له نصيب في تكوين مدرسة الشعراء التي انتهت إلى دانتي. وحدث في ذلك الوقت عينه أن هجر شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون بلاد لانجويك Languedoc التي مزّقتها الحروب الدينية، ولجأوا إلى بلاد الإيطاليين، وعلّموا شعراء تلك البلاد فنهم المرح، كما علّموا النساء الإيطاليات أن يرحبن بقصائد المديح، وأقنعوا كبار الإيطاليين بأن يجزلوا العطاء للشعراء وإن توجهوا بشعرهم إلى زوجاتهم، وقد بالغ بعض شعراء التسكان في تقليد شعراء الفروسية فكتبوا شعرهم بلغة بروفنسال نفسها للفرنسيين. ومن هؤلاء Sordello ( حوالي 1200 - 1270) وهو شاعر ولد في منتوا Mantua بلدة فرجيل، وأني ما أغضب إزلينو Ezzelino الرهيب؛ ففر إلى بروفانس، وكتب بلغة تلك البلاد قصائد في الحب الروماني الأفلاطوني.
ونشأ من هذه العاطفة الأفلاطونية، بمزيج عجيب من الميتافيزيقا والشعر "الأسلوب الحلو الجديد" التسكاني. ذلك أن الشعراء الإيطاليين خرجوا على الشهوانية الصريحة التي وجدوها عند المغنين من شعراء بروفانس، وآثروا أن يحبوا، أو ادعوا أنهم يحبون، النساء بوصف كونهن ممثلات للجمال النقي المجرد، أو كونهن رموزاً للحكمة أو الفلسفة الإلهيتين. وكانت هذه نغمة جديدة في إيطاليا التي عرفت مائة ألف من شعراء الغزل. وربما كان قلم القديس فرانسس هو الذي حرك هذه الأفلام العفيفة، أو لعل كتاب الخلاصة لتومس أكوناس كان شديد الوطأة عليهم، أو لعلهم شعروا بتأثير المتصوفة المسلمين الذين لم يكونوا يرون في الجمال غير الله، والذين كانوا يوجهون قصائد الحب للخالق جل وعلا.
وتكونت المدرسة الحديثة من سرب من المغنين العلماء، فأخذ جونزلي Guinizelli، (1230؟ -1275) أحد مواطني بولونيا، الذي سماه دانتي والده في الأدب (3)، يتغنى بفلسفة الحب الجديدة في أغنية ذائعة الصيت سماها أغنية "القلب الرقيق"، وطلب فيها أن يغفر له الله حبه لمعشوقته لأنها في رأيه الألوهية(17/304)
مجسدة؛ ونشر لاباجيني Lapa Gianni، ودينو فرسكوبلدي Dino Frescobaldi، وجيدو أرلندي Gudio Orlandi، وسينودا بستويا Cino da Pastoia، نشر هؤلاء الأسلوب الجديد في شمالي إيطاليا؛ وجاء به إلى فلورنس جيدو كفلكنتي Guido Cavalcanti ( حوالي 1258 - 1300) صديق دانتي وأظرف من عبّر عن هذا الأسلوب قبل الشاعر الكبير. وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء الشعراء العلماء، وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء العلماء، وكان زوج ابنة فاريناتا دجلي أبرتي Farinata degli uberti الذي قاد حزب الجبلين Ghibelline في فلورنس. وكان من أصحاب التفكير الحر في الدين ومن المقتنعين بفلسفة ابن رشد، متشكّكاً في الخلود وفي الله نفسه (4). واضطلع بدور إيجابي، عنيف في الشئون السياسية، وأصدر دانتي ومن معه من الرؤساء في عام 1300 قراراً بنفيه؛ فلمّا أصابه المرض عفي عنه، ومات في ذلك العام نفسه. وكان عقله الأرستقراطي المتكبر أليق ما يكون لصياغة الأغاني فاترة تماثل في رقتها الأغاني القديمة:
جمال النساء؛ وقرار الإرادة العليا؛
والفرسان الأنجاد المسلحون لألعاب الرجولة؛
وشدو الطير الجميل؛ وإجابات المحب الحلوة؛
ورقة السفن المسرعة فوق متن البحار؛
والهواء الصافي حين يبدأ الضوء أن يكون؛
والثلج الأبيض، الذي يسقط ويستقر في سكون الريح؛
وحقول الأزهار، والمكان الذي ينبع منه الماء؛
والفضة والذهب، وزرقة الجواهر:
إذا وزنت أمام مالي من قيمة
في قلب سيدتي العزيزة عليّ(17/305)
فإنها تبدو ضئيلة. وفي الحق أني لأسمو في نظرها
على هذه كلها وأعلو عنها علو السماء عن الأرضين
وكل خير سرعان ما يمتد للخلائق الأقربين
وأخذ دانتي الشيء الكثير عن جيدو وقلّد أغانيه، ولعله مدين له بعزمه على كتابة الملهاة المقدسة The Divine Comedy باللغة الإيطالية. وشاهد ذلك قول دانتي نفسه: "وقد رغب إلى في أن أكتب له على الدوام بلغة البلاد لا باللغة اللاتينية" (6). وكان أسلاف دانتي هم الذين بدّلوا في القرن الثالث عشر فجاجة اللغة الجديدة وعجزها إلى نغمتها الحلوة، وإلى العبارات المركزة الدقيقة التي لا تضارعها فيها لفة أخرى من اللغات الأوربية، وهم الذين خلقوا لغة يستطيع دانتي أن يسميها: "فخمة، أصيلة، مهذبة، عظيمة" (7) ـ تليق لأن يكتب بها أعظم العلماء. وكانت أشعار البروفنساليين تبدو إذا قيست إلى أغاني الإيطاليين ناشزة غير متناغمة، وقصص الأبطال الشعرية، وغناء المغنين الجائلين تكاد تكون بالنسبة لها تافهة حقيرة. ولم يعد الشعر في هذه الأغاني الإيطالية مصرفاً للثرثرة المرحة، بل أصبح عملاً من أعمال الفن القوية المحكمة يبذل في صياغته من الجهد مثل ما بذل نقولا لا بيزانو وولده في نحت تماثيل المنابر. وبعد فإن من أسباب عظمة الرجل العظيم أن رجالاً أقل منه قد مهدوا له السبيل، وهيئوا لعبقريته مزاج عصره، وشكّلوا له أداة يمسكها بيديه، وأسلموه عملاً أنجزوا نصفه.(17/306)
الفصل الثاني
دانتي وبياتريس
في شهر مايو من عام 1265 وَلدت بلا ألجيري Bella Alighieri لزوجها ألجيرو ألجيري Alighiero Aligieri ولداً سموه دورانتي Duarante ألجيري، ولعلهما لم يفكرا في ذلك الوقت أن معنى هذين اللفظين هو حاصل الجناح الطويل البقاء. ويبدو أن الشاعر نفسه هو الذي اختصر اسمه الأول دانتي (8). وكان لأسرته سلسلة نسب طويلة في فلورنس. ولكنها حلت بها القافلة، وماتت والدة الطفل في السنين الأولى من عمره، وتزوج ألجيري وغيرها، ونشأ دانتي مع زوجة أبيه، وأخ له غير شقيق، وأختين غير شقيقتين، ولعله لم يكن سعيداً معهم (9). ومات والد دانتي حين كان ابنه في الخامسة عشر من عمره، وخلف لهم عبئاً من الديون (10).
وكان دانتي يذكر من بين مدرسيه برونتو لاتيني Brunetto Latini ولا ينسى فضله عليه. وكان بونتو حين عاد من فرنسا قد اختصر موسوعته الفرنسية الكنز Tresor إلى موسوعة إيطالية صغرى سماها الكنيز Tesoretto وتعلم منه دانتي كيف يخلد الإنسان ذكره Come l'uom s'eterna (11) . وما من شك في أن دانتي قد درس فرجيل، وأنه وجد في دراسته لذة كبيرة، فهو يحدثنا عن أسلوب شاعر مانتوا الجميل، وهل يوجد طالب سواه أحب كتاباً من كتب القدماء حباً جعله يسير وراء مؤلفه في الجحيم؟ ويشير بوكاشيو إلى أن دانتي كان في بولونيا عام 1287. وحصل الشاعر في هذه البلدة أو في مكان سواها قدراً يؤسف له من العلوم ومن فلسفة المعجزات التي كانت منتشرة في زمانه(17/307)
جعل قصيدته مثقلة بعلمه الواسع الغزير. وكان مما تعلمه فضلاً عن هذا ركوب الخيل، والمثاقفة، والتصوير، والغناء. ولسنا نعرف كيف كان يحصل على قوته، وأياً كانت سبيله في تحصيله فإنه كان يقبل في الأوساط المثقفة، لصداقته لكفلكنتي إن لم يكن لأسباب أخرى مضافة إلى هذه الصداقة، وقد وجد في هذه الأوساط كثيراً من الشعراء.
وبدأت أشهر الحوادث الغرامية كلها حين كان دانتي وبياتريس كلاهما في سن التاسعة. وكانت بدايتها كما يقول بوكاشيو في حفلة من حفلات أولمايو أقيمت في بيت فلكو برتناري Folco Portinari أحد كبار المواطنين في فلورنس. وكانت "بيس" الصغيرة ابنة فلكو، والراجح أيضاً أنها هي التي يتحدث عنها دانتي باسم بياتريس (12)، ولكن هذا الرجحان لا يقرب من التأكيد قرباً يزيل شكوك المتزمتين. ولسنا نعرف شيئاً عن هذا اللقاء الأول إلاّ من الوصف الذي كتبه عنه دانتي بعد تسع سنين من ذلك الوقت في فيتا نيوفو Vita Nuovo وخلع عليها فيه من الصفات ما جعلها مثلاً أعلى قال:
كان لباسها في ذلك اليوم من أبدع الملابس، فقد كان ذا لون قرمزي هادئ جميل، وكانت ممنطقة ومزينة بما يناسب سنها الصغيرة. وإني لأقول صادقاً كل الصدق إن روح الحياة المستكنة في أعمق خبايا القلب أخذت من تلك اللحظة ترتجف ارتجافاً عنيفاً اهتزت معه جميع أجزاء جسمي، وقالت هي تهتز: "هاهي ذي إلهة أعظم مني قوة مقبلة لتسيطر عليَّ" وأصبحت من تلك اللحظة عبداً لهواها (13).
إن فتى يقترب من سن البلوغ لفتى ناضج لهذا الارتجاف متأهب له؛ ولقد عرف معظمنا هذه التجربة، وفي وسعنا أن نعود بذاكرتنا إلى ذلك العشق السريع الزوال، ونرى أنه من أكثر التجارب التي تعترض شبابنا روحانياً، وأنه يقظة عجيبة خفية من يقظات الجسم والروح، ندرك بها الحياة، والصلات(17/308)
الجنسية، ونقص الواحد منّا بمفرده، وإن كان الإنسان مع هذا لا يدرك وقتئذٍ رغبة الجسم في الجسم، بل كان ما في الأمر أنه يتوق في الحياء لأن يكون قريباً من حبيبته ويخدمها، ويستمع إلى حديثها، ويراقب ظرفها ورشاقتها. وإذا ما وهبت نفس الشاب حساسية كحساسية دانتي ـ أي إذا كان ملتهب العاطفة قوي الخيال، فقد يبقى هذا الإلهام وذاك النضوج في ذاكرته مدى الحياة، ويظل أبد الدهر حافزاً قوياً له. ويصف لنا دانتي كيف كان يتحين الفرص ليرى بياتريس، وإن لم تتح له إلاّ نظرة لها دون أن تراه هي؛ ثم يبدو أنه ظل لا يراها تسع سنين، حتى بلغا الثامنة عشر من عمرهما، وفي هذا يقول:
واتفق أن تبدت لي هذه الفتاة العجيبة في أثواب ناصعة البياض بين سيدتين من كرائم العقائل أكبر منها سناً. وبينما كانت تجتاز الشارع التفتت إلى الناحية التي كنت واقفاً فيها يجلّلني الحياء، وحبتني بفضل لا أستطيع وصفه ... إذ سلمت عليّ وهي مشرقة البهجة، تحيط بها هالة من الفضيلة والروعة، خيّل إليَّ معها في تلك اللحظة وتلك البقعة أنني قد نلت منتهى ما أصبو إليه من السعادة ... ثم غادرت ذلك المكان ثملاً بنشوة الفرحة ... وفي هذه اللحظة اعتزمت أن أؤلف أغنية، فقد كنت أنزع إلى حد ما أن أقول الحديث المقفى (14).
وهكذا نشأت سلسلة أغانيه وتعليقاته المعروفة باسم الحياة الجديدة La vita nuovo، إذا حاز لنا أن نصدق ما قاله هو عن نفسه. وأخذ في فترات من التسع السنين التالية (1283 - 92) يؤلف مقطوعاته الغنائية، ثم أضاف إليها النثر فيما بعد. وكان يرسل إلى كفلكانتي المقطوعة في إثر المقطوعة، وكان كفلكانتي يحتفظ بها، وأصبح من ذلك الوقت صديقاً له. والقصة الغرامية التي تحدثنا عنها هذه الأغاني من المبتكرات الأدبية إلى حد ما، وإن ذوقنا الذي تبدل في هذه الأيام ليمج هذه القصائد لما فيها من تاليه للحب تأليهاً مسرفاً في الخيال كما كان يفعل شعراء الفروسية الغزلون، وللأحاديث المدرسية المملة التي(17/309)
يفسدها بها، وما تحتويه من البحوث الخفية الغامضة حول الثلاثات والتسعات. لهذا كان من الواجب علينا أن نغض الطرف عن هذه العيوب التي هي في الحق عدوى زمانه:
يقول الحب فيها: "كيف يمكن أن يكون الجسم وهو من تراب نقياً هذا النقاء؟ ".
ثم يقسم وهو لا ينفك يحدق فيها: "حقاً إنها لمخلوق من خلق الله لم يعرف من قبل".
إن لها من شحوب الدرة القدر الخليق بالمرأة الجميلة لا أكثر منه ولا أقل ولقد سمت بالقدر الذي يمكن أن تسمو به الطبيعة وإبداع الخالق، بها يقاس الجمال، وكل ما وقعت عليه نظراتها الحلوة.
خرجت منه أرواح الحب ملتهبة. فإذا نظر الناس إلى هذه الأرواح سرت في عيونهم وأصابت سهام تلك العيون شغاف قلوبهم.
وفي بسماتها ترى الحب مجسّماً فلا يستطيع إنسان أن يطيل النظر إليها (15) وبعض النثر أبعث على السرور من الشعر:
فإذا ظهرت في مكان ما، خيّل إليّ وأنا أؤمل أن تحييني تحيتها الجميلة، أن لم يبق لي في العالم كله عدو، وغمرني في ذلك الوقت فيض من المحبة لا أشك معه في أنني سأعفو عن كل من أساء إليَّ مهما تكن إساءته ... ومشت يجللها التواضع، فلمّا أن غادرت المكان قال كثيرون ممن فيه: "ليست هذه امرأة وإنمّا هي مَلَك جميل هبط من السماء". وإني لأقول بحق إن فيها من الرقة والظرف ما يبعث في نفس كل من ينظرون إليها هدوءاً وسكينة يعجز البيان عن وصفهما (16).
وليس في هذا الافتتان، الذي نحسبه متكلفاً، إشارة إلى فكرة زواجه من(17/310)
بياتريس. ولقد تزوجت بالفعل في عام 1289 من سيمون ده باردي Simon de Bardi، وهو عضو في شركة مصرفية كبرى. ولم يهتم دانتي بهذا الحادث العرضي، بل ظل يكتب فيها القصائد دون أن يذكر اسمها، فلمّا ماتت بياتريس بعد عام من زواجها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، رثاها الشاعر بقصيدة هادئة ذكر فيها اسمها لأول مرة، جاء فيها:
صعدت بياتريس إلى السماوات العلي،
إلى الملكوت الذي يتمتع فيه الملائكة بالسلام.
فهي تعيش معهم، وإن فقدها الأصدقاء،
ولم يدفعها إليه زمهرير الشتاء، كما يدفع غيرها من الناس
لا ولا حر الصيف اللافح،
وإنما اندفعت بغير هذا وذاك، بلطفها الكامل،
لأن هالة عظيمة خرجت من نور جبينها الوضّاء،
فأثارت الدهشة في نفس الخلاق الأزلي،
وسرت فيه رغبة حلوة في ذلك الجمال البارع،
فأمرها أن تتوق إليه في علاه،
لأنه رأى إن هذا المكان الممل الخبيث
غير جدير بكل هذا اللطف وتلك الرقة (17).
ويصورها في قصيدة أخرى يحيط بها في الجنة من يقدمون لها فروض الولاء، ثم يقول:
وبعد أن كتبت هذه المقطوعة، قدر لي أن أرى رؤيا عجيبة. إذ أبصرت أشياء اعتزمت بعدها ألاّ أقول شيئاً قط عن هذه السيدة المنعمة، إلى أن يحين الوقت الذي أستطيع فيه أن أتحدث عنها حديثاً أجدر بها. وأنا أبذل ما وسعني من جهد لبلوغ هذه الغاية، كما تعرف هي بحق. ومن أجل هذا فإذا أراد الله(17/311)
باعث الحياة في كل شيء أن يطيل حياتي عدداً قليلاً من السنين، فإني أرجو أن أكتب فيها ما لم يكتب من قبل في أية امرأة سواها؛ فإذا فعلت فقد يرى المنعم المتفضل أن تغادر روحي هذه الأرض لتتملّى بمجد سيدتها، أعني مجد بياتريس السعيدة التي لا تنفك الآن تتطلع إلى وجه الله العلي القدير.
وهكذا، أخذ كما يقول في ختام كتابه الصغير، يتطلع إلى وضع كتاب أكبر منه وأعظم، "وأخذت مقطوعاتي تتابع بلا انقطاع من أول يوم رأيت فيه وجهها في هذه الحياة، حتى رأيت هذه الرؤيا" التي يختتم بها أقوله في الجنة (18). وكلما عرفنا إنساناً رسم لنفسه طريقاً واضح المنهج، ولم يحد عنه مهما صادفه من ظروف الدهر وطوارق الحدثان.(17/312)
الفصل الثالث
الشاعر في غمار السياسة
بيد أنه حاد في بعض الأحيان عن صراطه المستقيم. فقد تورط دانتي بعد موت بياتريس بوقت ما في خفيف بعد حب خفيف ـ أحب "بيترا Pietra"، " وبرجلتا Paragoletta" و "ليزتا Lisetta" " وغيرهن من الأباطيل التي لم ينتفع بهن إلاّ زمناً قصيراً" (19) وقد وجه إلى سيدة واحدة - يسميها السيدة الظريفة قصائد غزلية - أقل روحانية من قصائده إلى بياتريس. ثم تزوج في عام 1291 وهو في السادسة والعشرين من عمره جما دوناتي Gemma Donati، وهي فتاة من سلالة أقدم الأسر الشريفة في فلورنس. وأنجبت له في عشر سنين عدة أبناء يقدرهم البعض بثلاثة، والبعض بأربعة، والبعض الآخر بسبعة (20). وبلغ من إخلاصه لدستور شعراء الفروسية الغزلين أنه لم يذكر قط زوجته أو أبناءه في شعره، ولو فعل لكان هذا عملاً غير لائق به، لأن الزواج والحب الروائي ضدّان لا يجتمعان.
ثم ألقى بنفسه في بحر السياسة، ولعل الذي ساعده على هذا هو كفلكانتي؛ وأنضم لأسباب لا نعرفها إلى حزب "البيض Blanchi" وهو حزب الطبقة المتوسطة العليا. وما شك في أنه ذا مواهب سياسية، لأنه اختير في عام 1300 لا بعد عضو في المجلس البلدي؛ وحدث في أثناء اضطلاعه بهذا العبء القصير الأجل أن حاول السود Neir يقودهم كورسو دوناتي Corso Donati أن يحدثوا انقلاباً سياسياً مفاجئاً يعيدون به الأشراف الأقدمين إلى الحكم. ولكن المقدومين - أعضاء المجلس البلدي - قمعوا الفتنة وسعوا(17/313)
بموافقة دانتي لنشر لواء السلام في المدينة بنفي زعماء الحزبيين - ومنهم دوناتي - صهر دانتي، وكفلكانتي صديقه. لكن دوناتي غزا فلورنس في عام 1301 بعصبة من السود المسلحين، وخلع المقدمين، واستولى على زمام الحكم؛ ثم حوكم دانتي وخمسة عشر من المواطنين في أوائل عام 1302 وأدينوا بعدة جرائم سياسية، ونفوا من البلدة، وحكم عليهم بأن يقتلوا حرقاً إذا عادوا إلى فلورنس مرة أخرى. ففر دانتي ولكنه ترك أسرته في المدينة لأنه كان يأمل في العودة إليها بعد قليل. واضطره هذا النفي وما صحبه من مصادرة أمواله إلى أن يقضي تسعة عشر عاماً في فقر مدقع وتجوال في البلاد، ملأ قلبه غلاًّ وحقداً، وكانا من أسباب مزاجه النكد الذي يسود موضوع الملهاة الإلهية. أما شركاؤه في النفي فقد أقنعوا مدائن أرِزَّو، وبولونيا، وبستويا بأن تسيّر على فلورنس جيشاً مؤلفاً من 10. 000 مقاتل ليعيدهم إلى السلطة أو في القليل يردهم إلى أوطانهم (1304)، وقد فعلوا هذا على الرغم من نصيحة دانتي لهم ألاّ يقدموا على هذا العمل. وأخفقت هذه المحاولة، واختط دانتي لنفسه من ذلك الوقت خطة خاصة، وعاش مع أصدقائه في أرِزّو، وبولونيا وبدوا.
وكانت السنون العشرة الأولى من نفيه هي التي جمع فيها بعض القصائد التي كتبها إلى السيدة الظريفة، وأضاف إليها تعليقات نثرية استحالت بها هذه السيدة إلى السيدة الفلسفة. ويحدثنا دانتي في قصيدة المائدة ( Conviuio) ( حوالي عام 1308) كيف ولّى وجهه، بعد خيبته في الحب وفي الحياة، نحو الفلسفة ليخفف بها من آلامه؛ وكيف وجد في هذه الدراسة المغرية إلهاماً مقدساً، وكيف اعتزم أن يشرك فيما كشفه من إلهام من لا يستطيعون قراءة اللغة اللاتينية بأن يكتب لهم بالإيطالية. ويبدو أنه كان يفكر في كتابة موجز أو كنز جديد يدعي فيه أن كل جزء من أجزاء تعليق على إحدى قصائده(17/314)
عن السيدة الجميلة. وتلك بلا ريب خطة عجيبة أراد بها أن يستعيض عن الحب الشهواني بالحب المجدب. والكتاب الصغير خليط مهوش من العلوم الغامضة العجيبة، والاستعارات المتكلفة، وشذرات فلسفية مستمدة من بؤيثيوس وشيشرون. ويحق لنا أن نشيد بعبقرية دانتي التي حملته على أن يتخلى عن إتمام هذا الكتاب، ويراه عملاً خاسراً كل الخسران، بعد أن كتب ثلاثة من الشروح الأربعة عشر التي كان يعتزم كتابتها.
وشرع وقتئذ في ذلك العمل المتواضع ألا وهو إعادة حكم أباطرة الدولة الرومانية المقدسة في إيطاليا؛ ذلك أن تجاربه قد أقنعته بأن منشأ ما في المدن الإيطالية من فوضى وعنف هو فهمها الخاطئ المجزًّأ للحرية - فقد كان كل إقليم، وكل مدينة، وكل طبقة، وكل فرد، وكل ذي شهوة يطالب بالحرية الفوضوية. وقد كان هو يتوق إلى ما تاق إليه مكيفلي بعد مائتي عام من ذلك الوقت، إلى قوة تنسق جهود الأفراد، والطبقات، والمدن فتجعل منها كلاًّ منظماً، يستطيع الناس في داخله أن يعملوا ويعيشوا في سلم وأمان. وكان يرى أن هذه السلطة الموحدة إمّا أن تأتي من البابا أو من رئيس الدولة الرومانية الشرقية، التي كان شمالي إيطاليا من زمن بعيد يخضع لها من الوجهة النظرية. غير أن دانتي كان قد نفى من زمن قصير بأمر حزب متحالف مع البابوية؛ وتقول إحدى الروايات غير المؤكدة إنه اشترك في بعثة سياسية غير موفقة أرسلت من فلورنس إلى بنيفاس الثامن؛ وقد ظل البابوات زمناً طويلاً يعارضون في توحيد إيطاليا لأن هذا يعرض لخطر حريتهم الروحية وسلطتهم الزمنية. ولهذا بدا أن الأمل الوحيد في عودة النظام في عودة النظام إلى البلاد هو إعادة السلطة الإمبراطورية، بالرجوع إلى السلم الرومانية التي بسطت لواها روما القديمة.
وفي هذه الظروف كتب دانتي في تاريخ غير معروف رسالته المثيرة في الملكية المطلقة De monarchia، كتبها باللغة اللاتينية، وكانت لا تزال لغة(17/315)
الفلسفة؛ وقال إنهم لما لكان عمل الإنسان الذي يليق به هو النشاط الذهني، ولما كان عجز عن ممارسة هذا النشاط إلاّ في السلم، فإن الحكم المثالي هو إقامة دولة عالمية تقر السلام الدائم وتبسط العدالة على جميع سكان الأرض. فإذا قامت هذه الدولة كانت هي الصورة الصحيحة المطابقة للنظام السماوي الذي وضعه الله في الكون. وكانت روما الإمبراطورية أقرب الدول إلى هذه الدولة العالمية، ولقد أظهر الله رضاءه عن هذه الدولة إذ اختار أن يكون إنساناً في عهد أغسطس، وإذا أمر المسيح نفسه للناس بأن يخضعوا لسلطان القياصرة السياسي. ولم يكن سلطان الإمبراطورية القديمة مستمداً بطبيعة الحال من الكنيسة المسيحية، غير أن الدولة الرومانية المقدسة لم تكن إلاّ هذه الدولة القديمة عادت إلى الوجود. نعم إن البابا هو الذي توج شارلمان إمبراطوراً؛ ولاح بهذا أن الإمبراطورية قد خضعت للبابوية؛ ولكن (اغتصاب حق لا يخلق هذا الحق؛ ولو أنه خلقه لدلت هذه الطريقة عينها على خضوع السلطة الكنسية للدولة المدنية بعد أن أعاد الإمبراطور أتو Otto البابا ليو Leo وخلع بنيفاس) (21).
ولقد كان كتاب الملكية المطلقة دفاعاً قوياً عن قيام (عالم واحد)، ذا حكومة واحدة، وشرائع واحدة، رغم ما في هذا الكتاب من جدل مدرسي، لم يعد يتمشى مع طرائق التفكير السائدة في ذلك الوقت. ولم يكن مخطوط الكتاب معروفاً في أثناء حياة مؤلفه إلاّ لعدد قليل من الناس، ولكنه انتشر بعد وفاته، واتخذه لويس البافاري Louis of Bavaria عدو البابوية وسيلة للدعاوة، ثم أحرق الكتاب علناً بناءً على مرسوم بابوي صدر في عام 1329، وأدرج في القرن السادس عشر في الثبت البابوي المحتوي أسماء الكتب المحرمة، ثم رفعه من هذا الثبت ليو الثالث عشر في عام 1897.
ويقول بوكاشيو إن دانتي ألف كتاب الملكية (حين جاء هنري السادس). ذلك أن ملك ألمانيا غزا إيطاليا في عام 1310 راجياً أن يبسط على شبه الجزيرة(17/316)
كلها، عدا الولايات البابوية، الحكم الإمبراطوري الذي انقضى عهده بموت فردريك الثاني. ورحب به دانتي، وجاشت في صدره آمال كبار؛ وأهاب بمدن لمبارديا، في "رسالة موجهة إلى أمراء إيطاليا وشعوبها" أن تفتح قلوبها وأبوابها إلى "القادم" اللكسمبرجي الذي سينجيها من الفوضى والبابوات. ولمّا وصل هنري إلى ميلان هرع دانتي إليها وألقى بنفسه وهو في نشوة الحماسة عند قدمي الإمبراطور، وخيّل إليه أن كل ما كانت تصوره له أحلامه من قيام إيطاليا الموحدة يوشك أن يتحقق. لكن فلورنس لم تستجب لنداء الشاعر، وأوصدت أبوابها في وجه هنري؛ ووجه دانتي وهو في سورة الغضب رسالة "إلى الفلورنسيين أشد الناس إجراماً Scelestissimis Florentinis ( مارس 1311) قال فيها:
ألا تعرفون أن الله قد أمر أن يخضع بنو الإنسان كلهم لحكم عاهل واحد ليدافع عن العدالة، والسن، والحضارة؟ وأن إيطاليا كانت على الدوام فريسة للحرب الأهلية كلما زال عنها سلطان الإمبراطورية؟ يا من تعتدون على القوانين البشرية والإلهية ويا من يدفعكم النهم الرهيب إلى ارتكاب كل جريمة مهما بلغت من الشناعة - ألم تروعكم رهبة الميت الثانية فخرجتم على مجد الأمير الروماني، ملك الأرض ومبعوث الله؟ ... يا أحمق الناس وأبلدهم إحساساً! سوف تخضعون صاغرين إلى النسر الإمبراطوري! (24).
وساء دانتي وملأ قلبه هلعاً أن هنري ترك فلورنس وشأنها؛ ولهذا كتب الشاعر إلى الإمبراطور في شهر إبريل كما كتب نبي من أنبياء إسرائيل يحذر الملوك فقال:
لسنا ندري أي خمول يقعدك عن العمل هذا الزمن الطويل ... إنك تضيع الربيع كما تضيع الشتاء في ميلان ... (لعلك لا تعرف) أن فلورنس مصدر الشر المستطير ... وأنها هي الأفعى ... التي تنفث من أنفاسها الفاسدة الدخان الموبوء الذي يقضي على القطعان المجاورة لها ... هُبَّ إذن يا ابن يسَّي Jesse النبيل! (25).(17/317)
وكان رد فلورنس أن أعلنت نفي دانتي، وحرمانه أبد الدهر من كل عفو يصدر عن الخائنين. وترك هنري فلورنس دون أن يمسها بسوء، وانتقل عن طريق جنوى وبيزا إلى روما حيث توفي (1313).
وكان موته من أشد الفواجع التي حلت بدانتي؛ ذلك أنه قد قامر بكل شيء على انتصار هنري، وحرق من ورائه كل الجسور الفلورنسية، ولم ير أمامه إلاّ أن يفر إلى جبيو Gibbio ويلجأ إلى دير الصليب المقدس (سانتا كروس Santa Croce) . ويبدو أنه كتب في هذا الدير جزءاً كبيراً من الملهاة المقدسة (26). غير أنه لم يكن قد شبع من السياسة فقد كان في أغلب الظن مع أجشيوني دلا فجيولو Uguccione della Fuggiulo في لوكا Lucca عام 1316؛ وفي ذلك العام هزم فجيولو الفلورنسيين عند مونتي كاتيني Montecantini؛ ثم استفاقت فلورنس من هذه الهزيمة وضمت ابني دانتي إلى المحكوم عليها بالإعدام - ولم ينفذ هذا الحكم قط. وخرجت لوكا على أجشيوني وألفا دانتي نفسه بلا وطن. ورأت فلورنس في نشوة النصر أن تكون كريمة، وأن تنسى أحكامها الأبدية، فعرضت أن تعفو عن جميع المنفيين وتؤمنهم على حياتهم إذا عادوا إليها، على شرط أن يؤدوا لها غرامة مالية، وأن يسيروا في شوارع المدينة في أثواب الندم، وأن يزج بهم في السجن وقتاً قصيراً. وتطوع أحد أصدقاء دانتي بإبلاغه هذا القرار، فرد عليه برسالة ذائعة الصيت قال فيها:
إلى صديق فلورنس: تلقيت رسالتك بما يليق بها من الإجلال والحب، وأدركت منها بقلب مفعم بالشكر ... أن عودتي إلى بلدي عزيزة على نفسك. ولكن انظر إلى ما هو مفروض عليَّ ... ذلك أنني إذا ما قبلت أن أؤدي قدراً من المال وأن أتحمل وصمة السجن، فسيعفى عنّي فأستطيع العودة من فوري ..
فهل هذه إذن هي الدعوة الكريمة التي توجه إلى دانتي ألجيري ليعود إلى(17/318)
بلده بعد أن صبر على النفي ما يقرب من خمسة عشر عاماً ... إن رجلاً ينادي بالعدالة لا يطيق أن يؤدي ما له إلى من يرتكبون المظالم، كأنهم يحسنون إليه. ألا إن هذه ليست الطريقة التي أعود إلى بلدي ... فإذا كان ثمة طريقة أخرى ... لا تزري بكرامة دانتي ... فإني لن أتوانى قط عن اتباعها؛ أما إذا لم يكن دخول فلورنس مستطاعاً بهذه الطريقة الأخرى، فإني لن أدخلها أبداً ... ما هذا الذي تقول! أليس في وسعي أن أستمتع بنور الشمس وجمال النجوم في كل مكان على ظهر الأرض؟ أليس في مقدوري أن أفكر في أعظم الحقائق شأناً؟ (27)
واغلب الظن أنه قبل في أواخر عام 1316 دعوة وجهها إليه كانْ جراندي دلا اسكالا Can Grande Della Scalla، حاكم فيرونا لأن يجيء إليه ويعيش في ضيافته. ويبدو أنه أتم في هذه البلدة قسم الجنة في الملهاة المقدسة (1318) - وفيها بلا ريب أهدى هذا القسم إلى كان جراندي. وفي وسعنا أن نصوره في تلك الفترة من حياته - أي في الحادية والخمسين من عمره - كما صوره بوكاشيو في الحياة الجديدة عام 1354؛ نصوره رجلاً متوسط القامة "منحني الظهر قليلاً" يسير بخطى وقورة متزنة تنم عن المهابة والانقباض، ذا شعر أسود وبشرة سمراء، ووجه طويل ينم عن كثرة التفكير، وجبهة بارزة مغضنة، وعينين غائرتين ذواتي نظرات صامتة، وأنف رفيع أقنى، وشفتين منطبقتين، وذقن بارز (28).
ذلك وجه روح كانت من قبل وادعة ظريفة، ولكن الآلام جعلتها نكدة مريرة؛ ولي سمن السهل على دانتي صاحب الوصف الوارد في الحياة الجديدة أن يتصنع كل ما وصفه به هذا الكتاب من شفقة ورقة عاطفة؛ وأن شيئاً من هذه الصفات ليظهر فيما بدا عليها من حنان وهو يستمع إلى قصة فرانسيسكا. وكان عبوساً صارماً شأن الرجل المغلوب على أمره المنفي من بلده، وقد أكسبته الشدائد حدة في اللسان، وغطرسة يغطي بها ما فقده من قوة وسلطان.(17/319)
فكان يفخر بنسبة لأنه كان فقيراً، ويحتقر رجال الطبقة الوسطى من أهل فلورنس الذين يجرون وراء المال؛ ولم يكن في وسعه أن يغفر لبرتناري زواج بياتريس من مصرفي؛ وسلك طريق الانتقام الوحيدة التي وجدها أمامه فوضع أمامه المرابين في الدرك الأسفل من النار. ولم يكن ينسى قط أذى أو إهانة وما أقل من سلم من أعداءه من سموم قلمه. وكان يرى أن الذين يبقون على الحياد في الثورات أو الحروب أقل نفعاً في نظره منهم في نظر سولون. وكان منبع صفاته الخلقية كلها هو الشدة الملتهبة: "لم أكن ما أنا بفضل ثرائي بل بفضل الله عليَّ، وإن غيرتي على بيته لتشعل النار في قلبي" (29).
وقد افرغ في قصيدته كل ما وهبه الله من قوة، ولم يكن أن يستطيع أن يعيش بعد تمامها زمناً طويلاً. ففي عام 1319 غادر فيرونا وسافر إلى رافنا ليعيش فيها مع الكونت جيدو دا بولنتا Count Guido da Polenta، ثم تلقى دعوة من بولونيا للقدوم إليها لكي يتوج فيها شاعراً لبلاطها، ورفض الدعوة بأنشودة رعوية كتبها باللغة اللاتينية. وفي عام 1321 أرسله جيدو إلى مدينة البندقية في بعثة سياسية كان نصيبها الإخفاق، وعاد دانتي من هذه البعثة مريضاً بحمى أصابته من مستنقعات فينيتو Veneto. ولم يستطع جسمه الضعيف مقاومة المرض، فقضى عليه في 14 سبتمبر سنة 1321 وهو في السابعة والخمسين من عمره. واعتزم الكونت أن يقيم شاهداً على قبر الشاعر، ولكن شيئاً من هذا لم يتم، أما النقش القليل البروز القائم فوق التابوت الرخامي في هذه الأيام فقد نحته بيترو لمباردو عام 1483، والعالم كله يعرف أن بيرون جاء إليه وبكى، والقبر في هذه الأيام لا يكاد يبدو للناظر، يجده الإنسان في أحد الأركان وهو قادم من أكثر ميادين رافنا ازدحاماً بالأعمال، وإذا ما قدمت إلى حارسه المقعد الطاعن في السن بضع ليرات أنشدك بعض قطع جميلة طنانة من القصيدة التي يمتدحها الناس جميعاً ولا يقرؤها منهم إلاّ القليلون.(17/320)
الفصل الرابع
الملهاة المقدسة
1 - القصيدة
يقول بوكاشيو إن دانتي بدأها بالشعر اللاتيني السادس الأوتاد- (ذي الستة تفاصيل) - ولكنه استبدل به اللغة الإيطالية، لكي تصل قصيدته إلى عدداً أكبر من القراء. ولعله تأثر في اختياره بقوة عاطفته؛ فقد بدا له أن التعبير عن الانفعال باللغة الإيطالية أيسر منه باللغة اللاتينية التي طال ارتباطها بالحياة المدنية والقيود القديمة. وكان في شبابه قد قصر اللغة الإيطالية على شعر الحب؛ أما الآن وقد جعل موضوعه أسمى فلسف، وهي افتداء البشرية عن طريق الحب، فقد خطر بباله أن يقدم على التحدث بلغة بلاده. وكان في وقت ماض غير معروف قد بدأ مقالاً لاتينياً لم يتمه سماه في فصاحة اللغة الشعبية De vulgari eloquentia، أراد به أن يغري الطبقة المتعلمة بالتوسع في استخدام اللغة القومية. وقد امتدح فيه جزالة اللغة اللاتينية وإحكامها، ولكنه عبر عن أمله في أن تسمو اللغة الإيطالية فوق لهجاتها العامية بفضل أشعار دولة فردريك، والأسلوب الجديد الذي ابتدعه شعراء التسكان واللمبارد القصاصون، فتصبح (كما ورد في المأدبة"غاصة بأروع التعابير وأجملها") (30). ولم يكن دانتي نفسه- الذي نعلم عن كبريائه ما نعلم- يتصور أن ملحمته ستجعل اللغة الإيطالية صالحة للتعبير عن أي غرض من الأغراض الأدبية، وأنها لن تكتفي بهذا بل ستسمو بهذه اللغة إلى درجة من العذوبة والرقة قلّما عرف لها العالم مثيلاً.
ولم يبذل في إعداد قصيدة ما من الجهد مثل ما بذل دانتي في إعداد قصيدته.(17/321)
وكانت نزعة إلى التثليث- تعبر عن الثالوث الديني المقدس- وتنم عن ضعف الشاعر هي التي عينت شكل القصيدة فجعلتها مؤلفة من ثلاثة "أناشيد"، كل نشيد ثلاث وثلاثون أغنية، تقابل سني حياة المسيح على هذه الأرض، تضاف إليها أغنية أخرى في النشيد الأول فتكون عدتها مائة كاملة. واعتزم أن يكتب كل أغنية في مجموعات كل منها ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة في قافيته مع البيتين الأول والثالث من المجموعة التي بعدها. وليس ثمة ما هو أكثر تكلفاً من هذا، ولكن ما من فن يخلو من التكلف، وخير ما يمكن أن يصنعه الفنان أن يخفي تكلفه؛ وهذه القافية الثلاثية terza rima تربط كل أغنية بالتي تليها، وتؤلف منها كلها أغنية واحدة متصلة، تنساب في لغتها الأصلية انسياباً سهلاً على اللسان، ولكنها إذا ترجمت تعثرت وبدت كليلة. ولقد ندد دانتي مقدماً بكل ترجمة لقصيدته، فما من شيء يسري فيه توافق الاتصال الموسيقي يمكن أن ينقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى دون أن يفقد حلاوته وتوافقه (1).
وكما أن أبيات القصيدة هي التي عينت صورتها، فإن الاستعارات هي التي عينت قصتها، وقد شرح دانتي في الرسالة التي أهدى بها القصيدة إلى كان جراندي (32) ما تنطوي عليه أناشيده من رموز، ولنا أن نظن أن شرحه هذا فكرة متأخرة لاحت لشاعر كان يريد أن يكون فيلسوفاً، ولكن انهماك العصور الوسطى في الرمزية، وما كان في الكنائس الكبرى من تماثيل رمزية، ومظلمات جيتو، وجادي Gaddi ورفائيل، وكلها رمزية، وتسامي دانتي الرمزي في الحياة الجديدة والمائدة، كل هذا يوحي بأن الشاعر كان يفكر في النقط الرئيسية لمشروعه الذي وصفه وصفاً مفصلاً قد يكون خيالاً. ويقول دانتي أن
_________
(1) ومن واجبنا أن تستثني من هذا ترجمة دانتي جبريل روزتي للحياة الجديدة ومن جاءوا قبل دانتي.(17/322)
القصيدة تتبع "جنس" الفسلفة، وأن موضوعها هو الأخلاق. وهو يفعل ما يفعله عالم الدين الذي يفسر الكتاب المقدس فيجعل لكلماته ثلاث معاني: الحرفي، والمجازي، والصوفي.
"وموضوع هذه القصيدة حسب معانيها الحرفية ... هو حال الأرواح بعد الموت ... أما إذا نظرنا إليها نظرة مجازية فإن موضوعها هو الإنسان من حيث تعرضه للثواب والعقاب العادلين الذين يستحقهما بسبب أعماله الطيبة أو الخبيثة .. والغرض المقصود منها في مجموعها وأجزائها هو انتشال من يحيون هذه الحياة مما يعانونه من شقاء، وإرشادهم إلى طريق السعادة".
وإذا عبّرنا عن هذه المعاني بطريقة أخرى قلنا إن الجحيم Inferno هي مرور الإنسان بالخطيئة، والعذاب، واليأس؛ وإن المطهر هو تطهيره عن طريق الإيمان؛ والفردوس هو نجاته عن طريق الوحي الإلهي والحب غير الأناني. وبمثل فرجيل، الذي يقود دانتي خلال الجحيم والمطهر، والمعرفة والعقل، والحكمة. وهي التي تستطيع أن تقودنا إلى أبواب السعادة؛ والإيمان، والحب (بيرتيس) وحدهما هما اللذان يدخلاننا فيها. وكان النفي في ملحمة حياة دانتي هو جحيمه، كما كانت دراساته وكتاباته هي مطهرة، وكانت آماله وحبه هما نجاته وسعادته اللتين لم تكن له غيرهما نجاة أو سعادة. ولعل اتخاذ دانتي رمزيته في الفردوس مأخذ الجد الشديد هو الذي يجعل هذا النشيد أكثر أناشيده استعصاء على الفهم؛ ذلك بأن بياتريس التي كانت في الحياة الجديدة رؤيا سماوية تصبح في تصويره السماء تجريداً ذا أبهة وفخامة- ومثل هذا الجمال البريء غير خليق بهذا المصير. ويشرح دانتي لكان جراندي في آخر الرسالة سبب تسميته ملحمته ملهاة- Commedia (1) فيقول أن القصة انتقلت من الشقاء إلى السعادة، و (إنها
_________
(1) وقد أضاف إليها المعجبون بها صفة Divrina ( المقدسة) في القرن السابع عشر.(17/323)
كتبت بأسلوب مهلهل وضيع، باللغة العامية التي تتحدث بها ربات المنازل أنفسهن" (33).
وكانت هذه الملهاة الأليمة وهي "الكتاب الذي هزل فيه جسدي هذه السنين الطوال" شغله وسلوته في منفاه، ولم يفرغ منها إلاّ قبل موته بثلاث سنين. وقد لخص فيها حياته، وتعليمه، وآراءه الدينية، وفلسفته؛ ولو أنها احتوت فضلاً عن هذا ما كان في العصور الوسطى من فكاهة، ورقة، وشهوانية عارمة لجاز أن تكون من المؤلفات "الجامعة في العصور الوسطى". ذلك أن دانتي قد حشر في هذه المائة من الأناشيد المنجزة كل ما أخذه من العلم عن برونتو لاتيني، ولعله حشر فيها أيضاً ما تعلمه في بولونيا- حشر فيها كل ما كان هناك من فلك وعلم الكون، وطبقات الأرض، والتوقيت في عصر تمنعه المشاغل من أن يكون عصر علم. ولم يكن يؤمن فوق ذلك بجميع الأساطير المعماة الملغزة التي كانت تعزو معاني وقوة خفية للأعداد ولحروف الهجاء. فكان يقول مثلاً إن العدد 9 يميز بياتريس من غيرها لأن جذره التكعيبي هو 3 الذي جعله الثالوث رقماً مقدساً. وفي الجحيم تسع دوائر، وتسع طبقات في المطهر، وتسع طبقات كرية في الفردوس. ويستمد دانتي في رهبة واعتراف بالجميل قسطاً كبيراً من فلسفة أكوناس وعلوه الدينية، ولكنه لا يسير وراءه سيراً حقيقياً ولا يراعي الأمانة في النقل عنه. وما من شك في أن القديس تومس لم يكن يرتاح إلى الحجج الواردة في كتاب الملكية أو إلى رؤية البابوات في الجحيم، وإن تصوير دانتي لله بأنه نور وحب "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم" (23) لهو قول أرسطو انتقل إليه عن طريق الفلسفة العربية. وكان يعرف الشيء القليل عن الفارابي، وابن سينا، والغزالي؛ وأبن رشد؛ ويضع ابن رشد في المحيط الخارجي للجحيم، ولكنه يهز مشاعر المتينين بوضعه(17/324)
سيجر البرابنتي Siger de Brabant معتنق مذهب ابن رشد في الفردوس (36). وفضلاً عن هذا فهو ينطق تومس بالثناء على الرجل الذي أثار ثائرة هذا العالم الديني الذي يكاد يصل إلى مرتبة الملائكة. غير أنه يبدو أن سيجر أنكر عقيدة الخلود الفردي الذي هو دعامة قصيدة دانتي؛ ولهذا فإما أن يكون التاريخ قد تعالى في وصف سيجر بالزيغ والضلال أو في وصف دانتي بالاستمساك بالدين.
وتؤكد الدراسات الحديثة ما استمده دانتي من المصادر الشرقية وبخاصة المصادر الإسلامية كقصة أردا فيراف التي تصف الصعود إلى السماء، ووصف الجحيم الوارد في القرآن، وقصة المعراج، ووصف الجنة والنار في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري؛ وفتوحات ابن عربي ... ففي رسالة الغفران يصور المعري إبليس بعذب في الجحيم وهو مقيد بالأغلال، كما يصور الشعراء المسيحيين وغيرهم من "الكفرة" يعذبون فيها. وتستقبل صاحب القصة عند باب الجنة واحدة من الحور العين، اختيرت لترشده (38). وقد رسم ابن عربي في الفتوحات الحياة الآخرة رسماً دقيقاً، ووصف الجنة والنار بأنهما فوق بيت المقدس وتحتها مباشرة، وقسم النار والجنة إلى سبع طبقات، وصور مكان الملائكة المسبحين حول النور القدسي- وصف ذلك كله كما ورد في الملهاة المقدسة لا يفترق عنه في شيء (39) (ونقول هنا استطراداً إن ابن عربي كتب قصائد في الحب يفسرها المفسرون تفسيراً مجازياً دينياً)، ومبلغ علمنا أن شيئاً من هذه الكتابات العربية لم يكن قد ترجم قبل زمان دانتي إلى أية لغة يستطيع قراءتها.
وقد وردت في الآداب الدينية اليهودية والمسيحية غير المعترف بها أوصاف لرحلات أو رؤى في الجنة أو النار؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر ما ورد في وصفهما في الكتاب السادس من إنياذة فرجيل. وتقول قصة أيرلندية إن القديس باتريك زار المطهر والجحيم، ورأى فيهما أثواباً وأحزمة من نار، والمذنبين معلقين فيها من أرجلهم، أو تلتهمهم الأفاعي أو يغطيهم الجليد (40). ووصف قس إنجليزي(17/325)
قصاص يدعى آدم ده رس Adam de Ros في قصيدة طويلة طواف القديس بولس في النار يقوده الملاك ميخائيل؛ وينطق ميخائيل بوصف مراتب العقاب التي توقع على درجات الذنوب المختلفة، ويظهر بولس وهو يرتجف من هذه الأهوال كما يرتجف منها دانتي (41). وتحدث قبل هذا يواقين الفلوري Jaockin of Flora عن هبوطه إلى الجحيم وصعوده إلى السماء. وجملة القول أنه قد وجدت مئات من هذه الرؤى والقصص؛ وأمام هذا الحشد الكبير من الأوصاف المروعة نرى أنه لم يكن دانتي بحاجة إلى أن يتخطى الحواجز اللغوية إلى الآداب الإسلامية لكي يجد فيها نماذج لوصف الجحيم. ولقد فعل دانتي ما يفعله كل فنان فمزج ما لديه من مادة وبدل فوضاها نظاماً، ووضعها فوق النار بعد أن أضاف إليها خياله القوي وإخلاصه الملتهب. ولقد أخذ عناصر وصفه أنى وجدها- من تومس، ومن شعراء الفروسية الغزلين، ومن مواعظ بطرس دميان النارية وما ورد فيها من وصف لعذاب الجحيم، ومن تفكيره الطويل في بياتريس في حياتها وبعد موتها، ومن صراعه مع السياسيين والبابوات، ومن العلوم القليلة التي اعترضت طريقه؛ ومن اللاهوت المسيحي وما ورد فيها عن سقوط آدم، وعن التجسد والخطيئة، والغفران، ويوم الحساب؛ ومن الفكرة الأفلوطينية- الأوغسطينية عن مدارج صعود الروح حتى تتحد مع الله. ومن توكيد تومس أن الرؤى الطوباوية هي الهدف الأخير الذي يغتبط به الأبرار؛ من هذا كله صاغ القصيدة التي وجدت فيها روح العصور الوسطى وما يحيط بها من رعب، وأمل، واغتراب صوتاً، ورمزاً، وصورة تعبر بها وتصورها.
2 - الجحيم
"وجدت نفسي وأنا في منتصف طريق حياتنا في غابة مظلمة كانت الجادة فيها غير واضحة ومفقودة" (42). وبينما كان دانتي يجول في هذه الظلمة إذ التقى(17/326)
بفرجيل "أستاذي ومرشدي الذي أخذت عنه وحده الأسلوب الجميل الذي شرفت به" (43). ويخبره فرجيل أن السبيل السليمة الوحيدة للخروج من الغاية هي اجتياز الجحيم والمطهر؛ فإذا ما صحبه دانتي فيهما فسيقوده إلى أبواب الفردوس، "حيث يتولى إرشادك من هو أجدر مني وأكرم". ويضيف إلى هذا في صراحة أنه جاء ليقدم العون إلى الشاعر بأمر بياتريس. ويمران خلال فتحة في سطح الأرض إلى أبواب الجحيم، نقشت عليها هذه الألفاظ المريرة: "من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة؛ ومن خلالي يدخل الإنسان الآلام السرمدية؛ ومن خلالي يدخل الإنسان بين الأجناس الضالة. لقد حركت العدالة خالقي الأعلى؛ وصنعتني القوة الإلهية هي والحكمة العليا والحب الأزلي. ولم يخلق قبلي سوى الأشياء الأزلية، وأنا باقية أبد الدهر؛ فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار! ".
والجحيم فتحة تحت الأرض تمتد إلى مركزها. ويصورها دانتي بخيال قوي يكاد يبلغ الغاية في الاكتئاب: فهي هاوية سحيقة مظلمة مرعبة، بين صخور ضخمة قاتمة؛ تتصاعد من منافذها الأبخرة والروائح الكريهة، وتجتاحها السيول الجارفة، وبها بحيرات ومجار؛ وعواصف من المطر، والثلج، والبرد؛ ومشاعل من لهب؛ وتزمجر فيها الرياح والزمهرير الذي يجمد فيه الدم والجسد؛ وبها أجسام معذبة، ووجوه كالحة مقطبة؛ ويشقها صراخ وأنين يقف لهما الدم في العروق. وفي أعلى مكان في هذه الفتحة الجهنمية يقيم من لم يكونوا أخياراً أو أشراراً، ومن وقفوا على الحياد بين الخير والشر. أولئك يعاقبون بآلام خسيسة، تلسعهم الزنابير، ويأكلهم الدود، ويحرق قلوبهم الحسد والندم، وهؤلاء يزدريهم دانتي الذي لم يقف على الحياد في يوم من الأيام.
"الرحمة والعدالة تزدريانهم، ونحن لا نتحدث عنهم، بل نلقي نظرة عليهم ونمر بهم". ويعمل الجائلان إلى نهر أكرون Acheron في باطن الأرض،(17/327)
ويعبره بهما كارون Charon الذي يعمل في ذلك المكان من أيام هومر فإذا عبراه وجد دانتي نفسه في المحيط الخارجي للجحيم حيث يقيم الصالحون الذين لم يعمدوا، ومنهم فرجيل وجميع الصالحين من عبدة الأوثان، وجميع اليهود الصالحين إلا عدداً قليلاً من أبطال العهد القديم الذين أطلقهم المسيح حين زار هذا المحيط الخارجي ورفعه إلى السماء. وكل ما يعذب به هؤلاء هو رغبتهم الأبدية في مصير خير من مصيرهم، وعلمهم بأنهم من ينالوا هذا المصير. وفي هذا الموضع من الجحيم شعراء وثنيون يعظمهم كل المقيمين فيه - هومر، وهوراس، وأوفد، ولو كان؛ وهؤلاء يرحبون بفرجيل ويحلون دانتي المكان المقدس بينهم، ثم يقول دانتي: وأنظر إلى أعلى "فأرى سيد العارفين يجلس بين أسرة الفلاسفة" أي أرسطو يحيط به سقراط، وأفلاطون، ودمقريطوس، وديجين، وهرقليقوس، وأنكسغوراس وأنبادقليس، وطاليس، وزنون، وشيشرون، وسنكا، وإقليدس، وبطليموس، وأبقراط، وجالينوس، وابن سينا، وابن رشد"الذي ألف الشرح العظيم" (48). وما من شك في أنه لو كان دانتي مطلق الحرية في رأيه لوضع في الجنة هذه الفئة النبيلة كلها، ومن بينها فلاسفة المسلمين المخالفين له الدين.
ثم يقوده فرجيل إلى الدائرة الثانية، حيث تتقاذف الرياح العاتية الذين ارتكبوا خطايا جسدية شهوانية لا يستريحون منها أبداً. وهنا يشاهد دانتي باريس، وهِلِين، وديدو، وسميراميس، وكليوبطرة، وترستان، وباولو، وفرانسسكا. وقصة فرانسسكا كما يرويها دانتي تتلخص في أن فرانسسكا دا بولنتا الجميلة أريد لها أن تتزوج جيانسيتو مالا تستتا Gianciotto Malateste الشجاع المشوه لتقضي بزواجها على نزاع قام بين أسرة بولنتا سادة رافنا، وأسرة مالتستا سادة ريميني. هذا هو الجزء المؤكد في القصة، أما بقيتها فغير مؤكدة. فهناك رواية يقبلها الكثيرون تقول إن باولو Paolo الوسيم أخا جيان سيتو يدّعي(17/328)
أنه هو الخطيب، وأن فرانسسكا تعاهده على أن تتزوج به، ولكنها تجد في يوم العرس أنها تزف على الرغم منها إلى جيان سيتو. ثم لا يمضي إلاّ القليل من الوقت حتى تستمتع بحب باولو؛ ويقبض عليها جيان سيتو ويقتلها في تلك اللحظة (حوالي 1265). وتُقَص فرانسسكا داريميني قصتها وهي تتأرجح في الريح خيالاً بلا جسد إلى جانب روح حبيبها غير المجسد:
"إن أشد ما يحزن الإنسان أن يذكر أيام الهناء حين يقترب منه الشقاء ... كنا في يوم من الأيام نتسلى بقراءة لانسلت، وكيف استبد به الهوى. وكنا في تلك الساعة وحدنا ولا يوجد بالقرب منا ما نرتاب فيه. وكثيراُ ما كانت أعيننا تتبادل النظرات في أثناء هذه القراءة، وذهب اللون من خدودنا وتبدلت صورتها. ثم وقعت أعيينا على نقطة في الكتاب واحدة، وذلك حين وصلنا إلى تلك القبلة المشتهاة التي طبعها في هيامه ونشوته فتى برح به الوجد. وفي تلك اللحظة طبع وهو يرتجف قبلة على شفتيَّ، طبعها ذلك المحب الذي لن يفارقني قط. لقد كان الكتاب وكاتبه كلاهما مبعوثين من عند الحب. ولم نقرأ شيئاً في صحفه بعد ذلك اليوم" (47).
ويتملك الأسى دانتي حين يسمع هذه القصة فيغمى عليه، ثم يفيق فيجد نفسه في الدائرة الثالثة من الجحيم، حيث يستقر من كان ذنبهم النَّهم في حمأة تحت عاصفة دائمة من الثلج، والبرد، والمياه القذرة، وحين ينبح في وجوههم سر بيروس Cerberus ويمزقهم إرباً بأنيابه الثلاثية. ثم يهبط فرجيل ودانتي إلى الدائرة الرابعة، حيث يقيم أفلوطس Plutus؛ وهنا يلتقي المبذرون والبخلاء ويقتتلون، ويلقى بعضهم على بعض أثقالاً ضخمة في حرب سيسفية (1) Sisyphean
_________
(1) نسبة إلى سيسفس ملك كورنثية الذي حكم عليه أن يرفع إلى أعلى تل حجراً ضخماً، وكلما رفع هذا الحجر إلى أعلى التل تدحرج إلى أسفله، وبهذا أصبح عمله هذا أبدياً لا ينقطع. وهذا هو المعنى المقصود بهذا اللفظ في المتن. (المترجم)(17/329)
ويسير الشاعران بأزاء نهر استيكس Styx المظلم الذي يغلى ماؤه، حتى يصلا إلى الدائرة الخامسة؛ حيث يقيم من كان ذنبهم الغضب ملطخين بالأقذار، يضربون أنفسهم ويمزقون أجسادهم. والذين كان ذنبهم الكسل والتراخي يغمرون في ماء البحيرة الأستيجية Stygiam الآسن، وتعلو سطحها الطيفي فقاعات من زفيرهم. وينقل فليجاس Phlegyas على سطح البحيرة حتى يصلا في الدائرة الثالثة إلى مدينة ديس Dis، أو الشيطان Lucifer، حيث يشوى الملحدون في قبور ملتهبة؛ ثم يهبطان إلى الدائرة السابعة، وهناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف تحت راية المنوتور Minotaur (1) يكادون على الدوام يغرقون في نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون (2) بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. ويريان قسم من هذه الدائرة المنتحرين ومنهم بيرو دل فني Piero delle Vigne، وفي قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار. ويلتقي دانتي بين السدوميين بمعلمه القديم برونتو لاتيني- وهو مصير لا يليق بشخص كان هادياً لدانتي وصديقاً له وفيلسوفاً.
وتظهر عند طرف الدائرة الثامنة هولة مروعة تحمل الشاعرين وتنحدر بهما إلى هاوية المرابين؛ وفي أحد أخوار هذه الهاوية يشاهدان طائفة عجيبة من الآلام السرمدية يعذب بها من يغوون النساء، والمتملقون والمتجرون بالوظائف الدينية. وهؤلاء المتجرون يعلقون من أرجلهم في حفر لا تظهر منها إلا سيقانهم، ويلحس اللهب أقدامهم تدليلاً لهم. ومن بين هؤلاء المتجرين البابا نقولاس الثالث (1277 - 1280)؛ ويندد دانتي أشد التنديد بسوء أعمال هذا البابا وغيره
_________
(1) مخلوق خرافي له رأس ثور وجسم إنسان. (المترجم)
(2) القنطور أو السنطر مخلوق وهمي نصفه إنسان والنصف الآخر فرس. (المترجم)(17/330)
من البابوات؛ ويصور نقولاس هذا صورة فذة جريئة فيقول إن البابا يحسب أن دانتي هو بنيفاس الثامن (المتوفي عام 1303) وأن قدومه إلى الجحيم متوقع في أية لحظة من اللحظات (48). ويتنبأ نقولاس بأن كلمنت الرابع (المتوفي عام 1314) سينضم إليهم بعد زمن قليل. وفي الخور الرابع من الدائرة الثامنة يقيم من يدعون معرفة الغيب، ورءوس أولئك الأقوام مثبتة في أعناقهم ومتجهة نحو ظهورهم. ويطل الشاعران من جسر - "ماليبلج Malebolge"- فوق الخور الرابع فيريان من تحتهما مختلسي الأموال العامة يسبحون إلى أبد الدهر في بحيرة من القار في درجة الغليان. أما المنافقون فلا ينقطع مرورهم حول الخور السادس في أردية من الرصاص مطلية بالذهب. ويشاهد في الممر الوحيد الذي يخترق هذا الخور قيافي مصلوباً وملقى على الأرض بحيث لا يستطيع أحد اجتياز الطريق إلا إذا وطئ جسده. وفي الخور الرابع يعذب اللصوص بأفاع سامة؛ وهنا يتعرف دانتي على عدد من الفلورنسيين، ويشاهد عقد قائم فوق الخور الثامن لهيباً يحرق جلوده مثيري السوء، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب؛ ويرى من بين هؤلاء أديسيوس المخادع. وفي الخور التاسع يستقر النمامون والعاملون على الانشقاق تنتزع أطرافهم طرفاً بعد طرف.
وفي الخور العاشر من الدائرة الثامنة يرقد المزورون، والمزيفون، والكيميائيون الكاذبون، يئنون من أوجاع مختلفة، وتملأ الهواء من حولهم رائحة كريهة هي رائحة العرق والصديد، وأنين المعذبين يملأ الهواء بأصوات كقصف الرعد.
وينتهي مطاف الشاعرين بالدائرة التاسعة وهي الدرك الأسفل من الجحيم، ومن عجب أن توصف بأنها هوة واسعة من الجليد؛ وفيها يدفن الخونة في الجليد إلى أذقانهم، وتتجمد دموع الألم فتصبح قناعاً متبلوراً فوق وجوههم. ومن بين هؤلاء يرى كونت أجولينو دلا غراردسكا Count Ugolino della Gheardesca الذي خان بيزا مشدوداً أبد الدهر إلى رجييري Ruggieri كبير الأساقفة، الذي(17/331)
سجنه هو وأبناءه وأحفاده وتركهم كلهم يموتون جوعاً. والآن يستند رأس أجولينو على رأس كبير الأساقفة، ويظل رجييري إلى الأبد يضع رأس أجولينو وفي مركز الأرض أي في قاع فتحة الجحيم الآخذة في الضيق يرقد الشيطان (لوسفر) الجبار مدفوناً في الجليد إلى وسطه يرفرف بجناحين ضخمين مثبتين في كتفيه، ويذرف من وجوهه الثلاثة التي تقسم رأسه دموعاً من الدم المتجمد من شدة الزمهرير، ويمضغ في كل فك من فكوكه الثلاثة أحد هؤلاء الخونة: بروتس، وكاسيوس، ويهوذا Judas.
وقصارى القول أن نصف الأهوال التي كانت تزعج الأنفس في العصور الوسطى قد جمعت في هذه القصة الدموية. وكلما أمعن الإنسان في قراءة صحفها الرهيبة ازداد رعباً على رعب حتى تطغى عليه نتيجة هذا الرعب آخر الأمر فلا يعود يطيقها. وإن ذنوب الإنسان وجرائمه في هذا العالم وفي جميع عوالم الكون وسلامه لأقل من غضب الإله وانتقامه بالصورة التي يتخيلها الشاعر. وإن فكرة دانتي عن الجحيم لهي منتهى ما وصل إليه لاهوت العصور الوسطى من فظاعة. لقد كان اليونان والرومان القدامى يصورون جحيماً يسمونها Hades أو avenrus تتلقى جميع الموتى من الآدميين. وكان مقرها مكاناً عظيماً مظلماً تحت الأرض لا يمكن تمييز شيء فيه، ولكنهم لم يصوروا هذه الجحيم بأنها مكان للتعذيب؛ وكان لابد من أن تمر قرون طوال من الهمجية، والاضطراب، والحرب قبل أن يتقول الإنسان على خالقه فيعزو إليه صفتي الانتقام السرمدي والقسوة التي لا ينضب لها معين.
ويخفف من روعنا أن نعلم أن دانتي وفرجيل قد مرا من خلال مركز الأرض، وأنهما قلبا اتجاه رأسيهما وأقدامهما، وأنهما يتحركان إلى أعلى نحو الجهة المقابلة لبلادنا من الأرض. ويجتاز الشاعران قطر الأرض كله في سرعة الأحلام(17/332)
التي تهزأ بم رالزمان، ويخرجان إلى النصف الجنوبي منها في صباح يوم عيد الفصح، ويشربان في وضح النهار، ويقفان عند اسفل الجبل المدرج وهو المطهر.
3 - المطهر
إذا قيست فكرة المطهر بفكرة الجحيم بدت فكرة رحيمة؛ ذلك أن في مقدور الإنسان بجهده وألمه، وأمله ورؤياه، أن يطهر نفسه من الذنوب والأثرة، ويرق خطوة خطوة في مدارج الإدراك، والحب، والنعيم، والمطهر، كما يصوره دانتي، مخروط جبلي مقسم إلى سبع طبقات: ما قبل المطهر وهو سبعة أسطح - واحد للتطهير من الذنوب الميتة - وفي أعلاه يقوم الفردوس الأرضي. وينتقل المذنب من كل طبقة إلى التي تليها وتقل آلامه كلما انتقل إلى طبقة أعلى من التي كان فيها، وفي أثناء هذا الانتقال ينشد ملك إحدى التطويبات. وتوجد في المراحل السفلى من المطهر سبع عقوبات للذنوب التي اعترف بها وغفرت، ولكنها لم يكفر عنها بما يكفي من العقاب. بيد أن هناك فارقاً عظيماً بين المطهر والجحيم من هذه الناحية؛ ففي الجحيم يعرف الإنسان هذه الحقيقة المريرة وهي أن العذاب سرمدي، أما المطهر ففيه تلك الحقيقة التي تبعث القوة في النفس وهي أن السعادة السرمدية ستعقب العقاب الذي أحل له أجل ينتهي عنده. ويسري في هذه المقطوعات مزاج ارق وضياء أبهى مما يسري في المقطوعات السابقة، وتكشف عن دانتي يتعلم الرأفة من فرجيل مرشده الوثني. ويغسل فرجيل بالدهن والندى ما غطى وجه دانتي من عرق الجحيم وأقذارها. وتتلألأ في ضوء الشمس المشرقة مياه البحر الذي يحيط بالجبل حين تهتز النفس التي كدرتها الذنوب طرباً وهي تستقبل الرحمة الإلهية. وهنا في الطبقة الأولى يلتقي دانتي بكاتو اليوتكي Cato od Utica، الرواقي الصارم العنيد، الذي آثر أن يقتل نفسه على أن يتلقى عذاب رحمة قيصر. وقد وضعه دانتي في هذه الطبقة تحقيقاً(17/333)
لأمل تومس أكانوس في أن ينجو بعض عبدة الأوثان من الهلاك. وفي هذه الطبقة نفسها يقيم مانفرد بن فردريك الذي قاتل بابا من البابوات ولكنه أحب الشعر. ويسرع فرجيل بدانتي وهو يتلو عليه تلك الآيات التي تجري على كثير من ألسنة الناس.
"دع الناس يتكلموا، وقف أنت كالبرج المتين الذي لا تهتز قمته وإن هبت عليه كل الرياح" (50). وليس المطهر بالمكان الذي يوائم فرجيل، فهو لا يستطيع أن يجيب عن أسئلة دانتي بالسرعة التي تعّود أن يجيب بها عن أسئلته في الجحيم. وهو يحس بنقص ذكائه، ويظهر أحياناً حنيناً يؤلمه، غير أن ألمه هذا يزول حين يلتقي الشاعران بسردلو Sordello. ويحتضن الشاعران إبنا مانتوا أحدهما الآخر، يؤلف بين قلبيهما حبهما للبلدة التي قضيا فيها عهد الشباب. وفي هذه اللحظة ينطلق لسان دانتي بهذا الخطاب المؤلم يوجهه إلى بلده، ويلخص فيه مقاله عن الحاجة إلى الحكومة الملكية:
أي إيطاليا المستعبدة! يا موطن الأحزان! يا سفينة بغير دليل في مهب العاصفة الهوجاء! يا سيدة انتزعت منها ولاياتها الجميلة، ولم تعد إلاّ ماخوراً دنساً! إن هذا الروح الرقيق قد حفزه الصوت الجميل الصادر من بلده العزيز أن يحيي رجلاً من أهل وطنه مرحباً به مبتهجاً بلقائه. وفيك يقيم الأحياء من أبنائك يقتتلون؛ يأكل الواحد منهم لحم أخيه من الغل والحقد؛ نعم ما أشد الضغن الذي يملأ قلوب من يحيد بهم جدار واحد وخندق واحد. ألا أيها البائس الحزين طف بشواطئ بجارك، ثم عد إلى نفسك فاسألها هل يستمتع جزء منك بالسم الحلوة؟ وماذا يفيدك إذا كان جستنيان قد (أحيا القانون الروماني) من أجلك، وهل ينفعك أن يصلح العنان إذا كان السرج (بغير مَلك)؟ أيها الخلائق، يا من يجب عليكم أن تظلوا مخلصين أوفياء، أجلسوا قيصر في السرج إذا شئتم أن تستجيبوا لأمر الله (51)! ".(17/334)
وكأنما أراد دانتي أن يظهر شوقه إلى الملوك الذين يستطيعون القبض على الأعنة الثابتة، فيصف لنا كيف يقوده سردلو هو وزميله إلى واد مشمس جميل عند سفح جبل المطهر منثورة عليه الأزهار، ويفوح منه شذى عطرها الذكي، ويقيم فيه الإمبراطور رودلف، وأتوكا Ottokar ملك بوهيميا، وبطرس الثالث ملك أرغونة، وهنري الثاني ملك إنجلترا، وفليب الثالث ملك فرنسا.
وتقود لوشيا (التي ترمز إلى ضوء رحمة الله) دانتي وفرجيل، ويدخلهما أحد الملائكة إلى الشرفة الأولى من شرفات المطهر. وهنا يعاقب المتكبرون بأن يحمل كل منهم فوق ظهره المقوس حجراً ضخماً، وترى على الجدار والطوار نقوش بارزة تصور أعمال التواضع الذائعة الصيت وما للكبرياء من نتائج رهيبة. وفي الشرفة الثانية يرى الحاسدون في أثواب من الخيش الغليظ، تخلط عيونهم باستمرار بخيوط من حديد؛ وعلى السطح الثالث يستقر الغضب، وعلى الرابع الكسل، وعلى الخامس البخل، ويلقى كل واحد منهم ما يستحقه من العقاب. ويرى على هذا السطح الأخير البابا هدريان الخامس، الذي كان في وقت ما حريصاً على الثروة. يكفّر عن ذنبه وهو هادئ هدوء الواثق من النجاة في آخر الأمر. وفي إحدى الحوادث الباهرة التي تضيء ختام قصة المطهر يظهر الشاعر الروماني استاتيوس Statius ويحيي الشاعرين الجائلين ويظهر من السرور بلقائهما ما يندر أن يظهره شاعر يلتقي بشاعر آخر على ظهر الأرض. ويصعد الشعراء الثلاثة جميعاً إلى السطح السادس حيث يطهر النّهمون من نهمهم. وهناك تهتز الفاكهة الذكية الرائحة على الأشجار أمام أولئك النادمين، فإذا امتدت أيديهم إليها لتقطفها استرجعت الأشجار فاكهتها؛ وتسمع أصوات في الهواء تردد ما في التاريخ من أعمال القناعة. وعلى السطح السابع والأخير يستقر الذين كان جرمهم أنهم لم يستعففوا، ولكنهم اعترفوا بذنبهم قبل الموت، وهؤلاء يمسسهم مساً خفيفاً ليطهرهم من ذنبهم. وهكذا يظهر دانتي أنه يعطف عطف الشعراء على(17/335)
آثام الجسد وخاصة إذا ارتكبها ذوو المزاج الفني ممن هم لهذا السبب رقيقو الإحساس، واسعوا الخيال، مندفعون في أعمالهم. ومن بين هؤلاء جيدو جوينزلي Guido Guiuxelli؛ الذي يحبه دانتي ويسميه أباه في الأدب، ويشكر له "الأغاني الحلوة، التي ستوحي إلينا ما بقيت لغتنا بأن نحب المداد الذي خطت به" (52).
ويقودهما أحد الملائكة خلال نار في صعودهما الأخير إلى جنة الأرض، وهنا يودع فرجيل صاحبه بقوله:
"إن علمي لا يصل إلى أبعد من هذا، لقد سرت بك بحذقي وفني إلى هذا الحد، فاتخذ الآن مسرتك دليلاً لك ... انظر! تر الشمس التي تسطع أشعتها على جبتهك؛ انظر! تر الأعشاب والشجيرات والأزهار التي تخرجها هذه الأرض موفورة من تلقاء نفسها. وإلى أن تأتيك هاتان العينان الوضّاءتان (عينا بياتريس) تشع منهما البهجة، وهما اللتان جعلتاني ببكائهما أسرع إلى معونتك حيث تشاء. ولا تنتظر أن تسمع مني بعد الآن صوتاً أو غشاوة تحذرك. وإذ كنت الآن حراً تختار لنفسك ما تشاء، حصيفاً، حكيماً ... فإني أخلع عليك التاج والعمامة وأجعلك سيد نفسك" (53).
ويجوس الآن دانتي خلال الغابات والحقول، وعلى ضفاف الأنهار في جنة الأرض ومن ورائه - لا من أمامه - فرجيل واستاتيوس، يستنشق هواءها النقي ذا الرائحة الذكية، ويستمع من خلال الأشجار شدو الطير تغنى القسم الأول من النشيد الكهنوتي. وتمتنع سيدة تجمع الأزهار عن الغناء لتشرح لم خلت هذه الأرض الجميلة من الناس، فتقول إنها كانت فيما مضى جنة عدن، ولكن الإنسان عصى ربه، فأخرج هو وذريته من مباهجها البرئية. وتنزل بياتريس من السماء إلى هذه الجنة المفقودة يحيط بها لألأء يذهب سناه بالأبصار،(17/336)
فلا يستطيع دانتي، أن يراها بعينه، بل كل ما يقدر عليه أن يحس بوجودها:
"ومع أن عيني لم ترياها فقد سرت منها قوة فضلى خفية لم أكد أمسها حتى استبدت بي قوة الحب القديم" (54).
ويلتفت ليحدث الشاعر الذي يرشده، ولكن فرجيل كان قد عاد إلى المحيط الخارجي للجحيم وهو الموضع الذي جاء به منه استجابة لنداء بياتريس. ويبكي دانتي ولكن بياتريس تأمره أن يندب بدل البكاء شهواته التي دنس بها بعد موتها صورتها التي في قلبه. وتؤكد له أن تلك الغابة المظلمة التي أنجته منها على يد فرجيل لم تكن إلاّ حياة الدعارة التي ضل فيها في منتصف عمره واظلم أمامه بسببها السراط المستقيم. ويقع دانتي على الأرض من فرط الخجل، ويقر بذنوبه، فتقبل عذارى سماويات ويشفعن له عند بياتريس التي أساء إليها بفعله، ويرجونها أن تكشف له عن جمالها الثاني الروحي. وليس هذا لأن بياتريس قد نسيت جمالها الأول:
"فأنت لم تر في حياتك، لا في الفن ولا في الطبيعة شيئاً يبلغ من الحلاوة ما بلغته تلك الأعضاء التي كانت داخل إطارها الجميل، والتي تناثرت الآن هباء" (55).
ويرق قلبها، وتكشف له عن جمالها السماوي الجديد، ولكن العذارى يحذرن دانتي من النظر إليها مباشرة، ويطلبن إليه أن يكتفي بالنظر إلى قدميها. وتقوده بياتريس هو واستاتيوس (الذي أتم أجله في المطهر بعد أن قضى فيه اثني عشر قرناً) إلى نبع يخرج منه نهران - أحدهما ليثي Lethe ( النسيان) والآخر يونوئي Eunoe ( الفهم الصالح). ويشرب دانتي من يونوئي فيتطهر، وتتحدد حياته، و"يصلح للصعود إلى النجوم" (56).
وليس صحيحاً أن وصف الجحيم هو وحده الجزء الطريف الممتع في الملهاة(17/337)
المقدسة. نعم إن في وصف المطهر كثيراً من الفقرات التعليمية المجدية، وإن فيه على الدوام قدراً كبيراً من اللاهوت الذي لا حاجة للقصيدة به، ولكنها وقد خلت في هذا النشيد من رهبة التعذيب ترثى في مدارج الجمال والحنان خطوة بعد خطوة، وتغمر هذا الرقي بجو من جمال الطبيعة الذي عاد إليها من جديد فأكسبها بهجة وطلاوة، وبذلك تتأهب القصيدة لأن تضطلع بشجاعة بذلك الواجب العظيم واجب إحاطة بياتريس المجردة من الجسد بالجمال الروحاني، وبفضلها يدخل دانتي الجنة مرة أخرى، كما دخلها في أيام شبابه.
4 - السموات
لقد كان تفقه دانتي في علوم الدين مما زاد عمله مشقة؛ فلو أنه أجاز لنفسه أن يصور الجنة في صورة حديقة مليئة بالمباهج الجسمية كما هي مليئة بالمباهج الروحية، لوجدت فطرته مجالاً واسعاً لهذا التصوير. ولكن كيف يستطيع العقل البشري وهو "المركب المادي"، أن يتصور جنة ذات نعيم روحي خالص؟ يضاف إلى هذا ان نشأة دانتي الفلسفية كانت تمنعه أن يصور الله أو ملائكة الجنة وقديسها بصورة مجسدة؛ بل كان تمثلهم جميعاً كأنهم صور ونقط من نور؛ وكان تصويرهم بهذه الصورة تتبعه تجريدات تضيع في الفراغ النوراني حياة الجسد المذنب وحرارته. غير أن العقيدة الكاثوليكية كانت تعترف بعث الجسم بعد الموت؛ ولهذا فإن دانتي وهو يحاول أن يكون روحانياً يخلع على بعض سكان الجنة ملامح جسدية وينطقهم كلام بشري؛ وممّا يسر له الإنسان أن يقرأ لبياتريس، وهي في الجنة قدمين جميلتين.
ولقد نَفَّذ الصورة التي صور بها الجنة في خياله تنفيذاً متناسقاً يدعو إلى الدهشة، ونَفّذها بخيال رائع، وتفاصيل دقيقة واضحة. واسترشد بفَلَك بطليموس فصوّر السماء كأنها سلسلة من تسع كرات مجوفة مطردة الاتساع تدور حول الأرض؛(17/338)
وهذه الكرات هي "المساكن الكثيرة" التي فيها "بيت الأب". وقد ثبت في كل كرة كوكب وعدد كبير من النجوم، كما تثبت الجواهر في التاج. وكلما تحركت هذه الأجرام السماوية، وقد وهبت كلها ذكاءً ربانياً متفاوت الدرجات، أخذت تتغنى ببهجة سعادتها وتسّبح بحمد خالقها، وتغمر السماوات بموسيقى تلك الكرات. ويقول دانتي إن النجوم هي أولياء السموات الصالحون، وأرواح الناجين، ويختلف ارتفاعها عن الأرض باختلاف ما كسبت في عمل صالح في حياتها على ظهر الأرض، وبقدر هذا الارتفاع تكون سعادتها، ويكون قربها من أعلى السموات التي يقوم عليها عرش الله.
وكأن النور الذي تشعه بياتريس قد جذب دانتي فارتفع من جنة الأرض إلى الدائرة الأولى من دوائر السماوات وهي دائرة القمر؛ وفيها تستقر أرواح الذين اضطروا لغير ذنب ارتكبوه إلى الحنث بأيمانهم الدينية، ومن هؤلاء شخص يدعى بكاردا دوناتي Piccarda Donati. ويقول لدانتي إنهم في أسفل دائرة من دوائر السموات، وإنهم يستمتعون بقدر من النعيم أقل مما تستمتع به الأرواح التي فوقهم؛ وقد أنجتهم الحكمة الإلهية من كل حسد، وشوق، وتذمر؛ ذلك بأن جوهر السعادة هو الخضوع لإرادة الله خضوعاً مقروناً بالغبطة والسرور، لأن "في إرادته راحتنا" (57). وهذا هو بيت القصيد في الملهاة المقدسة.
ويرقى دانتي مع بياتريس إلى السماء الثانية منجذباً إليها بقوة مغنطيسية سماوية تجذب كل شيء إلى الله. وهذه السماء الثانية هي التي يسيطر عليها الكوكب عطارد. وفيها يقيم الذين كانوا يقومون وهم على الأرض بنشاط عملي يبتغون به الخير، ولكنهم كانوا أكثر إنهِماكاً في الشرف الدنيوي منهم في خدمة الله. ويظهر من بين هؤلاء جستنيان، يصوغ في عبارات ملكية الوظائف التاريخية للإمبراطورية الرومانية والشريعة الرومانية. وعن طريقه يوجه دانتي ضربة أخرى يبغي عليها قيام عالم واحد، خاضع لشريعة واحدة،(17/339)
وملك واحد. ثم تقود بياتريس الشاعر إلى السماء الثالثة، وهي دائرة الزهرة حيث يتنبأ فلك Folque الشاعر البروفنسالي بمأساة بنيفاس الثامن. وفي السماء الرابعة وهي دائرة الشمس يشاهد دانتي الفلاسفة المسيحيين يوئيثيوس، وإزدور الأشبيلي، وبيد Bede، وبطرس لمبارد، وجراتيان، وألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وبونا فنتورا، وسيجرده برابانت. ويتبادل كل من تومس الدمنيكي، وبونا فنتورا الفرنسيسي حديثهما، فيقص تومس على دانتي حياة القديس فرانسس، كما يقص عليه بونا فنتورا قصة القديس دمنيك. وإذ كان تومس على الدوام رجلاً واسع العقل إلى حد فإنه يقحم في قصته أقوالاً عن موضوعات دينية دقيقة؛ وتشتد رغبة دانتي في أن يكون فيلسوفاً فيمتنع في عدة أغان عن أن يكون شاعراً.
وتقوده بياتريس إلى السماء الخامسة، سماء المريخ، حيث تقيم أرواح المحاربين الذين قتلوا وهم يحاربون لنصرة الدين الحق - يوشع، ويهوذا مكابيوس، وشارلملن، وحتى ربرت جوسكاد Robert Guiscard الذي خرب روما. وينتظم هؤلاء على شكل صليب متلألئ عليه المسيح المصلوب؛ ويشترك كل نجم من النجوم في هذا الرمز المضيء في إيقاع موسيقى سماوي. ويصعد الشاعر وبياتريس إلى السماء الخامسة سماء المشتري فيجد فيها دانتي من كانوا وهم على ظهر الأرض يوزعون العدالة بالقسطاس المستقيم؛ ففيها داود، وحزقيال، وقسطنطين، وتراجان - وها هو ذا وثني آخر يقتحم السماء. وتنتظم هذه النجوم الحية في صورة نسر، وتكلم بصوت واحد، وتُحدث دانتي في علوم الدين، وتردد الثناء على الملوك العدول. ويصعد وقائدته إلى تسمية بياتريس تسمية مجازية لم العصر الخالد" فيصلان إلى السماء السابعة سماء البهجة، سماء زحل وحاشيته من النجوم. ويزداد جمال بياتريس بها كلما علت في السموات، كأن كل دائرة تعلو إليها تزيدها بهجة وجلالاً؛ وهي لا تجرؤ على(17/340)
الابتسام لحبيبها لئلا يحترق ويستحيل رماداً بقوة إشعاعها. وهذه السماء هي دائرة الرهبان الذين عاشوا معيشة الصالحين، وأخلصوا لأيمانهم، ومن بينهم بطرس دميان؛ ويسأله دانتي كيف يوفق بين حرية الإنسان وعلم الله بالغيب، وما يؤدي إليه هذا العلم من الإيمان بالقضاء والقدر؟ فيجيبه بطرس بأن أكثر الأرواح استنارة في السماء تحت عرش الله لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال. وهنا يظهر القديس بندكت، ويرثى للفاسد الذي انحدر إليه رهبانه.
ويسبح الشاعر وقتئذ من دوائر الكواكب إلى السماء الثامنة، منطقة النجوم الثوابت. ويطل إلى أسفل من كوكبة الجوزاء فيرى الأرض المتناهية في الصغر ذات منظر حقير لم أتمالك معه نفسي من الابتسام". ولربما كان خليقاً بأن يسري فيه وقتئذ إلى أمد قصير حنين إلى هذا الكوكب التعس، ولكن نظرة من بياتريس تنبؤه أن هذه السماء، سماء الضوء والحب، لا مكان للذنوب والنزاع، هي موطنه الحق.
وتبدأ الأغنية الثالثة والعشرون بتشبيه من التشبيهات التي يمتاز بها شعر دانتي:
كالطائر الذي جلس طوال الليل في عشه المظلم بين أوراق الشجر، ومعه صغاره الجميلة، يتحرق شوقاً إلى رؤية نظراتها الحلوة، وإلى أن يسعى سعيه الحبيب ليأتي إليها بطعامها غير شاعر بما يلاقيه في سبيلها من مشقة، جلست تستبق الزمن على الغصن المعلق فوق عشها، يقظة تترقب أن تطلع الشمس فتطرد من الشرق ستار الفجر.
وتحدق بياتريس بعينيها في جهة من الجهات مترقبة، فتنشق السماء فجاءة عن منظر وضّاء؛ وتناديه قائلة: "انظر! إلى جيش المسيح المنتصر" - أرواح جديدة كسبتها الجنة. ويلتفت دانتي ولكنه لا يرى إلاّ ضوءاً ساطعاً قوياً يذهب سناه ببصره، فلا يعرف ما يمر به. وتأمره بياتريس أن يفتح عينيه،(17/341)
وتقول له إنه يستطيع في ذلك الوقت أن يطيق النظر إلى بهائها كاملاً. وتبتسم له، ويقسم أن هذا حادث لا يمحى من ذاكرته. وتسأله: "لم يأسرك جمال وجهي؟ " وتأمره أن ينظر بدلاً منه إلى المسيح ومريم والرسل. ويحاول هو أن يتبينهم، ولكنه لا يبصر إلاّ "كتائب من البهاء، تسقط عليها من فوقها بورق ترسلها أشعة محرقة"، وتصل إلى أذنيه في تلك اللحظة موسيقى الكتائب السماوية.
ويصعد المسيح ومريم، ولكن الرسل يبقون خلفهما، وتطلب بياتريس إليهم أن يتحدثوا إلى دانتي، فيسأله بطرس عن دينه، وتسرّه أجوبته، ويوافقه على أن الكرسي الرسولي سيظل شاغراً أو مدنساً مادام بنيفاس بابا (58). إن بنيفاس لا يجد في قلب دانتي ذرة من الرحمة.
ويختفي الرسل في الطباق العليا، ويصعد دانتي أخيراً مع "التي أسكنت روحي الجنة" إلى السماء التاسعة، أعلى السموات جميعا". وليس في هذه السماء نجوم، بل كل ما فيها نور صاف، وفيها الله الروح الخالص، المجرد من الجسد، والذي لا علة له، والأصل الثابت لجميع الأرواح، والأجساد، والأسباب، والنور، والحياة. ويحاول الشاعر وقتئذ أن يستمتع بنور النعيم الباهر، ولكنه لا يرى إلاّ نقطة من الضوء تدور حولها تسع دوائر من الذكاء الخالص - ملائكة الطبقة الأولى، وأرواح سماوية، وعروش، وأملاك، وفضائل، وسلطات، وإمارات، وملائكة كبار، وملائكة غير كبار. وعن طريق هؤلاء - وهم عمال الله ومبعوثوه - يحكم الخالق جلا جلاله العالم. ولا يستطيع دانتي أن يرى الجوهر الإلهي، ولكنه يرى كل كتائب السماء تؤلف من نفسها وردة وضّاءة، هي أعجوبة من النور البراق وألوان المختلفة تتمدد ورقة بعد ورقة حتى تصبح زهرة ضخمة.
وحينئذ تترك بياتريس حبيبها، وتحتل مكانها في الوردة. ويراها تجلس(17/342)
على عرشها، ويظل يرجوها أن تساعده، فتبتسم له، وتحدق في ذلك الوقت بعينيها في مركز جميع الأضواء؛ ولكنها ترسل القديس برنار ليساعده ويواسيه. ويوجه برنار نظر دانتي نحو ملكة السماء؛ ويتجه الشاعر نحوها ولكنه لا يرى إلاّ بريقاً وهاجاً يحيط به آلاف من الملائكة مسربلين بالنور. ويقول له برنار إنه إذا شاء أن يكون له من القوة ما يستطيع به أن يشهد الرؤى السماوية واضحة، فإن عليه أن ينضم إليه في الصلاة لأم الإله. وتبدأ الأغنية الأخيرة بتضرع برنار بنغمه الحلو:
"أيتها العذراء، يا ابنة ابنك، يا من أنت أعظم تواضعاً ورفعة من كل الخلائق". ويتوسل إليها برنار أن تمن على دانتي بأن يقدر على رؤية ذات الجلال القدسي؛ فتنحني بياتريس وينحني كثير من القديسين نحو مريك ويرفعون أيديهم مقبوضة يتوسلون إليها بالدعوات. وتلقي مريم نظرة قصيرة رحيمة على دانتي، ثم تحول عينيها نحو "النور السرمدي". والآن، كما يقول الشاعر: "تصفو نظراتي، فيدخل فيها شيئاً فشيئاً ذلك النور الأعلى وهو الحق". ويقول إن كل ما رآه بعدئذ تعجز اللغة عن وصفه، ويعجز الخيال عن تصوره؛ ولكن "في هذه الهوة من البهاء المتألق، الصافية الشامخة، خيل إلى أني أرى كرة ذات ثلاثة ألوان مجتمعة في لون واحد". وتختتم الملحمة الفخمة ونظرات دانتي لا تزال مثبتة على النور المتألق، يجذبها ويدفعها "حب الله الذي يحرك الشمس وجميع النوم".
وجملة القول أن الملهاة المقدسة أعجب القصائد كلها وأصعبها. فليس ثمة قصيدة غيرها تضن بكنوزها إلاّ على من يبذلون في سبيلها جهوداً جبارة؛ ولغتها أكثر اللغات إيجازاً وإحكاماً بعد لغة هوراس وتاستس، فهي تجمع في كلمة أو بضع كلمات معاني وأفكاراً دقيقة يتطلب فهمها كاملة معلومات سابقة غزيرة، وعقلاً مستيقظاً، وذكاءً؛ وحتى بحوثها المملة في علوم الدين، والنفس، والفلك،(17/343)
تمتاز بدقة في اللفظ وغزارة في المادة، لا يستطيع أن يجاريها فيهما أو يستمتع بهما إلاّ الفيلسوف المدرسي. ذلك أن دانتي كان يحيا في عصره حياة قوية عميقة تكاد قصيدته بسببها أن تتحطم تحت عبء الإشارات إلى الحوادث والمعاني المعاصرة التي لا يمكن فهمها إلاّ إذا أضيف إليها كثير من الشروح التي تعطل تتابع القصة.
وكان يحب أن يعلم الناس، ولهذا أراد أن يفرغ في قصيدة واحدة ما تعلمه كله تقريباً، وكانت النتيجة أن البيت الحي من الشعر يرقد إلى جانب السخافات الميتة، ويضعف جمال بياتريس وفتنتها بأن ينطقها بما يحبه ويكرهه في الشئون السياسية. وهو يقطع قصته ليصب جام غضبه على مائة مدينة أو جماعة أو فرد، ويغرق ملحمته أحياناً في بحر من السباب؛ وهو متيم بحب إيطاليا؛ ولكن بولونيا مليئة بالقوادين (59)، وفلورنس هي الثمرة المحبوبة من ثمار الشيطان (60)، وبستونيا حظيرة للوحوش (61)، وجنوى "استشرى فيها الفساد" (62)؛ وأما بيزا "ألا لعنة الله على بيزا! ألا ليت نهر الآرنو يسد عند مصبه، ويغرق بيزا كلها، بما فيها من حرث ونسل، تحت مياهه الصاخبة" (63). ويظن دانتي أن "الحكمة العليا، والحب الأزلي" هما اللذان خلقا الجحيم. وهو يعد بأن يزيل الجليد لحظة من الزمان عن عيني البريجو Alberigo إذا ما أخبره هذا باسمه وقص عليه قصته. ويجيبه البريجو إلى ما طلب ويرجوه أن ينجز ما وعد- ويقول "مد إليَّ يدك، وافتح عيني! " - ويواصل دانتي حديثه قائلاً: ولكنني "لم أفتحهما له؛ لأن الوقاحة معه هي المجاملة بعينها" (64). ألا إننا سننجو جميعاً من العذاب إذا كان رجل مليء قلبه بهذا الغل يستطيع أن يطوف به طائف خلال الجنة.
ومع هذا كله فإن قصيدته أعظم كتب العصور الوسطى، ومن أعظم كتب التاريخ بأجمعه. ذلك بأن تجمع قوتها وغزارة مادتها تدريجياً خلال أغانيها البالغ عددها مائة أغنية تجربة لا يستطيع قارئ أكمل قراءتها أن ينساها؛ وهي كما قال فيها كارليل Carlyle أعظم القصائد إخلاصاً؛ فليس فيها شيء من الادعاء،(17/344)
أو الملق، أو التواضع الكاذب، أو الخنوع، أو الجبن؛ بل إن أقوى رجال ذلك العصر، ومنهم البابا الذي يدّعي أنه صاحب السلطان الأعلى، يهاجمون بقوة وحرارة ليس لهما في الشعر كله مثيل. وفيها فضلاً عن هذا كله خيال وثّاب يسري فيها كلها ويبعث فيها القوة، ويغالب شيكسبير لينتزع منه لواء الشعر: فيها صور واضحة حية لأشياء لم يرها الأرباب أو البشر؛ ووصف الطبيعة لا تستطيعه إلاّ روح يقظة قوية الملاحظة مرهفة الحس؛ وقصص قصيرة، كقصة فرانسسكا وأجلينو، تجمع المآسي العظيمة في حيز صغير دون أن تترك منها شيئا ذا بال. نعم إن هذا الرجل خلو من الفكاهة، ولكن فيه حُبًّاً ظل حتى أحالته المصائب لاهوتاً.
ويبلغ دانتي آخر الأمر بقصيدته مرتبة السمو. نعم إننا لا نجد في ملحمته ما نجده في الإلياذة من تيار الحياة الجارف أو تتابع الحوادث سراعاً، كما أننا لا نجد فيها ما في شعر فرجيل من انسياب سهل هادئ، أو يمتاز به شكسبير من إدراك شامل، وتسامح، وغفران الذنوب؛ ولكن فيها عظمة، وقوة معذبة نصف همجية تستبق ميكل أنجلو وتنبئ بقدومه؛ وإذ كان دانتي ممن يحبون النظام كما يحبون الراية، فقد قيد عواطفه ورؤياه فخلع عليهما صورة محددة، ولهذا أخرج قصيدة ذات قوة ماثلة أمام أعيينا لم يصل إلى مثلها إنسان آخر من بعده. وقد ظلت إيطاليا طوال القرون التي أعقبت عصره تجله وترى فيه الرجل الذي حرز لغتها الذهبية من القيود؛ وتلقى بترارك ويوكاشيو ومائة غيرهما من الأدباء الإلهام من وقائعه وفنه، ورددت أوربا كلها أصداء قصة المنفّي الفخور الذي سار إلى الجحيم ثم عاد منها ولم يبتسم قط بعد عودته.(17/345)
الخاتمة
تراث العصور الوسطى
إن من الخير أن نختتم بدانتي قصتنا الطويلة المتشعبة، فقد ظهر في القرن الذي توفي فيه أولئك الرجال الذين شرعوا بعدئذ في تحطيم الصرح العظيم صرح الإيمان والأمل الذي عاش فيه: فمن هؤلاء ويكلف Wyclif، وهوس Huss اللذان مهدا السبيل للإصلاح الديني؛ وجيتو Giotto وكريسلاراس Chrysolaras، وبترارك، بوكاشيو الذين بشروا بالنهضة، وقد يبقى إلى زمن طويل خلال تاريخ الإنسان - ذي العدد الكبير والطبائع المختلفة - مزاج من نوع ما في بعض النفوس وبعض الأماكن بعد أن ينشأ المزاج الذي يخلفه أو يناقضه في نفوس وأماكن أخرى. ففي أوربا مثلاً وصل عصر الإيمان إلى عنفوان مجده، في دانتي، ثم أصابته طعنة نجلاء من يد أكام Occam في القرن الرابع عشر؛ ولكنه ظل يغالب والنصف حتى أقبل برونو Bruno وجلليو وديكارت واسبنوزا، وبيكن، وهُبز Hobbs؛ وقد يعود عصر الإيمان إذا ما حلت بعصر العقل كارثة (1)؛ ولقد بقيت مساحات واسعة تحت شعار الإيمان وسلطانه بينا كانت أوربا الغربية تسير بسفينة العقل في البحار الغير مطروقة. إن العصور الوسطى حال من أحوال الزمان كما هي فترة من فتراته: ومن واجبنا أن نختتمها في أوربا الغربية بكولمبس؛ ولكنها دامت في الروسسيا إلى زمن بطرس الأكبر (المتوفى عام 1725)؛ أما في الهند فلا تزال باقية إلى اليوم.
ولقد نساق إلى التفكير في العصور الوسطى على أنها فترة مجدبة محصورة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب (476) وكشف أمريكا؛ بيد
_________
(1) يقصد بعصر العقل عصرنا الحاضر، ولهذا يقول إنه سيسمى المجلد السابع من هذه السلسلة وهو المجلد الذي يروي حضارة هذا العصر "عصر العقل". (المترجم)(17/346)
أننا يجب ألاّ ننسى أن أتباع أبلار كانوا يسمون أنفسهم محدثين moderni، وأن أسقف إكستر Exeter قد وصف في عام 1287 القرن الذي يعيش فيه بأنه "الزمن الحديث moderni tempores" (1) . أضف إلى هذا الحد الفاصل بين العصور "الوسطى" والعصور "الحديثة" يتقدم على الدوام؛ وأن عصر الفحم والزيت والأحياء القذرة المليئة بالدخان والكَتَن، إذا حل محله عصر أكثر منه نظاماً وأرحم مه حياة، قد يعد من العصور الوسطى. كذلك لم تكن العصور الوسطى مجرد فترة بين حضارة وحضارة. ذلك أننا إذا أرخنا بداية هذه العصور بقبول روما للمسيحية وبمؤتمر نيقية في عام 325، رأيناها تشمل القرون الأخيرة من حياة الثقافة اليونانية - الرومانية القديمة، ونضوج المسيحية الكاثوليكية حتى أضحت حضارة كاملة غنية في القرن الثالث عشر، وانقسام تلك الحضارة إلى الثقافتين المتعارضتين وهما النهضة والإصلاح الديني. وشيء آخر خليق بالذكر، وهو أن رجال العصور الوسطى كانوا ضحية للهمجية، ثم صاروا هم أنفسهم الغالبين للهمجية، وأمسوا بعدئذ المنشئين لمدنية جديدة. وليس من الحكمة أن ننظر بعين الكبرياء إلى عصر أنجب هذا العدد الجم من عظماء الرجال وعظمات النساء، ورفع منار البابوية فوق أنقاض العصور الوسطى، وأقام الدول الأوربية وجمع بالكدح الدائب تلك الثروة التي خلفتها لنا تلك العصور (1).
وقد جمع هذا التراث بين الشر والخير. فأما عن الشر فنقول إننا لم نفق بعد كل الإفاقة من العصور المظلمة: من اضطراب الأمن الذي يثير المطامع والشهوات، والخوف الذي يولد القساوة، والفقر الذي يوجد القذارة والجهل، والقذارة التي تتفشى بسبها الأمراض، والجهل الذي يؤدي إلى سرعة التصديق وإلى الإيمان بالخرافات، والسحر - كل هذا لا يزال باقياً بيننا؛ وإن العقائد التحكمية القائمة
_________
(1) قصرنا الجزء الأكبر من هذه الإعادة على الحديث عن المسيحية في العصور الوسطى، ولن نعيد هنا الخلاصة التي كتبناها عن الحضارة الإسلامية في ختام الكتاب الثاني في هذا المجلد.(17/347)
على غير أساس من العقل، والتي أدت إلى التعصب وإلى محاكم التفتيش لا تزال تنتهز الفرص أو الإذن لكي تظلم، وتقتل، وتدمر، وتخرب. وليست "العصرية" بهذا المعنى إلاّ ستاراً يغشى مبادئ العصور الوسطى وعاداتها، ولا تزال هذه المبادئ والعادات باقية في الخفاء؛ وليست الحضارة في أي جيل من الأجيال إلاّ ثمرة من ثمار الكدح الذي تقوم به قلة مزعزعة مغمورة وميزة اضطرارية لهذه القلة. ولقد خلفت محاكم التفتيش آثارها السيئة في المجتمع الأوربي: فقد جعلت التعذيب جزءاً مقرراً معترفاً به في الإجراءات القضائية، وردت الناس من مغامرات العقل إلى الاتفاق الراكد المنبعث من الخوف.
والدين أهم ما ورثنا إياه عصر الإيمان: أورثنا يهودية ظلت حتى القرن الثامن عشر يستوعبها التلمود؛ وأورثنا الإسلام الذي هدأت عقول أصحابه بعد انتصار السُنَّة على الفلسفة في القرن الثاني عشر، ومسيحية انقسمت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ولكنها لا تزال رغم هذا الانقسام أقوى الأديان وأعظمها أثراً في تاريخ الرجل الأبيض. فعقيدة كنيسة العصور الوسطى يدين بها الآن 330. 000. 000 من الرومان، و 128. 000. 000 من الأرثوذكس والكاثوليك؛ ولا تزال شعائرها تحرك النفوس بعد أن أخفقت كل الحجج المنطقية. ولقد خلفت جهد الكنيسة في ميادين التعليم، والصدقات، وبث الأخلاق الفاضلة في نفوس الهمج من الناس، خلفت هذه الجهود إلى العالم الحديث تراثاً ثميناً من النظام الاجتماعي، والتأديب الخلقي. ولسنا ننكر أن ما كانت تحكم به البابوية من قيام دولة أوربا الموحدة قد قضى عليه النزاع الذي قام بين الإمبراطورية والبابوية؛ ولكن ما من جيل من الأجيال لا تستثيره رؤى نظام أخلاقي دولي يسمو على النظم الأخلاقية المتضاربة السائدة في الدول المستقلة ذات السيادة.
ولما أن قضى على ذلك الحلم البابوي اتخذت الأمم الأوربية الشكل الذي(17/348)
لا تزال تحتفظ به في جوهر حتى هذا القرن، وتأهب مبدأ القومية لكتابة التاريخ السياسي للأزمنة الحديثة. وابتدع عقل العصور الوسطى في هذه الأثناء أنظمة من القانون المدني والكنسي، ودساتير بحرية وتجارية، وعهوداً لحرية المدن، ونظام المحلفين، وحق القضاء في إطلاق سراح المسجون بلا محاكمة. وفي العصور الوسطى وضع نبلاء الإنجليز العهد الأعظم، واعَدَّت المحاكم والمجالس القضائية للدول والكنيسة أساليب الحكم ودواليب الإدارة الباقية إلى هذه الأيام. وظهر نظام الحكم النيابي في الكورتيز Cortes مجلس أسبانيا النيابي، والألثنج Althign مجلس أيسلندة، وجمعية الطبقات الفرنسية، والبرلمان الإنجليزي.
وكان أعظم من هذا كله تراث العصور الوسطى الاقتصادي: فقد استغلت هذه العصور البراري المقفرة، وكان لها النصر في مغالبة الغابات، والحراج، والمستنقعات، والبحار، وأخضعت تربة الأرض لإرادة الإنسان. وقضت العصور الوسطى على الاسترقاق في معظم أجزاء أوربا الغربية، وكادت تقضي أيضاً على نظام رقيق الأرض. ونظمت العمال المنتجين في نقابات الحرف، وهي النقابات التي لا تزال من المثل العليا عند رجال الاقتصاد الذين يسعون لإيجاد طريق وسط بين الأفراد غير المسئولين والدولة الأتوقراطية. ولقد ظل الخياطون، والأساكفة، وصناع الملابس إلى وقتنا هذا يقومون بأعمالهم اليدوية في حوانيت خاصة كما كانوا يقومون بها في العصور الوسطى؛ وكان خضوعهم لنظام الإنتاج الكبير وللتنظيم الرأسمالي على مرأى ومسمع منا. وإن المواسم الكبرى التي تعقد في المدن الحديثة ويجتمع فيها الناس والسلع لمن مخلفات تجارة العصور الوسطى؛ كما أن من هذا التراث أيضاً ما نبذله من جهد لمنع الاحتكار، وتحديد الأثمان والأجور؛ ولقد ورثنا عمليات المصارف الحديثة كلها تقريباً من نظم العصور الوسطى المالية، وحتى منظماتنا الأخوية، وجمعياتنا السرية تمتد جذورها وشعائرها إلى العصور الوسطى نفسها.(17/349)
وكانت مبادئ العصور الوسطى الخلقية وليدة الهمجية ومنشأ نظام الفروسية. وإن فكرتنا عن السيد الكامل (السيذع) لمن خلق تلك العصور؛ ولا تزال مثل الفروسية العليا؛ وإن بعدت عن أساليب الفرسان القدامى، من أنبل الأفكار التي طافت بالعقل البشري؛ وربما كانت عبادة مريم العذراء قد جاءت بعناصر جديدة من الرقة والحنان إلى أخلاق الرجل الأوربي. وإذ كانت القرون المتأخرة قد ارتقت بأخلاق الناس عمّا كانت عليه في العصور الوسطى، فقد ذلك الرقي على أسس من وحدة الأسرة، والتربية الخلقية، والانتشار البطيء لعادات الشرف، والأمانة، والمجاملة، وهي الأسس التي أرست دعائمها العصور الوسطى، شأنها في هذا شأن الحياة الأخلاقية للمتشككين المحدثين التي لا يبعد أن تكون صدى للمبادئ الأخلاقية المسيحية التي اعتنقها الناس في شباب هذا الدين.
أما تراث العصور الوسطى الذهني فهو أضعف مما ورثناه عن اليونان الأقدمين كما أنه يختلط به كثير من المعارف الخفية الفاسدة التي ترجع أصولها إلى الأزمنة القديمة. ولكنه على الرغم من هذا يشمل اللغات الحديثة، والجامعات ومصطلحات الفلسفة والعلوم. وكانت الطريقة الجدلية المدرسية تدريباً في المنطق لا فتحاً فلسفياً دائماً، وإن كانت هذه الطريقة تسيطر على ألف كلية. ولسنا ننكر أن بعض العقائد الدينية في العصور الوسطى قد عاقت كتابة التاريخ الصحيح؛ فقد كان الناس في تلك العصور يحسبون أنهم يعرفون منشأ العالم والإنسان ومسيرهما، وحاكوا نسيجاً من الأساطير كاد يقصر التاريخ على مؤرخي الأديرة الإخباريين. لكن ليس صحيحاً أن مؤرخي العصور الوسطى لم يكونوا يعرفون شيئاً عن التطور والتقدم؛ وكان القرن الثالث عشر، كما كان القرن التاسع عشر، متأثراً أشد التأثر بما تم فيه من جليل الأعمال. كذلك لم تكن العصور الوسطى زمن ركود وجمود كما كنا نظن ذلك مزهوين؛ ذلك أن بعد ما بيننا وبين تلك(17/350)
العصور يجعلنا نظم الحركة سكوناً، والفروق معدومة من الوجود، ونحسب التغير جموداً؛ ولكن الرغبة في التغيير كانت تلح وقتئذ، كما تلح الآن، في تبديل العادات والثياب، واللغة والأفكار، والشرائع ونظم الحكم، وأساليب التجارة والمال، والأدب والفن. غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا يعلقون أهمية كبرى على ارتقاء الوسائل غير المصحوبة بإصلاح الغايات كما يفعل المحدثون غير المفكرين أهل هذه الأيام.
وفي الحق ا، تراث العصور الوسطى العلمي تراث متواضع، ولكنه يشمل فيما يشمل الأرقام الهندية، والطريقة العشرية، وفكرة العلوم التجريبية، وقسطاً كبيراً من العلوم الرياضية والجغرافيا، والفلك، والبصريات. وفي العصور الوسطى كشف البارود، واخترعت النظارات، والبوصلة البحرية، والساعة ذات الرقاص (1)، وتقطير الكحول - الذي يبدو أشد المخترعات لزوماً للإنسان! وفيها ارتقى أطباء العرب واليهود بالطب اليوناني، وحرر الرواد المسيحيون الجراحة من فنون الحلاقين؛ ونصف المستشفيات التي تقوم الآن في أوربا أنها من منشئات العصور الوسطى وإما أنها مؤسسات باقية من ذلك العهد جددت في العصور الحديثة، ولقد ورث العلم الحديث من طريقة التفكير في العصور الوسطى نزعته الدُّوَلية، وقسطاً غير قليل من لغته الدُّوَلية.
وأجل ما ورثه العالم من العصور الوسطى بعد التأديب الأخلاقي هو الفن. نعم إن بناء إمبير استيت Empire State Building لا يقل روعة وجلالاً عن كتردائية شارتر، وأنه يدين بعظمته لهندسته وحدها - لثباته رغم ارتفاعه وعتوه ودقة تخطيطه. ولكن اجتماع فنون النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى مع فن العمارة في حياة الكتدرائية القوطية يكسب كتدرائيات أميان،
_________
(1) من حق العرب علينا أن نقول إن هذه المخترعات يكاد يرجع الفضل كله فيها إلى الحضارة الإسلامية. (المترجم)(17/351)
وريمس، ونتردام سعة وعمقاً في التوافق الروحي، وثروة وتنوعاً في الزخرف، يملآن النفس غبطة أكثر مما تملؤها عظمة البناء الحديث، ولا تفتر معهما متعة الإنسان على مر السنين. وإن من واجب الإنسان أن يغفر الشيء الكثير لذلك العصر الذي أحب بملء قلبه رموز دينه، وأعمال يديه - من أبواب، وأبراج ومنارات مستدقة، وقباب من حجارة تناطح السماء، وتماثيل ومذابح للقربان وواجها، ومقابر عني بنحتها أعظم عناية، وشبابيك تنافس بألوانها قوس قزح، وتتقي أشعة الشمس قبل أن تنقذ فيها. ومن أجل الكتدرائيات نشأت الموسيقى المتعددة النغمات، ووضعت العلامات الموسيقية والسلم الموسيقي؛ ومن الكنيسة نشأ في فن التمثيل الحديث.
ولا يقل تراث العصور الوسطى في الأدب عن تراث الرومان وإن لم يبلغ في علو قدره ما بلغه الأدب اليوناني. ففي وسعنا أن نضع دانتي في مرتبة فرجيل، وبترارك إلى جانب هوراس، وشعراء العرب والفروسية الغزلين إلى جانب أوفد، وتيبلس، وبروبرتيوس؛ وإن روايات آرثر الغرامية لأشد عمقاً وأكثر نبلاً من كل ما حواه كتابا التناسخ أو الهرويدات، ولا يقل عنهما ظرفاً وجمالاً؛ وإن الترانيم الكبرى التي كانت تنشد في العصور الوسطى لأرقى من أجمل الأغاني الشعرية الرومانية. ولا يقل القرن الثالث عشر رقياً من عصر أغسطس أوليو العاشر؛ وقلّما شهد قرن من القرون ما شهده ذلك القرن من ازدهار فني أو ذهني كامل متعدد الألوان؛ وقد اتسع فيه نطاق التجارة اتساعاً لا يقل عمّا وصل إليه في أواخر القرن الخامس عشر؛ وكانت هذه التجارة سبباُ في اتساع رقعة العالم المعروف وازدياد ثروته ويقظته. وكان في القرن الثالث عشر بابوات أقوياء من طراز إنوسنت الثالث وبنيفاس الثامن، رفعوا مقام الكنيسة مدى قرن كامل إلى أعلى درجات النظام والقانون في جميع البلاد الأوربية. ولم يكن(17/352)
القديس فرانسس يخشى أن يكون مسيحياً؛ وأعاد الرهبان المتسولون المثل العليا للأديرة، ورفع الحكام العظام أمثال فيليب أغسطس، والقديس لويس، وفليب الرابع، وإدور الأول، وفردريك الثاني، وألفنسو العاشر، رفع هؤلاء دولهم من بلاد تجري على العادات والتقاليد إلى دول تتبع القوانين، كما رفعوا شعوبهم إلى مستويات جديدة من الحضارة في العصور الوسطى. وانبعثت في القرن الثالث عشر فلسفة وعلوم جديدة تغلبت على النزعات الصوفية التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر، وكان انبعاثها بحماسة وشجاعة لا يفوقهما ما كان منها في عصر النهضة. وفي الأدب خطا ": القرن العجيب" من بارزيفال تأليف ولفرام فن إسشنباخ إلى فكرة الملهاة المقدسة، ولاح أن عناصر حضارة العصور الوسطى وصلت في خلال ذلك القرن إلى الوحدة والوضوح وإلى صورتها النهائية.
وبعد فإنّا لن نستطيع تقدير العصور الوسطى حق قدرها إلاّ إذا نظرنا إلى النهضة الأوربية على أنها إتمام لما بدأته لا نقض له. فقد واصل كولمبس ومجلان Magellan مثلاً رحلات الارتياد التي قام بها التجار والملاحون من أهل البندقية، وجنوى، ومرسيليا، وبرشلونة، ولشبونة، وقادس، والتي تقدمت على أيديهم تقدماً عظيماً؛ وإن الروح التي كانت متأججة في أثناء القرن الثاني عشر لهي نفسها التي أثارت روح الكبرياء والكفاح في المدن الإيطالية خلال عصر النهضة؛ كذلك كان النشاط والخلق القوي اللذان امتاز بهما إنريكو دوندولو Enrico Dnodolo، وفردريك الثاني، وجريجوري التاسع هما اللذين تلتهب بهما صدور رجال النهضة؛ وكان منشأ زعماء عصابات المغامرين العسكريين الذين يبيعون خدماتهم لأي حزب في كل نزاع من الخطة التي اتبعها ربرت جسكارد Robert Guiscard؛ ومنشأ الحكام "الطغاة" مثل إزلينو Ezzelino وبلافشينو Pallavicino؛ وسار المصورون في الدرب الذي شقه لهم سمابيو Cimabue [M. M. A1] ودوتشيو Duccio؛ وكانت بلسترينا Palestrine همزة الوصل بين الترنيم(17/353)
الجريجوري وباخ Bach. كذلك كان بترارك وارثاً لدانتي وشعراء الفروسية الغزلين، كما كان بوكاشيو قصاصاً إيطالياً جواباً. وقد ظلت الروايات الغرامية مزدهرة في أوربا أثناء النهضة على الغم من كتاب دن كيشوت، وبلغت أساليب كريتيان ده تروي Chretien de Troyes حد الكمال على يد مالوري Malory. وكانت بداية "إحياء الآداب" في مدارس العصور الوسطى؛ وكل ما امتازت به النهضة في هذه الناحية أنها وسعت دائرة هذا الإحياء حتى شملت الآداب اليونانية بعد أن كان مقصوراً على اللاتينية، وأنها نبذت الفن القوطي لتنهض بالفن اليوناني. لكننا يجب ألاّ ننسى أن نقولو بيزانو Niccolo Pisano اتخذ فن النحت اليوناني في القرن الثالث عشر نموذجاً له ينسج على منواله، ولمّا أن جاء كريسلوراس Chrysoloras باللغة اليونانية وآدابها إلى إيطاليا (1393)، كان لا يزال باقياً من عمر العصور الوسطى مائة عام كاملة.
وكان الدين الذي شاد الكنائس الكبرى وألّف الترانيم الجميلة هو الدين السائد في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا في عهد النهضة مع فارق واحد، وهو أن الكنيسة الإيطالية، التي كان لها نصيب كبير في ثقافة ذلك الوقت، وهبت العقل الإيطالي حرية في التفكير ولدت في جامعات العصور الوسطى، وظلت باقية، بشرط أن يكون مفهوماً فهماً ضمنياً أن يسير الفلاسفة والعلماء في بحوثهم دون أن يحاولوا القضاء على دين الجماهير.
ومن أجل هذا لم تشترك إيطاليا ولا فرنسا في حركة الإصلاح الديني، بل انتقلتا من ثقافة القرن الثالث عشر الكاثوليكية إلى ثقافة القرنين الخامس عشر والسادس عشر "الإنسانية"، ثم انتقلتا من هذه الثقافة الأخيرة إلى عصر الاستنارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان هذا الاطراد المستمر مضافاً إلى تجارة البحر المتوسط قبل كشوف كولمبس هي التي أكسبت الشعوب اللاتينية ميزة ثقافية مؤقتة على الأمم الشمالية التي اجتاحتها الحروب الدينية، والتي كان لها فيها(17/354)
من الآثار المدمرة أكثر مما كان في البلاد اللاتينية. وتمتد أصول هذا الاطراد مجتازة العصور الوسطى إلى روما القديمة ومجتازة جنوبي إيطاليا إلى بلاد اليونان القديمة. وكان تيار واحد عظيم من الثقافة يجري خلال المستعمرات اليونانية في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا، وخلال الفتح الروماني لفرنسا وأسبانيا واصطباغهما بالصبغة اللاتينية مبتدئاً من سابفو وأنكريون إلى فرجيل وهوراس، وإلى دانتي وبترارك، وإلى ربليه ومنتائي، وإلى فلتير وأناتول فرانس. ونحن في انتقالنا من عصر الإيمان إلى عصر النهضة إنما نتقدم من الطفولة المزعزعة غير الواثقة بنفسها إلى الشباب البهيج للثقافة التي قرنت ما كان عند الرومان واليونان الأقدمين من ظرف ورقة إلى ما كان عند البرابرة من قوة؛ وهي ثقافة نقلت إلينا تراثاً متجدد الشباب موفور الغنى لحضارة من حقها علينا أن نعمل على الدوام لزيادتها وألاّ نتركها تموت.
شكراً لك مرة أخرى أيها القارئ الصديق
انتهى المجلد الرابع ويليه المجلد الخامس في حضارة عصر النهضة(17/355)
المجلد الخامس
النهضة
وهو يروي تاريخ الحضارة في إيطاليا من مولد بترارك حتى ممات تيشيان
من1304 إلى 1576
مقدمة الترجمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على عظيم نعمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل. وبعد، فهذا هو الجزء الاول (رقم 18) من المجلد الخامس من "قصة الحضارة"، وهو المجلد الذي يروي هذه القصة الطريفة في إيطاليا. ولسنا مغالين إذا قلنا ان ذلك العصر هو أهم العصور كلها من حيث الحضارة. ففيه خرج العالم الغربي من ظلمات العصور الوسطى، وبه بدأ العصر الحديث، ومن أجل هذا خصه المؤلف بمجلدين كاملين، هذا المجلد الذي يروي قصة الحضارة في إيطاليا خاصة، ومن حق إيطاليا ان تنفرد في ذلك العصر بمجلد خاص، لأنها كانت مهد النهضة التي نشأت فيه وترعرعت ثم فاضت منه على سائر أوربا. أما قصة النهضة في غير إيطاليا من العالم- في أوربا وآسية- فقد رواها المؤلف في المجلد السادس الذي ظهر في أواخر العام الماضي والذي شرعنا في ترجمته.
وسيجد القارئ في هذا الجزء وفي الأجزاء الثلاثة الأخرى التي سيصدر فيها هذا المجلد الخامس وصفاً رائعاً لمظاهر النهضة الأدبية والفنية والعلمية والمعمارية، وحديثاً شيقاً عن أعلام هذا العصر، والى جانبه حديث آخر عن أحوال البلاد الإيطالية وحكامها ورجال العلم، والدين، والأدب، والسياسة، والحرب فيها، كل ذلك في لغة شيقة تتخللها بعض الدعابة التي تذهب بالملل في كثير من الأحيان. والترجمة صورة دقيقة من الأصل المترجم بلا زيادة ولا نقصان، فلم نحذف من أقوال المؤلف شيئاً قط ولم نزد عليها إلا بعض تعليقات قليلة(/)
في هامش الكتاب تفسر الكتاب تفسر عبارة أو تشرح إشارة تاريخية. وقد راعينا في تعريب الأسماء سواء منها أسماء المدن أو الأشخاص نطقها بالإيطالية قدر المستطاع بعد أن حققنا هذا النطق بقدر ما وصل إليه جهدنا. ولهذا قد يجد القارئ فيها بعض الخلاف عن الأجزاء السابقة ولكنه خلاف قليل سنتداركه في تلك الأجزاء عند إعادة طبعها.
ونرجو أن يجد القراء في هذا المجلد من غزارة العلم وطرافة البحث ما يعوضهم عن طول الوقت الذي يقضونه في قراءته. فإن وجدوا فسيعوضنا نحن أيضاً ما عانينا من جهد في ترجمة هذا المجلد الذي يحتوي موضوعات معظمها جديد علينا، كفنون العمارة والعلوم والنقش والتصوير والنحت وغيرها من الفنون والعلوم، وفي البحث عن الاصطلاحات العلمية والفنية التي يزخر بها الكتاب، ونرجو أن نكون قد وفقنا في هذا بعض التوفيق إن لم يكن كله.
ولا يفوتنا أن نسجل شكرنا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية التي يرجع إليها في إخراج هذا الكتاب وللجنة التأليف والترجمة والنشر عنايتها بطبعه ونشره، وللقراء الكرام في مصر وسائر البلاد العربية، الذين كان تشجيعهم حافزاً قوياً لنا على مواصلة الجهد المضني الطويل.
وفقنا الله إلى أداء واجبنا في خدمة لغتنا العربية عن طريق الترجمة، وهو الطريق الذي اخترنا أن نسلكه لخدمتها، وأعاننا على تذليل ما نلاقيه فيه من صعاب.
محمد بدران
أكتوبر سنة 1958(/)
إلى القارئ
هذا المجلد كامل بنفسه مستقل بذاته، ولكنه هو الجزء الخامس من تاريخ الحضارة الذي كتب على أن يكمل بعضه بعضاً وأن يجمع في قصة واحدة نواحي النشاط البشري جميعها. ولقد بدأت هذه السلسلة في عام 1935 وكان أولها ما ورثناه من الشرق - أي تاريخ مصر والشرقين الأدنى والأوسط حتى عام 323 ق. م، وتاريخ الهند والصين واليابان حتى عام 1930. وكان جزؤها الثاني حياة اليونان (1939) وهو يسجل تاريخ اليونان وثقافتهم من اقدم العصور المعروفة، وتاريخ الشرقين الادنى والأوسط من 325 ق. م حتى الفتح الروماني في 146. وواصل الجزء الثالث قيصر والمسيح (1944) رواية قصة الجنس الأبيض حتى عام 325 م، وكان محورها الذي تدور حوله هو نشأة روما وسقوطها والقرون الأولى من المسيحية. وواصل الجزء الرابع عصر الإيمان (1950) رواية هذه القصة حتى عام 1300، ويضم بين طياته الحضارة البيزنطية وحضارات الإسلام واليهودية والعالم المسيحي اللاتيني.
ويهدف هذا المجلد إلى رسم صورة شاملة موجزة لجميع مناحي الحياة البشرية في إيطاليا على عهد النهضة- من مولد بترارك في عام 1304 إلى موت تيشيان Titian في عام 1576. وتشير كلمة النهضة في هذا المجلد إلى إيطاليا دون غيرها من البلاد، ولن تستخدم للدلالة على ما حدث من تقدم ونضوج في فرنسا، وأسبانيا، وانجلترا والاراضي الوطيئة في خلال القرنين السادس عشر إلا ما بعث بعثاً جديداً في تلك البلاد وكانت أصوله أجنبية عنها، وحتى في إيطاليا نفسها تعنى هذه التسمية أكثر ما تعنى بعث الآداب القديمة التي لم يكن لها من الخطر في إيطاليا(/)
ما كان لتقدم اقتصادياتها وثقافتها حتى بلغت صورتها المميزة لها في تلك البلاد.
ولقد أردت أن اجتنب التكرار السطحي لما نشر في هذا الموضوع من كتب قيمة، فوسعت نطاق البحث إلى أكثر مما ألفه القارئ في المجلدات السابقة من هذه السلسلة. وكان مما اقتضى هذا التوسع غير هذا السبب أننا كلما اقتربنا من عصرنا الحاضر زاد اهتمامنا بموضوعنا، ذلك اننا نشعر بما يجري في دمائنا من حيوية مستمدة من تلك القرون الخطيرة الأحداث التي نشأت فيها أوربا الحديثة، وبذلك تصبح أفكار تلك القرون، وحوادثها، وأشخاصها، لا غنى عنها لفهم عقولنا وأيامنا. ولقد درست بنفسي كل ما ورد ذكره في هذا الكتاب من مؤلفات خاصة بالفن إلا القليل منها، ولكنني تعوزني الدربة الفنية التي تخولني إصدار أحكام عليها قائمة على البحث والنقد. غير أنني قد أقدمت على التعبير عما أفضله منها وعما أنطبع في ذهني بعد قراءتها. والآن نرى الفن الحديث يسير في طريق مضاد للذي سار فيه فن النهضة، ويحاول جاهداً أن يجد صوراً جديدة للجمال، ومعاني جديدة للأشياء. وليس لدينا ما نأخذه على هذه النزعة، لأنه مهما يكن تقديرنا لها، فإن هذا التقدير يجب الا يحول بيننا وبين الترحيب بكل محاولة صادقة منظمة يقصد بها محاكاة ما تمتاز به من قوة ابتكار لا ما أسفرت عنه من نتائج.
وفي عزمنا إذا واتتنا الظروف أن نصدر مجلداً سادساً سيكون عنوانه في الأغلب الأعم عصر الإصلاح الديني (1) بعد ثلاث سنين أو أربع من هذا الوقت، يشتمل على تاريخ الحضارات المسيحية والإسلامية واليهودية في خارج إيطاليا مبتدئاً عام 1300، وفي إيطاليا نفسها من 1576 إلى 1648. ويحسن بنا بعد هذا التوسع في البحث وما نشعر به من آثار الشيخوخة أن نفكر في أن نختم هذه السلسلة بمجلد سابع نطلق عليه اسم
_________
(1) لقد ظهر هذا المجلد فعلا وبدأنا نترجمه. (المترجم).(/)
عصر العقل يواصل رواية القصة إلى بداية القرن التاسع عشر.
وأرى فرضاً عليّ أن أشكر لمستر جوزف أوسلاندر Joseph Ouslander إذنه لي بان أنقل عنا ترجمته الجميلة لإحدى أغاني بترارك، ولمطبعة جامعة كيمبردج إذنها بأن أنقل فقرة بقلم رتشرد جارنت Richard Oarnet، في المجلد الأول من تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History، ولزوجتي ما كان لها من اقتراحات وأحاديث أنارت لي السبيل، وللدكتور إدورد هبكن Edward Hopkin ما قدم لي من معونة في تصنيف مواد الكتاب، وللآنسة ماري كوفمان Mary Kaufman والآنسة فلورا كوفمان Flora Kaufman ما قدمتا من معونة كتابية متعددة الأنواع والسيدة إدث ديجيت Edith Digate ما أظهرت من كفاية عظيمة في كتابه المخطوط على الآلة الكاتبة رغم ما به من صعوبات جمة، ولولاس بركواى Wallace Brockway خبرته العظيمة في إخراج الكتاب وما قدم لى في هذه الناحية من نصائح سديدة.
وأشكر بعد هذا كله ناشري هذا الكتاب، فلقد دلت صلتي الطويلة بهم على انهم من خير من يستطاع وجودهم من الناشرين، ذلك أنهم لم يضنوا على بأي معونة، فقد تحملوا معي نفقات البحث، ولم يجعلوا لحساب المكسب أو الخسارة أي أثر في علاقاتنا. وقد نشروا في عام 1926 كتابي قصة الفلسفة وكل ما كانوا يرجونه من وراء نشره ألا تصيبهم من هذا النشر خسارة، وقد ظلت علاقتنا قائمة سبعة وعشرين عاماً كانت بالنسبة لي صلة موفقة سعيدة.
ملاحظات عن طريقة استخدام هذا الكتاب
1 - حذفنا من النص تواريخ مولد الاشخاص ووفاتهم ولكننا أثبتناها في فهرس الأعلام والأماكن.(/)
2 - الفقرات المكتوبة بالخط الصغير تعنى الدارسين المتخصصين وحدهم، وفي وسع القارئ العادي ان يغفلها وهو آمن.
3 - رأينا عند ذكر الأماكن التي توجد فيها التحف الفنية أن نذكر اسم المدينة للدلالة على أهم معرض للفنون بها مثال ذلك:
مدينة برجامو للدلالة على مجمع برلين للدلالة على متحف قيصر
كرارا الفني فردريخ بها
بريستشيا للدلالة على بناكوتيكا تشكاجو للدلالة على معهد الفنون
مارتننجو دترويت للدلالة على معهد الفنون بها
كليفلند للدلالة على متحف الفنون بها مدريد للدلالة على البرادو
لنيننجراد للدلالة على الصومعة بها ميلان للدلالة على معرض
لندن للدلالة على المعرض القومي بريرا الفني
منتوا للدلالة على قصر الدوق نابلي للدلالة على المتحف القومي
مودينا للدلالة على بيناكوتيكا إستنسي بارما للدلالة على المعرض الملكي
نيويورك للدلالة على متحف الفن للفنون
العاصمي واشنجتن للدلالة على المعرض القومي
البندقية للدلالة على المجمع العلمي الفني للفنون
غير أنا قد ميزنا معرضي فلورنس الفنيين العظيمين باسميهما أفيزى Uffizi، وبتي Pitti وكذلك المعرض البرغي Borghese في روما.
ول ديورانت
لوس أنجليز في أول ديسمبر سنة 1952(/)
الكتاب الأول
تمهيد
1300 - 1377(18/2)
الباب الأول
عصر بترارك وبوكاتشيو
1304 - 1375
الفصل الأول
أبو النهضة
في عام 1302 نفسه، أي في العام الذي انتزع فيه حزب الاشراف السود حكم مدينة فلورنس بالقوة، ونفوا دانتى وغيره من حزب الطبقة الوسطى البيض اتهم الاشراف الظافرون محامياً من البيض هو السُر Ser ( أي السيد او الرئيس) بتراتشيو Petracceo بأنه زور وثيقة قانونية. ووصف بتراتشيو التهمة بأنها حجة ماكرة للقضاء على حياته السياسية، فأبى أن يمثل أمام القضاء ليحاكم عليها، فحكم عليها، فحكم عليه في غيابه، وخير بين أن يؤدي غرامة باهظة أو تقطع يده اليمنى. وإذا كان قد ظل يرفض الحضور أمام المحكمة فقد صدر الأمر بنفيه من فلورنس، وصودرت أملاكه. فما كان منه إلا أن فر إلى أريتسو Arezzo هو وزوجته. وفي هذه المدينة طلع فرانتشسكو بتراركا Francesco Petrarka ( كما سمى نفسه فيما بعد تظرفاً) على العالم على حين غفلة بعد عامين من نفيه.
وكانت بلدة أريتسو الصغيرة جِبليِة Ghibelline عارمة (أي تدين بالولاء السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة لا للبابوات)، فكانت لذلك تعاني في القرن الرابع عشر كل ما تعانيه المدن الإيطالية من المحن. وكانت(18/3)
فلورنس الجلفية Guelfic - أي التي تناصر البابوات على الأباطرة في النزاع القائم بينهما على السلطان السياسي في إيطاليا - قد أوقعت بأريتسو هزيمة منكرة عند كمبلدينو Campaldino (1189) وهي المعركة التي حارب فيها دانتي؛ فلما حل عام 1340 نفى جميع الجبليين الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسبعين من بلدة أريتسو، ثم خضعت تلك البلدة نفسها نهائياً لحكم فلورنس في عام 1384. وكانت أريتسو هذه هي البلدة التي ولد فيها ماسناس Maccenas في الزمن القديم، وهي التي شهدت في القرنين لخامس عشر والسادس عشر مولد جيورجيوفاسارى Giorgio Vasari الذي أذاع شهرة النهضة، وبيترو أريتينو Pietro Aretino الذي حط من شأنها وقتاً ما، وانجبت كل بلدة في إيطاليا في ذلك العهد عبقرياً من العباقرة ثم نفته منها.
وهرول السيد بتراتشيو نحو الشمال في عام 1312 ليرحب بالإمبراطور هنري السابع الذي كان يرجى في ذلك الوقت أن ينقذ إيطاليا أو في القليل من فيها من الجبليين. ولم يكن بتراتشيو في ذلك العام يقل عن دانتي أملا وثقة في المستقبل، فنقل أسرته إلى بيزا Pizaa وانتظر فيها القضاء على الجلفيين الفلورنسين.
وكانت بيزا لا تزال حتى ذلك الوقت من بين مفاخر المدن الإيطالية. نعم إن تدمير أسطولها على يد اهل جنوى في عام 1284 قد أفقدها بعض أملاكها، وانقص تجارتها، وأن النزاع الذي قام بين الجبليين والجلفيين داخل أسوارها لم يترك لها من القوة ما تستطيع أن تفلت به من قبضة فلورنس التجارية صاحبة النزعة الاستعمارية، والتي كانت تتوق إلى السيطرة على نهر الآرنو حتى مصبه. ولكن أهلها البواسل كانوا يزهون بكنائسها الرخامية الفخمة، وابراجها المزعزعة، ومقابرها الشهيرة، وذلك الحقل المقدس Campo Santo الذي ملئ مربعه الأوسط بثرى الأرض المقدسة،(18/4)
والذي زينت جدرانه بعد قليل من ذلك الوقت بمظلمات من صنع تلاميذ جيتو Gitto واللورندستي Lorenzetti، والذي خلدت قبوره المزدانة بالتماثيل ذكرى الموتى من الأبطال أو الأسخياء وإن لم يدم هذا التخليد إلا إلى حين. وفي جامعة بيزا عكف المشترع البارع بارتولوس Bartolus الساسوفرتووى of Sassoferrato بعد إنشائها بزمن وجيز على تعديل القانون الروماني ليوائم حاجات العصر الذي كان يعيش فيه، ولكنه صاغ علم القانون في عبارات غريبة حمل عليه من أجلها بترارك وبوكاتشيو حملة شعواء. ولعل بارتولوس قد رأى من الحكمة أن تكون لغة القانون غامضة لأنه كان يبرر قتل الطغاة المستبدين، وينكر على الحكومات مصادرة أملاك الناس إلا بعد الإجراءات القانونية الواجب اتباعها في مثل هذه الأحوال (1).
وتوفي هنري السابع (1313) قبل أن يقرر هل يكون إمبراطوراً رومانياً أو لا يكون. وابتهج جلفيو إيطاليا بوفاته، ورأى السيد بتراتشيو أنه غير آمن على نفسه في بيزا فهاجر منها هو وزوجته وابنته إلى أفنيون القائمة على ضفة نهر الرون حيث كان البلاط البابوي قد اقيم من عهد قريب، وحيث كانت التجارة آخذة في الأتساع السريع، فأتاحا فرصاً ثمينة للمحامي البارع في مهنته. وركبت الأسرة سفينة شراعية سارت بمحاذاة الساحل إلى جنوى، ولم ينس بترارك قط ما كان يتجلى أمامه من مناظر ساحل الرفييرا الإيطالي الرائعة - من مدن كأنها التيجان على هامات جبال تنحدر إلى بحار زرقاء مخضرة، يقول فيها الشاعر الشاب: ((إنها أشبه بالسماء منها إلى الارض)) (2). ووجدت الأسرة بلدة أفنيون مليئة باصحاب المراتب العالية، فانتقلت منها إلى كاربنتراس Carpentras التي تبعد عنها نحو خمسة عشر ميلا نحو الشمال (1315)، وقضى فرانتسكو في هذه البلدة الثانية أربع سنين سعيداً في تواكله وعدم مبالاته بما يحيط به. وانتهت هذه السعادة حين أرسل إلى منبلييه (1319 - 1323)، ومنها إلى بولونيا (1323 - 1326) لدراسة القانون.(18/5)
وكان من شأن بولونيا أن تسره، فقد كانت مدينة جامعية، مليئة بمرح الطلاب ومجونهم، يغمرها جو التعليم، وتحمس التفكير الحر المستقل. وفي هذه المدينة كانت تدرس في هذا القرن الرابع عشر أولى مناهج التشريح الآدمي، وكانت فيها استاذات من النساء بلغت بعضهن - مثل نوفيلادندريا Novella d'Andrea ( المتوفاة عام 1366) - من الجاذبية حدا جعل الرواة يصفونها - وصفا خياليا بلا شك - بأنها كانت تحاضر من تحت قناع لئلا يشغل الطلاب بجمالها عن عملها. وكانت بلدية بولونيا من أوليات البلديات التي ألقت عن كاهلها نير الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأعلنت استقلالها بشئونها. وكانت منذ ذلك العهد البعيد وهو 1153 قد اختارت محافظها وظلت قرنين كاملين محافظة على حكومتها الديمقراطية، ولكنها منيت في عام 1325، وبترارك مقيم فيها، بهزيمة ساحقة على يد مودينا Modena لم يسعها إلا أن تضع نفسها تحت حماية البابوية، فلما حل عام 1327 ارتضت أن يكون قس معين من قبل البابا حاكما لها، ونسجت حول هذه الفترة من تاريخها كثير من القصص المريرة.
وكان بترارك يحب الروح السائدة في بولونيا، ولكنه كان يبغض حرفية القانون: " وكان مما يتعارض مع ميويى ويؤلمني أن أحصل فنا لا أربد ان امارسه ممارسة غير شريفة، ولا أستطيع أن أمارسه بغير هذه الطريقة " (2). وكل ما كان يعنى به في الرسائل القانونية هو " ما كان فيها من إشارات يخطئها الحصر للعصر الروماني القديم ". ولهذا فإنه بدلا من أن يدرس القانون قرأ كل ما استطاع أن يجده من كتابات فرجيل، وشيشرون، وسنكا. وفتح هؤلاء أمامه عالما جديداً في الفلسفة والفن الادبي، وشرع يفكر كما يفكرون، ويتوق إلى أن بكتب كما يكتبون، ولما توفى أبواه (1326) هجر دراسة القانون، وعاد إلى أفنيون وألقى بنفسه في غمار الشعر القديم وآداب الغرام.(18/6)
ويقول إن يوم الجمعة الحزينة هو اليوم الذي وقعت عيناه على المرأة التي كانت مفاتنها المتمنعة هي التي جعلته أشهر شعراء عصره. وقد وصفها وصفاً مفصلاً يفتتن به قارئه، ولكنه حرص على الاحتفاظ بسرية شخصيتها حرصاً حمل أصدقائه على الظن أنها من مبتكرات خياله الشعري، وأن كل ما يبثها من عاطفة إنما هو من قبيل التسامح الشعري لا أكثر.
ولكننا لا يزال في وسعنا أن نرى على الصفحة الاولى من نسخته الخاصة من ديوان فرجيل، التي تحرص مكتبة أمبروز بميلان على الاحتفاظ بها وتعدها من أثمن كنوزها، لا نزال نرى الألفاظ التي كتبها بخطه في عام 1348 بنصها:
في سنة 1327 من ميلاد المس، وفي اليوم السادس من شهر إبريل، وفي الساعة الاولى، وقعت عيناي في كنيسة القديسة كلارا Santa Clara بأفنيون على لورا Laura التي تمتاز بفضائلها، والتي ذاعت شهرتها في أغاني. وفي تلك المدينة نفسها، وفي الشهر نفسه، وفي اليوم السادس بعينه، وفي الساعة الاولى ذاتها، من عام 1348 احتجب هذا الضوء من نهارنا.
ترى من كانت لورا هذه؟ لقد سجلت في أفنيون في اليوم الثالث من أبريل عام 1348 وصية أوصت بها سيدة تدعى لوراده ساد Laura de Sade زوجة الكونت هيوج ده ساد Hugue de Sade التي ولدت له أثنى عشر طفلاً. وأكبر الظن إن هذه السيدة هي التي كان يهيم بها الشاعر، وكان زوجها من الأسلاف الأبعدين لأشهر رجل سادي في التاريخ. وتصف الرواية المأثورة نقشاً دقيقاً يعزى إلى سيمون مرتينى Simone Martini محفوظ الآن بمكتبة فلورنس بأنه صورة لورا محبوبة بترارك، والصورة ذات وجه جميل رقيق، وفم ظريف، وأنف مستقيم، وعينين ناعستين توحيان بالتواضع والتفكير. ولسنا نعرف أكانت لورا قد تزوجت أم كانت أما شابة حين وقعت عليها عين بترارك أول مرة.(18/7)
ومهما يكن من أمرها فإنها تلقت هيامه بها في هدوء، وأبعدته عنها، وشجعته في هيامه بها بتمنعها وصدودها. ويدلنا على ما كان في عاطفته نحوها من إخلاص في بعض الأحيان تأنيب ضميره له لما كان في هذه العاطفة من عنصر شهواني، وحمده الله على كل ما كان لعدم استجابتها لحبه من أثر في تهذيب هذا الحب والسمو به.
وكان في هذه الأثناء يعيش في بروفانس، بلاد شعراء الفروسية الغزلين، وكان صدى أغانيهم لا يزال يتردد في أفنيون، وصار بترارك، كما صار دانتي من قبله بجيل من الزمان من هؤلاء الشعراء الغزلين على غير علم منه، يعبر عن عاطفته بألف حيلة وحيلة من الحيل الشعرية. وكان قرض الشعر وقتئذ من أسباب اللهو الشائعة. وقد بلغ من شيوعه أن شكا بترارك في إحدى رسائله من أن المحامين، ورجال الدين، بل وخادمه الخاص نفسه قد عمدوا كلهم إل قرض الشعر، ويقول إنه يخشى ألا يمضى وقت طويل حتى "تشرع الماشية نفسها أن تخور شعراً " (3). وقد ورث عن بلاده بحر الأغاني، وربط بينه وبين الشعر المقفى العسير الذي ظل مائة عام يشكل الشعر الإيطالي ويقف في سبيله، وألف في خلال الإحدى والعشرين السنة التالية، وهو سائر على ضفاف الجداول، أو بين التلال، أو راكع خاشع أثناء صلوات المساء أو القداس، يتحسس طريقه بين صيغ الأفعال والصفات، في سكون حجرته، تقول إنه ألف في خلال هذه السنين سبع أغان ومائتي أغنية، وقصائد أخرى متنوعة عن لورا الحية الولود. وجمعت هذه الأغنيات والقصائد في نسخ مخطوطة وسميت الكندسنير Canzoniere أو كتاب الأغاني، فأثارت خيال شباب إيطاليا، ورجالها، ورجال الدين فيها. ولم ير أحد حرجا في أن مؤلفها، حين لم يجد طريقا للرقى إلا طريق الكنيسة، قد تيفخ%-@أي حلق شعر اليافوخ وهو كناية عن أنه انتظم في سلك رجال الدين. (المترجم) @(18/8)
وانتظم في المراتب الصغرى من مراتب الكنيسة، وأخذ يسعى للحصول على الرتب الكهنوتية. وأما لورا نفسها فلعلها قد اعتراها الخجل، واهتزت مشاعرها- حين سمعت أن شَعرها، وأنفها، وشفتيها ... كانت يتغنى بها من البحر الأدرياوي إلى نهر الرون. ولم يحدث قط من قبل فيما أنقذ من الضياع من أدب العالم أن عبر إنسان عن عاطفة الحب هذا التعبير الكامل المختلف الأنواع أو بمثل هذه الأساليب الشعرية التي بذل فيها الكثير من الجهد والعناء، ففيه نجد كل تلك الأوهام المتكلفة الظريفة المنبعثة عن الرغبات المصوغة شعراً، ونجد شعلة الحب الملتهبة قد شذبت تشذيبا عجيبا حتى احتواها الوزن والقافية. وفي هذا يقول الشاعر نفسه: "ما من صخرة، مهما بردت، إلا ستشتعل من هذه الساعة وتحترق تحسراً إذا مستها أغاني ".
ولكن الشعب الإيطالي قد تلقى هذه المعاني الحلوة مصوغة في أروع ما عرفته لغته من الأنغام الموسيقية: رقيقة، ظريفة، منسجمة، مزدانة بالخيال الساطع الوقاد، الذي يبدو دانتى بازائه في بعض الأحيان خشناً فجاًّ، فها هي ذي الآن تلك اللغة الفخمة المجيدة التي انتصرت فيها الحركات على الحروف الساكنة، قد بلغت الآن درجة سامية من الجمال لم ترق إليها لغة ما إلى يومنا هذا. إن في وسع الأجنبي الذي ليس من أهل هذه اللغة أن يترجم ما فيها من الأفكار، ولكن منذا الذي يستطيع أن يترجم ما فيها من موسيقى؟:
في أية مملكة ذات سناء، بل في أي ميدان من ميادين الفكر المتألق
عثرت الطبيعة على النموذج الذي صاغت على مثاله
هذه الصورة الرقيقة الباهرة التي تمثل هنا
على ظهر الأرض ما صنعته الطبيعة في السماء؟
وأية حورية من ساكنات عيون الماء، وأية روح من أرواح الحراج(18/9)
نشرت مثل هذه الذؤابات الذهبية
على متن الهواء؟ وأي قلب عرف أمثال هذه الفضائل؟
وإن كانت أكبر فضائلها قد انطوت على موتى
إن من لا يتطلع إلى عينيها اللتين اكتمل فيهما الجمال
إنما يبحث عن الجمال السماوي بلا جدوى،
ومن لا يرى هاتين المقلتين النيرتين الزرقاوين تشعان الضياء
لا يعرف كيف يذعن الحب ويصد
وليس يعرف حلو أنفاسها إلا من عرف
حلو حديثها وضحكها
ولقد هيأت لبترارك قصائده، وفكاهته المرحة، وإحساسه المرهف بالجمال في المرأة وفي الطبيعة، وفي السلوك، والآداب، والفنون، مكاناً في المجتمع المثقف، ولم يكن تنديده بأخلاق رجال الدين في أفنيون ليمنع عظماء هؤلاء الرجال من أمثال الأسقف جياكو موكولنا Giacomo Colonna أو أخاه الكردنال جيوفني كولنا أن يعرضا عليه ضيافتهما ومناصرتهما. وقد فعل ما تفعله الكثرة الغالبة منا فاستمتع وغفر قبل أن يمل ويلعن، فقد كان يلهو مع محظية له بين الفترات التي ينشد فيها أغانيه للورا. وولد له طفلان غير شرعيين. ووجد متسعاً من الوقت للأسفار، وجمع فيما يظهر مالا موفوراً، فنحن نجده في باريس عام 1331، ثم نجده بعدئذ في فلاندرز وألمانيا، ثم في روما عام 1336 يحل ضيفاً على آل كولنا Colonna. وقد تركت خرائب سوق روما الكبرى أعمق الأثر في نفسه، فقد كشفت له عن قوة وفخامة قديمتين لا تتفقان مع ما كانت عليه تلك العاصمة المهجورة في العصور الوسطى من فقر وقذارة، وألح على خمسة من البابوات متعاقبين أن يتركوا أفنيون ويعودوا إلى روما، وإن كان هو نفسه قد غادر روما وعاد إلى أفنيون.(18/10)
وعاش سبع سنين بين أسفاره في قصره الكردنال كولنا في هذه المدينة الثانية، كان يجتمع فيها بأظرف العلماء، ورجال الدين. والمحامين وحكام إيطاليا وفرنسا، وإنجلترا، ويوحي اليهم ببعض تحمسه للآداب القديمة. ولكنه كان يُغضبه ما في أفنيون من فساد ورِشا وخصام رجال الدين، وما يستمتعون به من فراغ منهك قاتل، واختلاط الكرادلة والسراري، والنزول بالمسيحية إلى الشئون الدنيوية. فلما كان عام 1337 ابتاع له منزلا صغيراً في فوكلوز Vaucluse " الوادي المغلق "- الذي يبعد عن أفنيون عشرين ميلاً جهة الشرق. ويجتاز الإنسان مناظر فخمة ذات روعة ليصل إلى ذلك المكان المنعزل، فلا يتمالك نفسه من الدهشة حين يشهد كوخاً صغيراً قائماً أمام صخرة تعلوها أجراف شامخة وعرة، ولكنه يلاطفه انسياب نهر السورج Sorgue الهادئ الرجراج. ولم يستبق بترارك روسو إلى التسامي العاطفي بحبه فحسب، بل استبقه فوق ذلك إلى المتعة التي كان يستمدها من المناظر الطبيعية. انظر مثلا إلى ما كتبه إلى صديق له يقول: " ألا ليتك تعرف ما أحس به من البهجة وأنا أجول، حراً وحيداً، بين الجبال والغابات، ومجاري الماء ". وفي عام 1336 ضرب المثل لغيره من السياح بأن تسلق قمة فنتو Ventoux ( التي تعلو 6214 قدماً) لا لشيء إلا الرياضة، واجتلاء ما حولها من المناظر، وما يشعر به المنتصر من زهو وخيلاء. وكان وهو في فوكلوز في ذلك الوقت يرتدي زي الفلاح العامل، ويصيد السمك في الغدير، ويرتاض في حديقتين، ويقنع " بكلب واحد وخادمين لا أكثر ". ولم يكن يندم على شئ (لأن هيامه بلورا قد انصرف في أشعار الصيد) إلا على شدة بعده عن إيطاليا وشدة قربه من أفنيون.
ومن هذه البقعة الصغيرة من الأرض أثار بترارك نصف العالم الأدنى. وكان يجب أن يكتب الرسائل لأصدقائه، وإلى البابوات والملوك، والأموات من المؤلفين، وإلى الأبناء الذين لم يولدوا بعد. وكان يحتفظ(18/11)
بصور من هذه الرسائل، ولما تقدمت به السن كان يسلس كبرياءه بمراجعتها وإعدادها للنشر بعد وفاته. وتعد هذه الرسائل المصوغة في لغة لاتينية جزلة، ولكنها تضاهي لغة شيشرون، أهم ما بقى من آثار قلمه. وقد وجه في بعضها إلى الكنيسة نقداً بلغ من شدته أن أبقاها سراً فلم تنشر إلا بعد أن مات وأصبح آمناً على نفسه. ذلك أنه وإن قبل في إخلاص، كما يبدو للعيان، عقائد الكنيسة الكاثوليكية كاملة، كان يقيم بروحه مع الأقدمين: فكان يكتب إلى هوميروس، وشيشرون، وليفي، كأنهم رفاق له أحياء، ويتحسر لأنه لم يولد في أيام البطولة، أيام الجمهورية الرومانية. وكان من عادته أن يطلق اسم ليليوس Laelius على واحد ممن يراسلهم، وأسم سقراط على واحد آخر. وقد أوحى إلى أصدقائه أن يبحثوا عن المخطوطات الضائعة في الآداب اللاتينية واليونانية، وأن ينقلوا النقوش القديمة، ويجمعوا المسكوكات القديمة، لأنها وثائق تاريخية قيم. وحث ولاة الأمور على أن ينشئوا دور الكتب العامة. وكان يجعل نفسه قدوة فيعمل بما يدعو إليه: فكان في أسفاره يبحث عن النصوص الأدبية القديمة ويبتاعها لأنها "تجارة أعظم قيمة من كل ما يعرضه العرب أو أهل الصين " (6)، وينقل بخط يده المخطوطات التي لا يستطيع شراءها، ولما عاد إلى موطنه استأجر النساخين وأسكنهم معه في داره. وكان يزدهي بنسخة من هوميروس أرسلت إليه من بلاد اليونان، ورجا مرسلها أن يبعث اليه بنسخة من مؤلفات يوربديز. وكان يصحب معه أينما رحل النسخة التي لديه من أشعار فرجيل، ويسجل على الصفحة الأولى منها الحوادث البارزة في حياة أصدقائه. ولسنا ننكر أن العصور الوسطى قد حافظت على كثير من الآداب الوثنية القديمة، وأن بعض الدارسين في تلك العصور قد أولعوا بهذه الآداب، ولكن بترارك عرف من إشارات عثر عليها في هذه المؤلفات أن روائع لا حصر لها قد نسيت أو وضعت في غير المكان اللائق بها، وجعل همه الكشف عنها.(18/12)
ويسميه رينان Renan " أول الرجال المحدثين " لأنه "خلق في العالم الغربي اللاتيني حنيناً رقيقاً إلى الثقافة القديمة " (7). على أن هذا الوصف لا يكفي لتحديد معنى "الحداثة " التي لم تكتف بإعادة الكشف عن أدب العالم القديم، بل أحلت الأدب الطبيعي محل الأدب الخارق للطبيعة، وجعلته مصدر اهتمام بني الإنسان. وبهذا المعنى أيضا يستحق بترارك أن يوصف بالرجل "الحديث "، فهو وإن كان نقياً معتدلاً في تقواه يُحيره في بعض الأحيان ما يحدث للإنسان في الدار الآخرة، فإن ما بعثه من الاهتمام بالعالم القديم كان هو منشأ اهتمام عصر النهضة بحياة الإنسان على هذه الأرض، وعدم تحريم الملاذ الحسية، وتمجيد الحياة الدنيوية بدلا من الخلود الشخصي. على أن بترارك لم يكن يخلو قلبه من العطف على وجهة نظر العصور الوسطى، وقد أنطق في محاوراته عن احتقار الدنيا De Contemptu Mundi القديس أوغسطين بشرح جيد لهذه النظرة. ولكنه وضع نفسه في هذه الأحاديث الخيالية موضع المدافع عن الثقافة الزمنية والشهرة الدنيوية. وكانت هوة سحيقة تفصل بين مزاجي دانتي وبترارك وإن كان ثانيهما قد بلغ السابعة عشرة من عمره حين توفى أولهما. والنقاد مجمعون على أنه أول الكتاب الإنسانيين، وأول كاتب عبر في وضوح وقوة عما للإنسان من حق في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا، وفي الاستمتاع بما تحتويه من جمال، وبذل الجهد في زيادته. والعمل على أن يستحق الثناء من الأجيال المقبلة، وقصارى القول أنه كان أبا النهضة.(18/13)
الفصل الثاني
نابلي وبوكاتشيو
وبدأ بترارك في فوكلوز القصيدة التي كان يرجو بها أن ينافس فرجيل، وهي ملحمة سماها أفريقيا Africa، وموضوعها تحرير إيطاليا بفضل انتصار اسكبيو الأفريقي على هنيبال. واختار اللغة اللاتينية واسطة لها كما اختارها الكتاب الإنسانيون بعد قرن من ذلك الوقت، ولم يختر اللغة الإيطالية كما فعل دانتي، لأنه كان يريد أن يفهمه كل العالم الغربي الذي يعرف القراءة والكتابة. وكان يزداد ارتياباً في قيمة قصيدته كلما تقدم في نظمها، ولهذا فإنه لم يتمها، ولم ينشرها. وبينما كان منهمكاً في شعره السداسي الأوتاد، كان كتاب أغانيه الإيطالية ينشر شهرته في طول إيطاليا وعرضها، وأذاعت ترجمة له شهرته في فرنسا. ثم وصلته في عام 1340 دعوتان- كانت له هو يد في توجيههما اليه- إحداهما من مجلس الشيوخ الروماني والأخرى من جامعة باريس-تطلبان إليه القدوم إليهما ليتوج فيهما أميراً للشعراء، فقبل دعوة مجلس الشيوخ كما قبل اقتراح ربرت الحكيم Robert the Wise أن يقيم بعض الوقت في نابلي وهو في طريقه إلى روما.
وأعطيت مملكة فردريك الثاني بعد هزيمته هو وآل هوهنشتوفن بقوة جيوش البابوات ودهائهم السياسي، وكانت تشمل جميع إيطاليا الممتدة جنوب الولايات البابوية - نقول أعطيت هذه المملكة إلى بيت أنجو الذي كان يمثلهم شارل كونت بروفانس. وحكم شارل تلك البلاد بوصفه ملك نابلي وصقلية. ثم انتزع بيت أرغونة صقلية من ابنه شارل الثاني. وكسب(18/14)
ابنه ربرت لقب الحكيم لكفايته، وحسن تصريفه لشئون الحكم، ومهارته الدبلوماسية، ومناصرته للآداب والفنون الراقية، وإن كان قد أخفق في الحرب التي شنها لاستعادة صقلية. لقد كانت مملكته فقيرة في الصناعة، وكانت الزراعة يسيطر عليها ملاك قصيروا النظر يستغلون الزراع كما يستغلهم الملاك الآن استغلالا يكاد يدفعهم إلى الثورة. ولكن تجارة نابلي كانت تدر على بلاط الملك دخلا جعل القصر الجديد Castel Nuovo لا تنقطع منه حفلات الزواج سبيلا إلى الخراب، كما أضحى سباق الزوارق الذي يقام من آن إلى آن مصدر البهجة في خليج نابلي ذي الشهرة التاريخية العظيمة. وفي ميدان المدينة نفسها كان الشبان ذوو الجرأة يثاقفون في ألعاب البرجاس الخطرة بينما كانت السيدات المتوجات يبتسمن لهم من الشرفات المزدانة بالأعلام. وكانت الحياة في نابلي سارة طيبة، والآداب والأخلاق العامة سهلة طليقة، والنساء حساناً لا يصعب منالهن. وقد وجد الشعراء في هذا الجو المليء بالتبذل والغرام كثيراً من الموضوعات لشعرهم ومن الحوافز الدافعة لقرض الشعر. وكانت هذه البيئة هي التي كونت يوكاتشيو.
وكان يوكاتشيو قد بدأ حياته في باريس. وكان مولده ثمرة غير مقصودة لاتفاق حبي بين أبيه- وهو تاجر فلورنسي-وفتاة فرنسية لا يعرف اسمها على وجه التحقيق، وأخلاقها موضع للريبة (9). ولعل مولده غير الشرعي، وأصله النصف الفرنسي، قد تعاونا على تكييف أخلاقه وتاريخ حياته. وجئ به وهو طفل إلى تشر تلدو Certaldo القريبة من فلورنس حيث قضى طفولة غير سعيدة مع زوجة أبيه، ثم أرسل وهو في العاشرة من عمره إلى نابلي (1323)، حيث أعد الحياة المال والتجارة، وفيها سرى في نفسه كره حياة المال والتجارة، كما سرى في نفس بترارك كرهُ القانون، وجهر بأنه يفضل عليها الفقر والشعر، وانهمك في قراءة(18/15)
أوفد، وأعجب أشد الإعجاب بـ التحولات والهيرودات، وحفظ عن ظهر قلب الجزء الأكبر من فنون الحب الذي يقول فيه:
«إن أعظم الشعراء جميعاً يكشف كيف يمكن أن تلتهب نار فينوس المقدسة في أشد الصدور برودا» (10). فلما عجز أبوه عن أن يرغمه على حب المال أكثر من الجمال أجاز له أن يترك الأعمال التجارية والمالية على شريطة أن يدرس القانون الكنسي. ووافق يوكاتشيو على هذا الشرط ولكن عقله كان قد نضج للكتابة في الغرام.
وكانت أكثر النساء مرحاً في نابلي هي مارية داكوينو Maria d'Aquino وهي ابنة غير شرعية للملك الحكيم (11). ولكن زوج أمها قبل أن تكون ابنته. وتعلمت الفتاة في دير للنساء، ثم تزوجت وهي في الخامسة عشرة من عمرها بكونت أكوينو ولكنها لم تجد فيه ما يفي بحاجتها، فشجعت عدداً من العشاق واحداً بعد واحد لكي يسدوا ما تجده من نقص، وينفقوا ما لهم في ترفها وزينتها. وأبصرها بوكاتشيو أول مرة في قداس سبت النور (1331)، بعد أن مرت أربعة من أعياد الفصح على العيد الذي كشف فيه بترارك لورا في ظروف مواتية مقدسة شبيهة بهذه الظروف. وبدت له أجمل من أفرديتي Aphrodite،« فلم يكن في العالم كله أجمل من شعرها الأشقر، ولا شئ أكثر إغراء من عينيها الخبيثتين»، وأطلق عليها أسم فيامتا Fiammetta- اللهب الصغير- وكان يتوق لأن يحرق نفسه بنارها. ونسى في هيامه بها القانون الكنسى، وانمحى من ذاكرته كل ما حفظه في حياته من الوصايا، وقضى شهوراً طوالا لا يفكر إلا في الطريقة التي تقربه منها. وكان يذهب إلى الكنيسة منفرداً لعله يراها فيها، ويذرع الشارع المقابل لنافذتها غادياً رائحاً، ورحل ينتظر حتى فرغت من المال جيوب غيره، ثم سمحت له أن يتغلب عليها. وقضت معه عاماً كلفه المال الكثير وأضعف من حدة(18/16)
شهوته، وشرعت هي تشكو من أنه يتطلع إلى غيرها من النساء، هذا إلى أن موارده المالية قد نضب معينها فأخذت الشعلة الصغيرة تبحث عن موارد للمال جديدة، وانزوى بوكاتشيو في زوايا الفقر.
وأكبر الظن أنه كان قد قرأ لبترارك كتاب الأغاني ولدانتي كتاب الحياة الجديدة Vita Nuova، وشاهد ذلك أن قصائده الأول كانت كقصائدهما أغاني مفعمة بالحنين، والحرقة، والهيام الشديدة. وكانت كثرتهما موجهة إلى فيامتا. ومنها عدد قليل يصف هياماً أقل من هذا الهيام لوعة. وكتب فيها رواية نثرية مملة تدعى فيلوكوبا اقتبسها من إحدى روايات العصور الوسطى الغرامية وهي الزهرة والزهرة البيضاء. وكان أجمل منها قصة فيلوستراتا التي روى فيها في شعر رائع متألق كيف أقسمت كريسيدا Criseida أن تكون وفية لترويلس Troilus طوال حياتها، وكيف أسرها اليونان، وكيف أسلمت نفسها بعد قليل من الوقت إلى ديوميد Diomed بحجة أنه «فارع الطول، قوي، جميل» وأنه سهل المنال. وأختار بوكاتشيو أداة له الموشحات ذات الثمانية الأبيات Ottava Rima التي كانت مثالا احتذاه بلتشى Pulci وبوياردو Boiardo، وأريستو Ariosto. وهي قصة شهوانية سافرة مؤلفة من 5,400 بيت من الشعر، تصل إلى ذروتها حين «تطرح كريسيدا ثيابها وتلقى بنفسها وهي عارية في أحضان حبيبها» (12). ولكن القصة إلى هذا دراسة نفسانية رائعة لصنف من النساء-خائن في قلة، مغرور في مرح، وتختم بعبارات أضحت الآن واسعة الانتشار في التمثيليات الغنائية. «إن الفتاة الشابة طائشة، تشتهى كثيراً من العشاق، تقدر جمالها أكثر مما تنبئها به مرآتها، مختالة فخورة ... لا تعرف كنه الفضيلة ولا الذكاء، قلقة على الدوام كالريشة في مهب الريح».(18/17)
وكأنما أراد بوكاتشيو أن يقضى على تمنع فيامتا بوطأة الشعر لا غير، فأهدى إليها بعد قليل من الوقت ملحمة شعرية يبلغ طولها طول الإلياذة تماماً. وتروى هذه الملحمة ما وقع من التنافس الدموي بين أخوين هما باليمون Palemon وارتشيتى Arcite بسبب حبهما لإميليا Emilia، ثم موت الذي انتصر منهما في أحضان حبيبته، ثم قبولها المهزوم بعد التريث الواجب. غير أن حب الأبطال نفسه يهن بعد نصف أبيات القصة البالغ عددها 9896، وفي وسع القارئ الإنجليزي أن يقنع بالموجز المحكم الذي وضعه تشوسر Chaucer لهذه القصيدة في قصة الفارس.
وغادر بوكاتشيو نابلي إلى فلورنس في أوائل عام 1341. وبعد شهرين من ذلك الوقت قدم بترارك إلى بلاط الملك ربرت، وتفيأ بعض الوقت ظلال هذا المليك، ثم سار في طريقه يبحث عن تاج أمير الشعراء في روما.(18/18)
الفصل الثالث
شاعر البلاط
وكانت روما عاصمة العالم بلداً خليقاً بالرثاء، فقد غادرتها البابوية إلى أفنيون منذ عام 1309، ولم يبق فيها من الموارد الاقتصادية ما يفي حتى بذلك المجد الوسط الذي عرفته تلك المدينة في القرن الثالث عشر، ولم تعد تتلقى تلك الثروة التي كانت تنساب من ألف أبرشية موزعة في نحو اثنتي عشرة دولة. كذلك لم تكن للسفارات الأجنبية قصور فيها، وقلما كان يظهر فيها وجه كردنال بين خربات الإمبراطورية والكنيسة. ولم يكن ما أصاب الأضرحة المسيحية من دمار ليقل عما أصاب الصروح القديمة المعمدة، وكان الرعاة يسرحون بقطعان الماشية على سفوح التلال السبعة، والمتسولون يجوبون شوارع المدينة. وقطاع الطرق واللصوص يكمنون في الطرق العامة، والزوجات يُختطفن من أزواجهن. والراهبات يُغتصبن، والحجاج ينهبون، وكل من في المدينة يحمل السلاح (13). وكانت أسر الأشراف القديمة-آل كولنا، وأرسينى، وسافلي، وأنيبالدى، وجيتانى، وفرنجيبانى- تتنازع فيما بينها، وتلجأ إلى العنف تارة وإلى الدسائس والمكائد تارة أخرى، للظفر بالسيادة السياسية في مجلس الشيوخ الألجاركى الذي كان يحكم روما. وكانت الطبقات الوسطى قليلة ضعيفة، وجمهرة الشعب خليطا مهوشاً من عشرات الشعوب يعيشون على حال من الفقر المدقع يشل كل قواهم ولا يبعث فيهم أقل رغبة في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تدهورت قبضة البابوية الغائبة على المدينة فلم تعد أكثر من سلطة اسمية نظرية لمندوب بابوي لا يعنى أحد بشأنه.(18/19)
وبين هذه الفوضى والفاقة كانت الآثار المحطمة لعصر قديم مجيد تغذى رؤى العلماء وأحلام الوطنيين. فكان الرومان يعتقدون أن ستعود روما في يوم من الأيام حاضرة العالم الروحية والسياسية، وأن البرابرة المقيمين وراء الألب سيرسلون إليها الجزية والزكاة. وكان لا يزال في وسع الرجال يقيمون في مناطق متفرقة من المدينة أن يجدوا لديهم فضلة من المال يناصرون بها الفن: فقد زين بيتروكفليني Pietro Cavallini كنيسة القديسة تشيتشيليا مدرسة رومانية لرسوم المظلمات تكاد تضارع في أهميتها مدرسة دتشيو Doccio في سينيا أو مدرسة جيتو Giotto في فلورنس. بل إن روما في شدة بؤسها وفقرها لم تخل من الشعراء الذين أنساهم ماضيها المجيد حاضرها البئيس. فبعد أن عادت بدوا Padua وبراتو Prato سنة دومتيان التي كانت تقضى بوضع إكليل على جبهة شاعر محبوب، رأى مجلس الشيوخ أن مما يتفق مع مكانة روما التقليدية بوصفها أولى المدائن الإيطالية أن تتوج الرجل الذي أجمعت الآراء على أنه حامل لواء الشعراء في أمته وعصره.
وتنفيذاً لهذا العزم سار موكب بهيج من الشباب والشيوخ في اليوم الثامن من إبريل عام 1341 يرافق بترارك وقد ارتدى المئزر الأرجواني الذي خلعه عليه الملك ربرت حتى وصل إلى سلم الكبتول. وهناك وضع تاج من الغار على رأسه. وقام الشيخ استفانو كولنا الطاعن في السن بإلقاء خطبة أثنى فيها عليه جماً. ومن ذلك اليوم كسب بترارك شهرة جديدة وأعداء جدداً، فأخذ منافسوه ينتفون تاجه بأقلامهم، ولكن الملوك والبابوات رحبوا به في بلاطهم، وسرعان ما وضعه بوكاتشيو في مصاف " الأقدمين النابهين "، وأعلنت إيطاليا وهي مزهوة بما بلغه من الصيت أن فرجيل قد ولد مرة أخرى.(18/20)
ترى أي رجل كان بترارك في ذلك الوقت الذي بلغ فيه ذروة مجده؟ لقد كان في شبابه بهي الطلعة وسيما، يختال بجمال منظره وثيابه، وكان حين كبر يسخر من حرصه الشديد على العناية بمظهره وملابسه وعقص شعره، وضغط قدميه في حذاءين جميلي المنظر. ولما بلغ سن الكهولة سمن وأطال الشعر على ذقنه، ولكن وجهه ظل محتفظاً بسحر رقته وحيويته. وبقى مزهواً بنفسه إلى آخر أيامه، وكان كل ما حدث في هذه الناحية من تغيير أنه أخذ يزهو بجلائل أعماله بدل الازدهاء بمنظره، لكن هذا عيب لا يسلم منه إلا أعاظم القديسين. ولولا ما يظهر في رسائله من تواضع متكلف وافتخار شريف لتضاعف ما فيها من فتنة وبهاء. وكان كسائر الناس يحب الثناء، وتتوق نفسه للشهرة، "وللخلود " الأدبي، وبذلك كان في مستهل عصر النهضة الضارب على وترها الحساس وهو التعطش إلى المجد. وكان يغار من منافسيه، ونزل من عليائه ليرد على ما يصفونه به من عيوب، وقد أثار البعض على ما بلغه دانتي من مكانة (وإن كان قد أنكر ذلك)، وارتاع من شراسة دانتي، كما ارتاع إرزمس فيما بعد من فجاجة لوثر، ولكنه كان يحس أن في عناد شاعر فلورنس وجرأته شيئاً أعمق مما يستطيع القلم الهين أن يسبر غوره. وكان وهو في ذلك الوقت نصف فرنسي في نزعته أكثر تحضراً من أن يسب نصف العالم، وكانت تنقصه العاطفة المتأججة التي رفعت سمت بإيطاليا ثم أنهكت قواها.
وإذ كان قد وهب بعض المناصب الكهنوتية، فقد كان له من الرخاء ما يحمله على ازدراء الثروة، ومن الضعف ما يبعث فيه حب الحياة الأدبية. ويقول في هذا:
"ليس ثمة عبء أخف على النفس أو أحب إليها من حمل القلم. فأما غير ذلك من المتع فإنا نعجز عن نيله، أو أنه يجرحنا في الوقت الذي يسحر فيه لبناً، وأما القلم فنمسك به مغتبطين، ونلقيه راضين، ذلك أن فيه من(18/21)
القوة ما لا ينفع ربه وسيده وحده، بل ينفع كذلك كثيرين غيره، وإن لم يولدوا إلا بعد موت صاحبه بآلاف السنين ... وكما أنه لا يوجد بين المباهج الدنيوية ما هو أسمى من الأدب، فكذلك لا يوجد بينها ما هو أبقى على الزمن، أو أرق، أو أكثر وفاء، أو ما يلازم صاحبه في جميع صروف الحياة نعيمها وشقائها، دون أن يكلفه إلا القليل من الجهد أو انشغال البال " (14).
لكنه مع هذا يحدثنا عن "أمزجته المتقلبة التي قلما كانت تسعده، والتي كانت عادة تنزع به إلى القنوط " (15). وكان لا بد له، إذا أراد أن يكون كاتباً عظيما، أن يكون مرهف الإحساس بجمال الشكل والصوت، في الطبيعة، وفي النساء والرجال على السواء، أي أنه كان عليه أن يعاني أشد مما تعانيه الكثرة الغالبة منا من صخب العالم وما فيه من تشويه. وكان يحب الموسيقى، ويجيد العزف على العود، وكان يعجب بالتصوير الجميل، ويعد سيمون مرتيني Simone Martini من بين اصدقائه. وما من شك في أن النساء كن يجتذبنه، وشاهد ذلك أنه يتحدث عنهن في بعض الأحيان بخوف لا يقل عن خوف النساك الزاهدين، ويؤكد لنا لأنه لم يتصل قط بامرأة اتصالاً جسمانياُ بعد أن بلغ سن الأربعين، ويقول في هذا: "إن قوة الجسم والعقل التي تكفى النشاط الأدبي وتكفى مع الزوجة، لا بد أن تبلغ درجة كبرى من العظم " (16).
ولم يعرض بترارك على العالم فلسفة جديدة. فقد نبذ الفلسفة الكلامية المدرسية لأن كل ما رآه فيها هو بتر وتقطيع منطقي لا جدوى منه وبعيد كل البعد عن مطالب الحياة. وتحدى القائلين بعصمة أرسطو من الخطأ، وجرؤ على تفضيل أفلاطون عنه. ورجع عن أكوناس ودنزاسكوتس إلى الكتاب المقدس وكتب آباء الكنيسة، وأحب تقوى أوغسطين وأقواله المنغمة الجميلة، كما أحب رواقية أمبروز المسيحية، بيد أنه كان يقتبس من اقوال شيشرون وسنكا بإجلال لا يقل عن إجلاله ما يقتبسه من أقوال(18/22)
القديسين، ويأخذ حججه عن المسيحية أكثر مما يأخذها من النصوص الوثنية .. وكان يسخر من انقسام الفلاسفة على أنفسهم ويقول إنه "لم يجد بينهم من الأتفاق أكثر مما يجده بين الساعات (17). وكان من أسباب شكواه أن "الفلسفة لا تهدف إلا إلى التقسيم والتفتيت، وإلى التنقيب عن الاختلافات والفروق، والتلاعب بالألفاظ " (18). وتلك طريقة يمكن أن تخلق أشخاصاً بارعين في النقاش والجدل، ولكنها قلما تخلق عقلاء .. وكان يسخر من درجة "الاستاذ " أو "الدكتور " التي تتوج هذه الدراسات، وعجب كيف تستطيع الحفلات أن تبدل الأبله الأحمق عالماً تحريراً. ونبذ، في ألفاظ تكاد تكون هي بعينها ألفاظ أهل هذه الأيام، التنجيم والكيمياء الكاذبة القديمة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، والفأل والطيرة، وزجر الطير، ومعرفة الغيب عن طريق الأحلام، وما كان يروى في أيامه من المعجزات (19) وأوتى من الشجاعة ما استطاع به أن يثنى على أبيقور (20)، في الوقت الذي كان اسمه مرادفاً للكفر بالله. وكان من حين إلى حين يتحدث حديث المتشككين، ويجهر بهذا التشكك جهر ديكارت به ويقول: "إني لارتيابي في مواهبي ... أتقبل الشك نفسه على أنه حقيقة ... فلا اوكد شيئاً، وارتاب في كل شئ إلا حيث يكون الشك تجديفاً " (21).
ويبدو أنه حين استثنى هذا كان مخلصاً في استثنائه. ذلك أنه لم يكن يجهر بأي شك في عقيدة ما من عقائد الكنيسة، فقد كان ظرفه ودماثة خلقه وراحة باله مانعة له من الإلحاد. وقد وضع كثيراً من المؤلفات التي تنطق بتقواه وخشوعه، وهو يسائل نفسه سؤال المتحير: ألم يكن خيراً له أن يشق طريقه سهلا إلى الجنة كما شقها أخوه في ظل حياة الدير الهادئة. ولم يكن يرى نفعاً في فلسفة ابن رشد الإلحادية التي كانت قريبة منه في بولونيا وبدوا، وكانت المسيحية في نظره تقدماً لا شك فيه على الوثنية، وكان يرجو أن يتبين الناس أن في وسعهم أن يتعلموا دون أن يتخلوا عن مسيحيتهم.(18/23)
ورأى بترارك ان من الخير له بعد انتخاب البابا الجديد، كلمنت السادس (1342)، أن يعود إلى أفينون ليقدم له تحياته ويعرض عليه أمانيه. وجرى كلمنت على السُّنَّة القديمة سنة منح هبة- هي عبارة عن إيراد بعض أملاك الكنيسة- لمن يؤيدونها من الكتاب والفنانين، فوهب الشاعر رياسة دير بالقرب من بيزا، ثم عينه في عام 1346 أسقفاً في بارما، ثم أرسله عام 1343 في بعثة إلى نابلي حيث التقى بحاكم من اصعب حكام زمانه مراساً واقواهم شكيمة.
وكان ربرت الحكيم قد مات تواً، وورثت ابنته جونا Joanna الأولى عرشه وأملاكه ومنها ولاية بروفانس وافنيون تبعاً لذلك. وتزوجت جونا بابن عمها أندرو ابن ملك المجر إرضاء لوالدها، وظن أندرو أن من حقه أن يكون ملكاً وزوجاً معاً، فقتله لويس صاحب تارنتو عشيق جونا (1345)، وتزوج الملكة. وخلف أندرو على عرش المجر اخوه لويس فزحف بجيشه على إيطاليا، واستولى على نابلي (1348). وفرت جونا إلى أفنيون، وباعت المدينة إلى البابوية بثمانين ألف فلورين (نحو مليوني دولار)، واعلن كلمنت أنها بريئة، ووافق على زواجها، وامر الغزاة بالعودة إلى بلاد المجر. ولم يأبه الملك لويس بأمره، ولكن الموت الأسود (1348) فشا في جيشه، وأهلك كثيراً من جنوده فاضطر إلى الانسحاب. واستعادت جونا عرشها (1352)، وظلت تحكم البلاد في جو من الأبهة والرذيلة حتى خلعها البابا إربان السادس (1380)، ثم قبض عليها شارل دوق دورتسو Durazzo في العام التالي، وقتلت في عام 1382.
ولم يتصل بترارك بهذه المهزلة الدموية إلا في بدايتها أي في السنة الأولى من حكم جونا، ثم لم يلبث أن عاد إلى تجواله، وأقام فترة من الوقت في بارما، ثم في بولونيا، ثم قضى جزءاً من عام 1345 في فيرونا. وفي هذه المدينة الأخيرة، عثر في مكتبة بإحدى الكنائس على مخطوط يحوي(18/24)
رسائل شيشرون المفقودة لأتكس، وبروتس، وكونتس. وكان قبل ذلك قد كشف في ليبج Li?ge عام 1333 عن خطبة شيشرون المسماة Pro Archia وهي أنشودة للشعر. وكان هذا الكشفان أجل ما كشفته النهضة من الأدب القديم وأعظمها ثمرة.
وفي مقدورنا أن نعد فيرونا في أيام بترارك من أعظم القوى في إيطاليا، فقد كانت هذه المدينة تزهو بقدم تاريخها. وبملهاها الروماني (حيث لا يزال في وسع الإنسان أن يستمع في ليالي الصيف إلى التمثيليات الغنائية في الهواء الطلق)، وزادت ثروتها بفضل التجارة التي تهبط من جبال الألب وتنقل في نهر الأديج Adige. وارتقت المدينة رقياً عظيماً في عهد أسرة اسكالا حتى كادت تنتزع السيادة التجارية من مدينة البندقية، واختارت حكومة المدينة بعد موت إتسيلينو Ezzelino الرهيب (1260) مستينو دلا اسكالا Mostino della Scala حاكماً عليها، واغتيل مستينو (1277) ولكن أخاه ألبرتو Alberto الذي خلفه في الحكم ثبت دعائم حكم الاسكلجيري Scaligeri ( أي "حملة السلم " وهو رمز ملائم لهذه الأسرة المصَّعَّدة)، وبدا هذا الحاكم عهد فيرونا المجيد. وفي عهده بدأ الرهبان الدمنيك يشيدون الكنيسة الجميلة كنيسة القديسة أناستاسيا Anastasia، وكشف نَسَّاخ غير ذي شأن القصائد المفقودة التي كتبها كاتلس Catullus اشهر أبناء فيرونا، وحاربت أسرة الكابلتي الجلفية Guelf، أسرة المنتشى montechi، ولم تكن هاتان الأسرتان تحلمان أنهما سوف تصبحان أسرتي الكابيولت Gapulet والمنتجيو Montagues في رواية شكسبير، وكان أقوى "الطغاة، وإن لم يكن أقلهم نبلاً، من أسرة اسكالا هو كان جراندى دلا اسكالا can Grand della Scala الذي جعل بلاطه ملجأ الجبليين المنفيين ومثابة للشعراء والعلماء، وفيه ظل دانتي عدة سنين يتمتع بالعطف المزعزع المطرد الزيادة. ولكن كان جراندى هذا اخضع فيتشندسا Vfcenza، وبدوا، وتريفيزو Treviso، وبلونو Belluno،(18/25)
وفلتري Feltre، وتشقدالى Cividale لسلطانه. ووجدت مدينة البندقية نفسها يتهددها خطر الإحاطة الخانقة من جميع نواحيها. ولما أن خلف كان جراندى أخوه مستينو Mastino الثاني- وكان أقل منه قوة وحماسة-أعلنت البندقية الحرب على فيرونا، وتحالفت مع فلورنس وميلان، وأرغمت فيرونا على أن تتخلى عن جميع ما فتحته من المدن عدا مدينة واحدة، وشاد كان جراندى الثاني جسر اسكاليجيرو Scalegero الفخم على نهر الأديج، وجعل له قنطرة طولها 160 قدماً، وكانت في ذلك الوقت أكبر قنطرة في العالم. واغتاله أخوه كنسنيوريو Consignorio، وحكم بعد هذا الاغتيال حكماً خيراً صالحاً، وشاد أعظم قبر مزخرف من القبور الذائعة الصيت التي دفنت أسرة اسكالا. واقتسم ابناه العرش وظلا يقتتلان إلى أن ماتا، فلما كان عام 1387 استولت دوقية ميلان على فيرونا وفيتشندسا.(18/26)
الفصل الرابع
ثورة بيندسو
وعاد بترارك إلى افنيون وفوكلوز (1345 - 1347)، وكان ولا يزال ينعم بصداقة آل كولنا، فسره ان يعلم أن الثورة قد اشتعل لهيبها في روما، وأن ابن صاحب حانة وغسالة (22) قد انتزع السلطة من آل كولنا وغيرهم من الأشراف، وأعاد إلى الوجود الجمهورية المجيدة، جمهورية آل اسكبيو، وجراكس، وآرنلد البريتشيائي Arnold of Brescia.
وكان نكولا دي ريندسو جيريني Niccola di Rienzo Gabrini الذي اختصر العامة المقتصدون في الأسماء اسمه في ذلك الوقت فجعلوه كولادى ريندسو Cola di Rinzo ثم أختصره الخلف المهملون فجعلوه ريندسى Rienzi، كان هذا الرجل قد التقى ببترارك في عام 1343، وذلك حين قدم إلى أفنيون، وهو شاب موثق، قبل ذلك الوقت بثلاثين عاماً ليطلع كلمنت السادس على ما آل اليه حال روما من البؤس، وليطلب إلى البابوية أن تمد يد المعونة للشعب الروماني ضد النبلاء المتنازعين النهابين السلابين المسيطرين وقتئذ على العاصمة. وداخلت كلمنت الشكوك في هذا الرجل ولكنه رده بعد أن نفحه بالفلورينات وشجعه بالأقوال لأنه كان يأمل في أن يستخدم هذا القانونى المتحمس في النزاع الكثير الحدوث بين البابوات والأشراف.
وأثارت خرائب روما وآدابها القديمة خيال ريندسو كما اثارت خيال بترارك، فارتدى الشملة الرومانية ( Toga) البيضاء التي كان يلبسها أعضاء(18/27)
مجلس الشيوخ القدامى، وأخذ يتحدث إلى الرومان بحماسة لا تقل عن حماسة أبني جراكس وبلاغة لا تكاد تقل عن بلاغة شيشرون، ويشير إلى بقايا السوق الرومانية الكبرى ذات الجلال والفخامة، والحمامات الكبرى، ويذكر الرومان بالأيام الخوالي حين كان الأباطرة أو القناصل يشرعون القوانين من فوق هذه التلال ويصدرون الأوامر للمدينة وللعالم أجمع، ويدعوهم إلى الاستيلاء على زمام الحكم، وإعادة الجمعيات الشعبية، واختيار تربيون (1) له من القوة ما يستطيع به أن يحميهم من الأشراف الغاصبين. واستمع إليه الفقراء وهم فزعون مرتاعون، وتساءل التجار هل يستطيع ذلك التربيون المرتقب أن يجعل روما مكاناً آمناً تقوم فيه الصناعة وتنشط التجارة، وسخر منه الأشراف، واتخذوا ريندسو هدفاً لمرحهم وفكاهاتهم على موائد العشاء، وتوعدهم هو بأن يختار طائفة منهم يشنقهم حين يندلع لهيب الثورة.
وما كان أشد فزعهم حين اندلع لهيبها فعلا. فقد حدث في 20 مايو من عام 1347 أن جاء حشد من الرومان وازدحموا في الكبتول. وظهر ريندسو أمامهم يحف به أسقف أرفيتو نائباً عن البابا. وأعلن عودة الجمهورية، وتوزيع الصدقات على المعوزين، واختير الرجل حاكما بأمره، وأجازوا له في اجتماع آخر عقد فيما بعد أن يتخذ لنفسه اللقب الشعبي القديم- لقب تربيون. واحتج على ذلك ايتفانوكولنا عضو الشيوخ الهرم، فأمره كولا أن يخرج هو وغيره من النبلاء من المدينة. واستشاط هؤلاء الأشراف غضباً ولكنهم اضطروا إلى إطاعة الثوار المسلحين، فانسحبوا إلى ضياعهم في الريف. وأسكرت ريندسو خمرة النصر فأخذ يتحدث عن نفسه كأنه
_________
(1) ورد هذا اللفظ بصيغة (أطربون) أي القائد أو الحاكم في أقوال العرب: فإن يكن أطربون الروم قطعها فإن فيها بحمد الله منتفعا وكذلك يترجمه البعض (محامى الشعب) ولكننا أثرنا بقاء الاسم الأجنبي لأنه أوضح (المترجم)(18/28)
"المنقذ الأعظم للجمهورية الرومانية المقدسة " الملهم "بقوة يسوع المسيح " (23).
وكانت إدارته للشئون البلدة أحسن ما تكون الإدارة، فقد نظم أثمان المواد الغذائية ليمنع المكاسب غير المشروعة، وحفظ ما زاد من الغلال في اهراء، وبدأ العمل في تجفيف المستنقعات الموبوءة ببعوض الملاريا، وزرعت أرض كمبانيا. وانشئت محاكم جديدة لتوزيع العدالة بإنصاف لا رحمة فيه ولا هوادة، فكان يحكم على الراهب وعلى البارون بالإعدام إذا ارتكبا نفس الجرم، وشنق عضو شيوخ قديم لأنه سرق مركباً تجارياً، وقبض على القتلة الذين تستأجرهم الأحزاب المتنازعة، وأنشئت محكمة للصلح وفقت في بضعة أشهر بين المتخاصمين في 1800 نزاع. وارتاع الأشراف الذين اعتادوا أن يتصرفوا في القوانين على هواهم إذ وجدوا أنهم قد القيت على عاتقهم تبعة الجرائم التي ترتكب في ضياعهم، وفرضت على بعضهم غرامات فادحة، وسيق بيترو كولنا رغم مهابته وخيلائه إلى السجن حافي القدمين. وعرض القضاة المتهمون بالعبث بالعدالة مصلوبين في الميادين العامة، وفلح الزراع حقولهم في أمن وسلام لم يعهدوا لهما مثيلا من قبل، وكان التجار والحجاج القادمون إلى روما يُقَبَلون شعار الجمهورية التي بعثت من جديد والتي أمنت الطرق العامة بعد أن ظلت نصف قرن من الزمان مباءة لقطاع الطريق (24). ودهشت إيطاليا على بكرة ابيها مما حدث في روما من تغير وتحول، ورفع بترارك إلى ريندسو قصيدة تفيض بالثناء والاعتراف بالجميل.
واغتنم التربيون هذه الفرصة, افاد منها كما يفيد السياسي المحنك الجريء، فأرسل الوفود إلى جميع أنحاء شبه الجزيرة، ودعا المدن أن ترسل ممثليها ليتألف منهم برلمان عظيم يضم أشتات "إيطاليا المقدسة " ويحكمها على نظام البلديات المستقلة المتحدة، وتكون روما عاصمة العالم كما كانت من(18/29)
قبل. وتمهيداً لهذه الغاية جمع مجلساً من القضاة دعاهم من كافة أنحاء إيطاليا، وعرض عليهم السؤال الآتي: هل من حق الجمهورية الرومانية، وقد بعثت إلى الوجود، أن تستعيد جميع الامتيازات والسلطات؟ ولما أجاب المجلس عن هذا السؤال بأن ذلك من حقها، عرض ريندسو على الجمعية الشعبية قانوناً يعيد إلى الجمهورية كل هذه المنح والسلطات. ومحا هذا الإعلان الشامل مئات من الهبات، وحوادث النزول عن العروش، والتتويج، وهدد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمدن المستقلة، وسلطة الكنيسة الزمنية جميعها. وبعثت خمس وعشرون من حكومات المدن المستقلة بممثليها إلى برلمان ريندسو، ولكن المدن الكبرى-البندقية، وفلورنس، وميلان-ترددت في النزول عن سيادتها العليا إلى دولة اتحادية. وسر كلمنت السادس من تقوى ريندسو، ومن إشراك أسقف أرفيتو معه في السلطة رسمياً, ومما أفاءه على الحجاج من حماية، ومن مشروعه الذي يرمي إلى إقامة عيد عام في سنة 1350 ينتظر أن يدر على البلدة مالا جما، ولكنه شرع يسائل نفسه: أليس هذا الجمهوري العظيم الآمال رجلا مثاليا مندفعا اندفاعا سوف يؤدي به إلى الدمار؟
ثم تحطم هذا الحلم النبيل، وكان تحطمه مثاراً للعجب والأسى معاً. ذلك أن السلطة، كالحرية، امتحان لا يجتازه بنجاح إلا من اتصف بالذكاء والرزانة والهدوء. أما ريندسو فقد بلغت قوته الخطابية مبلغاً يمنعه أن يكون من رجال الحكم الواقعيين. وأصبح يؤمن بعباراته الخلابة، ووعوده، ومطالبه، وسمت عقله أقوالُه المنمقة. ولما اجتمعت الجمعية الاتحادية (في شهر أغسطس من عام 1347)، اتفق على أن تبدأ أعمالها بمنحه لقب فارس. واتخذ طريقه في مساء ذلك اليوم يحف به حرسه إلى مكان التعميد في كنيسة القديس لاتران، وألقى بنفسه في الحوض العظيم، الذي تطهر فيه قسطنطين من وثنيته وذنوبه، كما تقول القصة، ثم ارتدى ثياباً(18/30)
بيضاء، وقضى الليل نائماً على أريكة عامة وضعت بين أعمدة الكنيسة، فلما أصبح الصباح أصدر إلى الجمعية وإلى العالم أجمع مرسوماً يعلن فيه حرية جميع المدن الإيطالية، ويمنح أهلها جميعاً حق المواطنية الرومانية، ويحتفظ لسكان روما وإيطاليا دون سواهم بحق اختيار الإمبراطور. ثم أستل سيفه ولوح به في ثلاث جهات وقال بوصفه ممثل روما: "ذلك ملكي، وذاك لي، وذاك ". واندفع من ذلك الحي في الإسراف والمباهاة، فكان يمتطي صهوة جواد fdq أبيضأأابأأاتابنتساينبااا أبيض، ويخفق من فوق رأسه علم ملكي، ويتقدمه ألف حارس مسلح، ويرتدي ثوباً من الحرير الأبيض ذا أهداب من الذهب (25). ولما عاب عليه استفانوكولنا أهدابه الذهبية أعلن أن الأشراف يأتمرون به (وأكبر الظن أن هذا صحيح)، وأمر بالقبض على عدد منهم، وأمر بهم فسيقوا مكبلين بالأغلال إلى الكبتول، وعرض على الجمعية أن يعدموا، ثم ندم على ذلك العرض، وعفا عنهم، وانتهى الأمر بأن عينهم في بعض مناصب الدولة في كمبانيا. وكان جزاؤه منهم أن حشدوا قوة من مرتزقة الجند معادية للجمهورية، وخرج حرس المدينة الوطني لملاقاتهم، وهزمهم، وقتل في المعركة استفانوكولنا وولده (20 نوفمبر سنة 1347).
وسكر ريندسو بخمرة النصر فأخذ يغفل شيئاً فشيئاً شأن ممثلي البابا الذي أشركه معه من قبل في منصبه وسلطانه. وأخذ كردالة إيطاليا وفرنسا ينذرون كلمنت بأن إيطاليا الموحدة ستجعل الكنيسة أسيرة للدولة- وأن هذا الأسر يصبح أشد وأكثر توكيداً إذا قامت إمبراطورية تحكمها روما. وعملا بهذا التحذير كلف كلمنت مندوبه في روما برتران ده دو Bertrand de Deux أن يعرض على ريندسو واحدة من اثنتين: خلعه من منصبه أو تقييد سلطانه بحيث يقتصر على الشئون الدنيوية الخاصة بمدينة روما. وخضع دولا بعد أن قاوم بعض المقاومة، ووعد بإطاعة البابا، واسترد المراسيم التي ألغي بها الامتيازات الإمبراطورية والبابوية. لكن هذا الخضوع(18/31)
لم يرض كلمنت فاعتزم أن يخلع التربيون المعاند، وأصدر في الثالث من ديسمبر مرسوماً بابوياً يضم فيه كولا بالإجرام والإلحاد، ويهيب بالرومان أن يطردوه من البلاد. وأشار المندوب إلى أنهم إن لم يفعلوا هذا لن يقام عيد. وكان الأعيان في هذه الأثناء قد حشدوا جيشاً آخر، زحف على روما. وأمر ريندسو أن تدق الأجراس تدعو الشعب إلى حمل السلاح، لكن هذه الدعوة لم يستجب لها إلا عدد قليل، لأن كثيرين قد أغضبهم فدح الضرائب التي فرضها عليهم، ومنهم من فضل ما ينالونه من المكاسب في العيد عما تلقيه عليهم الحرية من تبعات. ولما اقتربت قوى الأشراف من الكبتول خارت قوى ريندسو، وخلع شارة منصبه، وودع أصدقاءه، وأجهش بالبكاء، وحبس نفسه في كاستلو سانتا أنجليو Castello Sant' Angelo (15 ديسمبر سنة 1347)، وعاد الأشراف الظافرون فدخلوا قصورهم في المدينة واختار المندوب البابوي اثنين منهم ليحكما روما.
وفر ريندسو إلى نابلي، وكان لا يزال مغضوباً عليه من الكنيسة وإن لم يصب بأذى من جانب الأعيان، ثم فر من نابلي إلى غابات الجبال في أبردسي Abruzzi القريبة من سلمونا Sulmona، وهناك لبس أثواب التائبين، وقضى عامين يعيش عيشة الزهاد المنقطعين للدين. وبعد أن مرت به عشرات المئات من المشاق والمحن اتخذ سبيله سراً متنكراً إلى براج مجتازا إيطاليا وجبال الألب والنمسا، ومثل في تلك المدينة في حضرة الإمبراطور شارل الرابع، وأخذ وهو غاضب يندد بالبابوات، ولكنه أبى أن يجيب البابا كلمنت إلى مطلبه من إرسال كولا ليزج في سجن أفنيون، وأبقاه معتقلا تحت الحراسة في إحدى القلاع القائمة على نهر الألب. وقضى كولا في العزلة(18/32)
وعدم النشاط عاماً كاملاً لم يطق بعده صبراً عليهما، فطلب أن يرسل إلى بلاط البابا. وهرع الناس إلى رؤيته وهو في طريقه إلى أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد أن يحموه بسيوفهم. وبلغ أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد أن يحموا الرجل الذي أراد أن يهبهم الحرية. ومما جاء في هذه الدعوة:
إلى أهل روما ... البواسل الأنجاد ... الذين سادوا الأمم!
إن زعيمكم السابق أسير الآن في أيدي الأجانب، وكأنه-ويا للهول حقاً! - لص من لصوص الليل أو خائن لبلاده، يعرض قضيته وهو مصفد في الأغلال، تأبى أعلى محكمة أرضية أن تمكنه من الدفاع المشروع عن نفسه ... إن روما بلا ريب لا تستأهل هذه المعاملة. لقد كان أهلها من قبل غير خاضعين لقانون أجنبي ... أما الآن فيساء إليهم بلا تمييز بينهم. ويلقون هذه المعاملة وهم براء من إثم الجريمة بل وهم جديرون بالثناء العظيم الذي يستحقه أهل الفضيلة ... وليست التهمة الموجهة إليه هي خيانة الحرية، بل هي الدفاع عنها، وليس ذنبه أنه سلم الكبتول بل ذنبه أنه حماه. وإن أعظم التهم الموجهة إليه، والتي يجب أن يكفر عنها فوق المشنقة هي أنه قد جرؤ على التوكيد بأن الإمبراطورية الرومانية لا تزال قائمة في روما، وأنها لا تزال مسيطرة على الشعب الروماني. ألا تباً لهذا الزمان! وتباً لتلك الغيرة الشنيعة، وذلك الحقد المنقطع النظير! أين أنت أيها المسيح! يا أعدل القضاة ويا أحكم الحاكمين؟ أين عيناك اللتان تعودت أن تبدد بهما سحب شقاء البشرية؟ ... لم لا تقضى ببرقك وصواعقك على هذه المحاكمة الدنسة؟ (26).
ولم يطالب كلمنت بإعدام كولا، بل أمر بأن يوضع تحت الحراسة(18/33)
في برج القصر البابوي بأفنيون. وبينما كان ريندسو يدرس الكتاب المقدس وكتاب ليفي في سجنه، استولى تربيون آخر يدعى فرانتشسكو برنتشلي Francesco Baroncelli على زمام السلطة في رومة، ونفي أعيان المدينة، وأهان المندوب البابوي، وتحالف هو والجبليون مؤيدو الأباطرة ضد البابوات، وأطلق إنوسنت السادس، الذي خلف كلمنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأرسله، وتحالف هو والجبليون مؤيدو الأباطرة ضد البابوات، وأطلق إنوسنت السادس، الذي خلف كلمنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأرسله إلى إيطاليا مساعداً للكردنال ألبرنودس Albornoze الذي عهد إليه اعادة سلطة البابوية في روما. وبينما كان الكردنال الماكر، والطاغية المستضعف يقتربان من العاصمة دبرت فتنة في المدينة، خلع على أثرها برنتشلي وقتل، وأسلم الرومان المدينة لألبرنودس. ورحب العامة بريندسو، واقاموا له أقواس النصر، وهتفوا باسمه وقد احتشدوا في الشوارع إظهاراً لفرحهم. وعينه ألبرنودس عضواً في مجلس الشيوخ، وعهد اليه الأعمال غير الدينية في حكومة روما (1353).
ولكن السنين التي قضاها في السجن قد سببت ترهل جسمه، وحطمت شجاعته، وفلت من حدة عقله، وقد كان من قبل قوياً ساطعاً غير هياب ولا وجل. فكانت سياسته متمشية من أغراض البابا، بتهيب المغامرات العظيمة التي كان يندفع إليها في حكمه وهو شاب. وكان الأعيان لا يزالون يحقدون عليه، وصعاليك المدينة يرون فيه الآن رجلا حذراً متحفظاً متجرداً من المثل العليا، فانقلبوا عليه وعدوه خائناً لقضيتهم. ولما أعلن آل كولنا الحرب عليه وحاصروه في بلسترينا، أوشك جنوده الذين لم يتناولوا مرتباتهم أن يتمردوا عليه، فاقترض المال ليؤدي منه مرتباتهم، وفرض الضرائب ليفي بدينه، وأغضب بذلك الطبقة الوسطى. ثم زحفت جموع الغوغاء الثائرة على الكبتول، ولم يكد ينقضي شهران على عودته إلى الحكم، وأخذت تنادى "ليحيى الشعب! الموت للخائن كولا دي ريندسو! ". فخرج إليهم من قصره في دروع الفرسان وحاول أن يسيطر على الجماهير(18/34)
بفصاحته وزلاقة لسانه، ولكن الثائرين علا صياحهم على صوته، وألقوا عليه وابلا من القذائف، فأصاب سهم منها رأسه وانسحب على أثر ذلك إلى القصر. وحينئذ أشعل الغوغاء النار في الأبواب واقتحموها، ونهبوا الحجرات. واختفى ريندسو في إحداها، وأسرع فحلق لحيته، وارتدى ثياب حمال، وكوم بعض قطع من الفرش على رأسه، وخرج من القصر، ومر ببعض الغوغاء دون أن يكشفوا أمره. ولكن سواره الذهبي نم عليه، وسيق أسيراً إلى سلم الكبتول، حيث كان هو من قبل قد حكم على الناس بالإعدام. وطلب إلى الشعب أن يستمع له، وحاول أن يستميل قلوب العامة بخطبته، ولكن أحد الصناع خشي أن يتأثر هؤلاء بفصاحته، فقطع عليه كلامه بضربة سيف في بطنه. وتبعه مائة من أشباه الأبطال فأنفذوا خناجرهم في جسده الميت. ثم سحبت جثته والدم يسيل منها في شوارع المدينة وعلقت في حانوت قصاب كما تعلق جيف البهائم. وبقيت على هذه الحال يومين تعرضت في خلالهما لإهانات الشعب وحجارة الغلمان (27).(18/35)
الفصل الخامس
العالم الجوال
أخفق ريندسو في إعادة روما القديمة التي مات فيها كل شيء إلا الشعر. وقد أفلح بترارك في إعادة الآداب الرومانية التي لم تكن قد ماتت، وكان قد أيد ثورة كولا تأييداً بلغ من القوة حداً خسر معه عطف آل كولنا في أفنيون. وفكر وقتاً ما في الانضمام إلى ريندسو في روما، وأتخذ طريقه فعلا إليها حتى وصل إلى جنوى، وفيها سمع أن مقام التربيون ومسلكه آخذان في الانحطاط، فما كان منه إلا أن غير طريقه وأتجه نحو بارما (1347). وكان في إيطاليا حين نشأ فيها الوباء الأسود، وأودى بحياة كثيرين من أصدقائه، وقضى على لورا في أفنيون، وقبل في عام 1348 دعوة ياقوبو Jacopo الثاني صاحب كراراً لأن ينزل ضيفاً عليه في بدوا.
وكانت المدينة ذات جو عتيق ثقيل ممل. فقد كان عمرها مائة عام حين ولد فيها ليفي عام 59 ق. م، وأصبحت تحكم نفسها بنفسها في عام 1174 ورزحت تحت طغيان أتسيلينو Ezzelino (1237 - 1256) ، ثم استردت استقلالها، وغنت أناشيد الحرية، وأخضعت فيتشندسا سلطانها، ثم هاجمها كان جراندى دلا اسكالا صاحب فيرونا، وكاد يغلبها على أمرها، فتخلت عن حريتها واختارت ياقوبو الأول صاحب كراراً حاكماُ بأمره عليها (1318)، وكان رجلا قُدَّ قلبه من الرخام المسمى باسمه. وتولى سلطته من بعده بعض أعضاء أسرته إما بطريق الميراث أو بالاغتيال. واستولى مضيف بترارك على مقاليد الحكم في عام 1345 بعد أن اغتال سلفه، وحاول أن يكفر عن ذنبه بالحكم الصالح، ولكنه اغتيل بعد أن(18/36)
حكم أربع سنين وخلفه فرانتشسكو الأول صاحب كرارا (1350 - 1389)، وحكم البلدة حكماً عجيباً ام نحو أربعين عاماً، ورف في خلالها مقام بدا إلى مصاف المدن الكبرى أمثال ميلان، وفلورنس، والبندقية، وإن كان هذا لم يدم إلا وقتاً قصيراً. وقد أخطأ فانضم إلى جنوى ضد البندقية في الحرب العوان التي اتقدت نارها سنة 1378، والتي انتصرت فيها مدينة البندقية وأخضعت بدوا ليلطانها (1404).
وقدمت المدينة في هذه الأثناء أكثر من نصيبها لحياة إيطاليا الثقافية، فأتمت في عام 1307 كنيسة القديس أنطوني المعروفة بذلك الاسم الحبيب إلسانتو EL Santo، ورمم في عام 1306 البهو الأعظم المعروف باسم سالا دلا رجيونى Sala della Ragione ( بهو البرلمان) على يد المهندس المعماري الراهب جيوفنى إريمتانو Giovanni Eremitano، ولا يزال هذا البهو قائماً إلى الآن. وكان القصر الملكي (الرجيو Reggio في 1345 وما بعدها) يحتوي على أربعمائة حجرة في كثير منها مظلمات يفخر بها آل كرارا. ولم يبق من هذه المظلمات إلا برج دقت ساعته الشهيرة أولى دقاتها في علم 1346. وابتاع تاجر طوح يدعى انريكو اسكرافني Rnrico Scravegni في بداية ذلك القرن قصراً في المدرج الروماني القديم يسمى "الحلبة " Arena، واستدعى أشهر مثال في ايطاليا وهو جيوفنى بيزانو Giovanni Pisano وأشهر مصوريها وهو جيتو Giotto، لينقشا له معبد بيته الجديد (1303 - 1305). وكانت نتيجة جهودهما "معبد الحلبة " الصغير الذائع الصيت في أنحاء العالم المتعلم كله. وفيه صوّر جيتو الظريف نحو خمسين صورة جدارية، ونحتاً مستديراً ومدلاة تروى كلها القصة العجيبة قصة العذراء وابنها، وأحاط المظلمات الرئيسية برءوس الأنبياء والقديسين، وبأشكال نسوية ترمز إلى فضائل الجنس البشري ورذائله. وصور تلاميذه على الباب الداخلي بجد فاتر صورة ليوم الحساب ذات أشكال غريبة مختلطة مهوشة كأنها الميازيب، ونقش منتاجينا Montagena بعد(18/37)
150 سنة من ذلك الوقت ضريح كنيسة الإرمتاني القريبة من هذا البيت. ولعله وهو يقوم بعمله قد سخر من التصميم الساذج، وفن المنظور البدائي، ومن تشابه الوجوه، والمواقف, والأشكال تشابهاً يبعث على الملل والسآمة، ومن نقص في العلم بالتشريح، ومن الشقرة الثقيلة البادية في الكثرة الغالبة من الأشكال، كأنما اللمبارد أهل بدوا لا يزالون هم بعينهم اللنجيوبارد Longobards القادمين تواً من ألمانيا الموفورة الطعام. ولكن ملامح العذراء الجميلة في صورة مولد المسيح، ورأس المسيح الفخم النبيل في صورة العازر، والكاهن الأكبر البادي الجلال في صورة الخطاب، والمسيح الهادئ، ويهوذا الأسخريوطي في صورة الخيانة، واللطف الصافي، والتأليف المتناسق، والنمو المتدرج الشي يشاهد في المنظر الفسيح من حيث اللون والشكل، كل هذا يكسب المنظر جدة ورونقاً وصفاء لا زال يحتفظ بها بعد ستة قرون، وتجعله أو نصر للتصوير في القرن الرابع عشر.
ولعل بترارك قد وقعت عيناه على مظلمات الحلبة، وما من شك في أنه كان يقدر جيتو أعظم التقدير. وشاهد ذلك أنه أوصى إلى فرانتشسكو داكرارا بصورة للعذراء بريشة " المصور الممتاز، جيتو، وهي صورة يدهش جمالها ... سادة الفن " (28) .. وما من شك في أنه قد نبهه وشحذ همته ما سمعه من أن ألبرتينو مساتو Albertino Mussato، وهو رجل من ذوي المشاعر الإنسانية سابقاً على بترارك نفسه قد توج شاعراً للبلاط في بدوا عام 1314 لأنه كتب مسرحية باللغة اللاتينية تسمى إتشرينس Ecerinis نحا فيها نحو أسلوب سنكا. ومبلغ علمنا أن هذه كانت أول مسرحية كتبت في عصر النهضة. وما من شك لإي أن بترارك قد زار الجامعة التي كانت مفخرة المدينة والتي كانت في ذلك الوقت أشهر مدارس إيطاليا بأجمعها، وكانت تنافس جامعة بولونيا بوصفها مركزاً للتدريب على القانون، كما كانت تنافس جامعة باريس بوصف كونها مركزاً(18/38)
للفلسفة. ودهش بترارك حين شاهد فلسفة ابن رشد يعتنقها في غير خفاء بعض أساتذة بدوا الذين كانوا يرتابون في خلود نفوس الأفراد، والذين كانوا يتحدثون عن المسيحية كأنها خرافة مفيدة ينبذها المتعلمون في الخفاء.
وفي عام 1348 نجد شاعرنا القلق في مانتوا، ثم نجده بعدئذ في فِرَارا، ثم انضم في عام 1350 إلى سيل الحجاج المتجهين إلى روما للاشتراك في عيدها، وعرج وهو في الطريق على فلورنس فزارها للمرة الأولى وعقد أواصر الصداقة القوية بينه وبين بوكاتشيو. وقد وصف بترارك هذه الصداقة بقوله إنهما من ذلك الحين "كان لهما قلب واحد " (29). وحدث في عام 1351 أن ألغى سيد فلورنس المرسوم القاضي بمصادرة أملاك بترارك، ثم أرسل بوكاتشيو إلى بدوا ليعرض على بترارك تعويضاً مالياً وكرسي الأستاذية في جامعة فلورنس، فلما رفض بترارك هذا العرض رجعت فلورنس عن إلغاء المرسوم.(18/39)
الفصل السادس
جيتو
إن من العسير أن نحب فلورنس كما كانت في العصور الوسطى (1). ذلك أنها كانت وقتئذ نكدة صارمة في الصناعة والسياسة، ولكننا لا يصعب علينا مع ذلك أن نعجب بها. لكنها خصصت ثروتها لخلق الجمال. ففيها أيام شباب بترارك كانت النهضة في أوج مجدها.
فقد علا شأنها فيما كان يكتنفها من جو حافز ملئ بالتنافس المالي والتجاري، والنزاع العائلي، والعنف الفردي، لم يكن لشيء منها مثيل في سائر أنحاء أوربا. لقد كان أهل المدينة منقسمين على أنفسهم تفرق بينهم حرب الطوائف، وكانت كل طائفة فيها منقسمة هي الأخرى إلى أحزاب لا ترحم إذا كتب لها النصر، ولا تسكت عن الانتقام اذا منيت بالهزيمة، وكان انتقال بعض الأسر من حزب إلى حزب في أي وقت مت الأوقات يخل بتوازن القوي بينهما، وكثيراً ما كان يحدث في أي لحظة أن تنتظر السلاح بعض العناصر المتذمرة، وتحاول إسقاط الحكومة، فإذا أفلحت نفت زعماء الحزب المغلوب من المدينة، وصادرت في العادة أملاكهم، وحرقت بيوتهم أحياناً. على أن هذا النزاع الاقتصادي وذاك الاضطراب السياسي لم يكونا كل ما في فلورنس من حياة، ذلك أن اهلها كانوا ذوي شعور وطني قوي يعتزون به وإن كانوا أكثر إخلاصاً لحزبهم منهم لمدينتهم، وكانوا ينفقون كثيراً من مالهم في سبيل المصلحة العامة. وكان الموروثون من الأفراد ينفقون من اموالهم على رصف الشوارع وإنشاء
_________
(1) يستعمل لفظ العصور الوسطى في هذه المجلدات للدلالة على تاريخ أوربا وحضارتها بين عامي 325و1492 بعد الميلاد-أي بين قسطنطين وكولمبس.(18/40)
المجاري، وتحسين موارد ماء الشرب، وإعداد مكان صالح للسوق العامة، وتشييد الكنائس، والمستشفيات، والمدارس، أو اصلاحها. وكذلك كانت تفعل نقابات الحرف. وكان ألاهلون ذوي شعور بالجمال لا يقل في قوته عن شعور اليونان الأقدمين أو الفرنسيين المحدثين، وكان هذا الشعور يدفعهم لرصد الأموال العامة والخاصة لتزيين المدينة بالعمائر، والتماثيل، والصور، وتجميل بيوتهم من الداخل بهذا كله وبعشرات من الفنون الصغرى.
وكان الخزف الفلورنسي أرقى أنواع الخزف الأوربي في ذلك العهد، كذلك كان الصياغ يحلون الأعناق والصدور، والأيدي، والمعاصم، والمناطق، ومذابح القرابين، والنضد، والاسلحة، والنقود، بالجواهر أو الخشب الملبس، والنقوش المحفورة أو البارزة التي لا يفوتها شئ من نوعها في عصر آخر من العصور.
وأخذ الفنان في ذلك الوقت تنعكس عليه النزعة الجديدة نزعة اهتمام الفرد بكفايته الذاتية أو حبه للفن الجميل، فبرز من الطائفة أو الجماعة، ورسم ما ينتجه باسمه. وكان نقولو بيزانو Niccolo Pisano قد خلص قبلئذ فن النحت من تقليد الموضوعات الدينية، وخضوعه لأساليب العمارة وذلك بجمعه بين النزعة الطبيعية القوية ومثل الإغريق العليا في تصوير الجسم. وصب تلميذه أندريا بيزانو Andrea Pisano نصفي بابين من البرنز لمبنى التعميد في فلورنس (1300 - 1306) صور عليهما في أثنين وعشرين نقشاً بارزاً تقدم الفنون والعلوم منذ حفر آدم وغزلت حواء، وليس هذان الأثران الفنيان الباقيان من القرن الرابع عشر بأقل قيمة من "أبواب الجنة " التي نقشها جبرتي Ghiberti في القرن الخامس عشر على هذا البناء نفسه. وفي عام 1334 وافق أمير فلورنس على تخطيط جيتو لبرج يتحمل ثقل أجراس الكنيسة وينشر أصواتها، وصدر بذلك(18/41)
مرسوم تتمثل فيه روح العصر جاء فيه أن "برج الأجراس يجب أن يشاد بحيث يسمو في فخامته، وارتفاعه، ودقة صنعه، على كل شئ من نوعه أبدعه في الزمن القديم اليونان والرومان في أوج مجدهم (30). وليس جمال البرج في شكله المربع الذي لا يمتاز بشيء عن أمثاله (والذي كان جيتو يرغب في أن تعلوه منارة مستدقة)، بل في نوافذه المزخرفة على الطراز القوطي، وفي النقوش البارزة التي حفرها جيتو, وأندريا بيزانو، ولوكا دلا ربيا Luca della Robia في الرخام الملون على الألواح السفلى. وواصل العمل، بعد موت جيتو، بيزانو، ودوناتلو، وفرتشسكو تالنتي، وإليهما يدين البرج بما حوته أعلى مقنطراته من جمال بالغ الأوج.
وكان جيتو دي بندوني Giolto di Bondoni يحمل لواء المصورين في القرن الرابع عشر كما كان بترارك يحمل لواء الشعر في ذلك القرن نفسه، وكان الفنان يضارع الشاعر في تعدد كفاياته، فقد كان مصوراً، ومثالاً، ومهندساً معمارياً، ورأسمالياً، وخبيراً بأحوال العالم، لا يقل حذقه للآراء الفنية، عن مهارته في الحيل العلمية والأجوبة الفكهة المسكتة، ولهذا كان جيتو يسير في الحياة واثقاً من نفسه، ينثر روائع فنه في فلورنس، وروما، وأسيسى، وفرارا، ورافنا، وريميني، فايندسا، Faenza، وبيزا، ولوكا Lucca، وأرتسو، وبدوا، وفيرونا، ونابلي، وأربينو Orbino، وميلان. ويبدو أنه لم يكن يهتم مطلقاً بأن يكلف بالقيام بعمل من الأعمال، ولما سافر إليهما ضيفاً على الملك في قصره. وهناك تزوج وكان له أبناء قبيحو المنظر، ولكن أعماله الفنية الجميلة الهادئة، وحياته التي تسري فيها روح البهجة، لم تتأثرا قط بهذا القبح، وكان يؤجر الأنوال للصناع بضعفي أجرها المعتاد (31). ومع هذا فأنه يقص لنا قصة القديس فرانسس رسول الفقر في عمل من أعماله الفنية الراقية الباقية من عصر النهضة.
وكان لا يزال في شرخ الشباب حين أستدعاه الكردنال استفانستشى(18/42)
Stefaneschi إلى روما ليصور له بالفسيفساء صوره "الفنية الصغرى navicella " التي تمثل المسيح ينقذ بطرس من الموج. ولا يزال هذا النقش باقياً إلى اليوم، وإن كان قد أدخل عليه تغيير كبير، في دهليز كنيسة القديس بطرس في مكان غير ظاهر فوق عمد المدخل ومن خلفها. وأكبر الظن أن هذا الكردنال نفسه هو الذي كلفه بعمل صورة الملاك المجنح المحفوظة في الفاتيكان. وتظهر هذه الأعمال كلها جيتو شخصاً غير ناضج، قوي التفكير، ضعيف التنفيذ. ولربما كانت دراسات جيتو لنقوش بيتروكفنليني Pietro Cavanelline الفسيفسائية الموجودة بكنيسة القديسة ماريا في ترتستيفيري، ومعلماته في كنيسة القديسة تشيتشيليا Cecilia قد ساعدت على تكوين جيتو في تلك السنين الرومانية، ولعل النحت الطبيعي الذي قام به نقولو بيزانو قد جعله يحول عنايته من أعمال أسلافه إلى ملامح الأحياء من الرجال والنساء ومشاعرهم. وفي ذلك يقول ليوناردو دافنتشي: "لقد ظهر جيتو وصور ما رآه " (32). واختفى الجمود البيزنطي من الفن الإيطالي. ثم أنتقل جيتو إلى بدوا وقضى ثلاث سنين يصور على الجص تلك الرسوم الذائعة الصيت التي تزدان بها كنيسة أرينا. ولعله قد التقى في بدوا بدانتي، ولعله قد عرفه قبل ذلك في فلورنس، فها هو ذا فاساري Vasari، الممتع على الدوام، والدقيق الصادق في بعض الأحيان، يصف دانتي بأنه "الرفيق والصادق الصدوق " لجيتو (33). وها هو ذا يعزو لجيتو صورة لدانتي تكون جزءاً من نقش جصي في قصر الحاكم في فلورنس. وترى الشاعر يثني على المصور ثناء رقيقاً مستطابا في المسلاة الإلهية34). ولما كان عام 1318 كلفت أسرتان من رجال المصارف هما أسرة باردى Bardi وأسرة بيرتسي Peruzzi جيتو بأن يقص لهما على الجص قصص القديسين فرانس، ويوحنا المعمدان ويوحنا المبشر بالإنجيل، وذلك في المزارين اللذين كانا يشيدهما في كنيسة سانتا كروتشي (الصليب المقدس)(18/43)
Sante Croce في فلورنس. وقد غطيت هذه الرسوم بالجير فيما بعد، ولكنه كشف عنها في عام 1853 واعيد تلوينها، وبذلك لم يبق فيها من عمل جيتو إلا الرسم والتأليف. وكان هذا بعينه مصير المظلمات الذائعة الصيت في كنيسة القديس فرانس المزدوجة في أسيسي. ويحج عدد كبير من الإيطاليين إلى هذا الضريح القائم فوق إحدى الروابي، ويبدو أن عدد الذين يفدون منهم لمشاهدة الرسوم التي تعزى لتشيمابيو Cimabue وجيتو لا يقل عمن يفدون لتكريم هذا القديس أو للتبرك به. وأكبر الظن أن جيتو هو الذي وضع تصميم الموضوعات ورسم الخطوط الخارجية للمظلمات السفلى في الكنيسة العليا. أما ما بقى فيبدو أنه اكتفى فيه بالإشراف على عمل تلاميذه. وتقض هذه المظلمات التي في الكنيسة العليا حياة القديس فرانسس بتفصيل قلما حظي المسيح نفسه بسيرة مصورة له تماثل هذه القصة في دقائقها. وهي تمتاز بالبراعة في التفكير والتأليف، وباللطف والرقة والتناسق في الإخراج والتنفيذ، وتقضي قضاء لا رجعة بعده على الجمود الكهنوتي الذي كان يلازم الأشكال البيزنطية، ولكنها مع ذلك يعوزها العمق والقوة والنزعة الإنفرادية، فهي في حقيقة الأمر لوحات مصورة رشيقة خالية من تأثير العاطفة أو دم الحياة. أما مظلمات الكنيسة السفلى فقد كانت أقل من مثيلاتها في الكنيسة العليا تعرضاً لعوادي الأيام، وهي تشهد بما طرأ على قدرة جيتو من تقدم. ويبدو أنه هو نفسه الذي قام برسم الصور التي في مُصًلّى مجدلين، وأن تلاميذه هم الذين صوروا الرسوم الرمزية التي تشرح الإيمان التي يقسمها الرهبان الفرنسيس بأن يلتزموا حياة الفقر والطاعة والطهر. ولقد كانت قصة فرانسس المصورة في هذه الكنيسة المزدوجة حافزاً قوياً، بل تكاد تكون مولداً جديداً، لفن التصوير الإيطالي، ونشأت منها تقاليد بلغت المثل الأعلى من الكمال في أعمال الراهب الدمنيكي "الأخ أنجلكو Fra Angelico ".(18/44)
وفي وسعنا أن نقول إن أعمال جيتو كانت في مجموعها ثورة على الأوضاع الفنية القائمة وقتئذ. ونحن نشعر بأخطائه لأننا نعرف مقدار ما أحدثته الحركة التي بدأها هو من إتقان وبراعة. نحس بأن رسمه، وصياغته، ومراعاته لفن المنظور، وعلمه بالتشريح، كل هذا ناقص معيب. لقد كان الفن، كما كان الطب في عهد جيتو، قد بدأ تواً في تشريح الجسم البشري، وفي أن يبين موضع كل عضلة، وعظم، ووتر، وعصب، وتركيبه، وقد أتقن معرفة هذه العناصر رجال من أمثال منتينيا Mantegena ومساتشيو Masaccio، وبرع في هذه المعرفة ميكل أنجلو وبلغ فيها درجة الكمال، بل كاد يجعل منها معبوداً له ولأمثاله من رجال الفن. أما في أيام جيتو فقد كان لا يزال من غير المألوف أن يدرس الناس الجسم البشري عارياً. وكان تصويره يجلل من يقدم على تصويره بالعار. فإذ كان هذا فما الذي يجعل أعمال جيتو في بدوا وأسيسي من معالم تأريخ الفن؟ إن الذي يجعلها هكذا هو التأليف المتزن، ورسم العين من كل زاوية إلى مركز الاهتمام، والمهابة المستمدة من الحركة الهادئة، والتلوين الرقيق المتألق، وانسياب القصة في عظمة وجلال، والاعتدال في التعبير ولو كان عن المشاعر العميقة، وعظمة الهدوء الذي يغمر تلك المناظر المضطربة، وما نشاهده بين الفينة والفينة من نزعة طبيعية في تصوير الرجال، والنساء، والأطفال كما شاهدهم وأحس بهم، وهم يتحركون في الحياة لا كما درسهم الفنانون في ماضي الأيام. تلك هي العناصر التي تألف منها انتصار جيتو على الجمود البيزنطي والكآبة البيزنطية. وتلك هي أسرار نفوذه الخالد. لقد ظل فن فلورنس مائة عام بعد وفاته يستمد من أعماله حياته وإلهامه.
وجاء في أعقابه جيلان من الفنانين الذين ساروا على نهجه، فحذوا حذوه في موضوعاته وفي طرازه، ولكنهم قلما كانوا يبلغون ما بلغه من براعة وإتقان، فقد كان تديوجدى Taddeo Gaddi تلميذه وابنه في(18/45)
العماد يرث عنه فنه، وكان والد تديو وثلاثة من ابناء تديو الخمسة رسامين، ذلك أن النهضة الإيطالية، كالموسيقى الألمانية، كانت تنزع إلى الانتقال في الأسر من الآباء إلى الأبناء، وقد ارتقت فيها بانتقال اصولها الفنية وتجمعها في البيوت والمفاقه (1) والمدارس. وقد بدأ باديو حياته صبياً محترفاً عند جيتو، وما وافى عام 1347 حتى كان هو حامل لواء المصورين الفلورنسيين، وكان حتى بعد أن بلغ تلك المكانة يوقع بإمضاء "تلميذ جيتو الأستاذ الجليل " تكريماً لذكرى أستاذه (35). وقد أثرى بجده في فني التصوير والعمارة ثراء استطاع به بنوه أن يكونوا من أنصار الفن.
ولدينا تحفة فنية ظلت زمناً طويلاً تعزى اليه، ولكنها الآن تعزى إلى أندريا دا فريندسي Andrea da Firenze وهي تدل على أن إيطاليا في هذا القرن الأول من عصر النهضة لم تكن قد خرجت بعد من العصور الوسطى. فقد أقام الرهبان الدمنيك حوالي عام 1370 في
" كابلادجلي اسبنيولي Copella degli Spagnuoli أو معبد الاسبانيين في كنيسة سانتا ماريا نوفلا صورة يمجدون بها فيلسوفهم الشهير يُرى فيها تومس أكوناس في وضع راسخ مريح ولكنه بلغ من الخشوع حداً يحول بينه وبين الكبرياء، ويقف وقفة الظافر والزنديقان أريوس، وسابيوس، والفيلسوف أبن رشد يتمرغون تحت قدميه، ومن حوله موسى، ويوحنا المبشر الإنجيلي وغيرهم من القديسين، وقد بدأو كأنهم أتباع لهم، ومن تحتهم أربع عشرة صورة ترمز إلى سبعة علوم مطهرة وسبعة دنسة، منها نحو دوناتوس Donatus وبلاغة شيشرون، وقانون جستنيان، وهندسة إقليدس وما إليها. والفكرة التي أوحت أليها بهذه الصورة لا تزال كلها من أفكار العصور الوسطى، أما الفن وحده في تصميمه ولونه فيدل على بزوغ فجر عهد جديد من ظلمات العهد القديم. ولقد كان الانتقال تدريجياً إلى حد لم يشعر
_________
(1) جمع مفقه وهو المشغل والمرسم Studio. ( المترجم)(18/46)
الناس معه بأنهم في عالم جديد إلا بعد مائة عام من ذلك الوقت. ويبدو التقدم في التنفيذ الفني أوضح وأكثر جلاء في أعمال اركانيا Arcagna الذي لا يسمو عليه أحد من الفنانين الإيطاليين في العصور الوسطى إلا جيتو وحده. وكان أسمه الأصلي أندريا دي تشيوني Andrea de Cioni، لكن معاصريه المعجبين به سموه أركانيولو Arcagnolo أي الملاك الأعظم، ثم اختصرت الألسنة الكسولة هذا الاسم فجعلته أركانيا. وكثيراً ما يعد هذا الفنان من بين أتباع جيتو، ولكنه كان في الواقع الأمر من تلاميذ المثال أندريا بيزانوا Andrea Pisano. وكان أركانيولا بارعاً في فنون كثيرة شأنه في هذا شأن أعظم العباقرة في عصر النهضة. وهو بوصفه رساماً قد صور لمعبد استرتسي Strozzi في سانتا ماريا نوفلا غطاء ملونا للمحراب مثل عليه المسيح جالساً على عرشه، كما أنشأ أخوه الأكبر ناردو Nardo على الجدران مظلمات واضحة تمثل الجنة والنار (1354 - 1357)، وخطط بوصفه مهندساً معمارياً التشر تودسا Certoza أو الدير الكرثوذي Carthusian بالقرب من فلورنس، وهو الدير الذي اشتهر بطرقه المسقوفة الجميلة وما احتواه من مقابر أتشيايولي Acciaiuoli) . ونفذ هو ووالده بوصفهما مهندسين ومثالين الهيكل المزخرف في "أورسان متشيلي Or San Micchele في فلورنس. وفي هذا الهيكل صورة للعذراء كان الناس يعتقدون أنها تفعل المعجزات، ولهذا فإنه لما زال وباء الموت الأسود الذي أجتاح أوربا عام 1348 بلغت النذور التي قدمها لها الذين نجوا من الوباء من الكثرة درجة اغتنى منها الرهبان القائمون على خدمة البناء، وتقرر بعدئذ ان يضم هذه الصورة ضريح مقام من الرخام والذهب. واختطه تشيوني على شكل كنيسة قوطية مصغرة ذات عمد، وأبراج مستدقة، وتماثيل، ونقوش بارزة، ومعادن ثمينة، وأحجار غالية، فهي والحالة هذه درة من زخرف القرن الرابع عشر. وذاعت بفضلها شهرة أندريا فعين كبير الفنانين في أرفيتو Orvieto واشترك في تخطيط واجهة كنيستها، ثم عاد(18/47)
إلى فلورنس في عام 1362 وأخذ يعمل في الكنيسة العظيمة إلى يوم وفاته. وكانت شهرة سانتا ماريا دل فيوري Santa Maria del Fiori- أكبر الكنائس التي بنيت في إيطاليا حتى ذلك الوقت- قد بدأت من عهد أرنلفو دي كمبيو Cambio Arnolfo di في عام 1296، وتتابع عليها عدد من كبار الفنانين بعضهم في أثر بعض ظلوا يعملون فيها حتى هذا اليوم، ونذكر من هؤلاء جيتو، واندريا بيزانوا، وفرانتشسكو تالنتي وغيرهم. ويرجع تاريخ واجهتها الحالية إلى عام 1887، ولا تزال الكنيسة الكبرى ناقصة إلى هذا اليوم، ولا بد أن يعاد بناء جزء كبير منها في كل قرن. وسبب ذلك أن العمارة كانت أقل الفنون نجاحاً في إيطاليا إبان عصر النهضة، لأنها اخذت في غير حماسة او اهتمام من الشمال بعض عناصر العمارة القوطية المعقد المستدق، وجمعت بينها وبين العمد المأخوذة من العمارة القديمة، ثم شادت فوق هذه كلها في بعض الأحيان القبة ذات الطراز البيزنطي. فكان هذا خليطاً غير متناسق العناصر، إذا استثنينا منه بعض الكنائس الصغرى من عمل برامنتي Bramante حكمنا بأنه تعوزه الوحدة والرشاقة. وكانت واجهة أرفيتو وسينا Siena مظهراً فخماً لفن النحت والفسيفساء أكثر منها مظهراً لفن العمارة الصحيح، وإن العناية الشديدة بإبراز الخطوط المستقيمة والناشئة من وجود طبقات متتالية من الرخام الأسود والأبيض في جدرانها، لما يسبب الانقباض للعين والنفس، مع أن معنى الكنيسة نفسه يجب أن يكون هو الضراعة أو الابتهال الصادرين إلى السماوات العليا. وإن من العسير أن نعد كنيسة سانتا ماريا دل فيوري- وهو الاسم الذي أطلق على كنيسة فلورنس بعد عامي 1412، وقد أشتق اللفظ الأخير (فيوري) من الزنبقة المرسومة على شعار المدينة-زهرة من الأزهار. ولولا القبة الشهيرة التي أنشأها برونلسكو Brunellrsco لعدت كهفاً قد يكون فراغه المظلم هو فم جحيم دانتي بدل أن يكون بيتاً لله.(18/48)
وكان أرنلفو دي كمبيو، الرجل المجد الذي لا تنفذ قواه، هو الذي بدأ كنيسة الرهبان الفرنسيس المسماة سانتا كروتشي أو الصليب المقدس في عام 1294، والذي بدأ أيضاً في عام 1298 أجمل بناء في فلورنس كلها، وهو بلاتسا دلا سنيورا Palazz della Signora الذي تعرفه الأجيال المتأخرة باسم بلاتسافيتشيو. وتم بناء الكنيسة في عام 1442 ما عدا واجهتها التي تمت في عام 1863، أما البلاتسا دل سنيورا المعروفة أيضاً باسم القصر القديم فقد تمت أجزاؤها الرئيسية في علم 1341. وكانت هذه هي السنين التي شهدت نفي دانتي ووالد بترارك، ذلك أن النزاع الحربي كان وقتئذ على أشده، ولهذا شاد ارنفلوا لحاكم المدينة حصناً لا قصراً وجعل في سقف معاقل ذات مزاغل، وكان برج الجرس الفريد في نوعه يدعو برنين جرسه أهل المدينة إلى الاجتماع في مجلسها النيابي أو إلى حمل السلاح. ولم يكن كبراء المدينة Priori, Signori يحكمون من هذا المكان فحسب، بل كانوا ايضاً يعيشون فيه، وتظهر روح ذلك العصر في القانون الذي ينص على أن اولئك الكبراء لم يكن يجوز لهم أن يغادروا البناء لأي سبب كان. وأقام نيري دي فيورافنتي Neri di Fioravante فوق نهر الآرنوجسرا من أشهر جسور العالم وهو جسر فيتشيو Ponte Vecchio الذي تصدع الآن بفعل الأيام والحروب، ولكنه لا يزال ينوء بحمل حركة المرور واثنين وعشرين حانوتا. وكانت تقوم حول هذه الصروح الضخمة، التي أنشأها أهل فلورنس مدفوعين بروحهم الوطنية، في الشوارع الضيقة المؤدية من الكنيسة وميادين سنيوريا Signoria كانت تقوم حولها بيوت الأغنياء المعذبين، وكانت لا تزال وقتئذ بيوتا متواضعة، والكنائس الفخمة التي استحال فيها ذهب التجار فنا، وحوانيت التجار والصناع الصاخبة والمساكن المزدحمة التي تقيم فيها جمهرة الشعب المجد، الثائر، السريع الاهتياج، الذكي. وفي جنون هذه العناصر ولدت النهضة.(18/49)
الفصل السابع
ديكمرون
كانت فلورنس هي المدينة التي أحرزت فيها الآداب الإيطالية أعظم انتصاراتها، ففيها خلع جوندسيلي Guenzelli وكفلكنتي Cavalcanti في أواخر القرن الثالث عشر على الأغنية صورتها المصقولة، وأرسل دانتي الشاعر الفلورنسي أولى نغمات شعر الملاحم الإيطالي وآخرها في الحنين إلى فلورنس وإن لم ينشد هذه النغمات فيها نفسها، وفيها ألف بوكاتشيو أعظم كتاب في النثر الإيطالي، وكتب جيوفني فلاني Giovanni Villani أكثر تواريخ العصور الوسطى الإخبارية اتفاقاً مع النزعة التاريخية الحديثة. ذلك أن افلاني زار روما أيام الاحتفال بعيد عام 1300 وتأثر كما تأثر جبن Gibbon فيما بعد بما خلفه ماضيها العظيم من أطلال خربة فخطر له في تلك اللحظة أن يسجل تاريخ المدينة، ثم رأى أن روما قد نالت كفايتها من تخليد ذكراها، فحول فكره إلى موطنه الأصلي وقرر أن "يحشد في هذا المجلد ... جميع ما وقع في مدينة فلورنس من أحداث ... وأن يقص أعمال أهل فلورنس كاملة، وأن يورد في إيجاز الشئون الهامة في سائر العالم " (25).
وبدأ تاريخه ببرج بابل وختمه بالأحداث التي وقعت قبيل الموت الأسود الذي مات هو فيه، واتم القصة أخوه ماتيو Matteo وفلبو Philippo أبن أخيه حتى بلغا بها عام 1365. وكان جيوفني حسن الاستعداد للعمل الذي اضطلع به. فقد كان ينتسب إلى أسرة ثرية من التجار، وكان متمكناً من اللغة التسكانية الخالصة، وقد طاف بأنحاء إيطاليا، وفلاندرز، وفرنسا، وعمل ثلاث مرات مختلفة رئيساً لدير،(18/50)
ومرة مديراً لدار سك النقود، وكان لديه إحساس غير عادي، بالنسبة لتلك الأيام، بالأسس والعوامل الاقتصادية التي تعمل في التاريخ، وكان هو أول من أدخل في قصته إحصاءات عن أحوال البلاد الاجتماعية فجعلها بذلك طريقة ممتعة. ومعظم ما في الثلاثة الكتب الأولى من "تاريخ فلورنس الإخباري " قصص خيالية، أما ما تلاها من الكتب فتحدثنا أن فلورنس وما وراءها من الأرضيين كان يسكنها في عام 1338 مائة ألف وخمسة آلاف من السكان، سبعة عشر ألفاً منهم متسولون، وأربعة آلاف يعيشون من الإعانات العامة، وأنه كان بالمدينة ست مدارس ابتدائية يؤمها عشرة آلاف ولد وبنت، وأربع مدارس ثانوية يتعلم فيها ستمائة ولد وقليل من البنات "النحو " (أي الأدب). و "المنطق " (الفلسفة). وقد فعل فلاني ما لم يفعله غيره من المؤرخين فضمن كتابه ملاحظات عما هنالك من كتب، وصور، ومبان، جديدة، حتى ليصح القول بأننا قلما نعرف أن مدينة أخرى قد وصفت جميع مظاهر حياتها وصفاً مباشراً كما وصفت فلورنس، ولو أن فلاني قد سلك كل هذه المناحي والتفاصيل في قصة واحدة من العلل، والمظاهر، والشخصيات، والنتائج لجعل من كتابه الإخباري تاريخاً حقيقياً.
واستقر بوكاتشيو في فلورنس عام 1340 وظل يطارد المرأة في الحياة والشعر والنثر. فقد أهدى امورازا فزيوني Amorasa Visioni إل فيامتا Fiametta واسترجع في 4400 بيت ايام صلتهما السعيدة. وينطق بوكاتشيو فيامتا الأميرة غير الشرعية المولد في رواية نفسانية بقصة انحرافها مع بوكاتشيو وتحلل نشوات الحب القوية، وآلام العاطفة، والغيرة، والهجران بتفصيلات وافية، وحين يؤنبها ضميرها على عدم وفائها تتمثل أفرديتي تؤنبها على جنبها وتقول: "لا تجبني وتقولي إن لي زوجاً وإن القوانين المقدسة والوعود تحرم هذه الأشياء عليَّ لأن هذا(18/51)
كله غرور كاذب واعتراضات حمقاء طائشة على قوة الحب. ذلك أن الحب يفرض قوانينه الأبدية كأنه أمير قوي عظيم، ولا يبالي بغيرها من القوانين التي هي أقل منها شأنا، والتي يراها قواعد منحطة دنيئة (37). ويسيء بوكاتشيو استخدام قلمه فيختم كتابه بأن ينطق فيامتا تمجيداً له وتعظماً بأنه هو الذي هجرها وليست هي التي هجرته. ويعود بوكاتشيو إلى الشعر فينشد في نيفالي فيزولانو حب أحد الرعاة لكاهنة من كاهنات ديانا، ويصف في دقة العاشق الواله ظفره بها بحماسة الذي بنى عليه ديكمرون.
وقد بدأ بوكاتشيو يكتب هذه السلسلة الذائعة الصيت والمتصلة الحلقات من قصص الإغواء بعد طاعون عام 1348 بزمن قليل. وكان وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره وكانت حرارة الشهوة قد نزلت من الشعر إلى النثر، وشرع يدرك ما في مطاردة النساء الجنونية من فكاهة. ويبدو أن فيامتا نفسها قد ماتت بالطاعون، وأن بوكاتشيو قد هدأ هدوءاً يكفي لأن يستخدم الاسم الذي أطلقه عليه ليسمى به واحدة من أقل الفتيات الروايات في كتابه. ولم ينشر الكتاب كله إلا في عام 1353 وإن كان بعضه قد نشر من غير شك على أجزاء متقطعة، وشاهد ذلك أن المؤلف يجيب وهو يمهد لليوم الرابع عما وجه إلى القصص السابقة من نقد. والكتاب في صورته التي لدينا الآن مؤلف من مائة قصة، مائة قصة كاملة. ولم يكن يقصد بها أن يقرأ عدد كبير منها دفعة واحدة، وما من شك في أنها وقد نشرت متتابعة قد اتخذت موضوعات للسمر في كثير من الأماسي الفلورنسية. وتصف المقدمة ما كان للموت الأسود الذي اجتاح أوربا بأكملها في عام 1348 وما بعدها من آثار في مدينة فلورنس. ويبدو أن المرض قد(18/52)
نشأ من خصب السكان الآسيويين وقذارتهم وما انتابهم من الفقر بسبب الحرب، والضعف بسبب المجاعة، فأمتد الوباء من بلاد العرب إلى مصر، ومن البحر الأسود إلى روسيا وبلاد بيزنطية، ثم نقله تجار البندقية، وسرقوسة، وبيزا، وجنوي، ومرسيليا وسفنها من القسطنطينية والإسكندرية وغيرهما من ثغور الشرق الأدنى بمساعدة البراغيث والفئران إلى إيطاليا وفرنسا. وأكبر الظن أن سني القحط المتعاقبة التي حلت بأوربا الغربية -1333 - 1334، 1337، 1342، 1345 - 1347 - قد أوهنت ما كان للفقراء من قوة المقاومة، ثم نقل الوباء إلى سائر الطبقات (39). وأنتشر الوباء في صورتين: طاعون رئوي مصحوب بحمى عالية، وبصاق دموي ويؤدي إلى الموت في خلال ثلاثة ايام من بدء الإصابة، ودملي مصحوب بحمى وخراجات وجمرات ويؤدي إلى الموت في خلال خمسة أيام. وقضى الطاعون في هجماته المتعاقبة على نصف سكان إيطاليا بين عامي 1348 و 1365 (40) وكتب مؤرخ إخباري حوالي عام 354 يصفه فقال: لم يكن يصحب الجثث إلى قبورها أحد من أهل المتوفى أو أصدقائه القساوسة أو الرهبان، ولم تطن تتلى عليها صلاة الجنازة ... وحفرت في كثير من أنحاء المدينة خنادق ألقيت فيها الجثث، وغطيت بطبقة رقيقة من التراب، وتلتها طبقة بعد طبقة حتى امتلأ الخندق ثم بدئ بحفر خندق جديد. وقد دَفَنْتُ أنا أنيولو دي تورا Agnolo di Tura ... بيدي خمسة من أبنائي في خندق واحد، وفعل هذا بعينه كثيرون غيري. وكانت الطبقة التي غطيت بها جثث بعض الموتى رقيقة إلى حد جعل الكلاب تخرجها وتنهشها، وتنشر أعضاءها في جميع أنحاء المدينة. ولم تدق أجراس، ولم يبك الموتى مهما فدح الخطب لأن كل أنسان تقريباً كان يترقب الموت ... وكان الناس يقولون إن "هذه هي آخر العالم " يؤمنون بما يقولون (41).(18/53)
ويقول ماثيو فلاني إن ثلاثة من كل خمسة من سكان فلورنس ماتوا بين شهري إبريل وسبتمبر من عام 1348، وقدر بوكاتشيو عدد من مات من أهل فلورنس بستة وتسعين ألفا (43)، وتلك بلا ريب مغالاة واضحة لأن سكان المدينة لا يكادون يزيدون وقتئذ على مائة الف. ويبدأ بوكاتشيو كتاب ديكمرون بوصف مروع للطاعون يقول فيه:
ولم يكن الاتصال بالمرضى أو التحدث إليهم وحدهما ينقلان العدوى إلى الأصحاء، بل يبدو أن مجرد لمس ثياب أولئك المرضى أو أي شئ آخر مسوه أو استعملوه كان يكفي لنقل المرض ... وكان أي شئ مما يملكه الموتى أو المصابون بهذا الوباء إذا أمسه حيوان, ... مات بعد وقت قليل ... وتلك أمور شاهدتها بعيني رأسي. وقذفت هذه المحنة الرعب في قلوب الناس جميعاً ... فتخلى الأخ عن أخيه، والعم عن أبن أخيه .. وكثيراً من هذا وما لا يكاد يصدقه العقل، وهو أن بعض الآباء والأمهات رفضوا أن يزوروا أبناءهم أنفسهم أو يعنوا بهم كأنهم ليسوا منهم ... وأفترس المرض في كل يوم آلافاً من عامة الشعب لأنهم لم يجدوا من يرعاهم أو يعمل لإنقاذهم، وماتوا وهم لا يكادون يجدون ملجأ أو معونة. ولفظ الكثيرون منهم آخر أنفاسهم في الطرقات، ومات كثيرون غيرهم في بيوتهم ولم يعرف جيرانهم خبر موتهم إلا من رائحة أجسامهم المتعفنة لا من أية وسيلة أخرى، وامتلأت المدينة بهؤلاء وأولئك وغيرهم من الأموات. وأخرج الجيران جثث الموتى من منازل اصحابها ووضعوها أمام أبوابها مدفوعين إلى ذلك بخوفهم أن يتعرضوا هم للخطر بسبب تعفن هذه الجثث لا بأي شعور بالرحمة نحو هؤلاء الأموات، ولهذا كان المارة وبخاصة في الصباح يرون من الجثث ما يخطئه الحصر. وكانوا حينئذ يجيئون بالتوابيت فإذا أعوزتهم جاءوا بألواح من الخشب وحملوا عليها. ولم يكن الأمر مقصوراً على أن يحمل التابوت الواحد جثتين أو ثلاث(18/54)
جثث متجمعة، أو أن يحدث هذا مرة واحدة، بل إنك لتستطيع أن تجد توابيت كثيرة وقد وضع فيها الزوج وزوجته، وأخوان أو ثلاثة أخوة، وأب وابنه، وما إلى هذا وأمثاله ... ووصل الأمر إلى حد لم يكن الناس معه يحصون من مات من الخلائق إلا كما يحصى الناس عدد الماعز في هذه الأيام (43). ويرسم بوكاتشيو صورة كتابه ديكمرون من مناظر الخراب السالفة الذكر، وقد وضعت خطة إخراجه في "كنيسة سانتا ماريا نوفلا المعظمة " على أيدي "سبع فتيات ترتبك كل منهن بالأخريات برباط الصداقة أو الجيرة أو القرابة، وقد استمعن توا إلى القداس. وتتراوح أعمارهن بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين من العمر ". وكلهن ذوات فطنة، ونبل، وجمال، وآداب عالية، مرحات مرحا يزينه الشرف. "وتقترح إحداهن أن يقللن من خطر عدوى الطاعون بالرجوع إلى بيوتهن الريفية مجتمعات لا فرادى، وأن يأخذن معهن خدمهن، وأن يتنقلن من بيت ريفي إلى آخر وأن "يستمتعن بالمرح واللهو الذي يتيحه ذلك الفصل من فصول السنة ... فهناك نستطيع أن نستمع إلى تغريد الطير، ونرى التلال والسهول وقد اكتست بحلة سندسية، والحقول وقد امتلأت بالقمح يتماوج فيها تماوج ماء البحر، وفيها نرى آلافا من أنواع الثمر، ونشاهد وجه السماء مبسوطا للناظرين، لا يحجب عنا جماله، وإن كان مغضبا علينا " (44). وتوافق الفتيات على هذا الاقتراح، ولكن فلومينا Filomena تدخل عليه بعض التحسين فتقول: "إننا نحن النساء متقلبات، عنيدات، شديدات الريبة، خوارات العود " ولهذا فقد يكون من الخير أن يكون معنا بعض الرجال. وساقت إليهن الأقدار في تلك اللحظة ثلاثة رجال "ثلاثة شبان دخلوا عليهن الكنيسة ... لم تقو صروف الزمان، أو فقد الأهل والأصدقاء ... أن تنال منهن فتطفئ ... نار الحب الملتهبة في قلوبهم ... وكانوا جميعاً ذوي لطف وأدب جم وتربية عالية، وقد(18/55)
خرجوا جميعاً يبحثون عن أعظم سلوى لهم ... وهي رؤية عشيقاتهم، واتفق أن كانت أولئك العشيقات الثلاث من بين السبع الفتيات السالفات الذكر ". وتشير بمبينيا على صاحبتها أن يدعى أولئك الشبان للانضمام إلى جماعتهن فيخرجوا معهن إلى الريف، وتخشى نيفيلي Neifile أن يؤدي هذا إلى القيل والقال، فترد عليها فلومينا بقولها: "ما دمت أحافظ على شرفي، ولا أفعل ما يؤنبني عليه ضميري، فلست أبالي بما يقول الناس غير هذا ".
ويتم الاتفاق وتبدأ الرحلة في يوم الأربعاء التالي يتقدمهم الخدم يحملون الطعام ميممين شطر بيت ريفي على مسيرة يومين من فلورنس "يتوسطه فناء جميل رحب، وأبهاء، وحجرات للاستقبال، وأخرى للنوم، كل واحدة منها ذات جمال، مزدانة بصور تسر النفس، وتحيط بها خمائل وأرض ذات كلأ، وحدائق عجيبة غناء، وعيون ماء باردزلال، وسراديب ملأى بالخمر الغالي الثمن " (44). وتنام الفتيات والشبان بعد أن يمضي من الليل معظمه، ويفطرون على مهل، ويتنزهون في الحدائق، حتى إذا تعشوا آخر الأمر أخذوا يسلون أنفسهم بالقصص التي تتفق مع هذا الأسلوب من الحياة. وتتفق الجماعة على أن يقص كل فرد من أفرادها العشرة قصة في كل يوم من أيام النزهة، ويقضون في الريف عشرة أيام (ومن ثم اشتق اسم الكتاب من الكلمتين اليونانيتين ديكا همراي Deka hemeral أي عشرة أيام) وتكون النتيجة أنك تجد في مجموعة بوكاتشيو المرحة قصة تعارض كل مقطوعة من مقطوعات دانتي المكتئبة المخزنة. وتضع الجماعة قاعدة تحرم على أي عضو من أعضائها "أن ينقل من الخارج أي خبر غير سار ".
ويندر أن تكون القصص التي بلغ طول الواحدة منها ست صفحات من ابتكار بوكاتشيو نفسه، بل أنه جمعها من المصادر اليونانية والرومانية القديمة، ومن كتاب الشرق ومن أقاصيص العصور الوسطى،(18/56)
والقصص والخرافات الفرنسية، والأقاصيص الشعبية المنتشرة في إيطاليا نفسها. وآخر قصص الكتاب وأوسعها شهرة قصة جريزلدا Griselds الصابرة التي بنى عليها تشوسر Chaucer واحدة من أحسن وأسخف قصص كنتربري Canterbury Tales. أما أجمل قصص بوكاتشيو فهي القصة التاسعة التي تروي في اليوم الخامس -قصة فدريجو Federigo، وصقره وحبه، والتي تحوي من التضحية ما لا يكاد يقل عن تضحية جريزلدا. أما أكثرها فلسفة فهي قصة الخواتم الثلاثة (الكتاب الأول -القصة الثالثة) ومضمونها أن صلاح الدين "سلطان بابل " يحتاج إلى المال فيدعو ملشيزدك Melchisedek اليهودي الثري إلى العشاء معه ويسأله أي الأديان الثلاثة أحسنها-اليهودية أو المسيحية أو الإسلام؟ ويخشى الشيخ اليهودي الحكيم أن يقول ما يعتقد فيجيب عن هذا السؤال بقصة رمزية:
كان يعيش في الأيام الخالية رجل عظيم الشأن كثير المال، وكان من بين ما عنده من الجواهر الثمينة في كنوزه خاتم عظيم غالي الثمن ... وأراد أن يورث هذا الخاتم أبناءه من بعده وأن يبقى عندهم إلى أبد الدهر، فأعلن أن الذي يوجد منهم عند وفاته ممتلكاً للخاتم تنفيذاً لوصيته يجب أن يعترف به وارثاله، وأن يقر له سائر الأبناء بالزعامة والرياسة، وأن يعظموه ويوقروه. واتبع من أوصى له بالخاتم هذه الخطة نفسها مع أبنائه هو، ففعل مثل ما فعل والده. وقصارى القول أن الخاتم أخذ يتنقل من يد إلى يد أجيالاً طوالا حتى وصل آخر الأمر إلى يد رجل له ثلاثة أبناء صالحين فاضلين كلهم مطيعون لأبيهم أحسن إطاعة، ومن أجل هذا كان الأب يسوى بينهم جميعاً في حبه. وكان الأبناء يعرفون قيمة الخاتم وفائدته، ويريد كل منهم أن يكون هو أعظم الثلاثة قدرا بين قومه ... ولهذا أخذ كل واحد منهم يرجو أباه-وكان قد بلغ الشيخوخة-أن يوصى له بالخاتم ... ولم يكن ذلك الرجل الصالح يدري كيف يختار من بين أبنائه من يفضله على أخويه فيوصى له بالخاتم،(18/57)
ففكر ... في أن يرضيهم هم الثلاثة وعهد في السر إلى صانع ماهر أن يصنع له خاتمين آخرين يشبهان الخاتم الأول شبها يكاد يعجز معه هو نفسه عن أن يعرف أيهل الحقيقي وأيها المقلد. فلما قربت منيته أعطى كل واحد من أبنائه خاتمه سراً، فلما مات الأب واراد كل واحد من الأبناء أن يرث المال والشرف دون غيره من أخويه أظهر خاتمه يؤيد به حقه. وإذا كانت الخواتم الثلاثة متشابهة كل الشبه فقد كان من غير المستطاع معرفة الخواتم الثلاثة متشابهة كل الشبه فقد كان من غير المستطاع معرفة الخاتم الأصيل. وتأجل من ثم الفصل في أي الثلاثة يرث أباه، ولا يزال ذلك مؤجلا حتى الآن. وكذلك أقول لك يا مولاي: إن كل شعب من الشعوب الثلاثة يرى أنه هو الذي يرث من الله شريعته الحقه ووصاياه من بين الشرائع الثلاثة التي أنزلها الله أبو الخلق على هذه الشعوب. أما أي شعب منها هو صاحب هذه الشريعة وتلك الوصايا فإن هذا لم يعرف بعد، وشأن ذلك شأن الخاتم سواء بسواء.
وتوحي هذه القصة بأن بوكاتشيو وهو في السابعة والثلاثين من عمره لم يكن مسيحياً متعصباً لمسيحيته. وخليق بنا أن نوازن بينه وبين تعصب دانتي وما قاله عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) (46). وفي القصة الثانية من قصص ديكمرون نرى اليهودي يحنات يعتنق الدين المسيحي بعد اقتناعه بالحجة التي أوردها فلتير وهي أن المسيحية دين منزل من عند الله ما في ذلك شك، لأنها قد بقيت بعدما فشا بين رجال الدين من فساد في الأخلاق، وارتشاء، وبيع للمناصب الدينية. ويسخر بوكاتشيو بالنسك، والطهارة، والاعتراف الديني، والمخلفات المقدسة، والقساوسة، والرهبان، وجماعات الإخوان، والراهبات، وإضفاء صفة القداسة على الصالحين. ويرى أن الكثرة الغالبة من الرهبان قوم مراءون منافقون، ويسخر من "البلهاء " الذين يقدمون لهم الصدقات (الكتاب السادس، القصة العاشرة). وتحدثنا واحدة من أكثر قصصه مرحا عن الراهب تشيبلا Cipalla وكيف أراد أن يجمع مبلغاً كبيراً من المال فوعد مستمعيه(18/58)
أن يعرض عليهم "أثرا مقدسا أعظم التقديس، وهو ريشة من ريش الملاك جبريل بقيت في حجرة مريم العذراء بعد أن بشرها بمولد المسيح (الكتاب السادس القصة العاشرة). أما أكثر هذه القصص بذاءة وفحشا فهي التي تروى كيف أشبع الشاب ماستو Masetto الشَّبِق شهوة دير للنساء بأكمله (الكتاب الثالث-القصة الأولى). وفي قصة أخرى يروى بوكاتشيو كيف زنى الراهب رينلدو Rinaldo بزوجة رجل، ثم يسأل راوي القصة: "ومَن مِن الرهبان لا يفعل هذا " (الكتاب السابع القصة الثالثة).
وتظهر السيدات في كتاب ديكمرون شيئا من الحياء حين يستمعن إلى هذه القصص، ولكنهن يستمتعن بما تحويه من فكاهة شبيهة بفكاهة ربليه Rabelais وتشوسر. وتقص فلومينا، وهي فتاة ذات آداب راقية، قصة رينالدو، ويقول بوكاتشيو في أسوأ صورة من صوره إن "السيدات كن في بعض الأحيان يواصلن الضحك زمنا يكفي لخلع أسنانهن جميعها " (47). ويرجع هذا النحو الذي نحاه بوكاتشيو في قصصه إلى أنه قد نشأ وسط مرح نابلي الطليق، وأنه إذا ما فكر في الحب كان في أغلب الأحيان يفكر في معناه الشهواني، أما حب الفروسية والشهامة فكان يسخر منه، وكان موقفه من دانتي كموقف سانكوبانزا من دون كيشوت. ويبدو أنه كان يؤمن بالحب الطليق مع أنه قد تزوج مرتين (48). وتراه بعد أن يقص نحو عشرين قصة لا يصح أن يتحدث بها البوم بين جماعة من الذكور ينطق أحد الرجال بعبارة يقولها للسيدات: "لم ألاحظ قط أي عمل، أو لفظ، أو كلمة، أو أي شئ ناب صدر منكن أو من الرجال ". ويعترف المؤلف في ختام كتابه بصحة بعض ما يوجه من النقد إلى ما في الكتاب من فحش وخاصة "لأني قلت الحق عن الرهبان في مواضع كثيرة ". وهو في الوقت ذاته يهنئ نفسه على ما بذله من "جهد طويل أتم فيه عمله على أكمل وجه بمعونة الله ".
ولا يزال ديكمرون من روائع الأدب العالمي، ويرجع سبب شهرته(18/59)
إلى أخلاقه اكثر مما يرجع إلى نفسه، ولكنه حتى لو خلا من ما يجافى الخلق الكريم لكان مع ذلك خليقا بالبقاء. وليس في بناء الكتاب شئ من النقص- وهو يسمو من هذه الناحية على كتاب قصص كنتربري. وقد ارتفع نثره بالأدب الإيطالي إلى مستوى لم يسم عليه قط، وهو نثر قد يكون في بعض الأحيان معقداً أو مزخرفاً، ولكنه في معظمها بليغ، جذل، لاذع، مطرب، صاف صفاء النبع الجبلي. إنه كتاب في حب الحياة، وقد استطاع بوكاتشيو في غمرة أكبر كارثة حلت بإيطاليا في مدى ثمانين عاما أن يجد في نفسه من الشجاعة ما يستطيع به أن يرى الجمال، والفكاهة، والطيبة، والمرح لا تزال تمشي على الأرض، وتراه في بعض الأحيان ساخراً كما تبين ذلك في هجوه الخالي من الشهامة للنساء في الكرباتشيو Corbaccio، لكنه كان في ديكمرون شبيها بربليه في ضحكه العالي ومرحه، يتقبل ما تعطيه الحياة إياه وما تأخذه منه، ويرضى منها ومن الحب بمتاعبها وسقطاتهما. ولقد شهد العالم نَفْسه مصورا في الكتاب رغم ما فيه من مغالاة ومن صور هزلية. ولقد ترجم إلى جميع اللغات الأوربية، ونقل هانز ساكس Hans sachs ولسنج Lessing، ومليير Moli?re ولافنتين La Fontaine، وتشوسر Chaucer، وشكسبير نقل هؤلاء كلهم صحفا منع أعجبوا بها كل الإعجاب. وسيظل الكتاب متعة للقراء بعد أن يكون جميع شعر بترارك قد انطوى في عالم الكتب التي يمدحها الناس ولا يقبلون على قراءتها.(18/60)
الفصل الثامن
سينا
وكانت سينا خليقة بأن تتحدى ادعاء فلورنس بأنها مهد النهضة. ففيها أيضا رفعت حدة الانقسامات الحزبية من حرارة التفكير، وغذى زهو المدينة باستقلالها شجرة الفن، وأمدت صناعة الصوف وصادرات المدينة إلى البلاد الواقعة في شرق البحر المتوسط، والتجارة المتبادلة بين فلورنس وروما مارة بطريق فلامينا Via Flamina، بقدر لا بأس به من الثراء فلم يحل عام 1400 حتى كانت ميادينها وشوارعها الرئيسية مرصوفة بالآجر أو الحجارة، وحتى بلغ فقراؤها من الثراء درجة شجعتهم على القيام بثورة، ذلك أن العمال في صناعة الخشب حاصروا القصر العام Palazza Pubblico في عام 1371، وحطوا أبوابه، وطردوا منه حكومة رجال الأعمال، وأنشئوا حكومة الفقراء ولم تمض على قيام هذه الحكومة إلا بضعة أيام حتى قام جيش مؤلف من ألفي رجل جهزه ذوو المصالح التجارية في المدينة، فهاجم أحياء العمال، وذبح من فيها من الرجال والنساء، والأطفال، دون تمييز أو رحمة، فمنهم من أنفذت في أجسادهم الحراب، ومنهم من مزقت بالسيوف. وخف الأشراف ورجال الطبقة الوسطى-الدنيا لإنقاذ العامة، وقضى على الثورة المضادة، وتولت حكومة الاصلاح مقاليد الأمور، فوهبت المدينة أشرف نوع من الإدارة يستطيع أهلها أن يتذكروه. ثم ثار التجار الأغنياء مرة أخرى في عام 1385، وأسقطوا حكومة الفقراء، وطردوا أربعة آلاف من(18/61)
العمال العاصين من المدينة. وضعف شأن الصناعة والفن في سينا من ذلك التاريخ (1). وبلغ الفن في سينا ذروة مجده في القرن الرابع عشر المليء بالاضطراب، فقد قام فيها على الجانب الغربي من الكامبو الفسيح- وهو الميدان الرئيسي في المدينة- القصر العام، البلاتسوببليكو (1288 - 1309)، يجاوره برج الأجراس Torre de Magnia الذي يعلو إلى 334 قدما، والذي هو أجمل برج في إيطاليا حتى اليوم. وفي عام 1310 انتقل لورندسو ميتاني Lorenzo Maitani أعظم المهندسين المعماريين والمثالين في سينا إلى أرفيتو وخطط الواجهة الفخمة لكنيستها الكبرى، ثم أخذ هو وغيره من الفنانين من أهل سينا ومعهم أندريا بيزانو يعملون في شبه حمى جنونية لتزيين المداخل، والعمد المربوعة، والقواصر، حتى أخرجوا معجزة فنية من الرخام ليخلدوا بها ذكرى معجزه بلسينا Bolsena. وأنشئت لقصر سينا العظيم في عام 1377 واجهة مماثلة للواجهة السالفة الذكر على أساس التخطيط الذي تركه جيوفني بيزانو، ولعلهم قد بالغوا في زخرفته. ولمنه مع هذا لا يزال من عجائب الفن في إيطاليا التي لا تحصى عجائبها الفنية.
وكانت طائفة ممتازة من المصورين في سينا قد واصلت العمل من النقطة التي وقف عندها دي بيوننسنيا Duccio di Buoninsegna. ذلك أن سيمون مارتيني قد عهد إليه في عام 1315 أن يزين بهو المجلس العظيم في البلاتسوبيليكو بصورة تمثل تتويج العذراء (المائستا Maesta) ،
_________
(1) إن ثورة عمال سينا في عام 1371، وثورة التشيمبي Ciompi في فلورنس عام 1378، وثورة وات تيلر Wat Tyler التي قامت معها في نفس الوقت تقريباً في إنجلترا، والثورة التي قامت في فرنسا حوالي 1380 توحي كلها بوجود موجة من الثورات اجتاحت أوربا، كما توحي قسط من الاتصال والتأثير المتبادل بين الطبقات العاملة في أوربا الغربية أكبر مما يظن الناس عادة أنه كان موجودا في ذلك الوقت.(18/62)
وذلك لأن العذراء كانت من الوجهة القانونية كما كانت من الوجهة الدينية ملكة المدينة المتوجة، وكان من حقها أن ترأس اجتماعات الحكومة البلدية. ولم تكن الصورة تقل روعة عن مثيلتها التي رسمها دتشيو لتوضع في الكنيسة قبل خمس سنين من ذلك الوقت. نعم إنها تضارعها في حجمها، أو فيما أثقلت به من الذهب، وهي شبيهة بأختها "ذات الجلال " تكشف عما استمده فن التصوير في سينا من فن بيزنطية، وذلك بما تظهره من جمود وعدم حركة في الملامح، ومن وقوف أشخاص الصورة المزدحمين فيها وقفة خالية من الحياة، ولعلها قد تقدمت على الصورة الأولى في اللون وفي التصميم. ولكن سيمون ذهب في عام 1226 إلى أسيسي حيث درس مظلمات جيتو، فلما دعا ليصور في معبد بالكنيسة السفلي حياة القديس مارتن، خرج على الوجوه ذات الطابع الراسخ التي مثلها في صوره السابقة، وصور وجه اسقف تور تصويراً أبرز فيه نزعة انفرادية ذائعة الصيت. والتقى بيترارك في أفنيون ورسم صوراً للشاعر ولورا Laura، ومجد من أجل ذلك الكندسونيير Canzoniére. ويقول فاساري Vasari ان هذه السطور الموجزة "قد أذيعت شهرة سيمون أكثر مما أذاعتها أعماله هو مجتمعة ... ذلك أن أعماله سيأتي عليها وقت لا يكون لها فيه وجود، أما ما يكتبه رجل مثل بترارك فسيبقى أبد الدهر "، وذلك تفاؤل لا نجده عند علماء طبقات الأرض أنفسهم. وعين بندكت الثاني عشر سيمون مصوراً رسمياً للبلاط البابوي (1339)، وأوضح بحكم منصبه حياة المعمدان في معبد البابا وحياة العذراء والمنقذ على مدخل الكنيسة. ومات في أفنيون عام 1334.
وواصل بيترو Pietro وأخوه أمبروجيو Ambrogio ابنا لورندستي Lorenzetti ما حاوله سيمون من إخراج الفن من طابعه الديني إلى طابعه الدنيوي وتوسع فيه. ولعل بيترو قد هجر التقاليد العاطفية المسرفة التي أتسم بها فن التصوير في سينا، وأخرج طائفة من الصور لتزدان بها(18/63)
محاريب الكنائس ليس فيها سبق مثيل في قوتها، وليس لها في بعض الأحيان مثيل في واقعيتها الوحشية. فقد صور أمبروجيو في بهو القسعة (المشيرين) في البلاتسوببليكو أربعة مظلمات (1337 - 1343): الحكومة الخبيثة وعواقب الحكومة الخبيثة، والحكومة الصالحة وعواقب الحكومة الصالحة. وقد استبقى فيها الرمزية المضادة في العصور الوسطى والتي تخلى عنها جيتو، فنرى صوراً فخمة لأشخاص يمثلون سينا، والعدالة، والحكمة، والاتفاق، والفضائل السبعة، والسلم- وتنحى الشخصية التي تمثل السلم في رشاقة كما تنحى آلهة فدياس. ونشاهد في صورة الحكومة الخبيثة الاستبداد جالسا على العرش، ووزيره الرعب، ونرى التجار تنهب بضائعهم في الطريق، والتحزب والعنف يخضبان المدينة بالدماء. وتظهر صورة الحكومة الصالحة المرسومة على جدران هذا البهو نفسه الأهلين السعداء يعملون مغتبطين في صناعاتهم اليدوية، وفي مسراتهم وتجارتهم، ونرى الزراع والتجار يقودون إلى المدينة بغالا محملة بالطعام والسلع، والأطفال يلعبون، والفتيات يرقصن، والآلات الموسيقية تصدر عنها نغمات صامتة، وترفرف فوق المنظر كله روح مجنحة ترمز إلى الأمن. وربما كان هذان الأخوان النشيطان هما اللذين صورا المظلم الضخم الذي يمثل انتصار الموت في الكامبو سانتو Campo Santo ( الميدان المقدس) في بيزا Pisa. وتمثل هذه الصورة جماعة من الصيادين مؤلفة من الأعيان والسيدات يرتدون ثياباً غالية الثمن، ويعثرون على ثلاثة توابيت تحتوي جثثا متعفنة لملوك. ويمسك أحد الصيادين بانفه اشمئزاز من رائحتها. ويحوم ملك الموت فوق هذا المنظر، وهو يلوح بمنجل ضخم، وفي الهواء ملائكة الرحمة يحرسون الأرواح الناجية في طريقها إلى الجنة،(18/64)
ثم نرى الشياطين المجنحة تجر معظم الموتى إلى الجحيم، ونرى الأفاعي تطوق أجسام الرجال والنساء العارية والنسور تنهشها، وتلتهمها، ومن تحتها الملوك، والملكات، والأمراء، والأميرات، والأساقفة، والكرادلة يتلوون في الهاوية التي تضم الملعونين. وقد صور هذان الفنانان نفسهما على جدار مجاور لهذا في مظلم آخر ضخم صورة يوم الحساب إلى اليسار ومنظراً آخر من مناظر الجحيم إلى اليمين. وتتجسم في هذين المنظرين جميع الأهوال التي يتصورها أهل العصور الوسطى. فهي شبيهة بمنظر جحيم دانتي تُرى رأى العين خالية من الرحمة وذاهبة إلى أبعد حد.
ولم تخرج سينا يوماً من العصور الوسطى، بل بقيت هي وجبيو Gobbio، وسان جمنيانو San Gimignano، وصقلية على حالها إلى ما بعد النهضة، لم تمت هذه المدن أبداً ولكنها تتربص وقتها صابرة مستورة حتى تظهر من جديد.(18/65)
الفصل التاسع
ميلان
عاد بترارك إلى أفنيون في عام 1351، وأكبر الظن أنه كتب في فوكلوز Vaucluse مقالا لطيفا في حياة الوحدة De vita solitaria يمتدح فيه الوحدة التي يستطيع أن يتخيلها على أنها علاج شاف ولكنه لا يطيقها إذا كانت طعاما يقيم به الأود. وبعد قليل من عودته إلى أفنيون أثار عليه غضب جماعة الأطباء حين حذر البابا كلمنت السادس، وكان وقتئذ يعاني آلام المرض، من الأدوية التي يصفها له الأطباء: "لقد كنت على الدوام أرجو أصدقائي وآمر خدمي، ألا يسمحوا أبدا بات تجرب أية حيلة من حيل الأطباء هذه في جسمي، وأن يفعلوا عكس ما يشير به هؤلاء تماماً" (49). واستشاط غضبا من إخفاق بعض العلاج فكتب في عام 1355 تنديدا بطبيب. ولم يكن أكثر من ذلك ميلا إلى المحامين "الذين يقضون وقتهم كله في النزاع ... على أتفه المسائل": "استمع إلى حكمي على جماعتهم كلها. إن شهرتهم ستفنى بفناء أجسادهم، وإن قبراً واحداً ليكفي أسماءهم وعظامهم" (50) واراد البابا إنوسنت السادس أن يجعل أفنيون بغيضة اشد البغض لبترارك فاقترح أن يحرمه بحجة أن متنبئ روحاني ساحر اعتمادا على أن الشاعر دارس لفرجيل. وخف الكردنال تليران Talleyrand لإنقاذ بترارك، ولكن نفس الشاعر عافت جو أفنيون المعطر بالجهالة القدسية فزار أخاه الراهب جراردو Gherardo وكتب رسالة شيقة في فراغ الرهبان داعب فيها فكرة دخول الدير. ولكنه جاءته دعوة(18/66)
لأن ينزل ضيفا على طاغية ميلان في قصره (1353) فبادر إلى قبولها مبادرة صدمت مشاعر أصدقائه الجمهوريين.
وكانت الأسرة الحاكمة في ميلان يطلق عليها اسم الفيكونتي لأن افرادها كثيراً ما كانوا يشغلون منصب الفيسكوميت Vicecomites أي كبار قضاة الأبرشية. وعين الإمبراطور هنري السابع في عام 1311 ماتيو فيكونتي قسا له في ميلان، وكانت هذه المدينة كما كانت الكثرة الغالبة من مدائن شمالي إيطاليا، تعترف على نحو ما بأنها جزء من الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأظهر ماتيو في حكمه من البراعة والحزم ما مكن بنيه من أن يحتفظوا بالسلطة حتى عام 1447 وأن كان قد ارتكب هو في أثناء حكمه اغلاطا شنيعة. وقلما كان خلفاؤه يراعون في حكمهم ذمة أو ضميراً، وكثيراً ما كانوا قساة غلاظا، كما كانوا أحياناً مسرفين، ولكنهم لم يكونوا أبداً أغبياء. وقد فرضوا الضرائب الفادحة على الشعب ليحصلوا بذلك على الأموال اللازمة لحروبهم الكثيرة التي أخضعت الشمال الغربي من إيطاليا لحكمهم ولكن مهارتهم في اختيار الحكام وقواد الحرب الماهرين أكسبت جيوشهم النصر وعادت بالرخاء على ميلان. وقد أضافوا إلى صناعة الصوف التي اشتهرت بها ميلان صناعة الحرير، وزادوا من عدد القنوات التي ضاعفت تجارتها، وأمنوا رعاياهم على أنفسهم وأموالهم إلى حد أنساهم حريتهم، فأضحت ميلان تحت حكمهم الاستبدادي من أغنى مدائن أوربا، فكانت قصورها ذات الواجهات الرخامية تطل على الشوارع المرصوفة بالحجارة. ووصلت ميلان بفضل جيوفني فيكونتي الوسيم، المجد، الذي يستطيع أن يكون قاسيا أو كريما إذا دعته إلى ذلك الحاجة أو طافت به نزوة من النزوات، إلى ذروة مجدها، واعترفت لودي Lodi، وبارما، وكريما Crema، وبياتشندسا، وبريشيا، وبرجامو، ونوفارا Novara، وكومو، وفرتشلي Vercelli، والسندريا Alessandria، وتورتونا Tortona، وبنتريمولي Pontremoli،(18/67)
واستيا Astia، وبولونيا، اعترفت هذه كلها بحكمه وسلطانه، ولما أن نازعه بابوات أفنيون دعواه في تملك بولونيا، وأصدروا عليه قرار الحرمان، حارب كلمنت السادس بالشجاعة والرشا، وظفر ببولونيا، وبالغفران، والسلم نظير مائتي ألف فلورين (1352). وأصيب من جراء جرائمه بالنقرس، وزاد استبداده بمناصرة الشعر، والعلم، والفن. ولما وفد بترارك على بلاطه، وسأله أي الواجبات يطلب إليه أن يؤديها، رد عليه جيوفني ذلك الرد الجميل: "لا شيء أكثر من وجودك الذي يشرفني ويشرف حكمي" (51).
وأقام بترارك في بلاط الفيكونتي في بافيا أو ميلان ثماني سنين، وألف في أثناء هذا الخضوع المريح سلسلة من القصائد بالشعر الإيطالي الرباعي الأوتاد سماها الانتصار أي انتصار الشهوة على الإنسان، والعفة على الشهوة، والموت على العفة، والشهرة على الموت، والزمان على الشهرة، والخلود على الزمان. وهنا أنشد آخر أغانيه إلى لورا Laura، وطلب أن تغفر له شهوانية حبه، وتحدث إلى روحها الطاهرة وحلم أنه اجتمع بها في الجنة- ولعل زوجها قد ذهب إلى مكان آخر. ولا تقل هذه القصائد شأنا عن قصائد دانتي، وهي تمثل انتصار الغرور على الفن.
وتوفى جيوفني فيكونتي في عام 1345 وأوصى بملكه إلى ثلاثة من أبناء أخيه، وكان ماتيو الثاني عاجزا منهمكا في ملذاته، فقتله أخواه ليحفظا بذلك شرف أسرتهما (1355). وحكم برنابو من ميلان جزءاً من الدوقية، وحكم حليستو الثاني Galezzo من بدوا ما بقى منها. وكان جليستو هذا حاكما قديرا يرسل شعره الذهبي في غدائر، وزوج بناته من أبناء الملوك. ولما أن تزوجت ابنته فيولنتي Violante دوق كلارنس Clarence أبن إدورد الثالث ملك إنجلترا، أعطاها بائنة قدرها مائتا ألف فلورين ذهبي (أي خمسة ملايين دولار)، ونفح كل واحد(18/68)
من حاشية الزوج الإنجليزية المؤلفة من مائتي ألف تابع بهدية ترفع مقامه في الكرم فوق مقام أغنى معاصريه من الملوك. ويؤكد لنا الرواة أن بقايا مائدة العرس كانت تكفي عشرة آلاف رجل. لقد بلغت إيطاليا في القرن الرابع عشر هذه الدرجة العليا من الثراء في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا تتردى في هاوية الأفلاس، وكانت فرنسا تستنزف دماؤها في حرب المائة السنين.(18/69)
الفصل العاشر
البندقية وجنوى
بعث الدوق جيوفني فيكونتي في عام 1354 بترارك إلى البندقية ليفاوضها في عقد الصلح مع جنوي.
وكتب الشاعر في ذلك يقول: "إنك لتشهد في جنوي مدينة حاكمة، مستقرة على سفح تل أجرد ذات أسوار شاهقة ورجال عظام" (52). وكان أهلها من أشد الناس حرصاً على الكسب يتحدون البحار بإقدامهم وبسالتهم، شقوا لتجارة جنوي طرائق في البحر المتوسط إلى تونس، ورودس، وعكا، وصور، وإلى ساموس، ولسبوس، والقسطنطينية، واخترقوا البحر الأسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الاسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الأطلنطي إلى رون وبروج. وهؤلاء المغامرون من رجال الأعمال هم الذين ابتدعوا قبيل عام 1340 طريقة القيد المزدوج (حساب الدوبيا) في إمساك الدفاتر، كما ابتدعوا الامين البحري على السفن قبيل عام 1370 (53). وكانوا يقترضون المال من الأفراد المستثمرين بفائدة تتراوح بين سبعة وعشرة في المائة، في حين أن سعر الفائدة في معظم المدن الإيطالية كان يتراوح بين أثني عشر وثلاثين. وظلت ثمار التجارة ردحا طويلا من الزمن يتقاسمها بغير طريقة حبية عدد قليل من الأسر الغنية- أسرة دوريا Doria، واسبنولا، وجريملدى، والفيسكي Fieschi. وقاد سيمون بكانيرا Simone Boccanera البحارة وغيرهم من العمال في ثورة موفقة، وأسس أول أسرة من الأدواج Doge حكموا جنوي حتى عام 1797. وخلد فيردي Verdi أسمه في تمثيلية غنائية. ثم انقسم الغالبون بدورهم إلى عدة جماعات متعادية ونشروا الاضطراب في(18/70)
المدينة بمنازعتهم التي كلفتهم أموالا طائلة، في الوقت الذي كانت فيه البندقية منافسة جنوي العظيمة يعمها الثراء والرخاء بفضل ما تستمتع به من النظام والوحدة.
وكانت البندقية أغنى دول إيطاليا وأقواها بعد ميلان، وكانت حكومتها أقدر الحكومات وأكثرها حزماً بلا استثناء. واشتهر صناعها اليدويون بجمال مصوغاتهم، وكانت كثرتها خاصة بتجارة مواد الترف. وكانت دار صنعتها البحرية تضم 16. 000 رجل، و 36. 000 بحار يسيرون 3300 سفينة حربية وتجارية. وكان الذي يسرون سفائنها بالمجاديف رجالا من الأحرار لا من العبيد كما جرت بذلك العادة في القرن السادس عشر. وكان تجار البندقية يغزون جميع الأسواق من بيت المقدس إلى أنتويرب، ويتاجرون مع المسيحيين والمسلمين على السواء، ولا يميزون بين أولئك وهؤلاء، وجروا على أنفسهم اللعنات البابوية التي كانت تتساقط عليهم كما يتساقط الظل على الأرض. وكان بترارك الذي جاب الآفاق من نابلي إلى فلاندرز ليشبع "حبه وتحمسه لرؤية كثير من الأشياء" يعجب أشد العجب من كثرة ما يرى من السفن في مياه البندقية:
"أرى سفناً ... لا تقل حجماً عن قصري، وسارياتها أعلى من ستة أبراج، كأنها جبال تسبح فوق الماء، تخرج لتواجه ما لا يحصى من الأخطار في كل صقع من أصقاع العالم، تحمل النبيذ إلى إنجلترا، والشهد إلى روسيا، والزعفران والزيت ونسيج الكتان إلى آشور، وأرمينية، وبلاد الفرس والعرب، والخشب إلى مصر وبلاد اليونان، ثم تعود مثقلة بالحاصلات على اختلاف أنواعها فترسلها إلى جميع أنحاء العالم (54).
وكانت هذه التجارة العظيمة الواسعة تعتمد على الأموال الخاصة يجمعها ويستثمرها المرابون الذين أطلق عليهم في القرن الرابع عشر لقب "المصرفيين" Bancherii، وهذا الأسم الإيطالي مشتق من لفظ Banco أي المقعد الذي(18/71)
كانوا يجلسون عليه أمام نضدهم لمبادلة النقود. وكانت أهم وحدات النقد هي الليرا (واسمها مختصر من لبرا، أي رطل) والدوقات (من دوقا، أي دون أو دوج)، والثانية قطعة من النقد الذهبي زنتها 3560 جراماً (1) وكانت هذه القطعة النقدية هي والفلورين الفلورنسي أكثر أنواع العملة ثباتاً وأعظمها تقديراً في العالم المسيحي (2).
وكانت الحياة هنا تكاد تبلغ من المرح ما بلغته مدينة نابلي في عهد بوكاتشيو. فكان البنادقة يحتفلون بأعيادهم وأيام نصرهم احتفالات فخمة، ويصنعون ويلونون سفنهم الخاصة بالنزهة وسفنهم الحربية، ويرتدون الحرائر الشرقية، وتتلألأ على موائدهم آنية الزجاج البندقية، وتعزف لهم الموسيقى في البيوت وعلى صفحة الماء.
ورأس الدوج لورندسو تشيليي Lorenzo Celssi يصاحبه بترارك مباراة بين أمهر الموسيقيين في إيطاليا، وأنشدت الأغاني على نغمات مختلف الآلات الموسيقية، وغنت فرق المغنيين، وكانت الجائزة الأولى من نصيب فرانتشيسكو لنديني Francesco Londini الفلورنسي، وهو مؤلف ضرير للقصص الشعرية والقصائد الغزلية. وكان لورندسو فينيدسيانو Lorenzo Veneziano وغيره ينتقلون وقتئذ بالمظلمات من صرامة العصور الوسطى إلى رشاقة النهضة ويبشرون ببهاء فن التصوير البندقي وزهاء ألوانه.
_________
(1) هذا ما يقوله المؤلف، على أن معجم ويستر (المطبوع في عام 1954) يقول إن قيمة الدوقة الإيطالية تبلغ هي 2. 25 دولار أمريكي. (المترجم)
(2) وستقدر هذه القطع الثلاث جميعها في هذا المجلد تقديرا غير دقيق قبل عام 1490 بالقوة الشرائية المعادلة لخمسة وعشرين دولارا من عملة الولايات المتحدة في عام 1952. أما فيما بعد 1490 فستقدر بالقوة الشرائية لاثني عشر دولار ونصف دولار. وقد حدث تضخم بطئ أنقص قيمة العملة الإيطالية بين عامي 1400 و 1580 إلى ما يقرب من نصف قيمتها.(18/72)
فكانت البيوت، والقصور، والكنائس ترتفع فوق البحر كالمرجان. ولم يكن في البندقية قصور كالقلاع او مساكن محصنة، أو أسوار ضخمة منيعة، لأن خصام الأفراد فيها سرعان ما كان يخضع لسلطان القانون، هذا إلى أنه يكاد يكون لكل بيت خندق من صنع الطبيعة، وظل التخطيط المعماري قوطياً كما كان، ولكنه يحوي من الرشاقة والخفة ما لا تجرؤ العمارة القوطية الشمالية أن تكونه. وشيدت في ذلك العهد الكنيسة الفخمة التي تحمل أسم القديسة ماريا جلوريوزا دي فراري Santa Maria gloriza dei Frari، وظلت كنيسة القديس مرقس بين الفينة والفينة ترفع وجهها القديم مزداناً بالجديد من التماثيل، والفسيفساء، والنقوش العربية، وتعلوها أقواس قوطية فوق عقود مستديرة من الطراز البيزنطي القديم. ولا يكاد بترارك يصدق أن ميدان القديس مرقس Piazza San Marco، " كان له مثيل في أية بقعة من بقاع العالم (55) " وإن لم يكن قد أحيط في ذلك الوقت بكل ما أحيط به من العمائر الفخمة.
ووجهت في عام 1378 ضربة مهلكة إلى هذا الجمال كله الذي كان ظله يتماوج منعكساً على مياه القناة العظمى، وهذا الصرح الموحد من نظامي الحكم والاقتصاد الذي كان يسيطر على إمبراطورية تشمل البحر الأدرياوي وبحر إيجة، وهو نفسه قائم في بقعة مائية صغيرة على سطح الأرض، وذلك حين بلغ النزاع القديم أوجه بين البندقية وجنوي. وسار لوتشيانو دوريا Luciano Doria على رأس أسطول حربي من جنوي إلى بولا Pola، ووجد الأسطول البندقي قد أضعفه وباء تفشى بين بحارته، وأوقع به هزيمة ساحقة استولى فيها على خمس عشرة من سفنه. وأسر نحو ألفين من رجاله. وقتل لوتشيانو في المعركة, ولكن أخاه أمير رجيو خلفه في إمارة الأسطول، واستولى على بلدة Chiogia - الواقعة على رأس ضيق في البحر(18/73)
على بعد خمسة عشر ميلاً أو نحوها جنوب البندقية نفسها. ثم عقد حلفاً مع بدوا وسد الطريق على جميع سفن البندقية، واستعد لغزو المدينة نفسها ببحارة من جنوي وجنود مرتزقة من بدوا. وظنت المدينة المزهوة بنفسها أنها عاجزة عن الدفاع فطلبت الصلح، ولكن الشروط التي فرضها المنتصرون كانت من الوقاحة والشدة بحيث رفضها المجلس الكبير، وصمم على الدفاع عن كل شبر من المياه الضحلة المتصلة بالبحر. وأخرج الأغنياء ما كانوا يخبئونه من المال وصبوه صبا في خزائن الدولة، وأخذ الأهلون يكدون ليلا ونهاراً لبناء أسطول جديد، وانشئت قلاع سابحة حول الجزائر، وجهزت بالمدافع التي ظهرت وقتئذ لأول مرة في إيطاليا (1379). ولكن أهل جنوي وبدوا كانوا قد حاصروا البندقية من ناحية البحر ثم مدوا حصاراً آخر من الجند على مداخلها البرية وقطعوا الطعام عن المدية. وبينما كان بعض أهلها يموتون جوعاً كان فيتوري بيزاني Vittore Pisani يدرب المجندين للأسطول الجديد. حتى إذا كان شهر ديسمبر من عام1379 قاد بيزاني والدوج أندريا كنتاريني Andrea Contarini هذا الأسطول المجدد- وكان مؤلفا من أربع وثلاثين سفينة واطئة ذات سطح واحد، وستين مركباً كبيراً، وأربعمائة قارب صغير-ليحاصر به الغزاة الجنويين وسفائنهم عند كيوجيا. وكان أسطول جنوي أصغر من أن يواجه أسطول البندقية الجديد، وكانت مدافع البنادقة تصب على مراكب جنوي ومعاقل جنودها ومعسكراتهم حجارة زنة الواحد منها مائة وخمسون رطلا، وقتلت فيمن قتلت وهم كثيرون أمير البحر بيترو دوريا. ولم يجد الغزاة من أهل جنوي حاجتهم من الطعام، فطلبوا أن يؤذن لهم أن يخرجوا النساء والأطفال من كيوجيا، واجابهم البنادقة إلى ما طلبوا، ولما أن طلب الجنويون أن يخضعوا إذا سمح لأسطولهم أن يعود إلى بلدهم، جاء دور(18/74)
البنادقة فطلبوا بلا شرط. ودام حصار البنادقة ستة أشهر حتى فت الموت والمرض في عضد الجنويين فاستسلموا، وعاملتهم البندقية معاملة كريمة رحيمة. ولما أن عرض أمديوس السادس Amadeus VI كونت سافوي أن يتوسط لحسم النزاع وافق الطرفان المنهوكا القوى، ونزل كلاهما عن بعض مطالبه، وتبادلا الأسرى، وجنحا إلى السلم (1381).(18/75)
الفصل الحادي عشر
خاتمة القرن الرابع عشر
خبر بترارك كل مدينة وكل مضيف، ثم أتخذ مقامه في البندقية عام 1361، وعاش فيها سبع سنين، وجاء معه بمكتبته، وكادت تحتوي كل الآداب اللاتينية القديمة ما عدا كتب لكريشيوس. وأوصى في رسالة بليغة بمجموعته القيمة إلى البندقية، ولكنه احتفظ لنفسه بحق استعمالها حتى مماته وأرادت حكومة البندقية أن تظهر تقديرها لعمله، فوهبته قصر مولينا Palazzo Molina وأثثته له [اثاث مريح، ولكن بترارك حمل كتبه معه في آخر أسفاره، ووقعت عند وفاته في يد آخر مضيفيه فرانتشسكو الأول صاحب كرارا Carrara وكان من أعداء البندقية، وأحتفظ ببعض هذه الكتب في بدوا، وبيع بعضها الآخر، ثم تشتت بغير هذه وتلك من الوسائل.
وأكبر الظن أنه كتب في البندقية مقالا في واجبات الإمبراطور وفضائله وسلسلة طويلة من الحوار عن علاج [الحظ] الحسن والسيئ. وينصح في هذا الكتاب الأخير بالتواضع وقت الرخاء، والشجاعة وقت المحنة، ويحذر الإنسان من أن يربط سعادته بانتصاره على ظهر الأرض أو بالحصول على طيباتها، ويعلم الإنسان كيف يصبر على آلام الأسنان، والبدانة، وفقد الزوجة، وتقلبات السمعة، وهذه كلها نصائح سديدة، ولكنها كلها موجودة في أقوال سنكا. كذلك ألف في هذا الوقت عينه أعظم كتبه النثرية وهو كتاب "الرجال النابهون De viris illustribus" وهو يضم سيرة واحد وثلاثين من عظماء الرومان من رميولوس إلى قيصر،(18/76)
وقد خص قيصر بثلاثمائة وخمسين صفحة من قطع الثُّمن ظلت حتى القرن التاسع عشر أكمل سيرة لهذا الحاكم.
وغادر بترارك البندقية إلى بافيا في عام 1368 يرجو أن يتوسط في الصلح بين جليستو الثاني فيكونتي والبابا إربان الخامس، وكان كل ما وجده أن البلاغة إذا لم تصحبها المدافع لا تجد من السياسيين إلا آذانا صماء. وفي عام 1370 قبل دعوة فرانتشسكو الأول صاحب كرارا لينزل ضيفا عليه مرة أخرى في بلاطه الملكي في بدوا. لكن أعصابه التي أوهنتها الشيخوخة عافت صخب المدينة وزحامها، وما لبث أن آوى إلى بيت ريفي متواضع في أركوا Arqua بين التلال الأوجانية Euganean في الجنوب الغربي السنين الباقية من حياته، جمع فيها رسائله وأعدها لتنشر بعد وفاته، وكتب لنفسه ترجمة صغيرة فاتنة سماها رسالة للمستقبل Epistola ad Posteros (1371) . ثم استسلم مرة أخرى لضعف الفلاسفة القديم، فأخذ يسدي النصائح إلى الحكام في كيفية تصريف شئون الدول، وكتب إلى أمير بدوا في رسالته التي أسماها خير الوسائل لأدارة شئون الدولة (1372) يقول "لا تكن سيد رعاياك بل أباهم، وأحبهم كما تحب أبناءك"، ونصحه بأن يجفف المناقع، ويضمن لرعاياه الطعام، ويحافظ عل الكنائس، ويعين المرضى والمحتاجين، ويبسط حمايته ورعايته على رجال الأدب-الذين تعتمد على أقلامهم كل أسباب السمعة الطيبة، ثم عمد إلى كتاب ديكمرون فترجم قصة جريزلدا إلى اللغة اللاتينية لكي تكون في متناول القراء في أوربا.
وكان بوكاتشيو وقتئذ في حالة نفسية تجعله يندم على كتابة ديكمرون أو القصائد الشهوانية التي قالها في أيام شبابه. وكان أحد الرهبان قد بعث وهو يحضر إلى بوكاتشيو رسالة يؤنبه فيها على حياته الآثمة وعلى(18/77)
قصصه المرحة، وينذره، إذا لم يعجل بالتوبة ويصلح حاله، بالموت العاجل والعذاب المقيم في نار جهنم. ولم يكن بوكاتشيو في وقت من الأوقات يصبر على التفكير الطويل، وكان يقبل أوهام زمانه وما يؤمن به أهله من معرفة الطالع والتنبؤ بالمستقبل عن طريق الأحلام، ويؤمن بوجود آلاف الشياطين، ويعتقد أن أينياس Aeneas قد زار الجحيم بحق) 56).
وأخذ يجمع بتحريض بترارك المخطوطات القديمة، وأنقذ من النسيان الكتب من 11 إلى 16 من الحوليات والكتب من 1 إلى 5 من التواريخ لتاستس وكانت وقتئذ في مكتبة مونتي كاتشيو، وأعاد نصوص ماريتال وأوسنيوس، وحاول أن يقدم هوميروس إلى العالم الغربي. وكان بعض العلماء في أثناء عصر الإيمان قد ظلوا على علم باللغة اليونانية، أما في أيام بوكاتشيو فقد كادت هذه اللغة تختفي اختفاء تاما من غربي أوربا ما عدا جنوبي إيطاليا الذي كان وقتئذ نصف يوناني. ثم شرع بترارك في عام 1342 يدرس اللغة اليونانية على راهب من كلابريا Calabria يدعى بارلام Barlaam. ولما خلت إحدى اسقفبات كلابريا من راعيها أوصى بترارك بأن يختار لها بارلام، وأخذ بوصيته، فلما سافر الراهب إلى مقر عمله انقطع بترارك عن دراسة اللغة اليونانية لأنه لم يجد لها مدرسا، أو كتابا في النحو، أو معجما، ذلك بأن هذه الكتب لم يكن لها وجود باللغة اللاتينية أو الإيطالية. ثم التقى بوكاتشيو في عام 1359 بتلميذ لبارلام في ميلان يدعى ليون بيلاتس Leon Pilatus، فدعاه للمجيء إلى فلورنس، وأقنع جامعتها- وكانت قد أسست قبل أحد عشر عاما من ذلك الوقت، بأن تنشئ فيها لبيلاتس كرسيا للغة اليونانية. وتبرع بترارك بجزء من مرتب الأستاذ، وبعث بنسخ من الإلياذة والأوديسية إلى بوكاتشيو، وكلف بيلاتس بترجمتها إلى اللغة اللاتينية. وتعطل العمل مرة بعد مرة وورط بترارك في مراسلات متعبة، وكان يشكو من أن رسائل بيلاتس أطول وأجف من ذقنه نفسها على طولها وجفافها (57)، ولم يتحرك بيلاتس لإنجاز العمل(18/78)
إلا بمساعي بوكاتشيو. وكانت هذه الترجمة النثرية الخالية من الدقة هي الترجمة اللاتينية الوحيدة التي تعرفها أوربا لملحمتي هوميروس في القرن الرابع عشر.
وكان بيلاتس في خلال هذا الوقت قد علم بوكاتشيو من اللغة اليونانية ما يكفيه لقراءة الآداب اليونانية القديمة قراءة عاجزة. وكان بوكاتشيو نفسه يعترف بأنه لا يستطيع أن يقرأ النص إلا قراءة ضعيفة، ولكنه وصف ما قرأه بأنه يبلغ من الجمال حدا لا يستطيع وصفه. وألهمته هذه الكتب كما ألهمه بترارك نفسه، فخصص ما بقى من جهوده الأدبية كلها تقريبا لأن يعرف أوربا اللاتينية بأدب اليونان، وأساطيرهم، وتاريخهم. فنشر سلسلة من التراجم القصيرة سماها في حظوظ مشهوري الرجال من آدم إلى جون ملك فرنسا، وروى في النساء النابهات قصص شهيرات النساء من حواء إلى جوانا الأولى Joanna I ملكة نابلي، وفي كتاب الجبال والغابات والعيون، الخ ثبتا مرتبا حسب الحروف الهجائية بأسماء الجبال، والغابات، والعيون، والأنهار، والبحيرات التي ورد ذكرها في الأدب اليوناني، ثم وضع كتيبا في الأساطير اليونانية سماه في تسلسل الأنساب. وقد بلغ من انهماكه في موضوعه أن كان يسمى إله المسيحيين جوف، والشيطان بلوتو، ويتحدث عن الزهرة (فينوس) والمريخ كأنهما شخصان حقيقيان كمريم والمسيح. وتبدو هذه الكتب في هذه الأيام مملة ثقيلة لا تطاق، كتبت بلغة لاتينية رديئة وليس فيها كثير من العلم، ولكنها كانت في زمانها كتبا دراسية لطلاب اللغة اليونانية، وكان لها شأن ايما شأن في تهيئة أسباب النهضة.
وهكذا خرج بوكاتشيو من نزق الشباب إلى وقار الشيوخ، واستخدمته البندقية بين الفينة والفينة في بعض شئونها الدبلوماسية، فأرسلته في مهمات(18/79)
سياسية إلى فورلي Forli، وأفنيون ورافنا، والبندقية. وضعف جسمه حين بلغ سن السنين واصيب بالقوباء الجافة و "أمراض لا أعرف كيف أحصيها" (58). وعاش في تشرتلدو Certaldo إحدى أرباض فلورنس عيشة ضنكا يشكو آلام الفاقة. ولعل رغبة بعض أصدقاء بوكاتشيو في أن يقدموا له بعض المعونة المالية هي التي حدت بهم إلى أن يقنعوا أمير فلورنس بأن ينشئ في عام 1373 كرسيا لدراسة دانتي، وأن يوظف لبوكاتشيو مائة فلورين (2500 دولار) ليلقى سلسلة من المحاضرات عن دانتي في الباديا Badia. لكن صحته وهنت قبل أن يتم المنهج المقرر، فعاد إلى تشرتلدو وقد وطن نفسه على ملاقاة الموت.
وكان بترارك قد كتب عن نفسه يقول: "أحب أن يجدني الموت مستعداً للقائه أكتب أو، إذا شاء المسيح، أصلي وابكي" (59). وقد أجاب الله دعاءه فوجده في يوم عيد ميلاده المتمم للسبعين وهو اليوم العشرون من شهر يوليه عام 1374 مكباً بوجهه على كتاب يبدو كأنه نائم ولكنه في الحقيقة ميت. وقد ترك في وصيته خمسين فلورينا يشتري بها رداء لبوكاتشيو يتقي به البرد في ليالي الشتاء الطويلة. ومات بوكاتشيو أيضا في اليوم الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1375 وهو في الحادية والستين من عمره. واقفرت إيطاليا بعد وفاته من كبار الأدباء حتى نبتت البذور التي زرعوها وأينعت وآتت أكلها.(18/80)
الفصل الثاني عشر
نظرة عامة
تتبعنا تنقل بترارك وبوكاتشيو في أنحاء إيطاليا، لكن إيطاليا من الوجهة السياسية لم يكن لها وجود، بل الذي كان موجوداً هو دول- المدن، وهي قطع ممزقة حرة في أن تهلك نفسها في الأحقاد والحروب. فقد دمرت بيزا منافستها التجارية أملفى، ودمرت ميلان بياتشنوسا، ودمرت جنوي وفلورنس بيزا، ودمرت البندقية جنوي، وانضمت بعد هذا العهد نصف أوربا إلى الجزء الأكبر من إيطاليا لتدمر البندقية. وأدى انهيار الحكومة المركزية على أثر غزوات البرابرة، و "الحروب القوطية " التي ثار عجاجها في القرن السادس، وانقسام شبه الجزيرة بين لمبارديا وبيزنطية، وتهدم الطرق التجارية الرومانية، والنزاع بين اللمبارد والبابوات، وبين البابوات والإمبراطورية، وخوف البابا أنه إذا قامت سلطة عليا في إيطاليا تمتد من الألب إلى صقلية، فإن قيامها يجعل البابا أسيراً ويخضع رئيس أوربا الروحي إلى رئيس الدولة السياسي، كل هذا فكك وحدة إيطاليا ومزقها كل ممزق. ولم يقتصر أشياع البابوات وأشياع الأباطرة على تقسيم إيطاليا شيعاً، بل قسموا فضلا عن ذلك كل مدينة تقريباُ إلى جلف وجبلين Guelf & Ghibelline، ولما أن شبت نار النزاع بين الطائفتين استخدم الشعارين القديمين منافسون جدد، وظلت نيران الأحقاد مشتعلة في جميع مناحي الحياة. فكان إذا وضع الجبلين الريش في ناحية من قبعاتهم وضعها الجلف في الناحية الأخرى، وإذا اتخذ الجبلين وردة بيضاء شارة لهم اتخذ الجلف شارة حمراء. وانتزع الجبلين في ميلان تمثالاً للمسيح(18/81)
من محراب في كنيسة واحرقوه لأن وجهه كان متجهاً إلى ما ظنوه ناحية الجلف، وفي برجامو الجبلينية اغتال مضيفون بعض ضيوفهم من الكلبريين لأنهم تبينوا من اسلوب أكلهم الثوم أنهم من الجلف (60). وبعث ضعف الأفراد وخور عزيمتهم، واضطراب الأمن بين الجماعات، وخداع الغرور، بعث هذا في النفوس دوام الخوف، والارتياب، والكراهية، واحتقار المخالفين، والأجانب، والأغراب.
ونشأت دولة- المدينة الإيطالية من هذه العقبات القائمة في سبيل الوحدة، فلم يكن الناس يفكرون إلا في مدينتهم، ولم يكن أحد يفكر في إيطاليا بوصفها وحدة وكُلاًّ إلا قليل من الفلاسفة أمثال مكيفلي Machiavelli أو شاعر مثل بترارك، وكان تشليني في القرن السادس عشر نفسه يشير إلى أهل فلورنس بقوله إنهم "رجال من أمتنا " وإلى فلورنس بأنها: "وطني ". وكان بترارك، الذي تحرر بفضل إقامته بالبلدان الأجنبية من الوطنية المحلية الضيقة يأسف لهذه الحروب التافهة، والانقسام المتفشي في بلده، وتوسل في أنشودة بليغة عنوانها: بلادي إيطاليا إلى أمراء إيطاليا أن يهبوها السلم والوحدة:
أي بلادي إيطاليا! - وإن كانت الألفاظ لا تجدى
في اندماج الجروح المتنسرة
التي لا يحصى عديدها، والتي تمزق صدري،
بيد أنه قد يخفف من آلامي
أن أتغنى بأحزان التيبر
وبالمظالم التي حلت بلآرنو حين أطوف وأنوح
بشواطئ البو المحزنة أترنم بقصائدي ...
ويلاه! أليست هذه هي الأرض التي وطئتها قدمي أول ما وطئت؟
أليس هذا هو المكان الذي دُللت فيه برفق(18/82)
وأنا مستريح في المهد، وربيت به في عز وحنان؟
ويلاهّ أليست هذه بلادي-التي أعزها
لما بيني وبينها من روابط البنوة
والتي يثوى في ثراها أبواي؟
فهلا بعثت هذه الفكرة الحنونة
بعض الأسى في قلوبكم القاسية
فنظرتم إلى أحزان الشعب،
الذي يرجو منكم، بعد الله، أن تنقذوه؟
فإذا ما عطفتم وأذعتم،
فإن الفضيلة سترفع رأسها عالية،
وتتأهب للحرب العوان
ضد قوى الغضب العمياء
ولن يطول الزمن الذي تحترب فيه القوتان غير المتكافئتين،
لا! لا! إن اللهب القديم
الذي رفع اسم إيطاليا إلى السماكين لم ينطفئ بعد.
وكان بترارك يحلم أن يستطيع ريندسو Rienzo توحيد إيطاليا، فلما أن خاب أمله فيه اتجه كما اتجه دانتي إلى عاهل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان هذا العاهل من الوجهة النظرية الوارث من غير رجال الدين لجميع السلطات الزمنية التي كانت للإمبراطورية الرومانية الوثنية في بلاد الغرب. ومن أجل هذا فإنه لم يمض إلا قليل من الوقت على انسحاب ريندسو من ميدان العمل (1347) حتى وجه بترارك رسالة مثيرة إلى شارل السادس ملك بوهيميا، الذي كان بوصفه "ملك الزمان " الوارث لعرش الإمبراطورية. وقال الشاعر في هذه الرسالة: "فليأت الملك إلى رومة ليتوج فيها إمبراطوراً، وليتخذ روما لابراج عاصمة(18/83)
لملكه، وليرجع إلى إيطاليا "حديقة الإمبراطورية " الوحدة، والنظام، والسلم (61). ولما اجتاز شارل جبال الألب في عام 1354 دعا بترارك لمقابلته في مانتوا Mantua واستمع في رقة وبشاشة إلى ما وجهه إليه من دعوات تردد أصداء نداء دانتي الحار إلى جده هنري السابع. ولكن شارل لم يكن لديه من القوة ما يكفي لهزيمة جميع طغاة لمبارديا، وجميع اهل فلورنس والبندقية، فأسرع إلى روما. ولم يكن البابا فيها وقتئذ، فعمل على أن يتوج نائبه، ثم قفل راجعاً إلى بوهيميا، وجد في بيع المناصب الدينية وهو عائد إلى بلاده. وسافر اليه بترارك في براج بعد عامين من ذلك الحادث، في سفارة من ميلا، ولكن هذا اللقاء لم تجن منه إيطاليا ثمرة تستحق الذكر.
ولعل نهضة ما لم تكن قد وجدت إذا ما تحقق أمل بترارك. ذلك أن تقطيع أوصال إيطاليا كان مما ساعد على قيام النهضة، فالدول الواسعة الرقعة توطد النظام وتدعم السلطان أكثر مما تنشر لواء الحرية وترعى الفنون. أضف إلى هذا أن لاتنافس التجاري بين المدن الإيطالية كان هو الذي بدأ واتم عمل الحروب الصليبية في تنمية اقتصاد إيطاليا وثروتها. ولسنا ننكر أن تعدد المراكز السياسية قد ضاعف من عدد المنازعات بين المدن، ولكن هذه المنازعات الصغرى في مجموعها لم تسبب من هلاك في الأنفس وخراب في البلاد قدر ما سببته حروب مائة السنين في فرنسا. ولسنا ننكر كذلك أن استقلال المدن قد أضعف من قدرة إيطاليا على صد غارات الأجانب عليها، ولكنه ولد منافسة نبيلة بين المدن والأمراء لرعاية الثقافة، والحرص على التفوق في فنون العمارة، والنحت، والتصوير، والتعليم، والمنح التعليمية، والشعر. لقد كان في إيطاليا النهضة، كما كان في ألمانيا القوطية، مراكز كثيرة مثل باريس.
ولسنا في حاجة إلى المبالغة لكي نقدر ما كان لبترارك وبوكاتشيو من(18/84)
فضل في التمهيد إلى النهضة: لقد كان كلاهما لا يزال أسيراً لأفكار العصور الوسطى. وكان القَصّاص العظيم في عنفوان شبابه يسخر من فساد أخلاق رجال الدين واتجارهم بمخلفات القديسين، ولكن ىلاف الآلاف من رجال العصور الوسطى ونسائها كانوا يفعلون فعله، وقد اصبح أكثر استمساكاً بالدين واصطباغاً بصبغة العصور الوسطى في الأيام التي أخذ يدرس فيها اللغة اليونانية. وكان بترارك يصف نفسه بحق بأنه واقف بين عهدين (63). وكأنه بهذا كان يتنبأ بما سوف يكون. فقد كان يقبل قواعد الكنيسة التحكمية في الوقت الذي كان يشن فيه حرباً شعواء على أخلاق بابوات أفنيون، وكان يحب الآداب القديمة في أواخر عصر الأيمان، كما كان جيروم Jerome يحبها في بدايته، وكان في قرارة نفسه غير راض عن هذا الحب. وكتب في العصور الوسطى مقالات ممتازة في احتقار العالم الدنيوي وفي السلم المقدسة التي تنبعث من الحياة الدينية. لكنه رغم هذا كان أكثر وفاء للآداب القديمة منه للورا Laura. وكان يبحث عن المخطوطات القديمة ويعتز بها، ويلهم غيره بأن يحذو في ذلك حذوه، وقد بز جميع المؤلفين في العصور الوسطى تقريباً عدا أوغسطين في العمل على عدم انقطاع الصلة بالأدب اللاتيني، وصاغ عباراته وأسلوبه على مثال فرجيل وشيشرون، وكان يفكر في ذيوع شهرته أكثر مما يفكر في خلود نفسه. وقد أثمرت قصائده مائة عام من الأغاني المصطنعة المتكلفة في إيطاليا، ولكنها اعانت على تشكيل أغاني شكسبير. وانتقلت روحه الحماسية من بعده إلى بيكو Pico كما انتقل اسلوبه المصقول إلى بولتيان، وكانت رسائله ومقالاته بمثابة قنطرة من الدماثة والرشاقة بين سنكا ومنتاني، واكتمل توفيقه بين العهود القديمة والمسيحية في البابا تقولاس الخامس والبابا ليو العاشر. وملاك القول أنه كان بحق أبا النهضة في تلك الأيام.(18/85)
لكننا نقول مرة أخرى: إن من الخطأ أن نبالغ في حظ الأقدمين من هذا المجد الذي بلغته إيطاليا، ذلك أنه كان تتمة لا انقلاباً، وكان لنضوج العصور الوسطى في هذه التتمة شأن أعظم من الكشف الثاني للمخطوطات القديمة والفن القديم. وكان كثير من علماء العصور الوسطى يعرفون الآداب الوثنية ويحبونها، وكان الرهبان هم الذين حافظوا عليها، ورجال الدين هم الذين ترجموها ونشروها، وكانت الجامعات الكبرى هي التي أخذت منذ عام 1100 تنقل إلى شباب أوربا قدراً من التراث العقلي والأدبي للجنس البشري. وكانت نشأة الفلسفة الانتقادية عند إرجينا Erigena وأبلار، وإدخال دراسة أرسطو وابن رشد في مناهج الجامعات ودعوة أكوناس الجريئة إلى إثبات كل العقائد المسيحية تقريباً على اساس العقل، وما تلاها بعد قليل من اعتراف دنزاسكوتس Duns Scotus بأن الكثرة الغالبة من هذه العقائد خارجة عن نطاق العقل، كان هذا كله سبباً في نشأة صرح الفلسفة المدرسية العقلي ثم تحطيمه بعدئذ، وفي ترك المسيحيين المتعلمين أحراراً يحاولون التأليف من جديد بين الفلسفة الوثنية ولاهوت العصور الوسطى من جهة، وتجارب الحياة من جهة أخرى. وكان تحرر المدن من عوائق الإقطاع، واتساع نطاق التجارة، وانتشار الاقتصاد القائم على النقود، - كانت كل هذه قد سبقت مولد بترارك،. وعلم روجر ملك صقلية، وفردريك الثاني، دع عنك خلفاء المسلمين وسلاطينهم، علم هؤلاء كلهم حكام البلاد أن يضيفوا سنا المجد إلى السلطان بمناصرة الفن، والشعر، والعلوم، والفلسفة. وقد احتفظ رجال العصور الوسطى ونساؤها، رغم قلة منهم كانت منهمكة في شئون الدار الآخرة، دون حياء بما طبع عليه الإنسان من سرور بملاذ الحياة البسيطة، وكان للرجال الذين صوروا، وشادوا، ونحتوا تماثيل الكنائس الكبرى(18/86)
إدراكهم الخاص للجمال، فسموا بالتفكير وبالشكل سمواً لم نر له نظيراً قط.
لهذا نقول دون أن نخشى الزلل إن جميع قواعد النهضة قد وضعت قبل أن يموت بترارك. وكان النماء العجيب في تجارة إيطاليا وصناعتها، واستئثارهما بجانب كبير من نشاط اهلها، قد كدسا الثروة التي أمدت الحركة بالمال، كما كان الانتقال من سلم الريف وركوده إلى حيوية المدن ونشاطها سبباً في خلق المزاج الذي غذى هذه الحركة. أما الأساس السياسي فقد قام على حرية المدن وتنافسها، والقضاء على الأرستقراطية المتعطلة، وقيام الأمراء المتعلمين، والطبقة الوسطى القوية. وأما الأساس الأدبي فقد مهد له تحسن اللغات القومية، والتحمس إلى الكشف عن الآداب اليونانية والرومانية القديمة ودراستها. وكان الأساس الأخلاقي قد وضع هو الآخر: فقد أخذ ازدياد الثروة يحطم القيود الأخلاقية القديمة، وشجع الاتصال بالبلاد الإسلامية عن طريق التجارة والحروب الصليبية نزعة التسامح في الانحراف بالقواعد الدينية والاخلاقية عن المعتقدات والأساليب التقليدية. وكان لإعادة الكشف عن العالم الوثني ذي الحرية النسبية في التفكير السليم نصيب في تحطيم عقائد العصور الوسطى ومبادئها الأخلاقية، ولهذا كله تقهقر الاهتمام بالحياة الآخرة أمام المشاغل الزمنية، البشرية، الدنيوية. ونما الإحساس بالجمال نماء مطرداً، فقد خلفت ترانيم العصور الوسطى، والقصص الغرامية المتتالية، وأناشيد شعراء الفروسية الغزلين، وأغاني دانتي ومن سبقه من الشعراء الإيطاليين، والتصوير المنسجم الذي يطالع الإنسان في المسلاة الإلهية، كل هذا خلف وراءه تراثا من الفن الأدبي، كما أن النماذج الأدبية اليونانية واللاتينية القديمة قد نقلت إلى بترارك رقة في الذوق والتفكير، وصقلا وتأدبا في الحديث وفي الأسلوب،(18/87)
أورثهما بترارك من بعده أسرة تجمع أفرادها من دول مختلفة كلهم عباقرة الحضر جاءوا في سلسلة متصلة الحلقات من إرزمس إلى أناتول فرانس. وكانت ثورة الفن قد بدأت حين هجر جيتو الصرامة الصوفية التي انطبعت بها الفسيفساء البيزنطية لكي يدرس الرجال والنساء في مجرى حياتهم الحقة وظرفهم الفطري.
لقد كانت كل الطرق في إيطاليا تؤدي إلى النهضة.(18/88)
الباب الثاني
البابوات في أفنيون
1309 - 1377
الفصل الأول
الأسر البابلي
نقل البابا كلمنت الخامس في عام 1309 مقر البابوبة من روما إلى أفنيون، وكان كلمنت هذا رجلاً فرنسياً، وكان قبل أن يجلس على كرسي البابوية أسقفا لبوردو، وكان الفضل في اختياره لمنصبه عائدا إلى فليب الرابع ملك فرنسا الذي أثار دهشة العالم المسيحي بهزيمة البابا بنيفاس الثامن، وبعدم اكتفائه بهذه الهزيمة بل اضاف إليها القبض عليه، وإذلاله، ومنع الطعام عنه حتى كاد يميته جوعا. ولم يكن كلمنت ليأمن على حياته في روما التي كانت تحتفظ لنفسها دون غيرها بالحق في إساءة معاملة البابا، والتي اغتاظت من وقاحة الملك البادية في عدم احترامه إياه، يضاف إلى هذا أن الكرادلة الفرنسيين كانوا يؤلفون وقتئذ أغلبية كبيرة في المجمع المقدس ويأبون أن يضعوا أنفسهم تحت سلطان إيطاليا. ولهذا كله أقام كلمنت بعض الوقت في ليون وبواتييه، ثم أتخذ مقامه في أفنيون القائمة على الضفة الأخرى لنهر الرون المقابلة لأرض فرنسا كما كانت في القرن الرابع عشر، وكان يرجو بذلك أن يكون أقل خضوعا لفليب في إقليم يمتلكه ملك نابلي بوصفه كونت بروفانس.
وكانت الجهود الجبارة التي بذلتها البابوية من أيام جريجوري السابع(18/89)
(1073 - 1085) إلى أيام بنيفاس الثامن (1294 - 1303) لإنشاء دولة عالمية أوربية بإخضاع الملوك للبابوات- كانت هذه الجهود قد أخفقت، وانتصرت القومية على النزعة الاتحادية النظرية، وحتى في إيطاليا نفسها رفضت جمهوريات فلورنس والبندقية، ودول المدن في لمبارديا ومملكة نابلي سيطرة الكنيسة عليها، وأطلت برأسها مرتين جمهورية في روما، وأخذ مغامرون من العسكريين أو السادة الإقطاعيين-من أسر بجليون Baglioni، وبينتيفجل Bentivogli، وملاتيستا Malatestas، ومنفريد Manfredi، واسفورادسا Sforaza، واخذ هؤلاء وأولئك يستبدلون في الولايات البابوية الأخرى (1) عجرفتهم العسكرية بنواب الكنيسة. وكانت البابوية أثناء مقامها في روما تستخدم مكانتها العظيمة التي استحوذت عليها قرونا طوالا، وكانت الأمم قد اعتادت أن تعظمها وتخضع لسلطانها، وتبعث لها بالأموال، أما بابوية يختار لها باستمرار أحبار فرنسيون (1305 - 1378)، يكادون سجناء عند ملوك فرنسا، ويقرضون هؤلاء الملوك أموالا طائلة ليشنوا بها حروبهم، أما بابوية من هذا الطراز فقد بدت لألمانيا، وبوهيميا، وإيطاليا، وإنجلترا أنها قوة
_________
(1) يكن جمع الولايات البابوات في أقسام أربعة: 1 - لاتيوم وتشمل مدائن تيفولي Tivoli، وتشفيتا كستلانا Civita Castellana، وسبياكو Sabiaco، وفيتيربو Viterbo، وأنانيسى Anagni، , استيا، وروما. 2 - أمبريا وتضم نارني Narni، وأسبوليتو Spoleto، وأسيسي Assisi، وبتروجيا Perugia، وجيبيو Gobbio. 3 - ولايات الحدود وتضم أسكواى Ascoli، ولوريتو Loreto، وأنكونا، وسنجليا Senigallia، وأربينو Urbino وكمرينو Camerino، وفبريانو Fabriano، وبيزارو، Pesaro. 4 - الرومانيا Romagna وتشمل ريمييني، وكازينا Casena، وفورلي Forli وفائتزا Faenaz، ورافنا، وإمولا Imola، ويولوينا، وفرارا.(18/90)
معادية لها، وأنها سلاح نفساني في يد الملكية الفرنسية. وأخذت تلك الأمم تغفل ما تصدره هذه البابوية من اوامر الحرمان ومن اللعنات وتزداد جرأة على هذا كلما مضت الأيام، ولا تهبها إلا شيئاً من التبجيل الآخذ في النقصان على كره منها متزايد باستمرار.
وأخذ كلمنت الخامس يعمل في صبر وأناة للتغلب على تلك الصعاب، ولم يخضع لفليب الرابع إلا أقل ما يستطيع من الخضوع، وكان فليب هذا يسلط فوق رأس كلمنت سيف التهديد، بأن يكشف للعالم عن سلوك بنيفاس الثامن ومعتقداته الدينية بع أن توفى هذا البابا. واشتدت حاجة البابا إلى المال فأخذ يبيع الرتب الكهنوتية إلى من يعرض فيها أغلى الأثمان، ولكنه كان يوافق موافقة ضمنية على التقارير القاسية التي يقدمها عمدة أنجير Angers , اسقف مندى Mende لمجلس فينا (1311) عن أخلاق رجال الدين وإصلاح الكنيسة. وكان هو نفسه يحيا حياة مقتصدة طاهرة، ويلتزم أسباب التقوى في غير تظاهر ولا مباهاة، وحمى أرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova الطبيب العظيم من الاضطهاد لخروجه على أصول الدين القويم، وأعاد تنظيم الدراسات الدينية في جامعة منبلييه على أساس النصوص اليونانية والعربية، وحاول أن ينشئ كراسي للغات العبرية، والسريانية، والعربية في الجامعات-وإن لم يفلح في هذه المحاولة. وكان مما ضاعف متاعبه أنه اصيب بمرض شديد الألم-يظن انه ناسور- أضطره إلى تجنب الاختلاط بالناس، وقضى عليه في عام 1314. ولو أنه عاش في بيئة خير من بيئته لكان ممن زادت بهم الكنيسة. وعقبت موته فترة خلا فيها كرسي البابوية من مشاغله ضربت فيها الفوضى أطنانها، وكشفت عن طبيعة ذلك العصر ومزاجه. وكتب دانتي إلى الكرادلة الطليان يحرضهم إلى أن يصروا على اختيار بابا إيطالي وعلى إعادة مقره إلى روما، ولكن عدد الكرادلة الإيطاليين لم يكن يتجاوز ستة،(18/91)
فلما انعقد المجلس المقدس في حجرة مقفلة (1) في كربنتراس Carpentras القريبة من أفنيون احتاط به الغوغاء من أهل غسقونية Gascony وأخذوا يصيحون: "الموت للكرادلة الإيطاليين! " وهوجمت بيوت أولئك الكرادلة، وأشعل المتجمهرون النار في البناء الذي انعقد فيه المجمع المقدس، وفتح الكرادلة لأنفسهم ممراً في الجدار الخلفي، وفروا من الغوغاء والنيران. ولم تبذل أي محاولة أخرى لانتخاب البابا مدة سنتين، ثم رفع الكرادلة آخر الأمر في اجتماع لهم عقد في ليون بحماية الجنود الفرنسيين إلى كرسي البابوية رجلاً كان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، لا يكاد يخطئ من يظن أنه لن يطول به الأجل، ولكنه قدر له أن يحكم الكنيسة ثمانية عشر عاماً بحماسة، وفظاظة، ونهم لا يشبع، وإرادة حديدية. وكان يوحنا الثاني والعشرون قد ولد في كوهور Cohors من اعمال جنوبي فرنسا، وكان أبوه إسكافا، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يختار فيها أبن إسكاف إلى اعلى منصب في العالم المسيحي بفضل الديمقراطية العجيبة القائمة في كنيسة مطلقة في تصرفاتها. وكان إربان الثاني (1261 - 1264) قد مهد الطريق لهذا الاختيار. فقد كان معلماً لأبناء ملك نابلي الفرنسي وكان يوحنا قد درس القانون المدني والكنسي بحماسة قربته من قلب الملك، واختاره بنفياس الثامن بناء على توصية الملك اسقفا لفريجو Fréjus ورفعه كلمنت السابع إلى كرسي أفنيون. وأسكت ذهب ربرت ملك نابلي وطنية الكرادلة الطليان، وأصبح ابن الإسكاف من اعظم البابوات قوة ,وأمضاهم عزيمة.
وأظهر يوحنا من الكفايات ما يندر اجتماعه في إنسان: أظهر جداً في الدراسة، ومهارة في الإدارة-، وأقامت بابوية أفنيون بزعامته نظاماً
_________
(1) جرت العادة منذ عام 1274 أن تغلق على الكرادلة الحجرة التي يعقدون فيها المجمع المقدس لاختيار البابا واشتق من هذه العادة أسم المجمع نفسه ( Con-clave ومعناه بمفتاح).(18/92)
بيروقراطياً قديراً، وأن كان فاسداً مرتشياً، وجمعت طائفة من الموظفين الملمين بالشئون المالية أدهشت القائمين على وزارات المالية في أوربا، وحسدوها على كفايتها في جمع الإيرادات. واشتبك يوحنا في نحو اثني عشر نزاعاً كبيراً تطلبت منه الأموال، فحذا حذو سلفه في بيع المناصب الكهنوتية، ولكنه كان يبيعها دون حياء. واستطاع ابن بلدة كوهور المصرفية بعدة أساليب مختلفة أن يملأ خزانة البابوية بالمال حتى كان فيها حين وفاته 18. 000. 000 فلورين ذهبا (450. 000. 000 دولار) وما قيمته سبعة ملايين من صفائح الذهب والجواهر (2). وكانت حجته في جمع هذه الأموال أن البابوية قد فقدت كثيراً من أموالها المستمدة من إيطاليا، وأن عليها أن تنشئ وظائفها، وموظفيها، وخدامها، من جديد. ويبدو أن يوحنا كان يشعر أن خير طريقة يخدم بها الله هي أن يضم إله المال إلى جانبه، وكانت عاداته الشخصية تنزع إلى التقشف والزهد في الطعام والشراب.
وكان مع هذا كله يناصر العلوم، وأسهم في إنشاء مدارس للطب في بروجيا وكوهور، وأعان الجامعات، وأنشأ كلية لدراسة اللغة اللاتينية في أرمينيا، وشجع دراسة اللغات الشرقية، وحارب الكيمياء القديمة الزائفة والسحر، وكان يقضي الأيام والليالي في الدراسات العلمية، وختم حياته رجل دين متهماً بالخروج عليه. ولعل الذي دعا يوحنا أن ينشر على الناس أن إنساناً ما- حتى أم الله نفسها- لا يستطيع أن يرقى إلى مرتبة "الرؤيا السعيدة" إلا في يوم الحساب، لعل الذي دعاه إلى هذا هو رغبته في أن يقاوم انتشار نوع من التصوف يَدًّعى الآخذون به الاتصال المباشر بالله. وقامت عليه ثورة بين من يدعون العلم بشئون الدار الآخرة، ونددت جامعة باريس بآراء البابا، واعلن مجلس مقدس اجتمع في فنسن Vincenne أنها مخالفة للدين، وأمره فليب السادس ملك فرنسا أن يعود في آرائه الدينية إلى الصراط المستقيم (4). ولكن المعمر الداهية الذي كان وقتئذ قد(18/93)
بلغ سن التسعين أفسد عليهم جميعاً أمرهم بأن مات في عام 1334.
وكان الذي خلف يوحنا رجلاً لطيف المزاج. وكان بندكت الثاني عشر ابن خباز، حاول أن يكون مسيحياً وبابا معاً, وقاوم إغراء توزيع المناصب الكنسية على أقاربه، ونال شرف عداء الناس لأه بأن اختار لهذا المناصب الأكفاء الجديرين بها، لا من يشترونها بالمال، وقطع دابر الرشوة والفساد في جميع فروع الإدارة الكنسية، وكسب عداء الرهبان المتسولين بدعوتهم إلى اصلاح طوائفهم، ولم تعرف عنه القسوة أو إراقة الدماء في حرب، ولهذا ابتهجت جميع قوى الفساد لموته المبكر في عام 1342.
وانحدر كلمنت السادس من بيت شريف في ليموزن Limousin، وقد ألف الترف، والمرح، والفنون، ولم يكن يستطيع أن يفهم لم يكون البابا جادا صارما إذا كانت خزائن البابوية عامرة بالمال، وكاد كل من جاءه يطلب وظيفة أن ينالها، لأنه كان يقول أن أحدا يجب ألا يخرج من عنده غير راض، وأعلن في وقت ما أن كل رجل من رجال الدين يفد إليه في خلال شهرين سينال نصيباً من رفده، ويقدر شاهد عيان عدد من وفدوا عليه بمائة ألف (5). وأجزل العطاء للفنانين والشعراء، واحتفظ باسطبل من الجياد الكريمة يضارع أكبر اسطبل آخر في العالم المسيحي، وأجاز للنساء أن يدخلن البلاط البابوي، ,استمتع بمفاتنهن واختلط بهن اختلاط العشاق الفرنسيين. وبلغ من اتصال كونة تورن Turenne به أن كانت تبيع المناصب الكنسية جهارا لا تخشى في ذلك لومة لائم (6). وترامت طيبة كلمنت إلى أهل روما فبعثوا يرجونه أن يقيم في بلدهم، ولم ير الخير ولكنه ترضاهم بأن أعلن أن العيد الذي قرر بنيفاس الثامن في عام 1300 أن يقام في كل مائة عام يجب أن يقام كل خمسين عاماً. وابتهجت روما حسن سمعت هذا الخبر،(18/94)
وخلعت ريندسو، واعادت خضوعها السياسي للبابوية.
وأصبحت أفنيون في عهد كلمنت السادس الحاضرة الدينية للعالم اللاتيني، وكذلك حاضرة سياسته، وثقافته، وملذاته، وفساده. واتخذت الأداة الإدارية للكنيسة وقتئذ صورتها الواضحة المحددة، فكان لها مجلس رسولي ( Camera apostolica) يشرف على شئونها المالية، يرأسه حاجب بابوي ( camerarius) لا يعلو عليه في المنزلة إلا البابا نفسه، ثم ديوان التوقيعات ( Cancelleria) وله سبعة دوائر يديرها كردنال نائب عن البابا ويشرف على مراسلات الكرسي البابوي الكثيرة المعقدة، ثم مجلس القضاء البابوي المكون من رجال الدين وغير رجال الدين المتضلعين في قانون الكنيسة، ويشمل أيضاً مجمع الكرادلة- المكون من البابا وكرادلته والذي كان بمثابة محكمة استئناف، ثم مجلس التوبة الرسولي- وهو هيئة من رجال الدين تنظر في شئون الزواج، والحرمان من حظيرة الدين، واللعنة، ويستمع إلى اعترافات من يطلبون الغفران البابوي. واراد بندكت الثاني عشر أن يوجد مسكنا للبابا وأعوانه، ولتلك الوزارات، والهيئات، والموظفين، والخدم، فبدأ بتشييد قصر البابوات، وطائفة من الأبنية القوطية الطراز- تشمل حجرات للنوم، وأبهاء للمجالس، وأماكن للصلاة، ومكاتب- وتضم فنائين كبيرين، وتحيط بها أسوار قوية منيعة، يوحي ارتفاعها، وسمكها، وضخامة أبراجها، بأن البابوات إذا حوصروا لا يعتمدون في الدفاع عن أنفسهم على معجزة من السماء، وأتم إربان الخامس هذا البناء الضخم. ودعا بندكت الثاني عشر جيتو إلى القدوم لتزيين القصر والكنيسة الملاصقة له. واعتزم جيتو أن يجيب طلبه، ولكن المنية عاجلته، فاستدعى سيمون مارتيني من سينا، وأنشأ فيهما المظلمات التي محيت الآن والتي بلغ بها فن التصوير في أفنيون ذروة مجده. واجتمع حول هذا القصر، في قصور أخرى أقل منه شأنا، وبيوت كبيرة وصغيرة، وأكواخ حقيرة، عدد(18/95)
كبير من رجال الدين، والمبعوثين، والمحامين، والتجار، والفنانين، والشعراء، والخدم، والجنود والمتسولين، والعاهرات على أختلاف طبقاتهن من المحظيات المثقفات إلى عاهرات الحانات. وسكن هنا لأول مرة أساقفة الطائفة غير المؤمنة الذين عينوا في المراكز التي آلت إلى غير المسيحيين.
وفي وسعنا نحن الذين اعتدنا الضخامة في كل شيء أن تتصور مقدار المال الذي لا بد منه لإقامة هذا الصرح الضخم وكل ما يحيط به: لقد كان عدد البابوات لا تكاد ترسل إليهم شيئاً، واقتصرت ألمانيا التي شجر النزاع بينها وبين يوحنا الثاني والعشرين على إرسال نصف الخراج الذي اعتادت أن ترسله، وأما فرنسا التي كادت البابوية تصبح أسيرة لها تحت رحمتها فقد خصت جزءاً كبيراُ من إيراد الكنيسة الفرنسية بالأغراض الدنيوية، واستدانت المبالغ الطائلة من البابوية لتمول بها حرب مائة السنين، وفرضت إنجلترا اشد القيود على تسرب الأموال إلى كنيسة كانت في واقع الأمر حليفة لفرنسا، واضطر بابوات أفنيون كي يواجهوا هذا الموقف 'لى أن يستغلوا كل مورد من موارد الثروة مهما يكن ضئيلا، ففرضت على كل أسقف أو رئيس دير، سواء كان معينا من قبل البابا أو أي أمير زمني، أن ينزل لمحكمة الكرسي البابوي عن كل إيراده لمدة سنة نظير تعيينه في منصبه، وأن يقدم هبات أخرى باهظة 'لى الوسطاء الذين أيدوا ترشيحه لمنصبه. فإذا ما أصبح رئيس أساقفة كان عليه أن يؤدي مبلغا كبيرا من المال ثمناً لصلبان الأسقفية- وهي منطقة من الصوف الأبيض يلبسها فوق الملحقة لتكون شعارا لمنصبه، فإذا ما اختير بابا جديد أرسل أصحاب كل مرتبة، وكل منصب من مراتب الكنيسة ومناصبها دخلهم كله مدة عام، ثم تابعوا بعد ذلك إرسال عشر إيرادهم كل عام، وكان ينتظر منهم فوق ذلك أن يرسلوا له تبرعات أخرى من آن إلى آن. وإذا ما مات كردنال،(18/96)
أو كبير أساقفة، أو أسقف، أو رئيس دير عادت أملاكه الشخصية ,امواله المنقولة إلى البابوية، وفي الفترة التي يظل فيها المنصب شاغراً بين موت شاغله القديم وتعيين صاحبه الجديد كان البابوات يستولون على المراتب المقرر لهذا المنصب، ويؤدون نفقاته، وكان البابوات يتهمون بأنهم يتعمدون إطالة هذه الفترة. وكان كل من يعين في منصب من مناصب الكنيسة يعد مسئولاً عن الرسوم التي لم يؤدها سلفه. ولما كان الأساقفة ورؤساء الأديرة في كثير من الأحيان سادة إقطاعيين يمتلكون ضياعا أقطعها إياهم الملوك، فقد كان عليهم أن يؤدوا لهم الخراج، ويمدوهم بالجنود، ولهذا كان الكثيرين منهم يواجهون صعابا جمة في الوفاء بالتزاماتهم الدنيوية والدنيوية، وإذا كانت مطالب البابوية أشد صرامة من مطالب الدولة، فإننا نجد رجال الدين في بعض الأحيان يؤيدون الملوك ضد البابوات، وكان بابوات أفنيون يتجاهلون تجاهلاً تاما ما كان لمجالس الكنائس والأديرة من حقوق قديمة في اختيار الأساقفة ورؤساء الأديرة، وكانت هذه النصوص القديمة سببا آخر من اسباب غضب رجال الدين، وكانت القضايا التي تنظر فيها جهات القضاء البابوية تتطلب في العادة الاستعانة بالمحامين، وهي استعانة كبيرة النفقة، وكان على هؤلاء المحامين أن يؤدوا أجراً باهظاً في كل عام نظير حصولهم على ترخيص بالمرافعة أمام المحاكم البابوية. وإذا ما اصدر المجلس البابوي حكما أيا كان نوعه أو أدى خدمة ما لأي إنسان، فقد ينتظر ممن يفيد من هذا الحكم أو تلك الخدمة أن يقدم هدية للبابوية اعترافا منه بما عاد عليه من نفع، وحتى الإذن لشخص ما بأن يرسم قسا كان يبتاع بالمال. وكانت الحكومات الزمنية في أوربا تنظر بعين الخوف والسخط إلى أداة البابوات المالية (7).
وثار الاحتجاج من كل ناحية، ولم يكن أقلها عنفا ما جاء من رجال الكنيسة أنفسهم. من ذلك ما كتبه الحبر الأسباني ألفارو بلايو Alvaro Pelayo(18/97)
هو من انصار البابوية الموالين لها في رسالة رثاء الكنيسة يظهر فيها اسفه ويقول "كلما دخلت حجرات رجال الدين في البلاط البابوي، رأيت السماسرة والقساوسة منهمكين في وزن المال وعده وهو مكدس أكداسا أمامهم ... إن الذئاب هي المسيطرة على الكنيسة، وهي تطعم من دماء القطعان المسيحية (8 (. وهال الكردينال نابليوني أرسيني Nopoleone Orsini أن يجد جميع أسقفيات إيطاليا موضعا للمبادلة أو دسائس الأسر في أيام كلمنت الخامس. وكتب إدورد الثالث ملك إنجلترا، وكان هو نفسه بارعا في فرض الضرائب- كتب يذكر كلمنت السادس أن "خليفة الرسل إنما جاء ليقود خراف الرب إلى المرعى لا ليجزها (9)، وسن البرلمان الإنجليزي عدة قوانين يحد بها من حق البابوات في فرض الضرائب في إنجلترا. وكان الجباة البابويون في ألمانيا يطاردون، ويقبض عليهم، ويسجنون، وتبتر أطرافهم ويشنقون في بعض الأحيان. وأقسم قساوسة كولوني، وبُن، وأكسانتن Xanten، ومينز في عام 1372 ألا يؤدوا العشور التي طلبها إليهم جريجوري الحادي عشر. وفي فرنسا حل الخراب بكثير من أملاك الكنيسة بسبب ما أصابها من كوارث الحرب، والموت الأسود، ونهب اللصوص وقطاع الطرق، وما كان يفرضه عليها جباة البابا، وهجر كثير من الأساقفة أبرشياتهم. ورد البابوات على هذه الشكاوي بقولهم ان الإدارة الكنسية تتطلب هذه الأموال كلها، وإن العمال الصالحين الذين لا يرتشون يندر وجودهم، وإنهم أنفسهم يخوضون بحارا من المتاعب. وأكبر الظن أن كلمنت السادس حين أقرض فليب السادس ملك فرنسا 592. 000 فلورين ذهبي، (14. 800. 000 دولار) والملك جون الثاني 3. 517. 000 فلورين أخرى (أي 87. 925. 000 دولار) إنما فعل ذلك مرغما (10). واحتاج البابوات نفقات طائلة لاسترداد الولايات البابوية التي فقدوها(18/98)
في إيطاليا، ولذلك كانت الخزانة البابوية تعاني عجزا دائما في إيرادها على الرغم من جميع ما فرضته من الضرائب، وأنقذ البابا يوحنا الثاني عشر تلك الخزانة بأن أدى إليها 440. 000 فلورين من أمواله الخاصة، وباع إنوسنت السادس صحافة القضية، وجواهره، وتحفه الفنية، وأضطر إربان الخامس أن يقترض 30. 000 فلورين من كرادلته، وكان جريجوري الحادي عشر عند موته مدينا بمائة وعشرين ألف فرنك.
ويقول الناقدون إن عجز مالية البابوات لا يرجع إلى النفقات المشروعة بل يرجع إلى ضروب البذخ التي كانت سائدة في بلاط البابوات وصنائعهم. فقد كان كلمنت السادس مثلا محوطاً بأقاربه من الذكور والإناث يرتدون أثمن الثياب والفراء، وبطائفة من الفرسان، والأتباع والجنود المسلحين، والقساوسة، والحجاب، ورجال التشريعات، والموسيقيين، والشعراء، والفنانين، والاطباء، والعلماء، والخياطين، والفلاسفة، والطباخين من كانوا موضع حسد الملوك. وكان هؤلاء جميعاً البالغ عددهم قرابة أربعمائة شخص يطعمون، ويكتسون، ويسكنون، ويتقاضون مرتبات من بابا مولع بالإسراف لم يعرف في يوم من الأيام ماذا يتطلبه جمع. وكان كلمنت يرى نفسه حاكما من واجه أن يقذف الرعب في قلوب رعاياه، وأن يؤثر في نفوس السفراء بضروب "الاستهلاك البادي للعيان" كما يفعل الملوك. وكان لا بد للكرادلة أيضاً، وهم مجلس الدولة الملكي وأمراء الكنيسة في الوقت عينه، أن يكون لهم ما يليق بمكانتهم وسلطانهم من مظاهر، فكانت حاشيتهم، وبطانتهم، ومآدبهم حديث أهل المدينة. ولعل الكردنال برنارد الجرفيزي Bernard of Garves قد جاوز في التنعم والأبهة الحد المعقول حين أستأجر واحدا وخمسين مسكنا تقيم فيها حاشيته، وفعل فعله الكردنال بطرس البنها كي Peter of Banhac الذي كان في خمسة من اسطبلاته العشرة تسعة وثلاثون حصاناً من أحسن(18/99)
طراز منعمة مستريحة. ونهج هذا النهج عينه الأساقفة أنفسهم، وكانت لهم هم أيضاً قصور فخمة مليئة بالمهرجين، والبزاة، والكلاب، على الرغم من احتجاج المجالس المقدسة في الأقاليم.
وتخلقت أفنيون وقتئذ بأخلاق حاشية الملوك وآدابها. فانتشرت فيها ضروب الخسة والسفالة، يشهد بذلك ما كتبه جويوم دوران Guillaume Durand أسقف مندى Mende إلى مجلس فينا يقول: قد يكون إصلاح الكنيسة كلها مستطاعا إذا بدأت كنيسة روما تطهر نفسها مما فيها من قدوة سيئة ... تصم رجالها وصمة تتسرب عدواها إلى الناس كلهم ... ذلك أن كنيسة الله المقدسة، وخاصة كنيسة روما أقدسها جميعا، قد ساءت سمعتها ... في كل مكان، وأخذ الناس جميعا يصيحون ويذيعون في الخارج أن كل من تضمهم إلى صدرها من أعلاهم إلى أقلهم شأنا قد امتلأت قلوبهم طمعا ... ومن الأمور الواضحة التي تلوكها الألسنة أن جميع المسيحيين يتخذون رجال الدين أسوأ قدوة لهم في الجشع، لأن هؤلاء الرجال يأكلون من موائد اشد ترفا وأعظم فخامة، وأكثر صحافا من موائد الأمراء والملوك (11).
واستنفد بترارك، وهو من دانت له أساليب البلاغة، كل ما في معاجم اللغة من الفاظ السباب التي وصم بها أفنيون فقال عنها إنها:
بابل العاصية، جحيم الأرض، بالوعة الرذيلة، ومستودع أقذار العالم. لا تجد فيها إيماناً، ولا إحساناً، ولا ديناً، ولا خوفاً من الله ... لقد تجمعت فيها جميع أقذار العالم وخباثته ... ترى كبار السن من رجالها يندفعون غير مبالين إلى أحضان فينوس، لا يبالون بكبر سنهم أو كرامتهم، أو مالهم من سلطان، بل يرتكبون كل عار، كأن مجدهم كله لا يعتمد على صليب المسيح، بل يقوم على المأكل والمشرب، والسكر، والدعارة ... فالفسق، ومضاجعة المحارم، وهتك الأعراض، والزنا هي أعظم المباهج الشهوانية لمهازل رؤساء الكنيسة (12).(18/100)
وليس في مقدورنا أن نغض الطرف عن هذه الشهادة الصادرة من شاهد عيان لم يحد طوال حياته عن طريق الدين، وإن لم تخل من المبالغة والحقد الشخصي. ومن واجبنا فوق ذلك أن نقص منها بعض الشيء لصدورها من رجل يبغض أفنيون لأنها اختطفت البابوبة من إيطاليا، وكان يطلب الهبات من بابوات أفنيون، وينال منها الكثير، ويطلب المزيد، رجل رضى أن يعيش مع السفاح فيكونتي عدو البابوية، وكان له هو نفسه ولدان غير شرعيين. ولم تكن الأخلاق في روما، التي كان بترارك يلح على البابوات في أن يعودوا إليها، خيراً مما كانت في أفنيون وقتئذ، إلا لأن الفقر كان معواناً على العفة. ولم تصف القديسة كترين السنائية أفنيون بالوضوح الذي وصفها به بترارك، ولكنها أخبرت جريجوري الحادي عشر أنها إذا جاءت إلى البلاط البابوي كانت "خياشيمها تقتحمها روائح الجحيم" (13).
ووجد في هذا الانحلال الأخلاقي بابوات كثيرون خليقون بمنصبهم الرفيع، يفضلون آداب المسيح على آداب زمانهم. وإذا ذكرنا أنه لم يوجد بين بابوات أفنيون السبعة إلا واحد عاش معيشة اللذة الدنيوية، وواحد آخر هو يوحنا الثاني والعشرون، أخذ نفسه بحياة الزهد والتقشف مهما يكن من شراهته وقسوته، وآخر هو جرجوري الحادي عشر كان في السلم مضرب المثل في التقوى وسمو الأخلاق وإن كان في الحرب قاسياً لا يرحم، وأن ثلاثة-بندكت الثاني عشر، وإنوسنت السادس، وإربان الخامس يكادون يكونون في حياتهم قديسين أطهاراً- إذا ذكرنا هذا لم يكن من حقنا أن نلقى تبعة جميع الرذائل التي تجمعت في أفنيون البابوية على كاهل البابوات. لقد كانت الثروة سبب هذه الرذائل، وقد كانت لها هي هذه النتائج بعينها في أماكن أخرى- في روما أيام نيرون، وروما أيام ليو العاشر، وباريس في عهد لويس الرابع عشر، ونيويورك وتشكاجو في هذه الأيام، وكما أننا نجد الكثرة الغالبة من رجال هاتين المدينتين الأخيرتين(18/101)
ونسائهما تعيش عيشة صالحة طيبة، أو ترتكب ما ترتكبه من الآثام في اعتدال، فإن من حقنا أن نفترض أن المحامي المعوج، والقاضي غير النزيه، والكردنال الذي يريد الدنيا، والقس الذي لا يراعى واجبات مهنته، كانوا شواذاً يبرزون في وضوح أكثر مما يبرز أمثالهم في أي مكان آخر، لنه كان يشرف عليهم ويصفح عنهم في بعض الأحيان كرسي الرسول، غير أن هذه الفضائح كان فيها من الحقيقة ما يكفي إذا ضم إلى فرار البابوات من روما للقضاء على منزلة الكنيسة وسلطانها. وكأنما أراد بابوات أفنيون أن يحققوا ظن الناس فيهم، بأنهم لم يعودوا كما كانوا قوة عالمية، بل أضحوا آلات طيعة في يد فرنسا، فاختاروا 113 كردنالا فرنسياً لمجمع الكرادلة المؤلف من 134 كردنالا (14). وكان هذا من أسباب تغاضي الحكومة الإنجليزية عن هجمات ويلكف Wyclif القاسية على البابوية. كذلك رفض الناخبون الألمان بعد ذلك الوقت كل تدخل من جانب البابوات في انتخاب ملوكهم وأباطرتهم، ولما أن رفض رؤساء الأديرة في اسقفية كولوني عام 1372 أن يؤدوا العشور إلى البابا جريجوري الحادي عشر، أعلنوا جهرة أن الكرسي الرسولي قد أنحط إلى الدرك الأسفل من الاحتقار، حتى بدأ أن المذهب الكاثوليكي في تلك الديار مهدد باشد الأخطار. أما غير رجال الدين فهم في حديثهم عن الكنيسة يظهرون لها ضروب الاحتقار، لأنها تخلت عما تعودته في الأيام الماضية، فلا تكاد تختار رسلها من الواعظين أو المصلحين، بل تختارهم من الرجال المتباهين، الماكرين، الأنانيين، الشرهين. ويقد بلغت الحال من السوء درجة ينذر معها أن تجد مسيحيين إلا بالاسم" (15).
لقد كان الأسر البابلي للبابوات في أفنيون، وما تلاه من انقسام في البابوية، هو الذي مهد السبيل إلى الإصلاح الديني، وكانت عودة البابوات إلى إيطاليا هي التي أرجعت لهم مكانتهم وأجلت الكارثة التي حلت بهم قرنا من الزمان.(18/102)
الفصل الثاني
الطريق إلى روما
وكانت منزلة الكنيسة في إيطاليا أقل منها في أي بلد آخر. وكان من أسباب ذلك أن بندكت الثاني عشر أراد أن يخضد شوكه لويس صاحب بافاريا الثائر فايد في عام 1342 جميع السلطات التي انتحلها طغاة المدن اللمباردية متحدياً بذلك دعوى الإمبراطورية وثار لويس لهذا العمل فأيد من قبل الإمبراطورية الطغاة الذين اغتصبوا الولايات البابوية (16). وسخرت ميلان من البابوات، علانية، ولما أن أرسل إليها إريان الخامس في عام 1362 مندوبين يحملان قرارات الحرمان للفسكونتي أرغمهم برنابو Bernabo على أن يأكلوا القرارات بما فيها من رقوق، وخيوط حريرية، ,اختام من الرصاص (17). وكانت صقلية منذ عام 1282 قد ظلت تعادي البابوات جهرة.
وجهز لمنت السادس جيشاً ليسترد به الولايات البابوية، ولكن خليفته إنوسنت السادس هو الذي ردها إلى طاعته مؤقتاً. ويكاد إنوسنت هذا أن يكوناً طيباً للبابوات. ذلك أنه بعد أن حبا عدداً قليلاً من أهله ببعض المناصب اعتزم أن يقف سيل المحسوبية الكهنوتية والفساد، وقضى على مظاهر الترف والفخفخة والإسراف في البلاط البابوي، وأقصى الجيش العرمرم من الخدم الذين كانوا يحيطون بكلمنت السادس، وطرد العدد الجم من طلاب المناصب، وأمر كل قس أن يقيم في مقر عمله، وعاش هو نفسه معيشة الاستقامة والاعتدال. وكان يعتقد أن السبيل الوحيدة لإعادة سلطان الكنيسة هي تحريرها من سلطان فرنسا، وعودة البابوية إلى إيطاليا. ولكن الكنيسة إذا خرجت من فرنسا يتعذر عليها(18/103)
الاحتفاظ بكيانها بغير الإيراد الذي كان يصل إليها من الولايات البابوية، ومع أن أنوسنت نفسه رجل سلم فقد رأى أن لا سبيل لاستعادة تلك الولايات إلا الحرب.
وعهد بهذه المهمة إلى رجل أوتى إيمان الأسبان وحماستهم، ونشاط الدمنيك، وفروسية عظماء قشتالة. ذلك هو جيل ألفارز كارلوده ألبرنوز Gil Alvarez Carillo de Albernoz. وكان جيل هذا جندياً في جيش الفنسو الحادي عشر صاحب قشتالة، ولم ينقطع عن الحرب بعد أن صار كبير اساقفة طليطلة، والآن وقد اصبح الكردينال إجديو دالبرتوز Egidio d'Albornoz فقد صار قائداً بارعاً. وقد اقنع جمهورية فلورنس- وكانت وقتئذ تخشى الطغاة وقطاع الطرق الذين كانوا يحيطون بها- أقنعها بأن تمده بما يلزمه من المال لتنظيم جيش. وافلح بالمفاوضات البارعة، الشريفة رغم براعتها، لا بالقوة، أن يخلع الطغاة الصغار الذي اغتصبوا الولايات البابوية طاغية بعد طاغية، ووضع لهذه الولايات "الدساتير الإجيدي" (1357) التي ظلت قانونها الأساسي حتى القرن التاسع عش، والتي كانت حلا وسطا عمليا بين الحكم الذاتي والولاء للبابوية. وتغلب على جون هوكوود John Hawkwood المغامر الإنجليزي الذائع الصيت، واسره، وقذف في قلوب زعماء عصابات المغامرين الخوف من مندوب البابا إن لم يكن من الله، واستعاد بولونيا من رئيس أساقفتها المتمرد، وأقنع أمراء ميلان أن يعقدوا الصلح مع الكنيسة، وتهيأت بذلك السبيل لعودة البابوات إلى إيطاليا.
وواصل إربان الخامس سياسة إنوسنت السادس الصارمة الإصلاحية، وبذل كل ما في وسعه لإعادة النظام والأمانة إلى رجال الدين وإلى البلاط البابوي، وقاوم شرف الكرادلة، وقضى على خداع المحامين، وجشع المرابين، وابتزازهم أموال المدنيين، وعاقب من يتجرون بالمقدسات(18/104)
وبالمناصب الكهنوتية، وضم إلى خدمته رجالاً من ذوي الأخلاق الممتازة، والعقول الراجحة، وأنفق من ماله الخاص على ألف طالب في الجامعات، وأنشأ كلية جديدة في منبلييه، وأمد بالمال كثيرين من العلماء، وأراد أن يتوج أعماله البابوية فأعتزم أن يعبد مقرها إلى روما. وارتاع الكرادلة حين علموا بهذه النية، لأن الكثيرين منهم كانت أصولهم ومواضع حبهم في فرنسا، وكانوا مكروهين في إيطاليا، وتوسلوا إليه ألا يلقي بالا إلى مطالب القديسة كترين أو إلى بلاغة بترارك. وشرح لهم إربان الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في فرنسا- التي كانت مليكها أسيراً في إنجلترا، وجيوشها محطمة، والإنجليز يستولون على أقاليمها الشمالية، ويقتربون يوماً بعد يوم من أفنيون، ترى ماذا تعمل إنجلترا إذا انتصرت البابوية التي كانت تخدم فرنسا وتمدها بالمال؟
ونفذ البابا ما اعتزمه فأبحر من مرسيليا في اليوم الثلاثين من إبريل عام 1367 تحرسه عدة سفن شراعية إيطالية مفعمة قلوب من فيها بهجة، ودخل روما في السادس عشر من شهر إكتوبر وسط مظاهر الترحيب الذي وصل إلى عنان السماء، ومن العامة، ورجال الدين، والأشراف، وأمسك الأمراء الإيطاليون بزمام البغل الأبيض الذي كان يمتطيه، وانطلق لسان بترارك بالشكر للبابا الفرنسي الذي جرؤ على الإقامة في إيطاليا. وكانت روما وقتئذ مقفرة وإن كانت سعيدة: فقد أفقرها انفصالها الطويل الأمد عن البابوية، وهجر المصلون نصف كنائسها وتهدمت، وتخربت كنيسة القديس بولس، وكانت كنيسة القديس بطرس توشك أن تنهار في أية لحظة، وقصر لاتيران قد دمرته النار منذ عهد قريب، والقصور لا تقل تهدماً عن المساكن الصغيرة، وانتشرت المستنقعات فحلت محل البيوت، وتكدست الأقذار في الشوارع والميادين (18). وأصدر إربان الأوامر ببناء القصور البابوية ورصد لها الأموال. ولم يطق صبراً على منظر روما،(18/105)
فاتخذ مسكنه في مونتي فياسكوني Montefiascone ولكن ذكريات أفنيون وترفها وفرنسا المحبوبة أقضت مضجعه ونغصت عليه حياته. وترامت أنباء تردده إلى بترارك، فأخذ يحثه على أن يصر على ما عقد عليه نيته، وتنبأ القديس بردجت St Bridget السويدي بأن البابا سيموت من فوره إذا غادر إيطاليا، وعمل الإمبراطور شارل الرابع على تقوية عزيمته، فأيد استعادة البابا لإيطاليا الوسطى، وجاء خاشعا إلى روما (1368)، ليقود جواد البابا من كنيسة القديس إنجيلو إلى كنيسة الرسول بطرس، ووقف على خدمته أثناء القداس. وتوجه البابا في حفل خيل إلى الجمع المحتشد المبتهج أنه يحسم النزاع القديم بين الإمبراطورية والبابوية. فلما كان اليوم الخامس من سبتمبر عام 1370 أقلع إربان إلى مرسيليا، ولعله بعمله هذا قد خضع إلى رغبة كرادلته الفرنسيين، وادعى أنه يريد إعادة السلام بين إنجلترا وفرنسا. ووصل في السابع والعشرين من هذا الشهر نفسه إلى أفنيون حيث وافته المنية في التاسع عشر من ديسمبر، وهو يرتدي ثياب راهب بندكتي، ويرقد على أريكة حقيرة، وكان قد أمر بأن يسمح بكل من شاء بالدخول عليه، حتى يستطيع الناس جميعاً أن يروا أن عظمة أجل الناس مقاما ليست إلا بهرجا كاذبا قصير الأمد.
وكان كلمنت السادس البابا الظريف قد عين جريجوري الحادي عشر أبن أخيه كردنالا وهو في الثامنة عشر من عمره، ورسم قسا في التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1370، ثم اختير بابا في الثلاثين من ديسمبر وهو في سن التاسعة والثلاثين. وكان غزير العلم، مولعا بشيشرون، وقد جعلته الأقدار رجل حرب وكفاح، قضى مدة بابويته في إخماد الثورات العنيفة. ذلك أن غربان الخامس كان يخشى ألا يثق البابا الفرنسي بالإيطاليين، فاختار عدداً كبيراً من الفرنسيين مندوبين عنه لحكم الولايات البابوية. ووجد هؤلاء الحكام أنفسهم في بيئة معادية لهم فشادوا الحصون لمقاومة الشعب، وجاءوا بأعوان لهم كثيرين من الفرنسيين، وفرضوا(18/106)
ضرائب باهظة، وآثروا الغطرسة على الكياسة والدهاء. وحدث أن أخذ ابن أخ للمندوب البابوي في بروجيا يطارد امرأة متزوجة مطاردة بلغ من عنفها أن سقطت المرأة من نافذة وقضت نحبها وهي تحاول الفرار منه. ولما جاء وفد إلى المندوب البابوي يطلب إليه عقاب أبن أخيه رد عليه بقوله "علام هذه الجلبة كلها؟ هل تظنون أن الفرنسي خصى؟ " (20) وأثار مندوبو البابا بوسائل كثيرة متنوعة كراهية الشعب إلى حد دفع كثيراً من الولايات إلى الانتفاض عليهم في عام 1375 واحدة بعد واحدة. ورفعت القديسة كترين صوتها نائبة عن إيطاليا فألحت على جريجوري أن يعزل أولئك "الرعاة الأشرار الذين يسممون حديقة الكنيسة ويعيثون فيها فسادا" (21): وتزعمت فلورنس هذه الحركة وهي التي كانت في العادة حليفة البابوية، ونشرت راية حمراء كتبت عليها بأحرف ذهبية كلمة الحرية، فلم يحل عام 1376 حتى لم يبق مواليا للبابا من مدن إيطاليا إلا واحدة بعد أن كان عدد المدن التي تعترف للبابا بزعامته المدنية والروحية أربعا وستين مدينة في عام 1375، وخيل إلى العالم أن جميع ما عمله ألبرنوز قد ذهب أدراج الرياح، وأن البابوية قد خسرت مرة أخرى جميع إيطاليا الوسطى:
واتهم جريجوري، بإيعاز الكرادلة الفرنسيين، أهل فلورنس بأنهم يتزعمون الثورة عليه، وأمرهم بالخضوع إلى المندوب البابوي، فلما عصوا امره حرمهم من الدين، ومنع إقامة الخدمات الدينية في مدينتهم، واصدر مرسوماً يعلن فيه أن جميع الفلورنسيين خارجون عن القانون، وأحل لأي إنسان في أي مكان أن يستولي على أملاكهم ويتخذهم أرقاء. وحاق الخطر الانهيار بصرح التجارة والمال الفلورنسي كله، واعتقلت إنجلترا وفرنسا من فورهما من فيهما من الفلورنسيين واستولتا على أملاكهم وكان رد فلورنس على هذا أن صادرت جميع أملاك الكنيسة(18/107)
الموجودة في أراضيها، وهدمت مباني محكمة للتفتيش، وأغلقت أبواب المحاكم البابوية، وزجت في السجن، وشنقت في بعض الأحيان، القساوسة المعاندين، وبعثت بنداء إلى أهل روما تدعوهم فيه أن ينضموا إلى الثورة، ويقضوا على جميع ما للكنيسة في إيطاليا من سلطة زمنية. وبينما كانت روما لا تزال تتردد في الأمر، إذ قطع جريجوري لزعمائها وعدا صريحا بان يعيد البابوية إلى روما إذا ظلت موالية له. وقبل أهل روما هذا الوعد واعتصموا بالسلم.
وكان البابا في خلال ذلك قد سير إلى إيطاليا قوة من الجنود البريطانيين المرتزقين الجفاة بقيادة "الكردنال المندوب البابوي ربرت من أهل جنيفا" (22). وخاض ربرت غمار الحرب بوحشية لا يكاد يصدقها عاقل، من ذلك أنه لما استولى على كازينا Casena بعد أن قطع على نفسه عهدا بالعفو عن أهلها قتل بالسيف كل من كان فيها من رجال ونساء وأطفال (23). وكان جون هوكودك يقود جنود المرتزقة في خدمة الكنيسة، فذبح هو الآخر في فائندسا Faenza أربعة آلاف من أهلها لارتيابه في أن البلدة تريد الانضمام إلى الثورة. وارتاعت القديسة كترين السينائية من هذه الأعمال الوحشية، ومن مصادرة الأملاك من الجانبين، ومن انقطاع الخدمات الدينية في جزء كبير من إيطاليا، فكتبت إلى جريجوري تقول:
نعم أن عليك أن تسترد الاملاك التي خسرتها الكنيسة، ولكن عليك أكثر من هذا أن تسترد جميع الخراف التي هي كنز الكنيسة الحقيقي والتي تحل بها الفاقة بحق إذا خسرتها ... عليك أن تضرب الناس بسلاح الصلاح، والحب، والسلم، فإذا فعلت كسبت به أكثر مما تكسب بسلاح الحرب. وأنا حين أسال الله عن خير الطرق لنجاتك، وإعادة الكنيسة إلى حالها الأولى، وعودة العالم أجمع، لا أجد جواباً غير كلمة السلم! السلم! فبحق المنقذ المصلوب عد إلى السلم (34)!(18/108)
ودعتها فلورنس إلى أن تكون مع وفدها المرسل إلى جريجوري، فقبلت الدعوة، وسافرت، وانتهزت هذه الفرصة لتندد بأخلاق أفنيون، وبلغ من صرامتها في هذا التنديد أن طالب الكثيرون بالقبض عليها، ولكن جريجوري حين ترامى إليه أن روما تنظم إلى الثورة إذ لم يعجل بالمجيء إليها اقلع من مرسيليا ووصل إلى روما في السابع عشر من يناير سنة 1377، وربما كان من اسباب سفره أنه تأثر بدعوة كترين. ولم يرحب بعودته جميع الأهلين لأن نداء فلورنس أثار في هذه المدينة المنحلة ذكريات للجمهورية القديمة، وجاءت النُّذر إلى جريجوري أن حياته غير آمنة في عاصمة العالم المسيحي القديمة. فانتقل منها إلى أناني في شهر مايو.
وكأنه الآن قد خضع آخر الأمر إلى رجاء كثيرين، فتحول من الحرب إلى الدبلوماسية. وأخذ عماله يشجعون الجماهير في المدن على أن يقبلوا حكوماتهم المتمردة. وكانت تلك الجماهير تتوق إلى مصالحة الكنيسة، ووعد جميع المدن التي تعود إلى الولاء له بأن تكون لها حكومة ذاتية تحت رياسة نائب عن البابا تختاره هي بنفسها. وقبلت المدن هذه الشروط واحدة في أثر واحدة، واتفقت فلورنس مع جريجوري في عام 1377 على أن يحكم برنابو فيكونتي في النزاع القائم بينهما. وأقنع برنابو البابا بأن يهبه نصف الغرامة التي قد يفرضها على فلورنس، فلما وافق على ذلك أمر المدينة بأن تؤدي للكرسي المقدس غرامة قدرها 800. 000 فلورين (20. 000. 000 دولار). ورأت فلورنس أن حلفائها قد تخلوا عنها فخضعت لهذا الأمر وهي كارهة مغضبة، ولكن البابا إربان السادس خفض الغرامة إلى 250. 000 فلورين.
ولم يعش جريجوري حتى يشهد نصره، فقد عاد إلى روما في السابع(18/109)
من نوفمبر عام 1377، وكان يعاني آلام المرض حتى وهو في أفنيون، وتأثر بالشتاء الذي قضاه في إيطاليا الوسطى، وأحس بدنو أجله، وخشي أن يقطع النزاع القائم بين فرنسا وإيطاليا للسيطرة على البابوية أوصال الكنيسة، فأعد العدة في التاسع عشر من مارس عام 1378 لاختيار خلفه على الفور، وتوفى بعد ثمانية أيام من ذلك الوقت وهو يحن إلى أرض فرنسا الجميلة.(18/110)
الفصل الثالث
الحياة المسيحية
1300 - 1424
سنرجئ إلى باب آخر بحثنا في دين الشعب وأخلاق رجال الدين، ولكننا نلاحظ في هذا الفصل ظاهرتين مختلفتين من ظواهر الحياة المسيحية في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر هما محكمة التفتيش والقديسون. والإنصاف يقتضينا أن نذكر أن الكثرة الغالية من المسيحيين كانت تعتقد وقتئذ أن الكنيسة التي أقامها أبن الله، وأنه هو الذي وضع عقائدها الأساسية، ومن ثم فأن أية حركة تقوم للقضاء عليها- أياً كانت الأخطاء التي يرتكبها الآدميون الذين يصرفون شئونها-إنما هي خروج على السلطة القدسية وخيانة للدولة الزمنية التي كانت الكنيسة درعها الأخلاقي الواقي. وإذا لم تثبت هذه الفكرة الأساسية في عقولنا لم نستطع فهم تلك الوحشية التي دفعت رجال الدين وغير رجال الدين إلى الاشتراك معا في القضاء على دعوة الإلحاد التي أثار عجاجها (حوالي عام 1303) دلتشينو النوفاري Dolcino of Novara وأخته الحسناء مرجريتا Margherita.
وقد قسم دلتشينو التاريخ، كما قسمه يواقيم الفلوري Joachim of Flora إلى فترات شهدت الفترة الثالثة منه الممتدة من عهد البابا سلفستر الأول (314 - 335) إلى 1280 فساد الكنيسة بسبب ما كان لها من ثراء دنيوي. ويقول دلتشينو إن البابوات جميعا من أيام سلفستر كانوا غير مخلصين إذا استثنينا منهم سلستين الخامس Celestine وكان الرهبان بندكت، وفرانسس، ودمنيك قد بذلوا محاولات نبيلة لتخليص الكنيسة من عبادة المال وإعادتها إلى عبادة الله، ولكنهم أخفقوا في هذه(18/111)
المحاولات، وأضحت البابوية في عهد بنيفاس الثامن هي العاهر التي وصفها سفر الرؤيا. وتزعم دلتشينو طائفة جديدة من الأخوان تدعى "إخوان بارما الرسوليين" رفضت سلطات البابوات، وورثت خليطاً من العقائد عن الباتارينيين Patarines، والولدنسيين Weldenses، والفرنسيس الروحيين. وكانوا يدعون أنهم يلتزمون بالعفة المطلقة، ولكن كل واحد منهم كان يعيش مع امرأة يسميها أخته. وأمر كلمنت الخامس محكمة التفتيش أن تحاكمهم، ولكنهم رفضوا المثول أمامها، وسلحوا أنفسهم، واتخذوا موقفهم في أسفل جبال الألب البيدمنتية. وسيرت محكمة التفتيش عليهم جيشا، ونشبت بين الجانبين معارك حامية الوطيس، وانسحب الإخوان إلى ممرات في الجبال حوصروا فيها حتى نفذ طعامهم، فأخذوا يأكلون الفئران والكلاب، والأرانب البرية، والكلأ، ثم هوجم معقلهم الجبلي أخيراً، وخر ألف منهم قتلى وهم يحاربون، وحرق منهم عدة آلاف (1204). ولما سيقت مرجريتا إلى مكان الحرق، كانت لا تزال رائعة الجمال على الرغم من ذبول جسدها، وبلغ من جمالها أن عرض عليها رجال من ذوي المكانة أن يتزوجوها إذا تخلت عن إلحادها، ولكنها رفضت تلك العروض وأكلتها النار على مهل. واستبقى دلتشينو وزميل له يدعى لنجينو ليحاكما محاكمة خاصة، وأركبا عربة طافت بهما فرتشلي Vercelli، وقطع لحمهم جزءاً فجزءاً بالكلاليب أثناء هذا الموكب، وانتزعت أطرافهما وأعضاء تناسلهما من جسميهما ثم تركا آخر الأمر ليموتا (26).
ويلذ لنا أن نتحول عن هذه الوحشية إلى ما عكفت عليه المسيحية من بث روح التقوى والصلاح في نفوس الرجال والنساء. ذلك أن القرن الذي شهد ما حل بأفنيون من ضروب المحن والفساد أخرج أيضاً مبشرين أمثال جيوفني دا مونتي كرفينو Giovanni da Monte Corvino وأودريك(18/112)
البردينوني Oderic of Pordenone اللذين حاولا أن يهديا الهنود والصينيين إلى الدين المسيحي، ولكن الصينيين كما يقول إخباري فرنسيسي أصروا على اعتقادهم "الخاطئ بأن في وسع أي إنسان أن ينجو وهو في مذهبه (27). وكان ما أفاده العالم من هذين المبشرين في علم الجغرافية أكثر مما أفاده منهما في شئون الدين".
وولدت القديسة كترين السينائية، وعاشت، وماتت في غرفة وضيعة لا يزال يؤخذ إليها الزائرون. وساعدت من هذه البقعة الصغيرة من الأرض على تحريك البابوية وعلى أن تبث في أهل إيطاليا من التقوى ما بقى بعد ريناشيتا Rinascita وريزر جمنتو Risorgimento. وانضمت وهي في الخامسة عشرة من عمرها إلى طائفة التوبة التابعة للقديس دمنيك، وكانت هذه الطائفة منظمة "ثلاثية" لا تتألف من رهبان او راهبات، بل تتألف من رجال ونساء يعيشون كما يعيش أهل الدنيا، ولكنهم يخصصون حياتهم قدر استطاعتهم لأعمال الدين والبر. وكانت كترين تعيش مع أبويها، ولكنها جعلت حجرتها أقرب ما تكون إلى خلود الزهاد، وانهمكت في الصلوات والتأملات الصوفية لا تكاد تترك حجرتها إلا للذهاب إلى الكنيسة. وقلق ابواها واضطربا لتفكيرها المتصل في شئون الدين وخشيا أن يؤثر ذلك في صحتها، فكانا يعهدان إليها بأشق أعمال البيت، ولكنها كانت تؤديها بلا ملل ولا شكوى وتقول: "أني أخصص في قلبي ركناً صغيراً ليسوع" (28). وظلت محتفظة بصفاء كصفاء الأطفال. وبينما كان غيرها من البنات يبحثن عن جميع المباهج، والشكوك، والنشوة في الحب "الدنس"، كانت هي تبحث عنها وتجدها في الخشوع للمسيح، وكانت وهي في عنفوان هذه التأملات المتزايدة أثناء عزلتها تفكر في المسيح وتتحدث اليه كأنه حبيبها السماوي، وتتبادل القلب معه، وترى نفسها في الرؤيا كأنها قد تزوجته، وأطالت التفكير في جراح المصلوب(18/113)
الخمسة، كما أطال التفكير القديس فرانسس، حتى كانت تشعر بهذه الجراح في يديها وقدميها وجنبيها. ونبذت كل شهوات البدن، وكانت ترى فيها وسوسة من الشيطان، وأساليب خبيثة لحرمانها من ذلك الحب الذي تنهمك فيه وحده.
وقفت ثلاث سنين لا تكاد تتصرف فيها عن وحدتها وتقواها، أحست بعدها أن في مقدورها أن تخرج آمنة إلى حياة المدينة، وكما أنها كرست أنوثتها للمسيح، فقد خصت ما انطوت عليه من حنان الأمهات إلى العناية بالمرضى، والمعوزين من اهل سينا، فكانت تبقى إلى آخر لحظة مع ضحايا الطاعون، وتواسي بروحها المحكوم عليهم بالإعدام من المجرمين حتى ينفذ فيهم حكم الإعدام (29). ولما توفى والداها وتركا لها ميراثاً صغيراً، وزعته على الفقراء، وكان وجهها، وإن شوهه الجدري، نعمة وبركة لكل من شاهدها. وكان الشبان ينبذون، بكلمة تصدر منها، ما اعتادوه من تجديف، كما كان الكبار يستمعون إلى فلسفتها الساذجة الصادقة فتذوب منها شكوكهم. وكان من رأيها أن جميع شرور الحياة إنما هي نتيجة لخبث الإنسان، ولكن جميع خطايا البشر ستمحى وتزول في بحر الله، وستزول شرور العالم كله إذا رضى الناس أن يعتادوا حب المسيح. وآمن كثيرون من الناس بها، وبعثت إليها مونتي بلشيانو Montepulciano تدعوها لتزيل الخصام بين أسرتيها المتعاديتين، وكانت مدينتا بيزا ولوكا تستنصحانها، ودعتها فلورنس لأن تنضم إلى وفد ترسله إلى أفنيون، وهكذا استدرجت شيئاً فشيئاً إلى شؤون العالم.
وهالها ما شهدته في إيطاليا وفرنسا: فقد رأت روما قذرة، مهجورة، ورأت إيطاليا وقد انفصلت عن كنيسة هجرتها إلى فرنسا، ورأت رجال الدين وقد فقدوا بحبهم الدنيا احترام غير رجال الدين، ووجدت فرنسا وقد خربت نصفها الحروب، وحملتها ثقتها برسالتها القدسية على(18/114)
أن تندد بالمطارنة والأحبار في وجوههم، وتقول لهم إن عودتهم إلى روما وإلى الحياة الصالحة هي وحدها التي يمكن أن تنقذ الكنيسة مما هي فيه، وإذ كانت هي نفسها عاجزة عن الكتابة، فقد أخذت وهي فتاة في السادسة والعشرين من عمرها تملئ بلغتها الإيطالية البسيطة الرنانة رسائل صارمة ولكنها يسري فيها الحب تبعث بها إلى البابوات، والأمراء، والحكام، وتكاد تظهر في كل صفحة من صفحاتها تلك الكلمة التي كانت تنبئ بما سيكون وهي كلمة الإصلاح. وأخفقت في مسعاها مع رجال الحكم، ولكنها أفلحت مع الشعب. وابتهجت حين جاء إربان الخامس إلى روما، وحزنت حين غادرها، ثم عادت إلى الحياة النشيطة حين جاء إليها جريجوري الحادي عشر، وأسدت النصح الرشيد إلى إربان السادس، ولكنها روعت من وحشيته، ولما أن مزق أنقسام البابوية العالم المسيحي وفرقه شيعتين، كانت بين الضحايا الأولى لهذا النزاع الذي لا مبرر له، ذلك أنها قللت طعامها حتى لم يكن يزيد على بضع لقمات، وأوغلت في النسك إيغالا بلغ من شدته، كما تقول القصة، أن كان غذاؤها الوحيد هو الخبز المقدس الذي تتناوله أثناء العشاء الرباني. وكان من أثر هذا أن فقدت قدرتها على مقاومة المرض، كما أن الانقسام الديني أفقدها ارادة الحياة، فانتقلت إلى الدار الآخرة بعد عامين من هذا الانشقاق، وكانت وقتئذ في الثالثة والثلاثين من عمرها (1380). ولا تزال حتى اليوم قوة تعمل للخير في إيطاليا التي كانت تحبها لا تزيد عليها في ذلك إلا قوة المسيح والكنيسة.
وولد في ذلك العام نفسه وفي المدينة التي توفيت فيها كترين القديس برنردينو St. Bernerdino وصاغته وشكلته التقاليد التي خلفتها، فكان يقضي أيامه ولياليه أثناء الطاعون الذي فشا في عام 1400 في العناية بالمرضى، ولما انضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس ضرب لهم المثل في العمل بقوانين الطائفة والتقيد الشديد بها. وحذا كثيرون من الرهبان حذوه،(18/115)
وأنشأ من هؤلاء (1405) طائفة الفرنسيس الممتثلين Obbervantine Franciscans أي الأخوان اللذين يتقيدون تقيداً صارماً بقوانين تلك الطائفة، وخضعت له قبل موته ثلاثمائة من الأديرة.
وخلعت طهارة حياته ونبلها على مواعظه بلاغة لا تستطاع مقاومتها وكان في روما نفسها، التي كان أهلها أشد خروجاً على القانون من أهل أية مدينة أخرى في أوربا، يستدرج المجرمين إلى الاعتراف بجرائمهم، والخاطئين إلى التوبة من خطاياهم، والمتخاصمين الذين اعتادوا الخصام إلى أن يجنحوا للسلم. وأقنع برنردينو رجال روما ونساءها، قبل أن يحرق سقنرولا الأباطيل في فلورنس بسبعين عاماً، أن يلقوا بورق اللعب، والنرد، وتذاكر اليانصيب، والشَّعر المستعار، والصور والكتب البذيئة، وآلاتهم الموسيقية نفسها، في كومة كبيرة جنائزية على الكبتول حيث أشعلت فيها النار (1424). وأحرقت بعد ثلاثة أيام من ذلك العمل وفي الميدان نفسه فتاة اتهمت بالسحر، واحتشدت روما على بكرة أبيها لتشاهد المنظر (31). وكان القديس برنردينو نفسه "من أشد الناس اضطهاداً للإلحاد إرضاء لضميره".
وهكذا اختلط الطيب والخبيث، والجميل والمروع القبيح، في تيار الحياة المسيحية وفوضاها. وظلت الجماهير الساذجة من أهل إيطاليا قانعة بحالها التي كانت عليها في العصور الوسطى راضية عنها، أما الطبقتان الوسطى والعليا، وقد كادت تسكرهما خمرة الثقافة القديمة التي طال اختزانها في البلاد، فقد كان أفرادهما يغدون ويروحون تملأ أعطافهم الروح المتحمسة النبيلة لخلق النهضة والإنسان الحديث.(18/116)
الكتاب الثاني
النهضة الفلورنسية
1378 - 1534(18/118)
الباب الثالث
نشأة آل ميديتشي
1378 - 1464
الفصل الأول
مسرح الحوادث
أطلق الإيطاليون على هذا النضوج أسم الرناشيتا la Rinascita أي المولد الجديد، لأنه بدا لهم بعثا مظفرا للروح القديمة بعد أوقفت البربرية ف سبيلها مدى ألف عام (1). ذلك أن الإيطاليين كانوا يشعرون بأن العالم الروماني القديم قد قضت عليه غارات الألمان والهون في خلال القرن الثالث، والرابع، والخامس حين قضت يد القوطية الثقيلة على زهرة الفن الروماني والحياة الرومانية، وهي الزهرة التي كانت لا تزال جميلة وإن كانت آخذة في الذبول. وكان الفن «القوطي» قد كرر هذا الغزو في صورة فن من فنون العمارة مزعزع غير مستقر، فريب الزخرف، وفي صورة نحت خشن، فج، مكتئب، يمثل الأنبياء الصارمين، والقديسين الهزيلي الأجسام. أما الآن فقد كان من نعم الزمان أن أمتص الدم الإيطالي
_________
(1) كان فاساري Vasati » في كتابه الحياة النشيطة لفنون العمارة والتصوير والنحت الممتاز «(1550) هو الذي ثبت استعمال لفظة R inascita، وكانت الموسوعة الفرنسية التي صدرت بين عامي 1751 و 1772 هي التي استعملت لأول مرة وبصفة قاطعة واضحة لفظ Renaissance للدلالة على ازدهار الآداب والفنون في القرن الرابع عشر، والقرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر.(18/119)
الغالب القوي، أولئك القوط الملتحين واللمبارد «الطوال اللحى»، وبفضل فتروفيوس Vitruvius وخرائب السوق الرومانية، أقيمت من العمد القديمة، وطيلاتها أضرحة وقصور وقورة، وبفضل بترارك ومائة غيره من العلماء الطليان أخذت الآداب القديمة التي كشفت كشفا جديداً تعير الأدب الإيطالي مصطلحات نثر شيشرون النقي الخالص ودقته، وموسيقى شعر فرجيل الرخيمة المطربة. وقدر لشمس الروح الإيطالية أن يخترق ضياؤها ضباب الشمال، وأن يفر الرجال والنساء من الخوف الذي سجنت في أرواحهم أثناء العصور الوسطى، وأن يعبدوا الجمال على اختلاف أشكاله، وأن يملئوا الجو ببهجة البعث الجديد، وأن تعود إيطاليا فتية مرة أخرى.
ولقد كان الرجال الذين يتحدثون هذا العصر قريبين من ذلك الحادث الجلل قربا لا يستطيعون مع أن يبصروا «المولد الجديد» في ملابساته التاريخية، أو يتبينوا عناصره المختلفة المحيرة. ولكن النهضة كانت تتطلب أكثر من إحياء القديم، كانت تتطلب أولا وقبل كل شئ المال- مال الطبقات الوسطى الرأسمالية العطن المتجمع من مكاسب المديرين الماهرين، والعمال المنخفضي الأجور، وكانت تتطلب رحلات تكتنفها الأخطار إلى بلاد الشرق، وجهودا مضنية لعبور جبال الألب لشراء السلع رخيصة وبيعها غالية، وتتطلب دقة وعناية في الحساب، والاستثمار، والقروض، وفوائد للأموال وأرباحا للمساهمين في المشروعات تتراكم حتى يتبقى منها بعد النفقات الخاصة، وبعد شراء أعضاء مجالس الشيوخ، والأمراء، والعشيقات، ما يكفي لأن يحول ميكل أنجلو، وتيشيان المال إلى جمال، ويعطرا الثراء بشذا انفاس الفن. ذلك أن المال أصل كل حضارة. وفي هذه النهضة بالذات كانت أموال التجار، ورجال المصارف، والكنيسة، تؤدي منها أثمان المخطوطات التي أحيت العهد القديم. على أن هذه المخطوطات لم تكن هي التي حررت عقل النهضة وحواسها،(18/120)
بل كان الذي حررها هو النزعة الزمنية غير الدينية التي انبعثت من نشأة الطبقات الوسطى، وقيام الجامعات، وانتشار العلم والفلسفة، وما أثمرته دراسة القانون من تقوية الأذهان وتوجيهها وجهة واقعية، وما أدى إليه ازدياد العلم بالعالم من اتساع أفق العقل ومجاله. وارتاب الإيطالي المتعلم في قواعد الكنيسة التعسفية، ولم يرهبه الخوف من نار الجحيم، ورأى رجال الدين منهمكين في ملاذ الدنيا انهماك غيرهم من الناس، فحطم بذلك الإيطالي المتعلم الأغلال العقلية والخلقية، وتحررت حواسه من تلك القيود، فابتهجت في غير حياء بكل ما يمثل الجمال في المرأة، والرجل، والفن، وجعلته هذه الحرية الجديدة مبدعا خلاقا خلال قرن من الزمان عجيب (1343 - 1534)، قبل أن يقضي عليه مما انتشر فيه من فوضى أخلاقية، ونزعة فردية انحلالية، واسترقاق قومي، وكانت الفترة الواقعة بين العهدين هي النهضة.
ترى لم كان شمالي إيطاليا أو الأقاليم التي شهدت هذه اليقظة المزدهرة؟ الجواب عن هذا أن العالم الروماني لم يكن قد قضى عليه في هذا الجزء قضاء تاما، بل ظلت البلدان محتفظة فيه بكيانها القديم وذكرياتها القديمة، وأخذت وقتئذ تجدد قانونها الروماني. وكان الفن القديم قد بقى حيا في رومة، وفيرنا، ومانتوا، وبدوا، وكان مجمع الآلهة الذي أقامه أجربا Agrippa لا يزال يتخذ مكاناً للعبادة، وإن كان قد مضى عليه أربعة عشرة قرنا من الزمان، وفي السوق العامة يكاد الإنسان يسمع شيشرون وقيصر يتناقشان في مصير كاتلين Catiline. كذلك كانت اللغة اللاتينية لغة حية، ليست اللغة الطليانية إلا لهجة منها مرخمة. وبقيت الأرباب، والأساطير، والطقوس الوثنية، مائلة في ذاكرة الجماهير، أو قائمة في صور مسيحية وإيطالية تعترض البحر المتوسط، وتشرف على حوضه الذي قامت فيه الحضارة والتجارة القديمتان. كذلك كان(18/121)
شمالي إيطاليا أكثر مدنا وحواضر واشتغالا بالصناعة من أي إقليم آخر في أوربا إذا استثنينا إقليم فلاندرز، ولم يعان هذا الإقليم من النظام الإقطاعي الكامل ما عاناه غيره من الأقاليم الأوربية، بل إنه أخضع أشرافه إلى مدنه وإلى طبقة التجار فيه. وكان هو الطريق الذي تنتقل فيه التجارة بين بقية إيطاليا وأوربا الواقعة وراء جبال الألب، وبين أوربا الغربية وشرق البحر المتوسط، وقد جعلته تجارته وصناعته أغنى إقليم في العالم المسيحي قاطبة. وكان تجاره المخاطرون يشاهدون في كل مكان من أسواق فرنسا إلى أبعد ثغور البحر الأسود، وقد اعتادوا معاملة اليونان، والعرب، واليهود، والمصريين، والفرس، والهنود، والصينيين والاختلاط بهم، فقدوا حدة عقائدهم التحكيم، ونقلوا إلى الطبقات المتعلمة في إيطاليا ذلك التهاون في العقائد، الذي نشأ بعدئذ في أوربا خلال القرن التاسع عشر من الاتصال المتزايد بالأديان الأجنبية. بيد أن حكمة التجار قد اجتمعت مع التقاليد القومية والمزاج والكبرياء القوميين لإبقاء إيطاليا كاثوليكية حتى في الوقت الذي كانت في وثنية. وأخذت الأموال البابوية تنساب إلى روما من ألف سبيل واردة من عشرات الضياع المسيحية، وفاضت أموال البابا على جميع أنحاء إيطاليا، وكافأت الكنيسة ولاء إيطاليا بالتسامح الكريم عن خطايا الجسد والتسامح الطيب (قبل مجلس ترنت الذي عقد في عام 1545) مع الفلاسفة الملحدين الذين يمتنعون عن تقويض تقي الشعب. ولهذه الأسباب كلها سبقت إيطاليا في الثروة والفن، والتفكير، بقية أوربا بمائة عام، ولم تزدهر النهضة في فرنسا، وألمانيا، وهولندة، وإنجلترا، وأسبانيا إلا في القرن السادس عشر حين أخذت النهضة تزول من إيطاليا. ذلك أن النهضة لم تكن فترة من الزمان، بل أسلوبا من أساليب الحياة والفكر يسير من إيطاليا إلى سائر أوربا متبعا طرق التجارة، والحرب، والأفكار.
واتخذت النهضة موطنها الاول في فلورنس لنفس الأسباب التي جعلت(18/122)
مولدها في شمال إيطاليا. ذلك أن فيورندسا Fiorenza- أي مدينة الأزهار كانت في القرن الرابع عشر أغنى مدائن شبه الجزيرة الإيطالية ما عدا البندقية، وذلك بفضل تنظيم صناعتها، واتساع نطاق تجارتها، وأعمال رجال المال فيها. غير أنه بينما كان البنادقة في ذلك الوقت. يبددون جهودهم كلها تقريبا في الجري وراء اللذة والثروة، كان الفرنسيون يزدادون حدة في العقل، وقوة في الذكاء، وحذقا في كل فن، فجعلوا بذلك مدينتهم باعتراف الناس جميعا عاصمة إيطاليا الثقافية. ولعل نظامها الشبه الديمقراطي المضطرب كان من بواعث هذا الرقي. ذلك أن النزاع القائم بين الأحزاب المختلفة قد رفع حرارة الحياة والتفكير، فأخذت الأسر المتنافسة ينازع بعضها بعضا في رعاية الأدب كما كانت تتنازع على السلطان. وحدث آخر بواعث هذا الرقي- لا أولها-حين عرض كوزيمودة ميديتشي Cosimo de'Medici مصادر ثروته وغيرها من الأموال والقصور لإيواء مندوبي مجلس فلورنس واستضافتهم (1439). وكان الأحبار والعلماء اليونان الذين جاءوا إلى هذا المجلس ليبحثوا في إعادة الوحدة بين المسيحية الشرقية والغربية يعرفون من الأدب اليوناني أكثر مما يعرفه أي رجل في فلورنس في ذلك الوقت. وأخذ بعضهم يحاضر في فلورنس، وهرعت الصفوة الممتازة من أهل المدينة للاستماع إليهم. ولما أن سقطت القسطنطينية في أيدي الأتراك غادرها كثيرون من اليونان ليتخذوا مقامهم في المدينة التي وجدوا فيها حسن الضيافة قبل أربعة عشر عاما من ذلك الوقت. وحمل كثيرون معهم المخطوطات القديمة، وأخذ بعضهم يلقي المحاضرات في اللغة اليونانية أو في شعر اليونان وفلسفتهم. وهكذا نشأت النهضة في فلورنس بعد أن تجمعت فيها أسبابها من سبل كثيرة عظيمة الأثر، وأضحت هذه المدينة بذلك أثينة إيطاليا.(18/123)
الفصل الثاني
الأساس المادي
كانت فلورنس في القرن الخامس عشر دولة- مدينة لا تحكم مدينة فلورنس وحدها، بل تحكم معها (إلا في فترات قليلة) مدن براتوا Prato، وبستويا Pistoia، وبيزا وفلتيرا Volterra، وكرتونا Cortona، وأردسو Arezzo والأراضي الزراعية الواقعة خلف هذه المدن. ولم يكن الفلاحون أرقاء أرض، بل كان بعضهم من صغار الملاك، وكانت كثرتهم من المستأجرين، يسكنون بيوتا من الحجارة الملتصقة بالأسمنت بطريقة خشنة ولا تفترق كثيرا عن بيوتهم في هذه الأيام، وكانوا يختارون بأنفسهم موظفي قراهم ليصرفوا شئونهم المحلية. ولم يكن مكيفلي يرى حطة في التحدث إلى هؤلاء «الفرسان» الشداد، فرسان الحقل، والبستان، والكرمة، ولكن كبار الحكام في المدن كانوا ينظمون شئون البيع والشراء، ويعملون على استرضاء العمال بخفض اثمان الطعام إلى الحد الذي يسبب البؤس للفلاحين، ومن أجل ذلك زاد النزاع القائم بين الريف والمدينة من حدة الأحقاد القائمة بين الطبقات المتعادية التي تضمها أسوار المدينة.
ويقول فلاني إن مدينة فلورنس نفسها كانت تضم في عام 1343 حوالي 91. 500 من الأنفس، وليس لدينا تقدير لسكانها في سني النهضة المتأخرة نستطيع أن نثق به كما نثق بتقدير فلاني، ولكن في مقدورنا أن نفترض أن سكانها قد ازدادوا بسبب اتساع نطاق التجارة وازدهار الصناعة. وكان نصف سكان المدينة من المشتغلين بالصناعات، وكانت صناعات النسيج وحدها تضم في القرن الثالث عشر ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء يعملون في مائتي(18/124)
مصنع (1). ونال فردريجو أريتشيلاري Frederigo Oricellarii لقبه هذا لأنه جاء معه من بلاد الشرق بصبغة بنفسجية (أركيلا Orchella) . وقد أحدث استخدامها انقلاباً في صناعة الصباغة، وكسب من روائها بعض صناع الأقمشة الصوفية مكاسب لو كانت لهم في هذه الأيام لعدوا من أصحاب الملايين. وكانت فلورنس قبل أن يحل عام 1300 قد وصلت إلى مرحلة الاستثمار الكبير الرأسمالي، وإيجاد مراكز لإمدادها بالمواد الخام والآلات، وتوزيع العمل توزيعاً منظماً، والإشراف على الإنتاج من قبل أصحاب رؤوس الأموال. وكان الثوب الصوفي في عام 1407 يمر بثلاثين عملية يقوم بكل منها صانع تخصص فيها (2).
وكانت فلورنس تعمل لترويج منتجاتها بتشجيع تجارها على إنشاء علاقات تجارية مع جميع ثغور البحر المتوسط والثغور القائمة على شاطئ البحر الأدرياوي حتى مدينة بروج. وكان لها قناصل في إيطاليا، وجزائر البليار، ومصر، وقبرص، والقسطنطينية، وبلاد فارس، والهند، والصين لحماية تجارتها وتوسع نطاقها. وكان لا بد لها من الاستيلاء على بيزا لتكون مخرجاً لا غنى عنه لبضائع فلورنس المتجهة إلى البحر، وكانت تستأجر لنقلها سفن جنوي. وكانت المنتجات الأجنبية المنافسة لمصنوعات فلورنس تمنع من دخول أسواق هذه المدينة بفرض ضرائب الحامية عليها من حكومة يديرها التجار وأصحاب المال. وكانت بيوت فلورنس المصرفية البالغ عددها ثمانين بيتاً- وأشهرها بيوت باردي Bardi، واسترتسي Strozzi، وبتي Pitti، وينديتشي- كانت هذه البيوت تستثمر مدخرات عملائها المودعين أموالهم فيها. وكانت تقبض الصكوك ( Polizze) (4) وتتبادل المتاجر كما تتبادل الأثمان (5)، وتمد الحكومات بالأموال التي تحتاجها لشئون السلم والحرب. وقد أقرضت بعض البيوت(18/125)
المالية الفلورنسية إدور الثالث ملك إنجلترا 1. 365. 000 فلورين (34. 125. 000؟ دولار أمريكي) فلما عجز عن الوفاء أفلست هذه البيوت (1345). إلا أن فلورنس أضحت من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر العاصمة المالية لأوربا على الرغم من هذه الكارثة، وفيها تحدد أسعار تبادل النقد بين مختلف الدول الأوربية (7). ونشأ منذ ذلك الزمن البعيد وهو عام 1300 نظام للتأمين يهدف إلى حماية بضائع إيطاليا أثناء نقلها بحراً- وذلك احتياط لم تتبعه إنجلترا حتى عام 1543 (8). وتظهر طريقة القيد المزدوج في إمساك الدفاتر (طريقة الدوبيا) في سجل حسابات فلورنسي يرجع إلى عام 1382، وأكبر الظن أن هذه الطريقة كان قد مضى على وجودها في فلورنس، والبندقية، وجنوي في ذلك العام قرن كامل من الزمان (9)، واصدرت حكومة فلورنس في عام 1345 قراطيس مالية قابلة للتحويل، ويمكن تبديلها ذهباً، وكانت هذه القراطيس ذات سعر منخفض لا يزيد على خمسة في المائة، وهذا الانخفاض في حد ذاته دليل على ما كانت تستمتع به المدينة من سمعة طيبة خاصة برخائها وسلامتها التجارية. وليس أدل على هذا من أن إيراد الحكومة في عام 1400 كان أعظم من إيراد حكومة إنجلترا في عهد الملكة إلزبث الزاهر.
وكان رجال المصارف، والتجار، والصناع، وأصحاب المهن، والعمال الماهرون ينتظمون في سبع طوائف، وكان في فلورنس سبع من هذا النوع تعرف بالطوائف الكبرى ( Arti Maggiori) وهي طوائف صانعي الملابس، وصانعي الصوف، وصانعي المنسوجات الحريرية، وتجار الفراء، ورجال المال، والأطباء، والصيادلة. أما الطوائف الأربع عشرة الباقية من طوائف فلورنس أو الطوائف الصغرى Arti Minori فكانت طوائف بائعي الملابس، والجوارب، والقصابين، والخبازبن، وبائعي الخمور، والأساكفة، وصانعي السروج، وصانعي الدروع، والحدادين، وصانعي(18/126)
الأقفال، والنجارين، وأصحاب الفنادق، والبنائين، وقاطعي الأحجار، وخليط مجتمع من بائعي الزيوت، ولحم الخنزير، وصانعي الجبال. وكان من واجب كل ناخب أن يكون عضواً في إحدى هذه الطوائف، وانضم إليها النبلاء الذين حرمتهم ثورة الطبقة الوسطى في عام 1282 من حقوقهم الانتخابية، وكان الباعث على انضمامهم إليها أن يكون لهم من جديد صوت في الانتخابات. وكان يلي هذه الطوائف الواحدة والعشرين اثنان وسبعون اتحاداً من العمال الذين لا أصوات لهم، ومن تحت هذه الاتحادات آلاف من عمال المياومة الذين حرم عليهم الانتظام في جماعات، والذين كانوا يعيشون في فقر مدقع، ومن تحت هؤلاء أيضاً- أو قل من فوقهم لأنهم كانوا يلقون من أسيادهم عناية أكبر- عدد قليل من الأرقاء. وكان أعضاء الطوائف الكبرى يكونون من الناحية السياسية من يسمونهم «البُدن» أو «ذوي الطعام الجيد»، أما من بقي من الأهلين فكانوا يكونون «صغار الناس» ( popolo minuto) . وكان تاريخ فلورنس السياسي، كتاريخ الدول الحديثة، يتألف أولا من انتصار طبقة رجال الأعمال على طبقة الأشراف القدماء (1293)، ثم يليه كفاح «طبقة العمال» للفوز بالسلطان السياسي، واعدم تشنتو برنديني Cinto Brandini وتسعة رجال آخرون في عام 1345 لأنهم نظموا فقراء العمال في صناعة الصوف، وجئ بعمال أجانب لتحطيم هذه الاتحادات (10) وحاول «صغار الناس» في عام 1368 أن يقوموا بثورة، ولكن ثورتهم أخمدتن وبعد عشر سنين من ذلك الوقت حدثت فتنة ممشطي الصوف التي جعلت لطبقات العمال السيطرة على البلدية فترة قصيرة عصبية. وتفصيل ذلك أن عاملا حافي القدمين يدعى ميتشيلي دي لاندو Michele di Lando قاد هؤلاء الممشطين واندفع بهم إلى البلاتسوفيتشيو Palazzo Vecchio وطردوا كبار الموظفين، واقاموا مكانهم دكتاتورية العمال (1378). والغيت حينئذ القوانين التي تحرم(18/127)
إنشاء الاتحادات، ومنحت الاتحادات الصغرى حق الانتخاب. وأجل أداء ما على الأجراء من ديون مدة اثنتي عشر سنة. وخفضت فوائد هذه الديون ليخفف بذلك العبء على الطبقات المدينة. ورد زعماء العمال على هذا بأن اغلقوا حوانيتهم، وأغروا ملاك الأراضي بقطع الطعام عن المدينة. وضايق ذلك الثوار فانقسموا حزبين أحدهما يتألف نت ارستقراطية العمال وقوامه الصناع الحاذقون، وثانيهما «جناح يساري» تدفعه إلى العمل آراء شيوعية، وانتهى الأمر بأن جاء المحافظون برجال أشداء من الريف، وسلحوهم، وقلبوا الحكومة المنقسمة على نفسها، وأعادوا السلطة إلى طبقة أصحاب العمال (1382).
وعدل أصحاب العمال المنتصرون ليقووا بذلك مركزهم ويجنوا ثمار نصرهم. فألفوا السنيوريا Signoria ( أو المجلس البلدي المكون من السنيوري Signori أو السادة) من ثمانية من زعماء الطوائف Priori delle arti يختارون بالقرعة بسحب أوراق من أكياس توضع فيها بعد أن تكتب عليها أسماء الصالحين لأن يختاروا إلى تلك المناصب. فإذا تم اختيار أولئك الثمانية، انتخبوا هم واحدا من بينهم ليكون رئيسا للسلطة التنفيذية ويسمى حامل لواء العدالة gonfaloniere di giustizia أو منفذ القانون. وكان لا بد أن يختار اربعة من الزعماء الثمانية من أعضاء الطوائف الكبرى مع أهذه الطوائف لم تكن تضم إلا أقلية صغيرة من الذكور البالغين. كذلك كان لا بد من وجود هذه النسبة بعينها في مجلس الشعب الاستشاري Consiglio del Popolo. على أننا يجب أن نذكر هنا أن كلمة Popolo لم يكن يقصد بها إلا أعضاء الطوائف الواحدة والعشرين. أما أعضاء مجلس البلدية Considlio del Comune فكانوا يختارون من بين أعضاء النقابات على اختلاف أنواعها، ولكن اختصاصه لم يكن يزيد على أن يجتمع حين(18/128)
يدعوه مجلس الحكام، وأن يقترع بالإيجاب أو النفي على ما يعرضه عليه الزعماء من اقتراحات. وكان الزعماء يدعون في أحوال نادرة برلمانا Parlamento يجتمع في ميدان الرياسة بأن يقرعوا الناقوس الكبير المعلق في برج قصر فيتشيو. وكانت هذه الجمعية العامة تختار في العادة لجنة من المصلحين Balia وتمنحها السلطة العليا فترة محددة من الوقت، ثم ينفض اجتماعها.
ولقد وقع أحد المؤرخين من رجال القرن التاسع عشر في غلطة كريمة حين خلع في كتابه على فلورنس درجة من الحكم الديمقراطي لم يكن لها قط وجود في هذه الجنة البلوتوقراطية. ونقول أن هذه الدرجة من الديمقراطية لم يكن لها وجود لأن المدن الخاضعة لفلورنس لم يكن لها رأي في اختيار السادة الذين يحكمون المدينة وإن كانت هذه المدن غنية بالعباقرة، وإن كانت تفخر بتراثها الماضي المجيد. وكان حق الاقتراع في فلورنس مقصوراً على 3200 من الذكور، وكان ممثلو رجال الأعمال في المجلسين أقلية يندر أن يتحداها أحد (11). ذلك أن الطبقات العليا لم يكن يخالجها شك في أن الجماهير الأمية الجاهلة، عاجزة عن أن تصدر حكما صحيحا سليما يتفق مع مصلحة الجماعة في الأزمات الداخلية أو الشئون الخارجة.
لقد كان الفلورنسيون يحبون الحرية، ولكن كان معنى الحرية عند الفقراء حرية السادة الفلورنسيين في أن يحكموهم، وكان معناها عند الأغنياء حريتهم في أن يحكموا المدينة والبلدان التابعة لها دون ان تقف في سبيلهم عوائق من قبل الإمبراطورية، أو البابوية، أو الإقطاع.
وكان من عيوب هذا الدستور التي لا يستطيع أحد أن ينكرها او يجادل بها فيها قصر المدة التي يحتفظ فيها الحكام بمناصبهم، وما يحدث في هذا الدستور نفسه على الدوام من تغيرات. وقد ترتب على هذين العيبين قيام الأحزاب، وتدبير المؤامرات، وأعمال العنف، والاضطرابات،(18/129)
ونقص الكفاية، وعجز الجمهورية عن أن تضع وتنفذ السياسة الثابتة الطويلة الأجل الشبيهة بتلك السياسة التي أدت إلى استقرار الأمور في البندقية وإلى زيادة قوتها. أما النتيجة الطيبة فكانت خلق جو مكهرب من النزاع والنقاد، زاد من حيوية الأهلين، وقوي إحساسهم، وعقلهم، وذكائهم، وأثار خيالهم، وجعل فلورنس مدى قرن من الزمان الزعيمة الثقافية للعالم الغربي.(18/130)
الفصل الثالث
كوزيمو» أبو البلاد «
كانت السياسة في فلورنس هي الصراع بين الأسر الغنية بعضها وبعض -الريتشي Ricci، والألبدسي Albizzi، والميديتشي، والريدلفي Ridolfi، والبستي Pazzi، والاستتسي Strozzi، والروتشيلاي Rucellai، والفالوري Valori، والكبوني Capponi، والسودريني Soderini- للسيطرة على الحكم. وقد احتفظت أسرة الأليتسي بسلطانها الأعلى في الدولة فيما بين عامي 1381 و 1434، إذا استثنينا بعض فترات مختلفة، وحمت بشجاعتها أغنياء المدينة من فقرائها.
وفي وسعنا ان نتتبع تاريخ آل ميديتشي من علم 1201، حين كان كيارسيموه ده ميديتشي Chiarissimo عضواً في المجلس البلدي (1) للمدينة المستقلة. وكان أفرار دودة ميدتشي Averardo de'Medici جَدُّ جدَّ كوزيمة هو الذي أفاء على الأسرة ثراءها العظيم بأعماله التجارية الجريئة والمالية الحكيمة، ولذلك اختير حامل شعار المدينة في عام 1314. واختير سلفستر دة ميديتشي Salvestro de'Medici ابنُ ابن أخي افراردو حاملا لشعار المدينة في عام 1378، وهو الذي جمع قلوب أهلها على حب
_________
(1) ولا يزال أصل اسم هذه الأسرة يكتنفه الغموض، وليس ثمة ما يثبت أنهم كانوا أطباء، وان لم يكن بعيداُ أنهم انضموا في يوم من الأيام إلى إحدى الطوائف الطبية حسب الطريقة غير الدقيقة التي كانت متبعة في تحديد أنواع الطوائف بمدينة فلورنس. ولسنا نعرف كذلك معنى شعار الأسرة الذائع الصيت المكون من ست كرات حمراء مرسومة على أرضية من الذهب. ولقد أصبحت هذه الكرات بعد أن خفض عددها إلى ثلاث رمز مقرضي النقود على رهون بعد ذلك الوقت.(18/131)
تلك الأسرة بمناصرته قضية الفقراء الثائرين. وعمل جيوفني دي بتشي دة ميديتشي Csiovanni di Bicci de' Medic ابنُ ابن أخي سلفسترو، وحامل شعار المدينة في عام 1421 على زيادة تعلق أهل المدينة بالأسرة بتأييده فرض ضريبة سنوية قدرها0. 5 % على الدخل قدرت بسبعة في المائة من راس المال الممول (1427)، وإن كانت هذه الضريبة عبثاً باهظاً عليه. فلما فعل ذلك أقسم الأغنياء، الذين كانوا يؤدون فرضة الرءوس بالقدر الذي يؤديه الفقراء، أن يثأروا لأنفسهم من لآل ميدتشي.
وتوفي جيوفني دي ميدتشي في عام 1428 وترك لابنه كوزيمو اسماً رفيعاً وأكبر ثروة في بلاد تسكانيا-179. 221 فلورينا (4. 480. 525؟ دولار) (31). وكان كوزيمو قد بلغ وقتئذ التاسعة والثلاثين من عمره، وأصبح خليقاً بأن يواصل مغامرات المؤسسة الواسعة النطاق. ولم تكن هذه الأعمال مقصورة على الشؤون المصرفية، بل كانت تشمل إدارة ضياع واسعة، ونسج الحرير والصوف، والقيام بتجارة متنوعة تربط الروسيا بأسبانيا واسكتلندة ببلاد الشام، والإسلام بالمسيحية. ولم يكن كوزيمو وهو يشيد الكنائس في فلورنس يرى شيئاً من الإثم في عقد الاتفاقات التجارية، وتبادل الهدايا الغالية، مع سلاطين الأتراك. وكانت الشركة تحرص بنوع خاص على أن تستورد من بلاد الشرق السلع الصغيرة الحجم الكبيرة القيمة كالتوابل، واللوز، والسكر، وتبيعها هي وغيرها من الغلات في عشرات من الثغور الأوربية.
وكان كوزيمة يدير هذه الأعمال بمهارة وهدوء، وبجد بعد ذلك متسعاً من الوقت للاشتغال بالسياسة، فكان عضواً في الديتشي أو مجلس العشرة الحربي، وقاد فلورنس من نصر إلى نصر ضد لوكا Lucca، وكان بوصفه من رجال المصارف المالية يقرض الحكومة الأموال الطائلة لتمويل الحرب. وأثار التفاف قلوب الشعب حوله حسد غيره من كبراء فلورنس(18/132)
له، فاتهمه رينلدو دجلي ألبيتسي Rinaldo degli Albizzi في عام 1433 بأنه يعمل لقب حكومة الجمهورية والانفراد بحكمها حكماً دكتاتورياً، وأقنع رينلدو برناردو جواديني Bernardo Guadagni، وكان وقتئذ حامل شعار المدينة، أن يأمر بالقبض على موزيمو، فأسلم كوزيمو نفسه واعتقل في قصر فيتيشيو. ولما كان رينلدو يسيطر بأتباعه المسلحين على البارلمنتو المنعقد في ميدان دلا فيوري، فقد بدا أن حكم الإعدام وشيك الصدور من هذه الهيئة. ولكن كوزيمو استطاع أن ينفح برناردو بألف دوقة من المال (5. 000دولار؟) أصبح بعدها على حين غفلة أكثر رحمة وإنسانية، ورضى أن يكتفي بنفي كوزيمو، وأولاده، وكبار أنصاره من المدينة مدة عشر سنين (14). وأقام كوزيمو في مدينة البندقية واكتسب فيها بفضل تواضعه وثرائه كثيرين من الأصدقاء، وسرعان ما أخذت حكومة البندقية تستخدم نفوذها للعمل على عودته إلى بلده. وكان مجلس حكام فلورنس الذي انتخب في عام 1434 يميل إلى استدعائه، فأصدر حكمه بإلغاء قرار النفي، وعاد كوزيمو ظافراً، وفر رينلدوا وأبناؤه من المدينة.
واختار المجلس حكومة جديدة ومنحها السلطة العليا في المدينة. وخدم كوزيمو ثلاث دورات قصيرة ثم تخلى بعدها عن جميع المناصب السياسية. وقال في ذلك: «إن اختيار الإنسان للمناصب كثيراً ما يضر بالجسم وبالنفس معاً» (15 (، وإذا كان أعداؤه قد غادروا المدينة فإن أصدقاءه لم يجدوا أية صعوبة في السيطرة على الحكومة، وأفلح هو بقوة الحجة أو بالمال أن يستبقى اصدقاءه في مناصبهم إلى آخر حياته دون أن تتزعزع أشكال الحكم الجمهوري، ذلك أنه نال تأييد الأسر ذات النفوذ القوي، أو أرغمها على تأييده بما كان يمنحها من القروض، وأن عطاياه السخية لرجال الدين ضمنت له تحمسهم في مساعدته، وأعماله الخيرية العامة التي لم يكن لها من قبل مثيل في اتساع طاقها وسخائها جمعت قلوب المواطنين في غير صعوبة على الرضا بحكمه. وكان من اسباب رضاهم ما تبينوه من أن(18/133)
دستور الجمهورية لا يحميهم من أهل الثراء، وقد انطبع هرس انطباعا قوياً في ذاكرة الشعب بعد هزيمة الكيومي. فإذا كان لا بد للجماهير من ان تختار بين آل ألبتسي الذي يناصرون الأغنياء وآل ميديتشي المناصرين للطبقات الوسطى والفقراء، فإنه لم يطل ترددها في هذا الاختيار. ومن أجل هذا فإن الشعب الذي أرهقه سادته الأغنياء، وذاق الأمرين من التحزب والانقسام، رحب بالدكتاتورية في فلورنس عام 1434، وفي بروجيا عام 1389، وفي بولونيا عام 1401، وفي سينا عام 1477، وفي روما عام 1347، و1922. ويقول فلاني إن «آل ميديتشي استطاعوا أن يحرزوا السيطرة على المدينة باسم الحرية، وبتأييد أعضاء طوائف الحرف والجماهير» (16).
واستخدم كوزيمو سلطانه باعتدال ودهاء يمتزج بهما العنف في بعض الحيان. ومن أمثلة هذا العنف أنه لما ارتاب أصدقاؤه في أن بلداتشيو دنجياري Baldaccio d' Anghiari وكان يحبك مؤامرة للقضاء على سلطان كوزيمو، ألقى هؤلاء الأصدقاء ببلداتشيو من نافذة عالية علواً يكفي للقضاء عليه، ولم يجد كوزيمو في هذا العمل سبباً للشكاية، فقد كان من أقواله الساخرة أن الدول لا تحكم بالأدعية والصلوات». وقد استبدل بضريبة الدخل الموحدة ضريبة تصاعدية على رأس المال، واتهم بأنه قد حدد مقادير هذه الضريبة ليميز بذلك أصدقاءه، ويلقي العبء على أعدائه. وقد بلغ مجموع هذه الأعباء 4. 875. 000 فلورين (121. 875. 000 دولار) في السنين العشرين الأولى من سيطرة كوزيمو. وكان الذين يحاولون التملص منها يزجون في السجن على الفور. وغادر المدينة كثيرون من الأشراف، وعاشوا في الريف معيشة نبلاء العصور الوسطى، وقبل كوزيمو خروجهم منها بهدوء واطمئنان، وقال إن أشرافاً جدداً يمكن خلقهم ببضعة أشبار من القماش الأرجواني (17).
وتبتسم الناس من قوله ووافقوا عليه لانهم أدركوا أن هذه الأعباء(18/134)
قد خصصت لإدارة فلورنس وتزيينها، وأن كوزيمو نفسه قد اعتمد من ماله 400. 000 فلورين (10. 000. 000؟ دولار) للأعمال العامة والصدقات الخاصة (18)، ويكاد هذا يعادل ضعفي المبلغ الذي تركه لورثته (19). وظل كوزيمو يعمل بلا انقطاع إلى آخر سني حياته البالغة سبعاً وخمسين سنة في إدارة أملاكه الخاصة وشئون الدولة، ولما أن طلب وغض النظر عن غدر إدورد الثالث، ورد إليه الملك هذا القرض نقداً وعوناً سياسياً. ولما أن احتاج بارنتوتشيلي Parentucelli اسقف بولونيا إلى المال وسأل كوزيمو العون بادر إلى معونته، ولما أن جلس بارنتوشيلي على كرسي البابوية المالية. وكان يحرص على أن تظل نواحي نشاطه المختلفة منتظمة لا يتسرب إليها الارتباك، فلذلك كان يستيقظ مبكراً، ويذهب في كل يوم تقريباً إلى مكتبه، كما يفعل الأمريكي صاحب الملايين. وكان حين يعود إلى منزله يشذب أشجار حديقته، ويعنى بكرومه. وكان بسيطا في ثيابه، معتدلا في طعامه وشرابه، وعاش (بعد أن ولد له ابن غير شرعي من أمة) عيشة هادئة عائلية منتظمة. وكان الذين يسمح لهم بالدخول إلى بيته يدهشون من الفرق الكبير بين طعامه البسيط على مائدته الخاصة والمآدب الفخمة التي يقيمها للكبراء الأجانب استجلاباً لصداقتهم ورغبة في توطيد السلم بينه وبينهم. وكان في الأحوال العادية رحيماً، حليماً، غفوراً للذنب، قليل الكلام وإن اشتهر بنكاته اللاذعة. وكان جواداً بالمال على الفقراء، يؤدي ديون أصدقائه المعوزين، ويخفي صدقاته فيمنحها دون ان يعرف مانحها، كما كان يستخدم سلطانه دون أن يعرف الناس أن يستخدمه. ولقد أجاد بتيتشلي Botticelli، وبنتورمو Pontormo، وبندسو جتسولي benozzo Gsozzoli تصويره لنا فعرفنا أنه متوسط طول القامة، زيتوني لون الوجه، ذا شعر أشمط مرتد عن(18/135)
مقدم رأسه، وأنف حاد طويل، ووجه وقور ينم عن الرأفة والحنان، وينطق بالحكمة والقوة الهادئة.
وكانت سياسته الخارجية كلها تهدف إلى تنظيم السلم، ذلك أنه وقد استحوذ على السلطة بعد أن خاض في سبيلها سلسلة من المعارك المخربة عرف أن الحرب، أو خطر قيام الحرب، تعوق سير التجارة. ومن أعماله في هذه السبيل أنه لما حكم الفيكونتي في ميلان وسادتها الفوضى بعد موت فلبو ماريا Filippo Maria وهددت البندقية بالاستيلاء على الدوقية والسيطرة على شمالي إيطاليا بأجمعه حتى ابواب فلورنس نفسها، بعث كوزيمو إلى فرانتسكوا سفوردسا Francesco Sforza بما يلزمه من المال لتوطيد سلطته في ميلان ووقف تقدم البنادقة. ولما أن تحالفت البندقية ونابلي على فلورنس، طالب كوزيمو بكثير من القروض التي كانت له عند أهل المدينتين، فاضطرت حكومتاهما إلى عقد الصلح (20). ووقفت ميلان وفلورنس من ذلك الوقت ضد البندقية ونابلي، وأصبحت القوتان بعدئذ متوازنتين توازنا لم تجرؤ معه إحداهما بأن تخاطر بالتورط في حرب لا تعلم عاقبتها. وكانت هذه السياسة-سياسة توازن القوى- التي ابتكرها كوزيمو وسار عليها لوراندسو هي التي أفاءت على إيطاليا عشرات السنين من السلم والنظام امتدت من 1450 إلى 1492، اثرت في خلالها مدائنها إثراء امكنها من أن تمد بالمال بداية عصر النهضة.
وكان من حسن حظ إيطاليا والإنسانية جمعاء أن كوزيمو كان يعني بالأدب، والعلم، والفلسفة، والفن بقدر ما يعني الثروة والسلطان. ولقد كان هو نفسه ذا تربية عالية وذوق راق، وكان يتقن اللغة اللاتينية، ويعرف قليلا من اليونانية والعبرية، والعربية، وقد أوتى من سعة الأفق ما جعله يقدر تقوى الراهب أنجلكو وتصويره، وخمسة فلبوليني الجذابة المتعة، والطراز القديم لنقوش جبرتي Gheberti البارزة، والابتكار(18/136)
الجريء الذي عمد إليه دونالتو Donatello في نحته، والكنائس الفخمة التي خططها برونيلسكو Brunellesco، والقوة غير الجامحة التي تشاهد في عمائر متشيليتسو Michelozzo، والأفلاطونية الوثنية التي تتصف بها أعمال جمستوس بيثو Gemitus Pietho، والأفلاطونية الصوفية التي ينطبع بها تفكير بيكو Pico وفيتشينو Ficino، ورقة ألبرتي، وفظاعة بجيو Poggio المتعمدة، وإسراف نيقولوده في تعظيم الكتاب المقدس، وكان هؤلاء جميعا ينالون رفده. وقد استدعى جوانس أرجيروبولوس Joannes Argyropoulos إلى فلورنس ليعلم شبابها لغتي اليونان وروما وآدابهما، وظل اثنتي عشر سنة يدرس مع فيتشينو آداب بلاد اليونان وروما. وأنفق قدراً كبيراً من ماله في جمع النصوص الأدبية القديمة حتى كان أثمن ما تحمله سفنه في كثير من الأحيان المخطوطات التي تأتي بها من بلاد اليونان او الإسكندرية. ولما أن افلس نيقولوده نقولى لكثرة ما أنفقه في ابتياع المخطوطات القديمة، فتح له كوزيمو اعتمادا لا حد له في مصرف آل ميديتشي، ومده بالعون حتى مماته. وكان يستخدم خمسة وأربعين نساخاً يشرف عليهم الكتبي المتحمس فسبازيا نودا بستتشي Vespasiano da Bisticci لكي ينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات. وكان يضع كل هذه «القطرات الثمينة» في حجرات بدير القديس ماركو، أو بدير فيسولي Fiesole أو في مكتبته هو. ولما توفى نيقولي (1437) وترك وراءه ثمانمائة مخطوط تقدر قيمتها بستة آلاف فلورين (150. 000 دولار) وكان مثقلا بالديون، واختار ستة عشر وصيا يعهد إليهم التصرف في كتبه، عرض كوزيمو أن يتحمل هو الديون كلها إذا ما سمح له ان يعين الأمكنة التي توضع فيها هذه المجلدات. فلما اتفق على هذا قسم كوزيمو مجموعة الكتب بين مكتبة دير القديس ماركو ومكتبته. وكانت هذه المجموعات كلها في متناول المدرسين والطلاب من(18/137)
غير أجر. وذلك يقول فاركي Varchi المؤرخ الفلورنسي مع المغالاة التي تدفعه إليها وطنيته:
إذا كانت الآداب اليونانية لم يجر عليها النسيان التام ذيله فتصاب الإنسانية من جراء هذا النسيان بخسارة فادحة، وإذا كانت الآداب اللاتينية قد بعثت بعثاً جديداً فجنى الناس من وراء ذلك فوائد لا حد لها ولا تقدر قيمتها، فإن إيطاليا كلها، بل والعالم بأجمعه، مدينان بذلك إلى حكمة آل مدييتشي، وعطفهم، وحبهم، لا لأحد سواهم (21).
وما من شك في أن عملية البعث العظيمة كانت بدايتها أعمال المترجمين العظماء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأعمال الشراح العرب، وكتابات بترارك وبوكاتشيو، ثم واصل هذا العمل العلماء وجامعوا المخطوطات أمثال سالوتاري Salutari، وترا فرساري Traversari، وبروني Bruni، وفلا Valla، وكان هذا كله قبل كوزيمو. كذلك واصل هذه الأعمال نقولي، وبجيو، وفيليلفو Filelfo، والفنسو الأفخم ملك نابلي، ومائة غيرهم من معاصري كوزيمو، بل واصلها أيضاً منافسه بلا استرتسي في منفاه وواصلوها كلهم مستقلين عن كوزيمو. ولكننا إذا لم نقصر حكمنا على كوزيمو أبى البلاد بل مددناه حتى شمل أبناءه لورندسو الأفخم، وليو العاشر، وكلمنت السابع لم يسعنا إلا أن نعترف بأن آل ميديتشي لم تضارعهم في مناصرة العلم والفن أية أسرة في تاريخ البشرية المعروف بأجمعه.(18/138)
الفصل الرابع
الإنسانيون
لقد كان حكم آل مديتشي أو كان زمانهم هو العهد الذي أستحوذ فيه الإنسانيون على عقل إيطاليا واستأثروا به، وحولوه من الدين إلى الفلسفة، ومن السماء إلى الأرض، وكشفوا فيه للجيل المندهش المنذهل عن ثراء الفكر الوثني والفن الوثني، ولقد أطلق على هؤلاء الناس الذين جنوا بالعلم جنوناً منذ ايام أريستو Ariosto (22) البعيدة اسم الإنسانيين umanisti. لأنهم كانوا يسمون دراسة الثقافة القديمة الإنسانيات umanita أو الآداب الأكثر إنسانية Litera humaniores ( لا الأكثر رحمة). وأضحت الدراسة الصحيحة الخليقة بالبشر في أيامهم هي الإنسان نفسه بكل ما يكمن في جسمه من قوة وجمال، وما في حواسه ومشاعره من بهجة وألم، وما في عقله من جلال واهن، دراسته من هذه النواحي كلها كما تظهر موفورة كاملة ابعد حد في آداب اليونان والرومان وفنونهم القديمة. وهذه هي الإنسانيات.
لقد كانت الكتب اللاتينية كلها تقريباً، وكثير من الكتب اليونانية الموجودة عندنا في هذه الأيام، معروفة عند علماء العصور الوسطى المنتشرين في بقاع مختلفة من أوربا، وكان أهل القرن الثالث عشر يعرفون أكابر الفلاسفة الوثنيين. ولكن ذلك القرن قد غفل أو كاد عن الشعر اليوناني، وكانت طائفة كبيرة من الكتب القديمة القيمة التي نجلها الآن مهملة في مكتبات الأديرة أو الكنائس الكبرى. وكانت هذه الأركان المنسية أكثر الأماكن التي عثر فيها بترارك ومن جاءوا بعده على الكتب القديمة «المفقودة»، التي يسميها «السجينة الظريفة الأسيرة في أيدي السجانين «الهمج». وارتاع(18/139)
بوكاتشيو حين زار مونتي كسينو Monte Cossino ووجد المخطوطات الثمينة تبلى في التراب، أو تقطع لتكتب عليها المزامير أو تتخذ تمائم. ولما زار بجيو Poggio دير القديس جول St. Gall في سويسرا وجد كتاب الأنظمة لكونتليان Quntilian في جب قذر مظلم، وأحس وهو يستنفذ هذا الملف كأن المعلم القديم يمد يديه متوسلا إليه أن ينقذه من «البرابرة»، فقد كان هذا هو الاسم الذي يطلقه الإيطاليون المعتزون بثقافتهم على الفاتحين الغلاط المقيمين وراء جبال الألب، كما كان يطلقه عليهم اليونان والرومان من قبل. وكان بجيو وحده هو الذي أخرج من هذه القبور نصوص لكريشيوس، وكولوملا Columella، وفرنتينوس Frontinus، وفتروفيوس Vritruvius، وفليريوس فلاكرس Valerius، وترتليان، وبلوتوس، وبترونيوس، وأميانس مرسلينس، وعدد غير قليل من خطب شيشرون الكبرى. واستخرج كولوتشيو سليوتاتي Coluecio Salutati في فرتشيلي Vercelli كثيراً من رسائل شيشرون إلى أسرته (1389). وعثر جرلدو لندرياني Gheraldo Landriani على رسائل شيشرون في علم البيان موضوعة في صندوق قديم في لدفي Lodfi (1422) ، وأنقذ أمبروجيو ترافرساري Ambrogio Traversari كرنليوس نيبوس من النسيان في بدوا (1343)، وكشفت كتب تاستس Tacitus وهي Germania, Agricola، و Dialogi ( الزارع، والألمانية، والحوار) في ألمانيا (1455)، واستردت الكتب الستة الأولى من حوليات تاستس ومخطوط كامل من رسائل بلني الأصغر من ديركورفي Corvey، (1508) وأضحت من أكثر ممتلكات ليو العاشر قيمة.
وكان أكثر من عشرة من الإنسانيين يدرسون أو يطوفون ببلاد اليونان في نصف القرن السابق على فتح الأتراك للقسطنطينية، وأعاد واحد منهم هو جيوفني أورسبا Giovanni Aurlspa إلى إيطاليا 238 مخطوطا تشمل(18/140)
فيما تشمله مسرحيات إيسكلس Aeschylus وسفكليز، واستنقذ رجل آخر يدعى فرانتشسكو فيليلفو Francesco Filelfo من القسطنطينية (1427) نصوص هيرودت، وتوكيديدس، وبوليبيوس، ودمستين، وايسكنيس Aeschines، وأرسطو، وسبعا من مسرحيات يوربديز. ولما عاد هؤلاء الرواد وأمثالهم إلى إيطاليا بما كشفوه من الذخائر، كانوا يقابلون كما يقابل قواد الحرب المنتصرون، وكان الأمراء ورجال الدين يؤدون أغلى الأيمان لبعض هذا الفن. وأدى سقوط القسطنطينية إلى ضياع كثير من الكتب القديمة التي أثبت الكتاب البيزنطيون وجودها في مكتبات تلك المدينة، غير أن آلافاً مؤلفة منها قد أنقذت، وجئ بمعظمها إلى إيطاليا، ولا تزال خير المخطوطات اليونانية القديمة موجودة فيها حتى الآن. وظل الناس ثلاثة قرون من أيام بترارك إلى تاسو Tasso يجمعون المخطوطات بحماسة وحب كحب الآباء للأبناء، وقد اتفق نيقولو دي نقولى أكثر من ثروته في هذا العمل، وكان أندريولو دي أوكيس Andereolo de Ochis على استعداد لأن سيضحي ببيته، وزوجته، وحياته نفسها لكي يضيف شيئاً إلى مكتبته، وكان بجيو يألم أشد الألم حين يرى شيئاً من المال ينفق على غير الكتب. وأعقبت ذلك ثورة في نشر الكتب، فقد شرع الناس يدرسون هذه النصوص المكتشفة، ويفاضلون بها، ويصححونها، ويشرحونها، وقامت من أجل ذلك حملة امتدت من لورندسو فلا Lorenzo Valla في نابلي إلى سيرتومس م Sir Thomas More في لندن، وإذ كانت هذه الجهود تتطلب في كثير من الأحيان علماً باللغة اليونانية، فقد أرسلت إيطاليا-ونهجت نهجاً فيما بعد فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا-تستدعي مدرسين للغة اليونانية، وتعلم أورسب، وفيليلفو تلك اللغة في بلاد اليونان نفسها، ولما جاء مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras إلى إيطاليا (1397) مبعوثاً إليها من بيزنطية، وأقنعته جامعة فلورنس بالانضمام إلى اساتذتها(18/141)
ليكون أستاذاً للغة اليونانية وآدابها، وكان من بين تلاميذه في هذه الجامعة بجيو، وبلا استروتسي، ومرسوبيني Marsupini ومانتي Manetti. وبدأ ليوناردو بروني Leonardo Bruni بدراسة القانون ولكنه تركه بتأثير كريسلوراس وشرع يدرس اللغة اليونانية، ويحدثنا هو عن ذلك فيقول: «والقيت بنفسي في تيار تدريسه بحماسة بلغ مناه أن امتلأت احلامي بالليل بما كنت أتلقاه منه بالنهار» (23). ترى هل يتصور أحد في هذه الأيام أن النحو اليوناني كان في وقت ما يستحوذ على الألباب استحواذ قصص المغامرات والروايات الغرامية في هذه الأيام؟
والتقى اليونان والإيطاليون عام 1439 في مجلس فلورنس، وكانت الدروس التي يبادلونها معاً في اللغة أبلغ أثراً في شئون الدين. وهناك ألقى جمستس بليثو Gemistus Pletho محاضراته الذائعة الصيت التي كانت ختام سيادة أرسطو على الفلسفة الأوربية وجلوس أفلاطون على عرش هذه الفلسفة جلوس الآلهة. ولما انقض اجتماع المجلس بقى في إيطاليا يؤانس بساريون Joannes Bessarion وكان قد جاء إليها بوصفه أسقف نيفية، وقضى جزءاً من وقته يعلم اللغة اليونانية. وامتدت حمى الدرس إلى غير فلورنس من المدن، فجاء بها بساريون إلى روما، وعلم ثيودورس جازا Theodorus Gaza اللغة اليونانية في بروجيا (1450)، وبدوا، وفلورنس، وميلان (1492 - 1511 أو نحو ذلك الوقت)، ويؤانس أرجيروبولس في بدوا (1441) وفلورنس (1456 - 1471)، وروما (1471 - 1486)، وقد جاء هؤلاء كلهم إلى إيطاليا قبل سقوط القسطنطينية (1453)، ولهذا فإن هذه الحادثة لم يكن لها إلا شأن قليل في انتقال اللغة اليونانية من بيزنطية إلى إيطاليا. غير أن استيلاء الأتراك على الأراضي المحيطة بالقسطنطينية شيئاً فشيئاً بعد عام 1356 كان من العوامل التي حملت العلماء اليونان على الانتقال نحو الغرب. وكان من الذين فروا من العاصمة(18/142)
الشرقية عند سقوطها قسطنطين لسكارس Constantine Lascaris، وقد جاء ليعلم اللغة اليونانية في ميلان (1460 - 1465)، ونابلي، ومسينا (1466 - 1501)، وكان كتابه في النحو أول كتاب يوناني طبع في إيطاليا في عهد النهضة.
ولم يمض إلا وقت قليل على وجود هؤلاء العلماء جميعاً، وتلاميذهم، ونشاطهم الحماسي في إيطاليا، حتى ترجمت كتب الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية إلى اللغة اللاتينية ترجمة أكمل، وأدق، وأبلغ مما ترجم منها في القرنيين الثاني عشر والثالث عشر. وترجم جوارينو Guarino أجزاء من كتب استرابون وأفلوطرخس، وترجم ترافرساري ديوجين ليرتيوس، وترجم فلا هيرودوت وتوكيديدس، والإلياذة، وترجم بيرتي Perotti بولبيوس، وترجم فيتشينو أفلاطون وأفلوطين، وكان أفلاطون بنوع خاص أعظم من أهش الإنسانيين وامتعهم. ذلك أنهم كانوا يبتهجون بجمال أسلوبه وسلاسته، ويجدون في المحاولات مسرحية أكثر وضوحاً وحيوية ومواءمة لروح العصر الذي يعيشون فيه مما يجدونه في جميع مسرحيات إيسكلس، أو سفكليز أو يوربديز، وكانوا يحسدون اليونان في عصر سفكليز على ما كان لهم من حرية واسعة في مناقشة أهم مشاكل الدين والسياسة وأكثرها دقة، ويدهشون من هذه الحرية، وكانوا يظنون أنهم واجدون في آراء أفلاطون-التي جعلها صاحبها معماة غامضة-فلسفة صوفية خفية تمكنهم من الاحتفاظ بمسيحية لم يعودوا يؤمنون بها، ولكنهم لم ينقطعوا عن حبها. وتأثر كوزيمو ببلاغة جمستس بلثيو Gemistus Pletho وتحمس تلاميذه في فلورنس فأنشأ في المدينة مجمعاً علمياً أفلاطونياً (1445) لدراسة أفلاطون، وأمد مرسيليو فيتشينو Marsilio Ficino بالكثير من المال الذي أمكنه من أن يخصص نصف حياته لترجمة مؤلفات أفلاطون وشرحها. ومن ذلك الحين فقدت الفلسفة المدرسية (الكلامية) سيطرتها(18/143)
في الغرب بعد أن دامت لها هذه السيطرة أربعمائة عام، وحل الحوار والمقالة محل الجدل المدرسي فأصبحا هما الصورة التي اتخذها العرض الفلسفي، ودخلت روح افلاطون المطربة المبهجة في جسم التفكير الأوربي الناشئ دخول الخميرة المنعشة في العجين.
لكن هذه الثورة قد اعقبتها شئ من رد الفعل. ذلك أنه كلما زاد ما كشفته إيطاليا من تراثها الأدبي القديم غلب على إعجاب الإنسانيين ببلاد اليونان فخرهم بأدب روما القديمة وفنها، ولهذا أحبوا اللغة اللاتينية واتخذوها أداة لأدب حي، فجعلوا أسماءهم لاتينية، وجعلوا مصطلحات عباداتهم وحياتهم المسيحيتين رومانية: فصار أسم الله يوبتر Luppiter، وأسم العناية الإلهية فاتوم Fatum والقديسين ديفي Divi، والراهبات vestales والبابا بنتفكس مكسيموس (الحير الأعظم Pontifex maximus) ، وصاغوا أسلوب نثرهم على غرار أسلوب نثرهم على غرار أسلوب شيشرون، وشعرهم على غرار شعر فرجيل وهوراس، وبلغ بعضهم مثل فيليفو، وبوليتيان بأسلوبهم درجة من الرشاقة تكاد تعادل رشاقة الأقدمين. وهكذا أخذت النهضة تعود ادراجها من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومن أثينة إلى روما، وبدا كأن خمسة عشر قرناً من الزمان قد أخذت تطوى طيا، وكأن عصر شيشرون، وهوراس، وأوفد، وسنكا، قد ولد من جديد. وأصبح الأسلوب وقتئذ أعظم شأنا من المعنى، وغلبت الصورة على المادة، وترددت أصداء خطب العصر الماضي المجيد مرة أخرى في أبهاء الإيطالية بدل اللاتينية، ولكنهم كانوا يحتقرون لغة المسالي والمغاني ويرونها لاتينية فاسدة منحطة (وفي الحق أنها تكاد تكون كذلك)، ويأسفون لأن دانتي آثر اللغة الدارجة. وقد جوزي الإنسانيون على فعلتهم هذه بأنهم فقدوا اتصالهم بمصادر الأدب الحية، وترك الشعب مؤلفات(18/144)
الإنسانيين إلى الأشراف وآثر عليها القصص المرحة التي كان يكتبها له ساكتي Sacchetti، وبنديلو Bandello، أو الروايات الغرامية التي تمزج الحرب بالحب والتي كانت تترجم أو تقتبس باللغة الإيطالية من الفرنسية. بيد أن الافتتان العابر بلغة ميتة وأدب «خالد» قد أعان المؤلفين الإيطاليين على أن يستردوا ما كان لهم من شغف بفنون العمارة، والنحت وموسيقى الأسلوب، وأن يضعوا قواعد الذوق والنطق التي رفعت اللغة القومية إلى صورتها الأدبية، ووضعت للفن هدفا ومستوى. وإذا انتقلنا إلى مجال التاريخ وجدنا أن الإنسانيين هم الذين أنهوا عهد الإخباريين المتعاقبين من كتاب العصور الوسطى، وهم الكتاب الخالية كتبهم من النقد السليم والمليئة بالفوضى، وأحلوا محل طريقتهم تمحيص المصادر والتوفيق بينها، وعرض مادتها عرضا منتظما واضحا، وبعث الحيوية والإنسانية في الماضي بمزج السير بالتاريخ، والارتفاع بقصتهم إلى مستوى فلسفي بتمحيص علل الحوادث، وتياراتها، ونتائجها، ودراسة ما في دروس التاريخ من انتظام واتساق.
وانتشرت الحركة الإنسانية في جميع أنحاء إيطاليا، ولكن زعماءها كلهم تقريباً من مواطني فلورنس أو خريجيها إلى أن جلس رجل من آل ميديتشي على كرسي البابوية. وكان كولوتشيو سلوتاري Coluccio Salutari الذي أصبح الأمين الإداري لمجلس الحكام في عام 1375 حلقة الاتصال بين بترارك وبوكاتشيو من جهة وكوزيمو من جهة أخرى، وكان يعرف ثلاثتهم ويحبهم جميعاً. وكانت الوثائق العامة التي كتبها نماذج عالية من اللغة اللاتينية الفصحى، وكانت هي المثل الذي حاول الموظفون العموميون في البندقية، وميلان، ونابلي، ورومة أن يحتذوه، وقال جيانجليتسو Giangaleazzo أمير ميلان إن سالوتاري قد أضر اسلوبه الممتاز أكثر مما يستطيع أن يضره جيش من الجنود المرتزقين (24). وكان اشتهار نيقولو دة نيقولي بأسلوبه اللاتيني يعادل اشتهاره بجمع المخطوطات، وكان(18/145)
بروني يسميه «رقيب اللسان اللاتيني»، وكان يفعل ما يفعله غيره من المؤلفين فيعرض ما يكتبه على نقولي ليصححه قبل ان ينشره. وكان نقولي يملأ بيته القديم من كتب الأدب، والتماثيل، والنقوش، والمزهريات، وقطع النقد، والجواهر، وقد امتنع عن الزواج خشية أن يلهيه زواجه عن كتبه، ولكنه وجد لديه متسعاً من الوقت يقضيه مع حظية سرقها من فراش أخيه (25). وقد فتح أبواب مكتبته لكل من يعني بالدراسة فيها، وحث شبان فلورنس على أن يهجروا ويستبدلوا به الأدب. وأبصر مرة شابا ثرياً يقضي يومه بلا عمل فسأله: «ما هي غايتك في الحياة؟» فأجابه في صراحة: «غايتي أن استمتع بوقتي»، فسأله نيقولي مرة أخرى: «فإذا انقضى عهد شبابك فماذا يكون شأنك؟» (26) وأدرك الشاب ما ينطوي عليه هذا القول من معنى، ووضع نفسه من ذلك الوقت تحت سلطان نيقولي وإرشاده.
وترجم ليوناردو بروني، الذي كان أميناً لأربعة بابوات ثم صار فيما بين عامي 1427 و 1444 لمجلس السيادة في فلورنس، طائفة من محاورات أفلاطون إلى لغة لاتينية ممتازة كشفت لإيطاليا لأول مرة عن روعة أسلوب أفلاطون، وألف ليناردو باللغة اللاتينية تاريخاً لمدينة فلورنس كان سبباً في أن أعفته الجمهورية هو وأبناءه من الضرائب، وكانوا يوازنون بين خطبه وخطب بركليز. ولما توفى أقام له كبار المدينة جنازة عامة كما كان يقام للأقدمين، ودفن في كنيسة سانتا كرونتشي (الصليب المقدس Santa Croce) ووضعوا كتابه التاريخ فوق صدره، وخطط له برناردو روسلينو قبراً عظيماً فخما يستريح فيه.
وولد كارلو مارسبيني Corlo Marsuppini في ارتسو كما ولد فيها بروني وخلفه في أمانة مجلس السيادة، وقد روع أهل زمانه بأن كان يحفظ نصف الآداب اليونانية والرومانية عن ظهر قلب. ولم يكن يترك مؤلفاً(18/146)
قديماً لم يقتبس من أقواله في خطابه الأول حين عين أستاذاً للآداب في جامعة فلورنس. وقد بلغ من إعجابه بالوثنية القديمة أن كان يشعر بأن من واجبه أن ينبذ الدين المسيحي (27)، ولكنه رغم هذا كان وقتاً ما أميناً رسولياً للكرسي البابوي في رومة، وقد دفن هو أيضاً في كنيسة سانتا كرتشي ورثاه جيانتسو مانتي Giannozzo Manetti بمرثية رائعة، واختط له دزديريو دا ستنيانو Desiderio de Sttgnano (1453) قبراً مزخرفاً، وإن قيل إنه مات دون أن يعنى بتلقي القربان المقدس (28). وكان مائتي الذي رثى هذا الملحد رجلاً لا تقل قواه عن علمه، وقد ظل تسع سنين لا يكاد يغادر في أثنائها بيته وحديقته، منكباً على دراسة الآداب القديمة، وتعلم اللغة العبرية واللغتين اليونانية واللاتينية، ولما عين سفيراً لدى روما، ونابلي، والبندقية، وجنوي افتتن به كل من رآه، وكسب في هذه المدن كلها صداقة أهلها لحكومته بفضل ثقافته، وسخائه، واستقامته.
وكان هؤلاء الرجال على بكرة أبيهم ما عدا سالوناري من أعضاء الندوة التي تجتمع في بيت كوزيمو بالمدينة أو بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيمو بالمدينة أو في بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيمو صديق آخر لا يكاد يقل عنه سخاء على العلم والعلماء، ذلك هو أمبروجيو ترافرساري Ambrogio Traversari القائد في طائفة الرهبان الكملدولية Camaldulite، والذي كان يعيش في صومعة في دير سانتا ماريا دجلي أنجيلي القريب من فلورنس. وكان يتقن اللغة اليونانية، وتنتابه نوبات من وخز الضمير لحبه الآداب القديمة، وكان يأبى أن يقتبس شيئاً منها في كتاباته، ولكنه كشف عن أثرها فيه بأسلوبه اللاتيني الذي كانت عباراته الإصلاحية التقية مما يرتاع له الجريجوريون المشهورون جميعاً لو أنهم اطلعوا عليها. وكان كوزيمو، الذي يعرف كيف يوفق بين الآداب القديمة وأساليب المالية العليا من جهة والدين المسيحي من جهة أخرى، ويحب أن يزور ترافرساري، كما كان نقولي، ومارسبيني، وبروني، وغيرهم يتخذون صومعته ندوة أدبية لهم.(18/147)
وكان أعظم الكتاب الإنسانيين نشاطاً وأكثرهم سبباً للمتاعب هو بجيو براتشيوليني Poggio Bracciolini. وقد ولد لأبوين فقيرين بالقرب من أرتسو (1380)، وتلقى تعليمه في فلورنس، ودرس اللغة اليونانية على ما نيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras، وكان يكسب عيشه بنسخ المخطوطات، وصادقه سالوتاري وعطف عليه، وعين في الرابعة والعشرين من عمره كاتباً في المحكمة البابوية في رومة، وقضى السنين الخمسين التالية يعمل في البلاط البابوي، ولم ينل في خلال هذه المدة كلها شيئاً من الرتب الدينية حتى أصغرها، ولكنه كان يرتدي الثياب الكهنوتية. وقدر له القائمون على البلاط نشاطه فأرسلوه في أكثر من عشر بعثات، وكثيراً ما كان يحيد من عمله فيها ليبحث عن المخطوطات القديمة، وقد يسر له منصبه في الأمانة البابوية الوصول إلى الكنوز المخبوءة في المكتبات التي كان يحرص عليها أشد الحرص أو كانت تهمل أشد الإهمال في أديرة القديس جول St. Gall ولانجر Langers، وفينجارتن Weingarten وريتشنو Rsichenau وقد بلغت غنائمه من هذه المكتبة حداً من الثراء جعل بروني وغيره من الكتاب الإنسانيين يحبونه أعظم تحية ويرون أن أعماله كانت من المعالم البارزة في تاريخ ذلك العصر. ولما عاد بجيو إلى روما كتب لمارتن الخامس Martin V دفاعاً مجيداً عن عقائد الكنيسة، ومع أنه كان في المجتمعات الخاصة يسخر مع غيره من موظفي البلاط البابوي من العقائد المسيحية (29). وقد كتب عدة محاورات ورسائل بلغة لاتينية غير مصقولة ولكنها منعشة مطربة، يندد فيها برذائل رجال الدين، بينما كان هو يرتكب تلك الرذائل إلى أقصى حد تمكنه منه موارده. ولما أن غاب عليه الكردنال سانتا أنجيلو وجوده أبناء له، وهو ما لا يليق برجل يرتدي الثياب الكهنوتية، وأن له عشيقة، وهو أمر لا يليق حتى برجل من غير رجال الدين، رد بجيو على ذلك بقحته المعهودة: «إن لي ابناء وذلك أمر يليق بغير رجال الدين،(18/148)
وإن لي عشيقة وتلك إحدى عادات رجال الدين القديمة (30). ولما بلغ الخامسة والخمسين من عمره هجر عشيقته التي ولدت له أربعة عشر طفلاً، وتزوج بفتاة في سن الرابعة عشرة. وكاد في هذه الأثناء أن يكون هو مؤسس علم الآثار الحديث، لأنه جد في جمع القديم من النقود، والنقوش، والتماثيل، وعنى بوصف ما كان باقياً من الآثار الرومانية القديمة بدقة العلماء المبرزين. وقد صحب البابا أوجنيوس الرابع Eugenius V إلى مجلس فلورنس وتنازع مع فرانتشسكو فيللفو، وتبادل مع السباب بأقبح الألفاظ، ولم يتورع عن أن يتهمه بالسرقة، والكفر بالله، واللواط. ولقد اسره كل السرور وهو في روما أن يعمل لنقولا الخامس البابا الإنساني، وكتب وهو في سن السبعين كتاب الفكاهات الذائع الصيت، وهو مجموعة من القصص، والهجاء، والبذاءات. ولما انضم لورندسو فلا إلى هيئة الأمناء البابوية هاجمه بجيو بسلسلة جديدة من المطاعن اتهمه فيها باللصوصية والتزوير، والخيانة، والإلحاد، والسكر، وفساد الأخلاق. ورد فلا على هذا بأن سخر من لغة بجيو اللاتينية، وذكر أخطاءه في النحو والتراكيب، وقال إنه لا يعني به لأنه ابله يهذي ذهبت سنه بعقله (31). ولم يعبأ أحد بهذا الاتهام الأدبي غير الضحية التي وجه إليها، ذلك أن هذه المطاعن كانت مباريات في الكتابة اللاتينية، ولقد أعلن بجيو فعلا في إحدى هذه المقالات أنه سوف يثبت أن في مقدور اللغة اللاتينية الفصحى أن تعبر عن أحدث الآراء وأخص الشئون، وقد برع في فن اختيار الألفاظ البذيئة براعة جعلت «العالم كله يخشاه» من بعده، أداة لابتزاز أموال الناس. من ذلك أنه لما توفي ألفنسو ملك نابلي عن الكتابة إلى بجيو معترفاً بوصول الترجمة اللاتينية لكتاب فيروبيديا تأليف أكسانوفون Xanophon كتب الإنسان الحانق يقول: إن في مقدور القلم الطيب أن يطعن أي ملك من الملوك،(18/149)
فما كان من الفنسو إلا أن بادر بإرسال 500 دوقة ليقطع بها لسانه. وألف بجيو بعد أن أستمتع بكل شهوة وغريزة رسالة في شقاء أحوال البشر قال فيها إن شرور الحياة ترجح مباهجها، واختتمها بقول صولون Solon إن اسعد الناس حظاً من لا يولدون (23). وعاد إلى فلورنس حين بلغ الثانية والسبعين من عمره وعين أميناً للحاكم العام، ثم اختير في آخر الأمر حاكماً للمدينة. وقد عبر عن تقديره لهذا الاختيار بكتابة تاريخ لفلورنس على طريقة الأقدمين-جمع فيه بين أخبار السياسة والحرب والخطب الخيالية، ولما أن وافته المنية أخيراً وهو في سن التاسعة والسبعين تنفس غيره من الإنسانيين الصعداء (1459). ودفن هو أيضاً في كنيسة الصليب المقدس Santa Croce وأقيم له تمثال من صنع دوناتلو عند واجهة الكنيسة، وحدث في أثناء الارتباك الناشئ من بعض التغييرات أن وضع ذلك التمثال في داخل الكنيسة نفسها بوصفه تمثالً لأحد الرسل الأثني عشر.
ولا جدال في أن المسيحية قد فقدت قبل ذلك الوقت من الناحيتين الفقهية والأخلاقية سلطانها على طائفة كبيرة من الإنسانيين الإيطاليين ربما كانت هي الكثرة الغالبة منهم. نعم إن طائفة منهم أمثال ترافرساري، وبروني، ومانتي في فلورنس، وفتورينو دا فلتري Vittorino da Felter في مانتو، وجوارينو دا فرونا Guarino da Verona في فرارا، وفلافيو بيوندو Flavio Biondo في روما قد بقوا أوفياء مخلصين لدينهم، إلا أن الثقافة اليونانية التي تكشف للكثيرين غيرهم والتي دامت ألف عام كاملة، وبلغت الذروة العليا في الأدب، والفلسفة، والفن مستقلة تمام الاستقلال عن اليهودية والمسيحية، نقول إلا أن هذه الثقافة كانت ضربة قاضية على إيمانهم بالعقيدة الدينية التي علمها القديس بولس، بالعقيدة القائلة أن «لا نجاة خارج الكنيسة». واصبح سقراط وأفلاطون في نظر هؤلاء قديسين من غير رجال الدين، وبدت لهم أسرة الفلاسفة اليونان أعلى درجة(18/150)
من آباء الكنيسة اليونان واللاتين، كما أن نثر سقراط وشيشرون كان يبعث الخجل في نفس الكرادلة أنفسهم من اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد ومن اللغة اللاتينية التي ترجمه بها جيرو. كذلك خيل إلى هؤلاء أن روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما أن الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطم في قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون. وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين، غلطة يؤسف لها أشد الأسف، وخروجا، كالخروج الذي يصفه دانتي على نفسه، عن الصراط المستقيم. ولقد عفت من ذاكرة هؤلاء الكتاب ما كان في عقول من قبلهم من الأقاصيص المحببة عن العذراء والقديسين، لتفسح مكانها إلى تحولات أوفد Ovid's Metamorphoses وأغاني هوراس الفاسقة الفاجرة. وبدت الكنائس الكبرى وقتئذ دليلا على الهمجية، وفقدت تماثيلها الهزيلة روعتها في الأعين التي رأت تمثال أبلو بلفدير Apollo Belvedere والأصابع التي لمسته.
وهكذا كان مسلك الكثرة الغالبة من الإنسانيين مسلك من يرون أن المسيحية أسطورة تفي بحاجات خيال العامة وأخلاقهم ولكنها يجب ألا تأخذها العقول المتحررة مأخذ الجد، ولهذا كانوا يؤيدونها فيما ينطقون به أمام الجماهير، ويقولون إنهم يستمسكون بأصول الدين التي تنجيهم من العذاب، ويبذلون غاية جهدهم للتوفيق بين العقائد المسيحية والفلسفة اليونانية. لكن هذه الجهود نفسها قد كشفت عما يضمرون، فقد كانوا(18/151)
يعترفون اعترافاً ضمنيا بأن العقل هو الحكم الأعلى في كل شئ. وكانوا يعظمون محاورات أفلاطون بالقدر الذي يعظمون به العهد الجديد، وبهذا عملوا ما عمله السوفسطائيون السابقون على عهد سقراط في بلاد اليونان فحطموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة العقائد الدينية عند من كانوا يستمعون لهم، سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد. وكانت حياتهم تنم عن عقيدتهم الحقيقية. فقد كان الكثيرون يتخلقون بالأخلاق الوثنية في ناحيتها الشهوانية لا في ناحيتها الرواقية، ولم يكونوا يؤمنون بالخلود إلا إذا كان هو الخلود الناشئ عن تسجيل الأعمال العظيمة، وهو الخلود الذي لا يهبه الله بل تهبه أقلامهم، والذي يؤدي بالناس إما إلى المجد السرمدي أو العار الأبدي. وقد ارتضوا بعد جيل من أيام كوزيمو أن يقتسموا هذه القوة السحرية مع الفنانين الذين نحتوا أو رسموا صور أنصار الفن والأدب، أو شادوا الصروح الفخمة التي تخلد أسماء الأسخياء الواهبين. وكانت رغبة هؤلاء الأنصار في أن ينالوا هذا الخلود الدنيوي إحدى القوى الخلاقة فن النهضة وأدبها.
وظل تأثير الكتاب الإنسانيين القوة المسيطرة على الحياة العقلية في أوربا الغربية نحو مائة عام. فقد كانوا هم الذين قووا إدراك الكتاب لجمال الشكل والتركيب، وعلموهم أساليب البلاغة، وزخرف القول، وما للأساطير القديمة من سحر وفتنة، وما للاقتباس من الكتاب الأقدمين من قوة، وعلموهم التضحية بالمعنى في سبيل سلامة العبارة وجمال الأسلوب. وكان افتتانهم باللغة اللاتينية هو الذي عاق تطور الشعر والنثر الإيطاليين مدى قرن كامل (1400 - 1500)، وهم الذين حرروا العلم من سلطان الدين، ولكنهم أخروا تقدمه بعبادتهم الماضي، وباهتمامهم الشديد بالكم في العلم بدل الملاحظة الموضوعية والتفكير الإبتكاري. ومن أغرب الأشياء أن أقل ما لهؤلاء الكتاب من نفوذ هو الذي كان في الجامعات،(18/152)
وسبب ذلك أن هذه الجامعات كانت في أيامهم قد تقادم عهدها في إيطاليا، وأن كليات الحقوق، والطب، والدين، «والفنون» -أي اللغة، والأدب، والبيان، والفلسفة-القائمة في بولونيا، وبدوا وبيزا، وبياتشندسا، وبافيا، ونابلي، وسينا، وأرتسو، ولوكا، نقول كانت الكليات القائمة في هذه المدن قد استحوذت عليها عادات العصور الوسطى استحواذا يرد عنها كل توكيد جديد للثقافات القديمة. وكان أكثر ما فعلته أنها أنشأت في أماكن متفرقة كرسيان للبيان عينت فيه أحد هؤلاء الإنسانيين. أما ما كان لإحياء «الآداب» من أثر فقد جاء أكثره عن طريق المجامع العلمية التي أنشأها أنصار الأدب من الأمراء في فلورنس، ونابلي، والبندقية، وفرارا، ومانتوا، وميلان وروما. فقد كان الإنسانيون في تلك المدن يملون ما يريدون مناقشته من النصوص القديمة باللغة اليونانية أو اللاتينية، وكانوا في خلال هذا النقاش يعلقون باللغة اللاتينية على ما يتصل بهذه النصوص من مظاهر النحو، والصرف، والبيان، والسير، والجغرافية، والأدب،. وكان طلابهم يدونون ما يملونه عليهم من النصوص ويثبتون في هوامش الصفحات كثيراً من الحواشي والتعليقات، وبهذه الطريقة تضاعفت تسخ الآداب القديمة كما تضاعف شروحها وانتشرت في أنحاء العالم. ومن أجل ذلك كان عهد كوزيمو عهد الانهماك في التعليم لا الانهماك في الأدب المبتكر الخلاق، فانحصرت أمجاد ذلك العصر الأدبية في النحو، والمعاجم اللغوية، وعلم الآثار القديمة، والبيان، والمراجعة الانتقادية للنصوص القديمة. وهكذا استقرت طريقة التبحر الحديث في العلم، وأداته، ومادته، ومهد الطريق الذي سار فيه تراث اليونان وروما حتى وصل إلى عقول المحدثين.
ولم يبلغ العلماء منذ عهد السوفسطائيين مثل ما بلغوه وقتئذ من المنزلة العالية في المجتمع وفي الشئون السياسية، ذلك أن الكتاب الإنسانيين صاروا أمناء ومستشارين لمجالس الشيوخ، والأمراء، وألأدواق، والبابوات،(18/153)
وكانوا يردون هذا العطف بالمديح المصوغ باللغة اللاتينية الفصيحة، كما يردون على الصد عنهم والاستهزاء بهم بالهجاء اللاذع القاتل، وقد بدلوا المثل الأعلى القديم للرجل الكامل المهذب من رجل شاكي السلاح لابس الزرد إلى إنسان كامل النماء بلغ أعلى درجات الحكمة والمنزلة الأدبية باستيعاب التراث الثقافي للجنس البشري. وقد غوت شهرتهم العلمية وبلاغتهم الساحرة ما وراء جبال الألب من أوربا حين كانت جيوش فرنسا، وألمانيا، وأسبانيا، تحتشد للاستيلاء على إيطاليا، فأخذت هذه الثقافة تتسرب إليها قطرا بعد قطر، وتنتقل بها من صبغة العصور الوسطى إلى الصبغة الحديثة، فكان القرن الذي شهد كشف أمريكا هو بعينه الذي شهد إعادة كشف بلاد اليونان وروما، وكان التحول الأدبي والفلسفي الذي تم في ذلك الوقت أبلغ أثراً في الروح البشرية من الطواف حول الكرة الأرضية وارتياد مجاهلها. ذلك أن الإنسانيين لا الملاحين هم الذين حرروا عقول البشر من العقائد التعسفية، وعلموهم أن يحبوا الحياة بدلا من التفكير النكد في الموت، وأطلقوا العقل الأوربي من عقاله. وكان الفن آخر ما تأثر بالنزعة الإنسانية، لأن هذه النزعة كانت أكثر تجاوباً مع العقل منها إلى الحواس. ولذلك ظلت الكنيسة حتى ذلك الوقت أكبر نصير للفنون، كما كان أهم أغراض الفن هو نقل قصة المسيحية إلى غير المتعلمين وتجميل بيوت الله، ولهذا بقيت العذراء والطفل، وآلام المسيح وصلبه، وبقى الرسل، وآباء الكنيسة، والقديسون، الموضوعات التي لا غنى عنها لفني النحت والتصوير، بل والفنون الصغرى كذلك. بيد أن الإنسانيين أخذوا يعلمون الإيطاليين شيئاً فشيئاً معنى للجمال أكبر شهوانية من قبل، علموهم الإعجاب الصريح بجمال الجسم الآدمي-ذكرا كان أو أنثى وخاصة إذا كان عاريا-وتغلغل هذا الإعجاب في نفوس الطبقات المتعلمة، وكان اهتمام أدب النهضة بالحياة وتوكيدها، بدل التفكير ي الدار الآخرة مما أكسب الفن نزعة(18/154)
دنيوية خفية، وأدخل مصورو عصر لورندسو وما تلاه من العصور عناصر وثنية في الفن المسيحي، وذلك خين جاءوا بالحسان الإيطاليات يتخذونهن نماذج لتصوير العذراء، وبالشبان الوسيمين الأقوياء ليكونوا نماذج للقديسين. ولما أخذ الأمراء الزمنيون ينافسون رجال الكنيسة في السخاء على الفنيين وإمدادهم بالمال أثناء القرن السادس عشر تحدت فينوس (الزهرة) وأدرياني، ودافني، وديانا، وربات الشعر والأقذار، تحدث هذه سلطان العذراء، لكن مريم الأم ظلت محتفظة بسيطرتها الطيبة الصالحة إلى آخر أيام فن النهضة.(18/155)
الفصل الخامس
العمارة (عصر برونيلسكو)
نادى أنطونيو فيلاريتي Antonio Filarete في عام 1450 يقول: «لعن الرجل الذي ابتدع العمارة القوطية التعسة! ولم يكن في وسع أحد أن يدخلها إلى إيطاليا إلا شعب همجي» (35). ذلك أن هذه الجدران المقامة من الزجاج لا توائم شمس إيطاليا الساطعة، وبدت الدعامات الأفقية العالية (وأن كانت قد اتخذت في كنيسة نوتردام ده باري صورة جميلة فكانت كأنها ماء في نافورة تجمد أثناء مسيله) في أعين أهل الجنوب كأنها محالات قبيحة المنظر تركها وراءهم البناءون الذين عجزوا عن أن يكسبوا بناءهم استقراراً من تلقاء نفسه. لقد كان الطراز القوطي ذو العقد المستدق والقبة العالية يعبر أحسن تعبير عن آمال الأرواح الرقيقة العائدة من العمل المجهد في الحقول إلى سلوى السماء، غير أن الرجال الذين وهبوا من عهد قريب الثراء والراحة اضحوا يرغبون في تجميل الحياة لا أن يفروا منها ويقدحوا فيها، فكانوا يريدون أن يحيلوا الأرض جنة، وأن يحيلوا أنفسهم أربابا.
ولم تكن عمارة النهضة الإيطالية في اساسها ثورة على العمارة القوطية، لأن هذه العمارة القوطية لم تكن لها الغلبة على إيطاليا في يوم من الأيام؟ فقد كان كل طراز وكل تأثير ممثلين بشيء ما في تجارب القرنين الرابع عشر والخامس عشر: كانت فيها العمد الثقيلة، والعقود المستديرة المأخوذة من الطراز الرومانسي اللمباردي، والصليب الذي كانت تخطط على صورته المباني السفلى، والقبة والعارضة المثلثة بين عقودها المتعامدة، وأبراج النواقيس في الكنائس التي أقيمت على منوالها مآذن المساجد الإسلامية،(18/156)
والعمد الرفيعة في الأديرة التسكانية التي تذكر الناظر إليها بعمد المساجد أو الأروقة الرومانية واليونانية القديمة، والسقف ذات الكتل الخشبية في إنجلترا وألمانيا، والقبة المضلعة والعقد القوطي والشبابيك القوطية، والفخامة المتناسقة في الواجهات الرومانية، وفوق هذا كله المتانة البسيطة في صحن الباسلقا الذي يكتنفه من الجانبين جناحان يدعمانه. لقد كانت هذه العناصر كلها تمتزج في إيطاليا امتزاجا مثمراً حين أخذ الكتاب الإنسانيون يوجهون العمارة نحو خرائب روما. وبدت وقتئذ العمد المحطمة في السوق الرومانية، التي كانت تتراءى من خلال ضباب العصور الوسطى لأعين الإيطاليين أعظم جمالا من طرز البندقية الغربية، أو فخامة تشارتر الكئيبة، أو جسارة بوفيه الهشة، أو إمتدادات قبة أمين الخفية الغامضة، وأضحت الرغبة في العودة من جديد إلى استخدام العمد الملتفة الجميلة، الغائرة في قواعد ضخمة، والمتوجة بتيجان جميلة في صورة الأزهار، والمرتبطة بطيلات رصينة مهيبة المنظر، نقول أضحت الرغبة في استخدام هذه العمد، حين أخذ الماضي القديم المدفون الحي يتلمس طريقه إلى الظهور، هي الحلم الذي يراود خيال رجال من طراز بروند لسكو، وألبرتي، وميكلتسو Michelozzo، وميكل أنجلو، وروفائيل.
وكتب فاساري الوطني الصميم عن بروند لسكو يقول: «أما فليو بروند لسكو فيمكننا أن نقول عنه إن الله قد وهبه القدوة على أن يكسب العمارة أشكالا جديدة بعد أن ظلت السبيل قروناً كثيرة» (36). وقد بدأ عمله صائغا شأن كثيرين من فناني عصر النهضة الإيطاليين، ثم درس فن النحت وظل وقتاً ما ينافس دوناتلو منافسة الصديق لصديقه، ونازعه هو وجبرتي مهمة نقش الأبواب البرنزية لمكان التعميد في فلورنس. ولما ابصر الرسوم التي وضعها دونالتو غادر فلورنس ليدرس في المنظور والتخطيط في رومة، فلما جاءها افتتن بما رآه فيها من العمائر القديمة وعمائر العصور الوسطى، وشرع يقيس المباني الكبرى بجميع عناصرها، وكان أعظم ما أثار دهشته(18/157)
قبة هيكل مجمع الآلهة الذي أقامه أجربا، البالغ عرضها 142 قدماً، ولاح أنه يتوج بقية مثلها كتدرائية سانتا ماريا دل فيوري التي لم تكن قد تم بناؤها، في مسقط رأسه. وعاد إلى فلورنس في الوقت الذي أمكنه فيه أنه يشترك في مؤتمر من المهندسين معماريين وغير معماريين ليبحثوا مشكلة سقف موضع المرنمين المثمن الأضلاع في هذه الكتدرائية والبالغ عرضه مائة وثماني وثلاثين قدماً ونصف قدم. واقترح فلبو أن تقام فوقه قبة، ولكن الضغط إلى الخارج الذي سوف تحدثه هذه لقبة الضخمة على الجدران التي لا تسندها دعامات من خارجها أو كتل خشبية من الداخل بدا لهؤلاء المهندسين عقبة لا يمكن التغلب عليها. والعالم كله يعلم قصة البيضة التي تطلق بها برونسكو: وكيف تحدى الفنانين المجتمعين أن يجعلوا البيضة تقف على أحد طرفيها، فلما عجزوا جميعاً نجح هو في هذا العمل بأن ضغط الطرف الغليظ الفارغ على المنضدة. ولما احتجوا عليه بقولهم إنه كان في وسعهم أن يفعلوا ما فعله هو، قال أنهم سوف يدعون مثل هذه الدعوى بعد أن تتم إقامة قبة الكتدرائية. وكلف هو بالعمل، وظل أربعة عشر عاماً (1420 - 1434) بلا انقطاع يكدح في القيام بهذا الواجب، ويقاوم ألف محنة ومحنة حتى رفع القبة المزعومة بمقدار 133 قدماً فوق حافة الجدران التي تستند إليها. وانتهى من العمل آخر الأمر، وقامت القبة ثابتة قوية، وابتهجت المدينة كلها لتمامها وعدته أول الأعمال المعمارية الكبرى في عصر النهضة، وأجرأ هذه الأعمال كلها عدا عملا واحداً لا غير. ولما صمم ميكل أنجيلو بعد قرن من الزمان قبة كنيسة الرسول بطرس، وقيل له إنه قد أتيحت له الفرصة للتفوق على برونلسكو رد على ذلك بقوله: «سأقيم قبة مثلها وأختا لها، أكبر منها، ولكنها لا تفوقها في الجمال» (37). ولا تزال هذه لقبة الفخمة الزاهية تشرف على ما حولها من مناظر تمتد عدة فراسخ من مدينة فلورنس ذات السقف الحمراء التي ترقد كأنها حوض من الورد في أحضان تلال تسكانيا.(18/158)
وقد أخذ فلبو فكرته عن هيكل مجمع الآلهة، ولكنه وفق أحسن التوفيق بينها وبين الطراز القوطي التسكاني الذي يتمثل في كتدرائية فلورنس، وذلك بأن جعل استدارة قبته على طراز العقد المستدق القوطي. لكنه حين سمح له بتخطيط مبان في الطابق الأرضي جعل الانقلاب إلى الطراز القديم أتم وأوضح. وكان في عام 1419 قد بدأ يشيد لوالد كوزيمو كنيسة سان لورندسو، ولم يتم منها إلا «غرفة المقدسات»، لكنه اختار لها طراز الباسلقا، والبواكي، والرواق المعمد، والعقد الرومانسكي، فجعلها هي العناصر التي بنى عليها تصميمه، وبنى لأسرة باتسي Pazzi في أديرة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) معبدا جميلا يعيد إلى الذاكرة قبة هيكل مجمع الآلهة في أثينة ورواقه المعمد، ثم اختط في هذه الأديرة نفسها مدخلا مستطيل الشكل-من عمد ذات حزوز، وتيجان على شكل أزهار، وطيلات ذات تماثيل، وحليات هلالية منقوشة- كان هو الطراز الذي صنع على نمطه مائة ألف باب والذي بقى حتى الآن في كل مكان في أوربا الغربية وأمريكا. ثم بدأ ينشئ على الطراز القديم كنيسة سانتو اسبريتو Santo Spirito، ثم مات ولما يكد البناء يعلو على الأرض. ففي عام 1446 كان جثمان هذا الفنان المولع بفنه سجى في الكتدرائية محوطاً بمظاهر العظمة وتحت القبة التي أقامها، وأقبل عليه سكان فلورنس من كوزيمو إلى اصغر عامل كان يكدح في ذلك المكان، أقبلوا عليه جميعاً، وقد امتلأت قلوبهم أسى وحسرة على أن يكون الموت مآل العباقرة العظام. ويقول فيه فاساري: «لقد عاش كما يعيش المسيحي الصالح، وخلف في العالم آثار صلاحه وتقواه ...... ولم يجد الزمان من عهد اليونان والرومان القدامى إلى يومنا هذا برجل أعظم منه، لقد كان بحق منقطع النظير (38)». وكان برونلسكو في أيام حماسته المعمارية قد وضع لكوزيمو تصميم قصر بلغ من السعة والزخرف مبلغا حمل هذا الحاكم المطلق المتواضع على أن يرفض الاستمتاع بمنظره حين يقوم لأنه يخشى حسد الناس له. ولهذا(18/159)
كلف ميكلتسو دي بارتليمو Michelezzo di Baptolmmeo، (1444) أن يشيد له ولأسرته ومكاتبه بدل هذا القصر قصر آل ميديتشي Palazzo Medici أو الريكاردي Riecardi القائم اليوم، ذا الجدران الحجرية السميكة الخالية من الزخرف، والتي تنم عما كان في ذلك الوقت من اضطراب اجتماعي، ومنازعات عائلية، وخوف دائم من العنف والثورة، وهي العوامل التي كانت تبعث النشاط والحياة في السياسة الفلورنسة. وكان لهذا القصر ابواب ضخمة من الحديد يدخل منها الأصدقاء والدبلوماسيين، والفنانون، والشعراء إلى فناء مزدان بتماثيل من صنع دوناتلو، ويؤدي إلى حجرات متوسطة الروعة، ومعبد مزدان بمظلمات فخمة زاهية من صنع بنتسو جوتسولي Benozzo Gozzoli. وأقام آل ميديتشي في هذا القصر إلى عام 1538، عدا الفترات التي نفوا فيها من المدينة، ولكنهم كانوا بلا ريب يخرجون من هذه الجدران المكتئبة ليستمتعوا بأشعة الشمس في البيوت الريفية التي شادها كوزيمو خارج المدينة في كاريجي Careggi، وكفاجيولو Cafaggiolo، وعلى منحدرات فيسولي Fiesole. وكانت هذه الملاجئ الريفية هي التي يأوى إليها كوزيمو ولورندسو، وأصدقاؤهما، وصنائعهما فراراً من عناء السياسة إلى الاستمتاع بالشعر، والفلسفة، والفن، وإلى كاريجي أوى الأب والحفيد ليستقبلا الموت، وكان كوزيمو من حين إلى حين يفكر فيما بعد الموت فتبرع بكثير من المال لإقامة دير في فيسولي Fiesole، وليعيد بناء الدير القديم في سان ماركو ويجعله أوسع رقعة أكثر متعة .. وخطط ميكلتسو في هذا الدير بواكي مسقوفة رشيقة، ومكتبة تضم كتب نقولي، وصومعة ينفرد فيها كوزيمو من حين إلى حين معتزلا أصدقاءه أنفسهم ليقضي يومه في التأمل والصلاة.
وكان ميكتسو أحب المهندسين إليه في هذه المشروعات، كما كان هو الصديق الوفي الذي صاحبه في منفاه، وعاد معه بعد النفي، وعهد إليه(18/160)
الأمير بعد عودته بزمن قليل بذلك الواجب الدقيق واجب تقوية قصر فيتشيو لمقاومة ما كان يتهدده من خطر الانهيار. وقد جدد بناء كنيسة سانتسيما أنندسياتا Santissima Annunziata، وأنشأ لها معبداً جميلا، وأثبت أنه مثال ماهر حين زينها بتمثال للقديس يوحنا المعمدان. وشاد لبيرو Piero ابن كوزيمو معبداً فخما في كنيسة سان منياتو San Miniato القائمة على سفح أحد التلال، وعاون بمهارته دوناتلو في تصميم «منبر النطاق» الجميل وحفره في واجهة كتدرائية براتو Prato، ولو أن ميكلتسو كان وقتئذ يعيش في غير بلده لكان هو بلا جدال حامل لواء فن العمارة. وكان أثريا التجار في ذلك الوقت يشيدون أبهاء مدينة فخمة وقصوراً رائعة. وفي عام 1376 عهد مجلس المدينة إلى بنتشي دي تشيوني Benci di Cione وسيمون دي فرانتشسكو تالنتي Simone di Francesco Talenti أن يشيدا رواقاً ذا عمد في مواجهة قصر فيتشيو ليكون مكاناً يخطب فيه الحكام، وأطلق على هذا الرواق في القرون السادس عشر أسم «بهو حاملي الرماح» Loggia dei lanzi، لأن الدوق كوزيمو الأول أقام فيه الرماحة الألمان. وكان أفخم قصر خاص في فلورنس هو الذي شاده (1459) لوكا فانتيشلي Luca Fancelli للمصرفي لوكا بتي Luca Pitti من تصميم قام به برونلسكو قبل أن يشرع في بنائه بتسعة عشر عاماً. وكان في بتي تواضعه، وكان ينازع كوزيمو السلطان، وقد وجه إليه كوزيمو نصيحة لاذعة قال فيها:
إنك تسعى إلى غير غاية، أما أنا فاسعى إلى غاية محددة، وانت تنصب سلكك في الهواء، أما أنا فأنصبه على الأرض ... ويبدو لي أن من العدل، ومن الطبيعي أن أرغب في أن يفوق مجد بيتي وشهرته شرف بيتك أنت وسمعته، فلنفعل إذن ما يفعله كلبان كبيران يشم أحدهما الآخر(18/161)
حين يلتقيان، ويكشران عن أنيابهما، ثم يسير كلاهما في طريقه، فتعنى أنت بشئونك، وأعنى أنا بشئوني (39).
وواصل بتي مؤامراته ودسائسه، ولم ينقطع عنها بعد موت كوزيمو، بل أخذ يعمل على انتزاع السلطة من بيرو ده ميديتشي Piero de'Medi، واقترف في عمله هذا الجريمة الوحيدة التي لا يعفو عنها أحد في عصر النهضة- وهي جريمة الاخفاق، وأعقبها نفيه من بلده، وخرابه، وبقى قصره ناقصاً مدى قرن من الزمان.(18/162)
الفصل السادس
النحت
1 - جبرتي
لقد كانت محاكاة الأشكال اليونانية والرومانية القديمة في النحت أمم منها في العمارة. ذلك أن رؤية الخرائب الرومانية ودراستها، والكشف من حين إلى حين عن آية فنية رومانية كانا يبعثان في المثالين الطليان رغبة قوية في محاكاة هذه المخلفات. وقد يدل على ذلك ما كتبه جبرتي عن تمثال هرم أفروديتي Hermaphrodite الملقى على وجهه الآن في البهو االبرغي Borghese Gallery مستديراً بمظهره إلى النظارة كأنه غير عابئ بهم، وذلك حين وجد هذا التمثال في كروم سان تشلسو San Celso:« إن البيان ليعجز عن أن يصف ما يكشف عنه هذا التمثال من علم وفن أو يُوَفى طرازه الرائع حقه من الثناء»، ويضيف إلى هذا قوله إن ما بلغته هذه الأعمال من الكمال الأعظم من أن تدركه العين، ولا يستطاع تقديره إلا بمرور اليد على سطحه ومنحنياته الرخامية (40). ولما زاد عدد هذه المخلفات المستخرجة من باطن الأرض وألف الناس رؤيتها، اعتاد العقل الإيطالي على مهل مشاهدة التماثيل والصور الفنية العارية، وأضحت دراسة التشريح مما يعني به في مراسم الفنانين كما يعنى به في قاعات الطب، وسرعان ما أخذت النماذج العارية تستخدم بلا خوف ولا حساء. وكان من أثر هذا الحافز القوي أن خرج فن النحت من سيطرة العمارة ومن النقوش على الحجر أو الجص إلى تماثيل البرنز أو الرخام المجسمة.
لكن النقش البارز هو الذي ظفر فيه فن النحت بأشهر انتصاراته(18/163)
فلورنس على عهد كوزيمو. ذلك ان بناء التعميد القبيح المنظر المخطط الذي كان يواجه الكتدرائية لم يكن يزيل قبحه إلا الزخارف التي تضاف إليه. وكان ياقوبو توريتي Jacopo Torriti قد زخرف قبلئذ المنصة، كما زخرف أندريا تافي Andrea Tafi السقف المقبب بنقوش فسيفسائية متزاحمة، كذلك كان أندريا بيزانو Andrea Pisano قد صنع للواجهة الجنوبية بابا مزدوجاً من البرانز (1330 - 1336). حدث هذا كله من قبل، أما الآن (1401) فإن مجلس السيادة في فلورنس قد اعتمد بالاشتراك مع طائفة تجار الصوف مبلغاً كبيراً من المال ينفق في صنع باب من البرنو للواجهة الشمالية، لعل هذا العمل يرضي عنهم الله فيقضي على وباء الطاعون المنتشر وقتئذ. وأجريت لذلك مباراة، ودعا جميع الفنانين في إيطاليا لتقديم الرسوم، وكان أعظمهم توفيقاً هم برنلسكو، وياقوبو دلاكو يرتشيا Jacopo della Quercia، ولورندسو جبريتي، وعدد قليل آخر من الفنانين، فعهد إليهم أن يصبوا لوحة نموذجية من البرنز تمثل تضحية إبراهيم بإسحق (1). وعرضت الألواح كاملة بعد عام من ذلك الوقت على القضاء الأربعة والثلاثين-من مثالين، ومصورين، وصياغ. وأجمع المحكمون على أن اللوحة التي صنعها جبرتي كانت أحسنها كلها، وشرع الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره من ذلك الوقت يصنع البابين الأولين من أبوابه البرنزية الذائعة الصيت.
وليس في وسع إنسان أن يعرف لماذا استغرق العمل في تصميم هذا الباب الشمالي وصبه الجزء الأكبر من السنين الإحدى والعشرين التالية، إلا من درس هذا الباب دراسة دقيقة عن كثب. وكان يساعد جبرتي في عمله مساعدة كريمة دوناتلو، وميكلتسو، وطائفة كبيرة من الأعوان،
_________
(1) الذي يقول به المسلمون والذي جاء به القرآن أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحق (المترجم)(18/164)
إلا انهم جميعاً قد عقدوا العزم على أن تكون النقوش المطلوبة أجمل النقوش البرنزية في تاريخ الفن كله، وأن فلورنس تتطلع إليهم ليجعلوها كذلك. وقسم جبرتي البابين إلى ثمانية وعشرين لوحة: منها عشرون تروى حياة المسيح، وأربع تصور الرسل، وأربع تمثل علماء القوانين الكنسية. ولما أن صممت هذه الألواح كلها، وانتقدت، ثم أعيد تصميمها، وصبت، ووضعت في أماكنها على الباب، ولم يستكثر واهبوا المال ما أنفقوه عليها وهو 22. 000 فلورني (550. 000 دولار)، بل عهدوا إلى جبرتي أن يصنع بابا مزدوجاً آخر للناحية الشرقية من بناء التعميد (1425). وكان يساعد جبرتي في هذا العمل الثاني الذي استغرق سبعة وعشرين عاما رجال ذاع صيتهم من قبل، أو بعد قليل من ذلك الوقت: برونلسكو، وأنطونيو فيلاريتي، وباولو أتشلو Paolo Uccello وأنطونيو دل بولايولو Antonio del Pollaiuolo وغيرهم. واصبح مشغله على مر الزمن مدرسة للفن أنجبت أكثر من عشرة من العباقرة. وكان البابان الأولان يشرحان أجزاء من العهد الجديد، أما هذان البابان فقد مثل فيهما جبرتي على عشر لوحات مناظر من العهد القديم، تبدأ من خلق الإنسان وتنتهي عند مجيء ملكة سبأ إلى سليمان، وأضاف على جوانبهما عشرين شكلا من النقش الكامل أو القريب من الكمال وزخارف متنوعة-من حيوان ونبات-ذات جمال فائق رائع. وهنا تلاقت العصور الوسطى وعصر النهضة تلاقيا منسجما أتم الانسجام: فمثلت في اللوحة الأولى قصص العصور الوسطى عن خلق آدم، وإغواء حواء له، وخروجهما من الجنة، وقد عولجت هذه الموضوعات وكانت شخصياتها إما مكتسبة بأثواب مسترسلة كأثواب اليونان والرومان الأقدمين أو عارية وكثير منها كل العري. وكانت الصورة التي تمثل حواء وهي خارجة من جسم آدم تضارع النقش الهلنستي الذي يمثل أفرديتي خارجة من البحر. وقد دهش الناس حين وجدوا في خلفية النقش مناظر تكاد تضارع في دقة مراعاتها لفن المنظور،(18/165)
وفي وفرة التفاصيل ما يجدونه في أحسن الصور الملونة التي رسمت في ذلك الوقت. ومنهم من كان يشكو من أن هذه النقوش تعتدي على فن التصوير أكثر مما يجب، وتتخطى التقاليد الموضوعة لفن النقش اليوناني الروماني القديم. ولسنا ننكر أن هذه الشكوى الصادقة من الوجهة العلمية النظرية البحتة، ولكن الأثر الذي تحدثه كان أثرا حيا واضحا ساميا. وكان هذا الباب المزدوج الثاني بإجماع الآراء أجمل من الباب الأول. وكان ميكل أنجيلو يرى أنه «بلغ من الجمال حدا يجعله خليقا بأن يزدان به مدخل الجنة»، وكذلك يقول عنه فاساري، وهو بلا ريب لا يفكر إلا في النقوش، إنه «يبلغ حد الكمال في جميع دقائقه وتفاصيله، وإنه أجمل آية فنية في العالم كله عن الأقدمين والمحدثين على السواء (41)». وسرت فلورنس من هذا العمل سرورا دفعها إلى أن تختار جبرتي لمجلس السيادة في المدينة، ووهبته من المال ما يستعين به على الحياة في شيخوخته.
2 - دوناتلو
يظن فاساري أن دوناتلو كان من بين الفنانين الذين اختيروا لكي يعدوا لوحات تجريبية لأبواب بناء التعميد، ولكن الحقيقة أن دوناتلو كان وقتئذ غلاما لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر. وقد أطلق عليه أصدقاؤه ذلك الاسم المصغر المحبب الذي يعرفه به الخلف، أما اسمه الحقيقي فهو دوناتو دي نقولو دي بتوباردي Donato di Niccol? di Betto Bardi. ولم يتعلق في مشغل جبريتي إلا بعض فنه، ولكنه سرعان ما شق طريقه لنفسه وانتقل من رشاقة نقوش جبرتي النسوية إلى تماثيل الرجولة المجسمة, وأحدث في فن النحت انقلابا يقوم على إخلاصه للطبيعة وتمسكه بأصولها وقوة شخصيته المبتكرة وطرازه المبدع الخالي من الزخرف والتجميل، أكثر مما يقوم على الأساليب والأهداف اليونانية(18/166)
والرومانية القديمة. لقد كان دوناتلو ذا روح مستقلة لا تقل قوة عن تمثاله لداود أو جرأة عن تمثاله للقديس جورج. ولم تنضج عبقريته بالسرعة التي نضجت بها عبقرية جبرتي، ولكنها كانت أسمى منها وأوسع مجالا. ولما ان تم نضوجها أخذت تنثر الآيات الفنية الرائعة بلا حساب حتى امتلأت فلورنس بتماثيل من صنعه، ورددت اًصداء شهرته أصقاع ما وراء جبال الألب. ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره نافس جبرتي بأن صنع لأورسان ميتشيل Or San Michele، تمثالا للقديس بطرس، ثم فاقه وهو في السابعة والعشرين حين اضاف لهذا الصرح تمثالا للقديس مرقس بلغ من القوة، والبساطة، والإخلاص، درجة «يستحيل معها أن يرفض الإنسان الإنجيلي الذي يبشر به مثل هذا الرجل الصريح» على حد قول ميكل أنجيلو (1) وكان دوناتلو وهو في الثالثة والعشرين قد كلف بنحت تمثال داود ليوضع في الكتدرائية، ولم يكن هذا إلا واحداً من عدة تماثيل لداود قام بصنعها، ذلك أن موضوعها كان لا ينفك يطرب خياله. ولعل أجمل أعماله كلها هو تمثال داود المصنوع من البرنز، والذي كلفه به كوزيمو وصبه في عام 1430 وأقيم في فناء قصر آل ميدتشي وهو الآن في بارجلو Bargello. وكان هذا التمثال أول تمثال عار مجسم من تماثيل النهضة ظهر في غير أمام الجماهير: كان له جسم أملس متين البناء يطالعك لحمه بنضرة الشباب وقوته، ووجه لعله أسرف في جعل صورته الجانبية يونانية الملامح، وخوذة، ولا شك
_________
(1) أورسان ميتشيل هو المزار الديني الذي أقامه فرانتشسكو، وسيمون تالنتي، وبنسي سيوني (1337 - 1404) للطوائف الكبرى لأرباب الحرف. وكانت كل طائفة من هذه الطوائف يمثلها فيه تمثال وضع في كوة في الجدران الخارجية. وقد قام بصنع هذه التماثيل من الفنانين جبرتي، وفروتشيو، وناني دي بانكون، وجيان بولونيا.(18/167)
أنهما يونانية من الحد الواجب. ولقد نبذ دوناتلو الواقعية في هذه المرة، واستسلم الفنان لخياله، وكان يبلغ في هذا التمثال ما بلغه فيما بعد تمثال ميكل أنجلو الأكثر منه شهرة للملك العبراني.
ولكنه لم يلق في تمثال المعمدان ما لقيه هنا من النجاح، ذلك أن هذا الموضوع موضوع شاق غريب على روحه الدنيوية، ولهذا كان تمثالا يوحنا القائمان في بارجلو سخيفين ليس فيهما حياة. وأجمل منهما كثيراً رأس طفل سمى لغير سبب معقول سان جيو فانينو-رأى القديس يوحنا الصغير. ومن التماثيل التي تشاهد في معرض دوناتلو أيضاً تمثال القديس جورج الذي يجمع بين واقعية المسيحية المجاهدة وخطوط الفن اليوناني المقيدة غير الطليقة. ووقفة التمثال قوية تنم عن الثقة بالنفس، والجسم قوي ناضج، والرأس بيضي قوطي ولكنه يستبق رأس بروفس الروماني الطراز الذي نحته بوانارتي Buonarotti. وصنع لواجهة كتدرائية فلورنس تمثالين قويين لإرميا وحبقوق، وكان ثانيهما أصلع إلى حد جعل دوناتلو يطلق عليه اسم «القرعة الكبيرة». ولا يزال تمثال يوديث القائم فوق «بواكي الرماحة» والذي صنعه دوناتلو تنفيذاً لأمر كوزيمو، لا يزال هذا التمثال يلوح بسيفه فوق هولوفرنير Holofernes. ويرى القائد الذي دس له المخدر في النبيذ نائماً في هدوء قبل أن يقطع رأسه، والفكرة التي أوحت به وطريقة تنفيذها غاية في البراعة، ولكن الفتاة التي قتلت الطاغية تقبل على عملها مرتدية كامل ثيابها في هدوء لا يتفق مع رهبة الموقف.
ووضع دوناتلو أثناء رحلة قصيرة إلى روما (1432) تصميم معبد من الرخام قديم الطراز لكنيسة القديس بطرس القديمة. وأكبر الظن أنه درس وهو في روما التماثيل النصفية الباقية من عهد الإمبراطورية، وسواء كان ذلك أو لم يكن فقد كان هو الذي عمل أول تمثال نصفي ذي شأن في عصر النهضة. وكانت خير صوره الفنية كلها تمثاله النصفي الذي صنعه من الطين(18/168)
المحروق الملون والذي يصور السياسي نقولو دا أتسانو Niccolo da Uzzano. وقد سلى نفسه وعبر عنها في هذا التمثال بنزعة واقعية تكشف عن الرجولة الحقة وإن كانت لا تضفي على صاحبها شيئاً من التمجيد والثناء. وفيه كشف دوناتلو عن الحقيقة القديمة القائلة إن الفن ليس في حاجة دائمة إلى الجري وراء الجمال، بل إن عليه أن يختار الأشكال ذات القيمة ويبرزها للناظرين. وكان كثير من الكبراء يعلنون أن تماثيله المنحوتة لا تظهر الأشكال على حقيقتها، ولم تكن نتيجة عملهم هذا أحياناً في مصلحتهم. ومن ذلك أن تاجراً من أهل جنوي، لم يرض عن نفسه كما صوره دوناتلو فأخذ يساوم في ثمن التمثال، فلما عرض الأمر على كوزيمو حكم بأن التمثال الذي يطلبه دوناتلو أقل من الواجب أداؤه. وشكا التاجر من أن الفنان لم يقض من العمل إلا شهراً واحداً، ومعنى هذا أن الأجر الذي يطلبه يصل إلى نصف فلوري (12. 5دولا) في اليوم وهو أكثر مما يجب أن يتقاضاه إنسان ليس إلا فنانا. فما كان من دونالتو إلا أن حطم التمثال إلى ألف قطعة، وقال إن هذا الرجل لم يؤت من الذكاء إلا القدر الذي يستطيع أن يساوم به على حبات الفول (43).
لكن مدائن إيطاليا كانت تقدره تقديراً أحسن من هذا وتتنافس في الانتفاع بخدماته، وأغرته كل من سينا، ورومة، والبندقية بالإقامة فيها وقتاً ما، ولكن بدوا هي التي صنع فيها روائعه، فقد نحت لمذبح كنيسة القديس إنثوني ST. Anthony ستاراً من الرخام غطيت به عظام الراهب الفرانسيسي العظيم، ووضع فوقه نقوشاً متحركة وتمثالا برنزياُ لصلب المسيح تنم فكرته عن حنان ورقة منقطعي النظير. وأقام في الميدان الذي أمام الكنيسة (1453) أول تمثال عظيم لفارس في الزمن الحديث، وما من شك في أنه استمد وحي هذا التمثال من تمثال أورليوس الراكب القائم في روما، ولكن وجهه ومزاجه يستوحيان عصر النهضة دون غيره من العصور. ولم يجعله(18/169)
المثال مثلاً أعلى للملك الفيلسوف، بل صوره رجلا تتمثل فيه طبيعة عصره، قاسياً، غير هياب، وقوياً. ذلك هو تمثال جتاميلاتا Gattamelata قائدمدينة البندقية المشهور باسم «القط المعسول». ولسننا ننكر أن جسم الجواد الغاضب، الذي يقذف بالزبد من فيه أكبر من أن يتناسب مع ساقي راكبه، وأن الحمام يلوث في كل يوم الرأس الأصلع للزعيم الفاتح المغامر، ولكن وقفة التمثال تدل على الزهو والقوة كأن ما كان يتوق إليه مكيفلي من حب الناس للفن قد امتزج هنا مع البرنز المصهور ليكسب تمثال دونالتو القوة والصلابة. وكانت بدوا تنظر في دهشة وتمجيد إلى تمثال هذا البطل الذي أنقذه دوناتلو من النسيان والفناء، ووهبت الفنان 1650 دوقة ذهبية (41. 250 دولاراً) في نظير الست السنين التي قضاها في الكدح المتواصل، وطلب إليه أهلها أن يتخذ مدينتهم وطناً له، ولكنه رفض ذلك العرض في نزوة من نزواته، فقد رأى فنه لا يمكن أن يرقى في بدوا حيث يثنى جميع الناس عليه، ولهذا فإن من واجبه لخير الفن أن يعود إلى فلورنس حيث ينتقده جميع أهلها.
والحق إنه عاد إلى فلورنس لأن كوزيمو كان في حاجة إليه، ولأنه كان يحب كوزيمو، لأن كوزيمو كان يفهم الفن، ويعهد إليه بأعمال تدل على الفطنة، ويجزيه عليها الجزاء الأوفى، وقد بلغ الوفاق بينهما حداً يستطيع معه دونالتو أن «يدرك ما يرغب فيه كوزيمو من أقل إشارة تبدر منه» (44). وقد أخذ دونالتو بإيحاء كوزيمو بجميع القديم من التماثيل، والتوابيت، والعقود المعمارية، والعمد، وتيجانها، ويضعها كلها في حديقة آل ميديتشي لكي يدرها الناشئون من الفنانين. وأنشأ دونالتو بمعاونة ميكلتسو استجابة لرغبة كوزيمو قبراً في مكان التعميد للبابا المطرود يوحنا الثالث والعشرين اللاجئ إليه. ونحت لكنيسة سان لورندسو كنيسة كوزيمو المحبوبة منبرين زينهما بنقوش برنزية، ومن هذين المنبرين وغيرهما كان سفنرولا فيما بعد(18/170)
يصب صواعقه على آل ميديتشي المتأخرين. وأنشأ للمذبح تمثالا نصفياً جميلا من الطين للقديس لورنس، ثم صنع المقدسات القديمة زوجين من الأبواب البرنزية وتابوتاً يتسم بالبساطة والجمال لأبوي كوزيمو. وتوالت أعماله الأخرى كأنها عبث اطفال: منها نقش بديع على الحجر يمثل الصعود لكنيسة الصليب المقدس، وصنع للكتدرائية تماثيل للغلمان المكتنزين يرتلون الترانيم في حماسة عظيمة (1433 - 1438)، ومنها تمثال نصفي من البرنز لشاب كأنه صحة الشباب مجسمة (وهو الآن في المتحف الفني في نيويورك)، وتمثال لسانتا تشيتشيليا Santa Cicilia ( وقد يكون من صنع دزيدريو دا سنتيانو) بلغ من الجمال حداً يكفي لأن يجعله ربة للغناء مسيحية، ونقش برنزي يمثل صلب المسيح (في برجلو) لا يسع الناظر إليه إلا أن يعجب بتفاصيله الواقعية، ومنها في كنيسة الصليب المقدس تمثال منفرد ضامر من الخشب يعد من أكثر صور هذا المنظر تأثيراً في النفس رغم ما وجهه إليه برونلسكو من نقد ووصفه إياه بأنه «فلاح مصلوب».
وتقدمت السن بالفنان ونصيره معاً، وعنى كوزيمو بالمثال عناية قلما كان دوناتلو معها يفكر في المال. ويقول فاساري في هذا إنه كان يحتفظ بماله في سلة معلقة في سقف مشغله، وكان يأمر معاونيه وأصدقاءه أن يأخذوا منها ما يشاءون كل بقدر حاجته دون أن يرجعوا إليه في ذلك. ولما حضرت كوزيمو الوفاة (1464)، أوصى ابنه بيرو بأن يرعى دوناتلو، ووهب بيرو الفنان الشيخ بيتا في الريف، ولكن دوناتلو لم يلبث أن عاد إلى فلورنس، لأنه كان يفضل مشغله المعتاد عن شمس الريف وحشراته. وعاش الفنان في فلورنس، بل اشترك أهلها كلهم تقريباً، في جنازته حتى ورى في مقره الأخير في قبو سان لورندسو بجوار قبر كوزيمو نفسه (1466) كما طلب هو في حياته.(18/171)
وقد ارتقى دوناتلو بفن النحت رقيا لا حد له، ولسنا ننكر أنه كان من حين إلى حين يصب في مواقف شخصياته أكثر مما يجب من القوة ومن دقة التصميم، وكثيرا ما كان يعجز عن أن يبلغ الشكل المصقول الحد الذي يعلى من قدر أبواب جبرتين. ولكن أخطاءه كان مردها إلى الذي يعلى من قدر أبواب جبرتين. ولكن أخطاءه كان مردها إلى تصميمه على أن يعبر عن الحياة أكثر مما يعبر عن الجمال، وعن الخُلُق المعقد أو المزاج العقلي لا عن الجسم القوي الصحيح فحسب. كذلك ارتقى دوناتلو بفن النحت الملون وذلك بتوسيع مداه، فلم يجعله مقصوراً على الأغراض الدينية بل جعله يشمل كذلك الأغراض الدنيوية، وبما حبا به موضوعاته من تنويعه، وانفرادية، وقوة لم يسبق لها مثيل، وهو الذي أنشأ أول تمثال للفارس بقي إلينا من عهد النهضة، وتغلب في هذا العمل على مائة من الصعاب الفنية، ولم يتفوق عليه من المثالين غير واحد منهم، وحتى هذا التفوق كان مرده إلى أن صاحبه قد ورث ما تعلمه دوناتلو، وأبدعه، وعلمه غيره. ذلك هو برتلدو Bertolda تلميذ دوناتلو ومعلم ميكل أنجيلو.
3 - لوكادلاَّ ربيا
إن الصورة التي ترتسم في عقولنا، حين نقرأ ترجمتي فاساري لحياة جبرتي ودوناتلو، لتظهر مشغل المثال في عصر النهضة في صورة مشروع تعاوني تعمل فيه كثير من الأيدي، ويوجه عقل واحد، ولكنه ينقل الفن يوماً بعد يوم من الأستاذ إلى الطلاب المتعلمين جيلا بعد جيل. وتخرج من المشاغل مثالون صغار خلفوا في التاريخ أسماء لا تضارع في شهرتها أسماء أساتذتهم الكبار، ولكنها ساعدت بالحد الذي وصلت إليه على أن تشكل الجمال الزائل في صورة خالدة. ومن هؤلاء المثالين الصغار ناني دي بانكو Nanni di Banco الذي ورث ثروة كبيرة، أمكنته من أن يصبح إنساناً عديم القيمة، ولكنه أحب النحت ودوناتلو، وتتلمذ عليه وكان وفيا له(18/172)
حتى استطاع أن ينشئ لنفسه مشغلا مستقلا. وقد نحت تمثالا لسانت فيليب يوضع في كوة في مركز طائفة الحداثين في أورسان ميشيل كما صنع للكنيسة تمثالا للقديس لوقا جالسا وممسكا الإنجيل بيده، وينظر بالثقة الكاملة التي يبعثها في النفس الإيمان الجديد بإيطاليا في عهد النهضة التي بدأت وقتئذ فقط تدخلها الريبة في الدين.
وجمع الأخوان برناردو وانطونيو وسلينو Bernardo & Antonio Rosselino حذقهما في العمارة والنحت في مشغل آخر، فوضع برناردو تصميما لقبر من الطراز الروماني القديم لليوناردو بروني Leonardo Bruni في كنيسة الصليب المقدس، ثم انتقل إلى روما حين جلس نقولاس الخامس على كرسي البابوية، وانهمك في الثورة المعمارية التي أحدثها البابا العظيم. وبلغ أطونيو ذروة مجده في سن الرابعة والثلاثين (1461) حين أنشأ قبرا رخاميا في سان منياتو SAn Minato بفلورنس لدون جايمي Don Jayme كردنال البرتغال. ويتمثل في هذا القبر انتصار الطراز الروماني القديم في كل شيء ما عدا جناحي الملاك، وملابس الكردنال، وتاج عفته-لأن دون أذهل العالم بطهارته. وفي أمريكا الآن مثلان جميلان من أعمال أنطونيو-هما التمثال النصفي الرخامي الذي يمثل المسيح الطفل والقائم في مكتبة مورجان Morgan وتمثال الشاب يوحنا المعمدان المحفوظ في المعرض القومي، وهل في أي مكان مثل للنحت الملون الواقعي أنبل من الرأس القوي المموج بالأوعية الدموية والأخاديد التي أوجدها فيها التفكير العميق، والذي يمثل راس الطبيب جيوفني دي سان منياتو Giovanni di San Miniato والمحفوظ في متحف فكتوريا وألبرت؟
وجاء دزدريو دا سنياتو Desiderio da Settignano إلى فلورنس من مدينة ستنيانو القريبة منها والتي ينتسب إليها. وانضم إلى من كانوا يعملون(18/173)
مع دوناتلو، ورأى أن عمل أستاذه لا ينقصه إلا الصقل الذي يتطلب الصبر الطويل، وامتازت أعماله بالظرف والبساطة، والرشاقة. ولم يبلغ القبر الذي صنعه لمرسبيني القبر أقامه رسلينو لبروني، ولكن المعبد الذي وضع تصميمه لكنيسة سان لورندسو (1464)، قد سر له كل من وقعت عليه عيناه، وقد زاد ما صنعه من تماثيل ملونة ونقوش محفورة، وإن لم تكن هذه هي أعماله الجوهرية (1) وتوفي في سن السادسة والثلاثين، ترى ماذا كان يستطيع أن يفعل لو أنه عاش كما عاش أستاذه حتى بلغ سن الثمانين؟
ووهب لوكا دلا ربيا من العمر اثنتين وثمانين سنة، استخدمها على خير وجه، فرفع العمل في الطين المحروق إلى مستوى يكاد يضعه في مصاف الفنون الكبرى، وذاعت شهرته أكثر مما ذاعت شهرة دوناتلو نفسه، وما من متحف في أوربا لا تعرض فيه الآن تماثيل من صنعه للعذراء، ونماذج من اعماله في الصلصال الملون الأزرق والأبيض. وقد بدأ لوكا عمله صائغا، كما بدأه كثيرون من فناني النهضة، فلما تعلم في ميدان التصوير الصغير جميع دقائق التصميم، انتقل إلى نقش التماثيل ونحت ميدان التصوير الصغير جميع دقائق التصميم، ولعل خَزنَة الكنيسة لم يخبروا لوكا أن هذه التحف تفوق أعمال جيتو نفسها، ولكنهم سرعان ما عهدوا إليه أن يزين شرفة الأرغن بنقش أعمال جيتو نفسها، ولكنهم سرعان ما عهدوا إليه أن يزين شرفة الأرغن بنقش يصور الغلمان والفتيات المرنمين والمرنمات في أثناء نشوة الترنيم. ونحت دوناتلو بعد عامين من ذلك الوقت نقشا يماثله، ولا يزال يواجه احداهما الآخر في معرض تحف الكنيسة ويبرز كلاهما في قوة عظيمة حيوية الطفولة، وقد أعاد عصر النهضة في هذين النقشين استخدام الأطفال في الفن. ثم عهد إليه سدنة الكنيسة في
_________
(1) أضف إلى هذه الأعمال تماثيله التي صنعها لماريتا أسترتسي Marietta Strozzi والمحفوظة في مكتبة مرجان بنيويورك وبالمعرض القومي بواشنجتن.(18/174)
عام 1446 أن يعد نقوشا لأبواب من البرنز خاصة بمكان المقدسات في إحدى الكنائس الكبرى. ولم تبلغ هذه النقوش ما بلغته نقوش جبرتي، ولكنها كانت هي التي أنقذت حياة لورندسو ده ميديتشي أثناء مؤامرة باتسيا Pazzia، ونادت فلورنس كلها وقتئذ بأن لوكا من الفنانين العظام. وكان حتى ذلك الوقت قد اتبع الأساليب التقليدية التي يجري عليها فن المثال، إلا أنه كان في هذه الأثناء يقوم ببعض التجارب على الصلصال، ويبحث عن طريقة يستطيع بها أن يجعل هذه المادة المطواعة جميلة في نسيجها جمال الرخام نفسه. فكان يشكل الصلصال بالصورة التي يرسمها في ذهنه، ثم يغطيه بطبقة زجاجية براقة يستخدم فيها مواد كيميائية مختلفة، ثم يحرقه في أتون بني لهذا الغرض خاصة. وأعجب سدنة الكنيسة بنتيجة هذه التجارب وعهدوا إليه أن يصنع صوراً من الصلصال المحروق تمثل البعث والصعود فوق ابواب أماكن المقدسات في الكنائس الكبرى (1443 - 1446). وكانت هذه الألواح ذات لون أبيض منفرد، ولكنها كان لها تأثير عظيم بفضل مادتها الجديدة ورقة صقلها وجمال تصميمها. وطلب كوزيمو وابنه بيرو أن تصنع نقوش شبيهة بها من الصلصال المحروق يزدان بها قصر آل ميديتشي ومعبد بيرو في سان ميناتو San Minato. وقد اضاف لوكا في هذه النقوش اللون الأزرق إلى اللون الأبيض الغالب عليها. وتوالت عليه وقتئذ الطلبات بكثرة أغرته على الإسراع في عمله والتساهل فيه، فزين مدخل كنيسة الانيسانتي Ognissanti، بصورة من الصلصال المحروق تمثل تتويج العذراء، كما زين مدخل كنيسة باديا Badia بصورة رقيقة من النوع نفسه تمثل العذراء والطفل يحف بهما ملائكة تغرينا بأن نؤمن بخلود السماوات. ثم شرع يعمل صورة كبرى(18/175)
من الصلصال المحروق تمثل الزيارة (1) لتوضع في كنيسة سان جيوفني في بستويا Pistoia، وقد خرج في هذا النقش على التقليد المألوف الذي يمثل ملامح اليصابات العجوز، وسذاجة الفتاة مريم وطهرها وحياتها، وقصارى القول إن لوكا أنشأ بعمله مملكة جديدة للفن، وأوجد أسرة من آل دلا ريبا ظلت مزدهرة حتى آخر ذلك القرن.
_________
(1) زيارة مريم العذراء لإليصابات، وتحتفل الكنيستان الرومانية واليونانية بذكرى هذه الزيارة في اليوم الثاني من شهر يوليه في كل عام. (المترجم)(18/176)
الفصل السابع
التصوير الملون
1 - مساتشيو
كان للرسم الملون الغلبة على النحت في إيطاليا أثناء القرن الرابع عشر، وكان للنحت الغلبة على الرسم الملون في القرن الخامس عشر، ثم عادت الزعامة مرة أخرى للرسم في أثناء القرن السادس عشر، ولعل لعبقرية ليوناردو، وروفائيل، وتيشيان في القرن الخامس عشر، نقول لعل لعبقرية هؤلاء في تلك القرون المختلفة بعض المختلفة بعض الأثر في هذا التغيير. بيد أننا نقرر هنا أن العبقرية قوة من قوى روح عصر من العصور أكثر منها سبباً من أسبابها. ولعل الكشف عن النحت القديم وما بعثه هذا الفن من وحي إلهام لم يكونا قد أصبحا في أيام جيتو حافزاً وموجها للمثالين والمصورين كما كانا لجبرتي دوناتلو. لكن هذا الحافز قد بلغ ذروة قوته في القرن السادس عشر، فلماذا إذن لم يرفع سانسوفينو Sansovino وتشيليني Cellini وأمثالها، ولم يرفع ميكل أنجيلو، فوق منزلة المصورين في ذلك العصر-ولماذا كان ميكل أنجيلو مثالا قبل كل شيء اضطر شيئاً فشيئاً إلى أن يكون مصوراً؟
فهل كان ذلك لأنه كان على فن النهضة واجبات، وكانت له حاجات، أوسع وأعمق مما كان لفن النحت؟ ذلك أن الفن، بعد أن تحرر بفضل ما نال من مناصرة مصدرها للذكاء والثراء كان يرغب في أن يشمل جميع ميادين العرض والزخرف، فإذا شاء أن يفعل هذا هن طريق التماثيل تطلب منه ذلك وقتاً، وجهداً مضنياً، وكلها عقبات لا يستطاع التغلب عليها،(18/177)
أما التصوير فكان أيسر عليه أن يعبر عن جميع الأفكار المسيحية والوثنية في اوسع نطاقها، في هذا العصر يتسم بالسرعة والخصب. وهل كان في وسع مثال أن يصور حياة القديس فرانسس بالسرعة والإتقان اللذين صورها بهما جيتو؟ يضاف إلى هذا أن الكثرة الغالبة من أهل إيطاليا في عهد النهضة كانت مشاعرها وافكارها لا تزال مصطبغة بصبغة العصور الوسطى، وحتى الأقلية التي تحررت من هذه الصبغة كانت لا تزال جوانحها تنطوي على اصداء وذكريات من الدين القديم، بآماله، ومخاوفه، ورؤاه الغامضة الخفية، وما ينطوي عليه من رقة، وخشوع، ونزعات روحية، وقوي تسري في نفوسها، وكان لابد لهذه كلها، ولما يعبر عنه فن النحت اليوناني والروماني من جمال متعدد الأنواع، ومثل عليا مختلفة، أن تجد لها في الفن الإيطالي متنفساً وشكلاً، وكان في وسع التصوير أن يؤدي هذه المهمة أداء إن لم يكن اكثر من النحت إخلاصاً ودقة، فلا أقل من أن يكون أكثر منه يسراً. وكان النحت قد درس قبلئذ جسم الإنسان دراسة بلغت من الطول والحب مدى يقلل من قدرته على تمثيل الروح، وإن كان المثالون القوط قد أفلحوا من حين إلى حين في تمثيل الروح في الحجارة أحسن تمثيل. وكان لابد لفن النهضة أن يصور الجسم والروح والوجه والشعور، وكان عليه أن يكون قوي الإحساس بالمدى الذي تستطيع أن تبلغه التقوى، والحب، والانفعال، وألألم، والتشكك، والشهوانية، والكبرياء، بضروبها المختلفة، وأن يتأثر بهذا المدى وتلك الضروب وتنطبع فيه. والعبقرية المجدة الكادحة وحدها هي التي تستطيع أن تمثل هذا في الرخام، أو البرونز، أو الصلصال، ولما حاول جبرتي ودونالتو أن يفعلا هذا كان عليهما أن ينقلا إلى فن النحت اساليب الرسم الملون بما يتطلبه من فن المنظور والتدرج غير المُحَس، وقد ضحيا من أجل وضوح التعبير ما كان يطلب إلى التماثيل اليونانية في العصر الذهبي أن تلتزمه من مثل أعلى في الشكل، ومن هدوء واطمئنان في الوقفة والوضع. ونضيف إلى ذلك أخيراً(18/178)
أن الرسام يتحدث إلى الناس بلغة أقرب إلى أذهانهم من لغة النحت، فهو يتحدث إليهم بالألوان التي تجتذب العين، وبالمناظر التي تروي قصصاً محببة. ولقد وجدت الكنيسة أن التصوير السريع أسرع تأثيراً في الشعب، وأقرب إلى قلوبه من كل نحت في الرخام البارد أو صب في البرنز القاتم الكئيب. ولهذا فإنه لما تقدم عهد النهضة واتسع أفق الفن وهدفه، ارتد النحت إلى الوراء، وخطا التصوير إلى الأمام، وأصبح بعد أن اتسع مداه، وتنوعت أشكاله، وأثبت ما يستطيع أن يبلغه من حذق ومهارة، هو الفن الأعلى الذي يبرز خصائص ذلك العصر، وصار هو وجه النهضة وروحها كما كان النحت أسمى التعبير الفني عند اليونان.
لكنه في الفترة التي نتحدث عنها كان لا يزال غير ناضج يتحسس طريقه إلى هذا النضوج. فأخذ باولو أتشيلو Paolo Uccello يدرس فن المنظور حتى لم يعد يهتم بشيء آخر غير هذه الدراسة، وكان الراهب أنجيلكو Fra Angelico هو المثل الأعلى الكامل للعصور الوسطى في الحياة والفن، ولكن مساتشيو وحده هو الذي أحس بالروح الجديدة التي انتصرت فيما بعد على يد بتيشيلي Botticelli وليوناردو وروفائيل.
وكان بعض ذوي المواهب الأصغر من هؤلاء شأنا قد نقلوا أصول هذا الفن وتقاليده. فقد تتلمذ جدو جدي Gaddo Gaddi على جيتو، وتتلمذ تديو جدي Taddeo Gaddi وتتلمذ جدي Taddeo Gaddi على جدو جدي، وتتلمذ أنجولو جدي Angoloo Gaddi على تديو جدي، وزين أنجولو هذا في ذلك العام المتأخر عام 1380 كنيسة سانتا كروتشي بمظلمات من طراز مظلمات جيتو. وجمع تشينينو تشينيني Cennino Cennini تلميذ أنجولو في كتاب الفن Libro dell Arte (1437) كل ما كان لدى عصره من معلومات في الرسم، والتركيب، والفسيفساء، والصبغات، والزيوت، والورنيش، وغيرها من مستلزمات أعمال المصور. وإلى القارئ ما ورد في الصفحة الأولى من هذا الكتاب:(18/179)
وهنا يبدأ كتاب الفن، وهو الكتاب الذي وضع وألف دليلا على تعظيمنا لله ولمريم العذراء ... ولجميع القديسين ... وإجلالاً لجيتو، وتديو، وأنجولو» (45)، لقد بدأ الفن يأخذ طريقه لأن يكون ديناً. وكان أعظم تلاميذ أنجولو راهب كملدوليسي Camaldulese يدعى لورندسو موناكو Lorenzo Mon. ولقد ظهرت قوة جدية في التصوير والتنفيذ في صورة تتويج العذراء التي صورها الراهب لورنتشي Lawrence (1413) على ستار المحراب الفخم في ديره المعروف بدير «الملائكة». فقد كانت الوجوه في هذه الصورة فردية لا تجري على النمط التقليدي، وكانت الألوان براقة قوية. لكن تلك الألواح المتنوعة لم يراع فيها فن المنظور، فقد كانت الصورة التي في المؤخرة أطول من التي في المقدمة، كأنها رؤوس النظارة حين يطل عليها الإنسان من فوق المسرح. ومنذا الذي علم المصورين الإيطاليين فيما بعد علم المنظور؟
لقد أخذ بورنلسكو، وجبرتي، ودوناتلو قبل هذا القوت يحاولونه ويقتربون منه، وكاد باولو أتشيلو ينفق فيه حياته كلها، فكان يقضي الليلة بعد الليلة مكباً عليه انكباباً جعل زوجته تستشيط منه غضباً. وحدث أن قال لها مرة: «ألا ما أجمل هذا المنظور وما أعظم فتنته! آه ليتني أستطيع أن أجعلك تفهمي» (46) ولم يكن شيء يبدو لباولو أجمل من تقارب الخطين المتوازين تقارباً مطرداً ثم امتزاجهما آخر الأمر في صورة حقل محروث. وأخذ باولو يصوغ قوانين المنظور مستعيناً على ذلك بأنطونيو مانتي وهو عالم رياضي من أهل فلورن، فشرع يدرس الطريقة التي يمثل بها تمثيلاً دقيقاً عقود القبوة المرتدة عن البصر، وازدياد حجم الأجسام ازدياداً يشوه منظرها حين تقترب من جزء الصورة الأمامي، وما يحدث من التواء في العمد على شكل قوس. وشعر أخيراً بأنه قد وصل إلى القواعد المسيطرة على هذه الأمور الغامضة العجيبة. وعرف أنه بفضل هذه القواعد يستطيع(18/180)
بُعْد واحد أن يخدع العين فتظنه ثلاثة أبعاد، وأن التصوير يمكن أن يظهر الفضاء والعمق، وخيل إلى باولو أن هذه ثورة لا تقل في عظمتها عن أية ثورة أخرى في تاريخ الفن. وشرح مبادئه هذه فيما أخرجه من صور، ثم زين مقنطرات سانتا ماريا نوفلا بمظلمات أدهشت معاصريه، ولكنها عدت عليها عوامل التعرية. غير أنه لا يزال باقيا من صوره صورة حية واضحة المعالم لسير جون هوكود Sir John Hawkwood على أحد جدران الكنيسة (1436)، ذلك أن الزعيم المغامر الفخور قد تحول من هجومه على فلورنس إلى الدفاع عنها، فاستحق بذلك أن ينضم في الكنيسة إلى جماعة العلماء والقديسين.
وكان نمط آخر من أنماط التطور قد بدأ في هذه الأثناء من البداية نفسها ووصل إلى الغاية عينها. فقد كان أنطونيو فينيد سيلنو Antonio Veneziano من أتباع جيتو، وكان جيراردو استارنينا Gerardo Starnina تلميذا لفينيد سيانو، وتتلمذ ماسولينو دا بنيكالي Masolino da Panicale على استارنينا ثم تتلمذ عليه هو مساتشيو. وأخذ ماسولنو ومساتشيو يدرسان فن المنظور مستقلين عن باولو، وكان ماسولينو من الرعيل الأول من الإيطاليين الذين صوروا الأجسام العارية، كما كان مساتشيو أول من طبق مبادئ علم المنظور الجديدة بنجاح استرعى أنظار أهل جيله وبدأ بذلك عهداً جديداً في فن التصوير.
وكان أسمه الحقيقي هو توماسو جيدي سان جيوفني Tommaso Guidi di San Giovanni، أما مساتشيو فقد لقب به من قبيل السخرية ومعناه تومس الكبير. كما أن ماسولينو يعني تومس الصغير، ذلك أن إيطاليا كانت مولعة بأن تلقب أبناءها بهذه الألقاب المميزة لهم. وعمد مساتشيو إلى الفرشاة في سن مبكرة، وانهمك في التصوير انهماكا أهمل معه كل شيء سواه-ملابسه، وجسمه، ودخله، وديونه. وعمل(18/181)
في وقت ما مع جبرتي، ولعله مال في هذه الدار العلمية إلى تلك الدقة في التشريح التي أضحت فيما بعد من مميزات صوره، ودرس كذلك المظلمات التي كان يصورها ماسولينو في معبد برانكاتشي Brancacci بكنيسة سانتا ماريا دل كارميني Santa Maria del Carmine، ولاحظ في بهجة عظيمة تجاربها في المنظور وتمثيل الصور أو اجزائها إذا ما اقتربت من الناظر إليها، ثم مثل على عمود في كنيسة الدير المعروفة باسم باديا Badia القديس أيفو Jvo شفيع بريطاني ورسم قدميه كما تبدوان إذا نظر إليهما من أسفل. لكن النظارة أبوا أن يعتقدوا أن قديسا يمكن أن تكون له قدمان بهذه الفخامة. وصور في كنيسة سانتا ماريا نوفلا قبواً ذا سقف نصف أسطواني ضمن مظلم يمثل الثالوث الأقدس، وأتقن في هذه الصورة قواعد المنظور وتناقص أجزائها إلى حد خيل إلى العين معه أنها ترى السقف كأنه غائر في جدار الكنيسة.
أما الآية الفنية الرائعة التي كانت من أهم معالم ذلك العهد، والتي جعلته معلم أجيال ثلاثة، فهي الأجزاء التي اضافها إلى مظلمات ماسولينو برانكاتشي والتي تمثل حياة القديس بطرس (1423). وقد مثل الفنان الشاب حادثة مال الخراج بقوة جديدة في التفكير، ودق في التخطيط: فظهر المسيح في نبل صارم، وبطرس في جلال غاضب، والجابي في جسم الرياضي الروماني اللدن، وظهرت ملامح كل واحد من الرسل وثيابه، ووقفته مميزة عن غيرها في سائر الرسل. وكانت المباني، والتلال التي في خلف صورته بمرآه رسولا ملتحياً في هذا المجمع الحاشد. ودشن المعبد بينما كان هو يعمل في هذه المجموعة، وأقيم فيه حفل وسار فيه موكب جليل، وراقب ماساتشيو هذه المراسيم بعين نافذة احتفظت بصورته، ثم مثله في مظلم بأحد المقنطرات. إذ كان برونلسكو، ودوناتلو، وماسولينو،(18/182)
وجيوفني دي بيتشي دو ميديتشي، وأنطونيو برنكاتشيو القائم على المعبد قد شاركتا جميعاً في هذا الموكب، فقد وجدوا أنفسهم في الصورة. وحدث لأسباب لا نعرفها أن ترك مساتشيو العمل دون أن يتمه وسافر إلى روما في عام 1425. ولم نعد نسمع عنه شيئاً بعد ذلك الوقت، وليس لنا إلا أن نظن مجرد ظن أن حادثاً ما أو مرضاً قد قضى على حياته قبل الأوان. غير أن المعاصرين قد اعترفوا من فورهم بأن مظلمات برنكاتشيو هذه كانت خطوة كبيرة في تقدم فن التصوير. ذلك أن هذه الأجسام العارية الجريئة والثياب الرشيقة، وفن المنظور المدهش، والتماثيل الواقعي للقرب والبعد، والتفاصيل الدقيقة في تشريح الجسم، واستخدم تدرج الضوء والظل لتمثيل العمق، كل هذا ينبئ بتحول فني جديد يسميه فاساري الطراز «الحديث». وأقبل كل مصور طوح يستطيع الوصول إلى فلورنس لدراسة هذه المجموعة: أقبل الراهب أنجيلكو، والراهب لبولبي Fra Lippo Lippi، وأندريا دل جستانيو Andrea del Gastagno، وفيروتشيو Verrocehio، وجرلندايو Ghirlandaio وبتيشلي، وبيروجينو Perugino، وبيرو دلا فرانتشسكا، وليوناردو، والراهب برتولوميو، وأندريا دل سارتو، وميكل أنجيلو، وروفائيل، ولم يكن لأحد من الأموات تلاميذ ممتازون كما كان لمساتشيو، ولم يكن لأحد من الفنانين منذ أيام جيتو من التفوق مثل ما كان له، وإن لم يكن هو عارفاً بنفوذه. ويقول ليوناردو إن «مساتشيو أظهر بأعماله التي وصلت إلى حد الكمال أن الذين يسترشدون في عملهم بهدى غير هدى الطبيعة، وهي السيدة العليا، يدفنون في الثرى الفقر المجدب» (47).
2 - فرا أنجيلكو
وظل فرا أنجيلكو وسط هذه الأساليب الجديدة المثيرة يسير في هدوء على طريقته هو طريقة العصور الوسطى. وكان مولده في قرية تسكانية(18/183)
وسمي جيدو دي بيترو، ثم وفد إلى فلورنس وهو شاب، ودرس فن التصوير، وأكبر الظن أنه درسه مع لورندسو وموناكو. وسرعان ما نضجت موهبته الفنية، وهيئت له جميع السبل التي تمكنه من أن يشغل مكاناً طيباً مريحاً في العالم، ولكن حب السلام وأمله في النجاة حملاه على أن يلتحق بطائفة الرهبان الدمنيك (1407). وظل فرا جيوفني (الأخ جوفني) - وهو الاسم الذي اطلق عليه في هذه الفترة-يتدرب على نظام الرهبنة زمناً طويلاً في عدة مدن مختلفة، استقر بعدها في دير سان دمنيكو SanDominico ببلدة فيسولي Fiesole (1418) ، حيث شرع وسط عادته التي حباه احتجاجه وخمول ذكره يزين المخطوطات ويرسم صور الكنائس وجماعات الإخوان الدينية. وحدث في عام 1436 أن نقل رهبان سان دمنيكو إلى دير سان ماركو الجديد الذي شاده ميكلتسو بأمر كوزيمو ومن ماله. ورسم جيوفني في التسع السنين التالية نحو خمسين صورة بالجص على جدران كنيسة الدير-تشمل بيت القسيسين، ومكان نومهم، ومطعمهم، وموضع راحتهم، وطرقات الدير المقنطرة المسقوفة، وصوامع الرهبان. وكان في خلال هذه المدة يقوم بالشعائر الدينية في تواضع وخشوع حملا زملاءه الرهبان على أن يسموه «الأخ الملاك» فرا أنجيلكو Fra Angelico. وقد بلغ من حلمه أن أحداً من الناس لم يره غاضباً قط، وان أحداً لم يفلح قط في أن يغضبه. وكان في وسع تومس أكمبس Thomas à Kempis أن يجد الصورة التي رسمها لتمثيل محاكاة المسيح قد تحققت إلى أكمل حد فيه إذا استثنينا من ذلك التعميم زلة واحدة لا يستطيع الإنسان معها أن يحاجز نفسه عن الابتسام: ذلك أن الراهب الملاك الدمنيكي لم يستطع أن يقاوم نزعة من نزعاته فوضع في صورة من صور يوم الحساب عدداً قليلا من الرهبان الفرنسيس في الجحيم (48).
وكان التصوير عند الأخ جيوفني عملا دينياً كما كان متعة وانطلاقاً(18/184)
لحماسة الجمال. وكان مزاجه وهو يصور نفسه مزاجه وهو يصلي، ولم يبدأ قط تصويره دون أن يصلي قبل بدئه. وإذا كان قد تحرر من منافسات الحياة القاسية، فقد كان ينظر إلى هذه الحياة كأنها ترنيمة من الحب الإلهي والتوبة الإلهية. وكانت الصور التي يرسمها دينية على الدوام-حياة مريم والمسيح، والمنعمين في الجنة، وحياة القديسين ورؤساء طائفته. وكان غرضه هو أن يبث التقي أكثر مما يخلق الجمال، وجربا على هذه القاعدة رسم في البيت الذي يعقد فيه الرهبان اجتماعاتهم الصورة التي يظن أنها يجب أن تكون في ذهنهم على الدوام-صورة صلب المسيح، وهي تعبير قوي أظهر فيها أنجيلكو دراسته للأجسام العارية كما أظهر فيها في الوقت عينه الصفة العامة الشاملة للمسيحية. وقد صور فيها عند أسفل الصليب مع القديس دمنيك مؤسسي طوائف الرهبنة المنافسة لطائفته وهم - أوغسطين، وبندكت، وفرانسس، وجون جولبرتو John Gualberto مؤسس طائفة الفلمبروزان Vallombosans، واكبرت مؤسس طائفة رهبان الكرمل. كذلك قص أنجيلكو، في الكوة التي فوق مدخل حجرة الاستقبال التي يطلب إلى الرهبان أن يقدموا فيها واجب الضيافة لكل عابر سبيل، قص في هذه الكوة قصة الحاج الذي تبين أنه هو المسيح نفسه، وكان يهدف بتصويره إلى أن كل حاج يجب أن يعامل على أنه قد يكون هو المسيح. وقد جمعت الآن في حجرة الاستقبال هذه بعض الموضوعات التي صورها أنجيلكو لمختلف الكنائس والحرف الطائفية: منها عذراء عمال الكتان وفيها جعل للملائكة المرنمين أجسام النساء اللدنة، ووجوه الأطفال الطاهرة الصريح، ولا تقل صورة النزول عن الصليب جمالا ورقة عن أية واحدة من ألف الصورة التي تمثل هذا المنظر في فن النهضة. أما صورة يوم الحساب فهي مسرفة بعض الإسراف في تناسب أجزائها، كما أنها مزدحمة بالخيالات المرعبة المنفرة كأنما العفو من صفات البشر والكره من صفات الله. أما أروع(18/185)
صور أنجيلكو فتقوم في أعلى الدرج المؤدية إلى خلوات الرهبان، تلك هي صورة البشارة- وهي تصور ملكاً في منتهى الظرف والرشاقة يظهر الإجلال والتعظيم لمن ستكون أم المسيح، وتصور مريم تنحني، وتمسك كلتا يديها بالأخرى مظهرة بذلك خشوعها وعدم تصديقها. وقد وجد الراهب المحب من الوقت ما استطاع به أن يصور في الصوامع الخمسين بمساعدة تلاميذه الرهبان صوراً على الجص تذكر الرائي بمنظر ملهم من مظاهر الإنجيل كالتجلي، واجتماع الرسل حول العشاء الرباني، ومريم المجدلية تمسح قدمي المسيح. وصور أنجيلكو في الصومعة المزدوجة التي ترهب فيها كوزيمو صورة لصلب المسيح، وأخرى لعبادة الملوك، تظهر فيها الثياب الشرقية الفخمة التي يحتمل أن الفنان قد شاهدها في مجلس مدينة فلورنس. ورسم في صومعته هو صورة تتويج العذراء، وكان موضوعها هو الموضوع المحبب له الذي صوره المرة بعد المرة، ويحتوي معرض أفيزي Uffizi على واحدة منقولة عنها، كما يحتوي مجمع فلورنس العلمي على واحدة أخرى، ومتحف اللوفر على ثالثة، وأحسنها كلها هي التي رسمها أنجيلكو لقاعة النوم في دير سان ماركو، لأن صورة المسيح ومريم في هذه الصورة من أبدع الصور في تاريخ الفن كله.
وذاعت شهرة هذه الصور الدالة على التقي والخشوع وتوالت بسببها على جيوفني مئات الطلبات، وكان كلما جاء طلب منها رد على صاحبه بقوله إن عليه أولاً أن يحصل على موافقة رئيس الدير، فإذا حصل على هذه الموافقة أجابه إلى ما طلب على الدوام، ولما طلب إليه نقولاس الخامس أن يحضر إلى روما غادر صومعته في فلورنس وذهب ليزين معبد البابا بمناظر من حياة القديسين استيفن ولورنس، ولا تزال هذه الصور من أجمل ما تقع عليه العين في الفاتيكان، وبلغ من إعجاب نقولاس بالفنان أن عرض عليه منصب كبير أساقفة فلورنس، ولكن أنجيلكو اعتذر وأوصى بأن يعين(18/186)
في هذا المنصب رئيسه المحبوب، وقبل نقولاس هذا العرض، وبقى الراهب أنطونيو من القديسين حتى بعد أن لبس ثياب كبير الأساقفة.
وليس من بين المصورين جميعاً-إذا استثنينا إلجريكو El Greco ( الإغريق) - من ابتكر له طرازاً في التصوير خاصاً به كما ابتكر الأخ أنجيلكو، وفي وسع كل إنسان حتى المبتدئ أن يتبين هذا الطراز فلا يخطئ فيه. وهو يمتاز ببساطة الخط والشكل وهي البساطة التي ترجع إلى عهد جيتو، وقلة في مجموع الأوان ولكنها قلة أثيرية سماوية- تشمل الألوان الذهبي والزنجفري، والقرمزي، والأزرق، والأخضر-وهي تكشف عن روح نيرة، وإيمان هانئ، وصور رسمت في بساطة متناهية، تكاد تغفل علم التشريح، ووجوه جميلة، ظريفة، ولكنها شاحبة يبعدها عن الحياة، متشابهة تشابهاً يبعث الملل في الرهبان، والملائكة، والقديسين، كأنها في الفكرة التي قامت عليها أزهار في جنات النعيم، وكلها قد سمت بها روح بلغت المثل الأعلى في الحنان والخشوع، ونقاء المزاج والتفكير الذي يعيد إلى الذاكرة أجمل لحظات العصور الوسطى، ولا تستطيع النهضة أن ترجها. لقد كانت هذه آخر صرخة تبعثها العصور الوسطى في الفن.
وظل الأخ جيوفتي يعمل سنة في روما، ثم عمل بعض الوقت في أرفيتو Orvreto، ثم كان مدة ثلاث سنين رئيساً لدير الدمنيك في فيسولي، ودعا مرة أخرى إلى رومة، حيث توفى في سن الثامنة والستين. وربما كان قلم لورندسوفلا الفصيح هو الذي كتب قبريته:
لست أريد أن يكون ما أمدح به أنني كنت أبليس آخر، بل أريد أن يكون سبب مديحي أنني خرجت عن جميع مكاسبي إلى المؤمنين بك أيها المسيح، لأن بعض الأعمال يتوجه بها إلى الأرض وبعضها إلى السماء. لقد كنت، أنا وجيوفني، من أبناء فلورنس المدينة التسكانية.(18/187)
3 - الأخ فليولبي
ولد من اقتران فن أنجيلكو الظريف بفن مساتشيو الشهواني فن آخر أخرجه رجل يفضل الحياة عن الخلود. كان فلبو ابن قصاب يدعى توماسو لبي Tommaso Lippi. وكان مولده في شارع من حي فقير بمدينة فلورنس خلف دير هبان الكرمل. وتيتم الطفل وهو في الثامنة من عمره، فكفلته عمة له وهي كارهة حتى بلغ سن الثامنة، ثم تخلصت منه بأن سلكته في طائفة رهبان الكرمل، وأخذ الطفل الصغير يملأ هوامش صفحات الكتب التي طلب إليه أن يدرسها برسوم هزلية. ولاحظ رئيس الدير براعته في هذه الرسوم فعهد إليه أن يرسم المظلمات التي فرغ مساتشيو تواً من تصويرها في كنيسة رهبان الكرمل. وما لبث الصبي أن أخذ يرسم صوراُ من عنده في تلك الكنيسة نفسها. ولم يبق لنا الآن شيء من هذه الصور، ولكن فاساري يظن أنها لا تقل جودة عن صور مساتشيو نفسه. ولما بلغ فلبو السادسة والعشرين من عمره (1432) غادر الدير، وظل يسمي نفسه «فرا Fra أي الأخ أو الراهب»، ولكنه كان يعيش في هذا «العالم» ويكسب عيشه من فنه. ويروي فاساري قصة تصدقها الرواية المتواترة، وإن لم يكن في وسعنا أن نتبين صدقها:
«يقولون إن فلبو كان عاشقا متيما، بلغ من حبه النساء أنه كان إذا رأى امرأة أعجبته، لم يكن يتردد في أن يخرج عن كل ما يملك لكي ينالها، فإذا لم يفلح في هذا أطفأ لهيب حبه برسم صورتها. وغلبت عليه هذه النزعة حتى كان إذا انتابته نوبة الهيام لم يلتفت، طالما كانت مستحوذة عليه، إلى شيء من عمله. وحدث مرة، حين كان كوزيمو يستخدمه في عمل ما، أن اغلق عليه باب البيت الذي كان يعمل فيه حتى لا يخرج منه ويضيع وقته. وظل فلبو على هذا النحو يومين، ولكن شهوة الحب الحيوانية(18/188)
غلبته، فمزق اللوحة التي كان يعمل فيها بمقص، وتدلى من النافذة، وقضى يومين كاملين في ملذاته. ولما بحث كوزيمو عنه لم يجده، أمر بأن يبحث عنه في كل مكان، وظل البحث جارياً حتى عاد فلبو إلى عمله من تلقاء نفسه. وكان كوزيمو من ذلك الوقت يسمح له بالخروج والعودة متي يشاء بكامل حريته، وندم على حبسه السابق في البيت ... لأن العباقرة، على حد قوله، أجسام نورانية سماوية وليست حمير حمل ... وجعل همه من ذلك الوقت أن يربط فلبو برباط الحب، وبذلك كان الفنان أكثر استعداداً لخدمته من ذي قبل.
ووصف «الأخ فلبو» نفسه في رسالة بعث بها إلى بيرو ده ميديتشي بأنه أفقر راهب في فلورنس، يكفل بنات أخيه اللاتي يتقن إلى الزواج ويعيش معهن (50). وكان الطلب كثيراً على أعماله، ولكن يلوح أن ما يتقاضاه عليه كان أقل مما ترغب فيه بنات أخيه. ولسنا نظن أن أخلاقه الشخصية قد بلغت حداً كبيراً من السوء، لأنا نجده قد كلف بأن يرسم صوراً لمختلف أديرة النساء. وبينما كان يعمل في دير سانتا مرجريتا ببلدة براتو Prato إذ وقع في حب لكريتسا بوتي Lucrezia Boti ( إلا إذا كان فاساري مخطئاً، وكانت الرواية المتواترة خاطئة أيضاً). وكانت الرواية المتواترة خاطئة ايضاً). وكانت لكريتسيا هذه راهبة أو حارسة للراهبات. وأقنع رئيسة الدير بأن تجعلها تقف أمامه ليرسم على مثالها صورة العذراء، وسرعان ما فرا معاً. وظلت تعيش مع الفنان على الرغم من تأنيب والدها إياها وإلحاحه عليها بالعودة، وظل يتخذها نموذجاً لصور العذراء على الرغم من غضب والدها وإلحاحه عليها بأن تعود، وولدت له أبنه فلبينو لبي Filippino Lippi الذي ذاع صيته فيما بعد. ولم ير سدنة كنيسة براتو في هذه المغامرات منقصة كبيرة لفلبو، ولهذا عهدوا إليه في عام 1456 أن يزين موضع المرنمين في الكنيسة بمظلمات تصور حياة يوحنا المعمدان والقديس استيفن. وكانت هذه الصور، التي(18/189)
عدا عليها الزمان، تعد في ذلك الوقت من الآيات الفنية الرائعة: وتبلغ حد الكمال في تركيبها، غنية بألوانها، حية في قَصَصِها، وتصل إلى ذروة الفن على أحد جانبي موضع المرنمين حيث نشاهد رقص سالومة، وعلى الجانب الثاني حيث نشاهد رجم استيفن. ووجد فلبو أن هذا العمل ممل أكثر مما يتقن مع حركته ونشاطه، ففر منه مرتين، ثم أقنع كوزيمو البابا بيوس الثاني في عام 1461 أن يحل الفنان من الإيالن التي أقسمها عند دخول الدير، ويبدو أن فلبو قد أحل أيضاً من وفائه للكريتسيا، التي لم تعد تليق لأن تقف امامه ليتخذها نموذجاً لصور العذراء. وبذل سدنة الكنيسة براتو كل ما في وسعهم ليغروه بالعودة لاتمام مظلماته، وبعد عشر سنين من بدئه فيها أفلح كارلوده ميديتشي ابن كوزيو غير الشرعي الذي كان وقتئذ المبلغ لأوامر البابا، في حمله على إتمامها. وبذل فلبو في تصوير منظر دفن استيفن كل ما لديه من قوة- بذله في فن المنظور الخداع الذي يتمثل في البناء القائم في خلفية الصورة، وفي الصور الانفرادية للأشخاص المحيطين بالجثة، وفي التناسب القوي بين أجزاء الصورة وفي وجه النغل ابن كوزيمو الهادئ المستدير وهو يقرأ الصلوات على الموتى.
ولقد كانت أجمل الصور التي رسمها فلبو هي صور العذراء (1)، وذلك
_________
(1) ومن أمثلة هذه الصور صورة البشارة في كنيسة سان لورندسو في فلورنس ففيها ترى فتاة فلاحة في موقف استرحام وتواضع، وترى العذراء تعبد الطفل (في برلين الآن)، تتلألأ في جلباب العذراء الأزرق وفي فراش الأزهار الذي تحت الطفل، والعذراء المحفوظة في أفيزي ذات الوجه الأشقر الوقور، والنقاب المهفهف، والرداء المسدول بطريقة تكسبه جمالا فوق جماله، والعذراء التي في معرض بتي، والعذراء والطفل في قصر آل ميديتشي، والعذراء والطفل بين القديسين فرديانو وأوغسطين المحفوظة في متحف اللوفر، وتتويج العذراء المحفوظة في الفاتيكان، وتتويج العذراء وما بجانبها من صور لأشخاص ثانويين ذوي ظرف، ورشاقة، ومنهم فلبو نفسه راكع للصلاة، وقد تاب آخر الأمر. وهذه الصورة توجد الآن في أفيزي.(18/190)
بالرغم من مغامراته الجنسية الشاذة، ولعله كان بسبب حساسيته القوية وعشه لجمال المرأة. وإن هذه الصورة لتنقصها روحانية صور أنجيلكو للعذراء وما فيها من روحانية أثيرية، ولكنها مع ذلك تنقل إلى الناظر إحساساً قوياً بالجمال الجثماني الهادئ، والحنان الذي لا حنان بعده. ولقد أصبحت الأسرة المقدسة في صور الراهب لبو أسرة إيطالية، تحيط بها حوادث عادية، وقد خلع فيها على العذراء جمالا جثمانياً ينبئ باقتراب عهد النهضة الوثني. وقد أضاف فلبو إلى هذه المفاتن النسوية فيما أخرجه من صور للعذراء رشاقة وخفة انتقلتا منه إلى تلميذه بتيتشلي.
ودعته مدينة اسبليتو في عام 1466 ليصور قصة العذراء مرة أخرى في قبا كنيستها. وأخذ يعمل فيها بذمة وأمانة بعد أن سكنت حمى عاطفته النسائية، غير أن قواه كانت هي الأخرى قد ضعفت مع ضعف عاطفته، ولم يكن في وسعه أن يكرر في هذه الكنيسة الصور الجدارية التي صورها في كنيسة براتو. وبينما كان يبذل هذه الجهود إذ مات مسموماً، ويظن فاساري أن اللذين دسوا له السم هم أقارب فتاة أغواها. وهذه القصة بعيدة الاحتمال، لأن فلبو دفن في كنيسة أسبليتو، حيث شاد له أبنه بعد سنين قلائل من ذلك الوقت قبراً فخماً عهد إليه به لورندسو ده ميديتشي.
إن كل إنسان يخلق الجمال جدير بأن تحيا ذكراه، ولكن من واجبنا أن نمر بسرعة وفي خجل بدمنيكو فنيدسيانو Dominico Veneziano وقاتله المزعوم أندريا دل كستانيو Andrea del Castagno. فأما دمنيكو فقد استدعى من بروجيا (1439) ليرسم صوراً على جدران كنيسة سانتا ماريا نيوفا (القديسة مارية الجديدة Santa Maria Nuova) ، وكان من مساعديه شاب تلوح عليه أمارات النجابة من أهل برجو سان سبلكرو Borgo San Sepolcro يدعى بيرو دلا فراتشسكا. وقد قام في هذه الصور التي لم يبق منها شيء الآن بتجربة من أولى التجارب التي أجريت في(18/191)
فلورنس بالألوان الممزوجة في الزيت، وخلف لنا وراءه آية واحدة فنية هي صورة امرأة (في متحف برلين) ذات شعر منسدل إلى أعلى، وعينين تنمان عن القلق، وأنف بارز وصدر منتفخ. ويقول فاساري إن دمنيكو علم أندريا دل كستانيو قواعد الفن الجديدة، وكان هو أيضاً وقتئذ يرسم صوراً جدارية في كنيسة سانتا ماريا نوفا. وربما كان تنافسهما قد أفسد ما بينهما من صداقة لأن أندريا كان رجلا عنيدا سريع الانفعال. ويصف لنا فاساري كيف قتل أندريا دمنيكو، ولكن الروايات الأخرى تقول إن دمنيكو عاش بعد موت أندريا أربع سنين. وكان الذي أذاع شهرة أندريا هو صورة جلد المسيح التي رسمها في إحدى بواكي كنيسة سانتا كروتشي حيث أدهشت أفانين المنظور كل من رآها حتى زملاءه الفنانين. وتوجد في دير سانت أبولونيا القديم في فلورنس مختفية فيه صوره الخيالية لدانتي، وبترارك، وبوكاتشيو، وفارينانا دجلي أوبرتي Farinata Degli Uberti، وصورة حية واضحة لببو اسبانا Pippo Spana الجندي المتعجرف، وصورة للعشاء الأخير (1459) تبدو تافهة خالية من الحياة، ولكنها رغم ذلك ربما أوحت إلى ليوناردو بفكرة أو فكرتين.(18/192)
الفصل الثامن
متنوعات أشتات
إذا شئنا أن نشعر بحياة الفن في فلورنس أيام كوزيمو شعوراً حياً واضحاً فإن علينا ألا نقتصر إلى درس حياة اولئك العباقرة اللذين مررنا بهم، بل إن علينا فوق ذلك أن ندخل الشوارع الجانبية والأزقة الضيقة من شوارع الفن وأزقته، وأن نزور مئات الحوانيت ومشاغل الفنانين حيث كان صناع الفخار يشكلون الطين ويلونوه، أو صناع الزجاج ينفخون الزجاج أو يقطعونه إلى اشكال من الآنية الهشة الجميلة، أو الصياغ يشكلون المعادن النفيسة أو الحجارة الكريمة، ويصنعون منها الحلي، والميداليات، والأختام، وقطع النقود، وألف قطعة وقطعة من زينة الثياب أو الأشخاص، أو البيت أو الكنيسة: وعلينا أن نسمع إلى ضجيج الصناع المنكبين على أعمالهم يطرقون الحديد، أو النحاس، أو البرنز أو ينقشونها، ويصنعون منها أسلحة ودروعا، وأوعية وآنية وأدوات للعمل والصناعة. وعلينا فوق ذلك أن نلاحظ لنجارين صناع الأثاث وهم يصممون، أو ينحتون الخشب، أو يرصعونه أو يمسحونه، والحفارين ينقشون المعادن، وغيرهم من العمال ينقشون أثاث المعبد، أو يرسمون على الجلد، أو ينحتون العاج، أو يخرجون المنسوجات الرقيقة ليجعلوا بها الأجسام مغرية، أو يزينوا بها البيوت. وعلينا كذلك أن ندخل الأديرة، ونشاهد الرهبان يزينون المخطوطات في صبر وأناة، والراهبات الهادئات يطرزن الأقمشة تروي القصص وتزدان بها الجدران. وعلينا قبل هذا كله أن نتخيل أهل البلاد وقد بلغوا درجة من الرقي تكفي لفهم الجمال، ومن الحكمة ما يكفي لأن يغمروا أولئك الذين يهبون أنفسهم للفن باسباب الشرف والعيش، ويمدوهم بالحوافز القوية لمواصلة هذه الجهود.(18/193)
وكان حفر المعادن من مخترعات فلورنس، ومات مبتدع هذا الفن في نفس العام الذي مات فيه كوزيمو. كان توماسو فنجورا Tommaso Finiguerra من صناع النِّل أي أنه كان يحفر اشكالا مختلفة على المعدن أو الخشب، ثم يملأ الفراغ الحادث بمركب أسود مصنوع من الفضة والرصاص. وتقول أحد القصص اللطيفة إن قطعة من الورق أو القماش سقطت مصادفة على سطح معدني فرغ هو توا من تطعيمه، فلما رفعها وجد صورة السطح المعدني مطبوعة عليها. إن في هذه القصة شواهد على أنها وضعت بعد أن تم اختراع هذا الفن، على أنه مهما يكن من أمرها فإن فنجورا وغيره من الفنانين قد عمدوا إلى أخذ بصمات على الورق ليحكموا منها على أثر الرسوم المحفورة. ويلوح أن باتشيو بلديني Baccio baldini ( حوالي 1450) وهو صائغ فلورنسي هو أول من أخذ هذه الطوابع من سطوح المعادن المحفورة، ليتخذها وسيلة لحفظ رسوم الفنانين وتكثيرها. وكان بتيتشلي، ومنتنيا Mantegna وغيرهم يمدونه بالرسوم. وبعد جيل من ذلك الوقت ارتقى ماركنتنيو ريمندي Marcantonio بالأصول الجديدة لفن النحت، واتخذها وسيلة ينشر بها في العالم فن التصوير في عهد النهضة بجميع مظاهره ما عدا ألوانه.
ولقد استبقينا إلى آخر هذا الباب رجلا لا نعرف أي صنف نضعه فيه، وخير طريقة لفهمه أن نقول إنه جمع كل خصائص زمانه وتجسمت فيه. لقد جمع ليون باتستا ألبرتي Leon Battista Alberti كل خصائص القرن الذي عاش فيه عدا ناحيته السياسية. فقد ولد في مدينة البندقية لأب منفي من فلورنس، ثم عاد إلى فلورنس، حين أعيد إليها كوزيمو، وشغف حباً بفنها، مومسيقاها، وندواتها الأدبية والفلسفية. واستجابت فلورنس لحبه هذا بأن خلعت عليه لقب الرجل الكامل الذي ليس بعد كماله كمال. فقد كان وسيما الوجه، قوي البنية، بارعاً في جميع أنواع الرياضة الجسمية،(18/194)
ويستطيع وقدماه موثوقتان أن يقفز من فوق رجل واقف، كما يستطيع وهو واقف في الكاتدرائية الكبرى لأن يقذف بقطعة من النقود إلى داخل حلقة في القبوة، وكان يسلي نفسه بترويض الحيوان البري وتسلق الجبال. وكان إلى هذا مغنيا بارعاً، وعازفاً قديراً على الأرغن، ومحدثاً ساحراً، وخطيباً مفوهاً، يقظ الذهن هادئه، سيداً رقيقاً مجاملاً، شهماً كريماً في معاملة جميع الناس عدا النساء، فكان لا ينفك يهجوهن هجاء لاذعاً، وبغضب قد يكون متكلفاً، وقلما كان يعنى بالمال، ولهذا فقد عهد إلى أصدقائه أن يعنوا بأملاكه، وكان يقتسم معهم ما تدره عليه من دخل، وكان يقول إن «في وسع الناس أن يفعلوا كل شئ إذا أرادوا» والحق إنا قلما نجد من كبار الفنانين في النهضة الإيطالية من لم يبرعوا في كثير من الفنون. وكان البرتي، كما كان ليوناردو بعد نصف قرن من أيامه، أستاذاً أو في القليل ممارساً ماهراً، في أكثر من عشرة ميادين-في الرياضة والميكانيكا، والعمارة، والتصوير، والموسيقى، والشعر، والتمثيل، والفلسفة، والشرائع المدنية والكنسية. وكان يكتب في هذه الموضوعات كلها تقريباً، وكان مما كتبه رسالة في التصوير تأثر بها بيرو دلا فرانتشسكو، ولعلها أثرت أيضاً في ليوناردو. وأضاف إلى كتاباته حوارين عن النساء وعن فن الحب، ومقالا ذائع الصيت عن «العناية بالأسرة». وكان إذا انتهى من رسم صورة دعا الأطفال وسألهم عما يفهمونه منها، فإذا عجزوا وتحيروا في الإجابة حكم عليها بالإخفاق (51). وكان من أوائل المصورين الذين أدركوا الفائدة التي ترجى من آلة التصوير المظلمة الصندوق. وإذا كان الرجل مهندساً معمارياً قبل كل شئ، فقد أخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ليبني واجهات للمباني أو معابد على الطراز الروماني. واشترك وهو في روما في تخطيط المباني التي كان نقولاس الخامس «يقلب بها العاصمة ظهراً لبطن» كما يقول فاساري، وحول في رميني Rimini كنيسة سان فرانتشسكو القديمة إلى معبد لا يكاد يفترق في شئ عن الهياكل الوثنية. وأقام في(18/195)
فلورنس واجهة من الرخام لكنيسة سانتا ماريا نوفلا، وشاد لأسرة روتشيلاي Rucellai معبداً في كنيسة سان بانكرادسيا San Pancrazia، وقصرين فخمين ذوي تخطيط بسيط، وزين في مانتوا Mantua كتدرائية إنكوروناتا Incoronata ومعبدها وأنشأ لكنيسة سانت أندريا واجهة على صورة قوس نصر روماني.
وألف مَسْلاَةً تدعى فيلودكسوس بلغة لاتينية مثقلة بالتراكيب الاصطلاحية إلى حد لم يشك أحد معه في أنها من تأليف كاتب قديم حين قال لهم هو هذا من قبيل السخرية بالجيل الذي كان يعيش فيه. وكان يكتب رسالاته في صورة حوار مهلهل وبلغة إيطالية سهلة خالية من الزخرف يستطيع أن يقرأها رجل الأعمال الكثير المشاغل نفسه. وكان دينه رومانياً أكثر منه مسيحياً، ولكنه كان يصبح على الدوام مسيحياً حين يسمع الترانيم الكنسية. ونظر بعين بصيرته إلى الأمام، فعبر عن خوفه من أن ضعف العقائد المسيحية سيلقى بالعالم في غمار الفوضى الأخلاقية والفكرية. وكان يحب الرف المحيط بفلورنس، ويأوى إليه كل ما أستطاع، وأنطلق تيوجنيو Teogeni، وهو الشخصية التي سمى بها حواره، بقوله:
في وسعي أن استمتع في هذا المكان على مهل بصحبة الأموات العظماء، فإذا ما آثرت أن أتحدث إلى الحكماء، أو رجال الحكم، أو الشعراء العظام، فما علي إلا أن ألجأ إلى أرفف كتبي، فأجد فيها من الصحاب خيراً ممن تستطيع قصوركم أن تحبوني بهم على ما فيها من موال ومتملقين.
وكان كوزيمو يتفق معه في رأيه ولا يجد في شيخوخته سلوى أكثر من بيوته الريفية، وأصدقائه الأخصاء، ومجموعات الفنية، وكتبه. وكان يعاني آلاماً مبرحة من داء الرثية، وترك في آخر أيامه مهام الدولة الداخلي إلى لوكا بتي، فأساء هذا استخدام تلك الفرصة ليزيد بها ثروته. ولم تكن ثروة كوزيمو نفسه قد نقصت بسبب ما كان ينفقه في الصدقات، وكان(18/196)
يشكو تلك الشكوى الوهمية الفكهة وهي أن الله كان دائماً يسبقه فيعيد إليه ما ينفقه في أوجه الخير، مضافاً إليه ربحه (52). وكان حين يذهب للإقامة في الريف يدرس كتب أفلاطون، وتتلمذ في هذه الدراسة على محسوبه فتشينو Ficino. ولما حضرته الوفاة وعده فتشينو بالحياة في دار الأخيار معتمداً في ذلك على ما نقله أفلاطون عن سقراط لا على أقوال المسيح. ولما مات (1464) حزن على موته أصدقاؤه وأعدائه على السواء، فقد كانوا يخشون أن تضرب الفوضى أطنابها في الحكومة، فخرجت المدينة كلها تقريباً تشيع جثته إلى قبره الذي كلف دزيديريو دا ستنيانو Desiderio da Settignano أن يعده له في كنيسة سان لورندسو.
وكان الوطنيون من أمثال جوتشيارديني Guicciardini، الذين أغضبهم مسلك آل مديتسي المتأخرين، يرون فيه ما يرى بروتس Brutus في قيصر (53)، وكان مكيفلي يعظمه كما يعظم قيصر (54) لقد قضى كوزيمو على الديمقراطية، ولكن الحرية التي وقف في سبيلها لم تكن إلا حرية الأغنياء في أن يحكموا الدولة حكماً قائماً على العنف والتحزب. ولسنا ننكر أنه قد لوث حكمه بأفعال القسوة التي كان يرتكبها في بعض الأحيان، ولكن حكمه كان في معظمه من أكثر العهود ليناً، وسلاماً، ونظاماً في تاريخ فلورنس، وكان العهد الآخر الذي يضارعه هو عهد الحفيد الذي دربه آباؤه. وقلما عرف التاريخ أميراً أوتى ما أوتيه من حكمة في الكرم، واهتمام حق بتقدم الإنسانية، ويقول فتشينو هذا: «إني مدين لأفلاطون بالشيء الكثير، ولكني لست أقل من ذلك ديناً لكوزيمو، فهو الذي حقق لي الفضائل التي أخذت فكرتها عن أفلاطون» (55). وقد ازدهرت في عهده الحركة الإنسانية الأدبية، وفي عهده نالت العبقريات المتعددة التي وهبها دوناتلو والراهب انجيلكو، ولبولبي من السخاء ما كان أكبر مشجع لها، وفي أيامه عاد أفلاطون إلى تيار الإنسانية الفكري، بعد أن ظل يطمس معالمه عهوداً طوالاً. ولما انقضى على موت كوزيمو عام، وسنحت للزمان الفرصة لأن(18/197)
يطمس مجده ويكشف عن أخطائه قرر المجلس الأعلى في فلورنس أن ينقش على قبره أنبل ما يستطيع أن يمنحه من الألقاب وهو «أبو وطنه Pater Patriae ». والحق أنه كان خليقاً بهذا اللقب، فقد رفعت النهضة بفضله رأسها عالياً، ووصلت في عهد حفيده إلى أنقى ذروتها، وفي عهد ابن حفيده فتحت روما. ألا إن في وسع المرء أن يغفر لأمثال هذه الأسرة كثيراً من الذنوب.(18/198)
الباب الرابع
العصر الذهبي
1464 - 1492
الفصل الأول
بيرو» إلجتوسو «
ورث بيرو بن كوزيمو وهو في سن الخمسين ثروة أبيه، وسلطانه، وداء مفاصله. وقد حل به هذا المرض مرض ذوي اليسار منذ أيام صباه، ولهذا كان معاصروه يميزونه من غيره ممن يشبهونه في اسمه بأن يلقبوه إلجيتوسو It Gottoso. وكان رجلاً على درجة لا بأس بها من الكفاية، رضى الأخلاق، أحسن القيام بعدة مهام دبلوماسية عهد بها إليه والده. وكان مكرماً لأصدقاءه، مناصراً للآداب، والدين، والفن، ولكنه كان يعوزه ذكاء كوزيمو، وظرفه، وبشاشته، وكياسته. وكان كوزيمو قد ضمن لنفسه العون السياسي بأن أقرض ذوي النفوذ من مواطنيه مبالغ طائلة، ولكن بيرو لم يكد يخلف أباه حتى طالب فجأة بهذه القروض، فما كان من بعض المدنيين الذين كانوا يخشون الإفلاس إلا أن نادوا بالثورة «باسم الحرية التي اتخذوها شعاراً لها» كما يقول مكيفلي Machiavelli« وستاراً يخفون بها غرضهم» (1). واستطاعوا أن يسيطروا على الحكومة وقتاً ما، ولكن حزب آل ميديتشي أستردها منهم، وظل بيرو يحكم المدينة حكماً مضطرباً حتى توفي في عام 1469.(18/199)
وخلف بيرو ولدين لورندسو وكانت سنه عشرين عاماً وجوليانو Giuliano وكان في السادية عشر من عمره. ولم تكن فلورنس تصدق بأن هذين الغلامين يصلحان لإدارة أعمال أسرتهما دع عنك شئون الدولة عامة، وأخذ بعض الأهلين يطالبون بإعادة الحكم الجمهوري في حقيقته وفي مظهره، وكان كثيرون يخشون أن تضرب الفوضى أطنابها في المدينة وتتقد فيها نار الحرب الداخلية، ولكن لورندسو أدهشهم بأن أزال هذا الخداع فجأة عن عيونهم.(18/200)
الفصل الثاني
تنشئة لورندسو
لم يكن ضعف صحة بيرو خافياً على كوزيمو، ولهذا بذل كل ما في وسعه ليعد لورندسو للإطلاع بواجبات الحكم. وكان الغلام قد درس اللغة اليونانية على جوانس أرجير وبولس Joannes Argyropoulos، والفلسفة على فتشينو، وتعلم وتربى عن غير قصد بالاستماع إلى حديث الحكام، والشعراء، والفنانين، والكتاب الإنسانيين. وتعلم كذلك فنون الحرب، ونال وهو في التاسعة عشرة من عمره الجائزة الأولى في مباراة للفروسية قامت بين أبناء الأسر الكبيرة في فلورنس «بفضل شجاعته لا محاباة» لأسرته (2). وكان منقوشاً على درعه من تلك المباراة شعار فرنسي معناه «سيعود الزمان» Le temps revient، وهو شعار يصح أن يكون شعار النهضة. وكان قد عمد في هذه الأثناء إلى كتابة المقطوعات الغنائية بإسلوب دانتي وبترارك، وإذا كان لا بد له أن يتبع التقاليد السائدة في ايامه فيكتب في الحب، فقد أخذ يبحث في الأسر الشريفة عن سيدة يتصبب فيها بشعره، حتى وقع اختياره على لكريدسيا دوناتي Lucrezia Donati وأخذ يتغنى بجميع فضائلها ما عدا عفتها التي كانت موضع اسفه، فقد يبدو أنها لم تسمح له بأكثر من عواطف قلمه. ورأى بيرو أن الزواج هو العلاج الشافي من داء العشق، فأقنع الشاب بأن يتزوج كلارتشي أرسيني Clarice Orsini (1469) ، وبهذا استطاع ان يعقد حلفاً بين آل ميديتشي وبين واحدة من اقوى أسرتين من روما. وأقام آل ميديشتي بهذه المناسبة ولاءً لأهل المدينة كلهم دامت ثلاثة أيام متوالية، وأستهلك فيها خمسة آلاف رطل من الحلوى.(18/201)
وكان كوزيمو قد درب الصبي على ممارسة الشئون العامة بعض التدريب، فلما تولى بيرو الأمر وسع دائرة تبعاته المالية والحكومية، ولما توفى بيرو، الفى لورندسو نفسه أغنى رجل في فلورنس، بل ربما كان اغنى رجل في إيطاليا كلها. ولقد كان تصريف شئون ماله وأعماله عبئاً ينوء به كاهله الغض ويتيح الفرصة لأن تعود الجمهورية فتفرض عليه سلطانها، ولكن عملاء آل ميديتشي، ومدينتهم، واصدقائهم، ومن ولوهم هم مناصبهم قد بلغوا وقتئذ درجة عظيمة من الكثرة ومن الحرص على أن يدوم سلطان الأسرة. فلم يمض على وفاة بيرو غير يومين حتى مثل بين يدي لورندسو في بيته وفد من ذوي المكانة في المدينة، وطلبوا اليه أن يتولى ريادة سفينة الدولة. ولم يجد الوفد صعوبة في إقناعه بالنزول على مطلبه، ذلك أن مصالح أسرة ميديتشي المالية متصلة بشئون المدينة اتصالاً يخشى معه ان تنهار إذا استطاع اعداء هذه الأسرة أو منافسوها أن يستحوذوا على السلطة السياسية. وأراد أن يكّم أفواه من يوجهون النقد لصغر سنه، فعين مجلساً من المواطنين المجربين يستشيروا في جميع الأمور ذات البال، وظل طول حياته يستشير هذا المجلس، ولكنه سرعان ما أظهر من الحصافة وأصالة الرأي ما جعل المجلس يسلم بزعامته فلا يعارض آرائه إلا في القليل النادر. وقد عرض على أخيه الأصغر قسطاًُ كبيراً من السلطة، ولكن جوليانوا كان يؤثر عليها الموسيقى، والشعر، والمثاقفة، والعشق، وكان شديد الإعجاب بلورندسو وسره أن يتخلى له عن مشاغل الحكم وما يضفيه عل صاحبه من الشرف. ونهج لورندسو في الحكم منهج كوزيمو وبيرو من قبله، فظل (حتى عام1490) مواطناً عادياً، ولكنه كان يشير بالخطط السياسية على الباليا Balia التي كان لأنصار أسرته فيها أغلبية مضمونة موثوثق بها. وكان لمجلس الباليا بنص للدستور سلطة مطلقة وإن كانت مؤقتة، وقد أصبح في عهد الميديتشيين مجلساً دائماً من سبعين عضواً.(18/202)
وارتضى أهل المدينة حكمهم لأن الرخاء ظل كما كان، ولما زار جاليتسو ماريا اسفوردسا Galeazzo Maria Sdorza دوق ميلان مدينة فلورنس في عام 1471 ذهل حين شهد ما تتمتع به المدينة من ثراء، وذهل أكثر من هذا مما جمعه كوزيمو، وبيرو ولورندسو من روائع الفن في قصر آل ميديتشي وحدائقهم. فقد كانت المدينة حتى في ذلك الوقت متحفاً حقاً من التماثيل، والمزهريات، والجواهر، والصور، والمخطوطات المزدانة بالنقوش، والآثار المعمارية. وأكد جليتسو أنه شاهد في هذه المجموعة وحدها من الصور الجميلة أكثر مما شاهده منها في سائر إيطاليا، ذلك أن فلورنس قد سبقت غيرها بمراحل طويلة في هذا الفن الذي يمتاز به عصر النهضة. وزاد آل مديتيشي ثراء على ثرائهم حين رأس لورندسو (1471) وفداً من أهل فلورنس قدم إلى روما ليهنئ سكتس Sixtus الرابع بارتقائه عرش البابوية، ورد سكتس على هذه التهنئة بأن جدد تعيين ممثل بيت ميديتشي مديراً للأموال البابوية، وكان بيرو قد حصل قبل خمس سنين من ذلك الوقت على حق استغلال المناجم البابوية القريبة من سفيتا فيتيشيا وكانت تخرج حجر الشب الثمين المستعمل في صباغة الأقمشة وصقلها، وكان استغلال هذه المناجم يدر عليه أموالاً طائلة.
وواجه لورندسو بعد قليل من عودته من روما أولى أزماته الكبرى التي لم يفلح كل الفلاح في معالجتها. وتفصيل ذلك أن منجماً من مناجم الشب في ناحية فلتيرا Volterr- وهي جزء من أملاك فلورنس- قد أجر إلى بعض المتعهدين أكبر الظن أنهم كانوا ذوي صلة بآل ميديتشي. فلما تبين لأهل فلتيرا أن المنجم يدر ربحاً موفوراً طالبوا بأن يكون للبلدية قسط من هذا الربح. فأحتج المتعهدون على هذا الطلب، ورفعوا امرهم إلى مجلس فلورنس الأعلى. وزاد المجلس المشكلة تعقيداً حين أمر بأن يذهب الربح بأجمعه إلى بيت مال دولة فلورنس كلها. واعترضت فلتيرا على هذا الأمر،(18/203)
وأعلنت استقلالها، وقتلت عدداً من الأهلين الذين عارضوا في انفصالها عن فلورنس. وأشار توماسو سودير يني Tommaso Soderini بتسوية الخلاف بالتوفيق بين الطرفين، ولكن لورندسو رفض ما عرض عليه من وسائل التوفيق، وكانت حجته أن ذلك يشجع الفتن وحركات الانفصال في أنحاء أخرى من الدولة، وأخذ بهذا الرأي، وأخمدت الفتنة بالقوة القاهرة، وأفلت زمام جنود فلورنس المرتزقين، ونهبوا المدينة الثائرة فلم يسمع لورندسو إلا أن يعجل بالذهاب إلا فلتيرا، ويبذل جهده لإعادة النظام وإصلاح ما فسد من الأمور، ولكن ذلك العمل بقي وصمة في سجل حكمه.
ولم يتردد الفلورنسيون في أن يغفروا له قسوته على فلتيرا، وامتدحوا نشاطه حين أنقذ المدينة من المجاعة في عام 1472 باستيراد مقادير موفورة من الحبوب. وسرهم فوق ذلك حين عقد حلفاً ثلاثياً مع البندقية وميلان لكي يحتفظ بالسلم في شمالي إيطاليا غير أن البابا سكتس لم يرض كل الرضى عن هذا العمل، ذلك أن البابوية لا يمكن أن تعيش مطمئنة على سلطتها الزمنية الضعيفة إذا كانت على أحد جانبي الولايات البابوية دولة قوية موحدة في شمالي إيطاليا، ومملكة نابلي القوية تحف بها من الجانب الآخر. ولما عرف سكتس أن فلورنس تحاول ابتياع مدينة إيمولا واقليمها (وهي الواقعة بين بولونيا ورافنا) ارتاب في أن لورندسو يعمل لبسط أملاك فلورنس حتى تصل إلى البحر الأدرياوي. فما كان من سكتس نفسه إلا أن عجل بشراء إيمولا Imola ليجعل منها الحلقة التي لا غنى عنها في سلسلة المدن الخاضعة لسلطان البابوات من الناحية القانونية، وإن كانت قلما خضعت لهم فعلاً. وقد استعان في هذا العمل بخدمات شركة باتسي Pazzi المصرفية وبأموالها، وكانت هذه الشركة وقتئذ أقوى منافس لآل ميديتشي. ثم نقل من فلورنس إلى باتسي الامتيازات التي تدر الربح الموفور والخاصة(18/204)
بتصريف شئون المالية البابوية، ولم يكتف بذلك بل عين رجلين من أعداء الميديتشين-جيرولامو رياريو Girolamo Riario حاكماً لإيمولا وفرانتشسكو سلفياني Francesco dalviati كبيراً لأساقفة بيزا، وكانت وقتئذ من أملاك فلورنس. ورد لورندسو على ذلك في ساعة غضبه بعمل عاجل طائش لم يكن كوزيمو ليرضي به: ذلك أنه أتخذ الوسائل المؤدية إلى انهيار شركة باتسي، وأمر بيزا أن تمنع سلفياني من الجلوس على كرسي الأسقفية. واستشاط البابا غضباً من هذا العمل، ووافق على مؤامرة دبرها آل باتسي، ورياريو، وسلفياني يبغون بها إسقاط لورندسو، وقد أبى أن يوافق على اغتيال عدوه الشاب، ولكن المتآمرين لم يجدوا في هذا التأنق عقبة تحول بينهم وبين غرضهم، فدبروا أمر قتل لورندسو وجوليانوا أثناء القداس الذي سيقام في الكنيسة الكبرى في يوم عيد الفصح (26 أبريل من اعم 1478)، في اللحظة التي يرفع فيها القس القربان المقدس غير مبالين بمخالفة ذلك العمل للأصول الدينية المرعية. وأتفق على أن يستولي سلفياتي وجماعة آخرون على البلاتسو فيتشيو ويطردوا مجلس فلورنس الأعلى.
وجاء لورندسو إلى الكنيسة في اليوم المحدد لا يحمل سلاحاً وليس معه حرس جرياً على سنته، وتأخر جوليانو عن الموعد المضروب، فذهب إليه فرانتشسكو ده باتسي وبرناردو بنديني، وكانا قد تعهدا باغتياله، وأخذا يمزحان معه، واقنعاه بالذهاب إلى الكنيسة، وفيها وبيننا كان القس يرفع يده بالقربان المقدس طعنه بنديني جوليانو في صدره، فسقط على الأرض مدرجاً بدمه، وانقض عليه فرانتشسكو واخذ يكيل له الطعنات بعنف أدى إلى جرح ساقه هو. وهاجم أنطونيو دا فلتيرا Antonio da Volterra وقسيس يدعى استفانوا لورندسو بخنجريهما، فاتقى الضربات بذراعيه، ولم يصب إلا جرح خفيف، ثم أحاط به أصدقاؤه وساروا به إلى إحدى غرف المقدسات في الكنيسة، وفر المعتديان من الجمهور الغاضب، وحمل جوليانو بعد موته إلى قصر آل ميديتشي.(18/205)
وبينما كانت هذه الأحداث تقع في الكنيسة زحف سلفياتي كبير الأساقفة، وياقوبو دة باتسي ومائة من أتباعهما المسلحين نحو البلاتسا (قصر) فيتشيو، وحاولوا أن يثيروا الشعب ويضموه لهم بصياحهم الشعب! الحرية! ولكن الشعب التف حول آل ميديتشي في هذه الأزمة ورد عليهم بندائه لنحي السكرات! - وهي شارة آل ميديتشي، ولما دخل سلفياتي القصر طعنه سيزاري بتروتشي حامل الشعار، وشُنق ياقوبو دة بجيو Jacopo di Poggio ابن الكاتب الإنساني المعروف في إحدى نوافذ القصر، وقبض كبار الحكام في عزم وشجاعة على عدد آخر من المتآمرين الذين ارتقوا الدرج، وألقوا بهم من النوافذ، فمنهم من مات شدة الاصطدام بالأرض ومنهم من أجهز عليه الشعب رجماً بالحجارة. ولما ظهر أمامهم لورندسو ومن حوله عدد كبير من الحراس عبر الشعب عن فرحته بنجاته بغضبه العنيف على كل من ارتاب في أنه كانت له يد في هذه المؤامرة، واختطف فرنتشسكو دة باتسي من فراشه، وكان قد خارت قواه من كثرة ما نزف من دمه، وشنق إلى جانب كبير الأساقفة, الذي أخذ يعض كتف فرانتشسكو وهو يعالج سكرات الموت. . وجرت جثة ياقوبو دة باتسي كبير الأسرة المبجل عارية في شوارع المدينة وألقيت في نهر الآرنو Arno. وبذل لورندسو كل ما يستطيع ان يبذله لتخفيف حنق العامة وتعطشهم للدماء، وأنقذ حياة عدد من الذين اتهموا ظلماً بالاشتراك في المؤامرة، ولكن الغرائز الكامنة حتى في المتحضرين لا تستطيع ان تترك هذه الفرصة السانحة لها لتعبر عن نفسها وهي آمنة وخافية عن الأعين في زحمة الجماهير.
وهال سكستس الرابع أن يشنق كبير الأساقفة على هذا النحو، فاصدر قراراً بحرمان لورندسو، وحامل الشعار، وكبار الحكام في فلورنس، ووقف جميع الخدمات الدينية في كافة أملاك المدينة، واحتج عدد من رجال الدين على قرار الحرمان، وأصدر وثيقة ينددون فيها البابا وملأوها بأشنع(18/206)
ألفاظ السباب (3)، وبعث فرانتي Ferrante أي فرديناند الأول ملك نابلي بناء على طلب البابا وفداً إلى فلورنس يدعو مجلسها الأعلى وأهلها إلى أن يسلموا لورندسو إلى البابا أو ينفوه من المدينة على الأقل. ونصح لورندسو المجلس بإجابة طلب فرديناند، ولكن المجلس رد عليه بأن فلورنس مستعدة لان تتحمل أية محنة تنزل بها وألا تغدر بزعيمها فتسلمه إلى الأعداء. فما كان من سكتس وفرانتي إلا أن أعلنا الحرب على فلورنس (1479). وهزم ألفنسو ابن الملك جيش فلورنس بالقرب من بجيوبنسي Poggiobonsi وأخذ يعيث في الريف فساداً. gthslash ألفاظألفاظ ألفا
وما لبث أهل فلورنس أن أخذوا يتذمرون من فدح الضرائب التي فرضت عليهم لأداء نفقات الحرب، وأدرك لورندسو أنه ما من جماعة تطول تضحيتها بنفسها من أجل فرد واحد. فأستقر رأيه في هذه الأزمة الخطيرة من تاريخ حياته على قرار لا يستقر عليه سواه ولم يسبق أن أتخذ مثله من قبل. ذلك أنه ركب البحر من بيزا إلى نابلي، وطلب أن يؤخذ إلى الملك. وأعجب فرانتي بشجاعته، فقد كان الرجلان يحتربان ولم يحصل لورندسو على تصريح بضمان حياته في سيره، لم يكن معه سلاح ولاحرس. وأكثر من هذا أن فرانتشسكو بسينيو الزعيم الحربي المغامر الذي دعا إلى نابلي لينزل ضيفاً على مليكها قد اغتيل غدراً وخيانة من وقت قريب بأمر من الملك نفسه. واعترف لورندسو بصراحة بالصعاب التي كانت فلورنس تواجهها، ولكنه أوضح شدة الخطر الذي يحيق بنابلي إذ قوى سلطان البابوية بتمزيق أملاك فلورنس، لأن البابوية إذا تم لها هذا استطاعت أن تصر على طلبها القديم وهو أن تكون نابلي إقطاعية بابوية تعطي الجزية عن يد وهي صاغرة. يضاف إلى هذا أن الأتراك كانوا يزحفون على الغرب براً وبحراً، وأنهم قد يغزون إيطاليا في أي وقت من الأوقات، ويهاجمون أملاك فرانتي الواقعة على البحر الأدرياوي، وليس(18/207)
من مصلحة إيطاليا في تلك الأزمة أن تنقسم على نفسها وأن تمزقها الأحقاد والحروب الداخلي. ولم يرتبط فرانتي مع لورندسو بشيء، ولكنه مر بأن يحجز لورندسو كما يحجز الأسير والضيف الكريم.
وزادت الانتصارات المستمرة التي نالها ألفنسو على جيوش فلورنس وإلحاح سكتس المستمر بأن يرسل لورندسو إلى روما أسيراً بابويا، زادت هذه وتلك مهمة لورندسو صعوبة على صعوبتها. وبقي أمر زعيم فلورنس ثلاثة أشهر طوال معلقاً لا يبت فيه، وكان يدرك أن إخفاقه في مهمته سيؤدي في أكبر الظن إلى قتله وإلى القضاء على استقلال فلرونس. وكان في هذه الأثناء قد كسب صداقة الكثيرين بكرمه وسخائه، ودماثة أخلاقه، وبشاشته، وكان ممن كسب صداقتهم الكونت كارفا Count caraffa وزير الدولة، فأخذ هذا يدافع عن قضيته. وقدر فرانتي أعظم التقدير ثقافة أسيره، ونبل خصاله، فها هو ذا كما يلوح رجل مهذب كريم، فإذا عقد الصلح مع رجل على شاكلته فإن ذلك سيضمن لنابلي صداقة فلورنس طوال حياة لورندسو على أقل تقدير. ولهذا وقع معه معاهدة، وأهداه جواداً كريماً، وسمح له بأن يركب البحر من نابلي. ولما علمت فلورنس أن لورندسو جاء بالصلح رحبت به ترحيباً فخماً اعترافاً منها بجميله. واستشاط سكتس غضباً، وأراد أن يواصل الحرب بمفرده، ولكن محمدا الثاني فاتح القسطنطينية أنزل جيشاً له في أترانتو Otranto (1480) ، وهدد باجتياح إيطاليا، والاستيلاء على حصن المسيحية اللاتينية نفسه. فما كان من سكتس إلا أن دعا أهل فلورنس للمفاوضة في شروط الصلح. وقدمت وفودهم إلى البابا ما يجب له من فروض الطاعة، وأخذ هو يؤنبهم أشد التأنيب، ثم عفا عنهم. وأقنعهم بأن يجهزوا خمس عشرة سفينة لمحاربة الأتراك، وعقد الصلح معهم، واصبح لورندسو من ذلك الحين سيد تسكانيا لا ينازعه في ذلك منازع.(18/208)
الفصل الثالث
لورندسو الأفخم
وشرع الآن يحكم حكماً رحيماً أكثر مما كان يحكم في أيام شبابه، وكان وقتئذ قد بدأ العقد الرابع من عمره، ولكن الناس كانوا سريعي النضوج في أيام النهضة ذات الأحداث التي تعجل النضوج، ولم يكن لورندسو وسيما، فقد كان أنفه الكبير الأفطس يشرف على شفته العليا، ثم يعود فيتجه نحو الخارج اتجاهاً عجيباً. وكان أدكن اللون، وكانت جبهته الصارمة وفكه الثقيل ينمان عن غير ما يبدو من دماثة أخلاقه، ورقة أدبه ومجاملته، وحلو فكاهته، وعقله المرهف الشاعري. وكان طويل القامة، عريض المنكبين، قوي البنية، أشبه برجال الرياضة منه برجال السياسة والحكم، والحق أنه قلما كان يفوقه أحد في ألعاب القوة. وكان في سيره وجلوسه مهيباً إلى الحد الذي لا غنى له عنه في منصبه السامي، أما في حياته الخاصة فإنه سرعان ما يجعل أصدقاءه ينسون سلطانه وثراءه. وكان كابنه ليو العاشر يستمتع بأعظم الفنون دقة، وأكثر المهرجين سذاجة، وكان فكها مع يلتشي Pulci، شاعراً مع بولتيان Politian عالماً مع لندينو Landino فيلسوفاً مع فيتشينو Ficino، يتذوق جمال الفن مع بتيتشلي Botticelli، موسيقياً مع اسكوار تشيالوبي Squarchialupi، مرحاً مع اشد الناس مرحاً في أيام الأعياد. كتب مرة إلى فيتشينو يقول: (إذا ما اضطرب عقلي بكثرة الأعمال العامة وصخبها، واستكت مسامعي بصراخ المواطنين المشاكسين، فكيف أطيق ذلك الخصام والنزاع إذا لم أجد الراحة في العلم"؟ - ويقصد بالعلم طلب المعرفة على اختلاف أنواعها (4).
بيد أن اخلاقه لم تكن مضرب المثل في الكمال كما كان عقله، ذلك أنه(18/209)
كان، مثله مثل الكثيرين من معاصريه، لا يدع عقيدته الدينية تحول بينه وبين الاستمتاع بالحياة. فكان يكتب ترانيم دينية بإخلاص ظاهر، ولكنه كان ينتقل منها دون تأنيب من ضمير إلى القصائد التي تتغنى بالحب الشهواني. ويبدو أنه لم يعرف الندم قط إلا على ما فاته من الملاذ، ولما أن قبل مكرها ولأسباب سياسية زوجة كان يجلها أكثر مما يحبها، أخذ يستمتع بالزنا كعادة أهل زمانه، ولكنه لم يكن له أبناء غير شرعيين، وكانوا يرون في ذلك ميزة له على غيره من أمثاله. ولا يزال الجدال حامياً حول خلقه التجاري. لكن أحداً لم يشك قط في سخائه، والحق أنه كان متلافا للمال مثل كوزيمو، لا يستريح له بال حتى يجزي على كل عطية بعطية أكبر منها، وقد أمد بالمال أكثر من عشر منشآت دينية، وأعان عدداً لا يحصى من الفنانين، والعلماء، والشعراء، وأقرض الدولة أموالا طائلة. وكان من نتيجة ذلك أنه وجد بعد مؤامرة باتسي أن ما أنفقه من الأموال على الشئون العامة والخاصة قد تركه غير قادر على أن يوفي بالتزاماته، فما كان من المجلس، الحريص على استرضائه، إلا أن يقرر الوفاء بديونه من مال الدولة (1480). وليس من الواضح كل الوضوح أكان هذا العمل جزاء عادلا على خدماته التي أداها لبلاده، وأمواله الخاصة التي أنفقها في الأغراض العامة (5)، أم كان اختلاساً سافراً للأموال العامة (6 (. فإذا عرفنا أن هذا العمل لم يقلل من حب الشعب للورندسو مع أنه كان معروفاً له غير خاف عليه، فإن هذا في حد ذاته يوحي بأن التفسير الهين الرقيق أدنى التفسيرين إلى الصواب. ولقد كان جوده، وثراءه، وترفه في منزله كل ما كان يفكر فيه الناس حين لقبوه بالأفخم II magnifico.
وكان من أثر نشاطه الثقافي المتعدد النواحي أن اضطره إلى إهمال مؤسساته المالية المترامية الأطراف بعض الإهمال. وقد استغل عماله انشغاله بهذه الشئون فاندفعوا في الإسراف والتدليس. ولكنه أنقذ ثروة أسرته بأن(18/210)
سحبها شيئاً فشيئاً من الأعمال التجارية واستثمرها في الملاك العقارية بالمدينة، وفي الزراعة الواسعة النطاق، وكان يجد لذة كبرى في الإشراف بنفسه على مزارعه وبساتينه، ولم يكن علمه بالمخصبات يقل عن علمه بالفلسفة. حتى اضحت أرضه القريبة من قصره الريفي في كاريجي Careggi وبجيو أكايانو Poggio a Caiano مضرب المثل في الاقتصاد الزراعي. وانتعشت حياة فلورنس الاقتصادية تحت حكمه (7)، فنقصت فوائد الديون فيها إلى خمسة في المائة، وسرعان ما ازدهرت المشروعات التجارية التي كانت تجد المال موفوراً، دام هذا الازدهار حتى صارت إنجلترا منافسا لها يخشى بأسه في صادراتها من المنسوجات. وكانت سياسة السلم التي انتهجها في حكمه وسياسة توازن القوى التي استمسك بها في إيطاليا في العشر السنين الثانية من هذا الحكم أقوى أثراً من العوامل السابقة نفسها. ذلك أن فلورنس اشتركت مع غيرها من الدول الإيطالية في طرد الأتراك من إيطاليا، فلما ترك لها ذلك اقنع لورندسو فرنتي ملك نابلي، وجاليتسو اسفوردسا Gaoleazzo Sforza صاحب ميلان أن يعقدا مع فلورنس حالفاً للدفاع المتبادل، ولما أن انضم البابا إنوسنت الثامن إلى هذا الحلف، بادرت الكثير من الدول الصغرى إلى الانضمام أيضاً إليه. وتنحن عنه مدينة البندقية، ولكن خوفها من الحلفاء أرغمها على أن تسلك بإزائه مسلكاً طيباً، ودامت السلم في إيطاليا بفضل هذه الوسيلة حتى توفي لورندسو إذا استثنينا فترات قصيرة قليلة .. وقد بذل في هذه الأثناء كل ما كلن لديه من كياسة وماله من نفوذ لحماية الدول الضعيفة من القوية، ولتسوية المصالح المتضاربة والمنازعات، والتوفيق بينها، والقضاء على كل سبب من أسباب الحرب قبل استفحاله (8). وبلغت فلورنس في هذه العشر السنين السعيدة (1480 - 1490) ذروة مجدها في الشئون السياسية والأعمال الفنية والأدبية.(18/211)
وكان لورندسو من حيث الشئون الداخلية يحكم عن طريق مجلس السبعين Consiglio di Settante. وكان هذا المجلس يتألف بنص دستور سنة 1480 من ثلاثين عضواً يختارهم مجلس سيادة المدينة القائم في ذلك العام، ومن أربعين عضواً آخرين يختارهم هؤلاء الثلاثون .. وكانت عضويته تدوم مدى الحياة، وكان ما يحدث فيه من فراغ يملأ باختيار هؤلاء الأعضاء أنفسهم، وبفضل هذا النظام لم يكن مجلس السيادة وحامل العلم أكثر من عمال منفذين لسياسة مجلس السبعين، واستغنى بهذا عن البرلمان الشعبي وعن الانتخابات العامة. ولم تكن معارضة هذه السياسة بالأمر الهين، لأن لورندسو كان يستخدم الجواسيس للوقوف عليها، وكانت لديه الوسائل الكافية لمضايقة معارضيه من الناحية المالية. وبذلك اختفت الأحزاب القديمة إلى حين، وقضى على الجرائم، وساد النظام وإن ضعفت الحرية، وفي ذلك يقول أحد الكتاب المعاصرين: " ليس لدينا هنا تلصص، ولا اضطرابات ومشاغبات ليلية، ولا اغتيالات بل إن في مقدور كل إنسان أن يصرف شئونه ليلاً أو نهاراً وهو آمن كل الأمان" (9). ويقول جوتشيارديني Guiceiardini: " إذا كان لا بد لفلورنس أن يكون لها حاكم مستبد، فإنها لم يكن في مقدورها أن تجد مستبداً خيراً منه أو اكثر منه بهجة". وكان التجار يفضلون الرخاء الاقتصادي على الحرية السياسية، أما صعاليك المدينة فقد شغلوا على الدوام بالاشغال العامة الواسعة النطاق، وغفروا للورندسو سلطانه المطلق مادام يمدهم بالخبز والالعاب. وأما الاغنياء فكان يغريهم بالعاب الفروسية، ويثير مشاعر الطبقات الوسطى بسباق الخيل، والعامة بالحفلات والمواكب.
وكان من عادة أهل فلورنس في أيام المواكب التنكرية أن يطوفوا بشوارع المدينة في أقنعة زاهية مخيفة، ينشدون أغاني هجائية أو غرامية، وأن ينظموا مواكب نصر- مايسمونه الترينفي Trionfi - وهي استعراض(18/212)
من جموح تسير في أزياء منقوشة أو تيجان من أزهار تمثل شخصيات أو أحداثاً أسطورية أو تاريخية. وكان لورندسو يحب هذه السنة ولكنه يخشى ما تنزع إليه من اضطراب، ولهذا اعتزم أن يخضعها لسيطرته، وذلك بأن يمنحها موافقة الحكومة وتنظيمها، وبهذا اضحت هذه المواكب في عهده أحب مظاهر الحياة إلى نفوس الفلورنسيين. وقد استخدم الفنانين لتصميم المركبات، والاعلام، والأزياء وتلوينها، ووضع هو وأصدقاؤه الأغاني التي يتغنى بها من فوق المركبات، وكانت هذه الاغاني تمثل ما في الأعياد التنكرية من تحلل في الأخلاق، وكان اشهر مواكب لورندسو هذه موكب " انتصار باخوس" وفيه كان يسير موكب من العربات يحمل فتيات حساناً وجماعة من الشبان ذوي الثياب الغالية الجميلة يمتطون جياداً وثابة مختالة، يجتازون جسر فيتشيو Ponte Vecchio حتى يصلوا إلى الميدان الفسيح القائم أمام الكنيسة الكبرى، وكانت أصوات متناسقة متعددة النغمات تملأ الجو مصاحبة لدق الصنوج، والعزف على العود، تغني قصيدة من نظم لورندسو نفسه لا تتفق بأي حال مع الموضع الذي تغنى فيه أمام الكنيسة.
1 - ما أحلى الشباب وما أخلاه من الهموم!
ولكنه يسرع بالفرار في كل ساعة.
أيها الفتيان والفتيات استمتعوا بهذا اليوم
لأنكم لا تعرفون شيئاً مما يأتي به الغد.
2 - هذا هو باخوس وهذه أدرياني المبتهجة
المحبان الصادقان!
وهما، على الرغم من سرعة مر الزمان
يجد كلاهما في صاحبه متعاً جديدة على الدوام
3 - أولئك الحور العين وأتباعهن جميعاً(18/213)
يستمتعن بأعياد متواصلة،
أيها الفتيان والفتيات استمتعوا بهذا اليوم
لأنكم لا تعرفون شيئاً مما ياتي به الغد.
4 - أيتها السيدات وأيها العشاق من الشبان!
ليعش باخوس، ولتحي الشهوات
ارقصوا، والعبوا، وغنوا،
وليملأ الحب الحلو صدوركم ناراً.
5 - ومهما يكن ما يأتي به المستقبل
فاستمتعوا أيها الشبان وأيتها الفتيات بيومكم هذا
لأنكم لا تعرفون شيئاً مما يأتي به الغد (11).
وتؤيد أمثال هذه القصائد والمواكب بعض التأييد ما اتهم به لورندسو من أنه أفسد شباب فلورنس، واكبر الظن أن هذا الشباب كان " يفسد" من تلقاء نفسه وإن لم يعمل هو على فساده؛ ذلك أن الآداب العامة في البندقية، وفرارا، وميلان لم تكن خيراً منها في فلورنس، بل إن هذه الآداب كانت في فلورنس على آل ميديتشي المصرفيين خيراً منها في روما أيام البابوات الميديتشيين.
لقد كانت حاسة الجمال المرهفة في فلورنس أقوى من أن تكبح جماحها آدابه العامة، وكان الشعر من أهم ما يصبو إليه وينفق فيه ساعات فراغه، وكانت قصائده تضارع خير ما قيل من الشعر في أيامه؛ وبينا كان بوليتان الذي يفوقه في هذه الميدان لا يزال يتردد بين اللغتين اللاتينية والإيطالية، كانت أشعار لورندسو قد أعادت إلى اللغة الإيطالية القومية الأسبقية الأدبية التي جاء بها دانتي ونبذها الكتاب الإنسانيون؛ وكان يفضل مقطوعات بترارك الغنائية على أشعار الحب التي جاءت في الآداب اللاتينية القديمة، وإن كان يسهل عليه أن يقرأ هذه الاشعار في لغتها الاصلية، وكم من أغنية(18/214)
أنشأها كانت خليقة بأن تزدان بها أغاني بترارك نفسه. ولكنه لم يمن يأخذ الحب الشعري مأخذ الجلد فوق ما يجب أن يأخذه. وكان يكتب بإخلاص أكثر وأجمل على المناظر الريفية، التي يمرن فيها أطرافه ويستمتع فيها بهدوء عقله، وكانت خير قصائده هي التي يتغنى فيها بما في الريف من الغابات ومجاري المياه، والاشجار والأزهار، وقطعان الماشية والرعاة. وكان في بعض الأحيان يكتب قطعاً شعرية فكهة سمت بلغة الفلاحين الساذجة، فأوجدت فيها شعراً حياً بهيجاً؛ وكتب في بعض الأوقات هزليات هجائية متحررة من المبادئ الخلقية تحرر هزليات رابليه Rabelais، ثم كتب مسرحية دينية لأبنائه، وترانيم نجد في مواضع متفرقة منها نغمة من التقي الذي تسري فيه روح الإخلاص، غير أن أكثر ما يميزه من القصائد عن غيره من الشعراء هي أغاني التنكر التي كتبت ليتغنى بها في أوقات الأعياد وفي ساعات اللهو والانشراح، والتي تعبر عن مشروعية اللذة، وتسخر من احتشام العذارى. وليس ثمة ما نستبين منه أخلاق النهضة الإيطالية وآدابها، وتعقدها، واختلاف مناحيها، من صورة أعظم شخصياتها ومحور قطبها يحكم دولة، ويصرف شئون ثروة، ويثاقف في ألعاب الفروسية، ويكتب شعراً ممتازاً، ويشكل برعايته النقادة المميزة الفنانين والمؤلفين، ويختلط في غير تكلف أو تباعد بالعلماء والفلاسفة، والفلاحين، والمهرجين، ويمشي في المواكب ويترنم بالأغاني الفاجرة الخليعة، ويؤلف الأناشيد الرقيقة، ويداعب العشيقات، ويلد أحد البابوات، وتجلّه أوربا بأجمعها وتعده أعظم الإيطاليين في زمانه وأكثرهم نبلاً.(18/215)
الفصل الرابع
الأدب (عصر بوليتيان)
وأفاد أدباء فلورنس من عونه ومثلهن فأخذوا يزيدون في كل يوم ما يكتبونه باللغة الإيطالية، وأخرجوا على مهل اللغة التسكانية الأدبية التي أضحت نموذجاً ومثلاً تحتذيه شبه الجزيرة كلها. ويصفها فاركي Varchi المتحمس لوطنيته: «بأنها ليست أحلى واغنى لغات إيطاليا وأكثرها ثقافة فحسب، بل إنها تفوق في هذا كله جميع اللغات المعروفة في هذه الأيم (12)».
وبنما كان لورندسو يحي الأدب الإيطالي، كان في الوقت عينه يواصل في جد وحماسة مشروعا جده فيجمع كا ما يستطيع من الكتب الأدبية اليونانية والرومانية القديمة ليفيد منها العلماء في فلورنس. من ذلك أنه بعث بوليتيان Politian وجون لاسكارس John Lascaris إلى كثير من المدن في إيطاليا وخارجها لشراء المخطوطات القديمة، وقد جاء لاسكارس من دير واحد عند جبل آثوس Mt. Athos بمائتي مخطوط، منها عشرون لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في أوربا الغربية. ويقول بوليتيان إن لورندسو كان يود لو سمح له بأن ينفق كل ثروته، بل ويرهن أثاث بيته ليبتاع الكتب. وكان يستأجر النساخين لينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات، ويجيز في نظره ذلك لغيره من المولعين بجمع الكتب أمثال ماثياس كورفينوس Matthias Corvinus ملك المجر وفد ريجو Federigo دوق أربينو أن يرسلوا نساخين من عندهم ليعيدوا نسخ ما في مكتبة آل ميديتشي من مخطوطات .. وقد ضمت هذه المجموعة بعد موت لورندسو إلى المجموعة الأخرى التي(18/216)
وضعها كوزيمو من قبل في دير سان ماركو، وكانت المجموعتان تضمان في عام 1495 تسعة وثلاثين والف مجلد منها ستون وأربعمائة باللغة اليونانية. وخطط ميكل أنجيلو فيما بعد داراً فخمة لهذه الكتب، وأطلق عليها الخلف أسم لورندسو فسماها المكتبة اللورنتيانية Bibliotheca Laurentiana. ولما أنشأ برناردو تشينيني Bernardo Cennini مطبعة في فلورنس (1471)، لم يسخر لورندسو من الفن الجديد، كما سخر منه صديقه بوليتيان أوفد ريجو دوق أربينو، بل يبدو أن ما سوف يتمخض عنه نظام الحروف المتنقلة من إمكانيات، واستخدم العلماء لمقابلة النصوص المختلفة حتى تطبع الكتب القديمة بأعظم الدقة المستطاعة في ذلك الوقت. وشجع ذلك بارتولوميو دي لبري Bartolommeo di Libri فطبع النسخة الأصلية من مؤلفات هومر (1488) برعاية العالم المدقق دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondyles، وكذلك أصدر جون لاسكارس النسخة الأصلية من مؤلفات يوربديز (1494)، والمختارات الشعرية اليونانية، ومؤلفات لوتشيان Lucian، وطبع كرستوفورو لندينو Cristoforo Landino أشعار هوراس (1482)، وفرجيل، وبلني الأكبر، ودانتي، وكانت لغة هؤلاء الثلاثة وإشاراتهم تحتاج في هذا الوقت إلى شئ من الإيضاح. وفي وسعنا أن نستشف روح ذلك العصر إذا عرفنا أن فلورنس كافأت كرتوفورو على أعماله العلمية بأن أهدت إليه بيتاً فخماً.
وهرع العلماء إلى فلورنس بعد أن أغراهم بذلك اشتهار آل ميديتشي وغيرهم من أهل فلورنس بما يغدقونه عليهم من الهبات، واتخذوا هذه المدينة عاصمة الثقافة الأدبية. وكان من هؤلاء العلماء فسبازيانو دا بستتشي Vespasiano da Bisticci الذي كان يعمل بائعاً للكتب وأميناً للمكتبات في فلورنس، وإربينو، وروما، ثم ألف سلسلة بليغة محكمة في سير أعيان الرجال خلد فيها أسماء كتاب ذلك العصر وأنصار العلم فيه. وأراد لورندسو أن(18/217)
ينمي التراث الذهني للوع البشري وينقله إلى الأجيال القادمة فأعاد إلى الوجود الجامعة القديمة في بيزا والمجمع العلمي الأفلاطوني في فلورنس ووسع نطاقهما. ولم يكن مجمع فلورنس العلمي كلية رسمية بل كان هيئة من العلماء المولعين بفلسفة أفلاطون، يجتمعون في فترات غير منتظمة في قصر لورندسو بمدينة فلورنس أو في قصر فتشينو الريفي في كاريجي Careggi، ويطعمون معاً، ويقرءون بصوت عال محاورة من محاورات أفلاطون أو أجزاء منها، ثم يتناقشون فيما تحتويه من آراء فلسفية. وكان المجمع يحتفل باليوم السابع من نوفمبر، وهو الذي يزعمون أن أفلاطون ولد ومات فيه، احتفالا لا يكاد يقل روعة ومهابة عن الاحتفالات الدينية، فكانوا يتوجون بالأزهار تمثالا نصفياً يعتقدون أنه تمثال أفلاطون، ويوقدون أمامه مصباحاً كما توقد المصابيح أما صور الآلهة. وقد اتخذ كرستوفورو من هذه الاجتماعات أساساً للحديث الخيالي الذي سماه جدل الكملدولينين Disputationes Camaldulenses (1468) وذكر فيه كيف زار هو وأخوه دير الرهبان الكملدولينين، والتقى فيه بالشابين لورندسو وجوليانودة ميديتشي، وليون باتستا ألبرتي وستة آخرين من علية أهل فلورنس، وكيف كانوا يضطجعون على الكلأ قرب عين ماء جارية، ويوازنون بين حياة المدينة المسرعة القلقة، وسكنى الريف الصحي الجميل، وبين حياة النشاط وحياة التأمل والتفكير، وكيف كان ألبرتي يمتدح حياة التفكير الريفي، بينما كان لورندسو يقول إن العقل الناضج يؤدي أكمل وظيفته ويجد أعظم ما يرضيه في خدمة الدولة وفي تجارة العالم (13). وكان بين من يحضرون مناقشات المجمع العلمي الأفلاطوني بوليتبيان، وبيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola ومرسيليو فيتشينو Marsilio Ficino وقد بلغ من إخلاص مرسيليو للمهمة التي ندبه لها كوزيمو أن(18/218)
خصص حياته كلها تقريباً لترجمة أفلاطون إلى اللغة اللاتينية، ولدراسة الأفلاطونية، وتعليمها، والكتابة عنها. وكان في شبابه وسيم الخلق إلى درجة جعلت عذارى فلورنس يشغفن به حباً. ولكن عنايته بهن كانت أقل من عنايته بكتبه، وقد ضل عن دينه وقتاً ما، وخيل إليه أن الأفلاطونية أسمى من الدين قدراً، وكان يلقب طلابه «بأحبائه في أفلاطون» بدل «أحبائه في المسيح» (14)، وكان يحرق الشموع أمام تمثال نصفي لهذا الفيلسوف، ويمجده كما يمجد القديسين (15)، ولم تكن المسيحية وهو في هذه النشوة تبدو له إلا أنها أحد الأديان الكثيرة التي تخفي كثيراً من عناصر الحق في طيات عقائدها المجازية وطقوسها الرمزية، وظل كذلك حتى ردته كتابات القديس أوغسطين، وشكر الله على شفائه من مرض خطير، إلى الإيمان بالدين المسيحي، وبلغ من شدة إيمانه أن أصبح قسيساً حين بلغ سن الأربعين، ولكنه ظل مع ذلك متحمساً للأفلاطونية، يقول إن سقراط وأفلاطون قد جاءا بعقيدة للتوحيد لا تقل نبلا عما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وأنهما هما أيضاً ق نزل عليهما الوحي نزولا مصغراً، كما نزل في الواقع على جميع الناس الذين يخضعون لحكم العقل. وحذا لورندسو وبعض الكتاب الإنسانيين حذوه فسعوا إلى تفسير الدين المسيحي تفسيراً يقبله الفيلسوف دون أن يعملوا على استبدال دين جديد بهذا الدين. وظلت الكنيسة جيلاً من الزمان أو جيلين (1447 - 1534) تبتسم لهذه المخاطرة وتتسامح مع لقائمين بها حتى جاء سفنرولا وشنع بها وقال إنها خداع وتضليل. وكانت الشخصية الساحرة الجذابة التي لا يعلو عليها إلا لورندسو نفسه هي شخصية الكونت جيوفني بيكو دلا ميرندولا. وكان مولده في البلدة (القريبة من ميدونا) التي أذاع اسمه شهرتها، ثم تلقى العلم في بولونيا وباريس، وكان يستقبل بأعظم مظاهر التكريم في بلاط الملوك والأمراء في أوربا كلها تقريباً، حتى أقنعه لورندسو آخر الأمر أن يتخذ فلورنس موطناً له. وكان عقله الحريص على العلم المتحمس له ينتقل من فرع منه(18/219)
إلى فرع- من الشعر، إلى الفلسفة، إلى العمارة، إلى الموسيقى، -وقد وصل في كل فرع منها إلى درجة غير قليلة من البراعة. حتى قال عنه بوليتيان إن الطبيعة قد كملته فجمعت فيه كل مواهبها: «كان طويل القامة، متناسب الأعضاء، يشع وجهه بشيء من النورانية الإلهية»، نافذ النظرات، لا يمل الدرس، قوي الذاكرة إلى حد الإعجاز، غزير المعرفة في كل فرع من فروع العلم، فصيح اللسان يجيد عدة لغات، تعجب به النساء ويحبه الفلاسفة، لا يقل جمال خُلقه عن وسامة خَلْقه، بلغ الدرجة العليا في جميع الصفات الذهنية. وكان عقله مفتوحاً لجميع الفلسفات والأديان، لا يسعه ولا يوائمه أن يرفض أي نظام أو أي إنسان، ومع أنه نبذ التنجيم في السنين الأخيرة من حياته، فإنه رحب بالتصوف وبالسحر ولقيا منه من القبول ما لقيه أفلاطون والمسيح. ولم يظن بكلمة طيبة على الفلاسفة المدرسين، الذين رماهم معظم من عداه من الكتاب الإنسانيين بأنهم قوم همج ينطقون بالسخافات والأباطيل. وكان يجد في التفكير العربي (1) واليهودي كثيراً مما يدعو إلى الإعجاب، وكان من بين أساتذته وأصدقائه المكرمين عدد كبير من اليهود (16). وكان من بين ما درسه أسرار القبلة اليهودية، واعترف في غير مماحكة، ولا تكلف بما يعزى إليها من قدم، وجهر بأنه وجد فيها أدلة تقطع بألوهية المسيح. وإذا كان من ألقابه الإقطاعية أنه «كونت كنكورديا» (2) Count of Cpncordia فقد أخذ على عاتقه ذلك الواجب السامي واجب التوفيق بين ديانات الغرب العظمى -اليهودية، والمسيحية، والإسلام-ثم التوفيق بينها وبين أفلاطون، ثم بين أفلاطون وأرسطو. واكن كل من عرفه يتودد إليه ويتملقه، ولكنه ظل إلى آخر حياته القصيرة يحتفظ بتواضعه
_________
(1) يريد التفكير الإسلامي بطبيعة الحال. (المترجم)
(2) يشير المؤلف إلى أن جيوفني يريد أن يحقق ما يدل عليه لقبه وهو (الاتفاق أو التحاب) (المترجم)(18/220)
الساحر الفنان الذي لا تضارعه إلا ثقته القوية المخلصة بدقة علمه وبقوة العقل الإنساني.
ولما قدم إلى روما في الرابعة والعشرين من عمره (1486)، أذهل القساوسة. والعلماء بأن نشر مجموعة مكونة من تسعمائة قضية تشمل المنطق، وما بعد الطبيعة، واللاهوت، وعلم الأخلاق، والرياضيات، والطبيعة، والسحر، والقبلة، وتضم فوق ذلك البدعة الدينية السمحة القائلة بأنه ما دامت أعظم خطيئة ارتكبها الإنسان محدودة غير أبدية، فإنها لا يمكن أن تستحق العقاب الأبدي. وجهر بيكو باستعداده للدفاع عن أية قضية من هذه القضايا وعنها جميعاً في أية مناقشة عامة ضد أي إنسان، وعرض أن يقوم بأداء جميع نفقات السفر لمن يريد أن يتحداه أيا كان البلد الذي يأتي منه. وقد مهد لهذه المباراة الفلسفية المقترحة بإعداد رسالة ذائعة الصيت عرفت فيما بعد باسم: (في كرامة الإنسان De hominis dignitale) عبر فيها بحماسة الشباب عن آراء الكتاب الإنسانيين في النوع الإنساني وهي الآراء التي تناقض معظم ما يراه أهل العصور الوسطى. وقد كتب بيكو في ذلك يقول: «من الأقوال المألوفة في المدارس أن الإنسان عالم صغير نتبين فيه جسماً امتزجت فيه العناصر الأرضية، بالروح السماوية، والنفس النباتية بحواس الحيوانات الدنيا والعقل الإنساني، وعقل الملائكة، وصورة الإله» (17)، ثم قال على لسان الله نفسه تلك العبارة التي قالها لآدم وعدها دليلا من قبل الله على ما للإنسان من إمكانيات لا حد لها: «لقد خلقتك كائناً لست سماوياً ولا أرضياً ... لكي تكون حراً في أن تشكل نفسك وتتغلب عليها ... في مقدورك أن تنحط فتكون حيواناً، أو أن تولد من جديد في صورة الله». وأضاف بيكو إلى هذه عبارة تنم عن الروح العليا الممثلة في النهضة الفنية:
«تلك هي العطية الإلهية التي لا تعلو عليها خطيئة ما، تلك هي سعادة(18/221)
الإنسان العظمى ليس بعدها سعادة ... وهي انه يستطيع أن يكون ما يريد أن يكون. أن الحيوانات لتحمل معها من أجسام امهاتها من اللحظة التي تولد فيها كل ما هو مقدر لها أن تكونه، والأرواح العليا (الملائكة) هي منذ البداية ... ما سوف تكونه إلى أبد الدهر، لكن الله أبا الكون قد وهب الإنسان منذ مولده أصول كل الإمكانيات وكل نوع من أنواع الحياة (18).
ولم يجرؤ أحد على أن يقبل تحدي بيكو فيناقشه في قضاياه المتعددة الأنواع، ولكن البابا إنوسنت الثامن وسم ثلاثاً من هذه القضايا بالإلحاد، وإذا لم تكن هذه القضايا الثلاث إلا جزءاً صغيراً من مجموع قضاياه، فإن بيكو كان يسعه أن ينتظر من البابا الرأفة به، وفي الحق أن إنوسنت لم يقف من هذه المسألة موقف الإصرار والمعاندة، ولكن بيكو أصدر تصريحاً رجع فيه عن أقواله فيها وإن يكن رجوعاً تكتنفه الحيطة والحذر، وسافر إلى باريس حيث عرضت عليه جامعتها أن تحميه من البابا، فلما كان عام 1496 أبلغ البابا إسكندر السادس المعروف بظرفه ودماثة خلقه بيكو أنه قد نسي كل شيء، فعاد بيكو من فوره إلى فلورنس، وأصبح من أخلص أتباع سفنرولا، وتخلى عن سعيه وراء التبحر في العلوم عامة، وأحرق مجلداته الخمسة في الغزل. وخرج عن ماله لأداء بائنات الفتيات الفقيرات، وعاش هو نفسه كما يعيش الرهبان، وفكر يوماً ما في الانضمام إلى طائفة الرهبان الدمنيكيين، ولكنه مات قبل أن يكوّن رأيه في هذا الموضوع-وكان عند وفاته لا يزال شاباً في الحادية والثلاثين من عمره. ولم يمنح نفوذه بعد انقضاء حياته القصيرة، وكان هو الملهم لرتشلين Reuchlin أن يواصل في ألمانيا تلك الدراسات العبرية التي كان يشغف بها بيكو طوال حياته.
وكان بوليتيان يعجب ببيكو إعجابا نبيلا كريماً، ويصحح شعره بعد(18/222)
أن يقدم لذلك أجمل اعتذار. على أن نجمه لم يلمع بالقوة والسرعة اللتين لمع بهما نجم بيكو، وإن كان أكثر منه نفاذاً إلى بواطن الأمور، وأعظم منه ثقافة وتهذيباً. واتخذ أنجيلس باسوس Angèlus Bassus كما كان يسمى نفسه أول الأمر-أو أنجيلو أمبروجيني Angelo Ambrogini كما كان يسميه بعضهم-اتخذ اسمه الذي اشتهر به اكثر من غيره من الأسماء من مونتي بولدسيانو Monte Poliziano في مؤخرة مدينة فلورنس. ودرس اللاتينية بعد أن قدم إلى فلورنس على كرستوفورو لندينو Cristoforo Landino كما درس اللغة اليونانية على أندرونكوس سالونيكا Andronicus Salonica، والأفلاطونية على فتشينو، وفلسفة أرسطو على أرجيروبولوس Argyropoulos. وبدأ وهو في السادسة عسرة من عمره يترجم هوميروس إلى لغة يونانية قوية مليئة بالمصطلحات اللغوية إلى حد بدت معه وكأنها من أعمال العهد الفضي للشعر الروماني إن لم تكن من عهده الذهبي. ولما أتم ترجمة الكتابين الأولين بعث بالترجمة إلى لورندسو، فشجعه هذا الأمير- أمير أنصار الأدب والفن، اليقظ لكل ما يجده من جودة وامتياز-على الاستمرار في عمله، وأقامه في بيته واتخذه معلماً خاصاً لأبنه بيرو، وأمده بكل ما يحتاجه. ولما تحرر بوليتيان بفضل هذا العون من كل عوز أحذ ينشر النصوص القديمة ومن بينها قوانين جسفتيان وأظهر فيها من غزارة العلم واصالة الحكم ما أكسبه ثناء العالم الأدبي كله. ولما نشر لندينو أشعار هوراس قدم لها بوليتيان بقصيدة تضارع في لغتها اللاتينية، وتركيب جملها، وأوزانها الشعرية المعقدة قصائد هوراس نفسه. وكان يستمع إلى محاضراته في الأدب القديم آل ميديتشي، وبيكو دلا مير ندولا، وطلبة من الأجانب- روتشلن، وجروسين Grocyn وغيرهما- بعد أن ترددت فيما وراء الألب أصداء شهرته في العالم، والشعر، والخطابة بلغات ثلاثة. وكان من عادته في كثير من الأحيان أن يبدأ محاضرته بقصيدة لاتينية طويلة يقرضها لتلك المناسبة(18/223)
خاصة، وكان من هذه القصائد قصيدة جزلة جميلة النغم سداسية الأوتاد تروي تاريخ الشعر من هوميروس إلى بوكاتشيو. وكشفت هذه القصيدة هي وغيرها من القصائد التي نشرها بوليتيان بعنوان السلفيات عن اسلوب لاتيني سهل، سلس، فياض، قوي الخيال إلى حد جعل الكتاب الإنسانيين ينادون به أميراً عليهم على الرغم من صغر سنه، وسرهم أن اللغة النبيلة التي كانوا يأملون إعادتها قد علمها بوليتيان تعليما بعث فيها الحياة من جديد. وقد جعل بوليتيان من نفسه كاتباً لاتينياً من طراز الكتاب اللاتين الأقدمين، غير أنه مع ذلك أصدر في يسر وخصب إنتاج طائفة متتابعة من القصائد باللغة الإيطالية لا نجد لها نظيرا في كل ما كتب بين بترارك وأريستو، فلما أن فاز جوليانو أخو لورندسو في مثاقفة أقيمت عام 1475 وصف بوليتيان هذه المثاقفة في قصيدة مثمنة الأوتاد، رخيمة النغم، رشيقة العبارة، ثم امتدح في قصيدته سيمونتا الحسناء جمال حبيبة جوليانو الأرستقراطي بشعر بليغ عذب جعل شعر الغزل الإيطالي من ذلك الوقت ينمو نمواً جديداً في رقة اللفظ وقوة الشعور. ويصف بوليتيان على لسان جوليانو خروجه إلى الصيد والتقائه بسيمونتا وغيرها من الفتيات يرقصن في الحقل فيقول:
وجدت الحورية الحسناء التي ألهبت قلبي بنار الحب
ذات مزاج لطيف، نقي، فطين تقف وقفة رشيقة،
يشع منها الحب والأدب، والقداسة، والحكمة، والظرف،
وجهها القدسي حلو رقيق.
تفيض منه البهجة وتتمثل في عينيها السماويتين جنات الخلد؛
وكل ما نتمناه نحن الخلائق الفانين المساكين من نعيم؛
وقد أرسلت من رأسها الملكي وجبينها الوضاء
غدائر ذهبية تساقط مسترسلة في بهجة وحبور؛(18/224)
وأخذت الحسناء تسير بين المغنيين،
وقد انتظمت خطاها ونسقت على وقع الأنغام الشجية
وأرسلت إلىَّ من عينيها خلسة،
وهما لا تكادان ترتفعان عن بساط الحقل،
شعاعاً قدسياً مختلساً
وكأن شعرها قد دبت فيه الغيرة مني،
فسد طريق هذا الشعاع الوضاء وحجبه عن ناظري
ولكنها، وهي التي ولدت ونشأت في السموات العالي لتثني عليها الملائكة الكرام،
لم تكد ترى هذا الظلم حتى رفعت بأنقى يد وأنصعها
غدائرها العاصية، وتبدت لي بطلعتها الرقيقة الحلوة،
ثم أرسلت من عينيها نظرة حادة ملتهبة
من نظرات الحب القوية، وقعت على عيني فألهبتها،
حتى لم أدر كيف نجوت من الاحتراق بذلك اللهيب (19)
وانشأ بوليتيان في حب معشوقته إبوليتا ليونتشينا Ippolita Leoncina أغاني غرامية أوفت على الغاية في الرقة والحنان، ثم أطلق العنان للأنغام التي كان يفيض بها قلبه فأنشأ أغاني مثلها يتخذ منها أصدقاؤه رقى يتخلصون بها من حيائهم. ولم يفته حفظ أقاصيص الفلاحين الشعرية، فلما حفظها صاغها من جديد في صورة أدبية مصقولة، ثم انتقلت في صورتها الجديدة إلى الشعب وذاعت بين أفراده، ولا تزال لها أصداء تتردد في تسكانيا إلى يومنا هذا، وقد وصف في قصيدته حبيبتي السمراء فتاة ريفية حسناء تغسل وجهها وصدرها عند ماء، وتتوج شعرها بالأزهار «وكان ثدياها كورد الربيع، وشفتاها حمراوين كالورد»، وذلك بوصف قديم لا يمل الإنسان سماعه. وأراد بوليتيان أن يؤلف من جديد بين التمثيل،(18/225)
والشعر، والموسيقى والغناء، كما حدث في مسرح اليونان الديونيسي، فوضع في يومين أثنين، كما يؤكد هو ويقسم، مسرحية غنائية في 434 بيتاً غنيت للكردنال فرانتشسكو جنزاجا Francesco Gonzaga في منتوا (1472). وقد سماها قصة أورفيوس وتحدث فيها عن موت يوريديس Eurydice زوج أورفيوس، وكيف ماتت من عضة ثعبان، حين كانت تحاول الهرب من راع هام بحبها، وكيف اتخذ أورفيوس البائس المسكين طريقه إلى الجحيم، وسحر بلوتو بقيثارته فلم يسمع إله العالم السفلي إلا أن يعيد له يوريديس على شريطة ألا ينظر إليها حتى يخرج من الجحيم كله، فاختطفت منه وأعيدت من فورها إلى الجحيم، وحيل بينه وبين تعقب خطاها. وأثر ذلك في أورفيوس وتملكته نوبة من الجنون فكره النساء كلهن، وأوصى الرجال بأن يغفلوا النساء، ويشبعوا أنفسهم بالغلمان كما أشبعها زيوس بجانيميد. واستشاطت مينادات (أرواح) الغاب غضباً من احتقاره النساء، فانهلن عليه ضرباً حتى فارق الحياة، وسلخن جلده، ومزقن أطرافه من جسمه، وأخذن يغنين وهن مبتهجات لانتقامهن منه. وقد ضاعت الموسيقى التي كانت تصاحب الشعر، ولكن في وسعنا أن نضع ونحن آمنون مسرحية أورفيوس بين أولى المسرحيات التي تبشر بظهور المسرحيات الغنائية الإيطالية.
وكاد بوليتيان أن يصبح من الشعراء العظام، ولكنه لم يبلغ من هذه المرتبة لأنه تجنب مساقط العواطف الثائرة، ولم يتعمق أغوار الحياة أو الحب، فهو ساحر على الدوام غير عميق على الإطلاق، وكان حبه للورندسو أقوى ما عرف من المشاعر، وكان يقف إلى جانب راعيه ونصيره عند مقتل جوليانو في الكنيسة، وكان هو الذي أنقذ حياة لورندسو بإغلاق أبواب غرفة المقدسات وإحكام مزاليجها في وجه المتآمرين، ولما عاد لورندسو(18/226)
من رحلته الخطرة إلى نابلي حياه يوليتيان بأبيات من الشعر تشف عن حب يكاد يزري به وبسيده، ولما مات لورندسو حزن عليه يوليتيان حزناً يجل عن العزاء، ثم أخذ غصنه يذبل شيئاً فشيئاً حتى مات بعد عامين من وفاته في ذلك العام المشئوم الذي مات فيه بيكو عام 1494 عندما كشف الفرنسيون إيطاليا.
ولم يكن لورندسو ليبلغ ما بلغه من مرتبة الرجل المكمل، لم يكن له بعض الهوى بالفلسفة، وبعض الشك في الدين، وبعض الانطلاق في الحب، وكان أمير فلورنس المصرفي يدعو إلى صحبته ومائدته لويجي بلتشي Luigi Pulci ويلذ له سماع الهجاء الفظ في قصيدته مرجنتي الأعظم Morgante maggiore. فقد كانت هذه القصيدة الشهيرة التي يعجب بها بيرون تقرأ للورندسو وضيوف بيته بصوت عال فقرة فقرة. وكان لويجي رجلاً قوي الفكاهة منطلقاً فيها، هز مشاعر القصر والأمة كلها باستخدام لغة الطبقات الوسطى، ومصطلحاتها، وأفكارها، في قصص الفروسية الغرامية. وكانت القصص الخيالية التي تصف مغامرات شارلمان في فرنسا، واسبانيا، وفلسطين قد دخلت إيطاليا في القرن الثاني عشر أو قبله، ونشرها في شبه الجزيرة المغنون الجوالون، والشعراء المرتجلون، فتدخل البهجة والسرور على كافة الطبقات. ولكن الذكور العاديين من بني الإنسان كان يوجد فيهم على الدوام نزعة من الواقعية المخادعة، الفتية، الساخرة من نفسها، تصاحب وتكبح جماح الروح الغرامية التي يحبو بها النساء والشباب الأدب والفن. وقد جمع بلتشي هذه الصفات كلها، وألف من القصص الشعبية الخرافية، ومن المخطوطات المحفوظة في مكتبة لورندسو، ومما كان يدور من الحديث حول مائدة لورندسو نفسه- ألف من هذا كله ملحمة تسخر من المردة، والشياطين، والوقائع الحربية التي تفعم بها قصص الفروسية، وتقص من جديد في شعر جدي تارة، وساخرة تارة أخرى، مغامرات الفارس المسيحي(18/227)
أورلندو والمارد العربي الجبار الذي يكون اسمه نصف أسم القصيدة (1). وخلاصتها أن أورلندو يهاجم مورجنتي، فينقذ هذا حياته بأن يعلن فجأة اعتناقه الدين المسيحي، ويعلمه أورلندو اللاهوت، ويقول له إن أخويه اللذين قتلا تواً يقيمان وقتئذ في الجحيم لأنهما من الكفار، ويبشره بالجنة إذا أخلص لدين المسيح، ولكنه ينذره بأن لابد له وهو في الجنة أن ينظر إلى أهله الذين يحترقون بشيء من الرحمة. ويقول له الفارس المسيحي: «إن علماء ديننا مجمعون على أنه إذا شعر المنعمون في السماء بالرحمة على الأشقياء من أقاربهم، الذين يتردون في أطباق الجحيم المروعة مختلطين بعضهم ببعض، فإن سعادتهم تنتهي إلى لاشيء». ولا يضطرب مورجنتي لهذا، بل يقول لأورلندو مؤكداً: «سنرى هل أحزن على أبنائي، وهل أرضى بحكم الله، وأسلك مسلك الملائكة، أو لا أرضى بحكمه ولا أسلك مسلكهم ... سأقطع أيدي أخوي وآخذها إلى أولئك الرهبان الصالحين حتى يوقنوا بأن عدويهم قد هلكا».
ويدخل بلتشي في المقطوعة الثامنة عشرة مارداً جديداً يدعى مرجوتي Margute، وهو لص مرح، وقاتل رقيق، يعزو إلى نفسه كل رذيلة إلا الغدر بالصديق. وسأله مورجنتي هل يؤمن بالمسيح أو يؤثر عليه محمداَ فيجيب مرجوت بقوله:
إني لا أومن بالأسود أكثر مما أومن بالأزرق
وكل ما أومن به هو الديكة السمينة مسلوقة أو قد تكون محمرة،
وأومن أحياناً بالزبد أيضاً،
وبالجعة وبالخمر الفطير الذي يطفو على وجهه قطع التفاح الحميص، ...
أما الذي أؤمن به أشد الأيمان فهو النبيذ المعتق،
_________
(1) نشر بلتشي أولا المقطوعات التي تشير إلى مورجنتي: وسيمت القصيدة بعد أن كملت مورجنتي مجيوري Morgante Maggiore أي موجنتي الأعظم.(18/228)
واعتقد أن الذي يثق به أشد الثقة هو الذي تكتب له النجاة ...
إن الأيمان كالحرب معد، ...
والإيمان يتشكل بالصورة التي يدركه بها الإنسان- هذه أو تلك،
أو غيرها من الصور.
فإذا شئت إذن أن تعلم أي نوع من العقائد أنا مرغم على اعتناقه!
فأعلم أن أمي كانت راهبة يونانية،
وأن أبي كان من بين الأتراك في بروصه ملا (21)
ويموت مرجوتي من الضحك بعد أن يظل يختال ويستهتر في مقطوعتين، ويموت بلتشي دمعة واحدة يذرفها عليه، بل يجتذب من خياله السحري شيطاناً من الطراز الأول يدعى عشتروت هو الذي اشترك في العصيان مع إبليس، يستدعيه الساحر ملاجيجي Malagigi ليأتي برينلدو بسرعة من مصر إلى رنتشسفاليز، فيقوم بهذه المهمة في مهارة ويكسب من حزق رينلدو ما يجعل هذا الفارس المسيحي يقترح أن يرجو الله أن يطلق عشتروت من الجحيم. ولكن الشيطان الظريف شديد التفقه في الدين، ومن أجل ذلك يقول إن التمرد على العدالة اللانهائية جريمة لا نهائية تستحق عقاباً سرمدياً. ويعجب ملاجيجي من أن الله الذي سبق كل شيء في علمه بما في ذلك عصيان إبليس واللعنة الأبدية قد خلقه، فيعترف عشتروت بأن هذا من الأسرار الخفية التي لا يعرف أحد حتى الحكماء أنفسهم كنهها (22).
ولقد كان في الحقيقة شيطاناً عاقلاً، لأن بلتشي وهو يكتب في عام 1483 ينطقه بأقوال مدهشة يستبق بها كولمبس، فيقول عشتروت لرينلدو وهو يشير إلى التحذير القديم القائم عند أعمدة هرقل (جبل طارق) والذي يقال فيه «لا تسر إلى ما بعد هذا ne plus ultra:
أعلم أن هذه النظرية خاطئة، وأن سفينة
الملاح الجريء ستخوض عباب الأمواج الغربية(18/229)
وتتوغل فيها إلى مدى بعيد.
والأرض، وإن بدت سهلا أملس منبسطا،
قد خلقت في صورة عجلة مستديرة
ولقد كان الإنسان في الأيام الخالية أفظع صورة مما هو،
وإن كان من شأن هرقل نفسه أن يعتريه الخجل إذا عرف
إلى أي مدى سينطلق بعد قليل أضعف قالب بحري
وراء الحدود التي حاول عبثاً أن يضعها له.
سوف يكشف الإنسان بلا شك عن نصف عالم آخر
لأن الأشياء جميعها تنزع نحو مركز مشترك عام
والأرض المتزنة اتزاناً عجيباً بقدرة الله العجيبة الخفية
معلقة بين أبراج النجوم
وفي الجهات المقابلة لنا من الأرض مدن ودوا
وأقطار غاصة بالسكان لم تعرف حقيقتها قبل الآن
وها هي ذي الشمس تشق طريقها الغربي مسرعة
لتدخل البهجة على قلوب الأمم بما تتوقعه من ضياء
وقد سار بلتشي على سنة ابتداء كل مقطوعة، مهما يكن فيها من السخرية والتهريج، بتضرع وابتهال إلى الله وإلى الأولياء الصالحين، وكلما زاد ما في مادته من دنس زادت المقدمة جداً ووقاراً. وتختم القصيدة بالجهر بإيمانه بأن الأديان كلها خير وبركة-وهو تصريح يغضب بلا شك كل مؤمن حق. ويجيز بلتشي لنفسه بعض عبارات من الكتاب المقدس ليؤيد بها قوله إن علم المسيح السابق لم يكن يعدل علم الله الأب، وحين يجيز لنفسه أن يأمل بأن تنجو جميع الأرواح في آخر الأمر بما فيها روح إبليس نفسه. ولكنه بقي كما بقي كل فلورنسي صالح، وكما بقي غيره من أفراد الدائرة الملتفة حول لورندسو، مؤمناً في ظاهر الأمر بكنيسة مرتبطة ارتباطاً(18/230)
لا انفصام له بالحياة الإيطالية. ولم ينخدع رجال الدين بخضوعه هذا وولائه، ولما توفي (1484) لم يسمحوا بأن تدفن جثته في أرض مكرسة.
وإذا كانت جماعة لورندسو قد استطاعت أن تنتج هذه الآداب المتنوعة في جيل واحد، فإن من حقنا أن نظن-وسنجد في واقع الأمر- أن يقظة مثل هذه اليقظة قد وجدت في مدن أخرى غير فلورنس-في ميلان، وفراراً، ونابلي، وروما. والحق أن إيطاليا كانت قد أتمت المرحلة الأولى من نهضتها وتجاوزتها إلى المرحلة التالية، فقد أعادت كشف بلاد اليونان القديمة، ووضعت المبادئ الأساسية للدراسات القديمة، وجعلت اللاتينية مرة أخرى لغة ذات بهاء وجلال، وقوة وعنفوان. ثم فعلت أكثر من هذا: فقد كشفت إيطاليا من جديد الذي بين موت كوزيمو ولورندسو لغتها هي وروحها، وطبقت مقاييس اللفظ والأسلوب على اللغة القومية، وأنشأت شعراً قديماً في رومة، ولكنه أصيل و «حديث» في لغته وتفكيره، متأصل في شئونها ومشاكلها اليومية أو في مناظر الريف وأشخاصه. يضاف إلى هذا أن إيطاليا قد نهضت في جيل واحد، وبفضل بلتشي، بالمسلاة الفكهة فجعلتها أدباً راقياً، ومهدت الطريق إلى بورادو Borardo وأريتسو Ariosto، بل إنها قد استبقت بسمات سرفنتير Cervantes من خيلاء الفروسية وتنطعها وادعاءاتها، وأخذ عهد الدراسة يختنق تدريجياً، وحل بالخلق والإبداع محل المحاكاة، وبعث الأدب الإيطالي بعثاً جديداً بعد أن ذبل على أثر اختيار بترارك اللغة اللاتينية ليكتب بها ملحمته. ولم يمض بعد هذا الوقت الذي نتحدث عنه زمن طويل حتى كاد إحياء الأدب القديم أن ينسى في نضرة الثقافة الإيطالية وغزارتها، وهي الثقافة التي تزعمت العالم في الأدب وغمرته بفيض من الفن.(18/231)
الفصل الخامس
العمارة والنحت (عصر فيروتشيو)
وواصل لورندسو في حماسة بالغة تقاليد آل ميديتشي القديمة القاضية بمناصرة الفن، يشهد بذلك ما كتبه معاصريه فالوري يقول: «لقد بلغ من شدة إعجابه بآثار العهود القديمة لأنه لم يكن شيء أحب إليه من هذه الآثار وإن كان من يريدون التقرب إليه وإدخال السرور عليه يجمعون من كل أنحاء العالم مدليات، ونقوداً، ... وتماثيل كاملة ونصفية، وكل ما طبع بطابع اليونان أو روما القديمة (24). وأضاف لورندسو ما جمعه من مخلفات العمارة والنحت إلى ما خلفه كوزيمو وبيرو، ووضعها كلها في حديقة قائمة بين قصر آل ميديتشي ودير سان ماركو، وأجاز لكبار الزوار والعلماء الموثوق بهم أن يدخلوها، وعين راتباً لمن كان يظهر الجد أو تلوح عليه سمات النجابة من الطلاب- وكان من بينهم الشاب ميكل أنجيلو-ليعيشوا منه، كما كان يمنح الجوائز لمن يظهر منهم كفاية ممتازة. وفي ذلك يقول فاساري: «ومن أهم ما يستلفت النظر أن جميع من كانوا يدرسون في حديقة آل مديتشي، وكانوا من المقربين للورندسو، قد أصبحوا من رجال الفن الممتازين، ويرجع الفضل كل الفضل في هذا إلى عظيم الحكمة هذا الرجل العظيم المناصر للفنون ... الذي لم يكن صادق الحكم على العباقرة فحسب، بل أوتي فوق ذلك من الإرادة والقوة ما استطاع به أن يكافئهم على نبوغهم (25).
وكانت أهم الحوادث ذات الشأن العظيم في تاريخ الفن في عهد لورندسو هي نشر رسالة فتروفيوس Vitruvius (1486) المسماة في العمارة De Architectura ( التي كتبت في القرن الأول قبل الميلاد) والتي كان(18/232)
بجيو قد استخرجها من أرض دير سانت جول قبل ذلك الوقت بنحو سبعين عاماً. واستحوذت هذه الرسالة القديمة الجامدة على مشاعر لورندسو، واستخدم نفوذه في نشر طراز روما الإمبراطورية في العمارة، ولعله في هذه المسألة بالذات قد أساء أكثر مما احسن، لأنه أعاق في فن العمارة ما كان يمارسه بنجاح مثمر في ناحية الأدب-تعني تنمية الأشكال الوطنية. لكن الروح التي حفزته إلى هذا العمل كانت روحاً كريمة بحق، فقد ازدانت روما بفضل تشجيعه، وبفضل أمواله في كثير من الأحوال، بطائفة كبيرة من المباني الرشيقة كانت ملكاً للمدينة أو الأفراد. وكان من هذه الأعمال إتمامه كنيسة سان لورندسو والدير القائم في فيسولي، واستخدامه جوليانو دة سنجلو Giuliano da sangallo لتخطيط دير خارج باب سان جلو San Gallo هو الذي خلع على هذا المهندس اسمه. وبنى له جليانو قصراً ريفياً فخماً في بوجيو أكايانو Poggio a Caiano وبلغ من جماله أن أوصى به لورندسو فرديناند ملك نابلي حين طلب إليه هذا مهندساً يعمل عنده. ويدلنا على مقدار حب أولئك الفنانين للورندسو ما أظهره جوليانو من الكرم بعدئذ، فقد أرسل إليه هدايا كل ما منحته إياه فلورنس من هبات-وهي تمثال نصفي للإمبراطور هدريان، وتمثال كيوبيد النائم وغيره من التماثيل القديمة، وضم لورندسو هذه الهبة إلى مجموعاته التي في حديقته، والتي تكون منها فيما بعد نواة مجموعة التماثيل القائمة في معرض أفيزي Uffizi، وكان غيره من ذوي المال يضارعونه -ومنهم من بزه-في فخامة مسكنه. من ذلك أن بينيديتو ده ميانو Benedetto de Maiono شاد لفلبو استرتزي الأكبر Filippo Strozzi Elder قصراً يتجلى فيه باكمل صورة ذلك الطراز التسكاني من العمارة الذي أبرزه في قصر بتي Pitti- والذي يتمثل فيه الفخامة والنعيم من الداخل تحجبهما عن العين واجهة ضخمة من الكتل الحجرية «الريفية» غير المصقولة. وقد بدا المهندس بناءه بعد أن(18/233)
رصد له طالع بأكبر عناية، وبعد أن أقيمت لذلك صلوات دينية في عدة كنائس، وبعد أن وزعت الصدقات زلفى واستدراراً للبركة. وأتم سيموني بولايولو Simone Pollaiuolo (1) هذا البناء بعد أن توفى بينيديتو (1497) وأضاف إليه طنفاً جميلاً على مثال طنف آخر شاهده في روما. وفي يوسعنا أن نتصور ما كان ثمة من جمال في داخل هذه الأسوار التي يخيل إلى من يراها أنها سجون، بالنظر إلى مواقدها الفخمة، وهي أروقة ضخمة تستند إلى عمد منحوتة على شكل أزهار تعلوها نقوش بارزة، وظل مجلس السيادة في هذه الأثناء يزيد داره الفذة الجميلة وهي قصر فيتشيو جمالاً على جمالها.
وكان معظم المهندسين مثالين أيضاً، لأن المثالين كانوا أصحاب الشأن الأكبر في زخرفة الأبنية، ونحت أطنافها، وقوالبها وعمدها المربوعة، وتيجانها، وعمد الأبواب واثاث المصطلى، والنقوش البارزة على الجدران، وأماكن القربان، ومواقف المرنمين، والمنابر، وأجران التعميد، وكان جوليانو دا مايانوا هو الذي نحت مواضع المقدسات في الكتدرائية وفي دير فيسولي. وكان آخو بينيديتو هو الذي أتقن فن تلبيس الخشب، واشتهر به إلى حد ماتيوس كورفينوس Mathius Corvinus ملك المجر يطلب إليه صنع صندوقين من الخشب الملبس ويدعوه إلى بلاطه. ولبى بينيديتو الدعوة، وعمل على أن يرسل الصندوقان بعد ذهابه، فلما وصل الصندوقان وأخرجا من غلافهما أمام الملك سقطت منهما القطع الخشبية المطعمة لأن الهواء الرطب قد حلل الغراء الذي يمسكها، ونجح بينيديتو في إعادة القطع إلى أماكنها، ولكنه كره صناعة التلبيس، واتجه من ذلك الوقت إلى فن النحت فنبغ فيه أعظم نبوغ، حتى لا نكاد نجد من تماثيل العذراء ما هو أجمل من تمثال مادنا الجالسة على العرش، ولا من
_________
(1) وقد لقب الكروناكا Cronaca نسبة إلى السجل الحي الذي كتبه عن أسفاره ودراساته.(18/234)
التماثيل النصفية ما يفوق تمثال فلبو استرتسي الذي في التزم فيه أمانة التصوير وكشف فيه عن خصائص صاحبه، وقل أن نجد في المقادير ما يضارع في جماله قبر استرسي هذا الذي أنشأه له في سانتا ماريا نوفلان ولا في المنابر ما هو أعظم رشاقة في نحته من المنبر الذي صنعه بينيديتو لكنيسة الصليب المقدس Santa Croce، وقل أن نجد في المحاريب ما هو أقرب إلى الكمال من محراب سانتا فينا Santa Fina القائم في كنيسة سان جمنيانو san Gimignano المعهدية (1).
وكان النحت والعمارة يوجدان عادة في أسر بعينها- كأسر دلا ربيا della Robias، وسنجالو sangalli، وروسلينو Rossllini، وبولايولو. وقد تعلم أنطونيو بولايولو عم سيموني دقة التصميم ورقته حين كان صائغاً في مشغل والد ياقوبو. وقد رفعته منتجاته من الفضة والذهب إلى مكانة جعلته تشيليني Cellini زمانه، والصديق المفضل للورندسو، وللكنائس، ومجلس السيادة في فلورنس، وطوائف الحرف. ولاحظ أنطونيو أن هذه التحف الصغيرة قلما تحتفظ باسم صانعها، وكان يتوق كما يتوق رجال النهضة إلى تخليد شهرته، فأتجه نحو النحت وصب من البرنز تمثالين فخمين لهرقول Hercules لا يقلان في قوتهما عن تمثال الاسرى لميكل أنجيلو وعن تمثال لأوكؤون الذي رمز إلى العاطفة المعذبة. ولما انتقل بعدئذ إلى الرسم روى قصة هرقول في ثلاثة رسوم جدارية لقصر آل ميديتشي، وتحدى بتيتشلى في صورة أبلو ودافني وضارع سخف مائة من الفنانين بأن أظهر كيف يستطيع القديس سبستيان أن يتلقى وهو هادئ السهام التي يرميه بها الرماة من أقواسهم على مهل، فلا تؤثر في جسمه قط. وعاد أنطونيو في سنيه الأخيرة إلى صنع التماثيل، وصب لكنيسة القديس بطرس القديمة في رومة
_________
(1) الكنيسة المعهدية هي التي تقام على بعد قليل من كتدرائية والتي يقيم فيها طائفة من القساوسة يعيشون فيها جماعة. (المترجم)(18/235)
نصبين فخمين لقبري سكتس الثامن أظهر فيهما من قوة النت ودقة العلم بالتشريح ما يبشر مرة أخرى ببراعة ميكل أنجيلو المقبلة.
ولم يكن مينو دا فيسولي Mino da Fesole يضارع أنطونيو هذا في تعدد كفايته أو في شدة انفعاله؛ فقد قنع بأخذ فن النحت عن دزيديريو دا ستنيانو Desiderio da Settigonano، ولما مات أستاذه اكتفى بالسير على ما كان له من تقاليد في الرشاقة السهلة اللينة. ولقد بلغ من تأثر مينو بموت دزبديريو، إذا جاز أن نصدق فاساري، أنه لم يجد بعدئذ شيئاً من السعادة في فلورنس، وأخذ يطلب مناظر جديدة في روما. وفيها أذاعت شهرته ثلاث تحف فنية هي: قبرا فرنتشسكو ترنابؤوني Francesco Tornabuonj والبابا بولس الثاني، ورواق من الرخام للكردنال ده استوت فيل Cardinal d' Stouteville، فلما عادت إليه الثقة ونجا من الإفلاس عاد إلى فلورنس وزين بمحاريب بديعة كنائس سانت أميروجيو sant' Ambrogio وسانتا كروتشي (الصليب المقدس)، ومكان التعميد، وانشأ في كتدرائية فيسولي موطنه الأول قبراً مزخرفاً على الطراز الروماني القديم للأسقف سالوتاتي Salutati وصنع لدير فيسولي نصبا آخر شبيهاً به، اقل منه إمعاناً في الزخرف ليخلد به ذكرى الكونت أوجو Count Ugo مؤسس الدير. ومما تفخر به كتدرائية براتو Prato منبر من صنعه، وثمة اثنا عشر متحفاً يعرض فيها تمثال نصفي أو أكثر من تمثال نصفي حفظ فيها صورة انصاره أكثر مما تملقهم: صورة وجه نقولو استرتسي منتفخاً كأنه مصاب بالنكاف (1)، وصور ملامح بيرو المصاب بالنقرس وما يبدو فيها من هزال، ورأس ديتيلسفي نيروني Dietisalbvi Neroni الجميل، وعمل نقشاً بارزاً جميلاً لماركس أورليوس في شبابه، وتمثالاً نصفياً رائعاً لقديس يوحنا المعمدان في طفولته، ونقوشاً بارزة بديعة للعذراء والطفل. وتبدو في هذه
_________
(1) التهاب الغدة النكفية وهو مرض معدي حاد. (المترجم)(18/236)
التحف كلها الرشاقة النسوية التي أخذها مينو من دزيديريو، فهي تبعث السرور ولكنها لا تسترعي الانتباه، وليس فيها عمق؛ فهي لا تثير اهتمامنا كما تثير تماثيل أنطونيو بولايولو، أو أنطونيو روسلينو؛ وكان منشأ هذا أن مينو قد أفرط في حب ديزيديرو حتى لم يستطع إغفال النماذج التي وضعها هذا الأستاذ، ليبحث في الطبيعة الصارمة غير الرحيمة عن حقائق الحياة وما تكشف عنه من معان خفية.
أما فيروتشيو Verrocchio فقد كانت له «عين حقة» وأوتي من الشجاعة ما أمكنه به أن يفعل هذا الذي عجز عنه مينو، وأخرج أعظم آيتين من آيات النحت في عصره. كان أندريا دي ميكيلي تشيوني Andrea di Michele Cione ( لأن هذا هو أسمه الحقيقي) صائغاً، ومثالاً، وصانع اجراس؛ ورساماً، وعالماً بالهندسة النظرية، وموسيقياً. ويرجع أكبر أسباب شهرته في الرسم إلى أنه علم ليوناردو، ورندسو دي كريدي، وبروجينو Perugino وكان له فيهم أثر كبير. أما رسومه هو فأكثرها جامد، ميتة؛ وقل أن يوجد في صور عهد النهضة ما هو أبعث على النفور من صورة تعميد المسيح الذائعة الصيت؛ فالمعمد فيها متطهر متزمت، عنيد، والمسيح وهو على ما يظن في الثلاثين من عمره يبدو كأنه شيخ مسن؛ والملاكان اللذان إلى يساره فدمان فدامة نسوية، ومن هذه الصور صورة المَلَك التي كان من العادة أن تعزى إلى ليوناردو؛ غير أن صورة طوبياس والملائكة الثلاثة صورة ممتازة؛ وفي صورة الملك الوسطى ما يستبق رشاقة صور بتيتشلي ومزاجه، كما أن صورة الشاب طوبياس تبلغ من الجمال حداً لا يسعنا معه إلا ان نقول إنها هي صورة لورندسو أو أن نقّر أن دافنتشي قد اخذ من طراز فيروتشيو في التصوير أكثر مما كنا نظن. وثمة رسم لرأس امرأة محفوظ في كنيسة المسيح Christ Church بأكسفورد يوحي مرة أخرى بالتفكير السماوي الغامض الذي يطالعنا في صور نساء ليوناردو،(18/237)
كما أن صور مناظر فيروتشيو الطبيعية القائمة تنبئ مقدماً بالصخور القاتم والمجاري الخفية الغامضة التي نشاهدها في آيات ليوناردو الخيالية الحالمة.
وأكبر الظن أن ثمة كثيراً من الخيال في القصة التي يرويها فاساري عن فيروتشيو ويقول فيها إنه لما رأى صورة الملاك التي رسمها ليوناردو في تعميد المسيح «اعتزم ألا يمسك الفرشاة مرة أخرى، لأن ليوناردو وهو لا يزال في شرخ الشباب قد بزه في هذه الصورة» (26). ولكننا نعلم أن فيروتشيو، وإن ظل يشتغل بالتصوير بعد ظهور صورة التعميد قضى في الواقع معظم سني حياته بعد نضوجه في الاشتغال بالنحت، فعمل بعض الوقت مع دوناتلو وأنطونيو بولايولو، وتعلم من كل منهما شيئاً، ثم نَمَّى هو طرازه الخاص الذي يمتاز بالصرامة وبالزوايا. وأخذ يشق طريقه بنفسه فصب من الصلصال المحروق تمثالا نصفياً مبرءاً من الملق للورندسو-أظهر فيه أنفه، وقُصَّته (1)، وجبهته التي تنم عن كثرة القلق. ومهما يكن من أمره فإن المانيفيكيو (الأفخم) قد سره كثيراً نقشان في البرنز للإسكندر ودارا نقشهما له قيروتشيو؛ فبعث بهما إلى ماثياس كورفينوس ملك المجر، وعهد إلى المثال (1472) أن يخطط في كنيسة سان لورندسو قبراً لأبيه بيرو وعمه جيوفني. ونحت فيروتشيو الناووس في الحجر السماقي وزينه بقوائم من البرنز، وأكاليل في صورة بديعة الأزهار. وصب بعد أربع سنين من ذلك الوقت تمثالا لداود الغلام وهو واقف في خيلاء وهدوء أمام رأس جالوت المقطوع؛ وأعجب به مجلس سيادة فلورنس إعجاباً لم يسعه معه إلا أن يضع التمثال على رأس الدرج الرئيسية في قصر فيتيشيو، وقبل هذا المجلس في ذلك العام نفسه تمثالاً من البرنز يصور غلاماً يمسك الدلفين ويتخذه بزبزاً لعين ماء في فسقية قائمة في فناء القصر. وصمم فيروتشيو وهو في عنفوان مجده وصب
_________
(1) القصة بالضم شعر الناصية. (المترجم)(18/238)
من البرنز فجوة في جدار أورسان ميتشيل من الخارج ومجموعة من تماثيل المسيح وتومس الشاك (1483). وصورة المسيح تنم عن النبالة القدسية، كما أن تومس قد صور بعطف وإدراك، وقد صقلت يداه صقلا بلغ من الكمال حداً قلما يرى له نظير في التماثيل؛ وتمثل الأثواب انتصار فن النحت، والمجموعة كلها تطالعك بواقعية حية يخيل إليك أنها تتحرك.
وقد بلغ تفوق فيروتشيو في صناعة التماثيل والنقوش البرونزية من الوضوح حداً لم يسع مجلس شيوخ البندقية معه إلا أن يدعوه (1479) إلى تلك المدينة ليصب لها تمثالاً لبرتولومبو كليوني Bartolomeo Colleoni، المحارب المغامر الذي كسب النصر لدولة الجزيرة في عدة وقائع. ولبى أندريا الدعوة، وعمل نموذجاً للجواد، وكان يتأهب لصبه من البرنز حين علم أن مجلس الشيوخ يفكر في أن من الخير أن يقصر عمله على صنع تمثال الجواد وحده، وأن يترك تمثال راكبه إلى فيلانو Vellano من أهل بدوا. فما كان من أندريا، كما يقول فاساري إلا أن حطم رأس النموذج وسيقانه وعاد إلى فلورنس مغضباً حانقاً. وأنذره مجلس الشيوخ أنه إذا وطئت قدماه أرض البندقية بعدئذ حطم رأسه تحطيماً حقيقياً لا مجازياً، فأجابه بأن ليس له لأن يتوقع عودته إلى المدينة لأن الشيوخ لم يؤتوا كما أوتى المثالون من المهارة ما يستطيعون به أن يعيدوا الرؤوس المحطمة إلى أصحابها. ثم عاد مجلس الشيوخ ففكر في الأمر تفكيراً خيراً من تفكيره الأول، وعهد إلى فيروتشيو بالمهمة كلها مرة أخرى، وأقنعه بأن يعود إلى عمله نظير أجر يعادل ضعفي الأجر الأول؛ فعاد وأصلح رأس نموذج الجواد وأفلح في صبه؛ ولكن المكان الذي كان يعمل فيه ارتفعت حرارته أثناء العمل ارتفاعاً كبيراً، ,اصيب فيروتشيو ببرد وقشعريرة، ومات بعد بضعة أيام وهو في السادسة والخمسين من عمره (1488)، ولما وضع أمامه في ساعاته الأخيرة صليب خشن الصنع، طلب إلى من حوله أن يبعدوه عنه وأن يأتوا(18/239)
إليه بصليب آخر من صنع دوناتلو، حتى يموت، كما كان يعيش، في حضرة الأشياء الجميلة.
وأتم المثال البندقي السندرو ليوباردي Alessandro Leopardi التمثال العظيم. وأخرجه في طراز حي، وأبرز فيه على خير وجه من الحركة والسيطرة ما نفي عن هذا التمثال أية خسارة بموت فيروتشيو. وأقيم التمثال في كامبو دي سان دسانيوبولو Campo di San Zaniopolo- ميدان القديسين يوحنا وبولس؛ ولا يزال يزهو فيه إلى اليوم، وهو أجمل ما بقي من عصر النهضة من تماثيل الفوارس وأعظمها خيلاء.(18/240)
الفصل السادس
الرسم
1 - جيرلندايو
وكان مرسم فيروتشيو جامعاً لخصائص النهضة، ذلك أن الفنون جميعها قد وجدت فيه في مشغل واحد، وكثيراً ما اجتمعت كلها في رجل واحد؛ فكان في وسعك أن تجد في مكان واحد فناناً يصمم بناء كنيسة أو قصر، وآخر يحفر أو يصب تمثالا، وثالثا يخطط صورة أو يرسمها بالألوان، ورابعاً يقطع جوهرة أو يرصع بها، وآخر يحضر أو يطعم العاج أو الخشب، أو يصهر المعدن أو يطرقه، أو يصنع الأعلام لموكب في عيد؛ وكان في وسع رجل مثل فيروتشيو، أو ليوناردو، أو ميكل أنجيلو، أن يقوم بهذه الأعمال كلها. وكانت فلورنس تضم كثيراً من هذه المدارس، وكان طلاب الفن يسيرون في الشوارع في غير احتشام (27)، أو يعيشون عيشة بوهيمية يسكنون في الطوابق السفلى المستأجرة، أو يصبحون أثرياء يجلهم البابوات والأمراء كأنهم أرواح ملهمة لا تقدر بثمن، ويعلون على القانون-كما كان شأن تشيليني. وكانت فلورنس تجل الفن والفنانين ;أأكثر أكأكثر مما تجلهما مدينة أخرى عدا أثينة وحدها، وتتحدث عنهم وتقتتل من أجلهم، وتروي عنهم القصص (28) كما نروي نحن قصص الممثلين والممثلات. وكانت فلورنس في عهد النهضة هي التي أوجدت الفكرة الوجدانية للعبقرية-أي للرجل الملهم بروح قدسية مستكنة فيه.
وخليق بالذكر أن مدرس فيروتشيو لم يترك وراءه مثًّالا عظيما عدا ليوناردو (الذي لم يكن مثالا خالصا بل جمع إلى عظمته في فن النحت(18/241)
عظمة أخرى في غيره من الفنون) يستطيع أن يواصل العمل الممتاز الذي بلغه هذا الأستاذ؛ ولكنه علم رسامين نابغين- هما ليوناردو وبروجينو- وآخر أقل منهما كغاية وإن كان ايضاً من ذوي الكفايات الملحوظة، ونعني به لورندسو دي كريدي Lorenzo di Credi. وكان سبب ذلك أن الرسم أخذ يحل تدريجاً محل النحت بوصفه الفن المحبب إلى قلوب الناس؛ وأكبر ظننا أنه قد كان من الخير أن الرسامين لم يفيدوا من الرسوم الجدارية القديمة المفقودة، ولم يخضعوا لها ويتقيدوا بها. لقد كانوا يعرفون أن قد وجد من قبل رجال مثل أبليز Apelles وبروتجنيز Protogenes، ولكن قل منهم من شاهد بقايا الرسوم القديمة في الإسكندرية أو بمبي؛ لهذا لم يكن ثمة إحياء للقديم في هذا الفن، وكان الاتصال بين العصور الوسطى والنهضة في هذه الناحية واضحاً لا خفاء فيه: فقد كان خط السير من الرسامين البيزنطيين لدوتشيو Duccio ثم إلى جيتو فالراهب أنجلكو فليوناردو، فرفائيل فتيشيان، نقول إن هذا الخط كان منحرفاً معوجا، ولكنه كان واضحاً لا خفاء فيه؛ ومن أجل هذا كان على الرسامين، أن يضعوا بتجاربهم وأخطائهم قواعد فنهم وطرازه، ولم يكن هذا شأن المثالين. لقد فرض عليهم الابتكار وفرضت عليهم التجارب فرضا، فكانوا يكدحون لإظهار دقائق تشريح الإنسان، والحيوان، والنبات؛ وجربوا أنواعاً من التوليف الدائري، والمثلثي وغيرهما من الأشكال؛ وكشفوا عن حيل المنظور، وخداع التظليل لكي يعطوا لخلفيات الصور أعماقاً؛ ولاشكالهم أجساماً؛ وكانوا يجوبون الشوارع بحثاً عن الرسل والعذارى، ورسموا من نماذج عارية أو مكسوة، وانتقلوا من التصوير على الجص إلى التصوير الزلالي، ثم انتقلوا مرة أخرى من هذا إلى ذاك، واستخدموا القواعد الجديدة للرسم بالزيت التي جاء بها إلى شمالي إيطاليا روجيير فان درفيدن Rogier van der Weyden وأنطونيو دا ميسينا Aonio da Messina، وكانوا كلما ازدادوا مهارة وشجاعة، وكثر عدد مناصريهم(18/242)
من غير رجال الدين، أضافوا إلى الموضوعات الدينية القديمة قصصاً من الأساطير اليونانية والرومانية، وأنماطاً من التمجيد الوثني للجسم؛ وجاءوا بالطبيعة إلى مَرْسَمِهم، واندمجوا هم في الطبيعة، فلم يكن شئ في بني الإنسان أو في الطبيعة يبدو في نظرهم غريباً على الفن، ولم يكن ثمة وجه مهما بلغ من القبح لا يستطيع الفن أن يكشف عما فيه من معنى خفي وضاء. لقد كانوا يسجلون العالم؛ ولما أن جعلت الحرب والسياسة إيطاليا سجنا ويبابا، ترك الرسامون وراءهم خطوط النهضة وألوانها وحياتها وعواطفها الجائشة، وأخذ الرجال الموهوبون الذين كونتهم هذه الدراسات والذين ورثوا تقاليد مطردة الثراء من الأساليب، والمواد، والأفكار-أخذ هؤلاء الرجال يرسمون خيرا مما كان يرسمه العباقرة منذ قرن من الزمان. ويقول فاساري في لحظة من لحظات فظاظته إن بينتسو جتسولي Benozzo Gozzoli« لم يكن من الأفذاذ الممتازين ... ولكنه بز كل من في مثل سنه بمثابرته، لأن بين أعماله الجمة عدداً منها لا يسع الإنسان إلا أن يقول إنها طيبة» (29). وقد بدأ الرجل حياته الفنية تلميذاً من تلاميذ الراهب أنجلكو، وتبعه إلى روما وأرفيتو ليكون مساعداً له في عمله. ثم استدعاه بيرو المريض بالنقرس إلى فلورن، وطلب إليه أن يصور على جدران المعبد في قصر آل ميديتشي رحلة المجوس من الشرق إلى بيت لحم. وهذه الصور هي أروع آيات بينتسو التي صورها في الجص، وهي تتكون من موكب فخم ولكنه موكب حي من الملوك والفرسان في ثياب فخمة، ومن الأتباع والخدم، والملائكة، والصائدين، والعلماء، والأرقاء، والخيل، والفهود، والكلاب، ومن نحو ستة من آل ميديتشي - ومن بينتسو نفسه، وقد أدخل بحيلة ماكرة إلى هذا الاستعراض؛ ومن وراء كل هذا في الصورة خلفيات ومناظر طبيعية جميلة تثير الدهشة. وامتلأ قلب بينتسو وهوا بهذا الظفر العظيم فسافر إلى سان جمنيانو San Gimignano وزين مكان المرنمين في سانت أجستينو Sant' Agstino بسبعة عشر منظراً(18/243)
مستمدة من حياة القديس شفيعها. وظل بعدئذ سبعة عشر عاماً يكدح في كمبو سانتو Campo Santo في بيزا يغطي مساحات كبيرة من جدرانها بواحد وعشرين منظراً من أسفار العهد القديم تبدأ من آدم إلى عهد النهضة. وكانت العجلة التي اتسمت بها أعمال بينتسو سبباً في الحط بعض الشيء من جودة اعماله، فقد كان قليل العناية برسومه، وجعل كثيراً من صوره علة وتيرة واحدة باعثة على السآمة، وحشد فيها طائفة جمة مربكة من الاشخاص والتفاصيل؛ ولكنها كان يسري فيها دم الحياة وبهجتها، وكان يحب ما فيها من مناظر قوية ومن تمجيد العظماء؛ وإنما في ألوانه من روعة، وفي خصب إنتاجه من حماسة ليكاد ينسينا ما في خطوطه من نقص وعيوب.
وانتقل ما كان للراهب أنجلكو من أثر حميد إلى بلدوفينتي Alesso Baldovenetti وإلى كوزيمو روسيلي Cosimo Roselli ثم انتقل عن طريق إلسو إلى رسام من كبار الرسامين في عهد النهضة الا وهو دمنيكو جرلندايو Domenico Gherlandaio. وكان والد دمنيكو صائغاً أطلق عليه من قبيل التهكم لقب جرلندايو أخذاً من الأكاليل المصنوعة من الذهب والفضة التي صاغها للرؤوس اللطيفة في فلورنس. ودرس دمنيكو على هذا الأب وعلى بلدوفينتي، وأظهر في دراسته كثيراً من الغيرة والحماسة، وكن يقضي الساعات الطوال يتأمل مظلمات مساتشيو Massaccio في الكرميني Carmime وتعلم بعد مران طويل، لم يعرف فيه الكلل سبيلاً إلى نفسه، فنون المنظور، وتمثيل الاشكال البارزة أمام الناظر بحيث يتمثل فيها هذا البروز، وعمل النماذج، وتأليف الأجزاء، و «كان يرسم كل إنسان يمر أمام مشغله» كما يقول فاساري «بحيث تبدو صورته مشابهة شبهاً قوياً عجيباً لشخصه بعد نظرة خاطفة سريعة يلقيها عليه. ولم يكد يبلغ الحادية والعشرين من عمره حتى عهد إليه أن يصور قصة سانتا فينا(18/244)
Santa Fina في معبدها بكتدرائية سان جمنيانو. ولما بلغ الحادية والثلاثين (1480) فاز بلقب أستاذ بفضل أربعة مظلمات صورها في كنيسة آل انيسانتو The Ognissanti ومعظمها في فلورنس - وتمثل هذه المظلمات القديس جيروم، والنزول عن الصليب، ومادنا مزر كورديا Madonna della Misericoxdia ( وتشمل هذه صورة مهديها أمريجو فسبيوتشي Amerigo Vespucchi) والعشاء الاخير وهي الصورة التي استمد منها ليوناردو بعض الإيحاء.
واستدعاه سكتس الرابع إلى روما فصور له في معبد سستيني Sistine المسيح ينادي بطرس وأندرو من خيمتهما وهي الصورة التي تكتسب جمالها بنوع خاص من خلفيتها المكونة من الجبال، والبحر، والسماء. وكان في أثناء إقامته هذه في روما يدرس ويرسم العقود والحمامات، والعمد، ومجاري المياه العذبة، والمدرجات الموجودة في المدينة القديمة، وكان يدرسها ويرسمها بعين اليقظ المدرب، فكان في وسعه أن يقدر بلا مسطرة أو فرجار نسب كل الاجزاء كلها بمنتهى الدقة. وعهد تاجر من أهل فلورنس مقيم في روما يدعى فرانتشسكو تورنبيوتي Francesco Tornabuoni توفيت زوجته إلى جرلندايو ان يرسم مظلمات يخلد بها ذكراها في سانتاماريا تعلو على صورة منيرفا، ونجح دمنيكو فيما عهد إليه نجاحاً حمل تورنبوني على أن يعيده إلى روما مزوداً بالمال وبخطاب يشهد بمهارته. وسرعان ما عهد غليه مجلس السيادة في فلورنس بزخرفة صالا دل أورولجيو (بهوا اورولجيو) Sala del Orologio في قصره. وأخذ في السنين الاربع التالية (1481 - 1485) يصور في مصلى ساستي Sassetti في سانتا ترنتا مناظر مستمدة من حياة القديس فرانسس، وقد استعان في هذه المظلمات بكل ما وصل إليه فن الرسم من تقدم ما عدا استخدام الزيت: فقد حوى تناسق التأليف، ودقة الخطوط، وتدرج الضوء، والامانة في مراعاة فن المنظور،(18/245)
والواقعية في التصوير (تصوير لورندسو، ويوليتيان، بلتشي، وبلا، واسترتسي، وفرانتشسكو ساستي)، وراعى في الوقت نفسه التقاليد الأنجليه في المثالية والتقى؛ وليس بين صورة صلوات الرعاة التي ترى خلف المحراب والتي تقرب من الكمال وبين صور ليورناردو وروفائيل إلا خطوة واحدة في الخيال الأكثر عمقاً والرشاقة الأكثر دقة.
وعرض جيوفني ترنبيوني رئيس مصرف آل ميديتشي بروما على جرلندايو في عام 1485 1200 دوقة (30 ألف دولار امريكي) نظير طلاء معبد في كنيسة سانتا ماريا نوفلا، ووعده بمائتي دوقة اخرى إذا حاز عمله رضاه التام. واستعان جرلندايو بعدد من تلاميذه من بينهم ميكل أنجيلو وقضى الجزء الأكبر من الخمس السنين التالية في هذا العمل العظيم من اعمال حياته. وقد رسم في السقف صورة المبشرين الاربعة بالإنجيل، كما صور على الجدران القديس فرانسيس، وبطرس الشهيد، ويوحنا المعمدان ومشاهد من حياة مريم والمسيح مبتدئة من البشارة إلى تتويج العذراء الفخمة. وهنا ايضاً وجد لذة كبيرة في تصوير المعاصرين: لودوفيكا تورنبيوني ذات الجلال الخليقة بأن تكون ملكة وجنفرا ده بنتشي Ginevra di Benci الوقحة الحسناء، وفيتشينو، ويولتيان، ولندينو العلماء وبلدوفنتي، وميناردي Mainardi وجرلندايو نفسه من رجال التصوير. ولما فتح المعبد للجمهور في عام 1490 هرع إليه جميع العظماء ورجال الأدب في فلورنس ليفحصوا هذه الرسوم؛ وأصبحت الصورة الواقعية التي شاهدوها حديث المدينة كلها، واعلن تورنبيوني رضاءه التام عنه. غير انه كان في أزمة مالية وقتئذ، فرجا دمنيكو أن ينزل له عن المائتي دوقة الإضافية، فرد عليه الفنان قائلاً إن رضاء نصيره أعز عنده من الذهب مهما عظم.
وكان دمنيكو محبباً إلى القلوب، وقد بلغ من حب إخوانه إياه أن(18/246)
واحد منهم هو دافد كاد يذبح رئيس دير برغيف جاف قديم لأنه جاء إلى دمنيكو ومساعديه في مرسمه بطعام رآه دافد غير لائق بعبقرية أخيه. وكان جرلندايو يفتح مرسمه لكل من يعني بالعمل أو الدرس فيه، واتخذ منه مدرسة للفن حقة. وكان يقبل جميع ما يكلف به من الأعمال الفنية كبيرة كانت أو صغيرة، ويقول فذ ذلك إنه يجب ألا يحرم أحداً من رغبته، وقد ترك العناية بشئون بيته وبماله إلى دافد، وقال إنه لا يكفيه إلا أن يملأ بالصور جميع جدران فلرونس. وقد أخرج كثيراً من الصور التي لا ترق إلى ما فوق الدرجة الوسطى، ولكنه أخرج أحياناً بعض الصور الرائعة التي تأسر القلوب وتخلب الألباب، كصورة الجد ذي الأنف البصلي وهي الصورة الخلابة المحفوظة في متحف اللوفر، والصورة الأخرى الجميلة صورة المرأة إحدى صور مجموعة مورجان في نيويورك، وهما صورتان تكشفان عن الصفات الخلقية التي ترتسم عاماً بعد عام على وجه الإنسان. غير أن عظماء النقاد الذين يضعهم علمهم وتضعهم سمعتهم فوق الشبهات لا ينزلونه إلا منزلة دنيا (30)، وفي الحق أنه برع في الخطوط لا في الألوان، وأنه كان يسرع في التصوير أكثر مما يجب، وأنه زحم صوره بالتفاصيل التي لا علاقة لها بتلك الصور، ولعله خطا خطوة إلى الوراء في تفضيل الذهان الزلالي بعد أن قاوم بلدوفنتي بتجاربه في الرسم بالزيت. غير أنه مع هذا سما بما تجمع من أصول فنه إلى الذروة التي استطاع أن يصل إليها في بلده وفي القرن الذي يعيش فيه، وترك لفلورنس وللعالم كنوزاً يحنى النقاد هاماتهم من أجلها شكراً له واعترافاً بفضله.
2 - بتيتشيلي
ولم يعل عليه في عبقريته من أهل فلورنس في جيله إلا رجل واحد، ذلك هو سندرو بتيتشيلي Sandro Botticelli الذي كان يختلف عن جرلندايو كما يختلف الخيال الأثيري عن الحقائق المجسدة. وقد عجز مريانا فلبيي(18/247)
Mariana Filipepe والد ألسندريو عن أن يقنع ولده أن حياته تكون مستحيلة إذا لم يعرف القراءة والكتابة والحساب، فاضطر أن يعهد به إلى صائغ ليتدرب عنده على صناعته، وكان هذا الصائغ يسمى بتيتشيلي، ولصق هذا الاسم بسندرو نفسه، إما بسبب حب التلميذ معلمه أو بسبب نزوة من نزوات التاريخ. وانتقل الغلام في السادسة عشرة من عمره من حانوت الصائغ إلى الراهب فلبو لبي Filippo Lippi الذي أحب هذا العالم القلق الوثاب. وصور فلبينو تلميذ فلبو فيما بعد سندور هذا في صورة شخص متبرم نكد، ذي عينين غائرتين، وأنف بارز، وفم لحيم شهواني، وغدائر مسترسلة، وقلنسوة أرجوانية، وميدعة حمراء، وجورب أخضر (31). ترى من ذا الذي كان يستطيع أن يظن أن هذا هو شكل الرجل إذا ما شاهد الصور الخيالية الرقيقة التي خلفها بتيتشيلي في المتاحف؟ ولعل كان فنان لا بد أن يكون شهوانياً قبل أن يستطيع بلوغ المثل الأعلى في التصوير، أي أنه لا بد أن يعرف الجسم، ويحبه، ويرى أنه المصور النهائي لحاسة الجمال، والمقياس الذي يقاس به سمو هذه الحاسة. ويصف فاساري سندرو بأنه "شخص مرح" يدبر الحيل لزملائه الفنانين وبلداء الذهن من المواطنين؛ وما من شك في أنه قد جمع في شخصه كثيراً من الرجال، شأنه في ذلك شأننا جميعاً، وأنه كان يتقمص هذه الشخصية أو تلك حسبما تتطلبه الظروف، أما نفسه الحقيقية فقد استبقاها سراً رهيباً خافية عن العالم.
وأنشأ بتيتشيلي مرسمه الخاص حوالي عام 1465، وسرعان ما عهد إليه آل ميديتشي ببعض الأعمال؛ ويلوح أن لكريدسيا ترنبيوني أم لورندسو هي التي كلفته بتصوير يوديث Judith؛ ورسم بعدئذ لزوجها بيروجتسو Piero Gottosso صورة مادونا ذات التسبيحات Madonna of the Magnificat ورسم كذلك ترنيمات عبادة المجوس بالألوان لثلاثة أجيال من آل ميديتشي، ورسم بتيتشيلي في صورة مادونا لورندسو وجوليانو كأنهما غلامان أولهما في(18/248)
السادسة عشرة من عمره والثاني في الثانية عشرة يمسكان كتاباً تسطر فيه العذراء أغنيتها التسبيحية الذائعة الصيت- وقد استعار هذه الفكرة من الراهب لبو. وفي الصورة الثانية عبادة المجوس نرى كوزيمو راكعاً عند قدمي مريم، وبيرو راكعاً أمامهما في مستوى أوطأ، ولورندسو - وقد بلغ الآن السابعة عشرة ممسكاً بسيف رمزاً إلى أنه قد بلغ وقتئذ السن التي يجيز فيها القانون أن يقتل. وسار لورندسو وجوليانو على سنة بيرو فظلاّ يرعيان بتيتشيلي ويناظرانه، وأجمل صوره هما صورة جوليانو، وصورة محبوبته سيمونيتا فسبيوتشي Simonetta Vespucci. على أنه لم ينقطع عن رسم الصور الدينية كصورة القديس أوغسطين القوية في كنيسة آل أنيسنتي، ولكنه أخذ يتجه تدريجاً في هذه الفترة - ولعله في ذلك كان متأثراً بنفوذ دائرة آل ميديتشي- نحو موضوعات وثنية، مستمدة في العادة من الأساطير القديمة، وبفضل الأجسام العارية؛ وشاهد ذلك ما يقول فاساري من أن "بتيتشيلي صور في كثير من البيوت ... عدداً كبيراً من النساء العاريات"، ويتهمه "بالانحرافات الخطيرة في معيشته" (32)، ذلك أن الكتاب الإنسانيين، والأرواح الحيوانية كانوا قد جذبوا سندرو إلى حين نحو الفلسفة الأبيقورية. ويبدو أن لورندسو وجوليانو هما اللذان رسم لهما صورة مولد فينوس (1480). وتبدو في هذه الصورة فتاة عارية تتظاهر بالاحتشام تخرج من محارة ذهبية في البحر، ولا تجد في متناول يدها غير غدائرها الطويلة الشقراء تستخدمها استخدام ورقة التين؛ وترى عن يمينها هبات النسيم المجنحة تدفعها نحو ساحل الأرض، وعن يسارها فتاة جميلة (لعلها سيمونتا) ترتدي جلباباً أبيض منقوشة عليه الأزهار، تقدم للآلهة ميدعة تزيدها جمالا على جمالها. والصورة آية في الرقة والتصميم؛ والتأليف فيها هو كل شئ، واللون في منزلة ثانوي، والواقعية متغاضى عنها، وكل شئ فيها موجه(18/249)
نحو استثارة الخيال الأثيري عن طريق ائتلاف الخطوط المنساب المتدفق. وقد استمد بتيتشيلي فكرته من فقرة في قصيدة بوليتيان لاجيو سترا La Giostra؛ واستمد بعد ذلك من وصف هذا الكاتب في القصيدة نفسها انتصارات جوليانوا في المثاقفة والحب موضوع في صورته الوثنية الثانية المريخ والزهرة وترى الزهرة (فينوس) في هذه مكسوة غير عارية، وقد تكون في هذه المرة أيضاً هي سيمونتا؛ ويرى المريخ منهوكا ونائماً، وليس هو المحارب الفظ بل هو شاب ذو جسم لا عيب فيه، قد يخطئه المرء فيحسبه أفرديتي أخرى. وعبر بتيتشيلي أخيراً في صورة الربيع (بريمافيرا Primavera) عن طبيعة ترنيمة لورندسو لباخوس Bacchus (" من شاء أن يكون سعيداً فليسعد"): ففيها تعود القابلة للظهور ساعة المولد بردائها المسبل وقدميها اللطيفتين؛ ويرى إلى اليسار جوليانو (؟) يقتطف تفاحة من شجرة ليقدمها إلى واحدة من ربات الجمال الواقفات إلى جانبه نصف عاريات. وإلى اليسار رجل شبق يمسك بفتاة تكتسي غلالة من الضباب؛ وتشرف سيمونتا في تواضع على المنظر كله، ومن فوقها كيوبد في الهوا يرسل سهامه التي لم تعد تقع. وترمز هذه الصور الثلاث إلى أشياء كثيرة، لأن بتيتشيلي كان مولعاً بالرمزية، ولكنها كانت تمثل-وقد يكون ذلك على غير علم منه-انتصار الإنسانيين في الفن؛ وقضت الكنيسة من ذلك الحين نصف قرن (1480 - 1534) تكافح لاستعادة سيطرتها على موضوعات التصوير. وكأنما أراد سكستس أن يكافح في هذا الأمر كفاح الأشراف، فدعا بتيتشيلي إلى روما (1481)، وعهد إليه أن يصور ثلاثة مظلمات في معبد ستيني. ولم تكن هذه المظلمات من خير آياته الفنية، لأن مزاجه وقتئذ كان بعيداً عن التقي والصلاح؛ ولكنه لما عاد إلى فلورنس (1485) وجد المدينة على بكرة أبيها تضطرب بعظات سفنرولا، وذهب هو ليستمع(18/250)
إليها، واحدثت فيه أثراً عميقاً. ذلك لأنه كان على الدوام يضم جوانحه على شئ من الجلد والصرامة، وكان قد فقد ما عسى أن يكون قد أخذه من التشكك عن لورندسو، وبلتشي، وبوليتيان في الأعمال الخفية من إيمان شبابه، فلما سمع هذا الخطيب الملتهب حماسة يعظ في كنيسة سان ماركو (القديس مرقس) بعث فيه وفي فلورنس كلها ما ينطوي عليه هذا الإيمان من تبعات رهيبة جسام: فالله قد قبل لنفسه أن يهان، ويجلد، ويصلب لينقذ البشرية من خطيئة آدم وحواء؛ ولا شئ غير حياة الفضيلة والتوبة الصادقة يمكن أن تستدر بعض الرحمة من تلك التضحية التي قدمها الله، وبذلك ينجو المرء من عذاب الجحيم الأبدي. وحوالي هذا الوقت وضح بتيتشيلي بالرسم مناظر المسلاة الإلهية لدانتي، فقد وجه فنه من جديد لخدمة الدين، وأخذ يقص مرة أخرى تلك القصة الرائعة قصة مريم والمسيح، فرسم لكنيسة القديس برنابا مجموعة رائعة تصور العذراء على عرشها ويحف بها عدد من القديسين؛ وهي في هذه المجموعة لا تزال العذراء الرقيقة الجميلة التي صورها في مرسم الراهب لبو. ثم رسم بعد قليل من ذلك الوقت سيدة الرمان The Madonna of the Pomegrante وهي تمثل العذراء يحيط بها الملائكة المنشدون، والمسيح الطفل يمسك بيده الفاكهة التي ترمز بذورها الكثيرة إلى انتشار الدين المسيحي. وأعاد في عام 1490 ملحمة أم المسيح في صورتني هما صورتا البشارة والتتويج، ولكنه كان وقتئذ قد عمر طويلا وفقد ما كان لفنه من جدة ووضوح وظرف.
وحدث في عام 1498 أن شنق سفنرولا وأحرق، وارتاع بتيتشيلي من هذا الاغتيال الذي لا يماثله اغتيال آخر في عصر النهضة، ولعله قد صور بعد قليل من حدوث تلك المأساة صورته الرمزية المعقدة وهي صورة البهتان Calumny. وتُرى في هذه الصورة خلفية من طريق ذي عقود من الطراز القديم، وبحر بعيد، وثلاث نساء يمثلن الزور، والخداع،(18/251)
والبهتان- يقودهن رجل رث ممزق الثياب (الحسد)، يسحبن ضحية عارية من شعرها إلى محكمة يجلس فيها قاض ركبت في رأسه أذنا حمار طويلتان، تقدم له النصح امرأتان تمثلان الريبة والجهل، ويتأهب للانصياع إلى غضب الجمهور المتعطش لسفك الدماء، فيحكم بإعدام الرجل الآثم. وإلى اليسار يُرى الندم متشحا بالسواد وينظر في أسى وحسرة إلى الحقيقة العارية-وهي هنا فينوس بتيتشيلي مرة أخرى مكتسية بشعرها المتلوي نفسه. ترى هل قصد بالضحية أن تمثل سفنرولا؟ ربما كان ذلك، وإن كانت النساء العرايا يروعن الراهب لو أنه رآهن.
وكان آخر آيات بتيتشلي الفنية هي صورة الميلاد المحفوظة بالمعرض الأهلي بلندن، وهي صورة مضطربة ولكنها جميلة الألوان، تظهر مرة أخرى ما طبع عليه من رشاقة منسقة مؤتلفة. ويبدو كل شئ في هذه الصورة وكأنه يستنشق السعادة السماوية، فتعود فيها سيدات الربيع في صورة ملائكة ذات أجنحة ترحب بهذا الميلاد المعجز المنقذ، ويرقصن على فنن معلق في الفضاء معرضات أنفسهن للخطر. ولكن بتيتشلي كتب على الصورة باللغة اليونانية هذه العبارة التي تشتم منها رائحة سفنرولا وتعيد في أوج النهضة ذكرى العصور الوسطى.
"رسمت، أنا ألسندرو، هذه الصورة في آخر عام 1500 وقت اضطراب إيطاليا .. حين وقعت الأحداث التي وردت في (الإصحاح) الحادي عشر من إنجيل يوحنا، في الجزء الثاني من أجزاء الرؤيا، حين انطلق الشيطان ثلاث سنين ونصف سنة. وسوف يصفد فيما بعد، كما ورد في (الإصحاح) الثاني عشر من إنجيل يوحنا، وسنراه يداس بالأقدام في هذه الصورة".
وليس لدينا شئ من تصويره بعد عام 1500، ولم يكن وقتئذ قد تجاوز السادسة والخمسين، ولعله كان لا يزال فيه شئ من القدرة الفنية،(18/252)
ولكنه اخلى مكانه ليوناردو وميكل أنجلو، وانزوى في ظلمات الفقر النَّكِد. وقد أعانه آل ميديتشي، الذين كانوا عماده من قبل، ببعض الصدقات، ولكنهم هم أنفسهم كانوا قد ذهبت ريحهم؛ ومات الرجل وحيداً، ضعيفاً، في السادسة والستين من عمره، بينما كان العالم السريع النسيان يجري في مجراه المعتاد.
وكان من بين تلاميذه فلبينولي أبن معلمه. وكان "ابن العشق هذا" (1) محبوباً من كل من عرفه: فقد كان رجلا ظريفاً، دمث الأخلاق، متواضعاً، مجاملاً مؤدباً. بلغت "صفاته الممتازة درجة محت وصمة مولده، إذا كان في مولده وصمة" كما يقول فاساري. وقد تعلم على أبيه وعلى ساندرو فن التصوير بسرعة بلغ منها أن أخرج وهو في الثالثة والعشرين رؤيا القديس برنار The Vision of St. Bernard وهي صورة "لا ينقصها إلا النطق" كما يصفها فاساري. ولما قرر رهبان الكرمل أن يكملوا المظلمات التي بدئ بها قبل ستين عاماً من ذلك الوقت في معبد برانكاتشي Brancacci، عهدوا بهذه المهمة إلى فلبينو هو لا يزال في سن السابعة والعشرين. ولم تبلغ النتيجة المستوى الذي بلغته ماساتشيو Massaccio ولكن فلبينو أبرز في صورة القديس بولس يخاطب القديس بطرس في السجن شخصية ذات مهابة بسيطة وقوة هادئة لا تنسى على مر الدهور.
واستدعاه الكردنال كارفا Caraffa في عام 1489 إلى روما بإيحاء من لورندسو ليزخرف كنيسة سانتا ماريا بمناظر من حياة القديس تومس الأكويني (أكوناس). وابرز الفنان في المظلم الرئيسي هذا الفيلسوف في نشو الظفر، وتحت قدميه أريوس، وابن رشد، وغيرهما من "غير المؤمنين". ولعله وهو يرسم تلك الصورة قد استعاد في خياله صورة مماثلة
_________
(1) بذل كرو Crowe وكفل كاسلي Cavealcaselle جهدا كبيرا في أن يثبتا أن فلبيني ابن شرعي، ولكن حججهما لا تتمخض إلا عن أمنية شريفة.(18/253)
لها من عمل أندريا دا فريندسا Andrea da Firenza، هذا بينما كانت آراء ابن رشد أثناء هذا تتغلب على العقائد الدينية المسيحية في جامعتي بولونيا، وبدوا. ثم عاد فلبينو بعدئذ إلى فلورنس، وسجل في معبد فلبو استرتسي في كنيسة سانتا ماريا نوفلا سيرة الرسولين فليب ويوحنا في مظلمات بلغ من واقعيتها أن حاول غلام، كما تقول القصص، أن يخبئ كنزا سرياً في ثقب مثله فلبينو في صورة جدار. ثم انقطع عن عمله في هذه المجموعة إلى حين، وحل محل ليوناردو المرجئ المسوف في عمله، فصور ستار محراب لرهبان اسكوبيتو Scopeto؛ واختار للزخرفة الموضوع القديم موضوع المجوس يعبدون الطفل، ولكنه بعث فيها الحياة بتصوير المغاربة، والهنود، وكثيرين من آل ميديتشي؛ ومن آل ميديتشي هؤلاء رجل يعمل منجما وبيديه آلة "الربع". وتعد صورة هذا المنجم من أعظم الصور الإنسانية وأكثرها فكاهة في عصر النهضة. ودعي فلبينو آخر الأمر (1498) إلى براتو Prato ليرسم صورة للعذراء، وكأنما أراد الداعون بهذا أن يقولوا إن خطايا أبيه قد غفرت. وأثنى فاساري على هذه الصورة، ولكن الحرب العالمية الثانية أتلفتها. وعمد وهو في سن الأربعين إلى حياة الاستقرار وتزوج، وعلاف بضع سنوات قليلة مسرات الأبوة ومضايقاتها. ووافته المنية فجأة في السابعة والأربعين من عمره على اثر مرض بسيط هو التهاب اللوزتين والحلق؛ وكان ذلك في عام 1505.(18/254)
الفصل السابع
وفاة لورندسو
لم يكن لورندسو نفسه من أفراد تلك القلة التي بلغت في تلك القرون سن الشيخوخة، وقد كان كأبيه يعاني آلام الرِّثية والنقرس مع اضطراب في المعدة كثيراً ما كان يسبب له آلاماً مبرحة توهنه وتهد قواه. وقد جرب كثيراً من وسائل العلاج، فلم يجد خيراً مما كان يتيحه الاستحمام بالمياه المعدنية من تخفيف لآلامه لم يكن يلبث أن يزول؛ ولقد أدرك قبل وفاته بوقت ما أنه هو الذي كان يبشر بإنجيل المرح والبهجة لن يطول به العمر. وتوفيت زوجته في عام 1488 وحزن على فقدها حزناً صادقاً وشعر بما فقده من معونتها وإن لم يكن في أثناء حياتها وقيالها. وكانت قد ولدت له أبناء كثيرين بقي منهم سبعة بعد وفاتها. وكان يعنى على الدوام بالإشراف على تعليمهم وتربيتهم، وبذل ما في وسعه في السنين الأخيرة من حياته كي يهديهم إلى زيجات تعود بالسعادة على فلورنس وعليهم هم أيضاً. فخطب لبيرو أكبر أولاده فتاة أورسينية ليكسب بذلك أصدقاء له في روما، وتزوج جوليانو أصغرهم إحدى أخوات دوق سافوي، وخلع عليه فرانسس الأول لقب دوق نمور Nemours، وأعانه ذلك على أن ينشئ جسراً بين الكنيسة، وقبل الشاب هذا قبولاً حسناً، وسر الناس جميعاً بجمال طبعه، بأن يخرج على كل السوابق فيرسمه كردنالا وهو في سن الرابعة عشرة، وخضع البابا لرأيه لنفس الأسباب التي خضعت من أجلها معظم الزيجات الملكية وهي ربط حكومة بأخرى برباط الود الناشئ من صلات الدم.(18/255)
وتنحى لورندسو عن الاشتراك الفعلي في حكم فلورنس، وأخذ يعهد بقسط متزايد من أعماله العامة والخاصة لابنه بيرو، وطلب الراحة لنفسه في هدوء الريف وحديث الأصدقاء؛ ودافع عن مسلكه هذا برسالة تفصح عن طبيعته المميزة له قال فيها:
وهل شئ أحب لذي العقل المنظم من الاستمتاع بالفراغ مع الكرامة؟ إن هذا هو الذي يرغب في الحصول عليه كل الخيرين من الرجال، ولكنه لا يناله إلا العظام منهم. نعم إننا ونحن في خضم الشئون العامة قد يتاح لنا أن نتطلع إلى يوم نستريح فيه من عناء العمل؛ ولكن الراحة أيا كانت يجب ألا تحول بيننا حيلولة تامة عن العناية بما يهم بلدنا. ولست بمستطاع أن أنكر أن الطريق الذي قدر على أن اسلكه كان طريقاً مجهداً وعراً، مليئاً بالأخطار، محوطاً بالغدر من كل جانب؛ ولكنني يعزيني عن هذا أنني قد اسهمت في العمل على رفاهية بلدي، الذي يضارع الآن في رخائه أية دولة أخرى مهما بلغ ازدهارها. كذلك لم أهمل قط مصالح أسرتي والعمل على تقدمها، فقد وضعت نصب عيني على الدوام أن أحذو حذو جدي كوزيمو الذي كان يشرف على شئونه العامة والخاصة بيقظة لا تقل في هذه عنها في تلك. وإذا كنت قد وصلت الآن إلى الهدف الذي كنت أعمل واعنى به، فإني أعتقد أن من حقي أن استمتع بلذة الراحة، وأنال نصيبي من حسن سمعة مواطني، وأعتز بالمجد الذي ناله وطني.
ولكنه لم يتح له إلا قليل من الوقت للاستمتاع بالهدوء الذي لم يعتده؛ ذلك أنه لم يكد ينتقل إلى قصره الريفي في كزيجي Careggi (21 مارس سنة 1492) حتى اشتدت عليه آلام المعدة اشتداداً مروعاً. واستدعى الأخصائيون من الأطباء، فسقوه مزيجاً من الجواهر فساءت حاله على الفور، واستسلم للموت. وقد أفصح لبيرو وبوليتيان قبل وفاته عن حزنه لأنه لم يطل أجله حتى يتم مجموعة المخطوطات ليستعينا بها ويفيدا منها(18/256)
الطلاب. ولما دنيت منيته بعث في طلب قسيس، وأصر وهو في آخر رمق أن يغادر سريره لكي يتلقى القربان المقدس وهو جاث على ركبتيه، وطافت بذاكرته في تلك اللحظة صورة ذلك الواعظ العنيد الذي ندد به ورماه بأنه قضى على الحريةـ، وأفسد الشباب، وتاقت نفسه لأن ينال عفو هذا الرجل قبل أن يموت. ولذلك بعث بصديق يرجو سفنرولا أن يحضر إليه ليستمع إلى اعترافه ويغفر له ذنوبه غفراناً أعظم قدراً مما ناله قبل .. وجاء سفنرولا وعرض عليه الغفران بثلاثة شروط، كما يقول بوليتيان: أن يؤمن لورندسو إيماناً صادقاً برحمة الله، وأن يعد بأن يستقيم في حياته إذا شفي من مرضه، وأن يلقى الموت صابرا. وقبل لورندسو هذه الشروط وغُفِر له، ويقول ج. ف. بيكو (وهو غير بيكو الكاتب الإنساني) أحد الأولين اللذين كتبوا سيرة شفنرولا إن الشرط الثالث كان أن يعد لورندسو «بأن يعيد الحرية إلى فلورنس»؛ وتقول القصة حسب رواية بيكو إن لورندسو لم يرد على هذا الطلب وإن الراهب تركه دون أن يغفر له (34). وتوفي لورندسو في اليوم التاسع من شهر إبريل من عام 1492 وهو في سن الثالثة والأربعين.
ولما ترامى نبأ احتضاره إلى فلورنس لم يبق في المدينة كلها تقريباً أحد إلا حزن عليه، وحتى خصوم لورندسو نفسه لم يعرفوا كيف يستطاع حفظ النظام الاجتماعي في فلورنس، أو السلم في إيطاليا، من غير يده الصناع الهادية (35). واعترفت أوربا بمقدرته الفائقة في شئون الحكم، وأدركت ما فيه من خصائص الوقت الذي كان يعيش فيه؛ فقد كان هو «رجل النهضة» في كل شيء سوى كرهه العنف. ولقد استطاع بفطنته في السياسة وهي الفطنة التي كسبها على مهل، وبلاغته في الجدل وهي البلاغة السهلة المقنعة رغم سهولتها، وصلابته وشجاعته في الإقدام والعمل، استطاع بهذه المزايا أن يجعل جميع أهل فلورنس إلا القليلين منهم، ينسون الحرية التي(18/257)
قضت عليها أسرته؛ ومن لم ينسوها من أهلها كانوا يدركون أنها هي حرية العشائر الغنية في أن تستخدم القوة والخداع في تنافسها على السيطرة الاستغلالية في «ديمقراطية» لا يستطيع الإدلاء بأصواتهم فيها إلا جزء من ثلاثين جزءاً من الأهلين. وكان لورندسو يستخدم سلطته في اعتدال، ويستخدمها لخير الدولة، وغن أدى ذلك إلى إهمال ثروته الخاصة. ولقد كان فاسد الخلق من الناحية الجنسية وضرب بذلك اسوأ الأمثلة لشباب فلورنس، لكنه ضرب أحسن الأمثلة في الأدب، وأعاد إلى اللغة الإيطالية مكانتها الأدبية الراقية، وكان ينافس محاسبيه في قرض الشعر؛ ويناصر الفنون بذوق راق نقاد ووضع بذلك مستوى له تسعى أوربا لبلوغه؛ وإذا ما عُدَّ المستبدون كان هو خيرهم وأرقهم أخلاقاً، وقد قال عنه فرديناند ملك نابلي: (لقد طال أجل هذا الرجل حتى بلغ مجده؛ ولكنه لم يطل أجله بالقدر الذي تتطلبه إيطاليا) (36)؛ واضمحلت فلورنس من بعده ولم تذق إيطاليا طعم السلم بعد وفاته.(18/258)
الباب الخامس
سفنرولا والجمهورية
1492 - 1534
الفصل الأول
النبي
إن الذي يمتاز به الحكم الوراثي هو الاستمرار، أما نقمته فهي أنه يؤول إلى من لا يعلون على المستوى الأوسط من الحكام. ومصداق ذلك ان بيرو دي لورندسو Piero di Lorenzo خلف أباه في سلطانه دون عناء، ولكن سوء خلقه وخطأ أحكامه أفقداه حب الشعب وهو الحب الذي كان يقوم عليه حكم آل ميديتشي. فقد كان الرجل حاد الطبع سريع الغضب، متوسط الذكاء، مزعزع الإرادة، حسن النية إلى درجة تدعوا إلى الإعجاب، وقد جرى على سنة آل ميديتشي من السخاء على الفنانين ورجال الادب، ولكنه كان في ذلك أقل بصيرة وكياسة من أبيه. وكان قوي البنية، بارعاً في الرياضة، اشترك في المباريات الرياضية وظهر فيها أكثر مما ترى فلورنس أنه يليق برئيس دولة معرضة للأخطار. وكان من المحن الكثيرة التي لازمته أن مشروعات لورندسو واسرافه قد أفقروا خزانة المدينة، وأن منافسة المنسوجات البريطانية كانت تنشر الكساد الاقتصادي في فلورنس، وأن زوجة بيرو الارسينية كانت تشمخ بأنفها الروماني على الفلورنسيين وترميهم بأنهم أمة من أرباب الحوانيت، وأن الفرع الآخر من أسرة ميديتشي(18/259)
المنحدر من لورندسو "الأكبر" بدأ يتحدى أبناء كوزيمو واحفاده، وتزعم حزباً تولى المعارضة باسم الحرية. وكان شر ما منى به بيرو من تعاسة أنه كان معاصراً لشارل الثامن ملك فرنسا الذي غزا إيطاليا، ولا الذي كان يريد استبدال المسيح بالميديتشيين، ولم يكن بيرو قد خلق ليتحمل هذه الأعباء الثقال.
وانتقلت أسرة سفنرولا من بدوا إلى فرارا حوالي عام 1440 وذلك حين دعا نقولو الثالث د، ست Nicolo III d'Este ميشيل سفنرولا ليكون طبيب بلاطه. وكان ميشيل هذا رجلاً تقياً قل أن يوجد مثله في الاطباء، وكان كثيراً ما يلوم أهل فرارا لأنهم يفضلون القصص الغرامية على الدين (1). وكان ابنه نقولو متوسط القدرة في الطب، ولكن إلينا بوناكسي Elena Bonacossi زوجة نقولو كانت امرأة قوية الاخلاق ذات مثل عليا سامية، وكان جيرولاما ثالث أبنائهما السبعة، وأعداه هو أيضاً لدراسة الطب، ولكنه رأى أن تومس أكوناس أكثر إمتاعاً من التشريح، وأن انفراده بكتبه ألذ من عبث الشباب. وراعه ألا يجد في جامعة فيرونا طالباً "بلغ من الفقر درجة تحمله على أن يجل الفضيلة". وكتب يقول: "إذا شئت أن تكون رجلاً في هذا المكان، فعليك أن تلوث فمك بأقذر ألفاظ التجديف، واكثرها حيوانية، وأشدها فظاعة ... وإذا درست الفلسفة والفنون الطيبة كنت تقياً، فأنت منافق، وإذا آمنت بالله فأنت نغفل" (2). ولهذا ترك المدرسة وعاد إلى والدته وغلى العزلة، وأضحى رجلاً ذا وجدان سليم يشعر بنقائصه، وينغص عليه حياته تفكيره في الجحيم وفي خطايا بني الإنسان. وكانت أولى كتاباته المعروفة قصيدة يندد فيها برذائل إيطاليا وفيها البابوات أنفسهم، وينذر نفسه لإصلاح بلده وكنيسته. وكان يقضي الساعات الطوال في الصلاة والدعاء، وطال صيامه حتى حزن أبواه مما(18/260)
أصابه من هزال، وحدث في عام 1474 أن اشتدت تقواه عن ذي قبل بعد أن استمع إلى العظات التي كان يلقيها الراهب ميشيل Fra Michele أيام الصوم الكبير، وسره أن يرى كثيرين من أهل فرارا يأتون بأقنعتهم، وشعرهم المستعار، وأوراق اللعب، والصور البذيئة، وغيرها من متاع الدنيا ليلقوها على كومة حريق في ميدان السوق. وبعد عام من ذلك الوقت هرب خلسة من بيته، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ودخل ديراً للبندكتيين في بولونيا.
وكتب رسالة رقيقة إلى أبويه يرجوهما أن يغفرا له أنه خيب ما كانا يرجوان له من رقي في الشؤون الدنيوية؛ ولما أن ألحا عليه بالعودة رد عليهما مغضباً: "أيها الأعميان! لماذا تداومان على البكاء والأسى؟ إنكما تزعجاني وإن كان عليكما أن تبتهجا ... وليس لي ما أقوله إذا داومتما على هذا الحزن إلا أنكما ألد أعدائي وأعداء الفضيلة؟ فإن كان ذلك، قلت لكما: كونوا كلكم دوني، يا من ترتكبون الإثم" (3). وأقام في دي بولونيا ست سنين، وكان في خلالها يطالب في عزة وفخر أن يعهد إليه بأحقر الأعمال، ولكن موهبته الخطابية تكشفت في اثناء هذه المدة، وعهد إليه بالخطابة، ثم نقل إلى سان ماركو في فلورنس عام 1481، وكلف بالخطابة في كنيسة سان لورندسو، لكن مواعظه فيها لم ترق الجماهير، لأنها كانت ممتعة من الناحية النظرية والتلقينية أكثر مما كانت تطيقه مدينة عرفت بالغة الإنسانيين وأسلوبهم المصقول؛ فأخذ من يستمعون إلى عظاته يقل عددهم اسبوعاً بعد أسبوع؛ فما كان من رئيس الدير إلا أن خصه بتعليم المستجدين. واكبر الظن أن السنين الخمس التالية هي التي تكونت فيها أخلاقه واتخذت صورتها النهائية. ولما ازدادت مشاعره وأغراضه قوة ظهرت آثارها على ملامحه، فتغضنت جبهته وتجهمت، وانقبضت شفتاه الغليظتان تنمان عن قوة العزيمة، وانحنى أنفه الضخم إلى الخارج كإنما كان يريد أن يحيط(18/261)
بالعالم أجمع، وبدا وجهه مكتئباً قاسياً، ينم عن قدرة لا حد لها على الحب والكره، وجسمه الضئيل تحطمه وتنتابه الرؤى، والآمال الخائبة، والأعاصير الداخلية المستنبطة، وكتب وقتئذ لأبويه يقول: " لا زلت لحماً ودماً مثلكما؛ ولا زالت حواسي مستعصية غير خاضعة لعقلي، ولهذا كان لا بد لي أن أناضل بقسوة كي أمنع الشيطان أن يقفز على ظهري" (4). وعمد إلى السوط وجلد نفسه كي يتذلل ما بدا له أنه الفساد المتأصل في الطبيعة البشرية. وإذا كان قد جسد وساوس الجسم والكبرياء فجعلها أصوات الشيطان، فإنه لم يكن أقل من ذلك استعداداً لأن يجسد نصائح نفسه الخيرة وتحذيراتها. وهام وهو بمفرده في صومعته يعلي من شان وحدته بأن يصور نفسه كأنه ميدان تصطرع فيه الارواح التي تحوم حوله ليظفر منها الخبيث او الطيب، وخيل إليه آخر الأمر أن الملائكة وكبارهم يتحدثون إليه، واخذ ألفاظهم على أنها وحي إلهي، وقام فجأة يتحدث إلى العالم كأنه نبي اختير ليكون رسولاً من عند الله، وآمن أشد الإيمان بالرؤى غير المعترف بها والمعزوة إلى الرسول يوحنا، وورث فلسفة الأخرويات عن يواقيم الفلوري، Joachiem of Flora الصوفي، وقال كما قال يواقيم إن عهد المسيح الدجال قد أقبل، وإن الشيطان قد استحوذ على العالم، وإن المسيح سيظهر بعد قليل ليبدأ حكمه في الأرض، وإن الانتقام الإلهي سيحل بالطغاة، والزانين، والكافرين ممن خيل إليهم أنهم يسيطرون على إيطاليا.
ولما أن أرسله رئيس ديره ليخطب في لمبارديا (1486) تنحى سفنرولا على أسلوبه التعليمي الذي كان يصطنعه في شبابه، وصاغ عظاته في صورة التشهير بالرذائل الخلقية، والتنبؤ بيوم الدينونة، والدعوة إلى التوبة. واصغى إليه آلاف ممن لم يكونوا يستطيعون تتبع حججه الأولى، وأخذوا يستمعون في وجل إلى البلاغة الجديدة الثائرة القوية التي ينطق بها رجل خيل إليهم أنه يتحدث عن يقين وتأييد إلهي. وسمع بيكو دلا مرندولا بما أوتيه(18/262)
الراهب من نجاح، وأستأذن لورندسو في أن يعرض على رئيس الدير أن يأمر بعودة سفنرولا إلى فلورنس. وعاد سفنرولا فعلا (1489)؛ واختير بعد عامين رئيساً لدير سان ماركو؛ ووجد فيه لورندسو عدوا أصرح واقوى من أي عدو آخر اعترض سبيله.
ودهشت فلورنس إذ رأت أن الواعظ الأضخم الذي كان من قبل يبعث البأس بحججه في قلوبهم، قد أخذ الآن يروعهم بالرؤى والخيالات الدينية، ويستحوذ على قلوبهم بالأوصاف الحية التي يصور بها الوثنية، والفساد، والرذائل المتفشية بين جيرانهم، ويسمو بارواحهم إلى مراقي التوبة والأمل، ويبعث في نفوسهم من جديد قوة الإيمان التي كانت تلهمهم وتروعهم في ايام شبابهم:
"يا أيتها النساء يامن تختلن بزينتكن، وشعركن، وأيديكن، أقول لكن جميعاً قبيحات، فهل تردن أن ترين الجمال الحق؟ انظرن إلى الرجل التقي أو المرأة التقية، حيث تسيطر الروح على المائدة؛ انظرن إليه وهو يصلي، وحين يتلألأ عليه شعاع من الجمال الرباني ساعة يختتم صلواته؛ سترين وقتئذ جمال الله يتلألأ في وجهه، فتبصرنه كأنه وجه ملاك" (5)، وذهل الناس من شجاعته، فقد كان تنديده بالقساوسة والبابوية أشد من تنديده بغير رجال الدين، وكانت قسوته على الأمراء أشد منها على الشعب، وسرى في قلوب الفقراء تيار قوي من التطرف؛ أنظر إلى قوله: لا يوجد في هذه الأيام شيء من نعم الروح القدسي أو هباته لا يستطاع شراؤه أو بيعه، أما الفقراء فقد أبهضت كاهلهم الأعباء الثقال؛ وإذا ما دعوا لأداء مبالغ من المال فوق طاقتهم، صاح الأغنياء في وجوههم قائلين: "أعطونا ما بقي لديكم". ومن الناس من لا يزيد دخلهم على خمسين (فلورينا في العام)، ثم يؤدون ضرائب عن مائة، على حين أن الأغنياء لا يؤدون إلا القليل، لأن الضرائب قد نظمت على هواهم. ألا فلتفكروا(18/263)
جيداً أيها الأغنياء، لأن العذاب سوف يحل بكم. ولن نسمي هذه المدينة بعد اليوم فلورنس، بل ستكون معششاً للصوص، وللدناءة، وسفك الدماء. فإذا جاء هذا الوقت حلت بكم الفاقة ... وانقلب اسمكم، أيها القساوسة فصار هو الرعب (6).
ثم يأتي بعد القساوسة دور رجال المصارف:
لقد ابتدعتم وسائل كثيرة تجمعون بها المال، وتجرون بها عمليات كثيرة من التبادل تقولون إنها مشروعة، ولكنها أبعد ما تكون عن العدالة، وقد أفسدتم بأعمالكم مناصب المدينة وكبار حكامها. ليس في مقدور أحد أن يقنعكم بأن الربا اثم؛ ولذلك نراكم تدافعون عنه وتعرضون نفوسكم للهلاك؛ وليس فيكم من يستحي من إقراض المال بالربا، بل إن من يفعلون غير أفعالكم يرمون بالبلاهة والغفلة ... إن وجوهكم لهي وجوه العاهرات قد نضب منها ماء الحياء؛ فأنتم تقولون إن الحياة الطيبة السارة هي حياة الكسب، والمسيح يقول:
طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات
ثم يوجه كلمة إلى لورندسو فيقول (7):
إن الطغاة لا يمكن تقويمهم، لأنهم متكبرون، ولأنهم يحبون الملق، ولن يردوا مكاسبهم الحرام ... وهم لا يستمعون إلى نداء الفقراء، ولا يلومون الأغنياء ...... ويفسدون أخلاق الناخبين، ويكلون جباية الضرائب إلى الملتزمين ليبهضوا بذلك كاهل الأهلين (8) ... وقد جرت عادة الطاغية أن يشغل الناس بالمعارض والأعياد حتى ينصرفوا عن التفكير في أعماله إلى التفكير في ملاهيهم، فينشئوا غير ملمين بسير أمور الدولة، ويتركوا أزمة الحكم في يديه (9).
وهو لا يرى أن ذلك الطغيان مما يستطاع تبريره بحجة أنه المال ينفق على الآداب والفنون. ذلك أن سفنرولا لا يقول إن الآداب والفنون من أعمال الوثنيين؛ وإن قول الإنسانيين إنهم مسيحيون محض اختلاق، وإن أولئك المؤلفين(18/264)
الأقدمين الذين يجدُّون هم في الكشف عن آثارهم ونشرها والثناء عليها غرباء عن المسيح وعن الفضائل المسيحية، وليس فنهم إلا وثنية وعبادة لآلهة الكفار، أو إنها عرض فاجر للعرايا من النساء والرجال.
واضطرب لورندسو لهذا. لقد كان جده هو الذي أنشأ دير سان ماركو وأغناه، وكان هو نفسه قد حباه بالمال الكثير؛ وبدا له أن مما لا يقبله العقل أن يقوم راهب فيقضي من فوق منبر ذلك البيت المقدس الذي أنشأه آل ميديتشي على ذلك التأييد الشعبي الذي قام على أساسه سلطان أسرته، مع أن هذا الراهب لا يكاد يعرف شيئاً عن صعاب الحكم؛ ويقدس تلك الحرية التي لم تكن في حقيقتها إلا حرية الأقوياء في استغلال الضعفاء بلا وازع من سلطان القانون. وحاول لورندسو أن يسترضي الراهب، فجاء إلى دير سان ماركو ليحضر القداس، ونفح الدير بهبات سخية. ولكن سفنرولا ازدراه وسخر منه، وقال في عظة له بعد ذلك إن الكلب الأمين لا يكف عن النباح دفاعاً عن صاحبه إذا ما ألقي إليه عظم. ولما وجد في صندوق الصدقات قدراً كبيراً من الذهب على خلاف المعتاد ظن أنه جاء من لورندسو، فوهبه إلى دير آخر وقال إن النهضة تفي بحاجات إخوانه الرهبان. وبعث إليه لورندسو خمسة من زعماء المدينة ليحاولوا إقناعه بأن عظاته النارية ستؤدي إلى العنف الذي لا طائل من ورائه، وأنها قد أخذت تخل بالنظام وتهدد الأمن والسلام في فلورنس. ورد عليهم سفنرولا بأن عليهم أن يأمروا لورندسو بأن يكفر عن سيئاته، وأُغرى راهب فرنسيسي اشتهر ببلاغته أن يلقي عظات شعبية يهدف بها إلى إبعاد المستمعين من الرهبان الدمنيكيين عن سفنرولا، ولكن هذا الراهب أخفق في مهمته، وهرعت إلى سان ماركو جماعات أكبر مما كان يهرع إليه من قبل، حتى لم تعد كنيسة الدير تتسع للمستمعين. ونقل سفنرولا منبره إلى الكنيسة الكبرى ليلقي فيها عظاته في موسم الصوم الكبير من عام 1491؛ وكان هذا الصرح يزدحم بالحاضرين كما أعلن أن الراهب سيخطب فيه، مع أنه قد أنشئ لكي(18/265)
يسع أهل مدينة بأكملها. ولم يحاول لورندسو بعدئذ، وكان يقاسي آلام المرض، أن يتدخل في عظاته.
وكان ضعف بيرو بعد موت والده لورندسو سبباً في أن أصبح سفنرولا أكبر قوة في فلورنس؛ ووافق البابا الجديد إسكندر السادس على كره على انفصال ديره عن المجموعات اللمباردية (من أديرة الدمنيك) التي كان هذا الدير جزءاً منها، وبهذا نصب سفنرولا نفسه من الوجهة العملية رئيساً مستقلاً لأهل ديره. فلما تم له ذلك أصلح نظمه، ورفع مستوى الرهبان الخاضعين لحكمه من الناحيتين الخلقية والعقلية؛ فانضم إلى جماعته رهبان جدد، وأحاطه أعضاء الدير البالغ عددهم 250 عضواً بالحب والإخلاص اللذين كان عوناً قوياً له في جميع ظروف حياته ما عدا محنته الأخيرة. وأصبح سفنرولا من أجل ذلك أشد جرأة فيما يوجهه من نقد للفساد الشائع وقتئذ بين رجال الدنيا والدين على السواء. لكنه ورث على غير علم منه آراء الملحدين الولندسيين Waldensian والبتاريين Patarine المعارضة لآراء الكنيسة، وكانت هاتان الطائفتان لا تزالان تكمنان في أماكن مختلفة من شمالي إيطاليا ووسط أوربا، فأخذ يندد بالثراء الدنيوي الذي يستمتع به رجال الدين، وبما يتجلى في الحفلات الكنسية من أبهة وفخامة، ويشنع على "الأحبار الكبار الذين يضعون على رؤوسهم تيجاناً فخمة من الذهب والحجارة الكريمة ... وعلى ملابسهم الجميلة وأوشحتهم المنسوجة من الديباج المقصب". وأخذ يقارن هذا بما كان عليه رجال الكنيسة الأولون من بساطة، ويقول إن هؤلاء "لم تكن لهم تيجان ذهبية وأقداح قربان إلا أقل من القليل؛ وذلك لأن القليل الذي كانوا يملكونه منها قد تحطم ليسد حاجة الفقراء والمعوزين؛ أما أحبارنا فإنهم ينهبون من الفقراء ما لا يملكون سواء ليقيموا به أودهم، ليحصلوا به على أقداحهم" (10). وكان يضيف إلى هذا التشهير نبوءات بسوء المصير. وكان قد تنبأ بأن لورندسو وإنوسنت(18/266)
الثامن سيموتان في عام 1492؛ ومات كلاهما في ذلك العام بالفعل. ثم تنبأ في هذا الوقت الذي تتحدث عنه أن الله سيرسل على إيطاليا كارثة مدلهمة ينتقم بها لذنوبها وآثام طغاتها ورجال الدين فيها، فإذا انقضت هذه الكارثة فإن المسيح سوف يقود الأمة في سبيل الإصلاح المجيد، وأنه هو نفسه، سفنرولا، سيموت موتاً عنيفاً. ثم تنبأ في بداية عام 1494 أن شارل الثامن سيغزو إيطاليا، ورحب هو بهذا الغزو ووصفه بأنه يد الله المطهِّرة. ويقول أحد معاصريه إن ما كان يلقيه وقتئذ من عظات كانت "مليئة بالإرهاب، والفزع، والصراخ والعويل، إلى حد جعل كل من سمعها يطوف بالمدينة ذاهلا، صامتا شبيها بالأموات" (11).
وتحققت نبوءة سفنرولا، فعبر شارل الثامن جبال الأبنين في عام 1494 وانقض على إيطاليا يعتزم ضم مملكة نابلي إلى التاج الفرنسي، ودخل أملاك فلورنس في شهر أكتوبر من ذلك العام وحاصر حصن ساردسانا Sarzana، وظن بيرو أنه يستطيع إنقاذ فلورنس من فرنسا؛ كما أنقذها والده من نابلي، بالذهاب إلى عدوه. فقابل شارل في ساردسانا وأجابه إلى كل ما طلب: فسلمت إلى الفرنسيين بيزا وليغورن Leghorn، وجميع ما لفلورنس من حصون في الغرب على أن تبقى في أيديهم طوال أيام الحرب، ورضي أن تقدم فلورنس مائتي ألف فلورين (5. 000. 000 دولار أمريكي) تساعد بها على تمويل حملة شارل (12): فلما وصل نبأ هذا التسليم إلى فلورنس ارتاعت له حكومة المدينة ومجلسها، ولم يكونوا قد استشيروا من قبل في أمر هذه المفاوضات بعكس ما حدث من قبل في أيام لورندسو.
وقرر مجلس حكام فلورنس بزعامة المعارضين لبيرو من آل ميديتشي أن يخلعوه ويعيدوا الجمهورية القديمة؛ فلما عاد بيرو من ساردسانا وجد أبواب قصر فيتشيو مغلقة في وجهه، وأخذ الناس يهزءون به وهو راكب في طريقه إلى منزله، والصبية يقذفونه بالحجارة. وخشي بيرو الاعتداء على حياته(18/267)
ففر هو وأسرته وإخوانه من المدينة، ونهب العامة قصر آل ميديتشي وحدائقهم، وبيوت عمال بيرو على أمواله؛ ونهبت المجموعات الفنية التي قضي آل ميديتشي في جمعها أربعة أجيال، وبعثرت، وباعت الحكومة ما بقي منها في مزاد علني. وعرض مجلس حكام فلورنس مكافأة قدرها خمسة آلاف فلورين لمن يأتيهم ببيرو والكردنال جيوفني ده ميديتشي على قيد الحياة، وألفين لمن يأتي بهما ميتين. وارسلت خمسة رجال، من بينهم سفنرولا، إلى شارل في بيزا يطلبون إليه شروطاً للصلح أخف وطأة من الشروط السالفة الذكر، وقابلهم شارل بمجاملة سلبية، فلما غادر الوفد بيزا نزع أهلها شارات الأسد والسوسن وهي شعار بيزا عن منازلهم ونادوا باستقلالهم. ودخل شارل فلورنس، ورضي بأن يدخل تعديلا طفيفاً على مطالبه؛ ودفعه حرصه على الوصول إلى نابلي إلى أن يتجه بجيشه نحو الجنوب، وشرعت فلورنس وقتئذ تقوم بتجربة في الديمقراطية تعد من أروع التجارب في التاريخ.(18/268)
الفصل الثاني
سفنرولا الحاكم
دعي أهل فلورنس في اليوم الثاني من ديسمبر عام 1494 إلى برلمان Parlamento، دعاهم إليه الناقوس العظيم المعلق في برج قصر فيتشيو. وطلب إليهم مجلس السيادة أن يخولوه سلطة ترشيح عشرين من رجالها، يعينون هم مجلس سيادة جديد ورؤساء جدداً للموظفين، وأن يحتفظ هذا المجلس وأولئك الموظفون بمناصبهم عاماً واحداً، تملأ بعده جميع المناصب بطريق القرعة من سجل يحتوي أسماء الذكور المتمتعين بالحقوق السياسية والبالغ عددهم قرابة ثلاثة آلاف. ووافق البرلمان على أن يعهد بهذه السلطة إلى مجلس السيادة القديم .. وحل «العشرون» المجالس والهيئات التي كانت تنظر في الشئون العامة وتديرها أيام آل ميديتشي، ووزعوا المناصب المختلفة على أنفسهم، ولكنهم لم يكونوا ذوي خبرة ودراية بهذه الأعمال، وقامت بينهم التحزبات للأسر فمزقتهم تمزيقاً، وانهارت الأداة الحكومية الجديدة، وأوشكت الفوضى أن تضرب أطنابها في المدينة، وشرع دبيب الكساد يدب في التجارة والصناعة، وتعطل الناس، واحتشدت الجموع الغاضبة في الشوارع؛ وأقنع بيرو كبوني Pero Capponi« العشرين» أن لا سبيل إلى عودة النظام إلا إذا دعي سفنرولا إلى مجالسهم.
واستدعاهم الراهب إلى ديره، وعرض عليهم منهاجاً طموحاً من التشريعات السياسية، والاقتصادية، والخلفية. ووضع «العشرون» بزعامته وزعامة بيترو سديريني Pietro Soderini دستوراً جديداً اتخذوا بعض مبادئه من الدستور الذي نجح أيما نجاح في استقرار الحكم في البندقية. وينص هذا الدستور على إنشاء مجلس أعلى Maggior Consiglio يتكون(18/269)
من رجال تولوا هم أو اسلافهم من الأجيال الثلاثة السابقة مناصب كبيرة في الدولة، على أن يختار هؤلاء الأعضاء الأولون ثمانية وعشرين عضواً آخر ينضمون إليهم في كل عام. أما الهيئة التنفيذية للحكومة فتبقى في جوهرها كما كانت في أيام ميديتشي: مجلس للسيادة مكون من ثمانية رؤساء وحامل للشعار، يختارهم الأعلى لمدة شهرين، ومن عدة لجان -لجنة الأثني عشر، والعشرة والثمانية-مهمتها تصريف الشئون الإدارية، وشئون الضرائب والحرب. وأجل إنشاء الديمقراطية الكاملة بحجة أنها نظام غير عملي في مجتمع لا تزال كثرته من الأميين، يندفعون وراء العواطف والانفعالات؛ ولكن المجلس الأعلى الذي يكاد أعضاؤه يبلغون ثلاثة آلاف عضو كان يعتبر هيئة نيابية. وإذا لم يكن في قصر فيتشيو حجرة تتسع لهذه الجمعية الضخمة، فقد كلف سيمون بلا يولو-ال كروناكا Simone Palaiuolo Ii Cronaca- بأن يعيد تخطيط جزء من داخل القصر ليجعل بهو قاعة الخمسمائة Sala dei cinquecento يتسع لعقد جلسات المجلس مجزءاً. وقد كلف ليوناردو دافنتشي وميكل أنجيلو بعد ثمان سنين من ذلك الوقت أن ينقشا الجدران المتقابلة متنافسين تنافسا ذائع الصيت في التاريخ. ورحبت الجماهير بهذا الدستور المقترح ترحيباً كان الفضل فيه لنفوذ سفنرولا، وشرعت الجمهورية الجديدة تباشر أعمالها في اليوم العاشر من شهر يونية سنة 1495.
وبدأت أعمالها بداية طيبة، فأصدرت عفواً عاماً من جميع المؤيدين لحكم آل ميديتشي الزائل، ودلت على كرمها المنبعث عن احترامها لنفسها بأن ألغت جميع الضرائب عدا ضريبة قدرها عشرة في المائة من دخل الأملاك العقارية، وبذلك أعفى التجار الذين كانوا يسيطرون على الأعمال التجارية من الضرائب، والقوا العبء كله على الأرستقراطية المالكة للأرض، وعلى الفقراء المنتفعين بها. ثم أنشأت الحكومة بإيعاز سفنرولا(18/270)
مكتبا للقروض monte dè pieta يقرض المال بفائدة قدرها خمسة في المائة؛ وبذلك أنجت الفقراء من الاعتماد على المرابين الذين كانوا يتقاضون فوائد تبلغ أحياناً ثلاثين في المائة. ثم حاول المجلس بتحريض الراهب أيضاَ ان يصلح الأخلاق والقوانين: فحرم سباق الخيل، والأغاني البذيئة في الحفلات التنكرية، وانتهاك الحرمات، والميسر، وشجع الخدم على أن يبلغوا عن أسيادهم إذا قامر؛ وكان من يحكم عليهم من المذنبين يعذبون؛ كما كان المجدفون يعاقبون بخرق ألسنتهم، ومن يرتكبون اللواط يلقون من العقوبات الشديدة ما يزري بهم. ونظم سفنرولا الغلمان من جماعته في شرطة أخلاقية مهمتها المساعدة على تنفيذ هذه الإصلاحيات. وتعهد هؤلاء الغلمان بأن يداوموا على الذهاب إلى الكنيسة بانتظام، ويتجنبوا مشاهدة السباق، والاستعراضات، والألعاب البهلوانية، وصحبة الأرذال الفاسدين، والإطلاع على الأدب البذيء، ومشاهدة الرقص، ومدارس الموسيقى، كما تعهدوا بتقصير شعر الرأس. وكانت «عصب الأمل» هذه تجوب الشوارع تطلب الصدقات للكنيسة؛ وتشتت الجماعات التي تحتشد للعب الميسر، وتنتزع أجسام النساء ما ترى أنه غير لائق من الثياب.
وارتضت المدينة هذه الإصلاحيات إلى حين، وأيدتها بعض النساء تأييداً حماسياً، وسلكن مسلكاً مرضياً، ولبسن ثياباً بسيطة، وخلعن الحلي، وبدأت الثورة الأخلاقية فلورنسة آل ميديتشي المرحة تبديلا، وأخذ الأهلون يتغنون في الشوارع بالترانيم الدينية بدل الأغاني الخمرية، وغصت الكنائس بالمصلين، وأخرج الناس الصدقات بمقادير لم يعهد مثلها من قبل، ورد بعض رجال المصارف والتجار مكاسبهم غير المشروعة (13). ودعا سفنرولا جميع سكان المدينة، فقرائهم وأغنيائهم على السواء، أن يتجنبوا البطالة، والترف، وأن يجدوا في أعمالهم، وأن يجعلوا حياتهم قدوة حسنة لغيرهم، وقال في ذلك: «يجب أن نبدأ إصلاحاتكم بشئون(18/271)
الروح ... وأن تضعوا مغانمكم الدنيوية في خدمة الصالح الأخلاقية والدينية التي هي أساس هذه المغانم، وإذا كنتم قد سمعتم «أن الدول لا تحكم بالصلوات والأدعية» فاذكروا ان هذا هو حكم الطغاة المستبدين، ... وهو حكم لا يعمل لحرية المدينة بل يعمل لظلمها، فإذا شئتم حكماً صالحاً، وجب عليكم أن تردوا هذا الحكم إلى الله» (14). وطلب إلى فلورنس أن تعتقد أن لحكوماتها ملكاً لا تراه العين-هو المسيح نفسه؛ وتنبأ بأن هذه الحكومة الدينية ستؤدي إلى «المدينة الفاضلة». وقال «أي فلورنس! وإذن ستكونين غنية بثروتك الروحية والزمنية؛ وستفوزين بإصلاح روما، وإيطاليا، وجميع الأقطار، وستبسطين جناحي عظمتك على العالم كله» (15). والحق أن فلورنس لم تسعد في يوم ما قبل ذلك الوقت كما سعدت في تلك الأيام التي كانت لحظة ساطعة في تاريخ الفضيلة القلق المضطرب.
لكن الطبيعة البشرية لا تتغير، فالناس ليسوا فضلاء بفطرتهم، والنظام الاجتماعي إنما يحافظ على كيانه المزعزع وسط التنازع الخفي والعلني القائم بين النفوس والأسر، والطبقات، والعناصر، والعقائد. وكان في المجتمع الفلورنسي عنصر قوي شديد الميل إلى الحانات، والمواخير، وأندية القمار ينفسون بها عن غرائزهم، أو يتخذونها وسيلة إلى الكسب؛ وثارت ثائرة أسر الباتسيين، والزيليين، والكيونيين، والفرع الأصغر من الميديتشيين وغيرهم من الأعيان الذين أخرجوا بيرو، حين رأوا أزمة الحكومة تقع في يدي راهب. وكانت بقية من حزب بيرو لا تزال قائمة تتحين الفرص التي تستطيع بها العودة إلى الحكم وتستعيد بها الثراء. كذلك كان الرهبان الفرنسيس يعملون بكل ما أوتوا من حماسة دينية ضد سفنرولا الدمنيكي، كما كانت عصبة صغيرة العدد من المتشككين تصب اللعنات على الطائفتين. واجتمعت هذه الطوائف المختلفة من أعداء النظام الجديد في تجريح مؤيديه ووصفهم بالباكين Piagnoni ( لأن الكثيرين منهم كانوا يبكون إذا سمعوا(18/272)
عظات سفنرولا وذوي الرقاب الملتوية Collitorti، والمنافقين Stropiccioni ومن يلوكون الصلوات Masticapternostri، وكان الذين يلقبون بهذه الألقاب يسمون أعداءهم الكلاب الكلبة Arrabiati لشدة عداء هؤلاء لهم.
وافلحت طائفة الأربياتي (الكلاب الكلبة) في انتخاب مرشحها فلبو كوربتسي Filippo Corbizzi حاملاً لشعار الدولة في بداية عام 1496، فلما تم له ذلك عقد في قصر فيتشيو مجلساً من الكهنوت؛ واستدعى سفنرولا للمثول أمامه، واتهمه بالتورط في نشاط سياسي لا يليق بالرهبان، وانظم إليه في هذه التهمة عدد من رجال الدين من بينهم راهب دمنيكي من طائفة سفنرولا نفسه. وكان جواب سفنرولا: الآن قد حقت كلمات الله: (لقد حاربني أبناء أمي) ... ليس الاهتمام بشئون هذا العالم ... جريمة يتهم بها راهب إلا إذا خاض فيها دون أن يكون له غرض أسمى، ولم يكن يسعى لنصرة قضية الدين» (16)، وطالبوه بأن يصرح هل كانت عظاته موحى بها من عند الله، ولكنه أبى أن يجيب عن هذا السؤال، وعاد إلى صومعته وهو أشد حزناً مما كان. ولعله كان يستطيع التغلب على أعدائه لو أن الظروف الخارجية كانت في صالحه. لكنها لم تكن؛ ذلك أن الفلورنسيين الذين يمتدحون الحرية كانوا غاضبين أشد الغضب على بيزا لأنهم يطالبون بها؛ وحتى سفنرولا نفسه لم يجرؤ على الدفاع عن المدينة الثائرة. وعوقب قس من قساوسة الكنيسة عقاباً صارماً على يد مجلس للسيادة مؤلف من الباكين لأنه صرح بأن من حق أهل بيزا أيضاً ان يكونوا أحراراً. ووعد سفنرولا بأن يرد بيزا إلى فلورنس، واندفع فادعي أن بيزا في قبضة يده؛ ولكنه كان، كما وصفه مكيفلي ساخراً، نبياً لا جند له. ودعمت بيزا استقلالها بعد أن طرد شارل الثامن من إيطاليا وذلك بتحالفها مع ميلان والبندقية، واسف الفلورنسيين لأن سفنرولا قد ربط نجمهم بنجم شارل الآفل، ولأنهم دون غيرهم(18/273)
لم يشتركوا في ذلك العمل المجيد وهو طرد الفرنسيين من إيطاليا (17). وكان القائدان الفرنسيان للحصنين الفلورنسيين، وهما حصنا سردسانا وبيترا سانتا Pietra Santa قد باعا أحدهما إلى جنوي، والآخر إلى لوكا. وقامت حركات تطالب بالتحرر في مونتي بلتشياتو Montepulciano وأرتسو Arezzo، وفلتيرا Volterra وغيرها من المدائن التابعة لفلورنس اضطربت لها انحاؤها؛ ولاح أن المدينة التي كانت من قبل قوية مزهوة قد أوشكت أن تخسر ممتلكاتها الخارجة كلها تقريباً، وأن تخسر كذلك جميع منافذها التجارية القائمة على نهر الآرنو، والبحر الأدرياوي، وعلى الطرق المؤدية إلى ميلان وروما. وكان لهذا أسوأ الأثر في التجارة، وقل إيراد الضرائب؛ وحاول المجلس أن يحصل على المال الذي تتطلبه الحرب ضد بيزا بقروض جبرية من أغنياء المواطنين، وعرض عليهم في مقابل هذه القروض سندات حكومية؛ فلما أن لاحت امارات الإفلاس انخفضت قيمة هذه السندات إلى ثمانين في المائة، ثم إلى خمسين، فإلى عشرة في المائة من قيمتها الاسمية. واقفرت خزانة الدولة في عام 1496. وحذت الحكومة حذو لورندسو فاقترضت المال من رصيد اؤتمنت عليه الدولة لتقديم البائنات للعرائس الفقيرات. وفشت الرشوة هي والفساد والعجز وضربت أطنابها في إدارة الأموال الحكومية سواء كان مديروها هم الكلاب الكلبة أو الباكين. واختير فرانتشسكو فالوري حاملا لشعار الدولة (يناير 1497) بأغلبية من الباكين فزادت الكلاب الكلبة جنوناً بأن حرمت عليها جميع الوظائف الكبرى ومنعت من عضوية المجلس إذا كان أفرادها ممن تهربوا من أداء الضرائب، ولم يسمح لغير الباكين بالخطابة في المجلس، وأخرج من فلورنس كل راهب فرنسيسي يرفع عقيرته بالخطابة ضد سفنرولا. وحدث في خلال عام 1496 أن ظل المطر ينهمر في كل يوم تقريباً مدة أحد عشر شهراً واتلف المحصولات في الأراضي الضيقة الرقعة الواقعة في(18/274)
مؤخر المدينة؛ وبلغ من شدة القحط أن كان الناس يسقطون موتى من الجوع على قارعة الطريق. وافتتحت الحكومة محطات للإغاثة لمد الفقراء بالحبوب، فكانت النساء يتساقطن موتى من شدة الزحام على طلبها. وأخذ حزب آل ميديتشي يدبر المؤامرات لعودة بيرو؛ وعرفت اسماء خمسة من زعائمهم وحكم عليهم بالإعدام (1497)؛ ومنعوا من استئناف الحكم إلى المجلس وهو الحق الذي يضمنه لهم الدستور، وأعدموا ولما يمض على صدور الحكم إلا ساعات قليلة؛ وأخذ كثيرون من الفلورنسيين يوازنون بين ما هو منتشر في الحكم الجمهوري من تحزب، وعنف، وقسوة، وبين ما كان يسود عهد لورندسو من نظام وأمن وسلام. وتكررت مظاهرات الجموع الغاضبة المعادية أمام دير سفنرولا؛ فكان الكلاب الكلبة والباكون يتراشقون بالحجارة في الشارع؛ ولما أن شرع الراهب يلقي موعظته في يوم الصعود من عام 1497 قاطعه جماعة من الغوغاء وحاول أعداؤه في أثناء الشغب أن يقبضوا عليه ولكن أصدقاءه ردوهم على أعقابهم. وعرض حامل الأختام على مجلس السيادة أن ينفي سفنرولا من المدينة لعل ذلك يسكن من غضب الأهلين، ولكن الاقتراح رفض بأغلبية صوت واحد؛ وكان سفنرولا في هذه العاصفة التي انهارت فيها أحلامه انهياراً مريراً يواجه ويتحدى أعظم قوة في إيطاليا.(18/275)
الفصل الثالث
سفنرولا الشهيد
لم يضطرب البابا اسكندر السادس اضطراباً شديداً بسبب ما وجهه سفنرولا من نقد لرجال الدين أو لأخلاق أهل روما. ذلك أنه سمع مثل هذا النقد من قبل؛ فقد ظل مئات من رجال الكنيسة قروناً طوالا يشكون من أن القساوسة يحيون حياة تنافي الفضيلة، ومن أن البابوات يحبون المال والسلطان حباً لا يليق بخلفاء المسيح (18). وكان البابا اسكندر سهلاً رضي الطباع، لا يسوئه النقد الهين ما دام يحس بأنه آمن في الكرسي الرسولي. أما الذي كان يسوئه من سفنرولا فهو آراء هذا الراهب السياسية؛ ولسنا نعني بهذه الآراء السياسية ما في الدستور الجديد من نزعة شبه ديمقراطية. كذلك لم يكن البابا يهتم خاصاً بالميديتشيين، ولعله كان يؤثر أن تقوم في فلرونس جمهورية ضعيفة عن أن تقوم فيها حكومة مستبدة قوية. كذلك كان يخشى أن يغزو الفرنسيون البلاد مرة أخرى؛ فقد اشترك من قبل في تكوين عصبة من الدول الإيطالية تعمل على طرد شارل الثامن من إيطاليا، وتحبط أي هجوم ثان يقوم به الفرنسيون؛ ولم يكن يطيق استمساك فلورنس بتحالفها مع فرنسا، ويرى أن سفنرولا هو القوة الخفية التي توجه سياسة المدينة هذه الوجهة، ويرتاب في أنه يراسل في السر الحكومة الفرنسية. وقد كتب سفنرولا في واقع الأمر ثلاث رسائل يؤيد فيها ما اقترحه الكردنال جوليانو دلا روفيري Guiliano della Rovere من أن يعقد الملك مجلساً عاماً من رجال الدين والحكم يصلح الكنيسة، ويخلع الإسكندر لأنه «كافر وزنديق» (19). وحرض الكردنال أسكانيو اسفوردسا Ascanio Sforza ممثل ميلان في البلاط البابوي، البابا على أن(18/276)
يضع حداً لخطب الراهب ونفوذه؛ فكتب الإسكندر في اليوم الحادي والعشرين من شهر يوليه عام 1495 رسالة موجزة إلى سفنرولا قال فيها: إلى ابننا المحبوب نهدي تحياتنا وبركتنا الرسولية. لقد سمعنا أنك أشد العاملين في كرمة الرب غيرة، فابتهجنا لذلك أشد الأبتهاج وحمدنا الله العلي القدير على هذا. وسمعنا كذلك ما تؤكده من أن تنبوءاتك لا تصدر منك بل من الله (1). ومن أجل هذا نرغب في أن نتحدث إليك في هذه الأمور كما يقضي علينا بذلك قيامنا على رعاية أبناء هذا الدين؛ حتى إذا ما زدنا بهذه الطريقة علما بإرادة الله كنا أقدر على أداء واجبنا؛ ولهذا نأمرك بمالنا عليك من حق الطاعة المقدسة التي أقسمت بالحرص عليها أن تعجل بالمثول بين يدينا، وسوف تلقي منا الترحيب المشفوع بالحب والحنان (20).
وكانت هذه الرسالة نصراً عظيماً لأعداء سفنرولا، لأنها وضعته في مأزق لا يسعه معه إلا أن يختم حياته بوصفه مصلحا أو أن يعصى أمر البابا علناً. وخشي سفنرولا ألا يستطيع العودة إلى فلورنس إذا ألقى بنفسه في قبضة البابا؛ ولربما قضى بقية أيامه في جب سانت أنجيلو Sant' Angelo؛ وإذا لم يعد فإن أنصاره سيقضي عليهم لا محالة. لهذا عمل بنصيحتهم فرد على الإسكندرية قائلا إن مرضه الشديد يحول بينه وبين القدوم إلى روما. وتكشفت بواعث البابا السياسية إلى هذه الدعوة حين كتب إلى مجلس السيادة في فلورنس في الثامن من سبتمبر يحتج على استمرار التحالف بين فلورنس وفرنسا، وينبه الفلورنسيين إلى أنهم لا يليق بهم أن يوجه إليهم اللوم بأنهم دون سائر الإيطاليين يتحالفون مع أعداء إيطاليا؛ وأمر سفنرولا في الوقت عينه أن يمتنع عن الخطابة، وأن يخضع لسلطان الوكيل العام للرهبان الدمنيك في لمباردي، وأن يرحل إلى أي مكان يأمره هذا الوكيل بالرحيل إليه.
_________
(1) وكانت الكنيسة قد أعلنت أن هذا الادعاء يعد خروجاً على الدين، وذلك لكي تقف في وجه المتنبئين الكذابين.(18/277)
ورد عليه سفنرولا (في التاسع والعشرين من سبتمبر) بأن أتباعه لا يريدون أن يخضعوا إلى الوكيل العام للدمنيك، ولكنه في الوقت عينه سيمتنع عن الخطابة. فرد عليه الإسكندر مرة أخرى رداً يدل على رغبته في التوفيق والمصالحة (16أكتوبر)، وأعاد في هذا الرد أمره له بالامتناع عن الخطابة، وعبر عن أمله في أن يجيء سفنرولا إلى روما حين تسمح له صحته بالمجيء إليها لكي يستقيل منها «بروح البهجة والأخوة» (21)، ثم ترك الإسكندر الأمر عند هذا الحد مدة عام.
وكان حزب سفنرولا في هذه الأثناء قد استرد لنفسه السلطان في المجلس وفي مجلس السيادة، ورجا مبعوثو حكومة فلورنس في روما البابا أن يلغي أمره القاضي بمنع الراهب من الخطابة، قائلين أن فلورنس في حاجة إلى تأثيره القوي أيام الصوم الكبير. ويبدو أن الإسكندر أجابهم إجابة شفوية إلى ما طلبوا، وعاد سفنرولا في السابع عشر من فبراير سنة 1496 إلى الخطابة في الكنيسة الكبرى. وعهد الإسكندر حوالي ذلك الوقت إلى أحد الأساقفة الدمنيكيين المتبحرين في العلم أن يفحص ما نشر من مواعظ سفنرولا ليتبين ما بها من خروج على الدين. وكتب الأسقف في تقريره يقول: «أيها الأب الأقدس؛ إن هذا الراهب لا ينطق بشيء يتعارض مع الحكمة أو الشرف؛ فهو يتحدث عن بيع المناصب الدينية وعن فساد القساوسة؛ وهو إن شئت الحقيقة شائع شيوعاً كبيراً؛ وهو يحترم عقائد الكنيسة وسلطاتها؛ وأفضَّل من أجل هذا أن أتخذه لي صديقاً- ولو تطلب هذا أن تعرض عليه ثياب الكردنال الأرجوانية». ولم يفارق الأسكندر ظرفه فبعث إلى فلورنس راهباً دمنيكياً يعرض على سفنرولا القلنسوة الحمراء؛ ولم يشعر الراهب بأن هذا تكريماً له بل كان وقعه عليه أليماً، لأنه لم ير فيه إلا مثلا آخر من شراء المناصب، فقال لمبعوث الإسكندر: «عليك أن تأتي إلى عظتي التالية تعرف ردي على روما» (23).(18/278)
وكانت عظته الأولى في ذلك العام إيذاناً ببدء النزاع مع البابا، وكان هذا النزاع حادثاً عظيم الخطر في تاريخ فلورنس؛ وتاق نصف المدينة المهتاجة إلى سماعه، ولم تتسع الكتدرائية على رحبها لكل من أرادوا الدخول، وإن كانوا قد ازدحموا في داخلها حتى لم يستطع أحد منهم حراكا. وأحاطت بالرئيس جماعة من اصدقائه المسلحين حتى اوصلته إلى الكنيسة. وبدأ عظته بأن شرح سبب انقطاعه الطويل عن المنبر، وأكد ولاءه التام لتعاليم الكنيسة، لكنه أتبع ذلك بتحدي البابا تحدياً جريئاً فقال:
إن الرئيس لا يستطيع أن يصدر إليّ أمراً أياً كان يتعارض مع القواعد التي تسير عليها طائفتي، ولا يستطيع البابا أن يصدر أمراً ما يتعارض مع مقتضيات البر أو أوامر الإنجيل؛ ولست أعتقد أن البابا سيحرص يوماً ما على أن يفعل هذا؛ فإن فعل فسأقول له: «إنك الآن لست براع، ولست أنت كنيسة روما، إنك مخطئ» ... وإذا تبين بوضوح أن أوامر الرؤساء تتعارض مع أوامر الله، وبخاصة إذا تعارضت مع قواعد البر والخير، فما من أحد من الناس في هذه الحال ملزم بإطاعتها ... وإذا ما تبينت بوضوح أن رحيلي عن مدينة ما سيؤدي إلى هلاك أهلها الروحي والزمني، فإني لن أطيع إنساناً على ظهر الأرض يأمرني بالرحيل عنها ... لأني إن اطعته عصيت أوامر الله (24).
وندد في عظته التي ألقاها في يوم الأحد الثاني من آحاد الصوم الكبير بأخلاق عاصمة العالم المسيحية بأقسى الألفاظ فقال: «إن ألف عاهر، وعشرة آلاف عاهر، وأربعة عشر ألف عاهر عدد قليل لا يكفي روما لأن جميع من فيها من رجال ونساء في العهر سواء» (25). وانتشرت هذه العظات في طول أوربا وعرضها عن طريق الاختراع الجديد العجيب ونعني به المطبعة، وكان الناس يقرئونها في كل مكان حتى سلطان تركيا نفسه، وأثارت عاصفة من المنشورات والكتيبات في داخل فلورنس وخارجها،(18/279)
منها ما اتهم الراهب بالخروج على الدين والنظام ومنها ما دافع عنه ووصفه بأنه نبي وقديس.
وأخذ الإسكندر يبحث عن وسيلة غير مباشرة يتقي بها الحرب العلنية. ومن أجل هذا أمر في شهر نوفمبر من عام 1496 أن توحد جميع الأديرة الدمنيكية التسكانية لتؤلف مجموعة تسكانية- رومانية جديدة توضع تحت سلطة بادر جياكومو دا تشيتشيليا (الصقلي) Padre Giacomo de Cicilia. وكان بادر جياكومو هذا ممن يعطفون على سفنرولا، ولكنه في أغلب الظن لا يمانع في نقل الراهب إلى بيئة أخرى إذا اشار عليه البابا ذلك. ورفض سفنرولا أن يطيع أمر التوحيد، وعرض الأمر على الشعب برمته في نشرة سماها: «دفاع من إخوان سان ماركو». وجاء في هذه النشرة: «إن هذا الاتحاد مستحيل، وغير معقول، ومضر، ولا يمكن إرغام إخوان سان ماركو على قبوله، لأن الرؤساء لا يحق لهم أن يصدروا أوامر تتعارض مع القواعد التي تسير عليها الطائفة، أو تتعارض مع قانون الخير العام أو سلامة النفوس» (26). وإذا نظرنا إلى الأمر من الناحية الرسمية فإنه جميع من يؤمون الأديرة يخضعون خضوعاً مباشراً للبابوات، ومن حق البابا أن يضم هؤلاء كلهم ويوحد بينهم رغم إرادتهم؛ بل إن سفنرولا نفسه قد وافق في عام 1493 على أمر أصدره الإسكندر بضم جماعة الدمنيكين في دير سانت كترين بمدينة بيزا إلى جماعة سفنرولا في دير سان ماركو الذي يرأسه (27). على أن الإسكندرية لم يتخذ إجراءً عاجلاً، وظل سفنرولا يخطب وأصدر إلى الجمهور سلسلة من الرسائل يدافع عن تحديه للبابا.
ولما اقترب موعد الصوم الكبير من عام 1494 أعد الكلاب الكلبة عدتهم للاحتفال بالعيد بإقامة المهرجانات، والمواكب، والأغاني بجميع المظاهر التي كانت متبعة في أيام الميديتشيين. وأراد مساعد سفنرولا الأمين الراهب دمنيكو أن يحبط هذه الخطط، فأمر الأطفال من اتباعه أن ينظموا هم(18/280)
احتفالا يختلف عن الاحتفال السالف الذكر. فأخذ هؤلاء الأولاد والبنات في خلال الأسبوع السابق لأيام الصوم يطوفون بالمدينة في جماعات، يدقون الأبواب، ويرجون او يطلبون في بعض الأحيان- أن يعطوا ما يسمونه «الأباطيل» أو الأشياء الملعونة (أناثمازي Anathemase) - ويقصدون بها الصور التي يرون أنها بذيئة، وأغاني الغرام، وأقنعة أعيد المساخر وملابسها، والشعر المستعار، وملابس التنكر، وأوراق اللعب، والنرد، والآلات الموسيقية، ومستحضرات التجميل، والكتب الخبيثة مثل ديكمرون أو مورجنتي مجيوري ... ولما حل اليوم الأخير من أيام المساخر وهو اليوم السابع من فبراير، سار أشد الناس حماسة من أتباع سفنرولا في موكب رهيب وهو ينشدون الأناشيد خلف تمثال للطفل يسوع نحته دوناتلو يحمله أربعة أطفال في هيئة ملائكة إلى ميدان مجلس السيادة Piazza della Signoria. وكان قد أعد في ذلك الميدان من المواد القابلة للاشتعال هرم ضخم ارتفاعه ستون قدماً ومحيطه عند قاعدته مائتان وأربعون. وصفت على طبقات الهرم السبع أو ألقيت عليها جميع «الأباطيل» التي جمعت في خلال الأسبوع أو جيء بها وقتئذ لتحرق، وكان منهل مخطوطات وتحف فنية عظيمة القيمة. وأشعلت النار في الكومة من أربع نقط، ودقت أجراس قصر فيتشيو لتعلن هذا أول «حريق للأباطيل يقوم به اتباع سفنرولا (1)».
ونقلت عظات الراهب في أيام الصوم ميدان الحرب إلى روما، ذلك أن الراهب، وإن قبل المبدأ القائل بأن الكنيسة يجب أن يكون لها قسط تعتمد عليه من السلطة الزمنية، قال إن ثروة الكنيسة هي سبب انحطاطها. ولم يكن هجومه عليها وقتئذ يقف عند حد:
«إن الارض تسفك فيها أنهار الدماء، ولكن القسس لا يعبثون بشيء من هذا؛ بل إنهم ينشرون الموت الروحي بين الناس جميعاً بما يضربونه
_________
(1) كان حرق الأباطيل بهذه الصورة من العادات القديمة التي يقوم بها الرهبان المبشرون.(18/281)
لهم من المثل السيئة. لقد ابتعدوا عن الله، فلا يعرفون من أسباب التقوى إلا أن يقضوا لياليهم مع العاهرات ... وهم يقولون إن الله لا يعني قط بشئون العالم، وإن كل شئ يحدث فيه مصادقة واتفاقاً، وهم لا يؤمنون بأن المسيح موجود في العشاء الرباني ... تعالي أيتها الكنيسة السفيهة ... إن الله يقول: لقد وهبتك ثياباً جميلة، ولكنك اتخذتها أصناما، وجعلت من الأدعية المقدسة زينة وغروراً، وجعلت العشاء الرباني سلعة تباع وتشترى. لقد أصبحت في شهوانيتك عاهراً مجردة من الحياة، وأنت أحط من الحيوان، إنك من الفظائع الممقوتة. لقد كنت يوماً ما تشعرين بالخجل من آثامك، أما الآن فقد فارقك الحياء؛ وكان من مسحوا من رجال الدين يسمون أبناءهم اخوتهم وأخواتهم، أما الآن فهم يتحدثون صراحة عن أبنائهم (1) ... والآن أيتها الكنيسة الفاجرة لقد كشفت عن خبثك ورذائلك للعالم أجمع وبلغ خبث رائحتك عنان السماء (28).
وكان سفنرولا يتوقع أن يؤدي هذا الهجاء القاذع إلى حرمانه من حظيرة الدين، وقد رحب فعلاً بهذا الحرمان فقال:
يقول الكثيرون منكم إن قرار الحرمان سيصدر ... أما أنا فإني أتوسل إليك يا الله أن تعجل بهذا القرار ... فليحمل هذا الحرمان إليّ على سن حربة، ولتفتحوا له الأبواب! وسأرد عليه، وإذا لم يذهلكم هذا الرد فقولوا فيَّ ما شئتم ... إني لا أبغي يارب إلا صليبك! فلأضطهد؛ إني أسألك هذه النعمة؛ اللهم لا تمتني في فراشي، بل دعني أقدم لك دمي، كما قدمت أنت دمك لي (29).
وأوقدت هذه الخطب النارية لهيب الحماسة في كافة أنحاء إيطاليا، وهرع الناس من أقصى مدائنها للاستماع إليها، وجاء دوق فراراً متخفياً،
_________
(1) إشارة إلى قول البابا إسكندر السادس عن أبناءه.(18/282)
وفاضت الجماهير إلى الشوارع من الكنيسة، وكانت كل عبارة جامعة محكمة تنقل ممن في داخل الكنيسة إلى من في خارجها، أما في روما فقد انقلب الناس على الراهب انقلاباً كاد يشمل جميع الأهلين وأخذوا يطالبون بإنزال العقاب به (30). وحدث في إبريل من عام 1497 أن سيطرت الكلاب الكلبة على المجلس وادعوا أن المدينة معرضة لخطر الطاعون، فحرموا الخطابة تحريماً تاماً في الكنائس بعد اليوم الخامس من شهر مايو. وانصاع الإسكندر إلى تحريض الكلبيين فوقع في الثالث عشر من مايو قراراً بحرمان الراهب، ولكنه أذاع في الوقت عينه أنه مستعد لإلغاء هذا القرار إذا استجاب سفنرولا إلى أمره بالقدوم إلى روما. وأصر الراهب على رفض الدعوة لأنه كان يخشى أن يزج به في السجن؛ ولكنه لزم الصمت ستة أشهر؛ فلما حل عيد الميلاد أنشد في سان ماركو نشيد القداس الأكبر (1)، وقدم العشاء الرباني لرهبان ديره، وسار على رأسهم في موكب كبير حول الميدان. وروع كثيرون من الناس حين رأوا رجلاً محروماً يحتفل بالقداس، ولكن الإسكندر لم يعترض على هذا العمل، بل فعل عكس هذا إذ لمح بأنه مستعد للرجوع في قرار الحرمان إذا انضمت فلورنس إلى الحلف الذي يقاوم عودة فرنسا لغزو إيطاليا (31). لكن مجلس السيادة رفض هذا الاقتراح ظنا منه أن الفرنسيين قد ينتصرون في هذا الغزو، وفي الحادي عشر من فبراير عام 1498 بلغ عصيان سفنرولا غايته، فقد خطب في كنيسة سان ماركو فوصف قرار الحرمان بأنه قرار ظالم باطل، واتهم بالمروق من الدين كل من يؤيد صحته، وانتهى الأمر بأن أصدر هو قراراً بالحرمان قال فيه:
ومن اجل هذا فلتحل اللعنة Anathema على من يصدر أوامر تتعارض مع الخير. ولو أن هذا الأمر قد نطق به ملك من السماء، بل
_________
(1) وهو الذي تصحبه الموسيقى، والطقوس، والمواكب، والبخور. (المترجم)(18/283)
نطقت به مريم العذراء نفسها، ونطق به جميع القديسين (وهو مستحيل لا ريب) لحلت عليهم اللعنة ... وإذا ما نطق أي بابا بما يناقض هذا، فليعلن حرمانه (32).
وقرأ سفنرولا صلاة القداس في اليوم الذ قبل الصوم الكبير في الميدان القائم أما كنيسة سان ماركو، وقدم العشاء الرباني لجمع غفير من الناس ودعا الله جهرة بقوله: «اللهم إني كنت غير مخلص في أعمالي، أو إن كانت ألفاظي غير موحى بها منك فأمتني في هذه الساعة»، ونظم سفنرولا في عصر ذلك اليوم حرقاً ثانياً للأباطيل.
وأبلغ الإسكندر مجلس السيادة أنه سيصدر قراراً بحرمان المدينة إذا لم يستطع هذا المجلس إقناع سفنرولا بأن يكف عن الخطابة؛ لكن المجلس أبى أن يسكته وإن كان في ذلك الوقت شديد العداء له، وآثر أن يحمل البابا وحده عبء هذا القرار، هذا إلى أن الراهب البليغ قد يكون ذا نفع في مقاومة البابا الذي كان في ذلك الوقت ينظم الولايات البابوية تنظيماً يجعل منها قوة عظيمة تقلق بال جيرانها. وواصل سفنرولا خطبه، ولكنه قصرها على كنيسة الدير؛ وكتب سفير فلورنس في روما يقول إن عداء روما للبابا قد اشتد إلى حد يعرض حياة أهل كل فلورنسي فيها للخطر، وإنه يخشى إذا نفذ البابا ما هدد به من الحرمان فإن جميع التجار الفلورنسيين في روما قد يلقي بهم في السجون. ولم يسع مجلس السيادة إلا الخضوع، وأمر سفنرولا أن يكف عن عظاته (17 مارس). وأطاع الراهب الأمر، ولكنه تنبأ بأن فلورنس ستحل بها أشد الكوارث؛ وشغل الراهب دمنيكو منبر الدير بدله، وجعل نفسه الناطق بلسان الراهب؛ وكتب سفنرولا في خلال ذلك إلى ملوك فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا، وبلاد المجر، يرجوهم أن يدعوا إلى عقد مؤتمر عام لإصلاح الكنيسة وجاء في رسالته:
لقد حان وقت الانتقام؛ وقد أمرني الله أن أكشف عن أسرار جديدة،(18/284)
وأن أظهر للعالم الأخطار التي تتهدد سفينة القديس بطرس نتيجة لطول إهمالكم. إن الكنيسة غاصة بكل ما هو ممقوت ومرذول من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، ومع ذلك فإنكم لا تكتفون بالسكوت عن علاج مساوئها بل إنكم تقدمون الولاء والخشوع للمتسببين في هذه الرذائل التي تدنسها؛ وقد غضب الله من هذا أشد الغضب، وترك الكنيسة زمناً طويلاً من غير راع ... ذلك بأني بهذا أقر ... أن الإسكندر هذا ليس بابا، ولا يمكن أن يكون بابا؛ لأنه يغض الطرف عن الخطيئة المهلكة خطيئة الاتجار بالمقدسات والمناصب الكهنويتة التي ابتاع بها كرسي البابوية، وهو في كل يوم يبيع المناصب الكنسية لصاحب أكبر عطاء؛ وإذا غضضنا النظر عن آثامه الأخرى البادية للعيان، فإني أعلن على رؤوس الأشهاد أنه ليس مسيحياً ولا يؤمن بالله (33).
واضاف إلى ذلك قوله إنه إذ عقد الملوك مجلساً فإنه سيمثل أمامه ويبرهن على صحة هذه التهم جميعها. واعترض أحد عمال ميلان على إحدى هذه الرسائل وبعث بها إلى الإسكندر.
وقام راهب فرنسيسي في الخامس والعشرين من شهر مارس عام 1498 وسلط أضواء المسرحية على نفسه بأن خطب في كنيسة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) يتحدى سفنرولا ويدعوه إلى التحكيم الإلهي بوساطة النار؛ واتهم في خطابه الراهب الدمنيكي بأنه خارج على الدين، ومتنبئ كذاب، وعرض أن يخوض النار إذا قبل سفنرولا أن يحذو حذوه؛ وقال إنه يتوقع أن يحترق كلاهما، ولكنه يرجو أن تنجو فلورنس بهذه التضحية من الاضطراب الذي أحدثه فيها دمنيكي مزهو يعصي أوامر البابا. ورفض سفنرولا هذا التحدي لكن دمنيكو قبله. واغتنم مجلس السيادة هذه الفرصة التي سنحت له لكي يندد بالراهب الذي أصبح في زعمه زعيما مهرجاً أثار في المدينة كثيراً من المتاعب. وارتضى الالتجاء إلى أساليب العصور الوسطى،(18/285)
وأعد العدة لكي يدخل النار الراهب جوليانوا رندينلي Giuliano Rondinelli أحد الرهبان الفرنسيس والراهب دمنيكو دا بستشيا Domenico da Pescia في البياتسا دلا سنيوريا (ميدان مجلس السيادة).
واحتشد في اليوم المحدد جمهور كبير في الميدان العظيم ليستمتع بالنظر إلى معجزة من المعجزات أو إلى عذاب يحل ببني الإنسان، واحتل النظارة كل نافذة وكل سقف يطل على هذا المنظر. وأعدت في وسط الميدان كومتان متماثلتان من الخشب الممزوج بالقار، والزيت، والراتنج، والبارود، تعترضان طريقاً عرضه قدمان، وتضمنان اشتعال لهب شديد. واتخذ الرهبان الفرنسيس موقفهم في اللوجيا دي لاندسي Loggia dei Lanzi، واقبل الرهبان الدمنيك من الاتجاه المقابل لهم، وكان الراهب دمنيكو يحمل قرباناً مقدساً، بينما كان سفنرولا لا يحمل الصليب. وشكا الفرنسيس من أن قلنسوة الراهب الدومنيكي الحمراء قد سحرها رئيس الدير حتى أضحت غير قابلة للاحتراق؛ وأصروا على أن يخلعها؛ واحتج الراهب الدومنيكي على هذا الطلب ولكن الجماهير ألحت عليه بالامتثال ففعل. ثم طلب إليه الفرنسيس أن يخلع اثواباً أخرى ظنوا أنها هي أيضاً قد تكون مسحورة؛ وارتضى دمنيكو هذا، وسار إلى قصر مجلس السيادة واستبدل بثيابه ثياب راهب آخر. وألح الفرنسيس مرة أخرى أن يحرم عليه الاقتراب من سفنرولا، لئلا يعود إلى التأثر بسحره؛ وارتضى دمنيكو أن يحيط به الرهبان الفرنسيس؛ وعارضوا في أن يخوض النار وهو يحمل الصليب أو القربان المقدس، فأعطاهم الصليب ولكنه أبى أن يعطيهم القربان، وأعقبت هذا مناقشة فقهية بين سفنرولا والرهبان الفرنسيس وخلاصتها هل يحترق المسيح مع ظاهر القربان المقدس أو لا يحترق معه. وظل البطل فرنسيس في خلال هذه المدة في القصر يرجو مجلس السيادة أن ينقذه بوسيلة ما؛ وأطال الرهبان الجدل حتى أقبل الليل وخيم الظلام، ثم أعلنوا أن التحكيم الإلهي لن يحدث.(18/286)
وغضبت الجماهير لهذا الخداع الذي حرمهم رؤية الدم المسفوك، وهاجموا القصر لكنهم صدوا، وحاول بعض الكلاب الكلبة أن يعتقلوا سفنرولا، ولكن حراسه دفعوهم عنه، وعاد الدمنيك إلى سان ماركو وسط سخرية الجماهير، وإن كان من الواضح أن الفرنسيس هم الذين كانوا السبب الأكبر في هذا التأخير: وشكا الكثيرون من أن سفنرولا قد سمح بأن يمثله دمنيكو في التحكيم الإلهي بدل أن يواجهه بنفسه، بعد أن أعلن أنه يتلقى الوحي من الله، وأن الله سيحميه. وانتشرت هذه الأفكار في المدينة، ولم يكد ينقضي الليل حتى تنحي أتباع رئيس الدير عنه.
وكان اليوم الثاني هو أحد السعف، وفيه سارت الغوغاء من جماعة الكلاب الكلبة وغيرهم تريد مهاجمة دير سان ماركو، وقتلوا في طريقهم بعض الباكين من بينهم فرانتشسكو فالوري، ولما أطلت زوجته من النافذة حين سمعت صراخه رميت بسهم أرداها قتيلة، ونهب بيته وحرق، وقتل أحد أحفاده خنقاً. ودق جرس سان ماركو يدعو الباكين إلى النجدة، ولكنهم لم يلبوا النداء، واستعد الرهبان للدفاع عن أنفسهم بالسيوف والهراوات، وأمرهم سفنرولا بأن يضعوا أسلحتهم ولكن أوامره ذهبت أدراج الرياح، ووقف هو نفسه أعزل أمام المحراب ينتظر الموت. واستبسل الرهبان في الكفاح، وأخذ الراهب إتريكو يضرب بسيفه وهو مبتهج ابتهاج غير رجال الدين، ويصرخ عن كل ضربة صرخة مدوية قائلا: أنج شعبك يا رب Salvum fuc populum tuum Domine، ولكن الجماهير الغاضبة كان أكثر من أن يطيقها الرهبان؛ وأقنعهم سفنرولا في آخر الأمر أن يضعوا أسلحتهم. ولما أن جاء الأمر من مجلس السيادة باعتقاله هو ودمنيكو، استسلم الرجلان، وسيقا وسط الجماهير التي أخذت تسخر منهما، وتضربهما بالأيدي، وتركلهما بالأقدام، وتبصق عليهما، وأودعا زنزانتين في قصر فيتيشيو، وضم الراهب سلفسترو إلى السجينين في اليوم الثاني.(18/287)
وبعث مجلس السيادة إلى البابا إسكندر بأنباء التحكيم الإلهي والقبض على الرهبان، ورجاه أن يعفو عما وقع على أحد رجال الدين من عنف، وطلب إليه أن يأذن بتقديم المسجونين إلى المحاكمة، وأن يعذبا إذا استدعى الأمر تعذيبهم. وطلب البابا أن يرسل الرهبان الثلاثة إلى روما ليحاكموا أمام محكمة كنسية؛ فرفض مجلس السيادة هذا الطلب، ولم يسع البابا إلا أن يقنع بأن يشترك مندوبان بابويان في محاكمة المتهمين (34). وكان مجلس السيادة يصر على إعدام سفنرولا، وذلك لاعتقاده أن حزبه سيبقى قائماً ما دام هو حياً؛ وأن موته هو الذي يرأب الصدع الذي قسم المدينة والحكومة على نفسيهما حتى اصبح مع فرنسا عديم القيمة لا تخشاه أية دولة أجنبية، وأضحت فلورنس بسبب ذلك مُعششا للمؤامرات الأجنبية في الداخل ومعرضة للغزو من الخارج.
وجرى المحققون على الشريعة التي سنتها محكمة للتفتيش، فأخذوا يعذبون الرهبان الثلاثة عدة مرات بين اليوم التاسع من أبريل واليوم الثاني والعشرين من مايو. وانهار سلفسترو على الفور، ولم يتردد في أن يجيب المحققين إلى كل ما رغبوا فيه حتى كانت اعترافاته عديمة القيمة بسبب الإفراط في يسرها. أما دمنيكو فقد ظل يقاوم؛ حتى النهاية وحتى بعد أن عذب عذاباً كاد ان يؤدي به إلى الموت ظل يجهر بأن سفنرولا قديس لا تشوبه شائبة من خداع أو إثم. وتوترت أعصاب سفنرولا وخارت قوله فلم يلبث أن انهار تحت ضغط التعذيب، وأدلى المحققين بكل ما أوحوا إليه به. فلما أفاق أنكر ما اعترف به، فعذب وعاد إلى الخضوع. ولما تكرر عذابه للمرة الثالثة تحطمت روحه وأمضى اعترافا مهوشاً بأنه لم يتلق وحياً إلهياً، وأنه آثم في كبريائه وأطماعه، وأنه حث قوى أجنبية زمنية على أن تعقد مجلساً عاماً للكنيسة، وأنه دبر مؤامرة لخلع البابا. وأدين الرهبان الثلاثة بأنهم منشقون خارجون على الدين، وأنهم أذاعوا أسرار الاعترافات؛ وادعوا(18/288)
أنها رؤى ونبوءات، وأنهم أشاعوا الفرقة والاضطراب في الدولة؛ وحكم عليهم بالإعدام باتفاق الدولة والكنيسة. وتفضل الإسكندر فبعث إليهم بالغفران.
ونفذت الجمهورية العاقة قاتلة ابيها في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1498 حكم الإعدام في منشئها ورفاقه. واقتيدوا حفاة مجردين من ثيابهم الكهنوتية إلى ميدان مجلس السيادة الذي حرقوا فيه «الأباطيل» مرتين، واحتشدت جماهير كثيرة لتشاهد هذا المنظر كما احتشدت من قبل لتشاهد منظر التحكيم الإلهي، ولكن الحكومة أمدتهم في هذه المرة بحاجتهم من الطعام والشراب. وسأل أحد القساوسة سفنرولا «بأي روح تتحمل هذا الاستشهاد؟» فرد عليه بقوله: «ما أكثر ما تعذب الرب من أجلي!» وقبل الصليب الذي كان معه ولم ينبس بعد ببنت شفة. وسار الرهبان بجنان ثابت ليلقوا مصيرهم المحتوم، وكاد الطرب يستخف دمنيكو فأخذ ينشد تسبيحه الشكر لله الذي أنعم عليه بنعمة الاستشهاد. وشنق ثلاثتهم وتركوا معلقين، وسمح للصبيان أن يرشقوهم بالحجارة وهم في حشرجة الموت. وأوقدت تحتهم نار حامية أحالت جثثهم رماداً؛ ثم ألقي الرماد في نهر الأرنو لئلا يعبد الناس بوصفه بقايا القديسين. وجاء بعض الباكين يتحدون الإحراق بالنار فركعوا في الميدان وأخذوا ينتحبون ويصلون؛ وظلت الأزهار تنثر في صباح اليوم التالي للثالث والعشرين من مايو في كل عام حتى عام 1703 في البقعة التي سقطت فيها دماء الرهبان الساخنة. وترى اليوم لوحة في أرض الميدان المرصوفة تشير إلى أشنع جريمة وقعت في تاريخ فلورنس.
وبعد فقد كان سفنرولا هو العصور الوسطى بعثت حية في عصر النهضة، وكانت النهضة هي التي قضت عليه. وكان يشهد انحلال إيطاليا(18/289)
الأخلاقي بفعل الثروة، كما يشهد اضمحلال العقيدة الدينية؛ ووقف مستبسلاً، متعصباً، ولكنه وقف عبثاً، في وجه روح العصر المتشككة، الشهوانية. لقد ورث الرجل ما كان يتصف به القديسون في العصور الوسطى من غيرة أخلاقية وسذاجة عقلية، وبدا أنه لا مكان له في عالم يسبح بحمد بلاد اليونان الوثنية التي عثر عليها من جديد. وأخفق الرجل في هدفه وكان إخفاقه نتيجة قصور عقله وفي كفايته، ويستخف استخفاف السذج الطيبي القلوب بما تتطلبه مقاومة سلطان البابوية وغرائز الآدميين من قوة ليست له. ولقد روعته أخلاق الإسكندر ترويعاً نستطيع أن ندرك سببه، ولكنه كان عنيفاً في اتهاماته عنيداً في سياسته. لقد كان بروتستنتيا قبل أن يجيء لوثر، ولكن بروتستنتيته لم يكن لها معنى إلا أنها الدعوة لآراء الكنيسة القائمة، ولكن ذكراه أصبحت قوة تملأ عقول البروتستنت؛ ولذلك لقبه لوثر بالقديس. وكان أثره في الأدب ضئيلا لأن الأدب كان وقتئذ في أيدي المتشككين والواقعيين أمثال مكيفلي وجولتشيارديني Guicciarddini، أما أثره في الفن فكان عظيما إلى أبعد حد. وقد كتب الراهب بارتولوميو على صورته يقول: «صورة جيرولاما من أهل فرارا، النبي المبعوث من عند الله». وقد تحول بتيتشيلي من الوثنية إلى التقي والصلاح بتأثير مواعظ سفنرولا؛ وكثيراً ما كان ميكل أنجيلو يستمع إلى الراهب ويقرأ عظاته في خشوع، وكانت روح سفنرولا هي التي حركت الفرشاة في سقف معبد ستيني Sistine ورسمت وراء المحراب صورة يوم الحساب.
أما عظمة سفنرولا فترجع إلى ما بذله من الجهد لإحداث ثورة أخلاقية(18/290)
في فلورنس، ولحث الناس على أن يكونوا أشرافاً، صالحين، عادلين. ونحن نعرف أن هذه أشق الثورات كلها، ولا ندهش لأن سفنرولا أخفق فيما أفلح فيه المسيح، وهو أن يصلح قلة ضئيلة يرثى لها من الخلائق؛ ولكننا نعرف أيضاً أن ثورة كهذه هي وحدها التي تؤدي إلى تقدم حق في شئون الخلق، وأن تقلبات التاريخ إذا قيست إليها كانت مناظر عارضة سريعة الزوال عديمة الأثر، إن بدلت شيئاً فلن تبدل الإنسان.(18/291)
الفصل الرابع
الجمهورية والميديتشيون
1498 - 1534
لم يخفف موت سفنرولا من الفوضى التي كادت تجعل البلاد بلا حكومة أيام سلطانه. ذلك أن الفترة القصيرة التي لم تكن تدوم إلا ثلاثة شهور، وهي التي كان يقضيها أعضاء مجلس السيادة وحامل الأختام في مناصبهم، كانت تقضي على الاستمرار الواجب في الهيئة التنفيذية، وتبعث فيها قلقاً أشبه بقلق المحموم، وتؤدي إلى الفساد وعدم الإحساس بالتبعة. وحاول المجلس في عام 1502، وكانت تسيطر عليه وقتئذ أقلية ظافرة من أصحاب المال، أن يتغلب على بعض هذه الصعوبة بأن يختار حامل الشعار على أن يبقى في منصبه طول حياته حتى يستطيع مواجهة البابوات الحكام الزمنيين على قدم المساواة، وإن ظل مع ذلك خاضعاً لمجلس السيادة ومجلس الحكام. وكان اول من حظي بهذا الشرف بيتروسدريني، وهو من أصدقاء الشعب الأثرياء، وكان وطنياً أميناً، لم يؤت من العقل والإرادة درجة كبرى تهدد فلورنس بالدكتاتورية. واستخدم مكيفلي فيمن استخدمهم من المستشارين، وساس البلاد بحكمة وراعى جانب الاقتصاد، واستعان بأمواله الخاصة على العودة إلى مناصرة الفنون التي انقطع حبلها في عهد سفنرولا. واستبدل مكيفلي بتأييد منه بجنود فلورنس المرتزقة مجندين من أهلها، اضطروا بيزا آخر الأمر (1508) إلى قبول «الحماية» مرة أخرى.
ولكن السياسة الخارجية التي إتبعهتا الجمهورية أوقعت البلدة في عام 1512 في الكارثة التي تنبأ بها الإسكندر السادس. ذلك بأن فلورنس(18/292)
أصرت على الاستمساك بحلفها مع فرنسا طوال المدة التي كان فيها «الحلف المقدس» المكون من البندقية، وميلان، ونابلي، وروما يبذل الجهود تلو الجهود ليطهر إيطاليا من الغزاة الفرنسيين. فلما توجت جهود الحلف بالنصر ولى شطر فلورنس لينتقم منها، وسير إليها جنوده لكي يستبدلوا الالجاركية الجمهورية بدكتاتورية ميديتشية. وقاومت فلورنس جنود الحلف، وبذل مكيفلي جهودا جبارة لتنظيم وسائل الدفاع عنها. واستولى الغزاة على براتو Prato حصنها الامامي ونهبوه، وإلى عساكر مكيفلي الادبار أمام جنود الحلف المرتزقين المدربين. واستقال سدريني حتى لا يطول سفك الدماء، ودخل جوليانو ده ميديتشي ابن لورندسو فلورنس، بعد أن نفح الحلف بعشرة آلاف دوقة (نحو 250. 000 دولار)، في حماية الجنود الاسبانية، والجرمانية، والإيطالية. وسرعان ما انضم إليه أخوه الكردنال جيوفيني، والغى دستور سفنرولا، وأعيدت سيادة آل ميديتشي على فلورنس.
وسلك جيوفيني وجوليانو مسلك الحكمة والاعتدال، وارتضى الشعب هذا التغيير بعد أن أتخمه طول الاستشارة والاهتياج. ولما أن أصبح جيوفيني هو البابا العاشر (1513)، وتبين أن جوليانو أرق واظرف من أن يكون حاكماً ناجحاً، أسلم حكم فلورنس إلى ابن أخيه لورندسو، ومات هذا الشاب الطموح بعد ست سنين من حكم الاستهتار، وخلفه الكردنال جويليوده ميديتشي Giulio de'Medici، ابن جوليانو الذي قتل في مؤامرة باتسي Pazzi، فأدار شئون فلورنس بكفاية ممتازة؛ ولما اصبح هو البابا كلمنت السابع (1521) حكم المدينة وهو جالس على كرسي البابوية. وانتهزت فلورنس فرصة الكوارث التي حلت به فطردت منها ممثليه (1527)، وظلت أربع سنين تستمع مرة أخرى بتجارب الحرية. ولكن كلمنت خفف بالدبلوماسية وقع الهزيمة، واستخدم جنود شارل(18/293)
الخامس ليثأر لاقاربه المطرودين. وزحف جيش من الاسبان والجرمان على فلورنس (1529)، وأعاد قصة عام 1512؛ وقاومت المدينة مقاومة الابطال ولكنها لم تجدها نفعا، وبدا السندروده ميديتشي Alessandro de Medici (1513) عهداً من الظلم والوحشية، والفجور لم يسبق له مثيل في سجلات اسرته، ومضت بعد ذلك ثلاثة قرون بعد أن تذوق فلورنس طعم الحرية مرة أخرى.(18/294)
الفصل الخامس
الفن في عهد الجمهورية
أن عصر الاهتياج السياسي يكون في العادة حافزاً قوياً للأدب وسندرس فيما بعد كاتبين من الطراز الأول - مكيفلي وجوتسيارديني Guicciardini - كانا من كتاب تلك الفترة. لكن الدولة المشرفة على هاوية الإفلاس، والتي لا تكاد تخرج من ثورة إلا إلى ثورة، لا تكون صالحة لنماء الفنون - وهي أقل ما تكون صالحاً لنماء العمارة بوجه خاص. ومع هذا فقد وجد عدد من الرجال الاغنياء، أوتوا من البراعة ما يستطيعون به أن يطفوا فوق الفيضان الجارف، فظلوا يتحدون الحظ العاثر بإقامة القصور. من ذلك أن جيوفيني فرانتشيسكو، وأرسطوطيلي دا سنجلو Aristotele da Sagalla، أقاما قصراً فخماً لأسرة بندلفيني Pandolfini بناء على تصميم من عمل روفائيل، وخطط ميكل أنجيلو بين عامي 1520، 1524 غرفة مقدسات جديدة Nuova Sagrestia لكنيسة سان لورندسو بتكليف من الكردنال جويليوده ميديتشي - تتكون من فناء مربع بسيط، وقبة متواضعة يعرفها العالم كله بأنها موطن أجمل ما نحته ميكل أنجيلو وهو مقابر الميديتشيين.
وكان بين منافسي هذا الفنان الجبار المثال بيترو ترجيانو Pietro Torrigiano الذي كان يعمل معه في حديقة التماثيل التي أنشأها لورندسو، والذي جدع أنفه ليؤيد بذلك حجة له. وغضب لورندسو من هذا العمل العنيف غضباً اضطر ترجيانو من أجله أن يلجأ إلى روما ويصبح جندياً في خدمة سيزاري بورجيان وأظهر بسالة عظيمة في كثير من المعارك، واتخذ سبيله إلى إنجلترا، وخطط فيها إحدى آيات الفن الإنجليزية وهي قبر(18/295)
هنري السابع في دير وستمنستر (1519). ونحت بعدئذ (1) وهو يطوف في إسبانيا طواف القلق المضطرب، تمثالاً جميلاً للعذراء والطفل كلفه به دوق أركوس Arcos، ولكن الدوق لم يكافئه عليه بما يستحق، فحطم التمثال، وانتقم منه الدوق بأن اتهمه لدى محكمة التفتيش بالمروق من الدين، وحكم على ترجيانو بعقوبة شديدة، ولكنه فوت على أعدائه غرضهم بأن أضرب عن الطعام حتى مات جوعا.
ولم تشهد فلورنس في فترة من تاريخها مثل ذلك العدد الجم من الفنانين الذي شهدته في عام 1492، ولمن كثيرين منهم فروا منها بسبب ما كانت تموج به من اضطراب، وخصوا بشهرتهم أماكن غيرها؛ فذهب ليوناردو إلى ميلان، وميكل أنجيلو إلى بولونيا، وأندريا سانسوفينو Andrea Sansovino إلى لشبونة وأتخذ سانسوفينو لقبه من جبل سو فينو، وأذاع شهرته إلى حد نسى معه الناس اسمه الحقيقي وهو أندريا دي دنيكو كنتوتشي Andrea di Domenico Contucci. وكان أندريا ابن عامل فقير ولكنه اولع اشد الولع بالرسم وبعمل نماذج من الصلصال؛ وارسله رجل رحيم من أهل فلورنس إلى مرسم أنطونيو دل بولا يولو؛ وسرعان ما نضج الغلام فشاد في كنيسة سانتو اسبريتو معبد القربان المقدس، وصنع فيه تماثيل ونقوشا بارزة «بلغت من القوة والجودة» كما يقول فاساري «درجة لا يجد الإنسان معها أي عيب فيها»، ثم وضع أمام المعبد دريئة مصعبة من البرنز بلغت من الجمال حداً لا يسع الإنسان معه غلا أن يحبس انفاسه عند النظر إليها. ورجا جون الثاني ملك البرتغال لورندسو أن يبعث إليه بالفنان الشاب، وذهب إليه أندريا وظل عنده تسع سنين يكدح في النحت والعمارة. وعاوده الحنين إلى إيطاليا، فعاد إلى فلورنس (1500)، ولكنه سرعان ما غادرها إلى جنوى، ثم انتهى به المطاف إلى روما، وأنشأ في كنيسة سانتا ماريا دل بوبولو قبرين من الرخام - للكردنالين اسفوردسا - وبسو دلا روفيري Basso delle Rovere نالا أعظم الثناء من مدينة تزدحم وقتئذ (1505 - 1507) بالعباقرة.(18/296)
وأرسله ليو العاشر إلى لوريتو Loreto حيث زين بين عامي 1523 و1528 كنيسة سانتا ماريا بمجموعة من النقوش البارزة مستمدة من حياة العذراء، وبلغت من الجمال حداً بدا معه الملك في صورة البشارة كأنه «من السماء لا من الرخام»، على حد قول فاساري، ثم آوى أندريا بعد قليل من ذلك الوقت إلى ضيعة قريبة من موطنه مونتي سان سافينو، وعاش فيها عيشة الفلاح المجد حتى توفي في عام 1529 في الثامنة والستين من عمره.
وكانت أسرة دلا ربيا Robbia della في هذه الاثناء تواصل العمل بامانة ومهارة في اشغلا الصلصال المزجج؛ وطال عمر أندريا دلا ربيا أكثر مما طال عمر عمه الذي بلغ خمسة وثمانين عاماً، وأوتى بذلك من الوقت ما مكنه من أن يدرب على فنه ثلاثة من أبنائه هم جيوفني، ولوكا، وجرولو. وقد بلغت اشغال أندريا في الصلصال المحروق من بريق اللون والرقة حداً يذهل معه زائر المتحف، فيهبر عينه ويمسك قدمه فلا يستطيع التحرك من مكانه. وقد امتلأت حجرة في البرجيلو Bargello بروائع من صنع يده، وامتاز مستشفى الالمبرئين بالزخارف الهلالية التي زين بها صورة البشارة. ونافس جيوفني دلا ربيا أباه أندريا في مهارته التي يتبينها الإنسان في البرجيلو واللوفر؛ وكاد آل دلا ربيا يقصرون جهودهم على الموضوعات الدينية مدى ثلاثة أجيال كاملة، وكانوا من أشد أنصار سفنرولا واعظمهم تحمساً لآرائه، وانضم ثلاثة من ابناء أندريا إلى إخوان سان ماركو يطلبون النجاة مع الراهب.
وكان الرسامون يحسون أعمق الإحساس بتأثير سفنرولا، وقد أخذ لورندسو ده كريدي Lorenzo de Credi فنه عن فيرتشيو Verrocchio، وحاكى طراز ليوناردو زميله في الدرس، وأخذ رقة صوره الدينية من التقوى التي بعثها فيه بيان سفنرولا ومصيره المفجع، وقضى نصف عمره يعمل في تصوير العذراء؛ حتى لا يكاد يخلو مكان من هذه الصور،(18/297)
فنحن نراها في رومة، وفلورنس، وتورين، وافنيون، وكليفلاند. ووجوه هذه الصور غير متقنة، واثوابها فخمة، ولربما كانت أحسنها كلها صورة البشارة المحفوظة في متحف أفيزي. ولما بلغ لورندسو الثانية والسبعين من العمر وأحس بأن الوقت قد حان للتحلي بمظهر القداسة، ذهب ليعيش مع رهبان رانتا ماريا نوفو؛ ومات في ذلك المكان بعد ست سنين من ذهابه إليه.
واتخذ بيرو دي كوزيمو Piero di Cosimo لقبه من معلمه كوزيمو روسلي Cosimo Rosselli لأن «من يدرب الكفايات، ويزيد من سعادة الانسان أب بحق لا يقل شأناً عن أبي الإنسان الذي ولده» (35). وأيقن كوزيمو أن تلميذه قد بَزَّه؛ فلما استدعاه سكستس الرابع لزخرفة معبد سستيني صحب بيرو معه؛ وهناك رسم بيرو صورة هلاك جند فرعون في البحر الأحمر وسط مناظر طبيعية مكتئبة من الماء، والصخر، والسماء الملبدة بالغيوم. وقد خلف لنا صورتين عظيمتين كلتاهما في متحف لاهاي وهما صورتا جوليانو دا سنجلو. ووهب بيرو نفسه كلها للفن، فقلما كان يعني بالمجتمعات او بالصداقة؛ وكان يعشق الطبيعة والوحدة، وينمك في الصور والمناظر التي يصورها. ومات الرجل وحيداً دون أن يعترف، بعد أن أخذ عنه فنه تلميذان تفوقا على أستاذهما كما تفوق هو على استاذه من قبل: نعني بهما الراهب بارتولميو وأندريا دل سارتو Andrea del Sarto.
واتخذ باتشيو دلا بورتا Baccio delle Porta لقبه من باب سان بيرو الذي كان يعيش عنده، فلما انضم إلى طائفة الرهبان سمى الأخ بارتولميو Fra Bartolommeo؛ وبعد أن درس الفن مع كوزيموروسلين وبيرو دي كوزيمو اتخذ لنفسه مرسماً مع ماريتو البرتنلي. وشاركه في رسم عدة صور، وظل وثيق الصلة به، صديقاً وفياً له، حتى فرق بينهما الموت.(18/298)
وكان بارتولميو شاباً متواضعاً، حريصاً على طلب الفن، ينطبع فيه كل تأثير، ظل فترة من الزمن يسعى للحاق بليوناردو، والوصول إلى بعض ما وصل إليه؛ ولما جاء روفائيل إلى فلورنس درس معه باتشيو فن المنظور والطرق المثلى لمزج الالوان؛ ثم زار روفائيل بعدئذ في روما، ورسم معه صورة فخمة نبيلة هي رأس القديس بطرس، ثم شغف حباً بطراز ميكل أنجيلو الفخم الرائع، ولكنه كانت تعوزه الشدة الرهيبة التي يمتاز بها ذلك الغاضب؛ ولما حاول بارتولميو ذلك العمل الضخم فقد وهو يحاول تكبير آراءه البسيطة ما كان في صفاته هو من سحر وفتنة - ونعني بتلك الصفات ما كان في الوانه من غنى وعمق وتظليل رقيق، وما في تواليفه من تناسب فخم رائع، وما في موضوعاته من تقوى وعاطفة.
وتأثر أشد التأثر بعظات سفنرولا، وجاء إلى حرق الأباطيل بجميع ما صور من الأجسام العارية، ولما هاجم أعداء الراهب دير سان ماركو (1498) انضم إلى المدافعين عنه، وأقسم في أثناء ذاك الاشتباك أن ينظم إلى سلك الرهبان إذا نجا من الموت؛ وبر بقسمه فدخل دير الرهبان الدمنيك في براتو Prato، وظل خمس سنين ممتنعاً عن التصوير، منهمكاً في ممارسة الشعائر الدينية؛ ولما أنتقل إلى دير سان ماركو رضى أن يضم روائعه الفنية المرسومة بالالوان الزرقاء، والحمراء، والسوداء إلى مظلمات الراهب أنجيلكو الوردية. وصور في مطعم هذا الدير صورتين إحداهما للعذراء والطفل، والثانية ليوم الحساب؛ كما صور في طريقه المقنطر المسقوف صورة للقديس سبستيان؛ ورسم في صومعة سفنرولا صورة قوية للراهب متنكراً في زي القديس الشهير بطرس. وكانت صورة القديس سبستيان الصورة العارية الوحيدة التي صورها بعد الانضمام إلى سلك الرهبان؛ وقد وضعت هذه الصورة اولاً في كنيسة سان ماركو، ولكنها بلغت من الجمال حداً اعترفت معه بعض النساء بأنها بعثت في نفوسهن(18/299)
أفكاراً خبيثة، فما كان من الراهب إلا أن باعها إلى رجل من أهل فلورنس أرسلها إلى ملك فرنسا. وظل الراهب بارتولميو يرسم الصور حتى عام 1517 حين شل المرض يديه فلم يقو على أن يمسك الفرشاة. ثم مات في تلك السنة وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
وكان منافسه الوحيد على مركز السيادة بين المصورين الإيطاليين في عصره تلميذاً آخر من تلاميذ بيرو دي كوزيمو، ذلك هو أندريا دمنيكو دا نيولو دي فرانتشيسكو فيينوتشي Andrea Domenico d'agnolo di Francesco Vennuci المعروف لنا باسم أندريا دل سارتو Andrea del Sarto لأن أباه كان خياطاً. ونضج الرجل نضوجاً سريعاً كما ينضج معظم الفنانين في عصر النهضة، فقد بدأ تدريبه وهو في السابعة من عمره. ودهش بيرو من براعة الشاب في التصميم، ولاحظ وهو فرحان جذل كيف كان أندريو في أيام العطلة التي يغلق فيها المرسم يقضي وقته في عمل صور في الرسوم التمهيدية التي كان يصنعها ليوناردو وميكل أنجيلو لقاعة الخمسمائة في قصر فيتشيو. ولما أن اصبح بيرو في شيخوخته رجلا شاذاً غريب الأطوار، اتخذ أندريا وفرانشيابجيو Franciabigio زميله في الدرس مرسماً خاصاً بهما، وظلا فترة من الزمن يعملان معاً. ويولوح أن أندريا بدأ حياته المستقلة بأن صور في فناء كنيسة البشارة Annunziata (1509) خمسة مناظر مأخوذة من حياة سان فلبوبنتسي San Filippo Benizzi، وهو نبيل فلورنسي أنشأ طائفة الرهبان الخادمين لعبادة مريم العذراء خاصة. وتمتاز هذه المظلمات، رغم ما أصابها من عوادي الزمان وتعرضها للجو، ببراعة التنفيذ، والتأليف، ووضوح القصص، ومزج الألوان المتناسقة القوية حتى أصبح هذا الفناء في هذه الأيام كعبة يحج إليها المولعون بالفن إذا زاروا فلورنس. وقد أتخذ أندريا نموذجاً لإحدى صور النساء تلك المرأة التي أضحت زوجة له أثناء قيامه بهذه الرسوم-نعني بها لكريدسيا دل(18/300)
فيدي Luerezia del Fede وهي سليطة جميلة ظل وجهها الأسمر، وشعرها الفاحم يراودان خيال الفنان إلى ما قبل وفاته.
وشرع أندريا وفرانتشيا بجيو في عام 1515 يعملان طائفة من المظلمات في طرقات دير إخوة أسكالدسو Scalzo، واختارا موضوعاً لهما حياة القديس يوحنا المعمدان؛ ولكن بدأ أندريا بلا ريب هي التي أظهرت خصائصها في طائفة من الصور؛ فقد رسم صور الإناث بكل ما فيها من كمال الشكل والتركيب. وتلقى في عام 1518 دعوة من فرانسس الأول بالمجيء إلى فرنسا؛ فقبل دعوته ورسم صورة الصدفة المعلقة في متحف اللوفر؛ غير أن زوجته التي تركها في فلورنس رجته أن يعود؛ وأذن له الملك بالعودة بعد أن تعهد بالرجوع إلى فرنسا، وأعطاه مبلغاً كبيراً من المال ليبتاع له تحفاً فنية من إيطاليا. لكن أندريا أنفق مال الملك في بناء بيت له ولم يعد قط إلى فرنسا. ولما أوشك على الإفلاس رغم هذا عاد إلى التصوير ورسم لطرقات كنيسة البشارة آية من آياته الفنية يصفها فاساري بأنها: «بتصميمها، وظرفها، وبراعة ألوانها، وحيويتها، ونقوشها، لا تترك مجالا للشك في أنه يسمو بمراحل طويلة على جميع من سبقوه» -ومنهم ليوناردو وروفائيل (26). وقد تلفت هذه الصورة، صورة عذراء الكيس، Madonno del socco- وهو اسم سخيف سميت به لأنها تصور مريم ويوسف متكئين على كيس-ولم تعد تكشف عما كانت عليه من روعة الألوان وبهجتها؛ ولكن تركيبها الذي يبلغ حد الكمال، وألوانها الرقيقة المتناسقة، وتمثيلها للأسرة تمثيلا هادئاً- بما فيها يوسف، وقد أصبح فجأة قادراً على القراءة، فأخذ يقرأ في كتاب-كل هذا يضعها في مصاف أعظم الصور في عصر النهضة.
وصور أندريا في مطعم دير سلفي Selvi صورة العشاء الأخير (1526) يتحدى بها ليوناردو، واختار لها نفس الساعة ونفس الموضوع:(18/301)
"سيخونني واحد منكم". وكان أندريا أكثر جرأة من ليوناردو، إذا أكمل في صورته وجه المسيح؛ ولكنه هو أيضاً قصر عن بلوغ العمق الروحي، والرقة الفطنة التي نعهدها في عيسى، غير أن صور الرسل واضحة تتميز كل منها عن الأخرى تمييزاً يثير الدهشة، والمعاني التي تبرزها واضحة، والتلوين غزير، هادئ، كامل، والصورة حين ينظر إليها الإنسان من مدخل قاعة الطعام تخدعه فلا يستطيع أن يحاجز نفسه عن الظن بأنها تمثل منظراً من الأحياء.
وقد بقي موضوع الأم العذراء الموضوع المحبب لأندريا، كما بقي الموضوع المحبب للكثرة الغالبة من فناني عصر النهضة في إيطاليا؛ فأخذ يصورها المرة بعد المرة في دراساته للأسرة المقدسة، كما نشهد ذلك في معرض آل بورجيا في روما، أو في متحف نيويورك، وقد صورها في إحدى الكنوز المحفوظة في معرض أفيزي في صورة عذراء المنتقمات (1) Madonna del Arpie وتعد هذه الصورة أجمل صورة لعذارى لكريدسيا، وصورة الطفل هي أجمل ما أخرجه الفن الإيطالي. وتوجد في معرض بتي Pitti على الضفة الأخرى لنهر الآرنو صورة صعود العذراء يظهر فيها الرسل ورجال الدين ينظرون في ذهول وخشوع إلى الملائكة الصغار وهم يرفعون العذراء-وهي هنا أيضاً لكريدسيا-إلى السماء؛ وهكذا تتم ملحمة العذراء بهذه الصورة المتلألئة التي رسمها أندريا.
وقلما نجد شيئاً من السمو في صور أندريا دل سارتو، كما لا نجد فيها جلال ميكل أنجيلو، أو التدرج غير المحس الذي لا يسبر عمقه والذي نجده في ليوناردو، أو كمال الصقل الذي نراه في رفائيل، أو مدى القوة التي نشهدها في الفنانين البنادقة العظام. غير أنه هو وحده الذي يضارع أولئك البنادقة في جمال اللون ويضارع كريجيو Correggio في الرشاقة، وإن
_________
(1) سميت كذلك لوجود صورة المنتقمات ممثلة على قاعدتها.(18/302)
براعته في التلوين- في عمقه، وتدرجه، وشفيفه- لترفع صوره فوق صور تيشيان Titian، وتنتوريتو Tintoretto وفيرونيري Veronese لما في هذه من إسراف كثير في التلوين. نعم إن صور أندريا ينقصها التنوع، فهي تتحرك داخل دائرة من الموضوعات والاحساسات شديدة الضيق، فصور العذراء التي تبلغ المائة عدا كلها صورة من الأم الشابة الإيطالية، المتواضعة، المحببة، المكتظة بالحلاوة؛ ولكن ما من أحد قد فاقه في براعة التكوين، وقلما بزه أحد في التشريح، وعمل النماذج، والتصميم. ويقول ميكل أنجيلو فيه: «إن في فلورنس إنساناً صغيراً إذا اشتغل بأعمال عظام جعل العرق يتصبب من جبينك» (37).
ولم تطل حياة أندريا نفسه حتى يصل إلى درجة النضج الكامل، ذلك أن الألمان الظافرين استولوا على فلورنس في عام 1530، ثم نشروا فيها عدوى الطاعون، وكان أندريا من أوائل ضحاياه؛ وتجنبت زوجته حجرته في تلك الأيام الأخيرة المضطربة، وكانت هي التي اثارت فيه آلام الغيرة التي تصحب الزواج بالحسان من النساء؛ وقضى الفنان الذي حباها حياة تكاد تعز على الموت، وليس إلى جانبه أحد، وهو في الرابعة والأربعين من عمره.
وبعد فإن من واجبنا أن ننظر إلى الفنانين القلائل الذين ورد ذكرهم في هذا الباب، لا على انهم وحدهم الجديرون بأن تسجل أسماؤهم فيه، بل على أنهم ممثلون لا أكثر لما كان في هذا العصر من عبقرية مرنة نيرة. فقد وجد في هذا العصر مثالون ومصورون وغيرهم، ولا يزال لهم في المتحف وجود كوجود الأشباح-نذكر منهم بينيديتو دا روفيتسانو Bendetto da Rovezzano، وفرانشيابجيو Franciabigio، وريدلفو جرلندايو Ridolfo Ghirlandaio ومئات آخرين غيرهم. وعاش في ذلك العصر فنانون في شبه عزلة، منهم سكان الأديرة ومنهم غير رجال الدين، كانوا لا يزالون(18/303)
يمارسون الفن ذا الصلة القوية بهم فن تزيين المخطوطات، نذكر منهم الراهب يوستاتشيو Eustachio، وأنطونيو دي جيرولامو؛ وعاش فيه خطاطون بلغ حظهم من الجمال درجة لا يسع الإنسان معها إلا أن يعذر فيدريجو الأربنودي Federigo of Urbino حين يتحسر لاختراع الطباعة؛ وكان هناك فنانون يتقنون أعمال الفسيفساء، ويحتقرون التصوير لأنه في رأيهم زهو زائل لا يدوم أكثر من يوم، وكان هناك حفارون في الخشب أمثال بتشيودانيو لو Baccio d'Agnolo ازدانت بيوت فلورنس بكراسيهم، ونضدهم، وصناديقهم، ذات النقوش المحفورة؛ وكان هناك من لم يحفظ التاريخ أسماءهم من العاملين في الفنون الصغرى. ذلك أن فلورنس قد احتوت ثروة ضخمة من الفنون استطاعت بها أن تتحمل معها انتهاب الغزاة، ورجال الدين، وأصحاب الملايين، من عهد شارل الثامن إلى هذه الأيام، ولا تزال تحتفظ بقدر رائع من روائع الصناعة الدقيقة يبلغ من الكثرة حداً لم يستطع معه إنسان فرد أن يحصي جميع الكنوز التي ادخرت في تلك المدينة وحدها خلال قرني النهضة، أستغفر الله بل خلال قرن واحد منهما؛ لأن عصر فلورنس العظيم في الفن بدأ حين عاد كوزيمو من منفاه سنة 1434، واختتم بوفاة أندريا دل سارتو سنة 1530. ذلك أن الشقاق الداخلي، وعهد سفنرولا المتزمت، وما عانته المدينة من حصار، وهزيمة، ووباء قد أخمدت كلها روح أيام لورندسو المرحة، وحطمت قيثارة الفن الهشة.
غير أن الأوتار العظيمة كانت قد ضربت، وتردد صدى موسيقاها في طول شبه الجزيرة وعرضها. فكانت الطلبات تنهال على فناني فلورنس من سائر المدن الإيطالية، بل جاءتها أيضاً من أسبانيا، وفرنسا، وبلاد المجر، وألمانيا، وتركيا. وهرع إلى فلورنس ألف فنان ليغترفوا من بحر فنها العباب، ويكون كل واحد منهم طرازه-بيرو دلا فرانتشسكا(18/304)
Piero della francesca، وبيروجينو Perugino، ورفائيل Raphael ... ونقل مائة فنان وفنان إنجيل الفن من فلورنس إلى خمسين من المدن الإيطالية وإلى البلاد الأجنبية. وفي هذه المدن الخمسين كانت روح العصر وذوقه، وسخاء ذوي الثراء، وتراث الفن تعمل كلها متضامنة مع الحافز الفلورنسي؛ فلم تلبث إيطاليا كلها من جبال الألب إلى كلبريا Calabria أن أخذت تمارس فنون التصوير، والنحت، والبناء، والتأليف والغناء، في سورة من الإبداع والابتكار، يخيل إلى الإنسان معها أنها، فيما انتابها من حمى العجلة، كانت تدرك أن هذه الثروة الضخمة لن تلبث أن تبيد في أتون الحرب العوان، وإن كبرياء إيطاليا ستزول حين يطأها الطغاة الأجانب بالأقدام، وأن سجون العقائد التعسفية ستغلق ابوابها مرة أخرى على عقل إنسان النهضة الخصيب، الوفير، العجيب.(18/305)
الكتاب الثالث
مسرح الحوادث الإيطالية
1378 - 1534(19/2)
الباب السادس
ميلان
الفصل الأول
ما وراء الأحداث
إننا نظلم النهضة حين نركز دراستنا على مدائن فلورنس، والبندقية، وروما، ذلك أن النهضة ظلت نحو عشر سنين هي اكثر بهاء في ميلان تحت حكم لدوفيكو Lodovico وليوناردو منها في فلورنس، وكانت إزبلا دست Isabella D'Este في مانتوا خير من تجلى في شخصها تحرير النهضة للمرأة والارتفاع بشأنها، وأعلت النهضة كذلك من شأن بارما Parma بظهور برجينو، كما أعلت من شأن ارفيتو Orvieto بظهور سينوريلي Siqnorelli. وبلغ أدب النهضة ذروته على يد أريستو Ariosto في فيرارا، كما بلغ أثرها أعلاه في تهذيب الأخلاق في اربينو Urbrino أمام كستجليوني، وهي التي خلعت أسم فياندسا Faenza على فن من فنون الخزف وأسم فيتشندسا على الطراز المعماري البلاسي Palladian (1) في تلك المدينة، واعادت الحياة إلى سينا Siena حين أنجبت بنتورتشيو، وإلى ساسيتا Sassetta وسادوم Sadom وجعلت نابولي موطنا ورمزا للحياة المرحة وشعر الأناشيد. ولهذا نرى من
_________
(1) يشير الكاتب إلى كلمة Faience المشتقة من كلمة فياندسا ومعناها القاشاني، والطرافة أي المنسوب إلى بالاس أثينا إلهة الحكمة عند اليونان. (المترجم)(19/3)
واجبنا ان نمر على مهل في شبه الجزيرة التي لا نظير لها في أشباه الجزائر من بيدمنت Piedmont إلى صقلية، ونتيح الفرصة للأصوات المتنوعة الخارجة من مدائنها تمتزج في النشيد المتعدد النغمات الذي تترنم به النهضة.
لم تكن الحياة الاقتصادية في الدول الإيطالية خلال القرن الخامس عشر أقل تنوعا من مناخ المدن، ولهجاتها، وأزيائها. فقد كان شمالي شبه الجزيرة ينتابه أحيانا شتاء قارس تتجمد فيه مياه نهر البو من منبعه إلى مصبه، بينما كان الإقليم الساحلي المحيط بجنوى والذي تحميه الألب الليجورية Lligurian Alps يستمتع بجو معتدل يكاد يدوم طول العام. وكان الضباب يلف قصور البندقية، وأبراجها، وشوارعها المائية، وكانت روما مشمسة ولكن العفن يتصاعد في سماءها، أما نابلي فهي الفردوس في مناخها. وكانت هذه المدائن أينما وجدت وما يتصل بها من أقاليم الريف تنتابها من حين إلى حين تلك الزوابع، والفيضانات، والحدب، والأعاصير، والمجاعات، والأوبئة، والحروب، التي لا تنفك الطبيعة تسيرها على العالم لتوازن بها إسراف بنى الإنسان في التناسل والإخصاب كأنها تتبع في ذلك تعاليم مالتس Malthus (1) . وكانت الحرف اليدوية القديمة تمد فقراء المدن بالكفاف من العيش كما تمد الأغنياء بأسباب الترف، ولم يصل إلى مرحلة المصانع ورؤوس الأموال إلا صناعة النسيج، من ذلك أن إحدى مصانع الحرير في بولونيا تعاقدت مع ولاة الأمور في المدينة على أن تخرج من الغزل "ما تخرجه 4000 امرأة غازلة" (1) وكانت في تلك المدن طبقة وسطى من خليط من صغار البائعين، وتجار الواردات والصادرات، والمدرسين، والمحامين، والأطباء، ورجال الإدارة، والسياسة، وكانت طبقة من رجال الدين الأثرياء المهتمين بشئون هذه
_________
(1) هو العالم الاقتصادي الذي عاش بين 1766 و 1834 والقائل بأن سكان العالم يتضاعفون أكثر من تضاعف الغذاء، وأن الطبيعة ترسل إليهم الكوارث حتى يتوازن هذا مع ذاك. (المترجم)(19/4)
الدنيا تضيف بهرجها ورشاقتها إلى الأبهاء والشوارع، كما كان الرهبان على اختلاف طوائفهم، النكدون منهم والمرحون، يجوبون البلاد طلباً للصدقات أو المغامرات. وكان الأعيان من الملاك ورجال المال يعيشون أكثر ما يعيشون داخل أسوار المدن، ويسكنون أحياناً في قصور ريفية. وكان يتزعم هذه الطائفة من الأعيان صاحب مصرف، أو مغامر حربي مستأجر، أو مركيز، أو دوق، أو دوج، أو ملك هو وزوجته أو عشيقته مثقل بأسباب الترف ومزدان بثمار الفن، يرأس داراً للقضاء. أما في الريف فكان الفلاح يحرث فدادينه القليلة أو بعض أملاك سيد المقاطعة، ويعيش عيشه الفرقة التي ألفها منذ أجيال حتى لم تعد تخطر له على بال.
وكان الرق قائماً في نطاق ضيق، وكان أكثر ما يقوم به الأرقاء هو خدمة الأغنياء، كما كانوا في بعض الأحيان يكملون بعملهم ما يقوم به العمال الأحرار في الضياع الكبيرة أو يصلحون ما فسد من هذه الأعمال، وكانوا أكثر ما يوجدون في صقلية، ولكنهم كانوا يوجدون كذلك في أماكن متفرقة من شبه الجزيرة حتى في جزئها الشمالي (2). وأخذت تجارة الرقيق تزداد منذ القرن الرابع عشر إلى ما بعده، فكان تجار البندقية وجنوى يستوردونهم من بلاد البلقان، وجنوبي الروسيا، وبلاد الإسلام، وكان العبيد والإماء المغاربة يعدون زينة لبلاط الملوك والأمراء في إيطاليا (3)، وقد تلقى البابا إنوسنت الثامن في عام 1488 مائة رقيق مغربي هدية من فرديناند الكاثوليكي، وزعهم هدايا من غير ثمن على كرادلته وغيرهم من أصدقائه (4)، وبيعت كثير من نساء كابوا جواري في روما بعد الاستيلاء على تلك المدينة في عام 1501 (5)، غير أن هذه الحقائق المتفرقة لا توضح اقتصاديات النهضة بقدر ما توضح أخلاق بنيها، ذلك أن الرق لم يكن له إلا شأن ضئيل في إنتاج السلع أو نقلها.
أما هذا النقل فكانت أهم وسائله ظهور البغال أو العربات، أو الأنهار،(19/5)
أو القنوات، أو البحار. وكان الأغنياء يسافرون على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الخيول، وكانت سرعتها معتدلة ولكنها مثيرة للمشاعر، وكان الانتقال من بيروجيا إلى أربينو وهي مسافة تبلغ أربعة وستين ميلاً يستغرق يومين ويتطلب أن يكون المسافر صلب العود، وقد يحتاج الانتقال في قارب من برشلونة إلى جنوى أربعة عشر يوماً. وكانت النزل كثيرة العدد عظيمة الصخب، قذرة، غير مريحة. وكان منها واحد في بدوا يتسع لمائة ضيف ومائتي حصان، وكانت الطرق وعرة شديدة الخطر، والشوارع الرئيسة في المدن مرصوفة بالبلاط، ولكنها لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا. وكانت المياه النقية تأتي إلى المدن من جبال، وقلما كانت توصل إلى بيوت الأفراد، بل كانت تصل عادة إلى نافورات عامة بديعة التصميم يجتمع حول مياهها الباردة المنعشة الساذجات من النساء والعاطلون من الرجال ليتناقلوا أخبار اليوم.
كان يحكم دول المدن التي تقتسم شبه الجزيرة في بعض الأحيان - كما حدث في فلورنس، وسيناء، والبندقية - أقلية من التجار ذوي المال، ولكن أكثر من كانوا يحكمونها هم "المستبدون" على اختلاف درجات استبدادهم. وكان هؤلاء قد حلوا محل الأنظمة الجمهورية أو أنظمة القومونات (1)، بعد أن أفسدها استغلال الطبقات وأعمال العنف السياسية. فكان يبرز من تنافس الأقوياء رجل - يكاد يكون على الدوام وضيع النشأة- يخضع سائر المتنافسين، أو يبيدهم أو يستأجرهم، وينصب نفسه حاكماً مطلقاً، ويورث من يخلفه سلطته في بعض الأحيان. هكذا كان يحكم آل فسكونتي، وأسفوردسا في ميلان، والأسكاليجير Scaliger في فيرونا، وآل كراريسي Carraresi في بدوا، والجندساجا Sonzaga في
_________
(1) حكومات البلديات المستقلة. وكان العرب في العصور الوسطى يستخدمون هذا اللفظ في رسائلهم إلى تلك المدن كما نر في صبح الأعشى. (المترجم)(19/6)
مانتوا والإستنسي Estensi في فيرارا. وكان هؤلاء يستمتعون بشيء من الحب المزعزع، لأنهم كانوا يكبحون جماح الحركات الحزبية، ويؤمنون الناس على أنفسهم وأموالهم، داخل أسوار المدينة، وبقدر ما تسمح بذلك أهواؤهم. وارتضت الطبقات الدنيا حكمهم لأنها رأت في هذا الحكم آخر ملجأ لها يعصمها من طغيان الأدواق، ووطنت طبقات الفلاحين المحيطة بهم نفسها على هذا الوضع لأن القومون لم يهبها ما تريده من الحماية أو العدالة أو الحرية.
وكان المستبدون قساة لأنهم كانوا غير آمنين. ولم تكن تؤيدهم تقاليد من شرعية الحكم، وكانوا معرضين في أية لحظة للاغتيال أو للثورة عليهم، فقد أحاطوا أنفسهم بالحراس، لا يأكلون أو يشربون إلا وخوف السم يراودهم، وكان أكثر أمل لهم أن يموتوا موتاً طبيعياً. وكانوا في العقود الأولى من حكمهم يدبرون شئون المدن بالدسائس، والرشا، والاغتيال الخفي الهادئ، وساروا على سنن مكفيلي كلها قبل أن يولد مكفيلي نفسه، ثم أحسوا بعد عام 1450 بأنهم أصبحوا أكثر أمناً لأن الزمن خلع على حكمهم شيئا من القداسة، فأقنعوا في حكمهم الداخلي بالوسائل العلمية، ولكنهم كانوا يكمون أفواه الناقدين، ويخمدون أنفاس المتذمرين المنشقين، ويستخدمون لهذا الغرض جيشاً كبيرا من الجواسيس. وكانوا يعيشون مترفين، ويتخذون الأبهة المصطنعة وسيلة للتأثير في النفوس. غير أنهم رغم هذا قد نالوا احترام رعاياهم وتسامحهم معهم بل أنهم نالوا في فيرارا وأربينو ولاء هؤلاء الرعايا وإخلاصهم بإصلاحهم شئون الإدارة، وتوزيع العدالة بالقسطاس المستقيم في الأمور التي تتأثر بها مصالحهم الخاصة. وكانوا يساعدون الشعب إذا حلت به المجاعة أو غيرها من الشدائد، ويخففون من آثار التعطل بالأعمال العامة، وبناء الكنائس والأديرة، وتجميل المدن بروائع الفن، ومناصرة العلماء، والشعراء، والفنانين الذين(19/7)
يستطيعون أن يخلعوا شيئاً من الطلاء على سياستهم، ويحيطوهم بهالة من السناء، ويخلدوا ذكراهم.
وكانوا يوقدون نار حروب كثيرة ولكنها كانت في العادة صغيرة، يريدون بها أن يحصلوا على سراب الأمان الخادع بتوسيع رقعة أملاكهم، ويشبعوا نهمهم المتزايد إلى تملك أرضين يفرضون عليها ضرائب. ولم يكونوا يبعثون برعاياهم إلى هذه الحروب، لأنهم إن فعلوا اضطروا إلى تسليحهم وقد يكونون في هذا كالساعي إلى حتفه بظلفه، ولهذا كانوا يستأجرون الجنود المرتزقة، ويؤدون إليهم أجورهم بما يحصلون عليه من الفيء من الأراضي المفتوحة، أو الفدية، أو مصادرة أملاك المغلوبين، أو النهب والسلب. وكان المغامرون المتهورون ينقون من فوق الألب وفي أعقابهم في أكثر الأحيان شراذم من الجنود الجياع، ويبيعون خدماتهم إلى مكن يؤدي عنها أكبر الأثمان، يناصرون هذا الجانب أو ذاك تبعا لتقلبات الأجور. من ذلك أن خياطا من اسكس، يعرف في إنجلترا باسم سير جون هوكود Sir John Hawkwood وفي إيطاليا باسم أكوتو Acuto، حارب بمهارة عسكرية فنية من ذلك عدة مئات الآلاف من الفورينات، ومات في سنة 1394 بعد أن وصل إلى طبقة السادة الزراع، ودفن باحتفال مهيب، وزين قبره بثمار الفن في كنيسة سانتا ماريا دل فيوري.
وكان الحاكم المطلق ينفق المال على شئون التعليم كما ينفقه في إنشاء المدارس، ودور الكتب، وإعانة المجامع العلمية والجامعات. فقد كان في كل بلدة في إيطاليا مدرسة تنفق عليها الكنيسة عادة، وفي كل مدينة كبرى جامعة. وارتفع الذوق العام والآداب العامة بفضل الدروس التي لقنها الإنسانيون، ونشرتها الجامعات، وحاشيات الملوك والأمراء، وأصبح من كل أثنين من الإيطاليين واحد يستطيع الحكم على الفن، وكان في كل(19/8)
مركز هام فنانوه، كما كان له طرازه المعمار الخاص. وانتشرت مباهج الحياة بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها، ورقت الأخلاق وظرفت نسبيا، وإن كانت الغرائز قد أضحت حرة طليقة إلى حد لا مثيل له من قبل. وملاك القول أن العبقرية لم تجد منذ أيام أغسطس حتى ذلك الوقت الذي نتحدث عنه تلك الكرة التي تستمتع إليها وتحضر مجالسها، ولا تلك المنافسة الحافزة الدافقة، أو تلك الحرية الواسعة.(19/9)
الفصل الثاني
بيدمنت ولجوريا
في الشمال الغربي من إيطاليا وفي الجنوب الشرقي من فرنسا الحالية كانت تقع إمارة سافوي - بيدمنت، وهي التي كانت أسرتها الحاكمة حتى عام 1945 أقدم الأسر الملكية كلها في أوربا. وقد أنشأ هذه الدولة الصغيرة الكونت همبرت الأول Count Humbert 1 وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن هذه الدولة الصغيرة المزدهرة اتسعت وبلغت ذروة المجد تحت حكم "الكونت الأخضر" أماديوس Amadeus VI (1343 - 1383) الذي ضم إليها مدن جنيف، ولوزان، وأوستا Aosta، وتورين، وأتخذ هذه المدينة الصغيرة الأخيرة عاصمة لدولته. ولم يكن أحد من حكام زمانه يستمتع بمثل ما يستمتع به هو من شهرة عظيمة بالحكمة، وبالعدل، والسخاء. ورفع الإمبراطور سجسمند Sigismund حكام هذه الدولة إلى مرتبة الأدواق (1416)، ولكن دوقها الأول أمديوس الثامن قطع رأسه حين أرتضى أن يلقب انتيبوب (أي البابا الدخيل) فلكس الخامس Felix V Antipope (1439) . وفتح فرانسس الول سافوي بعد مائة عام أو نحوها من ذلك الوقت وضمها إلى فرنسا (1536)، وأضحت هي وبيدمنت ميدانا للصراع بين فرنسا وإيطاليا، وأسلمهما إله الحكمة إلى إله الحرب، وخيم عليهما الركود فلم يصلهما التيار الإيطالي الجارف، أو تشعرا بروح النهضة كاملة، وكل ما لدينا من آثارهما الفنية صور من عمل ديفيندينتي فيرارى Defendente Ferrari، ولكنها لا تسمو إلى ما فوق المرتبة الوسطى، تشاهدها الآن في معرض تورين الفني وفي فيرتيشيلي Vercelli موطن ذلك الفنان.
وتقوم في جنوب بيدمنت مدينة لجوريا Liguria التي تضم جميع أمجاد(19/10)
الرفييرا الإيطالي، ففي جهة الشرق يوجد رفييرا الليفنتي Riviera di Levant ( أي ساحل مشرق الشمس)، وفي الغرب رفييرا البنتيتي Por di Pontente أي ساحل مغربها، وتقوم عند ملتقاهما على عرش مت التلال وقاعدة منبسطة من البحر ذي الماء الأزرق مدينة جنوى التي لا تكاد تقل بهاء وروعة عن نابلي. وقد بدت هذه المدينة لعين بترارك كأنها "بلد الملوك، والمثل الأعلى للرخاء، وباب البهجة والسرور"، ولكن هذا الوصف ينطبق عليها قبل التصدع الذي حدث في كيوجيا chioggia (1378) ، وبينا كانت البندقية تنتعش انتعاشا سريعاً بفضل تعاون جميع طبقاتها تعاوناً منظماً قائماً على الإخلاص للمصلحة العامة في سبيل إعادة التجارة والرخاء المادي، ظلت جنوى جارية على ما ألفته من التناحر الداخلي بين الأشراف بعضهم وبعض، وبين الأشراف والعامة. وأوقد الظلم الذي ارتكبته الألجاركية الحاكمة نار ثورة صغيرة (1383)، ذلك أن القصابين ساروا، وهم مسلحون بأدوات حرفتهم التي لا يرد لها مطلب، وعلى رأس جماعة من الغوغاء إلى قصر الدوج Doge وأرغموه على تخفيض الضرائب وطرد جميع النبلاء من المناصب الحكومية، وحدثت في جنوى عشر ثورات في فترة لا تزيد على خمس سنين، (1390 - 1394)، حكم خلالها وسقط عشرة دوجات، حتى بدا لأهلها آخر الأمر أن النظام أثمن من الحرية، وخشيت الجمهورية المنهكة أن تضمها ميلان إلى أملاكها فأسلمت نفسها مع شاطئ الرفييرا التابعين لها إلى فرنسا (1396)، ثم قامت ثورة عاصفة بعد عامين من ذلك الوقت طرد على أثرها الفرنسيون، ووقعت خمس معارك طاعنة في شوارع المدينة، وأحرق عشرون قصراً، ونبهت المباني الحكومية وهدمت، وأتلف من الأملاك ما قيمته مليون من الفلورينات. وأدركت جنوى مرة أخرى أن فوضى الحرية لا يمكن أن تطاق، فأسلمت نفسها إلى ميلان (1426). ولكن ميلان طغت وتجبرت فلم يطق أهل جنوى صبراً(19/11)
على حكمها، وشبت نار الثورة فيها مرة أخرى، وأعيدت الجمهورية (1435)، وعاد تطاحن الأحزاب إلى سابق عهده.
وكان عنصر الثبات الوحيد وسط هذه التقلبات هو مصرف القديس جورج. وترجع نشأته إلى أن الحكومة في أثناء حربها مع البندقية اقترضت المال من الاهلين، وأعطتهم بدلها صكوكاً، فلما وضعت الحر بأوزارها عجزت الحكومة عن استهلاك هذه الصكوك، ولكنها عهدت إلى المقرضين أن يحصلوا العوائد الجمركية على البضائع التي تمر بالميناء، وكون الدائنون من أنفسهم هيئة عرفت باسم بيت القديس جورج Casa di San Giorgio، واختاروا من بينهم مجلس إدارة من خمسة محافظين، وأعطتهم الحكومة قصراً يتخذونه مقراً لهم. وسارت إدارة البيت أو الشركة سيراً حسناً، وكانت أقل أنظمة الجمهورية فساداً، وعهد إليها أمر جباية الضرائب، وأقرضت الحكومة بعض مالها، واستولت في نظير ذلك على أملاك قيمة في ليجوريا، وقورسقة، وشرقي البحر المتوسط، وفي البحر الأسود، وأصبحت في وقت واحد بيت مال الحكومة ومصرفاً خاصاً يقبل الودائع، ويخصم الكمبيالات، ويعقد القروض لتمويل التجارة والصناعة. وإذ كانت الأحزاب جميعها مرتبطة بها، فقد كانت موضع احترامها جميعاً، ولا يمسونها بأذى ما في أثناء الثورات والحروب، ولا يزال قصرها الفخم الذي أنشئ في عهد النهضة قائماً إلى اليوم في ميدان كريكا منتو Piazza Caricamento.
وكان سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين ضربة أوشكت أن تقضي على جنوى، فقد استولى الأتراك على محلة بيرا القريبة من القسطنطينية، التي كانت تابعة لجنوى. ولما خضعت الجمهورية المفتقرة إلى فرنسا مرة أخرى (1458)، أشعل فرانتشيسكو اسفوردسا نار ثورة بفضل ما بذله من الأموال، طرد الفرنسيين على أثرها من جنوى، وخضعت المدينة مرة أخرى لحكم ميلان (1464). وأتاحت الإضرابات(19/12)
التي أضعفت ميلان بعد اغتيال جالست جاليستو اسفوردسا (1474) إلى أهل جنوى فسحة قصيرة تنسموا فيها نسيم الحرية؛ فلما أن استولى لويس الثاني عشر على ميلان سنة 1499، دانت جنوى أيضاً لسلطانه. ثم حدث آخر الأمر في أثناء الصراع الطويل الذي قام به فرانسيس الأول وشارل الخامس أن قام أمير من أمراء البحرين من أهل جنوى يدعى أندريا دوريا Andrea Doria ووجه سفنه لقتال الفرنسيين، وطردهم من جنوى ووضع لها دستوراً جمهورياً جديداً (1528)؛ جعل حكومتها الحركية تجارية شبيهة بحكومتي فلورنس والبندقية؛ وخضعت بالحقوق السياسية فيها الأسر التي كانت أسمائها مدونة في الكتاب الذهبي ( il libro d'oro) . وتألفت الحكومة الجديدة من مجلس للشيوخ يضم أربعمائة عضو، ومن مجلس يتألف من مائتين، ومن دوج يختار لمدة عامين. وبسط هذا النظام لواء السلام والأمن بين الأحزاب المتنازعة، وحافظ على استقلال جنوى حتى غزاها نابليون في عام 1797.
ولم تسهم المدينة في أثناء هذه الاضطرابات العاصفة إلا بأقل من نصيبها الخليقة به في الآداب، والعلوم، والفنون الإيطالية. نعم إن رؤساء بحريتها ارتادوا البحار في عزم وشجاعة، ولكن لما أن قام ابنها كولمبس بينهم كانت جنوى أجبن، أو أفقر، من أن تمده بالمال ليحقق به أحلامه. أما أعيانها فكانوا منهمكين في السياسة، وتجارها لا هم لهم إلا كسب المال، ولم يكن لإحدى الطائفتين متسع من الوقت أو المال تنفقه في مغامرات العقل، وأعيد بناء كتدرائية سان لوراندسو القديمة على الطراز القوطي (1307)، وأصبح داخلها رائعاً فخماً، وزين معبد سان جيوفنى باتستا (1451 وما بعدها) وهو مصلى الكتدرائية - بمحراب جميل، وستر من صنع ماتيو تشفتالى Mateo Civitali، وتمثال مكتئب ليوحنا المعمدان من صنع ياقوبو سانسو فينا Iacopo Sansovino. وأحدث أندريا دوربا(19/13)
ثورة في جنوى لا تكاد تقل أثراً عما أحدثه من ثورة في حكومتها، فقد استدعى الراهب جيوفنى دا منترسولي Giovanni de Mantorsoli من فلورنس ليعيد تخطيط قصر د رينا Palazza Dorina، (1529) كما استقدم بيرينو دل فاجا Perino del Vaga من روما ليزينها بالمظلمات والنقوش البارزة على الجص، ورسوم الحيوانات والنباتات الغريبة التي لا وجود لها، وبالنقوش العربية الطراز؛ وقد أضحى القصر بذلك من أعظم قصور إيطاليا فخامة. وجاء ليونى ليونى Leone Leoni منافس سلينى وعدوه من روما ليصب مدلاة جميلة لأمير البحر، كما خطط متتروسولى قبره. وملاك القول أن عصر النهضة لمن يبدأ في جنوى قبل دوربا بزمن طويل ولم يطل بعد وفاته كثيراً.(19/14)
الفصل الثالث
بافيا
كانت مدينة بافيا تقوم هادئة على ضفة نهر التيسينو بين جنوى وميلان، وكانت في وقت من الأوقات مقر ملوك لمباردى، ثم خضعت في القرن الرابع عشر لميلان، واتخذها آل فسكونتى واسفوردسا عاصمة ثانية لهم.
وبدأ جلياتسو فسكونتى الثاني (1360) القلعة الفخمة Castello، التي أتمها جيان Gian ( أي جيوفنى، أو جون) جلياتسو فسكونتى؛ والتي اتخذت مسكناً لهذا الدوق الثاني، وقصراً لمباهج أدواق ميلان المتأخرين. وقد وصف بترارك هذا القصر بأنه "أنبل ثمار الفن الحديث، ووضعه كثيرون من معاصريه في مصاف مساكن الملوك في أوربا. وكانت مكتبة القصر تضم مجموعة من الكتب تعد من أثمن المجموعات في أوربا، وكان من بين ما تحتويه 951 ألف مخطوط مزينة الهوامش بالنقوش. ونقل لويس الثاني عشر حين استولى على ميلان عام 1499 مكتبة بافيا هذه فيما نقله من المغانم، وضرب جيش فرنسي داخل القلعة بآخر طراز من مدافعه (1527)، حتى لم يبق منها الآن إلا أسوارها.
وهكذا دمرت القلعة، ولكن أجمل درة من عهد آل فسكونتى واسفوردسا لا تزال باقية سليمة - ونعني بها دير تشيرتوزا Certosa المستتر بعيدا عن الطريق العام بين بافيا وميلان. فقد أعتزم جيان جلياتسو وفسكونتي giangaleazzo Visconti أن يقيم في سهل مطمئن هادئ صوامع، وطرقات مقنطرة، وكنيسة وفاء لنذر نذرته زوجته. وظل أدواق ميلان من ذلك الوقت حتى عام 1499 يكملون هذا الصرح ويزينونه لتكون رمزا لتقواهم(19/15)
وفنهم، حتى يتعذر علينا ان نجد في إيطاليا كلها ما هو أبدع منه. وخطط كرستوفورو مانيتجاتسو Cristoforo Mantegazza وجيوفنى أنطونيو أماديو Giovanni Antonio Amadeo من أهل بافيا واجهة هذا الدير اللمباردية - والرومانية، ونحتاها وأقاماها من رخام كرارا وأمداهما بما يلزمهما من المال جلياتسو ماريا أسفوردسا ولدوفيكو إل مورو (المغربي) Lodovico il moro وفي هذه الواجهة إسراف في الزخرفة، وإفراط في العقود، والتماثيل، والنقوش البارزة، والمدليات، والعمد المستديرة والمربعة، والتيجان، والنقوش العربية الطراز، والملائكة المحفورة، والقديسين، وجنيات الأساطير، والأمراء، والفاكهة، والأزهار، يتعذر معه أن تشعر الناظر إليها والتناسق. أما كل جزء فيها إذا نظر أليه بمفرده فيسترعي انتباهه دون مراعاة لسائر أجزاءه. لكن كل جزء مع ذلك هو في حد ذاته ثمرة كدح، وحب، وحذق؛ ,عن نوافذه الأربعة التي من طراز عهد النهضة والتي أنشأها أمديو لخليقة وحدها بأن تخلد أسمه. وليست الواجهة وحدها هي التي تستلفت الأنظار بجمالها، ففي بعض الكنائس الإيطالية نرى الواجهات فخمة رائعة في حين أن بقية أجزاءها الخارجية ليس فيها ما تمتاز به، أما دير كرتوز بيافيا فكل معالمه ومناظره الخارجية جميلة تسترعي النظر: لا فرق في ذلك بين الدعامات الملتصقة بالجدران، والأبراج الرائعة، والبواكي، والمنارات اللولبية القائمة فوق الليوان الشمالي والصحن، وعمد الطرق المقنطرة وعقودها الرشيقة. وإذا ما علا الإنسان يبصره من داخل الفناء إلى ما فوق هذه العمد الرفيعة خلال أطباق ثلاثة متتالية من البواكي حتى وقع على الطبقة الرابعة التي تعلوها من العمد والتي تقوم عليها القبة، إذا ما علا ببصره إلى الطبقة وجدها مجموعة مؤتلفة، متناسقة، خططت ونفذت تخطيطاً وتنفيذاً يستثيران أعظم الإعجاب، أما داخل الكنيسة فكل شيء فيه جميل لا يعلو عليه جمال، ففيه عناقيد(19/16)
من العمد قائمة؛ وعقود قوطية لقباب محفورة، وسراديب، ورديئات مشبكة، مصبعة دقيقة الصنع كأنها المخرمات (الدنتلا) الملكية؛ ومداخل وطرق مقنطرة ذات أشكال وزخارف رشيقة؛ ومحاريب من الرخام مرصعة بالحجارة الكريمة، وصور من صنع بيروجينو، وبرجنيونى، ولوينى؛ ومقاعد فخمة مطعمة يجلس عليها المرنمون؛ وزجاج ملون براق، وعمد بذل في نحتها أعظم العناية؛ وبندريلات (1)، وعصابات لأحجار الزوايا في العقود، وطنف؛ وفبر جيان جلياتسو فسكونتي الفخم الذي أقامه كرستو فورو رومانو ونبدتو بريسكو؛ وقبر لدوفيكو إل مورو وبيتريس دست وتمثالاهما، وقد جمع بينها وأقيما من الرخام البديع، وإن كان أحدهما قد مات قبل الآخر بعشر سنين، وفرقت بينهما خمسمائة ميل. كذلك اجتمعت في هذا الصرح طرز مختلفة لمباردية، وقوطية، مع طراز عصر النهضة، فأثمرت ما يكاد يكون أكمل الثمار المعمارية لهذا العصر الأخير. ذلك أن ميلان قد جمعت في عهد لدوفيكو المغربي حسان النساء اللاتي خلقن فيها بلاطاً لا نظير له في غيرها من البلدان، وفنانين متفوقين أوفوا على الغاية في الإتقان، نذكر منهم برامنتي، وليوناردو، وكَردَسو Cardosso لينزعوا زعامة إيطاليا، مدى عشر سنين زاهية متلألئة، من فلورنس، والبندقية وروما.
_________
(1) البندريل Spandrel في العمارة هي المسافة بين المنحني الخارجي لعقد والزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (معربة). (المترجم)(19/17)
الفصل الرابع
الفسكونتى
1378 - 1447
توفي جلياتسو الثاني في عام 1378 وأوصى بنصيبه من مملكة ميلان ابنه جيان جلياتسو فسكونتي الذي ظل يتخذ بافيا عاصمة له. وكان جيان جلياتسو هذا من الطراز الذي يحبه مكيفلي ويعجب به. فقد كان يقضي جزءا كبيرا من وقته في مكتبة قصره العظيمة، يعني ببنيته الضعيفة، ويكسب ولاء رعاياه بالضرائب المعتدلة، ويتردد على الكنيسة مظهراً تقواه التي تأسر النفوس، ويملأ بلاطه بالقساوسة والرهبان، وبذلك كان هو آخر أمير في إيطاليا يمكن أن يظن الدبلوماسيون أنه يعمل ليجمع شبه الجزيرة كلها تحت سلطانه. ومع هذا فقد كان ذلك هو الأمل الذي يراوده والمطمع الذي يشغل باله، والهدف الذي يسعى لتحقيقه بالدهاء، والغدر، والقتل كأنه قد قرأ كتاب الأمير وأجله قبل أن يكتب، وكأنه لم يسمع بالمسيح.
وكان بيرنابو Bernnabo أبن عمه في هذه الأثناء يحكم النصف الآخر من مملكة الفسكونتي من حاضرته ميلان. وكان برنابو وغداً سافراً، أرهق رعاياه بأفدح الضرائب، وأرغم الفلاحين على أن يعنوا بالخمسة الآلاف من كلابه التي يستخدمها في الصيد ويطعمها، وكمم أفواه المتذمرين بأن أعلن أن المجرمين سيعذبون أربعين يوماً. وكان يسخر من تقوى جيان جلياتسو، ويعمل على خلعه ليجعل نفسه سيد أملاك أسرة فسكونتي. وعرف جيان بما يدبره له، وكان لديه من الجواسيس العدد الذي لابد لكل حكومة قديرة أن تحتفظ به منهم، فأعد العدة للقاء بينه وبين بيرنابو، ولما جاءه هذا مطمئنا مع ولديه، قبض حرس جيان السري على ثلاثتهم،(19/18)
ويبدو أنه دس السم لبيرنابو (1385). وحكم جيان بعدئذ ميلان، ونوفارا، وبافيا، ونياتشندسا، وبارما، وكرمونا، وبريشيا Brescia ثم استولى في عام 1387 على فيرونا، وفي عام 1389 على بدوا، وأذهل فلورنس في عام 1399 حين ابتاع بيزا بمائتي ألف فلورين، وخضعت بيروجيا، وأسيسي، وسنا لقواده في عام 1400، كما خضعت لهم لوكا وبولونيا في عام 1401، وبذلك اصبح جيان سيد شمالي إيطاليا كله من نوفارا إلى البحر الأدرياوي. وكانت الولايات البابوية قد ضعفت وقتئذ من جراء الانشقاق الذي حدث فيها (1378 - 1417) على أثر عودة البابوية من أفنيون. وكان جيان يحرض البابوات المتنافسين بعضهم على بعض، ويحلم بأن يستولي على جميع أراضي الكنيسة، فإذا تم له ذلك سير جيوشه على نابلي، وكان يعتقد أن سيطرته على بيزا وغيرها من المنافذ سترغم فلورنس على الخضوع، وبذلك تبقى مدينة البندقية وحدها خارجة عن هذا النطاق، ولكنها لن يكون لها حول ولا تستطيع أن تقف بمفردها في وجه إيطاليا المتحدة. غير أن المنية عالجت جيان جلياتسو فمات في عام 1402 ولما يتجاوز الحادية والأربعين من عمره.
وقلما كان في هذا الوقت كله يغادر بافيا أو ميلان، وكان يحب الدسائس أكثر مما يحب الحرب، ونال بالدهاء أكثر مما ناله قواده بقوة السلاح. على أن هذه المغامرات السياسية كلها لم تستنفذ خصب عقله، فقد أصدر كتاب قوانين يشمل فيما يشمله قواعد تضمن صحة الشعب، وعزل المصابين بالأمراض المعدية عزلا إجبارياً (7). وبدأ يشيد تشير توذا دي بافيا Certosa di Pavia وكتدرائية ميلان، وأستدعى مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras ليكون أستاذ اللغة اليونانية في جامعة ميلان، وعضد الشعراء، والفنانين، والعلماء، والفلاسفة، وأعتز بصحبتهم، ومد القناة العظمى naviglio Grande من ميلان إلى بافيا، فأنشأ بذلك(19/19)
طريقاً مائياً داخليا في عرض إيطاليا ممتدا من جبال اللب وخترقا ميلان، وسائرا في نهر ألبو إلى البحر الأدرياوي، يروي مائة آلاف من الأفدنة. ونشطت الزراعة والتجارة بفضل هذه القناة، وشجع نشاطها قيام الصناعة، وشرعت ميلان تنافس فلورنس في المنسوجات الصوفية. وكان الحدادون من أهلها يصنعون السيوف والدروع للمحاربين في أوربا الغربية كلها، وحدث في أزمة من الأزمات أن صنع بعض رؤساء صناع الأسلحة ما يكفي ستة آلاف جندي في قليل من الأيام (8) وكان نساجو الحرير من أهل لوكا الذين أفقرتهم المنازعات الحزبية والحروب، قد هاجروا بالمئات إلى ميلان في عام 1314، فلم يحل عام 1400 حتى كانت صناعة المنسوجات الحريرية قد ازدهرت في هذه المدينة، ازدهارا جعل رجال الأخلاق يشكون من أن الملابس قد أصبحت جميلة إلى حد يجلل لابسها بالعار. لكن جيان جلياتسو حمى هذا الاقتصاد المزدهر بالإدارة الحكيمة، والعدالة المنسقة المنظمة، والعملة الموثوق بها، والضرائب المعتدلة التي شملت رجال الدين والأعيان كما شملت العامة وغير رجال الدين. وقد عمل على توسيع نطاق إدارة البريد، فكان فيها عام 1425 مائة جواد تعمل بانتظام؛ وكانت مكاتب البريد تقبل المراسلات الخاصة، وخيلها تسافر خلال النهار - وطول الليل في أوقات الضرورة. وقد بلغت الإيرادات السنوية للدولة في فلورنس عام 1423 أربعة ملايين فلورين ذهبي (100. 000. 000 دولار)، وبلغت إيرادات البندقية أحد عشر مليون فلورين، وميلان اثني عشر مليوناً (9). وكان يسر الملوك أن يزوجوا أولادهم وبناتهم من أسرة فسكونتي؛ ولم يفعل الإمبراطور ونسسلاس Wenceslas أكثر من تتويج الحقيقة الواقعة بالمظهر الرسمي حين أعلن تصديقه الإمبراطوري عن أن يحمل جيان لقب دوق وعلى شريعة هذا اللقب، وحين خلع عليه هو وورثته دوقية ميلان "إلى أبد الدهر".(19/20)
غير أن أبد الدهر هذا لم يدم أكثر من اثنين وخمسين عاماً. ذلك أن جيان ماريا فسكونتي Gianmaira Visconti (1) أكبر أبناء جيان كان في سن الثالثة عشرة حين مات أبوه (1402)، ولذكل أخذ القواد الذين قادوا جيوش جيان إلى النصر يتنافسون للظفر بمنصب الوصي على الملك، وبينما كان هؤلاء القواد يتنازعون حكم ميلان عادة إيطاليا إلى انقسامها القديم: فاستردت فلورنس مدينة بيزا، واستولت البندقية على فيرونا، وقيتشنتسا، وبدوا، وخضعت كل من سينا، وبيروجيا، وبولونيا إلى طاغية من الطغاة. وعادة إيطاليا كما كانت، بل أسوء مما كانت، لأن جيان ماريا Gianmaria ترك شؤون الحكم للولاة الطغاة المستبدين ووجه كل اهتمامه لكلابه، ودربها على أكل لحوم البشر، وكان يسره ويثلج قلبه أن يراها تطعم الأحياء من الآدميين الذين حكم عليهم بأنهم مذنبون سياسيون أو مجرمون في حق المجتمع (10)، وانتهى به الأمر أن أغتاله ثلاثة من الأعيان.
ويلوح أن أخاه فلبو ماريا فسكونتي ورث عن أبيه حدة ذكائه، وجده، وجلده، وأطماعه وسياسته البعيدة النظر. ولكن ما كان يتصف به جيان جلياتسو من شجاعة ممتزجة بالهدوء، أضحى في فلبو جبناً ممتزجاً بالخمول، وخوفاً دائماً من الاغتيال، واعتقاداً لا يتزعزع في غدر الجنس البشري لا ينفك يراوده. ولهذا أغلق على نفسه أبواب قلعة بورتا جيوفيا Porta Giovia في ميلان، وأخذ يأكل ويسمن، وأولع بالخرافات والمنجمين، ولكنه استطاع بفضل دسائسه ودهائه لا غير أن يبقى إلى آخر أيام حكمه الطويل سيد بلده المطلق، وسيد قواده بل وأسرته أيضاً، وتزوج بيتريس تندا Beatrice Tenda طمعاً في مالها، ثم حكم عليها
_________
(1) لقد كن جيان جلياتسو يدعو العذراء أن تهبه ولداً ذكراً؛ فلما نال أمنيته أظهر شكره واغتباطه بأن أقسم أن يحمل جميع نسله اسمها.(19/21)
بالإعدام جزاء خيانتها، وتزوج بعدها من ماريا صاحبة سافوي، وأبقاها في عزلة عن جميع الناس عدا وصيفتها، وأقض مضجعه عدم وجود ولد له، وأتخذ له عشيقة، ثم رقت أخلاقه بعض الشيء بسبب حبه بيانكا الفتاة الحسناء التي كانت ثمرة هذه العلاقة. وجرى على سياسة أبيه في مناصرة العلم، وأستدعى مشهوري العلماء إلى جامعة بافيا، وعهد ببعض الأعمال الفنية إلى برندلسكو والى بيزانلو صانع المدليات، المنقطع النظير. وحكم ميلان حكما أتوقراطياً حازماً، قضى فيه على التحزب والانقسام، ووطد دعائم النظام، وحمى الفلاحين من الضرائب الفادحة التي كانت يفرضها عليهم سادة الإقطاع كما حمى التجار من قطاع الطرق، وأفلح بسياسته الخارجية البارعة ومهارته في استخدام جيوشه في أن يعيد ولاء بارما، وبياتشندسا وجميع بلاد لمباردي حتى بريشيا، وجميع الأراضي الواقعة بين ميلان وجبال الألب، أن يعيد ولاء هذه كلها إلى ميلان، وأقنع أهل جنوى في عام 1421 أن طغيانه أرحم بهم من حروبهم الداخلية؛ وشجع التزاوج بين الأسر المتنافسة، فقضى بذلك على كثير من أسباب النزاع القائمة بينها؛ وأستبدل بمائة من الحكومات المستبدة حكومة استبدادية واحدة، وأخذ الأهلون الذين حرموا من الحرية ولكنهم تحرروا من النزاع الداخلي يتذمرون، ويتكاثرون، وينعمون بالرخاء.
وكان بارعاً في العثور على القواد المقتدرين، لكنه كان يرتاب في أنهم جميعاً يعملون على أن يحلوا محله، فكان يؤلبهم بعضهم على بعض، وظل يوقد نار الحرب يرجو من ورائها أن يستعيد كل ما كسبه أبوه، وأضاعه أخوه. ونشأت من حروبه مع البندقية وفلورنس طائفة من المحاربين المغامرين المستأجرين، نذكر منهم جتلاميلاتا Gattamelata، وكليوني، وجيرمنيولا garmagnola، وبراتشيو، وفورتبر اتشيو Fortebraccio، ومنتوني Montone، وبتشينينو Piccinino، ومودسيو أتندولو(19/22)
Muzio Attendolo.... الخ. وكان مودسيو هذا صبيا ريفيا ينتمي إلى أسرة كبيرة من المحاربين والمحاربات؛ وكسب لقب اسفوردسا بما أظهره في خدمة جوانا Joanna الثانية ملكة نابلي من قوة الجسم والإرادة، ثم خسر عطفها عليه، وأودعه السجن، ولكن أخته ذهبت إلى السجن منتضية كامل سلاحها وأرغمت السجانين على إطلاق سراحه؛ ثم عين قائدا لإحدى فيالق ميلانو، ولكنه غرق بعد قليل من ذلك الوقت وهو يعبر أحد الأنهار. وسرعان ما قفز أبنه غير الشرعي إلى مكان أبيه، وشق طريقه إلى العرش بالحرب والزواج.(19/23)
الفصل الخامس
آل أسفوردسا
1450 - 1500
كان فرانتشيسكو اسفردسا المثل الكامل لجندي النهضة. كان طويل القامة، وسيم الخلق، مولعا بالرياضة البدنية، شجاعا؛ وكان أحسن العدائين، والقفازين، والمصارعين في جيشه؛ لا ينام إلا قليلاً، ويمشي عاري الرأس صيفاً وشتاء، ويجتذب محبة رجاله بالاشتراك معهم في تحمل المشاق وفي الطعام، وفي قيادتهم إلى النصر الذي يدر عليهم المغانم الكثيرة بمهارته في الفنون والحركات العسكرية، لا بكثرة العدد أو وفرة السلاح. ولم يكن أحد يدانيه في شهرته العسكرية حتى كان قوى أعدائه تلقى سلاحها، في أكثر من موقعة، حين تقع أعينها عليه، وتحييه برؤوسها العارية وتصفه بأنه أعظم قواد زمانه. وكان يطمع في أن يقيم لنفسه دولة، ولم يكن يتردد في اصطناع أية وسيلة توصله إلى غرضه لا يصده عنها مراعاة مبدأ أو وخز ضمير. وحارب على التوالي في صف ميلان، وفلورنس، والبندقية، حتى كسب فلبو ولاءه بأن زوجه من بيانكا، وأمهرها كرمونا وبنتريمولي (1441)، ولما توفي فلبو بعد ست سنين من ذلك الوقت ولم يكن له وارث من نسله، وانتهت بموته أسرة الفسكونتي، أحس فرانتشيسكو بأن المهر يجب أن يشمل ميلان أيضا.
لكن أهل ميلان لم يكونوا يرون هذا الرأي، واعتلوا جمهورية سموها الجمهورية الأمبروزية نسبة إلى الأسقف العظيم الذي أدب ثيودوسيوس وهدى أوغسطين قبل ألف عام من ذلك الوقت. غير أن الأحزاب المتنازعة في المدينة لم تتفق على رأي؛ واغتنمت المدن التابعة لميلان هذه الفرصة السانحة وأعلنت استقلالها؛ وسقطت بعضها أمام جيوش البندقية؛ ولاح(19/24)
خطر هجوم البندقية وفلورنس على ميلان؛ وزاد من شدة الخطر أن كلا من دوق أورليان، والإمبراطور فردريك الثالث، وألفنسو ملك أرغونة طالب بميلان لنفسه. فلما تأزمت الأمور على هذا النحو ذهب وفد من أهل المدينة إلى أسفوردسا وأعطوه بريشيا، ورجوه أن يدافع عن ميلان، فاستجاب لرغبتهم، وصد الأعداء بما أوتي من نشاط وحسن تدبير، ولما أن عقدت الحكومة الصلح مع البندقية دون أن تستنير برأيه وجه جنده ضد الجمهورية، وحاصر ميلان حتى كادت تهلك جوعا، وقبل استسلامها له، ودخل المدينة وسط تهليل الجماهير الجياع، وأغمد في نفوسهم شهوة الحرية بتوزيع الخمر عليهم. ثم دعيت إلى الاجتماع جمعية عمومية مكونة من رجل عن كل أسرة في المدينة، وخلعت عليه سلطة الدوق غير عابئة باحتجاج الإمبراطور، وبدأت أسرة اسفوردسا عهدها الباهر القصير (1450).
ولم تتبدل أخلاقه بعد توليه أزمة الحكم، بل ظل يعيش عيشة بسيطة ويعمل بجد؛ وكان من حين إلى حين يلجأ إلى أعمال القسوة والغدر، متذرعا إلى ذلك بمصلحة الدولة؛ ولكنه كان يوجه عام عادلا رحيما. وكان من عيوبه إحساسه المرهف بجمال النساء إحساساً طليقا لا يقف عند حد؛ وحدث أن قتلت زوجته المهذبة عشيقته ثم سامحته؛ وقد ولدت له ثمانية أبناء، وكانت تسدي إليه النصح الحكيم في الشؤون السياسية، وحببت الشعب في حكمه بما كانت تقدمه من غوث إلى المحتاجين وحماية المظلومين. وكان يصرف شؤون الدولة في كفاية لا تقل عن كفايته في قيادة جندها. وكان النظام الاجتماعي الذي فرضه على المدينة سببا في عودة الرخاء إليها إلى درجة أنستها أو كادت تنسيها ذكريات آلامها وحريتها المتقطعة. ولما أستتب له المر شرع يبني قلعة اسفرديسكو Castello Sforzesco ليتخذها حصنا ضد العصيان أو الحصار وحفر قنوات جديدة، ونظم الأشغال العامة وشاد المستشفى العظيم Ospeddale Maggiore، وجاء إلى ميلان بالكاتب(19/25)
الإنسان فيليفو Filelfo، وشجع التعليم، والعلم، والفن، وأغرى فتشيندسو فبا Vincenzo Foppa أن يأتي من بريشيا ليقيم مدرسة تصوير. ولما هددته دسائس البندقية، ونابلي، وفرنسا، أوقفها كلها عند حدها بأن كسب تأييد كوزيمو ده ميديتشي القوى وصداقته المتينة، ثم قلم أظافر نابلى بأن زوج أبنته ابوليتا Ippolita بألفنسو بن فرديناند، وأمن شر دوق أورليان بأن عقد حلفا مع لويس الحادي عشر ملك فرنسا. ولكن بعض الأعيان ظلوا يأتمرون به ليقتلوه ويحصلوا على سلطانه، غير أن نجاح حكمه قضى على تدبيرهم، وعاش حتى مات في سلام ميتة القواد التقليدية (1466).
وإذ كان ابنه جليانسو ماريا اسفوردسا قد ولد وفي أحضانه النعمة فإنه لم يتلق دروس الفقر والكفاح، واستسلم للملذات، والترف، والظاهر الكاذبة؛ وكان يجد لذة كبير في إغواء أزواج أصدقائه، ويعاقب معارضيه بقسوة يبدو أنه ورثها وراثة ملتوية، غامضة من دماء آل فسكونتي عن طريق بيانكا الرحيمة. ولم يقاوم أهل ميلان استبداده وظلمه لأنهم قد اعتادوا الحكم المطلق، فلم يكونوا يبالون بما يصيبهم منه؛ ولكن الانتقام الفردي ثأر لما كان مكبوتاً في قلوب الجماهير من شدة الرعب. وتفصيل ذلك أن جيرولامو ألجياتي Girolamo Olgiati أحزنه أن يغوي الدوق أخته ثم ينبذها؛ وحسب جيوفني لمبونياني Giovannl Lampugnani أن هذا السيد نفسه قد انتزع منه بعض ملكه؛ وكان نقولو منتينو Niccolo Monteno قد علمهما كما علم كارلوفسكونتي تاريخ الرومان ومثلهم العليا، وعلمهما كذلك قتل المستبدين من عهد بروتس إلى بروتس. وبعد أن طلب الشبان الثلاثة العون من الأولياء الصالحين كنيسة القديس استيفن، حيث كان جلياتسو يتعبد وانهالوا عليه طعناً حتى فارق الحياة (1476). وقتل لمبونياني وفسكنتي قبل أن يبرحا مكانهما، وعذب الجاني تعذيباً لم يكد يترك فيه عظماً من عظامه دون أن يكسر أو يخلع من وقبه؛ ثم سلخ جلده(19/26)
حياً، ولكنه ظل إلى آخر نفس من حياته يرفض أن يندم على ما فعله، ويدعوا الأبطال الوثنيين والقديسين والمسيحيين ليباركوا عمله، ومات وهو يردد تلك العبارة التي تمثل شعار الرومان الأقدمين وشعار النهضة وهي:
"الموت مر ولكن السمعة الطيبة تبقى إلى أبد الدهر Mors acrba, fama perpetua"، (11) .
وترك جلياتسو عرشه إلى ولد له لم يكن يتجاوز السابعة من العمر، يسمى جيان جلياتسو اسفوردسا، وظل حزبا الجولف والجبلين ثلاث سنين يتنافسان للاستحواذ على وصاية العرش ويستخدمان في سبيل ذلك وسائل القوة والخداع، وكان الفوز في آخر الأمر لشخصية من أروع الشخصيات وأكثرها استعصاء على التحليل في عهد النهضة المليء بالشخصيات الرائعة المعقدة، ونعني بها شخصية لدوفيكو اسفوردسا Lodovico Sforza رابع أبناء فرانتشسكو اسفوردسا. ولقبه أبوه مورو mauro؛ ولكن معاصريه بدلوا هذا اللقب إلى آل مورو il Moro ( المغربي) - لأنه كان أسود الشعر والعينين، وارتضى هو عن طيب خاطر هذا الاسم الساخر، وأضحت بذلك الشارات والحلل المغربية طرازا شائعا في بلاطه. ووجد غيرهم من الفكهين لهذا الاسم مرادفا في اللغة الإيطالية هو Moro ومعناه شجرة التوت، وأصبحت هذه أيضا شعاراً له، وصار لون التوت طراز العصر في ميلان، واتخذ منه ليوناردو موضوعا وتصميما لبعض زخارفه في حجرات القلعة ( Castello) . وكان أعظم معلمي لدوفيكو هو العالم فيليلفو الذي أمده بأساس قوى في الآداب القديمة، ولكن بيانكا حذرت العالم الإنساني بقولها؛ "إن علينا أن نعلم أميراً لا تلميذاً فحسب"، ولهذا حرصت على أن يحذق ابنها فني الحكم والحرب. وقلما أظهر لدوفيكو شجاعة بدنية، ولكن ذكاء آل فسكونتي تحرر فيه من قسوتهم، وأصبح رغم أخطائه وآثامه من أعظم رجال التاريخ تحضراً.(19/27)
ولم يكن وسيما، فقد كفاه الله شر هذا العائق الذي يلهي ويشغل عن مهام الأمور، وكان وجهه مكتنز اللحم، وأنفه مسرفا في الطول والانحناء، وذقنه ممتلئا، وشفتاه شديدتي الانطباق؛ ومع هذا فإن في صورته الجانبية المعوزة إلى بوت رفيو Botraffio، وتماثيله المحفوظين في ليون Lyons واللوفر قوة هادئة في الملامح، وحساسية في الذكاء، ورقة تكاد تصل إلى حد النعومة. وقد أشتهر بأنه في معظم الأحيان مراوغا، ولا تجده أبدا ذا ضمير حي، وقد تجده من حين إلى حين عديم الإخلاص، ولقد كانت هذه هي العيوب التي يشترك فيها ساسة النهضة، ولعلها هي العيوب التي لا غنى عنها لجميع الدبلوماسيين مهما يكن في هذا القول من قسوة. ومع هذا فقلما تجد بين أمراء النهضة من يضارعه في رحمته وكرمه، فقد كانت القسوة مما يتنافى مع طبعه، وما أكثر من أستمتع بجوده من الرجال والنساء. لقد كان حليما دمث الأخلاق، مرهف الحس بكل جمال وكل فن، قوي الخيال، جياش العاطفة، ولكنه قلما كان يفقد اتزانه أو هدوء طبعه. وكان متشككا، يؤمن بالخرافات، سيد الملايين، وعبد منجمه. كان لدوفيكو هذا كله، وكان الوارث المتوّج المزعزع للعناصر المتنافرة.
ظل ثلاثة عشر عاما (1481 - 1494) يحكم ميلان نائبا عن أبن أخيه. وكان جلياتسو اسفرودسا جبانا يميل إلى العزلة، يرهب تبعات الحكم، كثيرا ما تنتابه الأمراض، عاجزا عن القيام بالأعمال الجدية، يسميه جوتشيارديني Guicciardini العاجز، وكان يستسلم للهو أو المرض، يسره أن يترك تصريف شؤون الدولة إلى عمه الذي كان يعجب به إعجاباً ملؤه الحسد، ويثق به ثقة ممزوجة بالشك. وقد نزل له لدوفيكو عما في لقب الدوق ومنصبه من أبهة وفخامة، فكان جيان هو الذي يجلس على العرش، ويتقبل الولاء، ويعيش الترف الملكية، ولكن زوجته إزبلا الأرغونية كان(19/28)
يسوءها استيلاء لدوفيكو على زمام السلطة، وحرصت جيان على أن يتولى بنفسه مقاليد الأمور، ورجت أباها ألفنسو، ولي عهد عرش نابولي، أن يزحف بجيشه، ويوليها السلطات التي يتولاها الحاكم الحق.
وكان حكم لودفيكو يتسم بالحزم والكفاية، وقد أنشأ حول عشته الصيفية في فيجيفانو مزرعة تجريبية واسعة، ومحطة لتربية الماشية، وكانت تجرى فيها التجارب على زراعة الأرز، والكروم، وأشجار التوت؛ وكان يصنع من ألبان ماشيته زبداً وجبنا لم تعرف إيطاليا نفسها نظيرا لهما من قبل، وكانت ثمانية وعشرون ألفا من الثيران، والبقر، والجاموس، والضأن، والمعز ترعى في الحقول وعلى سفوح التلال؛ وكانت أسطبلاته الرحبة تضم الجياد والأفراس التي تنتج أجمل الخيل في أوربا. وكان يشتغل في صناعة الحرير في ميلان وقتئذ عشرون ألف عامل، وانتزعت من فلورنس كثيرا من أسواق أوربا. وكان الحدادون، والصياغ، والحفارون للخشب، وصناع الميناء؛ والخزف، والفسيفساء، وناقشو الزجاج، وصناع العطور، والبارعون في صناعة التطريز ونسج الستر، وصناع الآلات الموسيقية، كان هؤلاء كلهم تعج بهم صناعات ميلان، وكانوا يزينون بالحلى القصور، وكبار أفراد الحاشية ويصدرون ما يكفي منها لابتياع أدوات الترف الأرق منها والتي تستورد من بلاد الشرق. وحرص لدوفيكو على أن ييسر حركة مرور الناس والبضائع، و "يهب الناس أكثر مما لديهم من الضوء والهواء" (12) فأمر بتوسيع الشوارع الهامة، وأقيمت على جانبي الطرق الكبرى المؤدية إلى القلعة Castello قصور وحدائق للأعيان من السكان، وعلت في سماء المدينة كاتدرائيتها الكبرى، التي اتخذت وقتئذ صورتها النهائية، وأضحت مركزا من المراكز المتنافسة في حياتها النابضة. وكان يسكن ميلان في عام 1492 مائة وثمانية وعشرون ألفا من السكان (13)، وبلغت من الرخاء في عهد لدوفيكو ما لم تبلغه في عهد جيان(19/29)
جلياتسو فسكونتي نفسه. ولكن الناس أخذوا يضجون بالشكوى من أن هذا الثراء الموفور كان يذهب لتقوية نائب الملك وزيادة أبهة البلاط لا لانتشال عامة الشعب من فقره الذي طال عليه العهد حتى لم تعد تعرف بدايته. وكان أصحاب البيوت يئنون من فدح الضرائب، كما كانت مظاهرات الشغب والاحتجاج تضطرب بهما كرومونا ولودي Lodi. وكان لدوفيكو يرد على ذلك بقوله انه في حاجة إلى المال لإقامة المستشفيات والعناية بالمرضى، ولمعونة جامعتي بافيا وميلان، ولتقديم المال اللازم لإجراء التجارب في الزراعة، وتربية الحيوان، والصناعة، ولكي يؤثر بما يبدو في بلاطه من روعة الفن وفخامة المظهر في قلوب السفراء الذين لا تحترم حكوماتهم إلا الدول القوية الغنية.
ولم تقتنع ميلان بهذه الحجج، ولكن يبدو أنها شاركت لدوفيكو في مسرته حين جاء إليها بعروسه التي كانت أظرف أميرات فرارا وأكثرهن استئثارا بالمحبة (1491). ولم يكن يدعي أنه كفء لبيتريس دست العذراء المرحة؛ ذلك انه كان وقتئذ في سن التاسعة والثلاثين، وكان قد أتخذ له عددا من الخليلات ولدن له ولدين وبنتاً - بيانكا الظريفة التي لم يكن حبه أياها يقل عن حب أبيه للسيدة الجياشة العاطفة التي سميت هذه الفتاة باسمها. ولم تثر بيتريس شيئا من المتاعب بسبب الاستعدادات المعتادة التي يتخذها الرجال في زمن النهضة للاكتفاء بزوجة واحدة، لكنها حين وصلت ميلان هالها أن تجد تشتيشيليا جييليراني Cecillia Gellerani الحسناء آخر عشيقات زوجها لا زالت تقيم في حاشية القصر. وأدهى من هذا وأمر أن لدوفيكو ظل يزور تشتيشيليا مدة شهرين بعد زواجه، ولما سأل في هذا قال لسفير فيرارا أنه لا يطيق إبعاد الشاعرة المثقفة التي أستمتع بها جسمه وعقله. وأنذرته بيتريس بأنها ستعود إلى فيرارا؛ فخضع لدوفيكو وأقنع الكونت برخميني بأن يتزوج تشتيشيليا.(19/30)
وكانت بيتريس فتاة في الرابعة عشرة من عمرها حين جاءت إلى لدوفيكو؛ ولم تكن بارعة الجمال، ولكنها كانت تفتن من رآها بمرحها البريء الذي كانت تستقبل به الحياة وتستمتع بها وكانت قد نشأت في نابلي، وتمرست في أساليبها المبهجة وغادرتها قبل أن تفقد صدقها وأمانتها، ولكنها أخذت منها إسرافها وخلوها من الهموم، فلما أفاض عليها لدوفيكو من ثروته أطلقت العنان لهذا الإسراف حتى قالت عنها ميلان أنها "جنت جنوناً بحب الإسراف" (14). وكان كل من في المدينة يغفر لها هذا لأنها كان تنشر المرح البريء في كل مكان - "تقضي الليل والنهار" كما يقول أحد الإخباريين المعاصرين "في الغناء والرقص وجميع أنواع المسرات" حتى سرت روحها في جميع أفراد البلاط، فلم تقف فيه البهجة عند حد. ووقع لدوفيكو الوقور الرزين في حبها بعد بضعة أشهر من زواجهما، وأعترف بعض الوقت بأن القوة مهما بلغت، والحكمة أيا كانت، لا قيمة لهما إلى جانب سعادته الجديدة. وأضافت بفضل رعايته زينة العقل إلى روح الشباب، فتعلمت كيف تخطب باللغة اللاتينية، وشغلت عقلها بشؤون الدولة، وأدت لزوجها في بعض الأوقات خدمات جليلة بأن كانت سفيرة له لا تستطاع مقاومتها، ورسائلها لأختها ازبلادست التي فاقتها شهرة طاقة من الزهر العطر وسط الأجمة المكفيلية من منازعات عصر النهضة.
وأضحى بلاط ميلان وقتئذ، وفيه بيتريس تتزعم الرقص، ولدوفيكو الكادج يؤدي نفقات الحفلات أضخم بلاط للأمراء لا في إيطاليا وحدها، بل في أوربا بأجمعها، وأتسع قصر اسفورديسكو حتى بلغ ذروة مجده، ببرجه الأوسط الشامخ، ومتاهة حجراته المترفة التي لا تعرف بدايتها من نهايتها، وأرضه المطعمة، ونوافذه الزجاجية الملونة، وأرائكه المطرزة، وطنافسه العجمية؛ وسجفه التي نقشت عليها مرة أخرى قصص طروادة وروما، هنا سقف من صنع ليوناردو، وهناك تمثال أخرجته يد(19/31)
كروستوفورو سولاري أو كروستوفور روماني، ولا يكاد يخلو مكان فيه من أثر بالغ الجمال من آثار الفن اليوناني، أو الروماني، أو الإيطالي. في هذه البيئة المتألقة أختلط العلماء بالمحاربين، والشعراء بالفلاسفة، والفنانون بالقواد، وأختلط هؤلاء جميعا بالنساء اللاتي أضفن إلى مفاتنهن الطبيعية كل ما يمكن أن تسبعه عليهن من رقة مستحضرات التجميل، والجواهر، والثياب، وكان الرجال حتى الجنود منهم يعنون بتصفيف شعرهم وبأثوابهم. وكانت الفرق الموسيقية تعزف على مجموعة الآلات المختلفة، والأغاني تتردد في جنبات الأبهاء. وبينما كانت فلورنس ترتعد فرقا أمام سفنرولا وتحرق أباطيل الحب، والفن، كانت الموسيقى والآداب الخليعة تسود عاصمة لدوفيكو. وكانت الأزواج يتغاضون عن عشق زوجاتهم نظير استمتاعهم هم بما يشاءون (17)، وكانت الحفلات الساخرة المقنعة لا تنقطع، وآلاف الأزياء المرحة تستر ما لا يحصى من الآثام، والرجال والنساء يرقصون ويغنون، كأن الفقر لا يترقب المدينة خارج أسوارها، وكأن فرنسا لا تعد العدة لغزو إيطاليا، أو كأن نابلي لا تتآمر على تخريب ميلان.
ولق وصفها بيرناردينو كوريو Bernardino Corio، وكان قد جاء إلى بلاطها من موطنه في كومو Como، بأسلوبه الفصيح البليغ في كتابه تاريخ ميلان Historia di Milano، (1500 فيما يظن) فقال:
"لقد كان بلاط أمرائها فخما إلى أبعد حدود الفخامة، مليئا بالحديث عن أنماط الثياب، وبالمباهج الجديدة، ولكن الفضيلة كانت في ذلك الوقت يثني عليها كل لسان حتى كأن منيرفا ربة الحكمة كانت تتنافس مع فينوس (الزهرة) ربة الجمال في أيهما يكون مدرستها أزهى المدرستين وأعظمهما بهاء. وأقبل على مدرسة كيوبد أجمل الفتيان، وقدم إليها الآباء بناتهم، والأزواج زوجاتهم، والأخوة أخواتهم، وهرعوا جميعا إلى أبهاء الغرام بلا تفكير ولا مبالاة، حتى روع ذلك من كانت لهم عقول يفهمون بها.(19/32)
كذلك عملت منيرفا بكل ما فيها من قوة على تزيين مجمعها العلمي الظريف، الذي دعا إليه الأمير لدوفيكو اسفوردسا، فخر الأمراء وأعظمهم، رجالا لا يدانيهم أحد في العلم أو الفن من أقصى أطراف أوربا، وأجرى عليهم الأرزاق. لقد اجتمعت فيه علوم اليونان، وأزدهر شعر اللاتين ونثرهم وأنار الآفاق، وفيه سكنت ربات الشعر، وجاء إليه أساتذة فن النحت، وأساتذة التصوير من الأقاليم النائية، وفيه كانت تتردد أصداء الأغاني والأصوات العذبة على اختلاف أنواعها، وتسمع الألحان الحلوة التي يخيل إلى الإنسان أنها تتساقط من السماء نفسها على ذلك البلاط الذي لا مثيل له في العالم" (17).
ولعل بيتريس هي التي أحلت، بحب الأمومة المتوقد، الخراب والدمار بلدوفيكو وإيطاليا. فقد ولدت له ولد ذكرا في عام 1493 سمى مكسميليان باسم إشبينه، وارث عرش الإمبراطورية. وتحيرت بيتريس فلت تكن تدري ماذا يكون من أمرها وأمر الطفل إذا مات لدوفيكو، ذلك أن زوجها لم يكن له حق شرعي في حكم ميلان، وقد يخلعه جيان جلياتسو بمساعدة أهل نابلي في أية لحظة، وينفيه، أو يقتله، وإذا استطاع جيان أن يكون أن يكون له ولد، فالمفروض أن هذا الابن سيرث الدوقية، مهما يكن من مصير لدوفيكو. وكانت هذه المتاعب، تقض مضجع لدوفيكو فبعث بالسر يرسل إلى الملك مكسميليان يعرض عليه أن يزوجه ببيانكا ماريا اسفوردسا ابنة أخيه ويزودها ببائنة مغرية مقدارها أربعمائة ألف دوقة (5. 000. 000 دولار)، على شرط أن يمنح مكسميليان، حين يصبح إمبراطورا، لدوفيكو لقب دوق ميلان مع ما يتبع هذا اللقب من سلطات، ووافق الملك مكسميليان على هذا العرض، ومن واجبنا أن نضيف إليه أن الأباطرة الذين خلعوا لقب الدوق على الفسكونتى المتولي شئون الحكم قد أبو أن يوافقوا على أن يلقب به الحكام من أسرة اسفوردسا، وكانت ميلان من الوجهة القانونية لا تزال خاضعة لسلطان الإمبراطورية.(19/33)
وكان جيان جلياتسو مشغولا بكلابه وظبائه شغلا يحول بينه وبين الالتفات إلى هذه التطورات وما تسببه له من متاعب. ولكن زوجته إزبلا ذات الروح الحماسية قد تبينت الاتجاه الذي تسير فيه، وكررت رجاءها إلى أبيها. ولما حل شهر يناير من 1494 جلس الفنسو على عرش نابلي، وأتخذ له سياسة معادية عداء صريحا لنائب الملك في ميلان. ولم يكتف البابا إسكندر السادس بالتحالف مع نابلي، بل كان يتوق إلى ضم مدينة فورلي Forli - التي كان يحكمها أحد أفراد أسرة اسفوردسا - مع عدة بلدان أخرى ليكون منها دولة بابوية قوية. وكان لورندسو ده ميديتشي، صديق لدوفيكو، قد توفي في عام 1492، ودفع اليأس لدوفيكو إلى أتباع وسائل مستيئسة لحماية نفسه، فعقد حلفا بين ميلان وفرنسا، وارتضى أن يمر شارل الثامن والجيش الفرنسي بلا مقاومة في شمالي إيطاليا حين يعتزم شارل تأييد حقوقه في عرش نابلي.
على هذا النحو جاء الفرنسيون، واستضاف لدوفيكو شارل، ودعا له بالنجاح والتوفيق في حملته على نابلي. وبينما كان الفرنسيون يزحفون جنوبا إذ توفي اسفوردسا بمجموعة من العلل، وظن خطأ أن لدوفيكو دس له السم، وفعل لدوفيكو ما يقوى هذه الريبة إذ عجل فعمل على أن يخلع عليه لقب الدوق (1495). وفي هذا الوقت بالذات غزا لويس، دوق أورليان، إيطاليا على رأس جيش فرنسي آخر، أعلن سيستولي على ميلان التي يمتلكها لأنه من نسل جيان جلياتسو فسكونتي. وتبين لدوفيكو وقتئذ انه أرتكب خطأ موبقاً حين رحب بشارل، فأسرع يقلب سياسته رأسا على عقب، وسعى إلى عقد "حلف مقدس" من البندقية، وأسبانيا، وإسكندر السادس، ومكسميليان ليطرد الفرنسيين من شبه الجزيرة. فما كان من شارل إلا أن رجع على أعقابه مسرعا، ومنى بهزيمة غير حاسمة عند فرنوفو Fornovo، (1495) ولم يستطع إعادة فلول جيشه إلى فرنسا(19/34)
إلا بشق الأنفس. وقرر لويس دوق أورليان أن ينتظر حلول يوم يكون فيه أسعد حظاً من يومه السابق.
وكان لدوفيكو يفخر بما كللت به خطته الملتوية من نجاح ظاهري. فقد ألقى على ألفنسو درسا قاسيا، خدع أورليان، وقاد الحلف إلى النصر. وبدا أنه أصبح أمنا في مركزه. فخفف من يقظة دبلوماسيته، وأخذ يستمتع مرة أخرى بأبهة بلاطه وحريات شبابه. ولما حملت بيتريس مرة ثانية أعفاها من الالتزامات الزوجية، وعقد صلة غير شرعية مع لكريدسيا كريفيلي Lucrezia Crevelli (1496) . وأحزنت بيتريس خيانته وتحملتها على مضض، ولم تعد تنشر حولها الغناء والمرح، بل شغلت نفسها بولدها، وأما لدوفيكو فكان يتردد بين عشيقته وزوجته، ويبرر هذا بأنه يحبهما كلتيهما، واعتكفت بيتريس مرة أخرى في عام 1497 لتضع حملها، ووضعت ولدا ميتا، وماتت بعد ساعة من وضعه وهي تعاني آلاما مبرحة، ولما تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها.
وتبدل في تلك اللحظة كل شيء في المدينة وفي الدوق، ويقول كاتب معاصر إن الناس "أظهروا من الحزن ما لم يعرف مثله في ميلان من قبل"، وارتدى أفراد الحاشية ثياب الحزن، وغلب على لدوفيكو الأسى والندم فكان يقضي أياما طوالا في العزلة والصلاة، ولم يكن هذا الرجل القوي الذي قلما فكر من قبل في الدين يرجو إلا مرحمة واحدة - هي أن يلقى منيته، ويرى بيتريس مرة أخرى، وينال منها المغفرة، ويستعيد حبها، وظل أسبوعين كاملين يرفض استقبال موظفي الدولة، ومندوبيه، وأطفاله، ويحضر الصلاة ثلاث مرات في اليوم، ويزور في كل يوم قبر زوجته في كنيسة سانتا ماريا دلى جرادسى Santa Maria delle Grazie، وعهد إلى كرستوفورو سولارى أن ينحت تمثالا لبيتريس تمثالا مضطجعا، إذ كان يرغب في أن يوارى معها بعد موته في قبر واحد، فقد طلب أن(19/35)
يوضع تمثاله بجوار تمثالها، وحدث هذا فعلا، ولا يزال هذا النصب الساذج قائما في التشرتوازا دي بافيا Cetrosa di Paira يخلد ذكرى ذلك العهد السعيد القصير الذي انتهى بالنسبة إلى لدوفيكو وميلان كما أنتهي بالنسبة إلى بيتريس وليوناردو.
وسارت المأساة إلى نهايتها سيرا حثيثا، ففي عام 1498 أصبح دوق أورليان هو لويس الثاني عشر ملك فرنسا، ولم يكد يجلس على العرش حتى أكد من فوره عزمه على امتلاك ميلان. وأخذ لدوفيكو يبحث عن الحلفاء، ولكنه لم يجد له حليفا واحدا، فقد ذكرته مدينة البندقية في غير مجاملة باستعدائه شارل الثامن عليها. ثم ولى قيادة جيشه جلياتسو دي سان سيفيرينو Galeazzo di San Severino الذي كان أجمل من أن يتولى قيادة جيش، ولم يكد هذا القائد يبصر العدو حتى أطلق ساقيه للريح، وزحف الفرنسيون على ميلان دون أن يلقوا أية مقاومة. ثم عين لدوفيكو صديقه الوفي الذي يضع فيه ثقته بيرنردينو داكورتي Bernardino da Corte ليحرس مكسميليان. ثم أتخذ لدوفيكو طريقة متخفيا (في 2 سبتمبر سنة 1499) إلى انزبروك ومكسميليان بعد أن لاقى كثيرا من الأخطار؛ ولما أن قاد جيان تريفلدسيو Gian Trivulzio، وهو قائد من أهل ميلان أساء إليه لدوفيكو في يوم من الأيام، الفرنسيين إلى ميلان سلمه بيرناردينو القصر وكنوزه دون مقاومة نظير رشوة قدرها 150. 000 دوقة (1. 875. 000 دولا أمريكي). ويقول لدوفيكو وهو حزين ممتعض "انه لم تقع قط خيانة أفظع من هذه منذ أيام يهوذا" (18). وأمنت على قوله إيطاليا كلها.
وأصدر لويس أمره إلى تريفلدسيو بان يؤدى البلد المفتوح نفقات الفتح، فأخذ القائد يجني الضرائب الباهظة، وسلك الجنود الفرنسيون مسلك الغلظة والوقاحة، وأخذ الناس يتمنون عودة لدوفيكو، حتى عاد فعلا على رأس(19/36)
قوة صغيرة من مرتزقة السويسريين، والجرمان، والإيطاليين. وأرتد الجنود الفرنسيين إلى القصر، ودخل لدوفيكو ميلان ظافرا (في الخامس من فبراير سنة 1500). وجيء إليه أثناء مقامه القصير في المدينة بأسير فرنسي هو الفارس بايار Chevalier Bayard الذي اشتهر بشجاعته وحسن أدبه. ورد إليه لدوفيكو جواده وسيفه، وأطلق سراحه، وأرسله محروسا إلى معسكر الفرنسيين. غير أن هؤلاء لم يردوا الجميل بمثله، بل أخذت الحامية المعسكرة في القصر تطلق القذائف على شوارع ميلان، حتى نقل لدوفيكو مقر قيادته إلى بافيا لينجي السكان من القتل أو يكسب رضاهم. ثم بدأت أمواله تنفذ، وعجز عن أداء رواتب الجنود في مواعيدها، فاقترحوا عليه أن يعوضوا أنفسهم بنهب المدن الإيطالية، فلما نهاهم عن ذلك استشاطوا غضبا. وعهد إلى جيان فرانتشيسكو جندساجا Giannfrancesco Gonzaga وزوج ازبلا أخت بيتريس أن يتولى قيادة جيشه الصغير. وقبل فرانتشيسكو هذه المهمة، ولكنه أخذ يتفاوض سرا مع الفرنسيين (19). فلما ظهر هؤلاء عند نوفارا Novara قاد لدوفيكو قوته المختلطة إلى الميدان، ولكنها ارتدت على أعقابها عند أول صدمة وولت الأدبار، ووضع قوادها شروط الصلح مع الفرنسيين، ولما حاول لدوفيكو الفرار متخفيا، غدر به السويسريون المرتزقون وأسلموه إلى العدو (10 أبريل عام 1500). وارتضى مصيره المحتوم في اطمئنان وهدوء، ولم يطلب إلا أن يؤتى بنسخته الخاصة من المسلاة الإلهية من مكتبته في بافيا. واقتيد بشعره الأشيب، وسط الجموع الساخرة في شوارع ليون Lyons، ولكنه ظل في أثناء ذلك محتفظا بأنفته وكبريائه، وسجن في قصر ليس سانت جورج Lys-Ssint George في برى Berry. ورفض لويس الثاني عشر أن يقابله، وتجاهل رجاء الإمبراطور مكسميليان انه يطلق سراح الأسير المهشم، ولكنه سمح للدوفيكو أن يتمشى في أفنية القصر، ويصطاد السمك من الخندق، وأن يستقبل الأصدقاء.(19/37)
ولما مرض لدوفيكو وأضحت حياته في خطر بعث إليه لويس بطبيبه الأستاذ سالومون Maitre Salomon، وجاء إليه بأحد أقزامه من ميلان ليسليه، ثم نقله في عام 1504 إلى قصر لوش Loches وسمح له بقسط من الحرية أكثر مما كان له قبل، وحاول لدوفيكو الهرب في عام 1508، فتسلل من الأماكن المحيطة بالقصر يحمل حملا من القش، ولكنه ضل طريقه في الغابات، واقتفت كلاب الصيد أثره، وشددت عليه من أجل ذلك الحراسة في سجنه، فحرم من الكتب، ومن أدوات الكتابة، وسجن في جب تحت الأرض. وهناك في السابع من شهر مايو عام 1508 مات في ظلام العزلة، بعيدا كل البعد عن حياة البهجة التي كان يستمتع بها يوما ما في عاصمته المرحة. وكان حين وافته المنية في السابعة والخمسين من عمره (20).
كان لدوفيكو في حياته قد أجرم في حق الرجال والنساء وفي حق إيطاليا نفسها، ولكنه كان يحب الجمال، كان يعز الرجال الذي جاءوا إلى ميلان بالفن والموسيقى، والشعر، والعلم. وفي ذلك يقول جرولامو تيرابسكي Girolamo Tiraboschie منذ قرن من الزمان:
إذا أحصينا العدد الجم من العلماء الذين وفدوا إلى بلاطه من كافة أنحاء إيطاليا وهم واثقون من انهم سينالون الشرف أعظمه ومن الهبات أسخاها، وإذا ذكرنا العدد الكبير من مشهوري المهندسين المعماريين والرسامين الذين دعاهم إلى ميلان، والمباني الكثيرة الفخمة التي أقامها فيها، وذكرنا فوق ذلك أنه شاد جامعة بافيا العظيمة ووهبها الأموال الطائلة، وأفتتح المدارس لكل أنواع العلوم في ميلان، وإذا ما قرأنا فضلا عن هذا كله قصائد المدح ورسائل التبجيل التي وجهها إليه العلماء على اختلاف أجناسهم، إذا فعلنا هذا فانا لا يسعنا إلا أن نقر بأنه خير من عاش على ظهر الأرض من الأمراء.(19/38)
الفصل السادس
الآداب
أحاط لدوفيكو وبيتريس نفسيهما بعدد كبير من الشعراء، لكن حياة البلاط بلغت من البهجة والمرح حدا لا تستطيع معه أن تلهم الشاعر ذلك الإخلاص الحافظ القوي الذي ينطقه بعيون الشعر. وكان سرافينو الأكويلائي Serafino of Aqulia دميما قصيرا، ولكن أغانيه التي ينشدها بنفسه على العود كانت تبعث البهجة في قلب بيتريس وأصدقائها، فلما توفيت خرج خلسة من ميلان لأنه لم يطق ما ساد في الحجرات من صمت بعد أن كانت تعج بضحكاتها، وتشهد خطوات قدميها الرقيقتين. واستقدم لدوفيكو كاملي Camelli وبلينتشيوني Bellincione الشاعرين التسكانيين إلى بلاطه لعلهما يبعثان الرقة في التعبيرات اللمباردية، وكانت النتيجة أن نشبت حرب شعواء بين الشعراء التسكانيين واللمبارديين، أخرجت منها الأغاني المسمومة الشعر النبيل الشريف. وكان بلينتشيوني مشاغباً شكساً إلى حد دفع منافساً له من الشعراء أن بعث له نقشاً يكتب على قبره يحذر فيه من أن يمر به أن يخفف الوطء لئلا تقوم جثته وتعضه. ومن أجل هذا أتخذ لدوفيكو شاعرا لمبارديا يدعى جسبار فسكونتى Gasparo Visconti شاعر بلاطه، فسكونتي هذا لبياتريس في عام 1496 مائة وثلاثا وأربعين من الأغاني وغيرها من القصائد مكتوبة بحروف من الفضة والذهب على رقائق من العاج، ومزينة بنقوش دقيقة بديعة ومغلفة بورق مقوى مطلي بالفضة المنقوشة عليها الأزهار بالميناء، وكان شاعرا بحق ولكن الزمن طواه وطمس ذكراه. وكان يحب بترارك، واشتبك في محاورة شعرية جدية ولكنها ودية مع برامنتي موضوعها مقارنة مزايا كل من بتراراك ودانتي، ذلك أن(19/39)
المهندس العظيم كان يحب أن يضع نفسه في عداد الشعراء أيضا، وكانت هذه المجادلات الشعرية من موضوعات الترويح المحببة في بلاط الأمراء والملوك في عهد النهضة، يكاد يشترك فيها كل إنسان، وحتى قواد الجيوش أنفسهم أصبحوا ممن ينشئون الأغاني الشعرية. وكانت خير القصائد في عهد آل اسفوردسا هي التي كتبها شاعر مصقول العبارة يدعى نقولا دا كريجيو Niccolo da Correggio، وجاء إلى ميلان مع حاشية بيتريس يوم زفافها، وبقي في ميلان حباً ببيتريس ولودفيكو، وعمل عندهم شاعراً ودبلوماسياً، وألف أنبل أشعاره حين ماتت بيتريس. وكانت تشيتشيليا جلراني عشيقة لدوفيكو هي الأخرى شاعرة، وكانت ترأس ندوة ممتازة من الشعراء، والعلماء، ورجال الحكم والفلاسفة، وقصارى القول أن كل ما امتازت به فرنسا في القرن التاسع عشر من رقة الحياة والثقافة قد أزدهر في ميلان أيام لودفيكو.
ولم يكن لدوفيكو يضارع لورندسو في ولعه بالعلوم، ولا في اختياره من يناصرهم. فقد جاء إلى مدينته بألف من العلماء، ولكن مناقشاتهم العلمية لم تخرج عالما واحدا ممتازا. وقد ولد فرانتشيسكو فيليلفو Francesco Fillelfo، الذي رددت إيطاليا كلها أصداء علمه وشتائمه، في تولنتينو، وتلقى العلم في بدوا، وعين فيها أستاذا وهو في الثامنة عشر من عمره، واشتغل بالتدريس وقتا ما في البندقية، وسره حين أتيحت له الفرصة لزيارة القسطنطينية إذ عين فيها أمينا لقنصلية البندقية (1419). قلما جاءها شرع يدرس اللغة اليونانية على جون كريسلوراس Joho Chrysoloras وتزوج بابنة جون، وظل سنين طوالا موظفا صغيرا في البلاط البيزنطي. فلما عاد إلى البندقية كان هلنستياً بارعاً يفخر، وله بعض الحق، بأنه لا يوجد إيطالي غيره متمكن من اللغتين القديمتين وآدابهما تمكنه هو. وكان يكتب الشعر، ويلقي الخطب، باللغتين اليونانية واللاتينية،(19/40)
وكانت البندقية تؤجره نظير كونه أستاذ لهاتين اللغتين وآدابهما أجرا عاليا غير معتاد وهو مائة سكوين Sequin (12. 500 دولار) في العام، لكن فلورنس أغرته بأجر أكبر من هذا (1429) فجاء إليها وأصبح فيها أكبر علمائها. وقد قال هو عن نفسه إن "المدينة على بكرة أبيها تقف لتتطلع لي ... واسمي يجري على كل لسان". ولا يفسح لي الطريق كبار رجال البلدة المدنيين فحسب، بل يفسحه أيضاً لي النساء أنفسهن، ويظهرن لي من الإجلال والتعظيم ما يخجلني. وكان يستمع لدروسه أربعمائة شخص في كل يوم، معظمهم من الرجال المتقدمين في السن، من منزلة أعضاء مجلس الشيوخ" (22). ولكن سرعان ما انتهى هذا كله، لأن فيليلفو كان ميالا للنزاع والشجار، حتى أغضب أولئك الرجال الذين استدعوه إلى فلورنس - نقولو ده نقولي، وأمبروجيو ترافرساري وغيرهما. ولما سجن كوزيمو ميديتشي في قصر فتشيو، حرض فليليفو الحكومة على أن تعدمه، فلما أنتصر كوزيمو هرب هو من المدينة، وقضى ست سنين يعلم في سينا وبولونيا، واخيرا اجتذبه فلبوماريا فسكونتي (1440) إلى ميلان بان منحه ذلك الأجر الذي لم يكن له نظير من قبل وهو 750 فلورينا في العام، وفيها قضى فيليلفو بقية حياته الطويلة العاصفة.
وكان فيليلفو ذا نشاط مروع عجيب، كان يلقي في كل يوم محاضرات تدوم أربع ساعات في اللغة اليونانية أو اللاتينية أو الإيطالية، ويشرح كتب الأقدمين، أو أشعار دانتي، أو كتب افلوطرخس، واكن يلقي خطبا عامة في الاحتفالات الحكومية، أو الحفلات الخاصة؛ وكتب بالغة اللاتينية ملحمة في فرانتشيسكو اسفوردسا، وعشر "قصائد" في الهجاء، وعشرة "كتب" من الشعر الغنائي، وألفى بيت وأربعمائة من الشعر اليوناني، وكتب عشرة آلاف بيت في الحب (1465) لم تطبع، وكثير منها مما لا يجوز طبعه، وكانت له زوجتان، وتزوج بثالثة، وكان له أربعة وعشرون من الأبناء(19/41)
الشرعيين فضلا عن غير الشرعيين الذين كان وجودهم دليلا على خياناته. وقد وجد وسط هذه الجهود كلها متسعا من الوقت لإثارة حروب أدبية شعواء مع الشعراء، والسياسيين، والكتاب الإنسانيين. وكان رغم ما يتقاضاه من مرتب كبير، ,أجور أخرى تأتيه من حين إلى حين، يشكو الفقر في أوقات متفرقة، ويستجدي مناصريه في أشعار له على مثال أشعار قدماء اليونان والرومان ذات القافية الواحدة لكل بيتين يطلب إليهم المال، والطعام، والكساء، والخيل، ووظيفة كردنال. ولقد أخطأ أن جعل بجيوبين من يسعى إليهم، فقد وجد أن هذا الوغد المرح يفوقه في البذاءة.
لكن علمه، رغم هذا كله، قد جعله العالم الذي يسعى إليه في زمانه. فقد أستقبله البابا نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان عام 1453، ووهبه كيسا به 500 دوقة (12. 500 دولار)، وعينه الفنسو الأول ملك نابلي شاعر بلاطه ومنحه لقب فارس، واستضافه دوق بورسو Bprso في فيرارا، كما استضافه المركيز لدوفيكو جندساجا في مانتوا والطاغية سجسمند ومالتستا في ريميني. , ولما أصبح غير آمن على نفسه في ميلان على أثر موت فرانتشيسكو اسفوردسا وما أعقب موته من فوضى، لم يجد صعوبة ما في الحصول على منصب في جامعة روما، غير أن خازن بيت المال البابوي تلكأ في أداء مرتبه، فعاد فيليلفو إلى ميلان، ولكنه مع ذلك كان يتوق إلى أن يختم حياته بحفيد الرجل الذي رشحه هو للإعدام. غير أن لورندسو عفا عنه، وعرض عليه كرسي الأدب اليوناني في فلورنس، وقد بلغ من فقر فيليلفو وقتئذ أن اضطرت حكومة ميلان أن تقرضه المال اللازم لسفره، فاستطاع بذلك أن يصل إلى فلورنس حيث مات بالزحار بعد أسبوعين من وصوله إليها وكان وقتئذ في الثالثة والثمانين من عمره (1481). وكانت حياته واحدة من حيوات مائة مثله، إذا نظر إليها مجتمعه فاح منها شذى عطر النهضة الإيطالية الفذة، التي يمكن أن يكون فيها طلب العلم وجدا وهياما، والأدب حربا وقتالا.(19/42)
الفصل السابع
الفن
كان الحكم المطلق نعمة على الفن وبركة، فقد كان أكثر من عشرة حكام يتنافسون في البحث عن المهندسين المعماريين، والمثالين، والرسامين ليزينوا لهم عواصمهم ويخلدوا ذكراهم، وكانوا ينفقون في هذا التنافس أموالا قلما تخصصها الديمقراطيات للجمال، أموالا لم يكن يستطاع تخصيصها للفن لو أن ثمار الجهود والعبقرية البشرية كانت توزع على الناس بالقسطاس المستقيم. وكانت نتيجة هذا ان الفن الإيطالي في عصر النهضة كان فنا خاص ببطانة الملوك ذا ذوق أرستقراطي، ولكنه كان في الأغلب الأعم يلم في شكله وموضوعه بحاجات العظماء من رجال الدنيا والسلطات الكنسية. ذلك هو فن النهضة على حين أن أنبل الفنون وأعظمها هو الذي يخلق للجماهير من كدحها ومن ثمار هذا الكدح هبة عامة ومجدا عاما، هكذا كانت الكنائس الفوطية الكبرى وهياكل بلاد اليونان وروما القديمة.
وترى كل ناقد يندد بكتدرائية ميلان لإكتضاضها بالزخارف، واضطراب خطوط البناء، ولكن أهل ميلان لا يزالون منذ خمسة قرون يجتمعون في مبناها الضخم الظليل، مشغوفين به، ولا يزالون حتى في هذا العهد المتشكك يعتزون به ويرون أنه عملهم الجماعي وموضع فخرهم المشترك. وكان الذي بدأ هذا البناء هو جيان جلياتسو فسكونتي (1386)، وقد وضع تصميمه على نطاق خليق بعاصمة إيطاليا الموحدة التي كان يحلم بوجودها، فكانت تتسع لأربعين ألفا يعبدون فيها الله ويظهرون إعجابهم بجيان. وتقول الرواية المأثورة أن نساء ميلان كن يصبن في ذلك الوقت بمرض غريب في أثناء حملهن، وأن كثيرين من أطفالهن يموتون وهم صغار.(19/43)
وقد مات لجيان نفسه ثلاثة أبناء تعسرت ولادتهم وماتوا بعد أن ولدوا بزمن قليل، وحزن عليهم أشد الحزن، ولهذا وهب المزار العظيم لمريم في مولدها Mariae nasceenti، رجاء أن يرزق بوارث، وأن تلد نساء ميلان أبناء أصحاء. ثم دعا المهندسين من فرنس وألمانيا للاشتراك في العمل مع المهندسين الطليان، فأما المهندسون من أهل الشمال فقد جاءوا بالطراز القوطي، وأما الإيطاليون فهم الذين أفاضوا عليها الزخرف، وضعف التناسق بين الطراز والشكل من جراء تضارب الآراء بين الجانبين ومن الزمن الطويل الذي تم فيه بناء الكنيسة، والذي بلغ قرنين من الزمان. تبدل خلالها مزاج العالم وذوقه، فلم يعد من أتموا هذا الصرح يحسون بما يحس به من بدأوه. ولم يكن قد تم من البناء حين توفي جبان جلياتسو (1402) إلا جدرانه، ثم توقف العمل لقلة المال. ثم أستدعى لدوفيكو برامنتي وليوناردو، وغيرهما ليصمموا السقف المستدير الذي يضم الأبراج المتفرقة الفخمة في تاج موحد، لكنه رفض آراءهم؛ ثم أستدعى آخر الأمر (1490) جيوفني أنطونيو أمديو من عمله الشاق في التشرتوزا دي بافيا، وعُهد إليه بالأشراف التام على مشروع الكنيسة الكبرى كله. وكان هو ومعظم مساعديه مثالين أكثر منهم مهندسين؛ ولهذا لم يكونوا يطيقون أن يبقى أي جزء من ظاهر البناء خاليا من النحت أو الزينة؛ وقضى الرجل في هذا العمل السنين الثلاثين الأخيرة من حياته (1490 - 1522) ومع هذا فإن السقف المستدير لم يتم إلا في عام 1759؛ كما أن واجهة الكنيسة التي بدأ بها في عام 1616 لم يتم إلا بعد أن فرض نابليون إتمامها فرضاً بأمر إمبراطوري (1809).
وكانت في أيام لدوفيكو ثانية كنائس العالم من حيث الحجم، فقد كانت تغطي مساحة قدرها 120. 000 قدم مربعة، أما اليوم فقد نزلت عن هذا الشرف الخداع، شرف الضخامة، إلى كتدرائية القديس بطرس في إشبيلية،(19/44)
ولكنها لا تزال تفخر بطولها وعرضها (486 قدماً × 289)، وبارتفاعها البالغ 354 قدماً من الأرض إلى رأس العذراء الذي يعلو المنارة القائمة في السقف المستدير، وبأبراجها المستدقة العلية البالغ عددها مائة وثلاثة وخمسين والتي تقلل من مجدها وعظمتها، وبالتماثيل البالغ عددها ألفين وثلاثمائة والتي تغطي هذه الأبراج المستدقة، والعمد، والجدران، والسقف. وقد شيدت الكنيسة كلها حتى سقفها نفسه بالرخام الأبيض جيء به إليها بجهد كبير من اكثر من عشرة محاجر في إيطاليا. وواجهة البناء منخفضة انخفاضاً يتناسب مع سعته، ولكنها مع ذلك تستر السقف المستدير البديع؛ وليس في وسع الإنسان أن يشاهد متاهات العمد التي تقوم فوق أرضها كأنها تضرع وتبتهل إلا إذا طار بجناحين ثم استطاع أن يقف في أعلاها وسط الهواء، وعليه إذا أراد أن يحس بروعة حجمها الضخم وما فيه من إسراف، أن يطوف المرة بعد المرة حول سقفها العظيم بين طائفة لا حصر لها من الدعامات؛ وعليه أن يجتاز شوارع المدينة الضيقة المزدحمة، ثم يخرج فجأة إلى ميدان الكنيسة الرحب المفتوح، لكي يدرك روعة الواجهة والمنارة اللتين تنعكس عليهما شمس إيطاليا فتبدلهما لآلاء حجرياً؛ وعليه أن يزاحم بمنكبيه الجموع الحاشدة في أحد أيام العطلة ويدخل معها من أبواب الكنيسة ويدع كل هذه الرحاب الواسعة؛ والعمد، التيجان، والعقود، والقباب، والتماثيل، والمحاريب، والألواح الزجاجية الملونة تنقل إليه بصمتها سر الإيمان والأمل والعبادة.
وإذا كانت الكاتدرائية هي الأثر الخالد الذي أقامه جيان جلياتسو فسكونتي، وإذا كانت تشرتوزا بافيا هي ضريح لدوفيكو وبيتريس، فإن المستشفى الكبير ( Ospedale Maggiore) هو الأثر البسيط الضخم الذي يخلد ذكرى فرانتشيسكو اسفوردسا. وأراد اسفوردسا أن يخطط بطريقة "خليقة بأملاك الدوق العظيمة، وبالمدينة الكبرى الذائعة الصيت"، فاستدعي من فلورنس (1456) أنطونيو أفرولينو Antonio Averulino(19/45)
المعروف باسم فيلاريتى Filarete والذي اختار له شكلاً ضخما من الطراز الرومانسي اللمباردي، والراجح أن برامنتي هو المهندس الذي أنشأ الفناء الداخلي، وقد أنشأ في مواجهته طبقتين من العقود المستديرة تعلو كل طبقة منها شرفة ظريفة رشيقة. وقد ظل المستشفى الكبير من أعظم ما في ميلان من أمجاد حتى دكت الحرب الأوربية الثانية معظم أجزائه وتركتها خراباً تنعى من بناها.
وكان لدوفيكو وحاشيته يرون أن فنان ميلان الأعظم هو برامنتي لا ليوناردو، لأن ليوناردو لم يكشف لأهل زمانه إلا جزاءاً من نفسه. وقد ولد دوناتو د انيولو Donato d'Agnolo في كاستل ديورانتي Castel Drante القريبة من أربينو Urbino وأطلق عليه من قبيل السخرية لقب برامنتي ومعناه الشخص الذي يلتهب بالرغبات الجامحة التي لا تشبع. ورحل إلى مانتوا ليدرس مع مانتينيا Mantegna؛ وتعلم فيها ما يكفي لأن يخرج بعض مظلمات متوسطة الجودة، ويرسم صورة ملونة رائعة للعالم الرياضي لوكا بتشيولي Leca Pocioli؛ ولعله التقى في مانتوا بليون باتستا البيرتي Leon Batista Alberli الذي كان يصمم كنيسة سانت أندريا Sant' Andrea؛ وسواء كان هذا أو لم يكن فان طائفة من التجارب المتكررة في فن المنظور نقلت برامنتي من التصوير إلى العمارة؛ ونشاهده عام 1472 في ميلان يدرس كنيستها الكبرى بدقة الرجل الذي يعتزم القيام بأعمال جليلة. وأتيحت له حوالي عام 1476 فرصة يظهر فيها كفايته، وكانت هذه الفرصة هي تخطيط كنيسة سانتا ماريا حول كنيسة سان ساتيور San Satiro الصغيرة. وقد أظهر في هذه الآية الفنية المتواضعة طرازه المعماري الخاص في القباءات نصف الدائرية، وحجر المقدسات، والقبب المثمنة الأضلاع، والقباب الدائرية، التي تعلوها كلها طنف رشيقة، والتي تزدحم بعضها فوق بعض في صورة جامعة تخلب اللب. ولما عجز(19/46)
برامتي عن أن يجد مكانا للقبا، أخذ يداعب بفن المنظور، فنقش على الجدار القائم خلف المحراب صورة قبا تخدع الإنسان خطوطه المتجهة كلها نحو مكان واحد فلا يكاد يشاهد قبا غائراً بحق. وقد أضاف إلى كنيسة سانتا ماريا دل جراتسي قباً، وسقفاً مستديراً مقببا، والمداخل المعمدة للطرق المقنطرة التي كانت هي الأخرى بين ما دمرته الحرب الأوربية الثانية. ولما سقط لدوفيكو رحل برامنتي نحو الجنوب، متأهباً لأن يهدم روما ويبنيها من جديد.
ولم يكن المثالون الذي في بلاط لدوفيكو فنانين جبارين مثل دوناتلو وميكل انجلو، ولكنهم نحتو للشيرتوزا، والكتدرائية، والقصر، مائة صورة وصورة ذات رشاقة خلابة فتانة. وسيضل الناس يذكرون اسم كرستوفورو سولاري Cristoforo Solari الأحدب ( II Gobbo) ما بقي القبر الذي أنشأه للدوفيكو وبياتريس قائما. وكسب جيان كرستوفورو رومانو محبة الناس جميعاً بظرفه وغنائه العذب؛ وكان من كبار المثالين في التشيرتوزا ولكنه انتقل إلى مانتوا بعد موت بيتريس بعد أن ظلت هذه المدينة تلح عليه عاماً كاملاً، وفيها نحت لإزبيلا مدخلاً ظريفاً لحجرة مكتبتها في قصر البرديزو Paradiso ( الجنة) ثم حفر صورة لها في مدلات تعد من اجمل مدليات النهضة. وانتقل بعدئذ إلى أربينو ليعمل فيها عند الدوقة إلزبتا جندساجا Elisabetta Gonzaga، ثم أصبح من أبزر الشخصيات في كتاب البلاط لكستجليوني Caztiglione. وكان أعظم حفاري المدليات في ميلان كلها هو كرستوفورو فبا Crcistoforo Foppa. الملقب من قبيل السخرية كرادسا Caradossa، وهو الذي قطع الجواهر البراقة التي كانت تتحلى بها بيتريس، وجاب على نفسه حسد تشيليني Cellini.
وكان في ميلان مصورون جيدون قبل ليوناردو بجيل من الزمان، كان فيها فينتشندسوفيا الذي ولد في بريشيا، وتكون في بدوا، وقام أكثر(19/47)
أعماله في ميلان، وذاعت في أيامه شهرة مظلماته التي صورها في سانت يستورجيو sant' Eustorgio، ولا تزال صورة استشهاد القديس سبستيان تزين أحد جدران الكاستلو. وترك لنا أمبروجيو برجنيوني الذي نسج على منواله بميلان، وفي تررين، وبرلين، وكلها تجرى على تقاليد روح التقى الصادق القوي؛ وترك لنا كذلك صورة أنيقة لجيان جلياتسو اسفوردسا في طفولته هي الآن بين مجموعة ولاس wallace في لندن. وفي الصور نجاحا في التعبير عن هذا الموضوع الشاق. وكان أمبروجيو ده برديس Ambrogio de Perdis مصور البلاط عند لودفيكو حين قدم إليه ليوناردو، ويلوح أنه كان له نصيب في تصوير عذراء الصخور مع ليوناردو نفسه، لعله هو الذي رسم الصورة الساحرة للموسيقيين الملائكة المحفوظة في المعرض القومي بلندن، ولكن أجمل مخلفاته صورتان محفوظتان في الأمبروزيانا: أحدهما لشاب جاد غاية الجد لا يعرف من هو (1)، والثانية لفتاة يعتقد الآن إنها بيانكا ابنة لدوفيكو غير الشرعية. وقلما أفلح فنان غيره في إدراك المفاتن المتضاربة لفتاة تتصف بالحشمة والبراءة، ولكنها مدركة لجمالها الساذج فخورة به.
وكانت المدن الخاضعة لميلان تقاسي الأمرين من جراء نزوح ذوي المواهب من أهلها إلى تلك العاصمة لما فيها من مغريات، ولكن كثيرا من هؤلاء استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم في تاريخ الفن. ولم تكن كومو تقنع بأن بابا لا أكثر لميلان يوصل إلى البحيرة التي سميت تلك المدينة باسمها، بل كانت هي أيضاً تفخر بروائعها الفنية مثل برج القومون Torre del Comune، وبرولتو
_________
(1) يعزو بعض العلماء هذه الصورة لليوناردو دافنشي وربما كانت تمثل فرنكينو جفوري Franchino Gaffuri، وهو موسيقي في بلاط لدوفيكو.(19/48)
Broletto وتفخر أكثر من ذلك بكتدرائيتها الفخمة المشيدة من الرخام. وقد قامت الواجهة القوطية الرائعة لهذه الكاتدرائية أيام اسفوردسا (1457 - 1487)؛ وصمم برامنتي لها مدخلا جميلا من الجهة الجنوبية، وشاد ستوفورد سولاري القبا الخلاب على الطراز البرامنتي. وأهم من هذه المعالم وأكثر إمتاعا تمثالان يجاوران المدخل الرئيسي: أحدهما على اليسار لبلني الأكبر Pliny the Elder وثانيهما على اليمين لبلنى الأصغر Pliny the Younger، وهما من أبناء روما القدمين، وثنيان متحضران اتخذا لهما مكانا في واجهة كتدرائية مسيحية أيام لدوفيكو المغربي السمحة.
وكانت أجمل درة في برجامو Bergamo هي الكابلا كليوفي Capella Colleoni وكان سبب قيامتها أن الأفاق البندقي المغامر الذي ولد هنا أراد أن يشاد له معبد تثوى فيه عظامه وأن يكون لقبره شاهد يخلد انتصاراته. وصمم جيوفني أنطونيو أماديو المعبد والقبر، وحرص على أن يظهر فيهما الروعة والذوق السليم، ثم أقام سكستس سيري النورمبرجى Sixtus Siry of Nuremberg على الضريح تمثال فارس من الخشب، لو أن فيروتشيو ولم يَصُب لهذا القائد العظيم تمثالاً آخر من مادة أقوى وهي البرنز لكان لهذا التمثال الخشبي شهرة أوسع من شهرته الحاضرة. وكان قرب برجامو من ميلان مانعاً لها من الاحتفاظ بمصيرها، ولكن واحداً منهم هو أندريا بريفتالي Andrea Previtali عاد إلى برجامو (1513) بعد أن درس مع جيوفني بليني في البندقية، وأورثها صوراً تمثل التقى بأعظم معانيه والتواضع في أجمل صورة.
وكانت بريشيا تخضع تارة للبندقية وتارة لميلان، وساعدها ذلك على أن تحفظ التوازن بين التأثيرين، وأن يكون لها مدرسة للفن خاصة بها. وكان من أبنائها النابهين فنتشيندسو، وقد وزع ثمار مواهبه على ست مدن أو نحوها، ثم عاد بعدئذ ليقضي السنين الأخيرة من عمره في مسقط رأسه،(19/49)
وشارك تلميذه فينتبشندسو جفركيو Vincezo Giverchio شرف تكوين المدرسة البريشية الفنية. ودرس جيرولامو روماني المعروف باسم رومانينو مع فيرامولو، ثم درس في ما بعد في بدوا والبندقية، ثم أتخذ بريشيا مركزا له وصورة فيها وفي غيرها من بدن إيطاليا الشمالية سلسلة طويلة من المظلمات وستر المحاريب، والصور، ألوانها ممتازة ولكن خطوطها لا تبلغ هذه الدرجة من الإتقان. وحسبنا أن ننظر من هذه الصور صورة العذراء والطفل المحفوظة في إطار فخم من صنع استيفانو لمبرتي Stefano Lamberti في كنيسة سان فرانتشيسكو. وسما تلميذه السندرو بنفيتشينو Alessandro Bonvieino، المعروف باسم موريتو البريشيائي Moretto da Brescia، بهذه الأسرة إلى أعلى مكانتها بأن مزج مجد البنادق ذوي الإحساس المرهف بالعاطفة الدينية المتحمسة التي ظلت تمتاز بها صور بريشيا إلى آخر أيامها. وقد رسم موريتو في كنيسة القديسين نادسارو وتشيلسو Nazaro e Celso حيث وضع تيشيان صورة البشارة، صورة لا تقل عن هذه الصورة الأخيرة جمالاً وهي صورة تتويج العذراء. وصورة الملاك الأكبر التي بها لا تقل من حيث رقة الشكل والملامح عن أجمل الأشكال الموجودة في الكريجورو. وكان في وسعه أن يصور كلما شاء صوراً لفينوس مثيرة للشهوات شأنه في هذا شأن تيشيان؛ وتكشف صورة سالومي عن وجه من أظرف وأرق ما صور من الوجوه في نطاق فن النهضة كله بدل أن تكشف عن صورة قاتلة بالنيابة.
وجمعت كريمونا حياتها كلها حول كنيستها الكبرى التي أنشئت في القرن الثاني عشر وحول البرج ( Torrazo) المجاور لها وهو برج يكاد يضارع برج جيتو والخرلدة Giralda. ورسم جيوفيني ده ساكى Giovanni de Sacchi، المسمى البرودينوني II Prodenone بسام المدينة التي أنشأ فيها، داخل هذه الكنيسة أروع آية من آياته الفنية هي صورة يسوع يحمل صليبه. وأنجبت(19/50)
ثلاث أسر عظيمة في تلك المدينة أجيالا متعاقبة من ذوي المواهب العالية في فن التصوير الكريموتائي: أسرة بيمي Bempi ( وقد أنجبت بنيفادسيو Benifazio، وبينيديتو benedetto، وجيان فرانتشيسكو وأسرة بكاتشيني Boccaccini وأسرة كامي Campi. ودرس يوكاتشيويكا تشيبني في البندقية، وأقحم نفسه في منافسة لا طاقة له مع ميكل أنجلو في روما، ثم عاد إلى كريمونا، وعلا صيته بما انشأ من مظلمات في كتدرائيتها صور فيها العذراء، وواصل ابنه كاملو Camillo أعماله الرائعة الممتازة. كذلك واصل جيليو Giuilio وانطونيو ولدي جلبترو كامي وبرتردينو كامى تلميذ جيوليو أعمال جلياتسو. وكان جلياتسو هذا قد وضع تصميم كنيسة سانتا مرغريتا في كريمونا ثم رسم فيها صورة المخلص في المعبد. وهكذا نزعت الفنون في إيطاليا على عهد النهضة إلى أن تجتمع في عقل واحد، وقد ازدهرت في عهد عباقرة متعددي الكفايات تعددا لم يعرف حتى في بلاد اليونان.(19/51)
الباب السابع
ليوناردو دافنتشي
1452 - 1519
الفصل الأول
تكوينه
1452 - 1482
ولد ليوناردو أعظم الشخصيات الفنانة في العصور الوسطى في الخامس عشر من إبريل عام 1452 بالقرب من قرية فنتشي التي تبعد عن فلورنس بنحو ستين ميلا. وكانت أمه كترينا Caterina من بنات الفلاحين لم ترد داعيا إلى أن تتزوج أباه. وكان الذي أغواها بيرو دانطونيا محاميا على شيء من الثراء، ولما ولد له ليوناردو في عام مولده امرأة من طبقته، واضطرت كترينا أن تقنع بزوج فلاح مثلها، وأسلمت ابنها الذي كان ثمرة اتصالها بعشيقها إلى أبيه وزوجته، فنشأ ليوناردو في نعيم شبه أرستقراطي ينقصه حب الأم وحنانها. ولعله قد سرى إليه في هذا الجو المبكر حب الثياب الجميلة وكره النساء.
والتحق بمدرسة قريبة من قريته وأولع فيها بدراسة العلوم الرياضية، والموسيقى، والرسم، وسر والده بغنائه وعزفه على العود، ودرس كل شيء في العالم الطبيعي بشغف، وصبر، وعناية، ليستطيع بهذه الدراسة أن يجيد الرسم، وكان للعلم والفن اللذين ائتلفا ائتلافا عجيبا في عقله منشأ واحد - هو الملاحظة المفصلة الدقيقة. ولما أشرف على الخامسة عشر من عمره أخذه أبوه إلى مرسم فيروتشيو في فلورنس، وأقنع هذا الفنان(19/52)
المتعدد الكفايات أن يقبله صبيا يتمرن عنده. والعالم المتمدن كله يعرف قصة فارساى التي يروي فيها كيف صور ليوناردو الملك في صورة تعميد المسيح التي رسمها فيروتشيو، وكيف روع الأستاذ بجمال الصورة روعة حملته على أن يتخلى عن الرسم ويخصص جهوده للنحت. لكن أكبر الظن أن قصة هذا التخلي قصة خيالية نسج بردها بعد وفاة صاحبها؛ وشاهد ذلك أن فيروتشيو رسم عدة صور بعد صورة التعميد هذه، ولعل ليوناردو قد رسم في فترة التمرين صورة البشارة المحفوظة في متحف اللوفر بما فيها صورة الملك السمج والفتاة المروعة. ذلك أنه كان يصعب عليه أن يتعلم الرقة والظرف من فيروتشيو.
وتحسنت أحوال السيد بيرو المالية تحسنا كبيرا من خلال ذلك الوقت، فاشترى عدة عقارات، وأنتقل هو وأسرته إلى فلورنس (1469)، وتزوج بأربعة نساء واحدة بعد واحدة، ولم تكن ثانيتهما تكبر ليوناردو بأكثر من عشر سنين. ولما ولدت الثالثة منهن لبيرو طفلا، أفسح له ليوناردو مكانه بأن ذهب ليعيش مع فيروتشيو، وقبل في ذلك العام عضوا في جماعة القديس لوقا. وكانت هذه الجماعة تتألف في الأغلب الأعم من الصيادلة، والأطباء، والفنانين، وكان مقرها الرئيسي في مستشفى سانتا ماريا نوفا. ولعل ليوناردو قد أتيحت له هناك بعض الفرص لدراسة التشريح الداخلي والخارجي معا. ولعله في تلك السنين قد رسم الصورة التي تعزى إليه إن كان هو الذي رسمها، وهي صورة القديس جيروم النحيلة، الدالة على معرفة بالتشريح، والموجودة بمعرض الصور في قصر الفاتيكان، واكبر الظن أنه هو الذي رسم قبيل عام 1474 الصورة الزاهية الألوان غير الناضجة وهي صورة البشارة الموجودة في معرض أفيزي.
واستدعى ليوناردو قبل عيد مولده الرابع والعشرين بأسبوع واحد(19/53)
وثلاثة شبان آخرين للمثول أمام لجنة مشكلة من أعضاء مجلس السيادة في فلورنس لمحاكمتهم بتهمة اللواط. ولسنا نعرف ما تم في هذه المحكمة، ولكن التهمة تجددت في اليوم السابع من شهر يونيه عام 1456 وأمرت اللجنة بحبسليوناردو مدة قصيرة. ثم أطلقت سراحه وقالت إن التهمة غير ثابتة عليه (1). وما من شك في انه كان في هذا الصنف، ودليلنا على ذلك انه لم يكد يستطيع أن يفتتح لنفسه مرسما خاصا، حتى جمع حوله طائفة من الشبان الوسيمي الوجوه، كان يصحب بعضهم معه في هجرته من مدينة إلى مدينة، وكان يشير في مخطوطاته إلى هذا أو ذاك منهم بقوله "أحب أحبائي" أو "أعز أعزائي" (2). ولسنا نعرف ماذا كانت علاقاته الخاصة بأولئك الشبان، وفي مذكراته فقرات يفهم منها انه يكره الصلات الجنسية أيا كان نوعها (1). ولقد كان من حق ليوناردو أن يرتاب في السبب الذي دعا إلى توجيه هذه التهمة علنا له نفر قليل غيره دون غيرهم من أن اللواط كان واسع الانتشار في إيطاليا وقتئذ، ولم يغفر قط لفلورنس ما أصابه من مهانة باعتقاله.
ويبدو أنه حمل المر على محمل أكثر جدية مما حملته عليه فلورنس. وعرض على ليوناردو بعد عام من هذه التهمة مرسم في حديقة آل ميديتشي. وقبله، ثم طلب إليه مجلس السيادة نفسه في عام 1478 أن يصور ستارا لمحراب معبد القديس برنار في قصر فيتشيو لكنه لسبب ما لم يقم بما عهد ايه، فأتخذه بدلا منه غرلندايو وأئمة فلبينولي، ومع هذا فإن مجلس السيادة عهد إليه بعد قليل من ذلك الوقت بعمل آخر: هو أن يقوم برسم صورتين - ولسنا نستطيع أن نصفهما بأنهما صورتان حيتان- لرجلين بالحجم
_________
(1) ولم يستشيطون غضبا بسبب الأشياء التي هي أجمل ما يسعى أليه، وبسبب تملكهم واستخدامهم أحط أجزاء الجسم ... (3) إن عملية الاستيلاء والأعضاء التي تستخدم فيها لتدعو كلها إلى الاشمئزاز؛ ولولا جمال الوجوه، وزينة القائمين بها والغريزة المكبوتة لفقدت الطبيعة النوع البشري على بكرة أبيه.(19/54)
الطبيعي شنقا في مؤامرة الباتسي على لورندسو وجوليانو ده ميديتشي. ولعل ليوناردو صاحب الولع السقيم ببشاعة الجنس البشري وآلامه قد شعر ببعض المتعة في هذا الواجب البشع البغيض.
لكنه والحق يقال كان مولعا بكل شيء، فقد كانت جميع أوضاع الجسم البشري وحركاته وسكناته، وجميع تعبيرات الوجه في الصغار والكبار على السواء، وجميع أعضاء الحيوان وأجزاء النبات وحركاتها من تماوج أعواد القمح في الحقول إلى طيران الطير في السماء، وجميع ما يتناوب على الجبال من تحات وارتفاع، وجميع التيارات والدوامات المائية والهوائية، وتقلبات الجو وظلاله، وبدائع السماء التي لا تبلى جدتها - كل هذه كانت تبدو له عجيبة غاية العجب، لا يُنقص التكرار من روعتها وغرابتها وأسرارها. حتى لقد ملأ آلاف الصفحات بملاحظاته عنها، ورسوم أشكالها التي لا تحصى. ولما طلب إليه الرهبان سان اسكوبيتو San Scopeto أن يرسم صورة لمعبدهم (1481)، رسم كثيرا من الصور المبدئية لعدد كبير من المعالم والأشكال أدت به إلى أن يضل في التفاصيل وأن يعجز عن إتمام صورة عبادة المجوس.
لكن هذه الصورة رغم هذا النقص من أعظم صوره. ذلك أن التصميم الذي بنيت عليه رسم على طراز هندسي دقيق روعي فيه فن المنظور مراعاة غاية الدقة، وقسمت فيه جميع الرقعة التي رسم عليها مربعات تنقص نقصا تدريجيا، فقد كانت نزعة ليوناردو الرياضية تنافس على الدوام نزعته الفنية، وكثيرا ما كانت تتعاون معها. لكن موهبة ليوناردو الفنية كانت وقتئذ قد تكونت ونمت، واتخذت صور العذراء الوضع والملامح التي احتفظت بها في جميع صوره إلى آخر حياته: كذلك صور المجوس تصويرا ينم عن فهم عظيم عجيب - في شاب مثله - لأخلاق الكبار من الناس وتعبيراتهم، وكانت صورة "الفيلسوف" التي في اليسار دراسة حالم مذهول بحق التفكير نصف المتشكك، كأن المصور قد أصبح(19/55)
في هذه السن المبكرة ينظر إلى قصة المسيحية بروح الرجل المتشكك الكاره لتشككه، المؤمن الجاشع رغم هذا التشكك. وتجمعت حول هاتين الصورتين نحو خمسين صورة أخرى، كأنما هرع كل رجل وكل امرأة إلى هذا المهاد ليبحث فيه في شغف ونهم عن معنى الحياة، وعن بعض ضياء العالم، ثم وجد ضالته في طائفة لا حصر لها من المواليد.
وهذه الآية الفنية التي لم تتم، والتي كاد الزمان يذهب بمعالمها، معلقة الآن في معرض أفيزي بفلورنس، ولكن فلبيتولي هو الذي نفذ الرسم الذي ارتضاه الإخوان الإسكوبيتينيون. فقد كان طبع ليوناردو ومصيره اللذان لازماه إلى آخر أيام حياته إلا في حالات شاذة قليلة، هما أن يبدأ ما يريد عمله، ويرسم في عقله صورة له مسرفة في العظمة، ثم يضل في بيداء التجارب والتفاصيل، ثم ينظر فيما وراء موضوعه منظرا متناسقا بعيد المدى إلى أقصى حدود البعد من الصور البشرية، والحيوانية، والنباتية، والأشكال المعمارية، ومن الصخور، والجبال، ومجاري الماء، والسحب، والأشجار، يراها كلها في ضوء خفي من الظلال والقتام، وينهمك في فلسفة الصورة أكثر من انهماكه في تنفيذها وعملها، ويترك لغيره ما هو أقل من هذا من الواجبات نعني بذلك تلوين الأشكال التي رسمها على هذا النحو، ووضعها بحيث تكشف عن سرها ومعناها، ثم يتولى عنها في يأس بعد إجهاد طويل للجسم والعقل لما وجده من نقص في الصورة التي صاغتها يده من المادة التي لديه فلم ترق إلى ما رسمه لها في أحلامه.(19/56)
الفصل الثاني
في ميلان
1482 - 1499
ولم يكن في الرسالة التي بعث بها ليوناردو وهو في سن الثلاثين إلى لدوفيكو نائب الملك في ميلان سنة 1482 شيء من التردد، أو الإحساس بضيق الوقت الذي لا يرحم، بل كل ما كانت تفصح عنه هو مطامع الشباب التي لا تقف عند حد، هي مطامع تغذيها قوى مطردة النماء. لقد نال كفايته من المقام في فلورنس، واشتدت رغبته في رؤية أماكن ووجوه جديدة. وكان قد سمع أن لدوفيكو في حاجة إلى مهندس حربي ومعماري، ومثال، ومصور، وقال في نفسه انه سيتقدم بهؤلاء جميعا مجتمعين في شخص واحد، ومن أجل هذا كتب رسالته الذائعة الصيت:
سيدي الأجل الأفخم: لقد اطلعت الآن اطلاعا كافيا على جميع البراهين التي يتقدم بها كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة في أدوات الحروب ومخترعيها، وأنعمت النظر فيها، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر واستخدامها لا يختلفان في شيء عن الآلات والطرق التي تستخدم الآن. وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغي قط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا، أن اشرح لكم شرحا وافيا في الوقت الذي يوائمكم جميع الأمور التي أوجزها في هذه الرسالة:
1 - عندي تصميمات للقناطر خفيفة، قوية تصلح للانتقال بسهولة ...
2 - إذا حوصر مكان ما، فأني أعرف كيف أقطع الماء عن الخنادق، وكيف أقيم عددا لا يحصى من .... السلالم لتسلق الجدران وغيرها من الآلات ...(19/57)
3 - لدي طرق لصنع المدافع التي يسهل حملها، والتي يمكن بها إلقاء حجارة صغيرة بطريقة تضاهي نزول البرد ...
4 - وإذا أتفق أن كانت المعركة تدور في البحر، فإني أعرف كيف أصنع كثيرا من الآلات التي تصلح كل الصلاحية لأغراض الهجوم والدفاع، والسفن التي تستطيع مقاومة نيران أثقل المدافع، والبارود والدخان.
5 - ولدي أيضاً وسائل أستطيع بها الوصول إلى أماكن معينة بحفر الكهوف والطرق السرية الملتوية، أحفرها دون ضجيج ولو أستلزم ذلك المرور تحت الخنادق أو تحت نهر جار.
6 - وأستطيع أيضاً صنع عربات مغطاة آمنة لا يمكن الهجوم عليها، تستطيع الدخول بين صفوف العدو المتراصة المزودة بالمدفعية؛ وليس ثمة فرق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات فوق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات تحطيما. وتستطيع فرق المشاة أن تزحف خلف هذه العربات دون أن تصاب بأذى ودون أن يستطيع العدو مقاومتها.
7 - كذلك أستطيع إذا دعت الحاجة أن أصنع المدافع، ومدافع الهاون، والمدافع الخفيفة، بأشكال غاية في الجمال والمنفعة، تختلف كل الاختلاف عما هو مستعمل منها الآن.
8 - وحيث يتعذر استخدام المدافع أستطيع أن أمدكم بمجانيق، ومنغوليات، وقذافات (1) وغيرها من الآلات ذات القوة العجيبة، وليست شائعة في الوقت الحاضر. وقصارى القول أني أستطيع أن أزودكم في مختلف الظروف التي تدعو إليها الحاجة بعدد لا يحصى من آلات الهجوم والدفاع المختلفة الأنواع.
9 - واعتقادي أنني أستطيع في وقت السلم أن أرضيكم
_________
(1) آلات حربية قديمة كانت تستخدم لقذف الحجارة والقذافات آلات لرمي الحجارة.(19/58)
بقدر ما يرضيكم أي إنسان غيري في فن العمارة، وفي إنشاء المباني العامة والخاصة، وفي نقل الماء من مكان إلى مكان.
10 - أستطيع فوق ذلك أن أصنع التماثيل من الرخام أو الصلصال، كما أستطيع التصوير بحيث لا يقل عملي فيه عن عمل أي إنسان آخر مهما يكن شأنه.
وسأقوم فضلا عن هذا بعمل الحصان البرنزي الذي سيضفي مجدا خالدا وشرفا أبديا على الذكرى الطيبة للأمير والدكم وعلى بيت اسفوردسا العظيم.
واذا ما بدا لأي إنسان أن أحد الأشياء السابقة مستحيل أو غير عملي، فإني أعرض استعدادي لتجربته في حديقتكم أو في أي مكان ترون عظمتكم أن أجربه فيه، وأتقدم لكم بأعظم آيات الخضوع والولاء.
ولسنا نعرف بماذا أجاب لدوفيكو عن هذه الرسالة، ولكننا نعرف أن ليوناردو وصل ميلان في عام 1482 أو في عام 1483 وانه سرعان ما وجد طريقه إلى قلب "المغربي". وتقول إحدى القصص إن لورندسو قد بعثه إلى لدوفيكو ليقدم إليه عودا موسيقيا جميلا هدية منه يستجلب بها رضاه، وتقول قصة أخرى انه فاز في ميلان في مباراة موسيقية، وانه لم يفز فيها بسبب إحدى القوى التي دعاها لنفسه "بأعظم آيات الخضوع والولاء" بل فاز بصوته الموسيقي وحديثه الطلي، وبالنغمات الحلوة التي كانت تنبعث من العود الذي صنعه بيده على شكل رأس حصان (5). ويبدو أن لدوفيكو حين قبله عنده لم يضعه في المنزلة التي قدر هو بها نفسه، بل قبله على انه شاب نابه- قد يكون أقل نبوغا في العمارة من برامنتي، ولم يكسب من التجارب ما يكفي لأن يعهد إليه بأعمال الهندسة العسكرية، ولكنه يستطيع أن يعد الحفلات المقنعة في البلاط، والمواكب في المدينة، ويزخرف ثياب الزوجة أو العشيقة أو الأميرة، وينقش الرسوم على الجدران، ويرسم الصور الملونة، وربما استطاع أن يحفر القنوات لتحسين وسائل الري في(19/59)
سهل لمباردي. ويسوؤنا أن نعلم أن هذا الرجل صاحب العقل الواسع المتعدد الكفايات قد أضطر أن ينفق الوقت الثمين الذي لا يعوض في صنع أحزمة غريبة الشكل لزوجة لدوفيكو الحسناء بيتريس دست، وبضع نماذج لأثواب المثاقفة والحفلات، وينظم المواكب، أو يزين الإسطبلات، غير أن الفنان في عصر النهضة كان ينتظر منه أن يعمل هذه الأشياء كلها في الفترات التي لم يكن يشتغل فيها برسم صور مريم العذراء؛ وقد اشترك برامنتي نفسه في سخافات البلاط، ومن يدري لعل ما في طباع ليوناردو من أنوثة قد حبب إليه رسم الثياب والحلي، وما في طباعه من رقة الفارس المهذب قد جعله يستمتع بتصوير الخيل السريعة العدو على جدران الإسطبلات، وقد زين حجرة القصر استعداداً لزواج بيتريس، وأنشأ للعروس حماما خاصا، وأقام في الحديقة ظله جميلة لمتعتها الصيفية، ونقش حجرات أخرى لحفلات القصر، ورسم صورا ملونة للدوفيكو وبيتريس، وأبنائهما، وصورا غيرها لتشيتشيليا جلرينى، ولكريدسيا كريفلي عيشيقتي لدوفيكو. وقد ضاعت هذه الصورة كلها إلا إذا كانت صورة فرونيبر الحسناء المحفوظة في متحف اللوفر هي بعينها لكريدسيا. ويصف فارساي صور الأسرة بأنها "غاية في الإبداع"، وقد ألهمت صورة لكريدسيا أحد الشعراء قصيدة خماسية يمدح بها جمال هذه السيدة ويثنى فيها على مهارة الفنان (6).
وربما كانت تشيتشيليا هي النموذج الذي رسم منه ليوناردو صورة عذراء الصخور. وقد تعاقدت معه على هذه الصورة (1483) الجماعة المعروفة باسم أخوة الحمل Confraternity of the Conception لتكون في وسط ستار المحراب لكنيسة فرنتشيسكو. وقد أشترى الصورة الأصلية فيما بعد فرانسيس الأول وهي الآن في متحف اللوفر. وإذا ما وقف الإنسان أمامها طالعه وجه الأمومة الرقيق الذي أستعمله ليوناردو أكثر من عشر مرات فيما رسمه من الصور بعد ذلك الوقت؛ وأبصر صورة الملك تذكره(19/60)
بمثيلته في صورة تعميد المسيح لفيروتشيو؛ وطفلين أبدع تصويرهما، وفي خليفة الصورة صخور معلقة بارزة لا يتصور أحد غير ليوناردو أنها كانت مسكن مريم العذراء. وقد عدا الزمان على الألوان فجعلها قائمة، ولكن لعل الفنان نفسه أراد أن يكون لها هذا الأثر القائم، وأنه خضب صورته بجو مغبر يسميه الإيطاليون "المدخَّن sfumato". وهذه الصورة من أروع صور ليوناردو، ولا يعلو عليا إلا صورة العشاء الأخير، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل والقديسة آن.
وصورتا العشاء الأخير وموناليزا أشهر الصور على الإطلاق في العالم كله، ونرى الناس يحجون ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، إلى حجرة الطعام حيث توجد أعظم مفاخر ليوناردو. ففي ذلك البناء المستطيل المتواضع كان الرهبان الدمنيك المتصلون بكنيسة لدوفيكو المحببة- سانتا ماريا دل جرادسي- يتناولون طعامهم. فلما جاء الفنان إلى ميلان طلب إليه لدوفيكو بعد وقت قليل من وصوله أن يرسم صورة العشاء الأخير على أبعاد جدار في المطعم. وظل ليوناردو ثلاث سنين (1495 - 1498) يكدح أو يلهو بالعمل في فترات متقطعة؛ كان الدوق والرهبان في أثنائها يظهرون تأففهم من تباطؤه الذي لا آخر له. وقد شكا رئيس الدير إلى لدوفيكو- إذا صح أن نصدق فاساري- من تباطؤ ليوناردو البادي للعيان، وأبدى عجبه من أنه كان في بعض الأحيان يجلس أمام الجدار ساعات طوالاً لا يمسه فيها. ولم يجد ليوناردو صعوبة ما في أن يفهم الدوق أن أهم ما في عمل الفنان هو تصور الفكرة لا تنفيذها، وأن "العباقرة" حسب تعبير فاساري "ينتجون أكثر إنتاجهم حين لا يقومون إلا بأقل الأعمال". واقتنع الدوق بهذا التفسير ولكنه وجد من الصعب عليه أن يشرح لرئيس الدير. وقال ليوناردو للدوفيكو أنه يواجه في هذه الحالة صعوبتين بنوع خاص- أولهما أن يفكر في الملامح الخليقة بابن الله؛(19/61)
وأن يصور إنساناً لا قلب له مثل يهوذا الأسخريوطي؛ ولعله قد أشار في دهاء إلى أنه قد يتخذ وجه رئيس الدير الذي يسرف في التردد عليه نموذجاً لوجه الأسخريوطي هذا (1). وكان ليوناردو يطوف أنحاء ميلان بحثاً عن الرءوس والوجوه التي يستخدمها لتمثيل الرسم، وقد أختار من بين المئات الذين عثر عليهم الملامح التي مزجها في مصهر فنه حتى أخرج منها تلك الرءوس الانفرادية التي جعلت آيته الفنية موضع إعجاب العالم. وكان في بعض الأحيان يهرول من الشارع أو من رسمه إلى المطعم، ويضيف ضربة أو ضربتين إلى الصورة، ثم يعود من حيث أتى (8).
وكان موضوع الصورة جليلا فاخرا، ولكنه كان ممن وجه نظر الفنان محفوفا بالمخاطر. ذلك انه لابد أن يقتصر على صور الذكور، وعلى منضدة متواضعة في حجرة بسيطة، ويجب أن لا تتعدى المناظر الطبيعية الحقيقية أو المتخيلة أشدها قتاما، وألا يشتمل على شيء من ظرف النساء يضعف من قوة الرجال. ولم يكن يستطيع أن يدخل في الصورة من الأعمال الواضحة ما يبعث على الحركة ويشعر بالحياة. على أن ليوناردو قد أخل قدرا ضئيلا من المناظر الطبيعية يبصرها الرائي من خلال النوافذ التي رسمها خلف صورة المسيح، ثم استبدل بالعمل والحركة صورة الاجتماع الذي عقد في اللحظة الحاسمة التي تنبأ فيها المسيح بأن أحد الرسل سيغدر به، فيسأله كل واحد منهم في خوف وهلع أو في دهشة وذهول: "أأنا هو؟ ". وقد كان في وسع ليوناردو أن يختار موضوع العشاء الرباني؛ ولكن هذا كان من شأنه أن يجمد ثلاثة عشر وجها كلها فيجعل منها صورة موحدة رزينة عديمة الحركة. أما هذا الموضوع ففيه أكثر من الحركة الجسمية
_________
(1) وقد لا تكون هذه القصة إلا خرافة، وليس لنا مرجع نعتمد عليه فيها إلا فاساري، لكننا من جهة لا نجد شاهداً على عدم صحتها إلا رواية إن صورة العشاء الأخير ليس فيها ما يشبه معالم الأحياء من الرجال.(19/62)
العنيفة، فيه روح باحثة متقصية، وفيه وحي وإلهام، ولم يكشف قط فيما بعد فنان في صورة واحدة عن مثل هذا العدد الجم من النفوس. وقد أعد ليوناردو للرسل عددا لا يحصى من الرسوم المبدئية التخطيطية، بعضها- كصورة يوحنا الأكبر، وفيليب، ويهوذا الأسخريوطي- رسوم بلغت من الرقة والقوة درجة لا تضارعها إلا رسوم رمبرانت Rembrandt وميكل أنجلو. ولما أراد ليوناردو أن يتخيل ملامح المسيح، وجد أن الرسل قد استنفذوا مصادر إلهامه كلها، ويقول لوماتسو Lomazzo ( وقد كتب في عام 1557) إن دسينالي Zenale صديق ليوناردو القديم أشار عليه بأن يترك وجه المسيح ناقصا وقال له: "إن من المستحيل حقا أن يتصور الإنسان وجوها أجمل وأرق من وجه يوحنا الأكبر أو يوحنا الأصغر. فارض إذن بسوء حظك، وأترك مسيحك ناقصا لأنك لو أتمتته لما كان إذا قورن بوجوه الرسل منقذهم أو سيدهم" (9). وعمل ليوناردو بهذه النصيحة، ورسم هو أو أحد تلاميذه رسما تخطيطيا لرأس المسيح (هو الآن في معرض بريرا Brera) ؛ ولكنه يمثل حزنا واستسلاما خليقين بالنساء، بدل أن يمثل العزيمة التي دبت في هدوء في قلب جشمان Gethsemane، ولعل ليوناردو يعوزه التقي وتعظيم المقدسات، ولو أنهما كانا له وأضفيا إلى حسه المرهف، وعمق تأثره، وحذقه لجاءت صورته أقرب إلى الكمال.
وإذ كان ليوناردو مفكرا وفنانا معا، فقد كان يتجنب التصوير على الجص لأنه في اعتقاده لا يتفق مع التفكير بحال. ذلك أن التصوير على المواد الطرية وعلى الجص الموضوع توا لابد أن يكون سريعا قبل أن يجف. وكان ليوناردو يفضل التصوير الزلالي (1) على جدار جاف- أي التصوير بألوان ممزوجة بمادة هلامية، لأن هذه الطريقة تتيح له فرصة التفكير والتجربة. غير أن هذه الألوان لا تلتصق بقوة على السطح الذي توضع
_________
(1) بألوان داخلها الزلازل بدل الزيت. (المترجم)(19/63)
فوقه، ولهذا فإن الطلاء بدأ يتقشر ويتساقط في أثناء حياة ليوناردو نفسها؛ دع عنك تأثير رطوبة المطعم وغمره بمياه المطر من حين إلى حين. وكانت الصورة حين شاهدها فاساري في عام 1536 قد بدأت تفقد معالمها، ولما أن رآها لوماتسو Lomazzo بعد ست سنين من إتمامها كان التلف قد بلغ منها مبلغا لا يستطاع إصلاحه. وعجل الرهبان هذا التلف فيما بعد بأن شققوا بابا إلى المطبخ بين أرجل الرسل (1656). أما النقوش المحفورة التي تمثل هذه الصورة والمنتشرة في جميع أنحاء العالم فلم تؤخذ عن الأصل الذي تلف، بل أخذت من صورة له غير متقنة رسمها ماركو دجيونو Marco d'Oggiono أحد تلاميذ ليوناردو. وكل ما نستطيع دراسته منها في هذه الأيام هو تأليفها وخطوطها الخارجية العامة، أما ظلالها ودقائقها فإن دراستها من أصعب الأشياء. وأيا كانت عيوب الصورة حين فرغ منها ليوناردو، فقد أدرك بعضهم لساعته أنها أعظم صورة أخرجها فن النهضة حتى ذلك الوقت.
وكان ليوناردو في هذه الأثناء قد عهد أليه عمل آخر يختلف عن ذلك العمل السالف الذكر كل الاختلاف ويزيد عليه صعوبة. ذلك أن لدوفيكو كان يتوق من زمن بعيد إلى أن يخلد ذكرى أبيه فرانتشيسكو اسفوردسا بتمثال لفارس يضارع تمثال جتاميلاتا Gattamelata الذي صنعه دوناتيلو في بدوا، وتمثال كليوني لفيروتشيو في البندقية، وأثارت هذه الرغبة مطامع ليوناردو؛ فشرع يدرس تشريح الجواد، وحركاته، وطبيعته، ورسم لهذا الحيوان مائة صورة تخطيطية، كلها تقريباً ذات نشاط وتخطيط. وسرعان ما أنهمك في صنع نموذج له من الجص؛ ولما طلب إليه بعض سكان بياتشندسا أن يدلهم على الفنان ليصمم لهم أبواباً من البرنز لكنيستهم الكبرى ويصبها، كبت لهم رداً نستبين منه خصائصه المميزة له يقول فيه: "ليس ثمة من يستطيع القيام بهذا العمل غير ليوناردو الفلونسي، الذي يصنع الآن الجواد البرونزي للدوق فرانتشيسكو؛ وليس بكم حاجة إلى أن(19/64)
تدخلوه في حسابكم، لأن لديه من الأعمال ما يشغله طول حياته؛ واعتقادي أن هذا العمل يبلغ من الفخامة درجة لا يستطيع معها أن يتمه" (10). وكانت هذه الفكرة نفسها تراود أيضاً لدوفيكو في بعض الأوقات، وكان يطلب إلى لورندسو أن يستدعي فنانين آخرين ليتموا العمل (1489)؛ ولم يكن لورندسو كما لم يكن ليوناردو، يظن أن ثمة إنسان أجدر بذلك من ليوناردو نفسه.
وأخيراً تم النموذج الجصي (1493)، ولم يبقى إلا أن يصب التمثال من البرونز. وعرض النموذج على الجمهور في شهر نوفمبر من ذلك العام تحت قوس يزدان به موكب عرس بيانكا مارية ابنة لدوفيكو. ودهش الناس من ضخامة حجمه وروعته؛ فقد كان الحصان وراكبه يعلوان في الجو ستاً وعشرين قدماً، وأنشأ الشعراء قصائد يتغنون فيها بمدحه، ولم يكن أحد يشك في أن التمثال حين يصب سيفوق في قوته ومطابقته للحياة آيات دوناتيلو وفيروتشيو. ولكنه لم يصب، ويلوح أن لدوفيكو لم يكن في غنى عن المال الذي يبتاع به الخمسين من أطنان البرنز اللازمة له. ولذلك ترك النموذج في العراء، وأخذ ليوناردو يشغل نفسه بالفن والغلمان، والعلم والتجارب، والأدوات الآلية والمخطوطات؛ ولما استولى الفرنسيون على ميلان عام 1499 اتخذ رجالهم الجواد والحصى هدفاً لهم وحطموا قطعاً كثيرة منه، وأبدى لويس الثاني عشر في عام 1500 رغبته في أن ينقله على عربة إلى فرنسا غنيمة حربية له، ثم لا نعود نسمع عنه بعد ذلك.
وحطم هذا الإخفاق العظيم أعصاب ليوناردو وهد قواه إلى حين، ولعله قد أفسد علاقته بالدوق؛ ولم يكن لدوفيكو عادة يضن على فنانه بالمال، ودهش أحد الكرادلة حين عرف أن ليوناردو أعطى ألفي ودقية (25. 000 دولار؟) في عام من الأعوام فضلا عن غيرها من الهدايا والامتيازات (11) ولهذا كان يعيش عيشة الأرستقراطي: فكان عنده عدة(19/65)
صبيان يتدربون على العمل، وكثيرون من الخدم، والأتباع، والجياد، وكان يستأجر الموسيقيين، ويلبس الحرير والفراء، والقفازات المزركشة، والأحذية الجلدية ذات الأشكال الغريبة. وكان ينتج أعمالاً لا تقدر بمال، ولكن يبدو أنه كان في بعض الأحيان يبعث بالمهام التي يعهد بها إليه، أو ينقطع عنها ليشتغل ببحوثه الخاصة وبالتأليف في العلم، والفلسفة، والفن. ومل لدوفيكو آخر الأمر تباطؤه فاستدعى بروجينو في عام 1497 ليزين له بعض الحجرات في قصره؛ غير أن بروجينو تعذر عليه المجيء، وتولى ليوناردو العمل، ولكن هذا الحادث حز في نفس الرجلين. وحدث حوالي ذلك الوقت أن حلت بلدوفيكو ضائقة مالية من جراء نفقاته الدبلوماسية، والنفقات العسكرية، فتأخر في أداء مرتب ليوناردو. وظل ليوناردو يقوم بنفقاته الخاصة ما يقرب من عامين، ثم بعث إلى لدوفيكو ليذكره بمطلوبه (1495). واعتذر لدوفيكو اعتذاراً كريماً، ثم وهب ليوناردو بعد عام من ذلك الوقت كرمة يتخذها مورداً لرزقه. وكان كيان لدوفيكو السياسي لذلك في ذلك الوقت يتحطم فوق رأسه؛ فقد استولى الفرنسيون على ميلان، وفر لدوفيكو، وألفى ليوناردو نفسه حراً ولكنه متعب غير مطمئن.
ورأى أن ينتقل إلى مانتوا (ديسمبر عام 1499)، حيث رسم صورة رائعة لإزبلا دست، ولكنها طلبت إلى زوجها أن يتخلى عنها. وكان ذلك أول مرحلة خطئها هذه الصورة في طريقها إلى متحف اللوفر. ولم يستسيغ الفنان هذا الفعل، فغادر المدينة إلى البندقية؛ وأدهشه فيها جمالها الفخم، ولكنه وجد ألوانها الزاهية، وزخارفها القوطية- البيزنطية متلألئة براقة أكثر مما يطيقه ذوقه الفلورنسي، فعاد أدراجه إلى المدينة التي قضى فيها أيام صباه.(19/66)
الفصل الثالث
فلورنس
1500 - 1501، 1503 - 1506
وكان في الثامنة والأربعين من العمر حين حاول أن يمسك مرة أخرى بحبل الحياة الذي قطعه قبل ذلك بسبعة عشر عاماً. وكان وقتئذ قد تبدل، وتبدلت فلورنس أيضا، ولكنه سار في طريق غير الذي سارت فيه هي. فأما فلورنس فقد أصبحت في أثناء غيابه جمهورية نصف ديمقراطية من الوجهة السياسية ونصف متزمتة من الوجهة الدينية، وأما هو فقد أعتاد حكم الدوق وترف الأرستقراطية وأساليبها الناعمة. وأخذ أهل فلورنس، وهم الناقدون على الدوام، ينظرون شزراً إلى حريره ومخمله، والى ظرف آدابه، واتباعه من الشبان ذوي الشعر المعقوص. وكان ميكل أنجيلوا وقتئذ أقل منه باثنين وعشرين عاما، ولم تكن تعجبه ملامحه الجميلة التي تختلف كل الاختلاف عن أنفه المحطم، وكان وهو الفقير المعدم يعجب من أين يجد ليوناردو المال الذي يحيا به تلك الحياة الرخية؛ وكان ليوناردو قد اقتصد ستمائة دوقة في الأيام التي قضاها في ميلان، ورفض الآن عروضا كثيرة حتى التي جاءته من مركيزة مانتوا، ولما بدأ يعمل مرة أخرى كان يعمل متباطئا كعادته.
وكان الرهبان السرفيون قد استخدموا فلبينولي ليرسم ستار محراب لكنيسة البشارة Annunziato، وأظهر ليوناردو عرضا رغبته في أن يقوم بمثل هذا العمل، وكان فلبينو كريما إذ تخلى عن هذه المهمة للرجل الذي كان يراه الناس عامة أعظم المصورين في أوربا، وجاء الرهبان السرفيون بليوناردو وأسرته ليعيشوا في الدير، وتكلفوا بنفقاتهم في المدة التي بدت لهم جد طويلة، ثم حدث في يوم من عام 1501 أن كشف الغطاء(19/67)
عن الرسم التمهيدي لصورة العذراء والطفل والقديسة آن والطفل يوحنا ((فأعجب بها أشد العجب كل من رآها)) كما يقول فرساي ((ولما علقت ... هرع إليها الناس عامة، رجالا ونساء، شيبا وشبانا من كل فج، وظلوا يفدون إلى الدير يومين كاملين ليشاهدوها، كأنهم في أيام عيد، وأثارت عظيم دهشتهم وإعجابهم)). ولسنا نعرف أكانت هذه هي الصورة الكاملة الحجم التي هي الآن أحد كنوز مجمع الفنون الملكي في بيت بيرلنجتن Burlington House بلندن. والراجح أنها هي، وإن كان الثقات الفرنسيون (12) يرون إنها هي الشكل الأول للصورة المحفوظة في اللوفر، والتي تختلف عنها كل الاختلاف. وإن الابتسامة التي تنم الكبرياء والرقة والتي يتلألأ بها وجه العذراء في الرسم التمهيدي وتجمله لهي من معجزات ليوناردو بحق، وإذا قيست بها ابتسامة موناليزا بدت هذه الابتسامة أرضية ساخرة، بيد أن هذه الصورة لم تكن من الصور الناجحة، وإن كانت من أعظم ما صور في عهد النهضة. ذلك أن في مقام العذراء القلق فوق ساقي أمها الممتدتين بعض ما تشمئز منه الأنفس وما ينم عن ذوق سقيم. ويلوح أن ليوناردو قد أهمل هذا الرسم التمهيدي إلى الصورة التي طلبها الرهبان، فكان لا بد لهم أن يلجئوا إلى لبي من جديد، ثم إلى بروجينو ليصور لهم ستار المحراب؛ ولكن ليوناردو سرعان ما رسم صورة العذراء، والقديسة آن والطفل يسوع المحفوظة في متحف اللوفر، ولعله قد رسمها من صورة معدلة من الرسم التمهيدي للصورة في بيت بيرلنجتن. وكانت هذه الصورة نصرا فنيا مؤزرا. من رأس آن المزين بالجواهر إلى قدمي مريم العاريتين عريا مخزيا والجميلتين جمالا ربانيا. وهنا وصل التقسيم إلى مثلثات الذي اخفق في الصورة التمهيدية ذروة النجاح؛ فرؤوس آن، مريم، والطفل، والحمل تكون هي الأربع جانبا واحدا عظيم الثراء، والطفل وجدته يحدقان في كلف إلى مريم، وأثواب النساء(19/68)
التي لا نظير لها في الثياب تملأ الفراغ الذي بين أجزائها، وقد لطف القتام الذي هو من خصائص فرشاة ليوناردو وجميع الخطوط الخارجية للصورة كما تلطفها الظلال في الحياة الواقعية. ولقد كانت الابتسامة الليوناردية التي طبعها على فم مريم في الصورة التمهيدية، ولكنه طبعها على فم آن في الصورة الملونة، هي الطراز الذي سار عليه أتباع ليوناردو نصف قرن من الزمان.
ثم انتقل ليوناردو من هذه الدعوات الرقيقة ذات النشوة الدينية الصوفية ليعما مهندسا عسكريا في خدمة سيزارى بورجيا (يونية 1502)؛ ذلك أن بورجيا كان وقتئذ قد بدأ حملته الثالثة في الرومانيا Romagna، وكان في حاجة إلى رجل يستطيع رسم الخرائط التخطيطية، وبناء الحصون وتجهيزها، وإقامة الجسور على الأنهار أو تحويل مجراها، واختراع أسلحة الهجوم والدفاع، ولعله قد سمع عن الآراء التي عبر عنها ليوناردو عن آلات الحرب أو صورها بها. فقد كان فيها مثلا رسم لعربة مدرعة أو دبابة يحرك عجلاتها الجنود من داخل جدرانها، وكتب ليوناردو يقول ((أن هذه العربات تحل محل الفيلة ... ففي وسع الإنسان أن يطعن بها، وفي وسعه أن يمسك بها بمنافيخ يروع بها خيول العدو، وفي وسعك أن تضع فيها جنودا مسلحين بالبنادق القصيرة تحطم بها كل سرية)) (12). وفي مقدورك، كما يقول ليوناردو أن تضع مناجل فتاكة على جانبي المركبة، ومنجلا دوارا أشد منها فتكا على عمود بارز إلى الأمام، وهذه كلها تحصد الرجال حصد الهشيم (14). أو تستطيع أن تجعل عجلات المركبة تدير جهازا يلقى بالقذائف الحديدية المهلكة في الجهات الأربع (15). وفي وسعك أن تهاجم حصنا بأن تضع جنودك تحت غطاء واق، وأن تصد المحاصرين بأن تلقي عليهم زجاجات ملأى بالغاز السام (17). وقد فكر ليوناردو في وضع ((كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه)) وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد منافذ المياه التي تجري في(19/69)
الوديان (18) ووضع تصميما لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلا من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على العربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تحاول تسلق الجدران (19). واغفل بورجيا معظم هذه الأدوات لأنه ظنها غير عملية، واكتفى بتجربة واحدة منها أو اثنتين في حصار تشري Ceri عام 1503، ولكنه مع ذلك أصدر هذه البراءة:
إلى جميع عالمنا، وحكام قلاعنا، وضباطنا، ورؤساء الجنود المرتزقون، والموظفين، والجنود، والرعية. نلزمكم جميعا ونأمركم بأن حامل هذا خادمنا الممتاز الذي نوليه أعظم حبنا، ومهندسنا المعماري، وكبير مهندسينا ليوناردو دافنشي - الذي عيناه للتفتيش على قلاعنا ومعاقلنا في أملاكنا، حتى نستطيع أن نمدها بما هي في حاجة إليه حسب ما يشير علينا به - نلزمكم ونأمركم أن تيسروا له الانتقال الذي لا يتحمل فيه أية مشقة أو يطلب إليه فيه أداء فريضة ما، وأن يلقى منكم هو ومن معه الترحيب الودي، وأن تكون له الحرية التامة في أن يطلع، ويختبر، ويقيس بأعظم الدقة كل ما يرغب فيه. وعليكم أن تقدموا له العون بالعدد الذي يرغب فيه من الرجال ليتمكن من تحقيق هذه الغاية، وأن تمدوه أنتم بكل ما في وسعكم من معونة وتكرموه غاية الأكرام. وإن إرادتنا لتقتضي أن يحتم على كل مهندس أن يتصل به ويعمل بمشورته في كل ما يقوم به من الأعمال في جميع أملاكنا (20).
وكتب ليوناردو كثيرا، ولكنه قلما كتب عن نفسه. ولق كنا نود أن نعرف رأيه في بورجيا، وأن نضعه إلى جانب رأي الرسول الذي بعثه فلورنس إلى سيزاري في ذلك الوقت - نعني نقولو مكفيلي. ولم استطعنا لأضاء لنا رأيه كثيرا مما خفي علينا في الرجل. غير أم كل ما نعرفه أن ليوناردو زار إمولا Imoia، وفائندسا، وفلورلي، ورافنا، وريميني، وبسارو، وأربينو، وبروجيا، وسينا، وغيرها من المدن، وأنه كان في(19/70)
سنجاليا Sinigallia حين اقتنص سيزاري وخنق فيها أربعة من الضباط الخونة، وانه قدم إلى سيزارى ست خرائط كبيرة لإيطاليا الوسطى، بين فيها اتجاه المجاري المائية، وطبيعة الأرض وتضاريسها، والمسافات التي بين النهار، والجبال، والحصون، والبلدان. ثم عرف فجأة أن سيزاري موشك على الموت في رومة، وأن إمبراطوريته آخذة في الانهيار، وأن أحد أعداء آل بورجيا في طريقه إلى العرش البابوي. وولى ليوناردو وجهه مرة أخرى نحو فلورنس (إبريل 1503) بعد أن أخذ عالم العمل يبتعد عنه.
وفي شهر أكتوبر من ذلك العام عرض بيترسدريني رئيس حكومة فلورنس على ليوناردو وميكل أنجيلو أن يرسم كلاهما صورة جدارية في بهو الخمسمائة الجديد في قصر فيتشيو. وقبل كلاهما العرض، وكُتب معهما عقدان دقيقان غاية الدقة، وذهب كل منهما إلى مرسم خاص به ليرسما صورتيهما التمهيديتين. وكان الذي طلب إليهما أن يصور كل منهما بعض انتصارات جيوش فلورنس: فيصور أنجيلو معركة في الحرب مع بيزا، ويصور ليوناردو انتصار فلورنس على ميلان عنيد أنغياري Anghiari. وأخذ أهل فلورنس المتيقظون المتحفزون يتتبعون هذا العمل كأنه مباراة بين المجالدين، وثار النقاش الحاد بين المتنافسين وأساليبهما، وظن أحد المراقبين أنه إذا تفوقت إحدى الصورتين على الأخرى تفوقا حاسما، فإن هذا التفوق سيقرر للمصورين فيما بعد هل ينهجون نهج ليوناردو ويتبعون نزعته نحو الرقة والتمثيل الدقيق للمشاعر، أو يهيمون كما يهيم ميكل أنجيلو بالعضلات الضخمة والقوة الشيطانية.
ولعل هذا هو الوقت - ونقول لأن الحادث الذي سنرويه ليس له تاريخ - لعل هذا هو الوقت الذي أطلق اصغر الفنانين العنان لحقده على ليوناردو فأهانه إهانة سافرة، وتفصيل ذلك أن بعض الفلورنسيين كانوا(19/71)
يناقشون في أحد الأيام فقرة من المسلاة الإلهية في بياتسا سانتا ترينيتا Piazza Santa Trinita. وشاهدوا في أثناء النقاش ليوناردو مارا بهم فأوقفوه وسألوه أن يشرح لهم. وظهر ميكل أنجيلو في هذه اللحظة، وكان معروف عنه أنه قد درس دانتي دراسة متقنة. فقال ليوناردو: ((هاهو ذا ميكل أنجيلو، وسيشرح لكم هذه الأشعار)). وظن هذا الجبار الشقي أن ليوناردو يسخر في غضب وازدراء: ((أشرحها أنتك يا من صنعت نموذجا لجواد يصب من البرنز ثم عجزت عن صبه، وتركته دون أن تتمه، فيا للعار: وقد ظنت ديكة ميلان الخصبة أن في طاقتك أن تنجزه)) ويقال إن ليوناردو احمر وجهه خجلا، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وسار ميكل أنجيلو في طريقه وهو يكاد يتمزق من الغيظ (21).
وأعد ليوناردو صورته التمهيدية بعناية فائقة، فزار موضع المعركة في أنغياري وقرأ التقارير التي كتبت عنها، ورسم عدة صور تخطيطية للخيل والرجال في معمعان القتال أو في حشرجة الموت، وأتيحت له وقتئذ، ما لم يتح له إلا قليلا في ميلان، فرصة إدخال الحركة على فنه، فأفاد منها أكبر فائدة من هول منظره. ذلك أن أحدا من أهلها لم يكن يظن أن أرق الفنانين في فلورنس يستطيع أن يتخيل أو يصور هذه المذبحة الوطنية. ولعل ليوناردو قد أفاد في هذا العمل من تجاربه في حملات سيزارى بورجيا، فاستطاع أن يعبر في صورته عن الأهوال التي ربما رآها أو استخرجها من عقله. ولم يحل شهر فبراير من عام 1505 حتى كان قد فرغ من صورته التمهيدية وشرع يرسم صورته الوسطى - معركة الأعلام - في بهو الخمسمائة.
ولكن شرع الرجل الذي درس الطبيعة والكيمياء والذي لم يكن قد عرف بعد مصير صورة العشاء الأخير وقع مرة أخرى في خطأ موبق. ذلك أنه كان يجري بعض التجارب التي تستخدم فيها الحرارة، ورأى أن يثبت الألوان(19/72)
في الجدار المجصص بالحرارة المنبعثة من موقد على الأرض. وكانت الحجرة رطبة، والشتاء شديد البرودة، فلت تعلو الحرارة علوا كافيا، ولم يمتص الجص الطلاء، وبدأت الألوان التي في أعلى الجدار تسيل، ولم يفلح ما بذله من مجهود جبار في أن يمنع التلف. ونشأت في هذه الأثناء صعاب مالية، فلم يؤجره مجلس السيادة أكثر من خمسة عشر فلورينا (188؟ دولارا) في الشهر، وهو مبلغ ضئيل ينقص كثيرا عن المائة والستين أو نحوها التي كانت مخصصة له في ميلان. ولما أن عرض عليه موظف قليل الكياسة أن يؤدي له أجرة نحاسية رفضها ليوناردو، وترك العمل مجللا بالعار مفعما باليأس، وكل ما كان له من سلوى قليلة هو أن ميكل أنجيلو لم يرسم صورة ملونة بعد أن أتم صورته التمهيدية، لأنه قبل دعوة البابا يوليوس الثاني بالقدوم إلى روما ليقوم بها ببعض الأعمال. وهكذا أخفقت المباراة العظمى إخفاقاً يؤسف له، وكان من أثره أن فلورنس أصبحت حاقدة على أعظم فنانين في تاريخها كله.
وقضى ليوناردو في العمل فترات متقطعة من 1503 إلى 1506 رسم فيها صورة موناليزا أي السيدة إلزبتا الزوجة الثالثة لفرنتشيسكو دل جيوكندو الذي صار عضوا في مجلس السيادة في عام 1512. ولعل طفلا من أبناء فرانتشيسكو دفن في عام 1499 كان من أبناء إلزبتا هذه، ولربما كانت هذه الفاجعة من أسباب الملامح الجدية الحزينة الكامنة وراء بسمات صورة جيوكندا La Gioconda. ةفي وسعنا أن نتبين الروح التي أقبل بها على هذه الصورة الفاتنة التي أمتزج فيها التصوير بالفلسفة، إذا علمنا أن ليوناردو أستدعى صاحبتها إلى مرسمه مرارا كثيرة في هذه السنوات الثلاث، وأنه قد سخر في رسم صورتها جميع أسرار فنه وما فيه من تدرج غير محَس، فيخلع عليها في رقة الضوء والظلال، ويحيطها بمنظر خيالي خلاب من الشجار والمياه، والجبال والسماء، ويكسوها أثوابا من المخمل والساتان،(19/73)
ذات الطيات كل طية فيها في حد ذاتها آية فنية رائعة، ويدرس بعناية عاطفية فائقة العضلات الدقيقة التي تكون الفم وتحركه، ويأتي بالموسيقيين ليعزفوا لها حين تتذكر طفلها، ولم يكن لمئات الموانع والعوائق، وعشرات المصالح التي تشغل باله وتصرفه عن عمله، وما أضطر إليه وقتئذ من كفاح في تصميم صورة انغيارين ولم يكن لهذا كله أثر في وحدة فكرته أو في مثابرته وتحمسه، فبقيت هذه متصلة غير متقطعة.
ذلك إذن هو الوجه الذي أريق في وصفه بحر من المداد على آلاف الصفحات، وهو وجه جميل وإن لم يكن جماله غير مألوف، ولو أن الأنف كان أقصر مما هو لكتبت فيه آلاف أخرى من الصفحات، ولكان في مقدور كثير من صور الغلمان في الزيت أو الرخام - كأية صورة من صور كريجيو - أن تجعل صورة ليزا هذه ذات جمال متوسط لا أكثر. أما الذي رفع من شأن هذه الصورة وخلد شهرتها على مر القرون فهو ابتسامتها وما يصحبها من بريق وليد في عينيها، انثناء إلى أعلى في شفتيها ينم عن السرور الذي لم تحاول كبته. ترى لأي شيء تبتسم؟ أتبتسم لما يبذله الموسيقيون من جهود لتسليتها؟ أم لنشاط الفنان وجده حين يقضي في تصويرها ألف يوم ولا يفرغ منها أبدا؟ أم لأنها ليست مجرد موناليزا تبسم، ولكنها ككل النساء تقول لكل الرجال: ((مساكين أيها العشاق المولهون! إن الطبيعة التي تأمركم بتعمير الأرض واستمرار الخلق تحرق أعصابكم بالنهم السخيف لأجسامنا، وترهق عقولكم فتتوهمون في غير تعقل أن مفاتننا هي المثل الأعلى في الجمال، وترتفع بكم إلى نشوة شعرية لا تلبث أن تخبو إذا نلتم بغيتكم منا - كل هذا لكي تسرعوا تكونوا آباء؟ ترى أيمكن أن يكون هناك سخف أكبر من هذا السخف؟ ولكننا نحن النساء أيضاً نقع مثل الرجال في الشراك، ونؤدي لكم في نظير افتتانكم بنا ثمنا أغلى مما(19/74)
تؤدونه أنتم. ولكن اعلموا أيها البلهاء المحببون أنه يسرنا أن ترغبوا فينا، وأن الحياة تفتدى حين نُحب)). أو هل كانت ابتسامة ليوناردو نفسه هي التي صورت على فم ليزا - هل كانت هي الروح المقلوبة التي يصعب عليها أن تستعيد المسة الرقيقة الناعمة من يد امرأة، والتي لا تؤمن بمصير أيا كان للحب أو العبقرية إلا الانحلال البذيء وقليلا من الشهرة يومض ويخبو في نسيان الإنسان؟
ولما أن انتهت آخر الأمر الجلسات، احتفظ ليوناردو بالصورة، مدعيا أنها هي التي أكثر الصور اكتمالا لا تزال ناقصة. ولعل زوجها لم يكن يعجبه منظر زوجته وهي تثني شفتيها في وجهه ووجه زائريه، فيشاهد ذلك من جدران بيته الساعة تلو الساعة. وابتاع فرانسس الأول هذه الصورة بعد كثير من السنين بأربعة آلاف كراون (50. 000 دولار) (22). وعلقها في إطار بقصره في فنتينبلو Fonlainbleau، وهي الآن معلقة في البهو المربع Salon Carre بمتحف اللوفر بعد أن عدا عليها الزمان، وأبدى الذين حاولا ردها إلى أصلها فطمسوا دقائقها الفنية، ولعلها تتسلى كل يوم بآلاف العابدين، وتنتظر أن تمحو الأيام بسمات موناليزا وتؤكدها.(19/75)
الفصل الرابع
في ميلان ورومة
1506 - 1516
إننا إذا تأملنا هذه الصورة، وحسبنا عدد ساعات التفكير الطوال التي كانت المرشد الهادي أثناء الدقائق التي قضاها يعمل بفرشاته، إذا فعلنا هذا أعدنا النظر في حكمنا على ما يبدو لنا من تباطؤ ليوناردو وكسله، وأدركنا مرة أخرى أن عمله كان يشمل فيما يشمله ما قضاه في التفكير وفي غير نشاط من أيام يخطئها الحصر، مثله في هذا كممثل المؤلف إذ يتجول في المساء، أو يستلقي على فراشه دون أن يطرق عينه النوم، يضع خطة ما سيكتبه في غده من فصل أو صفحة أو بيت من الشعر، أو يكرر بلسان عقله كلمة وصف جميلة أو عبارة ساحرة خلابة. يضاف إلى هذا أن ليوناردو، في خلال السنوات الخمس التي قضاها في فلورنس والتي شهدت صور العذراء والطفل والقديسة آن بجميع أشكالها، وموناليزا والصورة التمهيدية الوحسية، والمعركة الحامية الوطيس، وجد متسعا من الوقت رسم فيه عدة صور أخرى كالصورة الجميلة لجنيفرا ده بينتشي Ginevra de Benci الموجودة الآن في فينا، وصورة الطفل الفتى المفقودة التي خرج عنها آخر الأمر إلى مركيزة مانتوا (1504) بعد إلحاح شديد، ولكن وكيلها أرسل معها مذكرة كبيرة للدلالة قال فيها "إن ليوناردو قد اصبح يضيق أشد الضيق بالتصوير، ويقضي معظم وقته في الهندسة النظرية" (23). ولعل ليوناردو في أثناء هذه الساعات التي يقضيها متعطلا في الظاهر، كان يدفن الفنان في العالم ويدفن أبليز في فاوست Faust.
غير أن العلم لم يأته بمال، ومع أنه كان يعيش الآن عيشة بسيطة خالية(19/76)
من الترف، فما من شك في أنه كان يتحسر على انقضاء تلك الأيام التي كان فيها أمير الفنانين في ميلان. ولما أن دعاه شارل دا مبواز Chales d' Amboise نائب لويس الثاني عشر في ميلان أن يعود إليها، طلب ليوناردو إلى سدريني شكا من أن ليوناردو لم يعمل بعد ما يقابل المال الذي تقاضاه نظير تصوير معركة انغباري، فما كان من ليوناردو إلا أن جمع المال الذي لا يستحقه وجاء به إلى سدريني ولكنه رفضه. وأراد سدريني آخر الأمر أن ينال رضا ملك فرنس فأذن لليوناردو ان بالذهاب على شريطة أن يعود إلى فلورنس بعد ثلاثة أشهر من ذهابه، وإلا كان عليه أن يؤدي له غرامة قدرها 150 دوقة (1875؟ دولار)، وغادر ليوناردو المدينة وبقي في ميلان في خدمة أمبواز Amboise ولويس حتى عام 1513 وإن كان قد عاد لزيارة فلورنس في أعوام 1507، 1509، 1511. وأحتج سديني على بقائه ولكن لويس تغلب عليه بفضل المجاملة الكريمة المستندة إلى قوته الموثوق بها. وأراد لويس ألا يترك في الأمر شيئا من الغموض فعين ليوناردو "مصورا ومهندسا دائما - Peintre et ingenier ordinaire لملك فرنسا".
ولم تكن هذه الوظيفة وظيفة تشريف لا يترتب عليها عمل، فقد كان ليوناردو يعمل لكسب المال الذي يعيش منه، فنحن نسمع عنه مرة أخرى أنه كان يزين القصور، ويخطط القنوات أو يحفرها، ويعد المواكب، ويرسم الصور، ويضع تمثال فارس للمارشال تريفلدسيو Trivulizo ويشترك في دراسات تشريحية مع ماركنتونيو دلا توري Marcontorio delia Torre. والراجح أنه في أثناء مقامه في ميلان صورتين كانتا ثمار الطبقات الدنيا من عبقريته، أولاهما صورة القديس يوحنا المحفوظة في متحف اللوفر ذات المعارف المستديرة المنسوبة، والغدائر المسترسلة(19/77)
والملامح الرقيقة التي من شأنها أن تجمل صورة ترسم لمجدلين Magdelen، والثانية هي صورة ليدا والبجعة (وهي الآن جزء من إحدى المجموعات الخاصة في روما) ذات الوجه الناعم اللحيم الذي يذكرنا بصورة القديس يوحنا وباخوس والتي كانت تعزى قبل إلى ليوناردو، ولكنها في أغلب الظن نسخة من صورة مفقودة أو صورة تمهيدية لهذا الفنان. ولو أن هاتين الصورتين قد قضى عليهما في مهدهما لتضاعفت بذلك شهرته.
وطرد الفرنسيون من ميلان في عام 1512، وبدأ مكسمليان بن لدوفيكو يحكمها حكما قصير الأجل. ومكث ليوناردو فترة قصيرة يكتب مذكرات موجزة في العلوم والفن بينما كانت ميلان تحترق بالنار التي أوقدها فيها السويسريون، غير أنه سمع في عام 1513 أن ليو العاشر اختير لمنصب البابوية، فظن أنه قد يجد في روما الميديتشية مكانا حتى لفنان في الحادية والستين من عمره، فاتخذ سبيله إليها ومعه أربعة من تلاميذه. وفي فلورنس ضم جوليانو ده ميديتشي أخو ليوناردو إلى حاشيته، وخصص له معاشا شهريا قدره ثلاث وثلاثون دوقة (812؟ دولار). ولما وصل ليوناردو إلى روما رحب به البابا المحب للفن، وأسكنه حجرات في قصر بلفدير. ولعل ليوناردو قد التقى هنا برفائيل وسدوما - وما من شك في أنهما قد تأثرا به. وليس ببعيد أن يكون ليو قد عهد إليه بعمل صورة من الصورن وشاهد ذلك أن فارساي ينبئنا بعظم دهشة البابا حين وجد ليوناردو يمزج الطلاء قبل أن يبدأ الرسم. ويروى أن ليو قال وقتئذ: "إن هذا الرجل لن يفعل قط شيئا لأنه يبدأ بالتفكير في آخر مرحلة من عمله قبل مرحلته الأولى" (24). والحق أن ليوناردو لم يعد بعد فنانا، فقد أخذ العلم يستحوذ عليه شيئا فشيئا، فشرع يدرس التشريح في المستشفى، ويشتغل بحل مسائل في الضوء، ويكتب صفحات طوالا في الهندسة النظرية، ويتسلى في أوقات فراغه بعمل عظايا آلية ذات لحية، وقرنين،(19/78)
وجناحين، وجعلهما يخفقان بأن حقنهما بالزئبق، وكان من أثر ذلك أن فقد اهتمام ليو به.
ولكن حدث في ذلك الوقت أن اعتلى لويس الثاني عشر عرش فرنسا، خلفا لفرانسس المحب للفن، واستولى مرة أخرى على ميلان في عام 1515، ويلوح انه دعا ليوناردو لينضم إليه فيها، وودع ليوناردو إيطاليا في عام 1516 وصحب فرانسس إلى فرنسا.(19/79)
الفصل الخامس
ليوناردو الرجل
ترى أي صنف من الرجال كان هذا الرجل أمير الفن؟ إن لدينا عدة صور يقال إنها تمثله، ولكن ليس منها واحدة تمثله قبل سن الخمسين. على أن فاساري يحدثنا بحماسه غير مألوفة عن "جمال جسمه الذي لم يوفه إنسان حقه من المديح" كما يتحدث "عن روعة مظهره الذي يبلغ أقصى حدود الجمال، والذي كان بخلع حلة من الصفاء على كل نفس حزينة "؛ غير أن فاسارى لا يحدثنا إلا بما كانت تتداوله الألسنة من الشائعات، وليست لدينا صورة ما تمثل هذه المرحلة من عمره التي بلغ فيها الغاية القصوى من الجمال. وكان ليوناردو حتى وهو في سن الكهولة يطيل لحيته، ويعنى بتعطير جسمه وعقص غدائر شعره. وتكشف إحدى الصور التي رسمها ليوناردو لنفسه، وهي الآن في المكتبة الملكية بونزر Windsor، عن وجه عريض لطيف، وشعر طويل مسترسل، ولحية كبيرة بيضاء. وتظهره صورة فخمة في معروض أفيزى من يد فنان غير معروف ذا وجه قوي، وعينين فاحصتين نافذتي النظرات، وشعر أبيض، ولحية بيضاء، وقبعة سوداء ملساء. وتقول بعض الروايات المأثورة، كما يقول العلماء، إن الصورة العظيمة التي رسمها روفائيل لأفلاطون في مدرسة أثينا إنما هي صورة ليوناردو نفسه (34أ). وثمة صورة طباشيرية له من صنعه محفوظة في معرض تورين Turin يظهر فيها أصلع الرأس إلى منتصف رأسه، مغضن الجبهة، والخدين، والأنف، يكاد شعره يغطي عليه. ويبدو أنه شاخ قبل الأوان، وأنه مات في السابعة والستين من عمره، رغم اقتصاره في طعامه على الخضر، مع أن ميكل أنجيلو، الذي كان يسخر بالقواعد الصحية، والذي تناوبته(19/80)
العلل والأوجاع، عمّرَ حتى بلغ التاسعة والثمانين. وكان يرتدي الملابس الفخمة، على حين أن مايكل أنجيلو كان مهلهل الثياب. وكان ليوناردو مشهوراً بصباه بقوة عضلاته، فكان يثني حذاء الفرس بيديه، وكان مثقفاً ماهراً، يجيد ركوب الخيل وترويضها، وكان يحبها ويراها أنبل الحيوانات وأجملها. والظاهر أنه كان يرسم ويصور بالألوان، ويكتب بيده اليسرى، وكان هذا هو الذي جعله يكتب من اليمين إلى اليسار لا رغبته في أن يجعل ما يكتبه متعذر القراءة.
ولقد أشرنا من قبل إلى أن اللواط لم تكن متأصلة فيه، بل نشأة من الصلة غير المحببة التي كانت قائمة بين زوجة أبيه المثقلة الظهر وبين ابن غير شرعي لزوجها من غيرها. ولهذا فإن حاجته لأن يعطف الناس عليه ويعطف عليهم قد وجدت ما يشبعها في الشبان الحسان الذين جمعهم معه فيما بعد. وكان يرسم من النساء أقل ما يرسم من الرجال، ولم يكن ينكر جمالهن، ولكن يبدو أنه كان يشارك سقراط في تفضيل الغلمان عليهن، وشاهد ذلك أننا لا نجد في ثنايا مخطوطاته الكثيرة كلمة حب أو عطف واحدة على النساء، غير أنه كان يفهم حق الفهم كثيراً من طباع النساء المختلفة، ولم يفقه أحد تصوير رقة العذارى، ولهف الأمهات، ودهاء النساء. ولعل إحساسه المرهف، وتلاعبه الخفي بالألفاظ والقواعد، وإغلاق مرسمه بقفلين أثناء الليل قد انبعثت كلها من إدراكه لشذوذه وخوفه أن يتهم بالإلحاد. ولم يكن حريصاً على أن تقرأه كثرة الناس، وقد كتب في ذلك يقول: " إن الحقائق غذاء أعلى للعقول الراجحة لا للإفهام المتأرجحة" (25)
ولعل شذوذه الجنسي قد أثر في نواحي أخرى من أخلاقه، فقد كان مثال الرأفة والرقة في معاملته أصدقائه، ولم يكن يطيق قتل الحيوان، و (لا يسمح لإنسان أن يؤذى أي كائن حي) (26)؛ وكان يشتري الطيور(19/81)
المحبوسة في الأقفاص ليطلقها (27)؛ غير أنه كان يبدو بليد الإحساس في بعض النواحي الأخرى. ويلوح أنه قد افتتن أيما افتتان بتصميم أدوات الحرب، وأنه لم يشعر بغضب قوي على الفرنسيين لأنهم ألقوا في غيابة الحب لدوفكيو الذي ظل ستة عشر عاماً يفق عليه عن سعة في ميلان، ولقد طاوعته نفسه، دون أن يبدو عليه شيء من وخز الضمير، إلى الذهاب لخدمة بورجيا في الوقت الذي كانت تخشى فيه ميلان اعتداءه على حريتها. وكان ككل فنان، وكل مؤلف، وكل لوطي، شديد الإدراك لنقائصه، مرهف الحس، كثير الغرور، انظر إلى قوله: " إذا كنت وحدك فأنت كلك ملك لنفسك، أما إذا كان معك رفيق فأنت نصف نفسك؛ لأنك بهذا تقسم نفسك كما يهوى رفاقك" (28) ومع أنه كان في وسعه أن يتألق في المجتمعات بوصفه موسيقياً ومحدثاً بارعاً، فإنه كان يفضل العزلة ويقضى وقته منهمكاً في أداء واجباته، ومن أقواله في هذا المعنى: " إن الحرية أكبر هبات الطبيعة" " ولا شك أنه قال هذا القول لأنه لم يشعر قط بآلام الجوع".
وكانت فضائله هي الثمار الطيبة لعيوبه. فربما كانت كراهيته للصلات الجنسية قد أمكنته من أن يصرف قواه في عمله؛ وما من شك أن إحساسه المرهف قد فتح له آفاق لا تحصى من الحقائق لا تدركها عين الرجل العادي. فقد كان يتتبع طوال النهار، وفى خلال كثير من الشوارع، وجهاً غير عادي، ثم يعود إلى مرسمه ليرسمه رسماً متقناً كأنه جاء بهذا النموذج نفسه معه. وكان عقله يبتهج أشد الابتهاج بالأشياء الشاذة الغريبة سواء كانت أشكالا أو أعمالا أو آراء غير مألوفة. وقد كتب مرة يقول " إن النيل قد ألقى في البحر من المياه أكثر مما تحتويه الأرض جميعها من ماء في هذه الأيام " ولهذا فإن جميع البحار والأنهار قد مرت بمصب النيل عدداً لا يحصى من المرات" (30). وكانت نزعة شبيهة بهذه هي التي دفعته إلى أساليب(19/82)
الخداع العجيبة؛ من ذلك أنه أخفى في من الأيام في إحدى الحجرات أمعاء كبس نظيفة، ولما أن اجتمع أصدقاؤه في تلك الحجرة، نفخ الأمعاء بمنفاخ في حجرة مجاورة، وظل يفعل هذا حتى التصق الضيوف بالجدران. وقد دون في مذكراته عدداً من الخرافات والنكات في الدرجة الثانية من الفكاهة.
وقد تعاون تشوفه، وشذوذه، وإرهاف حسه، وحرصه الشديد على الكمال، على خلق أكبر عيب من عيوبه وأشدها إيذاء له - نعني بذلك عجزه أو قعوده عن إتمام ما بدأه. ولعله كان يبدأ كل عمل من أعمال الفن لرغبته في أن يحل مشكلة فنية من مشاكل التأليف، أو اللون، أو التصميم، ثم يفقد اهتمامه بالعمل حين يعثر على حل هذه المشكلة. وكان يقول في ذلك: إن الفن هو التفكير والتصميم، لا التنفيذ العملي، ذلك الجهد الخليق بعقول أقل من عقول الفنان، أو أنه كان يصور لنفسه شيئاً دقيقاً، أو معنى من المعاني، أو مستوى من الكمال لا تستطيع يده الوانية الصبورة، والتي تصبح بعدئذ قلقة ضجرة، أن تحققه، فيترك العمل يائساً بعد ما بذل فيه من جهود، كما فعل حين أراد أن يصور وجه المسيح (31). وكان ينتقل مسرعاً من عمل إلى عمل، ومن موضوع إلى موضوع، وكان يولع بكثير من الأشياء ويعوزه الهدف الذي يوحد بين ما يولع به، والفكرة المسيطرة عليه. وقصارى القول أن هذا الرجل "الرجل العالمي" كان مزيجاً من قطع متلألئة، وكانت تتملكه كفايات أكثر من أن يسخرها كلها لتحقيق هدف واحد، ولهذا قال في حسرة آخر الآمر: " لقد أضعت ساعات كثيرة " (32).
وكتب ليوناردو خمسة آلاف صفحة، ولكنه لم يتم قط كتاباً واحداً. وكان من حيث الكم مؤلفاً أكثر منه فناناً، ويقول عن نفسه إنه كتب مائة وعشرون مخطوطاً، بقى منها خمسون. وهي مكتوبة من اليمين إلى(19/83)
اليسار بحروف نصف شرقية تكاد تضفي لوناً من الصدق على القصة القائلة إنه سافر في يوم ما إلى بلاد الشرق الأدنى، وخدم سلطان مصر واعتنق الدين الإسلامي (32). وهو كثير الأخطاء في النحو، وله طريقة خاصة في الهجاء، وقد قرأ في موضوعات مختلفة ولكنها قراءات متقطعة غير منتظمة. وكانت له مكتبة صغيرة تضم سبعة وثلاثين مجلداً تشمل: الكتاب المقدس، وخرافات إيزوب، ومؤلفات ديوجين ليرتيوس، وأوفد، ولفي، ويلني اللأكبر، ودانتي، ويترارك، وجييو، وفيليلفو، وفيتشينو، وبلتشي، ورحلات "منسفليد" ورسائل في العلوم الرياضية، والجغرافية الكونية، والتشريح والطب، والزراعة، وقراءة الكف، وجميع فنون الحرب. ومن أقواله أن " معرفة تاريخ الأيام الخالية، والجغرافية تزين العقل وتغذيه " ولكن أخطاءه التاريخية الكثيرة تدل على أنه لا يعلم من التاريخ إلا أشياء قليلة متفرقة. وكان يأمل أن يصبح كاتباً مجيداً، وبذل عدة محاولات ليرقي بأسلوبه إلى مستوى عالي من البلاغة، كما نشاهد ذلك في وصفه المتكرر للفيضان (35). وقد كتب أوصافاً قوية واضحة لعاصفة ولمعركة (36)، وما من شك في أنه كان يعتزم نشر بعض ما كتب، وكثيراً ما حاول أن ينظم بعض مذكراته لهذا الغرض، ومبلغ علمنا أنه لم ينشر قط شيئاً منها أثناء حياته، ولكنه لا شك قد أجاز لبعض أصدقائه أن يطلعوا على بعض المخطوطات المختارة، لأنا نجد إشارات في كتاباته في كتب فلافيو بندو Flavio Bindo، وجيروم كاردن Jerome Cardan، وتشيليني.
وكان يجيد الكتابة في العلم كما يجيدها في الفن، ويكاد بقسم وقته بالتساوي بينهما. وأعظم مخطوطاته كلها رسائل في التصوير نشرة لأول مرة في عام 1651. ولاتزال هذه الرسالة مجموعة من قطع مفككة مهوشة النظام كثيرة التكرار على الرغم مما بذله المحدثون من جهود في إصدارها،(19/84)
وقد استبق ليوناردو القائلين بأن التصوير لا يعرف إلا بممارسة التصوير، وهو يظن أن المعرفة الطيبة بالنظريات تساعد الفنان في عمله؛ ويسخر من ناقديه ويقول إنهم أشبه "بأولئك الذين قال فيهم دمتروس إنه لا يعنى بالريح التي تخرج من أفواههم اكثر من عنايته بالتي يخرجونها من أجزائهم السفلى". وفكرته الأساسية هي أن من واجب طالب الفن أن يدرس الطبيعة لا أن ينقل رسوم غيره من الفنانين: "احرص أيها الفنان حين تذهب إلى الحقول على أن توجه عنايتك إلىما فيها من أشياء مختلفة، فعليك أن تدقق النظر إلى هذا الشيء أولا ثم إلى داك، وأن تجمع طائفة من الأشياء المختلفة اخترتها من بين أقلها قيمة" (38). وهو يرى بطبيعة الحال أن لابد للفنان من أن يدرس التشريح، وفن المنظور، واستخدام الضوء والظلال، ويقول إن الحدود المعينة تعيناً تظهر الصورة كأنها قطعة من خشب: "واحرص على الدوام على أن ترسم الصورة بحيث لا يتجه الصدر إلى الناحية التي يتجه إليها الرأس" (39)، وذلك سر من أسرار الرشاقة التي نشاهدها في تأليف ليوناردو. ثم يقول آخر الأمر: "ارسم الصور وفيها من الأفعال ما يكفي لأن يظهر ما يدور بخلد صاحبها" (40). ترى هل نسي هذا وهو يرسم موناليزا، أو هل غالى في قدرتنا على أن نقرأ الروح التي تطالعنا في العينين والشفتين؟
ويظهر ليوناردو الرجل في رسومه أوضح وأكثر مراراً مما يظهر في صوره الملونة أو مذكراته. وهذه الرسوم لا يحصى عددها، ففي إحدى المخطوطات وحدها- كودبتشي أطلنطيكو- الموجودة في ميلان ألف وسبعمائة رسم. وكثير منها تخطيطات أولية سريعة، وكثير منها آيات فنية تحملنا على أن نضع ليوناردو في صف أقدر رسامي النهضة، وأدقهم، وأكثرهم تعمقاً، وليس في رسوم ميكل أنجيلو أو رومبرانت ما يضارع صورة العذراء، والمسيح، والقديسة آن المحفوظة في بيت بيرلجتن وكان ليوناردو(19/85)
يستخدم في رسومه الفحم النباتي والطباشير الأحمر أو القلم والمداد يرسم بها مظاهر الحياة الجسمية لا يكاد يترك منها شيئاً وكثيراً من ظواهر الحياة الروحية .. وترى في رسومه عشرات من صور الطفل يسوع يمدون سيقانهم السمينة ذات الخديدات، وعشرات من الشبان نصف يونانيين في صفحات وجوههم ونصف نساء في أرواحهم، وعشرات من العذارى الحسان ذوات الطلعة المتحاشمة الرقيقة، تتماوج شعورهن في الريح. وترى المولعين بالألعاب الرياضية الفخورين بعضلاتهم، والمحاربين يقتتلون أو تتلألأ على أجسامهم الأسلحة والدروع، والقديسين المختلفي الأشكال من جمال سبستيان الرقيق إلى بشرة جيروم الشاحبة الهزيلة، وترى صوراً لمريم العذراء تريك أن العالم قد أنقذه طفلهن، ورسوماً معقدة من الملابس التي تلبس في الحفلات المقنعة؛ ودراسات للفاعات والطيلسانات والمخرمات، والمآزر تداعب الرءوس أو الأعناق، وتنثني على الذراعين أو تتدلى من الكتفين أو الركبتين في ثنايا تخطف الضوء وتجتذب اللمس، وتبدو أكثر واقعية من الثياب التي نسها على أجسامنا. هذه الأشكال كلها تتغنى بحرارة الحياة وعجائبها، ولكنها تنتثر فيما بينها صور غريبة مرعبة، وأخرى هزيلة- من رءوس مشوهه، وبلهاء يغمزون بالعيون، ووجوه كوجوه الحيوان وأجسام كسيحة، وساء سليطات بتولين من فرط الغضب، وقناديل البحر ذات شعور من الأفاعي، ورجال تمزقت أجسامهم وتقلصت من الشيخوخة، ونساء في المراحل الأخيرة من الانحلال الجسمي. هذه تكون ناحية أخرى من نواحي الواقعية، أحاطت بها عين ليوناردو النزيهة العالمية، وتثبتت منها، ووضعتها في عزم وإصرار على لوحة الرسم، كأنما أراد أن يواجه الشر القبيح في غير مبالاة. وقد أبعد هذه الرسوم التخطيطية المروعة عن صوره الملونة النهائية، حتى لا تخرج عن ولائها للجمال، ولكنه كان عليه أن يجد مكاناً لها في فلسفته. ولعله قد وجد في الطبيعة من المسرة ما لم يجده في الإنسان، ذلك أن الطبيعة محايدة، لا يمكن أن تتهم بأن الشر الذي فيها منبعث من الحقد؛(19/86)
بل إن كل ما فيها يمكن أن يغتفر إذا نظر إليه بالعين النزيهة. ومن أجل هذا رسم ليوناردو كثيراً من المناظر الطبيعية؛ ولام بتيتشيلي لأنه أغفلها، فتتبع بقلمه خيوط الأزهار تتبع الرجل الأمين؛ وقلما كان يرسم صورة دون أن يزيدها سحراً وعمقاً بما يضعه في خلفيتها من الأشجار، ومجاري الماء، والصخور، والجبال، والسحب، والبحار. وكان يبعد الأشكال المعمارية كل البعد عن فنه حتى يفسح بذلك مكاناً للطبيعة لكي تدخل فيه، فتمتص الفرد المصور أو الجماعة المصورة في كلية الأشياء التي تمزجها وتوفق بينها.
ولقد حاول ليوناردو في بعض الأحيان أن يجرب حظه في التخطيط المعماري ولكنه أخفق في ذلك إخفاقاً أرجعه عنه، فنحن نجد بين رسومه رسوماً معمارية للخيال فيها أكبر نصيب، وهي صور غريبة نصف سُوريَّة. وهو يحب القباب، ورسم رسماً تخطيطياً جميلاً لكنيسة أيا صوفيا لكي يقيم لدوفيكو كنيسة مثلها في ميلان، ولكن هذه الكنيسة لم تقم قد على ظهر الأرض. وأرسله لدوفيكو إلى بافيا ليشترك في إعادة تخطيط كنيستها الكبرى، ولكن ليوناردو وجد علماء الرياضة والتشريح في بافيا أكثر متعة وطرافة من الكنيسة. وساءته ضوضاء المدن الإيطالية، وقذارتها، وضيقها وازدحامها، فأخذ يدرس تخطيط المدن، وعرض على لدوفيكو رسماً تخطيطياً لمدينة ذات طابقين. تسير في الطابق الأسفل منها جميع الحركة التجارية "والأحمال التي تتطلبها خدمة السوقة وأسباب راحتهم"؛ أما الطبقة العليا فتتكون من طريق عرضه عشرون براتشيا Braccia ( أي نحو أربعين قدماً) مقام على بواك معمدة ولا"تستخدمه المركبات، بل يخصص لراحة الطبقة العليا من الأهلين". وتصل الطابقين في بعض الأماكن سلالم حلزونية، وتتخلل الطبقة العليا في أماكن متفرقة فساقى ترطب الهواء وتنقيه (41). ولم يكن عند لدوفيكو من المال ما يكفي هذا الانقلاب، وبقى أشراف ميلان يعيشون على الأرض.(19/87)
الفصل السادس
المخترع
إنا ليصعب علينا أن ندرك أن لدوفيكو وسيزاري بورجيا كانايريان أن ليوناردو مهندس قبل أن يكون أي شيء آخر، وحتى المناظر التي وضع تصميمها لدون ميلان كانت تشمل آلات بارعة مبتكرة ذاتية الحركة. ويقول فاساري أنه كان "في كل يوم يصنع نماذج ويضع رسوماً لنقل الجبال في يسر وشقها لييسر الانتقال من مكان إلى آخر، وأن يستعين على جر الأحمال الثقال بالروافع، والآلات الرافعة على اختلاف أنواعها؛ ويبتكر الوسائل لتنظيف المواني ورفع الماء من الأعماق البعيدة الغور (42"). وقد صنع آلات لقطع الخيوط بأشكال لولبية، وسار في الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وابتكر كماحات (فرامل) ذوات سيور (43) وصمم أول مدفع آلي، ومدافع ثقيلة بأجهزة ذات ضروس لزيادة مداها؛ وآلات لنقل الحركة بعدة سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحاً مُضَبَّباً قابلاً للضبط، وآله للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً بريمياً ينغلق من نفسه لرفع سلم (44). ووضع خطة للملاحة تحت الماء ولكنه رفض أن يفصح عنها (45)، وأحيا فكرة الآلة البخارية التي قال بها هيرو الاسكندري، وأظهر كيف يستطيع ضغط البخار في مدفع أن يرمي قذيفة من الحديد مدى 1200 ياردة، وابتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزى دوار (46)، ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد. وكثيراً ما يترك العنان لخياله يغرر به، مثال ذلك أنه اقترح صنع أسكيات (مزالق الثلج)(19/88)
منتفخة للمشي على الماء، أو طاحونة هوائية تعزف على عدة آلات موسيقية في وقت واحد (47). ووصف هابطة بقوله: "إذا أمسك إنسان بخيمة مصنوعة من نسيج التيل، سدت جميع ثقوبها، وكان عرضها اثنتي عشرة ذراعاً وعمقها مثلها، استطاع أن يلقي نفسه من أي مكان عظيم الارتفاع دون أن يصيبه أذى" (48).
وقضى نصف حياته يفكر في مشكلة طيران الإنسان، وكان كما كان تولستوي Tolstoi يحسد الطير ويرى أن جنسها أرقى من الإنسان من نواحي كثيرة. ودرس دراسة مفصلة حركات أجنحتها وذيولها والطرق الآلية لارتفاعها، وانزلاقها، ودورانها، وهبوطها. وكانت عيناه النافذتان تلاحظان هذه الحركات بشغف وتشوق عظيمين، كما كان قلمه السريع يرسمها ويسجلها. ولاحظ كيف تفيد الطير من تيارات الهواء وضغوطه المختلفة، ووضع خطة تسخير الهواء:
"ستشرح جناحي الطير وعضلات الصدر التي تحرك هذين الجناحين؛ ثم تعمل هذا نفسه في الإنسان لكي تظهر هل يستطيع الإنسان أن يبقى في الهواء بتحريك جناحين (49) ... وليس ارتفاع الطيور دون أن تحرك أجنحتها إلا نتيجة حركتها الدائرية بين تيارات الرياح (50) .... ويجب ألا يكون للطير الذي نصنعه نموذج غير نموذج الخفاش لأن أغشيته ... يمكن أن تتخذ وسيلة لربط إطار الجناحين (51) .... والطير آلة تعمل وفقاً لقانون آلي، وفي وسع الإنسان أن يصنع ألة مطابقة لها في جميع حركاتها، وإن لم تكن تماثلها بقوتها (52").
وقد وضع عدة رسوم لآلة لولبية يستطيع الإنسان إذا ضغط عليها بقدميه أن يحرك جناحيها بسرعة تكفي لارتفاعه في الهواء (53). ووصف في مقال قصير في الطيران آلة من صنعه مركبة من قماش منشى من التيل القوي، ووصلات من الجلد، وأربطة من الحرير الخام. وأطلق على(19/89)
هذه الآلة أسم "الطائر" وكتب تعليمات مفصلة لطيرانها وقال (54):
إذا ما أديرت هذه الآلة ذات اللولب ... بسرعة، فأن هذا اللولب يحدث في الهواء حركته اللولبية فترتفع بذلك إلى أعلى (55) .... جرب هذه الآلة فوق الماء، حتى لا يصيبك أذى إذا سقطت (56) ... وسيطير "الطائر" العظيم طيرانه الأول ... فيثير دهشة العالم كله ويذيع شهرته في جميع أنحائه؛ ويخلع المجد الأبدي على العش الذي درج منه (57).
ترى هل حاول أن يطير فعلاً؟ إن في الكودبتشي أطلنطيكو (58)، إشارة تقول: "في صباح غد، اليوم الثاني من شهر يناير 1496 سأصنع الأربطة وأقوم بالمحاولة". ولسنا نفهم معنى هذه العبارة، ولكن فادسيو كاردانو Fazio Cardano، والد جيروم كاردان العالم الطبيعي (1501 - 1576) أخبر ولده أن ليوناردو نفسه قد جرب الطيران (59). ويظن بعضهم أنهم لما كسرت ساق أنطونيو أحد مساعدي ليوناردو في عام 1510 كان كسرها وهو يحاول الطيران بآلة من الآت ليوناردو. على أننا لانستطيع التأكد من صحة هذا القول.
لكن ليوناردو لم يكن يسير في الطريق الصحيح. ذلك أن الإنسان، حين استطاع الطيران، لم يستطعه لأنه حاكى الطير- إذا استثنينا من ذلك الانزلاق وحده- بل لأنه استخدم الآلة ذات الاحتراق الداخلي في تشغيل مروحة تستطيع دفع الهواء إلى الوراء لا إلى أسفل، وسرعة الاندفاع إلى الأمام هي التي تمكن الطائرة من الطيران إلى أعلى. غير أن أنبل ما يمتاز به الإنسان هو رغبته الشديدة في المعرفة. ونحن حين تروعنا حروب الجنس البشري وجرائمه، وتثبط هممنا أنانية ذوي الكفايات منا وانتشار الفاقة وأبديتها، وتبعث الأسى والحزن في نفوسنا الخرافات والسذاجات التي تزين بها الأمم والأجيال قصر الحياة وحقارتها، نقول(19/90)
إنّا حين يحدث هذا نحس بأن الجنس البشري ينجو بعض النجاة إذا رأينا أنه يستطيع أن يحتفظ في عقله وقلبه بحلم يرتفع به إلى السماكين مدى ثلاثة آلاف عام منذ راوده لأول مرة في اليوم الذي ذاعت فيه قصة ديدلوس Daedalus وإيكاروس Icarus، وعاد إلى الظهور في المحاولات الفاشلة التي بذلها ليوناردو وآلاف من الناس غيره، ثم تحقق حين تم له ذلك الانتصار المجيد المفجع في عصرنا الحاضر.(19/91)
الفصل السّابع
العَالِم
نجد إلى جانب رسوم ليوناردو التخطيطية, على الصفحة نفسها تارة, وتارة أخرى على الصورة المبدئية لرجل, أو امرأة, أو منظر طبيعي, أو آلة, مذكرات يحاول بها عقله النهم المتعطش أبداً إلى المعرفة أن يحل قوانين الطبيعة ويفهم أسرارها وعملياتها. ولعل ليوناردو العالم قد نشأ من ليوناردو الفنان: ذلك ن اشتغاله بالتصوير قد أرغمه على دراسة التشريح، وقوانين النسب وقواعد المنظور، ومقارنة الضوء وانعكاسه، وكيمياء الألوان والزيوت؛ ثم نقلته هذه البحوث إلى بحوث أخرى أكثر منها دقة واتصالا بالتصوير، ذات صلة بتركيب النبات والحيوان ووظائف أجزائه؛ ثم ارتفع من هذه البحوث مرة أخرى إلى الإدراك الفلسفي للقانون الطبيعي العالمي الذي لا تبديل فيه. وكثيراً ما كان الفنان يطل مرة أخرى في العالم؛ فقد يكون الرسم العلمي شيئاً ذا جمال، أو ينتهي بزخرف جميل من الطراز العربي.
وكان ليوناردو ينزع إلى إقامة الطريقة العلمية على الخبرة لا على التجارب العلمية (60)، شأنه في هذا شأن الكثرة الغالبية من علماء عصره. وفي ذلك يقول لنفسه ناصحاً: ((تذكر وأنت تتحدث عن الماء أن تبرز الخبرة أولا ثم العقل)) (61). وإذا كانت خبرة الإنسان لا تعدو أن تكون جزءاً صغيراً مجهرياً من الحقيقة، فقد كمل ليوناردو خبرته بالقراءة، وهي الخبرة غير المباشرة. ولهذا أخذ يدرس بعناية الناقد الفاحص كتابات ألبرت السكسوني Albert of Sexony، (62) وعرف بعض آراء روجر(19/92)
بيكن، وألبرتس مجنس، ونقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa، وتعلم الشيء الكثير من اختلاطه بلوكا بتشيولي Luca Pacioli، وماركنتونيو دلا توري وغيرهم من أساتذة جامعة بافيا، ولكنه كان يعرض كل شيء على محك تجاربه، ويقول، ((كل من يعتمد على المراجع في مناقشة الأفكار إنما يعمل بذاكرته لا بعقله)) (63). وكان أقل مفكري عصره غموضاً وخفاء، ورفض تصديق الكيمياء الكاذبة والتنجيم، وكان يرجو أن يحين الوقت الذي ((يحصى فيه جميع المنجمين)) (64).
وحاول أن يجرب نفسه في العلوم كلها تقريباً، فأخذ يدرس الرياضيات في حماسة بالغة لأنه وجدها أنقى صورة من صور التفكير والاستدلال، وكان يشعر بشيء من الجمال في الأشكال الهندسية، ورسم بعضها في نفس الصفحة التي كان يدرس فيها صورة العشاء الأخير. وقد عبر تعبيراً قوياً عن مبدأ من مبادئ العلم الأساسية حين قال: ((لا تكون حقيقة حيث لا يستطيع الإنسان أن يطبق علماً من العلوم الرياضية أو أي واحد من العلوم التي تقوم عليها)) (66)؛ وردد في فخر صدى قول أفلاطون: ((فليمتنع غير العالم الرياضي عن قراءة عناصر كتابي)) (67).
وقد افتتن بعلم الفلك، وعرض ((يصنع منظاراً يرى به القمر كبيراً)) (68)، ولكن يبدو أنه لم يصنعه، وكتب في ذلك يقول: ((إن الشمس لا تتحرك ... وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون)) (69) و ((للقمر في كل شهر شتاء وصيف)) (70). وله بحث دقيق في البقع السوداء التي تظهر على القمر، ويعارض من هذه الناحية آراء ألبرت السكسوني (71). وقد اهتدى ببعض آراء ألبرت هذا فقال أنه لما كانت ((كل مادة ثقيلة تحدث ضغطاً إلى أسفل، ولا يمكن أن تبقى معلقة إلى ما شاء الله، فإن الأرض كلها يجب أن تكون كروية)) وستغطى آخر الأمر بالماء (72).(19/93)
ولاحظ وجود القواقع البحرية المتحجرة على المرتفعات العالية فستنتج من وجودها أن المياه قد وصلت إلى هذه المرتفعات (73). (وقد أشار بوكاتشيو إلى هذا حوالي عام 1338 في كتابه فيلوكويو (74)). ورفض فكرة الطوفان العام (75). وأرجح وجود الأرض إلى عهد قديم كان من شأنه أن يصدم مشاعر المؤمنين في عصره لو كان في عصره مؤمنين، وحدد للمواد التي قذف بها نهر اليو في البحر زمناً يبلغ 000، 200 عام، ورسم خريطة لإيطالية بالشكل الذي تصور أنها كانت عليه في حقبة جيولوجية قديمة، وظن أن الصحراء الكبرى كانت في وقت ما تغطيها المياه الملحة (76)، وقال إن الجبال قد كونها التحات الناشئ من فعل مياه الأمطار (77)، وإن قاع البحر دائب على الارتفاع بفعل رواسب الأنهار التي تصب فيه، وإن ((أنهاراً جد عظيمة تجري تحت سطح الأرض)) (78)، وإن سريان الماء الباعث للحياة في جسم الأرض يقابل حركة الدم في جسم الإنسان (79)، وإن سدوم وعمورة لم يدمرها خبث بني الإنسان، بل دمرتها القوى الجيولوجية البطيئة، وأكبر الظن أن هذه القوى هي انخفاض أرضهما في البحر الميت (80). وكان ليوناردو يتتبع في نهم ما حدث من التقدم في علم الطبيعة على أيدي جان بردان Jean Buridan وألبرت السكسوني Albert of Saxony في القرن الرابع عشر، وكتب مائة صفحة عن الحركة والثقل، ومئات أخرى عن الحرارة، والسمعيات، والبصريات، والألوان، وعلم نواميس السوائل المتحركة (الهيدروليكا)، والمغنطيسية. ويقول ((إن علم الميكانيكا هو فردوس العلوم الرياضية، لأن به يستطيع الإنسان أن يجني ثمار الرياضيات)) في العمل النافع (81). وكان يجد متعة كبيرة في البكرات، والرافعات الكبيرة والصغيرة، ويرى أنه لا حد للأشياء التي تستطيع أن ترفعها أو تحركها، ولكنه كان يسخر ممن يبحثون عن الحركة الدائمة، ويقول في هذا: ((إن القوة مع الحركة المادية، والثقل مع الاصطدام(19/94)
هي القوة الأربع العارضة التي يرتكز فيها وجود جميع أعمال بني الإنسان وغاياتها)) (82). لكنه رغم هذا الميول لم يكن إنساناً مادياً، بل إنه كان على عكس هذا، ودليلنا على ذلك أنه عرف القوى بأنها ((مقدرة روحية ... روحية لأن الحياة التي بها خفية لا ترسم وليس لها جسم .. ولا تُحَس لأن الجسم الذي تتكون فيه لا يزداد في حجمه ولا في وزنه)) (83).
ودرس انتقال الصوت ورد الوسط الذي ينتقل فيه إلى أمواج الهواء، وقال: ((إذا ضرب وتر العود ... نقل الحركة إلى وتر مثله له نفس النغمة على عود آخر، وفي وسع الإنسان أن يتأكد من هذا بوضع قشة على الوتر المشابه للوتر الذي ضرب)) (84). وكانت لديه فكرته الخاصة عن المسرة (التلفون): ((إذا وقفت مركبة، ووضعت رأس أنبوبة طويلة في الماء، ووضعت طرفها الآخر على أذنك، سمعت حركة السفن الأخرى البعيدة عنك؛ وفي وسعك أن تصل إلى هذه النتيجة نفسها إذا وضعت رأس الأنبوبة على الأرض، فتسمع صوت أي إنسان يمر على بعد منك)) (85).
لكنه كان يولى الإبصار والضوء من الاهتمام أكثر مما يولي الصوت، وكانت العين تثير عجبه: ((منذا الذي يعتقد أن هذه البقعة الصغيرة تستطيع أن تحتوي صور العالم أجمع)) (86) وكان مما يثير دهشته أعظم مما تثيره العين قدرة العقل على أن يستعيد الصور التي مرت به من زمن بعيد. ولقد كتب وصفاً غاية للجودة للطريقة التي تستطيع بها عدسات المنظار أن تعوض ضعف عضلات العينين (87). وشرح عملية الإبصار على أساس مبدأ ((آلة التصوير ذات الصندوق المظلم)): ففي آلة التصوير وفي العين تقلب الصور بسبب التقاطع الهرمي للأشعة الضوئية التي تنبعث من الجسم إلى آلة التصوير أو إلى العين (88). وحلل انكسار ضوء الشمس في قوس قزح، وكان يعرف كما يعرف ليون باتستا ألبرتي الشيء الكثير عن الألوان المتممة قبل أن(19/95)
يقوم متشل شفرول Michel Chevreul بعلمه الحاسم بهذا الموضوع بأربعة قرون (89).
وقد وضع أساس عدد لا يحصى من المذكرات وبدأ بكتابتها وتركها لمن جاءوا بعده، وكتب رسالة عن الماء، لأن حركة الماء خلبت لبه وبهرت عينيه، فأخذ يدرس مجاري الماء الساكنة والمضطربة، ومياه العيون والشلالات، والفقاقيع والزبد، والسيول، وهطول المطر من السحب، واشتداد هبوب الريح وسقوط المطر في وقت واحد. وكتب ذلك مكرراً قول طاليس Thales بعد ألفي عام ومائتين من أيامه يقول: ((لولا الماء لما وجد لدينا شئ على الإطلاق)) (90). واستبق باسكال Pascal إلى مبدئه الأساسي في توازن الموائع ( hydrostatics) - وهو أن الجسم المائع ينقل ما يحدث عليه من الضغط (91). ولاحظ أن السوائل في الأواني المستطرقة تكون ذات ارتفاع واحد (92). وإذا كان قد ورث عن ميلان تقاليدها في هندسة السوائل المتحركة. فقد صمم وأنشأ القنوات، وأشار إلى السوائل التي يمكن اتباعها لإنشاء القنوات الصالحة للملاحة تحت الأنهار التي تجتازها أو فوقها، وعرض أن يحرر فلورنس من حاجتها إلى ميناء بيزا بتحويل مجرى نهر الآرنو من فلورنس حتى البحر إلى قناة (93). هذا ولم يكن ليوناردو حالماً يضرب في اثنتي عشر حياة لا حياة واحدة.
ووجد عقله اليقظ إلى ((التاريخ الطبيعي)) مسلحاً في هذا التوجيه بكتاب ثيوفراسطوس الحجة في النبات. فأخذ يفحص؛ نظام ترتيب الأوراق على السوق والغصون، وصاغ قوانينها. ولاحظ أن الحلقات التي تشاهد على مقطع مستعرض لجذع شجرة تدل بعددها السنين التي عاشتها تلك الشجرة، كما يدل عرضها على مقدار ما كان في ذلك العام من(19/96)
رطوبة (94). ويبدو أنه قد خدع كما خدع أهل زمانه في قدرة بعض الحيوانات على شفاء أمراض معينة بوجودها مع المرضى أو بلمسهم إياها (95). لكنه كفر عن هذا الارتكاس إلى التخريف غير اللائق بالعلماء بأن بحث تشريح الخيل تشريحاً كاملا ودقيقاً إلى حد لا نجد له نظيراً فيما سبقه من التاريخ المدون. وقد أعد رسالة خاصة في هذا الموضوع، ولكنها ضاعت في أثناء احتلال الفرنسيين ميلان. وكاد هو يفتتح عهد التشريح المقارن بدراسة أطراف الإنسان والحيوان بوضع بعضها إلى جانب بعض. واطرح وراء ظهره سلطان جالينوس الذي طال به العهد، وأخذ يعمل معتمداً على الأجسام دون غيرها، ولم يكتف بوصف تشريح الإنسان بالقول بل أضاف إلى أقواله الرسوم التي فاقت كل ما رسم قبلها في هذا الميدان، وأعد العدة لوضع كتاب في هذا الموضوع، وترك له مئات من المذكرات والرسوم الإيضاحية، وقال إنه ((شرح أكثر من ثلاثين جثة آدمية)) (96). ومما يؤيد صحة قوله هذا رسومه التي يخطئها الحصر للجنين، والقلب، والرئتين، والهيكل العظمي، والجهاز العضلي، والأمعاء، والعين، والجمجمة، والخ، والأعضاء الرئيسية في المرأة. وكان هو أول من أمدنا بوصف علمي، عن طريق الرسوم والمذكرات المدهشة الواضحة، للرحم، كما أمدنا بوصف دقيق للثلاثة الأغشية التي تغلف الجنين. وكذاك كان هو أول من رسم تجويف العظم الذي يرتكز عليه الخد والمعروف الآن بجيب هايمور Antrum of Highmore. وقد صب الشمع في صمامات قلب ثور ميت لكي يحصل بذلك على بصمة مضبوطة لتجويفه. وكان أول من ميز الرباط المعدل للبطين الأيمن (97). وقد افتتن أيما افتتان بشبكة الأوعية الدموية، وفطن إلى وجود دورة الدم، ولكنه لم يدرك جهازها كل الإدراك. وكتب في ذلك يقول: ((القلب أقوى كثيراً من سائر العضلات ....
وليس الدم الذي يعود إلى القلب حين ينفتح هو نفس الدم الذي يغلق(19/97)
الصمامات)) (98). وقد تتبع سير أوعية الجسم الدموية، وأعصابه، وعضلاته بدقة كبيرة، وقال إن السبب في الشيخوخة هو تصلب الشرايين، وإن سبب هذا التصلب هو قلة الرياضة الجسمية (99). وبدأ كتاباً عن النسب الصحيحة لجسم الإنسان ليكون ذلك عوناً للفنانين، وقد ضمن صديقه بتشيولي Pacioli كتابه في النسب المقدسة بعض آرائه في هذا الكتاب. وقد حلل الحياة الجسمية للإنسان من مولده إلى موته، ثم شرع يوضح حياته العقلية: ((ألا ليت الله يمن علي بأن أشرح أيضاً الأحوال النفسانية لعادات الإنسان بنفس الطريقة التي أصف بها جسمه:)) (100).
وبعد، فهل كان ليوناردو من كبار العلماء؟ إن ألكسندر فن همبولدت Alexander Von Humboldt يرى أنه ((أعظم علماء الطبيعة في القرن الخامس عشر)) (101). ويصفه وليم هنتر بأنه ((أعظم علماء التشريح في عصره)) (102). غير أنه لم يكن مبتكراً بالقدر الذي يظنه همبولدت، فقد جاءته كثير من آرائه في علم الطبيعة من جان بردان، ةألبرت السكسوني، وغيرهما ممن سبقوه. وكان يقع في أغلاط شنيعة، منها قوله في بعض ما كتبه ((إن أي سطح مائي ملاصق للهواء يمكن أن يكون في يوم ما أقل من سطح البحر)) (103)، ولكن هذا الأغلاط جد قليل إلى حد يدعو للدهشة في هذا القدر الجم من المذكرات التي تكاد تشتمل كل موضوع على سطح الأرض أو في السماء. أما أقواله في الميكانيكا النظرية فهي أقوال الهاوي ذي التفكير الراقي والعقل الحصين؛ وإذا ذكرنا أنه كان يعوزه التدريب والآلات، والزمن، وأنه بلغ ما بلغ رغم هذه العوائق الجمة، ورغم كدحه في الأعمال الفنية، فإنا لا نستطيع أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن ما وصل إليه في العلم لهو من معجزات ذلك العصر المعجز.
وكان ليوناردو يرتفع في بعض الأحيان من دراساته في هذا الميادين الكثيرة إلى عالم الفلسفة: ((ألا أيتها الضرورة العجيبة: إنك بقوة العقل(19/98)
الأعلى تلتزمين كل النتائج بأن تكون الأثر المباشر لعللها؛ كما أنك بقوة القانون الأعلى الذي لا ينقض تلتزمين كل عمل طبيعي بأن يعطيك وأن يتبع في هذه الطاعة أقصر عملية مستطاعة)) (104). وإنا لنستمتع في هذه الأقوال إلى نغمة العلم القوية في القرن التاسع عشر، وهي توحي بأن ليوناردو قد نفض عنه بعض العقائد الدينية. وقد كتب فاسارى في الطبعة الأولى لسيرة الفنان يقول إنه كان من بين ((طائفة من أصحاب العقول الملحدة، فلم يكن يؤمن بأي دين من الأديان، ولعله كان يرى أنه يفضل أن يكون فيلسوفاً عن أن يكون مسيحياً)) (105) - غير أن فارساى حذف هذه الفقرة من الطبعات التالية. وكان ليوناردو من حين إلى حين يلمز رجال الدين بعض اللمزات؛ فقد سماهم ((الفريسيين، وأتهمهم بأنهم يخدعون السذج بالمعجزات الكاذبة، وسخر ((العملة الزائفة)) أي الصكوك السماوية التي كانوا يستبدلون بها نقود هذا العالم (106). وكتب في أحد أيام الجمعة الحزينة يقول: ((اليوم يلبس العالم كله ثوب الحداد لأن إنساناً واحداً مات في الشرق)) (107). ويلوح أنه كان يعتقد أن الموتى من القديسين عاجزون عن سماع ما يوجه إليهم من الدعوات (108). ((ليت لي من قوة البيان ما أستطيع به أن أؤنب الذين يعظمون عبادة الآدميين فوق عبادة الشمس .... وإن الذين يرغبون في أن يتخذوا الآدميين أرباباً يعبدونهم ليقعون في خطأ شنيع)) (109). وكان أكثر من سائر فناني النهضة تحرراً في تصوير العقائد المسيحية: فقد منع تصوير الهالات فوق الرؤوس، ووضَع العذراء على ركبتي أمها، وجعَل الطفل عيسى يحاول أن يركب ظهر الحمل الرمزي. وكان يرى أن العقل جزء من المادة، ويؤمن بوجود نفس روحية، ولكنه فيما يبدو كان يظن أن النفس لا تستطيع أن تعمل إلا عن طريق المادة، ووفقاً لقوانين ثابتة لا تتبدل (110)؛ وكتب يقول: ((النفس لا تفسد قط بفساد(19/99)
الجسم)) (111)، ولكنه أضاف إلى هذا قوله: إن ((الموت يقضي على الذاكرة، كما يقضي على الحياة)) (112)، وإن ((النفس لا تستطيع أن تعمل أو تحس بغير الجسم)) (113). وكان إذا خاطب الإله خاطبه بتذلل وتحمس في بعض الفقرات (114)، ولكنه كان في أحيان أخرى يقول إن الله هو الطبيعة، والقانون الطبيعي، و ((الضرورة)) (115)؛ وقد ظلت وحدة الوجود الصوفية دينه الذي يؤمن به إلى آخر أيام حياته.(19/100)
الفصل الثامن
في فرنسا
1516 - 1519
جاء ليوناردو إلى فرنسا في الرابعة والستين من عمره، وهو مريض، وسكن مع رفيقه الوفي فرانتشيسكو ملدسي francesco Melzi، وهو شاب في الرابعة والعشرين، في بيت جميل في كلو Cloux بين بلدة أمبواز وقصر أمبواز على نهر اللوار، وكان وقتئذ مسكناً للملك يتردد عليه، وكان العقد الذي بينه وبين فرانسس الأول ينص على أنه ((مصور الملك. ومهندسه، الفني والمعماري، والمشرف على آلات الدولة، نظير مرتب سنوي قدره سبعمائة كرون (8750دولاراً أمريكياً). وكان فرانسس رجلا كريماً يقدر العبقرية حتى في عهد اضمحلالها. وكان يستمتع بحديث ليوناردو ((ويؤكد))، كما يقول تشييني ((إن العالم لم يشهد قط رجلا يعرف ما يعرفه ليوناردو؛ وليس ذلك في النحت، والتصوير، والعمارة فحسب، بل إنه فوق ذلك فيلسوف عظيم (116))) وقد أدهشت رسوم ليوناردو التشريحية أطباء البلاط الفرنسي.
وضل وقتاً ما يكدح لكي يكسب مرتبة بعرق جبينه؛ فكان ينظم المواكب والحفلات التنكرية للاستعراضات الملكية، وعمل في مشروعات توصيل نهري الوار والساءون بقنوات، وتجفيف مستنقعات سالوني Salogne، (117) ولعله قد اشترك في تخطيط أجزاء من قصر اللوار؛ وثمة شواهد تربط اسمه بجمال شامبور Chambord البارع (118). وأكبر الظن أنه قلما كان يشتغل بالتصوير بعد عام 1517، فقد أصيب في ذلك العام بنوبة شلل عطلت جانبه الأيمن عن الحركة. نعم إنه كان يصور بيده اليسرى ولكن الصور التي تتطلب العناية الكبيرة كانت تحتاج إلى كلتا يديه.(19/101)
ولم يكن في ذلك الوقت إلا حطاماً مغضن الجسم من ذلك الشاب الذي وصل جمال جسمه ووجهه إلى فاساري خلال نصف قرن من الزمان. وضعفت ثقته بنفسه، وكانت من قبل موضع فخاره، واستسلمت روحه الصافية إلى آلام الضعف والانحلال، وحل الأمل محل حب الحياة. وكتب وقتئذ وصية بسيطة، ولكنه طلب أن تقام جميع الصلوات والمراسيم الكنسية على جنازته، وكان قد كتب مرة يقول: ((إن الحياة التي تقضى في الخير تجعل الموت حلواً، كما أن اليوم الذي ينفق على خير وجه يجعل النوم مريحاً لذيذاً)) (119).
ويروي فاساري قصة مؤثرة عن وفاة ليوناردو في اليوم الثاني من شهر مايو سنة 1519 بين ذراعي الملك، ولكن يلوح أن فرانسس كان وقتئذ في مكان آخر غير الذي توفى الفنان فيه (120). وقد دفنت جثته في الطريق المقنطر بكنيسة سان فلورنتين في أمبواز. وكتب ملتزي إلى اخوة ليوناردو يبلغهم نبأ وفاته وأضاف إلى ذلك قوله: ((إني لعاجز عن أن أعبر عما قاسيته من الألم بسبب موته؛ ومادام فيّ رمق من الحياة سأظل أعيش في شقاء أبدي. وسبب ذلك واضح معروف. ذلك أن فقد رجل مثله مصدر حزن لجميع الناس، لأنه ليس في مقدور الطبيعة أن توجد رجلا آخر من نوعه، فلينزل الله العلي سبحانه وتعالى السكينة على روحه إلى أبد الدهر)) (121).
ترى في أية مرتبه من مراتب الخلق نضعه وإن كنا لا نعرف هل فينا من العلم وضروب الحذق المتنوعة ما نستطيع بهما أن نحكم على هذا الرجل المتعدد الكفايات. إننا نفتتن بمواهبه العقلية المتنوعة أفتتاناً يغرينا بالمبالغة فيما قام به من الأعمال؛ ذلك أنه كان في التفكير أخصب منه في التنفيذ؛ ولم يكن هو أعظم العلماء، أو المهندسين، أو المصورين، أو المثالين، أو المفكرين في عصره؛ وكل ما في الأمر أنه كان الرجل الذي جمع كل هذه المواهب في شخصه، وكان في كل ميدان من ميادينها يضارع أحسن من برز(19/102)
فيه؛ وما من شك في أنه كان في مدرسة الطب رجال يعرفون فن التشريح أكثر مما يعرف هو؛ ولقد تمت أعظم الأعمال الهندسية في إقليم ميلان قبل أن يجئ ليوناردو؛ وخلف رفائيل وتشييان مجموعة من الصور الجميلة أكثر مما بقي لدينا من رسوم ليوناردو؛ وكان ميكل أنجيلو أعظم منه في فن النحت، كما كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini أعمق منه تفكيراً. ومع هذا فأكبر الظن أن دراسات ليوناردو للحصان كانت خير دراسات في التشريح حتى ذلك اليوم. ولقد اختاره لدوفيكو وسيزاري بورجيا مهندساً لهما وآثراه على جميع رجال إيطاليا؛ وليس في صور روفائيل أو تيشيان، أو ميكل أنجلو ما يضارع صورة العشاء الأخير لليوناردو؛ وليس بين المصورين من بلغ مبلغ ليوناردو في دقة التدرج في الألوان تدرجاً غير محس، أو في التصوير الدقيق للمشاعر والأفكار والحنان الوجداني، ولم يقدر تمثال من تماثيل ذلك العصر بالدرجة التي قدر بها تمثال اسفوردسا الجصي، وليس في الصور كلها صورة تفوق صورة العذراء والطفل والقديسة آن؛ وليس في فلسفة النهضة ما يعلو على إدراك ليوناردو لماهية القانون الطبيعي.
ولم يكن هو نموذج ((رجل النهضة)) لأنه كان من أكثر ذلك الطراز دقة ودماثة، وكان مسرفاً في الانطواء على نفسه، وأرق أخلاقاً من أن يمثل عصراً شديد العنف والسلطان في القول والعمل. كذلك لم يكن هو ((الرجل الجامع)) للكفايات، لأن صفات الحاكم أو الإداري لم يكن لها مكان في مواهبه المتعددة، ولكنه كان رغم قصوره ونقائصه أكمل رجل في النهضة، بل لعله كان أكمل رجل في جميع العصور. وإذا ما فكرنا فيما قام به من جلائل الأعمال، أدهشتنا المسافة الشاسعة التي بعد بها هذا الرجل عن نشأته، وتجدد إيماننا بما يستطيع الجنس البشري أن يبلغه.(19/103)
الفصل التاسع
مدرسة ليوناردو
وترك ليوناردو وراءه في ميلان سرباً من الفنانين الشبان بلغ إعجابهم به درجة تحول بينهم وبين الابتكار. ولدينا صور على الحجر لأربعة منهم - جيوفني أنطونيو بولترفيو Giovanni Antanio Boltraffio، وأندريا سالينو Andrea Salino، وقيصاري دا سستو Caesare Da Sesto وماركو دجيونو Marco ? Oggion- على قاعدة تمثال ليوناردو الأبوي في البياتسا دلا اسكالا Diazza della Scala في ميلان. وكان له تلاميذ غير هؤلاء نذكر منهم أندريا سولاري، وجودتزيو فيراري، وبرنردينو ده كونتي، وفرانتشسكو ملدسي .... وقد عملوا جميعاً في مرسم ليوناردو، وتعلموا كيف يقلدون رشاقة الخطوط دون أن يصلوا إلى دقته أو عمقه. واعترف مصوران آخران بأنه أستاذهما، وإن لم نكن واثقين من أنهما عرفاه شخصياً، أولهما جيوفني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi الذي سمح لنفسه بأن ينحدر إلينا خلال عصور التاريخ باسم سودوما Sodoma، ولعله قد قابله في ميلان أو رومة؛ وثانيهما برنردينو لويني Bernardino Luini الذي كان يسرف في تقدير العاطفة، ولكن هذا الإسراف كان صريحاً جذاباً يبعد عنه اللوم. وكان يختار لموضوعاته المتكررة صورة العذراء وطفلها، ولعله كان يرى إن هذا الموضوع الذي تكرر حتى أصبح أكثر الموضوعات التصويرية إثارة للسآمة والملل هو أرقى ما تمثل به الحياة بوصفها سلسلة متصلة الحلقات: من المواليد، ومن الحب الذي يعلو على الموت، ومن الجمال النسوي الذي لا يتضح(19/104)
أبداً إلا في الأمومة. ولقد بز أتباع ليوناردو على بكرة أبيهم في إدراكه رقة أستاذه النسوية، وما في ابتسامة ليوناردو من حنان - لا غموض؛ وليست صورة الأسرة المقدسة التي في الأمبروازيانا في ميلان إلا نسخة أخرى لطيفة من صورة العذراء والطفل والقديسة آن التي رسمها المعلم نفسه، وكذلك جمعت صورة الاسبوز اليدسيو Sposalizio الموجودة في ساروني Saronne جميع ماصوره كريجيو من رشاقة. ويبدو أنه لم يكن يشك قط، كما يشك ليوناردو. في القصة المؤثرة، قصة الفتاة الفلاحة التي حملت بالإله؛ وقد رقق الخطوط والألوان في صوره بما وهب من التقوى الساذجة التي قلما كان يشعر بها ليوناردو أو يمثلها؛ وإن الرجل المتشكك الغير راضي عن تشككه الذي يسعه رغم هذا أن يعظم الأسطورة الجميلة الملهمة، ليقف أمام صورتي نوم الطفل الرضيع يسوع، وعبادة المجوس أطول مما يقف أمام صورة القديس يوحنا لليوناردو، كما أنه يجد فيهما من الإشباع والصدق أعمق مما يجده في صور ليوناردو.
وانقضى عصر ميلان العظيم بانقضاء هؤلاء الفنانين الظرفاء، وقلما كان المهندسون، والمصورون، والمثالون، والشعراء، الذين خلعوا على بلاط لدوفيكو صورة ذات روعة وبهاء منقطعتي النظير، قلما كان هؤلاء من أبناء ميلان نفسها، وقد بحث كثيرون منهم عن مراع أخرى لهم لما سقط الحاكم المطلق الرقيق. ولم يبرز في الفوضى والذلى اللتين أعقبتا ذلك العصر فنان ذو شأن يحل محلهم، وكان القصر والكنيسة وحدهما هما اللذين يذكران الإنسان بعد جيل من ذلك الوقت بأن ميلان ظلت عشر سنين عظيمة - هي العشر السنوات الأخيرة في القرن الخامس عشر - تتزعم موكب الحضارة في إيطاليا.(19/105)
الباب الثامن
تسكانيا وأمبريا
الفصل الأول
بيرو دلا فرانتشيسكا
إذا ما عدنا الآن إلى تسكانيا وجدنا أن فلورنس قد فعلت ما فعلته باريس في هذه الأيام، فاستحوذت على مواهب الأقاليم التابعة لها، ولم تترك فيها إلا شخصا هنا وشخصاً هناك يستوقفنا في طريق عودتنا إليها، وقد ابتاعت لوكا عهداً باستقلالها الذاتي من الإمبراطور شارل السادس (139)، واستطاعت أن تبقى مدينة حرة إلى أيام نابليون. وكان أهل لوكا يفخرون بكتدرائيتهم الباقية من القرن الحادي عشر، واكن من حقهم أن يفخروا بها، وقد احتفظوا بها بتجديد بنائها المرة بعد المرة، وجعلوها متحفاً حقاً للفنون، وهي الآن متعة للعين والروح بما حوته في مواضع الترنيم من مقاعد جميلة (1452)، وزجاج ملون (1485)، وبصورة عميقة أعظم من صورة العذراء مع القديس استيفن والقديس يوحنا المعمدان (1509)، وبعدد من الصور المتتابعة الجميلة من صنع ماتيو تشفيتالي Matteo Civrtali ابن لوكا نفسها.
وفضلت بستويا فلورنس على الحرية، ذلك أن الصراع بين البيض والسود قد أشاع الاضطراب في المدينة، فلجأت الحكومة إلى مجلس السيادة في فلورنس أن يتولى هو شئونها (1306)، وشرعت بستويا من(19/106)
ذلك الحين تأخذ فنها كما تأخذ شرائعها من فلورنس، وقد صمم فيها جيوفني دلا ربيا giovanni della Robbia وبعض مساعديه (1514 - 1525) إفريزاً حوى نقوشاً بارزة على الصلصال المحروق البراق لمستشفاها المعروف باسم أسبدالي دل تشيو Ospedale del Ceppo والذي سمي بهذا الاسم لوجود جذع شجرة مجوف يستطيع الإنسان أن يلقي فيه ما يتبرع به للمستشفى. ويمثل هذا النقش "أعمال الرحمة السبعة": كساء العارين، وإطعام الجائعين، والعناية بالمرضى، وزيارة السجون، واستقبال الغرباء، ودفن الموتى، ومواساة الثاكلين. لقد كان الدين هنا يتجلى في أحسن مظاهره.
وكانت بيزا قد بلغت من قبل درجة من الثراء استطاعت معها أن تحول جبال الرخام إلى كنيسة كبرى، وموضعا للتعميد، وبرجاً مائلاً. وكانت تدين بهذا الثروة لى موقعها المنيع على مصب الآرنو، ومن أجل هذا أخضعتها فلورنس إلى سلطانها قوة واقتداراً (1405)، لكن بيزا لم تقبل لنفسها هذا الإذلال، فكانت تثور المرة بعد المرة، وحدث في عام 1431 أن طرد مجلس السيادة الفلورنسي من بيزا جميع الذكور القادرين على حمل السلاح، واحتفظ بنسائها وأطفالها رهائن يضمن بهم حسن سلوك الأهلين (1). واغتنمت بيزا فرصة الغزو الفرنسي (1495) لتستعيد به استقلالها، وظلت أربعة عشر عاماً تحارب جنود فلورنس المرتزقين، حتى خضعت آخر الأمر بعد مقاومة عنيفة أبلت فيها بلاء الأبطال، فلما حدث هذا هاجرت كثير من الأسر الكبيرة إلى فرنسا أو سويسرا مفضلة النفي على الخضوع الأجنبي، وكان من بين هذه الأسر آل سمسندي Sismondi أسلاف المؤرخ الذي روى في عام 1838 بعبارة بليغة قصة تلك الحوادث في كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية. وحاولت فلورنس أن تكفر عن استبدادها بتمويل جامعة بيرزا وبإرسال فنانيها لتزيين الكنيسة(19/107)
والميدان المقدس، ولكن شيئاً ما لم يكن ليستطيع أن يأسو جراح تلك المدينة التي تقضي عليها طبيعتها الجيولوجية بالاضمحلال، حتى ولا المظلمات الذائعة الصيت التي صورها بينوتسو جتسولي Benzzo Gozzol في الميدان المقدس لذي يضم رفات الموتى. وكان سبب القضاء عليها أن رواسب نهر الآرنو تدفع ساحل البحر إلى الأمام دفعا تدريجياً لا رحمة فيه ولا هوادة، حتى نشأ من ذلك ثغر جديد في ليفورنو Livorno أو لجهورن Leghorn على بعد ستة أميال مبيزا، ففقدت هذه المدينة مركزها التجاري الممتاز الذي كان سبباً في ثرائها وفي مأساتها جميعاً.
أشتق اسم سان جمنيانو san Gimignano من اسم القديس جمنيان Giminian الذي أنجى القرية البدائية من جحافل أتلا حوالي عام 450 م. وتمتعت المدينة ببعض الرخاء في القرن الرابع عشر، ولكن السر الغنية فيها انقسمت أحزاباً متطاحنة سفاحة، وشادت الأبراج الستة والخمسين الحصينة (التي نقصت الآن إلى ثلاثة عشر) والتي خلعت على البلدة اسمها الذي اشتهرت به زهو سان جمنيانو دلي بلي توري San Gimqnens delle Belle Torri ( أي ذات الأبراج الجميلة). وبلغ النزاع بين أحزابها في عام 1353 درجة من العنف أضطر المدينة أن تستسلم للقضاء فترضي بالاندماج في أملاك فلورنس. ويبدو أن الحياة قد بدأت تفارقها من ذلك الحين. نعم إن دومنيكو غرالندايو أذاع شهرة معبد سانتا فينا Santa Fina القائم في كنيسة سانتا أجستينو Santa Ogostino ومناظر من حياة القديس أوغسطين تضارع صور الفرسان التي صورها في معبد آل ميديتشي، وإن بينيدتو دا مايانو Bendetto da Maiano حفر محاريب جميلة لهذه المزارات المقدسة، ولكن التجارة سلكت مسالك أخرى، وافتقرت الصناعة إلى مقوماتها، وانعدم الحافز الذي لابد منه لتقدمها، وظلت سان جمنيانو(19/108)
ساكنة في شوارعها الضيقة، وأبراجها المتصدعة، حتى إذا كان عام 1928 حولت إيطاليا تلك المدينة إلى أثر قومي، واحتفظت بها بوصفها صورة نصف حية لما كانت عليه الحياة في العصور الوسطى.
وكانت أرتسو، القائمة على بعد أربعين ميلاً من فلورنس تجاه منبع الآرنو، بقعة حيوية في شبكة الحصون الدفاعية عن فلورنس ومسالكها التجارية. وكان مجلس السيادة الفلورنسي شديد الرغبة في السيطرة عليها، وينصب الفخاخ لإيقاعها تحت هذه السيطرة، فلما كان عام 1384 اشترت فلورنس هذه المدينة من دوق أنجو Anjou، ولم تنس أرتسو قط هذه المهانة. وفيها ولد بتراراك وأريتينو Aretino، وفارساى، ولكنها عجزت عن الاحتفاظ بهم، لأن روحها كانت لا تزال هي روح العصور الوسطى. وقد ذهب لوكا اسبنيلو Luca Spinello، ويسمى هو أيضاً أريتينو Aretino، من أرتسو ليصور في رسوم الميدان المقدس في بيزا مظلمات حبة جميلة تنبض بصدمات المعارك الحربية (1390 - 1392)، ولكنها تمثل فيما تمثله المسيح ومريم والقديسين تمثيلا ينطق بعظيم التقوى المؤثرة في النفس أعظم التأثير. وقد صور لوكا - إذ جاز لنا أن نصدق فارساي - الشيطان بصورة قبيحة منفرة بلغ من قبحها أن غضب منه الشيطان نفسه فظهر له في حلم وأخذ يؤنبه بعنف مات معه لوكا من شدة الرعب. وفي الثانية والتسعين من العمر (2).
وكانت بلدة بورجو سان سبيلكرو Borgo San Sapolcro تقع على نهر التيبر الأعلى في الشمال الشرقي من أرتسو، وبدا أنها اصغر من أن ينشأ فيها فنان من طراز راق أو أن يقيم بها مثل هذا الفنان. وكان من أبنائها بيرو دي بينيدتو الذي سمى فرانتشيسكا باسم أمه، لأن والده توفي وهي حامل به، فربته في حب وحنان، وهدته إلى تعلم الرياضيات والفن، وأعانته على تعلمهما. ونحن نعلم أنه ولد في بلدة الضريح المقدس، ولكنا نجد(19/109)
أول إشارة له وهو في فلورنس عام 1439. وهذا هو العام الذي أتى فيه كوزيمو بمجلس فيرارا إلى فلورنس. ولعل بيرو قد أبصر الحلل الفخمة التي يرتديها الحبار والأمراء البيزنطيون الذين جاءوا ليتفاوضوا في توحيد الكنيستين اليونانية والرومانية. وفي وسعنا أن نفترض ونحن أكثر من هذا ثقة انه درس مظلمات ماساتشيو Masaccio في نعبد برنكاتشي Berncacci، وكانت هذه هي العادة المألوفة التي لا يكاد يخرج عنها كل طالب فن في فلورنس، وأمتزج ما كان لماساتشيو من هيبة، وقوة، ومراعاة جدية لقواعد المنظور، في فن بيرو بما كان للأحبار الشرقيين من لحى ذات جلال وروعة وجمال.
ولما عاد بيرو إلى برجو (1442) اختير عضواً في مجلس المدينة ولما يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت عهد إليه أول عمل يذكره التاريخ المدون: أن يرسم صورة مارنا دلا مزريكورديا لكنيسة سان فرانتشيسكو، ولا تزال هذه الصورة محفوظة في قصر البلدية، وهي مزيج عجيب من صور القديسين المكتئبين، ومن عذراء نصف صينية تكشف ثياب رحمتها عن ثمان صور، ومن صورة فطنة للملك الأكبر جبريل يعلن إلى مريم البشارة بأمومتها بطريقة شكلية محضة، ومن صورة للمسيح تجعله شخصياً فلاحاً مُثَّل صلبه تمثيلاً واقعياً محزناً، ومن صورة واضحة للأم الحزينة والرسول يوحنا. تلك صورة نصف بدائية، ولكنها قوية ليس فيها شيء من العواطف الجميلة، ولا الزخرف الرقيق، ولا يحاول صاحبها أن يخلع على القصة المفجعة شيئاً من الرقة المثالية، ولكنا نرى أجساماً يعلوها ويستنفذ جهدها عثير الحياة، غير أنها مع ذلك تسمو إلى درجة النبل في آلامها الصامتة، وصلواتها، وغفرانها ذنوب من آذوها.
وانتشر صيته وقتئذ في جميع أنحاء إيطاليا، وانهالت عليه الأعمال(19/110)
فصور في فيرارا (1449؟) صوراً جدارية في قصر الدوق. وكان روجير فان در ويدن Rogier van der Weyden مصور الحاشية في تلك البلدة، وأكبر الظن أن بيرو أخذ عنه شيئاً من أصول فن التصوير باللون الممزوج بالزيت، ورسم في ريمني Rimini (1451) صورة لسجسمندو مالاتيستا Sigismondo Malatesta - الطاغية، والقاتل، ونصبر الفن - وهو واقف وقفة المصلي الخاشع. والى جانبه كلبان فخمان يخففان من رهبة الموقف. ورسم بيرو في أرتسو في فترات مختلفة بين 1452 و 1464 سلسلة من المظلمات تمثل أعلى مستوى وصل إليه فنه، وأكر ما تحدث عنه قصة الصليب الحقيقي، التي تنتهي باستيلاء كسرى الثاني عليه، ثم استرداده وإعادته إلى بيت المقدس على يد الإمبراطور هرقل. ولكن في هذه الصورة مواضع أيضاً لحوادث من امثال موت آدم، وزيارة الملكة سبأ لسليمان، وانتصار قسطنطين على مكنتيوس عند جسر ملفيا. وإن جسم آدم الهزيل وهو يحتضر، ووجه حواء المنهوك وثدييها المتهدلين، وأجسام أبنائهما القوية، وبناتهما التي لا تقل قوة ورجولة عن أجسام البنين، والأثواب الفخم السابة التي ترتديها حاشية ملكة سبأ، ووجه سليمان العميق التفكير الذي تكشف عنه الخداع، والطريقة المدهشة التي يسقط بها الضوء في حكم قسطنطين، والطريقة الفاتنة الخلابة التي يحتفظ بها الرجال والجياد في انتصار هرقل - هذه كلها من أقوى مظلمات عصر النهضة وأعظمها تأثيراً في النفس.
والراجح أن بيرو قد صور في فترات تتخلل هذه الجهود الكبرى ستار المحراب في بورجيا كما رسم بعض صور جداريه في الفاتيكان - وقد غطيت هذه الصور الجداريه فيما بعد بالجير لتفسح مكاناً لفرشاة روفائيل الأعظم منها شأناً. وصور في أربينو عام 1469 أعظم صورة له الإطلاق - وهي الصورة الجانبية التي تستوقف النظر للدوق فيدير يجو دامونتي فيلترو Duke Federigo da Montefeltro وكان أنف فيدير يجو(19/111)
قد كسر وخده الأيمن قد جرح في حفلة برجاس: وصور بيرو جانبه الأيسر سليما ولكنه منتفخ بما فيه من شامات، ثم صور النف المعوج صورة واقعية جريئة. كذلك كشف في الصورة عن حقيقة هذا الحاكم بشفتيه المضمومتين وعينيه نصف المغمضتين، ووجه الرزين، فأظهره الرجل الرواقي، الذي خبر حقارة المال والسلطان. غير أننا لا نجد في ملامحه رقة الذوق الذي هدى فيديريجو إلى تنظيم الموسيقى القديمة المزدانة بالرسوم. وقد رسم بيرو معها في الصورة ذات الطيتين المحفوظة في أفيزى صورة جانبية لباتيستا أسفوردسا زوجة فيديريجو، ذات جلال ووقار، ولكنه خلع على الصورتين من الرشاقة ما يجعلهما سخيفتين بحق.
وشرع بيرو في عام 1480 وبهذا بلغ الرابعة والستين من عمره يقسي كثيراً من المتاعب بسب مرض عينيه، ويظن فارساي انه فقد بصره، ولك يبدو انه كن لا يزال قادراً على التصوير الجيد. وكتب في سني الشيخوخة كتاباً دراسياً في فن المنظور ورسالة حلل فيها لعلاقات والنسب الهندسية التي يتطلبا فن التصوير. وتبنى تلميذه لوك بشيولي أفكاره في كتابه النسب الإلهية De divina proptione، ولعل آراء بيرو في الرياضة قد أثرت بهذه الطريقة غير المباشرة في دراسات ليوناردو لهندسة الفن.
ولقد نسي العالم الآن كتب بيرو وكشف صوره من جديد. وإذا ما ذكرنا الوقت الذي كان يعيش فيه، وعرفنا أنه أتم عمله في الوقت الذي بدأ فيه ليوناردو، ولم يسعنا إلا أن نضعه في مصاف كبار المصورين الإيطاليين في القرن الخامس عشر. ولسنا ننكر أن صورة تبدو عديمة(19/112)
الصقل، وأن وجوهها خشنة غليظة، وأن كثير منها يبدو أنه صيغ في قالب فلمنكي، لكن الذي يسمو بها إلى مرتبة النبل هو ما يظهر عليها من مهابة وهدوء، وطلعة وقورة، وقفة رائعة، وما في حركات أصحابها وأعمالهم من قوة مقموعة محتجزة ولكنها مع ذلك مسرحية. والسمة التي تتألق في هذه الصور هي الانسياب والتناسق ألا وهو الأمانة التي دفعت بيرو إلى تمثيل ما أبصرته عينه وأدركه عقله محتقراً بذلك العواطف المتكلفة والتقيد بمثل أعلى لصوره.
وكان بعده عن مراكز النهضة الكبيرة مما حال بينه وبين وصوله فنه إلى ما كان خليقاً به أن يبلغه من كمال، وحرم هذا الفن من أن يكون له أثره القوي الكامل فيمن جاء بعده من الفنانين، ومع ذلك فقد كان من بين تلاميذه سنيوريلي Signorelli، كما أنه كان ممن شكلوا طراز لوكا. وكان والد روفائيل هو الذي دعا بيرو إلى أربينو، ومع أن هذه الدعوة جاءت قبل مولد روفائيل بأربعة عشر عاماً، فإن هذا الشاب المحظوظ قد أبصر ودرس بلا ريب ما خلفه بيرو في تلك المدينة وفي بورجيا من صور. كذلك أخذ ميلتسو دا فورلي Melozzo da Forli عن بيرو شيئاً مكن القوة والرشاقة في التصميم، وإن صورة الملائكة الموسيقيين التي رسمها ميلتسو والمحفوظة في الفاتيكان لتذكرنا بالصور التي رسمها بيرو في أحد أعماله الأخيرة - صورة عيد الميلاد المحفوظة في معرض الصور بلندن - تذكرنا بها كما تذكرنا صورة الملائكة المرنمين لبيرو بصورة كنتوريا للوكا دلا ربيا. وهكذا يترك الناس تراثهم لمن يأتون بعدهم - يتركون عملهم، وقوانينهم، ومهاراتهم، ويصبح انتقال هذا التراث نصف أسباب الحضارة ومقوماتها.(19/113)
الفصل الثاني
سنيوريلي
بينما كان بيرو دلا فرانتشيسكا يرسم روائع صوره في أرتسو دعا لتسارو فرساي Lazzaro Vasari والد جد المؤرخ المعروف بهذا الاسم شاباً من طلبة الفنون يدعى لوكا سنيوريلي ليعيش في بيت أسرة فارساي ويدرس الفن على بيرو. وكان لوكا قد ابصر نور العالم لأول مرة في أقرطونة Cortona التي تبعد نحو أربعة عشر ميلا إلى الجنوب الشرقي من أرتسو (1441). ولم يكن قد تجاوز الحادية عشرة من عمره حين قدم بيرو إلى هذه المدينة: ولكنه بلغ الربعة والعشرين حسن توفي هذا الفنان. وشغف الشاب بفن المصور في هذه الفترة وتعلم منه رسم الجسم العاري رسماً صادقاً لا أثر فيه للتصنع - وبصرامة مرجعها إلى تأثير معلمه، وقوة في الرجولة تنبئ بقوة ميكل أنجيلوا. وكان هذا الشاب يفحص عن الجسم الإنساني أينما استطاع أن يجده، وكان يبحث فيه عن القوة لا عن الجمال، ويبدو أن هذا هو كل مل كان يعنيه. فإذا كان قد صور شيئاً خلاف هذا فقد كان ذلك خروجاً منه عن خطته المرسومة يضيق به ذرعاً وإن ارتضاه إلى حين. وحتى في هذا كان يتخذ الأجسام العارية في بعض الأحيان ليزن بها هذه الرسوم. ولم يجيد تصوير النساء العاريات (إذا كان لنا أن نتحدث في هذا دون أن نراعي الدقة الكاملة) شأنه في ذلك شأن ميكل أنجيلو، فإذا رسمهن لم يلقي في رسمه إلا قليلاً من النجاح، وكان إذا صور الذكور لم يفضل منهم الشبان ذوي الجمال كما كان يفضلهم ليوناردو وسودوما؛ بل كان يفضل الكهول الذين اكتملت رجولتهم وقوية عضلاتهم.(19/114)
واحتفظ سنيوريلى بهذا الشغف أثناء تنقلاته بين مدن إيطاليا الوسطى يترك فيها الصور العارية أينما ذهب؛ وبعد أن قام ببعض الأعمال في سان سيبلكرو وانتقل منها إلى فلورنس (حوالي عام 1475) ورسم للورندسو صورة مدرسة بان وهي صورة على القماش مزدحمة بالآلهة الوثنية العارية وأهداها له. والراجح أيضاً أنه صور للورندسو صورة العذراء والطفل المحفوظة في معرض أفيزى، وصورة العذراء ممتلئة الجسم ولكنها جميلة، وأكثر ما تتكون منه خليفة الصورة هو الرجال العراة، وقد استمد ميكل أنجيلو منها بعض الإيحاء بصورة الأسرة المقدسة.
ومع هذا فإن هذا المصور الوثني للأجسام العارية قد استطاع أيضاً رسم صورتين تنمان عن التقى والصلاح؛ فصور العذراء في الأسرة المقدسة المحفوظة في معرض أفيزى من أجمل ما أخرجه فن النهضة. وذهب سنيوريلى إلى لوريتو Loreto بدعوة من البابا سكستس الرابع (حوالي عام 1479) وزين حرم سانتا ماريا بصورة جصية ممتازة للمبشرين بالإنجيل وغيرهم من القديسين. ثم نجده بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت في روما يضيف إلى معبد سستينى منظراً من حياة موسى يثير الإعجاب بما فيه من صور الذكور، والاشمئزاز مما فيه من صور النساء. واستدعى بعدئذ إلى بروجيا (1484) فرسم بعض صور جصية صغرى في كتدرائيتها. ويلوح أنه اتخذ أقرطونة موطناً له في ذلك الحين، ورسم فيها صوراً طلبت إليه من أماكن أخرى، ولم يتركها في الغالب إلا لأعمال كبرى في سينا؛ وأفيتو، ورومة، وصور في طرفات دير مونتى أليفيتو Monte Oliveto المقنطرة في شيوزورى Chiusuri القريبة من سينا مناظر من حياة القديس بندكت، وأتم لكنيسة سانت أجيستينو في سينا ستاراً لمحرابها يعد من خير رسومه كلها، ولم يبقى من هذه الصورة إلا جانباها. ورسم بعدئذ لبنديلفو بيروتشى طاغية سينا(19/115)
حوادث من التاريخ أو القصص القديم، ثم انتقل إلى أرفينو ليقوم فيها بخاتمة أعماله الكبرى.
وتفصيل ذلك أن مجلس الكتدرائية ظل ينتظر في غير جدوى قدوم بروجيو ليزين معبد سان بردسيو، وكان قبل دعوته قد بحث في دعوة بنتورتشيو Pintoriccio ورفض هذه الدعوة. فلما كان عام 1499 استدعى سنيوريلى، وطلب إليه أن يتم العمل الذي بدأه الراهب أنجيلكو في المعبد قبل خمسين عاماً من ذلك الوقت. وكان ذلك العمل هو تزيين المحراب المحبب إلى الأهلين في الكتدرائية العظيمة؛ وكان سبب هذا الحب أن قد علقت فوقه صورة قديمة للسيدة دى سان دسيو التي تستطيع (كما يعتقد الناس) أن تخفف آلام الوضع، وأن تدعم الوفاء بين المحبين، والأزواج، وأن تمنع الحمى الراجعة، وتهدئ العاصفة. وكان الراهب أنجيلكو قد رسم على سقف المحراب صوراً تمثل يوم الحساب حوت كل ما يكتنف روح العصفور الوسطى من آمال ومخاوف، ثم رسم سنيوريلى تحت هذه الصور موضوعات أخرى شبيهة بموضوعها تمثل - المسبح الدجال، وخاتمة العالم، وبعث الموتى، والجنة، وهبوط الملعونين إلى الجحيم. غير أن هذه الموضوعات القديمة لم تكن بالنسبة له في واقع الأمر إلا إطاراً يظهر فيه الرجال والنساء العراة الأجسام في مائة من الأوضاع المختلفة، وفي مائة من انفعالات الفرح والألم. ولم يشهد عشر النهضة بعد ذلك الوقت هذه الأكداس من اللحوم البشرية إلا حين أخرج ميكل أنجيلو صورة يوم الحساب. ترى هل كان سنيوريلى يبتهج بتصوير الأجسام الجميلة أو المشوهة، والوجوه الحيوانية أو السماوية، وتجهم الشياطين، وآلام المعذبين حين يتناثر عليهم لهب النار، وتعذيب المذنبين واحداً بعد واحد بتكسير أسنانهم وعظام أفخاذهم بالعصى الغليظة - نقول هل كان سنيوريلى يبتهج بهذه المناظر، أو هل أمر أن يصورها كي يشجع(19/116)
الناس على التقى والصلاح؟ وسواء كان هذا أو ذاك صور نفسه (في أحد أركان صور المسبح الدجال) يتطلع إلى هذا التطاحن بهدوء الرجال الذي نجا من العذاب.
وقضى سنيوريلى ثلاث سنين في رسم هذه المظلمات عاد بعدها إلى أقرطونة ورسم صورة المسبح الميت لكنيسة سانت مرغريتا. لما حملت له الجثة "طلب أن تنضى من ثيابها" كما يقول فاسارى، "وتذرع الصبر الذي ليس عده صبر، ولم يذرف دمعة واحدة، ورسم صورة للجسم كي يستطيع أن يشهد على الدوام في هذه الصورة التي من صنع يده، ما حبته به الطبيعة؛ وسلبته إياه الأقدار القاسية".
وحلت به في عام 1508 نكبة من نوع آخر. ذلك أن يوليوس الثاني عهد إليه هو وبروجينو، وبنتورتشيو، وسودوما أن يزينوا الغرف البابوية في قصر الفاتيكان. وبينما هم قائمون بالعمل إذ أقبل عليهم روفائيل، وسر البابا من مظلماته البدائية سروراً حمله على أن يخصص له كل الحجرات وطرد منها سائر الفنانين. وكان سنيوريلى وقتئذ في السابعة والستين من عمره، وربما كانت يده قد فقدت حذقها وثباتها، بيد أنه رغم هذا صور بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت ستاراً لمذبح عهدت به إليه شركة سان جيرولامو في أرستو، ونجح في ذلك نجاحاً أكسبه كثيراً من الثناء. ولما فرغ من الصورة جاء الاخوة الشركاء في أقرطونة وحملوا صورة السيدة والقديسين على أكتافهم طوال الطريق إلى أرتسو؛ ورافقهم سنيوريلى، وأقام مرة أخرى في بيت فاسارى. وفيه أبصر جيورجيو فاسارى Giorgio Vasari وهو غلام في الثامنة من عمره، وتلقى منه كلمات مشجعة على دراسة الفن ظل يذكرها أمداً طويلاً. وكان سنيوريلى في صباه شاباً قوى العاطفة سريع الاهتياج، لكنه أصبح في شيخوخته سيداً عطوفاً رحيماً، أوفى على(19/117)
الثمانين من عمره، ويعيش في رخاء لا بأس به في البلدة التي كانت مسقط رأسه. واختير وهو في الثالثة والثمانين من عمره وللمرة الأخيرة في حياته عضواً في مجلس حكام أقرطونة ثم مات في عام 1524.
وبعد، فإن من العلماء الممتازين من يعتقدون أن سنيوريلى لم يبلغ من الشهرة ما تؤهله لها مواهبه، ولكن لعل الحقيقة أنه نال فوق ما يستحق. لقد كان يرسم في يسر، ولقد أدهشنا في دراساته للتشريح، ومواقف النماذج؛ وفن المنظور، وترتيب أجزاء الصورة بحيث يتبين الناظر إليها القريب منها والبعيد؛ وهو يدخل علينا السرور باستخدام الأجسام البشرية في تأليف صورة وتزيينها. وهو حين يرسم صورة السيدات يسمو أحياناً إلى مستوى عال من الرقة، ولقد افتتنت عقول الناقدين الخبيرين بصور الملائكة الموسيقيين في لورنتو. أما في ما عدا هذا فكان هو الداعي إلى إجادة تصوير الجسم بإتقان التشريح؛ فهو لم يخلع عليه رقة بدنية، أو رشاقة شهوانية، أو يمجده بجمال التلوين، أو سحر الضوء والظل، وقلما كان يدرك أن وظيفة الجسم هي أن يكون المظهر الخارجي والأداة المعبرة عن الروح أو الأخلاق الرقيقة التي لا تدركها الحواس؛ وأن الواجب الأسمى للفن هو أن يبحث عن الروح ويظهرها في ثنايا قناعها الجسدي. ولق أخذ ميكل أنجيلو عن سنيوريلى تعظيمه للتشريح إلى حد العبادة، كما أخذ عنه إضاعته الغاية في سبيل الوسيلة؛ ولهذا نراه يكرر في صورة يوم الحساب التي رسمها في معبد سستينى ما في مظلمات أفيتو من جنون عجيب بوظائف أعضاء الجسم ويكررها في الثانية بصورة أكبر منها في الأولى. غير أنه أستخدم في الصور التي رسمها على سقف هذا المعبد نفسه وفي تماثيله جسم الإنسان فجعله لسان الروح الناطق. وقد انتقل فن التصوير على يد سنيوريلى في خطوة واحدة من أهوال فن العصور الوسطى ورقته، إلى مغالاة في الزخرف مغالاة أفقدته روحه.(19/118)
الفصل الثالث
سينا وسودوم
كادت سينا في القرن الرابع عشر تلاحق فلورنس في التجارة والحكم والفن. أما في القرن الخامس عشر فقد أنهكت قواها في أعمال العنف والتعصب الحزبي إلى حد لم تصل إليه أي مدينة أخرى في أوربا، فقد تناوبت على حكم المدينة خمسة أحزاب - أو خمسة تلال Monti كما يسميها أهلها - أسقطت كلا منها ثورة جامحة نفي على أثرها أعضاؤه البارزون واكنوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف. وفي وسعنا أن نتبين حدة هذا النزاع من اليمين التي أقسمها حزبان من هذه الأحزاب الخمسة والتي يعلنان بها عزمها على وضع حد لهذا النزاع (1494). ويصف شاهد عيان روعته هذه الحال أعضاء الحزبين مجتمعين اجتماعاً رهيباً في سكون الليل في جناحين منفصلين بكنيستهم الرحبة الخافتة الضوء:
وقرئت شروط الصلح وكانت تملأ ثماني صفحات، وصحبتها يمين من أشد الأيمان رهبة، مليئة بألفاظ المقت واللعن، والحرمان، واستنزال الشر، ومصادرة الأموال، وغيرها من المصائب التي تستك منها المسامع والتي لا ينجي منها شيء حتى القربان المقدس ساعة الموت. بل إنه سيضاعف اللعنات على الذين ينكثون العهد ويحالفون هذه الشروط؛ وإني ... لأعتقد أن أحد لم يسمع قط يميناً أشد هولا أو رهبة من هذه اليمين. ثم أخذ الكتبة الواقفين على جانبي المحراب يسجلون أسماء جميع المواطنين وهم يقسمون على الصليبين الموضوعين في كلا الجانبين، ثم يقبله كل اثنين من هذا الحزب وذاك، وتدق أجراس الكنيسة وينشد دعاء "لك الحمد يا رب" مصحوباً بموسيقى الأرغن أثناء تلاوة القسم.(19/119)
وتمخض هذا النزاع عن قيام أسرة سيطرت على الموقف هي أسرة بيتروتشى. ذلك أن بنفدلفو بيتروتشى نصب نفسه حاكاً بأمره في عام 1497 ولقب نفسه بصاحب الفخامة il magnifico، وعرض أن يهب سينا النظام، والسلم، والحكم الأتوقراطي الصالح الذي سعدت به فلورنس أيام آل ميديتشى. وكان بنديلفو هذا على جانب كبير من المهارة، وكان على الدوام ينجو بنفسه من جميع الأزمات بل إنه نجا من انتقام سيزارى بورجيا نفسه؛ وقد ناصر الفنون وكان يميز غثها من ثمينها، ولكنه كثيراً ما كان يلجأ للاغتيال خفية حتى لقد فرح الناس جميعاً بموته (1512)، فلما كان عام 1525 بلغ يأس المدينة درجة لم يسعها معه إلا أن تتقدم للإمبراطور شارل الخامس بأن يضعها تحت حمايته، وعرضت عليه في نظير ذلك خمسة عشر ألف دوقة.
وبلغ فن سينا ذروته خلال فترات الصحو التي سادها السلم، فواصل أنطونيو باريلى Antonio Barile تقاليد العصور الوسطى في الحفر العجيب على الخشب، وشاد لورندسو دى مريانو في كنسية فنتجيستا محراباً عالياً على الطراز الروماني الجميل. واتخذ ياقوبو دلا كويرتشيا Jacopo della Quercia لقبه من قرية في مؤخرة سينا. وكان الذي يمده بالمال وهو ينحت تماثيله الأولى هو أرلندو ماليفلتى Orlando Malevalti فأثبت بذلك أنه غير خليق بأن يسمى صاحب "الوجوه الشريرة". ولما أن نفي أرلندو لأنه انضم إلى الجانب الخاسر في النزاع السياسي، غادر ياقوبو سينا لاي لوكا (1390) حيث تصميم قبر فخم لإلاريا دل كاريتو Iliaria del Carretto، وبعد أن ظل فترة من الزمن ينافس دوناتيلو وبرونيلسكو في فلورنس انتقل إلى بولونيا وحفر على باب سان بترونيو Soan Patronio تماثيل ونقوشاً رخامية تعد من أجمل ما صنع في النهضة (1425 - 1428). وشاهدها ميكل أنجيلو في موضعها بعد سبعين عاماً من ذلك الوقت، وأعجب بما تنطق به هذه الصور العارية من قوة ورجولة، وظل(19/120)
وقتاً ما يستمد منها الوحي والحافز. ولما عاد ياقوبو بعدئذ إلى سينا قضى شطراً كبيراً من العشر سنين التالية يعمل في آيته الفنية المعروفة باسم "الفسقية المرحة Fonte Gaia". فنقش على قاعدتها الرخامية صورة العذراء السيدة المدينة الرسمية؛ وصورة حولها الفضائل السبعة الأصلية؛ وأضاف إلى ذلك مناظر من العهد القديم ملأت جزءاً كبيراً من القاعدة، ثم ملأ ما بقى بعد ذلك بصور الأطفال والحيوانات - تشهد كلها بقوة التفكير وحسن التنفيذ الذين يبشران بقدوم ميكل أنجيلو. وأعجبت سينا بعمله هذا فبدلت اسمه وجعلته ياقوبو ذا القسقية Jacopo della Fonte وأجازته عليه بألفي كرون ومائتين (55. 000 دولار أمريكي؟). ومات في الرابعة والستين من عمره بعد أن أنهكه فنه، وحزن عليه جميع المواطنين.
واستعانت المدينة المعجبة بنفسها طوال الجزء الأكبر من القرنين الرابع عشر والخامس عشر بمائة فنان مختلفي المواطن ليجعلوا كنيستها درة العمارة في إيطاليا، وعين دمينيكو دل كورو Domenico del Coro أحد أساتذة التلبيس بالخشب مشرفاً على العمل في الكتدرائية بين عامي 1413 - 1423، وأخذ هو وامتيو دي جيوفني، ودمينيكو بكافومي Domenico Beccafumi وبنتورتشيو وكثيرون غيرهم يطعمون أرض المزار العظيم بقطع من الرخام تمثل حوادث في الكتب المقدسة حتى أضحت أرض الكنيسة أعجب أرض الكنائس في العالم كله. ونحت انطونيو فيديريغي Antonio Federighi لهذه الكنيسة فسقيتين جميلتين للتعميد، وصب لها لورندسو فتشيتا Lorenzo Veccietta صندوقاً للعشاء الرباني من البرنز البراق، وأقام سانو دي ماتيو Sano di Matteo اللجيا دلا ميركندسيا Loggia della Mercanzia في الميدان (1417 - 1438) وحفر فيتشيتا وفيدريجي على واجهات عمدها تماثيل مؤتلفة متناسقة. وشهد القرن الرابع عشر قصراً(19/121)
من أشهر القصور، منها قصور سلميني Salimbeni، وبونسنيوري Buonsignori، وسرتشيني Saracini، وجرتانيلي Grottanelli ... ، ووضع برناردو رسيلينو Bernardo Rosselino في عام 1470 رسوماً لقصر أسرة بيكولوميني على الطراز الفلورنسي، وصمم أندريا برينو لأسرة بيكولوميني محراباً في الكنيسة (1481)، وشاد الكردنال فراتشيسكو بكولوميني مكتبة ملحقة بهذه الكنيسة (1495) لتضم الكتب والمخطوطات التي تركها له عمه بيوس الثاني، وأنشأ لورندسو ودي ماريانو لهذه الدار مدخلاً يعد من أجمل مداخل الدور في إيطاليا. وسم بنتو ريتشيو ومساعدوه (1503 - 1508) على جدرانها، داخل أطر معمارية فخمة رائعة، مظلمات جميلة تبهج النفوس وتمثل مناظر في حياة البابا العالم.
وكان في سينا خلال القرن الخامس عشر عدد كبير من المصورين في المرتبة الثانية من الإجادة، نذكر منهم تاديو برتولي Taddeo Bartoli، ودومينيكو دي برتولو Domenico di Bartolo، ولوندرسو دي بيترو المسمى فيتشتيا، واستيفانو دي جيوفيني، المعروف باسم ساسيتا Sassetta، وساني دي بيترو Sani di Pietro، وماتيو دي جيزفني، وفرانشيسكو دي جيورجيو، وقد واصلوا جميعاً التقاليد الدينية القوية في الفن السينمائي، فكانوا يصورون موضوعات تدل على التقي والخشوع، وقديسين مكتئبين، وكثيراً ما يصورونهم في لوحات جامدة مزدحمة كثيرة الطيات كأنهم يريدون أن يطيلوا حياة العصور الوسطى إلى أبد الدهر. وقد أسترد ساسيتا شهرته حديثاً بفضل نزوة عارضة من نزوات الناقدين، وكان قد صور بخطوط وألوان ساذجة موكباً رائعاً من مواكب المجوس وأتباعهم يتحركون في ثبات ووقار مجتازين ممرات الجبال إلى مهد المسيح. ووصف في صورة رشيقة ثلاثية الطيات مولد العذراء، وفي صورة أخرى وصف ترحيب(19/122)
القديس فرانسس بالفقر، ومات عام 1450 بعد أن هدت جسمه الريح الجنوبية القارسة (5).
ولم تنجب سينا فناناً ذاعت شهرته بالخير أو بالشر في جميع أنحاء إيطاليا إلا في أواخر ذلك القرن. وكان الاسم الصحيح لهذا الفنان هو جيوفيني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi ولكن معاصريه السفهاء بدلوا اسمه إلى سودوما لأنه لم يكن يستحي من التصريح بانه يشتهي الرجال. وارتضى وهو منشرح الصدر هذا اللقب الذي يستحقه الكثيرون، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه. وكان مولده في فرتشيلي Vereclli، (1477) ، ثم انتقل منها إلى ميلان، ولعله تعلم فيها التصوير واللواط من لورندسو. وخلع على صورة سيدة بريرا Brera ابتسامة شبيهة بالتي يخلعها دافنتشي على صورة سيداته. وقلد صورة ليدا التي رسمها ليوناردو تقليداً بلغ من الدقة والإحكام أن ظل الناس عدة قرون يظنون إن صورته هي الصورة الأصلية التي رسمها ليوناردو نفسه. وهاجر سودوما إلى سينا بعد سقوط لدوفيكو، وأنشأ فيها طرازاً من التصوير خاصاً به، فكان يصور موضوعات مسيحية وهو مغتبط غبطة الفنان الوثني بالأشكال البشرية. ولعله في خلال أقامته الأولى في سينا قد رسم تلك الصورة القوية صورة المسيح مصلوباً على العمود يوشك أن يجلد، ولكنه مع ذلك سليم الجسم صحيحه. وصر لرهبان مونتي أليفيتو مجيوري Monte Oliveto Maggiore سلسلة من المظلمات روى فيها قصة القديس، بعضها في غير عناية وبعضها ذات جمال مغر إلى حد لم يسع رئيس الدير معه إلا أن يصر على عدم أداء أجر سودوما إلا بعد أن يكسو أجسام الصور العارية حتى لا تفتتن بها عقول من في الدير.
وأعجب المصر في أجستينو تشيجي Agestino Chigi بأعمال سودوما حين زار موطنه سينا ودعاه إلى رومة، حيث وكل إليه البابا يوليوس الثاني أن ينقش إحدى حجرات نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان،(19/123)
ولكن سودوما قضى شطراً كبيراً من الوقت يعيش المعيشة التي يمثلها اسمه. حتى اضطر البابا الشيخ إلى طرده، وحل محله رفائيل. ودرس سودوما في فترة من فترات تواضعه طراز الفنان الشاب، وأخذ عنه شيئاً من صقله الناعم ورشاقة تصويره ورقته. ثم أنقذ تسيجي سودوما بأن عهد إليه أن يصور في بيت تشيجي الريفي قصة الإسكندر وركسانا، ولما خلف البابا ليو العاشر يوليوس الثاني بعد قليل من ذلك الوقت استرد سودوما مكانته عند البابا؛ ورسم جيوفني للبابا المرح صورة للكريديسيا عارية تطعن نفسها وتموت. وكافأه ليو على هذه الصورة مكافأة سخية ومنحه لقب فارس من طبقة المسيح.
ولما عاد سودوما إلى سينا مثقلاً بهذه الأكاليل، عهد إليه رجال الدين والدنيا كثيراً من الأعمال؛ ومع أنه كان كما يبدو من المشككين في الدين فقد رسم صوراً للعذراء لا تكاد تقل عن صور رفائيل. وكان استشهاد القديس سبستيان من الموضوعات التي تروقه بنوع خاص؛ ولم يفقه أحد قط في تصوير هذا الاستشهاد في قصر بتي Bitti؛ وصور كذلك في كنيسة سان دمينيكو بسينا القديسة كاترين مغمي عليها تصويراً واقعياً وصفه بلدساري Baldassare بأنه لا مثيل له من نوعه. وبينا كان سودوما يقوم بهذه الأعمال جلل سينا بالعار لما كان يقوم به من "أعمال حيوانية" على حد قول فاساري.
"لقد كان يحيا حياة الفسق والفجور، إذ كان على الدوام يحيط نفسه بالغلمان والشبان المرد ويفتتن بهم إلى حد الجنون، فقد أطلق عليه اسم سودوما، ولم يكن يخجل قط من هذا العمل، بل كان يفخر به، ويقرض فيه الشعر، ويتغنى به على العود. وكان مولعاً بأن يملأ بيته بجميع أنواع الحيوانات العجيبة: كالغريراء، والسناجب، والقردة، والفهود، والحمر القزمة، وخيول السباق المغربية، وأمهار إلبا، وغربان الزرع،(19/124)
والبنطم%=@العزيراء حيوان حفار في حجم الثعلب تطارده الكلاب، والبنطم نوع من الدجاج المنزلي يمتاز بالشجاعة ويقال إن اسمه مشتق من بنطم بجزيرة جاوة. (المترجم) @، واليمام وأمثالها من المخلوقات ... وكان لديه فضلاً عن هذه غراب أسود أجاد تعليمه النطق حتى كان يحاكي صوته، وخاصة حين يجيب طارق الباب. وكثيراً ما كان الطارقون يظنون أن صاحبه هو الذي يجيبهم. وكانت الحيوانات الأخرى أليفة مروضة تلتف حوله على الدوام، وتلعب وتقفز قفزاتها العجيبة، حتى كان بيته سفينة نوح بحق" (7).
وتزوج بامرأة من أسرة طيبة، ولكنها فارقته بعد أن ولدت له طفلاً واحداً؛ وبعد أن قضى في سينا مدة من الزمن خسر فيها إيراده وما لقيه من ترحاب، غادرها إلى فلتيرا، ثم إلى بيزا ولوكا، (1541 - 1542) للبحث عن أنصار جدد. ولما تخلى عن هؤلاء أيضاً، عاد إلى سينا، واشترك في فقره مع حيواناته، ومات في الثانية والسبعين من عمره بعد أن أنجز في الفن كل ما تستطيع أن تنجزه اليد الصناع دون أن تكون لها روح عميقة ترشدها.
وكان الرجل الذي شغل مكانه في سينا هو دمينيكو بكافومي، وكان دمينيكو هذا قد درس طراز بروجينو حين قدم هذا الفنان إليها في عام 1508؛ فلما غادرها بروجينو، سافر دمينيكو إلى رومة ليستزيد من العلم، وعرف الشيء الكثير عن مخلفات الفن الروماني القديم، وبحث عن أسرار رفائيل وميكل أنجيلو. ولما عاد إلى سينا قلد أولاً سودوما، ثم نافسه في عمله؛ وطلب إليه مجلس السيادة أن ينقش قاعة مجمع الكرادلة، فقضى ست سنوات يكدح في تزيين جدرانها (1529 - 1535) بمناظر من التاريخ الروماني، وأبدع في هذا النقش من الوجهة الفنية ولكنه كان نقشاً ميت الروح.
وانقضى عهد النهضة في سينا بموت بكافومي (1531). نعم إن(19/125)
بلدساري بيرتسي كان من أبنائها، ولكنه غادرها إلى روما، وعادت سينا مرة أخرى إلى أحضان العذراء، وأعدت نفسها في غير عناء لاستقبال عهد الإصلاح المعارض، ولا تزال حتى اليوم متشددة في التمسك بالدين الأصيل راضية بهذا الاستمساك، تغري الأرواح المتعبة أو المستطلعة بتقواها الساذجة، وحفلات البرجاس أو السباق الشتوية (منذ عام 1659) وتمنعها عن كل ما هو جديد.(19/126)
الفصل الرابع
أمبريا والبجليوني
تقوم في أماكن متفرقة من أمبريا الجبلية مدائن ترني terni، واسبوليتو، وأسيسي، وفولنيو Foligno، وبروجيا، وجينو Gobbio، وتحيط بها تسكانيا من الغرب، ولاتيوم من الجنوب، وولايات التخوم من الشمال والشرق. ونتحدث هنا أول ما نتحدث عن فبريانو Fabriano- الواقعة خارج حدودها في التخوم- لأن جنتيلي دا فبريانو كان هو البشير بمدرسة أمبريا الفنية.
وجنتيلي Gentile هذا شخصية غامضة ولكنها شخصية ذات أثر قوي: فقد رسم صوراً تمثل العصور الوسطى في جبيو، وبروجيا، وأقاليم التخوم، متأثراً بعض التأثر بمصوري سنا الأولين، ولكنه ينضج على مهل، ثم يعلو نجمه إلى حد يحمل بنديلفو مالاتستا، كما تقول إحدى الروايات التي لا يقبلها العقل، على أن يكافئه بأربعة عشر ألف دوقة نظير زخرفة معبد بروتيلو Broletto في بريشيا (حوالي عام 1410) (8) برسوم جصية. وبعد عشر سنين أو نحوها من ذلك الوقت عهد إليه مجلس شيوخ البندقية أن يرسم منظراً حربياً في قاعة المجلس الكبير، ويلوح أن جنتيلي يليني كان من بين تلاميذه في ذلك الوقت. ثم نجده بعدئذ في فلورنس يرسم لكنيسة سانت ترينيتا Santa Trinita صورة عبادة المجوس (1423)، التي يعدها العالم من روائع الفن ومنهم أهل فلورنس المزهوون المتكبرون. ولا تزال هذه الصورة في معرض أفيزي: وهي عبارة عن حشد براق جميل على ظهور الخيل من الملوك والأتباع، ومن(19/127)
الخيول المطهمة، والماشية المطرقة، والحمر المدملجة، والكلاب اليقظة، وصورة لمريم جميلة، كلها مركزة حول طفل رضيع فنان، يضع يده الفاحصة على رأس ملك أصلع. وتلك صورة رائعة، زاهية اللون، منسابة الخطوط، ولكنها تكاد تكون بدائية في خلوها من فن المنظور، وتمثيل القرب والبعد، واستدعى البابا مارتن الخامس جنتيلي إلى روما، حيث أنشأ بعض المظلمات في سان جيوفني لاتيرانو San Giovanni Laterno، وقد اختفت هذه المظلمات، ولكننا نستطيع أن نحدس ما كانت عليه من تحمس روجيير فان درويدن، فقد أعلن حين رآها أن جنتيلي أعظم المصورين في إيطاليا (9). وأنشأ جنتيلي في كنيسة سانت ماريا نوفا مظلمات أخرى لم يعد لها وجود، منها واحد أنطق ميكل أنجيلو بقوله لفارساي انه "كانت له يد شبيهة باسمه" (1) (10)، وتوفي جنتيلي في روما عام 1427 في عنفوان مجده.
وحياته شاهدة بأن أميريا التي ينتمي إليها من الناحية الثقافية كانت تنجب عباقرتها وطرازها الخاص في الفن. ولكن المصورين الأمبريين كانوا بوجه عام يهتدون بهدى سينا، ويواصلون الجري على النزعة الدينية دون انقطاع من دوتشيو Duccio إلى بيروجينو والشطر الأول من حياة روفائيل. وكانت اسيسي المنبع الروحي للفن الأمبري. ذلك أن كنائس القديس فرانسس والقصص التي كانت تروي عنه قد أذاعت في الأقاليم المجاورة لتلك البلدة نزعة دينية قوية سيطرت على الفن كما سيطرت على العمارة، وعارضت الموضوعات الوثنية أو الموضوعات غير الدينية التي كانت تغزو الفن الإيطالي في بلدان أخرى، ولهذا قلما كانت تطلب صوراً من المصورين في أمبريا، وإن كان بعض الأفراد إذا ادخروا طوال حياتهم شيئاً من المكال قد يطلبون عادة إلى فنان محلي أن يرسم صورة للعذراء
_________
(1) لفظ جنتيلي يعني الرقة والظرف. (المترجم)(19/128)
أو الأسرة المقدسة ليضعوها في معبدهم المفضل، ولهذا فإنه قلما كانت توجد كنيسة، مهما بلغت من الفقر تعجز عن جمع المال لإقامة مثل هذا الرمز الدال على التقي والأمل والفخر الجماعي، وعلى هذا النحو كان لجبيو مصوروها، كما كان أتفيانونلي Ottaviano Nelli وفولينو Foligno نقولا دي لبيراتوري Niccolo di Liberatore وكما كانت بروجيا تفخر يبفجلي Bonfigli وبروجينو ونتورتشيو.
وكانت بروجيا أقدم بلدان أمبريا، وأكبرها، وأغناها، وأشدها عنفاً. وكان موقعها على قمة جبل منيع يبلغ ارتفاعها ألف قدم وستمائة، ويتعذر الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد، وكانت تشرف على مناظر فسيحة من الريف المجاور لها. وكان موقعها هذا صالحاً كل الصلاحية للدفاع، ولهذا بنى الإتروربون- أو ورثوا ممن قبلهم- مدينة في هذا المكان قبل ان يؤسسوا روما. وظل البابوات زمناً طويلاً يدعون أن بروجيا تابعة للولايات البابوية، ولكن المدينة نادت باستقلالها في عام 1375، وظلت أكثر من مائة عام تعاني آثار الحزبية العارمة التي لا تفوقها فيها إلا سينا.
وكانت أسرتان غنيتان تقتتلان من أجل السيطرة على المدينة- على تجارتها وحكمها، ورتبها الكهنوتية، وأهلها البالغ عددهم 40. 000 نسمة. لقد كان آل أدي Oddi وآل بجيولوني يقتل بعضهم بعضاً غيلة أو علناً في الطرقات، وكانت دماء القتلى تخضب السهل الذي يبسم تحت أبراج المدينة. وكان آل بجليوني يشتهرون بحسن وجوههم وقوة أجسامهم، وشجاعتهم، ووحشيتهم، واكنوا وهم في وسط أمبريا الصالحة التقية يسخرون من الكنيسة ويسمون أنفسهم بأسماء وثنية- إركولو Ercolo، وترويلو troilo، وأسكانيو Ascanio، وأنيبالي Annibale، اطلنطا، وبنلوبي penelope، ولافيانا laviana، وزنوبيا. وصد البجليوني محاولة قام(19/129)
بها الأدي في عام 1445 للاستيلاء على بروجيا، وظلوا من ذلك الحين يحكمون المدينة حكم الطغاة وإن كانوا يعترفون رسمياً بأنها إقطاعية بابوية ولنترك الآن فرانتشيسكو ماتارتسو Franccsco Matarazzo مؤرخ بروجيا نفسه وصف حكومة البجليوني:
أخذت حال مدينتنا تزداد سواءً على سوء منذ اليوم الذي طرد فيه الأدي، والتحق جميع الشبان بحرفة الجندية، , واضطربت حياتهم جميعاً، وانتشرت في كل يوم أخبار عن إيغالهم في اللذات المختلفة، وفقدت المدينة عقلها وعدالتها، فكان كل إنسان يأخذ حقه بيده كأنه هو صاحب السلطان والملك المسيطر. وبعث البابا راجياً أن يعيد بذلك النظام إلى المدينة المضطربة، ولكن كل من بعثهم إليها عادوا فزعين مرعوبين يخشون أن تمزق أجسادهم إرباً، لأن البجليوني أنذرهم بأن يلقوا بعضهم من نوافذ القصر، ولهذا لم يجرؤ كردنال أو غيره من الأحبار أن يقترب من بيروجيا إلا إذا كان صديق السرة الحاكمة. وبلغ من تعاسة المدينة أن اصبح أشد الناس خروجاً على القانون أعظم أهلها شأناً، وإن كان من قتل منها رجلين أو ثلاثة رجال يسير في داخل القصر كما يشاء، ويذهب وبيده سيفه أو خنجره ليخاطب الحاكم أو غيره من ولاة الأمور, كان كل صاحب مقام يتعرض للمهانة ويطأه بالأقدام القتلة المأجورون الذين لهم الحظوة عند الأشراف، ولم يكن في وسع أحد من الأهلين أن يدعي أن شيئاً ما ملك له، فقد كان الأشراف ينهب بعضهم ممتلكات البعض الآخر وأرضه، وكانت كل الوظائف تباع أو تلغى، وبلغ من فدح الضرائب وشدة الاغتصاب أن ضج الناس جميعاً بالشكوى (11).
وسأل أحد الكرادلة البابا إسكندر عما عساه أن يفعل مع أولئك الشياطين الذين لا يخشون الماء المقدس؟ (12) وكان البجليوني بعد أن طردوا الأدي من المدينة قد انقسموا أحزاباً جديدة، وأخذوا يتطاحنون(19/130)
تطاحناً من أشد ما عرف في عهد النهضة ومن أكثرها إراقة للدماء، وكانت أطلنطا بجيلوني التي ترملت بعد اغتيال زوجها تواسي نفسها بجمال ابنها جريفونيتو Grifonetto الذي يصفه ماتارتسو بانه جانوميد (1) ثان. وخيل إليها أنها قد استعادت سعادتها حين تزوج زنوبيا اسفوردسا التي لم تكن تقل عنه جمالاً. ولكن فرعاً صغيراً من أسرة بجليوني أخذ يدبر المؤمرات للقضاء على الفرع الحاكم- الذي يضم أستوري Astorre، وجيدو Guido، وسمونيتو Simonetto، وجيان بولو Gianpaolo. وكانوا يقدرون شجاعة جريفونيتو فضموه إليهم بأن أوهموه أن جيان بولو أغوى زوجته الشابة، وبينما كانت الأسر الكبيرة من آل بجيلوني في ذات ليلة من عام 1500 مجتمعة خارج قصورها في بروجيا تحتفل بزواج أستوري ولافينيا إذ هاجمهم المتآمرون في فراشهم وقتلوهم عن آخرهم إلا واحداً منهم، فقد نجا جيان بولو بأن تسلق أسطح المنازل، واستتر بظلام الليل مع بعض طلاب الجامعة المرتاعين. بعد أن تخفى في زي طالب منهم، وخرج من أبواب المدينة عند مطلع الفجر. ورعت أطلنطا إذ عرفت أن ابنها كان من هؤلاء السفاحين، فطردته من عندها بعد أن صبت عليه اللعنات. وتفرق هؤلاء القتلة وتركوا جريفونيتو وحيداً لا مأوى له في المدينة. وعاد جيان بولو في صباح اليوم التالي إلى بروجيو ومعه حرس مسلح والتقى بجريفيونيتو في أحد الميادين العامة، وأراد أن يبقى على حياة الشاب، ولكن جنوده أصابوا أطلنطا وزنوبيا من مخبئهما فوجدتا الابن والزوج يلفظان آخر أنفاسهما في شارع المدينة، وركعت أطلنطا إلى جواره، واستغفرت الله للعنتها إياه، ومنحته رضاها، وطلبت إليه أن يعفو عن قاتليه. ويقول
_________
(1) جانوميد شاب في أساطير اليونان يقال انه كان من أجمل البشر خطفه نسر زيوسي وهو يرعى قطعان أبيه. (المترجم)(19/131)
متارتسو "إن الشاب النبيل مد يده لأمه الشابة، وضغط على يدها البيضاء وفاضت روحه من جسمه الجميل" (13). وكان بروجينو وروفائيل يصوران وقتئذ في بروجيا.
وأمر جيان بولو فقتل مائة من الرجال في الشوارع أو في الكنيسة إذ ظنهم مشتركين في المؤامرة، وزين البلدة بناء على أمره برءوس القتلى كما علقت صورهم مقلوبة رءوسهم إلى أسفل، ووجد الفن بروجيا في هذا موضوعاً من موضوعاته الهامة. وحكم جيان بولو المدينة من ذلك الوقت دون أن يلقى مقاومة حتى استسلم ليوليوس الثاني (1506) ورضى أن يحكمها نائباً عن البابا؛ ولكنه لم يعرف كيف يحكم من غير أن يلجأ إلى الأغتيال، ولما مل ليو العاشر جرائمه، أغراه بالقدوم إلى روما في عام (1520) بعد أن أمنه فيها على نفسه؛ ثم أمر به فقطع رأسه في قصر سان أنجليو. وكان هذا العمل من الوسائل التي تلجأ إليها دبلوماسية النهضة للتخلص من غير المرغوب فيهم وحافظ رجال آخرون من آل بجلوني على سلطاتهم إلى حين، حتى إذا ما أغتال مالاتستا بجليوني مندوبا بابوياً، سير البابا بولس الثالث جيشاً ليستولي على المدينة نهائياً ويلحقها بأملاك الكنيسة (1534).(19/132)
الفصل الخامس
بيروجينو
وأزدهر الأدب والفن ازدهاراً عجيباً في عهد هذه الحكومة حكومة المؤامرات والاغتيالات، فقد كان في مقدور أصحاب المزاج الناري الذين يعبدون العذراء ويهينون الكرادلة، ويقتلون أولي القربى، وكان في مقدور هؤلاء أن يشعروا بحمى الكتابة المبدعة، ويتأدبوا بأدب الفن الصارم. وإن كتاب ماتارتسو المسمى أخبار مدينة بروجيا Cronaca della Citta di Perugia، والذي يصف ذروة مجد أسرة بجليوني ليعد من أروع ما أنتجته النهضة في الأدب. وكانت التجارة قبل أن يتولى آل بجليوني زمام السلطة قد جمعت من الثروة ما يكفي لتشييد قصر البلدية الضخم القوطي الطراز (1280 - 2333) وأن تزينه هو وبناء الغرفة التجارية الكليجيو دل كامبيو Collegio del Cambio (1452 - 1456) برسوم من أجمل ما أخرجه الفن في إيطاليا. وكان لهذه الغرفة منصة للقضاة، ومقعد لمبدلي النقود منحوتاً نحتاً بديعاً لا يستطيع معه أحد أن يتهم رجال الأعمال في بيروجيا بقلة الذوق. ولا تكاد مقاعد المرنمين في كنيسة القديس دمنيكو (1476) تقل عن هذين رشاقة، كما كان في هذه الكنيسة معبد الورود الذائع الصيت الذي صممه أجستينو دي دوتشيو. وكان أجستينو هذا يتردد بين فني النحت والعمارة، وكان في العادة يجمع بينهما كما فعل في معبد الدعاء oratovio بكنيسة سان برتردينو (1461)، حيث غطى الواجهة كلها تقريباً بالتماثيل، والنقوش البارزة، والزخارف العربية وغيرها من أنواع الزخارف. ذلك أن كل سطح غير مزخرف كان على الدوام يثير حماسة أحد الفنانين الإيطاليين.(19/133)
وكان خمسة عشر مصوراً على الأقل يعملون في تلبية هذه الدعوة في بيروجيا؛ وكان زعيمهم في شباب بيروجينو هو بينيديتو بنفجلي. والظاهر أن بينيديتو هذا تعلم شيئاً من المبادئ الجديدة التي أنشأها ونماها ماسوليني، وماساتشيو، وأتشيلو Uccello، وغيرهم في فلورنس، وكان ذلك عن طريق اختلاطه بدومنيكو فندسيانو أو بيرو دلا فراتشيسكا، أو عن طريق دراسة المظلمات التي صورها بنوتسو جتسولي في مونتى فلكو. ولما أن نقش مظلمات لقصر البلدية أظهر من المعرفة بفن المنظور ما كان جديداً بين فناني أمبريا، وإن كانت شخصياته قد استعارت وجوهاً مقررة الطراز من قبل، وكانت مكسوة بأثواب خالية من الرونق. وكان في المدينة منافس لبينيديتو أصغر منه سناً ولكنه يضارعه في عدم بهاء الألوان، ويفوقه في رقة العاطفة والرشاقة في بعض الأحيان، وعني به فيورندسو دي لورندسو Fiorenzo di Lorenzo. وتقول الرواية المأثورة في بيروجيا أن بنفجلي وفيورندسو قد علما الأستاذين اللذين بلغا بفن التصوير الأمبري ذروته.
تعلم برتردينويتي المعروف باسم بنتورتشيوفني التصوير الزلالي والتصوير الجصي (المظلمات) من فيورندسو، ولكنه لم يلجأ إلى التصوير بالزيت الذي جاء إلى بيروجيتو من أهل فلورنس؛ وسافر في صحبة بيروجيتو إلى رومة في عام 1481وهو في السابعة والعشرين من عمره، وغطى لوحة في معبد سستيني بصورة لتعميد المسيح لا حياة فيها؛ لكنه ارتقى بعد ذلك؛ فلما أمره البابا إنوسنت الثامن بان يزين إحدى الشرفات المكشوفة في قصر بلفدير اختط في تزيينها خطة جديدة بأن صور فيها مناظر من جنوي وميلان، وفلورنس، والبندقية، ونابلي، وروما، ولم تكن رسومه خالية من العيوب ولكن كان تصويره نزعة إلى الولع بالطبيعة تسر الناظر استرعت التفات البابا إسكندر السادس. وأراد هذا البابا الظريف من آل بيروجيا أن يزين حجراته الخاصة في الفاتيكان فكلف بنتو رتشيو وبعض أعوانه أن ينقشوا على الجدران والسقف مظلمات تمثل(19/134)
أنبياء وسيبيلات (عرافات اسطورية)، وموسيقيين، وعلماء، وقديسين ومريم العذراء، ولعل فيهم أيضاً معشوقات. وسر البابا من هذه أيضاً سروراً حمله على أن يعهد إلى هذا الفنان بأن يرسم في الجناح الذي خصص له في قصر سانت أنجيلو بعض أحداث الصراع بين البابا وشارل الثامن (1495). وكانت بيروجيا في هذه الأثناء قد وصلتها شهرت بنيو رتشيو، فاستدعته إليها وطلبت إليه كنيسة سانتا ماريا ده فسي Santa Maria de' Fossi أن يصور ستاراً لمحرابها، فلبى الطلب ورسم صورة العذراء والطفل والقديس يوحنا التي اعجب بها كل من رآها ما عدا المحترفين. ولقد سبق القول أنه زين مكتبة بكولوميني بصور متلألئة من حياة ببيوس الثاني والقصص التي تروى عنه، وقد أضحت هذه الحجرة بفضل هذه الصور القصصية رغم ما فيها من عيوب من أبهج ما خلفه فن النهضة. وقضى بنتو رتشيو في هذا العمل خمس سنين انتقل بعدها إلى رومة، وكان له نصيب من الإذلال الذي لحق الفنانين على أثر نجاح روفائيل. ثم اختفى بعدئذ من الميدان الفني، ولعل ذلك كان بسبب مرضه، لأن بيرجينو وروفائيل تفوقا عليه. وتقول إحدى القصص المشكوك في صحتها أنه مات من الجوع في سينا في سن التاسعة والخمسين (1513) (14).
ولقب بيترو بيروجينو بهذا اللقب لأنه اتخذ بيروجيا موطناً له، وإن كانت بيروجيا نفسها تسميه على الدوام فنوتشي Vannucci باسم أسرته. وكان مولده في تشتا دلا بييف Citta' della Pieve، (1446) القريبة من بيروجيا ثم أرسل إليها وهو في التاسعة من عمره، وتتلمذ فيها على يد فنان معروف. ويقول فرساي أن معلمه كان يرى أن مصوري فلورنس أحسن المصورين في إيطاليا، ونصح الشاب بأن يذهب إليها ليدرس فيها. فذهب إليها بيترو، وقلد مظلمات ماساتشيو بعناية شديدة، وجعل يتدرب عند فيروتشيو حوالي عام 1468،(19/135)
وأغلب الظن أن بيروجينو التقى به ولم يستنكف أن يتعلم منه بعض خصائص الصقل والرشاقة، وازدياد العناية بالمنظور، والألوان، والزيوت، وإن كان بيروجينو في ذلك الوقت أكبر منه بست سنين. وتظهر مهارته في هذه النواحي في صورة القديس سبستيان التي رسمها بيروجينو والمحفوظة في متحف اللوفر وقد بدت فيها من حول صورة القديس ميان جميلة، ومنظر طبيعي لا يقل لطفاً عن وجه القديس ذي الثقوب، ولما ترك بيروجينو مرسم فيروتشيو عاد إلى الطراز الأمبري في صورة العذراء المتحاشمة الوديعة، ولعل تأثيره هو الذي رقق التقاليد الواقعية في فن التصوير الفلورنسي فجعله فناً مثالياً كما يبدو في صور الراهب بارتولميو وأندريا دل سارتو Andrea del sarto.
ولما بلغ بيروجينو الخامسة والثلاثين من عمره في عام 1481 كان قد بلغ من الشهرة حداً جعل البابا سكستس الرابع يدعوه إلى روما، فصور في معبد سستيني عدة مظلمات أجمل ما بقي منها صور المسيح يسلم مفاتيح إلى بطرس والصورة شديدة التقيد بالعرف في تناسب شكلها أكثر مما ينبغي، ولكن الهواء وما فيه من تدرج دقيق في الضوء يصبح في الصورة لأول مرة في التصوير عنصراً واضحاً متميزاً يكاد يلمس باليد، والأثواب التي كانت قد أضحت في صور نفجلي ذات طراز واحد مقرر جمعت هنا وثنيت حتى أصبحت تنبض بالحياة، وخلعت على بعض الصور نزعة انفرادية مدهشة- كصور المسيح، وبطرس وسنيورلي؛ ولم يكن أقلها من هذه الناحية وجه بيروجينو نفسه الكبير، المستدير، الشهواني، الواقع، وقد استحال بهذه المناسبة من حواريي المسيح.
وعاد بيروجينو إلى فلورنس في عام 1486، ويستدل على ذلك من أن محفوظات المدينة تذكر أنه قبض عليه لارتكابه جريمة الاعتداء على أحد أعدائه. وتفصيل ذلك أنه هو وصديقاً له تخفيا وتسلحا بالعصى الغليظة(19/136)
وترقبا في الظلام عدواً لهما، ولكن أمرهما كشف قبل أن يرتكبا الجريمة، ونفي الصديق، وحكم على بيروجينو بغرامة قدرها عشرة فلورينات (15). وبعد أن أقام في روما فترة أخرى، اتخذ له مرسماً في فلورنس (1492)، واستأجر بعض المساعدين، وشرع ينتج لعملائه الأقربين والأبعدين صوراً لم تكن كلها معتنى بصقلها؛ وكان منها لجماعة أخوان جيسواتي Gesuati صورة مريم تحتضن جسم المسيح الميت أضحت فيها صورة العذراء حزينة ومجدلين المفكرة مثالا كرره هو ومساعدوه في نحو مائة شكل مختلفة لكل معهد أو فرد يطلبه. واتخذ صورة مريم والقديسين طريقها إلى فينا، كما اتخذ صورة أخرى طريقها إلى كرمونا، وثالثة إلى فانو، ورابعة هي صورة مريم في مجدها إلى بيروجينا، وخامسة إلى الفاتيكان، وتوجد الآن واحد في معرض أفيزي. واتهمه منافسوه بأنه حول مرسمه إلى مصنع، وظنوا أنه من العار أن يصبح ثرياً سميناً. ولكنه ابتسم لقولهم ورفع أثمان صوره؛ ولما دعته مدينة البندقية ليرسم لوحتين في قصر الدوق وعرضة عليه أربعمائة دوقة (5000 دولاراً) طلب ثمانمائة، فلما لم يجب إلى طلبه بقى في فلورنس، وكان يصر على أن يؤدى أجره فوراً ويرفض الآجل منه؛ ولم يكن يتظاهر باحتقار الثروة، بل كان يعتزم ألا يموت من الجوع حين تبدأ يده في الاهتزاز، وابتاع له أملاكاً في فلورنس وبيروجيا؛ وكان يلزم نفسه بأن يضيف ولو قدراً قليلاً من الأرض عقب كل انقلاب في حياته. وصورته التي رسمها لنفسه والقائمة الآن بالميدان في بيروجيا (1500) واعتراف صريح صراحة عجيبة. فهو يظهر فيها ذا وجه مكتنز، وأنف كبير، وشعر مهدل دون عناية تحت قلنسوة حمراء ضيقة، وعينين هادئتين نافذتين، وشفتين تنمان عن بعض الاحتقار، ورقبة ضخمة، وهيكل قوي. وجملة القول أنه كان رجلا لا يسهل خداعه؛ متأهباً للكفاح، واثقاً من نفسه، لا يقدر الجنس البشري تقديراً كبيراً. ويصفه فاساري بأنه لم يكن رجلا متدنياً، وبأنه لا يؤمن قط بخلود الروح (16).(19/137)
على أن تشككه ونزعته التجارية لم يحولا بينه وبين السخاء في بعض الواقف (17)، أو بينه وبين إنتاج أرق الصور وأكثرها خشوعاً وتعبداً في عصر النهضة. ومن هذه الصور صورة جميل للعذراء رسمها للكرتوزا دي بافيا (وهي الآن في لندن)؛ ومنها صورة مجدلين التي تعزى إليه والمحفوظة في متحف اللوفر، وهي صورة لخاطئة جميلة مجيلة لا يحتاج الإنسان معها إلى الرحمة الإلهية لكي يعفو عن خطيئتها. ورسم لراهبات سانتا كلارا بفلورنس صورة الدفن كانت ملامح النساء فيها ذات جمال نادر، ووجوه الشيوخ من الرجال تفصح عن حياتهم، وخطوط التأليف فيها تلتقي على جثة المسيح التي لا دم فيها، تحتوي على منظر طبيعي من الأشجار الرفيعة النامية على منحدرات صخرية، وعلى بلدة بعيدة قائمة على جوٍ هادئ؛ وكل هذه تخلق جواً من الهدوء وعلى منظر الموت والأحزان. والحق أن هذا الرجل كان يستطيع أن يصور وأن يبيع.
وعرف أهل بيروجيا آخر الأمر قدره من نجاحه في فلورنس. فلما أعتزم تجار الميدان أن يزينوا غرفتهم، أفرغوا ما في جيوبهم من مال في سخاء المتوانين المتراخين، وعهدوا بالعمل إلى بيتور فانوتشي. وساروا على مزاج ذلك العصر ومشورة أحد علماء بلدتهم، فطلبوا إليه أن يزين قاعة الاجتماع بمزيج من الموضوعات المسيحية والوثنية: فيزين السقف بصورة للكواكب السبعة والبورج؛ وأن ترسم على أحد الجدران صورة مولد المسيح والتجلي؛ وعلى جدار آخر صورة الأب الخالد، والأنبياء، وست سيبيلات "عرافات" وثنيات تشير إلى ما سيرسمه ميكل أنجيلو من نوعها فيما بعد. ورسم على جدار غيره الفضائل الأربعة الروحانية يمثل كلا منها أبطال من الوثنيين: الفطنة يمثلها نوما Numa، وسقراط؛ وفابيوس؛ والعدالة يمثلها بتاكوس Pittacus، وفيوريوس Furius، وتراجان، والجلد ويمثله لوسيوس، وليونداس، وهوراشيوس ككليس Horatius Cocles والاعتدال يمثله بركليز وسنسناتوس واسكبيو Scipio، ويبدو أن هذا كله(19/138)
كان من صنع بيروجيا ومساعديه- ومنهم روفائيل- في عام واحد هو عام 1500 أي العام الذي كان فيه اقتتال البجليوني بريق الدماء في شوارع بيروجيا. فلما حقنت الدماء كان بمقدور أهل البلدة أن يخرجوا من مساكنهم ليمتعوا أنظارهم بالجمال الجديد الذي خلع على الميدان. ولعلهم وجدوا الشخصيات الوثنية جامدة بعض الشيء وودوا لو أن بيرودجينو لم يصورها واقفة ثابتة بل قائمة بعمل مل يكسبها حياة، ولكن صورة داود كانت جليلة رائعة بحق، وصورة عرافة ابربثتربون لا تكاد تقل رشاقة عن عذراء روفائيل، وصورة الأب الخالد فكرة طيبة فذة عن الكافر. وأظهر بيروجينو في رسومه على هذه الجدران وهو في سن الستين قواه الكاملة، وفي عام 1501 نصبته المدينة رئيساً لبلديتها اعترافاً منها بفضله.
ثم أخذ ينحدر من هذا الأوج انحدراً سريعاً، ففي عام 1592 صور زواج العذراء في صورة قلدها روفائيل بعد عامين في صورة اسبيوز الدسيو وفي عام 1503 عاد إلى فلورنس، ولم يسره أن يرى المدينة تلهج بالثناء على صور داود لميكل أنجيلو؛ وكان من بين الفنانين الذي دعوا للنظر في المكان الذي توضع فيه الصورة. ولكن المثال نفسه لم يقتنع برأيه، وكانت له الغلبة عليه. والتقى الرجلان بعد قليل من ذلك الوقت، وتبادلا الشتائم؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ شاباً في الحادية والعشرين من عمره فقال إن بيروجينو غبي، وإن فنه "عتيق سخيف" (18). وقاضاه بيروجينو على هذا السب ولكنه لم يجن سوى السخرية. وفي عام 1505 اتفق على أن يتم لكنيسة البشارة صورة الوديعة التي بدأها فلبينو لبي ولم تيمها، وأن يضيف إليها صورة صعود العذراء؛ وأتم عمل فلبينو بحذق وسرعة ولكنه كرر في صورة الصعود كثيراً من الأشكال التي استخدمها في عدة صور سابقة، ومن أجل هذا اتهمه فنانو فلورنس (وكانوا لا يزالوا يحسدونه على أجوره القديمة)(19/139)
بالتكاسل والإبطاء، فما كان منه إلا أن ترك المدينة مغضباً واتخذ مسكنه في بيروجيا.
وتكررت هزيمة الشيخوخة على يد الشاب، وهي الهزيمة التي لا مفر منها، حين قبل دعوة البابا يوليوس الثاني ليزين له حجرة في الفاتيكان (1507). فلما أن أتم بعض مراحل العمل ظهر تلميذه السابق روفائيل واكتسح كل شيء أمامه، فغادر بيروجينو روما كسير القلب، وعاد إلى بيروجيا، يرجو القيام ببعض الأعمال، وظل يعمل فيها إلى آخر أيام حياته؛ فبدأ (1514) ولعله أتم (1520) ستاراً لمحراب مُعقَّد النقش لكنيسة سانت أجستينو، وكرر فيه مرة أخرى قصة المسيح. ثم صور لكنيسة عذراء لجريمي Madonna delle Lagrime في تريقي Trevi (1521) صورة عبادة المجوس وهي نتاج مدهش لرجل في الخامسة والستين على الرغم مما فيها من بعض الرسوم التافهة. وبينما كان يصور في فنتنيانو Fontignano القريبة من بيروجيا في عام 1523 إذ أصيب بالطاعون أو لعله مات من الشيخوخة والضعف. وتقول الرواية المتواترة إنه أبى أن يتلقى القداس الأخير، وقال أنه يفضل أن يرى ما سوف يحدث في العالم الآخر للروح الخاطئة المعاندة (19)، ومن أجل ذلك دفن في أرض مجردة من القداسة (20).
وبعد فان الناس جميعا يعرفون عيوب تصوير بيروجينو - يعرفون إسرافه في العواطف، ويعرفون تقواه المصطنعة الحزينة، ووجوهه البيضية الشكل المتقيدة بالعرف، والشعر المعقود بالأشرطة، والرؤوس المنحنية إلى الأمام على الدوام دليلا على التواضع لا يستثنى منها رأساً كاتو Cato وليونداس Leonidas الجريء. وفي وسعنا أن نجد في أوربا وأمريكا مائة من طراز بيروجينو الذي يتكرر كل يوم، لقد كان هذا الأستاذ خصباً أكثر(19/140)
منه مبتكراً، وإن صوره لتعوزها الحركة والحيوية، وتنعكس عليها حاجات الخشوع الأمبري أكثر مما تنعكس عليها حقائق الحياة ومعانيها. ولكن فيها مع ذلك كثيراً مما يسر النفس التي بلغت من النضج حداً لا يكفي للتغلب على ما تتصف به من سوفسطائية؛ فيها صفة ضوئها الحية، وجمال نسائها المتواضع، وجلال شيوخها الملتحين، وألوانها الرقيقة الهادئة، والناظر الطبيعية الظريفة التي تخلع السلام على المآسي بأجمعها.
ولما عاد بيروجينو في عام 1499 بعد طول المقام في فلورنس، جاء معه إلى الفن الأمبري من عند الفلورنسيين الحذق في التنفيذ، دون أن يأتي منهم موهبة النقد، فلما مات أورث هذا الحذق في إخلاص رفاقه وتلاميذه- بنتورتشيو، وفرانتشيسكو أبرتينو "البكياكا li Bachiacca وجيوفني دي بيترو "لوسبانيا Lo Spagna" ورفائيل. والحق أن هذا الأستاذ أدى واجبه: لقد أغنى تراثه وأسلمه غنياً إلى من جاءوا بعده، ودرب تلميذاً له بزه وسمى عليه. ذلك أن روفائيل هو بيروجينو مبرأ من أخطائه، كاملا غاية الكمال.(19/141)
الباب التاسع
مانتوا
1378 - 1540
الفصل الأول
فتورينود أفلتري
كانت مانتوا مدينة محظوظة لأنها حكمتها طوال عصر النهضة أسرة واحدة لا أكثر، ولأنها نجحت من الاضطرابات الناشئة من الثورات، والاغتيالات التي تحدث في بلاط الحكام، والانقلابات السياسية؛ ذلك أنه لما أصبح لويجي جندساجا Luigi Gonzaga رئيس الشعب (1328) استتب الأمر لبيته إلى حد كان يستطيع معه أن يغادر عاصمة ملكه من حين إلى حين، ويؤجر نفسه إلى المدن الأخرى ليكون قائداً لجيوشها- واتبع خلفاؤه هذه العادة مدى أجيال عدة. ورفع الإمبراطور سجسمند الأول سيد هذه الأسرة من الوجهة النظرية جيان فرانتشيسكو الأول حفيد حفيده إلى مرتبة مركيز (1423)، وأصبح هذا اللقب من ذلك الحين وراثياً في أسرة جندساجا حتى استبدل به لقب أسمى منه وهو لقب دوق (1530). وكان جيان هذا حاكماً صالحاً، جفف المستنقعات وأصلح أحوال الزراعة والصناعة، وناصر الفن، وأستقدم إلى مانتوا رجلاً من أعظم رجال التربية وأنبلهم ليعلم أبنائه.
واتخذ فتورينو لقبه من مسقط رأسه بلدة فلترى Feltre في الشمال الشرقي من إيطاليا. وتملكته الرغبة القوية في دراسة الآداب القديمة. وهي التي(19/142)
كانت تجتاح جميع أنحاء إيطاليا في القرن الخامس عشر اجتياح السيل الجاف، فسافر إلى بدوا ودرس اللغتين اليونانية واللاتينية، والعلوم الرياضية، وفنون البلاغة على أساتذة مختلفين، وأدى لواحد منهم أجره بأن عمل خادماً عنده، ولما أن تخرج من الجامعة فتح مدرسة لتعليم الصبيان. وكان يختار تلاميذه على أساس من المواهب والحرص على التعليم لا على أساس الحسب أو كثرة المال؛ وكان يتقاضى من أغنى التلاميذ أجراً يتناسب مع ثروتهم، أما الفقراء فلم يكن يتقاضى شيئاً على الإطلاق. ولم يكن يقبل الكسالى المتوانين ويطلب كل بأن يبذلوا في التعليم أقصى الجهود، ويحرص على النظام الصارم الدقيق. وإذا كانت هذه المطالب مما يصعب الوفاء بها في جو المدينة الجامعية الصاخب فقد نقل فتورينو مدرسته إلى البندقية (1423). وفي عام 1525 قبل دعوة جيان فرانتشيسكو للمجيء إلى بدوا ليعلم فيها نخبة ممتازة من الأولاد والبنات، من بينهم أربعة من أبناء المركيز وبنت له، وابنة فرانتشيسكو اسفوردسا، وبعض أبناء الأسر الحاكمة الإيطالية.
وخصص المركيز للمدرسة بيتاً عرق باسم كاسا دسوجوسا Casa Zojosa أي البيت المبتهج. وحول فتورينو القصر إلى ما يشبه الدير، وعاش فيه هو وتلاميذه عيشة البساطة، قانعين بالضروري من الطعام، وجروا فيه على المثل اللاتيني المأثور "العقل السليم في الجسم السليم". وكان فتورينو نفسه يجيد الألعاب الرياضية كما يجيد العلم، فكان يتقن المثاقفة، وركوب الخيل، لا يتأثر بتقلبات الجو حتى كان يرتدي نوعاً واحداً من الثياب صيفاً وشتاء، ولا يحتذي إلا الصنادل في أشد الأيام برداً. وإذ كان ذا مزاج شهواني سريع الغضب. فقد عمل على أن يسيطر على هاتين النزعتين بالالتجاء إلى الصيام من حين إلى حين، وبأن يضرب جسمه بالسوط كل يوم. ويعتقد معاصره أنه لم يقرب النساء قط طوال حياته.
وكانت أولى وسائله للتسامي بغرائز تلاميذه وتنشئتهم على الخلق الكريم أن يحتم عليهم التمسك الشديد بأصول الدين، وأن يغرس فيهم الإحساس(19/143)
الديني القوي؛ فكان يقاوم كل نزعة إلى الفساد، والفحش، والنطق بالعبارات النابية، يعاقب كل من يغضب أو يحتد في الجدل، وكاد يجعل الكذب من الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام. على أنه لم يكن بحاجة إلى من يقول له، كما قالت زوجة لورندسو لبولتيان، أنه يربي أمراء قد يواجهون في يوم من الأيام واجبات الحكم أو الحرب. وكانت وسيلته إلى تقوية أجسام تلاميذه وتحسين صحتهم أن يدربهم على ضروب كثيرة من الألعاب الرياضية كالجري، وركوب الخيل، والقفز، والمصارعة، والمثاقفة، والتمارين العسكرية، وكان يعودهم على تحمل المشاق دون أن يجأروا بالشكوى أو يصابون بأذى؛ واكن يرفض نزعة العصور الوسطى إلى احتقار الجسم وإن كانت مبادئه الخلقية هي المبادئ التي كانت سائدة في تلك العصور؛ وكان يقدر كما يقدر اليونان ما لصحة الجسم من شأن في رفع مستوى الرجال. ولهذا كان يستعين على تكوين أجسام تلاميذه بالألعاب الرياضية، وبالجهود الجسمية، كما يعنى بتكوين أخلاقهم بالتمسك بالدين والنظام والتأديب، ورفع مستوى ذوقهم بتعليمهم التصوير والموسيقى، وعقولهم بالعلوم الرياضية، واللغتين اللاتينية واليونانية، والآداب القديمة. وكان يرجو أن يجمع في تلاميذه بين فضائل الأخلاق المسيحية، وصفاء الذهن الثني الحاد، والإحساس بالجمال الذي هو من خصائص عصر النهضة. وهكذا تحقق لأول مرة مثل النهضة الأعلى للرجال الكامل L'uomo universale- أي الرجل الصحيح الجسم، المتين الخلق، الغزير العلم- تحقق هذا المثل على يد فتورينو دا فلتري.
وانتشرت أخبار طريقته في جميع أنحاء إيطاليا وفي غيرها من الأقطار، وأقبل الكثيرون على مانتوا ليروا معلمها لا ليروا مركيزها، وأخذ الآباء يرجون جيان فرانتشيسكو أن يسمح بإلحاق أبنائهم في "مدرسة الأمراء" كما كانت تسمى مدرسته. وقبل رجاءهم، وجاءه فيما بعد عدد من الأعيان أمثال فردريجو الأبينوئي، وفراتشيسكو الكستجليوني، وتديو منفريدي(19/144)
Taddeo Monfrdi ليربو على يديه. وكان الطلاب الذين تلوح عليهم أعظم سمات النجابة يحظون بعناية الأستاذ الخاصة، فكانوا يقيمون معه تحت سقف واحد، ويحظون بالميزة التي لا تقدر بمال وهي أن يكونوا على صلة دائمة بخلقه الكريم وعقله الراجح. وكان فتورينو يصر على أن يقبل في المدرسة النجباء من الطلاب الفقراء، وأقنع المركيز بأن يرصد ما يلزمه من المال والوسائل المدرسية المساعدين لتعليم ستين من فقراء الطلبة في وقت واحد وإيوائهم، فإذا لم تف هذه الأموال بالحاجة وفاها فتورينو من موارده الخاصة الضئيلة؛ ولما مات في عام 1446 وجد أنه لم يترك من المال ما يكفي لتشييع جنازته.
وأثبت لدوفيكو جندساجا، الذي خلف جيان فرانتشيسكو دوقاً على مانتوا (1444) أنه تلميذ خليق بأن يشرف أستاذه. فقد كان لدوفيكو حين تولى فتورينو أمر تربيته غلاماً في الحادية عشر من عمره، بديناً وقحاً، ولكن فتورينو عمله كيف يسيطر على شهيته وأن يكون جديراً بجميع ما يفرضه على الحكم من واجبات. وأدى لدوفيكو هذه الواجبات أحسن أداء وترك دولته عند وفاته رخية مزدهرة، وفعل ما يفعله أمير النهضة الحق فخص الآداب والفنون بجزء من ماله؛ وجمع مكتبة كبير ممتازة، وكان أكثر ما احتواه الآداب اللاتينية واليونانية القديمة؛ واستخدم النقاشين ليزينوا له ملحمتي الإنياذة والملهاة الإلهية، وأشأ أول مطبعة في مانتوا؛ وكان بوليتيان، وبيكوا دلا ميرندولا، وفيليفو، وجوارينو دا فيرونا Guarino da Verona، وبلاتينا من بين الكتاب الإنسانيين الذين تمتعوا في وقت واحد من الأوقات برفده، وعاشوا في بلاطه. وأقبل ليون باتستا ألبرتي من فلورنس بناء على دعوته، وصمم معبد الإنكوروناتا Ancoronata في الكتدرائية، وكنيستي سانتا أندريا وسانتا سيستيانو. وجاء أيضاً دوناتيلو وصب للدوفيكو تمثالاً نصفياً من البرونز، وفي عام 1460 عين المركيز في خدمته فناناً من أعظم فناني النهضة هو أندريا مونتينيا Anderea Montegna.(19/145)
الفصل الثاني
أندريا منتينيا
1431 - 1506
ولد هذا الفنان في أسولا دي كارنورا Asola di Cartua القريبة من بدوا قبل مولد بتيتشيلي بثلاثة عشر عاماً. وعلينا أن نراجع في الزمن قليلاً إلى الوراء إذا شئنا أن نقدر أعمال منتينيا الجميلة حق قدرها. لقد قيد اسمه في نقابة المصورين في بدوا ولما يتجاوز العاشرة من العمر. وكان فرانتشيسكو أسكواراتشيوني Francesco Squaracione وقتئذ أشهر معلمي التصوير لا في بدوا وحدها بل في إيطاليا كلها. والتحق أندريا بمدرسته وبلغ من سرعة تقدمه أن أخذه أسكواراتشيوني قد تأثر كثيراً بالكتاب الإنسانيين، فجمع في مرسمه كل ما كان يستطيع الحصول عليه وينقله من بقايا الروائع القديمة في فني النحت والعمارة، وأمر تلاميذه أن يقلدوها المرة بعد المرة ويتخذونها نماذج للرسوم القوية، المتناسقة غير المسرفة. وأطاع منتينيا أمره في حماسة قوية، وعشق العاديات الرومانية، واتخذ أبطالها مُثُلاً عليا له؛ وبلغ من إعجابه بفنها أن جعل لنصف صوره خلفيات من فن العمارة الرومانية، وأن كانت نصف شخصياته أياً كانت الأمة التي ينتمون إليها والزمن الذي يعيشون فيه، ذات طابع روماني وكساء روماني. وأفاد فنه من افتتان الشباب هذا كما عانى منه الشيء الكثير. فقد تعلم من هذه المثل جلال التخطيط وهيبته، ونقائه وصرامته؛ ولكنه لم يخرر رسومه تحريراً كاملاً من هدوء الأشكال المنحوتة في الحجر، ولما قدم دوناتيلو إلى بدوا وكان منتينيا لا يزال غلاماً في الثانية عشرة من عمره شعر مرة أخرى بتأثير هذا المثال، كما أحس بدافع قوي نحو الواقعية. ثم إنه افتتن في الوقت عينه بعلم المنظور(19/146)
الجديد الذي نما حديثاً في فلورنس على يد ماسولينو، وأتشيلو Uccello وماتشيو؛ ودرس أندريا قواعده كلها وأدهش جميع معاصريه بقدرته على تمثيل القرب والبعد تمثيلاً صادقاً إلى حد الفظاظة.
وتلقى سكوارانشيوني في عام 1448 دعوة لعمل مظلمات في كنيسة الرهبان الإرمتاني Eremitani Friars في بدوا، فعهد العمل إلى اثنين من أحب تلاميذه إليه وهما نقولو بتسولو، ومنتينيا. وأتم نقولو لوحتين من الطراز ممتاز ثم فقد حياته في مشاجرة، وواصل أندريا العمل، وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره، وأذاعت اللوحات الثمان التي رسمها في السبع سنين التالية شهرته في جميع أنحاء إيطاليا. وكانت موضوعات الرسوم مأخوذة من العصور الوسطى، أما طريقة التنفيذ فكانت ثورة على تلك العصور؛ فقد كانت الخلفيات مأخوذة من العمارة الرومانية القديمة ومفصلة بعناية شديدة، وكانت أجسام الرجال قوية، ودروع الجنود الرومان البراقة تختلط بملامح القديسين المسيحيين الجادة الحزينة؛ وامتزجت الوثنية والمسيحية في هذه المظلمات امتزاجاً أوضح من امتزاجها في كل صفحات الكتاب الإنسانيين. وبلغ الرسم هنا درجة جديدة من الدقة والرشاقة، وبذل في المنظور من الجهود ما وصل به إلى درجة الكمال؛ وقلما شهد التصوير صورة رائعة في شكلها وهيئتها كصورة الجندي الذي يحرس القديس أمام الجسر الروماني، أو شهد شيئاً بلغ من الواقعية العاتية ما بلغه الجلاد الذي يرفع هراوته ليضرب بها الشهيد على أم رأسه. وأقبل الفنانون من المدن القاصية ليدرسوا فن ذلك الشاب العجيب الذي أنجبته بدوا- وقد دمرت كل هذه الرسوم الجصية عدا اثنين منها في الحرب العالمية الثانية.
وشهد ياقوبو بليني هذه اللوحات أثناء عملها، وأعجب بأندريا، وعرض عليه أن يزوجه ابنته، وكان ياقوبو نفسه مصوراً واسع الشهرة كما كان في ذلك الوقت (1454) أياً لمصورين قدر لهم أن يتفوقوا عليه ويقضوا على(19/147)
شهرته. وقبل منتينيا هذا العرض، ولكن اسكواراتشيولي قاومه، وعاقب هروب مانتينيا من بيته الذي آواه وتبناه فيه بأن ذم المظلمات الإرمتانية ووصفها بأنها تقليد جامد شاحب للرخام العتيق. والأغرب من هذا أن آل بليني أفلحوا في أن ينقلوا إلى أندريا تلميحهم بأن في هذه التهمة بعض الصدق (2). وأعجب من هذا وذاك أن الفنان الحاد المزاج صدق هذا النقد وأفاد منه بأن تخلى عن دراسة صناعة التماثيل إلى الحرص على ملاحظة الحياة بجميع حقائقها ودقائقها، فضمن اللوحتين الأخيرتين من الألواح الإرمتانية صورتين لمعاصرين له إحداهما صورة لشخص بدين متربع هو اسكواراتشيونى نفسه.
ولما أن ألغى منتينيا عقده مع معلمه كان في وسعه أن يقبل بعض الدعوات التي تكاثرت عليه وكان منها عرض من لدوفيكو جندساجا في مانتوا (1456)؛ ولكن أندريا ظل يماطل فيه أربع سنين، كان في أثنائها يرسم لكنيسة سان دسينو San Zeno في فيرونا صورة كثيرة الطيات لا تزال حتى اليوم تجعل هذا الصرح الفخم كعبة للحجاج من مختلف الأقطار. وقد صور في اللوحة الوسطى من هذه الصورة وسط إطار فخم بين عمد وشرفة وقوصرة رومانية الطراز مريم العذراء ممسكة بطفلها، يحف بهما الموسيقيين والمرنمون من الملائكة؛ ثم رسم تحت هذا صورة قوية تمثل صلب المسيح، وتحتوي على بعض الجنود الرومان يقذفون النرد ليعرفوا من منهم يستحوذ على أثوابه؛ والى اليسار صورة حديقة زيتون تمثل منظراً طبيعياً وعراً كان خليقاً بأن يدرسه ليوناردو ليستعين به على رسم عذراء الصخور. وتعد هذه الصورة ذات الثلاث الطيات من أعظم صور عصر النهضة (1).
وقضى منتينيا في فيرونا ثلاث سنين ثم قبل أخيراً أن يذهب إلى مانتوا
_________
(1) واستولى الفاتحون الفرنسيون على اللوحات السفلى في عام 1797، أما حديقة الزيتون والبعث فهما الآن في تور، وصورة الصلب محفوظة في متحف اللوفر؛ وقد رسمت من هذه نسخ طيبة حلت محلها في صورة فيرونا الكثيرة الطيات.(19/148)
(1460)، حيث بقى إلى أن وافته المنية إذا استثنينا فترات قصيرة أقامها في فلورنس وبولونيا وسنتين أقامها في روما. وأسكنه لدوفيكو بيتاً أمده فيه بالوقود والحبوب، ورتب له خمسة عشر دوقة (375 دولاراً) في الشهر. وزين أندريا في خلال هذه المدة قصور ثلاثة مراكيز، وأمكنة صلاتهم، وبيوتهم الريفية. غير أنه لم يبق من ثمار كدحه في مانتوا غير المظلمات الذائعة الصيت في قصر الدوق، وبخاصة ما كان منها في بهو الخطيبين- دجلي اسبوزي Sala degli Sposi- التي سميت بهذا الاسم وزينت بمناسبة خطبة فيدريجو بن لدفيكو لمرجريت أميرة بافاريا. ولا يتعدى موضوع النقش صور الأسرة الحاكمة- المركيز، وزوجته، وأبنائه، وبعض الحاشية؛ ويرى فيها الكردنال فرانتشيسكو جندساجا يرحب به والده لدوفيكو عند عودة الحبر الشاب من رومة، ولكنها تمثل مجموعة من الصور التي أوفت على الغاية في واقعيتها، ومن بينها منتينيا نفسه الذي يبدو أكبر سناً مما هو في الحقيقة، لأنه لم يكن قد تجاوز وقتئذ الثالثة والأربعين، ولكنك تراه في صورته وقد تجعد وجهه وانتفخ ما تحت عينيه.
وكان لدوفيكو أيضاً يتقدم به العمر تقدماً سريعاً، وكانت السنون الأخيرة من حياته كدرة مفعمة بالمتاعب. فقد كانت ابنتان من بناته مشوهتي الخلق؛ وكانت الحرب قد استنفدت موارده؛ واجتاح وباء الطاعون مانتوا في عام 1478 حتى كاد يقضي على حياتها الاقتصادية؛ ونقص ارادات الدولة نقصاً كبيراً. وكان مرتب منتينيا من المرتبات الكثيرة التي لم تؤد زمناً ما إلى أصحابها، فبعث الفنان إلى لدوفيكو برسالة تقريع، ولكن المركيز رد عليه رداً رقيقاً يطلب إليه فيه أن يتذرع بالصبر؛ وانتهى وباء الطاعون، ولكن لدوفيكو لم يعش بعده. فلما خلفه ابنه فيدريجو (1478 - 1484) بدأ منتينيا العمل، وأتم في عهد جيان فرانتشيسكو بن فيدريجو (1484 - 1519)، أجمل أعماله كلها وهي صورة انتصار قيصر(19/149)
وكانت هذه الصور التسع المرسومة على القماش بالألوان الزلالية قد صممت قد تزدان بها قاعة فيتشيا Vecchia في قصر الدوق، ثم باعها دوق معسر من أدواق مانتوا إلى تشارلز الأول ملك إنكلترا، وهي الآن في قاعة هامبتن. ويصور هذا الفريز (1) الضخم البالغ طوله ثمانياً وثمانين قدماً موكباً من الجنود، والقسيسين، والأسرى، والعبيد، والموسيقيين، والمتسولين، والفيلة، والثران، والأعلام، وأنصاب الانتصار، والغنائم كلها تحف بالقيصر وهو راكب في مركبة تتواجه إلهة للنصر. ويعود منتينيا في هذه الصورة إلى موضوعه الأول المحبوب وهو روما القديمة، ويرسم مرة أخرى كما يعمل المثال، ولكن أشخاصه يجيشون وينبضون بالعمل؛ وتستطيع العين أن تتبع الصور رغم ما فيها من عشرات التفاصيل الجميلة حتى تنتهي إلى آخرها وهو حادث التتويج؛ وقد اجتمع في هذا العمل المجيد كل ما وهبه الفنان من جمال التأليف، والرسم، والمنظور، والملاحظة الدقيقة، فأصبح بذلك خير آيات هذا الفنان العظيم.
واستجاب منتينيا في السبع السنين التي انقضت بين بداية صورة انتصار قيصر والانتهاء منها إلى دعوة من إنوسنت الثالث، وصورة عدة مظلمات (1488 - 1489) بادت كلها فيما باد بفعل عوادي الزمن في روما. لكن منتينيا أخذ يشكو من شح البابا، بينا كان البابا يشكو من قلة صبره، فعاد إلى مانتوا، واختتم حياته الكثيرة الإنتاج بمائة صورة في موضوعات دينية؛ أخذ فيها ينسى قيصر ويعود إلى المسيح. وأشهر هذه الصور كلها وادعاها إلى النفور صورة المسيح الميت Cristo Morto ( المحفوظة في بريرا)، وتمثل المسيح راقداً على ظهره، وقد رسمت قدماه كبيرتين في مقدمة الصورة ومتجهتين نحو الناظر؛ وهو يبدو فيها أشبه بجندي مغامر مأجور منه بإله خارت قواه.
_________
(1) الفريز لفظ معرب ومعناه قماش الصوف الخشن. (المترجم)(19/150)
وأخرج منتينيا في شيخوخته صورة وثنية أخيرة، فقد تخلى في صورة بانسس Parnassus المحفوظة في متحف اللوفر عما اعتاده قبل من تصوير الحقيقة لا الجمال، فقد استسلم ساعة من الزمن للأساطير المنافية للأخلاق، ورسم صورة عارية لفينوس على عرشها فوق جبل بارنسس بجوار المريخ حبيبها المحارب، وصور في أسفل الجبل أبلو وربات الفنون يمجدان جمالها بالرقص والغناء. وأكبر الظن أن إحدى تلك الربات هي الدرة اليتيمة إزبلا دست زوجة جيان فرانتشيسكو وكانت وقتئذ أعظم سيدات البلاد.
وكانت هذه آخر صور منتينيا العظيمة، وكانت السنون الأخيرة من حياته قد خيم عليها الحزن بسبب ضعف صحته، وحدة أخلاقه، وتراكم الديون عليه. وقد ساءه ما كانت تدعيه إزبلا لنفسها من حقها في فرض دقائق الصور التي تطلب إليه رسمها؛ ولهذا آثر العزلة وهو غاضب ناقم، وباع معظم مجموعاته الفنية وانتهى به الأمر أن باع بيته. ووصفته إزبلا في عام 1505 بأنه: "يستسلم للبكاء والاضطراب؛ غائر الوجه إلى حد يبدو معه أقرب إلى الموت منه إلى الحياة" (3). ومات بعد عام من ذلك الوقت في سن الخامسة والسبعين. وأقيم على قبره في سانت أندريا تمثال نصفي من البرنز لعله من صنع منتينيا نفسه في فنه مدى نصف قرن من الزمان، حتى إنهدت قواه وتشعبته الأحزان. ذلك أن الذين يبغون "الخلود" يجب أن يبتاعوه بحياتهم.(19/151)
الفصل الثالث
أولى سيدات العالم
أولى سيدات العالم La prima donna Mondo- هكذا كان الشاعر نيقولو دا كريجيو يسمى إزبلا دست (4). وكان الكاتب القصصي بنديلو يراها "صاحبة السيادة بين النساء" (5)، ولم يكن أريستو Ariosto يعرف أي الصفات في "إزبلا الكريمة الجليلة" أجدر بالثناء، جمالها الفتان، أو تواضعها، أو حكمتها أو مناصرتها الآداب والفنون. فقد كانت تتصف بمعظم المزايا والمفاتن التي جعلت المرأة المتعلمة في عصر النهضة إحدى تحف التاريخ النادرة. وكانت ذات ثقافة واسعة متنوعة دون أن تكون "من العلماء" ودون أن تفقد شيئاً من جاذبية النساء. ولم تكن ذات جمال رائع غير عادي؛ وكان الذي يعجب به الرجال فيها هو حيويتها، وسمو روحها، وقو تقديرها، وكمال ذوقها. وكان في مقدورها أن تركب الخيل طول النهار ثم ترقص طوال الليل، وأن تظل في كل لحظة ملكة حاكمة. وكانت تستطيع أن تحكم مانتوا بكياسة وعقل يختلفان عن كياسة زوجها وعقله، ولما أدركه الضعف في سنيه الأخيرة، أمسكت بزمام دولته الصغيرة وحالت بينها وبين أن تتشتت على الرغم من أخطائه، وتجواله، ومرض الزهري الذي أصيب به. وكانت تراسل أعظم الشخصيات في زمانها مراسلة الند للند؛ وكان البابوات والأدواق يسعون لصدقاتها، والحكام يفدون على بلاطها، وأرغمت كل فنان على أن يعمل لها، وألهمت الشعراء وأن يتغنوا بها؛ وأهدى إليها بمبو Bembo، وأريستو، وبرناردو ومؤلفاتهم، وإن كانوا يعرفون ضيق مواردها المالية. وكانت تجمع الكتب والتحف الفنية(19/152)
بحكمة العالم ودقة الخبير الماهر؛ وكانت أينما ذهبت تكون هي المصدر الذي يشع الثقافة، والمثل الذي يحتذي في إيطاليا كلها.
وكانت من آل إستنسي Estensi- الأسرة النابهة التي أنجبت أدواقاً لفيرارا، وكرادلة للكنسية؛ ودوقة لميلان. وقد ولدت إزبلا في عام 1474 وكانت تكبر أختها بيتريس بعام. وكان والدها إركولى Ercole الأول صاحب فيرارا، وأمهما إليانورا أميرة أرغونة وابنة فيرانتي Frrante الأول ملك نابلي؛ وقد رزقا خير الأبناء. وأرسلت بيتريس إلى نابلي لتتقن أساليب النشاط والمرح في بلاط جدها، ونشئت إزبلا وسط العلماء، والشعراء، وكتاب المسرحيات؛ والموسيقيين، والفنانين الذين جعلوا من فيرارا في وقت ما أبهى العواصم الإيطالية.
وكانت وهي في السادسة من عمرها ذات ذكاء نادر أكثر مما تؤهله لها سنها ويدهش له الدبلوماسيون؛ وها هو ذا بلترامينو كاساترو Beltramino Cusatro يكتب عنها إلى المركيز فيدريجو صاحب مانتوا عام 1480: "لم أكن أتصور قط أن شياً من هذا مستطاع" (6). وظن فيدريجو أن هذه غنيمة طيبة ينالها ابنه فرانتشيسكو، فخطبها من والدها؛ ووافق إركولي على هذه الخطبة لأنه كان في حاجة إلى معونة مانتوا على البندقية، ووجدت إزبلا نفسها وهي في السادسة من عمرها مخطوبة لغلام في الرابعة عشرة. وبقيت عشرة أعوام أخرى في فيرارا تتعلم كيف تخيط وتغني، وتكتب الشعر الإيطالي والنثر اللاتيني، وتعزف على البيان العود، وترقص بخفة ورشاق يخيل إلى من يراها أن لها جانحين لا تراهما العين. وكانت ذات وجه أبيض صاف وعينين سوداوين براقتين، أما شعرها فكان أشبه بشبكة من خيوط الذهب. ولما بلغت السادسة عشرة من عمرها غادرت مسارح طفولتها السعيدة، وأصبحت بحق مركيزة مانتوا فخورة بهذا المركز السامي.(19/153)
أما جيان فرانتشيسكو فكان كالح الوجه أشعث الشعر، مولعاً بالصيد، متهوراً في الحرب والحب. وكان في سنيه الأولى يعنى بشئون الحكم، واستبقى منتينيا وغيره من العلماء في بلاطه وأخلص لهم. وقد حارب في فورنوفو Fornovo بشجاعة تعدو حدود الحكمة، ثم أرسل إلى شارل الثامن معظم المغانم التي استولى عليها في خيمة الملك بعد فراره؛ ولسنا نعلم أكان الباعث على هذا هو الشهامة والمروءة أم التبصر وحسن التدبر. وقد أطلق العنان لشهواته الجنسية كما هي عادة الجنود، وبدأت خيانته لزوجته أثناء الوضع الأول. وبعد سبع سنين من زواجه سمح لعشيقته تيودورا أن تظهر في حفل برجاس في بريشيا بثياب لا تكاد تفترق عن الثياب الملكية، وكان هو فيه من بين اللاعبين. وربما كانت إزبلا ملومة بعض اللوم من هذه الناحية: فقد اعتراها بعض السمن، وشرعت تقوم بزيارات طويلة إلى فيرارا، وأربينو، وميلان؛ ولكن أياً كان حظها من اللوم فإن المركيز لم يكن ممن يطيقون الاقتصار على زوجة واحدة. وصبرت إزبلا على مغامراته صبر الكرام، ولم يعرها الالتفات جهرة، وظلت زوجة وفية، تسدى إلى زوجها النصح السديد في السياسة، وتسعى لتحقيق مصالحه بفضل ما أوتيت من حذق دبلوماسي ومن فتنة. ولكنها كتبت إليه في عام 1506 - وكان وقتئذ يتولى قيادة جنود البابا- كلمات قليلة أشعرته فيها بما تحسه من أذى، قالت: "لست في حاجة إلى من يجعلني أقسم بأنك يا صاحب العظمة قد قل حبك لي في الأيام الأخيرة. على أنه لما كان هذا من الموضوعات غير المحببة فإني لن ... أقول أكثر من هذا" (7). وكان من بواعث اهتمامها بالفن، والأدب، والصداقة أنها تحاول بذلك نسيان الفراغ المرير الذي تعانيه في حياتها الزوجية.
وليس في كل ما تتكشف عنه النهضة من متع كثيرة ما هو أجمل من روابط الود والحنان التي كانت تربط إزبلا، وبيتريس، وإلزبتا جندساجا(19/154)
زوجة أخي إزبلا؛ وقلما نجد في أدب النهضة ما هو أجمل من رسائل الحب المتبادلة بينهن. لقد كانت إلزبتا ضعيفة الجسم ميالة إلى الجلد، وكثيراً ما كان يعتريها المرض؛ أما إزبلا فكانت مرحة، حلوة الفكاهة، متوقدة الذكاء، أكثر اهتماماً بالأدب والفن من إلزبتا وبيتريس؛ ولكن حسن الذوق وكمال العقل جعلا هذا الاختلاف في الأخلاق يكمل بعضه بعضاً؛ وكانت إلزبتا تحب المجيء إلى مانتوا، كما كانت صحتها تشغل بال إزبلا أكثر مما تشغل بالها صحتها هي نفسها، وكانت تتخذ كل الوسائل التي تمكنها من شفاء علتها. ولكن إزبلا كانت تتصف بشيء من الأنانية التي لا نجدها قط في إلزبتا؛ فقد كانت تطاوعها نفسها بأن تطلب إلى سيزاري بروجيا أن يعطيها صورة كيوبد التي صورها ميكل أنجيلو، والتي اختلسها بروجيا بعد استيلائه على أربينو موطن إلزبتا. ولما سقط لدوفيكو المورو (المغربي) زوج أختها الذي حبها بكل ما يتطلبه النبل، والشهامة سافرت إلى ميلان، ورقصت في أقامها لويس الثاني عشر قاهراً لدوفيكو. على أن هذا العمل قد يكون هو الوسيلة النسوية التي لجأت إليها لتنجي بها مانتوا من الغضب الذي أثاره زوجها بصراحته غير الحكيمة في نفس لويس، ولقد كانت خطتها الدبلوماسية تقتضي منها الاشتراك في ما يقوم بين الدول من صلات الغرام في زمانها وزماننا نحن. أما فيما عدا هذا فكانت امرأة صالحة، وقلما كان في إيطاليا رجل لا يسره أن يخدمها، وكتب لها بمبو يقول أنه "يرغب في أن يخدمها ويسرها كما لو كانت هي البابا نفسه" (8).
وكانت تتكلم اللغة اللاتينية أحسن مما تتكلمها أية امرأة أخرى في أيامها، ولكنها لم تتقن قط هذه اللغة؛ لما أن شرع ألدس مانوتيوس Aldus Manutius يطبع الكتب الممتازة من الآداب القديمة؛ كانت هي من أشد عملائه تحمساً لاقتنائها- وقد استأجرت العلماء لترجمة أفلوطرخس،(19/155)
وفيلوستراتس، كما استخدمت أحد علماء اليهود ليترجم لها مزامير من اللغة العبرية حتى تعرف على وجه التأكيد معناها الأصلي. وكانت إلى هذا تجمع الكتب المسيحية أيضاً، وتقرأ كتب آباء الكنيسة في شجاعة نادرة في تلك الأيام. والراجح أنها كانت تقتني الكتب اقتناء الجامعين الهواة أكثر من اقتناء القراء والعلماء؛ وكانت تجل أفلاطون، ولكنها كانت في الحقيقة تفضل قصص الغرام والفروسية التي كانت تلذ قراءتها لأريستو ومن على شاكلته في جيلها وتاسو Tasso وأمثالها في الجيل الذي يليه. وكانت تحب الزينة والحلي أكثر مما تحب الكتب والفن؛ وكانت نساء إيطاليا وفرنسا ينظرن إليها حتى في سنيها الأخيرة على أنها مرآة الطراز الحديث وملكة الذوق. وكان من أساليبها الدبلوماسية أن تؤثر في الشعراء؛ والكرادلة بشخصيتها الجذابة، وأناقة ملبسها، ورقي آدابها، وقوة عقلها مجتمعة. وكانوا يظنون أنهم يعجبون بواسع علمها أو حكمتها حين كانوا في الواقع الأمر يمتعون أنظارهم بجمالها أو حسن ثيابها، أو رشاقتها. وإنا ليصعب علينا أن نصفها بالتعمق في شيء اللهم إلا في قدرتها على الحكم. وكانت ككل معاصريها تقريباً تستمع إلى المنجمين، وتحدد بداية مشروعها بمواقع النجوم. وكانت تسلي نفسها بالأقزام، وتتخذهم جزءاً من بطانتها، وأمرت ببناء ست حجرات ومعبد في قصرها تناسب أحجامهم. وبلغ أحد هؤلاء الأقزام من قصرها (كما يقول أحد الفكهين) حداً لو أن الدنيا زاد مطرها بوصة واحدة لمات غرقاً. وكانت أيضاً مولعة بالكلاب والقطط، تختارها بذوق المربي الهاوي، فإذا ماتت أقامت لدفنها جنازة رهيبة يشترك فيها الأحياء من الحيوانات المدللة، مع كبار رجال البلاط وكبيرات سيداته.
وكان كاستلو (القصر) - أو الرجيو أو قصر الدوق Palazzo Ducale الخاضعة لحكمها خليطاً من المباني أقيمت في أوقات مختلفة وعلى طراز متباينة. ولكنها كلها على نمط الحصن الخارجي والقصر الداخلي الذين قامت عليهما(19/156)
المباني المشابهة له في فيرارا، وبافيا، وميلان، ويرجع تاريخ بعض أجزائه مثل قصر الرئيس Palazzo del Capitano إلى عهد الحكام من آل بوناكلزي Buonacolsi من رجال القرن الثالث عشر؛ أما الكاستلو سان جيورجيو (قصر القديس جرجس) فكان من منشآت القرن الرابع عشر. وكان الجزء المعروف ببهو الخطيبين من عمل لدوفيكو جندساجا ومنتينيا في القرن الخامس عشر؛ وأعيد بناء كثير من الحجرات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأعيدت زخرفة بعضها مثل بهو المرايا Sala degli Specchi خلال حكم نابليون، واختير لها كلها أظرف الأثاث، وكانت المجموعات الكبيرة من الحجرات السكن، وأبهاء الاستقبال، ومكاتب الإدارة، تطل على أقنية أو حدائق، أو نهر المنتشيو المتعرج الذي أشاد به فرجيل في شعره، أو البحيرات التي تحف بمدينة مانتوا. وكانت إزبلا تشغل في هذه المتاهة أجنحة تختلف باختلاف الأوقات، فكانت في سنيها الأخيرة تفضل شقة صغيرة مكونة من أربع حجرات ( camerini) تعرف باسم المرسم il Studiolo أو الفردوس li Paradiso؛ وقد جمعت في هذه الشقة وفي حجرة أخرى معها تسمى الكهف il Grotto كتبها وتخفها الفنية، وآلاتها الموسيقية- وكانت هذه نفسها تخفاً فنية جميلة.
وكان أعظم ما تهتم به في حياتها بعد عنايتها بالمحافظة على استقلال مانتوا ورخائها، وبعد روابط الصداقة في بعض الأحيان، هو جمع المخطوطات، والتماثيل؛ والصور الملونة والخزف الفني الرفيع، وقطع الرخام القديم، ومنتجات الصياغ الفنية الدقيقة، وكانت تستعين بأصدقائها؛ وتستخدم عمالاً خصوصيين في مختلف المدن من ميلان إلى رودس ليساوموا ويبتاعوا لها، وأن ينتهوا إلى كل ما يمكن العثور عليه من هذه اللقي والكنوز؛ وكان الذي يضطرها إلى المساومة هو أن خزانة دولتها الصغيرة تضيق عن تحقيق جميع آمالها. وكانت مجموعتها صغيرة، ولكن كل قطعة منها كانت(19/157)
من أجمل ما يوجد من نوعها، فقد كان لديها تماثيل من صنع ميكل أنجيلو، وصورة من صنع منتينيا، وبروجينو، وفرانتشيا Francia. على أنها لم تقنع بهذه فألحت على ليوناردو دافنتشي، وجيوفني بيلي أن يرسما لها بعض الصور، ولكنهما امتنعا عن الحضور بحجة أنها تعطي من الثناء أكثر مما تعطي من المال؛ وما من شك في أنه في أنه كان من أسباب هذا الامتناع إصرارها هي على أن تحدد بالدقة ما يجب أن تمثله كل صورة وما يجب أن تحتويه. وكانت في بعض الأحيان تستدين الأموال الطائلة لترضي رغبتها القوية بالحصول على إحدى الآيات الفنية كما فعلت حين أدت 115 دوقة (1875 دولاراً) إلى جان فان أيك Jan Van Eyck ثمناً لصورة عبور البحر الأحمر. على أنها لم تكن سخية على منتينيا، وإن كانت قد أقنعت زوجها بعد وفاة هذا العبقري الجبار أن يغري لورندسو كستا Lorenzo Costo بالمجيء إلى مانتوا نظير مرتب كبير. وزين كستا الملجأ المحبب لجيان فرانتشيسكو جندساجا، وقصر سان سبستيان، ورسم عدة صور للأسرة، كما رسم صورة متوسطة القدر للعذراء لتوضع في كنيسة سانت أندريا.
واستدعى جيوليو ببي Giulio Pippi في عام 1524 ورمانو Romano أعظم تلاميذ روفائيل، فأقام في مانتوا، وأدهش أفراد الحاشية بحذقه في العمارة والتصوير. وأعيد نقش قصر الدوق كله تقريباً حسب التصميمات التي وضعها له، وقام بهذا النقش هو تلاميذه- فرانتشيسكو بريماتشيو Franccsco Primaticcio، ونقولو دل أباتي Niccolo dell' Abbate، ميكل أنجيلو أنسيلمي Mickel Angelo Anselmi، وكان فيدريجو ابن إزبلا الحاكم في ذلك الوقت؛ وإذ كان هو قد اكتسب وهو في رومة، كما اكتسب رومانو؛ القدرة على التذوق الموضوعات الوثنية واستخدام الأجسام العارية في الزينة. فقد أمر بأن تصور على جدران عدة حجرات في قصره وعلى سقفها صوراً جذابة لأورورا Aurora، وأبلو، ومحاكمة باريس،(19/158)
واختطاف هلن Helen، وما إليها من أساطير قديمة. وشرع جويليون في عام 1525 ينشئ في أرباض المدينة أشهر أعماله كلها هو قصر التي Palazzo del Te (1) ويتكون هذا القصر من بناء مؤلف من طابق واحد على شكل مستطيع واسع الرقعة، بسيط التصميم، مشيد من كتل حجرية ذي نوافذ من طراز النهضة، يحيط ما كان في ماضي الأيام حديقة غناء، ولكنه الآن أرض قفرة مهملة من أثر الحرب العالمية الأخيرة. فإذا دخل الإنسان القصر لم يكد يفيق من دهشة إلا إلى دهشة: يجد فيه حجرات أفرغ عليها الذوق السليم زينة من عمد مربعة، وشرفات محفورة، وبندريلات (2) مصورة وسراديب ذات خزانات، وجدران، وسقف، وكوات وتمثل قصة الجبابرة وآلهة الأولمب، وكيوبد، وسيكي Psyche، وفينوس وأدنيس والمريخ، وزيوس وأولمبيا، كلها في صورة عارية رائعة، تنطق بذوق العهد المتأخر من عهود النهضة وما كان فيه من حب واستهتار. وأراد بريماتشيو أن يتوج هذه الروائع الفنية التي تمثل الشهوات الجنسية الطليقة، والكفاح والمهول الضخم، فصور في الجص موكباً منقوشاً فخماً من الجنود الرومان مماثلا للصورة التي رسمها ماتينيا صورة انتصار قيصر ولا تكاد تقل عن نحت فدياس نفسه. ولما أن دعا فرانسس الأول بريماتشيو، ودل أباتي إلى فنتينبلو Fontainebleau، جاءا إلى القصر ميلك فرنسا بهذا الطراز من النقش ذي الأجسام الوردية العارية التي أتى بها جويليو رومانو إلى مانتوا من صورة التي رسمتها في روما مع روفائيل، وهكذا شع الفن الوثني من حصن المسيحية الحصين إلى العالم.
وكانت السنون الأخيرة من حياة إزبلا فترة امتزج في كأسها الحلو بالمر،
_________
(1) إن اشتقاق هذا اللفظ ومعناه غير معروفين على وجه التحقيق.
(2) لفظ معرب يدل على المسافة بين المنحنى الخارجي لعقد الزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (عمارة) ويسمى بالإنجليزية spandrel.(19/159)
فقد كانت تساعد زوجها العليل على حكم مانتوا، وأنجتها براعتها الدبلوماسية من أن تقع غنيمة في يد سيزاري بورجيا، ثم في يد لويس الثاني عشر؛ ومن بعدهما في يد فرانسس الأول، وأخيراً في يد شارل الخامس. فقد استطاعت أن تلاطفهم واحداً بعد واحد، وأن تتملقهم وتسحرهم بمفاتنها، في الوقت الذي كان فيه جيان فرانتشيسكو أو فيوريجو على حافة الهاوية السياسية. وخلف فدريجو أباه في عام 1519، وكان قائداً محنكاً وحاكماً قديراً، ولكنه أجاز لعشيقته أن تحل محل أمه في السيطرة على بلاط مانتوا، ولعل إزبلا قد أرادت أن تبتعد عن هذه المهانة، فسافرت إلى روما (1525) لتطلب القبة الحمراء (1) لابنها إركولي. ووقف كلمنت السابع من طلبها هذا موقفاً سلبياً، ولكن الكرادلة رحبوا بها واتخذوا جناحها في قصر الكولنا Colonno، ندوة لهم، واحتجزوها هناك حتى ألفت نفسها سجينة في القصر أثناء انتهاب روما (1527). ولكنها نحتت بمهارتها المعتادة، وكسبت رتبة الكردنالية المرجوة لإركولي وعادت إلى مانتوا ظافرة.
وذهبت إلى مؤتمر بولونيا وكانت لا تزال فاتنة جذابة في سن الخامسة والخمسين، وخلبت عقل الإمبراطور والبابا، وساعدت أعيان أربينو وفيرارا على أن ينجوا إمارتيهم من الاندماج في الولايات البابوية، وأقنعت شارل الخامس أن يرقي فيدريجو إلى مرتبة الادواق. وأقبل تيشييان في ذلك العام نفسه على مانتوا، ورسم لها صورة ذائعة الصيت. ولسنا نعرف على وجه التحقيق مصير هذه الصورة، ولكن النسخة التي نقلها عنها روبنز Rubens تظهرها في شكل امرأة لا تزال في عنفوان الحياة، مولعة بها. ولما زارها بمبو بعد ثمان سنين من ذلك الوقت أذهله نشاطها ومرحها، ويقظة ذهنها، وكثرة ما تعنى به من الشئون، ووصفها بأنها "أكثر النساء حكمة وأحسنهن حظاً" (9)، ولكن حكمتها كانت أقل من أن تقنعها بقبول
_________
(1) رتبة الكردنالية. (المترجم)(19/160)
الشيخوخة راضية مبتهجة. ووافتها المنية في عام 1539 في سن الرابعة والستين، ودفنت مع حكام مانتوا السابقين في معبد مجلس السيادة Capella dei Signor بكنيسة سان فرانتشيسكو، وأمر أبنها بأن يقام لها قبر جميل تخليداً لذكراها ولحقها إلى الدار الآخر بعد عام واحد. ولما أن نهب الفرنسيون مانتوا في عام 1797 هدمت قبور أمرائها وأميراتها، واختلطت رفات من فيها بثرى الحطام.(19/161)
الباب العاشر
فيرارا
الفصل الأول
بيت إست
كانت أكثر مراكز النهضة نشاطاً في الربع الأول من القرن السادس عشر في فيرارا، والبندقية وروما. وليس في مقدور الطالب الذي يجول في أنحاء فيرارا أن يعتقد- إلا حين يدخل قصرها العظيم- أن هذه المدينة الهاجعة كانت قي يوم من الأيام موطن أسرة قوية، بلاطها أفخم بلاط في أوربا، وأن من بين الذين كانوا يتقاضون معاشاً من حكمها أعظم شاعر في ذلك العصر.
وكان من أسباب نشأة هذه المدينة موقعها على الطريق التجاري بين بولونيا والبندقية، ومنها الإقليم الزراعي الواقع من خلفها والذي جعل منها سوقاً تباع فيها غلاته؛ هذا إلى أن المدينة نفسها قد أصابت غنى كثير بوقوعها عند ملتقى ثلاثة فروع من نهر البو. وقد ضمت إلى الإقليم الذي منحه بيبين الثالث إلى البابوية (756)، والذي منحها إياه شارلمان (773)، والذي أعطته الكونتة ماتلدا التسكانية إلى الكنيسة (1107). وكانت المدينة تقر من الوجهة الرسمية بأنها إقطاعية بابوية ولكنها كانت تحكم نفسها بوصفها "قومونا" مستقلاً تسيطر عليه أسرة غنية من التجار. ولما اضطربت أحوالها بسبب هذه المنازعات قبلت الكونت أتسو Azzo السادس صاحب إست Este حاكماً عليها مطلق السلطة (بودستا Podesta) ، (1208)(19/162)
وجعلت هذا المنصب وراثياً في أبناء من بعده. وكانت إست هذه إقطاعية صغيرة تابعة للإمبراطور، على بعد أربعين ميلا أو نحوها من فيرارا، وكان الإمبراطور أتو Otho الأول قد وهبها للكونت أتسو الأول صاحب كانوسا (961)؛ وأصبحت في عام 1056 مركز هذه الأسرة، وما لبثت أن تسمت باسمها؛ ونشأت من هذا البيت التاريخي فيما بعد الأسرتان الحاكمتان في برنزويك وهانوفر.
وحكم أفراد هذه الأسرة فيرارا من 1208 إلى 1597، وكانوا من الناحية الرسمية اتباعاً من للإمبراطور والبابوية، ولكنهم كانوا من الناحية الفعلية حكاماً مستقلين، يحملون لقب مركيز ثم بدل هذا اللقب بعد عام 1470 بلقب دوق.
ونعم الناس في حكمهم بالرخاء إلى حد ما، وأمدوا البلاط بحاجاته وأسباب ترفه، فاستطاع أن يستضيف الأباطرة والبابوات، وأن يحتفظ بحاشية كبير من العلماء، والفنانين، والشعراء، والقسيسين. واستطاع آل إستنسي أن يحتفظوا بولاء رعاياهم خلال أربعة قرون؛ ولما أن أخرجهم مندوب من قبل البابا كلمنت الخامس ونادى بفيرارا ولاية تابعة للبابا (1311)، وجد الناس أن حكم الكنيسة أثقل عليهم من استغلال رجال الدنيا، فطردوا المندوب البابوي وردوا السلطة إلى أسرة إستنسي (1317)، وأصدر البابا يوحنا الثاني والعشرون قرار "الحرمان" على المدينة؛ فلما حرمت على الأهلين الشعائر الدينية المقدسة بدءوا يتذمرون؛ وسعى آل إستنسي لاسترضاء الكنيسة ونالوا رضاها بشروط قاسية: فاعترفوا أن فيرارا إقطاعية بابوية، يحكمونها بوصفهم مندوبين عن البابوات، وتعهدوا بأن يؤدوا هم وخلفائهم إلى البابوية من مال الدولة جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوقة (250. 000؟ دولار) (1).
ووصل بيت إست إلى ذروة مجده أثناء حكم نقولو الثالث الذي دام(19/163)
زمناً طويلاً فلم تكن هذه الأسرة تحكم فيرارا وحدها بل كانت تحكم معها روفيجو Rovigo، ومودينا، وروجيو وبارما، بل إنها حكمت أيضاً ميلان فترة قصيرة. وتزوج نقولو عدداً كثيراً من النساء واحدة بعد أخرى، وكان له أيضاً عدد من الخليلات؛ وكان من بين زوجاته واحدة ذات جمال بارع محبوبة من الشعب تدعى باريزينا مالاتيستا Parisina Malatesta، وكانت ترتكب الفحشاء مع أوجو Ugo ابن زوجها، وأمر نقولو بقطع رأسيهما (1425)، كما أمر بأن تقتل كل من يثبت عليها الزنى من نساء فيرارا، فلما تبين أن هذا الأمر سيهدد فيرارا بالإقفار من السكان، غض النظر عنه. وكان حكم نقولو في ما عدا هذا حكماً طيباً، فقد خفض الضرائب، وشجع الصناعة والتجارة، واستقدم ثيودورس جادسا Theodorus Gaza لتدريس اللغة اليونانية في جامعة المدينة، وعهد إلى جوارينو دا فيرونا Gurino da Verona أن ينشئ في فيرارا مدرسة تضارع في شهرتها ونتائجها مدرسة فتوريتو دا فلتري في مانتوا.
وكان ليونيلو Leonello بن نيقولو شخصية فذة نادرة (1441 - 1450)، كان رحيماً وقوياً، ظريفاً وقادراً، ذكياً وعملياً، تدرب على جميع فنون الحرب، ولكنه كان محباً للسلم، وكان هو المحكم المحبوب ورسول السلام بين زملائه حكام إيطاليا. وقد علمه جوارينو العلوم والآداب فأصبح قبل لورندسو ده مديتشي بجيل من الزمان من أعظم رجال ذلك العصر ثقافة حتى لقد دهش العالم فيليلفو من اتقان ليونيلو اللغتين اللاتينية واليونانيو، وعلوم البيان والشعر، والفلسفة والقانون. وكان هذا المركيز أول من أشار من العلماء بأن الرسائل المزعومة التي كتبها القديس بولس إلى سنكا مزورة (2). وقد أنشأ مكتبة عامة، وأمدها بالمال والنفوذ، وعين في هيئة التدريس بها خير من يستطيع العثور عليهم من العلماء، وكان يشترك اشتراكاً فعلياً في(19/164)
مناقشاتهم. ولم يلوث حكمه بشيء من الدنايا أو سفك الدماء أو المآسي، اللهم إلا قِصَره المفجع، ولما مات في سن الأربعين حزنت عليه إيطاليا بأجمعها.
وجاءت من بعده طائفة متتابعة من الحكم حافظوا على العصر الذهبي الذي بدأه ليونيلو. وكان أخوه بورسو Borso (1450 - 1471) ، أصلب منه عوداً، ولكنه استمسك بسياسة السلم، وزاد رخاء فيرارا في أيامه زيادة حسدتها عليه سائر الدول. ولم يكن يعنى بالأدب والفنون، وإن كان قد ساعدها بالمال مساعدة قيمة، وحكم دولته بمهارة وعدالة نسبية، ولكنه حمل أهلها ضرائب فادحة، وأنفق كثيراً منها في أبهة البلاط ومظاهره. وكان يحب الألعاب الفخمة والرتب العالية، ويتوق إلى أن يكون دوقاً مثل آل فسكونتي في ميلان، واستعان بالمنح السخية حتى أقنع الإمبراطور فردريك الثالث بأن يخلع عليه لقب دوق مودينا ورجيو (1452) وأقام لهذه الناسبة احتفالاً فخماً أنفق فيه أموال طائلة، وبعد تسع سنين من ذلك الوقت حصل من سيده الإقطاعي الثاني البابا بولس الثالث على لقب دوق فيرارا. وذاع صيته في عالم البحر المتوسط، وبعث إليه حكام بابل وتونس المسلمون بالهدايا، ظناً منهم أنه أعظم حاكم في إيطاليا.
وكان بورسو سعيداً بأخويه: ليونيلو الذي ضرب له أحسن المثل، وإركولى الذي أبى أن يكون له نصيب في المؤامرة تهدف إلى خلعه، وظل معينه الوفي إلى آخر أيامه ثم ورث السلطة من بعده. وظل إركولى يحكم ست سنين حافظ على السلم، وأبهة الحكم، وناصر الشعر والأدب، وفرض الضرائب الباهظة، وقوى رابطة الصداقة مع نابلي بزواجه من إليانورا أميرة أرغونة وابنة الملك فيرانتي، واستقبلها في بلده بأعظم الحفلات التي شهدتها فيرارا (1473) وأكثرها بذخاً، ولكن إركولى انضم إلى فلورنس(19/165)
وميلان ضد نابلي والبابوية في عام 1478 حين أعلن سكستس الرابع الحرب على فلورنس لأنها عاقبت المشتركين في مؤامرة باتسي Pazzi؛ ولما وضعت الحرب أوزارها، حمل سكستس مدينة البندقية على الانضمام إليه في هجومه على فيرارا (1482). وبينما كان إركولى طريح الفراش، زحف جنود البندقية حتى صاروا على بعد أربعة أميال من المدينة، وهرع الفلاحون الذين أخرجوا من ديارهم وأرضهم وازدحموا داخل أسوار المدينة، وشاركوا أهلها في مجاعتهم. ثم أخشى البابا صاحب المزاج المتقلب أن تصبح فيرارا ملكاً للبندقية لا للبابوية ولا لابن أخيه، فعقد الصلح مع اركولى، وارتد البنادقة إلى أمواه بلدهم واحتفظوا بروفيجو.
ووزعت الحقول من جديد، وجاء الطعام إلى المدينة، ونشطت التجارة مرة أخرى، واصبح من المستطاع أن تجني الضرائب. وشكا إركولي من أن الغرامات التي تنتزع من الخارجين على الدين أخذت تنقص عن معدلها البالغ ستة آلاف كرون في العام (150. 000 دولار)، ولم يكن يعتقد أن الناس قد أصبحوا أكثر صلاحاً من ذي قبل، وطالب باستخدام الشدة في تنفيذ القانون (3). وكان سبب هذا حاجته الملحة إلى المال لأنه رأى أن السكان زاد عددهم عما تتسع له المدينة، فألحق بها مدينة أخرى لا تقل عنها سعة، وقد خطط هذه المدينة الإضافية تخطيطاً راعى فيه أن تكون شوارعها واسعة مستقيمة لم تر أية مدينة إيطالية أخرى مثلها منذ أيام الرومان. وبذلك كانت فيرارا الجديدة "أول مدينة حديثة بحق في أوربا" (4). ولم تمض إلا عشر سنين حتى امتلأت بالسكان الذين نزحوا من المدينة القديمة، وأقام إركولي فيها الكنائس، والقصور، والأديرة، وأغرى نساء الدين بأن يتخذن فيرارا موطناً لهن.
وكان مركز حياة الشعب في المدينة هو الكتدرائية، أما الصفوة المختارة فكانت تفضل عنها القصر الكبير الذي بناه نقولو الثاني (1383) لحماية(19/166)
الحكومة من العدوان الخارجي أو الثورة الداخلية، ولا تزال أبراج هذا الحصن الضخمة تشرف على ميدان المدينة الأوسط. وفي أسفله الجباب التي مات فيها باريسينا Parisina وكثيرون غيره، ومن فوقها الأبهاء الواسعة التي زخرفها دسو دسي Dosso Dossi ومساعدوه، والتي كان يعقد فيها الأدواق والدوقات مجالسهم ومجالسهن، ويعزف فيها الموسيقيون ويغنون، ويثب فيها الأقزام، وينشد فيها الشعراء قصائدهم، ويلقى فيها المهرجون نكاتهم العجيبة، ويطلب فيها الذكور الإناث، ويرقص فيها السيدات والفرسان طول الليل، وفي الأيام والحجرات الأكثر هدوءاً تقرأ الفتيات والفتيان روايات الفروسية والغرام. وفي هذا الجو ولدت إزبلا وبيتريس دست لإركولي ولإليانور في عامي 1474 و 1475 ونشأتا كما تنشأ أميرات الجان يكتنفهما الثراء، والأعياد، والحرب، والأغاني، والفن. ولكن جداً حنوناً محباً أغرى بيتريس بالحرحيل إلى نابلي، وخطيباً دعاها إلى ميلان، وفي السنة التي خطبت فيها بيتريس وهي سنة 1490 رحلت إزبلا إلى مانتوا. وأحزن سفرهما كثيرين من أهل فيرارا، ولكن زواجهما قوى رابطة الحلف بين آل استنسي من جهة واسفوردسا وجندساجا من جهة أخرى. ونصب إبوليتو أحد أبناء الفنانين الكثيرين كبير أساقفة وهو في الحادية عشرة من عمره، وكردنالاً في الرابعة عشرة من عمره، وأصبح من أكثر رجال الدين ثقافة وأفسدهم أخلاقاً في أيامه.
وإن الأنصاف ليقتضينا حين نتحدث عن هذه المناصب الكنسية ومن يعينون فيها دون مراعاة الكفاية والسن أن نقول إنها كانت جزءاً من الأحلاف الدبلوماسية في ذلك الوقت. ومثال ذلك أن أسكندر السادس الذي جلس على كرسي البابوية منذ عام 1492 كان يحرص على استرضاء إركولي لأنه كان يهدف إلى جعل ابنته لكريدسيا بورجيا دوقة فيرارا. فلما عرض على إركولي أن يتزوج ألفنسو ابن الدوق وولي عهده لكريدسيا، قابل إركولي(19/167)
هذا العرض بفتور، لأن لكريدسيا لم تكن سمعتها قد طهرت كما هي مطهرة الآن. ثم قبل الاقتراح آخر الأمر، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد أن انتزع من الأب الملح شروطاً أنطقت الاسكندر بأنه تاجر مساوم. وكان من هذه الشروط أن يمنح البابا لكريدسيا بائنة قدرها مائة ألف دوقة (1. 250. 009؟ دولار)؛ وأن تخفض الجزية السنوية التي تؤديها فيرارا للبابوية من أربعة آلاف مكورين إلى مائة (1250؟ دولار)؛ وأن يثبت البابا دوقية فيرارا لألفنسو وورثته إلى أبد الدهر. وظل ألفنسو متمتعاً رغم هذا كله حتى شاهد عروسه، وسنرى فيما بعد كيف كان استقباله إياها.
وارتقى عرش الدوقية في عام 1505، وكان طرازاً جديداً من آل إستنسي. ذلك أنه قبل ارتقائه العرش قد سافر إلى فرنسا، والأراضي الوطيئة، وإنجلترا، ودرس الأساليب الفنية للتجارة والصناعة، فلما تم له الأمر ترك للكريدسيا مناصرة الفنون والآداب، وصرف جهوده في إدارة دولاب الحكومة وصنع الآلات، وقرض الشعر. وقد صنع بنفسه إناء رقيقاً منقوشاً من الخزف الرفيع، كما صنع أحسن أنواع المدافع في وقته، ودرس فن التحصين، حتى أصبح عمدة هذا الفن والمرجع الذي تعتمد عليه فيه جميع أنحاء أوربا. وكان في الأحوال العادية حاكماً عادلاً، عامل لكريدسيا بعطف وحنان على الرغم من رسائلها الغزلية، لكنه كان يطرح العواطف جانباً حين يعامل عدواً خارجياً أو يقمع فتنة داخلية.
وحدث أن افتتن اثنان من إخوة الفنسو هما إبوليتو وجويليو بوصيفة من وصيفات لكريدسيا تدعى أنجيلا، كما حدث أن اندفعت أنجيلا دون روية وفي ساعة من ساعات كبريائها وغطرستها فعيرت ابوليتو بأن قالت له أنه هو كله أقل قيمة عندها من عيني أخيه، فما كان من الكردنال إلا أن قطع الطريق هو وجماعة من القتلة المأجورين على أخيه، ووقف يشاهد أعوانه وهم يقتلعون عيني جويليو بالعصي (1506)، وطلب(19/168)
جيويليو إلى ألفنسو أن يأخذ له بحقه، فنفى الدوق الكردنال، ولكنه لم يلبث أن سمح له بالعودة. وآلم جويليو ذلك الإهمال البادي للعيان من جانب الفنسو فأتمر مع أخ آخر يدعى فيرانتى على قتل الدوق والكردنال جميعاً، لكن المؤامرة كشفت، وزج جويليو وفيرانتي في سجون القصر الانفرادية، حيث مات فيرانتي في عام 1540، أما جويليو فقد عفا عنه ألفنسو الثاني في عام 1558 بعد خمسين عاماً من الحجز البسيط، لكنه خرج من اعتقاله شيخاً طاعناً بالسن، أبيض شعر الرأس واللحية، يلبس ثياباً من الطراز الذي كان سائداً منذ خمسين عاماً، ووافته المنية بعد أن أطلق سراحه بزمن قليل.
وكانت صفات ألفنسو هي الصفات التي تتطلبها حكومته، ذلك بأن البندقية كانت توسع رقعة أملاكها بضم أجزاء من رومانيا Romangna، وكانت تحيك الدسائس للاستيلاء على فيرارا، ولم يكن يوليوس الثاني البابا الجديد راضياً عن الامتيازات التي منحها سلفة أسرة إستنسي بمناسبة زواج لكريدسيا، فاعتزم أن يحط منزلة الإمارة فيجعلها إقطاعية خاضعة لأمره تزوده بالإيراد لا أكثر. وحدث في عام 1508 أن استطاع يوليوس إقناع ألفنسو بالانضمام إليه هو وفرنسا وإسبانيا في سعيهم لإخضاع البندقية.
وكان من أسباب موافقة ألفنسو أنه كان شديد الرغبة في استرداد روفيجو من البندقية. وركز البنادقة هجومهم على فيرارا، وسيروا أسطولهم في نهر البو، ولكن مدفعية ألفنسو المختفية عن الأنظار هزمت هذا الأسطول، ثم مني جيش البندقية بهزيمة ساحقة على يد جنود فيرارا يقودهم إبوليتو الذي لم يكن يفوق استمتاعه بالحرب إلا استمتاعه بالنساء. ولما لاح أن البندقية قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة عقد يوليوس معها الصلح وأمر ألفنسو أن يحذو حذوه لأنه لم يشأ أن يضعف البنادقة وهم أقوى خطوط الدفاع ضد الأتراك ضعفاً لا قيام لهم بعده. لكن ألفنسو(19/169)
لم يجب يوليوس إلى ما طلب، وما لبث أن ألفى نفسه مشتبكاً في الحرب مع عدوه ومع من كان إلى وقت قريب حليفاً له. وسقطت رجيو ومودينا في أيدي الجيوش البابوية، وبدا أن ألفنسو خاسر لا محالة. فلجأ في باسه إلى روما، وسأل البابا عن شروط الصلح، فطلب إليه البابا أن ينزل آل إستنسي جميعاً عن العرش، وأن تنضم فيرارا إلى الولايات البابوية، فلما رفض ألفنسو هذه المطالب حاول يوليوس أن يقبض عليه، ولكن ألفنسو تمكن من الهرب، وقضى ثلاثة شهور يجول متنكراً معرضاً للأخطار حتى وصل إلى عاصمته. ومات يوليوس في عام 1513، وأسترد ألفنسو رجيو ومودينا، وواصل ليو العاشر حرب البابوية على فيرارا؛ ولم ينقطع ألفنسو في هذه الأثناء عن تحسين مدفعيته وتبديل أساليبه الدبلوماسية، فصمد في عناد شديد حتى مات ليو أيضاً (1521). وسوى البابا أدريان السادس الأمور تسوية شريفة مع الدوق الباسل الذي لا يقهر، وأتيحت لألفنسو فترة من الوقت وجه فيها مواهبه إلى فنون السلم.(19/170)
الفصل الثاني
الفنون في فيرارا
وكانت ثقافة فيرارا أرستقراطية خالصة، كما كانت فنونها على الدوام في خدمة القلة المختارة، ولم يكن لأسرة الدوق، التي لا تنقطع الحروب بينها وبين البابوية، ما يحملها على التمسك بأهداب الدين إلا أن تضرب بذلك أحسن مثال في التقي والصلاح للشعب الذي تحكمه، وقد شادت بعض الكنائس الجديدة، ولكنها لم تكن لها صفة الدوام. وقد أنشئ في الكتدرائية في القرن الخامس عشر برج غير ذي روعة، وموضع للمرنمين من طراز النهضة ذلك الوقت وأنصارهم كانوا يفضلون بناء القصور، ومن أجل هذا صمم بياجيو روسيتي Biagio Rossetti قصراً من أجمل القصور هو قصر لدوفيكو إل مورو (لدوفيكو المغربي)؛ وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها إن لأدوفيكو أمر ببنائه ظناً منه أنه قد يطرد يوماً ما من ميلان، وقد بقى دون أن يتم حين أخذ إلى فرنسا، ويعد فناؤه غير المسقف ذو البواكي البسيطة الرشيقة في الدرجة الثانية من دور النهضة. وأجمل منه الفناء الكبير الذي بنى لآل اسفوردسا (1499)، والذي يسمى الآن فناء بيفلكوا ( drinkwater) Bevilacqua نسبة إلى أحد ساكنيه المتأخرين. وأروع من هذا القصر على روعته قصر ديامنتي Palazzo de' Diamanti الذي وضع تصميمه روستي (1492) لسجسمند أخي الدوق إركولي، والذي اشتق أسمه من واجهته المكونة من 12. 000 عقدة رخامية على شكل الماس.
وكانت قصور الترف والمتعة طراز ذلك العصر، وكانت تطلق عليها(19/171)
أسماء غريبة للخيال فيها أكبر نصيب: بيلفيوري Belfiori، بلرجوارديو Belrguardio لاروتندا La Rotonda، بلفدير، وكان أعظم من هذه القصور كلها قصر آل إستنسي الصيفي المسمى "قصر اسكفانويا (تخطى الإزعاج) Paluzzo di Schifanoia" أو "بدون قلق San Souci" كما يريد فردريك الأكبر أن يسميه. وقد بدئ في إنشائه عام 1391، وأتمه بورسو في عام 1469، وكان يتخذ بيتاً من بيوت الحاشية ومسكناً لغير ذوي المنزلة الكبرى من أسرة الدوق. ولما ضعف شأن فيرارا حول القصر إلى مصنع للدخان، وطليت النقوش الجدارية التي رسمها كُسَّا، وتوراً Tura وغيرهما من المصورين في القاعة الكبرى بالجير. ثم أزيلت هذه الطبقة الجيرية في عام 1840 وأنقذت سبع من اللوحات الاثنتي عشر، وهي سجل حافل مدهش للأزياء، والصناعات، والمواكب، والألعاب في عصر، بورسو مختلطة اختلاطاً عجيباً بشخصيات من الأساطير الوثنية. وتعد هذه المظلمات من أحسن ما أنتجته مدرسة من مدارس التصوير ظلت نصف قرن من الزمان تجعل فيرارا أحفل مراكز الفن الإيطالي بالنشاط.
وظل مصورو فيرارا خاضعين للتقاليد الجيوتسكية حتى نفض عنهم نقولو الثالث هذا الركود باستقدام فنانين أجانب لمنافستهم- ياقوبو بليني من البندقية؛ ومنتينيا من بدوا، وبيزانيلو من فيرونا. وأضاف ليونيلو قوة جديدة إلى هذا الحافز حين رحب بروجير فان درويدن (1449) الذي كان ممن جهدوا المصورين الإيطاليين إلى استعمال الزيت. واقبل في هذا العام نفسه بيرو دلا فرانتشيسكا من بورجوسان سبيلكر Borgo san Selqocro ليرسم صورة جدارية (فقدت الآن) في قصر الدوق. وكان الذي كون آخر الأمر مدرسة التصوير في فيرارا هو دراسة كوزيمونورا الحماسية لمظلمات منتينيا في بدوا والصناعة الفنية التي كان فرانتشيسكو سكوارا تشيوني يعلمها في تلك المدينة.(19/172)
واختير تورا مصوراً للبلاط عند بورسو (1458) ورسم عدة صور لأسرة الدوق، واشترك في تصوير قصر اسكفانويا، ونال من الثناء ما جعل والد رفائيل في مصاف زعماء الفن في إيطاليا. ويبدو أن جيوفني سانتى كان يعجب بشخوص كوزيمو المكتئبة، وبالخلفيات المعمارية التي كان يرسمها لصوره، وبمناظره الطبيعية المحتوية على أشكال غريبة من الصخور ولكن رفائلو سانتى لو اطلع على هذه الصور لما وجد فيها شيئاً من عناصر الدقة والرشاقة التي نجدها في صور إركولي ده روبيرتي Ercole de' Roberti تلميذ تورا الذي خلف معلمه في منصب مصور الحاشية عام 1495، ولكن هذا المصور الجبار كانت تنقصه القوة والحيوية إلا إذا استثنينا من هذا التعميم الحفلة الموسيقية المحفوظة في معرض الصور في لندن والتي هي من صنع فرانز هلزيان Frans Halsian، وإن كانت في ما مضى تعزى إلى إركولي هذا. ورسم فرانتشيسكو كسا أعظم تلاميذ تورا على الإطلاق في قصر اسكفانويا آيتين فنيتين جمعتا قدراً كبيراً من الحيوية والرشاقة وهما: انتصار فينوس والسباق وهما صورتان تكشفان عن فتنة الحياة وبهجتها في بلاط فيرارا. ولما أن أدى إليه بورسو أجر الصورتين بالسعر الرسمي- أي عشر بولنينات bolognini عن كل قدم من الجزء المصور- احتج كستا على هذا، ولما عجز بورسو عن أن يدرك ما في احتجاجه من قوة حول فرانتشيسكو كسا مواهبه الفنية إلى خدمة بولونيا (1470). وفعل لورندسو كستا هذا الفعل نفسه بعد ثلاثة عشر عاماً من ذلك الوقت وخسرت بذلك مدرسة فيرارا الفنية رجلين من خيرة رجالها.
غير أن دسودسي بعث فيها بعض الحياة بدراسته الفنية في البندقية وقت أن كان جيور جيوني في أوج مجده (1477 - 1510). ولما عاد إلى فيرارا أصبح هو مصور ألفنسو الأول المقرب؛ وكان صديقه أريستو ويضعه هو وأخاً له بين رجال الفن الخالدين.(19/173)
وفي وسعنا أن نفهم لم كان يحب دوسو، الذي أدخل في صوره عناصر من الحياة الخلوية تكاد تكون إيضاحاً لملحمة أريستو الغابية، وغمرها بالألوان القوية التي استمدها من مصوري البندقية العظام. وكان دوسو وتلاميذه هم الذين زخرفوا قاعة الاجتماع في القصر بمناظر حية من المباريات الرياضية على النمط القديم، لأن ألفنسو كان يحب الرياضة أكثر مما يحب الشعر. ورسم دسو في سنيه الأخيرة بعد أن اضطربت يده مناظر رمزية وأسطورية في سقف بهو أورورا Sala dell' Aurora، وكان للموضوعات الوثنية المنتشرة في إيطاليا الغلبة في الاحتفال بجمال الجسم والحياة الشهوانية. ولعل من أسباب الضعف الذي أخذ يدب وقتئذ في فن فيرارا- والذي كان من أكبر العوامل فيه النفقات الباهظة التي تطلبتها حروب ألفنسو- غلبة الجسم على الروح، وزوال الشغف بموضوعات الدين القديم وفخامته من الفن الذي أصبح كثرته دنيوية وتركته في معظمه فناً زخرفياً لا أكثر.
وكانت أعظم الشخصيات البارزة في عصر الضعف هي شخصية بنفينوتو تيسي Benvenuto Tisi المعروف باسم جاروفالو Garofalo نسبة إلى موطنه. وزار روما مرتين شغف على أثرهما بفن رفائيل شغفاً حمله على أن ينضم إلى مساعديه في مرسمه وإن كان هو يكبر رفائيل بعامين. ولما اضطرته شئون أسرته إلى العودة إلى فيرارا وعد رفائيل أن يعود إليه، ولكن ألفنسو وأعيان المدينة وكلوا إليه كثيراً من الأعمال لو يستطيع انتزاع نفسه منها. فاستنفد نشاطه، ووزع مقدرته في إنتاج عدد كبير من الصور بقيت لنا منها حوالي سبعين صورة، وكلها تنقصها القوة والصقل، ولكن منها واحدة هي صورة الأسرة المقدسة المحفوظة في الفاتيكان تثبت أن الفنانين الصغار في عهد النهضة كانوا هم أيضاً يستطيعون الاقتراب من سماء العظمة.
ولم يكن المصورون إلا قسماً صغيراً من الفنانين الذين كانوا يكدحون ليدخلوا السرور على المحظوظين من أهل فيرارا. فقد كان مزخرفو الكتب(19/174)
بالصور الدقيقة ينتجون فيها، كما ينتج أمثالهم في غيرها من المدن، أعمالاً ذات روعة وجمال تستوقف العين وتسرها أطول مما تستوقفها وتسرها كثير من الصور الذائعة الصيت؛ وقد احتفظ قصر الاسكفانويا بعدد من هذه الدرر وبالخط اليدوي الجميل. وكذلك استقدم نقولو الثالث ناسجي الطنافس من بلاد فلاندرز؛ وكان فنانو فيرارا يقدمون لهم ما يحتاجونه من الرسوم؛ وازدهر هذا الفن الذي يتطلب كثيراً من الصبر والأناة على يد ليونيلو وبروسو؛ وكانت الطنافس التي ينتجها هؤلاء الناسجون تزدان بها جدران القصر، وكانت تعار إلى الأمراء والأعيان في بعض الاحتفالات الخاصة. وكذلك كان الصائغون لا ينقطعون عن العمل في صنع الآنية الكنيسة، وحلي الأفراد، من ذلك أن اسبيرانديو Sperandio من أهل مانتوا، وبيزانيلو من أهل فيرونا قد نقشا هنا عدداً من المدليات الكبيرة تعد من أجمل ما أخرجته النهضة.
وآخر ما نذكره من هذه الفنون وأقلها شأناً في تلك المدينة فن النحت. ونذكر من رجاله كرستوفورو دا فيرندسا Crislofora da Firenza، ونقولو بارنتشلي Niccolo Baroncelli، وقد صنعا تمثالاً لنقولو الثالث على صهوة جواده وكان لأولهما تمثال الرجال ولثانيهما تمثال الجواد. وأقيم التمثال في عام 1451 قبل أن يقيم دوناتيلو تمثال جتا متلاتا في بدوا بعامين. ثم وضع إلى جواره في عام 1470 تمثال من البرنز للدوق بورسو، وهو جالس جلسة هادئة خليقة برجل السلام. وحطم هذان التمثالان في عام 1796 بأيدي الثوار الذين زعموا أن التماثيل البرنزية رمز للاستبداد والظلم. فصهروها وصنعوا منها مدافع ليضعوا بها حداً للاستبداد ولجميع الحروب، وزين ألفنسو لمبادري غرف المرمر في القصر بكثير من التماثيل؛ ثم فعل ما فعله كثيرون من فناني فيرارا فآوى إلى بولونيا، حيث نجده بعد ذلك في أوج مجده. لقد كان بلاط فيرارا بأفكاره، وأذواقه، وأجوره أضيق من أن يحول ثروة المدينة الفانية إلى فن خالد.(19/175)
الفصل الثالث
الآداب
قامت الحياة الذهنية في فيرارا على أساسين هما الجامعة وجوارينو دا فيرونا Guarino da Verona. فأما الجامعة فقد أنشئت في عام 1391، ولكنها سرعان ما أغلقت لقلة المال، فلما أعاد فتحها نقولاس الثالث، عاشت عيشة هزيلة حتى أعاد ليوتيلو تنظيمها (1442)، وعين لها موارد مالية بمرسوم مقدمته خليقة بالتنويه والتسجيل.
من الآراء القديمة التي يعتنقها المسيحيون وغير المسيحيين على السواء، أن السماوات والبحار والأرضين لا بد أن تفنى يوماً ما؛ ومصداقاً لهذا دمرت كثير من المدن العظيمة فلم يبق منها إلا خربات سويت بالأرض، وحتى روما الفاتحة نفسها قد أصبحت أطلالاً بالية وخربات دارسة؛ أما الذي لا يبليه كر الغداة ومر العشي، بل يبقى أبد الدهر، فهو إدراكنا للأشياء القدسية والإنسانية الذي نسميه الحكمة (6).
ولم يحل عام 1474 حتى ضمت الجامعة خمسة وأربعين أستاذ يتقاضون مرتبات مجزية، ولم يكن في إيطاليا ما يضارع كلياتها الخاصة بدراسة الفلك، والعلوم الرياضية، والطب إلا كليتا بولونيا وبدوا.
وأما جوارينو فقد ولد فيرونا عام 1370، ثم سافر إلى القسطنطينية وعاش فيها خمس سنين، أتقن فيها اللغة اليونانية، وعاد بعدها إلى البندقية مع بضاعة قيمة من المخطوطات اليونانية. وتقول إحدى القصص إنه لما ضاع أحد هذه الصناديق أثناء عاصفة بحرية اشتعل رأسه شيباً في ليلة واحدة. واخذ يعلم اللغة اليونانية في البندقية، وكان من بين تلاميذه منها فتورينو دا فيلتري، ثم انتقل منها ليعلم هذه اللغة(19/176)
نفسها في فيرونا، وبدوا، وبولونيا، وفلورنس، فأصبح عميد الدراسات القديمة فيها واحدة بعد واحدة. ولما بلغ التاسعة والخمسين من عمره قبل دعوة من فيرارا، فذهب إليها وأصبح فيها معلماً لبونيلو، وبورسو، وإركولى، وبهذا تربى على يديه من أعظم الحكام استنارة في تاريخ النهضة. وكان نجاحه في تدريس اللغة اليونانية وبيانها في الجامعة حديث الناس كلهم في إيطاليا؛ وبلغ من إقبال الناس على محاضراته أن كان الطلاب يهرعون في زمهرير البرد لينتظروا خارج أبواب الحجرات المخصصة لدروسه وهي لا تزال مغلقة. ولم يكونوا يفدون من المدن الإيطالية وحدها، بل كانوا يأتون أيضاً من بلاد المجر وألمانيا، ولإنجلترا؛ وتخرج منهم عدد كبير ليشغلوا مناصب ذات شأن عظيم في التربية، والقضاء، والحكم. وكان يفعل ما يفعله فتورينو فيعول من ماله الخاص فقراء الطلبة؛ وكان يتخذ له مساكن بسيطة، ولا يتناول من الطعام إلا وجبة واحدة في اليوم، وكان من عادته أن يدعو أصدقائه، لا للولائم، بل "للفول والحديث" على حد قوله feve et favole (7) . ولم يكن مثلاً أعلى في الأخلاق بقدر ما كان فتورينو، فقد كان يسعه أن يكتب أشد الطعن وأقذعه كما يفعل أي كاتب إنساني، ولعله كان يرى في هذا شيئاً من التسلية الأدبية؛ ولكن يبدو أن أبناءه الثلاثة عشر كانوا كلهم من أم واحدة؛ وكان يراعى جانب الاعتدال في كل شيء إلا الدرس، وقد احتفظ بصحته وقوته، وصفاء ذهنه حتى بلغ سن التسعين (8). ويرجع إليه هو أكبر الفضل في تشجيع أدواق فيرارا للتعليم، والعلم، والشعر وفيما بلغته عاصمتهم من الشهرة الواسعة بوصفها أعظم المراكز الثقافية في أوربا كلها.
وجاء في أعقاب إحياء التراث القديم تجدد العلم بالمسرحيات اليونانية والرومانية القديمة، وعاد معها إلى الحياة بلوتوس Plutus ابن الشعب،(19/177)
وترنس Terence عبد الأرستقراطية المحبوب المعتوق، بعد خمسة عشر قرناً من حياتهما، وكانت مسرحياتهما تمثل على مسارح مؤقتة في فلورنس، وروما، وأكثر ما كانت تمثل في فيرارا. وكان إركولي الأول بنوع خص يحب المسالي القديمة، ولا يضن بشيء من المال في سبيل تمثيلها، وقد كلفه تمثيل مسرحية Menaechmi مرة واحدة ألف دوقة. ولما شهد لدوفيكو صاحب ميلان تمثيل هذه المسرحية في فيرارا، رجا إركولي أن يبعث إليه بالممثلين ليعيدوا تمثيلها في بافيا، فلم يكتفي إركولي بإجابة طلبه بل ذهب هو معهم (1493)؛ ولما قدمت لكريدسيا بورجيا إلى فيرارا، احتفل إركولي بزواجها بخمس من مسالي بلوتوس مثالهما مائة ممثل وعشرة ممثلين، وكانت تتخلل مناظرها فترات طويلة من الموسيقى الشجية والرقص؛ وقد ترجم جوارينو، وأريتسو، وإركولي نفسه بعض المسرحيات اللاتينية إلى اللغة الإيطالية، وكانت تمثل بلغة البلاد؛ وكان تقليد هذه المسالي القديمة هو الأساس الذي قامت عليه كتابة المسرحيات الإيطالية واتخذت منه شكلها؛ فكان بوياردو Boiardo وأيستو، وغيرهما يؤلفون المسرحيات لرفقة الدوق التمثيلية، وكان أريستو يضع تصميم المناظر، ودسُّودسي يرسم الثابت منها لأول مرة مسرح دائم في فيرارا وأوربا الحديثة (1532).
وكانت حاشية الدوق تناصر أيضاً الموسيقى والشعر وترعاهما؛ وكان من شعراء فلورنس فيتو فسبازيانو استرستي Vito Vespasiano Strozzi ولكنه لم يكن في حاجة إلى معونة الدوق المالية لأنه كان ينتمي إلى أسرة فلورنسية غنية. وقد كتب باللغة اللاتينية عشرة "كتب" من قصيدة في مدرج بورسو، وتفي قبل أن يتمها، فرتك هذه المهمة إلى ابنه إركولي. وكان إركولي هذا خليقاً بهذا العمل، فقد كان يكتب الأغاني الممتازة باللغتين اللاتينية والإيطالية، كما كتب أيضاً قصيدة طويلة هي قصيدة(19/178)
الصيد La Caccia أهداها إلى لكريدسيا بورجيا. وتزوج في عام 1508 بشاعرة تدعى بربارة توريلي Barbara Torelli؛ وبعد ثلاثة عشر يوماً من زواجه وجد ميتاً بجوار بيته، وقد أثخن جسده باثنين وعشرين جرحاً وحشياً فظيعاً، ولا يزال سبب مقتله من الحوادث الخفية التي لم تكتشف بعد أربعة قرون من وقوعها. ويظن بعضهم أن ألفنسو قد راود بربارا عن نفسها، فلما صدته عنها انتقم لنفسه بأن أستأجر بعض القتلة لاغتيال منافسه الفائز بها. ولكن هذه القصة واهية الأساس، لأن ألفنسو كان يظهر للكريدسيا جميع إمارات الوفاء طوال حياتها. ورثته الأرملة الحزينة بقصيدة يندر أن نجد ما يماثلها في الإخلاص في أدب بلاط فيرارا الذي كانت تغلب عليه النزعة المصطنعة، وهي تسأل فيها الشاعر القتيل "لم لا أحمل إلى القبر معك؟ ":
ألا ليت ناري تدفئ ذلك الجليد الجمد.
وتحليل بالدموع هذا الثرى إلى لحم حي.
تعيد إليك من جديد بهجة الحياة!
إذن لواجهت ببسالة وقوة
ذلك الرجل الذي فصم أعز ما بيننا من رباط، وصحت به.
"أيها الوحش القاسي! هاك ما يستطيع الحب أن يفعله! ".
وكانت روايات الفروسية الغرامية غداء يومياً في هذا المجتمع القائم في بلاط الحكام، الذي وهب الفراغ، والنساء الحسان، وكان شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون في فيرارا في أيام دانتي يترنمون بقصائدهم، وقد خلفوا وراءهم مزاحاً من الفروسية الخيالية غير الثقيلة؛ وكانت أقاصيص شارلمان الخرافية، وفرسانه، وحروبه مع المسلمين قد أصبحت مألوفة هنا وفي إيطاليا الشمالية كلها لا تكاد ثقل في ذلك عنها في فرنسا نفسها؛ وانتشر(19/179)
الشعراء القصاصون الفرنسيون فزادوا في هذه القصص وملأوها بأغاني البطولة والمجد، وأصبح إنشادها، بعد أن أضيفت بها حادثة إلى حادثة، وبطل إلى بطلة، مجموعة ضخمة من القصص الطويلة المضطربة، تنادي شاعراً مثل هومر لينسج من هذه القصص المفككة ملحمة متتابعة ويجعل منها وحدة متناسقة.
وقام بهذا الواجب نبيل إيطالي ففعل بقصص شارلمان ما فعله قبل ذلك بقليل قارس انجليزي، هو سير تومس مالوري Sir Thomas Malory بأقاصيص الملك آرثر والمائدة المستديرة؛ وكان هذا النبيل الإيطالي هو بوياردو كونت اسكانديانو Boiardo Count of Scandiano؛ وكان من أبرز أعضاء الخاشية في فيرارا. وقد أوفدته أسرة إستنسي في عدة سفارات خطيرة الشأن، وعهدت إليه إدارة مودينا ورجيو وهما أكبر أملاكها. ولم يكن قديراً في حكمه بقدر ما كان قديراً في غنائه، فكان يوجه الشعر العاطفي القوي إلى أنطونيا كبرارا Antonia Caprara، يسترحمها ويغتني بمحاسنها، أو يلومها على أنها غير وفية في إثمها؛ فلما تزوج ناديا جندساجا وجه موسيقاه كي ترعى في كلأ آمن من كلئها السابق، وبدأ ملحمة تدعى أرلندو الواد Orlando Innamorato (1486 وما بعدها) يقص فيها متاعب أرلندو (أي رولان) للساحرة أنجلكا ويمزج بهذه القصة الغرامية مائة منظر ومنظر من الطعن، وألعاب الفروسية، والحرب. وتقول قصة فكهة منها إن بوياردو أخذ يطوف البلاد باحثاً عن اسم طنان يليق بالفارس المسلم الفخور بقصته، فلما عثر على ذلك اللقب العظيم رودمومنتي Rodomonte دقت أجراس أسكندريانو إقطاعية الكونت ابتهاجاً بهذا التوفيق، كأنها كانت تعلم أن سيدها كان يضع لفظاً للرجل النفاخ المختال سوف يذيع في أكثر من عشر لغات.(19/180)
وإنا ليصعب علينا في هذه الأيام الثائرة التي يضطرب فيها عالمنا حتى في وقت السلم بألفاظ العدوان، والقتال، والمنافسات الحادة، نقول إنا ليصعب علينا في هذه الأوقات أن نجد شيئاً من الطرافة في أحداث الحروب والغرام التي تقع لأرلندو، ورينلدو، واستلفو، ورجييرو، وأجرمنتي، ومرفيزا Marfiza، وفيورديليسا Fiordelisa، وسكربنتي Sacripante، وأجريكاني Agricane، وإن أنجلكا التي كان يسعها أن تستثير عواطفنا بجمالها لتبعث في نفوسنا السآمة بما تمارسه من فنون السحر والقوى الغيبية؛ ذلك أننا لم نعد تسحرنا الساحرات في هذه الأيام. تلك قصص تليق بمستمعين حسان في ظلل قصر، أو بين أسوار حديقة، ويؤكد المؤرخون لنا أن الكونت كان يقرأ هذه المقطوعات الشعرية في بلاط فيرارا (9)، وما من شك في أنه كان يقرأ مقطوعة أو مقطوعتين في كل جلسة. ونحن نظلم بوياردو وأريستو حين نريد أن نقرأ لهما ملحمة في جلسة واحدة، ذلك أنمها كانا يكتبان لجيل وطبقة من أهل الفراغ، كما أن بوياردو كان يكتب لإنسان لم يشهد غزو شارل الثامن لإيطاليا. فلما أن حل بها ذلك الإذلال الذي فتح عيونها لأحداث الدهر، وأبصرت ما هي عليه من ضعف، وأدركت أن ما فيها من فن وشعر لا يصد عنها قوى الشمال التي لا ترحم، دب اليأس في قلب بوياردو، فألقى بقلمه بعد أن كتب ستين ألف بيت وكتب هذه الموشحة التي نفس بها عن يأسه:
أي إلهي المنقذ! إني وأنا أغنى.
أرى إيطاليا تلتهب وتندلع فيها النيران.
رماها بها أولئك البالغون، تندفع شجاعتهم العظيمة،
فيتقدمون ليحيلوا جميع أرجائها صحارى وقفاراً.
وظل آخر أيامه طيب الفعل، وكأنما كان حكيماً إذ مات (1494) قبل أن يبلغ الغزو عنفوانه؛ ولم تثر عواطف الفروسية النبيلة التي كانت(19/181)
تدفعه إلى أشد الألفاظ قوة في شعره إلا أضعف الاستجابات في الجيل المضطرب التي تراه. وهو أن كان قد افتتح باباً جديداً في التاريخ بتنمية الملحمة الغرامية الحديثة، فإن صوته لم يلبث أن عفا عليه النسيان في الحروب التي دارت رحاها أثناء حكم ألفنسو، والفتن والقلاقل التي عمت المدينة في أيامه، وفي استيلاء الأجانب على إيطاليا، وفي الجمال المغري الذي يتسم به شعر أريستو الأرق منه لفظاً.(19/182)
الفصل الرابع
أريستو
يحب ألا يغيب عن أذهاننا، ونحن نوشك أن نتحدث عن أعظم شعراء النهضة الإيطالية، أن الشعر الموسيقي غير قابل للترجمة، وأن الذين لم يسعدهم الحظ منا بأن تكون اللغة الإيطالية لغتهم الأصلية يجب ألا يتوقعوا أن يعرفوا لمَ تضع إيطاليا لدوفيكو أريستو في المرتبة العالية التي لا يعلو عليها إلا دانتي بين شعرائها، وأنها تحب قصيدة أرلندو فيوربوسو وتقرؤها بابتهاج لا ترقي إلى درجته البهجة التي يقرأ بها الإنجليز مسرحيات شكسبير. أما نحن فإذا سمعناها فإنما نسمع الألفاظ ولكننا ينقصنا اللحن والإيقاع.
وكان مولد أريستو في الرابع عشر من سبتمبر عام 1474 في رجيو إميليا التي كلن أبوه حاكماً عليها؛ ثم انتقلت الأسرة إلى روفيجو في عام 1481، ولكن يبدو لدوفيكو تلقى تعليمه في فيرارا. وقد ألحق بها ليتعلم القانون لكنه فضل عليه الشعر، وكان في هذا شبيهاً ببترارك، ولم تضطرب أحواله كثيراً على أثر غزو الفرنسيين في عام 1494؛ ولما أن أعد شارل الثامن عدته للانقضاض على إيطاليا مرة ثانية (1496) قال أرلندو قصيدة حاكى فيها أسلوب الشاعر الروماني القديم هوراس Horace وضع فيها الأمور فيما بدا له أنه الوضع الصحيح:
"ماذا يعنيني من قدوم شارل وجيوشه؟ سأبقى في الظلال أستمع(19/183)
إلى خرير الماء اللطيف، أرقب الحاصدين في عملهم. وأنت يا فوليس (1) ألا تمدين يدك البيضاء من خلال الأزهار المبرقشة وتنسجين لي أكاليل على نغمات صوتك الموسيقي (10)؟ ".
وتوفى والده في عام 1500 وخلف لأبنائه ميراثاً يكفي لإعالة واحد منهم أو اثنين؛ وأصبح لدوفيكو أكبر الأبناء رب الأسرة، وأخذ يكافح الضيق المالي كفاحاً طويلاً، وأثر القلق الناشئ من هذا الكفاح في أخلاقه فبعث فيه من الجبن والوجل والذلة والغضب ما لا يستطيع أن يدركه إلا الشعراء ذوو المسغبة؛ وفي عام 1503 التحق بخدمة الكردنال إبوليتو دست؛ ولم يكن إبوليتو هذا ممكن يتذوقون الشعر، ولهذا شغل أريستو وضايقه بكثير من المهام الدبلوماسية وبغيرها من الأمور التافهة، وكان الشاعر يتقاضى أجراً قدراً 240 ليرة (3000؟ دولار) في العام، لم تكن إليه بانتظام. وحاول أن يحسن مركزه بنظم قصائد يشيد فيها بشجاعة الكردنال وعفته، ويدافع فيه عن سَلم عيني جويليو. وعرض عليه إبوليتو أن يزيد مرتبة، إذا قبل أن ينظم في سلك رجال الدين بحيث يصبح من حقه أن يختار لبعض المناصب الكنسية، لكن أريستو كان يبغض رجال الدين وآثر يكتوي بنار الغرام بدل أن يحترق مع رجال الدين.
كانت المدة التي قضاها في خدمة إبولينو هي التي كتب فيها معظم مسرحياته. وكان قد بدأ هذه الفترة من حياته بالاشتغال بالتمثيل، وكان من أعضاء الفرقة التي بعثها إركولي إلى بافيا، ولما أن شرع يؤلف
_________
(1) شخصية أسطورة تقول عنها الأساطير اليونانية إنها أميرة تراقية تزوجها ديموفون ابن ثيسيوس بعد عودته من طروادة، وذات مرة رحل ديموفون إلى أثينة ووعد بالعودة، فلما عجز عن الرجوع شنقت نفسها وتحولت إلى شجرة لوز (عن معجم الأعلام في الأساطير اليونانية والرومانية للأستاذ أمين سلامة).(19/184)
المسرحيات كانت مسرحياته تحمل طابع ترنس أو بلونوس، وكان هو صريحاً كل الصراحة حين عرضها إذ قال أنها محاكاة لهذا وذاك (11). ومثلت مسرحيته المسماة كساريا Cassaria في فيرارا عام 1508، كما مثلت سبوزيثى Suppositi في روما عام 1519 أمام ليو العاشر ونالت رضاه، وظل يؤلف المسرحيات إلى آخر سنة في حياته، وترك أحسنها كلها وهي مسرحية اسكولا ستيسكا ناقصة حين وافته منيته. وتدور هذه المسرحيات كلها حول الموضوع القديم: كيف يستحوذ شاب أو عدد من الشبان، بحيل خدمهم في العادة، وبالزواج أو الغواية، على فتاة أو عدة فتيات. ولمسرحيات أريستو منزلة عالية بين المسالي الإيطالية، ولكنها لا تشغل إلا المنزلة الدنيا في تاريخ التمثيل بوجه عام.
ونظم الشاعر الجزء الأكبر من ملحمته الضخمة أرلند فيوربوزو Orlands Furioso أثناء اشتغاله بخدمة إبوليتو؛ ويبدو من هذا أن الكردنرل لم يكن ممن يرفضون رقابتهم على من في خدمتهم. ولما أن عرض أريستو المخطط على إبوليتو سأله هذا الخبر ذو النزعة الواقعية- كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها وهي رواية إن لم تكن صحيحة فإنها تعبر أحسن تعبير عن روح العصر: "أنى وجدت يا سيد لدوفيكو هذا الهراء كله؟ " (12). ولكن يبدو أن الإهداء وما فيه من ثناء كان له عند إبوليتو من المعاني أكثر مما للكتاب نفسه؛ ومن أجل هذا تكفل الكردنال بنفقات نشر القصيدة (1515)، على أن يحتفظ أريستو بجميع الحقوق الخاصة بها وجميع الأرباح الناتجة من بيعها. ولم تر إيطاليا أن القصيدة "هراء" في هراء، أو لعلها ظنت أنها هراء مطرب، فنفدت منها سبع طبعات بين عامي 1524 و 1527؛ وسرعان ما كانت أحسن فقراتها تردد ويتغنى بها في طول شبه الجزيرة وعرضها؛ وقد قرأ(19/185)
أريستو نفسه كثيراً منها لإزبلا دست أثناء مرضها في مانتوا وامتدح صبرها بالثناء عليها في الطبعات التالية. وقضى أريستو عشر سنين (1505 - 1515) في كتابة فيوريوزو، وستة عشر عاماً أخرى في صقلها؛ ويضيف إليها مقطوعة من آن إلى آن حتى كادت أبياتها تبلغ 39. 000 أي مجموع أبيات الإلياذة والأوديسة مجتمعتين.
وكان كل ما تعتزم في بادئ الأمر أن يكمل ويوسع قصيدة أرلندو الواله لبوياردو. ولهذا أخذ عن سابقه طابع الفروسية العام وموضوعاها، ومغامرات فرسان شارلمان الغرامية والحربية، والشخصيات الهامة، وترتيب الحوادث المهلهل، والانتقال من قصة فبل أن تتم إلى قصة أخرى، والأعمال السحرية التي تقلب القصة ظهراً لبطن في كثير من الأحيان، بل أنه ذهب إلى ابعد من هذا فأخذ عنه فكرة الرجوع بنسب أسرة إستنسي إلى ذلك الزواج الأسطوري بين روجييرو وبرادامنتي. ولكنه مع ذلك لا يذكر أسم بوريارد قط، على حين أنه يمتدح مائة من الناس غيره، ذلك انك إذا كنت مديناً لأحد فلن تكون عنده بطلاً من الأبطال. ولعل أريستو قد شعر بأن موضوع الملحمة وشخصياتها مأخوذان من الأقاصيص المتداولة لا من بوريادو نفسه.
وقد فعل أريستو ما فعله الكونت وما لم تفعله الأقاصيص فغَلَّب شأن الحب على شئون الحرب، ولهذا قال في مستهل القصيدة:
"إني أتغنى بالنساء، والفرسان، والسلاح، والحب، وأعمال الفروسية والمغامرات الجريئة". وتنفذ القصيدة هذا المنهج بحذافيره: فهي سلسلة من المعارك الحربية، بعضها تقوم به المسيحية ضد الإسلام، ومعظمها معارك في سبيل النساء، وفيها أكثر من عشرة أمراء وملوك يتقاتلون من أجل أنجلكا، وهي تداعبهم جميعاً، وتوقع بينهم، وتقع في شر أعمالها(19/186)
حين تشغف بحب رجل وسيم غير نابه، وتتزوج به قبل أن تبحث البحث المألوف عن إيراده. ويتعقبها أرلندو وهو الذي يدخل القصة بعد ثمان مقطوعات في ثلاث قارات، ويغفل في هذه الأثناء أن يخف لمعونة مليكه شارلمان حين يهاجم المسلمون باريس، ويصاب بالجنون حين يدرك أنه فقدها (المقطوعة الثالثة والعشرون)، ثم يعود إليه صوابه بعد ست عشرة مقطوعة أخرى حين يعثر على عقله الضائع في المقر، ويعود به إليه أحد المسافرين إلى هذا الكوكب قبل ملاحي جول فيرن Jule Verne. ويحتفظ بهذا الموضوع الرئيسي ويسبب له كثيراً من الاضطراب ما يتخلل أحداثه من مغامرات يقوم بها كثير من الفرسان الآخرين يطارد كل واحد منهم المرأة التي يحبها في ست وأربعين أخرى من الشعر المُغوي للنساء. وتسر النساء بهذا الطراد، ولعلنا نستطيع أن نستثني منهن إزبلا التي تقنع رودمنتي بأن يقطع رأسها بدل أن يفض بكارتها، وتنال بذلك تمثالا يخلد اسمها. وأدخلت في القصيدة قصة القديس يوحنا القديمة: فترى فيها أنجليكا الحسناء تشد إلى الصخور بجانب البحر، زلفى إلى تنين يطلب عذراء في كل عام، وقبل أن يصل روجييرو لينقذها يذكرها الشاعر ويقدرها كما يقدرها كريجيو نفسه في أبيات تفقدها الطلاوة الموسيقية:
لقد قسا إنسان غليظ القلب لا يعرف الرحمة،
فعرض على شاطئ البحر على الحيونات الضارية
امرأة هي أجمل من على الأرض من النساء، عرضها عارية،
بالصورة التي شكلت بها الطبيعة جسدها الحلو الجميل،
ولم يستر بشيء من الثياب مهما رق
جسمها الذي جمع بين السوسن الناصع
وحمرة الورد الهادئة الذي يستقبل بها حر الصيف وزمهرير الشتاء
ولا يصيبه منهما أذى، والذي كان يتألق على أطرافها المتلألئة الساطعة،
ولولا أن رأى دمعة متلألئة منحدرة،(19/187)
بين ورود خديها وسوسنها الأبيض،
تبلل ثديين كأنهما تفاحتان ثبتتا على صدرها،
وشاهد شعرها الذهبي يتماوج في النسيم،
لظنها تمثالاً منحوتاً من المرمر أو صورة من الرخام،
صاغتها في الصخر يد مثال صناع.
وأريستو لا يحمل هذا كله على محمل الجد، فهو يكتب ليسلي ويسر، وهو يسعى عامداً إلى أن يفتتنا بسحر شعره فيقودنا في الخيال إلى عالم غير حقيقي، ويخلع على قصصه جواً من الغموض بما يخله فيها من الجن، والأسلحة، والرقى السحرية، والخيل المجنحة التي تطوف بالسحب، والآدميين الذين استحالوا أشجاراً، والقلاع التي تذوب بكلمة جبار صلف، وترى ألندو تنفذ حربته في جسد ستة من الهولنديين، وأستلفو ينشئ أسطولاً بأن يلقي في الهواء أوراق الأشجار، وبمسك بالريح في مثانة، ثم نرى أريستو بعد ذلك يضحك من هذا كله، ويبتسم ابتسامة الرجل السمح، لطعان الفروسية وتمويهها. وحاسة الفكاهة عند أريستو قوية ممتازة ممتزجة بالتهكم الظريف، فهو يضم إلى النفايات التي تُلقى بها الأرض على القمر صلوات المنافقين، وتملق الشعراء، وخدمات أفراد البلاط، وهبات قسطنطين (في المقطوعة الرابعة والثلاثين)، وأريستو لا يدعى الفلسفة إلا من حين إلى حين، وفي قليل من افتتاحيات المقطوعات. ذلك أن النزعة الشعرية قد تملكته حتى فقد نفسه واستنفذ قواه وهو ينشئ شكلاً جديداً لشعره ويصقله، فلم يبق لديه من الجهد ما يبذله في غرض من الأغراض التي تسمو بالحياة أو في أي شيء من فلسفتها (13).
ويحب الإيطاليون قصة فيوربوزو لأنها كنز من القصص المثيرة- لا تخلو واحدة منها من الإشارة إلى امرأة حسناء غير بعيدة- تروي بلغة رخيمة ولكنها خالية من التكلف والصنعة، في مقطوعات قوية حماسية(19/188)
تنقلنا نقلاً سريعاً من منظر إلى منظر. وهم يغفرون لكاتبها الاستطرادات والأوصاف الطويلة، والابتسامات التي لا يحصى عددها والمتكلفة في بعض الأحيان، يغفرون له هذه كلها لأنه يكسوها شعراً ساطعاً متلألئاً، وهم يجدون فيها جزاء طيباً من هذا الغفران، ويصيحون في صمت "مرخى! " حين يخرج عليهم الشاعر ببيت يثير عجبهم كالذي يقول فيه عن دسربينو Zerbino: " لقد صاغته الطبيعة ثم حطمت القالب الذي صاغته فيه". ولا يطول انزعاجهم من تملق أريستو آل إستنسي طمعاً في رفدهم، ولا من مديحه إبوليتو، وإشادته بعفة لكريدسيا، فقد كان هذا الخضوع من سمات تلك الأيام، فأنت ترى مكيفلي لا يستنكف أن يخر راكعاً لينال إعانة مالية، والشاعر له أن يعيش.
لكن هذه المعيشة أصبحت شاقة حين قرر الكردينال أن يخرج للحرب في بلاد المجر، وطلب إلى أريستو أن يرافقه، فلما رفض أريستو أعفاه إبوليتو من خدمته وقطع عنه مكافأته (1517). ولكن ألفنسو أنقذ الشاعر من آلام الفاقة بأن خصص له معاشاً قدره أربعة وثمانون كروناً (1050؟ دولاراً) فضلاً عن ثلاثة خدم وجوادين، ولم يكد يطلب إليه في نظير ذلك شيئاً. وظل أريستو حتى بلغ السابعة والأربعين من عمره أعزب عنيداً في عزوبته، ولكنه لم يكن في خلالها متبتلا كل التبتل. ثم خرج ألسندرا بينوتشي Alessandra Benucci التي أحبها وهي لا تزال متزوجة من تيتو فسبازيانو استراتسي. ولم يرزق منها أبناء، ولكنه كان له ولدان غير شرعيين رزق بهما قبل زواجه.
وظل ثلاث سنين (1522 - 1525) حاكماً لجارفنيانا Garfagnana وهي أقليم جبلي موبوء بقطاع الطرق واللصوص، ولم يكن طوال هذه السنين سعيداً في عمله. فقد كان غير لائق للعمل ولا للقيادة، وسره أن يعتزل عمله
ليقضي الثمان السنين الأخيرة من حياته في فيرارا. ثم ابتاع في(19/189)
عام 1528 قطعة من الأرض في أرباض المدينة، أقام فيها بيتاً ظريفاً، لا يزال ظاهر المعالم في فيا أريستو (طريق أريستو) وتحافظ عليه الدولة، وقد نقش على واجهته بيتين بشعر هوراس يتسمان بالبساطة والجلال قال فيهما "هو صغير ولكنه يوائمني، ولا يؤذي إنساناً ما، وليس هو حقيراً ولكني حصلت عليه من مالي الخاص، انه بيتي". وعاش فيه هادئاً يعمل في حديقته حيناً، ويراجع أو يطيل الأريستو في كل يوم.
وظل في هذه الأثناء يحاكى هوراس في نظمه، فكتب إلى عدد من أصدقائه سبع رسائل شعرية وصلت إلينا تحت عنوان "قصائد الهجو". وليست هذه القصائد عادة متماسكة كقصائد هوراس التي حذا حذوها، كما أنها ليست قوية مريرة قاتلة كقصائد جوفنال، ذلك أنها كانت ثمرة عقل ينطوي على الحب ولا يجد السلام أبداً، يتحمل على مضض ضربات الدهر وسخرياته، ووقاحة المتعجرفين وإهاناتهم. وتصف هذه الرسائل عيوب رجال الدين، وما كان سائداً في روما من أتجار بالمناصب الدينية، وتحيز البابوات المنغمسين في حب الدنيا لأقاربهم وذويهم "الرسالة الأولى"، ويهجو في الرسالة الثانية إبوليتو لأنه يؤجِر خدمه أكثر مما يؤجر شاعره، وفي الثالثة يسخر من النساء ويقول إنهن قلما يكن وفيات أو شريفات، ويعرض فيها نصيحة خبير أوذي منهن عن طريقة اختبار الزوجة وترويضها، وفي الرابعة يرثي لحياة الحاشية، ويروي في حنق زيارة غير موفقة قام بها لليو العاشر:
قبلتُ، فانحنى من مقعده المقدس، وأمسك بيدي وحياني بتقبيل خدي، وأعفاني فوق هذا من نصف ضرائب التمغة التي كان علي أن أؤديها، ثم خرجت وصدري مفعم بالأمل، ولكن جسمي مبلل بالمطر وملوث بالطين، وتناولت عشائي في مطعم الكبش.
وفي هذه المجموعة قصيدتان يندب فيهما حياته الشاقة في جارفنيانا،(19/190)
وأيامه التي "تنقضي في التهديد، أو العقاب، أو الإقناع أو التحصيل". وارتاعت موهبته الشعرية وشلت فسكن صوتها من أثر الجرائم، والقضايا، والمشاغبات التي كانت تقع في الإقليم، ومن بعد المسافة، بينه وبين عشيقته (الرسالتان الخامسة والسادسة). وتسأل السابعة بمبو أن يختار معلماً يونانياً لفرجينيو Virginio بن أريستو:
يجب أن يكون هذا اليوناني غزير العلم، ولكنه يجب أن يكون كذلك ذا مبادئ طيبة، لأن العالم بغير الأخلاق ليس عديم القيمة فحسب، بل هو شر من هذا وأشد ضرراً. وإن من الصعب لسوء الحظ أن نجد في هذه الأيام معلماً من هذا الصنف، فقل أن تلقى بين الكتاب الإنسانيين من لا يتصف بشر الرذائل، كما أن الغرور الذهني يجعل الكثيرين منهم متشككين. ترى لم نرى العلم وعدم الإخلاص متلازمين على الدوام؟ (15).
ولم يكن ألايستو نفسه في معظم أيام حياته متمسكاً بدينه، ولكنه لجأ إليه في آخر أيامه كما كان يلجأ إليه مفكرو النهضة كلهم تقريباً. وكان منذ صباه يشكو البرد المصحوب بالنزلات الشعبية، وأكبر الظن أن هذا المرض قد زادت حدته بتأثير أسفاره لأداء المهام التي كان يكلفه بها الكردينال. واشتدت هذه العلة في عام 1532 فانقلبت إلى ذات الرئة، وأخذ يغالب المرض كأنه لا يكفيه أن يخلد أسمه وحده، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والخمسين حين توفي (1533).
وصار أريستو من عظماء الكتاب حتى قبل وفاته، فصوره رفائيل قبل موته بثلاث وعشرين سنة في مظلم البارنسس بقصر الفاتيكان إلى جانب هوميروس وفرجيل، وهوراس، وأوفد، ودانتي، وبترارك بين أصوات بني الإنسانية الذين لا ينسون على مر الأيام. وتسميه إيطاليا "هومرها" كما تسمى الفيوربوزو "إلياذتها" ولكن يبدو حتى لم يمجدون إيطاليا ويسبحون بحمدها أن في هذا من السخاء أكثر مما فيه من العدالة. ذلك أن العالم الذي(19/191)
يصفه أريستو يبدو خفيفاً، خالياً غريباً، إلى جانب حصار طروادة القاسي الرهيب، وأن فرسانه- ومنهم من لا يستطاع تمييز أخلاقهم كما لا يستطاع تمييز أسلحتهم بعضهم من بعض- لا يكادون يرقون إلى جلال اجممنون، أو إلى عاطفة أخيل الجائشة أو حكمة نسطور، أو نبل هكتور، أو مأساة بريام، ومن ذا الذي يسوي بين أنجلكا الحسناء الطائشة، وبين هلن Helen الإلهة بين النساء التي سيطرت بقوتها على الأقدار؟ ومع هذا كله فان الكلمة الأخيرة في ذلك يجب أن تكون كالأولى، وهي أن الذين يجيدون معرفة لغة أريستو، ويدركون ما في مرحه وعاطفته من تدرج لا يكاد يحس به، ويتأثرون بموسيقى حلمه العذبة الشجية، أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يصدروا حكماً صحيحاً على أريستو.(19/192)
الفصل الخامس
بعد أريستو
لقد كان الإيطاليون أنفسهم، بما أوتوا من حاسة الفكاهة القوية، هم الذين جاءوا بالعلاج الشافي من النزعة الإبداعية الوجدانية التي في ملحمتي أرلندو. وتفصيل ذلك أن جيرولامو فولنجو Girolamo Folengo نشر قبل ست سنين من موت أريستو قصيدة تدعى أرلندينو Orlandino صور فيها سخافات الملحمتين وبالغ في ذلك مبالغة يطرب لها القارئ. وقد أستمع جيرولامو في بولونيا إلى محاضرات بمبونتسي Ppmponazzi ذات النزعة المتشككة، ووضع لتدريسه منهاجاً من العشق، والدسائس، والملاكمة، والمبارزة، طرد على أثره من الجامعة. ثم تبرأ منه أبوه، فأنخرط في سلك الرهبان البندكتيين (1507)، ولعل الذي دفعه إلى هذا حاجته إلى مورد يعيش منه. وبعد ست سنين من ذلك الوقت شغف بحب جيرولاما ديدا Girolama Dieda وفر معها، ونشر في عام 1509 مجموعة من المسرحيات الهزلية سماها مكرونيا Maccaronea، وذاع اسمها من ذلك الحين فسميت به طائفة متزايدة من قصائد الهجو الفظة البذيئة، خلط فيها بين الشعر اللاتيني والإيطالي. وكانت أرلندينو ملحمة ساخرة مليئة بالخلاعة ومكتوبة باللغة الإيطالية الدارجة الخشنة، تسري فيها روح الجد في مقطوعة أو اثنتين، ثم تفاجئ القارئ بفكرة وعبارة من أقذر الأفكار والتعابير. وترى فيها الفرسان مسلحين بأدوات المطبخ يظهرون على بغال عرجاء. وزعيم رجال الدين في القصة هو الراهب جريفارستو Griffarosto - أي الرئيس ملتهم الشواء. وتتألف مكتبته من كتب في الطهو تتخللها المأكولات(19/193)
والخمور، ((وكل ما يعرفه من اللغات هو لغة الثيران والخنازير (16)، ويتخذه فولنجو وسيلة لهجو رجال الدين الإيطاليين هجاء لو اطلع عليه أحد من أتباع لوثر لسر منه أعظم السرور. وتلقى الشعب هذه الملحمة بعاصفة قوية من الهتاف والاستحسان، ولكن المؤلف ظل يتضور من الجوع. ثم آوى أخيراً إلى دير، وأخذ يكتب شعراً يدعو إلى التقي والصلاح، ومات وهو على هذه الحال من التقوى في سن الثالثة والخمسين (17). وكان ربليه يحب الشعر ولعل أريستو كان في سنيه الأخيرة يشاركه في مرحه.
وحافظ ألفنسو الأول على دولته الصغيرة وصد عنها هجمات البابوية، ثم أندفع أخيراُ اندفاعاً أحمق إلى الانتقام لنفسه بتشجيع الجيش الألماني - الأسباني المحاصر لروما وتحريضه، حتى استولى ذلك الجيش عليها ونهبها (1527) (18). وأظهر شارل الخامس إعجابه به بأن رد إليه موديتا ورجيو إقطاعيتي فيرارا القديمتين، وبهذا ترك ألفنسو دوقيته إلى ورثته كاملة غير منقوصة. وفي عام 1528 أرسل ابنه إركولي إلى فرنسا ليأتي منها بزوجة دبلوماسية من الأسرة المالكة تسمى رينية Rene'e أو ريناتا Renata - وهي فتاة صغيرة الجسم مكتئبة المزاج، مشوهة الخلقة، تملكت نفسها سراً آراء الكلفنيين. ولما توفيت لكريدسيا واسى ألفنسو نفسه بعشيقة تدعى لورا ديانتي Laura Diante ولعله أقترن بها قبل وفاته (1534). وكان قد غلب كل عدو إلا الدهر.(19/194)
الباب الحادي عشر
البندقية وأملاكها
1378 - 1534
الفصل الأول
بدوا
كانت بدوا إيطالية كبرى في عهد الدكتاتروية الكراريسية Carraresi تنافس البندقية وتهددها بالخطر، وقد انضمت فعلاً إلى جنوى في عام 1378 وحاولتا معاً أن تخضعا الجمهورية القائمة في هذه الجزيرة، وفي عام 1380 حين أنهكت الحروب مع جنوى قوى البندقية أسلمت هذه إلى دوق النمسا مدينة تريفيزو Treirso ذات المركز الحربي الهام والواقعة في شمالها، وفي عام 1383 ابتاع فرانتشيسكو الأول صاحب كرارا تريفيزو من النمسا، ثم حاول بعد قليل من ذلك الوقت أن يستولي على فيتشندسا ويوديني Udine وفريولي، ولو انه نجح في هذا لسيطر على الطرق المؤدية من البندقية إلى مناجم الحديد التابعة لها عند أجوردو Agordo وعلى الطرق التي تسلكها تجارة البندقية وتجارتها. ولكن البندقية نجت من هذا الخطر بفضل مهارة رجالها الدبلوماسيين، فقد أقنعوا جيان جلياتسو فيسكونتي بالانضمام إلى البندقية في حربها ضد بدوا. وما من شك في أن جيان لم يكن يثق بالبندقية، غير انه مع هذا اغتنم هذه الفرصة التي سنحت له لتوسيع رقعة بلاده نحو(19/195)
الشرق بتغاضي البندقية، وهزم فرانتشيسكو صاحب كرارا (فرانتشيسكو كرارا) ونزل عن عرشه (1389)، وجدد ابنه، سميه وخلفه (1399)، معاهدة عام 1338 التي اعترف فيها بأن بدوا تابعة للبندقية. ولما أن واصل فرانتشيسكو الثاني صاحب كرارا الكفاح، وهجم على فيرونا وفيتشندسا أعلنت بدوا لمجلس الشيوخ يحكمها حكماً مباشراً (1405). وتخلت المدينة المنهوكة القوى عن ذلك الترف المستغل الوطني، وازدهرت في ظلال الحكم الأجنبي القدير الحازم، وأصبحت المركز التربوي لأملاك البندقية، يهرع إلى جامعتها الذائعة الصيت الطلاب من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني - بيكو دلا ميرندولا Paico della Mirandola، وأريستو، وبمبو، وجوتشيارديني Guieciardini، وتسو، وجالليو، وجستافس فازا Gustaus Vasa الذي صار ملك بولندة ... وأنشأ دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondyles فيها كرسياً للغة اليونانية قبل أن يرحل إلى فلورنس بستة عشر عاماً. وكان في وسع شكسبير بعد مائة عام من ذلك الوقت أن يتحدث عن بدوا الجميلة مهد الفنون.
وكان في بدوا من أهلها رجل يرى نفسه معهداً علمياً قائماً بذاته، ذلك هو فرانتشيسكو سكوارتشيوني Francesco Squarcione الذي تعلم أولاً حرفة الخياطة، ثم أولع بالفن القديم، وطاف في كثير من أنحاء إيطاليا واليونان، ونسخ الرسوم والنقوش التي على التماثيل والعمائر اليونانية والرومانية، أو رسم لها صوراً تخطيطية، وجمع المدليات وقطع النقود، والتماثيل القديمة، ثم عاد إلى بدوا يحمل مجموعة من أحسن المجموعات القديمة في أيامه، وافتتح فيها مدرسة لتعليم الفن، وضع فيها مجموعته، ورسم لتلاميذه منهجين أساسيين: دراسة الفن القديم وعلم المنظور الحديث: ولم يبق في بدوا من الفنانين البالغ عددهم مائة وسبعة وثلاثين والذين نشأوا على يديه إلا عدد(19/196)
جد قليل لأن كثرتهم قد جاءت إليها من خارجها. ولكنها استعاضت عن هذا بأن جاء إليها جيتو من فلورنس ليصور فيها حلبة المظلمات، والتيتشيرو Oltichiero من فيرونا (حوالي 1376) لينقش فيها معبداً في كنيسة القديس أنطوني St. Antthony ودوناتيلو الذي خلف ذكريات من عبقريته في الكنيسة الكبرى وميدانها. وأقام بارتولميو بلانو أحد تلاميذ دوناتيلو تمثالين جميلين لامرأتين في معبد جتا ميلاتا Gattamelata في هذه الكنيسة نفسها، وأضاف بيترولمباردو البندقي تمثالا جميلا لابن أفاق مغامر وقبراً فخماً لأنطونيو روزيللي Antonio Roselli. ونحت أندريا بريوسكو Andrea Briosco - رتشيو Rieceo - وأنطونيو، وتليو لمباردو Tullio Lombardo لمعبد جتا ميلاتا أيضاً نقوشاً في الرخام، كما أقام رتشيو في إيطاليا، ثم اشترك مع ألسندرو ليوناردو البندقي وأندريا موروني البرجامي ( of Bergamo) في تخطيط كنيسة القديسة جوستينا Giustina (1502 وما بعدها) التي لم تتم، والتي كانت طرازاً خالصاً من فن النهضة المعماري.
وكانت بدوا وفيرونا المدينتين اللتين جاء منهما ياقوبو بليني وأنطونيو بيزانيلو إلى البندقية بمبادئ مدرسة البندقية في التصوير التي منها ذاعت شهرة البندقية في العالم أجمع.(19/197)
الفصل الثاني
أحوال البندقية الاقتصادية والسياسية
كانت أحوال البندقية في عام 1378 قد انحطت إلى الدرك الأسفل: كان أسطول جنوى المنتصر يعترض تجارتها في البحر الأدرياوي، وكان جنود جنوى وبدوا يسدون عليها الاتصال بينها وبين القارة من جهة البر، ويكاد أهلها يموتون جوعاً، وحكومتها تفكر في الاستسلام. فلما مضى نصف قرن من ذلك الوقت كانت تحكم بدوا، وفيتشندسا، وفيرونا، وبريشيا، وبرجامو، وتريفيزو، وبيلونو، وفلتري، وفريولي، وإستريا، وساحل دلماشيا، وليبانتو، وبتراس، وكورنثة. وبدت وهي آمنة في قلعتها ذات الخنادق الكثيرة كأنها بمنجاة من تصاريف الأقدار السياسية التي كانت تجري في أراضي شبه الجزيرة الإيطالية؛ وظلت ثروتها وقوتها تسموان حتى تربعت كالملكة المتوجة على رأس إيطاليا. ولقد وصفها فليب ده كومين Philippe de Comine بعد أن وصل إليها سفيراً لفرنسا في عام 1495 بقوله أنها ((أعظم مدينة ظافرة شهدتها في حياتي)) (1). ووصف بيترو كاسولي Pietro Casole الذي جاءها من ميلان حوالي ذلك الوقت عينه فقال: هذه المجموعة الفذة المكونة من 117 جزيرة، و150 قناة، و400 جسر يشرف عليها كلها الطريق الكبير طريق القناة العظمى الجارية الذي وصفه الرحالة كومينيز Comines بأنه ((أجمل شوارع العالم على الإطلاق)) وأضاف أنه ((عجز عن وصف ما حوته من جمال، وفخامة وثراء)).
ترى من أين جاءت هذه الثروة التي كانت مصدر هذه الفخامة؟(19/198)
لقد جاء بعضها من مائة من الصناعات - بناء السفن، والصناعات الحديدية، وصناعة الزجاج، ودبغ الجلود وصناعتها، وقطع الجواهر وتركيبها، وصناعة النسيج ... التي نظمت كلها في نقابات للحرف كبيرة عظيمة، تجمع صاحب العمل والأجير في الزمالة الوطنية. جاء بعض الثروة من هذه الناحية ولكن لعل معظمها جاء من أسطولها التجاري الذي كانت أشرعته تخفق فوق مياهها الضحلة، والذي كانت فسنه تحمل بضائع البندقية والبلاد التابعة لها في البر، والسلع الألمانية التي تأتي إليها من وراء جبال الألب، وتنقلها إلى مصر وبلاد اليونان، وبيزنطة، وآسية، ثم تعود من بلاد الشرق مثقلة بالحرير، والتوابل، والطنافس، والعقاقير الطبية؛ والأرقاء. وكانت قيمة صادراتها في السنين العادية تبلغ عشرة ملايين دوقية (250. 000. 000) (3)؛ ولم يكن في أوربا كلها مدينة أخرى تبلغ صادراتها هذا القدر؛ وكانت سفن البندقية ترى في مائة من المرافئ من طربزون على البحر الأسود، إلى قادس في أسبانيا، ولشبونة، ولندن، وبروج، بل وفي أسلندة نفسها (4). وكان التجارة يجتمعون من نصف الكرة الأرضية في السوق المالية مركز البندقية التجاري. وقد وضع لهذه الحركة التجارية نظام التأمين البحري، وكانت الضرائب المفروضة على الصادرات والواردات هي المصدر الرئيسي لموارد الدولة. وبلغ دخل حكومة البندقية السنوي في عام 1455 ثمانمائة ألف دوقية (20. 000. 000؟ دولار) بينما كان دخل فلورنس في ذلك العام نفسه 200. 000 دوقية، ونابلي 310. 000، والولايات البابوية 400. 000 وأسبانيا المسيحية كلها 800. 000 (5).
وكانت هذه التجارة هي التي تحدد الاتجاه السياسي لجمهورية البندقية لأنها كانت أكبر موارد هذه الجمهورية؛ فقد رفعت إلى مركز السلطان أرستقراطية تجارية جعلت من نفسها طبقة وراثية وسيطرت على جميع(19/199)
جهاز الدولة؛ وأوجدت عملاً نافعاً لسكان المدينة البالغ عددهم 190. 000 (في عام 1422)؛ وإن كانت قد جعلتها يعتمدون على الأسواق، والخامات والأطعمة الخارجية. وكانت البندقية سجينة في متاهتها البحرية، فأصبحت لذلك عاجزة عن إطعام سكانها إلا بالطعام المستورد من الخارج؛ ولم يكن في وسعها أن تحصل على المواد اللازمة لصناعتها إلا باستيراد الخشب، والمعادن، والفلزات، والجلد، والأقمشة؛ ولا تستطيع أن تؤدي أثمانها إلا بالبحث عن أسواق لمنتجاتها وتجارتها. وإذ كانت تعتمد على أرض القارة في الحصول على الطعام، والنافذ التجارية، والمواد الخام، فقد اشتبكت في سلسلة من الحروب لفرض سيطرتها على شمالي إيطاليا؛ وإذ كانت تعتمد كذلك على غير الأراضي الإيطالية فقد كانت قوية الرغبة في أن تسيطر على الأصقاع التي تفي بحاجتها: الأسواق التي تصرف فيها بضائعها، والطرق التي تجتازها تجارتها التي لا حياة لها بغيرها؛ ومن أجل هذا جعلتها ((الأقدار المسيطرة)) دولة استعمارية.
وهكذا كان محور تاريخ البندقية السياسي هو حاجاتها الاقتصادية؛ ولهذا فإنه لما حاول آل اسكاليجيري في فيرونا أو الكراربيسي في بدوا، أو الفيسكونتي في ميلان أن يبسطوا سلطانهم على الشمالي إيطاليا الشرقي، أحست البندقية بالخطر المحدق بها، وامتشقت السلاح دفاعاً عن نفسها؛ ولما خشيت أن تسيطر فيرارا على منصب البو حاولت أن تكون صاحبة القول الفصل في اختيار المركيز الحاكم فيها في توجيه سياسته، وقاومت ما تدعيه البابوية من أن فيرارا إقطاعية تابعة لها. وكانت الخطة التي جرت عليها في التوسع نحو الغرب سبباً في إغضاب التي كانت هي الأخرى تسعى للتوسع وبسط السلطان، ولما أن هاجم فلبوماريا قيسكونتي فلورنس (1423)، استنجدت الجمهورية التسكانية بالبندقية، وأبانت لها أن سيادة ميلان على تسكانيا لن تلبث أن تستولي على جميع إيطاليا الواقعة في(19/200)
شمال الولايات البابوية؛ وحدث في مجلس شيوخ البندقية نقاش طالما حدث مثله في التاريخ، فقد أخذ الدوج توماسو موتشينجو Tommaso Mocrenigo وهو يحتضر يدعو إلى السلم، وأخذ فرانتشيسكو فسكاري Francssco Foscari يدعو على شن حرب هجومية للدفاع عن المدينة؛ وكانت الغلبة لفسكاري، واشتبكت البندقية مع ميلان في سلسة من الحروب دامت من 1425 إلى 1454 ما عدا فترات من السلم قليلة. ثم كان موت فلبوماريا (1447)، والفوضى التي ضربت أطنابها في الجمهورية الأمبروازية في ميلان، واستيلاء الأتراك على القسطنطينية، فرأت الدول المتنافسة أن توقع فيما بينها معاهدة في لودي Lodi تركت جمهورية الجزرية منهوكة القوى ولكنها منتصرة.
وكان لبداية توسعها في البحر الأدرياوي سبب مشروع؛ فقد كانت هي الميناء الواقع في أقصى شمال البحر المتوسط؛ وكان هذا الموقع الجغرافي من أحسن المواقع بالنسبة للمدينة، ولكنه يصبح عديم الفائدة لها إذا لم تسيطر على البحر الأدرياوي. ذلك أن في الساحل الشرقي لهذا البحر مكامن لسفن القراصنة التي كانت غاراتها منشأ خسارة كثيرة وأخطار دائمة لمراكب البندقية؛ ولما أن أغرت البندقية الصليبيين بالرشا ليساعدوها على امتلاك زارا عام 1202، استولت بذلك على مركز استطاعت أن تطهو منه معششات للقراصنة عاماً بعد عام، وما زالت كذلك حتى قبل جميع ساحل دلماشا سيادتها. ولما استولى هؤلاء الصليبيين أنفسهم على المدينة القسطنطينية (1204) كان نصيب البندقية من مغانمهم جزيرة كريت (إقريطش) وسلانيك، وجزائر سكليديس، واسبوراديس وهي حلقات ثمينة في السلسلة الذهبية التجارية؛ ثم استولت بصبرها ومثابرتها على دورتسو Dorazzo، وساحل ألبانيا، وجزائر أيونيا (1386 - 1392)، وفريولي وإستريا (1418 - 1420)، ورافنا (1441)؛ فأضحت بذلك ملكة البحر الأدرياوي وبلا منازع، وفرضت رسوم المرور على جميع السفن التي تمر بهذا البحر والتي(19/201)
تملكها غيرها من المدن (6)؛ ولما صعب على القسطنطينية أن تدافع عن أملاكها النائية بسبب تقدم الأتراك العثمانيين نحو هذه العاصمة، خضعت كثير من الجزائر والمدن اليونانية طائعة إلى البندقية لأنها وجدت فيها القوة الوحيدة التي تستطيع حمايتها. وكانت لقبرص ملكة عظيمة تدعى كاترينا كرنارو Caterina Coenaro آخر أسرة لوزينيا Lusigna الحاكمة، واقتنعت هذه الملكة بأنها لا تستطيع الدفاع عن جزيرتها ضد الأتراك؛ فنزلت عن عرشها لحاكم من قبل البندقية (1489)، نظير معاش منها قدره ثمانية آلاف دوقية في العام؛ وأوت إلى ضيعة في أوسولو Osolo القريبة من تريفيزو، وأنشأت فيها بلاطاً غير رسمي، وأخذت تناصر الآداب والفنون، وأصبحت موضوع قصائد ومسرحيات غنائية تتحدث عنها أو تهدي إليها، وصور برسمها لها بليني؛ وتيشيان وفيرونيز غير المؤمنين.
ووجهت هذه الانتصارات كلها التي حققتها البندقية بالحرب تارة وبالدبلوماسية تارة أخرى؛ وهذه المنافذ، والموارد، والمعاقل التي استولت عليها تجارة البندقية، واجهت هذه كلها قوة الأتراك العثمانيين الناشئة الجارفة، وقد حدث في عام 1416 أن هاجمت حامية تركية في غاليبولي أسطولاً تملكه البندقية، وحارب البنادقة بشجاعتهم المعهودة، وانتصروا على الأتراك نصراً حاسماً، وعاشت الدولتان المتنافستان جيلاً من الزمان متهادنتين، وعقدت بينهما صداقة تجارية ارتاعت لها أوربا التي كانت تريد من البندقية أن تشترك في معركة أوربا ضد الأتراك. ولم يفصم شيء من الأحداث عرى هذا الاتفاق حتى سقوط القسطنطينية نفسه، فقد عقدت البندقية معاهدة تجارية سمحة مع الأتراك المنتصرين، وتبادلت المجاملات مع الغزاة الفاتحين. غبر أن وصول البنادقة إلى تجارة ثغور البحر الأسود المربحة أصبح من ذلك الوقت يعتمد على إذن الأتراك، وسرعان ما للقوا في سبيل ذلك كثيراً من القيود التي ضايقتهم مضايقة شديدة. ولما أن أعلن البابا بيوس Pius الثاني حرباً دينية على الأتراك معبراً عن عواطفه المسيحية ومصالح أوربا التجارية وعاهدته(19/202)
الدول الأوربية على أن تمده بالعتاد والرجال، استجابت البندقية إلى دعوته وكانت تأمل أن تتكرر الأحداث التي وقعت في عام 1204. ولكن الدول نكثت عهودها، وألفت البندقية نفسها منفردة في حربها ضد الأتراك (1463)، وظلت تواصل الحرب ستة عشر عاماً، وانتهت بهزيمتها وانتهابها، ثم وقعت معاهدة تخلت بمقتضاها لهم جزيرة نجروينت Negroponte ( عويبة ( Eubcea)) وشفودره، وشبه جزيرة المورة، ودفعت غرامة حربية مقدارها 100. 000 دوقية، وتعهدت بأداء عشرة آلاف دوقية في كل عام نظير تمتعها بالاتجار مع الثغور التركية. وأعلنت أوربا أنها قد خانت بعملها هذا العالم المسيحي، ولما أن دعا بابا آخر إلى حرب صليبية ضد الأتراك أعارت البندقية هذه الدعوة أذناً صماء، وكانت بذلك متفقة مع أوربا على أن التجارة أعظم شأناً من المسيحية.(19/203)
الفصل الثالث
حكومة البندقية
لقد حكومة البندقية موضع إعجاب أصدقائها وأعدائها على السواء؛ وكان أعدائها أنفسهم يرسلون عمالهم يدرسون نظمها وأساليب عملها. وكانت أداتها الحربية تتكون من أقدر أسطول بحري وجيش بري في إيطاليا. فقد كان لها في عام 1423، فضلاً عن أسطولها التجاري الذي يستطاع تحويله في وقت الحاجة إلى سفن حربية، عمارة بحرية مؤلفة من ثلاث وأربعين سفينة تساعدها ثلاثمائة سفينة صغرى (7). وكانت هذه السفن تستخدم في الحروب التي تقوم بها القوات البرية في إيطاليا؛ فقد حدث في عام 1439 أن جرت هذه السفن على الأرض فوق بكرات كبار تخطت بها الجبال والسهول حتى أنزلت في بحيرة جاردا Garda ومنها أطلقت نيرانها على أملاك ميلان (8). وبينما كانت غيرها من الدول الإيطالية تستخدم في حروبها جنود مرتزقة، أنشأت البندقية لها جيشاً مجنداً من أهلها المخلصين الأوفياء، المضرسين المدربين على القتال، المسلحين بأحدث أنواع البنادق والمدافع. أما قواد الجيش فقد كانت تعتمد في الحصول عليهم على المغامرين الذين تمرسوا على أساليب النهضة في الكر والفر. وسمت البندقية في حربها مع ميلان بمواهب ثلاثة من أشهر هؤلاء المغامرين هم فرانتشيسكو جرمنيولا، وإرزمو دا نارني Erasmo da Narni المعروف باسم جتاميلانا Gattamelata، وبارتولميو كليوني؛ وقد أشتهر الثاني والثالث من هؤلاء بقوانينهما التاريخية، كما أشتهر أولهم بأن رأسه قطع في ميدان البندقية الصغير بتهمة دخوله في مفاوضات مع العدو.
وكانت هذه الحكومة، التي حاولت المدن الأخرى محاكاتها حتى(19/204)
فلورنس نفسها، ألجركية مغلقة. مقصورة على الأسر القديمة التي اغتنت من قديم الزمان بالتجارة غنى أصبح مألوفاً لديهم إلى حد لا يستطيع معه أحد منهم أن يحس بما للمال من شأن في مركزه إلا البادئون. وقد استطاعت هذه الأسرة أن تحدد عضوية المجلس الأكبر فتقصره على الذكور من أبناء الرجال الذين كانوا أعضاء في المجلس من عام 1297؛ ولهذا سجلت في عام 1315 أسماء جميع المرشحين لهذا المجلس في كتاب ذهبي، وكان على المجلس أن يختار من بينهم ستين - صاروا فيما بعد مائة وعشرين ((مدعوا Pregadi)) يعملون في فترات تدوم عاماً كاملاً بوصفهم مجلس شيوخ تشريعي؛ ويعين المجلس رؤساء المصالح الحكومية الكثيرة العدد الذين تتكون منهم الهيئة الإدارية؛ ويختار رئيس الهيئة التنفيذية - الخاضع على الدوام لهذا المجلس - وهو الدوج أو الزعيم الذي يتولى رياسته ورياسة مجلس الشيوخ، ويحتفظ بمنصبه مدى الحياة إلا رأى المجلس أن يخلعه. ويعاون الدوج في عمله ستة مستشارين يؤلفون معه مجلس السيادة Signoria. ويكون هذا المجلس الشيوخ حكومة البندقية الحقيقية من الناحية العملية؛ فقد تبين أن كثرة أعضاء المجلس الأكبر تحول بينه وبين العمل الجدي القوي ولهذا أصبح في واقع الأمر هيئة من الناخبين يمارس حق التعيين والإشراف. لقد كان هذا الدستور صالحاً يمكن من العمل، وكان له الفضل في أن يشيع الرخاء بين الشعب في الأحوال العادية، ويستطيع أن يضع قواعد السياسة المرسومة المدروسة الطويلة الأمد، التي لا تستطيع وضعها حكومة تتعرض لتقلبات انفعالات الشعب وعواطفه. ولم تظهر كثرة الشعب تذمرها من قيام هذه الأقلية بالحكم وإن كانت محروما من المناصب العامة؛ وقد حدث في عام 1310 أن ثارت على الحكومة جماعة من الأشراف المحرومين من الحكم بزعامة باجامنتي تيبولو Bajamante Tiepolo وأن تأمر الدوج مارينو فاليري Marino Faliere(19/205)
في عام 1355 ليجعل من نفسه حاكماً بأمره، ولكن المحاولتين قضى عليهما من غير كبير عناء.
وأراد المجلس الأكبر أن يحتاط من المؤامرات الداخلية والخارجية، فكان يختار من بين أعضائه في كل عام هيئة من عشرة أعضاء يكونون لجنة للأمن العام؛ أصبحت في وقت ما أقوى هيئة في الحكومة بفضل جلستها ومحاكمتها السرية، وعيونها وإجراءاتها السريعة. وكثيراً ما كان السفراء يرسلون إليها التقارير السرية، ويرون أن أوامرها ملزمة لهم أكثر من أوامر مجلس الشيوخ؛ وكان لكل قرار تصدره قوة القانون كاملة. وكان عضوان أو ثلاث أعضاء منها يندبون في كل شهر ليقوموا بعمل مفتشي الدولة يبحثون بين الأهلين والموظفين عن كل ما تشتم منه رائحة الخطأ أو الخيانة. وقد نسجت حول هذه الهيئة الصغيرة أقاصيص يبالغ معظمها في سرية أعمالها وفي قسوتها. ولكنها كانت تبلغ قراراتها وأحكامها إلى المجلس الأكبر، ومع أنها كانت تجيز وضع الاتهامات السرية في أفواه تماثيل رءوس الآساد المنتشرة في أنحاء المدينة فإنها كانت ترفض البحث في أية تهمة لا تحمل توقيع من يواجهها، أو لا تعرض اسمي شاهدين يؤيدانها (9)؛ ثم هي بعد هذا تتطلب أن يوافق عليها بأغلبية أربعة أخماس اللجنة قبل أن تقيد التهمة على صاحبها (10). وكان من حق كل من يقبض عليه أن يختار محامين للدفاع عنه أمام مجلس العشرة (11)؛ ولم يكن حكم الإدانة يصدر إلا بعد أن تقره أغلبية الأعضاء في ثلاثة اقتراعات متتالية؛ وكان عدد الأشخاص الذين حكم عليهم مجلس العشرة بالسجن ((قليلاً جداً)) (12). بيد أنها مع ذلك لم تكن تستنكف أن تدبر اغتيال الجواسيس، وأعداء البندقية في الدول الأجنبية (13). ولما أحس مجلس الشيوخ في عام 1582 أن مجلس العشرة قد أدى الغرض المقصود(19/206)
منه، وأنه كثيراً ما تعدى السلطة المخولة له، حد من سلطانه، وأصبح المجلس منذ ذلك الحين لا وجود له إلا بالاسم.
وكان القضاء الأربعون المعينون من قبل المجلس الأكبر هيئة قضائية حازمة صارمة؛ وكانت القوانين واضحة الصياغة تنفذ تنفيذاً دقيقاً على الخاصة والعامة سواء بسواء؛ وكانت العقوبات شاهداً واضحاً على قسوة ذلك العصر، فكان السجن في معظم الأحيان في حجرات انفرادية ضيقة لا ينفذ إليها إلا أقل قدر مستطاع من الضوء والهواء؛ وكان الجلد، والكي بالنار، وبتر الأعضاء، وسمل العيون، وقطع اللسان، وتهشيم الأطراف على العذراء وما شابهها من الأدوات، عقوبات يقرها القانون. وكان من المستطاع خنق المحكوم عليه بالإعدام داخل السجون، أو إغراقهم في الماء سراً، أو شنقهم في نافذة من نوافذ قصر الدوج، أو حرقهم وهم مشدودون على عمود الإحراق. أما الذين ارتكبوا جرائم شنيعة أو سرقات من الأماكن المقدسة فكانوا يعذبون بالملاقط التي تحمى في النار حتى تحمر، ثم تجرهم الجياد في شوارع المدينة، ثم تقطع رءوسهم وتمزق أشلاؤهم (14). وكأنما أرادت البندقية أن تكفر عن هذه الوحشية، فكانت تفتح أبوابها للاجئين السياسيين والعقليين، وكان لها من الجرأة ما مكنها من أن تحمي إلزبتا جندساجا وجيدوبلدو من وحشية بورجيا، حين أرغم الخوف إزبلا أخت زوجها على أن تخرجها من بلدتها مانتوا.
وأكبر الظن أن تنظيمها الإداري كان خير النظم في أوربا في القرن الخامس عشر، وإن كان الفساد قد وجد سبيله إليها كما وجدها إلى سائر الحكومات. وقد أنشئ فيها مكتب للصحة العامة في عام 1385؛ واتخذت الإجراءات الكفيلة بتزويد المدينة بماء الشرب النقي ومنع تكون المستنقعات. وكان بالمدينة مكتب آخر مهمته تحديد أيمان المواد الغذائية؛ وأنشئ نظام للبريد داخل المدينة وخارجها لا يقتصر واجبه على أعمال(19/207)
الحكومة بل يحمل أيضاً رسائل الأفراد وينقل الطرود (15). وكان الموظفون العموميون المتقاعدون يتقاضون معاشات من الدولة، ووضعت النظم الكفيلة بإعادة أراملهم وأبنائهم اليتامى (16). وبلغت إدارة الأملاك التابعة للبندقية في إيطاليا من العدل والكفاية بالنسبة لما كانت عليه من قبل درجة كفلت لها من الرخاء ما لم تستمتع به في أي عهد سابق، وما جعلها تعود مسرعة إلى الولاء للبندقية بعد فصلتها عنها صروف الحرب (17). أما إدارة البندقية للبلاد التابعة لها وراء البحار فلم تكن خليقة بكل هذا الثناء؛ ذلك أنها كان ينظر إليها قبل كل شيء على أنها غنائم الحرب، فكان كثير من أرضها الزراعية يوهب لأشراف البندقية وقواد جيشها، وقلما كان السكان الوطنيون يصلون إلى المناصب العليا وإن ظلت لهم نظم حكومتهم المحلية. أما من حيث علاقتها بغيرها من الدول فقد كان مبعوثوها الدبلوماسيون يؤدون إليها أجل الخدمات، وقل من الحكومات ما كان لها مراقبون يقضون ومفاوضون أذكياء مثل بورناردو موستنياتي؛ وكثيراً ما كسبت البندقية بالدبلوماسية ما خسرته في الحروب مسترشدة في ذلك بتقارير سفرائها الواسعي الاطلاع، وسجلات هيئاتها الحكومية الدقيقة وحسن تصريف مجلس شيوخها (18).
وإذا ما نظرنا إلى هذه الحكومة من الناحية الأخلاقية لم نجدها خيراً من سائر حكومات ذلك العصر، بل إنها كانت أسوأ منها من ناحية التشريعات الخاصة بعقاب المجرمين. فقد كانت هذه الحكومة تعقد الأحلاف وتنقضها حسب تقلب مصالحها، لا يحول بينها وبين سياستها وازع من ضمير أو عاطفة ولاء. لقد كان هذا هو القانون الذي يسير عليه جميع الدول في عصر النهضة، والذي لم يتردد المواطنون في العمل به، فكانوا يرحبون بكل ما تناله البندقية من نصر أياً كانت الوسيلة التي تناله بها؛ وكانوا يبتهجون بقوة الدولة وثباتها، ويولونها وقت الحاجة من ضروب(19/208)
الوطنية ويؤدون إليها من الخدمات ما لا نجد له مثيلاً في الدول المعاصرة لها؛ وكانوا يعظمون الدوج تعظيماً لا يعلوا إلا تعظيمهم الله وحده.
وكان الدوج في العادة وكيل المجلس الأكبر ومجلس الشيوخ، ولم يكن هو سيد المجلسين إلا في الأحوال الاستثنائية المحضة؛ وكانت الأبهة التي تحيط به تعلو كثيراً على سلطانه؛ فقد كان إذا ظهر أمام الجماهير ارتدى أفخم الثياب، وأثقل الجواهر، وكانت قلنسوته الرسمية وحدها تحتوي من الجواهر ما قيمته 194. 000 دوقية (4. 850. 000؟ دولار) (19)؛ ولربما كانت حلله التي علمت المصورين البنادقة الألوان الفخمة التي جرت بها أقلامهم، وشاهد ذلك أن عدداً من أعظم صورهم لآلاء يمثل الدوج في حلله الرسمية. وكان مصدر هذه الفخامة أن البندقية تؤمن بالاحتفالات والمظاهر تؤثر بها في نفوس السفراء والزوار، ترهب بها الأهلين، وتخلع من الأبهة ما تستعيض به عن السلطان. وحتى الدوقة نفسها كان يحتفل بتتويجها أعظم احتفال وأفخمه. وكان الدوق هو الذي يستقبل كبار الوافدين عليه من الأجانب، ويوقع جميع الوثائق الهامة المتصلة بأعمال الدولة، وكان له نفوذ شامل واسع متصل يضمنه له بقاؤه في منصبه مدى الحياة بين أشخاص يختارون لعام واحد لا أكثر؛ أما من الوجهة النظرية فلم يكن أكثر من خادم الحكومة والناطق بلسانها.
وتمر بنا في تاريخ البندقية سلسلة طويلة متصلة من الأدواج ذوي مجد وفخامة، ولكن عدداً قليلاً منهم هم الذين طبعوا شخصيتهم على صفات الدولة ومصائرها. نذكر من بينهم فرانتشيسكو فسكاري الذي اختاره المجلس الكبير ليخلف توماسو متشينيجو على الرغم من خطابه البليغ وهو يحتضر. وجلس الدوج الجديد على العرش في الخمسين من عمره، ورفع البندقية من خلال حكمه الذي دام أربعة وثلاثين عاماً (1423 - 1457) إلى ذروة قوتها، وأراق فيها أنهاراً من الدماء، وخاض فيها كثيراً من(19/209)
العواصف، وهزم فيها ميلان، واستولى على برجامو، وبريشيا، وكرمونا، وكريما. ولكن سلطة الدوج الاستبدادية المطردة النماء أثارت غيرة مجلس العشرة، فاتهمه بأنه نجح في الانتخاب باستخدام الرشوة، فلما عجزوا عن إثبات هذا الادعاء اتهموا ابنه باقوبو بالخيانة بميلان (1445)، واضطر ياقوبو تحت تأثير التعذيب على العذراء أن يقر بذنبه أو يدعي أنه ارتكبه، فنفي على أثر ذلك إلى رومانيا Rumania ولكنه سمح له بعد قليل أن يعيش بالقرب من تريفيزو. وحدث في عام 1450 أن اغتيل أحد مفتشي مجلس العشرة، واتهم ياقوبو بارتكاب الجريمة، ولكنه أنكرها وأصر على هذا الإنكار رغم ما لاقاه من أقسى أنواع التعذيب، ثم نفي إلى كريت حيث أصيب بالجنون من فرط الحزن والعزلة، وأعيد إلى البندقية في عام 1456، واتهم مرة أخرى بالاتصال سراً بحكومة ميلان، فاعترف بهذا الاتصال وعذب حتى أشرف على الموت، وأعيد إلى كريت حتى وافته المنية بعد وقت قصير. وانهارت قوة الدوج الطاعن في السن أمام هذه المحاكمات التي عجز عن الوقوف في سبيلها رغم مكانته العالية بعد أن قاسى أهوال الحرب الطويلة البغيضة للشغب وتبعاتها، وصبر على محنها صبر الكرام. ولما بلغ السادسة والثمانين من عمره أصبح عاجزاً عن حمل أعباء منصبه، خلعه المجلس الكبير وخصص له معاشاً سنوياً قدره ألفا دوقية، فآوى إلى بيته حيث مات بعد أيام قليلة على أثر انفجار أحد الشرايين بينما كانت أجراس البرج تعلن جلوس دوج جديد على العرش.
وكانت انتصارات فسكارى قد جرت على البندقية حقد جميع الدول الإيطالية لأن واحدة منها لم تعد تشعر بالأمن والطمأنينة أمام قوتها الغاصبة، ولهذا تكونت ضدها أكثر من عشرة أحلاف، وانتهى الأمر بانضمام فيرارا ومانتوا، ويوليوس الثاني، وفريناند ملك أسبانيا، ولويس الثاني عشر ملك فرنسا، والإمبراطور مكسميليان، وتكوينها فيما بينها عصبة كميرية The League of Cambria بقصد تحطيم قوتها. وكان ليوناردو لورندينو(19/210)
(1501 - 1521) هو الدوج أثناء هذه الأزمة، وقاد الشعب خلالها قيادة حكيمة قوية لا يستطيع الإنسان تصديقها، ولا تكشف الصورة الجميلة التي رسمها جيوفني بليني إلا عن شطر صغير منها. وانتزع من البندقية كل ما كانت قد ظفرت به من المكاسب على أرض القارة خلال مائة عام من التوسع استعانت عليه بالقوة، ولم يترك لها إلا القليل الذي لا يغني، ثم حوصرت هي نفسها. وصهر لوردانو صحاف المائدة وسكها نقوداً، وجاء الأشراف بثروتهم المدخرة ليمولوا بها أعمال المقاومة، وطرق صانعوا الأسلحة مائة ألف منها، وتسلح كل رجل ليحارب في جزيرة بعد جزيرة دفاعاً عن قضية ميئوس منها. ونجت البندقية، أنجت نفسها بمعجزة، واستردت بعض أملاكها في القارة، ولكن الجهود التي بذلتها في الحرب أقفرت مواردها المالية وأضعفت روحها المعنوية، ولما مات لوراندو أدركت البندقية أن ما بلغته من عظمة ومجد في المال والسلطان قد آذن بالزوال وإن كان لا يزال أمامها خمسة وسبعون عاماً من أعمال تيشيان والكثرة الغالبة من أعمال تنتورتو وفيرونيز.(19/211)
الفصل الرابع
الحياة في البندقية
كانت العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر والعقود الأولى من القرن السادس عشر أعظم الفترات روعة وأكثرها فخامة في حياة البندقية، فقد كانت تصب في جزائرها مكاسب التجارة العالمية التي عقدت الصلح مع الأتراك، ولم تنقص نقصاناً كبيراً بكشف الطريق حول أفريقية أو فتح المحيط الأطلنطي للملاحة، وتوجت هذه الجزائر بالكنائس، وأحيطت القنوات بالقصور، وامتلأت هذه القصور بالمعادن الثمينة والأثاث الغالي الثمين، وزينت النساء بالثياب الفخمة والجواهر الغالية، وأمدت هذه المكاسب طائفة كبيرة من الرسامين بالمال الكثير، وأنفقت الأموال بسخاء على الحفلات الباهرة في القوارب المزدانة بالطنافس، والمواكب المقنعة وخرير الماء المختلط بالموسيقى والغناء.
أما حياة الطبقات الدنيا فكانت هي حياة الكدح الرتيب المألوف، يخفف منه نوعاً ما الفراغ والثرثرة اللذان تتسم بهما إيطاليا، وعجز الأغنياء عن أن يحتكروا مبادئ العشق إلا بين أعلى الطبقات. وكانت القناة الكبرى وكل قنطرة مقوسة تموج بالرجال يحملون غلات نصف العالم، وكان في المدينة من الأرقاء أكثر ممن في غيرها من المدن الأوربية؛ وكان أكثرهم يؤتى بهم من الشرق، ولم يكونوا يستخدمون في الأعمال الشاقة، بل كانوا يعملون خدماً في البيوت، وحراساً خصوصيين، وكانت الجواري يعملن مرضعات، وخليلات، وكان للدوج بيترو مدتشينجو وهو في سن السبعين جاريتان تركيتان يستمتع بهما (20)، ويقول أحد سجلات البنادقة أن رجلاً من رجال الدين باع جارية لزميل آخر من طائفته،(19/212)
ولكن عقد البيع ألغي في اليوم الثاني لأن المشتري الجديد وجد الجارية حاملاً (21).
ولم تكن الطبقات العليا متعطلة خاملة رغم ما كانت تستمتع به من نعيم؛ فقد كان الكثيرون منهم حين يبلغون أشدهم يشتغلون بالتجارة، والأعمال المالية، والدبلوماسية، وفي شئون الحكم والحرب، ويظهرهم ما لدينا من صورهم أيضاً رجال جد أقوياء الشعور بما عليهم من واجبات. وكانت أقلية منهم تلبس الحرير والفراء، ولعلها كانت تفعل ذلك لتسر المصورين الذين كانوا يرسمونها؛ وكانت طائفة من شبان الطبقات الموسرة - مثل جماعة الجورب La Compagna della Scalza - تزدهي بصدرياتها الضيقة، وخزها المقصب، وجواربها المخططة المطرزة بخيوط الذهب أو الفضة، أو المطعمة بالجواهر. لكن كل شاب شريف كان يخفف من فخامة ثيابه حين يصبح عضواً في المجلس الأكبر؛ فقد كان يطلب إليه حينئذ أن يرتدي ((الطوجة)) (الشملة الرومانية)، لأن هذا الثوب يكاد يضفي الكرامة على كل من يلبسه من الرجال، والسرية والخفاء على كل من تأتزر به من النساء. وكان الأشراف يكشفون عن ثرائهم الخفي من حين إلى حين في قصورهم الفخمة بالمدينة، أو في حدائق بيوتهم الريفية في مورانو Murano أو غيرها من ضواحي حين يستقبلون بالذبح زائراً أو يحيون ذكرى حادث خطير في تاريخ المدينة أو الأسرة. من ذلك أن الكردنال جريماني Grimani أعد حفلة استقبال لرانتشيو فرنيزي Ranuccio Farnese (1542) ، دعا إليها ثلاثة آلاف ضيف، جاء معظمهم في قمرات بالجندولات، مفرشة بالمخمل والوسائد المريحة، وأعد لهم الموسيقى والألعاب البهلوانية، والمشي على الحبال، والرقص، والطعام والشراب. لكن أشراف البندقية كانوا في الأحوال العادية، معتدلين في حياتهم، وفي طعامهم وشرابهم، وثيابهم، وكانوا يعملون لكسب بعض ما ينفقون.(19/213)
ولعل الطبقات الوسطى كانت أسعد أهل المدينة، وكانت تشترك وهي مرحة في المباهج الخاصة والعامة؛ وكان من هذه الطبقات صغار رجال الدين، وموظفو الحكومة، والأطباء، ورجال النيابة العامة، ورجال التعليم، والمشرفون على الصناعة ونقابات الحرف، والأعمال الحسابية في المصارف الأجنبية، والقائمون على التجار المحلية. ولم يكن يقلق بالهم حرصهم على الاحتفاظ بالمال الكثير كما يحرص الأغنياء، أو الكدح المتواصل لإطعام صغارهم وكسائهم كما يكدح الفقراء؛ وكانوا كغيرهم من الطبقات يلعبون الورق، والنرد، ويقضون الساعات في لعبة الشطرنج، ولكنهم قلما كانوا يتورطون في لعب الميسر حتى تخرب بيوتهم. وكان يطيب لهم أن يعزفوا على الآلات الموسيقية، ويغنوا ويرقصوا. وكانوا لضيق منازلهم أو مساكنهم يتنزهون ويقضون الوقت في الشوارع، وهي تكاد تخلو من الخيل والمركبات لأن وسيلة النقل المفضلة هي القنوات. ولهذا لم يكن من غير المألوف لدى الطبقات التي لا تميل كثيراً إلى السكون والجلوس أن تقيم في بعض الأمسيات في الأيام العادية أو في أيام الأعياد حفلات رقص وغناء في الميادين العامة لا تقتضيها شيئاً من سابق الاستعداد. وكانت لكل أسرة آلاتها الموسيقية وفيها أفراد يمكن الاستماع إلى أصواتهم؛ وكانوا شديدي التأثر بالغناء، وشاهد ذلك أنه لما أن تزعم أدريان ولارت Adrian Willaert جماعتي المرنمين في كنيسة القديس مرقس، واستمع الآلاف الذين استطاعوا دخول الكنيسة إلى هذه الترانيم، قلبوا شعارهم الشهير الذي كانوا يفخرون به وأصبحوا وقتاً ما مسيحيين أولاً وبنادقة فيما بعد.
وكانت حفلات البندقية أعظم الحفلات الأوربية فخامة، وذلك لما كان يحيطها من الكنائس، والقصور، والبحر؛ وكانت كل مناسبة يتذرع بها لإقامة الحفلات أو المواكب الفخمة كتتويج الدوج، أو عيد ديني، أو يوم عطلة قومية، أو زيارة كبير أجنبي، أو يوقع صلح مرضي، والجارنيجليو(19/214)
Gharingello أو عيد النساء، أو مولد القديس مرقس، أو مولد شفيع إحدى النقابات. وكانت ألعاب المثاقفة لا تزال أهم ألعاب الحفلات في القرن الرابع عشر؛ وليس أدل على هذا من أنه حين أقامت البندقية استقبالاً فخماً لملكة قبرص بعد نزولها عن العرش في عام 1491، احتوى هذا الحفل على ألعاب للمثاقفة قام بها جنود من كريت فوق ماء القناة الكبرى المتجمد، غير أن المثاقفة كانت تبدو من الألعاب التي لا تناسب الدولة البحرية، ولهذا استبدل بها تدريجياً نوع من الحفلات المائية كانت في العادة سباق الزوارق. وكان أعظم حفلات السنة كلها حفلة زواج البحر، وهو احتفال من أعظم الاحتفالات فخامة يمثل زواج البندقية - صاحبة العظمة والجلال La Serenissima - إلى البحر الأدرياوي. ولما قدمت إلى البندقية في عام 1493 بيتريس دست مبعوثة لدوفيكو صاحب ميلان الفاتنة، زينت القناة الكبرى على طولها كله زينة الطرق الفخمة في الأيام المسيحية، وخرجت لاستقبالها بوتشينتور Bucentour، ممثلة لدولة البندقية ومزدانة كلها بالأرجوان والذهب، يحف بها ألف قارب تسير بالأشرعة أو المجاذيف، مزدانة كلها بأكاليل الزهر والأعلام الملونة؛ وبلغ عدد القوارب من الكثرة درجة غطت صفحة الماء كله حتى تعذرت رؤيته في دائرة لا يقل نصف قطرها عن ميل، كما يقول أحد متحمسي المؤرخين.
وقد وصفت بيتريس في رسالة بعثت بها من البندقية حفلة تنكرية أقيمت لتكريمها في مقر الدوج بهذه المناسبة. وكانت حفلة تمثيلية معظمها من النوع الإيمائي الصامت يقوم بها ممثلون مقنعون يسمون المتنكرين. وكان البنادقة مولعين بأنواع مختلفة من هذا التمثيل، وظلوا حتى عام 1462 محتفظين بالتمثيلات الدينية ((الخفية))، ولكن الشعب اضطر القائمين بتمثيلها إلى أن يقدموا لها أو يمثلوا بين فصولها مناظر هزلية فاسدة مضطربة إلى حد اضطرت الدولة معه إلى تحريمها في ذلك العام. وكانت الحركة الإنسانية(19/215)
في هذه الأثناء قد جددت علم الإيطاليين بالمسالي اليونانية والرومانية القديمة فمثلت ((جماعة الجورب Compagna della Scalza)) وغيرها من الجماعات مسرحيات بلوتوس وترنس، وكذلك مثل جيوفني أرمونيو الراهب، والممثل، والموسيقي في عام 1506 مسرحية استفانيوم Stephanium أولى المسالي الحديثة باللغة اللاتينية في دير الإريمتاني Eremitani. وأخذت مسلاة البندقية تخطو من هذه البداية إلى الأمام نحو مسرحيات جلدوني Goldoni، وكانت في أثناء تقدمها تنافس المهازل الماجنة أو المهرجة ولم تكن أحياناً تقل عنها في الفكاهة البذيئة الطليقة، وبلغت في ذلك حداً اضطرت معه الكنيسة والدولة إلى الاشتباك في حرب دائمة مع مسرح البندقية.
وكان الفجور والدعارة يوجدان في أخلاق البنادقة والإيطاليين إلى جوار الاعتقاد الديني القوي، والصلاح الذي يتمثل في الصلوات والذهاب إلى الكنائس كل أسبوع. فقد كانت كنيسة القديس مرقس تزدحم في أيام الآحاد والأعياد المقدسة بالوافدين إليها لتلقي على مسامعهم مواعظ ملآى بالرهبان الدينية والأمل في النجاة تحيط بهم نقوش الفسيفساء أو تماثيل القديسين، أو النقوش. وكان ظلام الكهوف المعمدة المقصود يزيد من رهبة الصور الدينية والمواعظ؛ وحتى العاهرات كن يأتين إلى ذلك المكان بعد أن يسأمن صناعتهن طوال الليل، يخفين المنديل الأصفر الذي يحتم عليهن القانون لبسه رمزاً لجماعتهن، وذلك لكي يطهرن نفوسهن بالأدعية والصلوات. وكان مجلس شيوخ البندقية يرحب بتقوى الشعب هذه ويحيط الدوج والدولة بكل ما تخلعه المراسم الدينية من رهبة، حتى لقد أنفق الأموال الطائلة في استيراد مخلفات القديسين الشرقيين من القسطنطينية بعد سقوطها، وعرض أن يؤدي عشرة آلاف دوقة ليظفر برداء المسيح غير المخيط.
ومع هذا فإن مجلس الشيوخ نفسه الذي يشبّهه بترارك بمجلس من الآلهة (22) كثيراً ما سخر من سلطة الكنيسة، وتجاهل أشد القرارات البابوية(19/216)
رهبة، ولم يبال بلعناتها وقرارات حرمانها، وظل يرحب باللاجئين من المتشككين المتبصرين (حتى عام 1527) (23)، ووجه أشد اللوم لأحد الرهبان لأنه هاجم يهودياً (1512)، وحاول أن يجعل الكنيسة في البندقية من أملاك الدولة؛ فكان هو الذي يختار الأساقفة لأبرشيات البندقية، ثم يعرضهم على روما لتوافق على اختيارهم؛ وكثيراً ما كان تعيينهم يتم فعلاً وإن رفضت روما الموافقة على اختيارهم. ولم يكن أسقف يعين في أسقفية بندقية بعد عام 1488 إلا إذا كان من أهل البندقية نفسها، ولم يكن يسمح لأحد من رجال الكنيسة في البندقية أو أملاكها بأن يجمع إيراداً لها أو ينفقه في مصالحها إلا إذا كانت الحكومة قد وافقت على تعيينه. وكانت الكنائس والأديرة خاضعة للتفتيش عليها من قبل الدولة؛ ولم يكن من حق أحد من رجال الكنيسة أن يتولى منصباً عاماً (24). وكان ما يوصى به للأديرة أو مؤسساتها يؤدي ضريبة للدولة، وكانت المحاكم الكنسية تفرض عليها رقابة شديدة لكي تتأكد الدولة من أن المذنبين من رجال الدين يعاقبون بما يعاقب به غيرهم. وظلت الجمهورية زمناً طويلاً تقاوم دخول محكمة التفتيش في المدينة، ولما سلمت بذلك آخر الأمر جعلت تنفيذ أحكام محكمة التفتيش في البندقية مشروطاً بمراجعة لجنة من مجلس الشيوخ والموافقة عليها؛ وبهذا لم تصدر هذه المحكمة إلا ستة أحكام بالإعدام في تاريخ محكمة التفتيش بمدينة البندقية بأجمعه (25). وأصرت الحكومة في كبرياء على أنها في المسائل الزمنية ((لا تعترف بسلطة عليا إلا سلطة الجلالة القدسية)) (26)؛ وكانت تنادي جهرة بالمبدأ القائل أن مجلس عاماً من أساقفة الكنيسة أعلى سلطة من البابا، وإن أحكام البابوات يمكن أن تستأنف إلى مجلس يعقد بعد صدورها. وأيدت الدولة ذلك حين صب البابا سكستس الرابع اللعنة على المدينة (1483) فما كان من مجلس العشرة إلا أن أمر جميع رجال الدين بأن يواصلوا خدماتهم كما اعتادوا قبل؛ ولما جدد يوليوس الثاني اللعنة واتخذها جزءاً من الحرب التي شنها(19/217)
على البندقية، منع مجلس العشرة نشر قرار اللعنة في جميع أملاك البندقية، وأمر عماله في روما بأن يلصقوا على أبواب كنيسة القديس بطرس استئنافاً للحكم لمجلس يعقد فيما بعد (1509) (27). لكن يوليوس انتصر في هذه الحرب وأرغم البندقية على أن تعترف بأن سلطته الروحانية سلطة مطلقة لا معقب لها.
وملاك القول أن الحياة في البندقية كانت في الجو المحيط بها أكثر بهجة منها في روحها. ولقد كانت الحكومة حازمة عظيمة الكفاية، وأظهرت في الشدائد شجاعة نادرة، ولكنها كانت في بعض الأحيان ذات قسوة وحشية، وكانت على الدوام تتسم بالأنانية؛ فلم تكن في يوم من الأيام تفكر في البندقية على أنها جزء من إيطاليا، ويبدو أنها قلما كان يهمها ما عساه يصيب تلك البلاد الممزقة من مآس. ولقد أنجبت البندقية رجالاً ذوي شخصيات قوية - يعتمدون على أنفسهم، ذوي بصيرة ودهاء، وقادرين على الكسب، شجعاناً، ذوي أنفة وكبرياء. وإنا لنعرف الكثيرين منهم من صورهم التي رسمها لهم فنانون كانوا يناصرونهم بالقدر الذي كان عندهم من الظرف والرقة لا يزيدون عليه. ولقد كانت حضارة البندقية إذا قيست بحضارة فلورنس، تنقصها المهارة والعمق، وإذا قيست بحضارة ميلان في عهد لدوفيكو تعوزها الرقة والرشاقة، ولكنها أكثر الحضارات التي عرفها التاريخ بهجة، وفخامة، وشهوانية ساحرة خلابة.(19/218)
الفصل الخامس
فن البندقية
1 - العمارة والنحت
الطابع الحسي هو أساس فن البندقية لا تستثنى من ذلك عمارتها نفسها، فقد كان في كثير من كنائس البندقية وقصورها، وبعض مباني الأعمال منها، فسيفساء ومظلمات على واجهاتها. وكانت واجهة كنيسة القديس مرقس تتلألأ بالذهب والزينة التي وضعت فيها وضعاً يكاد يكون خبط عشواء؛ وكان يأتي إليها في كل عشر سنين أو نحوها مغانم جديدة وأشكال جديدة حتى أضحى وجه المزار العظيم خليطاً من العمارة، والنحت، والفسيفساء، يطغي فيه الزخرف على البناء، وتُنْسِي فيه الأجزاء الوحدةَ والكلَّ. وإذا شاء الإنسان أن ينظر إلى تلك الواجهة بشيء أحب من الدهشة، وجب عليه أن يقف على بعد 576 قدماً منها عند الطرف الأقصى لساحة القديس مرقس Piazza San Marco؛ فعلى هذا البعد تمتزج أمام عينيه مجموعة المداخل الرومانسية، والمنحنيات المحدبة القوطية، والعمد الرومانية القديمة، والأسيجة التي من طراز عهد النهضة، والقباب البيزنطية، تمتزج هذه كلها في صورة خيالية عجيبة أشبه بحلم علاء الدين السحري.
ولم تكن الساحة وقتئذ رحبة فخمة كما هي الآن؛ فقد ظلت حتى القرن الخامس عشر غير مرصوفة، وكان جزء منها تشغله الأشجار والكروم، وجزء منها فناء لقطاع الأحجار وجزء آخر مرحاضاً. ثم رصفت بالآجر في عام 1495؛ وفي عام 1500 صب ألسندور ليوباردي لصواري الأعلام الثلاثة قواعد لم تفقها قط أية صواري أنشئت بعد ذلك الوقت، ثم أقام(19/219)
فيها بارتلميوبون الأصغر Bartolommeo Buon the Younger برج الجرس الفخم. (وقد سقط هذا البرج في عام 1902 ولكنه أعيد بناؤه بالتصميم عينه). ولا يضارعه في إدخال السرور على النفس مكتباً وكيلي كنيسة القديس مرقس - مكتب وكالة فيتشيو ومكتب الوكالة الجديدة ( nuovo) - الذين شيدا بين عامي 1517 و 1640 عند طرفي الميدان في الجنوب والشمال بواجهتهما الضخمتين اللتين تبعثان الملل والمسامة.
وقامت بين كنيسة القديس مرقس والقناة الكبرى تاج العمائر المدنية في البندقية ونعني بها قصر الدوج. وقد أدخل عليه في تلك الفترة كثير من التجديد حتى لم يبق من شكله الأول إلا النزر اليسير. من ذلك أن بيترو باسيجيو Pietro Baseggio أعاد بين عامي 1309 و 1340 بناء الجناح الجنوبي المواجه للقناة؛ وأن جيوفني بون وابنه بارتلميوبون الأكبر شادا جناحاً جديداً (1424 - 1438) في ناحية الغربية أي الجانب المقابل للساحة الصغرى، ثم أقاماً ((باب الورق)) Porta della Carta (1) القوطي (1438 - 1443) في الركن الجنوبي الغربي. وتعد هاتان الواجهتان الجنوبية والغربية، بما فيهما من البواكي والشرفات الرشيقة من أجمل ما خلفه عصر النهضة؛ وتنتمي معظم التماثيل والصور المنحوتة على الواجهات، وكذلك النقوش الفخمة المنحوتة على تيجان العمد إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر؛ ويظن رسكن Ruskin أن أحد هذه التيجان - وهو القائم تحت صورتي أدم وحواء - أجمل التيجان في أوربا كلها. وأقام بارتلميوبون الأصغر وأنطونيو رتسو داخل الفناء عقداً مزخرفاً سمي باسم فرانتشيسكو فسكاري يجمع بين ثلاثة بأنماط من العمارة ألف بينها ائتلافاً غير متوقع: جمع بين عمد النهضة وأسكفاتها، والعقود الرومانسية، والأبراج المستدقة القوطية
_________
(1) وسمي باب الورق لأن المجلس الأعلى كان يلصق قراراته على لوحة للإعلانات بالقرب منه.(19/220)
وقد وضع رتسو Rizzo في كوتي العقد تمثالين عجيبين: تمثالا لآدم يؤكد برائته، وتمثالاً لحواء وهي تظهر دهشتها من العقاب الذي يفرض من أجل المعرفة. وقد صمم رتسو واجهة الفناء الشرقية وأتمها بيترو لمباردو. وهي قران مبهج بين العقود المستديرة والمستدقة ذات شرفات وطنوف. وكان رتسو نفسه هو الذي صمم بناء سُلَّم الجبابرة Scala de Giganti المؤدي من الفناء إلى الطابق الأول - وهو بناء بسيط، فخم اشتق اسمه من التمثالين الضخمين الممثلين للمريخ ونبتون اللذين أقامهما ياقوبو سانوفينو Jacopo Sanovino عند أول الدرج رمزاً لسيادة البندقة على البر والبحر. وكان في الداخل حجرات للسجن الانفرادي، ومكاتب للأعمال الإدارية، وحجرات استقبال، وقاعات كبيرة لاجتماع المجلس الأكبر، ومجلس الشيوخ، ومجلس العشرة. وكان عدد كبير من هذه الحجرات الجدارية في تاريخ الفن.
وبينما كانت الجمهورية تفخر بهذه الدرة المعمارية، كان كبار الأغنياء من النبلاء .. مثل آل جوستنياني، وكنتاريني، وجرتي، وبرباري، الكبرى بقصورهم. وليس لنا أن نتصور هذه القصور بحالها المنحطة الحاضرة، بل علينا أن نتصورها بما كانت عليه من العز أثناء القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بواجهاتها المبنية بالرخام الأبيض والرخام السماقي، والسربنتين، ونوافذها القوطية، وعمدها التي من طراز النهضة، وأبوابها المطلة على الماء، وأفنيتها المختبئة المزدانة بالتماثيل، والفساقي، والحدائق، والمظلمات، والقوارير، وما في داخلها من أرض صنعت من الرخام، ومن مدافيء فخمة، وأثاث مطعم مرصع، وزجاج من صنع مورانو Murano، والظل، والسجف المصنوعة من نسيج الذهب أو الفضة، والماثلات البرنزية المذهبة، أو المشغولة بالميناء، أو من المعدن المنقوش،(19/221)
واللوحات المنقوشة الغائرة في السقف، والرسوم الجدارية التي صورها رجال طبقت شهرتهم الخافقين. من ذلك أن قصر فسكاري قد زين برسوم ملونة من صنع جيان بليني، وتيشيان، وتنتوريتو، وباريس بردوني Paris Bordone، وفيرونيز. وربما كان في هذه الحجرات من الفخامة أكثر ما فيها من أسباب الراحة، فأظهر الكراسي مستقيمة أكثر مما ينبغي، والنوافذ تسبب بوضعها تيارات الهواء، وما بها من وسائل التدفئة لا يدفئ جانبي الحجرة أو جانبي الإنسان في وقت واحد.
ولكن في البندقية قصور أنفق على الواحد منها مائتا ألف دوقة، وسن قانون في عام 1476 أريد به تحديد نفقاتها بمائة وخمسين دوقة للحجرة الواحدة، ولكننا نسمع بعدئذ عن حجرات أنفق على تشييدها وتأثيثها ألفا دوقة. وأكبر الظن أن أعظم هذه القصور زينة كان هو بيت الذهب Ca,dOro الذي سمي بهذا الاسم لأن صاحبه مارينو كنتاريني Marino Contarini أمر بأن يغطى كل إصبع من واجهته الرخامية أو ما يقرب منه بالنقوش التي كان معظمها مطلياً بالذهب. ولا تزال شرفاته وزخارفه القوطية الطراز تجعل هذه الواجهة أجمل الواجهات المطلة على الفناء.
وبينا كان هؤلاء الرجال واسعوا الثراء يجملون بيوتهم ويؤثثونها بأفخم الأثاث، فأنهم لم يكونوا يضنون ببعض المال لتشييد الكنائس الفخمة التي كانوا يلجئون إليها بأرواحهم في بعض الأحيان. ومن عجب أن كنيسة القديس مرقس لم تكن قبل عام 1807 كنيسة البندقية الكبرى، بل كانت من الوجهة الرسمية الكنيسة الخاصة بالدوج ومزار قديس المدينة المشفع فيها، فكانت والحالة هذه ملكاً لدين الدولة إذ صح هذه التعبير. وكان كرسي الأسقفية ملحقاً بكنيسة أصغر منها هي كنيسة سان بيترو دي كاستيلو San Pietro di Castello القائمة في الركن الشمالي الشرقي من المدينة. وكان مركز الرهبان الدمنيك في هذا الجزء القاصي نفسه، في كنيسة سان جيوفني إي باولو(19/222)
San Giovanni e Paolo، وهناك وجد جنتيل وجيوفيني بليني راحتهما الأبدية. وكان أهم من هذه الكنيسة من الوجهة التاريخية كنيسة الرهبان الفرنسيس - كنيسة سانتا ماريا جلوريوزا دي فراري Santa Mario Gloriosa di Frari، (1310 - 1343) المعروفة باسم الموجز المحبب إي فراري I Frari أي ((الإخوان Friars)) . ولم يكن منظر الكنيسة من الخارج ذا روعة وبهاء، ولكن شهرتها من الداخل أخذت تزداد على مر الأيام لأنها صارت قبراً يضم رفات عظام البنادقة - فرانتشيسكو فسكاري، وتيشيان، وكانوفا Canova - ومعرضاً للفنون. وفيها صمم أنطونيو رزو نصباً تذكارياً فخماً للدوج نقولو ترون Niccolo؛ وفيها وضع جيان بليني صورته الشهيرة فراري مادنا Frari modonna. ووضع تيشيان مادنا سليلة أسرة بيزارو؛ وأهم من هذه كلها تقوم صورة صعود العذراء لتيشيان في جلال وروعة خلف المذبح. وكانت تحف فنية أقل من هذه شأناً تزين المزارات الأقل من تلك الكنائس قدراً: فكانت كنيسة القديس زكريا تطالع المصلين فيها بصور سيدات مُلهمات من تصوير جيوفني بليني وبالما فتشيو؛ وكنيسة سانتا ماريا دل أورتو تطالعهم بصورة مخاض العذراء لتنتوريتو وبعظام تنتوريتو نفسه. وتلقت سان سبستيانو رفات فيرونيز وعدداً من أجمل صوره، ورسم تيشيان لكنيسة سان سلفادور صورة البشارة في الحادية والتسعين من عمره.
وكانت أسرة فذة من المهندسين والمثالين دائبة العمل في تشييد كنائس البندقية وقصورها. فقد جاء آل لمباردي إلى البندقية من شمالي إيطاليا الغربي ومن أجل هذا لقبوا بلقبهم الذي عرفوا به، ولكن اسمهم الحقيقي كان آل سولاري Solari، وكان منهم كرستوفورو سولاري الذي نحت تمثالي لدوفيكو وبيتريس، وأخوة أندريا المصور، وكان كلاهما يعمل في البندقية وميلان معاً. وكان منهم بيترو لمباردو الذ خلف أثره في نحو(19/223)
عشرين بناء في البندقية، وكان هو وولداه أنطونيو وتليو الذين خططا كنيستي جيبي San Giobbe وسانتا ماريا دي ميراكولي Santa Maria de'Mircoli - التي ينفر منها ذوقنا في هذه الأيام، كما خططا فبري بيترو موسينيجو، وقبر نقولو مارسلو في سانتى جيوفني إباولو، وقبر الأسقف دسانتي Zanetti في كتدرائية تريفيزو، وقبر دانتي في رافنا، وقصر فيندرامين كاليجري vendramin - Caiegri الذي مات فيه الموسيقي فاجنر، وكانوا في هذه المشروعات كلها هم أصحاب تصميمات البناء والتماثيل جميعاً. وقد قام بيترو نفسه بأعمال كثيرة بين البناء والتماثيل في قصر الدوج. وأنشأ تليو وأنطونيو يعاونهما ألسندرو ليوباردي قبر أندريا فندارمين في سانتى جيوفني إباولو - وهي أعظم أعمال النحت في البندقية لا يستثنى من ذلك إلا تمثال الكيلوني Colleoni ( الفارس) الذي أقامه فيروتشيو وليوباردى مرقس Scuolia di San Marco مدخلا فخماً وواجهة غريبة الشكل، وأشترك في آخر الأمر فنان يدعى سانتى لمباردو في بناء مقر اخوة سان ركو Scuola di San Rocco، التي اشتهرت بست وخمسين صورة من رسم تنتوريتو. ويرجع إلى أعمال هذه الأسرة معظم الفضل في انتشار طراز النهضة من العمد وطيلاتها، والقواصر المزخرفة. وتغلبها على العقود والأبراج المستدقة القوطية والقباب البيزنطية. غير أن عمارة فن النهضة التي كانت لا تزال مزعزعة من أثر النفوذ الشرقي، وقد أسرفت في الزخارف إسرافاً أدى إلى طمس خطوطها ومعالمها، وكان في حاجة إلى جو روما وإلى التقاليد الرومانية القديمة لتكسب الطراز الجديد صورته المحددة المتنافقة.
2 - آل بيليني
كان التصوير هو السبب الثاني من أسباب مجد البندقية الفني بعد كنيسة القديس مرقس وقصر الدوج؛ وقد اجتمعت عوامل كثيرة فجعلت المصورين موضع الرعاية الخاصة في مدينة البندقية. فقد كان على الكنيسة هنا، كما كان(19/224)
عليها في المدن الأخرى، أن يقص قصة المسيحية على شعبها الذي لم يكن يعرف القراءة منه إلا عدد قليل، وكانت من أجل ذلك في حاجة إلى الصور والتماثيل لتستبقي بها أثر الكلام السريع الزوال فكان لابد والحالة هذه أن يكون لكل جيل، وأن يكون في كثير من الكنائس والأديرة، صورة للبشارة، والولادة، والعبادة، وزيارة العذراء لإليصابات، والمخاض، ومذبحة الأبرياء (1)، والفرار إلى مصر، والتجلي، والعشاء الأخير، والصلب، والدفن، والبعث، وصعود المسيح إلى السماء، وصعود العذراء، والاستشهاد. وكانت الصور التي يمكن انتزاعها من مواضعها ونقلها إذا تقادم عهدها وحالت ألوانها، أو مل المصلون رؤيتها، تباع للمولعين بجمعها أو للمتاحف. وكانت من آن إلى آن ويعاد تلوينها أو إصلاحها في بعض الأحيان، ولو أن مصوريها بعثوا إلى الحياة اليوم لمل استطاعوا أن يتعرفوا عليها. ولا حاجة إلى القول إن هذا لا ينطبق على الصور الجذابة، فقد كانت هذه في العادة تتلف وهي على جدرانها. وكان مصيرها هذا يتقي أحياناً بتصويرها على القماش الخشن ثم يلصق هذا القماش بعدئذ على الجدار، كما حدث في قاعة المجلس الأكبر. وكانت الدولة تناقش الكنيسة في البندقية في حبها للصور الجدارية، لأن في وسع هذه الصورة أن تذكى نار الوطنية والعزة القومية حين يحتفل بعظمة الحكومة ومواكبها، وانتصارها، في ميدان التجارة أو الحرب. وكانت الجماعات المختلفة تطلب هي الأخرى صوراً جدارية، وأعلاماً لتخليد ذكرى قديسيها المشفعين أو لمواكبها السنوية. وكان الأغنياء يطلبون صوراً للمناظر الخارجية الجميلة، أو مناظر العشق داخل البيوت، ترسم لهم على جدران القصور، وكانوا يجلسون أمام المصورين ليرسموا لهم صوراً يخدعون بها ساعة من الزمان سخريات مجدهم
_________
(1) Massacre of the Innocents يسمى أيضاً Childermas Day وهو يوم تحتفل به الكنيسة في الثامن والعشرين من ديسمبر لتحيي ذكرى قتل هيرودس للأطفال. (المترجم)(19/225)
السريع الزوال. وكان مجلس السيادة يطلب صورة لكل دوج يتولى الحكم، وحتى النواب القائمون بالعمل في كنيسة القديس مرقس عملوا على حفظ ملامحهم للخلف الذي لا يعنى بهم. ولهذا كله كانت البندقية هي المدينة التي انتشرت فيها الصور الملونة الثابتة وذات الحوامل أوسع انتشار.
وظل التصوير الملون يتقدم بخطى بطيئة في البندقية حتى منتصف القرن الخامس عشر، ثم ما لبث أن ازدهر ازدهاراً مفاجئاً، وتلألأ تلألؤاً منقطع النظير، وتفتح كما تتفتح الزهرة حين تستقبل شمس الصباح الساطعة، وذلك لأن البنادقة وجدوا فيه وسيلة لنقل الألوان والحياة التي تعلموا الافتتان بها، وربما كان بعض هذا الولع بالألوان قد جاء إلى البندقية من بلاد الشرق مع التجار الذين استوردوا من البضائع، ونقلوا عنهم ذكريات للقرميد البراق، والقباب المذهبة، وعرضوا في أسواق البندقية، أو كنائسها، أو بيوتها، حرير الشرق وطيلسانه، ومخمله، وديباجة، وأقمشته المنسوجة من خيوط الذهب والفضة، والحق أن البندقية لم تقرر في يوم من الأيام أهي دولة غربية أم شرقية، فقد كان الشرق والغرب يجتمعان في سوق المال، وكان في وسع عطيل ودزدمونا أن يتزوجا، وإذا لم تستطع البندقية أن تأخذ اللون من الشرق ولم يستطع مصوروها أن يأخذوه منه فقد كان من المستطاع أخذه من سماء المدينة، وحسبهم أن يراقبوا تعاقب الأضواء والغيوم تعاقباً لا ينقطع على مر الأيام، وبهاء مغرب الشمس حين ترسل أشعتها الذهبية على أبراج الجسور والقصور، أو تنعكس على مياه النهر. وكانت انتصارات جيوش البندقية وأساطيلها في تتلك الأيام، وانتعاشها ببسالة من خطر الخراب المحدق بها، مما أثار خيال أنصار الفن والمصورين وكبرياءهم، فخلدوا ذلك في الفن، وأدرن ذوو الثراء إن المال لا قيمة له إلا إذا استطاعوا أن يحولوه إلى صلاح، أو جمال، أو حق.(19/226)
وأضيف إلى هذه الحوافز حافز آخر خارجي عمل على قيام مدرسة بندقية للتصوير. وتفصيل ذلك أن جنتلي فبريانو Gentile Fabriano أستدعى إلى البندقية في عام 1409 ليزين القاعة الكبرى في المجلس الكبير، وجاء أنطونيو بيرانو المسمى بيزانيلو من فيرونا ليشترك معه في هذا العمل. ولسنا نعرف إلى أي حد أجادا عملهما، ولكنهما في أغلب الظن أثارا رغبة مصوري البندقية في أن يستبدلوا بالأشكال الدينية الجامدة القائمة المأخوذة من التقاليد البيزنطية، وبالأشكال الحائلة اللون العديمة الحياة المأخوذة من مدرسة جيتو ومن على شاكلته - أن يستبدلوا بهذه وتلك الخطوط الرفيعة والألوان الزاهية. ولعل بعض التأثيرات الصغرى قد هبطت عليها أيضاً من فوق الألب مع جيوفني الألماني Giovanni d'Alamagna ( المتوفى عام 450)، ولكن أن جيوفني قد كبر في مورانو والبندقية وتعلم فيهما فنه، وقد صور هو وصهره أنطونيو فيفاريني Antonio Vivarini ستاراً لمحراب كنيسة القديس زكريا بدت في صوره تلك الرشاقة والرقة اللتان جعلتا أعمال بليني فيما بعد وحيا أوحى إلى البندقية.
وجاء أكبر المؤثرات إليها من صقلية أو الفلاندرز، وكان ممن جاء على أيديهم أنطونيلو دا مسينا Antonello d Messina. نشأ أنطونيلو نشأة رجال الأعمال، ولعله لم يكن في شبابه يظن أن اسمه سيخلد في تاريخ الفن قروناً طوالاً. وشاهد وهو في نابلي (إذا صدقنا قصة فارساي التي ربما كانت من نسج الخيال) صورة زيتية بعث بها إلى الملك ألفنسو جماعة من التجار الفلورنسيين من بروج. وكان المصورون الإيطاليون من عهد سيمابو Cimabue ( من حوالي 1240 إلى حوالي عام 1302) الذين يصورون على الخشب أو القماش الخشن يعتمدون على الألوان الزلالية - فيمزجون الألوان بمادة هلامية. وهذه الألوان تترك سطح الصورة خشناً، ولم يكن مزيجاً صالحاً للظلال المتدرجة الدقيقة، وكانت تنتزع إلى التشقق(19/227)
والانطفاء حتى قبل موت الفنان. ولكن أنطونيلو أدرك فائدة خلط المادة الملونة بالزيت إذ وجدها أسهل مزجاً، وأيسر استعمالاً وتنظيفاً، وألمع صقلاً، وأطول بقاء. ثم سافر الرجل إلى بروج حيث درس صناعة التصوير بالزيت على المصورين الفلمنكيين الذين كانوا ينعمون وقتئذ بمجد بيرغندية. ولما له فرصة للذهاب إلى البندقية أحب المدينة - وكان هو نفسه ((زير نساء عاكفاً على اللذات)) (25) - حباً حمله على أن يقضي فيها بقية حياته. وترك الأعمال المالية ووجه جهوده كلها نحو التصوير. فرسم لكنيسة سان كسيانو San Cassiano بالزيت شعاراً للمذبح أصبح فيما نموذجاً لمائة صورة من نوعه: نرى فيها العذراء متربعة على عرشها بين أربعة من القديسين، وتحت قدميها الملائكة الموسيقيون، وقد لونت أثواب الديباج والأطلس بالألوان البندقية الكاملة. وكان يشارك أنطونيو في عمله بالأسلوب الجديد غيره من الفنانين، وهكذا بدا عصر التصوير العظيم في البندقية. وجاءه كثير من النبلاء ليصورهم، ولا يزال لدينا حتى اليوم عدد من هذه الصور: صورة الشاعر الخشنة القوية في بافيا، وصورة المحارب المغامر في اللوفر، وصورة رجل بدين مستهزئ في مجموعة جنسن بفلدلفيا، وصورة شاب في نيويورك، وصورة المصور نفسه في لندن. ولما بلغ أنطونيو ذروة نجاحه انتابه المرض، وأصيب بالتهاب البلورة، ومات في سن التاسعة والأربعين، ودفنه فنانو البندقية في موكب فخم، واعترفوا بفضله عليهم في قبرية كريمة قالوا فيها:
في هذه الأرض يثوي أنطونيو المصور، أعظم من تزدان به مسنا وصقلية جميعها، ولم تقتصر شهرته على صوره التي امتازت بالحذق والجمال، بل امتاز فضلا عن هذا لأنه خلع على التصوير الإيطالي هالة من المجد والخلود بتحمسه العظيم له وبجهوده التي لا تعرف الملل، وبمزجه الألوان بالزيت (39).(19/228)
وكان من بين تلاميذ جنيتلي دافيريانو في البندقية ياقوبو بليني الذي أنشأ أسرة قصيرة الأجل ولكنها عظيمة الشأن في فن النهضة. وشرع ياقوبو بعد أن قضى عهد التلمذة يعمل في فيرونا، وفيرارا، وبدوا. وفي هذه المدينة الخيرة تزوجت ابنته بأندريا مانتينيا وفيها وقع ياقوبو تحت نفوذ اسكوراتشيوني بتأثير أندريا هذا وبغير تأثيره، فلما عاد إلى البندقية جاء إليها معه بمسحة من فن بدوا وصدى من فلورنس إذا أجيز لنا أن نستخدم هذه الكناية بعد أساليب أنطونيلو في استخدام الزيت، انتقلت إلى أبناء ياقوبو الذين ينافسون في عبقريتهم جنتيلي وجيوفيني بليني.
وكان جنتيلي في الثالثة والعشرين من عمره حين انتقلت أسرته إلى بدوا (1452) وفيها أحس إحساساً قوياً بتأثير صهره مانتينا، فحين أخذ ينقش مصراعي الأرغن لكتدرائية بدوا حاكى بعناية مفرطة الصور الجامدة وأساليب القرب والبروز في التصوير التي شاهدها في مظلمات إرمتاني. أما في البندقية فقد ظهرت في صورته التي رسمها لسان لورندسو جوستنياني رقة جديدة لم تعهد من قبل. وفيها عهد إليه مجلس السيادة عام 1474 والى جيوفني أخيه غير الشقيق أن يصوروا أو يعيدا تصوير أربع عشرة لوحة في قاعة المجلس الأكبر. وكانت هذه الصور المرسومة على القماش الخشن من أوائل الصور التي رسمت بالزيت في البندقية (30)، ولكن النار حرقتها في عام 1577. غير أن ما بقى من رسومها التخطيطية يدل على أن جنتيلي قد استخدم فيها طرازه القصصي الذي يمتاز به، والذي يصور فيه حادثة كبرى في الوسط والى جانبها نحو عشر حوادث أقل منها شأناً. وقد شاهد فارساي هذه الصور، ودهش من واقعيتها، وتنوعها، وتعقدها (31).
ولما بعث السلطان محمد الثاني إلى المجلس الأعلى في طلب مصور ماهر، اختير له جنتيلي فسافر إلى القسطنطينية وزين حجرات السلطان (1474)(19/229)
وأنعش روحه بصور غرامية، ورسم له صورة (توجد الآن في لندن) وصورة على مدلاة (بسطن) تدل كلتاهما على شخصية قوية صورتها يد صناع، ومات السلطان في عام 1481 وكان خليفته أكثر استمساكاً منه بقواعد الدين يطيع ما جرى عليه المسلمون من تحريم تصوير الآدميين، فبعثر كل ما وجده من هذه الصور ما عدا هاتين الصورتين اللتين صورهما جنيتلي في العاصمة التركية. وجر النسيان ذيوله على غيرهما من الصور. وكان من حسن حظ جنتيلي أنه عاد إلى البندقية في عام 1480 مثقلاً بالهدايا والنياشين من السلطان الشيخ، وعاد فانضم إلى جيوفني في قصر الدوج، وأتم ما تعاقد عليه مع المجلس الأعلى، وكافأه المجلس على عمله بأن رتب له معاشاً قدره مائتا دوقة كل عام.
وكانت أعظم صور له هي التي رسمها في شيخوخته. وكان في حوزة نقابة القديس يوحنا الإنجيلي الصليب الحقيقي الذي يعتقد انه يأتي بالمعجزات، فطلبت إلى جنتيلي أن يوضح في ثلاث صور شفاء أحد المرضى بقوة هذا الصليب، وموكباً فيه الجسد الطاهر يحمله، والعثور على الجزء المفقود بمعجزة. فأما اللوحة الأولى فقد عدا الدهر عليها فأفقدها بهائها ورونقها، وأما الثانية التي رسمها جنتيلي في سن السبعين فهي منظر متلألئ كبير من العظماء، والمرنمين، وحملة الشموع يسيرون حول ميدان القديس مرقس، الذي يرى في خلفية الصورة، ولم يكن منظره في ذلك الوقت يختلف كثيراً عما هو عليه اليوم. وأما الصورة الثالثة التي رسمها جنتيلي في الرابعة والسبعين فقد رسم هذا الصليب المقدس وقد سقط في قناة سان لورندسو وازدحم الناس في الطرق الجانبية والجسور وقد استولى عليهم الفزع، وخر الكثيرون منهم ركعاً ضارعين، ولكن أندرو فندرامين يقفز في الماء، ويستعيد الأثر المقدس، ثم يطفو وهو معه، ويتحرك في مهابة غير متصنعة نحو الشاطئ. وقد رسم كل شخص على هذا القماش المزدحم بإخلاص(19/230)
واقعي، ونرى الفنان مرة أخرى يبتهج إذ يحيط الحادثة الرئيسية فيها بالحوادث التي تسترعي الالتفات: بقارب يتسلل من حوضه في الوقت الذي يرقب فيه ملاح الجندول استعادة الأثر المقدس، والمغربي الأسود العريان وقد وقف متأهباً لأن يغطس في الماء.
ورسم جنتيلي آخر صورة عظيمة له (بريرا Bera) وهو في السادسة والسبعين من عمره، وقد رسمها إخوان لجماعة القديس مرقس ينتمي اليها، ومثل فيها الرسول يعظ في الإسكندرية. وهي كالعادة صورة مزدحمة، لأن جنتيلي كان يفضل تصوير الإنسانية جملة لا تفصيلاً، ومات الرجل في الثامنة والسبعين (1507) وترك الصورة ليكملها أخوه جيان.
ولم يكن جيوفيني بليني (جيان بليني، أو جيامبيليني Giambellini) أصغر من جنتيلي إلا بعامين ولكنه عاش بعده تسع سنين. وقد طاف في عمره المديد البالغ ستة وثمانين عاماً بجميع نواحي فنه فحاول وأتقن عدداً كبيراً من الصور المختلفة وسما بالتصوير البندقي إلى ذروة مجده. وقد استوعب وهو في بدوا تعاليم منتينيا الفنية دون أن يقلد طريقته أو طرازه في نحت التماثيل، ولما كان في البندقية سار بنجاح لم يسبق له مثيل على الطريقة الجديدة في خلط المادة الملونة بالزيت. وكان أول من كشف من البنادقة عن عظمة الألوان ومجدها، وبلغ في الوقت عينه درجة من الرشاقة والدقة في رسم الخطوط، وفي رقة الإحساس، وعمق التفسير، رفعته حتى في حياة أخيه إلى منزلة أعظم المصورين في البندقية وأكثر من يسعى إليه منهم.
ويلوح أن رجال الكنائس، ونقابات الحرف، وأنصار الفن لم يكونوا يملون من صور العذراء التي كان يخرجها لهم. وقد ترك من ورائه صوراً لها في مائة شكل وشكل في أكثر من عشرة بلاد.
وفي المجمع العلمي البندقي وحده مجموعة كبيرة من هذه الصور: صورة(19/231)
العذراء مع الطفل النائم، والعذراء مع امرأتين مقدستين، والعذراء مع بمبينو، وعذراء ألبرتيني، وعذراء القديس بولس والقديس جورج، والعذراء على العرس ... وخير هذه المجموعة كلها على الإطلاق عذراء القديس أيوب، ويقولون إن هذه الصورة الخيرة هي أولى الصور التي رسمها جيوفيني بالزيت، وهي أبهى الصور ألواناً في البندقية - أي في العالم أجمع. وفي متحف كرير Correr الصغير القائم في الطرف الغربي من ميدان القديس مرقس صورة أخرى للعذراء من رسم جيامبلينو حنونة، حزينة، جميلة، وفي كنيسة القديس زكريا صورة لعذراء أيوب تختلف عن مثيلتها السالفة الذكر، وفي كنيسة فراري Frari صورة العذراء على عرشها، وهي صورة جامدة بعض الشيء قاسية بعض القسوة، يحف بها قديسون مكتئبون، ولكنها تسترعي النظر بأثوابها القيمة الزرقاء. وفي وسع الجائل الطلعة أن يكشف عن كثير غير هذه من عذارى جيان في فيرونا، وبرجامو، وميلان، وروما، وباريس، ولندن، ونيويورك، وواشنجتن. ترى ماذا عسى يقال أكثر من هذا بالتصوير الملون، عن السيدة مريم بعد هذه الصور الممثلة للإخلاص والتعبد؟ إن في وسع بروجينو ورفائيل أن يضارعا هذه الصور في كثرتها، ولقد استطاع نيشيان فيما بعد أن يجد ما يقوله عنها في كنيسة فيراري نفسها.
ولم يوفق جيوفني هذا التوفيق كله فيما رسمه من الصور للمسيح نفسه، فصور بركة المسيح المحفوظة في متحف اللوفر لا تعلو على المرتبة الوسطى، ولكن صورة الحديث المقدس القريبة منها ذات جمال يثير الدهشة. وقد لاقت صورة الأتقياء في البرايرا بميلان ثناء جماً (32)، ولكنها تمثل مجموعة من ذوى الوجوه المنفرة، يمسكون بالمسيح الميت الذي يبدو أنه لا يطلب(19/232)
لراحته الجسمية الكاملة إلا أن يتخلص من ذلك الإسراف في الاهتمام به، وهذه الصورة الخشنة الفجة التي تمثل دفن المسيح - والتي لا يعرف تاريخها - من الصور التي رسمها بليني في شبابه على طراز منتينيا. وأجمل من هذه وأجلب للسرور صورة القديس جستينا وهي إحدى الصور في مجموعة خاصة بميلان. وهي أيضاً صورة تحكم فيها العرف ولكنها رقيقة المعارف، تنخفض جفونها في حياء، عليها ثياب رائعة، مما جعلها من أكثر جهود جيان نجاحاً. ويبدو أنها كانت لسيدة من الأحياء، ولقد برع جيان وقتئذ في تصوير وجوه الأحياء ونفوسهم براعة جعلت الكثيرين من أنصار الفن يرجون أن يشاركوه في خلود ذكراه. أنظر مرة أخرى إلى صورة الدوج لوردانو. لقد استطاع بليني بعمق فهمه، ونفاذ بصره، ومهارة يده، أن يستوعب قوة الرجل الصافية، الغير مترددة التي أمكنته من أن يقود شعبه إلى النصر في حرب حياة أو موت ضد هجمات الدول الكبرى في إيطاليا وفي أوربا شمالي جبال الألب جميعها إلا القليل منها، ثم هاهو ذا جيوفني ينافس ليوناردو الذي كان وقتئذ يطغي عليه في مهارته وشهرته، فيحاول أن يرسم مناظر طبيعية مختلفة غريبة كتلك المجموعة المختلطة من الصخور، والجبال، والقلاع، والضأن، والماء، والأشجار المنشقة، والسماء الغائمة التي يواجهها القديس فرنسيس في هدوء (في مجموعة فرك Frich) حين يكوى بالنار.
ولما بلغ الفنان سن الشيخوخة مل تكرار الموضوعات المقدسة المعتادة وأخذ يجرب الموضوعات الرمزية وموضوعات الأساطير القديمة، فجسد المعرفة، والسعادة، والصدق، والنميمة، والمطهر، والكنيسة نفسها، أو حولها إلى قصص، وحاول أن يبعث الحياة بالمناظر الطبيعية المغرية الفاتنة، ومن صوره اثنتان معلقتان في معرض الصور القومي بواشنجتن هما صورة اورفيوس بسحر الوحوش وصورة عبد الأرباب-(19/233)
وهما مجموعة من النساء العاريات النهود، والرجال نصف العرايا نصف السكارى. وتاريخ الصورة هو 1514، وقد صورت إجابة لطلب ألفنسو دوق فيرارا حينما كان الفنان في الرابعة والثمانين من عمره. وهي تذكرنا مرة أخرى بمفخرة ألفيري Alfieri وهي أن نماء الآدميين في إيطاليا أشد وأقوى من نمائهم في أي مكان آخر على وجه الأرض.
ولم يعش جيوفني إلا عاماً واحداً بعد أن ودع بهذه الصورة عهد الشباب؛ وقد عاش حياته كاملة سعيدة سعادة معقولة: لقد كان موكباً مدهشاً من روائع الفن، ومجموعة بديعة من الألوان النقية على الأثواب الملساء، وكان ارتقاء لا حد له من الرشاقة، والتركيب، والحيوية عن الحياة آل جيولسكي Giolleschi والمعجبين بفنون بيزنطية، وكان فيها من قوة الإدراك والانفرادية ما لا يرى قط الأشكال المجدبة والخليط الذي لا يستطاع تمييزه في صورة جنتيلي. كانت توسطاً مثمراً في الزمن والطراز بين منتينيا الذي لم يعرف غير الرومان، وتيشيان الذي كان يحس بكل ناحية من نواحي الحياة من فلورا Flora إلى شارل الخامس ويصورها. وكان من تلاميذ جيان جيورجيوني Giorgione الذي تلقى عنه ذلك التقليد العظيم. فقد كان للفن البندقي جيلاً في أثر جيل يجمع معارفه، وينوع تجاربه، ويعد العدة لذروة مجده.
3 - من آل بيليني إلى جيورجيوني
وكان نجاح آل بيليني سبباً في نشر فن التصوير في البندقية، وكان فن الفسيفساء قبل عهدهم صاحب الشأن الأعلى فيها، فتضاعف عدد المراسم، وسخا أنصار الفن على المصورين، وزاد عدد هؤلاء، ولم يبلغون ما بلغه آل بيليني أو جورجيوني؛ ولكنهم لو شأوا وسط جماعات أقل من هؤلاء شأناً لكانوا من ألمع النجوم في هذا الفن. وقد بلغ من جمال الصور(19/234)
التي رسمها فنتشندسو كاتبنا أن كان بعض صوره يعزى إلى بيليني أو جيورجيوني. واستجاب بارتولميو الأخ الأصغر لأنطونيو فيفاريني إلى مطالب المتحفظين فاستخدم في موضوعات العصور الوسطى أساليب اسكوارتشيوني والألوان القوية التي عرف المصورون كيف يخلطونها وينقلونها. ولاح وقتاً ما أن ألفيزي فيفاريني Alvise Vivarini تلميذ بارتولميو وابن أخيه سوف ينافس جيان بيليني في رسم صورة جميلة للعذراء، وقد رسم بالفعل ستاراً لمحراب عليه صور العذراء مع القديسين انتقل من إيطاليا إلى متحف القيصر فريدريك في برلين. وكان ألفيزي هذا معلماً بارعاً؛ وشاهد ذلك أن ثلاثة من تلاميذه نالوا شهرة لا بأس بها. أولئك هم باريولميو منتانيا الذي نتركه لنتحدث عنه في فيتشندسا، أما ثانيهما جيوفني باتستاتشيما دا كونجليانو Giovanni Batltista Cima da Conegliano فقد كان يرسم صور العذراء لمن يطلبها في السوق، ومن هذه صورة في بدوا الآن رسم معها ميكائيل رسماً جميلاً. وأخرى في كليفلند Cleveland يغطي عيوبها لونها الزاهي. ورسم ماركو باسيتي Marco Basiti صورة جميلة هي صورة دعاء أبناء زبيدي (في البندقية الآن) وأخرى ذات بهجة - هي صورة شاب في المعرض القومي بلندن.
وربما كان كارلو كريفلي Carlo Crivelli أيضاً من تلاميذ آل فيفاريني؛ وسواء كان هذا أو لم يكن فقد اضطر إلى الفرار من البندقية بعد أن بلغ السابعة عشرة من عمره بقليل (1457): ذلك أنه اختطف زوجة بحار فحكم عليه بالسجن وبغرامة؛ فلما أطلق سراحه احتمى في بدوا حيث درس في مدرسة اسكوارتشيوني، ثم انتقل منها إلى أسكولي Ascoli في عام 1468 وقضى الخمسة عشر عاماً الباقية يرسم لهذه المدينة وما حولها. ولعل خروجه من البندقية بهذه السرعة قد حال بينه وبين الاشتراك في الحركة التقدمية لفن التصوير البندقي؛ وكان يفضل الألوان(19/235)
الزلالية على الألوان الزيتية، ويستمسك بالموضوعات الدينية التقليدية، واتبع طريقة تكاد تكون بيزنطية في إخضاع التمثيل للزخرف. وقد خلع على صوره صقلاً شبيهاً بصقل الميناء جعلها توائم الإطارات المذهبة الكثيرة الطيات التي وضعها فيها؛ وإن في صور العذارى التي أخرجها لرشاقة ورقة في الرسم يستبق بها جيورجيوني وإن بدا فيهما شيء من الفتور.
وكان فيتور Vettor ( فتوري Vittore) كرباتشيو كبيراً بين هؤلاء الصغار. وقد بدأ تعليمه بدراسة المنظور والتخطيط على طريقة مانتينيا، ثم اتبع الطراز القصصي على نحو ما كان يفعل جنتيلي بليني، وأضاف إليه تفضيل الشباب أناشيد الرعاة الخيالية عن حادثات أيامه، واستخدم في موضوعاته الوجدانية فنه الذي أتقنه كل الإتقان. ومن صوره التي لا تتفق مطلقاً مع روحه المرحة الطروب صورة رسمها في بداية عهده (توجد الآن بنيويورك) هي صورة تفكير في آلام المسيح - وهي دراسة للموت يقوم بها القديسان جيروم وأونوفريوس Onofirus يتصوران المسيح الميت جالساً أمامهما وتحت أقدامهما جمجمة وعظام على شكل صليب، وفي خلفية الصورة سماء ملبدة بالغيوم. ولما بلغ كرباتشيو الثالثة والثلاثين من عمره عهد إليه عمل خطير (1488)؛ فقد طلب إليه أن يرسم لمدرسة القديس أرسولا Arsula سلسلة صور توضح تاريخها. واستجاب إلى الطلب وصور على تسع لوحات جملية مجيء كونون Conon أمير إنكلترا الوسيم إلى بريطانيا ليتزوج بأرسولا ابنة ملكها، ورجاءها إياه أن يؤجل الزفاف حتى تستطيع أن تحج إلى روما مع حاشية لها مؤلفة من أحد عشر ألفاً من العذارى، ثم مصاحبة كونون لها مدفوعاً إلى ذلك بحبها، ونيل الجميع بركة البابا، ثم ظهور ملك لأرسولا وإبلاغه إياها أنها لا بد لها أن تذهب هي وعذاراها إلى كولوني ليستشهدن، ثم تركها هي وصاحباتها كونون وهو حزين وذهابها إلى كولوني هادئة كريمة، وعرض ملكها الصغير الوثني عليها أن تتزوجه، ثم رفضها هذا(19/236)
العرض ومقتل الأحد عشر ألفاً وواحدة جميعهن. ووفقت هذه القصة خيال كرباتشيو، فقد كان يسره أن يرسم جماعات العذارى والحاشية، وقد جعل كل من رسمه منهم تقريباً أرستقراطياً حسن الوجه ذا ثياب زاهية؛ ولم يجيء إلى هذه المناظر بعلمه بالتصوير فحسب بل جاء معه بعلمه بالأشياء الواقعية - كالعمارة، ونقل البضائع في الخلجان، وانتقال السحب في السماء على مهل.
وفي خلال التسع السنين التي كان كرباتشيو يعمل فيها في تصوير أرسولا رسم لمدرسة القديس يوحنا الإنجيلي صورة شفاء المحسوس بتأثير الصليب المقدس. ثم بدا لفتوري أن يصور منظراً على قناة في البندقية يناظر فيه جنتلي بليني، وملأه بالناس؛ وقوارب النزهة، والقصور، فكان فيه بذلك كل ما عند جنتلي من واقعية وتفاصيل مصقولة صقلاً براقاً فوق متناول أرجل العجوز. ثم طلبت مدرسة القديس جورج شفيع السلافونيين إلى كرباتشيو أن يخلد لها شفيعها القديس على جدران محرابهم في البندقية مدفوعين إلى هذا الطلب بما لقيه من نجاح، واستغرق هذا العمل تسع سنين أخرى رسم فيها تسعة مناظر، لا تبلغ ما بلغته مناظر أرسولا، ولكنها تدل على أن كرباتشيو وهو في العقد السادس من عمره لم يفقد ميله إلى رسم الأجسام الرشيقة في مجموعات متناسقة، ومن ورائها العمائر الخيالية في التفكير والمقنعة في التصوير. ونرى في الصورة القديس جورج يهاجم التنين هجوماً عنيفاً ولكن القديس جيروم يظهر على النقيض من هذا في صورة العالم الهادئ المنهمك في الدرس في حجرة تدهش الناظر بجمالها، وليس معه رفيق غير أسده. وقد رسم كل مظهر من مظاهر الحجرة بأمانة ودقة ولم يترك حتى العلامات الموسيقية الواضحة على ملف ساقط في الحجرة وضوحاً حولها ملمينتي Malmenti إلى نغمات على البيان.
وفي عام 1508 عين كرباتشيو واثنان آخران من المصورين المغمورين(19/237)
ليقدروا قيمة رسم تجاري عجيب صورة مصور شاب ناشئ على الجدار الخارجي على مصنع التيديسكي - وهو مصنع يملكه التجار التيوتون بالقرب من جسر السوق المالية. وقدر قيمته بمائة وخمسين دوقة (1875؟ دولاراً). ولم يرسم كرباتشيو بعدئذ إلا صورتين عظيمتين وإن كان قد عاش بعد هذا الوقت ثماني عشرة سنة، فأما أحدهما فهي صورة المخلص في المعبد (1510) التي رسمها لمعبد أسرة سانودو Sanudo في كنيسة القديس جيني. وكان لا بد لها أن تنافس في هذا المكان صورة عذراء القديس أيوب لجيان بيليني؛ وجيوفني لافتوري هو الفائز في هذه المنافسة الصامتة وإن كانت عذراء ثانيهما وحاشيتها من السيدات بارعات الجمال. ولو أن كرباتشيو قد وجد في قرن آخر بعد الذي عاش فيه لكان هو سيد زمانه؛ ولكنه عاش لسوء حظه بين جيوفني بيليني وجيورجيوني.
4 - جيورجيوني
قد يبدو غريباً أن يستأجر الفنانون بأجور عالية لنقش جدار في مخزن بضائع، ولكن البنادقة في عام 1507 كانوا يحسون بأن الحياة بلا لون هي والموت سواء، وكان لمن فيها من التجار الألمان، ومنهم من جاءوا من نورمبرج بلد Durer، إحساسهم العارم الخاص بالفن. ولهذا خصصوا بعض مكاسبهم لهذا الغرض السامي وهو رسم صورتين جداريتين، وكان من حظهم أن اختاروا لهذا العمل رجلين من الخالدين. وسرعان ما أفسدت رطوبة الجو وشمسه هاتين الصورتين، فلم يبقى منهما إلا قطع صغيرة متفرقة، ولكن هذه القطع وحدها تشهد بما كان لجيورجيوني دا كاستيلفرانكو من شهرة واسعة. وكان وقتئذ في التاسعة والعشرين ممن عمره؛ ولسنا نعرف اسمه على وجه التحديد، وتقول إحدى القصص إنه ابن رجل من الأشراف يدعى باربريلي Barbarelli من عشيقة له من بنات الشعب؛ ولكن لعل(19/238)
هذه قصة نسجت حوله في ما بعد (33). ولما بلغ الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره (وقد يكون ذلك في عام 1490) أرسل من كاستيلفرانكو Caststelfranco إلى البندقية ليعمل صليباً عند جيان بليني. وتقدم الشاب بخطى سريعة، وعهدت إليه أعمال درت عليه مالاً كثيراً، فابتاع بيتاً، ونقش ورسم رسماً جصياً على واجهته، وملأ بيته موسيقى ومرحاً، لأنه كان يجيد العزف على العود، ويفضل الاستمتاع بأجسام النساء عن رسمهن على القماش. وليس من السهل علينا أن نعرف المؤثرات التي كونت طرازه المتأنق، لأنه لم يكن يشبه غيره من المصورين في عصره، في أنه ربما تعلم من كرباتشيو شيئاً من الرشاقة والجاذبية. وأكبر الظن أن أعظم ما تأثر به هو الأدب لا الفن. ذلك أن الأدب الإيطالي حين بلغ جيورجيوني السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من عمره كان يتجه نحو النزعة الريفية؛ فقد نشر سنادساروا Sannazaro قصائد أركاديا في عام 1504؛ ولعل جويرجيوني قرأ هذه القصائد ووجد في أخيلتها الجميلة بعض ما أوحى إليه بالمناظر الطبيعية المثالية والحب المثالي. ولعل جيورجيوني قد أخذ عن ليوناردو - الذي مر بالبندقية في عام 1500 - ميلاً إلى رقة التعبير الخيالية الصوفية، والتدرج الخفيف غير المحس، ورقة الأسلوب التي جعلته لحظة قصيرة مفجعة حامل لواء البندقية.
ومن أقدم لأعمال التي تعزى إليه - ونقول تعزى إليه لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن شيئاً ما من عمله هو - لوحتان خشبيتان تمثلان تعرض الطفل باريس لقسوة الجو ونجاته؛ وقد تذرع بهذه القصة لتصوير الرعاة، والمناظر الريفية الموحية بالسلام. وإنا لنجد في الصورة الأولى، التي يجمع الثقات على أنها من صنعه، صورة الغجرية والجندي الخيال الذي اختص به جيورجيوني: نجد امرأة نلتقي بها على غير انتظار، عارية إلا من لفاعة حول كتفيها، تجلس على أثوابها التي خلعتها على شاطئ يغشاه الطحلب(19/239)
لمجرى مائي دافق، ترضع طفلاً، وتتلفت حولها في قلق. ومن خلفها يمتد منظر من العقود الرومانية، ونهر، وجسر، وأبراج، وأشجار غريبة، وبرق أبيض، وسحب خضراء تنذر بالعواصف، والى جانب المرأة فتى وسيم يمسك بعصا راع - ولكن ثيابه أغلى من ثياب الرعاة - وقد سره المنظر فغفل عن العاصفة التي توشك أن تثور. وليست القصة معروفة بوضوح، وكل ما تعنيه الصورة أن جيورجيوني كان يحب الشبان ذوي الجمال، والنساء ذوات الجسم الأملس الرقيق، والطبيعة حتى في نزواتها وغضبها.
ورسم في عام 1504 لأسرة ثاكلة في مسقط رأسه صورة سيدة كاستيلفرانكو. والصورة سخيفة جميلة، يرى في مقدمتها القديس لبيرالي St. Liberale في دروع براقة من التي يلبسها الفرسان في العصور الوسطى، ممسكاً برمح للعذراء، والقديس فرانسس يعظ الهواء. وفي أعلى الصورة جلست مريم العذراء هي وطفلها على قاعدة مزدوجة، والطفل ينحني إلى الأمام في غير اكتراث من موضعه العالي. غير أن الديباج الأخضر والبنفسجي الذي يرى عند قدمي مريم بعد من عجائب التلوين والتخطيط. وتسقط أثواب مريم حولها متثنية، أجمل ما يكون التثني. وينم وجهها عن الحنان الرقيق الذي يصوره الشعراء في رفاق خيالهم، ويتراجع المنظر في غموض شبيه بغموض مناظر ليوناردو حتى تذوب السماء في البحر.
ولما تلقى جيورجيوني وصديقه تدسيانو فيتشيلي Tiziano Vecelli الدعوة إلى نقش مخزن التجار التيوتون Fondaco dei Tedeschi، أختار جيورجيوني جداره لمواجه للقناة الكبرى واختار تيشيان الجدار المجاور للسوق المالية. وقد وجد فارساي، وهو يتأمل مظلم جيورجيوني بعد خمسين عاماً من ذلك الوقت، أنه عاجز عن أن يعرف بداية أو نهاية لهذا الخليط الذي وصفه مشاهد آخر بأنه: أنصاب تذكارية، وأجسام عارية، ورؤوس مظللة(19/240)
عليها بالجلاء والقتام .. ومهندسون يقيسون الكرة الأرضية، وفن المنظور ممثل في عمد، وبين هذه كلها رجال على ظهور الخيل، وما إلى ذلك من الأوهام))، غير أن هذا الكاتب نفسه يضيف إلى ذلك قوله: ((ونرى من هذا كيف كان جيورجيوني بارعاً في استخدام الألوان في الرسم على الجص)) (34).
غير أن عبقريته كانت تتمثل في التفكير لا في الألوان. ذلك انه لما رسم صورة فينوس النائمة التي كانت ذخيرة لا تقدر بمال في معرض الصور في درسدن Dersden ربما كان يفكر فيها تفكيراً حسياً خالصاً بوصفها جسما مكوناً من جزيئات تثير الشهوة، وما من شك مطلقاً في أنها هذا الجسم أيضاً، وأنها تدل على انتقال فن البندقية من الموضوعات المسيحية إلى الموضوعات والاحساسات الوثنية. ولكننا لا نجد في فينوس ما يتنافى مع الأخلاق أو ما يوحي بما يناقض الفضيلة، فهي ترقد نائمة، عارية مقلقة في الهواء الطلق، على وسادة حمراء وثوب من الحرير الأبيض، وذراعها اليمنى تحت رأسها، وتتخذ من يدها اليسرى ورقة تين (1)، وأحد طرفيها البالغ غاية الكمال في التصوير ممتد فوق الطرف الآخر الذي يرتفع من تحته. وقلما وصل الفن إلى ما وصل إليه هنا من إبراز التكوين المخملي للبشرة النسائية أو إظهار ما في الوضع الطبيعي من رشاقة. ولكن وجهها ينم براءة وطمأنينة قلما تتفقان مع الجمال العريان، إن جيوجيوني في هذه الصور قد بعد بنفسه كل البعد عن الخير والشر على السواء، وجعل حاسة الجمال تسيطر برهة من الزمان على الشهوة. وفي صورة أخرى له هي صورة السمفونية الريفية المحفوظة في متحف اللوفر نرى اللذة ممثلة في صورة حسية صريحة، ولكن فيها مع ذلك كل ما في الطبيعة من براءة. ففي هذه الصور امرأتان عاريتان، ورجلان مرتديان أثوابهما يستمتعان
_________
(1) يريد أنها تستر بها نفسها. (المترجم)(19/241)
بعطلة في الريف: وأحد الرجلين شاب من الأشراف في صدرية من الحرير الأحمر البراق، يعزف على عود بغير انتظام، والى جانبه راع أشعث الشعر يجهد نفسه في سد الثغرة القائمة بين العقل الساذج والعقل المثقف. والسيدة صاحبة الأرستقراطي ذات حركة رشيقة تفرغ إبريقاً من البلور في بئر، أما فتاة الراعي فتنتظره في صبر وأناة حتى يلتفت إلى مفاتنها أو إلى نايها. وليس لفكرة الخطيئة أي أثر في رؤوس هذه الجماعة لأن العود والناي قد ارتفعا بالغريزة الجنسية إلى التوافق الموسيقي والانسجام. ويقوم وراء صور الآدميين منظر من أغنى المناظر في الفن الإيطالي.
ويبدو أخيراً في صورة الحفلة الموسيقية المحفوظة في قصر بتي Pitti أن الشهوة قد نسيت لأنها بدائية غير لائقة، وأن الموسيقى هي كل شيء، أو أنها رباط للصداقة أدق وأسمى من الشهوة. وقد ظلت هذه الصورة، وهي أجمع الصور لخصائص جيورجيوني، حتى القرن التاسع عشر تعزى إليه هو نفسه، أما الآن فكثيرون من النقاد يعتقدون أنها من صنع تيشيان، وإذ كانت المسألة لا تزال موضعاً للشك فلنتركها لجيوجيوني، لأنه كان يحب الموسيقى حباً لا يعلو عليه إلا حبه للنساء، ولأن لتيشيان من روائع الفن ما يكفي قبعته بريشة، وهو يبدو عديم الحياة إلى حد ما، في وقفته، والى جانبه راهب جالس أمام معزف من نوع البيان القديم، ويداه اللتان أجيد تصويرهما على مفاتيحه، وقد استدار بوجهه إلى قس في الجهة اليمنى للناظر، والقس يضع إحدى يديه على كتف الراهب، ويمسك بالأخرى كماناً جهيراً مرتكزاً على الأرض. ترى هل انتهيا من العزف أو أنهما لم يبدأا به بعد؟ ليس هذا أمراً ذا بال، لأن الذي يحركنا ويثير مشاعرنا هو ما نشاهده في وجه الراهب من شعور عميق صامت، وقد رقت كل جارحة في وجهه وكل عاطفة في قلبه، وهذا وذاك بسحر الموسيقى(19/242)
التي يستمع إليها بعد أن صمتت الآلتان بزمن طويل. وهذا الوجه ليس فيه شيء من المثالية ولكن فيه أعمق الواقعية، هو من معجزات التصوير في عصر النهضة.
وكانت حياة جيورجيوني قصيرة الأجل، ويبدو أنها كانت حياة مرحة. والظاهر انه كانت له نساء كثيرات، وانه كان يعالج كل غرام مخفق بغرام جديد يبدؤه بعده بقليل. ويقول فارساي إن جيورجيوني أصيب بالطاعون لأن عدواه سرت إليه من آخر امرأة أحبها، ولك الذي نعرفه انه مات أثناء الوباء الذي انتشر في عام 1511، ولما يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره. وكان له قبل وفاته نفوذ واسع، فقد كان أكثر من عشرة فنانين صغار يرسمون مناظر لأناشيد الرعاة الريفية، وصوراً تمثل أحاديث الناس، وألحاناً موسيقية إضافية، وحللاً للمقنعات يحاولون بها عبثاً أن يبلغوا ما بلغه طرازه من رقة وصقل، وما بلغته مناظره الطبيعية من توافق وانسجام، وما في موضوعاته من غرام صادق صريح. وقد ترك من بعده تلميذين كان لهما أثر كبير في العالم: سيبستيانو دل بيمبو Sabastiano del piombo الذي ذهب إلى روما وتدسيانو فيتشيلي Tiziano Vecelli أعظم الفنانين البنادقة على الإطلاق.
5 - تيشيان (دور التكوين)
1477 - 1533
ولد في بلدة بييف Pieve في السلسلة الكادورية Cadorico من جبال الدلميت Dolmites، ولم ينس قط هذه الجبال الوعرة في مناظره. ولما بلغ التاسعة أو العاشرة من عمره جيء به إلى البندقية وتتلمذ على سيبستيانو زكاتو، وجنتيلي بيليني، وجيوفيني بيليني كل واحد منهم بعد الآخر، وكان هو في مرسم جيوفيني الذي لم يكن يكبره بأكثر من عام. ولما أنشأ هذا الغلام المصور مرسمه الخاص وأخذ ينتج الصور كما كان الغلام الشاعر كيتس يقرض الشعر، ذهب إليه تيشيان في أغلب الظن مساعداً له أو زميلاً، وبلغ من تأثير جيوفني فيه إن بعض(19/243)
صوره الأولى تعزى إلى جيوفني، وأن بعض صور جيوفني المتأخرة تعزى إلى تيشيان. وأكبر الظن أن صورة الحفلة الموسيقية التي تجل عن المحاكاة مما صور في تلك الفترة، وقد عملا معاً في نقش جدران مخزن التجار التيوتون.
وفر تيشيان من الوباء الذي قضى على حياة جيورجيوني - أو لعله في من الجمود الذي أصاب الفن بسبب حرب عصبة كمبرية - إلى بدوا (1511)، حيث حكمنا بما يبدو في المظلمات من فجاجة قلنا انه هو في الخامسة والثلاثين من عمره كان لابد له أن يقطع شوطاً طويلاً قبل أن يبلغ المستوى الذي بلغته خير أعمال جيورجيوني، غير أن جوته Goethe قد رأى بعين بصيرته النافذة أنها تبشر بالشيء الكثير (36). ولما عاد تيشيان إلى البندقية وجه إلى الدوج ومجلس العشرة (31 مايو سنة 1513) رسالة تذكرنا بالدعوة التي وجهها لدوفيكو قبل ذلك بجيل من الزمان:
أيها الأمير الجليل، أيها السادة الأعلون العظماء! لقد ظللت أنا تيشيان الكادوري منذ طفولتي أدرس فن التصوير، وأهدف بذلك إلى أن أنال قليلاً من الشهرة أكثر مما أنال من المال .... ولقد تلقيت في الماضي وفي الحاضر دعوات ملحة من قداسة البابا وغيره من العظماء للدخول في خدمتهم، ولكنني وأنا أحد رعاياكم المخلص الأمين تحدوني الرغبة الصادقة في أن أترك لي أثراً في هذه المدينة الذائعة الصيت. فإذا راقكم ذلك يا أصحاب السعادة فإني أحب أن أزين قاعة المجلس الكبير وأن أبذل في هذا كل ما وهبت من قوة، وأن أبدأ برسم صورة على القماش للمعركة التي دارت على جانب الميدان الأصغر، وهو موضوع يبلغ من الصعوبة درجة لم يجرؤ معها أحد على محاولته. وإني قابل أن أتناول على جهودي أية مكافأة ترون أنها تليق بها أو أقل .. وإذ لم أكن، كما قلت قبل، أرغب(19/244)
إلا في أن أنال ذلك الشرف، وأن أدخل السرور على نفوسكم، فإني أرجو أن أنال أول رخصة لسمسار مدى الحياة تخلو في مخزن التجار التيوتون، وألا تحول بيني وبينها أية وعود بذلت لغيري، مع ما يصحبها من التكاليف والإعفاءات التي نالها السيد دسوان بيلين Zuan Belin ( جيان بيليني)، فضلا عن تعيين مساعدين لي يتناولان أجرهما من مكتب الملح، وأن أحصل على جميع الألوان وما أحتاجه غيرها ... وأعدكم في نظير ذلك أن أقوم بالعمل السالف الذكر بالسرعة والإتقان اللذين يرضيان مجلس السيادة (37).
وكانت «رخصة السمسار» الواردة في هذه الرسالة وظيفة رسمية يعمل صاحبها وسيطاً بين تجار البندقية والتجار الأجانب. كانت رخصة السمسار لدى التجار الألمان في البندقية تجعل الحائز لها فعلاً المصور الرسمي للدولة ويتقاضى نظير ذلك 300 كرون (3750 دولاراً) في العام نظير رسم صورة للدوج وما عسى أن تتطلبه الحكومة من الصور الأخرى. ويبدو أن المجلس قبل اقتراح تيشيان على سبيل التجربة، وسواء كان ذلك أو لم يكن فقد بدأ الفنان برسم معركة كادوري في قصر الدوج. ولكن شانئيه أقنعوا المجلس بسحب الرخصة منه والامتناع عن أداء أجر مساعديه (1514). ثم دارت مفاوضات ضايقت كل من اشترك فيها، وانتهت بتعيينه في المنصب ونيله أجره دون لقبه (1516). وأخذ يؤجل العمل ويتباطأ فيه فلم يتم حتى عام 1537 الرسمين اللذين بدأهما في قاعة المجلس الأكبر. ودمرت النار الرسمين في عام 1577.
وارتقى تيشيان على مهل كما يرتقي أي كائن حي وهب من العمر مائة عام. ولكنه في عام 1508 لا بعد أظهر من تباشير نفاذ الروح وقوة التطبيق ما رفعه بعدئذ فوق منافسيه في التصوير. ولدينا الآن صورة لا اسم لها تعرف فيما مضى باسم أريستو تطالعنا بذكريات من طراز(19/245)
جيورجيوني - بالوجه الشعري والعينين اللتين تشع منهما الدقة وقليل من الخبث، وأثواب فخمة كانت نموذجاً نسجت على منواله ألف صورة أخرى، وفي هذه الفترة (1506 - 1516) كان الفنان السائر في طريق النهوض يعرف كيف يخلع على صور النساء قدراً كبيراً من الجمال فبدأت بذلك تختلف عن نساء جيورجيوني وتتجه نحو نساء روبنز Rubens. واستمر الانتقال من صور العذراء إلى صور فينوس على يد تيشيان، حتى وهو يرسم صوراً دينية ذات روعة وشهرة فائقة. فكانت اليد التي تبعث في القلوب التقي بصورة السيدة الغجرية وعبادة الرعاة هي نفسها التي تستطيع أن تصور امرأة تزدان وتصور تلك البراءة الخليعة التي نشاهدها في صورة فلورا الموجودة في معرض أفيزي. وأكبر الظن أن هذا الوجه الظريف وهذا الصدر الناهد وجدا أيضاً في صورة ابنة هرودياس، وشالوم في هذه الصورة لا يفترق في شيء عن أهل البندقية كما أن الرأس المقطوع رأس عبري بكل ما فيه.
وأخرج تيشيان في عام 1515 أو حواليه صورتين من أشهر صوره هما ثلاثة أعمار الإنسان وهي جماعة من الأطفال العراة نائمين تحت شجرة، ومعهم كيوبيد يلقنهم في هذه السن الصغيرة جنون الحب، وشيخ في العقد التاسع يتأمل جمجمة، وفتى وفتاة سعيدين في ربيع الحب، ولكن كليهما ينظر إلى الآخر نظرة تنم عن قلق كأنهما قد عرفا مقدماً إصرار الزمن على إبلاء تلك العاطفة. وصورة الحب الطاهر والحب الدنس قد خلع عليهما اسم حديث لو بعث تيشيان حيا لدهش منه. وقد سميت الصورة حين ذكرت لأول مرة الجمال المزدان وغير المزدان (38)، وأكبر الظن انه لم يكن بقصد بها تلقين درس في الأخلاق بل كان الغرض منها أن تزدان بها قصة من القصص. والجسم العاري الدنس في الصورة(19/246)
هو أكمل شكل في سجل أعمال تيشيان، فكأنه صورة فينوس ده ميكو نقلت إلى عصر النهضة. ولكن صورة المرأة الطاهرة عليها أيضاً صبغة دنيوية، فمنطقتها المزدانة بالحلي تستلفت الأنظار، ورداؤها الحريري يغري باللمس، وأكبر الظن أنها هي الخليلة المرحة التي كانت نموذج صورة فلورا أو المرأة تتزين. وإذا ما أنعم الإنسان النظر فيها تكشفت له خلف صور الآدميين عن منظر طبيعي معقد فيه نبات وحيوان وأجمة كثيفة من الأشجار، وراع يتعهد قطيعه، وعاشقان، وصائدون وكلاب يطاردون أرنباً برياً، وبلدة وأبراجها، وكنيسة وبرج جرسها، وبحر أزرق جيورجيوني الطراز، وسماء ملبدة بالغيوم. ترى ماذا يهمنا إذا كنا لا نعرف ماذا تعني هذه الصورة بالضبط؟ إنها الجمال ((يبقى برهة)) أمامنا، أليس هذا هو الذي يظن فاوست Faust انه هو الحياة والروح؟.
ولما أدرك تيشيان أن الجمال النسوي مزداناً أو طبيعياً يجد له على الدوام من يطلبه اتخذه موضوعاً له وهو جذلان، فقبل في بداية عام 1516 دعوة ألفنسو الأول لرسم بعض لوحات في قصره بفيرارا. وهيئ للفنان مسكن في القصر ومعه مساعدان له، وقضى فيه نحو خمسة أسابيع، ويلوح انه تردد عليه بعدئذ قادماً من البندقية.
ورسم تيشيان لقاعة المرمر ثلاث صور واصل فيها مزاج جيورجيوني الوثني. ففي صورة السكارى نرى رجالاً ونساء، وبعضهم عرايا، يشربون، ويرقصون، ويتغازلون، أمام منظر من الأشجار السمراء، وبحيرة زرقاء، وسحب فضية، وأمامهم على الأرض ملف يحمل شعاراً بالفرنسية: ((من يشرب ولا يعد إلى الشرب لا يعرف ما هو الشرب)). وعلى بعد من هذا الشعار نرى نوحاً طاعناً في السن يتمطى وهو عار(19/247)
سكران، وبالقرب من الجزء الأول فتى وفتاة يرقصان معاً، وأثوابهما تدور في الهواء، وفي الجزء الأمامي من الصورة امرأة يدل ثدياها الناهدان على أنها في مقتبل العمر نائمة على الكلأ عارية، والى جانبها طفل قلق يدفع ثوبه ليروح عن مثانته ويتم بذلك دورة السكارى خارجاً من الغابات يفاجئ المرأة المهجورة، ونرى ساتيرات مخمورات، ورجلاً عارياً تلتف الأفاعي حوله، وإله الخمر العاري يقفز من عربته ليمسك بالأميرة الهاربة. وتبلغ النهضة الوثنية في هذه الصورة وفي صورة عبادة فينوس أعظم ما بلغته من قوة وسلطان.
ورسم تيشيان في هذه الثناء صورة تستلفت الأنظار للدوق ألفنسو نصيره الجديد: رسمه ذا وجه جميل ينم عن ذكاء، وجسم ممتلئ تزيده مهابة ثياب رسمية فخمة، ويد جميلة (يصعب أن تكون يد فخراني ومحارب) متكئة على مدفع محبوب، وتلك هي الصورة التي أعجب بها وأثنى عليها ميكل أنجيلو نفسه. وجلس إريستو لتيشيان ليصوره، ورد هذه التحية لتيشيان ببيت من الشعر في إحدى طبعات فيور بوسو المتأخرة، كذلك جلست لكريدسيا بورجيا للمصور العظيم، ولكن أثراً ما لم يبق لهذه الصورة، ولربما جلست أيضاً لورا ديانتي Laura Diante عشيقة ألفنسو لصورة لم تبق إلا نسخة مأخوذة عنها في مودينا. وأكبر الظن أن ألفنسو هذا هو الذي رسم له تيشيان صورة من أجمل صوره وهي صورة مال الخراج، ترى فيها فريسياً له رأس فيلسوف يوجه سؤاله في إخلاص والمسيح يجيبه في غير غضب جواباً بليغاً.
ومن المميزات الخاصة بذلك العصر أن تيشيان قد استطاع الانتقال من تصوير باخوس إلى تصوير المسيح، ومن فينوس إلى مريم، ثم عاد من مريم والمسيح إلى فينوس وباخوس، دون أن يضطرب لذلك عقله، ذلك(19/248)
انه صور في عام 1518 لكنيسة الرهبان أعظم صورة على الإطلاق وهي صورة صعود العذراء. ولما وضعت هذه الصورة في إطار فخم من الرخام خلف المذبح العالي رأى سانودو Sanudo كاتب اليوميات البندقي أن هذا الحادث خليق بالتسجيل فكتب يقول: ((في 20 مايو 1518: أقيمت بالأمس اللوحة التي صورها تيشيان ... للرهبان الفرنسيس)) (39). ولا تزال رؤية صورة الصعود في كنيسة الرهبان من الحوادث الهامة في حياة إنسان ذي إحساس رقيق. ويرى الإنسان في وسط اللوحة الضخمة التي رسمت عليها هذه الصورة العذراء كاملة قوية، مكتسبة ثوباً أحمر ومئزراً أزرق، ذاهلة متوجسة، ترفعها خلال السحب هالة مقلوبة من صغار الملائكة المجنحين. وفوق صورة العذراء حاول المصور محاولة مخففة - وكان لابد لها أن تخفق - أن يصور الله - فلم يرسم إلا ثوباً، ولحية، وشعراً تنفشه رياح السماء، وأجمل من هذا صورة الملك الذي يأتيه بتاج لمريم. وتحت هذا صور الرسل، وهم عدد متباين من الصور الفخمة، ينظر بعضهم في دهشة، وبعضهم يركع للصلاة والعبادة، وبعضهم يتطلع إلى أعلى كأنه يريد أن يؤخذ إلى الجنة. وإذا ما وقف متشكك نافر أمام هذه الدعوة القوية إلى الإيمان لم يسعه إلا أن يأسف لتشككه، ويقر بما في هذه الأسطورة من جمال، وما تبعثه في النفس من أمل.
وأراد ياقوبو بيزارو، أسقف باقوس Paphos في قبرص أن يعبر عن شكره لله لما أحرزه أسطول البندقية من نصر على العمارة التركية فعهد إلى تيشيان أن يصور ستاراً آخر في محراب كنيسة الرهبان - للمعبد الذي دشنته من قبل أسرة هذا الأسقف. وأدرك تيشيان الخطر الذي سوف يتعرض له إذ يقوم على رسم صورة عذراء أسرة بيزارو يتحدى بها تحفته الفنية التي نالت الإعجاب من وقت قريب. لكنه ظل يعمل في الصورة الجديدة سبع سنين قبل أن يطلقها من مرسمه. وآثر فيها أن يرسم العذراء(19/249)
جالسة على عرشها، لكنه خرج على السوابق المألوفة فرسم صورتها إلى اليمين مائلة من ركن فوضع بذلك من يقدم لها التاج جهة اليسار، كما وضع القديس فرانسس عند قدميها. ولولا النقش البراق الذي يركز انتباه الناظر على الأم وطفلها لأختل توازن الصورة. ورحب كثيرون من الفنانين بهذه التجربة وحذوا حذوه فيها بعد أن ملوا التركيب التقليدي المألوف المركز أو الهرمي.
ودعا المركيز فيدريجو جندساجا تيشيان إلى مانتوا في عام 1523، لكن الفنان لم يقم فيها طويلاً لأنه كلف بأعمال في البندقية وفيرارا. غير أنه بدأ فيها سلسلة من إحدى عشرة صورة تمثل أباطرة الرومان، وقد فقدت هذه كلها. وقد رسم في إحدى زياراته صورة جذابة للمركيز الشاب الملتحي. وكانت إزبلا العظيمة أم فيدريجو لا تزال على فقيد الحياة، فجلست إليه ليصورها، ولما وجدت أن الصورة واقعية أكثر مما تطيق، وضعتها بين عادياتها القديمة، وطلبت إلى تيشيان أن ينسخ لها صورة كان فرانتشيا Francia قد رسمها قبل أربعين عاماً من ذلك الوقت. تلك هي الصورة التي أخذ عنها تيشيان (ولعل ذلك كان في سنة 1534) صورة المشهورة ذات القلنسوة الشبيهة بالعمامة، والأكمام المزركشة، والفراء المثناة، والوجه الظريف. واحتجت إزبلا قائلة أنها لم تكن تظن نفسها بهذا الجمال، ولكنها عملت على أن تنحدر هذه الصورة التذكارية إلى الخلف.
والى هنا نترك تدسيانو فيتشيلي بعض الوقت، ذلك أننا لا نستطيع أن نفهم الشطر المتأخر من حياته إلا إذا أحطنا علماً بالحوادث السياسية التي كان لشارل الخامس أكبر أنصاره فيها شأن كبير بعد عام 1533. وكان تيشيان قد بلغ السادسة والخمسين من العمر في ذلك العام. ومنذا الذي كان يظن وقتئذ انه لا يزال أمامه من العمر ثلاثاً وأربعين سنة، وأنه سيرسم في النصف الثاني من حياته عدداً من روائع الفن لا يقل عما رسمه منها في نصفها الأول.(19/250)
6 - صغار الفنانين والفنون الصغرى
من واجبنا أن نعود الآن القهقرى لنشيد في إيجاز بذكر مصورين ولدا بعد مولد تيشيان ولكنهما توفيا قبله بزمن طويل. إن علينا أن ننحني في إجلال قبل أن نختم هذا الفصل أمام جيرولامو سافلدو Girolamo Salvaldo الذي قدم إلى البندقية من بريشيا وفلورنس، ورسم صورتين ممتازتين هما صورة العذراء والقديسين الموجودة الآن في معرض بريرا، ثم صورة فاتنة للقديس متى محفوظة في متحف الفنون بنيويورك، وصورة مجدلين المحفوظة في برلين، وهي أكثر إغواء من صورة السيدة البدينة المسماة بهذا الاسم نفسه والتي رسمها تيشيان.
وقد أطلق على جياكومو نجريتي Giacomo Nigreti اسم بالما Palma نسبة إلى بعض تلال بالقرب من مسقط رأسه سيرينا Serina في الألب البرماسية Bermasque، ثم أصبح اسمه بالما فتشيو حين ذاعت شهرة بالما جيوفاني ابن أخيه. وظل معاصروه هو وتيشيان وقتاً ما يرونهما ندين. ولعل عوامل الغيرة قد دبت بين الرجلين، ولم تخف حدتها بعد أن سرق تيشيان عشيقة جياكومو. ذلك أن جياكومو كان قد رسم لها صورة سماها فيولنتي Violante، ثم جاء تيشيان فاتخذها نموذجا لصورة فلورا. وكان بالما، كما كان تيشيان، بارعاً في تصوير الموضوعات الطاهرة والدنسة بدرجة واحدة من المهارة إن لم نقل بدرجة واحدة من الحماسة، وقد تخصص في تصوير الأحاديث الدينية أو الأسر المقدسة، ولكن شهرته في أكبر الظن ترجع إلى صور الفتيات البندقيات الشقراوات - أي النساء الناهدات اللائى يصبغن شعرهن صبغة سوداء ضاربة إلى الحمرة. مع هذا فان أجمل صوره هي الصور الدينية: القديسة بربارا المعلقة في كنيسة سانتا ماريا فرموزا Santa Maria Formosa، وهي شفيعة المدفعيين(19/251)
البنادقة، وصورة يعقوب وراحيل الموجودة في معرض درسدن ويرى فيها راع وسيم يقبل فتاة ناهدة. ولولا أن تيشيان قد رسم نحو خمسين صورة أعمق من صور بالما لكانت هذه الصورة الخيرة في مستوى أحسن صور عصره وبلده.
وأتخذ تلميذه بنيفادسيو دي بيتاتي Bonifazio de' Pitati، المسمى فيرونيز نسبة إلى مسقط رأسه، طراز صورة العيد الريفي Fete Champetre لجيورجيوني وصورة ديانا لتيشيان، وذلك حين نقش على جدران البندقية وأثاث بيوتها صوراً جذابة للمناظر الطبيعية والجسام العارية، وإن صورة ديانا وأكتابون لتضارع صور هذين الأستاذين.
واكن لورندسو لتو Lorenzo Lotto أقل منزلة عند مواطنيه من بنفادسيو في أيامهما، ولكن شهرته زادت على مر السنين. وكان لورندسو هذا ذا روح حيية مكتئبة ولهذا لم تكن تناسبه حياة مدينة البندقية التي لم تكد تسكت فيها دقات الأجراس ونغمات المرنمين حتى عادت الوثنية فيها إلى ما كان لها من السيطرة. وقد رسم وهو في العشرين من عمره صورة تعد من أعظم صور النهضة ابتكاراً وهي صورة القديس جيروم المحفوظة في متحف اللوفر. وليست هذه صورة مبتذلة للزاهد الضامر الجسم، بل تكاد تكون دراسة صينية للأخاديد القائمة والصخور الجبلية، ليس العالم الشيخ فيها إلا عنصراً مصغراً، لا تكاد العين تقع عليه لأول وهلة. وتلك هي أولى الصور الأوربية التي تمثل الطبيعة بما لها من قوة برية لا يوصفها مظهراً خيالياً في مؤخرة الصورة. وانتقل لورندسو بعدئذ إلى تريفيزو حيث نقش على ظهر مذبح كنيسة سانت كرستينا صورة العذراء على العرش وهي الصورة العظيمة التي أذاعت شهرته في جميع إيطاليا الشمالية. ثم أصاب نجاحاً آخر حين رسم صورة للعذراء لكنيسة القديس دمنيكو في ركاناتي recanati استدعي بسببها إلى روما، حيث طلب(19/252)
إليه البابا يوليوس الثاني بعض حجرات الفاتيكان، ولكن المظلمات التي بدأت لتوها أتلفت حين قدم رفائيل إلى المدينة. وربما كان هذا الإذلال سبباً من أسباب مزاج لورندسو النكد. غير أن برجامو كانت أحسن تقديراً لموهبته التي اختص بها وهي تخفيف ألوان فن البندقية القوية وجعلها ألطف وأكثر اعتدالاً ومواءمة للتقى والصلاح. وظل يعمل في برجامو اثنتي عشرة سنة، لا ينال فيها إلا أجراً متوسطاً، ولكنه آثر أن يكون الأول في برجامو عن أن يكون الرابع في البندقية. ثم نقش لكنيسة سان بارتولميو ستاراً لمذبحها مزدحماً بالصور ولكنه مع ذلك جميل رسم فيه صورة العذراء في جلالها. وأجل من هذه صورة عبادة الرعاة الموجودة في بريشيا. وفيها نرى الألوان كاملة شاملة ولكنها مخففة وأكثر إراحة للعين والروح من أثر البريق الذي تحدثه صور الفنانين البنادقة العظام.
وإذ كان لتوذا نفس حساسة، فقد كان في وسعه أحياناً أن يكون أكثر نفاذاً إلى الشخصية من تيشيان، ولذلك فانك قل أن تجد من الفنانين من أدرك لآلاء الشباب الصحيح الجسم بنفس العمق الذي أدركه به لتو في صورة غلام الموجودة في قصر بميلان. ويظهر لورندسو في صورته التي رسمها لنفسه صحيح الجسم قوية فيما يبدو، ولكن ما من شك في أنه قد قاسى كثيراً من متاعب المرض والألم قبل أن يستطيع تصوير المرض تصويراً يبعث العطف في صورة الرجل المريض في معرض برغيز أو في صورة أخرى لها نفس العنوان في معرض دوريا Doria بروما - ففيهما نرى يداً هزيلة تضغط على القلب، وسمات الألم والحيرة تبدو على الوجه كأن صاحبها سواء كان صالحاً أو عظيماً يسأل لما اختصته الجراثيم بفتكها؟ وتمثل صورة أخرى هي صورة لورا البولائية Laura di Pola امرأة ذات جمال هادئ تحيرها هي الأخرى الحياة ولا تجد جواباً لحيرتها إلا في الإيمان والتدين.(19/253)
وقد وصل لتو نفسه إلى هذه السلوى. ذلك أنه ظل قلقاً وحيداً، أعزب، يتنقل من مكان إلى مكان، ولعله كان يتنقل من فلسفة إلى فلسفة، حتى اتخذ سكنه في سنيه الأخيرة (1552 - 1556) في دير سانتا كاسا Santa Casa بلوريتو Loreto بالقرب من البيت المقدس الذي يعتقد الحجاج أن أم الإله لجأت إليه. وقد وهب جميع أملاكه لهذا الدير في عام 1554، وأقسم أن يكرس نفسه له. وكان تيشيان يصفه بأنه ((صالح كصلاح نفسه، وفاضل كالفضيلة ذاتها)) (41). وطالت حياة لتو حتى انقضى الشطر الوثني من عصر النهضة، وغرق في بحار الراحة (إذا جاز هذا التعبير) بين زراعي مجلس ترنت، وأسهمت الفنون الصغرى بنصيبها فيما كان هناك من ثقافة غزيرة في ذلك القرن المزعزع (1450 - 1550) الذي عانت فيه تجارة البندقية كثيراً من الهزائم وظفر فيه فن التصوير البندقي بكثير من الانتصارات. ولم يكن ذلك مولوداً جديداً Renaissance بالنسبة لهذه الفنون، لأنها كانت قديمة ناضجة في إيطاليا قبيل عصر بترارك، وكل ما في الأمر أنها واصلت ما كان لها في العصور الوسطى من جودة وامتياز. ولربما كان من يشتغلون بالفسيفساء قد فقدوا شيئاً من مهارتهم أو صبرهم على العمل؛ وحتى لو كان فإن ما قاموا به من الأعمال في كنيسة القديس مرقس كان في القليل أرقى من العصر الذي يعيشون فيه. وكان الفخرانيون وقتئذ يتعلمون صناعة الخزف الرفيع، فقد جاء إليهم ماركوبولو قبل ذلك ببعضه من بلاد الصين، وكان بعض السلاطين قد أرسل نماذج منه إلى الدوج (1461)؛ ولم يحل عام 1470 حتى كان البنادقة يصنعونه في بلدهم. كذلك وصلت صناعة الزجاج في مورانو ذروة مجدها في تلك الفترة، فأخرجوا بلوراً غاية في النقاء وجمال الشكل، وكان أشهر صناع الزجاج في ذلك الوقت معرفين في جميع أنحاء أوربا، وكانت جميع البيوت(19/254)
المالكة تتنافس في الحصول على مصنوعاتهم. وكان معظمهم يستخدمون في صنعه قالباً أو نموذجاً؛ وكان منهم من أغفل القالب، ونفخ فقاعة من الهواء في الزجاج السائح وهو ينصب في الفرن، ثم يشكلون المادة فناجين ومزهريات، وأقداحاً، وحلياً لا تحصى ألوانها ولا أشكالها، وكانوا أحياناً ينقشون سطحه بالميناء الملونة أو الذهب بعد أن أخذوا هذا الفن عن المسلمين. وكان صناع الزجاج يحرصون أشد الحرص على أن يحتفظوا في أسرهم أسرار العمليات التي وصلوا بها إلى ما وصلوا إليه من إعجاز في هذه المصوغات ذات الجمال الهش، وسنت حكومة البندقية قوانين صارمة لمنع هذه الدقة العجيبة من أن تتسرب معرفتها إلى الأقطار الأخرى. من ذلك ما قرره مجلس العشرة في عام 1454 من أنه:
((إذا نقل صانع إلى بلد آخر فناً أو حرفة أضر نقلها بالجمهورية، أمر بأن يعود، فإذا لم يطع الأمر، زج أقرب أقربائه في السجن، وذلك كي يحمله تضامنه مع أسرته على أن يعود؛ فإذا أصر على عدم إطاعة الأمر، اتخذت الإجراءات السرية لقتله أينما وجد)) (52).
وحدثت الاغتيالات الوحيدة المعروفة تنفيذاً لهذا القرار في فينا في القرن الثامن. لكن الصناع والفنانين البنادقة اتخذوا طريقهم فوق جبال الألب في القرن السادس عشر على الرغم من هذا القانون، ونقلوا صناعتهم إلى فرنسا وألمانيا وقدموا هدية إلى فاتحي إيطاليا.
وكان نصف صناع البندقية فنانين، فكان المشتغلون بصناعة القصدير يزينون الأطباق والصحاف الكبيرة، والأكواب، والأقداح بحافات رشيقة ورسوم نباتية جميلة. واشتهر صناع الدروع بالزرد الدمشقي، والخوذ، والرتوس، والسيوف، والخناجر، والأغماد المنقوشة بالرسوم الجميلة، كما كان غيرهم من كبار الصناع يصنعون للسيوف القصيرة مقابض من العاج مرصعة بالجواهر. وقد حفر بلدساري دجلي أمبرياكي(19/255)
Baldassare degli Embriachi الفلورنسي بالبندقية في عام 1410 من العظم الستار العظيم المكون من تسعة وثلاثين جزءاً، والذي يوجد الآن في المتحف العاصمي بنيويورك. ولم يقتصر حفارو الخشب على صنع التماثيل والنقوش البارزة كتمثال الختان الموجود في اللوفر أن الصندوق الملون الذي صنعه بارتولمبو منتانيا، والذي كان من قبل في متحف بُلدْى بتسولس Poldi Pezzoli الذي دمرته القنابل في ميلان، بل أنهم كانوا ينقشون سُقُف أعيان البندقية، وأبوابهم، وأثاثهم بالخشب المحفور، وبالعُقد، وبالتلبيس، وهم الذين حفروا أمكنة المرنمين في الكنائس مثل كنيسة فيراري، والقديس زكريا. وكانت الطلبات تنهال على صناع الجواهر البنادقة من خارج البلاد وداخلها، ولكنهم احتاجوا إلى بعض الوقت ليسموا بفنهم من الكم إلى الكيف. وكان الصياغ بعد أن أصبحوا وقتئذ تحت تأثير الفن الألماني لا الشرقي يخرجون الأطنان من الصحاف، والحلي الشخصية، وأربطة الزينة لكل شيء من الكتدرائيات إلى الأحذية. وبقي فن تزيين المخطوطات وفن الخط الجميل، وإن أخذ يخلى مكانه للطباعة بالتدريج. وتأثرت نقوش منسوجات البندقية أكسبتا المنتجات طابعها الفني وألوانها. وكانت مدينة البندقية هي التي طلبت إليها ملكة فرنسا ثلاثمائة قطعة من الساتان المصبوغ (1532)، وكانت الأقمشة الناعمة المترفة التي تصنع في حوانيت البنادقة، والألوان التي تكتسبها في أحواض الصباغة بالبندقية هي التي وجد فيها المصدرون البنادقة نماذج للأثواب الفخمة الزاهية التي أكسبت فنهم نصف ما كان له من بهجة ولآلاء. ولقد كانت البندقية تحقق المثل الأعلى الذي إرتآه رسكن Ruskin وهو وجود نظام اقتصادي تستحيل فيه كل صناعة فناً، وتعبَر فيه كل سلعة عن شخصية صانعها وعن مذهبه الفني.(19/256)
الفصل السادس
آداب البندقية
1 - ألدوس مانوتيوس
كانت البندقية في ذلك الوقت تشغلها مهام الحياة وانهماكها فيها عن العناية بالكتب، ولكن علماءها، ودور كتبها، وشعراءها، وطابعيها، قد اشتركوا في إذاعة حسن الأحدوثة عنها. نعم إنها لم تسهم بنصيب بارز في حركة الآداب الإنسانية، بيد أن هذه النزعة كان لها في البندقية من يمثلها أنبل تمثيل - ونعني به إرمولاء وبربارو Ermolao Brabaro الذ توجه أحد الأباطرة شاعراً وهو في الرابعة عشرة من عمره، وعلم اللغة اليونانية، وترجم أرسطو، وخدم بني وطنه طبيباً، وخدم بلاده دبلوماسياً، وكنيسته كردينالاً، ومات بالطاعون وهو في سن التاسعة والثلاثين. ولم تكن نساء البندقية حتى ذلك الوقت يعنين بالتعليم إلا فيما ندر، فقد كن يقنعن بأن يكن مغريات في الجسم، أو مخصبات في النسل، أو موقرات آخر الأمر، ولكن إيرينه الاسمبلمبيرجيه Irine of Spilimbergo افتتحت في عام 1530 ندوة لرجال الأدب، ودرست التصوير على تيشيان، وكانت تغني بصوت رخيم، وتجيد العزف على الكمان الكبير، وعلى معزف تلك الأيام الشبيه بالبيان، وعلى العود، وتتحدث حديث العلماء في الأدب القديم والحديث. وكانت البندقية تبسط حمايتها على اللاجئين العقليين الفارين من الأتراك في الشرق ومن المسيحيين في الغرب، ففيها كان أرتينو يستهزئ وهو آمن بالبابوات والملوك، كما أشاد بيرون Byron في هذا المكان نفسه باضمحلالهم بعد عدة قرون. لقد كان الأشراف والأحبار يقيمون الأندية والمجامع العلمية(19/257)
لنشر الموسيقى والآداب، ويفتحون بيوتهم ومكتباتهم للدارسين المجدين، والمغنين، والعلماء، وكانت الأديرة، والكنائس، والأسر تجمع الكتب، فكان للكردينال دمنيكو جريماني منها ثمانية آلاف أهداها فيما بعد إلى البندقية، وحذا حذوه في ذلك الكردينال يساربون فأهدى إليها مجموعة مخطوطاته الثمينة. وأرادت الحكومة أن تحفظ هذه الكنوز والبقية الباقية مما أهداه بترارك إلى المدينة فأمرت مرتين بتشييد دار كتب عامة، ولكن الحرب وغيرها من المشاغل وقفت في سبيل هذا المشروع، فلما كان عام 1536 كلف مجلس الشيوخ آخر الأمر ياقوبو ساسوفينو Jacopo Sansovino أن يشيد مكتبة فتشيا Libreria Vecia وهي من الناحية المعمارية أجمل بناء للمكتبات في أوربا.
وكان الطابعون البنادقة في تلك الأيام يخرجون أجمل الكتب المطبوعة في ذلك العصر، بل لعلها أجملها في كل العصور، ولم يكونوا هم أول من قام بهذا العمل في أوربا، فقد أنشأ اسوينهايم Sweynheim وبناردز Pannartz، وكانا في وقت ما مساعدين لجوهان فست Johann Fust في مينز، وأول مطبعة إيطالية في دير للرهبان البندكتيين في سبياكو بجبال الأبنين (1464)، ثم نقلا آلاتهما إلى روما في عام 1467 ونشرا فيها ثلاثة وعشرين كتاباً خلال الثلاث السنين التالية. وبدأت الطباعة في البندقية وميلان في عام 1469 أو قبلها، فلما كان عام 1471 افتتح برناردو تشينيني Bernardo Cennini داراً للطباعة في فلورنس، فأحزن فتحها بوليتيان الذي قال في أسف وحسرة إن ((أسخف الأفكار يمكن نقلها في ساعة من الزمان إلى آلاف المجلدات ونشرها في خارج البلاد)) (43). وأخذ النساخون الذين تعطلوا ينددون عبثاً بالاختراع الجديد، وقبل أن يختتم القرن الخامس عشر تم طبع 4987 كتاباً في إيطاليا: منها 300 في فلورنس، و 629 في ميلان، و 925 في روما، و 2835 في البندقية (44).(19/258)
ويرجع تفوق البندقية في هذه الناحية إلى تيوبلدو مانوتشي Teobaldo Manucci الذي غير اسمه فجعله ألدو مانودسيو Aldo Manuzio، ثم صبغه بعدئذ صبغة لاتينية فجعله ألدوس مانوتيوس Aldus Manutins. وكان مولده في بسيانو من أعمال رومانيا Bussiano in Romagna (1450) ، وتعلم اللغة اللاتينية في روما واليونانية في فيرارا، تعلمهما على جوارينو دا فيرونا، ثم أخذ هو يحاضر في آداب اللغتين في فيرارا. ودعاه بيكو ديلا ميرندولا Pico della Mirandola أحد تلاميذه للمجيء إلى كابري Capri ليعلم فيها ليونيلو Lionello وألبرتو بيو ولدي أخيه. وتوطدت بين المعلم والتلميذين أواصر الحب القوي المتبادل، وأضاف ألدوس اسم بيو إلى اسمه الأول، وأتفق ألبرتو وأمه كونتة كابري أن يمولا أول المشروعات الكبرى في النشر. وكانت خطة ألدوس أن يجمع، ويحرر، ويطبع، الآداب اليونانية القيمة التي نجت من عاديات الدهر، وينشرها بتكاليفها. وكان هذا المشروع مجازفة خطرة لعدة أسباب: منها أن من الصعب الحصول على المخطوطات، وأن الكتاب القديم الواحد توجد منه مخطوطات متعددة تختلف نصوصها بعضها عن بعض اختلافاً يبعث على اليأس، وأن المخطوطات كلها تقريباً مليئة بالأخطاء الناشئة من النسخ، وأن لابد من البحث عن المنقحين الذين تعهد إليهم مقابلة النصوص ومراجعتها، ورسم الحروف اللاتينية واليونانية وصبها، ولابد بعد هذا من استيراد كميات كبيرة من الورق، واستخدام الجماعين والطباعين وتدريبهم، ولابد من تنظيم أداة للتوزيع، وخلق جمهور من القراء على نطاق أوسع مما كان من قبل. ولابد من تقديم جميع المال اللازم لهذا كله مع عدم وجود قانون لحماية حقوق الطبع.
واختار ألدوس البندقية مركزاً لعمله، لأن علاقاتها التجارية جعلتها مركزاً ممتازاً للتوزيع، ولأنها كانت أغنى مدن إيطاليا بأجمعها، ولأن فيها(19/259)
كثيرين من الأثرياء الذين قد يرغبون في تزيين حجراتهم بكتب لم تفتح، ولأنها كانت تأوي عشرات من اللاجئين من علماء اليونان الذين يسرهم أن يقوموا بأعمال النشر العلمي وقراءة التجارب. وكان جون اسباير John Speyer قد أنشأ قبل ذلك الوقت أول مطبعة في البندقية (1469)، ثم أنشأ نقولاس جنسن Nicholas Jensen الفرنسي الذي تعلم الفن الجديد عند جوتنبرج في مينز، مطبعة أخرى بعد عام من ذلك الوقت. وفي عام 1479 باع جنسن مطبعته إلى أندريا تريسانو Andrea Torresano، واستقر ألدوس مانوتيوس في البندقية عام 1490، وتزوج فيها بابنة تريسانو عام 1499.
وجمع ألدوس في بيته القريب من كنيسة القديس أجستينو Santa Agostino جماعة من العلماء اليونان، وأمدهم بالطعام، والفراش، وجعلهم يعملون في إخراج الكتب اليونانية القديمة. واكن يتحدث إليهم باللغة اليونانية، ويكتب بها عبارات الإهداء والمقدمات، وكانت الحروف الجديدة ترسم وتصب في منزله، وفيه يضع المداد، وتطبع الكتب وتجلد. وكان أول ما نشره منها (1495) كتاباً في نحو اللغتين اليونانية واللاتينية من مؤلفات قسطنطين لاسكارس Contantine Lasscaris، وبدأ في العام نفسه يصدر مؤلفات أرسطو بلغتها الأصلية. وفي عام 1496 نشر نحو اللغة اليونانية لثيودوروس جادسا Theodorus Gaza، وأصدر في عام 1497 معجماً يونانياً لاتينياً جمعه هو نفسه، ذلك انه ظل يشتغل بالدرس حتى في أثناء مخاطر النشر ومحنه، وكانت ثمرة الدراسة التي دامت سنين طوالاً أن طبع في عام 1502 كتابه في مبادئ نحو اللغة اللاتينية Rudimenta Linguae Latinae مع مقدمة في اللغة العبرية متوسطة الحجم.
ومن هذه البدايات الفنية واصل العمل في نشر الآداب اليونانية القديمة (1495 وما بعدها): فنشر لموسيوس Musaeus هيرود ولياندر(19/260)
Herod and Leander، وهزيود Hesiod، وثيوجنيس Theognis، وأرسطوفانيز، وهيرودوت، وتوكيديدس، وسفكليز، ويوربديز، ودمستنيز، وإيسكنير، ولوسياس Lysias، وأفلاطون، وبندار، وكتاب موراليا لأفلوطرخس. وأخرج في تلك السنين نفسها عدداً كبيراً من المؤلفات اللاتينية والإيطالية، مبتدئاً من كونتليان ومنهياً ببمبو، وكتاب أدجيا Adagia لإرازمس Erasmus. فقد رأى هذا المصلح ما ينطوي عليه مشروع ألدو من أهمية عظمى فجاء بنفسه ليقيم معه وقتاً ما لم ينشر في خلاله أدجيا أو معجم المقتبسات فحسب، بل نشر أيضاً مؤلفات ترنس، وبلوتوس، وسنكا. وقد وضع ألدوس للكتب اللاتينية حروفاً رشيقة شبيهة بخط اليد رسمها له فرانتشيسكو دا بولونيا وهو من مهرة الخطاطين، ولم يأخذها من خط بترارك كما تقول الأقاصيص، وهذا هو الخط الذي نسميه الآن بالخط المائل Italic واسمه الإنكليزي مشتق من أصله (اللاتيني). أما النصوص اليونانية فقد وضع لها تصميماً أساسه خط تلميذه مارقوس موسوروس الكريتي Marcus Mausaurus of Crete الذي كان يبذل فيه عناية فائقة. وكان يضع على جميع الكتب التي ينشرها ذلك الشعار عجل على مهل Festina Lente مضافاً إليه صورة دلفين رمزاً إلى السرعة ومرساة (هلبا) رمزاً إلى الإستقرار. ومن هذا الرمز مضافاً إليه صورة البرج الذي استخدمه ترسانو من قبل أخذ الطابعون والناشرون عادتهم التي ألفوها وهي وضع شعار لهم فيما ينشرونه من الكتب (1).
وكان ألدوس يعمل في مشروعه ليلاً ونهاراً - بالمعنى الحرفي لهذه العبارة. وقال في المقدمة التي وضعها لكتاب أورغانون لأرسطو: ((يجب أن يزود الذين يريدون الأدب بما يلزمهم من الكتب لتحقيق أغراضهم، ولن أستريح حتى أزودهم بحاجاتهم منها)). وقد نقش على باب مكتبه ذلك
_________
(1) شعار هذا الكتاب هو صورة باذر الحب.(19/261)
التحذير: ((يطلب إليك ألدوس أياً كنت أن تقول ما تريد بإيجاز، وأن تسرع بالخروج ... لأن هذا مكان عمل)) (45) وقد أنهمك في حملة النشر انهماكاً أهمل معه أسرته وأصدقاءه وأتلف صحته. وقد تحالفت عليه ألف محنة ومحنة قضت على قوته ونشاطه: فالإضراب المتكرر عطل برنامجه، وعطلته الحرب سنة كاملة حين كانت البندقية تقاتل في سبيل حياتها عصبة كمبرية، ونهب الطابعون المنافسون له في إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا المطبوعات التي ابتاع مخطوطاتها بأغلى الأثمان، وأدى للعلماء أجوراً عالية لمراجعة نصوصها. ولكن منظر كتبه الصغيرة السهلة التناول، الواضحة الخط، الأنيقة التغليف، تخرج من عنده إلى جمهور من القراء مطرد الزيادة، بثمن معتدل (حوالي دولارين من نقود هذه الأيام)، لكن منظرها هذا كان يدخل السرور على قلبه، وكان هو يرى فيه جزءاً أو في كدحه، وكان يقول وقتئذ لنفسه إن مجد بلاد اليونان سيتلألأ أمام كل من يريدون الاستمتاع به (46).
وتأثر علماء البنادقة بإخلاصه فاشتركوا معه في تأسيس المجمع العلمي الجديد Neacademia (1500) الذي كان يعمل للحصول على كتب الآداب اليونانية، وطبعها، ونشرها. ولم يكن أعضاء هذا المجمع ينطقون في مجالسهم بغير اليونانية، واستبدلوا بأسمائهم الأصلية صيغاً يونانية، وكانوا يشتركون جميعاً في مهام الطباعة. وكانت صفوة ممتازة من الرجال تكدح معه في هذا المجمع. بمبو، والبرتوبيو، وإرازمس الهولندي، ولنكر Lenacre الإنكليزي. وكان ألدوس يعزو إليهم أكبر الفضل في نجاح مشروعه، ولكن الحقيقة أن نشاطه وشغفه بعمله كانا هما سبب النجاح. ومات الرجل منهوك القوى، فقيراً (1515)، ولكنه أدى رسالته. وواصل أبناؤه عمله، ولكن مات حفيده ألدو الثاني (1597) أفلس المشروع بعد أن حقق الغرض من إنشائه في أمانة وإخلاص، فقد أخرج الآداب اليونانية من الأرفف التي لا تكاد تطلع عليها الأعين من(19/262)
مجموعات الأغنياء، ونشرها في نطاق بلغ من سعته أن ما حدث في إيطاليا من تخريب ونهب في العقد الثالث من القرن السادس عشر، وما حل بأوربا الشمالية من الدمار في حرب الأعوام الثلاثين كان يسعها أن تضيع منها هذه المجموعات كما ضاع الأكبر منها في عصر احتضار روما القديمة دون أن يلحقها ضرر كبير.
2 - بمبو
ولم يقتصر عمل أعضاء المجمع العلمي الجديد على الإسهام بقسط مورفور في إحياء الأدب اليوناني، بل أنهم أسهموا بنصيب كبير في نشر آداب العصر الذي كانوا يعيشون فيه. فقد كان منهم أنطونيو كتشيو Antonio Coccio المعروف باسم سابلكوس Sabellicus والذي كتب تاريخياً إخبارياً للبندقية في كتابه العقود Decades. وقرض أندريا نفاجيرو Andrea Navagero قصائد لاتينية بلغت من كمال الشكل درجة قال معها مواطنوه الفخورون به إنه انتزع زعامة الأدب من فلورنس وجاء بها إلى البندقية. وكان مارينو سانودو يحتفظ بيومية طريفة يدون فيها الأحداث الجارية في السياسة، والأدب، والفن، والعادات، والأخلاق. وقد بلغ عدد مجلدات هذه اليوميات ثمانية وخمسين مجلداً تصور الحياة في البندقية تصويراً أوفى وأكثر حياة من أي تاريخ لأية بلدة في إيطاليا.
وكان ساندودو يكتب بلغة الكلام اليومية الدارجة السريعة، أما صديقه بمبو فقد أنفق نصف حياته يصقل أسلوبه اللاتيني والإيطالي المتكلفين.
وتلقى بيترو الثقافة وهو في مهده فقد كان ابن أسرة من أغنياء البنادقة المتعلمين. وكأنما شاءت الأقدار أن تؤكد نقاءه الأدبي فجعلت مولده فضلاً عن ذلك في فلورنس الموطن الذي يفخر بلهجته التسكانية. ثم درس اللغة اللاتينية في صقلية على قسطنطين لسكاريس، كما درس الفلسفة في بدوا على(19/263)
بمبوناتسي Pomponazzi. ولعله قد سرى إليه من بمبوناتسي هذا شيء من النزعة المتشككة، إذا جاز أن نحكم عليه من ساوكه، لأنه لم يكن يعتقد اعتقاداً جدياً أن من الأعمال ما يعد ذنوباً وآثاماً. فقد كان بمبوناتسي يشك في خلود الروح، غير أنه أوتي من رقة الطبع ودماثة الخلق ما نأى به عن حرمان المؤمنين من سلوى هذا الخلود؛ ولما اتهم أستاذه المتهور بالإلحاد، استطاع بمبو أن يقنع البابا ليو العاشر بألا يقسو عليه.
وقضى بمبو في فيرارا أسعد أيامه - بين الثامن والعشرين والسادسة والثلاثين من عمره (1498 - 1506). وفيها وقع في هوى لكريدسيا بورجيا ملكة هذا البلاط ذي الأدب الرفيع - ولعله لم يكن أكثر من هوى بالمعنى الأدبي لهذا اللفظ؛ وقد نسى ماضيها المريب في رومة، إذ أغوته رشاقتها الهادئة، وبريق شعرها ((التيتياني))، وشهرتها الفاتنة؛ ذلك أن شهرتها أيضاً كان في مقدورها أن تكسر الناس كما يكسرهم جمالها. وكتب إليها بفصاحة الأدباء رسائل فيها من الرقة والحنان ما يتفق مع سلامته ووجوده بجوار زوجها ألفنسو الصياد البارع. وقد أهدى إليها حواراً باللغة الإيطالية عن حب العذارى (الأفلاطوني) سماه Gli Asolano (1505) ؛ ومدحها بقصائد من البحر الرثائي اليوناني لا تقل في رشاقتها من أية قصائد نظمت في عصر روما الفضي. وكانت هي تكتب إليه في حذر، وليس ببعيد أن تكون قد بعثت إليه بخصلة شعرها المحفوظة مع رسائلها له في المكتبة الأمبروزية بميلان.
ولما انتقل بمبو من فيرارا إلى أربينو (1506) كان قد بلغ ذروة مجده؛ لقد كان طويل القامة، وسيم الخلق، كريم المحتد والتربية، ذا هيبة خالية من الكبرياء، لا يقحم نفسه في غير شأنه. وكان في وسعه أن يكتب الشعر في ثلاث لغات؛ وكانت رسائله تلقى تقديراً عظيماً. وكان حديثه حديث المسيحي، والعالم، والسيد المهذب. ولما نشر حواره في(19/264)
الحب العذري أثناء إقامته في أربينو صادف ذلك هوى في نفس حاشية المدينة؛ وأي عجب في هذا؟ فهل ثمة موضوع ألذ من الحب؟ وأي موضوع تمثيلي أحق بالحديث من حدائق كترينا كرنارو Catarina Cornaro في أسولا Asolo؟ - وأية مناسبة أليق من زواج إحدى وصيفاتها؟ ومن ذا الذي يستطيع التحدث عن الحب مهما يكن حباً أفلاطونياً، من ثلاثة الشبان، وثلاث العذارى الذي أنطقهم بمبو بحديثه الذي مزج فيه بين الفلسفة الشعر؟ وحيته البندقية التي أخذ فنانوها لمحات ومناظر من الكتاب، وفيرارا التي تلقت دوقتها ذلك الإهداء المعقم بالخشوع والإجلال، وروما الني كان رجال الدين فيها ينعمون بالحب، وأربينو التي كانت تفخر بأنه من أبنائها - وكانت إيطاليا كلها تحييه وتصفه بأنه أستاذ العواطف الرقيقة والأسلوب المصقول. ولما صور كستجليوني النقاش الذي سمعه أو تخيله في قصر الدوق بأربينو، ووصفه في الرسول Courier بأنه المثل الأعلى في الحديث، أعطى لبمبو الدور الممتاز في الحوار، واختاره لينطق بالفقرة الختامية الذائعة الصيت عن الحب العذري.
وصحب بمبو في عام 1512 جليانو ده ميديتشي إلى روما؛ وبعد عام من ذلك الوقت أصبح أخو جليانو البابا ليو العاشر؛ وسرعان ما أسكن بمبو في الفاتيكان وأصبح أمين البابا. وكان ليو يحب فكاهته الحلوة، وأسلوبه البليغ الشبيه بأسلوب شيشرون، وطريقته السهلة في الحياة. وظل بمبو سبع سنين زينة البلاط البابوي، ومعبود المجتمع، وولداً عقلياً لرفائيل، محبوباً من كبار الأغنياء، ومن كريمات السيدات. ولم يتجاوز بمبو المراتب الدينية الدنيا، وارتضى لنفسه الرأي السائد في روما وهو أن ارتباطه التجريبي بالكنيسة لا يحول بينه وبين القليل من طرائد النساء الظريفة. وكانت فيتوريا كولنا Vittoria Colonna أطهر الطاهرات تهيم به أعظم هيام.(19/265)
وكان في هذه الأثناء يكتب وهو في البندقية، وفيرارا، وأربينو، وروما شعراً لاتينياً لا يستنكف كاتلوس Catullus وتيبلوس Tibllus أن يكتباه - من مراث، وأناشيد رعاة، وقبريات، وقصلئد غنائية، بعضه صريح في وثنيته، وبعضه مثل قصيدة برايابوس Priapus يجاري أحسن ما كتب من الشعر الداعر في عصر النهضة. وكانت لغة بمبو وبوليتيان اللاتينية صحيحة لا غبار عليها مطلقاً من الناحية اللغوية، ولكنها جاءت في غير أوانها؛ ولو أنهما ولدا قبل عصرهما بأربعة عشر قرناً لكانت كتبهما لا غنى عنها في مدارس أوربا الحديثة؛ أما وهما يكتبان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فلم يكونا هما الناطقين بروح عصرهما أو بلدهما ولا بالطبقة التي ينتسبان إليها. وأدرك بمبو هذا، ودافع في مقال له عن اللغة العامية Della volgar lingua عن استعمال اللغة الإيطالية فت الأغراض الأدبية. وحاول أن يضرب المثل لأبناء جيله فألف أغاني على طريقة بترارك، ولكن حرصه الشديد على الصقل أفسد عليه الشعر، وأحال حبه إلى غرور شعري. ومع هذا فإن كثيراً من هذه الأغاني قد لحن وصار من الأغاني الغزلية، ولحن بعضه باليسترينا Palestrina العظيم نفسه.
ولما مات أصدقاؤه: ببينا، وتشيجي، ورفائيل أصبحت روما في نظرة مدينة موحشة لا يستطيع فيها البقاء. فاستقال من منصبه في خدمة البابا (1520)، وطلب الصحة والراحة، كما طلبهما بترارك، في بيت ريفي قريب من بدوا. والآن وهو في الخمسين من عمره أصيب بسهام الحب العارم غير العذري، وعاش طوال السنين العشرين التالية من غير زواج مع دنا موروسينا Donna Morosina التي لم تهبه ثلاثة أبناء فحسب، بل وهبته أيضاً من المتعة والسلوى، والحب، والرعاية، وما لم يستمتع بمثله في أيام شهرته، وما كان له في هذه الآونة أحسن الوقع في نفسه أثناء سني الضعف والهرم. وكان لا يزال وقتئذ يستمتع بإيراد عدد من المناصب(19/266)
الدينية؛ وكان أكثر ما يستخدم فيه ثروته هو جمع الصور والتماثيل الجميلة، وكانت صورتا فينوس وجوف تحلان مكان الشرف إلى جانب مريم والمسيح (48). وأصبح بيته كعبة يحج إليها الأدباء، وندوة للفنانين والفكهين؛ وأخذ من هذا العرش يضع القوانين، ويقرر الأساليب التي تطبق في إيطاليا. وكان حتى وهو يشغل منصب أمين البابا قد حذر سادوليتو من أن يقرأ رسائل القديس بولس خشية أن تفقد ذوقه أحاديث العامة غير المصقولة، وقال له بمبو ((أبعد عنك هذه السفاسف لأن أمثال هذا السخف لا تليق برجل ذي كرامة)) (49). وقال لإيطاليا إن اللغة اللاتينية كلها يجب أن تحذو أسلوب شيشيرون، وإن اللغة الإيطالية يجب أن تتخذ أسلوب بترارك وبوكاتشيو نموذجاً لها. وكتب هو نفسه وهو في سن الشيخوخة تاريخين لفلورنس والبندقية، وقد ماتا رغم جمال لغتهما. ولكن الكاتب صاحب الأسلوب الجميل نسى قواعده حين ماتت حبيبته موروسينا، كما نسى أفلاطون ولكريدسيا وكستجليوني وكتب إلى صديق له رسالة لعلها هي الرسالة الوحيدة من الرسائل التي جرى بها قلمه الخليفة بالذكر:
لقد فقدت أعز قلب في العالم، قلب كان يعنى بي ويحنو أشد الحنو على حياتي - التي كان يحبها، ويحافظ عليها أكثر من حياته نفسها، قلب بلغ من سيطرته على نفسه، واحتقاره لجميع ضروب الزخرف والزينة الباطلة، والخز والذهب، والجواهر والكنوز الغالية الثمن، وأن قنع بالمتعة الوحيدة السامية (كما أكد لي هو نفسه) وهي ما أكنه له من الحب. وقد اكتسى هذا القلب فضلاً عن ذلك بأرق الأعضاء، وأملسها، وأكثرها رشاقة، وألطفها؛ وكان في خدمته ملامح جميلة، وأحلى وأظرف قد التقيت به في هذه الأرض.
ولم يكن في مقدوره قط أن ينسى آخر عبارة نطقت بها:(19/267)
((أوصيك بأبنائنا، وأتوسل إليك أن تعنى بأمرهم، إكراماً لي ولك. وثق أنهم أبنائك أنت، لأنني لم أخنك قط، ومن أجل هذا فإني أستطيع أن أمسك الآن بجسم الرب وأنا مطمئنة النفس))؛ ثم أضافت إلى هذا بعد وقفة طويلة: ((اطمئن مع الإله)). وبعد دقائق قليلة أغمضت إلى آخر الدهر عينيها اللتين كانتا نجمين ساطعين يهدياني في إخلاص ووفاء في أثناء حجي طوال الحياة (50).
وبعد أربع سنين من ذلك الوقت كان لا يزال حزيناً عليها. ولما فقد ما كان بينه وبين الحياة من صلات عمد آخر الأمر إلى التقى والصلاح، حتى استطاع بولس الثالث في عام 1539 أن يرسمه قساً وكردنالاً، وكان في الثمان السنين الباقية من حياته قطباً من أقطاب الكنيسة وقدوة يقتدي به فيها.(19/268)
الفصل السابع
فيرونا
وإذا ما أرجأنا الكلام على أريتينو Aretino وسمعته السيئة التي طبقت الآفاق إلى فصل آخر من الكتاب، وانتقلنا الآن من البندقية إلى أملاكها الشمالية والغربية، وجدنا هناك أيضاً شيئاً من بهاء العصر الذهبي ولآلائه. فقد كان في وسع تريفيزو أن تفخر بأنها أنجبت لورندسو لتو Lorenzo Lotto وباريس بردون؛ وكان من كتدرائيتها صورة للبشارة من رسم تيشيان. ومكاناً للمرنمين من صنع آل لمباردي الكثيري العدد. وخلعت بلدة بردينوني Pordenone الصغير اسمها على جيوفني أنطونيو ده ساكي Giovanni Antonio de Sacchi ولا تزال تظهر في كتدرائيتها إحدى روائعه الفنية، وهي صورة العذراء والقديسين والمعطى. وكان جيوفني جم النشاط، عظيم الثقة بنفسه، حاضر البديهة، لا يتوانى عن استلال سيفه، راغباً في أن يقوم بأي عمل في أي مكان. فنحن نراه يصور في أوديني Udine، واسبلمبيرجو Splimbergo، وتريفيزو، وفيتشندسا، وفيرارا، ومانتوا، وكريمونا، وبياتشندسا، وجنوي، والبندقية؛ وأشأ طراز على نمط مناظر جيورجيوني الطبيعية، وخلفيات تيشيان المعمارية، وعضلات ميكل أنجيلو. وسره أن يقبل دعوة للذهاب إلى البندقية (1527)، ولأنه كان يتوق أن ينافس فرشاته تيشيان. وكادت صورة من صنعه هي صورة القديسين مارتن والقديس كرستفر التي صروها لكنيسة سان ركو San Rocco أن توهم الناظر بأنها تمثال مجسم، وذلك بتأثير الأضواء والظلال الملقاة عليها؛ وكانت البندقية تفخر به وتضعه في مضاف تيشيان. ثم واصل(19/269)
بردينوني أسفاره، وتزوج ثلاث مرات، وشك في أنه قتل أخاه، ومنحه يوحنا ملك المجر لقب فارس (وإن لم يكن هذا الملك قد رأى شيئاً من صوره)، ثم عاد إلى البندقية (1533)، ليواصل صراعه مع تيشيان. وأراد مجلس السيادة في البندقية أن يحفز تيشيان إلى إتمام صورة المعركة التي كان يصورها في قصر الدوج، فاستخدم بردينوني لتصوير لوحة على الجدار المقابل لتلك الصورة. وتكررت بينهما المنافسة التي قامت من قبل بين ليوناردو وميكل أنجيلو (1538)، وأضيفت إليها تكملة مسرحية: هي أن بردينوني كان ينتضي سيفاً في منطقته، وحكم النقاد بأن صورته على القماش - البديعة اللون، المسرفة في الحركة - ترقى إلى المنزلة الثانية. ثم انتقل بردينوني بعدئذ إلى فيرارا ليرسم صوراً على النسيج المزخرف لإركولي الثاني، ولكنه مات بع أسبوعين من وصوله إليها، وقال أصدقاؤه أنه مات مسموماً، أما أعداؤه فقالوا إنه موت الشيخوخة.
وكان لفيتشندسا أيضاً أبطالها. فقد أنشأ فيها بارتلميو منتانيا مدرسة للتصوير أخرجت كثيراً من الصور العذارى في الدرجة الوسطى من الجمال. وخير صور منتاينا كلها صور العذراء على عرشها الموجود في بريرا؛ وهي تحذو حذو نموذج أنطونيلو، ففيها صورتا قديسين إلى اليمين، ومثلهما إلى اليسار، وملائكة يعزفون على آلات موسيقية عند قدمي العذراء؛ لكن هؤلاء الملائكة خليقون هنا بأسمائهم، والعذراء بملامحها الحسنة، وثوبها الجميل، ومن أحسن الصور لمعرض النهضة لصور العذارى المزدحم بها. غير أن التصوير في فيتشندسا لم يبلغ ذروة مجده في هذا الوقت، وكان عليها أن تنتظر على يد بلاديو Palladio.
وأصبحت فيرونا في عام 1404 من أملاك البندقية بعد أن كان لها تاريخ مجيد دام ألفاً وخمسمائة عام، وظلت تابعة لها حتى عام 1796.(19/270)
بيد أنها مع ذلك كانت لها حياة ثقافية سليمة خاصة بها. وكان مصوروها في الدرجة الثانية بعد مصوري البندقية، أما مهندسوها المعماريون، ومثالوها، وحافرو الخشب فيها، فلم يفقهم أحد في العاصمة الجليلة العظيمة. وتوحي مقابر آل اسكالجلير Scaligers التي أقيمت في القرن الرابع عشر بأن المدينة لم ينقصها الفنانون، وإن كانت هذه المقابر مسرفة في زخرفها؛ وتمثال الفارس القائم في كان جراندي ديلا اسكالا Can Grande della Scala وما يرى على جواده من جُلّ منساب يمثل الحركة أصدق تمثيل، وهذا التمثال لا يسمو عليه آيات دناتيلو وفيروتشيو الفنية. وكان أعظم من يسعى إليه من حفارين على الخشب في إيطاليا هو الراهب جيوفني دا فيرونا (الفيروني). وكان يعمل في عدة مدن، ولكنه وهب جزءاً كبيراً من حياته لحفر مواقف المرنمين في كنيسة سانتا ماريا في أرجانو مسقط رأسه وترصيعها.
وأعظم الأسماء في فن العمارة الفيورني هو الراهب جيوكندا Gioconda (( العبقري النادر الجامع)) كما يسميه فاساري. وكان جيوكندا هذا ضليعاً في الأدب اليوناني، وعالماً في النبات، وجامعاً للعاديات، وفيلسوفاً، ومتفقهاً في الدين، كما كان هذا الراهب الدمنيكي فوق ذلك من كبار المهندسين والمعماريين في زمانه. وهو الذي أخذ عنها العالم الذائع الصيت يوليوس قيصر اسكالجير اللغتين اللاتينية واليونانية، وكان يوليوس هذا يمارس الطب في فيرونا قبل أن ينتقل لفرنسا. ونسخ الراهب جيوكندا النقوش الموجودة على الآثار القديمة في رومة، وأهدى كتاباً في هذا الموضوع إلى لورندسو ده ميديتشي. وكان من ثمار بحوثه أن كشف الجزء الأكبر من آثار بلني فم مجموعة قديمة من الرسائل في باريس؛ وقد أقام وهو في هذه المدينة جسرين على نهر السين؛ ولما تعرضت المياه الضحلة التي تجعل وجود البندقية بشكلها الحالي مستهدفاً إلى الانطمار بسبب رواسب(19/271)
نهر برينتا، وأقنع الراهب جيوكندا مجلس السيادة فيها أن يأمر بتحويل مصب النهر إلى مكان بعيد عنها في الجنوب، وقد تطلب هذا التحويل نفقات جمة. ولولا هذا لما كانت البندقة اليوم ذات الشوارع المائية التي تعد معجزة من المعجزات. ومن أجل هذا يسمي لويجي كونارو Luigi Cornaro جيوكندا منشئ البندقية الثاني. أما آيته الفنية في فيرونا فهي قصر الكنسجليو، وهو مشرقة رومانسية بسيطة يعلوها طنف رشيق، وتتوجها تماثيل للكرنيلوس نيبوس Cornlius Nepos، وكاتلس، وفتروفيوس، وبلني الأصغر، وإميليوس ماتشير Emilius Macer - وكلهم من السادة المهذبين مواطني فيرونا الأقدمين. وعين جيوكندا في روما مهندساً لكنيسة القديس بطرس مع رفائيل وجوليا نودا سنجالو Giuliano da Sangallo، ولكنه مات في تلك السنة نفسها (1514)، وكان عمره وقتئذ إحدى وثمانين سنة، حافلة بجلائل الأعمال.
وحفزت أعمال جيوكندا في أثار روما القديمة مهندساً آخر من أهل فيرونا هو جيوفتماريا فلكونيتو Giovanmaria Falconetto. وقد بدأ بتصوير جميع الآثار القديمة في الإقليم الذي يعيش فيه، ولما أتم تصويرها رحل إلى روما ليقوم بهذا العمل نفسه فيها، وخصه باثنتي عشرة سنة كاملة من حياته. ولما عاد إلى فيرونا انظم إلى الجانب الخاسر في السياسة فاضطر إلى الانتقال إلى بدوا، وفيها شجعه بمبو وكرنارو على أن يطبق الرسوم اليونانية والرومانية القديمة في العمارة، وآوى المعمر الكرم جيوفنماريا وأطعمه، وأمده بالمال والحب حتى بلغ ذلك الفنان ستة وسبعين عاماً من العمر. وصمم فلكونيتو شرفة لقصر كرنارو في بدوا، وبابين من أبواب تلك المدينة وكنيسة سانتا ماريا دلي جرادسي Santa Maria delle Grazie، وتألف من جيوكندو، وفلكونيتو، وسانميتشيلي ثالوث من المعماريين لم يكن له نظير إلا في روما وحدها.(19/272)
وكان أكثر ما عمل فيه ميشيل سانميتشيلي هو أعمال التحصين، وكان هو ابن مهندس معماري من فيرونا وابن أخي مهندس آخر مثله، فحفزه نسبه هذا إلى السفر إلى روما وهو في سن السادسة عشرة وأخذ يعنى عناية شديدة بقياس الأبنية القديمة، وبعد أن ذاع صيته في تخطيط الكنائس والقصور أرسله كلمنت السابع ليشيد لبدوا وبياتشندسا. وكانت أهم الخصائص المميزة لمبانيه الحربية هي ((البسطيون)) أي البرج البارز من البناء، الذي يستطاع إطلاق المدافع من شرفته البارزة في خمس جهات. وبينا كان يختبر حصون مدينة البندقية، إذ قبض عليه وأتهم بالتجسس، ولكن الذين حققوا معه راعتهم معارفه. فلم يسع مجلس السيادة إلا أن يستخدمه في إنشاء حصون في فيرونا، وبريشيا، وزارا، وكررفو، وقبرص، وكريت. ولما عاد إلى البندقية شاد حصناً حصيناً على نهر ليدو Lido. وبينما كان يحفر لوضع الأساس لم يلبث أن التقى بالماء، فعمل ما عمله الراهب جيوكندا في مثل هذه الحال، فدفع في الأرض نطاقاً مزدوجاً من الخوازيق المتصلة بعضها ببعض، ونزح الماء من بين الدائرتين، وألقى بالأساس في هذه الحلقة الجافة. وكان ذلك العمل مجازفة منه خطرة ظل نجاحها مشكوكاً فيه حتى اللحظة الأخيرة. وتنبأ النقاد بأن هذا البناء سيتصدع من أساسه وينهار حين تطلق المدافع الضخمة من هذا الحصن. ووضع مجلس السيادة فيه أضخم ما في البندقية من المدافع وأقواها وأمر بأن تطلق كلها في وقت واحد، وفرت النساء الحوامل من جوار الحصن خشية أن يسقطن حملهن، ثم أطلقت المدافع، وظل الحصن ثابتاً كالطود، وعادت الأمهات، وكان سانمتشيلي حديث الناس في جميع أنحاء البندقية.
وصمم في فيرونا بابين فخمين زينهما بالعمد والأطناف. ويضع فارساي هذين البناءين من الوجهة المعمارية في مستوى الملهى والمدرج(19/273)
الرومانيين اللذين بقيا في فيرونا من أيام الرومان. وشاد فيها أيضاً قصر بفلاكوا bavilacqua وقصري جريماني grimani وموتسينيجو Mocenigo وأقام برجاً لحرس الكتدرائية وقبة لكنيسة سان جيورجيو ميجوري. ويقول لنا عنه صديقه فارساي إن ميشيل أصبح في آخر أيامه مثلا للمسيحي الصالح، وإن لم يتورع في شبابه عن بعض الاتصال غير المشروع بالنساء، ولم يكن يفكر قط في الكسب المادي، وكان يعامل الناس جميعاً بالرأفة والمجاملة. وأورث مهاراته ياقوبو سانوفينو وابن أخ له كان يحبه أعظم الحب. ولما بلغه أن ابن أخيه هذا قتل في قبرص وهو يقاتل الأتراك مع جيوش البندقية، أصيب سانميتشيلي بالحمى ومات بعد أيام قليلة في سن الثالثة والسبعين (1559).
وأنجبت فيرونا صانع أجمل المدليات في عصر النهضة، بل لعله صانع أجملها في جميع العصور (51). ذلك هو أنطونيو بيزانو المعروف في التاريخ باسم بيزانيلو Pisanello، والذي كان يوقع باسم بكتور Pictor ( أي المصور) ويرى انه مصور بحق. وقد بقيت له نحو ست من صوره، وهي صور ممتازة (1). ولكنها ليست هي التي خلدت اسمه على مدى القرون. ذلك انه أولع بما في رسوم النقود اليونانية والرومانية من حذق ونزعة واقعية وإحكام في التصوير، فصنع نقوشاً مستديرة صغيرة قلما يزيد قطر الواحد منها على بوصتين، جمعت بين دقة الصناعة والصدق والأمانة مما جعل
_________
(1) قارن هذه بالصورة الأمنية صورة ليونيلودست Leonello d'Este ( برجامو) وصورة أميرة بيت دست التي تدل على التفكير العميق (اللوفر)، في بيئة جميلة من الأزهار والأصداف، و ((صورة جانبية لسيدة)) (واشنجتن)، وهي مظلم ذو روعة، وصورة ((القديس جورج)) في كنيسة سانت أنستازيا بفيرونا، والدراسة الفذة الرائعة في الضوء والظل التي تطالعنا في صورة ((سانت اوستاشيوس)) (لندن).(19/274)
مدلياته أصدق ما لدينا تصويراً لعدد من أعيان عصر النهضة. وليست هذه المدليات من الأعمال التي تتطلب عمق التفكير، وليس فيها نزعة فلسفية ولكنها كنوز من الصناعة التي تشهد بالدأب والصبر الطويل على العمل وإيضاح عظيم القيمة للتاريخ.
وإذا استثنينا من المصورين في بيرونا بيزانيلو وآل كارتو حق لنا أنها انحدرت بعد سقوط آل اسكالجير انحطاطاً هادئاً في هذا الفن حتى لم يعد لها فيه إلا شأن ثانوي. ولم تكن كما كانت البندقية مصفقاً يتزاحم فيه التجار المختلفوا الأديان من عشر أرضين، وتقضي كل طائفة منهم على عقائد الأخرى بطول الاحتكاك، ولم تكن، كما كانت ميلان في عصر لدوفيكو، قوة سياسية، أو كما كانت فلورنس مركزاً للمال، أو كما كانت روما بيتاً دولياً. كذلك لم تكن هذه البلدة قريبة من الشرق، ولم تأسرها النزعة الإنسانية فتنصبغ مسيحيتها بالوثنية، بل ظلت مقتنعة بموضوعات العصور الوسطى، وقلما انعكس على فنها ذلك التحمس لتصوير الأجسام الذي أخرج صور جيورجيوني وتيشيان ورفائيل العارية. نعم إن أحد أبنائها، المعروف باسمها، قد أولع بالنزعة الوثنية، ولكن باولو الفيروني Paolo Vernese هذا صار في مستقبل حياته من أبناء البندقية أكثر مما كان من أبناء فيرونا واطمأنت روما لهذا واستراح ضميرها.
وظل مصوروها في القرن الرابع متقدمين على العصر الذي يعيشون فيه، فها هو ذا واحد منهم - ألتيكيرودا تسفيو Altichiero da Zevio - تستدعيه بدوا ليزين معبد سان جيوجيو. وفي أواخر ذلك القرن سافر استيفانو دا تسفيو إلى فلورنس وتلقى تقاليد جيتو على أنيولو جدي Bgnolo Gaddi. ثم عاد إلى فيرونا ورسم مظلمات جصية وصفها دوناتيلو(19/275)
بأنها خير ما صور في تلك الجهات حتى ذلك الوقت. وتقدم عليه تلميذه دمنيكو موروني بدراسة أعمال بيزانيلو وآل بيليني، وكان تلميذه هذا هو الذي اخرج صورة هزيمة البئوناكلتري The Defeat of the Buonacolsi في الكاستلو بمانتوا والتي تضارع مناظر جنتيلي التي يخطئها الحصر. وساعد فرانتشيسكو بن دمينيكو بما رسمه من الصور الجدارية أعمال الراهب جيوفني في الخشب فأقاما معاً غرفة المقدسات في كنيسة سانتا ماريا ببلدة أرجانو، وهذه الحجرة من أثمن الكنوز في إيطاليا. وصور جيرولامو داي لبري Giorolamo dai Libri تلميذه دمينيكو وهو في السادسة عشرة من عمره (1490) على ستار لمذبح هذه الكنيسة نفسها صورة الخلع من الصليب deposition from the Cross التي يقول فارساي إنها ((حين أزيح عنها الستار أثارت الدهشة ما دفع المدينة على بكرة أبيها إلى أن تجري لتهنئ والد الفنان)) (25) فقد كان ما فيها من منظر طبيعي من أجمل ما أنتجه الفن في القرن الخامس عشر. وفي صورة أخرى من صور جيرولامو (نيويورك) رسمت شجرة رسماً بلغ من واقعيته أو حاولت الطيور أن تجثم على أفنانها - كما يقول أحد الرهبان الدمنيكيين، ويؤكد فارساي الذي لا يلقي القول على عواهنه، أن في وسعك أن تعد شعر الأرانب في صورة الميلاد التي رسمها جيرولامو لكنيسة سانتا ماريا في أرجونا (53). وكان والد جيرولامو قد أطلق عليه لقب داي لبري لحذقه في تزيين المخطوطات؛ وواصل الابن عمل أبيه وفاق فيه جميع المشتغلين بهذا الفن في إيطاليا بأجمعها.
وبدأ ياقوبوبليني يمارس فن التصوير في فيرونا حوالي عام 1462. وكان ممن في خدمته من الغلمان لبيرالي Liberale الذي سمي فيما بعد باسم المدينة، والذي دخلت عن طريقه مسحة من التلوين البندقي والحيوية البندقية في فن التصوير الفيروني. وقد وجد ليبرالي، كما وجد جيرولامو، أن أكثر ما يفيده ويدر عليه الخير هو زخرفة المخطوطات؛ فقد كسب في سينا وحدها(19/276)
ثمانمائة كرون من هذه الزخرفة. ولما أساءت ابنته المتزوجة معاملته في شيخوخته أوصى بضيعته إلى تلميذه فرانتشيسكو تربيدو، وذهب ليعيش معه، ومات في السن الطيبة المعقولة سن الخامسة والثمانون (1536). ودرس تربيدو Torbido أيضاً مع جيورجيوني، وتفوق على لبيرالي، الذي لم يسئه هذا التفوق وسامحه فيه. وكان للبيرالي تلميذ آخر هيو جوفاني فرانتشيسكو كاروتو الذي تأثر بصور مانتينيا الكثيرة الطيات الموجودة في سان دسينو San Zeno. وقد انتقل إلى مانتوا لأخذ الفن على الأستاذ الشيخ، وتقدم في دراسته تقدماً جعل فيه مانتننتا يبعث بعمل هذا التلميذ كأنه عمله هو نفسه. ورسم جيوفان فراتشيسكو صوراً ممتازة لجويدوبلدو وإلزبتا دوق أربينو ودوقتها، ثم عاد إلى فيرونا رجلاً عظيم الثراء يستطيع من حين إلى حين أن يجهر بآرائه في غير مبالاة. من ذلك أن أحد رجال الدين أتهمه يوماً بأنه يرسم صوراً داعرة فسأله: ((إذا كانت الصور المرسومة تثيرك إلى هذا الحد، فكيف تؤتمن على اللحم والدم)) (54). وكان من مصوري فيرونا القلائل الذين خرجوا على الموضوعات الدينية.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء الرجال السالفي الذكر فرانتشيسكو بنسنيوري، وباولو مورندو Paolo Morando المسمى كفادسولو Cavazolo، ودومنيكو بروساسورتشي Domenico Brusasorci وجيوفني كروتو (الأخ الأصغر لجيوفان فرانتشيسكو) أوشك ثبت أسماء مصوري فيرونا أن يختتم. ولقد كانوا جميعاً رجال طيبين فهاهو ذا فاساري يخلع على كل واحد منهم تقريباً فضيلة أخلاقية؛ وكانت حياتهم حياة منتظمة إذا راعينا أنهم فنانون، وكانت أعمالهم تتصف بالجمال الهادئ السليم الذي تنعكس عليه فطرتهم وبيئتهم. ذلك أن فيرونا كانت تضرب على وتر أصغر من التقى والهدوء في أغنية النهضة.(19/277)
الباب الثاني عشر
إيمليا وأقاليم التخوم
1378 - 1534
الفصل الأول
كريجيو
على بعد خمسين ميلاً جنوبي فيرونا يلتقي المسافر بطريق إيمليا القديم الذي كان يمتد 175 ميلاً من بياتشندسا ماراً بيارما. ورجيو، ومودينا، وبولونيا، وإيمولا، وفورلي، وتشيزينا Cesena حتى يصل إلى ريميني (1). ونمر الآن ببياتشندسا كما نمر ببارما (إلى حين)، لنتحدث عن بلدة صغيرة ذات حكم ذاتي (قومون) على بعد ثمانية أميال إلى الشمال الشرقي من ريجيو، وتشترك معها في هذا الاسم. وكريجيو Corregio واحدة من عدة بلدان في إيطاليا لا تذكر في التاريخ إلا لأنه قد وجدت فيها عباقرة خلعت عليهم أسمها. وكانت الأسرة الحاكمة فيها تسمى أيضاً كريجيو، ومن أفرادها نقولو دا كريجيو الذي كتب عدة قصائد لبتريس وإزبلا دست. وكانت هذه البلدة مكاناً يتوقع الإنسان أن يولد بع عباقرة ويموتوا، ولكنهم لا يقولون أو يفعلون شيئاً، لأنها لم يكن لها فن ذو شأن أو تقاليد واضحة تنشئ الكفاية الفطرية وتعلمها وتشكلها. غير انه كان على رأس
_________
(1) تتكون من هذه البلدان كلها مضافا إليها فيرارا، ورافنا مقطعة إيمليا الحالية. وتقع إلى الجنوب الشرقي من ريميني أقاليم التخوم التي تشمل بيزارو، وأربينو، وأنكونا وماتشيرانا Maceerata وأسكولي بيتشينو Ascoli Piceno.(19/278)
بيت كريجيو في القرن السادس عشر الكونت جلبرات Count Gilbert العاشر وزوجته فيرونيكا جمبارا Veronica Gambara التي كانت من أعظم سيدات النهضة. فقد كان في مقدورها أن تتكلم اللغة اللاتينية، وكانت تعرف الفلسفة المدرسية (الكلامية) وكتبت شروحاً على الآراء الدينية لآباء الكنيسة. وقالت شعراً بأسلوب بترارك، وكانت تلقب ((ربة الشعر العاشرة))، واتخذت من بلاطها الصغير ندوة للفنانين والشعراء، وساعدت على إشاعة تلك العبادة الغرامية للنساء التي أخذت من ذلك الوقت تحل بين الطبقات العليا في إيطاليا محل عبادة مريم العذراء الشائعة في العصور الوسطى، والتي كانت توجه الفن الإيطالي نحو تمثيل مفاتن النساء. وقد كتبت في اليوم الثالث من سبتمبر عام 1528 إلى ازبلا دست تقول: ((لقد فرغ السيد أنطونيو أليجري Antonio Allegri من رسم تحفة رائعة تصور مجدلين في الصحراء، وتعبر أكمل تعبير عن الفن السامي الذي يعد من كبار أساتذته)) (1).
وكان أنطونيو أليجري هذا هو الذي أختلس عن غير علم منه شهرة مدينته وأذاع هذه الشهرة بين سائر البلدان، وإن كان خليقاً باسم أسرته أن ينطق بطبيعة فنه المرحة. وكان أبوه من صغار ملاك الأراضي، أوتي من الثراء ما أمكنه به أن يكسب لابنه عروساً بائنتها 257 دوقة (6425؟ دولاراً). ولما أظهر أنطونيو ميلا إلى الرسم والتصوير الملون، أرسل ليتدرب عنه عمه لورندسو أليجري. ولسنا نعرف من الذي علمه بعدئذ، ويقول بعضهم انه ذهب إلى فيرارا ليتلقى الفن على فرانتشيسكو ده، بيانكي - فيراري Francesco de'Bianch Ferari، ثم انتقل إلى مرسمي فرانتشيا Francio وكستا في بولونيا، ثم انتقل مع كستا إلى مانتوا حيث تأثر بمظلمات مانتينيا الضخمة. وسواء كان ذلك أو لم يكن فالمعروف أنه قضى معظم حياته في كريجيو مغموراً إذا قيس إلى غيره من الفنانين،(19/279)
ويبدو أنه كان هو دون غيره من أهل هذه المدينة يظن أنه سيكون من بين المخلدين. ويلوح أنه درس النقوش المحفورة التي نقلها ميركنتونيو رايمندي Mercantonio Raimondi عن رفائيل، وأكبر الظن أنه شاهد أيضاً أعمال ليوناردو إن لم تكن في أصولها فلا أقل من أن تكون في نسخ منقولة عنها. وقد دخلت هذه المؤثرات كلها في أسلوبه الفردي الكامل في فرديته وكان لها طابعها فيه.
وإن تسلسل موضوعاته وتتابعها ليقابل ضعف العقيدة الدينية بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا في الربع الأول من القرن السادس عشر، ونشأة الموضوعات الدنيوية فيه ووجود المناصرين له من غير رجال الدين، فقد كانت أعماله الأولى، ما كان منها يرسم للأفراد المشترين وما كان يرسم للكنيسة وهو الجزء الأكبر منها، كانت هذه الأعمال تروي قصة المسيحية، فمنها صورة عبادة المجوس، وفيها يبدو وجه العذراء جميلا شبيها بوجه صغار البنات الذي احتفظ به كريجيو فيما بعد للشخصيات غير ذات شأن في صوره، ومنها صورة الأسرة المقدسة، وعذراء القديس فرانس التي ظلت العذراء فيها محتفظة بملامحها التقليدية، لاستراحة بعد العودة من مصر التي تمتاز بالتجديد والابتكار في التأليف، والتلوين، والخصائص، وصورة لا دسنجريلا La Zingarella حيث رسمت العذراء وهي منحنية في حنان حول طفلها، بكل ما استطاعه كريجيو من رشاقة، وصورة العذراء تعبد الطفل التي جعل فيها الطفل مصدراً يشع منه الضوء الذي ينير المنظر كله.
وقد جاء تحوله إلى النزعة الوثنية نتيجة عمل غريب كلف به. ذلك أن جيوفنا دا بياتشندسا رئيسة دير سان باولو في باروما عهدت إليه تزيين(19/280)
حجرتها، وكانت سيدة يهمها نسبها أكثر مما تهمها تقواها، ولهذا اختارت موضوعا لزخرف حجرتها مظلمات ديانا العفيفة ربة الصيد، ورسم كريجيو فوق المدفأة ديانا في عربة فخمة، ثم رسم من فوقها في ستة أجزاء متقاطعة تلتقي كلها عند السقف المستدير مناظر مستمدة من الأساطير القديمة، في أحدها كلب يدلك طفلاً ويظهر نحوه أعظم الحب، ويعبر هذا الكلب بعين صورت أعجب التصوير عن خوفه من أن يختنق ويقضي على حياته من فرط الحب، ويسمو جماله اليقظ على جميع الأشكال البشرية والدينية المتناثرة حوله. ومن ذلك الحين أصبح الجسم البشري العاري في معظم الأحوال العنصر الأساسي في الزخارف التصويرية التي قام بها كريجيو، ودخلت الأساليب الوثنية في الموضوعات المسيحية نفسها. ذلك أن رئيسة الدير قد حولته عن المسيحية.
وأثار نجاحه أهل بارما وجاءه بأعمال درت عليه كثيرا من الربح، ففي عام 1519 رسم الزواج الخفي لسانت كاترين (نابلي). وفي هذه الصورة تظهر العذراء والقديس ذوي جمال يعجز عن الوصف، ومع هذا فان كريجيو جاء بأحسن منهما حين استخدم الموضوع نفسه لرسم الصورة التي تعد من أثمن كنوز اللوفر والتي تحوي وجوهاً جميلة، ومنظراً طبيعياً فاتناً، وتبادل الظلال والأضواء على الأثواب المهفهفة والشعر المتماوج.
وقبل كريجيو في عام 1520 مهمة شاقة يقوم بها في بارما - وهي أن يقوم بنقش مظلمات في السقف المقبب لكنيسة جديدة في دير للبندكتيين في سان جيوفني إفنجيلستا San Giovanni Evangelista وفوق منصتها والمعبدين الجانبيين فيها. وظل يكدح في هذا العمل أربع سنين، حتى إذا كان عام 1523 انتقل مع زوجته وأبنائه إلى بارما ليكون أقرب إلى عمله. وقد صور على القبة الرسل جالسين جلسة مستريحة في دائرة حول السحب الوثيرة، يحدقون بأعينهم في صورة المسيح التي روعي فيها المنظور والتناسب(19/281)
في الحجم مع غيرها من الصور بحيث تخدع الناظر إليها أسفل فيتمثل له البعد بينها وبين الرسل الناظرين إليها. وأكبر السباب في روعة هذه القبة يرجع إلى صور الرسل الفخمة، الذين يظهر بعضهم عراة، ينافسون في ذلك آلهة فدياس، ولعل مصورهم قد أخذ عن ميكل أنجيلو جلال العضلات التي رسمها في معبد سستيني قبل ذلك الوقت باثني عشر عاماً. ويرى في بندريل (1) بين عقدين القديس أمبروز القوي يناقش القديس يوحنا في بعض المسائل الدينية، وقد خلع عليه الفنان من الجمال ما لا يقل عن جمال أي إله بالغ من آلهة البارثنون. وترى أشكال فنية مفرطة في الجمال، يفترض أنها ملائكة تملأ فراغ الصورة بوجوه ملائكية، وأعجاز، وسيقان، وأفخاذ. وهنا نرى النهضة اليونانية التي تقادم عهدها في الآداب الإنسانية وفي مانوتيوس، وقد بلغت أوجها في الفن المسيحي.
ولما حل عام 1522 فتحت كتدرائية بارما العظيمة أبوابها للفنان الشاب، وتعاقدت معه على أن تؤجره ألف دوقة (12. 500 دولار) لينقش لها أماكن الصلاة والقبا، وموضع المرنمين، والقبة. وظل يقوم بهذه المهمة في فترات امتدت إلى ثمان سنوات من عام 1526 إلى يوم وفاته. واختار لزخرفة القبة صورة صعود العذراء وروع كثيرين من قساوسة الكتدرائية بأن جعل هذه الصورة النهائية منظراً جائشاً باللحوم الآدمية. فوضع في وسط الصورة العذراء متكئة على الهواء، تسبح نحو السماء بذراعيها الممتدتين لتقابل فيها ابنها، ومن حولها وأسفل منها حشد سماوي من الرسل، والحواريين، والقديسين - صورا أحسن تصوير لا يقل عن أحسن صور رفائيل، ويخيل إلى الناظر أنهم يدفعونها إلى أعلى بأنفاس الضراعة والعبادة، وتستند العذراء على جماعة من الملائكة يبدون كأنهم فتيان وفتيات أصحاء
_________
(1) البندريل Spendrel هو المسافة بين المنحني الخارجي لعقد والزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (عمارة). (المترجم)(19/282)
الجسام تبدو أجسامهم العارية الفتية رائعة الجمال، أولئك أجمل الفتيان المراهقين العراة في الفن الإيطالي بأجمعه. وذهل أحد رجال الدين وارتبك حين شاهد كل هذه الأذرع والسيقان فعاب الصورة بقوله إنها: ((كتلة من لحم الضفادع المقلو))؛ ويبدو أن غيره من جماعة القسيسين قد التبس عليهم أمر ذلك الخليط من اللحم البشري الذي يحتفل بالعذراء؛ وأن ذلك أدى إلى أن يقف عمل كريجيو في الكتدرائية إلى حين.
وكان في هذه الأثناء تتقدم به السن إلى الكهولة (1530)، وأخذ يتوق إلى الحياة الهادئة المستقرة؛ ولهذا ابتاع بضعة أفدنة خارج كريجيو وأصبح من ملاك الأرض كأبيه، واجتهد في أن يعول أسرته ويمول مزرعته بفرشاته، وأخرج في خلال مشروعاته الكبرى وبعدها طائفة من الصور الدينية، تكاد كل واحدة منها تكون آية فنية: مجدلين تقرأ؛ عذراء القديس سبستيان- وهي أجمل عذراء في كريجيو؛ وسيدة إسكوديلا ومها طاس والطفل المسيح مصوراً أحسن تصوير؛ وسيدة سان جيرولامو التي تسمى في بعض الأحيان ألـ جيرونو II Giorno أو النهار، ولا تقل صورة جيروم هنا في جمالها عن صورته عند مايكل أنجيلو. وصورة الملك الممسك بكتاب أمام المسيح ذات جمال كجمال الفتيات، وتمثل مجدلين وهي تضع خدها على فخذ المسيح أطهر الخاطئات وأرقهن قلباً، والألوان القوية الزاهية الحمراء والصفراء تجعل الصورة كلها خليقة بتيشيان في أحسن عهوده. وآخر ما نذكره من صوره صورة عبادة الرعاة التي خلع عليها الخيال أسم الليل La Notte، ولم يكن ما أولع به كريجيو في هذه الصور هو الطائفة الدينية بل كل قيمها الجمالية - خشوع الأم الشابة وتعبدها، وهي نفسها ذات جمال تطالعك بوجهها البيضي، وشعرها اللامع الأملس، وجفونها الناعسة، وأنفها الرفيع، وشفتيها الرقيقتين، وصدرها الناهد؛(19/283)
يضاف إلى ذلك عضلات القديسين الرياضية القوية، وجمال مجدلين المتحاشمة، وجسد الطفل الوردي. وكان كريجيو، وهو ينزل عن محاولات الكتدرائية يمتع عينيه بمناظر مؤتلفة قد تسفر حين تتم عن جمال رائع فتان.
وتلقى حوالي عام 1523 عدداً من الطلبات من فيدريجو الثاني جندساجا كشفت عن مل ما في فنه من العناصر الوثنية. ذلك أن هذا المركيز أراد أن يستميل إليه شارل الخامس فأمر برسم صورة في إثر صورة أهداها جميعاً إلى الإمبراطور، وتلقى منه في نظير ذلك الجزاء التافه المرغوب وهو لقب دوق. وكان هذا المركيز قد نشأ في جو روما الوثنية وعرف كريجيو ذلك فصور له طائفة من الموضوعات الأسطورية تخلد ذكرى الانتصارات الأولمبية في الحب أو الشهوات. ففي صورة تربية إيروس (إله الحب) تضع فينوس الغماء على عيني كيوبيد (كيلا يهلك الجني البشري)؛ وفي صورة جوبتر وأتيوبي يتخفى الإله في زي ساطير (جنية الحراج) ويتقدم نحو السيدة وهي راقدة على الكلأ عارية؛ وفي صورة دانائى Danae يمهد بشير مجنح لقدوم جوبتر بخلع ملابس الفتاة الجميلة، والى جانب فراشها يلعب غلامان سعيدان غير عابئين بفجور الأرباب. وفي صورة أيوما ينزل جوبتر مختفياً في سحابة من سمائه التي مل الإقامة فيها، ويمسك بيد قوية سيدة بدينة تتمنع عنه في دلال ثم تخضع لرغبته وثنائه، وفي صورة اغتصاب جتيميد يرى غلام جميل يسرع به نسر إلى السماء ليشبع رغبات إله الآلهة محب الجنسين على السواء. وفي صورة ليدا والبجعة يصور المحب في صورة بجعة، ولكن الموضوع هو بعينه؛ وحتى في صورة العذراء والقديس جورج نرى صورتين لكيوبيد يلعب فيهما لعباً سمجاً أمام العذراء كما أن القديس جورج في زرده البراق هو المثل الأعلى لجسم الشباب في عصر النهضة.(19/284)
على أننا ليس من حقنا أن نستنتج من هذا أن كريجيو لم يكن إلا رجلاً شهوانياً يميل إلى تصوير الأجسام. لقد كان يحب الجمال حباً ربما يكون عارماً، ولعله أسرف في إبراز ظاهر هذه الموضوعات الأسطورية دون غيرها، ولكنه في صور العذراء قدر الجمال الأشد عمقاً من هذا حق قدره. وبينما كانت فرشاته تجول في صور جبل أولمبس، كان هو نفسه يعيش معيشة رجل الطبقة الوسطى المنتظم المخلص لأسرته، الذي لا يكاد يترك داره إلا ليقوم بعمل، ويقول عنه فاسارى إنه ((كان يقنع بالقليل، ويعيش كما يجب أن يعيش المسيحي الصالح))، ويقال إنه كان حيياً مكتئباً؛ ومنذا الذي لا يكتئب وهو يأتي كل يوم إلى عالم من كبار مشوهين بعد أن تراوده في مرسمه أحلام الجمال.؟
ولعل نزاعاً قد شجر حول أجر العمل في الكتدرائية؛ وشاهد ذلك أن تيشيان سمع أصداء هذا النزاع تترد في بارما حين زارها، وقال إنه لو أن القبة قلبت وملئت بالدوقات لما وفى ملؤها بأجر كريجيو نظير ما صوره فيها. ومهما يكن من هذا الأمر فأن مسألة الأجر هذه كان لها شأن عجيب في احتضار الفنان. ذلك أنه تلقى في عام 1534 قسطاً من هذا الأجر قدره ستون كروناً (750؟ دولاراً) كلها من النحاس. وحمل الفنان هذا الحمل المعدني وسافر من بدوا راجلاً؛ واشتد الحر عليه، فأسرف في شرب الماء، فانتابته الحمى، ومات في مزرعته في اليوم الخامس من شهر مارس في عام 1534 في سن الأربعين (ويقول بعضهم إنه كان في سن الخامسة والأربعين).
وإذا ما أحصينا أعماله المجيدة التي قام بها في حياته القصيرة هالتنا كثرتها. فهي أكثر مما قام به ليوناردو، أو تيشيان، أو مايكل أنجيلو أو أي فنا آخر غير رفائيل في السنين الأربعين الأوائل من حياته، وكريجيو لا يقل عنهم جميعاً في رشاقة الخطوط. وفي حسن الهيكل الخارجي،(19/285)
وفي تصوير النسيج الحي للبشرة الآدمية. ويمتاز تلوينه بالسيولة واللألاء، والحياة الناشئة من انعكاس الأضواء والشفيف، وهو أرق - بألوانه البنفسجية، والبرتقالية، والوردية، والزرقاء، والصيغات الفضية المختلفة - من البريق الذي يخطف البصر في رسوم البنادقة المتأخرين. وكان أستاذاً في التضليل فكان يصور الضوء والظل بتراكيبهما وإيحياءاتهما التي يخطئها الحصر، حتى لا تكاد المادة في صور عذاراه تستحيل صورة ووظيفة من صور الضوء ووظائفه. وكان يجرب في جرأة عظيمة أساليب من الأشكال يؤلف بينهما: الهرمي، والقطري، والدائري، ولكنه في مظلمات القبا ترك الوحدة تفلت منه بين سيقان القديسين والملائكة المسرفة في الكثرة. وقد أولع بمراعاة المنظور في صوره ولعاً جاوز الحد، ولهذا بدت الشخوص التي في صور القبا مزدحمة مكدسة، منفرة شبيهة بصورة المسيح الصاعد لسان جيوفني إيفانجيلستا وإن كانت هذه الشخوص قد رسمت كما يتطلب العلم الدقيق. لكنه لم يعني قط الدقة الميكانيكية، ولذا فأن كثيراً من شخصياته، كشخصية مكوبر Micawber تنقصها الدعامات الظاهرة التي تستند إليها. وقد صور بعض موضوعات دينية تصويراً غاية في الإبداع ولكن أعظم ما كان يهتم به هو الجسم - جماله، وحركاته، ومواقفه، ومباهجه؛ وترمز صوره الأخيرة انتصار فينوس على العذراء في الفن الإيطالي أثناء القرن السادس عشر.
ولم يكن يتفوق عليه في نفوذه في إيطاليا وفرنسا غير ميكل أنجيلو؛ وقد اتخذته مدرسة بولونيا في التصوير التي يتزعمها آل كراتشى نموذجاً في القرن السادس عشر؛ وأقام الفنانان اللذان جاءا بعد هذه الأسرة، وهما جيدو رينى Guido Reni ودومينيكيو Domenichino على أساس فن كريجيو فناً ممتازاً في تصوير الأجسام ذات عاطفية حسية. وأدخل شارل له برون Cherles Le Brun ( الأسمر) وبيير مينو Pierre Mignaud(19/286)
في فرنسا ونشرا في فرساي نمطاً شهوانياً وردياً من الزخارف المكونة من شخوص وثنية كصور كيوبيد يقذف السهام وصغار الملائكة الممتلئ الأجسام؛ وكان كريجيو لا رفائيل هو الذي غزا فرنسا، وطبع فنها بطابع احتفظ به إلى أيام وتو Watteau.
واتصلت أعماله في بارما نفسها وحورها فرانتشيسكو مدسيولى Francesco Muzzuoli الذي يسميه الإيطاليون أصحاب الأهواء والنزوات البرمجيانينو IIP armigianino أي البارمى. وقد ولد مدسيولى هذا يتيماً (1504)، وكفله عمان له كانا مصورين، ولهذا تفتحت مواهبه بسرعة. وعهد إليه وهو في السابعة عشرة من عمره، أن يزين معبداً في الكنيسة نفسها - كنيسة سان جيوفنى إيفانجيلسيا - التي كان كريجيو ينقش قبتها. وكاد طرازه في هذه المظلمات يبلغ من الرشاقة ما بلغه طراز كريجيو نفسه، وأضاف إليه ما امتاز به من حب للملابس اللطيفة. ورسم حوالي ذلك الوقت صورة لنفسه كما يرى في مرآة، وهي من أكثر الصور الذاتية استرعاء للنظر في فن التصوير، تكشف عن غلام ذي رقة، وإحساس مرهف، وكبرياء. ولما حاصرت جيوش البابا مدينة بارما حزم عماه هذه الصور وغيرها من صوره، وأرسل فرانتشيسكو بها إلى روما (1523) ليدرس أعمال رفائيل وميكل أنجيلو، ويستجاب رضاء البابا كلمنت السابع. وبينما كان يشق طريقه نحو النجاح الكامل إذ أرغمه انتهاب روما على الفرار إلى بولونيا (1527)، حيث سرق زميل له فنان جميع صوره المحفورة ورسومه. ويبدو أن عميه اللذان يكفلانه كانا قد ماتا قبيل ذلك الوقت فأخذ يكسب قوته بأن رسم لبيترو أريتينو Pieteo Aretino صورة العذراء الوردة التي كانت قبل في درسدن، ولبعض الراهبات صورة سانتا مرغريتا التي لا تزال بولونيا. ولما جاء شارل الخامس ليعيد تنظيم إيطاليا المخربة رسم له فرانتشيسكو صورة(19/287)
بالزيت، أعجب بها الإمبراطور وكان من شأنها أو تغنى الفنان لولا أن بارامجيانينو عاد بها إلى مرسمه ليصقلها بعدد قليل من المسات، ثم لم ير شارل بعد ذلك أبداً.
وعاد إلى بارما (1531) وطلب إليه أن ينقش قبة في كنيسة مادنا دلا استيكاتا Madonna della Steccata. وكان وقتئذ في أوج مجده، وكان الأعمال التي ينتجها من حين إلى حين من أعلى طراز، فكان منها جارية تركية أشبه بالأميرات منها بالإماء، وزوج الفريسة كاترين وهي صورة تضارع صورة كريجيو التي تحمل الاسم عينه، بما فيها من أطفال ذوى جمال سماوي، وصورة أخرى لا أسم لها يقال إنها لعشيقته أنتيا Antea التي قيل عنها إنها أشهر الخليلات في ذلك العهد، ولكنها هنا تتحاشم تحاشماً ملائكياً في أثواب أفخم من أن ترتديها إلا الملكات.
لكن بارمجيانينو أولع في ذلك الوقت أشد الولع بالكيمياء الكاذبة، ولعل الذي دفعه إلى هذا ما حل به من الفقر والكوارث، فأهمل التصوير وانصرف إلى إقامة أفران لاستخراج الذهب. ولما عجز قساوسة سان جيوفنى عن إعادته إلى عمله في الكنيسة أمروا باعتقاله لعدم وفائه بعهده لهم، فما كان من المصور إلا أن فر إلى كسلمجيروي Casalmaggiore ودفن نفسه بين الأنابيق والبوتقات، وأطلق لحيته، وأهمل مظهره وصحته، وأصيب بالبرد والحمى، ومات موتاً فجائياً كما مات كريجيو (1540).(19/288)
الفصل الثاني
بولونيا
إذا مررنا بريجيو ومودينا بسرعة لا تليق بهذين البلدين فليس ذلك لأنهما لم تنجبا أحداً من أبطال السيف أو الفرشاة أو القلم. ففي ريجيو قام راهب أوغسطيني هو أمبروجيو كاليبينو Ambrogio Calepino بعمل معجم في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخذ يزداد كلما أعيد طبعه حتى أصبح معجماً في إحدى عشرة لغة (1590). وكان لبلدة كابري الصغيرة Little Capri كتدرائية خططها لها بلدساري بيروتسي Baldasseri Peruzzi (1514) ؛ وكان في مودينا مثال؛ هو جيدو متسوني Guido Mazzoni، أدهش مواطنيه بما تنطق به صورة له في الطين المحروق تمثل موت المسيح من واقعية دقيقة، وكانت مواقف المرنمين التي أقيمت في القرن الخامس عشر في الكتدرائية المنشأة بتلك المدينة في القرن الحادي عشر تضارع في الجمال واجهة هذه الكنيسة وبرج جرسها. ولعل بيليجرينو دا مودينا Pellegrino da Modena الذي عمل مع روفائيل في روما ثم عاد إلى مسقط رأسه كان يصبح مصوراً ذائع الصيت لو لم يقتله بعض المجرمين الذين كانوا يريدون قتل والده. وما من شك في أن أعمال العنف التي كانت سائدة في عصر النهضة قد قضت حيث اتسع نطاقها على عدد كبير ممن لو عاشوا لأصبحوا من كبار العباقرة.
وتقع بولونيا عند ملتقى عام للطرق التجارية في إيطاليا؛ ومن أجل هذا ظل رخاؤها في ازدياد، وإن كانت زعامتها العقلية قد أخذت تنتقل إلى فلورنس بعد أن أخذت النزعة الإنسانية تقضي على الفلسفة المدرسية؛(19/289)
فلم تكن جامعتها وقتئذ إلا واحدة من جامعات كثيرة في إيطاليا، ولم تعد تعلم الشرائع لأحبار الكنيسة أو الأباطرة، ولكن مدرستها الطبية كانت لا تزال ذات الشأن الأعظم بين أمثالها من المدارس. وكان البابوات يدعون أن بولونيا إحدى الولايات البابوية، وكان الكردنال ألبرنودسي Albornozy قد أيد هذه الدعوى تأييداً عارضاً (1360)؛ ولكن انشقاق الكنيسة بين البابوات المتنافسين عليها (1378 - 1417)، أضعف سلطان البابوية في المدينة حتى جعله سلطاناً اسمياً؛ وارتفعت فيها أسرة غنية، أسرة بينتيفجليو Bentivoglio فصارت صاحبة السلطة السياسية، واحتفظت فيها طوال القرن الخامس عشر بدكتاتورية هينة، راعت أشكال الحكم الجمهوري، واعترفت بسيادة البابوات رسمياً ولكنها تجاهلتها عملياً. وحكم جيوفني بينتيفجليو بولونيا، بوصفه زعيماً (كابو Capo) لمجلس الشيوخ، سبعة وثلاثين عاماً (1469 - 1506) بحكمة وعدالة أكسبتاه إعجاب الأمراء وحب الشعب. وعنى في أثناء هذا الحكم برصف الشوارع، وإصلاح الطرق، وحفر القنوات؛ وساعد الفقراء بالعطايا، وقام بطائفة من الأشغال العامة ليخفف من حدة التعطل؛ وناصر الفنون مناصرة قوية. وكان هو الذين استدعى لورندسو كستا إلى بولونيا، وكان هو وأبناؤه هم الذين صور لهم فرانتشيا؛ والذي رحب في بلاطه بفيليفو، وجوارينو، وأورسبا Aurispa وغيرهم من الكتاب الإنسانيين. قد لجأ في أواخر حكمه إلى طائفة من الإجراءات الصارمة للاحتفاظ بسلطانه؛ ذلك بأن مؤامرة دبرت لخلعه فأحفظته ونفثت سموم الغل في قلبه، وأفقدته هذه الإجراءات حب شعبه. وحدث في عام 1506 أن زحف البابا يوليوس الثاني بجيش بابوي على بولونيا، وطلي إليه أن ينزل عن الملك؛ فأجابه إلى طلبه بهدوء وسلام، وسمح له أن يغادر المدينة سالماً، ومات في ميلان بعد عامين من ذلك الوقت. ووافق يوليوس(19/290)
على أن يحكم بولونيا من ذلك الحين مجلس شيوخها، على أن يكون للرسول البابوي حق رفض كل تشريع تعارضه الكنيسة. وتبين للأهلين أن حكم البابوات أحسن نظاماً وأوسع حرية من حكم آل بينتيفجليو؛ ذلك أن البابوات لم يقاوموا الحكم الذاتي المحلي، كما أن الجامعة استمتعت بحرية علمية واسعة النطاق؛ وبقيت بولونيا ولاية بابوية اسمياً وعملياً حتى أيام نابليون (1796).
وكانت بولونيا في عصر النهضة تفخر بعمارتها المدنية، فقد أقامت فيها نقابة التجار غرفة تجارية جميلة الشكل (1382 وما بعدها)، وأعاد المحامون (1384) بناء قصر رجال القانون. كذلك شاد الأشراف قصوراً جميلة مثل قصر البيفلكوا Bevilacqua الذي عقد فيه مجلس ترنت Trent جلساته في عام 1547، وقصر بلافتشيني Pallavicini الذي وصفه كاتب معاصر بأنه "خليق بالملوك" (3). وأنشئت لقصر البودستا Podesta ( الحاكم) الضخم، وهو مقر الحكومة، واجهة جديدة (1492)، وصمم برامنتي درجاً حلزونية فخمة لقصر القومونية (البلدية). وكان لكثير من الواجهات عقود في مستوى الشارع، فكان في وسع الإنسان أن يسير عدة أميال في قلب المدينة دون أن يتعرض للشمس أو للمطر إلا حين يعبر الشارع من جانب إلى جانب.
وبينا كان المتشككون في الجامعة يجادلون في خلود الروح كان الشعب وحكامه يشيدون الكنائس الجديدة أو يزينون القديم منها أو يرممونه، ويأتون بالقرابين إلى الأضرحة التي تأتي بالمعجزات أملاً في الخير على أيدي أصحابها. وأضاف الرهبان الفرنسيس لكنيستهم الجميلة في سان فرانتشيسكو برجاً للجرس يعد من أجمل الأبراج في إيطاليا؛ وزين الرهبان الدمنيك كنيستهم في سان دمنيكو بمواضع للمرنمين بذل الراهب دميانو البرجامي في حفرها وتطعيمها جهداً عظيماً، واستخدموا ميكل أنجيلو في حفر(19/291)
أربع صور ليزين بها الصندوق الذي كانوا يحتفظون فيه بعظام مؤسس طريقتهم.
وكانت كتدرائية القديس بترونيو مفخرة فن بولونيا العظيمة ومأساته المفجعة في وقت واحد. وتفصيل ذلك أن بترونيوس Petronius هذا كان أسقف المدينة في القرن الخامس الميلادي، وكان رجال الدين الذين يرأسهم يحبونه أعظم الحب. وادعى كثيرون من عباده في عام 1307 أنهم شفوا من عماهم، وصممهم، وما إلى ذلك من الأدواء، حين غسلوا الأجزاء المريضة من أجسامهم بالماء المأخوذ من بئر تحت ضريحه، وسرعان ما اضطرت المدينة إلى إعداد أماكن تتسع لمئات الحجاج الذين أقبلوا على المكان طلباً للشفاء. وقرر المجلس في عام 1388 أن تقام كنيسة للقديس بترونيوس، وأن تكون من السعة بحيث تزري بالفلورنسيين وكنائسهم، فيكون طولها سبعمائة قدم وعرضها أربعمائة وستين قدماً، وتعلو قبتها فوق الأرض خمسمائة قدم. وتبين أن المال يقصر عن تحقيق هذه الكبرياء؛ فلم يتم من هذه الكنيسة إلا نيفها ( Nava) والأجنحة المحيطة به إلى ارتفاع الليوان، ولم ينشأ من الواجهة إلا جزؤها الأسفل. ولكن هذا الجزء الأسفل آية فنية تشهد بما كان لفن النهضة من أمان نبيلة وذوق راق. وحفرت على ستر الأبواب وطيلاتها نقوش (1425 - 1438) تضارع في موضوعها وتفوق في قوتها الأبواب التي أقامها جيبيرتي Gheberti لموضع التعميد في في كتدرائية فلورنس ولا تقل عنها إلا في جمال الصقل ودقته، وحفرت في القوصرة حفراً بارزاً مستديراً صورة العذراء والطفل خليقة بأن تقارن بصورة بيتا Pàieta لميكل أنجيلو، وإن كان قد حفر إلى جانبها صورتين منفرتين لبترونيوس وأمبروز. ولقد كانت هذه الأعمال التي قام بها ياقوبو دلا كويرتشيا Jacopo della Quercia من فناني(19/292)
سينا ملهمة لميكل أنجيلو، ولو أن ميكل قد أخذ بأكثر مما أخذ به من النقاء الروماني القديم الذي ينطبع به تصميم دلا كويرتشيا لأنجى نفسه مما أتسم أسلوبه في النحت من مغالاة في إبراز العضلات.
وكان فن النحت ينافس في بولونيا فن العمارة. من ذلك أن بروبيردسيا ده رسي Properzia de 'Rossi نحتت نقشاً قليل البروز لواجهة كنيسة القديس بترونيوس نال من الثناء ما حدا بالبابا كلمنت السابع حيث قدم إلى بولونيا أن يطلب مقابلتها، ولكنها كانت قد توفيت في ذلك الأسبوع نفسه؛ ونال ألفنسو لمباردي شهرته في التاريخ خلسة من وراء تيشيان. ذلك أنه عرف أن تيشيان سيرسم صورة لشارل الخامس في أثناء مؤتمر بولونيا (1530) فما كان منه إلا أن أقنع المصور بأن يقبله خادماً عنده؛ وبينا كان تيشيان يرسم صورة الإمبراطور الجالس أمامه، أخذ ألفنسو وهو مختبئ بعض الاختباء وراءه يصوغ نموذجاً من الجص للإمبراطور. وأبصره شارل وطلب أن يرى عمله؛ فلما رآه أحبه، وطلب إلى ألفنسو أن ينقله على الرخام. ولما أن دفع شارل إلى تيشيان ألف كرون أمره أن يدفع نصفها إلى ألفنسو. وجاء لمباردي بالصورة الرخامية بعد تمامها إلى شارل في جنوى ونال منه ثلاثمائة كرون أخرى. ولما ذاعت شهرة ألفنسو على هذا النحو استدعاه الكردنال ياقوبو ده ميديتشي إلى روما وكلفه بنحت قبرين لليو العاشر وكلمنت السابع، ولكن الكردنال توفى في عام 1535، وخسر ألفنسو نصيره ومهمته، فتبعه إلى الدار الآخرة في خلال عام واحد.
وكان أكثر التصوير في بولونيا في القرن الرابع عشر زخرفة للمخطوطات، ولما انتقل من هذا إلى الرسوم الجدارية اتخذ الطراز الروماني الجامد. ويبدو أن فنانين من فيرارا هما اللذان أنجيا مصوري بولونيا من طراز بيزنطة الجامد الميت. ولما قدم فرانتشيسكو كسا ليقيم في بولونيا (1470)، كان لا يزال في تصويره شئ من القسوة التي انطبع بها طراز مانتينتا وجمود(19/293)
الخطوط التي تشاهد في أسلوب نحته، ولكن كان قد تعلم كيف ينفث في صوره شعوراً وهيبة، وكيف يبعث فيها الحركة، ويغرقها في ألوان يتلاعب بها فيخلع عليها الحياة. وجاء لورندسو كستا إلى بولونيا وهو غلام في الثالثة والعشرين من عمره (1483)، وأقام بها ستة وعشرين عاماً، واتخذ له مرسماً في البيت الذي كان فيه مرسم فرانتشيا. ونشأت بين الرجلين صداقة قوية، وتأثر كلاهما بالآخر تأثراً أفاد منه الشيء الكثير، وكانا أحياناً يعملان معاً في صورة واحدة. ونال كستا ثناء جيوفني بينتيفجليو ورفده بعد أن رسم صورة ممتازة للعذراء على عرشها لتوضع في كنيسة القديس بترونيوس. ولما أن فر جيوفني عند اقتراب يوليوس الرهيب (1506)، قبل كستا الدعوة ليخلف مانتينتا في مانتوا.
وكان فرانتشيسكو فرانتشيا في أثناء ذلك الوقت يتخذ سبيله ليصبح راس مدرسة بولونيا وتاجها. وكان أبوه ماركو رايبوليني Marco Raibolini، غير أنه لما كانت الألقاب في إيطاليا لا ضابط لها، فقد عرف فرانتشيسكو فيما بعد اسم الصائغ الذي كان يتتلمذ عليه. وظل سنين كثيرة يمارس فنون أشغال الذهب، والفضة والنَّل (1)، والميناء، والحفر. وعين بعدئذ رئيساً لدار الضرب، ونقش نقوداً لمدينة بينتيفجليو والبابوات؛ وامتازت نقوده بجمالها امتيازاً جعلها مطمع جامعي التحف، وارتفعت أثمانها ارتفاعاً عظيماً بعد موته بزمن قليل. ويصفه فاساري بأنه رجل محبوب، ظريف الحديث إلى حد يستطيع معه أن يطرد الهم عن أشد الناس حزناً واكتئاباً، وكسب محبة الأمراء والأعيان وكل من عرفه" (4).
ولسنا نعرف سبب تحول فرانتشيا إلى فن التصوير. وكل ما نستطيع أن نقوله أن بينتيفجليو كشف عن مواهبه وعهد إليه - وهو في التاسعة
_________
(1) ضرب من النقش في القرون الوسطى هو عبارة عن زخرفة المعادن بحفر أشكال عليها ثم ملئها بمزيج من الكبريت مضافاً إليه عدة معادن أخرى. (المترجم)(19/294)
والأربعين - أن يرسم ستاراً لمذبح في معبد بكنيسة سان جياكومو مجيوري (1499). وسر الطاغية من هذا الرسم وكلف فرانتشيا بأن يزخرف قصره بالنقوش الجدارية. وقد أتلفت النقوش حين نهب الغوغاء القصر في عام 1507، ولكن فاساري يؤكد لنا أن هذه المظلمات وغيرها "أكسبت فرانتشيا من الإجلال في هذه المدينة ما جعل الناس يعظمونه تعظيم الأرباب" (5). وانهالت عليه الطلبات، ولعله قد قبل منها أكثر مما يسمح بإمكانياته أن تنضج. وتلقت مانتوا، وريجيو، وبارما، ولوكا، وأربينو لوحات من فرشاته؛ ففي بيناكوتيكا بولونيز حجرة مليئة بأعماله، وفي فيرونا صورة للأسرة المقدسة، وفي تورين صورة لدفن المسيح، وفي اللوفر أخرى لصلبه، وفي لندن صورة للمسيح الميت، وأخرى رائعة لبارتوليمو بياتشيني، وفي مكتبة مورجان صورة للعذراء والطفل، وفي متحف الفن بنيويورك صورة مبهجة لفيدريجو جندساجا في شبابه. وليس في هذه الصور كلها صورة من الطراز الأول، ولكن كل واحدة منها قد رسمت رسماً أنيقاً رشيقاً، ولونت بألوان هادئة، ونفث فيها من الرقة والتقى ما يجعلها بشيراً بصور رفائيل.
وإن الصداقة الأدبية التي نشأت عن طريق الرسائل بين فرانتشيا ورفائيل لمن أطرف الحوادث في تاريخ النهضة. وكان منشأ هذه الصداقة أن تموتيو فيتي Timoteo Viti الذي كان تلميذ فرانتشيا في بولونيا (1490 - 1495)، أصبح في أربينو أحد معلمي رفائيل الأولين. ولعل بعض خصائص فرانتشيا انتقلت إلى الفنان الشاب (6). ولما أن ذاعت شهرة رفائيل في روما دعا فرانتشيا إلى زيارته، لكن فرانتشيا اعتذر لكبر سنه وكتب أغنية في الثناء على رفائيل وتلقى منه رداً مؤخراً (5 سبتمبر سنة 1508) يفيض بالمجاملات السائدة في عصر النهضة.
عزيزي السيد فرانتشيسكو:
تلقيت تواً صورتك، وقد وصلت إلي بحالة جيدة. وإني لأشكر لك(19/295)
ذلك من صميم قلبي. والصورة غاية في الجمال. وتطابق الحياة مطابقة تجعلني أخطئ أحياناً فأعتقد أنني معك أستمع إلى كلماتك. وإني لأرجوك أن تعذرني وتغفر لي إبطائي وتأجيلي إرسال صورتي مرسومة بيدي، لأني لم أستطع بعد رسمها بنفسي كما اتفقنا بسبب اشتغالي بأمور هامة ملحة لا تنقطع أبداً ... على أنني أبعث إليك صورة أخرى لمولد المسيح رسمتها وسط مشاغلي الكثيرة الأخرى رسماً أخجل منه. غير أني أبعث إليك بهذه الصورة التافهة إطاعة لك وحباً فيك لا لشيء آخر؛ وإذا ما لقيت بدلاً منها (رسمك) قصة يهوديث Judith فإني سأضعها بين أعز الأشياء وأعظمها قيمة عندي.
والسيد إل داتاريو Il Datario ينتظر صورتك الصغيرة للعذراء بشوق زائد، كما أن الكردينال رياريو Riario في انتظار الصورة الكبرى .. وأنا أترقب وصولها بنفس اللذة والسرور اللذين أنظر بهما إلى كل أعمالك، وأثني عليها؛ فأنا لا أرى شيئاً أجمل أو أكثر تقى، أو أعظم إتقاناً من أعمالك.
والآن تشجع، واعتن بنفسك وكن حكيماً كعادتك، وثق أني أحس بآلامك كأنها آلامي أنا نفسي؛ وداوم على حبك لي كما أحبك أنا من كل قلبي. وأنا في خدمتك في كل شئ. المخلص رفائيل سانتشيو Rafael Sancio. وفي وسعنا أن نتغاضى هنا عن بعض التنميق الذي أملته المجاملات، ولكن الذي يؤكد لنا أن الحب المتبادل بين الرجلين كان حباً صادقاً هو رسالة أخرى بعث بها رفائيل إلى فرانتشيا مع صورته الذائعة الصيت القديسة تشيتسيليا St. Cecilia لتوضع في معبد ببولونيا، وطلب إليه "بوصفه صديقاً له أن يصحح ما قد يجده فيها من الأخطاء" (8). ويقول فاساري إن فرانتشيا حيث رأى الصورة راعه جمالها، وأحس أمامها بعجزه، ففقد(19/296)
كل رغبة في التصوير، ومرض، ومات بعد قليل في السابعة والستين من عمره (1517). وهذه ميتة من الميتات الكثيرة المشكوك في روايتها في كتاب فاساري، ولكنه يتفضل فيضيف إلى قوله السابق أن هنالك أقوالاً أخرى في هذه المسألة.
ولعل فرانتشيا قد شاهد قبل وفاته بعض صور أخرى محفورة قام بها في روما تلميذه مركنتونيو رابمندي نقلاً عن رفائيل. ذلك أن مارك هذا شاهد في زيارته للبندقية بعض صور حفرها ألبرخت دورر Albrecht Dürer على النحاس أو الخشب، فما كان منه إلا أن أنفق كل ما معه من النقود تقريباً في شراء ستة وثلاثين نقشاً محفوراً من عمل فنان نورمبرج تمثل آلام المسيح عند الصلب؛ ثم نقلها على النحاس، وطبع منها عدة نسخ وباعها على أنها من عمل دورر. ولما سافر إلى روما حفر على النحاس رسماً من صنع رفائيل مطابقاً للأصل مطابقة سمح معها المصور العظيم أن يحفر عدد كبير من صوره، وأن تطبع منها عدو نسخ وتباع للراغبين. كذلك نقل ريمندي صور رفائيل وغيره، وحفر الصور المنقولة على النحاس وطبع منها عدة نسخ وباعها. وبينا كان فرانتشيا يكسب المال بهذه الطريقة الجديدة، أصبح الفنانون في أوربا على علم بالصور المشهورة التي رسمها فنانو النهضة، وبهذا أدى فنجويرا Finiguerra، وريمندي ومن جاءوا بعدهما للفن ما أداه جوتنبرج وألدوس مانوتيوس للطباعة، وما أداه غير هؤلاء للعلم والأدب؛ فقد أنشئوا خطوطاً جديدة للاتصال والنقل وقدموا للشباب مجمل تراثه وخطوطه الرئيسية على الأقل.(19/297)
الفصل الثالث
على طول طريق إيمليا
تقع في شرق بولونيا سلسلة من البلدان الصغيرة كان لها نصيب مناسب لحجمها في لألاء مجد النهضة. فكان في إمولا Imola الصغيرة إنوتشندسو دا إمولا Innocenzo da Imola الذي درس مع فرانتشيا وخلف صورة للأسرة المقدسة لا تكاد تقل جمالاً عن صور رفائيل. وخلعت فائنزا Faenza اسمها على إحدى الصناعات التي اشتهرت بها وهي صناعة القاشاني faience؛ ففيها - وفي جبيو، وبيزارو، وكاستل دورانتي، وأربينو - واصل الفخرانيون الإيطاليون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تغطية الأدوات الطينية بطبقة معتمة من الميناء، ونقشوا عليها بالأكاسيد المعدنية رسوماً متى أحرقت في النار أصبحت ذات ألوان زاهية بنفسجية، وخضراء، وزرقاء، متعددة الضلال، وقد بلغ هذا الفن علي أيديهم حد الكمال. واشتهرت فورلي (واسمها القديم فورم ليفاي Forum Livi) بمصورين وببطلة في هذا الفن لا تقل عن الرجال. ولن نحسب لهذه البلدة ميلتزو دا فورلي Melozzo da Forli بل نتركه لروما التي كانت موضع أعماله المحببة له. أما تلميذه ماركو بالمتسانو Marco Palmezzano فقد صور الموضوعات المسيحية القديمة لنحو مائة من الكنائس والمناصرين، وخلف لنا صورة فاتنة خداعة لكاترينا اسفوردسا Caterina Sforza.
وقد ولدت كاترينا لجالياتسو ماريا اسفوردسا Galeazzomaria Sfordza دوق ميلان دون أن يتزوج أمها، وتزوجت هي جيرولامو رياريو القاسي الوحشي طاغية فورلي، الذي ثار عليه رعاياه في عام 1488 وقتلوه، وقبضوا على كاترينا وأبنائها؛ ولكن بعض الجنود الموالين لها استولوا على(19/298)
القلعة. ووعدت هي القابضين عليها، إذا ما أطلقوا سراحها، أن تذهب إلى أولئك الجنود وتقنعهم بالتسليم، فأجابوها إلى ما طلبت. ولكنهم احتفظوا بأبنائها رهائن عندهم. فما كادت تدخل القلعة حتى أغلقت أبوابها، وتولت بنفسها توجيه الدفاع بقوة وعنف؛ ولما أن هددها الثوار بقتل أبنائها إذا لم تسلم هي ورجالها لم تعبأ بتهديدهم وقالت لهم أن في رحمها ابناً آخر وإنه يسهل عليها أن تحمل بعدة أبناء آخرين. وبعث لدوفيكو صاحب ميلان جنوداً أنقذوها، وأخمدت الفتنة في غير شفقة، ونصب أتافيانو Ottaviano ابن كاترينا حاكماً على المدينة تسيره أمه بيدها الحديدية. حسبنا هذا عنها الآن وسنواصل الكلام عليها في موضع آخر.
ولا تزال تقوم الآن في شمال طريق أيمليا وجنوبه عاصمتان قديمتان: أولاهما رافنا، التي كانت فيما مضى ملجأ للفاتحين الرومان، وسان مارينو San Marino الجمهورية التي احتفظت بنظام حكمها إلى هذه الأيام. وكان منشأ سان مارينو هذه أن قامت حول دير القديس مارينوس St. Marinus ( المتوفى عام 366) محلة صغيرة ذات مركز منيع على قمة جبل صخري. وقد استطاعت بفضل هذا الموقع أن تنجو من هجمات المغامرين الأفاقين في أيام النهضة. واعترف البابا إربان الثامن رسمياً باستقلالها في عام 1631، ولا تزال محتفظة بهذا الاستقلال مناً وكرماً من الحكومة الإيطالية التي لا تجد فيها إلا القليل مما يمكن أن تفرض عليه ضريبة. أما رافنا فقد استعادت رخاءها الزائل بعد أن استولى عليها البنادقة في عام 1441؛ ثم طالب بها يوليوس الثاني للبابوية في عام 1509؛ ثم رأى جيش فرنسي أن من حقه، بعد أن انتصر في معركة شهيرة بالقرب منها، أن ينهب المدينة نهباً لم تنج قد من آثاره إلى أيام الحرب العالمية الثانية، التي حطمتها مرة أخرى. وفي هذه البلدة صمم بيترو لمباردو بناء على طلب برناردو بمبو والد الشاعر الكردنال، القبر الذي يضم الآن رفات دانتي (1483).(19/299)
وتقع ريمنى جنوب الربيكون مباشرة في الموضع الذي يلتقي فيه طريق إيمليا بطرف البحر الأدرياوى. وقد دخلت هذه البلدة في تاريخ النهضة دخولاً عنيفاً بفضل أسرتها الحاكمة أسرة المالاتيستا Malatesta أي الرؤوس الشريرة. وكان أول ظهور لهذه الأسرة في أواخر القرن العاشر، وكانوا وقتئذ عمالاً للدولة الرومانية المقدسة يحكمون تخوم أتكونا من قبل أتو الثالث. وأخذ هؤلاء يناصرون الحلف على الحبلين، ثم يناصرون هؤلاء على أولئك، ويخضعون للإمبراطور تارة، وللبابا تارة أخرى، فاستطاعوا بذلك أن يستحوذوا على السيادة الفعلية، وإن لم يستحوذوا على السيادة الرسمية، في أنكونا، وريمينى، وسيزينا، وأن يحكموا هذه البلدان حكم الطغاة المستبدين لا يعرفون من مبادئ الأخلاق سوى الدسائس، والغدر، والسيف، حتى لم يكن كتاب الأمير لمكيفلى إلا صدى خافتاً لحكمهم الواقعي، حكم الدم والحديد استحالا مداداً كما استحال حكم بسمارك فلسفة نيتشه. وكان أحد أفراد هذه الأسرة والمسمى جيوفنى هو الذي قتل زوجته فرانتشيسكا دا ريمنى وأخاه باولو (1285). وأبلغ سجسمندونالاتيستا Sigismondo Malatesta شهرة الأسرة ذروتها من حيث القوة، والثقافة، والاغتيال. وولدت له عشيقاته الكثيرات عدة أبناء، وكان في بعض الأحيان يجمع بين هؤلاء العشيقات في وقت واحد ويسبب له الجمع بينهن كثيراً من المتاعب (9). وتزوج ثلاث مرات، وقتل اثنتين من زوجاته متهماً إياهن بالزنا (10). وقد اتهم بأنه واقع ابنته حتى حملت منه، وأنه حاول أن يأتي ولده، وأن ولده هذا صده عن نفسه بخنجره المسلول (11)، وأنه قد أفرغ شهوته في جثة سيدة ألمانية آثرت أن تموت على أن تحتضنه (12)، بيد أننا لا نجد ما يؤيد هذه الأعمال إلا أقوال أعدائه. ولقد كان وفياً وفاء غير معهود لعشيقته الأخيرة إيزتا ديجلى أتى Isott degli Atti، وتزوجها(19/300)
آخر الأمر، ولما توفيت أقام لها في كنيسة سان فرانتشيسكو نصباً تذكارياً نقش عليه مكرس لإيزتا المقدسة. ويبدو أنه لم يكن يؤمن بالله ولا بخلود الروح، ويظن أن من النكات الظريفة المرحة أن يملأ حوض الماء المقدس في الكنيسة حبراً وأن يراقب المصلين يلطخون أنفسهم به وهم داخلون (13).
ولم يكن في الجرائم التي ارتكبها من التنوع والتباين ما يكفي لاستنفاد مجهوده. فقد كان قائداً قديراً، واشتهر بالبسالة والتهور وعدم المبالاة بالعواقب، وبقوة العزيمة وتحمل كل ما تتعرض له الحياة العسكرية من مشاق. وكان يقرض الشعر. ويدرس اللغتين اللاتينية واليونانية، ويعين العلماء والفلاسفة، ويبتهج بصحبتهم. وكان يحب بنوع خاص ليون باتيستا ألبرتى، الذي كان شبيهاً بليوناردو قبل أيام دافنتشي، وقد كلفه بأن يحول كاتدرائية سان فرانتشيسكو إلى هيكل روماني. وقام ألبرتى بهذا العمل، فلم يمس الكنيسة القوطية التي أقيمت في القرن الثالث عشر بشيء، ثم أقام لها واجهة على الطراز الروماني القديم اتخذ نموذجاً لها قوس أغسطس المقام في ريمنى عام 27 ق. م. وكان يعتزم تغطية مكان المرنمين بقبة، ولكن هذه القبة لم تبنى قط، فكانت النتيجة عملاً ناقصاً مشوهاً منفراً سماه معاصروه هيكل مالاتيستيانو Tempio Malatestiano. وكان الفن الذي تم به تزيين الداخل أنشودة تمجد الوثنية. فقد صور سجسمندو في مظلم رائع من عمل بيرو دلا فرانتشيسكا راكعاً أمام قديسه الشفيع، ولكن هذا المظلم يكاد يكون كل ما بقى في الكنيسة من الرموز المسيحية. ودفنت إيستا في أحد أماكن الصلاة في الكنيسة، ووضع على قبرها قبل عشرين سنة من وفاتها نقش قبل فيه: ((إلى ايستا ريمنى فخر إيطاليا في الجمال والفضيلة)). وكان في مكان أخر للصلاة صور للمريخ، وعطارد، وزحل، وديانا، وفينوس. واحتوت جدران الكنيسة على نقوش بارزة في الرخام من طراز راق ممتاز أكثرها من صنع أجستينو دى دتشيو Agostino di Duccio تمثل ساطيرات،(19/301)
وملائكة، وغلمان مغنيين، وفنون وعلوم مجسدة، مزخرفة بالحروف الأولى من أسمى سجسمندو وإيستا. وقد وصف الباب بيوس الثاني، وهو من المولعين بالفنون الرومانية القديمة، هذا البناء الجديد بأنه هيكل نبيل ملئ بالرموز الوثنية إلى حد يبدو معه كأن الضريح لم يكن لمسيحيين بل لكفة يعبدون آلهة الكافرين)) (14).
وأرغم البابا بيوس سجسمندو في معاهدة مانتوا (1459) أن يرد إمارته إلى الكنيسة، ولما استعاد الطاغية الجريء قبضته عليها، قذفه البابا بقرار الحرمان، واتهمه بالإلحاد، وقتل الأقارب، ومضاجعة المحارم، والزنا، والاغتصاب، والحنث في الإيمان، والغدر، وتدنيس المقدسات (15). وسخر سجسمندو من هذا القرار وقال إنه لم ينقص كثيراً من تمتعه بالطعام والخمر (16)، ولكن صبر الباب العالم وأسلحته ودهائه تغلبت عليه؛ وانتهى الأمر حين خر سجسمندو في عام 1463 راكعاً أمام مندوب بابوي، وأسلم دولته إلى الكنيسة، وغفرت له ذنوبه. ولكن حميته المتأججة أدت به إلى أن يقود جيشاً من البنادقة، انتصر به على الأتراك في عدة وقائع، وعاد إلى ريمنى ومعه جائزة بدت له من أثمن الجوائز، لا تقل قيمة عن عظام أعظم القديسين - وهي رماد جمستوس بليثو Gemistus Pletho الفيلسوف اليوناني الأفلاطوني الذي كان قد اقترح فعلاً استبدال العقدية الأفلاطونية الوثنية بالدين المسيحي. ودفن سجسمندو كنزه الثمين في قبر فخم بجوار هيكله؛ ومات بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت (1468)، ومن حقه علينا ألا نغفله في الصورة المركبة التي نرسمها لعصر النهضة.
وإذا كان سجسمندو يمثل الأقلية الصغيرة، ولكنها الأقلية ذات النفوذ، التي رفضت جهرة، إلى حد قليل أو كثير، العقيدة المسيحية السائدة في العصور الوسطى، نقول إذا كان سجسمندو يمثل هذه الأقلية، فما علينا إلا ننحدر بإزاء ساحل البحر الأدرياوى من ريمنى إلى أقاليم التخوم(19/302)
فتصل إلى لوريتو، حيث نجد مثالاً حياً للدين القديم لا يزال يملأ قلوب الإيطاليين. فقد كان آلاف الحجاج المخلصين يهرعون في كل عام من أيام النهضة، كما يهرع آلاف منهم في هذه الأيام، لزيارة البيت المقدس Casa Santa وهو بيت يقال لهم إن مريم، ويوسف، وعيسى، كانوا يسكنونه في الناصرة، ثم نقلته الملائكة، كما تقول القصة العجيبة، بمعجزة من المعجزات إلى دلماشيا أولاً (1291)، ثم عبرت به البحر الأدرياوى (1294)، إلى أجمة من الغار قريبة من ريكاناتى Recanati. وقد أقيم حول البيت الحجري الصغير سور من الرخام من تصميم برامنتى، وأضاف إليه أندريا سانسوفينو Andrea Sansovino زخارف في صورة تماثيل، ثم شيد جويليانو دا مايانو Guiliano de Maiano وجويليانو دا سانجلو Gniliauo da Sangallo (1468 وما بعدها) فوق هذا البيت كنيسة، ووضع على مذبح داخل البيت المقدس تمثال لمريم والطفل مصنوع من خشب الأرز الأسود، يقول الأتقياء الصالحون إنه من صنع الفنان لوقا الإنجيلي. ولما احترق هذا التمثال عام 1921 وضعت في مكانه صورة أخرى منه، مزينة بالجواهر والأحجار الكريمة، وتضيئه المصابيح الفضية ليلاً ونهاراً. لقد كان هذا أيضاً من أعمال النهضة.(19/303)
الفصل الرابع
أربينو وكستجليونى
على بعد عشرين ميلاً من البحر الأدرياوى إلى داخل البلاد، وفي منتصف المسافة بين لورينو وريمنى، تقوم إمارة أربينو الصغيرة التي لا تزيد مساحتها على أربعين ميلاً مربعاً، مختفية على شاهق فوق نتوء منظري من جبال الأبنين Apenine. وكانت هذه البلدة في القرن الخامس عشر من أعظم مراكز الحضارة على سطح الأرض. وكانت أسرة المنتيفلترى Montrfrltri، التي جمعت ثروتها من مغامرات أفرادها في الحروب إلى جانب من يستأجرونهم هم وعصابتهم، ثم أنفقتها بحكمة حداً لا يقل عن شناعة الطرق التي جمعت بها، نقول كانت هذه الأسرة قد امتلكت هذا الإقليم المخطوط قبل مائتي عام من ذلك الوقت.
وحكم فيدريجو منتيفلترو أربينو حكماً عجيباً فذاً دام ثمانية وثلاثين عاماً (1444 - 1482)، امتاز بالمهارة والعدالة إلى حد يفوق ما امتاز به منهما لورندسو العظيم. وقد بدأ حياته بهذا العمل الحكيم وهو أن تتلمذ على فتورينو دا فلترى Vittorino da Feltre، وكانت حياته أعظم مفخرة نالها هذا المعلم النبيل. وكان وهو يحكم أربينو يؤجر نفسه ليقود جيوش نابلى، وميلان، وفلورنس، والكنيسة. ولم يخسر في حياته معركة واحدة، أو يسمح بأن تمس الحرب أرض بلاده. وقد يؤخذ عليه أنه استولى على بلدة مت بتزوير رسالة من الرسائل، وأنه نهب فلتيرا Volterra نهباً منظماً أسرف فيه كل الإسراف، ولكنه اشتهر مع ذلك بأنه كان أرحم قواد زمانه. وكان في الحياة المدنية عظيم الشرف والوفاء؛ كسب من المال بمغامراته الحربية ما يكفي لإدارة دولته دون أن يرهق رعاياه بالضرائب(19/304)
الفادحة؛ وكان يسير بينهم من غير سلاح أو حرس، لثقته بولائهم القائم على الحب والإخلاص. وكان في كل يوم يجلس في حديقة مفتوحة من كل جانب يستمع فيها إلى كل من يريد التحدث إليه في أمر ما؛ وفي آخر النهار يصدر أحكامه باللغة اللاتينية. وكان يهب المال للمعدمين، ويدفع المهور للبنات اليتامى، ويملأ أهراءه بالحب في وقت الرخاء، ويبيعه بأرخص الأثمان في وقت الشدة، وينزل عن ديون الفقراء من المشترين. وكان إلى ذلك زوجاً صالحاً، وأباً طيباً، وصديقاً كريماً.
وشاد لنفسه في عام 1468 قصراً ولأعضاء حكومته الخمسمائة قصراً آخر لم يكن معقلاً للدفاع بقدر ما كان مركزاً لشؤون الإدارة ومعقلاً للآداب والفنون. وأجاد لوتشيانو لورانا Luciano Laurana تخطيطه إجادة حملت لورندسو ده ميديتشى على أن يرسل باتشيو بنتيلى ليرسم له صوراً منه. وكان يتكون من واجهة من أربع طبقات، تعلوها أربع قباب في وسط برج ذي مزاغل على كلا الجانبين، ومن إيوان داخلي ذى بواك رشيقة. ومعظم حجراته الآن عارية، ولكن نقوشها المحفورة التي لا يمكن إزالتها، وموقدة الفحم، يكشفان ذوق ذلك العصر وترفه. وكان هذا هو وسط القصر الذي أخذ عنه كستجليونى نموذج صورة رجل البلاط وكانت الحجرات التي يسر منها فيدريجو أعظم السرور هي التي جميع فيها مكتبته، وكان يتحدث فيها مع الفنانين، والعلماء، والشعراء الذين يستمتعون بصداقته ورفده. وكان هو نفسه أكثر رجال الدولة ثقافة وتهذيباً، وكان يؤثر أرسطو على أفلاطون، ويتقن معرفة كتب الأخلاق، والسياسة، والطبيعة كل الإتقان، وكان يفضل التاريخ عن الفلسفة، وسبب ذلك بلا شك أنه يستطيع أن يعرف عن الحياة بدراسة ما سجل عن السلوك البشرى أكثر مما يعرف عنها بتتبع مشاكل النظريات(19/305)
البشرية المعقدة. وكان يحب الآداب القديمة دون أن يؤدي به هذا الحب إلى التخلي عن المسيحية؛ فقد كان يقرأ كتب آباء الكنيسة، وكتب الفلاسفة المدرسين، ويستمع إلى القداس في كل يوم. وكان في السلم والحرب على السواء نقيض سجسمند ومالاتيستا. وكان في مكتبته الشيء المثير من مؤلفات آباء الكنيسة وأدب العصور الوسطى كما كان فيها الشيء الكثير من كتب الأدب القديم. وقد استخدم ثلاثين من النساخين أربعة عشر عاماً لينسخوا له المخطوطات اليونانية واللاتينية حتى أضحت مكتبته أكمل المكتبات في إيطاليا خارج الفاتيكان. واتفق مع أمين مكتبته فسبازيانو دا بستشي Vispasiano da Bisticci على ألا يسمح بضم كتاب مطبوع إلى مجموعة كتبه، لأنه كان يعتقد أن الكتاب تحفة فنية، في تجليده، وخطه، وزخرفه، كما أنه وسيلة لنقل الأفكار. ولهذا لم يكد يوجد كتاب في قصره غير مكتوب بعناية فائقة على الرق وغير موضح بالرسوم الزخرفية، وغير مجلد بالجلد القرمزي ذي مشابك من الفضة.
وكانت زخرفة الكتب بالصور من الفنون المحبوبة في أربينو. وأكثر ما تعتز به مكتبة الفاتيكان التي ابتاعت مجموعة فيدريجو وتقدره أعظم التقدير من هذه الكتب نسختان من "كتاب أربينو المقدس"، كان الدوق قد كلف فسبازيانو وغيره من المصورين بزخرفتهما، وتجليدهما، حتى يبلغ "هذا الكتاب وهو أجل الكتب جميعاً من الجمال والقيمة أقصى ما يستطاع" (17). وأراد فيدريجو أن يزين جدران قصره فاستقدم نساجين للسجاد كما استقدم من المصورين جستوس فان غنت Justus van Ghent من فلاندرز، وبدرو برجويتي Pedro Berruguete من أسبانيا، وباولو أتشيلو Paolo Uccello من فلورنس، وبيرو دلا فرانتشيسكا من برجو سان سبيلكو Borgo San Sepolcro، وميلتسو دا فورلي(19/306)
Melozzo da Forli. وهنا رسم ميلتسو صورتين من أجمل صوره (إحداهما الآن في لندن والأخرى في برلين) تمثلان غرس "العلوم" (أي الأدب والفلسفة) في بلاط أربينو ومعهما صورة فخمة لفيدريجو نفسه. ومن أولئك المصورين، ومن فرانتشيا وبيروجينو، وجد هذا الحافز الذي أوجد مدرسة أربينو الخاصة والتي كان يتزعمها والد رفائيل. ولما أن استولى سيزاري بورجيا على كنوز القصر في عام 1502 قدرت قيمتها بمائة وخمسين ألف دوقة (1. 875. 000 دولار) (18).
وكان لفيدريجو كثيرون من الأصدقاء أما أعداؤه فكانوا قليلين، وقد منحه البابا سكستس الرابع لقب دوق (1474)، كما منحه هنري السابع ملك إنجلترا وسام فارس من مرتبة ربطة الساق؛ ولما مات (1482) خلف وراءه إمارة مزدهرة، وتقاليد من العدالة والسلام ملهمة لمن خلفه. وبذل ولده جيدوبلدو Guidobaldo كل ما في وسعه لترسم خطاه ولكن المرض حال بينه وبين مشروعاته الحربية، وتركه عليلاً معظم أيام حياته. وتزوج في عام 1488 إلزبتا جندساجا أخت زوج إزبلا مركيزة مانتوا. وكانت إلزبتا تشكو المرض في أكثر أيامها، أثر فيها ضعف جسمها فجعلها كثيرة الحياء والرقة. ولعلها قد خفف عنها سوء حالها أن عرفت أن زوجها عنين (19)، فقنعت، على حد قولها، أن تعيش معه كأنها أخت له (20)، وعلى هذا الأساس تجنبا ما ينشأ عادة من النزاع بين الزوج وزوجته. غير أنها أضحت أماً له لا أختاً، تبذل له كثيراً من الحنان والعناية، ولم تفارقه قط في خلال ما أصابه من المحن المفجعة. ومما يزيد من قيمة الرسائل التي كتبتها لإزبلا أنها تكشف فيها عن رقة في الشعور، وقوة في صلات الأرحام لا نجدهما أحياناً عندما نقدر القيم الأخلاقية لعصر النهضة، انظر مثلاً إلى هذه الفقرة المؤثرة التي جاءت في رسالة بعثت بها إلزبتا إلى إزبلا المرحة النشيطة بعد أن قضت هذه أسبوعين في زيارة لأربينو عام 1494.(19/307)
إن فراقك لم يشعرني بأني فقدت أختا عزيزة فحسب، بل أشعرني فوق ذلك بأن الحياة نفسها قد فارقتني؛ ولست أعرف الآن ما أخفف به أحزاني إلا الكتابة إليك كل ساعة لأخبرك على الورق ما ترغب شفتاي في أن تحدثك به. وإذا استطعت أن أعبر لك عما أشعر به من الحزن لفراقك، فإني أعتقد أنك ستعودين إلي رحمة بي وإشفاقاً علي. ولولا خوفي ممن أن أغضبك لتبعتك أنا نفسي. وإذ كان هذان الغرضان كلاهما متعذراً لما أكنه لعظمتك من الإجلال، فليس أمامي إلا أن أرجوك وألح عليك في أن تذكريني أحياناً، وأن تعرفي أن مكانك دائماً هو قلبي (21).
وكان من المسائل التي هي موضع النقاش في بلاط جيدوبلدو وإلزبتا. "ما هو أحسن دليل على الحب بعد المثابرة عليه والاستمساك به؟ ". وكان الجواب هو: "المشاركة في السراء والضراء" (22). وقد صدر عن الزوجين الشابين كثير من الأدلة على هذه المشاركة. من ذلك ما حدث في نوفمبر عام 1502 حيث سير سيزاري بورجيا جيشه على حين غفلة في الطريق المؤدي إلى أربينو بعد أن ادعى أنه الصديق الحميم لجيدوبلدو. وكان سبب زحفه أنه يطالب بهذه المدينة بوصفها إقطاعية للكنيسة. وجاءت سيدات أربينو إلى الدوق بماسهن ولآلئهن، وعقودهن، وأساورهن، وأقراطهن، لينفقها في حشد جيش عاجل للدفاع عن المدينة. ولكن غدر بورجيا لم يترك للدوق ما يكفي من الوقت للمقاومة المجدية؛ ذلك أن من يستطاع حشدهم من الجنود سيكونون فريسة هينة للقوات المدربة الغليظة القلوب الزاحفة على المدينة، وكان سفك الدماء والحالة هذه عملاً عديم الجدوى. وترك الدوق والدوقة سلطانهما، وثروتهما، وفرا إلى ستا دلا كاستلو ومنها إلى مانتوا حيث استقبلتهما إزبلا بالحب والأسى. وخشي بورجيا أن يحشد جيدوبلدو جيشاً له في تلك المدينة، فطلب إلى إزبلا والمركيز أن يخرجا اللاجئين من بلدهما. وأراد جيدوبلدو أن يحمي مانتوا من غضب بورجيا فغادرها هو(19/308)
وإلزبتا إلى البندقية حيث قدم لهما مجلس الشيوخ ما يحتاجانه من الحماية ومطالب الحياة غير عابئ ببورجيا. وبعد أشهر قليلة من ذلك الوقت مرض بورجيا ووالده إسكندر السادس بالملاريا الحاجة وهما في روما، ومات البابا، وشفي سيزاري ولكن موارده المالية نضبت. وثار أهل أربينو على الحامية التي وضعها في المدينة، وأخرجوها منها ورضوا بعودة جيدوبلدو وإلزبتا وأظهروا ابتهاجهم بهذه العودة (1503). ونادى الدوق بفرانتشيسكو ماريا دلا رفيري Francesco Maria della Rovere ابن أخيه ولياً لعهده، وإذ كان فرانتشيسكو هذا ابن أخت البابا يوليوس الثاني أيضاً فقد ظلت الإمارة الصغيرة آمنة مدى عشر سنين.
وأضحى بلاط أربينو في الخمس السنين التالية لهذه الحوادث (1504 - 1508) نموذج الثقافة الإيطالية ودرة تاجها. وكان جيدوبلدو مولعاً بالآداب القديمة، ولكنه كان يشجع استعمال اللغة الإيطالية في الأدب؛ وفي بلاطه مثلت لأول مرة مسلاة من أولى المسالي الإيطالية وهي مسلاة كالندرا Calandran تأليف ببيينا Bibbiena ( حوالي 1505) وأخذ المثالون والمصورون ينحتون ويرسمون المناظر اللازمة لهذا التمثيل، وجلس النظارة على الطنافس، وأطربتهم فرقة موسيقية مختفية وراء المسرح، وأنشد الأطفال مقدمة للمسرحية، وتخلل الرقص فصولها، وفي آخرها أنشد غلام يمثل إله الحب بعض الأشعار، وعزفت أغنية على الكمان الكبير دون أن تصحبها ألفاظ، وأنشدت للحب أغنية رباعية (من أربعة أشخاص). ذلك أن بلاط أربينو، وإن كان أكثر بلاط الأمراء مراعاة للأخلاق، كان أيضاً مركز الحركة التي رفعت مقام المرأة عالياً، وكان يحب أن يتحدث عن الحب أفلاطونياً كان أو غير أفلاطوني. وكانت زعيمة الحياة الثقافية في البلاط هي إلزبتا التي لم يكن لها بديل من الحب العذري ومعها إيميليا بيو Emilia Pio التي ظلت إلى آخر أيامها أرملة عفيفة حزينة بعد موت زوجها أخي جيدوبلدو. وأضاف بمبو(19/309)
الشاعر وببيينا الكاتب المسرحي إلى هذه الدائرة عنصراً أكثر مرحاً ونشاطاً من أفرادها الآخرين؛ كما أضيف إليها عنصر من عناصر الجمال القوي مغر ذائع الصيت هو برنردينو أكلتي Bernardino Accolti المعروف باسم يونيكو أرتينور "أي إرِّزيان الواحد الأحد"، والمثال كروستونورو رومونا الذي التقينا بع من قبل في ميلان.
وكان من أفراد هذه الدائرة أيضاً رجل من الأشراف هو جوليانو ده ميديتشي، ابن لورنس واتفيانو فريجوسا الذي اصبح بعد قليل دوج جنوى وأخوه فيدريجو الذي قدر له ان يكون كردنالا ولويس الكانوسي Louis of Canossa الذي صار بعد قليل القاصد الرسولي البابوي في فرنسا. وانضم غير هؤلاء إلى هذه المجموعة من حين إلى حين كبار رجال الدين، والقواد العسكريون، وكبار الموظفين، والشعراء، والعلماء، والفنانون، والفلاسفة، والزائرون الممتازون. وكانت هذه الجماعة المختلفة الأصناف تجتمع مساء في ندوة الدوقة، وتثرثر، وترقص، وتغني، وتلعب بعض الألعاب، وتتحدث. وفيها وصل فن الحديث - الحديث المهذب الحضري، الذي يبحث في الشئون ذات البال بحثا جديا أو فكاهيا - وصل هذا الحديث إلى أرقى ما وصل إليه في عصر النهضة.
وهذه الجماعة المهذبة هي التي وصفها كستجليونى ورفعها إلى مرتبة المثل العليا في كتاب من أشهر كتب النهضة وهو كتاب رجل البلاط Cortigiano ويعنى به الرجل المهذب. وكان كستجليونى نفسه من هذا الصنف: مان ابناً وزوجاً صالحاً، وكان ذا شرف ورقة حتى في مجتمع روما الفاسد، وكان دبلوماسياً يجله الصديق والعدو، وصديقا وفيا لا تنفرج شفتاه عن كلمة نابية لإنسان ما، وقصارى القول انه كان رجلا كاملا بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان، وإنساناً يراعى إحساس الناس جميعاً. وقد مثل رفائيل سجاياه أعجب تمثيل وأصدقه(19/310)
في الصورة الفخمة الرائعة المعلقة في متحف اللوفر: وهي ذات وجه قلق مفكر، وشعر أسود، وعينين هادئتين رقيقتين لم يؤت من الدهاء ما يستطيع أن يكون به دبلوماسياً ناجحاً لولا سحر استقامته وهو بلا جدال رجل فطر على حب الجمال، في المرأة والفن، وفي الأخلاق والأسلوب، مع إحساس الشاعر المرهف، وإدراك الفيلسوف.
وهو ابن الكونت كرستوفورو كستجليوني الذي كانت له ضيعة في إقليم مانتوا والذي تزوج فتاة من أسرة جندساجا تمت بصلة القرابة إلى المركيز فرانتشيسكو. وأرسل وهو في من عمره (1496) إلى بلاط لدوفيكو في ميلان، وسر كل من فيه بطيبة قلبه، وحسن أدبه، وبراعته المتعددة النواحي في الألعاب الرياضية، والآداب، والموسيقى، والفن. ولما توفي والده ألحت عليه أمه أن يتزوج وأن يحرص على ألا تبيد سلالته؛ ولكن بلدساري Baldassare وإن كان في وسعه أن يكتب أحسن الكتابة في الحب، كان أفلاطونياً من حيث الزواج، واضطر أمه أن تنتظر سبعة عشر عاماً قبل أن ينصاع لنصيحتها. وقد انضم إلى جيش جيدوبلدو، ولم يجن من انضمامه إليه إلا كسر عقبه، وقضى فترة النقاهة في قصر الدوق بأربينو، وبقي فيه أحد عشر عاماً، مغرماً بهواء الجبال، والرفقة المهذبة، والحديث الحلو الممتع، وإلزبتا. ولم تكن إلزبتا جميلة، وكانت تكبره بست سنين، وتكاد تماثله في ضخامة الجسم، ولكن روحها اللطيفة أسرت قلبه، فكان يحتفظ بصورة لها خلف مرآة في حجرته، ويؤلف في السر أغاني في مديحها (23)، وفض جيدوبلدو هذا المشكل بأن بعثه في مهمة إلى إنجلترا (1506)؛ ولكن بلدساري انتحل أول عذر للعودة مسرعاً. وأدرك الدوق أن لا ضرر من بقائه، ورضي في سماحة وكرم أن يؤلف منهما ومن إلزبتا أسرة من(19/311)
ثلاثة، وبقي كستجليوني معهما حتى توفي الدوق (1508)، وظل مخلصاً إخلاصاً عفيفاً لأرملته، وبقي في أربينو حتى خلع ليو العاشر ابن أخي الدوق عن عرش الدوقية وأجلس مكانه ابن أخ له هو (1517).
ثم عاد إلى أرضه القليلة التي ورثها بالقرب من مانتوا وتزوج إبوليتا توريلي Ippolita Torelli دون حب سابق بينهما، وكانت أصغر منه بثلاثة وعشرين عاماً. ثم بدأ يشغف بها حباً، وأحبها أولا كما تحب الأطفال، ثم الأمهات، وأحس أنه لم يعرف المرأة، ولا عرف نفسه حق المعرفة من قبل، ونفحته هذه التجربة الجديدة بسعادة قوية لم ير لها نظيراً من قبل. لكن إزبلا أقنعته بأن يكون سفيراً لمانتوا في روما، فذهب إليها على كره، وخلف وراءه زوجته في عناية أمه. ولم يكد يعبر جبال الأبنين التي تفصل بين البلدين حتى تلقى الرسالة التالية:
لقد ولدت بنتاً صغيرة، ولست أظن أن ذلك سيسوؤك؛ ولكنني أسوأ حالاً من ذي قبل، فقد توالت علي ثلاث من نوبات الحمى؛ وأنا الآن أحسن مما كنت، وأرجو ألا تعاودني. ولن أكتب إليك أكثر من هذا، لأني لم أستعد صحتي تماماً، وأرسل إليك تحياتي الخالصة من كل قلبي-
من زوجتك التي أنهكها الألم قليلاً - من أبولينا المخلصة لك (24)
وماتت أبولينا بعد فترة قصيرة من كتابة هذه الرسالة، ومات بموتها حب كستجليوني للحياة. نعم إنه ظل يخدم إزبلا والمركيز فيدريجو في روما، ولكنه لم يجد في بلاط ليو العاشر المهذب السلام الذي كان يستمتع به في بيته في مانتوا، ولم يجد فوق ذلك الاستقامة، والحنان، والظرف التي كادت تجعل من دائرة أربينو مثله العليا مجسمة.
وقد بدأ في أربينو (1508) كتابه الذي خلد اسمه على الزمان وأتممه في روما. وكان الغرض منه تحليل الظروف التي تنتج الرجل المهذب(19/312)
الكامل السلوك الذي يمتاز به. وقد تمثل كستجليونى تلك الرفقة المهذبة في أربينو تبحث هذا الموضوع؛ ولعله نقل بعض الأحاديث التي سمعها فيها بعد أن هذبها وصقلها؛ وقد ذكر أسماء الرجال والنساء الذين كانوا يتحدثون هناك، وخلع عليهم من العواطف ما يتفق مع أخلاقهم. فنراه مثلاً ينطق بمبو بنشيد في الحب العذري ثم يبعث بالمخطوط إلى بمبو ليسأله هل يعترض بعد أن أصبح الأمين المعظم للبابا على استخدام اسمه على ذلك النحو؛ وأجاب بمبو السمح بأنه لا اعتراض له على هذا العمل. على أن المؤلف الحي رأى مع هذا أن يحتفظ بالمخطوط فلا ينشره حتى عام 1528، ولم يعطه إلى العالم قبل موته بعام واحد إلا لأن بعض أصدقاؤه اضطروه إلى هذا بنشرهم نسخاً منه في روما. ولم تمض على نشره عشر سنين حتى ترجم إلى اللغة الفرنسية، وفي عام 1561 ترجمه سير تومس هوبى Sir Thomas Hoby إلى اللغة الإنكليزية ترجمة قوية منمقة العبارة جعلته من أشهر كتب ذلك العصر يقرؤه كل متعلم في عصر الملكة إلزبث.
وكان كستجليونى يميل إلى الاعتقاد، وإن لم يكن واثقاً كل الثقة من اعتقاده هذا، أن أول ما يشترط في الرجل المهذب الكامل أن يكون كريم المحتد، ذلك بأن من أصعب الأمور أن يكسب الإنسان كرم الأخلاق ورشاقة الجسم وحسن العقل إلا إذا نشأ بين أشخاص يتصفون بتلك الصفات؛ وقد خيل إليه أن الأرستقراطية مهد الأخلاق الطيبة، ومستقرها، والقدرة على تذوقها، وهي مرباها وأداة انتقالها. كذلك يجب أن يجيد السميذع - الرجل الكامل المهذب - من أوائل حياته ركوب الخيل، وأن يتعلم فنون الحرب، ويجب أن لا يبالغ في التحمس لفنون السلم والآداب إلى حد يضعف في المواطنين الصفات الحربية التي إذا إنعدمت في أمة كان مصيرها الاستعباد. على أن كثرة الحروب تحيل الإنسان وحشاً ضارياً؛ ذلك أنه يحتاج، فضلاً عن الصلابة الناشئة(19/313)
مما في حياة الجندي من الصعاب، إلى تأثير النساء المهذب المرقق للإحساس، ((وليس ثمة بلاط، مهما بلغ من العظمة يمكن أن يكون فيه روعة أو بهجة أو مرح إذا خلا من النساء؛ وليس في وسع رجل الحاشية أن يكون رشيقاً، كيساً لطيفاً، شجاعاً، أو أن يقوم في وقت من الأوقات بأي عمل من أعمال الشهامة والفروسية إلا إذا استثاره حديث النساء ... وحبهن)) (25). فإذا شاءت المرأة أن يكون لها هذا النفوذ المهذب والمرقق وجب أن تحتفظ بكامل أنوثتها، فتبتعد عن تقليد الرجال في هيئتها، أو آدابها، أو حديثها، أو ملبسها. ويجب أن تعنى بجمال جسمها، وحنان حديثها، ورقة روحها؛ ولهذا فأن من واجبها أن تتعلم الموسيقى، والرقص، والآداب، وفن التسلية؛ فتستطيع بذلك أن تحصل على جمال الروح الداخلي وهو الغرض المنبه للحب وباعثه. ((وليس الجسم الذي يتلألأ فيه الجمال المعين الذي ينبع منه ... لأن الجمال غير مادي)) (26) ((وليس الحي إلا رغبة في الاستمتاع بالجمال)) (27) أما ((من يظن أنه يستمتع بالجمال بامتلاك الجسم فهو مخدوع أشد الانخداع)) (28). ويختتم الكتاب بتحويل الفروسية العارمة السائدة في العصور الوسطى إلى ذلك الحب العذري الشاحب وهو آخر إخفاق تغفره المرأة للرجل.
ولقد انهار المثل الأعلى الذي تصوره كستجليونى للعالم ذي الثقافة المهذبة الرقيقة، والاحترام المتبادل، انهار هذا المثل عندما اجتيحت روما وهبت نهباً وحشياً في عام 1527. وفي ذلك تقول فقرة في أواخر هذا الكتاب: ((كثيراً ما كان ازدياد الثروة سبباً في الدمار المروع، كما حدث في إيطاليا المسكينة التي كانت ولا تزال غنيمة للأمم الأجنبية بسبب ما فيها من حكم فاسد وثراء عظيم)) (29). وكان في وسعه أن يلوم نفسه إلى حد ما على هذا الدمار. ذلك أن البابا كلمنت السابع اختاره في عام 1524 مندوباً بابوياً إلى مدريد ليصلح ما بين شارل الخامس والبابوية. وكان سلوك كلمنت(19/314)
نفسه مما أثار العقبات في طريق هذه البعثة فأخفقت؛ ولما ترامت الأنباء إلى أسبانيا بأن جنود الإمبراطور غزت روما، وألقت البابا في السجن، ودمرت كل ما ادخره يوليوس، وليو، ومئات الفنانين من ثراء ونعيم تقطعت أسباب الحياة ببلدسا رى كستجليونى وفاضت روح أظرف سميذع في عصر النهضة في كدينة طليطلة عام 1529 غير متجاوز الواحدة والخمسين من العمر.
ونقلت جثته إلى إيطاليا وأقامت له أمه ((التي عاشت بعد ولدها على الرغم منها)) قبراً تخليداً لذكراه في كنيسة سانتا ماريا دلى جرادسى خارج مانتوا. ووضع جوليو رومانو تصميم القبر وألف له بمبو نقشاً ظريفاً، ولكن أجمل ما حفر على الحجارة من ألفاظ هو الأشعار التي ألفها كستجليونى نفسه لتحفر على قبر زوجته التي جىء برفاتها عند مماته لتدفن إلى جانبه تنفيذاً لوصيته.
((أنا لا أعيش الآن أيتها الزوجة العزيزة لأن الأقدار قد انتزعت حياتي من جسمك؛ ولكني سأعيش حين أوضع معك في قبر واحد، وتختلط عظامي بعظامك)) (30).(19/315)
الباب الثالث عشر
مملكة نابلي
1378 - 1534
الفصل الأوَل
ألفنسو الأفحم
كانت جميع أرض شبه الجزيرة الإيطالية الواقعة في الجنوب الشرق من ولايات التخوم والولايات البابوية تكون مملكة نابلي. وكان جزؤها الواقع ناحية البحر الأدرياوي يشمل ثغور باسكارا، وباري، وبرنديزي، وأترانتو، ويشمل نحو الداخل مدينة فيجا التي كانت في وقت ما العاصمة النشيطة لفريدريك الثاني ذلك الرجل العجيب، وفي الطرف الداخلي لعقب إيطاليا يقوم ثغر تارنتو القديم، وفي إبهام إيطاليا تقوم رجيو أخرى، وعلى الساحل الجنوبي الغربي يمتد مشهد فخم في إثر مشهد يتدرج في العظمة إلى ساليرنو، وأملفه وسرينتو، وكابرى، ويصل إلى ذروته في نابلي النشيطة الكثيرة الحركة، والجلبة، والثرثرة، والعواطف الجائشة، والبهجة.
وكانت وحدها المدينة العظيمة في المملكة. وكان الإقليم في خارجها وخارج الثغور إقليماً زراعياً، إقطاعياً، منطبعاً بطابع العصور الوسطى: فكانت التربة يفلحها أرقاق الأرض أو العبيد، أو فلاحون ((أحرار)) في أن يموتوا جوعاً أو يعملوا ليحصلوا على الكفاف من العيش تحت سيطرة بارونات يحكمون ضياعهم حكماً قاسياً مجرداً من الرحمة متحدين سلطان العرش. وقلما كان(19/316)
الملك يحصل على إيراد له من هذه الأراضي، ولكن كان عليه أن يدبر المال اللازم لحكومته وبلاطه من إيراد أملاكه الإقطاعية الخاصة، أو باستغلال سيطرته الملكية على التجارة إلى أقصى حد مستطاع.
وكان بيت أنجو قد أخذ يضمحل اضمحلالا سريعاً على أثر فرار الملكة جونا Joanna الأولى المرة بعد المرة، ذلك الفرار الذي انتهى عندما أمر شارل صاحب دورزو بخنقها بحبل من حرير (1382). ولم تكن جونا الثانية حين جلست على العرش (1414) أقل طيشاً من سميتها الأولى وإن كانت وقتئذ في سن الأربعين. وتزوجت ثلاث مرات، ونفت من البلاد زوجها الثاني، وعملت في اغتيال الثالث. ولما واجهتها الثورة استغاثت بألفنسو ملك أرغونة وصقلية، وتبنته وجعلته ولياً للعهد (1420)، وارتابت بحق في أنه يأتمر بها ليخلعها ويجلس على العرش مكانها، فتبرأت منه (1423)، وأوصت بدولتها بعد وفاتها إلى رينيه صاحبة أنجو (1435). وأعقبت ذلك حرب طويلة في سبيل وراثة العرش حاول فيها ألفنسو، وقد جرب الأمور في نابلي، أن يستولي على العرش. وبينما كان يحاصر جيتا إذ وقع أسيراً في يد الجنوبيين وجيء به أمام فليوماريا فيسكونتي في ميلان. وأفلح ألفنسو، بمنطق الرائع الذي لم يتعلمه في المدارس بلا ريب، أن يقنع الدوق بأن عودة الحكم الفرنسي إلى نابلي، مضافة إلى القوات الفرنسية لبتي تضغط وقتئذ على ميلان من الشمال، وجنوى من الغرب، ستوقع نصف إيطاليا بين شقي الرحى، وأن الفسكونتي سيكوم أول من يحس بوطأتها. واقتنع فلبو بمنطقه وأطلق سراحه وتمنى له عوداً سعيداً إلى نابلي. وانتصر ألفنسو بعد حروب ودسائس كثيرة، وانتهى بذلك حكم بيت أنجو في نابلي (1268 - 1442) وبدأ حكم بيت أرغونة (1442 - 1503). واتخذ هذا الاغتصاب سنداً شرعياً لغزو الفرنسيين إيطاليا في عام 1494، وهو الغزو الذي كان المأساة الأولى في شبه الجزيرة.(19/317)
وسر ألفنسو بعرشه الملكي الجديد سروراً حماه على أن يترك حكم أرغونة وصقلية إلى أخيه جون الثاني. ولم يكن جون هذا بالحاكم السهل، ففد اشتط في فرض الضرائب، وترك الماليين يرهقون الشعب ويبتزون أمواله، ثم يبتز هو أموالهم، واغتصب المال من اليهود بأن هددهم بإرغامهم على التعميد. لكن عبء الضرائب وقع معظمه على طبقة التجار؛ أما ألفنسو فقد خفف عبأها عن الفقراء وساعد المعوزين. وظنه أهل نابلي ملكاً صالحاً، فقد كان يسير بينهم غير خائف منهم لا يحمل سلاحاً ولا يحيط به حرس. وإذا لم يكن له أبناء من زوجته فقد كان له عدد منهم من نساء بلاطه؛ وحدث أن قتلت زوجته إحدى أولئك النسوة المنافسات لها، فما كان من الملك إلا أن امتنع عن السماح لها بالمثول بين يديه بعد هذه الفعلة. وكان حريصاً على الذهاب إلى الكنيسة، يستمع إلى المواعظ استماع المؤمنين المخلصين.
غير أنه مع ذلك تأثر بآراء الكتاب الإنسانيين، وساعد طلاب الأدب القديم بسخاء جعلهم يطلقون عليه اسم الأفخم Il Magnanimo؛ وكان يرحب بفلا Valla، وفيليلو، ومانتي، وغيرهم من الإنسانيين على مائدته ويسخو عليهم بماله. وقد نفح بجيو بخمسمائة كرون (12,500؟ دولار) أجراً له على ترجمة الفيروبيديا تأليف أكسانوفون إلى اللغة اللاتينية، كما وظف لبارثولميو فازيو خمسمائة دوقة كل عام نظير تأليفه كتاب تاريخ ألفنسو، ونفحه بألف وخمسمائة دوقة أخرى عندما فرغ منه، ووزع في عام واحد هو عام 1458 عشرين ألف دوقة (500. 00 دولار) على رجال الأدب. وكان يحمل معه أينما سار كتاباً من كتب الأدب القديم؛ وكان وهو في بيته أو في حروبه بأمر بأن يقرأ له شيء من هذا الأدب وهو على مائدة الطعام، وكان يأذن للطلاب الذين يريدون الاستماع إلى هذه القراءات بحضور تلك المآدب. ولما أن كشفت(19/318)
رفات ليفى المزعومة في يدوا أرسل بكاديلي Beccadelli إلى البندقية ليبتاع له أحد عظامه، واستقبله بالرهبة والخشوع الخليقين بأن يستقبل بهما المواطن الصالح من أهل نابلي جريان دم القديس جانواريوس Jaunarius. ولما أن أخذ مانتي يلقي أمامه خطباً باللغة اللاتينية أفتتن ألفنسو بأسلوب العالم الفلورنسي وعباراته الاصطلاحية افتتان جعله يسمح ببقاء ذبابة على أنفه الملكي حتى فرغ الخطيب من خطبته (1). وترك للكتاب الإنسانيين في بلده مطلق الحرية في أن يقولوا ما يشاءون وإن بلغت أقوالهم حد الإلحاد والأدب المكشوف، وحماهم من محكمة التفتيش.
وكان أعجي العلماء في بلاط ألفنسو هو لورندسو فلا، وقد ولد لورتدسو هذا في روما (1407)، ودرس الآداب القديمة مع ليوناردو بروني، وأولع بالغة اللاتينية ولعاً وصل إلى درجة الغضب، حتى كان من بين حملاته حملة يريد بها القضاء على اللغة الإيطالية بوصفها لغة أدبية وإحياء اللغة اللاتينية الفصحى حياة جديدة. وبينا كان يعلم اللغة اللاتينية والبيان في بافيا هجا بارتولوس المشترع الذائع الصيت هجواً شديداً لاذعاً سخر فيه من لغته اللاتينية المتكلفة، وقال إن أحداً لا يستطيع فهم القانون الروماني إلا إذا كان متمكناً من اللغة اللاتينية ومن التاريخ الروماني. ودافع طلبة القانون في الجامعة عن بارتولوس، وانحاز طلبة الآداب إلى فلا؛ وتطور الجدل فأصبح شغباً، وطلب إلى فلا أن يغادر المدينة. وكتب فيما بعد مذكرات عن العهد الجديد، استخدم فيها مقدرته اللغوية وعنفه في الهجوم على ترجمة جيروم اللاتينية للكتاب المقدس، وكشف عن أغلاط كثيرة في هذا المجهود الضخم الجليل. وأثنى إرزمس فيما بعد على نقد فلا هذا ولخصه واستعان به. وبسط فلا في رسالة أخرى سماها اللغة اللاتينية الرشيقة البليغة النقية، وسخر من لاتينية العصور الوسطى، وعرض في مرح(19/319)
بلاتينية كثيرين من الكتاب الإنسانيين. وكان يفضل كونتليان على شيشرون في عصر يعبد شيشرون. وقد تخلى عنه أصدقاؤه فلم يكد يكون له في العالم صديق.
وأراد أن يؤكد عزلته عن الناس فنشر في عام 1413 حواراً في اللذة والخير والحق شرح فيه خروج الكتاب الإنسانيين على التبعة الأخلاقية شرحاً أوفى على الغاية في التهور والقوة. واتخذ للحوار ثلاثة أشخاص كانوا لا يزالون وقتئذ أحياء وهم ليوناردو بروني الذي جعله يدافع عن الرواقية، وأنطونيو بيكاديلي ليزود عن الأبيقورية، ونقولو ده نقولى ليوفق بين المسيحية والفلسفة. وقد جعل بيكادلي يتحدث بقوة استنتج منها القراء بحق أن آراءه هي آراء فلا نفسه. وكان مما ورد من أقواله: من واجبنا أن نفترض أن الطبيعة البشرية صالحة لأنها من خلق الله، وذلك أن الطبيعة والله في الحقيقة شيء واحد، ومن أجل هذا فأن غرائزنا صالحة، ورغباتنا الفطرية في اللذة والسعادة تكفي في حد ذاتها لأن تبرز العمل في سبيلها بوصفهما الهدف الصحيح للحياة الإنسانية. ويجب أن تعد كل اللذائذ سواء كانت حسية أو عقلية لذائذ مشروعة حتى نتبين مضارها.
وما من شك أن فينا عزيزة قوية للتزاوج، وليس فينا بلا ريب غريزة لأن نستمسك بالعفة طول حياتنا، ولهذا كان الاستعفاف غير طبيعي، بل هو عذاب لا يطاق، ويجب ألا يدعى إليه الناس على أنه فضيلة. واستنتج بيكادلي من هذا أو جعله فلا يستنتج أن بقاء الفتاة عذراء خطأ وخسارة وأن العاهر أعظم قيمة للبشرية من الراهبة (3).
واستمسك فلا في حياته بهذه الفلسفة، بقدر ما سمحت له بذلك موارده، فقد كان إنسان مشوش العواطف، حاد الطبع، عنيف الألفاظ. وكان ينتقل من مدينة إلى مدينة يبحث عن الأعمال الأدبية؛ ولما طلب عملاً في الأمانة البابوية، رفض طلبه؛ ولما استخدمه ألفنسو (1435)،(19/320)
كان ملك أرغونة وصقلية يحارب للاستيلاء على عرش نابلي، وكان البابا بوجنيوس الرابع (1431 - 1447) من أعدائه يطالب بنابلي ويراها إقطاعية من إقطاعياته خارجة عليه. وكان عالم متهور مثل فيلا، ملم بالتاريخ إلمامه بالجدل والمناظرة، لا يملك ما يخشى عليه من الضياع، كان عالم مثله آلة طيعة يمكن استخدامها ضد البابا. ولهذا كتب فلا (1440)، ومن ورائه ألفنسو يحميه، أشهر رسائله جميعاً وعنوانها في هبة قسطنطين الكاذبة التي يخطئ الناس في تصريفها. وقد هاجم في هذه الرسالة عهد قسطنطين الذي خلع فيه أول إمبراطور مسيحي على البابا سلفستر الأول (314 - 335) السلطة الزمنية الكاملة على غربي أوربا بأجمعه، وقال إن هذه الوثيقةمزورة سخيفة. وكان نيقولاس القوزي Nicholas of Cusa قد أوضح منذ زمن قليل (1433) بطلان هذه الهبة في رسالته الاتفاقية الكاثوليكية التي كتبها لمجلس بازل. وكان هذا المجلس أيضاً على خلاف مع يوجنيوس الرابع؛ ولكن انتقاد فلا لهذه الوثيقة من الناحيتين التاريخية واللغوية قضى عليها قضاء وضع حداً نهائياً لهذه المسألة (وإن كان فلا نفسه قد وقع في كثير من الأخطاء).
ولم يكتفي فلا وألفنسو بالحجج العلمية بل لجأا أيضاً إلى الحرب السافرة، ويقول فلا في هذا: ((أنا لا أهاجم الموتى فحسب، بل أهاجم أيضاً الأحياء))، وأخذ يقذف بوجينوس المؤدب بالقياس له بأشنع السباب: ((وحتى لو فرضنا جدلا أن هذه الوثيقة صحيحة، فإنها تكون مع ذلك عديمة القيمة، لأن قسطنطين لم يكن له سلطة إصدارها، ومهما يكن من أمرها فإن جرائم البابوية قد جعلتها لاغية)) (3). ثم اختتم فلا أقواله (متجاهلاً ما وهبه يبيين وشارلمان للبابوية من أملاك) بأنه إذا تبين أن هذه الهبة مزورة، فإن السلطة الزمنية للبابوات قد ظلت(19/321)
ألف عام سلطة مغتصبة. وقد نشأ من هذه السلطة الزمنية فساد الكنيسة، وحروب إيطاليا، ((وسيطرة القساوسة المتغطرسة، الهمجية، الاستبدادية)). وأهاب فلا بأهل روما أن يثوروا ويقضوا على الحكومة البابوية القائمة في تلك المدينة، ودعا أمراء أوربا إلى العمل على حرمان البابوات من جميع ما لهم من أملاك (4). لقد كانت الدعوة أشبه بدعوة لوثر، ولكن ألفنسو كان هو الموحي بها، وهكذا أصبحت النزعة الإنسانية الأدبية سلاحاً من أسلحة الحرب.
ورد بوجينوس على هذه الحرب باستخدام محكمة التفتيش، فاستدعى فلا أمام ممثليها في نابلي، وأقر أمامهم في سخرية بأيمانه الكامل بالدين ثم أبى أن يزيد على ذلك شيئاً. وأمر ألفنسو ممثلي هذه المحكمة بأن يدعوه وشأنه، ولم يجرءوا هم على عصيان أمره. وواصل فلا هجومه على الكنيسة فأظهر أن المؤلفات التي تعزى إلى ديونيسيوس الأريوبجيتى غير حقيقية، وأن رسالة أبقاروس إلى المسيح التي نشرها يوزبيوس مزورة، وأن الرسل لم يكن لهم شأن ما في تكوين العقائد التي تعزى إليهم. على أنه لما ظن أن ألفنسو كان يعمل لمصالحة البابوية، قرر أن من الخير له أن يصالحها هو أيضاً، فوجه اعتذاراً إلى يوجينيوس، أعلن فيه رجوعه عن إلحاده، وأكد إيمانه بدينه، وطلب أن تغفر له ذنوبه. ولم يرد عليه البابا، غير أنه لما جلس نقولاس الخامس على عرش البابوية، وأرسل في طلب العلماء، عين فلا أميناً للهيئة الدينية البابوية (1448)، وعهد إليه أعمال الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللاتينية، واختتم حياته قساً في كنيسة سان جون لاتران ودفن في أرض طاهرة.
وقد أبان مناظره المسالم أنطونيو بيكادلي عن أخلاق ذلك العصر بتأليف كتاب بذيء وترحيب كبراء إيطاليا بهذا الكتاب. وقد ولد أنطونيو في بالرم (1394) ولهذا لقب بالبانرمينا il Panormi'a، وتلقى تعليمه العالي في سينا، ولعله تلقى فها أيضاً أخلاقه المريبة، وألف حوالي عام 1425 سلسلة من المرثي والنكات الشعرية باللغة اللاتينية عنوانها(19/322)
هرما فرودبني، تضارع كتابات ماريتال في لاتينيتها وأدبها المكشوف. ورضى كوزيمو ده ميديتشي أن تهدى إليه، وأكبر الظن أنه ارتضى هذا الإهداء دون أن يقرأ الكتاب، وأثنى جوارينو دا فيرونا رغم تمسكه بأهداب الفضيلة، على بلاغة عباراته، وقرظه نحو مائة كتاب آخر، ووضع الإمبراطور سجسمند في آخر الأمر تاج الشعر على مفرق بيكادلي (1433)، لكن القساوسة شنعوا على الكتاب، وأصدر يوجنيوس قراراً بحرمان كل من يقرؤه، وحرقه الرهبان علناً في فيرارا وبولونيا، وميلان. غير أن بيكادلي ظل مع ذلك يحاضر في جامعات بولونيا وبافيا ويتلقى أعظم درجات الثناء، وحصل على ثمانمائة اسكولي من الفيسكونتي، وطلب إليه أن يكون مؤرخ البلاط في نابلي. وألف كتابه في تاريخ الأقوال والأعمال الخالدة للملك ألفنسو بلغة لاتينية بليغة جعلت إينياس سيلفيوس يكواوميني-الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني، وليس هو ممن لا يجيدون اللغة اللاتينية، - يعلن أنه نموذج للأسلوب اللاتيني الجيد. وعاش بيكادلي حتى بلغ السابعة والسبعين من العمر ومات مكرماً عظيم الثراء.(19/323)
الفصل الثاني
فيرانتي
ترك ألفنسو مملكته إلى فرديناند الذي يقال إنه ولده (حكم بين 1448و 94)، وكان فيرانتي (كما يسميه شعبه مشكوك في نسبه. ذلك أنه كان لوالدته مرجريت الهيجارية Margaret of Hijar عشاق آخرون غير الملك، ويؤكد ينتانو أمين فيرانتي أن أباه كان يهودياً اعتنق الدين المسيحي، وكان فلا مربيه. ولم يكن فيرانتي معروفاً بالدعارة الجنسية، ولكنه كان يتصف بمعظم الرذائل التي تنشأ من الخلق الحاد الأهوج الذي لم يروضه قانون أخلاقي صارم، وكان يستثيره فيما يبدو عداء للناس لا مبرر له. وقرر البابا كلكستس Calixtus الثلث شرعية مولده. ولكنه أبى أن يعترف به ملكاً، وأعلن انقراض أسرة أرغونة في نابلي، وطالب بهذه المملكة إقطاعية للكنيسة. وبذل رينه Rene صاحب أنجو محاولة أخرى لاستعادة العرش الذي أوصى به إليه جونا الثاني. وبينما هو ينزل قواته على ساحل نابلي إذ ثار البارونات الإقطاعيون على بيت أرغونة وتحالفوا مع أعداء الملك الأجانب. وواجه فيرانتي هذا التحدي من الجانبين ببسالة يزيدها الغضب قوة على قوتها، وغلب أعداءه، وانتقم لنفسه أقسى انتقام وأشده بطشاً؛ فغرر بأعدائه واحداً بعد واحد مدعياً أنه يريد مصالحتهم، ودعاهم إلى المآدب الفخمة، وقتل بعضهم بعد تناول الحلوى، وزج البعض الآخر في السجن، وترك الكثيرين منهم يموتون جوعاً في غيابه السجون، واحتفظ ببعضهم في الأقفاص ليتسلى بمنظرهم متى شاء، حتى إذا ماتوا حنطت أجسامهم وألبست حللهم المفضلة، واحتفظ بها في متحفه (5). على أن هذه القصص قد(19/324)
تكون من قبيل "الفظائع" التي تذاع في أو قلت الحرب والتي يخترعها المؤرخون من أبناء المعسكر المعادي لمن يعزونها إليهم. فقد كان هذا الملك هو الذي عامل ليوناردو ده ميديتشي في عام 1479 معاملة عادلة لا غبار عليها. وكادت الثورة أن تطيح به في عام 1485، ولكنه استرد مكانه، وحكم بلاده حكماً طويلا دام ستة وثلاثين عاماً، ومات وسط مظاهر السرور العام. أما بقية قصة نابلي فموضعها في الجزء الذي سنتحدث فيه عن انهيار إيطاليا.
ولم يواصل فيرانتي الخطة التي جرى عليها ألفنسو في مناصرة العلماء، ولكنه عين رئيساً لوزرائه رجلا كان شاعراً، وفيلسوفاً، ودبلوماسياً ماهراً كل ذلك في وقت واحد، ذلك هو جيوفني بنتانوس Giovanni Pontanus. وتدرج جيوفني بمجمع نابلي العلمي، الذي أوجده بيكادلي من قبل، في معارج الرقي. وكان أعضاؤه من رجال الأدب يجتمعون في فترات معينة لتبادل الآراء ومطارحة الأشعار، وقد اتخذوا لهم أسماء لاتينية (فتسمى بنتانو باسم جفيانوس بينتانوس)، وكانوا يحبون أن يعتقدوا أنهم يواصلون بعد فترة انقطاع طويلة قاسية ثقافة روما الإمبراطورية العظيمة. وكانت طائفة منهم تكتب لغة لاتينية خليقة بأن يكتبها أدباء العصر الفضي في روما؛ وكتب بنتانوس رسائل في الأخلاق بالغة اللاتينية، امتدح فيها الفضائل التي يقال إن فيرانتي كان يتجاهلها، كما كتب رسالة بليغة في المبادئ يوصي فيها الحكام بالصفات المحببة التي ازدراها مكفيلي في كتاب الأمير بعد عشرين عام من ذلك الوقت، وأهدى جيوفني هذه الرسالة المثالية إلى تلميذه ألفنسو الثاني (1494 - 1495) ابن فيرانتي وولي عهده، وكان ألفنسو هذا يسير على كل المبادئ التي دعا إليها مكيفلي. وكان بنتانو يعلَّم بالشعر وبالنثر معاً، ويشرح في أشعار لاتينية سداسية الأوتاد قواعد علم الفلك الغامضة والطريقة الصحيحة لزراعة(19/325)
أشجار البرتقال، وامتدح في طائفة من القصائد الممتعة كل نوع من أنواع الحب الطيب السوي: اشتياق الشباب للسلم، وحنان العروسين وصلتهما العاطفية، والإشباع المتبادل بين الزوجين، ومباهج الحب الأبوي وأحزانه، واندماج الزوجين في كائن واحد على مر السنين. ووصف في شعر، يبدو أنه خارج من القلب كشعر فرجيل ويدا على إتقان كبير عجيب للألفاظ اللاتينية، حياة أهل نابلي المرحة الخالية من العمل: وصف العمال وهم مستلقون على الكلأ، والمولعين بالرياضة يمارسون ألعابهم، والمتنزهون في عرباتهم، والبنات المغريات يرقصون رقصة الطرنطيلة على دقات الرق، والفتيان والفتيات يتغازلون وهم سائرون على شاطئ الخليج، والعشاق يتواعدون ويتلاقون، والأشراف يستحمون في بايا Baiae كأن خمسة عشر قرناً لم تمض على نشوات أوفد وقنوطه. ولو أن بينتانو كتب الإيطالية بنفس الأسلوب السلس الظريف الذي كتب به الشعر اللاتيني لوضعناه في مرتبة بترارك وبوليتيان اللذين كانا يجيدان اللغتين، واللذين أوتيا من الحصافة ما جعلهما يسايران الومن الحاضر كما يجولان في طرائق الماضي.
وكان أبرز الأعضاء في المجمع العلمي بعد بنتانو هو باقوبو سنادسارو Jacopo Sannazaro. وكان في مقدور ياقوبو هذا أن يكتب، كما يكتب بمبو، لغة إيطالية بأنقى اللهجات التسكانية- التي تختلف أشد الاختلاف على لغة الكلام في نابلي. وكان في مقدوره، كما كان في مقدور بوليتيان وبنتانو، أن يصوغ مراثي ونكات شعرية لا يستحي منها تيبلوس ومارتيال لو أنها عزيت إليهما. وكتب مرة مقطوعة شعرية يثني فيها على البندقية فبعثت إليه بستمائة دوقة (6). ولما خرج ألفنسو الثاني ليحارب البابا اسكندر السادس، اصطحب معه سنادسارو ليقذف روما بسهام شعره؛ ولما أن اتخذ البابا الشهواني، الذي كانت أسرته- أسرة بورجيا- تتخذ شعاراً(19/326)
لها صورة ثور أسباني، لما أن اتخذ هذا البابا جوليا فارنيزي عشيقة له رماه سنادسارو ببيتين جعلا جنود ألفنسو يندمون بلا ريب على جهلهما باللغة اللاتينية:
من ذا الذي يرتاب في أن أوربا جلست يوماً على ثور من صور.
فها هو ذا ثور أسباني يحمل جوليا.
ولما نزل سيزاري بورجيا إلى الميدان ليحارب نابلي صوب إليه هذا السهم:
سيسمون بورجيا سيزاري أو لا يسمونه شيئاً على الإطلاق.
ولكن لما لا يجمع بين الاثنين، فهو كلاهما معاً.
وأخذت هذه الطعنات تنتقل من الأفواه إلى الآذان في إيطاليا، وكان لها شأن في تكوين القصص التي كانت تروى عن آل بورجيا.
وألف سنادسارو في فترة من فترات مزاجه الهادئ (1526) ملحمة لاتينية عنوانها ولادة العذراء. وكانت هذه القصيدة عملاً فذاً مدهشاً، استخدم الشاعر فيها الآلهة الوثنية القديمة، ولكنه جاء بها ليتخذها معواناً له على صيغة قصة الإنجيل، وإضافات لها، وقد أقتبس فيها أنشودة الرعاة الرابعة الذائعة الصيت لفرجيل فأدخلها في صلب القصيدة وجعلها بذلك تضارع ملحمة فرجيل. ولغتها اللاتينية ممتازة، وقد سر بها كلمنت السابع أعظم السرور، ولكن أحداً حتى البابا نفسه لا يكلف نفسه عناء قراءتها في هذه الأيام.
وكتب سنادسارو أعظم قصائد على الإطلاق بلغة قومه الحية. ومزج فيها النثر بالشعر - ونعني بها قصيدة أركاديا (1504). وكان الشاعر قد تعب من حياة المدن كما تعب منها ثيوقريطس في الإسكندرية القديمة، وعرف كيف يحب هدوء الريح وشذي زهره ونباته، وخالف بذلك لورندسو وبوليتان الذين كانا يعبران بإخلاص لا شك فيه عن عواطف(19/327)
أهل الحضر قبل أيامه بنحو عشرين عاماً. أما في أيامه هو فقد كانت صور المناظر الطبيعية تعبر عن تقدير أصحابها للريف تقديراً مطرد النماء، فأخذ الناس يتحدثون عن الغابات والحقول، ومجاري المياه الصافية، والرعاة الأشداء ينشدون أناشيد الحب على نغمات المزمار. ووصف كتاب سنادسارو هذه الأخيلة التي سرت بين الناس، وانتشر الكتاب بين الشعب وذاعت شهرته إلى حد لم يحظ به أي كتاب آخر في عصر النهضة الإيطالية. فقد طاف فيه بقرائه في عالم خيالي من الرجال الأشداء والنساء الحسان - ليس فيهم ولا فيهن شيوخ أو عجائز، وكلهم وكلهن عرايا. ووصف فخامتهم وفخامتهن، وروعة المناظر الطبيعية، قي نثر شعري، كان هو المثال الذي حذا حذوه الكتاب في إيطاليا، وفي فرنسا وإنكلترا بعدها، وتخللت نثره أبيات من الشعر لا نجد فيها عليه مأخذاً. وفي هذا الكتاب وُلِد أدب الرعاة الحديث مولداً جديداً، ولعله كان أقل ظرفاً من الأدب القديم، ولعله أكثر منه طولا وأشد عصفاً؛ ولكنه كان ذا أثر غير محدود في الأدب والفن. وفيه وجد جيورجيوني، وتيشان، ومائة من الفنانين بعدهما موضوعات لصورهم الملونة، وفيه وجد ادمند اسبنسر Edmund Spenser، وسير فيليب سدني Sir Philip Sidney صوراً لأوصاف ملكات الجن في قصائدهم، وفي ملحمة أركاديا الإنكليزية. ذلك أن سنادسارو قد كشف في عالم الأدب مرة أخرى عن قارة أعظم فتنة من العالم الجديد الذي كشف كولمبس، وعن مدينة فاضلة فتانة في وسع كل روح أن تدخلها دون أن يكلفها ذلك الدخول شيئاً أكثر من معرفة القراء، وتستطيع أن تبني قصرها كما يتطلبه ذوقها وهواها دون أن ترتفع عن الصفحة إصبعاً.
وكان الفن في هذا العهد أكثر رجولة من الشعر، وإن كانت المسحة الإيطالية الناعمة قد أحدثت أثرها فيه أيضاً. وقد أقبل دوناتيلو، ومتشبلدسو(19/328)
من فلورنس، وضربا المثل في الفن بالتابوت الرائع الذي نحتاه للكردينال رينلدو براننكتشي Rinaldo Branc-acci في كنيسة سان أنجلو أنيلو San Angelo a Nilo. وأمر ألفنسو الأفخم أن يقام مدخل جديد (1443 - 1470) للقصر الجديد Castel Nuovo الذي بدأه شارل الأول صاحب أنجو (1283)؛ وكان فراننشيسكو لورانا هو الذي وضع تصميم هذا القصر، كما أن بيترو دي مارتينو، وجوليانو دا مايانا في أغلب الظن هما اللذان حفرا النقوش الجميلة التي تمثل أعمال الملك العظيمة في الحرب والسلم. ولا تزال كنيسة سانتا كيارا Santa Chiara، التي بنيت لروبرت الحكيم Robert the Wise (1310) تضم النصب القوطي الجميل الذي أقامه الأخوان جيوفني وباتشي دا فريندسى Pace da Frenze في عام 1343 بعد موت الملك بزمن قليل. وأنشئ لكاتدرائية سان جنارو San Gennaro (1272) جزء داخلي قوطي جديد في القرن الخامس عشر؛ وهنا في الكابلادل تزورو يجري دم القديس جاتوريوس راعي نابلي وحاميها، ثلاث مرات في العام، مؤكداً رخاء المدينة التي أرهقتها أعمال التجارة، وأثقلها عبء القرون، ولكنها تجد سلواها في الإيمان والحب.
وظلت صقلية بمعزل عن النهضة. نعم إنها أنجبت عدداً قليلاً من العلماء، وقليلاً من المصورين أمثال أنطونيلو دا مسينا، ولكنهم هاجروا منها ليجدوا في أرض شبه الجزيرة فرصاً أوسع مما يتاح لهم منها في موطنهم الأصلي. وكان في بالرم، ومنتريال، وتشيفالو Cefalu فن عظيم، ولكنه لم يكن إلا بقية من أيام بيزنطية، أو الإسلام، أو النورمان. ذلك أن أمراء الإقطاع ملاك الأرض كانوا يؤثرون القرن الحادي عشر على الخامس عشر، ويحتقرون الآداب أو يجهلونها كما كان يفعل الفرسان. وكان الشعب الذي يحكمونه أفقر من أن يعبر عن نفسه تعبيراً ثقافياً يزيد(19/329)
على ثيابه الزاهية، وفسيفسائه الديني البراق، وآماله المكتئبة الحزينة، وأغانيه، وشعره الساذج الذي يتحدث فيه عن الحب والعنف.
وكان للجزيرة الجميلة ملوكها وملكاتها من أسرة أرغونة حكموها من 1295 إلى 1409 ثم كانت من بعد ذلك درة في تاج أسبانيا مدى ثلاث قرون.
وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال إيطاليا غير الرومانية، فإنها لم توف الحياة الكاملة المتنوعة التي كانت تحياها شبه الجزيرة ذات العواطف الجياشة ما هي خليقة به على الوجه الأكمل. وقد يكون أجدر بنا أن نرجئ التحدث عن الأخلاق والعادات، والعلم والفلسفة، إلى ما بعد الفصول التي سنتحدث فيها عن باباوات النهضة، ولكن كم من مسالك فرعية عظيمة القيمة قد فاتتنا حتى في هذه المدن التي ألقينا فيها نظرة عاجلة! فنحن لم نقل شيئاً مثلاً عن فرع كامل من فروع الأدب الإيطالي لن أعظم الروايات القصصية من أعمال عصر متأخر عن هذا العصر الذي تحدثنا عنه. كذلك كان حديثنا عن الدور الهام الذي اضطلعت به الفنون الصغرى في زينة أجسام الإيطاليين، وعقولهم، وبيوتهم موجزاً غير واف بها؛ فكم من بثور وقروح متورمة مشوهة قد استحالت عظمة وجلالة بفضل فنون النسيج!؛ وماذا كان يكون شأن عظماء الرجال والنساء الذين مجدهم المصورون البنادقة لولا ثيابهم المنسوجة من المخمل، والساتان، والحرير، والديباج؟ لقد أحسن هؤلاء صنعاً إذ ستروا عريهم ووسموا العري بميسم الإثم؛ وما كان أحكمهم أيضاً إذ لطفوا حر صيفهم بالحدائق وإن لم تكن ذات أشكال مبتكرة متباينة، وجملوا بيوتهم بالقرميد الملون على سقفها وأرضها، وبالحديد المشغول المزخرف والنقوش العربية الطراز، والآنية النحاسية المصقولة البراقة، والتماثيل والصور الصغيرة المتخذة من الشبه أو العاج، تذكرهم بمدى(19/330)
ما يستطيع الرجال والنساء أن يبلغوه من الجمال، وأشغال الخشب المحفور والملبس الذي بني ليبقى ألف عام، والفخار البراق تزدان به النضد والأصونة وأرفف المُصْطليات، والزخارف المعجزة في زجاج البندقية الذي يتحدى الزمان بقوامه الهش، والأصباغ الذهبية، والمشابك الفضية لأغلفة الكتب المصنوعة من الجلد تحيط بذخائر المؤلفات القديمة التي زخرفها أرباب الأقلام السعداء. وقد آثر كثيرون من المصورين أمثال سانو دي بيترو أن يفقدوا ضوء أبصارهم في رسم الصورة الدقيقة وتلوينها على أن يبسطوا تصورهم الدقيق العميق للجمال في أشكال فجة على الألواح والجدران. وقد يلذ للإنسان، إذ مل الطواف في معارض الفن، أن يجلس في بعض الأحيان وهو منشرح الصدر ساعات طوال يتأمل زخارف المخطوطات وخطها الجميل، وهي المخطوطات التي لا تزال مخبأة في قصر اسكفانويا Schifanoia بفيرارا أو في مكتبة مورجان بنيويورك، أو الأمبروزيانا بميلان.
لقد اجتمعت هذه الفنون مضافاً أليها الفنون الكبرى، والكدح واحب، والمماحكة وفن الحكم، والورع والحرب، والإيمان والفلسفة، والعلم والخرافة، والشعر والموسيقى، والأحقاد والأهواء، وشعب وديع محبوب، جياش العاطفة، اجتمعت هذه كلها لخلق النهضة الإيطالية والوصول بها إلى كمالها وانهيارها في روما الميديتشية.(19/331)
الكتاب الرابع
النهضة في روما
1378 - 1521(20/2)
الباب الرابع عشر
أزمة الكنيسة
1378 - 1447
الفصل الأول
الانشقاق البابوي
1378 - 1417
أعاد جريجوري الحادي عشر البابوية إلى روما؛ ولكن هل تستطيع البابوية البقاء فيها؟ وكان المجمع الذي انعقد لاختيار من يخلفه مؤلفاً من ستة عشر كردنالا، لم يكن منهم إيطاليين غير أربعة، وقدم إليهم ولاة الأمور في المدينة معروضاً يطلبون إليهم فيه أن يختاروا رجلاً من أهل روما، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون إيطالياً؛ وأرادوا أن يؤيدوا هذا المطلب فاجتمعت طائفة منهم خارج الفاتيكان، وأنذرت المجتمعين بأنها ستقتل جميع الكرادلة غير الإيطاليين إذا لم ينتخب للبابوية أحد أبناء روما؛ وارتاع لذلك المقدس، فأسرع باختيار بارتولميو برنيانو Baratolommao Prignano، (1378) كبير أساقفة باري وتسمى باسم إربان السادس، ثم ولوا هاربين طلباً للنجاة، ولكن روما قبلت هذه الترضية (1).
وحكم إربان السادس المدينة والكنيسة بنشاط استبدادي عنيف، فعين هو أعضاء مجلس الشيوخ وكبار موظفي البلدية، وأخضع العاصمة الثائرة المضطربة للطاعة والنظام، وروع الكرادلة بأن أعلن عزمه على إصلاح(20/3)
الكنيسة، وانه سيبدأ هذا الإصلاح من أعلى؛ وبعد أسبوعين من هذا الإعلان ألقى عظة عامة حضرها الكرادلة أنفسهم ندد فيها بفساد أخلاقهم وأخلاق كبار رجال الدين، ولم يترك نقيصة إلا رماهم بها. وقد أمرهم ألا يقبلوا معاشاً، وأن يقوموا بجميع الأعمال التي تحال إلى المحكمة البابوية دون أجور أو هدايا أيا كان نوعها. ولما تذمر الكرادلة وأخذوا يتهامسون مستائين قال لهم: "إياكم وهذا اللغو"، فلما احتج عليه الكردنال أرسيني Orisini قال له البابا إنه أبله لا يعقل، ولما اعترض عليه كردنال ليموج Limoges هجم عليه إربان يريد أن يضربه. وسمعت القديسة كترين بهذا فبعثت إلى البابا الثائر تحذره وتقول له: "افعل ما تريد أن تفعله باعتدال ... وحسن نية، وقلب مسالم، لأن التطرف يدمر ولا يبني؛ وإني أستحلفك بحق الرب المصلوب أن تكبح بعض الشيء جماح هذه الحركات السريعة التي تدفعك إليها طبيعتك" (2). واصم إربان أذنه عن سماع هذا النداء، وأعلن عزمه على تعيين عدد من الكرادلة الإيطاليين يكفي لأن يجعل لإيطاليا أغلبية في مجلس الكرادلة.
واجتمع الكرادلة الفرنسيون في أنانيي، ودبروا الثورة، فلما كان اليوم التاسع من أغسطس عام 1379 أصدروا منشوراً يعلنون فيه أن انتخاب إربان باطل لأنه تحت ضغط غوغاء روما، وانضم إليهم جميع الكرادلة الطليان، وأعلن المجمع على بكرة أبيه في يوم 20 سبتمبر أن ربرت الجنيفي هو البابا الحق. واتخذ ربرت مقامه في أفنيون وتسمى باسم كلمنت السابع، أما إربان فقد تمسك بمنصبه الديني الأعلى وظل مقيماً في روما. وكان الانقسام البابوي الذي بدأ على هذه الصورة نتيجة أخرى من النتائج التي أسفر عنها قيام الدولة القومية، فقد كان في واقع الأمر محاولة من جانب فرنسا للاحتفاظ بعون البابوية الذي لا غنى لها عنه في حربها مع إنجلترا وفي كل نزاع مقبل مع ألمانيا أو إيطاليا. وحذت نابلي، وأسبانيا،(20/4)
واسكتلندة حذو فرنسا، ولكن إنجلترا، وفلاندرز، والمانيا، وبولندة، وبوهيميا، وهنغاريا، والبرتغال رضيت بإربان، وأضحت الكنيسة ألعوبة في أيدي المعسكرين المتنافسين. وبلغ هذا الاضطراب غايته، وأثار ضحك الإسلام الآخذ في الانتشار وسخريته؛ فقد كان نصف العالم المسيحي يرى أن النصف الآخر زنادقة مجدفون، خارجون على الدين. ونددت القديسة كترين بكلمنت السابع وقالت إنه هو يهوذا؛ وأطلق القديس فنسنت فرر St. Vincent Ferrer الاسم عينه على إربان السادس (3). وادعت كلتا الطائفتين أن القربان المقدس الذي تقمه الطائفة الأخرى باطل، وأن الأطفال الذين تعمدهم، والتائبين الذين تتلقى اعترافهم، والموتى الذين تمسحهم، يبقون في حالة من الخطيئة الأخلاقية، ملقين في الجحيم أو في الأعراف إذا عاجلهم الموت. وبلغت العداوة بين الطائفتين درجة لا تعادلها إلا العداوة في أشد الحروب مرارة وعنفاً، ولما أن ائتمر كثيرون من كرادلة إربان الجدد عليه ليقتلوه لأنه عاجز شديد الخطورة أمر بالقبض على سبعة منهم، وعذبهم، ثم أعدمهم (1385).
ولم يحسم موته (1389) هذا النزاع، ذلك أن الأربعة عشر من الكرادلة الذين بقوا في معسكره اختاروا بيرو توماتشيلي Piero Tomacelli لمنصب البابوية، وتسمى بعد اختياره بونيفاس التاسع، وأطالت الأمم المنقسمة انقسام البابوية هذا، ولما مات كلمنت السابع (1394) رشح كرادلة أفنيون بيرو ده لونا Piero de Luna ليكون هو بندكت الثالث عشر، واقترح شارل السادس ملك فرنسا أن يستقيل البابوان كلاهما، ولكن بندكت لم يقبل هذا الاقتراح. فلما كان عام 1399 أعلن بونيفاس التاسع إقامة عيد عام في السنة التالية؛ وإذ كان يعلم أن كثيرين ممن ينتظر منهم أن يقدموا للاشتراك في هذا العيد سيبقون في أوطانهم بسبب ما يسود تلك الأيام من فوضى وأخطار، خول وكلاءه في(20/5)
الأقاليم ـ أن يمنحوا كل ما يترتّب على الحج للاحتفال بالعيد من غفران للذنوب وامتيازات لكل مسيحي يعترف بذنوبه، ويتوب، ثم يهب الكنيسة الرومانية المال الذي يتطلبه السفر إلى روما. ولم يكن جباة هذه الأموال رجال دين ذوي ضمائر حية نزيهة، فقد كان كثيرون منهم يعرضون الغفران دون أن يتلقّوا اعترافاً ما؛ ولامهم بونيفاس على فعلتهم، ولكنّه كان يحس بأنه ما من أحد غيره يستطيع أن يفيد من المال الذي جمع بهذه الطريقة أحسن مما يفيده منه هو، ولم "يرو بونيفاس تعطّشه إلى الذهب" (4) كما يقول أمين سرّه وسط ما كان يعانيه من آلام الحصوة المبرحة. ولمّا أراد بعض الجباة أن يغتالوا بعض هذا المال أمر بتعذيبهم حتى يردوه إليه. ومزقت جماهير روما الغاضبة غيرهم من الجباة لأنهم سمحوا لبعض المسيحيين أن ينالوا الغفران دون أن يأتوا الى روما لينفقوا فيها نقودهم (5). وبينا كانت الاحتفالات قائمة على قدم وساق حرضت أسرة كولنا الشعب على أن يطالب بعودة الحكم الجمهوري، فلما رفض بونيفاس هذا الطلب، قادت هذه الأسرة جيشاً مؤلفاً من ثمانية آلاف محارب هجمت بهم عليه؛ وقاوم البابا الطاعن في السن الحصار بعزيمة ماضية في سانتا أنجيلو، وانقلب الشعب على آل كولنا، وتفرق جيش المتمردين، وزج واحد وثلاثين من زعماء الفتنة في غيابة السجون. ووعد واحد منم بالعفو والابقاء على حياته إذا رضى بأن يكون جلاد الباقين؛ فرضى بهذا العمل وشنق الثلاثين الباقين ومنهم أبوه وأخوه (6).
وشبت نار الفتنة من جديد لما مات بونيفاس واختير إنوسنت السابع لمنصب البابوية (1404) وفر إنوسنت إلى فتيربو Viterbo وهجم الغوغاء من أهل روما بقيادة جيوفني كولنا على قصر الفاتيكان، وأعملوا فيه السلب والنهب، ولطخوا شارات إنوسنت بالوحل، وبعثروا السجلات(20/6)
البابوية والقرارات التاريخية في شوارع المدينة (1405) (1) ثم تراءى للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار، فعقد للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار، فعقد صلحا مع إنوسنت، فعاد إلى روما ظافراً ومات فيها بعد أيام قليلة من عودته (1406).
ودعا خلفه جريجوري الثاني عشر بندكت الثالث عشر إلى الاجتماع به في مؤتمر. وعرض بندكت أن يستقيل إذا رضى جريجوري أن يقوم هو أيضاً بنفس العمل، ولكن أهل جريجوري أشاروا عليه بألاّ يوافق على هذا الاقتراح؛ فما كان من بعض الكرادلة إلا أن انسحبوا إلى بيزا، ودعوا إلى عقد مجلس عام يختار بابا بترضية العالم المسيحي قاطبة. وحث ملك فرنسا مرة أخرى بندكت على أن يستقيل، فلما رفض ذلك للمرة الثانية أعلنت فرنسا عدم ولائها له، واتخذت موقف الحياد بين الطرفين المتنازعين. ولما تخلى كرادلة بندكت عنه فر إلى أسبانيا، وأنضم هؤلاء الكرادلة إلى الذين تخلوا عن جريجوري، وأصدروا جميعاً دعوة إلى مؤتمر بعقد في بيزا في الخامس والعشرين من شهر مارس عام 1409.(20/7)
الفصل الثاني
المجالس والبابوات
1409 - 1417
كان الفلاسفة الثائرون قد وضعوا منذ قرن أو يكاد أساس " الحركة المجلسية". ذلك أن وليم الأكامي William of Occam قد احتج على القول بأن الكنيسة هي رجال الدين؛ وقال إن الكنيسة في اعتقاده هي جماعة المؤمنين، وإن الكل ذو سلطان على أي جزء من أجزائه؛ وإن في مقدور هذا الكل أن يعهد بسلطانه إلى مجلس عام يجب أن يكون له حق اختيار البابا، أو تعذيره، أو خلعه (8). وقال مرسيلوس Marsillius أحد رجال الدين في بدوا إن المجلس العام هو عقل العالم المسيحي مجتمعاً؛ ومن ذا الذي يجرؤ بمفرده على أن يضع عقله وحده فوق هذا العقل العالمي؟ وأضاف أن هذا المجلس يجب ألاّ يؤلّف من رجال الدين وحدهم، بل يجب أن يضم إليهم غير رجال الدين يخترهم الشعب نفسه؛ ويجب أن تكون مناقشاته متحررة من سيطرة البابوات (9). وطبق هنريخ فن لانجنشتين Heinrich von Langenstein أحد علماء اللاهوت في جامعة باريس هذه الآراء إلى الانشقاق البابوي في رسالة له عنوانها مجالس السلام (1381). وقال هنريخ في هذه الرسالة إنه مهما يكن من قوة المنطق في حجج البابوات الذين يؤيدون بها سلطتهم العليا المستمدة من الله نفسه، فإن أزمة قد نشأت لم يجد المنطق نفسه سبيلاً للنجاة منها، وليس ثمة وسيلة لإنقاذ الكنيسة من الفوضى التي أخذت تدك قواعدها إلاّ قيام سلطة غير البابوات، تعلو على سلطان الكرادلة، وليست هذه السلطة إلاّ سلطة المجلس العام. وقال جان جيرسن Jean Gerson مدير جامعة باريس في موعظة له ألقاها في ترسكون Tarascon أمام بندكت الثالث عشر نفسه إنه وقد عجزت قوة البابا وحده(20/8)
عن عقد مجلس عام يقضي على انشقاق البابوية، فإن هذه القاعدة يجب إلغاؤها في هذه الأزمة الحاضرة، وأن يعقد مجلس عام بغير هذه الطريقة، يعهد إليه بالسلطة التي يستطيع بها القضاء على هذه الأزمة (10).
وعق مجلس بيزا بالنظام الذي وضع له. فقد اجتمع في الكنيسة الفخمة ستة وعشرون من الكرادلة، وأربعة من البطارقة، واثنا عشر من رؤساء الأساقفة، وثمانون أسقفاً، وسبعة وثمانون من رؤساء الأديرة، ورؤساء جميع طوائف الرهبان الكبرى، ومندوبون عن جميع الجامعات الكبيرةـ وثلاثمائة من رجال القانون الكنسي، وسفراء من قبل جميع الحكومات الأوربية ماعدا حكومات هنغاريا، ونابلي، وأسبانيا، واسكنديناوة، واسكتلندة، وأعلن المجلس أنه كنسي (مشروع حسب قانون الكنيسة) ومسكوني عالمي (أي أنه يمثل العالم المسيحي على بكرة أبيه) ـ وهي دعوى أغفلت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والروسية. ودعا هذا المجلس بندكت وجريجوري إلى المثول أمامه، فلمّا لم يلبّ كلاهما الدعوة، وأعلن المجلس خلعهما، ونادى بكردنال ميلان بابا باسم اسكندر الخامس (1409). وطلب هذا المجلس إلى البابا الجديد أن يدعو إلى الانعقاد مجلساً عاماً آخر قبل شهر مايو من عام 1412 ثم أعلن تأجيل جلساته.
وكان هذا المجلس يرجو أن يقضي على الانشقاق البابوي؛ ولكن بندكت وجريجوري كلاهما رفضا أن يعترفا بسلطانه، فإن النتيجة لم تسفر إلاّ عن وجود ثلاثة بابوات بدلاً من اثنين. ولم يساعد موت إسكندر الخامس (1410) على إصلاح ذات البين، فقد اختار كرادلته خلفاً له يوحنا الثالث والعشرين، أسلس الرجال قياداً، منذ أيام سلفه وسميه للجلوس على عرش البابوية. وكان بونيفاس التاسع قد عيّن بلدساري الكوسائي Baldassare of Cossa مندوباً بابوياً على بولونيا؛ فحكمها، كما يحكم رؤساء الجند المغامرون، حكماً مطلقاً لم يراع فيه ذمة(20/9)