته من بيته، كما يفعل المسيحي الصادق، وترك لها من المال ما تستطيع به أن تعيش عيشة شريفة، ثم قسم ما عنده بين تلاميذه جويليو رومانو الذي كان يؤثره بحبه على الدوام، وجيوفني فرانتشيسكو بني من أهل فلورنس، وقس من أربينو، وأحد أقاربه .... وبعد أن اعترف وتاب وأناب(20/276)
اختتم حياته في مثل اليوم الذي ولد فيه يوم الجمعة الحزينة، ولمّا يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره (6 أبريل سنة 1520) (91) ".
ورفض القس الذي جاء ليتلقى اعترافه أن يدخل حجرة المريض قبل أن تخرج عشيقة رفائيل من بيته؛ ولعل سبب ذلك الرفض هو شعور القس بأن استمرار وجودها في البيت قد يوحي بأن رفائيل تعوزه الندامة التي لا بد منها قبل أن تغفر له ذنوبه. ولهاذ منعت حتى من الاشتراك في تشييع الجنازة، فانتابها الحزن والكمد حتى كادت تصاب بالجنون لولا أن أقنعها الكردنال ببينا بأن تترهب. وسار على جميع الفنانين في روما في جنازة الشاب الراحل حتى ووري الثرى، وحزن ليو على فقدان مصوره المحبوب؛ وأخرج أمين سر البابا وشاعره، وهوبمبو Bembo الذي تنقصه البلاغة الممتازة في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخرج بمبو هذا كل ما أوتي من فصاحة وكتب قبرية لرفائيل في البنثيرون لم يزد فيها على أن قال:
llle Hec est Raphael
" إن الذي هنا هو رفائيل"
وكفاه هذا. وبعد فقد كان رفائيل بإجماع معاصريه أعظم المصورين في عصره. نعم إنه لم يخرج شيئاً يضارع في سموه سقف سستيني، ولكن ميكل أنجيلو لم يخرج قط شيئاً يضارع في جماله الكلي صور العذراء الخمسين التي أخرجها رفائيل. ولقد كان ميكل أنجيلو أعظم الفنانين لأنه كان عظيماً في ميادين ثلاثة، وكان أعمق من سائر الفنانين في تفكيره وفي فنه. ولمّا أن قال عن رفائيل: "إنه مثل لما تستطيع الدراسة العميقة أن تثمره" (92) كان يعني في أكبر الظن أن رفائيل قد نال بفضل المحاكاة كل الصفات الممتازة التي يتصف بها كثيرون من المصورين، وإنه صاغها بفضل ما وهب من الجد والمثابرة حتى أصبحت طرازاً بلغ ذروة الكمال. على أن ميكل أنجيلو لم يشعر أن رفائيل قد أوتي تلك القوة العاصفة المبدعة(20/277)
التي تطرح المحاكاة وتشق لنفسها طريقاً خاصاً بها، تجتازه بقوة تكاد تصل إلى حد العنف، وتصلبه إلى ما تريد. ويبدو أن رفائيل قد بلغ من السعادة حداً يمنعه أ، يكون عبقرياً بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ؛ وهو المعنى الذي يجعل العبقرية تشرف على الجنون. ولقد تخلص رفائيل من صراعه الداخلي حتى لم تعد تظهر عليه إلاّ قلة من أعراض الروح أو القوة الشيطانية التي تحرك أعظم النفوس، فتدفعها إلى الإبداع والمآسي؛ ولهذا كان عمل رفائيل ثمرة الحذق الكامل المصقول لا الشعور العميق أو العقيدة. وقد كّيف نفسه لحاجات يوليوس وأهوائه في أول الأمر، ثم لحاجات ليو وأهوائه من بعده، ومن بعدهما لتشيجي، ولأنه ظل على الدوام الشب الذي لا يعرف الختل والخداع، والذي يتقلب وهو مغتبط بين صور العذارى والعشيقات؛ وكانت هذه هي وسيلته المرحة للتوفيق بين الوثنية والمسيحية.
وإذا فهمنا من لفظ الفنان معناه التطبيقي الآلي كان رفائيل أبرع الفنانين لا يعلو عليه واحد منهم. ذلك أن أحداً لم يضارعه قط في ترتيب عناصر الصورة، ولا في انسجام أجزائها، أو الانسياب الهادئ لخطوطها. وكانت حياته كلها مكرسة لإتقان الشكل، ولهذا كان ينزع إلى البقاء على ظاهر الأشياء، فنحن لا نراه يسبر غور ما في الحياة أو العقيدة من أسرار خفية أو متناقضات. وكان دهاء ليو، وإحساس ميكل أنجيلو بمآسي الحياة عديمي المعنى بالنسبة له، وكان حسبه بهجة الحياة ومتعتها، وخلق الجمال وتملكه، ووفاء الصديق والحبيب. وكان رسكن Ruskin صادقاً حين قال إنه كانت تظهر من حين إلى حين في النحت القوطي، وفي التصوير بإيطاليا وفلاندرز "قبل عصر رفائيل" بساطة، وإخلاص وسمو في الإيمان والأمل، يتعمقان النفس أكثر مما تتعمقها صور العذراء وفينوس الجميلة التي أبدعها رفائيل. ومع هذا فإن صورتي يوليوس الثاني وعذراء(20/278)
اللؤلؤة لا يمكن وصفهما بأنهما من الصور السطحية غير ذات العمق الكبير. ذلك أنهما تصلان إلى لب مطامع الذكور وحنان الأثاث، فصورة يوليوس أعظم وأعمق من صورة موناليزا.
وليوناردو يبعث في نفوسنا الحيرة، وميكل أنجيلو يبعث فيها الخوف، أما رفائيل فيبسط علينا السلام، وهو لا يلقى أسئلة، ولا يثير شكوكاً، ولا يستثير مخاوف، بل يعرض علينا جمال الحياة كأنه شراب الآلهة. وهو لا يقر بوجود صراع بين العقل والشعور، أو بين الجسم والروح؛ بل كل شيء فيه توافق وتناسق بين الأضداد، تتألف منه موسيقى فيثاغورية. وفنه يسمو بكل ما يمسه فيجعل منه مثلاً أعلى، أو حتى حرباً؛ وإذ كان هو سعيداً محظوظاً فقد كان يشع على كل ما حوله كل ما أوتي من نعمة وصفاء نفس. ومكانه في سلم العبقريات التعسفي بل أعظم عظماء العباقرة مباشرة، ولكنه في زمرتهم: دانتي، وجيته، وكيتس؛ وبيتهوفن، وباخ، وموزار؛ وميكل أنجيلو، وليوناردو، ورفائيل.(20/279)
الفصل العاشر
ليو السياسي
وكان من دواعي الأسف أن ليو اضطر وهو بين كل هذا الفن والأدب أن يخوض بحر السياسة الخضم. ولكن عذره في هذا أنه رئيس دولة، وأنه يعيش، وأنه الدول التي وراء الألب كان على رأسها جميعاً زعماء ذوو مطامع، ولها جيوش جرارة، وقواد أشداء؛ ولم يكن يستبعد أن يتفق لويس الثاني عشر ملك فرنسا، وفرديناند الكاثوليكي، في أي وقت من الأوقات على اقتسام إيطاليا كما اتفقا من قبل على اقتسام مملكة نابلي. وأراد ليو أن يواجه هذا التهديد، وأن يقوى في الوقت ذاته البابوية ويعلّي شأن أسرته، فعمل على أن يضم فلورنس (التي كان يحكمها وقتئذ على يد جوليانو أخيه ولورندسو ابن أخيه) وميلان، وبياتشندسا، وبارما، ومودينا، وفيرارا، وأربينو في اتحاد قوي جديد يحكمه أفراد من آل ميدشيتشي الموالين له؛ وأن يجمع هذه الولايات وبين ولايات الكنيسة الموجودةوقتئذ، لتكون حاجزاً يصد المغيرين من الشمال، وأن يحصل بزواج أحد أعضاء أسرته إن استطاع على عرش نابلي بعد خلوه من شاغله؛ فإذا تم له بهذه الطريقة توحيد إيطاليا وتقويتها، أمكنه أ، يقود لأوربا في حرب صليبية أخرى ضد الأتراك الذين لا يفتئون يهددونها بالغزو. ورحّب مكيفلي، وهو الرجل الذي لم يكن يميل إلى المسيحية ولا إلى البابوات، بهذه الخطة، أو أنه في القليل رحب بما يتصل منها بتوحيد إيطاليا وحمايتها، وكانت هذه هي الفكرة الأساسية في كتاب الأمير.
وسعى ليو لتحقيق هذه الأغراض بما كان تحت تصرفه من الموارد(20/280)
العسكرية المحدودة، فلجأ إلى جميع الأساليب السياسية والدبلوماسية التي كان يلجأ إليها أمراء زمانه. نعم إنه لم يكن من اليسير على رئيس الكنيسة أن يكذب، ويحنث بالوعد، ويسرق ويقتل؛ ولكن الملوك كلهم كانوا مجمعين على أن هذه الأساليب لا غنى عنها لحفظ كيان الدولة؛ واندفع ليو، وهو الميديتشي أولاً والبابا بعدئذ، في هذ الخطة بالقدر الذي تسمح له به بدانته، وناسوره، وصيده، وسخاؤه وأمواله. وندد به كل الملوك لأنه لم يسلك مسلك القديسين، وقال في ذلك جوتشيارديني: "إن ليو قد خيب الآمال المعقودة عليه وقت تتويجه، فقد بدا أنه ذو بصيرة نفاذة، ولكنه أقل صلاحاً مما كان يتصوره جميع الناس (93). وظل أعداؤه وقتاً طويلاً يظنون أن دهاءه المكيفلي إنما يرجع إلى نفوذ جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد كلمنت السابع) أو إلى الكردنال ببينا، لكن تطور الحوادث فيما بعد أوضح أنهم لا بد لهم أن يحسبوا حساب ليو نفسه، وأن ليو هذا ليس أسداً بل ثعلباً، وأنه لين زلق، ماكر لا يسبر غوره، نهاز زائغ، يخاف في بعض الأحيان ويتردد في أغلبها؛ ولكنه إذا جد الجد قادر على اتخاذ القرار الحاسم، ماض في عزيمته، عنيد في خططه السياسية.
وسنرجئ الحديث عن علاقاته بالدول الواقعة شمال جبال الألب إلى فصل آخر من هذا الكتاب، ونقصر بحثنا هنا على الشئون الإيطالية، فنتحدث عنها بإيجاز لأن فنون عهد ليو أبقى على الزمن من سياسته. لقد كان يمتاز كثيراً عن أسلافه، لأن فلورنس التي قاومت من قبل الإسكندر ويوليوس كانت وقتئذ جزءاً من دولته، ولأنه أفاء على أهلها كثيراً من نعمه. ولمّا أن زار المدينة التي حكمها أسلافه أقامت له أكثر من عشر أقواس فنية ترحيباً به. ومن هذه القاعدة ومن روما نفسها استخدم رجاله الدبلوماسيين ومن يدينون له بالفضل، كما استخدم جنوده، في توسيع رقعة دولته؛ فاستولى أولاً على مودينا في عام 1514، ولمّا أن تأهب فرانسس الأول(20/281)
في عام 1515 لغزو إيطاليا والاستيلاء على ميلان، حشد ليو لمقاومته جيشاً وعقد حلفاً إيطالياً، وأمر دوق أربينو، بوصفه تابعاً للكرسي البابوي وقائداً في خدمة الكنيسة، أن ينضم إليه في بولونيا على رأس أكبر قوة يستطيع حشدها. ولكن الدوق رفض المجيء رفضاً صريحاً، وإن كان ليو قد حباه من وقت قصير بما يلزمه من المال لأداء رواتب جنوده. وظن البابا، وله بعض الحق في أن يظن، أنه قد تفاهم في السر مع فرنسا (94)؛ فلم يكد يتخلص من مشاكله الخارجية، حتى استدعى فرانتشيسكو إلى روما؛ فلم يسع الدوق إلاّ أن يفر إلى مانتوا. فحرمه ليو من حظيرة الدين وأصم أذنيه عن سماع تضرع إلزبتا جندساجا وإزبلا دستا وتوسلاتهما، وكانت أولاهما عمة الأمير الطائش وثانيتهما أم زوجته. واستولت جنود البابا على أربينو دون أن تلقى مقاومة، وأعلن خلع فرانتشيسكو، كما نودي بلورندسو ابن أخي ليو دوقاً على أربينو (1516). لكن أهل المدينة ثاروا بعد عام من ذلك الوقت وطردوا لورندسو، وحشد فرانتشيسكو جيشاً استعاد به دوقيته؛ ولاقى ليو أشد الصعاب في جمع المال والجنود لاستعادتها لنفسه؛ ونجح في لذك بعد حرب دامت ثمانية أشهر، ولكن نفقات الحرب أفقرت خزانة البابوية، واحفظت قلوب الإيطاليات على ليو وأسرته الطامعة المغتصبة.
وانتهز فرانسس الأول هذه الفرصة لكسب صداقة البابا، وعرض أن يتزوج لورندسو دوق أربينو الذي عاد إلى عرشه نم مادلين ده لافور دوفرني Madeleine de La Four d'Auvergne الت كان له دخل كبير لا يقل عن عشرة آلاف كرون (125. 000؟ دولار) في العام. ووافق ليو على هذا العرض، وسافر لورندسو إلى فرنسا (1518)، كأنه صدى صوت بورجيا، وعاد بمدلين وبائنتها. وماتت مادلين بعد عام من ذلك الوقت أثناء وضعها بنتاً هي كترينا Caterina التي صارت فيما بعد كترين(20/282)
ده ميدشتشي ملكة فرنسا؛ ثم مات لورندسو بعد ذلك بقليل، ويقال إن سبب موته مرض سري أصيب به وهو في فرنسا (95). وحينئذ أعلن ليو أن أربينو ولاية بابوية وأرسل مندوباً من قبله ليحكمها.
وكان لابد له أثناء هذه الارتباكات أن يعاني الأمرين من مسألتين تقضان مضجعه وتشهدان بضعفه السياسي وكره الشعب إياه كرهاً مطرد النماء. أما أولاهما فهي أ، قائداً من قواده هو جيان باولو بجليوني حاكم بروجيا برضاء البابا كان قد انضم هو وبروجيا نفسها إلى فرانتشيسكو ماريا؛ فما كان من ليو إلاّ أن خدع جيان بالو فأغراه بالمجيء إلى روما بعد أ، أمنه على نفسه في المجيء والعودة، فلمّا جاء أمر به فقتل (1520). وكان بجليوني هذا قد اشترك في مؤامرة تهدف إلى اغتيال البابا يتزعمها ألفنسو بتروتشي وغيره من الكرادلة (1517). وكان أولئك الكرادلة قد أثقلوا على كرمه بمطالب لا يستطيع مع سخائه العظيم أن يجيبهم إليها؛ كما أ، بروتشي كان فوق ذلك غاضباً مغتاظاً لأن أخاه أبعد عن حكم سينا، ولأن البابا قد غض النظر عن هذا العمل فلم يتدخل لمصلحته. ولهذا فكر أولاً في قتل ليو بيده، ولكنه أشير عليه بدلاً من هذا أن يرشو طبيب ليو ليدس السم للبابا وهو يعالجه من ناسوره. وكشفت المؤامرة، وقتل الطبيب وبتروتشي، وسجن عدد من الكرادلة الذين اشتركوا فيها، وعزلوا من مناصبهم، ثم أطلق سراح بعضهم بعد أن أدوا غرامات باهظة.
وكانت حاجة ليو إلى إيطاليا تنغص عليه وقتئذ حكمه الذي كان من قبل موفقاً سعيداً. ذلك أن عطاياه للأقارب والأصدقاء، والفنانين، والكتاب، والموسيقيين، ونفقات بلاطه الذي لم يكن له من قبل مثيل، ومطالب كنيسة القديس بطرس الجديدة التي لا حد لها، ونفقات حب أربينو والاستعداد إلى حرب صليبية، كل هذا كان يقود خزينة البابا إلى هاوية الإفلاس. ولم يكن إيراده العادي البالغ 420. 000 دوقة (2. 250. 000؟(20/283)
دولار) في العام والذي يستمده من الأجور، والمرتب الأول لموظفي الكنيسة، والعشور، لم يكن هذا الإيراد العادي يكفي هذه النفقات. على أن هذا الإيراد نفسه كان يصعب دائماً تحصيله من أوربا التي لم تكن راضية عن انسياب هذه الأموال الكنسية إلى روما. وأراد ليو أن يملأ خزانته بالمال فأنشأ في عام 1353 مناصب جديدة يبيعها لطالبيها وبلغ مجموع المال الذي جمع ممن عينوا في هذه المناصب 889. 000 دوقة (11. 112. 500؟ دولار). على أننا يجب ألاّ نغالي في استنكار هذا العمل؛ ذلك أن معظم هذه المناصب لا يؤدي من يشغلها عملاً، وإن تطلبت شيئاً قليلاً منه فقد كان من المستطاع أن يعهد به إلى من ينوبون عن أصحابها؛ وكانت الأموال التي يقدمها شاغلوها في واقع الأمر قروضاً للبابوية، وكان متوسط راتبها البالغ عشرة في المائة كل عام من المال الأصلي المدفوع عنها بمثابة فائدة لهذه القروض. فكان ليو في الحقيقة يبيع ما نسميه في أيامنا هذه سندات حكومية (96)، وكان من حقه بلا ريب أن يقول إنه يؤدي عنها فوائد أكثر مما تؤديه أية حكومة 'ن أوراقها المالية في هذه الأيام. على أنه لم يبع هذه المناصب الاسمية وحدها، بل باع أيضاً أعلى المناصب الكنسية كوظيفة رئيس التشريفات البابوية (97). وفي شهر يولية من عام 1517 رشح واحداً وثلاثين كردنالاً جديداً، كثيرون منهم ذوو كفايات عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم قد اختير أفرادها لقدرتهم على أداء ثمن ما يستمتعون به فيها من الجاه والسلطان. ولنضرب لذلك مثلاً الكردنال بندستي - الطبيب، والعالم، والمؤلف - الذي أدى ثمناً لمنصبه 30. 000 دوقة. وبلغ مجموع دخل ليو في هذه المرة بجرّة قلم نصف مليون دوقة (98). وروعت لذل ك إيطاليا نفسها وهي التي فسدت عقليتها في هذه الناحية فلم تعد تفرق بين ما هو خير منها وما هو شر؛ وكانت قصة هذا العمل بعد أن وصلت إلى ألمانيا مما زاد من حدة غضب لوثر وثورته. (أكتوبر 1517). وكان(20/284)
من جراء هذا أنه لما فتح السلطان سليم بلاد مصر في تلك السنة الحاسمة في التاريخ وضمها إلى أملاك الأتراك العثمانيين، ونادى البابا بحرب صليبية، لم يلب أحد نداءه. ودفع البابا تهوره الأعمى إلى أن يبعث بعماله في جميع أنحاء اللابد المسيحية يعرضون صكوك غفران واسعة المدى إلى درجة غير عادية على من يتوبون، ويعترفون، ويتبرعون بنفقات الحرب الصليبية.
وكان في بعض الأحيان يقترض المال من مصارف روما بفائدة تبلغ أربعين في المائة. وكان أصحاب هذه المصارف يتقاضون منه هذا السعر المرتفع لأن إهماله في إدارة الشئون المالية البابوية لابد أن يؤدي في رأيهم إلى الإفلاس. ورهن البابا ضماناً لبعض هذه القروض صحافه الفضية، وطنافس جردان قصره، وجواهر. وقلّما كان يفكر في مراعاة الاقتصاد في الإنفاق، فإذا ما اقتصد كان ذلك بالشح على مجمعه العلمي اليوناني، وجامعة روما، فلم يكد يحل عام 1517 حتى أغلق المجمع لحاجته إلى المال. ومع هذا فقد واصل البابا خيراته بلا حساب، فكان يرسل الأموال الطائلة إلى الأديرة، والمستشفيات، والمعاهد الخيرية في جميع أنحاء العالم المسيحي، ويغدق المال وألقاب الشرف على آل ميديتشي، ويولم الولائم الفخمة إلى أضيافه يقدم لهم فيها الأطعمة الشهية النادرة على حين أنه هو نفسه كان يراعي جانب الاعتدال في طعامه وشرابه (99). وقد بلغ مجموع ما أنفقه خلال جلوسه على كرسي البابوية 4. 500. 000 دوقة (56. 250. 000؟ دولار)، ومات وعليه فوق ذلك دين يبلغ 400. 000 دوقة. وقد هجاه أهل روما بقصيدة تفصح عن رأيهم فيه فقالوا: "لقد التهم ليو ثلاث بابويات: أموال يوليوس الثاني، وإيراد ليو، ودخل من خلفه من البابوات (100) ". ولما مات عانت روما أزمة من شر ما حدث في التاريخ كله من أزمات.
وكانت آخر سنة في حياته سنة اشتعلت فيها نار الحرب. ذلك أنه قد بدا(20/285)
له، بعد أن استرد أربينو وبروجيا، أن لابد له من السيطرة على فيرارا ونهر البو لضمان سلامة الولايات البابوية، وتمكينها من صد فرنسا عند ميلان. وكان الدوق ألفنسو قد خلق هو نفسه سبب الحرب بإرساله الجنود والسلاح إلى فرانتشيسكو ماريا ليستخدمها ضد البابا، وحارب ألفنسو بشجاعته المألوفة مع أنه كان مريضاً منهوك القوى بعد أن ظل جيلاً كاملاً يناصب البابا العداء حتى أنجاه موت ليو من سوء المصير.
وانتاب المرض البابا أيضاً في أغسطس عام 1521؛ وكان بعض سببه الآلام الناشئة من ناسوره، وبعضه الآخر متاعب الحرب وما تسببه من قلق واضطراب بال. وشفي من مرضه، ولكنه عاوده في شهر أكتوبر من ذلك العام نفسه. واسترد صحته في نوفمبر بالقدر الذي أمكن معه نقله إلى قصره الريفي في مجليانا؛ وفيه ترامت إليه الأنباء أن الجيش البابوي - الإمبراطوري قد استولى على ميلان من الفرنسيين. وعاد في الخامس والعشرين من ذلك الشهر إلى روما واستقبل فيها ذلك الاستقبال الرائع الصاخب الذي لا يستقبل به إلاّ الغزاة الفاتحون. وأجهد نفسه في السير على قدميه في ذلك اليوم، وتصبب عرقه حتى ابتلت منه ملابسه، فلمّا كان صباح اليوم التالي لزم الفراش مصاباً بالحمى، وسرعان ما زادت حالته سوءاً وأدرك أن منيته قد اقتربت. وفي أول يوم من ديسمبر جائته الأنباء بأن الجيوش البابوية استولت على بياتشندسا وبارما فعلا وجهه البشر؛ وكان قد أعلن في يوم من الأيام أنه يسره أن يضحي بحياته ثمناً لضم هذين المدينتين إلى ولايات الكنيسة. ومات في منتصف ليلة 1 - 2 من ديسمبر سنة 1521 قبل أن يتم السنة الخامسة والأربعين من العمر بعشرة أيام. ونقل كثيرون من الخدم، وبعض أفراد آل ميدتشي من الفاتيكان كل ما يستطيعون الاستيلاء عليه من الكنوز. وظن جيوتشيارديني، وجيوفيو، وكستجليوني أنه مات مسموماً؛ وأن ذلك ربما كان بتحريض ألفنسو أو فرانتشيسكو ماريا،(20/286)
ولكن يلوح أنه مات بحمى الملاريا كما مات بها الإسكندر السادس (101).
وابتهج ألفنسو حين بلغه النبأ، وضرب مدلاة جديدة كتب عليها "من أنياب الأسد". وعاد فرانتشيسكو ماريا إلى أربينو وجلس مرة أخرى على عرشه. واستولى رجال المال على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وكان مصرف بيتي قد أقرض ليو 200. 000 دوقة، ومصرف جدي Gaddi قد أقرضه 32. 000، ومصرف ريكاسولي Ricasoli 10. 000؛ وفوق هذا فإن الكردنال بتشي أقرضه 150. 000 والكردنال سلفياتي 80. 000 (102) وكان من حق البابوات أن يستولوا قبل غيرهم على كل ما أنقذ من أملاك البابا؛ ولكن ليو مات وهو شر من المفلس. واشترك غير هؤلاء في التشنيع على البابا واتهامه بسوء الإدارة المالية، ولكن روما كلها تقريباً حزنت عليه، وكانت تعده أكرم من رأته من المحسنين في تاريخها كله. وأدرك الفنانون، والشعراء، والعلماء، أن يوم سعدهم قد مضى، وإن لم يكونوا قد فكروا بعد في مدى خسارتهم، وفي ذلك يقول باولو جيوفيو: "إن المعارف، والفن، ورفاهية الشعب بأكمله، ومباهج الحياة، - وملاك القول إن كل ما هو خير - قد ووري التراب مع ليو" (103).
وبعد فقد كان ليو رجلاً صالحاً قضت عليه فضائله. وقد أثنى إزرمس على رحمته وإنسانيته، وشهامته، وعلمه الغزير، ومناصرته الفنون، ووصف عهد ليو بأنه عهد الذهب (104). ولكن ليو كان قد اعتاد التصرف في الذهب حتى فقد عنده قيمته. فقد نشأ في القصور، فتعلم الترف كما تعلم الفن، ولم يشتغل قط ليكس بالمال، وإن كان قد واجه الأخطار بجنان ثابت، ولمّا وضعت موارد البابوية تحت إشرافه انزلقت من بين أصابعه لقلة عنايته بشأنها، بينما كان ينعم بالسعادة التي ينعم بها من يتلقاها أو يعد العدة لحرب لا تبقي ولا تذر. وسار ليو على الخطة التي سلكها الإسكندر ويوليوس، وورث ما قاما به من جلائل الأعمال؛ ورفع الولايات البابوية(20/287)
إلى درجة من القوة لم تشهدها من قبل، ولكنه خسر ألمانيا بتبذيره وتشدده في جمع المال. وكان في وسعه أن يشاهد جمال وعاء من أوعية الزهر، ولكنه لا يستطيع رؤية الإصلاح الديني البروتستنتي يتشكل وراء الألب، وأصم أذنه عن سماع مئات النذر التي كانت ترسل إليه، بل ظل يطلب المزيد من الذهب من أمة ثائرة عليه، فكان بذلك سبب مجد الكنيسة ونكبتها معاً.
وكان أكرم أنصار العلم والأدب، ولكنه لم يكن أكثرهم استنارة، ولم يزدهر قط أدب عظيم في أيامه رغم سخائه على الأدباء. فقد كان أريستو ومكيفلي فوق مداركه وإن كان في وسعه أن يقدر بمبو Bembo وبولتيان. ولم يكن تذوقه للفن سامياً أكيداً كما كان تذوق يوليوس له؛ ولم يكن هو الذي ندين له بكنيسة القديس بطرس أو بمدرسة أثينة. وكان مسرفاً في حبه جمال الشكل مقلاً في إدراك المعاني التي يكشف عنها الفن العظيم الذي يغشى الشكل الجميل. وقد أنهك رفائيل بكثرة العمل، وكان سبباً في انهيار صحة ليوناردو، ولم يستطع كما استطاع يوليوس، أن يجد سبيله إلى عبقرية ميكل انجيلو بعد أن يجتاز إليها مزاج هذا الفنان الحاد. وكان مفرطاً في حب النعيم إفراطاً يحول بينه وبين العظمة. ويؤسفنا أن يكون هذا هو حكمنا عليه لأنه كان خليقاً بحبنا.
وسُمي العصر الذي كان يعيش فيه باسمه، ولعله كان خليقاً بأن يسمى به؛ ذلك بأنه وإن طبع بطابع العصر ولم يطبع العصر نفسه بطابعه، كان هو الذي جاء من فلورنس إلى روما بما خلفه آل ميديتشي من الثروة وحسن الذوق، وما شاهده في بيت أبيه من مناصرة للعلم والأدب والفن خليقة بالملوك والمراء؛ وبفضل هذه الثروة والرعاية البابوية وجد الحافز القوي الذي رفع الدب والفن إلى ما بلغاه من جمال الأسلوب والشكل. وكان هو مثلاً احتذاه غيره من الرجال، فأخذوا يبحثون عن المواهب ويمدونها بالعون، ويضربون بدورهم لأوربا الشمالية مثلاً في تقدير القيم العالية ومستوى(20/288)
رفيعاً تجعله نصب عينيها. وقد عمل أكثر مما عمله غيره من البابوات لحماية بقايا الآداب الرومانية القديمة، وشجع الكتاب على محاكاتها. وقد ارتضى متع الحياة الوثنية، ولكنه بقي في مسلكه الخاص عفيفاً في عصر أطلق لشهواته العنان. وساعد بفضل تأييده للكتاب الإنسانيين في روما على غرس بذور الآداب والأشكال القديمة في فرنسا، وأصبحت روما برعايته قلب الثقافة الأوربية النابض، يهرع إليها الفنانون ليصوروا، أو يحفروا، أو يشيدوا؛ والعلماء ليدرسوا؛ والشعراء لينشدوا؛ والفكهون ليتلألأوا؛ وفي ذلك يقول إزرمس: "عليّ قبل أن أنساك يا روما أن أغرق في نهر النسيان (1) ألا ما أعظم ما فيك من حرية ثمينة، وما حوته خزائنك من كتب قيمة، وما أغزر ما في صدور علمائك من معارف، وما فيك من صلات اجتماعية نافعة! وهل يستطيع الإنسان أن يجد في غيرك من المدائن مثل ما يجده فيك من مجتمع أدبي راق، أو تعدد في المواهب مجتمعة كلها في مكان واحد؟ " (105). وأنى يستطيع الإنسان أن يجد مرة أخرى وفي مدينة واحدة وفي عقد من السنين، مثل هذا الحشد العظيم من الأعلام: كستجليوني الظريف، وبمبو المهذب، ولسكارس العالم، والراهب جيوكندو، ورفائيل؛ وآل سانسو فيتي، وسنجلي، وسبستيانو وميكل أنجيلو.
_________
(1) نهر في الجحيم في الأساطير اليونانية القديمة. (المترجم)(20/289)
الكِتابُ الخامس
الصَّدعُ(21/2)
الباب التاسع عشر
الثورة العقلية
الفصل الأوَل
الفنون الخفية
الحضارة في كل عصر من العصور وعند كل أمة من الأمم نتاج أقلية من الأهلين تستمتع بامتيازاتها وتتحمل تبعاتها. والمؤرخ العليم بما تتصف به السخافات من عناد شامل نفاذ يوطن نفسه على الاعتقاد بما سوف يكون للخرافات من مستقبل باهر مجيد؛ ذلك أنه لا يتوقع أن تنشأ دول كاملة على أكتاف خلائق ناقصة؛ ويدرك أن نسبة قليلة من الناس في أي جبل هي وحده التي تستطيع به أن تفكر تفكيره الخاص بدل تفكير أسلافها أو من يحيطون بها؛ ويتعلم هذا المؤرخ أن يبتهج إذا استطاع أن يجد في كل فترة من الفترات عددا قليلا من الرجال والنساء رفعوا أنفسهم بقوة عقولهم أو بفضل مولدهم أو ظروفهم من وهدة الخرافات، والفنون الخفية، والسذاجة العقلية إلى مستوى من الذكاء القائم على العلم وعلى المودة يدركون به ما هم فيه من جهل لاحد له.
ومصداقا لهذا كانت الحضارة في إيطاليا إبان عصر النهضة ميزة يختص به القليلون، وينشئها القليلون، ولا يستمتع بها إلا القليلون. أما الرجل(21/3)
العادي الساذج، الذي ليس أكثر من فرد في جماعة، فكان يحرث الأرض ويستخرج منها المعادن، ويجر عربات النقل أو يحمل الأثقال، ويكد ويكدح من مطلع الفجر إلى غسق الليل، حتى إذا أمسى المساء أنهكه التعب فلم يجد في نفسه قدرة على التفكير. ومن أجل هذا كان يتلقى آراءه، ودينه، وما يجيب به عن ألغاز الحياة من الهواء الذي يحيط به، أو يرثها من كوخ آبائه وأجداده؛ فكان يترك غيره يفكرون لأن غيره من الناس كانوا يرغمونه على أنه يعمل لهم؛ ولم يكن يكتفي بقبول العجائب التي تخلب لبه، وتربح نفسه، وتلهمه وتروعه، والتي يحتويه دينه التقليدي- وهي عجائب كان يتكرر انطباعه في عقله كل يوم عن طريق العدوى، والتلقين، والفن- بل كن يضيف إليها من ثنايا عقله الشياطين، والسحر والنذر، والتنبؤ بالغيب، والتنجيم، وعبادة المخلفات، وصنع المعجزات التي يتألف منها ما يمكن أن نسميه الميتافيزيقا الشعبية التي لا تجيزها الكنيسة وتستنكرها وترى فيه مشكلة تسبب لها من المتاعب أكثر مما يسببه عدم الأيمان. وبينا كان الرجل الممتاز في إيطاليا أرقى من مثيله في طبقته من أبناء ما وراء الألب في الثروة والثقافة بنصف قرن أو أكثر، كان الرجل العادي المقيم في جنوب الألب يشارك نظراءه في شمال تلك الجبال في كل ما كان سائدا في ذلك العصر من خرافات وأوهام.
وكثيرا ما كان الكتاب الإنسانيون أنفسهم يسلمون عقولهم لسخافات بيئتهم، وينثرون في الصحف التي تفيض بالفصاحة الشيشرونية روح هذه البيئة أو سخافاتها إن شئت. فها هو ذا بجيو مثلا يرتع ويمرح وسط النذر وغرائب المخلوقات كالفرسان الذين لا رؤوس لهم والذين يهاجرون من كومو إلى ألمانيا؛ أو آلهة البحار الملتحين الذين يخرجون من أعماق البحار ليختطفوا النساء الحسان من شواطئها (1). وها هو ذا مكيفلي المتشكك في الدين لا يستبعد أن يكون "الهواء مليئا بالأرواح" ويجهر باعتقاده أن الحوادث الخطيرة(21/4)
تسبقها وتدل عليها خوارق الطبيعة، والنبوءات، والوحي، والعلامات التي تظهر في السماء (2). وكان أهل فلورنس الذين يظنون أن الهواء الذي يتنفسونه يجعلهم مهرة لا يجاريهم في ذلك غيرهم من الناس، يعتقدون أن جميع الحوادث الخطيرة تقع في أيام السبت، وأن السير إلى الحرب في شوارع معينة من المدينة يجر عليهم مصائب لا يستطيعون النجاة منها (3). واضطرب عقل بولتيمان من جراء مؤامرة باتسى Pazzi اضطرابا لم يسعه معه إلا أن يعزو إليها ما أعقبها من مطر مدمر, وعفا عن الشبان الذين أردوا أن يضعوا حدا للمطر، بأن أخرجوا جثة زعيم المؤامرة، وعرضوها في شوارع المدينة، ثم ألقوها في نهر الأردن. (4). وكتب مرسيلو فنشينو بدافع عن التنبؤ بالغيب، والتخمين، ووجود الشياطين، واعتذر عن عدم زيارة بيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola لأن النجوم وقتئذ لم تكن في اقترانها مبشرة بالخير (5). ولعل ذلك الاقتران كان وهما صوره له الخيال. وإذا كان يسع الكتّاب الإنسانيين أن يؤمنوا بهذا، فهل يحق لنا أن نلوم عامة الشعب الذين لا نصيب لهم من الفراغ ولم ينالوا حظا من التعليم إذا ظنوا أن العالم الطبيعي مليء بالقوى الخارقة وأن أداة لها تستخدمه لاغير. وكان سكان إيطاليا يعتقدون أن كثيرا من الأشياء من مخلفات المسيح أو الرسل حقا. وقد بلغت هذه المخلفات من الكثرة درجة يستطيع الإنسان معها أن يجد في الكنائس الرومانية في عهد النهضة أشياء تمثل جميع مناظر الأناجيل. فواحدة منها تدعى أن قطعة من قماط الطفل يسوع، وأخرى تقول إن بها عود دريس من مزود بيت لحم، وثالثة تزعم أنها تضم قطعاً من الأرغفة والسمك التي تضاعف عددها، ورابعة تنادي أن بها المائدة التي استخدمت في العشاء الأخير؛ وواحدة تعتقد أن بها صورة العذراء التي رسمها الملائكة للقديس لوقا (6). وكانت كنائس البندقية تعرض جسم القديس مرقص، وقطعة من ذراع القديس جورج وإحدى أذني القديس(21/5)
بولس، وبعض السمك المحمر الذي أكل منه القديس لورنس، وبعض الحجارة التي قتلت القديس استيفن (7).
وكان الاعتقاد السائد أن لكل جسم - بل لكل عدد وكل حرف - قوة سحرية. ويقول أرتينو إن بعض العاهرات الرومانيات كن يطعمن عشاقهن لحم الجثث البشرية المتعفنة يسرقنه من المقابر ليقوين به باههم (8). وكانت الرقى تستخدم لألف غرض من الأغراض؛ ويقول أبوليان إنك إذا تلوت الرقبة الصحيحة استطعت أن تقي نفسك شر الكلاب. وكانت الأرواح الخيرة والشريرة تملأ الهواء؛ وكثيراً ما كان الشيطان يظهر بنفسه أو يلبس جسم من ينيبه ليغوي أو يرهب، أو يخدع، أو ينفث القوة أو العلم فيمن يريد؛ وكان لدى العفاريت طائفة لا تنفد من العلم الخفي يستطيع المرء أن ينال منها إذا استطاع أن يستميلها إليه بطريقة خاصة. وظل بعض رهبان الكرمل المقيمين في بولونيا (حتى أدانهم سكستس الرابع في عام 1474) يعلمون الناس أن لا ضرر مطلقا من أخذ العلم عن الشياطين (9)، وكان السحرة المحترفون يعرضون رقاهم المجربة الصحيحة التي ينالون بها معونة الشياطين على من يؤدون ثمنها من الطالبين. وكان المعتقد أن الساحرات- ونقول الساحرات لأنهن كن في العادة من النساء- أقدر بنوع خاص على الاتصال بأولئك العفاريت الذين يقدمون هذا العون، وكن يعاملنهم كأنهم عشاقهن أو آلهة لهن. وكانت اللاتي خُلعت عليهن هذه القوى الشيطانية يستطعن- كما يعتقد الناس- أن يتنبأن بالمستقبل، ويطرن في أقصر اللحظات مسافات شاسعة، ويدخلن من الأبواب المغلقة صغيرة أو كبيرة، ويصبن بشرهن المستطير من يسيء إليهن من الناس. وكان في مقدورهن أن يبعثن في النفوس الحب أو البغض، ويحدثن الإجهاض، ويصنعن السم، ويحدثن الموت برقية أو نظرة.
وأصدر إنوسنت الثامن في عام 1484 مرسوما بابويا يحرم في الالتجاء(21/6)
إلى الساحرات، ويسلم فيه بصحة بعض ما يدعينه من القوى، ويعزو إليهن بعض العواصف والأوبئة، وشكا من أن بعض المسيحيين، الذين حادوا عن الشعائر الدينية الصحيحة، كانوا قد اتصلوا اتصالا جسميا بالشياطين، وأنهم استعانوا بالرقى، والعبارات السحرية المسجعة؛ واللعنات، وغيرها من الفنون الشيطانية. فاوقعوا ضرراً شديداً ببعض الرجال والنساء، والأطفال، والحيوانات (10). وأشار البابا على عمال محاكم التفتيش أن يكونوا يقظين حذرين من هذه الأعمال. ولم يفرض هذا المرسوم على الناس الإيمان بالسحر على أنه من العقائد الرسمية للكنيسة. ولم يبدأ به عقاب الساحرات؛ ذلك أن اعتقاد الناس بوجود الساحرات، وعقابهن في بعض الأحيان قد حدث قبل صدور هذا المرسوم بزمن طويل. وكان البابا حين أصدره أميناً على ما جاء في العهد القديم إذ يقول: "لا تدع ساحرة تعيش" (11). وكانت الكنيسة قد ظلت قروناً طوالاً تؤمن بإمكان تأثير الشياطين في الآدميين (12). ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحته ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحة هذا التأثير، وكان التحذير الذي وجهه لأعضاء محكمة التفتيش بعض الأثر في اضطهادات الساحرات (13). فقد حدث في العام الأول بعض هذا المرسوم أن حرقت إحدى وأربعون امرأة في كومو وحدها بتهمة أنهن من الساحرات (14). وقضى المفتشون في بريشيا عام 1486 على عدد من الساحرات المزعومات بأن يسلمن إلى السلطة الزمنية أي أن يعدمن، ولكن الحكومة رفضت تنفيذ الحكم، وغضب لذلك إنوسنت أشد الغضب (15). وسارت الأمور سيرا أكثر من هذا انسجاما بين السلطتين في عام 1510، فنحن نسمع أن 140 امرأة قد أحرقن في بريشيا متهمات بالسحر، وفي عام 1514 في بابوية ليو الرحيم الظريف أحرق ثلاثمائة أخريات في كومو (16).
وازداد عدد الأشخاص الذين يعتقدون. أو يعتقد غيرهم فيهم(21/7)
أنهم يمارسون السحر زيادة سريعة وبخاصة في إيطاليا الواقعة في جنوب جبال الألب، ولعل ذلك كان بسبب ما أحدثه الاضطهاد من استفزاز للنفوس أو لغيره من الأسباب. وأخذ الأمر يتفاقم حتى اتخذت صورة وباء في طبيعته وكثرة المصابين به. وقال الناس وقتئذ إن 25. 000 شخص حضروا "سيتا للساحرات" على سهل قريب من بريشيا، وفي عام 1518 أحرق عمال محكمة التفتيش سبعين ساحرة مزعومة من أهل ذلك الإقليم. وزج آلاف في سجون المحكمة. واحتج مجلس السيادة في بريشيا على زج الناس جملة في السجون، وحال دون الاستمرار في قتل السحرة والساحرات، فما كان من ليو إلا أن أصدر مرسوما (15 فبراير سنة 1521)، يأمر فيه بحرمان أي موظف يأبى أن ينفذ دون تحقيق أو جدل أحكام عمال محكمة التفتيش، ووقف جميع الخدمات الدينية بين أية جماعة تمتنع عن هذا التنفيذ. وتجاهل مجلس السيادة هذا المرسوم، وعين أسقفين، وطبيبين من أهل بريشيا، وعامل من عمال محكمة التفتيش للإشراف على ما يحدث بعدئذ من محاكمات للسحرة والساحرات، وللبحث في عدالة ما صدر من أحكام سابقة؛ وخول هؤلاء الرجال دون غيرهم سلطة إصدار الأحكام على المتهمين. وأنذر مجلس السيادة المندوب البابوي بأن يضع حدا لإدانة الناس لكي يستطيع بذلك مصادرة أملاكهم (16). وكان هذا إجراء غاية في الجرأة ولكن الجهالة وشهوة القتل والتعذيب تغلبتا آخر الأمر، وظل إحراق الناس بتهمة السحر وصمة عار لا تمحى من تاريخ البشرية في القرنين التاليين، في البلاد البروتستنتية والكاثوليكية، وفي العالم الجديد والعالم القديم على حد سواء.
وكانت الرغبة الجنونية في معرفة المستقبل عوناً كبيراً للمتنبئين بحظوظ الناس بأنواعهم المألوفة- قراء الكف، ومفسري الأحلام، والمنجمين؛ وكان هؤلاء أكثر عددا وأعظم قوة في إيطاليا منهم في سائر أنحاء أوربا.(21/8)
وكادت كل حكومة إيطالية يكون لها منجم رسمي يحدد لها بالنظر في مواقع النجوم الأوقات الملائمة للبدء في المشروعات الهامة. ولم يشأ يوليوس الثاني أن يغادر بولونيا إلا بعد أن أنبأه منجمه أن الوقت ملائم لمغادرتها, وكان سكتس الرابع وبولس الثالث يطلبان منجميهما تحديد الساعات التي يعقدان فيها مؤتمراتهما الكبرى (16ب). وقد بلغ انتشار العقيدة القائلة بأن النجوم تسيطر على أخلاق البشر وشؤونهم حدا جعل كثيرا من اساتذة الجامعات في إيطاليا يصدرون في كل عام تنبؤات قائمة على أساس التنجيم (16حـ)، وكان من أفانين أرتينو المضحكة أن يحاكى هذه التقاويم التي يضعها أولئك العلماء. ولما أن أعاد لورندسو ده ميديتشى جامعة بيزا، لم يقرر ضمن مواد الدراسة فيها منهجا للتنجيم؛ ولكن الطلاب ضجوا طالبين وضع هذا المنهج، ولم يجد بداً من الخضوع لمطلبهم (16د). ووجه بيكو دلا ميندولا أحد العلماء الأعلام المحيطين بلورندسو هجوماً كتابياً شديداً على التنجيم، ولكن مرسيليو فتشينو الأغزر منه علماً دافع عنه. وصاح جوتشيارديني قائلا: "ألا ما أسعد المنجمين الذين يؤمن الناس بأقوالهم ولو صدقوا مرة واحدة وكذبوا مائة مرة على حين أن غيرهم من الناس يفقدون الثقة بهم إذا كذبوا مرة واحدة وصدقوا مائة مرة" (12هـ). لكن التنجيم مع ذلك كان ينطوي على شيء من التطلع نحو النظرة العلمية إلى الكون؛ وكان فيه إلى حد ما مهرب من الاعتقاد بوجود كون تسيطر عليه مشيئة الله أو نزعات الشياطين، ويهدف إلى العثور على قانون طبيعي شامل. ينسق المظاهر الطبيعية ويوفق بينها.(21/9)
الفصل الثاني
العلوم
لم يكن سبب تأخر العلوم هو مقاومة الكنيسة. بل كان ما يتمسك به الناس من خرافات وأوهام. ولم تكن الرقابة على النشر عقبة كأداء في سبيل العلم إلى أن قامت حركة الإصلاح المعارضة عقب مجلس ترنت (1545 وما بعدها)، فقد جاء سكستس الرابع إلى روما (1463) بأشهر منجم عاش في القرن الخامس عشر وهو جوهان ملر رجيو "مونس" Johan Muller. "Regiomontnus" وكان كوبرنيق في عهد البابا ألكسندر يدرس العلوم الرياضية والفلك في جامعة روما، ولم يكن كوبرنيق هذا قد وصل بعد إلى نظريته التي هزت كيان العالم والتي تقول بدوران الأرض في فلكها حول الشمس، ولكن نقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa كان قد أشار إليها قبل ذلك الوقت، وكلاهما من رجال الدين. وكانت محكمة التفتيش ضعيفة ضعفا نسبيا في إيطاليا طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وكان من أسباب هذا الضعف بعد البابوات عنها في أفنيون، وما قام بينهم من نزاع أثناء عهد الانشقاق، وما وصل إليهم من عدوى الاستنارة في عهد النهضة. وحدث في عام 1440 أن حاكمت محكمة التفتيش في ميلان أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi صاحب النزعة المادية، وبرأته مما عزى إليه، وحمى نصير جبريلي ده سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب الملحد من محكمة التفتيش مع أنه "اعتاد أن يقول إن المسيح ليس هو الله بل هو ابن يوسف" (67). وكان التفكير في إيطاليا أكثر حرية والتعليم فيها أكثر تقدما مما كانا في أي بلد آخر خلال القرن الخامس عشر وفي أوائل القرن السادس عشر. وكانت مدارسها التي تعلم(21/10)
الفلك، والقانون، والطب، والآداب ملتقى الطلاب من أكثر عشرة أقطار، ولما أن أتم تومس ليماكر Thomas Lamacrel الطبيب والعالم الإنجليزي دراسته الجامعية في إيطاليا وقفل راجعا إلى إنجلترا في جبال الألب الإيطالية مذبحاً، ودشنه وهو يلقي آخر نظرة على إيطاليا باسم هذه البلاد الأم الحنون للعلم منشئة الدراسات وجامعة العالم المسيحي التي يواصل فيها العلماء دراساتهم بعد تخرجهم.
وإذا لم يكن العلم قد تقدم خلال القرنين السابقين على أيام فيساليوس Vesalius، (1514 - 1564) إلا تقدما يسيرا في هذا الجو المشبع بالخرافات من أسفل، وبالتحرر العقلي من أعلى، فقد كان أكبر السبب في هذا أن المناصرة والتكريم كانا موجهين إلى الفن، والمنح مخصصة للادب، وللشعر، ولم تكن قد قامت بعد دعوة واضحة للأساليب والأفكار العلمية في حياة إيطاليا الاقتصادية والعقلية. وكان يسع رجلا مثل ليوناردو أن يكون ذا نظرة كونية شاملة، ويمس أكثر من عشرة علوم بعقلية الطُّلعَة المتشوف، ولكن البلاد كانت خالية من المعامل العلمية الكبرى، وكان تشريح الأجسام لا يزال في بدايته، ولم يكن ثمة مجهر يستعان به على دراسة علم الاحياء أو الطب، أو مرقب يكبر الكواكب ويأنى بالقمر على حافة الأرض. وكان حب الجمال السائد في العصور الوسطى قد نضج حتى عاد فنا فخما جليلا، ولكن لم يكن في تلك العصور حب للحقيقة ينمو حتى يصير علما، وكان كشف الآداب القديمة قد بعث في الناس نزعة أبيقورية متشككة تمجد القديم وتتخذه مثلا أعلى بدل أن تجعلهم يخلصون إخلاص الرواقيين للبحوث العلمية التي تهدف إلى تشكيل المستقبل. ذلك أن النهضة قد وهبت روحها للفن، ولم تترك للادب منها إلا القليل، وتركت أقل من هذا القليل للفلسفة، وأقل من هذا وذاك العلوم. ولهذا كان ينقصها من هذه الناحية ذلك النشاط العقل الأشكال والذي أمتاز به العصر الذهبي اليوناني من أيام بركليز(21/11)
وإسكلس إلى زينون الرواقي وارستاخوس الفلكي. ولم يكن في مقدور العلوم أن تتقدم حتى تمهد الفلسفة لها الطريق.
من أجل هذا كان من الطبيعي أن يجد القارئ، الذي يعرف عشرة من أسماء الفنانين، مشقة في تذكر اسم عالم إيطالي واحد في عصر النهضة عدا اسم ليوناردو, وهو لا يذكر اسم أمرجو فسيوتشي نفسه إلا إذا ذُكِّر به، وأما جليليو فهو من رجال القرن السابع عشر (1564 - 1642). والحق إنا لانجد أسماء خالدة في ذلك العصر إلا في الجغرافية والطب. ففي أولهما اشتهر أودريك البردنوني Oderic of Pordenone الذي سافر إلى الهند والصين للتبشير بالدين (حوالي عام 1321) وعاد عن طريق التبت وبلاد الفرس، وكتب وصفا لما شاهد، وأضاف معلومات كثيرة قيمة لما كتبه ماركوبولو قبل جيل من ذلك الوقت. ولاحظ باولو تسكانيلي Paolo Toscanelli الفلكي، والطبيب، والجغرافي مذنب هالي في عام 1456. ويقال إنه أمد كولمبس بالمعلومات وبالتشجيع في مغامرته لاجتياز المحيط الأطلنطي (16و). وقام أمرجو فسبوتشي الفلورنسي بأربع رحلات بحرية إلى العالم الجديد (1497 وما بعدها)، وقال إنه أول من كشف أرض القارة وأعد لها خرائط، نشرها مارتن وولد سيملر Martin Waldseemuller واقترح أن تسمى القارة "أمريكا"، وأعجب الإيطاليون بالفكرة وأذاعوها في كتاباتهم (16خ).
وكانت علوم الأحياء آخر ما نشأ من العلوم، لأن نظرية خلق الإنسان خلقاً خاصاً منفصلا عن سائر الكائنات- وهي التي كان يؤمن بها الناس كافة تقريبا- قد جعلت من غير الضروري ومن الخطر أن يبحث الناس في أصله الطبيعي. وكانت هذه العلوم تقتصر في الأغلب الأعم على البحوث والدراسات العلمية في علم النبات الطبي، وفلاحة البساتين، وتربية الأزهار، والزراعة. من ذلك أن بيترو ده كريستشندسي Pietro de Crescenzil(21/12)
نشر وهو في سن السبعين (1306) كتيبا في الجغرافية خليقاً بالإعجاب وإن كان قد تجاهل كتابات مسلمي أسبانيا في ذلك الميدان، وهي خير من كتابته. وأنشأ لورندسو ده ميديتشى في كاريجى Careggi حديقة شبه عمومية من النباتات النادرة الوجود، وأما أولى الحدائق العمومية المخصصة لعلم النبات فهي التي أنشأها لوكا غيني Luca Ghini في بيزا عام 1544. وكان للحكام ذوي النزعة الحديثة كلهم تقريبا حدائق للحيوان، كما كان الكردينال أبوليتو ده ميديتشى Ipolito de Medici يحتفظ بمعرض من الآدميين- هم طائفة من الهمج ينتمون إلى عشرين قومية مختلفة كلهم من ذوي الأجسام القوية الممتازة.(21/13)
الفصل الثالث
الطب
وكان الطب أكثر العلوم ازدهاراً لأن الناس يضحون بكل شيء ماعدا الحرص على صحة الأجسام؛ وكان الأطباء ينالون من الثروة الإيطالية الجديدة قسطا موفورا مشجعا؛ فقد كانت بدوا مثلا تؤدى لواحد منهم ألفي دوقة في العام ليكون مستشارا طبيا لها، وتركته في الوقت نفسه حرا يتقاضى ما يشاء من الأجور في عمله الخاص. وكان بترارك الذي يعيش من مرتباته يندد أشد التنديد بأجور الأطباء العالية وبأثوابهم القرمزية وقلانسهم المصنوعة من فرو السنجاب (16). وخواتمهم البراقة ومهاميزهم الذهبية. وقد حذر بجد وحرارة البابا المريض كلمنت السادس من الوثوق بالأطباء فقال:
"أعرف أن الأطباء يحاصرون فراش مرضك، وطبيعي أن يملأ هذا قلبي خوفاً عليك. ذلك أن آراءهم متضاربة على الدوام؛ وأن من لا يجد منهم جديدا ينطق به يجلله عار التخلف عن غيره من الأطباء. وهم ينجرون بحياتنا لكي تذيع شهرتهم بما يستحدثون من جديد كما يقول بلني Plini. وحسب الواحد منهم أن يقول إنه طبيب لكي يؤمن الناس بكل كلمة يقولها، وليس هذا شأن الحرف الأخرى، مع أن كذبة الطبيب يكمن فيها من الأخطار ما لا يكمن في كذبة غيره. وهم يتعلمون مهنتهم على حسابنا، وحتى موتنا يهيأ لهم أسباب الخبرة، فالطبيب وحده من حقه أن يقتل الناس دون أن يخشى عقابا؛ ألا أيها الآب يا أرحم الراحمين! انظر إلى عصبتهم نظرتك إلى جيش من الأعداء، وأذكر القبرية المحذرة التي نقشها رجل بائس على شاهد قبره: "لقد مت من كثرة الأطباء! " (17).(21/14)
ولقد كان الأطباء في جميع البلاد والعهود المتحضرة ينافسون النساء فيما يمتزن به من أنهن أكثر من يشتهى بنو الإنسان أكثر من بهجون.
وكان الأساس الذي قام عليه تقدم الطب هو بعث التشريح. ذلك أن خدم الكنائس كانوا يتعاونون مع الأطباء كما كانوا يتعاونون مع الفنانين، فيقدمون جثث الموتى لتشرح في المستشفيات التي يشرف عليها أولئك الأطباء. فكان مندينو ده لوتسى Mondino de' Luzzi مثلا يشرح جثث الموتى في بولونيا وكتب كتابا في "التشريح Anatomia (1316) بقى مرجعا من أهم المراجع مدى ثلاثة قرون. على أنه كان يصعب على الأطباء مع ذلك أن يحصلوا على الجثث، وحدث في عام 1319 أن سرق بعض الطلاب في بولونيا جثة في إحدى المقابر وجاءوا بها إلى أستاذ في الجامعة شرحها أمامهم ليدرسوا أجزاءها، فسبق الطلاب للمحاكمة، ولكنهم برئوا، وأخذ ولاة الأمور المدنيون من ذلك الوقت يغضون الطرف عن استخدام جثث المشنوقين التي لا يطالب بها أحد في "التشريحات" (18). ويعزى إلى بيرينجاريودا كبرى Berengario de Capri، (1470 - 1550) أستاذ التشريح في جامعة بولونيا أنه شرح مائة جثة (19). وكان التشريح يحدث في جامعة بيزا منذ عام 1341 إن لم يكن قبله، وسرعان ما سمح به في جميع مدارس الطب بإيطاليا ومنها مدرسة الطب البابوية القائمة في روما، وأجاز سكستس السادس (1471 - 1484) هذا التشريح رسميا (20).
واستعاد التشريح في عهد النهضة على مهل تراثه المنسي في عهد اليونان والرومان الأقدمين؛ وحرره رجال أمثال أنطونيو بنيفيني Antonio Beniveni، وألسندرو أكيلنى Alessandro Achillnni، وألسندرو بينيدتي Alessandro Beneditti وماركانطونيو دلانورى Marcantonio della Torre، حرره هؤلاء من سيطرة العرب، وعادوا به إلى جالينوس وأبقراط، وشكوا حتى في هذين العميدين المقدسين، وأضافوا إلى المعارف(21/15)
العلمية في الجسم البشري كل عصب، وعظم، وعضلة فيه. ووجه بينيفيني بحوثه في التشريح لمعرفة الأسباب الداخلية للأمراض، وكانت رسالته في الأسباب الخفية والعجيبة الأمراض وعلاجها ( De abditis nonullis ac Mirandts Morborum et Canatiornm Causis 1507) . أساس التشريح المرضى (الباثولوجي) وجعل فحص الجسم بعد الموت عاملا اساسيا في نمو الطب الحديث. وزاد فن الطباعة الجديد في هذه الأثناء سرعة تقدم الطب لأنه يسر انتشار الكتب الطبية وتبادلها بين الدول المختلفة.
وفي وسعنا أن نقدر بعض التقدير انتكاس العلوم الطبية في العالم المسيحي اللاتيني خلال العصور الوسطى إذا لاحظنا أن أعظم المشرحين والأطباء في ذلك العصر لم يكادوا يبلغون من العلم قبل عام 1500 ما بلغه أبقراط، وجالينوسن وسورانوس Soranus في الفترة المحصورة بين 450 ق. م و 200 بعد الميلاد. وكان العلاج في خلال العصور الوسطى لا يزال قائما على نظرية الأخلاط لأبقراط. وكانت الحجامة هي العلاج الشافي من كل العلل. وكانت أول محاولة معروفة لنقل الدم هي التي قام بها طبيب يهودي لعلاج البابا إنوسنت الثامن (1492)؛ وأخفقت هذه المحاولة كما قلنا من قبل. وكان الراقون لا يزالون يدعون لعلاج العجز الجنسي وفقدان الذاكرة بالرقى الدينية أو تقبيل المخلفات؛ ولعل سبب التجائهم إلى هذه الأساليب أن هذا العلاج الإيحائي كان يساعد على الشفاء في بعض الحالات. وكان الصيادلة يبيعون حبوبا وعقاقير عجيبة ويكثرون أموالهم بأن يضموا إلى سلعهم الكتب والورق، والأدهان، والحلوى، والتوابل، والحلى (21). وألف ميشيل سفنرولا والد الراهب الثائر رسالة الطب التجريبي (حوالي عام 1440) ورسائل أخرى أقصر منها، بحث في إحداها كثرة إصابة الفنانين العظام بالأمراض العقلية؛ وتحدث في رسالة أخرى عن مشهوري الرجال الذين طال عمرهم نتيجة تعاطيهم المشروبات الكحولية كل يوم.(21/16)
وكان الأطباء الدجالون لا يزالون كثيري العدد، ولكن القانون أصبح وقتئذ يعنى بتنظيم مهنة الطب أكثر من ذي قبل؛ فكانت العقوبات توقع على الذين يمارسون الطب دون أن يحصلوا فيه على درجة علمية؛ وكان حصولهم عليها يتطلب دراسة منهج فيه يدوم أربع سنوات (1500)؛ ولم يكن يسمح لأي طبيب بأن يشخص مرضا خطيرا إلا إذا ضم إليه زميلا له. وكانت شرائع البندقية تحتم على الأطباء والجراحين أن يجتمعوا كل شهر ليتبادلوا المذكرات الطبية، وأن يحتفظوا بجدة معلوماتهم بالاستماع إلى منهج في التشريح مرة كل عام على الأقل. وكان يفرض على طالب الطب وقت تخرجه أن يقسم بألا يطيل على مريض زمن مرضه، وأن يشرف على تحضير الدواء الذي يصفه له، وألا يشارك الصيدلي في الثمن الذي يتقاضاه نظير إعداد الدواء. وحدد هذا القانون نفسه (قانون البندقية الصادر في عام 1368) أجر الصيدلي نظير تحضير الدواء بعشرة صلديات (22). والصلدى عملة لا يستطاع الآن تقدير قيمتها. وقد وصلت إلى علمنا عدة حالات جعل فيها شفاء المريض شرطاً لتقاضي الطبيب أجره وذلك بناء على تعاقد خاص بينهما (23).
وأخذت الجراحة ينتشر صيتها انتشاراً سريعاً كلما اقترب سجل عملياتهم وآلاتها مما كان عليه من التنوع والانفاق في عهد المصريين الأقدمين. من ذلك ان برناردو دا رابلو Bernardo da Rapallo ابتكر الجراحة العجائبية لاستخراج الحصوة (1451)؛ واشتهر مريانو سانتو Mariano Santo بكثرة نجاحه في استخراج حصاة المثانة بالشق الجانبي (حوالي 1530) وابتكر جيوفني دا فيجو جراح يوليوس الثاني وسائل لربط الشرايين والأوردة خيرا من الوسائل التي كانت معروفة من قبل؛ وعادت الجراحة التعويضية التي كانت معروفة للأقدمين إلى الظهور في صقلية حوالي عام 1450؛ وكانت الأنوف، والشفاه، والآذان المشدوهة تصلح بترقيعها(21/17)
بالجلد المأخوذ من أجزاء أخرى من الجسم، وقد بلغ من إتقانها أن الناظر إليها لا يكاد يتبين خطوط الالتحام (24).
وأخذت أساليب الصحة العامة تتحسن تحسنا مطردا. من ذلك أن أندريا دندولو حين كان دوج البندقية (1343 - 1354) أنشأ أول لجنة بلدية معروفة للصحة العامة (25)، وحذت حذو البندقية في ذلك غيرها من المدن الإيطالية. وكانت هذه اللجان الخاصة بالصحة العامة تختبر جميع الأطعمة والعقاقير التي تعرض للبيع على الجماهير، وتأمر بعزل من يصابون ببعض الأمراض المعدية. ولما فشا الموت الأسود في أوربا منعت البندقية في عام 1374 جميع السفن التي تحمل أشخاصا يرتاب في أنهم مصابون بالمرض أو بضائع مشتبها في أنها مصابة به من الدخول في موانيها. وفي راجوسا Ragusa كان القادمون يحجزون في أماكن خاصة ثلاثين يوما قبل أن يسمح لهم بالدخول إلى المدينة. وكانت البضائع المشتبه فيها تعامل هذه المعاملة نفسها. وأطالت مرسيليا مدة الحجر الصحي (1383) (الكرنتينة la quarantine) فجعلته أربعين يوماً، وحذت البندقية حذوها في عام 1403 (26).
وأخذت المستشفيات يتضاعف عددها بهمة رجال الدين وغير رجال الدين وغيرتهم، فأنشأت سينا في عام 1305 مستشفى اشتهر بسعته وبما كان يؤديه من خدمات، وأسس فرانتشيسكو اسفوردسا المستشفى الكبير Ospedalc Maggiore في ميلان (1456)، وحولت البندقية في عام 1423 جزيرة سانتا ماريا دي نادساريت Santa Maria di Nazaret إلى محجر صحي لإيواء المصابين بالجذام؛ وكان في فلورنس في القرن الخامس عشر ثلاثة وخمسون مستشفى (28)؛ وكانت هذه المؤسسات كلها تستمد معونة سخية من الهبات الخاصة والعامة؛ وكانت بعض المستشفيات مضرب المثل في روعة البناء(21/18)
وفخامته، ومنها المستشفى الكبير في ميلان؛ ومنها ما كان يزين جدرانه بالتحف الفنية المُلهِمة. واستخدم مستشفى كبا Ospedafe del Coppa في بستويا جيوفني دلا رُبيا ليشكل لجدرانه نقوشا من الصلصال المحروق تصف في وضوح نماذج من مناظر المستشفيات، وامتازت واجهة مستشفى البرءاء Ospedali degli Innocenti في فلورنس الذي خططه برونيلسكو بالمدليات الرائعة المصنوعة من الصلصال المحروق التي وضعها في البندريلات القائمة على عقود بابها أندريا دلاربيا. ولشد ما تأثر لوثر بما وجده في إيطاليا من معاهد طبية وخيرية في عام 1511، وهو الذي روع بما كان فيها من فساد خلقي. وقد وصف لنا في حديث المائدة مستشفياتها بقوله:
"المستشفيات في إيطاليا جميلة البناء مزودة أعجب التزويد بأحسن أنواع الطعام والشراب، ويعتنى فيها أحسن عناية بخدمة المرضى، وجدرانها مغطاة بالصور والنقوش. وإذا جاءها مريض نزعت عنه ملابسه بحضور كاتب يثبتها عنده بعناية وتحفظ في أمان. ثم يلبس المريض قميصاً أبيض اللون، ويخصص له سرير مريح عليه غطاء نظيف من التيل. ويحضر إليه على الفور طبيبان ويأتيه الخدم بالطعام والشراب في آنية نظيفة ... ويزور المستشفى بالتناوب كثير من السيدات ويعتنين بالمرضى وهن محجبات الوجوه، حتى لا يعرف أحد كنههن؛ وتبقى كل واحدة منهن في المستشفى بضعة أيام، تعود بعدها إلى منزلها، وتحل غيرها محلها ... وتضارع هذه المستشفيات في الجودة ملاجئ اللقطاء في فلورنس، حيث يعنى أكبر عناية بإطعام الأطفال وتعليمهم، وحيث يزودون بحلل متشابهة من الثياب ويلقون أعظم العناية بجميع أنواعها (29).
وكثيراً ما يكون من نحسس طالع الطب أن أمراضا جديدة تقابل تقدمه العظيم في العلاج- وتكاد تعقبه على الدوام. ومصداقا لهذا نقول إن الجدري والحصبة اللذين لا نكاد نسمع عنهما في أوربا قبل القرن السادس عشر أصبحا(21/19)
وقتئذ في مقدمة الأوبئة الأوربية. وقاست أوربا في عام 1510 أول وباء أنفلونزا سجله التاريخ في ربوعها. واجتاح إيطاليا في عامي 1505 و 1528 وباء من أوبئة التيفوس- وهو مرض لم يرد له ذكر قبل عام 1477. ولكن ظهور الزهري فجأة وانتشاره السريع في إيطاليا وفرنسا في أواخر القرن الخامس عشر كانا أكثر الظواهر رهبة وأشدها اختباراً لعلم الطب في عصر النهضة. ولسنا نعرف هل كان الزهري موجودا في أوربا قبل عام 1493 أو هل جاء إليها من أمريكا حين عاد منها كولمبس في ذلك العام، فتلك مسألة لا تزال مثار الجدل بين العلماء وليس هذا موضع البت فيها.
وتؤيد بعض الحقائق النظرية القائلة إنه مرض أصيل في أوربا؛ من هذه أن مومسا أقرت في محكمة بديجون أنها أقنعت أحد طلابها بعدم الاقتراب من لأنها مصابة بالمرض الكبير le gros mal، ثم لا نرى بعدئذ وصفا لهذا المرض في ذلك السجل (30). وفي الخامس والعشرين من شهر مارس سنة 1494 أمر منادى المدينة في باريس أن بأمر كل المصابين بـ البثرة الكبيرة (31). أن يخرجوا من المدينة. ولسنا نعرف ماذا كانت هذه "البثرة الكبيرة"، فلربما كانت هي الزهري نفسه. وفي أواخر عام 1494 غزا إيطاليا جيش فرنسي، واحتل نابلي في 21 فبراير من عام 1495، وسرعان ما فشا فيها بعدئذ وباء أطلق عليه الإيطاليون اسم الداء الفرنسي il morlo galolico يزعمون أن الفرنسيين قد جاءوا به إلى إيطاليا. وأصيب بهذا المرض كثيرون من الجنود الفرنسيين، ولما عاد هؤلاء إلى فرنسا في شهر أكتوبر من عام 1495 نشروا الوباء بين الأهلين؛ ولهذا سمى في فرنسا مرض نابلي Le mal de Naples لأن الأهلين افترضوا أن الجنود الفرنسيين قد أصيبوا به فيها. وفي السابع من عشر أغسطس عام 1495 أي قبل عودة الجيش الفرنسي من إيطاليا بشهرين أصدر الإمبراطور مكسميليان مرسوما ورد فيه ذكر المرض الفرنسي Malum Francicum؛ وغير خافٍ أن هذا "المرض(21/20)
الفرنسي" لا يمكن أن يعزى إلى الجيش الفرنسي الذي لم يكن قد عاد بعد من إيطاليا. وأخذ لفظ "المرض الفرنسي morbus gallicus" منذ عام 1500 يطلق على مرض الزهري في جميع أنحاء أوربا (32). ويحسن بنا أن نختتم هذه الفقرة بقولنا إن هذه كلها إشارات ولست أدلة قاطعة على أن الزهري كان موجودا في أوربا قبل عام 1493.
أما القول بأن أصل المرض أمريكي فقائم على تقرير كتبه طبيب أسباني يدعى راي دياز ده إزلا Rug Diaz da Izla بين عامي 1504 و 1506 (ولكنه لم ينشر إلا في عام 1539). وهو يقول إن قبطان سفينة أمير البحر أصيب في أثناء عودة كولمبس إلى أوربا بحمى شديدة مصحوبة بطفح جلدي مروع؛ ويضيف إلى ذلك قوله إنه هو نفسه عالج وهو في برشلونة بحارة مصابين بهذا المرض الجديد الذي لم يكن، على حد قوله، معروفا فيها من قبل. وقد قال إنه هو بعينه المرض الذي كانت تطلق عليه أوربا اسم "المرض الفرنسي" ويؤكد أن العدوى قد جاءت إليهم من أمريكا (33)، ومعروف أن كولمبس حين عاد من رحلته الأولى إلى جزائر الهند الغربية وصل إلى بالوس Palos في أسبانيا في الخامس عشر من شهر مارس سنة 1493. وقد لاحظ بنتور Pintor طبيب البابا اسكندر السادس في ذلك الشهر نفسه ظهور المرض الفرنسي لأول مرة في روما (34). ومرت سنتان كاملتان تقريبا بين عودة كولمبس واحتلال الفرنسيين نابلي- وهي مدة تكفي لانتشار الداء من أسبانيا إلى إيطاليا-؛ غير أننا لسنا واثقين من أن الوباء الذي اجتاح نابلي في عام 1495 هو الزهري عينه (35)، والعظام التي يمكن أن يفسر ما فيها من تغيرات على أنه من فعل الزهري جد نادرة في المخلفات الأوربية قبل عهد كولمبس، لكن عظاماً كثيرة من هذا النوع قد وجدت في أمريكا من مخلفات العهود السابقة لرحلة كولمبس (1) (36).
_________
(1) ويختم سارتن بحثه بقوله: "أما من حيث الزهري فإني قد عجزت حتى الآن عن أن أكشف وصفاً واحداً له قبل الأوصاف التي ظهرت متتابعة تتابعاً سريعاً في عام 1495 والأعوام التالية له. ولا أزال حتى الآن غير مقتنع رغم التأكيدات الكثيرة التي صدرت في السنين الأخيرة، بأن الزهري الأوربي وجد قبل أيام كولمبس" (37). ومن شاء الاستزادة من العلم بتاريخ الأوبئة وأثرها في أحداث العالم فإنه واجد علماً ومتعة في كتاب Rats, Lice and History الذي ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد بدران ونشرته مؤسسة فرانكلين باسم التيفوس والتاريخ.(21/21)
ومهما يكن مصدر المرض الجديد، فإنه انتشر بسرعة مروعة، ويلوح أن سيزارى بورجيا قد أصيب به في فرنسا، كما أصيب به أيضاً كثير من الكرادلة ويوليوس الثاني نفسه؛ على أننا يجب أن ندخل في حسابنا إمكان انتقال العدوى به عن طريق الاختلاط البريء بأشياء أو أشخاص تحمل أو يحملون جرثومة المرض النشيطة. وكان الطفح الجلدي يعالج في أوربا من زمن بعيد بالمرهم الزئبقي؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أصبحت مركبات الزئبق شائعة شيوع البنسلين في هذه الأيام. وكان الجراحون والدجالون يسمون بالكيميائيين لأنهم حولوا الزئبق إلى ذهب، واتخذت إجراءات للوقاية من الداء. من ذلك أن قانوناً صدر عام 1496 يحرم على الحلاقين قبول المصابين بالزهري أو استخدام الآلات التي استعملوها أو استعملت لهم. وتقرر فحص العاهرات مرارا أكثر من ذي قبل، وحاولت بعض المدن تجنب هذه المشكلة بطرد المومسات منها؛ فنفتهن فيرارا وبولونيا في عان 1496 بحجة أنهم مصابات "بنوع من الطفح السري يسميه بعضهم بجذام القديس أيوب" (38). ودعت الكنيسة إلى العفة لأنها هي طريق الوقاية الذي يحتاجه الناس وعمل بهذه النصيحة كثيرون من رجال الدين.
وكان أول من أطلق لفظ Syphilis ( الزهري) على هذا الداء هو جرولامو فراكستورو Girolamo Fracastoro أحد الأشخاص ذوي المواهب المتعددة ولكنه مع ذلك من جلة العلماء في عصر النهضة. وقد بدأ(21/22)
حياته بداية طيبة: فقد ولد في فيرونا (1483) من أسرة شريفة أنجبت قبله عددا من الأطباء المشهورين. ودرس في بدوا كل شيء تقريبا؛ وكان من زملائه في الدرس كوبرنيق وكان بمبونتسي Pomponazzi وأكليني Achilini يعلمانه الفلسفة والتشريح، ولما بلغ الرابعة والعشرين من العمر كان هو أستاذ للمنطق ثم ما لبث أن أعتزل هذا العمل ليخصص نفسه للبحث العلمي بوجه عام والبحث الطبي بوجه خاص تخففه رغبة قوية في دراسة الآداب القديمة. وأثمر جمعه بين العلوم والآداب على هذا النحو شخصية مصقولة مهذبة. كما أثمر قصيدة رائعة مكتوبة باللغة اللاتينية على نمط قصيدة الفلاحة Georgics لفرجيل سماها الزهري، النجاة من الداء الفرنسي Syphilis, sive le morlo gallico (1521) . وكان الإيطاليون من أيام لكريتيوس قد برعوا في كتابة القصائد التعليمية، ولكن من الذي كان يظن أن المطوقات المتناوبة يمكن أن يتحدث عنها بشعر سلس؟ أما لفظ سِفِلس فكان يطلق في الأساطير القديمة على راع اعتزم إلا يعبد الله الذي لا يستطيع رؤيته، بل يعبد الملك، وهو وحده سيد قطعانه الذي يمكنه أن يراه؛ ولذلك غضب منه أبلو فملأ الهواء بأبخرة كريهة أصيب منها سفلس بمرض مصحوب بطفح وخراجات في جميع أجزاء جسمه؛ تلك في جوهرها هي قصة أيوب. واقترح فراكستورو أن يبحث عن أول ظهور "مرض شديد الوطأة، نادر لم ير قط في القرون الماضية اجتاح أوربا كلها ومدن آسية وليبيا المزدهرة وغزا إيطاليا في تلك الحرب المشئومة التي كانت سببا في اشتقاق اسمه من بلاد غالة (فرنسا) ليتبين مبدأ ظهوره، وانتشاره الوبائي، وأسبابه، وعلاجه. وهو يرتاب في أن المرض قد وفد من أمريكا، لأن ظهوره كاد يكون في وقت واحد في كثير من بلاد أوربا البعيدة(21/23)
بعضها عن بعض. ويقول إن العدوى؛ "لم تكن تظهر في الحال، بل كانت تبقى كامنة فترة من الزمن قد تطول أحيانا إلى شهر ... بل إلى أربعة أشهر. وكانت قرح صغيرة تبدأ في الظهور في معظم الحالات على الأعضاء التناسلية ... ثم تظهر على الجلد بعدئذ بثرات عليها غشاء ... ثم تأكل هذه البثرات المتقرحة الجلد ... وتصل عدواها إلى العظام نفسها ... وتتآكل في بعض الحالات الشفتان، أو الأنف، أو العينان، وفي حالات أخرى تتآكل جميع الأعضاء التناسلية" (39).
ثم تمضي القصيدة فتبحث في علاج هذا الداء بالزئبق أو بالجواياك (صمغ خشب الأنبياء) - وهو "خشب مقدس" يستعمله هنود أمريكا. وتحدث فرانكستورا في كتاب آخر منثور يسمى العدوى عن بعض الأمراض المعدية- كالزهري، والتيفوس، والتدرن- وطرق انتشارها. واستدعاه بولس الثالث في عام 1545 ليكون كبير الأطباء لمجلس ترنت. وأقامت فيرونا نصبا عظيما تخليدا لذكراه، ونقس جيوفني دال كافينو Giovanni dal Cavino صورته على مدلاة تعد من أجمل التحف الفنية التي من نوعها.
وكانت العادة المتبعة قبل عام 1500 أن يطلق على جميع الأمراض المعدية على اختلاف أنواعها ذلك الاسم العام الشامل وهو "الطاعون". ثم كان من الأعمال الدالة على تقدم الطب أنه قد ميز في وضوح وشخص طبيعة هذا الوباء الخاص؛ وأعد العدة لمقاومة انتشار مرض خطير كالزهري. ولم يكن الاعتماد على أبقراط وجالينوس كافيا في هذه الأزمة الطاحنة؛ كما أنه لم يكن في مقدور مهنة الطب أن تواجه هذه التجربة الغير متوقعة إلا لأنها قد أدركت ضرورة الدراسة المفصلة الدائمة التجدد لأعراض هذا الداء، وأسبابه، وطرق علاجه بتجارب تجرى في ميدان دائم الاتساع متصلة بعضها ببعض على الدوام.
وإلى هذه المؤهلات العالية، وغلى الإخلاص في العمل، والنجاح فيه،(21/24)
يرجع فضل اعتراف الناس بأن الطبقة الممتازة من الأطباء تمثل في إيطاليا أرستقراطية عصامية لم ترث المجد عن الآباء والأجداد. ولما أن فصل أولئك الأطباء مهمتهم عن الكنيسة فصلا تاماً، أصبح الناس يجلونهم أكثر مما يجلون رجال الدين؛ فلم يكن كثيرون منهم مستشاري الأمراء، والأحبار، والملوك في الطب فحسب، بل كانوا إلى ذلك مستشاريهم السياسيين، وكثيرًا ما كانون رفاقهم المحببين. وكان كثيرون منهم من الكتاب الإنسانيين، ملمين بالآداب القديمة؛ يجمعون المخطوطات والروائع الفنية؛ وكثيرًا ما كانوا أصدقاء كبار الفنانين وثيقي الاتصال بهم. وآخر ما نقوله عنهم أن كثيرين منهم قد حققوا المثل الأبقراطي الأعلى وهو الجمع بين الفلسفة والطب (1)، فكانوا يتنقلون في يسر من موضوع إلى موضوع في دراساتهم وفي تعليمهم، ولبثوا في الهيئة المهنية الفلسفية المتآخية حافزاً لإخضاع أفلاطون، وأرسطو، وأكوناس- كما أخضعوا أبقراط، وجالينوس، وابن سينا- للفحص المتجدد، الجريء الذي يهدف إلى معرفة الحقيقة.
_________
(1) لقد حقق هذا الجمع على أوسع نطاق أطباء العرب (انظر الجزء الثالث عشر من هذه السلسلة. (المترجم)(21/25)
الفصل الرابع
الفلسفة
يبدو من أول نظرة أن النهضة الإيطالية لم تثمر محصولا موفوراً من الفلسفة، ذلك أن محصولها هذا لا يمكن أن يضارع ما أثمرته الفلسفة المدرسية الفرنسية في أيام عزها من عهد أبلار إلى عهد أكوناس، دع عنك "مدرسة أثينة الفلسفية". وأعظم الأسماء التي اشتهرت بها في الفلسفة (إذا تجاوزنا الزمن الذي يحدد عادة لنهاية النهضة) هو جيور دانو برنو Giordano Bruno (1548 - 1600) ؛ وعمل هذا الرجل خارج نطاق الفترة التي ندرسها في هذا الكتاب. ويبقى بعد ذلك اسم بمبونتزي Pomponazzi، ولكن منذا الذي يعظم الآن هذا الصارخ المتشكك الجريء المسكين؟
وقد احتضن الإنسانيون مبادئ الثورة الفلسفية حين اكتشفوا ونشروا بحذر عالم الفلسفة اليونانية ولكنهم كانوا في معظم الأحوال- إذا استثنينا فلا Valla- أكثر دهاء وحرصاً من أن يعرضوا معتقداتهم جهرة. وكان أساتذة الفلسفة في الجامعات تقف في سبيلهم تقاليد الفلسفة المدرسية؛ ولهذا فإنهم بعد أن قضوا سبعة أعوام أو ثمانية يضربون في تلك البيداء انتهوا إما إلى الخروج منها إلى ميادين أخرى من الدراسة وإما إلى دفع أجيال أخرى إليها، بعد أن مجدوا لهم ما صادفوه من العوائق التي حطمت إرادتهم ووصلت بعقولهم سالمة إلى غاية عقيمة لا حياة فيها. ومن يدري لعل الكثيرين منهم أحسوا بقسط من السلامة العقلية والاقتصادية والاقتصار على المسائل الخفية الغامضة يصوغونها بعناية وحذر في مصطلحات مجدية غير مفهومة المعنى؟ وكانت الفلسفة المدرسية لا تزال في معظم الكليات الفلسفية خاضعة للتقاليد(21/26)
والرسميات، وقد أخذت أطرافها تتجمد استعدادا للموت والفناء؛ وأصبحت المسائل القديمة التي كانت مثار الجدل في العصور الوسطى يعاد النظر فيها بأساليب الجدل القديمة التي كانت متبعة في تلك العصور، ويبذل في هذا الجدل كثير من الجهد والعناء ثم تنشرها هيئة التدريس في الكليات مزهوة بها مفتخرة.
وكان ثمة عنصران من عناصر الحياة يعملان لإحياء الفلسفة: هما النزاع القائم بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين، ثم انقسام الأرسطوطاليين أنفسهم إلى متمسكين بتقاليدهم القديمة ورشديين (1). وأضحى هذا النزاع في بولونيا وبدوا مبارزة حقيقية ومسائل حياة أو موت بمعناهما الحرفي. وكانت كثرة الإنسانيين أفلاطونية بتأثير جمستس بليتو Gemistus Pletho، وبساريون Bessarion؛ وثيودورس جادسا Fheodorus Gaza، وغيرهم من اليونان وقد سكروا بخمر المحاورات، وكان من العسير عليهم أن يفهموا كيف يطبق أي إنسان المنطق الجاف، وما حواه كتاب الأرغانوق الهزيل، والطريقة "الوسطى الذهبية" الرصاصية التي ينادى بها أرسطو الحذر. ولكن هؤلاء الأفلاطونيين كانوا يصرون على أن يبقوا مسيحيين؛ وكأنما كان مارسليو فتشينو Marsilo Ficino ممثلا لهم ومندوبا عنهم حين كرس نصف حياته للتوفيق بين أسلوبي التفكير المختلفين. ولكي يحقق هذا الغرض شرع يدرس دراسة واسعة، وتوسع في هذه الدراسة حتى شملت زردشت وكنفوشيوس. ولما وصل في دراسته إلى أفلوطين، وترجم هو نفسه الانيازات، أحس أنه عشر في الأفلاطونية الحديثة الصوفية على الخيط الحريري الذي يستطاع به ربط أفلاطون بالمسيح. وحاول أن يصوغ هذا الارتباط في كتابه اللاهوت الأفلاطوني Theologia Platonica وهو خليط
_________
(1) أتباع ابن رشد الفيلسوف الأندلسي العربي. (المترجم)(21/27)
مهوش من الدين القويم، والإيمان بالعلوم الخفية، والهلينية، ووصل فيه بعد تردد وإحجام إلى نتيجة من نوع مذهب الأحدية (1) فقال إن الله هو روح العالم. وأصبح هذا هو فلسفة لورندسو والملتفين حوله، والمجامع العلمية الأفلاطونية في روما، ونابلي، وغيرهما من البلاد؛ ووصلت هذه الفلسفة من نابلي إلى جيوردانو برونو، ثم انتقلت من برونو إلى أسبنوزا، ومنه إلى هيجل، ولاتزال حية قائمة إلى يومنا هذا.
ولكنهم كانوا يجدون ما يقولونه دفاعا عن أرسطو وخاصة إذا أسيء فهمه وتفسيره. ترى هل كان أكوناس على حق حين فهم أنه يقول بالخلود السخصي، أو هل كان ابن رشد محقا حين فهم من كتاب النفس أنه لا يؤكد عدم الموت إلا لنفس بني الإنسان الكلية؟ وكان ابن رشد الرهيب ذلك الفيلسوف العربي المرعب، الذي ظل الفن الايطالي زمنا طويلا يصوره منكبا على وجهه تحت قدمي القديس تومس، كان ابن رشد هذا منافساً يدعو إلى غلبة الفلسفة الأرسطوطالية بلغ من قوته أن أضحت بدوا وبولونيا تعجان بإلحاده. وكانت بدوا هي التي أضاع فيها مرسيلوس، الذي تسمى باسمها، احترامه للكنيسة (2). وفي بدوا استقى فلبو ألجيري دانولا Algeri da Nola Filippo برونو المولود في نولا نفسها تلك الأخطاء المروعة التي لقى فيها ذلك المصير المحزن إذ ألقى به في برميل من القار وهو يغلي (40). ويبدو أن نقولتو فرنياس Nicoletto Vernias. كان، وهو أستاذ للفلسفة في بدوا (1471 - 1499)، يعلم فيها العقيدة القائلة إن النفس الكلية العالمية وحدها، لا النفس الفردية، هي الخالدة (41)، وعرض تلميذه أجستينو نيفو Agostino Nifo هذه الفكرة نفسها في رسالة له
_________
(1) أي القائلين بوحدة الوجود أي أن الله والعالم أحد واحد. (المترجم)
(2) ينتمي مرسليوس فيلسوف بدوا إلى الإصلاح الديني لا إلى النهضة ولهذا أرجأنا الحديث عنه إلى المجلد التالي.(21/28)
تدعى De intllectu et daemonibus، (1492) . وكان المتشككة يسعون في العادة إلى تهدئة ثائرة محكمة التفتيش بأن يفرقوا (كما كان ابن رشد يفرق) بين نوعين من الحقيقة- الدينية والفلسفية: فيقولون إن قضية من القضايا يمكن رفضها في الفلسفة إذا نظر إليها من ناحية العقل، ولكنها مع ذلك يمكن قبولها على أساس الإيمان إذا أخذنا بقول الكتاب المقدس أو الكنيسة. وعبر نيفو عن هذا المبدأ ببساطة كان فيها جريئا متهورا فقال: "يجب أن نتحدث كما يتحدث الكثيرون، ويجب أن نفكر كما يفكر القليلون (42). وبدل نيفو رأيه أو بدل أقواله لما تبدل لون شعره وتصالح مع مبادئ الدين القويم، وكان وهو أستاذ الفلسفة في بولونيا يجتذب الأعيان، وكرائم السيدات، وجماهير لا تحصى، محاضراته المصحوبة بالتهجم والسخرية، والمحلاة بالقصص والفكاهة. وأصبح من الناحية الاجتماعية أكثر معارضي بمبونتسى نجاحاً.
وكان بيترو بمبوتتسي، القنبلة المجهرية لفلسفة النهضة، ضئيل الجسم إلى حد جعل أصفياءه يسمونه بريتو Peretto - أي "بطرس الصغير". ولكنه كان كبير الرأس، عريض الجبهة، أقنى الأنف، صغير العينين، نفاذهما أسودهما، وكان رجلا يأخذ الحياة والفكر مأخذاً جدياً أليما. وقد ولد في مانتو (1462) ودرس الفلسفة والطب في بدوا، ونال الدرجتين فيهما وهو في سن الخامسة والعشرين، ولم يلبث أن أصبح أستاذاً في جامعة تلك المدينة نفسها وغمرته جميع تقاليد فلسفة بدوا المتشككة، وبلغت فيه غايتها، حتى قال في فانيني Vanini المعجب به: "لقد كان يحق إلى فيتاغورس أن يحكم بأن روح ابن رشد قد تقمصت جسم بمبونتسي (43). ويلوح أن الحكمة تكون على الدوام تجسيداً لحكيم قديم أو صدى لأقواله لأنها تبقى على الدوام دون أن يطرأ عليها تغيير بعد أن تمر بآلاف الأنواع المختلفة المتتابعة من الأغلاط.(21/29)
ووصال بمبونتسي التدريس في بدوا من 1495 'لى 1509، ثم اجتاحت أعاصير الحرب المدينة وأغلقت قاعات جامعتها التاريخية. وفي عام 1512 نجده مستقرا في جامعة بولونيا حيث بقي إلى آخر أيام حياته، وتزوج ثلاث مرات، وظل على الدوام يحاضر عن أرسطو، ويشبه في تواضع جم علاقته بأستاذه بدودة تحاول ارتياد مجاهل فيل (44). وكان يرى أن من الأسلم له ألا يعرض آراءه كأنه هو صاحبها، بل أن يعرضها على أنها متضمنة في آراء أرسطو كما شرحه أسكندر الأفروديسي. وكانت طريقته تبدو أحيانا مسرفة في التواضع؛ يظهر فيه الخضوع الشديد للسلطة الميتة. غير أنه لما كانت الكنيسة تدعى أن عقائدها هي نفسها عقائد أرسطو، متبعة في ذلك رأي أكوناس، فلعل بمبونتسي كان يشعر بأن الجهر بأية عقيدة خارجة على سلطان الكنيسة عقيدة أرسطوطالية بحق ستؤدي إلى غضب رجال الدين، إن لم تؤد به هو نفسه إلى الحرق حياً. ذلك أن مجلس لاتران الخامس الذي عقد برياسة ليو العاشر (1513) أدان كل من يقول إن النفس واحدة لا تتجزأ في جميع الناس، وغن النفس الفردية يحق عليها الفناء ونشر بمبونتسي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أكبر كتبه المسمى في خلود النفس الذي حاول فيه أن يثبت أن هذا الرأي الذي رفضه المجلس هو رأى أرسطو بحذافيره، فأرسطو حسبما يرى بترو يقول إن العقل يعتمد على المائدة في كل خطوة من خطى تفكيره، وإن أكثر المعارف تجريداً تستقى في آخر الأمر من الحواس؛ وإن العقل لا يستطيع أن يؤثر في العالم إلا عن طريق الجسم؛ ولهذا فإن النفس المجردة عن الجسم، إذا بقيت بعد الإطار الفاني، لا تكون إلا طيفا لا حول له ولا عمل يقوم به. ويختم بمبونتسي حديثه بأن من واجبنا بوصفنا مسيحيين ومن أبناء الكنيسة المخلصين لها، أن نؤمن بخلود النفس الفردية؛ أما بوصفنا فلاسفة فليس هذا من واجبنا, ويبدو أنه لم يدر قط بخلد بمبونتسي أن دعواه لا تستقيم أمام دعوى(21/30)
الكنيسة التي كانت تقول ببعث الجسم والروح جميعاً؛ ولعله لم يكن يحمل هذه العقيدة على محمل الجد، ولم يكن يظن أن قراءة أنفسهم سيحملونها على هذا المحمل. ومبلغ علمنا أن أحداً لم يُثر رأيه هذا ضده.
وأثار الكتاب عاصفة من الاحتجاج، وأقنع الرهبان الفرنسيس دوج البندقية بأن يأمر بإحراق كل ما يمكن العثور عليه من نسخة علناً؛ ونفذ هذا الأمر فعلا. ثم قدمت الاحتجاجات إلى المحكمة البابوية، ولكن بمبو وببيبا كانت لهما مكانة سامية في مجالس ليو، وأكدا له أن النتائج التي يعرضها الكتاب سليمة ليس فيها ما يعارض الدين الصحيح، والحق أنها كانت كذلك. ولم يستطع المعارضون أن يسخروا ليو لما كانوا يريدون، وقد كان يعرف حق المعرفة تلك الحيلة الصغيرة حيلة الحقيقتين (1) التي يقول بها بمبونتسي بكتابة كلمة لطيفة يعلن بها خضوعه للكنيسة (45). وأجابه بترو إلى ما طلب وأصدر كتاب الاعتذار (1518) الذي يؤكد فيه بوصفه مسيحيا بان يؤمن بكل تعاليم الكنيسة. ثم أمر ليو حوالي ذلك الوقت أجستينو بأن يرد على كتاب بمبونتسي؛ وإذا كان أجستينو مولعاً بالجدل، فقد قام بهذه المهمة بحذق وسرور. ومن عجب أنه بينا كان رأس بمبونتسي معلقاً في ميزان محكمة التفتيش، إذا صح التعبير، كانت ثلاث جامعات تتنافس للانتفاع بخدماته؛ ولعل في هذا التنافس دليلا على أن العداء بين الجامعات ورجال الدين كان لا يزال قائماً لم تنقطع أسبابه. فلما أن سمع رجال الحكم في بولونيا أن بيزا تسعى لإغرائه بالمجيء إليها، وكانت وقتئذ خاضعة رسميا للبابا، ولكنها مع ذلك أصمت أذنها عن سماع نداء الرهبان الفرنسيس الحانقين، أطالت بقاء بمبونتسي فيها ثماني سنين أخرى ورفعت مرتبه إلى 1600 دوقة (20. 3000؟ دولار) في العام (46).
_________
(1) أي أننا نستطيع أن نقبل الشيء الواحد بالاعتماد على إيماننا الديني وأن نرفضه معتمدين على عقائدنا الفلسفية. (المترجم).(21/31)
وواصل بمبونتسي حملته التي يدعو فيها إلى التشكك في كتابين صغيرين لم ينشرهما في حياته. أرجع في أحدهما المسمى De incantione كثيراً من الظواهر الخارقة للطبيعة كما يزعم الناس إلى أسباب طبيعية. وكان سبب تأليفه أن طبيباً كتب إليه عن علاج شاف يقال إنه ثمرة رقى أو سحر، فأمره بيترو أن يشك في الأمر وكتب له يقول: "إن من السخف ومما يدعو إلى السخرية أن يحتقر الإنسان ما هو واضح وطبيعي لكي يلجأ إلى علة غير واضحة لا يؤكد صحتها أي احتمال موثوق به" (47). وهو بوصفه مسيحيا يؤمن بالملائكة والأرواح، ولكنه بوصفه فيلسوفا يرفضها، ويقول إن جميع العلل في عالم الله طبيعية. وهو يتأثر بتدريبه الطبي فيسخر بالاعتقاد الشائع في المصادر السحرية الخفية الشافية من الأمراض ويقول إنه لو كان في مقدور الأرواح أن تشفي أمراض الأجسام لكانت هذه الأرواح مادية أو كانت تستخدم وسائل مادية كي تستطيع أن تؤثر في جسم مادي، ثم يمضي فيصور في سخرية الأرواح السافية تهرول غادية رائحة ومعها ما لديها من جبس، ومرهم، وحبوب (48). على أنه يعتقد أن لبعض النباتات والحجارة قوة علاجية، ويصدق المعجزات الواردة في الكتاب المقدس، ولكنه يظن أنها كانت عمليات طبيعية، ويقول إن الكون تسيطر عليه قوانين ثابتة منسقة، وإن المعجزات ليست إلا مظاهر غير عادية لقوى طبيعية لا نعرف نحن إلا جزءاً من قدرتها ووسائلها، والناس يعزون إلى الأرواح أو إلى الله ما لا يستطيعون إدراكه بعقولهم (49). ويصدق بمبونتسي كثيرا مما ورد في التنجيم دون أن يرى في ذلك ما يتعارض مع هذه النظرة، نظرة العلل الطبيعية للأشياء؛ وهو لا يقول إن حياة الآدميين خاضعة لتأثير الأجرام السماوية فحسب، بل يضيف إلى ذلك أن جميع الأنظمة البشرية، ومنها الأديان نفسها، تنشأ، وتزدهر، وتضمحل بفعل المؤثرات السماوية، ويصدق هذا أيضا في رأيه على المسيحية، ويقول إن ثمة في تلك الأيام(21/32)
دلائل على أن المسيحية آخذة في الزوال (50)؛ ثم يقول بعدئذ إنه بوصفه مسيحيا يرفض هذا كله ويراه سخفاً وهراء.
أما كتابه الأخير De Fato فيبدو أنه أكثر اتفاقا مع الحقائق العلمية لأنه دفاع عن حرية الإرادة؛ وهو يعترف بأنه هذه الحرية لا تتفق مع علم الله بكل شيء ومعرفته بكل شيء قبل وقوعه، ولكنه يصر على اعتقاده بحرية الإنسان في نشاطه وعلى أنه لابد له أن يفترض في الإنسان قسطا من حرية الاختيار إذا كان للإنسان شيء من التبعة الأخلاقية. وكان في رسالته عن الخلود قد عالج إمكان نجاح أي قانون أخلاّ إذا لم يستند إلى العقاب والثواب تفرضهما قوة غير بشرية. وآمن بفخر شبيه بافتخار الرواقيين أن الفضيلة نفسها جزاء كاف للفضيلة، وليس ذلك الجزاء جنة بعد الموت (51)، ولكنه يقر بأنه لا يمكن حمل معظم الناس على مراعاة السلوك الحسن إلا بالاعتماد على الآمال والمخاوف يتلقونها من قوة غير بشرية. وهذا فيما يقول، هو الذي دعا كبار المشرعين إلى أن يغرسوّا في نفوس الناس الإيمان بوجود حالة في المستقبل تحل محل الشرطة التي لا يخلو منها مكان، وأكثر منها اقتصادا، ويبرر، كما يبرر أفلاطون تلقين الناس الخرافات والأساطير إذا كان في مقدورها أن تساعد على كبح جماح ما فطر عليه الآدميون من خبث (52).
"ولهذا وعدوا الصالحين بالنعيم السرمدي في الدار الآخرة، وأنذروا الصالحين بالعقاب الأبدي الذي يرعبهم أشد الرعب. والكثرة الغالبة من الناس، إذا فعلوا الخير، إنما يفعلونه خوفاً من العقاب الأبدي لا أملا في النعيم السرمدي، لأنا أكثر علما بالعقاب من تلك النعم السرمدية. وإذ كان في وسع الناس جميعاً أياً كانت طبقتهم أن يفيدوا من هذه الطريقة الأخيرة، فإن المشرع، وهو يرى ميل الناس إلى الشر وينزع هو إلى الخير العام، قد نادى بأن النفس الخالدة، غير مبال في ندائه هذا بالحقيقة، وإنما يعنى(21/33)
بالخير والصلاح، كي يستطيع بذلك أن يهدي الناس إلى الفضيلة (52أ).
وهو يرى أن الكثيرين من الناس يبلغون من السذاجة في العقل، والوحشية في الأخلاق درجة لابد معها من معاملتهم كما يعامل الأطفال أو المرضى، وليس من الحكمة أن يعلم هؤلاء العقائد الفلسفية. ويقول عن آرائه هو: " يجب ألا تنقل هذه الأشياء لعامة الناس لأنهم يعجزون عن تلقي هذه الأسرار، بل إن من واجبنا أن نحذر من التحدث عنها إلى رجال الدين الجهلاء" (53) وهو يقسم بني الإنسان إلى فلاسفة ورجال دين، ويعتقد اعتقاداً لا يصح لنا أن نلومه عليه وهو أن "الفلاسفة وحدهم هم آلهة الأرض، وأنهم يختلفون عن سائر الناس أيا كانت مراتبهم وأحوالهم، يقدر ما يختلف الناس الأحياء عن تلك الصور المرسومة على القماش" (54).
وكان في اللحظات التي هو فيها أكثر تواضعاً منه في غيرها يدرك ضيق مجال العقل البشري وما في الميتافيزيقيا من عبث شريف. وقد صور نفسه في سنيه الأخيرة رجلا منهوكاً هزيلا، حائرا، وشبه الفيلسوف بيروميثيوس الذي حكم عليه بأن يشد إلى صخرة وأن ينقر قلبه صقر لا ينقطع عن ذلك أبداً (55) لأنه أراد أن يسرق النار من السماء- أي أن يختطف المعرفة الإلهية. ويقول في هذا: "إن المفكر الذي ينقب عن الأسرار الإلهية الخفية ليشبه بروتيوس Proteus ... فمحكمة التفتيش تحاكمه بتهمة الإلحاد، والجماهير تسخر منه لأنه أبله" (56).
وأنهك الجدل الذي شغل كثيراً من وقته قواه وأضعف صحته، فكان ينتابه الداء في أثر الداء حتى اعتزم أخيراً أن يموت، فأختار إلى الانتحار أشق صورة من صوره: إذا آثر أن يموت جوعاً، فقاوم كل حجة يراد بها حمله على العدول عن قراره وكل تهديد وجه إليه، وتغلب على القوة نفسها وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام أو الشراب، فلما مضت على هذا النظام الصارم سبعة أيام شعر بأنه كسب المعركة التي تقرر حقه في أن يموت،(21/34)
وأن يستطيع وقتئذ أن يتكلم وهو آمن فقال: "إني أفارق الحياة مسروراً ولما سأله بعضهم: أنى تذهب؟ أجاب "إلى حيث يذهب جميع الخلائق الهالكين". ويبذل أصدقاؤه آخر جهودهم ليقنعوه بأن يتناول بعض الطعام، ولكنه أنى وفضل الموت (1525) (57). وأمر الكردنال جندساجا الذي كان تلميذاً له أن تنقل رفاته إلى مانتوا وأن توارى في ثراها، وأقام فيها تمثالا تخليدا لذكراه، وجرى في هذا على سنة التسامح التي تسود عصر النهضة.
ولقد عمد بمبونتسي إلى التشكك الذي ظل قرنين كاملين يحطم أسس العقائد المسيحية فصاغه في صورة فلسفية. واجتمعت عوامل كثيرة لتجعل الطبقات الوسطى والعليا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر "أكثر الشعوب الأوربية تشككاً" (58)، نذكر منها إخفاق الحروب الصليبية؛ انتشار الأفكار الإسلامية في العالم الغربي بتأثير الحروب الصليبية، والتجارة، والفلسفة العربية؛ وانتقال البابوية إلى أفنيون، وانقسامها السخيف على نفسها في عهد الانشقاق الكبير؛ وتكشف عالم وثني يوناني- روماني مليء بالحكماء والفن العظيم رغم خلوه من الكتاب المقدس ومن الكنيسة؛ وانتشار التعليم وتحرره المتزايد من السيطرة الكهنوتية؛ وفساد أخلاق رجال الدين ومنهم البابوات أنفسهم وانهماكهم في شؤون الدنيا مما يوحي بعدم إيمانهم بما يجهرون به من عقائد؛ واستخدامهم فكرة المطهر لجمع المال لأغراضهم الخاصة، ومعارضة طبقات التجار وأصحاب المال الناشئة لسيطرة رجال الكنيسة؛ وتحول الكنيسة من منظمة دينية إلى سلطة دنيوية سياسية، هذه العوامل كلها وكثير غيرها هي التي أدت إلى النتيجة السالفة الذكر.
ويتضح من شعر بولتيان وبلتشي Pulci وفلسفة فتشينو Ficino، أن لوندرسو والملتفين حوله لم يكونوا يؤمنون إيماناً حقاً بحياة في الدار الآخرة؛(21/35)
كما أن عواطف مدينة فيرارا تتضح من استهزاء أريستو بالجحيم الذي كان يبدو لدانتي من قبل رهيبا بحق. ويكاد نصف الأدب في العصور الوسطى يكون معارضا للكهنوت؛ وكان كثيرون من رؤساء العصابات المغامرة يجهرون بكفرهم (59)، كما كان رجال الحاشية Cortigiani أقل تدينا من العاهرات Cortigiane، وكان التشكك في أدب وظرف سمة السيد المهذب، والصفة التي ينبغي له أن يتصف بها (60). وكان بترارك يأسف لأن كثيرين من رجال العلم يرون أن تفضيل الدين المسيحي على الفلسفة الوثنية دليل على الجهل (61)؛ وتبين أن معظم أفراد الطبقة العليا في البندقية في عام 1530 يهملون أداء الواجبات الدينية في عيد الفصح أي أنهم لا يذهبون للاعتراف وللعشاء الرباني ولو مرة واحدة في العام (62). ويقول لوثر أنه وجد قولاً شائعاً بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا حين يذهبون للقداس: "هيا بنا نرتكب الخطأ الذي يرتكبه العامة" (63).
أما عن الجامعات فإن الحادثة الآتية العجيبة تكشف عن مزاج الأساتذة والطلبة: دُعى سيمونى بوردسيو Simone Porzio تلميذ بمبونتسي بعد وفاة أستاذه بقليل ليحاضر في بيزا، فأختار موضوعاً لمحاضراته كتاب المتيورولوجيا لأرسطو. ولكن المستمعين لم يعجبهم هذا الموضوع، وصاح بعضهم بعد أن نفذ صبرهم: "وماذا تقول في النفس؟ quid de anima". واضطر بوردسيو إلى أن يطرح كتغاب الميتوروجيا جانباً ويتناول كتاب النفس وسرعان ما كان المستمعون كلهم آذاناً صاغية (64). ولسنا نعرف هل جهر بوردسيو في تلك المحاضرة باعتقاده أن النفس البشرية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن نفس أسد أو نبات؛ ولكننا نعرف أن هذا هو ما كان يدعو إليه في كتابه العقل البشري De mente humana (65) ؛ ويبدو أنه لم يصب بأي أذى من جراء دعوته هذه. وروى يوجينيو طرالبا(21/36)
Euginio Tarralba، الذي اتهمته محكمة التفتيش الأسبانية في عام 1528، أنه كان في شبابه يأخذ العلم في روما على ثلاثة من المعلمين يقولون كلهم إن النفس هالكة (66). ودهش إرمس إذ وجد في روما أن المبادئ الأساسية للدين المسيحي كانت موضوعات للجدل المتشكك بين الكرادلة أنفسهم؛ وأن واحداً من رجال الكنيسة أخذ يشرح له سخف الاعتقاد بحياة في الدار الآخرة؛ وكان غيره يسخرون من المسيح والرسل؛ وكان غيرهم، كما يؤكد إرزمس نفسه، يقولون إنهم سمعوا كبار الموظفين البابويين ينكرون القداس ويسبونه (67). أما الطبقات الدنيا فقد ظلت مستمسكة بأيمانها، كما سنرى بعد؛ وما من شك في أن الآلاف المؤلفة الذين أنصتوا إلى سفنرولا كانوا يؤمنون بما يسمعون؛ ولنا في المثل الذي ضربه فتوريا كولنا ما يدل على أن التقى قد يبقى مع العلم. لكن سهام الشك كانت قد نفذت في العقيدة الكبرى؛ وكانت روعة أسطورة العصور الوسطى قد لوثها ما تراكم عليها من ذهبها.(21/37)
الفصل الخامس
جوتشيارديني
إن عقل جوتشيارديني لهو خلاصة لما حدث في ذلك الوقت من تشكك منشؤه خيبة أمله وتكشف الغشاء عن عيني أهله. وكان هذا العقل من أقوى عقول زمانه، لا يطبقه ذوقنا لإسرافه في سخريته، ولا يتفق مع آمالنا لإفراطه في تشاؤمه، ولكنه عقل نافذ كالضوء الكشاف يجوب أطراف السماء، صريح صراحة الكاتب الذي قرر بحكمته ألا ينشر ما يكتب إلا بعد وفاته.
وكان فراتتشيسكو جورتشيارديني يستمتع منذ البداية بميزة مولده الأرستقراطي. فكاغن منذ طفولته يستمع إلى حديث المتعلمين باللغة الإيطالية الصحيحة، وقد تعلم أن يقبل الحياة كما هي بواقعية الرجل الواثق من مكانته وطمأنينة باله. وقد شغل عم والده منصب حامل شعار الجمهورية عدة مرات؛ كما تولى جده معظم المناصب الرئيسية في الحكومة واحداً بعد واحد؛ كان والده يعرف اللغتين اللاتينية واليونانية وقد شغل هو الآخر عدة مناصب دبلوماسية. وكتب فرانتشيسكو يقول إن "أشبينه هو مستر مرسيلو فتشينو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيون في العالم في أيامه" (68) ولم يحل هذا بين المؤرخ وبين أن يكون أرسطوطاليسي النزعة. ودرس القانون المدني وعن وهو في الثالثة والعشرين من عمره أستاذا للقانون في جامعة فلورنس. وكان كثير الأسفار، ولم يفته حتى أن يلاحظ "المخترعات العجيبة التي لا يتصورها العقل"، والتي ابتدعها هيرونيمس بوش Bosch Hieronymus فلاندرز (69) وتزوج ماريا سلفياتي Maria Salviati وهو في السادسة والعشرين من عمره "لأن آل سلفياتي كانوا، فضلا عن تراثهم العظيم،(21/38)
يفوقون غيرهم من الأسر في النفوذ والسلطان، وأنا مولع أشد الولع بهذه الأشياء" (70).
ولكنه مع ذلك كان شغوفا بالتفوق يروض نفسه على تأليف الكتب العظيمة في فن الأدب. وقد كتب وهو في السادسة والعشرين من عمره تاريخ فلورنس Storia Fiorentina وهو من أعجب ثمار عصر نرى فيه العبقرية التي امتلأ إناؤها بتراثها المستعاد، ولكنها تحررت من التقاليد، تناسب حرة كاملة في عشرات المسايل، وقد اقتصر هذا الكتاب على جزء قصير من تاريخ فلورنس، وهو الجزء المحصور بين عامي 1378 و 1509، ولكّنه عالج هذه الفترة بدقة في التفاصيل، وبحث للمراجع ونقد لها، وتحلي نفاذ للعلل، ونضوج ونزاهة في الحكم، وقدرة على القصص الواضح في لغة إيطالية حلوة؛ لم يرق إلى شيء منها تاريخ فلورنس Storie Fiorentine الذي كتبه ميكيفلي بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت في العقد السابع من حياته.
وأرسل جوتشارديني في عام 1512، وهو لا يزال شاباً في الثلاثين، سفيراً لفرديناند الكاثوليكي، ثم عينه ليو العاشر وكلمنت السابع في أوقات متعاقبة متلاحقة حاكما لرجيو إميليا، ومودينا، وبارما، ثم حاكما عاما على إقليم رومانيا كله، ثم قائداً عاماً لجميع الجيوش البابوية، وعاد إلى فلورنس في عام 1534 وأيد السندروده ميديتشي طوال الخمس السنوات التي فرض فيها هذا الوعد سلطته الاستبدادية على المدينة. وكانت له اليد الطولى في إقامة كوزيمو الأصغر دوقاً على فلورنس، ولما ذهب ما كان يأمله من السيطرة على كوزيمو هذا انسحب إلى قصره الريفي ليكتب في عام واحد المجلدات العشرة التي يتألف منها أعظم كتبه على الإطلاق وهو تاريخ إيطاليا Storia d' Italia.(21/39)
وهذا الكتاب أقل من كتابه الأول. في حلاوة أسلوبه وقوته. وكان جوتشيارديني في هذه الأثناء قد درس كتابات الأدباء الإنسانيين وانزلق إلى الاهتمام بالشكل وجمال اللفظ؛ ومع هذا كله فالأسلوب جزل يبشر بنثر جبن Gibbon مضرب المثل في البلاغة. وعنوان الكتاب الفرعي وهو تاريخ الحروب يقصر موضوعه على المسائل العسكرية والسياسية، ولكن ميدان البحث يتسع في الوقت نفسه حتى يشمل كل إيطاليا، وكل أوربا من حيث علاقتها بإيطاليا؛ وهذا أول تاريخ ينظر إلى نظام أوربا السياسي على أنه كل متصل. وجوتشيارديني يكتب في الغالب عما شاهده بنفسه، وإذا ما قرب الكتاب من نهايته فإنه يكتب عن الحوادث التي اشترك فيها بنصيب، وقد بذل جهودا كبيرة في جميع الوثائق؛ وهو أكثر دقة وأجدر بالثقة من مكيفلي. وكان إذا ما رجع إلى العادة القديمة، التي يرجع إليها معاصره الذي يفوقه شهرة، عادة اختراع الخطب ليلقيها أشخاص قصته، يقول بصراحة إن هذه الخطب ليست صحيحة إلا في جوهرها، وينص على أن بعضها حقيقي؛ وهو يستخدم هذه وتلك ليعرض على القاريء جانبي موضوع من موضوعات النقاش أو يكشف عن سياسة الدول الأوربية في الداخل والخارج. وهذا التاريخ الضخم وتاريخ فلورنس الباهر مجتمعين يرفعان جوتشيارديني إلى مقام أعظم مؤرخ في القرن السادس عشر. وكما أن نابليون كان شديد الرغبة في أن يرى الفيلسوف جيته، كذلك أبقى شارل الخامس في بولونيا الأعيان وقواد الجيش جالسين في حجرة الانتظار بينما كان هو يتحدث مع جوتسيارديني حديثاً طويلا، ويقولك "إن في وسعي أن أخلق عشرين نبيلا في ساعة، ولكني لا أستطيع إيجاد مؤرخ واحد في عشرين عاماً" (71).
أما من حيث هو رجل من رجال الدنيا، فإنه لم يكن ينظر بعين الجد إلى ما يبذله الفلاسفة من جهود لمعرفة أسرار الكون. وما من شك في أنه لو رأى ما يثيره بمبونتسي من حماسة لتبسم ساخراً منها. وكان يرى أن من(21/40)
العبث أن يثور بيننا النزاع حول خوارق الطبيعة لأن هذه الخوارق بعيدة عن مداركنا. والأديان كلها في رأيه تقوم على افتراض صحة الأساطير، ولكن هذا مما يمكن اغتفاره إذا كانت هذه الأديان تساعد على الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي والتأديب الأخلاقي؛ ذلك بأن الإنسان، كما يراه جوتشيارديني، أناني يعمل لنفسه، فاسد الأخلاق، خارج على القانون؛ ولهذا وجب أن توضع في سبيله، في كل خطوة يخطوها، عوائق من العادات، والأخلاق، والقوانين، والقوة، والدين في العادة أقل الوسائل الموصلة إلى هذه الغاية مدعاة للنفور. ولكن إذا ما فسد الدين حتى أصبح عاملاً على فساد الأخلاق بدلا من أن يكون سبباً في صلاحها، فإن المجتمع تسوء حالته لأن الدعامة الدينية التي يستند إليها قانونه الأخلاقي قد تقوضت من أساسها، ويكتب جوتشياديني في سجله السري يقول:
ليس ثمة من يبغض الطمع، والشره، ومظاهر الإفراط في القساوسة كما أبغضها أنا، وليس ذلك لأن كل الشرور بغيضة في ذاتها فحسب، بل لأن ... هذه الشرور يجب ألا يكون لها مكان عند رجال يفترض فيهم أنهم ذوو علاقة خاصة بالله ... ولقد كانت علاقتي ببعض البابوات مما جعلني أرغب في مثل عظمتهم مضحياً في سبيل ذلك بمصالحي نفسها. ولولا هذا الاعتبار لأحببت مارت لوثر كما أحب نفسي؛ وليس ذلك لأني أحب أن أكون حراً طليقاً من القيود التي تفرضها علينا المسيحية ... بل لأني أحب أن أرى هذا الحشد من الأوغاد ( questa caterva di scelerate) محصورين في نطاق الحدود الواجبة، فإما أن يحيوا حياة مبرأة من الإجرام أو حياة مجردة من السلطان (72).
ولكن أخلاقه مع ذلك قلما كانت خيراً من أخلاق القساوسة؛ وكان القانون الذي وضعه لحياته هو أن يكيف نفسه في كل ساعة حتى تتفق مع أقوى سلطة قائمة. أما مبادئه العامة فقد اختص بها كتبه، وفيها هي أيضا يستطيع أن يكون ساخراً سخرية مكيفلي:(21/41)
"إن الإخلاص مجلبة للسرور ويكسب صاحبه الثناء؛ أما الخداع فمجلبة للوم والكراهية، بيد أن أولهما أكثر نفعا للناس منه لصاحبه؛ ولهذا فإن من واجبي أن أثني على من كان أسلوب حياته متسما بالصراحة والإخلاص، فلا يلجأ إلى الخداع إلا في بعض الأشياء ذات الخطر العظيم، وفي هذه الحالة يكون الخداع أكثر نجاحا كلما كثرت محاولات الإنسان في أن يشتهر بين الناس بالإخلاص (73).
وكان ينفذ ببصره وراء دعاوى الأحزاب السياسية المختلفة في فلورنس، ويرى أن كل حزب وإن نادى بالحرية إنما يسعى وراء السلطان:
"يبدو واضحا لي أن الإنسان قد طبع على الرغبة في السيطرة على زملائه وإثبات تفوقه عليهم، ولهذا فما أقل من يحبون الحرية حباً يحول بينهم وبين تحين الفرصة المناسبة لحكم الناس وفرض السلطان عليهم. انظر عن كثب إلى سلوك الناس الذين يقيمون في مدينة واحدة، ولاحظ خلافاتهم وتقص أسبابها، تجد أن هدفهم التسلط عليهم لا طلب الحرية لهم. ولهذا ترى أن أكبر الأهلين مقاماً لا يسعون إلى الحرية، وإن كانوا لا ينفكون يلوكون هذا بلسانهم، بل كل ما يضمرونه في سرائرهم هو ازدياد سلطانهم وتفوقهم على غيرهم. أما الحرية عندهم فهي خداع وتصنع يخفى وراءه شهوة التفوق في السلطان والشرف (74).
وكان يحتقر جمهورية سدريتي التجارية التي اعتادت أن تحمى حريتها بالذهب لا بالسلاح، ولم يكن يؤمن بالشعب ولا بالديمقراطية.
"إن الحديث عن الشعب حديث عن الجنون، لأن الشعب وحش جبل على الاضطراب والأخطاء، ومعتقداته الباطلة بعيدة عن الحقيقة بعد أسبانيا عن الهند ... وتدل التجارب على أن الأشياء قلما تحدث كما تتوقع الجماهير ... وسبب ذلك أن النتائج ... تعتمد في العادة على رغبة عدد قليل من الأفراد تختلف نواياهم وأهدافهم في جميع الأحوال تقريبا عن نوايا الكثرة وأهدافها" (75).(21/42)
وكان جوتشارديني مثلا كآلاف في إيطاليا إبان عصر النهضة، لا إيمان لهم في شيء على الإطلاق، فقد واحب المسيحية، وعرفوا أضواء السياسة؛ ولم تكن لهم مثل عليا، أو أحلام؛ ألقوا بأنفسهم في أماكنهم لا حول لهم ولا طول بينما كانت الحرب والهمجية تكتسحان إيطاليا؛ وكانوا شيوخاً مفكرين تحررت عقولهم وتحطمت آمالهم، تبينوا بعد فوات الأوان أنه إذا ماتت الأساطير فلن تتحرر إلا القوة.(21/43)
الفصل السادس
مكيفلي
1 - الدبلوماسي
بقي من هذه الطائفة رجل واحد يصعب علينا أن نضمه إلى صنف بعينه، فقد كان دبلوماسيا، ومؤرخاً، وكاتباً مسرحياً، وفيلسوفاً، وأكبر مفكر ساخر في زمانه، ولكنه كان مع ذلك وطنيا متحمسا يتحرق رغبة في تحقيق مثل أعلى نبيل، أخفق في كل ما أخذ على عاتقه أن يقومه من الأعمال، ولكنه طبع التاريخ بطابع يكاد يكون أشد عمقاً مما طبعه به إنسان آخر في ذلك العصر.
كان نقولو مكيفلي ابن أحد المحامين في فلورنس- وكان هذا المحامي رجلا متوسط الثراء، يشغل منصبا صغيرا في الحكومة، ويمتلك بيتاً ريفياً صغيراً في سان كاستشيانو San Casciano على مسيرة عشرة أميال من المدينة. وتلقى الغلام التعليم الأدبي المعتاد، وتعلم أن يقرأ اللغة اللاتينية بسهولة، ولكنه لم يتعلم اللغة اليونانية. وراقه التاريخ الروماني، وأولع بليفي؛ ويكاد يجد لكل نظام سياسي، وكل حادثة في أيامه شبيهاً في تاريخ روما يوضح ذلك النظام وتلك الحادثة. وبدأ يدرس القانون، ولكن يبدو أنه لم يتم هذه الدراسة؛ وقلما كان يعنى بفن النهضة، ولم يظهر شيئا من الاهتمام حين كشفت أمريكا، ولعله كان يشعر بأن كل ما حدث بعد هذا الكشف أن مسرح السياسة قد اتسع، أما المسرحية فستبقى كما كانت وسيظل أشخاصها دون تغيير. وكان شغله الشاغل هو السياسة، فن الحصول على النفوذ، ولوحة الشطرنج التي تنتقل عليها قطع القوة والسلطان. وعين في عام 1498(21/44)
وهو في التاسعة والعشرين من عمره أميناَ للديتشي دلا جويرا Dieci della Guerra- مجلس الحرب المكون من عشرة- وظل في هذا المنصب أربعة عشر عاماً.
وكان هذا المنصب في بادئ الأمر من المناصب المتواضعة- عمله جمع محاضر الجلسات، والسجلات، وتلخيص التقارير، وكتابة الرسائل؛ ولكنه كان يعمل في أداة الحكم، ويستطيع مراقبة سياسة أوربا من نقطة الملاحظة الداخلية، وكان في وسعه أن يحاول التنبؤ بالتطورات المقبلة بتطبيق معلوماته التاريخية .. وأحست روحه المتوثبة، العصبية، الطموحة، بأن الوقت دون غيره هو الذي يحتاجه لكي يرقى إلى القمة، ويسخر قوى الدولة العنيفة ضد دوق ميلان، ومجلس شيوخ البندقية، وملك فرنسا، وملك نابلي، والبابا، والإمبراطور. وما لبث أن أرسل في بعثة إلى كترينا اسفوردسا Caterina Sforza كونته إمولا وفورلي (1498). وأثبتت كترينا أنها أشد دهاء من أن تقع في حبائله، فعاد صفر اليدين بعد أن لاقى جزاءه. وجُرّب مرة أخرى بعد عامين، وصحبه في هذه التجربة فرانتشيسكو دلا كاساس في بعثة إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا. ومرض دلا كاسا، وكان على مكيفلي أن يرأس البعثة؛ فتعلم اللغة الفرنسية، وتنقل مع الحاشية من قصر إلى قصر، وبعث إلى مجلس السيادة من الأنباء اليقظة، والتحليلات الدقيقة، ما جعل أصدقاءه في فلورنس يثنون عليه ويقولون إنه أصبح دبلوماسياً ضليعاً.
وكانت نقطة الانقلاب في تطور ذهنه هي البعثة التي عين فيها مساعداً للأسقف سدريني وسافرت إلى سيزاري بورجيا في أربينو (1502). ولما استدعى إلى فلورنس ليلقى بياناً عنها بنفسه، احتفل بمنزلته الراقية التي بلغها في العالم بأن أتخذ له زوجة. وأرسل مرة أخرى إلى سيزارى في شهر أكتوبر، فالتقى به في إمولا، ووصل إلى بنجاليا Benigallia في الوقت الذي(21/45)
استطاع أن يرى فيه سعادة بورجيا بعد أن أفلح في اقتناص الذين ائتمروا به، أو خنقهم، أو سجنهم. وكنت هذه حوادث هزت مشاعر إيطاليا بأجمعها؛ أما أثرها في مكيفلي بعد أن التقى بالطاغية الباهر وجها لوجه، فقد كانت دروساً في الفلسفة. ذلك أن رجل الأفكار وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل الأعمال فكرمه هذا وعظمه، وتحرق قلب السياسي الشاب حسداً حين أدرك المسافة التي لابد له أن يقطعها من التفكير التحليلي النظري إلى العمل الرائع المحطم. فها هو ذا رجل يصغره بست سنين، قد قضى في سنتين اثنتين على أكثر من عشرة طغاة مستبدين، وأصدر الأوامر إلى أكثر من عشر مدن، وأثبت أنه الكوكب الوضاء في سماء زمانه؛ وما أضعف ما بدت الألفاظ أمام هذا الشاب الذي لم يكن ينطق منها إلا بالقليل، وكان ينطق بهذا القليل في ازدراء! وأصبح سيزارى بورجيا من تلك الساعة بطل فلسفة مكيفلي، كما أصبح بسمارك فيما بعد بطل فلسفة أخلاقية فوق الخير والشر، ونموذجاً للإنسان الأسمى.
ولما عاد مكيفلي إلى فلورنس في عام 1503، أدرك أن بعض رجال الحكومة يظنون أن بورجيا الجريء المتهور قد غلبه على أمره فبدل عقليته غير ما كانت. ولكن جهوده التي بذلها لتحقيق مصالح مدينته أعادت إليه احترام سديني حامل شعار المدينة ومجلس العشرة الحربي. وشهد في عام 1507 انتصار مبدأ من مبادئه الأساسية. فقد كان من زمن بعيد يقول إنه ما من دولة تحترم نفسها تقبل أن تعهد بالدفاع عن أراضيها إلى جنود مرتزقين، وذلك لأنها لا تستطيع الركون إليهم في الأزمات، ولأن في مقدور العدو المسلح بالقدر الكافي من الذهب أن يبتاعهم هم وقائدهم. ولهذا يرى مكيفلي أن يجب إنشاء قوة حرس وطني من أبناء البلاد، والأفضل أن تكون هذه القوة مؤلفة من الفلاحين الأشداء الذين ألفوا المشاق وعاشوا(21/46)
في الهواء الطلق. ويجب أن تكون هذه القوة على الدوام حسنة التجهيز والتدريب، كما يجب أن تكون هي آخر خط للدفاع القوي الثابت عن الجمهورية. وقبلت الحكومة هذا المشروع بعد تردد طويل، وعهدت إلى مكيفلي أن ينفذه. فلما كان عام 1508 قاد حرسه الوطني إلى حصار بيزا، حيث أظهر براعة فائقة، وسلمت له بيزا، وعاد مكيفلي إلى فلورنس وقد بلغ ذروة مجده.
وأرسل في بعثة أخرى إلى فرنسا (1510)، اجتاز فيها سويسرا، وأثار حماسته الاستقلال المسلح لدولة سويسرا الاتحادية، واتخذها مثلاً أعلى يريد أن يحققه لإيطاليا. ولما عاد من فرنسا أدرك المشكلة التي تواجهها بلاده: كيف تستطيع إماراتها المتفرقة أن تتحد لتدافع عن إيطاليا إذا ما قررت دولة متحدة مثل فرنسا أن تستولي على شبه الجزيرة بأجمعها.
وجاءت التجربة الكبرى لحرسه الوطني قبل الأوان. ذلك أن يوليوس الثاني قد استشاط غضبا من فلورنس لأنها رفضت الانضمام إليه في طرد الفرنسيين من إيطاليا، فأمر جيوش الحلف المقدس في عام 1512 أن تسقط حكومة الجمهورية وتعيد آل ميديتشي إلى العرش. وهزم حرس مكيفلي الوطني الذي عهد إليه الوقوف في خط الدفاع الفلورنسي عند براتو Prato وولى رجاله الأدبار أمام جنود الحلف المدربين. واستولى جنود الحلف على فلورنس، وانتصر آل ميديتشي، وفقد مكيفلي سمعته ومنصبه الحكومي، وبذل كل ما في وسعه لاسترضاء المنتصرين؛ وكان يسعه أن ينجح، لولا أن شابين متحمسين دبرا مؤامرة لإعادة الجمهورية، فاكتشف أمرهما، ووجد بين أوراقها ثبت يحتوي أسماء أشخاص يعتمدان على تأييدهم، ومن بينها اسم مكيفلي؛ فألقى القبض عليه، وعذب أربع دورات على العذراء؛ ولكنهم لم يجدوا دليلا على اشتراكه في المؤامرة فأطلق سراحه. وخشى مكيفلي أن يقبض عليه مرة أخرى، فانتقل هو(21/47)
وزوجته وأبناؤه الأربعة إلى بيت أسرته في سان كاستثيانو، حيث قضى السنين الخمس عشرة الباقية من عمره ماعدا السنة الأخيرة منها، يعاني الفقر ويعلل نفسه بالآمال، ولولا هذه الكارثة لما سمعنا به قط، لأن هذه السنين العجاف هي التي ألف فيها الكتب التي هزت مشاعر العالم كله.
2 - المؤلف والرجل
وكانت هذه عزلة موحشة لرجل عاش في خضم بحر السياسة الفلورنسية. وكان احياناً يذهب راكباً إلى فلورنس ليتحدث مع أصدقائه القدامى، ويتحسس ما عسى أن يكون هناك من فرص للعودة إلى المناصب الحكومية. وكتب عدة مرات إلى آل ميديتشي في هذا الموضوع، ولكنه لم يتلق منهم جواباً، وقد وصف حياته في رسالة ذائعة الصيت إلى صديقه فتوري Vittori سفير فلورنس في روما، وأشار فيها إلى سبب تأليف كتاب الأمير فقال:
لقد ظلت منذ حلت بي الكارثة الأخيرة أحيا حياة هادئة في الريف؛ فأصحو في مطلع الشمس وأسير إلى إحدى الغابات حيث أقضي بضع ساعات أراجع فيها عمل الأمس؛ ثم أمضي بعض الوقت مع قاطعي الأشجار وأجد لديهم على الدوام متاعب يفضون بها إلىَّ سواء أكانت متاعبهم هم أو متاعب جيرانهم. فإذا غادرت الغابة ذهبت إلى نبع ماء ثم إلى حظيرتي التي أصطاد منها الطيور، وتحت إبطي كتاب دانتي، أو بترارك أو أحد الشعراء الذين هم أقل منهما شأناً مثل تيبلس Tibellus أو أوفد. وأقرأ في هذه الكتب عن عواطفهم الغرامية وقصص حبهم، فتذكرني بتاريخ حبي أنا؛ ويمر الوقت وأنا مبتهج مسرور بهذه الأفكار. ثم آوى بعدئذ إلى الفندق القائم على جانب الطريق، وأتحدث إلى المارة، وأسألهم أن أخبار الأماكن التي أقبلوا منها، وأستمع منهم إلى ما يحدثونني عنه وهو كثير، وألاحظ مختلف(21/48)
الأذواق والأوهام المستكنة في عقول بني الإنسان. وأصل بهذا إلى ساعة الغذاء فأبتلع في صحبة من معي ما عسى أن أجده في هذا المكان الصغير من طعام غير ذي شأن يفى به ما ورثته عن أبوي من مال قليل. وأعود بعد الظهر إلى الفندق حيث أجد في العادة صاحبه، وقصاباً، وطحاناً، واثنين من صانعي الطوب، فأختلط مع هؤلاء الأقوام الغلاظ طول النهار ألعب معهم النرد وغيره، وتثور بيننا آلاف المنازعات، ونتبادل كثيراً من السباب، ونتشاحن على أتفه النقود حتى تسمع أصواتنا في بلدة سان كاستشيانو. ويؤدي انغماسي في هذا الانحطاط إلى ضعف قواي العقلية، فأصب غضبي على القدر وبلواه ...
وأعود إلى داري في المساء، وآوي إلى حجرة مكتبي؛ وأخلع عند بابها ملابسي الريفية الملطخة بالطين والأقذار، وأرتدي ثياب رجال البلاط؛ حتى إذا لبست ما يليق بي من الثياب دخلت الأبهاء القديمة لقدماء الرجال الذين يرحبون بي أحسن الترحيب، ويطعمونني الطعام الوحيد الذي أحبه وأرتضيه؛ والذي ولدت له، ولا أستحي من التحدث اليهم وسؤالهم عن بواعث أعمالهم، وتصل بهم إنسانيتهم إلى أن يجيبوا عن أسئلتي، وأقضي على هذا النحو أربع ساعات لا أشعر فيها بملل ولا أذكر فيها متاعب، ولا أعود أخشى الفقر أو أرهب الموت، لأن كياني كله يكون مستغرقاً فيهم. وإذ كان دانتي يقول إنه لا وجود لعلم دون أن يحتفظ الإنسان بما يستمع، فقد سجلت ما حصلت عليه من حديثي مع هؤلاء العظام وألفت منه كتيباً سميته في الامارة غرقت فيه إلى أبعد عمق أستطيعه من التفكير في هذا الموضوع، وبحثت فيه طبيعة الإمارة، وعدد أنواعها، وطريق الوصول إليها، والاحتفاظ بها، وسبب ضياعها؛ فإذا كنت تعني بشيء من عبئي، فإنك لن تجد في هذا مايسوؤك. ويجب أن يرحب به على(21/49)
الأخص كل أمير حديث العهد بالإمارة. ومن أجل هذا أهديه إلى فخامة جوليانو ... (في ديسمبر سنة 1513) (76).
ونرجح أن مكيفلي قد اختصر القصة بقوله هذا. والظاهر أنه بدأ بوضع كتابه المسمى أحاديث عن العشرة الكتب الأولى للبغي، وأنه لم يتم شروحه للثلاثة الأولى منها. وقد أهدى هذه الأحاديث Discorsi إلى دسانوبي بونديلمنتي Zanobi Bunodelmonti وكوزيمو رتشيلي Cosimo Rucelli وقال: "أبعث إليك بأعظم هدية أقدمها لك. لأنها تشمل كل ما تعلمته بالتجربة الطويلة والدراسة المستمرة. ويشير إلى أن آداب القدامى وقانونهم وطبعهم قد بعثت من جديد ليستنير بها المحدثون في كتاباتهم وأعمالهم؛ وهو يقترح كذلك بعث مبادئ الحكمة القديمة، وتطبيقها على السياسة المعاصرة. وهو لا يستمد فلسفته السياسية من التاريخ، ولكنه يختار من التاريخ حوادث تؤيد النتائج التي قادته إليها تجاربه وأفكاره. ويأخذ أمثلته كلها تقريباً من ليفي، وتؤدي به سرعته أحياناً إلى إقامة حججه على الأقاصيص، ويستعين في بعض الأحيان بمقتبسات من بوليبيوس Polybius.
ولما سار بعض الخطى في أحاديثه أدرك أنها ستطول أكثر مما يجب، وأنها لن تتم إلا بعد زمن طويل، فلا تفيد في أن تكون هدية عملية لأحد الحاكمين من آل ميديتشي. لهذا قطع عمله ليكتب خلاصة تضم ما وصل إليه من النتائج، لأن هذه تتاح لها فرصة لقراءتها أفضل من البحث المطول، وتكون أعود عليه بصداقة الأسرة القوية التي تحكم وقتئذ (1513) نصف إيطاليا. وهكذا وضع كتاب الأصول II principe ( وهو العنوان الذي اختاره له) في عدد قليل من شهور هذا العام. وكان ينوي إهداءه إلى جوليانو دي ميديتشي، الذي كان يحكم فلورنس في ذلك الوقت، ولكن جوليانو توفي (1516)، قبل أن يصمم مكيفلي على إرسال الكتاب إليه، ولهذا غير صيغة الإهداء وبعث به إلى لورندسو، دوق أربينو؛ الذي(21/50)
لم يرسل إليه ينبئه بوصوله. وتداولت الأيدي المخطوط، وكتبت منه عدة نسخ خلسة، ولم يطبع إلا في عام 1532 بعد خمس سنين من موت المؤلف، وأصبح من ذلك الحين من أكثر ما يعاد طبعه من الكتب في أي لغة من اللغات.
وليس في مقدورنا أن نضيف إلى ما وصف به نفسه إلا صورة له لا يعرف مصورها محفوظة في معرض أفيزي. ويظهر فيها شخصا نحيل الجسم، شاحب الوجه، غائر الخدين، حاد العينين أسودهما، رقيق الشفتين مطبوقهما، تنم معارفه عن رجل تفكير أكثر مما هو رجل عمل، له من الذكاء الحاد أكثر مما له من الإرادة الطيبة والوداعة. ولم يكن في مقدوره أن يصبح دبلوماسياً صالحاً، لأنه لم يكن يسعه أن يخفي دهاءه، ولا أن يكون حاكماً قديراً لأنه كان مسرفاً في عنفه، يقبض على الأفكار بتعصب وعناد، كما يقبض في صورته على قفازيه اللذين يؤكدان مرتبته نصف الأرستقراطية، وهذا الرجل الذي كثيراً ما كتب كما يكتب الفيلسوف الكلبى، والذي كثيراً ما تنقلب شفتاه انقلاب الساخر المتهكم، والذي اعتاد الكذب حتى جعل الناس يظنونه يكذب حين يقول الحق (77)، هذا الرجل كان في خبيئة نفسه وطنياً شديد الحماسة، يرى أن مصلحة الشعب هي القانون الأعلى، ويخضع كل القوانين الأخلاقية لغاية واحدة هي توحيد إيطاليا وإنقاذها مما تعانيه.
وكان يتصف بكثير من الصفات غير المحبوبة؛ منها أنه لما أقبلت الدنيا على بورجيا اتخذه مثلاً أعلى، ولما انصرفت عنه سار وراء الجماهير وندد "بالقيصر" الساقط ووصفه بأنه مجرم و "عاص للمسيح" (78). ولما طرد آل ميديتشي لعنهم بأفصح عبارة، فلما عادوا إلى الحكم لعق أحذيتهم ملتمساً منهم منصباً. ولم يكن يزور المواخير قبل الزواج وبعده فحسب،(21/51)
بل كان يبعث إلى أصدقائه بأوصاف مفصلة لمغامراته فيها (79) وإن كثيراً من رسائله لتبدو فيها الغلظة والوقاحة واضحتين وضوحاً لم يجرؤ معه كاتب سيرته والمعجب به، الذي أطال في الترجمة له، على نشرهما، ولما قرب مكيفلي من سن الخمسين كتب يقول: "إن شباك كيوبد لا تزال تقتنصني، والطرق الوعرة لا تستنفذ صبري، والليالي السوداء لا توهن شجاعتي ... إن عقلي كله لمتجه للحب اتجاهاً أحمد عليه فينوس" (80). تلك أشياء في وسعنا أن نغفرها له. لأن الرجل لم يخلق لكي يقتصر على زوجة واحدة؛ ولكننا لا نستطيع أن نغفر له بمثل هذه السهولة عدم وجود كلمة حنان واحدة موجهة إلى زوجته في كل ما بقي لدينا من رسائله وهو كثير؛ وإن كان هذا مما يتفق مع سنة تلك الأيام.
ووجه قلمه البليغ في هذه الأثناء إلى أنواع من التأليف متباينة، وبز الأساتذة في كل نوع منها. وكان منها رسالة في فن الحرب L'arte della guerra نشرها في عام 1520، وأعلن فيها من برجه العاجي للدول والقواد شرائع السلطة العسكرية والنجاح فقال أن الأمة التي تفقد الفضائل العسكرية أمة هالكة لا محالة. والجيش لا يحتاج إلى الذهب بل إلى الرجال؛ لأن "الذهب وحده لا يأتي بالجند الصالحين على الدوام، ولكن الجند الصالحين يأتون بالذهب" (81)، والذهب ينساب إلى خزائن الأمة القوية، ولكن القوة تفارق الأمة الغنية لان الثراء يعمل على الراحة والاضمحلال؛ ولهذا يجب أن يظل الجيش مشغولاً على الدوام، فحرب صغيرة تشب من حين إلى حين تبقى العضلات العسكرية صالحة والجهاز الحربي صالحاً متأهباً. وسلاح الفرسان جميل إلا إذا واجهته الحرب القوية؛ ويجب أن يعد هذا السلاح عصب الجيش وأساسه (82). والجنود المرتزقة عار يجلل إيطاليا، ودليل على تراخيها وضعفها، وسبب في خرابها، ومن واجب كل دولة أن يكون لها حرس وطني من أهلها مؤلف من رجال يحاربون دفاعاً عن وطنهم وأرضهم.(21/52)
وأراد مكيفلي أن يجرب حظه في القصص فكتب قصة تعد من أحب الروايات للشعب في إيطاليا، وهي قصة بيلفاجور أرتشديافولو Belfagor arcidiavolo، التي تفيض بالفكاهة والهجاء يصبهما على الزواج. ثم تحول بعدئذ إلى كتابة المسرحيات، فألف أهم مسلاة ظهرت على مسرح النهضة الإيطالي وهي مسرحية مندراجولا Mandragola. وتضرب مقدمة هذه الرواية نغمة جديدة إذ يجامل فيها النقاد مجاملة لا عهد لهم بها من قبل:
"إذا شاء أحد أن يبعث الخوف في قلب المؤلف بالقدح فيه، فإني أحذره بأن المؤلف أيضاً يعرف كيف يقدح، بل إنه بارع في هذا الفن، وأنه لا يحترم أحداً في إيطاليا وإن كان ينحني ويتذلل لمن هم أحسن لباساً منه (83) ".
والمسرحية تكشف عن أخلاق عصر النهضة كشفاً يروع الإنسان ويذهله. والمكان الذي تقع فيه حوادثها هو مدينة فلورنس، ومضمونها أن كليماكو Callimaco يسمع إنساناً يعرفه يمتدح جمال لكريدسيا زوجة نتشياس فيقرر أنه لابد من أن يغويها؛ وإن لم يكن قد رآها من قبل، وإن لم يكن يقصد بإغوائها إلا أن ينام هادئاً مستريح البال. ويقلقه أن لكريدسيا تشتهر بتواضعها بقدر ما تشتهر بجمالها، ولكن أمله يقوى حين يقال إن نتشياس يألم من أنها لا تحمل. ويرشو كليماكو صديقاً لكي يقدمه لنتشياس على أنه طبيب، ويدعى أنه سيخلط له مزيجاً يجعل في مقدور أية امرأة أن تحمل، ولكنه يعرف مع الأسف الشديد أن أي رجل يضاجعها بعد أن تتناوله سيموت بعد قليل، ويعرض عليه أن يقوم بهذه المغامرة المهلكة، ويرضى نتشياس أن يحل محله متبعاً في ذلك طيبة الخلق التقليدية التي يتصف به أشخاص القصص لمبتكريهم. غير أن لكريدسيا تناضل عن عفتها؛ وتتردد في أن ترتكب جريمتين في ليلة واحدة هما جريمة الزنا والقتل لكن الرجاء لن يخيب كله، ذلك أن أمها، في حرصها الشديد على أن يكون(21/53)
لابنتها خلف، ترشو راهباً فينصحها أثناء اعترافها بأن تنفذ الخطة؛ وتخضع لكريدسيا، وتشرب الدواء، وتنام مع كليماكو، وتحمل. وتختتم القصة خاتمة سعيدة لكل أشخاصها: فالراهب يطهر لكريدسيا، ويبتهج نتشياس لأنه أصبح له ولد مشكوك في بنوته، ويستطيع كليماكو أن ينام. والمسرحية ممتازة في بنائها، بديعة في حوارها، قوية في هجائها. وليس الذي يثير دهشتنا فيها هو ما موضوع الإغواء، الذي طالما رددته المسالي القديمة حتى مللناه، وليس هو ما تحتويه من تفسير الحب تفسيرا جسدياً شهوانياً، بل هو المحور الذي تدور عليه وهو استعداد الراهب لان يحلل الزنا نظير خمسة وعشرين دوقة؛ إن المسرحية قد مثلت في عام 1520 بنجاح عظيم أمام ليو العاشر. وقد بلغ من سرور البابا بها أن طلب إلى الكردنال جويليو ده ميديتشي أن يعهد إلى مكيفلي بعمل من نوع التأليف فاقترح جويليو أن يكون هذا العمل هو كتابة تاريخ لفلورنس وعرض عليه في نظير ذلك ثلاثمائة دوقة (3. 750؟ دولاراً).
وكتب التاريخ فعلاً (1520 - 1525) وكاد يحدث في فن كتابة التاريخ ثورة لاتقل حدة عن الثورة التي أحدثها في الفلسفة السياسية كتاب الأمير. ولسنا ننكر في الكتاب عيوب أساسية خطيرة: ذلك أن السرعة التي صدر بها جعلته عديم الدقة، وأنه نقل فقرات كبيرة عن المؤرخين السابقين، وأن النزاع بين الأحزاب كان يلقى فيه من الاهتمام أكثر مما تلقاه الأنظمة، وأنه أغفل التاريخ الثقافي إغفالا تاماً، كما أغفله المؤرخون كلهم تقريباً قبل أيام فلتير. ولكنه كان أول تاريخ كبير كتب باللغة الإيطالية؛ وكانت لغته الإيطالية هذه واضحة، جزلة، خالية من التعقيد؛ وقد رفض الخرافات التي كانت فلورنس تجمل بها منشأها؛ وتخلى عن الطريقة المألوفة القديمة وهي تأريخ الحوادث سنة فسنة، وعمد بدلا منها إلى الرواية المنسجمة المتصلة المنطقية؛ ولم يكن يعالج الحوادث(21/54)
فحسب. بل كان يبحث في أسبابها ونتائجها، وأفاض على فوضى السياسة الفلورنسية تحليلا للمنازعات القائمة بين الأسر، والطبقات والمصالح يكشف عنها ووضحها. وقد جعل محور القصة موضوعين يوحدان بين أجزائها: أولهما أن البابوات قد أبقوا إيطاليا مشتتة منقسمة على نفسها لكي يحافظوا على استقلال البابوية في الشؤون الزمنية، وثانيهما أن ما حدث في إيطاليا من تقدم عظيم كان في عهد الأمراء أمثال ثيودريك، وكوزيمو، ولورندسو. ومما يدل على شجاعة المؤلف، وكرم البابا من الناحيتين العقلية والمالية أن يكتب كتاباً بهذه النزعة رجل يسعى للحصول على المال من البابا، وأن يرضى البابا كلمنت السابع بأن يهدى إليه الكتاب دون أن يشكو مما جاء فيه.
وشغل تاريخ فلورنس مكفلي خمس سنين، ولكنه لم يحقق ما كانت تتوق إليه نفسه وهو عودته إلى السباحة في مجرى الساسة الموحل. ولما أن خسر فرانسس الأول كل شيء عدا شرفه وحياته في بافيا (1525)، وألفى كلمنت السابع نفسه عاجزا ضعيفا أمام شارل الخامس، بعث مكيفلي برسائل إلى البابا وإلى جوتشيارديني يوضح ما يستطاع عمله لصد الفتح الأسباني-الألماني الذي كان يتهدد إيطاليا؛ ولعل اقتراحه بأن يمد البابا جيوفني دلى باندى نيرى Giovanni della Bande Nere بالمال، والسلطان، والسلاح كان من شأنه أن يؤجل المصير المحتوم إلى حين. ولما مات جيوفني، وزحفت الجحافل الألمانية على فلورنس الحليفة الغنية لفرنسا والمجهزة لمن ينهبها، أسرع مكيفلي إلى المدينة، واستجاب إلى ما طلبه كلمنت فوضع تقريرا عن الطريقة التي يمكن بها إعادة أسوارها لجعلها صالحة للدفاع عنها. وفي الثامن عشر من مارس سنة 1526 اختارته الحكومة الميديتشية ليرأس لجنة من خمسة "أمناء على الأسوار". ليقوموا بهذه المهمة. غير أن الألمان مروا بفلورنس واتجهوا إلى روما. ولما نهبت هذه المدينة، وأسر الغوغاء كلمنت، طرد الحزب الجمهوري في فلورنس آل ميديتشي مرة أخرى(21/55)
من المدينة وأعادوا إليها الحكم الجمهوري. (16 مايو سينة 1527). وابتهج مكيفلي لهذا العمل وطالب بمنصبه القديم منصب أمين مجلس العشرة الحربي، وكان يرجو أن يعود إليه؛ لكنه لم يجب إلى طلبه (10 يونية سنة 1527)؛ ذلك أن صلابة آل ميديتشي قد أفقدته عطف الجمهوريين ومعونتهم.
ولم تطل حياته بعد هذه الصدمة؛ فقد خبث فيه جذوة الحياة والأمل وتركته جسداً بلا روح. وانتابه المرض، وكان يشكو من تقلصات شديدة في المعدة؛ واجتمع حول فراشه زوجته، وأبناؤه، وأصدقاؤه؛ واعترف أمام قسيس ومات ولما يمض على رفض طلبه غير اثني عشر يوماً، وخلف أسرته في الدرك الأسفل من الفاقة، وترك إيطاليا التي كان يعمل جاهداً لتوحيدها خراباً يبابا. ودفن في كنيسة الصليب المقدس، حيث أقيم له نصب جميل نقشت عليه هذه العبارة: "ليس في مقدور أي مديح أن يوفى هذا الاسم العظيم حقه" - وهو قول يشهد بأن إيطاليا التي توحدت آخر الأمر قد تجاوزت عن سيئاته وذكرت له أحلامه.
3 - الفيلسوف
ولنبحث الآن الفلسفة "المكيفلية" بأكثر ما نستطيع من النزاهة فنقول إننا لا نجد عند غير مكيفلي مثل ما نجده عنده من الاستقلال في الرأي ومن التفكير الجريء المجرد من الخوف في عالم الأخلاق والسياسة، وإن من حق مكيفلي أن يدعي أنه قد شق طرقاً جديدة في بحار لم يكد يطرقها أحد قبله.
وفلسفة مكيفلي تكاد تكون فلسفة سياسية خالصة، ليس فيها شيء من فلسفة ما بعد الطبيعة، ولا اللاهوت، ولا الإيمان أو الكفر، ولا بحث في الجبرية أو القدرية؛ وحتى الفلسفة الأخلاقية نفسها لا تلبث أن تنحني(21/56)
جانبا لأنها بوصفها فلسفة تابعة للسياسة، وتكاد تكون أداة لها. وهو يفهم السياسة على أنها الفن العالي الذي يراد به إيجاد دولة، أو الاستيلاء عليها، أو حمايتها، أو تقويتها؛ وهو يهتم بالدولة لا بالإنسانية عامة؛ ولا يرى في الأفراد إلا أنهم أعضاء في دولة، إلا إذا نظر إليهم من حيث أنهم يساعدون على تقرير مصيرها؛ وهو لا يعني قط باستعراض الأفراد على مسرح الزمان. وهو يريد أن يعرف لم تنشأ الدول وتسقط، وكيف يمكن تأخير اضمحلالها المحرم إلى أبعد ما يستطاع من الوقت.
وهو يرى أن فلسفة التاريخ وعلم الحكم أمكن وجودهما لأن الطبيعة البشرية لا تتبدل أبداً:
" يقول الحكماء، ولهم الحق فيما يقولون، إن من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائماً أبداً أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم نفس العواطف والانفعالات، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لابد أن تكون النتائج نفسها (84) ... وأنا أعتقد أن العالم كان هو يعينه على الدوام، وأنه كان يحتوي دائماً كل ما يحتويه الآن من خير وشر، وإن كان هذا الخير وذاك الشر يختلف توزيعهما بين الأمم باختلاف الأوقات" (85).
وظاهرتا نشأة الحضارات والدول واضمحلالها من أكثر الظواهر المتتابعة المنتظمة دلالة في التاريخ. وهنا يواجه مكيفلي مشكلة معقدة غاية في التعقيد بقانون بسيط غاية البساطة فيقول: "الشجاعة تنتج السلم؛ والسلم تنتج الراحة، والراحة تستتبع الفوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب. ومن الفوضى ينشأ النظام، والنظام يؤدي إلى الشجاعة ( Virtu) ، ومن هذه ينال المجد والحظ الحسن. ومن أجل هذا قال الحكماء إن عهد السمو الأدبي يأتي في أعقاب التفوق الحربي؛ وإن ... المحاربين العظام ينشئون قبل(21/57)
الفلاسفة" (86). وقد تكون هناك أسباب أخرى لنشأة الأمم واضمحلالها غير الأسباب العامة وهي عمل القادة والزعماء من الأفراد وتأثيرهم؛ من ذلك أن مطامع الحاكم المتطرفة، التي تعميه فلا يرى أن موارده لا تكفي لتحقيق أغراضه، قد تكون سبباً في خراب دولته إذ تجرها إلى الاشتباك في الحرب مع دولة أعظم منها قوة. وللحظ والمصادفات كذلك أثر في قيام الدول وسقوطها. "فالحظ هو الذي يتحكم في نصف أعمالنا، ولكنه يترك لنا مع ذلك القدرة على توجيه النصف الآخر" (87). وكلما كثر نصيب للإنسان من الشجاعة قل خضوعه لتقلبات الحظ واستسلامه له.
وتاريخ دولة ما يتبع قوانين عامة، يحددها ما تنطوي عليه طبيعة الناس من خبث وشر. والناس كلهم بطبيعتهم مقتنون، مخادعون، مخاصمون، قساة، فاسدون.
"ومن أراد أن ينشئ دولة، ويضع لها قوانين، فليفترض من بادئ الأمر أن الناس جميعاً أشرار، مستعدون على الدوام لأن يكشفوا عن خبث طويتهم إذا وجدوا الظروف الملائمة لهذا العمل؛ فإذا ما ظلت ميولهم الخبيثة مختفية إلى حين، فيجب أن يعزى اختفاؤها هذا إلى سبب غير معروف؛ ومن واجبنا أن نفترض أنها لم تجد الظروف الملائمة للكشف عن نفسها؛ ولكن الزمن ... لن يعجزه الكشف عنها ... والرغبة في الاقتناء من الغرائز الفطرية العامة في واقع الأمر، والناس جميعا يقتنون حين يستطيعون؛ ولهذا فإنهم يمدحون على ذلك ولا يلامون عليه" (88).
وإذا كان الأمر كذلك فإن الطريقة الوحيدة لجعل الناس أخياراً - أي قادرين على أن يعيشوا بنظام في مجتمع - هي أن يطبق عليهم القسر، والخداع، والاعتياد واحداً بعد واحد. ومن هذا تنشأ الدولة: تنظيم القوة على يد الجيش والشرطة، ووضع القواعد والقوانين، وتكوين العادات تدريجياً للاحتفاظ بالزعامة والنظام في الجماعة البشرية. وكلما كانت(21/58)
الدولة أكثر نماء. قلت الحاجة إلى استخدام القوة أو ظهورها فيها؛ واكتفى بدلا منها بالتعليم وغرس العادات، لأن الناس يكونون في يدي المشرع أو الحاكم القدير أشبه بالصلصال اللين في يدي المثال.
والين خير وسيلة لتعويد الناس الذين فطروا على الشر الخضوع إلى القانون والنظام. ويكتب مكيفلي الذي يسميه باولو جيوفيو Paolo Giovio أحد المعجبين به الكافر الهجاء (89)، عن الدين حماسة بالغة يقول:
"لم تر الآلهة أن الشرائع التي وضعها رميولوس كافية لروما، وإن كان هذا الأمير هو الذي أنشأها ... ، ولهذا أوحت إلى مجلس الشيوخ الروماني أن يختار نوما بمبليوس Numa Pompilius خليفة له ... ووجد نوفا شعباً متوحشاً أشد التوحش، أراد أن يغرس فيه عن طريق فنون السلم عادة الطاعة المدنية، فلجأ إلى الدين الذي رآه أقوى مؤيد للمجتمع المدني وألزمه، فأقامه على أسس بلغ من قوتها أن مضت قرون طوال دون أن يوجد في مكان ما خوف من الآلهة أكبر مما كان في هذه الجمهورية. وقد يسر هذا تيسيراً كبيراً جميع المشروعات التي حاول القيام بها مجلس الشيوخ أو كبار اعضائه ... وقد أدعى نوما أنه تحدث إل إحدى الحور، وأنها أملت عليه كل ما يريد أن يقنع به الناس ... والحق أنه لم يوجد قط مشرع عظيم ... لم يلجأ إلى القوة الإلهية، وإلا لما أطاع الناس شرائعه؛ لأن ثمة شرائع صالحة كثيرة يدرك المشترع الحكيم أهميتها، ولكن أسباب وضعها لا تتضح للناس وضوحاً يكفي لأن يمكنه من إقناع غيره من الناس بإطاعتها؛ وهذا هو السبب الذي يجعل العقلاء من الناس يلجئون إلى السلطة الإلهية ليتغلبوا على هذه الصعوبة (90) ... واتباع الأنظمة الدينية هو سبب عظمة الجمهوريات؛ وإهمال هذه النظم يؤدي إلى خراب الدول؛ ذلك أنه إذا انعدم من بلد ما خوف الله، قضي على هذا البلد لا محالة؛ إلا إذا دعمه خوف الأمير وهو خوف يمكن أن يعوض فترة من الزمن ما ينقص(21/59)
هذا البلد من خشية الله. لكن حياة الأمراء قصيرة ... (91).
"وإذا أراد الأمراء أن يبقوا على أنفسهم ... وجب عليهم قبل كل شيء أن يحافظوا على نقاء الشعائر الدينية، وأن ينظروا إليها بالاحترام اللائق بها؛ وهذا بعينه يصدق على الجمهوريات، فهي لا بقاء لها إلا إذا حافظت على هذا النقاء ووجهت إلى تلك الشعائر هذا الاحترام نفسه (92) ... واكثر من يستحق الثناء ممن نالوا هذا الثناء هم الذين أنشئوا الأديان وأقاموها. ويليهم في هذا الذين أقاموا الجمهوريات أو الممالك. وأعظم الناس بعد هؤلاء وأولئك هم الذين قادوا الجيوش ووسعوا أملاك بلادهم. وقد نضيف إليهم رجال الأدب ... وعكس هذا أيضاً صحيح. فالذين يهدمون صرح الدين، ويقضون على الجمهوريات والممالك والذين هم أعداء الفضيلة والآداب، أولئك يجللهم العار. وتصب عليهم اللعنات من الناس أجمعين" (93).
وبعد أن ارتضى مكيفلي الدين بوجه عام انتقل إلى الدين المسيحي فأخذ يوجه إليه أشد النقد لأنه عجز عن إيجاد مواطنين طيبين. ذلك ان حول أكثر ما يجب تحويله من العناية إلى السماء، وأضعف الناس بأن أخذ يدعوهم إلى الفضائل النسوية وفي ذلك يقول:
"إن الدين المسيحي يدعونا إلى الاستخفاف بحب الدنيا، ويجعلنا أكثر رقة وليناً. أما القدماء فكانوا عكس هذا، كانوا يجدون أعظم أسباب بهجتهم في هذا العالم ... ولم يكن دينهم يقدس إلا الذين يتوج هاماتهم مجد هذا العالم الأرضي، كقواد الجيوش، ومؤسسي الجمهوريات؛ على حين أن ديننا نحن قد مجد الوادعين الذين يقضون زمانهم في التأمل والتفكير بدل أن يمجد رجال العمل. وقد جعل هذا الدين أعلى درجات الخير الذلة، وضعف العزيمة، واحتقار الأمور الدنيوية؛ أما الدين القديم فكان يجعل أعلى درجات الخير عظم العقل، وقوة الجسم، وكل ما يبعث في الناس(21/60)
الإقدام والجرأة ... ومن أجل هذا خر العالم صريعاً أمام الأشرار، فقد وجد هؤلاء الناس أكثر استعداداً للخضوع إلى الضربات طمعاً منهم في دخول الجنة بدل أن بردوا عليها بمثلها (94) ...
"ولو أن الدين المسيحي قد احتفظ به حسب القواعد التي وضعها له مؤسسه، لكانت الدول والبلاد المسيحية أقوى اتحاداً وأكثر سعادة مما هي الآن. وهل ثمة أدل على ضعفها وانحلالها من أن أقرب الشعوب إلى الكنيسة الرومانية، وهي رأس هذا الدين، أقلها تديناً؛ ومن يبحث المبادئ التي يقوم عليها هذا الدين وير البون الشاسع بين هذه المبادئ وبين أساليبها الحاضرة وشعائرها، يحكم من فوره أن انهيار هذا الدين أو مصيره المحتوم آت غير بعيد (95) ... ولعل الدين المسيحي كان يقضي عليه قضاء لا مرد له بسبب ما فيه من فساد لو لم يرد إليه القديسان فرانسس ودمنيك مبادئه الأصيلة ... وإذا شئنا أن نضمن للطوائف أو الجمهوريات الدينية حياة أطول وأبقى، وجب أن نرجع بها مراراً وتكراراً إلى مبادئها الأولى الأصيلة (96) ".
ولسنا نعرف هل كتبت هذه الألفاظ قبل أن تصل إلى ايطاليا أنباء الإصلاح الديني أو بعد وصولها إليها.
ويختلف خروج مكيفلي على المسيحية عن خروج فلتير، وديدرو، وبين Paine، ودارون، واسبنسر، ورينان عليها. ذلك أن هؤلاء الرجال كانوا يرفضون لاهوت المسيحية، ولكنهم يحتفظون بالقانون المسيحي الأخلاقي ويعجبون به. وظلت هذه الحال قائمة إلى أيام نتشة ولطفت "حدة النزاع القائم بين الدين والعلم". أما مكيفلي فلا يشغل باله بالعقائد الدينية وبعدها عن المعقول؛ فهو يرى هذا البعد أمراً طبيعياً ويأخذه على أنه قضية مسلم بها، ولكنه يقبل اللاهوت المسيحي قبولا حسناً بحجة أن نظاماً ما من المعتقدات التي فوق الطبيعة هو دعامة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. أما الذي يرفضه من المسيحية رفضاً باتاً فهو مبادئها الأخلاقية، وما تراه من(21/61)
أن الصلاح والخير هما الرقة، والذلة، والاستسلام وعدم المقاومة، وحبها للسلم، وتنديدها بالحرب؛ وافتراضها أن الدول والأفراد مرتبطون بقانون أخلاقي واحد. وهو يفضل عن هذه المبادئ القانون الأخلاقي الروماني، القائم على المبدأ القائل إن سلامة الشعب أو الدولة هي القانون الاعلى: "وحيث يكون الأمر أمر مصلحة بلادنا وخيرها، وجب علينا ألا نقبل البحث في العدل أو الظلم والرحمة أو القسوة، وما هو خليق بالثناء أو الازدراء؛ بل يجب أن نسلك كل سبيل ينقذ حياة الأمة وحريتها وننحى كل ماعدا هذا جانباً" (97). ذلك أن الأخلاق بوجه عام إن هي إلا قانون للسلوك وضع لأفراد المجتمع أو الدولة لحفظ النظام الجماعي، والوحدة، والقوة؛ وإن حكومة تلك الدولة لتعجز عن أداء واجبها، إذا كانت وهي تدافع عن الدولة، تسمح بأن تقيد نفسها بالقانون الأخلاقي الذي يجب عليها أن تغرسه في نفوس شعبها. ومن ثم فإن الدبلوماسي غير مقيد بالقانون الأخلاقي الذي يتقيد به شعبه. "فإذا ما أدانه عمل قام به وجب أن تغفر له نتيجة هذا العمل ذنبه" (98)؛ ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة. "وما من رجل صالح يلوم رجلا غيره يحاول أن يدافع عن بلاده، أيا كانت السبل التي يسلكها لهذا الدفاع" (99). فضروب الغش، والقسوة، والجرائم التي يرتكبها الرجل في سبيل الاحتفاظ بدولته، كلها "غش شريف" و "جرائم مجيدة" (100). ومن ثم فإن رميولوس كان على حق حين قتل أخاه، لأن الحكومة الناشئة كانت تتطلب الوحدة، وإلا مزقت إرباً (101). وليس ثمة "قانون طبيعي" أو "حق" متفق عليه من الناس جميعاً؛ والسياسة إذا قصد بها فن الحكم يجب أن تكون مستقلة عن الأخلاق استقلالا تاماً.
وإذا ما طبقنا هذه المبادئ على قانون الحرب الأخلاقي، فإن مكيفلي واثق كل الثقة من أنها تجعل نزعة السلام المسيحية سخفاً وخيانة. ذلك أن الحرب تناقض وصايا موسى كلها تقريباً؛ فهل تجيز القسم، والكذب،(21/62)
والسرقة، والقتل، وارتكاب الزنا آلاف المرات، ولكنها إذا ما حافظت على المجتمع أو كانت سبباً في تقويته فهي خير. وإذا ما وقفت الدولة عن التوسع أخذت بالاضمحلال، وإذا فقدت الرغبة في الحرب قفل عليها السلام. والسلم إذا طال فوق ما يجب يؤدي إلى الضعف والتفكك، ولذلك كانت حرب تدور بين الفينة والفينة مقوية للقومية، تعيد للأمة النظام، والشدة، والوحدة. ولهذا فإن الرومان في عهد الجمهورية كانوا دائماً مستعدين للحرب، فإذا رأوا أنهم مقبلون على نزاع مع دولة أخرى، لم يفعلوا شيئاً يجنبهم الحرب؛ بل أرسلوا جيشاً ليهاجم فيليب في مقدونية وأنطونوخيوس الثالث في بلاد اليونان ولم ينظروا حتى يأتي هذان المليكان بشرور الحرب إلى أرض إيطاليا (102). ولم يكن الروماني يرى أن الفضيلة هي الذلة، أو الرقة، أو السلام، بل كان يرى أنها هي القوة، والرجولة، والبسالة، مضافة إلى النشاط والذكاء. وهذا ما يعنيه مكيفلي بلفظ Vlrtu.
ثم ينتقل مكيفلي من هذه النظرة نظرة الحاكم المتحرر من القيود الأخلاقية ليواجه ما كان يبدو له أنه هو المشكلة الأساسية في أيامه: وهي أن يحصل لإيطاليا على الوحدة والقوة اللتين لا غنى عنهما لنيل حريتها الجماعية. وهو يرى بعين المقت ما يسود بلاده من انقسام، واضطراب، وفساد، وضعف؛ وهنا نرى ما كان في أيام بترارك جدّ نادر- نرى رجلا لا يؤدي تفانيه في حب قطره إلى أي نقص في حب مدينته. فإذا ما بحث عن الذي تقع عليه تبعة بقاء إيطاليا مقطعة الأوصال، ضعيفة بسبب ذلك أمام العدو، قال:
لا تستطيع أمة من الأمم أن تكون متحدة وسعيدة إلا إذا كانت تطبع حكومة واحدة سواء كانت جمهورية أو ملكية، كما هي الحال في فرنسا وأسبانيا؛ والسبب الوحيد الذي يمنع إيطاليا من أن تكون هذه حالها هو الكنيسة. ذلك أنها وقد حصلت لنفسها على سلطان زمني واحتفظت(21/63)
بهذا السلطان، لم تؤت في يوم من الأيام من القوة أو الشجاعة ما يكفي لان يجعلها قادرة على الاستيلاء على بقية البلاد وفرض سيادتها الوحيدة على إيطاليا بأجمعها (103).
وهنا تبدو لنا فكرة جديدة: تلك هي أن مكيفلي لا يهاجم الكنيسة لأنها تدافع عن سلطتها الزمنية، بل يهاجمها لأنها لم تستخدم جميع مواردها لإخضاع إيطاليا كلها لحكمها السياسي. ومن أجل هذا أعجب مكيفلي بسيزارى بورجيا في إمولا وسنجاليا لأنه ظن أنه وجد في هذا الشاب القاسي فكرة إيطاليا المتحدة وأملها (1)؛ وكان على استعداد لأن يبرر أية وسيلة يستخدمها آل بورجيا ليحققوا بها ذلك الهدف الأسمى النبيل. ولربما كان خروجه على سيزارى بورجيا، حين خرج عليه في روما عام 1503، بسبب غضبه من أن معبوده هذا قد سمح بأن تقضى كأس من السم (كما كان مكيفلي يظن) على هذا الحلم اللذيذ.
وكان قد مضى على إيطاليا قرنان من الزمان وهي مقسمة مشتتة، سببا لها من الضعف والانحلال الاجتماعي ما لم يكن لينجيها منهما (في رأي ميكيفلي)
_________
(1) كتب جوتشيارديني تعليقا هاماً على هذه الفقرة قال فيه: "صحيح أن الكنيسة قد حالت بين إيطاليا وبين اجتماعها في دولة واحدة، ولكني لا أعرف أخير هذا أم شر. نعم إنها لو أصبحت جمهورية واحدة لكان هذا بلا ريب سبباً في ارتفاع اسم إيطاليا إلى ذروة المجد، ولكان فيه أعظم النفع لعاصمة تلك الجمهورية، ولكنه كان يؤدي حتما إلى خراب جميع ماعداها من المدن. وما من شك أيضا في أن انقسامنا قد جر علينا كثيراً من الكوارث، وإن كان من واجبنا أن نذكر أن غزوات البرابرة قد بدأت في أيام الرومان أي في نفس الوقت الذي كانت فيه إيطاليا متحدة. ولقد أفلحت إيطاليا المنقسمة على نفسها في أن تضم عدداً كبيراً من المدن الحرة، حتى لأعتقد أنها لو اتحدت في جمهورية واحدة لجرت عليها هذه الجمهورية من الشقاء أكثر مما أنالته إياها من السعادة ... لقد كانت هذه البلاد تتوق إلى الحرية على الدوام، ولهذا فإنها لم تتحد قط تحت سلطان حكومة واحدة"- (104) Consiperazioni interno ai Discorsi di machiavelli I, 12(21/64)
إلا أشد الوسائل عنفاً. فلقد عم الفساد الحكومات والشعب، وحلت الرذائل الشهوانية محل الروح الحربية والمهارة العسكرية؛ وعهد المواطنون إلى غيرهم- كما عهد إليهم أيام احتضار روما القديمة- عهدوا إلى الجيوش المرتزقة كما عهدوا أولئك إلى البرابرة- أن يدافعوا عن مدنهم وأرضهم؛ وماذا يهم تلك العصابات المأجورة أو يهم زعماءها من وحدة إيطاليا؟ إنهم يعيشون ويتخمون بسبب انقسامها. لقد اتفقوا فيما بينهم على أن يتخذوا الحرب لعبة لا تقل لهم أمنا عن السياسة؛ فجنودهم لا يقبلون بحال من الأحوال أن يعرضوا أنفسهم للقتل، وإذا ما التقوا بالجيوش الأجنبية ولوا الأدبار، وأنزلوا إيطاليا منزلة الاسترقاق والاحتقار" (105).
وإذن فمنذا الذي يوحد إيطاليا؟ وكيف السبيل إلى هذه الوحدة؟ ليست السبيل إليها هي الإقناع بالوسائل الديمقراطية؛ ذلك أن الرجال متطرفون في نزعتهم الانفرادية، وفي حزبيتهم، وفسادهم، مما يحول بينهم وبين قبول الوحدة قبولا سليماً، ومثلهم في ذلك مثل المدن نفسها؛ ولهذا فإن هذه الوحدة لابد أن تفرض عليهم بجميع وسائل السياسة والحرب؛ ولا يستطيع أحد أن يفعل هذا غير الطاغية القاسي الذي خلا قلبه من الرحمة؛ والذي لا يسمح لضميره بأن يجعل منه إنساناً جباناً، بل يضرب بيد من حديد، ويجعل هدفه العظيم يبرر كل ما يلجأ إليه من الوسائل.
ولسنا واثقين من أن هذا هو المزاج الذي ألف به كتاب الأمير. وشاهد ذلك أن مكيفلي كتب إلى صديق له في عام 1513 أي في العام الذي يبدو أنه شرع يكتب فيه هذا الكتاب يقول: "إن فكرة الوحدة الإيطالية فكرة مضحكة. ذلك أنه حتى لو استطاع رؤساء الدولة الإيطالية أن يتفقوا، فإن ليس لدينا من الجنود من لهم شيء من القيمة غير الجنود الأسبان. يضاف إلى هذا أن الشعب لا يمكن أن يتفق في يوم من الأيام مع الزعماء (106). لكن حدث في ذلك العام نفسه عام 1513 أن جلس(21/65)
ليو العاشر على كرسي البابوية، واتحدت فلورنس وروما تحت سلطان آل ميديتشي بعد أن ظلتا عدوتين زمناً طويلاً، ولما أن بدل مكيفلي صيغة إهداء كتابه فجعلها للورندسو، دوق أربينو، كانت هذه الدولة أيضاً قد سقطت في يد آل ميديتشي، ولم يكن الدوق الجديد قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في عام 1516، وكان قد أظهر غير قليل من الطموح والبسالة؛ وكان من حق مكيفلي أن نسامحه إذا نظر إلى هذا الشاب المتهور على أنه هو الذي يستطيع بهداية ليو ودبلوماسيته (واتباع تعاليم مكيفلي) أن يحقق ما بدأه سيزارى بورجيا بإرشاد ألكسندر السادس- أي أن يقود الدول الإيطالية، أو في القليل الدول الواقعة منها شمال نابلي مع استبعاد دولة البندقية المتكبرة، بعد ضمها في اتحاد له من القوة ما يفل عزيمة الغزاة الأجانب. ولدينا من الشواهد ما يدل على أن هذا كان أمل ليو أيضاً. وإن إهداء كتاب الأمير لآل ميديتشي ليدل على أن المؤلف كان يظن مخلصاً أن هذه الأسرة هي التي يمكن أن تحقق وحدة إيطاليا. وإن كان الغرض الأول من هذا الإهداء في أغلب الظن هو أن يكون وسيلة لإيجاد منصب بها يشغله مؤلفه.
وكان شكل كتاب الأمير هو الشكل التقليدي المألوف: فقد أفرغ في القالب الذي أفرغت فيه مائة من الرسائل في العصور الوسطى خاصة بحكم الأمراء، وسار على الطريقة التي اتبعت في هذه الرسائل. أما في محتوياته فقد كان ثورة لا شك فيها. فلم توجه في الكتاب دعوة مثالية إلى أمير من الأمراء ليكون قديساً، ولم يطلب إليه أن يطبق ما جاء في موعظة الجبل على مشاكل العروش. بل نراه على عكس ذلك يقول:
"لما كنت أقصد أن أكتب شيئاً يفيد من يفهمه، فإنه يبدو لي أن أتبع حقيقة الأمور الصحيحة من أن أجري وراء الخيال. لقد صور كثيرون جمهوريات وإمارات لم تعرف أو تر في يوم من الأيام، لأن البعد شاسع(21/66)
بين الطريقة التي يعيش بها الإنسان والطريقة التي يجب أن يعيش بها، ومن أجل ذلك فإن من يهمل ما يفعل في سبيل ما يجب أن يفعل يجر على نفسه الخراب بأسرع ما يحتفظ لنفسه بالبقاء؛ وإن الرجل الذي يريد أن يعمل حسب ما يجهر بأنه هو الفضيلة لا يلبث أن يلقى الوبال بين ما يحبط به من السرور من كل جانب. ومن ثم كان لا بد للأمير الذي يريد أن يحتفظ بمركزه أن يعرف كيف يرتكب الخطأ وأن يفيد منه أو لا يفيد حسبما تدعو إليه الحاجة (107).
ولهذا فإن من واجب الأمير أن يفرق في قوة وحزم بين المبادئ الأخلاقية ومطالب الحكم، أي بين ضميره الخاص والصالح العام؛ وأن يكون مستعداً لأن يعمل من أجل الدولة ما يسمى شراً في علاقة الأفراد بعضهم ببعض. ويجب عليه أن يزدري أساليب التردد والضعف التي لا تبلغ الإنسان الغرض كاملا؛ والأعداء الذين لا يستطاع كسب صداقتهم يجب القضاء عليهم؛ ومن وغاجب الأمير أن يقتل من ينازعونه عرشه. ولابد له أن ينشئ جيشاً قوياً لأن الحاكم لا يستطيع أن يتحدث بصوت أعلى من صوت مدافعه. ومن واجبه أن يحافظ دائماً على صحة جنوده، وحسن نظامهم، وعدتهم، وأن يعد نفسه للحرب بأن يعرض نفسه في كثير من الأحيان لصعاب الصيد وأخطاره. وعليه في الوقت نفسه أن يدرس فنون الدبلوماسية؛ لأنه يستطيع أن يحصل بالمكر والخداع في بعض الأحيان اكثر مما يستطيع أن يحصل عليه بالقوة وقد لا يكلفانه مالا تكلفه. ويجب عليه ألا يتمسك بالمعاهدات إذا أصبحت تجلب الضرر للأمة؛ "والسيد العاقل لا يستطيع ولا يجب عليه ن يحافظ على العهد إذا كان في وسع أعدائه أن يتخذوا محافظته هذه سلاحا لإيذائه، وإذا ما زالت الأسباب التي جعلته يقطع هذا العهد على نفسه" (108).
ولا غنى للأمير عن قسط من تأييد الشعب. ولكن إذا كان لابد(21/67)
للحاكم أن يختار بين أن يخافه الشعب دون أن يحبه، وبين أن يحبه دون أن يخافه وجب عليه أن يضحي بالحب (109). لكن حكم الجماهير بالرأفة والرقة أسهل من حكمها بالغطرسة والقسوة (110) ... وشاهد ذلك أن الأباطرة تيتوس، ونيرفا، وتراجان، وهدربان، وانطونينوس، وماركس أورليوس لم يحتاجوا إلى الحرس البريتوري ولا إلى الفيالق الحربية لحمايتهم، لأنهم كانوا يحتمون بسلوكهم الطيب، وبإخلاص شعبهم وبحب مجلس الشيوخ لهم (111). ومن الوسائل التي يحصل بها الأمير على تأييد الشعب أن يناصر الفنون والعلوم، وأن يهيئ له الحفلات والألعاب العامة. ويكرم أهل الحرف بشرط أن يحتفظ على الدوام بجلال مركزه (112). ويجب عليه إلا يهب الناس الحرية، ولكن من واجبه أن يمنعهم قدر المستطاع بمظاهر الحرية. وعليه أن يعامل المدن التابعة له- كمدينتي أرتسو وبيزا التابعتين للبندقية، بالشدة والعنف، بل وبالقسوة في بادئ الأمر فإذا ما استقرت له الأمور وأطاعه أهل هذه المدن، أمكنه أن يجعل خضوعهم له أمراً عادياً مألوفاً بأساليب اللطف والمجاملة لأن القسوة إذا طالت وعمت أهل المدن الخاضعة كانت بمثابة انتحار من يلجأ إليها (113).
وعلى الحاكم أن ينشر الدين وأن يظهر هو نفسه بمظهر الرجل المتدين أيا كانت عقائده الخاصة (114). والحق أن تظاهر الأمير بالفضيلة أهم وأفيد له من أن يكون فاضلا بحق:
"إن تظاهر الأمير بالفضائل كلها نافع له وإن لم يكن من الضروري أن يتصف بها؛ فعليه مثلا أن يتظاهر بأنه رحيم، وفيّ، شفيق، متدين، مخلص؛ ومما يفيده أيضاً أن يتصف بهذه الصفات، على أن يكون ذا عقل مرن يمكِّنه إذا دعت الحاجة من أن يتصف بعكسها ... وعليه أن يحذر من أن ينطق بكلمة لا تنطبق عليها الصفات الخمس السالفة الذكر؛ ويجب أن يبدو(21/68)
لمن يرونه ويستمعون له كأنه الرحمة، والإيمان، والتدين، والاستقامة مجسمة، وعلى الإنسان أن يلوِّن سلوكه، وأن يكون مراثياً لأن الناس سذج مهنمكون في حياتهم الحاضرة، إلى حد يسهل معه خداعهم ... وفي مقدور كل إنسان أن يرى مظهرك، ولكن قل من الناس من يعرف حقيقة مخبرك، وأولئك النفر القلائل لا يجرئون على مخالفة رأي الكثرة فيك (115).
ويضرب مكيفلي لهذه الحكم أمثلة واقعية، فيذكر نجاح الإسكندر السادس، ويرى أن هذا النجاح يرجع كله إلى كذبه المدهش الذي يستثير الإعجاب؛ ويعجب بفرديناند الكاثوليكي ملك أسبانيا، لأنه كان يتظاهر دائماً بمظهر المدافع عن الدين في مغامراته الحربية، ويمتدح الوسائل التي ارتقى بها فرانتشيسكو اسفوردسا عرش ميلان وهي الشجاعة الحربية والمهارة في الأساليب العسكرية منضمة إلى الدهاء الدبلوماسي، ولكن أعظم مثل يضربه، وهو مثل يكاد يبلغ في اعتقاده حد الكمال، هو سيزارى بورجيا:
"إذا استعدنا في ذاكرتنا جميع أعمال هذا الدوق فإني لا أعرف عملا منها يستحق عليه اللوم، بل إنه ليبدو لي إني أضعه أمام الناس لكي يقلده كل من يقبضون بأيديهم ... على أزمة الحكم ... لقد كانوا يحسبونه قاسياً؛ ولكن قسوته هي التي أزالت الخلاف من رومانيا كلها، وضمت شتاتها، وأعادت إليها السلم والولاء ... ولقد أوتي روحاً عالية، وآمالا كباراً، لم يكن يستطيع بغيرها أن ينظم مسلكه؛ ولم يحل بينه وبين تحقيق أغراضه إلا قصر حياة الإسكندر، ومرضه هو. ولهذا فإن من شاء أن يضمن لنفسه الأمان في إمارته الجديدة، ويكسب الأصدقاء، ويغلب الأعداء بالقوة أو الختل، ويبعث في قلوب الناس حبه والخوف منه في آن واحد، وأن يؤيده الجند ويجلوه، ويبيد من أوتوا قوة يستطيعون بها(21/69)
أن يؤذوه؛ أو كانت لديهم أسباب تدعوهم إلى هذا الإيذاء، ويستبدل بنظام الأشياء القديم نظاماً جديداً؛ وأن يكون قاسياً وكريماً، نبيلا وحراً، ويحطم قوة الجند غير الموالين له وينشئ بدلهم جيشاً جديداً، ويحتفظ بصداقة الملوك والأمراء بحيث يرون أن من واجبهم أن يخفوا لمعرفته متحمسين، فإذا فكروا في أذاه كانوا حذرين- من شاء هذا فإنه لن يجد مثلا أروع من أعمال هذا الرجل".
وكان مكيفلي يعجب ببورجيا لأنه كان يشعر بأن أساليبه وأخلاقه تمهد السبيل إلى توحيد إيطاليا، وأنها لم تحل بينها وبين بلوغ تلك الغاية إلا ما صحبها من مرض البابا وولده.
وهو يتوسل في ختام كتابه الأمير إلى لورندسو الدوق الشاب، ويتوسل عن طريقه إلى ليو وآل ميديتشي، أن يعملوا على توحيد شبه الجزيرة. وهو يصف أهل بلاده بأنهم مستعبدون، أكثر من العبرانيين، وأنهم يعانون من الظلم أكثر مما يعانيه الفرس، وأنهم مشتتون أكثر من الأثينيين، وأنهم قوم لا رئيس لهم، ولا نظام، مهزومون، منتهبون مغتصبون، ممزقون، تجتاح بلادهم الجيوش الأجنبية". "لقد أصبحت إيطاليا وكأنها مسلوبة الحياة، تنتظر من يقبل عليها ليأسوا جراحها ... وتدعو الله أن يقيض لها من ينجيها من هذه المظالم وهذه المخازي التي يوقعها عليها الأجانب" (117). إن الموقف جد خطير؛ ولكن الفرصة مواتية. "ذلك أن إيطاليا متأهبة، راغبة في أن تسير وراء العَلَم، إذا ما رفعه إنسان ما" ومن أحق برفعه من آل ميديتشي، أشهر الأسر كلها في إيطاليا، والتي تتزعم الكنيسة في هذه الأيام؟
"ومنذا الذي يستطيع أن يعبر عن الحب الذي سوف يفيض به قلب إيطاليا وهي ترحب بمحررها؛ أو عن تعطشها للانتقام من أعدائها، أو عن إيمانها القوي، وإخلاصها، ودموعها؟ وأي باب يمكن أن يغلق في وجهه؟ ومنذا الذي يضن عليه بالطاعة؟ إن هذا السلطان الأجنبي الهمجي الذي(21/70)
نرزح تحته لتزكم رائحته الكريهة أنوفنا. فليتول إذن بيتكم المجيد هذه المهمة، وليستعن على القيام بها بالبسالة والأمل، اللذين يتذرع بهما كل من يقوم بمغامرة عادلة، حتى تسمو تحت علم هذا البيت مكانة بلادنا، وتحقق بفضل رعايتها تلك الكلمات التي كتبها بترارك:
"إن ذوي الرجولة يمتشقون الحسام ليقاتلوا ذوي الجنة، وستكون المعركة جد قصيرة، لأن البسالة القديمة لم ينضب بعد معينها في عروق إيطاليا".
4 - تأملات
وهكذا وجهت إلى آل ميديتشي تلك الدعوة التي وجهها دانتي وبترارك إلى الأباطرة الأجانب؛ والحق أن لو أن ليون عاش أطول مما عاش، ولعب أقل مما لعب، لشهد مكيفلي بداية تحرر إيطاليا. ولكن الشاب لورندسو توفي عام 1519، وتوفي ليو عام 1521؛ وفي عام 1527 وهو العام الذي توفي فيه مكيفلي، كان قد تم خضوع إيطاليا لدولة أجنبية، وكان لابد أن يتأخر ذلك التحرر 343 سنة حتى يحققه كافور Cavour بأساليب مكيفلي في الحكم.
ويكاد الفلاسفة يجمعون على التنديد بكتاب الأمير كما يكاد الحكام يجمعون على العمل بما فيه من حكم. وبدأ غداة نشره (1532) ظهور ألف كتاب تعارضه. لكن شارل الخامس درسه بعناية، وجاءت به كترين ده ميديتشي إلى فرنسا، وكان مع هنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا وقت وفاتهما، وكان ريشليو يعجب به، ووليم أورنج يضعه تحت وسادته كأنه يريد أن يستظهره بطريق النضج (118). وكتب فردريك الأكبر ملك روسيا كتابه ضد مكيفلي ليجعله تمهيدا لكتاب يتجاوز فيه ما ورد في كتاب الأمير. ولم يكن معظم الحكام يرون بطبيعة الحال أن هذه(21/71)
التعاليم وحي جديد، إلا إذا فهمنا لفظ الوحي أنها تكشف في غير حكمة، أو حذر أسرار طائفتهم. أما الحالمون الذين حاولوا أن يجعلوا من مكيفلي ثائراً كاليعقوبيين فقد خيل أنه لم يكتب الأمير ليعبر عن فلسفته، بل كتبه من قبيل السخرية، ليكشف للناس عن أساليب الحكام وحيلهم؛ بيد أن كتاب العظات ينطق بهذه الآراء نفسها ويبسط القول فيها؛ وقد جرؤ فرانسس بيكن فكتب هذه العبارة يصفح بها عن مكيفلي: "إنا لنشكر لمكيفلي وأمثاله من الكتاب الذين أظهروا لنا صراحة وفي غير خداع ما اعتاد الناس أن يفعلوه، لا ما يجب أن يفعلوه" (119). وأما حكم هيجل Hegal فكان دلالة على الذكاء والكرم:
كثيراً ما أخرج كتاب الأمير في رعب لأنه يحتوي حكماً وأمثالاُ تدعو إلى أشد أنواع الاستبداد وأدعاها إلى الاشمئزاز؛ ولكن الحقيقة أن شعور مكيفلي القوي بضرورة قيام دولة موحدة هو الذي دعاه إلى وضع المبادئ التي لا يمكن أن تقوم دول في الظروف المحيطة به وقتئذ إلا على أساسها. فقد كان لابد من القضاء على الأمراء والإمارات القائمة وقتئذ؛ وإنا وإن كان رأينا في ماهية الحرية لا يتفق مع الوسائل التي يشير بها ... والتي تشمل أشد أنواع العنف وأكثرها تطرفاً، وجميع صنوف الخداع، والاغتيال، وما إليها- فلا يسعنا إلا أن نقر أن الطغاة الذين لابد من قهرهم لم يكونوا ليغلبوا بغير هذه الوسائل (120).
كذلك صور مكولى Macaualy في مقال له ذائع الصيت فلسفة مكيفلي على أنها انعكاس طبيعي لإيطاليا المتوقدة الذكاء الفاسدة الأخلاق التي عودها حكامها المستبدون من زمن بعيد مبادئ كتاب الأمير.
ويمثل مكيفلي آخر صورة من تحدي الوثنية المنتعشة التي عادت إلى الحياة للمسيحية المستضعفة. والدين في فلسفته يصبح مرة أخرى، كما كان في روما القديمة، خادماً ذليلاً للدولة حلت في واقع الأمر محل الله. فالفضائل(21/72)
التي يعظمها مكيفلي هي الفضائل الرومانية الوثنية دون غيرها- الشجاعة، والصبر، والاعتماد على النفس، والذكاء، والخلود الوحيد شهرة زائلة لاغير؛ ولعل مكيفلي قد بالغ فيما للمسيحية من أثر مضعف موهن، فهل يا ترى نسي مكيفلي الحروب العوان التي شبت نارها في العصور لوسطى، حروب قسطنطين، وبلساريوس، وشارلمان، وفرسان المعبد، والفرسان التيوتون؛ وحروب يوليوس الثاني التي لم يمض عليها وقت طويل؟ إن المبادئ الأخلاقية المسيحية لم تؤكد الفضائل النسوية إلا لأن الرجال كانوا يتصفون بالصفات المضادة لها، وكانت فيهم قوية لدرجة تؤدي إلى الخراب والدمار؛ فكان لابد من وجود رياق شاف لهذا الداء، ومثل أعلى مضاد له يوعظ به الرومان القساة في المجتلد، والبرابرة الغلاظ الذين اجتاحوا إيطاليا، والشعوب الخارجة على القانون التي تحاول الهبوط إلى بلاد الحضارة. إن الفضائل التي يزدريها مكيفلي تعمل لبناء المجتمعات المنظمة السلمية، أما الفضائل التي يعجب بها (لأنها تنقصه كما تنقص نتشه)، فتعمل لقيام دول قوية ذات نزعة حربية، وحكام طغاة في مقدورهم أن يقتلوا الناس بالآلاف ليرغموهم على التضامن والائتلاف، وعلى إراقة الدماء أنهاراً لتوسيع رقعة البلاد التي يحكمونها. لكنه خلط بين خير الحاكم وخير الأمة، وأفرط في التفكير في الاحتفاظ بالسلطة، وقلما فكر فيما على صاحبها من واجبات، ولم يفكر مطلقاً فيما تؤدي إليه من فساد. وتجاهل ما بين دول المدن الإيطالية من تنافس منعش، وخصب ثقافي، وقلما كان يعنى بما في ذلك الوقت من فن رائع، بل إنه لم يعن بفن روما القديمة نفسه، ذلك بأنه ضل في عبادة الدولة ضلالا مبيناً. نعم أن أعان على تحرير الدولة من الكنيسة، ولكنه أسهم في إقامة نوع من القومية العارمة ودعا الناس إلى عبادتها، ولم تكن هذه القومية أرقى رقياً واضحاً من الفكرة السائدة في العصور الوسطى عن وجود دول خاضعة لمبادئ أخلاقية دولية يمثلها البابا.(21/73)
لقد تحطم كل مثل أعلى بسبب ما طبع الناس من أنانية، ومن الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى المبدأ القائل بأن الإنسان غير ملزم بالمحافظة على عهده مع الزنديق والجري على هذه السنة نفسها (كما حدث حين نكث عهد الأمان مع هوس Auss في كنستانس ومع ألفنسو دوق فيرارا في روما) نقول إن من الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى هذا إنما كانت تعمل بمبادئ مكيفلي عملا يحطم رسالتها بوصفها قوة أخلاقية.
ومع هذا فإن في صراحة مكيفلي قوة حافزة دافعة إلى حد ما. ذلك أنا إذا قرأنا كتابه، واجهنا في وضوح لا مثيل له عند غيره من المؤلفين، ذلك السؤال الذي قلما تعرض له غيره من الفلاسفة: هل سياسة الحكم مقيدة بالمبادئ الأخلاقية؟ وقد نخرج من كتبه بنتيجة واحدة على الأقل: وهي أن الأخلاق الطيبة لا يمكن أن توجد إلا بين أفراد مجتمع مسلح بالوسائل التي نستطيع تعليمها وإلزام الناس باتباعها، وأن المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تتبعها الدول جمعاء يجب أن تؤجل حتى تقوم منظمة تضم الدول جمعاء، ويكون لها من القوة المادية وفيها من الرأي العام ما تستطيع بهما المحافظة على القانون الدولي. وإلى أن يحين ذلك الوقت فستظل الأمم كالوحوش في الغاب؛ وأيا كانت المبادئ التي تجهر بها حكوماتها، فإن السنن التي تسيطر عليها هي الواردة في كتاب الأمير:
وإذا ما عدنا بأنظارنا إلى المائتي عام من الثورة الفكرية التي سادت إيطاليا من أيام بترارك إلى مكيفلي؛ تبين لنا أن جوهر هذه الثورة وأساسها لا يعدو أن يكونا نقص الاهتمام بالعالم الآخر، والاهتمام المتزايد بالحياة ... فقد ابتهج الناس إذ كشفوا من جديد حضارة وثنية لا يشغل بال الناس فيها الخطيئة الأولى، أو عقاب الجحيم، ترتضي فيها الغرائز الفطرية وتعد عناصر في مجتمع نابض بالحياة خليقة بأن تغتفر. وفي هذه الحضارة فقد(21/74)
النسك والزهد، وإنكار الذات، والإحساس بالخطيئة ما كان لها سلطان على الطبقات العليا من سكان إيطاليا، وكادت تفقد ما كان لها عندهم من معنى. فاضمحلت الأديرة لقلة من كان يدخلها من الرهبان الجدد؛ وكان الرهبان- والإخوان، والبابوات أنفسهم يسعون وراء ملذات الدنيا بدل تعاليم المسيح. وتراخت قيود التقاليد والسلطان، وكان صرح الكنيسة الضخم أخف على قلوب الناس وأغراضهم من ذي قبل. وأضحت الحياة أكثر اهتماماً بما هو في خارج الإنسان ومع هذه العضة كثيرا ما اتخذت شكل العنف، فإنها طهَّرت كثيراً من النفوس من المخاوف والاضطرابات العصبية اليت كانت تخيم على العقول في العصور الوسطى وتسبب لها الكآبة والظلمة. وأخذ العقل الطليق يمرح سعيداً في جميع الميادين عدا ميادين العلم، وذلك لأن ما ينشأ عن هذا الانطلاق وذاك التحرر من خصب قلما كان يتفق حتى ذلك الحين مع ما تتطلبه التجارب والبحوث العلمية من تهذيب نفسي وصبر طويل؛ فهذا التهذيب وذاك الصبر إنما يجيئان في الدور الإنشائي الذي يعقب التحرر. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أفسحت أساليب التقى السبيل إلى عبادة العقل والعبقرية، واستبدل بالسعي وراء الشهرة الخالدة الاعتقاد، بألا ضرورة للتقيد بالمبادئ الأخلاقية وعَدَت المُثل الوثنية كالحظ، والأقدار، والطبيعة على فكرة الله المسيحية.
وكان لابد لهذا كله من ثمن. لقد قوض التحرر الساطع للعقل دعا القوة العليا السماوية المشرقة على الأخلاق، ولم توجد قوة أخرى لها ما لها من سلطان تحل محلها. وكانت النتيجة التحلل من جميع الموانع والقيود وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وانتشار الفساد، والاستمتاع المرح استمتاعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا منذ أن حطم السوفسطائيون الأساطير وحرروا العقول، وأرخَوا قيود الأخلاق في بلاد اليونان القديمة.(21/75)
الباب العشرون
الانحلال الخلقي
1300 - 1534
الفصل الأول
منابع الفساد الخلقي وأشكاله
ليس ثمة ميدان يمكن أن يتعرض فيه المؤرخ لتأثير أهوائه وميوله فيضل ويصدر حكاماً خاطئة، كالميدان الذي يطرقه حين يريد التحقق من المستوى الأخلاقي لعصر من العصور- اللهم إلا إذا كان هذا الميدان هو ميدان البحث في أسباب ضعف العقيدة الدينية، وهو ميدان وثيق الصلة بميدان الأخلاق، ففي كلتا الحالتين يكون أكثر ما يسترعي نظره هو الاستثناء غير المألوف الذي يؤثر في النفس بمظهره فيصرف الإنسان عن الأحوال المألوفة التي لا تسجلها صفحات التاريخ. وإذا ما أقبل على المشكلة التي أمامه ولديه فكرة يريد أن يثبتها كالفكرة القائلة إن التشكك في أمور الدين يؤدي إلى انحلال الأخلاق- نقول إنه إذا أقبل على المشكلة بهذه الفكرة زادت الحقائق انطماساً فيعجز عن تبين الحقيقة كاملة. هذا إلى أن الحادثات المسجلة قد تفسر بالنقيضين، ويكاد يستطيع قارئها أن يثبت بها أي شيء حسب ما يختاره من تلك الحادثات مدفوعاً إلى ذلك بميله وهواه. ففي وسعه مثلا أن يوجه اهتمامه إلى مؤلفات أريتينو Aretino وسير تشيليني Cellini الذاتية، ورسائل مكيفلي وفتوري ليشتم منها رائحة الانحلال، كما أن(21/76)
في مقدوره أن ينقل من رسائل إزبلا وبيتريس دست، ورسائل إلزبتا جندساجا وألسندرا استرتسى ما يصور به الحنان الأخوي والحياة البيتية المثالية. ولهذا ينبغي لقارئ التاريخ أن يكون على حذر.
وكان ثمة عوامل كثيرة سبب ذلك الانحلال الخلقي الذي صاحب ما كان في النهضة من رقي فكري عظيم. وأكيد الظن أن العامل الأساسي في هذا الانحلال هو زيادة الثراء الناتج من موقع إيطاليا الهام في ملتقى الطرق التجارية بين أوربا الغربية وبلاد الشرق، ومن تدفق العشور وغيرها من القروض التي كانت ترد إلى روما من ألف مجتمع مسيحي. وزاد انتشار الإثم بازدياد المالي الذي تتطلبه نفقاته، وأضعف انتشار الثراء اتخاذ الزهد مثلا أعلى للحياة: فقد أصبح النساء والرجال يشمئزون من المبادئ الأخلاقية التي قامت على الفقر والخوف، والتي أضحت الآن تتعارض مع غرائزهم ووفرة مالهم. وأخذوا يستمعون بعطف متزايد إلى آراء أبيقور القائلة إن على الإنسان أن يستمتع بالحياة، وإن كل الملذات يجب أن تعد بريئة حتى يثبت جُرمها. وغلبت مفاتن النساء أوامر الدين ونواهيه.
وربما كان العامل الثاني الذي يلي الثراء في إفساد الأخلاق هو ما كان في ذلك العصر من تقاتل سياسي. ذلك أن تطاحن الأحزاب والشيع المتعادية، وكثرة الحروب، وتدفق مرتزقة الجنود الأجانب، وما حدث بعد ذلك من غزو الجيوش الأجنبية أرض إيطاليا، وهي جيوش لم تكن تراعى في تلك الأرض أي قيد من القيود الخلقية، واضطراب أحوال الزراعة والتجارة بسبب ويلات الحرب وتخريبها، وقضاء الحكام المستبدين على الحرية واستبدالهم القوة الغاشمة بالسلم والقانون: كل هذه الظروف أشاعت الاضطراب في حياة لإيطاليا وحطمت العادات التي كان الأهلون يعتزون بها ويحافظون عليها، وهي في العادة الحارس الأمين على الأخلاق. ووجد الناس أنفسهم يضربون على غير هدى في بحر عجاج من العنف والجبروت،(21/77)
بدا لهم فيه أن الدولة والكنيسة كلتيهما عاجزتان عن حمايتهم فتولوا هم أنفسهم تلك الحماية بأحسن ما يستطيعون، بالسلاح وبالخداع؛ حتى أصبح الخروج على القانون هو السنة المتبعة والشريعة المقررة. وانغمس الحكام الطغاة في الملذات جميعها بعد أن وجدوا أنفسهم فوق القانون يحيون حياة قصيرة ولكنها حياة مثيرة، وحذت حذوهم أقلية الأهلين ذات الثراء.
وإذا شئنا أن نقدر أثر التحلل من الدين في تحلل بني الإنسان الفطري من القيود الخلقية، وجي علينا أن نبدأ بالتفرقة بين تشكك القلة المتعلمة، وتقوى الكثرة التي تعض على تقواها بالنواجذ. إن الاستنارة على الدوام من مزايا الأقليات، والتحرر من صفات الأفراد، لأن العقول لا تتحرر جماعات ... فقد يحتج عدد قليل من المتشككة على المخلفات الزائفة، والمعجزات المزورة، وصكوك الغفران التي تعرض تعهدا بالأداء الآجل نظير ثمن عاجل؛ ولكن جمهرة الشعب تقبل هذه كلها في رهبة وخشوع وأمل. وقد حدث في عام 162 أن ذهب البابا العالم بيوس الثاني وجماعة من الكرادلة إلى ملقى ليستقبلوا رأس الرسول أندرو المحمول من بلاد اليونان، وألقى الكردنال العالم بساريون Bessarion خطبة رهيبة حين وضع الرأس الموهوم الثمين في كنيسة القديس بطرس. وكان الشعب يحج إلى لوريتو وأسيسي، ويهرع إلى روما في سني الأعياد، ويطوف بمواضع الصليب من كنيسة الى كنيسة، ويصعد وأفراده ركع على الدرج المقدسة Seale Sanla التي قيل لهم إنها هي الدرج التي صعد عليها المسيح إلى محكمة بيلاطس. وقد يخسر الأقوياء من هذا له وهم أصحاء، ولكن قلما كان يوجد إيطالي في عصر النهضة لا يطلب القربان المقدس وهو على فراش الموت. فها هو ذا فيتيلتسو فيتيلي Vitelozze Vitelli الزعيم المغامر المستأجر الذي حارب الإسكندر السادس، وسيزارى بورجيا يتوسل إلى رسول أن يذهب إلى روما ليسأل البابا أن يغفر له قبل أن يشد جلاد سيزارى(21/78)
الحبل حول عنقه؛ وكانت النساء على الأخص يعبدن مريم؛ ولم تكد قرية من القرى تخلو من صورة لها تصنع المعجزات؛ وأضحت المسبحة وقتئذ (ولعل ذلك كان في عام 1524) الأداة المحببة للتسبيح والصلاة. وكان في كل بيت محترم صليب؛ وصورة مقدسة أو صورتان، وأمام الصورة أو الصورتين في كثير من البيوت مصباح يظل موقداً على الدوام. وكانت ميادين القرى وشوارع المدن تزدان أحياناً بتمثال للمسيح أو العذراء موضوع في صندوق خاص أو كوة في جدار. وكانت أعياد التقويم الديني يحتفل بها في أبهة وفخامة تخفف عن عامة الشعب كدحهم وتدخل السرور على نفوسهم، وكان تتويج البابا كل عقد من السنين أو نحوه تعرض فيه المواكب والألعاب، تذكر عارفي التاريخ القديم بما كان يجري في روما القديمة. ولم يكن قط دين من الأديان أجمل مناظر من الدين المسيحي حين أقام فنانو النهضة ونحتوا أضرحة، وصوروا أبطال هذا الدين وقصصه، وحين اجتمعت المسرحيات والموسيقى والشعر، والبخور في عبادة الله، وازدانت العبادة بما كان فيها من ألوان رائعة؛ وروائح ذكية، ومناظر فخمة.
ولكن هذا لم يكن إلا جانباً واحداً من جوانب المنظر فيه من الاختلاف والتناقض ما لا يليق معه وصفه بإيجاز. لقد كان كثير من كنائس المدن يخلو نسبياً من المصلين، كما هي حالها في هذه الأيام (1). أما في الريف فلنستمع إلى ما يقوله أنطونيو كبير أساقفة فلورنس في وصف فلاحي أسقفيته حوالي عام 1430:
"وفي الكنائس نفسها كانوا أحياناً يرقصون، ويقفزون، ويغنون مع النساء. وفي أيام الأعياد لم يكونوا يقضون في الصلاة أو في سماع القداس إلا وقتاً جد قصير؛ أما معظم الوقت فيقضونه في الألعاب، أو في الحانات، أو في النزاع عند أبواب الكنائس. وهم يجدفون في حق الله وأوليائه الصالحين، أو ينطقون بأقوال مثيرة أقل من هذه قبحاً. تنطق ألسنتهم(21/79)
بالكذب والخبث بالعهود وقول الزور؛ ولا يؤنبهم ضميرهم على الفسق والفجور وما هو أسوأ من هذا وذاك. وما أكثر من لا يعترفون منهم بذنوبهم ولو مرة واحدة في العام. وما أقل من يتناولون القربان المقدس ... ولا يكادون يفعلون شيئاً يربون به أبنائهم كما يفعل الصالحون المؤمنون. ويستخدمون الرقى والتعاويذ لأنفسهم وحيوانهم، ولكنهم لا يفكرون أبداً في الله ولا في سلامة أرواحهم ... أما قساوسة الأبرشيات فلا يعنى منهم أحد بالقطيع الذي يرعونه، بل كان ما يعنون به هو أصواف ذلك القطيع وألبانه، فلا يهدونه بالمواعظ العامة والاعترافات أو بالتحذير الفردي؛ بل يرتكبون نفس الخطايا التي يرتكبها من يرعونهم، ويسيرون سيرتهم الفاسدة (2) ".
ومن حقنا أن نستدل من حياة رجال أمثال بمبونتسي ومكيفلي، ومن موتهم الطبيعي، على أن شطراُ كبيراُ من الطبقات المتعلمة في إيطاليا عام 1500 قد فقد إيمانه بالمسيحية الكاثوليكية؛ ولنا أن نفترض، في حذر أكثر من هذا، أن الدين حتى بين الطبقات غير المتعلمة، قد فقد بعض ما اكن له من سلطان على الحياة الأخلاقية. وكانت نسبة متزايدة من السكان قد نبذت العقيدة القائلة بأن القانون الأخلاقي موحى به من عند الله. وما كاد يبدو للناس أن الوصايا العشر من وضع البشر، وما كادت تجرد مما فيها من نعيم في الجنة وعذاب ي النار، حتى فقد ذلك القانون الأخلاقي ما كان له من رهبة وقوة، فلم يعبأ أحد بالمحرمات، وحل محلها قانون جر المغانم وانتهاب اللذات؛ وضعف شعور الناس بالخطيئة، والرهبة من الجريمة؛ وتحرر ضمير الناس من القيود أو كاد، وأخذ كل إنسان يفعل ما يبدو له ميسراً ولو لم يكن ما اعتاد الناس أن يروه حقاً. ولم يعد الناس يرغبون في أن يكونوا صالحين، بل كان ما يريدونه أن يكونوا أقوياء. ومارس كثيرون من الناس، قبل مكيفلي بزمن طويل، امتيازات القوة، والغش والخداع- أي المبدأ القائل(21/80)
بأن الغاية تبرر الوسيلة- التي يجيزها ذلك السياسي لحكام الدول. ولعل قانونه الأخلاقي لم يكن إلا صورة تمثلت له بعد أن شهد ما حوله من أخلاق وعادات. وقد عزا بلاتينا Platina لبيوس الثاني قوله إنه "حتى إذا لم يكن الدين المسيحي مؤيداً بالمعجزات، فإن من الواجب مع ذلك أن يتقبل لما فيه من حث على الأخلاق الكريمة" (3). ولكن الناس لم يكونوا يتبعون هذه الفلسفة في تفكيرهم؛ بل كل ما كانوا يقولونه: إذا لم تكن ثمة نار ولا جنة، فإن من واجبنا أن نمتع أنفسنا على ظهر الأرض، ونترك العنان لشهواتنا، دون أن نخشى عقابا بعد الموت. ولم يكن شيء يستطيع أن يحل محل العقوبات السماوية الضائعة إلا رأي عام قوي مفكر؛ ولكن رجال الدين، والكتاب الإنسانيين، ورجال الجامعات لم يرقوا إلى المستوى الذي يستطيعون معه أداء هذا الواجب.
ذلك أن الكتاب الإنسانيين لم يكونوا أقل فساداً من رجال الدين الذين يوجهون هم لهم سهام النقد. نعم إنه كان من بينهم قلة شاذة من العلماء النابهين الذين يرون الاحتشام والوقار مما يتفق مع التحرر العقلي- أمثال أمبروجيو ترافير سارى Ambrogio Traversari، وفيتوريو دا فيلترى Vitoiro da Feltre ومرسليو فيتشينو Mersilio Vicino، وألدس مانوتيس Aldus Manutius ... ولكن أقلية كبيرة من الرجال الذين بعثوا الآداب اليونانية والرومانية كانت تعيش كما يعيش الوثنيون الذين لم يسمعوا قط شيئاً عن المسيحية. وكان تنقل أفرادها سبباً في اقتلاعهم من كل بيئة وجدوا فيها؛ فقد كانوا ينتقلون من مدينة إلى مدينة، يطلبون في كل منها المجد أو المال، ولا يستقرون في واحدة منها. وكانوا مولعين بالمال ولع المرابي أو زوجته، مزهوين بعبقريتهم، ومكاسبهم، وملامحهم، وثيابهم، غلاظاً وقحين في ألفاضهم، غير كريمين حقيرين في أحاديثهم، غير أوفياء في صداقتهم، متقلبين في حبهم، وهاهو ذا أريستو، كما قلنا من قبل، لم يجرؤ على أن(21/81)
يعهد بابنه إلى معلم من الكتاب الإنسانيين خشية أن تصيبه عدوى المعلم الخلقية. وأكبر الظن أنه لم ير من الضروري أن يحرم على ولده قراءة قصة أورلندو فيوريوسو Orlando Furioso التي كانت تتخللها بعض العبارات الوقحة الحلوة النغمة. وقد كشف فلا، وبجيو وبيكاديلي Becadelli، وفيليفو بإيجاز يبلغ في حياتهم المستهترة عن إحدى المسائل الأساسية في علم الأخلاق وفي الحضارة بوجه عام: ونعنى بها "هل ينبغي أن يكون القانون الأخلاقي، إذا أريد أن يكون ذا أثر في النفوس، مؤيداً من قوة غير قوة بني الإنسان- وهل لابد لأن يكون له ذلك الأثر أن يؤمن الإنسان بحياة غير هذه الحياة الدنيا أو يعتقد أن هذا القانون الأخلاقي منزل من عند الله؟(21/82)
الفصل الثاني
أخلاق رجال الدين
لقد كان بوسع الكنيسة ان تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع. ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما في أخلاق زمانها من شر وخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة تنعكس عليها ما في سيرة غير رجال الدين من أضداد. فقد كان قس الأبرشية خادماً ساذجاً، لم يؤت في العادة إلا قسطاً ضئيلاُ من التعليم، ولنه غالباً ما يعيش معيشة يقتدى بها (4) (وإن خالفنا في هذا رأي الراهب الصالح أنطونيو)، لا يعبأ به رجال الفكر، ولكن يرحب به الشعب. وكان بين الأساقفة ورؤساء الأديرة بعض من يحيون حياة منعمة، ولكن كان منهم كثيرون من الرجال الصالحين، ولعل نصف مجمع الكرادلة كانوا يسلكون مسلك أتقياء المسيحيين المتدينين الذي يخزي مسلك زملائهم الدنيوي المرح (5).
وانتشرت في جميع أنحاء إيطاليا المستشفيات، وملاجئ اليتامى، والمدارس، وبيوت الصدقات، ومكاتب القرض وغيرها من المؤسسات الخيرية يديرها رجال الدين. واشتهر الرهبان البندكتيون، والفرنسيس المتشددون، والكرثوزيون بمستوى حياتهم الخلقي الرفيع إذا قيس إلى أخلاق أهل زمنهم. وواجه المبشرون مئات الأخطار وهو يعملون لنشر الدين في أراضي "الكفار" وبين الوثنين المقيمين في العالم المسيحي. واختفى المتصوفة عن أعين الناس وابتعدوا عما كان في زمانهم من عنف، وأخذوا يعملون للاتصال القريب بالخالق جل وعلا.
وكان بين هذا التقي والورع الكثير من التراخي في الأخلاق بين رجال(21/83)
الدين، نستطيع أن نثبته بما نضربه من مئات الأمثال. فها هو ذا بترارك نفسه الذي بقي مخلصاً لدين المسيح إلى آخر أيام حياته، والذي صور ما في دير الكرثوزيين، الذي كان يعيش فيه أخوة، من نظام وتقى في صورة طيبة مستحبة، ها هو ذا يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين في أفنيون. وإن الحياة الخليعة التي كان يحياها رجال الدين الإيطاليون، والتي نقرأ عنها في روايات بوكاتشيو المكتوبة في القرن الرابع عشر إلى روايات فلتشيو في القرن الخامس عشر، إلى روايات بنديتلو في القرن السادس عشر، إن هذه الحياة الخليعة موضوع يتكرر وصفه في الأدب الإيطالي فبوكاتشيو يتحدث عما في حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس في الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية (6). ووصف ماستشيو الرهبان والإخوان بأنهم "خدم الشيطان". منغمسون في الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقاً من رجال الدين" (7).
وها هو ذا أريتينو الذي لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين؛ ويزيد على ذلك قوله: "والحق أنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على روما مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب صحيح" (8) وديكا بجيو Poggio يفرغ كل ما عرفه منن ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم وغطرستهم (9). وبقص فولينجو Folengo في كتاب أرلندينو Oriandino هذه القصة نفسها؛ ويبدو أن الراهبات، ملائكة الرحمة في هذه الأيام؛ كان لهن نصيب، في هذا المرح، أو أنهن كن مرحات رشيقات في البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قرباً يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد. وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلداً من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات (10). ويتحدث أريتينو عن راهبات البندقية حديثاً لا تطاوع الإنسان نفسه على أن(21/84)
ينطق به (11)؛ وجوتشيارديني، الرجل الرزين المعتدل عادة، يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف روما فيقول: "أما بلاط روما فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحى أبد الدهر، وهي مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم".
ويبدو أن هذه شهادات مبالغ فيها، وقد تكون غير نزيهة، ولكن استمعوا إلى قول القديسة كترين السيانية:
"إنك أينما وليت وجهك- سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين، أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغاراُ في السن أو كباراُ- لم تر إلا شراُ ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة. إنهم كلهم ضيقوا العقل، شرهون، بخلاء ... تخلوا عن رعاية الأرواح ... اتخذوا بطونهم إلهاً لهم، يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة، حيث يتمرغون في الأقذار ويقضون حياتهم في الفسق والفجور ... ويطعمون أبنائهم من مال الفقراء ... ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون" (13).
وهنا أيضاً يجب أن نسقط بعض ما يحتويه هذا الوصف من مبالغة، إذ ليس في وسع الإنسان أن يثق بأن الولي الصالح يتحدث عن سلوك الآدميين وهو غير غاضب. ولكن في وسعنا أن نصدق هذه الخلاصة التي يعرضها مؤرخ كاثوليكي صريح:
"وإذا كانت هذه هي حال الطبقات العليا من رجال الدين فإن المرء لا يعجب إذا كان من دونهم من الطبقات ومن القساوسة قد انتشرت بينهم الرذيلة على اختلاف أنواعها وأخذ انتشارها على مدى الأيام. إلا أن الحياء قد زال من العالم ... ولقد كان أمثال أولئك القساوسة هم اللذين دفعوا إرزمس ولوثر إلى وصفهما المبالغ فيه لرجال الدين حين زارا(21/85)
رومة في أيام يوليوس الثاني. غير أن من الخطأ أن يظن المرء أن القساوسة كانوا في روما أكثر فساداً منهم في غيرها من المدن. ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيسين في كل مدينة تقريباً من مدن شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن الحال في كثير من الأماكن-كالبندقية مثلا- كانت أسوأ كثيراُ منها في روما. فلا عجب والحالة هذه إذا تضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد في كثير من الأماكن أي احترام يظهره الشعب للقسيسين. ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم ... ولقد كان الكثير من الأديرة في حال يرثى لها. وأغفلت في بعضها الأيمان الثلاث الأساسية بالتزام الفقر، والعفة، والطاعة إغفالا يكاد يكون تاماً ... ولم يكن النظام في كثير من أديرة النساء أقل من هذا فساداً (14).
وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب فإنا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش، وإن كانت هذه المحاكم قد اضمحل شأنها في إيطاليا اضمحلالاً كبيراً أثناء القرن الخامس عشر. مثال ذلك أن أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi، أحد علماء الرياضة، حوكم في عام 1440 لأنه اتهم بالمادية وصدر الحكم ببراءته؛ وحدث في عام 1478 أن حكم بالإعدام على جاليتو مارتشيو Galeotto Marcio لأنه كتب يقول إن أي إنسان يحيا حياة صالحة يكون مصيره الجنة أيا كان دينه، ولكن البابا سكستس الرابع نجاه من الموت (15)؛ وفي عام 1497 حمى مرضى جبريلي دا سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب من محكمة التفتيش مع أنه قال إن المسيح ليس إلها، بلى هو ابن يوسف ومريم، حملت به أمه بنفس الطريقة السخيفة التي تحمل بها كل أم، وإن جسم المسيح لا يحتويه العشاء الرباني، وإنه لم يفعل المعجزات بقوة إلهية(21/86)
بل بتأثير النجوم (17)؛ وهكذا تنفي كل أسطورة غيرها من الأساطير، وفي عام 1500 أحرق جيورجيو نافارا Giorgio da Navara في بولونيا لأنه، على ما يظهر، أنكر ألوهية المسيح، ولم يكن له من يحميه من الأصدقاء أصحاب النفوذ. وفي ذلك العام نفسه أعلن أسقف أرندا Aranda أن ليس ثمة جنة ولا نار، وأن صكوك الغفران ليست إلا وسيلة لجمع الأموال، ولم يوقع عليه مع ذلك أي عقاب (18). وفي عام 1510 أراد فردناند الكاثوليكي أن يدخل محاكم التفتيش في نابلي، ولكنه لقى مقاومة عنيفة من جميع السكان على اختلاف طبقاتهم اضطر معها إلى التخلي عن هذه المحاولة (19).
وكان في وسط هذا الانحلال الكنسي عدة مراكز للإصلاح الطيب من ذلك أن البابا بيوس الثاني أبعد أحد رؤساء الرهبان الدومنيكيين من مركزه، وأدخل النظام في أديرة البندقية، وبرتشيا، وفلورنس، وسينا وفي عام 1517 أنشأ سادوليتو، وجيبيرتي Geberti، وكارفا Caraffa وغيرهم من رجال الكنيسة "محراب الحب القدسي" ليكون مركزاً لأتقياء الرجال الذين يريدون ملجأ مما في روما من انهماك وثني في مفاتن الدنيا. وفي عام 1523 أنشأ كارفا طائفة الثياتين Theatines، التي يعيش فيها القساوسة غير المنتمين إلى طوائف الرهبان معيشة يستمسكون فيها بقواعد الرهبنة، من عفة، وطاعة، وفقر. ونزل الكردنال كارفا عن كل مرتباته ووزع جميع أملاكه على الفقراء؛ وحذا حذوه القديس جيتانو Saint Gaetano وهو أيضاً من مؤسسي طائفة الثياتين. وكان كثيرون من هؤلاء الأتقياء الصالحين رجالا كرام المحتد، عظيمي الثراء، وقد أدهشوا روما باستمساكهم الشديد بالقواعد التي فرضوها على أنفسهم، وبزياراتهم لضحايا الطاعون دون أن يخشوا الموت. وفي عام 1533 أنشأ أنطونيو ماريا زكريا Antonio Maria Zaccaria طائفة مماثلة لهذه من القساوسة في ميلان، سمى أفرادها أولا قساوسة القديس بولس النظاميين، ولكنهم لم يلبثوا أن(21/87)
تسموا باسم البرنابيين Barnabites نسبة إلى كنيسة القديس برنابا St. Barnabas. ووضع كارفا برنامجاً طيباً لإصلاح رجال الدين في البندقية، وحاول جيبرتي إدخال إصلاحات مثلها في أقفية فيرون (1531 - 1528). وأصلح إجيديو كانيسيو Egidio Canisio أحوال النساك الأوغسطينيين، وكذلك أدخل جريجريو كرتيزى Gregoreo Cortese إصلاحات شبيهة بإصلاحاته بين الرهبان البنديكتيين في بدوا.
وكان أكبر ما بذل من الجهود لإصلاح الأديرة في ذلك العصر هو تأسيس طائفة الكابوتشين Capuhin Order. فقد خيل إلى ماتيو دي بسي Matteo di Bassi أحد الرهبان الفرنسيس المتزمتين من مونتى فلكونى Montefalcone أنه رأى القديس فرانسس في رؤيا وأنه سمعه يناديه بقوله: "أحب أن تتبع قاعدتي بنصها، بنصها، بنصها". وعرف أن القديس فرانسس كان يلبس قلنسوة مستدقة ذات أربعة أركان، فاتخذ مثلها غطاء لرأسه. وسافر إلى روما وحصل من البابا كلمنت السابع (1528) على إذن بانشاء فرع جديد من طائفة الرهبان الفرنسيس يمتازون من غيرهم بقلانسهم، وبالتزامهم القاعدة الأخيرة من قواعد القديس فرانسس. وكانوا يلبسون أخشن الثياب، ويمشون حفاة طول العام، ويعيشون على الخبز، والخضر، والفاكهة، والماء؛ ويراعون فروض الصيام الدقيق، وينامون في صوامع ضيقة في أكواخ فقيرة مقامة من الخشب والطين، ولا يسافرون قط إلا راجلين. ولم يكن عدد أفراد الطائفة الجديدة كبيراُ ولكنها كانت مثلا حافزاً للإصلاح الواسع الانتشار الذي تسرب إلى طوائف رهبان الأديرة والرهبان المتسولين في القرنين السادس عشر والسابع عشر (20).
وقد بدأت بعض هذه الإصلاحات استجابة إلى دعوة الإصلاح البروتستنتي؛ لكن كثيراً منها قد نشأ من تلقاء نفسه، وكان شاهداً على ما في المسيحية والكنيسة من قوة حيوية كانت سبباً في نجاتهما.(21/88)
الفصل الثالث
الأخلاق الجنسية
ولننتقل بعدئذ إلى أخلاق غير رجال الدين، ونبدأ بالعلاقة بين الرجال والنساء، ونذكر من بادئ الأمر أن الإنسان بفطرته ينزع إلى تعدد الأزواج، وأن لا شيء يستطيع أن يقنعه بالزوجة الواحدة إلا أقسى العقوبات، ودرجة كافية من الفقر والعمل الشاق، ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة. ولسنا واثقين من أن الزنا كان في العصور الوسطى أقل انتشاراً مما كان في عصر النهضة؛ وكما أن الزنا في العصور الوسطى كانت تخفف من مساوئه روح الفروسية وما فيها من شهامة، كذلك كان يخفف من هذه المساوئ بين الطبقات المثقفة التقدير المثالي لرقة المرأة المتعلمة ومفاتنها الروحية. وساعدت زيادة التكافؤ بين الجنسين في التعليم والمركز الاجتماعي على خلق رفقة عقلية جديدة بين الرجال والنساء؛ فكانت الحياة في مانتوا، وميلان، وأربينو، وفيرارا، ونابلي تزدان وتزداد حمية بظهور النساء الفاتنات المثقفات.
وكانت فتيات الأسر العريقة يحتجبن إلى حد ما عن الرجال من غير أسرهم. وكن يلقنَّ على الدوام دروساً في مزايا الاستعفاف قبل الزواج؛ وكان هذا التلقين يلقى أحياناً من النجاح درجة نسمع معها أن فتاة أغرقت نفسها بعد أن أعتدي على عفافها، وإن كان هذا بلا شك فعلاً شاذاً بدليل أن أسقفا اقترح أن يقام لهذه الفتاة تمثال (21)، وفي المقابر الرومانية امرأة عريقة النسب خنقت نفسها لتنقذ شرفها، وحمل جسمها في موكب نصر مخترقاً شوارع روما وعلى رأسها إكليل من الغار (22). بيد أنه كانت هناك بلا شك مغامرات كثيرة من فتيان وفتيات قبل الزواج؛ ولولا هذا(21/89)
لما استطعنا أن نفسر وجود ذلك العدد الجم من الأبناء غير الشرعيين في كل بلد من بلاد إيطاليا في عصر النهضة. لقد كان من ليس له أبناء غير شرعيين من الرجال والنساء يعد شخصاً ممتازاً يحق له أن يفخر على غيره، ولكن وجود أولئك الأبناء لم يكن يجلل أبويهم عاراً كبيراً؛ وكان الرجل إذا تزوج يستطيع في العادة أن يقنع زوجته بأن تقبل انضمام أبنائه غير الشرعيين إلى أسرته لكي يربوا مع أبنائها منه، ولم تكن حال الابن غير الشرعي عقبة كأداء في سبيله؛ ويكاد المجتمع لا يلقى بالاً مطلقاً إلى هذه الوصمة الاجتماعية. وكان في وسع النغل أن يعد ابناً شرعياً بهبة ينقحها لرجال الكنيسة. كما كان في وسعه أن يرث أملاك أبويه، وأن يرث العرش نفسه إذا لم يكن له أخ شرعي يليق بهذه الوراثة، أو لم يكن له أخ شرعي على الإطلاق. مثال ذلك أن فيرانتي الأول خلف ألفنسو الأول على عرش نابلي، وأن ليونلو دست خلف نقولو الثالث على عرش فيرارا. ولما أن قدم بيوس الثالث إلى فيرارا في عام 1495 استقبله سبعة من الأمراء كلهم أبناء غير شرعيين (23). وكان التنافس بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين مصدر كثير من حوادث العنف في عصر النهضة؛ كما كانت نصف الروايات تدور حول إغواء النساء، وكانت النساء يقرأن في العادة هذه القصص أو يستمعنها، وكل ما يظهرنه من دلائل الحياء أن يطرقن بأبصارهن لحظات قصاراً. وقد وصف ربرت أسقف أكوينو في أواخر القرن الخامس عشر أخلاق الشبان في أسقفيته بأنها فاسدة، وقال إن أولئك الشبان لا يستحون من هذا الفساد. ويروى أنهم كانوا يقولون له أن الفسق ليس من الخطايا، وإن العفة من الأوامر التي عفا عليها الزمان، وإن عادة احتفاظ البنات بعذرتهن آخذة في الزوال (24). وحتى مضاجعة المحارم كان لها من يحبذونها ويتباهون بها.
أما اللواط فقد كاد يصبح من مستلزمات بعث الحضارة اليونانية.(21/90)
وكان الكتاب الإنسانيون يكتبون عنه بما يشبه الاعتزاز العلمي، ويقول أريستو إنهم كلهم كانوا منغمسين فيه. وكان بولتيان، وفليو، واستروتسي وسنودو Sanudo صاحب اليوميات يتهمون بهذه العادة اتهاماً له ما يبرره (25). كذلك اتهم بها ميكل أنجيلو، ويوليوس الثاني، وكلمنت السابع، وإن لم يبلغ هذا الاتهام من القوة والإقناع مبلغه في الحال السالفة الذكر. وقد وجد القديس برنردينو هذه العادة منتشرة في نابلي انتشاراً لم يسعه معه إلا أن ينذر هذه المدينة بأنها سيصيبها ما أصاب سدوم وعمورة (26). ويقول أرتينو إن هذا الشذوذ الجنسي كان شائعاً واسع الانتشار في روما (27)؛ وإنه هو كان يطلب إلى دوق مانتوا أن يبعث إليه بين كل خليلة وأخرى فتى وسيما (28)، وتلقى مجلس العشرة في مدينة البندقية في عام 1455 مذكرة رسمية تصف "انتشار رذيلة اللواط انتشاراً واسع النطاق في هذه المدينة"، وأراد المجلس "أن يتقي غضب الله" فعين رجلين في كل حي من أحياء البندقية مهمتهما القضاء على هذه العادة (29). وعرف المجلس أن بعض الرجال قد اعتادوا لبس أثواب النساء، وأن بعض النساء قد أخذن يرتدين ملابس الرجال، وقد سمى هذا العمل "ضرباً من اللواط" (30). وأدين رجل من الأشراف وآخر من رجال الدين في عام 1492 بممارسة اللواط، فأعدما في الميدان العام وأحرق رأساهما أمام الجماهير (31). ولقد كانت هذه حالات شاذة بطبيعة الحال لا يليق بنا أن نتخذها أساساً لحكم عام؛ ولكن لنا أن نفترض أن اللواط كان منتشراً انتشاراً أكثر من العادة في إيطاليا أثناء عصر النهضة وأنه ظل منتشراُ فيها حتى قامت حركة الإصلاح المعارضة.
وفي وسعنا أن نقول هذا القول نفسه عن الدعارة. فإذا أخذنا بقول إنفسورا- الذي كان يميل إلى المبالغة فيما يورده من الإحصاءات عن روما في عهد البابوات- قلنا إنه كان في روما 6. 800 من العاهرات مسجلات في عام 1490، بخلاف العاهرات اللاتي يمارسن هذه الحرفة خفية، وذلك(21/91)
بين سكان البلد البالغين 90. 000 نسمة (32) ويقدر التعداد الذي أجري في البندقية عام 1509 عدد العاهرات بـ 11. 654 عاهراً من بين سكانها البالغ عددهم نحو 300. 000 (33). وقد نشر طابع مغامر "سجلاً بأشهر المحاظى وأشرفهن في البندقية احتوى اسمائهن، وعناوينهن، وأجورهن". وكن في الطرق يترددن على الحانات، وفي المدن ينزلن عادة في ضيافة الفتيات اليافعين، والفنانين المتلهفين. ويصف لنا متشيليني ليلة قضاها مع حظية له كأنها حادث عادي غير ذي بال، كما يصف عشاء الجماعة من الفنانين من بينهم جوليو رومانو وهو نفسه، وقد طلب إلى كل واحد من الحاضرين أن يأتي بامرأة غير متمنعة، وفي مأدبة أخرى أرقى من هذه درجة أقامها لورندسو استروتسي لمصرفي في عام 1519 لأربعة عشر شخصاً من بينهم أربعة كرادلة وثلاث نساء من الخليعات (35).
ولما ازداد الثراء وازدادت الرغبة في التنعم بدأ الأثرياء المنعمون يطلبون المحاظي اللائي يتمتعن بقسط من التعليم والمفاتن الاجتماعية، وكما أن طائفة الخليلات قد نشأت في أثينة أيام سفكليز للوفاء بهذا المطلب، كذلك نشأت في روما في أواخر القرن الخامس عشر وفي البندقية في القرن السادس عشر طبقة من الخليلات المهذبات ينافسن أظرف السيدات في ثيابهن، وآدابهن، وثقافتهن، بل وفي تقاهن وترددهن على الكنائس في أيام الآحاد. بينما كانت العاهرات العموميات يمارسن حرفتهن في المواخير، كانت الخليلات الرومانيات السالفات الذكر يقمن في بيوتهن، وينفقن بسخاء كبير على المآدب، ويقرأن الكتب، ويقرضن الشعر، ويغنين، ويعزفن على الآلات الموسيقية، ويشتركن في الأحاديث مع الطبقة المثقفة المتعلمة؛ ومنهن من كن يجمعن الصور والتماثيل، والطبعات النادرة من الكتب وآخر ما صدر منها؛ ومنهن من كن يعقدن الندوات الأدبية. وأردن أن يحتفظن بمقامهن لدى الكتاب الإنسانيين فتسمت الكثيرات منهن بأسماء لاتينية- كاميليا، يولكسينا، وينثسيليا Penthesilea، وفوستينا Faustina، وإمبيريا(21/92)
Imperia، وتوليا Tullia. وكتب أحد الظرفاء الأفاكين، في أيام البابا اسكندر السادس مجموعة من النكت الشعرية بدأها بطائفة منها في مدح العذراء والقديسين ثم اتبعها بلا حياء بطائفة أخرى في الثناء على العشيقات في أيامه (36). ولما ماتت إحدى أولئك العشيقات حزن عليها نصف سكان روما، وكان ميكل أنجيلو من الكثيرين الذين أنشئوا الأغاني تخليداً لذكراها (37).
وأشهر هاته الخليلات المهذبات إمبيريا ده كنياتس Imperia de Cugnatis. وقد أثرت هذه السيدة مما كان يغدقه عليها نصريها وحاميها أجستينو تشيجي Agostino Chigi، فزينت بيتها بالأثاث المترف الوثير والتحف النادرة، وجمعت حولها طائفة كبيرة من العلماء، والفنانين، والشعراء، ورجال الدين، وحتى سادوليتو Sadoleto النقي نفسه كان يتغنى بمديحها (38). وأكبر الظن أن أمبيريا هذه هي التي اتخذها رافائيل نموذجاً لسابفو في صورة البرناسوس Barnassus. وماتت في ريعان شبابها ونضرة جمالها ولم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها (1511)؛ وكزمت بعد موتها بأن دفنت في كنيسة سان جريجوريو San Gregorio، وأقيم لها قبر من الرخام محفور أجمل حفر ومصقول أحسن صقل؛ ورثاها مائة شاعر بأفخم المراثي (39). (وجدير بالذكر أن ابنتها آثرت الانتحار على التفريط في عرضها (40). ولا تقل عنها هرة توليا الأرغونية Tullia d' Aragona ابنة كردينا أرغونة غير الشرعية. وكان أهل زمانها يعجبون بشعرها الذهبي وعينيها البراقتين، وسخائها، وعدم اهتمامها بالمال، ورشاقة قوامها، وسحر حديثها، واستقبلت في نابلي، وروما، وفلورنس، وفيرارا استقبال الأمراء الزائرين. وقد وصف سفير مانتوا في فيرارا دخولها المدينة في رسالة غير دبلوماسية بعث بها إلى إزبلادست عام 1537 قال فيها:
أرى من واجبي أن أسجل مقدم سيدة ظريفة تبلغ من تواضعها في سلوكها وافتتان الناس بأدبها لا يسعنا معه إلا أن نصفها بأنها ربانية. وهي تغني(21/93)
ارتجالا جميع النغمات والألحان ... وليس في فيرارا كلها سيدة واحدة، ولا فكتوريا كولونيا Victoria Colonna دوقة بسكارا Pescara يمكن أن تقارن بتوليا (41).
وقد رسم مورتو ده بريشيا Moretto de Brescia صورة ساخرة لها تبدو فيها بريئة براءة الراهبة الحديثة العهد بالرهبنة. وقد أخطأت إذ عاشت بعد أن زالت مفاتنها، وماتت في كوخ حقير قريب من نهر التبر؛ وبيع كل ما تمتلكه بالمزاد فلم يزد ثمنه على اثني عشر كروناً (150؟ دولاراً) ولكنها احتفظت رغم فقرها بعودها ومعزفها إلى آخر أيام حياتها. وتركت وراءها أيضاً كتاباً ألفته في خلود الحب الكامل (42).
وما من شك في أن هذا العنوان يدل على الطراز الذي كان يتحدث به المتحدثون ويكتب به للكتاب عن الحب العذري في عهد النهضة. فإذا لم تسمح امرأة لنفسها أن تزني في تلك الأيام، فقد كان يسمح لها على الأقل بأن تثير في الرجل نوعاً من الغرام الشعري، فتهدى اليها القصائد والمجاملات الأدبية والمؤلفات. ونشأت في تلك الأيام هيام شعراء الفروسية الغزليين، والحياة الجديدة لدانتي، وأحاديث أفلاطون عن الحب الروحي في عدد قليل من الجماعات عاطفة رقيقة من الهيام بالمرأة- كانت عادة زوج رحل غير المستهام بها. على أن الكثيرة الغالبة من الناس لم يكونوا يعنون قط بهذه الفكرة ويفضلون على هذا الحب العذري الحب الشهواني الصريح؛ فكانوا يكتبون الأغاني ولكن همهم الوحيد كان هو الاتصال الجنسي، وقلما كان هذا الحب ينتهي بالزواج إلا في حالات جد نادرة لا تتجاوز واحداً في المائة وذلك على الرغم مما يكتبه الكتاب في رواياتهم الغرامية.
ذلك أن الزواج في تلك الأيام كان مسألة مال، وكان جمع المال مستطاعاً دون حاجة إلى نزعات الشهوة الجسمية، وكانت خطبة الزواج تنظم في مجالس الأسر، ويقبل معظم الشبان والفتيات دون احتجاج ذي أثر من(21/94)
يختار زوجاً له أو لها. وكان من المستطاع خطبة البنت وهي في الثالثة من عمرها، وإن كان الزواج يؤجل في العادة حتى تتم الثانية عشرة. وكانت البنت في العصور الوسطى، إذا بقيت حتى الخامسة عشرة دون زواج، تجلل أسرتها العار. ثم أجلت تلك السن التي تجلب العار على الأسرة حتى السابعة عشرة في القرن السادس عشر، وذلك لكي يترك للفتاة من الوقت ما تستطيع معه الحصول على قسط من التعليم العالي (43). أما الرجال الذين يستمتعون بجميع ميزات الاختلاط الجنسي دون زواج ولا يجدون أية صعوبة في هذا الاختلاط، فلم يكن يستطاع إغراؤهم بالزواج إلا إذا جاءت الزوجة معها ببائنة قيمة. ومن أجل هذا وجدت في أيام سفنرولا Savonarola كثيرات من البنات الصالحات لأن يكن زوجات واللائي عجزن عن أن يجدن أزواجاً لحاجتهن إلى البائنات. ولهذا أيضاً أنشأت فلورنس نوعاً من التأمين الذي يقضى بأن تقوم الدولة بأداء البائنات لمن هن في حاجة إليها وأطلق على هذا النظام اسم: مال العذارى Motne delle faucille وكانت البنات يحصلن منه على بائناتهن إذا أدين قسطاً سنوياً قليلا (44). وفي سينا بلغ عدد الشبان العزاب من الكثرة ما اضطر المشرعين إلى فرض عقوبات قانونية عليهم؛ وفي لوقا صدر في عام 1454 مرسوم يقضي بحرمان كل العزاب ما بين سن العشرين والخمسين من الوظائف العامة. وكتبت السندرا إسترتسى Alessandra Strozzi في ذلك الوقت (1455) تقول: "إن تلك الأيام غير ملائمة للزواج (45). ورسم رافائيل نحو خمسين صورة للعذارى ولكنه لم يرسم قط صورة زوجة، وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي اتفق معه ميكل أنجيلو فيه، وكانت حفلات الزفاف نفسها تستنفذ مبالغ طائلة من المال؛ وها هو ذا ليوناردو بروني Leonardo Bruni يشكو من أن زواجه قد ذهب بميراثه (46). وكان الملوك والملكات، والأمراء والأميرات، ينفقون ما يعادل مليون دولار على حفلة زفاف بينما كان القحط يقضي على حياة أبناء الشعب (47). وأعد ألفنسو العظيم Alfonso the Magnificent صاحب(21/95)
نابلي مأدبة عشاء لثلاثين ألفاً على ساحل الخليج. وكان أجمل من هذا وأفخم الحفل الذي أقامه أربينو لاستقبال الدوق جويلدو حين جاء من مانتوا بعروسه إلزبتا جندساجا: فقد اصطفت على سفح أحد التلال نساء المدينة في أبهى الحلل، واصطف أمامهن أطفالهن يحملون أغصان الزيتون؛ ومن ورائهم منشدون على ظهور الجياد في أشكال بديعة يرددون أغاني وضعت لهذه المناسبة خاصة، وقدمت سيدة جميلة تمثل إحدى الإلهات إلى الدوقة الجديدة ولاء أهل المدينة وعظيم حبهم (48).
وكانت المرأة بعد الزواج تحتفظ عادة باسمها الخاص، فها هي ذي زوجة لورنسدو ظلت تسمى السيدة كلارتشي أرسيني Clarice Orsine، على أنه كان يحدث أحياناً أن تضيف الزوجة إلى اسمها اسم زوجها- مثل مارسا سلفياني ده ميديتشي Maria Salviati de Medici وكان ينتظر حسب نظرية الحب في العصور الوسطى أن ينشأ الحب بين الرجل وزوجته أثناء اشتراكهما خلال الزواج في الأفراح والأتراح، والرخاء والشدة، ويلوح أن هذا هو الذي كان يحدث في معظم الحالات. ولسنا نعرف حباً نشأ بين فتى وفتاة أعمق أو أصدق من الحب الذي نشأ بين فيكتوريا كولنا والمركيز بيسكارا Pescara وقد خطبت له وهي في الرابعة، كما لا نعرف إخلاصاً أعظم من إخلاص إلزبتا جندساجا التي صحبت زوجها المقعد في جميع ما أصابه من محن ونفي، وظلت وفية لذكراه حتى توفيت.
ومع هذا فإن الزنا كان واسع الانتشار (49). وإذ كانت معظم الزيجات التي تعقد بين أفراد الطبقات العليا زيجات دبلوماسية تبتغي بها المصالح الاقتصادية أو السياسية، فقد كان كثيرون من الأزواج يرون أن من حقهم أن تكون للواحد منهم عشيقة؛ وكانت الزوجة في العادة تغمض عينيها عن هذه الإساءة أو تطبق شفتيها فلا تنطق بشيء مما تشعر به من أسى نتيجة لهذا التصرف. وكان رجال الطبقات الوسطى يدعون أن الزنا من(21/96)
الملاهي المشروعة. ويلوح أن مكيفلي وأصدقاءه لم يكونوا يتحرجون عن تبادل الرسائل المفصحة عن خياناتهم لزوجاتهم. وإذا ما ثأرت الزوجة لنفسها من زوجها فاقتدت به كان الزوج من الأحيان يتجاهل فعلها هذا ويحمل قرنيه راضياً (50). لكن تدفق الأسبان على إيطاليا عن طريق نابلي وبتشجيع الإسكندر السادس وشارل الخامس جاء إلى الحياة الإيطالية بالغيرة على العرض والشرف، فكان الزوج في القرن السادس عشر يرى من واجبه أن يعاقب زوجته بالموت إذا زنت في الوقت الذي يحتفظ فيه هو بميزاته الفرية الكاملة غير منقوصة. وكان في وسع الزوج أن يهجر زوجته وأن ينعم مع ذلك بالحياة؛ أما الزوجة إذا هجرها زوجها فلم يكن أمامها إلا أن تطالب برد بائنتها، ثم تعود إلى بيت أهلها، وتعيش عزبة لأنها لم يكن يسمح لها بأن تتزوج مرة أخرى. وكان في وسعها أن تدخل الدير، ولكنه كان ينتظر منها في هذه الحال أن تهبه جزءاً من بائنتها (51). ويمكن القول بوجه عام إن الزنا كان يتخذ سلوى يستعاض بها عن الطلاق.(21/97)
الفصل الرابع
الرجل في عصر النهضة
كان اجتماع التحرر الفكري والتحلل من القيود الخلقية هو الذي أوجد "رجل النهضة"؛ غير أنه لم تكن له من الخواص ما يجعله خليقاً بذلك اللقب. فقد كان في ذلك العصر كما كان في غيره من العصور أكثر من عشرة أنماط. وكل ما كان له من ميزة أنه كان ممتعاً طريفاً، ولعل سبب ذلك أنه كان من طراز شاذ غير مألوف. وكان فلاح النهضة هو الفلاح بعينه في جميع العهود إلى أن جعلت آلات الزراعة صناعة. وكان دهماء المدن الإيطالية في عام 1500 كما كانوا في روما في عهد القياصرة أو في أيام مسوليني، ذلك أن المهنة هي التي تطبع الرجل بطابعها، كذلك كان رجل الأعمال في عصر النهضة شبيهاً بأمثاله في الماضي والحاضر. أما القس في ذلك العصر فكان يختلف عن قس العصور الوسطى أو قس هذه الأيام؛ فقد كان أقل إيماناً منهما بالدين وأكثر استمتاعاً بالدنيا، وكان في وسعه أن يعشق ويحارب. ثم حدث في هذه الأنماط تغير فجائي يستلفت النظر، أدى إلى انحراف في النوع وفي طراز العصر، ونشأ عنه الرجل الذي ترتسم صورته في ذهننا 0حين نقول إن رجل النهضة طراز فذ في التاريخ، وإن كان ألقبيادس إذا رآه أحس بأنه طراز قديم ولد من جديد.
وكانت خصائص هذا الطراز تدور حول بؤرتين: الجرأة الفكرية والخلقية. كان حاد الذهن، يقظاً، متعدد الكفاءات، مستعداً لقبول كل مؤثر وكل فكرة، مرهف الحس بالجمال، حريصاً على نيل الشهرة. وكانت له روح ذات نزعة فردية جريئة عديمة المبالاة، تعمل على تنمية جميع المواهب الكامنة فيها، روح مزهوة فخورة تسخر من الذلة المسيحية،(21/98)
وتحتقر الضعف والجبن، وتتحدى العرف، والتقاليد والأخلاق، والمحرمات، والبابوات، بل تتحدى الله نفسه في بعض الأحيان. وكان في وسع هذا الرجل أن يقود حزباً ثائراً في المدينة؛ أو جيشاً في الدولة؛ فإذا كان من رجال الكنيسة فقد كان يسعه أن يجمع مائة منصب تحت مسوحه، وأن يستخدم ثروته في الوصول إلى السلطان. وفي الفن لم يعد هذا الرجل صانعاً يعمل مغموراً مع غيره في مشروع جماعي كما كان يعمل نظيره في العصور الوسطى؛ لقد كان شخصاً "منفرداً منفصلا عن غيره" يطبع أعماله بطابعه، ويوقع باسمه على ما يرسمه من الصور، بل كان من حين إلى حين على ما يصنعه من تماثيل كما حفر ميكل أنجيلو اسمه على تمثال العذراء وهي تندب طفلها. ومهما تكن الأعمال التي يقوم بها رجل النهضة هذا فقد كان في حركة دائمة، ساخطاً، متأففاً من القيود، تواقاً لأن يكون "رجلاً عالمياً"- جريئاً في تفكيره، حاسماً في أفعاله، فصيحاً في أقواله، ماهراً في فنه، ملماً بالأدب والفلسفة، ليس غريباً على النساء في القصور ولا عن الجند في المعسكرات.
ولم يكن فساد خلقه إلا جزءاً من نزعته الانفرادية. وإذ كان هدفه هو أن ينجح في التعبير عن شخصيته، وكانت بيئته لا تفرض عليه أية معايير يتقيد بها فلا يجد قدوة يقتدى بها بين رجال الدين، ولا يجد ما يرهبه في العقيدة الربانية، فإنه يجيز لنفسه أن يسلك أية وسيلة تبلغه غايته، ويستمتع بكل لذة تصادفه في الطريق. لكنه رغم هذا كله كانت له فضائله. لقد كان رجلا واقعياً، قلما ينطق بتافه القول إلا لامرأة برمة. وكان مؤدباً إذا لم يكن يقتل، وحتى في هذه الحال كان يفضل أن يقتل في غير قسوة. وكان ذا نشاط، وقوة في الخلق، وذا إرادة موجهة موحَّدة؛ وكان يقبل المعنى الذي يفهمه الرومان الأقدمون من لفظ الفضيلة وهو "الرجولة"؛ ولكنه كان يضيف إلى هذا المعنى الحذق والذكاء. ولم يكن مسرفاً في القسوة من(21/99)
غير داع، وكان يمتاز عن الرومان الأقدمين باستعداده لأن يكون تقياً صالحاً. وكان معجباً بنفسه، غير أن هذا الإعجاب لم يكن إلا وليد إحساسه بالجمال وحسن الشكل. وكان تقديره للجمال في المرأة والطبيعة، وفي الفن والجريمة. هو المصدر الأساسي للنهضة. وقد استبدل حاسة الجمال بالحاسة الخلقية؛ ولو أن هذا الطراز من الرجال قد تضاعف وغلب على غيره لحلت أرستقراطية في الذوق لا تبهظها تبعات محل أرستقراطية المولد أو للثروة.
لكننا نقول مرة أخرى إنه لم يكن غير نوع واحد من أنواع كثيرة من رجل النهضة. ألا ما أعظم الفرق بين بيكو ذي النزعة المثالية واعتقاده بقدرة بني الإنسان على أن يبلغوا بأخلاقهم درجة الكمال، وبين سفنرولا الصارم الذي لا تبصر عينه الجمل، والمنهمك في التقى والاستقامة، وبين رافائيل الظريف الرشيق الذي ينشر الجمال من حوله بسخاء، وميكل أنجيلو ذي الجنة، الذي طغى على عقله التفكير في يوم الحساب قبل أن يصوره، وبوليتيان صاحب النغم الحلو الذي ظن أن الرحمة موجودة حتى في الجحيم، وفنورينودا فلترى الأمين الذي نجح أيما نجاح في المجمع بين زينون والمسيح؛ وجوليانو ده ميديتشي الثاني الذي بلغ من رحمته في عدالته درجة رأى معها أخوه البابا أنه لا يصلح للقيام بأعباء الحكم! ما أعظم الفرق بين هؤلاء مع أنهم جميعاً من رجال النهضة. وإنا لندرك رغم ما نبذله من الجهد في اختصار البحث، وصياغة القواعد العامة، أنه لم يكن ثمة رجل يصح أن يطلق عليه اسم "رجل النهضة". لقد كان في ذلك العصر رجال لا يتفقون إلا في شيء واحد! وهو أن الحياة لم تبلغ من الشدة ما بلغته في تلك الأيام. لقد كانت العصور الوسطى تقول- أو تدعي القول- لا للحياة؛ أما النهضة فكانت تقول لها نعم بقلبها، وروحها، وبكل ما كان فيها من قوة.(21/100)
الفصل الخامس
المرأة في عصر النهضة
كان ظهور المرأة في المجتمع من أبهج مظاهر ذلك العصر؛ وكانت مكانتها في التاريخ ترتفع في العادة كلما زاد الثراء وإن استثنينا من ذلك حالها في البلاد الشديدة القرب من الشرق في أيام بركليز. ويرجع السبب في ارتفاع منزلة المرأة كلما زاد الثراء إلى أن الرجل إذا لم يعد يخشى الجوع ولى وجهه نحو المرأة؛ وأنه إذا ما ظل يسخر حياته لطلب المال فإنما يفعل ذلك ليضعه بين قدمي المرأة، أو بين يدي الأطفال الذين جاءت له بهم، وإذا قاومته تصورت له في صورة المثل الأعلى؛ وقد أوتيت في العادة من الحصافة ما يجعلها تقاومه، وتتقاضى منه أعلى ثمن نظير النعمة التي يغمر بهاؤها مشاعره إذا ما فكر فيها، وإذا ما جمعت إلى مفاتنها الجسمية محاسن عقلها وخلقها، وهبته أعظم ما يطمع فيه من السعادة التي لا يسمو عليها إلا ما يطمع فيه من المجد وخلود الذكر، وهو في نظير هذا يرفع منزلتها حتى تصبح مالكة حياته المسيطرة عليها.
على أننا لا ينبغي أن نظن أن هذه المكانة العليا كانت هي نصيب المرأة العادية في عصر النهضة، فالواقع أنه لم ينلها إلا قلة من النساء المحظوظات؛ أما الكثرة الغالبة منهن فكن يخلعن ثياب العرس ليحملن أعباء المنزل ومتاعب الأسرة حتى يوارين الثرى: وليستمع القارئ إلى برنرد ينو يحدد الوقت المناسب لضرب الزوجة:
"وأوصيكم أيها الرجال ألا تضربوا زوجاتكم وهن حاملات فإن في ذلك أشد الخطر عليهن. ولست أعني بهذا أنكم يجب ألا تضربوهن أبداً؛ ولكن الذي أعنيه أن تختاروا الوقت المناسب لهذا الضرب ... وأنا أعرف(21/101)
رجالا يهتمون بالدجاجة التي تضع بيضة في كل يوم أكثر من اهتمامهم بأزواجهم. فقد تكسر الدجاجة أحياناً وعاء أو قدحاً، ولكن الرجل لا يضربها خشية أن يفقد بذلك البيضة التي يحصل عليها منها، إذن فما أشد جنون الكثيرين من الرجال الذين لا يطيقون سماع كلمة من زوجاتهم اللائي يأتين لهن بهذه الثمار الطيبة! ذلك أن الواحد منهم إذا سمع من زوجته كلمة يرى أنها نابية، عمد من فوره إلى عصا وشرع يضربها بها، أما الدجاجة التي لا تنقطع عن الوقوقة طول النهار فإنه يصبر عليها من أجل بيضتها (52) ".
وكانت الفتاة من الأسر العريقة تدرب عادة على النجاح في الحصول على الزوج الثري والاحتفاظ به، وكان هذا التدريب أهم مادة في منهج تعليمها. وكانت تبقى إلى ما قبل زواجها بضعة أسابيع في عزلة إلى حد ما إما في دير أو في منزل أبويها، تتلقى من معلميها أو من الراهبات تعليما لا يقل درجة عما يتلقاه جميع من في طبقتها من الرجال إذا استثنينا منهم العلماء. وكانت في العادة تتعلم شيئاً من اللغة اللاتينية، وتدرس إلى حد ما كبار الشخصيات في تاريخ اليونان والرومان، وآدابهم، وفلسفتهم.
وكانت تعزف على بعض الآلات الموسيقية، وتمارس أحياناً فن النحت والتصوير. وكان بعض النساء يبلغن منزلة العلماء، ويناقشن علناً بعض المسائل الفلسفية مع الرجال؛ ومن هؤلاء كسندرا فيديلي من نساء البندقية؛ ولكن أمثالها كن من الشواذ النادرات الوجود. وكان عدد لا بأس به منهن يقرض الشعر الجيد مثل قسطندسا فارانا Contanza Varana، وفيرونيكا جمبارا Veronica Gambara، وفتوريا كولنا. غير أن المرأة المتعلمة في عصر النهضة ظلت محتفظة بأنوثتها، وعقيدتها المسيحية وما توجبه عليها هذه العقيدة من القانون الأخلاقي؛ وكان احتفاظها بهذه الصفات يهبها وحدة في الثقافة والخلق يعز على رجل النهضة الراقي أن يقاومها.
ذلك أن الرجل المتعلم في ذلك العصر كان يحس بجاذبيتها أشد الإحساس،(21/102)
وكان هذا الإحساس يصل به إلى درجة تدفعه إلى أن يؤلف ويقرأ الكتب التي تحلل مفاتنها تحليلا علمياً مفصلا. من ذلك أن أنيولو فيرندسو Agnolo Firenzulo الراهب الفلمبروزى Vallombrosan ألف حواراً موضوعه جمال المرأة، وأظهر في هذا الموضوع الشاق حذقاً وعلما غزيراً لا يكادان يليقان بالرهبان. وهو يعرف الجمال نفسه كما يعرفه أفلاطون وأرسطو بأنه "التآلف المنتظم، والتوافق الذي لا يستطاع الوصول إلى كنهه، والذي ينتج من وجود عناصر مختلفة، واتحادها، وتفاعلها، بحيث أن كل عنصر من هذه العناصر يتناسب مع العناصر الباقية أتم التناسب وأحسنه، وأن يكون بمفرده جميلا بمعنى ما؛ ولكنها قبل أن تجتمع لتكون جسماً واحداً تختلف فيما بينها وتتنافر" (53) .. ثم يمضي فيبحث بمنتهى الدقة كل جزء من أجزاء المرأة ويضع الموازين القسط لجمال كل واحد منها. فيقول إن الشعر يجب أن يكون غزيراً، طويلا، أشقر- ويفسر الأشقر بأنه أصفر خفيف الزرقة قريب من السمرة، أما البشرة الجميلة فهي البراقة الصافية ولكنها ليست البيضاء الشاحبة؛ والعينان الجميلتان هما السوداوان الكبيرتان، الممتلئتان، اللتان فيهما مسحة من الزرقة في حدقة بيضاء؛ أما الأنف فيجب ألا يكون أقنى، لأن الأنف الأقنى منفر في المرأة بنوع خاص، ويجب أن يكون الفم صغيراً، أما الشفتان فلابد أن تكونا ممتلئتين، والذقن يجب أن يكون مستديراً ذا نونة؛ والعنق يجب أن يكون مستديراً طويلا بعض الطول- ولكن يجب إلا تظهر فيه الحرقدة (1)؛ ويجب أن تكون الكتفان عريضتين، وأن يكون الصدر ممتلئاً منحدراً انحداراً أو مرتفعاً في ظرف وخفة، واليدان بضتين ممتلئتين ناعمتين؛ والساقان طويلتين، والقدمان صغيرتين (54). وإنا لنحس بأن فيرندسو لو قد أمضى كثيراً من القوت يفكر في موضوعه، وأنه اكتشف موضوعاً جديداً بديعا من موضوعات الفسلفة.
_________
(1) الحرقدة عُقدة الحنجور Adsm's apple.(21/103)
ولم تقنع المرأة في عصر النهضة بهذه المفاتن فمضت كما مضت أختها في جميع العصور تصبع شعرها- لتحيله على الدوام تقريباً أشقر- وتضيف إليه الضفائر المستعارة تكمله بها؛ وتبتاعها من القرويات اللاتي كن يقصصن غدائرهن بعد أن يذهب جمالهن ويعرضنها للبيع (55). وكانت المرأة الإيطالية في القرن السادس عشر تجن جنوناً بالعطور، تضمخ بها شعرها، وقبعتها، وقميصها، وجوربيها، وقفازيها، وحذاءيها جميعها. ولقد امتدح أريتينو الدوق كوزيمو لأنه عطر له المال الذي بعث به إليه، "ولا تزال بعض مخلفات ذلك العصر مختلفة برائحتها الذكية لم تفقدها بعد" (56). وكانت منضدة لباس السيدة ذات الثراء تميد بما عليها من مواد التجميل، تحتويها عادة قوارير بديعة الشكل من العاج، أو الفضة، أو الذهب. ولم تكن الأصباغ الحمراء تستخدم في الوجه وحده، بل كانت يزين بها أيضاً الثديان، وكانا في المدن الكبيرة يترك الجزء الأكبر منهما عارياً (57). وكانت مستحضرات كثيرة تستخدم لإزالة العيوب الجسيمة، ولتلميع أظافر اليدين، ولجعل البشرة ناعمة ملساء. وكانت الأزهار تزين الشعر والثياب، واللؤلؤ والماس، والياقوت، والصفير (الياقوت الأزرق) والزمرد، والعقيق، والجمشت، والزبرجد، والياقوت الأصفر، والعقيق تزين الأصابع في الخواتم، والذراعين في الأساور، والرأس في الأكاليل، والأذنين (بعد 1525) في الأقراط، وكانت الحلي فوق ذلك ترصع بها أغطية الرأس، والأثواب والأحذية، والمراوح.
وكانت ملابس السيدات، إذا جاز لنا أن نحكم عليها من صورهن، كثيرة الكلفة، ثقيلة الوزن، غير مريحة للجسم. وكانت الأثواب المصنوعة من المخمل، والحرير، والفراء تتدلى في ثنيات ضخمة من الكتفين، أو من مشابك فوق الثديين إذا كانت الكتفان عاريتين. وكانت الأثواب تشد بمنطقة في الوسط وتكنس الأرض خلف القدمين. وكان حذاء المرأة الثرية(21/104)
عالياً عند باطن القدم وعند الكعب، لكي يحفظ قدميها من أقذار الشوارع؛ ومع هذا فإن وجهه الأعلى كان يصنع من الديباج الرقيق المقصب. وكانت نساء الطبقات العليا وقتئذ تستخدم المناديل، تصنع يف العادة من التيل، وكثيراً ما كانت تخطط بالخيوط الذهبية أو توشى بالمخرم (الدنتلا). كذلك كانت التنورات والثياب الداخلية توشى بالمخرم وتطرز بالحرير. وكانت الأثواب أحياناً تعلو حتى تلتف حول العنق وتمنعها من التثنى أسلاك معدنية، وكانت في بعض الأحيان ترتفع فوق الرأس. أما أغطية رؤوس النساء فكانت تتخذ مائة شكل وشكل: كان منها عمامات، وتيجان، ومناديل رأس، أو أقنعة، تمسك باللآلى، أو قلانس مقامة على أسلاك معدنية، أو شبيهة بقلانس الغلمان أو حراس الحراج ... ولما زار بعض الفرنسيين مدينة مانتوا سُروا وذهلوا حين رأوا المركيزة إزبلا تلبس قلنسوة ذات ريش من الجواهر، ولكنها عارية الكتفين والصدر حتى حلمتي الثديين (58). وكثيراً ما شكا الواعظون من ارتفاع صدور النساء ارتفاعاً يراد به استلفات عيون الرجال. وكانت شهوة العرى تتملك النساء أحياناً إلى حدج تخرج معه عن المعقول، حتى لقد قال ساتشتي إن بعض النساء يتعرين تماماً إذا خلعن أحذيتهن (59). وكانت بعض النساء يشددن أجسامهن بمشدات يمكن تضييقها بإدارة مفتاح لها، وقد رثى بترارك "لبطونهن التي ضغطنها في غير رحمة حتى ليقاسين من الغرور آلاماً كالتي يقاسيها الشهداء لتمكسهم بالدين" (60).
وتسلحت نساء الطبقات العليا في عصر النهضة بهذه الأسلحة الفتاكة فرفعن جنسهن من ورق العصور الوسطى ومن حياة الدير المحتقرة حتى أصبحن متساوين مع الرجال. فقد كانت المرأة تتحدث مع الرجل حديث الند للند في الأدب والفلسفة، وكانت تحكم الدول حكماً يتصف بالفطنة والحصافةن كما فعلت إزبلا، أو بقوة ليست كمثلها قسو الرجال كما فعلت كترينا اسفوردسا(21/105)
وكانت أحياناً تلبس الزرد، وتتبع زوجها إلى ميدان القتال، وتفوقه فيما يصدر من أوامر العنف والقسوة. وكانت تأبى أن تغادر المجلس حين تروى القصص البذيئة؛ ولم تكن تستحي مما تسمع، فكانت تستمع إلى الألفاظ الصريحة المكشوفة دون أن تخدش هذه الألفاظ حياءها أو تفقدها فتنتها. وكم من امرأة إيطالية في عهد النهضة سما بها عقلها أو سمت بها فضائلها إلى أرقى منزلة. نذكر منهن بيانكا مارية فسكنتي Biance Maria Visconti التي حكمت ميلان في غياب زوجها فرانتشيسكو اسفوردسا بحزم وقوة لم يسعه معهما إلا ن يقول إنه يثق بها أكثر مما يثق بجيشه كله، ثم إنها في الوقت عينه اشتهرت "بالتقى، والرأفة، وكثرة الصدقات، وروعة الجمال" (61) ونذكر كذلك إميليا بيو Emilia Pio التي مات زوجها وهي في نضرة الشباب، ولكنها احتفظت بذكراه إلى درجة أنه لم يعرف عنها فيما بقي من حياتها أنها شجعت رجلا ما بالالتفات إليها؛ ولكريدسيا تورنابوني Lucrezia Tornaboni أم لورندسو الأفخم ومشكلة أخلاقه، والزبتا جندساجا، وبيتريس دست، ولكريدسيا بورجيا الظريفة المفترى عليها وكترينا كرنارو Caterina Cornaro التي جعلت أسولو Asolo مدرسة الشعراء والفنانين، والرجال المهذبين، وفيرونيكا جمبارا Veronica Gamdara الشاعرة صاحبة الندوة في كريجيو Correggio؛ وفتوريا كولنا ربة ميكل أنجيلو التي لم يممسها بشر.
وتمثلت في فتوريا، دون ما زهو وخيلاء، جميع الفضائل الهادئة التي كانت للبطلات الرومانيات في عهد الجمهورية، ثم جمعت إلى هذه الفضائل أنبل الصفات المسيحية. وكانت فرع شجرة طيبة ممتازة. فكان والدها فيريدسيو كولنا Fabrizio Colonna، كبير رجال الشرطة في نابلي، وأمها أنيزي ده منتيفيلتر و Agnese de Montafeltro ابنة فيديريجو دوق أربينو المتبحر في العلم: وقد خطبت وهي في سن الطفولة لفيرانتي فرانتشيسكو دا فالوس Ferrante Francesco d'aAvalos مركيز بيسكارا؛(21/106)
وتزوجت به حين بلغت التاسعة عشرة من عمرها (1509) وكان الحب الذي ألف بينهما قبل الزواج وبعده قصيدة أجمل من كل الأغاني التي تبادلوها أثناء حروبه. ولما جرح في واقعة رافنا (1512) وأدناه الجرح من منيته وأسر، انتهز الفراغ الذي أتاحه له أسره فألف كتاب الحب وأهداه إلى زوجته. وكان في هذه الأثناء قد اتصل بإحدى وصيفات إزبلادست (62)، فلما أطلق سراحه عاد مسرعا إلى فتوريا، ثم خرج إلى حرب بعد حرب، حتى لم تكد تراه فيما بعد. فقد قاد جيوش شارل الخامس في بافيا (1525)؛ وانتصر بها في معركة حاسمة، ولما عرض عليه تاج بابلي إذا رضي أن ينضم إلى المؤتمرين على الإمبراطور فكر قليلا ثم كشف لشارل عن المؤامرة. ولما حضرته الوفاة (في نوفمبر من عام 1525) لم يكن قد رأى زوجته طيلة ثلاث سنين. وجهلت هي أو تجاهلت خياناته الزوجية، فقضت السنين العشرين التي ترملتها بعده في أعمال البر، والتقى، والوفاء لذكراه. ولما طلب إليها أن تتزوج مرة أخرى أجابت بقولها: "إن زوجي فردناند الذي تظنونه مات، لم يمت بالنسبة لي" (63). وعاشت بقية حياتها في عزلة هادئة في إسكيا Ischia ثم أوت إلى دير في أرفيتو وانتقلت منه إلى دير آخر في فيتربو، ثم عاشت شبيهة بعزلة الدير في روما. وهنا اتخذت لها عدداً من الأصدقاء الإيطاليين الذين كانوا يعطفون على حركة الإصلاح الديني وإن ظلت هي مستمسكة بدينها القديم. ووضعت فترة من الزمان تحت رقابة محكمة التفتيش، فكان الذي يجرؤ أن يكون صديقاً لها يتعرض للالتهام بالإلحاد. ولكن ميكل أنجيلو عرض نفسه لهذا الخطر، ونشأت بينه وبينها علاقة حب روحاني لم يتعد قط حدود الشعر.
وحررت نساء النهضة المتعلمات أنفسهن دون أن يقمن بدعاوة ما لهذا التحرر، ولم تكن وسيلتهن إليه غير ذكائهن، وخلقهن، وكياستهن، وبما أرهفن من حواس للرجال بمفاتنهن الجنسية والروحية والعقلية. وقد(21/107)
أثرن في زمنهن في كل ميدان من الميادين. في الميدان السياسي لقدرتهن على حكم الدول بدلا من أزواجهن الغائبين؛ وفي ميدان الأخلاق يجمعن بين الحرية وطيب العادات، والصلاح؛ وفي الفن بما أظهرن من جمال الأمومة الذي صورت على مثاله مئات من صور العذراء الأم، وفي الأدب إذ فتحن أبوابهن للشعراء والعلماء وعطفن عليهم وابتسمن لهم. ولسنا ننكر أن كثيراً من الهجاء قد وجه وقتئذ للنساء كما وجه إليهن في كل عصر من العصور؛ ولكن كل بيت مرير أو ساخر قيل فيهن كان يقابله أوراد وتسابيح من المديح والابتهال. وقصارى القول أن النهضة الإيطالية، كالاستنارة الفرنسية، قامت على أكتاف الجنسين؛ فكانت النساء يرتدن كل ميدان من ميادين الحياة؛ وتجرد الرجال من خشونتهم وغلظتهم، ورقت آدابهم وألفاظهم، وخطت الحضارة رغم تحللها وعنفها نحو الرشاقة والرقة خطوات لم تشهد أوربا مثلها مدى ألف عام.(21/108)
الفصل السادس
المنزل
وتبدت الرقة المطردة الزيادة في شكل البيت وفي الحياة المنزلية. لقد ظلت مساكن الشعب كما كانت من قبل- ذات جدران مغطاة بالملاط أو الجص مطلية بالجير، عارية عن الزينة، وأرض مغطاة بالبلاط، وفناء داخلي به في العادة بضر، ويحيط بالفناء طبقة أو طبقتان من الغرف مزودتان بأبسط لوازم الحياة. أما قصور العظماء والأغنياء الحديثي الثراء روعة وترف تذكر الإنسان مرة أخرى بقصور روما الإمبراطورية. ذلك أن الثروة التي كانت محبوسة من قبل على الكاتدرائيات قد صبت الآن صباً على القصور فجاءتها بالآثاث، ووسائل النعيم والمتعة، والزينة التي قلما نجدها إذا تخطينا جبال الألب في قصور الأمراء والملوك. فها هو ذا بيت تشيجي الريفي، وقصر مسيمى Massimi اللذان خططهما بلدسارى بروتسي Baldassare Peruzzi يحتوي كل منهما على متاهة من الغرف تزدان كل واحدة منها بالعمد الأسطوانية والمربوعة، أو الأطناف المنقوشة، أو السقف ذات اللوحات المذهبة، أو القبة والجدران المصورة، أو المصطلى المحلى بالتماثيل، أو الصور المنحوتة في الجص، أو النقوش العربية، أو الأرضية المصنوعة من الرخام أو القرميد. وكان في كل قصر سرر، ونضد، وصناديق، وأصونة صنعت لتعيش مائة عام وتسر الناظرين. وكانت خزائن أدوات المائدة أو نضدها مثقلة بالصحاف الفضية والأواني الخزفية الجميلة الأشكال، وكان في القصر فرش وثيرة مريحة، وطنافس جميلة، وستر بديعة، وكثير من الملابس الداخلية المتينة الصنع المعطرة. وكانت مدافئ عظيمة تدفئ الحجرات، والمصابيح أو المشاعل، أو القناديل(21/109)
تثيرها. ولم يكن شيء ما ينقص هذه القصور غير الأطفال.
ذلك أن تحديد النسل يكثر كلما كثر المال اللازم لإعالة الأطفال، وكانت الكنيسة والكتب المقدسة تأمر بزيادة النسل ومضاعفة عدد الأبناء، ولكن الرغبة في التنعم كانت تشير بالإقلال منهم؛ وحتى في الريف حيث يكون الأطفال مصدر ثراء كانت الأيسر التي بها ستة أبناء نادرة الوجود، وفي المدن حيث يكون الأطفال عبئاً على الآباء كانت الأسر صغيرة العدد- وكلما زاد ثراء الأسرة قل عدد أفرادها- وكثير من الأسر لم يكن فيها أبناء على الإطلاق (64). غير أن الأسر الإيطالية كان في مقدورها أن تنجب أطفالاً ظرفاء كما نتبين ذلك من صور الأطفال التي رسمها الفنانون ومن رسوم دوناتلو ولوكا دلا ربيا Luca della Robbla، والتماثيل المنحوتة كتمثال "القديس يوحنا الشاب" الذي نحته أنطونيو رسيلينو والمحفوظ في المتحف الأهلي بواشنجتن. وإن تضامن الأسرة، والولاء والحب المتبادلين بين الآباء والأطفال ليزيدهما رونقاً وجمالا ما كان سائداً في ذلك الوقت، من انحلال في الأخلاق.
وكانت الأسرة لا تزال وحدة اقتصادية، أخلاقية، جغرافية، إذا عجز أحد أعضائها عن الوفاء بما عليه من دين وفى به سائر الأعضاء، وتلك ظاهرة تخالف ما اتسم به ذلك العصر من نزعة فردية. وقلما كان عضو يتزوج أو يترك البلاد دون موافقة أسرته، وكان الخدم أعضاء في الأسرة أحراراً بمولدهم، صريحين في حديثهم. وكان للوالد على الأبناء سلطان كامل، وأمره مطاع في الأزمات، ولكن الأم كانت هي التي تحكم المنزل في العادة، ولم يكن حب الأم لأبنائها يختلف عند الفقيرات عنه لدى الاميرات، انظر إلى ما كتبته بيتريس دست عن ولدها الصغير إلى أختها إزبلا: "كثيراً ما تمنيت أن تكوني هنا لتشاهديه بعينيك، فلو أنك كنت هنا لما خالجني أقل شك في أنك لن تستطيعي أن تحاجزي نفسك عن تقبيله وتدليله" (65).(21/110)
وكانت معظم الأسر من الطبقة الوسطى تحتفظ بسجل يحوي تواريخ ميلاد أعضائها، وزواجهم، وموتهم، والحوادث الهامة في حياتهم تتخللها في بعض المواضع تعليقات ناطقة بالحب والمودة. فقد كتب جيوفني روتشيلي Giovanni Rucelli ( أحد أسلاف الكاتب المسرحي صاحب هذا الاسم نفسه) هذه العبارة في أواخر أيامه في سجل من هذا النوع لأسرته:
"أحمد الله الذي خلقني إنساناً عاقلا مخلداً؛ في بلد مسيحي؛ قريب من روما، مركز العقيدة المسيحية؛ وفي إيطاليا أشرف بلاد العالم المسيحي؛ وفي فلورنس أجمل مدائن العالم كله ... أحمد الله الذي جعل لي أماً ممتازة، رفضت بعد موت أبي كل عروض الزواج مع أنها لم تكن تجاوزت سن العشرين عند وفاته، وكرست حياتها كلها للعناية بأبنائها؛ كما رزقني أيضاً زوجة صالحة، أحبتني حباً صادقاً، ووجهت أعظم عنايتها لبيتها وأبنائها، أبقاها الله لي كثيراً من السنين، وكان موتها أفدح خسارة أصابتني أو يمكن أن تصيبني طوال حياتي. فإذا ما تذكرت جميع هذه النعم والمزايا، فإني الآن وأنا في سن الشيخوخة أحب أن أتجرد من جميع المنافع الدنيوية لكي أتوجه بروحي كلها إلى التسبيح بحمدك يا الله والثناء عليك يا حي يا قيوم يا من وهبتني الحياة (66).
وكتب رجلان، أو لعلهما رجل واحد، حوالي عام 1436 رسالتين عن الأسرة وطريقة حكمها. لقد كان أنيولو بندلفيني Anolo Pandolfini في أغلب الظن صاحب الرسالة الفصيحة المسماة رسالة في حكم الأسرة Trattato del governo della famlglia؛ وكتب ليون باتستا ألبيرتي Leon Baltista Alberti بعده بقليل رسالة في الأسرة Trattato della famiglia، يشبه الكتاب الثالث من كتبها "الاقتصاد Economieo" أعظم الشبه بالرسالة السابقة حتى لقد ظن بعضهم أن الكتابين ليسا إلا صورتين(21/111)
مختلفتين لرسالة واحدة من قلم ألبرتي. وليس ببعيد أن تكون نسبة كل واحدة منهما لصاحبها صحيحة، وأن ما بينهما من تشابه كبير يرجع إلى أن كلا المؤلفين قد اعتمد في رسالته على كتاب اكسنوفون Xenophon في الاقتصاد Ocenomicus ورسالة بندلفيني أحسن الرسالتين. وكان صاحبها رجلا ثرياً شبيهاً في هذا بآل روتشلاي؛ وقد خدم فلورنس في مناصب دبلوماسية، وكان سخياً في هباته للمشروعات العامة. وقد كتب رسالته في أواخر حياته الطويلة ووضعها في صورة حوار بينه وبين أبنائه الثلاثة. فهم يسألونه هل يسعون إلى المناصب العامة؛ ولكنه يشير عليهم بالابتعاد عنها، لأنها تتطلب أعمالا تتصف بالخيانة والقسوة، والسرقة، وتعرض صاحبها لارتياب الناس، وحسدهم، وتوجيه السباب له. ويقول لهم إن نجاح المرء في نيل السعادة لا يقف على نيل المناصب العامة أو الشهرة الواسعة، بل إن سعادته تعتمد على زوجته، وأبنائه، ونجاحه الاقتصادي، وسمعته الطيبة، وأصدقائه الأوفياء. وينبغي للمرء أن يتخذ له زوجة تنقص عنه في السن إلى درجة تجعلها خاضعة لتعاليمه قابلة لأن يشكلها على هواه؛ وعليه أن يعلمها، في السنين الأولى من زواجهما، واجبات الأمومة، وفنون تدبير المنزل. والحياة الهنيئة مصدرها الاقتصاد والنظام في العناية بصحة الجسم والعقل، وحسن استخدام المواهب، والوقت، والمال: فأما العناية بالصحة فتكون بالتعفف، والرياضة، والاعتدال في الطعام؛ وأما حسن استخدام المواهب فوسيلته الدرس، والتخلق بالأخلاق الشريفة باتباع أوامر الدين وبالقدوة الصالحة؛ والانتفاع بالوقت يكون بتجنب البطالة، والانتفاع بالمال يكون بحسن تدبير الدخل، والنفقات، والادخار والعمل على توازن هذه العوامل الثلاثة. والرجل الحكيم يستثمر ماله أولا في مزرعة أو ضيعة يصرف شؤونها بحيث تمده هو وأسرته بمسكن ريفي، وبما يلزمه من الحب والنبيذ، والزيت والطيور، والخشب وبأكثر ما يستطيع الحصول عليه من ضرورات الحياة(21/112)
الأخرى، ويحسن به كذلك أن يكون له بيت في المدينة، حتى يستطيع أبناؤه أن ينتفعوا بما فيها من وسائل التربية والتعليم، ويتعلموا بعض الفنون الصناعية (67). لكن ومن واجب الأسرة أن تقضي أكبر جزء تستطيعه من الوقت في بيتها الريفي:
"ذلك أن للبيت الريفي مزايا عظيمة شريفة على حين أن كل ما للإنسان من ملك يتطلب من صاحبه العمل ويعرضه للخطر، والخوف، وخيبة الأمل. أما البيت الريفي فهو على الدوام صادق شفيق رحيم ... ففي الربيع تبعث الأشجار الخضراء، ويبعث تغريد الطيور، في نفسك البهجة والأمل، وفي الخريف يعود عليك الجهد المعتدل بثمرة تعادله مائة مرة، وأنت طول العام أبعد ما تكون عن الحزن والكآبة. ذلك أن البيت الريفي هو البقعة التي يحب فيها الرجال الصالحون الأشراف أن يجتمعوا بعضهم ببعض ... فأسرع إذن إلى هناك، وطر من كبرياء الأغنياء وخيانة أشرار الرجال (68) ".
ويرد على هذا كاتب يسمى جيوفني كمبانو Giovanni Compano بالنيابة عن ملايين الملايين من الفلاحين فيقول: "لو لم أكن من أبناء الريف، لابتهجت من فوري بهذا الوصف للسعادة الريفية، أما وأنا الريفي الزارع، "فإن ما ترونه أنتم سبباً للبهجة، أراه أنا باعثاً للملل والسآمة" (69).(21/113)
الفصل السابع
الأخلاق العامة
لقد كان بندلفيني محقاً في حكم واحد من أحكامه على الأقل- وهو أن الأخلاق المتصلة بالمعاملات التجارية وعند الجماهير بوجه عام كانت أكثر ما ينفر منه الإنسان في حياة عصر النهضة- ذلك بأن النجاح، لا الفضيلة، في ذلك الوقت كان هو الميزان الذي توزن به أقدار الرجال وحتى بندلفينو التقي المستقيم نفسه يدعو الله أن يرزقه الثراء لا السمعة الخالدة. لقد كان الناس في ذلك الوقت كما هم الآن يجرون وراء المال، ولا يؤنبهم ضميرهم كثيراً بسبب ما يتبعونه من الوسائل لجمعه. فكان الملوك والأمراء يغدرون بحلفائهم، وينكثون أقوى عهودهم إذا لاح لهم بريق الذهب. ولم يكن رجال الفن أحسن حالا من الملوك والأمراء! فكثيرون منهم تناولوا مقدم أجور عن أعمال عجزوا عن إتمامها أو عند البدء فيها، ولكنهم احتفظوا مع ذلك بما قبضوا من أجور، وكان بلاط البابا نفسه مضرب المثل في هذا الجشع المالي. ولنستمع مرة أخرى إلى أعظم مؤرخ للبابوية.
"لقد استشرى الفساد ومد جذوره في جميع مناحي الإدارة البابوية ... وخرج عدد الهبات التي تنصبُّ فيها صباً والقروض التي تغتصبها اغتصاباً عن كل حد ... يضاف إلى ذلك أن العقود كانت تتداول وتزور بأيدي الموظفين أنفسهم، فلا عجب والحالة هذه إذا ارتفعت من جميع أنحاء العالم المسيحي أعلى الصيحات بالشكوى من هذا الفساد وذلك الاغتصاب المالي الذي يقوم به موظفو الإدارة البابوبة، حتى لقد قيل إن لكل شيء في روما ثمنه" (70).
وكانت الكنيسة لا تزال تحرم أخذ الفائدة على الأموال وتعدها بجميع(21/114)
أنواعها من قبيل الربا، وكان الواعظون ينددون بهذا العمل، وحرمته أحياناً بعض المدن- مثل بياتشندسا- وأنذرت من يمارسه بالحرمان من القربان المقدس ومن الدفنة المسيحية عند مماته. ولكن إقراض المال بالفائدة ظل يجري في مجراه، لأن هذه القروض لم يكن منها بد في الأعمال الاقتصادية، التجارية والصناعية، الآخذة في الاتساع. وسنت القوانين تُحرِم أن يزيد سعر الفائدة على عشرين في المائة، ولكننا مع ذلك نسمع عن حالات بلغ فيها هذا السعر ثلاثين في المائة. وكان المسيحيون ينافسون اليهود في عقد القروض، حتى لقد شكا مجلس فيرونا البلدي من أن المسيحيين يفرضون على المدينين شروطاً أقسى مما يفرضه اليهود (71). غير أن غضب الشعب قد حل أشده على اليهود، وكثيراً ما أدى إلى أعمال العنف الموجهة إلى الساميين. وواجه الرهبان الفرنسيس هذه المشكلة وحاولوا تخفيف العبء عن أشد المدينين بؤساً بإنشاء أرصدة الإحسان ( Momnti di Pieta) ومعناها الحرفي (أكوام الإحسان) جمعوها من الهبات والوصايا ليقرضوا منها المحتاجين، وكانوا في أول الأمر يقرضونهم يغير فائدة. وكان أول رصيد من هذا النوع هو الذي أنشئ في أرفينو عام 1463؛ ولم تلبث كل مدينة كبيرة أن حذت حذوها؛ وتطلب ازدياد مقدار هذه الأرصدة تخصيص بعض المال لإدارتها والإشراف عليها؛ فما كان من مجلس لاتران الخامس الذي عقد في عام 1515 إلا أن منح الرهبان الفرنسيس الحق في أن يفرضوا على كل قرض ما يكفي من المال لتغطية نفقات الإدارة والإشراف. وسار بعض رجال الدين في القرن السادس عشر على هذه السنة نفسها فأجازوا أخذ فائدة معتدلة على القروض (72). ثم أخذ سعر الفائدة ينخفض انخفاضاً سريعاً في القرن السادس عشر بفضل منافسة أرصدة الإحسان، وأكثر من هذا في أغلب الظن بفضل ازدياد مهارة رجال المصارف المحترفين ومنافستهم للأفراد المقرضين.(21/115)
وازداد النظام الصناعي قوة باتساع مداه وباختفاء العلاقة الشخصية بين العامل وصاحب العمل. ذلك أن رقيق الأرض في نظام الإقطاع كان يستمتع ببعض الحقوق في مقابل ما يفرض عليه من الأعباء، فقد كان ينتظر من سيده أن يعنى به إذا مرض، أو حلت بالبلاد أزمة اقتصادية، أو شبت فيها نار حرب، أو بلغ سن الشيخوخة. وكانت نقابات الحرف في المدن الإيطالية تؤدي بعض هذه الواجبات للطبقة العليا من العمال، ولكن العامل "الحر" كان في العادة "حراً" في أن يموت جوعاً حين لا يجد عملا يقتات منه، فإذا وجده كان لابد له أن يقبله بالشروط التي يفرضها عليه صاحب العمل نفسه، وما كان أقسى هذه الشروط. وكان كل اختراع وكل تحسين في وسائل الإنتاج وفي الأنظمة المالية يزيد من أرباح صاحب العمل، وقلما كان يزيد الأجور. وكان رجال الأعمال يقسو بعضهم على بعض بقدر ما يقسون على عمالهم. فنحن نسمع عن كثير من الحيل التي كانوا يلجئون إليها في تنافسهم، وعن عقودهم الخادعة؛ وعن وثائقهم المزورة التي يخطئها الحصر (73). فإذا ما تعاونوا كان تعاونهم يهدف لخراب بيوت منافسيهم في بلد غير بلدهم. بيد أننا نجد أحياناً أمثلة دالة على الإحساس بواجب الشرف بين كثيرين من التجار الإيطاليين، واشتهر رجال المال في إيطاليا بالأمانة والاستقامة في المعاملة أكثر مما اشتهر بهما أمثالهم في أوربا (74).
وكانت الأخلاق الاجتماعية مزيجاً من العنف والعفة. وإنا لنجد في الرسائل التي كانت تتبادل بين الأفراد في ذلك الوقت شواهد كثيرة على ما كانوا يتصفون به من الرقة والحنان؛ ولم يكن الإيطاليون العاديون يضارعون الأسبان في شراستهم أو الجنود الإيطاليين في إقدامهم على ذبح أعدائهم جماعات. ولكن ما من أمة في أوربا كان فيها من الاغتياب ونهش الأعراض مثل ما كان يدور حول جميع الرجال الأرزين في روما؛ وهل يستطيع أحد غير الإيطاليين في عهد النهضة أن يصف أريتينو بأنه من أولياء(21/116)
الله الصالحين؟. وانتشر العنف بين الأفراد انتشاراً واسع النطاق. وكان من أسباب قوة النزاع بين الأسر زوال العادات القديمة والعقيدة الدينية، والتراخي في أخذ الناس بالقانون، ولهذا كان الناس يثأرون لأنفسهم بأنفسهم، وظلت الأسر يقتل بعضها بعضاً جيلا بعد جيل، كما ظل التبارز عادة مألوفة مشروعة في إيطاليا لا يقف حتى يقتل أحد المبارزين نده، وحتى الأولاد الصغار كان يسمح لهم بأن يقاتل بعضهم بعضاً بالمدى، ويعد هذا أيضا من الأعمال المشروعة (75). وكان النزاع بين الأحزاب أشد منه في أي مكان آخر في أوربا، وكانت الجرائم وأعمال العنف يخطئها الحصر. وكان من المستطاع ابتياع السفاحين بأثمان لا تكاد تزيد على أثمان صكوك الغفران، وكانت قصور روما تزدحم بأولئك السفاحين المستعدين لاغتيال أي إنسان بإشارة من سادتهم. وكان كل إنسان يحمل خنجراً، وكان عاجنو السموم يجدون كثيرين من طالبي سمومهم، حتى بلغ الأمر أن أهل روما قلما كانوا يعتقدون أن إنساناً ذا شخصية بارزة أو مال موفور مات ميتة طبيعية ... وكان كل ذي شخصية يطلب أن يذوق شخص آخر بين يديه كل ما يقدم له من طعام أو شراب. وانتشرت في روما قصص عن سم بطيء لا يسري مفعوله إلا بعد فترة طويلة تكفي لستر آثار من يقدمه. وكان على الإنسان أن يكون يقظاً محاذراً في تلك الأيام؛ فإذا غادر المنزل في ليلة من الليالي، فقد ينصب له كمين ويسرق ماله، ويكون من حسن حظه إلا يلقى حتفه؛ وحتى في الكنيسة نفسها لم يكن الشخص آمناً على نفسه، وكان عليه إذا سار في الطرق العامة أن يستعد لمقاومة قطاع الطرق. ولهذا كان من الواجب أن يصير عقل رجل النهضة حاداً كحدة نصل السفاح.
وكانت القسوة أحياناً قسوة جماعية تسري عدواها في الأفراد والجماعات. مثال ذلك أن فتنة اندلع لهيبها في أرتسو عام 1502 ضد أحد المندوبين الفلورنسيين، فقتل فيها مئات من أرتسو في شوارعها محيت فيها أسر(21/117)
بأكملها، وجرد أحد الضحايا من ثيابه وشنق ووضعت شعلة متقدة بين عجيزتيه؛ فما كان من الجماهير المرحة المبتهجة إلا أن أطلقت عليه اسم الملوط (76). وانتشرت قصص العنف، والقسوة، والشهوات انتشار الخرافات؛ حتى لقد كان بلاط فيرارا الذي يزدان بالشعر والأدب تروعه جرائم الأمراء وما يوقعه الملوك من ضروب العقاب. وكان تحلل الحكام المستبدين أمثال آل فسكنتي ومالاتسنا أنموذجاً ينسج على منواله ذوو العنف الهواة من أفراد الشعب، وحافزاً لهم على تقليده.
وتدهورت المبادئ الأخلاقية الحربية على مر الزمن. فقد كانت المعارك كلها تقريباً في بواكير عهد النهضة لا تزيد على اشتباكات غير ذي بال بين جنود مرتزقة يحاربون في غير عنف شديد، ويعرفون متى يقفون للقتال، وكان النصر ينال إذا ما سقط في حومة الوغى عدد قليل من الرجال، وكان السجين الحي الذي يستطاع فداؤه أعظم قيمة من العدو الميت. ولما ازدادت قيمة الزعماء المغامرين المأجورين، وكبرت الجيوش وتطلبت نفقات ضخمة، سمح للجنود بأن ينهبوا المدن المفتوحة بدل أن تؤدى اليهم أجور منتظمة؛ وكانت مقاومة النهب تؤدي إلى المذابح التي يهلك فيها العدد الجم من السكان؛ وكانت وحشية الجنود الفاتحين تزداد حينما يشمون رائحة الدم المسفوك. ومع هذا كله فقد كانت قسوة الإيطاليين في الحرب أقل من قسوة الغزاة الأسبان والفرنسيين. مثال ذلك أنه حين استولى الفرنسيون على كابوا في عام 1501 أوقعوا بأهلها مذبحة، شنيعة سقط كثير من النساء حتى اللاتي كرسن أنفسهن لعبادة الله ... ضحية لشهواتهم أو شرهم، وبيع كثير من أولئك المخلوقات البائسات في روما بعدئذ بأنجس الأثمان" (77) كما يقول جوتشيارديني. وغير خاف أنهن بعن للمسيحيين. وزاد استرقاق أسرى الحرب كلما تقدمت أساليبها في عصر النهضة.
ولسنا ننكر أنه كان ثمة أمثلة من الولاء الجميل بين الإنسان والإنسان،(21/118)
وبين المواطن والدولة؛ ولكن ازدياد المقدرة على المكر والدهاء زاد من قدر الغش والخداع. فكان القواد يبيعون أنفسهم لمن يؤدي إليهم أعظم الأثمان، فإذا ما احتدم القتال أخذوا يفاوضون العدو للحصول على أثمان أكبر من التي اشتروا بها. كذلك كانت الحكومات تبدل موقعها في أثناء الحرب فيصبح الحلفاء أعداء بجرة قلم. وكان الأمراء والبابوات يغدرون بمن أمنوهم على أنفسهم من القادمين إلى بلادهم والخارجين منها (78)، والحكومات توافق على اغتيال أعدائها سراً في الدول الأخرى (79). وكان الخونة يوجدون في كل مدينة وفي كل معسكر: ومن أمثلة هؤلاء بيرنر دينو دل كورتى Bernardino del Corte الذي باع قلعة لدفيكو لفرنسا؛ والسويسريون والإيطاليون الذين غدروا بلدفيكو وباعوه للفرنسيين؛ وفرانتشيسكو ماريا دلا روفيري الذي منع جنوده من أن يخفوا لنجدة البابا في عام 1517، ومالاتستا بجليوني الذي باع فلورنس في عام 1530 ... ولما ضعفت العقيدة الدينية حلت محل فكرة الحق والباطل في كثير من العقول فكرة النافع وغير النافع من الوجهة العلمية؛ وإذا كانت الحكومات في العادة قصيرة الأجل لا تصبح ذات سلطان شرعي بطول الزمن، فقد ضعفت عند الناس عادة إطاعة القانون، وكان لابد من أن تحل القوة في هذا محل العادة؛ ولم يكن ثمة طريق للخلاص من استبداد الحكومات إلا قتل المستبدين.
وعم الفساد كل فرع من فروع الإدارات الحكومية. ففي سينا مثلا كان لابد من وضع الإدارة المالية في آخر الأمر في أيدي راهب اشتهر بالتقى والورع لأن كل إنسان آخر قد اختلس مال المدينة. وساءت سمعة المحاكم كلها عدا محاكم البندقية لكثرة ما كان فيها من الفساد والرشوة. وتروى قصة من قصص ساكشتي Sacchetti أن قاضياً ارتشى بثور ولكن خصم الراشي بعث إلى هذا القاضي نفسه بقرة وعجلا فحكم(21/119)
لصالحه (80). وكان التقاضي كثير النفقة، ولهذا أضطر الفقراء إلى الاستغناء عنه، ووجدوا أن قتل الخصم أرخص من مقاضاته. وكان القانون نفسه آخذاً في الرقى ولكن رقيه كان مقصوراً على الناحية النظرية. وقد أنجبت بدوا، ويولونيا، وبيزا، وبيروجيا كثيرين من فقهاء القانون أمثال تشينو دا بستويا Cino da Pistoia، وبرتولوس من أهل ساسوفيراتو Bartolus of Sassoferrato، وبلدو دجلى أوبلدى Boldo degli Ubalbi الذي ظل شرحه للقانون الروماني أكبر مرجع في فقه القانون قرنين كاملين. وكان القانون البحري والتجاري يتسع باتساع نطاق التجارة الخارجية؛ ومهد جيوفني دا لنيانو السبيل لجروتيوس برسالة عن الحرب Tractatus de Bello (1360) ، وهي أقدم كتاب معروف عن قوانينها.
لكن تطبيق القانون لم يبلغ من السمو مبلغ نظريته، ذلك أن نظام الشرطة لم يجار في تقدمه سير الجرائم، وإن كانت مهمته في حماية الأنفس. والأموال قد أخذت تظهر وتشكل وخاصة في فلورنس. وكثر المحامون، وظل التعذيب يستخدم في استجواب الشهود والمتهمين. وكانت العقوبات قاسية همجية. ففي بولونيا مثلا كان يمكن تعليق المذنب في قفص من أحد الأبراج المائلة، ويترك حتى يتقرح جسده من الشمس (81)، وفي سينا كان الرجل المحكوم عليه يمزق إرباً على مهل في شوارع المدينة (82)؛ وفي ميلان أثناء حكم جيوفني فسكونتى مضيف بترارك كان المسجونون تبتر أطرافهم طرفاً بعد طرف (83)؛ وبدأت في أوائل القرن السادس عشر عادة الحكم على المساجين يجدف المجاديف الثقيلة التي كانت تزود بها السفن، مشاهد ذلك أن سفائن يوليوس الثاني كانت تحمل على ظهورها أرقاء مشدودين إليها من أرجلهم (84).
على أننا نستطيع أن نذكر في مقابل هذه الأعمال الهمجية تطور الإحسان المنظم ورقيه، فقد كان كل من يترك وصية يفرد جزءا من ماله ليوزع(21/120)
على الفقراء من أهل الأبرشية التي يعيش فيها. وإذ كان المتسولون لا يحصى لهم عدد، فإن بعض الكنائس كانت تقيم ما يشبه مطاعم الشعب الحديثة، وجرياً على هذه السنة كانت كنيسة القديسة مارية (سانتا ماريا) في كامبو سانتو بروما، تطعم ثلاثة عشر متسولا في كل يوم وألقى متسول في أيام الاثنين والجمعة (85)، وكانت المستشفيات العامة، ومستشفيات المجذومين؛ وملاجئ المرضى الميئوس من شفائهم، والفقراء، واليتامى، والحجاج المعدمين، والعاهرات التائبات، كانت هذه كلها كثيرة العدد في إيطاليا إبان عصر النهضة. واشتهرت بستويا وفيتربو باتساع نطاق مؤسساتها الخيرية، وفي مانتوا أنشأ لدوفيكو جندساجا المستشفى الكبير Ospedale Maggiore للعناية بالفقراء والعجزة، وخصه بثلاثة آلاف دوقة كل عام من الأموال الحكومية (86). وأنشئت في البندقية جمعية عرفت باسم جمعية البليجريتي Pellegrini من أعضائها تيشيان وابنى سانسوفينى Sansovini لتقديم المعونة المتبادلة لأعضائها والبائنات للبنات الفقيرات، إلى غير هذه وتلك من أعمال البر. وكان في فلورنس في عام 1500 ثلاث وسبعون منظمة مدنية تقوم بأعمال الإحسان. وتأسست في عام 1244 جمعية الإخوان البائسين Fraternita della Mesericordtia، ولكنها أهملت حتى ماتت، ثم أعيدت في عام 1475؛ وكان أعضاؤها من غير رجال الدين الذين أخذوا على أنفسهم أن يزوروا المرضى، ويقوموا بأعمال البر الأخرى، واستمالوا إليهم قلوب الشعب بإقدامهم بشجاعة على العناية بضحايا الطاعون؛ ولا تزال مواكبهم الصامتة التي يسيرون فيها بأثوابهم السود من أعظم المناظر رهبة وتأثيراً في المشاعر في فلورنس (87). وكان في البندقية جماعة من هذا النوع تدعى أخوة سان روكو Confraternita di San Rocco؛ وأنشئت في روما جماعة الأخوة المحزونين Sodality ol the Doloros(21/121)
التي تبلغ الآن من العمر خمسمائة عام وأربعون أعوام، وأسس الكردنال جوليو ده ميديتشى في عام 1519 جماعة أخوة الصداقة Confraternita della Carita للعناية بالفقراء الذين هم أعلى من طبقة المتسولين؛ ولتقوم بدفن المعمدين دفنة كريمة. هذا إلى أن الصدقات الفردية التي كان يقدمها ملايين الأفراد ممن لم تعرف أسماؤهم كانت تخفف بعض الشيء من كفاح الإنسان لأخيه الإنسان، ومن صراعه مع الطبيعة والموت.(21/122)
الفصل الثامن
العادات العامة ووسائل التسلية
بين العنف وعدم الأمانة، والحياة الصاخبة التي كان يحياها طلبة الجامعات، والفكاهة الخشنة والحنان اللذين يتصف بهما الفلاحون والعمال، بين هذا كله نشأت الآداب العامة الطيبة كأنها فن آخر من فنون النهضة، فتزعمت إيطاليا وقتئذ أوربا كلها في قواعد الصحة الشخصية والاجتماعية، والثياب، وآداب المائدة وطهو الطعام، وآداب الحديث، والرياضة البدنية. وكانت فلورنس تدعي أنها هي التي تتزعم إيطاليا في هذا كله عدا الملابس. وكانت تدفعها روحها الوطنية لأن ترثى لما في المدن الأخرى من قذارة، كما كان الإيطاليون يتخذون لفظ "ألماني" مرادفاً للخشونة في اللغة والحياة (88). واحتفظت الطبقات المتعلمة في إيطاليا بالعادة الرومانية القديمة عادة الاستحمام الكثير، وكان أثرياء القوم يتباهون بأثوابهم الجميلة ويؤمون الأماكن ذات المياه المعدنية، ويشربون المياه الكبريتية يطهرون بها بطونهم في كل عام مما أفرطوا من الطعام والشراب. ولم تكن ملابس الرجال أقل زينة من ملابس السيدات ولا تنقص عنها إلا الحلي، وكانت لهم أكمام ضيقة، وجوارب ملونة، وقبعات كبيرة كالتي شاهدها رافائيل على كستجليوني. وكان الجورب يغطي الساق كلها حتى آخر الفخذ فيجعل الرجال يقفزون في مشيهم قفزاً يدعو إلى السخرية. أما في الجزء الأعلى من الجسم فقد كان في وسع الرجل أن يكون حسن الهندام، فقد كان يرتدي صدرة من المخمل موشاة بالحرير ومزدانة بالمخرمات. (الدنتلا)، ولم تكن القفازات والأحذية نفسها تنقصها هذه المخرمات. وحدث في مهرجان للبرجاس أقامه(21/123)
لورندسو ده ميديتشي أن أرتدى أخوه جوليانو أثواباً كلفته ثمانية آلاف دوقة (89).
وحدث في القرن الخامس عشر انقلاب تام في آداب المائدة حين ازداد استعمال الشوكة بدل الأصابع في تناول الطعام ونقله إلى الفم. ولشد ما دهش تومس كريات Thomas Coryat حين زار إيطاليا عام 1600 من هذه العادة الجديدة التي لم يتعودها الناس في أي بلد آخر رأيته في أسفاري" على حد قوله، وقد ساعد بنفسه على إدخال هذه العادة في إنجلترا (90). وكانت السكاكين، والشوك، والملاعق تصنع من النحاس الأصفر، ومن الفضة في بعض الأحيان- فإذا كانت من الفضة أعيرت للجيران حين يقيمون المآدب. أما الطعام فقد كان طعاماً وسطاً إلا في المناسبات الهامة أو المآدب التي تقيمها الدولة في المناسبات الرسمية، فقد كان التغالي فيها أمراً واجباً إجبارياً. وكان التوابل- كالفلفل، والقرنفل، وجوزة الطيب، والقرفة، والعرعر والزنجبيل وما إليها- تستخدم بكثرة لزيادة نكهة الطعام وزيادة الظمأ إلى الشراب؛ ولهذا كان كل مضيف يقدم لضيوفه أنواعاً مختلفة من الخمور. وفي وسعنا أن نرجع شيوع الثوم في إيطاليا إلى عام 1548، ولكن الذي لاشك فيه أن استعماله بدأ قبل ذلك بوقت طويل. وقلما كان يؤخذ على القوم نهم أو شراهة في الطعام والشراب؛ ذلك أن الإيطاليين في عهد النهضة كانوا كالفريسيين في العهود المتأخرة خبيرين بالأطعمة والأشربة لا نهمين فيها. وإذا ما تناول الرجال طعامهم بمعزل عن النساء كانوا يدعون معهم بعض المحاظي- واحدة أو اثنتين- كما فعل أريتينو حين عزم تيشيان. أما من هم أكثر احتشاماً فقد كانوا يجملون وجبات الطعام بالموسيقى، وارتجال الشعر، والحديث المثقف الدال على حسن التربية.
وقد اخترع فن الحديث- الحديث الجميل- الحديث الذي ينم على(21/124)
الذكاء، والأدب، والتهذيب، والمتسم بالوضوح، وروح الفكاهة- اخترع هذا الفن من جديد في عهد النهضة. وكانت بلاد النوبة القديمة، وروما قد عرفتا هذا الفن من قبل، وظل حياً يتعثر في العصور الوسطى في أماكن متفرقة من إيطاليا كبلاط فردريك الثاني وإنوسنت الثالث مثلا. ثم ازدهر الآن مرة أخرى في فلورنس في أيام لورندسو، وفي أربينو على عهد اليزابتا، وفي روما أيام ليو: فكان النبلاء وزوجاتهم، والشعراء والفلاسفة، وقواد الجيوش والعلماء، والفنانون والموسيقيون "يجتمعون في رفقة العقول، يتناقلون أقوال أشهر المؤلفين، ويظهرون في بعض الأحيان احترامهم وطاعتهم لأوامر الدين، ويجملون حذلقتهم بلمسة خفيفة من الخيال العجيب، ويستمتعون بالإصغاء بعضهم إلى بعض. وقد بلغ من إعجاب القوم بهذه الأحاديث أن صاغوا كثيراً من المقالات والرسائل في لغة الحوار حتى تستطيع استيعاب هذا الضرب من التظرف. لكنهم أفرطوا في هذا آخر الأمر حتى أضحت اللغة والأفكار مسرفة في الرقة والأناقة وحتى أوهن الولع بهذه الرقة مقتضيات الرجولة، وأضحت أربينو في إيطاليا كما كانت رامبوييه Rambouillet في فرنسا، وحتى قام موليير يهاجم "الضحك النفيس" في وقت استطاع فيه أن ينجي فن الحديث الطيب ويحتفظ به لفرنسا.
وقد احتفظ الحديث الإيطالي- رغم التأنق الذي كان طابع القليل منهزز بحرية في موضوعه وألفاظه إلى قدر لا تجيزه الآداب الاجتماعية في هذه الأيام. وإذ كانت النساء غير المتزوجات ذوات السمعة الطيبة قلما يستمعن إلى الحديث العام، فقد كان المفروض أن يناقش الرجال المسائل الجنسية بكثير من الصراحة. لكن الأمر لم يقتصر على هذا؛ ففي أرقى مجامع الرجال، كنت ترى الفكاهات الجنسية المجردة من الاحتشام، والتحرر المرح في الشعر، والبذاءة الفظة في التمثيل، وكل هذه تبدو لنا الآن من المظاهر التي تشمئز(21/125)
منها النفس في عصر النهضة. ولم يكن الرجال المتعلمون يتورعون عن كتابة الشعر البذيء على التماثيل، وقد كتب بمبو المهذب الرقيق فيما كتب يثني على بريابوس Priapus (91) . وكان الشبان يتنافسون في النطق بأفحش الألفاظ وأكثرها بذاءة ليبرهنوا بذلك على أنهم بلغوا الحلم. وكان الرجال على اختلاف طبقاتهم يسبون ويلعنون وكثيراً ما يتطرق سبابهم إلى أقدس الأسماء في الدين المسيحي. ورغم هذا كله فإن عبارات المجاملة لم تكن في وقت ما أكثر ازدهاراً مما كانت في تلك الأيام، كما لم تكن صيغ التخاطب أكثر ظرفاً ورشاقة. وكانت النساء يقبلن يد كل صديق حميم من الذكور حين يقابلنه أو يودعنه، كما كان الرجال يقبلون أيدي النساء؛ ولم تكن الهدايا تنقطع بين الصديق والصديق، وبلغت الكياسة في الأقوال والأفعال درجة خيل إلى أوربا الشمالية أنها لا تستطيع الوصول إليها، وأضحت الكتب الإيطالية التي تعلم تلك الآداب هي النصوص المحببة التي تدرس فيما وراء جبال الألب.
ومثل ذلك يقال عن الكتب الإيطالية في الرقص، والمثاقفة، وغيرها من ضروب الرياضة، فقد كانت إيطاليا تتزعم العالم المسيحي في الرياضة كما تتزعمه في الحديث والبذاءة، فكانت البنات يرقصن في ليالي الصيف في ميادين فلورنس، وكانت أرشقهن قواماً وأبرعهن رقصاً تجاز بإكليل من الفضة؛ وفي القرى كان الفتيان والفتيات يتراقصون على الخمائل وفي البيوت وفي حفلات الرقص الرسمية: كان النساء يرقصن مع النساء أو الرجال، كما كان الرجال يراقصون الرجال أو النساء؛ وكان الهدف في كل حالة من الحالات هو الرشاقة. وانتشر رقص الباليه في عهد النهضة، وأضيف شعر الحركات إلى غيره من الفنون.
وكان لعب الورق أكثر من الرقص انتشاراً، فقد أضحى في القرن الخامس عشر ولعاً تجن به جميع الطبقات، حتى لقد أدمنه ليو العاشر نفسه.(21/126)
وكثيراً ما كان يتضمن المقامرة؛ وحسبنا شاهداً على هذا أن نعيد ما سبقت الإشارة إليه وهو أن الكردنال رفائلو رياريو Rafaello Riario كسب 14. 000 دوقة في دورين لعبهما مع ابن إنوسنت الثامن. وكان الرجال يقامرون أيضاً بالنرد، وكانوا أحياناً يغشُّون في هذا اللعب بأن يضيفوا إلى النرد أثقالا تؤثر في وضعه بعد رميه (92). وأولع القوم أيضاً أشد الولع بهذه اللعبة؛ ولم تفلح القوانين في تخفيف حدتها. وكم من أسرة نبيلة خرب الميسر بيتها في البندقية، حتى لقد حرم مجلس العشرة مرتين بيع ورق اللعب أو الكعوب وأهاب بالخدم أن يبلغوا عن أسيادهم اللذين يخالفون أوامر التحريم (93). وكان نظام القرض الحسن الذي أنشأه سفنرولا عام 1549 يطلب إلى المقترضين أن يتعهدوا بالامتناع عن الميسر إلى أن يوفوا بالقرض على أقل تقدير (94).
وكان اللذين تعودوا الجلوس وقلة الحركة يقضون الوقت في لعب الشطرنج ويقتنون مجموعات منه غالية الثمن، مثال ذلك أن جياكومو لورندانا من أشراف البندقية كان له قطع من الشطرنج تقدر قيمتها بخمسة آلاف دوقة.
وكان للشبان ألعابهم الخاصة، أغلبها في الخلاء. فكان الفتى الإيطالي من أبناء الطبقات العليا يدرب على ركوب الخيل، واستخدام السيف والرمح، والطعن في ألعاب البرجاس؛ وكانت المدن تستعد لهذه المباريات في بعض أيام الأعياد والعطلات بتسوير مكان فسيح في أحد الميادين يسهل عادة أن تطل عليه النوافذ والشرفات التي تستطيع أن تنظر منها السيدات لتشجع فرسانهن. وإذ لم يكن في هذه المعارك ما يكفي من الجراح والقتل، فقد ادخل بعض الشبان المتهورين في الكاوسيوم الرومانية عام 1332 مصارعة الثيران، بحيث يصارع الثور رجلا واقفاً على قدميه وليس معه من السلاح إلا حرية. وقتل في هذه المصارعة الأولى ثمانية عشر فارساً(21/127)
كلهم من أبناء الأسر العريقة، ولم يقتل من الثيران إلا أحد عشر ثوراً (95). وتكررت هذه المباريات في روما وسينا، ولكنها لم تستهو الدوق الإيطالي في يوم من الأيام، وكان سباق الخيل أحب منها إلى الشعب، وكان يثير حماسة أهل روما وسينا وفلورنس على السواء. وتنتهي المباريات بصيد الحيوان والطير بالبزاة، وسباق الجري، وسباق الزوارق، والملاكمة، وبها يحتفظ الإيطاليون بشجاعتهم أفراداً؛ أما من حيث هم جماعة فقد كانوا يكلون أمر الدفاع عن مدنهم إلى الجنود الأجانب المرتزقين.
ويمكن القول بوجه عام إن الحياة كانت ممتعة مبهجة بالرغم مما فيها من كدح وأخطار، ومما تتسم به من رهبة ومخاوف، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو وهمي وخرافي. وكان سكان المدن يستمتعون بالانتقال إلى الريف رجالا وركبانا، وإلى ضفاف الأنهار وشواطئ البحار؛ وكانوا يزرعون الأزهار ليزينوا بها بيوتهم وأنفسهم، وينشئون إلى جوانب بيوتهم الريفية حدائق غناء ذات أشكال هندسية بديعة. وكانت الكنيسة سخية على الأهلين باعيادها، كما كانت الدولة تضيف إلى هذه الأعياد الدينية أعياداً مدنية. فكانت أعياد المياه تقام على بحيرات البندقية ومياهها الضحلة، وعلى مياه نهر الأرنو في البندقية، ونهر منتشيو في مانتوا, وتشينو في ميلان. وفي بعض الأيام الخاصة كانت مواكب فخمة تسير في شوارع المدن مصحوبة بالمركبات والأعلام، وضع الفنانون ذوو الشهرة العالمية تصميمها لنقابات الحرف. وكانت الفرق الموسيقية تعزف في هذه المواكب، والبنات الحسان يغنين ويرقصن، وأعيان المدينة يسيرون فيها؛ حتى إذا جن الليل أطلقت الألعاب النارية تشق أجواء الفضاء بأشكالها العجيبة وتختفي في طبقات الجو العليا. وفي يوم سبت النور في فلورنس يؤتى بثلاث قطع من الظران جيء بها من الضريح المقدس في بيت المقدس لتوقد شريطاً يضيء شمعة تدفعها فوق سلك يمامة صناعية حتى تصل إلى الصواريخ الموضوعة في عربة اتخذت رمزاً(21/128)
للدولة في الميدان أمام الكاتدرائية فتشعلها. وفي يوم عيد الجسد الطاهر يقف الاستعراض ليستمع الموكب إلى أنشودة تغنيها جماعة من البنات والأولاد، أو يشاهد حادثة من الحوادث التاريخية الواردة في الكتاب المقدس أو الأساطير الوثنية، تمثلها إحدى الهيئات. وإذا ما جاء عظيم في زيارة للمدينة كان يستقبل بموكب تشترك فيه العربات على نمط موكب النصر الروماني القديم الذي كان يستقبل به القائد المنتصر، مثال ذلك أنه لما زار ليو العاشر فلورنس مدينته المحبوبة في عام 1513 خرج أهل المدينة على بكرة أبيهم ليشاهدوا مركبة نصره التي زخرفها ورسم صورها بنتورمو Pontormo وهي تمر تحت أقواس عظيمة منصوبة في شارع المدينة الرئيسي، وسارت سبع عربات أخرى في هذا الموكب يستقلها أفراد يمثلون سبعة أشخاص كبار في التاريخ الروماني، وفي آخرها غلام عار مغطى بالذهب يرمز إلى حلول العصر الذهبي بمجيء ليو؛ ولكن الغلام توفي بعد الموكب بقليل من تأثير الطلاء الذهبي (96).
وكان يحدث أحياناً أن ترمز مواكب العربات في عيد المساخر بفلورنس إلى فكرة معينة مثل الفطنة، أو الأمل، أو الخوف، أو الموت، أو العناصر، أو الرياح، أو الفصول، أو كانت تمثل أحياناً بطريقة الإشارات الصامتة قصة كقصة باريس أمير طروادة وهلين اليونانية؛ أو باخوس وأدرباني، مصحوبة بالأغاني التي تتناسب مع كل منظر من مناظرها. وقد كتب لورندسو أغنيته الذائعة الصيت الموجهة إلى الشباب والمرح لإحدى هذه "المقنعات". وكان كل من في المدينة- من الغلمان إلى الكرادلة- يلبس قناعاً، ويلعب ألعاباً، ويغازل ويتحرر من كل قيد تحرراً يثأر فيه لنفسه مقدماً من الصوم الكبير. وفي عام 1512 حين بدا أن فلورنس لا تزال تنعم بالرخاء، ولكن الكوارث التي لم تكن تخطر بالبال لم تكن بعيدة عنها بأكثر من بضعة شهور، أعد بيرو دى كوزيمو(21/129)
Piero dl Cosimo موكب "مقنعة لانتصارات الموت"، سارت فيه عربة ضخمة تجرها جاموستان سوداوان وعليها غطاء أسود رسمت عليه هياكل عظيمة وصلبان بيض. ووقف في العربة تمثال ضخم يمثل الموت يمسك بيده منجلا، ومن حوله قبور وأشكال حزينة رسمت على أثوابها السود عظام بيض تبرق في الظلام، ومشت وراء العربة شخوص مقنعة تغطي رؤوسها قلانس سود رسمت عليها رؤوس موتى من الأمام ومن الخلف. وقامت من القبور المصورة على العربة شخوص أخرى رسمت بحيث تبدو عظاماً لا غير، وكانت هذه الهياكل العظيمة تنشد نشيداً يذكر الناس بأن الموت حق على الجميع. وسارت أمام العربة وخلفها قافلة من الخيل الهرمة الضعيفة تحمل جثث أموات (97). وهكذا نطق بيرو دى كوزيمو والموكب قائم على قدم وساق بحكمه على إيطاليا المنغمسة في الملذات وتنبأ بما كتب لها من سوء المصير، وكان في حكمه وتنبؤه يردد أقوال سفنرولا.(21/130)
الفصل التاسع
التمثيل
وترجع بعض أصول المسرحيات الإيطالية إلى هذه المقنعات والاحتفالات الساخرة. ذلك أن منظراً من التاريخ الديني في العادة كثيراً ما كان يمثل على إحدى عربات الموكب أو على مسارح مؤقتة في بعض نقط من طريق الموكب. أما المصدر الأول للمسرحيات الإيطالية فهو ما كانوا يطلقون عليه لفظ "الديفورتيوتي" وهو إحدى حوادث القصص الديني المسيحي يمثلها أعضاء إحدى نقابات الحرف، أو ممثلون محترفون في بعض الأحيان، ينتمون إلى هيئة تتخذ عرض هذه المناظر عملا لها. وقد وصلت إلينا نصوص بعض هذه التمثيليات من تلك الأيام، وهي تدل على عظمة مسرحية مدهشة. فواحدة منها تروي قصة العذراء تعثر على المسيح في بيت المقدس، ثم تفقده مرة أخرى، وتبحث عنه وهي ذاهبة العقل وتصيح: "أي بني العزيز المحبوب! أي بني، أين ذهبت، أي بني اللطيف، من أي باب خرجت؟ أي بني القدسي، لقد كنت حزيناً كاسف البال حين غادرتني! خبروني بالله أين، أين ذهب ولدي؟ " (98).
وفي القرن الخامس عشر نشأ في إيطاليا عامة، وفي فلورنس خاصة نوع من المسرحيات أرقى من هذه يعرف بالتمثيليات المقدسة Sacra Rapprescntazione يمثل في مصلى إحدى نقابات الحرف، أو في مطعم أحد الأديرة، أو في أحد الميادين العامة. وكثيراً ما كانت المناظر المعدة لتلك التمثيليات معقدة تنم عن كثير من الذكاء(21/131)
والفطنة: فكانت السماء تمثل بوستر ضخمة رسمت عليها النجوم، والسحب تمثل بأكداس من الصوف معلقة في الهواء تتمايل مع الريح؛ والملائكة يمثلهم غلمان مرفوعون على قوائم من المعدن مختفية في أقمشة متموجة هفهافة. وكانت القصة نفسها شعراً في العادة، تصحبها الموسيقى تعزف على الكمان أو العود؛ وكان لورندسو ده ميديتشي، وبلتشي Pulci من بين الشعراء الذين كتبوا ألفاظ بعض هذه التمثيليات الدينية؛ وجاء بوليتيان في مسرحية أورفيو Orefeo فكيف صيغة التمثيلية المقدسة كي تتفق مع الموضوعات الوثنية.
وكانت عناصر أخرى من الحياة الإيطالية تسهم في هذه الأثناء في مولد المسرحية الإيطالية. منها المسرحيات الهزلية Farse التي كان يمثلها من زمن يعيد أفراد متنقلون في مدائن العصور الوسطى، والتي تحتوي أصول المسلاة الإيطالية. وقد برع بعض ممثليها في ارتجال الحوار لمناظر القصص وحبكاتها. وكان هذا الحوار وسيلة محببة لإظهار قدرة الإيطاليين على الهجاء والمجون. ومن هذه المهازل ظهرت الشخصيات الهازلة الساخرة في المسالي الشعبية واتخذت صورها وأسماءها المعروفة بها في تلك اللغة- البنتالوني، والأرلكينو، والبلكينيلا أو البنكينلو (1).
وكان للكتاب الإنسانيين نصيبهم في العوامل المعقدة التي أدت إلى نشأة المسرحية، وذلك بإعادة نصوص المسالي الرومانية القديمة والإعداد للتمثيل. وقد كشف هؤلاء اثنتي عشرة مسرحية لبلوتوس في عام 1427 وكان اكتشافها حافزاً جديداً، فمثلت في البندقية، وفيرارا ومانتوا وأربينو، وسينا، وروما مسالي بلوتوس، وانتقلت التقاليد الأدبية القديمة على مر القرون لتكون من جديد المسرحيات الدنيوية. وفي عام 1486
_________
(1) Punchinello, Pu'chinella, Arlecchino, Pantaione. وتعني كلها ضروباً من المهرجين.(21/132)
عرضت مسرحية ميناكمي Menaechmi تأليف بلوتوس للمرة الأولى في إيطاليا، وبذلك مهد السبيل لمسرحية النهضة أتم التمهيد. ولما آذن القرن الخامس عشر بالرحيل فقدت المسرحية الدينية ما كان لها من سلطان على النظارة المتعلمين في إيطاليا، وأخذت الموضوعات الوثنية تحل بالتدريج المطرد الزيادة محل الموضوعات الوثنية؛ ولما أن ألف الكتاب الإيطاليون أمثال ببينا Bibbiena ومكيفلي، وأريستو، وأريتينو مسرحياتهم، كتبوها بأسلوب بلوتوس البذيء بعيدة كل البعد عن قصص مريم والمسيح التي كانت من قبل محببة لإيطاليين؛ وعادت إلى الظهور في هذه المسالي الإيطالية جميع مناظر المسلاة الرومانية، وجميع الحبكات المصطنعة السطحية التي تدور حول الأخطاء الجنسية، أو الخطأ في تمييز الأشخاص بعضهم من بعض، أو في المراتب والطبقات. وظهرت في المسلاة كذلك جميع أنواع الشخصيات، ومنها القوادون والعاهرات، التي كان بلوتوس يسرُ بها الطبقات الدنيا من النظارة، وخشونة الطبقات السفلى القديمة واستهتارها.
ولم يكن للمأساة مكان ما فوق مسرح النهضة رغم احتفاظ هذا العصر بمسرحيات سنكا، ورغم استكشاف المسرحيات اليونانية من جديد. ذلك أن أهل ذلك الوقت كانوا يفضلون المتعة والتسلية على الدرس العميق، ولهذا كانوا ينظرون شذراً إلى مسرحية سوفونسيا Sophonisba (1515) لجيان ترسينو Gian Trissino ومسرحية روزا مندا Rosamunda لجيوفني روتشلاى. وقد مثلت هذه المسرحية الأخيرة أمام ليو العاشر في فلورنس في ذلك العام نفسه.
وكان من سوء حظ المسلاة الإيطالية أنها تشكلت حين كانت أخلاق الإيطاليين في الحضيض. وإن قدرة مسرحية مثل كالندا Calanda تأليف ببينا، ومندرجولا Mandragola لمكيفلي، على إشباع رغبات الطبقات(21/133)
العليا من الإيطاليين، وملاءمتها لأذواقهم حتى في أربينو المعروفة برقة أهلها، وإن ممثليها أمام البابوات دون أن تثير أي احتجاج، إن هذا وذاك ليدلاننا كيف تجتمع الحرية العقلية مع الانحطاط الخلقي. ولما قامت حركة الإصلاح المعارضة بعد انعقاد مجلس ترنت Trent (1545 وما بعدها)، وجه أشد النقد إلى أخلاق رجال الدين والدنيا على السواء، ومحيت مسلاة النهضة فلم يعد لها مكان في تسلية المجتمع الإيطالي.(21/134)
الفصل العاشر
الموسيقى
لقد كان من المظاهر التي أنقذت المسلاة الإيطالية أن الرقص التمثيلي، والمسرحيات الصامتة، والعزف الموسيقي الجماعي كانت تعرض كلها بين الفصول. ذلك أن الموسيقى كانت عند الإيطاليين- بعد العشق- أهم أنواع التسلية والسلوى عند كل طبقة من طبقات المجتمع في إيطاليا. يدلنا على ذلك أن منتاني وهو مسافر في تسكانيا عام 1581 قد "أدهشه أن يرى الفلاحين وفي أيديهم الأعواد وإلى جانبهم الرعاة ينشدون قصائد أريستو عن ظهر قلب"؛ ولكن هذا، كما يقول بعدئذ، "هو الذي نستطيع أن نشاهده في جميع أنحاء إيطاليا" (99). وقد حفظ لنا فن التصوير في عهد النهضة ألف صورة وصورة لأشخاص يعزفون على الآلات الموسيقية من الملائكة العازفين على العود عند قدمي العذراء في كثير من الصور التي تمثل منظر التتويج، إلى الملائكة الصغار المنشدين في صور ميلتسو Meizzo، إلى نشوة الرجل العازف على القيثارة في صورة الحفلة الموسيقية. وما أروع صورة الغلام- الذي يصعب علينا أن نعتقد أنه هو المصور نفسه- في وسط صورة أعمار الإنسان الثلاثة لسيبباستيانو دل بيومبو Sabastiano del Piombo، كذلك تنقل لنا الكتب التي ألفت في ذلك العصر صورة لشعب يغني أو يعزف على الآلات الموسيقية في منزله، وفي أثناء عمله، وفي الشارع، وفي المجامع الموسيقية، وأديرة الرجال والنساء، والكنائس، والمواكب، والمقنعات، ومواكب النصر، والاستعراض، والمسرحيات الدينية والدنيوية، وفي الفقرات الغنائية، وفيما بين الفصول في المسرحيات، وفي الرحلات الخلوية كالتي تصورها بوكاتشيو(21/135)
في كتابه ديكمرون Decameron، وكان الأثرياء يحتفظون في بيوتهم بطائفة من الآلات الموسيقية المختلفة الأنواع، وكانوا ينظمون فيها حفلات موسيقية خاصة. أما النساء فكن ينشئن النوادي لدراسة الموسيقى ولممارستها، وقصارى القول أن إيطاليا كانت- ولا تزال- تجن جنوناً بالموسيقى.
وازدهرت الأغاني الشعبية في كل وقت من الأوقات، ومن هذا المعين الذي لا ينضب كانت الموسيقى العلمية تستمد من آن إلى آن ما ينعشها ويبعث الحياة فيها. فكانت النغمات الشعبية تكيف حتى تتفق مع القصائد الغزلية المعقدة، ومع الترانيم، وحتى مع القطع الموسيقية التي تعزف في الكنائس في ساعات القداس. وفي "فلورنس"، كما يقول تشيليني، "كان من عادة الأهلين أن يلتقوا في الشوارع العامة في ليالي الصيف" ليغنوا ويرقصوا (100). وكان مغنو الشوارع أو الميادين- Cantori di Piazza- يوقعون ألحانهم الحزينة أو المرحة على أعواد جميلة، كما كان السكان يجتمعون ليغنوا أناشيد المديح للعذراء عند أضرحتها المقامة في الشوارع أو على جوانب الطرق؛ وفي مدينة البندقية كانت أغاني العُرس تصعد إلى قمر السماء من مئات قوارب النزهة، أو ترتفع من حناجر العشاق الذين يتغزلون في حبيباتهم في ظلمات الليل على ضفاف القنوات الملتوية. ويكاد كل إيطالي في ذلك الوقت يستطيع الغناء، كما يكاد كل إيطالي يستطيع التغني بعبارات بسيطة متوافقة. وقد وصلتنا مئات من هذه الأغاني الشعبية المسماة بذلك الاسم الجميل فروتولى Frottole أي الفاكهة الصغيرة؛ وهي في العادة قصيدة غزلية، أهم أصواتها السبران (أعلى الاصوات) وإلى جانبه العران، والرخيم، والصور (1). وبينما كان الصوت الرخيم في القرون الحالية هو المسيطر على النغم ولذلك وصف به، فقد أصبحت للسبران- أعلى الأصوات- السيطرة عليه في القرن الخامس عشر، وقد سمي بهذا
_________
(1) أصوات موسيقية مختلفة.(21/136)
الاسم Soprano لأن علاماته الموسيقية كانت تكتب فوق سائر العلامات. ولم يكن هذا الجزء من الغناء في حاجة إلى صوت النساء، فقد كان كثيراً ما يغنيه غلام أو كان هو الصوت النشاز Falsetto من رجل كهل (ولم يظهر الغلمان المخصيون بين المنشدين لدى البابوات قبل عام 1526) (101).
وكان قدر كبير من العلم بالموسيقى يطلب إلى أفراد الطبقة المتعلمة، فكان كستجليوني مثلا يتطلب إلى رسوله المهذب أن يكون من هواة الموسيقى وأن يبرع فيها إلى حد ما لأنها "لا تجعل عقول الرجال حلوة فحسب، بل إنها في كثير من الأحيان تبدل الوحوش إلى حيوانات مستأنسة أليفة" (102). وكان ينتظر من كل شخص مثقف أن يقرأ الموسيقى البسيطة بمجرد النظر إليها، وأن يعزف على آلة ما وهو يغني، وأن يشترك في أية حفلة موسيقية دون سابق استعداد (103). وكان الأهالي في بعض الأحيان يقيمون حفلات تجمع بين الغناء، والرقص، والعزف على الآلات الموسيقية. وكانت الجامعات بعد عام 1400 تقدم للطلاب برامج موسيقية وتمنح فيها درجات علمية؛ وكان في إيطاليا مئات من المجامع الموسيقية؛ وأسس فتورينو دا فلترى حوالي عام 1425 مدرسة لتعليم الموسيقى في مانتوا؛ ولفظ كنسير فتوري Conservatory الذي يطلق على المعاهد الموسيقية في هذه الأيام يرجع في الأصل إلى لفظ كنسير فتوري ( Conservatori) أي الملاجئ، لأن الملاجئ في نابلي كانت تتخذ أيضاً مدارس لتعليم الموسيقى (104). وكان مما ساعد على انتشار الموسيقى غير ما سبق استخدام فن الطباعة في طبع العلامات الموسيقية؛ فقد حدث حوالي عام 1476 أن طبع ألريخ هاهن Ulrich Hahn في روما كتاباً كاملا للصلوات بالعلامات الموسيقية المتنقلة والسطور؛ وفي عام 1501 بدأ أتافيانو ده بيتروتشي Ottaviano Petrucci في البندقية أعمال الطباعة التجارية للأناشيد الدينية" والفاكهة الصغيرة".
وفي بلاط الملك والأمراء كانت الموسيقى أبرز الفنون عدا فنون الزينة(21/137)
الشخصية والأناقة. فقد كان الحاكم يختار عادة كنيسة محببة له، ويجعل المرنمين فيها موضع عنايته، وينفق المال بسخاء ليجذب إليها أجمل الأصوات وأحسن الآلات من إيطاليا، وفرنسا، وبرغندية، فكان يدرب المغنين الجدد منذ طفولتهم كما فعل فيدريجو في أربينو، وكان ينتظر من أفراد المرنمين أن يقيموا للدولة حفلات غنائية ولبلاطه أعياداً من حين إلى حين. وقد ظل جويوم دوفاى Guillaume Dufay من أهل برغندية يشرف على الموسيقى في قصور آل مالاتستا في ريميني وبيزارو وفي معبد البابا في روما نحو ربع قرن (1419 - 1444). ونظم جالياتسو ماريا اسفوردسا Galeazzo Maria Sforzo حوالي عام 1460 جماعتين من المرنمين الدينيين، وجاء إليهم من فرسنا بجوسكان دبريه Josquin Depres الذي كان وقتئذ أشهر المؤلفين جميعاً في أوربا الغربية. ولما احتفى لودفيكو اسفوردسا بليوناردو في ميلان كان احتفاؤه به بوصفه موسيقياً؛ ومما هو جدير بالملاحظة أن ليوناردو اصطحب معه في سفره من فلورنس إلى ميلان أطلانطي مجليورُتي Atlante Migliorotti وهو موسيقي ذائع الصيت وصانع آلات موسيقية. وأشهر من أطلانطي هذا في صناعة القيثارة، والعود، والأرغن، والبيان البدائي، لورندسو جوسناسكو Lorenzo Gusnasco من أهل بافيا الذي اتخذ ميلان كغيرها من المدن موطناً له. وكان بلاط لودفيكو يموج بالمغنين نذكر منهم نارتشسو Narcisso وتبستاجرسا Testagrossa وكوديير Cordier من أهل فلاندرز، وكوستوفورو رومانو Cristoforo Romane الذي أحبته بيتريس حباً طاهراً عفيفا. وكان بدرو ماريا Pedro Maria الأسباني يقود الحفلات الموسيقية في القصر وحفلات الجماهير، وأنشأ فرنكشيتو جافوري Franchino Gaffuri مدرسة خاصة ذائعة الصيت في ميلان واشتغل فيها بتعليم الموسيقى. وكانت إزبلا دست مولعة أشد الولع بالموسيقى؛ واتخذتها أهم موضوع لزخرفة حجرتها الداخلية الخاصة،(21/138)
وكانت هي نفسها تعزف على عدة آلات. ولما أن أمرت بإحضار بيان بدائي من لورندسو جوسناسكو اشترطت ان تستجيب لوحة المفاتيح للمس الخفيف، "لأن يديها رقيقتان إلى حد لا تستطيع معه أن تجيد العزف إذا كانت المفاتيح جامدة" (105). وكان يعيش في بلاطها أشهر عازف على العود في زمانه، وهو ماركتو كارا Marchctto Cara، كما كان يعيش فيه بارتلميو ترميبو نتشينو Bartolomeo Tromboncino الذي ألف أغاني غزلية بلغ من روعتها وإعجاب الناس بها وبه أنه حين قتل زوجته الخائنة، لم يوقع عليه عقاب ما ومرت المسألة كأنها خلاف لا يلبث أن يزول.
وآخر ما نذكره من هذا القبيل أن الموسيقى كانت تتردد أصداؤها في الكاتدرائيات والكنائس وفي أديرة الرجال والنساء؛ وكانت الراهبات في البندقية، وبولونيا، ونابلي، وميلان ينشدن صلوات المساء ترانيم يبلغ من تأثيرها أن الجموع كانت تهرع من كافة الأنحاء لسماعها. وقد نظم سكتس الرابع جوقة المرنمين في معبد ستينى، وأضاف يوليوس الثاني إلى المرنمين في كنيسة القديس بطرس جوقة خاصة منهم تدرب المغنين وتعدهم للانضمام لمرنمي معبد ستيني. وكان هذا ذروة الموسيقى في العالم اللاتيني في عهد النهضة. وأقبل على هذه الجماعة أعظم المغنين من جميع البلاد التي تدين بالمذهب الكاثوليكي الروماني. وكان الغناء البسيط لا يزال هو الذي يفرضه القانون على الموسيقى الكنسية، ولكن الفن الجديد Ars Nova الفرنسي- وهو فن معقد معارض له- كان يتسلل إلى جماعات المرنمين في الكنائس الرومانية ويمهد السبيل لباليسترينا Palestrina وفيكتوريا. وكان الاعتقاد السائد في وقت من الأوقات أن ليس من الكرامة أن يصحب الترنيم في الكنيسة من الآلات الموسيقية إلا الأرغن، ولكن عدداً من الآلات المختلفة أدخل إلى الكنائس في القرن السادس عشر لكي تخلع على الموسيقى الكنسية بعض الروعة والجمال اللذين تمتاز بهما الموسيقى غير الدينية. وظل الأستاذ الفلمنكي أدريان(21/139)
ولاإيرت Adrian Willaert من أهل بروج Bruges يرأس فرقة المرنمين في كنيسة القديس مرقص بالبندقية خمسة وثلاثين عاماً درب أفرادها فيها تدريباً حسدتهم عليه روما. وفي فلورنس نظم أنطونيو اسكوارتشيا بولى مدرسة موسيقية كان لورندسو عضواً فيها. وظل أنطونيو جيلا كاملا يسيطر على فرقة المرنمين في الكاتدرائية العظيمة تردد النغمات التي أسكتت صوت كل شك فلسفي. يدلنا على ذلك أن ليون باتستا ألبرتى Leon Battista Alberti كان من المتشككين حتى إذا غنت الفرقة صدق وآمن وقال:
"إن جميع أنواع الغناء الأخرى تمل بالتكرار، أما الموسيقى الدينية وحدها فلا تمل. ولست أعلم مبلغ تأثر غيري بهذه النغمات، أما أنا فإن هذه الترانيم والمزامير التي أستمع إليها في الكنيسة تحدث فيَّ ذلك الأثر الذي وضعت من أجله، فتهدئ من جميع اضطراباتي النفسية، وتبعث فيَّ شيئاً من الفتور الذي تعجز الألفاظ عن وضعه، وتملأ قلبي إجلالا للخالق جل وعلا. وأي قلب قد بلغ من القسوة درجة لا يلين معها إذا سمع ذلك الارتفاع والانخفاض المتزن المتناسق في الأصوات الكاملة الحقة بتلك النغمات العذبة اللينة؟ وأؤكد لكم أني ما استمعت فقط ... إلى اللفظين اليونانيين كيري إليسوق (ارحمنا يارب) اللذين يدعوان الله إلى أن يقينا شر بؤسنا البشرى إلا انهمر الدمع من عيني ... وفي تلك اللحظة أفكر كذلك في مبلغ ما للموسيقى من قدرة على تهدئتنا والترفيه عنا" (106).
بيد أن الموسيقى، رغم هذا الانتشار الواسع، كانت هي الفن الوحيد الذي تأخرت فيه إيطاليا عن فرنسا في الجزء الأكبر من عهد النهضة. ذلك أن إيطاليا قد أثر فيها انتقال البابوات إلى أفنيون فحرمها من الموارد المالية البابوية، ولم يكن بلاط الأمراء المستبدين في القرن الرابع عشر قد بلغ درجة كبيرة من النضوج الثقافي، ومن أجل هذا كان يعوزها المال والروح اللذان لا غنى عنهما للدرجات العليا من الموسيقى. نعم إنها أخرجت أغاني(21/140)
غزلية جميلة (يسمونها مدرجال Madrigal وهي كلمة لا يعرف اشتقاقها على وجه التحقيق)، ولكن هذه الأغاني التي صيغت على غرار أغاني شعراء الفروسية الغزليين البروفنسالين كانت تلحن تلحيناً جامداً منتظماً متعدد النغمات فلم تلبث أن قضى عليها جمودها.
وكان فخر الموسيقى في القرن الرابع عشر في إيطاليا هو فرانتشيسكو لنديني Francesco Landini، العازف على الأرغن ولسان لورندسو في فلورنس. وقد فقد هذا الفنان بصره منذ طفولته، ولكنه أصبح رغم ذلك أظرف الموسيقيين وأحبهم إلى الشعب في زمنه، وقد برع في العزف على الأرغن، والعود، وفي تأليف الأغاني، وقول الشعر، وفي الفلسفة. ولكن هذا الرجل نفسه أخذ الفن أولا عن فرنسا، فقد طبق في قطعه الموسيقية الدنيوية التي ألفها، والبالغ عددها مائتي قطعة، الفن الجديد الذي استهوى فرنسا قبل تلك الأيام بجيل من الزمان. وكان هذا "الفن الجديد" جديداً جدة مزدوجة: فقد قبل الإيقاع الثنائي كما قبل التوقيت الثلاثي الذي كانت تتطلبه من قبل موسيقى الكنائس، وابتكرت له علامات موسيقية كثيرة التعقيد والمرونة. ووجه البابا يوحنا الثاني والعشرون الذي كان يصب صواعقه في جميع الاتجاهات، وجه هذا البابا إحدى تلك الصواعق على الفن الجديد ورماه بأنه خيال ووهم ومنحط، وكان لتحريمه إياه بعض الأثر في الحيلولة دون تقدم الموسيقى في إيطاليا. على أن يوحنا الثاني والعشرين لم يكن مخلداً، وإن كان قد بدا للناس في بعض الأوقات أن هذا قد يكون؛ فلما قضى نحبه في سن التسعين (1334)، انتصر الفن الجديد في موسيقى فرنسا، وأعقب هذا انتصاره أيضاً في إيطاليا.
وكان المغنون والمؤلفون الفرنسيون والفلمنكيون يؤلفون فرق المرنمين البابوية في أفنيون. فلما أن عادت البابوية إلى روما جاءت معها بعدد كبير من المؤلفين والمغنين الفرنسيين، والفلمنكيين، والهولنديين، وظل هؤلاء(21/141)
الموسيقيون الأجانب وخلفاؤهم قرناً من الزمان المسيطرين على الموسيقى الإيطالية. وظل المغنون في الفرق البابوية حتى زمن سكستس الرابع يفدون إلى إيطاليا من وراء جبال الألب، كذلك سيطرت الأصوات الأجنبية على موسيقى البلاط في القرن الخامس عشر. من ذلك أنه لما مات اسكوارتشيالونى Squarcialuni ( حوالي عام 1475) اختار لورندسو رجلاً هولندياً هو هنريخ اسحق Henrich Ysaac ليخلفه في العزف على الأرغن بكاتدرائية فلورنس. وكان هنريخ هو الذي وضع الألحان الموسيقية لبعض أغاني المساخر، ولبعض أغاني بولتيان، وهو الذي علم الرجل الذي أصبح فيما بعد ليو العاشر أن يحب الأغاني الفرنسية- بل أن يؤلف بعضها (107). وظلت الأغاني الفرنسية وقتاً ما تغنى في إيطاليا، كما كانت قصائد شعراء الفروسية الغزليين تغنى فيها وقتاً ما.
وأثمر غزو الموسيقيين الفرنسيين في إيطاليا، وهو الذي سبق غزو الجيوش الفرنسية إياها بقرن من الزمان، أثمر حوالي عام 1520 انقلاباً تاماً في الموسيقى الإيطالية. ذلك أن أولئك الرجال القادمين من الشمال- والإيطاليين الذين دربوا على أيديهم- قد انغمروا في فيض الفن الجديد واستخدموه في تلحين الشعر الغنائي الإيطالي. وقد وجد هؤلاء عند بترارك، وأريستو، وستادسارو، وبمبو- كما وجدوا بعدئذ في تاسو وجواريني- شعراً مطرباً يتحرق شوقاً للموسيقى. ألم يكن الشعر في الواقع يتطلب على الدوام أن يتلى إذا لم يكن يتطلب أن يغنى؟ وكانت مقطوعات بترارك قد أغوت من قبل الموسيقيين، أما الآن فقد لحن كل بيت منها، ولحن بعض مقطوعاتها اثنتي عشرة مرة أو أكثر، حتى لقد اصبح بترارك أكثر من لُحّن له من الشعراء في الأدب العالمي. ولقد كانت هناك أغان صغيرة لا يعرف مؤلفوها، ولكنها تعبر عن عواطف ساذجة ذات حيوية تمس شغاف كل قلب، وتنادي أوتار كل آلة. انظر مثلا إلى هذه الأغنية:(21/142)
أبصرت فتيات حساناً يتفيأن ظلال أشجار الصيف،
ينسجن تيجاناً براقة وهن ينشدن أغاني الحب بصوت خفيض،
وتستعير كل واحدة منهن من أختها أوراق الأشجار وأزهارها.
وفي خلال هذه الاخوة العذبة حولت
أجملهن عينيها الناعستين نحوي وهمست قائلة: "خذ! "
ووقفت مشدوها حائراً في الحب لم أنبس ببنت شفة،
لكنها قرأت ما تنطوي عليه جوانحي وناولتني تاجها الجميل؛
فاصبحت من أجل ذلك خادمها حتى الممات (108).
وطبق المؤلفون على هذه الاشعار الموسيقى الدينية الكاملة المعقدة الكثيرة الأنغام ذات الأربعة الأصوات- التي يغنيها أربعة أو ثمانية- المتساوية القيمة التي تخضع فيها ثلاثة أصوات لصوت واحد. وجميع هذه النغمات المعقدة الدقيقة المتسلسلة تجمع الأصوات الأربعة المستقلة في نغم متوافق متآلف ... وهكذا نشأت أغنية الحب في القرن السادس عشر فكانت من أيتع أزاهير الفن الإيطالي، وبينما كانت الموسيقى في أيام دانتي خادمة للشعر، أضحت الآن بعد أن اكتمل نماؤها شريكة له على قدم المساواة، لا تخفى فيها الألفاظ، ولا تختفي فيها العواطف بل تجمع بين هذه وتلك في ألحان تزيد من قدرتها على استثارة النفس، في الوقت الني تبعث بمهارتها الفنية أسباب البهجة في عقول المتعلمين.
ووجه المؤلفون العظام في إيطاليا أثناء القرن التاسع عشر، بما فيهم باليسترينا نفسه، وجهوا كلهم تقريباً فنهم من آن إلى آن إلى القصائد الغزلية. ويتنازع فيليب فيرديلو Philippe Verdelot، وهو رجل فرنسي عاش في إيطاليا، وقسطندسا فيستا Qoatanza Festa الإيطالي الموطن، شرف الاسبقية في تنمية هذه الصور الجديدة من صور الشعر بين عامي 1520 و 1530. ثم جاء بعدهم بزمن قليل أركادلت Arcadelt وهو رجل فلمنكي(21/143)
كان يعيش في روما، وذكره ربليه في كتاباته (109). وفي البندقية أعفى أدريان ولايرت Adrian Willaert من واجباته بوصفه رئيس فرقة المرنمين في كنيسة سان ماركو لكي يؤلف أجمل قصائد الغزل في أيامه.
وكانت القصيدة الغزلية تغنى عادة دون أن يصحبها عزف موسيقي على الآلات. نعم إن الآلات الموسيقية كان يخطئها الحصر، ولكن ما من واحدة منها، سوى الأرغن وحده، كانت تجرؤ على أن تنافس الصوت الآدمي. ولقد نشأت موسيقى الآلات نشأة بطيئة في أوائل القرن السادس عشر، وكانت نشأتها من صيغ موسيقية وضعت أولا للرقص أو الغناء الجماعي؛ وهكذا نشأ البوان والسلطاريل والسرنيد (1) نشأة تدريجية من الرقص المصاحب للغناء مع الآلات مفردة أو مجتمعة، وأضحت موسيقى الغزل التي تعزف دون غناء هي الكانزوني التي نشأت منها السوناته بعد زمن طويل (100أ)، ومن ثم كانت هي منشأ السمفونية.
وكان الارغن في القرن الرابع عشر قد وصل في تطوره ورقيه الدرجة التي هو عليها الآن تقريباً، فقد ظهرت لوحته الدواسة في ألمانيا والبلاد الوطيئة في ذلك العهد، وسرعان ما أدخلت في فرنسا وأسبانيا، أما إيطاليا فقد تأخرت في قبولها حتى القرن السادس عشر. وكانت الكثرة الغالبة من الأراغن قد أصبح لها قبل ذلك الوقت لوحتان أو ثلاث لوحات من المفاتيح وعدد مختلف من الوقفات والأجهزة التي يمكن بها استخدام عدة مفاتيح في وقت واحد. وكانت الأراغن الكبرى في الكنائس تحفاً فنية في حد ذاتها يقوم الأساتذة العظام بتصميمها، وحفرها، ونقشها. كذلك سرى حب الجمال في الشكل إلى غير الأرغن من الآلات الموسيقية، فالعود مثلا- وهو آلة البيت المحببة- كان يصنع من الخشب والعاج، ويتخذ شكل الكمثرى، وتخرق فيه ثقوب الصوت في نظام جميل. وكانت لوحة الأصابع فيه تقسم بنقوش من الفضة أو الشبة، وتنتهي بصندوق للأوتاد يصنع زاوية
_________
(1) كلها ضروب من الرقص والغناء(21/144)
حادة مع عنقه. وكانت فتاة جميلة تجذب أوتار العود الذي تحنو عليه في حجرها فتتكون منه ومنها صورة جميلة يهوى إليها قلب كل إيطالي حساس وكان الكثير من الآلات الموسيقية التي يعزف عليها بالأصابع هي الأخرى محببة جميلة.
أما اللذين يفضلون العزف بالوتر على العزف بالأصابع فكان لهم أنواع مختلفة من الكمان الذي يمسك على الذراع والذي يتكئ على الساق. وقد تطور النوع الثاني حتى أصبح هو الكمان الجهير واصبح الأول في عام 1540 هو الكمان الصغير. وكانت آلات النفخ أقل انتشاراً من الآلات الوترية، ذلك أن عصر النهضة كان يبغض الموسيقى التي تحدث بانتفاخ الخدود كما كان يبغضها ألقبيادس اليوناني؛ ومع هذا فقد وجد الناي، والفيف، والقربة، والبوق، والقرن، والصافرة والشون، والمزمار. وأضافت آلات الطرق- الطبلة، والدف، والصنوج، والطنبور والصنوج الصغيرة التي تستعملها الراقصات- أضافت هذه الآلات ضجيجها إلى العازفين والسامعين. وكانت جميع الآلات الموسيقية في عصر النهضة شرقية الأصل ماعدا لوحة المفاتيح التي أضيفت إلى غير الأرغن من الآلات للدق على الأوتار أو جذبها بطريقة غير مباشرة. وأقدم هذه الآلات ذات لوحات المفاتيح هو البيان البدائي المسمى كلافيكور Clavirchord ( ومعنى كلافس هو المفتاح)؛ وقد ظهرت هذه الآلة في القرن الثاني عشر، وكان للعاطفة شأن في بعثها من جديد في أيام باخ Bach؛ وكانت أوتارها تدق بملامس نحاسية صغيرة تحركها المفاتيح. ثم حلت محلها في القرن السادس عشر آلة الكلافيتشمبالو Claviecembalo التي كانت أوتارها تجذب بريشة أو قطعة من الجلد متصلة برافعات خشبية ترتفع إذا ما ضغط على المفاتيح. وقد اتخذت هذه الآلة في إنجلترا وإيطاليا صورتين مختلفتين سميت في الأولى فيرجنال Viriginal وفي الثانية الاسبينت Spinet.
وكانت هذه الآلات كلها حتى ذلك الوقت أقل شأناً من الصوت(21/145)
الآدمي، ولذلك كان جميع الفنانين الفارهين في عصر النهضة مغنين. لكننا نسمع في وقت تعميد ألفنسو صاحب فيرارا في عام 1476 عن حفل في قصر اسكفانيو Schifanio كانت فيه حفلة موسيقية اشترك فيها مائة من النافخين في الأبواق والزمارين والضاربين على الطنبور. وفي القرن السادس استخدم مجلس السيادة في فلورنس فرقة منتظمة من الموسيقيين كان منها تشلينى. وكانت عدة آلات يعزف عليها في ذلك العهد مجتمعة، ولكن هذا النوع من الحفلات قد اختصت به القلة الأرستقراطية. أما العزف المفرد على الآلات فقد كان شائعاً إلى حد يشبه الجنون، فلم يكن الناس يؤمون الكنائس للصلاة على الدوام، بل كانوا يؤمونها في كثير من الأحيان ليستمعوا إلى عازف شهير على الأرغن مثل اسكوارتشيا لوبى أو أوركانيا Orcagna. ولما أن عزف بيتروبونو Pietro Bono على العود في بلاط يورسو بفيرازا طارت أرواح المستمعين، على حد قولهم، من هذه الدار إلى الدار الآخرة (110). وكان كبار العازفين من أسعد الناس وأحبهم إلى القلوب في تلك الايام، ولم يكونوا يطلبون لأنفسهم حسن السمعة ممن يخلفونهم بل كانوا يحصلون على كل ما يطمعون فيه الشهرة قبل مماتهم.
أما النظريات في الموسيقى فقد تأخرت عن الاعمال بنحو جيل: ذلك أن العازفين كانوا يجددون، أما الأساتذة فكانوا يرفضون، ثم يجادلون، ثم يوافقون. وفي هذه الأثناء صيغت مبادئ الكرصته (1)، والنغمات المتعددة المشتركة، والتسلسل الموسيقي، لكي يسهل تعليم الموسيقى وانتقالها. لهذا لم تكن أعظم السمات الموسيقية في عصر النهضة هي النظريات، بل لم تكن التقدم الفني للموسيقى، بل كانت استحالتها من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية، ولهذا لم تعد الموسيقى الدينية في القرن السادس عشر هي التي تقدمت، وأجريت عليها التجارب، بل كان الذي تقدم وجرب هو موسيقى القصائد
_________
(1) كثرت الأصوات وهو لفظ منحوت Polyphone.(21/146)
الغزلية وموسيقى البلاط. ذلك أن الموسيقى الإيطالية في القرن السادس عشر خرجت من سيطرة الكنيسة كما خرج الأدب والفلسفة من هذه السيطرة، وانعكست عليها السمات الوثنية لفن النهضة وما كان فيها من انحلال خلقي، وأخذت الموسيقى تبحث عن إلهام لها في شعر الحب وانتهى النزاع القديم بين الدين والجنس إلى وقت ما بانتصار الحب. وذلك انقضى عصر العذراء وبدأ سلطان المرأة، ولكن الموسيقى في كليهما كانت خادمة الملكة والمؤتمرة بأمرها.(21/147)
الفصل الحادي عشر
نظرة شاملة
تُرى هل كانت أخلاق إيطاليا في عصر النهضة أسوأ من أخلاق غيرها من البلاد أو العصور؟ إن المقارنة لمن الأمور العسيرة، لأن الشواهد كلها محض اختيار. فعصر ألقبيادس في أثينا مثلا يكشف عن كثير مما في عصر النهضة من فساد في العلاقات الجنسية والمماحكات السياسية، ففيه أيضا كان يحدث الاجهاض على نطاق واسع، وفيه اتسع المجال للعاهرات المثقفات المتأدبات؛ وفيه أيضاً تحررت العقول والغرائز في وقت واحد، وفيه استبق السوفسطائيون أمثال شرازيبولوس في جمهورية أفلاطون مكيفلي إلى مهاجمة الفضائل ووصفوها بأنها من سمات الضعف، ولربما كان العنف الفردي في بلاد اليونان القديمة أقل منه في إيطاليا على عهد النهضة، كما كان الفساد في الدين والسياسة عند اليونان أقل بعض الشيء منه في إيطاليا (ونقول ربما عامدين لأنا في هذه المسائل إنما نعتمد على ما ينطبع في عقولنا لا على ما نجزم به واثقين). وكذلك الحال في أيام الرومان الأقدمين؛ ففي قرن كامل في تاريخ الرومان- من عهد قيصر إلى عهد نيرون- نجد الفساد في الحكم، والانحلال في عقدة الزواج أكثر منهما عهد النهضة؛ ولكن كثيراً من الفضائل الرواقية قد بقي في أخلاق الرومان حتى في ذلك العصر الفاسد نفسه، فقد كان قيصر، رغم ما يتصف به من قدرة على الجمع بين الضدين في الرشوة والحب، أعظم القواد في أمة كل رجالها قواد عظام.
وكانت النزعة الانفرادية في عصر النهضة ناحية أخرى من نواحي حيويتها ونشاطها، ولكنها لا تضارع في الناحيتين الخلقية والسياسية ما كانت عليه النزعة الاستقلالية في مدن العصور الوسطى، وأكبر الظن أن الخداع والغدر(21/148)
والجريمة لم تكن في فرنسا، وألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أقل مما كانت في إيطاليا؛ ولكن هذه الأقطار قد أوتيت من الحكمة والحصافة ما حال بينها وبين إخراج رجل مثل مكيفلي لينشر مبادئ فنها السياسي ويعرضه على الأنظار. لقد كانت العادات والآداب العامة لا المبادئ الأخلاقية أكثر فظاظة وغلظة في شمال جبال الألب منها في جنوبها، إذا استثنينا من هذا الحكم طبقة صغيرة في فرنسا- يمثلها الفارس الشهم بايار Bayard وجاستن ده فوا Gaston de Foix- كانت لا تزال تحتفظ بالناحية الطيبة من نظام الفروسية. لكن الفرنسيين إذا ما أتيحت لهم الفرص التي أتيحت للإيطاليين لم يكونوا أقل منهم انهماكاً في الزنا؛ وما على القارئ إلا أن يتذكر كيف انتشر داء الزهري بينهم انتشاراً سريعاً، أو أن يلاحظ الاختلاط الجنسي التي تصفه لنا الأساطير الشعرية، أو يحصي العاشقات الأربع والعشرين اللاتي كان يستمتع بهن فيليب دوق برغندية، ويتذكر أنييه رسول Agnel Sorels وديان ده بواتييه Dianes de Poitiers من حاشية ملوك فرنسا؛ أو فليقرأ ما كتبه في ذلك برانتوم Brantome.
وإذا كانت ألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لم تضارعا إيطاليا في الفساد الخلقي فقد كان منشأ ذلك فقر هذين البلدين. ولهذا فإن من جاءوا منهما إلى إيطاليا قد ذهلوا مما شاهدوا في الحياة الإيطالية من انحلال في الأخلاق. ولما زار لوثر إيطاليا في عام 1511 قال من فوره إنه "إذا كان هناك جحيم، فإن روما قد بنيت من فوقه؛ وهذا ما سمعته في روما نفسها" (111). وليس منا من لم يعرف الحكم الصارم الذي نطق به في ذهوله روجر آسكم Roger Ascham العالم الإنجليزي الذي زار إيطاليا حوالي عام 1550:
"لقد كنت يوماً ما في إيطاليا نفسها، ولكني أحمد الله إذ لم أقم فيها إلا تسعة أيام؛ ومع هذا فإني شاهدت في هذا الزمن القصير، في مدينة(21/149)
واحدة، من الانغماس في الذنوب والتحرر من قيود الأخلاق أكثر مما سمعته يقال في تسعة أيام عن بلدتنا النبيلة لندن. لقد رأيت هناك أن في مقدور المرء أن يرتكب الخطايا دون أن يتعرض للعقاب ودون أن يهتم بخطاياه أي إنسان، وقد أوتي من الحرية في ارتكابها بقدر ما أوتي ساكن لندن من حرية في أن يختار دون لوم أن يلبس حذاء أو خفاً (112).
وهو يورد من الأمثال السائرة قولهم "إن الإنجليزي المتطلين هو الشيطان المجسد".
وإنا لنعرف عن فساد إيطاليا أكثر مما نعرفه عن فساد ما وراء الألب لأنا نعرف عن الأولى أكثر مما نعرف عن الثانية، ولأن غير رجال الدين من الإيطاليين لم يحاولوا قط أن يخفوا فسادهم، بل إنهم في بعض الأحيان ألفوا الكتب للدفاع عن هذا الفساد. على أننا نعود فنقول إن مكيفلي الذي ألف كتاباً من هذا النوع كان يرى أن إيطاليا "أكثر فساد من كل ماعداها من الأقطار، ثم يليها في ذلك الفرنسيون ثم الأسبان" (113). وكان يعجب بالألمان والسويسريين ويقول إنهم لايزالون يتصفون بكثير من فضائل الرجولة التي كانت لأهل روما القديمة. وفي وسعنا أن نقول بشيء من الحذر والتردد أن إيطاليا كانت أكثر من غيرها فساداً لأنها كانت أكثر ثراء، وأضعف حكما، وأقل خضوعا لسلطان القانون، وإنها كانت أكثر رقيا في ذلك التطور الذهني الذي يؤدي في العادة إلى التحلل من القيود الأخلاقية.
ولقد بذل الإيطاليون جهوداً مشكورة في مقاومة ذلك الانحلال. وكانت أقل هذه الجهود ثمرة هي قواعد النفقات التي وضعت في الدول الإيطالية كلها تقريباً والتي كانت تحرم الإسراف في الإنفاق على الملابس المتبهرجة، غير ما كان يتصف به الرجال والنساء من زهو وخيلاء كان أقوى من قوة القانون. وكان البابوات ينددون بالفساد الخلقي، ولكن(21/150)
التيار القوي كان يجرفهم معه في بعض الأحيان، وكانت المحاولات التي يبذلونها لإصلاح مفاسد الكنيسة يحول دون نجاحها عدم رغبة الكهنة في الإقلاع عن عاداتهم السيئة أو محافظتهم على مصالحهم المكتسبة. على أنهم هم أنفسهم لم يبلغوا من الفساد المبلغ الذي يصورهم به المؤرخون المغالون، غير أنهم كانوا أكثر اهتماماً بإعادة سلطان البابوية السياسي منهم بإعادة صلاح الكنيسة الأخلاقي. وفي ذلك يقول جوتشيارديني: "إن الحبر الأعظم ليوصف بالصلاح ويمتدح إذا لم يكن أكثر شراً من غيره من الناس" (114). ولقد بذل وعاظ ذلك العصر العظام جهوداً جبارة لإصلاح ذلك الفساد؛ ونذكر منهم على سبيل المثال القديس برناردينو السينائي، وروبيرتودا لتشي Roberto da Lecce، وسان جيوفني دا كابستراتوا، وسفنرولا. ولقد كانت عظاتهم، وكان مستمعوهم، جزءاً من لون ذلك العصر وطبيعته. فقد كانوا ينددون بالرذيلة بأقوال مفصلة واضحة، أذاعت بين الناس شهرتهم وجذبت إليهم القلوب؛ وقد أقنعوا رجال الإقطاع بالتخلي عن عادة الأخذ بالثأر، وبالعيش في وئام وسلام، وحملوا الحكومات على أن تطلق سراح المدنيين المفلسين، وتسمح للمنفيين بأن يعودوا إلى أوطانهم آمنين؛ وعادوا بالآثمين الذين قست قلوبهم من الذنوب إلى ما أهملوه من الصلاة ومن مراعاة لقواعد الدين.
غير أن هؤلاء الوعاظ الأقوياء أنفسهم قد أخفقوا فيما كانوا يبتغون؛ فقد عادت إلى الظهور تلك الغرائز التي تكونت خلال مائة ألف عام قضاها الإنسان صياداً متوحشاً، حين خرجت من قشرة الأخلاق التي تشققت بعد أن فقدت تأييد العقيدة الدينية واحترام السلطة العليا والقانون الثابت المقرر. ولم يعد في مقدور الكنيسة التي كانت من قبل تحكم الملوك أن تحكم أو تطهر نفسها. وكان انهيار الحرية السياسية في دولة إثر دولة قد ثلم حدة الشعور الوطني الذي بث روح الحرية والنبل في حكومات مدن العصور الوسطى(21/151)
المستقلة؛ فلم نعد نرى إلا أفراداً بعد أن كنا نرى مواطنين. ووجد أولئك الأفراد أنفسهم محرومين من الاشتراك في حكم بلادهم، وبأيديهم ثروة ضخمة، فاتجهوا إلى طلب اللذات، حتى إذا داهمهم الغزو الأجنبي وجدهم، في أحضان العاهرات. وقد ظلت دول المدن قرنين من الزمان توجه قواتها، وحذقها، ودهائها، وغدرها، بعضها نحو بعض، حتى أصبح مستحيلا عليها، أن تضم شملها للوقوف أمام عدو لها مشترك. ولما أخفق الوعاظ أمثال سفنرولا في كل ما لجئوا إليه من وسائل لإصلاح الحال، أخذوا يدعون الله ليصب جام غضبه على إيطاليا، وتنبئوا بان روما سيحيق بها الخراب، وأن الكنيسة ستحطم وتتبدد (115). وملت فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا إرسال الخراج لسد نفقات الحروب التي تشنها الولايات البابوية، ولتمكين الإيطاليين من أن يحيوا حياتهم المترفة، وأخذوا ينظرون بعين الدهشة والحسد إلى شبه الجزيرة التي فقدت إرادتها وجردت من سلطانها، والتي تستهوي القلوب بجمالها وثرائها. وتجمعت الطيور الجارحة وأخذت تحلق في سماء إيطاليا توشك أن تنقض عليها لتشبع منها نهمها.(21/152)
الباب الحادي والعشرون
الانهيار السياسي
1494 - 1534
الفصل الأول
فرنسا تكشف إيطاليا
1494 - 1495
نعود بالقارئ إلى الموقف في إيطاليا في عام 1494. لقد نشأت قبل ذلك العام دول المدن بفضل قيام طبقة وسطى من السكان أثرت من اشتغالها بأعمال التجارة والصناعة التي اتسع نطاقها. وكانت هذه المدن قد فقدت استقلالها الذاتي وحريتها لعجز حكوماتها شبه الديمقراطية عن حفظ النظام بسبب التقاتل بين الأسر والنزاع بين الطبقات. وبقيت اقتصادياتها محلية في تكوينها حتى في الوقت الذي وصلت فيه أساطيلها وغلاتها إلى الثغور النائية. وكان بعضها ينافس البعض الآخر أشد مما ينافس الدول الأجنبية، ولم تضم في يوم ما صفوفها لتقاوم مجتمعة توسع الفرنسيين، والألمان، والأسبان التجاري في الأقاليم التي كانت تسيطر عليها المدن الإيطالية من قبل. ومع أن إيطاليا هي التي أنجبت الرجل الذي أعاد كشف أمريكا، فإن أسبانيا هي التي أمدته بالمال؛ واقتفت التجارة خطاه، وصحب الذهب عودته، وازدهرت الأمم الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي، ولم يعد البحر المتوسط الموطن المحبب لحياة الرجل الأبيض الاقتصادية، وأخذت البرتغال تسير السفن إلى(21/153)
الهند والصين حول قارة إفريقية، وتتجنب العراقيل التي توضع في طريقها في بلاد الشرق الأدنى والأوسط؛ وحتى الألمان أخذوا يسيرون سفنهم من مصاب نهر الرين بدل أن ينقلوا متاجرهم فوق جبال الألب في إيطاليا.
وأخذت الأقطار التي ظلت قرناً من الزمان تبتاع منسوجات إيطاليا الصوفية تنسج هي أصوافها، كما أخذت الأمم التي تؤدي أرباح الأموال إلى المصارف الإيطالية تنمي هي مواردها المالية، وأضحت الزكاة، والمرتبات الأولى للمناصب الكنسية التي من حق الكنيسة، وبنسات بطرس (1) وأثمان صكوك الغفران، ونقود الحجاج، أصبحت هذه أهم ما تؤديه إلى إيطاليا البلدان الأوربية الواقعة وراء الألب، ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى حول ثلث أوربا مجرى هذا المال. ولهذا حدث في ذلك الجيل الذي رفعت فيه الثروة المختزنة في إيطاليا مدنها إلى ذروة مجدها وعلا فيها شأن فنونها، نقول إنه في هذا الجيل نفسه قضى فيه على مركز إيطاليا الاقتصادي.
وختم في ذلك الوقت عينه على مصيرها السياسي، فبينما كانت هي منقسمة إلى نظم اقتصادية متعادية ودول سياسية متحاربة، كان تطور الاقتصاد القومي في غيرها من المجتمعات الأوربية برغم هذه المجتمعات على الانتقال من عهد الإمارات الإقطاعية إلى عهد الدول الملكية، ويقدم المال اللازم لهذا الانتقال. ففي ذلك الوقت توحدت فرنسا تحت حكم لويس الحادي عشر، وأخضعت باروناتها فجعلتهم حاشية للملوك، وجعلت من سكان مدنها رجالا عامرة قلوبهم بالروح الوطنية. واتحدت أسبانيا بزواج فرديناند صاحب أرغونة في إزبلا ملكة قشتالة، وفتحت غرناطة، ومكنت بدماء أهلها وحدتها الدينية. كذلك توحدت إنجلترا تحت حكم هنري السابع،
_________
(1) ضريبة قديمة مقدارها بنس كان يؤديها كل صاحب بيت في إنجلترا إلى الكرسي البابوي ثم أصبحت بعد عام 1860 ضريبة اختيارية يؤديها أتباع المذهب الكاثوليكي الروماني إلى هذا الكرسي. (المترجم)(21/154)
ومع أن ألمانيا لم تكن أقل تشتتاً وانقساماً من إيطاليا، فإنها كانت تعترف بالسيادة لملك واحد وإمبراطور، وتمده أحياناً بالمال والجند ليحارب بهما هذه الدولة الإيطالية أو تلك. ثم إن إنجلترا، وفرنسا، وأسبانيا، وألمانيا أنشأت جيوشاً قومية من أهلها، وأمدها أشرافها بالفرسان والقادة. أما المدن الإيطالية فلم تكن لها إلا قوات صغيرة من الجنود المرتزقة لا هم لها إلا السلب والنهب، يتولى قيادتها زعماء مغامرون أبغض الأشياء إليهم أن يصابوا بجروح قاتلة. وكانت معركة واحدة كافية لأن تكشف لأوربا ضعف إيطاليا وعجزها عن الدفاع عن نفسها.
وكان نصف بيوت المالكين في أوربا يزخر وقتئذ بالدسائس الدبلوماسية يريد كل واحد منها أن يحرز قصب السبق في الاستيلاء على الغنيمة. ونادت فرنسا بأنها صاحبة الحق الأول، لأسباب كثيرة، منها أن جيان جاليدسو لسكونتي قد زوج ابنته فالنتينا (1387) من لويس أول دوق لأورليان، وكان ثمن هذه الصلة الطيبة المريحة بأسرة مالكة هو اعترافه بحقها وبحق الذكور من أبنائها في أن يرثوا دوقية مزيلان إذا لم يكن له وريث ذكر من صلبه؛ وتم ذلك فعلا حين توفي فيلبو ماريا فسكونتي (1447). فاستولى صهره فرانتشيسكو اسفوردسا حينئذ على ميلان بدعوى أنها من حق زوجته بيانكا ابنة فيلبو ماريا؛ ولكن شارل دوق أورليان طالب بعرش ميلان بوصفه ابن فالنتينا، ونادى بأن آل اسفوردسا مغتصبون، وألن تصميمه على الاستيلاء على الإمارة الإيطالية إذا ما حانت له الفرصة.
وفضلا عن هذا فإن شارل دوق أنجو كان قد حصل كما يقول الفرنسيون على مملكة نابلي من البابا إربان الرابع (1266)، مكافأة له على حماية البابوية من ملوك آل هوهنشتاوفن؛ ثم أوصت جوانا Joanna الثانية ملكة نابلي بهذه المملكة إلى رينيه Rene دوق أنجو (1435)؛ وكان ألفنسو صاحب أرغونة قد طالب بها بدعوى أن جوانا قد تبنته إلى وقت ما،(21/155)
أقام بالقوة بيت أرغونة على عرش نابلي. وحاول رينيه أن ينتزع المملكة منه ولكنه لم يفلح؛ وانتقل حقه القانوني فيها بعد موته إلى لويس التاسع ملك فرنسا؛ وفي عام 1482 دعا سكستس الرابع- وكان على خلاف مع نابلي- لويس للاستيلاء على ميلان وقال "إنها ملك له". وحدث في ذلك الوقت أن شن حلف من الدول الإيطالية الحرب على البندقية فلجأت في يأسها إلى لويس تطلب إليه أن يهاجم نابلي أو ميلان، وقالت إنها تفضل أن يهاجم الاثنتين. وكان لويس وقتئذ مشغولا بتوحيد فرنسا، ولكن ابنه شارل الثامن ورث حقه في نابلي واستمع إلى المنفيين من أهلها وإلى أنصار أسرة أنجو في بلاطه، وأدرك أن تاج نابلي كان منضما إلى تاج صقلية، وإن هذا مرتبط بتاج بيت المقدس. لهذا خطرت بباله تلك الفكرة الكبيرة، أو لعل أحداً أوعز إليه بها، وهي الاستيلاء على نابلي وصقلية، على أن يتوج بعدئذ ملكاً على بيت المقدس. ثم يقود حملة صليبية لقتال الأتراك. وحدت في عام 1489 أن قام النزاع بين أنوسنت الثامن وبين نابلي، فعرض إنوسنت المملكة على شارل إذا قدم للاستيلاء عليها. لكن الإسكندر الثالث (1494) حذر الملك من عبور الألب وإلا كان نصيبه الحرمان؛ غير أن الكردنال جوليانو دلا روفيري عدو الإسكندر- الذي حارب فيما بعد حين أصبح هو البابا يوليوس الثاني ليطر الفرنسيين من إيطاليا- قدم إلى شارل في ليون Lyons وحرضه على غزو إيطاليا وخلع الإسكندر. ووجه سفنرولا دعوة أخرى إلى شارل يرجو من ورائها أن يخلع هذا الملك بيرو ده ميديتشي عن عرش فلورنس والإسكندر عن عرش البابوية في روما، وقبل كثير من أهل فلورنس أن يتولى الراهب زعامتهم. وأخيراً عرض لدوفيكو صاحب ميلان على شارل أن يسمح له باختراق أملاك ميلان إذا ما اعتزم أن يوجه حملة إلى نابلي، وكان الباعث على هذا خوفه من أن تهاجمه نابلي نفسها.(21/156)
ووجد شارل أن نصف إيطاليا يشجعه فأخذ يستعد لغزو نابلي. وأراد أن يحمي جناحيه أثناء الغزو فنزل عن أرتوا Artois وفرانش كمتيه Francho Compte إلى مكسمليان إمبراطور الدولة الرومانية، كما نزل عن رسيون Rousillote وسرداني Cerdagen إلى فرديناند ملك أسبانيا، ونفخ هنري السابع بمبلغ كبير من المال نظير تخليه عن المطالبة بمقاطعة بريطاني الفرنسية. وفي شهر مارس من عام 1494 حشد جيشه في ليون، وكان مؤلفاً من 18. 000 من الفرسان، و 22. 000 من المشاة، وسير أسطولا ليضمن ولاء جنوي لفرنسا، فاسترد في الثامن من سبتمبر بلدة رابلو Rapallo من قوة نابلية كانت قد نزلت بها؛ وروعت أنباء المذبحة الرهيبة التي أعقبت هذه المعركة الأولى إيطاليا كلها التي لم تتعود إلا المذابح المعقولة. وفي ذلك الشهر عينه عبر شارل وجيشه جبال الألب ووقف عن أستى Asti. وسار لدوفيكو صاحب ميلان، وإركولي صاحب فيرارا لمقابلته. وأقرضه لدوفيكو مالا؛ وعاقت إصابة شارل بالجدري تنفيذ خطة الغزو الموضوعة، فلما شفي قاد جيشه مخترقا أراضي ميلان إلى تسكانيا؛ وكان في وسع القلاع المقامة على حدود فلورنس أن تقاومه، ولكن بيرو ده ميديتشي جاء بنفسه ليسلمها إليه ومعها بيزا وليفورنو Livorno. وفي السابع عشر من نوفمبر اجتاز شارل ونصف جيشه مدينة فلورنس؛ وأعجبت جماهير الشعب بمنظر الفرسان الذي لم تشاهد مثله من قبل، وساءهم ما ارتكبه الجند من السرقات الصغيرة، ولكنهم ذهب عنهم الروع حين رأوهم يمتنعون عن السب والنهب. وفي شهر ديسمبر تقدم شارل نحو روما.
لقد سبق أن نظرنا إلى لقاء الملك والبابا من وجهة نظر الإسكندر، وبقي أن نقول إن شارل سلك مسلكا معتدلا، فلم يطلب إلا أن يسمح لجيشه بحرية المرور في لاتيوم، وأن يتولى هو الوصاية على الأمير جم التركي(21/157)
السجين البابوي (وكان يمكن استخدامه مطالباً بالسلطنة وخليفة إذا ما سير حمله ضد الأتراك)، وأن يصحبه سيزارى بورجيا ليكون رهبنة لديه. ووافق الإسكندر على هذه الشروط، وزحف الجيش نحو الجنوب (25 يناير سنة 1495)، لكن بورجيا لم يلبث أن فر، وكان في وسع الإسكندر بعد فراره أن يعدل خططه الدبلوماسية.
وفي الثامن والعشرين من فبراير دخل شارل نابلي دخول الظافرين دون أن يلقى مقاومة. وسار في المدينة ومن فوقه مظلة من القماش الموشى بخيوط الذهب يحملها أربعة من أعيان نابلي. ويتلقى تحيات الجماهير. وأظهر رضاءه وتقديره بأن خفض الضرائب وعفا عمن قاوموا مجيئه؛ وأقر نظام الاسترقاق بناء على طلب الأعيان الذين كانوا يحكمون الأرض الواقعة وراء المدينة. وظن أن الأمن قد استتب له فأصبح آمناً مطمئناً، فتوانى وعمد إلى الراحة والاستمتاع بجو البلدة ومناظرها الجميلة، وكتب بلهجة حماسية إلى دوق بوربون يصف الحدائق التي كان يعيش في وسطها، والتي لا ينقصها إلا حواء كي تصبح جنة النعيم؛ وأبدى دهشته مما في المدينة من عمائر، وتماثيل، وصور زيتية، وأعتزم أن يأخذ معه إلى فرنسا طائفة ممتازة من الفنانين الإيطاليين؛ وإلى أن يحين ذلك الوقت بعث إلى فرنسا بسفينة محملة بالتحف الفنية المسروقة من المدينة. وسحرته نابلي بجمالها فأنسته كل شيء عن بيت المقدس وعن حربه الصليبية.
وبينما هو يلهو ويضيع الوقت سدى في نابلي، وبينما كان جيشه يستمتع نساء الشوارع والمواخير، فيصاب "بالمرض الفرنسي" أو ينشر هذا الداء الوبيل بين الأهلين، كانت المتاعب تتجمع من خلفه. ذلك أن أعيان نابلي حرموا في كثير من الحالات من ضياعهم التي انتزعت منهم لترد إلى ملاكها من أسرة أنجو أو للوفاء بما على شارل من ديون لخدمه، وذلك بدلا من أن يكافأ هؤلاء الأعيان على ما قدموا من معونة لخلع مليكهم(21/158)
السابق؛ يضاف إلى هذا أن جميع مناصب الدولة قد أعطيت للفرنسيين، ولم يكن شيء يستطاع الحصول عليه منهم إلا إذا قدم لهم من الرشاوى ما أغضب الأهلين لتجاوزه القدر الذي اعتادوا تقديمه. ثم أن جيش الاحتلال أضاف الإهانة إلى الأذى بما كان يظهره من احتقاره للشعب الإيطالي، فلم تمض إلا أشهر قليلة حتى خسر الفرنسيون ما قوبلوا به من ترحيب واستبدلوا به كرها يتربص بهم الدوائر، ويترقب الفرصة التي تتاح له لطرد الغزاة.
فلما كان اليوم الحادي والثلاثون من شهر مارس انضم الإسكندر الرجل المرن الذي لا يكاد يتلقى الطعنة حتى يفيق منها، ولدوفيكو التائب النادم على ما فعل، وفرديناند الغضوب، ومكسمليان الغيور الحسود، ومجلس شيوخ البندقية الحذر، انضم هؤلاء في حلف للدفاع المشترك عن إيطاليا. ومضى شهر على الملك شارل وهو يجوس خلال نابلي يمسك الصولجان بإحدى يديه ويمسك بيده الأخرى كرة- نظنها تمثل الكرة الأرضية- قبل أن يدرك أن الحلف الجديد يعد جيشاً لقتاله. وفي الحادي والعشرين من مايو عهد أمر نابلي إلى ابن عمه كونت مونبنسييه Montpensier وزحف على رأس نصف جيشه نحو الشمال، فلما وصل ذلك الجيش البالغ عدده عشرة آلاف مقاتل إلى فورنوفو Fornovo القائمة على نهر تارو من أملاك بارما وجد أن جيشاً عدته أربعون ألف رجل بقيادة جيان فرانتشيسكو جندساجا مركيز مانتوا يسد عليه الطريق. وفي الخامس من يوليه سنة 1495 امتحنت قوة الجيوش الإيطالية والفرنسية وخططهما العسكرية لأول مرة. وأساء جندساجا إدارة المعركة وإن كان قد حارب ببسالة. فلم يشترك في القتال إلا نصف جنده؛ لم يكن الإيطاليون مستعدين من الناحية العقلية لقتال محاربين لا يرحمون من يقع في أيديهم، فولى الكثيرون منهم الأدبار؛ وضرب فارس بايار وهو صبي في العشرين من عمره أروع المثل لرجاله(21/159)
بشجاعته ومجازفته في القتال، وحتى الملك نفسه قاتل قتال الأبطال. وكانت المعركة غير حاسمة ادعى فيها كلا الطرفين أنه هو الظافر، وخسر الفرنسيون قافلة مؤنهم ولكنهم ضلوا المسيطرين على الميدان، ولما جن الليل تقدموا نحو أستى دون أن يلقوا مقاومة، وفيها كان ينتظرهم لويس دوق أورليان الثالث ومعه المدد، وفي شهر أكتوبر عاد شارل إلى فرنسا بعد أن خسر الكثير من سمعته ولكنه لم يصب بأذى شديد.
وكانت النتائج الإقليمية لهذه المعركة تافهة: أهمها أن جندسالو Gonzalo " القائد العظيم" طرد الفرنسيين من نابلي وكلبريا، وأعاد أسرة أرغونة إلى عرشها في شخص فيديريجو Federigo الثالث (1496). أما النتائج البعيدة لهذا الغزو فقد تجاوزت كل حد. فقد أثبت تفوق الجيش القومي على الجنود المرتزقة المأجورة، ويستثنى من هذا الحكم العام الجنود السويسريون المرتزقون وإن يكن هذا الاستثناء مؤقتاً قصير الأجل. ذلك أن أولئك الجنود السويسريون المسلحين بالحراب البالغ طولها ثماني عشرة قدماً والمنظمين في فرق متراصة متلاصقة كانت سداً منيعاً شائكاً أمام الفرسان الزاحفين. ولهذا قدر لأولئك الجنود أن يكسبوا كثيراً من الوقائع. ولكن هذه القوة الهائلة التي أعادت إلى الذاكرة صفوف المقدونيين المتراصة في حروب الإسكندر الأكبر لم تلبث أن أضحت عديمة الجدوى أمام تقدم المدفعية. ولعل هذه الحرب هي التي حدث فيها لأول مرة أن وضعت المدافع على العربات فأمكن بذلك توجيهها بسهولة في الاتجاهات المختلفة وتغيير مدى مرماها. وكانت هذه العربات تجرها الخيول لا الثيران (كما كانت العادة في إيطاليا حتى ذلك الوقت). وقد جاء الفرنسيون إلى الميدان- كما يقول جوتشيارديني- بعدد كبير من "مدافع الميدان والمدافع المدمرة التي لم تر إيطاليا مثيلا لها من قبل" (3). وقاتل الفرسان الفرنسيون أحفاد أبطال فرواسار، قتال الأبطال في فورنوفو، ولكن الفرسان أيضاً ما لبثوا أن خضعوا للمدافع.(21/160)
وهكذا تبدلت الحال عما كانت في العصور الوسطى؛ فقد كانت فنون الدفاع في تلك الأيام متقدمة على وسائل الهجوم، وكان هذا سبباً في عدم تشجيع الحروب. أما الآن فقد أخذت أساليب الهجوم تتقدم على أساليب الدفاع، وأصبحت الحرب من ثم أكثر سفكاً للدماء. وثمة نقطة أخرى عظيمة الخطر: تلك هي أن حروب إيطاليا قلما كانت حتى ذلك الوقت تشغل أهلها أنفسهم، وكانت تلحق الأذى بحقولهم أكثر مما تلحقه بأرواحهم؛ أما الآن فقد قدر لهم أن يروا إيطاليا كلها يحل بها الدمار وتخضب أرضها بالدماء؛ وعرف السويسريون في تلك الحرب التي دامت طوال العام ما تنطوي عليه سهول لمباردي من خصب ونماء، وطالما غزوها بعدئذ المرة بعد المرة. وأدرك الفرنسيون أن إيطاليا منقسمة ومشتتة وأنها تنتظر المغير الفاتح. نعم إن شارل الثامن قد ألقى بنفسه في أحضان العاشقات، وكاد يمتنع عن التفكير في نابلي، ولكن ابن عمه ووريثه كان أصلب منه عوداً، وما لبث لويس الثاني عشر أن عاود الكرة.(21/161)
الفصل الثاني
تجدد الهجوم
1496 - 1505
وأضاف مكسمليان "ملك الرومان"- أي الألمان- فصلاً آخر إلى هذه المسرحية، فلقد كان يؤلمه ويقض مضجعه أن يفكر في أن عدوته الكبرى، أي فرنسا، تعظم وتقوى، وتطوقه باستيلائها على إيطاليا. وكانت قد ترامت إليه أخبار غنى هذه البلاد وجمالها وضعفها، ولم تكن قد أصبحت بعد دولة، بل كانت شبه جزيرة. وكانت له هو أيضاً ادعاءات ومطالب في إيطاليا؛ فقد كانت مدن لمباردي لا تزال من الوجهة القانونية إقطاعيات تابعة للإمبراطورية، وكان من حقه قانوناً بوصفه رئيس الإمبراطورية الرومانية المقدسة أن يعطيها لمن يشاء؛ ألم يَرشُه لدوفيكو بالفلورينات وببيانكا أخرى لكي يمنحه دوقية ميلان؟ يضاف إلى هذا أن كثيرين من الإيطاليين دعوه إلى المجيء: فلدوفيكو والبندقية قد طلبا إليه (1496) أن يدخل إيطاليا ويساعدهما على صد هجوم فرنسي آخر يهدد البلاد، ولبى مكسمليان الدعوة ومعه عدد قليل من الجند، واستطاعت البندقية بدهائها أن تقنعه بالهجوم على ليفورنو، فرضة فلورنس الأخيرة على البحر المتوسط، وبذلك يضعف هذه المدينة التي لا تزال متحالفة مع فرنسا ومنافسة على الدوام للبندقية، وأخفقت حملة مكسمليان لأنها كانت يعوزها التنسيق والتأييد الكافي، فعاد إلى ألمانيا دون أن يستفيد من هذا الدرس إلا الشيء القليل (ديسمبر سنة 1496).
وفي عام 1498 أصبح دوق أورليان هو لويس الثاني عشر. وإذ كان هو حفيد فالنتينا فسكونتي فإنه لم ينس قط ما كانت أسرته تدعيه من(21/162)
حقوق لها في ميلان؛ وإذ كان هو ابن عم شارل الثامن، فقد ورث مطالب آل أنجو في نابلي. ومن أجل هذا فإنه في يوم تتويجه اتخذ فيما اتخذ من ألقاب: دوق ميلان، وملك نابلي وصقلية، وإمبراطور بيت المقدس. وأراد أن يمهد السبيل لنفسه فجدد معاهدة سلام مع إنجلترا وعقد معاهدة مثلها مع أسبانيا؛ ثم أغرى البندقية فوقعت معه شروط حلف "للاشتراك في حرب ضد دوق ميلان لدوفيكو اسفوردسا وضد أي إنسان آخر عدا الحبر الأكبر بابا روما لكي يرد إلى صاحب الجلالة الملك المسيحي ... دوقية ميلان ملكه الشرعي القديم"، ووعدها في نظير ذلك بكريمونا، والأراضي الواقعة شرق أدا. ثم عقد بعد شهر من ذلك التاريخ (مارس 1499) اتفاقاً مع المقاطعات السويسرية لكي تمده بالجنود نظير إعانة مالية قدرها عشرون ألف فلورين. وفي شهر مايو استدرج الإسكندر إلى محالفته بأن أعطى سيزارى بورجيا زوجة فرنسية يجري في عروقها الدم الملكي، ودوقية فالنتنوا Valntinois وقطع له عهدا بأن يساعده على استرداد الولايات البابوية. وشعر لدوفيكو بالضعف أمام هذه الأحلاف؛ ففر إلى النمسا، ولم تمض إلا ثلاثة أسابيع حتى اختفت دوقيته بعد أن اقتسمتها البندقية وفرنسا، وفي السادس من شهر أكتوبر سنة 1499 دخل لويس ميلان ظافراً ورحبت به إيطاليا كلها تقريباً عدا نابلي.
والواقع أن إيطاليا بأجمعها عدا البندقية ونابلي أضحت وقتئذ تحت سيطرة فرنسا أو نفوذها؛ فقد أسرعت مانتوا، وفيرارا، وبولونيا وأعلنت خضوعها واستسلامها؛ وتمسكت فلورنس بحلفها مع فرنسا لأنها رأت فيه الوسيلة الوحيدة لحمايتها من سيزارى بورجيا. وحتى فرديناند ملك أسبانيا، رغم ما بينه وبين الأسرة الأرجونية من وشائج القربى، عقد في غرناطة (11 نوفمبر سنة 1500) ميثاقاً سرياً مع ممثلي لويس يتضمن الاشتراك معه في فتح جميع إيطاليا الواقعة جنوب الولايات البابوية.(21/163)
وعاونهما الإسكندر السادس الذي كان بحاجة إلى معونة فرنسا لاسترداد هذه الولايات، بأن أصدر مرسوماً بابوياً خلع به فيدريجو الثالث ملك نابلي وأيد تقسيم مملكته بين فرنسا وأسبانيا.
وفي شهر يوليه عام 1501 زحف جيش فرنسي بقيادة استيورت دوبيني Stuart Daubigny الاسكتلندي، وسيزاري بورجيا، وفرانتشيسكو دي سان سفرينو الذي غدر بلدوفيكو بعد أن كامن من المقربين إليه، زحف هذا الجيش مخترقاً إيطاليا إلى كابوا واستولى عليها ونهبها، وتقدم صوب نابلي، ورأى فيديريجو أن أنصاره جميعاً قد انقضوا من حوله فسلم المدينة إلى الفرنسيين نظير قبوله لاجئاً آمناً في فرنسا ومعاشاً سنوياً. وفي هذه الأثناء استولى القائد الأكبر جندسالو القرطبي Gonzalo de Cordoba على كالبريا وأبوليا باسم فرديناند وإزبلا. وأرسل فيرانتي بن فيديريجو سجيناً إلى أسبانيا بناء على طلب فرديناند، وذلك بعد أن سلم تارنتو Taranto ووعده جندسالا بأن سيطلق سراحه. ولما أن اتصل الجيش الأسباني بالجيش الفرنسي على الحدود الواقعة بين أبوليا وأبروتسي قام النزاع بينهما على الحد الفاصل بين ما استولى عليه كل منهما؛ وقامت الحرب بين أسبانيا وفرنسا على تقسيم الأسلاب. واغتبط بذلك الإسكندر أيما اغتباط (يوليه سنة 1502)، وقال البابا لسفير البندقية: "لو أن الله لم يثر الخلاف بين فرنسا وأسبانيا، لما عرفنا الآن أين نكون؟ ".
وابتسم الحظ للفرنسيين في هذه الحرب الجديدة إلى حين، فقد اجتاحت قوات دوبني جنوبي إيطاليا كله تقريباُ: وحبس جندسالو جنوده في مدينة بارليتا الحصينة. وهنا وقعت حادثة من حوادث العصور الوسطى الطريفة ألفت شيئاً من البهجة على هذه الحرب المشئومة (13 فبراير سنة 1503). ذلك أن ضابطاً فرنسيا وصف الإيطاليين بأنهم شعب مخنث جبان دنيء، فثار قائد إحدى الفرق الإيطالية في الجيش الأسباني لهذه الإهانة(21/164)
وطلب أن يقاتل ثلاثة عشر من الفرنسيين مثلهم من الإيطاليين. واتفق على هذا، وأرجئ القتال، ووقف الجيشان المتحاربان يشاهدان النزال، بينما كان المحاربون الستة والعشرون يقتتلون حتى أثخِن الفرنسيون الثلاثة عشر بالجراح التي أعجزتهم عن مواصلة البراز ووقعوا أسرى في أيدي الإيطاليين، وأخذت جندسالو الشهامة الأسبانية التي لا تقل في بعض الأحيان عن القوة الأسبانية، فاقتدى الأسرى من ماله الخاص وردهم إلى جيشهم (6).
وأعادت هذه الحادثة الروح المعنوية لجنود القائد الأكبر، فخرجوا من بارليتا، وهزموا المحاصرين وبددوا شملهم، ثم هزموا الفرنسيين مرة أخرى عند تشيرنيولو Cerignolo. وفي السادس عشر من شهر مايو سنة 1503 دخل جندسالو نابلي دون أن يلقى مقاومة، ورحب به أهلها، وهم اللذين يستطيع كل منتصر أن يعتمد دائماً على ترحيبهم، وسير لويس الثاني عشر جيشاً آخر لقتال جندسالو، فالتقى ذلك القائد به على شاطئ كارجليانو، وأوقع به هزيمة منكرة (29 ديسمبر سنة 1503)؛ وغرق بيرو ده ميديتشي الذي كان يفر مع الفرنسيين في أثناء الفوضى التي أعقبت هذه الهزيمة؛ ثم ضرب جندسالو الحصار على جيتا Gaeta آخر معاقل الفرنسيين في جنوبي إيطاليا؛ وعرض على من فيها شروطاً سخية سرعان ما قبلوها (أول يناير سنة 1504)؛ وأظهر من الوفاء في المحافظة على هذه الشروط بعد أن جرد الفرنسيين من سلاحهم ما جعلهم يلقبونه بالقائد الظريف لأنه خرج عن جميع السوابق أشد الخروج (7). وعقد لويس مع الأسبان معاهدة بلوا Blois (1505) ، التي أنقذ فيها شرفه ظاهرياً بأن نزل عن حقوقه في نابلي إلى قريبته جرمين ده فوا Germaine de Foix التي تزوجت بعدئذ فرديناند الأرمل وجاءت له بنابلي بائنة لها، وبذلك أضيف تاج نابلي وتاج صقلية إلى تيجان فرديناند النهم، وبقيت بعدئذ مملكة نابلي تابعة لأسبانيا حتى عام 1707.(21/165)
الفصل الثالث
حلف كمبريه
1508 - 1516
أضحى نصف إيطاليا الآن في أيدي الأجانب: فقد كان جزؤها الجنوبي ملكاً لأسبانيا، وجزؤها الشمالي الغربي الممتد من جنوى مجتازاً ميلان إلى حدود كريمونا في يدي فرنسا، وكانت الإمارات الصغرى خاضعة لنفوذ فرنسا، ولم يكن فيها بلد مستقل استقلالاً نسبياً سوى البندقية والولايات البابوية، ولطالما اشتبكتا في حري متقطعة للاستيلاء على مدن رومانيا. ذلك أن البندقية كانت تتوق إلى المزيد من الأسواق وإلى موارد الثروة في شبه الجزيرة لتعوض ما استولى عليه الترك من أسواقها ومواردها أو هددته طرق الملاحة البحرية إلى الهند عن طريق المحيط الأطلنطي. ولهذا اغتنمت فرصة موت الإسكندر ومرض سيزارى بورجيا للاستيلاء على فائنزا، ورافنا، وريميني، وأخذ يوليوس الثاني يضع الخطط لاستعادتها لنفسه؛ فأقنع لويس ومكسمليان في عام 1504 بأن يضعا حداً لنزاعهما الذي يخالف تعاليم الدين المسيحي، وأن ينضما إليه في مهاجمة البندقية، وأن يقتسما فيما بينهما أملاكها في شبه الجزيرة (8). ولم يجد مكسمليان في نفسه ما يمنعه من قبول هذا العرض، لكن خزائنه كانت خاوية، ولم تحقق هذه المؤامرة نتيجة ما. غير أن الفكرة ظلت تراود يوليوس وظل هو يحاول إخراجها إلى حيز الوجود.
ففي العاشر من ديسمبر دبرت مؤامرة كبرى في كمبريه ضد البندقية، انضم إليها الإمبراطور مكسمليان لأن البندقية كانت قد انتزعت جورتسا Goriza، وتريست، وبردينوني، وفيومي من سيطرة الإمبراطور، وتجاهلت حقوقه الإمبراطورية في فيرونا وبدوا، وأبت عليه وعلى جيشه(21/166)
الصغير حرية المرور إلى روما لتحقيق الهدف الذي طالما تمناه وهو أن يتوّجه البابا إمبراطوراً. وانضم لويس الثاني عشر إلى هذا الحلف لأن النزاع فجر بين فرنسا والبندقية حول اقتسام شمالي إيطاليا. وانضم إليه كذلك فرديناند ملك أسبانيا لأن البندقية أصرت على الاحتفاظ ببرنديزى، وأترانتو Otranto وغيرهما من ثغور أبوليا التي ظلت عدة قرون جزءا من مملكة نابلي، ولكن البندقية استولت عليها أثناء المتاعب التي لاقتها البندقية في عام 1495. وانضم يوليوس للحلف (1509) لأن البندقية لم تكتف برفض الجلاء عن رومانيا، بل إنها فضلا عن ذلك لم تتردد في الجهر برغبتها في الاستيلاء على فيرارا- التي تقر بأنها إقطاعية بابوية. وكانت الخطة التي وضعتها الدول الأوربية وقتئذ هي أن تستولي فيما بينها على جميع أملاك البندقية أرض إيطاليا، فتسترد أسبانيا ما كان لها من المدن على شاطئ البحر الأدرياوي، ويسترد البابا إقليم رومانيا، ويحصل مكسمليان على بدوا، وفيتشندسا وتريفيزو، وفريولي، وفيررنا، ويستولي لويس على بيرجامو وبريشيا، وكريما، وكريمونا، ووادي نهر أدا. ولو قدر النجاح لهذه الخطة لانمحت إيطاليا من الوجود، ولوصلت فرنسا وألمانيا إلى نهر البو، وكادت أسبانيا تصل إلى التيبر، ولأحاطت أملاك الأجانب بالولايات البابوية وضيقت عليها الخناق ولحُطمت البندقية التي كانت وقتئذ خط الدفاع ضد زحف الأتراك. ولم تتقدم دولة إيطالية لمعونة البندقية في هذه الأزمة الطاحنة، ذلك أنها كانت قد أغضبتها كلها تقريباً بجشعها، حتى أن فيرارا نفسها التي كانت ترتاب فيها بحق خذلتها وانضمت إلى الحلف، وعرض جندسالو النبيل، الذي أقاله فرديناند من منصبه بغلظة وجفاء، خدماته على البندقية ليكون قائداً لجيوشها، ولكن مجلس شيوخها لم يجرؤ على قبول هذا العرض، لأن أمله الوحيد في البقاء هو أن يفصل من الحلف أعضاءه واحداً بعد واحد.(21/167)
ولم تكن البندقية تستحق العطف وقتئذ لأنها وقفت بمفردها أمام قوات ضخمة لا قبل لها بها، ولأن أغنياءها الأوفياء وفقراءها المجندين كافحوا جنياُ إلى جنب بإصرار وعزم لا يكاد يُتصور، فانتصروا في الميدان نصرا كلفهم ما لا يطيقون. وعرض مجلس الشيوخ أن يرد فائنزا وريميني للبابوية، ولكن يوليوس الغاضب الثائر رد على هذا العرض بقرار الحرمان وأرسل جنوده ليستولوا من جديد على مدن إقليم رومانيا، بينما كان زحف الفرنسيين يرغم البندقية على تركيز قواتها في لمباردي. وهزم الفرنسيون البنادقة عند أنيادلو في معركة من أشد المعارك هولا وأكثرها إراقة للدماء في أيام النهضة (14 مايو سنة 1509)، قتل فيها ستة آلاف رجل في يوم واحد. واستدعى مجلس السيادة في ساعة محنته ويأسه جنوده إلى البندقية وتركوا الفرنسيين يحتلون أراضي لمباردي، وجلوا عن أبوليا ورومانيا، واعترفت فيرونا وفيتشندسا، وبدوا بأنها لم يعد في وسعها أن تحميها، وأطلقت لها كامل حريتها في أن تسلم للإمبراطور أو تقاومه حسبما تختار. وانقض مكسمليان بأكبر جيش شهدته تلك البلاد حتى ذلك الوقت- فقد كانت عدته نحو 36. 000 مقاتل- وضرب الحصار على بدوا. وسبب الفلاحون المحيطون بالمدينة لجيش الإمبراطور أكثر ما يستطيعون من المتاعب، وحارب أهل بدوا نفسها ببسالة تشهد بصلاح الحكم الذي كانوا يستمتعون به تحت راية البندقية. ونفذ صبر مكسمليان، وكان على الدوام شديد الحاجة إلى المال، فغادر الميدان وهو غاضب مشمئز إلى التيرول، وأصدر يوليوس أمره فجأة إلى جنوده أن ينسحبوا من الحصار، وعادت بدوا وفيتشندسا مختارتين إلى سيطرة البندقية، وسرح لويس الثاني عشر جيشه بعد أن حصل على نصيبه من الأسلاب.
وكان يوليوس قد أدرك قبل ذلك الوقت أن انتصار الحلف انتصاراً كاملاً إذا تم كان هزبمة للبابوية، لأنه يترك البابوات تحت رحمة دولتين(21/168)
من دول الشمال، وبدأت حركة الإصلاح الديني فيهما تفصح عن نفسها. ولهذا فإنه عندما عرضت عليه البندقية أن تجيبه إلى كل ما يطلب "قبل ما عرضته عليه وكان قد أقسم أنه لن يقبل" (1510). وبعد أن استرد كل ما يرى أنه ملك حق مشروع للكنيسة، أصبح حراً في أن يوجه غضبه نحو الفرنسيين الذين كانوا وقتئذ يسيطرون على لمباردي وتسكانيا، فكانوا بذلك جيراناً للولايات البابوية غير مرغوب فيهم. وأقسم وهو في ميرندولا ألا يحلق لحيته حتى يطرد الفرنسيين من إيطاليا. وهكذا طالت اللحية الفخمة الجليلة التي تظهر في صورة رافائيل. ونادى البابا وقتئذ في إيطاليا بذلك الشعار المثير: "ليخرج البرابرة! " Fuori I barbari!، ولكنه نداء جاء بعد فوات الأوان. واعتزم أن ينفذ خطته فألف في 11 أكتوبر سنة 1511 "حلف الوحدة المقدسة" منه ومن البندقية وأسبانيا، ثم ما لبث أن ضم إليه سويسرة وإنجلترا. ولم ينته شهر يناير سنة 1512 حتى استردت البندثية مدينتي بريشيا وبرجامو بمعاونة الأهلين الفرحين المستبشرين. واستبقت فرنسا معظم جنودها في بلادها للدفاع عنها إذا ما هاجمتها إنجلترا وأسبانيا.
غير أن قوة فرنسية واحدة بقيت في إيطاليا بقيادة شاب جريء في الثانية والعشرين من عمره من رجال البلاط يدعى جاستون ده فوا Gaston de Foix. ومل هذا الشاب الخمول والجمود، فسار على رأس جيشه وفك الحصار أولا عن بولونيا ثم هزم البنادقة في إيزولا دلال اسكالا Isoal della scala ثم استعاد بريشيا، وأحرز أخيراً نصراً مؤزراً ولكنه غالي الثمن عند رافنا (11 أبريل سنة 1512). وخضبت ميدان القتال دماء عشرين ألف قتيل، وأصيب جاستون نفسه، وهو يحارب في الصفوف الأمامية، بجراح مميتة.
ونال يوليوس بالمفاوضة ما كان قد خسره في ميدان القتال؛ فقد أقنع(21/169)
مكسمليان أن يوقع هدنة مع البندقية، وأن ينضم إلى الاتحاد الذي تألف لقتال فرنسا، وأن يستدعي الأربعة آلاف من الجنود الألمان الذين كانوا جزءاً من الجيش الفرنسي. ثم زحف السويسريون بتحريضه على لمباردي بقوة تبلغ عشرين ألفاً. وتقهقرت القوات الفرنسية، التي أفقدتها الانتصارات عدداً كبيراً من أفرادها، وتخلت عنها الفرقة الألمانية، أمام جحافل السويسريين والبنادقة والأسبان المحدقين بها، وارتدت إلى جبال الألب، بعد أن تركت حاميات قليلة في بريشيان، وكريمونا، وميلان، وجنوي. وهكذا استطاع الاتحاد المقدس بعد شهرين من الهزيمة التي كانت تبدو ماحقة في رافنا أن يطر الفرنسيين من أرض إيطاليا بفضل الدبلوماسية البابوية، وسماه الإيطاليون محرر إيطاليا.
وعقد المنتصرون مؤتمر مانتوا (في أغسطس سنة 1512) لتوزيع الأسلاب، وفيه أصر يوليوس على أن تعطى ميلان إلى مسيمليانو اسفوردسا Masaimiliano Sforza ابن لدوفيكو، ونالت سويسرا لوجانو Lugano والإقليم الواقع عند رأس بحيرة مجيوري؛ وأرغمت فلورنس على أن يسترد عرشها آل ميديتشي واستعاد البابا كل الولايات البابوية التي استولى عليها آل بورجيا، ثم حصل فضلا عن هذا على بارما، وبياتشند، ومودينا، ورجيو، ولم ينج من قبضة الحبر الأكبر إلا فيرارا. ولكن يوليوس أورث خلفه مشكل كثيرة. أولها أنه لم يطرد الأجانب حقيقة من إيطاليا: فقد كان السويسريون لا يزالون مستولين على ميلان بوصفهم حراساً لاسفوردسا؛ ولا يزال الإمبراطور يطالب بفيتشندسا وفيرونا مكافأة له، وأما فرديناند الكاثوليكي أكثر المساومين دهاء فقد دعم قوة أسبانيا في جنوبي إيطاليا. وكانت قوة فرنسا وحدها هي التي قضى عليها في إيطاليا. فقد سير لويس الثاني عشر جيشاً آخر للاستيلاء على ميلان، ولكن السويسريين بددوا شمله عند نوفارا Novara وقتلوا من رجاله ثمانية آلاف(21/170)
(6 يونيه سنة 1513). ولم يكن باقياً للويس عند وفاته من أملاكه الإيطالية التي كانت من قبل رحبة إلا موطئ قدم مزعزع في جنوى.
ولكن فرانسس الأول أراد أن يسترد هذه الأملاك جميعها. وكان إلى هذا قد سمع (كما يؤكد لنا برانتوم Brantome) أن سنيورا كليريتشي الميلانية Signore Clerice of Milan أجمل نساء إيطاليا، وتحرق شوقا إليها (9). ولهذا زحف في شهر أغسطس من عام 1515 على رأس جيش مؤلف من أربعين ألف رجل وتسلق بهم ممراً جديداً في جبال الألب؛ وكان ذلك أكبر جيش شهدته هذه المعارك. وتقدم السويسريون لملاقاته؛ ونشبت بين الجيشين معركة عنيفة في مارنيانو على مبعدة أميال قليلة من ميلان، ودامت يومين كاملين (13 - 14 ديسمبر سنة 1515). وحارب فيها فرانسس نفسه حرب الأبطال ومنحه الفارس بابار في ميدان المعركة نفسه لقب فارس تكريماً له واعترافاً ببسالته. وترك السويسريون وراءهم في أرض المعركة 13. 000 قتيل، وتخلوا هم واسفوردسا عن ميلان، ووقعت المدينة مرة أخرى غنيمة في أيدي الفرنسيين.
وطلب مستشارو ليو العاشر في تقبلهم وترددهم نصيحة مكسفلي. فحذرهم من أن يقفوا موقف الحياد بين الملك والإمبراطور بحجة أن البابوية ستكون حقيقة لا حول لها أمام المنتصر، كما لو كانت قد اشتركت في القتال؛ وأشار بعقد اتفاق مع فرنسا بوصفها أهون الشرين (10)، وأمر ليو بالعمل بهذه النصيحة؛ وفي الحادي عشر من ديسمبر عام 1515 اجتمع فرانسس والبابا في بولونيا ليضعا شروط الاتفاق. ووقع السويسريون صلحاً شبيهاً بهذا مع فرنسا؛ وانسحب الأسبان إلى نابلي؛ وحاقت الخيبة مرة أخرى بالإمبراطور، فسلم فيرونا للبندقية. وهكذا انتهت (1516) حروب حلف كمبريه الذي بدل فيه المشتركون مواقفهم كأنهم في مرقص؛ وعادت الأحوال في آخر الأمر في جوهرها كما كانت في أوله؛ ولم يفصل قط في(21/171)
شيء إلا في أن تكون إيطاليا هي الميدان الذي تتطاحن فيه الدول الكبرى وتنشب فيه بينها معركة أملا في السيادة على أوربا. وسلمت البابوية بارما وبياتشندسا لفرنسا، واستردت البندقية أملاكها في شمالي إيطاليا، ولكنها حل بها الخراب ماليا؛ وخربت إيطاليا ولكن الفنون والآداب ظلت فيها مزدهرة، سواء كان ذلك بدافع الحادثات المفجعة أو بقوة الماضي الرضي الهنيء. لكن المستقبل كان يخبئ لها أفدح الكوارث.(21/172)
الفصل الرابع
ليو وأوربا
1513 - 1521
ووضع مؤتمر بولونيا الهيبة الدبلوماسية في كفة، والجرأة والسطوة في كفة أخرى، وبقي أن تُعرف أية الكفتين هي الراجحة. وأقبل الملك الشاب الوسيم يزهو في معطفه الموشى بالذهب وفراء السمور، والنصر معقود لألويته، وجيشه من ورائه؛ يتوق إلى أن يلتهم إيطاليا عن آخرها، ولا يبقى فيها إلا البابا حارساً له على أملاكه؛ وليس لليو في مقابل هذا إلا سحر منصبه ودهاء آل ميديتشي. ومن ثم فإذا كان ليو قد أثار الملك على الإمبراطور، وانتقل من جانب إلى جانب بالحيلة والمراوغة، ووقع مع كل منهما المعاهدات ضد الآخر، إذا كان قد فعل هذا بحكم الظروف فليس لنا أن نغالي في وزن أعماله هذه بميزان العدالة الصارمة. ذلك أنه لم يكن لديه من السلاح ما يستخدمه لنيل أغراضه غير هذه الوسيلة، ولقد كان عليه أن يدافع عن تراث الكنيسة الذي وكل أمره إليه؛ ثم إن أعداءه كانوا هم أيضاً يستخدمون هذا السلاح نفسه بالإضافة إلى جيوشهم ومدافعهم.
ولقد بقيت الاتفاقات السرية التي عقدت في ذلك الاجتماع في طيات الخفاء إلى يومنا هذا. ويلوح أن فرانسس حاول أن يستدرج ليو إلى محالفته ضد أسبانيا؛ فطلب إليه ليو أن يمهله حتى يفكر في الأمر- وتلك هي الطريقة الدبلوماسية في الرفض؛ وسبب ذلك أن سياسة الكنيسة التقليدية التي طال عليها الأمد لا تسمح بأن تطوق دولة واحدة أملاكها من الشمال والجنوب (11). وكانت النتيجة الواضحة الوحيدة لاتفاق عام 1516 هي(21/173)
إلغاء قرار بورج التنظيمي The Praqmalie Sanction of Bourges. وكان هذا القرار المعقود في عام 1438 قد أقام مجلساً عاماً له السلطة العليا على البابوات ومنح ملك فرنسا حق تعيين ذوي المناصب الكنسية الكبرى في فرنسا. ووافق فرانسس على إلغاء هذا القرار، بشرط أن يبقى للملك حق الترشيح لهذه المناصب؛ وقبل ليو هذا الشرط. وقد يبدو أن هذا كان هزيمة للبابا، ولكن ليو حين قبله إنما كان يجري على سنة جرى بها العمل في فرنسا من عدة قرون؛ وكان يفعله هذا يوفق دون قصد بين الكنيسة والدولة في فرنسا توفيقاً لا يُبقي للملكية الفرنسية أسباباً مالية لتأييد حركة الإصلاح الديني. ثم إنه بهذا العمل قد وضع حداً للنزاع الذي طال عليه الأمد بين فرنسا والبابوية على سلطة المجالس والبابوات وحدود هذه السلطة.
واختتم المؤتمر بأن طلب الزعماء الفرنسيون إلى ليو أن يغفر لهم أنهم شنوا الحرب على سلفه؛ ووجه إليه فرانسس بهذه المناسبة الخطاب قائلاً: "أيها الأب المقدس! ليس لك أن تعجب من أننا كنا أعداء ليوليوس الثاني فقد كان هو على الدوام أعدى أعدائنا، ولم نلق في أيامنا خصما أقوى منه، ذلك بأنه كان في واقع الأمر قائدا بارعا ممتازاً، ولو أنه كان قائداً للجند، لكان أعظم منه بابا" (12). وغفر ليو ذنوب أولئك التائبين الأشداء على بكرة أبيهم، وباركهم، وكادوا في آخر الاجتماع أن يقطعوا قدميه تقبيلاً (13).
وعاد فرانسس إلى فرنسا تعلو هامته هالة من المجد، واستسلم زمناً ما للعشق واللهو. ولما مات فرديناند الثاني (1516)، فكر ملك فرنسا مرة أخرى في غزو نابلي، ولعله أراد أن يتخذ هذا العمل وسيلة مجيدة للتخلص من زيادة السكان في فرنسا. ولكنه مع ذلك عقد معاهدة للصلح مع شارل الأول حفيد فرديناند الذي أصبح الآن ملكاً على أرغونة، وقشتالة، ونابلي، وصقلية. فلما مات مكسمليان (1519)، ورشح حفيده شارل ليخلفه على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ظن فرانسس(21/174)
أنه أجدر بتاج الإمبراطورية من ملك أسبانيا البالغ من العمر تسعة عشر عاماً. وأخذ يسعى بنشاط لأن يفوز بالانتخاب لهذا المقام الرفيع. ووجد ليو نفسه مرة أخرى في أخطر المواقف. لقد كان يفضل أن يؤيد فرانسس، لأنه رأى أن اتحاد نابلي، وأسبانيا، وألمانيا، والنمسا، والأراضي الوطيئة، تحت سلطان مليك واحد، يوسع رقعة ملكه، ويزيد ثروته وعدد رجاله زيادة تخل بتوازن القوى، ذلك التوازن الذي كان فيه حتى ذلك الوقت وقاية للولايات البابوية. لكن اختيار شارل رغم معارضة البابا سينفر منه الإمبراطور الجديد في الوقت الذي يحتاج فيه أشد الاحتياج إلى معونته للقضاء على الفتنة البروتستينتية. وتردد ليو أطول مما يجب في أن يشعر الناخبين بنفوذه؛ واختير شارل الأول إمبراطورا وأصبح هو شارل الخامس. وواصل البابا سياسة توازن القوى فعرض على فرانسس أن يحالفه؛ ولما تردد الملك كما تردد هو من قبل وقع ليو على حين غفلة اتفاقاً مع شارل (8 مايو سنة 1521)، عرض عليه الإمبراطور الشاب فيه كل شيء تقريباً: عودة بارما وبياتشندسا، ومعونته ضد فيرارا ولوثر، وإعادة فتح ميلان وإعطائها إلى آل اسفوردسا، وحماية الولايات البابوية وفلورنس إذا هوجمت.
وتجدد القتال في شهر سبتمبر من عام 1521، وقال الإمبراطور في ذلك: "إني أنا وابن عمي فرانسس على تمام الوفاق؛ فهو يريد ميلان وأنا أريدها" (14). وتولى قيادة القوات الفرنسية في إيطاليا أوديه ده فوا Odet de Foix فيكونت لوتريه Vicomte de Lautrec. وكان فرانسس قد ولاه هذه القيادة بناء على رجاء أخته التي كانت في ذلك الوقت عشيقة الملك. وغضبت لويز أميرة سافوى Louise of Sovoy أم الملك من هذا التعيين وحولت في الخفاء المال الذي أعده فرانسس لجيش لوتريه إلى أغراض أخرى (15)؛ وامتنع من كان في ذلك الجيش من السويسريين عن القتال لمنع مرتباتهم عنهم. ولما اقترب من ميلان جيش بابوي قوي بقيادة القائد(21/175)
المحنك برسبيرو كولنا ماركيز بسكارا والمؤرخ جوتشيارديني، أثار أنصار الإمبراطورية من حزب الجبلين فتنة ناجحة بين الأهلين الذين كانوا يرزحون تحت أعباء الضرائب الفادحة، انسحب على أثرها لوتريه من المدينة إلى أملاك البندقية؛ واستولى جنود شارل وليو على المدينة وكادوا لا يريقون في سبيل ذلك قطرة دماء؛ وأصبح فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا وهو ابن آخر من أبناء لدوفيكو دوقاً لميلان تابعاً للإمبراطور، وكان في مقدور ليو أن يواجه الموت وهو في نشوة الانتصار.(21/176)
الفصل الخامس
أدريان السادس
1522 - 1523
وكان الباب قد خلفه غير ما كان عليه البابوات في روما إبان عصر النهضة: كان بابا عاقداً العزم على أن يكون رجلاً مسيحياً مهما كلفه ذلك من جهد. وكان مولده من أسرة وضيعة في أوترخت Utrecht (1459) ، وأشرب حب العلم والتقى من طائفة "إخوان الحياة المشتركة" في ديفنتر، Deventer والفلسفة المدرسية واللاهوت في لوفان Louvain؛ واختير في الرابعة والثلاثين من عمره مديراً لتلك الجامعة، ثم عين في سن السابعة والأربعين مربياً لشارل الخامس، وفي عام 1515 أرسل في بعثة إلى أسبانيا، وفيها أعجب فرديناند بمقدرته الإدارية، وباستقامته الخلقية إعجاباً حمله على تعيينه أسقفاً لطرطوشة. ولما توفي فرديناند ساعد أدريان الكردنال اكسمينس Ximenes على أن يحكم أسبانيا أثناء غيبة شارل؛ وفي عام 1520 أصبح نائباً للإمبراطور على قشتالة. وظل وهو يتدرج في معارج الرقي متواضعاً معتدلاً في كل شيء عدا قوة العقيدة، بسيطاً في معيشته، يتعقب الملحدين بحماسة جمعت قلوب الشعب على حبه. ووصلت أنباء فضيلته إلى روما فاختار ليو كردنالا، ولما انعقد المجلس المقدس بعد وفاة ليو رشح أدريان للجلوس على كرسي البابوية، وكان ذلك فيما يظهر على غير علم منه، وأكبر الظن أنه كان بتأثير شارل الخامس. وفي الثاني من شهر يناير سنة 1522 اختير للجلوس على كرسي البابوية رجل من غير الإيطاليين لأول مرة منذ عام 1378، ومن التيوتون لأول مرة منذ عام 1161.
ترى كيف يستطيع أهل روما وهم الذين لا يكادون يسمعون شيئاً عن أدريان يصفحون عن هذه الإهانة التي لحقت بهم باختياره بابا؟ لقد اتهم(21/177)
الشعب الكرادلة بأنهم طاشت أحلامهم،. وأنهم "خانوا دم المسيح" وأذيعت على الشعب منشورات يطلب فيها أصحابها أن يعرفوا كيف "استسلمت الفاتيكان لغضب الألمان" (16). وكتب أريتينو قصة كانت آية في الطعن والهجاء سمى فيها الكرادلة "غوغاء مدنسين"، ودعا الله أن يواروا الثرى أحياء (17). وغطى تمثال بسكوينو بالمطاعن والهجاء؛ وتوارى الكرادلة لأنهم كانوا يخشون أن يظهروا أمام الجماهير، وعزوا هذا الاختبار إلى الروح القدس الذي أوحى به إليهم على حد قولهم (18). وغادر كثير منهم مدينة روما فراراً من وقاحة الشعب وبطش الإصلاح الكنسي. أما أدريان فقد بقى هادئاً في أسبانيا ينجز فيها عمله الذي لم يكن قد تم بعد، وأبلغ الحكومة البابوية أنه لا يستطيع القدوم إلى روما قبل أن يحل شهر أغسطس. ولم يكن يعلم بفخامة الفاتيكان، فكتب إلى صديق له من أهل روما يطلب إليه أن يستأجر له بيتاً متواضعاً ذا حديقة ليقيم فيه. ولما قدم إلى المدينة آخر الأمر (ولم تكن عيناه قد وقعتا عليها من قبل)؛ روع وجهه الأصفر الزاهد وجسمه النحيل من شاهدوه، وبعثا في قلوبهم إجلاله ومهابته؛ ولكنه حين نطق وظهر للإيطاليين أنه لا يعرف اللغة الإيطالية، وأنه حين يتكلم اللاتينية يخرج الحروف من حلقه، فكان بذلك بعيداً كل البعد عن النغم الإيطالي العذب والرشاقة الإيطالية، لما فعل هذا امتلأت قلوب أهل روما غضباً ويأساً.
وأحس أدريان أنه سجين في الفاتيكان وأعلن أن ذلك القصر أبق بقسطنطين منه بالقديس بطرس، وأمر بوقف جميع أعمال الزخرفة في حجره، وأقال جميع أتباع رافائيل الذين كانوا يقومون بهذا العمل، وأبعد جميع السائسين الأربعمائة اللذين كان ليو يستخدمهم في إسطبلاته عدا أربعة منهم. ولم يبق من خدمه الخصوصيين إلا اثنين لا أكثر- كلاهما من الهولنديين- وأمرهما أن يخفضا نفقات بيته إلى دوقة واحدة (اثني عشر دولاراً ونصف(21/178)
دولار) في اليوم. واشمأزت نفسه مما شاهده في روما من الفساد الجنسي ومن بذيء القول والكتابة، وقال ما قاله لورندسو ولوثر من أن عاصمة المسيحية بؤرة أقذار ومظالم. ولم يكن يعنى أقل عناية بما عرضه عليه الكرادلة من روائع الفن القديم، وندد بالتماثيل ووصفها بأنها من بقايا الوثنية، وسور قصر بلفدير الذي كان يحتوي على أحسن مجموعة في أوربا من التماثيل الرومانية القديمة (19). وكان يفكر فوق ذلك أن يضيق الخناق على الكتاب الإنسانيين والشعراء، فقد خيل إليه أنهم يعيشون ويكتبون كما يعيش ويكتب الوثنيون الذين نفوا المسيح. ولما أن هجاه فرانتشيسكو بيرني بأقذع الألفاظ ووصفه بأنه هولندي همجي عاجز عن فهم ما ينطوي عليه الفن الإيطالي والآداب والحياة الإيطالية من ظرف ورقة، أنذره أدريان هو وأمثاله بأنه سوف يغرق جميع الهجائين في نهر الثيبر (20).
وكان هم أدريان الأول ومظهر عاطفته الدينية وتقواه في أثناء ولايته أن يعود بالكنيسة من حالها في أيام ليو إلى ما كانت عليه في عهد المسيح. ولهذا أتخذ أقصر الطرق دون مجاملة أو مداجاة لإصلاح ما استطاع أن يصل إليه من المفاسد الكنسية؛ فألغى ما لا ضرورة له من المناصب، واستخدم في ذلك من العنف ما كان في بعض الأحيان طيشاً منه وعدم بصيرة؛ وألغى العقود التي ارتبط بها ليو بأن يدفع معاشاً سنوياً لمن ابتاعوا مناصب في الكنيسة؛ وبذلك خسر 2550 ممن ابتاعوا هذه المناصب واستثمروا فيها أموالهم، خسروا رأس المال والفائدة إذا صح هذا التعبير، وتردت أصداء صرخاتهم في أرجاء روما ونادوا بأنهم قد خدعوا ونهبت أموالهم، وحاول أحد الضحايا أن يغتال البابا، وقال البابا لأقاربه الذين جاءوه يطلبون أن يعينهم في مناصب دينية ذات مرتبات مرغدة لا يقابلها عمل يقومون به- قال لهم ارجعوا واكسبوا العيش بالعمل الشريف، وقطع دابر الرشا ومنح المناصب للأقارب، وتعقب ما في الحكومة البابوية من فساد، وفرض(21/179)
عقوبات صارمة على الرشوة واختلاس الأموال العامة، وعاقب الكرادلة المذنبين بنفس العقوبات التي كان يوقعها على أصغر رجال الدين. وأمر الأساقفة والكرادلة أن يعودوا إلى مقر مناصبهم، وألقى عليهم دروساً في الأخلاق التي يريد منهم أن يتصفوا بها، وكان مما قاله لهم إن سمعة روما السيئة أضحت تلوكها الألسنة في جميع أنحاء أوربا. ولم يشأ أن يتهم الكرادلة أنفسهم بالرذيلة، ولكنه اتهمهم بأنهم يتركون الرذيلة تتفشى في قصورهم دون أن تلقى عقاباً. وطالبهم بأن يضعوا حداً لترفهم، وأن يقنعوا بإيراد أقصاه 6000 دوقة (75. 000 دولار) في العام. وكتب سفير البندقية في الفاتيكان وقتئذ يقول: "إن جميع رجال الكنيسة في روما قد ذهبت عقولهم من شدة الرعب، حين رأوا ما استطاع البابا أن يفعله في خلال ثمانية أيام" (21).
لكن الأيام الثمانية لم تكف لقطع دابر الفساد كما لم تكف لقطع دابره الثلاثة عشر شهراً من ولاية أدريان النشيطة. لقد أخفت الرذيلة رأسها إلى حين، ولكنها لم يقض عليها القضاء المبرم، ذلك أن الإصلاح قد ضايق العدد الجم من الموظفين، ولقي مقاومة مكبوتة، وأثار أملاً في أن يعجل الله منية أدريان. وأحزن البابا وأقض مضجعه عجز الإنسان عن أن يصلح الناس؛ وكثيراً ما جهر بقوله: "ما أكثر ما تعتمد مقدرة الإنسان وكفايته على العصر الذي يقوم فيه بأعماله! "- وقال لصديقه القديم هيز Heeze وهو قلق مضطرب الخاطر: "ما أكبر الفرق بين هذه الحياة وما كنا ننعم به من هدوء في لوفان! " (22).
وكان وهو في هذه المتاعب الداخلية يواجه بأقصى ما يستطيعه من شرف مشاكل السياسة الخارجية الخطيرة. فقد أعاد أربينو إلى فرانتشيسكو ماريا دلا روفيرى. وترك ألفنسو في فيرارا لا يزعجه شيء. ولما أن انتهز الطغاة المطرودون من بلادهم فرصة سياسة البابا السليمة فاستولوا على(21/180)
زمام السلطة في بيروجيا، وريميني وغيرهما من الولايات البابوية، أهاب أدريان بالإمبراطور شارل وبالملك فرانسس أن يتصالحا أو في القليل أن يتهادنا، ويشتركا في صد الأتراك الذين كانوا يستعدون لغزو رودس. ولكن شارل فضل أن يوقع مع هنري الثامن ملك إنجلترا معاهدة ونزر Windsor (19 يونية سنة 1522) التي تعهدا فيها بالاشتراك في الهجوم على فرنسا، وفي الحادي والعشرين من ديسمبر استولى الأتراك على رودس آخر معاقل المسيحية في شرقي البحر المتوسط، وترددت الإشاعات بأنهم يضعون الخطط للنزول بأبوليا والاستيلاء على إيطاليا المضطربة المختلة النظام. ولما اعتقل بعض الجواسيس الأتراك في روما بلغ الهلع بين السكان حداً أذكر الناس بالخوف الذي انتشر فيها حين توقعت أن يغزوها هنيبال بعد انتصاره في كاني عام 216 ق. م. وكان مما أترع الكأس ألما لأدريان أن الكردنال فرانتشيسكو سدريني كبير وزرائه وموضع ثقته، ونائبه الأول في المفاوضات التي كانت تهدف إلى عقد صلح أوربي، أخذ يدبر في السر مع فرانسس هجوماً فرنسياً على صقلية. ولما أن كشف أدريان المؤامرة، وترامى إليه أن فرانسس يحشد الجند على حدود إيطاليا، خرج عن الحياد وعقد حلفاً بين البابوية وشارل الخامس. وبعد أن تحطم جسمه وروحه على هذا النحو أصابه المرض ومات في الرابع عشر من سبتمبر عام 1623. وأوصى بتوزيع أملاكه على الفقراء، وكان آخر ما أصدره من التعليمات أن تكون جنازته هادئة قليلة النفقة.
وحيت روما موته ببهجة أعظم مما كانت تحيي بها المدينة نجاتها من الترك لو أنهم جاءوها فاتحين. وقال بعضهم إنه قد سم لمعاداته الفنون، وألصق أحد الماجنين على باب طبيب البابا رقعة كتب عليها بالإيطالية Liberratiori Patriae تليها الحروف الآتية S P Q R يعبر بها عن شكر مجلس الشيوخ وشعب روما "لمحرر الوطن". وكتب عدد لا حصر له من عبارات الهجاء(21/181)
لتسوئة سمعة الحبر المتوفى، فأتهم بالنهم، والسكر، وأفظع أنواع الفساد الخلقي، وبدل الحقد والسخرية كل عمل قام به في حياته فاصبح شراً وخبثاً، واحتفرت "صحافة" روما بما كان باقياً لها من حرية بمقالاتها في الطعن على البابا قبرها بنفسها. لقد كان مما يؤسف له أن أدريان لم يستطع أن يفهم النهضة على حقيقتها، ولكن عجز النهضة عن أن تسمح بوجود بابا مسيحي في عهدها كان أكثر من ذلك جرماً وأشد حماقة.(21/182)
الفصل السادس
كلمنت السابع
الفترة الأولى من حياته
ظل المجمع المقدس الذي اجتمع في أول أكتوبر سنة 1522 سبعة أسابيع في نزاع دائم حول اختيار من يخلف أدريان، ثم انتهى أخيرا بترشيح رجل كان بإجماع الآراء خير من يصلح لهاذ المنصب. كان جويليو ده ميديتشي ابنا غير شرعي للرجل الظريف جوليانو الذي خر ضحية مؤامرة باتسي من عشيقة له تدعى فيورنا ما لبثت أن اختفت من صفحات التاريخ. وأخذ لورندسو الغلام إلى بيته بين أسرته ورباه مع أبنائه؛ وكان منهم ليو الذي أعفي وهو باباجوليو من العقبة القائمة في سبيله، وهي أنه ابن غير شرعي، ثم عينه كبير الأساقفة في فلورنس، ثم رقاه كردنالا، ثم كان المدير الحازم لمدينة روما، وكبير وزراء حكومته البابوية. ولما بلغ كلمنت الخامسة والأربعين كان طويل القامة، وسيم الخلق، عظيم الثراء غزير العلم، حسن الآداب، طيب السيرة، يعجب بالآداب، والعلوم، والموسيقى، والفن، ويناصرها. ورحبت روما بارتقائه الكرسي البابوي بالفرح والابتهاج ورأت فيه دعوة إلى عهد ليو الذهبي، وتنبأ بمبو بأن كلمنت السابع سيكون خير من عرفتهم الكنيسة من حكامها وأعظمهم حكمة (33).
وبدأ عهده أحسن بداية، فوزع على الكرادلة جميع المناصب الدينية التي كانت له، والتي كانت تدر عليه دخلاً سنوياً مقداره 60. 000 دوقة. وقد(21/183)
جمع حوله قلوب العلماء والنساخين باجتذابهم إلى خدمته، أو نفحهم بالهبات، ووزع العدالة بين الناس بالقسطاس المستقيم، واستمع إلى كل من له شكاية، ومنح الصدقات بسخاء، إذا كان أقل من سخاء ليو فإنه كان أكثر منه حكمة، وسحر جميع القلوب بمجاملته كل إنسان وكل طبقة. وقصارى القول أن بابا من البابوات لم يبدأ حكمه بداية طيبة مثل بدايته ولم يختتمه بأسوأ من خاتمته.
وكان العمل الذي يواجه كلمنت وهو قيادة سفينة البابوية السياسية، الطريق المأمون بين فرانسس وشارل في حرب تكاد تكون حرب حياة أو موت، في الوقت الذي كان الأتراك يجتاحون فيه بلاد المجر، وكانت الثورة تشتعل نارها في ثلث أوربا ضد الكنيسة، كان هذا العمل أكثر مما تستطيعه مقدرة كلمنت كما كان أكثر مما تستطيعه مقدرة ليو. وخليق بنا أن نقول إن الصفات التي تبرزها الصورة الفخمة التي رسمها سبستيانو دل بيومبو لكلمنت في بداية حكمه صورة خادعة. ذلك أنه لم يظهر في أعماله تلك العزيمة الماضية التي تبدو واضحة في ملامح وجهه، وحتى في هذه الصورة يبدو شيء من الملل والضعف في الجفون المتعبة المنسدلة فوق العينين الضجرتين. والحق أن كلمنت قد اتخذ ضعف العزيمة خطة له وسياسة مرسومة. وكان يسرف في التفكير ويظنه خطأ بديلا من العمل، بدل أن يكون هادياً له ومرشداً. ولقد كان في وسعه أن يجد مائة سبب وسبب لاتخاذ قرار بإبرام أمر من الأمور، ومائة سبب وسبب مثلها تبرر عدم إبرامه، وكأنما أغبى المخلوقات طُراً يجلس على عرش البابوية. وقد هجاه بيرني في أبيات مريرة تتنبأ بحكم الحلف عليه فقال:
بابوية تتألف من التحيات،
والمناقشات، والاعتبارات، والمجاملات
ومن عبارات أكثر من هذا، ومن ثم، ونعم، وحسن، وربما،(21/184)
وقد يكون، وما إليها من الألفاظ المتناقضة ...
ومن قدمين ثقيلتين كالرصاص، وحياد بارد خامل ...
وإن شئت الحق الصريح، فإنك ستعيش لترى.
البابا أدريان وقد نودي به قديساً بفضل هذه البابوية (24).
واتخذ له من المستشارين جيان ماتيو جيرتى Gianmatteo Giberti الذي كان يميل إلى فرنسا، ونيقولوس فن اسكونبرج Nikolaus von Segonberg الذي كان يميل إلى الإمبراطورية، وترك عقله مشتتاً بين الرجلين، ولما أن قرر الانحياز إلى فرنسا- قبل أسابيع قليلة من الكارثة التي حلت بها في بافيا- استنزل على رأسه وعلى بلده كل ما يتصف به شارل من مكر ودهاء، وكل ماله من قوة، وكل ما يثور في قلوب الجيش البروتستنتي من غضب دفين صبه على روما.
وكانت الحجة التي يبرر بها كلمنت موقفه أنه يخشى قوة الإمبراطور وفي يده لمباردي ونابلي؛ ويرجو بانحيازه إلى فرنسا أن يحصل على صوتها حين يعرض شارل فكرته التي تراوده وتقلق خاطره وهي تأليف مجلس عام في أمور الكنيسة. ولما عبر فرانسس جبال الألب بجيش جديد قوامه 26. 000 من الفرنسيين، والإيطاليين، والسويسريين، والألمان، واستولى على ميلان، وحاصر بافيا، وقع كلمنت سراً شروط حلف مع فرانسس (12 ديسمبر سنة 1524) في الوقت الذي كان يؤكد فيه لشارل وفاءه ومودته؛ ثم ضم فلورنس والبندقية إلى هذا الحلف، وأجاز لفرانسس المنتصر على كره منه أن يجمع الجند من الولايات البابوية. وأن يرسل جيشاً ليحارب نابلي مخترقاً أراضي البابا. ولم يغفر له شارل قط هذه الخديعة، وأقسم قائلاً: "لأذهبن إلى إيطاليا، وأثأر لنفسي ممن أساءوا إلي، وعلى رأسهم البابا الجبان النذل. ولعل مارتن لوثر سيصبح رجلا ذا شأن في يوم من الأيام" (25). وفكر بعض الناس وقتئذ في اختيار لوثر(21/185)
بابا، وأشار عدد ممن يحيطون بالإمبراطور أن يطعن في اختيار كلمنت بحجة أنه ابن غير شرعي (26).
وسير شارل جيشاً ألمانياً بقيادة جورج فن فرندسبرج Georg von Frundsberg وماركيز بيسكارا Marquis of Pescara ليهاجم الفرنسيين خارج بافيا. وعطلت الحركات العسكرية الضعيفة عمل المدفعية الفرنسية، في الوقت الذي كانت فيه نيران البنادق الأسبانية تهزأ برماح السويسريين؛ وكاد الجيش الفرنسي أن يفنى عن آخره في موقعة من أشد المواقع الحاسمة في التاريخ (24 - 25 من فبراير سنة 1525). وسلك فرانسس في هذه المحنة مسلك الشهامة والكرامة: فبينما كان جيشه يتقهقر إذا هو يقفز في وسط صفوف العدو ويقتل بيده منهم مقتلة عظيمة؛ ولما قتل جواده من تحته لم ينقطع عن القتال، حتى إذا خارت قواه آخر الأمر، ولم يعد يقوى على المقاومة، وقع في الأسر مع عدد من ضباطه. وكتب من خيمة بين المنتصرين إلى أمه رسالة كثيراً ما يقتبس نصف عباراتها المقتبسون، قال فيها "لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف- وإلا بدني فهو سليم". وأمر شارل وكان وقتئذ في أسبانيا أن يرسل الملك ليسجن في قلعة قرب مدريد.
وانحازت ميلان إلى الإمبراطور، وشعرت إيطاليا كلها أنها أصبحت تحت رحمته، ونفحته دولة إيطالية في إثر دولة بالرشا المختلفة لكي يسمح لها بالبقاء. وخشي كلمنت أن يغزو جيش الإمبراطور بلاده، وأن يثور الشعب في فلورنس على آل ميديتشي، فخرج من حلفه مع فرنسا وأمضى (في أول أبريل سنة 1525) معاهدة مع شارل ده لانوى Charles de Lannoy عامل شارل على نابلي، تعهد فيها البابا والإمبراطور بأن يتعاونا فيما بينهما؛ فيحمي الإمبراطور آل ميديتشي في فلورنس ويرضى أن يقيم فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا نائباً عنه في ميلان؛ على أن يدفع البابا لشارل مقابل إهاناته السابقة له، وضماناً لخدمات الإمبراطور المستقبلية، مائة ألف دوقة(21/186)
(1. 250. 000 دولار) (27)، كانت الجيوش الإمبراطورية في أشد الحاجة إليها، ولم يمض بعدئذ إلا قليل من الوقت حتى أغض كلمنت البصر عن مؤامرة دبرها جيرولومو موروني Girolomo Morone لتحرير ميلان من سيطرة الإمبراطور. وكشف مركيز إبيسكارا سر هذه المؤامرة لشارل، وزج موروني في السجن. وعامل شارل فرانسس الأسير بالمماطلة التي يعامل بها السنور الفأر الواقع في قبضته، ذلك أنه بعد أن خدر أعصابه بسجنه ومجاملته أحد عشر شهراً، وافق على أن يطلق سراحه مشترطاً عليه ذلك الشرط المستحيل التنفيذ، وهو أن يسلم الملك كل ما لفرنسا من الحقوق، ثابتة كانت أو مزعومة، على جنوى، وميلان، ونابلي، وفلاندرز، وآرتوا، وتورناي، وبرغندية، ونبره (نافار)؛ وأن يمد فرانسس شارل بما يحتاجه من السفن والرجال لتسيير حملة على روما أو على الأتراك، وأن يتزوج فرانسس إليانورا أخت شارل، وأن يسلم الملك أكبر ابنيه وهما فرانسس البالغ من العمر عشر سنين، وهنري البالغ تسعاً إلى شارل ليكونا رهينتين عنده ضماناً للوفاء بهذه الشروط. ووافق فرانسس على هذه الشروط كلها بمقتضى معاهدة مدريد (14 يناير سنة 1526). وأكد هذه الموافقة بأغلظ الأيمان، وإن كان ضميره ياجي ويوارب. وسمح له بعدئذ في السابع عشر من مارس أن يعود إلى فرنسا تاركاً ولديه سجينين في مكانه. فلما وصل إليها أعلن أنه لا ينوي الاستمساك بالوعود التي بذلها تحت الضغط والإرهاب، وأعفاه كلمنت مستعيناً بالقانون الكنسي من التمسك بإيمانه، وفي الثاني والعشرين من مايو وقع فرانسس، وكلمنت، والبندقية، وفلورنس، وفرانتشيسكو ماريا اسفوردسا حلف كنياك، وتعهدوا فيه بإرجاع آستي، وجنوي إلى فرنسا، وإعطاء اسفوردسا ميلان إقطاعية فرنسية، وأن ترد إلى كل ولاية إيطالية كل ما كان لها من أملاك قبل الحرب، وأن يُفتدى الأسرى الفرنسيون بمليو كرون، وان تمنح نابلي(21/187)
لأي أمير إيطالي يرضى أن يؤدي عنها إلى ملك فرنسا جزية سنوية مقدارها 75. 000 دوقة. ووجهت دعوة رقيقة إلى الإمبراطور لتوقيع هذا الاتفاق؛ وقرر الحلف الجديد أنه إذا رفض الإمبراطور توقيع شروطه، حاربه حتى يطرد هو وجميع قواته من إيطاليا (28).
وندد شارل بالحلف وأعلن أنه يناقض الأيمان المقدس الذي أقسمه فرانسس، كما يناقض شروط المعاهدة التي وقعها كلمنت مع لانوى. وإذ كان هو غير قادر على الذهاب إلى إيطاليا في ذلك الوقت، فقد كلف هوجو ده منكادا Hugo de Moncada بأن يجتذب كلمنت إلى صفه بالوسائل الدبلوماسية، فإذا عجز أثار ثورة على البابا يقوم بها آل كولنا وسكان روما. وقام منكادا بهذه المهمة أحسن قيام، وأوثق صلات المودة بين كلمنت وآل كولنا، وأقنع البابا بأن يسرح الجنود الذين يقومونه بحراسته، وسمح لآل كولنا بأن يمضوا في تآمرهم للاستيلاء على روما. وبينما كانت المسيحية ماضية في الغدر والاقتتال على هذا النحو، كان الأتراك بقيادة سليمان القانوني يضربون أهل المجر الضربة القاسية في موهاكس Mohacs (29 أغسطس سنة 1526)، ويستولون على بودابست (10 سبتمبر). وارتاع كلمنت لخوفه من أن لا تصبح أوربا بروتستنتية فحسب، بل مسلمة أيضاً، فأعلن إلى الكرادلة أنه يفكر في الذهاب إلى برشلونة بنفسه ليطلب إلى شارل أن يعقد الصلح مع فرانسس، وأن يضم العاهلان قواتهما لمحاربة الأتراك. وكان شارل في ذلك الوقت يجهز أسطولاً، يقصد به كما قيل في روما، أن يغزو إيطاليا ويخلع البابا (29).
وفي العشرين من سبتمبر دخل آل كولنا روما ومعهم خمسة آلاف جندي، وتغلبوا على ما لقوا من مقاومة ضعيفة، ونهبوا قصر الفاتيكان، وكنيسة القديس بطرس، وبورجو فتشيو القريبة منها، وفر كلمنت إلى قلعة سانت أنجيلو. وجرد قصر البابا من كل ما فيه بما في ذلك الصور(21/188)
التي رسمها رافائيل على أقمشة الجدران وسرق تاج البابان فسه، والأواني المقدسة، والمخلفات المدخرة، والملابس البابوية الثمينة؛ وخرج جندي استخفه المرح فارتدى ثوب البابا الأبيض، وقلنسوته الحمراء، وأخذ يوزع البركات البابوية بوقار ساخر (30). وفي اليوم التالي رد منكادا لكلمنت التاج البابوي، وأكد له أن الإمبراطور لا يضمر للبابوية إلا الخير، وأرغم البابا المرتاع أن يوقع هدنة مع الإمبراطورية تدوم أربعة أشهر، وأن يعفو عن آل كولنا.
ولم يكد منكادا ينسحب إلى نابلي حتى حشد كلمنت قوة بابوية جديدة قوامها سبعة آلاف جندي، أمرها في آخر شهر أكتوبر بأن تزحف على حصون آل كولنا، وطلب في الوقت نفسه إلى فرانسس الأول وهنري الثامن أن يمداه بالعون، فأما فرانسس فقد بعث إليه يعتذر ويسوف، وأما هنري فقد كان منهمكا في الواجب الثقيل واجب إنجاب ابن يخلفه، ولهذا لم يرد بشيء. وكان ثمة جيش بابوي آخر في الجنوب أعجزته عن العمل سياسة التسويف الغادرة في ظاهرها التي جرى عليها فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الذي لم ينس أن ليو العاشر أخرجه من دوقيته، ولم يكن يرى في سماح أدريان وكلمنت له بالعودة إليها والبقاء فيها فضلا لهما كبيراً يشكره لهما. وكان مع هذا الجيش قائد أعظم منه بسالة هو الشاب جيوفني ده ميديتشي الوسيم الخلق ابن كترينا اسفوردسا الذي ورث عنها روحها العالية والذي سمى جيوفني دلي باندي نيري- جيوفني ذا الرباط الأسود- لأنه هو وجنوده قد لبسوا شرائط سوداً حزناً على موت ليو (31). وكان جيوفني هذا يتحرق شوقاً إلى قتال ميلان، ولكن فرانتشيسكو ماريا تغلب عليه.(21/189)
الفصل السابع
نهب رومة
1527
وكان شارل لا يزال مقيماً في أسبانيا يحرك منها بيادقه التي يسيطر عليها سيطرة الساحر من بعيد. ومنها أمر عماله بأن يحشدوا جيشاً جديداً. فاتصل هؤلاء بجورج فن فرندنسبرج الزعيم التيرولي المغامر، الذي كانت جنوده الألمانية المرتزقة قد ذاعت شهرتها في الآفاق. ولم يكن في وسع شارل أن يعرض على هذا الزعيم المغامر وجنوده إلا القليل من المال، ولكن عماله منوهم بالنهب الكثير في إيطاليا. وكان فرندسبرج لا يزال كاثوليكيا بالاسم، ولكنه كان شديد العطف على لوثر، ويكره كلمنت لأنه في رأسه عدو الإمبراطورية اللدود. ورهن هذا الزعيم المغامر قصره وسائر أملاكه، وحتى حلى زوجته نظير مبلغ 38. 000 جولدن (1). واستطاع بهذا المال أن يجمع عشرة آلاف من الرجال الراغبين أشد الرغبة في المغامرة والنهب، ليس منهم من يتردد أن يحطم حربته فوق رأس البابا؛ ويقال إن منهم من كان يحمل حبلا معقوداً ليشنقه به (32). وفي نوفمبر من عام 1526 عبر هذا الجيش المرتجل الجبال وزحف على بريشيا، وجازى ألفنسو دوق فيرارا البابوية على ما بذلته من جهود متكررة لخلعه، بأن أرسل إلى فراندسبرج أربعة من أقوى مدافعه. وحدثت مع الغزاة مناوشة بالقرب من بريشيا أصيب فيها جيوفني دلي باندي بالرصاص؛ ومات في مانتوا في 30 نوفمبر وهو في السادسة والعشرين من عمره. ولم يبق بعد وفاته من يمنع دوق أربينو من أن يفعل أي شيء يريد.
_________
(1) عملة ألمانية وهولندية قديمة تعادل الفلورين، أي ما يقرب من نصف جنيه. (المترجم).(21/190)
وعبر غوغاء فرندسبرج نهر ألبو كما فعل جوفني ونهبوا حقول لمباردى الغنية نهباً بلغ من شدته أن السفراء الإنجليز وصفوا أرضه بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت بأنها "أشقى أرض وجدت في العالم المسيحي في وقت من الأوقات" (33). وكان قائد جيش الإمبراطور وقتئذ في ميلان هو شارل دوق بوربون، الذي عين وقتئذ قائداً أعلى للجيوش الفرنسية لما أظهره من البسالة في مارنيانو. وكان شارل هذا قد خرج على فرانسس حين حرمته أم الملك، حسب اعتقاده، من أراضيه الخاصة؛ فانحاز إلى الإمبراطور، وكان له نصيب في هزيمة فرانسس في بافيا، وعين دوقاً لميلان. وأراد وقتئذ أن يجند جيشاً لمساعدة شارل ويؤدي له مرتباته، ففرض من الضرائب على أهل ميلان ما كاد يقتلهم قتلا، وكتب إلى الإمبراطور يقول إنه استنزف دماء المدينة؛ وكان جنوده الذين أسكنهم في بيوت أهلها لا يفتئون يضايقون بالسرقة، والمعاملة الوحشية، وهتك الأعراض، مما حمل كثيرين منهم على أن يشنقوا أنفسهم أو ينتحروا بإلقاء أنفسهم من الأماكن العالية في الشوارع (34) وفي أوائل شهر فبراير من عام 1527 خرج بوربون على رأس جيشه من ميلان، وضمه إلى جيش فرندسبرج بالقرب من بياتشندسا. واتجه هذا الجيش المختلط الذي بلغت عدته الآن 22. 000 جهة الشرق متتبعاً طريق إيميليا، متجنباً المدن الحصينة، ولكنه ينهب كل ما يجده في طريقه ويترك البلاد وراءه قاعاً صفصفاً.
ولما تبين كلمنت أن ليس لديه من الجنود ما يكفي لصد الغزاة، توسل إلى لانوي أن يعمل لعقد هدنة. وجاء هذا الحاكم من نابلي ووضع شروط هدنة مدتها ثمانية أشهر: وتتضمن أن يقف كلمنت وكولنا الحرب ويتبادلا ما فتحاه من الأرضين. ودفع البابا ستين ألف دوقة يرشو بها جيش فرندسبرج حتى يبقى خارج الولايات البابوية. ورأى كلمنت أنه أوشك على الإفلاس، وظن أن فرندسبرج وبوربون سيراعيان شروط الاتفاق الذي(21/191)
وقعه نائب الإمبراطور بشرف وأمانة، فخفض جيش روما إلى ثلاثمائة جندي لا أكثر. غير أن جنود بوربون السارقين النهابين ثاروا غضباً حين سمعوا بشروط الهدنة. ذلك أنهم ظلوا أربعة أشهر يقاسون آلاف الصعاب وكل ما يأملونه هو نهب روما؛ وكانت كثرتهم الغالبة ترتدي الآن أسمالا بالية، وتمشي حافية الاقدام؛ وكانوا كلهم جياعاً ولم يتناول منهم أحد مرتبه. ولهذا أبوا أن يُشتروا بمبلغ تافه لا يزيد على ستين ألف دوقة، يعرفون أنه لن يصل إلى جيوبهم منه إلا جزء قليل. وإذ كانوا يخشون أن يوقع بوربون شروط الهدنة، فقد حاصروا خيمته، ورفعوا عقيرتهم قائلين: "الأجور! الأجور! " واختفى بوربون في مكان آخر، ونهب الجند خيمته، وحاول فرندسبرج أن يهدئ ثورة غضبهم، ولكنه أصابته نوبة تشنجية في أثناء هذه المحاولة. ولم يشترك بعدها في الحملة حتى مات بعد عام واحد من ذلك الوقت. وتولى بوربون القيادة العليا على شرط أن يزحف على روما. وفي التاسع والعشرين من مارس بعث برسله إلى لانوي وكلمنت يبلغهما أنه لا يستطيع كبح جماح جنوده، ولهذا فهو مرغم على نقض الهدنة.
وأدركت روما أخيراً أنها هي الفريسة الضعيفة المقصودة. وفي يوم خميس الصعود (8 أبريل) بينما كان كلمنت يمنح بركته لجموع محتشدة تبلغ عشرة آلاف نفس أمام كنيسة القديس بطرس، إذ صعد شخص متعصب متهور، لا يلبس إلا ميدعة من الجلد، فوق تمثال القديس بولص وصاح في وجه البابا قائلا: "أيها النّغل اللائط! إن روما ستدمر بسبب خطاياك؛ فكفر عن ذنوبك وارجع عن غيك! وإذا لم تصدقني فسترى بعد أربعة أشهر ما يحل بها". وفي مساء يوم عيد الفصح أخذ هذا الزاهد الناسك- بارتولميو كاروسي Bartolommeo Carosi الذي يطلق عليه اسم براندانو Brandano- يطوف بالشوارع وهو يصيح: "روما، كفري(21/192)
عن ذنوبك! إنهم سيعاملونك كما عامل الله سدوم وعمورة" (35).
وأرسل بوربون إلى كلمنت يطلب 240. 000 دوقة، ولعله كان يأمل أن يرضي جنوده بهذه الزيادة الكبيرة في ماله؛ فرد عليه كلمنت بأنه عاجز كل العجز عن جمع هذه الفدية الضخمة. وزحف الجحفل اللجب إلى فلورنس، ولكن جوتشارديني دوق أربينو. ومركيز سالتسو كانا قد حشدا من الجنود ما يكفي للدفاع عن حصونها دفاعاً قوياً؛ ولهذا ارتدت تلك الجحافل خاسرة، واتخذت طريقها إلى روما. ووجد كلمنت أن الهدنة غير كفيلة بنجاته، فانضم إلى حلف كنياك المناوئ لشارل، وطلب المعونة من فرنسا، ودعا أغنياء روما أن يسهموا في جمع المال اللازم للدفاع عنها، فكانوا أشحاء في الاستجابة إلى رغبته، واقترحوا عليه طريقة أجدى عنها، فكانوا أشحاء في الاستجابة إلى رغبته، واقترحوا عليه طريقة أجدى من هذه وهي بيع القلانس الحمر (1). ولم يكن كلمنت قد باع المناصب بالمال إلى جماعة الكرادلة، ولكنه أخذ بهذا الاقتراح حين وصل جيش بوربون إلى فيتربو التي لا تبعد عن روما بأكثر من اثنين وأربعين ميلا، وباع ستة من هذه المناصب. وقبل أن يؤدي المرشحون المال أبصر البابا من نوافذ الفاتيكان الجحافل الجياع تتقدم مجتازة حقول نيرون، وكان لديه في ذلك الوقت أربعة آلاف جندب يدفعون عن روما ضد عشرين ألفاً من المهاجمين.
وفي السادس من مايو اقتربت جموع بوربون من الأسوار مستترة بالضباب، ولكنها صدت عنها بوابل من الرصاص، وأصيب بوربون نفسه برصاصة قضت عليه لساعته تقريباً. ولكن هذا لم يمنع المهاجمين من أن يعاودوا الهجوم، لأنهم لم يكن أمامهم غير واحدة من اثنتين، فإما أن يستولوا على روما وإما أن يموتوا جوعاً. واتفق أن عثروا على موقع ضعيف في خط الدفاع، فاخترقوه عنوة، وتدفقوا إلى داخل المدينة،
_________
(1) قلانس الكرادلة- أي بيع مناصبهم بالمال. (المترجم)(21/193)
وحارب حرس رومة، والحرس السويسري ببسالة، ولكنهما أبيدا عن آخرهما. وفر كلمنت، ومعظم الكرادلة المقيمين في المدينة ومئات من الموظفين إلى قلعة سانت أنجيلو حيث حاول تشيليني وغيره أن يوقفوا زحف الغزاة بنار المدفعية. ولكن الغزاة دخلوا المدينة من اتجاهات مختلفة أوقعت الارتباك في صفوف المدافعين، فمن المهاجمين من سترهم الضباب، ومنهم من اختلطوا بالفارين اختلاطاً لم تستطع معه مدافع القلعة أن تضربهم من غير أن تقتل معهم التي فقدت قوتها المعنوية، وما لبثت المدينة أن أصبحت تحت رحمة الغزاة.
ولما اندفع هؤلاء في شوارعها أخذوا يقتلون كل من واجهوه في طريقهم دون أن يفرقوا بين الرجال، والنساء، والأطفال. واشتد تعطشهم إلى سفك الدماء، فدخلوا مستشفى سانتو اسبيرتو (الروح القدس) وملجأ اليتامى فيه، وذبحوا كل من فيهما من المرضى كلهم تقريباً. ثم اتجهوا إلى كنيسة القديس بطرس، وذبحوا من لجأوا إلى هذا الحرم المقدس، ونهبوا بعدئذ كل ما استطاعوا أن يصلوا إليه من الكنائس والأديرة، وحولوا بعضها إلى إسطبلات لخيولهم، وقتلوا مئات من القساوسة، والرهبان، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وجردت كنيسة القديس بطرس والفاتيكان من أعلاهما إلى أسفلهما من كل ما فيهما، وربطت الخيول في حجرة رافائيل (36). ونهب كل بيت في روما وحرق الكثير منها عجا اثنين لا أكثر هما قصر الكانتشيلريا Cancelleria الذي كان يشغله الكردنال كولنا، وقصر آل كولنا الذي لجأت إليه إزبلادست، ومعها بعض أغنياء التجار، ونفح هؤلاء زعماء الغوغاء بخمسين ألف دوقة لينجوهم من الهجوم، ثم سمحوا لألفين من اللاجئين أن يحتموا وراء الأسوار. وأدى كل قصر من القصور الفدية نظير حمايته، ولكن هذه القصور نفسها هاجمتها جماعات أخرى واضطرت أن تفتدي نفسها من جديد. وقد حدث في معظم البيوت أن(21/194)
اضطر من فيها جميعاً إلى افتداء أنفسهم بمبلغ محدد؛ فإذا لم يوفوا به كله تعرضوا لألوان من العذاب، وقتل منهم آلاف، وألقى بالأطفال من النوافذ العليا، لكي يضطر آباؤهم إلى إخراج ما اكتنزوه من المال وأخفوه، حتى غصت الشوارع بالقتل. وشهد الثرى دومينيكو صاحب الملايين بعينيه أبناؤه يقتلون، وابنته يهتك عرضها، وبيته يحرق، ثم انتهى الأمر بقتله هو نفسه. ويقول بعض الواصفين: "ولم تكن في المدينة كلها نفس فوق الثالثة من العمر لم تضطر إلى أن تبتاع سلامتها بالمال" (37).
وكان نصف الغوغاء المنتصرين من الألمان، لم يكن يشك معظمهم في أن البابوات والكرادلة لصوص، وأن ثروة الكنيسة في روما سرقة ونهب من الأمم، وفضيحة للعالم. وأرادوا هم أم يخففوا من هذه الفضيحة، فاستولوا على جميع ما في الكنائس من ثروة منقولة بما فيها الأواني المقدسة، والتحف الفنية، وخرجوا بها ليذيبوها أو يفتدوا بها أنفسهم، أو يبيعوها. أما المخلفات المقدسة فقد تركوها مبعثرة على الأرض. وارتدى أحد الجنود الأثواب البابوية، ولبس غيره قلانس الكرادلة، وقبلوا قدميه، ونادى جماعة من الغوغاء في الفاتيكان بلوثر بابا. وكان اتباع مذهب لوثر من الغزاة يجدون لذة خاصة في نهب أموال الكرادلة، وتقاضى فديات عالية منهم نظير تركهم أحياء، وتعليمهم مراسم دينية جديدة. ويقول جوتشارديني إن بعض الكرادلة "أركبوا دواب قذرة حقيرة، وأديرت وجوههم نحو ذيولها وعليهم ملابس مناصبهم وشاراتها، وطاف الغوغاء ببعضهم في شوارع المدينة معرضين لأقسى ضروب السخرية والاحتقار. وعذب بعض من لم يستطيعوا جمع كل ما طلب إليهم من مال الفداء تعذيباً قضى على حياتهم في التو والساعة أو بعد أيام قلائل" (38). وانزل أحد الكرادلة في قبر من القبور وهدد بأنه سيدفن حياً إن لم يأت بالفدية في زمن محدد؛ وجاء هذا المال في اللحظة الأخيرة (39). ولم يلق الكرادلة الألمان، الذين ظنوا(21/195)
أنفسهم بمنجاة من شر أبناء وطنهم، خيرا مما لقيه غيرهم. وهتكت أعراض الراهبات والمحصنات من النساء في بيوتهم أو في الأديرة نفسها، أو حملن ليشبع فيهم جماعات من الجند شهواتهم بوحشية في أماكنهم (40). وهوجمت النساء على أعين أزواجهن أو آبائهن؛ وأستبد اليأس بكثيرات من الفتيات بعد هتك أعراضهن فأغرقن أنفسهن في نهر التيبر (41).
وكان الدمار الذي حاق بالكتب، والمخطوطات، ونفائس الفن يجل عن الوصف. واستطاع فليبرت Philibert، أمير أورنج Prince of Orange الذي تولى وقتئذ قيادة هذه الحشود المختلة النظام، أو ما يشبه قيادتها، استطاع هذا الأمير أن ينقذ مكتبة الفاتيكان باتخاذها مقراً لقيادته، ولكن كثيرا من مكتبات الأديرة والمكتبات الخاصة التهمتها النيران، وضاعت بذلك كثير من المخطوطات القيمة. ونهبت كذلك جامعة روما وبدد شمل موظفيها. وشهد العالم كولوتشي بيته يحترق عن آخره هو وما جمعه فيه من المخطوطات وروائع الفن. وأبصر الأستاذ بالدوس تعليقاته الجديدة على كتاب بلني تتخذ لإشعال نار في معسكر الناهبين. وفقد الشاعر ماروني Marone قصائده، ولكنه كان أسعد حظاً من غيره؛ أما الشاعر باولو بمباتسي Paolo Bombatsi فقد قتل؛ وعذب العالم كرستوفور مارتشيلو Cristoforo Marcello بنزع أظافر يديه ظفراً بعد ظفر، أما الفنانان بيرينو دل فاجا Perino del Vaga، وماركنتوريو ريمندي Marcantorio Raimoudi وكثيرون غيرهما فقد عذبوا وجردوا من كل ما يمتلكون، وتفرق شمل مدرسة رافائيل فلم يبق لها وجود.
وليس من المستطاع إحصاء عدد من قتلوا في هذه الكارثة المدلهمة؛ وكل ما نستطيع أن نقوله أن ألفي جثة ألقيت في نهر التيبر من شاطئه الذي تقع عليه الفاتيكان؛ وأن 9. 800 من الموتى دفنوا؛ وما من شك في أن عدداً آخر كبيراً من الناس قد قتل. وتقدر قيمة المنهوبات تقديراً متواضعاً بأكثر من مليون دوقة، وقيمة ما دفع من مال الفداء بثلاثة ملايين، وقدر(21/196)
كلمنت مجموع الخسائر بعشرة ملايين (125. 000. 000 دولار) (43).
ودام السلب والنهب ثمانية أيام، كان كلمنت في خلالها يشاهده بعينيه من أبراج سانت أنجيلو؛ ويتوسل إلى الله كما توسل إليه أيوب المعذب: "فلماذا أخرجتني من الرحم، كنت قد أسلمت الروح ولم ترني عين" (44)! وامتنع وقتئذ عن حلق لحيته، فلم يحلقها بعد ذلك أبداً، وظل سجيناً في القلعة من 6 مايو إلى 7 ديسمبر سنة 1527، وهو يأمل أن تأتيه النجاة من جيش دوق أربينو، أو من فرانسس، أو هنري الثامن. وسر شارل، وكان لا يزال وقتئذ في أسبانيا، عند سماعه بسقوط روما، ولكنه روع حين ترامت إليه أنباء وحشية الناهبين، وتنصل من تبعة هذه المنكرات، ولكنه أفاد كل الإفادة من ضعف البابا وخذلانه. وفي السادس من شهر يونيه أرغم ممثلوه- وقد يكون ذلك على غير علم منه- كلمنت بأن يوقع شروط سلم مهينة، وافق البابا بمقتضاها على أن يؤدي لهم وللجيش الإمبراطوري 400. 000 دوقة، وأن يسلم إلى شارل مدائن بياتشتدسا، وبارما، ومودينا، وقصور أستيا، وتشفيتا فيتشيا، وسانت أنجيلو نفسها؛ وأن يبقى سجيناً في هذه القلعة الأخيرة حتى يسلم المائة والخمسين ألفا الأولى من هذا المبلغ، ثم ينقل بعدئذ إلى جائيتا Gaeta أو نابلي، حتى يقرر شارل نفسه مصيره. وسمح لجميع من كانوا في قلعة سانت أنجيلو بمغادرتها ماعدا كلمنت وثلاثة عشر من الكرادلة، الذين صحبوه إليها، وعهد إلى الجنود الأسبان والألمان بحراسة الحصن، وأبقوا البابا على الدوام تقريباً محصوراً في جناح ضيق منه، وصفه جوتشيارديني في 21 يونيه بقوله: "إنهم لم يتركوا له فيه من المتاع ما يساوي عشرة اسكودوات (1). وأسلم كل ما كان قد أخذه معه في فراره من الفضة والذهب إلى آسريه ليوفي بذلك مائة ألف دوقة من مال الفداء.
_________
(1) عملة إيطالية كانت موجودة من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر في إيطاليا وصقلية قيمتها أقل قليلا من الدولار الأمريكي. (المترجم).(21/197)
وفي هذه الأثناء استولى ألفنسو صاحب فيرارا على رجيو ومودينا اللتين كان لفيرارا فيهما حقوق من أقدم الأزمنة، كما استولت البندقية على رافنا. وطردت فلورنس آل ميديتشي للمرة الثالثة وأعلنت يسوع المسيح ملكا على الجمهورية الجديدة، وبدا أن صرح البابوية كله مادياً وروحياً آخذ في الانهيار، وحركت مأساة هذا الخراب أسى الناس جميعاً حتى الذين كانوا يشعرون بأن خيانات كلمنت، وآثام البابوية، وشره حكومتها، وترف رجال الدين، ومظالم روما، كانت كلها خليقة ببعض العقاب. وسمع سادوليتو، وهو آمن مطمئن في كاربئتراس Carpentras بسقوط روما فروعه النبأ، وتحسر على مضي تلك الأوقات الحلوة الهادئة التي جعلها بمبو، وكستجليوني، وإزبلا، ومائة من العلماء، والشعراء، وأنصار العلم والفن، موطناً لهما حتى بلغا فيها ذروة مجدهما. وكتب إرازمس لسادوليتو يقول: "لم تكن كعبة الدين المسيحي، ومهد النفوس النبيلة، وموطن الآداب والعلوم والفنون فحسب، بل كانت أيضاً أم الأمم. وكم من الناس كانت أعز عليهم وأحلى لهم، وأعظم قيمة لديهم، من بلادهم نفسها! ... ألا إن هذا الخراب لم يكن في الحقيقة خراب بلدة واحدة، بل كان خراب العالم أجمع" (46).(21/198)
الفصل الثامن
شارل المنتصر
1527 - 1530
فشا الطاعون في روما عام 1522 ونقص عدد سكانها إلى 55. 000، وما من شك في أن حوادث القتل، والانتحار، والهرب في أثناء الحرب قد أنقصتهم أيضاً إلى أقل من 40. 000 في عام 1527. وفي شهر يوليه من هذا العام الأخير جاء الطاعون مرة أخرى في أشد شهور العام قيضاً، وانضم إلى القحط والجحافل المخربة فأصبحت روما مدينة الرعب، والفزع، والخراب. وامتلأت الكنائس والشوارع مرة أخرى بجثث الموتى، ترك الكثير منها يتعفن في الشمس، وكانت الروائح الكريهة المنبعثة من الرمم والأقذار قوية إلى حد لم يطقه السجانون والمسجونون ففروا من أسوار القلعة إلى حجراتهم، وحتى في داخل الحصن مات الكثيرون من الوباء، وكان من بينهم خدم البابا. ولم يفرق الطاعون بين الأهلين والغزاة. فمات من الالمان 2500 في روما في 22 يوليه سنة 1527، وأهلك الزهري، والملاريا، وسوء التغذية نصف عدد الجيش.
وشرع أعداء شارل يفكرون جدياً في إنقاذ البابا. وكان هنري الثامن يخشى ألا يمنحه الحبر السجين إذناً بتطليق كترين الأرغونية، فأرسل الكردنال ولزي إلى فرنسا ليفاوض فرانسس في الوسائل التي تتبع لإطلاق سراح كلمنت، وفي أوائل شهر أغسطس عرض الملكان على شارل الصلح و 2. 000. 000 دوقة على شرط أن يطلق سراح البابا والأمراء الفرنسيين، وأن ترد الولايات البابوية إلى الكنيسة. فلما رفض شارل هذا العرض، عقد فرانسس وهنري معاهدة أمين (18 أغسطس) التي تعهدا فيها بمحاربة شارل، وما لبثت البندقية وفلورنس أن انضمتا إلى الحلف الجديد،(21/199)
واستولت القوات الفرنسية على جنوى وبافيا ونهبت المدينة الثانية نهباً يكاد يكون تاماً، ولا يقل عما أوقعه الجيش الإمبراطوري بروما، وخشيت مانتوا وفيرارا الفرنسيين القريبين منهما أكثر مما كانتا تخشيان البعيد عنهما، فانضمتا أيضاً إلى الحلف؛ غير أن القائد الفرنسي لوترك Lautrec عجز عن دفع رواتب جنده ولم يجرؤ على الزحف بهم على روما.
وأمل شارل في أن يسترد مكانته في العالم المسيحي الكاثوليكي، وأن يهدئ من تحمس الحلف المطرد الزيادة، فوافق على إطلاق سراح البابا مشترطاً ألا يقدم كلمنت أية مساعدة إلى الحلف، وأن يدفع من فوره إلى الجيش الإمبراطوري في روما 112. 000 دوقة، وأن يقدم الرهائن ضماناً لحسن سلوكه. وجمع كلمنت المال اللازم، ببيع مناصب الكرادلة. ومنح الإمبراطور عشر أيراد الكنيسة في مملكة نابلي، وفي السابع من ديسمبر، غادر كلمنت سانت أنجيلو بعد أن قضى في السجن سبعة أشهر وتخفى في زي خادم، واتخذ سبيله وهو ذليل خارج روما إلى أرفينو، لا يشك من يراه في أنه رجل محطم.
وفي أربينو أسكن قصراً مخرباً خر سقفه، وتعرت جدرانه وتشققت، تصفر الريح في جوانبه. ولما قدم عليه السفراء الإنجليز ليحصلوا لهنري على طلاق زوجته، وجدوه مكوماً في الفراش، وقد اختفى نصف وجهه الممتقع الضامر تحت لحية طويلة خشنة. وفي هذا القصر قضى البابا الشتاء، ثم نقل بعده إلى فيتيربو. وفي السابع عشر من يناير جلا الجيش الإمبراطوري عن روما بعد أن حصل من شارل على كل ما يستطيع الحصول عليه منه، لأنه كان يخشى فتك الطاعون، واتخذ هذا الجيش سبيله جنوباً إلى نابلي. وزحف لوترك وقتئذ بجيشه جنوباً، مؤملاً أن يحاصر نابلي. ولكن الملاريا كانت قد أهلكت عدداً كبيراً من رجاله، وقضى هو نحبه، وتقهقرت جيوشه المختلة النظام نحو الشمال (29 أغسطس(21/200)
سنة 1528). وفقد كلمنت كل أمل في معونة الحلف، فعرض على شارل أن يستسلم له استسلاماً تاماً، وفي السادس من شهر أكتوبر سمح له بالعودة إلى روما. وروعه أن رأى أربعة أخماس بيوتها قد هجرها أصحابها، وآلاف المباني قد تخربت؛ وذهل الناس إذ رأوا ما أحدثه الغزو الذي دام سبعة أشهر في عاصمة العالم المسيحي.
ويبدو أن شارل فكر في وقت ما في خلع كلمنت، وضم الولايات البابوية إلى مملكة نابلي، واتخاذ روما عاصمة لإمبراطوريته، وأنزل البابا منزلته الأساسية وهي أن يكون اسقف روما وخاضعاً للإمبراطور (47). ولكن هذا إذا حدث كان من شأنه أن يدفع شارل إلى أحضان اللوثرين في ألمانيا؛ ويوقد نار الحرب الأهلية في أسبانيا، ويثير فرنسا، وإنجلترا، وبولندا، والمجر لمقاومته بجميع قواها المتحدة. ولهذا تخلى عن ذلك المشروع، واتجه إلى جعل البابوية حليفته التي تعتمد عليه، وعونه الروحي في تقسيم إيطاليا بينهما. ولهذا عقد مع البابا معاهدة برشلونة (29 يونيه سنة 1529) التي نزل فيها البابا عن أشياء كثيرة هامة: منها أن يرد للكنيسة الإمارات التي انتزعت منها، وأن يعيد بالسياسة أو بالقوة أقارب البابا الميديتشيين في فلورنس، وحتى فيرارا نفسها وعد أن يعيدها إلى البابا. ووافق البابا في نظير هذا على أن يمنح شارل مُلك نابلي بصفة رسمية، وأن يجيز للجيوش البابوية حرية المرور في الولايات البابوية، وأن يلتقي بالإمبراطور في بولونيا في العام التالي ليثبتا قواعد الصلح وينظما إيطاليا.
وبعد قليل من ذلك الوقت التقت مرجريت عمة شارل ونائبته في حكم الأراضي الوطيئة بلويزة أميرة سافوى، وأم فرانسس. واستعانتا بعدد من السفراء والمندوبين، ووضعتا صيغة معاهدة كمبريه (3 أغسطس سنة 1529) بين الإمبراطور والملك. وبمقتضى هذه المعاهدة أطلق شارل الأمراء الفرنسيين نظير فدية مقدارها 1. 200. 000 دوقة؛ وتخلى فرانسس باسم(21/201)
فرنسا عن جميع مطالبه في إيطاليا، وفلاندرز، وآرتوا، وأراس، وتورناي (48). وبهذا ترك حلفاء فرنسا في إيطاليا تحت رحمة الإمبراطور.
ثم التقى شارل وكلمنت في بولونيا في الخامس من نوفمبر سنة 1529، وكان كلاهما الآن مقتنعاً بأنه في حاجة إلى الآخر. ومن أغرب الأشياء أن هذه كانت أول زيارة لإيطاليا يقوم بها شارل؛ ذلك أنه فتح تلك البلاد قبل أن يراها. ولما ركع أمام البابا في بولونيا، وقبل قدم الرجل الذي مرغه في الثرى، كان ركوعه هذا هو المرة الأولى التي أبصر فيها كلا الرجلين صاحبه- الرجل الذي يمثل الكنيسة في عهد اضمحلالها، والرجل الذي يمثل الدولة الحديثة الناشئة المنتصرة- وفارق كلمنت جميع كبريائه، وغفر جميع ما لحقه من إساءات؛ ولم يكن من ذلك بد؛ فلم يكن في وسعه آنئذ أن يتطلع إلى عون فرنسا؛ وكان لشارل جيش لا يقاوم في جنوبي إيطاليا وشماليها، ولم يكن يستطيع إعادة فلورنس لآل ميديتشي دون مساعدة الجيوش الإمبراطورية؛ وكان في حاجة إلى مساعدة الإمبراطور ضد لوثر في ألمانيا، وضد سليمان القانوني في الشرق. ووقف شارل وقتئذ وقفة الرجل الكريم الحصيف: فقد استمسك بجوهر شروط اتفاق برشلونة الذي عقده حين لم تكن له هذه القوة التي لا تقاوم، فأرغم البندقية على أن تعيد كل ما استولت عليه من أملاك الولايات البابوية؛ وسمح لفرانتيسكو ماريا اسفوردسا أن يحتفظ بميلان المخربة تحت رقابة الإمبراطور إذا أدى نظير ذلك غرامة حربية كبيرة؛ وأقنع كلمنت بأن يسمح لفرانتشيسكو ماريا دلا روفيري الجبان أو الغادر بأن يحتفظ بأربينو. وغفر لألفنسو انضمامه القريب العهد إلى فرنسا، وكافأه على ما قدم من معونة أثناء الزحف على روما بأن سمح له بالاحتفاظ بدوقيته على أن تكون إقطاعية بابوية، وأعطاه مودينا ورجيو إقطاعيتين من قبل الإمبراطورية؛ وأدى ألفنسو للبابا في نظير ذلك مائة ألف دوقة كان البابا في أشد الحاجة إليها. وأراد شارل أن يوطد دعائم هذه التسويات(21/202)
كلها فدعا جميع الإمارات إلى الانضمام إلى اتحاد من جميع أجزاء إيطاليا للدفاع المشترك عنها ضد الهجوم الخارجي- ماعدا هجوم شارل نفسه- وهي الوحدة التي سعى إليها دانتي عند الإمبراطور هنري السابع، وبترارك عند الإمبراطور شارل الرابع؛ وها هي ذي الآن تتحقق بالخضوع المشترك إلى دولة أجنبية. وبارك كلمنت هذا الاتفاق كله، وتوج شارل إمبراطوراً بأن وضع على رأسه تاج لمباردي الحديدي، وتاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة الإمبراطوري البابوي (22 - 24 فبراير سنة 1530).
وسجل حلف البابا والإمبراطور بدماء فلورنس. وتفصيل ذلك أن كلمنت اعتزم أن يعيد إلى أسرته ما كان لها من سلطان فدفع 70. 000 دوقة إلى فليبرت أمير أورنج (الذي أبقاه سجيناً)، لينشئ بها جيشاً يجتاح به جمهورية الأثرياء التي أقيمت هناك في عام 1527. وسير فليبرت للقيام بهذه المهمة عشرين ألفاً من الجنود الألمان والأسبانيين، الذين اشترك الكثيرون منهم في نهب روما (49). واحتلت هذه القوة بستويا وبراتو Prato في شهر ديسمبر سنة 1529 وضربت الحصار على فلورنس. وأراد أهل المدينة البواسل أن يعرضوا المهاجمين لنيران المدفعية الفلورنسية، فدمروا كل بيت، وحديقة، وجدار، في مسافة تمتد ميلا كاملا حول حصون المدينة؛ وترك ميكل أنجيلو أعمال الحفر التي كان يقوم بها في قبور آل ميديتشي ليبني الحصون والأسوار أو يعيد بناء ما كان قد تهدم منها. ودام الحصار سبعة أشهر قاست فيها لمدينة الأهوال، فقد شح فيها الطعام حتى بيع الفأر أو القط بما يعادل اثني عشر دولاراً ونصف دولار (50). وسلمت الكنائس آنيتها، وسلم الأهلون صحافهم، وتبرعت النساء بحليهن، كي تحول كلها إلى نقود لابتياع المؤن أو الأسلحة. وأخذ الرهبان الملتهبون وطنية أمثال الراهب بنيديتو دا فويانا Benedetto Da Foiana يرفعون روح الأهلين المعنوية بعظاتهم الدينية. وفر رجل شجاع من أهل المدينة يدعى فرانتشيسكو فيروتشي(21/203)
إلى خارجها، ونظم قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل هاجم بهم المحاصرين لكنه هزم وخسر من جنوده ألفي رجل، وأسر هو نفسه، وجيء به أمام فيريدسيو مارمليدي Fadrizio Marmalidi وهو قائد من أهل كلابريا كان على رأس الخيالة في جيش الإمبراطور. وأمر مارمليدي أن يؤتى بفيروتشي Ferucci مقبوضاً عليه أمامه، وأخذ يدفع الخنجر في صدره حتى فارق الحياة (51). وأخذ القائد الذي استأجرته فلورنس ليتولى قيادة المدافعين عنها، وهو مالاتستا بجليوتي، يتفاوض لعقد اتفاق غادر مع المحاصرين، فأدخلهم المدينة، وصوب مدافعه نحو الفلورنسيين. واضطرت المدينة بتأثير الجوع واختلال النظام إلى التسليم (12 أغسطس سنة 1530).
وأصبح ألسندرو ده ميديتشي دوقاً على فلورنس وجلل أسرته العار بما ارتكبه من أعمال النهب وما أظهره من قسوة، فعذب مئات من الذين حاربوا دفاعاً عن الجمهورية، أو نفوا منها، أو قتلوا تقتيلا. وأرسل الراهب بنيديتو إلى كلمنت، فأمر هذا بسجنه في قلعة سانت أنجيلوا، وفيها سجن الراهب حتى هلك من الجوع كما تقول إحدى الروايات التي لا يوثق بصحتها (52). وحل مجلس السيادة الذي كان يتولى حكم المدينة، وأطلق من ذلك الوقت اسم بالاتسو فيتشيو ( Palazzo Vacchio أي قصر فيتشيو) على بالاتسو دلا سنيوريا ( Palazzo della Sagnoria أي قصر السيادة)؛ وأنزل الناقوس الضخم العظيم الذي يزن أحد عشر طناً والمسمى بالبقرة La Vacco والذي ظل أجيالا طوالا يدعو الناس من البرج الجميل إلى الاجتماع- أنزل هذا الناقوس من موضعه، وحطم تحطيما؛ "حتى لا تستمع بعدئذ إلى صوت الحرية العذب" كما يقول أحد كتاب اليوميات المعاصرين (53).(21/204)
الفصل التاسع
كلمنت التاسع والفنون
تؤكد الطريقة التي عامل بها البابا فلورنس تدهور أحوال آل ميديتشي، أما مابذله من الجهود لإعادة روما إلى سابق عهدها فيكشف عن جذوة من العبقرية الإدارية وعن تقدير للجمال كانا من أسباب عظمة تلك الأسرة. وقد صوره وقتئذ سباستيانو دل بيومبو، وكان قد صوره من قبل في عهد نضوجه، في صورة شيخ طاعن في السن، حزين مكتئب، غائر العينين، أبيض شعر اللحية، يوزع البركات. ويبدو أن الآلام طهرته وأنها قوته إلى حد ما، فقد أقدم على بذل جهود قوية لحماية إيطاليا من الأسطول التركي الذي كان وقتئذ يسيطر على شرقي البحر المتوسط، فحصن أنكونا، وأسكولي، وفانو، وحصل على نفقات هذا التحصين بأن حمل مجمع الكرادلة في الحادي والعشرين من يونية سنة 1532 على أن يفرض ضريبة قدرها خمسون في المائة من جميع إيراد رجال الدين الإيطاليين ومنهم الكرادلة أنفسهم، وذلك رغم معارضة الكرادلة (54). واستعان ببيع المناصب الدينية وبغيره من الوسائل فجمع المال اللازم لإعادة ما تخرب من الكنائس، وجامعة روما، والعودة إلى مناصرة العلوم والفنون، واتخذ الوسائل الكفيلة بضمان وصول الحبوب إلى المدينة على الرغم من غارات قراصنة البربر على السفن بالقرب من صقلية، وبذلك لم يمص إلا قليل جداً من الوقت حتى عادت روما إلى القيام بواجبها بوصفها عاصمة العالم الغربي.
وكانت المدينة لا تزال غنية بالفنانين، فقد جاء إليها كرادسا Caradossa من ميلان، وتشيليني من فلورنس، لكي يرفعا فن الصياغة إلى الذروة(21/205)
التي بلغها في عهد النضهة، وقد شغل هذان الفنانان وكثيرون غيرهما أوقاتهم في عمل ورود ذهبية، وسيوف شرف يهديها البابا في المناسبات المختلفة، وآنية لمذابح الكنائس، وعصى من فضة لكبار رجال الكنيسة وللمواكب الدينية، وأختام الكرادلة، وتيجان وخواتم للبابوات. وصنع فاليريوبلي من أهل فيتشندسا Vicenza لكلمنت علبة فخمة من البلور الصخري نقشت عليها مناظر من حياة المسيح؛ وهي الآن من أثمن التحف المحفوظة في قصر بيتي، وقد أهديت إلى فرانسس الأول بمناسبة زواج ابنه من كترين الميديتشية.
وبدء العمل من جديد في زخرفة حجرات الفاتيكان في عام 1526، وكانت أعظم الرسوم التي تمت في عهد ولاية كلمنت هي التي صورت في قاعة قسطنطين؛ ففيها رسم جيوليو رومانو شبح الصليب، وواقعة جسر ملفي؛ ورسم فرنتشيسكو بن صورة تعميد قسطنطين كما رسم رافائلو دل كلي Rafaello del Colle صورة روما مهداة إلى البابا سلفستر من قسطنطين.
وكان أعظم المصورين في روما بعد ميكل أنجيلو، وبعد أن هاجر جيوليو رومانو إلى مانتوا هو سباستيانو لوتشيانو Sebsstiano Luciano الذي لقب دل بيومبو حين عين أمينا لأختام البابا ومصمماً لها (1531). وكان مولده في البندقية (حوالي عام 1485)، وكان من حسن حظه أن تتلمذ على جبان بليني، وجييورجيو، وتشيما. وكانت من أوائل صوره وأجملها صورة أعمار الإنسان الثلاثة. وقد صور فيها شاباً أنيقاً بين مؤلفين شهيرين كانا وقتئذ في البندقية: يعقوب أبرخت Jacob Obrecht وفلبي فيرديلوت Philippi Veredlot. ورسم لكنيسة سان جيوفني كرستومو San Giovanni Cristomo- أو أكمل لجيورجيوني- صورة(21/206)
حية واضحة المعالم لذلك القديس وهو منهمك في التأليف؛ ثم حذا في الوقت نفسه (1510) حذو طريقة جيورجيوني الشهوانية في صورة فينوس وأدنيس التي تبدو نساؤها الكريمات كأنهن من عصر ذهبي وجد قبل أن تولد الخطيئة. وربما كان سبستيانو قد صور في البندقية أيضاً صورته الذائعة الصيت المعروفة باسم صورة سيدة والتي ظلت زمناً طويلا تعزى إلى رافائيل وتسمى نارينا La Fornarina.
وفي عام 1511 دعا أجستينو تشيجي Agostino Chigi سباستيانو إلى روما ليساعد في زخرفة قصر تشيجي الريفي. وهناك قابل الفنان الشاب رافائيل، وظل وقتاً ما يقلد طوازه في الزخارف الوثنية؛ ويعلم رافائيل في نظير هذا سر الألوان الدافئة (1) الذي اختصت به البندقية. وما لبث سباستيانو أن أصبح صديقاً حميماً لميكل أنجيلو وأعلن عن عزمه الجمع بين تلوين البندقية وتصميم طراز ميكل أنجيلو وأعلن عن عزمه الجمع بين غرضه حين طلب إليه الكردنال جيوليو ده ميديتشي أن يرسم له صورة. واختار سباستيانو موضوعاً لتلك الصورة بعت العازر ينافس بها عن عمد صورة التجلي التي كان رافائيل يرسمها في ذلك الوقت (1518). ولم يجمع النقاد على معارضة حكمه هو بأنه كان فيها نداً لمحسوب ليو (2).
وكان في مقدوره أن يرقى إلى أكثر مما وصل إليه لو لم يقتنع اقتناعاً عاجلا بالحد الذي بلغه من الإتقان. غير أن رغبته الشديدة في التمتع بالفراغ قد حالت بينه وبين النبوغ. ذلك أنه كان شخصاً مرحاً لا يستطيع أن
_________
(1) الألوان الدافئة هي التي تشعر الناظر إليها بالدفء، وأهمها اللون القريب من الأحمر أو الأصفر، وعكسها الألوان التي تشعر الإنسان بالبرودة ومنها اللون القريب من الأخضر أو الأزرق. (المترجم).
(2) رافائيل نفسه. (المترجم).(21/207)
يفهم لم ينهك الإنسان نفسه لينال فوق حاجته من الذهب والشهرة الخادعة الزائلة بعد الموت. ولهذا قصر معظم عمله بعد أن نال في الفاتيكان من نصيره الذي أصبح بابا وظيفة مرغدة لا يقوم فيها بعمل كبير- قصر بعدئذ معظم عمله على رسم الصور التي قلما فاقه فيها غيره من المصورين.
ويختلف عنه بلدا سارى بيروتسي Baldassari Peruzzi. فقد كان شخصاً طموحاً رددت الأجيال اسمه الطنان الرنان وراء جبال الألب الإيطالية. وكان ابن نساج (والفنانون في أغلب الأحيان من أصل وضيع: لأن الطبقات الوسطى يجري أفرادها أولا وراء المنافع المادية، يرجون أن يجدوا الفراغ الذي يمكنهم من الاستمتاع بالجمال إذا ما بلغوا سن الشيخوخة؛ أما أبناء الطبقة العليا، فهم وإن كانوا يغذون الفن ويناصرونه، يؤثرون فن الحياة على حياة الفن. وكان مسقط رأسه في سينا (1481) وأخذ فن الرسم عن سدوما وبنتو رتشيو ثم عجل بالذهاب إلى روما. ويلوح ki i أنه هأنه هو الذي رسم الصور التي في سقف حجرة إليو دورو في الفاتيكان، والتي رآها رافائيل من الحسن بحيث ترك معظمها دون أن يدخل عليه شيئاً من التغيير. وفي هذه الأثناء وقع في حب الآثار القديمة، كما وقع في حبها برامنتي، وأخذ يقيس أرض الطبقات السفلى من الهياكل والقصور القديمة، ويدرس أشكال الأعمدة وتيجانها ونظام وضعها، حتى صار خبيراً أخصائياً في تطبيق فن المنظور على العمارة.
ولما اعتزم أجوتسينو تشيجي أن يشيد قصر تشيجي الريفي دعا بيروتسي لتصميمه (1508)؛ وسر الرجل المصرفي من التصميم- سر مما توجت به الواجهة الت يعلى طراز النهضة من قوالب وشرفات؛ ولما وجد أن بيروتسي لا يستطيع التصوير بالألوان، ترك للفنان الشاب الحرية في زخرفة عدد من الحجرات في داخل القصر بالاشتراك مع سباستيانو دل بيومبو ورافائيل. ورسم بلداساري في الردهة التي في مدخل القصر، وفي الشرفة(21/208)
المكشوفة صورة فينوس تمشط شعرها؛ وليدا وبجمعتها، وأوربا Europa وثورها؛ ودانتي وشاشه الذهبي، وجنيمدي ونسره، وغيرها من المناظر التي تهدف إلى رفع روح ذلك المالي من عمل يومه الرتيب إلى شعر أحلامه. وأحاط بيروتسي مظلماته بخطوط تحددها، وراعى حيل فن المنظور مراعاة لم يسع تيشيان معها إلا أن يظن أنها نحت حقيقي بارز في الحجر (55). وفي ردهة الطابق الأعلى رسم بلداساري مباني خادعة بالفرشاة: شرفات مرفوعة على صور عمد، وأطنافاً مستندة على صور عمد مربوعة، وأشباه نوافذ مطلة على صور حقول. وجملة القول أن بيروتسي قد عشق فن العمارة، واتخذ التصوير خادماً له، يطيع جميع قواعد البناء، ولكنه يخلو من روحه. غير أننا نشتثني من هذا التعميم المناظر المأخوذة من الكتاب المقدس والتي رسمها في شبه قبة لسانتا دلا باتشي Santa Maria della Pace (1517) ، التي صور فيها رافائي سيبيلات قبل ذلك بثلاث سنين. ولم تكن صور بلداساري تقل عن صور رافائيل روعة، لأن هذه كانت أحسن ما صور بلدسارى، أما صور رافائيل فلم تكن خير صوره.
وما من شك في أن ليو العاشر قد تأثر بما شاهده من تعدد كفايات بيروتسي، لأنه عينه خلفاً لرافائيل كبيراً لمهندسيه في كنيسة القديس بطرس (1520)، ثم عهد إليه أن يرسم مناظر مسلاة لاكالندرا ( La Calandra) لبينا (1512). غير أن كل ما بقي من أعمال بيروتسي في سان بيترو هو رسم قاعدة البناء، التي وصفها سيمندس Symonds بأنها "تفوق في الجمال والطرافة ما رسم من مثلها لكنيسة القديس بطرس" (56). وكان موت ليو، وجلوس بابا يبغض الفن على كرسي البابوية، سببا في عودة بيروتسي إلى سينا، ومنها إلى بولونيا. وفي هذه المدينة الثانية صمم قصر أبيرجاني Aebergani الجميل، وعمل نموذجا لواجهة كنيسة سان بيترونيو التي لم تتم أبداً. لكنه عجل بالعودة إلى روما حين أعاد كلمنت السابع فتح جنة(21/209)
الفنون، وواصل عمله في كنيسة القديس بطرس؛ وكان لا يزال فيها حين نهبت غوغاء الإمبراطور مدينة روما. وقاسى محناً شديدة لأنه "كان وقوراً نبيلا في مظهره، حتى ظنه الغوغاء كبيرا من رجال الدين متخفياً" كما يقول فاساري. واحتفظوا به حتى يفتدى بالمال الكثير، فلما برهن على أصله الوضيع برسم صورة ملونة رائعة، قنعوا بالاستيلاء على كل ما يملكه عدا القميص الذي على ظهره، وأطلقوا سراحه. واتخذ سبيله إلى سينا فوصل إليها لا يكاد يستر جسمه شيء. وسر حكومة سينا أن تستحوذ من جديد على ابنها الفأرة المتلاف، فعهدت إليه تصميم حصونها، كما عهدت إليه كنيسة فنيتجيستا رسم صور جدارية أجمع النقاد على أنها أروع آياته الفنية- وكانت هذه الصورة الجدارية سيبيلة تعلن إلى أغسطس المرتاع نبأ مولد المسيح المرتقب.
ولكن أعظم ما نجح فيه بيروتسي هو تصميم قصر مسيمي دلي كولني Palazzo Massimi della Colonne الذي وضعه بعد عودته إلى روما (1530). وكان آل مسيمي يدعون الانتساب إلى فابيوس هذا هو الذي خلد اسمه بالتعطل وتضييع الوقت (1). أما لقبه فمشتق من المدخل ذي العمد Columned لمسكنهم السابق الذي ضرب أثناء نهب روما. وكان من حسن حظ بيروتسي إن استدارة مكان القصر وعدم انتظامه حالا بينه وبين اتخاذ الشكل المستطيل الكثيب. ولهذا اختار له الشكل البيضي، كما اختار له واجهة على طراز مباني النهضة ومدخلا على الطراز الدوري، وكان البناء بسيطاً من
_________
(1) إن في وصفه بالتعطل وإضاعة الوقت بعض المغالاة لأن ما فعله هذا القائد هو أنه لم يلتحم مع هنيبال في وقاعة فاصلة حين هجم هذا على ايطاليا؛ بل تركه يضعف على مهل ويفقد مؤنه ثم ينقض هو على من يتخلف وراءه من جنوده، وكانت خطته هي التي أنقذت إيطاليا من القائد القرطاجي. (المترجم).(21/210)
الخارج، ولكنه أفاء على داخله من الزخرف والروعة ما جعله يضارع القصور الرومانية أيام الإمبراطورية مضافاً إليها ما يتسم به الفن اليوناني من رقة التناسب والزخرف.
ومات بيروتسي فقيراً رغم ما كان له من كفايات متعددة، لأنه لم تطاوعه نفسه على مساومة البابوات، والكرادلة، ورجال المال على أجور تناسب مع حذقه. ولم سمع البابا بولس الثالث أنه يحتضر، ظن أنه لم يبق من الفنانين الذين يستطيعون رفع كنيسة القديس بطرس من جدران إلى قبة إلا بيروتسي وميكل أنجيلو. ولهذا بعث إلى الفنان بمائة كرون (1250 دولارا؟). فشكر له بلداساري عمله، ولكنه مات رغم ذلك في سن الرابعة والخمسين (1535). ويقول فاساري بعد أن يلمح بأن منافسا له قد سمه إن "المصورين، والمثالين؛ والمهندسين المعماريين في روما شيعوا جنازته إلى قبره".(21/211)
الفصل العاشر
ميكل أنجيلو وكلمنت السابع
1520 - 1534
مما يذكر في صحيفة الحسنات لكلمنت أنه ظل طوال أيام كوارثه يتحمل صابراً جميع نزوات ميكل أنجيلو وثوراته، ويعهد إليه بالمهمة تلو المهمة، ويمنحه من المزايا كل ما يليق بالعباقرة. ويقول في هذا: "إذا جاء بونارتي أمسكت بيدي على الدوام مقعداً وأمرته بالجلوس، لأني لا أشك في أنه سيجلس من تلقاء نفسه دون أن يستأذنني" (57). وحتى قبل أن يصبح بابا تقدم باقتراح تبين أنه اكبر عمل من أعمال النحت عهد به إلى ذلك الفنان، وهو أن يضيف إلى كنيسة سان لورندسو بفلورنس "غرفة مقدسات جديدة" لتكون قبراً لأشهر أفراد آل ميديتشي؛ وتصميم مقابر لهم، وتزيينها بما يليق بها من الصور. وكان كلمنت واثقاً كل الثقة من كفايات هذا الفنان الجبار المتعددة، ولهذا طلب إليه أن يضع عدداً من التصميمات الهندسية للمكتبة اللورنتية، تبلغ من السعة والمتانة ما تستطيع أن تقي كل المجموعات الأدبية للأسرة الميديتشية. وتم إنشاء السلم الفخم والدهليز ذي العمد في هذه المكتبة اللورنتية (1526 - 1527)، بإشراف أنجيلو، أما بقية ابناء فقد أقامها فيما بعد فاساري وغيره على أساس رسوم بونارتي.
أما بناء نوفا سجرستيار Nuova Sagristia فلا يمكن أن يعد من روائع الفن المعماري. فقد وضع تصميمها على أن تكون مربوعة الجوانب تقسمها عمد مربوعة وتعلوها قبة متواضعة؛ وكان الغرض الأول من بنائها أن توضع التماثيل في الفجوات المتروكة في الجدران. وقد تم بناء "معبد آل ميديتشي" هذا في عام 1524؛ وفي عام 1525 بدأ أنجيلو العمل(21/212)
في القبور، وقد كتب إليه كلمنت في هذا العام الثاني خطاباً يستحثه في رقق يقول:
"إنك تعرف أن البابوات قصار الأجل، ونحن أشد ما نكون شوقاً إلى أن نرى المعبد وفيه قبور أقاربنا، أو أن نسمع في القليل أنه قد تم، ولا يقل عن هذا شوقنا إلى إتمام المكتبة ولهذا نعهد بهما جميعاً إلى همتك ونشاطك. وسنتذرع في هذه الأثناء (بناء على توصيتك) بالصبر الجميل، داعين الله أن يعينك على أن تدفع المشروع كله إلى الأمام. ولا تخش قط أن سوف تعوزك الأعمال أو الجزاء مادمنا على قيد الحياة. وداعاً على بركة الله وبركتنا- جيوليو" (58).
وكان المشروع يتضمن إنشاء ستة قبور: واحد لكل من لورندسو الأعظم، وأخيه جيوليانو الذي اغتيل، وليو العاشر، وكلمنت السابع، وجوليانو الأصغر الذي كان "أطيب من أن يستطيع حكم دولة" (والمتوفى عام 1516)، ولورندسو الأصغر دوق أربينو (المتوفى عام 1519). ولم يتم من هذه إلا قبرا الأخيرين، ولكنهما مع ذلك أرقى ما وصل إليه التصوير في ذلك العهد. ويظهر القبران شكل من يحتويان من الموتى كما كانا في عنفوان الشباب، ولم يحاول المثال إظهار شكلهما الصحيح أو ملاحمها الحقيقية: فقد أظهر جيوليانو في ثياب قائد روماني، ولورندسو في صورة الرجل المفكر il Penseroso. ولما أن لاحظ ملاحظ غير حذر هذا البعد عن الواقعية، رد عليه ميكل أنجيلو بألفاظ كشفت عن ثقته السامية الأكيدة بخلوده الفني فقال: "منذا الذي يعني بعد ألفي عام هل هذه ملامحهم وليست هي؟ " (59). ويتكئ على تابوت جيوليانو شخصان عاريان: عن اليمين رجل يفترض فيه أنه يرمز إلى النهار، وعن اليسار امرأة يفترض أنها ترمز إلى الليل. ومثلهما صورتا شخصين متكئين على قبر لورندسو(21/213)
أطلق عليهما اسما الشفق والفجر. وهذه التسميات مجرد فروض ولعل للخيال فيها أكبر نصيب. وأغلب الظن أن هدف المثال هو أن ينحت مرة أخرى معبوده الخفي، أعني الجسم البشري، بكل ما فيه من روعة قوة الرجولة، والمحيط الخارجي الجميل لجسم المرأة بأكمله. ولقد كان نجاحه في تصوير جسم الرجل أعظم من نجاحه في تصوير جسم المرأة كما هي العادة، وإن صورة الشفق الناقصة التي تسلم اليوم النشيط المضني إلى الليل على مهل، لنضارع أنبل صور الآلهة في البانثيون.
وقامت الحرب فعطلت أعمال الفن إلى حين. ولما سقطت روما في أيدي الجيوش الإمبراطورية (1527)، لم يعد في وسع كلمنت أن يناصر الفنون، وانقطع معاش ميكل أنجيلو الذي كان يتقاضاه من البابا ومقداره خمسون كروناً (625 دولاراً) في الشهر واستمتعت فلورنس في هذه الايام بعامين من الحرية في ظل الحكم الجمهوري. ولما أن تصالح كلمنت مع شارل، وأرسل جيش ألماني- أسباني للقضاء على الجمهورية وإعادة آل ميديتشي إلى الحكم، عينت فلورنس أنجيلو (6 أبريل ستة 1529) عضواً في لجنة العشرة للدفاع عن المدينة، وبذلك أصبح فنان الميديتشيين بحكم الظروف مهندساً يعمل ضد الميديتشيين، وشرع يشتغل كالمحموم في تخطيط الحصون والأسوار وتشييدها.
وبينما كانت هذه الأعمال قائمة على قدم وساق كان ميكل أنجيلو يزداد كل يوم اقتناعاً بأن المدينة لا يمكن الدفاع عنها دفاعاً ناجحاً. وهل تستطيع مدينة بمفردها منقسمة على نفسها في روحها وفي ولائها، أن تقاوم مدفعية الإمبراطورية والحرمان الديني البابوي مجتمعين؟ ومن أجل هذا حدث في الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1529، أثناء حالة عارضة من الذعر، أن فر الفنان من المدينة، وهو يأمل أن يهرب منها إلى فرنسا ويلجأ إلى مليكها الظريف الوديع. ولما وجد طريقه مسدوداً بأرض يحتلها الألمان(21/214)
لجأ مؤقتاً إلى فيرارا وكانت تابعة للبندقية، ومنها بعث برسالة إلى صديقه باتستا دلا بلا Battista della Palla العامل الفنان لفرانسس في فلورنس يسأله: هل ينضم إليه في الهرب إلى فرنسا (60)؟ ورفض باتستا أن يتخلى 'ن المنصب الذي عهد إليه في الدفاع عن المدينة؛ وكتب إلى أنجيلو بدلا من ذلك يدعوه دعوة حارة إلى العودة لواجبه، وينذره إذا لم يعد بأن الحكومة ستصادر أملاكه، وتترك أقاربه المعمدين في فقر مدقع. وبذلك عاد الفنان إلى عمله في حصون فلورنس حوالي اليوم العشرين من نوفمبر.
ويقول فاساري إنه حتى في هذه الشهور المضطربة وجد متسعاً من الوقت ليواصل العمل سراً في قبور آل ميديتشي، وليرسم لألفنسو دوق فيرارا صورة لا تعتبر قط عن طبائعه وهي صورة ليدا والبجع، وكانت في الحق صورة عجيبة يرسمها رجل قليل الميول الجنسية، متزمت إلى حد كبير، ولعلها كانت ثمرة اختلال مؤقت في عقله. ويظهر فيها البجع يضاجع ليدا، ويلوح أن ألفنسو لم يكن هو الذي اختار موضوعها وإن كان معروفاً بان كان رجلا شهوانياُ في الفترات التي بين الحروب. وأظهر الرسول الذي بعثه لإحضار الصورة الموعودة شدة امتعاضه منها حين رآها، ولم يزد على أن قال "إن هذا عبث" ولم يحاول أخذها للدوق، فما كان من أنجيلو إلا أن أعطى الصورة لخادمه أنطونيو ميني Antonio Mene الذي حملها إلى فرنسا حيث انتقلت إلى مجموعة فرانسس الأول النهم الذي لم يكن يفرق بين الطبيب منها والخبيث. وبقيت تلك الصورة في فنتينبلو إلى زمن لويس الثالث عشر حين أمر أحد كبار الموظفين بإتلافها لقبح موضوعها. ولسنا نعرف هل نفذ هذا الأمر أو لم ينفذ. وما هو تاريخ الصورة الأصلية بعد ذلك الوقت، ولكننا نعرف أن نسخة منها باقية في سراديب المعرض الأهلي بلندن (61).
ولما أن سقطت فلورنس في أيدي الميديتشيين العائدين إليها أعدم(21/215)
باتستا دلا بالا وغيره من الزعماء الجمهوريين، وأخفى ميكل أنجيلو نفسه مدة شهرين في بيت صديق له، كان في كل لحظة منهما يتوقع أن يلقى نفس المصير، ولكن كلمنت كان يظن أنه وهو حي أعظم قيمته منه وهو ميت، فكتب البابا إلى أقاربه الحاكمين في فلورنس يأمرهم بالبحث عن الفنان، ومعاملته بالحسنى. ووافق ميكل على هذا العرض؛ ولكن الصورة التي كانت في عقل الحبر والفنان كانت أكبر مما تستطيع اليد تنفيذه، كما حدث في قبر يوليوس؛ ولم تطل حياة البابا حتى يشهد تمام المشروع. فلما توفي كلمنت في عام 1534 خشى ميكل أنجيلو أن يصيبه ألسندرو ده ميديتشي بأذى بعد أن مات حاميه ونصيره، فاغتنم أول فرصة للهرب إلى روما.
وتبدو على القبور مسحة من الحزن المكتئب العميق كما تبدو على صورة عذراء ده ميديتشي التي نحتها أنجيلو لحجرة المخلفات المقدسة. ولقد افترض المؤرخون المولعون بالديمقراطية (والمغالون فيما كانت عليه من مدى في فلورنس) أن الصور المضطجعة ترمز إلى مدينة تندب استسلامها للاستبداد والظلم على الرغم منها. ولكن أكبر الظن أن هذا التفسير وهم خيال: فقد صممت هذه الصورة بينما كان الميديتشيون يحكمون فلورنس حكماً صالحاً إلى حد معقول؛ وقد نحتت لبابا من آل ميديتشي كان على الدوام رؤوفا بميكل أنجيلو، ونحتها فنان مدين لآل ميديتشي منذ شبابه. ولسنا نعرف أنه كان يبغي الإساءة إلى الأسرة التي كان يعد لها قبورها، وليس في تصويره لجيوليانو ولورندسو ما يدل على تحقيره إياهما. والحق أن هذه الرسوم تعبر عن شيء أعمق من حب لأن تستمتع الأقلية الثرية بحرية حكم الطبقات الفقيرة، دون أن تقف في سبيلها أسرة ميديتشي التي كانت في العادة محبوبة من الشعب عامة. إنها تعبر عن ملل ميكل أنجيلو من الحياة، وعن التعب الذي حل برجل كله أعصاب وأحلام هائلة لا يستطاع تحقيقها،(21/216)
وجد نفسه يصطدم بمئات المحن، ويعوق كل مشروع من مشروعاته تقريباً صلابة المادة التي يعمل بها وإباؤها عليه، وكلال قوته وضيق وقته. ولم يكن أنجيلو قد استمتع إلا بالقليل من مباهج الحياة، ولم يكن له أصدقاء لهم ماله من عقلية، أما النساء في رأيه أجساماً ناعمة تهدد السلام، وحتى أعظم انتصاراته كانت نتيجة الكد المنهك والألم، وائتلاف التفكير المحزن والهزيمة التي لا مفر منها.
ولما سقطت فلورنس في أيدي أسوأ المستبدين بها، وساد الرعب حيث كان لورندسو يحكم حكماً موفقاً سعيداً، أحس الفنان، الذي كان قد نحت في رخام أضرحة آل ميديتشي نقداً للحياة لا مجرد نظرية في الحكم، إن هذه الأشكال المكتئبة الحزينة تعبر، فيما تعبر عنه، عن المجد الغابر للمدينة التي كانت مهد النهضة. ولما رفع الستار عن تمثال الليل كتب الشاعر جيان باتستا استروتسي رباعية تعرض موضوعه عرضاً أدبياً قال فيها ما معناه:
إن الليلة التي تراها واقفة في رشاقة
يأخذ الكرى بمعاقد أجفانها، قد صاغها مَلَك
من الحجر الصلد، وسنانة، تسري فيها الحياة،
فأيقظها أيها المخلوق الذي لا تصدق' فإنها ستتحدث إليك.
وقد غفر ميكل للكاتب ما في العبارة من تورية (1) هي في الوقت عينه تمجيد له، ولكنه لم يرض عن تفسير الكاتب لخصائص التمثال، وكتب هو تفسيراً لها في أربعة أسطر هي أكثر ما في شعره وضوحاً وإبانة عن مقصده قال:
ما أحَبَّ نومي، ولكن يزيده محبة أن يكون مجرد حجر
مادام الخراب والقدر سائدين.
إن أشد ما يؤلمني ألا أرى شيئاً وألا أشعر بشيء،
إذن فلا توقظني، وتحدث في همس (62)
_________
(1) يقصد بالتورية عجز اسم ميكل أنجيلو وكلمة Angel أي مَلَك.(21/217)
الفصل الحادي عشر
خاتمة عصر
1528 - 1534
لم يمت كلمنت إلا بعد أن يدل سياسته مرة أخرى، وبعد أن تُوج ما أصابه من كوارث بخروج إنجلترا من قبضة الكنيسة (1531). ذلك أن انتشار ثورة لوثر في ألمانيا قد خلق لشارل الخامس متاعب وأخطاراً، كان يرجو أن تخف وطأتها بعقد مجلس عام. وألح على البابا بعقد هذا المجلس، وأغضبه ما كان ينتحله البابا المرة بعد المرة مع أعذار وتسويف. كذلك ساء كلمنت أن الإمبراطور قد منح فيرارا مدينتي رجيو ومودينا، فولى وجهه مرة أخرى شطر فرانسس، وقبل عرضاً تقدم به فرانسس وهو أن تتزوج مترينا ده ميديتشي من هنري ثاني أبناء الملك، ووقع مع الملك مواد سرية ارتبط فيها بمساعدة فرانسس على استعادة ميلان وجنوى (1531) (63). وعرض شارل مرة أخرى في مؤتمر ثان عقد في بولونيا (1532) بين البابا والإمبراطور أن يجتمع مجلس عام يلتقي فيه الكاثوليك والبروتستنت لعلهم يجدون صيغة يوفقون بها بين المذهبين. ورفض هذا الاقتراح أيضاً. ثم عرض أن تتزوج كترين من فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا نائب الإمبراطور في ميلان، لكنه تبين أن اقتراحه هذا جاء بعد فوات الوقت؛ فقد كانت كترين قد بيعت من قبل لغيره. وفي الثاني عشر من أكتوبر سنة 1533 التقى كلمنت بفرانسس في مرسيليا، وزوَج ابنة أخيه من هنري دوق أورليان. وكان من أكبر العيوب التي يتصف بها آل ميديتشي بوصفهم بابوات أنهم كانوا يرون أنفسهم أسرة مالكة، وأنهم كانوا في بعض الأحيان يضعون مجد أسرتهم فوق مصير إيطاليا أو الكنيسة.(21/218)
وحاول كلمنت أن يقنع شارل بأن يصطلح مع فرانسس؛ ولكن فرانسس رفض أن يجيبه إلى ما طلب، وبلغ من الصفات أن طلب إلى البابا أن يوافق على عقد حلف مؤقت بين فرنسا، والبروتسنت، والترك، ضد الإمبراطور (64). ولكن كلمنت ظن أن هذه خطوة جريئة لا يستطيع أن يخطوها.
"وفي هذه الظروف"، كما يقول باستور Pastor، " لا يسع الإنسان إلا أن يقول إن من حسن حظ الكنيسة أن كانت منية البابا قريبة") (65)، فقد بلغ الرجل أرذل العمر. لقد كان هنري الثامن، وقت تتويج البابا، لا يزال حامي حمى الدين الصحيح ضد لوثر؛ ولم تكن الثورة البروتستنتية قد اقترحت حتى ذلك الوقت تغييراً أساسياً في العقائد، بل كان كل ما طلبته هو إصلاحات في شؤون الكنيسة شرَعها مجلس ترنت Trent نفسه لها في الجيل التالي. تلك هي الحال وقت تتويجه، أما عند وفاته (25 سبتمبر سنة 1534)، فقد كانت إنجلترا، والدنمرقة، والسويد، ونصف ألمانيا، وجزء من سويسرا، كانت هذه كلها قد انفصلت انفصالاً تاماً عن الكنيسة، وكانت إيطاليا قد خضعت لسلطان أسبانيا خضوعاً شديد الخطر على التفكير الحر والحياة الحرة اللذين تمتاز بهما النهضة خيراً كانا أو شراً. وما من شك في أن عهده كان شر العهود كلها في تاريخ الكنيسة. لقد ابتهج كل انسان حين جلس كلمنت على كرسي البابوية، كما ابتهج كل إنسان عند موته، وكم من مرة دنس غوغاء روما قبره (66).(21/219)
الكتاب السادس
الخاتمة
1534 - 1576(21/221)
الباب الثاني والعشرون
أفول نجم البندقية
الفصل الأول
بعث البندقية
من الأمور العجيبة التي لانجد لها تفسيراً أن هذا العصر- عصر الاستعباد والاضمحلال لسائر إيطاليا، كان عصراً ذهبياً بالنسبة للبندقية. لقد قاست هذه الدولة الأمرين من حروب حلف كمبريه، واستولى الترك على كثير من أملاكها الشرقية، وكم من مرة اضطربت تجاراتها مع بلاد شرق البحر المتوسط من جراء الحرب والقرصنة، وكانت تجارتها مع الهند تنتقل من يدها إلى يد البرتغال. فكيف استطاعت إذن أن تعين في تلك الفترة من الزمان مهندسين معماريين مثل سانسوفينو Sansovino وبلاديو Palladio، وكتاباً مثل أربيتينو، ومصورين مثل تيشيان، وتنتورتو، وفيرونيز؟ وفي هذا العصر نفسه كان أندريا جبريلي Andrea Gabrieli يعزف على الأرغن ويرأس جوقة المرنمين في كنيسة سان ماركو (القديس مرقص)، ويكتب قصائد غزل يتردد صداها في جميع أنحاء إيطاليا. وكانت الموسيقى مما يولع به الأغنياء والفقراء على السواء؛ ولم يكن يضارع القصور القائمة على القناة العظمى في ترفها وفنها من الداخل إلا قصور رجال المصارف والكرادلة في روما؛ وكان مائة من الشعراء ينشدون أشعارهم في الخيام، والحانات، والميادين العامة؛ وعشر فرق تمثل المسالي؛ وأنشئت دور التمثيل الدائمة، وكانت فيتورية(21/223)
بيسيني Vittoria Pusseni " ساحرة الحب الجميلة la bella mage d'Amore" محبوبة المدينة في التمثيل، والغناء، والرقص، حين حلت النساء محل الغلمان في تمثيل أدوار النساء، وبدأ من ذلك الوقت عهد المهرجانات.
وسنحاول هنا تفسير هذه الظاهرة الخفية تفسيراً أعرج هو كل ما نستطيعه في الوقت الحاضر. وأول ما نقوله في ذلك أن البندقية نفسها لم تُغز قط وإن كانت قد أوذيت أشد الأذى من جراء الحرب. ولهذا بقيت منازلها وحوانيتها قائمة سليمة. وكانت البندقية قد استردت مالها من أملاك في شبه جزيرة إيطاليا، وكانت تضم مدناً عامرة بالسكان أمثال بدوا، وفيتشندسا، وفيرونا، بين روافدها التي تمدها بالعباقرة من رجال التعليم، والاقتصاد، والفنانين (أمثال كولمبو وكرنارو Cornaro في بدوا، وبلاديو في فيتشندسا، وفيرونيز من فيرونا). وكانت لا تزال تسيطر على مساحات واسعة للتجارة في البحر الأدرياوي وبالقرب منه. ولا يزال عند أسرها الشهيرة كنوز لم تفن بعد من الثروة المكتسبة الموروثة؛ وظلت التجارة القديمة مزدهرة ووجدت لها أسواقاً جديدة في العالم المسيحي؛ مثال ذلك أن زجاج البندقية قد وصل في ذلك العصر إلى حد الكمال في التبلور؛ واحتفظت البندقية بما كان لها من زعامة في منتجات الترف، وكان هذا العصر هو الذي اشتهرت فيه منتجاتها من المحرمات. وظلت البندقية، رغم ما فرض عليها من الرقابة الدينية، تأوي اللاجئين من السياسيين والمفكرين أمثال أريتينو الذي كان يتخلل فحشه وطربه من حين إلى حين كتابات أدبية تفيض تقى وصلاحاً.
وبرهنت البندقية في أواخر هذه الفترة مرتين على مالها من نشاط مدني وقدرة على الانتعاش، ففي عام 1571 قامت بدور رئيسي مع أسبانيا والبابوية في تجهيز بحرية مؤلفة من مائتي سفينة حطمت أسطولا تركياً(21/224)
مكوناً من 224 مركباً بالقرب من ليبانتو Lepanto في خليج كورنث، واحتفلت البندقية بهذا النصر الذي كان من شأنه ان يحتفظ بأوربا الغربية مسيحية احتفالاً دام ثلاثة أيام بلغ فيها المرح حد الجنون: فقد علقت في حي الجزيرة بالبندقية أعلام مرصعة بالفيروزج والذهب، ورفعت في النوافذ كلها أعلام أو طناقس ازدهرت بها القناة الكبرى في المدينة، وأقيم قوس نصر فوق جسر الجزيرة، وعرضت في الشوارع صور من صنع بليفي، وجيورجوني، وتيشيان، وميكل أنجيلو. وكانت حفلات التنكر التي أعقبت هذا النصر أكثر الحفلات التي عرفتها البندقية صخباً وضجيجاً، وكانت مثلا احتذته حفلات تنكرية كثيرة فيما بعد، فقد تنكر كل امرئ في المدينة وأطلق العنان لمرحه وعبثه، واطرح إلى حين كل قوانين الأخلاق، وانتقلت إلى أكثر من عشر لغات أسماء المهرجين أمثال بنتالوني Pantalone ودساني Zonni ( أي جوهاني Johanny) (1) .
ثم شبت حرائق مروعة في قصر الدوق في عامي 1574 و 1577 دمرت كثيراُ من حجراته وأتلفت كل ما فيها، فاحترقت صور من أعمال جنتيلي دا فبريانو Gentile da Fabriano، وأسرة بليني، وأسرة فيفاريني Vivarini وتيشيان، وبردينوني، وتنتورتو، وفيرونيزي، واختفى في يومين كل ما أخرجه الفن والجهد البشري من روائع. وتجلت روح الجمهورية بأجلى مظاهرها في السرعة والعزيمة اللتين أصلح بهما داخل القصر وأعيد إلى سابق عهده. فقد عهد إلى جيوفني دا بنتي Giovanni da Bonte أن يعيد بناء الغرف بالنظام الذي كانت عليه، وصمم كرستوفورو سورتى Cristoforo Sorte سقف قاعة المجلس الكبير Sala del Magior Consiglio العجيب في تسعة وتسعين قسما، ورسم صور الجدران تنتورتو، وفيرونيزي، وبالما
_________
(1) اصبح هذان اللفظان اسمين عامين يسمى بهما كل مهرج أو ماجن وهما في الأصل اسمان لشخصين بعينهما عاشا في ذلك الوقت. (المترجم).(21/225)
جيوفني، وفرانتشيسكو بسانو. وفي الحجرات الأخرى- كحجرة الاجتماع الخاصة بالدوج ومجلسه ( Collegio) ، وحجرة الانتظار ( Antecollegio) . وقاعة اجتماع مجلس الشيوخ Sala de' Pregadi- صمم رسم السقف، والأبواب، والنوافذ أعظم مهندسي العمارة- ياقوبو سان سوفينو Facopo Sansovino، وبلاديو، وأنطونيو اسكاربانيتو Antonio Scarpagnino، وألسندرو فتوريا.
وكان ياقوبو د. أنطونيو دى ياقوبو تاتي Jacopo d' Antonio di Jacopo Tatti من مواليد فلورنس (1486). "وأرسل على كره منه شديد إلى المدرسة" كما يقول فاساري، ولكنه أولع بالرسم، وشجعت أمه هذه الميل فيه، وتغلبت على معارضة أبيه الذي كان يرجو أن يكون ابنه تاجراً. وهكذا ذهب ياقوبو ليتدرب على يد المثال أندريا كنتوتشي دي مونتي سان سافينو Andrea Contucci di monte San Savino الذي أحب الغلام حباً جماً، وأخلص في تعليمه إلى حد جعل ياقوبو ينظر إليه نظرته إلى أبيه- واتخذ Sasovino وهو لقب أندريا لقباً له. وكان من حسن حظ الغلام فوق ذلك أن اتخذ صديقاً له أندريا دل سارتو Andrea del Sarto، ولعله أخذ عنه أسرار التصميم الرشيق المليء بالحياة. ونحت المثال الشاب وهو في فلورنس تمثال باخوس الذي يوجد الآن في معرض بارجيلو Bargello والذي اشتهر بتوازنه التام، وبالمهارة التي أمكنته من أن يقطع من قطعة واحدة من الرخام ذراع التمثال، ويده، وإناء الزهر المتزن بخفة فوق أطراف الأصابع. وكان كل إنسان يعطف على أندريا (دا ميكل أنجيلو)، ويساعده على تنسم ذروة التفوق والامتياز. فأخذه جيوليانو دا سانجلو Giuliano da Sangallo إلى روما، وهيأ له مسكناً فيها؛ وعهد إليه برامنتي أن يصنع صورة من الشمع للاؤكون Laocoon، فأجاد المثال صنعها إجادة جعلت الكردنال جرماني Grimani يطلب أن يصب له التمثال من البرنز. ولعل تأثير برامنتي هو الذي(21/226)
جعل أندريا يتحول من فن النحت إلى العمارة، ولم يلبث أن عهدت إليه أعمال تدر عليه الكثير من المال.
وكان في روما حيث نهبت المدينة، وفقد في أثناء النهب جميع ما يملك مثله في ذلك كمثل جميع الفنانين. واستطاع أن يتخذ طريقه للبندقية يرجو أن يسافر منها إلى فرنسا؛ ولكن الدوج أندريا جرني Andrea Gritti رجاه أن يعدل عن هذا السفر وأن يعمل لتقوية عمد كنيسة القديس مرقص وقبابها، وسر مجلس شيوخ المدينة من عمله سروراً جعله يعينه مهندس الدولة (1529)؛ وظل ست سنين يكدح في تحسين ميدان سان ماركو، فأزال حوانيت القصابين التي كانت تشوه منظر جوانبه، وشق شوارع جديدة، وعمل على جعل ميدان القديس مرقص ذلك المكان الرحب الذي نشاهده اليوم.
وفي عام 1536 أنشأ دار الضرب ( Zecca) ثم بدأ أشهر مبانيه كلها وهو مبنى دار الكتب Libraria Vecchia، المواجه بقصر الدوج. ووضع تصميما للواجهة جعل لها فيه رواقين ذوي عمد دورية وأيونية الطراز، وشرفات وأطناف، وزينها بالتماثيل. ويقول بعضهم إن هذه المكتبة القديمة "أجمل بناء غير ديني في إيطاليا كلها" (1)؛ غير أنها يؤخذ عليها الإسراف في العمد؛ هذا إلى أن بناءها نفسه لا يضارع بناء قصر الدوج. ومهما يكن من شيء فإن ولاة الأمور أحبوها، ورفعوا من أجلها مرتب سان سوفينو، وأعفوه من الضرائب. وحدث في عام 1544 أن انهارت إحدى البواكي الرئيسية، وخرت إحدى القباب، فألقى سان سوفينو في السجن، وفرضت عليه غرامة كبيرة، ولكن أريتينو وتيشيان أقنعا ولاة الأمور بالعفو عنه. ورممت الباكية والقبة، وتم البناء بنجاح في عام 1553. وكان سان سوفينو في هذه الأثناء (1540) قد وضع تصميم اللوجيتا Logetta الجميلة أو شرفة الشرطة القائمة على الجانب الشرقي من برج الأجراس وزينها بالتماثيل(21/227)
المصنوعة من البرنز أو القرميد؛ وصب في كنيسة القديس مرقص أبواباً من البرنز لإحدى حجر المخلفات، وانتهز هذه القرصة فصور بين النقوش البارزة أريتينو وتيشيان، ولم يكتف بهذا بل صور نفسه أيضاً.
وكان الرجال الثلاثة وقتئذ قد أصبحوا من أحب الأصدقاء، تحسدهم الدوائر الفنية في البندقية، وتسميهم: "الحكومة الثلاثية Triumvirate (1) . وكم من سهرة قضوها معاً يمضون الوقت في الثرثرة أو يحتفلون بإحدى الحسان التي يستطيعون الاحتفال بها وقتاً ما. ولم يكن ياقوبو يقل عن أريتينو ائتلافاً مع أذواق النساء، وقد عاش من العمر بقدر ما عاش تيشيان، فقد ظل قوي الجسم، سليم البدن، يستمتع كما يؤكد عارفوه بقوة بصره كاملة حتى بلغ سن الرابعة والثمانين (2). وظل خمسين سنة لا يستشير طبيباً، وكان في فصل الصيف يعيش على الفاكهة لا يكاد يطعم سواها. ولما استدعاه البابا بولس الثالث ليخلف أنطونيو دا سنجالو في منصب كبير المهندسين في كنيسة القديس بطرس رفض هذه الدعوة وقال إنه لا يرضى أن يستبدل بحياته في ظل الجمهورية العمل في ظل حاكم مطلق (3). وعرض عليه كل من إركولي الثاني صاحب فيرارا، وكوزيمو دوق فلورنس، مبالغ طائلة لكي يرضى بالإقامة في بلاطيهما، ولكنه رفض ما عرضاه عليه. ومات ميتة هادئة في عام 1570 بعد أن بلغ الخامسة والثمانين من العمر.
وفي ذلك العام ظهر مؤلف في العمارة كان بداية عهد جديد في هذا الفن. واسم هذا الكتاب هو أربعة كتب في العمارة ومؤلفه أندريا بلاديو الذي سمى باسمه طراز من البناء لا يزال باقيا في أماكن متفرقة حتى يومنا هذا. وسافر أندريا إلى روما كما سافر إليها كثيرون غيره من الفنانين، وتأثرت مشاعره أشد التأثر بعظمة خرائب السوق العامة، وشغف حبا بالعمد والتيجان المحطمة، ورأى فيها أجمل الأفكار التي وصل إليها فن
_________
(1) إشارة إلى الحكومة الثلاثية في روما القديمة. (المترجم).(21/228)
العمارة؛ وكان يحفظ رسالة فتروفيوس عن ظهر قلب، وقد حاول في كتابه هو أن يرد إلى مباني النهضة جميع تلك المبادئ التي قام عليها، في رأيه، مجد روما القديمة. وقد خيل إليه أن أجمل المباني هي التي تبتعد عن جميع الزخارف التي لا تنبت بنفسها من طراز الإنشاء نفسه، والتي تستمسك بأدق النسب والصلات، وبتطابُق الأجزاء ومواءمتها بحيث يتكون منها كل عضو يسمو عظيماً قوياً طاهراً طهارة العذراء العفيفة، مهيباً كالإمبراطور العظيم.
وكان أول أعماله الكبيرة أحسنها على الإطلاق، وهو من أبرز المنشآت غير الدينية في إيطاليا. ذلك أنه أقام حول قاعة البلدية Palazzo della Ragione في موطنه فيتشندسا Vicenza في عام 1549 وما بعدها أروقة مقنطرة فخمة قوية حول بها مركز البناء القوطي الذي لا يمتاز بشيء عما حوله إلى باسلقا بلاديانا لا تكاد تقل شأناً عن باسلقا لوليا التي كانت قائمة في الزمن القديم في السوق الرومانية: فهي مؤلفة من صف من الأقواس تعتمد على عمد دورية (1) أسطوانية ومربوعة، وعارضات لها قوية ضخمة، وسياج وشرفة منحوتة نحتاً رشيقاً، ثم صف آخر من العقود فوق عمد أيونية الطراز، وأطناف وسياج، وفوق كل بندريل تمثال عال يطل على المدينة ويكسبها عظمة وفخامة. وقد كتب هو نفسه عنها في كتابه بعد واحد وعشرين عاماً من بنائها يقول: "لا شك عندي في أن هذا الصرح لا يقل جلالاً عن الصروح القديمة، وأنه يمكن أن يعد من أروع وأجمل ما شيد من العمائر منذ أيام الأقدمين" (4). ولو أنه قصر هذا التحدي على المباني غير الدينية لما كان عليه في تثريب.
وأصبح بلاديو بعدئذ بطل فيتشندسا التي أحست بأنه قد تفوق على سانسو فينو، وأن هذا الصرح أعظم من بناء دار الكتب. وألح عليه أثرياء
_________
(1) أي من الطراز الدوري ( Doric) . ( المترجم)(21/229)
المدينة يطلبون أن يقوم لهم ببناء القصور والبيوت الريفية؛ كما ألح عليه رجال الدين ليشيد الكنائس؛ وكانت النتيجة ذلك أنه كاد يجعل المدينة قبل وفاته عام 1580 قطعة من روما. وكان مما شاده فيها شرفة مكشوفة تدار منها شؤون المدينة، ومتحف جميل، ودار تمثيل أطلق عليها اسم Teatro Olimpico. واستدعته البندقية وفيها خطط كنيستين من أجمل كنائسها هما كنيستا سان جيورجيو مجيوري، وريدينتوري Redentore، وأصبح حتى قبل وفاته ذا أثر قوي في إيطاليا. ونقل إنيجو جونز Inigo Jones في أوائل القرن السابع عشر الطراز البلاديوني إلى إنجلترا، وانتشر بعدئذ في أوربا الغربية ثم انتقل إلى أمريكا.
وربما كان انتشار هذا الطراز من سوء حظ فن العمارة. ذلك أنه لم يبلغ قط ما بلغه فن العمارة الرومانية من روعة ومهابة، فقد أربك واجهات مبانيه بما ملأها به من العمد، والتيجان، والطنوف، والصور، والتماثيل، فكانت هذه التفاصيل مما يزري بما في الصروح الرومانية الطراز من بساطة في الخطوط ووضوح في المنظر العام. ولقد نسي بلاديو وهو يعود متواضعاً إلى الطراز القديم أن الفن الحي يجب أن يعبر عن العصر الذي يعيش فيه ومزاجه، لا عن عصر آخر ومزاج آخر. ومن أجل هذا فإننا حين نفكر في عصر النهضة، لا ترتسم في عقولنا مبانيه، بل ولا تماثيله نفسها، وإنما ترتسم فيها صوره التي لا يتمثل فيها إلا القليل من تقاليد الإسكندرية وروما، التي حررت نفسها من القوالب البيزنطية المزدحمة الغير طبيعية، فكانت بذلك صوت ذلك العصر ولونه بحق.(21/230)
الفصل الثاني
أريتينو
1492 - 1556
وكأن الأقدار أرادت أن تخلد ذكرى عام 1492 فقدرت أن يولد بيترو أريتينو، المنكل بالأمراء، وأمير المبتزين المغتصبين، كما قدرت أن يخرج إلى العالم في يوم الجمعة الحزينة من ذلك العام. وكان والده حذاء فقيراً في أرتسو لا نعرف من اسمه إلا لوكا Luca. وسمي بيترو في الوقت المناسب، كما كان يسمى كثيرون غيره من الأيطاليين، باسم مسقط رأسه فصار أريتينو. وكان أعداؤه يصرون على أن أمه كانت عاهراً؛ ولكنه كان ينكر ذلك ويقول إنها كانت فتاة حسناء تدعى تيتا Tita يتخذها المصورون نموذجاً لرسم صورة العذراء، غير أنها في ساعة من الاستهتار حملت بييترو وهي في أحضان عشيق عارض ولكنه نبيل يدعى لويجي باتشي Luigi Bacci. ولم يكن أريتينو يعبأ بأنه نغل، لأن له زملاء ممتازين من هذا الصنف من الناس، كذلك لم يكن أبناء لويجي الشرعيون يغضبهم أن يسميهم بيترو، بعد ان ذاع صيته، اخوته. لكن أباه كان هو لوكا.
ولمما أتم الثانية عشرة من عمره شرع يعمل لكسب عيشه، فاشتغل مساعد مجلد كتب في بيروجيا؛ وهناك درس الفن دراسة تكفي لأن تجعله فيما بعد نقاداً وخبيراً ممتازاً. ورسم هو بعض الصور الملونة. واتفق أن كانت في أشهر ميادين بيروجيا صورة دينية يعزها أهل المدينة ويجلونها، تمثل صورة مجدلية خاشعة عند قدمي المسيح. فما كان من أريتينو في إحدى الليالي إلا أن رسم عوداً في أحضان مجدلية فحول بذلك دعاءها إلى أغنية. ولما استشاطت المدينة غضباً من هذه الفعلة الطائشة، تسلل بيبرو من بيروجيا وأخذ يطوف في إيطاليا، فعمل خادماً في روما، ومغنيا في شوارع(21/231)
فيتشندسا، وصاحب نزل في بولونيا. واشتغل فترة من الزمان في مطبخ بعض السفن وعاملا مأجوراً في دير، لكنه طرد منه لاتهامه بالدعارة، فعاد إلى روما (1516)، حيث عمل خادماً عند أجوستينو تشيجي. ولم يكن الرجل المصرفي يقسو في معاملته، ولكن أريتينو كان قد كشف عما امتاز به من عبقرية، وتضايق من الاشتغال بالخدمة؛ فكتب قطعة من الهجاء اللاذع يصف فيها حياة الخادم الحقير الذي يقضي وقته في تنظيف المراحيض، وتلميع المباول ... وإشباع شهوات الطباخين ورؤساء الخدم، ولا يلبث أن يرى جسمه مرقطاً ومزداناً بالزهري" (6). وعرض قصائده على بعض ضيوف تشيجي، وترامت الأنباء بأن بيترو أحد الهجائين لساناً وأعظمهم فكاهة. وبدأت قصائده تنتشر، وسر منها البابا ليو، وبعث في طلب مؤلفها، وضحك من فكاهته الخشنة الصريحة، وضمه إلى الموظفين البابويين ليكون في مركز وسط بين الشاعر والمهرج، وظل بيترو ثلاث سنين في خدمة البابا يستمتع بلذيذ المأكل والمشرب.
ثم مات ليو فجأة، وبدأ أريتينو حياة التجوال مرة أخرى. ولما أبطأ مجمع الكرادلة في اختيار من يخلفه، كتب عدة قصائد يهجو فيها الناخبين والمرشحين، ولصقها على تمثال بسكوينو Pasquino وأخذ يكيل السخرية لكثيرين من الكبار حتى لم يكد يبقى له في المدين كلها صديق. ولما انتخب أدريان السادس، وبدأ حملة للإصلاح نفر منه أهل المدينة، فر بيترو إلى فلورنس، ثم إلى مانتوا (1523)، حيث عينه فيديريجو شاعر بلاطه بمرتب غير كبير. ولما استجيب دعاء روما ومات أدريان، وجلس ثري من آل ميديتشي مرة أخرى على عرش العروش، بادر بيترو بالذهاب إلى العاصمة كما بادر بالذهاب إليها آلاف غيره من الشعراء، والفنانين، والأوغاد، والرقعاء.
وما كان يصل إليها حتى قضى بنفسه على ما لقيه فيها من ترحيب.(21/232)
ذلك أن جيوليو رومانو كان قد رسم عشرين صورة، تصف عدة مواقف غرامية مختلفة. ووضع مركانتونيو نقوشاً محفورة لهذه الصور، "وكتببيترو أريتينو". كما يقول فاساري "أغنية بلغت من الفحش درجة لا أستطيع معها أن أقول أيهما شر من الأخرى: الرسوم أو الألفاظ" (7). وتداول المفكرون الصور والأغاني حتى وصلت إلى جبيرتي Giberti وهو الموظف المنوط ببحث حالات موظفي الحكومة البابوية ولياقتهم لوظائفهم، وكان هذا الموظف معروفاً بعدائه لأريتينو. وسمع بذلك بيترو فخرج من المدينة هائماً على وجهه مرة أخرى. ولما وصل إلى بافيا افتتن به فرانسس الأول الذي أوشك أن يفقد كل شيء عدا الشرف. وفي ذلك الوقت بدل أريتينو موضوعه، وانقلب من النقيض إلى النقيض، ودهشت لذلك روما وحبست أنفاسها من فرط الذهول؛ فقد كتب ثلاثة قصائد في المديح، واحدة منها عن كلمنت، وثانية عن جبيرتي، وثالثة عن فيديريجو. وشفع له المركيز لدى البابا، ورق له قلب جبيرتي، وأرسل كلمنت في طلب أريتينو وعينه فارساً في رودس ورتب له معاشاً. وقد وصفه فرانتشيسكو بيرتي منافسه الوحيد بين الهجائين وقتئذ بقوله:
إنه يسير في شوارع روما في زي الأدواق، ويشترك في جميع مغامرات الأشراف، ويشق لنفسه الطريق بالإهانات المتخفية في الألفاظ الماكرة الخادعة. وهو يجيد الحديث، ويعرف كل قصة من قصص الطعن والتشهير في المدينة. ويسير متأبطاً أذرع أفراد أسرة أوست وجندساجا، ويستمع هؤلاء إلى ثرثرته: وهو يحترمهم ولكنه يشمخ بانفه على كل واحد سواهم، ويعيش من هباتهم، والناس يخشونه لما له من قدرة على الهجاء، ويسره أن يستمع الناس يصفونه بأنه ساخر نمام وقح. وكل ما كان يحتاجه أن يظفر بمعاش، وقد حصل عليه من البابا بعد ان وجه له قصيدة من الدرجة الثانية (8).(21/233)
ولم يكن أريتينو يشك في أنه سيحصل على هذا كله. وكأنما أراد أن يثبت هذا فطلب إلى سفير مانتوا أن يرجو فيديريجو أن يهبه "قميصين مطرزين بالذهب ... وآخرين مشغولين بالحرير، ومعها قلنسوتان من الذهب". فلما أبطأت عليه هذه المطالب أنذر بأنه سوف يهجو المركيز هجوا يقضي عليه من فوره. وحذر السفير فيديريجو من هذا بقوله: "إن سموك لتعلم قوة لسانه؛ ولن أقول لك شيئاً غير هذا". وسرعان ما وصلت أربعة قمصان مطرزة بالذهب، وأربعة مطرزة بالحرير، وقلنسوتان من الذهب، وقبعتان من الحرير، وكتب السفير يقول: "إن أريتينو راض قانع". وكان في وسع بيترو أن يرتدي وقتئذ رداء الأدواق.
وقضى على فترة الرخاء الثانية في روما حادث روائي إلى إصابته خفية بطعنات خنجر. وتفصيل ذلك أن أريتينو قال أبياتاً أهان بها فتاة تعمل في مطبخ جبيرتي، فهاجمه خادم آخر من خدم جبيرتي يدعى أتشيلي دلا فولتا Achille della Volta في أحد شوارع المدينة في الساعة الثانية صباحاً (1525)، وطعنه بخنجر في صدره طعنتين، كما طعنه طعنة شديدة في يده اليمنى أدت إلى بتر إصبعين من أصابعهما. ولم تكن الجراح مميتة، وسرعان ما شفي منها أريتينو، وطالب باعتقال أتشيلي، ولكن كلمنت وجبرتي لم يتدخلا في الأمر. وظن بيترو أن جبيرتي يعمل لقتله، فاستقر رأيه على أن الوقت قد آن للطواف مرة أخرى بإيطاليا، فانتقل إلى مانتوا والتحق مرة أخرى بخدمة فيديريجو (1525). ولما سمع بعد عام من ذلك الوقت أن جيوفني دلى باندى نيرى يجهز جيشاً يقصد به غزو فرندسبرج، ثارت في نفسه ذرة خفية من النبل والكرامة، فسافر راكباً نحو مائة ميل لينضم إلى جيوفني في لودى Lodi. وغلى كل ما في عروقه من الدم حين فكر في أنه وهو الشاعر المسكين قد يصبح رجل جد وعمل، وأنه قد يبلغ من أمره أن ينشئ لنفسه إمارة يتولى هو رياستها، بدل أن يكون مجرد خادم مهين لأمير.(21/234)
والحق أن القائد الشاب كان كريماً معه كرم دون كيشوت، فوعده بأن يجعله مركيزاً إن لم يكن أعظم من مركيز. ولكن جيوفني الباسل قتل، وخلع أريتينو الخوذة التي أعطيها وعاد إلى مانتوا وإلى قلمه.
وألف وقتئذ تقويماً هزلياً لعام 1527 تنبأ فيه بنبوءات سخيفة أو سيئة لمكن كلن يبغضهم، وضم إلى ضحايا قلمه البابا كلمنت لغضبه عليه بسبب ضعف المعونة التي قدمها إلى جيوفني دلى باندي وتردده في تقديمها. وأظهر كلمنت دهشته من أن يأوى فيديريجو مثل هذا العدو للبابوية الذي لا يظهر لها شيئاً من الإجلال، فما كان من فيديريجو إلا أن نفح أريتينو بمائة كرون وأشار عليه بأن يبتعد عن متناول يد البابا. فر عليه بيترو بقوله: "سأذهب إلى البندقية، ففي البندقية وحدها تمسك العدالة بكفتين متزنتين" .. ووصل إليها في شهر مارس عام 1527، واتخذ له بيتاً على القناة الكبرى. وافتتن بالمناظر التي كان يراها من وراء الأمواه الضحلة، وبحركة المرور التي كان يشاهدها فيما أسماه "أجمل طريق كبير في العالم كله"؛ وكتب في ذلك يقول: "لقد استقر رأيي على أن أعيش في البندقية طول حياتي". وبعث بخطاب يهدي فيه تحياته وثناءه العظيم إلى الدوج أندريا جبيرتي، ويمتدح فيه جمال البندقية وجلالها وعدالة شرائعها، وما يستمتع به أهلها من أمن وطمأنينة، وإيواءها اللاجئين السياسيين والمفكرين، واضاف إلى ذلك في عظمة وجلال: "أنا، الذي قذفت الرعب في قلوب الملوك .. أسلم نفسي إليكم يا آباء شعبكم" (9). وقدره الدوج التقدير الذي قدر به نفسه، وأكد له أنه سيبسط عليه حمايته، ووظف له معاشاً، وشفع له عند البابا، وبقي أريتينو مقيما في البندقية وفياً لها طوال السنين التسع والعشرين الباقية من حياته، وإن كانت قد جاءته الرسائل تدعوه إلى الإقامة في بلاط الكثيرين من رؤساء البلاد الأجنبية.
ويشهد ما جمعه في بيته الجديد من أثاث وتحف فنية بما كان لقلمه من(21/235)
قوة، لأن هذا كله إنما صنع أو جمع نتيجة لكرم أنصاره أو خوفهم منه. من ذلك أن نتورتو نفسه هو الذي نقش سقف حجرات بيترو الخاصة، وسرعان ما ازدانت جدرانها بصور من عمل تيشيان، وسباستيانو دل بيومبو، وجيوليو رومانو، وبرندسينو، وفاساري؛ وكان في الدار تماثيل من صنع ياقوبو سانسو فينو، وألسندرو فتوريا. وكانت فيها علبة من خشب الأينوس تحوي الرسائل التي تلقاها أريتينو من الأمراء، والأحبار، وقواد الجيوش، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين، وكرائم السيدات؛ وقد نشر هذه الرسائل فيما بعد في مجلدين يحتويان على 875 صفحة كثيرة السطور. وكان في الدار فوق ذلك صناديق وكراسي محفورة، وسرير من خشب الجوز يليق بجسم بيترو الذي كان قد تضخم. وكان أريتينو يعيش وسط هذا الترف وهذه التحف الفنية، يرتدي ثياب الأمراء، ويوزع الصدقات على الفقراء من الجيران، ويولم الولائم لعدد لا يحصى من الأصدقاء وللعشيقات اللاتي اتخذهن واحدة بعد واحدة.
ترى من اين جاء بالمال الذي يحيا به هذه الحياة المترفة؟ لقد جاء يبغضه من بيع كتاباته للناشرين، وبعضه من الهدايا والمرتبات التي كان يبعث بها إليه من يخشى سخريته أو يلتمس مديحه من الرجال والنساء. وكان أكثر الناس يقظة وشأناً في إيطاليا يسارعون إلى ابتياع ما يخطه قلمه من هجاء، وقصائد؛ ورسائل، ومسرحيات، وكلهم حريص على أن يعرف ما يقوله عن الأشخاص والحوادث، ويسر من هجماته على ما هو منتشر في تلك الأيام من سفاد، ونفاق، وظلم، وسوء خلق. وقد أضاف أريستو إلى الطبعة التي أصدرها في عام 1532 من أرلندو فيوزيوسو Orlando Furioso يتبين من الشعر أضافا لقبين إلى اسم بيترو إذ قال: "انظروا إلى المنكل بالأمراء، بيترو أريتينو القدسي؛ وسرعان ما أصبح الطراز المألوف أن يتحدث الناس عن أكبر كاتب فظ بذئ في ذلك الوقت بأنه "قدسي".(21/236)
وذاعت شهرته في أنحاء القارة الأوربية، وسرعان ما ترجم هجاؤه إلى اللغة الفرنسية، وجمع أحد باعة الكتب في شارع سان جاك في باريس ثروة طائلة من بيعها مفردة (11)، ورحب بها سكان إنجلترا، وبولندا والمجر، وقال في ذلك أحد معاصريه إن أريتينو ومكيفلي هما دون غيرهما المؤلفان اللذان تقرأ مؤلفاتهما في ألمانيا، وفي روما حيث يقيم ضحايا قلمه المحببون كانت كتاباته تنفذ في يوم نشرها، وإذا جاز لنا أن نأخذ بتقديره هو فإن ايراده من مؤلفاته المختلفة بلغ ألف كرون (12. 500 دولار؟) في العام الواحد. وفضلا عن هذا فإن "كيمياء قلمي قد جاءت إلي بأكثر من 25. 000 كرون ذهبي من أشحاء مختلف الأمراء". وكان الملوك، والأباطرة، والأدواق، والبابوات، والكرادلة، والسلاطين، والقراصنة، ممن يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون. وهاهو ذا شارل الخامس يعطيه طوقاً يقدر بثلاثمائة كرون، وفيليب الثاني يعطيه طوقاً آخر يقدر بأربعمائة، وفرانسس الأول يهبه سلسلة أعظم منها قيمة (12). وكان فرانسس وشارل يتنافسان في كسب مودته بما يعدانه به من معاش ضخم، وقد وعده فرانسس بأكثر مما وهبه، وقال عنه أريتينو: "لقد كنت أجلَه أعظم إجلال، ولكن عجزي عن استثارة سخائه والحصول من هذه الاستثارة على المال ليكفي لأن يبرد أفران مورانو (الضاحية التي تتركز فيها صناعة الزجاج، بالبندقية) " (13). وعرض عليه لقب "فارس" من غير أن يصحب اللقب إيراد ما، فرفضه وقال "إن الفروسية بلا دخل كالجدار الذي لا يحمل علامة "ممنوع" فعنده يرتكب كل إنسان ما يشاء من المضايقات" (14). وهكذا سخر أريتينو قلمه للثناء على شارل وخدمه بإخلاص لم يألفه قط. ودعي مرة لمقابلة الإمبراطور في بدوا، فلما أقبل على المدينة خرجت جموع كبيرة تحييه كما تحيي أعظم العظماء المشهورين، وآثر شارل أريتينو على جميع الحاضرين فاختاره للركوب إلى جانبه وهو يطوف بالمدينة، وقال له:(21/237)
"إن كل سميذع في أسبانيا يعرف كتاباتك، ويقرأ كل ما يصدر منها فور طبعه". وجلس ابن الحذاء في تلك الليلة عن يمين الإمبراطور، الذي دعاه لزيارة أسبانيا، فرفض بيترو بعد أن عرف ما هي البندقية. وكان أريتينو وهو جالس إلى جانب فاتح إيطاليا أول مثل لما أسماه الناس بعدئذ قوة القلم، فما من نفوذ شبيه بنفوذه ظهر بعدئذ في الأدب حتى جاء فلتير.
وقلما يسترعي هجاؤه انتباهنا في هذه الأيام، ذلك أن قوته تعتمد في الغالب على الإشارات اللاذعة لحوادث محلية، وثيقة الصلة بظروف ذلك الوقت إلى حد يحرمها من أن يكون لها أثر دائم. وكان سبب انتشار ذلك الهجاء وشهرته أنه يصعب على الإنسان ألا يستمتع بكشف عورات غيره من الناس، ولأن قائله يعرض بالمساوئ الحقة، ويهاجم بشجاعة العظماء والأقوياء، ولأنه حشد جميع ما في لغة الشوارع من قوة لخدمة الأدب والتجريح الأدبي النافع. وقد استغل أريتينو اهتمام الناس الفطري بالشؤون الجنسية وبالخطايا، فكتب في ذلك أحاديث Ragionamenta بين العاهرات عن أسرار الراهبات، والزوجات، والعشيقات وأعمالهن. وكانت الصفحة الأوبى من الكتاب تعلن أنه محاورات نانا وأنطونيو ... ألفه أريتينو القدسي لقرده المدلل كبريتشيو Capricio، ولإصلاح شأن طبقات النساء الثلاث. قدم للطباع في هذا اليوم من شهر إبريل سنة 1533 بمدينة البندقية الذائعة الصيت" (15). وفي هذا الكتاب يستبق أريتينو ما تتسم به كتابات ربليه Rabelais من فحش، وسخرية، وولع بالأوصاف يصل إلى حد الجنون، وهو يهيم حباً بالعبارات التي لاتزيد على أربعة أسطر، ويؤلف منها أحياناً عبارات فذة مدهشة كقوله: ("أراهن بروحي نظير حبة فستق")، وأوصافاً رائعة كوصفه الزوجة الحسناء التي فيسن السابعة عشرة والتي هي "أجمل قطعة من اللحم أظن أني لقيتها في حياتي"- والتي تزوجت برجل في سن الستين، واعتادت المشي وهي نائمة تتخذه وسيلة لمقارعة حراب(21/238)
الليل" (16). والنتيجة التي تستخلص من المحاورات هي أن المومسات أجدر طبقات النساء الثلاث بالمديح، لأن الزوجات والراهبات ينكثن بأيمانهن، أما الموسمات فيعشن كما تحتمه عليهم حرفتهن، ويقضين الليلة في أداء ما تناولن عنه أجرهن. ولم تروع أقواله إيطاليا، بل تلقتها بالضحك والابتهاج.
وألف أريتينو في ذلك الوقت نفسه أكثر مسرحياته كلها انتشاراً وهي مسرحية المومس. وقد سلك فيها النهج الذي سارت عليه معظم المسالي الإيطالية في عهد النهضة، فقد جرت على التقاليد البلوتينية، التي تجعل الخدم يسخرون من أسيادهم، ويحيكون لهم ما يريدون من الدسائس، ويعملون لهم قوادين، ويتولون عنهم التفكير. غير أن أريتينو أضاف إلى ذلك شيئاً خاصاً به: هو سخريته وفكاهته الفاجرة الفاحشة، وعلاقته الوثيقة بالعاهرات، وكراهيته لحاشية الملوك والأمراء، - وخاصة حاشية البابا- ووصفه الصادق الطليق للحياة كما شاهدها في المواخير وفي قصور روما. وقد أزاح الستار عن حاجة رجل البلاط إلى النفاق، والتذبذب، والتذلل، والملق؛ وعرف النميمة في سطر مشهور بأنها "قول الحق"، وكان ذلك لأقوى وأحكم دفاع عن حياته وتبرير لها. وكتب أريتينو مسلاة أخرى هي أطلنطا جعل فيها الشخصية الهامة عاهراً أيضاً، وجعل محور القصة ما تحتال به من الحيل على محبيها، والطرق التي تبتز بها المال منهم بعد أن تهيجهم. وله مسرحية أخرى تدعى Ipocrita شبيهة كل الشبه بمسرحية طرطوف لمليير، بل الحق أن مسالي مليير ليست إلا حلقات فرنسية من مسالي أريتينو أصلحت وطهرت من رائحتها الخبيثة.
وألف أريتينو في نفس العام الذي أخرج فيه أناشيد المواخير طائفة كبيرة من المؤلفات الدينية منها إنسانية المسيح، ومزامير التوبة السبعة، وحياة مريم العذراء، وحياة كترين العذراء، وحياة القديس تومس،(21/239)
سيد أكوينا وغيرها .. ومعظم هذه المسرحيات قصص لا تاريخ، وقد أقر بيترو بأنها "أكاذيب شعرية"، ولكنها أكسبته ثناء الرجال الصالحين، وحتى ثناء فتوريا كولنا الصالحة الفاضلة. وكانت بعض الجهات ترى أنه دعامة كبرى للكنيسة، وراجت في وقت ما إشاعة بأنه سيعين كردنالا.
وأكبر الظن أن رسائله هي التي أبقت على شهرته كما أبقت على ثروته وكانت الكثرة الغالبة منها مدائح بعث بها إلى الممدوحين أو إلى أشخاص متصلين بهم. وكان يقصد بها صراحة أن ينال رفدهم، أو معاشاً منهم، أو غير هذا وذاك من المساعدات؛ وكان في بعض الأحيان يعين ما يريد أن يناله والوقت الذي يناله فيه. وكان أريتينو لا يكاد يكتب هذه الرسائل حتى يطبعها، وكان هذا أمراً تستلزمه قوتها الإيحائية. وكانت إيطاليا تتخاطبها لأنها تتيح لها بطريق غير مباشر أن تكون وثيقة الصلة بالمشهورين من الرجال وبشهيرات النساء، ولأنها كتبت بطريقة مبتكرة مليئة بالحياة، والبهجة، والقوة، لا يسمو إليها أي كاتب آخر في ذلك الوقت. وكان أريتينو من ذوي الأسلوب الممتع وإن لم يسع هو إلى أن يكون له هذا الأسلوب. وكان يسخر من آل بمبو الذين كانوا يعملون لصقل كتاباتهم صقلا كاملا يفقدها الحياة كلها، وقد قضى على عبادة الكتاب الإنسانيين؛ اللغة اللاتنية، والدقة المتناهية في مراعاة قواعد اللغة ورشاقة اللفظ. وكان يتظاهر بأنه يجهل الأدب، ولهذا كان يشعر بالتحرر من النماذج الموضوعة المعقدة الملتبسة، ولم يكن يتقيد في كتاباته إلا بقاعدة واحدة تسيطر عليه دون غيرها وهي أن تكون كتابته تلقائية في لغة بسيطة خالية من اللف والدوران، معبرة عن تجاربه في الحياة ونقده لها، وعن حاجاتها البسيطة المألوفة من طعام وكساء. وفي وسعنا أن نجد بين أكداس السخافات التي تحتويها هذه الرسائل ماسات متلألئة: رسائل رقيقة لعاهر محبوبة في مرضها، وقصصاً مضطربة من التاريخ المحلي، ومغرب الشمس يصفه في رسالة إلى(21/240)
نيشيان لا تكاد تقل جمالا عن صورة من صنع نيشيان أو تيرنر Turner؛ ورسالة لميكل أنجيلو يشير عليه فيها بوضع تصميم لصورة العشاء الأخير أليق بها من التصميم الذي وضعه الفنان.
وكان إدراك أريتينو للفن، وتقديره إياه من بين الصفات الطيبة في خلقه وكان أقرب أصدقائه الذكور إليه وأوثقهم صلة به تيشيان وسانسوفينو. وكثيراً ما اجتمعا في ولائم تزدان في العادة بصحبة النساء، وكن من الساقطات؛ فإذا ما دار الحديث فيها حول الفن لم يكن أريتينو تعوزه القدرة على مجاراة الفنان الكبير. وكان يتغنى في رسائله بمديح تيشيان لعدد كبير ممن يتوسم فيهم مناصرة الفن؛ وقد استطاع أن يحصل له على عدد من الأعمال ربما كان له هو نصيب في إنجازها. وكان أريتينو هو الذي أقنع الدوج، والإمبراطور، والبابا، بأن يجلسوا أمام تيشيان ليصورهم، كذلك صور تيشيان أريتينو مرتين. وادعى سانسوفينو أنه ينحت صورة لأحد القديسين، ووضع رأس الشهواني العجوز فوق باب غرفة من غرف المقدسات في كنيسة القديس مرقص، وربما كان ميكل أنجيلو قد صوره هو على أنه القديس بارثولميو في صورة العشاء الأخير.
وكان أحسن وأسوأ من الصورة التي رسمت له؛ وقد اجتمعت فيه الرذائل كلها تقريباً، وكان اللواط من التهم التي رمى بها. وكان نفاقه مما جعل صورة إبوكريتا (النفاق) تبدو صورة صادقة إذا قورنت بأخلاقه هو نفسه. وكان يستطيع إذا شاء أن يجعل لغته ستاراً لحمأة من الأقذار. وكان في وسعه أن يكون وحشياً مجرداً من صفات الرجولة، يشهد بذلك ما أظهره من الشماتة في سقوط كلمنت؛ ولكنه أوتي من الكرم ما جعله يكتب فيما بعد: "إني لأستحي من أنني حسن ذممته قد فعلت ذلك وهو في أفدح الخطوب" (17). وكان جباناً لا يستحي من جبنه؛ ولكنه أوتي من الشجاعة ما يستطيع به أن يشنع على الأقوياء، ويندد بالمساوئ التي يعتز بها بعضهم(21/241)
أعظم اعتزاز. وكان السخاء أبرز فضائله. فقد كان يعطي أصدقاءه ويهب الفقراء جزءاً كبيراً مما يحصل عليه من المعاش، والمكاسب، والهدايا، والرشا.
ونزل عن حقه في أرباح رسائله حتى يستطاع بيعها رخيصة، وحتى يذيع صيته ويعلو قدره. وكان يصل إلى حافة الإفلاس في كل عام قرابة عيد الميلاد لكثرة ما يهبه من الأموال، وفي ذلك يقول جيوفني دلى باندي نيري لجوتشارديني: "لست أقل سخاء من أحد من الناس إلا إذا قورنت ببيترو إن أوتي المال الذي يسخو به" (18). وكان يساعد أصدقاءه على بيع رسومهم، وعلى أن يطلق سراحهم من السجون (كما فعل سانسوفينو). وقد كتب مرة يقول: "ما من أحد إلا يأتي إلى كأني خازن بيت مال الملوك؛ فإذا اعتقلت بنت فقيرة، وفي بيتي بما تطلبه من نفقات، وإذا سجن إنسان ما تحملت أنا نفقة إخراجه، والجنود الذين ينقصهم العتاد، والغرباء الذين خانهم الحظ، والفرسان الجائلون الذين لا يحصى لهم عدد، يأتون إلى بيتي ليجهزوا بما يحتاجون" (19). وإذا كان قد آوى في بيته في وقت من الأوقات اثنتين وعشرين امرأة، فإن هاته النسوة لم يكن كلهن حريمه، فمنهن من كن يربين أطفالاً غير شرعيين، وقد وجدن لهن ملجأ في بيته، ومما هو جدير بالملاحظة أن أسقفاً بعث بحذاءين إلى إحدى هاته النسوة. وكانت كثيرات من السناء اللاتي يستخدمهم أو يعولهن يحببنه ويجللنه، وقد تسمت ست من عشيقاته المحببات باسم أريتيني Aretine وكن يفتخرن بهذه التسمية. وكان له ما يمكن أن تتضمنه الروح الحيوانية القوية من فضيلة، فكان في حياته الخاصة حيواناً طيب القلب لم يعرف قط القانون الأخلاقي معنى، وكان يظن- وكان لظنه هذا بعض ما يبرره في ذلك الوقت- أنه ما من رجل ذي مكانة يتقيد حقاً بالقانون الأخلاقي. وقد قال مرة لفاساري إنه(21/242)
لم ير قط عذراء لا تنم معارفها عن مسحة شهوانية (20). وكانت شهوانيته
هو عارمة فظيعة، ولكنها لم تكن تبدو لأصدقائه أكثر من نشاط تلقائي للحياة، وكان مئات من الناس يجدون فيه ما يدعو إلى حبه؛ وكان الأمراء والقساوسة يسرون من حديثه؛ ولم يؤت حظاً من التعليم، ولكن يبدو أنه كان يعرف كل إنسان وكل شيء. وكان إنساناً في حبه لجيوفني دلى باندي نيري، ولكترينا والطفلين اللذين ولدتهما له، ولبيرينا رتشيا Pierina Riccia الضعيفة، المسلولة، الرشيقة الخائنة.
وقصة رتشيا هذه أنها جاءت إلى بيته وهي زوجة لأمينه في الرابعة عشرة من عمرها. وكانت هي وزوجها يعشيان معه، وجعل نفسه أباً لها، وسرعان ما شعر نحوها بحب أبوي عارم ملك عليه قلبه. فأصلح أخلاقه ولم يحتفظ في داره من عشيقاته إلا بكترينا وإبنهما أدريا Adria. ثم حدث في الوقت الذي كان يتطلع إلى أن يكون رجلا محترماً، أن أتهمه نبيل من أهل البندقية، كان قد خدع زوجته، أمام المحكمة بالتجديف واللواط. فأنكر التهمتين. ولكنه لم يجرؤ على أن يعرض نقسه للفضائح والمحاكمة، لأن إدانته كان معناها الحكم عليه بالسجن مدة طويلة أو بالإعدام. ففر من بيته واختفى عدة أسابيع عند بعض أصدقائه. وأقنع هؤلاء المحكمة برفض الاتهام، وعاد أريتينو إلى بيته منتصراً، وحيته الجماهير المصطفة على جانبي القناة الكبرى. ولكن قلبه تحطم حين توسم في عيني بيرينا أنها تظنه مذنباً. ثم هجرت بيرينا وزوجها. فلما جاءته تطلب إليه أن يواسيها اتخذها عشيقة له: وأصابها السل وظلت ثلاثة عشر شهراً بين الحياة والموت، فعنى بتمريضها عناية الرجل الرحيم المشفق عليها، القلق على حياتها، حتى رد إليها الحياة. وبينما كان حبه وإخلاصه في ذروتهما هجرته واتخذت لها عشيقاً أصغر منه سناً، وحاول أن يقنع نفسه أن ذلك خير له، ولكن روحه تحطمت في ذلك اليوم، وأسرعت إليه الشيخوخة وغلبته على أمره.
وترهل جسمه، ولكنه ما فتئ يزدهي بقواه الجنسية، فكان يتردد على(21/243)
المواخير، وإن كان قد أخذ يزداد تديناً؛ وهو الذي كان في صباه يسخر من فكرة البعث ويصفها بأنها "هراء، لا يحملها على محمل الجد غير الغوغاء" (21). وسافر في عام 1554 إلى روما يرجو أن يتوج رأسه بقلنسوة الكرادلة الحمراء، ولكن يوليوس الثالث لم يزد على أن ضمه إلى فرسان القديس بطرس. وفي ذلك العام طرد من بيته ( Casa Aretino) لعجزه عن الوفاء بديونه، واتخذ له مسكناً أقل كلفة بعيداً عن القناة الكبرى، ثم مات بالسكتة بعد عامين، وهو في الرابعة والستين من العمر. وكان قد اعترف بجزء قليل من خطيئاته، وهو في الرابعة والستين من العمر. وتلقى القربان المقدس والمسحة الأخيرة، ودفن في كنيسة سان لوكا كأنه لم يكن أكبر داعية للفجور، وأكثر الناس اقترافاً له. وقد ألف أحد الظرفاء أبياتاً يصح أن تكتب على شاهد قبره فقال:
هنا يرقد الشاعر التسكاني أريتينو
الذي لم يترك أحداً لم يتحدث عنه بالسوء إلا الله،
وقال معتذراً عن تركه إياه "إنني لم أعرفه قط".(21/244)
الفصل الثالث
تيشيان والملوك
1530 - 1576
في عام 1530 وفي مدينة بولونيا عرَف أريتينو شارل الخامس بتيشيان. وكان الإمبراطور وقتئذ منهمكاً في إعادة تنظيم إيطاليا فجلس إلى تيشيان ليصوره وهو قلق نافذ الصبر، ودهش الفنان حين لم يعطه إلا دوقة واحدة (دولاراً ونصف دولار). فما كان من فيديريجو دوق مانتوا إلا أن نفح الفنان من جيبه الخاص بهبة سخية قدرها 150 دوقة تكملة لأجره. وما لبث الدوق في أثر في شارل أقنعه برأيه هو في تيشيان. ثم التقى الفنان والإمبراطور مرة أخرى في عام 1532، وفي خلال الأعوام الستة عشر التالية رسم تيشيان طائفة مدهشة من الصور للإمبراطور: رسم شارل في عدته الحربية الكاملة (1532 وقد ضاعت)؛ ورسمه في سترة موشاة بالقصب، وصدارة مطرزة، وسروال قصير أبيض، وجورب وحذاء، وقلنسوة سوداء، تعلوها ريشة بيضاء غير ملائمة لها (1533؟)؛ ورسمه مع الإمبراطورة إزبلا (1538)؛ ورسمه في حلة من الزرد براقة على جواد وائب، في واقعة موهلبرج Muhlberg (1548) - بلغت الذروة في جمال اللون والافتخار؛ ورسمه في ثياب سود، جالساً جلسة المفكر في إحدى الشرفات (1548). ومما يذكر بالفضل للمصور والمليك على السواء أن هذه الصور لا تحاول قط أن تجعل من موضوعها مثلاً أعلى إلا من حيث الملبس؛ فهي تكشف عن ملامح شارل غير الجذابة، وعن إهابه غير الحسن، وعن روحه المكتئبة، وعن بعض المقدرة على القسوة؛ ومع هذا فإنها تظهر الإمبراطور رجلاً ثقيل الأعباء، عظيم السلطان، ذا عقل بارد جامد، أخضع نصف أوربا لسلطانه. لكنه رغم ذلك يستطيع أن يكون رحيماً، وأن يكفر(21/245)
بسخاء عن شحه الأول. من ذلك أنه بعث إلى تيشيان في عام 1533 ببراءة يعينه بها أميراً في قصره، وفارساً من طبقة المهماز الذهبي، وأصبح تيشيان من ذلك الحين مصور البلاط الرسمي لأقوى مليك في العالم المسيحي.
وكان تيشيان في هذه الأثناء قد بدأ يراسل فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الذي تزوج اليونور جندسا، أخت فدريجو وابنة إزبلا. وإذ كان فرانتشيسكو وقتئذ القائد الأعلى لجيوش البندقية، فكثيراً ما كان هو والدوقة زوجته يأتيان إلى البندقية؛ وفيها رسم تيشيان صورهما: رسم فرانتشيسكو رجلا تسعة أعشاره مغطاة بالزرد (لأن تيشيان كان يحب بريقه) ورسم الدوقة امرأة شاحبة اللون مستسلمة لقدرها بعد أن انتابتها الأمراض. ورسم لها تيشيان على الخشب صورة مجدلية ليس فيها ما يجعلها جذابة إلا اختلاف الضوء واللون اللذين أضفاهما الفنان على شعرها الأصحم؛ ثم رسم لهما صورة أخرى جميلة؛ باللونين الأخضر والأسمر تعرف باسم La Bella " الجميلة" لا أكثر، وتوجد الآن في معرض بتي. ورسم تيشيان للدوق جويدوبلدو الثاني الذي خلف فيديريجو صورة من أعظم الصور العارية هي صورة فينوس أربينو (حوالي 1538). ويقال إن تيشيان كان له بعض اللمسات النهائية في صورة فينوس النائمة لأربينو؛ وهاهو ذا يقلد هذه الآية الفنية في كل شيء عدا ملامحها ومصاحباتها. وفيها ترى الوجه يعوزه الهدوء البريء الذي نشاهده في صورة جيورجيوني؛ ونشهد بدل المنظر الطبيعي الهادئ منظراً داخلياً من ستار أخضر، وجوخ بني، واريكة حمراء، كما ترى فتاتين تبحثان عن رداءين يبلغان من العظمة درجة تليق بإهاب السيدة الذهبي.
وانتقل تيشيان من رسم الدوق والإمبراطور إلى رسم البابا. ولم يكن البابا بول الثالث يقل في العظمة عن الإمبراطور: كان رجلا قوي الخلق،(21/246)
عظيم الدهاء، ذا وجه طبع عليه جيلان من التاريخ. وقد وجد فيه تيشيان فرصة خيراً مما وجده في ملامح الإمبراطور الخفية التي لا تفصح عن شيء من نفسيته. وواجه بولس في بولونيا عام 1535 في شجاعة ما وجده في صورة تيشيان له من واقعية. وكان البابا وقتئذ في السابعة والستين من عمره، متعباً ولكن الأحداث لم تنل من قواه. وقد جلس أمام المصور في ثياب البابوية الفضفاضة، وأحنى رأسه الطويل، ولحيته العريضة، فوق جسمه الذي كان من قبل قوياً، وظهر خاتم السلطان واضحاً في يده الأرستقراطية. وهذه الصورة وصورة يوليوس الثاني تتنازعان تلك الميزة الكبرى وهي: أيهما أجمل وأعمق صورة في النهضة الإيطالية. وفي عام 1545 دعا البابا نيشيان وكان وقتئذ في الثامنة والستين من عمره إلى روما. وهيأ للفنان مسكن في بلدفير، وقدمت له المدينة جميع مظاهر التكريم؛ وعمل فاساري مرشداً له فأطلعه على عجائب روما في عهدها القديم وفي عصر النهضة، وحتى ميكل أنجيلو نفسه رحب به، وأخفى عنه في ساعة من ساعات المجاملة رأياً له عبر عنه لاصدقائه وهو أن تيشان كان يصبح مصوراً أعظم مما هو لو أنه تعلم الرسم (22). وهناك صور تيشيان البابا بولس مرة أخرى فأظهره أكبر سناً، وأكثر انحناء، وأشد قلقاً وضجراً مما كان قبل، بين اثنين من أحفاده الخانعين لم يلبثا أن خرجا على البابا بعد قليل. وهذه الصورة أيضاً من أعمق الصور التي أخرجتها يد تيشيان. وقد رسم كذلك لأحد هذين الحفيدين وهو أتافيو فارنيزي Ottavio Farnese صورة دانائي Danae الشهوانية المحفوظة في متحف نابلي. وأقام تيشيان ثمانية أشهر في روما سافر بعدها عائداً على مهل إلى البندقية عن طريق فلورنس (1546)، وهو يرجو أن يقضي فيها الأيام الباقية من حياته في راحة وسلام.
ولكنه لم يكد يتم العام حتى أرسل إليه الإمبراطور دعوة عاجلة يطلب إليه فيها عبور جبال الألب إلى أوجزبرج Augsburg. وأقام في هذه المدينة(21/247)
تسعة أشهر رسم فيها للإمبراطور صورتين من الصور التي ذكرناها قبل، وخلد فيهما عظماء الأسبان والتيوتون أبناء الجبال مثل المنتخب جوهان فريدريخ السكسوني Elector Johann Eriedrlch والتقى تيشيان في زيارة أخرى لأوجزبرج (1550) بالأمير الذي أصبح فيما بعد فيليب الثاني ملك أسبانيا، ورسم له عدة صور؛ منها واحدة في البرادو Prado تعد من آيات التصوير في عهد النهضة. وأجمل من هذه على جمالها الصورة التي مثل فيها الإمبراطورة وإزبلا زوجة شارل البرتغالية. وكانت هذه الزوجة قد توفيت في عام 1539، ولكن الإمبراطور أعطى تيشيان بعد أربع سنين من وفاتها صورة لها وهي نَصَفٌ رسمها لها مصور مغمور، وطلب إليه أن يحيلها تحفة فنية رائعة. وربما كانت الصورة النهائية غير شبيهة بالإمبراطورة، ولكنها حتى إذا كانت إزبلا البرتغالية صورة خيالية فإنها يجب أن تكون في أسمى مرتبة من مراتب صور تيشيان: فهي ذات وجه رقيق حزين، وثياب ملكية فخمة، وفي يدها كتاب صلوات يسري عنها ما تتوقعه من موت قريب، وفي الصورة منظر طبيعي بعيد يضيف إليها منظراً يجمع بين الخضرة، والسمرة، والزرقة.
وشعر تيشيان بعد عودته من أجزبرج (1552) أنه قد نال كفايته من الأسفار. فقد كان وقتئذ في الخامسة والسبعين من عمره، وما من شك في أنه كان يظن أنه لم يبق له من الحياة الشيء الكثير. ولعل عمله كان من شأنه أن يطيل الحياة، فقد أنساه انهماكه في الصورة بعد الصورة أن يموت. وقد صور في سلسلة طويلة من الصور الدينية (1522 - 1570) فكرته الواضحة الرائعة عن العقيدة المسيحية وقصة الخلق من آدم إلى المسيح (1). وقد خلد في صور قوية حياة الرسل والقديسين، وأحسن هذه
_________
(1) مثال ذلك: سقوط الإنسان (حوالي عام 1570 موجودة في برادو Prado) - وهي تأليه صريح للجسم البشري؛ والبشارة (حوالي 1545، في اسكولو دي سان ركو Scuolo di San Rocco، بالبندقية) وأخرى مثلها في سان سلفاتوري San Salvatore، =(21/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= بالبندقية)؛ والعذراء الغجرية (1510 في فينا)؛ الأم الحزينة Mater Doloros (1554 في برادو)؛ والترشيح لإحدى الوظائف الدينية- وهي منظر كامل كبير (طوله 26 قدماً وعرضه إحدى عشرة قدماً ونصف قدم) يحتوي على مناظر جبال، ومبان فخمة، وأشخاص في ألوان زاهية، وصورة مريم العذراء تمثلها فتاة تصعد درجات سلم المعبد، وفي أسفل السلم صورتان لامرأتين من أجمل ما صور تيشيان، وإلى جوار الحائط امرأة عجوز أكثر واقعية من الحياة نفسها، تبيع البيض. وهذه الصورة من أجمل صور تيشيان الدينية. وصور مريم مرة أخرى في صورة "العذراء والأرنب" (حوالي 1530 وهي الآن في متحف اللوفر). وصورة التجلي (حوالي 1560 في متحف سان سلفاتوري، بالبندقية) وقد صورها وهو في الثالثة والثمانين من عمره، وهي فكرة قوية تمثل الحواريين في شدة الدهشة، وصورة متلألئة وضاءة للمسيح نفسه. ويرى كل شكل في صورة "العشاء الأخير" (1564 في الإسكوريال) متقناً غاية الإتقان عدا صورة المسيح- التي عجز ليوناردو أيضاً عن إتقانها في مثل هذه الصورة؛ ويُرى المسيح في صورة "المسيح المتوج بالشوك" (1542 في متحف اللوفر) وكأنه مجالد في حلبة القديس وتشبه صورته هنا الصورة التي رسمها له ميكل أنجيلو. وصوره اتشي هومو Ecce Homo المعروضة في معرض التصوير بفينا تجعل هي الأخرى المسيح إلها ضخماً قوي العضلات يعرضه بيلاطس البنطي (وهو صورة مضحكة لأريتينو نفسه) على جمع حاشد لا يتألف من غوغاء أورشليم بل من شخصيات ممتازة مثل شارل الخامس، وسليمان القانوني، ولافينيا Lavinia ابنة تيشيان، وتيشان نفسه. وفي أنكونا Ancona صورة للصلب (حوالي 1560) يصغر فيها جسم المسيح المصلوب فيصبح ذا حجم يقلبه العقل؛ وفي الإسكوريال صورة أخرى (1565) تصور الظلام في الساعة الأخيرة تصويراً متقناً، يلف التلال، والجو، والصليب، والمشاهدين عند قدمه. وصور تيشيان دفن المسيح في صورتين- إحداهما في عام 1529 (في متحف اللوفر) والأخرى بعد ثلاثين عاماً (في متحف برادو) - وقد رسم نفسه في الصورة الثانية، ولعله فعل ذلك أيضا في الصورة الأولى قصور نفسه فيها بشكل جوزف "الذي مل الرامة". ورسم في تاريخ غير معروف على وجه التحقيق صورة "العشاق في عموس" (متحف اللوفر)، وهي صورة بديعة ولكنها مفرطة في الرقة. وقد كان رمبرانت Rembrandt أكثر منه نجاحاً في إظهار مبلغ الروع الذي أحس به الحاضرون في ساعة التعارف الذي لم يكن أحد يحلم به. ورسم تيشيان لشارل الخامس (1554) صورة سميت تارة "الثالوث" وتارة أخرى "يوم الحساب"، وتسمى في متحف برادو "تسبيحة المجد: وهي خليط مهوش من الموس، والسيقان، ثم يظهر في سحابة الأقنوم الثاني من الثالوث ومعه الروح القدس يتخذ شكل النور الأول. وتبدو هذه الصورة سخيفة بعض السخف، ولكن الإمبراطور حملها معه حين لجأ إلى أحد الأديرة في عام 1557، وأمر أن توضع فوق المذبح العالي بعد وفاته.(21/249)
الصور وأكثر ما تعافه النفس منها صورة استشهاد القديس لورنس (1558 وهي الصورة رقم 1 في متحف جزويتي Gesuiti، بالبندقية): وفيها يرى القديس يشويه على السفود جنود وعبيد رومان يزيدون آلامه بكيه بالحديد المحمي وجلده بالسياط. وهذه الصور الدينية لا تؤثر في النفس كما تؤثر فيها أمثالها من صور الفنانين الفلورنسيين. نعم إنها تسمو عليها من حيث التشريح، ولكنها لا تشعر الإنسان بالتقى، فنظرة واحدة إلى أجسام المسيح والحواريين الرياضية توحي بوضوح أن تيشيان لم يكن يهتم إلا بالفن، وأنه كان يفكر في الأجسام الرائعة، لا في أجسام القديسين النساك. ذلك أن المسيحية في الفترة الواقعة بين آل بليني وتيشيان، فقد فقدت سيطرتها الروحية على فن البندقية، وإن كانت لا تزال توحي إلى الفنانين بالموضوعات (23).
وبقي العنصر الجنسي الذي هو من مستلزمات فن التصوير بالألوان أو بالمواد اللينة، قوياً عند تيشيان مدة تكاد تصل إلى قرن من الزمان. وقد كرر صورة دانائي Danae الفرنيزية في عدة أشكال مختلفة، ورسم عدة صور لفينوس طلبها إليه حماة الدين. وكان فيليب الثاني ملك أسبانيا خير عميل له في ابتياع هذه "الأساطير"؛ فقد زينت مساكن الملك في مدريد يصور لدانائى، وفينوس وأدونيس، وبرسيوس وأندرمدا، وجبسن وميديا Jassa & Medea وأكتائيون وديانا Actaeon & Diana، واغتصاب أوربا The Rapc of Europa، وتاركون ولكريشيا Tarquin & Lucretia، وجوبتر وأنتيوبي Jupiter & Antiope ( وتعرف أيضاً بصورة فينوس الباردوئية) Venus of Pardo. وكل هذه الصور عدا الأخيرة منها قد صورها تيشيان بعد عام 1553، وهو في سن السادسة والسبعين أو بعدها. ومما يزيدنا تقديراً للفنان العظيم أن نرى خياله خلاقا مبدعاً في سن الثمانين وما بعدها فيصور نساء عاريات لا تقل كمالا عن الصور التي رسمها في عنفوان شبابه،(21/250)
فصور ديانا بشعرها الأصحم المرفوع إلى أعلى من الطراز الذي كان فيرونيز يصوره، فهي فينوس الشقراء تكاد تكون أجمل من صور أفروديتي اليونانية. ولعل صورة فينوس والمرأة (حوالي 1555 وتوجد الآن في واشنجتن) وهي صورة لهذه السيدة نفسها بعد ان امتلأ جسمها؛ وهي بعينها أيضاً فينوس التي تتعلق بأرنيس في الصورة الموجودة في برادو، والتي تحاول أن تتودد إليه وتبعده عن كلابه. ولسنا نجد مثل هذه الشهوانية الصريحة واضحة في جسم انثى حتى صور كرجيوني. وتوجد صور أخرى لفينوس منتشرة في معارض الصور في أنحاء العالم ولكنها كانت في يوم ما تحتل مكانها في رأس تيشيان: منها صورة فينوس أناديوميني Venus Anadyomene ( حوالي 1520) الموجودة في بردجووتر هوس Bridgewater House، وتمثلها الصورة واقفة في الحمام ومغطاة من تحت الركبتين في حياء؛ وصورة فينوس وكيوبد (حوالي 1545)، الموجودة في معرض أفيزي- وهي ذات شقرة ألمانية ويدين ناصعتين، وفينوس المكتسبة في صورة تعليم كيوبد (حوالي 1565)، وفي معرض بورغير، وفينوس العازف على الأرغن (حوالي 1545) المحفوظة في برادو والتي يظهر فيها العازف عاجزاً عن تركيز عقله على الموسيقى؛ وفينوس والعازف على العود (1560) المحفوظة في المتحف الفني بنيويورك. على أننا يجب أن نقول إن النساء في هذه الصور لسن إلا جزءاً مما فيها من سحر وفتنة، ذلك أن تيشيان يهتم بالطبيعة اهتمامه بالنساء، ويصور في عدد من هذه اللوحات مناظر طبيعية رائعة لا تقل جمالا في بعض الأحيان عن الإلهة فينوس نفسها.
وأعظم من هذه الصور الأسطورية وأكثر عمقاً صور الآدميين، فإذا كانت صور فينوس تكشف عن الإحساس بجمال الصورة ولاتفقد قط(21/251)
روعتها، فإن صور الآدميين تكشف في تيشيان عن مقدرة على الإلمام بالأخلاق البشرية ونقلها بقوة فنية لا تضارعها في معارضها جميعاً صور غيره من الفنانين مجتمعة. وهل ثمة ما هو أرق من صورة الرجل ذي القفاز (حوالي 1520 في متحف اللوفر) وهي صورة لا يُعرف شخصية من تمثله- وفيها ترى اليد اليسرى المقفزة، والمخصل الأبيض الرقيق الملتف بالعنق يوائمان أحسن موائمة الروح الحساسة التي تنم عليه العينان. وصورة الكردينال إيوليتو ده ميديتشي (1533 في متحف بتي) أقل من السابقة عمقاً، ولكننا مع ذلك نرى في الوجه ما يتسم به آل ميديتشي من دهاء، وإحساس فني، وحب للسلطان. وصورة فرانسس الأول (حوالي 1538 المحفوظة في اللوفر) أذاعت شهرة ملامح ملك فرنسا، فقد بعثت في أنحاء العالم في مائة ألف نسخة منقولة عنها القبعة المراشة، والعينين المرحتين، والأنف الأقنى، واللحية الجميلة، والقميص القرمزي يرتديه الرجل الذي خسر إيطاليا ولكنه كسب ليوناردو وتشيلني ومائة امرأة. وقد تطلب منصب تيشيان الرسمي منه أن يرسم صوراً لعدد من أدواج البندقية، ولكن هذه كلها تقريباً قد ضاعت. وبقيت ثلاث صور عظيمة لأشخاص حقيقيين: صورة نقولو مارتشلو Niccolo Marcello ( الذي مات قبل أن يولد تيشيان) - وهي ذات وجه قبيح ورداء فخم-؛ وصورة أنطونيو جرماني (التي تظهر في صورة الإيمان في قصر الدوج)، وصاحبها ذو وجه كوجه النساك وثوب فخم؛ وصورة أندريا جرتي، ويرتدي صاحبها ثوباً أقل من الثوبين السابقين فخامة ولكنه ذو وجه قوي يتركز فيه كل ما في البندقية من جلال وصدق عزيمة. وتختلف عن هذه في طرازها صورة كلاريس استروتسي الرقيقة التي أثنى عليها أريتينو ثناء جماً مستطاباً. وليست الصور التي تمثل أريتينو والمحفوظة في معرض بني بفلورنس وفي مجموعة فرك Frick في(21/252)
نيويورك إلا صراخاً مجرداً من الرحمة صادراً من وغد فاتن ساحر رسمها أعز أصدقائه. وأرق من هذه الصور التي خلد بها تيشيان ذكرى بمبو محب الشعراء الذي صار وقتئذ كردنالا (1542). ومن أروع الصور التي يضمها معرض تيشيان صورة المشترع إبوليتو رمنالدي (1542)، والتي كانت تعرف في يوم من الأيام بأنها صورة دوق فورفوك وهي ذات شعر منفوش أغبش، وجبهة عالية، وشاربين ولحية قليلة الشعر، وشفتين قويتين، وانف رقيق، ونظرات نفاذة. وإنا لنبدأ في أن نفهم إيطاليا والبندقية أحسن فهم حين نرى أنهما أنجبتا أمثال أولئك الرجال، وهم رجال ليست أجسامهم وأثوابهم الجميلة إلا الصورة الظاهرة للإرادة القوية المتأهبة للقاء كل تحد؛ وللعقل النافذ المتيقظ لكل صور التجارب والفن.
وأكثر ما يثير اهتمامنا من رسوم تيشيان الصور التي رسمها لنفسه. وهي كثيرة متنوعة آخرها صورة له في التاسعة والثمانين من عمره. وإذا ما وقفنا أمام صوره الذاتية في معرض برادو رأينا وجهاً قد غضنه مر الأيام التي لا تحصى ولكنه زاده صفاء، ورأينا فوق جمجمته قلنسوة لا تغطي شعره الأبيض كله، ولحية صهباء تكاد تغطي وجهه كله، وأنفاً كبيراً ينفث القوة، وعينين زرقاوين، تغشاها كآبة قليلة، تريان الموت أقرب إليه مما كان في الواقع، وبدا تمسك بفرشاة- لأن شغفه العظيم بالفن لم تكن تارة قد خبت بعد. لقد كان هذا الرجل- لا الأدواج، ولا الشيوخ، ولا التجار- هو سيد البندقية نصف قرن من الزمان، يهب الخلود للأشراف والملوك العابرين القصار الآجال، ويسمو بالبلد الذي اتخذه موطناً له ويضعه إلى جانب فلورنس وروما في تاريخ النهضة.
وكان في الوقت الذي نتحدث عنه رجلا ثرياً، وإن كانت ذكرى حاجته الأولى وعدم طمأنينته قد جعلته جماعاً للمال إلى آخر حياته. وقد أعفته مدينة البندقية من بعض الضرائب "تقديراً لموهبته الممتازة النادرة" (34)(21/253)
وكان يرتدي لباساً ظريفاً رشيقاً، ويسكن بيتاً مريحاً ذا حديقة واسعة تطل على مياه البندقية الضحلة. وإنا لنتصوره ونحن نكتب هذه السطور يستضيف الشعراء والفنانين، والأشراف أبناء الأسر العريقة، والكرادلة، والملوك. ولما ماتت في عام 1530 عشيقته التي تزوجها في عام 1525 بعد أن ولدت له ولدين قبل الزواج؛ عاد إلى حريته التي كانت له وهو أعزب والتي استمتع بها ما يقرب من نصف قرن. وكانت ابنته لافينيا مصدر بهجة وفخر له؛ وقد رسم لها صوراً تدل على محبته لها حتى بعد أن كبرت وتزوجت. ولكنها هي أيضاً توفيت بعد سنين قلائل من زواجها. وأصبح أحد ولديه وهو بمبونيو Pomponio مهملاً فاسداً، أحزن قلب الرجل في شيخوخته ورسم الثاني في بعض الصور التي ضاعت، وأكبر الظن أنه اشترك في بعض الصور التي تعزى لأبيه في سنيه الأخيرة. وربما ساعده في ذلك الوقت أيضاً تلميذ آخر من تلاميذ تيشيان يدعى دومينيكو ثيوتوكوبولوس Domenico Theotocopulos، المسمى إلجريكو Elgireco ( الإغريقي) ولكننا لانجد دليلاً على هذه المساعدة في صور أشخاص تيشيان المرحين ولا في مناظره البهيجة.
وظل حتى بعد أن تقدمت به السن كثيراً لا يكاد ينقطع عن الرسم يوماً واحداً من أيامه، وكان يجد في الفن سعادته الباقية الوحيدة. ففيه كان يعرف أنه السيد الذي لا يبارى، وأن العالم كله يثني عليه، وأن يده لم تفقد قدرتها على الإبداع، كما أن عينه لم تفقد حدتها ونفاذها؛ وحتى عقله، وخياله ظلا، فيما يبدو، يحتفظان بقوتهما إلى آخر أيامه. وقد شكا بعض من ابتاعوا صوره الأخيرة بأن هذه الصور أرسلت إليهم من قبل أن تتم. وحتى إذا كان هذا صحيحاً فإنها كانت معجزات بحق. وأكبر الظن أنه ما من فنان غيره- إذا استثنينا رافائيل- كان له ما لتيشيان من يسر في أصول فنه، وسيطرة على اللون والتركيب، والضوء الساحر المبرقش. أما أخطاؤه(21/254)
فهي الأخطاء الناتجة من السرعة في التنفيذ، ومن الإهمال في الرسم أحياناً وقد كانت الكثرة الغالبة من رسومه التخطيطية الأولى تجريبية؛ ولكنه كان إذا غنى بالتأني والتؤدة، يستطيع أن يخرج عجائب مثل صورة ميدورو وانجيلكا التي رسمها بالقلم والمحفوظة في متحف بنات Bonnat في بايون Bayonne. أما في الصور الملونة فقد كان لابد له ان يعمل مسرعاً. ذلك بأن من يجلسون أمامه ليصورهم كانوا منهمكين في العمل لا يصبرون على الجلسات الطويلة أو الكثيرة التي لابد منها لإتقان الصور؛ ومن أجل هذا كان يرسم رسماً تخطيطياً سريعاً، ثم يرسم منه الصورة الملونة، ولعله كان يضع في رأس نموذجه ووجهه أكثر مما فيه حقيقة. أما في الصور التي كان يرسمها لغير الأحياء فكان يبرز الملامح أكثر مما ينبغي، وقلما كان يتعمق إلى الجوهر الروحي، ولهذا فإنه لم يصل في عمق النظرة النافذة ولا في الشعور إلى مثل ما وصل إليه ليوناردو أو ميكل أنجيلو، ولكن ما أصح وأسلم فنه إذا قورن بفنهما! فلسنا نرى فيه انهماكاً في التفكير الداخلي يفسده، كما لا نرى فيه ثورة عارمة على طبيعة العالم والإنسان. لقد قبل تيشيان العالم بالصورة التي رآه عليها، وأخذ الرجال كما وجدهم، والنساء كما وجدهن، واستمتع بكل أولئك. وكان وثنياً صريحاً، يتأمل بابتهاج بناء جسم المرأة طوال سنيه التسعين؛ وحتى عذاراه صحيحات الأجسام سعيدات صالحات للزواج؛ وقلما كان لما في الحياة من فقر، وحزن، واضطراب مكان في فن تيشيان، بل كل ما فيه جمال وبهجة إذا استثنينا قليلا من صور الشهداء والمسيح المصلوب.
وتقدمت به السن وهو يواصل عمله في الرسم، وعاش ربع قرن بعد أجل الناس المعتاد؛ وسافر إلى بريشيا وهو في الثامنة والثمانين من عمره، وقبل فيها مهمة شاقة هي نقش سقف قصر البلدية. ولما زاره فاساري وهو في سن التسعين وجده يعمل وفرشاته في يده. ورسم وهو في الواحدة والتسعين(21/255)
من عمره صورة لياقوبو دا استرادا Jacopo da Strada ( توجد الآن في فينا) متلألئة الألوان قوية تكشف عن خلق الرجل. ولكن يده أخذت في آخر الأمر ترتعش، وضعفت عيناه، وأحس أن قد آن أوان التقى والصلاح. ورضى في عام 1576 وهو في التاسعة والتسعين من العمر أن يرسم صورة دفن المسيح لتوضع في كنيسة فيرارى Frari بدلاً من مدفن فيها، كانت له في صورتان من أعظم صوره. غير أنه لم يتم الصورة وتوفي وقد نقصت سنه سنة واحدة عن قرن كامل. وانتشر في ذلك العام وباء الطاعون في البندقية، وكان يودي كل يوم بحياة مائتين من أهلها، وهلك به ربع سكان المدينة. ومات تيشيان نفسه في أثناء الوباء، وأكبر الظن أنه لم يمت به، بل مات بضعف الشيخوخة (26 أغسطس سنة 1576). وألغت الحكومة أوامرها التي تحرم الاجتماعات العامة لكي تكون له جنازة سمية، ودفن في كنيسة سانتا ماريا جلوريوزا ده فيراري Santa Maria Gloriosa de Frari تنفيذا لرغبته. وكان موته خاتمة حياة عظيمة وعصر عجيب.(21/256)
الفصل الرابع
تنتورتو
1518 - 1594
لا، لم يكن موته خاتمة لكل شيء، لأن قوة وروحاً تكادان تقلان عظمة عن قوته وروحه قد عاشتا بعد موته ثمانية عشر عاماً، ورسمتا صورة الجنة.
كان ياقوبو روبستي Jacopo Robusti ابن صباغ، وهذا هو أصل هذا اللفظ المصغر الذي سماه به من قبيل السخرية الإيطاليون الهوائيون والذي انحدر إلينا من خلال أحقاب التاريخ. والحق أنه اصبح صانعاً إذا فهمنا من هذا اللفظ أنه كان ملونا عظيما. غير أن اسم أسرته كان أليق به من غيره من الأسماء لأن روحه القوية (1) وحدها هي التي مكنت ياقوبو من أن يخرج ظافراً من الكفاح الطويل الذي خاض غماره حتى اعترف للناس بفضله.
ويكاد يكون أول ما عرفناه عنه إنه أرسل ليتدرب عند تيشيان في سن غير معروفة، ثم فصل من العمل بعد أيام قليلة. وقد كتب ريدلفي Ridolfi بعد مائة عام من ذلك الوقت يصف الحادث كما ينظر إليه ابنا نتورتو قال:
لما عاد تيشيان إلى بيته ودخل المكان الذي يعمل فيه تلاميذه رأى أوراقاً بارزة من أحد الأدراج، وعليها بعض رسوم، فسأل عن رسمها، فأجاب ياقوبو في خوف إنها من صنع يده. وأدرك تيشيان من هذه
_________
(1) robust الكاتب يشير إلى روبستي أم أسرته. (المترجم)(21/257)
البدءات أن هذا التلميذ سيصبح رجلاً عظيماً، وأنه سيسبب له بعض المتاعب من ناحية الفن، فلم يكد يصعد الدرج إلى حجرته ويخلع ميدعته حتى أمر كبير تلاميذه جيرولامو دانتي، وهو نافض الصبر، أن يمنع ياقوبو من دخول البيت من تلك اللحظة. وهكذا تحدث الغيرة، مهما تكن ضئيلة، أثرها في القلوب البشرية (25).
ونحن نميل إلى تكذيب هذه القصة، ولكن أريتينو صديق تيشيان الحميم، يشير إلى هذه الحادثة في رسالة له كتبها عام 1549. فأما فصل ياقوبو من عمله فحقيقة مؤكدة، أما أسباب هذا الفصل فموضع للأخذ والرد؛ ذلك أن من أصعب الأمور أن نعتقد أن تيشيان، الذي كان وقتئذ مصوراً للملوك حين لم يكن ياقوبو إلا صبياً في الثانية عشرة من عمره، يغار من هذا المنافس المفترض، أو أنه يستطيع أن يرى مستقبل نتورتو من اطلاعه على رسوم طالب قبل تواً في مدرسته. ولعل الرسوم قد أغضبت تيشيان لما بدا فيها من إهمال لا بما كانت عليه من الجودة والإتقان، ولقد بقي الإهمال. الرسم من عيوب نتورتو كثيراً من السنين. وظل ياقوبو نفسه طوال حياته يعجب بتيشيان أشد الإعجاب، ويعتز بصورة أهداها إليه تيشيان، ويضع على جدار مرسمه ما يذكره على الدوام بما كان يطمح إلى أن يبلغه برسومه مبلغ "ميكل أنجيلو في التصميم وتيشيان في التلوين" (26).
ويقول تيشيان، وتقول الرواية المتواترة، إن ياقوبو لم يتلق تعليماً منظماً بعد أن افترق عن تيشيان، ولكنه علم نفسه بمداومته على التجربة والتقليد. وكان يشرح الأجسام ليتعلم التشريح، ولا يكاد يفتر هن ملاحظة كل ما يعترض سبيله في تجاربه بحرص يبلغ حد الشراهة والنهم، ويصمم على ألا تفوته منه كبيرة أو صغيرة في هذا الرسم من رسومه أو ذاك. وكان يصنع نماذج من الشمع، أو الخشب، أو الورق المقوى، ويلبسها(21/258)
الأثواب، ويرسمها من كل زاوية كي يجد طريقة يستطيع بها أن يصور أبعاداً ثلاثة في بعدين اثنين. وكانت تصنع له صور منقولة عن اللوحات الرخامية القديمة في فلورنس وروما وعن تماثيل ميكل أنجيلو وترسل له حيث يقيم؛ وكان يضع هذه النسخ في مرسمه، وينقل عنها صوراً ملونة ذات ظلال وأضواء مختلفة. وقد افتتن بما شاهد من الاختلاف الناشئ في مظهر الأشياء نتيجة لتغير كمية الضوء، وطبيعته، وطريقة سقوطه؛ ورسم مائة صورة وصورة في ضوء المصابيح أو الشموع؛ وأسرف في حبه للخلفيات القائمة، والظلال الثقيلة، وأصبح أخصائياً خبيراً في تمثيل أثر الضوء والظل على اليدين، والوجه، والثياب، والمباني، والمناظر الطبيعية، والسحب، ولم يترك وسيلة يستعين بها في كفاحه للتفوق والامتياز إلا سلكها.
غير أنه مع ذلك كان متسرعاً في عمله نافذ الصبر، ينقصه الصقل- ولعل هذا كان جزاء له على أنه علم نفسه بنفسه- وتلك عيوب أخرت اعتراف الجمهور بفنه. وقد ظل كثيراً من السنين، بعد أن بلغ دور الرجولة، يتحين الفرص ويسعى إليها. وكان يرسم الأثاث. وينشئ المظلمات في واجهات البيوت، ويرجو البنائين أن يحصوا له على أعمال بأجور قليلة، ويحاول أن يبيع صوره بعرضها في ميدان القديس مرقص (27). لكن الناس كلهم كانوا يريدون تيشيان؛ وكان تيشيان وأريتينو يعملان على ألا يعامل أي إنسان ذي مال يمكن الحصول عليه منه غير تيشيان، فإذا كان هذا الفنان مشغولا فلن يلجأ واحد منهم إلى غير بنيفادسيو فيرونيري Bonifazio Veronese. وما من شك في أن ياقوبو قد ساءته طريقة أريتينو في التصوير؛ ولكن حدث انه حين جاء الجلاد الكبير إلى ياقوبو ليصوره، أخرج الفنان مسدساً رهيباً من جيبه، وتظاهر بأنه يصوبه على كل جزء من جسم أريتينو الضخم، وسر أيما سرور مما شاهده من مظاهر الخوف على(21/259)
وجه ذلك المبتز لأموال الناس (28). ولم يسع أريتينو بعد هذه الحادثة إلا أن يراعي الأدب فيما يكتبه عن نتورتو. ولما أن رأى ياقوبو الجدران الواسعة الطويلة التي يبلغ ارتفاعها خمسين قدماً في مرنمة كنيسة مادنا دل أورتو Madonna dell Orto، عرض أن يغطيها كلها بالرسوم الجصية نظير أجر إجمالي قدره مائة دوقة (1250؟ دولاراً)، فما كان من المصورين البنادقة إلا أن شكوا من أنه "قد أضر بالحرفة" إذ قدر الفن هذا التقدير الضئيل. ولكن نتورتو صمم على أن يقوم بالعمل.
وقد بلغ الثلاثين من العمر قبل أن يحرز أول نصر له. ذلك أن مدرسة القديس مرقص Scula di San Marco أجرت مباراة لرسم قديسها ينقذ عبداً من العذاب والقتل. وقد وردت هذه القصة في كتاب القصة الذهبية لياقوبو ده فوراجيني Liacopo de Voragine: وخلاصتها أن خادماً من بروفنسال قد نذر أن يحج إلى قبر القديس مرقص في الإسكندرية، ولكن سيده لم يأذن له بالسفر، غير أنه سافر على الرغم من هذا التحريم. فلما عاد أمر سيده يشمل عينيه، ولكن أطراف الحديد انثنت فلم تنفذ فيها. فما كان من سيده إلا أن أمر بتحطيم أطرافه، ولكن القضبان الحديدية لم تحدث أي أثر فيها. وأدرك السيد ما للقديس مرقص من أثر في هذا فعفا عن العبد. وروت صورة نتورتو هذه القصة في ألوان فخمة، وواقعية مقنعة، وقوة مسرحية عظيمة: صورت الرسول المبشر ممسكاً بالإنجيل، هابطاً من السماء لينقذ الرجل المتعبد، الذي يوشك أن يخر صريعاً بضربة يوجهها إليه مغربي، ومن حوله نحو عشرين من مختلف الأشخاص ينظرون إليه وقد بلغ اهتياجهم غايته. وانتهز ياقوبو كل ما أتاحته له القصة من فرص: فصور رجالا أقوياء ونساء ظريفات رشيقات، وحرص على دراسة أثر الضوء على المخملات والحرير والعمامات الشرقية، وعمل على غمر المنظر بالألوان التي تعلمها من جيورجيوني(21/260)
وتيشيان. وساور مديرو المدرسة بعض الخوف حين شاهدوا ما في التصوير من واقعية مجسمة، وأخذوا يتناقشون في هل يليق بهم أن يعلقوا الصورة على جدرانهم، فما كان من نتورتو إلا أن اختطف الصورة من أيديهم في عنف وكبرياء، وأخذوها إلى منزله. فجاءوه وتوسلوا إليه أن يعيدها لهم، فتركهم قليلا من الوقت تأديباً لهم، ثم أعادها إليهم، وبعث إليه أريتينو كلمة ثناء، ومن ذلك الوقت تفتحت الأبواب أمام مواهبه.
وانهالت عليه الطلبات مجتمعة، فطلبت إليه نحو ست كنائس ودعاه نحو اثني عشر من الأعيان، وستة من الأمراء، ومثل هذا العدد من الدول للقيام بأعمال فنية. وقص لهؤلاء مرة أخرى في مائة من الصور الملحمة المسيحية الكبرى ملحمة خلق العالم، والدين، وفلسفة الموت والبعث والدار الآخرة، من بدء الخليقة إلى يوم الحساب ... ولم يكن نتورتو مسيحياً متديناً، - وقلما كان من الفنانين في هذا القرن السادس عشر في البندقية من هو متدين- فقد أثرت في نفوسهم وعقيدتهم المبادئ المنتشرة في بلاد الشرق والإسلام. وكان دينه هو الفن، يقرب له القرابين بالليل والنهار، ولكن أي موضوعات يستطيع المصور أن يتخيلها أرق وأظرف من قصص آدم وحواء، وقصة مريم وطفلها، مأساة الصلب، وتعذيب القديسين وأعمالهم العجيبة، ثم تلك الغاية التاريخية الرهيبة وهي جمع الأحياء والأموات في صعيد واحد أمام قضاء المسيح؟ (1) وخير ما في هذه المجموعة كلها هي صورة
_________
(1) وهاهي ذي طائفة مختارة من صور نتورتو الدينية ليس فيها صور اسكولا دي سان ركو (وجميع الكنائس المذكورة هنا في البندقية): 1 - مناظر من العهد القديم: خلق الحيوانات (البندقية)؛ آدم وحواء (البندقية) - وتمثل منظراً طبيعياً يسقط عليه الضوء بطريقة فذة؛ قابيل وهابيل (البندقية)؛ تضحية إبراهيم (أفيدسي)؛ يوسف وزوجة قوطيفار (برادو)؛ العثور على موسى (الاسكوريال)؛ العجل الذهبي (مادنا دل أورتو)؛ جمع المن (سان جيورجيو مجيوري) - وهيمزيج بديع من المناظر الطبيعية، والرجال، والنساء، والحيوان. 2 - صور العذراء: مولد العذراء (مانتوا) وهي لا تكاد تقل رشاقة عن صورة كريجيو؛ البشارة؛ الزيارة (بولونيا)؛ العذراء والطفل (كليفلند)؛ العذراء والقديسون (فيرار) - وهي صورة رائعة غير أن القديسين يبدون كأنهم مصارعون تجاوزوا من الثمانين وقد صوروا على طريقة ميكل أنجيلو؛ صعود العذراء (1 - جزويتي)، وتبدو ضعيفة شاحبة اللون إذا قورنت بالصورة التي رسمها تيشيان الموجودة في فيرارا والتي تعد آية من آيات الفن. 3 - من حياة المسيح: الختان (سانتا ماريا دل كارميني؛ التعميد (سان سلفيسترو، وتوجد نسخة منها في برادو)؛ يسوع في بيت مرثا (ميونخ) - وهي ذات جمال منقطع النظير؛ الزواج في قانا الجليل (مادنا دل سالوتي)؛ المسيح في بحر الجليل (واشنجتن) - وهي تكاد تكون دراسة انطباعية في اللونين الأزرق والأخضر؛ المرأة يقبض عليها وهي تزني (روما، المعرض الأهلي Galleri Nazionale) - وتصور زانية جميلة في صورة مسرفة في مسرحيتها؛ المسيح يغسل أقدام الرسل (الإسكوريال)؛ بعث لعازر (ليبزج)؛ معجزة الخبز والسمك (نيويورك)؛ المسيح والمرأة السامرية (أفيدسي)؛ العشاء الأخير (سان تروفازو، والأخرى في سان استيفانو، وثالثة في سان جيورجيو مجيوري، ورسم بديع في معرض أفيدسي)؛ للصلب (سان كاسيانو)، الخلع (البندقية، وبارما، ويملان، ومعرض بتي)؛ دفن المسيح (سان جيورجيو مجيوري)؛ الهبوط إلى الأعراف (سان كاسيانو)، البعث (مجموعة فارر)؛ في يوم الحساب (مادتا دل أورقو) _ وهي ومحاولة مخفقة لزيادة ما أحدثه ميكل أنجيلو من اضطراب وسخافات في مظلمات معبد ستيني. 4 - القديسون: القديس أوغسطين يشفي ضحايا الطاعون (نيويورك)؛ معجزة القديس أجنيس (مادتا دل أورتو)؛ القديس جورج والتنين (لندن) وهي دراسة في الضوء والظل كأنها حرب في ظلام الليل؛ زواج القديسة كترين (قصر الدوق)؛ استشهاد القديسة كترين (البندقية) - وفي كلتا الصورتين نرى امرأة جميلة لا يريد قتلها إلا ذو جنة؛ نقل جسم القديس مرقص (البندقية)، والعثور على جسم القدس مرقص (ميلان)، والثانية آية من آيات فن المنظور تمثل نيفاً مظلماً في كنيسة، ورجلا من الأشراف راكعاً في وجل وخشوع قدسي، وصبياً وسيما فاتنا يمسك بركبتيه صبي يتظاهر بالخوف، وصورة رائعة للقديس مرقص يقف منتصباً فوق جثته.(21/261)
التنصيب (حوالي عام 1556)، التي رسمها نتورتو لكنيسة مادنا دل أورتو: وفيها يرى هيكل بيت المقدس وقد صور في بهائه القديم؛ ومريم الضئيلة الجسم الواجفة يرحب بها القس الأكبر وهو مبسوط الذراعين ملح؛(21/262)
وامرأة فخمة الصورة لاتقل في ذلك عن فخامة صور فيدياس تعرف ابنتها بمريم؛ وإلى جانبها صور نساء غيرها ومعهن أطفالهن واضحية واقعية، ومتنبئ يلقي نبوءات غامضة، ومتسولون ومقعدون نصف عرايا راقدون على درج المعبد. تلك صورة تضارع أحسن ما صوره تيشيان وهي من أعظم ما صور في عهد النهضة.
وتأكد نجاح تنتورتو حين رشحته الاسكولا دي سانت ركو Scuola di San Rocco أو أخوه القديس رك لزخرفة قاعات اجتماعها (الألبرجو Albergo) . وتفصيل ذلك أن المشرفين على هذه الطائفة أرادوا أن يختاروا مصوراً لنقش سطح الجدران الواسع، فدعوا الفنانين لتقديم رسوم لصورة تلتئم مع سقف بيضي الشكل تظهر القديس روك في مجده، فتقدم باولو فيرونيز، وأندريا شيافوني Andrea Shiavone وغيرهما برسوم تخطيطية، أما نتورتو فرسم صورة نهائية زاهية الألوان حية بالحركات والأعمال، وعمل سراً على أن يلصق قماش الصورة في مكانها المعين وأن يغطي. ولما أقبل اليوم الذي تقدم فيه الفنانون الآخرون برسومهم، أمر بكشف هذه الصورة النهائية، وروع القضاة والمتنافسون. وقد برر هو هذا التدبير غير السليم بقوله إنه يستطيع العمل بهذه الطريقة السريعة الحاسمة بدلا من طريقة الرسوم الأولية. ولكن الفنانين الآخرين نددوا بها، وانسحب نتورتو من المباراة، ولكنه ترك الرسوم هدية إلى الجماعة؛ فقبلته آخر الأمر، وعينت نتورتو عضواً بها، وخصصت له مرتباً قدره مائة دوقة في العام مدى الحياة، وطلبت إليه في نظير ذلك أن يرسم لها ثلاث صور كل سنة.
وبذلك استطاع أن يضع على حجرات قاعات الاجتماع سنة وخمسين منظرا في السنين الثمان عشرة التالية (1564 - 1581). وكانت الحجرات التي يعمل فيها قليلة الضوء، واضطر نتورتو أن يشتغل فيما يشبه الظلام، وكان(21/263)
يعمل بسرعة، ويضع الألوان في غير إتقان كأنها تشاهد من تحتها بعشرين قدماً. وكانت الصور أشهر ما صوره رجل بمفرده في تاريخ البندقية كله، وجاء الفنانون فيما بعد ليدرسوها كما ذهب الطلاب إلى فلورنس ليدرسوا رسوم ماساتشيو. وأثر المطر والرطوبة في الصور على مر السنين. ولكنها لا تزال تبعث في النفس الروعة بحجمها وقوتها؛ وقد كتب عنها رسكن قبل وقتنا هذا بمائة عام يقول: "وقد أنزلت هذه الصور منذ عشرين أو ثلاثين عاماً لإصلاحها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ولكن الرجل الذي عهد هذا العمل إليه مات لحسن الحظ ولم تتلف إلا واحدة منها" (29).
وقد روى نتورتو في هذا المتحف المدهش القصة المسيحية مرة أخرى؛ ولكنها لم تكن قد رسمت من قبل بهذه الواقعية الجريئة التي انتزعت الحوادث من عالم العواطف المثالية ووضعتها في هذه البيئة الطبيعية، ولهذا بدا أن هذه القصة قد استحالت تاريخاً من أعظم التواريخ صدقاً وأبعدها عن الشك. وكان الشرر الذي أوقد النار في قلب نتورتو هو قدرته على النظر، وأن يلاحظ كل دقائق المنظر، وأن يحس بأن هذه الدقائق تهب الحياة، وأن بادر بوضعها على الجدار بضربة أو ضربتين من الفرشاة- كالماء الذي يراه الناظر من خلال جذور الغار في صورة مجلية. وخصص نتورتو الطابق الأسفل من الحجرات لصور مريم العذراء: فصور فيها دهشتها الذليلة من البشارة، ورشاقتها المتواضعة عند الزيارة، ورهبتها الساذجة عندما قدمت لها الهداية الشرقية في عبادة المجوس، وسيرها البطيء على ظهر حمار مجتازة منظراً هادئاً في صور الهروب إلى مصر فراراً من "مذبحة البريئين"، وهي أقوى صورة في هذه المجموعة. وروى نتورتو على جدران الحجرة العليا الكبرى حوادث في تاريخ المسيح نفسه: تعميده بيد يوحنا، ومحاولة الشيطان إغواءه، والمعجزات والعشاء الأخير. وكانت هذه الصورة الأخيرة واقعية بعيدة كل البعد عن العرف المألوف إلى حد جعل رسكن يصفها بأنها "أسوأ(21/264)
ما عرف عن نتورتو" (30). وقد رسم المسيح في الطرف البعيد، والقديسين منهمكين في الأكل أو الحديث، والخدم رائحين بالطعام وغادين، وكلباً يسأل متى يتناول هو أيضا الطعام. ورسم نتورتو في حجرة داخلية في الطابق الأعلى صورتين من أعظم صوره. إحداهما صورة المسيح أمام بيلاطس ويظهر فيها شخص لا يمكن أن ينساه الإنسان قط يرتدي ثوباً أبيض كأنه كفن، ويقف متعباً، مستسلماً، ولكنه يقف مهيباً كريماً أمام بيلاطس الذي يحاول التكفير عن خطيئة الخضوع إلى تعطش الغوغاء للدماء. وآخر ما نذكره من هذه الصور صورة يرى نتورتو أنها خير صوره على الإطلاق- صورة الصلب، التي تتحدى صورة يوم الحساب لميكل أنجيلو وتسمو عليها في قوتها واتساع مدى تكوينها، وتنفيذها الفني، فها هي ذي أربعون قدماً من الجدار تغطيها ثمانون صورة لأشخاص، وخيول وجبال، وأبراج، وأشجار، روعيت فيها الأمانة في رسم التفاصيل، مراعاة لا يكاد يتصورها العقل، ويرى فيها المسيح يمضه الألم الجثماني والنفساني، ولص من اللصوص يلقى فوق صليب مطروح على الأرض، وهو يقاوم إلى آخر لحظة؛ ولص آخر جبار في قوته وتهوره، ثم يرفعه للقتل جنود غلاظ شداد يحول غضبهم من ثقله دون أن تأخذهم به رأفة، وترى النساء وقد انكمشن جماعات من شدة الرعب، والنظارة يتزاحمون في حرصهم على أن يروا الرجال يعذبون ويموتون. ويرى من بعيد جو مكفهر لا يستجيب إلى المأساة البشرية، ولكن فيه رعداً وبرقاً ومطراً لا تعبأ بها. وفي هذه الصورة بلغ نتورتو الذروة وضارع أحسن المصورين.
وأضاف نتورتو إلى كل هذه الآيات الفنية التي رسمها في قاعات الاجتماع ثماني صور أخرى رسمها لكنيسة هذه الجماعة نفسها معظمها خاص بالقديس روك نفسه. وأظهر ما في هذه المجموعة كلها صورة بركة بيت جسدا وذلك لما تبعثه في النفس من رهبة إن لم يكن لشيء سواها.(21/265)
ويستمد الفنان موضوعه من الإصحاح الخامس من الإنجيل الرابع: "في هذه كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى، وعمى، وعسم (1) " ينتظرون أن تتاح لهم الفرصة للاستحمام في بركة ذات الماء الشافي. وتنتورتو لا ينظر إلى معجزة شفاء المرضى، بل يرى الجماهير المصابة بمختلف الأمراض، ويصورها كما يراها وهو ساكن هادئ بأجسامها المشوهة وأسمالها البالية، وأقذارها، وآمالها، ويأسها. إن هذا المنظر كأنه أخذ من منظر الجحيم لدانتي أو الأثقال لزولا.
وهذا الرجل الذي يستطيع أن يحدث بفنه هذه السورة العارمة ضد الشرور التي يتعرض لها الجسم الإنساني بفطرته: هذا الرجل نفسه قد استجاب بحماسة بالغة لمباهج الجسم الإنساني في صحته وجماله، وكاد يضارع تيشيان وكريجيو في رسم العرايا. ونحن وإن كان يحق لنا أن نتوقع من روحه القلقة وفرشاته السريعة أن تعجزا عن نقل الإحساس القديم بالجمال أثناء راحته؛ لنجد مع ذلك في أماكن كثيرة في أوربا أشكالا أنيقة أمثال صورة دانائي المحفوظة في متحف ليون بفرنسا، والمزدانة بالجواهر، وصورة ليدا والبجع الموجودة في معرض أفيدسي، وفينوس وفلكان المحفوظة في متحف ميونخ وصورة إنقاذ أرسينوئي، المحفوظة في متحف درسدن، وعطارد وربات الجمال وباخوس وأدرياني المحفوظتين في قصر الدوج بالبندقية ... ويظن سيمندس أن هذه الصورة الأخيرة هي أجمل صورة بالزيت موجودة في هذه الأيام، إن لم تكن أعظم الصور كلها" (31). على أن أكمل منها صورة أصل المجرة الموجودة في معرض لندن الفني التي تعزو هذا الأصل إلى ضغط
_________
(1) هذا هو نص الآية، وقد ورد في المحيط العسم محركة، يبس في مفصل الرسغ تعوج منه اليد والقدم. (المترجم)(21/266)
كيوبد على ثديى Juno- وهو تفسير لا يقل في صدقه عن أي تفسير آخر تقدم به العلماء. وفي متاحف اللوفر، والبرادو وفينا، ومعرض واشنجتن الغني أربع صور مختلفة من رسم نتورتو تمثل سوزنا والكبراء. وفي معرض برادو حجرة ممتلئة بصور تمثل جمال النساء "منها صورة فتاة بندقية تزيح رداءها لتكشف عن صدرها، وحتى في صورة معركة الترك والمسيحيين نرى ثديين ناهدين يستلفتان الأنظار بين بريق الأسنة والرماح: وفي متحف فيرونا صورة تمثل جوقة مكونة من تسع نساء موسيقيات ثلاث منهن عاريات إلى أوساطهن- كأن الآذان تحسن السمع إذا كان في وسع العيون أن ترى هذا القدر الكبير من الجمال. وليست هذه الصور أحسن ما أبدعه تنتورتو، بل إن قدرته لتظهر أعظم ما تظهر في تمثيل الرجولة في الحياة، والبطولة في الموت على أوسع نطاق؛ ولكن هذه الصور تدل هي الأخرى على أنه يستطيع كما يستطيع جيورجيوني وتيشيان أن يرسم الانحناءات الخطرة بيد ثابتة؛ ولسنا نرى فيما رسمه من صور للنساء العاريات شيئاً من فساد الخلق، بل نجد فيها المتعة الحسية السليمة. فهؤلاء الآلهة وهذه الإلاهات يرون العري من طبيعة الأشياء، وهو لا يشعرون به؛ ويرون أن من صفاتهم الإلهية أن يحيوا الشمس "وكل أجسامهم وجوه"، يحيونها بأجسامهم كلها غير مضيق عليها الأزرار، والأشرطة والأربطة.
وظل نتورتو ممتنعاً عن الزواج فوستينا ده فيسكوفي Faustina de Vescovi، ولكنها وجدته مضطرباً مسكيناً إلى حد لم يسعها معه إلا أن تجد السعادة في أن تكون له أماً. وولدت له ثمانية أبناء أصبح ثلاثة منهم مصورين لابأس بأعمالهم. وكانوا يسكنون بيتاً متواضعاً غير بعيد من كنيسة مادنا دل أورتو (عذراء أورتو)، وقلما كان الفنان الكبير يبتعد عما حول البيت إلا إذا ذهب ليصور في كنيسة بالبندقية، أو في القصر، أو في مقر الإخوان. ولهذا فإنا لا نستطيع تقدير(21/267)
قوته وتنوع صوره إلا في نطاق المدينة التي ولد فيها. وقد عرض عليه دوق مانتوا منصباً في بلاطه، ولكنه رفضه؛ ذلك أنه لم يكن سعيداً إلا في مرسمه، حيث لم يكن ينقطع عن العمل لا ليلا ولا نهارا، وكان زوجا وأبا طيبا، ولكنه لم يكن يعني أقل عناية بالمتع الاجتماعية. وكاد يبلغ في عزلته، واستقلاله، ونكده، واكتئابه، وتوتر أعصابه، وعنفه، وكبريائه، كاد يبلغ في هذا كله مبلغ ميكل أنجيلو الذي ظل طول حياته يعبده، ويحاول أن يتفوق عليه. ولسنا نجده عنده السلام لا في روحه ولا في أعماله، وكان كميكل أنجيلو يعظم قوة الجسم، والعقل، والروح، أكثر مما يعظم الجمال الظاهر، ولهذا نرى صور العذراء التي رسمها منفرة كصورة عذراء دوني Doni. وقد ترك لنا صورة له (توجد الآن في متحف اللوفر)، رسمها وهو في الثانية والعشرين من عمره. ولا نكاد نرى فيها فرقاً بين رأسه ووجهه وبين وجه أنجيلو ووجهه نفسه. -فالوجه قوي مكتئب، عميق مندهش حائر، ترتسم عليه علامات مائة عاصفة.
والصور التي رسمها لنفسه خير صوره جميعاً، ولكنه رسم صوراً أخرى تشهد بعميق نظراته النافذة ووحدة فنه. ذلك أنه في هذه الناحية أيضا ظل واقعياً، لا يجرؤ امرؤ على أن يجلس أمامه ليصوره إذا كان يرجو أن يخدع الخلف. وكم من عظيم من أهل البندقية قد انتقل إلينا من خلال القرون بفضل فرشاة نتورتو: أدواج، وأعضاء في مجلس الشيوخ، ووكلاء دعاو؛ وثلاثة من مديري دار سك النقود، وستة من أصحاب بيت المال؛ وخير من هؤلاء كلهم في هذه المجموعة صورة ياقوبو سوراندسو- وهي من أعظم الصور التي أخرجها فن البندقية. ومن هذه الصور أيضاً صورة سان سوفينو المهندس المعماري وكرنارو Cornaro المعمر. ولتنتورتو صور لا يفوقها إلا صورة السوراندسو Soranzo ولا يعرف من تمثله وهي صورة الرجل لابس الزرد(21/268)
(في برادو) وصورة الشيخ (في بريستشنسا) وصورة رجل (في الخلوة بلينينجراد)؛ وصورة مغربي في مكتبة مورجان بنيويورك. وحدث في عام 1574 أن تخفى تنتورتو في ثياب خادم من خدم الدوج ألفيزي متشينيجو Dege Alvise Mocenigo واستطاع الوصول إلى البارجة بوتشنتور Bucentaurs بارجة أمير الأسطول، ورسم خلسة بالبسطل (1) صورة تقريبية لهنري الثالث ملك فرنسا. ثم استطاع فيما بعد أن يتخذ له مكاناً في ركن حجرة كان هنري مجتمعاً فيها مع اعيان البلاد ومن هذا المكان أتم الصورة. وبلغ من حب هنري لها أن عرض على الفنان لقب فارس، ولكنه رجاه أن يقبل اعتذاره.
وكانت معرفته بأعيان البندقية قد بدأت في عام 1556 حين عهد إليه هو وفيرونيزي أن يرسم صوراً على القماش في قصر الدوق. رسم في قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglo صورتين هما تتويج فردريك بربرسا وحرمان الاسكندر الثالث لبربرسا. وفي القاعة المعروفة باسم صالا دل اسكروتينو Saladel Scrutinio ( قاعة البحث والتحقيق) غطى جداراً كاملا بصورة يوم الحساب. وسر مجلس الشيوخ من الصورتين سروراً حمله على أن يختاره في عام 1572 لتخليد ذكرى الانتصار العظيم في ليبانتو. غير أن هذه الصور الأربع قد دمرتها النار التي شبت في عام 1577، وفي عام 1574 عهد مجلس الشيوخ إلى نتورتو أن يصور حجرة الانتظار (الانتيكاليجيو Anticollegio) . وهنا رسم للمشترعين الكبار صورة عطارد وربات الجمال وأندريا ياخوس. وكيرفلكان ومينيرقا تطارد المريخ .. وفي قاعة مجلس الشيوخ Sata de Predadi رسم نتورتو (1574 -
_________
(1) Pastel معربة هو صرب من أقلام الرصاص شائع الاستعمال بين أطفال المدارس. (المترجم).(21/269)
1585) طائفة من اللوحات الكبيرة يطري بها أدواج أيامه، فصوره ومن خلفهم الميدان الفخم العظيم: كنيسة القديس مرقص بقبابها البراقة أو برج الساعة، أو برج الأجراس، أو الواجهة الفخمة لمكتبة فيتشيا أو بواكي قصر الدوبرج البراقة، أو مناظر القناة الكبرى تحجبها الغيوم أو تسلط عليها أشعة الشمس. ثم توج هذه الرسوم بصور توائم ذوق الحكومة الفخورة المزهوة فرسم على السقف صورة رائعة فاقت كل ماعداها وهي صورة البندقية ملكة البحار؛ ترتدي أثواباً ذات روعة وجلال تحيط بها دوائر من الأرباب المعجبين بها، وتتلقى من آلهة البحر وحورياته هدايا الماء- المرجان والأصداف، واللآلئ.
ولم يثن الحريق الكبير من عزم مجلس الشيوخ فطلب إلى نتورتو أن يعوضه عن الخسارة بصور تمحو من ذاكرة الناس كل شيء عنها. فنفش في "قاعة البحث" منظر معركة كبرى هي الاستيلاء على زارا، وصور على جدار إحدى حجرات المجلس الكبير لإمبراطور فردريك بربرسا يستقبل الوفود من عند البابا والدوج، كما رسم على السقف آية فنية رائعة هي الدوج نقولو بنتي يتلقى خضوع المدن المغلوبة.
ولما قرر مجلس الشيوخ (1586) أن يغطي المظلم القديم الذي صوره جوارينتو Guariento على الجدار الشرقي من حجرة المجلس، اعتقد أن تنتورتو، وكان وقتئذ في الثامنة والستين من عمره. قد بلغ من الكبر حداً لا يستطيع معه أن يقوم بهذه المهمة. ولهذا قسم العمل كما قسم الجدار بين فاولو فيرونيزي، وكان وقتئذ في الثامنة والخمسين، وفرانتشيسو بسانو، البالغ وقتئذ سبعا وثلاثين سنة. لكن فيرونيزي توفي عام 1588 قبل أن يبدأ العمل فعلا، وعرض نتورتو أن يحل محله، وأن يغطى الجدار كله بصورة واحدة هي مجد الجنة، ووافق مجلس الشيوخ على هذا العرض،(21/270)
ووضع الشيخ الطاعن في السن، بمساعدة ابنه دومينيكو وابنته ماريتا Marietta، في الاسكولا دلا ميزيربكورديا Scuola della Misericordia قطع القماش التي ستتألف منها الصورة الأخيرة. ورسمت كثير من الرسوم التخطيطية الأولية؛ منها رسم، يعد في حد ذاته آية فنية، يوجد الآن في متحف اللوفر. ولما وضعت هذه الأجزاء كلها في مكانها (1590)، وبعد أن لون دومينيكو مواضع الاتصال بين الأجزاء وأخفاها، كانت الصورة أكبر صورة بالزيت وقعت عليها العين حتى ذلك الوقت- فقد كان طولها اثنتين وسبعين قدماً وارتفاعها ثلاثا وعشرين. وأجمعت الجماهير التي احتشدت لرؤيتها على أنها أعظم أعمال التصوير التي تمت في مدينة البندقية- وأنها "أعجب قطعة في العالم كله من الصور الزيتية النقية، السامية التي تمثل الرجولة الحقة" (33). وعرض مجلس الشيوخ على نتورتو أجراً بلغ من الارتفاع حداً لم يسعه معه إلا أن يرد إليه جزءاً منه واستاء من ذلك زملاؤه الفنانون.
وعدا الزمان على هذه الجنة، واليوم إذا ما دخل الإنسان قاعة المجلس الكبير، والتفت إلى الجدار القائم خلف عرش الدوج، لم يجد الصورة التي تركها تنتورتو هناك، بل وجد صورة سودها الدخان والرطوبة اللذين تناوبا عليها مئات السنين، حتى لا يستطيع أن يتبين من الأشكال الخمسمائة التي كانت تملأها إلا أقلية صغرى واضحة للعين. أما فيما عدا هذا فدوائر داخل دوائر تهتز وترتجف- وتتكون من السذج المباركين، والعذارى، والمؤمنين بالدين، والشهداء، والمبشرين بالإنجيل، والحواريين، والملائكة، وكبار الملائكة- كلهم محتشدون حول مريم وابنها، كأن هؤلاء جميعاً قد أصبحوا هم الآلهة الحقيقيين للعالم المسيحي اللاتيني، وقد جاءوا يعترفون بجلال قدرة المرأة والرجل اعترافاً جديراً بهم. ويشعرنا تنتورتو بما وراء الأشكال المائة التي تستطيع أن تراها بالعين من مئات أخرى يخطئها الحصر.(21/271)
والحق أنه حتى إذا لم يكن اللذين يدخلون الجنة إلا قلة تختار من اللذين يدعون إليها، فإن من دخلوها فعلا في ستة عشر قرناً من التاريخ المسيحي ليبلغون عدداً كبيراً من الجماهير السعيدة، وقد أخذ تنتورتو على نفسه أن يصور لنا هذا العدد الكبير، ويمثل لنا سعادتهم. وهو لم يمِت الجنة فيصفها مكاناً مكتئباً كما وصفها دانتي، بل تصورها مكاناً مليئاً بالمرح والطرب، لا يقبل فيه إلا السعداء المبتهجون. وكأن هذا العمل كان هو الرقية التي أخرجت الفنان من سابق كراهيته للمجتمع.
لكن تلك الأيام من حياة الفنان لم تكن خالية من أسباب الحزن؛ ففي السنة التي أزيح فيها الستار عن الصورة العظيمة ماتت ابنته المحبوبة ماريتا، وكان حذقها التصوير والموسيقى من أكبر مباهجه وأسباب سلواه في شيخوخته. فلما أن فارقته لاح كأنه لا يفكر إلا في أن يراها تحيا حياة أخرى. فكان يتردد أكثر من ذي قبل على مادنا دل أورتو-سيدة الحديقة- حيث يقضي الساعات الطوال في التفكير والدعاء بعد أن أصبح آخر الأمر رجلا ذليلا. وكان لا يزال يصور، وأخرج في هذه السنين الختامية طائفة من الصور تمثل القديسة كترين لتوضع في الكنيسة المسماة باسمها. لكنه أصيب في السابعة والسبعين من عمره بمرض في معدته سبب له آلاما ممضة حرمت النوم على عينيه. فكتب وصيته، وودع زوجته، وأطفاله، وأصدقاءه؛ ومات في الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 1594، وأودعت جثته في مادنا دل أورتو.
وإذا ما حاول الإنسان أن يتبين فن هذا المصور الكبير بعد أن يطوف بقاربه في مياه البندقية الضحلة ويقف أمام كل صورة من فنانها الذي لا يقل قدراً عن ميكل أنجيلو، إذا ما فعل هذا فإن أول ما ينطبع في ذهنه هو طابع الكثرة والضخامة، إذ يرى الجدران الكبيرة مغطاة بصور الآدميين والحيوانات على درجات متفاوتة من الجمال والقبح لا تقل عن(21/272)
الألف عدا، تختلط فيها الأجسام وتضطرب اضطراباً لا نجد له ما يبرره إلا قولنا إنه هو الحياة. ذلك أن هذا الرجل الذي كان يبتعد عن الجماهير ويبغضها، يواجهها في كل مكان، ويصورها تصويراً صادقاً دقيقاً غاية في الصرامة. ويبدو أنه كان قليل الاهتمام بالأفراد؛ وإنه إذا رسم صوراً لهم فإنما كان يقصد بذلك كسب العيش صراحة. وكان يرى الإنسانية جملة، ويفسر الحياة والتاريخ على أنهما كتل من الخلائق البشرية تكافح، وتنافس، وتحب، وتستمتع، وتعذب، طابعها الرجولة والجمال، مريضة ومعقدة، ناجية أو معذبة. وكان يغطي بصوره قطعاً من قماش الرسم ذات حجم مروع في كبره، لأن هذه السعة وحدها هي التي كانت تفسح له المجال ليصور ما يشهده. ومع أنه لم يكن يتقن أصول فن التصوير، كما يتقنها تيشيان، فإنه قد استخلص لنفسه الطريقة التي رسم بها هذه الصور الضخمة، وإليه يرجع أكبر الفضل في روعة الحجرات التي في قصر الأدواج، لهذا لا ينبغي لنا أن نطلب إليه رقة الصقل أيا كان نوعها، فهو في فنه خشن، فج، سريع، يخلق أحياناً منظراً بضربة واحدة من فرشاته. على أن خطأه الحقيقي ليس هو خشونة السطح- لأن السطح الخشن ذاته قد ينير ما ينطوي عليه الرسم من معنى-، أما هذا الخطأ فهو العنف المسرحي لما يختاره من الأحداث، وثوران أهوائه ونزواته ثوراناً سقيما، والكآبة التي يغرق فيها الحياة كما يصورها، وتكرار صور الجماهير تكراراً متعبا مملا. لقد كان تنتورتو مفتتناً بكثرة العدد، كما كان ميكل أنجيلو مفتتناً بالأشكال، وروبنز Rubens، مفتتناً بالأجسام. ولكن ما أكثر ما نجده في هذه الكثرة نفسها من دقائق وتفاصيل عظيمة الدلالة، وما أعظم ما نجده من دقة ونفاذ في الملاحظة، ومن تنوع وانفرادية في الأجزاء لا ينضب لهما معين، وواقعية جريئة حيث لم نكن نجد قبل إلا خيالا وعاطفة!
وآخر ما نشعر به ونحن نقف أمام هذه الصور هو الاستجابة لها(21/273)
استجابة صريحة أكيدة قائلين: هذا هو الفن في أعظم طراز له. لقد صور غيره من الفنانين الجمال كما فعل رافائيل، أو القوة كما فعل ميكل أنجيلو، أو عمق النفس كما فعل رمبرانث أما عنا في هذه الرسوم العالمية- سواء كانت تمثل صخب مدينة، أو لجماهير صامتة تؤدي الصلاة، أو دخائل ألف بيت وبيت وما تضمه من متاعب أو محبة وولاء- نقول أما هنا فإنا نجد الحياة الإنسانية نفسها. وقد نحس أحياناً ونحن وقوف صامتون أمام هذه الجدران الحائلة في قصر أدواج البندقية، أو في حجرات إخوان القديس روك، أن صور غيره من الفنانين الأرقى منه درجة تنمحي من ذاكرتنا" وأنه لو استطاع الصباغ الصغير (1) أن يصقل صوره صقل الجوهري بعد أن فكر فيها تفكير الجبابرة، لكان أعظم المصورين أجمعين.
_________
(1) يريد تنتورتو وهذا هو المعنى الحرفي لاسمه. (المترجم)(21/274)
الفصل الخامس
فيرونيزي
1528 - 1588
ولسنا نحب أن يفوتنا، قبل أن نطوي صحيفة هذا الباب، أن نكرم بعض نجومه اللامعة وإن كانت من الطبقة الثانية بعد الفنانين السابقين؛ فقد كان هؤلاء أيضاً ممن تلألأ ضياؤهم في البندقية. من هؤلاء أندريا مليولادا Andrea Melolda وهو من إقليم سلافونيا وسمى شيافوني Shiavone. وقد تلقى الفن مع تيشيان، ورسم صورة من العاج لسيدة على صندوق في قلعة ميلان. ثم حاول أن يرسم صورتين أكبر من هذه وهما جوبتر وأنتيوبي (المحفوظة في لينينجراد) وعطية العذراء (البندقية)، وكانتا صورتين بديعتي اللون، وأثنى عليه الفنانون، وأعرض عنه المناصرون؛ واضطر أندريا أن يسير بلحيته الوقورة في أسمال بالية.
وكان باريس بوردوني Paris Bordone ابن سراج وحفيد حذاء، ولكنه استطاع بفضل ديمقراطية العبقرية، التي تظهر في جميع الطبقات أن يشق طريقه إلى الذروة في مدينة البندقية الممتلئة بذوي المواهب والكفايات. وقد جاء بوردوني من تريفنزو ليلتقي أصول الفن على تيشيان، ونضج نضوجاً بلغ من سرعته أن دعاه فرانسس الأول إلى باريس وهو في سن الثامنة والثلاثين. وفيها أخرج بعض الصور الدينية الممتازة مثل الأسرة المقدسة (ميلان)، وبلغ أعلى مكانة له في صورة الصائد يهدي خاتم القديس مرقص إلى الدوج (البندقية)؛ ولكن الصورة التي خلدت اسمه على مر السنين هي صورة فينوس وإيروس (أفيدسي) وهي تمثل فتاة بضة(21/275)
شقراء ترتدي ثوباً أبيض لتكشف به عن نهديها، بينما يصيح كيوبد ليلفتها إليه (1).
ونال ياقوبو دا بنتي Jacopo da Ponte، المسمى البسانو Il Bassano نسبة إلى مسقط رأسه، شهرة وسطى وثروة غير كبيرة حين اشترى تيشيان صورته الحيوان ذاهبة إلى سفينة نوح واستطاع أن يعيش حتى بلغ الثانية والثمانين دون أن يترك وراءه أية صورة لآدميين لا تغطيهم الأثواب من رؤوسهم إلى أقدامهم.
وجاء من فيرونا إلى البندقية في عام 1553 شاب في الخامسة والعشرين من العمر يدعى باولو كاليارى Paolo Caliari، وهو طراز من الشبان يختلف كثيراً عن طراز نتورتو: فهو هادئ، ودود محب للألفة، ينتقد عيوب نفسه، لا ينفعل إلا نادراً. وكان يحب الموسيقى ويمارسها، مثله في ذلك كمثل تنتورتو وجميع الإيطاليين المتعلمين تقريباً. وكان سخياً كريم الخلق، لم يسئ قط إلى منافس له، ولم يغضب نصيراً له أبداً. وسمته البندقية إل فيرونيزي Il Veronese وهو الاسم الذي يعرفه به العالم، وإن كان قد أحب البندقية فيما أحب من المدن واتخذها موطنا له. وكان له فى فيرونا عدد من المعلمين، منهم عمة أنطونيو باديلي Antonio Badile الذي زوجه فيما بعد بابنته؛ وقد تأثر فيها بجيوفني كاروتو Giovanni Caroto برساسورسي Brusasorc؛ ولكن هذه العوامل التي كانت ذات أثر في نشأة أسلوبه سرعان مازالت في لألاء فن البندقية وحياتها القويين. فقد كان تغير منظر السماء وألوانها فوق القناة الكبرى مصدر دهشته على الدوام؛ وكان يعجب بقصور المدينة وانعكاس خيالها واهتزازه في ماء البحر؛ وكان يحسد عالم الأشراف على دخلهم الثابت، وصداقتهم للفنانين، وآدابهم
_________
(1) كانت هذه إحدى الصور الكثيرة التي أخذها جورنخ goering من إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي استردتها إيطاليا بعد انتصار الحلفاء.(21/276)
العالية، وأثوابهم المنسوجة من الحرير والمخمل التي تكاد تكون أكثر إغراء للمس من النساء الحسان اللائى يلبسنها. وكان يتمنى أن لو كان من أولئك الأشراف؛ وكان فعلا يرتدي أثواباً شبيهة بأثوابهم محلاة بالمخرمات والفراء، ويقلد مراسيم التكريم التي كان يعزوها إلى الطبقات العليا من أهل البندقية. ولا نكاد نجد له صورة للفقراء من الناس، أو للفقر ذاته، أو للمآسي، لأن الغرض الذي كان يسعى إليه هو أن يخلد بصوره هذا العالم المتلألئ المحظوظ من أهل البندقية، وأن يجعله أرق وأجمل مما يستطيع أن يبلغه الثراء بغير الفن. ولهذا هرع إليه النبلاء والنبيلات، والأساقفة ورؤساء الأديرة، والأدواج وأعضاء مجلس الشيوخ، وأحبوه، وسرعان ما كانت لديه أكثر من عشر مهام يقوم بأدائها.
وطلب إليه في ذلك التاريخ المبكر من حياته أي في عام 1553 ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن ينقش سقف مجلس العشرة في قصر الدوق. وقد شبه في هذا النقش المجلس بجوبتر قصور جوبتر يقضي على الرذائل، وتوجد هذه الصورة الآن في متحف اللوفر. ولم يكن نجاحه في هذه الصورة نجاحاً يستلفت الأنظار؛ ذلك أن الأشكال الثقيلة تقفز مزعزعة في الهواء، لأن باولو لم يكن قد سرى فيه حتى ذلك الوقت روح البندقية. ثم لم يمض على ذلك الوقت إلا عامان حتى عرف قدر نفسه، وصار غير بعيد من أساتذة الفن في صورة انتصار موردكاي التي رسمها على سقف كنيسة سان سباستيانو. وقد أظهر في هذه الصورة وجه البطل اليهودي وشكله واضحين قويين، والخيل نفسها تبدو كأنها خيل بحق. وربما كان تيشيان نفسه قد تأثر بهذه الصورة، وشاهد ذلك أنه لما عهد إليه القائمون على كنيسة القديس مرقص أن يزخرف مكتبة فيتشيا بصورة مدليات مصورة، عهد إلى فيرونيز بثلاثة من هذه المداليات، ولم يسبق لنفسه ولكل واحد آخر من الفنانين الذين اشتركوا معه في العمل إلا واحدة. ووعد هؤلاء المشرفون(21/277)
أن يمنحوا صاحب أحسن مدلاة سلسلة ذهبية، فكان باولو هو الذي نال هذه المكافأة نظير تمثيله الموسيقى في صورة ثلاث فتيات- واحدة منهن تعزف على العود، وواحدة تغني، وواحدة منكبة على الكمان الدجمبي (1) - ومعهن كيوبد يضرب على معزف من نوع البيان، وبان Pan (2) بنفخ في مزاميره. وقد رسم فيرونيز بعدئذ يتحلى بهذه السلسلة الذهبية.
ولما أن أحرز باولو هذه الشهرة العظيمة في التصوير الزخرفي عهدت إليه أعمال درت عليه المال الوفير. من ذلك أن أسرة بربارو Barbaro الشريفة الغنية شادت في عام 1560 بيتاً ريفياً في ماتشير Macer قرب أسولو Asolo حيث كانت تقيم كترينا كرنارو ملكة قبرص السابقة، وحيث كان بمبو العاشق الأفلاطوني الواله. ولم يختر آل برباري إلا كبار الفنانين ليجعلوا من هذا البيت: "أجمل بيت للنزهة شيد في عصر النهضة" (35). فاختاروا أندريا بلاديو لتصميمه. وألسندرو فتوريا لزخرفته بالتماثيل الجصية، وفيرونيزي لعمل المظلمات في السقف والجدران، والبندريلات والكوات، مستمدة من مناظر من الأساطير الوثنية والمسيحية. فقد صور على السطح الداخلي من القبة الوسطى أولمبس- الآلهة الذين يستمتعون بجميع مباهج الحياة ولكنهم لا يهرمون ولا يموتون. ورسم صغار الفنانين وسط مناظر سماوية صورة صائد، وقرد، وكلب بلغ من دقة شكله ويقظته وحيويته ما يجعله خليقاً بأن يكون من كلاب السماء. ورُسم عى أحد الجدران خادم يتطلع عن بعد إلى صورة عذراء، وتتطلع هي الأخرى إليه، ثم تمضي لحظة يطعمون هم أيضاً فيها طعام الآلهة، وبهذا بلغ جمال القصر وبهجته درجة لا يمكن أن يعلو عليها إلا الفنانون الصينيون من مواطني كوبلاي خان Kublai Khan،
_________
(1) آلة موسيقية من نوع الكمال.
(2) إله الرعاة والقطعان والغابات والحياة البرية، وشفيع الرعاة، والصائدين ... الخ(21/278)
ولم يكن بد من أن يطلب إلى باولو أن يرسم صورة النساء العرايا في وسط هذا الجمع الحاشد من مناظر الحب. على أن العرى لم يكن الميدان الذي يبرز فيه؛ فقد كان يفضل عليه الأثواب الثمينة الملساء الناعمة تغطي أجساماً شبيهة بالأجسام التي يصورها روبنز، تعلوها وجوه ذات جمال عادي يميزها عن غيرها من الوجوه، ويتوجها شعر ذهبي مسدل مسرح. ويرى الإنسان في صورة المريخ وفينوس المحفوظة في متحف متروبوليتان الفني إلهة بدينة قبيحة المنظر، ذات ساق لا شكل لها مصابة بداء الاستسقاء. لكن فينوس تبدو جميلة في صورة فينوس وأدونيس الموجودة في برادو لا يفوقها في هذه الصورة إلا شكل الكلب الرابض عند قدميها. وأجمل ما في صور فيرونيزي الأسطورية صورة اختطاف أوربا (1) الموجودة في قصر الأدواج! وتمثل هذه الصورة منظراً ذا أشجار قائمة، والثور المجنح يلقى بالأكاليل وأوربا (الأميرة الفينيقية) جالسة وهي مبتهجة فوق ظهر الثور العاشق، الذي يلعق إحدى قدميها الجميلتين، وتستبين أنه هو بعينه جوبتر متخف بزي جديد. وقد أظهر هذا الفنان الذي صور مناظر في السماء ذوقاً لطيفاً في تصوير مناظر الآلهة. ذلك أنه صور أوربا وعلى نصف جسمها ثياب ملكية، وقد أحرز فيرونيزي في هذه الصور أتم نجاح في رسم أجسام النساء، وبلغ بها حد الكمال في هذا التركيب فجعلها خليقة بأن يترك زيوس من أجلها مقامه في السماء. وتروي خلفية الصورة البعيدة بقية القصة، فتظهر الثور يحمل أوربا فوق مياه البحر إلى كريت، ومن هنا أعطت اسمها للقارة الأوربية- كما تقول القصة اللطيفة.
وسار باولو نفسه على مهل قبل أن يستسلم لتصوير النساء. فقد ظل
_________
(1) أوربا في الأساطير اليونانية أميرة فينيقية اختطفها زيوس بعد أن تخفى في صورة ثور أبيض، وسبح بها في البحر إلى جزيرة كريت حيث أضحت أم مينوس، ورها دامانثوس، روسار بيدون. (المترجم)(21/279)
يجمع النماذج حتى بلغ الثامنة والثلاثين من العمر، ثم تزوج بعدئذ إيليتا باديلي Elena Badile، فولدت له ولدين هم كارلو وجبريلي، علمهما التصوير وتنبأ بنبوءة مبعثها الرغبة والأمل أكثر من بعد النظر، فقال "سيفوقني شارلي Carletto me Vincera" (36) . وفعل فيزونيزي ما فعله كريجيو فابتاع مزرعة في سانت أنجيلو دي تريفيزو حيث قضى معظم سني زواجه، يصرف شئونه المالية بحكمة واقتصاد، وقلما كان يبتعد عن كرمته. ولما بلغ سن الأربعين كان أكثر من يسعى إليه الطالبون بين المصورين في إيطاليا كلها، بل كان يتلقى دعوات من البلاد الأجنبية نفسها؛ ولما أن طلب إليه فيليب الثاني زخرفة الإسكوريال، قدر هذا التكريم حق قدره ولكنه قاوم هذا الإغراء الشديد.
ودعى كما دعى من سبقوه من الفنانين ليرسم القصة المقدسة للكنائس والعابدين (1) وإنا لنرى كل شيء جديداً جذاباً في صورة عذراء أسرة
_________
(1) الصور الآتية خليقة بالذكر وهي مما لم يرد ذكره في النص: 1 - من كتاب العهد القديم: خلق حواء (تشكاجو)؛ موسى ينجو من البحر (برادو)، إحراق سدوم (اللوفر)؛ ملكة سبأ أمام سليمان (تورين)؛ يشبع (ليون)؛ بوديت أمام هولوفرنيس (تور)؛ سوزان والكبار (اللوفر) وفيها يظهر الكبار أكثر إمتاعاً من سوزان، وليس هذا شأن الصور المماثلة لها. 2 - صورة العذراء: صعود العذراء (البندقية؛ عبادة المجوس (فينا، ودرسدن، ولندن وكلها صور فخمة رائعة)؛ الأسرة المقدسة (برنستن)؛ الأسرة المقدسة ومعها القديسة كترين والقديس يوحنا (أفيدسي) - وهي من أعماله الكبرى؛ والعذراء والطفل والقديسين- صورة فخمة (البندقية)؛ الهية (درسدن)؛ صعود العذراء وتتويجها (البندقية). 3 - من صور يوحنا المعمدان: عظة القديس يوحنا (بورغيزي). 4 - من صور المسيح: التعميد (بتي، وبربرا، وواشنجتن)، المسيح يجادل في المعبد (برادو) يسوع والمعمر (برادو)؛ المسيح يحيي ابنة يايروس (البندقية)، العشاء الأخير (بربرا)، خلع بيلناصر (فيرونا ولينينجراد) الماريات الثلاث عند القبر (بتي).(21/280)
كوتشينو (الموجودة في درسدن) بعد أن رسمت للعذراء ألف صورة وصورة! نرى أصحاب الهبات الوسيمي الوجوه ذوي اللحى السوداء، ونرى الأطفال السذج الحيارى، ونرى شبح الغدر المتشح بلفاعة بيضاء- في صورة امرأة ذات جمال رائع قلما يضارعه جمال آخر حتى في فن البندقية نفسه.
وكانت صورة الزواج في كانا (المحفوظة في متحف اللوفر) هي ذات المنظر الذي يحب فيرونيزي أن يصوره: وقد جعل خلفية الصورة مباني رومانية، وجعل في مقدمتها كلباً أو كلبين، ومائة شخص في نحو مائة موقف مختلف، وقد رسمهم كلهم كأنه يريد أن يجعل كل واحد منهم صورة كبرى قائمة بذاتها، وكان من بينهم صور تيشيان، وتنتورتو، وبسانو، وصورته هو نفسه. ومع كل منهم آلة موسيقية وترية يعزف عليها. وكان باولو يختلف عن نتورتو في أنه لم يكن يعنى أقل عناية بالواقعة؛ فهو لم يجعل في صورته المحتفلين رجالا ونساء ممن قد تحتويهم بلدة يهودية صغيرة، بل جعل المضيف من اصحاب الملايين البنادقة، وجعل له قصراً خليقاً بأن يكون قدر الإمبراطور أغسطس، فيه الضيوف والكلاب المعروفة السلالة والنسب، واحتوت الموائد ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وإذا جاز للإنسان أن يحكم على المسيح من صور فيرونيزي، قال إنه قد استمتع بولائم كثيرة بين محنه؛ فنحن نشاهده في اللوفر يتغذى في بيت سمعان الفريسي، ومجدلية تغسل قدمه، ومن حوله نساء حسان يتحركن بين العمد الكورنثية؛ وفي توريز يتعشى في بيت سمعان الأبرص؛ وفي معرض البندقية يتغذى في بيت لاوي. لكننا نرى المسيح في معرض صور فيرونيزي يغشى عليه تحت ثقل الصليب (درسدن)، ونراه يصلب في جو مكفهر وأبراج أورشليم قائمة من تحته عن بعد (اللوفر). ولا يفصح فيرونيز عن خاتمة المأساة: فنحن نرى في أموس حجاجاً سذجاً يتعشون مع المسيح ومعهم أطفال ظراف يدللون كلباً يظهر دائماً في صور الفنان.(21/281)
واعظم من هذه الصور الموضحة للعهد الجديد صور فيرونيزي المستمدة من حياة القديسين وأقاصيصهم: كصورة القديسة هيلينا يكسوها الجمال الرائع، وهي تعتقد أنها ترى الملائكة ينقلون الصليب (لندن)؛ والقديس أنطونيوس يعذبها شاب مفتول العضلات، وامرأة مَلَكية (كائن)؛ والقديس جيروم في البرية؛ تواسيه وتطرد عنه السآمة كتبه (تشكاجو)؛ والقديس جورج يرحب في وجد ونشوة بالاستشهاد (في كنيسة سان جيورجيو بالبندقية)؛ والقديس أنطونيوس في بدوا؛ والقديس فرانسس يتلقى الوسمات (1) (البندقية)؛ القديس مناس تتلألأ عليه الدرع (مودينا) ويستشهد (برادو)؛ القديسة كترين الإسكندرية تتزوج زواجاً باطنياً بالطفل المسيح (كنيسة القديسة كترينا بالبندقية)؛ والقديس سباستيان يرفع علم الأيمان والأمل وهو يقاد إلى ساحة الاستشهاد (كنيسة سان سباستيانو في البندقية)؛ والقديسة جوستينا تواجه الاستشهاد وتتعرض للتهلكة المزدوجة في معرض أفيدسي وفي كنيستها في بدوا؛ كل هذه صور لا يمكن موازنتها بأحسن ما صور تيشيان أو نتورتو، ولكنها مع ذلك خليقة بأن تعد من الآيات الفنية، ولعل أجمل منها كلها صورة أسرة دارا أمام الاسكندر (لندن) وهي تمثل ملكة مكتئبة، وأميرة حسناء، راكعة أمام قدمي الفاتح الوسيم الكريم.
وقد سبق القول إن باولو بدأ حياته في البندقية بالتصوير في قصر الدوق، ونقول الآن إنه ختمه في هذا القصر نفسه بصور جدارية عظيمة خليقة بأن تستثير شعور كل روح وطنية في تلك المدينة. ذلك أن زخرفة داخل القصر بعد الحرائق التي شبت فيه في عامي 1574 و 1577 عهد أكثرها إلى نتورتو وفيرونيزي، وطلب إليهما أن يكون موضوع الزخرفة هو البندقية نفسها،
_________
(1) علامات تشبه الجراح ظهرت على جسم المسيح المصلوب يعتقد بعض الناس أنها ظهرت من تلقاء نفسها على أجسام بعض الأشخاص أمثال فرانسس. (المترجم)(21/282)
التي لم ترهبها الحرائق والحروب؛ ولا الأتراك والبرتغاليون. وقد رسم باولو ومساعدوه في قاعة الاجتماع Sala del Collegio على السقف المحفور المذهب إحدى عشرة صورة رمزية غاية في الرشاقة- للوداعة وحمَلها ... والجدل ينظر من خلال نسيج عنكبوت من صنعه ... والبندقية في صورة ملكة مرتدية فرو القاقوم الثمين، وأسد القديس مرقص راقد في هدوء عند قدميها يتلقى التكريم من العدالة والسلام. وفي إطار بيضي الشكل عظيم الشأن في سقف قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglio رسم صورة انتصار البندقية مثل فيها المدينة العظيمة التي لا تضارعها مدينة سواها بإلهة متربعة على عشرها بين الأرباب الوثنيين، تتلقى تاج المجد يهبط عليها من السماء؛ وعند قدميها كبار أعيان المدينة وكرائم سيداتها، وبعض المغاربة يؤدون الجزية؛ ومن تحت هؤلاء كلهم محاربون يقفزون استعداداً للدفاع عنها، وخدم يمسكون بكلاب الصيد من مقودها. تلك أعظم صورة صورها فيرونيزي.
واختير في عام 1586 لينشئ بدل مظلمات جوارينتو Guariento الحائلة اللون صورة تتويج العذراء في قاعة المجلس الكبير نفسها. وقدم الرسم التمهيدي وقبل، وبينما هو يستعد لرسم الصورة على القماش إذ انتابته الحمى؛ وروعت البندقية حين ترامى إليها النبأ بأن مصور مجدها الذي لا يزال في عنفوان الشباب توفي في أبريل من عام 1588. وطلب آباء كنيسة سان سباستيانو أن تدفق جثته في كنيستهم، وفعلاً دفن باولو في هذه الكنيسة أسفل الصور التي جعلت منها موطناً لفنه الديني.
ولقد قلب الدهر حكم معاصريه ووضعه في المرتبة الثانية بعد معاصره القوي تنتورتو. ونحن نظرنا إليه من حيث أصول الفن وجدناه يفوق تنتورتو؛ فقد بلغ في التنفيذ، والتأليف، والتلوين أعلى درجة بلغها فن البندقية. ولسنا نجد صوره المزدحمة مضطربة مهوشة، بل نرى حوادثه ومناظره(21/283)
واضحة، وخلفيات صورة وضاءة ساطعة. على حين يبدو تنتورتو أمير الظلمة إذا وضع إلى جانب هذا العابد للضوء. كذلك كان فيرونيزي أعظم مصور زخرفي في النهضة الإيطالية، وكان على استعداد دائم لأن يبتكر بدعة سارة أو مدهشة في اللون والشكل كصورة الرجل الذي يخرج فجأة من وراء ستار نصف مزاح، مخترقاً مدخلاً قديماً، والتي نشاهدها في بيت ماتشر الريفي. ولكنه كان ينهمك مسروراً في تصوير السطوح المؤتلفة إلى حد يحول بينه وبين إدراك الدقائق الصغيرة، والمتناقضات المفجعة، والتناسق العميق وهي الخصائص التي بدونها لا يكون التصوير العظيم عظيماً. لقد كان ضعيف النظر لا يرى كل شيء، وكان حريصاً في فنه على أن يصور كل ما يراه، وأكثر مما كان يتخيله مجرد تخيل- كصورة الأتراك يشاهدون تعميد المسيح، والتيوتون في بيت لاوي، وللبنادقة عند إموس، والكلاب في كل مكان. وما من شك في أنه كان يحب الكلاب، وإلا لما صور كل هذا العدد الكبير منها. وكان يرغب في تصوير أكثر نواحي الحياة بهجة ولألاء، وحقق رغبته إلى حد لا يضارعه فيه غيره. وقد صور البندقية في رونق شمسها الغاربة ومتعة الحياة الآخذة في الزوال. ولسنا نجد في عالمه الذي مثله في صوره إلا نبلاء ذوي جمال، وزوجات ذوات فخامة وعظمة، وأميرات ساحرات، وفتيات شقراوات شهوانيات، وإنا لنجد بين كل صورتين من صوره واحدة تمثل احتفالا أو عيداً.
وإن عالم الفن كله ليعرف كيف استدعى رجال محكمة التفتيش فيرونيزي أمامهم (1573) تنفيذاً لقرار صادر من مجلس ترنت يحرم كل تعليم خاطئ في الفن، وطلبوا إليه أن يفصح لهم عن سبب إدخاله كثيراً من الأشياء التي لا تمت قط بصلة إلى الحقيقة في صورة الحفل المقام في بيت لاوي (البندقية)، كالببغاوات، والأقزام، والألمان، والمهرجين، وحاملي فئوس الحرب ... ورد عليهم باولو في جرأة قائلا إن "مهمتي هي زخرفة(21/284)
الصورة بما أراه أنا صالحاً، وإنها كانت كبيرة تتسع لشخوص كثيرة ... وإذا ما وجدت في صورة ما مكاناً خالياً يحتاج إلى ما يملؤه، وضعت فيه من الأشكال ما يوحي به خيالي"- ليتوازن به تأليف الصورة من جهة، وتستمتع به عين الشاهد استمتاعاً لا ريب فيه من جهة أخرى. وأمرته محكمة التفتيش أن يصلح الصورة على نفقته الخاصة، ففعل (37)، وكانت هذه المحاكمة بداية انتقال فن البندقية من عهد النهضة إلى عهد حركة الإصلاح المضادة.
ولم يكن لفيرونيزي تلاميذ ممتازون، ولكن تأثيره تخطى عدة أجيال ليسهم في صياغة الفن في إيطاليا، وفلاندرز، وفرنسا، تيبولو Tiepolo بميوله الزخرفية بعد فترة بينهما خلت من هذا التأثير، ودرسه روبنز بعناية؛ وتعلم أسرار ألوانه، وضخم نساء فيرونيزي البدن يوائم بينهن وبين ما يتسم به الفلمنكيون من سعة ورحابة. كذلك وجد فيه نقولاس بوسَّن Nicolas Poussin وكلود لورن Claude Lorrain من يرشدهما لاستخدام الزخارف المعمارية، في مناظرهم الطبيعية، وسار شارل ليرون Charles Lebrun على سنن فيرونيزي في تصميم الصور الجدارية الكبرى. وكان المصورون الفرنسيون في القرن الثامن عشر يستمدون الوحي من فيرونيزي وكريجيو في أناشيد الرعاة أيام الأعياد الريفية، وأناشيد العشاق الأشراف الذين يلعبون في أركاديا. ومن هنا نشأ واتو Watteau وفراجونار Fragonard؛ ومن هنا أيضاً نشأت العرايا ذوات اللون الوردي اللائى صورهن بوشيه Boucher، والأطفال الظراف الذين تصورهم جريز Grueze، والنساء الرشيقات اللاتي أبدع تصويرهن. ولعل تيرنر Turner قد وجد هنا شيئاً من شروق الشمس الذي أضاء به لندن.
وهكذا اختتم العصر الذهبي للبندقية ملكة البحر الأدرياوي بما امتازت به صور فيرونيز من توهج الألوان. وكان سبب هذا الختام أن الفن كان(21/285)
عسيراً عليه أن يظل سائراً إلى أبعد مما سار في الاتجاه الذي تبعه من عهد جيورجيوتي إلى عهد فيرونيزي. بعد ان وصل إلى حد الكمال في أصوله، وتسلق أعلى الدرج. ولهذا بدأ يهبط رويداً رويداً حتى جاء القرن الثامن عشر فحدثت فيه نوبة أخيرة من الإبداع والفخامة قبل موت الجمهورية ضارع بها تيبولو Tiepolo فيرونيزي في الرسم الزخرفي، وكان جلدوني Goldoni هو أرستوفانيز البندقية.(21/286)
الفصل السادس
نظرة شاملة
إذا ما ألقينا نظرة على فن البندقية إبان مجده، وحاولنا في حياء أن نقدر ما كان له من شأن في تراثنا الفني، حق لنا أن نقول على الفور إن فن فلورنس وفن روما هما وحدهما اللذان يضارعانه في جودته، وبهائه، واتساع مجاله. ولسنا ننكر أن مصوري البندقية، ومنهم تيشيان نفسه لم يتعمقوا كما تعمق الفنانون الفلورنسيون في أسرار مشاعر الناس، وأسباب يأسهم، ومآسيهم، وانهم كثيراً ما أولعوا باللباس والجسد ولعاً حال بينهم وبين الوصول إلى الروح. ولقد كان رسكن على حق حين قال إن الدين الحق قد ذوى غصنه من أدب البندقية بعد بليني (38). ولم يكن البنادقة هم الملومين إذا ما أخفقت الحروب الصليبية، وانتصر الإسلام وانتشر في الآفاق، وانحط شأن البابوية أثناء إقامتها في أفنيون وفي اثناء الانقسام البابوي، ثم استحالة البابوية إلى سلطة دنيوية في عهد سكتس الرابع واسكندر السادس، ثم انفصال ألمانيا وإنجلترا آخر الأمر عن الكنيسة الرومانية، وإذا ما أدى هذا كله إلى إضعاف إيمان الخلق حتى المؤمنين أنفسهم، فلم يبق الكثير من النفوس القوية فلسفة خير من فلسفة الأكل والشرب والزواج ثم الزوال. غير أننا والحق يقال لم نجد غير البندقية مكاناً عاش فيه الفن المسيحي والفن الوثني متآلفين راضيين. فقد كانت الفرشاة التي صورت العذراء هي نفسها التي صورت بعدئذ فينوس، ولم يشكٌ من هذا أحد شكوى ذات بال. كذلك لم يكن هذا الفن مخنثاً ولا فن ترف وراحة؛ بل كان الفنانون ينهمكون في العمل انهماكاً، وكثيراً ما كان الذين يقوم هؤلاء الفنانون بتصويرهم رجالا يخوضون المعارك ويحكمون(21/287)
الدول، وكانت النساء اللائى يصورونهن نساء يحكمن أمثال هؤلاء الرجال.
وكان الفنانون البنادقة مولعين باللون ولعا حال بينهم وبين أن يضارعوا حذق الأساتذة الفلورنسيين، ولكنهم كانوا رغم ذلك رسامين مجيدين، وقد قال في هذا المعنى يوماً ما أحد الفرنسيين "إن الصيف مُلوّن، والشتاء مصمم L'ete c'est un coloriste l'liver c'est un dessinsteur (39) ، فالأشجار العارية من الأوراق تكشف عن الخطوط الواضحة في هيكلها، ولكن هذه الخطوط تظل موجودة لا تزول تحت خضرة الربيع، وسمرة الصيف، وذهب الخريف. وكذلك نشهد تحت مجد اللون في جيورجيوني، وتيشيان، وتنتورتو خطوطاً ولكنها خطوط يمتصها اللون كما أن شكل السمفونية التركيبي يخفيه انسيابها.
وكان فن البندقية وأدبها يتغنيان بمجدها حتى في الوقت الذي اضمحلت فيه الحياة الاقتصادية وتحطمت في حوض البحر المتوسط بعد أن سيطر الأتراك على طرف منه، وهجرته من الطرف الآخر أوربا التي أخذت تبحث عن الذهب الأمريكي. ولعل الفنانين والشعراء كانوا على حق. فلم تكن تقلبات التجارة أو الحرب بقادرة على أن تطفئ جذوة الذكرى التي يعتز بها ذلك القرن العجيب 1480 - 1580 - الذي أقام فيه مونشينيجو Mocenigo وبريولي Priuli ولورنداني Lorendani البندقية الإمبراطورية وأنجوها من الدمار، والذي زينها فيه آل لمباردي، ولبوباردي بالتماثيل والأنصاب، وتوج سانسوفينو وبلاديو مياهها بالكنائس والقصور، ورفع فيه بليني، وجيورجيوني، وتيشيان، وتنتورتو، وفيرونيزي مقامها فجعلوها زعيمة الفن في إيطاليا؛ والذي غنى فيه بمبو أغاني منزهة عن العيوب، واخرج فيه مانوتيوس Manutius لكل من يعنيهم الأدب، تراث اليونان وروما الأدبي، وجلس فيه الشيطان المنكل بالأمراء، ذلك الشخص الذي لايعوض، ولايقهر، جلس على عرش القناة الكبرى يحكم العالم ويعتصره.(21/288)
الباب الثالث والعشرون
انحطاط عهد النهضة
1534 - 1576
الفصل الأول
اضمحلال إيطاليا
لم تكن الحروب التي اندلع لهيبها لغزو إيطاليا قد خبت نارها بعد ولكنها قد غيرت وجه إيطاليا وطبيعة أهلها، فالأقاليم الشمالية قد خربت تخريباً جعل مبعوثي هنري الثامن يشيرون عليه بأن يتركها لشارل عقاباً له على ما فعل بها. ونهبت جنوي، وفرضت على ميلان ضرائب فادحة قاتلة، وأخضع حلف كمبريه مدينة البندقية، كما أضعفها وأذلها فتح الطرق التجارية الجديدة، وقاست روما، وبراتو، وبافيا الأمرين من جراء السلب والنهب؛ وانتشرت المجاعة في فلورنس واستنزفت مواردها المالية، وكادت بيزا تدمر نفسها في كفاحها لنيل حريتها، وأما سينا فقد أنهكتها الثورات، كما أفقرت فيرارا نفسها في نزاعها الطويل مع البابوات، وأتت بما يغض من كرامتها بتحريضها على الغزو المستهين لروما. وحل بمملكة نابلي ما حل بلمباردي من سلب ونهب وتخريب على أيدي الجيوش الأجنبية، وذوى غصنها الرطيب زمناً طويلاً كانت فيه خاضعة للأسر الحاكمة الأجنبية، وصقلية؛ وما أدراك ما صقلية؟ لقد أضحت معششاً لقطاع الطرق، وكانت السلوى الوحيدة(21/289)
لإيطاليا هي أن خضوعها لشارل الخامس قد أنجاها في أغلب الظن من اجتياح الأتراك لها وانتهابهم إياها.
وانتقلت السيطرة على إيطاليا إلى أسبانيا بمقتضى اتفاقية بولونيا (1530) عدا أمرين اثنين: أولهما أن البندقية الحذرة احتفظت باستقلالها، وثانيهما أن البابوية، بعد أن حد من سلطانها، قد أيدت سيادتها على ولايات الكنيسة. فأما نابلي، وصقلية، وسردينية، وميلان، فقد أصبحت تابعة لأسبانيا يحكمها ولاة من قبلها. وأما سافوي ومانتوا، وفيرارا وأربينو وهي التي كانت عادة تؤيد شارل أو تغضى عن فعله فقد سمح لها بان تحتفظ بأدواقها المحليين على شريطة أن يسلكوا مسلكاً حسناً في علاقاتهم بالإمبراطور. واحتفظت جنوى وسينا بشكلهما الجمهوري، ولكنهما خضعتا للحماية الإسبانية، وأرغمت فلورنس على قبول فرع آخر من آل ميديتشي حكاما لها، استبقوا لأنهم تعاونوا مع أسبانيا.
وكان فوز شارل مرحلة أخرى من مراحل انتصار الدولة الحديثة على الكنيسة، لأن ما بدأه فيليب الرابع عام 1303 في فرنسا، قد أتمه شارل ولوثر في ألمانيا، وفرانسس الأول في فرنسا، وهنري الثامن في إنجلترا، وقد حدث هذا كله في عهد بابوية كلمنت. ذلك أن دول أوربا الشمالية لم تكتشف ضعف إيطاليا وحسب، بل إنها فضلا عن ذلك قد زال عنها خوفها من البابوية؛ فقد أضعف إذلال كلمنت ما كان يشعر به الناس فيما وراء الألب من احترام للبابوات، وهيأ عقولهم للخروج على سلطان للكنيسة الكاثوليكية.
وكان سلطان الأسبان على إيطاليا نعمة عليها وبركة من بعض الوجوه، فقد قضى هذا السلطان إلى حين على الحروب التي كانت تقوم بين الدويلات الإيطالية بعضها وبعض. كما قضى من عام 1559 حتى عام 1796 حتى عام 1796 على المعارك التي كانت تدور رحاها بين الدول الأجنبية فوق الأراضي الإيطالية؛(21/290)
وأتاح للأهليين نظاماً سياسياً متصلا بعض الاتصال، وهدأ من حدة الانفرادية العارمة التي أوجدت النهضة ثم قضت عليها آخر الأمر. فأما الذين كانوا يرجون النظام ويسعون إليه فقد ارتضوا هذا الخضوع الذي أنجاهم من الفوضى؛ وأما الذين كانوا يعتزون بالحرية فقد حزنوا لما أصابها بهذا السلطان. ولكن أكلاف السلم مع الخضوع للأجنبي وما فرضته على الإيطاليين من عقوبات، سرعان ما أضرت باقتصاد إيطاليا وحطمت روحها المعنوية، ذلك أن الضرائب الفادحة التي فرضها الولاة للاحتفاظ بمظاهر الأبهة لأنفسهم ولأداء رواتب الجند ونفقاتهم، وصرامة قوانين أولئك الولاة، واحتكار الدولة للحبوب وغيرها من ضروريات الحياة، كل هذا أضر بالصناعة والتجارة، يضاف إلى هذا أن الأمراء الإيطاليين ساروا هم أيضاً على سنة الولاة الأجانب ففرضوا أفدح الضرائب وأشدها فتكاً بالنشاط الاقتصادي الذي كان يمدهم بحاجتهم من المال، وذلك لكيلا لا يكونوا أقل من الولاة خيلاء وترفاً. واضمحلت شؤون النقل البحري إلى حد لم يعد في وسع السفن الإيطالية الكبيرة أن تحمي نفسها من قراصنة البربر الذين كانوا يهاجمون السفن والسواحل، ويأسرون الإيطاليين ويبيعونهم عبيداً لسراة المسلمين، ولم يكن الجنود الأجانب الذين يقيمون في بيوت الإيطاليين على الرغم من سكانها، أقل إضراراً بالإيطاليين من القراصنة أنفسهم؛ فقد كان هؤلاء يجهرون باحتقارهم لهذا الشعب الذي لم يكن له من قبل نظير وحضارته التي لم تبلغ شأنها حضارة أخرى سابقة؛ وكان لهؤلاء حظ وافر فيما اتسم به ذلك العصر من انحلال في الأخلاق الجنسية.
وحلت بإيطاليا كارثة أخرى، كانت أشد وقعاً عليها من أضرار الحرب والخضوع إلى الأسبان؛ تلك هي أن الطواف برأس الرجاء الصالح (1488)، وافتتاح الطريق المائي الكامل إلى الهند (1498)، قد أنقصا نفقات النقل بين الأمم الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي وبلاد آسية الوسطى(21/291)
والشرق الأقصى عنها في الطريق المتعب فوق جبال الألب إلى جنوى أو البندقية، ومن ثم إلى الإسكندرية، ثم بطريق البر إلى البحر الأحمر، ثم بالبحر مرة أخرى إلى الهند. يضاف إلى هذا أن سيطرة الأتراك على هذا الطريق الثاني قد جعلته غير مأمون، ومعرضاً لأن تفرض على من يتبعونه الضرائب والرسوم الفادحة، كما كان معرضاً لهجمات القراصنة، وللحروب، وينطبق هذا بعينه وبدرجة أكبر على الطريق المار بالقسطنطينية والبحر الأسود. وكانت نتيجة هذا التحول أن اضمحلت تجارة البندقية وجنوى وحال فلورنس المالية بعد عام 1498، ولم يحل عام 1503 حتى كان البرتغاليون يبتاعون من فلفل الهند قدراً لم يجد معه التجار البنادقة والمصريون من هذه السلعة ما يستطيعون إصداره (1). وكانت نتيجة ذلك أن صعد ثمن الفليفل بمقدار ثلث ثمنه الأصلي في سوق البندقية التجارية، على حين أنه كان يباع في لشبونة بنصف الثمن الذي يطلبه التجار في البندقية! ولهذا شرع التجار الألمان يهجرون متاجرهم على ضفة القناة الكبرى، وينقلون مشترياتهم إلى البرتغال. وكاد الحكام البنادقة يحلون هذه المشكلة في عام 1504 حين عرضوا على حكومة الممالك القائمة وقتئذ في مصر الاشتراك معها في مشروع يهدف إلى إعادة القناة القديم بين دال النيل والبحر الأحمر، ولكن استيلاء الأتراك على مصر في عام 1517 قضى على هذا المشروع.
وفي ذلك العام نفسه علق لوثر مقالاته الثورية على باب كنيسة وتنبرج، وكان الإصلاح الديني سبباً ونتيجة من أسباب اضمحلال إيطاليا الاقتصادي ونتائجه. أما أنه سبب لهذا الاضمحلال فيرجع إلى قلة وفود الحجاج ونقص إيراد الكنيسة من الأمم الشمالية إلى روما؛ وأما أنه نتيجة فلأنه استبدل بطريق البحر المتوسط ومصر إلى الهند الطريق المائي كله، ونشأت التجارة الأوربية مع أمريكا التي أغنت بلاد المحيط الأطلنطي وكانت من أسباب فقر إيطاليا. فقد أخذت التجارة الألمانية يزداد انتقالها في نهر الرين إلى مصبه في بحر الشمال، ويقل(21/292)
تنقلها فوق الجبال إلى إيطاليا، وأضحت ألمانيا مستقلة تجاريا عن إيطاليا، وهكذا كان اتجاه التجارة نحو الشمال والقوة الجاذبة نحو الشمال سبباً في انتزاع ألمانيا من المحيط التجاري والديني الإيطالي، واكتسابها القوة والإرادة اللتين أمكنها بهما أن تقف على قدميها بمفردها.
وكان لكشف أمريكا آثار في إيطاليا أطول مدى مما كان لطريق الهند الجديد. فقد أخذت أمم البحر المتوسط تضمحل بعد هذا الكشف وتترك راكدة في سير الركب الآدمي وانتقال التجارة؛ وبرزت أمم المحيط الأطلنطي إلى مكان الصدارة، بعد أن اغتنت من تجارة أمريكا وذهبها. وأحدث هذا انقلاباً في الطرق التجارية أعظم من أي انقلاب آخر سجله التاريخ منذ فتحت بلاد اليونان القديمة لسفنها طريق البحر الأسود إلى أواسط آسيا بعد انتصارها على طروادة. ولم يضارع هذا الانقلاب ويفقه فيما بعد إلا ما حدث من انقلاب في الطرق التجارية على أثر استخدام الطائرات في النصف الثاني من القرن الحالي.
وكان العامل الأخير في اضمحلال النهضة هو حركة الإصلاح المضادة. فقد أضافت هذه الحركة إلى اضطراب أحوال إيطاليا السياسية وانحلالها الخلقي، وإلى خضوعها لسلطان الأمم الأجنبية وما حل بها من الخراب على أيدي هذه الأمم، وإلى تحول التجارة منها إلى أمم المحيط الأطلنطي، وإلى ما خسرته من الموارد بسبب حركة الإصلاح الديني، نقول إن هذه الحركة أضافت إلى هذا كله تبدلا قوياً. ولكنه تبدل طبيعي في أحوال الكنيسة وفي مسلكها. ذلك أن حركة الإصلاح الديني الألمانية، وانفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية، وزعامة أسبانيا في القارة الأوربية، قد قضت على "اتفاق السادة المهذبين" الذي لم تصغ نصوصه أو تدون، والذي لم يدركه فيما نظن العاملون به، وهو اتفاق كانت الكنيسة بمقتضاه، في أثناء ثرائها واطمئنانها على سلطانها، تسمح بقسط كبير من حرية التفكير للطبقات(21/293)
المفكرة، على شريطة ألا تحاول هذه الطبقات إضعاف إيمان الناس أو خلق الاضطراب فيه، لأن هذا الإيمان هو الخيال الذي لاغنى عنه لحياتهم، وهو مصدر نظامها وسلوتها. فلما شرع الناس أنفسهم ينبذون عقائد الكنيسة وسلطانها عليهم، ولما كسب الإصلاح الديني أنصاراً له معتنقين مبادئه في إيطاليا نفسها، أوشك صرح الكثلكة كله أن يتصدع من أساسه؛ وأجابت الكنيسة على هذا- وكانت ترى نفسها دولة، فسلكت كما تسلك كل دولة يتعرض كيانها للخطر، فبدلت خطتها من التسامح والحرية إلى تحفظ الخائف المرتاع وفرضت قيوداً شديدة على التفكير، والبحث، والنشر، والقول. وكانت السيطرة الأسبانية تفرض الآراء الدينية والسياسية مجتمعة؛ وكان لها نصيب في تحويل كثلكة عصر النهضة اللينة إلى تزمت الكنيسة الصارم الذي إلتزمته بعد مجلس ترنت (1545 - 1563). وجرى البابوات الذين جاءوا بعد كلمنت السابع على السنة التي سار عليها الأسبان وهي توحيد الكنيسة والدولة واستخدام القوة الناشئة من هذا التوحيد في السيطرة الصارمة على الحياة الدينية والعقلية.
وكما أن رجلاً أسبانياً هو الذي كان سبباً في إنشاء محكمة التفتيش حين هددت ثورة الأليجنسيين الدينية في القرن السادس عشر سلطان الكنيسة في جنوبي فرنسا، وكان من نتائج هذا التهديد أن قامت طوائف دينية جديدة لخدمة الكنيسة وتجديد حماسة المسيحيين الدينية؛ حدث أيضاً في القرن السادس عشر أن جاءت إلى إيطاليا صرامة محكمة التفتيش الأسبانية، وكان رجل أسباني هو الذي أنشأ نظام اليسوعيين- الجزويت (1534) - تلك الجمعية العجيبة، التي لم تكتف بقبول الإيمان التقليدية القديمة، إيمان الفقر، والعفة، والطاعة، بل تجاوزت ذلك إلى الخروج إلى العالم لتنشر الدين الصحيح، ولتكافح في كل مكان من العالم المسيحي الإلحاد أو الخروج على الدين. وكانت حدة الجدل الديني في عهد الإصلاح، وكان تزمت المبادئ الكلفنية(21/294)
وعدم تسامحها، واضطهاد المذهبين المتعاديين أحدهما للآخر في إنجلترا، كان هذا كله مشجعاً على وجود تعسف مقابل له في إيطاليا (3)، وحلت مبادئ إجناشيوس ليولا Ignatius Loyala وجهاده الديني محل مبادئ إرزمس الحرة المتحضرة؛ ذلك أن الحرية ترف لا يكون إلا مع الأمن والسلم.
واتسع نطاق الرقابة على المطبوعات التي بدأت أيام البابا سكتس الرابع فوضعت في عام 1559 قوائم بالكتب المحرمة لخطرها على الدين أو الأخلاق، وأنشئ مجلس لوضع قوائم التحريم في عام 1571. ويسر استعمال الطباعة أعمال الرقابة، ذلك أن مراقبة الطابعين العموميين كانت أيسر من مراقبة الأفراد النساخين. وحدث في البندقية التي كانت تكرم وفادة اللاجئين المفكرين والسياسيين أن شعرت الدولة نفسها بما في الانقسام الديني من ضرر على الوحدة الاجتماعية والنظام، ففرضت (1527) رقابة على المطبوعات، وانضمت إلى الكنيسة في منع نشر المطبوعات الروتستتنتية، وقاوم الإيطاليون هذه الخطط في أماكن متفرقة؛ وبلغ من حنقهم على واضعيها أن الجماهير من أهل روما ألقت بتمثال البابا بولس الرابع بعد موته (1559) في نهر التيبر، وأحرقت المقر الرئيسي لمحكمة التفتيش، وظلت النار مشتعلة فيه حتى دمرته عن آخره (4). لكن هذه المقاومة لم تكن منظمة بل كانت مفردة منقطعة، وغير ذات أثر فعال، وبذلك انتصر الطغيان، واستحوذت على روح الإيطاليين التي كانت من قبل مرحة، مبتهجة، متدفقة، نزعة من الاكتئاب، والتشاؤم، والاستسلام، حتى لقد صارت عادة لبس الثياب السود- القلنسوة السوداء، والصدارة السوداء، والجورب الأسود، والحذاء الأسود- صارت هذه العادة طراز إيطاليا التي كانت في سالف الأيام مولعة بالألوان الزاهية، كأن الشعب قد اتشح بالسواد حداداً على المجد الذي زال والحرية التي ماتت (5).
وصحب هذا الارتكاس الذهني بعض التقدم الخلقي. فقد تحسن سلوك(21/295)
رجال الدين بعد أن بعثت فيهم المذاهب المتنافسة روح الحمية، فقام البابوات ومجلس ترنت بإصلاح كثير من مساوئ الكنيسة. وليس من السهل أن نقول هل حدث تحسين مثل هذا في أخلاق غير رجال الدين؛ ويبدو أن من السهل جمع بعض الشواهد الدالة على الشذوذ الجنسي، وعلى وجود أبناء غير شرعيين، وعلى مضاجعة المحارم، وعلى ظهور الآداب البذيئة، والفساد السياسي، والسرقة، والجرائم الوحشية في إيطاليا بين عامي 1534 - 76 كما كانت تحدث فيها من قبل (6). وتدل سيرة بينفينوتو تشليني Beyenuto Cellini الذاتية على أن الفسق، والزنا، والسطو، والاغتيال كانت تمتزج بعقائد ذلك العصر. وبقي القانون الجنائي على ما كان من قسوة في سابق العهد: فالتعذيب كثيراً ما كان من الوسائل التي يلجأ إليها في استخلاص الشهادة من الشهود ضد البريئين، كما كان يلجأ اليه لانتزاع الاعتراف من الملتهمين، وكان لحم القاتلين لا يزال ينتزع بالكلابات المحمية الحمراء قبل أن يشنقوا (7). وكانت عودة الاسترقاق بوصفه نظاماً من النظم الاقتصادية الكبرى من أعمال ذلك العهد، وشاهد ذلك أن البابا بولس الثالث حين أعلن الحرب على إنجلترا في عام 1535 قرر في هذا الإعلان أن أي جندي بريطاني يؤسر في هذه الحرب يصح أن يتخذ رفيقاً بحكم القانون (8)، ونشأت حوالي عام 1550 عادة استخدام العبيد والمذنبين لجر سفن التجارة والحرب.
على أن بابوات ذلك العهد كانوا مع ذلك رجالا ذوي أخلاق عالية نسبياً في حياتهم الخاصة. وكان أعظمهم جميعاً بولس الثالث- وكان بولس هذا هو بعينه ألسندرو فارنيزي الذي نال منصب الكردنال لما كان لشعر أخته الذهبي من أثر في نفس الإسكندر السادس. ولسنا ننكر أن بولس هذا كان له ابنان غير شرعيين (9)، ولكن هذه كانت عادة مقبولة في ايام شبابه، وكان في وسع جوتشيارديني على الرغم منها أن يصفه بأن "رجل يزينه العلم والأخلاق الفاضلة المبرأة من كل عيب" (10). وكان بمبونيوس(21/296)
ليتوس Pomponius Laetus على أن يكون من الكتاب الإنسانيين، ومن أجل ذلك كانت رسائله تضارع رسائل إرزمس في ظرف لغتها اللاتينية الفصحى، وكان محدثاً مهذباً يحيط نفسه برجال قادرين ممتازين. على أن السبب في اختياره الكرسي البابوي لم يكن لمواهبه وفضائله بقدر ما كان لكبر سنه وضعفه؛ فقد كان في سن السادسة والستين، وكان في وسع الكرادلة أن يثقوا بأن سيموت بعد قليل، ويتيح لهم فرصة أخرى للمساومة ونيل المناصب الكنسية التي تدر عليهم المال الوفير (11)، ولكنه ظل يقاوم رغباتهم خمسة عشر عاماً كاملاً.
أما من حيث روما، فقد كانت مدة توليته البابوية من اسعد الأيام في تاريخها. ففي أيامه كلف لاتينو مانتي Latino Manetto المشرف على المباني في أيامه أن يجفف الأرض، ويسويها، ويوسع الشوارع ويشق كثيراً من الميادين العامة الجديدة، وأن يستبدل بالأحياء القذرة مباني فخمة جميلة، وحسن بهذه الطريقة أحد الشوارع الكبرى- المعروف باسم شارع بولس Paul's Codso- حتى أصبح يضارع شامب إليزيه Champs Elysees في باريس، وكان اعظم أعمال بولس الدبلوماسية أنه أقنع شارل الخامس وفرانسس الأول بأن يعقدا هدنة تدوم عشر سنين (1538). وكاد يصل إلى غرض عظيم نبيل- هو التوفيق بين الكنيسة وبين البروتستنتية الألمانية- لولا أن جهوده قد جاءت بعد الأوان. وقد أوتي من الشجاعة- التي يعوزها كلمنت السابع- ما جعله يدعو إلى عقد مجلس عام للكنيسة. ونشر مجلس ترنت المنعقد تحت رياسته بموافقته العقيدة الدينية الصحيحة، وأصلح كثيراً من مساوئ رجال الدين، وأعاد النظام والأخلاق الفاضلة بين القسيسين، واشترك مع اليسوعيين في منع الأمم اللاتينية من الانشقاق على الكنيسة الرومانية.
وكانت نقطة الضعف المفجعة في بولس هي تحيزه لأقاربه، فقد وهب(21/297)
كميرينو Comerino لحفيده أتافيو، وحبا ابنه بيرلويجي Pierluigi ببياتشيندسا وبارما. فأما بيرولويجي فقد اغتاله الأهلون الحانقون، وأما أتافيو فقد انضم إلى مؤامرة دبرت ضد جده. ومل بولس بعد ذلك الحياة، ومات بعد عامين من ذلك الوقت بسكتة قلبية في سن الثالثة والثمانين (1549). وحزن الرومان على موته كما لم يحزنوا على موت بابا آخر منذ أيام بيوس الثاني الذي جلس على كرسي البابوية قبل مائة عام من ذلك الوقت.(21/298)
الفصل الثاني
العلم والفلسفة
ظلت إيطاليا تتقدم في العلوم غير ذات الأثر في اللاهوت تقدماً معتدلا إلى الحد الذي يمكن أن تتقدمه أمة يغلب عليها الميل إلى الفن والأدب، وتنفر من النزعة العقلية التي قطعت الصلة بالضمير. وتزدان تلك الفترة القصيرة بأسماء فارولي Varoli، ويوستاتشيو Eustachio، وفالوبيو Fallopio الذين برزوا في علم التشريح الحديث. وكشف نقولو تارتاجليا Niccolo Tartaglia طريقة لحل معادلات الدرجة الثالثة؛ وأسر بطريقته إلى جيروم كاردان Jerome Cardan ( جيرومينو كاردانو Geromino Cordano) الذي نشرها على أنها طريقته هو (1545) وتحداه تارتاجليا أن يدخل معه في مبارزة جبرية، يعرض فيها كلاهما إحدى وثلاثين مسألة يحلها الآخر. وأخفق التلميذ ونجح تارتاجليا، ولكن كاردان كتب سيرة لنفسه عجيبة فاتنة خلدت اسمه على مر الأيام.
وتبدأ السيرة بالصراحة العجيبة التي تسري فيها من أولها إلى آخرها:
ولدت في الرابع والعشرين من سبتمبر سنة 1501 مع أن أدوية لإجهاض أمي قد جربت ولم تفلح كما سمعت ... ومع أن المشتري كان في الأوج والزهراء كانت تسيطر على طالعي، فإني لم أصب بعاهة تمنعني من العمل الدائم، إلا في أعضائي التناسلية، ولهذا فإني ظللت في سن الحادية والعشرين إلى الحادية والثلاثين عاجزاً عن مضاجعة النساء، وكثيراً ما رثيت لمصيري وحسدت كل من عداي على حسن حظه؟!
ولم تكن هذه عاهته الوحيدة؛ فقد كان يتهته في كلامه، وظل طول(21/299)
حياته يشكو بحة الصوت والرشح في الحلق، وكثيراً ما كان يصاب بعسر الهضم، وخفقان القلب، والفتق، والمغص، وزحار البطن، والبواسير، والنقرس، والحكة في الجلد، وسرطان في حلمة الثدي اليسرى، وأصيب بالطاعون، والحمى الثلاثية، وكانت تنتابه "فترة سنوية من الأرق تدوم نحو ثمانين يوماً". "وفي عام 1536 أصابني انطلاق البول بدرجة مدهشة كبيرة، ومع أني قد مضى علي نحو أربعين عاماً أقاسي شر هذا الداء، فأفرز من البول ما بين ستين ومائة أوقية في اليوم، فإني أعيش سليماً فيما عدا ذلك" (13).
وإذ كان قد وهب كل هذه التجارب الطيبة، فقد صار طبيباً ناجحاً، داوى نفسه من كل داء تقريباً إلا داء الغرور، واشتهر بأنه أكثر من يُسعى إليه من الأطباء في إيطاليا، وكان يطلب من بلاد بعيدة مثل اسكتلندة ليداوي رئيس أساقفة عجز عن مداواته نفس الأطباء، فشفاه هو من مرضه. وألقى وهو في الرابعة والثلاثين من عمره محاضرات عامة في العلوم الرياضية بميلان، كما ألقى محاضرات في الطب وهو في سن الخامسة والثلاثين. وفي عام 1545 نشر كتاباً يدعى الفنون الكبرى Ars Magna استعار عنوانه من ريمند للي Raymond Lully، أضاف فيه معلومات قيمة إلى علم الجبر الذي لا يزال يتحدث عن "قاعدة كاردان" لحل المعادلات التكعيبية، ويبدو أنه هو أول من قال إن معادلات الدرجة الثانية قد تكون لها جذور سالبة. وقد بحث هو مع تارتاجليا وقبل ديكارت بزمن طويل في إمكان استخدام الجبر في الهندسة (14). وبحث في كتابه De Subtilitate Rerum، (1551) في موضوع التصوير بالألوان، ولخص في De Rerum Varietate، (1557) المعلومات الطبيعية المعروفة في أيامه، وهو مدين في هذين الكتابين بالشيء الكثير لمخطوطات ليوناردو التي لم تكن قد نشرت وقتئذ (15). وقد ألف وسط أمراضه، وأسفاره، ومتاعبه الشديدة المرهقة 230 كتاباً، طبع منها(21/300)
حتى الآن 138 كتاباً، وقد أوتي من الشجاعة ما يكفي لإحراق بعضها.
وعلم الطب في جامعتي بافيا وبولونيا، ولكنه كان يخلط علمه بالمعلومات السحرية الخفية، وبالزهو الصارخ الذي أفقده احترم زملائه. وقد خصص مجلداً كبيراً لبحث العلاقات بين الكواكب ووجه الانسان، وبلغ من الخبرة والسخف في تفسير الأحلام ما بلغه فرويد Freud، كما بلغ من قوة الأيمان بالملائكة الحافظين ما بلغه الراهب أنجليكو، ولكنه مع ذلك ذكر أسماء عشرة رجال قال إنهم أصحاب أكبر العقول في التاريخ ولم تكن كثرتهم الغالبة من المسيحيين: أرخميدس، وارسطو، وإقليدس، وأبولونيوس البرجاوي، وارشيتاس التارنتومي Archytas of Tarentum والخوارزمي، والكندي، وابن جبير، ودنزاسكوتس، ورتشرد اسوينزهد Richard Swineshead- وكلهم من العلماء ما عدا دنزاسكوتس، وخلق كاردان لنفسه مائة عدو، وجلب على نفسه ألف تهمة مزورة، وكان تعيساً غير موفق في زواجه، وحاول عبثاً أن ينقذ ابنه الأكبر من الإعدام لأنه سم زوجة خائنه، ثم انتقل إلى روما في عام 1570، واعتقل فيها إما لأنه مدين، وإما لأنه ملحد، أو لكلتا التهمتين معاً، ولكن جريجوري الثالث عشر أطلق سراحه ورتب له معاشاً سنوياً.
كتب وهو في سن الرابعة والسبعين كتاب سر حياتي De vita propria liber- وهو إحدى ثلاث سير ذاتية ألفت في تلك الفترة من الزمن في إيطاليا. وقد حلل نفسه في هذا الكتاب بثرثرة وأمانة قريبتين كل القرب من ثرثرة منتاني وأمانته- حلل جسمه، وعقله وخلقه، وعاداته، وميوله، ما يحب وما يكره، فضائله، ورذائله، وأسباب شرفه وعدم شرفه، واخطاءه، ونبوءاته، وأمراضه، وتقلباته، وأحلامه؛ وهو يتهم نفسه، بالعناد، والحقد، وعدم الألفة مع بني جنسه، والتسرع في أحكامه، والخصام، والغش في لعب الميسر، والميل إلى الانتقام، ويذكر: "تبدل(21/301)
الحياة الفاجرة التي كنت أحياها في العام التي كنت أحياها في العام الذي كنت فيه مديراً لجامعة بدوا" (16). ويذكر قوائم: بالأشياء التي أشعر أنني أخفقت فيها" وخاصة حسن تربية أبنائه، ولكنه أيضاً يورد أسماء ثلاثة وسبعين كتاباً ذكر فيها اسمه، ويحدثنا عما كان له من كثير من ضروب العلاج الناجحة والتنبؤات الصادقة، وعن مقدرته الفائقة في المناقشات. وهو يأسف لما أصابه من ضروب الاضطهاد، وللأخطار "التي أحاطت بي بسبب أرائي التي لا تتفق مع السنين المألوفة" (17). ويسأل نفسه، "أي حيوان أراه أشد غدراً، وخسة، وخداعاً من الإنسان؟ " ثم لا تجيب عن هذا السؤال، ولكنه يسجل أشياء كثيرة توفر له السعادة، منها التغير، والطعام، والشراب، وركوب البحر، والموسيقى، ومناظر الدمى المتحركة، والقطط، والعفة، والنوم، ويقول: "إذا نظرت إلى جميع الأغراض التي قد يبلغها الإنسان، خيل إلي أن أعظم ما يسبب لي السرور منها هو الاعتراف بالحقيقة" (18). وكان مطلبه المحبب إليه هو دراسة الطب، الذي ابتكر فيه كثيراً من أنواع العلاج المدهشة.
ذلك أن الطب كان هو العلم الوحيد الذي تقدم تقدماً ملحوظاً في هذه الفترة من فترات الاضمحلال في إيطاليا. وقد قضى أعظم علماء ذلك العصر كثيراً من السنين في إيطاليا يتعلمون ويعلمون- كوبرنيق من 1496 إلى 1506، وفيساليوس Vesalius من 1537 إلى 1546، ولكننا ليس من حقنا أن نختلسهما من بولندا وفلاندرز لنزيد بذلك من تكريم إيطاليا. وقد شرح ريالدو كولمبو Realdo Colombo الذي خلف فيساليوس في منصب أستاذ التشريح في جامعة بدوا دورة الدم في الرئتين في كتابه ده ره أناتمكا Dere Anatomica ( في التشريح)، وأكبر الظن أنه لم يكن يعلم أن سفيرتوس Severtus قد وضع هذه النظرية نفسها قبله باثنتي عشرة سنة. وكان كولمبو يشرح جثث الموتى من الآدميين في بدوا وروما، دون معارضة من رجال الدين(21/302)
كما يلوح (19). ويبدو كذلك أنه كان يشرح الكلاب. وكشف جبريلي فاليبو، أحد تلاميذ فيساليوس القنوات النصف الدائرية والعصب السمعي للأذن، والقناتين اللتين تسميان باسمه (1) واللتين تنقلان البيض من المبيض إلى الرحم، كذلك كشف بارتولميو أوستاكيو القناة الأوستاكية في الأذن والصمام الأوستاكي في القلب، ونحن مدينون له أيضاً باكتشاف العصب المبعّد، والأجسام الفوكلية (التي فوق الكليتين)، والقناة النحرية. ودرس قسطندسو فارولى Constanzo Varoli قنطرة فارولي- وهي كتلة من الأعصاب عند السطح السفلي للمخ.
وليس لدينا أرقام نعرف منها ما كان للكشوف الطبية من أثر في إطالة العمر في عصر النهضة. ولكننا نعرف أن فارولي توفي في الثانية والثلاثين من عمره، وأن فالبيو مات في سن الأربعين، وكولمبو في الثالثة والأربعين، وأوستاكيو في سن الخمسين. ثم نعرف بعكس هذا أن ميكل أنجيلو عاش حتى بلغ التاسعة والثمانين، وأن تيشيان عاش إلى التاسعة والتسعين، ولويجي كرنارو يملك من المال ما يكفي لأن يجعله يستمتع بجميع أنواع الملاذ من طعام، وشراب، وحب. "وكان من نتائج هذا الإفراط أن وقع فريسة لعدة أمراض، كالآلام المعدية، والآلام الكثيرة في الجنب، وأعراض داء الرئية، والحمى غير الشديدة التي لا تكاد تفارقني ... والظمأ الذي لا يرتوي أبداً. ولم تترك لي هذه الحال السيئة أملاً أرتجيه إلا أن يقضي الموت على متاعبي"، ولما بلغ سن الأربعين ترك الأطباء جميع الأدوية وأشاروا عليه بأن أمله الوحيد في الشفاء هو "الاعتدال والحياة المنظمة ... فلا أتناول من الطعام الصلب أو السائل إلا ما يصفونه للمرضى، وحتى هذا يجب ألا أتناول منه إلا مقادير قليلة". وكان يسمح له بتناول اللحم وشرب النبيذ، على شرط أن يعتدل
_________
(1) يقصد قناني فلوب وهما قناتان في إناث الثدييات. (المترجم)(21/303)
فيهما، وما لبث أن أنقص مقادير طعامه وشرابه إلى اثنتي عشرة أوقية من الطعام وأربع عشرة من النبيذ. ويقول لنا إنه لم تمض على ذلك سنة واحدة حتى "وجدت أنني قد شفيت شفاء تاماً من جميع أمراضي ... وتحسنت صحتي تحسناً تاما، وبقيت كذلك من ذلك الوقت إلى الآن" (20). أي إلى سن الثالثة والثمانين. وقد وجد كذلك أن هذا النظام وذاك الاعتدال في العادات الجسمية يخلقان نظائر لهما في الصفات والصحة العقلية، "فقد بقي مخه صافياً على الدوام، ... " وفارقته "الكآبة، والكراهية، وغيرهما من الانفعالات". وحتى حاسة الجمال نفسها قد قويت لديه، وبدت له جميع الأشياء الجميلة أبدع مما كانت في أي وقت من الأوقات الماضية.
وقضى في بدوا شيخوخة هادئة ناعمة، قام فيها بأعمال عامة وأغدق عليها المال، وكتب وهو في سن الثالثة والثمانين سيرته الذاتية المسماة Discorsi della cita sobria. وقد صوره لنا تنتورتو في صورة لطيفة: نراه فيها أصلع الرأس ولكنه متورد الوجه، صافي العينين نفاذهما، ذا تجاعيد في وجهه تنم عن حب الخير، ولحية بيضاء قلل من شعرها مر السنين، ويدين لا تزالان تكشفان عن شباب أرستقراطي، وإن كان قد قرب من الموت. وإن تجاوزه سن الثمانين ليبعث فينا الشجاعة حين تراه يسخر من الذين يظنون أن الحياة بعد السبعين ليست إلا تأجيلا للموت وأنها حياة سقم تافهة لا معنى لها:
ألا فليأتوا وينظروا، إلى صحتي الجيدة، ويعجبوا كيف أمتطي صورة الجواد دون مساعدة، وكيف أصد الدرج مهرولا والتل مسرعاً، وليروا ابتهاجي، ومرحي، ورضائي، وتحرري من الهم والأفكار غير السارة، ان الطمأنينة والبهجة لا تفارقني أبداً ... وكل حواسي (بحمد الله!) على أحسن حال بما فيها حاسة الذوق؛ ذلك إني أستمتع بالطعام البسيط الذي أتناوله باعتدال أكثر من استمتاعي بشهي الطعام الذي كنت أطعمه في(21/304)
سني حياتي المضطربة ... وإذا ما عدت إلى بيتي فإني لا أرى أمامي حفيداً أو حفيدين بل أبصر أحد عشر من الأحفاد الصغار ... وأبتهج حين أسمعهم يغنون ويعزفون على آلات موسيقية مختلفة. وأنا نفسي أغني وأدرك أن صوتي أحسن، وأكثر صفاء، وأعلى نغمة مما كان في أي وقت مضى ... فحياتي إذن حية لا ميتة؛ ولست أرغب في أن أستبدل بشيخوختي شباب الذين يعيشون عبيداً لشهواتهم (21).
وكتب في السادسة والثمانين وهو "ممتلئ عافية وقوة" بحثاً ثانياً، يعبر فيه عن سروره لأن عدداً من أصدقائه سلكوا سبيله في الحياة، وأخرج في الحادية والتسعين من عمره بحثاً ثالثاً حدثنا فيه كيف "أكتب على الدوام، وبيدي، ثماني ساعات في اليوم، ... وأنا فضلا عن هذا أرتاض، وأغني ساعات أخرى كثيرة ... لأني أحسن حين أغادر المائدة أن لابد أن أغني ... ألا ما أحلى ما صار إليه صوتي وما أقواه! ". وألف وهو في الثانية والتسعين نصيحة مبعثها الحب ... إلى جميع بني الإنسان يعضهم فيها على انتهاج سبيل الحياة المنتظمة المعتدلة" (22). وكان يتطلع إلى أن يتم مائة عام، وأن يموت ميتة سهلة، بعد أن تنقص فيها قوة حواسه ومشاعره، ونشاطه الحيوي نقصاً تدريجياً. ومات ميتة هادئة في عام 1566، في التاسعة والتسعين كما يقول البعض، وفي الثالثة أو الرابعة بعد المائة كما يقول غيرهم. وعملت زوجته، كما يقال بنصائحه، وعاشت حتى كادت تبلغ المائة وماتت في أتم ما يطلبه المرء من راحة الجسم وطمأنينة النفس" (23).
ولسنا نتوقع أن نجد فيلسوفاً كبيراً في هذا الحيز الصغير من المكان والزمان. لكننا نجد فيهما مع ذاك عدداً من الفلاسفة نذكر منهم ياقوبو أكندسيو Jacopo Aconzio وهو بروتستنتي إيطالي كتب رسالة سماها De Methoda (1558) مهد فيها بعض السبل إلى ديكارت، ثم كتب رسالة أخرى سماها De Stralagimatibus Satanae (1565) أوتي فيها(21/305)
من الجرأة ما جعله يسير إلى أن جميع المسيحيين يمكن أن يجمعوا على عدد قليل من العقائد يعتنقونها كلهم لا تدخل فيها فكرة التثليث (24). وشق ماريو نتسولي Mario Nizzoli الطريق إلى فرانسس بيكن يقدحه في سيطرة أرسطو على الفلسفة، وأخذ يطالب بالملاحظة المباشرة واطراح الاستدلال العقلي، ويندد بعلم المنطق ويسميه الفن الذي يثبت أن الخطأ صواب (25)، وانضم برناردينو تيليزيو Bernardino Telesio من أهل كوسيندسا Cosenza في كتابه De rerum nature، (1565 - 1586) إلى نتسولي Nizzoli وبيير لاراميه Piere la Ramee في نشر الثورة على سلطان أرسطو، والدعوة إلى العلوم التجريبية، وقال إن الطبيعية يجب أن تفسر نفسها بنفسها طن طريق التجارب التي تتلقاها حواسنا. ويقول تيليزبو إن ما نراه هو المادة تعمل فيها قوتان، الحرارة الآتية من الجو، والبرودة الخارجة من الأرض؛ فالحرارة تنتج التمدد والحركة، والبرودة تؤدي إلى الانكماش والسكون. وفي اصطراع هذين المبدأين يكمن الجوهر الداخلي لكل الظواهر الطبيعية وتسير هذه الظواهر وفق علل طبيعية، وقوانين متأصلة فيها، دون أن تتدخل في ذلك قوة إلهية، على أن الطبيعة نفسها ليست راكدة هامدة، بل إن للجمادات نفسا كما للإنسان. وقد استمد تومسو كمبانيلا Thomaso Campanes، وجيوردانو برونو Giordano Bruno، وفرانسس بيكن شيئا من هذه الأفكار فيما بعد. وما من شك في أن قسطا من الحرية والتسامح قد بقي في الكنيسة جعلها تسمح بأن يموت تيليزيو ميتة طبيعية (1588)، أما بعد موته باثنتي عشرة سنة فإن محكمة التفتيش قد أحرقت برونو فوق المحرقة.(21/306)
الفصل الثالث
الأدب
انتهى في ذلك الوقت عهد العلم ودراسته في إيطاليا: وأمسكت فرنسا بشعلة العلوم حين هاجر يوليوس قيصر اسكالجير من فيرونا إلى أجن Agen في عام 1526. وخليق بنا ألا ننسى أثر الحرب في تجارة الكتب، وفي وسعنا أن نتبين هذا الأثر من الإحصاء التالي: نشرت فلورنس في العقد الأخير من القرن الخامس عشر 179 كتابا، ونشرت ميلان 228، ونشرت روما 460، والبندقية 1491. أما في العقد الأول من القرن السادس عشر فقد نشرت فلورنس 47 كتابا، وميلان 99، وروما 41، والبندقية 536 (26). وقضى في ذلك العهد على المجامع العلمية التي انشئت للدراسات القديمة- المجمع الأفلاطوني في فلورنس، والمجمع الروماني الذي أنشأه بمبيونيوس ليتوس، والمجمع الجديد في البندقية، ومجمع نابلي الذي أنشأه بنتانوس Pontanus. وأضحت دراسة الفلسفة الوثنية مغضوباً عليها إذا استثنينا دراسة فلسفة أرسطو بعد أن استحالت فلسفة كلامية (مدرسية)؛ وحلت اللغة الإيطالية محل اللاتينية بوصفها لغة الأدب. ونشأت في ذلك الوقت مجامع علمية جديدة، وأكثر ما تخصصت فيه النقد الأدبي واللغوي، وكانت مراكز لتبادل المستعمين إلى شعراء المدينة. ففي فلورنس وجد مجمع دلا كرسكا Della Crusca (1572) وأوميدي Umidi، وفي البندقية أنشئ مجمع بيليجريني Pellegrini، وفي بدوا وجد مجمع أيريتي Eretei، واتخذ كل مجمع لنفسه اسما أكثر من هذه سخفا. وكانت هذه المجامع تشجع الفراهة وتخنق العبقرية، فقد كان الشعراء يبذلون غاية جهدهم لإطاعة القواعد التي يضعها الذين يهتمون بانتقاء الألفاظ، ولهذا فر الإلهام إلى ملاجئ أرحب(21/307)
وأكثر حرية. ولم يكن ميكل أنجيلو من المنتمين إلى أي مجمع أدبي، ومع أنه كان يفعل ما يفعله غيره فيطلق لخياله العنان في الإتيان بالرث البالي من الأفكار، وحشر لهيب حماسته في قوالب من الأدب فاترة شبيهة بقوالب بترارك الأدبية، فإن أغنياته الفجة الخشنة في شكلها القوية في شعورها وتفكيرها هي خير ما كتب من الأدب الإيطالي في ذلك العهد. وفر لويجي ألاماني Luigi Alamani من فلورنس إلى فرنسا، وأنشأ قصيدة في الزراعة- La Coltivazione (1) - لا تنقص كثيراً عن قصائد فرجيل المعروفة بالزواعيات Georgics في جمعها بين الحرث والشعر. وكرّر برناردو تسّو في ذكره لمآسي حياته ما حل من محن بولده الشهيد توركواتو Torquato، وإن أغانيه الشعرية لمن أكثر الأغاني تكلفاً في ذلك العصر. وقد كتب ملحمة تدعى أماديجي Amadigi روى فيها بالشعر الثقيل الممل قصة الفروسية المسماة أماديس الغالي Amadis de Gaul. لكن الجمهور الإيطالي لم يجد فيها ما يجده في ملحمة أريستو من فكاهة عالية منعشة للنفس فتركها تموت موتاً هادئاً.
أما القصة القصيرة Novella فقد بقيت واسعة الانتشار محببة للشعب منذ وهبتها قصص ديكمرون صورتها التي كانت لها عند اليونان والرومان الأقدمين. وكانت تكتب في لغة سهلة، وتصف عادة أحداثاً مسرحية أو مناظر داخلية في الحياة الإيطالية. وكانت جميع طبقات الشعب ترحب بهذه القصص، وكثيراً ما كانت تقرأ بصوت عال للمستمعين المتلهفين على سماعها، وكان أكثرهم لهفة على الاستماع لها هم العامة الجهال، ولهذا كان المستمعون لها هم جميع الإيطاليين. ولا يسعنا في هذه الايام إلا أن نعجب من تسامح النساء في عصر النهضة اللائى كن يستمعن إلى هذه القصص
_________
(1) شارك ألاماني ترسينو Trissino وجيوفني رتشيلاي Rucellai فيما امتازا به من أنهما من أوائل من كتبوا بالشعر (المرسل) في إيطاليا.(21/308)
دون أن تعروهن بما نعرف حمرة الخجل. فقد كان الحب، وإغواء النساء، والاغتصاب، والمغامرات، والفكاهة، والعاطفة، ووصف المناظر الطبيعية- كانت هذه هي مادة القصص، وكانت كل طبقة من طبقات المجتمع تمدها بالشخصيات وأنماط الحياة.
وكادت كل مدينة تحتوي على كاتب ماهر في الصورة التي يختارها لقصصه. ففي سالرنو نشر توماسو ده جوارداتي Tomass de Guardati المعروف باسم ماسوتشيو Masuccio في عام 1476 خمسين قصة من هذا النوع سماها Novellno، يشيد فيها بكرم الأمراء، وتبذل النساء، ورذائل الرهبان، ونفاق جميع بني الإنسان. وهي أقل صقلا من قصص بوكاتشيو القصيرة، ولكنها كثيراً ما تفوقها إخلاصاً، وقوة، وفصاحة. وفي سينا اتخذت القصة القصيرة صيغة شهوانية، فامتلأت صفحاتها بقصص وثنية عن الحب المبتذل. وانجبت فلورنس أربعة من كتاب القصص الذائعي الصيت Novellieri، هم فرانكو ساكتي Franco Sacchetti صديق بوكاتشيو ومقلده، الذي فاقه بأن تكتب ثلاثمائة قصة قصيرة، كان انحطاطها وبذاءتها سبباً في أن يقرأها كل إنسان تقريباً. وخصص أنجولو فيرندسولو Angolo Firenzulo كثيراً من قصصه للتنديد بآثام رجال الدين، فوصف فيها ما يحدث في أحد الأديرة ذات السمعة السيئة؛ وفضح الأساليب التي يلجأ إليها من يتلقون الاعتراف فيغرون الصالحات من النساء بان يوصين بمالهن إلى الأديرة، وانخرط هو بعدئذ في سلك الرهبان من طائفة فلمبروز Vallombrosan. وبرع أنطون فرانتشيسكو جراتسيني Anton Francesco Grazzini، المعروف في إيطاليا باسم ال لاسكا Il Lasca أي الروش (1) Roach، في كتابة القصص الفكاهية، ويشبه في هذا الماجن بيلوكا Pilucca ولكنه يستطيع أيضاً أن يضيف إلى فكاهاته الأمور
_________
(1) سمك أوربي يعيش في الماء العذب فضي اللون. (المترجم).(21/309)
الجنسية وسفك الدماء. فقد روى مثلا قصة زوج فاجأ زوجته وهي تزني مع ولده، فقطع أيديهما وأقدامهما، وسمل أعينهما، وقطع لسانيهما وترك الدم ينزف منهما حتى ماتا على فراش الحب. وطرد أنطون فرانتشيسكو دوني Anton Francesco Doni وهو راهب وقس سرفيني من دير البشارة (1540) متهماً، فيما يبدو باللواط؛ وانضم في بياتشندسا إلى ناد من الفجار عبدة الشهوات، ثم قدم إلى البندقية وكان فيها عدو أريتينو الألد، وكتب في الطعن عليه كتيبا سمى بذلك الاسم المنذر بسوء عقباه، وهو "زلزال دوني الفورنسي، وتدمير الصنم الكبير عدو المسيح الوحشي في عصرنا"؛ وكان في هذه الأثناء يكتب قصصاً تشتهر بفكاهتها اللاذعة وأسلوبها القوي.
وكان أحسن كتاب القصص في ذلك الوقت هو ماتيو بانديلو Matteoo Bandello الذي طاف في حياته بنصف قارة وعاش نصف قرن (1480 - 1562). وكان مولده بالقرب من تورتونا Totona. ولهذا لم يلبث أن انضم إلى طائفة الرهبان الدمنيك الذين كان عمه زعيمهم. ونشأ في دير سانتا ماريا دلى جراسي بميلان، ويبدو أنه كان في ذلك الدير حين رسم ليوناردو صورة العشاء الأخير في مطعمه، وحين دفنت بيتريس دست في الكنيسة المجاورة له. وقضى في مانتوا ست سنين من حياته مربيا لأبناء الأسرة المالكة، وغازل فيها لكريدسيا جندساجا، وأبصر إزبلا وهي تقاوم بكل ما كان لديها من فنون أثر الشيخوخة. ولما عاد إلى ميلان عاون الفرنسيين معاونة جدية ضد القوات الألمانية- الأسبانية في إيطاليا؛ ولما حلت الكارثة بالفرنسيين في بافيا حرق بيته، ودمرت مكتبته تدميرا لا يكاد يبقى لها أثراً، وكان من بين ما فيها معجم لاتيني أوشك أن يتمه، وفر وقتئذ إلى فرنسا، والتحق بخدمة سيزاري فريجوسو Cesare Fregoso، زعيم طائفة الرهبان الدمنيك، وأخلص له، وعين أسقف آجن (1450)،(21/310)
وقد جمع في ساعات فراغه 214 قصة كتبها في حياته السابقة، وصقلها الصقل الأدبي الأخير وغشى ما فيها من فحش قليل بالمغفرة التي نالها من الأساقفة، ثم طبعها في لوكا في ثلاثة مجلدات (1554)، اتبعها بمجلد رابع في ليون (1573).
وتدور حبكة القصص عند بانديلو في الأعم الأغلب، كما تدور عند غيره من كتاب القصة على الحب أو العنف، أو على أخلاق طوائف الإخوان والرهبان، والقسيسين. ففيها فتاة حلوة تثأر لنفسها من محب خائن فتمزقه إرباً بكماشات؛ وزوج يرغم زوجته الزانية على أن تخنق عاشقها بيديها؛ وفيها دير ترك للدعارة يوصف بفكاهة حلوة لا يمجها الذوق. واستمدت من قصص بانديلو مادة للمسرحيات المثيرة، من ذلك أن وبستر Webster استمد من واحدة منها حبكة مسرحية دوقة مالفي. ويروي بانديلو بشعور فياض وحذق عظيم قصة روميو منتيشيو Romeo Montecchio، وجيوليتا كابيليتي Giulietta Capeletti، وينقل في وضوح قوة حبهما. وها نحن أولاء نقتطف مثلا من خير ما كتبه في الحب:
ولم يجد روميو في نفسه من الشجاعة ما يستطيع به أن يسأل من هي الفتاة، فأخذ يمتع عينيه بمنظرها الجميل، ويتأمل بدقة حركاتها وسكناتها، وتجرع سم الحب الحلو الشهي، وأخذ يثني ثناء عجيباً على كل جزء من أجزاء جسمها، وكل حركة من حركاتها. وكان يجلس في ركن مر فيه من أمامه جميع من في الحفل حين اقترب موعد الرقص. وكانت جيوليتا (وهذا هو اسم الفتاة) ابنة رب الدار الذي أقام الحفل. وسرت هي أيضاً أيما سرور بمنظر روميو، وإن لم تكن تعرفه، ولكنها رأته مع ذلك أجمل الشبان وأكثرهم مرحاً في الخلق كلهم. وقفت لحظة قصيرة تختلس إليه النظرات الرقيقة من طرف عينيها، وأحست في قلبها بحلاوة أفاضت(21/311)
عليها من البهجة ما لاحد له. وتمتمت وقتئذ أن يشترك في الرقص، كي تستطيع أن تراه وتستمع إلى حديثه خيراً من ذي قبل، فقد خيل إليها أن كلامه ستفيض منه البهجة، التي تتلقاها من عينيه وهي تنظر إليه؛ ولكنه كان وقتئذ يجلس وحيداً لا يبدو عليه أي ميل للرقص. وكل ما كان يفعله هو أن يغازل الفتاة الحسناء وكل ما كانت تفكر فيه هي أن تتطلع إليه. وهكذا أخذ كلاهما ينظر إلى الآخر نظرات تلتقي خلالها أعينهما وتمتزج أشعة نظراتهما بعضها ببعض، أدركا معها في خفة أن الحب قد سرى في روحيهما، وكلما التقت أعينهما، امتلأ الهواء بزفير حبهما، وخيل إليهما أن كل ما يرغبان فيه وقتئذ هو أن يكشف كلاهما للآخر عما دب في قلبه من لهيب (27).
وخاتمة القصة عند بنديلو أدق منها عند شكسبير. فروميو عنده لا يموت قبل أن تقوم جوليت من سباتها، وهي تستيقظ قبل أن يشعر روميو بأثر السم الذي شربه حين استولى عليه اليأس بعد أن رآها ميتة في الظاهر، ويبلغ من السرور من شفائها مبلغاً ينسى معه السم، ويستمتع العاشقان بلحظات من الحب العارم، وحين يفعل السم فعله القوي، ويموت روميو، تقتل جوليت نفسها بطعنة من سيفه (1).
_________
(1) أخذ شكسبير القصة من التاريخ المفجع لروميوس وجوليت Tragical History of Romeus and Juliet تأليف أرثر بروك Arthur Broke (1562) ، ولكن بروك نقلها عن ماسوتشيو أو بنديلو. كذلك عرف شكسبير القصة من "قصر الفرحة" Palace of Pleasure لوليم بينتر William Painter (1566) ، الذي أخذها من بنديلو.(21/312)
الفصل الرابع
صحوة السحر في فلورنس
1534 - 1574
إن حكم الدولة في أثناء اضمحلالها أسهل من حكمها في إبان شبابها، ذلك أن نقص الحيوية يكاد يجعل أهلها يرحبون بالخضوع. ومصداقاً لذلك نرى فلورنس بعد أن أخضعها آل مديتشي مرة أخرى لسلطانهم (1530) تخضع منهوكة القوى لسيطرة كلمنت السابع؛ نعم إنها ابتهجت حين قُتِل ألسندرو ده ميديتشي بيد لورندسينو Loreuzino أحد أقاربه البعيدين (1537)؛ ولكنها لم تنتهز هذه الفرصة لإعادة الجمهورية، بل قبلت حاكماً آخر من آل ده ميديتشي راجية أن يظهر مثل ما أظهره أول رجال الأسرة من حكمة وحسن سياسة. وبجلوس هذا الحاكم انتهى من الوجهة القانونية فرع الحكام المنحدرين مباشرة من كوزيمو أبي الوطن، لأن الحاكم الجديد من أبناء أخ لكوزيمو هذا أكبر منه يسمى أيضاً لورندسو (1393 - 1440). وكان جوتشيارديني هو الذي رفع هذا الحاكم الجديد إلى العرش وهو في الثامنة عشرة من عمره راجياً أن يكون هو القوة المحركة من خلفه. غير أنه نسي أن الميديتشي الشاب هو ابن جيوفني دل باندي نيري وحفيد كترينا اسفوردسا، وإن دماء جيلين من ذوي البأس الشديد تجري في عروقه وأمسك كوزيمو بيديه أزمة الأمور وظل قابضاً عليها بقوة سبعة وعشرين عاماً.
وكان في خلقه كما كان في حكمه يجمع بين الشر والخير. فكان صارماً قاسياً إلى الحد الذي تمليه عليه السياسة غير العاطفية؛ فلم يكن يشغل نفسه كما كان غيره من آل ميديتشي الأولين يشغلون أنفسهم بالمحافظة على مظاهر(21/313)
الحكم الجمهوري وأشكاله؛ وقد وضع نظاماً للتجسس تغلغل في داخل كل أسرة، واتخذ من قساوسة الأبرشيات أنفسهم عيوناً له (29)؛ وأرغم الناس على الجهر بعقائد دينية واحدة. وتعاون مع محكمة التفتيش؛ وكان شرها في طلب الثروة والسلطان، استغل احتكار الدولة للحبوب، وفرض على رعاياه أفدح الضرائب، وقضى على حكومة سينا شبه الجمهورية، لكي يجعل هذه المدينة جزءاً من أملاكه كما كانت أرتسو وبيزا جزءاً منها، وأقنع البابا بيوس الخامس بأن يمنحه لقب كبير أدواق تسكانيا (1569).
وعوض البلاد بعض التعويض عن استبداده وانفراده بالحكم بأن نظم لها إدارة حكومية حازمة صالحة، وجعل لها جيشاً وشرطة تعتمد عليهما، ونظاماً قضائياً قديراً لا يتطرق إليه الفساد، وكان بسيطاً في معيشته، يتجنب الاحتفالات والمظاهر الكثيرة النفقة، وراعى في إدارته المالية الاقتصاد بل الشح، وترك لابنه من بعده خزانة عامرة بالأموال. وكان النظام والأمن السائدان في الشوارع والطرق العامة سبباً في انتعاش التجارة والصناعة بعد أن اصابتهما الضربات القاصمة من جراء الثورات المتتابعة. وأدخل كوزيمو صناعات جديدة، كصناعتي المرجان والزجاج، واستقدم اليهود من البرتغال وبسط عليهم حمايته لينشط بذلك نمو البلاد الصناعي، ووسع رقعة ليغورنو ( Leghorn) وجعل منها ثغراً نشيطاً دائم الحركة. وجفف مستنقعات مارما Maremma ليطهر هذا الإقليم ومدينة سينا المجاورة له من الملاريا. واستمتعت سينا، كما استمتعت فلورنس، أثناء حكمه الاستبدادي الصالح بالرخاء أكثر من ذي قبل. واستعان بجزء من الأموال التي جمعها على مناصرة الأدب والفن في غير إسراف، وكان يميز في ذلك بين الغث والثمين، ورفع الأكاديميا دجلي أوميدي Accademia degli Umdi إلى مكانة رسمية فجعلها مجمع فلورنس العلمي، وعهد إليها أن تضع القواعد التي تجب مراعاتها في اللغة التسكانية الفصيحة، واتخذ فاساري وتشليني صديقين له،(21/314)
وبذل جهداً كبيراً ليقنع أنجيلو بالعودة إلى فلورنس، وأنشأ مجمعاً للتخطيط Arte del Designo كان هو رئيس شرف له، وأقام في بيزا (1544) مدرسة لعلم النبات لا يفوقها في قدم عهدها وفي مكانتها إلا مدرسة بدوا، وما من شك في أن في وسع كوزيمو أن يقول إنه لم يكن يستطيع فعل هذا الخير كله لو لم يبدأ بقليل من الشر ولم يقبض على الحكم بيد من حديد.
ولم يبلغ هذا الدوق صاحب اليد الحديدية الرابعة والخمسين من عمره حتى كان عبء السلطة والمآسي العائلية قد أنهكه وهد قواه، فأما المآسي العائلية فنذكر منها أن زوجته واثنين من أبنائه ماتوا في خلال بضعة أشهر في عام 1562؛ وكان سبب موتهم حمى الملاريا التي أصيبوا بها أثناء اشتغاله بتجفيف مناقع مارما. ثم ماتت ابنة له بعد عام من ذلك الوقت، وفي عام 1564 عهد بحكم البلاد الفعلي إلى ابنه فرانتشيسكو، وحاول أن يواسي نفسه بالحب والغرام، ولكنه وجد في التنقل بين العشيقات من الملل أكثر مما وجد منه في الزواج. ومات في عام 1574 في الخامسة والخمسين من عمره، وقد جمع من الصفات أحسن ما كان لأسلافه وشر ما كان لهم.
ولسنا ننكر أن فلورنس لم تنتج في ذلك الوقت رجالا من طراز ليوناردو أو ميكل أنجيلو، ولم يكن فيها في ذلك العهد فنانون يضارعون تيشيان الرجل المتحضر العالمي الصيت أو تنيتورتو الثائر أو فيرونيز الفرح الطروب؛ ولكنها مع ذلك قد حدثت فيها في عهد كوزيمو الثاني نهضة بلغت من القوة الحد الذي يمكن أن يتوقعه الإنسان من جيل نشأ بين الثورات المخففة، والهزائم العسكرية. لكن تشيليني رغم هذا يحكم على الفنانين الذين استخدمهم كوزيمو بأنهم "عصبة لا يوجد لها الآن مثيل في العالم كله" (30). وذلك تعبير جرى عليه الفلورنسيون في بخس فن البندقية. وكان بينيفنوتو يرى أن الدوق نصير للفن تذوقه له أكبر من سخائه عليه؛ ولكن لعل هذا الحاكم القدير كان يرى أن التعمير الاقتصادي والتنظيم السياسي أكثر أهمية(21/315)
من الزخرفة الفنية في بلاطه. ويصف فاساري كوزيمو بأنه "يحب جميع الفنانين ويقربهم، بل أنه في واقع الأمر يحب ويقرب جميع العباقرة". وكان كوزيمو هو الذي قدم المال اللازم لأعمال الحفر في كيوزي Chuisi وأرتسو وغيرهما والتي كشفت عن حضارة تسكانية رائعة، وأظهرت التماثيل التسكانية الذائعة الصيت تماثيل الخيميرا (1)، والخطيب، ومنيرفا. وقد ابتاع كل ما استطاع أن يعثر عليه من الكنوز الفنية التي نهبت من قصر آل ميديتشي في عامي 1494، 1527؛ وأضاف مجموعاته الخاصة إلى ما ابتاعه، ووضع كل ما جمعه في القصر الحصين الذي بدأ لوكا بتي بتشييده قبل ذلك الوقت بمائة عام. وقد كلف كوزيمو المهندس بارتولميو أماناتي بتوسيع هذا الصرح الرهيب واتخذه مسكنه الرسمي (1553).
وكان أماناتي وفساري في فلورنس زعيمي فن العمارة في ذلك العصر. وكان أماناتي هو الذي وضع لكوزيمو تصميم حدائق بوبولي Boboli خلف قصر بتي، وأقام فوق نهر الآرنو جسر سانتاترينيتا (الثالوث المقدس) الجميل (1567 - 1570) - الذي دمر أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان إلى ذلك مصوراً ومثالا جليل القدر؛ فاز في مسابقة للنحت على تشيليني وجيوفني دابولونيا تمثال يونو الذي يزدان به بهو بارجلو، وقد اعتذر في شيخوخته عن كثرة ما نحت من الأشكال الوثنية. ذلك أن النهضة الوثنية كانت قد وصت الآن إلى آخر الشوط، وأخذت المسيحية تستعيد سيطرتها على عقول الإيطاليين.
واتخذ كوزيمو باتشي باندينيلي Bacci Bandinelli مثاله الأثير لديه، وأغضب بذلك تشيليني أشد الغضب، وكان من ضروب التسلية التي يستمتع بها كوزيمو أن يستمع إلى تشيليني وهو ينتهر باندينيلي. وكان باتشيو معجباً
_________
(1) الخيميرا Chimera كائن خرافي في الأساطير اليونانية يقذف من باطنه باللهب، له رأس أسد وجسم ماعز، وذنب أفعى. (المترجم)(21/316)
بنفسه، وقد أعلن عن عزمه على أن يتفوق على ميكل أنجيلو، وبلغ من قسوته في نقد غيره من الفنانين أن واحداً من أشدهم ظرفاً حاول أن يقتله. وكان كل إنسان تقريباً يبغضه، ولكن كثرة ما عهد إليه من الأعمال في فلورنس وروما توحي بأن مواهبه كانت خيراً من أخلاقه. ولما أن أراد ليو العاشر أن يحصل على صورة أخرى من مجموعة اللوقون التي في قصر بلفدير يهديها إلى فرانسس الأول، طلب الكردنال يبيثا إلى بنديليني أن يقوم بهذه المهمة، فما كان من باتشيو إلا أن وعد بأن يعمل صورة تفوق الأصل، ورُوّع الناسُ جميعاً أنه كاد ينجز ما وعد. وسر كلمنت السابع من نتيجة عمله سروراً حمله على أن يرسل بعض الأصول القديمة الأصلية إلى فرانسس ويحتفظ هو بالنسخة التي نقلها عنها باتشيو ليضعها في قصر آل ميديتشي بفلورنس، ومن هذا القصر انتقلت إلى معرض أفيتسي، ونحت باندينيلي لكلمنت وألسندرو ده ميديتشي مجموعة ضخمة هي مجموعة هرقول وكاكوس التي وضعت فوق مدخل قصر فتشيو إلى جوار تمثال داود لميكل أنجيلو. ولم يحز هذا التمثال رضاء تشيليني، وقال لبندليني في حضرة كوزيمو! "لو أن هرقول في مجموعتك قد قُص شعره لما كان له من الجمجمة ما يتسع لمخه ... وإن كتفيه الثقيلتين لتذكران الإنسان بالسلتين الموضوعتين على رذعة حمار، وصدره وعضلاته ليست منقولة عن الطبيعة بل هي منقولة عن كيس من الشمام التالف (31). أما كلمنت نفسه فكان يرى أن تمثال هرقول من أروع الآيات الفنية، وأجاز عليه المثال بقدر كبير من المال فضا عن الأجر الذي وعده؛ ورد باتشيو على هذه التحية بأن أطلق اسم كلمنت على ابن غير شرعي رزقه بعد موت البابا بزمن قليل. وكان آخر ما قام به من الأعمال قبر أعده هو لنفسه ولأبيه. وما كاد يتم حتى شغله (1560). وأكبر الظن أنه كان ينال اليوم أكثر مما ناله من انتشار الصيت لو أنه لم يتعرض للتشنيع من فنانين يستطيعان أن يكتبا وأن يصورا معاً هما(21/317)
فاساري وتشيليني، فقد شنعا عليه تشنيعاً لم يمحه مر القرون.
وكان جيوفني ده بولونيا منافساً لبندنيلي، ولكنه كان أظرف منه والطف خلقا، وقد ولد في دويه Doui ولكنه انتقل وهو شاب إلى روما (1561)، معتزما أن يكون مثالا، وبعد أن قضى فيها عاما في الدراسة قدم نموذجاً لعمله من الصلصال إلى ميكل أنجيلو وكان وقتئذ شيخا طاعنا في السن؛ فأمسك به المثال الشيخ وضغط عليه بأصابعه: بإبهامي يديه وسبابتيهما في مواضع متفرقة منه، ولم تمض إلا بضع لحظات حتى سواه أحسن مما كان، ولم ينس جيوفني قط هذه الزيارة، وظل طوال الأعوام الأربعة والثمانين الباقية من حياته يعمل لكي يبلغ ما بلغه الفنان العظيم. ثم غادر روما عائداً إلى فلاندرز، ولكن شريفاً من أهل فلورنس أشار عليه بأن يدرس التحف الفنية المجموعة في فلورنس، واستبقاه في قصره لهذا الغرض ثلاث سنين، وكان في المدينة أو فيما حولها كثيرون من الفنانين الإيطاليين النابهين، ولذلك لم يستطيع الفنان الفلمنكي أن يستلفت الأنظار لعمله إلا بعد خمس سنين حين ابتاع فرانتشيسكو ابن الدوق كوزيمو صورة له تمثل فينوس. ثم اشترك في مباراة لتصميم فسقية لقصر السيادة Piazza delln Signoria؛ ورأى كوزيمو أنه أصغر سنا من أن يقوم بهذه المهمة، ولكن كثيرين حكموا بأن النموذج الذي صنعه هو كان خير النماذج كلها؛ وأكبر الظن أنه هو الذي دعى بسببه إلى أن يقيم فسقية أكبر منها في بولونيا، واستدعى جيوفني بعدئذ مرة أخرى إلى فلورنس ليكون المثال الرسمي لآل ميديتشي، وتوالت عليه المهام من ذلك الحين فلم ينقطع عن العمل في يوم من الأيام؛ ولما عاد مرة ثانية إلى روما، قدمه فاساري إلى البابا على أنه "أمير المثالين في فلورنس" (32). وهنا وضع نموذجاً لمجموعة من التماثيل توجد الآن في شرفة لاندسي Loggia dei Lanzi، وسميت فيما بعد اغتصاب السابينيين وتتكون من بطل قوي مفتول العضلات يمسك(21/318)
بيده امرأة بارعة الجمال ضغطت يده وهو يرفعها على جسمها اللين، ويعد ظهرها أجمل ما صور من البرنز في عصر النهضة كله.
وكان المثالون متفوقين على المصورين في الحشد المتألق الذي يحف بكوزيمو وفي تقدير كوزيمو نفسه. ولقد حاول ريدلفو جرلندايو Ridolfo Chirlandaio أن يحتفظ بالمستوى الرفيع الممتاز الذي بلغه والده، ولكنه عجز عن الاحتفاظ به؛ وفي وسعنا أن نقدره بالنظر إلى صورته التي رسمها للكريدسيا سماريا Lucrezia Summaria والموجودة الآن في واشنجتن. وكان فرانتشيسكو أوبرتيتي Francesco Ubertini، الملقب سخرية البكيكا il Bachiacca، يحب أن يرسم المناظر التاريخية وأن يدخل فيها كثيراً من الدقائق وفي حجم صغير، وتجمعت في ياقوبو كاروتشي Jacopo Carrucci، المسمى بنتورمو نسبة إلى مسقط رأسه، كل الميزات وبدأ حياته بداية طيبة، وأخذ الفن على أيدي ليوناردو، وبيرو دي كوزيمو، وأندريا دل سارتو، ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره (1513) هز مشاعر عالم الفن بصورة ضاعت الآن استثارت إعجاب ميكل أنجيلو، ووصفها فاساري بأنها "أجمل مظلم شوهد حتى ذلك الوقت (33) "، ولكن بنتورمو Pontormo لم يلبث أن عشق نقوش دورر Durer، فتخلى عما في الطراز الإيطالي من نعومة في الخطوط وتآلف في التأليف، مما أثار عليه ثائرة الإيطاليين، وفضل عليهما الأساليب الجرمانية الفجة الثقيلة، وصور رجالاً ونساء في أوضاع من الاضطراب الجسمي أو العقلي، وصور بنتورمو في مظلمات في تشيرتوزا بهذا الطراز التيوتوني مناظر مستمدة من آلام المسيح. ولم يرض فاساري عن هذا التقليد وقال فيه: "ألم يعلم بنتورمو أن الفلمنكيين والألمان يأتون ليأخذوا عنا الطراز الإيطالي الذي بذل ما بذل من الجهد للتخلي عنه كأنه طراز غث لا قيمة له؟ ". ولكن فاساري رغم غضبه هذا يقر بروعة هذه المظلمات، وزاد(21/319)
بنتورمو فنه تعقيدا على تعقيده حين أصيب بداء الخوف، فلم يكن يسمح بأن يذكر الموت في مجلسه، وأخذ يتجنب الحفلات والزحام، خشية أن يحشر فيها فيقضي عليه؛ وكان يرتاب في جميع الناس عدا تلميذه المحبوب برندسينو Bronzino، وإن كان هو نفسه شفيقا دمث الأخلاق، وأخذ ينشد الوحدة ويزداد حباً لها على مر الأيام، واعتاد أن ينام في حجرة في طابق علوي لا يمكن الوصول إليها إلا بسلم يرفعه من ورائه بعد أن يصعد إليها. وظل يعمل وحيدا أحد عشر عاما في آخر مهمة كلف بها- وهي رسم مظلمات في معبد سان لورندسو؛ فكان يأتي إلى المعبد ولا يسمح لأحد غيره بدخوله؛ ومات (1556) قبل أن يتم العمل فيه؛ ولما أن أزيح الستار عن الصور تبين أنها غير محكمة النسب، وأن الوجوه ثائرة أو محزونة، وخير لنا أن نذكره بعمل من الأعمال التي قام بها وهو ناضج سليم العقل، وهو صورة جميلة لإجولينو مارتيلي Ugolino Martelli توجد الآن في واشنجتن- ويرتدي صاحبها قبعة لينة مراشة، وله عينان ساهمتان مفكرتان، وأثواب براقة، ويدان نقيتان.
وارتفع شأن أنيولو دي كوزيمو دي ماريانو Agnolo di Cosimo di Mariano، الملقب برندسينو Bronzino بعد أن رسم طائفة من الصور معظمها يمثل آل ميديتشي، ويحتوي قصر هذه الأسرة على عدد كبير منها تبدأ من كوزيمو الأكبر أبي الوطن وتنتهي بالدوق كوزيمو، وإذا جاز لنا أن نحكم عليها من وجه ليو العاشر المنتفخ قلنا إنها في كثير من الأحيان صور صادقة، وخيرها كلها صورة جيوفني دلي باندي نيري (المحفوظة في أفيدسي) - وكأنها صورة لنابليون نفسه قبل أن يكون بونابرت- ويظهر فيها وسيم الخلق، متكبراً، ينفث النار.
وأكبر الظن أن أحب الفنانين للدوق كوزيمو هو الرجل الذي يدين له هذا السفر- كما يدين له كل كتاب عن النهضة الإيطالية- بنصف(21/320)
حياته؛ ونعنى به جيورجيو فاساري، وقد نبغ قبله من بين أبناء الأسرة التي ينتمي إليها في أرتسو عدد من الفنانين؛ وكان يمت بصلة بعيدة إلى لوكا سينورلي Luca Signorelli، ولقد حدثنا هو أن المصور الشيخ حين رأى رسوم جيورجيو وهو لا يزال بعد غلاما شجعه على أن يدرس الرسم. وحدثت في لحظة من لحظات النبل والشهامة التي لا يحصى عددها، والتي لا يصح أن نغفل عنها حين نحكم على أخلاق النهضة، نقول إنه حدث في لحظة من تلك اللحظات أن أخذ الكردنال بسيريني Passerini. وكان قد عين وصيا على إبوليتو وألسندرو ده ميديتشي، جيورجيو إلى فلورنس، حيث اشترك الشاب البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة مع الفنيين وريثي الثراء والسلطان، وأصبح من تلاميذ أندريا دل سارتو وميكل أنجيلو، وظل إلى آخر أيام حياته يجل بونارتي ويعبده عبادة رغم أنفه المحطم.
وعاد جيورجيو إلى أرتسو بعد أن طرد الميديتشيون من فلورنس عام 1527. ومات والده بالطاعون ولما يتجاوز هو الثامنة عشرة من العمر، فألفي نفسه العائل الأكبر لأخواته الثلاث ولأخويه الصغيرين. ووجد مرة أخرى من يرحمه وينقذه من ورطه. ذلك أن زميله القديم في التلمذة إبوليتو ده ميديتشي دعاه إلى روما، حيث أكب فاساري على دراسة الفن القديم وفن النهضة؛ فلما كان عام 1530 دعاه ألسندرو صاحب فلورنس، بعد أن عادت الاسرة إلى حكمها مرة أخرى، إلى الإقامة في قصر آل ميديتشي ونقشه، وفيه رسم صورا لهذه الأسرة من بينها صورة للورندسو الأفخم، نراه فيها قانطا مكتئباً، وأخرى لكترينا الشابة المرحة- واقفة في نزوة من نزوات الخيال، كأنها كانت تدرك في ذلك الوقت أنها ستكون ملكة فرنسا. ولما اغتيل ألسندرو قضى فاساري بعض الوقت يجول حائرا بلا نصير. ويقسو النقاد على صوره، ولكن(21/321)
الذي لاشك فيه أنه نال بسببها بعض الشهرة، لأنا نجد جيوليو رومانو يأويه في داره في مانتوا كما نجد أريتينو البدين في البندقية يصاحبه ويحميه. وكان أينما ذهب يدرس فن البيئة التي يقيم فيها، ويتحدث إلى الفنانين أو إلى أبنائهم وأحفادهم، ويجمع الرسوم ويدون المذكرات، ولما عاد إلى روما رسم لبندو التوفيتي Bindo Altoviti صورة الخلع من الصليب، وهي الصورة التي يقول عنها إنه "كان من حسن حظها أنها لم تغضب أعظم مثال، ومصور، ومهندس عاش في أيامنا".
وكان ميكل أنجيلو نفسه هو الذي عرفه بالكردنال ألسندرول فرنيزي الثاني، وهذا الحبر المثقف هو الذي أشار على فاساري في عام 1546 بأن يؤلف لهداية الخلف كتاباً في سيرة الفنانين الذي رفعوا اسم إيطاليا في القرنين السالفين، وبينا كان فاساري يعمل بجد في التصوير وهندسة العمارة في روما، وريميني، ورافنا، وأرتسو، وفلورنس، كان يقتطع جزءاً من وقته لذلك العمل المجهد الذي لا ينال من ورائه جزاء يذكر وهو كتابه السير "مدفوعاً إلى ذلك بحب فنانينا هؤلاء". وفي عام 1550 نشر الطبعة الأولى من حياة كبار المصورين والمهندسين الايطاليين الممتازين ومعه إهداء بليغ للدوق كوزيمو.
وكان فيما بين عامي 1555 و 1572 أكبر الفنانين عند كوزيمو. فأعاد تنظيم قصر فيتشيو من الداخل، ونقش كثيراً من جدرانه بصور تنزع إلى الضخامة أكثر مما تنزع إلى الفخامة؛ وشاد مبنى الإدارة الرحب المعروف باسم الأفيتسي لوجود المكاتب الحكومية به، والذي أصبح الآن من أكبر المعارض الفنية في العالم. وكان هو المشرف على إتمام بناء المكتبة اللورنثية، والذي شاد الدهليز المغطى الذي استطاع كوزيمو بفضله أن يمر سراً من قصر فيتشيو ومن الأفيتسي إلى جسر فيتشيو ثم إلى مسكن الأدواق الجديد في قصر بتي. وفي عام 1567 قضى عدة أشهر في الترحال والبحث،(21/322)
ثم أخرج بعد عام من ذلك الوقت طبعة جديدة من السير أكبر كثيراً من الطبعة الأولى. ومات في فلورنس في عام 1574 ودفن مع أسلافه في أرتسو.
وبعد فإن فاساري لم يكن فناناً عظيماً، ولكنه كان رجلا عظيماً، وباحثاً مجداً، وناقداً كريماً ذكياً (إذا استثنينا بعض لمزات قليلة وجهها لبندينيلي)، وقد ألف لنا كتاباً من أمتع ما كتب في جميع العصور استمدت منه آلاف مؤلفة من الكتب، وكتبه باللغة التسكانية السهلة الأصلية التي تكاد تكون عامية، وتبلغ أحياناً من الوضوح ما تبلغه لغة القصص. والكتاب غني بالأخطاء التي تدل على عدم الدقة، وبالمتناقضات في الأزمنة التاريخية، ولكنه أغنى من ذلك بالمعلومات الفاتنة الساحرة، وبالشروح الحكيمة الصادقة، وقد فعل للفنانين الإيطاليين في عهد النهضة ما فعله أفلوطرخس لأبطال اليونان والرومان العسكريين والمدنيين، وسيظل قرونا طوالا في المستقبل من أكبر الذخائر في عالم الأدب.(21/323)
الفصل الخامس
بينفينوتو تشيليني
1500 - 1571
كان يعيش في بلاط كوزيمو في ذلك الوقت رجل يجمع في أخلاقه بين العنف ورقة الشعور، وبين كل المطالب الجنونية للجمال في الحياة والفن، وبين البهجة التي تبعثها صحة الجسم، والحذق، والسلطان، التي امتاز بها عهد النهضة. وكان إلى هذا كله مالكاً لتلك الموهبة التلقائية التي تمكنه من أن يعبر عن أفكاره ومشاعره، وتقلبات حظه، ومزاياه في سيرته الذاتية التي تعد من أكثر السير متعة وأبقاها على الأيام. ولم يكن بينفينيتو المثل الكامل لعبقرية النهضة- وفي الحق إننا لا نستطيع أن نجد رجلا واحداً يمثل تلك العبقرية أكمل تمثيل؛ ذلك أنه ينقصه تقوى أنجليكو، ودهاء مكيفلي، وتواضع كستجليوني، وجذل رافائيل ودماثة خلقه؛ وما من شك في أن الفنانين الإيطاليين في ذلك العهد لم يتحكموا كلهم في القانون كما يشاءون وكما كان بينفينوتو يتحكم فيه، ولكننا حين نقرأ قصته المضطربة القلقة، نحس بأن كتابه يرجع بنا إلى ما وراء مظاهر النهضة، إلى قلبها نفسه، أكثر مما يرجع بنا أي كتاب سواه.
وهو يبدأ كتابه بهذه العبارة التي تجرد القارئ من كل سلاح يريد أن يوجهه إليه:
"يجب على جميع الرجال، أيا كانت صفتهم، إذا كانوا قد قاموا بعمل ممتاز، أو شبيه شبهاً حقاً بالعمل الممتاز، وإذا كانوا ممن يتصفون بالصدق والأمانة، يجب على هؤلاء جميعاً أن يكتبوا حياتهم بأيديهم، ولكن عليهم ألا يبدءوا هذه المغامرة الظريفة الجميلة حتى يصلوا إلى ما بعد سن الأربعين. وقد خطر لي أنا نفسي أن أقوم بهذا الواجب، بعد أن جاوزت سن(21/324)
الثامنة والخمسين، وبعد أن جئت لأقيم في فلورنس مسقط رأسي.
ويفخر بأنه "ولد وضيعاً"، وأنه أذاع شهرة أسرته، ويؤكد لنا في الوقت نفسه أنه من نسل ضابط من ضباط يوليوس قيصر، ويحذرنا بقوله "إنه لابد أن يوجد في عمل كهذا ما يدعو بطبيعة الحال إلى التفاخر الذي هو من طبيعة الإنسان" (35). وقد سمى بنيفينوتو- مرحباً- لأن أبويه كانا ينتظران أن تولد لهما بنت، فلما جاءهما ولد دهشا دهشة الفرح. وقد عمر جده مائة عام (وأكبر الظن أنه خالف حكم كرنارو بأجمعها) وورث تشيليني حيويته، وأتى في إحدى وسبعين سنة قدر ما أتاه هذا الجد في مائة السنين. وكان والده مهندساً، وحافراً للعاج، ومولعاً بالناي؛ وكان أمله المرتجى أن يكون بينفينوتو نافخاً في الناي محترفاً في فرقة موسيقية ببلاط آل ميديتشي. ويبدو أنه قد وجد في سنيه الأخيرة من السرور حين سمع أن ابنه قد أصبح نافخاً في الناي في فرقة البابا كلمنت الخاصة، أكثر مما وجد في الصياغة التي كان الشاب يكسب منها المال والشهرة.
ولكن بينفينوتو كان مولعاً بالأشكال الجميلة أكثر من ولعه بالأصوات المتناغمة، وقد رأى بعض أعمال ميكل أنجيلو، واستثار الفن كامن شعوره؛ ودرس الرسوم التمهيدية لصورة واقعة بيزا، وبلغ من تأثره بها أن بدا له سقف معبد ستيني نفسه أقل روعة منها، وذهب ليتمرن عند صانع مخالفاً في ذلك إلحاح أبيه، ولكنه أراد أن يسترضي أباه فواصل المران على الناي البغيض، وعثر في بيت فلبينولي على كتاب ذي صور تمثل آثار روما الفنية القديمة. وكان يتحرق شوقاً ليرى بعيني رأسه تلك النماذج الذائعة الصيت، وكثيراً ما تحدث إلى أصدقائه عن رغبته في الذهاب إلى العاصمة؛ وبينما كان هو شاب آخر ممن يحرقون الخشب يدعى جيامباتستا تاسو Ciambattista Tasso يسيران إلى غير مكان مقصود ويتحدثان بعواطف ثائرة، إذ وجدا نفسيهما عند باب سان بيرو جتوليني San Piero Gatolini؛ وقال بينيفينوتو إنه يحس(21/325)
بأنه قد قطع نفس المسافة من فلورنس إلى روما. وازداد الصديقان جرأة فظلا سائرين، ميلا بعد ميل،، حتى بلغا سينا الت تبعد عن فلورنس ثلاثة وثلاثين ميلا. وهنا آلمت جيان قدماه وعجز عن مواصلة السير من فرط الألم. وكان مع تشيليني من المال ما يكفي لاستئجار حصان، ركبه الشابان "وقطعنا الطريق كله إلى روما ونحن نغني ونضحك. وكنت وقتئذ في التاسعة عشرة من عمري. وكانت هذه هي السنين التي انقضت من ذلك القرن" (36).
ووجد في روما عملا في الصياغة، ودرس الآثار القديمة، وكسب من المال ما يكفي لأن يرسل منه إلى أبيه مبالغ واسعة خففت عنه آلام الفرقة. ولكن الأب الشيخ الواله ألح عليه بالعودة إلحاحا لم يسع بينفينوتو معه إلا أن يعود إلى فلورنس؛ ولم يكد يستقر فيها حتى طعن شابا في أثناء شجار؛ وظن أنه قتل الشاب، ففر مرة أخرى إلى روما (1521)، وانكب على دراسة صور مكيل أنجيلو في معبد سستيني، وصور رافائيل في بيت آل تشيجي الريفي والفاتيكان، ولاحظ جميع الأشكال والخطوط الطريفة في الرجال والنساء، والمعادن، وأوراق الشجر، وسرعان ما أصبح أبرع الصائغين في روما. وأعجب كلمنت ببراعته في النفخ في الناي، ثم كشف قدرته الممتازة على التصوير. وصنع له تشيليني قطعا من النقود بلغت من الجمال درجة لم يسع البابا معها إلا أن يعينه "رئيس الدمغ في دار السَّك"، أي مصمم النقد للولايات البابوية، وكان لكل كردنال في ذلك الوقت خاتم، قد يصل حجمه في بعض الأحيان "إلى حجم رأس طفل في الثانية عشرة من عمره"، يستعمله في بصم الشمع الذي يختم به رسائله؛ وكانت قيمة بعض هذه الأختام تبلغ مائة كرون (1250؟ دولاراً). وأخذ تشيليني يحفر الأختام وقطع النقود، ويقطع الجواهر ويركبها، ويضع نماذج للمدليات، وينقش الأحجار الكريمة، ويصنع مئات التحف من الفضة والذهب،(21/326)
وكتب في ذلك يقول إن هذه "النواحي الفنية المختلفة يختلف بعضها عن بعض أتم اختلاف، ولهذا فإن الذي يبرع في واحدة منها، إذا انتقل إلى أخرى، يصعب عليه أن يبلغ في الثانية ما بلغه من النجاح في الأولى؛ ولذلك بذلت كل ما أوتيت من جهد لكي أتقنها جميعاً؛ وسأثبت في المكان المناسب أنني اصبت هدفي" (37).
ولا تكاد تخلو صحيفة من صحف بينفينوتو من فخر وزهو، ولكن في زهوه من الحماسة والإصرار ما يحملنا آخر الأمر على تصديقه، وهو يحدثنا عن "جمال وجهه، وتناسب أجزاء جسمه"، ولا نستطيع أن ننكر عليه هذا الحديث، ويقول: "لقد وهبتني الطبيعة مزاجاً سعيداً، ومعارف ممتازة، استطعت بفضلها أن أتقن كل ما شئت أن أتولاه من الأعمال". وكان من بين من اتصلت بهم "فتاة بارعة الجمال، غاية في الرشاقة، اعتدت أن أتخذها نموذجاً لي ... وكثيراً ما قضيت الليل معها ... وإني لأستغرق أحياناً في النوم العميق بعد الاستمتاع باللذة الجنسية" (38). وقد استيقظ مرة من نوم كهذا ليجد نفسه مصاباً "بالمرض الفرنسي"، لكنه شفي منه بعد خمسين يوماً واتخذ لنفسه عشيقة أخرى.
وفي وسعنا أن نلمح ما كانت عليه حياة المدن في القرن السادس عشر من خروج على القوانين الأخلاقية والمدنية حين ندرك السهولة التي كان تشيليني يعصى بها أوامر الكنيسة والدولة دون حياء ولا وخز ضمير. ويبدو أن روما لم يكن فيها وقتئذ شرطة قوية تعمل باستمرار، فكان في وسع الرجل ذي الغرائز أن يكون هو قانون نفسه، بل إنه كان يضطر إلى ذلك اضطرارا ي بعض الأحيان. وكان بينفينوتو إذا استثير "يحس بحمى لو أنه كتمها في نفسه لقضت عليه لا محالة" (39)، وإذا أساء إلى إنسان" ظننت أن من واجبي أن أعمل، وأن ألحن آلامي" (40). وقد تورط في مئات من الشاحنات، ويؤكد لنا أنه كان على حق فيها جميعاً عدا واحدة منها. وقد(21/327)
طعن رجلا أساء إليه بخنجر في عنقه وكانت الطعنة في دقة طعنات المصارعين في ميادين الجلاد قضت على حياة غريمه من فوره (41). وفي مرة أخرى "طعنت رجلا تحت أذنه بالضبط، ولم أوجه إليه أكثر من ضربتين لأنه خر ميتاً لساعته، على أنني لم أكن أقصد قتله، ولكن الضربات لاتكال للغريم بقدر، كما يقول المثل" (42).
وكان مستقلا في أمور دينه كما كان مستقلا في أخلاقه، وإذ كان دائماً على حق- إلا في مرة واحدة- فقد كان يحس أن الله لاشك في جانبه، يقوي ذراعه؛ وكأن يد الله تعينه على من يقتل من أعدائه، ويحمده حمداً كثيراً على نجاحه، على أنه لما لم يستجب الله لدعائه، ولم يعنه على أن يجد حبيبته المفقودة أنجليكا Angelica، اتجه نحو الشياطين يستمد منها ما ينقصه من معونة، فقد أخذه ساحر صقلي أثناء الليل إلى الكلوسيوم المهجورة؛ ورسم على الأرض دائرة سحرية، وأشعل النار، وألقى بعض البخور على اللهب، وتلا عدة رقي عبرية، ويونانية، ولاتينية، استدعى بها الجن واعتقد بينفينوتو بحق أن مئات الأشباح ظهرت أمامه، وتنبأت له بقرب اجتماعه بأنجليكا؛ فعاد إلى بيته، وقضى بقية الليل يرى الشياطين (43).
ولما أن نهب جيش الإمبراطور روما فر تشيليني إلى قلعة سانت أنجيلو، وانخرط في سلك جنود المدفعية، ويعترف بأن إحدى طلقاته هي التي قتلت دوق بوربون، وأن دقة رمايته هي التي أبقت المحاصرين على مبعدة من القلعة، فكان هذا سبباً في نجاة البابا، والكرادلة وينفينوتو نفسه، ولسنا نعرف ما في هذا القول من صدق، ولكنه هو نفسه يحدثنا أيضاً بأنه لما عاد كلمنت إلى روما، عين تشيليني حامل صولجانه ورتب له ما ئتي كرون في الشهر (2500؟ دولار) وقال: "لو أنني كنت إمبراطوراً غنياً لوهبت بنيفينوتو من الأرض بقدر ما تستطيع عيناي أن تقعا عليه؛ أما وأنا الآن(21/328)
مفلس محتاج، فلا أقل من أن أهبه من الخير "ما يفي بحاجته" (44).
واستمر بولس الثالث يرعى كلمنت؛ وينقل لنا تشيليني عن بولس، ولعله يبالغ في هذا النقل مبالغة يدخل بها الشرور على قلبه، أنه قال لشخص يلومه على لينه مع الفنان وعدم أخذه بالشدة "اعلم إذن أن أمثال بينفينوتو من الرجال الأفذاذ في عملهم أناس فوق القانون، فما بالك إذن بشخص استثير إلى الحد الذي سمعت به" (45). ولكن بييرلويجي Pierluigi بن لول، وهو رجل لا يقل سفالة أو استهتاراً عن بنيفينوتو نفسه، أوغر صدر البابا على الفنان؛ ولم تكف فنون تشيليني نفسها للتغلب على نفوذ بييرلويجي هذا، فما كان من الفنان إلا أن غادر مرسمه في روما وولى وجهة نحو فرنسا، لكن بمبو اعترضه في طريقه عند بدوا وأكرمه، فرسم له صورة صغيرة أجازه عليها بثلاثة جياد له ولزميلين كانا معه، فامتطيا صهوتها، ونزلا من فوق الجريزون Grison واجتازا زيورخ، ولوزان، وجنيفا، وليون حتى وصلا باريس، وفيها ايضاً وجد بنيفينوتو له أعداء. ذلك أن جيوفني ده رسى، أحد الرسامين الفلورنسيين، لم يكن يريد أن يزيد عدد من ينافسونه في الحصول على رفد الملك، فأثار الصعاب في وجه القادم الجديد؛ ولما أن اتصل بتشيليني آخر الأمر وجده قد تورط في حرب يصعب عليه الخلاص منها. وانتابه المرض واشتد به الحنين إلى بلده، فتسلق جبال الألب مرة أخرى، وحج إلى لوريتو Loreto، وعبر جبال الأبنين إلى روما، وما كان أشد غضبه حين وجد أن بيرلويجي يتهمه بسرقة جواهر البابا، فألقى به في نفس الحصن الذي ساعد هو على إنقاذه، وعانى فيه مرارة السجن عدة أشهر، ثم استطاع الفرار منه، ولكن ساقه كسرت في أثناء هذه المحاولة؛ فقبض عليه، وألقي في جب تحت الأرض قضى فيه عامين، ثم أطلق سراحه بناء على طلب فرانسس؛ وألح عليه الملك بأن يسافر إلى فرنسا ليقوم فيها ببعض المهام، فتسلق جبال الألب مرة أخرى (1540).(21/329)
ووجد الملك والحاشية في فنتانا بيليو Fontana Belio أي فنتين بلو Fontainebleau، ورحب به فيها أعظم ترحيب، وخصص له قصر حصين في باريس يسكنه ويتعبد فيه؛ ولما أبى من فيه أن يغادروه طردهم منه قوة واقتداراً، ولم يرتح الفرنسيون لآدابه أو لغته، وأغضب ما دام ديتامب Mme d' Etampes عشيقة الملك بقلة مجاملته لحضرتها العلية، ولما سمعت بأنه ألقي من نافذة القصر أثاث السكان الذين أخرجهم منه حذرته منه بقولها إن "ذلك الشيطان سينهب باريس يوماً من الأيام" (46). وسر الملك المرح من القصة، وعفا عن عنف تشيليني إكراماً لفنه، وخصص له مرتباً سنوياً قدره 700 كرون (8750؟ دولاراً). ووهبه 500 كرون أخرى نفقة رحلته من روما، ووعده بمبلغ إضافي عن كل عمل فني يقوم له به، ولشد ما ازدهى بنيفينوتو حين علم أن هذه هي نفس العروض التي قدمت لليوناردو قبل ذلك بعشرين عاماً (47).
وتقدم أحد السكان الذين طردوا من القصر إلى القضاء يتهمه بسرقة بعض ممتلكاته، وأدانت المحكمة تشيليني، ولكنه قلب الحكم بطريقته المدهشة وفي ذلك يقول:
فلما رأيت أني خسرت القضية ظلماً وعدواناً، لجأت في الدفاع عن نفسي إلى خنجر كبير كنت أحمله معي، لأني كنت على الدوام أجد لذة في حمل الأسلحة اللطيفة، وكان أول شخص هاجمته به هو المدعي الذي قاضاني، وجرحته ذات ليلة في ساقيه جراحاً شديدة، وحرصت مع ذلك على ألا أقتله، ولكنني حرمته من استخدام ساقيه كلتيهما.
ويلوح أن المدعي لم يسر في القضية إلى أكثر من هذا، واستطاع تشيليني أن يوجه جهوده إلى نواح أخرى، وكان معه في مرسمه بباريس "فتاة فقيرة تدعى كترينا، وكان أهم غرض أستبقيها لدى من أجله هو الفن، لأني لا أستطيع الاستغناء عن نموذج؛ ولكنني وأنا أيضا رجل(21/330)
كنت أستخدمها في لذتي" (49). على أن كترينا كانت أيضاً خاضعة متسامحة تضاجع مساعده باجولو متشيري Pagolo Micceri. فلما عرف بنيفينوتو هذا أخذ يضربها حتى خارت قواه؛ ولامه خادمه روبرتا Roberta على قسوته الشديدة في عقاب الفتاة على هذا الحادث العادي، وقال له: "ألا تعرف أنه ليس في فرنسا زوج واحد بلا قرنين؟ " وفي اليوم التالي اتخذ كترينا مرة أخرى نموذجا له "وحدثت في هذه الأثناء بعض المتع الجنسية؛ وضايقتني في آخر الأمر كما ضايقتني من قبل إلى حد لم أجد معه مناصاً من ضربها. ودامت الحال على هذا المنوال عدة أيام ... وأتممت في أثنائها عملي بطريقة عادت علي بأعظم الفضل" (50) وكانت لديه فتاة أخرى تدعى جين Jenne كان يتخذها أيضاً نموذجاً له، وولدت له بنتاً، فحض الوالدة بمبلغ من المال "ولم تعد لي بها علاقة فيما بعد" (51)، ثم قتلت المربية الطفلة بكتم أنفاسها.
وصبر فرانسس على هذه الأفعال الخارجة على القانون صبر الكرام؛ ولكن بنيفينوتو خلق له آخر الأمر أعداء في باريس بلغوا من الكثرة درجة لم يسعه معها إلا أن يرجو الملك أن يأذن له بزيارة إيطاليا، ولما لم يجبه الملك إلى طلبه سافر بغير إذن، وبعد أن لقي أكبر المشاق في الطريق وجد نفسه في بلدته فلورنس (1545). وهناك استقام أمره وأمد أخته وبناته الست بمعونة طيبة، ووجد كوزيمو أقل سخاء من فرانسس، وخلق لنفسه أعداء كما فعل من قبل، ولكنه صب للدوق تمثالا نصفيا، (يوجد الآن في بارجلو)، وأخرج له أعظم أعماله شهرة، نعني بذلك تمثال بيرسيوس الذي لا يزال قائما في شرفة لاندسي Loggia dei Lanzi، ويروي لنا هو نفسه قصة رائعة عن صب هذا التمثال فيقول إن ما انتابه من القلق، وما عاناه من المشقة في العمل، وتعرضه للحر والبرد، أصابه في آخر الأمر بحمى شديدة أرغمته على ملازمة الفراش في الوقت الذي(21/331)
كان في الفرن الذي أعده لهذا العمل خاصة يذيب المعدن. وقد تبين أنه لا يكفي لملء القالب، وأوشك التلف أن يحل بما ظل يكدح فيه الشهور الطوال .. فما كان من تشيليني إلا أن نهض من فراشه، وألقى في الفرن كتلة من القصدير ومائتي إناء من كلس القصدير، وكان فيها الكفاية، ونجح صب التمثال أتم نجاح؛ ولما عرض على الجماهير (1554)، لقي من الثناء بقدر ما لقي أي تمثال أقيم في فلورنس منذ صب ميكل أنجيلو تمثال داود، وحتى بنديتلي نفسه لم يسعه إلا أن يقول كلمة طيبة فيه.
ثم تبدأ القصة تنحدر من هذه الذروة فتستحيل إلى صفحات من المساومة مع الدوق على أجر تمثال بيرسبوس، وطال انتظار بنيفينوتو، ولكن كوزيمو كان ينقصه المال، وتنتهي القصة نهاية مفاجئة في عام 1562، ولسنا نجد فيها ذكراً لتلك الحقيقة التي يكاد يؤيدها الدليل القاطع، وهي أن بنيفينوتو سجن مرتين في عام 1556، متهما فيما يبدو بجرائم أخلاقية (52). وألف تشيليني في هذه السنين الأخيرة رسالة في فن الصياغة ... Trattato dell Orificeria وبعد أن ظل يعربد نصف قرن من الزمان تزوج في عام 1564، وكان له ولدان شرعيان بالإضافة إلى طفل غير شرعي ولد له في فرنسا، وخمسة ولدوا له بعد عودته إليها.
ولسنا نستطيع أن نعثر إلا على عدد قليل من أعماله ونتأكد أنها له، وذلك لأنها كانت في العادة تحفا فنية صغيرة يسهل نقلها من مكان إى مكان، ففي كنوز كنيسة القديس بطرس ثرية قضية مزخرفة تعزى إلى تشيليني، وفي برجلو تمثالان له هما تمثال نارسس وتمثال جانيميدي، وكلاهما تمثال ممتاز من الرخام، وفي بتي صينية وإبريق من الفضة؛ وفي اللوفر مدلاة عليها صورة بمبو؛ ونقش من البرنز بارز جميل يسمى حورية فنتيلينو. وفي فينا- كما تدعى تلك المدينة- المملحة التي صنعها لفرانسس الأول، وتضم(21/332)
مجموعة جاردنر في بسطن بأمريكا تمثاله النصفي لألتوفيتي Altoviti، وتمثاله الكبير لصلب المسيح يوجد في الإسكوريال، على أن هذه النماذج المتفرقة من التحف لا تمدنا بما تقوم عليه شهرته الواسعة، وحتى تمثال بيرسيوس تبدو عليه مظاهر العنف والإفراط في الزخرف، واقرب إلى أن يكون صورة مشوهة لصاحبه، ولكن كلمنت السابع (كما يقول بنيفينوتو نفسه) كان يعده "أعظم من ولد من الرجال في فنه الخاص" (53)، وإنا لنجد في رسالة باقية حتى الآن وجهها ميكل أنجيلو إلى تشيليني قوله: "لقد عرفتك كل هذه السنين الطوال فوجدتك أعظم صائغ سمع به العالم" (54).
وفي وسعنا أن نختم هذا الفصل بقولنا إن تشيليني كان رجلا عبقريا، منحط الأخلاق، صانعا مجيداً، سفاحاً، سيرته الذاتية المرحة أكثر بهجة من ذهبه، وفضته، ونقوشه على الأحجار الكريمة، وترضينا عن المبادئ الأخلاقية السائدة في ذلك العصر.(21/333)
الفصل السادس
أضواء صغرى
كان عهد الاضمحلال في إيطاليا عهد البعث في سافوي، وليس ببعيد أن يكون عمانوئيل فليبيرت Emmanual Philibert وهو صبي في الثامنة من عمره قد رأى الفرنسيين يستولون على الدوقية (1536)، ولما بلغ الخامسة والعشرين من عمره ورث تاجها وإن لم يرث أرضها وديارها؛ وفي التاسعة والعشرين اضطلع بدور رئيسي في انتصار الأسبان والإنجليز على الفرنسيين في سان كنتن St. Quentin (1557) ، ولم يمض على هذا النصر إلا عامان حتى سلمت له فرنسا بلاده المخربة وعرشه المفلس، وكان بعث سافوي وبيدمنت على يديه من أعظم الأعمال التي قام بها رجال الحكم والسياسة في التاريخ، ذلك أن منحدرات جبال الألب في دوقيته كانت معششاً لهراطقة الكلفنية. وعرض عليه البابا بيوس الرابع إيراد الكنائس في عام كامل ليستعين به على قمع هذه الشيعة، واتخذ عمانوئيل لهذا الغرض إجراءات شديدة حاسمة، فلما أن أدت هذه الإجراءات إلى هجرة أفرادها جملة لجأ إلى خطة التسامح والمسالمة، وكبح جماح محكمة التفتيش، وآوى في بلاده اللاجئين من الهيوجينوت، ثم أنشأ جامعة جديدة في تورين وتبرع بالمال اللازم لتأليف دائرة معارف عامة في جميع العلوم، وكان على الدوام مجاملا لطيف المعشر، كما تكررت خيانته لزوجته مرجريت أميرة فالوا Margaret of Valois التي كانت تمده بالنصح السديد والمعونة الدبلوماسية، والتي كانت واسطة العقد في الحياة الاجتماعية والذهنية الساطعة(21/334)
في تورين، ولما مات عمانوئيل (1580)، كانت دوقيته من أحسن بلاد أوربا حكما، ومن نسله كان ملوك إيطاليا الموحدة في القرن التاسع عشر.
وفي ذلك الوقت كان أندريا دوريا، الذي غدر بالفرنسيين في أنسب الأوقات فانتقل من صفوفهم إلى صفوف الأسبان، كان أندريا هذا يحتفظ بزعامته في جنوي، وكان رجال المصارف في تلك المدينة قد قدموا المال اللازم لحروب شارل الخامس، فكافأهم شارل على ذلك بأن أبقى لهم سيادتهم على المدينة لم يمسسها بسوء، ولم تنكب جنوى بقدر ما نكبت البندقية بسبب تحول التجارة من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطي، فعادت مرة أخرى ثغراً عظيماً وحصناً ذا موقع حربي عزيز المنال، وشاد فيها جاليتسو أليسى البيروجي Galezzo Alessi of Perugia، ووصف فاساري طريق بالبي Via Balbi بأنه أفخم شوارع إيطاليا بأجمعها (1).
حسبنا هذا عن جنوي، أما ميلان فقد عين شارل الخامس فيها نائبا عنه ليحكمها بعد أن توفي فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا آخر حكامها من هذه الأسرة في عام 1535. وكان خضوعها لشارل إيذاناً بعودة السلم إى ربوعها، فازدهرت المدينة وعمها الرخاء من جديد، وشاد أليسي فيها قصرمارينو Marino الجميل؛ وكان ليوني ليوني Leone Leoni الحفار في دار السك بميلان ينافس تشيليني في فنون النقش الصغرى على اللدائن، ولكنه لم يجد رجلا مثل تشيليني ينشر له روائع فنه، وكان أعظم من امتاز من أهل ميلان في ذلك الوقت هو سان كارلو بوروميو San Carlo Borromeo الذي قام في أواخر عصر النهضة بمثل ما قام به القديس أمبروز أيام الاضمحلال في العصر القديم، وكان ينتمي إلى أسرة شريفة غنية؛ وقد عينه عمه بيوس الرابع كردنالاً وهو في سن الحادية والعشرين، وكبيراً لأساقفة ميلان في الثانية والعشرين (1560)، وأكبر الظن أنه كان وقتئذ
_________
(1) لقد دمر هذا الشارع في أثناء الحرب العالمية الثانية.(21/335)
أغنى رجال الدين في العالم المسيحي كله، لكنه تخلى عن جميع إيراد مناصبه الدينية عدا منصب كبير الأساقفة، وتبرع بما تدره من المال للأعمال الخيرية، وانقطع لخدمة الكنيسة وأجهد نفسه في هذه الخدمة إجهادا كاد يقذي على حياته، وهو الذي أنشأ طائفة "ناذري القديس أمبروز" Oblates of St. Ambrose، واستقدم اليسوعيين إلى ميلان، وأيد بقوة جميع الحركات التي تهدف إلى إصلاح الكنيسة، التي ظلت على ولائها للمذهب الكاثوليكي، وإذ كان قد اعتاد الثراء والسلطان، فقد أصر على الاحتفاظ بكل ما كان لمحكمة أسقفيته في العصور الوسطى من اختصاصات، وتولى بنفسه المحافظة على القانون والنظام، وملأ سجون الأسقفية بالمجرمين والملحدين، وظل أربعة وعشرين عاماً الحاكم الحقيقي للمدينة، وضعف شأن الأدب والفن بسبب حرصه الشديد على الوحدة الدينية والخلق القويم؛ ولكن بليجرينو تبيلدي Peligrino Tibaldi المهندس المعماري والمصور علا نجمه بفضل رعايته، وكان هو الذي وضع تصميم المرنمة الفخمة في الكاتدرائية الكبرى، وقد غفر أهل المدينة للكردنال قسوته حين ظل في أثناء وباء الطاعون الذي انتشر في المدينة عام 1576 يؤدي واجبات منصبه، ويواسي المرضى والثاكلين بزياراته التي لاتعرف الملل، ويقظته الشديدة وصلواته مع أن كثيرين من الأعيان قد فروا من المدينة.
وشاد الكردنال تولوميو جاليو Tolomeo Gallio في تشرنوبيو Cernobio على بحيرة كومو قصر دست الريفي (1565)؛ ولعله لم يكن واثقاً من أن ثمة جنة غيره. وفي بريستشيا رسم جيامبتستا مورني Giambattista Moroni، تلميذ مورتو Moretto صوراً خليقة بأن توضع إلى جانب معظم صور تيشيان (1). وواصل فنتشيندسو كامبي Vincenzo Campi في كريمونا
_________
(1) أهمها "صورة سيد طاعن في السن" (في برجامو) و "أنطونيو نافاجيرو" (ميلان) وبارتولميوبنجا (نيويورك)، وشيخ وغلام (بسطن)، ومعلم تيشيان (واشنجتن)، ولودوفيكو مادرانسو (تشكاجو).(21/336)
تقاليد أسرته في رسم صور تقرب من أن تكون خالدة. وفي فيرارا سوى إركولي الثاني Ercole II نزاع دولته الطويل مع البابوية بأن أدى إلى بولس الثالث 180. 000 دوقة ووعده بأداء سبعة آلاف أخرى جزية سنوية. ووهب ألفنسو الثاني المدينة فترة أخرى من الرخاء (1558 - 1597) أثمرت صورة أورشليم المحررة لأنوناسو وصورة الراعي الأمين لجيوفني جواريني Giovanni Guarini. وأخذ جيرولامو دا كاربي Girolamo da Carpi فن التصوير عن جاروفولو Garofolo، ولكنه، كما يقول فاساري، اضاع كثيراً من وقته في الحب والعزف على العود، وعجل بالزواج، فلم يتسع وقته للاهتمام بمطالب العبقرية.
وازدهرت بياتشندسا وبارما وقويت فيهما الحركة الفنية في ذلك العهد، وكان البابا بولس الثالث يطالب بالمدينتين على أنهما من أملاكه الإقطاعية وخلعهما على ابنه بييرلويجي فارنيزي في عام 1545 وإن كانتا قد ظلتا عدة قرون من أملاك ميلان، وكانت هذه الدوقية نفسها وقتئذ تابعة لشارل الخامس، وقبل أن يمضي عامان بعد ذلك الوقت اغتيل الدوق الجديد في بياتشندسا على أثر فتنة قام بها أشراف المدينة، الذين رضوا عن فسقه وفجوره ولكنهم لم يرضوا عن احتكاره المال والسلطان، وقال بولس بحق إن ناسج برد المؤامرة لحمته وسداه هو فيرانتي جندساجا، الذي كان وقتئذ يحكم ميلان من قبل الإمبراطور شارل، ولاحظ أن جيوش الإمبراطور، كانت معدة من قبل بالقرب من المدينة، استولت من فورها على بياتشندسا وأضحت من أملاك الإمبراطور (1547)، ولم يمض على وفاة بولس إلا قليل من الوقت حتى عين يوليوس الثالث أتافيو ابن بيير لويجي دوقاً على بارما؛ وبما أن أتافيو هذا كان فضلا عن ذلك زوجاً لابنة شارل، فقد سمح له أن يحكم بارما إلى يوم وفاته (1586).
ولم ظهر أعراض الاضمحلال على بولونيا، وفيها وضع فينولا Vignola(21/337)
تصميم باب بانكي Porto de' Banchi إجابة لطلب جماعة من التجار، وأضاف أنطونيو مورندي إلى جامعة المدينة ملعباً ذائع الصيت ضم إلى فنانها العظيم؛ وكتب سباستيانو سيرليو Sebastiano Serlio رسالة في العمارة تضارع رسالة بلادينو فيما كان لها من تأثير، وفي عام 1563 عهد البابا بيوس الرابع إلى توماسو لوريتي Tommasso Laureti من أهل بالرم أن ينشئ نافورة في ميدان سان بترونيو Piazza di san Petronio. وعهد أعمال النحت في هذا المشروع إلى فنان فلمنكي شاب جاء وقتئذ من فلورنس، ولعل اسمه قد اشتق من اسم المدينة التي قام فيها بأعظم عمل له. ووضع جيوفني دا بولونيا أو جيان بولونيا نماذج لتسعة تماثيل تقام حول فسقية نيتون Fontana di Nettuna الضخمة، وأقام على قمة هذه المجموعة تمثالا ضخماً لرب البحار عاري الجسم قوي البنية، وصب من البرنز في أركان الفسقية تماثيل لأربعة أطفال سعداء مع دولفين يقفز في الماء؛ ثم وضع بين قدمي نيوتن أربع عذارى رشيقات القوام يعصرن الماء من أثدائهن، وأعادت بولونيا جيان إلى فلورنس مثقلاً بالمال والثناء، ولم تأسف على السبعين ألف فلورين (875000؟ دولار) التي أنفقتها على النافورة الفخمة، ذلك أن روح الفن المدني كانت لا تزال حية في إيطاليا.
وإننا لتدهشنا، ونحن نلقي نظرة الوداع على روما في عصر النهضة، سرعة إفاقتها من كبوتها بعدما حل بها من الدمار عام 1527. لقد أظهر كلمنت السابع من المهارة في مداواة العلة أكثر مما أظهره في منعها. لقد أنقذ الولايات البابوية من الدمار باستسلامه إلى شارل، واستمدت البابوية من مواردها ما تحتاجه من المال لإعادة النظام إلى الكنيسة وتعمير بعض ما تخرب من روما. ولم تكن خزائن البابا قد أحست بعد بنقص الموارد من جراء حركة الإصلاح الديني؛ ولاح في عهد بولس الثالث أن روح النهضة وروعتها قد عادت إليهما الحياة إلى وقت ما.(21/338)
لقد كان بعض الفنون يحتضر وبعضها الآخر يولد أو يبدل صورته. ويكاد جيوليو كليوفيو Giulio Clovio، وهو رجل كرواتي يقيم في منزل الكردنال فارنيزي، يكون آخر المزخرفين للمخطوطات، لكن حدث في عام 1576 أن ولد كلوديو منتي فيردي Cloudio Monteverdi في كريمونا، وسرعان ما أضيفت المسرحيات الغنائية والموشحات الدينية إلى الفنون الجميلة، وأخذت أناشيد القداس المتعددة الالحان في باليسترينا تترنم بعودة القوة والحياة إلى الكنيسة، وكان عصر التصوير الإيطالي العظيم يؤذن بالزوال، غير أن بيرينو دل فاجا Perino del Vaga وجيوفني دا يوديني Giovanni da Udine اللذين جاءا بعد رافائيل، قد وجها هذا الفن إلى ناحية الزخرفة، أما النحت فكان يستحيل إلى أشكال مشوهة، فقد أخذ رفائلو دا منتي لوبو Rafaello de Montelupo وجيوفني دا منترسولي Giovanni da Montorsoli يبالغان فيما بالغ فيه أستاذهما ميكل أنجيلو، فأخرجا تماثيل ملتوية الأطراف التواء يؤدي إلى مواقف مبتكرة ولكنها غريبة قبيحة منفردة.
وكانت العمارة وقتئذ أعظم الفنون ازدهاراً، فقد اصلح ميكل أنجيلو قصر فانيزي وحدائقه المقام على تل بلانين (1547)، وأتم هذا الإصلاح جيوفني دلا بورتا (1580)، ووضع أنطونيو دا سنجالو Antonio da Sangallo الأصغر معبد القديس بولس في قصر الفاتيكان (1540). وفي القاعة الملكية المؤدية من معبد بولس ومعابد سستيني أمر البابا بولس الثالث أن يضع سنجالو هذا تصميم الأرضية الرخامية واللوحات الزخرفية، وأن يقوم فاساري وابنا ركاري Zuccari بعمل مظلمات الجدران؛ وأن يقوم دانيلي فلتيرا Daniele da Volterra ومعه بيرينو دل فاجا بحفر النقوش في الجص، وازدانت حجرات البابا في سانت أنجيلو بمظلمات من صنع بيرينو، وجيوليو رومانو، وجيوفني دا يوديني وحفرهم، وشاد(21/339)
الكردنال إبوليتو دست الثاني بالقرب من تريفولي (1549) أول قصرين ريفيين لأسرة دست؛ وأعد بروبيجوريو Pirro Ligorio الرسوم اللازمة للملهى وزخرفة أبناء زكاري، ولا تزال الحدائق المدرجة تشهد بما كان لكرادلة النهضة من ذوق رقيق ينفقونه دون مبالاة.
وكان أحب المعماريين إلى الشعب في روما أو حولها في ذلك العهد هو جياكومو باروتسي دا فنيولا Giacomo Barozzi da Vignola. وقد جاء هذا المهندس من بولونيا لدراسة الخرائب الرومانية القديمة، وكون طرازه الخاص بالجمع بين بانثيون أجربا وباسلقا يوليوس قيصر، وسعى لأن يجمع بين السقف المقبب والعقود، والعمد والقواصر، وكتب كما كتب بالاديو كتابا لنشر مبادئ فنه؛ وأحرز أول نصر له في كبرارللو Capraralo القريبة من فيتربو حين صمم الكردنال فارفيزي قصراً لآل فارنيزي غير قصرهم الأول واسعاً مترفاً (1547 - 1549)، ثم شاد بعد عشر سنين من إتمامه قصراً ثالثاً لهم في بياتشندسا، ولكن أعظم أعماله أثراً هي التي أقامها في روما وهي بيت البابا جيوليو الريفي الذي أقامه للبابا يوليوس الثالث وبورتا دل بوبولو Porta del Popolo، وكنيسة جيسو Gesu (1568 - 1575) . وفي هذا الصرح الذائع الصيت الذي بناه لطائفة الجزويت الناهضة خطط فنيولا نيفا ذا عرض وارتفاع عظيمين وحول أجنحة الكنيسة إلى معابد، وكان المهندسون الذين جاءوا من بعده يرون أن هذه الكنيسة أعظم مظهر للطراز المشوه- ففيها أشكال كثيرة منحنية أو ملتوية بالزخرف، وخلف فنيولا عام 1564 ميكل أنجيلو في منصب كبير المهندسين لكنيسة القديس بطرس، وكان له نصيب من الشرف في رفع القبة الكبرى التي صممها أنجيلو من قبل.(21/340)
الفصل السابع
ميكل أنجيلو (آخرة المطاف)
1534 - 1564
وعاش ميكل أنجيلو طوال تلك السنين كأنه شبح مشاكس قدم من عصر غير العصر الذي كان فيه، وكان في التاسعة والخمسين من عمره حين مات كلمنت، ولكن يبدو أن أحداً لم يكن يظن أن من حقه أن يستريح، فها هو ذا بول الثالث وفرانتشيسكو ماريا دوق أربينو يتنازعان جسمه الحي. فأما الدوق، بوصفه منفذاً لأعمال يوليوس الثاني، فقد أخذ يطالب بإتمام قبر عمه، معتمداً على عقد وقعه أنجيلو من زمن بعيد. ولكن البابا المتغطرس لم يعر هذا الطالب التفاتا، وأخذ يقول لبوناروتي: "لقد ظللت ثلاثين عاماً ألح في أن تدخل في خدمتي، والآن وقد جلست على كرسي البابوية هل يليق بك ألا تلبي ندائي؟ أما هذا العقد فسيمزق، وستعمل أنت لي، وليكن بعد ذلك ما يكون" (55). واحتج البابا على هذا، ولكنه ارتضى أخيراً أن يقام ضريح أصغر كثيراً من الذي كان يحلم به يوليوس، وكان علم الفنان الجبار بأن الضريح بناء ناقص مشوه سببا في نكد عيشه في سنيه الأخيرة.
وفي عام 1535 كتب البابا المنتصر خطابا يعين به ميكل أنجيلو كبير المهندسين، والمثالين، والمصورين في الفاتيكان، ويشيد بتفوقه في كل ميدان من هذه الميادين، وجعل الفنان فوق ذلك عضواً في بيت البابا وخصص له معاشا قدره 1200 كرون (15. 000؟ دولار) كل عام مدى الحياة. وكان كلمنت السابع قد طلب إليه قبل وفاته بزمن قليل(21/341)
أن يرسم مظلماً يصور عليه يوم الحساب خلف مذبح معبد سستيني. واقترح بولس وقتئذ أن يقوم الفنان بهذا العمل، وتردد ميكل لأنه يريد أن يواصل أعمال النحت لا أعمال التصوير؛ فقد كان أسعد حالا وهو يعمل بالمطرقة والمنحت مما يكون وهو يعمل بفرشاة الرسم، وكانت سعة الجدار الذي يراد تصويره- 66 قدما في 36 - خليقة بأن تبرر هذا التردد، غير أنه بدأ هذه الصورة التي هي أعظم صورة كلها في شهر سبتمبر من عام 1535 وكان وقتئذ في سن الستين.
ولعل ما لاقاه المرة بعد المرة من العنت في حياته- كضريح يوليوس الأبتر، وتدمير التمثال الذي أقامه لهذا البابا في بولونيا، وعدم إتمامه واجهة سان لورندسو وقبور آل ميديتشي- قد جمعت في صدره حقداً دفينا فاض حتى صبه غضبا في هذه الصورة القدسية، ولعله قد عادت إليه من خلال أربعين عاماً ذكريات سفونرولا- منها تلك النبوءات المفجعة المنذرة بسوء المنقلب، وذلك التشنيع الشديد على خبث بني الإنسان ولؤمه، وفساد رجال الدين، واستبداد آل ميديتشي، والغطرسة العقلية، والمباهج الوثنية، ولهيب نار الجحيم التي تشوي روح فلورنس، وكأنما كان الشهيد الميت يتحدث إليه مرة أخرى، من مذبح العالم المسيحي الوثيق الصلة به.
وهكذا شرع الفنان المكتئب الذي لقبه دانتي بالعالم يغوص من جديد في أجاج الجحيم ويصور أهوالها على الجدار لكي تظل تلك الأحكام الإلهية التي لا مفر منها مائلة في المستقبل أمام البابوات أجيالا بعد أجيال وهم يقرءون القداس. وفي هذا الحصن الحصين الحامي للدى، الذي كان الى عهد غير بعيد يزدري بالجسم الآدمي ويصب عليه اللعنات، يشرع هذا الفنان بفرشاته فيصور- وكأنما هو مثال ينحت تماثيل مجسمة لا مصور يرسم صوراً ملونة- ذلك الجسم في مائة من الحالات والمواقف، تارة يتلوى ويتهجم من شدة الألم، وتارة في غفوة، ثم في نشوة حين يبعث(21/342)
الموتى أحياء، أو يصور الملائكة وقد انتفخت أجسامهم وهو ينفخون النفخة المشهورة في الصور، أو المسيح يكشف عن جراحه؛ وقد أوتي مع ذلك منكبين عريضين وذراعين قويتين يستطيع بها أن يقذف في الجحيم من كانوا يظنون أنهم أكبر من أن يطيعوا أوامر الله.
غير أن ما فيه من ميل إلى النحت قد أفسد عليه قدرته على التصوير، ذلك أن هذا التزمت المتشدد أخذ يزداد كل يوم استمسكا بدينه، ويصر على أن يمثل باللون أجساما متخمة قوية ذات عضلات مفتولة، حتى أصبح الملائكة الذين يمثلهم الفن والشعر أطفالا سعداء، أو شبابا ظرفاء، أو فتيات رشيقات، أصبح هؤلاء في يديه خلائق ذوي أجسام رياضية يتسابقون في الفضاء، ويسحقون النجاة، سواء كانوا أخياراً أو أشراراً لأنهم خلقوا في صورة الله أو فيما يشبه صورة الله إن لم يكن لغير هذا من الأسباب، وحتى المسيح نفسه، في جلال غضبه، أصبح صورة لآدم المرسوم على سقف سستيني، أي إلها في صورة إنسان أو فيما يشبه صورة الإنسان، إن في الصورة لحما أكثر مما يجب أن يكون، وفيها أذرعاً، وسيقاناً، وعضلات في الأجسام وفي باطن السيقان أكثر مما يلزم منها لأن يسمو بالروح إلى التفكير في عقاب الذنوب، وحتى أريتينو الفاجر المستهتر كان يرى أن هذه الأجسام العارية الكثيرة العدد قد وضعت في غير المكان اللائق بها. وما من أحد يجهل أن بياجيو دا تشيزينا Biagio de Cesena رئيس التشريفات عند بولس الثالث قد شكا من أن هذه الحفاوة الزائدة بالجسم البشري أليق بأن تزين مشربا للخمور منها بمصلى للبابوات، وأن ميكل أنجيلو قد ثأر لنفسه منه بأن صوره بين الملعونين المعذبين، وأن بولس نفسه حين طلب إليه بياجو أن يمحو الصورة رد عليه ردا فيه ما فيه من الفكاهة القوية والتقى العظيم، فقال إن البابا نفسه لا يستطيع أن ينجي الروح من نار الجحيم (56). واستجاب بولس(21/343)
الرابع لاحتجاج رجال من طراز بياجيو فأمر دانييلي دا فلتيرا Daniele de Voterra بأن يصور سراويل للأجزاء التي لا يليق ظهورها من الصور، فما كان من روما إلا أن لقبت الفنان المسكين "بخياط السراويل، il Braghettone. على أن أجل صورة في هذا المنظر الشامل القاتم ترتدي أثواباً سابغة تغطي كل جسمها، تلك هي صورة مريم العذراء التي تعد أثوابها آخر انتصار أحرزه الفنانون في تصوير الثياب، والحق أننا لانجد في هذه الصورة التي تمجد الوحشية الآدمية عنصراً ينقذها من هذه الوهدة إلا نظرة الارتياح والشفقة البادية على وجه العذراء.
وأزيح الستار عن هذه الصورة يوم الاحتفال بعيد الميلاد في عام 1541 بعد كدح دام ست سنين، وكانت روما وقتئذ توشك أن تدخل في عهد من الرجعية الدينية ضد أساليب النهضة، فارتضت صورة يوم الحساب على أنها مما يتفق مع الدين ومع الفن العظيم، ووصفها فاساري بأنها أروع الصور كلها على الإطلاق، وأعجب الفنانون بما فيها من دقة التشريح، ولم يروا عيباً في المغالاة في حجم العضلات، ولا في المواقف الغريبة الشاذة، ولا في كثرة الأجسام البشرية، بل حدث نقيض هذا فأخذ كثيرون من المصورين يقلدون أساليب هذا الفنان المعلم وشذوذه، وأوجدوا المدرسة النمطية التي بدأ بها اضمحلال الفن الإيطالي، وحتى غير الفنانين قد أدهشتهم المراعاة والتناسب في الأحجام مما أظهر بعض أجزاء الصورة وكأنها نقش بارز، كما أدهشتهم المراعاة الدقيقة لفن المنظور التي جعلت طول الأجسام السفلي مترين، والوسطى ثلاثة أمتار، والعليا أربعة. وإذا نظرنا إلى هذا المظلم اليوم فإننا لا نستطيع أن نحكم عليه حكما عادلا صحيحاً، فلقد أضر به دانيلي حين ألبسه السراويل، كما أضرت به الأثواب التي ألبستها بعض أشكاله بعدئذ في عام 1762، وآذاه التراب والدخان، وما علاه من قتام مدى أربعة قرون.(21/344)
وبعد أن استراح ميكل أنجيلو أربعة أشهر بدأ (1542) يعمل في مظلمين في المعبد الذي بناه أنطونيو دا سنجلو لبولس الثالث في قصر الفاتيكان، وكان واحد منهما يمثل استشهاد القديس بطرس، والثاني تنصر القديس بولس، وهنا أيضا أطلق الفنان العجوز لنفسه العنان في المغالاة في تصوير الأجسام البشرية، ولما أتم الصورتين كان قد بلغ الخامسة والسبعين من العمر، وقال لفاساري إنه صورهما رغم أنفه، وإنه بذل في تصويرهما جهداً شديداً ولاقى عناءً كبيراً (57).
غير أنه لم يحس بأنه قد بلغ من العمر ما يحول بينه وبين الاشتغال بالنحت، بل إنه كان يقول إن المطرقة والنحت يساعدانه على الاحتفاظ بصحته، ولقد كان، يرسم صورة العشاء الأخير يجد من حين إلى حين ملجأ وسلوى في الرخام الذي في مرسمه. ففي عام 1539 نحت تمثال برونس الصارم القوي (المحفوظ في بارجلو) الخليق بأن يضم إلى أعظم التماثيل الرومانية الملونة. ولعله قد نحته ليؤيد به ما حدث منذ قليل من قتل الطاغية أليسندرو ده ميديتشي في فلورنس، وليكون نذيرا للطغاة في المستقبل. وبعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت نحت وهو في فترة من المزاج الرقيق تمثال العذراء تبكي أمام المسيح الميت، والذي يقوم الآن خلف مذبح كاتدرائية فلورنس، وكان يرجو أن يوضع هذا التمثال فوق ضريحه، ولذلك أخذ يعمل فيه كالمحموم، وكثيراً ما كان يواصل العمل ليلا في ضوء شمعة مثبتة في قلنسوته، ولكن ضربة شديدة من مطرقه أضرت بالتمثال ضرراً لم يسعه إلا أن يتركه معتقداً أنه قد حاق به الأذى ما لا يمكن إصلاحه، غير أن خادمه أنطونيو ميني استهداه إياه، وأخذه، وباعه إلى رجل من فلورنس. والتمثال ثمرة مدهشة لجهود رجل في السابعة والخمسين من العمر، فجسم المسيح الميت ممثل دون مبالغة، وتمثال مريم الذي لم يتم هو الرقة بعينها ممثلة في الحجر، ووجه نيقوديموس Nicodemos المقنع الرائع يمكن أن يمثل،(21/345)
كما يظن البعض، وجه ميكل أنجيلو نفسه، وكثيراً ما كان الفنان في تلك المرحلة من العمر يفكر في آلام المسيح.
وكان دينه في جوهره هو دين أهل العصور الوسطى، يخلع عليه التصوف كثيراً من الكآبة والتنبؤ بالمستقبل، والتفكير في الموت وعذاب النار، ولم يكن يشارك ليوناردو في تشككه، أو رافائيل المرح في استهتاره وعدم مبالاته، وكانت أحب الكتب إليه الكتاب المقدس وكتاب دانتي، وقد أخذ شعره في أخريات حياته يدور أكثر فأكثر حول الأمور الدينية:
الآن وصلت حياتي مختارا بحرا عاصفاً
كأنها زورق هش ضعيف، إلى المرفأ الواسع
الذي يأمر الناس جميعاً بالدخول فيه قبل أن يحل يوم الحساب الأخير
فيحاسب الناس على ما كسبت أيديهم من خير وشر ويجزون عليه الجزاء الأوفى.
ولقد عرفت الآن حق المعرفة أن ذلك الوهم
الذي استحوذ على قلبي وجعلني عبدا خاشعاً للفن الأرضي
إنما هو لهو عبث باطل. ألا ما أشد إثم
ذلك الشيء الذي يطلبه الناس جميعاً ويتلهفون عليه!
وأفكار الحب التي صورت في ثياب لا تكاد تستر الجسم
ما قيمها حين يقترب منا الموت المزدوج
فهو موتان موت أعلمه عن يقين وآخر أرهبه.
فلا التصوير ولا النحت بقادر الآن على أن يريح نفسي
التي تتوجه إلى حبه العظيم في عليائه
ذلك الذي يبسط ذراعيه على الصليب ليضمنا إليه (58).
وأخذ الشاعر الشيخ يلوم نفسه على ما كتب في السنين الخوالي من أغاني في العشق. ولكن يلوح أن هذه الأغاني لم تكن تنفيساً عن شهوة جسمية(21/346)
بل كانت رياضة شعرية. وأعظم أغاني مكيل أنجيلو إخلاصاً في مجموعته المعروفة باسم "القوافي" هي التي يوجهها إلى نبيل روماني كان يدرس التصوير. وقد جاء هذا الشاب إلى أنجيلو (في عام 1532 على ما نظن) ليأخذ عليه الفن، وسحراً أستاذه بجمال وجهه واعتدال قامته، وحسن هيئته وأدبه الجم، وأحبه ميكل وكتب فيه أغاني ملؤها الإعجاب الصريح به حتى لقد وضعه الناس مع ليوناردو بين المشهورين من ذوي الشذوذ الجنسي في التاريخ (85أ). غير أن هذه التعبيرات الغرامية بين الرجل والمرأة كانت شائعة في عهد النهضة حتى بين الرجال الذين يعشقون النساء والنساء اللاتي يعشقن الرجال؛ وكانت عباراتها القوية المتطرفة جزءاً من الأساليب الشعرية وكتابات الرسائل في ذلك العهد؛ ولذلك فإننا لا نستطيع أن نستخلص منها أحكاماً معينة، لكننا نلاحظ مع ذلك أن ميكل أنجيلو- إذا صرفنا النظر عن شعره- ظل فيما يلوح لا يعبأ بالنساء حتى التقى بفتوريا كولنا.
وبدأت صداقته معها حوالي عام 1542 حين كانت في سن الخمسين وكان هو في السابعة والستين. وإنه ليسهل على امرأة في سن الخمسين أن تثير لواهج الحب في قلب ابن الستين؛ ولكن فتوريا لم تكن تريد ذلك أو تفكر فيه، فقد كانت تحس بأنها لا تزال مرتبطة بمركيز بيسكارا الذي مات منذ سبعة عشر عاماً؛ ولهذا كتبت إلى ميكل أنجيلو تقول: "إن صداقتنا صداقة ثابتة، وحبنا قوي أكيد؛ تربطه عقدة مسيحية وثيقة" (57) وبعثت إليه بأغان بلغ عددها 143 أغنية كلها طيبة ولكن الإهمال باد فيها؛ ورد عليها بأغان تفيض إعجاباً وإخلاصاً ولكن الغرور الأدبي يفسدها ويشوهها. وكانا إذا التقيا يتحدثان عن الفن والدين، ولعلها كانت تعترف له بعطفها على الرجال الذين كانوا يحاولون إصلاح الكنيسة. وكان تأثيرها فيه قوياً عميقا، فقد بدا له أن أجمل ما في الحياة من عناصر روحية قد اجتمعت كلها في تقواها، وحنانها، وإخلاصها. وكان بعض(21/347)
ما يتصف به من تشاؤم يزول عنه إذا مشت معه وتحدثت إليه، وكان يدعو الله ألا يعود مرة أخرى الرجل الذي كانه قبل أن يلتقي بها. وكان إلى جانبها حين حضرتها الوفاة (1547)؛ وظل بعد وفاتها زمنا طويلا محطم القلب حزيناً كأن بعقله خيالاً، يلوم نفسه لأنه لم يقبل وجهها كما قبل يدها في تلك اللحظات الأخيرة (60)، وأقدم بعد وفاتها بقليل على أعظم أعماله الفنية وأكبرها تبعة، ذلك أنه لما مات أنطونيو سنجالو (1546)، طلب بولس الثالث إلى ميكل أنجيلو أن يتم كنيسة القديس بطرس، واحتج الفنان المتعب مرة أخرى بأنه مثال لا مهندس، ولعله لم يكن قد نسي بعد عجزه عن إتمام واجهة سان لورندسو، ولكن البابا أصر، وامتثل ميكل أنجيلو لأمره "وهو آسف كل الأسف"؛ وأضاف؛ كما يقول فاساري إلى هذا قوله: "إني لأعتقد أن البابا قد أوحى إليه بذلك من عند الله". وأبى الفنان أن يتقاضى عن ذلك العمل، وهو آخر أعمال حياته، مكافأة إضافية، وإن كان البابا قد ألح عليه في هذا المرة تلو المرة، وبدأ العمل بجد لا يتوقعه الإنسان من رجل في الثانية والسبعين من العمر.
وكأنما كان العمل في كنيسة القديس بطرس لا يكفيه؛ فقد تعهد في ذلك العام نفسه بالقيام بمشروعين كبيرين: أولهما أنه أضاف إلى قصر فارنيزي طابقاً ثالثاً، وشرفة يمتدح كل من رآها جمالها البارع، كما أضاف طابقين علويين إلى بهو يرى فاساري أنه أجمل أبهاء أوربا بأجمعها؛ ووضع تصميماً لمجموعتين من الدرج يرقى بهما إلى تل الكبتول، وأقام فوق قمته تمثال ماركس أورليوس القديم الممتطي صهوة جواد، ثم شرع بعدئذ وهو في الثامنة والثمانين من عمره يشيد فوق الطرف الثاني من الهضبة قصر مجلس الشيوخ بسلمه المزدوج العالي الفخم؛ ووضع خططاً لقصر المعهد الموسيقي على أحد جانبي قاعة مجلس الشيوخ ومتحف الكبتول على(21/348)
الجانب الآخر منها: على أنه حتى هو نفسه، لم يمتد به أجله حتى ينفذ هذه المشروعات كلها، ولكن الأبنية تمت كلها وفقاً لتصميمه على أيدي توماسو كفاليري، وفنيولا، وجيما كومو دلا بورتا.
ولما توفي بولس الثالث (1549) لم يعرف الناس هل يحتفظ خلفه يوليوس الثالث بمكيل أنجيلو كبيراً للمهندسين في كنيسة القديس بطرس، وكان ميكل قد رفض التصميم الذي وضعه أنطونيو دا سنجالو لأن يجعل الكنيسة مظلمة إلى حد يخشى منه على الآداب العامة (61)، ولكن أصدقاء المتوفى أقنعوا اثنين من الكرادلة بأن يحذرا البابا بأن بونارتي يعمل على إفساد الصرح. وأيد يوليوس أنجيلو، ولكن لما جلس البابا بولس الرابع على كرسي البابوية (وقد كان البابوات يتعاقبون تعاقباً سريعاً في أيام ميكل أنجيلو) عاد حزب أنجيلو إلى الهجوم وادعى أن الفنان الذي كان وقتئذ في الحادية والثمانين من عمره، قد بلغ من العمر أرذله وكان في عهد طفولته الثانية، وأنه كان يهدم أكثر مما يبني، وأنه يضع في سان بيترو تصميمات مستحيلة التنفيذ، وكثيراً ما فكر ميكل في الاستقالة من عمله وقبول الدعوات المتكررة التي كان يبعث بها إليه الدوق كوزيمو كي يعود إلى الإقامة في فلورنس؛ ولكنه كان قد وضع خطة القبة، ولم يشأ أن يتخلى عن منصبه حتى يرى فكرته في طريق التحقيق، وقضى عدة سنين يفكر في هذه المشكلة، حتى إذا كان عام 1557 عمل من الصلصال نموذجاً صغيراً للقبة الضخمة التي كان عرضها وثقلها أكثر ما في المشروع خطورة. وقضى عاماً آخر في صنع نموذج من الخشب أكبر من النموذج السابق ووضع الخطط اللازمة للبناء والمساند، وكان المشروع يقضي بأن يكون قطر القبة 138 قدما، وارتفاعها هي نفسها 151، وأن تكون قمتها على ارتفاع 334 قدما فوق سطح الأرض، وأن ترتكز على قاعدة ذات أطناف تعتمد عل عقود ضخمة في الليوان الذي يخترق الكنيسة، وكان المشروع يقضي أيضا(21/349)
بأن يشاد "فانوس" (أي قبة صغرى ذات واجهة مفتوحة) يعلو تسعا وستين قدماُ فوق القبة الرئيسية وأن ينشأ فوقها صليب يعلو عن هذا الفانوس اثنتين وثلاثين قدماً يكون ذروة ذلك الصرح الفخم العظيم الذي يصل بأجمعه إلى ارتفاع 435 قدماً، ذلك هو مشروع القبة، أما القبة التي يمكن أن نقارنها بها والتي شادها برونيسكو فوق كنيسة فلورنس الكبرى، والتي وصف ميكل أنجيلو جمالها بأنه جمال لا يفوقه سواه، فقد كانت تبلغ 138 قدماً ونصف قدم في العرض و 133 قدماً في ارتفاعها هي نفسها و 300 قدم من سطح الأرض إلى قمة البناء و 351 قدماً بما فيها الفانوس، وكانت هاتان القبتان أعظم ما شيد من الصروح جرأة في تاريخ عمارة النهضة.
وحاء بيوس الرابع في عام 1569 بعد بولس الرابع، وسعى أعداء الفنان الجبار مرة أخرى لكي يحلوا محله، وكان قد أنهكه النزاع وتبادل التهم، فقدم استقالته من منصبه (1560)، ولكن البابا رفض قبولها، وظل ميكل أنجيلو كبير المهندسين في كنيسة القديس بطرس إلى يوم وفاته، وتبين بعدئذ أن ناقديه لم يكونوا مخطئين في كل ما وجهوه إليه من نقد، ذلك أنه في فن العمارة فلما كان يعنى بوضع خططه على الورق، وقلما كان يفضي بها إلى أصدقائه، بل كل ما كان يفعله أن يضع تصميم كل جزء من أجزاء البناء كلما قرب وقت إقامته، وكان شأنه فيما كان يقوم به من أعمال النحت، فكثيراً ما كان يهاجم كتلة الرخام دون أي استعداد سابق أكثر من وجود فكرة في رأسه، ولما مات لم يخلف وراءه خططاً أو نماذج محددة لأي جزء من البناء غير القبة وحدها، ولهذا كان من خلفوه أحراراً في اتباع أفكارهم هم أنسفهم، فبدلوا فكرته وفكرة برامنتي الأساسية- فكرة الصليب اليوناني- وأحلوا محلها فكرة الصليب اللاتيني بأن زادوا في طول جناح الكنيسة الشرقي وأقاموا واجهة عالية أمامه حجبت السقف المقبب عن الأنظار(21/350)
من هذه الناحية إلا إذا نظر إليها من بعد ربع ميل، وكان جزء البناء الوحيد الذي اتبعت فيه خطة أنجيلو هو هذا السقف المقبب نفسه، فقد نفذه جياكومو دلا بورتا عام 1588 كما وضعه أنجيلو دون تغيير هام، وما من شك في أن هذا البناء أفخم الأبنية في روما وأبهاها منظراً، فهو يعلو في منحنيات رائعة من أسفل قاعدته على التل إلى الفانوس القائم أعلاه، ويتوج في جلال الربعة التي في أسفله، ويضفي على العمد ذات الطراز القديم، والعمد المربوعة، وطيلات العمد، والقواصر وحدة شاملة تضارع في بهائها أي صرح معروف في العالم القديم، وفيها أيضا حاولت المسيحية أن توفق بينها وبين العالم القديم، فقد وضع بيت عبادة المسيح قبة البانثيون (التي يبلغ اتساعها 142 قدماً وارتفاعها بأكمله 142) فوق باسلقا قسطنطين كما أقسم برامنتي أن يفعل، ولم يجبن عن أن يعلو بالعمد القديمة ذلك العلو الشامخ الذي لا نظير له في سجلات التاريخ القديم.
ولم ينقطع ميكل أنجيلو عن العمل حتى بلغ التاسعة والثمانين من عمره، من ذلك أنه حول جزءا من حمامات دقلديانوس في عام 1563 إلى كنيسة سانتا ماريا دجلي أنجيلي وديرها استجابة لطلب بيوس الرابع، ثم وضع تصميم بورتا بيا Porta pia أحد أبواب المدينة، ووضع الفلورنسيين المقيمين في روما نموذجاً لكنيسة، قال عنه فاساري، ولعله كان مدفوعاً في ذلك بتحمسه الشديد إلى أستاذه وصديقه الشيخ، إنه "أجمل ما وقعت عليه عين إنسان" (62). لكن أموال الفلورنسيين في روما نفذت فلم يقم البناء.
وخارت قوة الفنان الجبار في آخر الأمر، وكانت قوة لا يكاد يصدق الإنسان وجودها فيه، وكان وهو في الثالثة والسبعين من عمره قد بدأ يشكو من داء الحصوة، ويلوح أنه قد وجد ما يخفف علته في بعض الأدوية أو المياه المعدنية، ولكنه قال: "إني أؤمن بالصلاة والدعاء أكثر مما أؤمن بالدواء"، وكتب بعد اثني عشر عاماً إلى ابن أخ له يقول: "أما إذا سألتني(21/351)
عن حالي فإني أعاني جميع الأمراض التي تصيب الطاعنين في السن، فالحصوة تمنعني من التبول، وحقوي وظهري متصلبان تصلباً يمنعني في كثير من الأحيان عن صعود الدرج" (63)، ومع ذلك فقد ظل حتى سن التسعين يخرج إلى الخلاء مهما تكن حالة الجو.
وكان يترقب منيته باستسلام المؤمن وانشراح الفيلسوف، وقد قال لفاساري يوماً ما: "لقد بلغت من الكبر درجة يخيل إلي معها أن الموت يجذبني من ردائي ويدعوني إلى السير معه" (64). ويمثله نقش برنزي بارز ذائع الصيت من صنع دانييلي دا فلتيرا ذا وجه مغضن من فرط الألم، شاحب من كبر السن، وأخذ في شهر فبراير من عام 1564 يزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، ويقضي معظم وقته نائماً في كرسيه الساند، ولم يترك وصية بل كل ما فعله أنه "أسلم روحه لله، وجسمه للأرض، ومتاعه لأقرب أقربائه" (65). وأسلم الروح في 18 فبراير من عام 1564 وهو في التاسعة والثمانين من العمر، ونقلت جثته إلى فلورنس، حيث دفن في كنيسة سانتا كروس (الصليب المقدس) باحتفالات دامت عدة أيام. ووضع فاساري له تصميم قبر فخم أظهر فيه منتهى التقى والورع.
وقد حكم معاصروه، وأيد حكمهم مر العصور، على أنه أعظم من ظهر على وجه الأرض من الفنانين، رغم ما يتصف به من عيوب لا حصر لها، وهو ينطبق عليه أتم انطباق تعريف "أعظم الفنانين" الذي وضعه رسكن، لأنه "أظهر في مجموعة أعماله أكبر عدد مستطاع من أعظم الأفكار"- أي الأفكار "التي تحرك أعظم مواهب العقل وتسمو بها" (66). فقد كان أولا رساما ممتازاً، كانت رسومه من الكنوز التي يعتز بها أصدقاؤه الذين أهداها إليهم أو اختلسوها منه، وفي وسعنا أن نرى هذه الرسوم اليوم في كاسا بورنارتي Casa Buonartti بفلورنس، أو في خزانة الرسوم بمتحف اللوفر، وهي تضم رسوماً تخطيطية لواجهة كنيسة سان لورندسو، ورسوم(21/352)
يوم السحاب ودراسة جميلة لسيبيله، وصورة تخطيطية للقديسة آن، لا تكاد تقل في دقة فكرتها عن صورة ليوناردو نفسه، والصورة الغريبة التي رسمها لفتوريا كولنا الميتة، وهي ذات وجه لا تستبان معارفه وثديين ذابلين، وقد رجع لفي حديث له نقله عنه فرانتشيسكو ده هولندا Francisco de Hollanda بجميع الفنون إلى فن التصميم فقال:
إن فن التصميم أو الرسم الدقيق ... هو أساس فنون التصوير الملون، والحفر، والعمارة، وكل شكل من أشكال التمثيل وجوهرها، كما هو الأساس والجوهر للعلوم بأجمعها، ومن المستطاع أن يتقن هذا الفن ويبرع فيه حصل على كنز عظيم ... ذلك أن جميع أعمال العقل البشري واليد البشرية إما أن تكون هي التصميم نفسه وإما أن تكون فرعاً من ذلك الفن (67).
وظل وهو يصور بالألوان رساماً أقل اهتماماً باللون منه بالخطوط، يسعى قبل كل شيء لرسم صورة معبرة مفصحة، أو التعبير بالفن عن موقف آدمي، أو نقل فلسفة للحياة عن طريق الرسم والتخطيط، وكانت يده هي يد فيدياس أو أبليز، وصوته صوت أرميا أو دانتي، ولسنا نشك ي أنه في أحد تنقلاته بين فلورنس وروما قد وقف عند أرفيتو ودرس صور العرايا التي رسمها سنيوريلي في تلك البلدة، وقد أوحت إليه هذه الصور مضافة إلى مظلمات جيتو وساتشيو بطراز لا يماثله مع ذلك طراز آخر احتفظ به التاريخ، وقد أدخل في فنه، وأظهر فيه من النبل أكثر مما أدخله في الفن وأظهره فيه غيره من الفنانين لا نستثني منهم ليوناردو، أو رافائيل، أو تيشيان، ولم يكن يلهو بالزخرف أو السفاسف؛ ولم يعبأ بالصغائر، أو بالمناظر الطبيعية، أو بالخلفيات المعمارية لصوره أو بالنقوش العربية الطراز؛ بل كان يترك موضوعه يقف وحده غير مزدان ولا مزخرف، ذك أن عقله قد استحوذت عليه رؤيا سامية، خلع عليها شكلا بقدر ما تستطيع اليد أن تخلع على الرؤى أشكالا، تصورها عرافات،(21/353)
ومتنبئين وقديسين، وأبطالا، وأربابا. وقد استخدم فنه الجسم الآدمي وسيلة له وواسطة، ولكن هذه الأشكال البشرية، كانت عنده هي التجسيم المعذب لآماله، ومخاوفه، وفلسفته المضطربة، وعقيدته الدينية التي خبا لهيبها.
وكان النحت فنه الخاص المحبب المميز له عن غيره من الفنانين، لأنه هو أعظم الفنون التشكيلية، ولم يلون تماثيله في يوم من الأيام لأنه كان يشعر بأن شكلها كفايتها، بل إن البرنز نفسه كان فيه من اللون أكثر مما يطيق، ولهذا قصر نحته على الرخام (68)، وكانت كل صوره ومبانيه وثيقة الارتباط بالنحت حتى قبة كنيسة القديس بطرس نفسها، وقد أخفق في أن يكون مهندس عمارة (إذا استثنينا من قولنا هذا تلك القبة الفخمة)، لأنه كان يصعب عليه أن يتصور بناء إذا لم يكن في صورة الجسم الآدمي ونسبه، ولم يكن يطيق أن يراه إلا من حيث هو مستودع للتماثيل؛ وكان يريد أن يغطي بتماثيله السطوح كلها بدل أن يجعل السطوح عنصراً من عناصر الشكل. وكان النحت أشبه بحمى تنتابه ولا تفارقه، وكان الرخام في ظنه يخفي في طياته سراً يصر على كتمانه، ويعتزم هو أن ينتزعه منه، غير أن هذا السر كامن في نفسه هو، وهو أدق من أن يكشف عنه جملة وتفصيلا. وقد ساعده دوناتلو بعض المساعدة على إعطاء الرؤى الباطنية صورة ظاهرة، وقدم له دلا كورشيا معونة أكثر من دوناتلو في هذه الناحية، أما اليونان فكانت معونتهم له أقل من الاثنين. وقد حذا حذو اليونان في تكريس معظم فنه للجسم الآدمي، وترك تماثيله أكثر تعميماً تكاد تتبع كلها نمطاً خاصاً، كما تبين لنا ذلك في تماثيل النساء القائمة على قبور آل ميديتشي، ولكنه لم يستطع قط تمثيل الطمأنينة المجردة من الانفعال التي نراها بادية على وجوه التماثيل اليونانية قبل العصر الهلنستي، لأن مزاجه لم يكن يجيز له أن يعنى بتمثيلها، ولأنه لم يكن يجد فائدة في تصوير شكل لا يعبر عن شعور ما، وكانت تعوزه القدرة(21/354)
على الكبح والاحتجاز التي كانت عند اليونان والرومان الأقدمين، كما كان يعوزه الشعور بتناسب الأجزاء؛ فقد جعل الكتفين أعرض مما يوائم الرأس، وجعل الجذع أقوى مما يناسب الأطراف، كما جعل الأطراف نفسها معقدة بالعضلات، كأن الآدميين والأرباب جميعاً مصارعون متوترة عضلاتهم من شدة الكفاح، ولا يسعنا إلا أن نعترف أن فن الأسلوبين أو النمطين (1) وتشويه الرسوم قد بدأ بهذه المغالاة المسرحية في الجهود العضلية والانفعالات النفسية.
ولم يوجد ميكل أنجيلو مدرسة خاصة كما أوجد رافائيل؛ ولكنه دري طائفة من الفنانين الممتازين، وكان له عليهم نفوذ قوي شامل، وكان من تلاميذه ججليلمو دلا بورتا Guglelmo della Porta الذي صمم لبولس الثالث في كنيسة القديس بطرس تابوتاً لا يكاد يقل روعة عن مقابر آل ميديتشي، غير أن من خلفوا أنجيلو من رجال النحت والتصوير قلدوه في مغالاته دون أن يعوضوا هذا العيب بعمق التفكير والشعور، وبالتفوق في أصول الصنعة، والحق أن الفنان العظيم هو في العادة الذروة العليا للتقليد، وأسلوب، ونمط، ومزاج تاريخي، وتفوقه نفسه تنتهي به سلسلة من التطورات لا يبقى بعده شيء منها؛ ولهذا تأتي من بعده لا محالة فترة من المحاكاة الضعيفة والاضمحلال، ثم يبدأ مزاج جديد وتقليد جديد في النماء، ونرى فكرة جديدة، ومثلا أعلى جديداً، أو أصولا للفن جديدة تكافح مستعينة بمائة من التجارب الغريبة كي تصل إلى نظام جديد، وإلى شكل أصيل يتكشف عن طراز جديد.
وعلينا أن نقول كلمة أخرى تتسم من جانبنا بالخضوع والتواضع، تلك هي أن الأوساط منا نحن الآدميين، حتى في الوقت الذي يضعون فيه أنفسهم موضع الحكام على الصفوة الممتازين، يجب ألا تعوزهم فضيلة
_________
(1) التمسك بأسلوب معين أو السير على نمط بعينه. (المترجم)(21/355)
الاعتراف بفضل أولئك الصفوة الأخيار وعبقريتهم، ويجب ألا نستحي من عبادة الأبطال، إذا لم نتخل في خارج أضرحتهم عن إحساسنا بالتمييز بين مزاياهم وعيوبهم، ونحن نجل نيكل أنجيلو لأنه ظل طوال حياته الطويلة المعذبة يخلق وينتج آية فنية رائعة في كل ميدان من ميادين الفن الرئيسية. وإنا لنرى هذه الروائع تنتزع من لحمه ودمه، ومن عقله وقلبه، إذا صح هذا التعبير، حتى تتركه إلى وقت ما ضعيفاً من كثرة ما أبدع وخلق، ونرى هذه الروائع تتشكل بمائة ألف ضربة من مطرقته ومنحَتِه؛ وقلمه وفرشاته؛ نراها تتشكل واحدة في إثر واحدة، كأنها مخلوقات خالدة تأخذ مكانها بين أشكال الجمال أو المعاني الباقية أبد الدهر. إن عقولنا لأضعف من أن تعلم حقيقة الله سبحانه، وهي عاجزة عن فهم الكون الذي اختلط فيه ما هو في الظاهر خير وشر، وعذاب وجمال، ودمار وسمو؛ ولكننا إذا كنا في حضرة أن تحنو على طفلها، أو عبقري يخلق من الفوضى نظاماً، ويكسب المادة معنى، والصورة أو الفكرة نبلا وعظمة، أحسسنا بأننا أقرب ما نستطيع أن نكون إلى الحياة، والعقل، والقانون، التي يتكون منها عقل العالم الذي لا يمكن أن تدركه العقول.(21/356)
حاشية
لقد كان من التجارب الطبية العميقة التي نحمد الله عليها أن درسنا هذا العدد الجم من الدراسات والشخصيات التي صادفتنا في تلك القرون الغنية المضطربة. ألا ما أعظم ثراء النهضة الذي لا حد له، وحسبك أنها استطاعت حتى في عهد اضمحلالها أن تنجب رجالا من أمثال تنتورتو وفيررونيزي، وأريتينو فاساري، وبولس الثالث وياليسترينا، وسان سوفينو وبلاديو، والدوق كوزيمو وتشيليني؛ وأنها أثمرت في الفن أمثال قاعات قصر الأدواق، وقبة القديس بطرس! وما أعظم هذه الحيوية المروعة التي كانت تكمن بلا ريب في أولئك الإيطاليين من رجال النهضة الذين يحيط بهم من كل جانب العنف والغواية؛ والخرافات، والحروب، ولكنهم مع ذلك كانوا يحسون أقوى إحساس بكل صورة من صور الجمال وبكل آية من آيات الفن، وينفثون حمم عواطفهم وانفعالاتهم وفنهم، وعمارتهم، واغتيالاتهم، وآيات نحتهم، وصلاتهم الجنسية غير المشروعة، وصورهم وسطورهم، وعذاراهم الجميلة وصورهم المشوهة، وأناشيدهم وأشعارهم المتصنعة، وبذاءتهم وتقواهم، وفجورهم وصلواتهم كأن إيطاليا كلها كانت بركاناً ثائراً يخرج منه هذا كله! ترى هل وجد في أي مكان آخر على ظهر الأرض مثل هذا العمق وهذه القوة في الاستجابة إلى الحياة! إننا لا نزال إلى هذا اليوم نشعر بقوة هذا الوحي، وإن متاحفنا لتفيض بما لا تتسع له من روائع هذا العصر الملهم المحسوس.
وإنا ليصعب علينا أن نصدر عليه حكماً هادئاً؛ وإذا ما أعدنا على القارئ ما وجه إليه من التهم فإنا نفعل ذلك كارهين، وأول هذه التهم أن النهضة (ونحن نقصر هذا اللفظ على النهضة في إيطاليا) قامت من الناحية المادية على الاستغلال الاقتصادي للكثرة الساذجة على أيدي القلة البارعة.(21/357)
ذلك أن ثروة روما البابوية قد جاءت من النقود الصغيرة التي تبعث بها آلاف الآلاف من بيوت الصالحين الأتقياء في أوربا؛ وإن بهاء فلورنس كان مصدره عرق الدهماء المغمورين الذين كانوا يكدحون الساعات الطوال، وليس لهم حقوق سياسية، ولم يكونوا يمتازون عن رقيق الأرض في العصور الوسطى إلا باشتراكهم في زهو وخيلاء في مجد الفن المدني ولألائه، وفي حياة المدنية الثائرة وما فيها من دوافع ومغريات، وكانت النهضة من الناحية السياسية هي إحلال الألجاركيات التجارية، والدكتاتوريات العسكرية محل حكومات المدن الجمهورية المستقلة، كما كانت من الناحية الأخلاقية انتقاضاً وثنياً قوض الدعامة الدينية للقانون الأخلاقي، وأطلق العنان للغرائز البشرية، وترك لها حرية فظة لا يتورع أصحابها عن استخدام الثروة الجديدة التي آلت إليهم عن طريق التجارة والصناعة كما يحلو لهم دون وازع من ضمير أو دين. أما الدولة، بعد أن خرجت من رقابة الكنيسة، التي أضحت هي نفسها سلطة زمنية وعسكرية، فقد نادت بأنها فوق القوانين الأخلاقية في الحكم، والدبلوماسية، والحرب.
وكان فن النهضة (ونحن نواصل سرد التهم) جميلا، ولكنه قلما كان سامياً رفيعاً، فقد كان يفوق الفن القوطي في تفاصيله، ولكنه ينقص عنه في العظمة، والوحدة، والأثر الكلي فيمن يشاهده؛ وقلما كان يصل إلى كمال الفن اليوناني أو جلال الفن الروماني؛ وكان هو صوت أرستقراطية ذات ثروة، فرقت بين الفنان والصانع الماهر، وانتزعته من الشعب انتزاعاً، وجعلته يعتمد على الأمراء وأصحاب الثراء المحدثين، وفقد هذا الفن روحه حين استسلم لعهد ميت قديم، وأذل العمارة والفن وأخضعهما لأشكال قديمة أجنبية عنهما. وهل ثمة ما هو أكثر سخفاً من وضع واجهات يونانية- رومانية للكنائس القوطية كما فعل البيرتي في فلورنس وريميني! وربما كان إحياء الفن القديم من أوله إلى آخره من الأخطاء المفجعة. ذلك أن الطراز إذا مات لا يمكن أن تبعث فيه الحياة إذا عادت الحضارة التي يعبر عنها(21/358)
إلى الحياة، لأن قوة الطراز وسلامته تكمنان في ائتلافه مع حياة زمانه وثقافته، ولقد كان في العصر العظيم الذي ترعرع فيه الفن اليوناني والروماني قيوداً رواقية رفعها التفكير اليوناني إلى مقام المثل الأعلى، وكثيراً ما تحققت في أخلاق الرومان، ولكن هذه القيود لم تكن تتفق بحال مع ما كان يتسم به عهد النهضة من حرية، وانفعال، واضطراب، وإفراط. وأي شيء يتعارض ومزاج الإيطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أكثر مما يتعارض معه السقف المستوي، والواجهة الرباعية المنتظمة، والصفوف الكئيبة من النوافذ التي لا تختلف واحدة منها عن الأخرى، والتي كانت وصمة في جبين قصور عصر النهضة؟ ولما أن ملت العمارة الإيطالية هذا التكرار المسئم، وتلك العودة المتكلفة إلى الطراز القديم، انطلقت انطلاق التاجر البندقي الذي تغتصب أمواله لتعطى إلى تيشيان، تفرط في الزخرف والبهاء، وانحدرت من الطراز القديم إلى الطراز المشوه الجديد.
كذلك لم يستطع فن النحت القديم أن يعبر عن روح النهضة، ذلك أن القيود لابد منها للنحت، وهذه الوسيلة الباقية على الأيام لا يمكن أن تحسن للتعبير عن تلوٍّ أو ألم هو بطبيعته قصير الأجل. إن النحت حركة مخلدة، وانفعال انصرف عليه صاحبه، وجمال أو شكل احتفظ به من أثر الأيام في المعدن المتجمد أو في الحجر الذي يقاوم فعل الزمن. ولعل هذا هو السبب في أن أعظم ما خلفه حجر النهضة من ثمار النحت هو المقابر أو تماثيل العذراء الباكية التي استطاع بها الإنسان القلق أن ينال الهدوء والطمأنينة في آخر الأمر. ولقد ظل دوناتلو، رغم ما بذل من الجهود ليقلد المثالين الأقدمين، قوطياً يكافح كي يصل إلى هذه الغاية ويأمل في الوصول إليها. وكان مكيل أنجيلو يضع لنفسه قوانينه، فكان كأنه مارد جبار سجين في مزاجه، يكافح عن طريق تصوير العبيد والأسرى كي يصل إلى ساحة السلام والجمال، ولكن إسرافه في الانفعال وعدم التقيد بالقوانين حرمه(21/359)
الراحة. ولقد كان التراث اليوناني بعد عودته عبثاً باهظاً كما كان نعمة وبركة. فقد أغنى النفس الحديثة بما أبرزه من المثل النبيلة، ولكنه كاد يخنق تلك الروح الفتية- التي كانت ترعرعت توا ونهضت- تحت عبء عدد لا يحصى من العمد، والتيجان، والطيلات والقواصر. ولعل هذه العودة إلى القديم، وهذه العبادة للنسب (حتى في الحدائق)، قد حالت دون نماء فن إيطالي موائم لبيته، كما عاق بعث اللغة اليونانية على أيدي الكتاب الإنسانيين نمو الأدب باللغة القومية.
وقد أفلح التصوير في عهد النهضة في التعبير عن لون ذلك العهد وانفعالاته. ووصل بالفن إلى درجة من الرقة لم يعل عليها قط في وقت من الأوقات، لكنه هو أيضاً لم يخل من أخطاء وعيوب. فقد كان اكبر ما يهتم به هو الجمال الشهواني المائل في الأثواب الفخمة والأجسام الموردة، وحتى صوره الدينية نفسها، كانت تنم عن عواطف شهوانية تهتم بالأشكال الجسمانية أكبر مما تهتم بالمعاني الروحية، وإن كثيراً من صور الصلب في العصور الوسطى لتصل في النفس إلى أعماق أبعد مما تصل إليها صور العذراء المحتشمة في فن النهضة. ولقد جرأ الفنانون الهولنديون والفلمنكيون على تصوير وجوه غير جذابة وأثواب عارية غير ذات جمال، وعلى أن يبحثوا وراء هذه الظاهرة البسيطة عن أسرار أخلاق الناس وعن عناصر الحياة؛ وما أكثر ما تبدو صور البندقية العارية- حتى عذارى رافائيل نفسها- بجانب صورة الافتتان بالحمل لفان إيك Van Eyck! وليس ثمة صورة تفوق صورة يوليوس الثاني لرافائيل. ولكن هل في مائة الصور الذاتية التي أخرجها الفنانون الإيطاليون ما يضارع تصوير رمبراندت الصادق لنفسه أو انتشار فن التصوير في القرن السادس عشر ليدل على قيام طبقة الأثرياء المحدثين، وعلى شغفهم بأن يبصروا(21/360)
بأعينهم ويسمعوا بآذانهم ذيوع شهرتهم؟ ولقد كان عصر النهضة عصراً براقاً لماعاً، ولكن مظاهره كلها يسري فيها شيء من التظاهر وعدم الإخلاص، وازدهاء بالثياب الفاخرة الغالية، وبناء أجوف من السلطان المزعزع يعتمد على قوة من داخله ويريد أن ينقض ويصبح كومة من الخرائب إذا ما مسته أيدي جماعة من الغوغاء قاسية القلب، أو هزته صرخة من راهب غاضب لا مقام له.
ترى ماذا نقول في هذا الاتهام الشديد لعصر أحببناه بكل ما في صدور الشباب من حماسة؟ لن نحاول دحض هذا الاتهام؛ فكثير منه صحيح وإن كان مثقلاً بمقارنات ظالمة، ودحض التهم قلما ينفيها نفيا قاطعا، ومعارضة نصف حقيقة بنصف حقيقة مضادة لها عبث لا طائل من ورائه ما لم يكن في الإمكان مزج النصفين لتكون منهما نظرة أوسع وأعدل. وليس من ينكر أن ثقافة النهضة كانت ثقافة أرستقراطية قامت على ظهور الفقراء الكادحين، ولكن أية ثقافة لم يكن هذا شأنها مع الأسف الشديد؟ وما من شك في أن كثيراً من الأدب والفن قلما كان ينشأ دون تركيز الثروة بعض التركيز؛ وحتى الكتاب العدول أنفسهم لابد لهم من كادحين غير منظورين، يستخرجون كنوز الأرض، ويزرعون الطعام، وينسجون الثياب، ويصنعون المداد. ولسنا نريد أن ندافع عن الطغاة المستبدين، فإن منهم كآل بورجيا من يستحق الخنق؛ ومنهم من بدد في مظاهر الترف الكاذب الأموال المأخوذة من عرق الشعب ودمائه؛ ولكننا نعتذر بشيء على فِعال كوزيمو وحفيده لورندسو اللذين فضلهما أهل فلورنس بلا ريب على حكم ذوي المال الذي شاعت فيه الفوضى. أما عن الانحلال الأخلاقي، فقد كان هو ثمن التحرر العقلي؛ ومهما كان هذا الثمن غاليا، فإن التحرر هو الحق الطبيعي الذي ورثه العالم الحر، وهو نسيم الحياة الذي تستنشقه أرواحنا في هذه الأيام.(21/361)
وكانت الدراسات العميقة المخلصة التي أحيتا الآداب والفلسفة القديمة من عمل إيطاليا، وفيها نشأت الآداب الحديثة الأولى، وكان منشؤها هو هذا الإحياء وذاك التحرر؛ ولسنا ننكر أنا لا نجد بين الكتاب الإيطاليين في ذلك العهد من يضارع إرزمس وشكسبير، ولكن إرزمس نفسه كان شديد الحنين إلى هواء إيطاليا النهضة الصافي الحر، كما إن إنجلترا في عصر الملكة ألزبث كانت مدينة إلى إيطاليا- إلى "الإنجليز المصطبغين بالطبقة الإيطالية"- ببذور ازدهارها، فقد كان أريستو Arisoto وسنادسارو Sannazaro النموذجين اللذين نسج اسبنسر وسدني على منوالهما كما كانا أبوين لهذين الكاتبين الإنجليزيين؛ وكان لمكيفلي وكستجليوني أثر عظيم في إنجلترا في عهد إلزبث واليعقوبيين، ولسنا واثقين من أن بيكن وديكارت كانا يستطيعان القيام بعملهما إذا لم يكن بمبوناتسي ومكيفلي، وتيليزيو Telesio وبرونوا قد مهدوا لهم الطريق بعرقهم ودمائهم.
وما من أحد ينكر أن عمارة النهضة عمارة أفقية تمتد في السعة أكثر مما تعلو في السماء، وأنها لهذا تبعث في النفس الغم والاكتئاب، ونستثني من هذا على الدوام القباب الفخمة التي تعلو في سماء فلورنس وروما. أما الطراز القوطي الذي يرتفع عمودياً ويبعث في النفس النشوة فإنه مظهر لدين يصور حياتنا على هذه الأرض في أنها منفى للروح، ويعقد آمال الإنسان على السماء مسكن الأرباب. وأما العمارة اليونانية- الرومانية القديمة فإنها تعبر عن دين يُسكن أربابه في الأشجار ومجاري المياه، وفي الأرض، وقلما يجعل مقارها في أماكن أعلى من جبل في تساليا؛ ولم تكن تتطلع إلى أعلى لتجد الأرباب. ولم يكن في مقدور هذا الطراز القديم البارد الهادئ أن يعبر عن روح النهضة الشكسة المضطربة؛ ولكنه مع ذلك لم يكن يسمح له بالغناء؛ بل حفظ التنافس الكريم العادل آثار هذا الفن ونقل مثله العليا وأنماطه الرئيسية لتكون جزءا- وشريكاً لا مسيطراً- من فننا المعماري في هذه الأيام. نعم إن(21/362)
إيطاليا لم تبلغ في العمارة ما بلغته العمارة اليونانية أو القوطية؛ ولم يصل فن النحت فيها ما وصل إليه في بلاد اليونان القديمة؛ ولعلها لم تسم في هذا الفن إلى ما سمت إليه آيات الفن القوطي في تشارتر وريمس؛ ولكنها استطاعت أن تنجب فناناً نحت لآل ميديتشي مقابر لا تقل روعة عن أعمال فيدياس وتماثيل باكية للعذراء خليقة بيرا كستليز Peraxiteles.
فإذا انتقلنا إلى فن التصوير في عهد النهضة لم نجد حاجة إلى أن نقول فيه كلمة اعتذار، فهو لا يزال الذروة التي وصل إليها هذا الفن في التاريخ كله، لقد اقتربت أسبانيا من هذه الذروة في أيام الهدوء على أيدي فيلاسكويز Velasquez، ومورلو Murillo، وريبرا Ribera، وزردران Zurdaran، وألجريكو Il Greco؛ واقتربت منها كذلك بدرجة أقل فلاندرز وهولندا على أيدي روبنز ورمبراندت، أما المصورون الصينيون واليابانيون فقد سموا إلى ذرى خاصة بهم، وتبدو لنا صورهم أحياناً كأنها ذات عمق خاص شديد، إن لم يكن لشيء فلأنها تنظر إلى الإنسان نظرة الإكبار. لكن فلسفة هاتين الأمتين الأخيرتين العميقة التفكير، وما تتسم به زخارفهما من رشاقة وظرف يعلو عليها كلها ما في فن المصورين الفلورنسيين رافائيل وكريجيو، والمصورين البنادقة من قوة وتعقيد واسعي المدى، وما في الألوان من حيوية وحماسة، نعم إن فن التصوير في عصر النهضة كان فناً جسدياً شهوانياً، وإن كان قد أخرج بعض روائع الصور الدينية التي تعد من أرقى ما أخرجه هذا الفن، كما أخرج طائفة من الصور التي تصل إلى السماك الأعلى في روحانيتها ونبلها- كالتي نشاهدها في سقف معبد ستيني، غير أن هذه الشهوانية لم تكن أكثر من رد فعل طبيعي سليم، ذلك أن الجسم البشري طالما حقر وندد به، كما أن النساء قد قاسين طوال القرون الظالمة كثيراً من ضروب التشنيع يُوجهها إليهن التنسك الشديد القاسي، وكان من الخير أن تؤكد الحياة، وأن يرفع الفن من جديد، شأن جمال الأجسام البشرية الصحيحة السليمة. لقد ملت النهضة(21/363)
تريد ذكر خطيئة الإنسان الأولى، ودق الصدور حزناً وندما، وما سوف يلقاه الإنسان بعد الموت من أهوال خرافية؛ ولهذا أدار ظهره نحو الموت، وولى وجهه نحو الحياة؛ وغنى قبل شلر Schiller وبيتهوفن Beethoven بزمن طويل للبهجة والمرح نشيد الطرب الذي ليس له نظير.
وقضى عصر النهضة حين أحيا الثقافة اليونانية- الرومانية القديمة، على سيطرة العقلية الشرقية على أوروبا، وهي السيطرة التي دامت ألف عام كاملة، وانتقلت أنباء التحرر العظيم من إيطاليا مجتازة مائة من المسالك تتسلق الحبال وتخترق البحار إلى فرنسا، وألمانيا، وفلاندرز، وهولندا، وإنجلترا. فقد نقل العلماء أمثال اليندرو Aleandro وأسكالجير Scaliger، والفنانون أمثال ليوناردو، ودل سارتو، وبريماتشيو، وتشيليني، وباردوني، نقل هؤلاء النهضة إلى فرنسا؛ ونقلها المصورون، والمثالون، والمهندسون إلى بست Pesth، وكراكاو، ووراسو، ومتشيلزو Michelozzo إلى قبرص، وغامر بليني الكافر فسافر بها إلى اسطنبول. وعاد بها كولت Colet وليناكر Linacre من إيطاليا إلى إنجلترا، كما عاد بها أجريكولا Agricola ورتشلين Reuchlin إلى ألمانيا. وظل تيار الأفكار، والأخلاق، والفنون نحو مائة عام يتدفق من إيطاليا نحو الشمال، فكانت أوربا الغربية كلها من عام 1500 إلى عام 1600 تعترف بأن هذه البلاد أم الحضارة الجديدة في العلم، والفن، والآداب "الإنسانية"، التي حنت عليها وأرضعتها لبانها، ونشأتها. وحتى فكرة الرجل الكامل السميذع، والفكرة الأرستقراطية عن الحياة والحكم، قد جاءتا من الجنوب لتصوغا آداب الناس وأشكال الدول في الشمال. وهكذا كان القرن السادس عشر، الذي اضمحلت فيه النهضة في إيطاليا، عصر نماء ووفرة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وفلاندرز، وأسبانيا.
وطغت على أثر النهضة إلى حين شدة النزاع بين حركتي الإصلاح وإصلاح المعارض، والجدل القائم بين المذاهب والحروب الدينية؛ وظل(21/364)
الناس قرناً من الزمان يحتربون ويسفكون الدماء لكي يكونوا أحراراً يعتقدون ما يشاءون ويعبدون كما يحبون، أو كما يشاء ويحب لهم ملوكهم؛ وبدا أن صوت العقل قد خفت تحت أسنة الجهاد الديني، لكن هذا الصوت لم يسكن كل السكون، فإن رجالا من أمثال إرزمس، وبيكن، وديكارت ظلوا في خلال هذا الدمار المفجع يرددون هذا الصوت في شجاعة، ويرفعون به عقيرتهم من جديد وفي قوة متزايدة؛ وصاغه اسبونزا صياغة جديدة فخمة رائعة، فلما أقبل القرن الثامن عشر ولدت روح النهضة الإيطالية مرة أخرى في عصر الاستنارة الفرنسي. وظل هذا اللحن يتردد من فلتير وجبن Gibbon إلى جوته وهين Heine، إلى هوجو وفلوبير، إلى تين وأناطول فرانس خلال الثورات والثورات المضادة، والتقدم والرجعية، يبقى بعد الحرب بريقة ما، ويرفع في أناة من مكانة السلم وشأنها. وإنا لنجد اليوم في كل مكان في أوربا والأمريكيتين، أرواحاً متحضرة قوية- متزاملة متآلفة في بلد العقل- تتغذى وتعيش على ذلك التراث، تراث حرية العقل، والإحساس بالجمال، والتفاهم المتسم بالتواد والتعاطف، أرواحاً تعفو عن مآسي الحياة، وتستمتع بمباهج الحواس، العقل والروح، ويستمعون بقلوبهم على الدوام أغاني النهضة العذبة وسط أناشيد الحقد، وأعلى من جلجلة المدافع.(21/365)
المجلد السادس
الإصلاح الديني
وهو يروي تاريخ الحضارة الأوروبية خارج إيطاليا من وكليف حتى لوثر
1300 - 1517
إلى القارئ
من حق القارئ المرتقب أن ننبهه إلى أن لفظ الإصلاح الديني ليس عنواناً صادقاً كل الصدق لهذا المجلد ولعل العنوان الأدق منه هو "تاريخ الحضارة الأوربية خارج إيطاليا من عام 1300 إلى عام 1564 أو حواليها بما في ذلك تاريخ الدين في إيطاليا مع نظرة عارضة إلى الحضارتين الإسلامية واليهودية في أوربا وأفريقية وآسية الغربية". وقد يسأل القارئ عن سبب هذا التحديد المتعرج لمنهج البحث فنقول: إن المجلد الرابع المسمى عصر الإيمان من مجلدات هذه السلسلة "قصة الحضارة" قد وقف بتاريخ أوربا عند عام 1300، وإن المجلد الخامس "عصر النهضة" قد اقتصر على البحث في أحوال إيطاليا بين عامي 1304 و1576 مرجئاً أصداء الإصلاح الديني في بلاد إيطاليا. ومن أجل هذا يجب أن يبدأ هذا المجلد السادس بعام 1300. وهو يفترض أن القارئ سيجد مسلاة في أن لوثر لا يظهر على مسرح الحوادث إلا بعد أن ننتهي من ثلث القصة. ولكن علينا أن نتفق منذ البداية على أن الإصلاح الديني قد بدأ في الواقع بجون ويكلف ولويس البافاري من رجال القرن الرابع عشر ثم واصل سيره إلى جون هوس في القرن الخامس عشر حتى انتهى في القرن السادس عشر بالرجة العنيفة التي أحدثها راهب وتنبرج. وفي وسع من لا يهتم من القراء بغير الثورة الدينية أن يغفل قراءة الفصول الثالث والرابع والخامس والسادس. ثم الفصلين التاسع والعاشر دون أن يخسر بذلك خسارة لا تُعوض.
فالإصلاح الديني إذن هو الموضوع الرئيسي. وإن لم يكن الموضوع الوحيد في هذا المجلد. وسنبدأ بالتحدث عن الدين بوجه عام، وبما له من أثر في نفس الفرد من الجماعة، ثم نتحدث بعدئذ عن أحوال الكنيسة الكاثوليكية في القرنين سابقين على أيام لوثر. ثم نلقي نظرة على أحوال(22/1)
إنجلترا بين عامي 1376 و1382 وأحوال ألمانيا بين 1320 و1347، وبوهيميا بين 1402 و1485 ونفصل القول في مبادئ إصلاح لوثر الدينية وما قام على أثر ذلك من نزاع. وسنلاحظ ونحن نمضي قدماً في البحث كيف كانت الثورة الاجتماعية وما تتضمنه من آمال شعبية تسيران مع الثورة الدينية جنباً إلى جنب. وسنردد في غير قول صدى الفصل الذي ورد في كتاب جبن Gippon عن سقوط القسطنطينية، وندرك كيف مكن زحف الأتراك إلى أبواب فينا رجلاً بمفرده من أن يتحدى البابا والإمبراطور في وقت واحد. وسننظر بروح العطف إلى ما بذله أرزمس من جهود لحمل الكنيسة على أن تصلح نفسها في سلام وسندرس أحوال ألمانيا قبيل أيام لوثر لعلنا نستطيع بهذا الدرس أن نفهم أن مجيئه حين جاء كان أمراً محتوماً لا مندوحة عنه. وسنسلط الأضواء في الكتاب الثاني على الإصلاح الديني نفسه وعلى رجاله لوثر وملنكثون في ألمانيا، وزفنجلي وكلفن في سويسرا، وهنري الثامن في إنجلترا، ونكسن في اسكتلندة، وجستافس فازا في السويد، ثم نلقي نظرة عابرة على النزاع الطويل الذي شب بين فرانسس الأول وشارل الخامس، ولكننا سنؤجل غير هذا من أحوال الحياة الأوربية في هذا النصف قرن المضطرب المليء بالأحداث (1517 - 1564)، وذلك لكي نترك المجال للمسرحية الدينية لتكشف لنا دون أن يحدث فيها شيء من الاضطراب والارتباك بسبب إرجاء الحديث عنها من حين إلى حين. أما الكتاب الثالث من هذا المجلد فسيطل على: "الغرباء الواقفين بالباب". على روسيا وأمراء موسكو والكنيسة الأرثوذكسية، وعلى الإسلام وما جاء به من عقيدة، وثقافة، وقوة يتحدى بها عيره من الأديان، وكفاح اليهودية للعثور على مسيحيين في العالم المسيحي. وسيذهب الكتاب الرابع إلى ما وراء أحداث المسرحية ليدرس شرائع أوربا وأحوالها الاقتصادية، وأخلاقها، وعاداتها، وفنها،(22/2)
وموسيقاها، وآدابها، وعلومها، وفلسفتها في أيام لوثر. وسنحاول في الكتاب الخامس أن نضع أنفسنا في موضع الكنيسة فننظر إلى الإصلاح الديني كما تنظر إليه-هي-وقد حاق بها الخطر، فلا نجد مناصاً من الإعجاب بالطريقة التي اجتازت بها العاصفة المحيطة بها في جرأة وهدوء. ثم نختتم الكتاب بخاتمة موجزة نحاول فيها أن ننظر إلى النهضة والإصلاح الديني، والمذهب الكاثوليكي، والاستنارة نظرة شاملة في ضوء التاريخ الحديث والأفكار الحديثة.
ذلك موضوع ممتع رائع ولكنه موضوع شائك، لأننا لا نكاد نكتب فيه كلمة لا تثير الجدل أو الامتعاض. ولقد حاولت أن أقف موقف الكاتب غير المتحيز، وإن كنت لا أنكر إن ماضي الشخص يلون آراءه على الدوام، وإن لا شيء يضايق الإنسان أكثر من عدم تحيزه. ومن واجبي أن أنبه القارئ من بداية الأمر أني قد نشأت نشأة الكاثوليكي المتحمس لمذهبه، وأني لا أزال أحتفظ بذكريات طيبة خليقة بالحمد لرجال الدين المخلصين ولليسوعيين العالميين، وللراهبات المشفقات اللائي تحملنني كثيراً في طيش الشباب، ولكن على القارئ أيضاً أن يذكر أنني حصلت على جزء كبير من تعليمي خلال محاضراتي التي ألقيتها مدى ثلاثة عشر عاماً في كنيسة مسيحية Presbyterion Church تحت رجال من البروتستنت الخلص المتسامحين مثال يوناتان داي، وولين ادامز براون، وهنري سلون كفن، وادمن تشافي، وأن كثيرين من الرجال المخلصين الذين كانوا يستمعون إلى محاضراتي في تلك الكنيسة المسيحية كانوا يهوداً أوتوا من التعطش للعلم والفهم ما جعلني أنظر إلى بني ملتهم نظرة نافذة جديدة. ولهذا فإنه إنه ذا كان بين الناس من يجدون مبرراً للتحيز في أحكامهم، فإني أنا أقلهم عذراً من هذه الناحية، وأني لا أشعر نحو جميع الأديان بذلك العطف الصادق الذي يمتلئ به قلب من عرف أن الأيمان بالعقل نفسه إنما هو إيمان مزعزع،(22/3)
وأننا جميعاً كسف من الظلام الحالك نتحسس الطريق لنور الشمس، وإني لا أعرف عما وراء هذه الحياة أكثر مما يعرف أقل طفل في الطرقات.
وأني لأشكر للدكتور أرثر اتهام بوب مؤسس معهد اسيه لتصحيحه بعض ما كان في الفصول الخاصة بالإسلام من أخطاء، وللدكتور جيرسن كوهين عضو حلقة الدراسات الدينية اليهودية الأمريكية مراجعته الصفحات الخاصة باليهود، ولصديقي هنري كوفمان من رجال لوس إنجليز قراءته الجزء الخاص بالموسيقى ولزوجتي عظيم مساعدتها الدائمة العظيمة وملاحظاتها القيمة عن كل صفحة طوال كدحنا متعاونين في تأليف هذا الكتاب.
وإذا ما تجمل القارئ بالصبر فسنخرج له مجلداً نختتم به هذه السلسلة وهو المجلد السابع الذي سنسميه عصر العقل، وسيظهر هذا المجلد بعد نحو خمس سنوات من هذا الوقت، وسيواصل الحديث عن قصة الحضارة إلى أيام نابليون. فإذا عرفنا من هذا العمل ودعناه وانسحبنا من الميدان شاكرين كل الشكر من حملوا بأيديهم عبء هذه المجلدات وتغاضوا عما لا يُحصى من الأغلاط في هذه المحاولة التي ينبغي بها تحليل الحاضر إلى عناصره التي ينطوي عليها الماضي. ذلك أن الحاضر ليس إلا ماضي مطوياً ينتظر من يبسطه للعمل كما أن الماضي هو الحاضر مبسوطاً لم يريد أن يفهم.
ول ديورانت
لوس أنجليز في 12 مايو سنة 1957(22/4)
كيفية استعمال هذا الكتاب
1 - حذفنا من النص تواريخ مولد الأشخاص ووفاتهم.
2 - الفقرات التي كتبت للقارئ المتعمق لا للقارئ العادي قد كتبت بالخط الصغير.
3 - قد لخصنا في الباب الأول من هذا المجلد بعض الفقرات الواردة في المجلد الخامس الخاص بالنهضة في إيطاليا والتي تبحث في تاريخ الكنيسة قبل الإصلاح.
4 - سنقدر في هذا المجلد قيمة الكرون والليرة والفلورين والدوقية أثناء القرنين الرابع عشر والخامس عشر بخمسة وعشرين دولاراً من نقود الولايات المتحدة في عام 1954 وستقدر قيمة الفرنك والشلن بخمسة دولارات والأيكو بخمسة عشر دولاراً والمارك بـ 66. 67 دولاراً والجنيه الاسترليني بمائة دولار على أن هذه القيم كلها تقريبية تقوم على الحدس والتخمين كما أن ما حدث لهذه النقود من تخفيض مراراً عدة يزيد من جعل هذه القيم معرضة للتفاوت الكثير ونلاحظ هنا أن: الطالب في عام 1390 كان يستطيع أن يعيش في أكسفورد على: شلنين في الأسبوع، وأن جواد جان دارك كان يساوي في عام 1424 ستة عشر فرنكاً، وأن أجر خادمة عند والد ليوناردو دافنتشي في عام 1460 لم يكن يزيد على ثمانية فلورينات في العام.(22/5)
مؤلف الكتاب
ولد ول ديورانت مؤلف هذا الكتاب في تورث ادمز بولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1885 وتلقى تعليمه الأول في مدارس الابروشية الكاثوليكية في تلك الولاية في كرني بولاية النيوجرس ثم انتقل بعدئذ إلى كلية القديس بطرس الحزويتية في مدينة جرسي ثم إلى جامعة كولومبيا بنيويورك واشتغل أثناء صيف عام 1907 مراسلاً لجريدة ولكنه وجد العمل مثيراً لأعصابه فقنع بتدريس اللغات اللاتينية والفرنسية والإنجليزية هي وموضوعات أخرى في كلية سيتون هول بمقاطعة ثوث أورنج بولاية نيوجرس (1907 - 1911) حيث التحق بحلقة الدراسات في عام 1909 ولكنه غادرها في عام 1911 لأسباب ذكرها في كتابه "الانتقال". ثم انتقل من حلقة الدراسات إلى دوائر الرديكالية في نيويورك وعمل مدرساً في مدرسة فرو (1911 - 1913) وكانت هذه تجربة في التفكير الحر في عالم التربية. وفي عام 1912 طاف بأوربا على نفقة الدن فريمان وهو صديق له أخذ على عاتقه أن يساعده على توسيع أفاق تفكيره. وفي عام 1913 عاد إلى الدراسة في جامعة كولومبيا وتخصص في عالم الأحياء يتلقاه على مرجان وكالكنز. وفي الفلسفة على يد دود بريدج وديوي.
ونال درجة دكتور في الفلسفة من هذه الجامعة في عام 1917 ومكث يعلم الفلسفة في تلك الجامعة وفي عام 1914 بدأ يلقي في إحدى الكنائس المسيحية في الشارع رقم 14 والشارع الثاني في نيويورك محاضرات في تاريخ الفلسفة والأدب مهدت له السبيل لكتابة "قصة الفلسفة وقصة الحضارة". ذلك أن معظم مستمعيه كانوا من العمال والنساء الذين يطلبون أن تكون المادة التاريخية الخليقة بالدراسة واضحة كل الوضوح ذات أثر في العصر الذي يعيشون فيه وفي عام 1921 أنشأ مدرسة ليير تمبل التي(22/6)
أصبحت من أكثر التجارب نجاحاً في تعليم الكبار ولكنه غادرها في سنة 1927 ليتفرغ لكتابة قصة الحضارة فطاف بأوربا مرة أخرى في عام 1927 وسافر حول العالم لدراسة أحوال مصر والشرق الأدنى والهند والصين واليابان في عام 1930 طاف حول العالم مرة ثالثة في عام 1932 زار في خلالها بلاد اليابان ومنشوريا وسيبريا والروسيا. وأثمرت هذه الأسفار المجلد الأول من قصة الحضارة وهو تراث الشرق وقضى ديورانت قبل أن يبدأ في تأليف المجلد الثاني من قصة الحضارة وهو حياة اليونان صيفاً طويلاً في بلاد اليونان نفسها زار في خلاله أشهر مراكز الحضارة الهيلينية ودرس آثارها وكان طوافه ببلاد البحر المتوسط عوناً له على كتابة المجلد الثالث "قيصر والمسيح" في عام 1944 وقضى ستة أشهر من عام 1948 في تركيا والعراق وإيران ومصر وأوربا الغربية ليستعد فيها لكتابة المجلد الرابع. عصر الإيمان (1950) ثم عاد إلى إيطاليا في عام 1951 ليعد العدة للمجلد الخامس من قصة الحضارة وهو عصر النهضة (1953) وسافر بعدئذ إلى ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا في عام 1954 لكي يدرس الأماكن المتصلة بالإصلاح الديني وما فيها من آثار استعداداً لكتابة هذا المجلد الخامس. ويرجو الدكتور ديورانت أن يفرغ من تاريخ الحضارة في عام 1962 بعد إصدار المجلد السابع من هذه السلسلة وهو عصر العقل الذي يروي قصة الحضارة إلى أيام نابليون وإلى عام 1800 وسيبلغ عندئذ السابعة والسبعين من عمره ويكون من حقه بعدئذ أن يستريح.(22/7)
الكتاب الأول
من ويكلف إلى لوثر
1300 - 1517(22/9)
الباب الأول
الكنيسة الكاثوليكية الرومانية
1300 - 1517
الفصل الأوَّل
فضل المسيحية
الدين آخر ما تبدأ الأذهان بفهمه. ولربما كنا في أيام شبابنا قد برمنا في تعالٍ وكبرياء بما فيه من أمور محببة وإن لم تقبلها العقول، وفي السنين التي نكون فيها أقل ثقة بما نتلقاه من تعاليمها يأخذنا العجب من بقاء هذا الدين مزهراً في عصر ينصرف الناس فيه إلى العلم وإلى شؤون الدنيا ويدهشنا بعثه من جديد بعد أن تلقى الضربات القاتلة على أيدي أبيقور أو لوكر بشيوس أو لوشيان أو ماكيافلي أو هيوم أو فولتير. ترى ما هو السر الذي من وراء هذه المرونة التي تبعث فيه الحياة من آن إلى آن؟
إن أعقل الناس ليتطلب أن تمتد حياته مائة مرة لكي يستطيع الإجابة عن هذا السؤال إجابة شافية. ولربما كان أول ما يفعل هو أن يدرك بأن ثمة ظواهر لا يحصيها عداً حتى في الأيام التي يبلغ فيها العلم ذروة مجده يخيل إليه أنها تعز على الفهم ولا يستطيع تعليلها بالعلل الطبيعية أو يقدسها أو يعرف نتائجها المحتومة. فأسرار العقل مثلاً لا تزال تخفى على قوانين علم النفس وفي علم الطبيعة نجد أن نظام الكون المدهش لعجيب الذي يجعل العلم ميسراً مستطاعاً قد يعمل هو نفسه على توكيد الإيمان الديني القائل بوجود عقل كوني مدبر لهذا العالم. وإن معارفنا لأشبه بسراب بقيعة كلما اقتربنا منه زاد(22/11)
بعداً عنا. وقل من الناس من إذا سُئل عن أمر قال لا أدري، فإذا واجهته ظاهرة له لا يعرف من قبل حقيقة أمرها عزاها إلى أسباب طبيعية أو خارقة للطبيعة وتصرف بما يتفق مع تعليله هذا أو ذاك، ولست تجد إلا قلة ضئيلة من العقول تستطيع أن تتريث في حكمها إذا وقفت أمام الشواهد المتناقضة، أما الكثرة الغالبة من بني الإنسان فتحس بأن لا بد لها أن تعزو ما ترى من الموجودات أو الحادثات إلى كائنات علوية لا تتقيد بالقوانين الطبيعية، ولقد كانت الأديان (الأولى) هي عبادة خوارق الطبيعة من الكائنات-باسترضائها، والتوسل إليها، أو تمجيدها. وما أكثر من يضجرون من الحياة ويألمون منها، فيطلبون العون من الكائنات الخارقة للطبيعة إذا لم يجدوا هذا العون في القوى الطبيعية، فتراهم يعتنقون وهم شاكرون مغتبطون أدياناً تبعث في حياتهم الكرامة والأمل، وتضفي على العالم نظاماً ومعنى لا وجود لهما بغير هذه الأديان، وإن من الصعب على نفوسهم أن تغض الطرف صابرة عما في الطبيعة من قسوة ووحشية تصيب الناس خبط عشواء، وما يحدث في تاريخ العالم من منازعات ومن إراقة للدماء، وما يصيبهم هم أنفسهم من محن وبلايا وحرمان إذا لم يؤمنوا بأن هذه كلها جزء من خطة إلهية مرسومة يعز عليهم فهمها وإدراك سرها. إن العالم إذا لم يكن له سبب أو مصير يعرف حقاً أشبه بسجن للعقول، فنحن نتوق إلى الاعتقاد بأن للمسرحية الكبرى منشئاً عادلاً وغاية سامية.
هذا إلى أننا نحرص على البقاء، ويصعب علينا أن نعتقد أن الطبيعة قد كدت وأجهدت نفسها حتى أوجدت الإنسان، والعقل، والحب والإخلاص لا لشيء إلا لتلقي بها ظهرياً متى نضجت وكما نماؤها. والعلم يهب الإنسان في كل يوم مزيداً من القدرة، ولكنه ينقص من شأنه على مر الأيام، فهو يرقى بآلاته وأدواته ولكنه لا يعنى بأهدافه وأغراضه، ولا يكشف له عن الأصول والقيم والأهداف النهائية، ولا يضفي على الحياة(22/12)
والتاريخ معنى أو قيمة لا يقضي عليها الموت أو الزمن المهلك المبيد لكل شيء. ومن أجل هذا أجل هذا يؤثر الناس العقيدة غير القائمة على العقل والبحث الصحيح على الإحجام والتوكل العقلي، ذلك أنهم يملون التفكير المحير، والحكم غير القاطع، فيرحبون بقيادة دين ذي سلطان على نفوسهم، وبأن يتطهروا من الخطايا بالاعتراف بذنوبهم، وبالإيمان بدين ثابت قديم. وهم حين يستحون من الإخفاق، ويثكلون من يحبون، وتظلم نفوسهم لما اقترفوا من ذنوب، ويرهبون الموت يحسون بأنهم إذا لقوا العون من الله تطهروا من الذنب والجريمة، وفارقهم الرعب، واطمأنوا وامتلأت قلوبهم بالأمل، وسموا إلى أسمى المنازل وكان مآلهم الخلود.
والدين في أثناء هذا يهب المجتمع والدولة هبات مستورة تسري في جميع أجزائهما، فطقوسه يهدئ النفس وتوثق الرابطة بين الأجيال، فالكنيسة الابرشية تصبح بمثابة بيت عام تؤلف من الأفراد جماعة، وترفع الكتدرائية ر أسها تعلن في فخر وازدهاء أنها من عمل البلدة موحدة، وتزدان الحياة بالفنون المقدسة وتصب الموسيقى الدينية نغماتها المهدئة في نفس الفرد والجماعة. ويعرض الدين رضاءه وتأييده السماوي للقانون الأخلاقي الذي تنفر منه فطرتنا ولكنه مع ذلك لا غنى عنه للحضارة. ويعرض على عقول البشر ربا سمعياً وبصرياً ويهددهم بالعقاب السرمدي ويعدهم بالنعيم الدائم ويصدر إليهم أوامر ليست من سلطة بشرية مزعزعة بل صادرة عن قوة إلهية لا سبيل إلى عصيانها وإذا كانت غرائزنا قد تكونت خلال ألف قرن من الزمان وكان الأمن فيها مزعزعاً مضطرباً يطارد فيها الإنسان الحيوان ويطارده، فإنها قد جعلتنا صائدين أشداء وديننا العنف وطبيعتنا تعدد الأزواج بدل أن تجعلنا مواطنين مسالمين. وإذا كان ذلك العنف القديم الذي استلزمته حياتنا الأولى يزيد على ما تحتاجه حياتنا الاجتماعية فإن غرائزنا يجب أن تُفرض عليها مئات من القيود كل يوم على علم منا أو غير علم(22/13)
حتى يمكن قيام المجتمع والحضارة. ولهذا استعانت الأسر والدول قبل التاريخ بأجيال طوال بقوة الدين لكي تخفف من غرائز الإنسان الهمجية ووجد الآباء في الدين عوناً لهم على كبح جماح أبنائهم المعاندين وإبعادهم عن الشطط وتعويدهم ضبط النفس، واستعان المربون بالدين فكان لهم وسيلة ذات أثر عظيم في تهذيب الشباب وتعويده النظام والرقة واتخذته الحكومات من أقدم الأزمنة عوناً لها على إقامة صرح النظام الاجتماعي وتخليصه من الأنانية المقطعة لأوصال المجتمع مما طبع عليه الناس من فوضى. ولو أن الدين لم يوجد لابتدعه كبار المشترعين أمثال حمورابي وموسى وليقورج ونزما بمبليوس. لكنهم لم يكونوا في حاجة إلى ابتداعه لأنه ينشأ من تلقاء نفسه ويتجدد للوفاء بحاجات الناس وآمالهم.
وقد ظل الدين المسيحي خلال ألف عام من عهد قسطنطين إلى عهد دانتي يهب الأفراد والدول ما ينطوي عليه من مزايا ويقدمها لهم هبة خالصة، وكان هو نفسه في هذه الأعوام ينمو ويتكون، فجعل من صورة المسيح الفضائل مجسمة يغري بها الهمجية على اصطناع الحضارة وأوجد عقيدة جعلت حياة كل إنسان جزءاً من مسرحية عالمية سامية وأن تكون متواضعة، وأنشأت علاقة قوية ذات خطة بين الإنسان وبين الإله خالقه الذي تحدث إليه في كتبه المنزلية ووضع فيها قانوناً أخلاقياً وجعل الكنيسة مستقراً لتعاليمه وممثلة لسلطانه على هذه الأرض. وأخذت هذه المسرحية الفخمة تنموا عاماً بعد عام، وأخذ القديسون والشهداء يضحون بحياتهم في سبيل عقيدتهم ويضربون بذلك الأمثال لمن يأتي بعدهم من المؤمنين ويورثونهم فضائلهم، وأنشأ الفانون مئات الصور ومئات الآلاف من التحف الفنية يفسرون بها هذه المسرحية ويظهرونها بوضوح لعقول الناس حتى الساذجة منها غير المتعلمة فأضحت مريم العذراء أم المسيح "أينع زهرة في الشعر كله". وكانت هي نموذج الرقة النسوية التي تنسج النساء على منوالها وحنان(22/14)
الأمومة توجه إليها أرق الترانيم وأعظمها خشوعاً وإخلاصاً، وهي التي أوحت بالصروح الفخمة والتماثيل الرائعة والصور الجميلة والشعر العذب والموسيقى الحلوة وهي التي بعثت المراكب ذات الروعة التي تقوم كل يوم حول ملايين من مذابح الكنائس ومن أجلها يقوم القداس بطقوسه الغامضة الرهيبة التي تسموا بالنفس وترفعها إلى السموات العلى. والاعتراف والتوبة يطهران نفس المذنب التائب الخاشع والصلاة تطمئنه وتقويه والعشاء الرباني تقربه من المسيح قرباناً يبعث في نفسه الرهبة والقداس الأخير يطهره ويعده لدخول الجنة وقلما أخرج دين في رسالته للإنسانية مثل هذه الروعة الفنية.
ولقد كانت الكنيسة من أجمل صورها حين حلت بعقائدها المواسية وطقوسها الساحرة ومبادئ أتباعها الخلقية النبيلة وشجاعة اساقفتها وغيرتهم واستقامتهم، وعدالة محاكم اسقفياتها وطهارتها، حين حلت بهذه كلها في المكان الذي تخلت عنه، حكومة الإمبراطورية فكانت هي الحارس الأكبر للعالم المسيحي للنظام والسلم في العصور المظلمة (حوالي 524 - 1079م). وأوربا مدينة ببعث الحضارة في الغرب بعد أن أغار البرابرة على إيطاليا وغالة وبريطانيا وأسبانيا إلى الكنيسة أكثر مما هي مدينة بها إلى أية هيئة أخرى مهما كان من شأنها. فقد كان رهبانها هم الذين أصلحوا الأرض البور وكانت الأديرة هي التي تقدم الطعام للفقراء والتعليم للصبيان والمأوى للمسافرين، وكانت مستشفياتها هي التي تعنى بالمرضى والمعوزين. وكانت أديرة النساء هي التي تلجأ إليها الأرامل ومن لا أزواج لهن فتوجه فيهن عواطف الأمومة إلى أغراض اجتماعية سامية ولقد ظلت الراهبات عدة قرون يتعهدن وحدهن بتربية البنات. وإذا كانت الثقافة القديمة لم يطغ عليها ويمح معالمها تيار الجهل والأمية، فما ذلك إلا لأن الرهبان قد نسخوا آلاف المخطوطات واحتفظوا بها وحافظوا على حياة اللغتين(22/15)
اليونانية واللاتينية اللتين كتبت بهما وإن كانوا قد تركوا كثيراً من المخطوطات الوثنية تبيد على مر الزمان فقد كانت دور الكتب الكنسية في سانت جول، وفولدا ومونتي كسينو وغيرها هي التي وجد فيها الكتاب الإنسانيون في عصر النهضة الآثار القديمة الثمينة للحضارة الرائعة التي لم تسمع قط باسم المسيح. ولقد ظلت الكنيسة ألف عام من أيام امبروز إلى ولزي تدرب في غرب أوربا المعلمين والعلماء والقضاة ورجال السياسة ووزراء الدولة، وكانت الكنيسة في العصور الوسطى هي عماد الدولة وسندها. ولما انقضى عهد العصور المظلمة-ولنفترض أن ذلك كان عند مولد ابلار-كانت الكنيسة هي التي أنشأت الجامعات وشيدت الكتدرائيات القوطية فأوجدت بذلك بيوتاً لعقول الناس وتواهم، وبفضل حمايتها ورعايتها جدد الفلاسفة المدرسون ما حاولوه قديماً من تفسير غوامض الحياة البشرية ومآل العقل الإنساني. ولقد ظل الفن الأوربي كله تقريباً طوال تسعة قرون يتلقى الإلهام والمال من الكنيسة، وحتى عندما تلون الفن باللون الوثني ظل بأبواب النهضة يناصرونه ويولونه الرعاية فكانت الموسيقى في أسمى صورها ابنة الكنيسة.
وأكثر من هذا كله أن الكنيسة في عنفوان مجدها هي التي أمدت دول أوربا بالقانون الأخلاقي العام الذي كان متبعاً فيها كلها كما أمدتها بنظام حكمها. وكما أن اللغة اللاتينية التي تعلمها الكنيسة في الكنائس كانت هي الأداة التي وجدت أساليب التعليم والأدب والعلم والفلسفة في الأمم المختلفة، وكما أن طقوس المذهب الكاثوليكي-أي العالمي-وعقيدته هي التي وهبت أوربا الوحدة الدينية قبل أن تنقسم إلى قوميات مستقلة ذات سيادة، فإن الكنيسة الرومانية التي تعزو نشأتها وزعامتها الروحية إلى الله سبحانه وتعالى قد طلبت أن تكون هي محكمة دولية تحاسب جميع الحكام والدول من الناحية الأخلاقية. وقد صاغ البابا جريجوري السابع مبدأ الجمهورية المسيحية الأوربية هذا الصياغة القانونية واعترف به الإمبراطور هنري الرابع حين(22/16)
خضع لجريجوري في كانوسا (سنة 1077)، وبعد قرن من ذلك الوقت أذل إمبراطور أعظم منه قوة هو فردريك بربروسيا نفسه أمام بابا أضعف من جريجوري هو إسكندر الثالث بعد عناد طويل ومقاومة لم تجده نفعاً، وفي عام 1098 رفع البابا إنوسنت الثالث سلطان البابوية ومقامها إلى درجة بدا معها أن المثل الأعلى الذي كان يطمح فيه جريجوري وهو أن تكون الكنيسة صاحبة السلطان الأعلى على الدول من الناحية الخلقية-بدا أن هذا المثل قد تحقق إلى حين.
لكن هذا الحلم اللذيذ قد تحطم على صخرة الطبيعة البشرية. ذلك أن المشرفين على السلطة القضائية البابوية قد أثبتوا أنهم من طينة البشر وأنهم متحيزون جشعون بل نهمون يبتزون الأموال، وأن الملوك والشعوب كانوا أيضاً بشراً مثلهم يرفضون الخضوع لسلطة أمتهم. وبعثت الثورة فرنسا المضطردة النماء في قلوب بنيها الكبرياء والحرص على السيادة القومية، فقام فليب الرابع يتحدى سلطان البابا بوني فاس الثامن على أملاك الكنيسة وكلل هذا التحدي بالنجاح، وزج مندوبو الملك بالبابا الكبير السن في السجن في اتبان حيث قضى ثلاثة أيام لم يلبث بعدها أن وافته المنية (1303). وهنا وفي تلك الساعة بدأ الإصلاح الديني من إحدى نواحيه الأساسية-وهي خروج الحكام المدنيين على سلطان البابوات.(22/17)
الفصل الثاني
الكنيسة في الحضيض
1307 - 1417
كانت الكنيسة في القرن الرابع عشر تعاني الذل السياسي والانهيار الخلقي. لقد بدأ أول عهدها يحدوها الإخلاص العميق والولاء الذي اتصف به بطرس وبولس ثم نمت وأصبحت نظاماً جليلاً يعمل على تهذيب الأسرة والمدرسة والمجتمع والعالم بأسره وينشر حسن النظام وكريم الأخلاق. أما الآن فقد أخذت تنحط حتى لم يعد لها هم إلا المحافظة على مصالحها المكتسبة وكل ما تعنى به هو المحافظة على بقائها وأموالها. وقد استطاع فليب الرابع أن يعمل على اختيار رجل فرنسي للبابوية، وأقنعه بأن ينقل الكرسي البابوي إلى مدينة أثنيون على نهر الرون. وظل البابوات بعدئذ ثمانية وستين عاماً بيادق وسجناء في أيدي فرنسا وسرعان ما أخذ الاحترام الذي كانوا يلقونه من تلك الأمم ينقص تدريجاً، كما أخذت مواردهم ينضب معينها. وشرع البابوات من ضيقهم يملأون خزاناتهم بالمال يحصلون عليه بفرض الضرائب التي لا عداد لها على رجال الدين وعلى الأديرة والأبرشيات. وكانوا يطلبون إلى كل رجل يعينونه في مناصب الكنيسة الإدارية نصف ما يحصل عليه من منصبه في العام الأول ثم عشر ما يحصل عليه منه في الأعوام التالية. وكان على كل كبير أساقفة أن يؤدي إلى البابا مبلغاً كبيراً من المال نظير الطيلسان وهو شريط من الصوف الأبيض يلبسه كبير الأساقفة ويعد رمزاً لسلطانه وتوكيداً له. وإذا مات كردنال أو كبير أساقفة أو أسقف أو رئيس دير عادت أملاكه إلى البابوية، وفي خلال الفترة الواقعة بين موت أحد رجال الدين وتعيين خلفه كان البابوات يستولون على إيراد منصبه، وكانوا(22/18)
يهتمون بإطالة هذه الفترة عامدين حتى ينالوا من المال أكثر ما يستطيعون. وكان كل حكم يصدره مكتب البابوية الإداري (الكيوريا) أو كل نفع يسديه ينتظر أن يؤدي إليه عطية قيمة اعترافاً من صاحبه بما نال من نفع، وكان الحكم في بعض الأحيان يتوقف على قيمة العطية.
على أن كثيراً من هذه الضرائب البابوية لم يكن إلا وسيلة مشروعة تحصل بها على المال، والإدارة المركزية للكنيسة التي كان لها على المجتمع الأوربي سلطان أدبي أخذ يتناقص على مدى الأيام. غير أن بعض هذا المال كان يذهب ليتخم بطون رجال الدين، بل إن منه ما كان يذهب إلى جيوب الحظايا اللاتي كانت تزدحم بهن حجرات بيوت الباباوات في افنيون. وليس أدل على ذلك من هذه الرسالة التي قدمها وليام ديوراند أسقف مند إلى مجلس فينا (1311) وقد جاء فيها:
يستطاع إصلاح الكنيسة كلها إذا ما بدأت كنيسة روما بالإقلاع عن المثل السيئة التي تضربها بنفسها لغيرها من الكنائس. وهي التي تسيء إلى سمعة الناس وتكون بمثابة الوباء الذي تسري عدواه إلى جميع الناس ... ذلك أن كنيسة روما قد ساءت سمعتها في جميع الأقطار حتى أصبح الناس يعلنون في خارج روما أن جميع من تضمهم من رجال من أكبرهم مقاماً إلى أصغرهم شأناً قد امتلأت قلوبهم بالطمع والجشع ... وأن رجال الدين يضربون لجميع الشعب المسيحي أسوأ المثل في النهم، وهذا واضح لا خفاء فيه معروف في جميع الأقطار لأن رجال الدين أكثر انغماساً في الترف ... من لأمراء والملوك.
وقد رفع الأسقف الأسباني الفارو بلايو عقيرته بقوله: "إن الذئاب تسيطر على الكنيسة وتمتص دماء الشعب المسيحي". وقد ذكر إدورد الثالث ملك إنجلترا، وهو الخبير المتفنن في فرض الضرائب، كلمنت السادس بأن "خليفة الحواريين قد وكل بأن يقود غنم الرب إلى المرعى لا بأن يجز(22/19)
صوفها". وفي ألمانيا كان جباة الضرائب يُطارَدون، ويُسجَنون، وتُقطع أطرافهم، ويُخنَقون. وفي عام 1372 أقسم رجال الدين في كولون وبون، واكسانتن ومانز ألا يدفعوا مال الصدقات الذي فرضه عليهم جريجوري الحادي عشر.
على أن البابوات ظلوا رغم هذا التمرد والعصيان يؤكدون سلطانهم الاستبدادي على ملوك الأرض، وحدث حوالي عام 1324 أن كتب اجستينو ترينفو المشمول برعاية يوحنا الثاني بعد العشرين رسالة في الدفاع عن رجال الدين رداً على الهجمات التي وجهها إلى البابوية مرسليوس من أهل بدوا ووليم أوكام. ويقول أجرستينو في هذه الرسالة إن سلطان البابا من سلطان الله وهو نائبه في الأرض، وإن طاعته واجبة وإن أثم أشد الإثم، ومن حق مجلس الكنيسة العام ا، ينزله عن عرشه إذا ثبت كفره وإلحاده، فإذا لم يرتكب هذا فمهما يكن ذنبه فإن سلطانه لا يعلوا عليه إلا سلطان الله وحده وهو أعلى من سلطان جميع ملوك الأرض. ومن حقه أن يخلع الملوك والأباطرة إذا شاء وإن عارض في ذلك رعاياهم أو منتخبوهم، ومن حقه أن يلغي قرارات الحكام الدنيويين وأن لا يعبأ بدساتير الدول. وكل ما يصدره الأمراء من قرارات تظل غير ذات أثر إلا إذا وافق البابا عليها. والبابا أعلى مقاماً من الملائكة وهو خليق بأن يعظم كما تعظم العذراء ويعظم القديسون. وقد ارتضى البابا يوحنا كل هذا لأنه في رأيه النتيجة المنطقية لما يعتقده الناس كافة من أن الكنيسة قد أنشأها ابن الله، وعمل بهذا المبدأ بإصرار لا يتحول عنه أبداً.
على أن فرار البابوات من رومة وخضوعهم لفرنسا قد قوض سلطانهم وحط منزلتهم، وكأنما أراد بابوات افنيون أن يعلنوا على الملأ خضوعهم لسلطان فرنسا فاختاروا من بين 124 كردنالاً 113 فرنسياً.
واستشاطت الحكومة الإنجليزية غضباً من كثرة القروض التي منحها(22/20)
البابوات ملوك فرنسا أثناء حرب مائة العام، ومن أجل ذلك تغاضت عن مطاعن ويكلف على البابوية؟ ورفض المنتخبون الألمان الذين كانوا يختارون الإمبراطور أي تدخل من جانب البابوات في المستقبل في اختيار الملوك والأباطرة. وفي عام 1372 اتفق رؤساء الأديرة في كوموني وأعلنوا على الملأ أن "الكرسي الرسولي قد انحط إلى درجة من الاحتقار تجعل المذهب الكاثوليكي يبدو معرضاً لأشد الأخطار". وفي إيطاليا استولى على الولايات البابوية-لايتوم رامبريا، وولايات الحدود، ورومانيا-رؤساء جند مغامرون يظهرون الطاعة بالاسم للبابوات ولكنهم يحتفظون لأنفسهم بإيراد هذه الولايات كله. ولما بعث أريان الخامس مندوبين من قبله إلى ميلان ليعلنوا الفيسكنتي بقرار الحرمان، اضطرهما برنابو أن يأكلا هذا القرار-بما فيه من ورق وخيوط من الحرير وأختام من الرصاص (1362). وعمدت فلورنس في عام 1376 حين قام النزاع بينها وبين البابا جريجوري الحادي عشر إلى مصادرة كل ما للكنيسة من أملاك في أراضيها، وأغفلت محاكم الابروشيات وهدمت أبنية محاكم التفتيش وزجت من قاومها من القساوسة في السجن أو قتلهم شنقاً، وأهابت بإيطاليا أن تضع حداً لكل سلطان الكنيسة الزمني.
واتضح من ذلك الوقت أن بابوات افنيون أخذوا يخسرون أوربا كلها مقابل خضوعهم لفرنسا وإخلاصهم لها. فلما كان عام 1377 أعاد جريجوري الحادي عشر البابوية إلى روما.
ولما مات جريجوري في عام 1378 اختار مجمع الكرادلة وكانت أغلبيته الساحقة من الفرنسيين ولكنه كان يخشى غضبه عامة روما-0اختار بابا إيطاليا هو اربان السادس وتبين أن اربان اسم على غير مسمى (1)؟ فقد كان حاد الطبع عنيفاً في تصرفاته مصراً على الإصلاحات التي لا يرتضيها
_________
(1) معنى كلمة اربان هو المتحضر أو المهذب.(22/21)
رجال الكنيسة، وبلغ هذا الإصرار حداً أعلن معه الكرادلة الذين عادوا إلى الاجتماع أن اختياره لكرسي البابوية لم يكن قانونياً لأنه تم تحت الضغط والإرهاب، ونادوا بربرت من أهل جنيف بابا. وتولى ربرت منصب البابوية وتسمى باسم كلمنت السابع واتخذ افينيون مقراً له ولكن اربان أصر من جهته على أنه البابا وجعل مقره مدينة روما. وكان الذي مهد السبيل إلى الانقسام البابوي (من 1378 - 1417) الذي بدأ على هذا النحو، والذي مهد السبيل لكثير من القوى هيأت العقول للإصلاح الديني وهو قيام الدولة القومية، فقد كان هذا الانقسام في واقع الأمر محاولة تبغي بها فرنسا أن تحتفظ بالمعونة الأدبية والمالية التي تمهدها بها البابوية في حربها ضد إنجلترا. وحذا حذو فرنسا في هذا نابلي وأسبانيا واسكتلندة. ولكن إنجلترا، وفلاندروز، وألمانيا، وبولندا، وبوهيميا، وبلاد المجر، وإيطاليا، والبرتغال اعترفت باربان، وأضحت الكنيسة المنقسمة على نفسها سلاحاً في أيدي المعسكرين المتنازعين وضحية لهما. ونادى نصف العالم المسيحي بأن النصف الآخر ملحد كافر مجدف في حق الله، محروم من حظيرة الدين. وادعى كل جانب أن المراسم الدينية التي يقوم بها القساوسة الجانب الآخر المعارض له لا نفع فيها ولا قيمة لها، وأن الأطفال الذين يعمدهم هذا الجانب أو ذاك، والتوبة التي تتم على أيديهم، والموتى الذين يفضون إليهم باعترافاتهم، كل هؤلاء يبقون مذنبين، مآلهم الجحيم-أو المطهر على أقل تقدير. وكان الإسلام الآخذ وقتئذ في الانتشار يسر من هذا الانحلال الذي يدب في جسم العالم المسيحي.
ولم يخف هذا العداء بموت اربان (1389). ذلك أن الكرادلة الأربعة عشر الذين يؤلفون معسكره اختاروا بنيفاس التاسع خلفاً له ثم اختاروا من بعده انوسنت السابع ثم جريجوري الثاني عشر، وأطالت الأمم المنقسمة انقسام البابوية. ولما توفي كامنت السابع (1394)(22/22)
رشح كرادلة افنيون أحد الأساقفة الأسبان لكرسي البابوية فجلس عليه باسم بندكت الثالث عشر. وعرض هذا البابا أن يستقيل من منصبه إذا حذا جريجوري حذوه، ولكن أقارب جريجوري الذين حلوا في مناصبهم الدينية، أصموا آذانهم عن هذا الطلب. وتخلى بعض كرادلة جريجوري عنه ودعوا إلى انعقاد مجلس عام من رجال الدين. وألح ملك فرنسا على بندكت أن ينسحب، ولكن بندكت أبى أن يصغي إلى إلحاحه، فما كان من فرنسا إلا أن أعلنت خروجها عن طاعته ووقفت من النزاع موقف الحياد. فلما فر بندكت إلى أسبانيا انضم كرادلته إلى زملائهم الذين تخلوا من قبل عن جريجوري، وأصدروا مجتمعين دعوة إلى مجلس يجتمع في بيزا ليختار بابا يرتضيه الجميع.
وكان الفلاسفة المتمردون قبل ذلك الوقت بقرن أو نحوه قد وضعوا الأسس النظرية "لحركة المجالس". فقد كان وليم أوكهام يعارض الفكرة القائلة أن الكنيسة هي رجال الدين، ويقول أن الكنيسة هي جماعة المؤمنين، وأن الكل هو صاحب السلطان الأعلى على كل جزء من أجزائه، وأن من حق هذا الكل أن يعهد بسلطانه إلى مجلس أعلى مؤلف من جميع أساقفة الكنيسة ورؤساء أديرتها، وأن من حق المجلس المؤلف على هذا النحو أن يختار البابا ويجزه، ويعاقبه، ويخلعه. كذلك قال مرسليوس من أهل البدو أن المجلس العام يمثل حكمة العالم المسيحي مجتمعاً فكيف يحق إذن لرجل واحد أياً كان شأنه أن يضع عقله في منزلة أعلى من عقل العالم المسيحي كله؟ وكان يرى أن هذا المجلس يجب ألا يؤلف من رجال الدين وحدهم بل يجب أن ينضم إليهم من غير رجال الدين من يختارهم الشعب. وطبق هينزيخ فن لانجنشتاين أحد رجال اللاهوت الألماني جامعة باريس، (1381) هذه الأفكار على الانقسام البابوي وقال أنه مهما يكن ما يدعيه البابوات لأنفسهم من سلطان أعلى، فقد حدثت في الموقف أزمة لا يجد المنطق(22/23)
وسيلة إلى الخروج منها سوى سبيل واحد. ولا يستطيع إنقاذ الكنيسة من الفوضى التي تقوض دعائمها إلا سلطة خارجة عن البابوية تفوق سلطة الكرادلة، ولا يمكن أن تكون هذه السلطة إلا سلطة مجلس عام.
واجتمع مجلس بيزا في 25 مارس 1409، ودعي بندكت وجريجوري إلى المثول أمامه فلما تجاهلا هذه الدعوة أعلن خلعها واختار بابا جديداً هو إسكندر الخامس وأمره أن يدعو مجلساً آخر إلى الانعقاد قبل أن يحل شهر مايو سنة 1412 ثم أجل جلساته. وبذلك وجد ثلاثة بابوات بعد أن لم يكن منهما إلا اثنان. ولم يخفف موت الإسكندر (1410) من حدة النزاع، لأن كرادلته اختاروا خليفة له يوحنا الثالث والعشرين. ولم يكن في البابوات بعد سميه الثاني والعشرين من هو أكثر منه عناداً وصلابة رأي. وكان هذا الزعيم المغمر وهو يحكم بولونيا نائباً عن البابا باسم بلد ساري كوسا حكم زعماء العصابات المغامرين يفرض الضرائب على كل شيء في الولاية ويجيز لغيره من رجال الحكم فرضها. كان يفرضها على العاهرات والمغامرين والمرابين، ويقول أمين سره أنه أغوى مائتي عذراء، وزوجة، وأرملة وراهبة.
ولكنه كان ذا مال وكان له جيش، ولعله كان يستطيع انتزاع الولايات البابوية من يدي جريجوري فيضطره بذلك إلى النزول عن عرشهِ بعد إفلاسهِ.
وأرجأ يوحنا الثالث والعشرون دعوة المجلس الذي أمر بانعقاد مجلس بيزا أطول ما يستطيع، ولما افتتحه في مدينة كنستانس في الخامس من نوفمبر عام 1414 لم يحضره إلا عدد قليل ممن دعوا إليه من البطارقة الثلاثة، والكرادلة التسع والعشرين، ورؤساء الأساقفة الثلاث والثلاثين، والأساقفة الخمسين، وعلماء اللاهوت الثلثمائة ومندوبي الجامعات الأربعين، والأمراء الست والعشرين، والنبلاء المائة والأربعين والقساوسة الأربعة الآلاف. ولو أن هؤلاء جميعاً قد حضروا لكان هذا المجلس أكبر مجلس في تاريخ(22/24)
المسيحية وأهم ما عقد من مجالسها منذ مجلس نيقية (325) الذي أقر عقيدة التثليث في الدين المسيحي، وأصدر المجتمعون في السادس من أبريل عام 1415 قراراً ثورياً يدل على الزهو والكبرياء جاء فيه:
إن هذا المجمع المقدس المنعقد في كنستانس، بوصفهِ مجلساً عاماً، مجتمعاً قانونياً يرفرف عليه الروح القدس كي يحمد الله ويقضي على الانقسام القائم في الكنسية ويعمل على جمع شملها وإصلاح شأنها في رؤسائها وأعضائها .. يأمر، ويعلن، ويقرر ما يأتي: أولاً. يعلن أن هذا المجمع المقدس .. يمثل الكنيسة المجاهدة، ويستمد سلطانه من المسيح مباشرة، ومن ثم يجب على كل إنسان مهما كانت مرتبته ومنزلته بما في ذلك البابا نفسه أن يطيع هذا المجلس في كل ما له مساس بالدين كي يقضي على هذا الانقسام القائم وتصلح الكنيسة إصلاحاً عاماً في رأسها وأعضائها. وهو يعلن كذلك أن كل إنسان ... بما في ذلك الباب أيضاً يأبى أن يطيع أوامر هذا المجلس المقدس وقوانينه وقرراته .... التي تهدف إلى القضاء على الانقسام أو إلى إصلاح الكنيسة، يعرض نفسه لطائلة العقاب الذي يتناسب مع جرمه ... وسيلجأ المجلس، إذا لزم الأمر إلى غير ذلك من أساليب العدالة (11).
وطالب المجلس بخلع جريجوري الثاني عشر وبندكت الثالث عشر ويوحنا الثالث والعشرين. ولم يتلق من يوحنا جواباً على طلبه فقبل ما عرض عليه من التهم الأربع والخمسين التي تتهم يوحنا هذا بأنه كافر مستند، كاذب، متجر بالمقدسات والمناصب الدينية، خائن، شهواني، لص، وامتنع المجلس عن قبول ست عشرة تهمة أخرى رآها أقسى مما يليق (12) فلما كان اليوم التاسع بعد العشرين من شهر مايو سنة 1415 قرر خلعه-أما جريجوي فكان أكثر منه مرونة ودهاء، فقد وافق على أن يعتزل منصبه لكنه اشترط لذلك أن يسمح له بأن يدعو أولاً المجلس إلى الانعقاد(22/25)
التالي بما له من حق في هذه الدعوة. فلما عاد المجلس إلى الانعقاد على هذا النحو قبل استقالته (4 يولية). وأراد أن يثبت تمسكه بالدين وبسلطانه الشرعي فأمر بإحراق المصلح البوهيمي جون هوس (6 يولية). وفي اليوم السادس والعشرين من هذا الشهر أعلن خلع بندكت الثالث عشر، فذهب هذا البابا المخلوع إلى بانسية حيث توفي في سن التسعين وهو لا يزال يدعى أنه هو البابا-وفي السابع عشر من نوفمبر عام 1417 اختارت لجنة الناخبين الكردنال اتوني كولنا بابا وتسمى باسم مارتن الخامس. واعترفت المسيحية كلها بهذا البابا الجديد وبذلك انتهى الصدع البابوي.
غير أن انتصار المجلس في هذه الناحية قد أعجزه عن تحقيق غرضه الآخر ونعني به إصلاح الكنيسة. ذلك أن مارتن الخامس لم يكد يجلس على الكرسي البابوي حتى استحوذ من فوره على جميع ما كان للبابوية من حقوق وسلطات مختلفة، فأخذ يغري كل جماعة من المندوبين من كل دولة بغيرها من الجماعات وأقنعها بقبول أقل قدر من الإصلاح الغامض القليل الأذى وخضع المجلس له لأنه كان قد سئم ومل العمل فلما كان اليوم الثاني والعشرين من أبريل 1418 أعلن انفضاض جلساته.
الفصل الثالث
البابوية المنتصرة
1417 - 1513
نظم مارتن الإدارة البابوية تنظيماً يمكنها من أداء عملها خير أداء، ولكنه لم يجد سبيلاً للحصول على حاجتها من المال إلا بإتباع أساليب الحكومات الدنيوية القائمة في ذلك العهد وببيع المناصب والخدمات. وإذا كان في وسع الكنيسة أن تبقى مائة عام من غير إصلاح، وإن كان يصعب عليها أن تبقى أسبوعاً واحداً من غير مال، فقد استقر رأيه على أنها أشد حاجة إلى المال منها إلى الإصلاح. وكانت نتيجة هذا ان بعث مندوب ألماني في روما(22/26)
في عام 1430 أي قبل موت مارتن بعام واجحد، إلى أميره رسالة تكاد تضرب على نغمة الإصلاح الديني وتندر به قال:
إن الشره يسود دوائر الحكومة في روما، وهي تبتدع في كل يوم أساليب جديدة .. لابتزاز المال من ألمانيا ... وهذا هو منشأ ما نراه من الضجيج والأحقاد الكثيرة .. ومن أجل هذا ستثار أسئلة كثيرة عن احوال البابوية، والافسينبذ الناس آخر الأمر طاعتها لكي ينجوا من هذا الابتزاز المرهق الذي يعمد إليه الإيطاليون، وأنا أرى أن هذا المسلك الأخير هو الذي سترتضيه معظم البلدان.
وخلف مارتن على كرسي البابوية راهب فرارنشسكاني صالح تقي غير أهل لتصريف الأمور فوجد أمامه المشاكل التي تجمعت حول الكرسي الرسولي. لقد كان على البابوية أن تحكم ولايات دنيوية وأن تحكم الكنيسة الدينية، وكان على البابوات أن يكونوا رجال سياسة ملمين بشؤون الدنيا ولم يكونوا قديسين فحسب. ولسنا ننكر أن يوجينوس الرابع كان يستطيع أن يكن قديساً لو أن متاعبه لم تملأ قلبه حقداً. فقد حدث في السنة الأولى من ولايته أن عاد مجلس بازل فأكد من جديد سيادة المجلس العامة على البابوات واستحوذ على ما كان من وظائف تمارسها من عهد طويل فنقلها إليه واحد بعد واحدة. من ذلك أنه أخذ يصدر صكوك الغفران ويعين من يشغلون المناصب العامة ويطلب أن ترسل بواكير المرتبات الدينية إلى المجلس لا إلى البابا. فما كان من يوجينوس إلا أن أمر المجلس بالانفضاض، فرد عليه المجلس بأن خلعه وعين أماديوس الثامن دوق سافوي بابا معارضاً باسم فلكس الخامس (1439). وهكذا تجدد الانقسام البابوي.
وأراد شارل السابع ملك فرنسا أن يتم ما خيل إليه أنه هزيمة للبابوية فدعا إلى الانعقاد جمعية مؤلفة من الأساقفة الفرنسيين والنبلاء والمحامين(22/27)
أعلنت أت للمجالس العامة السلطة العليا وأصدرت قرار بورج التنظيمي (1438) الذي ينص على أن الوظائف الدينية ستشغل من ذلك الوقت بمن يختاره لها رجال الدين المحليون، على أنه يجوز للملك أن "يوصي" في ذلك بما يراه، وأن يحرم رفع الاستئناف إلى المحكمة البابوية إلا إذا استنفذت جميع الطرق القضائية في فرنسا نفسها، ولا ترسل بعدئذ بواكير مرتبات الوظائف الدينية إلى البابا. وكان معنى هذا في الواقع أن القرار التنظيمي قد أنشأ كنيسة فرنسية مستقلة وجعل ملك فرنسا رئيس هذه الكنيسة. وبعد عام من ذلك الوقت اتخذت جمعية منيز قرارات تهدف إلى إقامة كنيسة قومية في ألمانيا شبيهة بالكنيسة الفرنسية. وكانت بوهيميا قد انفصلت من قبل عن البابوية ولاح أن الكنيسة الرومانية توشك أن تنهار.
وأنقذ الأتراك يوجينيوس من هذا الموقف الحرج. ذلك أنه لما قرب العثمانيون من القسطنطينية قررت الحكومة البيزنطية أن عاصمة الدولة خليقة بقداس روماني، وأن عودة المذهبين اليوناني واللاتيني إلى الاتحاد ضرورة لا بد منها للحصول على المعونة العسكرية أو المالية من أوربا الغربية. ولهذا جاء الأساقفة والنبلاء اليونان في مواكب فخمة إلى فيرارا ثم انتقلوا إلى فلورنس ليلتقوا برجال الكنيسة الرومانية الذين استدعاهم البابا لهذا الغرض (1438). وقضى الطرفان في الأخذ والرد عاماً كاملاً وصلا بعده إلى اتفاق اعترفت فيه بسلطة الرئيس الديني في روما على جميع العالم المسيحي، ولما حل اليوم السادس من شهر يوليو عام 1439 ركع جميع أعضاء المؤتمر وعلى رأسهم إمبراطور الروم نفسه أمام يوجينيوس الذي خيل إلى العالم منذ وقت قريب أته الرجل الذي نبذته المسيحية واحتقرته أشد احتقار، على أن هذا الاتفاق لم يطل عهده لأن رجال الدين اليونان وغير رجال الدين في تلك البلاد نكثوا عهدهم، لكنه مع هذا أعاد للبابوية مكانتها وساعد على القضاء على الانقسام البابوي الجديد وعلى مجلس بازل.(22/28)
وتلا ذلك قيام طائفة من البابوات الأقوياء خاف بعضهم بعض أغنتهم ورفعت من مقامهم النهظة الإيطالية، فرفعوا البابوية إلى درجة من الفخامة لم تشهد مثلها من قبل حتى في أيام أنوسنت الثالث ذلك البابا الفخور. ونال نقلاس الخامس إعجاب الكتاب اللإنسانيين بأن وجه إيراد الكنيسة إلى مناصرة العلم والفن، وبدأ كلكستس الثالث تلك العادة الظريفة عادة منح الوظائف الدينية للأقارب، وهي التي كانت مصدراً خصباً للفساد في الكنسية. وكافح بيوس الثاني، الذي كان مؤلفاً نابهاً وبابا عظيماً، لإصلاح الإدارة البابوية والأديرة، وألف لجنة من كبار رجال الدين المشهود لهم بالاستقامة والتقوى لدراسة معيب الكنيسة واعترف لهذه اللجنة في صراحة بأن:
أمرين هما أقرب الأمور إلى قلبهِ، حرب الترك وإصلاح البلاط الروماني، وأن إصلاح الأمور الكنسية كلها، وهو ما اعتزم المضي فيه، ليتوقف كله على إصلاح أحوال البلاط البابوي الذي أريد أن يكون مثلاً يحتذى به. وفي عزمي أن ابدأ بإصلاح أخلاق رجال الدين في هذا البلد وأن أقضي على كل ما فيهِ من بيع الوظائف الدينية وغير ذلك من المساوئ (1).
وأصدرت اللجنة توصيات تحمد عليها وصاغ بيوس هذه التوصيات في مرسوم بابوي. لكن روما لم يكن فيها إلا القليل ممن يريدون الإصلاح لأن نصف من كان فيها من الموظفين والكبراء كان يستفيد من هذا العيب أو ذاك، ولهذا أحبط الحقد وأحبطت المقاومة السلبية أعمال بيوس بينما كانت الحرب الصليبية العقيمة التي شنها على الأتراك ثمة تشغل باله وتستنفذ قواه وماله. وقد وجه قبيل آخر ولايته نداء أخيراً إلى الكرادلة قال فيه:
يقول الناس أننا نسعى في حياتنا وراء اللذة ونكدس الثروة، ونتصف بالكبرياء والغطرسة، ونمتطي صهوة البغال الثمينة والجياد المطهمة .. ، ونربي الكلاب للصيد، وننفق المال الكثير على الكلاب والطفيليين، ولا ننفق(22/29)
شيئاً منه للدفاع عن الدين. وإن فيما يقولون لبعض الحق، ذلك أن كثيرين من الكرادلة وغيرهم من الموظفين في بلاطنا يعيشون هذه العيشة أو نحوها. وإذا أردتم الحق فإن ما في بلاطنا من ترف وتباه ليزيد على الحد الواجب. ومن أجل هذا ترى الناس يبغضوننا ويحقدون علينا فيمنعهم ذلك من الاستماع إلينا وإن قلنا ما هو عدل يرتضيه العقل. فماذا ترون أن نفعل في هذه الأمور التي تجللنا بالعار؟ .. إن علينا أن نبحث عن الوسائل التي اتبعها أسلافنا فنالوا للكنيسة السلطة-والاحترام وعلينا بعدئذ أن نحتفظ بهذه السلطة بتلك الوسائل نفسها. وما من شك في أن الذي رفع من شأن الكنيسة الرومانية وجعل لها السيادة على العالم أجمع إنما هو الاعتداد، والعفة، والطهارة، والغيرة على الدين .. واحتقار الدنيا، والرغبة في الاستشهاد (15).
وأخذت رذائل البلاط البابوي تزداد كلما قرب القرن الخامس عشر من نهايتهِ على الرغم من الجهود التي بذلها بابوات من أمثال نقولاس الخامس وبيوس الثاني وما بذله الصالحون من رجال الدين أمثال الكردنالين جوليانوسيزاريتي ونقلاس الكوزائي (16) فكان بولس الثاني يلبس تاجاً بابوياً تزيد قيمته على قيمة قصر عظيم، وجعل سكتس الرابع ابن أخيه من أصحاب الملايين، وأقحم نفسه في ميدان السياسة، وبارك المدفع الذي يحارب به وقائعه، وحصل على المال اللازم لحروبه ببيع المناصب الدينية إلى من يؤدي فيها أكبر الأثمان، واحتفل أنوسنت الثامن بزواج أبنائه في قصر الفاتيكان. وكان أسكندر السادس يرى أن بقاء رجال الدين بلا زواج خطأ يجب الإقلاع عنه كما كان يراه لوثر وكلفن، وكان له خمسة أبناء أو أكثر قبل أن يلتزم العفة وهو بابا، ولم يرَ رجال عصره فيما كان يتصف به من مرح وعدم استعفاف ما يؤخذ عليه كما قد يظن الناس، ذلك بأن الناس لم يكونوا يرون فيما يلجأ إليه رجال الدين سراً من علاقات غرامية أمراً غير مألوف، وكان كل ما تلأخذه أوربا على إسكندر السادس هو سياسته الخارجية التي(22/30)
لا يرعى فيها إلاً ولا ذمة وما تأخذه على سيزاري بورجيا هو قسوته في حروبه وأنه استرد للبابوية ولايتها وزاد الكرسي الرسولي قوة وأمده بالكثير من المال الذي يحتاجه. وقد اتبع آل بورجيا في هذه الخطط السياسية والمعارك الحربية جميع الخطط الحربية وأساليب الغدر وسفك الدماء التي صاغها ميكافيلي بعد قليل من ذلك الوقت في كتاب الأمير (1513) وقال أنها لا غنى عنها لتأسيس دولة قوية أو لتوحيد إيطاليا. وفاق البابا يوليوس الثاني سيزاري بورجيا فيما شنه من الحروب على البندقية النهمة الجشعة وعلى الفرنسيين الغزاة، وكان يفر كلما استطاع من سجن الفاتيكان، ويقود جيشه بنفسهِ ويحب الحياة الصعبة والحديث الخشن في المعسكرات الحربية. وهال أوربا أن ترى البابوية لا تكتفي بأن تصبح سلطة زمنية فحسب، بل أن تصبح فوق ذلك قوة عسكرية، غير أنها مع ذلك لم يسعها إلا أن تعجب بعض الإعجاب بقوة ذلك المحارب الذي أخطأت المقادير فجعلته بابا، وترامت الأنباء وراء جبال الألب عما كان يقدمه يوليوس من معونة للفن ومناصرة للممتازين من الفنانين أمثال رفائيل وميكل انجلو وكان يوليوس هو اليذ بدأ بناء كنيسة القديس بطرس الجديدة، وأول من منح صكوك الغفران للذين أسهموا في نفقات بنائها. وفي أيام ولايته قدم لوثر إلى رومة وأبصر بعينهِ المظالم. ذلك الاسم الذي أطلقه لورنزو ده ميدتيشي على عاصمة العالم المسيحي. لم يعد في أوربا حاكم يرى أن البابوية حكومة أخلاقية فوق الحكومات كلها تؤلف من الأمم كلها دولة مسيحية واحدة، وذلك لأن البابوية بعد أن صارت دولة دنيوية قد اصطبغت بالصبغة القومية. وتقطعت أوصال أوربا، كما تتطلب ذلك العقيدة الجديدة إلى أقسام صغيرة قومية لا تعترف بقانون أخلاقي منزل أو دولي وتردت في الحروب بين مختلف أقسام المسيحية ودامت خمسة قرون.
وإذا أردنا أن نصدر حكماً عادلاً على بابوات النهضة هؤلاء فإن علينا(22/31)
أن ننظر إليهم في ضوء الظروف المحيطة بهم في أيامهم، لقد كان في وسع شمالي أوربا أن تحس بأخطائهم لأنها كانت تمدهم بالمال ولكن الذين عرفوا ما كانت تفيض به إيطاليا بين عهدي نقولاس الخامس (1447 - 1455) - ولو العاشر (1513) (1521) هم وحدهم الذين كانوا ينظرون إليها بعين التسامح ذلك أن أكثرهم قد ارتضوا عقيدة النهضة القائلة إن العالم وإن كان مسرحاً للدموع والمغويات الشيطانية يمكن أن يكون أيضاً منظراً ذا جمال وحياة قوية عارمة وسعادة سريعة الزوال عابرة وإن كان بعضهم صالحين أتقياء. ولم يكونوا يرون عيباً في أن يستمتعوا بنعيم الحياة والبابوية مجتمعين.
ولم تكن تنقصهم الفضائل. فقد بذلوا جهدهم كي يخلصوا رومة من القبح والأقذار التي تردت إليها أثناء غياب البابوات في أفينون. لقد جففوا المستنقعات (لا بأيديهم هم بل بأيدي غيرهم وهم مستريحون) ورصفوا الشوارع، وأعادوا بناء الجسور ومهدوا الطرق، وأصلحوا موارد مياه الشرب وأشأوا مكتبة الفاتيكان ومتحف الكابينول، ووسعوا المستشفيات، ووزعوا الصدقات وبنوا الكنائس أو رمموها، وجملوا المدينة بالقصور والحدائق، وأعادوا تنظيم جامعة رومة، وأعانوا الكتاب الإنسانيين على إحياء الآداب والفلسفة والفنون الوثنية القديمة وهيأوا الأعمال للمصورين والمثالين والمهندسين المعماريين الذين خلفوا ورائهم من الأعمال ما هم تراث خالد ثمين لجميع بني الإنسان. وإذا كانوا قد بددوا الملايين، فإنهم قد أنفقوا ملايين مثلها في أعمال البناء والتعمير. ولسنا ننكر أنهم انفقوا في بناء كنيسة القديس بطرس الجديدة أكثر مما كانت تطيقه موارد البلاد ولكن ما أنفقوه عليها ليس أكثر نسبياً مما أنفقه ملوك فرنسا فيما بعد على قصور فونتيه بلو وفرساي واللوار، ولعلهم كانوا يظنون وقتئذ أنهم لا يفعلون(22/32)
أكثر من تحويل فئات الأموال السريعة الزوال إلى مجد خالد للشعوب ولربهم. وكان معظم أولئك البابوات في حياتهم الخاصة يعيشون عيشة البساطة ومنهم مثل (الإسكندر السادس) من كان يعيش زاهداً متقشفاً ولا يظهر بمظهر الترف والفخامة إلا لأن ذلك يتطلبه ذوق الشعب وعاداته وبذلك رفعوا البابوية إلى ذروة الجلالة والسلطان بعد أن أضحت معدمة معرضة للسخرية والازدراء.(22/33)
الفصل الرّابع
البيئة المتغيرة
وبينما كانت الكنيسة يبدو عليها أنها آخذة في استعادة مجدها وسلطانها، كان يحدث في أوربا تغير اقتصادي وسياسي وعقلي يعمل بالتدريج على تقويض صرح المسيحية اللاتينية.
ذلك أن الدين يزدهر عادة في ظل النظام الزراعي على حين أن العلم يزدهر في ظل الاقتصاد الصناعي فكل حصاد معجزة من المعجزات في الأرض ونزوة من نزوات الجو، والفلاح الحقير الخاضع لسلطان الجو والذي ينهكه الكدح، يرى من حوله قوات خارقة للعادة في كل مكان، ويوجه الدعوات والصلوات إلى السماء ليسترضيها ويستميلها إليه، ويرتضي الخضوع لنظام ديني إقطاعي يتدرج ولاؤه فيه من السيد المالك إلى الملك إلى الله. أما الصانع في المدينة والتاجر وصاحب المصنع وذو المال فيعيشون في عالم من الأرقام يحسبون فيه العمليات والكميات والأسباب المادية والنتائج المرتقية العادية. وتهيئ الآلة ومنضدة العد والحساب عقولهم لأن يروا حكم (القانون الطبيعي) يبسط سلطانه على أرجاء آخذة في الاتساع. وكان نمو الصناعة والتجارة وتكدس الأموال أثناء القرن الخامس عشر وانتقال العمال من الر يف إلى المدن وقيام طبقة التجار واتساع دائرة الاقتصاد من البيئة الصنفية المحلية حتى أصبح اقتصادياً قومياً ثم دولياً-كل هذا كان نذير شؤم للدين الذي كان يوائم أشد المواءمة نظام الإقطاع وما يطرأ على الحقول من تقلبات تبعث في النفس الكآبة والقنوط. وأخذ رجال الأعمال يحطمون القيود التي يفرضها(22/34)
سادة الإقطاع، وكان لا بد للكنيسة أن ترضى بشيء من الشعوذة اللاهوتية المكشوفة إلى ما تحتمه ضرورة الأيام من فرض فوائد على القروض إذا كان لا بد لرؤوس الأموال أن تستخدم في توسيع دائرة الصناعة والمشروعات المالية، وما وافى عام 1500 حتى أصبح الناس يتجاهلون أوامر الكنيسة القاضية بتحريم "الربا". ثم حل المحامون ورجال الأعمال شيئاً فشيئاً محل رجال الدين والأعمال في إدارة أعمال الحكومة، وأخذ القانون نفسه، بعد أن ظفر باسترداد تقاليده ومكانته اللتين كانتا له في عصر الإمبراطورية الرومانية، يسبق النظم الأخرى في الانتقال من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية ويتعدى يوماً بعد يوم عل نظم الحياة الكنسية التي كانت تخضع من قبل للقوانين الدينية وزادت سلطة المحاكم الزمنية واضمحلت سلطة محاكم الابرشيات.
وأخذت الدولة الملكية الناشئة بعد أن بلغت طور الشباب وازداد ثراؤها بفضل ما تجمع لها من المال من التجارة والصناعة، أخذت تتحرر شيئاً فشيئاً من سيطرة الكنيسة وأخذ الملوك يعارضون في وجود المندوب البابوي أو القاصد الرسولي في بلادهم ل، هـ لم يكن يعترب بسلطان غير سلطان البابا وبذلك جعل كنيسة كل أمة دولة داخل دولة. من أجل ذلك ضيقت القوانين التي صدرت في إنجلترا عام 1351 و1353 أشد التضييق سلطات رجال الدين في شؤون الاقتصاد والقضاء. وفي فرنسا احتفظ الملوك بعد إلغاء قرار بورج التنظيمي من الوجهة التظرية في عام 1516 بحقه في ترشيح كبار الأساقفة ورؤساء الأديرة وكبار رهبانها (17) وأصرت دولة البندقية على أن تعين هي من يشغلون المناصب الكنسية العالية في الأقاليم التابعة لها. وغلب فرديناند وإزابيلا البابوات على أمرهم فانتزعوا منهم حق تعيين من يشغلون كثيراً من المناصب الدينية الشاغرة في أسبانيا وفي الإمبراطورية الرومانية المقدسة حيث استمسك جريجوري السابع بحق البابوات في تعيين رجال رغم معارضة هنري الرابع، سلم سكستس(22/35)
الرابع إلى الأباطرة بحقهم في تعيين ثلاثمائة ممن يشغلون المناصب الدينية وتعيين سبعة أساقفة وكثيراً ما كان الملوك يسيئون استخدام هذه السلطات.
فكانوا يعينون في مناصب الكنيسة من يميلون إليهم من رجال السياسة وكان هؤلاء يستحوذون على إيراد الأديرة وأملاك الكنيسة ولكنهم كانوا يتجاهلون ما عليهم من التبعات (18) وإن كثيراً من المفاسد الكنسية ليعزى أصلها إلى من كانوا يشغلون هذه المناصب الكنسية من غير رجال الدين.
وكانت البيئة العقلية في الكنيسة نفسها في هذه الأثناء آخذة في التغير تغيراً ينذرها بأشد الأخطار. نعم إنها كانت لا تزال تخرج علماء مجدين ذوي ضمائر حية، ولكن المدارس والجامعات التي أنشأتها هي من قبل كانت قد أخرجت أقلية من الرجال المتعلمين لم تكن آراؤهم مما يرضي على الدوام القديسين. فها هو ذا القديس برناردينو حوالي عام 1420:
وإن كثيراً من الناس إذا ما نظروا إلى ما يرتكبه الرهبان والإخوان والراهبات وغير هؤلاء من رجال الدين لتشمئز نفوسهم، بل إنهم كثيراً ما يتزعزع إيمانهم، فلا يؤمنون بشيء أعلى من أسقف منازلهم ولا يرون أن ما ورد في الكتب عن الدين صادق صحيح بل يعتقدون أنه من اختراع الآدميين وليس وحياً من عند الله .. فهم يحتقرون القربان المقدس ولا يؤمنون بوجود الروح ولا يخشون عذاب النار ولا يرغبون في نعيم الجنة، بل إن أهم ما تتعلق به قلوبهم هو الأشياء الزائلة ويعملون على أن يكون هذا العالم الأرضي هو جنتهم (19).
وأكبر الظن أن طبقة رجال الأعمال كانت أقل الطبقات صلاحاً واستمساكاً بالدين، ذلك أن الدين يضمحل على الدوام كلما زاد الثراء. فجوور (1325 - 1408) يقول إن تجار إنجلترا قلما يعنون بالحياة الآخرة ويقولون أن من يستطيع الحصول على نعم هذه الحياة ثم يتركه تفلت من يده فهو إنسان أبله فما من أحد يعرف أين يذهب بعد الموت أو من أي طريق(22/36)
نذهب (20)، يضاف إلى هذا إن إخفاق الحروب الصليبية قد خلف في النفوس دهشة أخذت تتناقص على مهل يقول أصحابها كيف سمح رب المسيحية بأن ينتصر الإسلام وكان استيلاء الأتراك على القسطنطينية مما قوى هذه الشكوك، وكانت كتابات نقولاس الكورائي 1432 ولورند سوفلا 1439 التي قالا فيها إن "هيبة قسطنطين" زيف وزور، مما حط من مكانة الكنيسة وأضعف ما تدعيه لنفسها من سلطان زمني. وفوق هذا كله فإن اكتشاف الكتب اليونانية والرومانية القديمة ونشرها كان سبباً في تقوية الشكوك لأنه كشف عن عالم من العلوم والفنون ازدهرت قبل مولد الكنيسة المسيحية وهي التي أنكرت في مجلس لا تيران الخامس 1512 - 1517 إن النجاة غير مستطاعة خارج حظيرتها (21) كذلك أزاح كشف أمريكا وارتياد بلاد الشرق ارتياداً آخذاً في الاتساع، أزاح هذا وذاك الستار عن مائة أمة كانت ترفض الإيمان بالمسيح أو تتجاهله وكانت لها أديان أخرى لا تقل عن المسيحية إيجابية أو تأثيراً من الناحية الخلقية وجاء الرحالة العائدون من بلاد "الكفرة" ببعض العقائد والطقوس التي أخذت تنازع العبادات والعقائد المسيحية فأخذت هذه العقائد المتنافسة تصطرع في الأسواق وفي الثغور.
ثم إن الفلسفة نفسها التي كانت في القرن السادس عشر خاضعة لسلطان الدين وخامة طيعة له همها كله أن تجد أسباباً يقبلها العقل لمبادئ الدين القويم، قد حررت نفسها في القرن الرابع عشر على أيدي وليام الأوكهامي ومرسليوس من أهل بدوا وأصبحت في القرن السادس عشر فلسفته زمنية جريئة تجهز بتشككها بقيادة بمبو منشي ومكيافلي وجوتشياردين. وقد أذاع مكيافلي قبل أن يكتب لوثر رسالته بأربع سنين نبوءة فزع منها القوم قال:
"لو أن الدين المسيحي قد احتفظ به كما صدر عن مؤسسه لكانت دول العالم المسيحي أكثر اتحاداً وأعظم سعادة مما هي الآن وليس أدل على ضعفه(22/37)
من أقرب الناس إلى الكنيسة الرومانية التي هي صاحبة السلطة العليا في هذا الدين هم أقل الناس تديناً. وإن من ينعم النظر في المبادئ التي يقوم عليها هذا الدين ويرى ما بين هذه المبادئ وبين شعائرها الحاضرة وعباداتها من فرق كبير ليحكم من فوره بأن انهيارها أو يوم القصاص منها لآت عن قريب".(22/38)
الفصل الخامِس
ما يؤخذ على الكنيسة
هل لنا أن نعيد هنا ذكرى التهم التي يوجهها الكاثوليك المخلصون إلى الكنيسة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر؟ إن أول هذه التهم وأشدها هي أنها كانت تحب المال وأنه كان لها منه أكثر مما يليق بها إذا أرادت أنفسها (1) الخير وقد وجه مجلس نورنبرج في عام 1522 مائة تهمة منها أنها تمتلك نصف ثروة ألمانيا (23) وقد قدر مؤرخ كاثوليكي نصيب الكنيسة بثلث أموال ألمانيا وخمس أموال فرنسا (24) ولكن مدعياً عمومياً في برلمان فرنسا قدر ثروة الكنيسة في عام 1502 بثلاثة أرباع أموال فرنسا كلها (25) على أننا ليس لدينا من الإحصائيات ما نرجع إليه في هذه التقديرات أما في إيطاليا فإن ثلث شبه الجزيرة بطبيعة الحال كان ملكاً للكنيسة ونعني به الولايات البابوية، هذا فضلاً عما كان لها من الأملاك القيمة في غير تلك الولايات (2).
وكان لتجمع الثروة في يد الكنيسة ستة أسباب. أولها أن معظم من كانوا يوصون بأموالهم عند وفاتهم كانوا يتركون لها بعض المال وقاية لهم من نار جهنم، وإذا كانت الكنيسة هي التي تشرف على عمل الوصايا وإثباتها فإن
_________
(1) يقول باستور في كتابه تاريخ البابوات الجزء السابع ص 293 ما يأتي: إن من أسباب سقوط الكنيسة الألمانية ثراها الفاحش الذي كانت زيادته غير المشروعة مما أثار حسد غير رجال الدين وبغضهم كما كان له أسوأ الأثر في رجال الكنيسة أنفسهم.
(2) إن معظم الكفايات في أي مجتمع تنحصر في عدد قليل من الرجال ولهذا فإن معظم الطيبات والامتيازات والسلطات تستحوذ عليها إن عاجلاً أو آجلاً أقلية من الرجال. ولقد تجمعت الثروة في يد الكنيسة في العصور الوسطى لأنها كانت تقوم بأعمال خطيرة وكان يقوم على خدمتها أقدر الرجال. وكان الإصلاح الديني من بعض نواحيه عبارة عن إعادة توزيع هذه الثروة التي تركزت بطبيعة الحال وذلك باستيلاء غير رجال الدين على ثروة الكنيسة وإراداتها.(22/39)
رجالها كانوا في وضع يمكنهم من تشجيع أمثال هذه الوصايا. وثانيها أن أملاك الكنيسة كانت أكثر أماناً من كل ما عداها من انتهاب اللصوص والجنود والحكومات، ولهذا فإن بعض الناس كانوا ينزلون عن أراضيهم للكنيسة ليأمنوا عليها من ذلك النهب ثم يمتلكونها هم منها بوصفهم عمالاً للكنيسة عليها أن يؤول ما لهم من حقوق إلى الكنيسة بعد موتهم. ومنهم من كان يوصي ببعض أمواله أة بها كلها للكنيسة مشترطين أن تمدهم بما يلزمهم في حالتي المرض والشيخوخة فكانت الكنيسة بذلك تضمن لهم أماناً من الفقر في حالة العجز عن الكسب. وثالث هذه الأسباب أن الذين اشتركوا في الحروب الصليبية قد باعوا إلى الهيئات الدينية أرضهم أو رهنوها لها أو نزولا لها عنها كي يحصلوا على ما يلزمهم من المال في مغامراتهم. ورابع هذه الأسباب أن مئات الآلاف من الأفندية قد آلت إلى الكنيسة لأن طوائف الرهبان هي التي أصلحتها. وخامسها أن ما تمتلكه الكنيسة من الأرض لا يمكن أن ينتقل إلى غيرها-فلا يمكن أن يبيعه أو ينزل عنه أحد من رجالها إلا بوسائل غاية في التعقيد تجعل هذا في حكم المستحيل. وآخر هذه الأسباب أن أملاك الكنيسة كانت في العادة معفاة من الضرائب التي تفرضها الدولة على سائر الأملاك وإن كان بعض الملوك يرغمون رجال الدين على أداء بعض الإتاوات أو يجدون ذرائع قانونية لمصادرة أجزاء من ثروة الكنيسة غير مبالين بما يصبه عليهم رجال الدين من اللعنات، ولو أن أملاك الكنيسة أو الإيراد الناتج منها أو التبرعات التي لا حصر لها والتي كانت ترد إليها من المؤمنين برسالتها قد بقيت داخل حدود البلاد التي ينتمي إليها المتبرعون أو التي توجد فيها هذه الأملاك لكان تذمر الحكام في أوربا الشمالية أقل شدة مما شاهدناه، أما وإن هذه الثروة لم تبق داخل تلك الحدود فإن منظر الذهب الذي كان ينساب بآلاف الطرق من أوربا الشمالية إلى رومة كان مما يثير حنق هؤلاء الحكام.(22/40)
أما الكنيسة فقد كانت تحسب أنها العامل الأكبر في المحافظة على الأخلاق، والنظام الاجتماعي، والتربية والأدب، والعلم، والفن، وكانت الدولة تعتمد عليها في القيام بهذه المهام، وكان القيام بها يتطلب نظاماً واسعاً كثير النفقة، وكان لا بد لها في الحصول على هذا المال من أن تفرض الضرائب وتجبي الرسوم، ذلك أن الكنيسة هي الأخرى لا يمكن أن تحكم بالصلوات والأدعية. وكان كثير من الأساقفة حكاماً مدنيين وكنسيين في أقاليمهم، وكانت السلطات غير الدينية هي التني تعين معظم أولئك الأساقفة تختارهم من بين أعيان البلاد الذين اعتادوا معيشة الترف والتحرر من قيود الأخلاق، فكانوا يفرضون الضرائب وينفقون مواردها كما يفعل الأمراء وكانوا أحياناً يجللون بالعار ذكرى القديسين بارتداء الدروع وقيادة الجند في الحروب. وقلما كان الكرادلة يختارون لتدينهم وتقواهم بل كانوا يختارون عادة لثروتهم أو لصلاتهم السياسية أو لكفايتهم الإدارية، ولم يكونوا يرون أنفسهم رهباناً مقيدين بأيمان أقسموها وإنما كانوا يرون أنفسهم شيوخاً ورجال سياسة في دولة غنية قوية، ولم يكونوا في كثير من الأحيان قساوسة، ولم يكونوا يسمحون لقلانسهم الحمراء أن تحول بينهم وبين الاستمتاع بمباهج الحياة (26) وقصارى القول أن الكنيسة قد أنستها حاجات السلطة وما يلزمها من المال ما كان عليه الرسل الأولون من زهد وفقر.
وإذا كان خدم الكنيسة رجال دنيا لا رجال دين فإنهم لم يكونوا في كثير من الأحيان يقلون جشعاً عن موظفي الحكومات في أيامهم. فقد كان الفساد قانون ذلك العصر وطبيعة أهله، وكانت المحاكم المدنية تشترى بالمال ولسنا نجد في انتخاب البابوات كلهم ما يضارع في الرشوة ما حدث في انتخاب شارل الخامس إمبراطوراً. وإذا ما استثنينا هذا الانتخاب وحده فإن أضخم الرشاوى في أوربا هي التي كانت تقدم إلى محاكم رومة (27). لقد كانت رسوم معقولة محددة تفرض نظير الخدمات التي تقوم بها المحكمة(22/41)
البابوية العليا، ولكن جشع موظفيها رفع هذه الرسوم إلى أكثر من قيمتها القانونية عشرين ضعفاً (28)، وكان من المستطاع التحلل من الأوامر الدينية كلها تقريباً وقلما كانت هناك خطيئة لا يمكن غفرانها إذا كان الثمن الذي يؤدي لذلك مغرياً. وليس أدل على ذلك من أن اينياس سلفيوس كتب قبل أن يجلس على كرسي البابوية يقول أن كل شيء في رومة يباع بالمال وأن لا شيء فيها يمكن الحصول عليه بغير المال (29) وأشد من هذا ما قاله سفنرولا بعد جيل من ذلك الوقت بشيء من المبالغة التي تصحب الغضب على الدوام، وهو وصف كنيسة رومة بأنها عاهر تبيع نفسها بالمال (30) ومثل هذا ما قاله ارزمس يعد جيل آخر وهو "إن العار الذي يجلل المحكمة البابوية العليا قد وصل إلى ذروته (31) ". ثم ثم أنظر إلى ما كتبه بستور، إن لفساد المتأصل قد استحوذ على جميع موظفي الإدارة البابوية كلهم تقريباً ... فالهبات التي لا يحصى عددها واغتصاب الأموال بمختلف الأساليب قد فاق كل ما يتصوره العقل يضاف إلى هذا أن الموظفين أنفسهم كانوا يزورون العقود ويتبادلونها. فلا عجب والحالة هذه إذا علت الشكوى من جميع أجزاء العلم المسيحي مما كان يرتكبه الموظفين البابويون من رشوة وفساد واغتصاب للأموال (32).
ولم يكن مألوفاً أن ذوو الكفايات المعدمون في مناصب الكنسية في القرن الخامس عشر، فقد كان كل منصب تقريباً يتطلب رشوة الموظفين الأعلين فيها رشاوى تختلف بين الصغيرة لنبل منصب القساوسة، والرشاوي الضخمة التي يؤديها كثير من الكرادلة لكي يرقوا إلى هذا المنصب لما يتطلب التملق الخفي الأعلياء. وكان من الأساليب المحببة للبابوات لجميع المال بيعهم مناصب الكنيسة، وكان هذا في عرف البابوات هو تعيين أشخاص يرجى أن يسهموا بالكثير من المال فيما تحتاجه الكنيسة من نفقات بمنحهم ألقاب شرف فخرية قد تصل إلى لقب الكردنال نفسه. من ذلك(22/42)
إن اسكندر السادس أنشأ ثمانين منصباً جديداً وقبض 760 دوقة (19000 دولار) من كل شخص عين في منصب من هذه المناصب. وأنشأ يوليوس الثاني "مجمعاً" أو مكتباً مؤلفاً من 101 أمين أدوا له مجتمعين 24000 دوقة ثمناً لهذه المناصب، ورشح ليو العاشر 60 من الحجاب و141 من الأتباع في القصر البابوي واستحوذ منهم على 202000 (33) دوقة وكان معطى هذا المال وآخذه يرون أن الأموال التي تبتاع بها هذه المناصب ليست إلا أقساطاً ثانوية في عقود تأمين، أما لوثر فلم يكن يرى فيها إلا أنها بيع من أدناه البيوع للمناصب الكنسية.
وكان صاحب المنصب في آلاف من الأحوال يعيش بعيداً عن مقر منصبه-الابرشية أو الدير أو الأسقفية-التي كان إيرادها ثمناً لكدحه أو وسيلة لترفه وكان يحدث في بعض الأحيان أن يكون شخص واحد هو القائم بالعمل في كثير من هذه المناصب. من ذلك مثلاً أن الكردنال روريجو بورجيا النشيط (الذي صار فيما بعد اسكندر السادس) قد وهب عدة مناصب مختلفة كانت تدر عليه 70000 دوقة (1. 750. 000 دولار) في العام وأن عدوه الألد الكردنال دلاروفيري (الذي صار فيما بعد يوليوس الثاني) قد كان في وقت واحد كبير أساقفة افنيون واسقفاً لبولونيا ولوزان وكوتانس، وقفيير، ومندي واستيا ونيليتوري ورئيساً لديري نونان تولا وجبروتا فراتا (34). كان في وسع الكنيسة بالجمع بين هذه المناصب أن تؤدي مرتبات كبار موظفيها التنفيذيين وأن تنفخ بالهبات السخية في كثير من الأحيان الشعراء والعلماء وطلاب العلم. وها هو ذا بترارك الناقد الشديد لبابوات افنيون كان يعيش من مرتبات المناصب الهينة المجزية التي منحه إياها أولئك البابوات، وها هو ذا ارازمس الذي سخر من مئات السخافات الكنسية وهجاها الهجو اللاذع كان يقبض معاشاً منتظماً من الكنيسة، وكوبر بيكاس الذي أصاب كنيسة العصور الوسطى بأعظم الأضرار قد ظل سنين(22/43)
طوالاً يعيش من أموال الكنيسة التي لم تكن تتطلب منه إلا القليل من الأعمال التي تحول بينه وبين أعماله العلمية (35).
ولم يكن هذا التعدد في المناصب أخطر التهم التي وجهت للكنيسة بل كان أخطر منه ما اتهم به رجال الدين من فساد في الأخلاق. وها هو ذا واحد منهم هو أسقف تورشيلو (1458) يقول: أن أخلاق رجال الدين فاسدة يشمئز منها العلمانيون (36). وأصبح المنتمون إلى طوائف الرهبان الأربع التي أسست في القرن الثالث عشر-وهي طوائف الفرانشيسكان والدمنيك ورهبان الكرمل، والاوغسطينيين أصبح المنتمون إلى هذه الطوائف كلها ما عدا الأخيرة منها مستهترين في أخلاقهم شديدي الاستخفاف بما يتطلبه مركزهم من تقى وحسن نظام. وقد تبين أن قواعد الأديرة التي وضعها منشئوها الأولون المتحمسون أشد مما تطيقه الطبيعة البشرية التي أخذت تتحرر شيئاً فشيئاً من مخاوف ما وراء الطبيعة. وإذ كان آلاف الرهبان والإخوان قد استغنوا عن العمل اليدوي بفضل ما تجمع لهم من المال الكثير، فقد أهمل هؤلاء الخدمات الدينية وخرجوا من صوامعهم يجسون خلال الديار، ويتعاطون الخمور في الحانات ويتخذون لهم عشيقات. وها هو ذا راهب من الدمنيك يدعى جون بروميارد من رهبان القرن الرابع عشر يقوله عن إخوانه الرهبان:
إن أولئك الذين من واجبهم أن يكونوا آباء للفقراء ... يشتهون ألذ الطعام، ويستمتعون بنوم الضحى ... ويمنون على الناس بحضورهم صلاة الصباح أو القداس ... وتراهم منهمكين في الطعام والشراب إذا لم نقل في الدنس والأقذار، حتى لقد أصبحت مجامع رجال الدين مواخير للفجار ومجتمعات من مهرجين (37).
وكرر أرازمس تلك التهمة نفسها بعد مائة عام من ذلك الوقت فقال: "إن كثيراً من أديرة الرجال والنساء قلما تختلف عن المواخير العامة (39) ".(22/44)
ولسنا ننكر أن بترارك قد رسم صورة طيبة لما كان يسود دير الكرثوذيين الذي كان أخوه يعيش فيه من حسن نظام وتقى وأن كثيراً من الأديرة في هولندا وغربي ألمانيا قد احتفظت بروح الدرس والصلاح التي تألفت على أساسها "طائفة إخوان الحياة العامة" وصدر منها كتاب التشبه بالمسيح، ولكن نيوهانز تريتميوس، ينس وايرسينهايم (حوالي 1490) قد ندد برهبان هذا الجزء من ألمانيا المحيط بنهر الراين تنديداً عنيفاً أشد العنف فقال:
إن هؤلاء الرجال لا يبالون بالأيمان الدينية التي أقسموها .. فإنهم لم يعدوا قط بأن يبروا بها ... فهم يقضون النهار كله في الحديث القذر ويقضون وقتهم كله في اللعب والتهام الطعام .. وإذا كانوا يمتلكون ثروة خاصة طائلة .. فإن كل واحد منهم يعيش في مسكن خاص به .. وليس فيهم من يهاب الله قط أو يحبه. ولا يفكرون قط في الحياة الآخرة ويؤثرون شهواتهم البدنية على مطالب الروح .. ويحتقرون ما أقسموا عليه من التزام الفقر ويجهلون يمين العفة وينقضون يمين الطاعة .. وإن رائحة أقذارهم لتحيط بهم من كل الجوانب (41).
ولما أرسل جاي جوينو من قبل البابا لإصلاح أديرة البندكتيين في فرنسا كتب بعد عودته تقريراً يبعث الغم والاكتئاب في النفوس (1503) قال فيه إن كثيراً من الرهبان يلعبون الميسر ويكثرون من السباب، وترددون على الحانات، ويتسلحون بالسيوف، ويجمعون الأموال "ويحبون حياة السكيرين"، وهم أكثر تعلقاً بالدنيا من رجال الدنيا أنفسهم .. ولو أنني أردت أن أقص كل ما وقعت عليه عيناي لملأت بذلك صحفاً طوالاً (42). وقد كانت نتيجة الفوضى المضطرة النماء في الأديرة أن أهمل الكثير أعمال الصدقات والخدمة في المستشفيات والقيام بشؤون التعليم وهي الأعمال العظيمة الخليقة بالإعجاب التي اغستحقوا من أجلها ثقة الناس وتأييدهم (43). ويقول البابا ليو العشر (1516) "لقد وصل اضطراب الأمور في أديرة(22/45)
فرنسا وحياة الاستهتار التي يحياها الرهبان إلى حد لم يبق لهم معه أي احترام عند الملوك أو الأمراء أو المتينين من الناس (44). وقد أجمل مؤرخ كاثوليكي وصف هذه المفاسد كلها كما رآها في عام 1490، ولعله كان مبالغاً بعض الشيء في قسوته فقال:
اقرأ ما يفيض به ذلك العهد من أدلة وشواهد-طرائف تاريخية وتعنيف ينطق به رجال الأخلاق، وهجاء يكتبه العلماء والشعراء، ومراسيم بابوية ومجامع دينية مقدسة-ماذا تجد في هذه كلها؟ إنك لتجد فيها نفس الحقائق ونفس الشكاوى .. التحرر من حياة الأديرة ومن النظام والأخلاق الكريمة وما أكثر ما تجد في الأديرة من لصوص وفسقة، وإذا شئت أن تدرك ما في هذه الأديرة من فوضى فعليك أن تقرأ ما كشفت عنه البحوث القضائية من تفاصيل الحالة الداخلية للكثرة الغالبة من الأديرة الكبيرة ... ولقد بلغت المساوئ المنتشرة في أديرة الكرثوذيين درجة أصبحت معها هذه الأديرة مضرب المثل في سوء السمعة في كل مكان تقريباً .. أما أديرة الراهبات فقد اختفت فيها حياة الرهبنة عن آخرها ... فاستحالت دور العبادة بسبب هذه المساوئ كلها بؤراً للفساد وسوء النظام (45).
أما رجال الدين غير المنتمين إلى طوائف الرهبان، فكانوا خيراً من الرهبان الإخوان، إذا تساهلنا في عادة التسري التي كانت شائعة بينهم، وكانت أكبر آثام قسيس الابرشية هي جهلة (46) ولكنه لم يكن يتقاضى إلا القليل الذي لا غناء فيه من الأجر وكان يرهق بالعمل ومن أجل هذا لم يكن يجد من الوقت أو المال ما يعينه على الدرس، وتدل التقوى الشائعة بين عامة الشعب على أنه كثيراً ما كان محبوباً مبجلاً. وكثيراً ما كان هؤلاء القساوسة يحنثون بقسمهم على أن يلتزموا العفة والطهارة. ففي نورفولك بإنجلترا مثلاً نظرت المحاكم في ثلاث وسبعين تهمة خاصة بعدم العفة في عام 1499، وكان منها خمس عشر تهمة موجهة إلى رجال الدين،(22/46)
وفي ريبون كانت أربع وعشرون تهمة من 126 موجهة إلى رجال الدين، وفي لامبث كانت تسع تهم من ثمان وخمسين موجهة إلى رجال الدين، ومعنى هذا أن ثلاثاً وعشرون في المائة من مجموع هذه التهم موجهة إليهم مع أن رجال الدين كلهم كانوا في أغلب الظن أقل من اثنين في المائة من مجموع السكان (47). ومن رجال الدين من كانت لهم صلات جنسية بالتائبات من النساء (48). وكان للآلاف من القساوسة خطايا، وفي ألمانيا كان لهم كلهم تقريباً (49) وفي رومة كان هذا هو الأمر المتبع المألوف، وتقدر بعض التقادير عدد العاهرات فيها بسبعة آلاف من بين السكان الذين لم يكونوا يزيدون على مائة ألف (50). وها هو ذا مؤرخ كاثوليكي يقول:
لا غرابة وتلك حال أعلى طبقات رجال الدين أن تنتشر الرذيلة وينتشر الشذوذ باختلاف أنواعه بين طوائف الرهبان المنتظمة وبين القساوسة من غير الرهبان وأن يزداد هذا الانتشار يوماً بعد يوم. قصارى القول أن الفضيلة قد فقدت معناها على وجه الأرض .. ولكن من الخطأ أن نظن أن فساد رجال الدين كان أسوأ في رومة منها في غيرها من المدن، ذلك أن لدينا أدلة تثبتها الوثائق على فساد أخلاق القساوسة في كل بلد تقريباً من بلدان شبه الجزيرة الإيطالية .. فلا عجب، كما يقول كاتب معاصر والحزن يملأ قلبه إذا كان نفوذ رجال الدين قد أخذ ينقص تدريجياً وإذا كان الناس لا يكادون يظهرون أي احترام مهما قل لرجال الدين في كثير من الأقطار ذلك أن الفساد قد انتشر بينهم إلى حد أصبحنا نسمع معه اقتراحات يبديها البعض بالسماح للقساوسة بالزواج (15).
ويجدر بنا أن نقول إنصافاً لهؤلاء القساوسة غير المتعففين أن التسري الشائع بينهم لم يكن يعد دعارة بل إنه يكاد يكون تمرداً عاماً على قانون العزوبة التي فرضها البابا جريجوري السابع (1074) على رجال الدين وأرغمهم عليها إرغاماً. ولقد أخذ كهنة الكنيسة الرومانية يطالبون بأن(22/47)
يُسمح للقساوسة بالزواج شأنهم في ذلك شأن أمثالهم من كهنة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والروسية فقد ظلت هذه الكنيسة تسمح لقساوستها بالزواج بعد الانشقاق الذي حدث في عام 1054، إذ كان قانون الكنيسة الكاثوليكية لم يسمح لهم بهذا فقد لجأوا إلى عادة التسري. وها هو ذا هاردون أسقف انجيز يقول في تقرير له (1428) إن رجال الدين في ابرشيته لم يكونوا يرون في اتخاذ الحظايا إثماً. وأنهم لم يحاولوا قط أن يخفوا ذلك عن أعين الناس (52). وكان في بومراننا 1500 حالة من هذا النوع يعترف الأهلون بأنها لا غبار عليها، بل كانوا يشجعونها، لأنهم يرونها وقاية لبناتهم وزوجاتهم، وكان المألوف المتواضع عليه الاحتفالات العامة أن يعطى مكان الشرف للقساوسة وحظاياهم (53)، وحدث في شلزويج أن طرد أسقف من كرسيه لأنه حاول أن يحرم هذه العادة (54) (1499). ولما عقد مجلس كنتستانس اقتراح الكردنال زيلا أن تعود الكنيسة فتسمح لرجال الدين بالزواج إذا لم يكون مستطاعاً منعهم من اتخاذ الحظايا، وقال الإمبراطور سجسمند في رسالة له إلى مجلس بازل (1431) إن زواج رجال الدين سيصلح من أخلاق الناس بوجه عام (55)، ونقل المؤرخ بلاتينا أمين مكتبة الفاتيكان عن اينياس سافيوس قوله أن هناك أسباباً قوية في صالح بقاء رجال الدين عزاباً، ولكن هنا أسباباً أقوى منها في صالح زواجهم (56)، وجملة القول أن السجل الأخلاقي لرجال الدين قبل الإصلاح الديني يبدو خيراً مما هو إذا نظرنا إلى عادة اتخاذ الحظايا على أنها تمرد يغتفر لهم، على سنة مرهقة لا تطيقها الطبيعة البشرية، ولم تكن عند الحواريين الأولين، ولا تجري عليها الكنيسة الشرقية.
أما الشكوى التي أشعلت نار الإصلاح الديني في آخر الأمر فقد كانت هي بيع صكوك الغفران. وتفصيلها أن من حق رجال الدين، السلطات التي خولها المسيح فيما بعد يبدو لبطرس (إنجيل متي 16، 19) والتي انحدرت(22/48)
من بطرس إلى رجال الدين بمقتضى هذه السلطات أن يغفروا للتائب المعترف بذنوب خطاياه وما يترتب عليها من عقاب في نار جهنم، ولكنهم لا يعفون أولئك المذنبين من التكفير عن خطاياهم أثناء حياتهم على ظهر الأرض. على أن الذين يستطيعون أن يثقوا بأنهم يموتون بعد أن يكفروا التكفير الواجب عن ذنوبهم كلها ليسوا إلا قلة صغيرة من الناس مهما اعترفوا بذنوبهم وطهرهم هذا الاعتراف، إن الذين يستطيعون أن يثقوا بذلك هم قلة صغيرة من الناس، أما الباقون فلابد أن يكفروا عما بقي من ذنوبهم بأن يقدموا عدداً من السمين في المطهر، الذي أوجده الإله الرحيم ليكون جحيماً مؤقتاً لهؤلاء المذنبين. لكن ثمة طائفة كبيرة من الأولياء الصالحين قد كسبوا بفضل خشوعهم وتقواهم واستشهادهم في سبيل الدين من الفضائل ما نرى في أكبر الظن زيادته على ما كفروا به عن ذنوبهم. وقد خلف المسيح وراءه بموته قدراً لا يحصى من الفضائل، وهذه الفضائل كما تقول الكنيسة، يمكن أن تعد بمثابة كنز يستمد منه البابا ما يشاء ليمحو جزءاً من الآثام التي ارتكبها الناس في الدنيا. ولم يكفروا عنها كل التكفير. وكانت الكفارة التي تضعها الكنيسة تتخذ في العادة صورة تكرار بعض الأدعية أو إخراج الصدقات أو الحج إلى بعض الأضرحة المقدسة، أو الاشتراك في حرب صليبية ضد الأتراك أو غيرهم من "الكفرة". أو التبرع بالمال أو العمل لبعض المشروعات الاجتماعية كتجفيف مستنقع، أو إنشاء طريق، أو بناء قنطرة، أو مستشفى، أو كنيسة. وكان استبدال غرامة مالية (فدية) بالعقاب البدني سنة مألوفة من عهد بعيد في المحاكم المدنية، ومن ثم فإن تطبيق هذه الفكرة على صكوك الغفران لم يغضب الناس في بادئ الأمر. وكان التائب المعترف، إذا أدى هذه الفدية أي إذا خرج عن بعض المال-لنفقات الكنيسة تسلم صك غفران جزئي أو كلي، ولم يكن هذا الصك يجيز له أن يرتكب ذنوباً جديدة، بل يمكنه من أن ينجو يوماً،(22/49)