في جيش إقليمي للدفاع. وسكر أتباع آرنلد بخمرة هذا النصر الهين فلم يكتفوا بنبذ سلطة البابوات الزمنية بل أيضاً سلطة أباطرة الدولة الرومانية الشرقية في إيطاليا. ثم ذهبوا إلى أبعد من هذا فقالوا إن الجمهورية الرومانية يجب ألا تحكم إيطاليا وحدها بل أن تحكم "العالم" كما كانت تحكمه في الزمن القديم (5). وأعادوا بناء الكبتول، واستولوا على كنيسة القديس بطرس، وأحالوها قلعة، واستولوا على الفاتيكان، وفرضوا الضرائب على الحجاج؛ وفر أوجنيوس الثالث إلى فيتربو وبيزا (1146) بينا كانت القديس برنار يصب اللعنات من كليرفو Clairvaux على شعب روما، ويذكرهم بأن كيانهم موقوف على وجود البابوية، وظلت حكومة روما الذاتية عشر سنين تحكم مدينة القياصرة والبابوات.
واستجمع أوجنيوس الثالث شجاعته وعاد إلى روما في عام 1148، وقصر واجباته وقتاً ما على الواجبات الروحية، وأخذ يهب الصدقات، وكسب بذلك قلوب الشعب. وغضب خليفته هدريان الرابع أشد الغضب من مقتل كردينال في شجار عام، فأصدر قراراً بحرمان العاصمة (1155)، وخشي مجلس الشيوخ أن تقوم في المدينة ثورة لا يستطيع الأشراف تحمل آثارها، فألغي الجمهورية واستسلم إلى البابا. واختبأ آرنلد المطرود من حظيرة الكنيسة في كمبانيا؛ ولما أن اقترب فردريك بربروسه من روما طلب إليه هدريان أن يقبض على هذا الرجل المتمرد؛ وكشف مخبأ آرنلد وقبض عليه، وأسلمه الإمبراطور إلى صاحب شرطة البابا في روما، وشنقه (1155). ثم حرقت جثته، وألقي برماده في نهر التيبر "خشية أن يجمعها الناس ويكرموها بوصفها رماد شهيد" كما يقول أحد معاصريه (6). وعاشت آراؤه بعد موته، وعادت إلى الظهور عند زنادقة لمباردي الباتريين Paterine والوالدنسيين Waldensian، وعند الأليجنسيين في فرنسا، وفي مرسليوس Marsilius من أهل بدوا، وفي زعماء حركة الإصلاح. وظل مجلس الشيوخ قائماً حتى عام 1216 حين أفلح إنوسنت الثالث في أن(15/263)
يستبدل به شيخاً أو شيخين من المناصرين لقضية البابا. وظلت سلطة البابوات الزمنية قائمة حتى عام 1870.
وكانت الولايات البابوية في أوقات مختلفة تشمل أمبريا Umbria بما فيها اسبليتوا Spoleto وبروجيا؛ وأرض التخوم المشتملة على أنكوتا الواقعة على البحر الأدرياوي، ورومانيا Romagna، أو الإقليم الخاضع لحكم روما والمشتمل على مدائن رميني Rimini، وإمولا Imola، ورافنا Ravenna، وبولونيا Bologna، وفرارا Ferrare. وظلت رافنا في هذا الوقت آخذة في الانحطاط، بينا أخذت فرارا تزداد شهرة بحكمة زعمائها من آل إست Este. وقامت في بولونيا حياة ناشطة قوية في ظل حكومتها الذاتية بزعامة رجالها القانونيين العظام خريجي جامعاتها. وكانت من أولى المدائن التي اختارت لها حاكماً ذا سلطان Podesta يتولى الشؤون الداخلية في حكومتها الذاتية، ورئيساً Capitano ليشرف على شئونها الخارجية. وكانت تشترط فيمن يتولى الشؤون الداخلية صفات خاصة: كان يجب أن يكون من الأشراف، وأن يكون من غير أهل المدينة، وأن تزيد سنه على ستة وثلاثين عاماً؛ وألا تكون له أملاك في داخل نطاق البلدة ذات الحكم الذاتي، وألا يكون له أقارب بين الناخبين، وألا يكون من أقارب الحاكم السابق أو من موطنه. وكانت هذه القواعد الغربية التي وضعت لتضمن النزاهة في إدارة شؤون المدينة هي المتبعة في كثير من المدن الإيطالية ذات الحكم الذاتي. أما "رئيس شعب (قبطانه) " فلم يكن يختاره مجلس المدينة، بل يختاره حزب الشعب الذي يسيطر عليه نقابات التجار الطائفية؛ ولم يكن يمثل الفقراء بل كان يمثل طبقة رجال الأعمال. وقد بسط سلطانه في القرون التالية بإضعاف سلطان البودستا، وذلك بعد أن تفوق رجال الطبقة الوسطى الرأسمالية على الأشراف في الثروة والنفوذ.(15/264)
الفصل الثالث
البندقية تنتصر
1096 - 1311
كان إقليم فنيتو Veneto يقع إلى شمال كرارا ونهر البو، وكان هذا الإقليم يفخر بمدائنه الهامة- البندقية، وترفيزو، وبدوا، وفيسنزا، وفيرونا.
وفي هاذ العصر بالذات عظمت قوة البندقية، فأمكنها حلفها من أن تصل إلى ثغور بحر إيجة والبحر الأسود، حتى ليقال إن بنيها الذين كانوا في القسطنطينية في القرن الثاني عشر زادوا على مائة ألف، وإنهم كانوا يعيشون الرعب في أحد أحياء المدينة بوقاحتهم ومشاحناتهم. ثم انقلب مانيول Manuel إمبراطور الروم فجأة على البنادقة المقيمين في عاصمته، وألقي القبض على عدد كبير منهم، وأمر بان تصادر بضائعهم كلها (1171)، وكان أهل جنوى هم الذين حرضوه على هذا العمل غيرة منهم وحسداً. وأعلنت البندقية الحرب، وأخذ أهلها يعملون ليلاً ونهاراً لإنشاء أسطول، فلما كان عام 1171 قاد الدوج فيتالي الثاني Doge Vitale Michieli II عمارة بحرية مؤلفة من 130 سفينة لقتال جزيرة عوبية Euboea ليتخذوها قاعدة بحرية لأعماله المقبلة ضد المضيقين. ولكن جنوده أصيبوا وهم على سواحل عوبية بمرض يقال إن سببه تسميم اليونان موارد الماء في الجزيرة! وهلك منهم آلاف مؤلفة بلغ من كثرتها أن السفن لم تجد بعد ذلك من يحاربون على ظهرها. وقاد الدوج عمارته عائداً إلى البندقية، وفشا الطاعون فيها وأهلك عدداً كبيراً من أهلها؛ ولما أن اجتمعت الجمعية وجهت اللوم إلى الدوج على هذه الكوارث، وأصيب بطعنة قاتلة (1172) (7). ومن واجبنا ألا نغفل عن هذه الكوارث حين ندرس ما حدث في الحملة الصليبية الرابعة، والثورة الألجركية التي غيرت دستور البندقية.(15/265)
وخشي كبار التجار أن تنهار إمبراطوريتهم التجارية إذا دامت هذه الهزائم، فعقدوا النية على أن ينتزعوا من الجمعية العمومية حق انتخاب الدوج، وأن ينشئوا مجلساً من صفوة الأهلين يكون أقدر على بحث شؤون الدولة وتصريفها، وعلى الوقوف في وجه أهواء الشعب واستبداد الدوج، ثم أقنعوا أكابر قضاة الجمهورية الثلاثة بأن يعينوا لجنة تضع للبلاد دستوراً جديداً. وأوصت هذه اللجنة في تقريرها أن يختار كل حي من أحياء دولة المدينة الستة اثنين من كبار الأهلين يختار كل منهم أربعين من خيرة الرجال، وأن يتألف من الأربعمائة والثمانين عضواً الذين يختارون على هذا النحو مجلس أعظم Maggior Conscglio يكون هو الهيئة التشريعية العامة للأمة ثم يختار المجلس الأعظم ستين عضواً من أعضائه يكونون مجلس الشيوخ الذي يشرف على الشؤون التجارية والمالية والعلاقات الخارجية. وكان من هذه التوصيات ألا تجتمع الأرنجو Arrengo أي الجمعية الشعبية إلا للتصديق على اقتراحات الحرب والسلم أو رفضها، وأن يختار رجل من كل حي من الأحياء الستة يتألف منهم جميعاً مجلس خاص يحكم الدولة إذا ما أصبح عرش الدوج شاغراً، وكان لابد من أن يقر هذا المجلس كل عمل حكومي يقوم به الدوج لكي يصبح هذا العمل مشروعاً. واختار أول مجلس أعظم انتخب بالطريقة السالفة الذكر أربعة وثلاثين من أعضائه، اختاروا من بينهم أحد عشر عضواً، عقدوا اجتماعاً علنياً في كنيسة سان ماركو اختاروا فيه الدوج (1173). ورفع الشعب عقيرته باحتجاج لحرمانه من حق اختيار رئيس الدولة، ولكن الدوج الجديد وجه الاضطراب وجهة أخرى بأن نثر النقود على الجموع المحتشدة (8)، ولما اختار المجلس الأعظم أنريكو دنوولو Enrico Dandolo دوجاً في عام 1192 طلب إليه أن يقسم في يمين تتويجه أن يطيع جميع قوانين الدولة، وبهذا أضحت ألجركية التجارة صاحبة السلطة العليا في البلاد.(15/266)
وأثبت دندولو، وكان وقت اختياره في الرابعة والثمانين من عمره، أنه من أقدر الزعماء في تاريخ البندقية؛ فقد استطاعت البندقية في أيامه، وبفضل سياسته المكيفلية، وبسالته الشخصية، أن تثأر لنفسها من الكارثة التي حلت بها عام 1171، فتستولي على القسطنطينية وتنهبها في عام 1204، وبهذا أصبحت البندقية القوة المسيطرة على الجزء الشرقي من البحر المتوسط، والبحر الأسود؛ وانتقلت الزعامة التجارية في أوربا من بيزنطية إلى إيطاليا. وساعد أهل جنوى في عام 1261 اليونان على استعادة القسطنطينية، وكوفئوا على عملهم هذا بأن منحوا فيها ميزات تجارية؛ ولكن أسطول البندقية هزم أسطول جنوى بالقرب من صقلية بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت، وأرغم إمبراطور الروم على أن يرد إلى البندقية مركزها الممتاز في عاصمة ملكه.
وتوجت الألجركية الظافرة هذه الانتصارات الخارجية بضربة دستورية جديدة. فقد عرض الدوج بيترو جرادنجو Pietro Gradenigo في عام 1297 على المجلس الأعظم اقتراحاً، حمله على الموافقة عليه، يقضي بألا يختار لعضوية هذا المجلس إلا من كان من أعضائه منذ عام 1293 أو كان من أبنائهم الذكور (9). وكان من أثر "إغلاق المجلس" في وجه المواطنين أن حرمت الكثرة الغالبة من الشعب من الوظائف العامة، وأن وجدت طبقة مغلقة لا يستطيع الانتماء إليها إلا أبناء أعضائها. وأنشئ "كتاب ذهبي" Libro d'oro لتسجيل عقود الزواج والوفيات بين أفراد هذه الطبقة الأرستقراطية ليضمن به نقاءها واحتكارها للسلطان، وبهذا جعلت الألجركية التجارية نفسها ألجركية المولد. ولما أن دبر الشعب ثورة على هذا الدستور الجديد، سمح لزعمائه بأن يدخلوا قاعة المجلس ثم شنقوا من فورهم.
ولا يسعنا إلا أن نقر بأن هذه الألجركية السافرة القاسية قد أحسنت الحكم، فقد كانت في محافظتها على الأمن والنظام، وفي حسن توجيهها للسياسة العامة،(15/267)
وفي العمل على استقرار القانون وبسط سلطانه، تفضل غيرها من المجتمعات الإيطالية في العصور الوسطى. وسبقت القوانين التي سنتها البندقية لتنظيم أعمال الأطباء والصيادلة أمثالها في فلورنس بنصف قرن من الزمان؛ وحرمت القوانين في عام 1301 قيام الصناعات المضرة بالصحة بين المساكن، وأخرجت من البندقية جميع الصناعات التي تنفث الدخان المؤذي في الهواء. وكانت قوانين الملاحة شديدة مفصلة، كما كانت جميع الواردات والصادرات خاضعة لرقابة الدولة وسيطرتها، وكانت التقارير الدبلوماسية تعني بأحوال التجارة أكثر من عنايتها بالشؤون السياسية، وأصبحت الإحصاءات الاقتصادية للمرة الأولى جزءاً من الحكم في هذه المدينة (10).
وكادت الزراعة تكون غير معروفة في البندقية، أما الصناعات اليدوية فكانت متقدمة لأن هذه المدينة استوردت من مدن البحر المتوسط القديمة فنوناً وحرفاً كادت تقضي عليها الاضطرابات السياسية في الغرب، واشتهرت مصنوعات الحديد، والشبه، والزجاج، والأقمشة المنسوجة من خيوط الذهب والحرير، واشتهرت كلها في القارات الثلاث، وأكبر الظن أن بناء القوارب للتنزه، أو الاتجار، أو الحرب كان أعظم صناعات البندقية. وقد وصلت هذه الصناعة إلى مرحلة الإنتاج الرأسمالي بالجملة، والتمويل الجماعي، وكادت تصل إلى المرحلة الاشتراكية لسيطرة أكبر عميل لهذه الصناعة وهو الدولة. وكانت سفائن جمالية المنظر عالية الجؤجؤ، منقوشة الأشرعة، في بعضها مائة وثمانون مجذافاً تربط البندقية بالقسطنطينية، وصور، والإسكندرية، ولشبونة، ولندن، وعشرات من المدن الأخرى بسلسلة ذهبية من المرافئ والمتاجر. وكانت بضائع من وادي البو تصل إلى البندقية كي يعاد شحنها منها إلى الخارج؛ وكانت بضائع مدن نهر الرين تأتيها بعد أن تجتاز جبال الألب لتنتشر من موانيها في عالم البحر المتوسط؛ وكان مصفق المدينة Rialto أكثر الأماكن حركة في سائر أنحاء أوربا،(15/268)
يزدحم بالتجار، والملاحين ورجال المصارف القادمين من مائة قطر، ولم تكن ثروة شمالي أوربا تضارع غناء هذه المدينة التي يرتبط كل شيء فيها بعجلة التجارة والمال، والتي كانت السفينة الواحدة من سفنها التي ترسل إلى الإسكندرية تعود منها بربح يعادل ألفاً في المائة من المال المستثمر في بضائعها- إذا لم تلاق عدواً، أو قرصاناً، أو عاصفة مدمرة (11). وقصارى القول أن البندقية كانت أغنى المدن الأوربية في العصور الوسطى، ولعلها لم يكن يضارعها في ثرائها إلا المدائن الصينية التي وصفها ماركو بولو ابن البندقية وصفاً لا نستطيع تصديقه.
إلا أن العقيدة تضمحل كلما زادت الثرة. ولقد كان البنادقة يكثرون من استخدام الدين في الحكم، ويواسون من لا أصوات لهم في إدارة الشؤون العامة بالمواكب ويمنونهم بجنة النعيم؛ غير أن الطبقات الحاكمة قلما كانت تسمح للمسيحية أو للحرمان من حظيرة الكنيسة بأن يعترض سبيل الحرب أو الأعمال المالية، فقد كان شعارها "نحن بنادقة، ونحن بعد ذلك مسيحيون Siamo Veneziani poi Cristiani" (12) ، وتطبيقاً لهذا الشعار لم يكن لرجال الدين نصيب ما في الحكم (13)، وكان التجار البنادقة يبيعون السلاح والرقيق، ويمدون المسلمين الذين يقاتلون المسيحيين بالمعلومات الحربية (14). وكان شيء من التسامح يصحب هذا الحرص على الكسب المتميز بسعة الأفق؛ فقد كان في وسع المسلمين أن يأتوا إلى البندقية وهم آمنون، وكان اليهود- وخاصة في الجيودكا Giudecca جزيرة أسبنالنجا Spinalunga يقيمون شعائر دينهم في معابدهم وهم آمنون.
وقد ندد دانتي بـ"فجور البنادقة الطليق" (15)، ولكن ليس من حقنا أن نصدق ما يوجهه من نقد رجل يصب اللعنات ذات اليمين وذات الشمال. وأكثر من أقوال دانتي دلالة على أخلاق البنادقة تلك العقوبات الصارمة الواردة(15/269)
في الشرائع البندقية لتوقع على الآباء الذين يحرضون أبناءهم على الفسق، وتلك القوانين التي تكرر وضعها بلا جدوى لمنع الارتشاء في الانتخابات (16). والصورة التي تنطبع في أذهاننا منها هي صورة أرستقراطية صارمة ساطعة اعتادت منظر بؤس الجماهير فلم تعد تتأثر به؛ وسوقة تخفف من حدة الفقر بمباهج الحب الطليق. ونحن نسمع منذ عام 1094 عن مواكب "الكرنفال" وذكرت "المساخر" لأول مرة في عام 1228؛ وفي عام 1296 جعل مجلس الشيوخ اليوم السابق للصوم الكبير عيداً شعبياً. يزدان فيه السكان- رجالاً ونساء- بأغلى أثوابهم وأبهى زينتهم، فكانت النساء ذوات الثراء يتوجن أنفسهن، بتيجان أو قلانس أو عمائم منسوجة بخيوط الذهب، تتلألأ عيونهن تحت أقنعة من نسيج الذهب أو الفضة، وفي أعناقهن عقود من اللؤلؤ، وفي أيديهن قفاوات من جلد الشموا Chamois أو نسج الحرير، وفي أقدامهن أخفاف أو أحذية من الجلد، أو الخشب، أو الفلين، حمراء اللون أو ذهبية؛ وأثوابهن من نسيج التيل الرفيع أو الحرير العادي أو المشجر أو المطرز، والمنثورة، عليه الجواهر، يكشف عن أعناقهن وما تحت أعناقهن، فكن بذلك فتنة لأهل زمانهن وشاهداً على ما فيه من فضائح وآثام. وكن يضعن على رؤوسهن شعراً مستعاراً، ويستعملن الأدهان الملونة والمساحيق، ويصمن لكي تصبح أجسامهن نحيلة رشيقة (17). وكن يسرن بكامل حريتهن وسط الجماهير في أي وقت يردن، ويشتركن في غواية وخفر في حفلات اللهو والتنزه في القوارب، ويستمعن في سرور إلى الشعراء الغزلين الذين أدخلوا أساليب الغناء البروفنسية في موضوعات الحب الأبدية.
ولم يكن البنادقة يميلون في هذا الوقت إلى الثقافة. نعم إنهم كانت لهم مكتبة عامة طيبة، ولكن أنهم قلما كانوا يفيدون منها، ولم يسهموا بنصيب في العلوم، ولم يخلفوا وراءهم شعراً خالداً ظهر في وسط هذا الثراء المنقطع النظير.(15/270)
وكانت المدارس كثيرة عندهم في القرن الثالث عشر، ولدينا ما يدل على أنهم كانوا يعطون الطلاب الفقراء منحاً تمكنهم من مواصلة الدرس، ولكننا نعرف أنه كان لديهم في القرن الرابع عشر قضاة لا يعرفون القراءة (18). وكانوا يقدرون الموسيقى أعظم تقدير، أما الفن فلم يكن قد وصل إلى الدرجة العالية التي بلغها فيما بعد؛ غير أن الثراء كان يأتي إلى البندقية بالفن من بلاد كثيرة، وكان ذوق الأهلين آخذاً في الارتقاء؛ وكانت أسسه توضع في هذه الفترة وبخاصة فن الزجاج، وقد بقي لهم بعض ما كان للرومان الآخرين من حذق فيه.
وليس من حقنا أن نصور البندقية في ذلك العصر بتلك الصورة الجميلة التي وجدها عليها فاجنر Wagner أو نتشه في القرن التاسع عشر. فقد كانت بيوتها مقامة من الخشب، وشوارعها من الأرض العادية؛ وإن كان طريق سان ماركو قد رصف بالآجر في عام 1172؛ وكان الحمام موجوداً في المدينة منذ عام 1256. وبدأ البنادقة يقيمون الجسور على القنوات وكان أصحاب القوارب ينقلون الناس في القناة العظمى. أما القنوات الجانبية الصغرى فالراجح أنها كانت أقل بهجة مما هي عليه الآن؛ ذلك أن النضوج الكامل في كل شيء يتطلب بعض الوقت. غير أن ما في الشوارع والقنوات من عيوب لا يمكن أن يحجب عن العين عظمة مدينة ترتفع جيلاً بعد جيل من مناقع البحر الضحل وضبابه، أو يحول بين الإنسان وبين الدهشة من شعب يدفع هامته من الخراب والعزلة ليغطي سطح البحر بسفنه ويجبي المال ويستورد الجمال من نصف العالم.
وكانت مدينة ترفيزو Treviso وتخومها تقع بين البندقية وجبال الألب، ولن نقول عن هذه المدينة إلا أن أهلها كانوا يجبون الحياة حباً جماً، ويسمونها بلد الحب ويقولون إن المدينة احتفلت في عام 1214 بعيد(15/271)
قصر الحب، فأقيم قصر من الخشب علقت فيه الطنافس والأقمشة المزركشة، وتيجان الزهر، وجاءت نساء المدينة فأمسكن بالقصر وهن مسلحات بالماء المعطر، والفاكهة، والأزهار، ثم أقبل الفرسان الشبان من أهل البندقية ينافسون شباب بدوا المرح الجريء في حصار السيدات، ويمطرونهن وابلا مماثلاً لقذائفهن؛ ويقال إن البنادقة كسبوا المعركة بأن خلطوا الأزهار بقطع النقود الذهبية. ومهما يكن سبب هذا النصر فقد سقط الحصن وحامياته الحسان في أيديهم (19).(15/272)
الفصل الرابع
من منتوا إلى جنوى
كانت المدائن الشهيرة في لمباردية تحكم السهول الواقعة في غرب فنيتو والمحصورة بين نهر البو وجبال الألب وهي: منتوا، وكرمونا، وبريشيا، وبرجامو، وكومو، وميلان، وبافيا. وكانت في جنوب نهر البو، في المقاطعة باسم إميليا Emilia في هذه الأيام، مدائن مودينا، ورجيو، وبارما، وبياسنزا، ولسنا نعتقد أن من يحبون إيطاليا سيملون من تكرار هذه الأسماء على مسامعهم. وكانت ولاية بيدمونت Piedmont المحصورة بين لمباردية وفرنسا تضم فرسلي Vercelli وتورين، وفي جنوبي هاتين البلدتين كانت تنحني حول خليج جنوى ومدينة جنوى نفسها. وثروة هذا الإقليم هدية من نهر البو الذي يخترق شبه الجزيرة من الغرب إلى الشرق، يحمل المتاجر، ويملأ القنوات ويروي الحقول. وكان نشاط الصناعة والتجارة في هذه المدن هو الذي حباها بالثروة والعزة اللتين جعلتاها تغض الطرف في معظم الأوقات عما كان للإمبراطور الألماني من سيادة اسمية عليها وأمكناها من أن تخضع الأشراف شبه الإقطاعيين المقيمين خلفها.
وكانت كنيسة كبرى تقوم عادة في وسط كل بلدة من هذه البلدان الإيطالية، لكي تخلع البهجة والسرور على الحياة بمواكب التقي وقوة الأمل. وكان إلى جانبها مكان التعميد الدال على تمتع الطفل بمزايا المواطنية المسيحية وتبعاتها، وبرج الأجراس التي تدعو الناس إلى العبادة أو الاجتماع أو حمل السلاح. وفي الميدان العام المجاور للكنيسة الكبرى كان الفلاحون والصناع يعرضون(15/273)
بضاعتهم، والممثلون، واللاعبون على الحبال ونحوها، والشعراء الجائلون يمثلون أدوارهم، والمنادون يعلنون ما يريدون، والمواطنين يثرثرون بعد قداس أيام الآحاد، والشبان أو الفرسان يتبارون في الألعاب الرياضية أو البرجاس. وكانت قاعة عامة للمدينة، وبضعة حوانيت وبيوت ومساكن مشتركة يتكون منها سياج من الآجر حول الميدان. ومن هذا المكان الوسط تمتد الشوارع المتعرجة الملتوية التي يبلغ من ضيقها أنه إذا سار فيها راكب فر س أو مرت بها عربة اضطر الراجلون إلى الانزواء في مدخل بيت أو الالتصاق بجدار. ولما تقدم القرن الثالث عشر وازدادت ثروة الأهلين استخدمت قطع القرميد في تسقيف البيوت المطلية جدرانها بالمصيص فراق منظرها في أعين من يستطيعون نسيان الوحل والروائح الكريهة. وكان الميدان والشوارع الكبرى دون غيرها هي المرصوفة، وكان يحيط بالمدينة سور ذو أبراج وشرفات لأن الحروب كانت كثيرة في تلك الأيام، وكان من واجب الإنسان أن يعرف كيف يقاتل إذا لم يشأ أن يكون راهباً.
وكانت ميلان وجنوى أكبر هذه المدن كلها. وكانت جنوى- الفخمة كما كان يسميها أحباؤها- ذات موقع ممتاز للعمل والمتعة. فقد كانت تقوم على تل مواجه للبحر الذي يغري بالاتجار، وتستمع بجو الرفييرا الدافئ الذي يمتد إلى رابلو Rapallo في الشرق وسان ريمو San Remo في الغرب. وكانت جنوى منذ أيام الرومان ثغراً نشيط الحركة، ولهذا كان سكانها تجاراً، وصناعاً، ورجال المصارف، وصناع السفن، وبحارة، وجنوداً، وساسة. ونقل مهندسو جنوى الماء النقي إليها من الألب الليجورية Ligurian Alps في قناة مسقفة لا تقل عن قنوات روما القديمة، وأقاموا حاجزاً ضخماً في الخليج المسمى باسمها ليجعلوا مرفأها العظيم آمناً في أثناء العواصف والحروب. وقلما كان أهل جنوى يعنون بالآداب أو الفنون في تلك الأيام؛ شأنهم في هذا شأن البنادقة المعاصرين لهم؛ فقد كانوا يصرفون جهودهم كلها في التغلب على منافسيهم وارتياد سبل جديدة(15/274)
للكسب. وكاد مصرف جنوى يكون هو الدولة، فقد كان يقرض المدينة المال بشرط أن يحصل هو إيرادتها، وكان بفضل سلطانه هذا يسيطر على الحكومة، وكان كل حزب يتولى السلطة يتعهد بأن يكون وفياً مخلصاً للمصرف؛ ولكن أهل جنوى كان لهم من الشجاعة بقدر ما لهم من حب الكسب، فقد تعاونوا مع أهل بيزا على إخراج المسلمين من غربي البحر المتوسط (1015 - 1113)، ثم حاربوا بيزا حروباً منقطعة حتى قضوا على القوة المنافسة لهم في واقعة ملوريا Meloria البحرية (1284). وجندت بيزا في هذه الحرب الأخيرة كل من كان فيها من الرجال بين العشرين والستين من العمر، كما جندت جنوى كل من كان فيها بين الثامنة عشرة والسبعين. وتلك حقيقة في وسعنا أن نعرف منها روح ذلك العصر وحالته النفسية. وكتب الراهب سلمبيني Salimbene في ذلك يقول "بين أهل بيزا وأهل جنوى، وكذلك بين أهل بيزا وأهل لوكا Lucca، الحقد والاشمئزاز الطبيعي بقدر ما بين الآدميين والأفاعي" (21). وظل الرجال يقتتلون يداً بيد في هذه الواقعة الأخيرة التي حدثت في البحر قرب ساحل قورسقة حتى هلك نصف المحاربين "وارتفعت في جنوى وبيزا أصوات الحزن والعويل كما لم ترتفع في هاتين المدينتين من يوم أنشئنا إلى أيامنا هذه" (22). ولما علم أهل لوكا وفلورنس الأخبار بالكارثة التي حلت ببيزا وفلورنس ظنوا أنهم قد لاحت لهم أحسن فرصة لإرسال حملة لقتال تلك المدينة البائسة، ولكن البابا الرابع أمرهم أن يكفوا عن القتال، واندفع أهل جنوى في هذه الأثناء نحو الشرق وتضاربت مصالحهم مع مصالح البنادقة، فنشأت بينهم أشد الأحقاد، وتنازع أهل المدينتين في عام 1255 على امتلاك عكا، وانحاز فرسان المستشفى في المعركة إلى جانب أهل جنوى، كما انضم فرسان المعبد إلى البنادقة؛ وسقط في هذه المعركة وحدها عشرون ألف رجل (23)، وكانت سبباً في تحطم وحدة المسيحيين في بلاد الشام، ولعلها هي التي قررت(15/275)
إخفاق الحروب الصليبية. وظل النزاع قائماً بين جنوى والبندقية حتى عام 1379، حين منيت جنوى بهزيمة ساحقة لا تقل في ذلك عما لحق ببيزا على يديها قبل ذلك بمائة عام.
وكانت ميلان أغنى مدائن لمباردية وأقواها؛ وكانت من قبل إحدى العواصم الرومانية، ولهذا كانت تفخر بقدم عهدها وتقاليدها. ذلك أن قناصل جمهوريتها قد تحدوا الأباطرة، وأساقفتها تحدوا البابوات، وآوى أهلُها الملحدين الذين تحدوا المسيحية نفسها أو اشتركوا معهم في إلحادهم. وكان فيها في القرن الثالث عشر مائة ألف من الأهلين، وثلاثة عشر ألف بيت وألف حانة (24). وكانت هي مولعة بالحرية حريصة عليها، فلم تتخل عنها راضية إلى غيرها، وكان جنودها يطوفون بالطرق ليرغموا القوافل، أياً كانت وجهتها، على أن تعرج على ميلان أولاً. وقد دمرت كومو ولودي Lodi، وحاولت أن تخضع بيزا، وكرمونا، وبافيا، ولم تركن إلى السكون حتى سيطرت على جميع تجارة نهر البو (25). ووقف رجلان من أهل لودي أمام كنستانس عام 1154 وتوسلوا إلى فردريك بربروسه أن يحمي مدينتهم؛ وبعث الإمبراطور إلى ميلان يحذرها من مواصلة العدوان على لودي؛ فرفضت المدينة رسالته في سخرية ووطئتها بالأقدام. واغتنم فردريك هذه الفرصة ليحقق رغبته التي طالما تاقت نفسه إليها وهي تدمير ميلان (1162)، ولم تمض خمس سنين على هذا التدمير حتى أعاد الباقون من أهلها هم وأصدقاؤهم بناء المدينة، وابتهجت لمباردية جميعها ببعثها، ورأت فيه رمزاً لتصميم إيطاليا علة ألا يحكمها قط ملك ألماني. وخضع فردريك، ولكنه قبل أن يموت زوج ابنه هنري السادس من كنستانس ابنة روجر الثاني ملك صقلية؛ ووجدت العصبة اللمباردية في ابن هنري رجلاً أشد رهبة من فردريك.(15/276)
الفصل الخامس
فردريك الثاني
1194 - 1250
1 - الصليبي المحروم
كانت كنستانس في سن الثلاثين حين تزوجت هنري، وكانت في الثانية والأربعين حين ولدت ابنها الوحيد. وخشيت أن يرتاب الناس في حملها وفي شرعية طفلها فأمرت بأن تنصب خيمة في السوق العامة. أييزي Iesi ( القريبة من أنكونا)؛ وفيها وعلى مرأى من الحاضرين جميعاً ولدت الغلام الذي أصبح فيما بعد أكثر الناس فتنة في القرن الأخير من العصور الوسطى. وكان يجري في عروق الوليد دم ملوك النورمان الإيطاليين ممتزجاً بدماء أباطرة هوهنستاوفن الألمان.
وكان في الرابعة من عمره حين توج في بالرم ملكاً على صقلية (1198)؛ وذلك لأن والده مات قبل عام من ذلك الوقت ثم ماتت والدته بعد عام من تتويجه. وأوصت قبل موتها أن يكون البابا وصياً على ابنها، وأن يتولى تعليمه وحمايته السياسية، وعرضت عليه في نظير ذلك راتباً مجزياً، وأن ينوب عنه في الحكم، وأن تعاد له السيادة على صقلية. وقبل البابا هذا العرض مسروراً، واستخدم مركزه في إنهاء ذلك الاتحاد بين صقلية وألمانيا الذي أقامه والد فردريك؛ ذلك أن البابوات كانوا يخشون بحق قيام دولة كبرى تحيط بولايات البابا من جميع الجهات، وتكون في الواقع سجناً للبابوية وصاحبة السلطان عليها. وأعد إنوسنت العدة لتعليم فردريك، ولكنه أيد أتو الرابع في أن يتولى عرش ألمانيا. وشب فردريك محوطاً بالإهمال وبالفقر في بعض الأحيان، حتى كان ذوو القلوب(15/277)
الرحيمة من أهل بالرم يأتون الطعام لهذا الغلام الملكي البائس (26). وكان يسمح له بأن يجري في شوارع العاصمة المتعددة الأجناس واللغات وفي أسواقها كما يشاء، وأن يختار أصدقاءه كما يشتهي. ولم يتلق الغلام تعليماً منتظماً، ولكن عقله المتعطش للمعرفة كان يتعلم من كل ما يرى ويسمع، حتى لقد دهش العالم فيما بعد من اتساع معلوماته ودقتها. فقد تعلم في تلك الأيام وبالطريقة السالفة الذكر اللغتين العربية واليونانية، وبعض معارف اليهود، وعرف في أيام شبابه خلقاً من شعوب مختلفة، ذوي ملابس، وعادات، وعقائد متباينة، ولم يتخل قط عن عادة التسامح التي ألفها في صغر سنه. وقرأ كثيراً من كتب التاريخ، وأصبح كاتباً بليغاً ومثاقفاً ماهراً، ومغرماً بالخيل والصيد. وكان قصير القامة، قوي البنية، "ذا وجه جميل جذاب" (27)، وشعر ملو أحمر طويل، نشيطاً، فخوراً، سريع البت في الأمور. ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، فصل الرجل الذي انتدبه البابا لينوب عنه في الوصاية عليه وتولى زمام الأمور بنفسه. وبلغ الحلم في الرابعة عشرة وتزوج في الخامسة عشرة من كنستانس الأرغونية Constance of Aragon، وشرع يعمل ليسترد عرش الإمبراطورية.
وواتاه الحظ فنال بغيته، ولكن ذلك لم يكن من غير ثمن. وتفصيل ذلك أن أتو الرابع نقض العهد الذي قطعه على نفسه بأن يحترم سيادة البابا في الولايات البابوية، فحرمه البابا من الكنيسة، وأمر بارونات الإمبراطورية وأساقفتها أن يختاروا لعرشها فردريك الشاب الذي تحت وصايته "لأن له حكمة الشيوخ وإن كان لايزال في سن الشباب" (28). ولكن إنوسنت، وقد مال فجأة إلى فردريك، ولم يتحول عن غرضه الأول وهو حماية البابوية من كل عدوان عليها. ولهذا طلب إلى فردريك نظير تأييده إياه (1212) أن يتعهد له أن تظل صقلية إقطاعية للبابوات تؤدي لهم الجزية، وأن يحمي الولايات البابوية من كل عدوان؛ وأن تظل "الصقليتان"- وهما إيطاليا الجنوبية النورمانية والجزيرة- منفصلتين(15/278)
انفصالاً دائماً عن الإمبراطورية؛ وأن يقيم في ألمانيا بوصفه إمبراطوراً عليها، ويترك الصقليتين لابنه الطفل هنري ليكون ملكاً على صقلية، وأن ينوب عنه في حكمها نائب يعينه إنوسنت؛ وتعهد فردريك فضلاً عن هذا كله أن يحافظ على جميع حقوق رجال الدين وسلطانهم في دولته، وأن يعاقب المارقين، وأن يحمل الصليب ويخرج إلى الحرب الصليبية. ودخل فردريك ألمانيا بعد أن أمده البابا بالمال اللازم لرحلته ورحلة حاشيته. وكانت لاتزال تحت سلطان جيوش أتو. لكن هذه الجيوش منيت بالهزيمة في بوفين على يدي فيليب أغسطس؛ فانهارت مقاومة أتو، وتوج فردريك إمبراطوراً باحتفال فخم مهيب في آخن (1215). وفيها جدد الوعد الذي قطعه على نفسه من قبل بأن يشن حرباً صليبية. وتأثر كثير من الأمراء بحماسة النصر الذي ناله الشاب فأقسموا يميناً مثل يمينه. وخيل إلى ألمانيا حيناً من الدهر أنه داود ثان بعثه الله لينقذ أورشليم بلد داود من ورثة صلاح الدين.
لكن الأمور لم تسر بالسرعة المطلوبة، فقد حشد هنري أخو أتو جيشاً ليخلع به فردريك، ووافق هونوريوس الثالث Honorius III البابا الجديد على أن يدافع الإمبراطور الشاب عن عرشه. وانتصر فردريك على هنري، ولكنه تورط وقتئذ في الشؤون السياسية للإمبراطورية، ويلوح أنه كان يحن إلى موطنه الأول في إيطاليا، فقد كان دم الجنوب وحرارة الجنوب ممتزجين بطبعه، وكانت ألمانيا تضايقه. وقد أعطى البارونات سلطات إقطاعية واسعة، ومنح عدداً من المدن عهوداً بالحكم الذاتي، وعهد بحكم ألمانيا إلى إنجلبرت كبير أساقفة كولوني، وهرمان السالزي Herman of Salza الرجل الحازم القدير كبير الفرسان التيوتون. وتمتعت ألمانيا بالسلم والرخاء في السنين الخمس والثلاثين التي تولى فيها العرش على الرغم من إهماله الظاهري لشؤونها. وبلغ من رضاء البارونات(15/279)
والأساقفة عن سيدهم الغائب أن توجوا مرضاه له ابنه هنري البالغ من العمر سبع سنين "ملكاً على الرومان" - أي وارثاً لعرش الإمبراطورية (1220). وعين فردريك نفسه في الوقت عينه نائباً في صقلية عن هنري الذي بقى وقتئذ في ألمانيا. وبدل هذا العمل خطط إنوسنت تبديلاً تاماً، ولكن إنوسنت كان قد فارق هذا العالم. وخضع هونوريوس للأمر الواقع، ولك يكتف بالخضوع له بل توج فردريك إمبراطوراً في روما، لأنه كان شديد الرغبة في أن يرحل فردريك من فوره لإنقاذ الصليبيين في مصر. لكن بارونات إيطاليا الجنوبية ومسلمي صقلية خرجوا عليه وقتئذ، وقال فردريك إنه لابد له أن يعيد النظام في مملكته الإيطالية قبل أن يخاطر بالغياب عنها زمناً طويلاً. يضاف إلى هذا أن زوجته ماتت في ذلك الوقت (1222). وأراد هونوريوس أن يغريه بأن يبرّ بقسمه فأقنعه بأن يتزوج إزابلا Isabella، وارثة عرش أورشليم الضائعة، ووافق فردريك على هذا الزواج وأضاف لقب "ملك أورشليم" إلى لقبيه الآخرين وهما ملك صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. ثم أخرت سفره مرة أخرى متاعب قامت في المدن اللمباردية. ومات هونوريوس في عام 1227 واعتلى عرش البابوية جريجوري التاسع الرجل الصارم القوي الشكيمة. وأخذ فردريك وقتئذ يعد العدة في جد، فأنشأ أسطولاً عظيماً، وحشد أربعين ألفاً من المحاربين الصليبيين في برنديزي، لكن وباء مروعاً فشا في جيشه، مات منه آلاف، وفرَّت منه آلاف أكثر منها. وأصيب بهذا الوباء الإمبراطور نفسه، وكبير قوَّاده لويس الثورنجيائي Louis of Thuringia. ومع هذا فقد أصدر فردريك أمره بالرحيل، ومات لويس، وساءت حال فردريك، وأشار عليه أطباؤه ومن كان معه من كبار رجال الدين بأن يعود إلى إيطاليا، فعمل بمشورتهم، وطلب العلاج من مرضه في بزيولي Pozzuoli. ونعد صبر البابا جريجوري؛ فلم يستمع إلى أقوال رسل فردريك وأعلن في العالم حرمان الإمبراطور.(15/280)
وبعد سبعة اشهر من ذلك الوقت أبحر فردريك إلى فلسطين (1228) وهو لا يزال مطروداً من حظيرة الدين. فلما سمع جريجوري بوصوله بلاد الشام أحل رعايا فردريك وابنه هنري من يميني الولاء لهما، وأخذ يعمل لخلع الإمبراطور. وعد نائب فردريك في إيطاليا هذه الأعمال إعلاناً للحرب من جانب البابا، فهاجم الولايات البابوية. ورد جريجوري على هذا العمل بأن أرسل جيشاً لغزو صقلية، وأشاع الرهبان أن فردريك قد مات؛ وما لبث جزء كبير من صقلية وإيطاليا الجنوبية أن سقط في يدي البابا. ووصل مندوبان عن البابا من رهبان الفرنسسكان مدينة عكا بعد أن وصلها فردريك بزمن قليل، وحرما على كل رجل في صفوف المسيحيين أن يطيع أمر الرجل الطريد. ودهش الكامل قائد جيوش المسلمين إذ وجد حاكماً أوربياً يعرف اللغة العربية، ويقدر الآداب والعلوم والفلسفة العربية أعظم التقدير، فعقد صلحاً مواتياً مع فردريك، دخل على أثره الإمبراطور بيت المقدس فاتحاً دون أن يريق في هذا الفتح قطرة دماء. ولم يجد فردريك من رجال الدين من يرضى بتتويجه ملكاً على بيت المقدس فما كان منه إلا أن توج نفسه كنيسة الضريح المقدس. وأعلن أساقفة قيصرية أن وجود فردريك في الضريح والمدينة قد دنسهما، فحرما إقامة الخدمات الدينية في بيت المقدس وعكا. وترامى إلى بعض فرسان المعبد أن فردريك يعتزم زيارة المكان الذي يقال إن المسيح قد عمد فيه في نهر الأردن؛ فبعث برسالة سرية إلى الكامل يقول فيها إن الفرصة قد واتته لأسر فردريك. فما كان من القائد المسلم إلا أن بعث بالرسالة إلى فردريك. وأراد الإمبراطور أن ترفع اللعنة عن بيت المقدس فغادرها في اليوم الثالث بعد التتويج وسافر إلى عكا، وفيها أخذ عامة المسيحيين يلقون عليها الأقذار وهو خارج منها إلى سفينته (29).
ولما وصل فردريك برنديزي جيش فيها من فوره جيشاً جديداً. وزحف(15/281)
به ليسترد المدن التي استسلمت للبابا. وفر جيش البابا أمامه وفتحت له المدن أبوابها، ولم يقاوم منها إلا سورا Sora فضرب عليها الحصار حتى استولى عليها عنوة وأشعل فيها النار فدمرتها تدميراً. ووقف فردريك عند حدود الولايات البابوية، وأرسل إلى البابا يدعوه إلى الصلح، فأجاب البابا دعوته ووقعا معاهدة سان جرمانو San Germano (1230) ، وألغى قرار الحرمان ورفرف لواء السلم إلى حين.
2 - أعجوبة العالم
ثم وجه فردريك عنايته للشؤون الإدارية، فأخذ يعالج من مقره في فجيا Foggia من أعمال أبوليا Apulia مشاكل دولته التي اتسعت فوق ما ينبغي أن تتسع. وزار ألمانيا في عام 1231 وأيد في "قانون لمصلحة الأمراء" ما كان هو وولده قد منحه من سلطان البارونات؛ وذلك بأنه كان يرضي أن يسلم ألمانيا للإقطاع إذا كان تسليمه يتيح له السلم التي تمكنه من أن ينفذ ما يريده لإيطاليا، ولعله أدرك أن معركة بوفين قد أنهت زعامة ألمانيا لأوربا، وأن القرن الثالث عشر هو عصر فرنسا وإيطاليا؛ وقد جوزي على إهماله شؤون ألمانيا بتمرد ابنه وانتحاره.
واستطاع أن يؤلف بين عواطف الصقليين المتعددة وينشئ منها صرحاً من النظام والرخاء يعيد إلى الأذهان مجدها في أيام روجر الثاني. فقد ألقى القبض على المسلمين الثائرين المعتصمين بالجبال، ونقلهم إلى إيطاليا، ودربهم ليجعل منهم جنوداً مرتزقة، فأصبحوا خير من يعتمد عليهم في جيش فردريك. وفي وسعنا أن نتصور غضب البابوات حين يرون الجنود المسلمين يقودهم الإمبراطور ويحارب بهم جنده. وظلت بالرم حتى ذلك الوقت عاصمة الصقليتين من الوجهة القانونية، ولكن فجيا كانت هي العاصمة الحقيقية. وكان فردريك يحب إيطاليا حباً لا يعادله حب معظم الإيطاليين، وكان يعجب كيف يقدر يهود فلسطين هذا التقدير العظيم وإيطاليا على ظهر الأرض؛ وكان يسمى إيطاليا الجنوبية "قرة عينه وملجأ وسط السيول،(15/282)
وجنة وسط برية من الأشواك" (30)، وشرع في عام 1223 يشيد في فجيا القصر الحصين الهائل الذي لم يبق منه اليوم إلا مدخله؛ وسرعان ما قامت حول بيته مدينة من القصور يسكنها أعوانه، ودعا أشراف مملكته الإيطالية ليكونوا وصفاء في بلاطه، وما زالوا يرقون في خدمته حتى كان منهم عماله الذين تولوا شؤون الحكومة الإدارية. وكان على رأس هؤلاء جميعاً بيرو دلي فجني Piero delle Vigne خريج مدرسة الحقوق في بولونيا. وقد عينه فردريك أميناً على بيت المال وأحبه كحبه أبنه أو أخاه، وحل رجال القانون محل رجال الدين في دولاب الحكم في باريس بعد سبعين عاماً من ذلك الوقت؛ فهنا في أقرب الدول إلى كرسي القديس بطرس انتقل الحكم انتقالاً تاماً من أيدي رجال الدين إلى أيدي رجال الدنيا.
وإذ كان فردريك قد نشأ في عصر الفوضى، وتشبع بالآراء الشرقية، فإنه لم يخطر بباله قط أن النظام المعروف باسم الدولة يستطاع المحافظة عليه بغير سلطان الملوك. ويبدو أنه كان يعتقد مخلصاً أنه إذا انعدمت السلطة المركزية القوية أهلك الناس أنفسهم، أو افتقروا المرة بعد المرة بسبب الإجرام والجهل، والحرب؛ وكان مثل بربروسه يرى أن نظام المجتمع أعظم قيمة من حرية الشعب، ويحس أن الحاكم الحازم الذي يستطيع المحافظة على النظام يستمتع بكل ما في ملكه من نعيم. وكان يسمح للشعب بقدر من التمثيل في حكومته: فقد أنشأ جمعيات تنعقد مرتين كل عام في خمسة مواضع من مملكته، لتعالج المشاكل، والشكاوي والجرائم المحلية. ولم يدع إلى هذه الجمعيات أشراف الإقليم ومطارنته فحسب، بل كان يدعو إليها بالإضافة إليهم أربعة مندوبين عن كل مدينة كبيرة، ومندوبين اثنين عن كل بلدة. أما فيما عدا هذا فقد كان فردريك ملكاً مطلق السلطان، يرى أن القاعدة الأساسية التي يقوم عليها القانون الروماني- وهي أن الأهلين قد عهدوا إلى الإمبراطور دون غيره الحق المطلق في التشريع-(15/283)
يرى أن هذه القاعدة من البدائة التي لا تقبل الجدل. واصدر للدولة من ملفي Melfi عام 1231 الكتاب الأعظم وهو أول مجموعة منظمة للقوانين بعد جستنيان، وأتم كتابٍ في فقه التشريع في تاريخ القانون كله. ويرجع أكبر الفضل في صدوره إلى مهارة بيرودلي فجني وحسن مشورته. وكان هذا القانون رجعياً من بعض الوجوه؛ فقد أقر ما في النظام الإقطاعي من فروق بين الطبقات. وأيد ما كان للسيد الإقطاعي من حقوق قديمة على أرقاء أرضه، لكنه كان في كثير من النواحي قانوناً تقدمياً: فقد حرم الأشراف من سلطانهم التشريعية والقضائية، وحقهم في سك العملة، وركز هذه الحقوق كلها في الدولة؛ وألغى نظام التقاضي بالقتال أو التحكيم الإلهي، وأنشأ نظام المدعين العموميين المعينين من قبل الدولة لتعقيب الجرائم التي ظلت حتى ذلك الوقت تقلت من العقاب إذا لم يتقدم مواطن ما بعرضها على القضاء. وندد الكتاب بالتباطؤ في إصدار الأحكام، ونصح القضاة بتقصير خطب المحامين، وحتم على محاكم الدولة أن تعقد جلساتها في كل يوم ما عدا أيام العطلة الرسمية.
وعني فردريك كما عني معظم الحكام في العصور الوسطى بتنظيم شؤون الاقتصاد القومي، فحدد "ثمناً عادلاً" لعدد من مختلف الخدمات والسلع. وأممت الدولة إنتاج الملح، والحديد، والصلب، والقنب، والقار، والمنسوجات المصبوغة، والأقمشة الحريرية (31)؛ وأقامت الدولة مصانع للنسيج تعمل فيها إماء مسلمات على أعين رؤوساء من الخصيان (32)؛ وكانت تمتلك وتدير مذابح الحيوانات والحمامات العامة؛ وأنشأت مزارع نموذجية، وشجعت زراعة القطن وقصب السكر، وطهوت الغابات والحقول من الحيوانات الضارة، وشقت الطرق وأقامت القناطر، وحفرت الآبار لتزيد موارد المياه (33). وكان الجزء الأكبر من التجارة الخارجية في يد الدولة تنقله سفن تمتلكها الحكومة، كان في واحدة منها ثلاثمائة من الملاحين (34). وخفضت المكوس المفروضة على التجارة الداخلية إلى الحد(15/284)
الأدنى، ولكن العوائد المفروضة على الصادرات والواردات كانت أكبر مورد من موارد الدولة. وكان ثمة ضرائب أخرى كثيرة، لأن هذه الحكومة كانت تستطيع أن تجد على الدوام، كما تجد سائر الحكومات، منافع للمال. ومن بين الأعمال التي تعلي من قدر فردريك أنه وضع نظاماً سليماً للنقد روعيت فيه واجبات الشرف والأمانة.
وكان فردريك وحده سيد هذه الدولة والمدير لجميع شؤونها، وأراد أن يجعلها ذات جلال وقداسة دون أن يعتمد على المسيحية التي كانت في العادة مغاضبة له، فبذل غاية في جهده في أن يخلع على نفسه كل ما كان يحيط بالإمبراطور الروماني من رهبة وجلال. فلم يطبع على نقوده الجميلة الشكل شعاراً أو لفظاً مسيحياً، بل طبع حول أحد وجهيها تلك الأقصوصة Aug Cesar Rom Imp ( الإمبراطور الروماني قيصر أغسطس) وطبع على الوجه الآخر النسر الروماني يحيط به اسم Fredericus ( فردريكوس). ولقن الناس أن الإمبراطور كان بمعنى ما ابن الله، وأن شرائعه هي العدالة الإلهية مقننة، وكانوا يشيرون إليه بلفظ Iustitia وهي كلمة تكاد تكون صيغة الغائب الثالوث جديد. وكان فردريك يحرص على أن يوضع إلى جانب أباطرة الرومان في التاريخ ومعارض الفن، فأمر المثالين بأن ينحتوا له تماثيل من الحجارة، وزينت رأس قنطرة في فلتورنو Volturno، وفتحة باب في كيوا، بنقوش من الطراز القديم تمثله هو وأعوانه؛ ولم يبق من هذا كله إلا رأس أنثى ذو جمال بارع (35). لكن هذه المحاولة التي بذلت قبل عصر النهضة لإحياء الفن القديم أخفقت لأن تيار الفن القوطي قد اكتسحها أمامه.
واستطاع فردريك، رغم اقترابه من الألوهية، وجده المتواصل في شؤون الملك أن يستمتع بالحياة بمختلف نواحيها في بلاط بفجيا. فقد كان لديه جيش من الأرقاء، كثرتهم من المسلمين، يقومون على خدمته، ويشرفون على(15/285)
دولاب حكومته وموظفيه. ولما توفيت زوجته الثانية تزوج بإزبلا الإنجليزية عام 1235؛ ولكن إزبلا الإنجليزية لم يكن في مقدورها أن تفهم عقليته أو أخلاقه، فآثرت الانزواء وتركت فردريك يستمتع بعشيقاته حتى ولد له ابن غير شرعي. وكان أعداؤه يتهمونه بأنه أنشأ لنفسه "حريماً"، كما اتهمه جريجوري التاسع باللواط (36)؛ ورد فردريك على ذلك بقوله إنه يحتفظ بجميع أولئك النساء البيض والسود، والغلمان لبراعتهم في الغناء، والرقص، والألعاب البهلوانية، أو غيرها من ضروب التسلية المعتادة في بلاط الملوك. وكان يحتفظ فضلاً عن هذا كله بحديقة للحيوان البري، وكان يسافر أحياناً وفي صحبته عدد من الفهود، والوشق، والآساد، والنمورة الرقطاء، والقردة، والدببة، مسلوكة في السلاسل يقودها عبيد من المسلمين. وكان فردريك مولعاً باقتناص الحيوان وصيد الحيوان بالصقورة، وجمع الطيور الغريبة، وقد كتب لابنه مانفرد Manfred رسالة علمية في الصيد بالبزاة جديرة بالإعجاب.
وكان أعظم ما يستمتع به بعد الصيد هو الحديث الظريف المهذب - delico parlare، فكان يفضل التقاء العقول الحصيفة على المبارزة بالسلاح، وكان هو نفسه أعظم المحدثين ثقافة في أيامه، وقد اشتهر بفكاهته وسرعة بديهيته، وكان هو فلتير نفسه (37). وكان يتحدث بتسع لغات ويكتب سبعاً منها، ويراسل الكامل باللغة العربية، ويقول له في رسائله إنه أعز أصدقائه بعد أولاده، ويكتب باللغة اليونانية إلى جون فانتزس John Vatatzes زوج ابنته وإمبراطور الروم؛ وباللغة اللاتينية إلى العالم الغربي. وكان رفاقه - وبخاصة بيرودلي فجني - يصوغون أسلوبهم اللاتيني البليغ على نمط الكتب الرومانية القديمة؛ لأنهم كانوا يحسون بروح الكتاب الرومان الأقدمين تسري في نفوسهم ويعملون على محاكاة هؤلاء الكتاب، وكادوا يكونون هم الرواد السباقين لكتاب عصر النهضة ذوي النزعة الإنسانية. وكان فردريك نفسه شاعراً، أثنى دانتي(15/286)
على شعره اللاتيني، وقد أدخل غزل بروفانس والشعراء المسلمين الغزلين في بلاطه، وتعلق به، وقلده النبلاء الشبان الذين كانوا في خدمة المليك. وكان الإمبراطور نفسه يحب أن يستريح من العناء بعد أن يقضي يوماً من تصريف شؤون الملك أو الصيد أو الحرب ومن حوله النساء الحسان والشعراء يتغنون بأمجاده ومفاتن نسائه، كما كان يفعل بعض الأمراء في بغداد.
وكان فردريك كلما تقدمت به السن يوجه قسطاً متزايداً من اهتمامه إلى العلوم والفلسفة. وكان أكبر ما يبعث فيه هذه الرغبة العلمية هو التراث الذي خلفه المسلمون في صقلية. وقد قرأ بنفسه كثيراً من روائع الكتب العربية الخالدة، واستدعى إلى بلاطه كثيرين من العلماء والفلاسفة المسلمين واليهود، وأجاز العلماء على ترجمة المراجع الهامة اليونانية والإسلامية إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ولعه بالعلوم الرياضية أن أقنع سلطان مصر بأن يبعث له بأحد الرياضيين الذائعي الصيت، كما كان على صلة ودية وثيقة بليوناردو فيبوناتشي Leonards Fibonacci أعظم علماء الرياضة المسيحيين في أيامه. لكنه كان يشارك أهل زمانه في بعض خرافاتهم، وأشتغل بالتنجيم والكيمياء الكاذبة، وأغرى ميخائيل اسكت Michael Scot الذي كان واسع المعرفة في علوم مختلفة بأن يجيء إلى بلاطه، وأخذ يدرس معه بعض العلوم الخفية بالإضافة إلى الكيمياء، والتعدين، والفلسفة. وكان شغوفاً بالإطلاع في جميع العلوم، فكان يبعث بالأسئلة العلمية والفلسفية إلى العلماء المقيمين في بلاطه وإلى غيرهم في البلاد النائية كمصر، وبلاد العرب، والشام والعراق. وكانت لديه حديقة للحيوان يتخذها للدرس لا للهو، ونظم تجارب علمية في تربية الدجاج، والحمام، والخيل، والجمال، والكلاب، ووضع قوانين لتحريم الصيد في مواسم معينة قائمة على أساس سجلات دقيقة خاصة بمواسم الزواج والتوالد عند الحيوان حتى قيل إن حيوانات أبوليا كتبت إليه تشكره على حسن صنيعه. وقد تضمنت شرائعه تنظيماً مستنيراً لمهنة الطب، والجراحات(15/287)
الطبية وبيع العقار. ولم يكن يرى حرجاً في تشريح جثث الموتى، وكان الأطباء المسلمون يعجبون من سعة علمه بالتشريح. أما الفلسفة فحسبنا دليلاً على واسع علمه بها أنه طلب إلى بعض علماء المسلمين أن يفسروا ما بين آراء أرسطو والإسكندر الأفروديسي من تناقض في خلود العالم. ولقد حياه ميخائيل اسكت بقوله: "أيها العاهل المحظوظ، إني لقوي الاعتقاد بأنه لو كان في مقدور رجل ما أن يفر من الموت بعلمه لكنت أنت ذلك الرجل (38) ".
وكان فردريك يخشى أن تضيع بحوث العلماء الذين جمعهم عنده بعد موتهم، فأنشأ في عام 1224 جامعة نابلي - وهي أنموذج نادر من جامعات العصور الوسطى، أقيمت من غير حاجة إلى موافقة السلطات الدينية على إنشائها. وقد استدعي إليها علماء متبحرين في جميع الفنون والعلوم، ومنحهم مرتبات عالية، ورتَّب إعانات مالية ليمكن النابهين من الطلاب الفقراء من الدرس. وحرَّم على شباب مملكته أن يخرجوا منها في طلب التعليم العالي؛ وكان يأمل أن تنافس نابلي بعد وقت قصير مدينة بولونيا فتصبح مدرسة كبرى للقانون وتدرّب الناس على أعمال الإدارة العامة.
وبعد فهل كان فردريك ممن ينكرون وجود الله؟ لقد كان في شبابه من الأتقياء الصالحين، ولعله ظل مستمسكاً بالعقائد الأساسية في الديانة المسيحية إلى أيام حربه الصليبية. ثم يبدو أن اتصاله الوثيق بزعماء المسلمين ومفكريهم قضي على عقيدته المسيحية. وقد افتتن بعلوم المسلمين ورآها أسمى قدراً من أفكار المسيحيين ومعارفهم أيامه. ومما يدل على ذلك أنه لما عقد مجمع الأمراء الألمان في فريولي Friuli، (1232) استقبل وفداً من المسلمين أحسن استقبال، ثم اشترك على مرأى من الأساقفة والأمراء مع هؤلاء المسلمين في وليمة أقيمت للاحتفال بأحد الأعياد الدينية الإسلامية (39). ويقول عنه ماثيوباريس Matthew Paris: " ويقول أعداء الإمبراطور إنه يوافق على شريعة محمد(15/288)
ويؤمن بها أكثر من إيمانه بشريعة المسيح عيسى ... وإن صداقته للمسلمين أقوى من صداقته للمسيحيين" (40). وشاعت عنه شائعة صدقها جريجوري التاسع تتهمه بأن قال إن "ثلاثة من المشعوذين ساقوا بدهائهم أهل زمانهم ليسودوا بهم العالم - موسى، وعيسى، ومحمداً! ". ودوي هذا السباب والكفران في جميع أنحاء أوروبا، وأنكر فردريك التهمة، ولكنها ساعدت على نفور الرأي العام منه في آخر أزمات حياته. وما من شك في أنه كان حر الفكر إلى حد ما، فقد كانت لديه شكوكه في العقيدة القائلة بأن العالم خلق دفعة واحدة في زمن معين، وفي خلود الفرد، وفي ولادة العذراء، وفي أمثالها من العقائد الواردة في الدين المسيحي (42). وقال حين رفض مبدأ التحكيم الإلهي: "منذا الذي يصدق أن الحرارة الطبيعية الكامنة في الحديد المتوهج تبرد من غير سبب كاف، أو أن عنصر الماء يرفض قبول (غمر) المتهم لأنه ميت الضمير" (43). ولم ينشئ في حياته كلها إلا كنيسة واحدة.
وقد منح جميع أصحاب العقائد المختلفة في مملكته حرية العبادة ببعض القيود، فقد كان الروم الكائوليك، والمسلمون، واليهود يمارسون شعائر دينهم دون أن يصيبهم أذى، ولكنهم لم يكن في مقدورهم (إلا في حالة واحدة) أن يدرسوا في الجامعة، أو أن يرقوا إلى منصب رسمي في الدولة. وكان يحتم على جميع المسلمين والعبرانيين أن يرتدوا ثياباً تميزهم عن المسيحيين، وألزم المسلمين واليهود بأن يؤدوا نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية ضريبة الفرضة التي كان الحكام المسلمون يفرضونها على المسيحيين واليهود. وكانت شرائع فردريك تعاقب من يعتنق الدين اليهودي أو الإسلامي من المسيحيين أشد العقاب، غير أنه لما اتهم يهود فلدا Fulda في عام 1235 بأنهم يقتلون طفلاً مسيحياً ليستخدموا دمه في عيد فصحهم هب فردريك لإنقاذهم، وكذب القصة وقال إنها خرافة اخترعها غلاظ القلوب، وكان عنده في بلاطه عدد من العلماء اليهود (44).(15/289)
وأشد ما يلاحظ من تناقض في حكم هذا الملك الذي يجري على سنن العقل هو اضطهاده الإلحاد والملحدين. ذلك أن فردريك لم يكن يسمح في بلاده بحرية التفكير أو القول لإنسان ما حتى أساتذة جامعته، بل اختص نفسه ورفاقه دون غيرهم بهذه الميزة، فقد كان كمعظم الحكام يرى أن الدين ضروري لا غنى عنه للنظام الاجتماعي، ولم يكن يقبل أن يقوض علماؤه دعائمه؛ يضاف إلى هذا أن القضاء على الإلحاد ييسر قيام السلام المتقطع مع البابوات؛ وجرياً على هذه السياسة أيد فردريك محكمة التفتيش كل التأييد على حين أن بعض الملوك في القرن الثالث عشر ترددوا في معاونتها، وبذلك اتفق البابوات هم وعدوهم الألد في هذه المسألة وحدها.
3 - النزاع بين الإمبراطورية والبابوية
وأخذت أهداف فردريك البعدية الواسعة المدى تزداد وضوحاً كلما تقادم حكمه في فوجيا: كان يبغي أن يبسط سلطانه على إيطاليا بأجمعها؛ وأن يوحد إيطاليا وألمانيا تحت سلطان الإمبراطورية الرومانية بعد أن يعيدها إلى الوجود، ولعله كان يبغي أيضاً أن يجعل روما كما كانت قبل عاصمة العالم الغربي السياسية والدينية معاً. ولما أن دعا الأعيان الإيطاليين والمدن الإيطالية إلى مجمع في كرمونا Cremona عام 1226 كشف عن أغراضه بأن أرسل الدعوة أيضاً إلى دوقية اسبليتو، وكانت وقتئذ ولاية بابوية، وبأن سير جنوده في أراضي البابوات. وأمر البابا أعيان اسبليتو ألا يحضروا الاجتماع. وارتابت مدن لمباردية في الدعوة فرأت فيها وسيلة يبغي بها فردريك أن يخضعها للإمبراطور خضوعاً حقيقياً لا خضوعاً اسمياً فحسب، فأبت أن ترسل مندوبين عنها إلى الاجتماع؛ ولم تكتف بهذا بل ردت على هذه الدعوة بأن ألفت العصبة اللمباردية الثانية التي تعهدت فيها مدائن ميلان، وتورين، وبرجامو، وبرشيا، ومانتوا، ويولونيا، وفيسنزا،(15/290)
وقيرونا، وبدوا، وتافيزو أن تعقد فيما بينها حلفاً دفاعياً هجومياً يدوم خمساً وعشرين سنة؛ وبهذا لم يجتمع المجمع قط.
وخرج هنري على أبيه فردريك في عام 1234، وتحالف مع العصبة اللمباردية، فركب فردريك من جنوبي إيطاليا إلى رمز Worms وليس معه جنود، بل كان معه بدلاً منهم مال كثير؛ وخمدت الفتنة حين ترامت إلى القائمين بها أخبار قدومه أو حين مست أيديهم ذهبه؛ وزج هنري في السجن، وظل يكتوي بناره سبع سنين؛ وبينما كان ينتقل إلى مكان آخر يحبس فيه، عدا بجواده فوق جرف عال وهوى إلى أسفله جثة هامدة. وواصل فردريك سيره إلى مينز، ورأس فيها مجمعاً، أقنع فيه كثيرين من النبلاء الحاضرين أن ينضموا إليه في حملة يعيد بها سلطة الإمبراطورية على لمباردية. واستطاع بفضل هذه المعونة أن يهزم جيش العصبة اللمباردية (1237)؛ واستسلمت له جميع مدنها ما عدا ميلان وبريشيا، وعرض جريجوري التاسع وساطته بين الطرفين، غير أنه لم يكن من المستطاع التوفيق بين آمال فردريك في الوحدة وحب الإيطاليين الحرية.
وقرر جريجوري في هذه الساعة الفاصلة أن ينضم إلى جانب العصبة، وأن يجعل مصير سلطة البابوات الزمنية موقوفة على نتيجة هذه الحرب، مع أنه كان وقتئذ رجلاً مريضاً في سن التسعين. ولم يكن جريجوري مولعاً بحب المدن اللمباردية، فقد كان مثل فردريك يرى أن حريتها هي الطريق المؤدي إلى النزاع والفوضى، ويعرف أنها تأوي الملحدين الذين يعارضون جهرة في ثروة الكنيسة وسلطته الزمنية. وفي هذا الوقت بالذات كان الملحدون من أهل ميلان المحاصرة يدنسون مذابح الكنائس ويقلبون الصلبان التي تحمل صورة المسيح (45). ولكن جريجوري كان يعتقد أنه إذا تغلب فردريك على هذه المدن، ابتلعت إيطاليا الموحدة الولايات البابوية، وتألفت منها كلها إمبراطورية موحدة يسيطر عليها عدو للمسيحية وللكنيسة. ولهذا أقنع جريجوري مدينتي البندقية وجنوى(15/291)
بالانضمام إليه هو والعصبة في حرب يشنها على فردريك؛ ثم اصدر منشوراً عاماً شديد اللهجة، اتهم فيه فردريك بالكفر، والتجديف، والاستبداد، وبالرغبة في القضاء على سلطة الكنيسة، ثم حرمه في عام 1239، وأمر كل مطران من مطارنة الروم الكاثوليك أن يعلن أنه خارج على القانون، وأعفي رعاياه من يمين الولاء التي اقسموها له. ورد فردريك على هذا برسالة دورية بعث بها إلى ملوك أوروبا ينفي فيها تهمة الكفر، ويتهم البابا بأنه يريد أن يخضع جميع الملوك لسلطان البابوية، وأخذ النزاع الأخير بين الإمبراطورية والبابوية يجري في مجراه.
وأظهر ملوك أوروبا عطفهم على فردريك، ولكنهم لم يهتموا بما طلبه إليهم من معونة. كذلك انحاز أعيان ألمانيا وإيطاليا إلى جانبه، لأنهم كانوا يرجون أن يعيدوا مدنهما إلى طاعتهم الإقطاعية؛ أما في المدن نفسها فقد انحازت الطبقتان الوسطى والدنيا بوجه عام إلى جانب البابا، وعادت إلى الوجود عبارتا ويبلنج وولف Waibling and Welf بعد أن تحولتا إلى لفظي جبلين وجلف Ghibelline and Gulf ليدل أول اللفظين على أنصار الإمبراطورية، والثاني على المؤيدين للبابوية. ولم تخل روما نفسها من هذا الانقسام، فقد كان فيها كثيرون من المؤيدين لفردريك؛ ولما أن اقترب من روما بجيش صغير أخذت المدن واحدة بعد واحدة تفتح له أبوابها لأنها رأت فيه قيصراً ثانياً. وتوقع فردريك أن يلقي القبض عليه، فاخترق العاصمة على رأس موكب حزين من رجال الدين. وتأثرت قلوب الرومان بشجاعة البابا الشيخ وضعفه، وعمد الكثيرون منهم إلى أسلحتهم للدفاع عنه. ولم يشأ فردريك أن يحسم الموقف في ذلك الوقت فمر بروما جون أن يعرج عليها وقضى الشتاء في فجيا.
وكان قبل ذلك قد أقنع الأمراء الألمان بأن يتوجوا ابنه كنراد ملك الرومان (1237)، ووضع زوج ابنته على رأس حكومة فيسنزا، وبدوا،(15/292)
وتريفيزو، كما وضع على رأس حكومة المدن الأخرى التي استسلمت له إنزيو أحب أبنائه إليه وهو "صورة منا في وجهه وقوامه"، فقد كان وسيماً، فخوراً، مرحاً، شجاعاً في الحرب، بارعاً في قول الشعر. واستولى الإمبراطور على رافنا وفائنزا في عام 1240، وخرب في عام 1241 بنفنتو مركز القوات البابوية. واعترض أسطوله قافلة بحرية من جنوى تنقل إلى روما طائفة من الكرادلة، والمطارنة، ورؤساء الأديرة، والقساوسة الفرنسيين والأسبان والإيطاليين، وحجزهم فردريك في إبوليا ليتخذهم رهائن يساوم بهم؛ وما لبث أن أطلق الفرنسيين منهم، ولكنه أطال احتجاز الباقين، ومات عدد منهم في السجن، فارتاعت أوروبا التي طالما رأت أن رجال الدين محصنون يجب ألا يعتدي عليهم، وكثر وقتئذ عدد الذين يعتقدون أن فردريك هو المسيح الدجال الذي تنبأ بظهوره يواقيم الفلوري Joochim of Flora الصوفي منذ بضع سنين. وعرض فردريك أن يطلق رجال الدين إذا رضي جريجوري أن يعقد معه الصلح ولكن البابا لم يتزحزح عن موقفه إلى يوم مماته (1241).
وكان إنوسنت الرابع أكثر مسالمة من سلفه، فقد وافق بتحريض القديس لويس على شروط الصلح (1244)، ولكن مدن لمبارديا امتنعت عن التصديق على الاتفاق، وذكرت إنوسنت بأن جريجوري قد تعهد بألا تعقد البابوية صلحاً منفرداً مع فردريك. وغادر إنوسنت روما سراً، وهرب إلى ليون Lyons، وواصل فردريك الحرب، وبدا أن ليس ثمة قوة تستطيع منعه من فتح الولايات البابوية وضمها إلى دولته وإقامة سلطانه في روما. ودعا إنوسنت رجال الدين إلى مجلس عقد في ليون، وكرر هذا المجلس حرمان الإمبراطور وخلعه لأنه رجل فاسد الأخلاق، عاق، وتابع عديم الولاء لسيده البابا الذي يقر بسيادته عليه (1245). واختار النبلاء الألمان، بتحريض البابا، هنري رابس Henry Rapse إمبراطوراً بدل فردريك، فلما مات نادوا بوليم الهولندي William of Holland(15/293)
خلفاً له. وأصدر البابا قراراً بحرمان كل من يساعد فردريك، وحرمت الخدمات الدينية في كل الأقاليم الموالية له؛ وأعلنت عليه هو وإنزيو حرباً صليبية، ومنح الذين حملوا الصليب للقتال في فلسطين إذا اشتركوا في قتال الإمبراطور الكافر جميع المزايا التي تمنح الصليبيين.
وأطلق فردريك العنان لحقده وشهوة انتقامه، وأقدم على أعمال قطعت عليه خط الرجعة. فأصدر "منشوراً للإصلاح" يعلن فيه أن رجال الدين "عبيد للدنيا منهمكون في ملذاتهم، لم تبق ثروتهم المتزايدة على شيء من تقواهم" (46). ثم صادر ما للكنيسة من أملاك في الصقليتين ليستخدم ثمنها في حربه، ولما أن تزعمت بلدة في أبوليا مؤامرة للقبض عليه، أمر برؤساء المتآمرين فاقتلعت عيونهم وبترت أعضاءهم ثم قتلوا. ولما أن استنجد به ابنه كنراد، اتخذ سبيله إلى ألمانيا، ولكنه علم وهو في تورين أن بارما قد انتقصت على حاميته التي بها، وأن الخطر محدق بإنزيو، وأن الثروة قد اندلع لهيبها في إيطاليا الشمالية كلها وصقلية نفسها، فأخذ يقلم أظفار فتنة بعد فتنة في مدينة تلو مدينة، ويأخذ الرهائن من كل واحدة منها، ويقتل أولئك الرهائن حين تثور عليه مدنهم. وإذا وجد في الأسرى رسلاً للبابا أمر بقطع أيديهم وأرجلهم (47).
وبينما كان الحصار مضروباً على بارما سئم فردريك طول البطالة فخرج هو وإنزيو وخمسين من الفرسان لصيد طيور الماء في المستنقعات المجاورة للمدينة. وبينما هم في صيدهم خرج رجال بارما ونساؤها على المحاصرين وهجموا عليهم هجوم اليائيسين، فتغلبوا على قوات الإمبراطور المختلة النظام المعدومة القيادة، واستولوا على أموال الإمبراطور وحريمه ووحوشه، فما كان منه إلا أن فرض ضرائب فادحة، وجهز جيشاً جديداً، وواصل القتال. وجاءته الأنباء بأن بيرو دلي فجني وزيره الأول وموضع ثقته قد غدر به وأخذ يدبر المؤامرات ضده؛ فأمر بالقبض عليه وفقء عينيه، فما كان من بيرو بعد أن فعل به هذا إلا أن أخذ يضرب(15/294)
برأسه جدران سجنه حتى مات (1249). وجاءته الأنباء في تلك السنة نفسها أن سكان بولونيا قد أسروا إنزيو في المعركة التي قامت عند لافسالتا La Fossaalta، وحدث في الوقت عينه أن حاول طبيب فردريك أن يقتله بالسم؛ وحطمت هذه الضربات المتوالية السريعة روح الإمبراطور، فارتد إلى أبوليا ولم يشترك بعدئذ في الحرب القائمة. وانتصر قواده في عدة معارك عام 1250، ولاح أن الحظ قد عاد يواتيه. فقد طلب القديس لويس وهو في أسر المسلمين في مصر إلى إنوسنت الرابع أن يضع حداً للقتال حتى يستطيع فردريك أن يخف لنجدة الصليبيين. ولكن صحة الإمبراطور أخذت في الوهن ولم تفدها هذه الآمال المنعشة، فقد حطم الزحار - وهو البلية التي طالما أذلت ملوك العصور الوسطى -، جسم الإمبراطور المتغطرس. وطلب أن تغفر له ذنوبه، فأجيب إلى طلبه، ولبس الإمبراطور الملحد مسوح الرهبان السسترسيين، ومات في فلورنتينو في الثالث عشر من ديسمبر سنة 1250. وتهامس الناس بأن روحه قد حملتها الشياطين واخترقت بها فوهة بركان إتنا إلى الجحيم.
ولم يظهر بعد موته ما له من نفوذ، فسرعان ما انهارت إمبراطوريته، وتفشت فيها الفوضى أشد مما كانت عليه حين جلس على عرشها. واختفت الوحدة التي قضي حياته يحارب من أجلها حتى من ألمانيا نفسها، وسارت المدن الإيطالية في ركب الحرية وقوتها الناشطة المبدعة، وسلكت طريق الفوضى، فأدى بها إلى استبداد الأدواق والزعماء اللصوص الذين ورثوا، وهم لايكادون يدركون، فساد فردريك الخلقي، وحريته الفكرية، ومناصرته الآداب والفنون. والحق أن ما كان يتصف به طغاة عصر النهضة من ذكاء قوى مجرد من الضمير كان صدى لخلق فردريك وعقله خالياً من ظرفه وفتنته. وإنا لنستبين في تفكير فردريك وفي حاشيته حلول الكتب اليونانية والرومانية القديمة محل الكتاب المقدس، والعقل محل الإيمان، والطبيعة محل الله، والضرورة محل العناية الإلهية،(15/295)
ثم استولت هذه النزعة بعد فترة من الاستمساك بالدين على عقول فلاسفة النهضة وكتابها الإنسانيين. وملاك القول أن فردريك كان "رجل النهضة" قبل أن يحل عهد النهضة بمائة عام. نعم إن مكيفلي كان يتحدث في كتاب الأمير وفي عقله سيزاري بورجيا Coesar Borgis ولكن فردريك هو الذي مهد السبيل لفلسفة كتاب الأمير. وكذلك كان نتشة ينظر بعين فكره إلى بسمارك ونابليون، ولكنه لم يكن ينكر أثر فردريك - "أول من يوافق هواي من الأوروبيين" (48). وقد ارتاعت الأجيال التي جاءت بعده بأخلاقه، وافتتنت بعقله، وقدرت بعض التقدير عظمة مطامعه الإمبراطورية، فوصفته المرة بعد المرة بالصفات التي ابتدعها ماثيو باريس حين قال عنه إنه الرجل "العجيب الذي بدل العالم وأثار عجبه Super mundi et immutator mirabilis".(15/296)
الفصل السادس
تمزق إيطاليا
أوصي فردريك لابنه كنراد بعرش الإمبراطورية، وعين مانفرد Manfred ابنه غير شرعي نائباً عن الإمبراطور في إيطاليا، وشبت نار الفتنه في كل مكان تقريباً في إيطاليا، وخضعت نابلي، واسبليتو، وأنكونا، وفلورنس لمبعوثي البابا، ونادى إنوسنت الرابع: "فلتبتهج السماء ولتفرح الأرض! " وعاد البابا منتصراً إلى إيطاليا، واتخذ نابلي مقر قيادته الحربية، وزحف منها ليضم الصقليتيين إلى الولايات البابوية، ووضع الخطط ليفرض على مدن إيطاليا سيادة اقل سفوراً من سيادته على تلك الولايات. ولكن هذه المدن عقدت العزم على أن تحمي استقلالها من البابوات والأباطرة على السواء، وإن رضيت أن تشترك مع البابا في الصلوات. وكان إزلينو Ezzlino وابرتر بلافيسينو Uberto Pallavicino يسيطران على عدد من المدن ويدينا فيها بالولاء لنكراد. ولم يكن في قلب كلا الرجلين شيء من الاحترام للدين؛ فنشأ الإلحاد في أيامهما، وكان يخشى أن تفقد الكنيسة شمالي إيطاليا كله. وهبط كنراد الشاب فجاءة بجيش جديد من جبال الألب، وأعاد فتح البلدان الإيطالية المتذمرة، ودخل مملكة الصقليتين منتصراً، ولكنه لم يدخلها إلا ليموت بالملاريا (مايو سنة 1254). وتولى مانفرد قيادة قوات الإمبراطور، وبدد شمل جيش بابوي بالقرب من فجيا (2 ديسمبر). وبلغت هذه الهزيمة مسامع البابا وهو على فراش الموت فمات بائساً مغموماً (7 ديسمبر) يقول بصوت خافت: "رباه لقد أفسدت الإنسان عقاباً له على ظلمه".(15/297)
أما ما بقي من القصة فهو الفوضى السافرة، فقد شن البابا إسكندر الرابع (1254 - 1256) حرباً صليبية على إزلينو، جرح فيها هذا الطاغية ووقع في السر، وأبى أن يعوده الأطباء أو القساوسة أو أن يتناول الطعام، وأمات نفسه جوعاً، دون أن يتوب أو يقبل منه الاعتراف (1259). وأسر أيضاً أخوه ألبريجو Alberigo، وكان مثله في وحشيته وجرائمه، وأرغم على أن يشهد بعينيه تعذيب أسرته؛ ثم انتزع لحمه من جسمه بالكلاليب، وشد وهو لا يزال حياً إلى جواد؛ وجر على الأرض حتى مات (49). واندفع المسيحيون والكافرون وقتئذ في الأعمال الوحشية ما خلا مانفرد المرح النَّغل، وبقي مانفرد طوال الست السنين التالية سيد إيطاليا الجنوبية بعد أن أوقع بالجيوش البابوية هزيمة أخرى عند منتابرتو Montaperto (1260) . وكان يجد متسعاً من الوقت للغناء وكتابة الشعر "ولم يكن له مثيل على ظهر الأرض" على حد قول دانتي "في العزف على الآلات الوترية" (50). ولما يئس إربان الرابع (1261 - 1264) من أن يجد في إيطاليا من يرد مانفرد عن غيره، وأدرك أن البابوية يجب أن تعتمد من ذلك الوقت على حماية فرنسا إياها، طلب إلى لويس التاسع أن يقبل ملك الصقليتين إقطاعية من البابا. ورفض لويس هذا العرض، ولكنه أجاز لأخيه شارل دوق أنجو أن يقبل من إربان "مملكة نابلي وصقلية" (1264). واخترق شارل إيطاليا على رأس ثلاثين ألفاً من الجنود الفرنسيين وبدد شمل جيش مانفرد الذي كان أقل من جيشه عدداً. وقفز مانفرد في وسط أعدائه ومات ميتة أشرف من ميتة أبيه. ونزل في العام الثاني صبي في الخامسة عشرة من عمره وهو كنرادين Conradin من ألمانيا ليتحدى شارل، ولكنه هزم عند تجلياكزو Tagliacozzo وضرب رأسه علناً في ميدان السوق بنابلي عام 1268. وانتهى بمقتله وموت إنزيو الذي طال سجنه بعد أربع سنين من ذلك الحين أجل بيت هوهنسناوفن نهاية محزنه، وأصبحت الدولة الرومانية المقدسة شيئاً لا وجود(15/298)
له إلا في المظاهر والحفلات، وانتقلت زعامة أوروبا إلى فرنسا.
واتخذ شارل نابلي عاصمة له، وأوجد في الصقليتين أرستقراطية وبيرقراطية فرنسيتين، وأقام فيها جيشاً فرنسياً، ورهباناً وقساوسة فرنسيين، وحكم البلاد وجني الضرائب بوسائل استبدادية جعلت أهلها يتمنون لو يعث فردريك حياً، كما جعلت البابا كلمنت الرابع يتمنى لو أن البابوية لم تنتصر. وبينما كان شارل يستعد لقيادة أسطوله لفتح القسطنطينية إذ ثار العامة في بالرم يوم الاثنين التالي لعيد القيامة من عام 1282 بعد أن انطلق حقدهم الكامن في صدورهم لأن جندياً فرنسياً أساء الأدب مع عروس صقلية، وقتل الغوغاء كل فرنسي في المدينة. وليس أدل على الحقد الدفين الذي كان يغلي في صدور الصقليتين من الوحشية التي كانت تدفع رجالهم لأن يشقوا بسيوفهم أرحام النساء اللاتي حملن من الجنود أو الموظفين الفرنسيين ثم يطأون الأجنة الأجنبية حتى تموت تحت أقدامهم (51). وحذت مدن أخرى حذو بالرم حتى قتل ثلاثة آلاف من الفرنسيين في مذبحة تعرف باسم "مذبحة صلاة المساء" لأنها بدأت في ساعة تلك الصلاة. ولم ينج من القتل رجال الدين في الجزيرة؛ فقد هاجم الصقليون المعروفون بالتقي والصلاح الكنائسي والأديرة وذبحوا الرهبان والقساوسة دون أن يعبأوا بكرامة رجال الدين. وأقسم شارل دوق أنجو أن ينتقم من الجزيرة انتقاماً لا تنمحي آثاره مدى ألف عام، وتوعدها بأن يتركها "صخرة صماء جرداء خالية من السكان" (52). وحرم البابا مارتن Martin الرابع العصاة من حظيرة الدين وأعلن حرباً صليبية على صقلية. ولما عجز الصقليون عن حماية أنفسهم عرضوا الجزيرة على بدرو الثالث صاحب أرغونة. وجاء بدرو إلى الجزيرة بجيش وأسطول وثبت أسرة أرغونة ملوكاً على صقلية (1282). وبذل شارل كل ما في وسعه ليسترد الجزيرة ولكن جهوده ذهبت أدراج الرياح، فقد دمر أسطوله، ومات وهو منهوك القوى مغموماً حزيناً(15/299)
في فجيا (1285). واكتفى خلفاؤه بعد سبعة عشر عاماً من الكفاح غير المجدي بمملكة نابلي.
أما المدن الإيطالية القائمة في شمال روما فقد أخذت تثير الخصام بين الإمبراطورية والبابوية، واستطاعت بذلك أن تحتفظ بنوع من الحرية الطائشة الجموحة. وظلت أسرة دلا توري Della Torre تحكم ميلان عشرين عاماً حكماً ارتضاه سائر أهلها، ثم استولت على زمام الأمور عصبة من النبلاء بزعامة أتوفسكنتي Otto Visconti عام 1277، وأنشأ آل فسكنتي الملقبين بالكبتاني (الرؤساء) أو الدوتشي duci حكومة ألجركية حازمة قديرة حكمت المدينة مائة وسبعين عاماً. وكانت الكونتة ماتلدا قد أوصت للبابوية بإقليم تسكانيا بما فيه مدائن أرزو Arezzo، وفلورنس، وسينا Siena، وبيزا، ولوكا (1107)؛ ولكن هذه السيادة البابوية الصورية قلما كانت تنقص من حق مدائن الإقليم في أن تحكم نفسها أو تولي عليها من تختارهم من الطغاة.
وكان لسينا كما كان لكثير غيرها من المدن التسكانية ماض تعتز به، يرجع إلى أيام التسكانيين الأقدمين. وكانت غارات البرابرة قد خربت تلك المقاطعة، ولكنها انتعشت في القرن الثامن لأنها أضحت محطة وسطي في طريق الحج والتجارة بين فلورنس وروما. ونحن نسمع عن وجود نقابات طائفية للتجار بتلك المدينة في عام 1192 ثم بمثلها للصناع ثم لأصحاب المصارف، حتى أصبح بيت بونسنيوري Buonsignori الذي أنشئ فيها عام 1209 من أشهر المؤسسات التجارية والمالية في أوروبا كلها، وكان له وكلاء في جميع أنحائها، وبلغت القروض التي أمد بها التجار، والمدن، والملوك، والبابوات مبلغاً لا يكاد يصدقه العقل. وكانت فلورنس وسينا تتنازعان السيطرة على طريق فرنسيسا Via Francesa الذي يصل كلتيهما بالأخرى، وظلت المدينتان التجاريتان تحارب كلتاهما الأخرى حروباً منقطعة منهكة من عام 1207 إلى عام 1270؛ وانضمت سينا إلى الأباطرة في الكفاح(15/300)
القائم بين البابوية والإمبراطورية لأن فلورنس انحازت إلى جانب البابوية، وكان انتصار مانفرد عند منتابرتو Montaperto (1260) في واقع الأمر نصراً لسينا على فلورنس. ومع أن أهل سينا كانوا يقاتلون البابا، فإنهم كانوا يعزون ما نالوه من نصر في تلك الواقعة إلى قديستهم الشفيعة العذراء أم الإله. ووهبوا مدينتهم لمريم إقطاعية لها، وطبعوا على نقدهم تلك العبارة الدالة على الزهو والخيلاء وهي دولة العذراء، وضعوا مفاتيح المدينة تحت قدمي العذراء في الكنيسة الكبرى التي سموها باسمها. وكانوا في كل عام يحتفلون بذكرى انتقالها إلى السماء ويقيمون لذلك احتفالاً رهيباً مثيراً. فقد كان جميع المواطنين من سن الثامنة عشرة إلى سن السبعين يسيرون إلى الكنيسة ( duomo) في ليلة العيد وبيد كل منهم شمعة مضاءة في موكب فخم وراء قساوستهم وكبار موظفيهم، فإذا أتوا الكنيسة جددوا يمين الولاء والطاعة إلى العذراء. وكان موكب آخر يسير في يوم العيد نفسه ويتألف من ممثلين للمدن والقرى والأديرة المفتوحة أو التابعة لسينا، وكان هؤلاء المندوبون يسيرون أيضاً إلى الكنيسة يحملون الهدايا، ويجددون يمين الطاعة والخضوع لحكومة مدينة سينا ولملكتها. وكانت سوق عامة تقام في ميدان المدينة في هذا اليوم، ويستطيع الأهلون أن يشتروا فيها بضائع آتية من مائة مدينة، ويقوم فيها البهلوان والمغني والموسيقي بأدوارهم، ولم يكن يزيد عن عدد الذين يؤمنون وكر الميسر في المدينة إلا من يؤمنون ضريح مريم نفسها.
وكانت الأعوام المائة التي بين 1260، 1360 هي التي بلغت فيها ذروة عظمتها، ففي هذه السنين المائة شادت كنيستها (1245 - 1339)، وأنشأت قصرها العام الذائع الصيت (1310 - 1320)؛ وبرج الأجراس الجميل (1325 - 1344). ونحت نقولو بيزانو Nccolo Pisano فسقة فخمة للكنيسة في عام 1266؛ ولم يحل عام 1311 حتى كان دوتشيو دي بيوننسنيا Duccio di Buoninsegna قد شرع يزين كنائس المدينة بعدد من أقدم روائع صور النهضة(15/301)
الزيتية، بيد أن هذه المدينة الفخورة كانت تقوم بأعمال لا تحتملها مواردها، وكان نصر منتابرتو ضربة قاضية على سينا، فقد اصدر البابا المهزوم قرار الحرمان على المدينة، وحرم دخول البضائع فيها أو أداء الديون لها، وأفلس عدد كبير من مصارفها، حتى إذا كان عام 1270 ضم شارل دوق أنجو المدينة المعذبة إلى عصبة الجلف (أو العصبة البابوية). وظلت سينا من ذلك الحين تسيطر عليها وتفوقها منافستها القوية الفاتحة في الشمال والتي لا تشعر نحوها بشيء من الرحمة.(15/302)
الفصل السابع
نهضة فلورنس
1095 - 1308
سميت فلورنس بهذا الاسم لكثرة أزهارها، وقد نشأت قبل المسيح بمائتي عام لتكون محطة تجارية على نهر الآرنو حيث يلتقي برافده المنيون Magnon، وخربتها غارات البرابرة، ولكنها استفاقت في القرن الثامن وصارت ملتقى الطرق على فيا فرنسيسا Via Francesa بين فرنسا وروما. وصارت سهولة اتصالها بالبحر المتوسط عاملاً في تشجيع تجارتها البحرية. وأنشأت فلورنس أسطولاً تجارياً كبيراً يحمل إليها الأصباغ والحرير من آسيا، والصوف من إنجلترا وأسبانيا، ويحمل منها المنسوجات إلى نصف بلاد العالم. واحتفظت فلورنس ببعض الأسرار الصناعية التي أمكنت صباغيها من أن يلونوا الأقمشة الحريرية والصوفية بظلال من الأوان الجميلة، لا تعلو عليها ألوان أخرى حتى في بلاد الشرق التي برعت في هذه الصناعة من زمن بعيد. وكانت نقابتا الصوف الشهيرتان- وهما نقابة الصوف ونقابة الحارة الخبيثة (1). تستوردان حاجتهما من الصوف وتجنيان مكاسب طائلة من نسجه وتحويله بضائع جاهزة. وكان الجزء الأكبر من العمل يجري في مصانع صغيرة بعضها في بيوت المدن أو الريف. وكان التجار هم الذين يوردون إليها المواد الغفل، ويجمعون البضائع التي تباع في الأسواق، ويدفعون أثمانها قطعة قطعة. وكانت المنافسة القائمة بين الصناع الذين يعملون في منازلهم- وخاصة السيدات العاملات- سبباً في بقاء مستوى الأجور منخفضاً في هذه
_________
(1) وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مركز المعروضات فبها المسمى بهذا الاسم والذي كان من قبل مكاناً مخصصاً للعاهرات.(15/303)
المصانع؛ ولم يكن يسمح للنساجين بأن يقوموا بعمل إجماعي لرفع أجورهم أو تحسين أحوال أعمالهم؛ وكانت الهجرة محرمة عليهم. وأراد أصحاب هذه المصانع أن يزيدوا من تأديب الصناع وإرغامهم على حفظ النظام، فأقنعوا الأساقفة بأن يصدروا رسائل دينية تتلى من فوق المنابر أربع مرات في العام وتنذر العامل الذي يعتاد إتلاف الصوف بغضب الكنيسة وبالحرمان نفسه (53).
وكانت هذه الصناعة والتجارة تحتاجان إلى رؤوس الأموال لتستثمر فيهما، وسرعان ما أدى هذا إلى قيام التنافس بين التجار وأصحاب المصارف للسيطرة على الحياة في فلورنس. واستطاع أصحاب المصارف أن يمتلكوا ضياعاً واسعة باستيلائهم على الأراضي المرهونة التي يعجز أصحابها عن فك رهونها، كما أصبحوا ممن لا غنى عنهم للبابوات لسيطرتهم المالية على أملاك الكنائس المرهونة لهم، وكادوا في القرن الثالث عشر يحتكرون شؤون البابوات المالية في إيطاليا (54). ولهذا فإن تحالف فلورنس مع البابوات بصفة عامة في نزاعهم مع الأباطرة كان الباعث عليه هذه العلاقة المالية من جهة وخشية الفلورنسيين من اعتداء الأباطرة والأشراف على حرية البلد والتجار من جهة أخرى. ومن أجل هذا كان رجال المصارف أكبر المؤيدين لحزب البابا في فلورنس، فهم الذين قدموا المال اللازم لحملة شارل دوق أنجو على إيطاليا إذ أقرضوا البابا إربان الرابع 148. 000 جنيه فرنسي (أي 29. 600. 000 ريال أمريكي). ولما استولى شارل على نابلي سمح لأصحاب المصارف الفلورنسيين أن يسكوا النقود ويجبوا الضرائب في المملكة الجديدة، وأن يحتكروا تجارة الأسلحة، والحرير، والشمع، والزيت، والحبوب، وتوريد الأسلحة والمؤن للجنود، كل ذلك ليضمنوا تحصيل قرضهم السالف الذكر (55). وإذا جاز لنا أن نصدق دانتي، فإن هؤلاء الماليين الفلورنسيين لم يكن لهم ما لأمثالهم في هذه الأيام من ظرف وكياسة، بل كانوا قناصة للمال، غلاظاً شرهين، يجنون الأرباح الطائلة بالاستيلاء على الأراضي التي يغلق رهنها، ويتقاضون فوائد باهظة(15/304)
عن القروض دون أن يكون لهم وازع من دين أو ضمير- وما أشبههم بفلكو بوتناري Folco Potinari متبني بيتريس Beatrice في ملهاة دانتي (56). وكانوا يقومون بأعمالهم في إقليم واسع الرقعة، فنحن نجد مصرفين فلورنسيين- مصرف برونلسشي Brunelleschi ومصرف ميديشي Medici يسيطران على الأعمال المالية في نيمر Nimes" وأمدييت فرانزيسي Franzesi الفلورنسي فليب الرابع بما يحتاجه من المال لحروبه ودسائسه، وظل الماليون الإيطاليون من بداية حكمه يسيطرون على الشؤون المالية الفرنسية حتى القرن السابع عشر. كذلك استدان إدوارد الأول ملك إنجلترا 200. 000 فلورين ذهبي (2. 160. 000 ريال أمريكي) من بيت فرسكوبلدي Frescobaldi الفلورنسي عام 1295. وكانت هذه القروض معرضة للخطر، كما كانت تخضع الحياة الاقتصادية في فلورنس إلى الحوادث النائية التي ليست لها في ظاهر الأمر أية صلة بها. وعقدت عدة صفقات استثمار سياسية، وعجزت بعض الحكومات عن الوفاء بالتزاماتها المالية، ثم سقط بنيفاس الثامن وانتقل مقر البابوية إلى أفنيون (1307) فأدى هذا إلى إفلاس عدد من المصارف في إيطاليا والى حلول كساد عام وحرب عوان بين الطبقات.
وكانت ثلاث طبقات تقتسم الحياة المدنية غير الدينية في فلورنس: "الشعب الصغير popolo minuto- ويشمل أصحاب الحوانيت، والشعب السمين popolo grasso ويشمل أصحاب الأعمال ورجال الصناعة والتجارة، والعظماء grandi أي النبلاء. وكان الصناع يؤلفون النقابات ويستغلهم في الأعمال السياسية أصحاب الأعمال والتجار ورجال المال الذين يملئون النقابات الطائفية الكبرى. وكان "الشعب الصغير" و"الشعب السمين" يأتلفان وقتاً ما للوقوف في وجه الأعيان في التنافس القائم للسيطرة على الحكومة. وكان هؤلاء الأعيان يطالبون لأنفسهم بمكوس إقطاعية من المدينة، وقد أيدوا في أول الأمر الأباطرة ثم أيدوا البابوات ضد حركات المدينة. ونظمت هاتان الطبقتان(15/305)
المؤلفتان جيشاً إقليمياً كان على جميع الصحيحي الأجسام من أهل المدينة أن ينظموا إليه وأن يتعلموا فيه فنون الحرب. فلما تهيأت أسباب القوة بهذا الاستعداد استولوا على قصور الأشراف الحصينة القائمة في الريف، ودمروها وأرغموا أصحابها على السكنى داخل أسوار المدينة والخضوع للقوانين البلدية. وكان النبلاء لا يزالون أغنياء بما يحصلون عليه من ريع أملاكهم في الريف، فشادوا لهم قصوراً حصينة في المدن، وانقسموا أحزاباً، وأخذوا يتقاتلون في الشوارع، ويتنافسون ليروا أي حزب يسبق الآخر لقلب الديمقراطية الضيقة المدى القائمة في فلورنس وإحلال دستور أرستقراطي محلها. وتزعم حزب الأوبرتي Uberti ثورة قام بها الغبليون ليقيموا في فلورنس حكومة موالية لفردريك، واستبسلت الطبقتان المؤتلفتان في المقاومة، ولكن كتيبة من الفرسان الألمان أوقعت بهما هزيمة ساحقة، وسقطت الديمقراطية الفلورنسية، وفر زعماء الجلف من المدينة، وهدمت بيوتهم انتقاماً لما قاموا به من تدمير قصور رجال الإقطاع منذ مائة عام؛ وجرى الأهلون من ذلك الوقت عقب كل انتصار في حروب الطبقات والأحزاب على أن يحتفلوا بالنصر بنفي زعماء الطبقة المغلوبة ومصادرة أملاكهم أو تخريبها (57). وظل أشراف الغبليين ثلاث سنين يحكمون المدينة تؤيدهم حامية من جنود الألمان، فلما مات فردريك قامت ثورة جلفية من الطبقتين الوسطى والدنيا واستولى الثوار على زمام الحكم (1250) وعينوا زعيماً للشعب ليراقب أعمال البودستا كما كان التربيونون في روما القديمة يراقبون أعمال القناصل. واستدعى زعماء الجلف المنفيون، وأيدت الطبقات الوسطى المنتصرة ما نالته من نصر داخلي بحروب شنتها على بيزا وسينا للسيطرة على طريق تجارة فلورنس إلى البحر والى روما، وأصبح أغنى التجار نبلاء جدداً، وعملوا على احتكار وظائف الدولة لأنفسهم.
ولما هزم مانفرد وسينا مدينة فلورنس في منتابرتو أعقب ذلك فرار زعماء(15/306)
الجلف مرة أخرى، وظلت فلورنس بعد فرارهم ست سنين يحكمها مندوبون عن مانفرد. فلما خسرت الإمبراطورية قضيتها في عام 1268 عادت السلطة مرة أخرى إلى أيدي الجلف الخاضعين خضوعاً اسمياً لشارل دوق أنجو. وأرادوا أن يقيدوا سلطان البودستا المعين من قبل شارل فأقاموا إلى جانبه هيئة مؤلفة من اثني عشر من الأنزياني anziani ( أي "الأقدمين" أو الكبراء) ليسدوا النصح إلى ذلك الموظف، ومجلساً مكوناً من مائة عضو "لا ينفذ عمل من الأعمال الهامة ولا ينفق أي اعتماد مالي إلا إذا وافق عليه أولاً" (58). واغتنمت الطبقات الوسطى الرأسمالية فرصة انشغال شارل "بالمذبحة المسائية" فقاموا في عام 1282 بانقلاب دستوري أصبحت بمقتضاه هيئة مؤلفة من الرؤساء ومختارة من النقابات الطائفية الكبرى هي المسيطرة بالفعل على حكومة المدينة، وظل منصب البورستا باقياً في خلال هذه التقلبات، ولكنه كان مجرداً من السلطان، لأن السلطة العليا انتقلت إلى أيدي التجار وأصحاب المصارف.
وأعاد حزب الأشراف القدامى المغلوب تنظيم نفسه برياسة كرسو دوناري الرجل الوسيم المتغطرس، وأطلق عليهم لسبب غير معروف اسم "النري Nrri" أي السود، وسمي النبلاء الجدد أصحاب المصارف والتجار الذين تزعمتهم أسرة شرشي Cherchi باسم البيض Blanchi. ويئس النبلاء القدامى من معونة الإمبراطورية المحطمة فولوا وجههم شطر البابا يستعينونه على الطبقة الوسطى الرأسمالية. ودبر دوناتي Donati، بوساطة آل سبيني Spini وكلائه في فلورنس، تدبيره مع بنيفاس الثامن للاستيلاء على فلورنس؛ وكانت الأحزاب التسكانية قد امتد نفوذها إلى الولايات البابوية فلم تترك لبنيفاس أملاً في إعادة النظام إليها إلا إذا كان له صوت مسموع في حكومات تسكانيا البلدية (59). وعرف أحد رجال القانون الفلورنسيين خبر هذه المفاوضات فاتهم ثلاثة وكلاء من أسرة سبيني في روما بخيانة فلورنس، وأدانت الهيئة الحاكمة المؤلفة من مندوبي النقابات(15/307)
الطائفية الكبرى ثلاثتهم (إبريل 1300) فهدد البابا من اتهموهم بالحرمان؛ وهاجمت جماعة من النبلاء المسلحين من حزب دوناتي عدداً من كبار رجال النقابات، فقررت هيئة المندوبين السالفي الذكر، وكان دانتي وقتئذ من أعضائها، نفي عدد من النبلاء متحدية بذلك البابا (يونية 1300). واستنجد بنيفياس بشارل دوق فالوا Valois وطلب إليه أن يدخل إيطاليا، ويخضع فلورنس، ويسترد صقلية من أرغونة.
ووصل شارل فلورنس في نوفمبر من عام 1310، وأعلن أنه لم يأت إليها إلا لإعادة النظام والسلم في ربوعها، ولكن كرسو دوناتي دخل المدينة بعد قليل من ذلك الوقت على رأس جماعة مسلحة، ونهب بيوت المندوبين الذين نفوه، وفتح أبواب السجون، ولم يطلق أصدقاءه وحدهم، بل أطلق كل من أراد الخروج منها. وساد الهرج والمرج المدينة، واشترك النبلاء والمجرمون ف السرقة، وخطف الآدميين، وقتلهم؛ ونهبت مخازن التجارة، وأرغمت الوارثات على الزواج من خطاب مفاجئين، واضطر الآباء إلى إمضاء وثائق ببائنات كبيرة. وأخرج كرسو آخر الأمر هيئة مندوبي النقابات والبودستا من وظائفهم، واختار السود، وظل كرسو سبع سنين حاكماً يأمره لا معقب لحكمه في فلورنس. وحوكم المندوبون المعزولون وأدينوا، وحكم عليهم بالنفي ومنهم دانتي نفسه (1302)، وحكم على 359 من البيض بالإعدام، ولكن أجيز لمعظمهم النجاة من الموت بالنفي من البلاد .. وقبل شارل فالوا هذه الحوادث راضياً، وقبل معها 44. 000 فلورين (4. 800. 000 ريال أمريكي) مكافأة له على ما عانى من مشقة، وغادر فلورنس إلى الجنوب. وفي عام 1304 أحرق السود الذين أفلت زمامهم بيوت أعدائهم، فدمر في هذه الحرائق 1400 بيت، وأصبح وسط فلورنس رماداً وخرائب. ثم تفرق السود(15/308)
أحزاباً جدداً، وحدثت أعمال من العنف لا حصر لها طعن فيها دوناتي طعنة أردته قتيلاً (1305).
وبعد فإن علينا أن نذكر مرة أخرى أن المؤرخ كالصحفي ينزع على الدوام إلى أن يضحي بما هو طبيعي وعادي في سبيل ما هو مسرحي مثير؛ وأنه لا يرسم أبداً صورة وافية لأي عصر من العصور. لكن من واجبنا أن نسجل في ختام هذا الفصل أن إيطاليا كانت تستند في أثناء هذا النزاع بين البابوات والأباطرة، وبين الحلف والغبليين، وبين السود والبيض، إلى الفلاحين الكادحين، ولربما كانت حقول إيطاليا في ذلك الوقت كما هي الآن ميداناً للعمل الزراعي الفني والجدي، وأنها كانت مقسمة ومنظمة تسر العين وتطعم الفم. فقد كانت التلال والصخور والجبال تحفر وتدلارج لتزرع فيها الكروم، وأشجار الفاكهة، وبساتين الجوز واللوز، وأشجار الزيتون؛ وكانت الحدائق تسور لمنع عوامل التعرية من اكتساح تربتها والاحتفاظ بالمطر الثمين. وكان في الحواضر عدد لا يحصى من الصناعات يستوعب الكثرة الغالبة من الرجال، ولا يترك إلا القليل من الوقت يصرف في الخطب والانتخابات، والمدى، والسيوف. كذلك لم يكن التجار وأصحاب المصارف كلهم رجالاً شرهين قساة القلوب، وكانوا هم أيضاً ممن جعلوا المدينة تعج بالأعمال وتنمو وتتسع رقعتها لما يضطرم فيها من حمى الكسب إن لم يكن لشيء سواها؛ وكان في وسع النبلاء أمثال كرسو دوناتي، وجيدو كفكنتي Guido Covalcanti، وكان جراندي دلا اسكالا Can Grandi della Scala أن يكونوا رجال ثقافة، وإن عمدوا إلى سيوفهم من حين إلى حين ليحسموا أمراً من الأمور. وكانت النساء ينخطرن بكامل حريتهن في هذا المجتمع المرح؛ ولم يكن الحب فيه لفظاً أجوف يردده الشعراء الغزلون أو يتمشدق به الفلاحون الكادحون، أو خدمات يؤيدها فارس لمعبودته الضنينة؛ بل كان(15/309)
هياماً سامياً حماسياً ينتهي بالاتصال الكامل بين الرجل والمرأة، وبالأمومة غير المتعمدة. وكان المدرسون في أماكن متفرقة من هذا البحر العجاج يجاهدون صابرين ليلقنوا المعارف إلى السباب المحجم عن معارفهم، والعاهرات يخففن من شبق الرجال الواسعي الخيال؛ والشعراء يستعيضون عن آمالهم الخائبة بقرض الشعر، والفنانون يعيشون على الطوى وهم يسعون وراء الكمال، والقسيسون ينهمكون في السياسة ويواسون الفقراء والمنكوبين، والفلاسفة يجاهدون ليخرجوا من متاهة الأساطير إلى سراب الحقيقة البراق. وكان في هذا المجتمع دوافع للعمل، وأسباب لإثارة النفوس، وللتنافس، تقوي أذهان الرجال وألسنتهم، وتستثير ما لديهم من قوى مختزنة لم يكن أحد يتوقع وجودها فيهم، وتغريهم بتمهيد السبيل للنهضة وتهيئة أسبابها. وهكذا جاء البعث الجديد بعد أن عانت المجتمعات في أوربا كثيراً من الآلام، وأريقت في سبيله أنهار من الدماء.(15/310)
الباب السابع والعشرون
مذهب الروم الكاثوليك
1095 - 1294
الفصل الأول
عقيدة الشعب
يعد الدين من كثير من الوجوه أكثر أساليب الإنسان طرافة لأنه آخر ما تفسر به الحياة، وهو سبيله الوحيدة لاتقاء الموت. وليس في تاريخ العصور الوسطى كله ما هو أعظم أثراً في النفس من الدين، فإنك تراه في كل مكان، ويكاد يكون أعظم القوى في تلك العصور. وليس من السهل على من يعيشون الآن منعمين تتوافر لهم جميع حاجاتهم أن يدركوا حق الإدراك، ما كان في تلك العصور من فوضى وعوزهما اللذان شكلا عقائد الناس في خلالها. ولكن من واجبنا أن ننظر إلى ما كان عند المسيحيين واليهود من خرافات، وأسرار خفية، ووثنية، وسذاجة، وسلامة طوية، نقول إن من واجبنا أن ننظر إلى هذا كله بنفس العطف الذي يجب أن ننظر به إلى عنائهم، وفقرهم، وأحزانهم، وإن فرار الآلاف المؤلفة من الرجال والنساء من "الدنيا، واللحم، والشيطان" إلى أديرة الرجال والنساء ليوحي إلينا بما كان يسود ذلك الوقت من اضطراب، واختلال أمن، وعنف أوفت على الغاية أكثر مما يوحي بجبن أولئك الفارين وخور عزيمتهم. وبدا أن من البداءة أن لا سبيل إلى السيطرة على الدوافع البشرية(16/1)
الوحشية إلا بقانون أخلاقي تؤيده قوة تعلو على القوى البشرية. وكان أكبر ما يحتاجه العالم وقتئذ هو عقيدة توازن المحن بالآمال، وتخفف من وقع الحرمان بالسلوى والعزاء، وتزيل من ملل الكدح بخيال العقيدة، وتمحو قصر الأجل بعقيدة الخلود، وتضفي على المسرحية الكونية معنى ملهما يشرفها ويرفع من قدرها، لولاه لكانت موكباً لا معنى له ولا يمكن احتماله، موكباً من الأنفس، والأجناس، والنجوم، تهوى واحدة بعد واحدة إلى الفناء الذي ليس منه محيص.
وسعت المسيحية إلى الوفاء بهذه الحاجات بفكرة حماسية رائعة عن الخلق والخطيئة الآدمية، والأم العذراء، والإله المعذب، والنفس الخالدة التي قدر عليها أن تواجه يوم الحساب فيقضى عليها بالتردي في الجحيم إلى أبد الآبدين، أو أن تنجو وتنال النعيم السرمدي على يد كنيسة توفر لها بأسرارها المقدسة البركة الإلهية التي حلت على العالم بموت منقذه. وكانت حياة الكثرة الغالبة من المسيحيين تجول وتجد معناها في هذه النظرة الشاملة إلى العالم.
وكان أعظم ما أهدته العقيدة الدينية إلى العالم في العصور الوسطى هو ثقته بأن الحق سيعلو آخر الأمر، وأن كل نصر ظاهري للشر سيفنى آخر العهد حين يظفر الخير بالشر في العالم كله، وتلك ثقة تعلى من قدر البشرية وتدعم كيانها. وكانت عقيدة يوم الحساب أساس العقيدة المسيحية واليهودية والإسلامية. وبقى الاعتقاد بعودة المسيح إلى الأرض، ونهاية العالم لتكون هذه العودة وتلك النهاية تمهيداً ليوم الحساب الأخير، بقى هذا الاعتقاد بعد هبوط مسعى الرسل، ومرور العام المتمم للألف بعد المسيح، ومخاوف أربعين قرناً وآمالها. نعم إن هذا الاعتقاد أضحى أقل وضوحاً وأضيق انتشاراً مما كان قبل، ولكنه لم يمنح من النفوس، فقد قال روجر بيكن Roger Bacon في عام 1271: إن "العقلاء من الناس" يرون أن نهاية العالم قد قربت (1)، وكان كل وباء شامل، وكل(16/2)
كارثة مدلهمة، وكل زلزال مروع، وكل مذنب يظهر في السماء، وكل حادثة غير عادية، كان كل شيء من هذا القبيل يعد نذيراً بنهاية العالم، وحتى إذا ظل العالم باقياً فإن الموتى وأجسامهم ستبعث من فورها (1) بعد وفاتها لتحاسب على ما قدمت من خير وشر.
وكانت تجيش في صدور الناس آمال غامضة بدخول الجنة، ولكنهم كانوا يخافون النهار خوفاً واضحاً صريحاً لا غموض فيه، وكان في الدين المسيحي في العصور الوسطى كثير من الرقة والرأفة، ولكن رجال الدين والوعاظ الكاثوليك، والبروتستنت الأولين، كانوا يشعرون بأن من الواجب عليهم أن يروعوا الناس بأهوال الجحيم (2). ولم يكن المسيح في هذا العهد هو "عيسى الوديع الرقيق"، بل كان هو المنتقم الجبار لكل ما يرتكبه ويقال إن القديس البشر من آثام. وكان في الكنائس كلها تقريباً رمز من يمثل المسيح في صورة قاض، وكان في الكثير منها صور ليوم الحساب، تمثل ضروب التعذيب التي يلقاها الملعونون تمثيلاً أشد وضوحاً من النعيم الذي يتمتع به السعداء المقربون. مثوديوس استطاع أن يقنع بوريس Boris ملك بلغاريا باعتناق الدين المسيحي بأن رسم له صورة الجحيم على جدار القصر الشيطان مشدوداً إلى مشواة ملتهبة من الحديد بسلاسل حمراء من شدة الحرارة، لا ينقطع له الملكي (4). وكان كثيرون من المتصوفة يدعون أنهم رأوا في أحلامهم صوراً للنار، وقد وصفوها وصفاً جغرافياً، وصوروا ما فيها من عذاب (5)، ونقل إلينا الراهب تنديل Tundale من رهبان القرن الثاني عشر تفاصيل لها دقيقة: فقال إن في وسط الجحيم يرى صراخ من فرط
_________
(1) وكالت النظرية المسيحية القائلة بأن حساب الموتى سيؤجل إلى "يوم الحشر" الذي سيفنى فيه العالم، كانت هذه النظرية قد استبدلت بها العقيدة القائلة إن كل إنسان سيحاسب بعد موته مباشرة.
(2) قارن هذا بقول القائد وليم بوث Wiliam Booth (1829 - 1912) عن أساليب وعاط جيش النجاة: "لاشيء يؤثر في قلوب الناس كما تؤثر فيه الأشياء الرهيبة المروعة. فهم لا يتأثرون إلا إذا تصاعد أمام أعينهم لهيب الجحيم".(16/3)
الألم، ويداه طليقتان يمدهما ليقبض بهما على العصاة المذنبين، يحطمهم بأسنانه كما يحطم العنب، وأنفاسه النارية تجذبهم إلى حلقة الملتهب. ويقذف أعوانه من الشياطين أجسام المذنبين بخطاطيف من الحديد في النار مرة وفي الماء الزمهرير مرة أخرى، أو يعلقونهم من ألسنتهم، أو ينشرون أجسامهم بالمناشير أو يطرقونها بالمقاطع على سندان، أو يقلونها في النار، أو يعصرونها حتى تصفى من قطعة من النسيج. وكان الكبريت يمزج بالنار حتى تزيد رائحته الكريهة من عذاب الآثمين. وليس للنار ضوء، ولهذا فإن الظلمة المروعة تغشى هذه الآلام المختلفة التي لا يحصى لها عدد (6). أما الكنيسة نفسها فلم يصدر عنها رسمياً قول يحدد مكان النار أو يصفها، ولكنها كانت تعلن سخطها على أمثال أرجن Origen الذين يرتابون في حقيقة نيرانها المادية (7). ولو أن أهوال هذه العقيدة قد نالها بعض التخفيف لأخفقت تحقيق غرضها، ولهذا فإن القديس تومس أكويناس كان يؤمن بأن "النار التي ستعذب فيها أجسام المجرمين نار مادية" وحدد مكان الجحيم "في أسفل الأرض" (8).
ولم يكن الشيطان في خيال العامة من أهل العصور الوسطى، وفي خيال رجال من أمثال جريجوري الأكبر، رمزاً أو كتلة أو تشبيها، بل كان جسماً حقيقياً حياً من لحم ودم، يغشى كل مكان في العالم، يغوي الناس بضروب من المغريات ويخلق كل أنواع الشر. وكان من المستطاع عادة أن يطرد بقضه وقضيضه بقدر من الماء المقدس أو بعلامة الصليب، ولكنه في هذه الحال يخلف وراءه رائحة خبيثة هي رائحة الكبريت المحترق. والشيطان شديد الإعجاب بالنساء، ويتخذ بسماتهن ومفاتهن أدوات يغوى بها ضحاياه، وينال رضاءهن بعض الأحيان- إذا كان لنا أن نصدق النساء أنفسهم. فقد اعترفت امرأة من طلوشة (طولوز Toulouse) أنها كثيراً ما ضاجعت الشيطان، وأنها وهي في الثالثة والخمسين من عمرها ولدت منه هولة لها رأس ذئب، وذئب أفعى (9). وللشيطان في رأي(16/4)
أقوام العصور الوسطى عدد لا يحصى من أعوانه الأبالسة، يحومون حول كل نفس، ويعملون دائبين على جرها إلى ارتكاب الإثم. وهؤلاء أيضاً يحبون أن يضاجعوا النساء اللاتي يهملن أنفسهن، أو ينمن وحدهن، أو ينقطعن للدين والعبادة (10). وقد وصف الراهب ريكالم Richalm أولئك الأبالسة بأنهم "ويملاؤن العالم كله، وأن الهواء كله ليس إلا كتلة سميكة منهم يترصدوننا في كل زمان ومكان .... ومن أعجب العجائب أن يبقى واحد منا حيا يرزق، ولولا رحمة الله لما نجا أحد من شرهم" (11). وكان الناس كلهم تقريباً بما فيهم الفلاسفة أنفسهم يؤمنون بهذا العدد الجم من الأبالسة والشياطين، ولكن روح الفكاهة المنجية كانت تخفف من رهبة هذا الإيمان بهم، وكان كثير من الرجال ذوي العقول المتزنة ينظرون إلى أولئك الأبالسة الصغار على أنهم جماعة من الخبثاء أكثر منهم خلائق مروعين. وكان من العقائد الشائعة أو أولئك الأبالسة يتدخلون تدخلاً مسموعاً، ولكنه غير منظور، في أحاديث الناس، ويخرقون أثوابهم، ويلقون بالأقذار على عابري السبل. ويقال إن شيطاناً متعباً جلس مرة على خمسة فأكلتها راهبة وهي لا تدري ما تفعل (12).
وأكثر رهبة من العقيدة السالفة الذكر الاعتقاد بأن "كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون" (الآية 14 من الإصحاح 22 من إنجيل متى). وكان المؤمنون المستمسكون بدينهم يعتقدون أن الكثرة الغالبة من الجنس البشري ستتردى في الجحيم (13)، وكان كثيرون من رجال الدين المسيحيين يؤمنون بحرفية القول المعزو إلى المسيح: "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مرقس إصحاح 16 الآية 16). ووصل القديس أوغسطين على الرغم منه إلى النتيجة القائلة إن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار (14)، وكان القديس آنسلم يظن أن ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين (الآثمين لأن آدم وحواء قد ارتكبوا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرق على(16/5)
أبناء الأرقاء- وهو لا يرى أن في هذا بعداً ما عن المعقول (15). وقد خففت الكنيسة من هول هذه العقيدة بأن علمت الناس أن الأطفال غير المعمدين لا يلقون في الجحيم بل يلقون في يمبوس Infernus puerorum حيث لا يكون عذابهم إلا ما يشعرون به من ألم لأنهم حرموا من الجنة (16). وكانت الكثرة الغالبة من المسيحيين تعتقد أن المسلمين جميعاً- كما كانت الكثرة الغالبة من المسلمين ما عدا النبي محمداً تعتقد أن المسيحيين جميعاً- سيلقون في النار، وكان الاعتقاد السائد أن "غير المؤمنين" سيعذبون (17). وذهب مجلس لاتران الرابع إلى أبعد من هذا فأعلن (1215) أن لا نجاة لأحد من النار إذا لم يكن من أتباع الكنيسة الجامعة (18). وقرر البابا جريجوري التاسع أن ما كان يأمله ريمند للي Raymond Lully من أن "الله يحب شعبه حباً يؤدي إلى نجاة الناس جميعاً تقريباً، لأنه لو كان المعذبون أكثر من الناجين لكانت رحمة المسيح خالية من كثير الحب" (19)، وليس ثمة رجل آخر من رجال الدين البارزين أجاز لنفسه أن يعتقد- أو أن يقول- إن الناجين سيزيدون على المعذبين (20). وقدر برثلد الرجنز برجي Bertshold of Regensburg، وهو من أشهر وعاظ القرن الثالث عشر وأحبهم إلى الناس، نسبة المعذبين إلى الناجين بمائة ألف إلى واحد (21). ويرى القديس تومس أكويناس أن "في هذا أيضاً رحمة الله أكثر مما تظهر في شيء سواه، لأنه يرفع القليلين إلى معارج النجاة، التي يعجز عن إدراكها الكثيرون" (22). وكان كثيرون من الناس يعتقدون أن البراكين هي أفواه جهنم، وأن قعقعتها ليست إلا صدى خافتاً لأنين المعذبين (23)، وكان جريجوري الأكبر يقول إن فوهة بركان إتنا تزيد أتساعاً في كل يوم لتبتلع العدد الذي لا يحصى من الأرواح التي كتب عليها العذاب (24). وكانت أحشاء الأرض المزدحمة تضم ثناياها الحارة الكثرة الغالبة من جميع من ولدوا من بني الإنسان، ولا يستطيع أحد أن يستريح أو يفر من النار إلى أبد الدهر، وفي(16/6)
ذلك يقول بوئلد: إحص رمال شواطئ البحار، أو الشعر الذي ينبت على أجسام البشر والحيوان من يوم أن خلق آدم، وقدر سنة من العذاب لكل حبة رمل أو شعرة، ثم اعلم أن هذه الحقبة من الزمن التي تصل إليها لا تكاد تمثل بداية آلام المعذبين (25). وكانت اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان هي اللحظة في البداية كلها، وكان خوف الناس من أن يكون الإنسان في هذه اللحظة الأخيرة آثماً لم تغفر له ذنوب، كان هذا الخوف عبئاً ثقيلاً ترزح تحته النفوس البشرية.
وكانت عقيدة المطهر أو الأعراف تخفف من هذه الأهوال تخفيفاً غير قليل. وكانت الصلوات من أجل أرواح الموتى عادة قديمة قدم الكنيسة نفسها، وفي وسعنا أن نرجع طقوس التفكير عن الذنوب والصلاة على أرواح الموتى إلى عام 250م (26). وقد تحدث أوغسطين عن وجود موضع يتطهر فيه الموتى من ذنوب غفرت لهم ولكنها لم يكفر عنها تكفيراً كافياً بعد موتهم، وقبل جريجوري الأول هذه الفكرة، وقال إن ما تعانيه الأرواح في المطهر من آلام قد يخفف ويقصر مداه بفضل دعاء الأحياء من أصدقائهم وصلواتهم (27)، غير أن هذه النظرية لم تصبح من العقائد الواسعة الانتشار حتى نفخ فيها بطرس دميان Peter Damian حوالي عام 1070 من روحه الحماسية وأذاعها ببلاغته. وزاد انتشار هذه الفكرة في القرن الثاني عشر حين ذاعت قصة تقول إن القديس بتريك St. Patrick أراد أن يقنع بعض المتشككين فأجاز حفر حفرة في إيرلندة نزل إليها بعض الرهبان، ثم عاد بعضهم، كما تقول القصة، ووصفوا المطر والنار وصفاً واضحاً ثبط عزيمة من يريدون أن يحذوا حذوه، وأدعى أون Owen الفارسي الأيرلندي أنه نزل من هذه الحفرة إلى الجحيم في عام 1153، ووصف ما لاقاه في العالم السفلي وصفاً لاقى نجاحاً منقطع النظير (28). فقد(16/7)
أقبل الناس من بعيد لزيارة هذه الحفرة، ونشأت من ذلك شرور ومساوئ مالية اضطرت الباب إسكندر السادس أن يأمر في عام 1497 بردمها لأنها من الادعاءات الباطلة (29).
ترى كم من الناس في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى كانوا يصدقون العقائد المسيحية، إننا نسمع عن وجود ملحدين كثيرين، ولكن الكثرة الغالبة من أولئك الملحدين كانت تتمسك بالمبادئ الأساسية للعقائد المسيحية، وقد حدث بمدينة أورليان Orleans في عام 1017 أن "رجلين من أكرم الناس أباً وأوسعهم علماً" أنكروا عقائد خلق العالم، والتثليث، والجنة، والنار، وقالا إنها كلها مجرد هذيان" (30). ويقول جون السلزبري John of Salisbury في القرن الثاني عشر إنه سمع إنه كثيرين من الناس يتحدثون "أحاديث لا يقبلها الدين" (31)، ويقول فلاني Villani إنه كان بمدينة فلورنس في ذلك القرن نفسه جماعة من الأبيقوريين، يسخرون من الله والقديسين، ويطلقون العنان لشهواتهم الجسمية (32). ويحدثنا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis (1146؟ - 1220) عن قس، لا يذكر إسمه، لامه قس آخر على عدم عنايته بالاحتفال بالقداس، فكان رده أن سأل ناقده هل يؤمن هو حقاً باستحالة مادة القربان إلى لحم المسيح ودمه، وبعقيدة التجسد، وبمولد المسيح من مريم العذراء، وبالبعث ـ وزاد على ذلك أن قال: هذا كله قد اخترعه القدماء الماكرون ليرهبوا الناس ويسيطروا عليهم (1)، وإن طائفة من المنافقين يحذون الآن حذوهم (33). وينقل جرلد الويلزي نفسه قول العالم سيمون التورنائي Simon of Tournai ( حوالي 1201) في حسرة وألم: "رباه ياذا الجلال!
_________
(1) يذكرنا هذا بقول أبي العلاء المعري: أفيقوا أفيقوا ياغواة فإنما، دياناتكم مكر من القدماء. أرادوا بها جمع الحطام فألفحوا، وماتوا فبادت سنة اللؤماء. وبغير هذين البيتين من أقواله وقد ورد بعضها في الجزء الثاني من هذا المجلد. (المترجم).(16/8)
إلى متى تبقى هذه الشيعة المخرفة من المسيحيين، وتدوم هذه البدعة التي لا أصل لها؟ " (34). وتقول إحدى القصص المتداولة عن سيمون هذا إنه أثبت في محاضرة له عقيدة التثليث بالحجج القوية البارعة، فلما رأى إعجاب مستمعيه به تاه بنفسه عجباً فقال إن في وسعه أن يثبت عكس هذه العقيدة بحجج أخرى أقوى من حججه الأولى، فلما نطق بهذا- كما تقول القصة- أصيب من فوره بالشلل والعته (35). وفي عام 1200 كتب بطرس رئيس دير الثالوث المقدس Holy Jrinity في ألدجيت Aidgate بلندن يقول: "من الناس من لا يعتقدون بوجود الله، ويقولون إن العالم سيره الصدفة .. ومنهم كثيرون لا يؤمنون بالملائكة الأخيار أو الأشرار، ولا بالحياة بعد الموت أو بأي شيء روحي لا تراه العين" (36). وقد أثار شجن فنسنت من أهل بوفيه Vincent of Beauvais (1200؟ - 1264) أن كثيرين يسخرون من الرؤى ومن القصص (قصص القديسين) " ويقولون "إنها من خرافات العوام أو إنها بدع كاذبة"، ويضيف إلى ذلك قوله: "وليس لنا أن نعجب من أن هذه القصص لا تقبلها عقول الذين لا يعتقدون بوجود النار" (37). وبقد كانت عقيدة الجحيم من العقائد التي لا يستسيغها الكثيرون. وكانت بعض النفوس الساذجة تتساءل: "لم خلق الله الشيطان إذا كان قد سبقت في علمه خطيئته وسقوطه؟ " (38). وقال بعض المتشككين إن الله لا أن تصل قسوته إلى الحد الذي يجعله يعاقب على الذنب المحدد بالألم الغير المحدود؛ ويجيب رجال الدين عن هذا الاعتراض بقولهم إن الذنب الذي يرتكبه الآدمي إجرام في حق الله، وإنه لهذا يعد إثماً لا نهاية له. ولم يقنع هذا القول ناسجاً كان يعيش في طولوز عام 1247 فقال: لو أنني استطعت أن أقبض على هذا الإله الذي لا ينجى من كل ألف من خلقه إلا واحداً ثم يعذب الباقين، لانتزعت أسنانه وأظافره كما يفعل بالخونة المارقين، ولبصقت
في وجهه" (39). ولبعض المتشككين أقوال لا تبلغ من(16/9)
العنف هذا المبلغ كله، فيقولون مثلاً إن نار الجحيم لابد أن تكلس الروح والجسم حتى يصبحا عديمي الإحساس بها ويصير "من اعتاد الجحيم مستريحاً فيها راحته في أي مكان سواها" (40). وتبدو في نشيد أوكاسين ونيقولت Gueassin et Nieolette ( حوالي عام 1230) الفكاهة القديمة القائلة بأن الإنسان يلقي في الجحيم صحاباً أظرف ممن يلقاهم في الجنة (41). ويشكو القسيسون من أن معظم الناس يؤجلون التفكير في النار إلى آخر لحظة في حياتهم لوثوقهم من أنهم مهما تكن آثامهم فإن "ثلاث كلمات" ( ego-te absolvo) " تكفي لنجاتي" (42).
ويبدو أنه كان في القرى وقتئذ كما فيها الآن من لا يؤمنون بالله، ولكن الكافرين القرويين لا يتركون وراءهم ذكريات تحدث عنهم، يضاف إلى هذا أن معظم ما وصل إلينا من أدب العصور الوسطى قد كتبه رجال الدين أو أن رجال الدين قد أخفوا الجزء الأكبر منه ولم يبرزوا لنا إلا ما وقع عليه اختيارهم. وسنجد فيما بعد "علماء جوالين"يقولون شعراً يبدو فيه عدم الاحتشام، ولصوصاً غلاظاً ينطقون بأشد الأقوال تجديفاً، وأناساً ينامون ويغطون (43)، بل ويرقصون (44) ويفجرون (45) في الكنائس، كما نجد من يرتكبون "العهر، والنهم، والقتل، والسرقة في يوم الأحد" (كما يقول أحد الرهبان) "أكثر ممن يرتكبون هذه الذنوب في جميع أيام الأسبوع الذي قبله" (46). وفي وسعنا أن نذكر في هذه الصفحة ما لا يحصى من الأمثلة نجمعها من مائة بلد وبلد، ومن ألف عام وعام؛ وكلها تدل على ما كان في العصور الوسطى من نقص في الإيمان الحق، وتحذرنا من التغالي في الاعتقاد بتقوى الناس في تلك العصور، ولكن العصور الوسطى لا تزال مع هذا تغمر الباحث في جو من العبادات والعقائد الدينية، فلقد كانت كل دولة أوروبية تأخذ المسيحية في كنفها وتحت حمايتها، وترغم الناس بقوة القانون على الخضوع للكنيسة، وكان كل ملك، إلا القليل النادر منهم، يثقل(16/10)
الكنيسة بالهبات، وكانت كل حادثة تقع في التاريخ، إلا ما ندر منها، تفسر على أساس من الدين، وكل واقعة في أسفار العهد القديم تسبق إلى تصوير شيء في أسفار العهد الجديد.
ومن أمثلة ذلك ما يقوله الأسقف العظيم من أن داود حين يراقب بتشبع وهو يستحم إنما يرمز إلى المسيح إذ يرى كنيسته تظهر نفسها من دنس هذه الدنيا (47). وكان كل شيء عادي طبيعي علامة على شيء خارق للمادة، كما كان لكل جزء من كنيسة، في رأي جيوم ديورانث Guiuame Durant (1237 - 1296) ، أسقف مندى mende، معنى ديني، فمدخل الكنيسة هو المسيح، الذي يوصلنا إلى الجنة، وعمدها تمثيل المطارنة وعلماء الدين، الذين يقيمون صرح الكنيسة، وغرفة المقدسات التي يلبس فيها القس ثيابه هي رحم مريم، الذي يتجسد فيه المسيح بجسد الآدميين (48)، ويقول أصحاب هذه النزعة إن لكل حيوان معنى في الدين، من ذلك ما جاء في كتاب عن الحيوان مؤلف في العصور الوسطى وهو نموذج لغيره من أمثاله: "إذا ولدت لبؤة شبلاً، فهي تلده ميتاً، وتظل تعني به ثلاثة أيام حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث وينفخ في وجهه، ويبعث فيه الحياة. وبهذه الطريقة عينها أحيا الله جل وعلا ابنه سيدنا عيسى المسيح من بين الموتى (49).
وكان الناس يسرون بسماع مائة ألف من القصص عن الحوادث، والقوى، ووسائل الشفاء الخارقة، أو يخلقونها خلقاً من عند أنفسهم، كقولهم إن صبياً إنجليزياً حاول أن يسرق بعض زغاليل الحمام من عشها، فالتصقت يده بقوة سماوية بالحجر الذي اتكأ عليه، ولم تفك إلا بعد أن قضى أهله ثلاثة أيام في الصلاة الدعاء (50). وقدم طفل طعاماً لتمثال المسيح الطفل المنحوت في مزار صور فيه مولده، فما كان من الطفل المسيح إلا أن شكره ودعاه إلى دخول الجنة، ولم تمض على هذا الحادث ثلاثة أيام حتى توفى الطفل الذي قدم الخبز للمسيح (51).(16/11)
وكلف قس فاسق بإحدى النساء، فلما عجز عن استمالتها إليه احتفظ بجسم المسيح الطاهر في فمه بعد القربان، لعله إذا قبلها والجسم في فمه استجابت إلى رغبته بقوة القربان المقدس ... ولكنه لما أراد أن يخرج من الكنيسة خيل إليه أن جسمه قد تضخم حتى اصطدم رأسه بسقفها" فدفن الخبر المقدس في أحد أركان الكنيسة، واعترف بعدئذ بما حدث لقس آخر، فأخرجا الخبز من الأرض فوجداه قد استحال إلى صورة رجل مصلوب يقطر منه الدم (52). واحتفظت إحدى النساء بالخبز المقدس في فمها وهي في طريقها من الكنيسة إلى بيتها، ثم وضعته في قفير نحل لتقلل بذلك من عدد ما يموت من نحلها، فما كان من النحل "إلا أن بنى لضيفه العزيز من أحلى ما يخرجه من الشهد معبداً صغيراً بديع الصنع (53) " وملأ البابا جريجوري الأول مؤلفاته بقصص من هذا القبيل. ولعل الناس، أو المتعلمين منهم، كانوا يشكون في هذه القصص ويرون أنها أقاصيص مسلية طريفة وليست أسوأ من القصص العجيبة التي يطرد بها الملوك ورؤساء الجمهوريات في الوقت الحاضر الأم عن أنفسهم ويريحون بها عقولهم المجهدة، ولعل السذج في العصور الخالية لم يقبلوا أكثر من تبديل نوعها لا مداها، وإن في كثير من أقاصيص العصور الوسطى لشواهد على إيمان أهل تلك العصور إيماناً يحدث في النفس أعمق الأثر، وحسبنا أن نذكر منها أنه لما عاد البابا ليو التاسع المحبوب إلى إيطاليا بعد رحلة الإصلاح التي قام بها في فرنسا وألمانيا انشق له نهر أنين Aniene كما انشق البحر الأحمر لموسى ليستطيع أن يجتازه (54).
وترجع قوة الدين المسيحي إلى أنه يعرض على الناس الإيمان لا المعرفة، والفن لا العلم، والجمال لا الحقيقة، وقد فضله الناس في صورته هذه، وكانوا يرون أن ليس فيهم من يستطيع أن يجيب عن أسئلتهم، ولهذا كانوا يشعرون بأن من الحزم أن يؤمنوا بالأجوبة التي ينطق بها رجال الدين، ويؤكدوها توكيداً(16/12)
يزيل مخاوفهم. ولو أن الكنيسة قد اعترفت بأنها تخطيء تارة وتصيب تارة أخرى لفقدوا ثقتهم فيها، ولعلهم كانوا يرتابون المعرفة ويرون أنها الثمرة المرة للشجرة المحرمة تحريماً ينطق بالحكمة، أو السراب الذي يضل الناس ويغويهم ليخرجوا من جنة السذاجة والحياة الخالية من الشك. وهكذا استسلم العقل في العصور الوسطى للإيمان في أغلب الأوقات والحالات، وجعل كل اعتماده على الله وعلى الكنيسة، كما يثق رجل هذه الأيام بالعلم وبالدولة. أنظر إلى قول فليب أغسطس لملاحيه أثناء عاصفة ثارت في منتصف الليل: "إنكم تهلكوا لأن آلافا من الرهبان يقومون من فراشهم في هذه اللحظة، ولن يلبثوا أن يصلوا من أجلكم (55) ". وكان الناس يعتقدون أنهم تسيطر عليهم قوة أعظم مما تستطيع المعرفة البشرية أن تهبهم، وكانوا في العالم المسيحي، كما كانوا في العالم الإسلامي، يسلمون أنفسهم إلى الله، كما كانوا حتى في دنسهم، وعفتهم، وفجورهم يبتهلون إليه أن ينجيهم. لقد كان هذا عصراً ثملاً بنشوة الإيمان بالله.(16/13)
الفصل الثاني
الأسرار المقدسة
كانت القوة الثانية من قوى الكنيسة التي تلي تحديد الدين هي عملها في أداء الأسرار المقدسة- أي الشعائر التي ترمز إلى منح البركة الإلهية. ويقول القديس أوغسطين في هذا: "لا يستطيع الناس في دين من الأديان أن يرتبط بعضهم ببعض إلا إذا اجتمعوا في نوع من الزمالة عن طريق رموز أو شعائر يرونها رأي العين" (56). ويكاد اللفظ اللاتيني الذي يعبر عن هذه الأسرار المقدسة وهو لفظ Sacramentum ينطبق في القرن الرابع الميلادي على كل شيء مقدس- على التعميد، وعلى الصليب، والصلاة، وأطلقه أوغسطين في القرن الخامس على الاحتفال بعيد القيامة، ثم قصره إزدور الأشبيلي Isidore of Seville القرن السابع على التعميد وتثبيت العماد، والقربان المقدس. فلما كان الثاني عشر حددت الأسرار المقدسة بسبعة أسرار: التعميد، وتثبيت العماد، والكفارة، والقربان المقدس، والزواج، ورتبة الكهنوت، والمسح بالزيت قبيل الوفاة. أما الشعائر الصغرى التي تمنح البركة الإلهية كالرش بالماء المقدس أو علامة الصليب- فلم تكن من هذه الأسرار وسميت sacramentals أي المتعلقة بتلك الأسرار تمييزاً لها عن الأسرار الأصيلة.
وكان التعميد أهم تلك الأسرار كلها، وكان يهدف إلى غرضين: محو الخطيئة الأولى، بحيث يولد الشخص مولداً جديداً يستقبل على أثره في حظيرة الدين المسيحي. وكان المفروض أن يطلق الأبوان على طفلهما في هذا الحفل اسم أحد القديسين، ليكون هذا القديس المستقبل شفيع الطفل، وأنموذجه، وحاميه، وهذا هو "اسمه المسيحي" أو الخاص. وقبل أن يحل القرن(16/14)
التاسع كانت طريقة التعميد المسيحية الأولى- طريقة غمر الطفل كله- قد استبدلت بها تدريجاً طريقة الرش لأنها أقل خطراً على الصحة من الطريقة الأولى في الأجواء الباردة الشمالية. وكان في وسع أي قسيس- أو أي مسيحي عند والضرورة- أن يقوم بعملية التعميد، وكانت الطريقة القديمة، طريقة تأجيل التعميد حتى يكبر الطفل، قد استبدلت بها طريقة التعميد في سن الرضاعة، وقد أنشأت بعض الجماعات وبخاصة في إيطاليا كنائس صغرى خاصة لأداء هذه الشعيرة.
وكانت مراسم تثبيت العماد والقربان المقدس تقام عند أتباع الكنيسة الشرقية بعد التعميد مباشرة. أما عند أتباع الكنيسة الغربية فقد أجلت سن تثبيت العماد شيئاً فشيئاً إلى السنة السابعة من حياة الطفل حتى يستطيع أن يتعلم المبادئ الأساسية للدين المسيحي. ولم
يكن يقوم بهذه العملية إلا أحد الأساقفة، ويصحبها دعاء إلى الروح القدس أن يدخل في جسم التعميد، ومسح جبهته بالزيت المقدس ولطمه لطمة خفيفة على خده، وبهذه الطريقة الشبيهة بما كان متبعاً في مراسم الفروسية يثبت المسيحي الصغير في دينه، ويكون له تبعاً لذلك كل ما للمسيحي من حقوق وعليه كل ما على المسيحي من واجبات.
وأهم من هذا مراسم الكفارة. فإذا كانت عقائد الكنيسة تلقن الناس أنهم آثمون، فقد كانت تعرض عليهم وسائل تطهير أرواحهم حيناً بعد حين بأن يعترفوا بذنوبهم إلى قسيس، ويقوموا بمراسم للكفارات. فقد ورد في الإنجيل (متى الآية 19 من الإصحاح السادس عشر، والآية 18 من الإصحاح الثامن عشر) أن المسيح غفر الخطايا، وأنه منح الرسل هذه القدرة نفسها قدرة "الربط والحل". وتقول الكنيسة إن هذه القدرة قد انحدرت بالتوارث من الرسل إلى المطارنة الأولين، ومن بطرس إلى البابوات، ثم وهبها المطارنة إلى القسيسين في القرن الثامن. واستبدلت(16/15)
بطريقة الاعتراف العلني التي جرت بها العادة في أيام المسيحية الأولى طريقة الاعتراف السري الفردي حتى لا تمس كرامة بعض الكبار، ولكن الاعتراف العلني بقى عند بعض الطوائف الخارجة على مبادئ الكنيسة. وكانت الكفارة العلنية تفرض أحياناً عند ارتكاب بعض الجرائم الشنيعة كمذبحة سالونيك أو قتل بكت Becket. وقد قرر مجلس لاترن الرابع (1215) أن يتكرر الاعتراف والعشاء الرباني كل عام، وجعلهما من الواجبات الخطيرة، إذا أهملهما إنسان حرم من جميع صدمات الكنيسة ومن الدفن دفنة مسيحية. وأريد تشجيع من يريدون التوبة وحمايتهم فوضع "خاتم" على كل توبة بمفردها، ومعنى هذا الخاتم أنه لا يجوز لقس أن فشي ما أعترف له به. ونشرت منذ القرن الثامن قوائم تحدد الكفارة القانونية (التي قررتها الكنيسة) لكل مذنب ـ الصلوات، والصيام، والحج، وإخراج الصدقات، أو غيرها من أعمال التقى أو التصدق.
ولهذا "النظام العجيب" كما يصف ليبتيز مراسم الكفارة، كثير من النتائج الطيبة. فهو يربح التائب من آلام وخز الضمير الصامتة المنهكة للأعصاب، وهو يمكن القس من إصلاح أحوال أتباعه الخلقية والجسمية، وهو يريح بال المذنب بما يبعثه فيه من أمل في صلاح حاله، وهو كما يقول فلتير المتشكك، قيد يقلل من ارتكاب الجرائم (58). ويقول جيته Goethe " لقد كان من الواجب ألا يحرم بنو الإنسان من الاعتراف السمعي" (59). لكنه لم يخل من بعض النتائج السيئة: فقد كان هذا النظام يستخدم أحياناً لتحقيق أغراض سياسية، وذلك حين كان القساوسة مثلاً يأبون أن يغفروا للذين يناصرون الأباطرة على البابوات (60). وكان يستخدم أحياناً في محاكم التفتيش كما حدث حين أمر القديس شارل برميو St. Charles Perromeo (1538 - 1583) رئيس أساقفة ميلان قساوسته أن يطلبوا إلى من يأتونهم للتوبة على أيديهم أن يخبروهم بأسماء كل من يعرفونهم من الملحدين أو ممن تحوم حولهم شبهة الإلحاد (61).(16/16)
وأخطأ بعض السذج فظنوا أن الغفران يبيح لهم أن يعودوا إلى ارتكاب الذنوب. ولما ضعف التحمس الديني كانت الكفارات القاسية المفروضة على من يتقدمون للتوبة مما يغريهم بالكذب، وأجيز للقساوسة أن يفرضوا على التائبين عقوبات مخففة، كانت في العادة هي التصدق بالمال لغرض ترضية الكنيسة. ونشأت من هذا "التخفيف" صكوك الغفران.
ولم يكن صك الغفران رخصة بإرتكاب الإثم، بل كان إعفاءاً جزئياً أو كلياً من بعض العقاب الذي يستحقه الإنسان جزاءاً له على آثامه الدنيوية، أو من هذا العقاب كله، وهذا الإعفاء تمنحه إياه الكنيسة. وكان الغفران الذي يمنح عند الاعتراف بمحو الخطيئة التي لولاه لأدت بكاسبها إلى الجحيم، ولكنه لم يكن يعفيه من العقاب "الزمني" المترتب على إثمه. وكانت أقلية صغرى من المسيحيين هي التي تكفر عن ذنوبها في هذا العالم تكفيراً تاماً، أما ما بقى من هذا التكفير فيحدث في المطهر. وكانت الكنيسة تدعى لنفسها حق التجاوز عن هذا العقاب، وذلك بأن تنقل إلى أي تائب مسيحي يقوم بأعمال معينة من التقى أو التصدق قسما صغيراً عن كنوز البركة التي تجمعت من تعذيب المسيح وموته، ومن أعمال القديسين الأبرار الذين تزيد حسناتهم عن سيئاتهم. وقد منحت صكوك الغفران منذ القرن التاسع، وأعطى بعضها في القرن الحادي عشر للحجاج الذين يزورون الأضرحة المقدسة، وكان أول صك بالغفران الكلي هو الذي عرضه إريان الثاني في عام 1095 على من يشتركون في الحرب الصليبية الأولى. ونشأت من هذه العادات سنة منح صكوك الغفران لمن يتلون أدعية معينة أو يؤدون خدمات دينية خاصة، أو ينشئون القناطر، أو الطرق؛ أو الكنائس أو المستشفيات، أو يقطعون الغابات، أو يجففون المستنقعات، أو يتبرعون بالمال لحرب صليبية أو لهيئة كهنوتية أو لعيد كنسي، أو حرب مسيحية.
واستخدمت هذه السنة في كثير من الأغراض الصالحة، ولكنها فتحت الأبواب(16/17)
للمطامع البشرية، فقد بعثت الكنيسة ببعض رجال الدين، وكانوا في العادة من الرهبان ليجمعوا المال بأن يعوضوا على الراغبين صكوك الغفران نظير هبات يقدمها الطالبون، أو توبة من الذنوب، أو صلوات يؤدونها. وقد نشأ من هذه العروض التي يسميها الإنجليز "غافرات Pardoners" تنافس شديد جلل بالعار كثيراً من المسيحيين، فكانوا يتظاهرون بتعظيم بعض الآثار الدينية المزورة ليحملوا الناس على التبرع بالمال؛ وكانوا يحتفظون لأنفسهم من هذه الأموال بقسط قليل أو كثير. وبذلت الكنيسة عدة محاولات لتقليل هذه المساوئ، من ذلك أن مجلس لاتران الرابع أمر المطارنة أن ينهوا المؤمنين إلى ما هنالك من الآثار الدينية الكاذبة والشهادات المزورة، وحرمت رؤساء الأديرة من حق إصدار صكوك الغفران، وفرضت بعض القيود على حق المطارنة في إصدارها، وحث جميع رجال الدين على أن يراعوا جانب الاعتدال في تحمسهم لهذه الوسيلة الجديدة. وندد مجلس مينز الديني في عام 1261 بكثير من موزعي هذه الصكوك، ووصفهم بأنهم كاذبون أشرار يعرضون ما يعثرون عليه من عظام الناس أو الحيوان على أنها عظام أولياء صالحين، مرنوا على البكاء حين يشاءون، يساومون على التطهير من الذنوب بأكبر ما يستطيعون الحصول عليه من المال وبأقل ما يقدمونه من الأدعية والصلوات (62). وشهرت بها مجالس كنيسة أخرى مثل هذا التشهير كمجلس فين Vienne (1311) ومجلس رافنا (1317) (63)، لكن هذه المساوئ لم تنقطع.
وكان العشاء الرباني أهم الأسرار المقدسة بعد التعميد. ذلك أن الكنيسة تمسكت بحرفية العبارة المعزوة إلى المسيح وقت تناول العشاء الأخير، والقائلة أن الخبز هو جسمه وإن النبيذ دمه. وأهم ما تقوم عليه شعيرة العشاء الرباني هو تحول رغيف الخبز وكأس النبيذ إلى جسم المسيح ودمه بقدرة القسيس المعجزة، وكان الغرض الأول من القداس هو أن يسمح للمؤمنين أن يشتركوا في "جسم"(16/18)
الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي "دمه، وروحه، وألوهيته"، وذلك بأكل القربان المقدس، وشرب النبيذ المقدس. وإذا كان شرب هذا النبيذ يعرض دم المسيح للانسكاب على الأرض فقد نشأت في القرن الثاني عشر عادة الاكتفاء بتناول العشاء الرباني بالخبز وحده، ولما أن طالب بعض المحافظين (الذين أخذ عنهم الهوسيون البوهيميون ( Hussistes of Bohemia) أراءهم فيما بعد أن يتناولوا القربان بصور نيه ليتأكدوا من أنهم حصلوا على دم المسيح وجسمه، قال لهم علماء الدين إن دم المسيح "ملازم" لجسمه في الخبز، وإن جسمه "ملازم" لدمه في النبيذ (64). وانتشرت ألف قصة وقصة عن مقدرة الخبز المقدس على إخراج الشياطين، ومداواة الأمراض، وإطفاء النيران، والكشف عن الكذب باختناق الكاذبين (65). وكان يطلب إلى كل مسيحي أن يتناول العشاء الرباني مرة في العام على الأقل، وكان تناول الشاب المسيحي لأول مرة فرصة لإقامة المهرجانات الفخمة والحفلات السارة.
ونشأت عقيدة حضور المسيح في أثناء العشاء الرباني نشأة بطيئة. وكانت الصياغة الرسمية الأولى لهذه العقيدة هي التي أذاعها مجلس نيقية في عام 787. ثم قام راهب بندكتي فرنسي يدعى رتراموس Ratramus عام 855 وقال إن الخبز والخمر المقدسين لم يكونا جسم المسيح ودمه إلا بطريقة روحية لا جسدية. وقام برنجار Berenegar رئيس شمامسة تور حوالي عام 1054 وجهر بارتيابه في تحول الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه، فكان جزاؤه الحرمان من الدين، وكذب لافرانك Lafrance رئيس دير بك Bec رداً عليه (1063)
يقرر فيه العقيدة الدينية الصحيحة قال فيه:
إنا لنعتقد أن المادة الأرضية .... تستحيل بتأثير القوة السماوية التي لا يستطيع أحد وصفها .... أو إدراك كنهها إلى جوهر جسم المسيح، على حين أن مظهره، وبعض صفاته الأخرى المتصلة بهذه الحقائق نفسها، تبقى خافية حتى(16/19)
ينجو الناس من هول رؤية الأشياء النيئة المخضبة بالدماء، وحتى ينال المؤمنون الجزاءالكامل لإيمانهم. ومع هذا كله فإن جسم المسيح ذاته يبقى في الوقت عينه في السماء ... مصونا كاملاً، لا يمسه أذى أو دنس (66).
وأعلن مجلس لاتران في عام 1215 أن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية في الدين المسيحي، وأضاف مجلس ترنت Trent إلى هذا القول في عام 1260 أن كل جزيء من الخبز المقدس مهما كسر يحتوي جسم عيسى المسيح كله، ودمه، وروحه، وبهذه الطريقة تعظم الحضارة الأوروبية والأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان البدائية ـ وهي أكل الإله.
وقد رفعت الكنيسة من شأن عقدة الزواج إلى أكبر حد، وجعلتها عقدة دائمة، حين جعلت الزواج من الأسرار المقدسة. وحين يحتفل بضم إنسان إلى رجال الدين يهب المطران القس الجديد بعض القوى الروحية التي ورثها عن الرسل والتي يفترضون أن الله نفسه قد وهبها إياهم عن طريق المسيح. وفي آخر الأسرار المقدسة وهو المسح الأخير، يستمع القس إلى اعترافات المسيحي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويمنحه المغفرة التي تنجيه من النار، ويمسح أعضاءه حتى تتطهر من الخطيئة وتصبح بدل أن يحرقوا جسده كما يفعل الوثنيون، لأن الكنيسة كانت تقول إن الجسم أيضاً يبعث حيا بعد الموت، وهم يلفونه في كفنه، ويضعون قطعة من النقود في تابوته كما كان يفعل الأقدمون إذ يعتقدون أنهم يؤجرون كارون Charon لنقله إلى الدار الآخرة (66)، ثم يحملونه إلى قبره باحتفال مهيب ينفق فيه الكثير من المال. وقد يستأجر النائحون أو النائحات ليبكوه وينوحوا عليه ويرتدي أهله عليه سود الثياب مدة عام؛ حتى لا يستطيع أحد أن يعرف لطول مدة الحزن أن قلباً تائباً، وقساً خادماً، قد ضمنا لهذا الرجل جنة النعيم.(16/20)
الفصل الثالث
الصلاة
الشعائر الدينية في كل دين عظيم لازمة لزوم العقيدة نفسها، فهي تعلم الايمان، وتغذيه، وتوجده في كثير من الأحيان، وهي تربط المؤمن بربه برباط يريحه ويطمئنه، وتفتن الحواس والروح بمظاهرها الروائية وشعرها، وفنها، وتربط الأفراد برباط الزمالة، وتخلق منهم جماعة مؤتلفة حين تقنعهم بالاشتراك في شعائر واحدة، وترانيم واحدة، وأدعية وصلوات واحدة، ثم يفكرون آخر الأمر تفكيراً واحداً.
وأقدم الصلوات المسيحية هي الصلاة التي مطلعها "أبانا الذي في السموات" والتي مطلعها "نؤمن بإله واحد"، وقبل أن ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة الرقيقة المحببة التي مطلعها "السلام لك يامريم" تتخذ صيغتها المعروفة. وكانت هناك غير هذه الصلوات أوراد شعرية من الثناء والتضرع. ومن الصلوات في العصور الوسطى ما يكاد يكون رقى تمكن من يتلوها من الإتيان بالمعجزات، ومنها ما هو إلحاح متكرر لا يتفق مع تحريم المسيح "للتكرار العديم النفع" (67). ونشأت عند الرهبان والراهبات تدريجياً، وعند غير رجال الدين فيما بعد، عادة استعمال المسبحة، وهي عادة شرقية جاء بها الصليبيون (68). ونشر الرهبان الدمنيك هذه العادة. كما نشر الفرنسكان عادة "طريق الصليب" أو "مواضعه" وهي التي تقضي بأن يتلو المتعبد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة تمثل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح، فكان القساوسة، والرهبان، والراهبات، وبعض العلمانيين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونية - وهي أعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغها البندكتيون وغيرهم(16/21)
وجمعها ألكوين Alcuin وجريجوري السابع في كتاب موجز. وكانت هذه الأدعية تطرق أبواب السماء من مليون كنيسة وبيت متفرقة في جميع أنحاء الأرض كل يوم وليلة في فترات بين كل واحدة والتي تليها ثلاث ساعات. وما من شك في أن نغماتها الموسيقية كان لها أحسن الوقع على آذان أصحاب البيوت التي تستمع إليها كما يقول أوردركس فيتالس Ordericus Vitalis " ما أحلى أناشيد العبادة الإلهية التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، وتدخل عليهم السرور" (69).
وكثيراً ما كانت الصلوات الرسمية التي تتلى في الكنائس توجه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجه إلى الروح القدس، ولكن صلوات الشعب كانت توجه في الأغلب الأعم إلى عيسى ومريم، والقديسين. وكان الناس يخافون الله سبحانه وتعالى، فقد كان لا يزال يتصف في عقول العامة بكثير من القسوة التي كانت ليهوه، وكيف يجرؤ الشخص المذنب الساذج أن يوجه صلاته إلى ذلك العرش الرهيب البعيد؟ إن عيسى لأقرب إليه من ذلك العرش، ولكنه هو أيضاً اله، ومن أصعب الأشياء أن يجرؤ الإنسان على مخاطبته وجهاً لوجه بع أن أنكر نعمه هذا النكران التام. ومن أجل هذا بدا للناس أن من الحكمة أن توجه الأدعية والصلوات إلى أحد القديسين (أو إحدى القديسات) تشهد قوانين الكنيسة بمقامه في الجنة، وأن يتوسل إليه بأن يكون وسيلته عند المسيح. وبهذه الطريقة بعثت في عقول العامة من الماضي الذي لا يبيد أبداً جميع مظاهر الشرك الشعرية الخيالية، وملأت العبادات المسيحية بطائفة كبيرة من الأرواح، ترافق الناس، وتشد عزائمهم، وتكون لهم إخوة على الأرض تقربهم إلى السماء. وتخلص الدين من عناصره الأكثر قتاماً، فكان لكل أمة، ومدينة، ودير، وكنيسة، وحرفة ونفس؛ وأزمة من أزمات الحياة، وليها الشفيع النصير، كما كان لكل منها إلها في روما القديمة. كان لإنجلترا القديس(16/22)
جورج، ولفرنسا القديس دنيس، وكان القديس بارثو لميو حامي الدابغين لأن جلده سلخ وهو حي، كان صانعوا الشموع يضرعون إلى القديس يوحنا لأنه غمر في قدر مليئة بالزيت المشتعل، وكان القديس كرستفر St. Christopher نصير الحمالين لأنه حمل المسيح على كتفيه، وكانت مريم المجدلية تتلقى توسلات بائعي العطور لأنها صبت زيوتاً عطرة على قدمي المسيح المنقذ. وكان لكل من يحدث له حادث طارئ، أو يصاب بمرض، صديق في السموات، فكان القديس سبستيان والقديس رتش Roch ذوي قوة وبأس في أيام الوباء. وكان القديس أبو لينيا St. Appolinia الذي كسر الجلاد فكه يشفي ألم الأسنان، وبليز St. Blalse يشفي آلام الحلق، والقديس كورئيل St. Corneille يحمي الثيران، والقديس جول Gall يحمي الدجاج والقديس أنطون يحمي الخنازير، وكان القديس ميدار Medord هو الذي تتضرع إليه فرنسا أكثر من سائر القديسين لينزل إليها المطر، فإذا لم ينزله ألقى عباده الذين ينفذ صبرهم تمثالاً له الماء من حين إلى حين، ولعل هذا كان بمثابة رقية سحرية (70).
ووضعت الكنيسة تقويماً كنسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين، ولكن التقويم لم يتسع للخمسة والعشرين ألفاً من القديسين الذين اعترفت بهم قوانين الكنيسة قبل أن يحل القرن العاشر الميلادي. وقد بلغ من معرفة الشعب بتقويم القديسين أن التقويم العادي قسم السنة الزراعية أقساماً أطلق على كل منها اسم أحد القديسين، ففي فرنسا مثلا كان عيد القديس جورج يوم البذر، وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين St. Valentine يحدد آخر فصل الشتاء؛ فإذا حل ذلك اليوم، على حد قولهم، تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات، ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن. ومن القديسين عدد كبير اعترفت بهم الكنيسة لأن العامة داوموا على عبادتهم وإحياء ذكراهم، أو لأن مكاناً ما قد أصر على هذه العبادة على الرغم من(16/23)
معارضة رجال الدين. وعلقت صور ووضعت تماثيل للقديسين في الكنائس، والميادين العامة، وفي الطرق؛ وفوق المباني، وتلقت من أنواع العبادة التلقائية ما جلل بالعار بعض الفلاسفة ومحطمي العصور المقدسة. واضطر كلوديوس أسقف تورين إلى الشكوى من أن كثيرين من الناس "يعبدون صور القديسين، ... فهم لم يقلعوا عن عبادة الأصنام، بل كل ما في الأمر أنهم غيروا أسماءها" فهم (71). وبهذه الطريقة، على الأقل، أوجدت إرادة الشعب وحاجته شكل العبادة التي يتعبدها.
وما دام القديسون قد كثر عددهم إلى هذا الحد، فقد كثرت تبعاً لذلك مخلفاتهم - عظامهم، وشعورهم، وأثوابهم، وأي شيء استعملوه في حياتهم. وكان المفروض أن كل مذبح يشمل واحدا أو أكثر من واحد من هذه المخلفات، فكانت باسلكا القديس بطرس تباهي بأنها تحتوي جسدي القديسين بطرس وبولس اللذين أصبحت روما بفضلهما كعبة الحجاج من جميع أنحاء أوروبا. وكانت كنيسة في سانت أومر St. Omer. تدعى أن فيها قطعاً من الصليب الحقيقي ومن الحرية التي اخترقت جسم المسيح، ومن مهده، وقبره، ومن المن الذي نزل من السماء، ومن عصا هارون، ومن المذبح الذي تلا عليه القديس بطرس القداس، ومن شعر تومس أبكت وقلنسوته، وقميصه المنسوج من الشعر، والشعر الذي جزء من مقدم رأسه، ومن الألواح الحجرية الأصلية التي سجلت عليها الوصايا العشر أصبح الله نفسه (72)، وتحتوي كنيسة أمين Amiens رأس يوحنا المعمدان في كأس فضية (73)، وتحتوي دير القديس دنيس جسم ديونيسيوس الأريويجي Dionysius the Areopagite وتاجه الشوكي. وتدعى واحدة من ثلاث كنائس متفرقة في فرنسا أن فيها جسد مريم المجدلية كاملاً (74)، كما تؤكد خمس كنائس في فرنسا أن في كل منها الأثر الحقيقي الوحيد الباقي من ختان المسيح (75)، وتعرض كنيسة إكستر Exter أجزاء من(16/24)
الشمعة التي استعملها ملاك الله لإضاءة قبر عيسى، وأجزاء من العشب الذي تحدث منه الله إلى موسى (76). وفي دير وستمنستر بعض دم المسيح وقطعة من الرخام عليها طابع قدمه (77). ويعرض أحد أديرة در هام مفصلا من مفاصل القديس لورنس، والفحم الذي أحرقه، والصفحة التي قام عليها رأس يوحنا المعمدان إلى هيرود، وقميص العذراء، وقطعة من الصخر عليها علامات نقط من لبنها (78)، وكانت كنائس القسطنطينية قبل عام 1204 غنية أكثر من غيرها بالمخلفات المقدسة، فكان فيها الحرية التي نفذت في جسم المسيح، والتي لا تزال حمراء من دمه، والعصا التي ضرب بها، وقطع كثيرة من الصليب الحقيقي مغلفة بالذهب، وثريد الخبز الذي قدم ليهوذا في العشاء الأخير، وشعرات من لحية المسيح، وذراع يوحنا المعمدان اليمنى .... (79). وسرقت كثير من هذه المخلفات حين نهبت القسطنطينية، ثم أشترى بعضها، وأخذت تنتقل من كنيسة إلى كنيسة في بلاد الغرب إلى أيدي من يؤدي فيها أكثر الأثمان. وكانت تعزى إلى جميع المخلفات قوى معجزة، وتروي مئات الآلاف من القصص عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول على أقل أثر، أو أقل أثر من أثر ليتخذوه طلسماً - كخيط من ثوب قديس، أو قليل من تراب علبة مخلفات، أو نقطة زيت من مصباح مقدس في ضريح. وكانت الأديرة تتنافس وتتنازع في جمع المخلفات وعرضها على العباد الأسخياء، لأن امتلاك المخلفات الشهيرة كان يدر على الدير أو الكنيسة ثروة طائلة.
وحسبنا مثلا لهذا أن نذكر أن "نقل" عظام تومس أبكت إلى ضريح جديد في كنيسة كنتر بري الكبرى (1220) جمع من الذين شاهدوا هذا العمل ما يقدر بنحو 000ر300 ريال أمريكي بنقود هذه الأيام (80). واجتذب هذا العمل الرابح كثيراً من ممارسيه، فكانت مخلفات زائفة كثيرة تباع للكنائس والأفراد، وكانت بعض الأديرة يغريها الكسب بـ "كشف" مخلفات(16/25)
جديدة حين تحتاج إلى المال. وكان شر هذه المساوئ هو تقطيع الأولياء الأموات ليتيسر لعدد من الأماكن أن يحظى برعاية القديس وقوته (81).
ومما يذكر بالحمد لبعض رجال الدين من غير رجال الأديرة، وللكثرة الغالبة من الأديرة نفسها أنها لم تكن ترضي وأنها كثيراً ما كانت تندد، بهذه الدكاكيرية (الفيتنشية) المسرفة الواسعة الانتشار. ومن الرهبان الذين يسعون إلى العزلة في عباداتهم من لم يكونوا يرضون عن المعجزات التي تفعلها مخلفات أديرتهم. من ذلك أن رئيس جرامونت Grammont توسل إلى مخلفات القديس استيفن أن تمتنع عن الإتيان بخوارق العادات، لأنها تغري الجموع الصاخبة بالتجمع، ثم هدد القديس بقوله: "وإلا ألقينا عظامك في النهر" (82). ولم تكن الكنيسة هي التي تزعمت حركة خلق الأقاصيص الغرامية عن معجزات المخلفات أو مضاعفة عددها، بل الشعوب هي التي فعلت هذا، وكثيراً ما كانت للكنيسة تحذر الجماهير من تصديق ما يذاع من تلك الأقاصيص (83). مثال ذلك أن مرسوماً إمبراطورياً لعله صدر بناء على طلب الكنيسة حرم على الناس "حمل" مخلفات القديسين "أو بيعها" وأن القديس أوغسطين شكا من المنافقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والذين "يتجرون في أجسام الشهداء، إذا كانوا شهداء يحق"، وقد أعاد جستنيان نشر هذا المرسوم (84). وكتب الأب جبيرت النوجنتي Guibert of Nogent حوالي عام (1119) رسالة في مخلفات للقديسيين ينادي فيها بوضع حد لجنون المخلفات، ويقول إن الكثير من هذه الآثار "لأولياء اشتهروا في سجلات لا قيمة لها"، وإن بعض "رؤساء الأديرة أغوتهم كثرة ما يحمل إليهم من الهدايا، فقبلوا اصطناع المعجزات "الكاذبة"، "وثمة نساء عجائز ونساء ساقطات كثيرات يتغنين بالأقاصيص الكاذبة عن القديسين الشفعاء وهن يعملن على أنوالهن .... فإذا ما فند إنسان أقوالهن هاجمته .... بلقاطاتهن". ويقول إنه قلما أوتي أحد من رجال الدين(16/26)
الجرأة أو الشجاعة على الاحتجاج، ويعترف بأنه هو نفسه قد سكت رأى تجار المخلفات يعرضون على المؤمنين المصدقين "بعض ذلك الخبز عينه الذي مضغه السيد المسيح بأسنانه نفسها"، ذلك "أني لو جادلت المجانين لحق علي القول بأني مجنون" (85). ويضيف إلى ذلك أن في عدد من الكنائس رؤوساً كاملة ليوحنا المعمدان، ويعجب مما كان لهذا القديس من رؤوس كثيرة لا يمكن أن يقطعها قاطع (86). وحرم البابا إسكندر الثالث (1179) على الأديرة أن تطوف بما عندها من المختلفات لجمع التبرعات، كما حرم مجلس لاتران المنعقد في عام 1215 عرض المخلفات في خارج الأضرحة (87)، وندد مجلس ليون الثاني (1274) بـ "الحط من قدر" المخلفات والصور (88).
ويمكن القول بوجه عام إن ما قامت به الكنيسة لم يكن هو تشجيع الخرافات بل كان أكبر نصيب لها في هذه الناحية هو أنها ورثتها من خيال الناس أو من تقاليد عالم البحر المتوسط. وكان الإيمان بما لبعض المخلفات، والطلاسم، والتمائم، والرقي، من قدرة على الإتيان بالمعجزات عزيزاً على المسيحيين والمسلمين على السواء، وقد ورثوا هذه العقائد من الأديان الوثنية القديمة. وبقيت أشكال قديمة من عبادة عضو التذكير زمناً طويلاً في العصور الوسطى، ولكن الكنيسة ألغتها شيئاً فشيئاً (89) وورثت عبادة الله بوصفه رب الجيوش، وملك الملوك، بعض أساليب التقرب إليه وتعظيمه، ومخاطبته، من الساميين والرومان، وتذكرنا عادة حرق البخور أمام المذبح أو رجال الدين بعادة تقريب القرابين المحروقة، أما عادة الرش بالماء المقدس فكانت صورة قديمة من التعاويذ، وأما المواكب ومراسم التطهير فهي امتداد لشعائر موغلة في القدم، وملابس القساوسة، وتلقيب البابا بالحبر الأعظم Pontifex Maximus تراث من روما الوثنية. ووجدت الكنيسة أن معتنقي المسيحية من أهل الريف لا يزالون يعظمون بعض العيون، والآبار، والأشجار،(16/27)
والحجارة، فرأت أن من الحكمة أن تخلع البركة على هذه الأشياء، وأن يستخدمها المسيحيون بدل أن تقضي قضاء مفاجئاً سريعاً على عادات شديدة الارتباط بعواطف الخلق. واتباعاً لهذا دشنت مجموعة من الحجارة في صورة مائدة في بلواريه plouaret على أنها مصلي القديسين السبعة، وحللت عبادة شجرة البلوط بأن علقت على الأشجار صور القديسين المسيحيين (90): وعادت الاحتفالات الوثنية العزيزة على الشعوب أو التي لابد منها لكي تبيح للناس الخروج على قواعد الأخلاق وأضحت أعياداً مسيحية، واستحالت الطقوس الوثنية النباتية طقوساً كنسية مسيحية وظل الناس كما كانوا من قبل يوقدون النيران في منتصف الصيف عشية عيد القديس يوحنا (1)، وسمي عيد قيام المسيح (عيد القيامة) بالاسم الوثني القديم Eostre وهو اسم إلهة الربيع التبوتونية القديمة؛ وحل تقويم القديسين المسيحي محل التقويم الروماني، وأجازت الكنيسة أن تبقى الأرباب القديمة العزيزة على الناس وأن تحمل أسماء قديسين مسيحين، فأضحت إلهة النصر Dea Victovria إلهة إقليم الألب الأدنى هي القديسة فكتوار St. Victoire، كما ولد كاستر وبلكس Castor and Pollux من جديد وأصبحا هما القديسين كزماس Cosmas ودميان Damian.
وكان أعظم ما ظفرت به هذه الروح، روح التكيف المتسامحة، من نصر هو السمو بعبادة الإلهة الأم الوثنية واستحالتها إلى عبادة مريم أم المسيح وهنا أيضاً كان الشعب هو البادئ بهذا التسامي. ذلك أن سيريل Cyril كبير أساقفة الإسكندرية وصف، في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس Ephesus عام 431، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها "إلهتهم الكبرى" أرتميس - ديانا Artimis Diana دلالة على حبهم إياها
_________
(1) ويطلق على هذا العيد بالإنجليزية اسم Easter وكان عيد هذه الإلهة يحتفل به في يوم الاعتدال الربيعي. (المترجم)(16/28)
واعتزازهم بها، ووافق مجلس إفسس في تلك السنة على أن تلقب مريم "أم الإله" وعلى الرغم من احتجاج نسطوريوس Nestorius وما لبثت أرق صفات عشتروت، وسيبيل، وأرتميس، وديانا، وإيزيس أن جمعت كلها في عبادة مريم ثم قررت الكنيسة في القرن السادس إقامة الاحتفال بعيد صعود العذراء إلى السماء، وحددته باليوم الثالث عشر من شهر أغسطس، وهو تاريخ عيدين لإيزيس وأرتميس (91). وأضحت مريم القديسة الشفيعة للقسطنطينية وللأسرة الإمبراطورية، وكانت صورتها تحمل في مقدمة كل موكب عظيم، وكانت (ولا تزال) تعلق في كل كنيسة وبيت في العالم المسيحي اليوناني. وأكبر الظن أن الصليبيين هم الذين جاءوا من الشرق إلى الغرب بعبادة العذراء عبادة قوية بمظاهرات ذات جمال وروعة (92).
ولم تشع الكنيسة نفسها عبادة مريم، نعم إن آباء الكنيسة كانوا قد كرموا مريم وفضلوها عن حواء، ولكن عداءهم للمرأة بوجه عام، ووصفهم إياها بأنها "الوعاء الضعيف"، ومصدر كل غواية بارتكاب الإثم، وخوف الرهبان من النساء وفرارهم منهن، وحملة الوعاظ على مفاتن النساء ونقائصهن- هذا كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى عبادة مريم هذه العبادة القوية الشاملة. وكان الشعب وحده هو الذي ابتدع أجمل زهرة في العالم الروحي أثناء العصور الوسطى وجعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله. ذلك أن سكان أوروبا المستفيقة من رقدتها لم يعودوا يقبلون تلك الصورة الصارمة لإله يعاقب الكثرة الغالبة من خلقه بإلقائهم في نار جهنم، فخففوا من تلقاء أنفسهم الأهوال التي يحدثهم عنها علماء الدين بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان، وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى - وهو لا يزال عندهم أسمى وأعدل من أن يتصلوا به مباشرة- عن طريق أمه التي لا ترد سائلاً، والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة. وحسبنا دليلاً على رأي الناس(16/29)
في مريم القصة التي يرويها قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach، (1230) وهي أن شاباً أغواه الشيطان بإنكار المسيح نظير ثروة طائلة وعدها إياه، ولكنه لم يفلح في أن يغريه بإنكار مريم، فلما تاب الشاب استطاعت مريم أن تقنع المسيح بالعفو عنه. ويحدثنا الراهب نفسه عن أخ له سترسي من غير رجال الدين سمعه يناجي المسيح بقوله: "رباه! إن لم تنقذني من هذه الغواية فسأشكوك إلى أمك" (93). وقد بلغت صلوات الناس لها من الكثرة حداً جعل خيال العامة يصور عيسى في صورة من يغار منها، فيقولون إن شخصاً ملأ السموات بصلاة العذراء "السلام لك يامريم" فظهر له المسيح، كما تقول القصة الطريفة، وأنبه أشد التأنيب وقال له: "إن أمي لتشكر لك كثيراً ما قدمت لها من أدعية وصلوات، ولكن عليك مع ذلك ألا تغفل إلى رحمة مريم لتخفيفها، كما كانت صرامة يهوه في حاجة إلى المسيح. والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد، يشترك كل إنسان في حبها والثناء عليها، فالعصاة أمثال أبلار ينحنون لها إجلالاً وتكريماً، والهجاءون أمثال روتبوف Rutrbeuf، والمتشككون الصخابون أمثال المدرسين الجوالين لم يكونوا يجرءون على النطق بكلمة نابية عنها، وكان الفرسان ينذرون أنفسهم لخدمتها، والمدن تقدم لها مفاتيحها، والطبقات الوسطى الرأسمالية الناشئة ترى فيها الرمز الطاهر للأمومة والأسرة، والجفاة للغلاظ من رجال النقابات الطائفية - وحتى أبطال الثكنات وميادين القتال الذين لا يتورعون عن النطق بأقبح الألفاظ فيما هو مقدس - يتبارون مع الفتيات القرويات والأمهات الثاكلات في توجيه صلواتهم إليها ووضع هداياهم تحت قدميها (95). وكان أقوى أسفار العصور الوسطى عاطفة هو ذلك الورد الذي يعلن في حماسة متأججة متزايدة مجدها ويطلب معونتها. ولم يكن مكان ما يخلو من صورة لها، بل لم تخل منها منحنيات(16/30)
الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.
وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها" (96). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن(16/31)
إنساناً ما لم يلاحظ غيابها (97). ولك يكن في مقدور الكنيسة أن ترتضي هذه القصص كلها، ولكنها كانت تقيم احتفالات عظيمة في ذكرى الحوادث البارزة في حياة مريم- كالبشارة، والزيارة (1)، والتطهير (عيد تطهير العذراء ودخول المسيح إلى الهيكل)، والصعود، ثم خضعت الكنيسة آخر الأمر إلى إلحاح أجيال من غير رجال الدين ومن الرهبان الفرنسسكان فأجازت للمؤمنين أن يعتقدوا، ثم أمرتهم في عام 1854 أن يعتقدوا، بالحمل بلا دنس- أي أن مريم قد حملت مبرأة من أثر الخطيئة الأولى التي تلطخ، حسب قول الكنيسة، كل طفل يولد من رجل وامرأة من عهد آدم وحواء.
واستحالت الكثلكة بفضل عبادة مريم من دين رهبة- لعلها كانت ضرورية في العصور الوسطى- إلى دين رحمة وحب، وإن نصف ما في العبادات الكاثوليكية من جمال، وكثيرا مما في الفن الكاثوليكي والغناء الكاثوليكي من روعة وجلال، لمن خلق هذا الإيمان السامي الذي يتجلى في وفاء امرأة ورقتها، بل وفي جمال جسمها ورشاقتها. لقد دخلت بنات حواء الهيكل وبدلت روحه، وكانت هذه الكثلكة الجديدة من الأسباب التي طهرت الإقطاع فاستحال فروسية، ورفعت من شأن المرأة إلى حد ما في عالم من صنع الرجال، وبفضله وهب النحت والتصوير في العصور الوسطى فن تلك العصور عمقاً ورقة قلما كان اليونان يعرفونهما في عهدهم. وفي وسع الإنسان أن يعفو عن كثير مما في دينٍ وفي عصرٍ أوجدا مريم وكنائسها الكبرى.
_________
(1) زيارة مريم العذراء لإليصابات قبل أن تلد هذه أبنها يوحنا المعمدان، وتحتفل الكنيسة بهذه الذكرى في 2 يولية من كل عام. (المترجم).(16/32)
الفصل الرابع
الطقوس
لقد كانت الكنيسة حكيمة إذ أفسحت في فنها، وترانيمها، وصلواتها، مكاناً لعبادة العذراء، ولكنها أصرت في العناصر القديمة من عباداتها وطقوسها على النواحي الصارمة الجدية من الدين. من ذلك أنها جرت على السنة التي كان يجري عليها الأقدمون، ولعلها رأت في هذه للسنة فائدة للمصلحة، فشرعت الصيام في أوقات معينة، نهت فيها عن أكل اللحم في جميع أيام الجمعة، كما حرمت أكل اللحم، والبيض، والجبن، طوال أيام الصوم الكبير الأربعين، وأمرت أن يدوم ذلك الصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمرت كذلك ألا يكون في هذه الفترة زواج، أو طرب، أو صيد، أو محاكمات في دور القضاء، أو صلات جنسية بين الرجال والنساء (98). وكانت هذه نصائح لمن أراد أن يكون مسيحياً كاملاً، وقلما كان أحد يتمسك بها، أو يرغم على أتباعها، ولكنها أفادت في تقوية الإرادة وكبح الشهوات عند خلائق نهمين شهوانيين.
وكانت الصلوات أيضاً مما ورثته الكنيسة عن الأقدمين، ثم عدلت فصارت أشكالاً من التمثيل الديني، والموسيقى الدينية والفن الديني، رفيعة، سامية، مؤثرة في النفس. وكانت أقدم العناصر في الصلاة المسيحية هي مزامير العهد القديم وأدعية هيكل أورشليم وعظامه، وقراءات من العهد الجديد، وتناول القربان المقدس. وأدى انقسام الكنيسة شرقية وغربية إلى اختلاف في الشعائر الدينية، كما أدى عجز البابوات الأولين عن أن يفرضوا إراداتهم كاملة خارج حدود إيطاليا الوسطى إلى وجود خلاف في الحفلات الدينية حتى داخل الكنيسة(16/33)
اللاتينية نفسها. من ذلك أن أحد الطقوس الذي استقر في ميلان انتشر إلى أسبانيا، وغالة، وأيرلندة، وشمالي بريطانيا، ولم تتغلب عليه الطقوس الرومانية إلا في عام 664، وأصلح البابا هدريان الأول طقوس الكنيسة في منشور خاص بعث به شرلمان حوالي آخر القرن الثامن، ولعل عمله هذا كان إتماماً لجهود بذلها جريجوري الأول في هذه السبيل، ودون جوليوم دوران Cuillaume Durand أهم طقوس الكنيسة الرومانية في كتابه "عرض للوظائف الدينية قائم على العقل Rationale divinorum officiornm (1286) . وفي وسعنا أن ندرك ما لقيه هذا المؤلف من قبول إذا عرفنا أنه أول ما طبع من الكتب بعد الكتاب المقدس. وكان المحور الذي تدور عليه العبادات المسيحية وأهم شعائرها هو القداس. وكان هذا الاحتفال يعرف في القرون الأربعة الأولى باسم "الحمد Eucharist"؛ وقد بقيت هذه الذكرى القدسية للعشاء الأخير جوهر الصلوات وعمادها الأساسي، ثم اجتمعت حولها في خلال إثنا عشر قرناً من الزمان مراسيم متتابعة معقدة من الأدعية والترانيم تختلف باختلاف أيام السنة، وفصولها، والغرض الذي يقام من أجله هذا القداس أو ذاك، ودونت هذه المراسم في كتاب القداس ليسهل على القس الرجوع إليها. وكانت الكنيسة اليونانية تفصل بين الرجال والنساء في وقت الاجتماع لإقامة القداس كما كانت الكنيسة اللاتينية تفعل ذلك في بعض الأحيان. ولم تكن هناك كراسي يجلس عليها المصلون، بل كانوا يؤدون الصلاة وهو وقوف، وكانوا في بعض اللحظات الرهيبة يؤدونها راكعين، ويعفى من الوقوف والركوع الشيوخ والضعفاء، وأقيمت للرهبان والقساوسة الذين يضطرون إلى الوقوف خلال الصلاة الطويلة أفاريز صغيرة في أمكنة الترتيل لتسند الجزء الأسفل من العمود الفقري، وأضحت هذه الرجمات miserieovoliae موضع عناية ناحت الخشب وحذقه. وكان القس الذي يقيم القداس يدخل وعليه (توغا ogat) كالتي(16/34)
يرتديها اليونان والرومان الأقدمون، يغطيها قميص أبيض طويل all وحلة القداس Cbasuble وبطرشيل stole وكلها أثواب زاهية عليها زخارف رمزية، أكثرها ظهور الأحرف JHS وهي أوائل الكلمات Jesos Huiss Soter أي عيسى ابن (الله) المنقذ. وكان القداس نفسه يبدأ عند أسفل المذبح بهذا النشيد المتواضع: سأدخل في مذبح الله، ويضيف إليه السادن؛ "إلى الله الذي يضفي البهجة على شبابي". ثم يصعد القس المذبح ويقبله لأنه المكان المقدس الذي أودعت فيه مخلفات القديس. ويترنم بالدعاء الذي مطلعه كيري اليسون kyrie eleison (" ارحمنا يا الله") وهو بقية يونانية في القداس اللاتيني. ويتلو بعدئذ دعاء المجد ("المجد لله في العلا") والدعاء الأساسي الذي مطلعه "نؤمن بإله واحد" ثم يدشن قطعاً صغيرة من الخبز وقدحاً من الخمر لتكون جسم المسيح ودمه بأن يتلو عليها تلك الكلمات: هذا جسدي وهذا دمي.
Hic est sanguinis meus (1) و Hoc est corqus meum ثم يعرض هذه العناصر المتحولة- أي ابن الله- لتكون قرباناً يتقرب به إلى الله وإحياءاً لذكرى التضحية على الصليب، وبديلاً من التضحية القديمة بالأحياء. ثم يلتفت القس إلى المصلين ويأمرهم بأن يسموا بقلوبهم إلى الله، فيرد عليه السادن بوصفه نائباً عن المصلين بقوله: "إنا نرفعها إلى الرب". ويتلو القديس بعدئذ القداس المثلث Triplc Sanctus وحمل الله Ognus Dei، وأبانا الذي، ويشترك هو نفسه في تناول الخبز والخمر المقدسين، ويقدم العشاء الرباني إلى الحاضرين، وبعد أن يؤدي عدة صلوات إضافية ينطق بالصيغة الأخيرة وهي: تفرقوا، حان الفراق Ite-missa est، ولعل لفظ القداس الإنجليزية mass مشتق من لفظ missa هذا (99). ويبقى بعد هذا القداس في أشكاله المتأخرة أن يبارك القس المصلين، وأن تتلى بعض فقرات أخرى من الإنجيل- وهي
_________
(1) ومن هذه الألفاظ اشتق الساخرون "لفظ hevuspocus"(16/35)
عادة الديباجة الأفلاطونية الجديدة من إنجيل يوحنا. ولا يقام القداس عادة إلا على يد مطران، وبعد القرن الثاني عشر لم يكن يقام إلا إذا ألقى فيه راهب موعظة.
وكان القداس ينشد على الدوام أول الأمر، وكان المصلون يشتركون في إنشاده، ثم قل اشتراكهم فيه أثناء القرن الرابع وما بعده، وأخذ مرتلون مختصون يردون على المنشد (1). وتعد الترانيم التي يتغنى بها في الصلوات المختلفة بالكنائس من أعظم ما أنتجته العاطفة والفن في العصور الوسطى روعة وأقوالها في النفس أثراً. ويبدأ التاريخ المعروف للترانيم اللاتينية بهلاري Hilary أسقف بواتييه (المتوفى عام 367). ذلك أنه لما عاد إلى غالة من منفاه في بلاد الشام جاء معه ببعض الترانيم اليونانية- الشرقية وترجمها هذه كلها. ووضع أمبروز Amdrose بداية أخرى في ميلان، ولدينا من ترانيمه الطنانة ثمان عشرة ترنيمة كان لحرارتها المكبوتة أعظم الأثر في نفس أوغسطين. وأكبر الظن أن ترنيمة الشكر والإيمان النبيلة التي مطلعها "الشكر لك يا الله" والتي كانت تعزى قبل إلى أمبروز قد كتبها نيقيتاس مطران رمسيانا Remisiana في أواخر القرن الرابع. وربما كانت الترانيم اللاتينية قد أصبحت أرق من الترانيم السابقة إحساساً وأجمل صورة لتأثرها بالشعر العربي الإسلامي والبروفنسالي (100). ومن الترانيم ما يكاد يكون عبارات ركيكة لا تزيد على ألفاظ رنانة، مقفاة، غير أن ترانيم عهد العصور الوسطى الزاهر- في القرنين الثاني عشر والثالث عشر- أضحت من جوامع الكلم، محكمة العبارات، تتخللها القوافي الرخمية، وتعبر عن أفكار طيبة رقيقة، ترفعها إلى مستوى أعظم الشعر الوجداني الذي أنتجه الأدب العالمي.
_________
(1) أنظر الباب الثالث والثلاثين ففيه تفصيل واف لموسيقى القداس.(16/36)
وجاء إلى دير القديس فكتور الشهير القائم في خارج باريس حوالي عام 1130 شاب من بريطاني بفرنسا، لا تعرف من اسمه أكثر من آدم نزيل دير القديس فكتور. وقضى الشاب ذلك الدير الستين عاماً الباقية من عمره هادئاً راضياً، وتشرب بروح هوجو Hugo ورتشرد الصوفيين الذائعي الصيت، وعبر عن هذه النزعة الصوفية تعبيراً متواضعاً، حلواً، دوياً، ترانيم يقصد بمعظمها أن تتلى بعد مراسم القداس. وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألف راهب فرنسسكاني يدعى جكوبون ده تودي Jacopone de Todi (1228؟ - 1306) أعظم ترنيمة في العصور الوسطى وهي المعروفة باسم "وقفت الأم Sebat mather". وكان جكوبون هذا محامياً ناجحاً في تودي القريبة من بروجيا Perugia، واشتهرت زوجته بصلاحها وجمالها، وماتت هذه الزوجة إثر حادث سقوط طوار عليها في أحد الأعياد، فذهب الحزن بعقل جكوبان، وأخذ يجول على غير هدى في طرق أمبريا Umbria مردداً بأعلى صوته ذنوبه وأحزانه، وطلى نفسه بالقار والريش، وأخذ يمشي على أربع؛ وانضم إلى جماعة الفرنسسكان وأنشأ القصيدة التي تحتوي في إيجاز ما كان في هذا الوقت من تُقى وحنان:
وقفت الأم كسيرة القلب،
تزرف الدمع أمام الصليب
وابنها معلق يحتضر،
وقد نفذ في روحها المثقلة بالأحزان،
وهي تندبه وتتألم من أجله،
سيف الأسى البتار.
ألا ما أشد حزنها
تلك الأم التي أنعم الله عليها بابنها الوحيد،
والتي رماها الزمان بسهامه!(16/37)
وأخذت وقتئذ تنتحب وتندب سوء حظها،
وترتجف حين أبصرت عذاب ابنها النبيل.
ومنذا الذي لا يحزن
إذا شاهد أم منقذنا
وقد شجتها الغصة؟
منذا الذي يستطيع أن يحاجز نفسه عن أن يشاركها أحزانها حين يرى هذه الأم الحنون
تندب مصير ولدها؟ .....
أقبلي ياأماه، يا منبع الحب،
وأشعريني آلامك بأكملها
دعيني أشاركك أحزانك،
واشعلي في قلبي نار الشوق
وحب المسيح إلهنا ومنقذنا،
دعيني أفعم قلبه بالسرور!
أيتها الأم المقدسة، افعلي هذا رحمة بي!
اغرسي ضريات من مات شهيداً
عميقة في قلبي
دعيني أقاسي آلام
ابنك الذي أصيب بجرح أليم
وتحمل الهوان من أجلي!
دعيني أبكِ بحق إلى جانبك،
وأقضي سني حياتي كلها(16/38)
أشاركك الحزن على ابنك المصلوب.
ألا ليتني أستطيع أن أكون معك،
وأقف بجوار الصليب في صحبتك،
راضياً، مغتبطاً، مرتبطاً في الحزن بك
فليحيني الصليب،
ولتنجني آلام المسيح المنقذة للبشر:
وليرعني بلطفه،
وإذا ما بلي جسمي
فلتنظر روحي في أمجاد السماء
إليه وجهاً لوجه.
وليس في الشعر ما يضارع هذه الترانيم المسيحية التي قيلت في العصور الوسطى إلا قصيدتان إحداهما هي قصيدة عيد القربان Pange Lingue، والأخرى قصيدة "يوم الغضب" الرهيبة التي كتبها تومس السلوني Thomas of Celono حوالي 1250، والتي تنشد في القداس الذي يقام للموتى، وهنا توحي رهبة يوم الحساب بقصيدة لا تقل كآبة وكمالاً عن أي حلم من أحلام دانتي المعذبة (101).
وأضافت الكنيسة إلى طقوسها ذات الأثر الشديد في النفس والمشتملة على الأدعية والترانيم والقداس- أضافت إلى هذه الطقوس ما يحدث في الأعياد الدينية من حفلات ومواكب، وأخذ عيد الميلاد في البلدان الشمالية المراسم المفرحة للطبقة التي كان التيوتون الوثنيون يقيمونها احتفالاً بانتصار الشمس وقت الانقلاب الشتائي على الظلمة المقبلة، ومن هذا نشأت كتل عيد الميلاد التي تحرق في بيوت الألمان، وأهل فرنسا الشمالية، والإنجليز، وأهل إسكنديناوة، كما(16/39)
نشأت شجرة عيد الميلاد التي تثقل بالهدايا، والولائم المرحة التي تتخم البطون القوية حتى الليلة الثانية عشرة بعد هذا العيد، وكان ثمة أعياد واحتفالات أخرى يخطئها الحصر- عيد الغطاس، وعيد الختان، وحد السعف، وعيد القيامة، وعيد الصعود، وعيد العنصرة ... وكانت هذه لأعياد وأيام الآحاد كلها إلى درجة أقل منها قليلاً، أحداثاً مثيرة في حياة رجل يتذكره من ذنوبه، ويستحم، ويحلق لحيته أو يقص شعره، ويلبس خير ملابسه وأكثرها مضايقة له، ويطعم الله في العشاء الرباني، ويحس أعمق الإحساس بالمسرحية المسيحية الخطيرة الشأن التي قدر عليه أن يكون جزءاً منها. وكانت حوادث آلام المسيح تمثل في كثير من المدن في الثلاثة الأيام الأخيرة من أسبوع الآلام، تتضمنها مسرحية دينية ذات حوار وأغان بسيطة، كذلك كانت عدة أوقات أخرى من السنة الكنيسة تمتاز بأمثال هذه "الطقوس الخفية". وحدث في عام 1240 أن أبلغت يوليانا Juliana رئيسة دير قريب من لييج Liege قس القرية التي تقيم فيها أو رؤيا سماوية قد نبهتها إلى أنه لابد من تكريم جسم المسيح حين يستحيل القربان إلى لحمه ودمه في العشاء الرباني وذلك بإقامة عيد فخم رهيب، وأقر البابا إربان الرابع هذا الاحتفال في عام 1262 وعهد إلى تومس أكوناس أن يضع له "صلاة مؤلفة من ترانيم وأدعية تناسبه". وقام الفيلسوف بهذه المهمة على خير وجه وفي عام 1311 ثبت أخيراً عيد القربان واحتفل به في أول يوم خميس بعد عيد العنصرة بأفخم موكب من مواكب السنة المسيحية بأجمعها. وكانت هذه الحفلات تجتذب إليها جموعاً لا يحصى عددها، وتبعث البهجة والمرح في قلوب الكثيرين ممن يشتركون فيها، وهي التي مهدت السبيل للمسرحية غير الدينية في العصور الوسطى، وساعدت على قيام مواكب النقابات الطائفية واحتفالاتها، وألعاب البرجاس والاحتفال بتنصيب الفرسان، وتتويج الملوك، وشغل ما هنالك من فراغ(16/40)
في حياة الأهلين الذين لا يميلون بفطرتهم إلى السلم والنظام بالحركات المنبعثة عن التقى، والصلاح، والمناظر التي تسمو بأرواحهم إلى أعلى الدرجات. ولم تكن الكنيسة تقيم تعاليمها الأخلاقية، التي تصل إليها عن طريق العقائد الدينية على الجدل المؤدي إلى الإقناع، بل كانت تلجأ في الوصول إلى هذا الغرض إلى الحواس عن طريق التمثيل، والموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، والقصص، والشعر ولا يسعنا إلا أن نعترف أن الالتجاء إلى العواطف على هذا النحو أكثر نجاحاً وأهدى إلى الغرض- شراً كان أو خيراً- من الالتجاء إلى العقل المتقلب ذي النزعة الفردية. ولقد أوجدت الكنيسة بالتجائها إلى هذا فن العصور الوسطى.
وكانت أعظم المهرجانات ما يقام منها عند أماكن الحج. فقد كان الرجال والنساء يحجون ليكفروا عن ذنب أو يوفوا بنذر، ويطلبوا شفاءاً من داء بإحدى المعجزات، أو ينالوا غفراناً، وما من شك في أنهم كانوا يسعون، كما يسعى السياح في هذه الأيام، ليشاهدوا بلدانا جديدة ومناظر جديدة، وليقوموا في طريقهم بمغامرات تطرد ما يلقونه في حياتهم الضيقة للرتيبة من ملل وسآمة. وكان هناك عشرة آلاف مكان معترف بجواز الحج إليها في أواخر القرن الثالث عشر. وكان أكثر الحجاج شجاعة يؤمون فلسطين النائية، ومنهم الحفاة ومنهم من لا يلبسون إلا قميصاً
واحداً، وكانوا يحملون في الصلاة، صليباً، وعكازاً، وكيساً من النقود تناولوها كلها من يد قيسي. وحدث في عام 1054 أن سار ليدبيرت Leidbert أسقف كمبريه على رأس ثلاثة آلاف حاج إلى بيت المقدس، وفي عام 1064 سار كبير أساقفة كولوني، ومينز، وأساقفة اسباير، وبامبرج، وأوترخت إلى بيت المقدس أيضاً، ومن ورائهم عشرة آلاف مسيحي هلك منهم ثلاثة آلاف في الطريق، ولم يعد منهم إلى أوطانهم سالمين إلا ألفان، وعبر حجاج آخرون جبال البرانس، أو جازفوا بحياتهم في المحيط الأطلنطي(16/41)
ليزوروا الأماكن التي يقال إن بها عظام الرسول يعقوب بقمبستيلا Compostela من أعمال أسبانيا، وفي إنجلترا كان الإنجليز يحجون إلى قبر القديس كثيرت Cuthpret في درهام، وإلى قبر القديس إدوارد المعترف Edward the Confessor في وستمنستر، وإلى قبر القديس إدمند St. Edmund في بيوري Bury، أو إلى الكنيسة التي أنشأها كما يقولون يوسف الأرمائي Joseph of Aremathnea في جلاستنبري Glastonbury وكان أهم من هذه الأماكن كلها في نظر الإنجليز ضريح تومس أبكت في كنتر بري. وكانت فرنسا تجتذب الحجاج إلى قبر القديس مارتن في ثور وإلى نتردام في تشارتر، ونتردام في له- بوي- أن- فلاي Lebuyen Velay وفي إيطاليا كنيسة القديس فوانسس وعظامه في أسسي Assisi، وفيها أيضاً سانتا، كاسا Santa Casa أو البيت المقدس في لوريتو Loreto ويعتقد المتقون أنه هو البيت الذي سكنت فيه مريم مع عيسى في الناصرة، وأن الملائكة حملت هذا الكوخ من فلسطين حين طرد الأتراك آخر الصليبيين منها، وطارت به في الهواء ثم أنزلته في دلماشيا (1291)، ثم طارت فوق البحر الأدرياوي إلى غابات أنكونا (اللورتوم Louretum) التي اشتق منها اسم هذه القرية المكرمة.
وآخر ما نذكره في هذا المقام أن كل طرق العالم المسيحي كله كانت تؤدي بالحجاج إلى رومة، ليشاهدوا قبري بطرس وبولس، ولينالوا الغفران بزيارة المنازل المقدسة، أو الكنائس القائمة في تلك المدينة؛ أو للاحتفال بعيد من الأعياد، أو ذكرى سارة في التاريخ المسيحي. وحدث في عام 1299 أن أعلن البابا بنيفاس الثامن أن سيقام عيد كبير في عام 1300، وعرض أن يغفر جميع ذنوب من يأتون للتعبد في كنيسة القديس بطرس في ذلك العام. ويقال إن عدد من دخل أبواب روما من الغرباء في كل يوم من أيام هذه الشهور الإثنى عشر لم يكن يقل عن مائتي ألف، وإن مليوني زائر مع كل منهم نذر يناسبه وضعوا(16/42)
ما معهم من الكنوز أمام قبر القديس بطرس، وقد بلغت هذه الكنوز من الكثرة حداً شغل قسيسين ظلا يعملان بالمجارف ليلاً ونهاراً لجمع النقود (102). وكانت دلائل السياح ترشد الحجاج إلى الطرق التي يسلكونها، والأماكن التي لابد لهم أن يزوروها في طريقهم أو حين يحطون رحالهم. ووسعنا أن نرسم لأنفسنا صورة حقيقية من فرحة الحجاج المتعبين، وقد كساهم العثير، وحين تقع أبصارهم آخر الأمر على المدينة الخالدة، وحين ترتفع عقيرتهم بأغنية الفرحة والحمد التي يتلوها الحجاج: "أي روما النبيلة، يا ملكة هذا العالم كله، ويا خير المدائن كلها، ي ذات اللون الأحمر الياقوتي الذي كستك به دماء الشهداء الوردية، ولكنك كالسوسن النقي بمن فيك من العذارى. إليك نهدي تحياتنا خلال السنين وندعو لك بالخير، ونحييك من خلال القرون! ".
وقد أضافت الكنيسة إلى الخدمات الدينية المختلفة خدمات أخرى أجتماعية، فقد أشعرت الناس بما للعمل من كرامة؛ ومارس رهبانها العمل في الزراعة والصناعة. ووافقت على أن ينتظم العمال في نقابات طائفية، ونظمت نقابات طائفية دينية للإشراف على أعمال الصدقات (103). وكانت كل كنيسة حرماً مقدساً من حق كل من يطارد أن يلجأ إليها ليجد فيها مقاماً له حتى تهدأ سورة من يطارده ويخضع للإجراءات القانونية، وكان إخراج هؤلاء الرجال من هذا الحرم الأمين تدنيساً له يعاقب من يرتكبه بالطرد من حظيرة الدين. وكانت الكنيسة الصغيرة والكبيرة المركز الاجتماعي في القرية أو المدينة. وكان حرمها المقدس في بعض الأحيان أو الكنيسة نفسها يستخدمان برضاء القساوسة لخزن الحبوب أو الدريس أو النبيذ، كما كانا يستخدمان أيضاً في طحن الحبوب أو عصر الجعة (104). وفي الكنيسة عمد معظم أهل القرية، وعندها سوف تدفن كثرتهم. أو فيها يجتمع الكبار في أيام الأحد ليتجاذبوا أطراف الحديث أو يتناقشوا في شؤون القرية، ويجتمع الشبان والشابات ليرى بعضهم بعضاً.(16/43)
وعندها يجتمع المتسولون وتوزع الكنيسة صدقاتها، وفيها يجتمع كل ما تعرفه القرية من فن إلا القليل منه ليجمل بيت الله، ويبتهج ألف فقير بما يشهد من مجد المعبد المقدس الذي شاده الناس بأموالهم وأيديهم، والذي يعدونه ملكاً لهم، وموطنهم الجماعي والروحي. وكانت الأجراس المعلقة في برج الكنيسة تدق ساعات اليوم، أو تدعو المؤمنين إلى الصلاة والدعاء، وكانت موسيقى هذه الأجراس أحلى من كل ما عداها إذا استثنينا الترانيم التي تؤلف الإيمان الفاتر بتسابيح القداس. وقد ارتفعت أبراج الكنائس، المستدق منها وغير المستدق، في أقطار الأرض من نفجورود إلى فارس، ومن بيت المقدس إلى هبريدة تشق الفضاء لأن الناس لا يستطيعون الحياة بلا أمل ولا يرضون بالموت.(16/44)
الفصل الخامس
القانون الكنسي
نمت إلى جانب الطقوس الدينية المعقدة الرائعة طائفة من الشرائع الكهنوتية أكثر منها تعقيداً، تنظيم أعمال الكنيسة وقراراتها. وكانت الكنيسة في ذلك الوقت تسيطر على دولة أعظم رقعة وأكثر تبايناً من أية إمبراطورية.
وقد نشأ القانون الكنسي شيئاً فشيئاً من العادات الدينية القديمة، ومن فقرات في الكتاب المقدس، وآراء آباء الكنيسة، وقوانين روما أو القبائل المتبربرة، وقرارات مجالس الكنيسة، وقرارات البابوات وآرائهم. وعدلت أجزاء من قانون جستنيان لكي تشرف على سلوك رجال الدين، وأعيدت صياغة بعضها الآخر لكي يتفق مع آراء الكنيسة في الزواج، والطلاق، والوصايا. وأعيدت مجموعات من الشرائع الدينية في البلاد الغربية في القرنين السادس والثامن، كما أعد أباطرة بيزنطية من حين إلى حين مجموعات مثلها في بلاد الشرق. وصيغت قوانين الكنيسة الرومانية في صيغتها التي كانت عليها في العصور الوسطى على يد جراتيان Gratian حوالي عام 1148.
وكان جراتيان هذا من رهبان بولونيا، ولذلك لا يبعد أن يكون قد درس على إرنيريوس Irnerius في جامعة تلك المدينة. وسواء كان هذا أو لم يكن فإن الذي لاشك فيه أن الموجز الذي أصدره يدل على علم غزير بالقانون الروماني وفلسفة العصور الوسطى. وقد سمي كتابه التوفيق بين القواعد المتعارضة Concordia discordantium Canonum، ثم أطلقت عليه الأجيال المتأخرة أسم القرارات. وقد جمعت فيه ما أصدرته الكنيسة من قوانين، وما كان لها من عادات، وما أصدرته المجالس الدينية والبابوات حتى عام 1139 من
قرارات(16/45)
خاصة بالعقائد الدينية، والطقوس، والأنظمة، والقواعد الإدارية، والمحافظة على أملاك الكنيسة وإجراءات المحاكم الكنسية، وما لها من سوابق، وتنظيم حياة الرهبنة، وعقود الزواج وقواعد الوصية. وربما كانت طريقة العرض قد أخذت عن كتاب أبلار Sic et non " هكذا وإلا فلا".
وما من شك في أنها كان لها بعض الأثر في الطريقة المدرسية بعد جرايتان Gratian، فهي تبدأ بقضية مقررة ثم تنقل أقوالاً أو سوابق تعارضها، وتحاول أن تزيل هذه الاعتراضات وتضيف بعض الشروح والتعليقات. ولم تتخذ الكنيسة في العصور الوسطى هذا الكتاب مرجعاً نهائياً، ولكنه أصبح في الفترة التي كان قائماً فيها نصاً لا غنى عنه، ويوشك أن يكون نصاً مقدساً. وأضاف إليه جريجوري التاسع (1234) وننيفاس الثامن (1294) وكلمنت الخامس (1313) ملاحق من عندهم، وقد نشرت هذه الملاحق وبعض إضافات أقل منها شأناً مع كتاب جراتيان في عام 1582 باسم "مجموعة من القوانين الكنسية مقابلة لمجموعة قوانين جستنيان المدنية (1).
والحق أن الميدان الذي يشغله القانون الكنسي كان أوسع من الميدان الذي يشغله أي قانون مدني معاصر له، فهو لا يقتصر على البحث في تكوين الكنيسة، وعقائدها، وأعمالها، بل يبحث فوق ذلك في القواعد التي تعامل بمقتضاها غير المسيحيين المقيمين في البلاد المسيحية، والطرق التي تستخدمها عند النظر في أمر الإلحاد، وفي القضاء على الملحدين، وفي تنظيم الحروب الصليبية، وفي قوانين الزواج وشرعية البناء، والمهور، والزنى، والطلاق، والوصايا، والدفن وأحوال الأرامل، واليتامى، وفي قوانين الإيمان، ونقضها، وانتهاك حرمة المعابد، والتجديف والمتاجرة بالدين والرتب الكهنوتية، والسب،
_________
(1) وفي 20 مايو 1918 أصبحت مجموعة القوانين الكنسية المعدلة هي قانون الكنيسة الرسمي.(16/46)
والربا، والأثمان العادلة، وفي قواعد لتنظيم المدارس والجامعات، وهدنة الله وغيرها من الوسائل المقيدة للحرب والمنظمة للسلم؛ وما يجب أن تكون عليه المحاكم الكنسية والبابوية، وحق استخدام الطرد من الدين واللعنة والحرمان، وتوقيع العقوبات الكنسية، والعلاقة القائمة بين المحاكم المدنية والمحاكم الدينية، وبين الدولة والكنيسة. وكانت الكنيسة ترى أن الواجب المفروض على المسيحيين جميعاً أن يخضعوا لهذه المجموعة الضخمة من القوانين، وأن من حقها هي أن توقع على كل من يخرج على أي شيء منها مختلف العقوبات البدنية أو الروحية، لا يستثنى من ذلك إلا شيء واحد وهو أنه لا يجوز لأية محكمة كنسية أن تنطق بـ "حكم الدم" - أي أن تحكم بالإعدام على شخص ما.
وكانت الكنيسة قبل عهد محاكم التفتيش (1) تعتمد على وسائل الإرهاب الروحي، فكان الحرمان الأصغر Minor excommunication يمنع المسيحي من الاشتراك في العشاء الرباني وفي طقوس الكنيسة، وكان من حق كل رجل من رجال الدين أن يصدر هذه العقوبة، وكان معناها عند المؤمنين العذاب الدائم في نار الجحيم إذا مات الآثم قبل العفو عنه. أما الحرمان الأكبر Maior excommunication ( وهو الحرمان الوحيد الذي تستخدمه الكنيسة في هذه الأيام) فلا يصدره إلا مجلس ديني أو مطارنة أعلى مرتبة من القساوسة كما أنه لا يصدر إلا على أشخاص داخل دائرة هذه المجالس أو أولئك المطارنة. فإذا صدر أبعد المحروم من كل اتصال قانوني أو روحي بالمجتمع المسيحي: فلا يستطيع أن يقاضي، أو يرث، أو يعقد عقداً صحيحاً من الوجهة القانونية، ولكنه يجوز لغيره أن يقاضيه، ويحرم على أي مسيحي أن يؤاكله أو يكلمه وإلا حق عليه الحرمان الأصغر. ولما أن صدر قرار الحرمان على ربرت ملك
_________
(1) أو دواوين التحقيق كما يسميها بعضهم.(16/47)
فرنسا (998) لزواجه من ابنة عمه، تركه جميع رجال حاشيته وجميع خدمه تقريباً، وكان الخادمان اللذان بقيا عنده يلقيان في النار ما يتبقى من طعامه بعد كل وجبة من وجباته، حتى لا تدنسهما هذه البقايا. وكانت الكنيسة في الحالات القصوى تضيف إلى الحرمان عقوبة اللعنة Anathema، وهي عقوبة ذكر فيها بعناية وبأقوى عبارة. وبكل ما تحتويه العبارات القانونية من لغو، كل ما يتصل بهذه العقوبة. وكان آخر ملجأ للكنيسة هو حق البابا في أن يصدر قرار تحريم ( Interdict) على أية بقعة من العالم المسيحي- أي أن يمنع إلى أجل جميع الخدمات الدينية أو الكثرة الغالبة منها. وإذا كان الناس في تلك الأيام يشعرون بحاجتهم إلى العشاء الرباني، ويخشون أن توافيهم المنية قبل أن يعفى عن خطاياهم، فقد كان المحروم يضطر عاجلاً أو آجلاً إلى مصالحة الكنيسة. وقد صدرت قرارات بالحرمان من هذا النوع على فرنسا في عام 998، وعلى ألمانيا في عام 1102، وعلى إنجلترا في عام 1208، وعلى روما نفسها في عام 1155.
وكانت كثرة ما صدر من قرارات الحرمان والتحريم سبباً في ضعف أثرهما في القرن الحادي عشر (105). فقد كان البابوات يصدرون بين الفنية والفنية قرارات لأغراض سياسية، كما حدث حين هدد إنوسنت الثاني مدينة بيزا بإصدار قرار التحريم عليها إذا لم تنضم إلى الجامعة التسكانية (106). وبلغت قرارات الحرمان بالجملة- للغش في أموال الزكاة التي كانت الكنيسة تتقاضاها من الأهلين- من الكثرة أن أضحت أقسام كثيرة من المجتمع المسيحي محرومة كلها في وقت واحد، ومنها ما لم تكن تعرف أنها محرومة، كما أن منها ما أغفل قرار الحرمان أو سخر منه (107) ولم يعبأ به. من ذلك أن قرار الحرمان بالجملة صدر على ميلان وبولونيا وفلورنس ثلاث مرات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وظلت ميلان اثنين وعشرين عاماً تتجاهل القرار الثالث. ويحدثنا الأسقف جوليوم له مير(16/48)
Guillaume le Maire في عام 1391 عن هذه القرارات فيقول: "لقد رأيت بعيني في بعض الأحيان أربعمائة محروم في أسقفية واحدة بل رأيت سبعمائة منهم ... (1) يزدرون سلطة المفاتيح ويوجهون ألفاظ التجديف والسباب للكنيسة ورجالها (108) ولم يعبأ فليب أغسطس وفليب الجميل بقرارات الحرمان التي صدرت عليهما.
وكان ما يحدث آنا بعد آن من تجاهل لهذه القرارات بدياة اضمحلال سلطان القانون الكنسي على غير رجال الدين في أوروبا. وكانت الكنيسة قد أخضعت لسلطانها طائفة كبيرة من شؤون الحياة البشرية حين تضعضعت السلطات الدينية في الألف السنة الأولى من التاريخ المسيحي، فلما أن قويت الحكومة المدنية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر استرد القانون المدني من القانون الكنسي طائفة بعد طائفة من الشؤون البشرية. نعم إن الكنيسة قد نالت مكاسب جديدة في التعيين في الوظائف الدينية، أما في الميادين الأخرى فقد أخذ سلطانها يضمحل في شؤون التعليم، والزواج، والأخلاق، والاقتصاد، والحرب فقد أعلنت الدول التي نمت وترعرعت في ظل النظام الاجتماعي. الذي أوجدته هي والذي أجاز لها أن تنمو وتترعرع، أعلنت هذه الدول أنها شبت عن الطوق وبدأت تلك العملية الطويلة- عملية التحرر من السلطة الدينية- التي بلغت غايتها في هذه الأيام. ولكن جهود واضعي القانون الكنسي لم تذهب هباء، كما لا تذهب هباء معظم الجهود المبدعة الخلاقة في هذا العالم، فهي التي أعدت ودربت أعظم من أخرجتهم من الحكام،
_________
(1) لعله يريد سلطة رجال الدين الذين كانت بيدهم مفاتيح السماء في ظنهم. (المترجم)(16/49)
وأسهمت في نقل القانون الروماني إلى العالم الحديث، وأيدت الحقوق القانونية للأرامل والأطفال، ووضعت في القانون المدني المعمول به في أوروبا الغربية المبدأ الذي يجعل للزوجة في حياتها نصيباً من مال زوجها (109)؛ وكان له نصيب في صياغة الفلسفة المدرسية ووضع مصطلحاتها. وملاك القول أن الشريعة الكنسية كانت من أعظم الأعمال التي تمخض عنها العقل البشري العصور الوسطى.(16/50)
الفصل السادس
رجال الدين
كان الناس في حديثهم العادي في العصور الوسطى يقسمون الخلق طبقتين: طبقة رجال الدين وطبقة "رجال الدنيا" وكان الراهب من رجال الدين وكانت الراهبة من نسائه، ومن الرهبان من كانوا أيضاً قسيسين وهؤلاء يكونون "رجال الدين النظاميين" أي رجال الدين الذين يتبعون قانون الأديرة ( regula) ، أما غيرهم من رجال الدين فكانوا يسمون "دنيويين" أي يعيشون في الدنيا ( saeculum) ، وكانت طبقات رجال الدين جميعها تمتاز من غيرها بحلق قمة الرأس وبأن يلبس أفرادها مئزراً طويلاً ذا لون واحد أي كان. ما عدا اللوتين الأحمر والأخضر، تضمه أزرار بطوله كله من الرأس إلى القدمين. ولم يكن لفظ رجال الدين يطلق على من كان منهم في "الدرجات الصغرى" فحسب ـ أي بوابي الكنائس، وقارئي الصلوات،، وقارئي الرقى، والسدنة- بل كان يطلق كذلك على جميع طلبة الدين ومدرسيه في الجامعات، وعلى كل من حلقوا قمة رؤوسهم- أي دخلوا في زمرة رجال الدين - وهم طلاب ثم أصبحوا فيما بعد أطباء أو محامين، أو فنانين، أو مؤلفين، أو استغلوا محاسبين أو مساعدين لرجال الأدب. وهذا هو السبب الذي من أجله ضاق معنى لفظي Clerical، Clerk فصارا "كتابياً" و"كاتباً". وكان يسمح لرجال الدين من غير الطبقات العليا أن يتزوجوا وأن يشتغلوا بأية مهنة محترمة، ولم يكونوا يلزمون بأن يظلوا مستمسكين بعادة حلق قمم رؤوسهم.
أما الطبقات الثلاث "الكبرى" أو "الطبقات المقدسة" - أتباع الشمامسة - والشمامسة- والقساوسة- فلم يكن يجوز لمن انضم إليها أن يخرج(16/51)
منها، وقد أغلق أمام أفرادها بوجه عام باب الزواج بعد القرن الحادي عشر، ولكن لدينا شواهد تدل على أن بعض القساوسة اللاتين بعد أيام جريجوري السابع كانوا يتخذون لهم أزواجاً أو خليلات (110)، غير أن هذه الحالات أخذت تقل شيئاً فشيئاً حتى كانت من الحالات الشاذة النادرة (1)، وكان على قس الأسقفية أن يقنع بالمتع الروحية. وإذا كانت حدود الأسقفية تتفق في العادة مع حدود الضيعة أو القرية، فإن مالك الضيعة كان في أغلب الأحوال هو الذي يعين القس (111) بالاشتراك مع الأسقف. وقلما كان هذا القس ممن نالوا قسطاً موفوراً من التعليم، وسبب ذلك أن التعليم الجامعي كان وقتئذ كبير النفقة، وأن الكتب كانت نادرة، ولهذا كان يكفيه أن يعرف كيف يقرأ الصلوات والقداس، ويقوم بتقديم العشاء الرباني وتنظيم شؤون العبادة والصدقات في الأسقفية. ولم يكن في كثير من الحالات أكثر من مساعد أو نائب يستأجره قس أكبر منه ليؤدي الخدمات الدينية في الأسقفية نظير ربع دخله من معاشه. وكان في مقدور القس الكبير بهذه الطريقة أن يكون له معاش من أربع
_________
(1) لقد خلقت العزوبة العامة بين الرهبان والقساوسة وراهبات بعد عام 1215 مشكلة من المشاكل الجنسية. ولربما كانت أوروبا قد قاست بعض الخسارة في القوة الحيوية من جراء امتناع عدد كبير من الأشخاص الأصحاء عن الاضطلاع بواجب الأبوة والأمومة، ولكننا لا نعرف على وجه التحقيق إلى أي حد تورث القدرة العالية على التناسل. وأقرب من هذا البحث إلى الناحية العلمية أثر التفاوت في العدد بين الرجال والنساء الذين لا ينتمون إلى الطبقات الدينية والناشئ من تحريم الزواج على الرهبان والقسيسيين. ولما زادت نسبة الوفيات بين الرجال على مثلها بين النساء بسبب الأسفار للتجارة وغيرها، وبسب الحروب العادية والصليبية، والنزاع بين الأفراد والجماعات، وغير هذه من الأخطار، بقيت نسبة كبيرة من النساء عانسات أو لجأن إلى الاختلاط الجنسي غير المشروع. وكانت الكنيسة ترحب بمن يردن أن يترهبن من النساء إذا استوفين شروط الترهب ولكن عدد الرهبان والقساوسة مجتمعين كان يفوق عدد الراهبات كثيراً. ومن أجل هذا فأن بنات الأشراف اللاتي لا يتزوجن كثيراً ما من يوهين إلى الأديرة أما بنات غير هذه الطبقة فكن يلجأن إلى العمل على عجلة الغزل، أو يعيشن مع بعض أقاربهن، أو يحيين في جو من العار والرهبة ليشبعن مطالب رجال من ذوي المكانة.(16/52)
أبرشيات أو خمسٍ، أما قس الأبرشية فكان يحيا حياة الفقر والمذلة (112)، يعتصر دله من "رسوم المذبح" أو التعميد أو عقود الزواج، أو الدفن، أو قراءة القداس للموتى. وكان في بعض الأحيان ينحاز إلى جانب الفقراء في حرب الطبقات، كما فعل جون بول John Ball (113) ، ولم يكن مستواه الخلقي يضارع مستوى قس هذه الأيام الذي سما إلى ما سما إليه بفضل المنافسة الدينية، ولكنه كان وجه عام يقوم بعمله صابراً حريصاً على إطاعة نداء الضمير وواجب الشفقة والرحمة. فكان يعود المرضى، ويواسي المحرومين، ويعلم الشباب، ويلوك صلواته، ويبث في الأهلين الغلاظ الشداد شيئاً من التحضر والخلق الطيب. ويقول أقسى ناقدي هذه الطائفة إن كثيرين من قساوسة الأبرشيات "كانوا ممن لا غنى عنهم في هذا العالم" (114)، وقال عنهم لكي Lecky المتحرر من قيود الدين: "ليس ثمة طائفة غيرهم أظهرت ما أظهروه هم من غيرة جامعة مجردة من الانهماك في متاع الدنيا، لا يثنيها عن هدفها مصالحها الشخصية، يضحي أفرادها في سبيل الواجب المفروض عليهم أعز ما في العالم من متاع، ويواجهون جميع الصعاب أياً كان نوعها وألوان العذاب والموت ببسالة لا تتزعزع ولا تلين" (115).
وكان للقساوسة والأساقفة يؤلفون فيما بينهم طبقة رجال الكهنوت. فأما الأسقف فكان قساً اختير ليؤلف من عدة أبرشيات وعدد من القساوسة أسقفية واحدة وكان الذين يختارونه لهذا المنصب من الوجهة النظرية وفي بداية الأمر هم القساوسة والشعب، ولكن الذي يرشحه لمنصبه عادة قبل أيام جريجوري السابع هو البارون أو الملك، وكان يختاره بعد عام 1215 كهنة الكنيسة الكبرى بالاشتراك مع البابا نفسه. وكان يعهد إليه بكثير من الشؤون الدنيوية والكنيسة، كما كانت محكمته الأسقفية تنظر في بعض القضايا المدنية وفي جميع القضايا التي تمس رجال الدين على اختلاف طبقاتهم. وكان من حقه(16/53)
أن يعين القساوسة ويفصلهم، ولكن سلطته على الأديرة ورؤسائها في أسقفيته نقصت في الوقت الذي نتحدث عنه لان البابوات أخضعوا طبقات الرهبان لسلطانهم المباشر لخوفهم من سلطان الأساقفة. وكان إيراد الأسقف يأتي بعضه من الأبرشيات التابعة له، ولكن معظمه كان يأتيه من الضياع التابعة لكرسيه، وكان في بعض الأحيان يعطي إحدى الأبرشيات من المال أكثر مما يأخذ منها. وكان المتقدمون لشغل مناصب الأساقفة يتعهدون عادة بأن يؤدوا - للملك أولاً ثم للبابا فيما بعد- قدراً من المال نظير ترشيحهم، وكانوا بوصفهم حكاماً دنيويين يطرأ عليهم ما يطرأ على غيرهم من ميل لتعيين أقاربهم في المناصب ذات الإيراد المجزي- وكان مما يشكو منه البابا إسكندر الثالث أنه "لما حرم الله الأساقفة من الأبناء وهبهم الشيطان أبناء الإخوة والأخوات" (116). وكان كثيرون من الأساقفة يحيون الحياة المترفة، التي تليق بالسادة الإقطاعيين. ولكن كثيرين منهم كانوا يهبون أنفسهم لواجباتهم الروحية والإدارية. ولقد كان أساقفة أوروبا، بعد أن اصلح ليو التاسع نظام الأسقفيات، خير الطوائف كلها في العصور الوسطى من الناحيتين العقلية والخلقية.
وكان يرأس أساقفة كل إقليم كبير الأساقفة أو المطران، وكان له هو وحدة حق دعوة مجلس الكنيسة الإقليمي ورياسته. وكان بعض كبار الأساقفة، بما أوتوا من قوة في الخلق أو سعة في الثراء، يسيطرون على حياة أقاليمهم من نواحيها كلها تقريباً وكان كبار أساقفة مدن همبرج، وبرمن، وكولوني، وتريير، ومينز، ومجد برج، وسلزبرج الألمانية من السادة الإقطاعيين الأقوياء، يختارهم الأباطرة في كثير من الأحيان لتصريف شؤون الإمبراطورية أو ليكونوا لهم سفراء أو مستشارين. وكذلك أضطلع كبار أساقفة ريمس، ورون، وكنتربري، يمثل هذا الواجب الخطير في فرنسا، وتورمندية، وإنجلترا. ومن كبار الأساقفة- في(16/54)
طليطلة، وليوان، ونربوته، وريمس، وكولوني، وكنتربري - من أصبحوا "رؤساء" كباراً ذوي سلطان غير منازع على جميع رجال الدين في أقاليمهم، وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه من حين إلى حين حكومة نيابية للكنيسة. وكانت هذه المجالس في العهود المتأخرة تدعى لنفسها سلطات تعلو على سلطات البابا، أما في العصر الذي نتحدث عنه، عصر أعظم البابوات، فلم يكن أحد في أوروبا الغربية ينازع سلطان أسقف روما سلطاته العليا الدينية والروحية. وكانت فضائل ليو التاسع وهلد براند قد كفرت عن فضائح القرن العاشر، كما أخذ سلطان البابوية ينمو بين صروف القرن الثاني عشر المتقلبة وكفاحه نمواً مكن إنوسنت الثالث من أن يدعي أن هذا السلطان يمتد إلى جميع بقاع الأرض. فقد كان الملوك والأباطرة يمسكون بركاب خادم خدم الله، ذي الثياب البيض، ويقبلون قدميه. وأضحى منصب البابوية في ذلك الوقت أسمى ما يطمع فيه إنسان على ظهر الأرض، فكانت أذكى العقول وقتئذ تتهيأ في أشد مدارس اللاهوت والقانون صرامة لتشغل فيما بعد مكاناً بين رجال الكنيسة. وكان الذين يرقون منهم إلى الذروة رجالاً من ذوي العقول الجبارة والقلوب الباسلة لا يخشون أن يحكموا قارة بأجمعها، وقلما كان موت الواحد منهم يثني غيره عن مواصلة السياسة التي وضعها هؤلاء الرجال هم ومجالسهم، فلقد أتم إنوسنت الثالث ما لم يتمه جريجوري السابع، وفاز إنوسنت الرابع والإسكندر الرابع بالنصر في الكفاح الذي قام به إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع ضد الأباطرة الذين أرادوا تضييق سلطان البابوية.
وكان سلطان البابا يؤول إليه من الوجهة النظرية من الحقوق التي منحها المسيح الحواريين. وكانت حكومة الكنيسة بهذا المعنى حكومة دينية - أي حكومة الشعب، عن طريق الدين، على أيدي خلفاء الله في الأرض. لكن الكنيسة كانت بمعنى آخر حكومة ديمقراطية: فقد كان في وسع أي إنسان في(16/55)
العالم المسيحي، عدا المصابين في عقولهم أو أجسامهم، والمحكوم عليهم في جرائم ارتكبوها، والمطرودين من حظيرة الدين؛ والأرقاء - كان في وسع أي إنسان عدا هؤلاء أن يختار قساً أو بابا. وكان الأغنياء في هذا المجال، كالأغنياء في كل مجال سواه، تتاح لهم فرص أكثر من غيرهم لأن يعدوا أنفسهم لتسلم درجات هذا السلم الديني الكثيرة، غير أن الباب كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء، وكانت المواهب العقلية، لا الآباء والجدود، هي التي يعتمد عليها النجاح في أكثر الأحيان. وقد خرج مئات من الأساقفة وعدد كبير من البابوات من بين صفوف الطبقة الفقيرة (117) وكان سريان هذا الدم الجديد من جميع الطبقات في طوائف رجال الدين بمثابة غذاء مستمر لعقولهم، وقد "ظل عصوراً طوالاً الاعتراف العملي الوحيد بمساواة الناس بعضهم بعضاً" (1).
ولقد مر بنا أن حق اختيار البابا قد اقتصر على "الأساقفة الكرادلة" المقيمين في روما، ثم زيد عدد هؤلاء الكرادلة السبعة تدريجاً بمن ضمهم البابوات إليهم من أمم مختلفة، حتى أضحوا كلية مقدسة مؤلفة من سبعين عضواً يمتازون من غيرهم بقلانسهم الحمراء ومآزرهم الأرجوانية، وأضحوا طبقة جديدة في سلم الدرجات الدينية لا يعلو عليهم إلا البابا نفسه.
_________
(1) من كتاب جيمس وستفول طمسن Jamns westfall Thomson " تاريخ العصور الوسطى الاقتصادي والاجتماعي Economic and Social History of the Middle Ages المطبوع بنيويورك سنة 1928 ص 601 أنظر أيضاً قول فلتير: "كانت الكاثوليكية تمتاز على الدوام بأنها تختص بذوي الجدارة ما تختص به الحكومات الأخرى ذوي النسب العريق". مقال في آداب أوروبا وأخلاقها ( Esssay on the Manners and Morals of Europe في مجموعة مؤلفاته المطبوعة في نيويورك عام 1927 المجلد الثالث عشر ص 30) ويقول هتلر إن هذا هو مصدر السلطة القوية التي لا يصدقها العقل والتي تستقر في هذه المنظمة المعمرة. ذلك أن هذا الحشد الكبير من الرءوساء الدينيين، بفضل السنة التي جرى عليها دائماً دون استثناء سنة سد ما يطرأ على صفوفه من نقص بين أدنى طبقات الأمم، بفضل هذه السنة يحتفظ هذا الحشد بما بينه وبين عالم العاطفة الشعبية من رابطة غريزية، ويضمن لنفسه فوق هذا قدراً من الطاقة والنشاط والقوة سيظل بهذه الصورة موجوداً إلى أبد الدهر في جمهرة الشعب. من كتاب كفاحي Mein Kamp المطبوع في نيويورك سنة 1939، ص 643.(16/56)
وكان البابا يحكم دولة روحية بلغت في القرن الثالث عشر ذروة مجدها ويساعده في حكمها أولئك الرجال وطائفة كبيرة من رجال الكنيسة وغيرهم من الموظفين يؤلفون جميعاً "الكوريا" Curia أو المحكمة التنفيذية والقضائية. وكان من حقه وحده أن يدعو للانعقاد مجلساً عاماً من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة؛ وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا التي تستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات، وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصاً في زمرة القديسين. وكان على جميع القساوسة بعد عام 1059 أن يقسموا يمين الطاعة له، وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا على شؤونهم. وكانت جزائر مثل سردينيا وصقلية، وأمم كالإنجليز، والمجر، وأسبان تعترف بأنه سيدها الإقطاعي وترسل إليه الجزية، وكان في وسعه أن يرقب بعينية ويحرك بيديه كل جزء من أجزاء مملكته عن طريق الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكونون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها في أية دولة من الدول. وهكذا عاد إلى روما شيئاً فشيئاً، بدهاء بابواتها، ما كان لها من سلطان على أوروبا معتمدة على ما كان لكلمة الدين من قوة عجيبة.(16/57)
الفصل السابع
البابوية في أوجها
1085 - 1294
ولم يقض على النزاع الذي قام به الكنيسة والدولة حول المناصب الكنسية بعد عهد جريجوري السابع وانتصار الإمبراطورية في الظاهر، بل ظل هذا النزاع قائماً جيلاً من الزمان، تولى فيه عدة أحبار، وانتهى بتراض بين الطرفين في اتفاق ورمز Worms (1222) الذي عقد بين البابا كلكستس الثاني Calixtus II والإمبراطورية هنري الخامس. وقد سلم هنري بمقتضى هذا الاتفاق بحق الكنيسة في "تعيين كل من يتمتعون بالخاتم والعصا، ورضي أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأدير حسب القوانين الكنسية"، اي أن يقوم به رجال الدين أو الرهبان ذو الشأن" وأن يكون بمأمن من كل تدخل" واستخدام للمال. ووافق كلكستس على أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديرة الذين يمتلكون أرضاً من التاج في حضور الملك، وأنه إذا قام النزاع حول الانتخابات كان من حق الملك أن يفصل بين المتنازعين بعد استشارة أساقفة الإقليم، وأن على الأسقف أو رئيس الدير الذي يمتلك أرضاً من الملك أن يؤدي له جميع الالتزامات الإقطاعية التي يجب على التابع أن يؤديها للمتبوع (118) وكانت اتفاقات مماثلة لهذا الاتفاق قد عقدت قبل ذلك الوقت مع إنجلترا وفرنسا. وأدعى كل من الطرفين أنه هو المنتصر، والحق أن الكنيسة تقدمت بهذه الاتفاقيات خطوة كبيرة نحو استقلالها بشؤونها، ولكن الروابط الإقطاعية ظلت تعطي الملك الكلمة المسموعة في اختيار الأساقفة في جميع أنحاء أوروبا (119).(16/58)
وحدث في عام 1130 أن انقسمت هيئة الكرادلة شيعتين، اختارت إحداهما لكرسي البابوية إنوسنت الثاني واختارت الثانية أنكليتس الثاني Anacletus II. وكان أتكليتس ينتمي إلى أسرة بييرليوني Pierleoni الشريفة، ولكنه كان له جد يهودي اعتنق الدين المسيحي، وكان معارضوه يسمونه (الجد اليهودي)، وبعث القديس برنار، وهو رجل كان في غير هذا الظرف الخاص صديقاً لليهود، برسالة إلى الإمبراطور لوثير الثاني Lothaire II يقول إن "مما يجلل المسيح بالعار أن يجلس رجل من أصل يهودي على كرسي القديس بطرس" - وقد نسي قوله هذا أصل بطرس نفسه. وأيدت كثرة رجال الدين، وأيد ملوك أوروبا كلهم إلا واحداً منهم، إنوسنت الثاني، وأخذت الجماهير في أوروبا تسلي نفسها بتوجيه المثالب لأنكليتس، واتهامه بأنه يضاجع المحرمات عليه، وينهب الكنائس المسيحية ليغنى بأموالها أصدقاءه اليهود، ولكن أهل روما ظلوا يؤيدونه إلى يوم وفاته (1138). وأكبر الظن أن قصة أنكليتس هي مصدر خرافة أندريس Andreais التي ذاعت في القرن الرابع عشر عن (البابا اليهودي) (119).
وكان هدريان الرابع (1154 - 1159) مثلاً آخر لما يستطيع أن يرقى إليه من الدرجات الرفيعة ذوو المواهب السامية. فقد ولد من أسرة وضيعة في إنجلترا، وجاء إلى أحد الأديرة يطلب الصدقات. وارتفع نقولاس بريكسبير Nicholas Breakspear بجدارته وحدها إلى منصب رئيس الدير وإلى كردينال ثم إلى بابا. ووهب إيرلندة إلى هنري الثاني ملك إنجلترا، وأرغم بربروسه أن يستعيد السلطة التي كانت للأباطرة الألمان(16/59)
على البابوية، فدعا كلا الرجلين لأن يعرضا عليه مطالبهما. فأما الإسكندر فرفض الطلب، وأما فكتور فقبله، وأيد بربروسه في مجمع بافيا المقدس (1160) اختيار فكتور لكرسي البابوية، فما كان من الإسكندر إلا أن أصدر قراراً بحرمان فرديك، وأعفى رعايا الإمبراطور من طاعته في الشؤون المدنية، وساعد الثورة القائمة عليه في لمباردية. وأذل انتصار الجامعة المباردية في ليانو (1176) فرديك، فعقد الصلح مع الإسكندر في مدينة البندقية، وقبل قدمي البابا مرة أخرى. وأرغم هذا البابا نفسه هنري الثاني ملك إنجلترا على أن يسير حافي القدمين إلى قبر بكت Becket، وأن يتلقى هناك درساً في الطاعة من قساوسة كنتربري. وكان كفاح الإسكندر زمناً طويلاً ونصره المؤزر في هذا الكفاح هما اللذين مهدا السبيل لبابا من أعظم البابوات على بكرة أبيهم.
ولد إنوسنت الثالث في أنياني القريبة من روما في 1161. وكان وهو لا يزال يسمى أوتاربودي كنتي Lotariodi conti، ابن كونت سيني Segni يتصف بجميع المزايا التي يمتاز بها أبناء الأشراف ممن نالوا قسطاً كبيراً من الثقافة. ثم درس الفلسفة واللاهوت في باريس، والشريعة الكنسية والمدنية في بولونيا Bologna، ولما عاد إلى روما استطاع بمهارته الدبلوماسية، وعلمه الواسع بالعقائد الدينية، وصلاته بأصحاب النفوذ، أن يرقى رقياً سريعاً في المناصب الدينية، فكان وهو في الثلاثين من عمره شماساً أكبر، ولما بلغ السابعة والثلاثين اختير بابا بإجماع الآراء وإن لم يكن قد اصبح قسيساً (1198)، وجلس على كرسي البابوية في اليوم التالي ليوم اختياره، وكان من حسن حظه أن الإمبراطور هنري السادس الذي تمت له السيادة على إيطاليا وصقلية قد مات في عام 1197 وترك عرش الإمبراطورية لفرديك الثاني، وهو طفل في الثالثة من عمره. وانتهز إنوسنت هذه الفرصة السانحة، وكان في استخدامها جد عنيف: فقد طرد رئيس بلدية روما الألماني من منصبه، وأخرج الملتزمين الألمان من(16/60)
اسيوليتو Spoleto وبروجيا Perugia، وتقبل خضوع تسكانيا، وأعاد حكم البابا في الولايات البابوية، واعترفت به أرملة هنري سيداً أعلى للصقليتين، وقبل هو أن يكون وصياً عل ابنها، ولم تمض عشرة شهور حتى كان إنوسنت سيد إيطاليا بلا منازع.
ويدل ما لدينا من الشواهد على أنه كان أعظم أهل زمانه عقلاً، فقد ألف وهو في بداية العقد الرابع من عمره أربعة كتب في علوم الدين، تمتاز بغزارة المادة وبلاغة الأسلوب، ولكن هذه الكتب قد طغى عليها سناً شهرته السياسية. وكانت عباراته التي ينطق بها في الشؤون البابوية تمتاز بالوضوح والتفكير المنطقي السليم، وقوة العبارة، ولولا منصبه الديني لبلغ في الفلسفة ما بلغه أكويناس، وبلغ في الأدب مبلغ أبلار وإن امتاز عنه بصدق العقيدة. وقد أكسبته عيناه الثاقبتان، وأكسبه وجهه السمر، مهابة لم ينقص منها قصر قامته. ولم تكن تعوزه الفكاهة، وكان يجيد الغناء، ويقرض الشعر، وكان رقيق الحاشية، وفي وسعه إذا شاء أن يكون رحيماً، صبوراً، ومتسامحاً فيما يمس شؤونه الخاصة. أما فيما يختص بعقيدته وأخلاقه، فلم يكن يقبل اي أنحراف عن أحكام الكنيسة أو مبادئها الخلفية، وإذا كان عالم الإيمان والأمل المسيحيين هو الدولة التي دعي لحمايتها فقد كان يسعه للدفاع عنها. وكان وهو الذي ولد في مهد الثراء يعيش عيشة البساطة الفلسفية، طول حياته، طاهر اليد في عصر فشت فيه الرشوة في كل مكان (120). وما كاد يتولى منصبه حتى حرم على موظفي هيئة الكرادلة أن يتقاضوا أجراً على ما يقومون به من أعمال. وكان يجب أن يرى كرسي الرسول بطرس يثري من مال العالم كله، ولكنه كان يصرف أموال البابوية بنزاهة معقولة. وكان دبلوماسياً بارعاً، وكان له نصيب معتدل من النقائض الخلقية التي تلازم هذه الحرفة الممتازة (121). وكأن الزمن قد عاد به(16/61)
أحد عشر قرناً إلى الوراء، فجعله إمبراطوراً رومانياً رواقياً أكثر منه مسيحياً، لا يشك قط في أن من حقه أن يحكم العالم.
وكان من الطبيعي، وذكرى هؤلاء البابوات الأقوياء لا تزال مائلة في أذهان أهل روما، أن يقيم إنوسنت سياسته على الاعتقاد بقداسة منصبه ورسالته. ولهذا كان شديد الحرص على أبهة الاحتفالات البابوية وفخامتها، ولم ينزل قط أمام الجماهير عن قلامة ظفر من جلال منصبه وعظمته. وكان صادق الإيمان بأنه هو وارث السلطات التي يعتقد الناس عامة أن المسيح وهبها للحواريين وللكنيسة، فلم يكن في مقدوره أن يعترف بأن لأحد ما له هو من السلطان. ومن أقواله في هذا المعنى: "إن المسيح لم يترك لبطرس حكم الكنيسة كلها فحسب بل ترك له حكم العالم بأجمعه" (122) ولم يكن يدعي لنفسه السلطة العليا في الشؤون الأرضية أو الزمنية الخالصة، اللهم إلا في الولايات البابوية (123)، ولكنه كان يصر على أنه إذا ما تعارضت السلطة الروحية مع السلطة الزمنية وجب أن تسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية كما تسمو الشمس على القمر. وكان يستمسك بالمثل الأعلى الذي يستمسك به جريجوري السابع - وهو أن على الحكومات أن ترضي بأن يكون لها مكان في دولة عالمية يتولى البابا رياستها، على أن تكون له الكلمة العليا في جميع الشؤون القضائية، والأخلاقية، والعقائد الدينية، وأوشك في وقت ما أن يحقق هذا الحلم، فقد نفذ جزءاً من خطته على أثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في عام 1204، إذ خضعت الكنيسة اليونانية إلى أسقف روما، واستطاع أن يتحدث وهو مغتبط عن ثوب المسيح غير المخيط، وأخضع بلاد العرب وأرمينية البعيدة نفسها السيطرة الكرسي البابوي في روما، واستطاع أن يكون هو صاحب الحق في تعيين رجال الدين في مناصبهم، واندفع في سلسلة من المغامرات والنزاع الخطيرة انتهت بإرغام رؤساء الحكومات الأوروبية على الاعتراف، بسيادته عليهم سيادة لم يسبق لها من قبل مثيل.(16/62)
هذا في خارج إيطاليا، أما في إيطاليا نفسها فكانت سياسته أقل من هذا نجاحاً: فقد عجز فيما بذله من جهود متعددة للقضاء على الحروب القائمة بين دول المدن الإيطالية، ونغص عليه أعداؤه السياسيون في روما حياته وجعلوها غير آمنة حتى في وقت من الأوقات يخشى المقام في عاصمته. كذلك أفلح الملك شفير Severre النرويجي (1184 - 1202) في مقاومته بالرغم من صدور قرار الحرمان عليه (124) هو وبلاده، وتجاهل فيليب الثاني ملك فرنسا أمره حين عقد الصلح مع إنجلترا، وإن كان قد خضع لما أصر عليه البابا من أن يعيد زوجته التي هجرها، واقتنع ألفنسو التاسع صاحب ليون Leon أن يفارق برنجاريا Berengaria التي تزوجها لأنها من قريباته المحرمات عليه. واعترفت البرتغال، وأرغونة، وبلاد المجر، وبلغاريا، بأنها إقطاعيات بابوية، وأعطت البابا جزية سنوية، ولما رفض الملك جون أمر البابا بتعيين لانجتن Langton كبيراً أساقفة منتربري اضطره البابا بقرار التحريم الذي أصدره على إنجلترا وبدهائه السياسي أن يضم إنجلترا إلى الأقطاعات البابوية. ووسع إنوسنت سلطانه في ألمانيا بأن أعان أتو الرابع على فيليب صاحب سوابيا Swabia ثم أعان فيليب على أتو، وحصل في كلتا الحالتين على منح وامتيازات للبابوية نظير انتصاره لكلا الطرفين المتنازعين، فضلاً عن تحرير الولايات البابوية مما كان يتهددها من التطويق، وأذكر الإمبراطور أن بابا من البابوات هو الذي "نقل" السلطة الإمبراطورية من اليونان إلى الفرنجة، وأن شارلمان لم يصبح إمبراطوراً إلا بعد أن مسحه البابا وتوجه، وأن في مقدور البابوات أن يستردوا ما منحوا. وحسبنا دليلاً على سلطان إنوسنت ما وصفه به زائر بيزنطي إلى رومة إذ قال أن إنوسنت "ليس خليفة بطرس بل خليفة قسطنطين" (125).
وقد أحبط ما بذله الحكام الزمنيون من جهود لفرض الضرائب على رجال الدين دون رضاء البابا، ورصد المال في الكرسي البابوي لمعونة القساوسة المحتاجين،(16/63)
وبذل ما في وسعه لتحسين تربية رجال الدين وتعليمهم، وقد رفع من منزلتهم الاجتماعية حين عرف الكنيسة بأنها ليست جميع المؤمنين المسيحيين بل هي جميع رجال الدين المسيحيين، وقاوم عادة استيلاء الأساقفة أو رؤساء الأديرة على العشور التي تجمع من الأبرشيات وحرمان قساوسة الأبرشية منها (126). وعمل على إصلاح ما كان في أديرة الرجال والنساء من تراخ وإهمال بأن نظم زيارات متتابعة لهذه الأديرة لمعرفة أحوالها والتفتيش عليها. واستطاع بفضل ما وضعه من التشريعات أن يحدد العلاقة بين رجال الدين وغير رجال الدين، وبين القساوسة والأساقفة، والأساقفة والبابوات. ورفع من شأن المجلس البابوي فجعله محكمة قديرة للمشورة، والإدارة، والقضاء، حتى أضحت وقتئذ أقدر هيئة حاكمة في زمانها، وقد ساعدت إجراءاتها ومصطلحاتها على تشكيل فن الدبلوماسية وطرائقها. وأكبر الظن أن إنوسنت نفسه كان أعظم أهل زمانه تبحراً في القانون، وأنه كان قادراً على أن يجد في المنطق والسوابق سنداً قانونياً لكل قرار يصدره. وكان العلماء والمشترعون يهرعون إلى "مجمع الكرادلة" حيث كان يرأس هذه الهيئة بوصفها المحكمة الكنسية العليا، ليفيدوا من نقاشها وأحكامها في المسائل القانونية المدنية والدينية، وقد اسماه بعضهم "أبا القانون Pater Iuris (127) ، وأسماه آخرون حباً وتفكهاً سليمان الثالث (128).
وكان آخر ما ناله من نصر بوصفه مشترعاً وبابا أن رأس في عام 1215 مجلس لاتران الرابع الذي عقد في كنيسة القديس يوحنا بروما. وأقبل على هذا المجلس العام الثاني عشر ألف وخمسمائة من رؤساء الأديرة، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وغيرهم من علية رجال الدين والمندوبين فوق العادة من جميع الأمم ذات الشأن في العالم المسيحي المتحد. وكانت خطبة الافتتاح التي ألقاها البابا اعترافاً وتحدياً غاية في الجرأة إذ قال "إن أكبر سبب في فساد الخلق هو فساد رجال الدين أنفسهم، وهذا هو مصدر كل ما في العالم المسيحي من شرور: فقد(16/64)
انمحى الإيمان، وطمست معالم الدين .... ووطئت العدالة بالأقدام، وكثر الخارجون على الدين، وجرؤ الناس على الانشقاق، وازداد غير المؤمنين قوة، وانتصر المسلمون (129) ". ورضيت سلطات الكنيسة وعقولها المجتمعة في هذا المجلس أن يسيطر عليها رجل واحد سيطرة تامة، فكانت أحكامه هي قرارات المجلس، وقبلت هذه السلطات أن يعيد هو تعريف عقائد الكنيسة الأساسية، وأن يحدد معناها، وعرفت لأول مرة تعريفاً رسمياً عقيدة استحالة العشاء الرباني إلى لحم المسيح ودمه. وقبل المجلس قرارات البابا التي تطلب إلى غير المسيحيين في البلاد المسيحية أن يلبسوا شارة خاصة تميزهم من غيرهم، واستجاب بحماسة إلى دعوته بشن حرب على الملاحدة الألبجنسيين، ولكنه أيضاً أيده في الاعتراف بنقائض الكنيسة وعيوبها، وشهر ببيع المخلفات الزائفة، وانتقد انتقاداً شديداً صكوك الغفران التي "لا تتورع بعض رجال الدين .... عن منحها ويسرفون في ذلك إسرافاً بعيداً عن الحكمة، والتي أضحت مفاتيح الكنيسة بفضلها محتقرة، وفقدت التوبة ما كان لها من قوة" (130). وحاول المجلس أن يصلح حياة الرهبنة إصلاحاً شاملاً، وندد بإدمان رجال الدين الخمر وما انحدروا إليه من فساد في الأخلاق، وزواج في الخفاء، واتخذ بإزائهم إجراءات شديدة، ولكنه رفض ما ادعاه الألبجنسيون من أن كل اتصال بين الرجال والنساء إثم. وملاك القول أن مجلس لاتران الرابع كان في كثرة من حضره، وفي اتساع مداه وآثاره، أهم مجمع عقدته الكنيسة بعد مجلس نيقيه.
وبعد أن بلغ إنوسنت ذروة المجد في حياته أخذ ينهار مسرعاً نحو منيته العاجلة. ذلك أنه قد انهمك في توسيع سلطانه وإدارة أعماله انهماكاً دائماً لم يخلد فيه قط إلى شيء من الراحة، وأنهك قواه وهو لا يزال في الخامسة والخمسين من عمره. ومن أقواله وهو يتحسر: "ليس لدي متسع من الوقت أفكر فيه في الشؤون السماوية، بل إني قلما أجد وقتاً للتنفس، ولقد كرست حياتي لغيري(16/65)
حتى كدت أصبح غريباً عن نفسي (131) " ولعله كان يسعه في آخر سنة من حياته أن يرجع بذاكرته إلى أعماله، وأن يحكم عليها حكماً موضوعياً أصدق من حكمه عليها في غمرة النزاع الذي كان وقت أن قام بها. لقد أخفقت الحملات الصليبية التي نظمها لاسترداد فلسطين، وكانت الحملة التي نجحت بعد وفاته هي التي أبيد فيها الألبجنسيون في جنوبي فرنسا بوحشية مجردة من كل رحمة. نعم إنه نال إعجاب مواطنيه، ولكنه لم ينل حبهم كما نال جريجوري الأول أو ليو التاسع، وقد شكا بعض رجال الدين من أنه كان ملكاً أكثر منه رجل دين، وظن القديس لتجاردس Lutgardia أنه لن يستطيع الفرار من النار إلا بشق الأنفس (132)، وحتى الكنيسة نفسها امتنعت عن أن تسلكه في عداد القديسين وفيهم من هم أقل وأكثر منه إطاعة لصوت الضمير، وإن كانت تفخر بعبقريته وتشكر له صادق جهوده.
ولكننا لا ينبغي لنا أن نضن عليه بأنه رفع الكنيسة إلى ذروة مجدها، وأوشك أن يحقق ما كانت تحلم به من أن تصبح دولة عالمية مسيطرة على شؤون الناس الأخلاقية. وكان هو أقدر حكام زمانه، يعمل لتحقيق أغراضه ببعد نظر، وإخلاص، ومزيج من الإصرار والمرونة، وجهود لا يكاد يصدقها الإنسان، فلما مات في عام 1216 كانت الكنيسة قد بلغت من دقة التنظيم، وعظيم الأبهة، وبعد الصيت، وقوة السلطان، ما لم تعرف له نظيراً قبل، وما لم تستمع بعد إلا في فترات جداً نادرة وقصيرة.
وليست لهونوريوس الثالث (1216 - 1227) منزلة عالية في سجلات التاريخ القاسية، لأنه كان لرقة حاشيته عاجزاً عن أن يخوض بقوة الحرب الناشبة بين الإمبراطورية والبابوية، أما جريجوري التاسع (1227 - 1241) فقد خاض غمار هذه الحرب بعزيمة تكاد تصل إلى درجة التعصب، وأن كان قد بلغ الثمانين من العمر حين جلس على كرسي البابوية وقد حارب فرديك(16/66)
الثاني وانتصر عليه انتصاراً كان من أثره أن تأخر عصر النهضة مائة عام، وهو الذي نظم محكمة التفتيش، ولكنه كان إلى ذلك مخلصاً إخلاصاً لا يرقي إليه الشك، تقيا إلى حد البطولة، قوياً في دفاعه عما حسبه أثمن ما يملكه بنو الإنسان وهو الدين الذي جاء به المسيح.
وهل كان هذا الرجل قاسياً غليظ القلب، وهو الذي حمى كردينال فرانسس وهداه بحكمته، ولولا هذا لكان من الجائز أن يصبح من الملحدين المارقين. وقضى إنوسنت الرابع (1243 - 1254) على فردريك الثاني، وأقر استخدام محكمة التفتيش للتعذيب (133). وكان نصيراً صادقاً للفلسفة، مساعداً للجامعات، مؤسساً لمدارس القانون. وكان اسكندر الرابع (1254 - 1261) محباً للسلم، رحيماً، شفيقاً عادلاً "أدهش العالم بعده على الاستبداد" (134) ومعارضته لصفات أسلافه العسكرية" (135)، بفضل التقى عن السياسة، وقد مات "كسير القلب" كما يقول مؤرخ فرنسسكاني "ولم ينقطع يوماً عن التفكير فيما بين المسيحيين من نزاع متزايد رهيب" (136)، وعاد كلمنت الرابع (1265 - 1268) إلى امتشاق الحسام، ودبر هزيمة مانفرد Manfred، وقضى على أسرة هو هنستاوفن وعلى ألمانيا الإمبراطورية. ولما استعاد اليونان مدينة القسطنطينية تعرض الاتفاق القائم بين الكنيسة اليونانية والرومانية لخطر الزوال، ولكن جريجوري العاشر (1271 - 1276) استحق جمد ميخائيل بليجوس Miehael Palealogus بمقاومته مطامع شارل دوق أنجو في الاستيلاء على القسطنطينية، فلما عاد إمبراطور الروم إلى ملكه أخضع الكنيسة اليونانية إلى روما، وعادت البابوية إلى ما كانت عليه من تفوق.(16/67)
الفصل الثامن
مالية الكنيسة
لقد كانت الكنيسة في واقع الأمر دولة أوروبية فوق الدول جميعها، تضطلع بشؤون العبادات، والأخلاق، والتعليم، والزواج، والحروب العامة، والحروب الصليبية، والموت، والوصايا، لنصف سكان قارة من القارات، وتشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف الشؤون الزمنية، وتقيم أكثر الصروح نفقة في تاريخ العصور الوسطى، ولهذا كله لم تكن تستطيع أن تقوم بهذه الوظائف كلها إلا باستغلال مائة مصدر من مصادر الإيراد.
وكانت العشور أكبر مصادر هذا الإيراد: ذلك أن قانون الدولة فرض بعد شارلمان على جميع الأراضي التي يمتلكها غير رجال الدين أن تؤدي عشر مجموع غلتها أو ريعها عيناً أو نقداً إلى الكنيسة المحلية؛ كذلك فرض على كل أبرشية بعد القرن العاشر أن تبعث بجزء من عشورها إلى مطران الأسقفية. وأجازت مبادئ الإقطاع أن تقطع عشور الأبرشية للغير، وترهن، ويوصي بها، وتباع، شأنها في هذا الشأن جميع الأملاك أو الإيراد، فلم يكد يحل القرن الثاني عشر حتى نشأت شبكة مالية معقدة كانت الكنيسة المحلية وقسيسها هما القائمين على جمع عشورها ولم يكونا من مستهلكيها، وكان ينتظر من القس أن "يصب اللعنات من أجل عشوره" على حد قول الإنجليز - أي أن يخرج من الدين من يحاولون التملص من أدائها أو يزورون في إيرادهم؛ لأن الناس في تلك الأيام كانوا يكرهون أداء العشور للكنيسة التي يرون أن أعمالها لازمة لنجاتهم، كما يكرهون في هذه الأيام أداء الضرائب للدولة. فنحن نسمع عن ثورات يقوم بها دافعوا العشور من آن إلى آن، فقد حدث في رجيو إميليا Reggio Emilia عام(16/68)
1280، كما يقول الراهب سلمبين Salimbene، أن تحدي الناس قرارات الحرمان والتحريم، وتعاهدوا على "ألا يؤدي أحد منهم أي عشور إلى رجال الدين .... وألا يجلسوا معهم على مائدة الطعام .... وألا يقدموا لهم طعاماً أو شراباً - وهو حرمان معكوس، اضطر معه الأسقف إلى أن يترضاهم (137).
وكان مصدر إيراد الكنيسة الأساسي هو أراضيها التي حصلت عليها بالهبة أو الوصية، وبالبيع أو إغلاق الرهن، أو بإصلاح الأراضي البور بأيدي جماعات الرهبان أو غيرها من الجماعات الدينية. وكان ينتظر من كل مالك حسب السنن الإقطاعية أن يوصي حين مماته بجزء من ماله للكنيسة؛ وكان الذين لا يفعلون هذا يرتاب في صدق إيمانهم، ويتعرضون لعدم الدفن في الأراضي المخصصة للموتى الصالحين (138). وإذا كان الذين يعرفون الكتابة من غير رجال الدين نسبة ضئيلة من الأهلين، فإن القس كان هو الذي يدعى في العادة إلى كتابة الوصايا. وقد اصدر البابا إسكندر الثالث في عام 1170 قراراً يحرم على أي إنسان عمل وصية صحيحة من الوجهة القانونية إلا في حضرة قسيس، وينص على أن كل موثق من غير رجال الدين يجرؤ على كتابة وصية بغير هذا الشرط يطرد من حظيرة الدين (139)، وكانت الكنيسة وحدها هي المختصة بإثبات صحة الوصايا. وكانت الهبات أو الوصايا لكنيسة ما في نظر الناس هي أول الطرق الموثوق بها للنجاة من آلام المطهر. وكان عدد كبير من الوصايا للكنيسة، وبخاصة قبل عام 1000 م يبدأ بهذه العبارة: Adventante mudi vespero، ومعناها أنه "لما كانت أمسية العالم قريبة" (140). ولقد سبق القول إن بعض الملاك كانوا ينزلون عن أموالهم إلى الكنيسة بوصف ذلك تأميناً لهم من العجز: فكانت الكنيسة تؤدي للراهب راتباً سنوياً وترعاه في حالتي المرضى والشيخوخة، على أن تتسلم تركته خالية من جميع الحقوق العينية حين وفاته (141). وكانت بعض الأديرة "تؤاخي" المحسنين إليها فتمنحهم نصيباً من تخفيف عذاب المطهر، وهو(16/69)
التخفيف الذي ناله الرهبان بفضل صلواتهم وصالح أعمالهم (142). ولم يكتف الصليبيون ببيع أراضيهم إلى الكنيسة بأثمان بخسة ليحصلوا ببيعها على ما يحتاجونه من المال، بل إنهم استدانوا الأموال من الهيئات الكنسية بضمان ممتلكاتهم أو برهانها لها؛ وكثيراً ما كانت هذه الممتلكات تؤول إلى تلك الهيئات لعجز أصحابها عن أداء ما عليها من الديون. ومن الناس من كانوا يموتون وليس لهم ورثة طبيعيون فيتركون أملاكهم كلها للكنيسة، من ذلك أن ما تلدا دوقة تسكانيا Gountess Matilda of Tuscany حاولت أن توصي للكنيسة بما يكاد يبلغ ربع مساحة إيطاليا كلها.
وإذا كانت أملاك الكنيسة مما لا يجوز انتقاله إلى غيرها، وكانت قبل عام 1200 معفاة في الأحوال العادية من الضرائب الزمنية (143)، فقد أخذت هذه الأملاك تنمو على مر القرون، فلم يكن من الأمور غير العادية أن تمتلك كنيسة كبرى، أو يمتلك دير للرجال أو النساء، عدة آلاف من الضياع تشمل فيما تشمله نحو أثنتى عشرة بلدة، بل تشمل أحياناً مدينة كبرى أو مدينتين (144). فقد كان أسقف لانجر Langres مثلاً يمتلك المقاطعة كلها. وكان دير القديس مارتن في تور يحكم عشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان أسقف بولونيا يمتلك ألفي ضيعة، وكان لدير لورسش Lorsch مثل هذا القدر من الضياع؛ وكان لدير لاس هولجاس Las Huelgas في أسبانيا أربع وستون بلدة (145)، وكانت الكنيسة في قشتالة تمتلك حوالي عام 1200 م ربع الأراضي الزراعية، وكانت في إنجلترا تمتلك خمسها، وفي ألمانيا ثلثها، وفي ليفونيا Livonia نصفها (146). على أنه يجدر بنا أن ننبه القارئ إلى أن هذه التقديرات تقريبية، وليست كلها مما يوثق بصحته. وأضحت هذه الثروة المكدسة موضع حسد الدولة ومطمعها. فقد صادر شارل مارتل أملاك الكنيسة ليمول بها حروبه، وأصدر لويس التقي القوانين التي تحرم على من كان له أبناء أن يوصي بأملاكه إلى الكنيسة (147).(16/70)
وجرد هنري الثاني إمبراطور ألمانيا كثيراً من الأديرة من أراضيها، وقال في تبرير هذا العمل إن الرهبان قد نذروا أن يعيشوا فقراء، ووضعت بعض القوانين الإنجليزية الخاصة بالأموال المرصودة قيوداً على انتقال الأملاك إلى "الهيئات" أي الجماعات الكنسية. واستولى إدوارد الأول من الكنيسة الإنجليزية في عام 1291 على عشر أملاكها، كما استولى منها في عام 1294 على نصف دخلها السنوي. وبدأ فيليب الثاني سنة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة في فرنسا، وجرى القديس لويس على هذه السنة وجعلها فيليب الرابع شريعة مقررة. ولما تقدمت الصناعة والتجارة، وكثرت النقود، ارتفعت الأثمان، أصبح دخل الأديرة والأسقفيات الآتي معظمه من الرسوم الإقطاعية التي كانت مقدرة من قبل على أساس مستوى الأثمان المنخفضة، والتي لم يكن يستطاع رفعها في هذه الأيام، نقول أصبح دخل الأديرة والأسقفيات لا يفي بمعيشة من فيها، دع عنك ترفهم (148)، فلم يحل عام 1270 حتى كانت كثرة الكنائس والأديرة في فرنسا مستغرقة في الدين، ذلك أنها كانت قد استدانت من أصحاب المصارف بفوائد مرتفعة لتفي بمطالب الملوك، وكان هذا من أسباب ضعف نشاط البناء في فرنسا في آخر القرن الثالث عشر.
وزاد البابوات في فقر الأسقفيات بما فرضوه من الضرائب على أملاكها وإيرادها ليمولوا الحروب الصليبية في بادئ الأمر وليوفوا بنفقات الكرسي البابوي المطردة الزيادة فيما بعد؛ وكان لابد من وجود مصادر للدخل المركزي كلما وسعت البابوية مجال أعمالها وزادتها تعقيداً. وتحقيقاً لهذه الغاية أمر البابا إنوسنت الثالث (1199) جميع الأساقفة أن يرسلوا إلى كرسي للقديس بطرس جزءاً من أربعين جزء من إيرادهم في كل عام، وفرضت ضرائب على جميع أديرة الرجال والنساء، وعلى الكنائس الداخلة في دائرة الحماية البابوية مباشرة. وفرض البابوات على كل أسقف في أول اختياره لمنصبه ضريبة تعادل من الوجهة(16/71)
النظرية جميع إيراده في السنة الأولى، ولكنها كانت من الوجهة العملية تصف هذا الإيراد؟ وذلك نظير تثبيته في منصبه. وكذلك كانت مبالغ كبيرة تنتظر ممن يعينون رؤساء أساقفة، وكان يطلب إلى كل بيت من البيوت المسيحية أن يرسل إلى الكرسي بنساً سنوياً (90 slash100 من الريال الأمريكي) يعرف باسم "بنسات بطرس". وقد جرت العادة على أن تفرض رسوم على القضايا التي تعرض على المحكمة البابوية. وكان البابوات يدعون لأنفسهم حتى لخروج على القانون الكنسي في بعض الحالات، كالإذن بزواج من يحرم زواجهم من ذوي القربى إذا بدا لهم أن ثمة غاية سياسية طيبة تبرر هذا الخروج، وفرضت أجور على الإجراءات القضائية التي يتطلبها هذا العمل. كذلك جاءت إلى البابوات أموال طائلة ممن ينالون صكوك الغفران البابوية، ومن الحجاج القادمين إلى روما. وقد حسب دخل الكرسي البابوي في عام 1250 فكان أكثر من دخل رؤساء الدول الأوروبية الزمنين مجتمعين (149). ولقد تلقى البابا من إنجلترا في عام 1252 ثلاثة أمثال إيراد التاج (150).
ومهما تكن ثروة الكنيسة متناسبة مع اتساع وظائفها، فقد كانت هذه الثروة أهم أسباب الإلحاد في هذا العصر. فقد أعلن آرنلد البرشيائي Arnold of Brescia أن كل قس أو راهب يموت وله ملك مآله النار لا محالة (151). وزاد البجوميل Bogoniles والولدنس Waldenses والباترين Paterines والكاثاري Cathari على ذلك فشنوا حملة شعواء على ثروة أتباع المسيح. وكان من قصائد الهجاء المتداولة في القرن الثالث عشر قصيدة عنوانها "الإنجيل حسب الماركات الفضية" مطلعها: "وقال البابوات للرومان في تلك الأيام: إذا جاء ابن الإنسان إلى مقعد جلالتنا فيكن أول ما تقولون: أيها الصديق لم جئت إلى هذا المكان؟ فإذا لم يعطكم شيئاً فألقوا به في الظلمات الخارجية" (152). وإنا لنجد في جميع آداب ذلك الوقت - في الأقاصيص الخرافية؛ وفي الأغاني، وفي قصة الوردة Roman de La Rose(16/72)
وفي قصائد الشعراء الجاهلين، وأشعار شعراء الفروسية الغزليين، وفي قصائد دانتي، وفي أقوال مؤرخي الأديرة الإخباريين أنفسهم شكاوي من بخل رجال الدين أو ثرائهم (153). وقد ندد ماثيو باريس Mathew Paris أحد الرهبان الإنجليز بجشع رجال الدين الإنجليز والرومان الذين يعيشون منعمين من أملاك المسيح (154). وكتب هيوبرت ده رومان Hubert de Romans رئيس طائفة الرهبان الدمنيك عن "بائعي صكوك الغفران البابوية الذين يفسدون المحاكم الدينية بما يقدمونه من الرشا" (155). ويتحدث بترس كانتور Petrus Cantor وهو نفسه قسيس، عن القساوسة الذين يبيعون القداس أو أدعية الغروب (156)، وشنع بكت Beckte رئيس أساقفة كنتر بري بمجلس القضاء البابوي الذي يباع ويشتري، وينقل عن هنري الثاني قولا له يفخر فيه بأن جميع أعضاء مجلس الكرادلة يتقاضون منه أجوراً (157). والحق أن تهم الرشوة والفساد قد وجهت إلى كل حكومة ظهرت في التاريخ، وإن في هذه التهم لشيئاً من الحقيقة في جميع الأحوال، غير أن فيها كذلك بعض المبالغة في حوادث منشؤها أمثلة صاخبة حدثت في بعض الأوقات، ولكن هذه التهم تثير أحياناً غضباً يكاد يبلغ حد الثورة ـ، ولقد كان يسع الأهلين الذين أقاموا بدريهماتهم الكنائس لمريم العذراء أن يحتجوا وهم غضاب على جشع الكنيسة مجتمعة، وكم من مرة قتلوا قساً عنيداً (158).
واشتركت الكنيسة نفسها في نقد جشع رجال الدين، وبذلت كثيراً من الجهود للقضاء على شره رجالها وترفهم. فلقد حاول مئات من رجال الدين من القديس بطرس داميان St. Peter Damian والقديس برنار St. Bernard والقديس فرانسس، والكاردينال فترى Cardinal de Vitry إلى صغار الرهبان تقليل هذه المساوئ (159)، وإن ما كتبه هؤلاء المصلحون من رجال الكنيسة لهو أهم المصادر التي عرفنا منها ما نعرفه عن هذه المساوئ. وقام عدد من طوائف الرهبان ينادون بضرورة إصلاحها، ويضربون بأنفسهم المثل لما(16/73)
يجب أن يكون عليه هذا الإصلاح، وندد البابا إسكندر الثالث ومجلس لاتران الذي عقد في عام 1179 بفرض الأجور على أداء مراسم التعميد، أو مسح المشرفين على الموت، أو القيام بمراسم الزواج، ودعا جريجوري العاشر مجلس ليون الجامع سنة 1274 خاصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإصلاح الكنيسة. ولم يكن البابوات أنفسهم في ذلك العصر ممن يبدو عليهم ميل إلى الترف، وقد كسبوا مالهم بالانهماك في أداء واجباتهم المنهكة. وإن من المآسي التي تتعرض لها الروحانيات أنها تضمحل ويضعف شأنها إذا لم يعن بتنظيمها، وأنها تفسدها ما يتطلبه تنظيمها من ضرورات مادية.(16/74)
الباب الثامن والعشرون
محاكم التفتيش في بداية عهدها
1000 - 1300
الفصل الأول
الإلحاد الألبجنسي
وصارت الحملة على رجال الدين سيلاً جارفاً في آخر القرن الثاني عشر فقد كان في عصر الإيمان مخابئ منعزل من التصوف الديني والعاطفة الدينية، بمنجاة من المسيحية الكهنوتية المنظمة، غير راضية عن أعمالها. وأقبلت على بلاد الغرب موجات جديدة من التصوف الشرقي لعلها سارت في ركاب الصليبيين العائدين إلى بلادهم. وجاءت من بلاد فارس عن طريق آسيا الصغرى وبلاد البلقان أصداء الأثينية المانوية (1) والشيوعية المزدكية. وجاءت من بلاد الإسلام كراهية الصور والاشمئزاز من القساوسة، وأعقب الحروب الصليبية واخفاقها شك خفي فيما يعزي إلى الكنيسة المسيحية من أصل قدسي ومعونة إلهية. وجاء البوليسيون paulicians إلى إيطاليا وبروفانس عن طريق بلاد البلقان فارين نحو الغرب من وجه الاضطهاد البيزنطي، يحملون معهم سخريتهم من الصور المقدسة والعشاء الرباني، ورجال الدين، وقسّموا إلى عالم روحي
_________
(1) المانوية أتباع ماني، وهو رجل من أهل همذان عاش بين عامي 215 و276 وقال إن كل شيء يخرج من أصلين رئيسيين هما النور والظلام أو الخير والشر. (المترجم)(16/75)
من خلق الله وعالم مادي من خلق الشيطان، وقالوا إن الشيطان هو يهوه الوارد ذكره في العهد القديم. وتكونت طائفة البجوميل bogomiles ( أي أصدقاء الله) في بلغارية، وتسّموا فيها بهذا الاسم، وانتشروا في البوسنة بنوع خاص، وهو حموا بالسيف والنار في أوقات مختلفة في القرن الثالث عشر، واستماتوا في الدفاع عن أنفسهم، ثم استسلموا آخر الأمر (1463) للإسلام لا للمسيحية.
وظهرت في عام 1000 شيعة في طولوز (طلوشة) وأورليان، تنكر المعجزات وقدرة التعميد على غسل الذنوب ووجود المسيح في القربان المقدس، وتأثير الصلوات للقديسين. وأغفل أمرهم على إلى حين، ثم حوربوا، وأحرق ثلاثة عشر منهم أحياء في عام 1023. ونشأت شيع ملحدة أخرى شبيهة بهم، وأعقبت نشأتهم اضطرابات في كمبريه، ولينج (1025)، وجسلار Goslar (1052) وسواسون Soissons (1114) ، وكولوني (1146)، وغيرها من المدن، أحصى منها برثلد الرجنزبرجي Bcrthold of regensburg مائة وخمسين شيعة في القرن الثالث عشر (1)، منها جماعات عديمة الضرر تلتقي ليقرأ بعضها إلى بعض الكتاب المقدس بلغتها القومية دون الاستعانة بقسيس، وليفسروا بأنفسهم ما فيه من عبارات اختلف الناس في تفسيرها، ومنها جماعات عدة كالهيوملياتي Humiliati في ايطاليا، والبنجوين Beguines والبلغارد Beghards في البلاد الوطيئة، تتمسك بالدين في كل شيء إلا في إصرارها المحير على ان يعيش القساوسة فقراء. وكان الفرنسيسكان شيعة من هذا الصنف، وكانت تعد من الشيع الملحدة ولم تنج من هذا إلا بشق الأنفس.
لكن الولدنزيين Waldenses لم ينجو من هذا المصير، فقد استأجر تاجر ثري يدعى بطرس والدو Waldo Pater في عام 1170 جماعة من العلماء ليترجموا الكتاب المقدس إلى اللانج دك Langue doc لغة جنوبي فرنسا. وأقبل على درس الترجمة بشغف، وخرج من هذا الدرس معتقداً أن من واجب المسيحيين(16/76)
أن يعيشوا كما كان يعيش الرسل - ليس للواحد منهم ملك خاص. ثم نزل عن جزء من ثروته لزوجته، ووزع الباقي منها للفقراء، وقام يدعوا الناس إلى أن يعيشوا فقراء. وجمع حوله طائفة قليلة العدد هي (رجال ليون الفقراء) لبسوا مسوح الرهبان، وعاشوا عيشة العفة والطهارة، ومشوا حفاة أو منتعلين الصنادل، وكانوا ينفقون من مكاسبهم مشاعة (2). وصبر عليهم رجال الدين بعض الوقت فلم يعارضوهم في شيء، وسمحوا لهم بان يقرءوا أو ينشدوا في الكنائس (3). ولكن بطرس ضرب بمنجله محصول رجل غيره، منفذاً بذلك أوامر الإنجيل بحرفيتها؛ فأذكره رئيس أساقفة ليون بعبارة قوية أن الأساقفة وحدهم هم الذين يجوز لهم أن يعضوا الناس. وسافر بطرس إلى روما (1189)؛ وطلب إلى الإسكندر الثالث أن يمنحه إذناً بالوعظ، فأجابه البابا إلى طلبه على شريطة أن يوافق على ذلك رجال الدين المحليون، وأن يكون خاضعاً لإشرافهم. وواصل بطرس عظاته، دون أن يحصل على موافقة رجال الدين المحليين، وأصبح أتباعه من أشهر رجال الدين تمسكاً بالكتاب المقدس، وحفظوا فقرات طويلة منه عن ظهر قلب. واصطبغت هذه الحركة تدريجياً صبغة معادية لرجال الدين، ونبذتهم جميعاً، وأنكرت صحة العشاء الرباني الذي يقدمه قس آثم، وعزت إلى كل مؤمن طاهر القدرة على العفو عن الذنوب. وعارض بعض الأعضاء صكوك الغفران، وعقيدة المطهر، وتحول القربان المقدس إلى جسم المسيح ودمه، والصلاة للقديسين. وقامت طائفة منهم تنادي بأن "الأشياء جميعها يجب أن تكون ملكاً مشاعاً" (4). ونادت طائفة أخرى بأن الكنيسة هي المرأة الحمراء المذكورة في سفر الرؤيا (5). وصدر في عام 1148 قرار بحل هذه الجماعة، وقبل إنوسنت الثالث في الكنيسة عام 1206 فئة منها هي فئة "الكاثوليك الفقراء"، أما كثرتها الغالبة فقد أصرت على آرائها الخارجة على الدين، وانتشرت من فرنسا إلى أسبانيا وألمانيا. وأصدر مجلس عقد في طولوز عام 1229، ليقاوم في أغلب(16/77)
الظن انتشار هذه الشيعة، قراراً يقضي بألا يمتلك شخص من غير رجال الدين كتباً مقدسة عدا كتب التراتيل والأدعية (ومعظمها مزامير)، وحرم عليهم أن يقرءوا هذه الكتب بغير اللغة اللاتينية، لأن الكنيسة لم تكن حتى ذلك الوقت قد بحثت أية ترجمة إلى اللغات القومية وأيدت صحتها (6). ولما قاومت حركة القضاء على الألبجنسيين حرق آلاف من أتباع ولدو؛ ومات بطرس نفسه في بوهيميا في عام 1217، ويبدو أنه مات ميتة طبيعية.
وقبل أن ينتصف القرن الثاني عشر كانت بلدان أوربا الغربية معششاً للشيع الملحدة، حتى قال أحد الأساقفة في عام 1190 إن "المدن ملآى بأولئك الأنبياء الكاذبين" (7)، وكان في ميلان وحدها سبعة عشر ديناً جديداً، وكان أهم الشيع الملحدة فيها شيعة البتريائيين Pararines - ويبدو أن اسمهم مشتق من بتاريا Pataria أحد الأحياء الفقيرة في البلدة. ويلوح أن هذه الحركة بدأت احتجاجاً على الأغنياء، ثم استحالت حركة ضد رجال الدين، وأخذت تندد بالرشا وبيع المناصب الكهنوتية، وثراء رجال الدين وزواجهم، وانتشار التسري بينهم، واقترحت كما قال أحد زعمائها "أن تصادر أموال رجال الدين، وأتباع أملاكهم بالمزاد، فإذا قاوموا فلتبح بيوتهم للنهب، "وليطردوا هم وأبناؤهم غير الشرعيين من المدينة" (8). ونشأت شيع مثلها ضد رجال الدين في فيتربو Viterbo، وأرفيتو Orvieto وفيرونا Verona، وفرارا Ferrara وبارما parma وبياسنزا Piacenza، وريميني Rimini ... (9) ، وكانت هذه الشيع في بعض الأوقات هي المسيطرة على الجمعيات الشعبية، والمستولية على زمام الحكم، وبلغ من سلطانها أن فرضت الضرائب على رجال الدين لتمويل المشروعات المدنية (10). وأمر إنوسنت الثالث مندوبه في لميارديا أن يستقسم جميع موظفي البلديات ألا يعينوا أحداً من الملاحدة في أية وظيفة أو أن يوافقوا على أي تعيين من هذا القبيل. وثار الغوغاء في مدينة ميلان عام 1273 وأخذوا "يجهرون(16/78)
بأقوال التجديف والسباب"، ودنسوا عدة كنائس "بالأقذار التي نستنكف عن ذكرها" (11).
وكانت أسماء مختلفة تطلق على الشيع الملحدة كلها، فكانت تسمى شيعة الكاثارى، وهذا اللفظ مشتق من كلمة يونانية معناها "الطاهر". أو البلغاري نسبة إلى أصلهم (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة "بجر Bugger" للسباب)، والألبجنستين نسبة إلى بلدة ألبي Albi التي كانوا يكثرون فيها بنوع خاص. وكانت مدائن منبليه، ونربونه ومرسيليا المراكز الفرنسية للشيع الملحدة، ولعل منشأ هذا هو اتصالها بالمسلمين واليهود، وتردد التجار من مراكز الإلحاد في البوسنة، وبلغاريا، وإيطاليا. ونشر التجار حركة الإلحاد في طولوز، وأرليان، وسواسون، وأراس، وريمس، ولكن لانجويدك Languedoc وبروفانس بقيتا حصتها الحصين. وكانت حضارة العصور الوسطى الفرنسية قد بلغت ذروتها في هاتين المقاطعتين، فكان أتباع الأديان الكبرى يختلفون فيهما متحابين كما يتحاب أهل الحضر المهذبون.
وكانت حساناً مزهوات، والأخلاق طليقة من القيود، وكان الشعراء الغزليون ينشرون الأفكار المرحة، وكان عصر النهضة وشيك البدء فيهما كما كان وشيك البدء في إيطاليا أيام فردريك. وكانت فرنسا الجنوبية تتألف وقتئذ (1200) من إمارات تكاد تستقل كل منها بشئونها لا يربطها بالولاء إلى ملك فرنسا إلا رباطٍ واه. وكان نبلاء طولوز هم أعظم السادة في ذلك الإقليم، فقد كانوا يملكون من الأراضي أكثر من أملاك الملك الخاصة. وكانت عقائد الكاثارى وشعائرهم من ناحية عودة إلى العقائد والأساليب المسيحية الأولى، وكانت ناحية أخرى ذكرى غامضة للإلحاد الأريوسي الذي انتشر في فرنسا الجنوبية في عهد القوط الغربيين، ومن ناحية ثالثة نتيجة للآراء المانوية وغيرها من الآراء الشرقية. وكان من بينهم رجال دين يرتدون ثياباً سوداء، ومطارنة يسمون(16/79)
الكمل perfecti، يقسمون وقت ترقيتهم لهذه المناصب أن يتخلوا عن آبائهم أزواجهم، أبنائهم، أن يهبوا أنفسهم "لله والإنجيل ... ألا يقربوا امرأة قط، ولا يقتلوا حيواناً، ولا يأكل اللحم أو البيض أو منتجات الألبان، وألا يطمعوا إلا السمك والخضر. وكان أتباعهم "المؤمنون ( Gredentes) " يتعهدون بأن يقسموا فيما بعد الأيمان على هذا، وكان يسمح لهم قبل أن يقسموها أن يأكلوا اللحم، ويتزوجوا ولكنهم كان يطلب إليهم أن يخرجوا من الكنيسة الكاثوليكية، وأن يسيروا نحو الحياة "الكاملة"، وأن يحيوا كل واحد من الكمل بثلاث ركعات علامة على التعظيم.
ويتقسم فلسفة الكاثارى الدينية الكون كما يقسمه المانوية إلى الخير: الله والروح، والسماء، والشر، الشيطان، والمادة، والعالم المادي. وتقول إن الشيطان لا الله هو الذي خلق العالم المرئي. وهي تعد المادة كلها شرا بما فيها الصليب الذي مات عليه المسيح والقربان المقدس، وتقول إن المسيح لم يكن يتحدث إلا مجازاً حين قال عن الخبز: "هذا جسمي" (13). وإذا كانت الأجسام كلها من المادة فإن كل اتصال بها يدنس المتصل، وكل الاتصال الجنسي إثم، وكان الجماع هو خطيئة آدم وحواء (14). ويصف أعداء الألبجنسيين أولئك القوم بأنهم يرفضون العشاء الربا، والقداس، وتعظيم الصور المقدسة، والتثليث، ولا يؤمنون بأن المسيح ولد من عذراء، وعندهم أن المسيح من الملائكة، ولكنه ليس هو الله. ويقال عنهم إنهم ينكرون الملكية الخاصة، ويأملون أن تقسم الطيبات بين الناس بالتساوي (15). وقد اتخذوا "عظة الجيل" أساساً لمبادئهم الأخلاقية؛ وكانوا يعملون أن يحبوا اعداءهم، وأن يعنوا(16/80)
بالمرضى والفقراء، وألا يقسموا قط، وأن يستمسكوا على الدوام بالسلم؛ وكان يقال لهم إن العنف يتنافى مع الخلق الكريم، ولو كان موجهاً للكفار، وإن عقوبة الإعدام من أكبر الجرائم، وإن على الإنسان أن يوقن وهو مطمئن أن الله سينتصر (1) آخر الأمر على الشر من غير أن يستخدم وسائل شريرة (16). ولم يكن في هذه الفلسفة الدينية نار ولا مطهر، بل إن كل نفس ستنجو بعد أن تتقلب في عدة أدوار من التناسخ تطهرها من آثامها. ولا بد للإنسان أن يموت وهو طاهر لكي يصل إلى السماء؛ ولهذا كان عليه أن يتلقى من قس مسيحي القداس الأخير الذي يتم تطهير الروح من آثامها. وكان الكثاريون المؤمنون يؤجلون هذا القداس (كما كان بعض المسيحيين الأولين يؤجلون التعميد) إلى مرضهم الأخير في ظنهم، وكان الذين يشفون من هذا المرض يتعرضون لخطو الدنس من جديد، وللموت دون أن يقوموا بمراسيم القداس الأخير، ولهذا كان من أكبر البلايا أن يشفى الشخص من مرضه بعد أن يقوم بمراسيمه. وكان القساوسة الألبجنسيون يتهمون بأنهم يعملون لمنع هذه الكارثة بإقناع الكثيرين من المرضى الذين يشفون بأن يميتوا أنفسهم جوعاً ليرقوا إلى السماء. ويؤكد لنا أعداؤهم أنهم كانوا في بعض الأحيان يميتون المريض خنقاً برضاه حتى لا يكون ثمة مجال لاحتمال شفائه من مرضه الأخير (17).
ولقد كان يسع الكنيسة أن تترك شيعة الكاثارى تقضى بنفسها على نفسها، لولا أن هذه الطائفة أخذت توجه سهام النقد إلى الكنيسة. فقد أنكرت أن الكنيسة كنيسة المسيح. وقالت إن القديس بطرس لم يأت قط إلى رومة، ولم يؤسس البابوية، وإن البابوات خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل، وإن المسيح لم يجد له مكاناً يضع فيه رأسه، أما البابا فيسكن قصراً منفياً، وإن المسيح لم يكن له ملك ولا مال ولكن كبار رجال الدين المسيحيين من ذوي الثراء
_________
(1) من تقرير كتبه سكوني Sacchoni أحد قضاة محكمة التفتيش (12). ولسنا نعرف شيئاً من عقائد الكاثارى وشعائرهم إلا منقولا عن أعدائهم. أما ما كتبوه هم فقد ضاع أو تلف.(16/81)
العريض، وما من شك - كما يقول الكاثارى - في أن رؤساء الأساقفة، والأساقفة، ذوي الأملاك الواسعة، والقساوسة الدنيويين، والرهبان قسمان؛ هم الفريسيون Pharisees ( الزنادقة) الأقدمون عادوا إلى الحياة من جديد! ولم يكونوا يشكون في أن الكنيسة الرومانية هي "زانية بابل"، وأن رجال الدين هم زمرة الشيطان، وأن البابا هو المسيح الدجال (18). وكانوا ينددون بالداعين إلى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتله (19)، وكان الكثيرين منهم يستهزئون بصكوك الغفران والمخلفات المقدسة. ويقال إن جماعة منهم صوروا العذراء في صورة قبيحة، عوراء، مشوهة الجسم، وادعوا أنهم يفعلون بهذه الصورة المعجزات، وإن كثيرين من الناس آمنوا بقوة هذه الصور ة الزائفة، ثم كشفوا هم أنفسهم آخر الأمر عن سخريتهم (20). ونشرت كثير من آراء الكاثارى عن طريق الأغاني التي يذيعها شعراء الفروسية الغزلون، ولم يكن هؤلاء ممن تعجبهم تعاليم المسيح الأخلاقية وإن لم يعتنقوا آراء الشيعة الجديدة. غير أن جميع زعماء هذه الطائفة من الشعراء كانوا يعدون من أنصار الألبجنسيين، فقد كانوا يسخرون من الحج، والاعتراف، والماء المقدس، والصليب، وكانوا يسمون الكنائس "معششات اللصوص"، كما القساوسة الكاثوليك في رأيهم "خونة، كاذبين، منافقين" (21).
وظل رجال الدين والسلطة الزمنية في فرنسا الجنوبية حيناً من الدهر يبدون الكثير من التسامح مع طائفة الكاثارى، ويلوح أنهم أجازوا الجمهرة الشعب أن تختار بملء حريتها بين الدينين القديم والجديد (22). وعقدت مجالس عامة تتنافس فيها فقهاء الكاثارى والكاثوليك، منها واحد عقد في كاركسون Carcassonne حضرة مندوب من قبل البابا وآخر من قبل بجر والثاني ملك أرغونة (1204). وكذلك عقدت عدة فروع مختلفة من الكاثارى مجلساً من رجال دينها في عام 1176، وحضرة ممثلون لهذه الفروع من بلاد مختلفة.(16/82)
وتباحث المجتمعون في عقائد هذه الشيعة؛ ونظمها؛ وشئونها الإدارية، ووضعت قواعد تسير بمقتضاها، وانفض المجتمعون دون أن يتعرض لهم أحد (23). وفوق هذا فإن الأشراف رأوا أن من الخير لهم أن يضعفوا سلطات الكنيسة في لانجويدك، ذلك أن هذه الكنيسة كانت واسعة الثراء تمتلك الكثير من الأرض، على حين الأشراف كانوا إذا قيسوا إليها فقراء، ولهذا شرعوا ينتزعون بعض أراضيها. وحدث في عام 1171 أن هاجم فيكونت بيزيير Beziers ديراً من الأديرة، وزج أسقف ألبى Albi في السجن، وعين أحد الخارجين على الدين لحراسته. ولما أن اختار رهبان آلية Allet رئيساً عليهم ممن لا يرضى عنهم الفيكونت أحرق الدير وزج بالرئيس في السجن. فلما مات السجين نصب الفيكونت المرح جثته في المنبر، وأرغم الرهبان على أن يختاروا في مكانه رئيساً يرتضيه. كذلك طرد ريمند روجر Raymond Roger كونت فوا foix رئيس دير باميير Pamiers ورهبانه من ديرهم، وأطعم خيله الشوفان من فوق من فوق المذبح، وأستخدم جنوده أذرع الصلبان التي عليها صورة المسيح مصلوباً وأرجلها مدقات لطحن الحبوب، واتخذوا صورة المسيح هدفاً للتدريب على الرماية. وهدم ريمند كونت طولوز عدداً من الكنائس، واضطهد رهبان مواساك Moissac، وطرد من حظيرة الدين (1196)، ولكن الحرمان الديني كان وقتئذ أمراً لا قيمة له في نظر الأشراف المقيمين في فرنسا الجنوبية، واعتنق الكثيرون منهم آراء الكاثارى الإلحادية، أو بسطوا على معتنقيها حمايتهم (24).
ولما جلس إنوسنت الثالث على كرسي البابوية في عام 1198 رأى في هذه التطورات خطراً محدقاً بالكنيسة والدولة جميعاً. لقد كان يرى بعض العذر فيما يوجه إلى الكنيسة من نقد، ولكنه كان يحس بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين، يرى هذا الصرح الديني العظيم الذي وضع له أكبر الخطط، وعقد عليه أنبل الآمال، والذي بدا له أقوى عاصم من العنف البشرى، والفوضى(16/83)
الاجتماعية، ومن ظلم الملوك-، يرى هذا الصرح يهاجم منأساسه، وتغتصب ممتلكاته، وتهان كرامته، ويتعرض لضرب السخرية والتجديف. لقد ارتكبت الدولة هي أيضا كثيراً من الذنوب، واحتضنت الفساد والموظفين الفاسدين، ولكن البلهاء وحدهم هم الذين يرغبون في القضاء عليها. وهل يستطاع إقامة نظام اجتماعي دائم على المبادئ التي تنهى عن الأبوة، وتدعو إلى الانتحار وهل يفلح نظام اقتصادي يمجد الفقر ويخلو من كل ما في الملكية من حافز إلى السعي والعمل؟ وهل يستطاع إنقاذ العلاقات الجنسية بين النساء والرجال. وتنشئة الأطفال، من الفوضى الوحشية إلا بنظام كنظام الزواج. وقد بدأت عقائد الكاثارى لإنوسنت كأنها خليط من السخف، نفشت فيها سذاجة الجماهير سما زعافاً؟ وما فائدة حرب صليبية توجه إلى المسلمين في فلسطين إذا ظل هؤلاء الألبجنسيون يتضاعفون في قلب العالم المسيحي نفسه؟
وكتب إنوسنت بعد شهرين من توليته إلى رئيس أساقفة أوتش Auch في غسقونية يقول:
إن قارب القديس بطرس الصغير تتلقفه العواصف وتتقاذفه أمواج البحر، ولكن أشد ما يحزنني ويقض مضجعي ... أن قامت في هذه الأيام فئة لم نر لها فيما مضى مثيلا في تحررها من جميع القيود وفي شدة أذاها، قد ارتكبت أخطاء لا يرتكبها إلا الشياطين، وأخذت توقع نفوس السذج من الناس في حبائلها، وتفسد بخرافاتها وبدعها الكاذبة معاني الكتاب المقدس، وتحاول أن تهدم وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وإذ كان ... هذا الوباء قد أخذ ينتشر في غسقونية والأقاليم المجاورة لها، فإنا ندعوكم أنتم والأساقفة زملاءكم إلى مقاومته بكل ما أوتيتم من قوة ... وقد أصدرنا إليكم هذا الأمر القوي النافذ أن تقضوا على هذه الفئات الملحدة بكل ما تستطيعون من الوسائل، وأن تخرجوا من(16/84)
أسقفيتكم كل من أصابهم دنسها ... وفي وسعكم إذا اضطررتم أن تجعلوا الأمراء والشعب يقضون عليهم بحد السيف. (25)
ويبدو أن رئيس أساقفة أوتش - وهو رجل متسامح مع غيره كما هو متسامح مع نفسه - لم يقم بالعمل الذي تدعوه هذه الرسالة إلى القيام به، أما رئيس أساقفة تربونة وأسقف بيزيير فقد قاوما المندوبين اللذين عينهما إنوسنت لينفذا أوامرهم وحدث حوالي ذلك الوقت أن اعتنقت ست سيدات تتزعمهن أخت كونت فواه مبادئ الكاثارييين، وكان ذلك في احتفال عام شهده كثير من النبلاء، فما كان من إنوسنت إلا أن استبدل بمندوبيه المحققين مندوباً آخر أشد منهم بطشاً وأمضى عزيمة، وكان هذا المندوب هو أرنود Arnaud رئيس الرهبان السسترسيين (1204) ومنحه قوات غير عادية تجيز له أن يفحص ويحقق في جميع أنحاء فرنسا. وأمره أن يعرض على ملك فرنسا وأشرافها عفواً شاملا لكي يساعدوه في القضاء على شيعة الكاثارى الملحدة، ثم عرض البابا على فليب أغسطس فضلا عن هذا أن يمنحه نظير هذه المساعدة جميع الأراضي التي يمتلكها من يأبون الانضمام إلى حملة صليبية ضد الألبجنسين (26). لكن فليب تردد في قبول هذا العرض لأنه كان قد أتم قبيل ذلك الوقت فتح نور مندية، وكان في حاجة إلى متسع من الوقت يهضم فيه هذا الكسب الجديد. ووافق ريمند السادس صاحب طولوز أن يستخدم طريقة الإقناع مع الملحدين، ولكنه أبى أن يشترك في تشن عليهم، فما كان من إنوسنت إلا أن أصدر عليه قرار الحرمان، فلما وعد ريمند بأن يجيب البابا، عاد إلى التباطؤ والإهمال، وقال أحد الفرسان الذين أمرهم مندوب الباب بطرد الكاثارى من أرضه، "كيف نفعل هذا وقد نشأنا مع هؤلاء القوم ومنهم بعض أهلينا، ونراهم يعيشون بيننا معيشة الصالحين؟ " (27). وأقبل على القوم القديس دمينك من أسبانيا، وأخذ يخطب داعياً إلى مسالمة الزنادقة، وعاد(16/85)
بعضهم إلى الدين القويم متأثرين بتقواه وصلاحه (28). ولعل المشكلة كانت بهذه الطريقة يصاحبها إصلاح شأن رجال الدين لو لم يقتل بيير ده كاستلنو Pierre de Castelnau أحد مندوبي البابا بيد فارس بسط عليه ريمند بعدئذ حمايته (29). وكان إنوسنت قد رأى جهوده التي بذلها نحو عشر سنين طوال ضد هذه الطائفة الملحدة تبوء بالخيبة، فلجأ إلى أساليب العنف الشديد، وحرم ريمند ومحرضيه من الكنيسة، وأصدر قرار التحريم ضد الأراضي الخاضعة لهم، وعرض هذه الأراضي على كل مسيحي يستطيع القبض عليهم، ودعا المسيحيين في جميع أقطار العالم إلى حرب صليبية ضد الألبجنسيين ومن يحمونهم. وأجاز فليب أغسطس لكثيرين من بارونات مملكته أن يتطوعوا في هذه الحرب، وجاءت فصائل من ألمانيا وإيطاليا. ووعدت جميع من يشتركون في هذه الحرب بالغفران الشامل الذي وعد به من يحملون الصليب للقتال في فلسطين. وطلب ريمند المغفرة، وكفر عن ذنبه علنا (ضرب بالسوط وهو نصف عار في كنيسة القديس جيل St. Gills) ونال المغفرة للمرة الثانية واشترك في الحرب المقدسة (1209).
وقاوم معظم سكان لانجويدك، خاصتهم وعامتهم على السواء، أولئك الصليبيين، لأنهم رأوا في هجوم أشراف الشمال وجنوده المغامرين محاولة تبغي الاستيلاء على أرضهم تحت ستار الغيرة الدينية، بل إن المسيحيين الصادقين من أهل الجنوب قاوموا غارات أهل الشمال (30). ولما اقترب الصليبيون من بيزيير عرضوا عليها أن يجنبوها ويلات الحرب إذا ما سلمت إليهم جميع الملحدين الذين دون أسقفها أسماءهم، ولكن زعماء المدينة رفضوا هذا العرض وقالوا إنهم يفضلون أن يضرب عليهم الحصار حتى يضطروا إلى أكل أطفالهم فما كان من الصليبيين إلا أن تسلقوا أسوار المدينة، واستولوا عليها، وقتلوا من أهلها عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز بينهم، وحتى الذين احتموا منهم(16/86)
بالكنيسة لم ينجو من القتل (31). ومن القصص التي شاعت وقتئذ قصة لا نجد لها سنداً إلا فيما كتبه قيصر يوس هيسترباخ Caesarius Heisterbach بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت، وهي تقول إن أرنود Arnaud مندوب البابا سئل هل يؤمن الكاثوليك على حياتهم فلا يقتلون، فأجاب: " اقتلوهم جميعاً فالله يعلم من هم أنصار" (32) ولعله كان يخشى أن يجهر جميع المغلوبين وقتئذ باعتناق الدين القويم، ثم يعودون بعد إلى ضلالهم. ولما حرقت بيزيير عن آخرها تقدم الصليبيون بقيادة ريمند ليهاجموا حصن كاركسون حيث وقف روجر كونت بيزيير وابن أخي ريمند وقفته الأخيرة يدافع عن الحصن، لكن الحصن سقط في أيدي الماجمين ومات روجر بزحار البطن.
وكان أكثر القواد شجاعة في هذا الحصار هو سيمون ده مونت فورت Simon de Montfort. وقدولد سيمون هذا في فرنسا حوالي عام 1170 وكان أكبر أبناء سيدمونت فورت القريبة من باريس. وأصبح سيمون بعدئذ إيرل ليست Earl of Leicester، وهو لقب ورثه عن أمه الإنجليزية. وقد استطاع سيمون أن يجمع بين التقي العظيم والحروب العوان، كما استطاع ذلك كثيرون من رجال وقته المتغطرسين. فكان يستمع إلى الصلوات في كل يوم، واشتهر بطهره وعفافه ونال شهرة عظيمة في حروب فلسطين. وأخذ في هذه الحرب الألبجنسية يهاجم بجيشه الصغير المؤلف من 4500 رجل بلدة في إثر بلدة يستحثه مندوب البابا، ويسحق كل ما يعترضه من مقاومة، ويعرض على الأهلين أن يختاروا بين يمين الولاء للكنيسة الرومانية أو القتل لأنهم مارقون، واختار آلاف منهم أن يقسموا يمين الولاء، وفضل مئات أن يقتلوا (33). وواصل سيمون حملاته أربعة أعوام خرب فيها أملاك كونت ريمند كلها تقريباً ما عدا طولوز، حتى استسلمت له طولوز نفسها في عام 1215، واجتمع مجلس من مندوبي البابا في منبلييه وقرر خلع كونت ريمند، وورث سيمون لقبه والجزء الأكبر من أملاكه.(16/87)
ولم يكن إنوسنت الثالث راضياً كل الرضا عن هذه الاعمال، فقد هاله أن يجد أن الصليبيين استولوا على أملاك رجال لم يخرجوا قط على الدين وأن هؤلاء الرجال نهبوا وقتلوا كما يقتل القراصنة المتوحشون وينهبون (34). وأشفق البابا على ريمند فوظف له معاشاً سنوياً، ووضع جزءاً من أملاكه تحت وصاية الكنيسة تحتفظ بها لابنه ولما بلغ ريمند السابع سن الرشد فتح طولوز واستردها من سيمون، ومات سيمون نفسه وهو يحاصر المدينة مرة ثانية (1218). ووقفت الحرب الصليبية وقتئذ لما مات إنوسنت، وخرج من بقى حيا من الألبجنسيين المستمسكين بعقيدتهم يمارسون شعائر دينهم ويدعون له تحت حكم كونت طولوز الجديد اللين الرحيم.
وعرض لويس الثامن ملك فرنسا في عام 1223 أن يخلع ريمند، وأن يقضي على كل الخوارج في أملاكه، إذا سمح له هونوريوس الثالث بأن يضم هذا الإقليم إلى أملاكه الخاصة. ولسنا نعرف بم أجاب البابا، وكل ما نعرفه أن حرباً صليبية بدأت، وأن لويس أوشك أن ينتصر فيها حين لفته المنية في منبلييه (1226). وانتهز ريمند هذه الفرصة ليعقد الصلح ومع بلانش صاحبة قشتالة فيها عن لويس التاسع، فعرض أملاك ابنته جين Jeanne على الفونس أخي لويس، وعودة أملاك ريمند بعد وفاته إلى جين وزوجها. وكانت بلانش يؤرقها ويقض مضجعها الأشراف الثائرون عليها، فقبلت هذا العرض، ووافق عليه البابا جريجوري التاسع بعد أن تعهد ريمند بالقضاء على حركة الإلحاد بقضها وقضيضها. وعقدت معاهدة الصلح في باريس عام 1229 ووضعت الحروب الإلبجنسية أوزارها بعد ثلاثين عاماً من التقتيل والتخريب، وخرج الدين القويم ظافراً من هذه الحروب، وانتهى بانتصار عهد التسامح، وحرم مجلس نربونه (1229) أن يمتلك أحد من غير رجال الدين أي جزء من الكتاب المقدس (25) وأخذ الإقطاع ينتشر، وأخذت حرية المدن وحكوماتها البلدية في(16/88)
الاضمحلال، وانقضى عصر شعراء الفروسية الغزلين في جنوبي فرنسا. وماتت في عام 1271 جبن هي وألفونس اللذان ورثا أملاك ريمند دون أن يكون لهما أبناء. آلت ولاية طولوز الواسعة إلى لويس التاسع والتاج الفرنسي، وأصبحت لفرنسا الوسطى وقتئذ منافذ تجارية حرة على البحر المتوسط، وخطت فرنسا خطوة واسعة نحو وحدتها، وكانت هذه الوحدة هي ومحكمة التفتيش أعظم ما أسفرت عنه الحروب الصليبية الألبجنسية.(16/89)
الفصل الثاني
منشأ محكمة التفتيش أو التحقيق
لقد سن كتاب العهد القديم قانوناً بسيطا لمعاملة المارقين من الدين، يقضى بأن يفحص عنهم فحصاً دقيقاً، فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم: "ذهبوا وراء آلهة أخرى" أخرج المارقون من المدينة و"رجموا بالحجارة حتى يموتوا" (تثينة التشريع 13: 10) (1).
إذا قام في وسطك نبي أو حالم وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنهم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم ... وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل لأنه يتكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم ... فتنزعون الشر من بينكم. وإذا أغواك سراً أخوك بن أمك , أو أبنك أو أبنتك، امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك ... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا تستره بل قتلاً تقتله. (تثينة التشريع 13: 1 - 9). لا تدع ساحرة تعيش (الخروج 22: 18).
وقد ورد إنجيل يوحنا (15: 6) أن عيسى عليه السلام ارتضى هذا القول: "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف، ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" وحافظت الجماعات اليهودية في العصور الوسطى من الوجهة
_________
(1) في الأصل الإنجليزي (17: 25) ولكن 13: 10 هو الصحيح. (المترجم)(16/90)
النظرية على الشريعة الكتاب المقدس الخاصة بالمروق من الدين، ولكنها قلما عملت بها. واستمسك بها ابن ميمون بلا تحفظ (36).
وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية (1) جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هو القانون الذي حكم به على سقراط بالموت، وفي روما القديمة، حيث كان الآلهة حلفاء الدولة وأصدقاءها الاوفياء، كان الخروج عليهم أو التجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. فإذا لم يوجد من يتقدم باتهام المذنب، استدعى القاضي الروماني نفسه هذا المتهم وقام بتحقيق القضية ( inquisition) ، ومن هذا الإجراء أخذت محكمة التفتيش أو التحقيق العصور الوسطى شكلها وأسمها. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على المانويين وغيرهم من المارقين. ثم كثر التسامح في البلاد الغربية خلال العصور المظلمة وهي التي قلما كان أبناؤها يتحدون الكنيسة، وقال ليو التاسع أن الحرمان من الدين يجب أن يكون هو العقاب الوحيد الذي يوقع على المارقين (37). ولما انتشر الإلحاد في القرن الثاني عشر قال بعض رجال الكنيسة إن حرمان الملحدين يجب أن يعقبه نفي الدولة إياهم أو سجنهم (38). ولما عادت بولونيا في القرن الثاني عشر إلى اتباع القوانين الرومانية جاءت في قانونها نصوص وأساليب، ودوافع، لإنشاء محكمة تحقيق، ونقل قانون الإلحاد الكنسي كلمة من القانون الخامس المعنون Dehereticls ( الضلال) في كتاب جستنيان (39). وكان آخر ما فعلته الكنيسة أن أخذت في القرن الثالث عشر قانون ألد أعدائها، فردريك الثاني، وهو أن يكون الإعدام عقوبة الضلال.
ولقد كان من المبادئ العامة لدى المسيحيين - ولدى كثيرين من الضالين أنفسهم - أن الكنيسة قد أقامها ابن الله، وتبعا لهذا المبدأ كان كل هجوم على المذهب الكاثوليكي جريمة موجهة إلى الله نفسه، وكانت النظرة التي ينظر بها
_________
(1) في الأصل الإنجليزي 17 25 ولكن 13: 10 هو الصحيح. (المترجم)(16/91)
إلى الضال العاصي هي أنه أداة للشيطان أرسل للقضاء على عمل المسيح، وكل رجل من رجال الحكم بغض النظر عن الضلال إنما يخدم الشيطان بعمله هذا. وإذ كانت الكنيسة نشعر بأنها جزء لا يتجزأ من حكومة أوربا الأخلاقية والسياسية، فقد كانت تنظر إلى الضلال كما تنظر الدولة إلى الخيانة: أي أنه عمل يراد به تقويض أسس النظام الاجتماعي. وفي ذلك يقول إنوسنت الثالث: "إن القانون المدني يعاقب الخونة بمصادرة أملاكهم وإعدامهم ... وهذا يؤكد حقنا في أن يحرم من الدين من يخونون دين المسيح، وأن تصادر أملاكهم، ذلك بأن الإساءة إلى الذات العلية المقدسة جريمة أشنع من الإساءة إلى جلالة الملك" (40). وكان الضال يبدو في أعين الحكام الدينيين أمثال إنوسنت شراً من المسلم أو اليهودي، ذلك أن هذين يعيشان إما في خارج العالم المسيحي أو يخضعان لقانون نظامي - صارم - إذا كانا في داخله؛ يضاف إلى هذا أن العدو الأجنبي جندي في حرب صريحة، أما الضال فهو خائن في داخل البلاد يقوض أسس المسيحية وهي مشتبكة في حرب طاحنة مع الإسلام، يضاف إلى هذا في رأي رجال الدين، أنه إذا أجيز لكل إنسان أن يفسر الكتاب المقدس حسب ما يراه عقله (مهما يكن قاصراً)، وينشئ لنفسه الصورة التي يرتضيها من صور المسيحية، فإن الدين الذي حفظ لأوربا قانونها الأخلاقي الضعيف لن يلبث أن ينهار ويتفرق إلى مائة عقيدة، ويفقد ما له من أثر بوصفه قوة اجتماعية تربط الآدميين المتوحشين بفطرتهم، تخلق منهم مجتمعاً وحضارة.
وكان الشعب نفسه، إلا في جنوبي فرنسا وإيطاليا، أشد الناس حماسة في اضطهاد المخالفين، وقد يكون هذا لأن الشعب نفسه يعتنق آراء رجال الدين السالفة الذكر دون أن تكون دون لها في ذهنه صورة واضحة لها، أو لأن النفوس الساذجة تخشى بفطرتها كل مخالف وغريب، أو لأن الناس يسرهم أن يطلقوا في غمار الجماهير المجتمعة المجهولة العنان لغرائزهم المكبوتة بسبب ما عليهم من(16/92)
التبعات بوصفهم أفراداً. وأيا كان السبب فإن "الغوغاء أنفسهم قد عاقبوا الضالين قبل أن تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل" (41) بل لقد كان الأهلون المتدينون يشكون لين الكنيسة المفرط مع الضالين (42)، وكانوا في بعض الأحيان "يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم" (43)، وشاهد ذلك ما كتبه قس من فرنسا الشمالية إلى إنوسنت الثالث يقول: "لقد بلغ من تقوى الناس هذه البلاد أنك لا تراهم على استعداد لأن يبعثوا إلى موضع الحرق بمن ثبت ضلالتهم فحسب، إنهم ليبعثون إليه فوق ذلك بكل من يظنونه ضالا" (44)، وحدث في عام 1114 أن زج أسقف سواسون ببعض الضالين في سجن، لكن العامة انتهزوا فرصة غيابهم "خافوا أن يصطنع رجال الدين معهم "فهجموا على السجن وجردوا الضالين منه وحرقوهم أحياء (45). وأصر العامة في ليبج عام 1144 على أن يحرق بعض الضالين الذين كان الأسقف أدلبرو Adlbero لا يزال يأمل في هدايتهم (46). ولما قال بيير ده بروي Birre de Bruys " إن القساوسة يكذبون حين يدعون أنهم يصنعون جسم المسيح" (وهم يصنعون القربان المقدس) وأحرق كومة من الصلبان في يوم الجمعة الحزينة، قتله العامة في مكانه وأحرقوه لساعته (48).
واشتركت الدولة على كره منها في اضطهاد الضالين لأنها كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. يضاف إلى هذا خوفها أن يكون الضلال الديني ستاراً يخفي وراءه التطرف السياسي، ولم تكن في ظنها هذا مخطئة على الدوام (49). وقد يكون للاعتبارات المادية أثر في هذا الشأن لأن الضلال الديني أو السياسي كان يعرض للخطر أملاك الكنيسة والدولة، ولهذا، كان الرأي العام بين الطبقات العليا - مع استثناء لانجو يدك مرة أخرى - يطلب إلى الدولة أن تقضي على الضلال مهما كفها ذلك (50). ولهذا أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا (1194)(16/93)
أن ينزل بالضالين أشد أنواع العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر أتو الرابع (1210)، ولويس الثامن ملك فرنسا (1226)، وأصدرت مدينتا فورنس (1227) وميلان (1228)، مراسيم شبيه بمرسوم هنري. وكان أشد قوانين والاضطهاد هو القانون الذي سنه فردريك الثاني فيما بين عامي 1220 و1239 وقضى بأن يسلم الضالون الذين تحكم عليهم الكنيسة إلى " اليد الزمنية - أي إلى ولاة الأمور المحليين - وأن يحرقوا أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من حق الاختبار إلى أي منصب ذي دخل أو كرامة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين. وقضى القانون بأن تحرق بيوت الضالين ولا يعاد بناؤها قط (51). وأضاف لويس التاسع الرقيق الظريف أحكاماً شبيهة بهذه الأحكام إلى قوانين فرنسا والحق أن الملوك هم الذين كانوا ينازعون الشعب فضل البداية في اضطهاد الضالين. وحسبنا أن نذكر غير ما سبق أن روبرت ملك فرنسا أمر بإحراق ثلاثة عشر ضالاً في أورليان عام 1022؛ وكان هذا أول حادث معروف من حوادث إعدام الضالين بعد إعدام برسليان priscilian بأيدي السلطات الزمنية في عام 385. وبعد ذلك شنق هنري الثالث إمبراطور ألمانيا عدداً من المانويين أو الكاثاريين في جسلار غير عابئ باحتجاج وازو Wazo أسقف ليبج وقوله إن في الحرمان من الدين عقاباً كافياً للضالين (52). وفي عام 1183 "بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هو ورئيس أساقفة ريمس "عدداً كبيراً من النبلاء، ورجال الدين، والفرسان، والفلاحين، والفتيات، والنساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أحرقوا وهم أحياء بعد أن صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما".
وكان البحث عن الضالين قبل القرن الثالث عشر يترك في الأحوال العادية(16/94)
للأساقفة. وإنا ليصعب علينا أن نسمي هؤلاء الأساقفة باحثين، لأنهم كانوا ينتظرون الشائعات العامة أو الضجيج الذي يدلهم على الضالين، فيستدعونهم ولكنهم يصعب عليهم أن يحملوهم بطريق التحقيق على الاعتراف بذنوبهم. ولم يكونوا يرتضون أن يلجئوا إلى التعذيب، فكانوا لذلك يعمدون إلى طريق التحكيم الإلهي، وهم مخلصون في ظاهر الأمر في اعتقادهم أن الله سيرسل المعجزات لحماية البريئين. وأيد القديس برنار هذه الوسيلة ووصفها مجلس من الأساقفة عقد في ريمس (1257) بأنها إجراء عادي في محاكمة الضالين، ولكن إنوسنت الثالث حرمها. وساء البابا لوسيوس الثالث إهمال الأساقفة في محاربة الضلال، بأن يزوروا أسقفياتهم مرة في كل عام على الأقل، وأن يقبضوا على كل من تحوم حولهم الشبهات وأن يسلكوا كل من لا يقسم يمين الولاء التام للكنيسة في زمرة الضالين (وقد رفض الكاثاري أن يقسموا هذا القسم)، ثم عليهم بعد ذلك أن يسلموا هؤلاء العصاة إلى ولاة الأمور المحليين. وخول مندوبو البابا حق خلع الأساقفة الذين يتوانون في القضاء على الضلال (54). وطلب إنوسنت الثالث في عام 1215 إلى جميع ولاة الأمور المدنيين أن يقسموا علماً بأن "يبيدوا من الأراضي الخاضعة لطاعتهم جميع الضالين الذين عينتهم الكنيسة ليلقوا ما يستحقون من العقاب" فإذا لم يفعلوا هذا كانوا هم أنفسهم ضالين. وكل أمير يهمل في أداء هذا الواجب يخلع ويعفي البابا رعاياه من طاعته (55) ولم يكن " العقاب الذي يستحقونه" حتى ذلك الوقت يزيد على النفي ومصادرة الأملاك (56).
ولما ارتقى جريجوري التاسع عرش البابوية (1227) وجد أن الضلال آخذ في الازدياد رغم المحاكمات الشعبية، والحكومية، والأسقفية. فقد كانت جميع بلاد البلقان، وكان الجزء الأكبر من إيطاليا، وغير قليل من فرنسا، كانت هذه البلاد مرتعاً للزيغ والضلال، حتى لقد أضحت الكنيسة، ولما يمض على(16/95)
سلطات إنوسنت الرائع إلا زمن وجيز، يتهددها خطر الانقسام والتفكك. وكانت المسألة، كما يراها الحبر الطاعن في السن، أن الكنيسة وهي تقاتل فردريك والضلال في وقت واحد، إنما تقاتل في سبيل المحافظة على حياتها، وأنها يحق لها من أجل المبادئ الأخلاقية والأساليب التي تحتمها حالة الحرب. وروع جريجوري أن عرف أن الأسقف فلبو باترنون Fillippo Paterrenon الذي تمتد أسقفيته من بيزا إلى أرزو قد اعتنق مذهب الكاثاري، فعين لجنة للتحقيق يرأسها راهب من الدمنيك تعقد جلساتها في فلورنس وتقدم الضالين إلى المحاكمة (1227). وكانت هذه اللجنة في واقع الأمر بداية محكمة التحقيق البابوية، وإن كان المحققون فيها خاضعين من الوجهة الرسمية لسلطات الأسقف المحلى. فلما كان عام 1231 أدخل جريجوري في قانون الكنيسة الشرائع التي سنها فرردريك في عام 1224، وبذلك اتفقت الكنيسة والدولة من ذلك الوقت على أن الضالين الذين لا يتوبون عن ضلالهم خونة يجب أن يعاقبوا بالإعدام، وبهذا أنشئت محكمة (التفتيش) رسميا تحت سلطات البابوات.(16/96)
الفصل الثالث
المحققون (المفتشون)
أرسل جريجوري وخلفاؤه بعد عام 1227 عدداً متزايداً من المحققين أو المفتشين الخصوصيين لمطاردة الضلال، وكان يفضل أن يختار لهذا العمل أعضاء طوائف الرهبان المتسولين الجدد لأن حياتهم البسيطة وإخلاصهم يختلفان عن ترف رجال الدين من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يستطيع الاعتماد على الأساقفة. على أنه لم يبح لأي محقق أن يقضي بحكم شديد على أي ضال من غير موافقة الأسقف، ولهذا اختير كثير من الرهبان الدمنيك لهذا الغرض، حتى لقد سموا من قبيل السخرية Domini Canes أي "كلاب الله" (الصيادين) (57). وكان كثيرون منهم رجالا متزمتين في أخلاقهم ولكن قل منهم من كان يتصف بالرحمة، ولم يكونوا يعتقدون في أنفسهم أنهم قضاة يزنون الأدلة بعدل ونزاهة، بل كانوا يظنون أنهم محاربون يطاردون أعداء المسيح. وكان منهم رجال ذو عناية وضمائر حية أمثال برنار جوي Bernard Gui، ومنهم من كانوا مرضى ساديين مثل روبرت الدمنيكي Robert the Dominican وهو رجل ضال تائب أرسل في يوم واحد من أيام 1239 مائة وثمانين شخصاً ليحرقوا أحياء، من بينهم أسقف منح الضالين حسب رأيه حرية أكثر مما يستحقون. وقد أعفى روبرت هذا من منصبه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (58).
وكان اختصاص محكمة التحقيق مقصوراً على المسيحيين دون سواهم، أما اليهود والمسلمون فلم يكونوا يدعون أمامها للتحقيق معهم إلا إن كانوا مسيحيين مرتدين (59). ولقد بذل الدمنيك جهوداً خاصة لتحويل اليهود إلى المسيحية،(16/97)
ولكنهم لم يكونوا يلجئون في هذا العمل لغير الوسائل السلمية، وبلغ من حرصهم على هذا أنه لما اتهم بعض في عام 1256 بقتل بعض أطفال المسيحيين في بعض طقوسهم، عرض الرهبان الدمنيك والفرنسسكان حياتهم للخطر لإنقاذهم من الغوغاء (60). وخير ما يوضح لنا الغرض من إنشاء محكمة التحقيق ودائرة اختصاصها مرسوم بابوي أصدره نقولاس الثالث (1280).
نعلن بهذا حرمان جميع الضالين ونصب عليهم اللعنة - الكاثارى، والبتارين، ورجال ليون الفقراء. .. وكل من عداهم أياً كان الاسم الذي يسمون به. فإذا أدانتهم الكنيسة وجب إسلامهم إلى القاضي الزمني لمعاقبتهم .... وإذا ما ندم واحد منهم بعد اعتقاله وأراد أن يكفر عن ذنبه، وجب سجنه مدى الحياة ... وكل من يأوي الضالين، أو يحميهم، أو يساعدهم، يحرم من الدين، وإذا لم يستطع المتهمون بالضلال أن يثبتوا براءتهم، طردوا من حظيرة الدين، فإذا بقوا محرومين عاماً كاملا حكم عليهم بما يحكم على الضالين. وليس لهؤلاء حق استئناف الحكم ... وكل من يمنحهم دفنة مسيحية يحكم عليه بالحرمان ويظل كذلك حتى يعمل ما يستوجب الرضا عنه .. فلا يغفر له ذنبه حتى يخرج بيده جثث المحرومين ويطرحها في العراء. ونحن نحرم على غير رجال الدين جميعهم أن يناقشوا في مسائل الدين الكاثوليكي، ومن يفعل هذا يحرم من الدين، وعلى كل من يعرف أحداً من الضالين، أو ممن يعقدون اجتماعات سرية، أو ممن لا يؤمنون بعقائد الدين القويم أياً كانت، أن يبلغ ذلك إلى من يفضي إليه باعترافه، أو إلى شخص آخر يبلغه إلى الأسقف أو المحقق، فإذا لم يفعل هذا حرم من الدين. والضالون، وكل من يأوونهم، أو يؤيدونهم، أو يساعدونهم، وكذلك أبناؤهم حتى الجيل الثاني - هؤلاء لا يسمح لهم بتولي المناصب الكنسية .. وهانحن أولاء نحرمهم جميعاً وأمثالهم من دخلهم إلى أبد الدهر (61).(16/98)
ويجوز أن تبدأ إجراءات محاكم التحقيق بالقبض العاجل على جميع الضالين، وعلى جميع المشتبه في ضلالهم أحياناً وقد تبدأ بأن يستدعى المحققون الزائدون على جميع السكان البالغين في مكان ما للبحث المبدئي. والذين يقرون بضلالهم في خلال "المهلة القانونية" الأولى، ومدتها ثلاثون يوما، ثم يتوبون، يطلق سراحهم بعد حبسهم زمناً وجيزاً، أو بعد أن يقوموا بعمل من أعمال التقى، أو يتصدقون بالمال (62) أما الضالون الذين لا يعترفون في أثناء هذه المهلة، ثم يكشف عن أسرهم في هذا التحقيق المبدئي، أو تدل عليهم عيون محكمة التحقيق (63)، أو يكشف عنهم بأية طريقة أخرى، أما هؤلاء جميعاً فيدعون إلى المثول أمام محكمة التحقيق، وكانت هذه المحكمة تؤلف الأحوال العادية من أثنى عشر رجلا يختارهم الحاكم الزمني في الإقليم من ثبت يحتوي أسماء المرشحين، يعرضه عليه الأسقف وهيئة المحققين، ويضم إليه اثنان من المسجلين وعدد من الحجاب فإذا ما انتهز المتهمون هذه الفرصة الثانية، وأقروا بذنبهم، عوقبوا عقاباً يختلف باختلاف ذنبهم، وإذا أنكروا جرمهم زجوا في السجن وكان من المستطاع محاكمة المهتمين وهم غائبون أو بعد مماتهم. وكانت المحاكمة تحتاج إلى شاهدين من شهود الإثبات، وتقبل من يعترفون بذنبهم من الضالين شهود إثبات على غيرهم، وكان يسمح للزوجات أن يشهدن على أزواجهن وللأبناء على آبائهم، ولا يسمح لهؤلاء أو أولئك أن يشهدن أو يشهدوا لهم (64) ويسمح لجميع المتهمين في مكان ما بناء على طلبهم أن يطلعوا على ثبت شامل يحوى جميع أسماء من يتهمونهم، ولكن هذا الثبت لا يدل أي متهم على من اتهمه، فقد كان يخشى أنه إذا واجه أي متهم من اتهمه فقد يعمد أصدقاء المتهم إلى قتل من يتهمه. وفي ذلك يقول لي Lea: " والحق أن عدداً من الشهود قد قتلوا لريبة بسيطة حامت حولهم" (65). وكان يطلب إلى المتهم عادة أن يذكر أسماء أعدائه، وكانت المحكمة ترفض أي دليل يقدمه أولئك الأعداء (66)،(16/99)
وكان المبلغون الكاذبون يعاقبون أشد العقاب (67)، ولم يكن يسمح للمتهمين قبل عام 1300 بأن يستعينوا بأية معونة قانونية (68)، أما بعد عام 1354 فقد صدر مرسوم بابوي يحتم على المحققين ألا يعرضوا أدلة الإثبات على الأسقف وحده بل أن يعرضوها عليه وعلى رجال من ذوي السمعة الطيبة في الإقليم، وأن يصدروا حكمهم بما يتفق مع آرائهم (69). وكانت هيئة من الخبراء ( perite) تدعى في بعض الأحيان لتبدي رأيها في الأدلة. وقصارى القول أن الأوامر الصادرة إلى المحققين كانت تنبههم إلى النجاة المذنب من العقاب خير من إدانة البريء، وأن من واجبهم أن يحصلوا إما على دليل واضح أو اعتراف صريح.
وكان القانون الروماني القديم يجيز الالتجاء إلى التعذيب للحصول على الاعتراف، ولم تكن هذه الطريفة تتبع في المحاكم الأسقفية، أو في السنين العشرين الأولى من سني محاكم التحقيق، غير أن إنوسنت الرابع (1252) أجازها حيث يكون القضاة واثقين من جرم المتهم، ثم أجازها من جاء بعده من الأحبار (70). ولكن البابوات كانوا ينصحون بأن يكون التعذيب آخر ما يلجأ إليه مع المتهمين، وألا يلجأ إليه إلا مرة واحدة، "وألا يصل إلى ما يؤدي إلى فقد عضو من الأعضاء أو إلى خطر الموت". وفسر المحققون عبارة "مرة واحدة" بأنها تعني مرة واحدة في كل محاكمة، فكانوا لذلك يقطعون التعذيب في بعض الأحيان ليواصلوا المحاكمة، ويرون بعدئذ أن من حقهم تعذيب المتهم. وكان التعذيب يستخدم في كثير من الأحيان لإغرام الشهود على أداء الشهادة، أو لإجبار الضال المعترف على الإدلال بأسماء غيره من الضالين (71). وكان من أنواعه الجلد، والكي بالنار، والتعذيب بالعذراء، والسجن الانفرادي في جب مظلم ضيق، وكانت قدما المتهم توضعان أحيانا على الفحم المتقد، أو كان يشد إلى إطار على شكل مثلث ثم تجذب يداه وساقاه بالحبال الملفوفة حول آلة لاوية. وكان طعام السجين يقلل أحياناً حتى يضعف(16/100)
بذلك جسمه وإرادته فيؤثر فيه التعذيب النفساني، كالوعد بالرأفة أو التهديد بالقتل (72). وقلما كانت محكمة التحقيق ترى قيمة للاعتراف الذي يأتي من طريق التعذيب، ولكن هذه المشكلة كان يتغلب عليها بإرغام المتهم على أن يؤكد، بعد ثلاث ساعات من اعترافه، ما قرره أثناء التعذيب، فإذا أبى أمكن تعذيبه من جديد، وحدث في عام 1286 أن بعث موظفو كركسون Garcassonne برسالة إلى فيليب الرابع ملك فرنسا والى البابا نقولاس الرابع يشكون فيها من صعوبة التعذيب الذي يلجأ إليه المحقق جان جالان Jean Galand. فقد كان بعض المسجونين جان هذا يتركون زمناً طويلاً في السجن الانفرادي الحالك الظلام، وكانت قيود بعضهم تبلغ من الضيق جداً يضطرون معه إلى الجلوس في برازهم، أو لا يستطيعون ألا النوم على ظهورهم فوق الأرض الباردة (73). وقد شد بعضهم إلى العذراء شداً عنيفاً فقدوا معه استخدام أيديهم وأرجلهم، ومنهم من مات في أثناء التعذيب (74) وشنع فيليب على هذه الوحشية وحاول البابا كلمنت الخامس (1312) أن يحد من إلتجاء المحققين إلى التعذيب، ولكن سرعان ما أهملت أوامره (75).
وكان المسجونون الذين يأبون أن يفيدوا من الفرصتين اللتين تتاح لهم للاعتراف ثم يدانوا بعدئذ، والذين يرتدون إلى ضلالهم بعد توبتهم كان هؤلاء وأولئك يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة أو الإعدام، وكان السجن مدى الحياة يخفف بمنح السجين شيئاً من الحرية في التنقل، والزيارة، والألعاب، أو يشدد بحرمانه من الطعام أو بتقييده بالأغلال (76). وكان الذين يدانون بعد أن يقاوموا يحكم عليهم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى بمصادرة أملاكهم. وكان بعض هذه الأملاك المصادرة يعطى عادة لحاكم الإقليم الزمني، ويعطي بعضها للكنيسة، وكان ثلث هذه الأملاك يعطي في إيطاليا للذي يبلغ عن الضال، أما في فرنسا فكانت الأملاك المصادرة تذهب كلها للتاج. وكانت هذه الاعتبارات كلها(16/101)
تغري الدولة والأفراد بالإشتراك في تعقب الضالين، وفي محاكمة الموتى، وكان من المستطاع في أي وقت من الأوقات الاستيلاء على أملاك البريثين من الناس بحجة أن من أورثوهم إياها قد ماتوا وهم ضالون. وكان هذا من الشرور الكثيرة التي حاول البابوات أن يقضوا عليها، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح (77). وكان مما يفتخر به أسقف رودس أنه جمع مائة ألف "صول (1) " في حملة واحدة على الضالين في أسقفيته (78).
وكان المحققون يعلنون في حفل رهيب يقام من آن إلى آن إدانة المذنبين وما يحكم به عليهم من عقاب. فأما التائبون فكانوا يوضعون على منصة في وسط الكنيسة، ثم يقرأ اعترافاتهم، ويطلب إليهم أن يؤكدوا هذا الاعتراف، وأن ينطقوا بصيغة خاصة يعلنون فيها إقلاعهم عن الضلال، ثم يقوم المحقق الذي يرأس الاحتفال فيعفي التائب من الحرمان، ويعلن سائر الإحكام المختلفة. فأما الذين "سيطلقون" أي يتركون إلى السلطات الزمنية فكان يسمح لهم بيوم آخر يرجعون فيه عن ضلالهم، وأما الذين يعترفون ويتوبون، ولو كانوا عند عمود الحرق، فكان يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، وأما اللذين يبقون على عنادهم فكانوا يحرقون وهم أحياء في ميدان العام .. وكان هذا الإجراء كله، من حكم، وتنفيذ يطلق عليه في أسبانيا اسم "عمل الإيمان aeto da fe" لأنه كان يقصد به أن يقوى عقائد الشعب الصحيحة، ويؤيد الإيمان بالكنيسة. ولم تنطق الكنيسة قط بحكم الإعدام، فقد كان شعارها القديم هو: إن الكنيسة تحجم عن إراقة الدماء ( ecclesia aphorret a sanguine) ، ولهذا كان القسيسون يؤمرون بألا يسفكوا دماء، ومن أجل ذلك فإن الكنيسة حين تبعث إلى السلطات الزمنية باللذين تدينهم لم تكن تطلب إلى ولاة رجال الدولة
_________
(1) عملة فرنسية قديمة كانت قيمتها 1 slash20 من الجنيه الفرنسي استبدل بها "الصلدى" (المترجم)(16/102)
أكثر من أن يوقعوا عليهم (العقاب الذي يستحقونه) وتنبههم إلى أن يتجنبوا (كل ما من شأنه سفك الدماء أو التعريض لخطر الموت). ثم اتفقت الكنيسة والدولة بعد جريجوري التاسع على ألا يؤخذ هذا التحذير بمعناه الحرفي، بل أن يقتل المذنبون دون أن تسفك دماؤهم أي أن يحرقوا عند عمود الإحراق (79).
وكان عدد من حكمت عليهم محكمة التحقيق الرسمية بالموت أقل مما كان يعتقده المؤرخون في وقت من الأوقات (80). ومن الشواهد الدالة على ذلك أن برنار ده كو Bernard de Gaux وهو من المحققين المتحمسين، قد خلف سجلا طويلا بالقضايا التي نظر فيها؛ وليس في هذا السجل قضية واحدة حكم فيها بإرسال المذنب إلى السلطات المدنية (81). وحكم محقق يدعى برنارد جوى Bernard Gui في مدى سبعة عشر عاماً على تسعمائة وثلاثين ضالاً، فلم يتجاوز من حكم عليهم بالموت من بين هذا العدد خمسة وأربعين (82). وكانت الأحكام الصادرة في حفل عام بطولوز (طلوشة) عام 1310 وهي أن أمر عشرون شخصاً بأن يخرجوا للحج، وحكم على ستة وخمسين بالسجن، وعلى ثمانية عشر بالإعدام. وفي عمل الإيمان الذي حدث في عام 1312 أرسل واحد وخمسون إلى الحج، وحكم على ثمانية وستين بالسجن مدداً مختلفة، وأرسل خمسة إلى السلطات الزمنية (83). وقصارة القول أن شر مآسي محاكم التحقيق قد أخفتها السجون ولم تر الضوء عند أعمدة الإحراق.(16/103)
الفصل الرابع
النتائج
لقد حققت محاكم التحقيق في العصور الوسطى أغراضها العاجلة، فقد قضت على الكثارية. فرنسا، ولم تبق من الولدنسيين إلا عدداً قليلا من المتحمسين المتفرقين في أماكن مختلفة، وأعادت جنوبي إيطاليا إلى الدين القويم، وأجلت تمزق المسيحية الغربية مدى ثلاثة قرون. وبها انتقلت زعامة أوربا الثقافية من فرنسا إلى إيطاليا، ولكن الملكية الفرنسية المطلقة، بعد أن قويت باستيلائها على لانجويدك، بلغت من السلطان مبلغاً استطاعت به أن تخضع البابوية لأمرها في أيام بنيفاس الثامن، وأن تزجها في السجن في عهد كلمنت الخامس.
ولم يكن لمحاكم التحقيق في أسبانيا قبل عام 1300 إلا شأن صغير، وترجع نشأتها فيها إلى عام 1232 حين استطاع ريمند البنيافورتي Raymond of panafort الراهب الدمنيكي عند جيمس الأول ملك أرغونة، ان يقنع هذا الملك بإدخال محاكم التحقيق في بلده. ولعل هذا الملك أراد أن يقلل من شطط محاكم التحقيق فسن في عام 1233 قانوناً يجعل الدولة هي التي تؤول إليها أملاك الضالين المصادرة، وإن أصبح هذا العمل نفسه في القرون التالية حافزاً قوياً للملوك وجدوا أن التحقيق والاستيلاء عملان شديدا الاتصال أحدهما بالآخر.
وفي شمال إيطاليا ضل الضالون كثيري العدد فلم يكن أتباع الدين القويم يعنون كثيراً بالاشتراك في اصطياد الضالين، وكان الطغاة المستقلون أمثال إزلينو Ezzelino في فيشنزا Vicenza وبلافيشينو Pallaviclno في كرمونا وميلان يحمون الضالين سراً أو جهراً. وفي فلورنس أنشأ الراهب روجيري Ruggieri(16/104)
جماعة عسكرية من النبلاء المتمسكين بالدين لتأييد محكمة التحقيق، واشتبك معهم البارتيون في معارك دموية في الشوارع ولكنهم هزموا فيها (1245)، ثم أخفت الضلالة في فلورنس رأسها فيما بعد، وحدث في عام 1252 أن اغتال بعض الضالين الراهب بيرودافرونا Piero da Verona في ميلان، فلما قتل سلكته الكنيسة في عداد القديسين الشهداء وأسمته الشهيد بطرس، وكان لعملها هذا الأثر في مقاومة الضلالة في شمالي إيطاليا أكثر مما كان لجميع فظائع المحققين. وشنت البابوية حروباً صليبية على إزلينو وبلافنسينو، وقضى على أولها في عام 1259 وعلى الثاني في عام 1268، وبهذا كان انتصار الكنيسة في إيطاليا نصراً حاسماً في ظاهر الأمر.
ولم تثبت محكمة التحقيق قدمها في إنجلترا. نعم إن هنري الثاني حرص على إثبات تمسكه بدينه في أثناء نزاعه مع بكت بأن جلد واحداً وعشرين من الضالين وكواهم بالنار في أكسفورد عام 1266 (84). ولكننا لا نكاد نسمع عن ضلالة في إنجلترا قبل أيام ويكلف Wycalf. وفي ألمانيا ترعرعت محكمة التحقيق وأقدمت على أعمال جنونية زمناً قصيراً، ثم ماتت. فقد حدث في عام 1212 أن أحرق هنري أسقف أسترسبرج ثمانين ضالاً في يوم واحد، وكان معظمهم ولديين، وأعلن زعيمهم القس يوحنا عدم إيمانه بالغفران، وبالمطهر، وببقاء رجال الدين بلا زواج، وقال إن رجال الدين يجب إلا تكون لهم أملاك. وفي عام 1227 عين جريجوري التاسع كنراد Gonard قس ماربرج Marburg رئيساً لمحاكم التحقيق في ألمانيا وأمره ألا يكتفي بالقضاء على الضلال، بل أن يصلح أحوال رجال الدين بعد أن وصمهم البابا بالفساد، وقال إن فسادهم هو أهم أسباب ضعف الإيمان بين الناس. واضطلع كنراد بكلا الواجبين بمنتهى القسوة، وخير كل من اتهموا بالضلال بين واحدة من اثنتين: إما الاعتراف فالعقاب، أو الإنكار فالموت حرقاً. ولما أن سار في إصلاح رجال الدين على(16/105)
هذا النحو من الجد، انضم المتمسكون بدينهم والضالون بعضهم إلى بعض في مقاومته، وانتهى الأمر بأن قتله أصدقاء ضحاياه (1233)، وتولى الأساقفة الألمان أعمال محاكم التحقيق، وخففوا من غلوائها، وجعلوا إجراءاتها أقرب إلى العدالة من ذي قبل. وبقيت بعض الشيع الدينية، بعضها شيع ضالة وبعضها صوفية، بوهيميا وألمانيا، ومهدت السبيل إلى هوس Huss ولوثر Luther.
وبعد فإنا حين نصدر حكماً على محاكم التحقيق يجب أن ننظر إليها على ضوء عصر اعتاد الوحشية، ولعل عصرنا الحاضر الذي قتل في الحروب وأزهق من الأرواح البريئة دون أية محاكمة، أكثر من أمثالهم بين أيام قيصر ونابليون، أقدر من غيره على فهم هذه المحاكم. إن التعصب يلازم الإيمان القوي على الدوام، والتسامح لا ينشأ إلا حين يفقد الإيمان يقينه، أما اليقين فسيف بتار. ولقد أقر أفلاطون التعصب في "قوانينه"، وأقره المصلحون في القرن السادس عشر، وإن بعض من ينتقدون محكمة التحقيق ليدافعون عن أساليبها إذا جرت عليها الدول الحديثة. ولقد تضمنت قوانين كثير من الحكومات الأساليب التي سارت عليها محاكم التحقيق، ولعل ما يحدث من تعذيب المشتبه فيهم سراً في هذه الأيام يسير على نمط محاكم التحقيق أكثر مما يسير على نمط القانون الروماني. وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من 1227 إلى 1492، وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة القرون الأولى بعد المسيح، حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذاك. وإذا ما أسقطنا من حسابنا كل ما يطلب إلى المؤرخ من اعتدال في حكمه، وما يسمح به للمسيحي من تمسك بدينه. إذا أسقطنا من حسابنا هذا وذاك، فلا بد لنا أن نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لا نعرف لها نضيراً عند أي وحش من الوحوش.(16/106)
الباب التاسع والعشرون
الرهبان والإخوان
1095 - 1300
الفصل الأول
حياة الرهبنة
لعل الذي أنجى الكنيسة من محنتها لم يكن هو ما لجأت إليه محاكم التحقيق من تعذيب، بل كان نشأة طوائف جديدة من الرهبان انتزعت من أفواه الضالين دعوة التقشف الديني والفقر، وظلت قرن من الزمان تهب طوائف الرهبان، وغير الرهبان من رجال الدين، مثلا طيباً من الإخلاص المطهر للنفوس.
وكانت الأديرة قد تضاعف عددها في العصور المظلمة، وبلغت ذروتها في القرن العاشر المضرب الذي ساءت فيه الأحوال إلى أقصى حد، ثم أخذ عددها في النقصان حين أخذ النظام يسود الشئون الزمنية، وأخذ الرخاء في الازدياد: مثال ذلك أنه كان في فرنسا حوالي عام 1100 خمسمائة وثلاثة وأربعون ديراً، وفي عام 1250 كان فيها 287، وربما كان هذا النقص في عدد الأديرة قد عوضه ازدياد متوسط أعضائها، ولكن الأديرة التي كان رهبانها يبلغون المائة كان جد قليل وكان لا يزال من السنن المتبعة في القرن الثالث عشر عند الآباء الأتقياء أو ثقال الظهر أن يهبوا أطفالهم في سن السابعة أو ما بعدها إلى الأديرة "زلفى" إلى الله. وهكذا بدأ القديس تومس أكويناس حياته في الدير، وكانت طائفة الرهبان البندكتين ترى أن النذر الذي ينذره أبوا الطفل بأن يهباه إلى الدير(16/107)
لا يمكن الرجوع فيه (3). أما القديس برنار وطوائف الرهبان الجدد فكان من رأيهم أن لا ضير على الطفل الموهوب للدير إذا عاد إلى العالم متى بلغ سن الرشد (4)، وأصبح الراهب الراشد على مر الزمن في حاجة إلى إجازة بابوية إذا أراد أن يرجع في يمينه من غير لأن يرتكب ذلك إثما.
وكانت معظم الأديرة الغربية قبل عام 1098 تسير على نمط ما من أنماط طائفة الرهبان البندكتين بدرجات متفاوتة من الاستمساك بمبادئ هذه الطائفة فكانت تخصص للمبتدئ سنة يستطيع الطالب في أثنائها أن ينسحب من الدير بكامل حريته، وفي ذلك يقول الراهب قيصريوس الهيسترباخي Gaesarius of Heisterbach إن فارساً من الفرسان لنسحب من الدير "متذرعاً بتلك الحجة الدالة على الجبن وهي أنه يخشى الحشرات التي في ثياب (الرهبنة)، وذلك لأن ملابسنا الصوفية تأوي الكثير من الحشرات" (5). وكان الراهب يقضي من يومه أربع ساعات في الصلاة، وكانت وجبات الطعام قصيرة الأجل، وتقتصر عادة على الخضر، أما بقية اليوم فكانت تقضي في العمل، والقراءة، والتعليم، وأعمال المستشفيات، والصدقات، والراحة. ويحدثنا قيصريوس بأن ديره وزع أثناء القحط الذي حدث في عام 1197 ألفاً وخمسمائة صدقة من الطعام في يوم واحد و"حافظ على حياة كل من جاءنا من الفقراء حتى حل موعد الحصاد" (6) وذبح دير للسترسيين في وستفاليا جميع ضأنه وماشيته، ورهن كتبه وآنيته المقدسة، ليطعم الفقراء (7) وشاد الرهبان بعملهم وعمل أرقاء أرضهم أديرة، وكنائس صغيرة وكبيرة، وفلحوا ضياعاً واسعة، وجففوا مستنقعات، واستصلحوا أرض الغابات، ومارسوا مائة من الصناعات اليدوية، وعصروا أحسن النبيذ والجعة. ولقد دربت الأديرة آلافاً من الرجال الصالحين القادرين على الآداب والأنظمة الخلقية والذهنية، وإن كانت في ظاهر الأمر قد انتزعت الكثيرين منهم من(16/108)
العالم لتدفنهم في غمار الصلاحية الأنانية، ثم أعادتهم إليه مرة أخرى ليكونوا مستشارين للأساقفة، والبابوات والملوك ومديرين لأعمالهم (1).
وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان سخاء الشعب مصدراً لما كان ينغمس فيه الرهبان أحياناً من ترف. ولنضرب لذلك مثلا دير القديس ركوبيه St. Riquier، ولم يكن من أغنى الأديرة ولكنه كان له 117 تابعاً يملكون 2500 بيت في البلدة التي كان قائماً فيها، ويحصل من مستأجريها على العشرة آلاف دجاجة وعشرة آلاف ديك مخصى مسمن، وخمسة وسبعين ألف بيضة، وعلى نقدي معتدل لكل فرد ولكنه في مجموعة كبيرة (8). وثمة أديرة من هذا الدير ثراءاً وهي أديرة مونتي كسينو Monte Cassino، وكلوني Cluny وفلدا Fulda، والقديس جول St. Gall، والقديس دنيس St. Denis. وكان رؤساء الأديرة أمثال سوجر Suger رئيس القديس دنيس، وبطرس المبجل رئيس دير كلوني، وحتى سامسون Samson رئيس دير القديس إدمند في بيوري، كان هؤلاء الرؤساء سادة أقوياء عظماء أصحاب ثروات مادية طائلة وسلطان سياسي واجتماعي عظيم، وهذا هو سوجر بعد أن أطعم رهبانه وشاد كنيسة (7) فخمة كبرى تبقى لديه من الموارد المالية ما يمكنه من أن يتكفل
_________
(1) يقول عالم من كبار العلماء ليس في العادة ممن يشفقون على الكنيسة: " ليس أدل على كذب التهم التي يذيعها السفلة وهي أن رهبان العصور الوسطى كانوا نهمين، متلفين، مبذرين، فاسقين، ليس أدل على هذا الكذب من مئات السجلات، وقوائم الجرد التي بقيت حتى اليوم، والتي تشهد بما يتصف به الرهبان من عناية، وذكاء، وأمانة في إدارتهم أعمالهم. وإن ما قام به الرهبان من إصلاح اقتصادي لأوربا في العصور الوسطى ليشهد بأنهم كانوا بوجه عام ملاكاً وزراعاً أذكياء "تاريخ العصور الوسطى الاقتصادي ولاجتماعي لطمسن Thomson, Economic and Social History of the Middle Ages. 630، ويقول رينارد المتشكك: "إن أكمل أعمال المسيحية وأعظمها أثراً هي التي قامت بها طوائف الرهبان" طبعة مارك أوريل Marc Aorèle بباريس 627.(16/109)
بنصف نفقات إحدى الحملات الصليبية (9)، ولعل القديس برنار كان يعني سوجر حين كتب يقول: "لو أنني قلت إني لم أر رئيس دير يركب على رأس موكب من ستين فارساً أو أكثر لكنت من الكاذبين" (10). ولكن سوجر كان رئيس وزراء لا بد له أن يحيط نفسه بمظاهر الأبهة والفخامة ليؤثر بذلك في نفوس الشعب! أما في حياته الخاصة فكان يعيش معيشة التقشف والبساطة؛ في خلوة متواضعة مراعياً جميع قواعد طائفته بقدر ما تمكنه من ذلك واجباته العامة. وكان بطرس من المبجل رجلاً صالحاً ولكنه عجز رغم جهوده المتكررة عن أن يحول دون ازدياد الثروة الجماعية في الأديرة التابعة لدير كلوني - وهي التي كانت من قبل تتزعم حركة الإصلاح - إلى حد أمكن الرهبان من أن يعيشوا عيشة البطالة الموهنة للقوى وإن كانوا أفراداً لا يملكون شيئاً.
إن الأخلاق تفسد كلما زاد الثراء، وفطرة الإنسان تظهر كلما أمكنتها موارده من الظهور، وفي كل جماعة كبيرة أيا كان نوعها يوجد أفراد هم أقوى من إيمانهم. ولقد ظلت كثرة الرهبان مستمسكة بالقواعد التي ارتبطت بها وفيه لها، ولكن أقلية منهم أخذت تنظر إلى العالم وإلى شئون الجسم نظرة أكثر ليناً. وكان رئيس الدير في كثير من الأحيان يعينه سيد إقطاعي أو ملك ويختاره من طبقة تعودت الراحة، ولم يكن هؤلاء الرهبان يتقيدون بقيود الأديرة، فكانوا يستمتعون بالصيد، والقنص، وألعاب الفروسية، وينغمسون في السياسة، وسرت عدواهم إلى الرهبان أنفسهم. وها هو ذا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis يصور لنا حياة رئيس دير إفشام Evesham بصورة مروعة فيقول: "لم يكن أحد بمنجاة من فجوره"، وكان، جيرانه يخصون له ثمانية عشر ولداً، وكان لا بد من خلعه آخر الأمر (11). وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان، الأغنياء، الأقوياء، هدفاً لسخرية الشعب وتشهير الأدباء، فكان أقسى ما كتب من الهجاء وأبعده عن المعقول وصفاً لرئيس دير(16/110)
بقلم ولتر ماب walter Map، (12) . ومن الأديرة ما اشتهر بطعامه الشهي وخمرة. على أننا يجب ألا ننكر على الرهبان قليلا من الهناء، وفي وسعنا أن ندرك مقدار مللهم من الخضر، واشتياقهم إلى اللحوم، ولا يسعنا إلا أن نعطف على ثرثرتهم، وشجارهم، ونومهم وقت الصلاة من حين إلى حين (13).
ولقد استخف الرهبان، وهم يقسمون بأن يبقوا عزاباً، بقوة الغريزة الجنسية التي يستثمرها مراراً وتكراراً ما يشاهدون من مناظر وأمثله من غير رجال الدين. ويروى قيصريوس الهيسترباخي قصة تتكرر كثيراً في العصور الوسطى، عن رئيس دير وراهب شاب خرجا راكبين معاً. ووقعت عينا الشاب على النساء للمرة الأولى فسأل رئيس الدير: "من هؤلاء؟ " فأجابه "هؤلاء شياطين" فرد عليه الراهب بقوله: "لقد كنت أظنهم أجمل من رأيت في حياتي كلها" (14). ويقول الزاهد بطرس داميان في آخر أيام حياته الورعة المريرة:
في وسعي وأنا الآن رجل طاعن في السن أن أنظر وأنا آمن إلى وجه ذابل مجعد لإمرأة عجوز شمطاء عمشاء العينيين. أما من هن أجمل منها وجهاً وأكثر زينة فإني أغمض طرفي عنهن وأحذرهن كما يحذر الصبيان النار. ويلاه أيها القلب المفجوع! - الذي لا يستطيع الاحتفاظ بأسرار الكتاب المقدس التي قرأتها من أولها إلى آخرها مائة مرة، ثم لا تنمحي منه صورة لم أرها إلا مرة واحدة (15).
وكانت الفضيلة تبدو لبعض الرهبان كأنها صراع نفساني بين المرأة والمسيح ولم يكن تشهير بالنساء إلا جهود يبذلونها لإماتة شعورهن بمفاتنهن، كما كانت أحلامهم الصالحة النقية في بعض الأحيان يرطبها رضاب الشهوة، وكثيراً ما كانوا يعبرون عن رؤاهم القدسية الروحية بعبارات مستعارة من العشق الآدمي (1). وكانت قصائد أوفد من الأشعار المحبوبة في بعض الأديرة،
_________
(1) وأنا لتجد هذا بعينه في أشعار الصوفية المسلمين. (المترجم)(16/111)
ولم تكن مؤلفاته في فن الحب بأقل منها تداولاً بين الرهبان (17). وكانت التماثيل المقامة في بعض الكنائس الكبرى، والنقوش المحفورة في أثاثها، بل الرسوم المصورة في بعض الكتب المقدسة نفسها، تمثل عبث الرهبان والراهبات - تمثل خنازير في ثياب الرهبان، وأثواب الدير بارزة فوق أعضاء التذكير المنتصبة، والراهبات يعشن مع الشياطين (18). ويمثل نقش بارز فوق مدخل يوم الحشر في كنيسة ريمس شيطاناً يجر الرجال الآثمين إلى الجحيم، ومن بينهم أسقف على رأسه تاج الأسقفية. وقد سمح رجال الكنيسة في العصور الوسطى - ولعلهم كانوا من غير الرهبان الذين يحسدون هؤلاء على ما هم فيه من نعيم - سمحوا بأن تبقى هذه الرسوم الهزليه في أماكنها، ولكن رجال الدين. هذه الأيام رأوا من الخير إزالة الكثرة الغالبة منها. ولقد كانت الكنيسة نفسها أقسى من وجه النقد إلى آثام رجالها، وقامت طائفة متتابعة من المصلحين الدينيين تبذل ما وسعها من الجهد لكي تعيد الرهبان ورؤساء الأديرة إلى المثل العليا التي جاء بها المسيح.(16/112)
الفصل الثاني
القديس برنار
عمت العالم المسيحي في أواخر القرن الحادي عشر، وفي نفس الوقت الذي تطهرت فيه البابوية، وامتلأت القلوب تحمساً للحرب الصليبية الأولى، حركة من الإصلاح الذاتي تحسنت بسببها أحوال رجال الدين غير الرهبان، وقامت في أثنائها من الرهبان جديدة أخذت نفسها بقواعد الأوغسطيين والبندكتيين الصارمة. فقد حدث في وقت غير معروف قبل عام 1039 أن أسس القديس يوحنا جلبيرتس St. John Galbertus (19) طائفة من الفلمبروزا Vallombrosa في " الوادي الظليل" المسمى الاسم في إيطاليا، وبدأ فيه نظام الإخوة العلمانيين الذي دعائمه فيما بعد طوائف الرهبان المتسولين. وأهاب المجمع المقدس الذي عقد في عام 1059 برجال الدين الذين يقتسمون أعمال الكنيسة ومواردها أن يعيشوا جماعة، وأن تكون أملاكهم مشاعة بيتهم كما كان شأن الرسل الأولين. ولم يستجب بعضهم إلى هذا النداء وبقوا "كهنة علمانيين"، واستجاب له كثيرون منهم، واتبعوا قاعدة رهبانية يعزونها إلى القديس أوغسطين، وكونوا من أنفسهم جماعات شبه رهبانية تعرف. مجموعها باسم "الكهنة الأوغسطيين أو الأوسطيين Austins (1) . وأنشأ القديس برونو St. Bruno الكرلوني في عام 1084، من بعد أن رفض أن يكون رئيس أساقفة ريمس، طائفة الكرثوزيين Corthusians، وذلك بأن أسس ديراً في
_________
(1) يجب ألا يخلط بينهم وبين الإخوان الأوغسطيين أو الأوسطيين الذين أنشأهم الزهاد في تسكانيا عام 1256.(16/113)
بقعة منعزلة تدعى كارتريز Chartreuse في جبال الألب بالقرب من جرينوبل Grenoble، وأنشأ غيره من الأتقياء الصالحين وحدات كرثوزية في أماكن منعزلة بعد أن سئموا ما يسود العالم من نزاع وما ينصف به رجال الدين من تهاون. وكان كل راهب في هذه الأماكن يعمل، ويطعم، وينام، في خلوته الخاصة المنعزلة، ويعيش على الخبز واللبن، ويلبس ثياباً من شعر الخيل، ويكاد يلازم الصمت على الدوام. وكانوا يجتمعون معاً ثلاث مرات كل أسبوع للقيام بمراسيم القداس، وصلاة الغروب، وصلاة منتصف الليل، وفي أيام الآحاد، والأعياد ينطلقون في الحديث ويطعمون جماعة. وكانت هذه الطائفة أشد طوائف الرهبان صرامة، وظلت قرون كاملة تأخذ نفسها بقواعدها الأصلية وفيه لها أشد الوفاء.
وأنشأ ربروت المولسميسى Robert of Molesmes في عام 1098 بيت رهبنة جديد في مكان بري يدعى ستو Citeaux قريب من ديجون Djion، وذلك بعد أن أعيته الحيل لإصلاح أديرة البندكتين المتفرقة التي كان هو رئيساً عليها، واشتق من لفظ سيتو اسم الرهبان السترسيين كما اشتق من لفظ كارتريز اسم الرهبان الكرثوزيين. وأعاد ستيفن هاردنج من دورسسترشير Stephen Harding of Dorsestershire تنظيم هذا الدير ووسعه، وأنشأ له عدة فروع، ووضع عهد الحب Carta caritatis ليضمن به التعاون السلمي الموحد بين سيتو والبيوت السسترسية المختلفة وعادت مبادئ البندكيتين إلى كل ما كانت من صرامة، فكان الفقر التام أهم مستلزماتها، وامتنع الأعضاء عن أكل اللحم بكافة أنواعه، وحيل بينهم وبين التعليم، وحرم عليهم قرض الشعر، وأمروا أن يتجنبوا مظاهر الأبهة في الملابس الدينية، والآنية والأبنية. وحتم على كل راهب قوي الجسم أن يشترك في الأعمال اليدوية في الحدائق والمصانع التي تجعل الدير مستقلا عن العالم الخارجي، فلا يكون لراهب ما(16/114)
حجة في مغادرة ديره. وامتاز السسترسيون عن جميع الطوائف الأخرى، رهبانية كانت أو غير رهبانية، بنشاطهم وحذاقهم في الأعمال الزراعية، وأنشأوا مراكز جديدة لطائفتهم في الأصقاع غير المسكونة، وجففوا المستنقعات، وقطعوا أشجار الغياض والغابات ليفسحوا مكاناً للزراعة، وكان لهم فضل كبير في استعمار ألمانيا الشرقية وإصلاح الأضرار التي ألحقها وليم الفاتح بإنجلترا. وكان يساعد الرهبان السترسين في هذه الجهود التي يبذلونها في سبيل الحضارة إخوان علمانيون مهتدون نذروا أن يبقوا عزاباً، صامتين، أميين (20)، يعملون زراعاً أو خدماً نظير الطعام والملبس والمسكن (21).
وبعثت هذه الصرامة الخوف في قلوب من يريدون الانضمام إلى هذه الطائفة، ولهذا كان نمو هذه الجماعة القليلة بطيئاً، ولولا ما بعثه القديس برنار في الطائفة الجديدة من حماسة قوية لقضي عليها في مهدها.
ولد القديس برنار بالقرب من ديجون (1091) من أسرة عريقة تنتمي إلى طبقة الفرسان، وكان في صباه شاباً حيياً تقياً، يؤثر العزلة. ولم يجد راحة في العالم الدنيوي، فأعتزم أن يدخل الدير، وكأنما أراد الرفقة في الوحدة، فأخذ ينشر دعاوة قوية موفقة بين أهله وأصدقائه ليدخلوا معه دير سيتو. ويحدثنا المؤرخون أن الأمهات والفتيات الصالحات للزواج كانت ترتعد فرائضهن حين يقترب منهن، خشية أن يغري أبناءهن أو عشاقهن بالتزام العفة، ولكنه نجح على الرغم من دموعهن. ولما أن قبل في دير سيتو (1113) جاء معه بتسعة وعشرين ممن يريدون دخول الدير، ومنهم إخوة له، وأحد اعمامه، وطائفة من اصدقائه، وأفلح فيما بعد بإقناع أمه وأخته بأن تترهبا، وأقنع أباه أيضاً بأن يترهب بعد أن توعده بأنه "إن لم يكفر عن ذنوبه فسيحترق إلى أبد الدهر ... وينبعث منه الدخان والرائحة الكريهة" (22).
وأجبت استيفن هاردنج من فوره يتقوى برنار ونشاطه إعجاباً حمله على أن(16/115)
يرسله (1115) على رأس ثلاثة عشر راهباً لينشئ بيتاً سترسيا جديداً يكون هو رئيسه. واختار برنار لبيته الجديد بقعة شجرة على بعد تسعين ميلا من سيتو تعرف بإسم الوادي اللامع Claivaux أو Clara vallis، ولم يكن في هذا المكان مسكن ولم يكن فيه قط إنسان. وكان أول عمل قامت به الفئة المتآخية أن بنت بأدبها "ديرها" الأول- وهو بناء خشبي يحوي تحت سقف واحد مصلى، ومطعماً، وفي أعلاهما مكان للنوم يصلون إليه بسلم خشبي. وكانوا ينامون في صناديق نثرت عليها أوراق الأشجار، ولم تكن النوافذ أكبر من رأس الرجل ولم يكن على الأرض شيء. وكان طعامهم مقصوراً على الخضر إلا سمكة يطعمونها من حين إلى حين، ولم يكونوا يطعمون خبزاً أبيض، أو توابل، وقلما يشربون نبيذاً، فكان هؤلاء الرهبان الحريصون على دخول الجنة يأكلون كما يأكل الفلاسفة الراغبون في طول العمر. وكانوا يعدون الطعام بأيديهم، فيتناوبون طهوه. وكان من القواعد التي وضعها برنار ألا يبتاع الدير أملاكاً، وألا له إلا ما يوهب، وكان يرجو ألا يكون له من الأرض أكثر مما يستطيع الرهبان العمل فيه بأيديهم وبأدواتهم البسيطة. وأخذ برنار وإخوانه المتزايد عددهم يعملون في هذا الوادي الهادي في صمت وقناعة بعيدين عن " زوبعة العالم " يقطعون أشجار الغابة، ويزرعون، ويحصدون، ويصنعون أثاثهم بأيديهم، ويجتمعون في أوقات الصلاة ليرتلوا الأناشيد بغير أرغن، ويتلو مزامير اليوم وترانيمه. ويصفهم وليم السانت تيري William of St. Thierry بقوله: "كلما أمعنت النظر فيهم زاد يقيني أنهم أعظم أتباع المسيح كمالا ... لا ينقصون إلا قليلا عن الملائكة، ولكنهم أرقى كثيراً من الآدميين" (23). وانتشرت أنباء هذا السلام المسيحي وهذا الاستقلال الذاتي حتى كان في كليرفو قبل موت برنار سبعمائة من الرهبان. وما من شك في أنهم كانوا سعداء في ذلك المكان، لأن الذين بعثوا من هذه البيئة الشيوعية ليكونوا رؤساء أديرة، أو أساقفة،(16/116)
أو مستشارين، كانوا كلهم تقريباً يتوقون للعودة إليها، وكان برنار نفسه - وقد عرضت عليه الكنيسة أرقى مناصبها، وذهب إلى أراضي كثيرة بناء على طلبها - يحن دائماً للعودة إلى صومعته في كليرفو ويقول سأبقى بكليرفو "حتى تسيل عيني، وحتى يواري جسدي في كليرفو بجوار أجساد الفقراء".
وكان رجلا متوسط الذكاء، ثابت اليقين، ماضي العزيمة، متناسق الصفات الخلقية، ولم يكن يعني بالعلم ولا بالفلسفة لأنه يحس أن عقل الإنسان وهو جزء من الكون متناه في الصغر عاجز عن الحكم على الكون، لا يستطيع الإدعاء بأنه يفهمه، وكان يدهش من كبرياء الفلاسفة السخيف وهم ينطقون بهذرهم عن طبيعة الكون، وأصله، ومصيره. وقد هاله ما يراه أبلار من تحكيم العقل في الدين، وقاوم هذه النزعة العقلية لأنها تجديف وقحة. وكان يفضل أن يمشي في ضياء معجزات الوحي غير سائل أو متشكك، مفضلاً هذا عن محاولة فهم العالم. وكان من رأيه أن الكتاب المقدس هو كلام الله، وإلا كانت هذه الحياة في رأيه بيداء من الشك الحالك الظلام، وكلما أوغل الدعوة إلى هذا اليمان الشبيه بإيمان الأطفال، ازداد يقينه بأن هذا هو الطرق السوي. ولم أن ما جاءه أحد رهبانه واعترف له في رهبة وفزع أنه لا يستطيع الإيمان بقدرة القس على أن يحول خبز القربان إلى جسم المسيح ودمه، لم يلمه برنار على ما قال، وأمره مع ذلك أن يشترك في العشاء الرباني، وقال له: " اذهب واشترك فيه بإيماني أنا"، ويؤكد لنا الرواة أن إيمان برنار فاض على المتشكك وأنجى روحه (25) وكان في وسع برنار أن يكره ويطارد حتى الموت، أو ما يقرب من الموت، الضالين أمثال أبلار أو آرنلد البريشيائي لأنهم أضعفوا كنيسة تبدو له رغم أخطائها وعيوبها مطية المسيح نفسها، وكما كان في وسعه أن يحب برقة لا تكاد تقل عن رقة العذراء التي كان يعبدها بغيرة منقطعة النظير. ورأى يوماً لصاً يساق إلى المشنقة فشفع له عند كونت شمبانيا ووعده أن يوقع عليه عقاباً أقسى من الموت(16/117)
الذي لا يقاسيه إلا لحظة وجيزة (26). وكان يعظ الملوك والباباوات، ولكنه يكون أكثر رضاً عن نفسه حين يعظ الفلاحين والرعاة في واديه وكان يتسامح في أخطائهم، ويهدهم بما يضربه لهم بنفسه من مثل صالح، وينال حبهم الصامت ويبادلهم حباً بحب. ووصل في تقواه إلى حد الزهد المنهك للقوة، وقد أكثر من الصوم حتى اضطر رئيسه في سيتو أن يأمره بتناول الطعام. وظل ثمانية وثلاثين عاماً يعيش في صومعة واحدة ضيقة في كليرفو، على فراش من ورق الشجر، وليس فيها مقعد إلا حفرة في الجدار (27) وكانت طيبات العالم جميعها وما فيه من أسباب الراحة، تبدو له وكأنها لاشيء إذا قيست إلى التفكير في المسيح ووعده. وكتب وهو في هذه النشوة عدة ترانيم غاية في البساطة والرقة الأخاذة بمجامع القلوب:
أيها المسيح يا صاحب الذكرى الحلوة،
هب القلب البهجة الحقة،
إن أحلى من الشهد ومن الأشياء جميعها
مشهده الحلو،
وليس في كل ما يغنى شيء أجمل من ذكر عيسى أبن الله
ولا فيما يسمع شيء أحسن وقعاً على الأذن منه
ولا فيما يفكر فيه العقل أحلى منه.
أي عيسى يأمل التائبين
مارق قلبك على المتسولين!
وما أقربك لطالبيك!
ترى ماذا تكون لمن يلقوك؟
وقلما كان يعني بغير الجمال الروحي رغم إدراكه جمال اللفظ، فكان يغطي(16/118)
عينيه خشية أن تسرفا في الاستمتاع الحسي بجمال بحيرات سويسرا (29). وكان ديره عارياً من جميع الزينة عدا صورة المسيح مصلوباً، وكان يلوم دير كلوني لكثرة ما ينفقه من المال في بناء الأديرة التابعة له وزينها، ويقول في هذا: "إن الكنيسة تتلألأ جدرانها وتغل يدها عن فقرائها، وتطلى حجارتها بالذهب وتترك أبناءها عراة، وتفتن عيون الأغنياء بالفضة التي تأخذها من البائسين" (30) وكان يشكو من أن دير القديس دنيس العظيم غاص بالفرسان المتكبرين المدرعين بدل العباد السذج، ويسميه: " حامية عسكرية، ومدرسة الشيطان، ومعشش اللصوص" (31) وتأثر سوجر بهذا اللوم، فأصلح عادات كنيسته ورهبانه، وعاش حتى استحق ثناء برنار.
ولم يكن إصلاح الأديرة الذي سطح ضياؤه من كليرفو، ورفع مستوى رجال الدين بترقية رهبان برنار إلى مراتب الأساقفة ورؤساء الأساقفة، لم يكن هذا إلا بعض ما أحدثه ذلك الرجل، الذي لم يكن يطلب شيئاً غير الخبز، من الأثر في جميع الطبقات وفي خلال نصف القرن الذي عاشه. وجاء لزيارته الأمير هنري الفرنسي أخو الملك وتحدث إليه برنار، وقبل أن ينقضي اليوم كان هنري راهباً يغسل الصحاف في كليرفو (32). وقد استطاع بعظاته - وقد أوشكت لفصاحتها وجزالة لفظها أن تكون شعراً - أن يؤثر في نفوس كل من سمعه، كما استطاع برسائله - وهي آيات خالدة في الدعوة الحماسة الحارة - أن يؤثر في المجالس، والأساقفة، والبابوات، والملوك، وأمكنه باتصاله الشخصي أن يشكل سياستي الكنيسة والدولة. وأبى أن يكون أكثر من رئيس دير، ولكنه رفع البابوات إلى عروشهم وأنزلهم عنها، ولم يكن الناس يستمعون إلى خبر من الأخبار بإجلال وخشوع أكثر مما يستمعون بهما إليه.
وقد خرج من صومعته ليقوم بنحو اثنتي عشرة مهمة دبلوماسية عالية، كانت في العادة بناء على طلب الكنيسة ولما أن اختارت طائفتان متنازعتان(16/119)
أنكليتس الثاني وإنوسنت الثاني للجلوس على كرسي البابوية (1130) أيد برنار إنوسنت، ولما استولى أنكليتس على روما دخل برنار إيطاليا وأثار بقوة شخصيته وخطبه الحماسية مدن لمبارديا لتأييد إنوسنت، وسكرت الجموع بخطبه وتقاه فانكبت عليه تقبل قدميه ومزقت مئزره إرباً اتخذتها مخلفات مقدسة تورثها من بعدها. وأقبل عليه المرضى في ميلان، وأعلن المؤمنون المصابون بالصرع والشلل وغيرهما من الأمراض أنهم شفوا من أمراضهم بلمسه. ولما عاد إلى كليرفو بعد انتصاراته الدبلوماسية جاءته جموع الفلاحين من الحقول والرعاة من أعالي التلال، يطلبون إليه أن يباركهم، فلما تلقوا منه هذه البركة عادوا إلى كدحهم مرفوعي الرأس راضين.
وقبل أن يتوفى برنار في عام 1153 كان عدد أديرة السسترسيين قد زاد من ثلاثين ديراً في عام 1134 (وهي السنة التي مات فيها استيفن هاردنج) إلى 343 ديراً وانضم إلى هذه الطائفة عدد كبير من الناس متأثرين بتقواه وقوته، فلم يحل عام 1300 حتى كان عدد أفرادها ستين ألفا يقيمون في 693 ديراً. ونشأت طوائف أخرى من الأديرة في القرن الثاني عشر، فأنشأ روبرت الأبرسولي Robert of Abrissol حوالي عام 1100 طائفة الفنتفرول Fontevroult في أنجو، وفي عام 1120 تخلى القديس نربير Norbert عن ثروة عظيمة آلت إليه وأنشأ طائفة "رهبان المرعى الموعود" (1) النظامية في بريمنتريه Premontre بالقرب من ليون Leon. وفي عام 1131 أنشأ القديس جلبرت طائفة
_________
(1) Premonstrateusian وتسمى أيضا طائفة النربيرتين نسبة إلى منشئها. أما تسميتها بطائفة المرعى الموعود فسببها كما يقول نربير أن المكان الذي نشئوا فيه قد حدد له في رؤيا ظهرت له وهو في غاية كوسي Coucy بالقرب من ليون Leon في مقاطعة ايسن Aisne. المترجم(16/120)
السمبرنجهام Sempringham الجلبرتيين الإنجليز على غرار طائفة فنترفول. وفي عام 1150 سار بعض الزهاد الفلسطينيين على سنة القديس باسيلي وانتشروا في جميع أنحاء فلسطين. ولما استولى المسلمون على فلسطين هاجر هؤلاء الرهبان "رهبان الكرمل" إلى قبرص، وصقلية، وفرنسا وإنجلترا. وفي عام 1198 صدق إنوسنت الثالث على قانون طائفة الرهبان "الثالوثيين Trinitarians"، وحضهم على افتداء المسيحيين الذين وقعوا أسرى في أيدي المسلمين. وكانت هذه الطوائف الجديدة مشعلا أضاء ظلمات الكنيسة المسيحية.
وأخذت حركة الإصلاح في الأديرة التي بلغت ذروتها على يد القديس برنار تضعف خلال القرن الثاني. فقد كانت الطوائف الحديثة النشأة تحافظ على مبادئها الصارمة بإخلاص معقول، غير أنه لم يكن من المستطاع أن يوجد الكثيرون من الناس الذين يستطيعون الصبر على هذا النظام الصارم في ذلك العهد السريع الخطى، فأثرى السسترسيون- ومنهم أتباع برنار نفسه في كليرفو- على مر الزمن بما انهال عليهم من هدايا ذوي الآمال، واستطاع الرهبان بفضل الأعيان الموقوفة من (التائبين) أن يضيفوا إلى طعامهم اللحم وكثيراً من النبيذ (33)، وعهدوا بجميع الأعمال اليدوية إلى أخوانهم العلمانيين، ولما مضت أربع سنين على موت برنار ابتاعوا عدداً من الأرقاء المسلمين (34) وكانت لهم تجارة واسعة تدر عليهم أرباحاً طائلة في منتجات صناعاتهم المشاعة، وأثاروا حقد نقابات أرباب الحرف لأنهم كانوا معفين من العوائد المفروضة على نقل البضائع (35). ولما ضعف إيمان الناس على أثر إخفاق الحملات الصليبية قل عدد الطلاب الجدد وانحطت بسبب هذا الضعف أخلاق جميع طوائف الرهبان،(16/121)
ولكن المثل الأعلى القديم القاضي بأن يحيا الرهبان كما كان يحيا الرسل حياة شيوعية خالية من الملك الفردي لم يمت، بل بقي في نفوس الآلاف من الناس الاعتقاد الراسخ أن من واجب المسيحي الصادق أن يبتعد عن الثروة والسلطان. وأن يحافظ أشد المحافظة على السلام. ثم ظهر في تلال أمبريا Umbria بإيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر رجل أعاد تلك المثل العليا القديمة إلى سابق قوتها وذلك ببساطته، وطهارته، وتقواه، وحبه وأدهش الناس بهذه الصفات حتى ظنوا أن المسيح قد ولد من جديد.(16/122)
الفصل الثالث
القديس فرانسس (1)
ولد جوفيني ده برنادون Giovanni de Bernadone في أسيسي Assisi عام 1182. وكان أبوه سربيترو ده برنادون Ser Pietro de Bernadone من أثرياء التجار، ذا تجارة واسعة مع برو فانس، وفيها أحب فتاة فرنسية تدعى بيكا pica وتزوجها وجاء بها إلى أسيسي. ولما عاد من رحلة أخرى ووجد أنها أنجبت له ولداً بدل اسم الطفل وجعله فرانسسكو Francesco أي فرانس، ويبدو أن ذلك كان تحية لبيكا. وشب الطفل وترعرع في أجمل صقاع في إيطاليا، ولم يفقد قط حبه لمناظر أمبريا الجميلة وسمائها الصافية. وتعلم من والديه اللغتين الفرنسية والإيطالية، وأخذ لغة اللاتينية عن قس الأبرشية، ولم يكن له بعدئذ نصيب من التعليم المنظم، ولكنه سرعان ما انتظم في عمل أبيه، وأغضب سربيترو بما أظهره من قدرة على صرف المال تفوق قدرته على كسبه، فقد كان أغنى شباب البلدة وأسخاهم يداً، يجتمع حوله أصدقاؤه يطعمون معه ويشربون ويغنون أغاني الشعراء الغزلين. وكان فرانس بين الفينة والفينة يرتدي حلة المنشدين الجاثلين المتعددة الألوان (36). وكان شاباً وسيما، أسود العينين، فاحم لون الشعر، صبوح، جميل الصوت. ويقول المترجمون الأولون له إنه لم تكن له قط صلة بالنساء، وإنه لم يعرف إلا امرأتين معرفة لا تتجاوز النظر
_________
(1) إن بعض ما كتب عن فرانسيس تاريخ صحيح وبعضه قصص. إذ كان بعض القصص من أروع الآيات الأدبية التي خلفتها العصور الوسطى فقد أثبتنا هذا البعض في الصفحات التالية ونبهنا القارئ إلى طبيعة هذه في كل مرة. وتقول هنا من بادئ الأمر أن معظم "زهيرات القديس فرانس Flovetti" و"مرآة الكمال Speculum Pertectiones من القصص الموضوعة. وعلى هذا النحو يجب أن يفسر ما نقتبسه من هذين الكتابين.(16/123)
إليهما (27)، ولكن هذا بلا ريب يظلم فرانس بعض الظلم. ولعله سمع من أبيه في تلك السنين التي يتشكل فيها خلقه شيئا عن الضالين الإلبجنسيين والولدنسيين في جنوبي فرنسا، وعن إنجيلهم الجديد إنجيل الدعوة إلى الفقر.
وحارب في عام 1202 في جيش أسيسي بروجيا Perugia، وأسر، وقضى في الأسرة سنة شغلها كلها بالتأمل العميق. وفي عام 1204 تطوع في جيش البابا إنوسنت الثالث. وبينما هو طريح الفراش في إسبوليتو ينتفض جسده من الحمى إذا خيل إليه أن صوتاً يناديه"لم تهجر الإله إلى الخادم، والأمير إلى تابعه؟ فسأل هو ذلك الصوت: "رباه ماذا تريدوني أن أفعل؟ " فأجابه الصوت: "عد إلى موطنك، وهناك سيقال لك ماذا تفعل" (28). فما كان منه إلا ترك الجيش وعاد إلى أسيسي، ومن ذلك الوقت أخذ اهتمامه بتجارة أبيه يقل واهتمامه بالدين يزيد. وكان بالقرب من أسيسي مصلى صغيرة للقديس دميان. وبيتاً كان فرانسس يصلي فيها ذات يوم من أيام شهر فبراير عام 1207 إذ خيل إليه أنه يسمع المسيح يتحدث إليه من المذبح، ويتقبل حياته وروحه قرباناً له. وأحس من تلك اللحظة أنه موهوب إلى حياة جديدة، فأعطى قس المصلى كل ما معه من المال وعاد إلى منزله. والتقى ذات يوم بشخص مصاب بالجذام ففر منه مشمئزاً، ثم لام نفسه لعدم إخلاصه للمسيح، وعاد أدراجه وأفرغ ما كان كيسه من النقود في يد المجذوم وقبل يده، ويقول لنا هو أن هذا العمل كان بداية عهد جديد في حياته الروحية (29). وأخذ من ذلك الحين يزور مساكن المجذومين ويتصدق عليهم.
وقضى بعد قليل من ذلك الحادث عدة أيام في المصلى أو بالقرب منها، ويبدو أنه لم يكن يأكل في تلك الأيام إلا القليل الذي لا يغني عن الجوع، فلما ظهر مرة أخرى في أسيسي كان جسمه قد ضعف واهزل، ولونه قد امتقع، وثيابه قد تمزقت، وعقله قد تحير، حتى أخذ الأطفال في الميدان العام يصيحون(16/124)
"بزو، بزو! pazzo! pazzo المجنون، المجنون! " وهناك عثر عليه أبوه، وسماه بالشاب الذي ذهب نصف عقله؛ وجره إلى منزله، وأغلق عليه حجرة ضيقة. ولما أطلقته أمه من حبسه عاد مسرعاً إلى المصلى، فحلق به أبوه الغاضب، وأنبه لتعرضه أسرته للسخرية، ولامه لأنه لم يفد قيها من المال الذي أنفقه على تربيته، وأمره أن يخرج من البلدة التي هو فيها. وكان فراسيس قد باع كل ممتلكاته الشخصية لينفق من ثمنها على المصلى، فلما سمع هذا القول من أبيه أعطاه ما كان معه من ثمنها، وقبله منه أبوه، ولكنه لم يعترف لوالده بحقه في أن يأمر شخصاً هو وقتئذ ملك للمسيح. ولما استدعى للمثول بين يدي محكمة الأسقف في ميدان القديسة مارياما جوري، مثل أمامها في خشوع وحوله جمع حاشد ينظر إليه. وقد خلد جيوتو هذا المنظر في صورة له ذات روعة. ووثق الأسقف بما قطعه على نفسه من وعد وأمره أن يتخلى عن جميع أملاكه. وآوى فرانسيس إلى حجرة في قصر الأسقفية، وما لبث أن عاد عارياً كما ولدته أمه، وألقى أمام الأسقف بثيابه المحزومة وما كان باقيا معه من نقود قليلة وقال: " لقد ظللت حتى هذه الساعة أدعو بيترو برنادون أبي، أما الآن فأحب أن أكون خادماً لله، لأني من هذه الساعة لن أنطق بغير "أبانا الذي في السموات" (40). وأخذ برنادون الثياب وغطى الأسقف فرنسس المرتجف بمئزره، وعاد فرانسس إلى مصلى القديس داميان، ونسج لنفسه ثوباً من أثواب النساك، وأخذ يسأل الناس طعامه من باب إلى باب، وشرع يبني بيديه المصلى المتصدعة، وجاء بعض أهل القرية يساعدونه، وكانوا يغنون جميعاً وهم يعملون.
وبينما كان يستمع إلى القداس في شهر فبراير من عام 1209 أثرت في نفسه العبارات التي كان القس يتلوها من تعاليم المسيح إلى الرسل: وفيما" أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السموات، أشفوا مرضى، طهروا برصاً(16/125)
أقيموا موتاً، أخرجوا شياطين، مجانا أخذتم مجاناً أعطوا، لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً في الطريق ولا ثوبين، ولا أحذية ولا عصا" (متى 10: 7 - 10).
وخيل إلى فرانسس أن المسيح نفسه هو الذي يتكلم وأنه يتكلم إليه مباشرة، وصمم على أن يطيع هذه الألفاظ وينفذها بنصها - أن يدعو إلى ملكوت السموات، وألا يفتني شيئاً، وأن يرجع إلى الوراء خلال المائتين والألف من الأعوام التي اختفت عن الناس صورة المسيح، وأن يعيد تشكيل حياته على غرار هذا المثل القدسي.
وهكذا وقف في ربيع ذك العام في ميدان أسيسي متحدياً سخرية الساخرين جميعها يدعو إلى إنجيل الفقر وإلى المسيح. واشمأزت نفسه مما كان سائداً في هذا العصر من سعي لكسب المال بالحق أو بالباطل، وروعة ما رآه من ترف بعض رجال الدين وأبهتهم، فأخذ يندد بالمال نفسه ويقول إنه هو الشيطان وهو اللعنة، وأمر أتباعه أن يجتنبوه كما الرجس (41). وأهاب بالرجال والنساء أن يبيعوا كل ما يملكون وأن يهبوا يجتنبوا ثمنه للفقراء. واستمعت إليه جماعات قليلة في دهشة وإعجاب، ولكن الكثرة مرت به وحسبته أبلها مفتوحاً بالمسيح، ولما قال له أسقف أسيسي الصالح: " يبدو لي أن طريقتك في الحياة من غير أن تملك شيئاً قاسية صعبة على النفس" أجابه فرانسس بقوله: "مولاي، إننا إذا كان لنا ملك احتجنا إلى الأسلحة للدفاع عنه" (42). وتأثرت به بعض النفوس، وعرض عليه اثنا عشر ممن تأثروا به أن يتبعوا تعاليمه ويسيروا على سننه، فرحب بهم، ولقنهم الفقرة السالفة الذكر من أقوال المسيح ليتخذوها رسالة وقاعدة يسيرون عليها، ونسجوا لأنفسهم ثياباً سمراء، وأقاموا لهم أكواخاً من أغصان الأشجار، ونبذوا هم وفرانسس عزلة الرهبان القديمة، فكانوا يخرجون كل يوم حفاة، ليس معهم من المال، يعظون الناس. وكانوا في بعض(16/126)
الأحيان يغيبون عدة أيام، وينامون في مخازن الدريس، أو مستشفيات المجذومين، أو تحت أبواب الكنائس، فإذا عادوا غسل فرانسس أقدامهم وقدم لهم الطعام.
وكانوا يحيون بعضهم البعض، ويحيون كل من يلتقون بهم في الطريق، التحية الشرقية القديمة: "سلام الله عليكم" ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد أطلق عليهم اسم "فرانسسكان"، فقد كانوا يسمون أنفسهم "الإخوان الصغار Minorities Fratres أو المينوريين Minores". ذلك أنهم كانوا إخواناً لا قساوسة، ومعنى كونهم صغاراً أنهم أصغر خدام المسيح شأناً، وأنهم لا يمارسون قط سلطاناً، بل يخضعون على الدوام لسلطان من هم أرقى منهم؛ فهم يخضعون لأقل القساوسة درجة، ويقبلون يد أي قسيس يلقونه، ولم يرسم إلا عدد قليل منهم في الجيل الأول من نشأتهم قساوسة، ولم يرق فرانسس نفسه إلى أكبر من مرتبة شماس، وكانوا في جماعتهم الصغيرة يخدم بعضهم بعضاً، ويشتغلون بالأعمال اليدوية، ولم يكونوا يسمحون بوجود متعطل منهم، أو يشجعون الدراسة العقلية بينهم، لأن فرانسس لم يكن يرى في المعلومات الزمنية أية فائدة غير تكديس الثروة أو الجري وراء السلطان: "وسيجد إخواني الذين تغويهم الرغب الرغبة في العلم أنهم صفر الأيادي في يوم المحنة" (43). وكان يسخر من المؤرخين الذين لا يقومون هم أنفسهم بعمل عظيم، ولكنهم يشرفون لأنهم يسجلون ما يقوم به غيرهم من جليل الأعمال (44). وقد سبق فرانسس قول جيتة إن العلم الذي يستخدمه في العمل" (45) ولم يكن واحد من الإخوان يمتلك كتاباً بما في ذلك كتاب الترتيل نفسه؛ وكانوا في عظاتهم يلجأون إلى الغناء كما يلجأون إلى الخطابة، بل كانوا يحذون حذو الشعراء المغنين الجائلين فيكونون مطربي الله (46).
وكان الإخوان أحياناً يُسخر منهم ويُضربون، وتُسرق منهم أثوابهم حتى الثوب الأخير. وقد أمر فرانسس ألا يبدو أية مقاومة. وكان المعتدون(16/127)
في كثير من الأحيان يدهشون من احتقار الإخوان للمجد والملك، وهو احتقار كان يبدو لهم فوق الطاقة البشرية، ولهذا كانوا يتقدمون إليهم يطلبون الصفح ويعيدون إليهم ما سرقوه (47). ولسنا نعرف هل هذا المثل الآتي المأخوذ من زهيرات القديس فرانسس تاريخ حق أو خيال، ولكنه في كلتا الحالتين يصور نشوة التقوى التي تسري في كل ما نسمعه عن القديس:
قال فرانسس في يوم من أيام الشتاء وهو سائر في طريقه من بروجيا يعاني الأمرين من برد الشتاء القارس: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار يضربون أحسن الأمثلة في الصلاح والتهذيب، ومع هذا فاكتب إليهم، ولا تتوان عن تعليمهم، أن البهجة الكاملة ليست في هذا". وبعد أن واصل فرانسس السير في طريقه بعض الشيء قال: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار قد ردوا البصر إلى المكفوفين، وقوموا المعوجين، وأخرجوا الشياطين، وأعادوا السمع إلى الصم، ومكنوا العرج من المشي المستقيم ... وأحيوا من قضوا في القبر أربعة أيام، ومع هذا فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك". ثم سار في طريقه قليلاً ثم صاح بأعلى صوته: "أيها الأخ ليو، لو أن الأخ الصغير عرف كل اللغات والعلوم، وجميع الكتب المقدسة حتى استطاع أن يكشف عن الأمور المستقبلة ويتنبأ بها، بل استطاع أكثر من هذا أن يكشف عن مخبآت الضمائر والنفوس- فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك" ... ومع هذا فقد سار بعدئذ قليلاً وصاح قائلاً: "أيها الأخ ليو، إن الأخ الصغير يحذق الوعظ إلى حد يستطيع معه أن يهدي الكفرة إلى دين المسيح- فاكتب: "ليس السرور في ذاك". ولما استمر هذا الطراز من الحديث ميلين كاملين سأله الأخ ليو: ... "أبي، بالله قل لي أين يوجد السرور الكامل؟ " فأجابه فرانسس بقوله: "حين نصل إلى كنيسة مارية الملائكة" (وكانت وقتئذ مصلى الفرانسسكان في أسيسي) يبللنا المطر، متجمدين من شدة البرد، ملطخين(16/128)
بالوحل، معذبين من شدة الجوع، وحين تدق الباب ويقبل البواب ثائراً ويقول: "من أنتما؟ " فتقول له: "نحن اثنان من إخوانك" فيرد علينا قائلاً: "إنكما كاذبان، بل أنتما وغدان تسيران في الطرق تخدعان العالم، وتختلسان صدقات الفقراء. اذهبا! " ثم يفتح لنا الباب، ويتركنا في خارجه نعاني آلام الجوع والبرد طوال الليل في المطر والثلج، فإذا ما تحملنا هذه القسوة صابرين ... من غير أن نشكر أو نحزن، ونعتقد في ذلة وشفقة أن الله هو الذي أنطق البواب بالسخرية منا - ألا أيها الأخ ليو، أكتب، هناك السرور الكامل! وإذا ما واصلنا دق الباب، وخرج هو وطردنا وهو غاضب، وسبنا ولطم خدودنا وقال لنا: "أبعد أيها اللصان السافلان! - فإذا ما تحملنا هذا صابرين يملأ فلبينا الحب والفرح فاكتب أيها الأخ ليو: هذا هو السرور الكامل! وإذا ما عضنا الجوع وآلمنا البرد فدفعنا الباب مرة اخرى ودعوناه بحب الله أن يفتح لنا ... فخرج بعصا كبيرة معقدة وقبض علينا من قلنسوتينا، وألقانا على الأرض، ودحرجنا على الثلج، ورض كل عظم من عظامنا بتلك العصا الثقيلة، فإذا ما فكرنا في آلام المسيح الرحيم، وتحملنا هذه الآلام كلها في صبر وسرور مدفوعين إليه بحب الله - فأكتب أيها الأخ ليو أن هنا لك وفي هذا يوجد السرور الكامل" (48).
وكانت ذكرى حياته المترفة الباكرة تبعث في نفوس شعوراً بالخطيئة يؤرقه ويقض مضجعة، وإذا كان لنا أن نصدق ما جاء في الزهيرات فأنه كان في بعض الأحيان يسائل نفسه في حيرة هل يغفر له الله ذنوبه؟ وثمة قصة مؤثرة تقول إنه الأيام الأولى من نشأة الطائفة حين لم يكن في وسعهم أن يجدوا كتاب صلوات يتلون منه أدعيتهم المقدسة، ارتحل فرانسس ورداً للتوبة، وأمر الأخ ليو أن يعيد بعده عبارات تتهم فرانسس بالخطيئة. وحاول ليون أن يعيد التهمة في كل جملة، ولكنه وجد أنه لم يكن يكرر التهمة، بل كان يقول بدلا منها(16/129)
إن "رحمة الله وسعت كل شيء" (49). وحدث في مرة أخرى، وكان فرانسس قد نقه تواً من الحمي، أن طلب أن يجر وهو عار من الثياب أمام الناس في سوق أسيسي وأن يلقى أحد الإخوان على وجهه صفحة من الرماد، ثم قال هو للحاضرين: "إنكم تعتقدون أني ولي صالح، ولكن أعترف لله ولكم أنني في ضعفي هذا أكلت لحماً وشربت مرق لحم" (50). وزاد ذلك القول يقين الناس بطهره وقداسته، ورووا أن أخا شاباً أبصر المسيح والعذراء يحدثانه، وكانوا يعزون له عدة معجزات، ويأتون إليه بمرضاهم ومن بهم "مس " ليشفيهم. وأصبحت صدقاته مضرب المثل وموضوع القصص، فلم يطيق أن يرى أحداً أفقر منه، وكثيراً ما كان يتصدق على من يمر به من الفقراء بالثوب الذي يلبسه حتى كان مريدوه يجدون من أصعب الصعاب أن يبقوه مكتسياً. وتقول مرآة الكمال التي هي في أكبر الظن من نسج الخيال (51):
وبينما هو عائد من سينا Siena إذ التقى في طريقه برجل فقير، فقال لزميل من الرهبان: "يجب أن نعيد هذا المئزر إلى صاحبه، لأنا لم نأخذه إلا عارية حتى نعثر على من هو أفقر منا ... وإنا إذا لم نعطه من هو أشد حاجة إليه منا عُدّ هذا منا سرقة".
وفاض حبه من الآدميين على الحيوان والنبات، وعلى الجماد نفسه. وتعزو إليه مرآة الكمال التي لم تثبت صحتها تسبيحاً للشمس يقول فيه:
حين تشرق الشمس في الصباح، يجب على كل إنسان أن يحمد الله الذي خلقها لننتفع بها .. وإذا جن الليل وجب على كل إنسان أن يسبح بحمد الله الذي أمدنا بأختنا النار التي تبصر بها أعيننا، لأننا جميعاً أشبه بالمكفوفين، وقد أضاء الله أعيننا بهذين الأخوين.
وكان يعجب بالنار إعجاباً يحمله على التردد في إطفاء شمعة، لأن النار قد(16/130)
تعارض في أن تطفأ. وكان قوى الإيمان بما بينه وبين كل كائن حي من أواشج القربى. وأراد أن "يتوسل إلى الإمبراطور" (فردريك الثاني الذي كان مولعاً بصيد الطير) "لكي يخبره بحق حبه لله ولي لأن يضع قانوناً خاصاً يحرم على أي إنسان أن يقبض على أخوتنا القبرات أو يقتلها، أو يلحق بها أذى ما، وأن يطلب رؤساء البلديات وعمد البلاد، وملاك القصور والقرى، إلى كل رجل أن ينثر الحب في خارج المدن والقصور في يوم عيد الميلاد من كل عام حتى تجد أخواتنا القبرات وغيرها من الطير ما تأكله" (52). والتقى مرة بشاب اقتنص بضع قمريات وسار بها إلى السوق. وأقتنع فرانس الشاب أن يعطيه إياها، وبنى القديسون عشوشاً لها "حتى تثمر وتتضاعف"، وأطاعت القمريات فأثمرت وتضاعفت أضعافاً مضاعفة، وعاشت بجوار الدير سعيدة بصداقة الرهبان، وكانت أحياناً تخطف الطعام من المائدة التي يطعم عليها أولئك الرهبان (53). ونسجت حول هذا الموضوع عشرات من الأقاصيص لتزينه وتجمله، منها واحدة تقول إن فرانس خطب في " أخواتي الصغار من الطير" وهو في طريقه من كانورا Cannora إلى بيفانا Bevagna، فنزلت إليه الطيور التي عاشت على الأشجار لتستمع إليه، وظلت ساكنة بينما كان فرانس يختم عظته:
أخواتي الصغر من الطير! ما أكثر ما أنتن مدينات به إلى الله خالقكن، ومن واجبكن أينما كنتن وأنى كنتن أن تحمدنه لأنه وهبكن حلة ثنائية هذا إنكن لا تزرعن، ولا تحصدن، والله يطعمكن ويهبكن الأنهار والعيون لتشربن مائها، ويهبكن الجبال والوديان لتأوين إليها، والأشجار الباسقة التي تبنين فيها أعشاشكن، وإذ كنتن لا تستطعن أن تغزلن أو تخطن فإن الله يكسوكن أنتن وأبناءكن ... فاحذرن إذن يا أخوتي الصغار أن ترتكبن ذنب الكفران بالنعمة، ولا تغفلن أبداً عن حمد الله (54).(16/131)
ويؤكد لتا الأخوان جيمس وماسيو أن الطيور كانت تنحني احتراماً لفرانس، وأنها لم تكن تبرح أماكنها حتى يباركها. والزهريات Fioretta التي نقلنا منها هذه القصة هي تبسيط باللغة الإيطالية لكتاب Actus Beati Francisci المكتوب باللغة اللاتينية (1323)، وهي اقرب إلى الأدب منها إلى التاريخ الحق، ولكنها تعد في مستوى أجمل مؤلفات عصر الإيمان وأعظمها متعة.
ولما قيل له إن إنشاء طائفة دينية جديدة يتطلب الحصول على إذن من البابا، سافر فرانسس ومريده الاثنا عشر إلى روما في عام 1210، وعرضوا طلبهم ومبادئهم على إنوسنت الثالث. فنصحهم البابا العضيم بلطف أن يؤجلوا مسألة الإنشاء الرسمي للطائفة الجديدة حتى يحين الوقت لاختبار مبادئهم اختباراً عمليا، وقال لهم: "أبنائي الأعزاء، إن حياتكم لتبدو لي أقسى مما تطيقون، نعم إني أرى أنكم شديدوا التحمس لمبادئكم ... ولكن من واجبي أن أفكر فيمن سيأتون بعدكم خشية أن يكون أسلوب حياتكم فوق ما يطيقون" (55). وأصر فرانسس على طلبه، وخضع له البابا آخر الأمر- خضعت القوة المتمثلة في شخص البابا إلى الإيمان الممثل في شخص فرانس-، وقص الإخوان شعورهم، وخضعوا لرجال السلطة الدينية، وحصلوا من البندكتين في مونت سياسيو Mt. Subasio القريب من أسيسي على مصلى القديسة ماري الملائكية St. Mary of the Angeles، وهي مصلى لا يزيد طولها عن عشرة أقدام، وقد بلغ من صغر مساحتها لأن أطلق عليها اسم بورتي نيكولا portiuncula- " أي الجزء الصغير". وبنى الإخوان لهم أكواخا حول المصلى، وكانت هذه الأكواخ أولى أديرة طائفة القديس فرانسس الأولى.
وانضم إلى الطائفة أعضاء جدد، ولم يقتصر الأمر على هذا، ولكن فتاة ثرية في الثامنة عشرة من عمرها هي كلارا ديي اسكفي Clara dei Sciffi طلبت(16/132)
إليه أن يأذن لها بإنشاء طائفة ثانية من طوائف القديس فرانسس خاصة بالنساء (1212). وابتهج القديس لهذا الطلب ابتهاج - فقد غادرت الفتاة بيتها ونذرت نفسها للفقر، والطهر، وأصبحت رئيسة دير فرنسيسى أقيم حول مصلى القديس دميان. ثم أنشئت طائفة ثالثة من طوائف القديس فرانسس- وهي الطائفة الثلاثية- من بين العلمانيين الذين لم يكونوا يرتبطون بقواعد القديس فرانسس كاملة، ولكنهم أرادوا أن يتبعوا هذه القواعد قدر المستطاع، وأن يعيشوا في "الدنيا"، ويساعدوا الطائفة الأولى والثانية بعملهم وصدقاتهم. وحملت الطوائف الفرنسيسية المطردة الزيادة إنجيلها إلى بلدان أمبريا (1211)، ثم حملته فيما بعد إلى غيرها من مقاطعات إيطاليا. ولم يكن هؤلاء الرهبان ينطقون بشىء عن الضلالة بل كانوا يعظون الناس عظات بسيطة في شئون الدين، ولم يكونوا يطلبون إلى المستمعين أن يأخذوا أنفسهم بالعفة، والفقر، والطاعة التي وهبوا هم أنفسهم لها، بل كانوا ينادونهم " خافوا الله وعظموه؛ وأثنوا عليه وسبحوه ... وتوبوا إليه واستغفروه ... فإنكم تعلمون أنا عما قليل ميتون ... تجنبوا الشر، وثابروا على الخير".
لقد طالما سمعت إيطاليا هذه الألفاظ من قبل، ولكنها قلما سمعتها من رجال أوتوا من الإخلاص البين مثل ما أوتي هؤلاء الرجال. وأقبل الناس زرافات ليستمعوا إلى مواعظهم، وعرفت قرية في أمبريا أن القديس فرانسس مقبل عليها، فخرجت على بكرة أبيها لتحييه بالأزهار، والأعلام، والأناشيد (56). ولما أقبل على سينا Siena وجد المدينة في حرب أهلية، فلما استمع الحزبان المتحاربان إلى مواعظه أقبلوا عليه خاضعين، وأنهوا نزاعهم طوعاً لأمر إلى حين (57). وكانت هذه الرحلات التبشيرية التي قام بها في إيطاليا هي التي أصيب فيها بالملاريا التي قضت على حياته في سن مبكرة.
بيد أن ما لقيه من النجاح في إيطاليا وجهله بالإسلام قد شجعاه على مواصلة(16/133)
العمل، فاعتزم أن يذهب إلى بلاد الشام ويدعو المسلمين والسلطان نفسه إلى اعتناق الدين المسيحي. ولهذا أبحر في عام 1212 من إحدى الثغور الإيطالية ولكن عاصفة بحرية قذفت بسفينته إلى شاطئ دلماشيا واضطرته أن يرجع إلى إيطاليا، غير أن إحدى الأقاصيص تقول إن "القديس فرانسس أدخل في دينة سلطان بابل" (58). وتقول قصة أخرى أكبر الظن أنها غير صادقة كسابقتها إنه سافر في ذلك العام نفسه إلى أسبانيا ليدخل المسلمين في دين المسيح، ولكنه حين وصل إليها أصيب بمرض شديد اضطر مريديه أن يعودوا به إلى أسيسي. وتروى قصة أخرى مشكوك في صحتها أنه جاء إلى مصر، وأنه مر بسلام في صفوف المسلمين الذي كان يقاوم الصليبيين عند دمياط، وعرض أن يخوض النار إذا وعده السلطان أن يعتنق هو وجنوده الدين المسيحي إن خرج من النار سالما، ورفض السلطان هذا العرض ولكنه أمر بأن يعد للقديس حرس بصحبه إلى معسكر المسيحيين. وروع فرانسس حين رأى ما أظهره جنود المسيح من وحشية وهم يذبحون السكان المسلمين حين تولى الصليبيون على دمياط (59)، فعاد إلى إيطاليا مريضاً محزونا، وأصيب وهو في مصر، فضلاً عن مرض الملاريا، برمد أوشك في مستقبل حياته أن يفقد بصره.
وأزداد أتباع للقديس في أثناء غيابه زيادة أسرع مما يستطيع معها السيطرة عليهم. ذلك أن شهرته جعلت الأتباع ينضمون إليه دون أن يفكروا في الأمر التفكير الواجب، فأخذ بعضهم يندمون على تسرعهم، وشكا البعض الآخر من صرامة مبادئ الطائفة، فنزل فرانسس عن بعض القواعد وهو كاره وما من شك كذلك في أن انتشار الطائفة التي انقسمت إلى عدة بيوت منتشرة في أنحاء أمبريا قد تطلب مهارة إدارية وكياسة لا قبل له بهما لشدة انهماكه في مبادئه الصوفية. من ذلك ما يروى أن راهبا اغتاب زميلا له فأمره فرانسس أن يأكل قطعة من روث حمار حتى لا يحلو الخبث في لسانه من بعد. وصدع(16/134)
الراهب بالأمر ولكن زملاءه هالهم العقاب أكثر مما هالتهم الجريمة (60). وتخلى فرانسس في عام 1220 عن زعامة الطائفة، وأمر أتباعه لأن يختاروا لها غيره مرشداً عاماً؛ وارتضى فيما بعد أن يكون راهباً بسيطاً. لكنه أزعجه بعد عام من ذلك الوقت ما رآه من استمرار التراخي في إطاعة المبادئ الأولى (1210) فوضع للطائفة قواعد جديدة - هي "الهد" الذائع الصيت - أراد بها أن يتقيد أتباعه تقيداً تاماً بمراعاة يمين الفقر التي أقسموا أن يراعوها؛ ونهى الرهبان عن الانتقال من أكواخهم عند البورتي أنكولا إلى الأحياء الطيبة الهواء التي أنشأها لهم أهل المدينة، وعرض هذه القواعد على هونوريوس الثالث فأحالها إلى لجنة من المطاردة لمراجعتها، فلما خرجت من أيديهم كانت قد أخذت بنحو اثنتي عشرة قاعدة من قواعد فرانسس ويمثلها من التعديلات المحففة، وهكذا تحققت نبوءة إنوسنت الثالث.
وعمد فرانسس في ذلك الوقت على كره منه، وإطاعة لما أخذه به نفسه من خشوع، عمد إلى حياة قضى معظمها في التفكير، والعزلة،، والزهد، والصلاة. وجاءته شدة خشوعه وقوة خياله من حين إلى حين برؤى المسيح، أو مريم، أو الرسل. وفي عام 1224 غادر أسيسي مع ثلاثة من مريديه وخرج يقطع الجبال والسهول حتى وصل صومعة على جبل فرنا M. Verna بالقرب من شوزي chiusi، وأقام منفرداً في كوخ منعزل وراء أخدود عميق لا يسمع لأحد ليو أن يزوره، وأمره ألا يأتي مرتين كل يوم، وألا يجئ إذا لم يتلق رداً على ندائه بأنه قريب منه. وفي اليوم الرابع عشر من سبتمبر عام 1224 يوم عيد تمجيد الصليب المقدس، وبعد صوم طويل وليلة قضاها ساهراً مصلياً - في هذا اليوم خيل إلى فرانسس أنه رأى ملكاُ ينزل من السماء معه صورة للمسيح المصلوب، ولما توارى الشبح أحس بآلام غريبة وتبين زوائد لحمية في كفيه وظهرت يديه، وفي أسفل قدميه وأعلاهما، وفي جسمه كله شبيهة في أماكنها(16/135)
وفي لونها بالجروح التي أحدثتها في ظن الناس المسامير التي يعتقدون أنها دقت أطراف المسيح في الصليب والحربة التي نفذت في جنبه (1).
وعاد فرانسس إلى صومعته وإلى أسيسي، وشرع بعد عام من الظهور تلك القروح يفقد بصره، إلى أن كان يوماً في زيارة لدير القديسة كلارا ففقد بصره فقداناً تاما. ومرضته كلارا حتى عاد إليه نور عينيه واستبقته في دير القديس دميان شهراً من الزمان، وفيه ألف في يوم من أيام 1224 "تسبيحه الشمس" بالنثر الإيطالي الموزون، ولعله ألفها وهو في نشوة الفرح أيام النقاهة من مرض عينيه (62):
رباه يا ذا الخير والجلال والسلطان الأعظم،
إليك الحمد. والمجد، والتكريم، وكل البركات،
انك أنت وحدك يا ذا الجلال خليق بها
وما من أحد يليق به أن يذكرك.
إليك الحمد يا رب أنت وجميع مخلوقاتك.
وأكثر ما يكون ذلك الحمد لأخينا الشمس
الذي يهبنا النهار ويضيؤنا به
والشمس جميلة ساطعة ذات روعة،
بينها وبينك يا ذا الجلال بعض الشبه،
تسبح بحمدك يارب قمر السماء ونجومها،
فقد خلقتها في السماء صافية، ثمينة، جميلة
_________
(1) قيل إنه ربما كان سبب هذه الفقاقيع هو الملاريا الخبيثة. ومما هو معروف أن هذا المرض يحدث نزيفاً في الجلد من الدم الأرجواني، لعدم معرفة القوم وقتئذ بوسائل العلاج الحديثة.(16/136)
تسبح بحمدك يا رب الرياح، والهواء، والسحب، والأجواء كلها،
الطيب منها وغير الطيب، وهي التي تهب بها القوت لمخلوقاتك.
تسبح بحمدك يا رب أختنا المياه
ذات النفع العظيم والتواضع الجم، الثمينة النقية.
تسبح بحمدك يا رب أختنا النار
التي أضاءت بها دجى الليل،
وهي جميلة؛ ومبتهجة، وشديدة وقوية:
تسبح بحمدك يا رب أختنا وأمنا الأرض،
التي تمدنا بالغذاء وتسيطر علينا،
وتخرج لنا الفاكهة المختلفة الأشكال والأزهار
والأعشاب ذات الألوان.
يسبح بحمدك من يعفون عن الناس حبا فيك،
ويحتملون آلام المرض والمحن،
طوبى لمن يحتملونها في هدوء،
لأنك أنت يا العظمة ستضع على رؤوسهم التيجان.
ورأى بعض الأطباء في ريتي أن يمروا بقضيب من الحديد المتوهج على جبهته ليعالجوا بذلك مرض عينيه بعد أن مسحوهما "ببول غلام لم يباشر قط النساء" ويقال إن فرانسس نادى: "الأخ النار: إنك جميل فوق كل المخلوقات، فمن على في هذه الساعة، وانك لتعلم مقدار حبي العظيم الدائم لك"، وقال فيما بعد أنه لم يحس قط بألم. واسترد من قوة البصر ما يكفيه لأن يبدأ رحلة أخرى يعظ فيها الناس، ولكن متاعب السفر لم تلبث أن أنهكت قواه، وأقعده داء الملاريا ومرض الاستسقاء، فعادوا به إلى أسيسي.(16/137)
واضطر رغم احتجاجه إلى، الرقاد في قصر الأسقفية، وسأل الطبيب أن يصدقه الخبر، فقيل له: انه لا يكاد يبقى حيا بعد الخريف، وأدهش جميع الحاضرين إذ بدأ يغني، ثم أضاف، على حد قولهم، مقطوعة أخرى إلى تسبيحة الشمس:
تسبح بحمدك يا رب يا من مننت علينا بأختنا ميْتَة الجسد التي لا ينجو منها بشر.
فوا أسفي على من يموتون وهم آثمون
وطوبى لمن هم طوع إرادتك المقدسة،
لأن الميتة الثانية لن ينالهم منها أذى.
ويقال؛ انه ندم في تلك الأيام الأخير على زهده لأنه "أساء به إلى أخيه الجسم" (64). ولما خرج الأسقف من عنده أقنع فرانسس الرهبان - أن ينقلوه إلى بورتي أنكولا، وفيها أملى وصيته، وهي وصية تجمع بين التواضع والقوة، فقد أمر أتباعه أن يقنعوا "بالكنائس الفقيرة المهجورة"، وإلا يقيموا في بيوت لا تتفق مع الأيمان التي أقسموها بأن يظلوا فقراء، وأن يسلموا للأسقف كل ضال أو ناكث للعهد من رهبان الطائفة وألا يغيروا قط مبادئهم (65).
وأدركته في اليوم الثالث من اشهر أكتوبر من عام 1226 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره، وكان في اللحظة الأخيرة ينشد أحد المزامير. وبعد سنتين من وفاته سمته الكنيسة قديسا. وكان زعيمان آخران يسيطران على هذا العصر القوي الحركة هما إنوسنت الثالث وفردريك الثاني. فأما إنوسنت فقد رفع مقام الكنيسة إلى أعلى ذروة مجدها، ومن هذه الذروة هوت بعد عقد واحد. ولسنا ننكر أن فرانسس قد بالغ في فضائل الفقر والجهل،(16/138)
ولكنه بعث القوة في الدين المسيحي بأن أعاد إليه روح المسيح. وأولو العلم وحدهم هم الذين يعرفون اليوم البابا والإمبراطور، أما القديس الساذج فيتغلغل حبه في قلوب الملايين من بني الإنسان.
وبلغ عدد أعضاء الطائفة التي أنشأها خمسة آلاف عضو عند وفاته وانتشرت في بلاد المجر، وألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا، وأسبانيا. وكانت هي الدعامة التي تعتمد عليها الكنيسة في عودة شمالي إيطاليا من الضلالة إلى الكثلكة. ولم تقبل إنجيل الفقر والأمية الذي كانت تنادي به إلا أقلية صغيرة، لأن أوربا أصرت على التخبط في نية الثروة، والعلم، والفلسفة، والشك المثير للنفوس. وفي هذه الأثناء (1230) تحلل رهبان الطائفة مرة أخرى من القواعد أن يبقوا زمناً طويلا، وأن يبقوا بالعدد المطلوب، محتفظين بذلك المستوى العالي من الزهد الذي لا يكاد يقبله عاقل، والذي عجل منية فرانسس. فلما خفت وطأة قواعد الطائفة بعض الشيء زاد عدد الإخوان الصغار حتى بلغ قبل عام 1280 نحو مائتي ألف راهب يقيمون في ثمانية آلاف دير، وحتى أصبحوا من كبار الواعظين، وحتى حملوا رجال الدين بما ضربوه لهم من الأمثلة على أن يقوموا بالوعظ والإرشاد، وكانت هذه العادة حتى ذلك الوقت مقصورة على الأساقفة دون غيرهم. وخرج من بينهم قديسون أمثال القديس برنردينو السينائي Bernardino of Siena والقديس أنطوني البدوائي Antony of Padua، كما قام من بينهم علماء مثل روجر بيكن، وفلاسفة مثل دن اسكوتس Dun Scotus ومعلمون مثل أسكندر الهاليس Alexander of Hales، وأضحى بعضهم عمالاً لمحاكم التحقيق، وارتقى بعضهم إلى كراسي الأساقفة، ورؤساء الأساقفة، والبابوية، وقام كثيرون منهم بمغامرات تبشيرية في بلاد أجنبية بعيدة. وتوالت عليهم الهبات من الأنقياء الصالحين، وتعلم بعض زعمائهم، مثل الأخ إلياس،(16/139)
حب الترف، وأقام لذكرى فرانسس تلك الباسلكا الرائعة التي لا تزال تتوج تل أسيسي وإن كان مؤسس الطائفة قد حرم إقامة الكنائس الكبرى. ولقد كانت رسوم سيمابيو Cimabue وجيتو Giotto في هذه الباسلكا أول نتاج ذلك الأثر العظيم الخالد الذي كان للقديس فرانسس ولتاريخه وقصصه في الفن الإيطالي.
واحتج كثيرون من أبناء الطائفة على التحلل من بعض قواعد فرانسس وآووا إلى صوامع أو أديرة صغيرة في جبال الأبنين يعيشون فيها زهاداً "روحيين" أو"متحمسين"، أما بقية الفرنسيسيين فقد آثروا لأديرة الرحبة. وكان الروحيون يقولون إن المسيح والحواريين لم يكن لهم متاع، ووافقهم على هذا القديس بونا فنتورا Bonaventura، وصدق البابا نقولاس الثالث على ذلك الرأي في عام 1279، غير أن البابا يوحنا الثاني والعشرين أعلن في عام 1323 أنه رأى خاطئ، ومن ذلك الحين عد الروحيون الذين أصروا على الدعوة إلى هذا المبدأ من الضالين، وقمعت حركتهم. وبعد مائة عام من وفاة فرانسس حرقت محاكم التحقيق اتباعه عند أعمدة التحريق.(16/140)
الفصل الرابع
القديس دمنيك
يظلم الناس دمنيك حين يقولون إن اسمه يوحي بمحاكم التحقيق، ذلك أن دمنيك لم يكن هو الذي أنشأ تلك المحاكم، ولم يكن هو الذي تلقى عليه تبعة ما لجأت إليه من إرهاب؛ فقد كان نشاطه مقصوراً على هداية الناس بالقدوة والموعظة الحسنة. وكان أقوى من فرانسس شكيمة، ولكنه كان يجله ويراه أعظم منه قداسة، وحباه فرانسس بحبه جزاء له على هذه الصفات الطيبة. وكان عمل الرجلين في جوهره واحداً: فكلاهما نظم طائفة عظيمة من الرجال لا يعملون إلى نجاة أنفسهم بطريق العزلة، بل بالتبشير بين المسيحيين وغير المسيحيين. وأخذ كلاهما من الضالين أعظم أسلحتهم إقناعا - وهو مدح الفقر والقيام بالوعظ، وكان لهما معاً فضل إنقاذ الكنيسة.
ولد ومنجو دي جزمان Domingo de Guzman في قلعة رويجا من أعماله قشتالة (1170) ونشأ رعاية عم له من القساوسة، فكان رجلاً من آلاف الرجال الذين تمكنت المسيحية من نفوسهم، وعمرت بها قلوبهم. ويقال إنه لما نزل القحط بمدينة بلنسية، باع جميع متاعه، وفيه كتبه الثمينة ليطعم يثمنها فقراء المدينة. وأصبح قساً أغسطينياً نظامياً في كنيسة أسما Osma، وصحب أسقفها في عام 1201 في بعثة تبشيرية إلى طولوز، وكانت وقتئذ مركز الفئة الألبجنسية الضالة. وكان مضيفهما نفسه ألبجنسيا، وقد يكون من الأقاصيص الموضوعة أن دمينك هداه إلى الدين القويم في أثناء الليل. وأوحى إليه نصح الأسقف، والمثل الذي له بعض الضالين، فعمد إلى حياة الفقر الاختياري.(16/141)
ومشى حافي القدمين، وبذل ما يستطيع من الجهد ليعيد الناس بطريق السلم إلى حظيرة الدين القويم. والتقى في منبلييه بثلاثة من مندوبي البابا - أرنلد Arnold وراؤل Raoul وبطرس الكاسلنوي Pictro of Castelnaw. وروع حين شهد ثيابهم الغالية وترفهم، وعزا هذا إلى ما أقرا به من عجز عن كفاح الضلالة، وأخذ عن كفاح الضلالة، وأخذ يؤنبهم بجرأة لا تقل عن جرأة أنبياء العبرانيين: "إن الضالين لا يردون الناس عن دينهم ويضمونهم إليهم بما يظهرون من القوة والأبهة، ولا بموكب الخدم والحشم؛ وإنما يردونهم بالوعظ الحماسي، وبالخشوع المماثل لخشوع الحواريين، وبالتقشف، والاستمساك بالدين" (66) ويقال إن المندوبين استحوا من عملهم، فصرفوا حاشيتهم وخلعوا نعالهم.
وأقام دمنيك في لانجويدك عشر سنين (1205 - 1216)، يعظ الناس بكل ما أوتي من غيرة وحماسة. ولم يذكر اسمه في حاث ذي صلة بالاضطهاد البدني إلا ما قيل من أنه أنجى أحد الضالين من اللهب عند عمود الإحراق (67). ويطلق عليه أتبتعه تفاخراً به اسم - persecutor Haere ticorum - وليس معنى هذا حتما أنه مضطهد الضالين بل قد يكون معناه أنه مطاردهم فحسب. وجمع حوله طائفة من الوعاظ، بلغ من تأثيرهم أن اعترف البابا هونوريوس الثالث (1216) بأن "الإخوان الوعاظ" طائفة جديدة، وصدق على دستورهم الذي وضعه لهم دمنيك، واتخذ الرجل مركزه الرئيسي في روما، وأخذ يجمع الأنصار ويعلمهم، ويبث فيهم الحماسة التي كادت تبلغ حد التعصب، ثم بعثهم يجوسون خلال أوربا حتى كيف Kiev من جهة الشرق، والبلاد الأجنبية، ليهدوا المسيحيين والكفار إلى دين المسيح. ولما عقد أول اجتماع للدمنيكيين في بولونيا عام 1220؛ أقنع دمنيك أتباعه بأن يوافقوا بأجماع الآراء على دستور الفقر المطلق .. ومات في هذه البلدة بعد عام من ذلك الاجتماع.
وانتشر الدمنيكيون، كما انتشر الفرنسيسيون، كل مكان فكانوا(16/142)
إخواناً، متسولين، جوالين. ويصف مايثوياريس في عام 1240 طائفتهم في إنجلترا بقوله:
إنهم قوم شديدو الاقتصاد في طعامهم ولباسهم، لا يقتنون ذهباً ولا فضة ولا شيئاً ما لأنفسهم، يطوفون بالمدن، والبلدان، والقرى، يدعون إلى الإنجيل ... ويعيشون جماعات من عشرة أو سبعة ... لا يفكرون في الغد، ولا يحتفظون بشي ما للصباح التالي ... يعطون الفقراء من فورهم كل ما بقى لديهم من الطعام الذي يتصدق بها الناس عليهم. يسيرون حفاة، ولا يحتفظون إلا بالإنجيل، وينامون بثيابهم على الحصر ويتخذون الحجارة وسائد يضعونها تحت رؤوسهم (68).
واضطلعوا في أعمال محاكم التحقيق بدور نشيط لم يكن على الدوام مشوباً برقة القلب، وعينهم البابوات في مناصب رفيعة وأرسلوهم في بعثات دبلوماسية خطيرة، والتحقوا بالجامعات، ونبغ منهم رجلان جباران في الفلسفة المدرسية هما ألبرتس ماجنس وتومس أكويناس، وكانوا هم الذين أنقذوا الكنيسة من أرسطو بأن بدلوه رجلا مسيحياً. ولقد أحدثوا هم والفرنسيسيون، وإخوان الكرمل وأوستن ثورة في حياة الرهبنة، وذلك باختلاطهم بعامة الشعب كل يوم في أثناء الخدمات الدينية، وسموا الرهبنة في القرن الثالث عشر فوهبوها من القوة والجمال ما لم تستمتع بمثله قبل.
وإن النظرة الشاملة إلى تاريخ الرهبنة لا تؤيد إسراف علماء الأخلاق في مدحها ولا سخرية شانئها. وفي وسعنا أن بذكر أمثلة جمة من سوء السيرة بين الرهبان وهذه الأمثلة إنما تلفت أنظارنا لأنها الشواذ وليست القاعدة، وهل منا من بلغ من الطهر والصلاح درجة يحق له معها أن يتطلب من أية طائفة من الناس حياة تقية لا تشوبها أدنى شائبة؟ ولقد نجا الرهبان الذين بقوا مخلصين لأيمانهم-(16/143)
أي الذين عاشوا مغمورين في فقرهم، وعفتهم وتقواهم - نجا هؤلاء من الغيبة، ومن التاريخ، ذلك أن الفضيلة لا تنقل أخبارها، وأن القراء والمؤرخين يملون تكرارها. فنحن نسمع "صروح شامخة يملكها الرهبان الفرنسيسيون منذ عام 1249، وفي عام 1271 أبلغ روجر بيكن - الذي طالما تفرق سامعوه من حوله لشدة مغالاته - أبلغ هذا الراهب البابا أن " الطوائف الحديثة قد سقطت سقوطاً مروعاً من علياء كرامتها الأولى " (69). ولكن هذه ليست هي الصورة التي يصورها لنا الأخ سلمبين Salimbene في أخباره الصريحة الدقيقة (1288؟) فها هو ذا راهب فرنسيسي بتنقل بنا إلى ما وراء السجف إلى الحياة اليومية للطائفة التي ينتمي إليها. ولسنا ننكر أن في حياة أفرادها هفوات متفرقة، وأن فيها شيئاً من التنازع والتحاسد، ولكن جو من التواضع، والبساطة، والأخوة، والسلام يغمر هذه الحياة الشاقة المكبوتة (70). وإذا ما دخلت بين الفينة والفينة امرأة في هذه القصة، فكل ما لها فيها من أثر أنها تضفي مسحة من الرشاقة والحنان على حياة العزلة والضيق التي يحياها أولئك الرهبان. وها هو ذا مثل من ثرثرة الأخ سلمبين الصريحة.
كان في دير بولونيا شاب يسمى الأخ جويدو Guido اعتاد أن يغط في نومه غطيطاً عاليا لا يستطيع معه إنسان يبقى معه في نفس البيت ولهذا أمر أن ينام في سقيفة من الخشب والقش. ولكن هذا أيضا لم ينج منه الإخوان، لأن هزيم هذا الرعد الملعون كان يتردد صداه في جميع اتجاه الدير. ولهذا اجتمع القساوسة وذوو الرأي من الإخوان على بكرة أبيهم ... وأصدروا رسمياً أن يردوه إلى أمه التي خدعت الطائفة، لأنها كانت تعرف هذا كله عن ولدها فبل أن تضمه إلينا. ولكنه مع ذلك لم يرسل إلى أمه، وكان عدم إرسال بفعل الله ... ذلك أن الأخ نقولاس قال في نفسه: إن الغلام سيطرد لعيب طبيعي فيه، دون(16/144)
أن يرتكب هو نفسه ذنباً، فكان يدعو الصبي في كل يوم عند مطلع الفجر أن يأتي إليه ويخدمه في ساعة القداس، حتى إذا فرغ منه أمر الغلام أن يركع وراء المذبح يرجو أن ينال منه بعض البركة. وفي هذه الساعة يلمس الأخ نقولاس بيديه وجه الغلام وأنفه، ويدعو الله أن يمن عليه بنعمة الصحة. وجملة القول أن الغلام شفى فجأة من مرضه شفاء تاماً، ولم يسبب للإخوان بعدئذ متاعب أخرى. وأصبح من هذه الساعة ينام نوماً هادئاً سالما كما تنام الرغبة (1).
_________
(1) وتسمى أيضاً الفأرة النوامة وهي حيوان بين الفار والسنجاب dormouse. ( المترجم)(16/145)
الفصل الخامس
الراهبات
كانت العادات المسيحية المألوفة في المجتمعات المسيحية منذ أيام القديس بولس أن تهب بعض الأرامل وغيرهن من النساء الصالحات، أو اللاتي يعشن وحدهن، بعض أيامهن وثروتهن أو كل هذه الأيام والثروة إلى أعمال البر. ثم أخذت بعض النساء في القرن الرابع ينافسن الرهبان، فتركن شئون الدنيا وعشن عيشة دينية منفردات أو مجتمعات، ونذرن أنفسهن للفقر، والطهر، والطاعة، حتى إذا كان عام 530 أنشات أسكولاستيكا Scholastica توأمة القديس بندكت ديراً للنساء بالقرب من جبل كسينو Monte Cassino يسير على دستوره وتحت إشرافه، وأخذت أديرة النساء البندكتية من ذلك الحين تنتشر في أوربا، حتى كان عدد الراهبات البندكيات يضارع عدد الرهبان البندكتين. وافتتحت طائفة الرهبان السترسين أول دير للنساء في عام 1125، ثم افتتحت أشهر أديرتها وهودير بورت رويال Port Royal في عام 1204، ولم يحل عام 1300 حتى كان في أوربا 400 دير سترسي للنساء (72). وكانت معظم الراهبات اللاتي دخلن أديرة هذه الطوائف القديمة من الطبقات العليا (73)، وكثيراً ما كانت الأديرة ملاجئ للنساء اللاتي تضيق بهن بيوت أهلهن او اللاتي لم يكن يوائمهن أذواق هؤلاء الأهلين. ومن اجل هذا اضطر الإمبراطور مجوريان Majorian أن يحرم على الآباء التخلص من بناتهم الزائدات عن حاجتهم بإرغامهن على دخول الأديرة (74). وكان دخول أديرة النساء البندكتية يتطلب عادة بائنة، وان كانت الكنيسة قد حرمت جميع الهبات إلا الاختيارية منها (75). ولهذا(16/146)
كان في وسع رئيسة الدير أن تكون، كما كنت الرئيسة الوارد ذكرها في أشعار سر Chaucer، امرأة من أسرة عريقة، ذات تبعات كثيرة، تدير أملاكاً واسعة هي مصدر إيراد ديرها. وكانت الراهبات في تلك الأيام تسمى "السيدة" لا "الأخت".
وأحدث القديس فرانسس انقلاباً كبيراً في نظم أديرة النساء كما احدث انقلاباً في نظم أديرة الرجال، ولما أن أقبلت عليه القديسة كلارا Clara في عام 1212 وأبدت إليه رغبتها في أن تنشا للنساء طائفة من الراهبات كالتي أنساها هو للرجال، تغاضى عن النظم الكنيسة، وتلقى منها إيمانها، وإن لم يكن وقتئذ أكثر من شماس، وضمها إلى طائفة الرهبان الفرنسيسين وإذن لها أن تنشئ طائفة الكلاريات الفقيرات The poor Clares، وأيد إنوسنت الثالث، بما اعتاده من قدرة على خرق حرفية القوانين في سبيل روحها، هذا الإذن (1216). وجمعت القديسة كلارا حولها بعض النساء الصالحات اللاتي عشن معها عيشة فقيرة مشتركة، يغزلن وينسجن، ويعنين بالمرضى، ويوزعن الصدقات. ونسجت حولها القصص الخرافية التي لا تكاد تقل في تمجيدها عما نسج حول فرانسس نفسه، منها، على حد قولهم أحد الباباوات:
جاء إلى ديرها ليستمع إلى حديثها عن الأمور القدسية والسماوية ... وأمرت القديسة كلارا بأن تعد المائدة، ووضعت عليها أرغفة الخبز لكي يباركها الأب المقدس ... وركعت القديسة كلارا في خشوح عظيم، وسألته ان يتفضل فيبارك الخبز ... فأجابها الأب المقدس بقوله: " أيتها الأخت ياكلير Clare، يا أعظم النساء وفاءاً وإخلاصاً، إني أحب أن تباركي أنت هذا الخبز، وأن ترسمي فوقه علامة الصليب المقدس، صليب المسيح، الذي وهبت نفسك كاملة إليه". فأجابته القديسة كلارا بقولها: "مغفرة أيها الأب المقدس، لو أنني، وأنا المرأة الفقيرة الحقيرة، بلغت بي الجرأة أن أنطق بهذه البركة في حضرة خليفة المسيح لحق علي(16/147)
أشد اللوم". ورد عليها البابا قائلاً: "ولكيلا يعزى هذا العمل إلى غطرستك وجرأتك بل يعزى إلى فضيلة الطاعة منك، فإني آمرك، بحق ما يجب عليك من الطاعة المقدسة، أن تباركي .. أنت باسم الله هذا الخبز"، فلم تجد القديسة كلارا وقتئذ مناصاً من أن تبارك الخبز في الخشوع بعلامة الصليب الأقدس عملاً بواجب الطاعة المفروضة عليها. ومن أعجب الأشياء أن علامة الصليب ظهرت على جميع تلك الأرغفة مرسومة أجمل رسم. فلما رأى الأب المقدس هذه المعجزة، طعم من الخبز وغادر المكان وهو يحمد الله ويودع بركته مع القديسة كلارا (76).
وماتت كلارا في عام 1253، وما لبثت أن ضمت إلى القديسين والقديسات. ونظم الرهبان الفرنسيسيون في عدة أماكن مختلفة مثل هذه الطوائف الكلارسية، أو طوائف كلارا الفقيرة. وكذلك أنشأت طوائف الرهبان المتسولين - الدمنيكية، والأوغسطينية، والكرملية - طائفة ثانية من الراهبات، ولم يحل عام 1300 حتى كان عدد الراهبات في أوربا لا يقل عن عدد الرهبان. ونزعت أديرة الراهبات في ألمانيا نزعة صوفية شديدة، وفي فرنسا وإنجلترا كثيراً ما كانت ملاجئ لنساء الأسر الشريفة اللاتي "هدين" لترك شئون الدنيا، أو اللاتي أصابهن الهجر، أو الخيبة، أو الثكل. ويكشف دستور الناكسات Nacren Rwle ما كان يطلب إلى الراهبات الإنجليزيات أن يتصفن به في القرن الثالث عشر. ولربما كان عدد الأسقف بور Poor هو الذي وضع هذا الدستور لدير نسائي في ترانت Tarrant من أعمال دورستشير Dorsetshire. ويخيم هذا الدستور جوا قاتم من الحديث الطويل عن الخطيئة والنار، وبعض الذم التجديفي لجسم المرأة (77). ولكن نغمة من الإخلاص الجميل تخفف من وقع هذا القتام، وهو من اقدم نماذج النثر الإنجليزية وأنبلها (78).
وبعد فإن من السهل على الإنسان أن يجمع من عشرة قرون أمثلة رائعة(16/148)
من الفساد الخلقي المألوف. فقد دخلت الراهبات الأديرة على الرغم منهن (79) ووجد أن متاعب حياة التقى والصلاح، ولقد رأى ثيودور رئيس أساقفة كنتربي وإجبرت أسقف يورك من الواجب عليهما أن يحرما على رؤساء الأديرة، والقساوسة، والأساقفة غواية الراهبات (80). وكتب إيفيو Ivo أسقف تشارتر (1035 - 1115) يقول إن بعض راهبات دير القديسة فارا Fara يحترفن الدعارة، ويرسم أبلارا (1079 - 1142) صورة شبيهة بهذه الصورة لبعض الأديرة الفرنسية القائمة في أيامه، ووصف إنوسنت الثالث دير أجاثا Agatha بأنه ماخور انتشرت عدوى فساد الحياة فيه وسوء سمعته في جميع أنحاء الإقليم المجاور له (81). ويرسم ريجو Rigaud أسقف رون (1249) صورة طيبة بوجه عام للطوائف الدينية المنتشرة في أسقفيته، ولكنه يتحدث عن دير من أديرة النساء فيه ثلاث وثلاثون راهبة وثلاث أخوات من غير الراهبات وجدت منهن ثمان يحترفن الفسق أو يشتبه في إنهن يحترفنه، "ولا تكاد رئيسة الدير تبتعد عن الخمر ليلة واحدة" (82). وحاول بنيفاس الثامن (1300) أن يرقى بقواعد الآداب التقليدية في الأديرة فأمر بالتشديد في عزلة الراهبات عن العالم، ولمن أمره هذا لم يكن في الإمكان تنفيذه (83)، ولما جاء الأسقف ليودع هذا القرار في أحد أديرة النساء في أسقفية لنكلن Lincolin قذفت الراهبات به رأسه، وأقسمن أنهن لن يطعنه قط (84)، أكبر الظن ان هذه العزلة لم تكن مما نص عليه في قسمهن، ولم يكن لرئيسة الدير الواردة في أقاصيص تشوسر عمل تقوم به لأن الكنيسة حرمت على الراهبات أن يخرجن حتى للحج (85).
ولو أن التاريخ كان يعنى بذكر أمثلة الطاعة للقواعد المألوفة عنايته بذكر الأمثلة التي تخرق فيها هذه القواعد، لاستطعنا في اغلب الظن أن نذكر في مقابل كل زلة آثمة ألف مثل من الإخلاص والأمانة. ولقد كانت دساتير الأديرة في كثير من الحالات قاسية قسوة تخرجها عن طاقة البشر، وكانت خليقة(16/149)
بالخروج عليها. من ذلك أنه يتطلب إلى الراهبات الكرثوزيات، والسترسيات إن يلتزمن الصمت فلا يتكلمن إلا إذا لم يكن من الكلام بد - وذلك قيد شديد على الجنس اللطيف. وكانت الراهبات في العادة يقمن بجميع ما يحتجنه من أعمال التنظيف، والطبخ، والغسل، والخياطة، ويصنعن الملابس للراهبات، والفقراء، والأغطية التيلية للمذبح، وأثواب القسس، وكن ينسجن السجف، والأقمشة التي تزين بها الجدران، وينقشن عليها بأصابعهن الرقيقة، ونفوسهن الصابرة، نصف تاريخ العالم. وكن ينسجن المخطوطات ويزينها بالرسوم والحروف الكبيرة ويقبلن الأطفال للإقامة في الدير، ويعلمنهم الأدب، وقانون الصحة، والفنون المنزلية، وكانت كثيرات منهن يعملن ممرضات في المستشفيات، وكن يقمن في منتصف الليل لصلين ثم مرة أخرى قبل الفجر، ويتلون الصلوات الأخرى في ساعاتها المحددة. وكانت أيام كثيرة أيام صوم، لا يذقن فيها الطعام حتى تحين وجبة المساء.
وإنا لنأمل أن تكون هذه القواعد الشديدة قد خرقت أحياناً. نحن إذا ما رجعنا بعقولنا إلى القرون التسعة عشر التي عاشتها المسيحية، وإلى من فيها من الأبطال، والملوك، والقديسين، صعب علينا أن نحصي كثيرين من الرجال الذين اقتربوا من الكمال المسيحي كما اقتربت منه الراهبات، وما أكثر الأجيال التي سعدت بفضل حياتهن التي تفيض بالخشوع الهادئ والعمل في ابتهاج لخدمة بني الإنسان. ولو أن آثام التاريخ جميعها وزنت أمام فضائل أولئك النساء لرجحتها هذه الفضائل ولكفرت عن كل ما اقترفه الجنس البشري من ذنوب.(16/150)
الفصل السادس
المتصوفة
واستطاعت كثيرات من أولئك النساء أن تكن قديسات لأنهن أحسسن بالألوهية أقرب إليهن من أيديهن وأرجلهن. وقد تأثرت أخيلة الناس في العصور الوسطى بكل ما كان للألفاظ، والصور، والتماثيل، والحفلات، من قوة، بل تأثرت فوق هذا بلون الضوء ومقداره تأثراً جعل الرؤى غير الحسية تتوارد سراعاً على هذه الأخيلة، فكانت النفوس المؤمنة تحس أنها تخترق حدود الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. وكان العقل البشري نفسه بكل ما له من سلطان غامض خفي يبدو كأنه شئ خارق للطبيعة، وللأشياء الأرضية، وقريب بلا ريب من العقل الكلي الذي يسير مادة العالم ويكمن فيها - أو أنه صورة من هذا العقل الكلي غير واضحة المعالم. وعلى هذا فأن في مقدور ذروة العقل أن تمس أسفل عرش الله. وكان الصوفي الخاشع المتذلل الطموح يتحرق أملا في أن تسمو روحه غير المثقلة بالذنوب، والتي علت بالصلوات، بفضل الله ونعمته إلى الرؤى الطوباوية والصحبة الالهية، ولم يكن من المستطاع بلوغ هذه الرؤى عن طريق الحس، أو العقل، أو العلم، أو الفلسفة المقيدة بالزمان، وبالكثرة، وبالأرض، ولا يستطيع أن تصل إلى لب الكون وقوته، ووحدته. وكانت المشكلة التي يواجهها الصوفي هي أن يطهر النفس التي هي عضو داخلي للإدراك الروحي، وإن يوسع أفقها وحبها حتى تشمل أقصى ما يمكن أن تشمله، فإذا تم لها ذلك رأت بقوة البصر الواضحة المجردة من الجسم معالم الكونية، والخلد، والألوهية، ثم عادت، وكأنها عادت من نفي طويل المدى، إلى الوحدة مع الله الذي افترقت منه حين ولدت عقاباً لها. ألم يعد المسيح ذوي القلوب الطاهرة أن يروا الله؟(16/151)
ولهذا ظهر الصوفيون في كل عصر، وفي كل دين، وفي كل أرض، وامتلأت بهم المسيحية اليونانية رغم ما خلفته اليونان من تراث عقلي، وكان القديس أوغسطين ينبوع التصوف الذي نهل منه الغرب، وكانت اعترافاته بمثابة عودة الروح من الكائنات المخلوقة إلى الله. وقلما استطاع إنسان أن يطول تحدثه إلى الذات العلية كما طال تحدث أوغسطين إليها. وقد ناصر القديس أنسلم السياسي والقديس برنار المنظم، ذلك الاتصال الصوفي ليقاوم به النزعة العقلية التي كان يقول بها روسلن Roscelin وأبلار. ولما أخرج وليم الشمووي Wiliam of Champeaux من باريس بقوة منطق أبلار أنشأ في إحدى ضواحيها (1108) دير القديس فكتور St. Victor الأوغسطيني ليكون مدرسة للاهوات؛ وتجاهل خليفتاه هيو Hugh ورتشرد Richard خطر الفلسفة الناشئة الداهم، فلم يقيما قواعد الدين على الحجة والبرهان، بل أقاماها على الإحساس الصوفي بالحضرة الإلهية. فقد كان هيو (المتوفى عام 1141) يرى في كل صورة من صور الخلق رمزاً قدسياً، وكان رتشرد (المتوفى عام 1173). يرفض المنطق والعلم، ويؤثر "القلب" على "الرأس" على طريقة بسكال، ويصف بمنطق العالم القدير السمو الصوفي للروح إلى مقام الذات العلية.
وأحالت عواطف إيطاليا القوية هذه النزعة الصوفية ثورة متأججة. وحدث أن تاقت نفس يواقيم الفلورائي Joachim of Flora - أو جيوفني دي يواقيمي دي فيوري Giovanni dei Joacchimi di Fiori - أحد نبلاء كلابريا Calabria إلى رؤية فلسطين، وتأثرت بما شاهده في طريقه من بؤس الناس، فصرف حاشيته، وواصل سيره كما يسير الحاج الذليل. وتقول إحدى القصص إنه قضى في سنة من السنين الصوم الكبير كله على جبل طابور، وأن هالة عظيمة تبدت له في يوم عيد القيامة، وملأته نوراً إليها فهم به لساعته كل ما جاء في الكتاب المقدس، وكل ما في المستقبل والماضي. فلما عاد إلى كلابريا أصبح راهبا وقسا سسترسيا.(16/152)
وتاقت نفسه إلى الزهد والتقشف، وآوى إلى صومعة. التّف حوله عدد من الأتباع والمريدين، وألف منهم طائفة جديدة من رهبان فلورا. وصدق سلستين الثالث Calesstine، 111 على ما وضعه لهم من دستور للفقر والصلاة. وبعث إلى إنوسنت في عام 1200 بطائفة من مؤلفاته قال إنه كتبها بوحي من الله، ولكنه رغم هذا يضعها بين البابا ليبحثها ويبدي رأيه فيها. ثم مات بعد سنتين من ذلك الوقت.
وكان أساس كتابه هو النظرية الأوغسطينية - التي كانت تلقى قبولا عظيما لدى جميع المتمسكين بالدين القويم - بأن هناك توافقاً رمزياً بين الحوادث الواردة في العهد القديم وفي تاريخ العالم المسيحي من مولد المسيح إلى قيام مملكة السماء على الأرض. وقسم يواقيم تاريخ البشر ثلاث مراحل: كانت أولاها حكم الله الأب وانتهت بمولد المسيح، والثانية يحكمها الابن وتستمر وفقاً للحساب السري 1260 سنة، والثالثة تحت حكم الروح القدس، ويسبقها عهد من الاضطراب، والحرب، والفقر، ولساد الكنيسة، ويؤذن بحلولها قيام طائفة جديدة من الرهبان تطهر الكنيسة وتحقق طوبى عالمية من السلام والعدالة والسعادة (86).
وصدق آلاف من المسيحيين، ومنهم رجال ذوو مناصب عالية في الكنيسة، ما قاله يواقيم عن الوحي الذي أوحى إليه، وأخذوا يتطلعون والأمل يعمر قلوبهم إلى الميلاد الثاني في عام 1260. وبعثت تعاليم يواقيم الشجاعة في قلوب الفرنسيسين الروحيين الذين كانوا يوقنون بأنهم هم الطائفة الجديدة؛ ولما أن أعلنت الكنيسة أنهم خارجون على القانون واصلوا دعوتهم بما أذاعوه من الكتابات التي تحمل اسمه. وظهرت في عام 1254 مجموعة من أهم مؤلفات يواقيم بعنوان الإنجيل الخالد وعليه تعليق يقول: إن بابا من البابوات ملوثا ببيع المناصب الكهنوتية سيكون(16/153)
خاتم العهد الثاني، وإن الحاجة إلى العشاء الرباني وإلى القساوسة تنتهي في العهد الثالث حين يسود الحب العالمي. وحرمت الكنيسة قراءة هذا الكتاب، وحكم على راهب فرانسيسي يدعى جراردو دا بورجا Gherardo da Borga ظن أنه هو مؤلفه بالسجن مدى الحياة، ولكن الكتاب ظل يتداول سرا، وكان له أثر بالغ في التفكير الصوفي وفي تفكير الطوائف الضالة في إيطاليا وفرنسا من أيام فرانسس إلى أيام دانتي - الذي جعل ليواقيم مكاناً في الجنة.
تأججت حول بروصة في عام 1259 سورة جنونية من الندم والتوبة من الذنوب واكتسحت شمالي إيطاليا، ولعل الباعث عليها كان هو التحمس للشديد في ترقب حلول مملكة السماء. وأخذ آلاف من القادمين من مختلف الطبقات والأعمار يسيرون في مواكب غير منتظمة وليس عليهم من الثياب إلا ما يستر حقويهم، يبكون ويرجون الله الرحمة، ويضربون أنفسهم بسياط من الجلد. وانضم إلى هذه المواكب اللصوص والمرابون وردوا ما كسبوا من المال الحرام، متأثرين بعدوى الندم، فكانوا يركعون أمام أقارب ضحاياهم ويطلبون إليهم أن يقتلوهم، وأطلق سراح المسجونين، وطلب إلى المنفيين أن يعودوا إلى أوطانهم، وزالت العداوات بين الناس وصفت القلوب. وسرت هذه الحركة من ألمانيا إلى بوهيميا، ودخيل إلى الناس وقتاً ما أن إيماناً جديداً صوفياً سيغمر أوربا بأجمعها متجاهلا الكنيسة ولكن فطرة الإنسان ما لبثت أن استعادت قوتها، فتأججت نار العداوة بين الناس مرة أخرى، وخبت نار تلك الثورة الجنونية، ثورة الجلد بالسياط واختفت في الأعماق النفسية التي خرجت منها (87).
وفي فلاندرز سارت حركة التصوف سيراً هادئاً متصلا. ذلك أن قساً من ليبج يدعى لامبير لي بيج Lambert le Beuge ( أي المتهتة) أنشأ على ضفاف نهر الموز Meuse في عام 1184 بيتاً للنساء اللاتي يردن أن يعشن معاً في(16/154)
جماعة صغيرة نصف شيوعية، دون أن يقسمن أيمان الرهبة، ويعلن أنفسهن بنسج الصوف وعمل المحزمات. وأنشئت للرجال طائفة أخرى من بيوت الله مماثلة لهذا البيت، وأطلق الرجال على أنفسهم اسم "البيجارد" ( Beghard) أي الرجال المتهتهين وعلى النساء اسم البجوين (أي المتهتهات). وكانت هذه الجماعات تندد بالكنيسة، كما يندد بها الولدنيون، لاقتنائها الأملاك، وسلكوا هم أنفسهم سبيل الفقر الاختياري. وظهرت في أجزبرج عام 2262 شيعة أخرى هي شيعة إخوان الروح الحر وثبتت أصولها في المدن القائمة على ضفاف نهر الراين. وكانت كلتا الحركتين تدعى أنها تتلقى الوحي الصوفي الذي يعفيها من سيطرة الكهنوت، بل يعفيها فوق ذلك من سيطرة الدولة والقانون الأخلاقي (88). وتضافرت الدولة والكنيسة على قمع الحركتين، فاندفعتا إلى العمل في الخفاء، وكانتا تظهران للعمل جهرة عدة مرات بأسماء جديدة، وكانتا من أسباب نشأة شيعة المنكرين للتعميد وغيرها من الشبع المتطرقة التي ظهرت في أيام الإصلاح الديني وممن بعثوا روح الحماسة في هذه الشيع.
وصارت ألمانيا أرض التصوف المحبوبة في بلاد الغرب، ففيها عاشت هلدجارد البنجنبه Hildegarde of Bingen (1099 - 1179) " سيبيلة الرين" The Sibyle of the Rhine كل حياتها البالغة اثنين وثمانين عاما، عدا عامين اثنين، راهبة بندكتية، واختتمتها رئيسة دير للنساء على روبرتسبرج Rupertsburg. وكانت مزيجاً غير مألوفة من حسن الإدارة والرؤى الخيالية، تقية ومتطرقة، شاعرة وعالمة، طبيبة وقديسة، وكانت تراسل البابوات والملوك، تكتب إليهم دائماً بنغمة صاحبة السلطان الملهم، في لغة لاتينية رصينة قوية قوة لغة الرجال. وقد نشرت عدة كتب في الرؤى الدينية ( Scivias) ادعت فيها معاونة الذات العلية، وكان رجال الدين يغضبون حين يستمعون إليها لأن حديثها الملهم كان نقداً لاذعا لثراء الكنيسة وفسادها. قالت هلدجارد بعبارات تفيض بالآمال الخالدة.(16/155)
إن للعدالة الإلهية ساعتها المحدودة ... وإن أحكام الله لتوشك أن تنفذ؛ وستنهار الإمبراطورية والبابوية معاً بعد أن تترديا في هوة الإلحاد ... ولكن أمة جديدة ستقوم على أنقاضهما .. وستضم الوثنيين، واليهود، وعباد الدنيا؛ والكفرة جميعاً، وسيسود العالم ربيع الدهر والسلام بعد مولده الجديد، ويعود الملائكة وهم واثقون إلى السكنى بين الآدميين (89).
وبعد مائة عام من ذلك الوقت أثارت إليصابات النورنجائية (1208 - 1231) بلاد المجر بحياتها القصيرة التي قضتها زاهدة متبتلة. وإليصابات هذه ابنة الملك اندرو Andrew وقد تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها بأمير ألماني، وكانت أُماً في الرابعة عشرة، أرملة في سن العشرين. ونهب أخو زوجها مالها وطردها في فقر مدقع، فلجأت إلى حياة الورع والتجوال، ووهبت حياتها للفقراء، وكانت تؤوي النساء المصابات بالجذام، وتغسل جروحهن. وكانت وهي الأخرى تتراءى لها رؤى سماوية، ولكنها لم تكن تذيعها، ولم تدع لنفسها أية قوة خارقة ولما التقت بكنراد الماربرجى Canrad of Marburge عضو محاكم التحقيق الشرس افتتنت افتتاناً وبيلاً بقسوته في إخلاصه للدين، فأضحت جاريته المطيعة، يضربها إذا حادت قيد شعرة عما يعتقد انه الصلاح التقي، فكانت تخضع له خضوع الأذلاء، وتفرض على نفسها ضروباً شديدة من التقشف عجلت منيتها ولما تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها (90). وبلغ من اشتهارها بالتقوى أن من كانوا يسيرون في جنازتها من اتباعها المخلصين الذين كادت تذهب النشوة بعقولهم قصوا شعر رأسها، وقطعوا أذنيها، وحلمتي ثديها ليتخذوها مخلفات مقدسة (91). ودخلت إليصابات أخرى الدير النسائي البندكتي في شنو Schnou القريبة من بنجن وهي في الثانية عشر من عمرها (1141)،(16/156)
وعاشت فيه حتى توفيت في عام 1163. وكان ضعفها الجسمي، وإسرافها في زهدها يسببان لها نوبات من الإغماء، تتلقى فيها إلهاماً من مختلف الأولياء المتوفين، كلها تقريباً من المعادين للكنيسة. ومما قاله لها ملكها الحارس "إن كرامة الله قد ذبلت، وإن رئيس الكنيسة لمريض، وإن أعضائها لأموات ... أي ملوك الأرض! إن ظلمكم الصارخ قد ارتفع دويه حتى وصل إلى أنا نفسي" (92).
وعلت موجة التصوف أواخر ذلك العهد في ألمانيا، وكان من متصوفيها ميستر إكهارت Meister Eckhart الذي وُلد حوالي علم 1260، والذي نضجت آراؤه الصوفية 1326، والذي حوكم وتوفي عام 1327. وواصل تلميذاه سوسو Suso وتولر Tauler دعوته إلى وحدة الوجود الصوفية، وكانت هذه التقاليد، تقاليد التقوى غير الكنيسة، أحد الينابيع التي فاضت منها حركة الإصلاح الديني.
وكانت الكنيسة في العادة تحمل هؤلاء المتصوفين وتقبلهم في كنفها. نعم إنها لم تكن تسمح بان يخرج أحد خروجاً خطيراً عن قواعدها الرسمية، أو تجيز الفردية الفوضوية التي تدعو إليها بعض الشيع الدينية، ولكنها كانت ترضى عن قول الصوفية إنهم يتصلون اتصالاً مباشراً بالله عز وجل وتستمع في غير غضب إلى تنديد الأولياء بأخطائها الآدمية. وكان كثيرون من رجال الدين، ومنهم ذوو المناصب العالية في الكنيسة، يعطفون على ناقديهم، ويعترفون بما في الكنيسة من عيوب، ويتمنون أن لو استطاعوا هم أيضاً أن يتخلوا عن الأدوات والأعمال التي يضطلعون بها في الشؤون السياسية الدنيوية وما فيها من أدران تلوثهم، ويستمتعوا بما في الأديرة من طمأنينة وسلام، يطمعون من تقوى(16/157)
الشعب، ويحميهم سلطان الكنيسة. ولعل الصابرين من رجال الكنيسة هم الذين ثبتوا قواعد الدين المسيحي بين زعازع الإلهام الجنوني التي كانت تهدد العقول في العصور الوسطى بأشد الأخطار من حين إلى حين. وكلما أمعنا في دراسة أقوال متصوفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، لاح لنا أن الاستمساك بأصول الدين القويم كثيراً ما كان هو الواقي من انتشار الخرافات المعدية وأن الكنيسة من إحدى النواحي عقيدة - كما كانت الدولة قوة - أخرجت من الفوضى نظاماً ليحافظ على سلامة عقول الناس.(16/158)
الفصل السابع
البابا المنكود
لما ارتقى جريجوري الثاني عرش البابوية في عام 1271 كانت الكنيسة مرة أخرى في عنفوان قوتها. ولم يكن جريجوري بابا فحسب، بل كان إلى هذا مسيحياً متمسكاً بآداب المسيحية. كان رجل سلام ومحبة، ينشد العدالة لا النصر. وكان يأمل أن يسترد فلسطين بجهد واحد جامح، فأقنع البندقية، وجنوى، وبولونيا بأن تضع حداً للحروب القائمة بينها، وعمل على أن يختار رودلف هيسبرج Rudolf of Hapsburg إمبراطوراً، ولكنه خفف بلطفه ورقته غضب المهزومين من المطالبين بالعرش، ووفق بين طائفتي الجلف Guelf والجبلين Ghibeline في فلورنس وسيينا المنقسمتين على نفسيهما، وقال لمؤيدين من الجلف "إن أعدائكم جبلينيون ولكنهم مع ذلك رجال، ومواطنون، ومسيحيون" (93). ودعا أحبار الكنيسة إلى مجلس يعقد في ليون (1274)، وجاءه في عام 1570 زعماء الكنيسة وأرسلت كل دولة عظمى ممثلاً لها، وبعث إمبراطور الروم برؤساء الكنيسة اليونانية ليؤكد من جديد خضوعها للكرسي البابوي في روما وأنشد رجال الدين اللاتين واليونان معاً نشيد الفرح والغبطة. ودعا الأساقفة أن يتقدموا بما في الكنيسة من عيوب تحتاج إلى الإصلاح، فلبوا الدعوة في صراحة منقطعة النظير (94)، وسنت القوانين التي أريد بها تخفيف حدة هذه الشرور واتحدت أوربا كلها اتحاداً رائعاً لتقوم بمجهود ضد المسلمين. ولكن جريجوري مات وهو عائد إلى روما (1276) وشغلت السياسة الإيطالية خلفاءه فلم يستطيعوا تنفيذ ما وضعه من خطط.
ومه هذا فإنه لما أختير بنيفاس الثامن بابا في عام 1294 كانت البابوية(16/159)
لا تزال أقوى الحكومات الأوربية، وأحسنها تنظيماً، وخيرها إدارة، وأنماها موارد. وكان من سوء حظ الكنيسة، في هذا الوقت العصيب الذي أوشك أن يختم به قرن من القوة والتقدم، أن جلس على أقوى العروش في العالم المسيحي رجل كان له من فساد الخلق، والغطرسة الشخصية والحرص على السلطان حرصاُ خالياً من الكياسة، بقدر ما كان له من حب الكنيسة، وإخلاص في المقصد. ولم يكن هذا الرجل خلوا من الفضائل الفاتنة: فقد كان محباً للعلوم، يضارع إنوسنت الثالث في تجاربه القانونية، وثقافته الواسعة، أنشأ جامعة روما، وأعاد مكتبة الفاتيكان ووسع نطاقها، وعين جيتو Giotto وأرنلفودي كمبيو Arnolfo di Cambio في مناصب عالية، وساعد بما له على إنشاء واجهة كنيسة أرفيتو Orviieto الرائعة المدهشة.
وكان قد مهد السبيل لتسلمه عرش البابوية بأن أقنع سلسلتين الخامس Celestine الورع العاجز أن ينزل عن العرش بعد أن جلس عليه خمسة أشهر - وكان هذا عملاً لم يسبق له مثيل من قبل. وأحاط بنيفاس من بادئ الأمر بالبغض منذ البداية. وأراد أن يحبط كل ماعساه أن يدبر من خطط لإعادة سلستين، فأمر بأن يحتجز هذا الشيخ البالغ من السن ثمانين عاماً في روما، ولما فر سلستين، قبض عليه، ثم فر مرة ثانية، وقضى عدة أسابيع يجول في أنحاء أبوليا، حتى وصل إلى البحر الأدرياوي، وحاول أن يعبره إلى دمياط، ولمن القارب الذي كان يركبه تحطم به، وقذفه البحر إلى إيطاليا وجيء به أمام بنيفاس، وحكم عليه البابا بالسجن في حجرة ضيقة في فرنتينو Frintinoe، ومات بها بعد عشرة شهور من بداية سجنه (1296) (95).
وكان مما زاد طبع البابا الجديد حدة أصيب بسلسلة متتابعة الحلقات من الهزائم الدبلوماسية والانتصارات الكثيرة الأكلاف. فقد حاول أن يثني فردريك صاحب أرغونة عن قبول عرش صقلية، ولما أصر فردريك على قبوله(16/160)
حرمة بنيفاس، وأصدر قرار التحريم على الجزيرة (1296). ولم يبال الملك ولا الشعب بهذا العقاب (96) واضطر بنيفاس في آخر الأمر أن يعترف بفردريك. وأعد العدة لحرب صليبية بان أمر البندقية وجنوى بعقد هدنة، ولكنهما رفضتا توسطه في الصلح وواصلتا الحرب ثلاث سنين أخرى، ولما عجز عن أن يقيم في فلورنس نظاماً يوافق مصالحه أصدر قراراً بحرمان المدينة، ودعا شارل صاحب فالوا أن يدخل إيطاليا ويهدئها (1100). ولم يفلح شارل إلا في كسب حقد الفلورنسيين عليه وعلى البابا. وأراد بنيفاس أن يبسط رأيه السلم في ولاياته البابوية فحاول أن يفض النزاع القائم بين أعضاء أسرة كولنا Colonna القوية، ولكن بيتر Pietro وجاكوبو Jacobo، وكلاهما كردينال، رفضاً عروضه ففصلهما، وحرمهما من الدين (1297)، فما كان من الكردينالين المتمردين إلا أن علقا على أبواب الكنائس الرومانية، ووضعا على مذبح القديس بطرس، منشوراً يطلبان فيه إلى البابا أن يدعو مجلساً كنسياً عاماً. وكرر بنيفاس قرار الحرمان؛ وضم فيه إليهما خمسة آخرين من الخارجين عليه، وأمر بمصادرة أملاكهما، وغزا أملاك أسره كولنا بالجيوش البابوية، واستولى على حصونها، ودك أبنية بالستينا Palestina، وأمر بنثر الملح فوق خرباتها. واستسلم العصاة، وعفا عنهم، ثم ثاروا مرة أخرى وهزمتهم جيوش البابا للمرة الثانية، وفروا من الولايات البابوية، وأخذوا يدبرون خطط الانتقام.
وبينما كان بنيفاس يلاقي هذه المحن في إيطاليا إذ واجهته على حين غفلة أزمة شديدة في فرنسا. فقد اعتزم فليب الرابع أن يوحد مملكته، فاستولى على ولاية غسقونية الإنجليزية، وأعلن إدوارد الأول عليه الحرب (1294)، وأراد كلا الملكين أن يجمع المال الذي يستعين به على قتال عدوه، فقررا أن يفرضا الضرائب على أملاك الكنيسة ورجالها. وكان البابوات قد أذنوا بفرض هذه الضرائب للاستعانة بها في الحروب الصليبية، ولكنهم لم يأذنوا قط لإنفاقها(16/161)
في حرب زمنية خالصة. كذلك كان رجال الدين الفرنسيون قد اعترفوا بأن من واجبهم أن يشتركوا بالمال في الدفاع عن الدولة التي تحمي أملاكهم، ولكنهم كانوا يخشون أنه أطلق حق الدواة في فرض الضرائب من كل قيد، أصبح ذلك قوة في يدها تستخدمه للهدم. وكان فليب قد أضعف مكانة من قبل رجال الدين في فرنسا، فقد أخرجهم من المحاكم الإقطاعية والملكية، ومن مناصبهم القديمة في الإدارة الحكومية وفي مجلس الملك. وأزعج هذا الاتجاه الرهبان السسترسيين فمنعوا عن فليب خمس إيرادهم الذي طلبه ليستعين به في حرب إنجلترا، وبعث رئيس الجماعة يستنجد بالبابا. وكان لا بد لبنيفاس أن يسير بحذر لأن فرنسا كانت من زمن بعيد أقوى عماد للبابوية في كفاحها مع ألمانيا والإمبراطورية، ولكنه أحس بأن الأساس الاقتصادي لسلطان الكنيسة وحريتها لن يلبث أن ينهار إذ ما انتزع منها إيرادها بفرض ضرائب من قبل الدولة على أملاك الكنيسة دون موافقة البابا. ولهذا أصدر في شهر فبراير من عام 1296 مرسوماً بابويا يعد من أشهر ما أصدره البابوات من مراسيم في التاريخ الكنسي كله، وسمى هذا المرسوم بالكلمتين الأولين منه Clericis laicos، وكانت جملته الأولى إترافاً غير حكيم، وكانت نغمته تذكر قارئه بصواعق جريجوري السابع:
يقول الأقدمون إن العلمانيين شديدو العداء لرجال الدين، وتجاربنا لا تترك مجالا للشك في صدق هذا القول في الوقت الحاضر ... وإنا لنقرر بعد استشارة إخواننا، وبمقتضى سلطتنا الرسولية أنه إذا أدى من رجال الدين ... بغير إذن من البابا، عرض نفسه للحرمان من الدين ... ونقرر أيضاً أن كل إنسان أياً كانت سلطته أو مرتبته يطلب هذه الضرائب أو يتسلمها، أو يغتصب أملاك الكنائس أو رجال الدين، أو يتسبب في اغتصابها ... يتعرض بذلك للحرمان (97).(16/162)
أما فيليب فكان قوى الاعتقاد بأن ما للكنيسة في فرنسا من ثروة عظيمة يجب أن تتحمل نصيبها في نفقات الدولة، ولهذا عارض مرسوم البابا بأن حرم تصدير الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والطعام، وبأن حرم التجار أو المبعوثين الأجانب البقاء في فرنسا. وحالت هذه الإجراءات دون وصول المال إلى البابوية من أهم مصادر إيرادها، وأخرجت من فرنسا عمال البابا الذين كانوا يجمعون المال لحرب صليبية في الشرق. ولهذا نكص بنيفاس في مرسومه Ineffabirlis Amor ( سبتمبر عام 1296)، ووافق على تبرع رجال الدين بالمال مختارين سبيل الدفاع الضروري عن الدولة، واعترف بحق الملك في أن يقرر هو هذه الضرورة. وألغى فيليب أوامره الانتقامية، وارتضى هو وإدوارد أن يكون بنيفاس - لا بوصفه بابا، بل بوصفه شخصاً عادياً - حكما في النزاع القائم بينهما. وحكم بنيفاس لصالح فيليب في معظم أوجه النزاع، وخضعت إنجلترا لحكمه إلى حين، واستمتع المحاربون الثلاثة بفترة قصيرة من السلم.
وقرر بنيفاس أن تكون سنة 1300 سنة عيد، ولعله أراد بذلك أن يملأ الخزانة البابوية، بعد أن نقضت إيراداتها من إنجلترا وفرنسا، أو لعله أراد أن يجمع المال اللازم لحرب يستعيد بها صقالبة بوصفها إقطاعية بابوية، ولحرب أخرى يوسع بها الولايات البابوية حتى تشمل تسكانيا (98). ونجح في هذه الخطة نجاحاً تاماً، فلم تشهد روما من قبل جموعاً كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وفرضت حينئذ، ولعلها فرضت للمرة الأولى، قواعد المرور للإشراف على حركات الناس (99). وأحسن بنيفاس ومساعدوه إدارة شئون المدينة فجلبوا إليها الطعام موفورا وبيع فيها بأثمان معتدلة تحت إشراف البابا ورجاله. وكان من المزايا التي استمتع بها البابا أن الأموال الكثيرة التي جمعت بهذه الطريقة لم تكن مخصصة لغرض بالذات، بل كان وسعه أن يستخدمها كما يشاء. وبلغ بنيفاس وقتئذ ذروة مجده رغم ما ناله من أنصاف الانتصارات وما أحاق به من الهزائم المنكرة.(16/163)
لكن المنفيين من آل كولنا كانوا في هذا الوقت عينه يسلون فليب بقصص عن شره البابا وظلمه، وضلالاته الشخصية الخفية. ثم حدث نزاع بين أعوام فليب وبرنارد سيسر Birnard Saissir المندوب البابوي. وقبض على المندوب لاتهامه بأنه يحرض على الفتنة، وقدم للمحكمة الملكية، وأدين، ووضع نحت حراسة رئيس أساقفة نربونة (1301). وارتاع بنيفاس للسرعة التي حوكم بها مندوبه، فطلب أن يطلق سراح سيسر على الفور، وأمر رجال الدين الفرنسيين أن يمتنعوا عن تسليم الإيرادات الكنسية للدولة، ثم طلب إلى فيلب في مرسومه المسمى "استمع يا ولدي" Ausculta fili ( ديسمبر سنة 1301) أن يستمع في خشوع إلى خليفة المسيح يوصفه الملك الروحي على جميع ملوك الأرض، واحتج على محاكمة رجل من رجال الدين أمام محكمة مدنية، وعلى الاستمرار في استخدام أموال الكنيسة في الأغراض غير الدينية، وأعلن أنه سيدعو أساقفة ورؤساء الأديرة في فرنسا ليتخذوا الإجراءات "الكفيلة بالمحافظة على حريات الكنيسة وبإصلاح المملكة وتقويم الملك" (100). وحينما عرض المرسوم على فليب، اختطفه كونت أرتوا Artois من يدي رسول البابا وألقاه في النار، وصودرت نسخة منه كانت معدة لأن ينشرها رجال الدين الفرنسيون. وثارت ثائرة الطرفين حين نشرت وثيقتان زائفتان قيل إن إحداهما صادرة من بنيفاس إلى فليب تطلب إليه أن يطيعه في كل الشئون حتى الزمنية منها، والأخرى من فليب إلى بنيفاس تبلغ "حماقتك العظيمة أننا لا نخضع لإنسان ما في الشئون الزمنية" وسرعان ما ساد الاعتقاد بأن هاتين الوثيقتين المزورتين صحيحتان (101).
وفي اليوم الحادي عشر من فبراير سنة 1302 حرق مرسوم "استمع يا ولدي" رسميا في باريس في حضرة الملك وجمهور كبير. وأراد فليب أن يستبق المجلس الكنسي الذي يريد بنيفاس عقده فدعا الطبقات الثلاث في مملكته(16/164)
إلى الاجتماع في باريس في شهر إبريل. وكتبت طل طبقة بمفردها من طبقات الأمة الثلاث - الأشراف، ورجال الدين، والعامة - في هذا المجلس، مجلس الطبقات، الأول من نوعه في تاريخ فرنسا، كتبت كل طبقة إلى روما تدافع عن الملك وعن سلطته الزمنية، وحضر نحو أربعة وخمسين من المطارنة الفرنسيين مجلس روما الذي عقد في شهر أكتوبر من المجلس القرار المسمى Uuamsanctum الذي حدد فيه مطالب البابوية تحديداً صريحاً تلفت الأنظار. وجاء في هذا المرسوم أنه لا توجد إلا كنيسة واحدة لا نجاة لأحد في خارجها، وأن ليس للمسيح إلا جسد واحد له رأس واحد لا رأسان، وأن هذا الرأس هو المسيح وممثلة البابا الروماني، وأن هناك سيفين أي قوتين القوة الروحية والقوة الزمنية، الأول تحمله الكنيسة، والثاني يحمله الملك نائباً عن الكنيسة، ولكنه يحمله تبعاً لإرادة القس وبإذن منه. والسلطة الروحية فوق السلطة الزمنية، ومن حقها أن ترشدها إلى أسمى غاياتها، وأن تحاكمها إذا ارتكبت إثماً. واختتم المرسوم بالعبارة الآتية: "ونعلن، ونحدد، وننطق بأن من الضروري للنجاة أن يخضع الناس جميعاً للرئيس الديني الروماني" (102).
وكان رد فيليب أن دعا جمعيتين إلى الانعقاد (في شهري مارس ويونية من عام 1303) وأن أصدرت الجمعيتان وثيقة اتهم فيها بنيفاس رسميا بأنه ظالم، وساحر، وكافر (103)، وطلبت أن يخلعه مجلس عام بالكنيسة. وبعث الملك وليم نوجارت William Nogarot كبير رجال القانون عنده إلى روما ليبلغ البابا ما يطلبه الملك من دعوة مجلس عام. وكان البابا وقتئذ في القصر البابوي بأناني Anagni فأعلن البابا وحده هو الذي يحق له أن يدعو مجلساً عاماً، وأعد مرسوماً يحرم فليب ويصب اللعنة على فرنسا. وقبل أن يصدره سار وليم نوجارت وسيارا كولنا Siarra Colonna على رأس ألفين من الجنود المرتزقة(16/165)
واقتحما القصر، وقدما إلى البابا رسالة فيليب، وطلبا إليه أن يوقعها (7 سبتمبر سنة 1303)، فرفض بنيفاس هذا الطلب. وتقول رواية "موثوق بصحتها أعظم الثقة" (104) إن سياراً لطم الحبر الأعظم على وجهه وإنه كاد يقتله لولا تدخل نوجات. وكان بنيفاس وقتئذ الخامسة والسبعين من عمره، ضعيف الجسم، ولكنه ظل يتحدى خصومه. وبقي ثلاثة أياماً سجيناً في قصره والجنود المرتزقة ينهبونه. ولكن أهل أناني يؤيدهم أربعمائة فارس من عشيرة أورسيني Orsini فرقوا الجنود المرتزقين وأعادوا إلى البابا حريته. ويلوح أن سجانيه لم يقدموا له طعاماً مدى الثلاثة الأيام السابقة على تحريره، لأنه وهو واقف في السوق سأل: إن كانت هناك امرأة صالحة ترضى أن تقدم لي صدقة من النبيذ والخبز، فإني أمنحها بركة الله وبركتي". وقاده فرسان الأورسيني إلى روما وإلى الفاتيكان، وهناك انتابته حمى، شديدة مات منها بعد أيام قليلة (في الحادي عشر من شهر أكتوبر سنة 1303)
وحرم خليفته بندكت الحادي عشر (1303 - 1304) نوجارت، وسياراكولنا، وثلاثة عشر غيرهما من الرجال رآهم يقتحمون القصر في أناني. ومات بندكت بعد شهر من ذلك الوقت في بروجيا، وربما كان أحد الجبلين الإيطاليين قد دس له السم (105). ووافق فليب على أن يؤيد برتراند دي جو Bertrand de Got رئيس أساقفة بوردو للجلوس على كرسي البابوية إذا نهج سياسة المصالحة، وعفا عمن حرموا من الدين لهجومهم على بنيفاس، وسمح بأن تجبى من رجال الدين الفرنسيين ضريبة دخل سنوية مقدارها عشرة في المائة مدة خمس سنين، وأن يعيد أفراد أسرة كولنا إلى مناصبهم ويرد إليهم أملاكهم، وأن يشهر بذكرى بنيفاس (106). ولسنا نعرف إلى أي حد وافق برتراند على هذه المطالب، وكل ما نعلمه أنه اختير بابا، وتسمى باسم كلمنت الخامس (1305). وأنذره الكرادلة بأنه لن يكون آمناً على حياته في روما، فنقل(16/166)
كلمنت كرسي البابوية إلى أفينون القائمة على الضفة الشرقية لنهر الرون، في خارج الحد الشرق لفرنسا وعلى بعد قليل منه (1309) وانتقل إليها بعد تردد قليل، وربما كان ذلك أيضاً بعد أن وصله اقتراح مريح من فليب. وهكذا بدأ "الأسر البابلي" للبابوات الذي دام ثمانية وستين عاماً واستسلام البابوية لفرنسا، بعد أن حررت نفسها من ألمانيا.
وأصبح كلمنت، رغم إرادته الضعيفة، أداة ذليلة في يد فليب الذي لا حد لمطالعة، فغفر للملك ذنوبه، وأعاد رجال كولنا إلى مناصبهم، وسحب موسوم Clercis laicoa وأجاز نهب أموال فرسان المعبد، ووافق أخيراً (1310) على محاكمة بنيفاس بعد موته على أيدي مجمع كنسي عقد في جروسو Croseau القريبة من أفينون. وشهد ستة من رجال الدين في التحقيق المبدئي الذي أجرى أمام البابا ومأموريه أنهم سمعوا بنيفاس يشير قبل سنة من توليه منصبه الديني إلى أن كل القوانين التي يفترض الناس أنها من عند الله قد اخترعها بعضهم لكي يلزموا العامة بأن يسلكوا مسلكا حسناً لخوفهم من الجحيم، وإلى أن من "البلاهة" أن نعتقد أن الله واحد وثلاثة في آن واحد، أو أن عذراء قد ولدت طفلا، أو أن الله قد صار إنسانا، أو أن الخبز يمكن أن يصبح جسم المسيح، أو أن هناك حياة أخرى مستقبلة. "هذا ما أومن به وما أعتقده، كما يؤمن به ويعتقده كل إنسان متعلم. أما السوقة فيعتقدون غير هذا، وعلينا أن نتكلم كما يتكلم السوقة، وأن نفكر ونعتقد كما تعتقد القلة وتفكر". ونقل هؤلاء الستة عن بنيفاس هذه الأقوال، وأعاد هذه الشهادة ثلاثة منهم بعد أن سئلوا فيما بعد. ونقل رئيس دير القديس جيل St. Giles القائم في سان جمينو San Gemino عن بنيفاس حين كان الكردينال جايتاني Gaetani أنه أنكر بعث الجسم والروح، وأيد هذه الشهادة عدد أخر من رجال الدين. ونقل أحد رجال الدين عن بنيفاس أنه قال عن القربان المقدس "إنه ليس إلا فطيرة". وأتهم بنيفاس(16/167)
رجال كانوا قبل ذلك من أفراد بيته بأنه كانت له كثير من الصلات الجنسية الآثمة، الطبيعية منها وغير الطبيعية، واتهم غيرهم هذا المتشكك المزعوم بأنه حاول الاتصال السحري بـ "قوى الظلام" (107).
وأقنع كلمنت فليب قبل بدء المحاكمة الفعلية أن يترك مسألة إجرام بنيفاس إلى مجلس فينا العام الذي سيعقد فيما بعد. فلما عقد هذا المجلس (1311) مثل إمامه كرادلة وشهدوا بأن البابا المتوفى كان مستمسكاً بالدين القويم وبمكارم الأخلاق، وألقى فارسان بقفازيهما متحدين ومؤيدين براءته عن طريق الاقتتال. لكن أحداً لم يقبل هذا التحدي وأعلن المجلس انتهاء المحاكمة.(16/168)
الفصل الثامن
عودة على بدء
الحروب الصليبية قد أضعفتا من قوتهما، في الوقت الذي زاد فيه انهيار الإمبراطورية من قوة إنجلترا وفرنسا، كما أثرت فرنسا باستيلائها على لانجويدك بمساعدة الكنيسة ولربما تكشف الأدلة التي قدمت ضد بنيفاس، صادقة كانت أو كاذبة، عن تيار التشكك الذي كان يجري في الخفاء على عصر الإيمان. وكذلك تدل الصفعة - المادية أو السياسية - التي وجهت إلى بنيفاس في أناني بمعنى من معانيها على بداية "العصر الحديث": فقد كانت انتصاراً للقومية على ما فوق القومية، وللدولة على الكنيسة، ولقوة السيف على سحر الكلام. ذلك أن كفاح الكنيسة ضد آل أهوهنستوفن وإخفاق كانت مناصرة الشعب لفليب الرابع على بنيفاس الثامن دليلا على غضب هذا الشعب من غلو محاكم التحقيق والحملة الصليبية الألبجنسية، فقد قيل إن محاكم التحقيق حرقت بعض آباء نوجارت (108)، ولم يكن بنيفاس يدرك، وهو يتورد في هذه المنازعات الكثيرة، أن أسلحة البابوية قد تثلمت من الإفراط في استخدامها، ثم إن الصناعة والتجارة قد أنشأتا طبقة من الناس أقل تقوى من طبقة الزراع، وأن الحياة والتفكير قد نزعا نزعة غير دينية، وأخذت الطبقات العلمانية تدرك أهميتها، وقبل أن تمضي سبعون سنة كانت الدولة قد طوت الكنيسة تحت جناحيها.
وإذا ما ألقينا نظرة شاملة على المسيحية اللاتينية، كان أهم ما ينطبع في ذهننا منها هو ما بين شعوبها المختلفة من وحدة نسبية في العقيدة الدينية، وانتشار سلطان الكنيسة الرومانية الواسع ورجالها في كل مكان انتشاراً أكسب أوربا(16/169)
الغربية - أوربا غير الصقلية، وغير البيزنطية - وحدة في فعل العقل والأخلاق لم ير لها مثيل بعد ذلك الوقت. ولسنا نعرف في التاريخ كله نظاماً في غير هذه الرقعة من الأرض كان له هذا الأثر العظيم في مثل هذا العدد من الناس ولمثل هذا الزمن الطويل. فقد دام سلطان الجمهورية الرومانية والإمبراطورية الرومانية على أملاكهما الواسعة من أيام بمبي ألى أيام ألريك Alaric أربعمائة وثمانين عاما، ودامت إمبراطورية المغول والإمبراطورية البريطانية نحو مائة عام، أما الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فقد ظلت صاحبة السلطة العليا في أوربا من موت شارلمان (814) إلى موت بنيفاس الثامن (1303) أي 489 عاماً. ويبدو أن تنظيمها وإدارتها لم يبلغا من الكفاية ما بلغاه في الإمبراطورية الرومانية، كذلك لم يؤت رجالها من القدرة والثقافة مثل ما أوتي الرجال الذين حكموا الولايات والمدن للقياصرة، ولكن الكنيسة ورثت خليطاً من الهمج المسلوبي العقول، وكان عليها أن تبذل الجهود المضنية لتشق لها طريقاً تعود به إلى بسط النظام ونشر التعاليم. ولقد كان رجالها، رغم هذه الظروف، خير الرجال تعلماً في ذلك العصر، وكانوا هم الذين قدموا للناس في أوربا الغربية التعليم الوحيد المستطاع في خلال القرون الخمسة التي كان لها فيها السيادة والسلطان. وكانت محاكمها تقدم للناس أعدل ضروب العدالة في أيامها. فكانت المحكمة البابوية، المرتشية تارة والنزيهة تارة أخرى، إلى حد ما، محكمة عالمية تحكم في فض المنازعات الدولية، وتضييق نطاق الحروب. ولسنا ننكر أن هذه المحكمة كانت على الدوام مسرفة في نزعتها الإيطالية، ولكن عقول الإيطاليين كانت في تلك القرون أحسن العقول تدريباً، وكان في وسع أي إنسان أن يرقى إلى عضوية تلك المحكمة من أية طبقة، ومن أية أمة في العالم المسيحي اللاتيني.
ولقد كان من الخير أن يكون فوق دول أوربا وملوكها، رغم أساليب الخداع التي تلجأ إليها عادة السلطة البشرية الجماعية، سلطة عليا تستطيع محاسبة(16/170)
هذه الدول وأولئك الملوك، وتخفف من حدة منازعاتها ومنازعاتهم. وإذا كان لا بد من قيام دولة عالمية، فهل ثمة مقر لها يبدو أليق من عرش القديس بطرس، يستطيع الناس مهما يكن من ضيقه أن يتطلعوا منه بعين قارية، ومن ورائها أحقاب طوال؟ وهل ثمة قرارات أكثر قبولا عند الناس في سلام، وأيسر تنفيذاً، من قرارات حبر من الأحبار يجله جميع سكان أوربا الغربية ويرون أنه خليفة الله في أرضه؟ وحسبنا دليلا على ما كان لقرارات هذه السلطة من قوة أنه لما خرج لويس التاسع إلى الحرب الصليبية في عام 1248: اشتد هنري الثالث ملك انجلترا في مطالبه من فرنسا واستعد لغزوها. فأنذر البابا إنوسنت الرابع إنجلترا بالحرمان إذا أصر هنري على مطالبة، ونكص هنري على عقبيه. ويقول هيوم المتشكك إن سلطان الكنيسة كان ملجأ حصيناً من عسف الملوك وظلهم (109) ولو أن الكنيسة اقتصرت في استخدام سلطاتها على الأغراض الروحية والخلقية، ولم تستخدمه قط لتحقيق الأغراض المادية، لحققت المثل الأعلى الذي كان يرتجيه حريجوري السابع- ولجعلت سلطانها الأخلاقي يعلو على قوى الدول المادية وكاد حلم جريجوري هذا بتحقق حين ضم إربان الثاني شتات العالم المسيحي لقتال الأتراك، فلما أطلق إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع، وإسكندر الرابع، وبنيفاس الثامن اسم الحروب الصليبية المقدسة على حروبهم ضد الألبحنسيين، وفردريك العاني وآل كولنا، فلما فعلوا هذا تحطم المثل الأعلى العظيم في أيدي البابوات الملطخة بدماء المسيحيين.
وكانت الكنيسة إذا لم يتهددها خطر تصطنع التسامح الكثير مع أصحاب الآراء المخالفة، بل وآراء الضالين، وسوف نجد ما لم تكن نتوقعه من الحرية الفكرية بين فلاسفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بل سوف نجد هذه الحرية بين أساتذة الجامعات المرخصة من قبل الكنيسة، والخاضعة لإسرافها، وكل ما كانت تطلبه أن يكون نقاشهم مقصوراً على المتعلمين، ومفهوما منهم(16/171)
وحدهم، وألا يتخذ صورة الدعوة الثورية للناس بأن ينبذوا عقيدتهم وكنيستهم (110). ويقول كاتب هو أكثر نقاد الكنيسة المحدثين نشاطا إن، في الكنيسة إذ تضم السكان أجمعين، تضم كذلك كل صنف من أصناف العقول، من أكثر العقول تخريفاً إلى أكثرها لا أدرية، وإن كثيراً من العناصر التي تكن مستمسكة بالدين الرسمي، كانت تعمل تحت ستار الامتثال الرسمي بحرية أوسع مما يظن الناس عادة (111).
وجملة القول أن الصورة التي نرسمها في أذهاننا للكنيسة اللاتينية في العصور الوسطى هي أنها منظمة معقدة التركيب، تبذل كل ما في وسعها رغم ما يتصف به أبناؤها وزعماؤها من عيوب كامنة في فطرة الآدميين، لإرساء قواعد النظام الأخلاقي والاجتماعي، ونشر العقيدة الدينية التي تسمو بالناس وتواسيهم وسط حطام حضارة قديمة، وعواطف ثائرة، لمجتمع يجتاز دور التفاهة.
لقد كانت أوربا حين وحدتها كنيسة القرن السادس أشبه ببضاعة متناثرة بعد غرق سفينة بضاعة من الهمج المتنقلين، وكانت خليطاً من الألسنة والعقائد، وفوضى من الشرائع غير المسطرة التي لا يحصيها العد. ولكن الكنيسة وهبتها قانوناً أخلاقيا تؤيده سلطة فوق سلطة البشر، تبلغ من القوة ما يكفي لقمع الغرائز غير الاجتماعية الكامنة في نفوس ذوي العنف من الناس، ووهبتها كذلك أديرة يلجأ إليها الرجال، والنساء، وتأوى المخطوطات القديمة، وحكمتها بمحاكم كنسية، وربتها في المدارس والجامعات، وذللت قيادة ملوك الأرض لتحميل التبعات الأخلاقية وواجبات السلام، وخلعت على حياة أبنائها بهجة الشعر، والتمثيل، والغناء، وأوحت إليهم أن يقيموا أجل ما في التاريخ كله من أعمال فنية ولما عجزت عن إقامة مدينة فاضلة تسودها المساواة بين رجال مختلفي الكفايات نظمت الصدقات والضيافات، وحمت الضعفاء إلى حد ما من الأقوياء. وكانت بلا ريب أعظم قوة تعمل لنشر لواء الحضارة في تاريخ أوربا خلال العصور الوسطى.(16/172)
الباب الثلاثون
الأخلاق والآداب في العالم المسيحي
700 - 1300
الفصل الأول
القانون الأخلاقي المسيحي
كان لا بد للإنسان في مرحلة سكنى الغاب أوفى مرحلة الصيد أن يكون شرهاً- حريصاً في بحثه عن الطعام، نهما في ابتلاعه - لأنه إذا جاءه الطعام مرة لا يدري متى يأتيه مرة أخرى. وكان لا بد له أن يكون شديد الحساسية الشهوانية، وكثيراً ما يطلق لهذه الشهوات العنان، فلا يتقيد بزواج لأن ارتفاع نسبة الوفيات تحتم ارتفاع نسبة المواليد، فكل امرأة يجب أن تصير أما كلما كان ذلك مستطاعاً، ولا بد أن تكون وظيفة الذكر حامية على الدوام. ولا بد أن يكون مشاكساً دائم الاستعداد للقتال من أجل طعامه ورفيقته.
لقد كانت الرذائل في وقت ما فضائل لا غنى عنها للمحافظة على البقاء، فلما وجد الإنسان أن أحسن سبيل إلى البقاء - بقاء الفرد وبقاء النوع - هي سبيل التنظيم الاجتماعي، وسع نطاق عصبة الصيد، فجعلها هيئة من النظام الاجتماعي لا بد فيها من كبح جماع الغرائز التي كانت عظيمة النفع في مرحلة الصيد عند كل خطوة يخطوها الإنسان، حتى يستطاع بذلك قيام المجتمع. فليست كل حضارة إلا توازناً وتجاذباً بين غرائز الإنسان ساكن الغابة وقيود(16/173)
القانون الأخلاقي، فإذا وجدت الغرائز دون القانون الأخلاقي قضى على الحضارة، وإذا وجدت القيود دون الغرائز قضى على الحياة، فالمشكلة التي تواجهها الأخلاق هي أن تنظم القيود بحيث تحمي الحضارة دون أن توهن الحياة.
وكانت بعض الغرائز، وأكثر ما تكون غرائز اجتماعية، هي صاحبة السبق في تهدئة العنف البشري، والاختلاط الجنسي الطليق، والشره، وكانت هي أساساً حيوياً للحضارة. فقد خلق الحب الأبوي، في الحيوان والإنسان، نظام الأسرة الاجتماعي الفطري، وما فيها من تأديب تعليمي، ومساعدة متبادلة، ونقلت السلطة الأبوية، وهي مزيج من ألم الحب ومتعة الاستبداد، قانون السلوك الاجتماعي المنقذ للحياة إلى الطفل صاحب النزعة الفردية. وأحاطت القوة المنظمة التي يمارسها الزعيم، أو الشريف، أو وتمارسها المدينة أو الدولة، أحاطت هذه القوة وداجت إلى حد كبير قوة الأفراد غير المنظمة. وأخضع حب الاستحسان النفس البشرية إلى إرادة الجماعة، وهدت العادة والمحاكاة من حين إلى حين المراهق والمراهقة إلى السبل التي ارتضاها الناس عد تجاربهم وأخطائهم. وأرهب القانون الغرائز بشبح العقاب، وذلل الضمير الشاب بطائفة لا حصر لها من الموانع والمحرمات.
واعتقدت الكنيسة أن هذه المنابع الطبيعية أو الزمنية للأخلاق لا تكفي وحدها للسيطرة على الدوافع التي تحفظ الحياة في الغابة، بل تقضي على النظام في المجتمع، وقالت إن هذه الدوافع أقوى من أن تكبحها أية سلطة لا تكون لها في كل مكان وفي وقت واحد قوة مانعة رهيبة. ولهذا القانون الأخلاقي شديد الوقع على الجسم لا بد له أن يكون مختوماً بخاتم قوة غير بشرية إذا أريد أن يطيعه الناس، ولا بد له أن يكون مؤيداً بقوة إلهية وذا مكانة فوق المكانة الآدمية تحترمها النفس في غياب كل سلطة، وفي أثناء لحظات الحياة وخباياها الخفية، إن السلطة الأبوية نفسها، وهي عماد كل نظام أخلاقي واجتماعي، لتنهار في النزاع(16/174)
القائم ضد الغرائز البدائية إلا إذا كان لها دعامة من العقيدة الدينية تغرس في قلب الطفل. فإذا أريد خدمة المجتمع ونجاته، فلا بد له من دين يقاوم الغرائز الملحدة بأوامر ليست من عند البشر ولا تقبل قط نزاعاً، بل هي أوامر من عند الله نفسه، محددة واضحة لا تقبل جدلا. وإذ كان الإنسان شديد الإثم والشراسة فإن هذه الوصايا الإلهية يجب ألا يؤيدها الثناء والشرف اللذان يمنحنهما الناس من يطيعونها، أو الخزي والعقاب اللذان يلحقان بمن يخرج عليها، بل يجب أن يؤيدها، فضلا عن هذا، الأمل في نعيم السماء تناله الفضيلة التي لا تلقى جزاءها في هذه الدنيا، وخوف الجحيم التي يتردى فيها الآثمون الذين لا يلقون على ظهر الأرض عقاباً. إن هذه الوصايا يجب ألا تأتي من عند موسى بل عند الله.
وكانت عقيدة الخطيئة الأولى في اللاهوت المسيحي هي التي مثلت بها النظرية القائلة إن الغرائز البدائية تجعل الإنسان غير صالح للحضارة وكانت هذه النظرية، كما كانت فكرة"كارما" في الديانة الهندية محاولة قصد بها ما يحل بالناس من آلام هم في الظاهر غير خليقين بها، وهذا التفسير هو أن "الصالحين يقاسون الآلام في هذه الحياة لأن أسلافهم ارتكبوا الإثم، وتقول النظرية المسيحية إن الجنس البشري على بكرة أبيه قد لوثته خطيئة آدم وحواء، ويقول جراتيان Gratiun في كتابه Decrtum ( القرار) (حوالي عام 1150) الذي اتخذته الكنيسة بصفة غير رسمية جزءاً من تعاليمها: كل آدمي ولد نتيجة لاتصال الرجل بالمرأة يولد ملوثاً بالخطيئة الأولى؛ معرضاً للعقوق والموت، ولهذا فهو طفل مغضوب عليه (1) لا ينجيه من الخبث واللعنة إلا رحمة الله وموت المسيح الذي كفر عن آثامه (ولا ينقذ الإنسان من العنف، والشهوة، والشره، وينجيه هو والمجتمع الذي يعيش فيه من الهلاك إلا المثل الذي ضربه المسيح الشهيد في الوداعة ودماثة الخلق). وبعثت الدعوة إلى هذه العقيدة، مضافة إلى الكوارث الطبيعية التي لم تستطع العقول فهمها إلا على عقاب عن الخطايا، بعثت هذه(16/175)
الدعوة في الكثيرين من الناس في العصور الوسطى شعوراً بأنهم مفطورون على الدنس، والانحطاط، والإجرام، وهو الشعور الذي غلب على كثير من أدبهم قبل عام 1200. ثم أخذ ذلك الشعور بالخطيئة والخوف من الجحيم يتناقض حتى جاء عهد الإصلاح الديني، وظهر بعدئذ بقوة ورهبة جديدين بين المتطهرين المتزمتين.
وتحدث جريجوري الأول ومن جاء بعده من علماء الدين عن سبع خطايا - الكبرياء، والبخل، والحسد، والغضب، والشهوة، والشره، والكسل، تقابلها في رأيهم السبع الفضائل الرئيسية: أربع منها"فطرية" أو وثنية امتدحها فيثاغورس وأفلاطون - الحكمة، والشجاعة، والعدالة، والاعتدال، وثلاث فضائل "دينية" - الإيمان، والأمل، والإحسان. ولكن المسيحية لم تؤمن قط بالفضائل الوثنية وإن ارتضتها، وكانت تفضل الإيمان عن العلم، والصبر عن الشجاعة، والحب والرحمة عن العدالة، والتعفف والظهر عن الاعتدال. ورفعت من شأن الإتضاع، ووصفت الكبرياء (وهو من أبرز صفات رجل أرسطو المثالي) بأنه أشنع الذنوب الشنيعة. وكانت المسيحية تتحدث أحياناً عن الحقوق الإنسان، ولكن أكثر ما كانت تؤكده هو واجبات الإنسان - واجباته نحو نفسه، ونحو بني جنسه، ونحو كنيسته وربه. ولم تكن الكنيسة تدعو إلى الاقتداء بالمسيح الرقيق، الوادع، الرحيم، لأنها كانت تخشى أن تجعل الرجال مخنثين. والحق أن رجال المسيحية اللاتينية في العصور الوسطى كانوا أكثر رجولة من ورثتهم وخلفائهم في هذه الأيام، لأنهم كانوا يواجهون من الصعاب أكثر مما يواجهه هؤلاء. ذلك أن علماء الدين والفلاسفة، كالرجال والدول، يتصفون بما يتصفون به، لأنهم في زمانهم ومكانهم، لم يكن لهم مما كانوا عليه بد.(16/176)
الفصل الثاني
الآداب قبل الزواج
ترى إلى أي حد كانت آداب الناس في العصور الوسطى تمثل أو تحقق المبادىء والنظريات الأخلاقية في تلك العصور؟ فلتنظر أولا إلى الصورة التي كانت عليها تلك العصور دون أن يكون لدينا رأى سابق نريد اثباته.
لقد كانت أولى الحادثات التي تمت بصلة إلى الأخلاق في الحياة المسيحية هي التعميد: به كان الطفل يندمج جدياً في المجتمع وفي الكنيسة، ويخضع- أو يخضع عنه من يعمدونه - إلى قوانينهما. وفي هذه الحفل يتلقى كل طفل "اسماً مسيحياً" - ويكون هذا الاسم في العادة اسم أحد القديسين المسيحيين. أما الأسماء التي تضاف بعد هذا الاسم فكانت مختلفة الأصول، ويمكن الرجوع بها خلال أجيال متعددة إلى القرابة، أو المهنة، أو المكان، أو إلى شيء من معارف الجسم أو معالم الخلق، بل يمكن الرجوع بها أحياناً إلى شيء من الطقوس الكنيسة: ومن أمثلة هذه الأسماء سسلي ولكنز دوتر Cicely wilkinsdoughter وجيمس اسمث James Smith، ومرجريت فري ومن Margret Ferrywoman وماثيو باريس Matthew Paris، وأجنيس ردهد Agnes Redhead، وجون مريمان Jogn Merriman، وروبرت لتاني Robert Litany، وروبرت بندبسيت Robert Bendicite أو Benedict.
وكان جرجوري الأكبر، كما كان روسو، يحث الأمهات على أن يرضعن أطفالهن (3)، وكانت معظم النساء الفقيرات يفعلن هذا، أما نساء الطبقات العليا(16/177)
فكانت الكثرة الغالبة منهن لا تفعلنه (4). وكان الأطفال محبوبين، كما هم محبوبين الآن؟ ولكنهم كانوا يضربون أكثر مما يضربون في هذه الأيام، وكانوا كثيري العدد بالرغم من كثرة من يموتون منهم في سن الطفولة وسن المراهقة. وكان بعضهم يؤدب البعض لاجتماعاتهم في مكان واحد، وقد تحضروا بسبب خوفهم من ارتكاب الذنوب. وتعلموا من أقاربهم ورفاقهم في اللعب كثيراً من فنون القطر أو المدينة، وتقدموا تقدماً سريعاً في معارفهم وخبثهم. وفي ذلك يقول تومس من أهل سيلانو Celano في القرن الثالث عشر: "لا يكاد الأولاد ينطقون حتى يتعلموا الخبث، وكلما تقدموا في السن زادوا سوءاً على سوء حتى يصبحوا مسيحيين بالاسم لا أكثر" (5). ولكن الذين يكتبون في الأخلاق مؤرخون غير صادقين، فقد كان الأولاد يبلغون سن العمل وهم في الثانية عشرة من عمرهم ويبلغون سن الرشد القانوني في السادسة عشرة.
وكانت مبادئ الأخلاق المسيحية تتبع مع المراهقين سياسة صامتة بآراء الأمور الجنسية. فقد كان النضج المالي أي القدرة على كفالة الأسرة يجيء بعد النضج الجنسي أي القدرة على الخلف، وكان الاعتقاد السائد أن التربية الجنسية قد تزيد آلام العفة في تلك الفترة من العمر، وكانت الكنيسة تتطلب العفة قبل الزواج لتساعد بذلك على الاحتفاظ بالوفاء بعده وعلى النظام الاجتماعي والصحة العامة. ولكن الشاب في العصور الوسطى كان في أكبر الظن قد ذاق أنواعاً من الصلات الجنسية قبيل بلوغه السادسة عشرة من عمره. فقد عاد اللواط إلى الظهور في أثناء الحروب الصليبية، وفي أثر تيار الآراء الشرقية (1)، وعزلة الرهبان والراهبات (6). وكانت المسيحية قد أفلحت في مهاجمة هذا الداء في العصور القديمة المتأخرة. وقد كتب هنري رئيس دير كليرفو عن فرنسا في عام
_________
(1) كثيراً ما تظهر هذه العادات اللعينة في الحروب، وقد وجدت في الغرب والشرق على السواء، وإذا رجع القارئ إلى الفصل الخامس باليونانية من هذه السلسلة رأى ما ناله المؤلف عنها عند القوم. (المترجم)(16/178)
1177 يقول! "إن سدوم (1) القديمة قد أخذت تقوم فوق أنقاضها" (7). واتهم فليب الجميل رهبان المعبد بانتشار اللواط بينهم. وفي كتب التوبة الدينية التي تصف وسائل التكفير عن الذنوب ذكر لضروب الفحش من بينها البهيمية، وكانت طائفة كثيرة التنوع عن البهائم موضع صلات جنسية بالآدميين (8). وكانت الصلات الجنسية من هذا النوع إذا كشفت عوقب الطرفان المشتركان فيها بالإعدام، وفي سجلات البرلمان الإنكليزي ذكر لطائفة من الكلاب، والمعز، والبقر، والخنازير، والإوز، حرقت حية هي ومن ارتكب معها الفحشاء من الآدميين. كذلك كثرت مضاجعة المحارم في تلك الأيام.
ويبدو أن العلاقات الجنسية قبل الزواج، وفي خارج نطاق الزواج، كانت منتشرة أنشارها في أي وقت بين أقدم الأزمنة والقرن الثاني عشر، ذلك أن غريزة الإنسان المختلطة كانت تتعدى الحدود التي تقيمها الشرائع الزمنية والكنسية، وكانت بعض النساء يعتقدون أن ورعهن في آخر الأسبوع يكفر عن مرحهن وبطنتهن. وكان الاغتصاب شائعاً (9) رغم ما يتعرض له المغتصب من أشد ضروب العقاب، وكان الفرسان الذين يخدمون النساء أو الفتيات الكريمات المولد نظير قبلة أو لمسة من أيديهن يسلون أنفسهم بخادمات هؤلاء السيدات والفتيات، ومن أولئك السيدات من لم يكن يستطعن النوم مرتاحات الضمائر إلا إذا هيأت بأنفسهن هذه التسلية (10). كان مما يألف له فارس لاتور لاندرى La Tour Landry انتشار الفسق بين بعض الشبان من أبناء الأشراف، وإذا أخذنا بأقواله فإن بعض رجال الطبقة التي ينتمي إليها كانوا يفسقون في الكنائس بل "على المذبح" نفسه؛ وهو يحدثنا عن "ملكتين استمتعتا ببهجتهن الآثمة وبلذتهن داخل الكنيسة في أثناء الصلاة المقدسة في يوم خميس الصعود
_________
(1) بلدة لوط المذكورة في الكتاب المقدس. (المترجم)(16/179)
أثناء الصيام (11). ويصف وليم المالمزبري Wiliam of Malmsbury أشراف النومان بأنهم منهمكون في البطة والدعارة" وأنهم يتبادلون العاشقات بعضهم مع بعض (12) خشية أن يضعف الوفاء حدة الشهوة. وكان الأطفال غير الشرعيين منتشرين في جميع أنحاء العالم المسيحي، وكانت سيرتهم موضوعاً لآلاف القصص، وكان أولاد الزنا أبطال عدد من هذه القصص فمنهم كوشولان Cuchulain، وآرثر Arthur، وجاوين Gawain ورولان Roland، ووليم الفاتح، وكثيرون من الفرسان المذكورين في تواريخ فرواسار Froissart.
وتمشى العهر مع مطالب ذلك الوقت، فقد كان بعض النساء الذاهبات إلى الحج يكسبن نفقة الطريق، كما يقول الأسقف بنيفاس، ببيع أجسادهن في المدن القائمة في طريقهم (13). وكان كل جيش يتعقبه آخر من العاهرات لا يقل خطراً عن جيش أعدائه. ويحدثنا ألبرت من أهل إيكس Aix فيقول إن "الصليبيين كان بين صفوفهم جمع حاشد من النساء في ثياب الرجال، يسافرون معهم دون أن يميزون عنهم، ويغتنمن الفرصة التي تتاح لهم مع الرجال" (14). ويقول المؤرخ العربي عماد الدين إنه في أثناء حصار عكا حضرت ثلاثمائة من الفرنسيات الحسان ليروحن عن الجنود الفرنسيين ... لأن هؤلاء أبوا أن يخرجوا للقتال إذا حرموا لذة النساء، فلما رأى جنود المسلمين هذا طلبوا أن يهيأ لهم ما هيئ لهؤلاء (15). ويقول جرانفيل إن الأشراف الذين كانوا مع القديس لويس في حربه الصليبية "أقاموا مواخيرهم حول خيمة الملك" (16). وكان طلبة الجامعات، وبخاصة في باريس، ممن استبدت بهم الحاجة إلى هذا الترفيه أو رغبوا في محاكاة غيرهم فيه، ولهذا أنشأت الفتيات مراكز لسد هذه الحاجة (17).
وأباحت بعض المدن- أمثال طولوز (طلوشة)، وأفينون، ومنبليه، ونورمبرج- هذه الدعارة قانوناً. ووضعتها تحت إشراف البلديات بحجة أنه بغير(16/180)
هذا الدنس لا تستطيع النساء الصالحات أن يخرجن إلى الشوارع وهم آمنات على أنفسهم (18). وكتب القديس أوغسطين يقول: "إذا منعت العاهرات والمواخير، اضطربت الدنيا من شدة الشبق" (19)، ووافقه على ذلك القديس تومس أكويناس (20). وكان في لندن في القرن الثاني عشر صف من "المواخير" بالقرب من جسر لندن. وقد أجاز أسقف ونشستر في بادئ الأمر قيامها، ثم صدق البرلمان على قيامها فيما بعد (21). وقد حرم القانون الذي أصدره البرلمان عام 1161 على صاحبات بيوت الدعارة أن يأوين فيها نساء يعانين آلام "الضعف الخطر من الاحتراف" - وهذا أول ما عرف من التشريع ضد انتشار أمراض السرية. وقرر لويس التاسع في عام 1254 نفي جميع العاهرات من فرنسا، ونفذ هذا القرار فعلا، ولكن الدعارة السرية لم تلبث أن حلت محل التجارة العلنية، حتى أهل الطبقات الوسطى من أنه يكاد من المستحيل حماية الفضيلة لدى زوجاتهم ونسائهم من إلحاح الجنود والطلاب. وعن انتقاد هذا القرار في آخر الأمر حتى ألغي في عام 1256. وحدد المرسوم الجديد الأماكن التي تستطيع فيها العاهرات أن يسكن ويمارسن مهنتهن في باريس، وحدد أيضاً ملابسهن وزينتهن، وأخضعهن لرقابة رئيس من رؤساء الشرطة يسمى ملك القوادين أو المتسولين أو الأفاقين Roi de Ribauds (23) . ونصح لويس التاسع وهو يحتضر ولده أن يعيد المرسوم الذي قضى بنفي العاهرات، ونفذ فليب وصيته، وكانت النتيجة هي النتيجة السابقة نفسها، وبقى القانون مدوناً في سجل الشرائع الفرنسية ولكنه لم ينفذ (24). وكان في روما، كما يقول الأسقف دوران الثاني المندى Bishop Durand II of Mende (1311) ، مواخير بالقرب من الفاتيكان، وقد أجاز رجال البابا إقامتها نظير ما يتقاضون من الأجور (25). وكانت الكنيسة تظهر العطف على العاهرات، وأقامت ملاجئ للتائبات من النساء ووزعت على الفقيرات الصدقات التي كانت تتلقاها من العاشقات التائبات (26).(16/181)
الفصُل الثالث
الزواج
كان الشاب في عصر الإيمان قصير الأجل، وكان الزواج يحدث فيه مبكراً، وكان في وسع الطفل وهو في السابعة من عمره أن يوافق على خطبته، وكان هذا التعاقد يتم في بعض الأحيان ليسهل به انتقال الملكية أو حمايتها. ولقد تزوجت جراس صليبي Grace de Saleby في الرابعة من عمرها بشريف عظيم يستطيع حماية ضيعتها الغنية، ثم مات هذا الشريف ميتة سريعة فتزوجت وهي في السادسة من عمرها بشريف آخر، وزوجت وهي في الثالثة عشرة بشريف ثالث (27). وكان يستطاع حل هذا الرباط في أي وقت من الأوقات قبل سن البلوغ، وكان يفترض أن تكون هذه السن هي الثانية عشرة للبنت، والرابعة عشرة للولد (28). وكانت الكنيسة ترى أن رضي الوالدين أو الأوصياء غير ضروري للزواج الصحيح إذا بلغ الزوجان سن الرشد، وتحرم زواج البنات قبل سن الخامسة عشرة، ولكنها كانت تسمح بكثير من الاستثناءات، لأن حقوق الملكية في هذه المسألة كانت تطغى على نزوات الحب، ولم يكن الزواج إلا حادثا من حوادث أعمال المالية. وكان العريس يقدم لوالدي الفتاة هدايا أو مالا، ويعطيها"هدية الصباح" ويضمن لها حق بائنة في مزرعته. وكان هذا الحق في إنجلترا هو أن يكون للأرملة استحقاق مدى الحياة في ثلث ما يتركه الرجل من الأرض. وكانت أسرة الزوجة تقدم الهدايا للزوج، وتخصص لها بائنة تتكون من الثياب، والأثواب الثمينة، والآنية والأثاث، والأملاك في بعض الأحيان. وكانت الخطبة عبارة عن تبادل عهود أو مواثيق، وكان العرس نفسه ميثاقا واسمه(16/182)
الإنجليزي Wedding مشتق من اللفظ الإنجليسكسوني Weddian ومعناه (الوعد) وكان القرين spouse هو الشخص الذي أجاب Responded " إني أريد".
وكانت الدولة والكنيسة معاً تعدان الزواج صحيحاً إذا تم بناء على تبادل عهد شفوي بين الطرفين ولو لم يصحبه أي احتفال قانوني أو كنسي (29). وكانت الكنيسة تريد أن تحمي النساء بذلك من أن يهجرهن من يغوينهن، وتفضل هذا الاتحاد عن الفسق أو التسري، ولكنها كانت بعد القرن الثاني عشر تنكر شرعية الزواج الذي يتم دون مصادقة الكنيسة، وأخذت بعد مجلس ترنت (1563) تتطلب حضور قس في هذا التعاقد. وكان القانون الزمني يرحب بتنظيم الكنيسة لشئون الزواج، فكان براكتن Bracton ( المتوفى عام 1268) يرى أن لا بد من إقامة احتفال ديني لكي يصبح الزواج صحيحاً. ورفعت الكنيسة شأن الزواج إلى مقام القداسة، وجعلته ميثاقاً مقدساً بين الرجل والمرأة والله، ثم بسطت سلطانها القانوني تدريجيا على كل خطوة من خطوات الزواج، من واجبات فراش الزوجية إلى وصية الزوج الأخيرة قبل الوفاة. وذكر قانونها ثبتاً طويلا من "موانع الزواج"، فكان يجب أن يكون كلا الطرفين غير مقيد برباط زواج سابق، أو بنذر أنذره أن يظل بغير زواج، وكان الزواج بمن لم يعمد محرماً، غير أنه وجدت مع ذلك حالات من الزواج بين المسيحيين واليهود (30). وكان الزواج بين الأرقاء بعضهم وبعض، وبين الأرقاء والأحرار، المستمسكين بالدين الصحيح والضالين، وحتى بين المؤمنين والمحرومين، كان الزواج بين هؤلاء يعد صحيحاً (31). ويجب ألا يكون بين الطرفين صلة تصل إلى الدرجة الرابعة من القرابة- أي أنه يجب ألا يكون لهما جد مشترك في خلال أربعة أجيال، وفي هذه المسألة كانت الكنيسة ترفض القانون الروماني وتقبل القانون البدائي قانون الزواج من خارج العشيرة خشية أن يؤدى الزواج بين الأقارب الأدنين إلى الانحطاط الناشئ من التناسل داخل دائرة الأسرة، ولعلها كانت تعمل بذلك على منع تركيز الثروة(16/183)
نتيجة للروابط الأسرية الضيقة. وكان من الصعب تجنب هذا التزاوج الداخلي في القرى الريفية، فكان لا بد للكنيسة أن تتغاضى عنه، كما كانت تتغاضى عن كثير من الثغرات الأخرى بين الحقيقة والقانون.
ويجئ بعد حفلة الزواج موكب العرس - بموسيقاه المدوية وثيابه الحريرية الفاخرة - يسير من الكنيسة إلى منزل العريس، وتعقبه الحفلات في هذا البيت طول النهار كله ونصف الليل. ولا يصبح الزواج صحيحاً حتى يتم اتصال الزوجين. وكان منع الحمل محرما، ويرى أكويناس أنه جريمة لا تزيد عنها شناعة إلا جريمة القتل العمد (32)، بيد أن وسائل مختلفة بعضها آلية: وبعضها كيميائية وبعضها سحرية، كانت تستخدم لهذا المنع، وكان أكثر ما يعتمد عليه هو وقف الجماع (33). وكانت العقاقير المجهضة، أو المؤدية إلى العقم، أو إلى العجز الجنسي، أو إلى الشبق، تباع مع الباعة المتنقلين. وكانت العقوبات التي وضعها ربانس مورس Rabanus Maurus للتكفير عن الآثام تقضي على "من تخلط منى زوجها بطعامها حتى تحسن قبول حبه، بالندم على فعلتها ثلاثة أعوام" (34). وكان وأد الأطفال نادراً، وقد أنشأت الكنيسة من أموال الصدقات في القرن السادس وما بعده الثامن النساء اللاتي ولدن أطفالا في السر أن يودعنهم عند باب الكنيسة، وأعلنت أنها ستكفلهن، وكان أولئك الأيتام يربون ليكونوا أرقاء أرض يعملون في أملاك الكنيسة. وقرر قانون أصدره شالمان أن الأطفال الذين يعرضون للجو في الخلاء يصبحون عبيداً لمن ينقذونهم ويربونهم. وأنشأ راهب من منبليه حوالي عام 1190 جماعة إخوان الروح القدس التي تخصصت في حماية اليتامى وتعليمهم.(16/184)
وكان عقاب الزنا قاسياً، مثال ذلك أن أقل ما كان يحكم به القانون السكسوني على الزوجة التي تخون زوجها هو جدع أنفها وصلم أذنيها، وأجاز لزوجها أن يقتلها ولكن الزنا كان منتشراً رغم هذه العقوبات الشديدة وأمثالها (35)، وكان أقل ما يكون انتشاراً بين الطبقات الوسطى، وأكثر ما بين الأشراف. فكان سادة الإقطاع يغوون رقيقات الأرض ولا يحكم عليهم بغرامة قليلة: فمن "وطئ بنتاً من غير شكرها" -أي رغم إرادتها- أدى للمحكمة ثلاث شلنات (36). ويقول فريمان Freeman إن القرن الحادي عشر "كان عصراً فاسقاً"، وكان يعجب من وفاء وليم الفاتح الظاهري لزوجته (37) وهو وفاء لا يستطيع أن يعزو مثله لأبيه، ويقول تومس رايت Thomas Wright الأريب إن "مجتمع العصور الوسطى كان مجتمعاً فاسد الأخلاق فاجراً" (38).
وكانت الكنيسة تجيز انفصال الزوجين بسبب الزنا، أو الارتداد عن الدين، أو القسوة الشديدة وكان هذا الانفصال يسمى divortium ولكن معناه لم يكن إبطال الزواج، أما هذا الإبطال فلم يكن يمنح إلا إذا ثبت أن الزواج قد خالف أحد الموانع الشرعية التي نص عليها قانون الكنيسة. ويبعد أن تكون هذه الموانع قد ضوعف عددها عن قصد لكي يستعين على الطلاق من يستطيعون أداء الرسوم والنفقات الضخمة التي يتطلبها إبطال الزواج، بل إن الكنيسة كانت تستخدم هذه الموانع استخداماً حكيماً مرناً في الظروف الاستثنائية التي يرجى أن يؤدى الطلاق فيها إلى وجود وارث إلى ملك لم ينجب أبناء، أو يكون من ورائه فائدة أخرى للسلم أو السياسة. وكان القانون الألماني يجيز الطلاق في حالة الزنا، بل كان يجيزه في بعض الأحيان إذا اتفق عليه الطرفان (39). وكان(16/185)
الملوك يفضلون قانون أسلافهم على قانون الكنيسة الصارم، وكان سادة الإقطاع وسيداته يعودون إلى القوانين القديمة فيطلق بعضهم بعضاً من غير إذن الكنيسة، ولم تبلغ الكنيسة في سلطانها واستمساكها بمقتضيات الذمة والضمير درجة من القوة تمكنها من تنفيذ قرارتها إلا بعد أن رفض إنوسنت الثالث أن يوافق على طلب الطلاق الذي تقدم به إليه فليب أغسطس ملك فرنسا القوي.(16/186)
الفصُل الرابع
النساء
كانت نظريات رجال الكنيسة بوجه عام معادية للمرأة، فقد غالت بعض قوانين الكنيسة في إخضاعها، لكن كثيراً من مبادئ المسيحية وشعائرها رفعت من مكانتها. وكانت المرأة في تلك القرون لا تزال في نظر القساوسة وعلماء الدين كما كانت تبدو لكريستوم - (شراً لا بد منه، وإغواء طبيعياً، وكارثة مرغوباً فيها، وخطراً منزلياً، وفتنة مهلكة، وشراً عليه طلاء) (40). وكانت لا تزال حواء مجسدة في كل مكان، حواء التي خسر بسببها الجنس البشري جنات عدن، وأداة الشيطان المحببة التي يقود بها الرجال إلى الجحيم. وكان تومس أكويناس، وهو في العادة رسول الرحمة، يتحدث عنها كما يتحدث الرهبان، فينزلها من بعض النواحي منزلة أقل من منزلة الرقيق:
إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها، الجسمية والعقلية معاً (41). والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها كما أن الله مبدأ كل شئ ومنتهاه (42) ... وقد فرض الخضوع على المرأة عملا بقانون الطبيعة، أما العبد فليس كذلك (43) .. ويجب على الأبناء أن يحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم (44).
وأوجب قانون الكنيسة على الزوج حماية زوجته، كما أوجب على الزوجة طاعة زوجها. وقد خلق الله الرجل لا المرأة، في صورته هو. ويعقب العالم بالقانون الكنسي على ذلك بقوله: (ويتضح من هذا أن الزوجة يجب أن تكون خاضعة لزوجها بل يجب أن تكون له أقرب ما تكون إلى الخادمة) (45) على أن في هذه الفقرات نغمة الرغبات المرجوة لا الحقائق الواقعة، غير أن الكنيسة(16/187)
كانت تحتم على الرجل ألا يتزوج أكثر من واحدة، وتصر على أن يكون القانون الأخلاقي ذا مستوى واحد للرجال والنساء على السواء وتكرم المرأة بعبادة مريم وتدافع عن حق المرأة في وراثة الممتلكات.
وكان القانون المدني أشد عداء للمرأة من القانون الكنسي. فقد كان كلا القانونين يجيز ضرب الزوجة (46) ولما أن أمرت "قوانين بوفيه وعاداتها في القرن الثالث عشر" الرجل ألا يضرب زوجته" إلا لسبب (47) كان ذلك خطوة كبرى إلى الأمام. وكان القانون المدني ينص على ألا تسمع للنساء كلمة في المحكمة "لضعفهن" (48) ويعاقب على الإساءة للمرأة بغرامة تعادل نصف ما يفرضه على الرجل نظير هذه الإساءة نفسها (49) وقد حرم القانون النساء حتى أرقاهن مولداً، من أن يُمثلن ضياعهن في برلمان إنجلترا أو في الجمعية العامة للطبقات بفرنسا. وكان الزواج يعطى الزوج الحق الكامل في الانتفاع بكل ما لزوجته من متاع وقت الزواج والتصرف في ريعه (50) ولم يكن يرخص للمرأة أن تكون طبيبة.
وكان في حياتها الاقتصادية من التنوع بقدر ما كان حياة الرجل، فكانت تتعلم وتباشر فنون البيت العجيبة المجهدة: تصنع الخبز والفطائر المتنوعة، وتطهو اللحم، وتصنع الصابون والشمع، والزبد والجبن، وتعصر الجعة، وتستخرج الأدوية البيتية من الأعشاب وتغزل الصوف وتنسجه، وتنسج الأقمشة التيلية من الكتان، وتخيط الملابس لأسرتها، والسجف والملاءات، وأغطية الأسرة، والأنسجة التي تزين بها الجدران. وكان عليها أن تزين بيتها وتحتفظ به نظيفاً إلى الحد الذي يسمح به من فيه من الرجال، وأن تربي الأطفال. وكانت في خارج الكوخ الزراعي تشترك بقوة وجلد في أعمال المزرعة: تبذر، وتزرع، وتحصد، وتطعم الفراخ الصغار، وتحلب البقر، وتجز الأغنام، وتساعد على إصلاح البيت ونقشه وبنائه. وإذا كانت من سكان المدن، كانت وهي في(16/188)
البيت أو الحانوت، تقوم بغزل ما يلزم لنقابات المنسوجات الطائفية من غزل ونسيج. ولقد كانت شركة من (نساء الحرير) أول ما أنشأ في إنجلترا فنون غزل الحرير وثنيه ونسجه (51). وكان عدد النساء في معظم نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في هذا إلى أن الصناع كان يسمح لهم أن يستخدموا زوجاتهم وبناتهم، ويسجلوا أسماءهن في النقابات. وكانت بعض النقابات الطائفية المخصصة للصائغات من النساء تتألف من النساء وحدهن، وكان في باريس في آخر القرن الثالث عشر خمس عشرة نقابة طائفية من هذا النوع (52). على أن النساء قلما كن رئيسات في نقابات الحرف المكونة من الذكور والإناث، وكن يتقاضين أجوراً أقل من أجور الرجال نظير الأعمال المتساوية. وكانت نساء الطبقات الوسطى يعرضن بملابسهن ثروة أزواجهن، ويقمن بدور مثير في الأعياد الدينية والحفلات الاجتماعية التي تقام في البلدة. وقد ارتفعت نساء الأشراف الإقطاعيين، باشتراكهن في تحمل التبعات مع أزواجهن، وتقبلهن في ظرف وتمنع ما يقدمه الفرسان وشعراء الفروسية الغزلون من مراسم التبجيل والغرام، ارتفعت أولئك النسوة إلى منزلة اجتماعية قلما ارتفعت إليها النساء من قبل.
وقد وجدت المرأة في العصور الوسطى بفضل مفاتنها، كما تجد عادة، رغم أوامر الدين والقانون، وسائل للتحرر من نتائج عجزها، ولهذا فإن آداب ذلك العصر ملآى بأخبار النساء اللاتي حكمن رجالهن (53). ولقد كانت المرأة من وجوه كثيرة متفوقة على الرجل معترفاً لها بهذا التعوق، فكانت في أسر الأشراف تتعلم شيئاً من الأدب، والفن، والتهذيب، بينما كان زوجها غير المتعلم يكدح ويحارب، وكان في وسعها أن تظهر بكل ما لصاحبات الندوات الأدبية في القرن الثامن عشر من رشاقة، وتتصنع الإغماء كما تتصنعه البطلة في الروايات رتشاردسن Richardson وكانت في الوقت نفسه تنافس الرجل في حريته البذيئة في القول والفعل، وتتبادل(16/189)
وإياه قصص المغامرات، وكثيراً ما كانت هي البادئة في الغرام دون حياة (53). وأيا كانت الطبقة التي تنتمي إليها فقد كانت تتنقل بكامل حريتها، وقلما كان معها محرم. وكانت تزحم الأسواق وتسيطر على الاحتفالات، وتصاحب الرجال في الحج، وتشترك في الحروب الصليبية، ولم يكن شأنها فيها للتسلية فحسب، بل كانت في بعض الأوقات جنديا في عدة حروب الكاملة. وكان الرهبان الخوار والعود يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن منزلتها دون منزلة للرجال، ولكن الفرسان كانوا يقتتلون لنيل رضاها والشعراء يقرن بأنهم عبيد لها. وكان الرجال يتحدثون عنها وصفها خادماً مطيعاً، ويحملون بها على أنها إلهة معبودة. وكانوا يصلون لمريم العذراء ولكنهم يقنعون إذا حصلوا على إليانور الأكتانية Eleanor of Aquitine.
ولم تكن إليانور هذه إلا واحدة من عشرات النساء العظيمات في العصور الوسطى- أمثال جلا بلاسيديا Galla Plaisedia، وثيودورا، وإيرينه Irene، وأناكمينا Anna Commena، وما تلده كونتة تسكانيا، وماتلده ملكة إنجلترا، وبلانش النفبرية Blanch of Navarre، وبلانش القشتالية، وهلواز Heloise. وكان جد إليانور وليم العاشر الأكتاني، أميراً وشاعراً ونصيراً للشعراء الغزليين وزعيما لهم. وكان يفد إلى بلاطه في بوردو أحسن الفكهين والظرفاء وذوو الشهامة في جنوبي فرنسا الغربي، وقد تربت إليانور في هذا البلاط لتكون ملكة الحياة والآداب جميعاً. واتصف بكل ما كان في هذا الجو المشمس الحر من ثقافة وأخلاق: قوة في الجسم، ورشاقة في الحركة، وقوة في العاطفة الخلقية والجسمية، وحرية في العقل والآداب والحديث، وخيال شعري، وروح مشرقة، وهيام لا حد له بالحب، والحرب، والملذات كلها، يكاد يصل إلى الموت. ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها (1137) عرض عليها ملك فرنسا أن يتزوجها، لأنه كان يتوق إلى ضم دوقيتها أكتين،(16/190)
وثغرها العظيم بوردو إلى تاجه وموارده المالية. ولم تكن تعرف أن لويس السابع بليد ورع، منهمك أشد الانهماك في شئون الدولة. فانتقلت إليه بمرحها، وجمالها، وتحررها من مقتضيات الضمير، فلم يعجبه إسرافها، ولم يهتم بالشعراء الذين تبعوها إلى باريس ليجزوها على رعايتها إياهم بالمدائح والقوافي.
وكانت شديد الشوق إلى المغامرات، فاعتزمت أن تصحب زوجها إلى فلسطين في الحملة الصليبية الثانية (1147)، وليست هي ووصيفاتها ملابس الرجال والحلل العسكرية، وبعثن بمغازلهن في ازدراء إلى الفرسان القاعدين في أوطانهم، وركبن في مقدمة الجيش يلوحن بالأعلام الزاهية ومن ورائهن الشعراء الغزلون (55). وأهملها الملك أو لامها فسمحت لنفسها في إنطاكية وغيرها من الأماكن ببعض مغامرات الحب، فأشيع مرة أنها تحب عمها رايمند البنتييري Raymond of pontiers، ومرة أخرى أنها تحب عبداً مسلماً جميلا، وقال النمامون الجهلاء مرة إنها تحب صلاح الدين التقي الورع نفسه (56). وصبر لويس على هذا العبث، وعلى لسانها السليط، ولكن القديس برنار شهر بها في العالم. وظنت أن الملك سيطلقها، فقاضته في عام 1152 تطلب الطلاق منه بحجة أن نسبهما متصل في الدرجة السادسة. وابتسمت الكنيسة ساخرة من هذه الحجة، ولكنها منحت الطلاق، وعادت إليانور إلى بوردو، واستعادت حقها في الملك أكتين، وفيها التفت حولها طائفة كبيرة من الخاطبين، اختارت منهم هنري بلانتاجنت Henry Plantagenet ولي عهد إنجلترا، وبعد سنتين من ذلك الوقت أصبح هنري الثاني، وعادت إليانور ملكة مرة أخرى (1154) - "ملكة إنجلترا بغضب الله" على حد قولها.
وجاءت إلى إنجلترا بأذواق الجنوب، وظللت فيها، كما كانت في فرنسا، المشترعة العليا للشعراء القصاصين والغزلين، ونصيرتهم، ومعبودتهم. وكانت وقتئذ قد بلغت السن التي تمكنها من أن تكون وفية، ولم يجد هنري ما يشينها.(16/191)
ولكن الآية انعكست، فقد كان هنري أصغر منها بإحدى عشرة سنة ولم يكن ينقص عنها في حدة المزاج وقوة العاطفة، وسرعان ما أخذ يشيع حبه بين نساء البلاط. واستشاطت إليانور غضباً واكتوى قلبها بنار الغيرة، وهي التي من قبل تحتقر الرجل الغيور. ولما أنزلها هنري عن عرشها هربت من إنجلترا، نريد أن تحمي بأكتين، فأمر بتعقبها، وقبض عليها، وزجت في السجن، وظلت ستة عشر عاماً يذبل غصنها فيه وإن لم يفل ذلك من قوة إرادتها. وأثار الشعراء الغزلون عواطف أوربا على الملك، وائتمر به أبناءه، بإيعاز منها، لخلعه، ولكنه ظل يقاومهم ويحاربهم إلى يوم مماته (1189). وخلف رتشارد قلب الأسد أباه، وأخرج أمه من السجن، وعينها نائبة لملك إنجلترا حين خرج لقتال صلاح الدين في الحرب الصليبية، ولما أصبح ابنها جون ملكاً، آوت إلى دير فرنسا، حيث ماتت "من الحزن، وضعف العقل" في الثانية والسبعين من عمرها. لقد كانت إليانور "زوجة فاسدة، وأما فاسدة وملكة فاسدة" (57)، ولكن منذا الذي يفكر فيها على أنها من جنس خاضع ذليل.(16/192)
الفصُل الخامِس
الأخلاق العامة
ما فتئت الشرائع والحكم الأخلاقية في كل عصر من العصور تقاوم ما درج عليه الآدميون من غش وخيانة. ولم يكن الناس في العصور الوسطى الطيب منهم والخبيث أكثر أو أقل من غيرهم في هذه الناحية، فكانوا يكذبون على أبنائهم وأزواجهما وطوائفهم، وأعدائهم، وأصدقائهم، وحكوماتهم، وريّهم، كان الرجل في العصور الوسطى مولعاً أشد الولع بتزوير الوثائق، يزور الأناجيل غير الصحيحة، ولعله لم يقصد في يوم من الأيام أن تؤخذ على أنها أكثر من قصص طريفة، ويزور الأوامر البابوية ليتخذها سلاحاً في السياسة الدينية، وكان الرهبان الأوفياء يزورون العهود ليكسبوا بها منحاً لأديرتهم من الملوك (58). ولقد زور لافرانك رئيس أساقفة كانتربري، كما تقول المحكمة البابوية، عهداً يثبت به قدم كرسيه الديني (59)، وزور المدرسون عهوداً يخلعون بها بعض الكليات في كيمبردج أقدمية زائفة، وكثيراً ما أفسدت "الأكاذيب التقية" النصوص، واخترعت ألف معجزة تعظم بها أصحابها. وكانت الرشوة منشرة في التعليم، والتجارة، والحرب، والدين، والحكومة، والقانون (60) وكان تلاميذ المدارس يرسلون الفطائر لممتحنيهم (61)، ورجال الحكم يقدمون الرشا ليعينوا في المناصب العامة، ويجمعون من أصدقائهم ما يلزمهم من المال (62). وكان من المستطاع تقديم الرشا للشهود لكي يقسموا أي قسم يراد منهم، كما كان المتقاضون يقدمون الهدايا إلى المحلفين والقضاة (63)، وقد اضطر إدوارد ملك إنجلترا أن يفصل معظم قضاته ووزرائه في عام 1289 لأنهم مرتشون (64).(16/193)
وكانت القوانين تتطلب أن يقسم الناس الأيمان في كل صغيرة وكبيرة، فكانوا يقسمون على الكتب أو المخلفات المقدسة، وكان يطلب إليهم في بعض الأحيان أن يقسموا بألا ينقضوا القسم الذي يوشكون أن يقسموه (65)، ومع هذا فإن الحنث بالأيمان قد كثر إلى حد جعل الناس يلجئون إلى تحكيم القتال رجاء أن يظهر الله أي الجانبين أكثر كذباً من الجانب الأخر (66).
وكثيراً ما كان أرباب الحرف في العصور الوسطى يخدعون المشترين ببيعهم بضائع قديمة بالية، أو منقوصة الطول، أو يحتالون عليهم ببيعهم سلعاً غير المرغوب فيها. وكان بعض الخبازين يسرقون أجزاء صغيرة من العجين أمام أعين ملاكهم، ويستخدمون لذلك الغرض باباً سرياً في وعاء العجين، وكانت أقمشة رخيصة توضع سراً في مكان أقمشة غالية دفع ثمنها وتعهد البائعون بتوريدها، وكان الجلد الرخيص "يزين" لكي يبدو شبيهاً بأحسن أنواع الجلود (67)، وكانت الحجارة تخبأ في أكياس الدريس والصوف التي تباع بالوزن (68)، واتهم الذين يعبئون اللحوم في نورتش Norwich بأنهم "يشترون الخنازير المصابة بالحصبة، ويصنعون منها وزما وفطائر مضرة بالصحة" (69). ويصف برنلد الرجنسيرجي Berthold of Regenesburg ( حوالي 1220) مختلف أنواع الغش التي تستخدم في الحرف المتباينة، والحيل التي يحتال بها التجار في الأسواق على أهل الريف (70). وكان الكتاب والوعاظ ينددون بالجري وراء الثروة، لكن حكمة ألمانية من حكم العصور الوسطى تقول: "إن كل الأشياء تطيع المال"؛ وكان بعض الأخلاقيين في تلك العصور يرون أن حب الكسب أقوى من الغريزة الجنسية (71). ولسنا ننكر أن شرف الفروسية كثيراً ما كان من الحقائق الواقعة في نظام الإقطاع، ولكن يبدو أن القرن الثالث عشر لم يكن يقل ولعاً بالمادة عن أي عهد آخر من عهود التاريخ. تلك كلها أمثلة من الاحتيال والخداع جمعناها من أزمنة طويلة ومساحات واسعة؛ وهي بلا ريب من الوقائع(16/194)
الشاذة رغم كثرة عددها، وليس من حقنا أن نستخلص منها نتيجة أكثر من أن الناس في عصر الإيمان لم يكونوا خيراً منهم في عصرنا هذا عصر الشك، ومن أن القانون والأخلاق قلما أفلحا في الاحتفاظ بالنظام العام ضد ما ركب من نزعة فردية في طبيعة الناس الذين لم يقصد بهم بفطرتهم أن يكونوا مواطنين، خاضعين للقانون.
وكانت معظم الدول تعاقب على جريمة السرقة الخطيرة بالإعدام، كما كانت الكنيسة تحكم على مرتكبي السطو بالحرمان من الدين، ومع هذا فإن السرقة بأنواعها - من النشل في الطرق إلى الأشراف النهابين على ضفاف الرين - كانت من الجرائم الواسعة الانتشار. وكان مرتزقة الجنود الجياع، والمجرمون الفارون والفرسان المفلسون، يجعلون الطرق غير آمنة، وكانت شوارع المدن تشهد في ظلام الليل كثيراً من الشجار، والسرقة، والاغتصاب، والاغتيال (72). وتدل سجلات أسباب الوفاة في "إنجلترا الطروب" في القرن الثالث عشر على "نسبة في الاغتيال إذا حدثت في هذه الأيام عدت من الفضائح" (73). ويكاد الاغتيال يبلغ ضعفي عدد حالات الموت بسبب الحوادث المفاجئة، وقلما كان يقبض على المجرمين. وكانت الكنيسة تجاهد وهي صابرة للقضاء على حروب الإقطاع، ولكن ما نالته من نصر متواضع في هذه الناحية كان سببه أنها حولت الناس وخصامهم إلى الحروب الصليبية، التي كانت من إحدى النواحي حروباً استعمارية تبغي الفتح والمكاسب التجارية، فلما اشتبك المسيحيون في الحرب لم يكونوا أكثر رضا بالهزائم أو أكثر وفاء بالعهود والمعاهدات من المحاربين المنتمين إلى الأديان والعهود الأخرى.
ويبدو أن القسوة والوحشية كانتا في العصور الوسطى أكثر منهما في أية حضارة قبل حضارتنا نحن. ذلك أن المتبربرين لم يتخلوا عن بربريتهم بمجرد أن صاروا مسيحيين. وكان رجال الأشراف ونساؤهم يصفعون خدمهم ويصفع(16/195)
بعضهم بعضاً، كما كان القانون الجنائي قاسياً قسوة وحشية، ولكنه عجز مع ذلك عن قمع الوحشية والجريمة. فكثيراً ما كان التعذيب بالعذراء، وبجفنة الزيت الملتهب، وبعمود الإحراق، وحرق الأحياء، وسلخ جلودهم، وتمزيق أطرافهم بشدها إلى الحيوانات، كثيراً ما كانت هذه الوسائل الوحشية تستخدم في العقاب. وكان للقانون الأنجليسكوسوني يعاقب الجارية السارقة بإرغام ثمانين جارية على أن تؤدى كل واحدة منهن غرامة، وأن تأتي بثلاث حزم من الوقود وأن تحرق السارقة حية (75). ويقول سلمبيني Salimbene الراهب الإيطالي في تاريخه الإخباري، وكان معاصراً للحروب التي شبت نارها في إيطاليا الوسطى في القرن الثالث عشر، إن المسجونين كانوا يعاملون بوحشية لو أننا سمعنا بها في شبابنا لما صدقناها:
فقد كانوا يربطون رؤوس بعض الرجال بحبل ومخلة، ويشدون الحبل بقوة تخرج عيونهم من أوقابها، وتسقطها على خدودهم، ومنهم من كانوا يربطونهم بإبهام يدهم اليمنى أو اليسرى وحدها، تحمل ثقلهم كله بعد أن يرفعوا عن الأرض، ومنهم من كانوا يعذبون بصنوف من العذاب أشنع من هذه وأشد منها رهبة أخجل من ذكرها، وآخرون ... كانوا يجلسون وأيديهم مشدودة خلف ظهورهم، ويضعون تحت أقدامهم أوعية مملوءة بالفحم الملتهب ... أو يربطون أيديهم بأرجلهم حول حفرة (كما يربط الحمل وهو ينقل إلى القصاب) ويبقونهم معلقين على هذا النحو طول النهار من غير طعام ولا شراب، أو كانوا يحكون قصبات أرجلهم بقطعة خشنة من الخشب حتى يظهر عظم الساق عارياً من اللحم؛ وهو عمل تكفي رؤيته وحدها لأن تبعث الأسى والألم في النفوس (76).
وكان رجل العصور الوسطى يتحمل الألم بشجاعة، ولعله كان أقل إحساساً به مما يبدو على رجال أوربا الغربية في هذه الأيام. وكان الرجال والنساء من جميع الطبقات شهوانيين إلى حد بعيد، وكانت أعيادهم ولائم شراب، وميسر،(16/196)
ورقص، وانطلاق في العلاقات الجنسية؛ وكانت فكاهاتهم صريحة في بذاءتها صراحة لا تكاد تماثلها فيها فكاهات هذه الأيام (77)، وكانت أحاديثهم أكثر من أحاديث هذه الأيام حرية وأوسع منها مجالا (78)، وقلما كان رجل فرنسا يفتح فاه من غير أن يذكر الشيطان، على حد قول جواتفيل (79). وكان الناس في العصور الوسطى أقدر على سماع الفحش منا، ولم يكونوا يبرمون من الإصغاء إلى أفحش الأقوال التي وردت في مقالات رابليه Rabelais، وحسبنا أن نذكر أن الراهبات في كتب تشوسر كن يستمعن دون حياء إلى الأقذار الواردة في قصة ملر Millers، وفي أخبار سلمبيني الصالح أجزاء تبلغ من البذاءة والفحش درجة تعز على الترجمة (80) وكانت الحانات كثيرة العدد، وكان منها ما يقدم "فطائر" بالجعة على طراز هذه الأيام (81). ولقد حاولت الكنيسة أن تغلق الحانات في أيام الآحاد، ولكنها لم تلق إلا قدراً ضئيلا من النجاح. وكان من حق جميع الطبقات أن تسكر في بعض الأوقات، وقد وجد زائر لمدينة لوبك Lubeck نساءاً من طبقة الأشراف في حجرة الخمور يد من الشرب من تحت أقنعتهن (83). وكان في كولوني جمعية يلتقي أعضاؤها لشرب النبيذ مجتمعين وقد اتخذت شعاراً لها: "اشرب وأنت مرح" ولكنها كانت تفرض على أعضائها قواعد من الاعتدال في السلوك والآداب في الحديث.
وكان رجل العصور الوسطى كغيره من الرجال مزيجا بشرياً كاملا من الشهوانية والغرام، والذلة، والأنانية، والقسوة، والرقة، والصلاح، والشره، فقد كان أولئك الرجال والنساء، الذين يشربون ويسبون بكل ما فيهم من قوة، رحماء رحمة تمس شغاف القلوب، يخرجون آلاف الصدقات. وكانت القطط والكلاب وقتئذ كما هي الآن حيوانات مدللة، وكانت الكلاب تدرب على قيادة المكفوفين (85)، وقد نمت في قلوب الفرسان عاطفة الحب لخيلهم، وصقور صيدهم، وكلابهم، وبلغ تنظيم الصدقات مستوى رفيعاً(16/197)
جديداً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فكان الأفراد، وكانت النقابات الطائفية، والحكومات، والكنيسة تشترك كلها في تخفيف آلام المنكوبين. وكان خراج الصدقات واجبا عاما يؤديه الجميع، فالذين يرجون دخول الجنة يوصون بالأموال للصدقات، والرجال الأغنياء يتبرعون بمهور البنات الفقيرات، ويطعمون العشرات من الفقراء في كل يوم، والمئات منهم في الأعياد الكبرى، وكان الطعام يوزع عند كثير من أبواب بيوت الأشراف ثلاث مرات في الأسبوع على كل من يعطيه (86). وكانت كل سيدة عظيمة، إلا القليل النادر منهن، تحسن أن واجبها الاجتماعي، إن لم يكن واجبها الأخلاقي، أن تشترك في تدبير شئون الصدقات، ولقد دعا روجر بيكن في القرن الثالث عشر إلى أن تنشى الدولة رصيداً للإنفاق منه على الفقراء، والمرضى، والطاعنين في السن (87)، ولكن القسط الأكبر من هذا العمل ترك تدبيره إلى الكنيسة، فقد كانت الكنيسة من إحدى نواحيها منظمة للصدقات تشمل القارة بأسرها، وكان جريجوري الأكبر، وشارلمان، وغيرهم يحتمون أن يخصص ربع العشور التي تجنيها كل أبرشية لمعونة الفقراء والعجزة (88)، وقد نفذ هذا إلى حين، ولكن استيلاء الرؤساء من رجال الدين والعلمانيين على إيرادات الأبرشيات، أخل بإدارتها لمواردها في القرن الثاني عشر، وتحمل عب هذه الصدقات أكثر من ذي قبل الأساقفة، والرهبان، والراهبات والبابوات. وكانت الراهبات كلهن، إلا عددا قليلا من الخاطئات، يهبن أنفسهن للتعليم، والتمريض، وأعمال البر، وإن أعمالهن المطردة الاتساع في هذه النواحي لتعد من أنصع الأعمال وأعظمها تقوية للعزائم في تاريخ العصور الوسطى وتاريخ هذه الأيام. وكانت الأديرة التي تستمد مواردها من الهبات والصدقات، وإيراد الأملاك الكنيسة، تطعم الفقراء، وتعنى بالمرضى، وتفتدى الأسرى، وكان آلاف من الرهبان يعلمون الشبان، ويعنون بالأيتام، ويعملون في المستشفيات، وكان دير كلوني العظيم يكفر عما له من ثراء واسع بالتصديق بالكثير من أمواله،(16/198)
وكان البابوات يبذلون كل ما وسعهم لمساعدة فقراء روما، وواصلوا بطريقتهم الخاصة النظام الإمبراطوري القديم نظام توزيع الطعام على الأهلين.
ولكن التسول كان كثيراً بالرغم من هذا البر كله، فقد كانت المستشفيات وبيوت الإحسان تحاول إطعام من يقصدها وإيواءهم، وسرعان ما أحاط أبوابها الُرج، والمقعدون، والمقطوعوا السيقان، والمكفوفون، والأفاقون ذوو الثياب البالية الذين يتنقلون من "مستشفى إلى مستشفى ويجوسون خلالها يتصيدون لقيمات الخبز وقطع اللحم" (89). وقد اتسع نطاق التسول في العالم المسيحي في العصور الوسطى وزاد المتسولون إصراراً على مهنتم، وبلغ هذا الاتساع والإصرار حداً لا نظير له في أفقر الأراضي في الشرق الأقصى.(16/199)
الفصل السادس
ملابس العصور الوسطى
ترى أي صنف من الناس كان سكان أوربا في العصور الوسطى؟ ليس في وسعنا أن نقسمهم عناصر، فقد كانوا جميعاً من "العنصر الأبيض" إذا استثنينا منهم العبيد الزنوج، ولكنهم كانوا مع هذا خليطاً متنوعاً من الخلق لا يستطيع أحد تصنيفهم. وكان منهم يونان بيزنطة وهلاس، والإيطاليون أنصاف اليونان سكان إيطاليا الجنوبية، وسكان صقلية اليونان - المغاربة - اليهود، وكان منهم أهل إيطاليا الرومان، والأميريون، والتسكان، واللمبارد، والجنوبيون، والبنادقة، وقد بلغ من تباين هؤلاء أن كانت كل طائفة منهم تنم عن أصلها بثيابها، وشعر رأسها، ولسانها، وكان منهم البربر، والعرب، واليهود، ومسيحيوا أسبانيا، وكان منهم الفرنسيون الغسقونيون، والبرغنديون، والباريسيون، والنورمان، ومنهم أهل الأراضي الوطيئة الفلمنكيون، والوالون Walloons، والهولنديون، ومنهم أهل إنجلترا الكلت، والإنجليز، والسكسون، والدنمرقيون والسلالات النورمانية، وكلت ويلز، وأيرلندة، وإسكتلندة، والنرويجيون، والسويديون، ومنهم مئات القبائل الألمانية، والفلنديون، والمجر والبلغار، وصقالبة بولندة، وبوهيميا، والدول البطية، والبلقان، والروسيا. وقصارى القول أن أوربا قد تجتمع فيها خليط من الدماء والأجناس، والانوف، واللحى، والثياب، لا ينطبق على تباينه العظيم أي وصف من الأوصاف.
وكان الجنس الألماني قد أصبحت له الغلبة في الطبقات العليا في جميع بلاد أوربا الغربية ما عدا جنوبي إيطاليا وأسبانيا، وذلك بسبب الهجرات والفتوح(16/200)
التي لا يحصى عديدها. وقد بلغ الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة يوفق بين هذا الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة لكي يوفق بين هذا الإعجاب وبين العبارة الواردة في نشيد الإنشاد القائلة: إني أسود ولكن جميل، وكان الفارس المثالي طويلاً، أشقر، ملتحياً، كما كانت المرأة المثالية في الملاحم والروايات نحيلة ممشوقة القوام، رشيقة، زرقاء العينين، ذات شعر طويل أشقر أو ذهبي. وقد حل محل شعر الفرنجة الطويل عند الطبقات العليا في القرن التاسع رؤوس مقصوصة الشعر من الخلف، وليس عليها من الشعر إلا غطاء في اعلاها، واختفت اللحى بين الطبقات العليا من الأوربيين في القرن الثاني عشر، غير أن الذكور من الزراع ظلوا يطيلون لحاهم القذرة وشعر رأسهم إلى حد اضطروا معه أحياناً إلى جمعه في جدائل (90). وكان أهل إنجلترا على اختلاف طبقاتهم يطيلون شعر رأسهم، وكان المتأنقون الفناجرة في القرن الثالث عشر يصبغون شعرهم ويلوونه بمكاو من الحديد، ويربطونه بالأشرطة (91). وكانت النساء المتزوجات في هذا القرن وذاك البلد يربطن شعرهن بشبكة من الخيوط الذهبية، بينما كان الغلمان من الطبقات العليا يرسلونه على ظهورهم، وكانت لهم في بعض الأحيان بالإضافة إلى هذا، جديلتان تنوسان على صدروهم منحدرتان فوق أكتافهم (92).
وكان أهل أوربا الغربية في العصور الوسطى أكثر جمالاً وأجمل ثياباً مما كانوا عليه قبل ذلك الوقت أو بعده، وكثيراً ما كان الرجال يفوقون النساء في زينة الثياب وبهجة ألوانها. وكانت الجبة والعباءة الرومانيتان الفضفاضتان في القرن الخامس عشر تحاربان حرباً خاسرة مع السراويل القصيرة والمناطق التي كان الغاليون يلبسونها ويتمنطقون بها، فقد كان جو الشمال البارد وأعماله الحربية يتطلبان ثياباً أضيق وأسمك مما أوحى به دفء الجنوب وما فيه من راحة، ولما انتقل مركز القوة إلى شمال جبال الألب أعقب ذلك الانتقال ثورة في الثياب. فكان الرجل العادي يلبس سروالاٌ طويلا ضيقاً يعلوه قباء، أو قميص نصفي، مصنوعان من(16/201)
الجلد أو القماش المتين، ويعلق في منطقته سكيناً، وكيساً، ومفاتيح، وعدد الصانع إن كان من الصناع، وكان يرسل فوق كتفيه لفاعة أو حرملة، ويضع على رأسه قلنسوة أو قبعة من الصوف، او اللباد أو الجلد، ويغطي رجليه بجوربين طويلين، وينتعل حذائين عاليين من الجلد إلى أعلى أصابع القدمين، كيلا يتمزقا من الاصطدام. وازداد طول الجورب قرب أواخر العصور الوسطى حتى بلغ أعلى الفخذ، وتطور معه السروال غير المريح الذي استبدله الرجل الحديث بقميص الشعر ثوب القديسين في العصور الوسطى، كان هذا السروال كفارة غير منقطعة عن ذنوبه الماضية. وكانت أجزاء الثياب كلها تقريباً من الصوف إلا القليل منه المصنوع من الجلد المدبوغ وغير المدبوغ الذي كان يلبسه الفلاحون أو الصائدون، وكانت كلها تقريباً تغزل وتنسج وتفصل وتخاط في البيت، ولمن الأغنياء كان لهم خياطون خاصون يسمون في إنجلترا " المقصات "، واستغنى قبل القرن التاسع عشر عن الأزرار التي كانت تستعمل من حين إلى حين في العهد القديم، ثم عادت إلى الظهور لتكون زينة لا ينتفع بها في شيء، ومن هنا جاءت عبارة " لا يساوي زراً Not worth a botton الإنجليزية (93). ونشأت في ألمانيا في القرن الثاني عشر بين الرجال والنساء على حد السواء عادة لبس جلباب ذي حزام فوق الحلة الألمانية الضيقة.
وكان الأغنياء يزينون هذه الأثواب الأساسية بمائة من الوسائل التي تفتق عنها خيالهم. فكانت حواشيها وأطرافها اللاصقة للعنق تسوى بالفراء، وحلل الحرير، أو الأطلس، أو المخمل محل التيل أو الصوف حيث يسمح بذلك الجو، وغطى الرأس بقلنسوة من المخمل، وانتعلت أحذية من القماش الملون تنطبق كل الانطباق على شكل القدمين. وكانت أجمل الفراء تستورد من الروسيا، وأحسنها كلها الفراء الثمينة المتخذة من جلد القاقم الأبيض، وكان يحدث أن يرهن الأشراف أرضهم ليبتاعوا جلد قاقم لزوجاتهم. وكان الأغنياء يلبسون سراويل(16/202)
تحتية من التيل الأبيض الرفيع، وجورباً طويلاً ملوناً في اغلب الأحيان، ومصنوعاً عادة من الصوف، وفي بعض الأحيان من الحرير، وقميصاً من التيل الأبيض، ذا ذوق فاخر وردن جميل، وكان يلبس فوق هذا كله مئزراً، ومن فوقها كلها في الجو البارد أو المطير عباءة، أو حرملة، يمكن أن تمد حتى تغطي الرأس. وكانت بعض القلانس ذات قمة مستوية مربعة، وقد اصطنع هذه القلانس المعروفة باسم " ألواح الملاط mortiers" المحامون والأطباء في أواخر العصور الوسطى، وبقيت الآن في أثواب كبار رجال الكليات الجامعية. وكان المتأنقون في الثياب يلبسون قفازين في كل الأجواء و"يكنسون الأرض التربة بأذيال مآزرهم وجلابيبهم الطويلة " كما يقول الراهب أردركس Ardericuse Vitalis شاكياً متحسراً (94).
ولم يكن الرجال يزينون بالحلي أجسامهم وحدها، بل كانوا يزينون بها أيضاً ثيابهم - قلانسهم، ومآزرهم، وأحذيتهم. وكانت بعض الأردية تطرز عليها باللؤلؤ نصوص مقدسة أو عبارات بذيئة (95)، وأخرى تزين أطرافها بمخرمات منسوجة من خيوط الذهب أو الفضة، ومنهم من كان يلبس ثياباً من خيوط الذهب. وكان على الملوك أن يميزوا أنفسهم بزينة أكثر من هذه كلها، فكان إدوارد المعترف يلبس مئزراً مزكرشاً بالذهب من صنع زوجته المهذبة إدجيثا Edgitha، وكان شارل الجسور Chatles the Bold صاحب برغندية يلبس مئزراً فخماً مطعماً بالحجارة الكريمة ومثقلا بها يقدر ثمنه بمائتي ألف دوقة (نحو 000و280و1 دولار). وكان للناس كلهم عدا الفقراء منهم يختتمون، وكان لكل إنسان ذي شأن ولو ضئيل خاتم منقوش عليه رمزه الخاص، وكانت أية علامة بهذا الخاتم تقبل على أنها توقيعه هو نفسه.
وكانت الملابس تعد دليلاً على منزلة الإنسان أو ثرائه، وكانت كل طبقة تحتج إذا قلدت أثوابها الطبقة التي دونها، وقد سنت القوانين المالية - كما حدث(16/203)
في فرنسا سنتي 1149و1306 - لتنظم ما ينفقه الناس على ملابسهم حسب ثرواتهم وطبقاتهم. وكانت حاشية السيد العظيم، أو جماعة الفرسان التابعين له، تلبس في المناسبات والأعمال الرسمية أثواباً يهديها هو إلى أفرادها مصبوغة باللون المحبب له أو الذي يميزه عن غيره، وكانت هذه الحلل الخاصة تسمى بالفرنسية Iivéé ( وبالإنجليزية Iivery) ومعناها الموزعة لأن السيد كان يوزعها ( deliver) مرتين في العام. على أن الأثواب الجيدة في العصور الوسطى كانت تعمل لتبقى مدى الحياة، ومنها ما كان يعني أصحابه بالنص إلى من تؤول إليه في وصيته.
وكانت نساء الطبقات العليا يلبسن قميصاً طويلاً من التيل، ومن فوقه جلباب أو مئزر ذو حواش من الفراء يصل إلى حد القدمين ويعلوه قميص نصفي يبقى منفرج الطرفين إذا لم يكن في الدار غرباء، ولكنه يربط طرفاه إذا جاء البيت زوار، وذلك لأن جميع النساء المتأنقات يتقن إلى أن يظهرن نحيلات القوام، وقد يتمنطقن بمناطق مرصعة بالجواهر، ويمسكن بكيس من الحرير، ويلبسن بأيديهن قفازاً من جلد الشموا. وكثيراً ما كن يضعن الأزهار في شعرهن، أو يخطنه بخيوط من الحرير ذات الجواهر. وكانت بعض السيدات يثرن غضب رجال الدين، وغضب أزواجهن بلا ريب، بأن يلبسن قبعات طويلة مخروطية مزدانة بقرنين، وقد جاء على النساء حين من الدهر كانت فيه المرأة غير ذات القرنين هدفاً لسخرية الساخرين (96). وأصبحت الكعاب العالية في أواخر العصور الوسطى هي الطراز المحبب، وكان الناقدون الأخلاقيون يشكون من أن النساء كثيراً ما يرفعن أطراف أثوابهن بوصة أو بوصتين ليظهرن أرساغهن وأحذيتهن الظريفة، أما سيقان النساء فلم يكن يبصرها إلا الأخصاء، وكانت رؤيتها غالية الثمن. وقد ندد دانتي بنساء فلورنس لظهورهن علناً في ثياب "تكشف عن صدورهن وأثدائهن" (97). وكانت ثياب النساء في حفلات(16/204)
البرجاس موضعاً للتعليقات المثيرة من رجال الدين، وقد وضع الكرادلة قوانين يحددون بها طول أثواب النساء، ولما أمر رجال الدين أن تلبس النساء النقاب حرصاً على أخلاقهن "جعلن هذا النقاب يصنع من الموصلين الرقيق والحرير المشغول بالذهب، فظهرن فيه أجمل عشرات المرات مما كن بغيره وأتلفتن عيون النظارة وأغرينهم بالفساد أكثر من ذي قبل" (98). وكان جوي البروفنسي Guyot of Provins يشكو من أن النساء يستخدمن المساحيق على وجوههن بكثرة لم يبق معها من هذه المساحيق شيء تلون به الصور والتماثيل في الكنائس، وأنذرهن بقوله إنهن حين يلبسن الشعر المستعار أو يضعن الكمادات أو مسحوق الفول لأبن الخيل على وجوههن لتجميلها، إنما يضفن بذلك مئات السنين لمقامهن في الأعراف (99). وقد عنف برثلد الرجنسبرجي Berthold of Regenesburg حوالي 1220 النساء بفصاحة ما كان أضيعها:
أيتها النساء، إنكن ذوات حنان عظيم، وإنكن لأسرع في الذهاب إلى الكنيسة من الرجال ... ومنكن من سينجون لولا شرك واحد تقعن فيه ... ذلك أنكن تردن أن تنلن إعجاب الرجال فتصرفن جهودكن كلها في زينة ثيابكن ... والكثيرات منكن يؤدين للخياطة أجراً لا يقل عن ثمن الثوب نفسه، فالثوب يجب أن يكون له وقايتان على الكتفين، ويجب أن يثنى وتكون له أهداب حول أطرافه كلها، وأنتن لا تكتفين بإظهار فخركن في عُرَى أزراركن نفسها، بل إنكن فوق هذا ترسلن أقدامكن إلى الجحيم بما تحملنها من أنواع العذاب الخاصة بها ... وأنتن تشغلن أنفسكن ببراقعكن! وتحولنها تارة إلى هذه الناحية وتارة أخرى إلى تلك، وتطرزنها مختلفة بخيوط الذهب، وتصرفن فيها كل جهودكن، فتقضي إحداكن ستة أشهر كاملة في صنع نقاب واحد، وهو عمل آثم لا تبتغي به أكثر من أن يثني الرجال على ثيابها فيقولون: "رباه! ما أجمله! هل وجد من قبل ثوب يضارعه في الجمال؟ ". أما هن(16/205)
فيقلن: "أيها الأخ برثلد، إنا لا نفعل هذا إلا إكراماً للرجل الصالح، حتى تقل نظراته إلى غيرنا من النساء". لا، يا سيدتي، صدقيني، لو أن رجلك الصالح صالح بحق، لفضل أن يستمع إلى حديثك الطاهر عن النظر إلى زينتك الخارجية ... إن في وسعكم أيها الرجال أن تقضوا على هذا، وتكافحوه بقوة، بالقول الحسن أولا، فإذا أصررن على عنادهن، فأقدموا بشجاعة ... وانتزعوه من فوق رؤوسهن، ولو اقتلعت معه أربع شعرات أو عشر، وألقوه في النار ولا تفعلوا هذا مرتين أو أربع مرات فحسب، وسترون أنهن سرعان ما يرجعن عن غيهن (100).
وكانت النساء في بعض الأحيان يتأثرن بهذا الوعظ، وحدث قبل أيام سفنرولا Savonarola بمائتي عام أن ألقين ببراقهن وحليهن في النار (101). ولكن أمثال هذه التوبة كانت لحسن الحظ نادرة وقصيرة الأجل.(16/206)
الفصُل السّابع
في المنزل
لم يكن منزل العصور الوسطى مريحاً كثيراً، فقد كانت نوافذه قليلة، وقلما كان بها ألواح زجاجية، وكانت، المصاريع الخشبية تغلفها لتمنع البرد ووهج الشمس وكان موقد يدفئ المنزل أو أكثر من موقد، وكانت التيارات الهوائية تدخله من مئات الثقوب التي في الجدران، وتجعل المقاعد ذات الظهور العالية نعمة كبرى. وكان من عادة سكانها أن يلبسوا في الشتاء قبعات وفراء مدفئة في داخل المنزل نفسه. وكان الأثاث قليلاً ولكنه جيد الصنع، والكراسي أيضاً قليلة، وكانت في العادة غير ذات ظهور، ولكنها كانت في بعض الأحيان محفورة حفراً جميلاً، ومنقوشاً عليها شارات أصحابها المميزة، ومطعمة بالحجارة الكريمة. وكانت معظم المقاعد تحفر في أبنية الجدران أو تبنى فوق صناديق في مظلات البساتين. وكانت الطنافس نادرة الاستعمال قبل القرن الثالث عشر، ولكن إيطاليا وأسبانيا كانتا تستعملانها، ولما إنتقلت إليانور القشتالية إلى إنجلترا في عام 1254 للزواج من أدوارد الأول غطى خدمها أرض جناحها في وستمنستر بطنافس كما يفعل أهل أسبانيا ومن ثم انتشرت هذه العادة في إنجلترا. أما أرض البيوت العادية فكانت تنثر عليها الأعشاب أو القش، فكانت بعض البيوت لهذا السبب كريهة الرائحة إلى حد يأبى معه قس الأبرشية أن يزورها. وكانت أنسجة مزركشة تغطى بعض الجدران، لتزينها وتمنع عنها تيارات الهواء، ولتقسم بهو المنزل الكبير إلى حجرات صغيرة. وظلت بيوت إيطاليا وبروفانس تحتفظ بذكريات الترف الروماني، فكانت لذلك أوفر راحة وأكثر مراعاة(16/207)
لشروط الصحة من بيوت شمال أوربا. وكانت بيوت الطبقات الوسطى في ألمانيا تحصل على ما يلزمها من الماء من مضخات مركبة على آبار توصل الماء إلى المطبخ (102).
ولم تكن النظافة في العصور الوسطى من الإيمان، وكانت المسيحية الأولى قد نددت بالحمامات وقالت إنها بؤر للفساد والفسق، وكان تحقيرها للجسم بوجه عام مما جعلها تهمل العناية بقواعد الصحة. ولم يكن استعمال المنديل على الطريقة الحديثة معروفاً في ذلك الوقت (103)، وكانت النظافة تتبع الثروة وتختلف باختلاف دخل الأفراد، فكان السيد الإقطاعي، ورجل الطبقة الوسطى المثري، يستحمان مرات معقولة في أحواض خشبية كبيرة، ولما انتشر الثراء في القرن الثاني عشر انتشرت معه نظافة الجسم، كانت مدن كثيرة في ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا في القرن الثالث عشر تحتوي حمامات، ويقول أحد الكتاب إن أهل باريس كانوا يستحمون في عام 1292 أكثر مما يستحمون في القرن العشرين (104)، وكان من نتائج الحروب الصليبية إدخال حمامات البخار العامة من بلاد الإسلام إلى أوربا (105). وكانت الكنيسة تعارض وجود الحمامات العامة بحجة أنها تفسد الأخلاق، وكان لهذه المخاوف ما يبررها في كثير من تلك الحمامات، وكان في بعض البلدان حمامات معدنية عامة.
وكان بالأديرة، وقصور سادة الإقطاع، وبيوت الأغنياء مراحيض تفرغ محتوياتها في بالوعات، ولكن معظم سكان البيوت كانوا يقضون حاجتهم في مراحيض خارج البيت، وكان المرحاض الخارجي الواحد في كثير من الحالات يفي بحاجة أثنى عشر منزلا (106). وكانت الأنابيب التي تنقل الفضلات من ضروب الإصلاح التي دخلت إلى إنجلترا في عهد إدوارد الأول (1271 - 1307) وكانت أوعية حجرات النوم في بيوت باريس في القرن الثالث عشر تفرغ من النوافذ في شوارع المدينة، ولا يصحب هذا العمل إلا تحذير للمارة:(16/208)
إحذروا الماء! Carieau وظلت هذه الحوادث المفاجئة السيئة يتكرر ذكرها في المسالي إلى أيام موليير. وكانت المراحيض العامة ترفاً نادر الوجود، وقد وجد في سان جمينانو San Gimignano عام 1255، ولكن فلورنس لم يكن فيها وقتئذ شيء منها (107)، فكان الناس يقضون حاجتهم في فناء المنزل، وعلى درج السلم، وفي الشرفات، وكان ذلك يحدث في قصر اللوفر نفسه. وقد صدر مرسوم بعد وباء 1531 يحتم على أصحاب البيوت في باريس أن ينشئوا مرحاضاً في كل بيت، ولكن هذا الأمر كثيراً ما يخالف (108).
وكان أفراد الطبقات العليا والوسطى يغسلون أيديهم قبل الطعام وبعده، لأنهم كانوا يتناولون معظم الطعام بأصابعهم، ولم تكن هناك إلا وجبتان منتظمتان في اليوم، إحداهما في الساعة العاشرة، صباحا، والأخرى في الرابعة مساء، غير أن كلتا الوجبتين قد تدوم عدة ساعات. وكان موعد الوجبة في البيوت الكبيرة يعلن بالنفخ في بوق الصيد. وقد تكون مائدة الطعام ألواحاً خشنة تقام على قوائم من الخشب، وقد تكون أحيانا خوانا عظيما متين من الخشب الثمين المحفور حفراً يدعو إلى الإعجاب، وكان من حولها مقاعد أو دكك، والدكة تسمى بالفرنسية banc ومنها اشتق لفظ banquet للوليمة. وكانت في بعض البيوت الفرنسية آلات عجيبة ترفع مائدة كاملة الإعداد من طبقة سفلى أو تنزلها من طبقة عليا، ثم تزيلها من فورها حين يفرغ الجالسون من تناول الطعام (109)، وكان الخدم يحملون أباريق الماء لكل طاعم يغسل فيها يديه ويجففهما في قطائل يأخذها أولئك الخدم، ولم تكن هذه القطائل تستخدم في القرن الثالث عشر، ولكن الطاعمين كانوا يجففون أيديهم في غطاء المائدة (110). وكان الطاعمون يجلسون أزواجا، كل زوج مكون من رجل وامرأة، وكان كل اثنين يأكلان عادة من صحفة واحدة، ويشربان من كوب واحد (111). وكان كل فرد يعطي ملعقة، وكانت الشوك معروفة في القرن الثالث عشر، ولكنها قلما كانت تقدم(16/209)
للطاعمين، وكان الآكل يستخدم سكينه الخاصة. وكانت الأكواب، وأطباقها والصحاف تصنع عادة من الخشب (112)، ولكن سادة الإقطاع والأغنياء من الطبقة الوسطى كانت لهم صحاف من الخزف أو من مزيج القصدير والرصاص ومنهم من كان يضع على المائدة أدوات من الفضة، بل إنها كانت تتخللها آنية من الذهب في بعض الأحيان (113). وقد تضاف إلى هذه الآنية صحاف من الزجاج، وصحفة أخرى كبيرة من الفضة في صورة سفينة، تحتوي أنواعا من التوابل، وسكين صاحب الدار وملعقته. وكان كل اثنين من الآكلين يعطيان قطعة كبيرة من الخبز، مستوية، ومستديرة، وسميكة، يضع عليها كل واحد اللحم والخبز يأخذهما بأصابعه من الصحفة العامة التي يدار بها عليه. وكان الطاعم يأكل هذه القطعة بعد نهاية الطعام أو تعطى إلى الكلاب والقطط التي يغص بها المكان، أو ترسل إلى الفقراء من الجيران. وكانت الوجبة العظيمة تختم بالتوابل والحلوى، ثم النبيذ.
وكان الطعام موفوراً، أو متنوعاً، وحسن الإعداد، ألا أن انعدام وسائل التبريد سرعان ما كان يفسد اللحم، ويملى من شأن التوابل التي يستطاع بها حفظه أو إخفاء تلفه. وكانت بعض هذه التوابل تستورد من بلاد الشرق ولكن غلو ثمنها كان يجعل الناس يزرعون غيرها في حدائق البيوت - ومن هذه البقدونس، والخردل، والقصعين، واليانسون، والثوم، والشبت ... وكانت كتب الطهو كثيرة ومعقدة، وكان الطاهي في المنزل العظيم رجلا عظيم الشأن يحمل على كتفيه كرامة البيت وسمعته، وكانت لديه طائفة كبيرة من الأوعية النحاسية، وآنية الغلي، والقدور، وكان يفخر بما يقدمه من الأصناف التي تسر العين وتلذ الفم. وكان اللحم، والدجاج، والبيض رخيصا (114)، وإن كان ثمنها مع ذلك يضطر الفقراء إلى الاقتصاد على الحضر وهم كارهون (115). وكان الفلاحون يطعمون الخبز الأسمر الخشن المصنوع من دقيق الشعير، والشوفان،(16/210)
أو الشيلم كاملا، يخبز في البيت، أما سكان المدن فكانوا يفضلون الخبز الأبيض -يصنعه الخبازون- يظهرون بذلك علوهم عن أهل الريف. ولم تكن هناك بطاطس، أو بن، أو شاي، ولكن اللحوم والخضر التي تؤكل الآن في أوربا - ومنها ثعابين الماء، والضفادع، وحيوانات القواقع أن يحل عهد شارلمان كان الأوربيون قد أتموا، أو كادوا يتمون، أقلمة الفواكه وأنواع النقل الأسيوية، غير أن البرتقال كان لا يزال نادراً في القرن الثالث عشر في شمال جبال اللب والبرانس. وكان أكثر اللحوم انتشاراً هو لحم الخنزير، فقد كانت الخنازير تقتات بالفضلات التي تلقى في الشوارع، ثم يأكل الناس الخنازير. وكان من الاعتقادات الشائعة أن لحم الخنزير يسبب الإصابة بالجذام، ولكن هذا الاعتقاد لم يقلل من رغبة الناس فيه، وكان الوزم والفصيد (1) من الأطعمة المحببة في العصور الوسطى، وكان المضيف من العظماء يضع على المائدة في بعض الأحيان خنزيراً كاملا، ويقطعه أمام ضيوفه، وكان هذا يعد من الأطعمة الشهية التي لا تقل في ذلك عن لحوم الحجل، والسمان، والدج، والطاووس، والكركي. وكان السمك من الأطعمة الأساسية، والرنكة من الأطعمة التي يعمد إليها الجنود، والحارة، والفقراء، أما منتجات الألبان فكان استعمالها أقل منه في هذه الأيام، ولكن جبُن بري Brie اشتهر منذ ذلك الوقت البعيد (117). ولم تكن أنواع السلطة قد عرفت، وكانت الحلوى نادرة. وكان السكر لا يزال يستورد من الخارج، ولم يكن قد حل بعد محل عسل النحل في التحلية؛ وكانت الحلوى بعد الطعام هي الفاكهة والنقل، وكانت الفطائر لا حصر لها لأنواعها، يشكلها الخبازون هي والكعك بألطف ما يتصوره الخيال من أشكال ولا يلومهم على هذا أحد رجلا كان أو امرأة (118). وقد يبدو من الأمور الغريبة التي
_________
(1) دم يوضع في معى ويشوى. (المترجم).(16/211)
لا يصدقها العقل أنهم لم يكونوا يدخنون بعد الطعام، وكان الرجال والنساء يستبدلون بهذا شرب الخمر.
وإذ كان الماء غير المغلي مما لا تؤمن عاقبته فقد كانت جميع الطبقات تجد في الجعة والنبيذ بديلا منه، ولهذا كان من الأسماء النادرة اسما Drinkwater Boileu, " اشرب الماء" وفي هذا دليل على عدم الميل إلى شربه. وكان من أنواع الخمور خمر التفاح والكمثرى، وكانا من المسكرات الرخيصة التي يتناولها الفلاحون. وكان السكر من الرذائل المحببة للرجال والنساء في العصور الوسطى، وكانت الحانات يخطئها الحصر، والجعة رخيصة الثمن، فكانت هي شراب الفقراء المعتاد يتناولونه في جميع الأوقات حتى في الفطور. وكان يسمح للأديرة والمستشفيات القائمة شمال جبال الألب بجالون من الجعة لكل شخص في اليوم (119). وكان لكثير من الأديرة، والقصور، وبيوت الأغنياء، معاصرها الخاصة، لأن الجعة في البلاد الشمالية كانت من ضرورات الحياة لا تزيد عليها في ذلك إلا الخبز. وكان الأغنياء في كل الأمم، وجميع الطبقات في أوربا اللاتينية، يفضلون عليها النبيذ، وكانت فرنسا تعصر أشهر أنواعه، وتتغنى بمديحه في مئات الأغاني الشعبية. وكان الفلاحون في وقت قطف الكروم يعملون أكثر مما يعملون في سائر أيام العام، وكان رؤساء الأديرة الصالحون يجزونهم على جدهم بإجازة من القواعد الأخلاقية، وتحتوى اغنية كان يتغنى بها نزلاء دير القديس بطرس في الغابة السوداء بعض عبارات رقيقة:
فإذا وضع الفلاحون العنب، جئ بهم إلى الدير وقدم لهم اللحم والشراب بكثرة، ووضعت هناك خابية كبيرة، ملئت بالنبيذ ... ليشر منها كل واحد منهم ... فإذا لعب الشراب برؤوسهم وضربوا الخازن أو الطاهي، لم يؤدوا غرامة من أجل هذا العمل، وظلوا يشربون حتى لا يستطيع كل اثنين منهم أن يحملا الثالث إلى العربة (120).(16/212)
وكان رب البيت عادة يسلي المدعوين بعد الوليمة بضروب من الشعوذة، والشقلبة، والغناء، والتهريج. وكان لبعض سادة الإقطاع طائفة خاصة بهم من هؤلاء المسلين وكان لبعض الأغنياء مازحون في وسعهم أن يوجهوا وقاحتهم المرحة وفكاهاتهم البذيئة دون أن يخشوا عقاباً أو تأنيباً. وإذا أراد المدعوون أن يقوموا هم بتسلية أنفسهم كان في وسعهم أن يرووا القصص، أو يستمعوا إلى الموسيقى أو يعزفونها، أو يرقصوا، أو يتغازلوا، أو يلعبوا النرد والشطرنج، والألعاب الداخلية الأخرى، وحتى الأشراف أصحاب الألقاب من الرجال والنساء كانوا يتراهنون ويلعبون الغميضاء. ولم تكن ألعاب الورق قد عرفت بعد، وقد حرمت القوانين الفرنسية الصادرة في عام 1256 و1291 صنع النرد أو لعبه، ولكن لعب الميسر بالنرد كان واسع الانتشار رغم هذا التحريم، وكان رجال الأخلاق يتحدثون عن ثروات فقدت ونفوس ضلت نتيجة للعب الميسر. ولم يكن هذا اللعب محرماً على الدوام بمقتضى القانون، وكانت سيينا Saiena تهيئ له أمكنة في الميدان العام (121)، وقد حرم بأمر من مجلس عقد في باريس (1213) وبمرسوم أصدره لويس التاسع (1254)، ولكن أحداً لم يهتم بهذا التحريم: وأضحت هذه اللعبة من ضروب التسلية التي ينهمك فيها الأشراف ويقضون فيها أوقاتاً طويلا، وهي التي اشتق منها اسم خازن بيت مال الملك exchequer من المنضدة أو لوحة الشطرنج المختلفة الألوان Chequered table أو Chessboard التي كان إيراد الدولة يعد عليها (122). وقد ذهل أهل فلورنس في أيام دانتي من لاعب مسلم كان يلعب على ثلاث لوحات مختلفة في وقت واحد مع أمهر لاعبي المدينة، فقد كان ينظر بعينيه إلى إحدى اللوحات، ويحتفظ بوضع اللوحتين الأخريين في عقله، وقد كسب لعبتين وتعادل مع اللاعب الثالث (123). وكانت لعبة الداما معروفة في فرنسا وإنجلترا، وتسمى في الأولى dames وفي الثانية draughts.(16/213)
وكان الواعظون من رجال الدين يحرمون الرقص، ولكن الناس كلهم تقريباً يمارسونه إلا من وهبوا أنفسهم للدين. وكان تومس أكويناس ذو النزعة المعتدلة يبيح الرقص في حفلات العرس، أو في الاحتفال بقدوم صديق من خارج البلاد أو بنصر قومي، وقد بلغ من أمر هذا القديس الطيب القلب أن قال: إن الرقص إذا كنت في حدود الأدب رياضة بدنية مفيدة للصحة (124)، وأظهر ألبرتس مجنس مثل هذا التسامح، ولكن رجال الأخلاق في العصور الوسطى كانوا يعترضون على الرقص ويعدونه من اختراع الشيطان (125)، ولم تكن الكنيسة ترضى عنه، لأنها تراه مغرياً بالفساد (126)، ولقد بذل شباب العصور الوسطى الجرئ كل ما في وسعه لتبرير مخاوفها (127). وكان الفرنسيون وألمان بنوع خاص مولعين بالرقص، وابتدعوا كثيراً من ضروبه الشعبية، يمارسونها في مواسم السنة الزراعية، أو الاحتفال بالنصر، أو لتقوية روح الشعب المعنوية إذا ألمت به كارثة أو انتشر بينه وباء. ويصف أحد الكتاب أن رقص البنات في الحقول بقوله: إنه أبهج ملذات الربيع، وإذا ما احتفل بمنح لقب فارس لأحد الشبان اجتمع كل الفرسان المجاورون له بعدتهم الحربية كاملة، وقاموا بضروب من الألعاب على ظهور الخيل أو راجلين، والعامة من حولهم يرقصون على نغمات الموسيقى العسكرية. وكان الناس أحياناً يسرفون في الرقص حتى يصبح وباءاً: فقد حدث في عام 1237 أن فرقة من الأطفال الألمان ظلت ترقص على طول الطريق من إرفورت Erfurt إلى أرنسادت Arnsadt، حتى مات كثيرون منهم في الطريق، وظل بعض من نجا منهم ويعانون من مرض الرقاص St Yttus' Dance (1) أو غيره من الاضطرابات العصبية الأخرى طول حياتهم (128).
وكان معظم الرقص يدور أثناء النهار وفي الهواء الطلق، ذلك بأن بيوت لم تكن جيدة الإضاءة بالليل - فقد كانت تنار بمصابيح مرتكزة أو معلقة ذات
_________
(1) اضطراب عصبي مصحوب بتشنجات متقطعة (المترجم)(16/214)
فتائل وبها زيت، أو بمشعل من شحم الضأن، وإذ كان الشحم والزيت كلاهما غاليا فقد كان العمل والقراءة قليلين بعد غروب الشمس. ولهذا كان الضيوف يتفرقون بعد الظلام بزمن قليل، ويأوي أصحاب البيت إلى حجراتهم الخاصة. وقلما كانت حجرة النوم كافية، وكان يحدث أحياناً أن يجد الإنسان فراش نوم إضافي في بهو المسكن أو في حجرة الاستقبال. وكان الفقراء ينامون مستريحين على فراش من القش، والأغنياء ينامون متعبين على وسائد معطرة، وحشيات من الريش. وكانت فرش العظماء تغطى بكلة تقيهم البعوض ويستعان على تعليقها بكراسي. ولم تكن ثمة ما يمنع نوم عدد من الأفراد ذكورا كانوا أو إناثاً صغاراً أو كباراً في حجرة واحدة. وكان الناس مع جميع الطبقات في إنجلترا أو فرنسا ينامون عشرة (129).(16/215)
الفصل الثامن
المجتمع والألعاب
لقد كانت الغلطة التي تتصف بها آداب العصور الوسطى بوجه عام يخففها بعض ما في التأديب والمجلات الإقطاعية من ظرف. فقد كان الرجال إذا التقوا يسلم بعضهم على بعض باليد، كأن هذا عهد منهم بالمسالمة وعدم الاستعداد لاستلام السيف. وكان ألقاب الشرف لا حصر لها وكانت متفاوتة المنزلة تبلغ المائة عدا، وكان من العادات الظريفة أن يخاطب كل كبير بلقبه واسمه الأول أو اسم ضيعته. وقد سن قانون للآداب يتبعه أفراد المجتمع الراقي في الظروف المختلفة- في البيت، وفي أثناء الرقص، وفي الشوارع، وفي ألعاب البرجاس، وفي بلاط الملك، وكان على السيدات أن يتعلمن كيف يمشين، ويحيين، ويركبن الخيل، ويلعبن، ويحملن الصقور برشاقة على معاصمهن ... ، وكانت هذه الآداب كلها وأخرى مثلها للرجال تؤلف ما يعرف باسم آداب البلاط Courtoisie. وقد نشرت القرن الثالث عشر إرشادات كثيرة الآداب اللياقة (130).
وكان المسافر ينتظر المجاملات والضيافة من أبناء طبقته. فكان المسافرون يستضافون أثناء سفرهم في أديرة الرجال إن كانوا ذكوراً والمسافرات يستضفن في أديرة النساء، على سبيل الصدقة إن كانوا فقراء أو نظير أجور أو هبات إن كانوا أغنياء. وقد أنشأ الرهبان منذ القرن الثامن مضايف عند ممرات جبال الألب، وكان لبعض الأديرة بيوت كبرى للضيوف تتسع لثلاثمائة من المسافرين وبها إسطبلات لخيولهم (131). على أن معظم المسافرين كانوا ينزلون في "نزل" أنشئت على الطريق، وكانت رخيصة الأجور، وفي استطاعته الرجل أن يجد فيها مومساً بأجر(16/216)
معتدل إذا حافظ على كيس نقوده من السرقة، وكان الكثيرون يتحدون أخطار السفر - لما يجدونه في الطريق من أسباب الراحة السالفة الذكر - ومن هؤلاء التجار، وأصحاب المصارف، والقساوسة، والدبلوماسيون، والحجاج، وطلاب العلم، والرهبان، والسائحون، والأفاقون. وكانت طرق العصور الوسطى، على ما فيها من متاعب وأخطار غير مشجعة على الأسفار، غاصة بالكثيرين من الناس ذوى التشوق والآمال الذين يظنون أنهم سيكون أسعد حالا إذا بدلوا أماكنهم.
وكانت الفروق بين الطبقات شديدة في الأسفار كما هي في التسلية والألعاب. ولكن الخاصة والسوقة كانوا يختلطون من حين إلى حين: إذا عقد الملك جمعية عامة من أتباعه الإقطاعيين، ووزع الطعام على المجتمعين، وإذا قام الفرسان الأشراف بحركات عسكرية، وإذا دخل أمير أو أميرة، أو ملك أو ملكة إحدى المدن كامل العدة في موكب فخم واصطف الناس على جانبي الطريق العام ليمتعوا أنظارهم بموكبه، وإذا أقيم برجاس أو عقدت محاكمة بالاقتتال وسمح للجمهور بحضورهما. وكانت المشاهد المنظمة جزءاً أساسياً من الحياة في العصور الوسطى، فقد كانت المواكب الدينية، والاستعراضات العسكرية، والاحتفالات التي تقيمها نقابات الحرف؛ تملأ الشوارع بالأعلام، والمشاعل، وصور القديسين من الشمع، والتجار السمان، والفرسان المتبخترين، والفرق الموسيقية العسكرية، وكان الماجنون المتنقلون يمثلون مسرحيات قصيرة في القرية أو ميدان المدينة، والمغنون الجائلون يغنون ويلعبون، ويقصون قصص الغرام، والمشعوذون والقفازون يعرضون ألعابهم، والرجال والنساء يمشون أو يرقصون على حبال مشدودة فوق هاويات سحيقة خطرة، وكنت ترى أحياناً رجلين معصوبي العيون يمارس كلاهما بعض الحيل على زميله، أو كان يؤتى بطائفة من الوحوش إلى البلدة حيث تعرض حيوانات غريبة ورجال عجيبون، وحيث يقتتل حيوان مع حيوان حتى يقتل أحدهما.(16/217)
وكان الصيد رياضة ملكية يعمد إليها الأشراف ولا تقل شاناً عندهم عن المثاقفة. وكانت قوانين الصيد تحدد مواسمه بفترات قليلة من العام، وكانت للأشراف أملاك يصيدون فيها ويُعَد الاعتداء عليها سرقة بحكم القانون. وكانت غابات أوربا لا تزال مسكناً لوحوش لم تعترف بعد بفوز الإنسان في حربه من أجل الاستيلاء على الكواكب الذي تعيش فيه؛ وحسبنا أن نذكر أن مدينة باريس مثلا قد هاجمتها الذئاب عدة مرات في العصور الوسطى. وكان الصائد من ناحية ما يعمل للاحتفاظ بسيادة الآدمي المزعزعة على هذه الأرض، كما كان يعمل من ناحية أخرى لزيادة موارد الطعام، ولم يكن أقل من هذين العملين شأناً أنه كان يعد نفسه للحرب التي لا مفر منها بتقوية جسمه وروحه وتعويدهما ملاقاة الأخطار، والقتال، وسفك الدماء. وكان في الوقت عينه يجعل من عمله هذا مهرجاناً. فكانت القرون العظمية المصنوعة من العاج والمطعمة أحياناً بالذهب تدعو النساء، والرجال، والكلاب: النساء يجلسن في رشاقة على الجياد المتبخترة وأرجلهن على جانب واحد من السروج، والرجال في حلل زاهية وعدة حربية متباينة - القوس والسهم، والبلطة الصغيرة، والحربه، والسكين، وكلاب الصيد على اختلاف أنواعها تجذب مقودها. وإذ ما أدى الطراد إلى عبور حقول الفلاحين، كان من حق السيد وأتباعه، وضيوفه أن يعبروا هذه الحقول مهما يكن التلف الذي يصيب البذور والمحاصيل، ولم يكن يشكو من الفلاحين إلا المتهورون الذين لا يحسبون للعواقب حساباً (132). وقد نظم الفلاحون الفرنسيون الصيد فجعلوا له قواعد، وسمه الطراد، ووضعوا له مراسم وآداباً معقدة.
وكانت السيدات يشتركن بنوع خاص في أكثر ضروب الصيد أرستقراطية - وهو الصيد بالبزاة، فقد كان في جميع الضياع الأكرى أقفاص تحوي أنواعاً كثيرة من الطيور، أغلاها ثمناً هي البزاة. وكان البازي يعلم الجلوس على معصم السيد أو السيدة في أي وقت، وكانت بعض السيدات المتأنقات يحتفظن بها وهن(16/218)
يستمعن إلى الصلاة في الكنائس. وقد ألف الإمبراطور فردريك الثاني كتاباً ممتازاً في الصيد بالبزاة بلغت عدد صفحاته 589 صفحة، وكان هو الذي جاء إلى أوربا من بلاد الإسلام بعادة السيطرة على أعصاب البازي وتشوقه بتغطية رأسه بغطاء من الجلد. وكانت أنواع مختلفة من البزاة تدرب على الطيران العالي، ومهاجمة أنواع مختلفة من الطيور، وقتلها أو جرحها، ثم العودة إلى معصم الصائد، حيث يقربها ويقدم لها قطعه من اللحم جزاء لها على صنعها فتسمح له بأن يضع رجليها في شرك حتى يبصر فريسة أخرى. ويكاد يكون البازي الحسن التدريب أحسن ما يهدى للشريف أو الملك، وقد أفتدى أحد أدواق برغندية ولداً له بأن أرسل أثنى عشر صقراً أبيض لأسرة السلطان بايزيد. وكان منصب حافظ البزاة الأكبر في فرنسا من أعلى المناصب وأكبرها مرتباً في المملكة.
وكانت كثيراً من الألعاب الأخرى تخفف عن الناس حر الشمس وبرد الشتاء، وتحول عواطف الشباب ونشاطه إلى ضروب من المهارة الحيوية. فقد كان كل صبي تقريباً يتعلم السباحة، وكان الناس كلهم في شمال أوربا يتعلمون الانزلاق على الثلج، وكان سباق الخيال من الألعاب المحبوبة الواسعة الانتشار وبخاصة في إيطاليا، وكانت كل الطبقات تمارس الرمي بالقوس والسهام، ولكن طبقات العمال وحدها هي التي كانت تجد فسحة من الوقت لصيد السمك، وكانت في العصور الوسطى ضروب مختلفة من ألعاب الكرة، ولعبة الكرة والصولجان hockey، ورمي القرص quoits، والمصارعة والملاكمة، والتنس Tennis، وكرة القدم ... وقد نشأت لعبة التنس في فرنسا، ولعل منشأها هناك من أصل إسلامي، ويلوح أن اسمها مشتق من لفظ Tenezi الفرنسي أي "العب"- وهو اللفظ الذي كان اللاعب يعلن به بداية لعبه (133). وقد انتشرت هذه اللعبة في فرنسا وإنجلترا انتشاراً بلغ منه أن كانت تلعب أحيانا أمام جماهير كبيرة في دور التمثيل أو الهواء الطلق (134). وكان الأيرلنديون يلعبون لعبة الكرة والصولجان(16/219)
منذ القرن الثاني الميلادي، ويصف مؤرخ بيزنطي من رجال القرن الثاني عشر وصفاً حياً مباراة في الجحفة (البولو) استخدمت فيها مضارب ذات أوتار من الحبال شبيهة بلعبة لاكرس Lacrosse الكندية (135). ويقول أحد مؤرخي العصور الوسطى الإخباريين (1) وهو مروع وجل إن كرة القدم "لعبة بغيضة يدفع فيها الشبان كرة ضخمة، لا يقذفها في الهواء، بل يضربها بالقدم" (136). ويبدو أن هذه اللعبة جاءت من بلاد الصين إلى إيطاليا (137) وإنجلترا حيث انتشرت في القرن الثالث عشر انتشاراً واسعاً، وقد بلغ من عنفها أن حرمها إدوارد الثاني لأنها تؤدى إلى تعكير السلم (1314).
وكان الناس وقتئذ أكثر ميلاً إلى التآلف والاشتراك في الحياة مما هم الآن وكانت أنواع النشاط الجماعية تهز المشاعر في أديرة الرجال والنساء، وفي الجامعات، والقرى، ومراكز نقابات الحرف. وكانت الحياة بهجة مرحة في أيام الآحاد والأعياد بنوع خاص، ففي تلك الأيام كان الفلاحون، والتجار وكبار الملاك يلبسون أحسن ما عندهم من الثياب، ويطيلون الصلاة أكثر من المعتاد، ويشربون أكثر ما يستطيعون (138). وكان الإنجليز إذا حل أول يوم من شهر مايو يقيمون عمود هذا العام، ويضيئون المشاعل، ويرقصون حولها، وكأنهم يعيدون وهم نصف واعين ذكريات أعياد الخصب الوثنية. وكانت كثير من البلدان والقصور في أيام عيد الميلاد تعين "سيداً لسوء الحكم" ينظر للجماهير ضروب التسلية والمناظر. وكان المهرجون يلبسون الأقنعة، واللحى المستعارة، وينشدون أغاني عيد الميلاد، وكانت البيوت والكنائس تزدان بشرابة الراعي واللبلاب "وبكل ما هو أخضر في هذا الفصل من السنة (139) ". وكانت هناك
_________
(1) المؤرخون الاخباريون هم اللذين يكتفون في تواريخهم بإيراد الحوادث وتواريخها Chronicler مع وصف كما يشاهدونه في بعض الأحيان أمثال الجبرتي. (المترجم)(16/220)
أعياد للفصول الزراعية، وللانتصارات القومية أو المحلية، وللقديسين، ولنقابات الحرف، وقلما كان يوجد في تلك الأيام رجل لا يملأ معدته بالشراب. وكان لإنجلترا المرحة أسواق تنساب فيها الأموال وتجرى فيها الجعة جرياناً سريعاً ولكنه ليس بالمجان، وكانت الكنيسة في القرن الثالث عشر تندد بهذه الاحتفالات، ولكنها هي نفسها اتخذتها أعياداً لها في القرن الخامس عشر (140).
وقد كيفت بعض الأعياد حفلات الكنيسة فجعلتها جدية في قالب هزلي، صخابة تختلف من الفكاهة الساذجة إلى الهجاء الشائن المقذع، وكانت مدينتا بوفيه Beauvais، وسان Sans، وغيرهما من البلدان الفرنسية تحتفل في اليوم الرابع عشر من شهر يناير بعيد "الحمار" fete a I ane. فتركب فتاة جميلة حماراً، ويخيل ألينا أنها تمثل بهذه الطريقة مريم أم المسيح أثناء فرارها إلى مصر، ثم يقاد الحمار إلى كنيسة، وينحني ويثني ركبته اليمنى احتراماً وعبادة، ويوضع بجانب المذبح، ويستمع إلى قداس وترانيم يتغنى فيها بمديحه، فإذا انتهت الصلاة نهق القس والمصلون ثلاث مرات تكريماً لهذا الحيوان الذي أنجى أم المسيح من هيرودس وحمل عيسى إلى أورشليم (141). وكانت أكثر من عشر مدائن في فرنسا تحتفل في كل عام - ويكون ذلك عادة في يوم عيد الختان - بعيد البلهاء fete de fous. وكان يسمح في هذا اليوم للطبقة الدنيا من القساوسة أن تثأر لخضوعها إلى كبار القسيسين والأساقفة طول العام بالسيطرة على الكنيسة والقيام بالشعائر الدينية، وكانو يلبسون في ذلك اليوم ملابس النساء أو ملابس الكهنوتية مقلوبة، ويختارون واحد منهم ليكون أسقف البلهاء episcopus fatuorum، ثم ينشدون أناشيد بذيئة، ويأكلون الوزم على المذبح، ويلعبون النرد عند أسفله، ويحرقون أحذية قديمة في المبخرة، ويلقون مواعظ مرحة (142). وكانت(16/221)
كثير من البلدان في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تختار من أهلها أسقف صبيان episcopus puerorum، ليرأس زملاءه في تقليد فكه للحفلات الكهنوتية (143). وكان رجال الدين المحليون يبسمون لهذه المهازل الشعبية ويتسامحون فيها، وظلت الكنائس وقتاً طويلا تغض النظر عنها، ولكنها حين رأتها تنزع إلى الإسراف في التحقير والبذاءة اضطرت إلى مقاومتها حتى اختفت آخر الأمر في القرن السادس عشر (1).
وكانت الكنيسة بوجه عام متسامحة لينة الجانب إزاء فكاهات عصر الإيمان الوقحة، وذلك لعلمها أن الناس لا بد لهم أن يتحللوا بين الفينة والفينة من القواعد الأخلاقية، وان تفك القيود التي تعد في الأوقات العادية ضرورية للمجتمع المتمدين. ولقد يغضب بعض أشداء المتزمتين أمثال القديس يوحنا كريسستوم St. Johan Chrysostom وينادون: "أتضحكون وقد صلب المسيح؟ " ولكن "الفطائر، والجعة لم تنقطع، والنبيذ ظل يجري ساخناً في الأفواه، وكان القديس برنار يرتاب في المرح والجمال، ولكن معظم رجال الدين كانوا في القرن الثالث عشر أكولين، يستمتعون باللحم والشراب، ولا يرون في هذا ما يؤنبهم عليه ضميرهم، ولا يغضبون إذا سمعوا فكاهة حلوة أو رأوا ساقاً جميلة، ذلك أن عصر الإيمان لم يكن عصر جد وكآبة، بل كان عصراً مليئاً بالحيوية والمرح الشديد، والعاطفة الرقيقة، والسرور الساذج من نعم الأرض. ولقد كتب طالب مفكر على ظهر كتاب المفردات اللغوية أمنية له يتمناها لنا جميعاً:
_________
(1) بيد أن أسقف غلمان لا يزال ينتخب في كل عام في أدلستون Addlestone من أعمال سري Surrey بإنجلترا.(16/222)
وإني لأرغب أن تكون الأيام كلها إبريل ومايو، وأن يجدد كل شهر جميع الفواكه مرة بعد مرة، وان تنبت في كل يوم أزهار الزنبق، والمنثور، والبنفسج، والورد في كل مكان يطرقه الإنسان، وأن تظل أشجار الغابات مورقة، والمروج خضراء، وأن ينال كل محب محبوبته، وأن يحب كلاهما الآخر حباً صادقاً أكيداً يمتلئ به قلبه، وأن يستمتع كل إنسان بما يحب من اللذة وأن يمتلئ القلب مرحاً وغبطة (145).(16/223)
الفصل التاسع
الأخلاق والدين
ترى هل تؤيد الصورة العامة لأوربا في العصور الوسطى الاعتقاد بأن الدين يبعث على مكارم الأخلاق؟.
إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا بوجه عام لتوحي بأن الثغرة الفاصلة بين نظرية الخلق الطيب وحقيقته في العصور الوسطى أوسع منها في أي عصر آخر من عصور الحضارة. ذلك أن العالم المسيحي في تلك العصور لم يكن يقل عنه في عصرنا اللاديني الحاضر امتلاءاً بالشهوات الجنسية، والعنف، وإدمان الخمر، والقسوة، والفظاظة، والدنس، والشره، والسطو، والخيانة، والتزوير. ويلوح أنه يفوق عصرنا الحاضر في استعباد الأفراد. ولكنه لم يكن يضارعه في الاستعباد الاقتصادي للأقاليم المستعمرة أو الدول المغلوبة. وقد فاقنا في إذلال النساء، ولكنه لا يكاد يضارعنا في عدم الاحتشام، وفي الفسق، والزنا، وفي الحروب الضروس، وفي كثرة من يقتلون فيها. وإذا وازنا بين مسيحية العصور الوسطى والإمبراطورية الرومانية من نيفرا إلى أوليوس، حكمنا أن هذه المسيحية قد رجعت بالناس إلى الوراء من الناحية الأخلاقية، غير أن كثيراً من أجزاء الإمبراطورية كانت في عهد نيرفا قد استمتعت بقرون كثيرة من الحضارة على حين أن العصور الوسطى تمثل في معظم مداها كفاحاً بين المبادئ الأخلاقية المسيحية والهمجية القوية التي كانت تحمل إلى حد كبير المبادئ الأخلاقية لدين لم تهتم هي بتلقي تعاليمه. ولقد كان يسع البرابرة أن يسموا بعض رذائلهم فضائل تستلزمها أحوال زمانهم، فعنفهم تطرف في الشجاعة،(16/224)
وشهوانيتهم زيادة في الصحة الحيوانية، وخشونتهم وصراحتهم في الحديث، وعدم حيائهم إذا تحدثوا عن الأشياء الفطرية ليست شراً من الخلق المصطنع الذي ينطوي عليه شبابنا.
ولقد يكون من الأمور المهمة السهلة أن ندين مسيحية العصور الوسطى بالاعتماد على أقوال من كتبوا في الأخلاق من أبنائها. فقد كان القديس فرانسس يندب سوء أحوال القرن الثالث عشر ويصفه بأنه "زمان الخبث والظلم اللذين لا حد لهما (146)، وكان إنوسنت الثالث والقديس بونافتوراً، وفنسنت البوفينري، ودانتي يرون أن أخلاق ذلك "القرن العجيب" هي الفظاظة التي لا أمل إصلاحها، وقال الأسقف جروستستي Grosseteste، وهومن اكثر أحبار ذلك العصر حصافة، للبابا "إن الكاثوليك في جملتهم أحلاف الشيطان" (147). وحكم روجر بيكن (1214 - 1249) على العصر الذي يعيش فيه حكماً كعادته فقال.
لم يوجد قط، ما يمثله في الجهل ... لأن فيه من الرذائل، ما لا مثيل له في أي عصر سابق ... فيه الفساد الذي لا حد له ... والعهر ... والنهم ... ومع هذا فإن لدينا التعميد ولدينا وحي المسيح ... اللذين لا يستطيع الناس أن يؤمنوا بهما حق الإيمان أو يجلوهما حق الإجلال ... وإلا لما سمحوا لأنفسهم بان يقعوا في هذا الفساد كله ... ولهذا فإن كثيرين من العقلاء يعتقدون أن أوان المسيح الدجال قد آن، وأن نهاية العالم قد اقتربت (149).
ولا حاجة إلى القول بأن هذه العبارات وأمثالها إنما هي مغالاة ضرورية يعمد إليها المصلحون، وأن في وسع الإنسان أن يجد أمثالها في كل عصر من العصور.
ويبدو أن أثر خوف الجحيم في رفع مستوى الخلقي كان أقل من أثر الرأي العام أو القانون في أيامنا هذه أو في ذلك الوقت، ولكن جديراً بنا أن نذكر أن(16/225)
المسيحية هي التي خلقت الرأي العام في تلك الأيام، وأنها هي التي أوجدت القانون إلى حد ما، وأكبر الظن أنه لولا القانون الأخلاقي الذي خلقته المسيحية، وما كان له من أثر ملطف، لكانت الفوضى التي أوجدتها خمسة قرون من الغزو، والحروب، والتدمير والتخريب أشد مما كانت. ولقد يكون الباعث الذي حملنا على اختيار الأمثلة التي ذكرناها في هذا الفصل هو التحيز غير المقصود، فإن لم يكن فإن أحسن ما توصف به أنها جزئية غير وافية، ذلك أن الإحصاءات معدومة وإن وجدت فهي غير موثوق بها، ومن شأن التاريخ أن يسقط من حسابه على الدوام الرجل العادي. وما من شك في أنه كان العالم المسيحي في العصور الوسطى آلاف من السذج الأخيار أمثال أم الأخ سلمبين Salimbene التي يصفها بأنها: "سيدة متواضعة تقية مخلصة، تكثر الصوم، ويسرها أن توزع الصدقات على الفقراء" (140)، ولكن كم مرة نعثر في صفحات التاريخ على مثيلات هذه السيدة؟.
ولقد كانت للمسيحية في الأخلاق آثار رجعية وآثار تقدمية معاً. فلقد كان من الطبيعي أن تضمحل الفضائل الذهنية في عصر الإيمان، وحلت الغيرة والحماسة، والإعجاب بالصلاح والطهارة، والتقوى غير المستندة إلى الضمير، في بعض الأحيان؛ حلت هذه محل الذمة العقلية (النزاهة في النظر إلى الحقائق) والبحث عن الحقيقة. وبدا للناس أن "الأكاذيب التقية" الممثلة في تبديل النصوص، وتزوير الوثائق آثام عرضية بسيطة يتجاوز عنها. وتأثرت الفضائل المدنية بقصر الاهتمام على الحياة الآخرة، وتأثرت أكثر من هذا بانحلال الدولة، ولكن الذي لا شك فيه أن حب الوطن، مهما يكن حبا محليا، لم ينعدم في قلوب الرجال والنساء الذين شادوا هذه الكنائس الكبرى الكثيرة، وبعض الأبهاء العظيمة في المدن. ولعل النفاق، الذي هو من مستلزمات الحضارة، قد زاد في العصور الوسطى، إذ نظرنا إليه في ضوء نزعة القدماء الدنيوية الصريحة،(16/226)
أو الوحشية الجماعية السافرة التي نشاهدها في هذه الأيام.
على أن هذه الرذائل وغيرها تقابلها كثير من الفضائل. فلقد كافحت المسيحية ببسالة وإصرار سيل الهمجية القوي الجارف، وبذلت جهوداً جبارة لتقليل الحروب والمنازعات، والالتجاء إلى القتال والتحكيم الإلهي في المحاكمات، وأطالت فترات الهدنة والسلام، وسمت بعض السمو بعنف الإقطاع ومنازعاته فجعلتهما وفاءاً وفروسية، وقاومت القتال في المجادلات، ومنعت استرقاق المسجونين، وحرمت اتخاذ المسيحيين عبيداً، وافتدت عدداً لا حصر لهم من الأسرى، وعملت على تحرير أرقاء الأرض أكثر مما عملت على استخدامهم في أراضيها، وغرست في النفوس احتراما جديداً للحياة والأعمال البشرية، وحرمت وأد الأطفال، وقللت من الإجهاض، وخففت أنواع العقاب التي كان يفرضها القانون الروماني، قانون القبائل المتبربرة، ولم تقبل مطلقاً أن يكون مستوى الأخلاق عند النساء مختلفاً عنه عند الرجال، ووسعت مجال الصدقات وأعمالها، ووهبت الناس طمأنينة عقلية وسط ألغاز العالم المحيرة للعقول، وإن كانت بعملها هذا قد ثبطت البحوث العلمية والفلسفية. وآخر ما نذكره لها أنها علمت الناس أن الوطنية إذا لم يقاومها ولاء أسمى منها تصبح أداة للشره والنهم الجماعيين. وقد فرضت على جميع المدن والدول الصغرى الأوربية المتنافسة قانوناً أخلاقياً واحداً، وحافظت عليه، واستطاعت أوربا بهديها، وبشيء من التضحية التي لابد منها ببعض حريتها، أن تستمتع مدى قرن من الزمان بالمبادئ الأخلاقية الدولية التي نتمناها ونكافح من أجلها في هذه الأيام - نعني بها أن يكون لها قانون يخرج الدول من قانون الغابة، ويوفر على الناس جهودهم لينفقوها في معارك السلام وانتصاراته.(16/227)
الباب الحادي والثلاثون
بعث الفنون
1095 - 1300
الفصل الأول
يقظة حاسة الجمال
ترى لأي سبب بلغت أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر درجة عليا في الفنون تضارع ما بلغته أثينة في عصر بركليز وروما في عهد أغسطس! الحّق أن لهذه النهضة الفنية أسباباً كثيرة. لقد صدت أوربا غارات أهل الشمال وغارات العرب، ولقد بعثت الحروب الصليبية في نفوس أهلها نشاطاً مبدعاً قوياً، وجاءت إلى أوربا بألف فكرة وفن من الشرق البيزنطي الإسلامي. ونشأت من إعادة فتح البحر المتوسط وفتح المحيط الأطلنطي لتجارة الأمم المسيحية، ومن الأمن والتنظيم اللذين استمتعت بهما التجارة المنقولة في أنهار فرنسا وألمانيا، والبحار الشمالية، واتساع نطاق الصناعة والشئون المالية، نقول نشأت من هذا كله ثروة لم تعرفها أوربا منذ أيام قسطنطين، وقامت فيها طبقات جديدة في مقدور كل منها أن تساعد الفن بالمال، ومدن غنية ذات حكم ذاتي تعمل كل منها جاهدة لكي تشيد كنيسة كبرى أجمل من آخر كنيسة فيها. وكانت خزائن رؤساء الأديرة، والأساقفة، والبابوات تفيض بالمال الذي يأتيها من العشور وعطايا التجار، وهبات النبلاء والملوك. وكانت حركة تحطيم الصور(16/228)
قد قضى عليها، ولم يعد الفن يوسم كما كان يوسم من قبل بأنه عودة إلى عبادة الأصنام، ووجدت في الكنيسة، التي كانت من قبل تخشاه، وسيلة نافعة تغرس بها عقائدها ومثلها في نفوس غير الجهلاء، وتبت فيها ذلك الورع الذي جعلها ترفع الأبراج إلى السماء كأنها أدعية وأوراد صاعدة إلى الله. يضاف إلى هذا أن دين مريم الجديد، المنبعث من قلوب الناس من تلقاء نفسه، قد افرغ ما ينطوي عليه من حب وثقة في معابد فخمة يستطيع آلاف من أبنائها أن يجتمعوا فيها دفعة واحدة يقدمون لها فروض الولاء ويطلبون إليها العون. لقد اجتمعت هذه المؤثرات وأخرى كثيرة لتغمر نصف قارة من الأرض بسيل جارف من الفن لم يسبق له مثيل.
وكانت الفنون قد بقيت في أماكن متفرقة لم تقض عليها أعمال البرابرة المخربة، ولم يمح معالمها ما طرأ على البلدان من ضعف وانحلال، فالمهارات القديمة التي أشتهر بها الأهل الإمبراطورية الشرقية لم تضع قط، وكانت بلاد الشرق اليونانية وإيطاليا البيزنطية هي البلاد التي دخلت منها كثرة الفنانين والموضوعات الفنية في حياة الغرب الذي بعث من جديد. ولقد أدخل شارلمان في خدمته فنانين يونان فروا من وجه محطمي الصور البيزنطيين، وهذا هو الذي جعل فن آخن يقرن الرقة والنزعة الصوفية البيزنطية بالصلابة والنزعة الدنيوية الألمانية. وبدا رهبان دير كلوني الفنانون في القرن العاشر عهداً جديداً في فن العمارة الغربية وزينتها، وكان أول ما فعلوه أن نقلوا النماذج البيزنطية. وكان معلمو مدرسة فن الأديرة التي أقامها منتى كسينو Monte Cassino الرئيس دزدريوس Abbot Desederius، (1072) من اليوناس يسيرون على الأساليب البيزنطية، ولما أراد هونوريوس الثالث (1218) أن يزين جدران سان بولو بالنقوش الجدارية بعث بطلب صناع نقوش الفسيفساء من البندقية، وكان الذين جاءوا متشبعين بالتقاليد البيزنطية. وكان من المستطاع وجود جاليات من الفنانين البيزنطيين في كثير من(16/229)
المدن الغربية، وكان طرازهم في التصوير هو الذي شكل طراز دوتشيو Duccio وسمابيو Cimabue وطراز جيتو Giotto نفسه في بداية عهده. وجاءت الموضوعات البيزنطية أو الشرقية- كالنقوش المركبة من خوص النخل أو ما يشبهه، وأوراق الأقتنا (1)، والحيوانات التي في داخل الرصائع - جاءت هذه الموضوعات إلى بلاد الغرب على المنسوجات، وعلى العاج، وعلى المخطوطات المزخرفة، وعاشت مئات السنين في طراز النقوش الروماني؛ وعادت أشكال العمارة السورية، والأناضولية، والفارسية- العقد، والقبة، والواجهة المحوطة بالأبراج، والعمود المركب الجامع لعدة طرز مختلفة، والشبابيك المجتمعة مثنى أو ثلاثاً تحت قوس يربطها- عادت هذه الأشكال إلى الظهور في عمارة الغرب. إلا أن التاريخ لا يعرف الطفرات ولا شيء قط يضيع.
وكما أن تطور الحياة يتطلب الاختلاف كما يتطلب الوراثة، وكما أن نطور المجتمع يحتاج إلى التجديد التجريبي وإلى العادة التي تعمل على الاستقرار، كذلك لم يكن تطور الفن في أوربا الغربية يتضمن استمرار التقاليد القديمة في المهارات والأشكال، والحافز الناشئ من المثل البيزنطية الإسلامية، بل كان يتضمن بالإضافة إلى هذا عودة الفنان المرة بعد المرة من المدرسة الفنية التي ينتمي إليها إلى الطبيعة، ومن الأفكار إلى الأشياء، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن تقليد النماذج إلى التعبير عن الذات. لقد كان من خصائص الفن البيزنطي القتام المقبض الجمود والسكون، ومن خصائص النقش الغربي الرشاقة الهشة النسائية، وليس في مقدور هذه الصفات أن تمثل ما في الغرب وقتئذ من رجولة حيوية، وما عاد إليه من نزعة همجية، ونشاط قوي. وكانت الأمم الخارجة من العصور المظلمة إلى ضياء القرن الثالث عشر تفضل رشاقة نساء جيتو النبيلة عن صور ثيودور الجامدة
_________
(1) ويسمى أيضاً شوك الجمل أو شوك اليهود أو الكنكر وهو نبات شوكي اتخذت رسوم أوراقه في الزينة المعمارية (المترجم)(16/230)
المنقوشة في الفسيفساء البيزنطية، وتسخر من خوف الساميين من الصور والتماثيل، ولهذا حولت الزخارف المحضة إلى صور الملاك الباسم التي تشاهد في كنيسة ريمس الكبرى، وإلى صورة العذراء الذهبية في أمين Amiens، وهكذا غلبت بهجة الحياة خوف من الفن القوطي.
وكان الرهبان هم الذين حافظوا على الأساليب الفنية في الفن الروماني، واليوناني، والشرقي، ونشروها، كما حافظو على الآداب اليونانية والرومانية القديمة. ذلك أن الأديرة لحرصها على أن تستقل بذاتها دربت النازلين فيها على فنون الزخرفة كما دربتهم على الحرف العملية. فقد كانت كنيسة الدير تطلب مذبحاً، وأثاثاً للمحراب، وكأساً للقربان، وصندوقاً وعلباً لحفظ المخلفات، وأضرحة، وكتلاً للصلاة، وماثلات، وقد تتطلب نقوشاً من الفسيفساء، وصوراً على الجدران، وتماثيل وصوراً تبعث التقى في القلوب، وكان الرهبان يصنعون معظم هذا بايديهم، بل إنهم هم الذين يخططون الدير ويبنونه، كما فعل البندكتيون بدير مونتي كسينو الذي لا يزال قائماً إلى اليوم شاهداً على ما بذلوه في بنائه من جهود. وكانت في معظم الأديرة مصانع واسعة، مثال ذلك أن برناردي تيرون Bernard de Tiron أنشأ بيتاً دينياً جمع فيه على ما يقولون " صناعاً في الخشب والحديد، ونحاتين، وصائغين، ونقاشين، وبنائين ... وغيرهم من العمال الحاذقين جميع الأعمال الدقيقة" (1). ولقد كانت المخطوطات المزخرفة التي كتبت في العصور كلها تقريباً من عمل الرهبان، وكانت أرق المنسوجات من صنع أيدي الرهبان، والراهبات، وكان المهندسون المعماريون الذين شادوا الكنائس على الطراز الروماني في عهدها الأول رهباناً (2)، وأمد دير كلوني غرب أوربا في القرن الحادي عسر وبداية القرن الثاني عشر بالمهندسين المعماريين وبكثير من المصورين والمثالين (3)، وكان دير القديس دنيس في القرن الثالث عشر مركزاً جم النشاط لمختلف الفنون. بل إن أديرة السترسيين نفسها، وهي التي أوصدت أبوابها دون أعمال الزخرفة في(16/231)
أيام برنار اليقظ، سرعان ما استسلمت لمغريات الأشكال وبهجة الألوان، وشرعت تبني أديرة لا تقل في زينتها عن دير كلوني أو دير القديس دنيس. وإذا كانت الكنائس الإنجليزية الكبرى في العادة كنائس أديرة، فإن رجال الدين النظاميين أو الرهبان ظلوا إلى آخر القرن الثالث عشر أصحاب السيطرة على عمارة الكنائس في إنجلترا.
ولكن الدير مهما بلغ من صلاحيته لأن يكون مدرسة وملجأ للروح، مقضي عليه بسبب عزلته أن يكون مستودعاً للتقاليد لا مسرحاً للتجارب الحية، فهو أصلح للحفظ منه للابتكار، ولم تجد حياة العصور الوسطى التعبير الخصب الغزير في أشكال لم تمل التكرار، وصلت بالفن القوطي إلى درجة الكمال، لم تجد تلك الحياة هذا التعبير إلا بعد أن أمدت المطالب الواسعة لذوي الثراء من غير رجال الدين الفنون الدنيوية بحاجتها من الغذاء. ثم تجمع العلمانيون المتخصصون المحررون في إيطاليا أولاً، ثم تجمعت كثرتهم في فرنسا وقلتهم في إنجلترا، في نقابات الحرف، وانتزعوا الفنون من أيدي معلمي الأديرة وصناعها، وشادوا الكنائس الكبرى.(16/232)
الفصل الثاني
زينة الحياة
ومع هذا فإن راهباً هو الذي أكمل وأوضح موجز في فنون العصور الوسطى وحرفها، ذلك هو ثيوفليس Theophilus- حبيب الله - الراهب في دير هلمر زشوزن Helmershausen القريب من بادربورن Paderborn والذي كتب حوالي عام 1190 موجزاً في مختلف الفنون يقول فيه:
ثيوفلس، القس الوضيع ... يوجه كلماته إلى كل من يرغب في أن ينفض عنه كل غبار الكسل وشرود الروح ... بالعمل اليدوي النافع، وبالتفكير السار فيما هو جديد ... (هنا يجد الناس) كل ما عند بلاد اليونان من ألوان ومركبات مختلفة، وكل ما تعرفه تسكانيا من فنون الميناء ... وكل ما تستطيع بلاد العرب أن تعرضه من الأعمال التي تتطلب الليونة، والصهر، والنقش، والحفر، وكل المزهريات الكثيرة الجواهرالمحفورة، والعاج الذي تزينه إيطاليا بالذهب، وكل ما تقومه إيطاليا من أنواع الشبابيك المختلفة الغالية، وكل ما يثني عله الناس من أعمال الذهب، أو الفضة، أو النحاس أو الحديد، أو العمل الدقيق في الخشب أو الحجر.
فها نحن أولاء هذه في الفقرة نشهد ناحية أخرى من نواحي عصر الإيمان، نشهد رجالاً ونساءً، ونشهد بنوع خاص رهباناً وراهبات، يعملون لإشباع الرغبة الغريزية في التعبير، ويجدون متعة في التناسب، والتناسق، والأشكال، ويحرصون على أن يجعلوا النافع جميلا. ولقد كانت أهم ما تحتويه المناظر التي صورت في العصور الوسطى صوراً للرجال والنساء وهم يعملون، وإن غلبت عليها(16/233)
النزعة الدينية، وكان الغرض الأول والأساسي الذي يهدف إليه فنهم هو تجميل أعمالهم، وأجسامهم، وبيوتهم. وكان آلاف من صناع الخشب يستخدمون السكين، والمثقب، والازميل المقعر، والمنحت، ومواد الصقل، لحفر النضد، والكراسي، والمقاعد، والصناديق، والعلب، والخزائن، وأعمدة الدرج، والوزرات، والأسّرة، والصونة، وخزانات الطعام والشراب، والصور والتماثيل المقدسة، وأجزاء المذابح الكنيسة، وأماكن المرنمين ... وتزينها بما لا يحصى من أنواع الأشكال والموضوعات، بارزة وغير بارزة، وكثيراً ما كانوا يضفون الفكاهات الخبيثة التي لا تعرف الفوارق بين ما هو مقدس وما هو دنس. وفي وسعنا أن نجد على الخناجر أشكالاً للبخلاء، والنهمين، والثرثارين، والحيوانات والطيور الغريبة ذات الرؤوس الآدمية. وكان نحاتو الخشب من أهل البندقية يصنعون في بعض الأحيان براويز أجمل من الصور التي في داخلها وأعظم منها قيمة، وفي القرن الثاني عشر بدا الألمان في صناعة حفر الخشب العجيبة التي أضحت من الفنون الكبرى في القرن السادس عشر (1).
ولم يكن الذين يعملون في المعادن أقل شأناً من العاملين في الخشب. فقد كانوا يصنعون الحديد المشغول الرشيق للنوافذ، والأفنية، والأبواب الخارجية، والمفصلات قوية تمتد في عرض الأبواب الضخمة ذات أشكال نباتية متنوعة (كالتي نشاهدها في كنيسة نتردام NotreDame في باريس)، وكان ما يصنع منه لمقاعد المرنمين في الكنائس الكبرى "صلباً الحديد" ورقيقاً، كالمخرمات. وكان الحديد، أو البرونز، أو النحاس يصهر أو يطرق لتصنع منه أجمل المزهريات والقدور، والأباريق، والماثلات، والمباخر، والعلب، والمصابيح، وكانت صفائح البرنز تغطي كثيراً من أبواب الكنائس. وكان صناع الأسلحة يحبون أن
_________
(1) انظر سورة "الصلب" الباقية من القرن الثاني عشر في متحف هلير ستاوت أو تمثال جيمس الأصغر James the Less الباقي من القرن الثالث عشر والمحفوظ بالمتحف الفني في نيويورك.(16/234)
يضعوا شيئاً من الزينة على السيوف وأغمادها، والخوذ، والتروس والدروع، وحسبنا شاهدأً على مقدرة صناع المعادن الألمان الثريا البرنزية الضخمة التي أهداها فردريك الثاني لكنيسة آخن الكبرى، وعلى مقدرة أمثالهم الإنجليز المائلة البرنزية الضخمة (المصنوعة حوالي 1100) المنقولة من جلوستر Gloucester والمحفوظة في متحف فكتوريا وألبرت Victoria and Albert Museum، وإن ولع صناع العصور الوسطى بأن يجعلوا من أبسط الأدوات تحفاً فنية ليتجلى في مزاليج الأبواب، وأقفالها ومفاتيحها، وحتى دوارات الهواء نفسها قد عنوا بزخرفتها بالنقوش الجميلة التي لا تستطيع رؤيتها إلا بالمرقب.
وازدهرت فنون المعادن النفيسة والأحجار الكريمة وسط مظاهر الفاقة العامة، فقد كان للملوك المروفنجيين صحاف من الذهب، وقد جمع شارلمان في آخن كنزاً من المصنوعات الذهبية. وكانت الكنيسة تحس، ومن حقها أن نغفر لها هذا الإحساس، أنه إذا كان الذهب والفضة يزينان وائد الأشراف وأصحاب المصارف، فإن من الواجب أن يسخرا أيضاً لخدمة ملك الملوك. ولهذا صنعت بعض المذابح من الفضة المنقوشة، وبعضها من الذهب المنقوش، كما نشاهد في كنيسة القديس أمبروز St. Anbrose بميلان وفي كنيستي بستونا Pistoia وبازل. وكان الذهب هو المعدن الذي تصنع منه عادة الحقة التي يوضع فيها الخبز المقدس، ويصنع منه الوعاء الذي يعرض فيه على المؤمنين ليعظموه، والكأس التي تحتوي النبيذ المقدس، والعلب التي تحفظ فيها المخلفات المقدسة ولقد كانت هذه الآنية في كثير من الأحيان أجمل صنعاً من أغلى الكؤوس التي تهدى للفائزين في المباريات في هذه الأيام. وكان الصياغ في إسبانيا يصنعون الخيام البديعة التي يحمل فيها الخبز المقدس أثناء سير موكبه في الشوارع. وفي باريس استخدم الصائغ بنار Bonnard، (1212) 1544 أوقية من الفضة وستين أوقية من الذهب ليصنع منها ضريحاً لعظام القديس جنيفييف Genevieve. وحسبنا دليلاً على(16/235)
اتساع مجال فنون الصياغة الفصول التسعة والسبعون التي خص بها ثيوفيلس هذا الفن في كتابه. فيها نجد أن كل صائغ في العصور الوسطى كان ينتظر أن يكون هو وقليني Celiini سواء -يصهر، وينحت، ويطلى بالميناء، ويركب بالجواهر، ويطعم. وكن في باريس في القرن الثالث عشر نقابة قوية للصياغ وتجار الجواهر، وذاعت منذ ذلك الحين شهرة قاطعي الجواهر الباريسيين في عمل الجواهر الصناعية (5). وكانت الأختام التي يبصم بها الأغنياء الشمع الموضوع على رسائلهم أو مظاريفها تصمم وتحفر بعناية فائقة، وكان لكل رئيس ديني خاتم رسمي، وكان كل رجل ظريف أو متظرف يتباهى بخاتم، إن لم يتباهى بأكثر من خاتم، في يده. ألا إن الذين يقدمون لبني الإنسان أسباب غرورهم قلما يعدمون قوتهم.
وكانت النقوش البارزة الصغيرة على المواد الثمينة شائعة بين الأغنياء. وكان لهنري الثالث ملك إنجلترا نقش من هذا النوع قدرت قيمته بمائتي جنيه (000و40 ريال أمريكي)، وجاء بولدين الثاني بنقش أعظم من هذا قيمه من القسطنطينية ليضعه في سانت شابل Sainte Chapelle بباريس. وكان العاج يحفر بأعظم عناية ويبذل في حفرة جهد كبير طوال العصور الوسطى، وتصنع من أمشاط، وعلب، ومقابض، وقرون للشرب، وتماثيل مقدسة، وجلود للكتب، ومحافظ لأوراق الكتابة مزدوجة الثنايا أو مثلثتها، وعصى، وصوالج الأساقفة، وعلب وأضرحة .. وفي متحف اللوفر مجموعة من الأدوات العاجية من مخلفات القرن الثالث عشر تقترب من الكمال قرباً يثير الدهشة وتمثل النزول عن الصليب. وقد غلب الخيال وغلبت الفكاهة على التقى في أواخر هذا القرن فظهرت في بعض الأحيان نقوش دقيقة لمناظر غاية في الدقة في بعض الأحيان على علب المرايا وصناديق الزينة المعدة للنساء اللاتي لا يستطعن أن يعكفن على التقى في جميع الأوقات.(16/236)
وكان العاج إحدى المواد التي استخدمت للتطعيم، وهو الذي يسميه الإيطاليون Intarsia ( وهي كلمة مشتقة من اللفظ اللاتيني Intersere ومعناه يدخل أو يحشر) ويسميه الفرنسيون تلبيساً Marquetry ( من Marquer أي يعلم). وكان الخشب نفسه يطعم به غيره من أنواع الخشب. كأن يحفر رسم في قطعة من الخشب ثم تدخل فيه قطع من خشب آخر وتضغط وتغرى في مواضع الحفر. وكان من أدق الفنون في العصور الوسطى عمل الميناء السوداء (النيلو Niello من اللفظ اللاتيني Nigellus أي أسود) - فكان السطح المعدني يحفر ويطعم بعجينة سوداء مكونة من مسحوق الفضة، والنحاس والكبريت، والرصاص، فإذا اصطنع فنجويرا Finiguerra من هذا الفن في القرن الخامس عشر صناعة النقش على ألواح النحاس.
وقامت صناعة الخزف مرة أخرى من صناعة الفخار حينما أيقظ الصليبيون العائدون من شرق أوربا من العصور المظلمة. وجاءت صناعة الميناء ذات الحزوز إلى بلاد الغرب من بيزنطة في القرن الثامن. ولدينا من القرن الثاني عشر لوحة مصورة تمثل يوم الحساب (1)، وحفرت فيها أرضية من النحاس ثم مليء الفراغ بعجينة الميناء. وكانت مدينة ليموج Limoge الفرنسية تصنع الآنية المطعمة بالميناء منذ القرن الثالث، فلما كان القرن الثاني عشر أضحت هي المركز الرئيسي في غربي أوربا لصناعة الميناء ذات الحزوز والميناء المصبوبة فوق النحاس. وكان الفخرانيون المسلمون في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر يغطون الآنية بطبقة لامعة من القصدير لا ينفذ فيها الضوء، أو من الميناء، ويتخذونها قاعدة
_________
(1) وهي الآن في متحف فكتوريا وألبرت.(16/237)
للزخارف المصورة، وفي القرن الخامس عشر استورد التجار الإيطاليون هذه الآنية من أسبانيا في سفن مملوكة لأهل جزيرة ميورقة وسموا هذه الآنية ميولقة، فاستبدلوا بحرف r حرف I على طريقتهم في الترخيم.
وعاد فن الزجاج الذي كاد أن يبلغ حد الكمال في روما القديمة، إلى مدينة البندقية من مصر وبيزنطة، فنحن نسمع منذ عام 1024 عن اثني عشر مصنعاً في تلك المدينة، بلغ من تنوع منتجاتها أن بسطت الحكومة حمايتها على هذه الصناعة. واقترحت أن يطلق على صانعي الزجاج اسم "السادة". وفي عام 1278 نقل صناع الزجاج إلى حي خاص في جزيرة مورانو Murano ليكونوا هناك آمنين من جهة، وللاحتفاظ بسرية الصناعة من جهة أخرى. وسنت قوانين صارمة تحرم على صناعة الزجاج الانتقال إلى خارج الجزيرة أو الكشف عما في هذه الصناعة من أسرار خفية. وظل البنادقة أربعة قرون يسيطرون من هذه البقعة الأرضية الضيقة على فن الزجاج وصناعته فبي العالم الغربي، وارتقى فنا طلاء الزجاج بالميناء وتذهيبه، وكانت أليفو دي فينيزيا Olivo de Venezia تصنع منسوجات من الزجاج، كما كانت مورانو تخرج مقادير كبيرة من الفسيفساء والخرز، والقنينات، والأكواب، وأدوات المائدة، المصنوعة كلها من الزجاج، بل كانت تخرج مرايا زجاجية أخذت في القرن الثالث عشر تحل محل المرايا المصنوعة من الصلب المصقول. وكانت فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا تصنع هي الأخرى زجاجاً في هذه الفترة ذاتها، ولكنه كان يستخدم كله تقريباً في الأغراض الصناعية، ماعدا الزجاج الملون البراق الذي كان يستخدم في الكنائس الكبرى.
وكانت النساء على الدوام يغمط فضلهن في تاريخ الفن فلا ينلن ما هن خليقات به من التقدير. إن الزينة الشخصية والمنزلية من العناصر الجليلة الشأن في فن الحياة، ولقد هيأت أعمال النساء في تصميم الأزياء، وزينتها الداخلية،(16/238)
وزخرفتها، ونسجها والتصوير عليها، هيأت أعمالهن في هذا أكثر مما هيأت معظم الفنون من أسباب المتعة غير المحسة التي نستمدها من وجود الأشياء الجميلة الصامتة معنا أو بالقرب منا. وكان للمنسوجات الرقيقة المغزولة بحذق وعناية ذات المنظر الجميل والملمس اللطيف قيمة عالية في عصر الإيمان، فقد كانت تغطي مذابح الكنائس، ومخلفات الأولياء، والآنية المقدسة، ويرتديها القساوسة، أفراد الطبقة الراقية في المجتمع رجالاً كانوا أو نساء، وكانت هذه المنسوجات نفسها تلف في ورق ناعم لطيف رقيق، اشتق اسمه من اسمها فسمي "ورق النسيج" واستطاعت فرنسا وإنجلترا في القرن الثالث عشر أن تنزلا القسطنطينية عن عرشها بوصفها أكبر منتج للتطريز الفني، فنحن نسمع في عام 1258 عن نقابات المطرزين في باريس، ويحدثنا ماثيو باريس Matthew Paris تحت عنوان سنة 1246 أن البابا إنوسنت الرابع ذهل حين رأى الأحبار الإنجليز الذين زاروا روما يرتدون ملابس مطرزة بالذهب وأمر أن تصنع مثل هذه الزخارف الإنجليزية الفخمة لحرامله وحلله التي يلبسها في أوقات القداس. وكانت بعض ملابس رجال الدين مثقلة بالجواهر، وخيوط الذهب، واللوحات المصورة المصنوعة من الميناء إلى حد يصعب عليهم معه المشي وهم يرتدونها (6)، ولقد اشترى ثري أمريكي ثوباً كهنوتياً يعرف بإسم حبرية أسكولي Cope of Ascol (1) بستين ألف دولار. وكان أشهر ثوب مطرز في العصور الوسطى هو "ثوب شارلمان الدلماشي: وكان الاعتقاد السائد أنه صنع في دلماشيا، ولكن يغلب على الظن أنه من صنع القسطنطينية في القرن الثاني عشر، وهو الآن من أثمن التحف في كنوز الفاتيكان.
_________
(1) ولما عرف أنها مسروقة أعادها إلى الحكومة الإيطالية، واكتفى بمدلاة جزاءاً له على أمانته.(16/239)
وحلت السجف أو الأقمشة المطرزة التي تزين بها الجدران محل الصور الملونة في فرنسا وإنجلترا، وبخاصة في الأبنية العامة. وكان يحتفظ بعرضها كاملة لأيام الأعياد، فكانت في تلك الأيام تعلق تحت العقود بين أعمدة الكنائس، وفي الشوارع، وعلى القوارب في المواكب، وكانت تنسج عادة من الصوف أو الحرير بأيدي "المتُعباَت" أي الوصيفات اللاتي يخدمن قصور سادة الإقطاع تحت إشراف أمينة القصر. وكان عدد كبير منها تنسجه الراهبات، وبعضه ينسجه الرهبان. ولم تكن المنسوجات التي تزدان بها الجدران تطاول الصور الدقيقة الملونة في جمالها، وكان يقصد بها أن ترى عن بعد، وكان يضحى فيها بدقة الخطوط في سبيل وضوح الصورة ولألاء اللون وثباته. وكان يقصد بها تخليد ذكرى حادثة تاريخية أو قصة خيالية ذائعة الصيت، أو تفريج هم من في داخل البيوت بتمثيل المناظر الطبيعية، أو الأزهار، أو البحر. وقد ورد ذكرها في فرنسا منذ القرن العاشر، ولكن أقدم نموذج لها باق إلى اليوم لا يكاد يرجع عهده إلى ما قبل القرن الرابع عشر. وكانت فلورنس في إيطاليا، وشنشيلا في أسبانيا وبواتييه، وأراس، وليل في فرنسا، تتزعم مدائن الغرب في فن أقمشة الجدران والطنافس. هذا وليست أقمشة بايو Bayeux الذائعة الصيت في العالم كله من نوع هذه الأقمشة إذا أردنا الدقة في التعبير، لأن النقوش التي عليها مطرزة على سطحها وليست جزءاً من النسيج. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى كنيسة بايو التي ظلت تحتفظ بها زمناً طويلاً، وتعزوها الرواية المتواترة إلى ماتلدة زوجة وليم الفاتح وإلى السيدات اللاتي كن في بلاط الملك النورمان، ولكن العلماء الذين لا يبالون بإغضاب كرائم العقائل يفضلون أن يعزوها إلى صناع غير معلومين، وإلى عصر أحدث من عصر وليم (8). وهذه الزينات تنافس المؤرخين الإخباريين في كونها مصدراً من مصادر الفتح النورماندي. فقد نقش على قطعة من نسيج التيل الأسمر، عرضها تسع عشر بوصة وطولها إحدى وسبعون ياردة،(16/240)
ستون منظراً تصور على التوالي الاستعداد إلى الغزو، وسفائن النورمان تشق الإنجليزية بجآجئها العالية المصورة، ومعركة هيستنج الوحشية، وهارولد Harod يتلقى الطعنة ويموت. وهزيمة الجنود الأنجليسكسون وتبدد شملهم، وانتصار القوة المباركة. وهذه الأغطية أمثلة من أعمال التطريز الناطقة بالصبر الطويل، ولكنها ليست من اجمل ما صنع من نوعها. وقد اتخذها نابليون في عام 1083 وسيلة يثير بها الفرنسيين إلى غزو إنجلترا (9) ولكنه نسي أن يستعين على هذا الغزو ببركة الآلهة.(16/241)
الفصل الثالث
التصوير
1 - الفسيفساء
اتخذ فن التصوير في عصر الإيمان ثلاثة أشكال رئيسية: الفسيفساء، والتحلية الصغيرة للكتب، والصور الجدارية، والزجاج الملون.
فأما فن الفسيفساء فكان وقتئذ في عهد الشيخوخة، ولكنه كان في خلال الألفي عام التي مرت عليه قد أثمر كثيراً من الدقة، فقد كان صانعوه، إذا أرادوا عمل الأرضية الذهبية التي يحبونها حباً جماً، يلقون ورقة رقيقة من الذهب حول مكعبات من الفضة، ويغطون هذه الورقة بغشاء رقيق من الزجاج ليمنعوا تلوث الذهب وقتامه، ثم يضعون المكعبات المذهبة في سطوح غير مستوية بعض الشيء ليمنعوا بذلك بريق السطوح. وكان الضوء ينعكس من هذه المكعبات في زوايا مختلفة وبذلك يكسب القطعة كلها نسيجاً حياً.
وأكبر الظن أن فنانين بيزنطيين هم الذين غطوا القباء الشرقي في إحدى الكنائس القديمة في ترشلو Torcello - وهي جزيرة صغيرة قريبة من البندقية - وجدارها الشرقي بنقوش من الفسيفساء تعد اروع ما خلقته العصور الوسطى (10). وتمتد أعمال الفسيفساء في كنيسة القديس مرقص على مدى سبعة قرون، وتمثل أنماطها تلك القرون السبعة، فقد أمر الدوج دمنيكوسلفو Domenico Selvo بعمل أولى نقوش الفسيفساء الداخلية في عام 1071، ويظن أنه استخدم في هذا العمل فنانين بيزنطيين، كذلك تمت فسيفساء عام 1153 تحت إشراف فنانين بيزنطيين، ولم يكن للفنانين الإيطاليين الشان الأكبر في(16/242)
تزيين كنيسة القديس مرقس بالفسيفساء قبل عام 1450، وإن الرسم الفسيفسائي المنقوش في القبة الوسطى في القرن الثاني عشر، والذي تمثل صعود المسيح لهو أسمى ما بلغه هذا الفن، ويقرب منه في روعته النقش الفسيفسائي الذي يمثل يوسف والموجود في قبة البهو. ولقد ظل النقش الفسيفسائي الرخامي الموجود في طوار الكنيسة مدى سبعمائة عام يقاوم خطى بني الإنسان.
وفي الطرف الآخر من إيطاليا اتحد الفنانون اليونان والمسلمون صنع آيات النقش الفسيفسائي في صقلية النورمانية - في الكابلا بلتينا Capella Palatina وفي كنيسة مرترانا Martorana بمدينة بالرم Palermo وفي دير منريال Monreale وكنيسة شفالو Cefalu (1148) . وربما كانت الحروب البابوية التي شبت نارها في القرن الثالث عشر قد عاقت تقدم الفن في روما، ولكن نقوشاً فسيفسائية متألقة صنعت في ذلك القرن لتزدان بها كنائس سانتا ماريا ماجوري Santa Maria Maggiore وسانتا ماريا تراستفيري Trastevere والقديس يوحنا في لاتران "والقديس بولس خارج الجدران". وكان فنان إيطالي هو الذي وضع تصميم النقش الفسيفسائي لكنيسة التعميد في فلورنس، ولكن هذا النقش لا يبلغ من الروعة ما بلغته أعمال الفنانين اليونان في البندقية أو صقلية. وكان لدير سوجر في سانت دنيس (1150) أرضية فسيفسائية فخمة احتفظ ببعض أجزائها في متحف كلوني، وإن طوار دير وستمنستر (حوالي عام 1288) لمزيج من الظلال الفسيفسائية يثير الدهشة والإعجاب غير أن فن الفسيفساء لم يزدهر قط في شمال جبال الألب، فلقد طغى عليه في تلك البلاد الزجاج الملون كما طغت عليه في إيطاليا نفسها حتى كادت تخرجه منها الصور الجدارية حين أقبل على هذا الفن دتشيو Duccio وسيمابيو Cimabue، وجيتو.(16/243)
2 - نقوش المخطوطات
ظل تزيين المخطوطات بالرسوم والنقوش الصغيرة بالفضة المذابة والذهب المذاب، وبالمداد الملون، فناً محبوباً يوائم تقوى الأديرة وجوها الهادئ. وقد بلغ هذا الفن ذروته في بلاد الغرب في خلال القرن الثالث عشر، شأنه في هذا شأن كثير من أوجه النشاط في العصور الوسطى، ولم يبلغ بعدئذ في وقت من الأوقات ما بلغه في خلال القرن من دقة وابتكار وكثرة، فقد حلت في ذلك العهد محل الصور والكسى الجامدة، والألوان الخضراء والحمراء القاسية التي كانت سائدة في القرن الحادي عشر، حلت محلها بالتدريج أشكال رشيقة رقيقة في ألوان جمة العدد، على أرضية زرقاء أو ذهبية، وغلبت صور العذراء على هذه النقوش، كما أخذت من ذلك الوقت تكثر في الكنائس الكبرى.
ولقد أتلفت كتب كثيرة في العصور المظلمة، وتضاعف قيمة ما بقي منها لأنها كانت في نصها وفنها خيطاً رفيعاً من خيوط الحضارة إذا صح هذا التعبير (11). وكان الناس في تلك الأيام يعتزون بكتب الترانيم، وبالأناجيل، والتراتيل، وكتل القداس، وكتب الصلوات، وأدعية الساعات، ويحسبونها الأدوات الحية التي تنقل إليهم الوي الإلهي، ولم يكونوا يرون أن أي مجهود يبذل في تزينها الزينة اللائقة بها أكثر مما تستحق. فكان الواحد منهم يبذل يوماً كاملاً في كتابة الحرف الأول من كلمة، وأسبوعاً كاملا في كتابة عنوان صفحة، ولا يرى في هذا خروجاً على المعقول، وقد حدث في عام 986 أن أقسم هارتكر Hartker أحد رهبان القديس Gall أن يظل ما بقي من حياته الدنيوية داخل جدران أربعة، ولعله كان يتوقع انتهاء العالم ذلك القرن. وظل في صومعته الصغيرة حتى مات بعد خمسة عشر عاماً من دخولها، وفيها زين بالصور والنقوش تراتيل القديس جول (12).(16/244)
وكان فن المنظور وعمل القوالب وقتئذ أقل شأناً مما كانا عليه أيام ازدهارهما في عصر الكارولنجيين، فقد كان أصحاب النقوش الصغيرة يعنون بعمق اللون وبهائه، وازدحام الصور وحيويتها أكثر من عنايتهم بأن يخدعوا الناظر حتى يظن أن ما أمامه فضاء ذو ثلاثة أبعاد. وكانت أكثر موضوعاته تؤخذ من الكتاب المقدس، أو من الأناجيل غير القانونية، أو من أقاصيص القديسين، ولكن صوراً للنبات والحيوان كانت تستخدم أحياناً في تلك الزينة، وكان يسر صاحبها أن يصور نباتات وحيوانات خيالية كما يصور نباتات وحيوانات حقيقية. وكانت القواعد الكنسية المفروضة على الموضوعات وطريقة معالجتها في الكتب المقدسة نفسها أقل دقة وتحديداً في الغرب منها في الشرق، وكان يسمح للمصور أن ينتقل ويلهوا حراً في مجاله الضيق. وكانت رؤوس بشرية مركبة على أجسام حيوانات، ورؤوس حيوانات على أجسام بشرية، وكان قرد في زي راهب، وقرد يختبر في وقار كوقار الطبيب قنينة ملآى بالبول، وموسيقى يطرب سامعيه يحك فكي حمار - كانت هذه هي الموضوعات التي ازدان بها كتاب صلوات ساعات العذراء (13). ونشأت نصوص غير هذه مقدسة ودنسة، واتخذت لها مكاناً في مناظر الصيد، أو البرجاس، أو الحرب، وكان من الصور التي اشتمل عليها كتاب ترانيم في القرن الثالث عشر صورة تمثل داخل مصرف إيطالي، ذلك أن العالم الدنيوي، وقد استفاق من رهبة الأبدية، أخذ يغزو أرباض الحياة الدينية.
وكانت الأديرة الإنجليزية موفورة الإنتاج في هذا الفن السلمي، فقد أخرجت مدرسة أنجيليا الشرقية كتب مزامير واسعة الشهرة: منها كتاب محفوظ في مكتبة بروكسل، وآخر (الأورمبزي Ormbsy) في أكسفورد، وثالث (القديس أومر Omer) في المتحف البريطاني، ولكن خير ما أنتجه هذا الفن كان في فرنسا، فقد بدأت كتب التراتيل التي زينت للويس التاسع طرازاً من النقوش الجامعة المركزة، وتقسما إلى مدليات داخل إطارات، نقلت(16/245)
بلا ريب عن زجاج الكنائس الملون. واشتركت الأراضي الوطيئة في هذه الحركة، فبلغ رهبان ليبج وغنت في فن تزيين الكتب بعض ما بلغه فن النحت في أمين Amiens وريمس Reime من الشعور الحماسي والرشاقة الفياضة، وأخرجت أسبانيا أعظم آية مفردة من آيات هذا الفن في القرن الثالث عشر في كتاب ترانيم للعذراء هو تسابيح (ألفونسو العاشر) الملك الحكيم (حوالي عام 1280). وإن نقوشه الصغيرة البالغ عددها 1226 نقشاً لتشهد بما كان يبذل في كتب العصور الوسطى من كد وإخلاص. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الكتب كانت كتب خط كما كانت كتب تصوير، وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان ينسخ ويؤلف النصوص ويكتبها ثم يرسم النقوش بيده. وإن الإنسان ليتردد، إذا أراد أن يحكم على الكثير من الكتب، أيهما أجمل زينتها أو نصها. إلا إننا قد خسرنا بالطباعة الشيء الكثير.
3 - النقوش الجدارية
من العسير علينا أن نقول إلى أي حد أثرت زخارف الكتب من حيث موضوعها وأشكالها في نقوش الجدران واللوحات المصورة، والصور المقدسة، ونقوش الخزف، والنحت البارز، والزجاج الملون، وإلى أي حد أثرت هذه في زخارف الكتب. لقد كان بين هذه الفنون تبادل كثير في موضوعاتها وأنماطها، وتفاعل مستمر. وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان يمارسها جميعاً، وإنا لنظلم الفن والفنان معاً إذا ما فصلنا أحد هذه الفنون عن بقيتها فصلاً تاماً، او فصلنا الفنون عن الحياة القائمة في أيامها، ذلك أن الحقيقة أكثر ارتباطاً أجزائها من تواريخها، وإذا ما جزأ المؤرخ عناصر الحضارة التي يجري تيارها مجتمعاً في مجرى واحد، فإنما يفعل ذلك لسهولة البحث والإيضاح لا غير. وليس من حقنا أن نفصل الفنان عن الثقافة المعقدة التي ربته وعلمته، وأمدته بالتقاليد والموضوعات -(16/246)
وأثنت عليه أو عذبته، واستخدمته، ودفنته، ونسيت اسمه أكثر مما ذكرته.
وكانت العصور الوسطى تقاوم الفردية، وتعدها من العقوق المفلس، وتأمر العبقري أن يغمر نفسه في أعمال زمانه ومجرى حوادثه. وكانت الكنيسة، الدولة، والمدينة المستقلة، ونقابة الحرف في عرف ذلك الوقت هي الحقائق الخالدة، وكانت هي الفنانين أنفسهم، ولم يكن الأفراد إلا أيدي الجماعة، وإذا ما قامت الكنيسة الكبرى على قواعدها كان جسمها وروحها يمثلان جميع ما قدسه واستنفده تصميمها، وبناؤها، وتزيينها من أجسام وأرواح. ومن اجل هذا ابتلع التاريخ جميع أسماء الرجال الذين نقشوا جدران عمائر العصور الوسطى قبل الثالث عشر، ولم يبق من هذه الأسماء إلا القليل، وكادت الحروب، والثورات، والرطوبة التي توالت مدى الدهور تبتلع أعمالهم. ترى هل كان في أساليب ناقشي الجدران عيوب. لقد كانوا يستخدمون أساليب المظلمات وأدهنة الجدران القديمة، فيضعون الألوان على الجدران قبل أن يجف بياضها، أو يرسمون على الجدران الجافة بألوان يجعلونها لزجة بما يدخلونه فيها من المواد الغروية. وكانوا يقصدون بكلتا الوسيلتين أن يخلدوا ما يرسمون، أما بنفاذ الألوان في الجدران أو بتماسكها، ومع هذا كله كانت الألوان تتطاير على مر السنين، ولذلك لم يبق من الرسوم الجدارية التي عملت في القرن الرابع عشر (1) ويصف ثيوفليس (1190) طريقة تحضير الألوان الزيتية، ولكن هذه الصناعة لم تبلغ كثيراً من الرقى قبل عهد النهضة.
ويلوح أن تقاليد النقش الروماني القديم على الجدران قد قضت عليه غارات القبائل المتبربرة وما أعقبها من فقر دائم عدة قرون. ولما أن بعث فن النقش الجداري الإيطالي، لم يسترشد باعثوه بالتقاليد القديمة، بل استرشدوا بأساليب
_________
(1) لهذا يدهش الإنسان من براعة المصريين الأقدمين لأنه يرى الألوان على بعض آثارهم وكأنها قد خرجت تواً من تحت أيديهم. (المترجم)(16/247)
بيزنطية النصف يونانية والنصف شرقية، وإنا لنجد في أوائل القرن الثالث عشر مصورين يونان يعملون في إيطاليا - ثيوفانيس في البندقية، أبونيوس في فلورنس وملورمس Melormus في سيينا ... وتحمل أقدم لوحات الفن الإيطالي الموقع عليها من راسميها في ذلك العهد أسماء يونانية، وقد جاء هؤلاء الرجال معهم بموضوعات وأنماط بيزنطية - بصور رمزية، دينية - صوفية، وهم لا يدعون قط أنهم يمثلون مواقف أو مناظر طبيعية.
ولما زاد الثراء وارتقى الذوق تدريجياً في إيطاليا خلال القرن الثالث عشر، واجتذبت الهبات العالية التي كان يعطاها الفنانون رجالاً من ذوي المواهب العالية، شرع المصورون الإيطاليون -جيونتا بيزانو Giunta Pisano في بيزا، ولابو Lapo في بستويا، وجيدو Guido في سينا، وبيترو كفليني Pietro Kavallini في أسيسي وروما، شرع هؤلاء المصورين يهجرون الطريقة البيزنطية الخيالية الحالمة، وينفثون في رسومهم اللون الإيطالي والعاطفة الإيطالية. ولهذا نقش جيدو (1271) في كنيسة سان دمنيكو في سينا صورة للعذراء بزت بصورة "وجهها الصافي الحلو" (14) أشكال الرسوم البيزنطية الضعيفة التي لا حياة فيها، والتي كانت سائدة في ذلك العصر وتكاد هذه الصورة تكون بداية عصر النهضة الإيطالية.
وبعد جيل من ذلك الوقت دفع دتشيو بيوننسنيا Duccio di Bouninsegna (1273 - 1319) مدينة سيينا في صورة جمالية مزينة بصورة "الجلالة" Maesta التي تمثل العذراء فوق عرشها. وتفصيل ذلك أن المواطنين ذوي الثراء قرروا أن الأم المقدسة، ملكتهم الإقطاعية، يجب أن ترسم صورتها في حجم رائع بيد أعظم فنان يعثرون عليه في أي مكان، وسرهم أن يختاروا لهذا دتشيو ابن بلدتهم، ووعدوه بأن يقدموا له الذهب، ووفروا له الطعام والوقت، راقبوا كل خطوة يخطوها في عمله. ولما أتم بعد ثلاث سنين(16/248)
(1311) وأضاف إليها ذلك التوقيع المؤثر: -" أي أم الإله المقدسة، هي سينا السلام ودتشيو الحياة لأنه صورك في هذه الصورة"- حملت الصورة (وكان طولها أربع عشرة قدماً وعرضها سبعة أقدام) إلى الكنيسة يحف بها موكب من الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، والموظفين، ونصف سكان المدينة، وسط دوي الأبواق ودق النواقيس، وكانت الصورة التي لا تزال تصف بيزنطة في طرازها، تهدف إلى التعبير الديني لا التصوير الواقعي فقد كان أنف العذراء أطول وأكثر اعتدالاً مما يجب أن يكون، وكانت عيناها اكثر قتاماً، ولكن الصور المحيطة بها كانت ذات رشاقة وصفات أخلاقية واضحة، وكانت المناظر المأخوذة من حياة مريم والمسيح، والمرسومة على منصات المذابح والأبراج ذات فتنة جديدة وجلية. وجملة القول أن هذه الصورة كانت أعظم ما صور قبل جيتو Gioffo (1) .
كان جيوفتي سمابو Giovanui Cimabue (1240 - 1302) قد بدا وقتئذ في فلورنس أسرة من المصورين قدر لها أن تسيطر على الفن الإيطالي ملا يكاد يقل عن ثلاثة قرون. وقد ولد جيوفني لأسرة شريفة، وما من شك أنه قد أحزنها حين هجر القانون إلى الفن، وكان ذا روح عالية متكبرة، لا يتردد في أن يطرح وراء ظهره أية صورة يجد فيها هو أو غيره من الناس عيباً ما. ومع أن مدرسته الفنية، كمدرسة دتشيو، فرع من المدرسة الإيطالية - البيزنطية، فإنه قد أفرغ كل كبريائه وكل نشاطه، في فنه، وأثمرت جهوده هذه ثمرة أوفت على الثورة، وقد عمل هو، أكثر مما عمل دتشيو الذي يعلو عليه في مكانته الفنية، على إبطال الطراز البيزنطي وشق طريقاً للرقي جديداً. فثنى ورق الخطوط الجامدة التي كان يرسمها أسلافه، وكسا الروح لحماً، ووهب اللحم دماً ودفئاً، والآلهة والقديسين حناناً آدمياً، وأستخدم في تصويره الألوان الزاهية
_________
(1) والصورة الرئيسية محفوظة الآن في "الأيرا" أي متحف كنيسة سيينا.(16/249)
الحمراء، والقرنفلية، والزرقاء، فنفث في صورة حياة ولألاء لم تعرفهما إيطاليا العصور الوسطى قبل أيامه، على أننا مضطرون إلى قبول كل ما ذكرناه عنه مستندين إلى سهادة معاصريه، لأن الصور التي تعزى له ليس فيها صورة واحدة موثوق بأنها من صنع يده، وأكبر الظن أن صورة العذراء والطفل والملائكة المرسومة بالطلاء المائي لمصلى روشلاي Rucellai في كنيسة سانتا ماريا نوفلا Santa Maria Novella بمدينة فلورنس، أكبر الظن أن هذه الصورة من صنع دتشيو (15) وتعزو رواية يشك فيها بعضهم، ولكنها في أغلب الظن صادقة، إلى سمابيو صورة "العذراء والطفل بين أربعة ملائكة" الموجودة في كنيسة سان فرانسيسكو السفلى في أسيسي. وهذا المظلم الضخم الذي يرجع المؤرخون تاريخه عادة إلى عام 1256 والذي أعيد في القرن التاسع عشر، هو أولى الآيات الفنية الباقية حتى الآن من روائع فن التصوير الإيطالي. وصورة القديس فرانسس التي فيها واقعية إلى حد يشهد بجرأة رسمها - فهي تمثل رجلاً روعته رؤية المسيح إلى حد هزل معه جسمه، وصورة الملائكة الأربعة هي بداية التآلف بين الموضوعات الدينية والجمال النسوي.
وعين سيمابيو في آخر سني حياته كبير أساتذة الفسيفساء في كنيسة بيزا، وفيها كما يقولون، وضع لقباً للكنيسة تصميم فسيفساء "المسيح في المجد بين العذراء والقديس يوحنا". ويروي فساري Vassari قصة لطيفة يقول فيها إن سمابيو وجد في يوم من الأيام غلاماً من الرعاة في العاشرة من عمره يسمى جيتو دي بندوني Giotto di Bondone، يرسم بقطعة من الفحم حمل على أردواز، فأخذه إلى فلورنس وجعله تلميذاً له (16). وليس ثمة شك في أن جيتو عمل في مرسم سيمابيو، وأنه شغل منزل أساتذه بعد موته. وهكذا بدأت أعظم أسرة من المصورين في تاريخ الفن.(16/250)
4 - الزجاج الملون
سبقت إيطاليا شمالي أوربا بمائة عام كاملة في النقوش الجدارية والفسيفساء، وتأخرت عن تلك البلاد مائة عام في العمارة والزجاج الملون. وكان فن تلوين الزجاج معروفاً عند الأقدمين، ولكن أكثر ما عرف منه كان في صورة الفسيفساء الزجاجية، فقد ملأ جريجوري التوري Gregory of Tours (538 - 593) نوافذ كنيسة القديس مارتن بزجاج "مختلف الألوان" وتحدث بولس المنظم (1) Paul the Silentiary عن جمال ضوء الشمس حين يمر خلال الشبابيك المختلفة الألوان في كنيسة أيا صوفيا بالقسطنطينية. ومبلغ علمنا أنه لم تبذل في هذه الحالات أية محاولة لرسم صورة بالزجاج الملون، لكن ادلبيرو Adalbero أسقف مدينة ريمس زين كنيسته حوالي عام 980 بشبابيك "تحتوي تواريخ" (17)، وتحتوي أخبار القديس بنينيس St. Benignus على وصف ل "شباك مصور قديم جداً" يمثل القديس باسكاسيوس St. Paschasius، في كنيسة بدبحون (18). لقد كان هذا زجاجاً مؤرخاً، ولكن يبدو أن اللون هنا قد وضع على الزجاج ولم يصهر فيه. ولما أن قلل فن العمارة القوطية من الثقل الذي تتحمله الجدران وهيأ بذلك مكاناً للنوافذ الواسعة، سمح الضوء الكثير الذي يدخل الكنيسة بهذه الوسيلة- أو بالأحرى تطلب هذا الضوء - تلوين ألواح الزجاج، وبهذا وجدت الحوافز القوية الكثيرة عن وسيلة لتلوين الزجاج تلويناً أبقى على الزمن من الوسيلة القديمة.
والراجح أن الزجاج ذا الألوان المصهورة قد تفرع من الزجاج المطلي بالميناء. ويصف ثيوفيلس في عام 1190 هذه الصباغة الفنية الجديدة فيقول إن "رسماً" أو تصميماً يوضع على منضدة ويقسم أقساماً صغيرة، ويميز كل منها برمز للون
_________
(1) المنظم هنا بمعنى يحفظ النظام في الاجتماع. (المترجم)(16/251)
المرغوب فيه. ثم تقطع قطع من الزجاج قلما يزيد طولها أو عرضها على بوصة واحدة بقدر مساحة الرسم. وتلون كل قطعة من الزجاج باللون المطلوب وذلك بصبغة مكونة من مسحوق الزجاج المخلوط بأكاسيد معدنية مختلفة - الكوبلت للون الأزرق، والنحاس الأحمر أو الأخضر، والمنجنيز للأرجواني ... ثم يحرق الزجاج المطلي بعدئذ لتنصهر الأكاسيد والطلاء في الزجاج، وتوضع الأجزاء بعد تبريدها على التصميم، وتلحم بعضها ببعض بقطع رفيعة من الرصاص. وإذا نظر الإنسان لشباك مصنوع من هذا الزجاج الفسيفسائي فإن العين لا تكاد تلاحظ قطع الرصاص، بل تحسب أجزاؤه سطحاً ملوناً متصلاً. وكان ما يتهم به الفنان في هذه الحال هو اللون، وكان هدفه هو مزج الالوان، ولم يبحث في عمله عن الواقع، ولم يعن بالمنظور، وكان يظهر الأشياء المرسومة صورته بأغرب الألوان - ففيها جمالة خضر، وآساد قرنفلية، وفرسان زرق الوجوه (19). ولكنه حصل على النتيجة التي يبتغيها: حصل على صورة متلألئة مخلدة اللون، وعلى تخفيف الضوء الداخل في الكنيسة وتلوينه، وعلى تعليم العابدين والسمو بنفوسهم.
وكانت الشبابيك - حتى "الورود" العظيمة منها - تقسم في معظم الأحوال إلى لوحات مصورة، ورصائع، ودوائر، ومعينات، ومربعات، وذلك لكي يمثل الشباك الواحد عدة مناظر في سيرة أو موضوع ما. فكان أنبياء العهد القديم يصورون أمام نظائرهم في العهد الجديد أو أمام نبوءاتهم التي تحققت فيه. وكان العهد الجديد تضاف إليه أجزاء من الأناجيل غير القانونية، وقد كان ما تحتويه هذه الأناجيل الأخيرة من الأقاصيص ذات الخيال الجميل عزيزاً على عقل العصور الوسطى محبباً له. وكانت القصص المأخوذة من حياة القديسين أكثر في النوافذ من الحوادث المستقاة من الكتاب المقدس، مثال ذلك أن مغامرات القديس يوستاس St. Eustace كانت تروى على شبابيك تشارتر،(16/252)
وعلى شبابيك سان Sens، وأوكسير Auxerre، ولمان Le Mans، وتور. وقلما كانت حوادث التاريخ غير الديني تظهر على الزجاج الملون.
ولم يمض نصف قرن على ظهور أول مثل للزجاج الملون في فرنسا حتى وصل درجة الكمال في تشارتر، كانت شبابيك الكنيسة الكبرى نماذج ينسج على منوالها أو أهدافاً يسعى لبلوغها في Sens، وليون Leon، وبورج Bourge، ورون. ومن هنا انتقل الفن إلى إنجلترا، وأوحى إلى صناع زجاج كنتربي ولنكلن، وقد نصت معاهدة عقدت بين فرنسا وإنجلترا على أن يسمح لأحد المصورين على الزجاج عند لويس السابع (1137 - 1180) بأن يأتي إلى إنجلترا (20). وفي القرن الثالث عشر كبر الأجزاء التي يتكون منها لوح الزجاج وفقد اللون بعض ما كان في الأعمال الأولى من دقة واهتزاز، وحلت في أواخر ذلك القرن الزخارف المكونة من خطوط خارجية رفيعة حمراء أو زرقاء اللون على قاعدة من لون واحد رمادي محل الألوان المتناسقة في الكنائس العظمى - وكان لفواصل الشبابيك نفسها وقد أخذت أشكالها تزداد تعقيداً على مر الأيام، شأن أكبر في الصورة، ومع أن الزخارف السالفة الذكر أضحت على مر الزمان فناً جميلاً، فإن مهارة المصور على الزجاج أخذت تضعف تدريجياً. ذلك أن روعة الزجاج الملون جاءت مع الكنائس القوطية الكبرى، فلما زال مجد القوط، زالت معه نشوة الألوان.(16/253)
الفصل الرابع
النحت
لقد دُمر الكثير من أعمال النحت لأن البرابرة نهبوه على أثر انتصارهم في غزواتهم، ولأن المسيحية الناشئة حسبته من قبيل عبادة الأوثان الدنيئة. ولكن قليلاً منه نجا من هذا الدمار وبخاصة في فرنسا، فأثار خيال البربرية بعد أن روضت، والثقافة المسيحية بعد أن نضجت. واحتفظت الدولة الرومانية الشرقية في هذا الفن، كما احتفظت في غيره من الفنون، بالنماذج والمهارات القديمة، وأضافت إليها أساليب العرف والتصوف الأسيوية، وعادت فوزعت على الغرب البذور التي جاءت إليها قبل من روما وانتقل النحاتون اليونان إلى ألمانيا بعد أن تزوجت ثيودورا من أتو الثاني (972)، وانتقلوا كذلك إلى البندقية، ورافنا، وروما، ونابلي، وصقلية، ولعلهم انتقلوا أيضاً إلى برشلونة ومرسيليا، وليس ببعيد أن يكون المثالون الذين كانوا يعملون عند فردريك الثاني قد أخذوا فنهم. من هؤلاء الرجال وعن الفنانين المسلمين الخاضعين لسلطانه، ولما أثرت البربرية كان في وسعها أن تجمع بين الهمجية والجمال، ولما أثرت المسيحية، سخرت النحت كما سخرت غيره من الفنون لخدمة عقائدها وشعائرها الدينية، وكانت هذه في آخر الأمر هي الطريقة التي نمت بها الفنون الكبرى في مصر وآسيا، وبلاد اليونان، وروما، ذلك بأن الفن العظيم وليد الإيمان المنتصر.
ولم يكن النحت يفكر فيه على أنه فن مستقل بذاته، بل كان يعد مرحلة من فن شامل، ليس له اسم في لغة من اللغات -ذلك هو زخرفة العبادة،(16/254)
وشأنه في هذا شأن الصور الجدارية، والفسيفساء والزجاج الملون. فكانت مهمة المثال الأولى هي تجميل بيت الله بالتماثيل والنقوش البارزة، وكانت مهمته الثانية هي صنع الصور والتماثيل الدينية لبث روح التقي في البيت، فإذا بقي بعد ذلك وقت ومال كان في وسعه أن ينحت تماثيل لأشخاص دنيويين، أو يزين أشياء لا تمت بصلة إلى الدين. وكانت المادة المفضلة في النحت الخاص بالكنيسة هي التي تتسم بالبقاء كالحجر، والرخام، والمرمر، والبرنز، أما التماثيل فكانت الكنيسة تفضل أن تصنعها من الخشب، ذلك بأن هذه التماثيل يستطيع حملها من غير مشقة المسيحيون السائرون في المواكب الدينية. وكانت التماثيل تلون كما كان يحدث في الفن الديني القديم، وكانت في أكثر الأحيان واقعية أكثر منها مثالية، تهدف إلى أن يشعر العابد بالنظر إلى صورة القديس أنه بين يديه، وقد بلغ من نجاح المثالين في بلوغ هذه الغاية أن كان المسيحي، كما كان العابد في الأديان القديمة، ينتظر أن يصنع التمثال نفسه المعجزات، وقلما كان يخامره الشك إذا سمع أن ذراع المسيح المصنوعة من المرمر قد تحركت لتبارك إنساناً، أو أن ثدي عذراء من الخشب قد در اللبن.
وخليق بكل من يدرس فن النحت في العصور الوسطى أن يستشعر الندم حين يبدأ هذه الدراسة. ذلك أن قسماً كبيراً من آثاره دمرها المتطهرون المتعصبون في إنجلترا، وكان البرلمان في بعض الأحيان هو الآمر بهذا التدمير، كما دمر الكثير من هذه الآثار في فرنسا أثناء الإرهاب الذي تعرض له الفن أيام الثورة. وكان ذلك العمل الرجعي في إنجلترا موجهاً إلى ما بدا لمحطمي الصور الجدد أنه زخرفة وثنية للأضرحة المسيحية، أما في فرنسا فكان يهدف إلى مهاجمة قبور الأسراف المكروهين وما لديهم من مجموعات فنية ودمى. ولهذا نجد في جميع أنحاء البلدين تماثيل بلا رؤوس، وأنوفاً مكسورة، وتوابيت مهشمة، ونقوشاً بارزة، وطنفاً، وتيجان عمد محطمة. ذلك أن ثورة جامحة من الحقد الدفين(16/255)
الذي ظل يغلي زمناً طويلاً في الصدور على الاستبداد الكنسي والإقطاعي قد انفجر مرجلها آخر الأمر في صورة تخريب شيطاني لهذه الآثار - وكأن الزمن وأتباعه من العناصر الجوية قد أجمعت أمرها في ثورة من التدمير، فاكتسحت ظاهر التماثيل، وأذابت الحجارة، ومحت النقوش، وشنت على أعمال الإنسان حرباً باردة صامتة، لم تتخللها قط هدنة، وشن الإنسان نفسه على هذه الآثار ألف حرب وسعى فيها إل النصر بالتنافس في التدمير، فكان من أثر ذلك أننا لا نعرف النحت في العصور الوسطى إلا من حطامه.
وإذا نظرنا إلى عناصره المتناثرة في المتاحف، أضفنا إلى الأذى سوء الفهم. ذلك أن الفن الذي تمثله هذه العناصر لم يكن يقصد به أن ينظر إليه متفرقاً على هذه الصورة، فقد كان في أصله جزءاً لا يتجزأ من موضوع ديني، وكان صرحاً معمارياً كاملاً، ولهذا فإن ما قد يبدو لنا فجاً قبيحاً وهو بمفرده، قد يكون موائماً أحسن موائمة لما يحيط به من الحجارة. لقد كان التمثال القائم في الكنيسة الكبرى عنصراً في مجموعة، موضوعاً في المكان اللائق به، وكأنه يستطيل ليطاول علو الكنيسة الشامخ. فقد كانت الساقان متلاصقتين، والذراعان ملتصقتين بالجسم، وكان تمثال القديس في بعض الأحيان يدق ويمتد حتى يصل إلى أعلى قائمة كتف الباب. وكان المثال يهدف في أحيان قليلة إلى تقوية الأثر الأفقي لا الرأسي في نفس المشاهد، فكان يجعل التماثيل المقامة فوق الأبواب بدينة مفلطحة، كالتي نشاهدها فوق مدخل تشارتر، أو كان رجل أو حيوان يحشر في تاج عمود كما كان يحسر الإله اليوناني في قوصرة الباب أو الشباك، وبهذا انصهر فن النحت القوطي فأصبح جزاءً لا يتجزأ من فن العمارة الذي يزينه.
وكان خضوع النحت للعمارة في طرازها وهدفها الذي يمتاز به فن القرن الثاني عشر بنوع خاص, ثم شهد القرن الثالث عشر ثورة جامحة من(16/256)
جانب المثال فخرج وقتئذ من النزعة التشكيلية إلى الواقعية، ومن الصلاح إلى الفكاهة والهجاء وتذوق الحياة الأرضية. فبينا نرى تماثيل القرن الثاني عشر الموجود في تشارتر مكتئبة جامدة، إذ نرى تماثيل القرن الثالث عشر في ريمس وقد فاجأها المثال أثناء حديثها الطبيعي أو عملها التلقائي. فمعارفها فردية وفي وضعها رشاقة ملحوظة، وإن كثيراً من هذه التماثيل القائمة في كنائس تشارتر وريمس لتشبه الفلاحين الملتحين الذين لا نزال نلتقي بهم في القرى الفرنسية، وتمثال الراعي الذي يدفئ نفسه بالنار والقائم فوق باب أمين Amiens الغربي قد يكون له نظير في حقل بنومندية أو جسبية Gaspe في هذه الأيام. وليس في التاريخ كله نحت يضارع النقوش القوطية الكنسية في واقعيتها الغريبة. ففي رون نجد تمثال فيلسوف مفكر له رأس خنزير محشوراً في أزهار من ذوات الورقات الأربع، وطبيباً نصفه آدمي والنصف الآخر إوزة، يدرس أنبوبة مليئة بالبول، ومعلم موسيقى نصفه آدمي ونصفه ديك يلقي درساً عل عضو غنطروس، ورجلاً أحاله ساحر كلباً، وظلت قدماه تلبسان حذائيه (21) وهناك صورة صغيرة مضحكة جاثمة تحت التماثيل في تشارتر، وأمين، وريمس. وفي كنيسة استرسبرج تاج عمود أعيد إلى وضعه الأول منذ قليل يمثل دفن رينرد الثعلب، Reynard the Fox يحمل نعشه خنزير وجدي، ويحمل الصليب ذئب، وينير الطريق أرنب بشمعة، ويرش دب الماء المقدس، وينشد القداس وعلٌ، ويتلو حمار صلاة الجنازة من كتاب مستند إلى رأس قطة (22). وفي كنيسة بفرلي Beverley ثعلب على رأسه قلنسوة راهب يرتقي منبراً ويعظ طائفة من الإوز التقية المتدينة (23).
وتمثل الكنائس فيما تمثله حدائق حيوانات من الحجارة، تكاد تجمع كل ما عرفه الإنسان من الحيوان، وإن كثيراً من الحيوانات التي لم تمر إلا بمخيلة رجال العصور الوسطى لتجد لها مكاناً في هذه المجموعات الضخمة التي لا تحصى(16/257)
عديدها. ففي ليون Leon ستة عشر ثوراً تخور فوق أبراج الكنيسة الكبرى، ويقولون لنا إنها تمثل الوحوش القوية التي ظلت السنين الطوال تنقل جلاميد الحجارة من المحاجر إلى الكنيسة القائمة على رأس التل. وتقول إحدى القصص الظريفة: إن ثوراً كان في يوم من الأيام يصعد بمشقة فوق التل فوقع على الأرض من فرط الإعياء، وظل الحمل متزناً مزعزعاً على منحدر التل حتى ظهر ثور بمعجزة من المعجزات، وانزلق تحت عدة الثور الملقى على الأرض، وجر العربة إلى قمة التل، ثم اختفى في الهواء السماوي الإعجازي (24). وإنا لنبتسم ساخرين من هذه القصص الخيالية، ونعود إلى قراءة قصصنا التي تحدثنا عن الجرائم وعن العلاقات الجنسية.
واتسعت الكنائس أيضاً لحدائق النبات، وهل ثمة بعد العذراء والملائكة، والقديسين، زينة لبيت اللله أحسن من النباتات، والفاكهة، وأزهار الريف الفرنسي، أو الإنجليزي، أو الألماني؟ ولقد بقيت الزخارف النباتية القديمة- التي تمثل أوراق الكنكر والكرم- في فن العمارة الرومنسية (800 - 1200)، ثم حلت محل هذه الزخارف الشكلية العرفية في الفن القوطي طائفة تدهش الإنسان لكثرتها من النباتات المحلية، منقوشة على قواعد الأعمدة وتيجانها، والأجزاء الشبه مثلثة التي بين العقود، والعقود نفسها، وفي الطنف، والعمد نفسها، والمنابر، ومقاعد المرنمين، وقوائم الأبواب، والمصاطب .. وليست هذه الأشكال مما حدده العرف، بل هي في كثير من الأحيان أنواع فردية، محبوبة في البيئة التي صورتها، وبعث فيها المؤلف الحياة. وتراها في بعض الأحيان زينات مركبة من نباتات مختلفة جمعت بعضها إلى بعض، وذلك أيضاً مما ابتدعه الخيال القوطي، ولكنها مع ذلك ظلت تشعر الناظر إليها بأنها من صنع الطبيعة. وترى الأشجار، والغصون، والعساليج، والأوراق، والبراعم، والأزهار، والفاكهة، والسرخس، والشقيق الأصفر، والطلح، والكرسون المائي، وعود الريح، وأشجار الورد،(16/258)
والشليك، والحسك، والقصعين، والبقدونس، والريس، والكرنب، والكرفس، تساقط من مستودع الكنيسة الذي لا ينضب معينه، لقد كان المثال ثملا ببهجة الربيع، فهدت يده الإزميل في الحجر. وليس الربيع وحده هو الذي تمثله هذه النباتات والأزهار المنحوتة، بل إن جميع فصول السنة ممثلة فيها، وهي فوق هذا تطالعك بكل ما في أعمال البذر، والحصاد، وعصر الخمر، من كدح ومتعة، وليس في تاريخ النحت كله ما هو جمل في نوعه من "تاج عصر العنب" كنيسة ريمس الكبرى (25).
ولكن هذا العالم كله- عالم النبات والزهر، والحيوان والطير- كان في المرتبة الثانية إذا قيس إلى الموضوع الرئيسي في فن النحت أثناء العصور الوسطى- وهو حياة الإنسان وموته. ففي تشارتر ولاءون، وليون Lyons، وأكسير، وبورج نقوش أولية تروي قصة الخلق. وفي لاءون يعد الخالق عل أصابعه ما بقي له من الأيام حتى يتم عمله، وتراه في مناظر متأخرة عن هذا المنظر، وقد أجهده كدحه في خلق المون، متكئاً على عصاه، وجالساً ليستريح، ونائماً ذلك إله يسع كل فلاح ساذج أن يفهمه. وثمة نقوش بارزة في كنائس أخرى تصور أشهر العام وما اختص به كل شهر منها ون عمل وبهجة، وتبين نقوش غير هذه وتلك مختلف أعمال الإنسان فتصور الفلاحين في الحقل أو عند معصرة الخمر، وترى بعضهم يقودون الخيل أو الثيران وهي تشق الأرض أو تجر العربات، ومنهم من يجر الضأن، أو يحلب البقر. وهناك طحانون، ونجارون، وحمالون، وتجار، وفنانون وطلاب علم، بل إن هناك أيضاً فيلسوفاً أو فيلسوفين، ويصور المثال المعنويات المجردة عن طريق الأمثلة: فدونارتس Donartus يمثل النحو، وشيشرون الخطابة، وأرسطو الجدل، وبطليموس الفلك. وتجلس الفلسفة ورأسها في السحب، وفي يمناها كتاب، وفي يسراها صولجان، فهي ملكة العلوم. وثمة نقوش ترمز إلى الإيمان وعبادة الأوثان، والأمل واليأس، والصدقات والبخل،(16/259)
والعفو، والدعارة، والسلام، والشقاق، وفي لاءون نقش على باب عال يصور معركة بين الفضائل والرذائل، وعلى الواجهة الغربية من كنيسة نوتردام في باريس صورة امرأة رشيقة معصوبة العينين تمثل المعبد، وأمامها امرأة أجمل منها في ثياب ملكية وعليها سيماء من اعتادت الأمر والنهي وتمثل الكنيسة بوصفها عروس المسيح. أما المسيح نفسه فيبدو تارة رحيماً وتارة أخرى رهيباً، وتمثله في بعض الصور وأمه تنزله من الصليب، أو يقوم من القبر وبالقرب منه رسم رمزي يمثل أسداً يعيد الحياة بأنفاسه إلى أشباله، كل مكان منحوتة أو مرسومة ملونة في الكنائس، ذلك أنه لم يكن يسمح للإنسان أن ينساها، وهنا أيضاً لم يكن يستطاع الاعتماد إلا على شفيع واحد لغفران الذنوب، ذلك هو مريم العذراء التي تبدو لهذا السبب في الصور المنحوتة، كما تبدو في الأوراد، صاحبة المكان الأول، ومنبع الرحمة اللانهائية، التي لا تسمح لابنها أن يفسر تفسيراً حرفياً تلك الكلمات القائلة إن الكثيرين يُدعَون والقليلين يختارون.
إن في فن النحت القوطي لعمقاً في الشعور، وتنوعاً ونشاطاً في الحياة، وتعاطفاً مع أشكال عالم النبات والحيوان جميعاً، وإن فيه لرقة، وظرفاً، ورشاقة، فهو معجزة من الحجارة لا تكشف عن اللحم بل الروح، وهذه كلها تحركنا وتشبعنا بعد أن فقدت روعة أجسام التماثيل اليونانية بعض ما كان لها من جاذبية ولعل سبب ضياعها هو أننا بلغنا سن الشيخوخة. وتبدو الآلهة الثقيلة القائمة في قوصرة البارثنون إذا وضعت إلى جانب الصور الحية التي أخرجها إيمان العصور الوسطى باردة ميتة. ولسنا ننكر أن النحت القوطي معيب من الناحية الفنية، فليس فيه ما يضارع كمال إفريز البارثنون، أو جمال آلهة بركستليز والإهانة الشهوانية، أو سيدات نقش السلام وشيوخه في روما، وما من شك في أن صور أولئك الشبان ذوي الوسامة، وصور أفرديتي اللينة العريكة، كانت تمثل في وقت ما(16/260)
متعة الحب والحياة السليمة. ولمن آراءنا الدينية المبتسرة، إذا تذكر ما فيها من جمال وتغفل عما فيها من رهبة، تعود بنا المرة بعد المرة إلى الكنائس الكبرى وترجح كفة الإله الجميل المصور في أمين والملاك الباسم المصور في ريمس، "وعذراء شارتر".
وكان المثال في العصور الوسطى كلما زادت مهارته في فنه قوى أمله في تحرره من فن العمارة وفي أن يعمل فيه أعمالاً توائم الذوق الدنيوي المتزايد عند الأمراء والأحبار، والأشراف، والطبقة الرأسمالية المتوسطة.
ففي إنجلترا كان نحاتو الرخام في بربك Purbeek يستخدمون النوع الممتاز الذي يقطعونه من نتوء دورسسترشيد Dorestershire، واشتهر في القرن الثالث عشر بالعمد والتيجان الجاهزة، وبالدمى المضطجعة التي ينحتونها على توابيت الأموات الأغنياء- وصب وليم تورل William Torel وهو صانع من أهل لندن حوالي عام 1292 تمثالين من البرنز لهنري الثالث وإليانور القشتالية زوجة ولده ليوضعا في قبرهما الرخاميين في دير وستمنستر، ويبلغ هذان التمثالان من الجمال والدقة ما تبلغه أية تحفة برنزية في ذلك العصر واجتمعت في ذلك الوقت مدارس النحت عظيمة الشأن لييج، وهلدس هايم Hildesheim ونومبرج Naumburg. ونحت مثّال غير معروف حوالي عام 1240 التمثالين القوطيين البسيطين- ذوي الأبواب الفخمة- لهنري الأسد ولبؤته القائمين في كنيسة برنزويك Bruswick. وتزعمت فرنسا أوربا بأجمعها في جمال تماثيلها الرومنسية (في القرن الثاني عشر) والقوطية (في القرن الثالث عشر) ولكن معظم هذه التماثيل قائمة في كنائسها الكبرى، ولهذا فإن خير مكان تدرس فيه هو هذه الكنائس.
ولم يكن النحت في إيطاليا وثيق الصلة بالعمارة، ولا بالمدن ذات الحكومات المستقلة، ولا بنقابات الحرف كما في فرنسا، ولهذا فإنا في القرن الثالث عشر(16/261)
نجد فنانين منفردين تسيطر شخصياتهم على أعمالهم وتخلد أسماءهم. من هؤلاء نيقولو بيزانو Niccolo Pisano الذي اجتمعت له عدة مؤثرات مختلفة انصهرت كلها فخرجت منها شخصية مركبة فذة. فقد ولد هذا الفنان في أبوليا عام 1225 واستمتع فيها بالجو الحافز الذي يحيط بحكم فردريك الثاني، ويبدو أنه درس فيها بقايا الفن الإيطالي القديم وآثاره المعادة (26). ثم انتقل إلى بيزا وورث فيها التقاليد الرومانسية، وسمع بالطراز القوطي الذي بلغ وقتئذ ذروة مجده في فرنسا. ولما أن نحت منبراً لمكان التعميد في بيزا اتخذ له نموذجاً تابوتاً في عهد هدريان. وقد تأثر أشد التأثر بالخطوط القوية الرشيقة التي تمتاز بها الأشكال القديمة، ولهذا فإن معظم الأشكال التي في منبره ذات ملامح وثياب رومانية وإن كانت أقواسه رومنسية وقوطية، فوجه مريم الذي نراه في لوحة المخاض وثوبها هما بعينهما وجه امرأة رومانية وثيابها، ونرى في إحدى الزوايا صورة لشخص رياضي عار شاهدة على الروح اليونانية القديمة التي كان يتأثر بها هذا الفنان، ودبت الغيرة في هذه التحفة في قلب سيينا (1256) فاستخدمت نقولو وأبنة جيوفيني، وتلميذه أرنلفو دي كمبيو Arnolfo di Cambio في صنع منبر أجمل من هذه لكنيستها، وحالفهم التوفيق في هذه المهمة. ويقوم المنبر الجديد المصنوع من الرخام الأبيض على عمد ذات تيجان تمثل أوراق النبات، وتتكرر فيه الموضوعات التي في منبر بيزا مع لوحة مزدحمة تمثل الصلب. وهنا يتغلب التأثير القوطي على التأثير الروماني القديم، ولكن المزاج القديم يظهر فيما يسبغه الفنان على الصورة النسائية التي تتوج الأعمدة من صحة سابغة لإخفاء فيها. وكأنما أراد نقولو أن يؤكد عواطفه الرومانية القديمة فوق قبر القديس دمنيك الناسك في بولونيا صوراً كاملة عن الرجولة على الطراز الوثني مليئة ببهجة الحياة. وانضم في عام 1271 إلى ابنه وأرنلفو لينحتوا الواجهة الرخامية التي لا تزال حتى اليوم قائمة في ميدان بروجيا العام. ومات بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وهو لا يزال إلى(16/262)
حد ما في سن الشباب، ولكنه مهد في حياته السبيل إلى دناتلو Donatello وإلى بعث فن النحت القديم في عصر النهضة.
وكان ابنة جيوفتى بيرانو (حوالي 1240 إلى حوالي 1320) يضارعه فيما تعرض له من تأثير متعدد النواحي، ولكنه يفوقه في مهارته الفنية. وقد عهدت إليه بيزا بناء مقبرة تليق بالرجال الذين كانوا في ذلك الوقت يقتسمون البحر المتوسط الغربي مع جنوى. وجيء بالتراب المقدس للميدان المقدس Compo Santo من جبل كلفارى. وأقام الفنان حول مستطيل كلئ عقوداً رشيقة امتزج فيها الطرازان الرومنسي والقوطي. وجيئت بروائع النحت لتزيين اليوائك، وظل الميدان المقدس قائما يخلد ذكرى جيوفنى بيزانو حتى حطمت الحرب العالمية الثانية نصف عقوده وتركته أنقاضاً مهملة (1).
ولما منى البيزيون من الهزيمة على أيدي الجنويين (1284) لم يعد في مقدورهم أن يمدوا جيوفنى بما يحتاجه من المال، فانتقل إلى سيينا. ونحت في عام 1290 بعض النقوش البارزة لواجهة كنيسة أورفييتوا Orvieto الغربية غير المألوفة. ثم عاد فانتقل شمالا إلى بستونيا Pistonia ونحت لكنيسة سانتا أندريا Santa Andrea منبراً صورة أقل اكتمالا في رجولتها من صورة منبر والده في بيزا، ولكنه يفوق منبر أبيه في رشاقته وفي اتفاقه مع الطبيعة، والحق أن هذا المنبر لهو أجمل ما أخرجه فن النحت القوطي في إيطاليا.
وظل أرنلفو دي كمبيو (1232 - 1300) ثالث هؤلاء الثلاثة الذائعي الصيت يمارس عمله على الطراز القوطي برعاية البابوات، وكانت لمعضمهم روابط سابقة بفرنسا. فقد اشترك وهو في أورفييتو في قطع واجهة كنيستها، وصنع تابوتاً جميلا للكردنال دي براي Cardinal de Braye وكان شبيهاً بفناني النهضة في
_________
(1) والعمل يجري الآن في إعادة الميدان المقدس إلى ما كان عليه.(16/263)
تعدد مهاراتهم؛ وبهذه المهارات المتعددة صمم، وشرع ينفذ، ثلاثة من الأعمال المجيدة التي تفخر بها فلورنس؛ كنيسة سانت ماريادل فيوري Janta Mariaidel fior وكنيسة سانت كروشي Santa Croce ( الصليب المقدس) وبلاد تسو فكيو Plazzo Vecchio ( القصر القديم).
ولكننا حين نتحدث عن أرنلفو وعن هذه الأعمال ننتقل بالقارئ من النحت إلى العمارة. فقد عادت كل الفنون وقتئذ إلى الحياة وإلى الصحة؛ ولم ترجع المهارات القديمة إلى سابق عهدها وكفى، بل أخذت تغامر في اتجاهات وصياغات فنية جديدة تكاد لكثرتها تبلغ حد التهور. وتآلفت الفنون وتوحدت، كما لم تتآلف أو تتوحد من قبل ولا من بعد، في المغامرة الواحدة وفي الرجل الواحد. وكان كل شئ قد أعد لتلك الدرجة الرفيعة التي بلغتها فن العصور الوسطى، فتجتمع الفنون كلها وتتعاون أكمل تعاون وأعظمه، ويطلق اسم فنها الجامع على الطراز ذلك العصر وفنه.(16/264)
الباب الثاني والثلاثون
ازدهار الفن القوطي
1095 - 1300
الفصل الأول
الكتدرائيات (1)
نُرى لمَ شاهدت أوربا هذا العدد الجم من الكنائس في الثلاثة القرون التي أعقبت عام 1000 بعد الميلاد؟ وأية حاجة دعت إلى أن تنشأ في أوربا التي لا يكاد سكانها في ذلك الوقت يصلون إلى خمس سكانها الحاليين معابد قلما تمتلئ لسعتها بالمصلين في أكثر الأيام قدسية؟ وكيف استطاعت الحضارة الصناعية تعجز عن الاحتفاظ بها؟
لقد كان السكان قليلين، ولكنهم كانوا مؤمنين، وكانوا فقراء، ولكنهم كانوا يبذلون بسخاء عظيم. ويقول سوجر رئيس دير القديس دنيس إن العابدين في أيام الأعياد، وفي الكنائس التي يؤمها الحجاج، كانوا من الكثرة بحيث "تضطر النساء إلى الجري إلى المذبح متخذات من رؤوس الرجال طواراً (1)، ولسنا ننكر أن الرئيس العظيم كان يجمع المال لبناء تلك الآية الفنية، وأنه
_________
(1) الكثدرائية هي الكنيسة الرئيسية في الأسقفية وفيها يكون مقر الأسقف أو عرشه. (المترجم)(16/265)
خليق لهذا السبب بأن نغفر له بعض مغالاته. ولكن أسباباً كثيرة كانت تدعو إلى بناء الكنائس بهذه الكثرة وتلك السعة: لقد كان من المرغوب فيه أن يجتمع سكان بعض المدن مثل فلورنس، وبيزا، وتشارتز، ويورك، في صرح واحد في بعض المناسبات. كذلك كان لا بد أن تتسع كنيسة الدير المزدحم للرهبان والراهبات ولغير رجال الدين. وكان لا بد من أن تحفظ المخلفات المقدسة في أضرحة خاصة تتسع أيضا للصفوة من العابدين، وكانت الحاجة تدعو إلى وجود بناء مقدس رحب تقام فيه الطقوس الكبيرة، وإلى مذابح جانبية من الأديرة والكثدرائيات التي ينتظر أن يتلو قساوستها الكثيرون القداس في كل يوم، وكان الاعتقاد السائد أن مذبحاً أو مصلى يخصص لكل قديس محبوب قد يدعوه إلى إجابة طلبات من يتوسلون إليه، وكان لا بد أن يبنى لمريم"مصلى نسائي" إذا لم تكن الكنيسة كلها ملكا لها.
أما نفقات هذه الصروح فقد كان معظمها يؤخذ مما يجمع من الأموال في كرسي الأبرشية؛ وكان الأساقفة فضلا عن هذا يطلبون العطايا من الملوك والنبلاء، والمدن ذات الحكم الذاتي؛ والنقابات الطائفية والأبرشيات، والأفراد. وكانت المنافسة الطيبة تثار بين المدن التي أضحت الكثدرائية فيها رمزاً لثرائها وسلطانها، تتحدى بهما غيرها من المدن، وكان المتبرعون يوعدون بأن تغفر لهم ذنوبهم، كما كانت المخلفات المقدسة يطاف بها في الأبرشية لتحفز الناس إلى العطاء، وقد يحدث في بعض الأحيان أن يحرض الناس على البذل والسخاء بمعجزة من المعجزات (2). وكان التنافس في بذل المال للبناء شديداً، وكان الأساقفة يعارضون في جمع المال من الأبرشياتهم لإقامة منشآت في غيرها، ولكن أساقفة من أجزاء أخرى، ومن بلاد أجنبية في بعض الأحيان، كانوا يمدون بالمعونة مشروعات في غير بلادهم كما حدث في مدينة تشارتر ولسنا ننكر أن بعض هذه الطبقات كانت تقرب أحياناً من الإلزام، ولكنها قلما تصل إلى قوة(16/266)
المؤثرات التي تعبأ لتمويل الحروب الحديثة من الأموال العامة. وقد استنفدت هيئات في الكثدرائيات الفرنسية أموالها الخاصة، وكادت تفلس من أجل ذلك الكنيسة الفرنسية في خلال سورة البناء القوطية. ولم يكن الناس أنفسهم يشعرون وهم يتبرعون بالمال بأنهم يستغلون، وقلما كانوا يحسون فقد القليل الذي يبذله كل فرد منهم، لأن هذا القليل كان يرد إليهم فيما يعود عليهم من عزة جماعية وعمل جليل عظيم، وفيما يكون لهم من بيت للعبادة، ومكان رحب يجتمعون فيه، ومدرسة يتعلم فيها أبناؤهم، ومدرسة للفنون والحرف تتلقاها فيها نقاباتهم الطائفية، وكانت في نظرهم كتاباً مقدساً من الحجارة يقرءون في تماثيله وصورة بعين بصيرتهم قصة إيمانهم. وقصارى القول أن بيت الله كان أيضاً بيت الشعب.
ومن هم الذين خططوا الكتدرئيات؟ إذا كانت العمارة هي فن تخطيط البناء وتجميله، وتوجيه القائمين بتشييده فإن علينا أن نرفض- في حالة الفن القوطي- الرأي القديم القائل أن القديسين أو الرهبان هم مهندسو هذه الصروح. لقد كانت مهمتهم هي أن يصوغوا حاجاتهم، وأن يتقدموا بفكرة عامة عن البناء المطلوب، ويحصلوا على مكان يقيمونه فيه، ويجمعوا ما يلزم من المال. وقد جرت عادة رجال الدين وبخاصة رهبان دير كلوني قبل عام 1050 أن يصمموا البناء، ويضعوا خطته، ويشرفوا على بنائه. أما الكتدرئيات الكبرى- كلها بعد عام 1050 - فقد كان لابد فيها من استخدام مهندسين محترفين، كانوا كلهم-إلا قلة منهم لا تذكر- من غير الرهبان أو القسس. ولم يكن المهندس المعماري يلقب بهذا اللقب قبل عام 1563، بل كان يسمى في العصور الوسطى"رئيس البنائين" وأحياناً "رئيس المشيدين"، وتدلنا هذه التسمية على منشئه فقد كان يبدأ حياته بناءً يعمل بيده البناء الذي يشرف عليه. فلما استهل القرن الثالث عشر وعظم الثراء، فشيدت بفضله الصروح الكبيرة، وزاد(16/267)
التخصص، لم يبق "رئيس البنّائين" رجلاً يشترك بنفسه في العمل اليدوي، بل أصبح رجلاً يضع الخطط ويعرض المناقصات، ويقبل المشارطات، ويخطط الأرض، ويضع الرسوم، ويحصل على المواد، ويؤجر العمال والفنانين، ويؤدي إليهم أجورهم، ويشرف على أعمال البناء من البداية إلى النهاية. وإنا لنعرف أسماء الكثيرين من هؤلاء المهندسين الذين عاشوا بعد عام 1050 نعرف أسماء 137 من المهندسين القوط في أسبانية العصور الوسطى بله غيرها من البلاد. ومن هؤلاء من كانوا ينقشون أسماءهم على ما يشيدونه من الأبنية، ومنهم قلة ألفت كتباً في مهنها. وقد ترك فلار دي هنكور Villard de Honnecourt ( حوالي عام 1250 سجلا من المذكرات والرسوم التخطيطية المعمارية توضح ما قام به من الأسفار وهو يمارس مهنته من ليون وريمس إلى لوزان وبلاد المجر.
ولم يكن للفنانين الذين يقومون بأعمال أقل درجة من البناء- أي الذين يحفرون الصور، والنقوش، أو يدهنون النوافذ والجدران، أو يزينون المذبح أو مكان المرتلين- لم يكن لهؤلاء الفنانين اسم خاص يمتازون به من الصناع، لقد كان رئيس صناع، وكانت كل صناعة تحاول أن تكون فناً. وكانت معظم الأعمال توزع بمقتضى عقوبة ومشارطات على النقابات الطائفية التي ينتمي إليها الصناع والفنانون على السواء أما العمل الذي لا يحتاج إلى مهارة فكان يقوم به أرقاء الأرض أو عمال متنقلون مأجورون، وإذا ما طلب العمل الإسراع جندت الحكومة رجالاً- وصناعاً ماهرين إذا لوم الأمر- لإنجازه (3). وكانت ساعات العمل تدوم في الشتاء من مطلع الشمس إلى مغيبها، وفي الصيف من بعد مطلع الشمس إلى قبيل الغروب مع السماح للعمال بوقت يتناولون فيه وجبة الغذاء. وكان المهندسون الإنجليز يتقاضون في عام 1275 اثني عشر بنساً في اليوم (12 سنتاً أمريكيا) تضاف إليها أجور الانتقال وهدايا في بعض الأحيان.(16/268)
وكان تخطيط أرض الكثدرائية في جوهره هو تخطيط الباسيلكا الرومانية فهو صحن مستطيل ينتهي بمحراب وقبة، وترتفع فوق طرقتين وبينهما إلى سقف قائم على جدران وعمد. وطرأ على هذه الباسيلكا البسيطة تطور معقد ولكنه فاتن خلاب، فأضحت هي الكثدرائية الرومنسية أولاً والقوطية فيما بعد، فقطع الصحن والطرقتين صحنٌ عَرضي يجعل التصميم في شكل صليب لاتيني. وأخذت مساحة أرض الكثدرائية تزداد بفضل المنافسة أو الحماسة الدينية، حتى أضحت مساحة كنيسة نوتردام في باريس 000و63 قدم مربعة، ومساحة كنيسة تشارتر أو ريمس 65 ألفاً، وكنيسة أمين 70 ألفاً، وكولوني 90 ألفاً والقديس بطرس 100 ألف. وكانت الكنيسة المسيحية تبنى بحيث رأسها أو محرابها يكون على الدوام متجهاً نحو الشرق- أي نحو بيت المقدس.
ومن أجل هذا كان المدخل الرئيسي في الواجهة الغربية التي تستقبل زخرفتها الخاصة ضوء الشمس الغاربة. وكان كل مدخل في الكثدرائيات العظيمة يتألف من باكية ذات"تجويفات داخلة": أي أن أبعد العقود من الداخل يعلوه عقد أكبر منه يمتد إلى الخارج، من فوقه هو أيضاً عقد يعلوه عقد ثالث أكبر من الثاني، ويتكرر هذا الوضع حتى تبلغ العقود في بعض الأحيان ثماني طبقات يتكون منها كلها غلاف قابل للاتساع. وهناك "طبقات ثانوية" شبيهة بها تزيد جمال عقود الحن وأكتاف الشبابيك. ويتسع كل رباط حجري من العقد المعماري لتماثيل أو غيرها من الزخارف المنحوتة، وبذلك يصبح مدخل الكتدرائية، وبخاصة في الواجهة الغربية، وكأنه فصل شامل واف في كتاب القصص المسيحي الحجري.
ومما زاد في روعة الواجهة الغربية ومهابتها أن أقيم حولها من الجانبين برجان، ذلك أن الأبراج قديمة قدم السجلات التاريخية، ولم تكن تستخدم في الطرازين الرومنسي والقوطي مكاناً للأجراس فحسب، بل كانت تستخدم فوق ذلك(16/269)
لتحمل ضغط الواجهة الجنوبي، وضغط طوب الأجنحة. وكان في المباني النورمندية والإنجليزية برج ثالث ذو نوافذ كثيرة، إذا لم يكن جزؤه الأكبر مفتوحاً عند قاعدته، وكان هذا البرج بمثابة "فانوس" ينفذ منه الضوء الطبيعي إلى وسط الكنيسة. وقد أراد المهندسون القوط المولعون بالأوضاع الرأسية أن يضيفوا برجاً رفيعاً مستدق الطرف لكل واحد من هذين البرجين، غير أنهم لم يسعفهم المال، أو المهارة الفنية، أو الحماسة، وسقطت هذه الأبراج المستدقة كما حدث في بوفيه، ولم تقم في كثدرائيات نوتردام، أو أمين، أو ريمس أبراج من هذا النوع، ولم يبن في تشارتر إلا برجان من الثلاثة الأبراج المستدقة التي كان في النية إقامتها، كما لم يبن في لاؤن إلا واحد من خمسة، وقد دمر هذا البرج المستدق في أثناء الثورة الفرنسية. وكان برج الجرس يشرف على المدن الإيطالية، كما كان البرج المستدق يشرف على براري البلاد الأوربية والشمالية. وكانت هذه الأبراج في تلك الجهات الشمالية منفصلة عادة عن بناء الكنيسة، تشبه من هذه الناحية برج بيزا Pisa المائل، أو برج جيتو في فلورنس. ولعل من شاهدوها قد تأثروا بالمآذن الإسلامية، ثم عادوا فنشروا هذا الطراز في فلسطين وسوريا، وأصبحت هي أبراج الأجراس في المدن الشمالية.
وإذ كانت العمد التي على جانبي الطرقة الوسطى في داخل الكنيسة تعتمد عليها عقود تنحني حتى تلتقي في قبة السقف، فإن هذه الطرقة تبدو للناظر كأنها هيكل المركب من الداخل في وضع مقلوب، ومن هذا الوضع اشتق اسمها Nav (1) . وكان طولها ينقص تأثيره في نفس الناظر إليه أحياناً، وبخاصة في إنجلترا، بإضافة شباك من الرخام أو الحديد المشغول منحوت أو مصبوب نحتاً أو صباً جميلاً يعترض الصحن ليقي المحراب من تطفل العلمانيين أثناء الصلاة.
_________
(1) الاسم الإنجليزي Nave الذي يطلق على صحن الكنيسة أي جزئها الأوسط الهام مشتق من كلمة net المأخوذة من كلمة navis اللاتينية ومعناها السفينة. (المترجم)(16/270)
وكان في المحراب مقاعد للمرنمين كلها تحف فنية على الدوام، ومنبران، ومقاعد للقساوسة الذين يصلون بالناس، والمذبح الرئيسي الذي يحتوي في أغلب الأحيان على ستار خلفي مزخرف. ومن حول المحراب ممشى دائري يصل صحن الكنيسة بقباها، ويسمح للمواكب بأن تطوف البناء كله. وكانت بعض الكنائس تنشئ تحت المذبح قبواً تحفظ فيه مخلفات القديس الشفيع، أو عظام الأموات الممتازين، وكأنها بذلك تذكرنا بحجرات الدفن في مقابر الرومان.
وكانت المشكلة الكبرى في العمارة الرومانسية أو القوطية هي طريقة ارتكاز السقف. لقد كانت الكنائس الأولى المقامة على الطراز الرومنسي ذات سقف خشبية مصنوعة في العادة من خشب البلوط الجيد الجفاف. وإذا ما أحسنت تهوية هذا الخشب ومنعت عنه الرطوبة فإنه يبقى إلى ما شاء الله، وشاهد ذلك أن الطريقة الجنوبية المستعرضة في كثدرائية ونشستر لا تزال محتفظة بسقفها الخشبي المصنوع في القرن الثاني عشر. وأكبر عيب في هذه السقف هو تعرضها لخطر الحريق، فإذا ما شبت النار فيها من الصعب الوصول إليها لإطفائها. ولهذا فإنه لم يستهل القرن الثاني عشر حتى كانت الكنائس الكبرى كلها تقريباً قد بنيت سقفها. وكان ثقل هذا السقف هو الذي وجه تطور العمارة الأوربية في العصور الوسطى. فكان لابد من أن يرتكز قسم كبير من هذا الثقل على العمد المقامة على جانبي الصحن، وإذن فقد كان لابد من تقوية هذه العمد أو مضاعفة عددها، وقد تحقق هذا الغرض بضم عدد من العمد في مجموعة أو إحلال دعامات ضخمة من البناء محل هذه العمد. وكانت مجموعة العمد أو الدعامة الضخمة يعلوها تاج، وربما كانت لها أيضاً عصابة يتسع بها سطحها لتحمل ما يعلوها من ثقل، وكانت مروحة من العقود تقوم فوق كل مجموعة من العمد أو الدعامة: منها عقد مستعرض في الصحن يمتد إلى الدعامة المواجهة، وعقد مستعرض آخر يمر فوق الطرقة إلى دعامة في الجدار، وعقدان طوليان يمتدان إلى الدعامتين التاليتين(16/271)
الخلفية منهما والأمامية، وعقدان ممتدان على طولي القطرين ويصلان بين إحدى الدعامات ودعامتين متقابلتين لها في عرض الصحن، وقد يكون هناك عقدان آخران ممتدان إلى دعامتين مقابلتين يعلوان فوق عرض الممشى. وقد جرت العادة أن يكون لكل عقد ركيزته الخاصة فوق عصابة الدعامة أو تاجها. وكان يحدث أحياناً ما هو خير من هذا فيكون مستطيل كل عقد في خط غير منقطع حتى يصل إلى الأرض ليكون طائفة من العمد المتجمعة أو الدعامات المركبة. وكان الأثر الذي ينتج من هذه العمد والدعامات الرأسية من أجمل خصائص الطرازين الرومنسي والقوطي. وكان كل مربع من العامات القائمة في الصحن أو الطرقات يكون فرجة ترتفع منها العقود منثنية انثناءاً رشيقاً نحو الداخل ليتكون منها قسم سن القبة. وكان هذا السقف يغطى من الخارج بسطح هرمي من الخشب تستره وتقيه طبقة من الأردواز أو القرميد.
وكانت قبة السقف أعظم ما أنتجته عمارة العصور الوسطى. وقد سمح مبدأ العقود بإيجاد فضاء يغطي أوسع رقعة من السطح الذي ييسر وجوده السقف الخشبي أو العوارض المرتكزة على العمد. وبهذا أصبح من المستطاع توسيع عرض الصحن حتى يوائم طوله الكبير، فلما زاد هذا العرض تطلب ذلك زيادة ارتفاعه حتى يتناسب الارتفاع مع سعته، وييسر هذا ارتفاع المستوى الذي تقوم فوقه العامات أو الجدران، وهذه الاستطالة الجديدة في العمد زادت هي الأخرى من علو الكثدرائية. وزاد تناسق أجزاء القبة لما أنشأت في حافاتها "ضلوع" من الآجر أو الحجارة تمتد من زوايا تقاطع العقود. وأدت هذه الضلوع هي الأخرى إلى تحسينات كبرى في البناء والطراز. فقد عرف البناءون كيف يبدأون القبة بإنشاء ضلع فوق إطار خشبي يسهل تحريكه ونقله، ثم ملئوا المثلثات التي بين ضلعين بالبناء الخفيف مثلثاً بعد نثلث، وجعلوا هذه الشبكة الرقيقة من البناء مقعرة، وبهذا نقل الجزء الأكبر من ثقله إلى الضلوع(16/272)
نفسها، وجعلت هذه الضلوع قوية حتى يلقى الضغط السفلي على نقط معينة- هي دعامات الصحن أو الجدار. ولقد أضحت القبة ذات الأضلاع والعقود المتقاطعة من أهم ما تمتاز به عمارة العصور الوسطى في أعلى درجاتها.
وعولجت مشكلة ارتكاز البناء العلوي فوق هذا بجعل صحن الكنيسة أعلى من طرقاتها، وبهذا كان سقف الطرقة، هو والجدار الخارجي، بمثابة دعامة لقبة الصحن، وإذا ما بنيت فوق الطرقة نفسها قبة، فإن عقودها المضلعة تلقي نصف ثقلها إلى الداخل لتقاوم بذلك الضغط الخارجي للقبة الوسطى عند أضعف نقط في دعامات الصحن. ويضاف إلى هذا أن جزء الصحن الذي يعلوا عن سقف الطرقات يصبح في الوقت نفسه بمثابة طابق أعلى ترتفع نوافذه فوق مستوى البناء المجاور له، فتكون بذلك غير محجوبة وتضيء صحن الكنيسة. وكانت الطرقات نفسها تقسم عادة إلى طابقين أو ثلاثة أطباق تكون أعلاها شرفة، وتسمى التي أسفل منها ذات الأبواب الثلاثة لأن المسافات التي بين العقود والتي تواجه بها الصحن كانت تقسم عادة إلى "ثلاثة أبواب" بعمودين يقومان فيها. أو كان ينتظر من النساء في الكنائس الشرقية أن يصلين في ذلك المكان وأن يتركن الصحن كله للرجال.
وهكذا قامت الكثدرائية مرحلة في إثر مرحلة خلال عشرة أعوام أو عشرين عاماً أو مائة عام، تتحدى قوة الجاذبية لتمجد الله سبحانه. فإذا تمت وأصبحت معدة للصلاة دشنت باحتفال ديني فخم، يجتمع فيه كبار الأحبار وذوو المقام العالي، والحجاج، والنظارة، وجميع أهل المدينة ما عدا القرويين غير المتدينين. وتمضي عدة سنوات بعد ذلك لتكملة ما تحتاج إليه من الإضافات في الداخل والخارج وإضافة ألف من الزخارف وضروب التحلية. ويظل الناس قروناً طوالاً يقرءون على أبوابها، ونوافذها، وتيجان أعمدتها وجدرانها ما حفر أو صور عليها من تاريخ دينهم وقصصه- يقرءون قصة خلق العالم، وسقوط آدم، ويوم(16/273)
الحساب، وسير الأنبياء والبطارقة وما تعرض له أولياء الله الصالحون من صنوف العذاب وما قاموا به من المعجزات، والقصص ذات المغزى التي تدور حول عالم الحيوان، وعقائد رجال الدين التحكيمية، بل وآراء الفلاسفة التجريدية. كل هذه نجدها في الكنيسة تتكون منها موسوعة حجرية كبيرة في الدين المسيحي. وكان المسيحي الصالح يرجو حين يموت أن يدفن بالقرب من تلك الجدران التي تمتنع الشياطين عن الجولان حولها. ويأتي الناس جيلاً بعد جيل للصلاة في الكثدرائية، ويخرجون جيلاً بعد جيل من الكنيسة إلى المقابر التي حولها وتظل الكثدرائية الشهباء عليهم في غدوهم ورواحهم بهدوء الحجارة الساكنة حتى يجيء الموت الأعظم، ويموت الدين نفسه، فتستسلم هذه الجدران المقدسة إلى الدهر الذي لا يبقي على شيء أو حتى تهدم هذه الكثدرائية لتبنى من أنقاضها هياكل جديدة لآلهة جدد.(16/274)
الفصل الثاني
الطراز الرومنسي القاري
1066 - 1200
لو أننا قلنا إن هذا الوصف العام الذي وصفنا به الكثدرائية يصدق على جميع الكنائس في العالم المسيحي اللاتيني لأخطأنا خطأً كبيراً في شأن تنوع العمارة الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ذلك أن تأثير الفن البيزنطي قد بقي قائماً في مدينة البندقية، وقد أضيفت إلى كنيسة القديس بطرس زخارف بعد زخارف، وأبراج بعد أبراج، وغنائم تلو غنائم، ولكنها كانت على الدوام على نمط مثيلاتها في القسطنطينية ممتزجة بأخرى من بغداد. وأكبر الظن أن طراز القباب البيزنطي ذا المثلثات التي بين العقود القائمة فوق قاعدة يونانية على شكل الصليب، قد دخل فرنسا عن طرق جنوا أو مرسيليا، وظهر في كنيستي سانت إتين St. Etienne وسانت فرونت St. Front في برجويه Periguex وفي كتدرائيتي كاهور Cahors وأنجوليم Angouleme. ولما أن اعتزمت البندقية بناء قصر الدوج وتوسيعه عمدت في عام 1172 إلى خليط من الطرز المعمارية - الرومانية، واللمباردية، والبيزنطية، والعربية- وجمعتها كلها في آية من آيات الفن وصفها فيل هاردون Villehardouin في عام 1202 بأنها جد غنية وجميلة، ولا تزال حتى الآن أكبر مفاخر القناة الكبرى في تلك المدينة.
وليس ثمة تعريف لأي طراز معماري يسلم من الشواذ، ذلك بأن أعمال الإنسان، كأعمال الطبيعة نفسها، تأبى التعميم، وتلوح بفرديتها في وجه كل قاعدة. فلنقل إذن إن العقد المستدير، والجدران والدعامات السميكة، والنوافذ الضيقة، ومساند الجدران المتصلة بعضها ببعض أو انعدام هذه المساند، والخطوط الأفقية في الغالب، لنقل إن هذه الصفات هي التي يمتاز بها الطراز الرومنسي،(16/275)
ولنكن مستعدين مع هذا إلى قبول بعض الانحراف عن هذا الوصف في هذا الطراز.
وقد طلبت بيزا بعد ما يقرب من قرن من إقامة كنيستها إلى ديوتيسالفي Diotisalvi أن يبني مكاناً للتعميد في عرض مربع من مربعات الكثدرائية (1102). فصمم البناء على شكل دائرة وجعل ظاهر البناء من الرخام، وشوه بالبواكي الخالية من النقوش، وأحاطه بالعمد، وأقام فوقه قبة لولا أنه جعل أعلاها مخروطي الشكل لكانة كاملة. ثم أقام بون أنو Bonanno من بيزا ووليم من انزبروك Innabruck البرج المائل ليكون برجاً للأجراس (1174). وقد تكرر فيه طراز واجهة الكاتدرائية- فهو سلسلة من البواكي الرومنسية بعضها فوق بعض وفي طبقته الثامنة علقت الأجراس. وهبط البرج في ناحيته الجنوبية بعد أن بنيت ثلاث طبقات فوق الأساس الذي لم يزد عمقه على عشر أقدام، وأراد المهندس أن يعوض هذا الميل بأن أمال الطبقات الأخرى نحو الشمال. وينحرف البرج الآن عن الوضع العمودي ست عشرة قدماً ونصف قدم في ارتفاع 179 قدماً- وقد زاد هذا الانحراف قدماً واحدة بين عامي 1828و1910.
وجاءت الأنماط الرومنسية مع الرهبان الإيطاليين الذين هاجروا إلى فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، ولعل هؤلاء الرهبان هم الذين طبعوا معظم الأديرة الفرنسية بالطابع الرومنسي، ولهذا فقد أصبح طراز الأديرة إسماً ثانياً لهذا الطراز في فرنسا. وقد شاد رهبان كلوني البندكتيون فيها ديراً فخماً (1098 - 1131) ويحتوي على أربع طرقات جانبية وسبعة أبراج، ونحتوا طائفة كبيرة من تماثيل الحيوانات أثارت غضب القديس برنار وأنطقته بالقول:
ماذا تريدون أن تفعل هذه الوحوش السخيفة المضحكة في أروقة الدير تحت سمع الرهبان وبصرهم؟ وما معنى وجود هذه القردة النجسة، وتلك(16/276)
التنينات، والقنطروسات، والنمورة، والآساد ... وأولئك المقاتلين، ومناظر الصيد التي تغطي الجدران؟ ... وماذا تعمل تلك المخلوقات التي نصفها وحوش ونصفها أناسي؟ ... إنا لنرى هنا عدة أجسام تحت رأس واحد، وعدة رؤوس فوق جسم واحد، ونرى في مكان ما حيواناً من ذوات الأربع له رأس ثعبان، وفي مكان آخر سمكة لها رأس حيوان من ذوات الأربع، ونرى في مكان غيره جواداً من الأمام وماعزاً من الخلف (4).
وقد دمر دير كلوني في أثناء اضطرابات الثورة الفرنسية، ولكن أثره المعماري انتشر في الألفين من الأديرة المنتسبة إليه. ولا يزال جنوبي فرنسا غنياً بالكنائس الرومنسية، فقد كانت التقاليد الرومانية فيها قوية في الفن كما كانت قوية في القوانين، وظلت زمناً طويلاً تقاوم الطراز "البربري" القوطي الذي أقبل عليها من الشمال. وإذ كان الرخام نادراً في فرنسا فقد عوضت نقص البريق الخارجي بكثرة الصور المنحوتة، وإن ما تمتاز به التماثيل من قوة التعبير لمما يثير الدهشة- ففيها يتبين الناظر العزم على نقل الإحساس بدل نقل المنظر، ولهذا فإن صورة القديس بطرس القائمة عند باب دير مواساك Moissac، (1150) بوجهها المعذب وساقيها العنكبوتيتين لم تكن تهدف بلا ريب إلى إبراز خطوط البناء بقدر ما كانت تهدف إلى التأثير في خيال الناظر إليها وبث الرعب في قلبه. وتدل صور النبات الدقيقة الواقعية في تيجان أعمدة مواساك على أن المثالين قد عمدوا عن قصد إلى تشويها يرسمون من الصور. وخير ما يوجد من هذه الواجهات الرومنسية في فرنسا هو المدخل الغربي لكنيسة القديس تروفيم St. Trophime في آرك (1152)، المزدحمة بصور الحيوانات والأولياء الصالحين.
وشادت أسبانيا ضريحاً رومنسياً فخماً في كنيسة سنتياجو دي كمبستسلا (1078 - 1211) الذي يحتوي "باب المجد" Portico de Glorira فيها(16/277)
أجمل نحت رومنسي في أوربا كلها. وشادت كوامبرا Coimbra، التي أضحت بعد زمن وجيز مدينة البرتغال الجامعية، كثدرائية رومنسية في القرن الثاني عشر، ولكن الطراز الرومنسي لم يبلغ ذروته إلا في البلاد الشمالية التي هاجر إليها. لقد نبذته إيل دي فرانس Ile de Francs ولكن نورمندية أحسنت استقباله، لأن قوتها الخشنة كانت توأم أحسن مواءمة شعباً كان من عهد قريب من بحارة لشمال المغيرين، ولم يزل حتى ذلك الوقت من القراصنة. ولهذا شاد رهبان جومييج Jumieges البندكتيون وهي بلدة قريبة من رون- في عام 1048 ديراً اشتهر بأنه أكبر من أي دير سواه شيد في أوربا الغربية منذ أيام قسطنطين، ذلك بأن العصور الوسطى كانت تفخر أيضاً بضخامة مبانيها. وقد دمر هذا الدير نصف تدمير على أيدي المتعصبين من رجال الثورة، ولكن وجهته وأبراجه الباقية حتى الآن نحتفظ بتصميمه الجريء القوي. والحق أن الفزع النورمندي من الطراز الرومنسي قد تكون في ذلك المكان. وكان يعتمد في تأثيره على الحجم وشكل البناء أكثر مما يعتمد على الزينة.
وأراد وليم الفاتح أن يكفر عن ذنبه بزواج ماتلدة أميرة فلندرز فقدم عام 1066 المال اللازم لبناء كنيسة سانت إتين في كاين Caen وهي المعروفة بدير الرجال Abbayas aux Homme، وقدمت ماتلدة، لهذا الغرض عينة فيما نظن، ما يلزم من المال لبناء كنيسة الثالوث La Trinit المعروفة بدير النساء Abbys ayx Dames ولما أريد إعادة بناء دير الرجال في عام 1135 قسمت كل فرجة بين العمد في صحن الكنيسة بعمود إضافي في كل ناحية، وربط العمودان الجديدان بقوس مستعرضة، وبهذا أضحت القبة الرباعية قبة سداسية، وهو شكل انتشر في أوربا في القرن الثاني عشر.
وانتقل الطراز الرومنسي من فرنسا إلى فلاندرز، وأنشئت على هذا الطراز كتدرائية جميلة في تورناي (1066)؛ ومن فلاندرز، وفرنسا، وإيطاليا انتقل(16/278)
إلى ألمانيا. وكانت مدينة مينز قد بدأت كثدرائيتها في عام 1009، وتريير Triere في عام 1016 واسباير speyer في 1030، ثم أعيد بناء هذه الكنائس قبل عام 1300، واحتفظ فيها حين إعادتها بالطراز المستدير، وشادت كلوني في ذلك الوقت في كبتول Kapitol كنيسة القديسة ماريا التي اشتهرت بجمالها من الداخل وكنيسة القديسة ماريا الشهيرة بأبراجها. وقد دمرت الكنيستان في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال كثدرائية ورمز التي افتتحت في عام 1171 وأعيد بناؤها في القرن التاسع عشر تشهد بعظمة فن نهر الراين الرومنسي. وكان لكل واحد من هذه الكنائس قباً في كل طرف، وقلما كان يعنى فيها بالواجهات ذات التماثيل، المنحوتة، كانت تزدان من الخارج بالعمد وتدعم بأبراج أخرى صغيرة رفيعة ذات أشكال مختلفة. وإن الناقد غير الألماني ليمتدح هذه الأضرحة بالاعتدال المنبعث من نزعته الوطنية؛ ولكن الأماني يرى فيها جمالا فاتنا يوائم كل المواءمة جمال بلاد الرين الجذاب.(16/279)
الفصل الثالِث
الطراز النورمندي في إنجلترا
1066 - 1200
لما جلس إدوارد المعترف على العرش في عام 1042 جاء معه بكثير من الأصدقاء والأفكار من بلاد نورمندية التي قضى فيها أيام شبابه. وبدأ دير وستمنستر في أيامه كنيسة نورمندية ذات عقود مستديرة وجدران ثقيلة؛ وقد دفن هذا البناء تحت دير القوطي الذي شيد في عام 1245؛ ولكنه كان بداية انقلاب معماري خطير، وكان الإسراع في استبدال الأساقفة النورمنديين بالسكسون والدنمرقيين مما أكد غلبة الطراز النورمندي في إنجلترا. ونفح وليم الفاتح وخلفاؤه الأساقفة بكثير من الثروة المصادرة من الإنجليز الذين لم يقدروا فتح بلادهم حق التقدير وأضحت الكنائس أداة لتهدئة العقول، وما لبث الأساقفة الإنجليز النورمنديون أن بلغوا من الثراء ما بلغه النبلاء الإنجليز النورمنديون، وتضاعف عدد الكثدرائيات والقصور، وتحالفت بعضها مع بعض في البلاد المفتوحة، وكتب في ذلك وليم المالزبري William of Malmsbnry يقول: "وأخذوا كلهم ينافسن بعضهم بعضا في إقامة العمائر الفخمة على الطراز النورمندي، لأن النبلاء كانوا يشعرون بأن اليوم الذي يحتفلون فيه بعمل فخم عظيم يوم ضائع" (5). والحق أن إنجلترا لم تشهد قط صورة جنونية في البناء كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وتفرعت العمارة النورمندية الإنجليزية من الطراز الرومنسي وكانت مغايرة له في بعض أجزائه. فقد حذت حذو المثل الفرنسية ارتكاز السقف بعقود مستديرة على دعامات سميكة وجدران ثقيلة - وإن كانت سقفها قد صنعت في العادة(16/280)
من الخشب. وإذ كانت القبة من الحجارة فقد كان سمك الجدران يتراوح بين ثمان أقدام وعشر. وكانت معظم الكنائس أشبه بالأديرة في أنها تقام في أماكن نائية لا في المدن. ولم يكن في الكنيسة إلا قليل من التماثيل الخارجية، لأن القائمين عليها كانوا يخشون على هذه التماثيل من مناخ البلاد الرطب، وحتى تيجان الأعمدة كانت تنحت نحتاً بسيطاً غير دقيق، والحق أن إنجلترا لم تبلغ في النحت ما بلغته بلاد القارة الأوربية، وأن لم تكن في تلك البلاد أبراج كثيرة تضارع الأبراج العظيمة التي تشرف على القصور النورمندية أو تحرس وجهات الكنائس النورمندية أو ملتقى الطرقات المغطاة فيها.
ولا يكاد يبقى إلى وقتنا هذا في إنجلترا كلها بناء كنسي رومنسي خالص. فقد ارتفعت في كثير من الكثدرائيات العقود والقباب في القرن الثالث عشر، ولم يبق فيها إلا الشكل الأساسي النورمندي، وقد دمرت النار كثدرائية كنتربرى القديمة في عام 1067، ثم أعاد لافرانك بناءها (1070 - 1077) على نمط دير الرجال الذي له في كائن، ولم يبق من كنيسة لافرانك إلا قطع قليلة من البناء في المكان الذي سقط فيه بكت. ثم أقام الرئيسان إرنلف وكنراد سردابا جديداً ومكاناً للمرنمين، واحتفظا بالعقد المستدير ولكنهما نقلا الضغط على نقط تقويها مساند خارجية. وكان الانتقال إلى الطرز القوطي قد بدأ قبل ذلك الوقت.
واختفت في عام 1291 كنيسة يورك التي شيدت في عام 1075 على قواعد نورمندية، وكان اختفاؤها تحت صرح قوطي، وأعيد بناء كثدرائية لكلن، التي كانت في الأصل (1075) نورمندية الطراز، على الطراز القوطي، وكان ذلك بعد أن دمرها زلزال عام 1185، ولكن الكنيسة النورمندية الأولى بقي منها البرجان الكبيران والأبواب الفخمة النحت، ومنها يستبين الإنسان ما يمتاز به الطراز القديم من حذق وقوة. وفي ونشستر بقيت من الكثدرائية القديمة التي(16/281)
أقيمت بين عامي 1081و1103 طرقاتها المتقاطعة وسردابها. وهذه الكنيسة هي التي بناها الأسقف ولكلين Walkelin لاستقبال الوفود التي كانت تحج إلى قبر القديس إسويثين (1). وقد لجأ إسويثين إلى ابن عمه وليم الفاتح ليمده بالخشب اللازم لسقف سطحها العظيم الاتساع، وأجاز له وليم أن يأخذ من غابة همباج Hemage كل ما يستطيع قطعه من الأشجار في ثلاثة أيام، فما كان من أتباع ولكلين إلا أن قطعوا جميع أشجار الغابة ونقلوها في اثنين وسبعين ساعة. ولما تم بناء الكثدرائية شهد تدشينها رؤساء الأديرة الإنجليزية وأساقفتها كلهم تقريبا، وليس من العسير علينا أن نتصور ما أثاره هذا الصرح الضخم من منافسة قوية في البناء.
وفي وسعنا أن نتصور كذلك اتساع مجالس التنافس في الأبنية النورمندية إذا لاحظنا أن دير سانت أولبنز بدئ في عام 1075، وأن كثدرائية إلى Ely بدئت في عام 1081، وروشستر في عام 1803، وكنيسة وورسستر في عام 1084، وكنيسة القديس بولس القديمة في عام 1087، وكنيسة جلوسسير في عام 1089، ودرهام في 1092، ونوروك في 1096 وتشيشستر في 1100، وتوكسبري kesburyTe في 1103، وإكستر في 1112، وبيتربرو Peterborough في 1116، وكنيسة دير رمزي Romsey في 1120، ودير فونتين Fountains في 1140، وكنيسة القديس دافدبويلز في 1176. وليست هذه الكنائس مجرد أسماء بل هي كلها آيات فنية، وإنا لنستحي أن تخرج من هذه الكنائس ولما نقض فيها إلا بضع ساعات، أو أن نفرغ من الكلام عليها في بعض السطور. وقد أعيد بناؤها أو بدلت كلها ما عدا واحدة على الطراز القوطي، ذلك أن كنيسة درهام لا تزال نورمندية
_________
(1) وهو أسقف من أساقفة ونشستر عاش في القرن التاسع. وتقول إحدى القصص إذا المطر قد أخر نقل جثته إلى الضريح الذي أعد له في عام 1971 مدة أربعين يوما؛ ومن ثم نشأ القول المأثور إن نزول المطر في يوم القديس اسويثين (15 يوليه) ينبئ باستمراره أربعين يوما.(16/282)
في معظم أجزائها، ولا تزال أعظم الصروح الرومنسية في أوربا روعة.
ودرهام بلدة من بلدان التعدين يبلغ سكانها نحو عشرين ألفا. ويقوم عند ثنية من ثنايا نهر وير Wear نتوء صخري، ويقوم على هذا المرتفع ذي الموقع المنيع صرح الكثدرائية الضخم "نصفه كنيسة الله ونصفه الآخر حصن منيع لصد غارات الاسكتلنديين" (6). وقد أقام جماعة من رهبان جزيرة لندسفارن Lindisfarne فارين من المغيرين الدنمرقييين كنيسة من الحجر في ذلك المكان عام 995، ثم هدم أسقفها الثاني وليم السانت كارليفي of St. Carilef هذا البناء في عام 1093 وشاد الصرح القائم مكانه إلى هذا اليوم بشجاعة نادرة الوجود وثروة لا يعرف مصدرها حتى اليوم. وظل العمل فيها قائما. حتى عام 1195، ولهدا فإن الكثدرائية تمثل آمال من شادوها وجهودهم مدى مائة عام كاملة. وصحن الكنيسة الشامخ نورمندي الطراز، له صفان من البواكي ذات العقود المستديرة المرتكزة على تيجان غير منقوشة ودعامات ضخمة قوية. وقد أدخلت قبة درهام في إنجلترا فكرتين جديدتين غاية في الخطر: أولاهما أن ملتقى العقود والأقبية تخرج منه ضلوع، وهذا يساعد على التركيز الضغط في مواضع خاصة، والثانية أن العقود مستدقة الرؤوس على حين أن الأقطار مستديرة، ولو أن العقود المستعرضة كانت مستديرة لما وصلت تيجانها إلى الارتفاع الذي بلغته الأقطار وهي أطوال من العقود، ولأصبحت قمة القبة خطا مضطرباً غير متساو في الارتفاع. فلما رفعت تيجان العقود المستعرضة لتلتقي في شكل زاوية أمكن إيصالها إلى الارتفاع المطلوب. ويبدو أن هذه الحاجة المعمارية لا الاستجابة إلى حاسة الجمال هي منشأ أهم المظاهر البارزة في الطراز القوطي.
وأضاف الأسقف بدسي Pudsey في عام 1175 إلى الطرف الغربي من(16/283)
كثدرائية درهام طنفاً جميلاً جذاباً أطلق عليه لسبب لا نعرفه اسم الجليل (1) والعقود القائمة في هذا المكان- الذي يحتوي قبر بيد الأب الموقر- مستديرة، ولكن العمد الرفيعة تقترب من الشكل القوطي. وقد تهدمت القبة القائمة فوق موضع المرنمين في أوائل القرن الثالث عشر، فلما أعيد بناؤها دعم المهندسون باكية الصحن بسنادات تربط الأجزاء العليا والوسطى من البناء بالسنادات الرأسية التي بالجدران الخارجية، وتختفي تحت البواكي التي في الصحن والطرقات. وأضيفت إليها بين عامي 1240، 1280 ضريح ذو تسعة مذابح ليحتفظ فيه بمخلقات القديس كثبت Cuthbett، وكانت العقود التي في هذا الضريح مستدقة وبذلك تم الانتقال إلى الطراز القوطي.
_________
(1) لعل الذي أوحى بهذا الاسم هو الآية السابعة من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس. (المترجم)(16/284)
الفصل الرابع
نشوء العمارة القوطية وارتقاؤها
يمكن تعريف هندسة العمارة القوطية بأنها حصر ضغط البناء في أماكن خاصة، وتوازن هذا الضغط، وتوكيد الخطوط الرأسية، والقباب المضلعة، والأشكال المستدقة. وقد نشأ هذا الفن عن طريق حل المشاكل الآلية التي أوجدتها حاجة المباني الكنسية والأماني الفنية. ذلك أن خوف احتراق البناء أدى إلى إقامة القباب من الحجارة والآجر، وأن ازدياد ثقل السقف أوجب بناء الجدران السميكة والعامات السمجة، ووجود الضغط السفلي في كل مكان حدد سعة النوافذ، وأن الجدران السميكة ظللت النوافذ الضيقة، ولهذا أصبح داخل الكنيسة شديد الظلمة لا يتناسب مع جو البلاد الشمالية. وقد قلل اختراع القبة المضلعة ثقل السقف فأمكن بذلك إقامة العمد الرفيعة، وحصر التوتر في أماكن محددة، كما أن تركيز الضغط وتوازنه قد أكسبا البناء استقراراً من غير زيادة في الثقل، وحصر الارتكاز بطريق المساند قد سمح بوجود نوافذ طويلة في الجدران القليلة السمك، وكانت النوافذ مجالاً مغرياً لممارسة فن الزجاج الملون الذي كان موجوداً في ذلك الوقت، كما أن الإطارات الحجرية التي تعلو النوافذ المركبة قد شجعت على قيام الفن الجديد في النقوش الغائرة أو الرسوم السطحية، وجعلت عقود القباب مستدقة ليمكن إيصال العقود ذات الأطوال المختلفة إلى تيجانها بارتفاع واحد لها جميعاً، ثم جعلت العقود الأخرى وأشكال النوافذ مستدقة كذلك لتكون متناسقة مع عقود القبة. ولما تحسنت طرق احتمال الضغط على هذا النحو أمكن زيادة ارتفاع صحن الكنيسة، وأبرزت الأبراج(16/285)
الكبيرة، وأبراج الأجراس الرفيعة، والعقود المستدقة أهمية الخطوط الرأسية وأنتجت ما يمتاز به الطراز القوطي من علو شامخ ورشاقة تبعث البهجة في النفوس. هذه الخصائص مجتمعة جعلت الكثدرائية القوطية أعظم ما أنتجته النفس البشرية وأجل ما عبرت به عن مشاعر.
لكننا نعدو طورنا إذا ادعينا أن في وسعنا أن نفرغ من وصف تطور العمارة في فقرة من فصل، ذلك أن بعض خطوات من هذا التطور جديرة بالبحث الهادئ على مهل. مثال ذلك أن مشكلة التوفيق بين الرشاقة الرفيعة والصلابة المستقرة قد حلتها العمارة القوطية أحسن مما حلها أي فن معماري قبل وقتنا الحاضر، ولسنا نعرف إلى متى يستطيع تحدينا لقوة الجذب أن ينجو من قدرة الأرض على تسوية لأعلاها بأسفلها. على أن المهندس القوطي لم يصب التوفيق والنجاح على الدوام، فإن تكن كنيسة تشارتر لا تزال قائمة سليمة من الشروخ، فإن موضع المرنمين في كثدرائية بوفيه تهدم بعد اثني عشر عاماً من بنائه، ولقد كان أهم ما يمتاز به الطراز القوطي هو الأضلاع في أجزاء البناء المختلفة: أضلاع العقود المستعرضة والممتدة على طول أقطارها، والتي ترتفع من كل فرجة بين أعمدة صحن الكنيسة، وتجتمع لتكون شبكة خفيفة رشيقة يمكن أن ترتكز عليها قبة رقيقة من البناء. وقد أضحت كل فرجة في الصحن وحدة بنائية قائمة بذاتها تتحمل الثقل والدفع الناشئين من العقود القائمة على دعاماتها، واللذين تساعد على تحملها ضغوط أخرى مقابلة لما تحدثها الفرجات المقابلة لهما في طرقات البناء وضغوط المساند الخارجية المركبة على الجدران في النقط التي يبدأ منها كل عقد مستعرض.
والمساند استنباط قديم، فقد كان لكثير من الكنائس التي شيدت قبل عهد القوط عمد مبنية تضاف إليها من خارجها عند النقط التي يقع عليها ضغط خاص. على أن الدعامات التي تصل جدران الأجزاء الداخلية والوسطى من البناء بالدعامات الرأسية للجدران الخارجية تنقل الدفع أو التوتر فوق فراغ(16/286)
إلى مسند عند القاعدة وإلى الأرض. وقد كانت بعض الكثدرائيات النورمندية تستخدم في البواكي التي بين الصحن والطرقات الجانبية أنصاف عقود تدعم عقود الصحن، غير أن هذه المساند الداخلية تصل جدران الصحن في نقطة منخفضة لا تهب القوة للطبقة العليا المضيئة التي يكون ضغط القبة عليها بالغ الشدة، والتي يعرضها هذا الضغط إلى الانهيار. ولهذا فإن تقوية البناء في هذه النقط العالية كان يحتم إخراج المساند من مخابئها، وإقامتها فوق الأرض الصلبة والانتقال بها في الفراغ فوق سقف الممشى لتدعم بذلك جدار الطبقة العليا المضيئة مباشرة. وكان أقدم ما عرف من استخدام هذا النوع من المساند في كثدرائية نويون Noyon حوالي عام 1150 (7)، ولم يختتم ذلك القرن حتى أضحت من الاختراعات المحببة. على أنها لم تكن تخلو من أخطاء ذات خطورة: فقد كانت في بعض الأحيان توحي إلى الناظر بأنها هيكل بنائي، أو محالات أهملت إزالتها؛ أو مهرب لجأ إليه المصمم فيما بعد لأن بناءه هبط من وسطه، وأن "للكثدرائية عكازات" كما يقول ميشليه Mihcelet. ولهذا نبذ عصر النهضة هذا الضرب من المساند ورآها حواجز قبيحة المنظر، واخترع أساليب أخرى لحل أثقال قبة القديس بطرس. لكن المهندس القوطي كان على غير هذا الرأي، فقد كان يجب أن يعرض على الأنظار خطوط فنه وحيله الآلية، وقد أولع بالمساند ولعله ضاعف عددها من غير حاجة إلى هذا التضعيف، وجعلها مساند مركبة حتى تدعم بذلك البناء في نقطتين أو أكثر من نقطتين، أو تدعم إحداهما الأخرى، ثم جمل الدعامات التي تعمل على استقرارها بما أضافه إليها من "الشماريخ" (1). وأثبت أحيانا - في ريمس - أن مَلكا واحداً في القليل يستطيع الوقوف على قمة الشمروخ.
_________
(1) الأبراج المستدقة المرتفعة Pinnacles(16/287)
وكان توزيع التوتر أعظم أهمية في العمارة القوطية من العقد المستدق، ولكن هذا العقد أصبح هو السمة الخارجية الظاهرة للرشاقة الداخلية. وكان العقد المستدق هذا من الأشكال القديمة، فهو يظهر في ديار بكر بتركيا مقاماً فوق عمد رومانية لا يعرف لها تاريخ، وأقدم مثل له معروف التاريخ في قصر اين وردان ببلاد مشام، ويرجع تاريخه إلى عام 561 (6)، ويوجد هذا الشكل في قبة الصخرة في المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو من مباني القرن السابع، كما يوجد في مقياس للنيل بمصر أنشئ في عام 879، وكثيراً ما كان يقينه الفرس؛ والعرب، والأقباط، والمغاربة المسلمون قبل أن يبدأ ظهوره في أوربا الغربية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (9). ولعلة جاء إلى فرنسا الجنوبية من أسبانيا الإسلامية، ولعله جاء به الحجاج العائدون من بلاد الشرق، أو لعله نشأ في بلاد الغرب من تلقاء نفسه ليحل مشاكل آلية في تصميم العمارة. على أننا يجب أن نلاحظ أن مشكلة الوصول بعقود ذات أطوال مختلفة إلى تاج مستو يمكن أن تحل من غير الالتجاء إلى العقد المستدق، وذلك بتعلية النقطة التي يبدأ عندها من العامة أو الجدار في الداخل. وقد كان لهذه الطريقة أيضاً أثرها الجمالي لأنها تبرز الخطوط الرأسية، ولهذا استخدمت على نطاق واسع، وقلما كانت تتخذ بديلا من العقد المستدق بل كانت كثيرة الاستعمال مع هذا العقد لتقوية ومساعدته على أداء وظيفته. وحل العقد المستدق مشكلة أخرى: ذلك أنه لما كانت الطرقات الجانبية أضيق من صحن الكنيسة فإن فرجة الطرقة كان يزيد طولها على عرضها، ولهذا فإن تيجان عقودها المستعرضة تكون أقصر كثيراً من عقود قطريها، إلا إذا كانت العقود المستعرضة مستدقة أو إذا رفعت النقطة التي تبدأ عندها هذه العقود من الداخل ارتفاعاً يحول بين تناسقها مع القطرين. وقد كان العقد المستدق حلا لتلك العملية الصعبة عملية إقامة قبة من عقود ذات تاج(16/288)
مستو على ممشى القبا، حيث يكون الجدار الخارجي أطول من الجدار الداخلي، وحيث تكون كل فرجة شبه منحرف لا يمكن تصميم قبته تصميما مقبولا بغير العقد المستدق. ومما يدل على أن هذا الشكل لم يستخدم فيها لرشاقته في أول الأمر كثرة المباني التي استخدم فيها لحل تلك المشكلات، مع أن العقود المستديرة ظلت تستخدم في النوافذ ومداخل الأبنية في الوقت عينه. ثم انتصر العقد المستدق تدريجياً لارتفاعه العمودي، وقد يكون للرغبة في تناسق الشكل أثر في هذا الانتصار. وإن التسعين عاماً من الكفاح المتواصل بين العقد المستدير والعقد المستدق-أي منذ ظهور العقد المستدق في الكثدرائية الرومنسية بدرهام (1104) إلى البناء النهائي لكثدرائية تشارتر (1194) - لهي فترة الانتقال إلى هذا الطراز المعماري في الهندسة القوطية الفرنسية.
وقد أوجد استخدام العقد المستدق في النوافذ مشاكل جديدة، وحلولا لها جديدة، ومفاتن جديدة، فقد قضى نقل التوتر عن طريق الأضلاع من القبة ومن العائم إلى نقط خاصة في البناء تدعمها سنادات، قضى هذا على حاجته إلى الجدران السميكة. ذلك بان المكان الذي بين كل نقطة ارتكاز والنقطة التي تليها، لم يكن يتحمل إلا ضغطا قليلا نسبيا؛ وإذن فقد كان من المستطاع جعل الجدار بين النقطتين رفيعاً، بل إن من المستطاع إزالته. وكان ملء هذا الفراغ الكبير بلوح واحد من الزجاج غير مأمون العاقبة، ولهذا قسم هذا إلى نافذتين مستدقتين (مقصدين) أو أكثر من نافذتين يعلوهما عقد من الحجارة. وبهذا أصبح الجدار الخارجي سلسلة من العقود أو البواكي شأنه في ذلك شأن صحن الكنيسة. وقد كان "الدرع" البنائي ذو الأربع القمم المتروك بين الأطراف العليا للنوافذ المزدحمة والمستدقة وبين قمة العقد الحجري المحيط بهذه النوافذ كان هذا الدرع فراغا قبيح المنظر يتطلب الزخرف. وقد حقق المهندسون الفرنسيون حوالي عام 1170 هذا المطلب بلوحات من النقوش الخطية: فقد ثقبوا الدرع بحيث(16/289)
يتركون فيه قضباناً حجرية أو فواصل ذات أشكال زخرفية- مستديرة، أو مسننة أو منتفخة، ثم ملأوا الفجوات والنوافذ بالزجاج الملون. وعمد المثالون في القرن الثالث عشر إلى قطع أجزاء مطردة الزيادة من الحجارة؛ ووضعوا في الفتحات قضباناً حجرية صغيرة منحوتة على صورة أقداح أو غيرها من الأشكال. وأخذت أشكال هذه الحلي التي على شكل العصي تزداد كل يوم تعقيداً، ونشأت من هذا التعقيد طرز وعصور من العمارة القوطية أخذت أسماؤها من الخطوط الرئيسية في هذه الزخارف: كالعقد الرمحي، والطراز الهندسي، والمستدير، والعمودي، والكثير الألوان. وأنتجت عمليات أخرى شبيهة بهذه العمليات وطبقت على سطوح الجدران فوق مداخل البناء. أنتجت ما يسمى"بالنوافذ الوردية" على الطراز الذي بدأ في كنيسة نتردام عام 1230، وبلغ درجة الكمال في كنيستي ريمس، وسانت شابل Sainte Chabelle. وما من شئ يفوق جمال النوافذ "الوردية". في الكثدرائيات القوطية سوى العقود العليا التي في القبة.
وانتقلت الزخارف الخطية، بمعناها الواسع، أي ثقب الحجارة بأشكال زخرفية من أي نوع كان، من الجدران إلى غيرها من أجزاء الكثدرائية القوطية- إلى شماريخ المساند، وإلى السقف الهرمية التي فوق المداخل، وإلى "بطنيات" العقود، والأجزاء المثلثة المحصورة بين كل اثنين منها، وإلى البواكي التي تعلو العقود بين الصحن والطرقات الجانبية، وإلى ستائر المعبد، والمنبر والحظار الزخرفي الذي خلف المذبح، ذلك أن المثال القوطي، لابتهاجه بفنه، قلما كان يمس سطحاً دون أن يزخرفه، ولهذا كان يزحم واجهات المباني، والطنف، والأبراج، بصور الرسل والشياطين، والأولياء؛ والناجين والملعونين. وصور ما يمليه عليه خياله تيجاناً للعمد، ورفارف للزينة، وحليات من خشب أو حجارة،(16/290)
وعتبات للأبواب والنوافذ العليا، وحليات شبكية، وقوائم أكتاف الأبواب والنوافذ. وكان يمثل بالحجارة ضحكة مع الحيوانات العجيبة والمرعبة التي ابتدعها خياله لتكون ميازيب (1) تبعد المطر الذي يلوث المباني عن الجدران، أو تجره إلى الأرض خلال المساند. ولم تجتمع في غير هذا الفن الثروة، والمهارة، والتقى، والفكاهة العارمة، لتوجد مثل هذه الكثرة من الزخارف التي تتكشف عنها الكثدرائية القوطية. ولسنا ننكر أن هذه الزخارف كانت في بعض الأحيان مسرفة في كثرتها، وأن الخطوط الزخرفية قد أسرف فيها إسرافاً جعلها هشة، وأن التماثيل وتيجان العمد كانت بلا ريب براقة بطلائها الذي محاه كر الدهور. ولكن هذه هي سمات الخصوبة الحيوية التي تكاد تغتفر معها كل الخطاء. ولقد يلوح لنا ونحن نجول بين هذه الآجام والحدائق الحجرية أن الفن القوطي كان، على الرغم من خطوطه وأبراجه الرفيعة الشامخة، فنا مغرما بالأرض، فنحن نستشف بين أولئك القديسين الذين ينادون بباطل، الأباطيل، وهول يوم الحساب القريب، صورة فنان العصور الوسطى، المعجب بحذقه، المبتهج بقوته، الساخر من اللاهوت والفلسفة، الذي يستمتع بشرب كأس الحياة المترعة ذات الحبب حتى الثمالة.
_________
(1) gargoyles أو حلوق صغيرة. (المترجم)(16/291)
الفصل الخامس
الطراز القوطي الفرنسي
(1133 - 1300)
نقول أولاً إن الطراز القوطي لم يبدأ من لاشيء، بل إن تقاليد تبلغ المائة عداً قد اجتمعت كلها لتمهد له السبيل: الباسلكا الرومانية، والعقود، والقباب، والطبقات العليا ذات النوافذ، وموضوعات الزخرف البيزنطية، والعقد الستيني الأرمني، والسوري، والفارسي، والمصري، والعربي، والقباب ذات الزوايا المتقاطعة، والدعامات المتجمعة، والأساليب الغريبة، والنقوش العربية، والقباب المضلعة، وأبراج الواجهات، والنزعة الألمانية لما هو فكه أو شاذ غريب .. ولكن لم اجتمعت هذه المؤثرات كلها في فرنسا؟ لقد كان في وسع إيطاليا التي امتازت بين بلدان غربي أوربا بثرائها وتراثها أن تحمل لواء ازدهار الفن القوطي، ولكنها كانت سجينة في تراثها القديم. لقد كانت فرنسا، بعد إيطاليا، أغنى أمم الغرب وأكثرها تقدماً في القرن الثاني عشر، وكانت هي التي قدمت للحروب الصليبية أكثر الأموال والرجال، والتي أفادت من حوافزها الثقافية، وكانت هي التي تزعمت أمم أوربا في التعليم، والآداب، والفلسفة، وكان العالم يعترف بأن صناعها أمهر الصناع في الناحية الغربية من بيزنطة وقبل أن يجلس على عرشها فليب أغسطس (1180 - 1223)، كانت السلطة الملكية قد انتصرت على نزعة التفكك الإقطاعية، وكان رخاء فرنسا وقوتها، وحياتها العقلية قد أخذت تتجمع في أملاك الملك الخاصة- وهي الأملاك المعروفة بجزيرة فرنسا، والتي يمكن تحديدها تحديداً غير دقيق بالإقليم الممتد عند مجرى السين الأوسط. وكانت فيها تجارة رابحة رائجة تنتقل في أنهار(16/292)
السين والواز Oise، والمارن، والأبن Aisns، وتخلف وراءها ثروة استحالت حجارة في الكثدرائيات التي شيدت في باريس، وسانت دنيس، وسنليس Senlis، ومانت Mantes، ونوايون Noyen، وسواسون Soissons، ولاؤون، وأمين، وريمس. وأخصب المال التربة التي نما فيها الفن.
كانت أولى روائع طراز عهد الانتقال هي كنيسة دير سانت دنيس في ضاحية باريس المسمات بهذا الاسم. وكانت هذه الآية من عمل أكمل الشخصيات وأكثرها توفيقاً في التاريخ الفرنسي. لقد كان سوجر (1081 - 1151) رئيس أحد الأديرة البندكتية، ونائب الملك في فرنسا، رجلاً حسن الذوق، لم تمنعه بساطة عيشها، يرى أنه ليس من الإثم أن يحب الأشياء الجميلة وأن يجمعها ليزخرف بها كنيسته. ولما أخذ عليه القديس برنار هذا الحب رد عليه بقوله: "إذا كانت الشرائع القديمة قد أمرت أن تستخدم الكؤوس الذهبية في شرب القربان وتلقي دماء الضأن ... فإن أولى من هذا أن يخصص الذهب، والحجارة الكريمة، وأندر المعادن لصنع الآنية المعدة لتلقي دم سيدنا" (10). وهو لهذا محدثنا مزهواً عن جمال الذهب والفضة، والجواهر وقطع الميناء، والفسيفساء والنوافذ ذات الزجاج الملون، والثياب والآنية الغالية، التي جمعها أو صنعها لكنيسته، وعما كلفته من مال. ففي عام 1133 جمع الفنانين والصناع "من جميع البلاد" ليشيد ويزين بيتاً جديداً للقديس دنيس شفيع فرنسا، ليكون مقراً لعظام الملوك الفرنسيين. وأقنع لويس السابع ملك فرنسا وحاشيته بتقديم المال اللازم لهذا البناء "فتمثلوا بنا" على حد قوله "وخلعوا الخواتم من أصابعهم" ليقدموا المال اللازم لمشروعه الكثير الأكلاف (11). وفي وسعنا أن نتصوره وهو يستيقظ في الصباح الباكر ليشرف على أعمال البناء، من تقطيع الأشجار التي اختارها ليأخذ منها حاجته من الخشب، إلى تركيب الزجاج الملون الذي اختار له موضوعاته وألف له نقوشه. ولما أن دشن هذا الصرح في عام 1144(16/293)
قام بهذه العملية عشرون مطراناً، وشهد الحفل ملك فرنسا، وملكتها، ومئات من الفرسان، وحق لسوجر أن يشعر بأنه نال بهذا العمل تاجاً من أجل تاج أي من الملوك.
ولم يبق في الصرح القائم هذه الأيام إلا أجزاء من كنيسته: وهي الواجهة الغربية، وفرجتان في الصحن، والمصليات التي تعلو على جانب الطرقات، وقبو الكنيسة. أما الجزء الأكبر داخل الكنيسة فهو بناء معاد قام به بيير ده منتريه Pierre de Montreux بين عامي 1231، 1281. والقبو من الطراز الرومنسي، أما الواجهة الغربية فتختلط فيها العقود المستديرة والمستدقة، ومعظم تماثيلها المنحوتة من عهد سوجر، وتشمل ما لا يقل عن مائة صورة، كثير منها فردي الطابع، وكلها تدور حول أحسن فكرة عن المسيح القاضي نشاهدها في كل ما أنتجه فن العصور الوسطى.
وبعد اثنتي عشرة سنة من وفاة سوجر كرمه الأسقف موريس دي سلي Maurice de Sully بأن أدخل التحسين على ماتركه من قواعد، وقامت كنيسة نوتردام دي باري Notre Dame de Paris على جزيرة في نهر السين. وإن التواريخ المتصلة ببنائها لتوحي بضخامة العمل الذي استلزمه تشييدها، فقد بنى موضع المرنمين والأجنحة التي على جانب الطرقات بين عامي 1163و182، وبني الصحن من 1182 إلى 1196، وأقيمت الأجزاء التي بين الأعمدة والأبراج فيما بين 1218و1223، وتم بناء الكثدرائية كلها في عام 1235. وكان يقصد في تصميمها الأول أن تكون البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والطرقات على الطراز الرومنسي، ولكن البناء كله اتخذ عند إتمامه الطراز القوطي. والوجهة الغربية أكبر مما تتطلبه الكثدرائية القوطية، ولكن سبب هذا أن الشماريخ التي كان في النية إقامتها فوق الأبراج لم تبن قط، ولعل هذا هو منشأ ما في الواجهة من هيبة ذات بساطة وقوة جعلت العلماء الأفذاذ(16/294)
يضعونها في مصاف "أنبل ما أنتجته أفكار الإنسان من آراء في فن المعمار" (12). والشبابيك الوردية في كنيسة نوتردام دي باري آية في النقوش الخطية وجمال التلوين، ولكنها لم يقصد بها أن توصف بالقول أو بالكتابة والتماثيل التي بها، وإن عدا عليها الزمان أو أضرت بها الثورة، تبرز أحسن ما أنتجه الفن بين عصر قسطنطين وبناء كثدرائية ريمس. وقد نحتت في قلب المقص القائم فوق المدخل الرئيسي صور يوم الحساب بتؤدة أعظم مما نقش بها هذا الموضوع الذي نراه في كل مكان، فصورة المسيح هنا ذات جلال هادئ، والملك الذي عن يمينه من أعظم الانتصارات التي أحرزها فن النحت القوطي. وخير من هذا كله صورة عذراء العمود La Vierge de Trumeux القائمة فوق المدخل الشمالي: إن في هذه الصورة لدقة في التنفيذ، وفي صقل السطح الخارجي، وفي الثياب المنسجمة مع الطبيعة، ويسراً جديداً ورشاقة في أوضاع الوقوف، وإلقاء ثقل الجسم على إحدى القدمين، وتحرره بذلك من الوضع العمودي المتصلب. ويكاد فن النحت القوطي يعلل في هذه الصورة الجميلة استقلاله عن فن العمارة وينتج آية خليقة بأن تنتزع مما حولها، وتقام بمفردها تعلن عن فوز هذا الفن. وانتهى في كثدرائية نوتردام دي باري طور الانتقال وحل عصر الفن القوطي.
وتلقى قصة كاتدرائية تشارتر ضوءاً على ما كان عليه موضعها في العصور الوسطى وعلى خصائص تلك العصور. فقد كانت تشارتر بلدة صغيرة في الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد خمسين ميلاً منها، على أطراف الممتلكات الملكية. وكابت سوقالسهل بوس Beauce" هنري فرنسا". ولكن قيل إن العذراء نفسها زارت هذا المكان، واتخذها الصالحون من العرج، والمكفوفين، والمرضى، والثاكلين، والثاكلات، مكاناً يحجون إليه، ومنهم من شفي أو نزلت في قلبه الطمأنينة عند ضريحها، وبذلك أضحت تشارتر هي بعينها لورد Lourde. يضاف إلى هذا أن أسقفها فلبير Fulbert، وهو رجل جمع بين الطيبة،(16/295)
والذكاء، والإيمان، قد جعلها في القرن العاشر كعبة للتعليم العالي وأما حنوناً لطائفة من أنبه الشخصيات ذكراً في الفلسفة المدرسية. ولما أن احترقت في عام 1020 كثدرائية فلبير التي شيدت في القرن التاسع، أخذ على عاتقه من فوره أن يعيد بناءها، وطال عمره حتى شاهد تمام هذا البناء. ولما دمرته النار للمرة الثانية في عام 1134، جعل الأسقف ثيودريك إقامة كثدرائية جديدة بمثابة حرب صليبية حقة، فبعث في قلوب الناس من التحمس لإنجاز هذا العمل ما جعلهم يغدقون عليه من المال والجهد ما وصفه شاهد عيان هو هيمون Haimon رئيس أحد الأديرة النورمندية في عام 1144 بقوله:
رأيت الملوك، والأمراء، وذوي القوة والسلطان من رجال العالم المزهوين بألقاب الشرف وبالثراء، والرجال والنساء من أبناء الأسرة الشريفة، رأيت هؤلاء يطوقون أعناقهم المنتفخة المنبئة بالعظمة والكبرياء بالأرسان، ويشدون أنفسهم إلى العربات يجرونها كما تجرها الدواب، وكتل الخشب وما إليها من الأشياء اللازمة لحياة الناس أو لبناء الكنائس ... يضاف إلى هذا أن نشاهد تلك لمعجزة تقع في الوقت الذي يجرون فيه العربات: وهي أن ألفاً من الرجال والنساء ... يشدون أحياناً إلى حبال العربات ... ومع ذلك فإنهم يتقدمون وهم صامتون لا يسمع لهم صوت ولا همس ... فإذا وقفوا في الطريق لا تسمع منهم ألفاظاً إلا اعترافاً بخطاياهم ... وضراعة ودعاءاً طاهراً ... ويعظهم القسيسون ويدعونهم إلى السلام، وتسلى السخائم والأحقاد من الصدور وتزول أسباب الفرقة والانقسام، وينزل الدائنون عن ديونهم وتعود الوحدة إلى الصفوف (13).
ولم تكد كثدرائية الأسقف ثيودريك تتم (1180) حتى شبت فيها النار في عام 1194 فدمرت الصحن وهدمت قبته وجدرانه، ولم يبق من الكنيسة إلا القبو السفلي والواجهة الغربية ببرجيها وشمروخيها متفرقة منعزلة، ويقال إن(16/296)
كل بيت في البلدة قد دمر في هذا الحريق المروع الذي لا تزال آثاره باقية تشاهد حتى اليوم في بقايا الكثدرائية. وفقد الأهلون شجاعتهم إلى حين وفقدوا بفقدها إيمانهم بالعذراء، وأرادوا أن يغادروا المدينة ولكن مليور Melior الرسول البابوي الذي لا تلين له قناة قال إن الله قد أصابهم بهذه الكارثة عقاباً لهم على ذنوبهم، وأمرهم أن يعيدوا بناء كنيستهم وبيوتهم، وتبرع رجال الدين في الأسقفية بدخلهم كله تقريباً مدى ثلاث سنين، وتناقل الناس أخبار معجزات جديدة لعذراء تشارتر، وبعث الإيمان في القلوب من جديد، وأقبلت الجماعات مرة أخرى كما أقبلت في عام 1144 لتساعد العمال المأجورين على جر عربات النقل ووضع الحجارة في أماكنها، وتبرعت بالمال كل كاتدرائية في أوربا (14)، ولم يحل عام 1224 حتى كان الكدح والأمل قد أتما الكاتدرائية التي جعلت تشارتر مرة أخرى مقصد الحجاج من جميع الأنحاء.
وكان التصميم الذي وضعه المهندس المجهول يقضي بألا يقيم الأبراج على جناحي الواجهة الغربية وحدها، بل أن يقيمها أيضاً على الأبواب التي عند ملتقى الطرقات المتعامدة على الصحن وعند القبا، غير أنه لم يبين من هذه الأبراج إلا برجان فوق واجهة الكنيسة. وارتفع برج الناقوس القديم (1145 - 170) بشمروخه إلى علو 351 قدماً في الطرف الجنوبي من الواجهة، وهذا البرج بسيط غير مزخرف يفضله المهندسون المحترفون على غيره من الأبراج المزخرفة (15). أما البرج الشمالي- المعروف ببرج الجرس الجديد فقد أحرقت النار شمروخه الخشبي مرتين، ثم أعاد جان لي تكسييه Jean le Texier بناءه بالحجارة على الطراز القوطي الكثير الألوان المزدحم بالزخارف الدقيقة، حتى حسبة فرجسون Fergusson" أجمل الشماريخ المنقوشة في القارة الأوربية" (16)، ولكن المتفق عليه بوجه عام أن هذا الشمروخ الكثير الزخرف لا يتفق مع الوحدة التي تتطلبها الواجهة الكالحة المجردة من الزينة (17).(16/297)
وتعتمد شهرة كنيسة تشارتر على ما تحتويه من تماثيل منحوتة وزجاج، فهذا القصر، قصر العذراء، تسكنه عشرة آلاف شخصية منحوتة أو مصورة- من رجال، ونساء، وأطفال، وقديسين، وشياطين، وملائكة، وأشخاص الثالوث، وفي مدخل الكنيسة وحده ألفا تمثال (18)، تضاف إليها تماثيل أخرى مستندة إلى الأعمدة المقامة في داخل البناء، وإن الزائرين الذين يصعدون إلى السقف على الدرج البالغ عدده 312 درجة لتعتريهم الدهشة حين تقع أعينهم على تماثيل منحوتة بعناية وبالحجم الطبيعي في ذلك المكان الذي لا يبصرها فيه إلا الطلعة المتشوف. وتقوم فوق الباب الأوسط صورة رائعة للمسيح ليست كغيرها من الصور التي نحتت فيما بعد عابسة تحكم على الموتى، بل يرى فيه جالساً في جلال هادئ بين طائفة كبيرة من الناس السعداء، وقد مدت يده وكأنه يبارك العباد الداخلين. ويتصل بالتجويف الداخلي لعقد الباب تسعة عشر تمثالاً للأنبياء والملوك، والملكات، وهي نحيلة، متصلبة توأم بشكلها هذا عملها بوصفها عمد الكنيسة، وكثير من هذه التماثيل غير متقنة وناقصة، ولربما كانت تلفت أو بليت لقدم عهدها، ولكن وجوه بعضها تطالع الناظر إليها بطابع فلسفي عميق، وبراحة لطيفة، أو برشاقة العذارى التي بلغت درجة الكمال في ريمس.
وواجهات الأجنحة والطرقات الجانبية أجمل ما يوجد نوعها في أوربا. ولكل منها ثلاثة أبواب على جانبيها عمد وقوائم منحوتة نحتاً جميلاً تفصل كلاً منها عن الأخرى، وتكاد تغطيها تماثيل كل منها منفرد بملامح خاصة إلى حد جعل الناس يطلقون على عدد كبير منها أسماء من أهل تشارتر. وتجتمع تماثيل الباب الجنوبي البالغ عددها 783 تمثالاً حول المسيح الجالس على عرشه في يوم الحساب. وهنا توضع عذراء تشارتر في مركز أقل من مركز ولدها، ولكنها تعوض عن هذا، كما عوضها ألبرتس ماجنس Albertus Magnus، بالعلوم كلها وبالفلسفة، وترى في خدمتها على هذا الباب الفنون الحرة السبعة- الموسيقى ويمثلها(16/298)
فيثاغورس، والجدل ويمثله أرسطو، والبلاغة ويمثلها شيشرون، والهندسة ويمثلها إقليدس، والحساب ويمثله نيقوماخوس، والنحو ويمثله برشيان Prician، والفلك ويمثله بطليموس. وقد أمر القديس لويس أن يتم الباب الشمالي: "بسبب إخلاصه الشديد لكنيسة عذراء تشارتر، ولنجاة روحه وأرواح آبائه" كما جاء بالنص في عهده الصادر عام 1259 (19). وحدث في عام 1793 أن رفضت جمعية الثورة الفرنسية بأغلبية قليلة اقتراحا يقضي بتدمير التماثيل المقامة في كثدرائية تشارتر باسم الفلسفة واسم الجمهورية، وارتضت الفلسفة بعدئذ ألا تدمر هذه التماثيل واكتفت بتحطيم بعض أيديها (20). وهذا الباب الشمالي هو باب العذراء، وهو يروي قصتها رواية ملؤها الحب والإجلال. والتماثيل المجسمة المقامة هنا تمثل فن النحت في نضوجه، والثياب التي عليها لا تقل في رشاقتها ومواءمتها للطبيعة عن مثيلاتها في أي نحت يوناني، وصورة "الطهر" تمثل الأنوثة الفنية كأحسن ما يمثلها الفن الفرنسي، ففيها يكسب الطهر الجمال قوة على قوته، وليس في تاريخ النحت كله ما هو أجمل من هذه الصورة، وفي ذلك يقول هنري أدمز Henry Adams: وهذه التماثيل هي أحسن ما صوره الفن الفرنسي في الرخام" (21).
وإذا ما دخل الإنسان الكنيسة انطبعت في نفسه أمور أربعة تمزج بعضها ببعض: الخطوط البسيطة الممثلة في الصحن والقبة، التي لا تكاد تبلغ في حجمها أو جمالها ما يبلغه صحن كنيسة أمين أو ونشستر، وستار مكان المرنمين المزخرف الذي بدأه عام 1514 جان دي تكسبه المولع بكثرة الألوان، وصورة المسيح الهادئة المقامة على عمود عند ملتقى الصحن بالطرقات الجانبية من جهة الجنوب، والتي تغمر المكان كله بلون هادئ وزجاج ملون منقطع النظير. ويرى الناظر في نوافذ هذا المكان البالغ عددها 174 نافذة 3884 صورة مأخوذة من الأقاصيص أو التاريخ، تختلف من الأساقفة إلى الملوك، وتمثل فرنسا في العصور(16/299)
الوسطى، يراها الناظر في أبهى ما أخرجه الفن من ألوان - حمراء داكنة، وزرقاء خفيفة، وخضراء زمردية، وزعفرانية، وصفراء، وبنية، بيضاء. وفيها ترى مجد تشارتر أكثر مما تراه في أي مكان سواه. وليس من حقنا أن نطلب أن تكون الصورة التي في هذه النوافذ صوراً واقعية، ذلك أنها مشوهة، بل إنها لتبلغ حد السخف في بعض الأحيان. فرأس آدم في الحلية الوسطى التي تمثل طرده من الجنة معوج اعوجاجاً يؤلم النظر إليه، وإن العابد ليصعب عليه إذا ما أبصر مفاتن حواء أن لا يميل إلى شهوته الجنسية. لقد كان هؤلاء الفنانون يظنون أن حسبهم أن يروي الصورة قصة، بينا تمثل الصورة بألوانها. التي يختلط بعضها ببعض ويفني بعضها في بعض في عين الناظر، جو الكثدرائية، وما أجمل صورة نافذة"الإبن المتلاف"؛ وما أعظم الألوان والخطوط في صورة "شجرة يسى" الرمزية (1)، ولكن أجمل من هذه كلها صورة"عذراء النافذة الجميلة". وتقول الرواية المأثورة إن هذه اللوحة البديعة أنقذت من النيران التي اندلعت في الكنيسة عام 1194.
وإذا وقف الإنسان عند تقاطع الطرقات الجانبية والصحن رأى نوافذ تشارتر الكبرى الوردية الشكل. وتمتد النافذة الوسطى في الواجهة الرئيسية أربعين قدما كاملة، وتكاد تضارع في اتساعها الصحن الذي تطل عليه، ولقد وصفها بعضهم بأنها أجمل تحفة من الزجاج عرفها التاريخ (23).
وتغمر النافذة المعروفة "وردة فرنسا" ملتقى الطرق بالصحن من جهته الشمالية بفيض من الضوء. وكان زجاج هذه النافذة قد أهدى إلى لويس التاسع وبلانش القشتالية، ثم أهدياه إلى العذراء، ويواجهها في الناحية المقابلة لها من الكنيسة "وردة درية Dreux" القائمة عند تقاطع الطرقات بالصحن في الواجهة الجنوبية وهي التي أهداها بيير موكلير Pierre Mauclere من دريه وبلانش،
_________
(1) شجرة تسلسل يسوع من يسى والد داود. (المترجم)(16/300)
والتي تضع ابن مريم مواجهاً "لأم الإله" في نافذة بلانش. وثمة خمس وثلاثون وردة أصغر من هذه واثنتا عشرة وريدة أصغر من هذه أيضاً، وبها تتم مجموعة زجاج تشارتر الدائري، وإذا ما وقف صاحب النزعة الحديثة، الذي تمنعه سرعته واضطراب أعصابه من أن يتطلب الكمال المحتاج إلى الصبر والهدوء، أمام هذه المناظر، أخذته الدهشة والحيرة من هذه الأعمال التي يجب أن تعزى إلى ما يتصف به الشعب والجماعة، والعصر، والعقيدة الدينية، من سمو في العاطفة وجد في العمل لا إلى عبقرية أفراد معدودين.
ولقد اخترنا كنيسة تشارتر لتمثيل العمارة القوطية الناضجة أو المتشعبة، وليس من واجبنا أن نعمد إلى هذه الإطالة نفسها في الحديث عن الكنائس ريمس، وأمين، وبوفيه. ولكن منذا الذي يستطيع أن يمر مسرعاً بالواجهة الغربية من كنيسة ريمس؟ وو أن الشماريخ الأصلية ظلت حتى الآن قائمة فوق الأبراج لكانت هذه الواجهة أعظم ما قام به الإنسان من أعمال، وإنا لتدهشنا وحدة الطراز وأجزاء الكنيسة المختلفة وتناسقها في بناء أقامته ستة أجيال من الناس. فقد دمرت النار في عام 1210 الكثدرائية التي أتمها هنكمار Hincmar في عام 840، وبدئت في يوم الذكرى الأولى لهذا الحريق كثدرائية جديدة من تصميم ربرت دي كوسي Robert de Coucy وجان دوربيه Jean dorbais. تليق بأن يتوج فيها ملوك فرنسا. ودام العمل أربعين عاماً نفد بعدها المال، فوقف البناء (1251)، ولم تتم الكنيسة العظيمة إلا في عام 1427. ودمرت النار في عام 1480 شماريخ الأبراج، واستخدمت أموال الكثدرائية المدخرة في ترميم البناء الرئيسي، أما الأبراج فلم يجدد بناؤها. ودمرت القنابل في الحرب العالمية الأولى عدداً من مساند الجدران وأحدثت فجوات كبيرة في السقف وفي القبة، ودمرت النار السقف الخارجي وحطمت كثيراً من التماثيل، ودمرت جماعات من المتعصبين عدداً آخر(16/301)
من الصور، وعدا الزمان على بعضها الآخر فأبلاه ذلك أن التاريخ صراع بين الفن وعوادي الأيام.
وتمثل روائع النحت في كنيسة ريمس، كما تمثل واجهتها، أرقى ما وصل إليه الفن القوطي، فبعضها عتيق فج ولكن الموجود منها في المدخل الأوسط منقطع النظير، وإنا لنلتقي في عدة أماكن على أبواب الكنيسة، وقمم أبراجها المستطيلة. وفي داخلها، بتماثيل تكاد تضارع في صقلها ما نحت في عصر بكليز. ولسنا ننكر أن منها ما هو مفرط في الرشاقة كتمثال العذراء القائم على عمود المدخل الأوسط، وأنها توحي إلى الناظر بضعف قوة القوط، ولكن تمثال "العذراء التطهير" القائم عن يسار هذا المدخل نفسه، وتمثال "عذراء زيارة الملاك" القائم عن يمينه ليعدان من حيث التفكير والتنفيذ من الأعمال الجليلة التي يعجز القلم واللسان عن وصفها. وأوسع من هذين التمثالين شهرة، وإن لم تبلغ مبلغهما من الكمال، تماثيل الملائكة الباسمة في مجموعة تماثيل البشارة القائمة في هذه الواجهة. ألا ما أعظم الفرق بين الوجوه المستبشرة وبين تمثال القديس بولس القائم عند مدخل الشمالي! وأن كان هذا التمثال من أقوى الصور التي نحتت في الحجر.
وتوق التماثيل المنحوتة في كثدرائية أمين تماثيل ريمس في رشاقتها وصقلها، ولكنها تقل عنها في جلال التفكير وعمق الإيحاء. فهنا نرى فوق الباب الغربي تمثال الإله الجميل Beau Dieu الذائع الصيت، وهو تمثال تقيد صانعه بعض الشء بالتقاليد، وخلا بعض الئ من الحياة، وهما عيبان يطالعاننا بعد أن نشاهد تماثيل ريمس الحية الناطقة. وهنا أيضاً تمثال القديس فرمين Firmin وهو لا يمثله زاهداً فزعاً بل يمثله رجلا هادئاً صلبا لم يشك في يوم من الأيام بأن الحق سوف ينتصر، وهنا أيضاً عذراء تحتضن طفلها بين ذراعيها، ويبدو عليها كل ما تتصف به الأمومة الصغيرة السن من استغراق الحنان. وفي الباب الجنوبي(16/302)
نرى العذراء الذهبية تبتسم وهي ترقب طفلها يلعب بكرة، وقد جملها المَثّال قليلا. ولكنها أكثر رشاقة من أن تستحق ما وصفها به رسكن Ruskin في غير كياسة بأنها "مدللة بيكاردي ( Soubrette of picardy) . " وما ألذ أن يرى الإنسان المثالين القوط يكتشفون الرجال والنساء، بعد أن ظلوا مائة عام في خدمة الأغراض الدينية، وينحتون بعد هذا الكشف متع الحياة على واجهات الكنائس. وغضت الكنيسة النظر عن هذا الكشف بعد أن عرفت هي أيضاً كيف تستمتع بالحياة الدنيا، ولكنها رأت من الحكمة أن تصور منظر يوم الحساب على الواجهة الرئيسية.
وبنيت كثدرائية أمين فيما بين 1220و1288، وقام ببنائها سلسلة متتابعة من المهندسين. ربرت دي لوزارك Robert De Luzarches، وتومس دي كورمنت Thomas de Cormonte وابنه رنيول Regnault. ولم يتم بناء الأبراج إلا في عام 1402. وداخلها هو أكثر الصحون القوطية نجاحاً، فهو يرتفع في قبة علوها 140 قدماً، ويخيل إلى الناظر أنها تجتذب الكنيسة إلى أعلى، وليست تتحمل ثقلا. وترتبط بواكي الصحن ذات الثلاث الطبقات جذوع متصلة ممتدة من الأرض إلى القبة فتجعل منها وحدة فخمة ذات عظمة وجلال. وتعد القباب القائمة فوق القبا انتصاراً للتصميم المتناسق على اختلاف النظام الباعث على الحيرة والارتباك، وإن المرء ليذهل وتقف دقات قلبه حين تقع عيناه أول مرة على نوافذ الطابق الأعلى وعلى ورود أمكنة تقاطع الطرقات والصحن وعلى الواجهة.
وفي كثدرائية بوفيه عدا هذا الولعُ القوطي بالقباب طوره وبلغ مصيره المحتوم وهو السقوط. وذلك أن فخامة كتدرائية أمين أثارت الغيرة في قلوب أهل بوفيه، فبدوا بثلاث عشرة قدما. ووصلوا بموضع المرنمين إلى الارتفاع المطلوب، ولكنهم(16/303)
ما كادوا يضعون سقفه حتى انهار واستفاق جيل آخر من هذه الكارثة فأعاد بناء موضع المرنمين إلى ارتفاعه السابق ولكنه انهار مرة أخرى في عام 1284. وأعيد البناء للمرة الثالثة وعلوا به هذه المرة إلى ارتفاع 157 قدماً فوق الأرض، ولما نفد ما عندهم من المال تركوا الكنيسة قرنين كاملين من غير جناحين أو صحن. ولما أفاقت فرنسا آخر الأمر من حرب المائة السنين في عام 1500، بدئ الجناحان الضخمان، ثم أقيم فوق ملتقى الجناحين برج فانوس بلغ ارتفاعه خمسمائة قدم ليعلو بذلك على شمروخ كنيسة القديس بطرس في روما. وانهار هذا البرج أيضاً في عام 1573 وانهار معه كبير من الجناحين ومكان المرنمين. ثم قنع أهل بوفيه الأبطال آخر الأمر بحل وسط: فرمموا موضع المرنمين وبلغوا به علوه غير الأمين، ولكنهم لم يضيفوا إليه صحناً، ولهذا فإن كثدرائية بوفيه كأنها رأس بلا جسم، فهي من خارجها واجهتان لجناحين جميلين قيمين، وقبا تحيط به وتخفيه السنادات، ومن داخلها موضع للمرنمين كالكهف يتلألأ بالزجاج الفخم الملون. ويقول أحد الأمثال الفرنسية القديمة إنه لو استطاع الإنسان أن يضم موضع المرنمين في كنيسة بوفيه إلى صحن كنيسة أمين، وإلى واجهة ريمس وشماريخ تشارتر، لو استطاع ذلك لكانت كثدرائية قرطبة تبلغ حد الكمال.
وإذا ما عاد الناس بخيالهم في العصور المقبلة إلى ذلك القرن الثالث عشر فسوف تتملكهم الحيرة فلا يدرون من أين كان لأهل هذا القرن ذلك الثراء الذي أقاموا به على الأرض تلك الصروح الفخمة المجيدة. ذلك أنه ما من أحد يستطيع أن يعرف ما صنعته فرنسا في ذلك الوقت - بالإضافة إلى جامعتها، وشعرائها، وفلاسفتها، وحروبها الصليبية- إذا وقف بنفسه أمام واحدة تلو واحدة من تلك الصروح القوطية الجريئة التي لا تعدو أن تكون هنا مجرد أسماء: نوتردام، وتشارتر، وريمس، وأمين، وبوفيه؛ وبروج (1195 - 1350)(16/304)
ذات الصحن الرحب، والطرقات الأربع، والزجاج الذائع الصيت، والملاك الجميل النحت ذي الميزان، وجبل ساتنت ميشيل وديره العجيب (1204 - 1250) القائم في حصن مشرف على صخرة في وسط ماء البحر بالقرب من نورمندية، وكنستانس (1208 - 1328) وشماريخها النبيلة، ورون (1201 - 1500) وبابها الأمامي باب ناشري الكتب، وسانت شابل في باريس - "صندوق جواهر" الزجاجي القوطي التي شادها (1245 - 1248) بييردي منتريه لتكون ضريحاً متصلا بقصر القديس لويس يضم المخلفات التي ابتاعها ذلك الملك من بلاد الشرق. ومن الخير أن نتذكر في عصور الدمار أن مقدور الناس إذا شاءوا أن يبنوا كما بنو في فرنسا يوماً من الأيام.(16/305)
الفصل السادس
الطراز القوطي الإنجليزي
(1175 - 1280)
وزحف الطراز القوطي من تشارتر و"جزيرة فرنسا Lle de Franec" إلى الأقاليم الفرنسية، ثم عبر الحدود إلى إنجلترا، وبلاد السويد، وألمانيا، وأسبانيا، ثم انتقل أخيراً إلى إيطاليا. وكان المهندسون والصناع الفرنسيون يقبلون ما يكلفون به من أعمال في البلاد الأجنبية، وكان الفن الجديد يسمى أينما حل العمل الوعود في فرنسا opus Francigenum، ورحبت به إنجلترا لأنها كانت في القرن الثامن عشر نصف فرنسية، لم تكن القناة الإنجليزية إلا نهراً بين ناحيتين من مملكة بريطانية تشمل نصف فرنسا، وكانت رون العاصمة الثقافية لتلك المملكة. واستمد الفن القوطي أصله من نورمندية لا من إيل دي فرانس، واحتفظ بالضخامة النورمندية في إطار قوطي. وحدث الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في فرنسا وإنجلترا في وقت واحد تقريباً. ففي الوقت الذي كان العقد المستدق يستخدم في كنيسة القديس دنيس (1140) أخذ هذا الطراز يعود إلى الظهور في كثدرائيتي دراهام وجلوستر. وفي دير الفوارات Fountains Abbey، ومالمسزبري Malmsbury (24) . وكان هنري الثالث (1216 - 1272) يعجب بكل ما هو فرنسي ويحسد المجد المعماري الذي بلغته فرنسا في عهد القديس لويس، وفرض على رعاياه من الضرائب ما أفقرهم ليعيد بناء دير وستمنستر، ولينفق على مدرسة الفنانين-البنائين، والمثالين؛ والمصورين، والمزخرفين، والصياغ-الذين جمعهم قرب بلاطه لينفذوا مشروعاته. وسنقصر وصفنا هنا على الطراز الأول من الطرز التي تنقسم إليها العمارة القوطية الإنجليزية -وهي الطراز الإنجليزي- المبكر (1175 - 1280)،(16/306)
والطراز المنقوش (1280 - 1380)، والطراز العمودي (1300 - 1450). وقد اتخذ هذا الفن من النوافذ والعقود الإنجليزية له اسماً آخر فسمى "بالريشة" (1). وكانت الوجهات والأبواب في هذا الطراز أبسط من مثيلاتها في فرنسا، وإن كانت كنيستا لنكلن وروشستر قد حوتا بعض التماثيل المنحوتة؛ وحوت منها كنيسة ولز Wells أكثر من هاتين الكنيستين، ولكن هذه لم تكن القاعدة المتبعة، ولا يمكن على كل حالة مقارنة هذه التماثيل، في نوعها وعددها، بالتماثيل المقامة على أبواب كنائس تشارتر، أو أمين؛ أو ريمس. أما الأبراج فكانت تمتاز بالفخامة لا بالإرتفاع، وإن كانت أبراج سالزبري، ونوروك، ولتشفيلد تدل على ما يستطيع البناء الإنجليزي أن يفعله إذا ما آثر الرشاقة والارتفاع على الروعة والفخامة. كذلك عجز ارتفاع الكنيسة من الداخل عن أن يغزى المهندسين الإنجليز، لقد حاولوه أحياناً كما فعلوا في وستمنستر وسلزبري، ولكنهم في الأغلب الأعم كانوا يتركون القبة منخفضة انخفاضاً مقبضاً للنفس، كما تراها في جلوسستر، وإكستر. يضاف إلى هذا أن طول الكثدرائيات الإنجليزية الكبير لم يكن يشجع على بذل الجهود التي تجعل ارتفاعها يتناسب مع هذا الطول، فطول كنيسة ونشستر 556 قدماً، وطول كنيسة إلى Ely، 517، وكنتربري 514، ودير وستمنستر 511، أما كنيسة أمين فطولها 435، وريمس 430، وحتى كنيسة كيلان نفسها لا يزيد طولها على 475. لكن ارتفاع كنيسة ونشستر من الداخل لم يكن يزيد على 78 قدماً، وهو في كنيسة كنتربري لا يزيد على 80، وفي لنكلن لا يتجاوز 82، وفي وستمستر لا يتجاوز 103، أما أمين فترتفع إلى 140 قدماً.
_________
(1) والنوافذ التي سمى بها الطراز عالية ضيقة تنتهي بعقد مستدق كثيراً: مزدوج الفتحات أو ثلاثيها، وهو كثير الوجود في مباني النصف الأول من القرن الثالث عشر. (المترجم)(16/307)
وظل الطرف الشرقي للكنيسة القوطية الإنجليزية هو القبا المربع المعروف في الطراز الإنجليسكسوني، متجاهلاً في ذلك التطور الفرنسي السهل الذي أنتج القبا الكثير الأضلاع أو النصف الدائري. وكان الطرف الشرقي يوسع في كثير من الحالات ليكون مصلى خاصة لعبادة العذراء، وإن كانت عبادة مريم لم تبلغ من الحماسة الدرجة التي بلغتها في فرنسا، وكثيراً ما كان موضع اجتماع القساوسة في الكثدرائية وقصر الأسقف متصلين بالكنيسة يكونان معها "حرم الكنيسة"، وكان يحيط به في العادة سور. وكان انتشار عنابر النوم، وقاعات الطعام، والدير، والطرقات المنعزلة في الأديرة القوطية بإنجلترا واسكتلندا - كما هي الحال في فوانتينز، درايبرج Dayburgh، وملروز Melrose، وتنتيرن، Tintern داخل محيط واحد مما جعلها تكون مجموعة فنية ذات جلالة وروعة.
ويبدو أن المبدأ الأساسي في العمارة القوطية-مبدأ توازن الضغوط وتصريفها لتقليل ضخامة الدعائم والمساند- وما ينشأ عن هذه الضخامة من قبح المنظر- لم يحز قط قبولاً تاماً في إنجلترا، ولم يعدل سمك الجدران الذي يمتاز به الطراز الرومنسي القديم إلا تعديلا يسيراً في الطراز القوطي الإنجليزي، حتى الحالات التي يتحتم فيها تكييف التصميم ليوائم القاعدة الرومنسية كما حدث في سلزبري. وكان المهندسون الإنجليز ينفرون من المساند المتنقلة نفور المهندسين الطليان. نعم إنهم لجئوا إليها في بعض الأماكن، ولكنهم فعلوا ذلك في غير مبالاة، وكانوا يشعرون بأن دعائم البناء أن يحويها البناء نفسه، لا أن تكون في الزوائد التي تضاف إليه، ولعلهم في هذا على حق، وإن لكثدرائياتهم لقوة وصلابة ورجولة تسمو فوق الجمال إلى العظمة والجلالة، وإن كانت تنقصها الرشاقة التي نشاهدها في روائع الفن الفرنسي.
وبعد أن مضت أربع سنين على مقتل بكت في كنتربري احترق موضع المرنمين في الكثدرائية (1174). وروع أهل البلدة لهذه الكارثة، وأخذوا(16/308)
يضربون الجدران برؤوسهم في غضب وحيرة لأن العلي العظيم لم يمنع حلولها بضريح أصبح قبل وقوعها كعبة الحجاج المتدينين (25). وعهد الرهبان بناء الكنيسة إلى مهندس من أهل سان Sans يدعى وليم، وهو رجل فرنسي ذاع صيته على أثر بنائه لمدينته. وظل وليم يعمل في كنتربري من 1175 إلى 1188، ثم عجز عن العمل لسقوطه من فوق محالة، فواصل العمل "وليم الإنجليزي William the Englishman" وهو رجل "ضئيل الجسم"كما يقول الراهب جرفاز Gervase ولكنه دقيق أمين في أعمال كثيرة مختلفة الأنواع (26). وقد بقيت أجزاء كثيرة من الكثدرائية الرومنسية التي شيدت في عام 1096، وبقيت العقود المستديرة بين الجديدات القوطية بصفة عامة؛ ولكن السقف الخشبي الذي كان يغطى موضع المرنمين قد استبدلت به قبة من الحجر مضلعة، كذلك استطالت العمد فعلت إلى ارتفاعها الكامل الرشيق، ونحتت تيجانها نحتاُ بديعاً، وملئت النوافذ بالزجاج الملون البراق. وإن كثدرائية كنتربري المتجمعة في محيطها الكثدرائي، والتي تشرف مع ذلك على بلدتها الجميلة العجيبة لهي اليوم من أكثر مناظر الأرض إيحاء وإلهاماً للنفوس.
ونشر الأحبار والحجاج الذين لا يحصى عددهم الطراز القوطي في أنحاء بريطانيا بما أقيم من كنائس على نمطها. فأقامت بيتربرو peterborough في عام 1177 رواقاً فخماً ذا عد في واجهة الجناح الغربي من كثدرائيتها؛ وشيد الأسقف هيو دي لاسي Hugh de Lacy في عام 1189 الامتداد الجميل لكثدرائية ونشستر خلف مكان القربان على هذا الطراز. وحدث في عام 1186 زلزال تصدعت منه كثدرائية لنكلن من أعلاها إلى أسفلها، وبعد ست سنين من تصدعها شرع الأسقف هيو يعيد بناءها على تصميم قوطي قام به جوفري دي نواير Geoffrey de Noyers، وأتمها جروسست Grossete الشهم النبيل جوالي عام 1240. وهي قائمة على ربوة تطل على ريف إنجليزي يتمثل فيه(16/309)
جمال هذا الريف أصدق تمثيل. وقل أن يشاهد ما يشاهده في هذه الكنيسة من روعة الحجم قد وفق بينها وبين رقة التفاصيل، فأبراجها الثلاثة العظيمة، وواجهتها العريضة ببابها ذي التماثيل المنحوتة وبواكيها المعقدة، وصحنها الفخم الذي يبدو خفيفاً رغم ضخامة حجمه وسعته. وجذوع أعمدتها الرشيقة وما على دعاماتها من نقوش لا تقل عن هذه الجذوع رشاقة، ونوافذها المشععة، وقوة بيت القساوسة الشبيهة بالنخلة، وعقود الصوامع الفخمة الرائعة - هذه تكفي وحدها لأن تجعل كثدرائية لنكلن مما يشرف بني الإنسان، ولو لم يكن فيها "مرنمة الملائكة". فقد حدث في عام 1239 أن سقط برج نورمندي قديم وحطم المرنمة التي شادها الأسقف هيو، فلما سقطت شيدت مرنمة جديدة في الفترة التي بين 1256 - 1280 على الطراز المزخرف الوليد، منقوشة ولكنها بديعة. وتعزو الأقاصيص اسمها إلى الملائكة الذين أقاموها- كما تقول القصة- لأن أيدي بني الإنسان تعجز من أن تقيم عملا يبلغ هذا المبلغ من الكمال، ولكن أغلب الظن أن هذا الاسم قد اشتق من الملائكة الموسيقيين الباسمين المنحوتة صورهم على الفرج المسدودة حول أقواس طاقات البواكي القائمة فوق العقود بين الصحن والجناحين. وأوشك المثالون الإنجليز أن يبلغوا في تماثيلهم القائمة على باب المرنمة الجنوبي ما بلغه المثالون في ريمس وأمين. فهناك أربعة تماثيل قد أزال رؤوسها وشوهها المطهرون المتزمتون تبلغ في الجمال مبلغ تماثيل ريمس وأمين، ومن هذه تمثالان يرمز أحدهما إلى الهيكل وآخر إلى الكنيسة هما أجمل التماثيل الإنجليزية التي نحتت في القرن الثالث عشر. ويظن السير وليم أسار Sir William osler وهو من كبار العلماء، أن مرنمة الملائكة هذه أجمل روائع الفن البشري على الإطلاق.
واستأجر الأسقف بور Poore في عام 1220 إلياس دي درهام Elias de Derham ليصمم ويبني كثدرائية سلزبري، وقد تم بناؤها في الفترة القصيرة(16/310)
المعتادة التي لا تزيد على خمس وعشرين سنة. وهي في جميع أجزائها على الطراز الإنجليزي المبكر، وتشذ عن القاعدة المتبعة في الكثدرائيات الإنجليزية وهي جمعها بين عدة طرز مختلفة. وإن ما تمتاز به من وحدة في التصميم، وتناسق في الحجم والخطوط، وجلال ساذج في برج الجناح وشمروخة ورشاقة في القبة المقامة على معبد العذراء، وجمال في نوافذ بيت القساوسة إن ما تمتاز به من هذا كله ليعوضها عن ثقل دعامات الصحن وضيق القبة المقبض. ولا يزال لكثدرائية إلي Ely سقف من الخشب، ولكنه سقف غير منفر، فإن في الخشب من صفات الدفء والحيوية ما لا يوجد له مثيل في العمارة الحجرية. وقد أضاف المهندسون القوط إلى الحصن النورمندي باباً غريبا جميلا هو "باب الجليل" (حوالي عام 1205)، وبيتا للقساوسة به مجموعة من العمد الجميلة منحوتة من رخام بربك Purbeck، كما أضافوا إليها في القرن الرابع عشر على الطراز القوطي المزخرف مصلى العذراء، ومرنمة، ثم أقاموا عند ملتقى الجناحين بالسقف برج ناقوس ضخم هو "مُثَمّن إلى". وكانت كثدرائية ولز (1174 - 1191) من أقدم أمثلة الطراز القوطي الإنجليزي، ولم يكن صحنها جيد التصميم، ولكن الواجهة الشمالية التي أضافها الأسقف جوسلين Jocelyn، (1220 - 1242) " أوشكت أن تكون أجمل ما شيد في إنجلترا" (28). ولقد كان في كوى الواجهة 340 تمثالا، فقد منها 106 كانت من ضحايا تزمت المتطهرين، والتخريب، وعوادي الزمن، وتكون البقية الباقية أكبر مجموعة من الصور المنحوتة في بريطانيا. وليس في وسعنا أن نقول عن صفاتها مثل ما نقوله عن عددها.
وكانت آخر العمائر التي شيدت على الطراز القوطي الإنجليزي المبكر كنيسة دير وستمنستر. وكان سبب بنائها أن هنري الثالث الذي اتخذ إدوارد المعترف قديسة الشفيع أحس بأن الكنيسة النورمندية التي بناها إدوارد (1050)(16/311)
غير جديرة بأن تحوي عظام هذا الشفيع، فأمر فنانيه أن يستعيضوا عنها بصرح قوطي على الطراز الفرنسي، وجبى لهذا الغرض ضرائب بلغ مقدارها 750,000 جنيه يمكننا أن نقدرها تقديراً تقريباً بما يعادل 90,000,000 دولار أمريكي حسب قيمة الدولار في هذه الأيام. وبدأ العمل في عام 1245، وظل قائماً حتى توفي هنري في 1272. وكان تصميمها على غرار تصميم كنيستي ريمس وأمين لا يستثنى من هذان الجناحان الكثير الأضلاع اللذان هما من مميزات الطراز القاري. ولقد تأثرت النقوش المنحوتة في الباب الشمالي، والتي تصور يوم الحساب، بالنقوش التي في الواجهة الغربية لكثدرائية أمين. وفي الفرج المسدودة في البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والجناحين نقوش بارزة مدهشة تمثل الملائكة، منها ملك في الفرجة الجنوبية يطل على الزمان بوجه حنون رحيم يضارع ملك كنيسة ريمس. وفوق مدخل بيت القساوسة صورتان تمثلان البشارة وتشير فيهما العذراء إشارة فاتنة تجمع بين التوسل والتواضع. وأجمل من هذا كله على جماله القبور الملكية التي في الدير، وأجمل من هذه كلها تمثال هنري الثالث نفسه، وقد جمل فيه صانعه الملك البدين القصير فجعله مثلا أعلى في الجمال وتناسب الأعضاء. ولقد أنست الناس هذه القبور الفخمة جرائم عشرين من الحكام، وكانت تعوضهم عنها العبقرية الإنجليزية المدفونة تحت حجارة توابيت الملوك.(16/312)
الفصل السابع
الطراز القوطي الألماني
(1200 - 1300)
استوردت فلاندرز الطراز القوطي من فرنسا في تاريخ مبكر. فقد بدأت كنيسة القديس جودول Gudule التي ترفع هامتها كبرياء على تلها ببركسل في عام 1220، وأهم ما تفخر به هو زجاجها الملون. وأقيمت في كنيسة القديس بافون Bavon بغنت مرنمة قوطية في 1274، وكانت كنيسة القديس رمبولت Rompault في مكلن Nechlin تشرف على الريف من أبراجها الضخمة المفرطة في الزخرف وإن كانت لم تتم في يوم من الأيام. ذلك أن فلاندرز كانت تهتم بالنسيج أكثر مما تهتم بالدين، وكانت عمارتها مدنية لا دينية، وكان أعظم ما فيها من العمائر القوطية هو قاعات الأقمشة في إيبر Ypres وبروج وغنت. وكانت قاعة إيبر (1200 - 1304) أفخم هذه القاعات: فقد كان لها واجهة ذات ثلاثة أطباق من البواكي طولها 450 قدماً دمرت في أثناء الحرب العالمية الأولى. ولا تزال قاعة النسيج في بروج (1284 وما بعدها) تشرف بقبة ناقوسها الفخمة التي طبقت شهرتها العالم كله على الميدان الذي تقوم فيه. وتوحي هذه المباني الجميلة هي ومباني غنت (1325 وما بعدها) بما كانت عليه نقابات الحرف الفلمنكية من ثراء، وما كانت تتيه به من كبرياء هي خليقة به، وهي بعض ما في هذه المدن السارة الهادئة في هذه الأيام من فتنة وروعة.
ولقي الفن القوطي في انتشاره نحو الشرق إلى هولندا وألمانيا مقاومة متزايدة، ذلك أن رشاقة الطراز القوطي لم تكن تتفق بوجه عام مع النزعة العقلية التيوتونية، وأن الطراز الرومنسي أكثر مواءمة لهذه النزعة، ولهذا استمسكت(16/313)
به ألمانيا حتى القرن الثالث عشر. وتعد كثدرائية بمبرج Bamberg العظمى (1185 - 1237) مرحلة انتقال: فالنوافذ فيها صغيرة وذات عقود مستديرة وليست فيها مساند متنقلة، ولكن القبة ذات ضلوع من الداخل وذات شكل مستدق. وإنا لنجد هنا في مطلع عهد الفن القوطي الألماني تطوراً في النحت ذا بال: فقد كان في بادئ الأمر يحذو حذو النحت الفرنسي، ولكنه سرعان ما خطا نحو طراز من النزعة الطبيعية البديعة والقوة. والحق أن الصورة التي تمثل المعبد فوق كنيسة بمبرج لأوقع في النفس من الصورة المماثلة لها في ريمس (29). وتمثالا اليصايات ومريم اللذان في المرنمة أقرب إلى أن يكونا نسختين من الموضوعين المماثلين لهما في فرنسا. ذلك أن تمثال اليصايات ذو وجه وشكل يشبهان وجه عضو من أعضاء مجلس الشيوخ امرأة ذات قوة وصلابة وهما الصفتان اللتان تحبهما ألمانيا على الدوام.
وتكاد كل كثدرائية ألمانية باقية من ذلك العهد تحتوي تماثيل تستلفت الأنظار، أحسنها كلها التي في كثدرائية نومبرج Naumburg ( حوالي 1250). ففي المرنمة القريبة من هذه الكنيسة إثنا عشر تمثالا متعاقبة تمثل طائفة من علية القوم المحليين، في واقعية حازمة، وتوحي بأن الفنانين لم ينالوا حقهم من الأجر كاملا، وكأنما أرادوا أن يكفروا عن هذا الخطأ فكانت صورة يوتا Uta زوجة الأمير تمثل المرأة الألمانية كما يتوق إليها التفكير الألماني. وعلى ستار المرتمة نقش يمثل يهوذا يتناول المال ليغدر بالمسيح. والصور هنا مزدحمة وذات قوة ولكنها قوة لا تضر بفرديتها، فيهوذا قد مثل بحيث يبدو منتصفاً بشيئ من العطف، والفرنسيون شخصيات ذوات قوة. تلك هي آية فن النحت الألماني في القرن الثالث عشر.
وفي عام 1248 وضع كنرادا لهوشستادني onrad of Chochstaden كبير(16/314)
أساقفة كولوني أشهر الكثدرائيات الألمانية وأقلها موافقة للطراز القوطي. وتقدم العمل تقدماً بطيئاً في خلال الفوضى التي أعقبت موت فردريك الثاني، فلم تدشن الكثدرائية إلا في عام 1322، ولهذا فإن جزءاً كبيراً منها يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر، أما الشماريخ الرقيقة وما على زواياها من النقوش التي في صورة أوراق أشجار، ملفوفة وزخارف النوافذ الحجرية التي يوضع فيها الزجاج فقد بنيت في عام 1880 حسب تصميم لها من القرن الخامس عشر. وبنيت كثدرائية كلوني على غرار كثدرائية أمين فترسمت الطراز الفرنسي والأسلوب الفرنسي بدقة. فخطوط الواجهة مفرطة في اعتدالها وصلابتها، ولكن عمد الصحن السامقة الرفيعة، والنوافذ المتلألئة، والتماثيل الأربعة عشر التي على دعامات المرنمة تكسب داخل الكثدرائية جاذبية، لم تنج من الحرب العالمية الثانية إلا بأعجوبة، وتكاد تكون إحدى المعجزات.
وكثدرائية استراسبورج Strassbourg أكثر من هذه إمتاعاً للنفس. وهنا أيضاً كان قرب البلدة من فرنسا مما جعل الطراز الفرنسي يبدو وكأنه أقل بعداً عن الطابع الوطني مما يبدو في استراسبورج في هذه الأيام (1949)، فخارجها يمثل الرشاقة الفرنسية وداخلها يمثل القوة الألمانية. ويدخل الإنسان إلى الكثدرائية بعد أن يمر ببيوت مزدحمة جميلة المنظر ذات سقف هرمية. وتزين التماثيل الواجهة، ولكن النوافذ المشععة الواسعة ذات الروعة أبهى من هذه الزينة. والبرج الوحيد القائم في ركن واحد من أركان الواجهة يشوه منظرها، إذ يوحي إلى الإنسان بأن فيها نقصاً، ولكن الفنان قد أفلح كل الفلاح في أن يجمع هنا بين المهابة والزخرف، حتى ليستطيع الإنسان أن يفهم وصف جيته لهذه الواجهة بأنها "موسيقى متجمدة"، وإن كان علينا نحن أن نستخدم في وصفها لفظاً غير لفظ "متجمد". فقد كتب جيته يقول: "لما كنت قد نشأت على احتقار العمارة القوطية، فقد ازدريت هذه الواجهة، ولكني لما دخلتها اعترتني(16/315)
الدهشة، وأحسست بما في جمالها من جاذبية" (30). والزجاج الملون في هذه الكثدرائية قديم العهد، ولعله أقدم من أي زجاج في فرنسا، والتماثيل المنحوتة التي عند باب الجناح الجنوبي (1230 - 1240) نادرة الجمال، وفي القوس التي فوق الباب نقش غائر يمثل موت العذراء، والرسل المجتمعون حول فراشها ذوو ملامح فردية غير وافية، ولكن الفكرة التي أوحت بصورة المسيح جميلة وقد أبرزها المثال بمهارة. ويقوم على جانبي هذا الباب تمثالان عظيمان: يمثل احداهما الكنيسة في صورة ملكة ألمانية بشوشة، والآخر لشخص نحيل رشيق، مكفوف ولكنه جميل، يرمز إلى معبد اليهود، ولو رفعت العصابة التي على عيني هذا التمثال لفاق المعبد الكنيسة. وقد أمرت لجنة الثورة الفرنسية في عام 1793 بتدمير تماثيل الكثدرائية لتجعل منها "معبداً للعقل"، ولكن عالما في التاريخ الطبيعي لا نعرف اسمه من هرمان Hurman أنقذ تمثالي الكنيسة والمعبد بأن أخفاهما في حديقته المخصصة لعلم النبات. كما أنقد النقوش التي فوق قوس الباب بأن غطاها بلوحة عليها نقش فرنسي: الحرية، والمساواة والإخاء (31).(16/316)
الفصل الثامن
الطراز القوطي الإيطالي
(1200 - 1300)
أطلق الإيطاليون في العصور الوسطى على الطراز القوطي اسم طراز "تيدسكو" وأخطأ إيطاليو النهضة مثل خطأهم في أصل هذا الطراز، فاخترعوا له اسم القوطي لاعتقادهم أن برابرة ما وراء الألب وحدهم هم الذين يستطيعون إيجاد فن يبلغ هذا القدر من الإسراف ذلك أن ما في هذا الطراز من كثرة في الزخارف وعظم في الجرأة لم يكن يتفق وأذواق الإيطاليين ذات النزعة القديمة الطويلة العهد بالنقاء. وإذا كانت إيطاليا لم تتخذ الطراز القوطي، فقد كان ذلك عن إباء يكاد يبلغ حد الاحتقار. ولم يكن في مقدورها أن تطلع على العالم بلألاء كتدرائية ميلان الغريب وطراز أورفينو، وسيينا، وأسيسي، وفلورنس القوطي-البيزنطي- الرومنسي إلا بعد أن كيفته بما يوائم حاجاتها ومزاجها وكان الرخام موفوراً في أرضها وخراباتها وكان في وسعها أن تبني واجهات معابدها بألواح منه متعددة الألوان، ولكن كيف تستطيع أن تنحت واجهة رخامية لتشيد منها المدخل المعقدة كما كان ينحت أهل الشمال بالحجارة اللينو؟ إنها لم تكن في حاجة إلى النوافذ الكبيرة التي تدعو إليها حاجة بلاد الشمال الباردة القاتمة إلى الدفء والضوء، وكانت لذلك تفضل عليها النوافذ الصغيرة التي جعلت كاتدرائياتها معابد قليلة الحرارة تقي روادها وهج الشمس، ولم تكن ترى أن الجدران السميكة والأربطة الحديدية نفسها أقبح منظراً من الدعامات المتنقلة، فكانت لذلك تستخدمها في تزيين مبانيها، ولم تتقبل في يوم من الأيام المنطق الإنساني في الطراز القوطي.
ويكاد هذا الطراز في البلاد الشمالية يكون كله قبل عام 1300 مقصوراً(16/317)
على الكنائس، لا يستثنى من هذا إلا عدد قليل منها في المدن التجارية مثل إيبر، وبروج، وغنت. وكان للعمارة المدنية في إيطاليا الشمالية والوسطى هما أغنى من الأراضي الوطيئة نفسها في الصناعة والتجارة، شأن عظيم في تنمية الفن القوطي، فقد اتخذت القاعات العامة، وجدران المدن، والأبواب، والأبراج، وقلاع سادة الإقطاع، وقصور التجارة، اتخذت هذه كلها الشكل القوطي أو الزخرف القوطي، وبدأت بروجيا دار بلديتها في عام 1281، وبدأت دارها العامة في 1289، وبولونيا دارها الشعبية في 1290، وبدأت فلورنس دارها الفذة الرشيقة المعروفة بقصر فيكو Vecchio في 1298 - وكلها على الطراز القوطي التسكاني.
وفي أسيسي أراد الأخ إلياس في عام 1228 بأن ينشئ مكاناً يتسع للعدد الجم من رهبانه الفرنسيين والطوائف المتزايدة من الحجاج إلى قبر القديس فرانسس، فأمر بتشييد دير سان فرانسيسكو وكنيستها العظيمة الاتساع- وهي أول كنيسة شيدت في إيطاليا على النظام القوطي. وعهد هذا العمل إلى رئيس البنائين ألماني يسميه الإيطاليون جاكوبو الألماني (يعقوب الألماني Jacopo d,Alemannia) ، ولعل هذا هو السبب في تسمية الطراز القوطي في إيطاليا "بالطراز الألماني". وشيد جاكوبو "كنيسة سفلى" على الطراز الرومنسي الذي فيه القبة ذات المنحنيات الزاوية عند ملتقى العقود، ثم أقام فوقها "كنيسة عليا" ذات نوافذ في عقودها محشوة بزخارف جميلة، وقباب مضلعة مستدقة. وتكون الكنيستان والدير كتلة من البناء ذات روعة، وإن كانت لا تبلغ في الإمتاع ما تبلغه المظلمات العجيبة التي أبدعتها أيدي سيمابيو Cimabue، وجيتو، وتلاميذ جيتو، أو السائحين الذين يهرعون كل يوم من مائة مدينة ومدينة إلى ضريح قديس إيطاليا المحبوب، أقل من يلقي المبالاة من هؤلاء القديسين.
ولا تزال سيينا حتى الآن من مدائن العصور الوسطى: فهي تتكون من(16/318)
ميدان عام تحيط به دور الحمومة، وسوق عامة مكشوفة، تصل بها حوانيت متواضعة لا تبذل فيها جهود لاسترعاء النظر. ويتفرع من هذا الميدان المركزي نحو أثني عشر طريقاً تتعثر في طريقها الخطر الظليل بين مساكن قديمة مظلمة لا تكاد يبعد بعضها عن بعض بعشر أقدام، غاصة بخلائق بشوشين تفوح منهم روائح كريهة، الماء عندهم ترف أندر وأشد خطورة على أجسامهم من النبيذ. وتقوم على تل خلف المساكن كاتدرائية المدينة مبنية من الرخام القاتم والأبيض في سطور غير ذات جمال. وقد بديء بناء الكنيسة عام 1229 وتم في عام 1348، وأضيفت إلها في عام 1380 واجهة جديدة ضخمة من تصميم خلفه جيوفني بيزانو. وكلها من الرخام الأحمر أو الأسود أو الأبيض، وفيها ثلاثة أبواب كبيرة رومنسية الطراز على جانبي كل منها قوائم منحوتة نحتاً بديعاً، وتحيط بها سقف هرمية ذات نقوش معقوفة، ونافذة متشععة ترشح أشعة الشمس المغاربة، وتمتد البواكي والعمد على طول الواجهة تطالع الناظر بطائفة كبيرة من التماثيل، وفي الأركان شماريخ وأبراج من الرخام الأبيض تقلل من حدة زواياها، وفي المقص العالي نقش فسيفسائي ضخم يمثل العذراء الأم تسبح صاعدة إلى الجنة. وكان الفنان الإيطالي مولعاً بالسطوح البراقة الملونة، ولم يكن كالفنان الفرنسي مولعاً بانعكاسات الضوء والظل الدقيقة على العمد الداخلية في الأبواب وعلى الواجهات ذات النحت الغائر. وليست هنا مساند للجدران، وتعلو فوق المرنمة قبة بيزنطية الطراز، تتحمل ثقلها جدران سميكة وعقود مستديرة متسعة اتساعاً كبيراً، تقوم على مجموعات من عمد الرخام، وتحمل قبة ذات أضلاع مستديرة ومستدقة. والطراز القوطي التسكاني لا يزال يغلب عليه هنا الطراز الرومنسي، ولا يزال بعيداً كل البعد عن طراز كنيستي أمين وكلوني الثقيل المعجز. وفي داخل الكنيسة منبر نقولا وجيوفني بيزانو، وتمثال برنزي لقائم بالتعميد صبه دونانللو Donatello، (1457) ، ومظلمات من صنع بنتورتشيو Pinturicchio،(16/319)
ومذبح من صنع بلدساري بروزيو Baldassare Peruzzio، (1532) ومقاعد للمرنمين كثيرة النقوش المنحوتة من عمل برتولميو نيروني Bartolomeo Neroni، (1567) ، وهكذا استطاعت إيطاليا أن تنمو قرناً بعد قرن بفضل سلسلة متصلة الحلقات من العباقرة الإيطاليين.
وبينما كانت كاتدرائية سيينا وبرج أجراسها يتشكلان تناقل الناس من قرية بلسينا Bolsena معجزة كانت لها نتائج معمارية. ذلك أن قساً، كان في سابق أيامه يشك في عقيدة استحالة العشاء الرباني إلى لحم المسيح ودمه، اقتنع بصدق هذه العقيدة الدينية حين رأى الدم على الخبز المقدس، ولم يكتف البابا إربان الرابع بأن يخلد هذه المعجزة بضم "عيد الجسد" إلى الأعياد المسيحية (1264)، بل أمر بتشييد كثدرائية في أرييفنو القريبة من قرية بلسينا. ووضع تصميم هذه الكاتدرائية أرنللو دي كمبيو Arnollo di Cambio ولورنزو مكاتني Lorenzo Mactani وظلا يعملان في تشيدها من 1290 حتى 1330. وجعلت واجهتها على طراز كاتدرائية سيينا، ولكنها أجمل منها صقلاً وتنفيذاً، وأحسن منها تناسباً في أجزائها، فكأنها تصوير ضخم من الرخام، كل عنصر من عناصرها آية فنية بذلت فيها عناية فائقة. وتروي النقوش البارزة المفصلة تفصيلاً لا يكاد يصدقه العقل، ولكنها مع ذلك دقيقة كل الدقة، وتتحدث هذه النقوش القائمة على العمد المربعة العريضة التي بين الأبواب مرة أخرى عن قصة خلق العالم، وحياة المسيح، وتطهير المسيح للجنس البشري من الذنوب والشقاء، ويوم الحساب. ويمتاز أحدها، وهو الذي يمثل زيارة العذراء لإليصابات، بأنه يرقى في ذلك العهد إلى الكمال الذي بلغه فن النحت في عصر النهضة. وهناك عمد منحوتة نحتاً دقيقاً تقسم مراحل الواجهة الشامخة الثلاث، وتأوى طائفة كبيرة من الأنبياء، والرسل والآباء، والقديسين. وتتوسط هذه المجموعة المعقدة نافذة مشععة تعزى إلى أركانيا Orcania، (1359) ، وإن كان(16/320)
هذا مشكوكاً فيه، ويعلوها نقش فسيفسائي براق (أزيل في الوقت الحاضر) يمثل تكليل العذراء. وداخل الكنيسة الذي تتناوب فيه الخطوط الملونة تناوباً غريباً عبارة عن باسلكا ساذجة تحت سقف منخفض من الخشب، والإضاءة فيها ضعيفة، وليس في وسع الإنسان أن يمتدح المظلمات التي صنعها فرا أنجليكو Fra Angelieo وبنزولي جونزولي Benzzoli Gozzoli ولوكا سنيورلى Luca Signorelli.
ولكن ثورة البناء التي اجتاحت إيطاليا في القرن الثالث عشر أتت بأعظم عجائبها في مدينة فلورنس الثرية. فقد شاد كمبيو في عام 1294 كنيسة الصليب المقدس (سانتا كروشي Santa Croce) واحتفظ فيها بنظام الباسلكا التقليدي الخالي من الجناحين، ذي السقف الخشبي المستوي، ولكنه استخدم العقد المستدق في النوافذ، والصحن ذا البواكي والواجهة الرخامية. ولا يعتمد جمال الكنيسة على هندستها المعمارية بقدر ما يعتمد على كثرة ما في داخلها من التماثيل، والنقوش المنحوتة، والمظلمات، التي تكشف عن مهارة أصحاب الفن الإيطالي السائر نحو النضوج، وفي عام 1298 أنشأ أرنللفو لمكان التعميد واجهة من طبقات الرخام يتعاقب فيها اللونان الأسود والأبيض ذلك التعاقب الذي يمجه الذوق السليم، ويشوه كثيراً من مباني الطراز السكاني، لأنه يخضع الارتفاع العمودي لحشد من الخطوط المستقيمة. ولكن روح العصر المزهوة بنفسها-وهي بشير آخر بعصر النهضة- يمكن تبنيها في المرسوم (1294) الذي كلف به أرنللفو ببناء الكاتدرائية العظيمة.
لما كان الحزم أجمع يقضي على ذوي الأصول الكريمة أن يختطوا في أعمالهم خطة تجعل ما يتبعونه فيها من حكمة وفخامة تظهر في صورة تراها العين، فقد أمرنا أن يعد أرنللو رئيس المهندسين في المدينة نماذج أو تصميمات لإعادة بناء (كاتدرائية) سانتا ماريا ربراتا Sante Maria Reparata، بحيث تبدو(16/321)
في أسمى حلة من الفخامة مهما أنفق فيها من المال، وبحيث لا تستطيع جهود البشر ولا قواهم أن تبتكر شيئاً أياً كان، أو أن تتعهد بالقيام بشيء، يفوقها سعة وجمالاً، وأن يراعى في هذا العمل ما أعلنه أحكم الحكماء من المواطنين وأشاروا به في مجلسهم العام وفي اجتماعهم العام وهو ألا تمس يد أعمال المدينة إلا إذا كان في نية صاحبها أن يجعلها موائمة للروح النبيلة المؤلفة من أرواح جميع مواطنيها مجتمعة في إدارة موحدة (32).
وأثار هذا التصريح الواسع الانتشار حماسة الجماهير، وهو الهدف المقصود به بلا ريب، فأخذوا يتبرعون بالمال. واشتركت نقابات الحرف الطائفية في تمويل المشروع، ولما أن تباطأت غيرها من النقابات فيما بعد تعهدت نقابة عمال الصوف بنفقات المشروع كله، وتبرعت لهذا الغرض بمبلغ ارتفع إلى 51,000 ليرة ذهبية (أي ما يعادل 9,270,000 دولار أمريكي) في العام (33). ولهذا صمم أرنللو البناء على أبعاد ضخمة، فقدر ارتفاع القبة الحجرية بمائة وخمسين قدماً، أي بما يساوي ارتفاع قبة بوفيه، وقدر اتساع الصحن بمائتين وستين قدماً في خمس وخمسين، واعتزم أن تتحمل ثقل البناء جدران سميكة، وأربطة حديدية، وعقود في الصحن مستدق، اشتهرت بقلة عددها الذي لا يزيد على أربعة، وبامتدادها الهائل الذي يبلغ خمساً وستين قدماً في الطول وتسعين قدماً في العرض. وتوفي أرنللو في عام 1301، وظل العمل قائماً بعد وفاته وأدخل على تصميمه كثير من التعديل بإشراف جيتو، وأندريا بيزانو، وبرونلسكي Brnnellcschi وغيرهم، ولم تدشن هذه الكتلة الضخمة المشوهة من البناء إلا في عام 1436 وغير اسمها إلى سانتا ماريا دي فيوري Santa Maria de Fiore. وهي صرح ضخم غريب المنظر استغرق تشييده ستة قرون، وغطى مساحة قدرها 84. 000 قدم مربعة، وتبين فيما بعد أنه يتسع لمستمعي سافونارولا Savonarola.(16/322)
الفصل التاسع
الطراز القوطي الأسباني
(1091 - 1300)
حمل رهبان فرنسا في القرن الثاني عشر الطراز القوطي إلى أسبانيا فوق جبال البرانس، كما نقلوا طراز العمارة الرومنسي إلى تلك البلاد في القرن الحادي عشر. وكانت كثدرائية سان سلفادور القائمة في بلدة أفيلا الصغيرة (1091 وما بعدها) هي بداية الانتقال من الطراز الرومنسي إلى القوطي، وذلك بما احتوته من العقود المستديرة، والباب القوطي الطراز، والعمد الشيقة التي في القبا والتي ترتفع حتى تتصل بالأضلاع المستدقة في القبة. واحتفظ أهل سلمنقة Salamanca الأتقياء الكثدرائية القديمة التي تمثل دور الانتقال والتي شيدت في القرن الثاني عشر إلى جانب الكثدرائية الجديدة التي شيدوها في القرن السادس عشر، وتكون الكنيستان معا مجموعة من أكبر المجموعات البنائية وأعظمها روعة في أسبانيا. وفي طراجونة Taragona كانت الصعاب المالية سبباً في إطالة عملية بناء الكرسي الكهنوّتي من 1089 إلى 1375، وإن ما يتصف به البناء من بساطة ومتانة ليوائم الزخارف القوطية والإسلامية، وما فيه من الأروقة- المكونة من عمد رومنسية تحت قبة قوطية- لمن أجمل ما أخرجه فن القصور الوسطى.
وطراز البناء في طراجونة واضح المعالم، أما بورجوس Burgos، وطليطلة وليون فهي أكثر منها نزعة فرنسية، وتزيد كل واحدة عن التي قبلها في هذا الاتجاه. ذلك أن زواج بلانش القشتالية من لويس الثامن ملك فرنسا (1200) قد أدى إلى زيادة أسباب التدخل الذي بدأه من قبل الرهبان المهاجرون. وكان(16/323)
ابن أخيها فرنندو الثالث ملك قشتالة هو الذي وضع الحجر الأساسي لكثدرائية بورجوس في عام 1221، وكان مهندس فرنسي غير معروف هو الذي قام بتصميم البناء، وألماني من كولوني- جوان دي كولونيا Juan de Colonia- هو الذي أقام الشماريخ (1442)، وبرغندي يدعى فلبيه دي برجونيا Felipe de Borgonia هو الذي بنى الناقوس العظيم فوق ملتقى الجناحين (1539 - 1543)، ثم قام أخيراً تلميذه جوان دي فاليجو Juan de Vallego الأسباني بإتمام الصرح كله 1567: وإن الشماريخ المزخرفة النوافذ، والأبراج المفتوحة التي تعتمد عليها هذه الشماريخ، والباكية ذات التماثيل، لتخلع على كنيسة سانتا ماريا لا مايور Senta Maria La Mayor ( القديسة ماريا الكبرى) مهابة وفخامة لا يستطيع الإنسان أن ينساهما في وقت قصير. وقد كانت هذه الواجهة الحجرية كلها في بادئ الأمر مطلية، ولكن الألوان زالت عنها من زمن بعيد، ولهذا فإن كل ما نستطيعه الآن هو أن نحاول تصور الصرح المتلألئ الذي كان في وقت من الأوقات يضارع الشمس بهاء.
كذلك قدم فرنندو الثالث نفسه الأموال اللازمة لبناء كثدرائية طليطلة الأكثر من كثدرائية بورجوس فخامة. وقل أن توجد في المدن الداخلية مدينة جميلة الموقع كمدينة طليطلة- فهي تجثم في ثنية من ثنايا نهر التاجة، تخفيها تلال تحميها من الأعداء، وما من أحد يعرف ما هي عليه من فقر في هذه الأيام يتصور أن ملوك القوط الغربيين ومن جاء بعدهم من أمراء المسلمين، ثم ملوك اليون Leon وقشتالة المسيحيين، قد اتخذوا هذه المدينة عاصمة لهم. وقد بدأت كثدرائية في عام 1227 وأخذت ترتفع في الجو ببطء مرحلة بعد مرحلة، حتى أوشكت على التمام قبيل عام 1493. ولم ينشأ من التصميم الأصلي إلا برج واحد، وهي من طراز نصف إسلامي مغربي كطراز الخرلدة في أشبيلية، وتكاد تماثيلها في رشاقتها. وبنيت فوق البرج في القرن السابع عشر قبة أعد تصميمها أشهر(16/324)
أبناء طليطلة دومنجوتيو كوبولي Domingo Teotocopuli الملقب باليوناني Elgreco. وطول الكنيسة من الداخل 495 قدماً وعرضها 178. وهي متاهة تحتوي على خمس طرقات ذات دعامات عالية، ومصليات مزخرفة، وتماثيل حجرية للأولياء الزهاد، وشبابيك من حديد مشغول، و750 شباكاً من الزجاج الملون. ويتمثل في هذه الكثدرائية الضخمة كل ما يتصف به الخلق الأسباني من جد، وكل ما يتصف به التقي الأسباني من كآبة وقوة انفعال، وما في الآداب الأسبانية من رقة ودماثة، كما يتمثل فيها أيضاً بعض ما يتصف به المسلمون من ولع بالزخرف.
ومن الأمثال السائرة في أسبانيا أن "طليطلة أغنى كنائسنا، وفي أفيدو أكثرها قداسة، وفي سلمنقة أعظمها قوة، وفي ليون أعظمها جمالا" (34). وقد بدأ الأسقف منريك Manrique كثدرائية ليون Leon في عام 1205 وجمع المال اللازم لها من تبرعات صغيرة جوزي عليها من قدموها بصكوك الغفران، وتم بناؤها في عام 1303. وقد عمد المهندسون فيها إلى الخطة القوطية الفرنسية وهي أن يكون معظم بناء الكثدرائية مكوناً من نوافذ، ولزجاجها الملون منزلة عالية بين روائع ذلك الفن. وقد يكون حقاً أن تصميم الأرض التي بنيت عليها مأخوذ من كثدرائية ريمس، وأن الواجهة الغربية قد أخذت من شارتر، والباب الجنوبي الكبير من برجوس. ولهذا تمثل الكنيسة خليطاً عجيباً من الكثدرائيات الفرنسية يحتوي على أبراج وشماريخ مصقولة.
وقامت كنائس أخرى ابتهاجاً باستعادة المسيحية في أسبانيا- في رمورة عام 1174، وفي توطيلة عام 1188، ولريده 1203، وبلنسية 1262، وبرشلونة 1298. ولكننا يصعب علينا أن نصف الكنائس الأسبانية التي قامت في تلك الفترة من الزمان بأنها قوطية الطراز، لا يستثنى من ذلك التعميم إلا كنيسة ليون. فقد خلت هذه الكنائس من النوافذ الكبيرة والمساند(16/325)
المتنقلة، واعتمد ثقل أبنيتها على جدران ودعامات ضخمة، وتمتد هذه العامات نفسيا حتى تكاد تصل إلى القبة، بدل أن تمتد ضلوع العقود من القاعدة إلى السقف، وهذه العمد العالية التي تقوم كالمردة الحجرية في كهوف الصحون الضخمة تكسب داخل الكنائس الأسبانية عظمة قاتمة مظلمة تخشع لها النفوس رهبة، على حين أن الطراز القوطي الشمالي يسمو بها لما يغمرها من ضوء. وكثيراً ما احتفظت الأبواب والنوافذ الطراز القوطي الأسباني بالعقود الرومنسية، كما احتفظت الزخارف المكونة من طبقات مختلفة ورسوم من الآجر الملون بعنصر إسلامي مغربي بين زخارفها القوطية، وبقي تأثير الطراز البيزنطي في القباب وأصاف القباب القائمة، ذات التقاسيم الثلاثية المتناسقة كثيرة الأضلاع. وهذه العناصر المختلفة هي التي أنشأت منها أسبانيا طرازاً من الكثدرائيات يعد من أجمل كثدرائيات أوربا.
وليست قصور الريف الحصينة وقلاعه، ولا جدران المدن وأبوابها، أقل الأعمال المعمارية في العصور الوسطى نبلاً وفخامة. فلا تزال جدران أفيلا قائمة إلى اليوم تشهد بإدراك العصور الوسطى لجمال الشكل، كما جمعت بعض الأبواب الكبيرة كباب الشمس Puerto de sol في طليطلة بين الجمال والمنفعة وكذلك أقام الصليبيون من ذكرياتهم للقلاع الرومانية، في الشرق الأدنى- ولعل ذلك كان أيضاً من ذكرياتهم لما شاهدوه من حصون المسلمين (35) - حصوناً قوية ضخمة كحصن الكرك (1121)، تفوق في حجمها وشكلها أية حصون من نوعها في ذلك العهد الحربي. وشادت بلاد المجر، حصن أوربا الحصين من المغول، قصوراً فخمة حصينة في خلال القرن الثالث عشر. ثم انتقل هذا الفن إلى بلاد الغرب وترك في إيطاليا آيات من الفن الحربي مثل برج فلتير Voltera الحصين، وفي فرنسا في القرن الثالث عشر قصور كوسي Coucy وبييرفون Pierrefonds، وقصر جويارد Chateau Guibard الذي شاده رتشرد قلب الأسد(16/326)
(1179) عل أثر عودته من فلسطين. ولم تكن القصور المحصنة في أسبانيا بدعة من بدع الخيال، بل كانت كتلاً ضخمة قوية من البناء صدت المسلمين المغاربة، واشتق منها اسم قشتالة ((1). ولما استرد الفنسو السادس (الأذفنش) (1073 - 1108) ملك قشتالة مدينة سيجوفيا Segovia من المسلمين، أقام فيها قصراً حصيناً على نمط "قصر" طليطلة. وقامت أمثال هذه القصور الحصينة في إيطاليا لتكون قلاعاً يسكنها النبلاء، ولا تزال مقاطعتا تسكانيا ولمبارديا مليئتين، وكان في سان جمنيانو San Gimignano وحدها ثلاثة عشر قصراً حصيناً من هذا النوع قبل الحرب الأوربية الثانية، وبدأت فرنسا منذ القرن العاشر لا بعده تبني في شتودون Chateaudun القصور التي أضحت في عصر النهضة من أفخم مظاهر فنها المعماري. وانتقلت الأساليب الفنية في بناء القصور الحجرية إلى إنجلترا مع أتباع إدوارد المعترف المحببين، وارتقت بما اتخذه وليم الفاتح من إجراءات هجومية دفاعية في البلاد، فاتخذت في أثناء قبضته الحديدية عليها صروح برج لندن، وقصر ونزر Windsor، وقصر درهام اتخذت هذه الصروح أقدم صورها. ومن فرنسا أيضاً انتقل بناء القصور الحصينة إلى ألمانيا، حيث شغف به الأعيان الخارجون على القانون، والملوك المحاربون، والقديسون الغازون. فشاد اسكلس Schloss الكنجزبرجي الرهيب (1257) حصناً استطاع الفرسان النيوتون أن يحكموا منه السكان المعادين لهم، حتى كان هذا الحصن ضحية هو خليق بها من ضحايا الحرب العالمية الثانية.
_________
(1) Castile من Castle. ( المترجم)(16/327)
الفصل العاشر
لمحات متفرقة
لقد كانت العمارة القوطية أجل ما تكشفت عنه النفس البشرية في العصور الوسطى. ذلك أن أولئك الرجال، الذين أقدموا على تعليق هذه القباب على مشاءات قليلة من الحجارة، وقد درسوا عملهم، وعبروا عنه بإحكام أكثر مما فعله في برجه العاجي أي فيلسوف من فلاسفة العصور الوسطى، وقد أثمرت هذه الدراسة ما لم تثمره دراسة أولئك الفلاسفة، وان خطوط كنيسة نتردام وأجزائها المتناسقة لتؤلف قصيدة أعظم من الملهاة الإلهية. هذا وليس في وسعنا أن نعقد موازنة عامة بين العمارتين القوطية واليونانية- الرومانية القديمة، لأن هذه الموازنة تحتاج إلى كثير من التخصص. ولسنا ننكر أنه ما من مدينة واحدة في أوربا العصور الوسطى قد أخرجت من العمائر ما أخرجته أثينة أو روما، وأنه ليس من الأضرحة القوطية ضريح حوى من الجمال الصافي ما حواه البارثنون، ولكنا لا نعرف في العمائر اليونانية- الرومانية القديمة ما يضارع العظمة المعقدة التي نراها في واجهة كاتدرائية نتردام أو الوحي الذي ينزل على النفس فيسمو بها حين تشهد قبة كتدرائية أمين، وإن ما يتمثل في الطراز القوطي من تقيد واطمئنان ليعبر عن تعقل واعتدال كانت تدعو بلاد اليونان إليها أهلها ذوي العاطفة القوية الجائشة، وإن النشوة الخيالية التي في الطراز القوطي الفرنسي، والضخامة القائمة التي تمتاز بها كاتدرائية برجوس وطليطلة، واللتين ترمزان من غير قصد إلى ما في روح العصور الوسطى من شوق وحنان، وإلى ما في العقيدة الدينية من رهبة، وإيمان بالأساطير والعقائد الخفية. لقد كانت العمارة والفلسفة(16/328)
اليونانيتان- الرومانيتان القديمتان علمين يهدفان إلى الثبات والاستقرار، ذلك أن العوارض الراكزة على الأعمدة والتي كانت تربط عمد البارثنون كانت هي التفسير الدنيوي لنقوش دلفي مع توكيد للتسامي، والنضج بالثبات، وهي توشك أن ترغم أفكار بني الإنسان على العودة إلى هذه الحياة وهذه الأرض. لقد كانت تسمية روح بلاد الشمال بالروح القوطية تسمية صادقة تنطبق على الواقع، لأنها ورثت الجرأة القلقة التي هي من مميزات البرابرة الفاتحين، وكانت تنتقل منهومة من نصر إلى نصر، حتى حاصرت آخر الأمر السماء بمساندها المتنقلة، وعقودها السامقة، ولكنها كانت بالإضافة إلى هذا روحاً مسيحية تطلب إلى السماء أن تهبها الرحمة التي أقصتها البربرية عن الأرض. وكانت البواعث هي التي أدت إلى أعظم انتصار للشكل على المادة في تاريخ الفن من أوله إلى آخره.
ولكن لم اضمحلت العمارة القوطية؟ لقد كان من أسباب اضمحلالها أن كل فن يقضي على نفسه بتعبيره الكامل عن نفسه، ويدعو إلى رد الفعل أو التغيير. ثم إن تطور الفن القوطي إلى العمودي في إنجلترا، وإلى كثرة الألوان والزخارف في فرنسا، لم يترك للشكل مستقبلاً سوى المغالاة ثم الاضمحلال. يضاف إلى هذا أن إخفاق الحملات الصليبية، وضعف العقيدة الدينية، وتحول الأموال من مريم العذراء إلى رب المال، ومن الكنيسة إلى الدولة، قد حطم روح العصر القوطي. وفوق هذا وذاك فإن فرض الضرائب على رجال الدين بعد أيام لويس التاسع قد أفرغ من المال خزائن الكاتدرائات، وفقدت المدن المستقلة ونقابات الحرق الطائفية، التي كانت تسهم في مجد العمارة القوطية ونفقاتها، واستقلالها، وثروتها، واعتزازها بنفسها، وأنهك الموت الأسود، وحرب المائة السنين فرنسا وإنجلترا كليهما، فكانت النتيجة أن المباني الجديدة في القرن الرابع عشر لم تقل فحسب، بل إن الكثرة الغالبة من الكثدرائيات(16/329)
العظيمة التي بدأت في القرنين الثاني عشر قد تركت ناقصة. وآخر ما نذكره من أسباب هذا الضعف أن إعادة كشف الكتاب الإنسانيين للحضارة القديمة، ونهضة العمارة الجديدة في إيطاليا التي لم تمت فيها هذه الحضارة قط، قد أحلا محل الفن القوطي فناً خصباً موفور النماء، فسيطر فن النهضة المعماري من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر على أوربا الغربية، لا يستثنى من ذلك الإسراف في الزينة وكثرة التفاصيل. ولما جاء الدور على النزعة اليونانية-الرومانية القديمة فأصابها هي الأخرى الوهن أعادت الحركة الإبداعية التي قامت في بداية القرن التاسع عشر العصور الوسطى إلى خيال أصحاب النزعة المثالية، وعادت العمارة القوطية إلى الوجود. ولا يزال الكفاح قائماً بين الطرازين اليوناني-الروماني والقوطي في كنائسنا ومدارسنا وحواضرنا، على حين أن طرازاً معمارياً أصيلا أعظم جرأة من الطراز القوطي أخذ يعلو في أجواز الفضاء.
وظن رجل العصور الوسطى أن الحقيقة قد تكشفت له فلم يعد في حاجة إلى الجري الوحشي وراءها، ولهذا فإن الجهد الطائش الذي نبذله الآن الجري وراء تلك الحقيقة قد وجه في تلك الأيام إلى خلق الجمال، وقد وجد الناس بين كوارث الفاقة، والأوبئة الفتاكة، والحروب، من الوقت والروح القوية ما مكنهم من أن يحملوا ألفاً من الأدوات المختلفة الأنواع تختلف من حروف أسمائهم الأولى إلى الكثدرائيات الشامخة. وإذا ما وقفنا محتبسي الأنفاس أمام بعض مخطوطات العصور الوسطى، أذلاء أمام نتردام، وتمثلنا صورة صحن كنيسة ونشستر البعيدة ما كان في عصر الإيمان من خرافات وأقذار، وحروب دنيئة، وجرائم وحشية، وأدهشنا مرة أخرى ما كان يتصف به أجدادنا في العصور الوسطى من صبر طويل، وذوق جميل، وخشوع وإخلاص، وحمدنا لألف ألف من الرجال المنسيين ما بثوه في دم التاريخ من قداسة الفن.(16/330)
الباب الثالث والثلاثون
موسيقى العصور الوسطى
(326 - 1300)
الفصل الأول
موسيقى الكنيسة
لقد أسأنا نحن إلى الكثدرائية. إنها لم تكن هذه المقبرة الباردة الخالية التي يدخلها الزائر في هذه الأيام، بل كان لها عمل تؤديه، ذلك أن من كانوا يدخلونها للعبادة لم يكونوا يجدون فيها تحفة فنية فحسب، بل كانوا يجدون فيها مريم وابنها يواسيانهم، ويشدان عزمهم. وكانت تستقبل الرهبان والقساوسة الذين كانوا يقفون عدة مرات في اليوم في مواضع الترنيم ينشدون أناشيد الصلوات الدينية. وكانت تستمع إلى أدعية المصلين الملحين يستمدون من الله الرحمة والعون. وكان صحنها وجناحاها تهدى المواكب التي كانت تحمل أمام الشعب صورة العذراء أو جسم ربهم ودمه. وكانت جنباتها الرحبة تردد في جد ووقار موسيقى القداس، ولم تكن هذه الموسيقى أقل شأنا من صرح الزجاج والحجارة. وما أكثر النفوس الجامدة القوية، المتشككة في العقيدة الدينية، التي أذابتها الموسيقى فخرت راكعة أمام ذلك السر الذي تعجز الألفاظ عنه.
وقد اتفق تطور موسيقى العصور الوسطى اتفاقاً عجيباً مع تطور الطرز(16/331)
المعمارية، فكما أن الكنائس الأولى انتقلت في القرن السابع من شكلها القديم شكل القباب والباسلكات، إلى الشكل الرومنسي القوي المتين، وانتقلت في القرن الثالث عشر إلى الطراز القوطي المعقد، العالي، المزخرف، كذلك احتفظت الموسيقى المسيحية إلى زمن جريجوري الأول (540 - 604) بنغمات بلاد اليونان والشرق الأدنى الحزينة، وانتقلت في القرن السابع عشر إلى الترنيم الجريجوري أو الترنيم البسيط، ثم ازدهرت في القرن الثالث عشر فتعددت نغماتها وكثرت أصواتها القوية الجريئة تنافس الأساليب المتزنة التي تقوم عليها الكثدرائية القوطية.
وتضامنت غارات البرابرة في الغرب، مع بعث النزعة الشرقية في الشرق الأدنى، في تحطيم التقليد الذي كان يرمز إلى النغمات الموسيقية بحروف توضع فوق الكلمات، ولكن الأساليب اليونانية الأربعة -الدوري، والفريجي، والليدي، والمكسوليدي Mixolydeau بقيت وتولد منها بطريق التقسيم الأساليب الثمانية في التأليف الموسيقي- التأملي، والمحبوس، والجدي، والرزين، والمرح، والمبتهج، والقوي، والمنتشي. وظلت اللغة اليونانية ثلاثة قرون بعد الميلاد باقية في موسيقى الغرب الكنيسة، ولا تزال باقية في صلاة "ارحمنا يارب " Kyrie eleison. واتخذت الموسيقى البيزنطية شكلها في عهد القديس باسيلي، وقرئت الترانيم اليونانية بالسورية، وبلغت ذروتها في ترانيم رومانوس (حوالي 495) وسرجيوس (حوالي 620) ونالت أعظم نصر لها في الروسيا.
وكان بعض المسيحيين الأولين يعارض في استخدام الموسيقى في الدين، ولكن سرعان ما تبين أن دينا بغير موسيقى لا يمكن أن يقوي على منافسة العقائد التي تمس الإنسان الموسيقية. ومن أجل ذلك تعلم القس أن يغني القداس، وورث بعض الألحان التي كان يتغنى بها المرتل العبري، وعلم الشمامسة(16/332)
وخدم الكنيسة أن يغنوا الردود، وعلم بعضهم تعليما فنياً في مدارس خاصة للترنيم جعلت سلستين الأول Celestine 1 (422 - 432) يصبح هو نفسه مرنماً حاذقاً، وكان هؤلاء المرنمون يكونون فرقاً عظيمة منهم، كان في فرقة أياصوفيا 35 مرنماً، 111 قارئاً. معظمهم من الغلمان (1). وانتشر غناء المصلين من الشرق إلى الغرب، وكان الرجال يتبادلون مع النساء أغنيات متجاوبة ويشتركون معهم قي التسبيحات الدينية وكانوا يظنون أن المزامير التي يغنونها تردد أو تقلد على الأرض تسابيح المديح التي يغنيها الملائكة والقديسون بين يدي الله في الجنة. وأخل القديس أمبروز في أسقفيته تبادل الغناء بين الرجال والنساء على الرغم من نصيحة الرسل بأن تظل النساء صامتات في الكنيسة، وقال هذا الإداري الحازم أن المزامير حلوة النغم في كل عصر، وتليق بكلا الجنسين، وهي تخلق رابطة عظيمة من الوحدة حين يرفع الناس جميعاً عقيرتهم في ترنيمة واحدة (2). وبكى أوغسطين حين سمع المصلين في كنيسة ميلان يتلون ترانيم أمبرزو، وصدق عليه قول القديس باسيلي إن المستمع الذي يستسلم للذة الموسيقى يستجيب للنشوة الدينية والتقوى (3). ولا تزال ترانيم أمبرزو تتلى في كنائس ميلان إلى يومنا هذا.
وثمة رواية متواترة كان أهل العصور الوسطى عامة يؤمنون بصحتها، وأضحت الآن بعد شكوك دامت زمنا طويلا مقبولة بوجه عام (4)، تعزو إلى جريجوري الأكبر وأعوانه إصلاحاً وتجديداً في الموسيقى الكنسية الكاثوليكية الرومانية، أدى إلى اعتبار"النشيد الجريجوري" الموسيقى الرسمية للكنيسة مدى ستة قرون. واجتمعت الألحان الهلنستية والبيزنطية مع الإيقاع العبري في الهيكل والمعبد فشكلت هذا النشيد الروماني أو النشيد البسيط. وكان هذا النشيد موسيقى تتألف من أغنية واحدة، وأيا كان عدد الأصوات المشتركة فيه، فقد كانت كلها تغنى نغمة واحدة، وإن كان النساء والغلمان كثيراً ما يغنون طبقة في السلم الموسيقي(16/333)
أعلى من التي يغنيها الرجال، وكان هذا النشيد موسيقى سهلة على ذات المدى القليل، وكانت تسمح من حين إلى حين بإضافة نغمة أو بضع نغمات مركبة غير لفظية تحلى بها الأغنية، وكانت في مجموعها فواصل متصلة متحررة من قيود الوزن والقافية غير مقسمة إلى أوتاد أو تقسيم الذي تلقى فيه وكانت العلامات الموسيقية الوحيدة المستعملة في النشيد الجريجوري قبل القرن الحادي عشر تتألف من إرشادات صغيرة مأخوذة من علامات التنبير اليونانية توضع فوق الكلمات المراد غناؤها. وكانت هذه "الأنفاس" تدل على ارتفاع النغمة أو انخفاضها، ولكنها لا تدل على درجة الارتفاع أو الانخفاض، ولا تدل على مدة النغمة، فقد كانت هذه تعرف بالتواتر الشفوي وبحفظ طائفة جد كبيرة من أغاني الطقوس الكنسية. ولم تكن يسمح بأن تصحب الغناء آلة موسيقية، ولكن النشيد الجريجوري أصبح على الرغم من هذه القيود-أو لعله أصبح بسبب هذه القيود- أعظم مظاهر الطقوس الكنسية المسيحية واقعاً في النفس. وإن الأذن الحديثة التي اعتادت التوافق الموسيقي المعقد لتجد هذه الأغاني مملة رقيقة، وترى فيها استمراراً للتقاليد اليونانية، والسورية، والعبرية، والعربية ذات الصوت الواحد التي لا تقدرها في هذه الأيام إلا الأذن الشرقية. لكن الأناشيد التي تغنى في كثدرائية رومانية كاثوليكية في أسبوع الآلام، تنقذ بالرغم من هذا النقص إلى قلوب المستمعين بقوة سريعة عجيبة لا نجدها في الموسيقى التي تلهي تعقيداتها الأذن بدل أن تحرك الروح.
وانتشر النشيد الجريجوري في أوربا الغربية كأنه انتشار آخر للدين المسيحي، ورفضته ميلان، كما رفضت السلطة البابوية، وظلت أسبانيا زمناً طويلا محتفظة بنشيد"مستعرب Mozarabic" ألفه المسيحيون الخاضعون لحكم المسلمين، وهو نشيد لا يزال يتلى حتى اليوم في جزء من كثدرائية طليطلة. واستبدل شارلمان، وهو الحاكم المحب للوحدة، النشيد الجريجوري بالنشيد الغالي(16/334)
في غالة، وأنشأ مدارس لموسيقى الكنيسة الرومانية في متز وسواسون، ووجد الألمان، الذين تكونت حناجرهم بتأثير مناخهم وحاجاتهم، صعوبة في هذه الأغاني ذات الألحان الرقيقة. وفي ذلك يقول الشماس يوحنا: "إن أصواتهم الخشنة التي تشبه هزيم الرعد، لا يمكن أن تنطق بالنغمات الرقيقة، لأن هذه الأصوات مبحوحة من كثرة الشراب (5).
وربما كان الألمان قد كرهوا الأسلوب الذي أخذ منذ القرن الثامن وما بعده يزين النشيد الجريجوري بـ "المحط القصيرة" وبسلسلة النغمات التي تتعاقب بانتظام. وقد بدأ "المط" بوصفه طائفة من الكلمات يسهل بها تذكر اللحن، ثم صار بعدئذ إدماجا للألفاظة والموسيقى في النشيد الجريجوري، كما كان يحدث حين لا ينشد القس Kyrie eleison " ارحمنا يا رب" بل ينشد ( Kyrie eleison) (fon Piltatis,aquo bona cuncta Priocedant) " ارحمنا يا رب تمن علينا بجميع الخيرات يا رب". وأجازت الكنيسة هذه التحليات ولكنها لم تقبلها قط ضمن الترانيم الرسمية. وكان الرهبان المتضايقون من حياة الأديرة يسلون أنفسهم بتأليف هذه العبارات وإدخالها ضمن الأناشيد، حتى كثرت أدت إلى وضع كتب خاصة بها لتعلم الناس العبارات المحببة منها أو تحفظها من النسيان. ونشأت موسيقى التمثيل الكنسي من هذه العبارات. وقد وضعت سلاسل النغمات المتعاقبة على نسق تسابيح القداس. ونشأت هذه السنة من إطالة الحرف المتحرك الذي في آخر الكلمة إطالة سموها اليوبيلوس lubiuls أي نشيد الابتهاج، وكتبت في القرن الثامن عدة نصوص لهذه التوقيعات التي أدخلت في الألحان. وأصبحت هذه السنة فنا راقيا حوّل النشيد الجريجوري تدريجا إلى طراز مزخرف لا يتفق مع روحه الأولى أو مع قصده البسيط" (1). وقضى هذا
_________
(1) ولم تقبل الكنيسة في أورادها إلا خمسة من هذه الأناشيد.(16/335)
التطور على نقاء النشيد الجريجوري وسلطانه في القرن الثاني الذي شهد الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في العمارة في بلاد الغرب.
وتطلب نقل هذه الكثرة من التواليف المعقدة علامات موسيقى أحسن من العلامات التي استعملت في تلك الأغنية السهلة. ولهذا قام أدو Odo رئيس دير كلوني ونوركر بالبولس Norker Ballbulus أحد رهبان دير القديس جول Gall في القرن العاشر بإحياء الطريقة اليونانية القديمة طريقة تسمية النغمات بحروف. وفي القرن الحادي عشر اقتراح كاتب لم يفصح عن اسمه استخدام السبعة حروف الكبيرة الأولى من السلم الموسيقي، واستخدام ما يقابلها من الحروف الصغيرة اللاتينية في الطبقة الثانية من السلم، والحروف اليونانية للطبقة الثالثة منه (6). وقام حوالي عام 1040 راهب بمبوزا Pomoasa القريبة من فرارا Ferrara يدعى جويدو الأرتزو Guido of Arezzo فسمى الست نغمات الأولى من السلم الموسيقي بأسمائها الحالية الغريبة بأن أخذ المقاطع الأولى من كل نصف شطر من ترنيمة ليوحنا المعمدان:
أنقذ الدنيا من دنس الشفاه
حتى يستطيع عبيدك
الذين يقومون بخدمتك
أن يرددوا أعذب
الألحان في الفضاء
الواسع المزهر
Ut queant laxis re sonare floris
Mira gestorum famuli tusrum
Solve Polluti reatum
وأصبحت تسمية النغمات الموسيقية بالمقاطع: أت أو دو، ري، مي، فا، صل، جزءاً لا يتجزأ من شباب الغرب.
وأهم من هذا تطور "الموسيقى" على يد جويدو. فقد نشأت حوالي عام 1000 عادة استخدام خط أحمر للتعبير عن النغمة التي يمثلها حرف F، ثم أضيف بعدئذ خط آخر أصفر أو أخضر ليمثل حرف G، ثم وسع جويدو أو شخص آخر قبله هذه الخطوط ليجعل منها مدرجا ذا أربعة خطوط، أضاف إليه معلمو(16/336)
الموسيقى فيما بعد خطاً خامساً. وكتب جويدو ويقول إن غلمانه المرنمين قد استطاعوا بهذا المدرج الجديد وبالنغمات أت، ري، مي، أن يتعلموا في أيام قليلة ما كان يتطلب منهم قبلئذ عدة أسابيع "وكان هذا تقدماً يسيراً ولكنه تقدم عظيم الشأن بدأ به عهد جديد في تطور الموسيقى، وبفضله لقب جويدو بلقب "مخترع الموسيقى" وأقيم له تمثال فخلا يزال يرى في ميدان أرزو العام إلى هذا اليوم. وأحدث هذا التطور انقلاباً عظيما في الموسيقى، فبفضله تحرر المغنون من حفظ الترانيم الموسيقية الدينية كلها عن ظهر قلب، وأصبح من الميسور أكثر من ذي قبل تأليف الموسيقى، ونقلها، وحفظها، كما أصبح في مقدور العازف أن يقرأ النغمات الموسيقية بمجرد النظر إليها، ويستمع إليها بعينه، ولم يعد المؤلف مضطراً إلى أن يكون قريباً من الألحان التقليدية خشية أن يرفض المغنون حفظ الأدوار التي يؤلفها، بل أصبح في مقدوره أن يغامر بألف من التجارب. وأهم من هذا كله أنه قد أصبح في وسعه أن يكتب موسيقى متعددة الأنغام، يمكن أن يغنيها صوتان أو أكثر من صوتين في وقت واحد، أو أن يعزف اثنان أو أكثر من اثنين ألحاناً مختلفة ولكنها متوافقة.
ونحن مدينون لآبائنا في العصور الوسطى باختراع آخر لأمكن بفضله وجود الموسيقى الحاضرة. ذلك أنه قد أصبح من المستطاع تلحين الغناء بنقط توضع سطور المدرج الموسيقي أو بينها، ولكن هذه العلامات لم تكن تدل أية دلالة على المدى الذي يجب أن تمتد إليه النغمة، وأصبح لابد لتطور الموسيقى ذات اللحنين المستقلين (أو الأكثر من لحنين) تعزفان متناسقين في وقت واحد، أصبح لا بد لهذا التطور من وجود طريقة يقاس بها زمن كل نغمة وتدل على هذا الزمن، وربما كانت معلومات منقولة عن رسائل الكندي، والفارابي، وابن سينا وغيرهم من علماء المسلمين وفلاسفتهم الذين عالجوا موضوع أطوال النغمات الموسيقية أو علامات القياس (7). وكتب قس عالم في الرياضة من كولولي(16/337)
يدعى فرانكو في وقت ما في القرن الحادي عشر (8) رسالة في قياس الغناء جمع فيها كل ما وجد قديماً من المقترحات النظرية والعملية. ووضع أساس ذو رأس مربع كان في بادئ الأمر يستخدم للدلالة على النغم، استخدم هذا العود ليمثل النغمة الطويلة، وكبرت علامة أخرى هي النقطة حتى أضحت شبه منحرف ومثلت بها النغمة القصيرة. ثم بدلت هذه العلامات على مدى الأيام، وأضيفت إليها ذيول حتى تطورت منها بمئات السخافات طريقتنا السهلة التي نستخدمها الآن لقياس النغمات.
وقد مهدت هذه التطورات الخطيرة السبيل إلى الموسيقى المتعددة النغمات، وكانت الموسيقى قد كتبت قبل فرانكو، ولكنها كانت موسيقى خشنة تعوزها الرقة، فلما أشرف القرن التاسع على الانتهاء وجدنا طريقة في الموسيقى تدعى "التنظين"- أي غناء النغمات المتطابقة بأصوات متوافقة. ثم انقطعت أخبار هذه الطريقة فلم نسمع منها إلا القليل النادر قبل نهاية القرن العاشر إذ نجد لفظي organum وسمفونيا Symphonia ( الأغنية المنتظمة والإيقاع) يستعملان لهذه النغمات المركبة من صوتين. وكانت الأرغنة (الأغنية المنتظمة) قطعة من القداس يواصل فيها الصادح لحناً قديما موحد النغمة، في الوقت الذي يضيف فيه صوت آخر لحناً يتفق معه. ثم نشأت صورة أخرى من هذا النوع نفسه كان للصادح فيها نغمة جديدة عجيبة واجتذبت صوتاً آخر في اللحن المشترك. وخطا المؤلفون في القرن الحادي عشر خطوة لا تقل في نوعها جرأة عن توازن قوة في العمارة القوطية. فقد كتبوا قطعاً متعددة الأصوات بوحدة ملائمة لم ينقد فيها الصوت "المنجذب" إلى الصادح انقياداً أعمى في علو اللحن وانخفاضه، بل اندفع إلى ألحان أخرى ذات نغمات لا يحتم عليها أن تتحرك في خط متواز مع أصوات الصادح. وكاد هذا الإعلان للاستقلال يصبح ثورة حين(16/338)
صحب الصوت الثاني نغمة الصادح الآخذة في الارتفاع بحركة انخفاض مقابلة لها. وأصبح هذا التوافق عن طريق التباين وحل التنافر المؤقت في يسر، أصبح هذا وذاك هياماً عند المؤلفين يكاد يجري مجرى القانون، وهذا دعا جون كتن John Cotton أن يكتب حوالي 1100 ويقول: " إذا كان الصوت الرئيسي يرتفع، وجب أن ينخفض الجزء المصاحب له" (9). وانتهى الأمر بأن جعلت ثلاثة أصوات مختلفة، أو أربعة، أو خمسة بل ستة في بعض الأحيان تغنى في مجموعة متشابكة من الإيقاع الانفرادي، تتقابل فيه الألحان المتباينة المتطابقة وتمتزج في انسجام رأسي أفقي دقيق، رشيق، شبيه بالعقود المتقابلة في قبة قوطية. ولم يحل القرن الثالث حتى كان هذا الفن القديم فن تعدد الأصوات قد وضع أساس التأليف الموسيقي الحديث.
وكان التحمس للموسيقى في هذا القرن ذي العواطف الثائرة والمهتاجة يضارع الولع بالعمارة والفلسفة. وكانت لكنيسة تنظر شزراً إلى تعدد الأصوات في الموسيقى، لأنها لم تكن تثق بقوة التأثير الديني للموسيقى إذا ما أصبحت في نفسها إغراء وغاية. ولهذا دعا جون أسقف سلزبري وفيلسوفها إلى وجوب وقف حركة التعقيد في التأليف الموسيقي. ووسم الأسقف جوليوم دوراند Guillaume Durand الصادح بأنه "موسيقى مختلفة النظام"، وأسف روجر بيكن، الثائر في ميدان العلم، لزوال النشيد الجريجوري الضخم. وندد مجلس ليون Lyous (1374) بالموسيقى الجديدة، وأصدر البابا يوحنا الثاني عشر (1324) اعتراضاً على الموسيقى المتعددة الأصوات لأن المؤلفين أصحاب هذه البدعة: " يفتتون الألحان .. فتندفع بعضها في إثر بعض بلا توقف، حتى تسكر الأذن من غير تهدئها، وتقلق بال المتعبد الخاشع دون أن تثير فيه خشوعه" (10). لكن الثورة ظلت تجري في مجراها، ففي أحد حصون الكنيسة الحصينة - كنيسة نتردام في باريس- ألف ليونينس Leoninus رئيس جماعة(16/339)
المرنمين حوالي عام 1180 أجمل أغنية في أيامه، وارتكب خليفته بترونيوس Petronius إثما كبيراُ إذا ألف مقطوعات من ثلاثة أصوات أو أربعة. وانتشرت الموسيقى المتعددة الأصوات، كما انتشر الطراز القوطي، من فرنسا إلى إنجلترا وأسبانيا وقال جرالدس كمبرنسس Giraldus Chambraensis، (1146 - 1220) بوجود أغاني مكونة من جزأين في أيرلندة، كما قال عن بلدة ويلز قولا لا تخطئ إذا قلناه عنها اليوم:
وهم في أغانيهم لا ينطقون بالنغمات متحدة ... بل ينطقون بنغمات كثيرة-بطرق كثيرة وأصوات كثيرة، ومن ثم فإن وجود المغنين الكثيرين الذين جرت عادة هذا الشعب على جمعهم، يؤدى إلى سماع أصوات يبلغ عددها عدد من تقع العين من المغنين، كما يؤدى إلى سماع أجزاء مختلفة متباينة تجتمع آخر الأمر في لحن متوافق متحد (11).
وخضعت الكنيسة آخر الأمر لروح العصر ونزعته اللتين لا تخطئان أبداً وارتضت الموسيقى المتعددة الأصوات، واتخذتها خادماً قوية للإيمان وأعدتها لما نالته من انتصار في عهد النهضة.(16/340)
الفصل الثاني
موسيقى الشعب
وظهرت الرغبة في الوزن في مائة صورة من الموسيقى والرقص غير الدينيين. وكان لدى الكنيسة من الأسباب ما يجعلها تخشى هذه الغريزة إذا لم تفرض عليها رقابة. وكان من الطبيعي أن تتحالف هذه الرغبة مع الحب مصدر الأغاني والمنافس القوي للدين من هذه الناحية. وكانت النزعة الأرضية القوية التي تغلب على عقول العصور الوسطى في غيبة القسيس مما يميل بتلك العقول إلى التحرر في النصوص وإلى البذاءة فيها في بعض الأحيان، تحرراً وبذاءة ارتاع لها رجال الدين وأثار المجامع الدينية إلى إصدار قرارات لم يكن لها أثر. وكان المتعلمون الجوالون يلقون في تجوالهم أو يؤلفون في أثنائها أهازيج في النساء والخمر، ويقلدون الطقوس المقدسة تقليداً ساخراً معيبا. ونشرت مخطوطات تحتوي مقطوعات موسيقية جدية تلحن الألفاظ المرحة لقداس السكيرين، كما نشر كتاب صلوات الصخابين (13). وكانت أغاني الحب كثير كما هي في هذه الأيام، وكان منها ما هو في رقة ابتهالات الحور وحنانها، ومنها ما هو حوار للإغواء تصحبه نغمات رقيقة. ولا حاجة إلى القول بأنه كانت في ذلك الوقت أغان حربية، يقصد بها الوصول إلى الوحدة عن طريق إيجاد الأصوات، أو تحث على طلب المجد بالألفاظ الموزونة التي تسلب الحس. وكانت بعض الموسيقى أغني شعبية وضعها عباقرة غير معروفين، وادعاها عامة الشعب- أو لعلهم نقلوها عن مؤلفيها، كما كان البعض الآخر من الموسيقى الشعبية ثمرة قرائح محترفين ماهرين يستخدمون كل ما تعلموه في أوراد الكنيسة من فنون الموسيقى المتعددة الأصوات. ووجد(16/341)
في إنجلترا ضرب من الموسيقى المتعددة الألحان المحبوبة وهو الموسيقى الدورية، فيها يبدأ أحد الأصوات لحناً، ثم يبدأ ثان هذا اللحن عينه أو لحناً آخر مؤتلفا معه حين يصل الأول إلى نقطة متفق عليها فيه، ثم يبدأ ثالث والثاني مستمر في غنائه، وهكذا دواليك حتى يجتمع عدد من الأصوات قد تبلغ الستة في دورة مرحة نشطة من النغمات المجتمعة.
وتكاد أغنية "الصيف مقبل" الذائعة الصيت تكون أقدم أغنية دورية، وأكبر الظن أن مؤلفها راهب من رهبان بلدة ريدنج Reading وأن ذلك كان في عام 1240. وتدل هذه الأغنية المعقدة ذات الستة الأجزاء على أن الموسيقى المتعددة الألحان قد استقرت بين الشعب. ولا تزال ألفاظ هذه الأغنية شاملة لروح ذلك القرن الذي كانت فيه حضارة العصور الوسطى كلها في طريق الأزهار:
الصيف مقبل
فغن يا وقوق بصوت عال
فالبذور تنبت والكلأ يتمايل
والزهر يتفتح الآن في الغاب
غن يا وقوق!
النعجة تنفى وراء الحْمل
والبقرة تخور وراء وليدها
والثور يقفز والوعل يفر
غن مرحاً يا وقوق!
يا وقوق يا وقوق ما أعذب شدوك،
فلا تقف عن الغناء لا تقف الآن أبداً،
غن يا وقوق الآن، غن يا وقوق،
غن يا وقوق، غن يا وقوق الآن.(16/342)
وما من شك أن هذه الأغنية وأمثالها توائم المغنين الجوالين الذين كانوا يتنقلون من بلدة إلى بلدة، ومن بلاط إلى بلاط، بل قطر إلى قطر. فنحن نسمع عن مغنين من هذا النوع يأتون من القسطنطينية ليغنوا في فرنسا، وعن آخرين من إنجلترا يغنون في أسبانيا. وكان وجود هؤلاء المغنين وقيامهم جزءاً معتاداً في كل وليمة رسمية. فقد استخدم إدوارد الأول ملك إنجلترا (426) مغنيا في احتفال بزواج ابنته مرجريت (13). وكثيراً ما كانت هذه الجماعات من المغنين تنشد أغاني مجزأة كما كانت في بعض الأحيان معقدة تعقيداً غير مألوف. وكانت هذه الأغاني يؤلفها عادة-ألفاظها وموسيقاها- شعراء غزلون في فرنسا وآخرون مثلهم في إيطاليا وألمانيا (1). وكان معظم الشعر في العصور الوسطى يكتب لكي يغنى، وفي ذلك يقول فلكيه Folquet الشاعر الغزلي الفرنسي: إن القصيدة بغير الموسيقى كطاحون بلا ماء" (14). ولدينا في هذه الأيام موسيقى لمائتين وأربع وستين من الأغاني الباقية للشعراء الغزلين البالغ عددها 2600. وتتألف هذه الموسيقى في العادة من نغمة متتابعة ذات مقطع واحد ووصلات على مدرج من أربعة خطوط أو خمسة. وأكبر الظن أن شعراء أيرلندة وويلز كانوا يغنون ويعزفون على آلات.
وإن كثرة الآلات الموسيقية واختلافها في العصور الوسطى يثير الدهشة: فآلات القرع- كالأجراس، والصنوج، والدفوف، والمثلث الموسيقي، والطبلة-والآلات الوترية-كالقيثارة على اختلاف أنواعها، والربابة، والعود، والكمان الأصغر، وذات الوتر الواحد وغيرها، وآلات النفخ، كالصفارة، والناي، والمزمار، والآلة القربة، والنفير، والبوق والقرن، والأرغن، هذه أمثلة اخترناها من مئات. لقد كان لدى أهل تلك الأيام
_________
(1) وكانوا يسمون Trodabors في فرنسا، Troudabors في إنجلترا و Trovators في إيطاليا و Mennlsinpets في ألمانيا. (المترجم)(16/343)
كل ما تتطلبه اليد أو الإصبع، أو القدم، وكل ما يحتاجه لضبط الأوتار. وكانت بعض هذه الآلات قد بقيت من أيام اليونان وجاء بعضها الآخر، بصورته واسمه، من بلاد الإسلام كالرق والناي والقيثارة؛ وكانت الآلة العادية للمغني الجائل هي الكمان الصغيرة، وهي آلة كالكمان قصيرة يعزف عليها بقوس الرامي منحنية الظهر. وكان أكثر أنواع الأرغن انتشاراً قبل القرن الثامن هو الأرغن المائي، ولكن جيروم وصف في القرن الرابع أرغناً هوائياً (17)، وكتب بيدي يصف أرغناً ذا أنابيب من الشبه تملأ بالهواء من منفاخ ويصدر منه نغمات فخمة حلوة إلى أقصى حد" (18). وقد اتهم القديس دنستان St. Dunston (925؟ -988؟) بالسحر حين صنع قيثاراً يعزف إذ وضع ثقب في جدار (19)، ووضع في كثدرائية وستمنستر حوالي عام 950 أرغن ذو ستة وعشرين منفاخا، وأثنين وأربعين نافخاً لهذه المنافيخ، وأربعمائة أنبوبة، وكانت منافيخه ضخمة ضخامة تضطر العازف إلى أن يضربها بقبضات تحميها قفازات ذات بطانات سميكة (20). وكان في ميلان أرغن أنابيبه من الفضة، وفي البندقية أرغن ذو أنابيب من الذهب (21).
وبعد فإن كل ما يبعثه وصف العصور الوسطى للجحيم من رهبة قي النفس ليفني إذا ما نظر الإنسان إلى مجموعة الآلات الموسيقية في تلك العصور. وإن الصورة التي تبقى لدينا من ذلك الوقت لهي صورة قوم لا يقلون عنا سعادة إن لم يزيدوا علينا، يستمتعون بمرح الحياة ومطامعها، لا ينوء بهم الخوف من نهاية العالم أكثر مما تنؤ بنا شكوكنا هل تدمر الحضارة وتفنى قبل أن كتابة تاريخها؟(16/344)
الباب الرابع والثلاثون
انتقال المعارف
1000 - 1300
الفصل الأول
نشأة اللغات القومية
حافظت الكنيسة إلى حدٍ ما على وحدة أوربا الغربية التي حققتها الدولة الرومانية وحافظت كذلك شعائرها وعظاتها ومدارسها على تراث روماني لم يبق له وجود في هذه الأيام - هو لغة دولية يفهمها جميع السكان المتعلمين في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وإِنجلترا، واسكنديناوة، والأراضي الوطيئة، وألمانيا، وبولندة، وبلاد المجر، وبلاد البلقان العربية. لقد كان المتعلمون من أهل تلك البلاد يستخدمون اللغة اللاتينية في مراسلاتهم، وفي سجلات أعمالهم التجارية والمالية، والدبلوماسية، وفي القانون والأعمال الحكومية، وفي العلم والفلسفة، وفي آدابهم كلها تقريباً قبل القرن الثالث عشر. وكانوا يتكلمون اللغة اللاتينية على أنها لغة حية، تشتق في كل يوم كلمة أو عبارة جديدية للدلالة على الحقائق أو الأفكار الجديدة أو المتغيرة في حياتهم. وكانوا يكتبون رسائل حبهم باللاتينية من أبسط خطابات الحب إلى الرسائل الفصحى الطويلة المتبادلة بين هلواز وأبلار H (loise and Ab (lard (1) . ولم يكن الكتاب يؤلف أمة بل لقارة، ولم يكن في حاجة
_________
(1) أنظر هذه الرسائل وقصتها في كتابنا "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)(17/1)
إلى ترجمة بل كان ينتقل من قطر إلى قطر بسرعة وحرية غير معروفتين في هذه الأيام، كما كان الطلاب ينتقلون من جامعة إلى جامعة دون أن تصادفهم عقبات اللغة، وكان في وسع العلماء أن يحاضروا باللغة نفسها في بولونيا، وسلمنقة، وباريس، وأكسفورد، وأبالا Uppsals، وكولوني. ولم يكونوا يترددون في استعارة كلمات جديدة وضمها إلى اللاتينية، وإن كان ذلك يزعج في بعض الأحيان الآذان التي اعتادت سماع لغة بترارك وشيشرون. وهكذا يستخدم العهد الأعظم الإنجليزي Magna Carta لفظي dessaiaiatus و imprisonatus حين يقول إنه لا يصلح أن "يقبض" على رجل حر أو "يسجن". وأمثال هاتين الكلمتين ثقيلة الوقع على آذاننا، ولكنها قد أبقت اللغة اللاتينية حية؛ وإن كثيراً من الألفاظ الإنجليزية الحديثة - مثل instance، و substantive و essence و entity (1) - لتنحدر من الكلمات التي أضيفت إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى.
غير أن انفصام الصلات الدولية الذي أدى إليه سقوط روما، وانتشار الفاقة في العصور المظلمة انتشاراً أدى إلى انطواء الناس على أنفسهم، وفساد الطرق وكساد التجارة، كل هذا أوجد في الكلام تلك الاختلافات التي ما لبثت أن اتسعت بسبب عزلة المتحدثين بها عن بعض. بل إن اللغة اللاتينية كانت تعاني في أوج عزها بعض التغيرات الناشئة من اختلاف المناخ وأساليب المنطق المترتبة على تركيب أعضائه، وكانت قد تبدلت في موطنها الأصلي نفسه.
وكان موت الأدب قد أفسح الميدان لمفردات الرجل العامي وتراكيبه جمله، وهي مفردات وتراكيب كانت تختلف دائماً عن أقوال الشعراء والخطباء. وجاء تدفق الألمان، والغاليين، واليونان، والأسيويين على إيطاليا باختلافات كثيرة في النطق، وتخلص اللسان والعقل الكسولان بفطرتهما مما في الحديث الفصيح
_________
(1) ومعناها المِثْل، والاسم (في النحو)، والجوهر، والكيان. (المترجم)(17/2)
الدقيق من علامات التصريف والإعراب فأضحى حرف H لا ينطق به في اللغة اللاتينية المتأخرة، وبعد أن كان حرف V ينطق به في اللغة الفصحى كما ينطق بحرف V الإنجليزي. وامتنع النطق بحرف N قبل S فكلمة mensa ( المائدة) أصبح ينطق بها nesa، وتغير النطق بالحرفين المتصلين AE و CE وكان ينطق بها في اللغة الفصحى كما ينطق بحرف I، OI في اللغة الإنجليزية فأصبح ينطق بهما كحرف A الإنجليزي الطويل أو حرف E الفرنسي. ولما كانت الحروف الساكنة في آخر الكلمات قد مضغت أو نسيت ( Coelem, rex, re, roi, portus, porto, porte) cilo, ciel فقد اقتضى ذلك أن تستبدل حروف الجر بعلامات الإعراب في الأسماء، وبعلامات التعريف في أواخر الكلمات أفعال مساعدة. وتبدل أسماء الإشارة القديمان illa, ille فأصبحا هما أدوات التعريف la, le, lo, el,il؛ واقتضب لفظ unus ( واحد) اللاتيني ليكون أداة التنكير un. ولما انعدم تصريف الأسماء صار من الصعب أحياناً أن يعرف هل الاسم فاعل أو مفعول قبل الفعل أو بعده. وإذا ما تدبر الإنسان هذه العملية - عملية التبدل المستمر الممتد طوال عشرين قرناً من الزمان جاز له أن يقول إن اللغة اللاتينية لا تزال هي اللغة الحية الأدبية في إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، لم تتغير عن لغة شيشرون إلا بقدر ما تغيرت لغته هو عن لغة رميولوس أو لغتنا نحن (1) عن لغة تشوسر.
وكانت أسبانيا قد بدأت تتكلم اللاتينية منذ عام 200 ق. م لا بعد، وما وافى عهد شيشرون حتى اتسعت الهوة بينها وبين لاتينية روما اتساعاً روع شيشرون لما بدأ له من رطانة قرطبة البربرية. وكان اتصال هذه اللغة اللاتينية بلهجات أيبيريا سبباً في ترقيق الحروف الساكنة اللاتينية في أسبانيا: فرقت T إلى D، P إلى B، و K إلى G؛ فـ Totum أصبحت todo، و operan
_________
(1) لغة الأمريكيين والإنجليز. المترجم)(17/3)
أصبحت obra، و ecclesia أصبحت iglesia. كذلك رققت اللغة الفرنسية الحروف الساكنة اللاتينية، وكثيراً ما أسقطتها في النطق وإن ظلت محتفظة بها في الكتابة: est, (glisa, oeuvre, tout. ونطق بالقسم الذي أقسمه لويس الألماني Louis the German وشارل الجسور بلغتين هما الألمانية والفرنسية (1) - الفرنسية التي كانت لا تزال لاتينية إلى حد سميت معه اللغة الرومانية lingua romana، ثم أنقسمت هذه اللغة الرومانية إلى ما سمته فرنسا لغتين: langue d'oc وهي لغة فرنسا الواقعة في جنوب نهر اللوار و langue d'oil وهي لغة فرنسا الشمالية (2). فلقد كان من عادات العصور الوسطى التفريق بين اللهجات بالطريقة التي ينطقون بها اللفظ المقابل للفظ "نعم" العربي؛ فأهل فرنسا الجنوبية كانوا يعبرون عنه بلفظ oc المشتق من اللفظ اللاتيني hoc ومعناه هذا، أما أهل الشمال فكانوا يستعملون لفظ o (l وهو مزيج من اللفظين اللاتينيين hoc lle، أي هذا - ذاك. وكان لفرنسا الجنوبية لهجة من لهجات اللانج دك تسمى البروفسنال أضحت فيما بعد لغة أدبية مصقولة على أيدي الشعراء الغزليين، ولكن الحروب الصليبية الألبجنسية كادت تقضي على هذه اللغة.
وكونت إيطاليا لغتها القومية ببطء أكثر مما تكونت به لغتنا أسبانيا وإيطاليا. ذلك أن اللاتينية كانت لغتها الوطنية، وأن رجال الدين، وهم الذين كانوا يتكلمون اللغة اللاتينية، كانوا كثيري العدد في إيطاليا، وأن استمرار
_________
(1) وتدل الثلاث السطور الأولى من هذا القسم على البطء الذي نشأت به اللغتان الفرنسية والألمانية " Pro Deo amur et pro Christian poblo et notre Commun salvament, dist di in avant, in quant Deus savir et podir me punat". "In Gedes minna ind in these Christian folches unser bedhero gealnissi, fon thesemo dage frammordes, so frame so mir Got gewizici indi madh forgibit" وترجمتها العربية هي: حباً في الله، ولخير الشعب المسيحي، ولنجاتنا جميعاً، ومن هذا اليوم إلى ما بعده، بقدر ما يهبني الله من الحكمة والقوة.
(2) معنى اللفظين oc و oil كليهما "نعم أو هذا" وكل الفرق هو في طريقة النطق باللفظ الذي يحمل هذا المعنى. (المترجم)(17/4)
ثقافتها ومدارسها منع اللغة أن تتغير بنفس اليسر والتحرر اللذين تغيرت بهما في بلاد ذات تقاليد منقطعة غير متصلة.
ولقد كان القديس أنطونيوس أحد رجال الدين في بدوا في ذلك العام المتأخر عام 1230 يخطب العامة باللغة اللاتينية؛ بيد أن عظمة لاتينية ألقاها في بدوا نفسها عام 1189 أسقف لاتيني زائر كان لابد أن يترجمها إلى اللغة الدارجة أسقف من أساقفة تلك المدينة (2). ولم يكد يكون للغة الإيطالية وجود في بداية القرن الثالث عشر؛ وكل ما كان في إيطاليا في ذلك الوقت نحو أربع عشرة لهجة، كانت هي استمرارا وتحريفاً متنوعاً للهجات السوقة لا تكاد إحداها يفهمها الباقون الذين لا ينطقون بها، وتعتز كل منها بما بينها وبين غيرها من فروق اعتزازاً مبعثة للعنصرية العارمة؛ وكان لكل حي من الأحياء المختلفة في المدينة الواحدة - كمدينة بولونيا - في بعض الأحيان لهجة مختلفة. لهذا كان لزاماً على أسلاف دانتي أن يخلقوا لغة، كما كان عليهم أن يخلقوا أدباً. ولقد حسب الشاعر في أحد أخيلته الظريفة أن الشعراء الغزليين التسكانيين اختاروا أن يكتبوا شعرهم باللغة الإيطالية لأنهم كانوا يكتبون في الحب، ولأن السيدات اللائى كن يخاطبونهم قد لا يفهمن اللغة اللاتينية (3). غير أنه مع هذا تردد في عام 1300 بين اللغة اللاتينية واللهجة التسكانية أيهما يختار لكتابة المسلاة الإلهية. وكان الفرق بسيط بين اللغة التي أختارها والتي لم يختارها هو الذي أنجاه من النسيان.
وبيننا كانت اللغة اللاتينية تنقسم وتتولد منها اللغات الرومنسية، كانت اللغة الألمانية القديمة تتفتت هي الأخرى إلى اللغة الألمانية الوسطى، واللغة الفريزية، والهولندية، والفلمنكية، والإنجليزية، والدنمرقية، والسويدية، والنرويجية، والأيسلندية. وليست عبارة "الألمانية القديمة" إلا تعبيراً سهلاً يشمل اللهجات الكثيرة التي كانت تفرض سيادتها القبلية أو الإقليمية في ألمانيا قبل عام 1050.(17/5)
وهي اللهجات الفلمنكية، والهولندية، والوستفالية (الغالية الغربية) والإبستقالية (الغالية الشرقية) والألمانية Allemanic، والبافارية، والفرنكونية، والثورنجية، والسكسونية، والسيكيزية .... وتطورت اللغة الألمانية القديمة إلى الألمانية الوسطى (1050 - 1500) وكان من أسباب هذا التطور تدفق الكلمات الجديدة التي جاءت مع الدين المسيحي. ذلك أن الرهبان القادمين من أيرلندة، وإنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا جدوا في وضع المصطلحات التي كانوا في حاجة إليها لترجمة الألفاظ اللاتينية. فكانوا في بعض الأحيان يدخلون كلمة لاتينية بنصها إلى اللغة الألمانية - مثل Kaiser ( قيصر) و Prinz ( أمير) و Legende ( قصة)؛ وتلك لصوصية مشروعة؛ لكن كان من المآسي تأثير التركيب اللاتينية للجمل كتأخير الفعل إلى آخر الجملة - فقد أحل الوقفات الجامدة المقلوبة القاطعة للأنفاس التي نراها في الأسلوب الألماني المتأخر محل التراكيب السهلة التي كانت من خصائص لغة الشعوب الألمانية (4). ولعل أجمل اللغات الألمانية كانت هي اللغة الألمانية العليا الوسطى التي كتب بها الشعراء العظام في القرن الثالث عشر- ولتر فن در جلويد Walter von der Vogelweide، وهارتمان فن أوي Hariman von Aue، وجتفرايد الأسترسبرجي Goufried of Strasbourg، وولفرام فن أسثنباخ Wolfram von Eschenbach؛ ولم تعد اللغة الألمانية إلى مثل هذه البساطة والمرونة، والوضوح، والقصد مباشرة إلى المعنى المطلوب إلا على يد هين Heine وجيتة الشاب.
وانتقل اللسان التيوتوني إلى إنجلترا في القرن الخامس مع الإنجليز، والسكسون والجوت، وكان هو أساس اللغة الإنجليزية الحاضرة. فهو الذي حباها بكل ما تنطوي عليه تقريباً من كلمات قصيرة طلية. ثم طغت اللغة الفرنسية على البلاد حين أقبل عليها النورمان، وسيطرت البلاد، والمحاكم، والأشراف من عام 1066 إلى 1362 وإن ظلت اللاتينية اللغة السائدة في(17/6)
الدين والتعليم، وبقيت (إلى عام 1371) واجبة في الوثائق الرسمية. ودخلت آلاف الكلمات الفرنسية في اللغة الإنجليزية، وبخاصة في الثياب، والطهو، والقانون؛ حتى أصبحت نصف المصطلحات في القانون الإنجليزي فرنسية (5)؛ وظلت آداب فرنسا وإنجلترا مدى ثلاثة قرون آداباً واحدة؛ كما ظلت الرسائل الإنجليزية في روحها ولغتها حتى زمن تشوسر لا قبل (1340 - 1400) نصف فرنسية. ولما فقد الإنجليزية أملاكها في فرنسا عادت إلى الانطواء على نفسها، وانتصرت العناصر الأنجليسكونية في اللسان الإنجليزي؛ ولما زالت السيطرة الفرنسية من البلاد، كانت اللغة الإنجليزية قد اغتنت غناءً لا حد له؛ فقد استطاعت بما أضيف إلى أصلها الألماني من ألفاظ فرنسية ولاتينية، أن تعبر عن كل فكرة من آلاف الأفكار المختلفة بثلاث تعبيرات مختلفة ( Kingly, royal, regal بمعنى ملكي؛ towfold, double, duplex بمعنى مزدوج؛ daily, journal, diurnal بمعنى يومي ... ). وإلى هذا يرجع غناها بما فيها من مترادفات تميز بها الفروق المختلفة في المعاني والاختلافات الدقيقة في ألفاظ الحديث. ومن يعرف تاريخ الألفاظ يعرف التاريخ كله.(17/7)
الفصل الثاني
عالم الكتب
وكيف كانت تكتب هذه اللغات المختلفة؟ لقد أستعمل البرابرة بعد أن سقطت روما في أيديهم عام 476 الحروف الهجائية اللاتينية، وكتبوها كتابة "جارية"، ربطوا فيها الحروف بعضها ببعض، وخلعوا على معظمها شكلاً دائرياً بدل الحروف المعتدلة التي كانت سهلة الاستعمال في الكتابة على السطوح الصلبة كالحجارة أو الخشب. وكانت الكنيسة في تلك القرون تفضل الكتابة ذات الحروف "الكبيرة" لتسهل بذلك قراءة كتب القداس وكتب الصلوات. ولما عمل النساخون في عهد شارلمان على حفظ الآداب اللاتينية بنسخ عدة كتب من الآداب القديمة، استخدموا في عملهم هذا كتابة ذات حروف "صغيرة" واتفقوا على صور معينة لهذه الحروف، فأوجدوا بذلك "الحروف الصغيرة المقررة" التي ظلت أربعة قرون الطريقة العادية التي تكتب بها نسخ العصور الوسطى. وكأنما أريد أن تتمشى هذه الحروف مع الزخارف الخصيبة التي أخذت تنمو في العمارة القوطية فأضيفت إليها شرط تزيينها، وخطوط شَعْرية رفيعة، وزوائد معقوفة، فأصبحت هي الحروف "القوطية" التي ظلت منتشرة في أوربا إلى عهد النهضة، وفي ألمانيا حتى يومنا هذا. ولم توضع علامات الترقيم إلا في عدد قليل جداً من مخطوطات العصور الوسطى؛ لأن هذه الوسيلة التي ترشد القارئ إلى حيث يلتقط نَفسَه قد ضاقت في أثناء الغوص التي صحبت غارات البرابرة، ثم عادت إلى الظهور في القرن الثالث عشر، ولكنها لم يعم استعمالها حتى قررتها الطباعة في القرن الخامس عشر. وكانت الطباعة قد أعدت عدتها إلى حد ما في عام 1147 وبعد ذلك باستعمال القطع الخشبية. وبدأ ذلك في أديرة(17/8)
بلاد الرين لطبع الحروف الأولى أو الرسوم على المنسوجات (6). وكانت أشكال كثيرة من الاختزال تستخدم في تلك الأيام، وكلها أحط كثيراً من "العلامات النيرونية" التي توصل إليها أرقاء شيشرون.
وكانوا يكتبون على الجلد السميك، وأوراق البردي، والجلد الرقيق أو الورق، بريش الطير، أو بأقلام الغاب، ويستخدمون لذلك مداداً أسود أو ملوناً. واختفى البردي من الاستعمال العام في أوربا بعد فتح العرب مصر. وكان الرق من المتخذ من جلد الخراف الصغيرة غالي الثمن، وكان لذلك يُدخر للمخطوطات المترفة، أما الرق المتخذ من جلد الضأن السميك فكان هو المادة المعتادة للكتابة عليها في العصور الوسطى. وظل الورق مادة غالية الثمن تستورد من بلاد الإسلام، ولكن مصانع أقيمت لصناعته في ألمانيا وفرنسا في عام 1190، وشرعت أوربا في القرن الثالث عشر تصنع ورقاً من الكتان.
وكانت كثيراً من الرقوق يُمحى ما عليها من مخطوطات قديمة ليكتب عليها كتاب جديد، وكان يُطلق على هذه الرقوق اسم خاص هو palimsest ومعناه "المحو مرة ثانية". وقد فقدت كثير من الكتب القديمة بهذا المحو، وبالوضع الخاطئ للمخطوطات، وبالحروب والنهب، والحريق والتلف. فقد نهب الهون مكاتب الأديرة في بافاريا، ونهب أهل الشمال مكاتبها في فرنسا؛ وتلفت كثير من الكتب اليونانية حين نُهبت القسطنطينية في عام 1204. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر تعارض في قراءة الكتب الوثنية القديمة، وقامت أصوات مرتاعة في كل قرن تقريباً تندد بهذه الكتب، منها أصوات جريجوري الأول، وإزدو الأشبيلي، وبطرس دميان. ودمر توفيلس كبير أساقفة الإسكندرية كل ما وجده من المخطوطات الوثنية؛ كما أقنع القساوسة اليونان، على حد قول دمتريوس كلكنديلاس Demetrius Chalcondylas (7) ، أباطرة الروم بإحراق جميع مؤلفات الشعراء الغزلين ومنهم سابفو وأنكريون. غير أنه(17/9)
كان في هذه القرون نفسها كثيرون من رجال الدين المولعين بالكتب الوثنية القديمة والحريصين على الاحتفاظ بهذه الكتب. وكانوا في بعض الحالات يفعلون سلاح النقد الموجه إليهم بتفسير معنى الشعر الوثني تفسيراً يتضمن أعظم العواطف المسيحية؛ واستطاعوا بطريق الاستعارات الظريفة أن يحولوا شِعر أوفد الغرامي إلى شعر يحض على مكارم الأخلاق. وكذلك احتفظ الناسخون في الأديرة بقسم كبير من التراث الأدبي القديم (8)؛ وكان يقال للرهبنة إذا تعبوا أن الله سيغفر لهم ذنباً من ذنوبهم نظير كل سطر ينسخونه، ويحدثنا أردركس فينالس Ordericus Vitalis أن أحد الرهبان نجا من الجحيم وكان على قيد شعرة منها بحرف واحد نسخه (9). ويلي الرهبان وحدهم في نسخ المخطوطات القديمة الكتبة الخصوصيون أو المحترفون الذين يستخدمهم الأغنياء أو بائعو الكتب أو الأديرة نفسها. وكان عمل هؤلاء النساخين مجهداً مما جعلهم يدونّون على الصفحات الأخيرة من المخطوطات المنسوخة مطالب غريبة كقول أحدهم:
بهذا يتم جميع الكتاب
فبحق المسيح هات لي جرعة
وظن كاتب آخر أنه خليق بأكثر من هذا فكتب في آخر مخطوطة تلك الخاتمة: "فليجز الكاتب على (عمل قلمه) بفتاة جميلة". (11)
ولم تفرض كنيسة العصور الوسطى رقابة منظمة على نشر الكتب؛ فإذا تبين أن كتاباً ما مناقض للدين، وكان في الوقت نفسه ذا تأثير قوي ككتاب أبيلار عن التثليث أستنكره مجلس من مجالس الكنيسة، ولكن عدد الكتب كان وقتئذ أقل من أن يكون شديد الخطر على الدين القويم؛ وحتى الكتاب المقدس نفسه كان نادر الوجود في خارج الأديرة، فقد كان نسخُه يحتاج إلى عام كامل، وشراؤه يحتاج إلى إيراد قس أبرشية؛ ولهذا قل من رجال الدين من(17/10)
كان يمتلك نسخة كاملة منه. (12) غير أن كتاب العهد الجديد وأسفاراً خاصة من العهد القديم كانت أوسع منه انتشاراً. وأخرجت في القرن الثاني عشر نسخ من الكتاب المقدس ضخمة الحجم، فخمة الزخرف؛ ولم يكن يستطاع استعمال هذه الكتب إلا على مكتب، وكان في ذلك عادة في مكتبة الدير، وكانت في بعض الأحيان تشد إلى المكتب بسلسة للمحافظة عليها. وقد روعت الكنيسة حين وجدت الولدنسيين والألبجنسيين ينشرون ويوزعون تراجمهم هم للكتب للمقدسة، ولهذا حرم مجلس من مجالس الكنيسة عقد في نربونه (1227) على غير رجال الدين أن يكون لديهم أي جزء من الكتب المقدسة؛ ولقد تحدثنا عن هذا من قبل (13). ولكن يمكن القول بوجه عام إن الكنيسة لم تكن قبل القرن الرابع عشر تعارض في أن يقرأ الكتاب المقدس غير رجال الدين؛ وإن لم تكن تشجع هذه القراءة لأنها لم تكن تثق بتفسير العامة لأسرار الكتب الدينية.
وكان حجم الكتاب وعدد صفحاته يحددهما ما يستطاع وجوده من الجلود، وكان كل جلد منها يطبق لتتكون منه "ملزمة"؛ ولم تكن الكتب بعد القرن الخامس تصدر في صورة ملفات كما كانت تصدر في العهود القديمة (1)، بل كانت الجلود تقطع قطعاً مستطيلة لتكون ملازم من أربع أوراق، أو ثمان، أو اثنتي عشرة ورقة أو ست عشرة. وكانت ملازم مكونة من ست عشرة ورقة تضم مؤلفات طويلة في كتب صغيرة الحجم توضع في الجيب لتكون سهلة الاستعمال. وكانت تغلف أحياناً بالرق السميك أو القماش، أو الجلد المدبوغ، أو الورق المقوى. وكان الغلاف المصنوع من الجلد يزخرف أحياناً بأن تطبع
_________
(1) وظل كثير من السجلات الحكومية يكتب في مؤلفات؛ حتى أن "أنابيب الملفات، كانت تستعمل في إنجلترا من عام 1131 إلى عام 1833. وكان المكلف بالمحافظة على هذه السجلات يسمى صاحب الملفات".(17/11)
عليه رسوم غير ملونة بقوالب من المعدن المحمى. وجاء الفنانون المسلمون الذين استقروا في البندقية إلى أوربا بفن ملْ هذه الأجزاء المنخفضة من الغلاف بألوان ذهبية، أما الغلاف الخشبي فقد كان يزخرف أحياناً بالميناء أو العاج المحفور، أو يطعم بالذهب أو الفضة أو الجواهر. وكان مما عابه القديس جيروم على الرومان قوله "إن كتبكم مطعمة بالحجارة الثمينة، مع أن المسيح مات عارياً! " (14) وقل أن يوجد من الكتب الحديثة ما يضارع التجليد الفخم الذي حليت به كتب العصور الوسطى.
وكانت الكتب البسيطة نفسها من مواد الترف. فقد كان الكتاب العادي غير المزخرف يكلف مقتنيه ما بين 160 دولاراً ومائتي دولار من نقود الولايات المتحدة الأمريكية حسب قيمتها في عام 1949 (15). وحسبنا شاهداً على هذا أن أحد زعماء حركة إحياء الآداب القديمة في القرن الثاني عشر وهو برنار من أهل شارتر قد خلف مكتبة لا تزيد مجلداتها على أربعة وعشرين مجلداً. وكانت إيطاليا أغنى بالكتب من فرنسا، ولهذا جمع أكرسيوس Accursius الأكبر عالمها القانوني الشهير ثلاثة وستين كتاباً. ونسمع عن نسخة عظيمة من الكتاب المقدس بيعت بعشر وزنات - أي بما لا يقل عن 10. 000 دولار، وعن كتاب للصلواة استبدلت به رمة؛ وعن مجلدين من مؤلفات برشيان Prescian أحد النحاة في القرن الخامس بيعاً ببيت وأرض (16). وعاق غلو الكتب قيام تجارة بائعيها حتى القرن الثاني عشر؛ حين استأجرت مدن الجامعات رجالاً من الورَّاقين وأصحاب المكتبات لينظموا جماعات من النساخين ينسخون الكتب للمدرسين والطلاب، وكان هؤلاء الرجال يبيعون نسخاً منها لكل من يعني بأداء أثمانها. ويبدو أنهم لم يدر قط بخلدهم أن يؤدوا شيئاً من المال لمؤلف حي. وإذا أصر رجل ما على أن يؤلف كتاباً جديداً، كان عليه أن يؤدي نفقة كتابته، أو يبحث عن ملك، أو نبيل، أو ثري ينفحه بهبة من المال نظير إهدائه(17/12)
الكتاب أو الثناء عليه فيه. ولم يكن في وسعه أن يعلن عن كتابه إلا شفوياً، كما لم يكن في وسعه أن ينشره - أي يذيعه على الجمهور - إلا بالعمل على أن يستخدم في إحدى المدارس أو أن يتلى أمام من يستطيع جمعهم من المستمعين. وبهذه الطريقة قرأ جرالد من أهل ويلز حين عاد من أيرلندة في عام 1200 كتابه في تخطيط هذا القطر Topography على جمعية في أكسفورد.
وأدى ارتفاع أثمان الكتب، وقلة الأموال اللازمة لإنشاء المدارس إلى انتشار الأمية إلى حد لو أنه وجد في بلاد اليونان أو الرومان الأقدمين لجلب لهم العار. فقد كانت معرفة القراءة والكتابة قبل عام 1100 في البلاد الواقعة شمال جبال الألب تكاد تكون مقصورة على "خدم الدين" - وهم رجال الدين، وَالحَسَبَة، والكَتَبة، وموظفو الحكومة، وأصحاب المهن. وما من شك في أن رجال الأعمال كانوا في القرن الثاني عشر ممن يعرفون القراءة والكتابة، لأنهم كانوا يحتفظون بحسابات دقيقة محكمة. وكان الكتاب في المنزل تحفة ثمينة؛ وكان في العادة يقرأ بصوت عال إلى عدد من المستمعين؛ وقد وضع الكثير من قواعد الترقيم والأسلوب فيما بعد لتيسير القراءة الشفوية؛ وكان يعنى كل العناية بتبادل الكتب بين الأسر بعضها وبعض، وبين مختلف الأديرة، والأقطار.
وكانت دور الكتب كثيرة العدد وإن قل حجمها. وكان القديس قد قرر أن يكون لكل دير بندكتي مكتبة؛ وكانت بيوت الكارثوزيين والسترسيين تجد في جمع الكتب رغم كراهية القديس برنار للعلم، كذلك كان لكثير من الكتدرائيات - أمثال كتدرائيات طليطلة، وبرشلونة، وبامبرج Bamberg وهلدسهايم Hildesheim - مكتبات كبيرة، فكان في كنيسة كنتر بري مثلاً 5000 كتاب في عام 1300، ولكن هذا مثل نادر لا يقاس عليه (17)، أما معظم المكتبات فكان في الواحدة منها ما يقل عن مائة كتاب؛ وكان في مكتبة كلوني وهي من أحسن المكتبات 570 مجلداً (18). وكان عند مانفر ملك(17/13)
صقلية مجموعة قيمة انتقلت إلى البابوية وأضحت نواة مجموعة الفاتيكان اليونانية. وقد بدأت المكتبة البابوية في عهد البابا دمسوس Damasus (366 - 384) ، ثم فقدت مخطوطاتها الثمينة ومحفوظاتها القيمة في فوضى القرن الثالث عشر، ولهذا يرجع تاريخ مكتبة الفاتيكان الحاضرة إلى القرن الخامس عشر. وشرعت الجامعات - أو على الأصح قاعات كلياتها - تنشئ لها مكتبات في القرن الثاني عشر، وأنشأ القديس لويس مكتبة سانت شابل Sainte Chapelle في باريس، وأغناها بالكتب التي أمر بنسخها من مائة دير؛ وكانت كثير من المكتبات، كمكتبات نتردام، وسان جرمان ده بريه St. Germain des Pr (s والسربون مفتوحة للطلبة الموثوق بهم، وكان من استطاع استعارة الكتاب في الخارج بضمان واف؛ وإن طالب العلم اليوم ليصعب عليه أن يقدر قيمة الثروة الأدبية التي كانت المدينة والكلية تضعها بين يديه دون مقابل.
وكانت هناك مكتبات خاصة في أماكن متفرقة، وإنا لنجد في ظلمات القرن العاشر نفسه جربرت Gerbert يجمع كتباً بحماسة محبي الكتب الحقة؛ وكان لغيره من رجال الدين أمثال جون السلزبري مجموعات خاصة بهم. كما كان لعدد قليل من النبلاء مكتبات صغيرة في قصورهم؛ وكان لفردريك بربرسا وفردريك الثاني مجموعات كبيرة، وجمع هنري الأرغوني مكتبة عظيمة حرقت علناً لاتهامه بالاتصال بالشيطان (19). وجاء دانيل من أهل مورلي Morley إلى إنجلترا من أسبانيا عام 1200 "بطائفة كبيرة قيمة من الكتب" (20). وكشفت أوربا في القرن الثاني عشرة ثروة أسبانيا العظيمة من الكتب فهرع العلماء إلى طليطلة، وقرطبة، وأشبيلية، وعبرت جموع رجال العلم الجديد التي لا حصر لها جبال البرانس وأحدثت في الحياة الذهنية في بلاد الشمال التي كانت وقتئذ في دور المراهقة انقلابا عظيم الأثر.(17/14)
الفصل الثالث
المترجمون
كانت أوربا في العصور الوسطى منقسمة نصفين أحدهما لاتيني والآخر يوناني وإن كانت تجمعهما آلي حد ما لغة مشتركة. وكان النصفان متعاديان ويجهل أحدهما الآخر. وقد نسى الشرق اليوناني التراث اللاتيني ما عدا القانون، كذلك نُسى التراث اليوناني في الغرب كله ما عدا الصقليتين؛ لكن بعض التراث اليوناني كان مختبئاً وراء أسوار المسيحية- في بيت المقدس الإسلامية، والإسكندرية، والقاهرة، وتونس، وأسبانيا؛ أما العالم الواسع الرقعة البعيد الشقة الذي يشمل الهند والصين واليابان، والذي كان من عهد بعيد غنيا بالأدب والفلسفة والفن، فلم يكد العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر يعرف عنه شيئا.
واضطلع اليهود ببعض العمل الذي يهدف إلى ربط الثقافات المختلفة بعضها ببعض، فقد كانوا ينتقلون بين هذه الثقافات تنقل مجاري الماء المخصبة تحت تربة الأرض. ولما كثر عدد اليهود المهاجرين من بلاد الإسلام إلى البلاد المسيحية، ونسوا اللغة العربية، رأى علماؤهم أنه يجدر بهم ان يترجموا المؤلفات العربية (التي ألف اليهود كثيراً منها) إلى اللغة التي لا يعرف علماء هذا الشعب المشتت غيرها وهي اللغة العبرية. ومن أجل هذا ترجم يوسف قمجي (1105؟ - 1190؟) في نربونة كتاب (المرشد إلى واجبات القلب) تأليف الفيلسوف اليهودي بهية إلى تلك اللغة. وكان يوسف هذا والد أبناء من جلة العلماء، ولكن أعلى منهم كعبا في شؤون الترجمة أبناء يهوذا بن شاؤل بن طبون (1120؟ - 1190؟)؛ وكان هو أيضاً قد هاجر من بلاد الأندلس الإسلامية إلى جنوب فرنسا؛ وهو وإن كان من أكثر أطباء عصره نجاحا في مهنته كان له(17/15)
من النشاط ما استطاع به ترجمة المؤلفات اليهودية العبرية لسعديه جاؤن، وابن جبيرول، ويهودا هلبفي إلى اللغة العربية. وأثار ابنه صمويل (1150؟ - 1232) العالم اليهودي إلى ترجمة كتاب دليل الحيران لابن ميمون إلى اللغة العبرية، وترجم موسى بن طبون كتاب العناصر لإقليدس من اللغة العربية أيضا، وترجم كتاب القانون الصغير لابن سينا، وكتاب الترياق للرازي، وثلاثة من مؤلفات ابن ميمون، وشروح ابن رشد القصيرة لأرسطو. وتزعم يعقوب بن طبون حفيد صمويل حركة الكفاح من أجل ابن ميمون في منبلييه، واشتهر بنبوغه في علم الفلك، ولكنه مع هذا ترجم عدداً من الرسائل العربية إلى اللغة العبرية، كما ترجم بعضها إلى اللغة اليونانية. وتزوجت ابنة صمويل عالما أوسع شهرة من أبيها هو يعقوب أناضولي. وقد ولد يعقوب هذا في مرسيلية حوالي عام 1194 ودعاه فردريك الثاني لتدريس اللغة العبرية في جامعة نابلي، وفيها ترجم إلى اللغة العبرية شروح ابن رشد الكبرى. وكان لهذه الشروح أبلغ الأثر في الفلسفة اليهودية. وكانت ترجمة كتاب المنصوري للرازي على يد الطبيب الفيلسوف ثم طب (1264) في مرسيلية حافزاً قوياً إلى النهضة الطبية عند العبرانيين.
وترجمت إلى اللغة اللاتينية كثر من التراجم العبرية للكتب العربية من ذلك أن كتاب التيسير لابن زهر ترجم إلى اللاتينية في بدوا (1280)؛ وفي بداية القرن الثالث عشر ترجم أحد اليهود أسفار العهد القديم كلها ترجمة حرفية من اللغة العبرية إلى اليونانية مباشرة. وتمثل لنا ترجمة كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الطرق الملتوية التي كانت تسير فيها الهجرة الثقافية: فقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من ترجمة أسبانية لترجمة لاتينية لترجمة عبرية، لترجمة عبرية لترجمة فهلوية لترجمة للنسخة السنسكريتية المزعومة (21).(17/16)
أما التيار الرئيس الذي صب به تيار الثروة الفكرية الإسلامية في العالم الغربي فكان عن طريق ترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية. فقد ترجم قسطنطنين الأفريقي حوالي عام 1060 إلى اللغة اللاتينية كتاب الاختبار للرازي وكتب اسحق يوديوس في الطب، وترجمة حنين العربية لأمثال أبقراط وشرح جالينوس. وجمع ريمند (1130؟) المستنير المتسامح كبير أساقفة طليطلة بعد استردادها من المسلمين طائفة من المترجمين برياسة دمنيكو جند يسلفى وعهد إليهم ترجمة الكتب العربية في العلوم الطبيعية والفلسفية. وكان معظم هؤلاء المترجمين من اليهود الذين يعرفون اللغات العربية، والعبرية، والأسبانية، بالإضافة إلى اللاتينية في بعض الأحيان، وكان اكثر هذه الفئة نشاطاً أحد اليهود المتنصرين يدعى حنا الأسباني (أو "الأشبيلي") وقد حور الفلاسفة المدرسيون كنيته العربية وهي ابن داود فسموه أفنديث Avendeath. وقد ترجم حنا هذا مكتبة حقق من مؤلفات ابن سينا، والغزالي، والفارابي، ... والخوارزمي عن أولها العربية أو عن تراجمها اليهودية. وأدخل بترجمته لكتاب الخوارزمي الأرقام الهندية- العربية في بلاد الغرب. ولا يقل هذا الكتاب أثراً عن ترجمته لكتاب مدسوس على أرسطو في الفلسفة والأسرار الخفية يدعى Secretum Secretorum وهو كتاب يدل على سعة انتشاره بقاء مائتي نسخة مخطوطة منه. وكانت بعض الكتب تترجم من العربية إلى اللاتينية مباشرة، وبعضها يترجم إلى اللغة القشتالية ثم يترجمها غنديسلوى إلى اللاتينية. وبهذه الطريقة حول العالمان كتاب حكور حاتم فأصبح Fon Vitae أو ينبوع الحياة وبه أصبح ابن جبيرول ( Avicebron) من أشهر الفلاسفة في محيط الفلسفة الكلامية.
وكانت هناك روافد أخرى تغذى هذا التيار اللاتيني العربي. من ذلك أن(17/17)
عالما من باث Bath يدى أبلار تعلم العربية في إنطاكية، وطرسوس، وطليطلة ثم نقل كتاب إقليدس من العربية إلى اللاتينية (1120) فكانت هذه الترجمة أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وهو الذي أدخل حساب المثلثات من بلاد المسلمين إلى الغرب بترجمته ازياج الخوارزمي (1126) (23).
وفي عام 1141 قام بطرس الموقر رئيس دير كلوني هو وثلاثة من العلماء المسيحيين يساعدهم أحد علماء العرب بترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية. ودخل علم الكيمياء والكيمياء الكاذبة العالم اللاتيني بترجمة ربرت من أهل تشتر أحد الكتب الكتب العربية في عام 1144. وبعد عام من ذلك الوقت قام رجل يدعى أفلاطون التيقولى بترجمة رسالة هيورها مشيحه العظيمة الشأن لمؤلفها إبراهام بارحيا.
وكان أعظم المترجمون على بكرة أبيهم رجلا يدعى حرار من أهل كريمونا، ذلك أنه لما قدم هذا الرجل إلى طليطلة حوالي 1165 أعجب بثروة العرب في العلوم والفلسفة فصمم على أن يترجم خير ما في هذه الثروة إلى اللغة اللاتينية، وقضى في هذا العمل التسع السنين الباقية من حياته؛ فتعلم اللغة العربية واستعان كما يبدو بمسيحي من أهل المدينة وبآخر يهودي (24).
وليس من المعقول أن يكون هو الذي ترجم الكتب الواحد والسبعين من غير أن يعاونه فيها أحد. ومهما يكن من شيء فإن الغرب مدين له بالتراجم اللاتينية للتراجم العربية لكتب أرسطو في التحليلات، وفي السموات والأرض، والكون والفساد، والمتيورولوجيا؛ وبطائفة من الشروح لإسكندر الفروديسي، والعناصر والفروض لإقليدس، وقياس الدائرة لأرخميدس، والمخروطات لأبلونيوس البرجاوي، وأحد عشر كتاب معزوة إلى جالينوس وعدة مؤلفات في الفلك يونانية الأصل، وأربعة مجلدات يونانية- عربية في الطبيعة، وأحد عشر كتاباً في الطب عند العرب، من بينها أكبر كتب الرازي وابن سينا والفارابي(17/18)
وثلاثة من كتب الكندي، وكتابان لإسحاق إسرائيلي، وأربعة عشر كتاباً في الرياضة والهيئة عند العرب، وثلاث مجموعات من الأزياج الفلكية، وسبعة مؤلفات عربية في الهندسة والفلك؛ وقصارى القول أن ليس في التاريخ كله رجل أغنى بمفرده ثقافة لأخرى كما فعل جرار هذا. ولا يضارع جرار في عمله هذا إلا عمل حنين بن اسحاق، وعمل "بيت الحكمة" الذي أنشأه الميمون، وهما اللذان صبا العلوم والفلسفة اليونانية في القالب العربي.
ويلي أسبانيا في مجد الثقافات على هذا النحو مملكة الصقليتين النورمانية. ذلك ان حكام النورمان لم يكادوا يفتحون الجزيرة (1091) حتى استخدموا مترجمين ليقوموا بترجمة المؤلفات العربية واليونانية في الرياضة والهيئة المنتشرة في بالرم إلى اللغة اللاتينية. وواصل فردريك الثاني هذا العمل في فوجيا Foggia واستقدم إلى بلاطه للقيام به وبغيره من الأعمال عقلاً من اعجب العقول وأكثرها نشاطاً في أوائل القرن الثالث عشر ونعني بصاحب هذا العقل ميخائيل اسكت. وقد اشتق اسم هذا الرجل من موطنه الأصلي في إسكتلندة؛ وتراه في طليطلة عام 1217 وفي بولونيا عام 1220، وفي روما من 1224 إلى 1227، ثم تراه بعدئذ في فوجيا أو نابلي. وكان أول ما ترجمه كتاب الأجسام الكروية للبطروحي وهو نقد كتاب بطليموس. واعجب اسكت لما يمتاز به تفكير أرسطو من حرية واتساع في الأفق فترجم إلى اللغة اللاتينية الترجمة العربية لكتاب تاريخ الحيوان لأرسطو بما فيه "أجزاء الحيوان" و "توالد الحيوان"، وتعزو إليه رواية غير محققة تراجم كتب "ما وراء الطبيعة"، و "الطبيعة" و"النفس"، و "والسموات"، ولعله ترجم كذلك كتاب "الأخلاق". ووصلت تراجم ميخائيل لكتب أرسطو إلى البرتس مجنس وروجربيكن، وكان لها اثر كبير في الحركة العلمية في القرن الثالث عشر، وواصل شارل صاحب أنجو مناصرة الترجمة في جنوبي إيطاليا، وعمد له في هذا العالم اليهودي موسى من أهل سلرنو، واكبر الظن أن(17/19)
شارل هو الذي قدم المال اللازم لترجمة الموسوعة الطبية الضخمة (1274) الرازي وهي معروفة بأسم "كتاب الحاوي" إلى اللغة اللاتينية على يد العالم اليهودي فرج بن سالم الجرجنتي.
وكانت جميع التراجم اللاتينية السالفة الذكر لعلوم اليونان وفلسفتهم مقولة من التراجم العربية- وكان منها ما هو ترجمة عربية للترجمة السريانية للأصل الذي يكتفه الغموض. ولم تكن هذه التراجم خالية من الدقة إلى الحد الذي اتهمها به روجر بيكن؛ ولكن ما من شك في ان الحاجة كانت منذ ذلك الوقت ماسة إلى تراجم من الأصل مباشرة. وكان من بين اقدم هذه التراجم الأصلية ترجمة كتب أرسطو على يد جيمس الذي لا نعرف عنه اكثر من انه "كاتب من البندقية" قبل عام 1128. وفي عام 1154 ترجم يوجين "أمير" بالرم كتاب بطليموس في "البصريات"، ثم اشترك في عام 1160 في ترجمة لاتينية لكتاب المجسطي من اللغة اليونانية مباشرة. وكان ارستيس من اهل قطانيا قد ترجم في الوقت عينة (1156؟) كتاب حياة الفلاسفة لديوجنيز ليرتيوس وكتاب مينون وفيدون لأفلاطون. ولم يؤثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في الترجمة بالقدر الذي كان يحق لنا ان نتوقعه؛ فنحن لم نسمع الا عن ترجمة جزء من كتاب الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) لأرسطو (1209)؛ وأعقبت ذلك فترة مجدبة شرع بعدها في عام 1260 وليم الموربيكي William of Moerbeke كبير أساقفة كورنث الفلمنكي يعاونه في أغلب الظن عدد من المترجمين بترجمة طائفة من الكتب عن اللغة اليونانية مباشرة. وان عدد هذه التراجم وأهميتها لتنزلانه بين أبطال نقل الثقافة منزلة لا تعلو عليها إلا منزلة جرادر الكريموني. وكانت استجابته لطلب صديقه وزميله الراهب الدمنيكي تومس أوكوناس من الأسباب التي حملته على ترجمة عدد كبير من مؤلفات أرسطو(17/20)
تاريخ الحيوانات، والسياسة، والبلاغة، وعلى إتمام ترجمة بعض التراجم السابقة أو مراجعتها. الميتافيزيقا والمنبورولوجيا (الأرصاد الجوية) وفي النفس .. وترجم للقديس تومس عدة شروح على كتب أرسطو وأفلاطون؛ وأضاف إلى هذه الأعمال الكثيرة تراجم لكتاب التشخيص لأبقراط وكتاب جالينوس في الطعام وعدة مؤلفات في علم الطبيعة لهيرون الإسكندري وأرخميدس. ولعنا مدينون له ايضاً بترجمة لكتاب الأخلاق لأرسطو تعزى من قبل إلى ربرت جروستستي، وكانت هذه التراجم جزء من المادة التي بنى عليها تومس كتابه العظيم الأثر في اللاهوت. ولم يحل عام 1280 حتى كانت كتب أرسطو كلها تقريباً في متناول العقل الغربي.
وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوربا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك ان تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له اعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدءوا يستيقظون من سباتهم؛ وكان لا بد ان تحدث تطورات جديدة في النحو وفقه اللغة، ووسعت نطاق المناهج الدراسية، وأسهمت بنصيب في نشأة الجامعات ونمائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وكان عجز المترجمين أن يجدوا مفردات لاتينية تؤدي المعاني التي يريدون نقلها إلى تلك اللغة هو الذي أدى إلى دخول كثير من الألفاظ العربية في اللغات الأوربية؛ ولم يكن هذا اكثر من حادث عارض في أعمال الترجمة، ولكن أهم من هذا أن الجبر، وعلامة الصفر والنظام العشري في الحساب قد دخلت كلها في بلاد الغرب المسيحية بفضل هذه التراجم، وان الطب من ناحيته النظرية والعلمية تقدم تقدماً عظيماً بفضل ما قام به العلماء المترجمون اليونان، واللاتين، والعرب، واليهود، وان ما كان لعلم الهيئة اليوناني والعربي من شأن خطير قد احدث، وكان لا بد ان يحدث، توسعاً في علوم الدين، وفي تعديل أفكار العلماء عن(17/21)
الإله، وكان ذلك إِرهاصاً بتغيير في هذه الناحية أوسع مدى جاء بعد عهد كوبرنيق. وان في إشارات روجر بيكن المتكررة لابن رشد، وابن سينا، والفارابي لدليلاً على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثير وحافز جديد. وفي ذلك يقول روجر بيكن نفسه: "لقد جاءت إلينا الفلسفة من العرب" (25)، وسنرى إن الذي دعا تومس أكوناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت هو ان يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية. وهكذا رد الإسلام إلى أوربا ما أخذه عن اليونان بطريق بلاد الشام؛ وكما أن هذه العلوم كانت بداية ذلك العصر العظيم عصر العلوم والفلسفة العربية، كذلك أثارت هذه التراجم عقل أوربا وحفزته إلى البحث والتفكير، وأرغمته على أن يشيد ذلك الصرح العقلي الخطير صرح الفلسفة المدرسية، وان ينقض ذلك الصرح الفخم حجراً بعد حجر، فينهار بذلك نظام العصور الوسطى الفلسفي في القرن الرابع عشر، وتبدأ الفلسفة الحديثة في غمرة التحمس العظيم أثناء عصر النهضة.(17/22)
الفصل الرابع
المدارس
وكان الذي يقوم بنقل الحضارة من جيل إلى جيل الأسرة، والكنيسة، والمدرسة. وكان يعني عناية خاصة بالتربية الخلقية في العصور الوسطى، على حساب الثقافة العقلية، كما يعني اليوم بالتربية العقلية، على حساب التأديب الخلقي. ولم يكن في غير المألوف في إنجلترا بين الطبقات الوسطى والعليا أن يصل الولد في سن السابعة أو نحوها ليربى وقتاً ما في بيت غير بيته؛ وكان الغرض المقصود من هذا تمكين الروابط بين الأسرة من جهة، وإبعاد الولد عن اللين المنبعث من حنان الأبوين من جهة أخرى (26). كان نظام المدارس الفخم الذي أنشأته الإمبراطورية الرومانية قد انهار من خلال الفوضى الناشئة من الغارات ومن نقص سكان المدن؛ ولما أن هدأت موجة الهجرة في القرن السادس بقيت قلة من المدارس العلمانية في إيطاليا؛ وكان معظم الباقي مدارس لتعليم المعتنقين الجدد الدين المسيحي وقساوسة المستقبل. وظلت الكنيسة فترة من الزمن (500 - 800) تخص بعنايتها التدريب الاخلاقي، ولم تكن ترى ان النقل العلوم الدنيوية من واجباتها؛ ولكن الكتدرائيات، والأديرة، وكنائس الأبرشيات وأديرة النساء، قد حفزها شارلمان إلى فتح أبوابها لتعليم البنين والبنات تعليماً عاماً.
وحملت مدارس الأديرة وحدها في أول الأمر هذا العبء كله تقريباً. وكانت المدارس نوعين مدرية داخلية تهئ التعليم للمستجدين ومن ينذرهم آباؤهم للرهبنة أو الكنيسة، ومدرسة خارجية تعلم الأولاد من غير أجر على(17/23)
ما يظهر (27). ونجت مدارس الأديرة الألمانية من اضطرابات القرن التاسع، وأسهمت بنصيب مثمر في النهضة الأتونية Ottonian؛ وكانت ألمانيا في القرنين التاسع والعاشر تعلو على فرنسا في كل ما يزين العقل؛ ذلك أن انحلال البيت الكارولنجي في فرنسا، وغارات أهل الشمال، كانا ضربتين قويتين وجهتا إلى مدارس الأديرة، ولهذا لم تبقى مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان في بلاط الفرنجة بعد ان مات شارل الأصلع (في عام 877). وزادت الأسقفيات الفرنسية قوة كلما زاد الملوك ضعفاً، ولما أن وقفت غارات أهل الشمال كان الأساقفة ورجال الدين في خارج الأديرة أغنى من رؤساء الأديرة ومن الأديرة نفسها، ولهذا قامت مدارس الكتدرائيات في القرن العاشر في باريس، وشارتر، وأورليان، وتور، ولاؤن، وريمس، ولييج، وكولوني؛ على حين أن مدارس الأديرة ضعفت في ذلك القرن؛ ولما توفي فلبرت الصالح العظيم في شارتر، احتفظ الأسقف إِيفو Ivo بالمستوى الرفيع وبحسن السمعة الذين نالتهما مدرسة كتدرائيتها في الدراسات اليونانية والرومانية القديمة، وجرى برنار أسقف شارتر الذي خلف إِيفو على تقاليد سلفه الطيبة، وقد وصف حنا السلزبري برنار هذا في القرن الثاني عشر بقوله انه "في الوقت الحاضر اغزر منبع للآداب في غالة وعظم هذه المنابع روعة" (28). وفي إنجلترا ذاعت شهرة مدرسة يورك حتى قبل أن تعير ألكوين إلى شارلمان؛ وكادت مدرسة كنتربري تصبح جامعة ذات مكتبة كبيرة، وكان أمينها هو الرجل العظيم حنا السلزبري السالف الذكر؛ وهو رجل من اعظم العلماء والفلاسفة عقلاً في العصور الوسطى. ويبدو ان الطلاب الذين يهيأون لان يكونوا قساوسة كان ينفق عليهم من أموال الكتدرائية، أما غيرهم من الطلاب فكانوا يؤدون أجوراً قليلة. وقد أصدر مجلس لاتران الثالث (1179) قراراً يقول: "لكي لا يحرم الأطفال الفقراء من فرصة القراءة والرقى ... يجب أن يخصص مرتب كافي لمدرس يعلم بالمجان من يعدون لممارسة مهنة الكهانة(17/24)
وللفقراء من التلاميذ" (29) وطالب مجلس لاتران الرابع (1215) بأن ينشأ كرسي للنحو في كل كتدرائية من كتدرائيات العالم المسيحي، وأمر كل كبير أساقفه بأن يكون لديه كرسيان للفلسفة والقانون الكنسي (30). وخص البابا جريجوري التاسع (1227 - 1241) في أوامره السامية كنائس الأبرشيات على ان تنشئ مدرسة للتعليم الأولى، وتدل البحوث الحديثة على ان مدارس الأبرشيات هذه- المخصصة أولاً للتعليم الديني- كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم المسيحي (31).
ترى ماذا كانت نسبة المراهقين من الأهلين الذين كانوا يؤمون هذه المدارس؟ اما البنات فلم يكن يذهب إليها فيما يبدو إلا بنات الطبقة الموسرة؛ وكانت معظم الأديرة تنشأ مدارس للبنات كالمدرسة التي في أرجنتي Argenteuil؛ وعلمت هلواز الآداب القديمة تعليماً ممتازاً (حوالي عام 1110)، ولكن اغلب الظن ان هذه المدارس لم تدخلها إلا نسبة صغيرة من البنات. ومن مدارس الكتدرائيات ما كانت تقبل البنات، فها هو ذا أبلار يحدثنا عن "النساء الشريفات المولد" اللائي كن يذهن إلى مدرسة نتردام في باريس عام 1114 (32). أما الأولاد فكانوا احسن حظاً من البنات، ولكن يبدو أن ابن رقيق الأرض كان يصعب عليه ان ينال تعليماً ما (33)، وان كنا نسمع أن بعض الأرقاء استطاعوا أن يلحقوا أبناءهم بأكسفورد (34). وكان كثير من المواد التي تعلم الآن في المدرسة يعلم وقتئذ في المنزل أو بالتدريب في الحوانيت؛ ولا ريب في أن انتشار الفنون في العصور الوسطى والدرجة الرفيعة التي بلغتها يوحيان بأنه كانت ثمة فرص واسعة للتدرب على الفنون والحرف. وتقدر إحدى الإحصاءات عدد الأولاد الملتحقين بالمدارس الأولية بإنجلترا في عام 1530 بستة وعشرين ألفاً من بين سكانها الذين يقدرون في ذلك الوقت بخمسة ملايين، أي بجزء من ثلاثين جزءاً من سكانها في عام 1931 (35)؛ ولكن دراسة حديثة لهذا(17/25)
الموضوع تقول أن "القرن الثالث عشر كان اقرب إلى التعليم الشعبي والاجتماعي من القرن السادس عشر" (36).
وكان قس من قساوسة بيت الكتدرائية هو الذي يدير مدرسة الكتدرائية عادة،؛ وكان يسمى بأسماء مختلفة هي ارشسكولا (كبير المدرسة) Archiscola أو اسكلاريوس scolarius أو اسكلاستكس Scolasticus ( المدرس). وكان التعليم كله باللغة اللاتينية؛ وكان التأديب صارماً، فكان الضرب بعد من مستلزمات التعليم كما كانت الجحيم من مستلزمات الدين، ومن اجل هذا كانت مدرسة ونشستر تحي طلابها ببيت من الشعر سداسي الأوتاد صريح في معناه وهو: " Aut disce, an discede manet sors teria caedi" ومعناه "تعلم أو ارحل والثالثة التي تختارها هي أن تضرب ". وكان المنهج يبدأ بالمجموعة الثلاثية- النحو والبلاغة، والمنطق-؛ ثم ينتقل الطالب بعدها إلى "المجموعة الرباعية" -الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك؛ وكانت هذه هي "الفنون الحرة السبعة" على ان هذه المصطلحات لم تكن لها في ذلك الوقت نفس المعنى الذي لها في الوقت الحاضر. فأما المجموعة الثلاثية Trivium فكان معناها بطبيعة الحال إنها مكونة من ثلاث طرق، وأما الفنون الحرة فهي التي عرفها أرسطو قبل ذلك الوقت بأنها المواد الخليقة بالأحرار الذين لا يجرون وراء المهارات العملية (وكانت هذه تترك لصبيان الصناعات)، بل يسعون وراء التفوق العقلي والخلقي (28). وكان فارو (116 - 127 ق. م) قد كتب سبعة كتب في التأديب ذكر فيها سبع دراسات وصفها بأنها تؤلف المنهج اليوناني الروماني. وكتب مارتيانس كابلا Martianus Capella في القرن الخامس الميلادي كتاباً في مبادئ التربية نحا فيه منحى الاستعارة والتشبيه وكانت له شهرة واسعة وسماه "في زواج الفلسفة بعطارد On the Marriage of Philosophy and Mercury"، واخرج الطب والعمارة من مناهج التعليم لأنهما دراستان(17/26)
عمليتان اكثر مما يجب أن تكون الدراسات، وبقيت بعد السبع الدراسات الشهيرة. ولم يكن "النحو" هو الدراسة المملة التي تضيع فيها روح اللغة بدراسة عظامها، بل كان هو فن الكتابة ( gramma, graphs) ؛ وقد عرفة كيودورس بأنه هو دراسة العظيم في الشعر والخطابة دراسة تمكن الإنسان من أن يكتب كتابة صحيحة ظريفة. وكانت هذه الدراسة تبدأ في مدارس العصور الوسطى بالمزامير، ثم تنتقل إلى غيرها من أسفار الكتاب المقدس، ثم إلى كتب آباء الكنيسة اللاتيني، ثم إلى الآداب اللاتينية القديمة - شيشرون، وفرجيل، وهوراس، واستانيوس، وأوفد. وظل معنى البيان هو فن الحديث، ولكنه كان يشمل أيضاً دراسة واسعة الأدب. ويبدو أن المنطق كان من الموضوعات الراقية التي لا يمكن أن تشملها المجموعة الثلاثية. ولكن يبدو انه كان من الخطير للتلاميذ ان يتعلموا اتباع قواعد المنطق حين يبدءون يحبون الجدل.
وأدخلت الثورة الاقتصادية شيئاً من التغير في ميدان التعليم، فقد أحست المدن التي تعيش بالعمل في التجارة والصناعة بحاجتها إلى موظفين ذوى تدريب عملي؛ ولهذا أنشأت، رغم معارضة قوية من جانب الكنيسة، مدارس زمنية يعلم فيها مدرسون ألمانيون نظير أجور يتقاضونها من آباء التلاميذ. وكان الأجر السنوي في المدرسة العامة التي في مرتبة المدارس الثانوية بأكسفورد نحو أربعة بنسات أو خمسة (4. 5 دولار امريكي)؛ وقد أحصى فلاني Villani في عام 1483 تسعة آلاف ولد وبنت في مدارس الكنائس بفلورنس، و1100 في ست من مدارس "المِعَدات" التي تهيؤهم للاشتغال بالأعمال التجارية والمالية، و475 تلميذاً في المدارس الثانوية. ونشأت المدارس الزمنية في فلاندرز في القرن الثاني عشر؛ ولم يحل النص الثاني من القرن الثالث عشر حتى كانت هذه الحركة قد انتشرت في لوبك Lübeck ومدن البحر البلطي. ونقرأ في عام 1292 عن معلمة تدير مدرسة خاصة في باريس، وسرعان ما أضحت هذه واحدة من كثيرات مثلها (39)، فقد اخذ تحول التعليم إلى الناحية الدنيوية يجري مجراه.(17/27)
الفصل الخامِس
جامعات الجنوب
وكانت المدارس غير الدينية كثيرة في إيطاليا بنوع خاص؛ وكان مدرسوها في العادة من غير رجال الدين بخلاف ما كانت عليه الحال فيما وراء الألب؛ كما كانت الروح والثقافة الإيطاليتان بوجه عام اقل من نزعتهما الدينية مما كانت عليه الحال في غير إيطاليا من البلاد. بل ذهب البعض إلى اكثر من هذا فحدث حوالي عام 970 ان نظم رجل يدعى فلجاردس Vilgardus حركة في رافنا تهدف إلى إعادة الوثنية (40). وكان في البلاد بطبيعة الحال كثير من مدارس كتدرائيات ميلان، وبفيا، وأوستا Aosta، وبارما ذات كفاية خاصة، وفي وسعنا أن نحكم على مقدار هذه الكفاية إذا عرفنا ان خريجيها لا فرانك وأنسلم؛ وكادت مدرسة مُنتى كازينو في عهد دزدريوس تكون جامعة. ولقد تضافر بقاء الأنظمة البلدية، ونجاح المدن اللمباردية في مقاومة بربرسا (1176)، والطلب المتزايد على المعلومات القانونية والتجارية، تضافرت هذه العوامل كلها على أن تنيل إيطاليا شرف السبق في مضمار إنشاء الجامعات في العصور الوسطى.
ولقد احتفلت جامعة بدوا في عام 1945 بالعيد المتمم للمائة بعد الألف من إنشائها على يد لوثير الأول Lothair I. وأكبر الظن أنها كانت مدرسة حقوق لا جامعة، ولم تتلق المرسوم الذي يجمعها مدرسة عامة إلا في عام 1361. وكان هذا هو الاسم هو يطلق في العصور الوسطى على الجامعة التي تضم عدداً من الكليات المختلفة، وكانت إحدى المدارس الكثيرة التي شرعت من القرن(17/28)
التاسع عشر وما بعده نحي دراسة القانون الروماني: مدارس روما، ورافا، وأورليان في القرن التاسع؛ ومدارس ميلان، ونربونة، وليون Lyons في القرن العاشر؛ ومدارس فرونا، ومنتوا، وأنجرس Ongers في القرن الحادي عشر. ويبدوا أن بولونيا هي أولى مدائن غربي أوربا التي وسعت مدرستها فجعلتها مدرسة عامة، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخباري أودوفريدوس Odsfredus في عام 1076: "شرع مدرس يدعى بببو Pepo يحاضر في القانون على مسئوليته الخاصة ... في بولونيا، وكان من اعظم الرجال شهرة" (41). ثم انضم إليه غيره من المدرسين، حتى غدت مدرسة الحقوق في بولونيا قبل أيام إرتريوس Irnerius بإجماع الآراء خير مدارس أوربا على الإطلاق.
وبدأ إرنربوس يدرس القانون في بولونيا عام 1088، وانحاز في تدرسيه من جانب الجلف إلى جاني الجبلين، وفسر فقه القانون الذي عاد(17/29)
وقتئذ إلى الحياة تفسيراً يتفق ومصلحة المطالب الإمبراطورية. ولسنا نعلم أكان منشأ هذا العمل من جانبه أن دراسة القانون الروماني أقنعته بقوة الحجج التاريخية والعملية التي تؤيد تفوق السلطة الإمبراطورية على السلطة الدينية أم أن المكافآت التي تتيحها له الخدمة الإمبراطورية قد أغرته بهذا الانحياز؟ وسواء كان هذا أو ذاك فإن الأباطرة الذين قدروا له عمله أغدقوا المال على المدرسة، وهرع عدد كبير من الطلاب الألمان إلى بولونيا، وألف أرنربوس مجلداً في التأويلات أو الشروح على كتاب القوانين لجستنيان وطبق الطريقة العلمية علة تنظيم القانون. ويعد كتاب قوانينه الذي جمعه أو جمع مع محاضراته آية من آيات المرض الجيد والحجج القوية.
وبدأ بإرنريوس العصر الذهبي في التشريع أثناء العصور الوسطى، وأقبل الرجال على بولونيا من جميع بلاد أوربا اللاتينية ليتلقوا فيها علم القانون الذي عاد وقتئذ إلى شبابه، وطبق جراتيان تلميذ أرنريوس الأساليب الجديدة على التشريع الكنسي، ونشر (1139) المجموعة الأولى من القانون الكنسي. وجاء بعد أرنريوس "العلماء الأربعة"- بلجارس Bulgarus، ومرتينس Martinus، وياقوبس Jacobus، وهوجو Hugo- بسلسلة من التأويلات الشائعة الصيت لتطبيق دستور جستنيان على المشاكل التشريعية في القرن الثاني عشر، وافلحوا في إدخال القانون الروماني إلى ميدان مطرد الاتساع. وجمع أكرسيوس Accursius الاكبر (1185؟ - 1260)، أعظم "الشراح " في بداية القرن الثالث عشر، أعماله هو وأعمالهم في شروح عامة أصبحت هي المرجع المعتمد الذي استعان به الملوك والعامة على تخطيط سلطان القانون الإقطاعي، ومحاربة سلطان البابوات. وبذلت البابوية كل ما تستطيع من الجهد لتعطيل حركة بعث القانون الذي يجعل الدين عملاً من أعمال الدولة وخادماً لها، ولكن الدراسة الجيدة غذت النزعة العقلية وحركة التحول إلى الناحية الدنيوية اللتين قامتا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكانت هي المعبرة عنهما، وأوجدت طبقة من المحامين أخذت تتضاعف على مر الأيام وتجد في تخفيض نصيب الكنيسة في الحكم وتوسيع سلطان الدولة. ووصل الأمر إلى حد شكا معه القديس برنار من أن محاكم أوربا تدوي بشرائع جستنيان، ولم تعد تسمه قوانين الله (42). وكان انتشار فقه القانون الجديد حافزاً إلى خلق روح الاحترام للقانون، والشغف باتباع العقل لا يقل عن تراجم الكتب العربية واليونانية، وكان هذا الشغف هو الذي أوجد الفلسفة المدرسية الكلامية وقوض بعدئذ أركانها.
ولسنا نعلم متى قامت مدرسة للفنون- أي الفنون السبعة الحرة، في بولونيا، كما لا نعلم أيضاً متى أنشأت مدرسة الطب الشهيرة بهذه المدينة. ومبلغ علمنا أن الصلة الوحيدة التي قامت بين المدارس الثلاثة كانت تنحصر في أن يتسلم جريجو كل واحدة منها درجاتها من وكيل الأسقف في بولونيا. وقد نظم(17/30)
الأساتذة أنفسهم في نقابة كنقابات الحرف، وحوالي عام 1215 نظم طلبة كل كلية أنفسهم في اتحاد طلاب جنوب الألب أو اتحاد طلاب ما وراء الألب. وضمت هذه "الجامعات" من بداية القرن الثالث عشر طالبات وطلاباً، وكان في كليات بولونيا في القرن الرابع عشر أستاذات (43).
وأنشئت نقابات الطلاب في بداية الأمر لتقوم بواجب الحماية المتبادلة لهم وتمكينهم من حكم أنفسهم بأنفسهم؛ ثم صار لها في القرن الثالث عشر سلطة عظيمة على هيئة التدريس؛ فقد كان في مقدور الطلبة ان يحولوا أي إنسان وبين الاستمرار في حياة التدريس في بولونيا بالمقاطعة المنظمة لمن لا يرضيهم من المدرسين. هذا إلى أن مرتبات الأساتذة كانت في كثير من الأحيان تؤديها "جامعات الطلاب" أي رؤساء نقابات الطلاب (44). وكان على المدرس الذي يرغب في إجازة للتغيب عن العمل، وان لم تزد على يوم واحد، ان يحصل على إذن بذلك من تلاميذه عن طريق رؤساء نقاباتهم. وكان يحرم عليه تحريماً صريحاً أن "يبتدع عطلات بمحض رغبته" (45). وكانت اللوائح التي تضعها لوائد الطلاب تحدد الدقيقة التي يبدأ فيها المدرس محاضرته، والتي تنتهي فيها هذه المحاضرة، ونوع العقوبات الذي تفرض عليه إذا خالف هذه القواعد. وكانت قوانين النقابات تأمر الطلاب أن يغادروا قاعة الدرس إذا أطال الأستاذ محاضراته عن الوقت المحدد لها. وكانت لوائح النقابات تفرض غرامة على المدرس إذ ترك فصلاً أو مرسوماً في شرحه القوانين، كما كانت تحدد مقدار ما يخصصه من المنهج لكل جزء من أجزاء الكتب المقررة. وكان يطلب إلى الأستاذ في بداية كل سنة جامعية أن يودع أمانة مقدارها عشرة جنيهات في أحد مصارف بولونيا، تخصم منها الغرامات التي يفرضها عليه رؤساء نقابات الطلاب، ويرد إليه ما يبقى منها في نهاية العام الدراسي بناء على أوامر أولئك الرؤساء. وكانت لجان من الطلاب(17/31)
تعين لمراقبة سلوك كل مدرس وتبلغ رؤساء النقابات كل ما تراه من شذوذ أو عيب في هذا السلوك (46). وإذا ما بدت هذه القواعد لطالب هذه الأيام معقولة إلى درجة غير عادية، وجب عليه أن يذكر أن طلاب الحقوق في جامعة بولونيا كانوا رجالاً بين السابعة عشر والأربعين من عمرهم، وانهم كانوا في سن يستطيعون وهم فيها أن يؤدبوا أنفسهم؛ وانهم جاءوا للدرس لا للعب، وان الأستاذ لم يكن موظفاً عند أمناء الجامعة، بل كان محاضراً حراً يؤجره الطلبة في واقع الأمر لكي يعلمهم. وكان مرتب المدرس في بولونيا يتكون من الأجور التي يؤديها طلابه ويحدد اتفاق يعقد معهم. ثم غير نظام الأداء حوالي آخر القرن الثالث عشر حين عرضت المدن الإيطالية، حرصاً منها على أن يكون لها جامعات خاصة بها، مرتبات تؤديها البلديات إلى بعض أساتذة بولونيل؛ فما كان من مدينة بولونيا نفسها وقتئذ (1289) إلا أن وعدت بأداء مرتب سنوي لاثنين من الأساتذة؛ ولكن اختيار الأساتذة ظل متروكاً للطلاب؛ وقد زاد عدد هذه المرتبات السنوية التي تؤديها البلديات شيئاً فشيئاً، حتى إذا كان القرن الرابع عشر انتقل اختيار الأساتذة وانتقلت مرتباتهم إلى المدينة نفسها. ولما أصبحت بولونيا جزءاً من الولايات البابوية في عام 1506 صار تعيين الأساتذة من اختصاص السلطات الكنسية.
بيد أن جامعة بولونيا انطبعت في القرن الثالث عشر بروح علمانية تكاد تكون معادية للكنسية، وقلما نجد في غيرها من المراكز التعليمية الاوربية، وجرى غيرها من جامعات إيطاليا على هذا النسق وان لم تبلغ فيه ما بلغته جامعة بولونيا، فبيننا كانت كلية أصول الدين أهم الكليات في هذه الجامعات الاخرى، لم يكن في بولونيا كلية دينية على الإطلاق قبل عام 1364، بل حل القانون الكنسي فيها محل علم اللاهوت؛ وحتى علم البيان نفسه قد اتخذ صورة القانون، بل أن فن الكتابة نفسه أضحى- في جامعات بولونيا، وباريس، وأورليان،(17/32)
ومنبلييه، وتور، ... فن كتابة الوثائق القانونية، أو التجارية والمالية، أو الرسمية، وكانت درجات جامعية خاصة تمنح في هذا الفن (17). وكان من الأقوال الشائعة اقرب ما يمكن الحصول عليه من تعليم إلى الأحوال الواقعية هو الذي يتلقاه الطلاب في بولونيا؛ وترى أحد القصص المتداولة أن أحد علماء التربية الباريسيين نقض في بولونيا ما علمه في باريس، ثم عاد إلى باريس فنقص ما علمه في بولونيا (18). وتزعمت بولونيا في القرن الثاني عشر الحركة العقلية في اوربا، فلما كان القرن الثالث عشر تركت تعليمها يجمد حتى أضحى فلسفة القانون مدرسية كلامية آسنة، وحتى أضحى الشروح الأكورسية نصاً مقدساً لا يكاد يقبل التغيير، ويعطل تكييف القانون تكييفاً تقدمياً يوائم سير الحياة؛ ومن اجل هذا انتقلت روح البحث إلى ميادين أوسع حرية من ميدان القانون.
وانتشرت الجامعات في جميع أنحاء إيطاليا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ونشأت بعضها من جامعة بولونيا بهجرة الأساتذة والطلاب من هذه الجامعة؛ من ذلك أن بليوس غادرها في عام 1182 لينشئ مدرسة في مودينا؛ وأن يقوبس ده مندرا Jacobus de Mandra خرج منها إلى رجيو إميليا Reggio Emilia في عام 1188 واخذ معه تلاميذه؛ ونشأ من هجرة أخرى حدثت في اغلب الظن من بولونيا عام 1204 مدرسة عامة أو اتحاد مؤلف من عدة كليات في فيسنزا؛ وفي عام 1215 غادر رفريدس Roffredus جامعة بولونيا ليفتتح مدرسة للحقوق في أرزو Arezzo؛ وفي عام 1222 وسع عدد كبير من المدرسين والطلاب الذين غادروا بولونيا مدرسة قديمة كانت في بدوا، فأضيفت كليات للطب والآداب إلى مدرسة الحقوق التي كانت في هذه المدينة؛ وبعثت اليها مدينة البندقية بطلابها، وأسهمت فيما كانت تؤديه المدينة من مرتبات للأساتذة، وبذلك أصبحت بدوا في القرن الرابع عشر من أنشط مراكز(17/33)
التفكير الأوربي. وفي عام 1224 أسس فردريك الثاني جامعة نابلي ليمنع طلاب إيطاليا الجنوبية من الهجرة جماعات إلى الشمال. ولعل هذا السبب عينة مضافاً إلى الدبلوماسية الكنسية هو الذي حمل أونسيت الرابع على إنشاء جامعة بلاط روما التي تبعت البلاط البابوي في هجراته ومنها هجرته إلى أفنيون نفسها، وفي عام 1303 أسس بنيفاس الثامن جامعة روما التي بلغت مجدها في أيام نقولاس الخامس وليو العاشر، وأحرزت لقب سبنزا Sapienza ( العاقلة) في عهد بولس الثالث. وبدأت سينا جامعة بلديتها في عام 1246، وبياسنزا في عام 1248؛ وقبل أن يختتم القرن الثالث عشر وجدت مدارس القانون، والآداب، والطب أيضاً أحياناً، في كل مدينة كبرى بإيطاليا.
وكانت جامعات أسبانيا فذة في نوعها، فقد أنشأها الملوك وبسطوا حمايتهم عليها، فكانت تخدمهم وتخضع لأشراف حكوماتهم. فأنشأت قشتلة جامعة ملكية في بالنسية ( Palencia) (1208) ، ثم أنشأت جامعة أخرى في بلد الوليد (1304)؛ وأنشأت ليون Leon جامعة في سلمنقة (1227) وأنشأت جزائر البليار جامعة في بالما (1280)، وأنشأت قطلونية جامعة في لريدا (1300). وكانت الجامعات الأسبانية تقبل إشراف الكنيسة عليها والمعونة المالية منها رغم صلتها بالملوك؛ ومنها ما نشأ من مدارس الكتدرائيات كجامعة بالنسية. وخص سان فرنندو وألفنسو الحكيم جامعة سلمنقة بأموال كثيرة في القرن الثالث عشر، وسرعان ما ساوت هذه الجامعات تعلم اللغة اللاتينية، والعلوم الرياضية، والفلك، وعلوم الدين، والقانون؛ ومنها ما كان يعلم الطب، واللغة العبرية، أو اليونانية. وافتتح راهب دمنيكي في عام 1250 مدرسة للدراسات(17/34)
الشرقية في طليطلة لتدريس اللغتين العربية والعبرية. وما من شك في ان هذه المدرسة قد أفادت خيراً كثيراً لان أحد خريجيها ريمند مارتن Raymond Martin ( حوالي عام 1260) اظهر علماً واسعاً بجميع كبار الفلاسفة ورجال الدين المسلمين. وكذلك كان للدراسات العلمية مكاان بارز في جامعة أشبيلية التي أنشاها ألفنسو الحكيم في عام 1254. وأنشأ الملك الشاعر دنيز Diniz في لشبونة جامعة للبرتغال عام 1290.(17/35)
الفصل السادس
جامعات فرنسا
كانت فرنسا بلا ريب الزعيمة العقلية لأوربا في العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فقد أصبحت لمدارس كتدرائياتها منذ بداية القرن الحادي عشر شهرة دولية عظيمة؛ وإذا كانت هذه المدارس قد نمت وازدهرت حتى أضحت جامعة عظيمة في باريس لا في شارتر، أولاؤن، أوريمس، فأكبر الظن إن سبب هذا هو إن تجارة السين الرابحة والأعمال المالية التي توجد عادةً في العاصمة قد جاءت إلى تلك المدينة بالثراء الذي يغري العقول وإنها كانت تقدم المال الذي يحتاجه العلم والفلسفة والفن.
وأول من عرف من المعلمين في مدرسة كتدرائية نتردام هو وليم الشامبووي William of Champeaux (1070 - 1121) ، وكانت محاضراته التي تقلى في أبهاء نتردام مثار الحركة العقلية التي نشأت منها جامعة باريس، ولما خرج أبلاد من بريطانيا (حوالي عام 1103) ووجه إلى وليم قياساً منطقياً أفعمه وقضى على سمعته، وبدأ اشهر المحاضرات في التاريخ الفرنسي، هرع الطلاب من كل صوب ليستمعوا إليه؛ فازداد عدد طلاب باريس وتضاعف عدد المدرسين. وكان الأستاذ ( magister) في عالم التربية بباريس في القرن الثاني عشر رجلاً أجاز له رئيس كتدرائية نتردام أن يدرس. وكانت جامعة باريس في ذلك الوقت قد خطت خطوات سريعة لا نستطيع تتبعها، فارتقت من مدرسة كنيسة المدينة ونالت وحدتها الأولى من هذا المصدر الوحيد مصدر الإجازة التعليمية. وكانت هذه الإجازة تعطى عادةً بالمجان لكل من قضى وقتاً كافياً تلميذاً لأستاذ مرخص بشرط أن يوافق هذا(17/36)
الأستاذ على طلبه؛ وكان من التهم التي وجهت إلا أبلار إنه أشتغل بمهنة التدريس دون أن يقضي فترة التلمذة المعتمدة من أستاذ.
وكان إدراك فن التدريس على هذا النحور، أي الأستاذ المعلم والصبي المتعلم، من الأصول التي قامت عليها الجامعة. ولما إن تضاعف عدد الأساتذة أنشأ والهم بطبيعة الحال نقابة طائفية. وظل لفظ (جامعة Univiresitas) يطبق منذ قرون على كل هيئة من عدة أفراد بما في ذلك النقابات الطائفية. وفي عام 1214 وصف ماثيو باريس "زمالة الصفوة المختارة من المدرسين" في باريس بأنها منظمة قائمة من زمن بعيد. ولنا أن نفترض، وإن كنا لا نستطيع أن نبرهن، أن (الجامعة) اتخذت حوالي عام 1170 صورة نقابة طائفية للمدرسين لا اتحاداً لعدة كليات، فلما كان عام 1210 أصدر البابا إنوسنت الثالث -وكان هو نفسه من خريجي جامعة باريس- مرسوماً اعترف فيه بقوانين نقابة المدرسين المدونة واعتمدها، ثم أصدر هذا البابا نفسه مرسوماً آخر خول فيه النقابة تختار مندوباً عنها يمثلها في المحكمة البابوية.
وقبل أن ينتصف القرن الثالث عشر انقسم مدرسو (1) جامعة باريس إلى أربع (سلطات) أو كليات كما نسميها الآن ( Faculties) (2) : اللاهوت، والقانون الكنسى، والطب، و (الفنون). ولم يكن للقانون المدني بعد عام 1219 مكان في جامعة باريس بعكس ما كانت عليه الحال في جامعة بولونيا. وكان المنهج يبدأ بالفنون السمعية، ثم يرقى إلى الفلسفة وينتهي بعلوم الدين. وكان طلبة الفنون Arts ( وكانوا يسمون Artlstae أي فنانين) هم المقاتلين عندنا (الطلاب) الذين لا يزالون في الجامعة، وإذ كانوا هم يؤلفون الجزء
_________
(1) لا يفرق المؤلف في هذا الفصل وفي الفصول السابقة بين مدرس وأستاذ. (المترجم)
(2) الكلمة ذات صلة بكلمة Facile الفرنسية ومعناها تيسير أو تخويل أو سلطة للعمل. (المترجم)(17/37)
الأكبر من المتعلمين في باريس فقد انقسموا -لتبادل المعونة ولأغراض الألفة والاختلاط- إلى أربع أمم Nations حسب مسقط رأسهم natio أو أصلهم: (فرنسا) (أي المملكة الضيقة الخاضعة خضوعاً مباشراً للملك الفرنسي) وبكاردي Picardy، ونورمندية، وإنجلترا؛ وضم طلاب جنوبي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الطلبة الفرنساويي المولد، وضم طلبة الأراضي الوطيئة إلى (بكاردي) وطلبة أوربا الوسطى الشرقية إلى (إنجلترا)، وكان الطلاب الذين جاءوا من ألمانيا من الكثرة بحيث تأخرت تلك البلاد عن إنشاء جامعات بها حتى عام 1347. وكان يحكم كل جامعة (وكيل Procurator) أو مدير، وكل كلية عميد، وكان لطلاب كلية الفنون -ومدرسيها في أغلب الأحيان- مدير يرأسهم، ثم اتسعت دائرة أعماله تدريجاً حتى أصبح قبل عام 1255 مدير الجامعة كلها.
ولسنا نسمع عن وجود أبنية خاصة بالجامعات، ويلوح إن المحاضرات كانت تلقى أثناء القرن الثاني عشر في أروقة نتردام، وسان جنفبيف، وسان فكتور، وغيرها من الأبنية الدينية، ولكننا نجد في القرن الثالث عشر مدرسين يستأجرون حجرات خاصة لفصولهم. وكان المدرسون -الذين أصبحوا يسمون أيضاً أساتذة Professores، ومعنى هذا اللفظ اللاتيني (المعلنون) - رجال دين مترهبين يفقدون مناصبهم إذا تزوجوا. وكانت طريق التعليم هي المحاضرات، وأكبر السبب في هذا أنه لم يكن في مقدور كل تلميذ أن يبتاع الكتب التي تجب عليه دراستها، أو يحصل على نسخ منها من دور الكتب. وكان الطلاب يجلسون على الطوار أو على الأرض ويدونون كثيراً من المذكرات. وكان العبء الملقى على ذاكرتهم شديداً أضطرهم إلى ابتكار عدة أساليب لمساعدة الذاكرة تتخذ في العادة شكل أبيات شعرية مثقلة بالمعنى بغيضة الصورة. وكانت لوائح الجامعة تحرم على المدرس أن يقرأ محاضرته للطلاب، بل كان يطلب(17/38)
إليه أن يتكلم ارتجالاً، بل كان يحرم عليه أيضاً أن يُقطع الكلام. وكان الطلاب يتبرعون بتحذير المستجدين من أن يؤدوا أجر أي منهج قبل أن يستمعوا إلى ثلاث محاضرات فيه. وقد شكا وليم الكنشيسي في القرن الثاني عشر من إن المدرسين يلقون على الطلاب مناهج سهلة لكي يكسبوا بذلك الشهرة، والطلبة، والأجور، وإن طريقة الاختيار التي تعطى للطالب مجالاً واسعاً لاختيار الموضوعات والمدرسين أخذت تنزل بمستوى التعليم (50).
وكان التعليم ينتعش ويكتسب بعض الحيوية من حين إلى حين بمناقشات عامة تجرى بين المدرسين، والطلبة المتقدمين، والزائرين الممتازين، وكان النقاش يجري في العادة على شكل مقرر محدد يسمى النقاش المدوسي: فيوضع السؤال، ويجاب عنه جواباً سلبياً، ويؤيد هذا الجواب بعبارات مقتبسة من الكتب المقدسة أو كتب آباء الكنيسة، وبالاستنباط الذي يتخذ شكل الاعتراضات. ويتلو ذلك جواب إيجابي يؤيد بمقتبسات من الكتاب المقدس، ومن كتب آباء الكنيسة، وبأجوبة منطقية على الاعتراضات. والنقاش المدرسي هو الذي حدد الصورة النهائية الفلسفة المدرسية في عهد تومس أكوناس. وكانت تقعد بالإضافة إلى هذه المناقشات المدرسية الرسمية مناقشات غير رسمية يسمونها (أي شيء نحب quodiberta) - يستطيع المناقش بموجبها أن يتقدم بأي سؤال يناقش في التو والساعة. وقد أوجدت هذه المناقشات غير المقيدة هي الأخرى صورة من الصور الأدبية نشاهد مثلاً منها في كتابات القديس تومس الصغرى. وشحذت المناقشات الرسمية منها وغير الرسمية العقول في العصور الوسطى، وأفسحت المجال لحرية التفكير والقول؛ غير إنها اتجهت عند بعض الناس إلى خلق نوع من المهارة يستطيعون به أن يثبتوا أي شيء يريدون إثباته، أو الشعوذة اللفظية التي تكدس جبالاً من الجدل حول أنفه النقط.(17/39)
وكان معظم الطلاب يعيشون في مضايف Hospicia تؤجرها جماعات منظمة من الطلاب. وكانت بعض المضايف تأوي فقراء الطلاب نظير أجر أسمي؛ ومثال ذلك إن بيت الله Hôtel Dieu الملاصق لكتدرائية نتردام خصص حجرة (للطلبة الفقراء). ثم اشترى جوسيوس اللندني Jucius of London هذا المسكن في عام 1180 واشترك من ذلك الوقت من المستشفى في تقديم المسكن والمأكل لثمانية عشر طالباً يقيمون فيه؛ ولم يحل عام 1231 حتى كانت هذه الطائفة من الطلاب قد انتقلت إلى مسكن أوسع من مسكنها القديم، ولكنها مع ذلك ظلت تسمى نفسها جماعة الثمانية عشر. ثم أنشأت طوائف الرهبان، أو الكنائس، أو أنشأ المحسنون الخيرون، مضايف أو مساكن أخرى للطلاب، وحبست عليها الحبوس، أو خصت بأقساط سنوية خفضت بعض نفقات العيش على الطلاب. وفي عام 1257 وهب ربرت ده سربون Robert de Sorbon قس القديس لويس (بيت السربون) المال اللازم لإيواء ستة عشر طالباً من طلبة علوم الدين، وأضيفت إلى ذلك هبات لغير هؤلاء من لويس وغيره من المحسنين حتى ارتفع عدد من تشملهم إلى ستة وثلاثين؛ ومن هذا البيت نشأت كلية السربونوأصبحت السربون في القرن السادس عشر الكلية الدينية في الجامعة، ثم أغلقتها الثورة في عام 1792، وأعادها بعدئذ نابليون، وهي الآن مركز لتدريس مناهج عامة في العلوم والأدب في جامعة باريس. @. وأنشئت كليات - Collegia بمعناها القديم وهو الجماعات- بعد عام 1300، وجاء المدرسون إليها ليسكنوا فيها، وعملوا مدرسين خصوصين للطلاب، يستمعون إلى محفوظاتهم، و (يقرأون) معهم النصوص؛ وأخذ المدرسون في القرن الخامس عشر يدرسون بعض المناهج في أبهاء المساكن، وازداد عدد المناهج التي تدرس بهذه الطريقة، ونقص عدد ما يدرس منها في خارجها، حتى أضحت (الكلية) مكاناً للتعليم ومسكناً للطلاب في وقت واحدة.(17/40)
وحدث مثل هذا التطور في الكلية من بيت الطلبة في أكسفورد، ومنبلييه، وطولوز. وهكذا بدأت الجامعة من جمعية للمدرسين حتى أضحت جمعية من المعاهد والكليات.
وكان من بين مساكن الطلاب في باريس مسكنان مخصصان للطلاب المبتدئين الجدد في طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس، وكان الرهبان الدمنيك من بداية أمرهم يهتمون بالتعليم ويتخذونه وسيلة لمقاومة الإلحاد. وقد أنشئوا لهم مدارس على نظام خاص بهم أشهرها كلها المدرسة العامة Studium generale في كولوني، وكانت لهم معاهد أخرى من نوعها في بولونيا، وأكسفورد. وأصبح كثيرون من الإخوان أساتذة في هذه المدارس، يعلمون في الأروقة الخاصة بطائفتهم. وفي عام 1232 انضم ألكسندر الهاليسي Alexander of Hales وهو من أقدر المدرسين في باريس إلى طائفة الرهبان الفرنسيس، وواصل تدريس مناهجه للجمهور في دير الكردلير Cordeliers، وأخذ عدد الإخوان الذين يدرسون في باريس يزداد عاماً بعد عام، كما أخذ عدد من يستمعون إليهم من غير الرهبان يتضاعف، حتى شكا المدرسون من غير رجال الدين إنهم قد تركوا جالسين أمام مكاتبهم (كالطيور المنفردة في أعلى البيوت)، وأجاب الرهبان عن ذلك بأن المدرسين غير الرهبان يسرفون في الطعام والشراب، فأضحوا لذلك كسالى بلداء (51). وحدث في عام 1253 أن قتل طالب في شجار بأحد الشوارع، فأعتقل ولاة الأمور في المدينة عدداً من الطلاب، وأعرضوا عن احتجاجهم وطلبهم أن يحاكموا أمام أساتذة الجامعة أو الأسقف، وأمر رهبان الدمنيك، وواحداً من الرهبان الفرنسيس، وهم من جمعية المدرسين، لم يطيعوا أمر الامتناع عن إلقاء المحاضرات، فقررت الجمعية وقف عضويتهم فيها، غير إنهم لجأوا إلى الإسكندر الرابع فأمر أساتذة الجامعة (1255) بإعادتهم إلى(17/41)
عضوية الجمعية. وأراد المدرسون أن يتجنبوا إطاعة الأمر فتفرقوا، وحرمهم البابا من الدين واعتدى الطلاب والغوغاء على الرهبان في الشوارع؛ ودام الجدل ست وستين تراضى الطرفان بعدها: فقبل الأساتذة، بعد أن نظموا من جديد، المدرسين الرهبان، وأقسم هؤلاء أن يطيعوا من ذلك الوقت قوانين (الجامعة). ولكن كلية الفنون حرمت جميع الرهبان حرماناً دائماً من عضويتها. وناصبت جامعة باريس البابوية العداء بعد أن كانت محل عطفهم، وناصرت الملوك في نزاعهم مع البابوات، وأضحت في مستقبل الأيام مركز حركة (غالية) تسمى لفصل الكنيسة الفرنسية عن روما.
ولم يكن لأي معهد علمي منذ أيام أرسطو من النفوذ ما كان لجامعة باريس، فقد ظلت ثلاثة قرون لا تجتذب إليها أكبر عدد من الطلاب فحسب، بل تجتذب فوق ذلك أعظم مجموعة من الرجال ذوي العقلية الفذة. فأبلار، وحنا السلزبري، وألبرتس مجنس، وسيجر البرابنتي، وتومس أكوناس، وبونافنتورا Bonaventura، وروجربيكن، وذنزاسكوتس، ووليم الأكامي William of Occam - هؤلاء يكادون يكونون هم تاريخ الفلسفة من 1100 إلى 1400. وما من شك في إنه كان في باريس مدرسون أفذاذ هم الذي أخرجوا أولئك الرجال العظام، ونشروا من المتعة العقلية ما لا يوجد إلا في ذرى التاريخ البشري. يضاف إلى هذا إن جامعة باريس كانت خلال هذه القرون ذات سلطان قوي في الدين والدولة، فقد كانت لساناً قوياً يعبر عن الرأي العام، وكانت في القرن الرابع عشر من أعظم مراكز التفكير الحر، وفي القرن الخامس عشر حصناً منيعاً للدين القويم والمحافظة على القديم. ولا يمكن القول بأنها (لم تضطلع بدور حقير) في الحكم على جان دارك.
وكان لغيرها من الجامعات نصيب في رفع فرنسا إلى منزلة الزعامة الثقافية في أوربا. فقد كان في أورليان مدرسة للقانون منذ القرن التاسع لا بعد، وكانت(17/42)
في القرن الثاني عشر مركزاً للدراسات القديمة والأدبية الحديثة تنافس شارتر، ولم يكن يفوقها في القرن الثالث عشر إلا بولونيا في تدريس القانون المدني والكنسى. ولا تكاد تقل عنها في شهرتها مدرسة القانون في أنجر Angers وهي المدرسة التي أضحت في عام 1232 من أكبر جامعات فرنسا. وكانت طولوز (طلوشة) مدينة بجامعتها إلى إلحادها في الدين: ذلك أن جريجوري التاسع أرغم الكونت ريمند في عام 1229 على أن يتعهد بأداء مرتبات أربعة عشر أستاذاً -في علوم الدين، والقانون الكنسي، والفنون - يرسلون من باريس إلى طولوز لمقاومة حركة الإلحاد الألبجنسية بفضل ما لهم من النفوذ على الشبان الأكتانيين.
وكانت أشهر الجامعات الفرنسية القائمة في خارج باريس هي جامعة منبلييه. لقد كانت هذه المدينة، بفضل وقوعها على شاطئ البحر المتوسط في منتصف المسافة بين مرسيليا وإسبانيا، تستمع بمزيج وثاب من الدم الفرنسي، واليوناني، والإسباني، ومن ثقافة هذه الأجناس؛ وكان من أهلها عدد من النجار الإيطاليين وبقية من الجالية الإسلامية المغربية التي كانت في وقت ما تحكم المدينة. وكانت تجارتها رائجة ناشطة. وأنشأت منبلييه في وقت غير معروف مدرسة للطب ما لبثت أن فاقت مدرسة سلرنو، ولسنا نعلم علم اليقين أكان إنشاؤها أثراً من آثار طب سلرنو، أم طب العرب، أم اليهود. وأضيفت إلى هذه المدرسة مدارس للقانون وعلوم الدين، و (الفنون)، واكتسبت منبلييه بفضل تقارب هذه الكليات وتعاونها شهرة علمية واسعة، وإن كانت كل واحدة منها كلية مستقلة. وأضمحل شأن الجامعة في القرن الرابع عشر، ولكن مدرسة الطب انتعشت في عصر النهضة، وقام فيها عام 1537 أستاذ يدعى فرانسوا بليه يلقى سلسلة من المحاضرات عن أبقراط باللغة اليونانية.(17/43)
الفصل السابع
جامعات إنجلترا
نشأت أكسفورد، كما نشأت بسبورس المماثلة لها في إسمها، لتكوين معبراً للماشية؛ ذلك بأن نهر التايمز يضيق عند هذه النقطة ويقل غوره. وبنى حصن عندها في 912، ونشأت سوق، وعقد الملكان كنوت Cnut وهرلد Harold جمعيات هناك قبل أن تنشأ الجامعة بزمن طويل. ويبدو إن مدارس نشأت في أكسفورد في أيام كنوت، ولكننا لا نسمع بوجود مدرسة كتدرائية بها. ونسمع حوالي عام 117 عن وجود (أستاذ في أسكنفورد)، Oxenford. وفي عام 1133 جاء من باريس ربرت بلن Robert Pullen، وهو رجل من رجال الدين، وأخذ يحاضر في اللاهوت في أكسفورد (52). وخطت المدرسة خطوات لا يعرف التاريخ عنها شيئاً الآن، أضحت بعدها مدرسة أكسفورد في القرن الثاني عشر مدرسة عامة أي جامعة - (ولا يعرف أحد متى تم ذلك) (53). وفي عام 1209، كما يقدر ذلك أحد كتاب ذلك العصر، كان في أكسفورد ثلاث آلاف طال ومدرس (54). وكان فيها كما كان في جامعة باريس أربع كليات: كلية الفنون، وكلية اللاهوت، وكلية الطب، وكلية قانون الكنيسة. أما تدريس القانون المدني فقد أغلقته الجماعات في إنجلترا وأستقر في دور المحاكم في لندن -وكانت دار لنكولن، وجراى، والمعبد الداخلي Inner Temple، والمعبد الأوسط Middle Temple في القرن الرابع عشر وليدة البيوت أو الحجرات التي كان القضاة وأساتذة القانون في القرن الثاني عشر يستقبلون فيها الطلاب ليدربوهم.(17/44)
وبدأت الكليات في أكسفورد كما بدأت في باريس وكمبردج أروقة محبوسة عليها الأموال لفقراء الطلاب، وأصبحت في زمن مبكر، بالإضافة إلى غرضها الأول قاعات للمحاضرات؛ فكان المدرسون يسكنون فيها مع الطلاب، ولم ينقص القرن الثالث عشر حتى كانت القاعات هي الأقسام المادية والتعليمية التي تكونت منها الجامعة. وحوالي عام 1260 أنشأ سيرجون ده بالبول Sir John de Balliol الاسكتلندي (والد الملك الذي حكم أسكتلندة في عام 1292) (بيت باليون) في أكسفورد، ليكفر به عن جرم غير معروف، ليأوى بعض الطلاب الفقراء الذين سموا Socii أي الزملاء، وخص كلا منهم بثمانية بنسات (أي ما يعادل 8 دولارات أمريكية) في الأسبوع. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أنشأ ولترده مرتون Walter de Merton ( بيت طلاب مرتون) في مولدن Malden أولاً ثم في أكسفورد بعد قليل، وحبس عليه بعض المال، ليعنى بطلاب بقدر ما تمكنه من ذلك موارده. وتضاعفت هذه الإيرادات أكثر من مرة على أثر ارتفاع قيمة الأرض، وبلغ هذا الارتفاع حداً شكاً معه كبير الأساقفة بكهام Peckham في عام 1284 من إن (الطلبة الفقراء) يتلقون منحاً إضافية (للمعيشة المترفة) (55). ويمكن القول بوجه عام إن الكليات الإنجليزية لم تغتن بفضل المنح الدراسية وغيرها من الهبات فحسب، بل اغتنت فوق ذلك بفضل ارتفاع قيمة الضباع التي حبست عليها. وفي عام 1280 أنشأت قاعة الجامعة- وهي الآن كلية الجامعة University College بهبة من وليم الدرهامي كبير أساقفة رون Rouen. ويتبين الإنسان كيف بدأت هذه الكليات الشهيرة بداية متواضعة إذا اطلع على شروط تأسيسها، فقد كانت تنص على وجود أربعة أساتذة وعدد من الطلاب الذين يهمهم أن يسكنوا معهم. وكان الأستاذة يختارون واحداً من بينهم ليكون "الزميل الأكبر"(17/45)
أو "الرئيس principal" وهو الاسم الذي يعرف به عمداء الكليات الإنجليزية في هذه الأيام. وكانت جامعة أكسفورد في القرن الثالث عشر هي هذه الكليات مجتمعة في نقابة الاساتذة University؛ وكان هؤلاء يحكمهم وكلاء عنهم ثم مدير يختارونه ويخضع إلى أسقف لنكولن وإلى الملك.
ولم يحل عام 1300 حتى كانت أكسفورد مركزاً للنشاط الذهني والنفوذ العام لا تفوقها في ذلك إلا باريس. وكان اشهر خريجيها كلهم هو روجر بيكن. والتف حوله عدد اخر من الرهبان الفرنسيس من بينهم آدم مارش Adam Marsh، وتومس اليوركي Thomas of York، وجون بكهام John Peckham، فتألفت منه ومنهم جماعة ممتازة من رجال العلم. وكان زعيمهم وملهمهم ربرت جروستستي Robert Grosseteste (1175؟ - 1253) اظرف شخصية في حياة أكسفورد في القرن الثالث عشر. فقد درس فيها القانون والطب، والعلوم الطبيعية، وتخرج في عام 1179، ونال درجته في علوم الدين في 1189، وسرعان ما اختير بعدئذ (أستاذ مدارس أكسفورد) - وتلك اقدم صورة من لقب مدير الجامعة.
وأصبح في عام 1235، وهو لا يزال مديراً لجامعة أكسفورد، أسقف لنكولن، وأشرف في منصبه هذا على إتمام الكتدرائية العظيمة. وأبدى نشاطاً عظيماً في تشجيع دراسة اللغة اليونانية وأرسطو، واسهم في الجهود العقلية الجبارة التي بذلت في القرن الثالث عشر للتوفيق بين فلسفة أرسطو والدين المسيحي، وكتب شروحاً لكتاب الطبيعة لأرسطو، والتحليلات، ولخص علوم زمانه في موسوعة علمية، وعلى على إصلاح التقويم. وكان يفهم المبادئ التي يقوم عليها المجهر والمرقب، وفتح أبواباً كثيرة لروجر بيكن في الرياضيات والعلوم الطبيعية؛ واكبر الظن انه هو الذي عرف بيكن بالخصائص المكبرة(17/46)
للعدسات (56). ويبدو أن كثير من الآراء التي نعززها إلى بيكن - في فن المنظور، وقوس قزح، والمد والجزر، والتقويم، والاعتماد على التجارب العلمية- قد أشار بها عليه جروستستي، ونخص منها بالذكر الفكرة القائلة أن العلوم كلها يجب أن تعتمد على الرياضيات، لان القوى كلها أثناء انتقالها في الفضاء تتبع أشكالاً وقواعد هندسية (57). وكتب شعراً فرنسياً ورسالة في الزراعة، وكان رجل قانون وطبيباً، كما كان عالماً في الدين وفي العلوم الطبيعية، وقد شجع دراسة اللغة العبرية، وكان يهدف بذلك إلى هداية اليهود إلى الدين االمسيحي، وكان في هذه الأثناء يعاملهم معاملة المسيحي الكثير التسامح، ويحميهم قدر ما يستطيع من حقد الجماهير واعتدائهم. وكان فوق هذا كله مصلحاً اجتماعياً نشيطاً، يدين على الدوام بالولاء للكنيسة، ولكنه جرؤ على ان يعرض على البابا أنوسنت الرابع في (1250) مذكرة مكتوبة يعزو فيها عيوب الكنيسة إلى محكمة الكرسي البابوي (58). وانشأ في أكسفورد أول (صندوق) يقرض الطلاب المال بغير فائدة (59). وقصارى القول انه هو أول واحد من ألف من ذوي العقول النابهة الذين أوجدوا بأعمالهم الجليلة هيبة أكسفورد العالية ومكانتها العظيمة في عالم العلم والعقل.
وأكسفورد الآن جامعة ومركز صناعي معاً تصنع السيارات كما تصنع العظماء، أما كيمبردج فلا تزال مدينة كليات جامعية، وجوهرة من جواهر العصور الوسطى تزينها الثروة الحديثة وحسن الذوق الإنجليزي، كل ما فيها ينتمي إلى كلياتها، ولا يزال الهدوء العقلي الذي هو من خصائص العصور الوسطى باقياً في هذه البلدة، اجمل البلدان الجامعية على الإطلاق. ويبدو أن عظمتها الذهنية يجب أن ترجع إلى حادث اغتيال وقع في أكسفورد. فقد قتل أحد الطلاب في عام 1209 امرأة في تلك البلدة الأخيرة، فاعتدى أهلها على مسكن الطلاب وشنقوا طالبين أو ثلاثة منهم. وأضربت نقابة المدرسين عن(17/47)
العمل احتجاجاً على ما اقترفه أهل المدينة، وغادر أكسفورد 3000 طالب ومعهم، بطبيعة الحال، كثيرون من المدرسين - إذا صدقنا مافيو باريس وهو رجل لا يوثق بأقواله عادة. ويقال أن عدداً كبيراً منهم ذهبوا إلى كيمبردج وأقاموا فيها قاعات وكليات. ذلك أول ما ذكر عن وجود شيء أعلى درجة من مدرسة أولية. وحدثت هجرة ثانية- من الطلاب الباريسيين في 1228 - زاد بها عدد الطلاب زيادة كبيرة. وفي عام 1281 نظم أسقف إلي Ely أولى الكليات غير الدينية في كمبردج - وهي كلية القديس بطرس التي تسمى الآن ببترهوس (بيت بطرس). وشهدت القرون الثلاثة الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر إنشاء كليات أخرى وازدهارها، منها ما هو آية من آيات العمارة في العصور الوسطى ويحتضنها كلها نهر كام Cam الهادئ الممشى، وتكون هي وملحقاتها طائفة من أروع ما قام به الإنسان من الأعمال.(17/48)
الفصل الثامن
حياة الطلاب
لم تكن سن طالب العصور الوسطى محددة، فقد يكون في أي سن، وقد يكون قساً او راهباً ممتازاً، أو رئيس دير، أو تاجراً، وقد يكون متزوجاً أو غلاماً في الثالثة عشر من عمره، يثقله عبء الكرامة المفاجئة التي ألقيت عليه في هذه السن. وكان هذا الطالب يذهب إلى بولونيا، أو أورليان، أو منبلييه ليصبح محامياً، أو طبيباً، أو يذهب إلى غير هذه من الجامعات في بعض الأحوال لكي يأهل نفسه لخدمة الحكومة، أو يجد لنفسه في العادة مجالاً في الكنيسة. ولم يكن يؤدي امتحاناً للدخول في الجامعة؛ بل كل ما كان يطلب إليه أن يعرف اللغة اللاتينية، وان يكون قادراً على أداء أجراً زهيد لكل مدرس يدرس منهجه عليه. فإذا كان فقيراً فانه قد يستعين على ذلك بمنحة دراسية أو بمعولة تسديها إليه قريته، أو كنيسته، أو يسديها إليه أصدقاؤه أو أسقفه. وكانت هناك آلاف من هذه الحالات (60). فسامسون Samson رئيس الدير وبطل اخيار جوسلين Jocelyn's Chronicle والماضي والحاضر لكارليل Carlyle's Past and Present مدين بتعليمه إلى قس فقير كان يبيع الماء المقدس ليؤدي لسامسون اجر تعليمه (61). وكان الطالب الذاهب إلى جامعة أو العائد منها ينتقل عادة بالمجان، ويجد الطعام والمأوى في الأديرة التي في طريقه (62).
فإذا قدم إلى أكسفورد، أو باريس، أو بولونيا ألفى نفسه عضواً في جماعة كبيرة من الطلاب السعداء، أو الحيارى، المقبلين على العلم، يجرفهم تيار دافق من الحماسة يجعل الفلسفة -المشوبة بنزعة إلى الإلحاد- مثيرة كالحرب، كما(17/49)
يجعل الجدل ممتعاً فتاناً كأنه العاب البرجاس. واذا كان يعيش في عام 1300 فانه يجد في باريس 7000 طالب، وفي بولونيا 6000، وفي أكسفورد 3000 (1). وكان عدد طلاب جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، في القرن الثالث عشر يزيد عادةً على عددهم بعده، واكبر الظن أن سبب هذه الزيادة قلة الجامعات المنافسة لها، وكان الطالب الحديث تستقبله (أسرته) وقد ترشده إلى مسكن يعيش فيه- ربما كان مع أسرة فقيرة. وإذا كانت لها صلات قوية بالمسؤولين فقد يعطى سريراً ويترك مع غيره من الطلاب في حجرة في (بيت الطلبة) فتقل بذلك نفقاته. وكان الطالب في أكسفورد عام 1374 يؤدي مائة شلن وأربعة شلنات (ألف دولار وأربعين دولار) في العام نظير مسكنه وطعامه وعشرين شلنات (أي مائتي دولار) أجراً لتعليمه وأربعين شلناً ثمناً لملابسه (66).
ولم يكن تفرض عليه ملابس جامعية خاصة؛ على أنه كان يطلب إليه أن يشد ثوبه الخارجي بالأزرار وان لا يمشي حافي القدمين إلا إذا كانت جلبابه يصل إلى عقبيه (66). وكان الأساتذة يميزون بلبس القبة Cappa وهي (حرملة) حمراء أو أرجوانية ذات حاشية من جلد السنجاب ومقنعة، وكانوا في بعض الأحيان يغطون رؤوسهم بقلنسوة مربعة في أعلاها خصلة بدل (الشرابة). وكان الطالب في جامعة باريس في منزله رجل الدين ويتمتع بحصاناته فكان
_________
(1) هذه هي تقديرات راشدول Rashdall المتحفظ (63). أما أودفردوس Odofredus العالم القانوني الذي كان يكتب في عام 1250 فقدر عدد طلاب بولونيا عام 1200 بعشرة آلاف طالب، وقدر رابانس جوما Rabanus Gaume وهو راهب نسطوري عدد طلاب جامعة باريس في عام 1287 بثلاثين ألفاً، وقال فتز رالف Fitzralph كبير أساقفة أرماغ Armagh حوالي عام 1360 إنه كان في جامعة أكسفورد في وقت ما ثلاثون ألف طالب؛ وقدرهم ويكلف Wyclif في عام 1380 بضعفي هذا العدد؛ وعاد الأسقف غاسقوين Gascoigue الذي كان رئيس شرف في جامعة أكسفورد فقدرهم بثلاثين ألفاً (64)؛ ولا يخفى أن هذه التقديرات كلها إنما تعتمد على الحدس والتخمين، وأنها مبالغ فيها بلا ريب ولكننا لا نستطيع البرهنة على كذبها.(17/50)
يعفى من الخدمة العسكرية، ومن الضرائب التي تفرضها الدولة على غيره ومن المحاكمة أمام المحاكم غير الدينية. وكان ينتظر منه أن يدخل في سلك رجال؛ الدين على انه لم يكن يرغم على ذلك في كل الأحوال. وكان في وسعه إذا تزوج أن يظل طالباً، ولكنه في هذه الحال يفقد امتيازات رجال الدين، ولا يستطيع الحصول على درجة علمية. أما الاختلاط الجنسي المتزن فلم يكن يجازي عليه بمثل هذه العقوبات. وقد وصف الراهب جك دة فترى Jaque de Virty طلبة جامعة باريس في عام 1230 بأنهم: (فاسقون أكثر من سائر أبناء الشعب؛ فهم لا يرون الفسق إثماً؛ وكانت العاهرات يسحبن الطلاب إلى المواخير صحباً يكاد يكون قوة واقتداراً، ويفعلن ذلك علناً في شوارع المدينة، فإذا امتنع الطلاب عن الدخول اتهمتهم العاهرات باللواط وكانت هذه الرذيلة البشعة (اللواط) تملأ المدينة إلى حد كان يعد معه من علامات النبل أن يكون للشخص غلام أو اكثر. وكان يوجد في المنزل الواحد حجرات للدرس في الطابق العلوي وماخور في اسفل منه؛ فكان الأساتذة يحاضرون في الطبقة العليا، والعاهرات يمارسن حرفتهن الدنيئة في الطبقة السفلى؛ وكانت مناقشات الفلاسفة تسمع في البيت الواحد مختلطة ومشاحنات العاهرات والقوادين (67).
هذا وصف يحمل في طياته المغالاة الواجبة؛ وكل ما يحق لنا أن نستنتجه منه أن لفظي طالب الدين والقديس لم يكونا مترادفين في باريس (1). ويواصل جاك وصفه فيقول أن كل (أمة) من الطلاب كانت لديها صفات محببة لها تصف بها (الأمم) الأخرى؛ فالإنجليز كانوا يوصفون بأنهم يكثرون من الشراب وان لهم ذيولا؛ والفرنسيون كانوا مزهوين مخنثين؛ والألمان
_________
(1) ولكن قارن هذا بقول راشدول: ((وإن الأدلة لكثيرة على أن الصورة التي يصور بها ده فنري الحياة المدرسية ليست في أساسها غير صادقة إن كان فيها مبالغة (68))).(17/51)
كانوا صخابين، (بذيئين إذا شربوا)؛ والفلمنكيون كانوا بدلاً نهمين (ليّنين كالزبد)؛ وكانوا كلهم (كثيراً ما ينتقلون بهذا الاختيار من الألفاظ إلى اللكمات) (69). وكان طلاب جامعة باريس يحشرون أولاً في الجزيرة التي تقوم عليها كتدرائية نتردام؛ وكانت هذه الجزيرة هي الحي اللاتيني الأصلي، وكان سبب تسميتها بذلك الاسم أن الطلاب كان يراد منهم أن يتكلموا باللغة اللاتينية - حتى في حديث غير المدرسي- وهي قاعدة كثيراً ما كانت تخرق، وحتى حين اتسعت رقعة الحي اللاتيني حتى شملت الطرف الغربي من الضاحية الممتدة في جنوب نهر السين، كان عدد الطلاب فيها من الكثيرة بحيث لم يكن من المستطاع السيطرة عليهم، فكانت المشاحنات كثيرة بين الطالب والطالب، وبين الطالب والأستاذ، وبين الطالب والشخص من أهل البلدة، وبين الراهب وغير الراهب. هذا في باريس، وفي أكسفورد كان ناقوس سانت ماري يدعو الطلاب، وناقوس سانت مارتن يدعو أهل البلدة، إلى حرب متقطعة بين بلدة وبلدة، وقد حدث شغب في أكسفورد (1928) وقعت فيه على الممتلكات أضرار قيمتها 3000 جنيه (150. 000 دولار) (20). وإصدار موظف في باريس (1269) أعلاناً ضد الطلاب الذين (يرتكبون بالنهار والليل فضائع تؤدي إلى إصابة الكثيرين بالجروح وإلى قتلهم، ويخطفون النساء، ويفسقون بالعذارى، ويسطون على البيوت)، ويرتكبون (مراراً وتكراراً حوادث السرقة وغيرها من الفظائع) (71). وربما كان طلاب أكسفورد اقل انهماكا في الشهوات الجنسية من طلبة باريس، ولكن حوادث القتل كانت كثيرة فيها، وتنفيذ العقاب في القاتل كان نادراً؛ فقلما كان القاتل يطارد إذا غادر البلدة، وكان الرجل في أكسفورد يرى أن حسب القاتل عقاباً له على جرمه أن يضطر إلى الانتقال إلى كيمبردج (72).
وإذ كان شرب الماء غير مأمون العاقبة وقتئذ، لان أوربا لم تكن قد(17/52)
عرفت الشاي، أو القهوة، أو الدخان، فان الطلاب كانوا يوفقون بين حاجتهم من جهة، وبين مطالب أرسطو والحجرات غير المدفأة من جهة أخرى، بالخمر والجعة. وكان من الأسباب الداعية إلى إنشاء (نقابات) الطلاب الاحتفال بالأعياد الدينية والجامعية بالشرب الكثير جهرة. وكانت كل خطوة في السنة المدرسية (مسموماً للطرب) يحيا بالشراب. وكان الطلاب في كثير من الحالات يقدمون هذه المرطبات لممتحنيهم. وكانت (الأمم) في العادة تنفق في الحانات كل ما بقى لديها من المال في آخر العام الدراسي. وكان لعب الكعوب تسلية أخرى للطلاب، وقد فرضت عقوبة الحرمان الديني على بعض الطلاب للعبهم بالكعوب على مذابح نتردام (73). أما في الأوقات الأكثر نظاماً فقد كان الطلاب يسلون أنفسهم بالكلاب، والصقور، والموسيقى، والرقص، والشطرنج، ورواية القصص، والسخرية من الطلبة الجدد. وكان هؤلاء الجدد يسمون ذوي المناقير الصفر، وكانوا يتخذون هدفاً للإساءة والسخرية، ويرغمون على إقامة وليمة لسادتهم الذين سبقوهم إلى الجامعة بعام؛ وكان الخروج على القانون يعاقب بالغرامات أو بإرغام الخارج على تقديم عدة جالونات من الخمر يشربها الجماعة. ولم يرد ذكر للجلد في تأييد طلاب الجامعات حتى القرن الخامس عشر وان كان كثيراً ما يلجأ إليه في المدارس العامة. وكان ولاة الأمور في الجامعة يفرضون على الطلاب زيادة على هذا العام أن يقسموا يميناً مغلظة بإطاعة جميع اللوائح، وكان من الإيمان المفروضة بجامعة باريس يميناً يتعهد الطالب بمقتضاها ألا ينتقم من الممتحنين الذين يسقطونه في الامتحان (74)، فكان التلاميذ يقسمون مسرعين وينقضون إيمانهم على مهل. لقد كان الحنث في الإيمان كثيراً لان الجحيم لم تكن ترغب رجال الدين المحدثين.
ومع هذا كله كان وقت الطلاب يتسع لسماع المحاضرات وكان منهم الكسالى، ومنهم من كان الفراغ احب إليه من الشهرة؛ فكان لذلك(17/53)
يفضلون مناهج القانون الكنسي الذي كانت دروسه تبدأ في الساعة الثالثة وتمكنهم من ان يواصلوا نومهم (75). وإذ كانت الساعة الثالثة بحساب ذلك الوقت هي الساعة التاسعة صباحاً، فانه يظهر من هذا انه معظم الفصول كانت تبدأ الدراسة بعيد الفجر؛ واكبر الظن إن ذلك كان في الساعة السابعة صباحاً وكانت السنة الدراسية في بداية القرن الثالث عشر تدوم أحد عشر شهراً، وقبل أن ينصرم القرن الرابع عشر كانت (العطلة الطويلة)، التي نشأت من الحاجة إلى أيدي الشباب في زمن الحصاد، تمتد من 28 يونيه إلى 25 أغسطس أو 15 سبتمبر، وفي جامعتي أكسفورد وباريس لم تكن عطلة عيد الميلاد وعيد الفصح تزيد على بضعة أيام قليلة، أما في جامعة بولونيا حيث كان الطلاب اكبر سناً واكثر غنى، ولعلهم كانوا أيضاً ابعد موطناً فقد كانت عطلة عيد الميلاد عشرة أيام وعطلة عيد الفصح أربعة عشر يوماً وكانوا يعطون واحداً وعشرون يوماً في الحفلات التي تسبق الصوم الكبير.
ويبدو أن لم تكن تعقد امتحانات في أثناء دراسة المناهج، ولكن كان هناك إلقاء ونقاش، وكان يمكن إقصاء العاجزين في خلال الدراسة. ثم نشأت حوالي منتصف القرن الثالث عشر عادة إلزام الطالب، بعد أن يمضي خمس سنين مقيماً في الجامعة للدراسة، أن يؤدي امتحاناً أولياً أمام لجنة من (أمته). وكان هذا يتضمن اولاً اختباراً خاصاً منفرداً- يشمل إجابات عن اسئلة، ويتضمن ثانياً مناقشة علنية يدافع الطلب فيها عن موضوع أو موضوعين، ويفند اعتراض المعترضين، ثم يختتم النقاش بتلخيص للنتائج وكان الذين يجتازون هذه الاختبارات الأولية بنجاح يسمون البكلارى Baccalarii أي الأتباع؛ وكان يسمح لهم أن يخدموا أستاذاً بوصفهم مدرسين مساعدين أو محاضرين (عاجلين). وكان في وسع التابع أن يواصل دراساته وهو مقيم ثلاث سنين أخرى، فإذا رأى أستاذه بعدئذ انه خليق بالتقدم إلى الامتحان قدم إلى ممتحنين يعينهم رئيس الجامعة.(17/54)
وكان ينتظر من الأساتذة ألا يقدموا طلاباً يتضح انهم غير مستعدين للامتحان ألا إذا كان هؤلاء الطلاب من ذوي الثراء أو المكانة الممتازة؛ وكان الامتحان في هذه الحالة يعد لكي يناسب مقدرة الطالب، أو كان يستغني عنه استغناءً تاماً (76). وكانت الصفات الخلقية من الموضوعات التي يشملها الامتحان؛ لذلك فان الجرائم الخلقية التي يرتكبها الطالب خلال السنين الأربع او السبع التي يقضيها في الجامعة قد تحول بينه ولين الحصول إلى الدرجة التي يريدها لان الدرجة كانت شهادة بالرقى والأخلاقي والاستعداد العقلي في وقت واحد. وحسبنا شاهداً على ذلك ان السبعة عشر الذين رسبوا من ثلاثة وأربعين تقدموا لامتحان جامعة فينا في عام 1449 رسبوا كلهم لنقص في اخلاقهم، ولم يرسب منهم واحد لعدم كفايته العقلية.
فإذا اجتاز هذا الامتحان العلني والأخير اصبح أستاذاً أو (دكتوراً) وحصل من تلقاء نفسه على إجازة مصدق عليها من السلطة الدينية ليدرس في أي مكان شاء في العالم المسيحي. وكان وهو (تابع) يدرس مكشوف الرأس، أما الآن وقد نال إجازته فقد كان يتوج بقلنسوة، ويقبله أستاذه ويباركه، ثم يجلسونه في كرسي الاستاذية، فيلقي محاضرة افتتاحية، او يعقد نقاشاً افتتاحياً؛ وكان هذا هو بداية عمله أستاذاً. وكان من مستلزمات هذا التخرج ان يدعو جميع أساتذة الجامعة أو كثرتهم إلى وليمة ويقدم لهم الهدايا، وبهذه الاحتفالات وغيرها ينضم إلى نقابة الأساتذة.
ومما يريح بالنا أن نقول أن التعليم في العصور الوسطى كان فيه من العيوب المتعبة بقدر ما في نظمنا التعليمية في الوقت الحاضر. فلم يكن يواصل الدراسة في الخمس السنين التي يتطلبها نيل البكالوريوس إلا قلة صغيرة من المقيدين في(17/55)
سجلات الجامعة. وكان افتراض ذوي الشأن أن جميع عقائد الكنيسة المقررة يلتزم بها المؤمنون بالدين مما يدعو عقول الطلاب للدعة لا للعمل. وكان البحث عن الحجج التي تثبت هذه العقائد، وإيراد الشواهد من الكتاب المقدس أو من أقوال آباء الكنيسة لتأييدها، وتفسير أقوال أرسطو بحيث تتفق معها، كان هذا كله يدرب العقول على التقسيم الشعري الدقيق اكثر مما يدرب الذهن على توخي الحقيقة والإذعان لما يمليه الضمير الحي. وفي وسعنا أن نسارع إلى أي أسلوب من أساليب الحياة ينسى مثل هذا التعسف في الإيمان بالفروض التي يقوم عليها هذا الأسلوب. وها نحن أولاء في هذه الأيام نترك الناس أحراراً يشكون في عقائدهم آبائهم الدينية، ولا نتركهم أحراراً يشكون في عقائدهم السياسية؛ وهاهو ذا الإلحاد السياسي يعاقب عليه بالحرمان الاجتماعي كما كان الإلحاد في الدين يعاقب عليه بالحرمان الديني في عصر الإيمان. والآن ورجل الشرطة يعمل جاهداً لكي يحل محل الله، فقد اصبح الارتياب في الدولة اشد خطورة من الارتياب في الكنيسة، ذلك انه ما من نظام عن تحدي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها.
وما من شك في أن انتقال المعارف والتدريب على معرفة اكثر انتشاراً واعظم قدراً فيما يبدو لنا مما كانا في العصور الوسطى، ولكننا لا يصح لنا أن نقول هذا القول نفسه عن التربية الخلقية. ولم تكن المقدرة العلمية مما تعوز خريج الجامعة في العصور الوسطى، فقد كانت تخرج في كل عام عدداً كبيراً من رجال الإدارة القادرين، ورجال القانون الذين أوجدوا الملكية الفرنسية، والفلاسفة الذين قادوا سفينة المسيحية في بحار العقل الصاخبة، والبابوات الذين أتوا من الجرأة ما جعلهم يفكرون تفكير أوربا الموحدة. ولقد شحذت المسيحية(17/56)
ذكاء الرجل الغربي، وخلقت لغة الفلسفة، ورفعت مكانة التعليم وهيبته، وقضت على فترة المراهقة الذهنية عند البرابرة الظافرين.
لقد انهارت كثير من أعمال العصور الوسطى أمام عجلة الزمن التي تدمر كل شيء في سبيلها، أما الجامعات التي خلفها لنا عصر الإيمان بكل ما فيها من عناصر التنظيم، فها هي ذي تكيف نفسها حسب التطورات التي لا مفر منها، وتخلع عن نفسها إهابها القديم لتحيا حياة جديدة، وتنتظر منا أن تعقد لواءها بلواء الحكومة.(17/57)
الباب الخامس والثلاثون
أبلار
1079 - 1142
الفصل الأول
الفلسفة القدسية
ليسمح لنا القارئ أن نخص أبلار بباب كامل، وليس حديثنا عنه في هذا الباب مقصوراً عليه بوصفه فيلسوفاً أو من أصحاب الفضل أو إنشاء جامعة باريس، أو شعلة ألهبت عقل أوربا اللاتينية في القرن الثاني عشر، بل سنتحدث عنه بوصفه هو وهلواز ممثلين لأخلاق عصرهما وآدابه، وأرقى واعظم ما يخلب اللب ويبهر العقل في ذلك العصر. كان مولد أبلار في قرية له باليه Le Pallet القريبة من نانت Nantes إحدى مدن بريطانيا. وكان أبوه المعروف لنا بأسم بيرنجر Bérenger، ولا شئ غير هذا، صاحب ضيعة متواضعة، وكان بمقدوره أن يهئ لأولاده الثلاثة ولابنته تعليماً حراً. وكان بيير Pierrc ( ولسنا نعرف اصل لقبه أبلار) أكبر أولئك الأبناء، وكان بمقدوره أن يطالب بحق الابن الأكبر في ميراث ابيه؛ ولكنه كان مولعاً بالدرس والتفكير الى حد جعله بعد أن كبر ينزل لأخويه عن حقه، وعن نصيبه في أملاك الأسرة، وشرع يطلب الفلسفة، ويلقى بنفسه في معركتها أينما حمى وطيسها، أو أينما وجد معلماً ذائع الصيت يدرسها. وكان اعظم ما اثر في حياته المستقبلية أن كان من أول(17/58)
أساتذته جان وسلان Jean Roscelin ( حوالي 1050 - حوالي 1120)، وهو رجل متمرد أنصب عليه كما أنصب على أبلار من بعده سخط الكنيسة وحرمانه من الدين.
وكان المنشأ الذي أثاره روسلان مسألة من مسائل المنطق الجاف الموغل في الجاف، والتي تبدوا ابعد المسائل كلها عن الأذى، وهي الوجود الموضوعي (للكليات). وكان (الكلي) في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى هو الفكرة العامة التي تدل على صنف من الأشياء (كالكتاب، والحجر، والكوكب، والرجل، والنوع الإنساني، والشعب الفرنسي، والكنيسة الكاثوليكية)؛ أو الأعمال (كالقسوة، والعدالة)؛ أو الصفات (كالجمال، والصدق). وكان إفلاطون، وهو العليم بسرعة زوال الكائنات والأشياء الفردية، قد قال بأن الكلي اكثر بقاء، وأنه لذلك اكثر حقيقة، من أي فرد من الصنف الذي يصفه: فالجمال اكثر حقيقة من فريني Phryne، والعدالة اكثر حقيقة من أرستيديز والرجل اكثر حقيقة من سقراط؛ وهذا هو الذي كانت العصور الوسطى تعبر عنه (بالواقعية). وخالف أرسطو هذا الرأي وقال أن (الكلي) ليس إلا فكرة يكونها العقل لتمثل صنفاً من الأشياء المتماثلة؛ فهو يرى أن الصنف نفسه لا يرى إلا فيصوره أعضائه التي يتركب هو منها. والناس في وقتنا هذا يتجادلون: هل يوجد (عقل جماعة) منفصلاً عن رغبات الأفراد الذين تتكون منهم هذه الجماعة وأفكارهم ومشاعرهم؟ فأما هيوم فقد قال أن (العقل) الفردي نفسه ليس إلا اسماً مجرداً من سلسلة الأحاسيس والأفكار، والإرادات التي في كائن حي ولمجموعها. ولم يكن اليونان يهتمون اهتماما كبيراً بهذه المسألة، واكتفى فيلسوف من آخر الفلاسفة الوثنيين -هو برفيري Prophyry ( حوالي 232 - حوالي 304) الذي أقام في الشام وفي روما - بصياغتها دون أن يعرف حلاً لها. لكن العصور الوسطى كانت تراها(17/59)
مأساة حيوية. فقد كانت الكنيسة تزعم أنها موجود روحي بالإضافة الى مجموع الأفراد المنضمين إليها؛ وكانت تشعر بأن (للكل) صفات وقوى غير صفات أجزاءه وقواها؛ ولم يكن في مقدورها أن تعترف بأنها فكرة مجردة، وأن الأفكار والعلاقات التي لا نهاية لها والتي يوحي بها لفظ (الكنيسة) ليست إلا أفكاراً ومشاعر في أعضاءها المكونين لها، بل أنها هي (عروس المسيح) الحية. وشر من هذا قولها: إذا كان الأشخاص، والأشياء، والأعمال، والأفكار المفردة، هي وحدها الموجودة فماذا يكون مصير الثالوث؟ هل تكون وحدة الأقاليم الثلاثة فكرة مجردة لا اكثر، أو هل هي ثلاثة آلهة منفصلة عن بعضها البعض؟ أن علينا أن نضع أنفسنا في الجو اللاهوتي المحيط بروسلان إذ شئنا أن نفهم ما حل به.
ولسنا نعرف آراءه إلا من أقوال معارضيه، فهم يقولون أنه يرى أن الكليات والأفكار العامة ليست إلا ألفاظاً ( voces) ، أي هواء الصوت ( flatus vocis) ؛ فأما الأشياء المفردة فموجودة، والأفراد المفردون موجودون، وأما كل ما عدا هذا فهو أسماء ( noméina) . وليست الأجناس، والأنواع، والصفات، وجود مستقبل؛ فالإنسان لا وجود له، بل الذين يوجدون هم الرجال، ولا وجود للون إلا في الأشياء الملونة. وما من شك في أن الكنيسة كانت تترك روسلان وشأنه لو لم يطبق هذه (الاسمية) على الثالوث. فقد نقل عنه أنه قال أن الله لفظ أطلق على أقانيم الثالوث الثلاثة، كما أطلق لفظ الإنسان على كثيرين من الرجال؛ ولكن كل ما له وجود حقاً هو الأقانيم الثلاثة- أي ثلاثة آلهة في واقع الأمر. وفي هذا اعتراف بالشرك الذي يتهم به الإسلام المسيحية اتهاما ضمنياً خمس مرات في اليوم من فوق ألف مأذنة (1). ولم تكن الكنيسة ترضى
_________
(1) قصد حين يقول المؤذن "لا إله إلا الله" ولكننا نرى في هذا اتهاماً للمسيحية بل تقريراً لركن من أركان الإسلام. (المترجم)(17/60)
بصدور هذه التعاليم من شخص هو قس من قساوسة كنيسة كمبيتي Compiégne. ودعى روسلا للمثول بين يدي مجمع ديني مقدس في سولسون (1092) وخير بين الرجوع عن أقواله والحرمان، فأختار الرجوع، وفر إلى إنجلترا وهاجم فيها عادة التسري عند رجال الدين؛ ثم عاد الى فرنسا ودرس في تور ولوش Loche. ويبدو أن هذه البلدة هي التي جلس فيها أبلار عند قدميه وهو نافد الصبر متململ (2). ورفض أبلار فكرة (الإسمية) ولكنه حرم من الدين مرتين لشكله في الثالوث. وخليق بالملاحظة أيضاً أن القرن الثاني عشر كان يسمى الواقعية (العقيلة القديمة) وأنه كان يسمى معارضيها الحديثين moderni. (3)
ودافع أنسلم (1033 - 1109) عن الكنيسة دفاعاً مجيداً في عدة مؤلفات يبدو أنها حركت عواطف أبلار، وكان لها فيه اثر عميق، وأن لم يكن هذا الأثر إلا المعارضة. وكان أنسلم من أبناء أسرة من أشراف إيطاليا؛ وعين رئيساً لدير بك Bec في نورمندية في عام 1078. وأضحى دير بك في أثناء حكمه، كما أضحى في أيام لافران Faanc مدرسة من اكبر المدارس التعليمية في الغرب، ولعل أنسلم كان، كما وصفه زميله الراهب إيدمر Eadmer في ترجمة له تنم عن تعلقه به، زاهداً ظريفاً لا يرغب بشيء سوى التفكير والصلاة، خرج من صومعته كارهاً ليحكم الدير ومدرسته. وكان الشك ابعد الأشياء عن رجل مثله، بل كان الإيمان عنده هو الحياة، و (يجب أن يسبق الإيمان؛ وكيف يستطيع عقل محدود أن يأتي عليه يوم يفهم فيه الله؟) وفي هذا يقول كما يقول أوغسطين: (لست أسعى للفهم لكي اعتقد، بل أني اعتقد لكي افهم)، ولكن تلاميذه طلبوا إليه حججاً يجادلون به الكفار؛ وكان هو نفسه يرى أن (من الاهمال، وقد تثبتنا في ديننا، إلا نعمل بفهم ما اعتقدنا) (4)؛ وكان(17/61)
شعاره هو الإيمان بطلب الفهم؛ وألف سلسلة من الكتب العظيمة الأثر بدأ بها الفلسفة المدرسية حين حاول أن يدافع عن الدين المسيحي دفاعاً قائماً على العقل.
ودافع في رسالة صغيرة تدعى (حديث للنفس) عن الوجود الموضعي للكليات فقال: أن آراءنا في الخير، والعدالة والحق، نسبية، ولا معنى لها إلا إذا قورنت بخير مطلق أو عدالة مطلقة، أو حق مطلق؛ وإذا لم يوجد هذا الحق المطلق فلن يكون لنا مقاس أكيد للحكم، وبذلك تصبح علومنا وأخلاقنا على السواء جوفاء عديمة الأساس. والله - وهو الخير المطلق، والعدل المطلق، والحق المطلق- هو هذا المطلق المنقذ، وهو الغرض الذي لا بد له في حياتنا. وكأنما أراد أنسلم أن يذهب بهذه الواقعية إلى ابعد مدى فأنتقل في كتابه Proslogion ( حوالي 1074) إلى برهانه الشهير المستمد من فن ما وراء المادة الذي أراد أن يثبت به وجود آلهة فقال: الله اكمل كائن يستطيع العقل أن يتصوره؛ ولكنه أن لم يكن إلا فكرة في رءوسنا، فأن ذلك ينقصه عنصراً من عناصر الكمال - وهو الوجود: وإذن فالله، وهو اكمل الكائنات، موجود. وكتب راهب متواضع، يدعى جونيلو Gaunilo، ويرمز لاسمه بلفظ الأبله Insipio - إلى أنسلم احتجاجاً يقول فيه أننا لا نستطيع أن ننتقل هذا الانتقال السحري من الإدراك إلى الوجود، وأن حجة لا تقل عن الحجة السابقة في قوتها يمكن أن تثبت وجود جزيرة تبلغ درجة الكمال، وأن تومس أكوناس يتفق في الرأي مع جونيلوه. ثم حاول أنسلم في مقالة رائعة ولكنها غير مقدمة اسماها (ابن الله الإنسان)، ويسأل لم كان هذا التجسد ضرورياً لقد كانت هناك فكرة يؤديها أميروز، والبابا ليو الأول وطائفة من آباء الكنيسة (6)، وتقوا أن آدم وحواء حين(17/62)
أكلا الفاكهة المحرمة قد باعا نفسهما وباعا كل نسلهما الى الشيطأن، وأن لا شيء يستطيع افتداء البشرية من الشيطان والجحيم إلا موت الله الذي اصبح إنساناً. وعرض أنسلم حجة أدق من هذه وابلغ فقال: أن عصيان أبوينا الأولين كان ذنباً غير محدود لأنه ذنب في حق كائن غير محدود، وأنه قلب النظام الخلقي للعالم كله، ولا شيء يمكن أن يوازن ويمحو ذلك الذنب غير المحدد إلا التكفير عنه تكفيراً غير محدود؛ ولا يستطيع تقديم هذه الكفارة الغير محدودة إلا كائن غير محدود؛ ومن اجل هذا صار الإله إنساناً لكي يعيد إلى العالم توازنه الأخلاقي.
ونمت واقعية أنسلم وتطورت على يد تلميذ من تلاميذ روسلان يدعى وليم الشابوكسي William of Chapeaux (1070؟ - 1121) . فقد بدأ وليم في عام 1103 يعلم الجدل في مدرسة كتدرائية نتردام بباريس. وإذا جاز لنا أن نصدق أبلار -الذي كانت براعته الحربية تحول دون براعته التاريخية- قلنا أن وليم ذهب إلى ابعد مما ذهب إليه أفلاطون، فكان أفلاطونياً اكثر من أفلاطون نفسه حين قال أن الكليات ليست حقائق موضوعية فحسب، بل أن الفرد تحوير عارضي للحقيقة الجنسية، ولا وجود له إلا باشتراكه في الكلى؛ وعلى هذا فالإنسانية هي الكائن الحقبي، الذي يدخل في سقراط، ويكسبه وجوده. وينقلون عن وليم أنه قال فضلاً عن هذا أن الكلى بأجمعه حاضر في كل فرد من صنفه، فالإنسانية كلها حاضرة في سقراط وفي الاسكندر.
والقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي (1103)، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره. وكان وسيم الخلق حسن القوام، بهي الطلعة (7). ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.(17/63)
وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته (بهجة) الفلسفة (المحببة) إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب هلواز.
وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة لإدراكية. وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود.(17/64)
ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون Melun أولاً ثم في كوربي Corbeil بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ (حانوته) بعد تدريب جد قصير؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه. وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث (طلب إليه) أن يستمر في إلقاء محاضراته؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد (مرض شديد). ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية، وبدأت مكانة وليم في الهبوط. وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار (1109؟)، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون، ثم فوق جبل سانت جفييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم، وببين طلابهما، حرب كلامية دامت عدة سنين، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة (الحديثة). وبينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه Pallet ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة. ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون، وأقام مدرسته، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها (8). وكان بمقدوره أن يتطلع إلى(17/65)
المناصب الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم (9)، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك Foulques رئيس أحد الأديرة يقول فيها:
بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم ... ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك. وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك (10).
وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية؟(17/66)
الفصل الثاني
هلواز
ويؤكد أبلار أن ظل حتى ذلك الوقت (مستعففاً إلى أقصى حدود الاستعفاف)، وأنه كان (حريصاً على الامتناع عن جميع ضروب الإفراط) (11). ولكن هلواز ابنة أخي فلبير Fulbert قس الكتدرائية كان لها من جمال الخلق والهيام بالعلم ما اثر كل ما كان كامنا في أبلار من حساسية مرهفة برجولته وإعجاب بعقليته. وفي خلال تلك السنين المحمومة التي كانت الحرب ناشبة فيها بين أبلار ووليم عن الكلى وغير الكلى شبت هلواز من الطفولة إلى الأنوثة المكتملة، يتيمة لم يبقى لأبويها اثر. وبعث بها عمها إلى دير في أرجنتي Argentuil لتقضي فيه عدداً كبيراً من السنين، فلما ذهب إليه هامت بما في مكتبته الصغيرة من الكتب هياما أصبحت معه أنبه راهبة في الدير. ولما عرف فلبير إنها تستطيع لتحدث باللاتينية بنفس الطلاقة التي تتكلم فيها الفرنسية، وأنها لم تكتف بهذا بل أخذت تتعلم العبرية (12)، ولما عرف هذا اعجب بها، وجاء لتعيش معه في بيته القريب من الكتدرائية.
وكانت في سن السادسة عشر حين اتصلت حياتها بحياة أبلار (1117)؛ وفي ظنها أنها سمعت به قبل ذلك الوقت بوقت طويل، وما من اشك أنها كانت قد أبصرت مئات الطلاب تغض بهم الأبهاء وقاعات المحاضرات، وقد جاءوا ليستمعوا اليه؛ ولعلها هي ذات الحماسة الذهنية القوية قد ذهبت خفية أو علناً لترى وتسمع معبود علماء باريس ومثلهم الأعلى. وفي وسعنا أن نتصور حياءها وارتياعها حين اخبرها فلبير أن أبلار سيسكن معهما ويصبح معلمها(17/67)
الخاص. وهاهو ذا الفيلسوف نفسه يفسر لنا أصرح تفسير كيف حدث هذا:
(وكانت هذه الفتاة الصغيرة هي التي ... اعتزمت أن ارتبط بها برباط الحب. والحق أن هذا العمل من أسهل الأمور. فها هو ذا أسمى على كل لسأن، ولى من مزايا الشباب والجمال ما لا أخشى معه أن ترفضني امرأة، أيا كان شأنها، أتعطف عليها بحبي ... وهكذا شرعت، وقلبي ملتهب بحب هذه الفتاة، ابحث عن الوسائل التي تمكنني من أن أتحدث إليها في كل يوم حديث المودة الخالية من الكلفة، حتى يسهل علي بذلك أن أحظى بموافقتها. ومن اجل هذا أقنعت عم الفتاة ... أن يأويني في بيته ... نظير اجر قليل أؤديه له ... وكان هو رجلاً بخيلاً حريصاً على المال و ... اعتقد أن ابنه أخيه ستفيد كثيراً من تعليمي ... ولقد ذهلت من سذاجة الرجل، ولو أنه عهد بحمل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت اشد من ذلك دهشة وذهولاً ...
(ولم أطيل القول؟ واجتمعنا أولاً في المسكن الذي أظل حبنا، ثم في القلبين اللذين كانا يحترقان من جنبينا. وقضينا الساعات الطوال ننعم بسعادة الحب متسترين بستار الدرس ... وكانت قبلاتنا يزيد عديدها على كلماتنا المنطقية، وكانت أيدينا اقل بحثاً عن الكتاب منها عن صدرينا، وكان الحب يجذب عيني كل منا إلى الآخر (13)).
وهكذا أحالت رقة هلواز العاطفة التي بدأت رغبة جسمية بسيطة (حناناً أذكى من عرف الطبيب). وكانت هذه تجربة جديدة في حياته لهته عن الفلسفة، فقد استعار من محاضراته وجداً وهياما لحبه، فأضحت هذه المحاضرات مملة على خلاف عاداتها. وأسف طلابه لما أصاب الجدلي المنطيق، ولكنهم رحبوا بالعاشق، وسرهم أن يعرفوا سقراط نفسه يمكن أن يأثم، وعزوا أنفسهم فقدوه من الحجج الدامغة بترديد أغاني الحب التي بدأ يؤلفها؛ وكانت هلواز(17/68)
تسمع من نافذة بيتها أغاني افتتانه بها تتردد أصداؤها الصاخبة على ألسنة تلاميذه (14).
ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى أبلغته أنها حامل، فما كان منه إلا أن اختطفها من بيت عمها وأرسلها إلى بيت أخته في بريطاني (15). ودفعه الخوف من جهة والرحمة من جهة أخرى فعرض على عمها الغاضب الحانق أن يتزوجها بشرط أن يسنح له فلبير بأن يظل أمر الزواج سراً. ووافق القس على هذا، وسافر أبلار إلى بريطانيا ليحضر عروسه الرقيقة القلب الغير راضية بالزواج. وكان عمر ابنهما أسطرلاب Astorlabe ثلاثة أيام حين اقبل هو على والدته. وظلت هلواز زمناً طويلاً ترفض الزواج به. ذلك أن إصلاحات ليو التاسع وجريجورى السابع كانت منذ جيل من الزمان قد حرمت مناصب القسيسين على المتزوجين إلا إذا ترهبت الزوجة، ولم تكن هلواز مستعدة لأن تفارق رفيقها وابنها على هذا النحو، وعرضت عليه أن تبقى عشيقته بحجة أن هذه العلاقة، إذا ظلت سراً يخفى عن الناس بحكمة، لن تحول بينه وبين الرقى في مناصب الكنيسة كما يحول الزواج (16). وقد أورد أبلار في كتابه تاريخ مصائي (الفصل السابع) فقرة طويلة يعزو فيها إلى هلواز في هذا الظرف ثبتاً طويلاً من المراجع والأمثلة المعارضة لزواج الفلاسفة، وحججاً فصيحة قوية في الاعتراض على (حرمان الكنيسة من ضوئه البراق): (تذكر أن سقراط قد تزوج، وكيف طهرت الفلسفة من هذا العار الذي دنسها تطهيراً خسيساً حتى يكون كثيراً أن تسمى عشيقتي من أن يعرف الناس أنها زوجتي، بل أن هذا يكون أيضاً اشرف لي) (17). ولكنه أقنعها بأن وعدها ألا يعرف الزواج إلا عدد قليل من أوثق الناس صلة بهما.(17/69)
وتركا اسطرلاب مع أخت أبلار وعادا لى باريس وتزوجا بحضور فلبير. وأراد أبلار أن يحتفظ بسرية الزواج فعاد إلى حيث كان يسكن وهو أعزب، وعادت هلواز الى السكنى مع عنها، ولم يكن كلا الحبيبين يرى الآخر إلا نادراً وخلسة. ولكن فلبير، في حرصه على أن يسترد مكانته، اخلف الوعد الذي قطعه لأبلار وأذاع السر؛ وأنكرته هلواز، (وأنزل بها فلبير العقاب بعد العقاب). فما كان من أبلار إلا أن فر بها مرة ثأنية، وبعث بها هذه المرة على كره منها شديد، إلى دير أرجنتى، وأمرها أن ترتدي ثياب الراهبات، وألا تقسم اليمين أو تلبس القاب. ويقول أبلار أنه لما سمع فلبير وأقاربه بهذا (أيقنوا أنني قد غدرت بهم اشد الغدر، وتخلصت إلى أبد الدهر من هلواز إذ أرغمتها على أن تترهب. فاستشاطوا من هذه غضباً ودبروا مؤامرة على؛ وبينما كنت نائماً ذات ليلة ... في حجرة سرية بمسكني، إذا اقتحموا على بمعونة خادم من خدمي قدموا له رشوة، وانتقموا مني انتقاما شنيعاً يجللهم العار ... لأنهم بتروا أعضاء جسمي التي فعلت بها ما كان سبباً في حزنهم. ولاذوا بالفرار بعد أن فعلوا فعلتهم، ولكن اثنين منهم قُبض عليهما وفقدا أعينهما وأعضاء تناسلهما) (18).
ولم يكن في وسع أعدائه أن يختاروا له عقاباً أدل على مكرهم من هذا العقاب. نعم أنه لم يحط من منزلته لساعته، فأن باريس كلها بمن فيها من رجال الدين عطفت عليه (19). واقبل عليه طلابه يواسونه، وأنكمش فلبير واختفى وجر عليه النسيان ذيوله، وصار الأسقف أملاكه. ولكن أبلار أدرك أن قد قضى عليه، وأن (قصة هذا الاعتداء الشنيع حتى تبلغ أطراف الأرض). ولم يعد يستطيع التفكير في الرقى في مناصب الكنيسة، وأحس أن سمعته الطيبة قد(17/70)
"محيت من الوجود محواً تاما"، وأنه سيكون مضغة في أفواه الأجيال المقبلة. وشعر بأن في سقوطه هذا قسطاً من العدالة الطبيعية غير الشعرية، فقد أجتث من لحمه ذلك الجزء الذي أذنب، وغدر به نفس الرجل الذي غدر هو به من قبل. وأمر هلواز أن تلبس النقاب وتترهب، وذهب هو إلى دير القديس دنيس وأقسم يمين الرهينة (1).
_________
(1) اقرأ قصة هلواز وأبلار مفصلة في الجزء الأول من كتابنا: "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم).(17/71)
الفصل الثالث
صاحب النزعة العقلية
وعاد إلى محاضراته بعد عام من ذلك الوقت (1120) مستجيباً لإلحاح طلابه ورئيس ديره، وأخذ يلقيها في (صومعة) في شعبة دير ميزنل Maisoncelle. ونظن أننا نجد في كتبه أهم ما كان يحتويه منهج محاضراته. على أن هذه المحاضرات قد ألفها وهو قلق مضطرب على دفعات متقطعة، لا نستطيع أن نحدد تواريخها. وقد راجعها في سنيه الأخيرة حين تحطمن روحه، ولسنا ندري مقدار ما تحطم من حرارة الشباب بفعل الزمن. ولأبلار أربعة كتب صغرى في المنطق تدور كلها حول مسألة الكليات. ولا حاجة لنا إلى أن نوقفها من رقادها، لكن كتابة الجدل رسالة تقع في 375 صفحة في المنطق بمعناه عند أرسطو: فهي تحليل عقلي لأجزاء الكلام وأدوات التفكير (المادة، والكم، والمكان، والموضع، والزمن، والعلاقة، والصفة، والملكية والعقل، (والعاطفة)) وأشكال القضايا المنطقية، وقواعد الاستدلال. وكان من واجب عقل أوربا الغربية بعد أن استيقظ من سباته أن يوضح لنفسه هذه الأفكار الأساسية كما يفعل الطفل حين يتعلم القراءة. وكان الجدل أهم ما تعني به الفلسفة في أيام أبلار، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلسفة الجديدة قد تفرعت من أرسطو عن طريق بوئيثيوس Boethius وبرفيري. ولم يكن الجيل الأول من أصحاب الفلسفة المدرسية يعرف إلا رسائل أرسطو المنطقية (وحتى هذه الرسائل لم تكن كلها معروفة له). ولهذا لم يكن كتاب أبلار في الجدل كتاباً ممتعاً خلاياً. ولكننا نسمع في صفحاته التي تعنى بالشكل قبل كل شيء إلى طلقة أو طلقتين من تلك المناوشات الأولى في الحرب التي قامت بين الدين والعقل ودامت مائتي عام.(17/72)
وكيف نستطيع ونحن في عصر أخذ يشك في العقل نفسه، أن ندرك لألاء ذلك العهد الذي بدأ في التو يكشف (سر المعرفة العظيم؟) (20). ويقول أبلار أن الحق لا يمكن أن يناقض الحق، وأن حقائق الكتاب المقدس يجب أن تنفق مع مكتشفات العقل، وإلا لكان الله الذي وهبنا هذه وتلك يخدعنا بإحداهما (21).
ولعله قد كتب في عهد الباكر -قبل مأساته- كتابه حوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي. وفيه يقول: "أن ثلاثة رجال أقبلوا عليه (في رؤيا أثناء الليل) وسألوه بوصفه أستاذاً ذائع الصيت، أن يفصل في نزاع قائم بينهم. وقالوا أنهم كلهم يؤمنون بالله، وأن أثنين منهم يقبلان ما جاء بالكتب العبرية المقدسة، أما الفيلسوف فيرفضها، ويقترح أن يقيم حياته ومبادئه الأخلاقية على أساس العقل والقانون الطبيعي. ويرد عليهم الفيلسوف بقوله أن من أسخف السخف أن نستمسك بعقائد الطفولة. وأن نشارك الغوغاء في أباطيلهم، وأن نزج في الجحيم من لا يقبلون هذه السخافات التي لا تفترق في شيء عن عبث الأطفال! ". ويختتم قوله اختتاما غير فلسفي فيرمي اليهود بالبلاهة والمسيحيين بالجنون. ويرد عليه اليهودي بقوله أن الناس لا يستطيعون الحياة بغير القوأنين؛ وأن الله قد فعل ما يفعله الملك الصالح فأنزل على الناس دستورياً للأخلاق الفاضلة، وأن تعاليم التوراة هي التي أبقت على شجاعة اليهود وأخلاقهم خلال ما أصابهم من التشتت والمآسي التي دامت قروناً طوالا. فيسأله الفيلسوف: وكيف إذن عاش آباؤكم هذه المعيشة النبيلة قبل أن يرسل موسى وشرائعه بزمن طويل؟ - وكيف تؤمنون بوحي بعدكم بالنعيم في الدنيا، ومع هذا فقد ترككم تقاسون آلام الفاقة والبؤس؟ ويقبل المسيحي كثيراً مما قاله الفيلسوف واليهودي، ولكنه يقول أن المسيحية قد نمت وأكملت شريعة الفيلسوف الطبيعية وشريعة اليهودي الموسوية؛ وأنها قد سمت بمثل الإنسانية العليا إلى درجة لم تسم إليها قط من قبل؛ فلا(17/73)
الفلسفة ولا اليهودية، كما جاءت في الكتب المقدسة، قد وهبت الإنسان سعادة سرمدية؛ أما المسيحية فتهب الإنسان القلق المعذب، هذا الأمل في السعادة، وهي لهذا عظيمة القيمة إلى أبعد حد. ألا أن هذا الحوار الذي لم ينته إلى غاية لهو ثمرة رائعة من نتائج قس في كتدرائية بباريس عام 1120.
وقد وَجَدت حرية في النقاش شبيهة بهذه الحرية نفسها منفذاً لها في كتاب آخر لأبلار بعد أشهر كتبه على الإطلاق، وهو كتاب نعم ولا sic et non (1120) . ونجد أول ذكر لهذا الكتاب في رسالة كتبها رجل من سانت تييري St. Tierry يدعى William إلى القديس برنار (1140) يصف فيها ذلك الكتاب بأنه كتاب مريب يوزع سراً بين تلاميذ أبلار والمتشيعين له (23). ثم اختفى هذا الكتاب بعدئذ من التاريخ حتى عام 1836 حين كشف فكتور كوزن Victor Cousin المخطوط بمكتبة في أفرانش Avranche. وما من شك في أن شكل الكتاب نفسه قد أحزن هذا الأسقف؛ ذلك أنه يبدأ بمقدمة تنم عن التقى والصلاح، ثم ينقسم إلى 157 سؤالاً تشمل أهم العقائد الأساسية للدين؛ وقد وضع في عمودين متقابلين تحت كل سؤال طائفتان من الأقوال إحداهما نؤيد الرد الإيجابي والأخرى تؤدي الرد السلبي، وكلتاهما مقتبسة من الكتاب المقدس، أو من كتب آباء الكنسية، أو من الآداب اليونانية الرومانية القديمة، بل أن بعضها مقتبس من فن الحب لأوفد. وقد يكون القصد من تأليف هذا الكتاب هو أن يكون مراجع يلجأ إليها في النقاش المدرس، ولكن مقدمته تنتقص من قيمة الاعتماد على آباء الكنيسة - سواء أراد الكتاب ذلك أو لم يرده- لأنها تظهر ما بينهم من التناقض، بل أنها لتظهر تناقض كل منهم لنفسه. ولم يشك أبلار في قيمة الكتاب المقدس بوصفه مرجعاً دينياً، ولكنه يقول أن لغته قد كتبت لغير المتعلمين، وأنها يجب تفسيرها(17/74)
بالرجوع إلى العقل والمنطق. غير أن النص المقدس قد فد في بعض الأحيان لما أضيف إليه زوراً، أو لعدم العناية بالنسخ؛ ولهذا فإذا ناقضت نصوص الكتاب المقدس أو كتب آباء الكنيسة بعضها بعضاً، وجب أن نحاول التوفيق بين النصوص المتناقضة بالاعتماد على العقل. وكتب في نفس كلمة الافتتاح عبارة أستبق بها شكوك ديكارت بأربعمائة عام فقال: "أن أول مفاتيح الحكمة هو المثابرة على الأسئلة وتكرارها ... لأن الشك يؤدي بنا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى النتيجة" (24). ويقول أن عيسى نفسه حين واجه العلماء في المعبد أمطرهم وابلاً من الأسئلة. ويكاد الحوار الأول في الكتاب يكون إعلاناً لاستقلال الفلسفة: "يجب أن يكون أساس الإيمان في عقل الإنسان وفي القضايا المتناقضة". وهو ينقل أقوالاً عن أمبروز، وأغسطين، وجر بحوري الأول، تؤيد الإيمان، ويستشهد بأقوال من هيلاري Hilary، وجيروم، وأوغسطين، على أن من الخير أن يستطيع الإنسان أن يثبت دينه بالاعتماد على العقل. ويكرر أبلار استمساكه بأصول الدين، ولكنه يعرض للجدل مسائل مثل: الإرادة الإلهية، والإرادة الحرة، ووجود الخطيئة والشرف في عالم خلقه إله خيّر قادر على كل شيء، واحتمال أن يكون الله غير قادر على كل شيء. وما من شكل في أن استدلاله الحر في هذه المسائل قد زلزل إيمان الطلاب الشبان المولعين بالجدل. على أن هذه الطريقة - طريقة التعليم بالبحث الحر إلى أقصى حدود الحرية- أضحت هي الخطية المألوفة المتبعة في الجامعات الفرنسية وفي الكتابات الفلسفية والدينية؛ وأكبر الظن أنها قد سلكت هذه السبيل بفضل المثل الذي ضربه لها أبلار (25). وسنرى القديس تومس يتبعها دون أن يخشى شيئاً ودون أن يوجه إليه لوم، وهكذا وجدت النزعة العقلية مكاناً لها في مستهل عهد الفلسفة المدرسية.
وإذا كان كتابه نعم ولا لم يغضب إلا عدداً قليلاً من الناس لأنه لم يوزع منه إلا عدد قليل من النسخ، فأن ما حوله أبلار من تحكيم العقل في(17/75)
موضوع التثليث - وهو الموضوع الشديد الغموض- لم يكن له ذلك الأثر الضيق الذي كان لهذا الكتاب، ولم يكن ارتياع الناس له محصوراً في القليل منهم؛ وذلك لأنه كان موضوع محاضراته التي ألقاها في عام 1120، وموضوع كتابه في وحدة الإله والتثليث. وقد كتب هذا الكتاب، كما يقول هو نفسه: (لطلابي لأنهم كانوا على الدوام يبحثون عن العقول وعن الشروح الفلسفية، ويسألون عما يستطيعون فهمه من الأسباب لا عن الألفاظ دون غيرها، ويقولون أن من العبث أن نعلق بألفاظ لا يستطيع النقل تتبعها، وأنه لا شيء يمكن تصديقه إلا إذا أمكن فهمه أولاً، وأن من أسخف الأشياء أن يعظ إنسان غيره بشيء لا يستطيع هو نفسه أن يفهمه ولا يستطيع من يسعى لتعليمهم أن يفهموه (26) " وهو يقول أن هذا الكتاب (أنتشر انتشاراً واسعاً جداً) وأن الناس أعجبوا بما فيه من دقة. وقد أشار فيه إلى أن وحدة الله هي النقطة الوحيدة التي يتفق فيها أعظم الأديان وأعظم الفلاسفة. ففي الله الواحد الأحد تشهد قدرته بوصفه الأقنوم الأول، وحكمته بوصفه الأقنوم الثاني، ونعمته، وإحسانه، وحبه بوصفها الأقنوم الثالث. وهذه كلها نواح أو أعراض من الجوهر القدسي؛ ولكن جميع أفعال الله تتضمن وتجمع في الوقت عينه قدرته، وحكمته، وحبه (22). وقد شعر كثيرون من رجال الدين بأن هذا التشبيه مما يمكن التجاوز عنه والسماح به؛ ورفض أسقف باريس ما طلبه إليه روسلان -وكان قد أصبح وقتئذ شيخاً طاعناً في السن مستمسكاً بالدين- أن يتهم أبلار بالكفر؛ ودافع جيفروي Geoffroy أسقف شارتر عن أبلار طوال فترة السخط الذي حل بهذا الفيلسوف المستهتر. ولكن ألبريك Alberic ولوتلف، وهما مدرسان في ريمس كانا قد تنازعاً مع أبلار في لامون عام 1113، حرصاً كبير الأساقفة على أن يأمره بالمجيء إلى سواسون ومعه كتابه عن التثليث، وأن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد. فلما قدم أبلار إلى سواسون (1121) وجد أن الغوغاء قد أثيروا عليه، وأنهم(17/76)
"يوشكون أن يرجموني بالحجارة ... لاعتقادهم أني قلت بوجود آلهة ثلاثة" (28). وطلب أسقف شارتر أن يستمع المجلس إلى دفاع أبلار عن نفسه، ولكن ألبريك وغيره رفضوا طلبه بحجة أن أحداً لا يستطيع أن يدحض حجج أبلار ولا يسعه إلا أن يقتنع بأقواله. وأدانه المجلس من غير أن يستمع إليه، وأرغمه على أن يلقي كتابه في الدار، وأمر رئيس دير القديس Medrad أن يجزه في الدير سنة كاملة، ولكن مرسوماً بابويا أفرج عنه بعد وقت قصير، وأعاده إلى دير القديس دنيس.
وقضى أبلار في الدير سنة في شجار دائم مع رهبانه المشاكسين، ثم حصل بعد ذلك من رئيس الدير الجديد سوجر Suger العظيم على إذن بأن يبنى لنفسه صومعة في بقعة منعزلة في منتصف المسافة بين فونتينبلو Fontainebleau وتروى (1122)، وهناك أقام بمعونة رفيق في الدرجات الدنيا من الرهبة مصلى صغيرة من القش والغاب سماها (الثالوث المقدس). ولما سمع الطلاب أنه قد أجيز له مرة أخرى أن يدرس أقبلوا عليه، وجعلوا من أنفسهم مدرسة عاجلة مرتجلة، وبنوا أكواخاً بجوار المصلى، وناموا على القش والبوص، وطمعوا (الخبر الخشن وأعشاب الحقول (29). وظهر في هذا المكان تعطش للعلم ما لبث أن أوجد الجامعات وملأها بالطلاب. والحق أن العصور المظلمة أضحت في هذا المكان وكأنها كابوس أوشك أن يدرج في طيات النسيان. وأخذ الطلاب، في نظير ما يلقيه من المحاضرات، يحرثون الأرض، ويقيمون الأبنية، وأنشئوا له مصلى جديدة من الخشب والحجارة سماها الروح المقدس، كأنه يريد أن يقول أن حب مريديه قد نزل عليه نزول الروح القدس في اللحظة التي فر فيها من المجتمع إلى العزلة واليأس.
ولم تكن الثلاث السنين التي قضاها في ذلك المكان أقل سعادة من أية سنين عرفها من قبل. وأكبر الظن أن المحاضرات التي ألقاها على هؤلاء(17/77)
الطلاب المشوقين قد أحتفظ بها وأعيدت صياغتها في كتابين يسمى أحدهما الدين المسيحي Theologia Christiana ويسمى الثاني الدين Theologia لاغير. وكانت العقائد الواردة في الكتابين مطابقة للدين القويم، ولكن العصر الذي كان حتى ذلك الوقت غريباً عن معظم آراء الفلسفة اليونانية قد راعه بعض الشيء أن يجد في الكتابين إشارات إلى المفكرين الوثنين مصحوبة بالثناء عليهم، كما وجد فيها ما يشير الى أفلاطون أيضاً قد استمتع الى حد ما لإلهام الإلهي (30). ولم يكن في وسع أبلار أن يعتقد أن جميع هذه العقول العظيمة الفذة السابقة للمسيح قد فاتتها أسباب النجاة (31)، وأصر على أن الله يفيض حبه على جميع الناس، وفيهم اليهود والكفار (32)، وعاد أبلار في غير ندم يدافع عن تحكيم العقل في أمور الدين، وقال أن الملحدين يجب أن يردوا عن إلحادهم بالعقل والمنطق لا بالعنف (33)، وأن الذين يوصون بالإيمان بلا فهم إنما يسعون في كثير من الأحيان لستر عجزهم عن أن يعلموا الدين تعليماً يدركه العقل (34)، وتلك شوكة نفذت من غير شك في جلود بعض الناس؟ فقد يبدو أن أبلار حين يحاول تفسير الدين المسيحي تفسيراً ينطبق على العقل والمنطق، لم يجرؤ على أكثر مما حاوله الإسكندر الهاليسي Alexander of Hales، وألبرتس مجنس، وتومس أكوناس من بعده؛ ولكن أبلار حاول أن يدخل أكثر عقائد الكنيسة خفاء وأعمقها غوراً في قبضة العقل، على حين أن تومس رغم شجاعته وجرأته ترك مسألة التثليث، وخلق العالم في زمن محدد، لإيمان بعيد عن متناول العقل، وفوق إدراكه.
وخلقت له جرأته على هذا التفكير وحدة ذهنه المتجددة أعداء جدداً. فقد كتب يشير في أغلب الظن إلى برنار الكلير فوكسي Bernard of Clairvaux ونوربرت Norbert مؤسس طائفة البريمنستر أتنسيين يقول:
يهرول بعض الرسل الجدد، الذين يثق العالم فيهم أعظم الثقة، هنا وهناك ...(17/78)
ينهشون عرضي دون حياء، ولا يتركون لذلك سبيلاً إلا سلكوها، حتى أفلحوا على مر الزمن في أن يجعلوني هدفاً لسخرية الكثيرين من ذوي السلطان ... ويشهد الله أنني كلما علمت بأن اجتماعاً جديداً لرجال الدين قد دعى إلى الانعقاد، اعتقدت أنهم لم يدعوا إلا لغرض واحد صريح هو إدانتي (35).
ولعه أراد أن يكسب أولئك الناقدين، فترك التدريس وقبل دعوة وجهت إليه بأن يكون رئيس دير القديس جلداس في بريطاني (1125؟)، ولكن أرجح من هذا أن سوجر هو الذي نظم بدهائه وحكمته هذه النقلة مؤملاً بهذا أن تسكن العاصفة. وكان هذا الانتقال ترقية لأبلار وسجن له في وقت واحد، فقد ألفى الفيلسوف نفسه وسط سكان من (البرابرة) الذين (لا يفهمون)، وبين رهبان "أدنياء لا يُرَوَّضون" يعيشون جهرة مع حظياتهم (36). ونفر أولئك الرهبان من إصلاحاته فدسوا إله السم في الكأس التي كان يشرب منها وقت العشاء الرباني، فلما خاب تدبيرهم هذا رشوا خادمة بأن يدس له السم في الطعام؛ ولكن راهباً غير تناول الطعام "وخر صريعاً من فوره" (37)؛ غير أن مرجعنا الوحيد في هذه الأقوال هو أبلار وحده. وأستبسل أبلار في النضال في هذه المعركة لأنه بقى في هذا المكان المنعزل إحدى عشرة سنة تتخللها بعض فترات كان في أثنائها بعيداً عنه.(17/79)
الفصل الرابع
رسائل هلواز
ومرت به فترة من السعادة المعتدلة حين قرر سوجر أن يستخدم البيت الذي في أرجنتي لأغراض أخرى غير الدير. وكانت هلواز مذ افترقت عن أبلار قد عكفت في هذا البيت على أداء الواجبات التي تفرضها عليها حياة الرهبنة حتى عينت رئيس الدير و (علت مكانتها عند الجميع ... فأحبها الأساقفة حب الآباء للأبناء، وأحلها رؤساء الأديرة حب الأخوة للأخوات، وأحبها غير رجال الدين كما يجب الأبناء الأمهات). ولما علم أبلار أن هلواز ومن معها من الراهبات يبحثن عن مكان لهن جديد، عرض عليهن مصلى (الروح القدس) ومبأنيها؛ وذهب بنفسه ليساعدهن على تنظيم إقامتهن في مقرهن الجديد. وكثيراً ما كان يزورهن ليعظهن ويعظ القرويين أقاموا بالقرب منهن. وهمس النمامون "أنني لا زالت تسيطر عليّ مباهج الحب الأرضي، وأنا الذي لم أكن أطيق في الأيام الخالية أن أفارق من امتلئ قلبي بحبها" (38).
وكانت هذه الفترة المضطربة التي قضاها رئيساً لدير القديس جلداس هي التي كتب فيها سيرته (تاريخ مصائبي) (1132). ولسنا نعرف الباعث له على كتابة هذه السيرة، فهي تتخذ شكل مقالة يواسى بها صديقاً يشكو بؤسه، "حتى إذا وازنت أحزانك بأحزاني، رأيت أن أولاهما ليست إلى جانب الثانية التي تستحق الذكر"؛ ولكن يبدو أن هذه السيرة كان يقصد بها أن يطلع عليها العالم، وأن تكون اعترافاً أخلاقياً، ودفاعاً دينياً. وتقول رواية قديمة، ولكنها مما لا يمكن تحقيقه، أن نسخة من الكتاب وصلت إلى يد هلواز، وإنها ردت عليه هذا الرد العجيب:(17/80)
"إلى سيدها، بل أبيها، إلى زوجها، بل أخيها: من خادمته، بل أبنته، عن زوجته، بل أخته: إلى أبلار، من هلواز:
"لقد جيء إلى مصادفة منذ زمن بخطابك الذي كتبته يا حبيبي تعزية إلى صديق ... وقد حوى أشياء لا يستطيع أحد أن يطلع عليها دون أن تفيض عيناه بالدمع لأنها تجدد أحزاني كاملة ... فباسم الله الذي لا يزال يرعاك ... باسم المسيح، ونحن خادماته وخادمتك، نستحلفك أن تتفضل فتخبرنا في رسائل منك متتابعة عن المصائب التي لازالت تتقاذفك حتى نشاركك على الأقل في أحزانك ومسراتك، نحن الذين بقينا على الدوام أوفياء لك ...
"أنك لتعرف يا أعز الناس علي - وأن الناس كلهم ليعرفون- ماذا خسرت بفقدك ... لقد بدلت ثيابي وقلبي طوعاً لأمرك، كي أظهر لك أنك مالك جسمي وعقلي ... ولم أكن أتطلع إلى عهد الزواج، أو إلى مهر تمهرني به ... وإذا كان أسم الزوجة يبدو أكثر قداسة وأقوى رابطة، فأن أحب إلي، أسم الصديقة منه وأعذب على الدوام؛ أو، إذا لك يكن في هذا ما تستحي منه، أسم العشيقة أو العاهرة ... وأني لأشهد لله لو أن أغسطس الذي حكم العالم كله رأى أني خليفة بأن يكون لي شرف الزواج به، وأن يملكني العالم بأسره أحكمه حكماً يدوم أبد الدهر، لكان قولهم أني مومسك أحب إلى من قولهم أني إمبراطورته ... "وهل بين الملوك أو الفلاسفة من يضارعك في شهرتك؟ وأية مملكة أو مدينة أو قرية لم تتحرق شوقاً لرؤيتك؟ ومن من الناس لم يستحث الخطى لينظر إليك، حين تبدو أمام الجماهير؟ ... وأية زوجة، وأية عذراء، لم تتلهف عليك وأنت غائب، أو تتحرق شوقاً إليك وأنت حاضرة؟ وأية ملكة أو سيدة ذات سلطان لم تحدني على مباهجي وفراشي؟ ...
"هلا حدثتني عن شيء واحد أن استطعت: لم أهملتني ونسيتني، بعد أن سلكت سبيل الحياة الدينية التي كنت أنت دون غيرك الآمر بها، فلم أحظ بعدئذ(17/81)
بكلمة منك أو نظر إليك تبتهج بها نفسي، أو رسالة منك في غيبتك يرتاح لها قلبي؟ ألا فحدثني عن شيء واحد لا أكثر أن استطعت، أو دعني أفض إليك بما أحس به، بل ما يظنه الناس جميعاً: أن الشهوة الجنسية لا الحب هي التي وثقت الصلة بيني وبينك ... فلما أن نلت ما تبغيه، زال من فوره كل ما كنت تتظاهر به ... ليس هذا يا أحب الناس إلى هو أظنه أنا وحدي، بل ما يظنه الناس جميعاً ... وكم كنت أتمنى أن يكون هذا لى دون غيري، وأن يجد حبك من يبرره غيري فخف بذلك بعض الشيء لواعج أحزاني.
"أتوسل إليك أن تستمع لما أطلبه إليك ... في الوقت الذي أخادع نفسي في بوجودك معي في ألفاظك المكتوبة على الأقل - وهي ألفاظ لديك منها الشيء الكثير- أهد إلى صورتك الحلوة ... فأنا أستحق منك أكثر منها ... بعد أن فعلت من أجلك كل ما يمكن فعله ... أما التي غويت حياة الدير الخشنة في سن الشباب ... لا عن تقي وحب الدين بل إطاعة لأمرك لا لشيء سواء ... ولست أنتظر ثواباً من الله على هذا العمل، لأني لم أعمال شيئاً لوجه الله كما تعرف ذلك حق المعرفة ... ولذلك أستحلفك باسم الذي وهبت له نفسك، وأتوسل إليك أما الله أن تعيد إلي وجودك بأية سبيل في إستطاعتك، ولو بكلمة منك تخفف عن آلامي ... وداعاً يا كل من أحب" (39).
لكن أبلار كان عاجزاً عجزاً جسمياً عن أن يستجيب إلى هذه العواطف الجياشة بعواطف من نوعها، ولهذا كانت الرسالة التي تعزوها إليه الرواية المتواترة تذكيراً لها بالنذر الديني الذي نذر له نفسه: "إلى هلواز أخته العزيزة في المسيح، من أبلار أخيها في المسيح نفسه"؛ وهو يوصيها بأن تقبل ما حل بهما من مصائب خاضعة لها، راضية بها، على أنها تطهير وعقاب للنجاة من عند الله. ويطلب إليها أن تدعو له، وبأمرها أن تخفف من أحزانها بأملها في أن يجتمعاً معاً في السماء، ويرجوها أن تواريه الثرى حين يموت في أراضي "الروح(17/82)
القدس" ... وتعيد في رسالتها الثانية عبارات الهيام وعدم النقي فتقول: "لقد كنت على الدوام أخشى أن أغضبك، لا أن أغضب الله، وأعمل على رضائك أكثر مما أعمل على رضائه ... فأنظر أية حياة تعسة لا بد أن أحياها إذا كنت أقاسي كل هذا عبئاً، لا أمل لي في أن أثاب عليه في المستقبل. لقد ظللت، كما ظل الكثيرون غيرك زمناً طويلاً مغروراً بخداعي وتمويهي فحسبت النفاق ديناً" (40). فيجيبها بأن المسيح، لا هو، قد أحبهاً بحق: لقد كان هيامي شهوة جنسية لا حباً، ولقد أشبعت شهوتي الدنيئة فيك، وكان هذا كل ما أحببت ... فاذرفي الدمع من أجل منقذك لا من أجل من منقذك لا من أجل من أغواك، من أجل منجيك لا من أجل مدنسك (41). ثم يؤلف دعاء مؤثراً يطلب إليها أن تتلوه من أجله. وتبدو في رسالتها الثالثة وقد استسلمت لموت حبة الدنيوي؛ ولا تطلب إليه وقتئذ إلا قاعدة جديدة تستطيع هي ومن معها من الراهبات أن يحيين بها حياة دينية حقة. ويستجيب هو إلى رغبتها ويضع لهن دستوراً رحيماً معتدلاً، ويكتب مواعظ يقوي بها إيمانهن، ويبعث بهذه كلها إلى هلواز موقعة بتوقيع رقيق: "وداعاً في الرب إلى خادمته، من كانت في وقت ما عزيزة على في هذا العالم، وأضحت الآن أعز الناس في المسيح". لقد كان في ثنايا قلبه المحطم لا يزال يهيم بحبها.
وبعد، فهل هذه الرسائل الشهيرة حقيقة؟ أن هذه المشكلة لتواجهنا قوية مستعصية. يقال أن أولى رسائل هلواز قد كتبت على أثر ظهور كتابه تاريخ مصائبي وهو يذكر فيه عدة زيارات قام بها أبلار لهلواز في الروح القدس؛ ومع هذا فهي تشكو أنه قد أغفلها. ولكن لعل تاريخه قد ظهر أجزاء منقطعة، وأن الأجزاء الأولى منه وحدها هي السابقة على الرسالة. ثم أن النزعة الشهوانية الجزئية الظاهرة في بعض فقراتها تبدو غير معقولة لصدورها من امرأة أكسبها تقاها وتفانيها في أمور الدين مدى أربعة عشر عاما ذلك الإجلال السامي عند جميع الناس، وهو الإجلال الذي يشهد به بطرس المبجل Peter the Venerable(17/83)
كما يشهد به أبلار. يضاف إلى هذا ما في الرسائل من تنسيق بلاغي ومقتبسات من كتب الأدب القديم، ومن كتب الآباء، دالة على الحاذق والتكاتف لا يمكن وجودها في عقل يحس إحساساً صادقاً بالحب أو التقي أو الندم. وفوق هذا كله فأن أندم مخطوطات هذه الرسائل يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر. ويبدو أن جان ده مونج قد ترجمها من اللغة اللاتينية إلى الفرنسية في عام 1285 (42). وإلى أن نجد أدلة أكثر مما لدينا قوة فأن لنا أن نختتم هذا الفصل بقولنا أنها من أبدع الوثائق المزورة في التاريخ، وأن حوادثها غير موثوق بصحتها، ولكنها قسم خالد لا يفنى من أدب فرنسا الغرامي (43).(17/84)
الفصل الخامس
المدين
لسنا نعرف متى فر أبلار من منصبه العالي في رياسة الدير ومما كان يعانيه من آلام أو كيف أتيح له هذا الفرار. فها هو ذا يوحنا السلزبري يقول أنه استمع الى محاضرات أبلار على جبل سانت جفييف في عام 1136، كذلك لا نعرف أي رخصة أجازت له أن يعود إلى التعليم، ولعله لم يطلب ترخيصاً ما، ولعله قد استهزأ في وقت ما بآداب الكنيسة فثار عليه رجالها وسلكوا ضده سبلاً ملتوية أدت إلى سقوطه الأخير.
وإذا كان إخصاؤه قد أزال رجولته، فإنا لا نرى أثراً لهذا في الكتب التي نقلت إلينا أسس تعاليمه. وأن من الصعب علينا أن نجد فيها خروجاً صريحاً عن الدين، وأن كان من اليسير أن نجد فقرات أثارت بلا ريب غضب رجال الدين. من ذلك أنه يقول في كتاب له عن فلسفة الأخلاق عنوانه اعرف نفسك scito te ipsum أن الخطيئة ليست في العمل نفسه بل في نية العامل، وأن العمل أياً كان- حتى القتل نفسه - ليس خطيئة في ذاته. مثال ذلك أن أما لم تجد لديها من الثياب ما يكفي لتدفئة طفلها فضمته إلى صدرها وأماتته خنقاً على غير علمٍ منها؛ لقد قتلت هذه الأم طفلها الحبيب إليها فعاقبها القانون العقاب الذي تستحقه كي يصبح غيرها من النساء اكثر منها عنايه، ولكن هذه الأم بريئة من الذنب عند الله. وفوق هذا فلكي تكون هناك خطيئة، يجب أن يكون مرتكبها قد خالف ضميره الأخلاقي لا ضمير غيره من الناس وحدهم؛ وعلى هذا فأن قتل الشهداء المسيحيين لا يعد إثماً ارتكبه الرومان الذين كانوا يشعرون بأن(17/85)
اضطهاد هؤلاء المسيحيين واجب للابقاء على دولتهم أو دينهم الذي خالوه صحيحاً. وأكثر من هذا "أن الذين اضطهدوا المسيح أنفسهم أو اضطهدوا اتباعه، وهم يرون من واجبهم أن يضطهدوهم، قد ارتكبوا إثماً من حيث عملهم، ولكن لو أنهم امتنعوا عن اضطهادهم مخالفين بذلك ما تمليه عليهم ضمائرهم لارتكبوا بذلك إثماً أكبر" (44). قد يكون هذا كله منطقاً سليماً معاً؛ ولكن إذا أخذ بهذه النظرية فأن عقيدة الخطيئة من أولها إلى آخرها من حيث مخالفتها لأوامر الله معرضة لأن تتبخر في تيار الجدل القائم حول النيات فلا يبقى لها وجود قط؛ فأي الناس، إذا استثنينا القديس بولس وعدداً قليلاً ممن هم على شاكلته، يعترف بأنه عمل ما يخالف ضميره؟ وكانت ست فقرات من الفقرات الست عشرة التي أدين أبلار من أجلها في عام 1141 مأخوذة من هذا الكتاب.
وكان الذي أزعج الكنيسة أكثر من أي إلحاد معين تبينته عند أبلار هو افتراضه أن لا أسرار في الدين، وأن العقائد كلها يجب أن تكون قابلة للتفسير القائم على العقل، ولم يكن ثمة غرابة في صدور هذا القول منه. ألم يكن ثملاً بنشوة المنطق الذي جرؤ على يربطه بكلمة الله ويكاد يجعله من العلوم القديسة؟ (45). ولنا أن نتساءل كم من العقول القاصرة غير الناضجة التي تأثرت بجرثومة ذلك التحليل المنطقي قد ضلت طريقها بحججه الطلية المؤيدة والمعارضة، إذا سلمنا بأن هذا الأستاذ الذي أفتتن به الناس وأغواهم قد وصل بأساليب غير مستقيمة إلى نتائج صحيحة سليمة؟ ولو أنه لم يكن له أمثلة من نوعه لترك وشأنه دون أن يناله أذى، رجاء ألا يطول أجله. لكنه كان له أتباع متحمسون، وكان ثمة معلمون غيره -وليم الكنشسى William of Conches، وجلبرت ده لابربه Gilbert de la Porrée، وبرنجر التوري Berenger of Tours- وكانوا كلهم يضعون الدين على مرشحة العقل. فإذا ظل هذا التيار يجري في مجراه، فإلى متى تستطيع الكنيسة أن تحتفظ بوحدة المقيدة الدينية وقوة الإيمان(17/86)
اللتين يقوم عليهما - فيما يبدو لها- نظام أوربا الأخلاقي والاجتماعي؟ ألم يشرع آرلد البرشيائي Arnold of Brescia أحد تلاميذ أبلار يشعل فعلاً نار الثورة في إيطاليا؟
وأكبر الظن أن هذه الاعتبارات أو نحوها هي التي أوقفت القديس برنار موقف العداء جهرة أمام أبلار. ذلك بأن حارس الدين الحريص على سلامته قد أشتم رائحة الخطر الذي يتهدد معتنقيه، فقاد المؤمنين إلى النضال. وكان من وقت بعيد ينظر بعين الارتياب إلى هجمات العقل الجريْ المتربص بالدين؛ ويبدو له أن طلب العلم إذا لم يقصد به خدمة الدين هو الوثنية بعينها؛ أما أن يحاول إنسان تفسير الأسرار المقدسة بقواعد العقل والمنطق فهو المعصية والحماقة؛ والعقل الذي يبدأ بتفسير هذه الأسرار الخفية سينتهي آخر الأمر إلى تدنيسها. ولم يكن القديس بالرجل الشرس المتربص للشر؛ ذلك أنه لما أن لفت وليم التييري أحد رهبان ريمس نظره في عام 1139 إلى ما في تعاليم أبلار من خطر، وطلب إليه أن يتهم الفيلسوف، صرف الراهب من عنده ولم يفعل شيئاً. ولكن أبلار نفسه استعجل الأمور بأن كتب إلى كبير أساقفة سان Sens أن تتاح له أثناء انعقاد مجلس الكنيسة المقبل في تلك المدينة، فرصة يدفع فيها عن نفسه تهمة الإلحاد التي يذيعها بعضهم عنه. ووافق كبير الأساقفة على هذا الطلب، لأنه لم يكن يرى بأساً في أن يكون كرسيه قبلة العالم المسيحي؛ وأراد أن يكون الكفاح قوياً فدعاً برنار إلى الحضور، ولكنه أبى وقال أنه سيكون في حلبة الجدل "طفلاً لا أكثر" أمام أبلار الذي تدرب على المنطق أربعين عاما. غير أنه كتب إلى عدد من الأساقفة بحثهم على الحضور للدفاع عن الدين:
"يحاول بطرس أبلار أن يقوض فضائل الدين المسيحي حين يدعى لنفسه القدرة على فهم الله فهما كاملاً بالاعتماد على العقل البشري. فهو يرقى إلى السموات العلا، وينزل إلى الأغوار السحيقة؛ ولا يستطيع شيء أن يختفي(17/87)
عنه! ... وهو لا يكتفي بأن ينظر إلى الأشياء من خلال المنظار نظرة غير واضحة، بل يرى أن لابد له من النظر إلى الأشياء وجهاً لوجه ... أن فيه لشبها بأربوس حين يتحدث عن التثليث، وبيلاجبوس Pelagius حين يتحدث عن البركة، ونسطوريوس حين يتحدث عن شخص المسيح ... أن دين المتقين هو الإيمان والتصديق، لا المجادلة؛ أما هذا الرجل فليس له عقل يصدق به ما لم يسبق له أن ناقشه بمنطقه (46).
وتغلب أتباع برنار عليه، وأظهروا له ضعفهم، فاضطروه إلى الحضور؛ فلما أقبل أبلار على سان (يونية سنة 1140) وجد الجماهير، كما وجدها في سواسون قبل ذلك الوقت بتسعة عشر عاما، ثائرة عليه لمجرد وجود برنار في المدينة، ولعدائه الشديد له، حتى لم يكن يجرؤ على الظهور في شوارعها. أما كبير الأساقفة فقد حقق حلمه، لأن سان بدت أسبوعاً كاملاً وكأنها مركز العالم كله. لقد جاء إليها ملك فرنسا تحف به حاشيته الفخمة، وأقبل عليها عشرات من كبار رجال الكنيسة، وكان برنار الذي أقعدته الرثية وعلت وجهه صرامة القداسة يبعث الرعب في قلوبهم جميعاً. وكان بعض أولئك الأحبار قد أحسوا فرادى أو مجتمعين بوخز الطعنات التي وجهها أبلار لمعائب رجال الدين، ولفساد أخلاق القساوسة والرهبان، وبيع صكوك الغفران، واختراع المعجزات الزائفة وأيقن أبلار أن المجلس سيدينه، فحضر جلسته الأولى وأعلن أنه لن يرضى بأن يحكم عليه غير البابا نفسه، ثم غادر الاجتماع وخرج من المدينة. ولم يكن المجلس واثقاً، بعد أن طلب إليه التنحي عن الحكم، أن من حقه قانوناً أن يحاكم أبلار؛ ولكن برنار أكد له أن هذا من حقه، فأخذ المجلس يطعن في ست عشرة مسألة منتزعة من كتب أبلار، ومن بينها تعريفه للذنب، ونظريته في التثليث التي يقول فيها أنه هو القدرة، والحكمة، والحب من صفات الإله الواحد.
وسافر أبلار إلى روما ليعرض قضيته على البابا وهو لا يكاد يملك شروى نقير،(17/88)
وأعترضه في السفر شيخوخته وضعفه فتأخر كثيراً في الطريق. ولما وصل إلى دير كلوني في برغندية أستقبله بطرس المبجل بالشفقة والحنان، فاستراح في الدير بضعة أيام قليلة. وفي هذه الأثناء أصدر أنوسنت الثاني قراراً بالتصديق على حكم المجلس، وفرض الصمت الدائم على أبلار، والأمر بحجزه في أحد الأديرة. ورغب أبلار بالرغم من صدور هذا القرار أن يواصل حجه، ولكن بطرس أقنعه بالا يفعل، وقال له أن البابا لا يمكن أن يصدر قراراً يخالف ما يراه برنار. وخضع أبلار لهذا الرأي لما عاناه من الإعياء الجسمي والروحي، فصار راهباً في دير كلوني واختفى في ظلام أسواره وطقوسه، وقوى روح زملائه الرهبان بتقواه، وصمته، وصلواته. وكتب إلى هلواز - التي لم يرها قط بعد ذلك الوقت- يعترف اعترافاً مؤثراً بإيمانه بتعاليم المسيح، وألف لها في أغلب الظن، ترانيم من أجمل ما يحتو به أدب العصور الوسطى. وتعزى إليه (مرئية) في صورة رثاه من داود إلى يوناثان، ولكن في وسع أي قارئ أن يلمح فيها أينما رفيقاً:
لو قدر لي أن أرقد معك في قبر واحد
لرأيت السعادة في أن أموت،
فلست أعرف من النعم التي يمكن أن يهبها الحب في هذه الدنيا ما هو أعظم من هذه النعمة.
ولو أنني عشت بعد أن تموتين ويبرد جسمك
لكان ذلك هو الموت الأبدي،
ولن يكون في شبحي نصف روح
يمسك على حياتي أو نصف نفسي.(17/89)
ها أنا ذا، ألقي قيثارتي
ألا ليتني أستطيع
أن أمسك كذلك دموعي وأنيني!
لقد آلم العزف يدي
ومح صوتي
من فرط الحزن، وحل بروحي الإعياء.
وأصابه المرض بعد هذا الوقت بقليل، وأرسله رئيس الدير الرحيم إلى دير القديس مارسل St. Marcel بالقرب من شالون ليبدل فيه الهواء؛ وهناك وفي اليوم الحادي والعشرين من أبريل عام 1142 وافته المنية وهو في السادسة والثلاثين من عمره. ودفن في كنيسة الدير؛ ولكن هلواز ذكرت بطرس المبجل بأن أبلار قد طلب في حياته أن يدفن في (الروح القدس). وجاء إليها الرئيس الرحيم نفسه بالجثة، وحاول أن يواسيها بالتحدث عن حبيبها الميت بأنه سقراط زمانه وأفلاطونه وأرسطوطاليسه؛ وترك معها رسالة تفيض بالحنان المسيحي:
وهكذا يا أختي العزيزة المعظمة في الله، أن الرجل الذي اجتمعت وإياه، بعد رابطتكما الجسمية، برابطة خير منها وأقوى هي رابطة الحب المقدس، والذي خدمت ... الله معه، هذا الرجل يأخذه الله بدلاً منك، فهو صورة أخرى منك، وينفث فيه دفء صدره؛ ويحتفظ به حين يدوي صوت الملاك الأكبر، وينفخ في الصور من السموات العلي، ليرده إليه نعمة منه ورحمه (48).
ولحقت بحبيبها في عام 1164 بعد أن بلغت من السن ما بلغه هو، وكادت تنال من الشهرة مثل ما ناله. ودفنت بجواره في حديقة (الروح القدس).(17/90)
ودمرت هذه الحديقة في أثناء الثورة الفرنسية، وعبثت الأبدي بالقبور، ولعلها اختلط بعضها ببعض. ثم نقل ما يظن أنه رفات أبلار وهلواز إلى مقبرة الأب لاشيز Père Lachaise بباريس في عام 1817. وهناك ترى الرجال والنساء إلى يومنا هذا يأتون في أيام الأحد من فصل الصيف يحملون الأزهار ليزينوا بها القبر (1).
_________
(1) لقد أوردنا قصة أبلار وهلواز ورسائلهما في كتابنا (أشهر الرسائل العالمية) فليقرأها من أراد الإطلاع على هذه السيرة العجيبة. (المترجم)(17/91)
الباب السادس والثلاثون
مغامرات العقل
1120 - 1308
الفصل الأول
مدرسة شارتر
ترى كيف نفسر تلك الثورة الفلسفية العجيبة التي بدأت بأنسلم، وروسلأن وأبلار، وبلغت ذروتها في ألبرتس مجنس والقديس تومس أكوناس؟ لقد كان لهذه الثورة، كما هي السادة، كثير من الأسباب: منها أن الشرق اليوناني لم يكن قد تخلى قط عن تراثه الثقافي القديم، بل كانت كتب الفلاسفة الأقدمين تدرس في كل قرن في القسطنطينية، وإنطاكية، والإسكندرية؛ وكان رجال أمثال ميخائيل بسلس Miehael Psellus، ونقفورس بلميدس Nicephorus Blemydes (1197؟ -1272) ، وجورج بشميرس George Pachymeres (1242؟ - 1310) ، وبارهبريوس Bar Hebareus السوري (1226؟ -1282) كان رجال من أمثال هؤلاء مطلعين على مؤلفات أفلاطون وأرسطو بلغتها الأصلية؛ وأخذ المعلمون اليونان يدخلون بلاد الغرب كما أخذت المخططات اليونانية تدخلها تدريجاً. وحتى في تلك البلاد نفسها كان قليل من التراث اليوناني قد بقى بعد العاصفة البربرية؛ فقد بقى الجزء الأكبر من أرغنوق أرسطو في المنطق، ومن كتابي مينوق وتيماوسي لأفلاطون، وكانت(17/92)
الصورة التي رسمها هذا الفيلسوف لإر Er هي التي لونت خيال المسيحيين عن الجحيم. وقد جاءت الموجات المتتابعة من الكتب العربية واليونانية والإسلامية من أفكار جديدة تتحدى الأفكار المسيحية وتختلف عنها اختلافاً يهدد باكتساح لاهوت العالم المسيحي كله إذا لم تنشئ المسيحية لها فلسفة مناهضة لهما. على أن هذه المؤثرات لم نكن تستطيع أن تنشئ تلك الفلسفة المسيحية إذا كان الغرب قد ظل فقيراً كما كان؛ أما الذي جعل لهذه العوامل أثراً فعالاً فهو نمو الثورة حين أخذت الزراعة تعزو القارة الأوربية، وأتسع نطاق التجارة والصناعة، وتكاثرت الأموال وما تؤديه من خدمات. وتعاونت هذه النهضة الاقتصادية مع تحرر المدن ذات الحكم الذاتي، وقيام الجماعات، وإحياء الآداب اللاتينية والقانون الروماني، وتقنين الشريعة الكنيسة، ومجد الفن القوطي، وازدهار الأدب الخيالي، و (علم) الشعراء الغزلين (المرح)، واستيقاظ العلوم، وبعث الفلسفة، وتعاونت هذه كلها على إيجاد (نهضة القرن الثاني عشر).
وجاء في أعقاب ثورة الفراغ، والدرس، والمدارس. وكانت كلمة Scholê تعنى في أول الأمر الفراغ. وكان الأسكلاستكوس scholasticus هو المدرس أو الأستاذ، كما كانت عبارة (الفلسفة المدرسية) تعنى الفلسفة التي تدرس في مدارس العصور الوسطى الثانوية أو في الجامعات التي نشأت كثرتها الغالبة من هذه المدارس الثانوية. كذلك كانت (الطريقة المدرسية) هي أسلوب الجدل الفلسفي والعرض الفلسفي الذين يستخدمان في هذه المدارس. وإذا ما استثنينا فصول أبلار التي كانت في باريس أو قريبة منها، فقد كانت مدرسة شارتر أكثر هذه المدارس نشاطاً وأعظمها شهرة؛ ففيها امتزجت الفلسفة بالأدب، وكان في وسع من يتخرج فيها أن يكتب في المسائل الخفية العويصة بالوضوح والظرف اللذين أصبحا من التقاليد المشرفة في فرنسا. وكان أفلاطون، الذي جعل هو(17/93)
أيضاً الفلسفة مفهومة مستساغة، من الفلاسفة المحببين هناك؛ وفيها سوى النزاع القائم بين الواقعيين والقائلين بأن الكليات أن هي إلا الألفاظ وليس لها وجود حقيقي في العقل أو في خراجه، سوى هذا النزاع بقولهم أن الكلمات (الحقيقية) هي بعينها الأفكار الأفلاطونية، أو النماذج الأولى الخلافة التي في عقل الله. وبلغت مدرسة شارتر ذروة نفوذها في عهد برنار أحد مواطنيها (حوالي 1117) وأخيه ثيودريك (حوالي 1114)؛ وكان ثلاثة من خريجيها يسيطرون على ميدان الفلسفة بأوربا الغربية في النصف القرن التالي لحياة أبلار وهم: وليم الكوشي، وجلبرت ده لا بريه، ويوحنا السلزبري.
ويتبين الإنسان اتساع مجال الفلسفة المدرسية بوضوح عجيب في سيرة وليم الكوشي (1080؟ - 1154). فقد كان رجلاً ملماً بكتب أبقراط، ولكريشيوس، وحنين بن أسحق، وقسطنطين الأفريقي، بل وحتى دمقريطس نفسه (1). وقد أفتتن بالنظرية الذرية؛ واستنتج أن جميع أعمال الطبيعة تبدأ في الأصل باجتماع الذرات، ويصدق هذا على أرقى عمليات الجسم البشري وأعظمها خطراً (2). والنفس عنده هي اتحاد العناصر الجوهرية في الفرد مع النفس الكونية أو العنصر الجوهري في العالم (3). ونهج وليم نهج أبلار في إحدى المسائل الخفية الشديدة الخطورة فكتب يقول: "في الألوهية قدرة، وحكمة، وإرادة، وهي التي يسميها القديسيون أقاليم ثلاثة (4) ". وهو يفهم القصة القائلة أن حواء خلقت من ضلع آدم فهما يعتمد على المجاز الواسع. وهو يرد بعنف على شخص ما يدعى كرنفيوس Cornifius وغيره من (الكرنفيوسيين) الذين يقامون العلم والفلسفة بحجة أن في الإيمان الساذج ما يكفيهم. "فهم لا يطيقون أن يبحث غيرهم شيئاً ما، ويريدون منا أن نؤمن كما يؤمن السذج والهمج من غير أن نسأل عن السبب، كي يكون لهم رفاق في الجهالة ... ولكنا نقول: أن من واجبنا أن نبحث لكل شيء عن علة، فإذا عجزنا عن معرفة تلك العلة(17/94)
وكلنا الأمر إلى ... إلى الروح القدس وإلى الإيمان (5) ... (ويقولون): لسنا نعرف كيف يكون هذا، ولكننا نعرف أن في قدرة الله أن يفعله ... ألا أيها البلهاء المساكين! أن في قدرة الله أن يخلق غراباً من شجرة، ولكن هل فعل الله هذا في يوم من الأيام؟ فعليكم إذن أن تدلوا بعلة لوجود شيء ما بالصورة التي هو عليها، وإلا فامتنعوا عن الاعتقاد بأنه على هذه الصورة ... (6) أننا لا تسرنا الكثرة، وإنما تسرنا الغلة المختبرة، ونحن نكد في البحث عن الحقيقة وحدها.
لقد كان هذا القول أكثر مما يطيقه وليم التييري، ولهذا بادر الراهب المتحمس، الذي أغرى القديس برنار بمهاجمة أبلار، بالطعن على هذا الثائر الجديد صاحب النزعة العقلية والتنديد به عند رئيس دير كليرفو اليقظ المترقب. ورجع وليم الكوشي عن إلحاده، ووافق على أن حواء خلقت من ضلع آدم (8)، وهجر الفلسفة لأنها مغامرة لا يتناسب فيها الكسب مع ما يتعرض له صاحبها من أخطار، واشتغل مريباً لهنري بلانتجنت Henry Plantagenet الإنجليزي واختفى أسمه من التاريخ. وكان جلبرت ده لا يريه Gilbert de la Porrée (1070 - 1154) أكثر من وليم توفيقاً في هذا العمل المفعم بالأخطار. فقد تعلم ودرس في شارتر وفي باريس، وصار أسقفاً لبتيير Potiers ووضع كتاباً ذا ستة مبادئ Liber sex prencepiorium ظل ستة قرون النص الذي يرجع إليه في علم المنطق؛ ولكن التعليق على بؤتيوس قد فهم منه أن طبيعة الله بعيدة عن إدراك العقل البشري بعداً يتحتم معه أن يؤخذ كل قول عنها على أنه تشبيه أو مجاز لا أكثر، ثم أنه أكد وحدة الله تأكيداً يجعل التثليث يبدو وكأنه مجاز لا غير (6). وفي عام 1148 اتهمه القديس برنار بالإلحاد، وأن كان وقتئذ في سن الثانية والسبعين، وحوكم على هذه التهمة في أوكسير Auxerre، وحير(17/95)
معارضيه بما أورده من فروق دقيقة، وعاد إلى موطنه غير مدين. وحوكم مرة أخرى بعد سنة من ذلك الوقت، ورضى أن تحرق بعض فقرات انتزعت من كتبه، ولكنه عاد حراً إلى أبرشيتة؛ ولما طلب إليه أن يناقش آراءه مع برنار رفض الاقتراح وقال: أن هذا القديس يعوزه التبحر في اللاهوت إلى حد لا يستطيع معه فهم آرائه (10)، ويقول عنه يوحنا اللزبري: أن جلبرت "ناضج في الثقافة الحرة نضوجاً لا يفوقه فيه أحد من الناس (11) ".
وكان في مقدور يوحنا أن يقول هذا القول عن نفسه، لأنه كان من بين الفلاسفة المدرسيين أوسعهم ثقافة وأكثرهم تهذيباً، وأبلغهم قلماً. وكان مولده في لزبري حوالي عام 1117، وتتلمذ على أبلار في جبل القديس جفيف، وعلى وليم الكوشي في شارتر، وعلى جلبرت ده لابريه في باريس، ثم عاد إلى إنجلترا في عام 1149، وعمل أميناً لاثنين من رؤساء أساقفة كنتر بري هما: ثيوبولد وتومس أبكت، وقام لهما بعدة مهام دبلوماسية، زار فيها إيطاليا ست مرات، وأقام في البلاط البابوي ثماني سنين، وشارك بكت في ألقى في فرنسا، وشاهد مقتله في كتدرائيته، وعين أسقفاً لشارتر في عام 1178، وتوفى في عام 1180. وكانت حياته مليئة بالجلد، متعددة النواحي، عمل فيها هذا الرجل على وضع المنطق تحت مخبار تجارب الحياة ودراسة الفلسفة بتواضع منقطع النظير. ولما تقدمت به السن ورجع إلى آراء المدارس الفلسفية المختلفة أدهشه أن يراها لا تزال تجادل في الفرق بين الاسمية والواقعية: "ليس في مقدور الإنسان أن يتجنب هذه المسألة، ولقد حرم العالم وهو يبحثها، واستغرق بحثها من الوقت أكثر مما أستغرقه القياصرة في فتح العالم وحكمه ... وأيا كانت النقطة التي يبدأ منها النقاش، فأنه يعود على الدوام ويرتبط بتلك المسألة، فهي أشبه بجنون روفس Rofus بنيفيا Naevia: " أنه لا يفكر في شيء آخر، ولا يتحدث عن شيء آخر، ولو أن نيفيا لم يوجد لظل روفس أبكم لا يبين" (12).(17/96)
وحسم يوحنا نفسه الأمر من أيسر السبل حين قال: أن الكلى مدرك عقلي ييسر ربط الصفات المشتركة للكائنات المفردة؛ وكان جون لا أبلار هو الذي أقترح النظرية القائلة أن الكليات توجد في العقل مستقلة عن أفرادها المجسمة المادية.
وألف في تاريخ الفلسفة اليونانية والرومانية كتاباً بلغة لاتينية هي أحسن ما كتب منذ ظهرت رسائل الكوين - ويعد هذا الكتاب شاهداً عجيباً على اتساع الأفق العقلي في العصور الوسطى اتساعاً مطرداً؛ وظهر بعده كتاب المتالوجيكون Metalogicon الذي خفف فيه علم المنطق بما أضافه من ترجمة لنفسه، ثم كتاب بوليكراتكس Polycraticus (1159) الذي وضع له عنوناً ثانوياً غريباً (في حماقات رجال الحاشية وآثار الفلاسفة) De nugis Curialium et vistigüo philosophorum. وكان هذا الكتاب أول مقال في أدب العالم المسيحي عن الفلسفة السياسة. وهو يكشف عن أخطاء الحكومات القائمة في أيامه ورذائلها، ويرسم صورة للدولة المثالية، ويذكر صفات الرجل المثالي، ثم يواسينا بقوله: "كل شيء يشتري علناً، إلا إذا كان تواضع البائع هو الذي يمنع هذا الشراء، أن نار الجشع الدنسة تهدد مذابح الكنائس نفسها ... وأن أحبار الكرسي الرسولي نفسه لا يضنون بأيديهم عن أن تدنسها المطايا" بل أنهم في بعض الأوقات يجوسون خلال الأقاليم في عربدة جنونية" (13). وإذا جاز لنا أن نصدق روايته التي نقلنا منها فقرات من قبل فأنه أبلغ البابا هدريان الرابع أن الكنيسة نصيباً موفوراً فيما يسود تلك الأيام من فساد، وأن البابا أجابه بما معناه أن الآدميين سيظلون آدميين مهما كانت أثوابهم؛ ويضيف يوحنا إلى ذلك تلك العبارة الحكومية: "في كل منصب من مناصب بيت الله (الكنيسة) إذا كان بعض رجالها يتكاسلون، فأن غيرهم يضافون إليهم ليؤدوا(17/97)
عملهم. ولقد شاهدت من بين الشمامسة، ورؤساء الشمامسة، والأساقفة، والأحبار من يقومون بما يوجبه عليهم الله بجد وإخلاص يستبين الإنسان معهما أنهم أوتوا من مزايا الإيمان وفضائله أن من عهدوا إليه بحرث أبينا قد أحسنوا كل الإحسان" (14). وهو يرى أن الحكومة المدينة أكثر فساداً من رجال الذين، وأن من الخير لحماية الخلق أن يكون للكنيسة سلطان أخلاقي على جميع العالم ودوله (15).
وأوسع الفقرات شهرة في كتاب بوليكراتكس هي التي تشير إلى قتل الطغاة: "إذا حاد الأمراء شيئاً فشيئاً عن الطريق الحق، فليس من الخير في شيء أن يطاح بهم كلية على الفور، بل يكفي لومهم على ظلمهم بتعذيرهم والصبر عليهم، حتى يتبين أخيراً أنهم معاندون مصرون على فعل الشر ... أما إذا تعارض سلطان الحاكم مع الأوامر الإلهية وأراد أن يحملني على أن أشاركه في حربه على الله، فأني لا أتردد قط في أن أرد عليه بقولي أن الله يجب أن يفضل على كل إنسان على ظهر الأرض أياً كان قدره ... وليس قتل المستبد مشروعاً فحسب، بل هو حق وعدل" (16).
كانت هذه سورة من جون مهيجة مثيرة، أضاف إليها فقرة أخرى في موضع بعدها من الكتاب نفسه "بشرط ألا يكون القاتل مرتبطاً بالولاء للمستبد" (17). وهي جملة فيها نجاة للمستبدين لأن كل حاكم يلزم رعاياه بأن يقسموا يمين الولاء له. وفي القرن الخامس عشر دافع جان بتي ( Jean Petie) عن اغتيال لويس صاحب أورليان بعبارات نقلها عن البوليكراتكس، ولكن مجلس كنستانس تغلب على بتي بحجة أن الملك نفسه لا يحق له أن يدين متهما دون أن يدعوه للمثول أمامه ويحاكمه.
ونحن (المحدثين) لا نستطيع أن نتفق على الدوام مع (المحدثين) في القرن الثاني عشر الذين كان يوحنا واحداً منهم؛ وهو يقول من آن إلى آن كلاماً(17/98)
يبدو لنا أنه هراء، ولكن هراءه نفسه مصوغ في أسلوب من التسامح والظرف لا نكاد نعثر على ما يماثله بعدئذ قبل إرزمس Erasmus. وكان يوحنا أيضاً من الإنسانيين، يحب الحياة أكثر مما يحب الخلود، ويعشق الجمال والرحمة أكثر مما يعشق العقائد التحكمية في أي دين، ويقتبس من الآداب اليونانية - الرومانية القديمة وهو منشرح مغتبط أكثر منه حين يقتبس من صحف الكتاب المقدس. وهو يضع ثبتاً (بالأشياء التي يصح للرجل الحكيم أن يشك فيها dubitabilia، ومنها طبيعة النفس ومنشؤها، وخلق العالم، والعلاقة بين علم الله السابق وحرية الإرادة. ولكنه كان أحصف من أن يندفع إلى الإلحاد، بل كان يسير وسط الجدل القائم في أيامه بحصافة دبلوماسية وسحر خلاب. ولم يكن يرى أن الفلسفة صورة من صور الحرب، بل كان يراها بلسما للسلام، وبقول أن الفلسفة قوة مطلقة معدلة في الأشياء جميعها، وأن من وصل بطريق الفلسفة إلى الإحسان والمحبة فقد بلغ هدفها الحق" (18).(17/99)
الفصل الثاني
أرسطو في باريس
نشر بطرس لمبارد أحد تلاميذ أبلار في عام 1150 كتاباً جمع فيه آراء أبلار مطهرة من الإلحاد، وكان غي القوت عينه بداية للفلسفة المدرسية الرسمية؛ وكان بطرس هذا، كما كان أنسلم، وارنلدا البريشيائي، وبنوفنتورا، وتومس أكوناس، إيطاليَّا جاء إلى فرنسا ليواصل العمل الراقي في اللاهوت والفلسفة. وكان يحب أبلار ويسمى كتابه نعم ولا كتاب صلواته، ولكنه إلى هذا كان يريد أن يكون أسقفاً، وقد طبق كتابه المسمى أربعة كتب في الآراء Sententearum طرائق نعم ولا بعد أن طهرها: وذلك بأن وضع تحت كل سؤال من أسئلة اللاهوت طائفة من العبارات المقتبسة من الكتاب المقدس ومن كتب آباء الكنيسة بعضها يؤيده وبعضها يعارضه؛ ولكن بطرس هذا وجد مخلصاً لكي يحيل كل الآراء المعارضة إلى نتائج تتفق مع الدين القويم. وقد عين أسقفاً لباريس وظل كتابه مدى أربعة قرون النص المحبب في برامج التعليم الديني إلى حد دعا روجر بيكن أن يأخذ عليه أنه حل محل الكتاب المقدس نفسه؛ ويقال إن أربعة من علماء اللاهوت ومنهم ألبرت وتومس كتبوا شروحاً على هذا الكتاب.
وإذا كان كتاب لمبارد قد أيد سلطان الكتب المقدسة والكنيسة على مطالب العقل الفردي، فقد حال مدى نصف قرن دون تقدم النزعة العقلية، ولكن حادثة عجيبة وقعت في تلك الخمسين عاماً بدلت علم اللاهوت؛ ذلك أن دخول أفكار أرسطو في ثوبها اللاتيني إلى أوربا بعد عامي 1150 و 1250 دفع علماء الدين الكاثوليك إلى أن يحاولوا التوفيق بين علم ما وراء الطبيعة اليوناني(17/100)
وعلم اللاهوت المسيحي؛ كما أن مؤلفات ترجمة أرسطو العلمية وفيما وراء الطبيعة إلى اللغة العربية دفعت المفكرين المسلمين إلى أن يحاولوا التوفيق بين العقائد الإسلامية والفلسفة اليونانية. وكما إن اصطدام آراء أرسطو بعقول العبرانيين في أسبانيا قد اخذ يدفع ابن داود وابن ميمون في القرن الثاني عشر لان يحاولا التوفيق بين اليهودية والتفكير الهليني، وإن كان أرسطو قد بدا فوق متناول سلطان الكتب المقدسة، فقد اضطر علماء الدين المسيحي الى استخدام لغة العقل والمنطق وأسلحتهما. ولو أن الفيلسوف اليوناني كان حياً في هذه الأثناء لتبسم وهو يشهد كم من الأديان التي زلزلت العالم تجل آراءه.
ولكن ليس من حقنا أن نغالي في تقدير اثر المفكرين اليوناني في ازدهار الفلسفة أثناء تلك الفترة من الزمن. ذلك أن انتشار لتعليم، وما كان للجدل والحياة الذهنية من قوة حيوية في المدارس والجامعات خلال القرن الثاني عشر، والحافز القوي الذي كان لرجال من أمثال روسلان، ووليم الشمبوكسي، وأبلار، ووليم الكنشيسي، ويوحنا السلزبري؛ وأتساع آفاق الفكر بتأثير الحروب الصليبية، وازدياد علم الأوربيين بالحياة الإسلامية والتفكير الإسلامي في الشرق والغرب - كل هذا من شأنه أن يخلق رجالاً على شاكلة أكوناس ولو ظل أرسطو مجهولاً. والحق أن منشأ الجد الذي اتصف به أكوناس لم يكن حب أرسطو بل خشية ابن رشد. ذلك أن الفلاسفة العرب واليهود اخذوا منذ القرن الثاني عشر يؤثرون في التفكير المسيحي في أسبانيا؛ فقد دخل الكندي، والفارابي، والغزالي، وأبن سينا، وان جبيرول، وابن رشد، وابن ميمون أوربا اللاتينية من نفس الابواب التي دخلها منه افلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وجالينوس، وأقليدس، وبطليموس.
وكان غزو التفكير الأجنبي على هذا النحو من أقوى الصدمات الذهنية للعقل الغربي الذي لم ينضج بعد، فلا عجب والحالة هذه إذا قوبل في بادئ الأمر(17/101)
بالعمل على قمعه أو تأخيره؛ بل أن علينا أن نعجب من قوة التكييف المدهشة التي مكنت الجديد من امتصاص المعارف القديمة- الجديدة. وكان الأثر الأول لكتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة لأرسطو، ولشروح ابن رشد، وهي الكتب التي وصلت الى باريس في العشر السنين الأولى من القرن الثالث عشر، أن زلزلت عقائد كثير من الطلاب، وان قام من العلماء أمثال أملريك البيني Amalric of Bène وداود الديننتي David of Dinant هاجمون بعض العقائد المسيحية الجوهرية كعقيدة خلق العالم، والإيمان بالمعجزات، والخلود الفردي. وظنت الكنيسة أن تسرب الأفكار العربية - اليونانية إلى جنوبي فرنسا أدى إلى تحلل الطبقات المتعلمة من الاستمساك بالدين القويم، واضعف من عزمها على مقاومة الحاد الألبجنسيين. ولهذا اجتمع مجلس كنسى في باريس عام 1210 وأدان أملريك وداود وحرم قراءة كتب أرسطو فيما (بعد الطبيعة والفلسفة الطبيعية) كما حرم قراءة (شروحها). وإذ كان هذا التحريم قد كرره مندوب من قبل البابا في عام 1215 فان لنا أن نفترض أن مرسوم عام 1210 قد أغرى الناس بقراءة هذه المؤلفات التي لولا هذا التحريم لكانت عندهم ممقوتة. وأجاز مجلس لاتران الرابع قراءة كتابي أرسطو في المنطق والأخلاق ولكنه حرم غيرهما من كتبه. وفي عام 1231 عفا جريجوري التاسع عن الأساتذة والعلماء الذين عصوا هذه المراسيم، ولكنه، جدد المراسيم (إلى اجل مؤقت حتى تبحث هذه الكتب وتطهر بما فيها). ويبدو أن الثلاثة الأساتذة الباريسيين الذين عينوا للقيام بمهمة تطهير كتب أرسطو قد تركوا هذا العمل. ولم تنفذ مراسيم التحريم زمناً طويلاً، لان كتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة (الفيزيقا والمتافيزيقا) وغيرهما من كتب أرسطو كانا يقرأن في جامعة باريس عام 1222 (19). وأعاد أربان الرابع أمر التحريم في عام 1263؛ ولكن يبدو أن تومس أكوناس أكد له أن كتب أرسطو يمكن ان تطهر،(17/102)
ولم يعمل أربان على تنفيذ تحريمه. وانتهى الأمر في عام 1266، إلى أن كان مبعوثو أربان الخامس في باريس يطلبون إلى جميع الطلاب المتقدمين لنيل درجة في الآداب دراسة جميع مؤلفات أرسطو دراسة وافية شاملة (20).
وأحدثت المشكلة التي واجهت العالم المسيحي اللاتيني في الربع الأول من القرن الثالث عشر أزمة كبرى في تاريخ الدين المسيحي. ذلك أن التعطش إلى الفلسفة الجديدة كان وقتئذ حمى ذهنية لا يمكن السيطرة عليها؛ ولهذا لم تواصل الكنيسة جهودها لفرض هذه السيطرة، بل إنها بدلاً من هذا وجهت قواها لحصار الغزاة وامتصاصهم فيها، فاخذ رهبانها الأوفياء يدرسون هذا اليوناني المدهش الذي قلب ثلاثة أديان رأساً على عقب؛ حتى أن الرهبان الفرنسيس وهم الذين يفضلون أوغسطين على أرسطو، رحبوا بالاسكندر الهاليس الذي بذل أول الجهود للتوفيق بين (الفيلسوف) والمسيحية. وبذل الرهبان الدمنيكيون كان تشجيع مستطاع لألبرتس مجنس وتومس أكوناس في هذا المشروع عينه؛ ولما أن انم هؤلاء الرجال الثلاثة عملهم بدا أن أرسطو لم يعد خطراً على المسيحية.(17/103)
الفصل الثالث
الزنادقة
إذا شئنا إلاّ نفهم الفلسفة المدرسية على إنها تكديس لا طائل من ورائه للتجريدات المملة، وجب علينا ألا ننظر إلى القرن الثالث عشر على انه الميدان الذي يصول فيه الفلاسفة المدرسيون ويجولون غير منازعين، بل أن ننظر إليه على انه ميدان اصطرع فيه مدى سبعين عاما المتشككة، والماديون، والأحديون القائلون بوحدة الوجود، والجاحدون بالله، اصطرع فيه هؤلاء مع علماء اللاهوت المسيحي للاستحواذ على العقل الأوربي.
ولقد لاحظنا من قبل وجود نزعة عدم الإيمان بين أقلية ضئيلة من سكان أوربا، وزادت هذه الأقلية في القرن الثالث عشر على اثر اتصال الأوربيين بالمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وتراجم الكتب العربية. ولما تبين الأوربيون وجود دين آخر، اخرج رجالاً عظاماً أمثال صلاح الدين والمندي، وفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد، كان ذلك في حد ذاته كشفاً اضطربت له نفوسهم؛ ذلك أن مقارنة الأديان لا تنفع الدين أي نفع. ومن الشواهد على هذا ما نقله ألفنسوا الحكيم Alfonso the wise، (1252 - 1284) عن انتشار عدم الاعتقاد بالخلود بين مسيحي أسبانيا (21)؛ وليس ببعيد أن تكون آراء ابن رشد قد تسربت إلى الشعب نفسه. وكان في جنوبي فرنسا في القرن الثالث عشر جماعة من أصحاب النزعة العقلية القائلين بان الله بعد ان خلق العالم تركه تسيره القوانين الطبيعية؛ وكانوا يعتقدون أن المعجزات مستحيلة، وان الصلاة لا تستطيع تغيير مسلك العناصر، وان الأنواع الجديدة لم تخلق خلقاً خاصاً وإنما وجدت بالتطور الطبيعي (22). وكان بعض أصحاب التفكير الحر-(17/104)
وبعض القساوسة أنفسهم - ينكرون تحول العشاء الرباني إلى جسم المسيح (23). واخذ أحد المدرسين في أكسفورد يشكو قائلاً (انه ليس ثمة ما هو أشبه بالوثنية من القربان عند المذبح) (24). ويقول أَلان الليلي Alain of Lille (1114 - 1203) أن كثيرين من المسيحيين الزائفين في وقتنا هذا ينكرون البعث لان الروح تفنى مع الجسم)؛ وهم يؤيدون اعتقادهم بأقوال أَبيفور ولكريشيوس. ويعتنقون مذهب الجوهر الفرد، ويخرجون من هذا إلى أن خير ما يفعله الإنسان هو ان يستمتع بالحياة على ظهر الأرض (25).
ويبدو إن انتشار الصناعة في حواضر فلاندرز قد عمل على نشر الإلحاد. وشاهد ذلك إننا نجد داود الديننتي في بداية القرن الثالث عشر وسيجر البرابنتي قرب اختتامه يتزعمان حركة تشكك قوية. وكان داود (حوالي 1200) يدرس الفلسفة في باريس، ويمتع أنوسنت الثالث بجدله الدقيق (26)، ويعبث بضرب مادي من عقيدة الأحدية مضمونة إن الله، والعقل، والمادة الخالصة (المادة قبل ان تتشكل) أصبحت كلها وحدة في ثالوث جديد (27). وحرم كتابه الكواترنولي Quaternuli، والذي لا وجود له الآن. واحرق بأمر مجلس باريس المقدس الذي عقد في عام 1210. وندد هذا المجلس نفسه بأحدية قال بها أستاذ آخر من جامعة باريس هو أملريك البيني، ومضمونها ان الله والخليقة شيء واحد. وأرغم أملريك على أن يرجع عن قوله ومات، كما يقول، من حسرة الخيبة (1207) (28). وأمر المجلس تنبش عظامه وتحرق في ميدان باريس إرهاباً لاتباعه الكثيرين. غير انهم ظلوا مستمسكين بآرائهم على الرغم من هذا، ووسعوا نطاق آرائه فأنكروا وجود الجنة والنار، وقوة القربان المقدس. وحرق عشرة من اتباع أملريك هذا أحياء (1210) (29).
وازدهر التفكير الديني الحر في جنوبي إيطاليا الذي كان يحكمه فردريك الثاني، حيث شب القديس تومس، وحيث أعلن الكردنال أبلديني صديق(17/105)
فردريك جهرة اعتناقه المذهب المادي (30). أما في إيطاليا الشمالية فان عمال الصناعة، ورجال التجارة والمال، والمحامين، وأساتذة الجامعات اندفعوا إلى حد ما في تيار المتشككين. واشتهرت جامعة بولونيا بعدم مبالاتها بالدين، فكانت المدارس الطبية فيها وفي غيرها من المدن مراكز للشك، وفيها نشأ القول المأثور (حيث يجتمع ثلاثة أطباء يكون اثنان منهم كافرين ubi tres medici duo athei) (31) ، وكادت آراء ابن رشد حوالي عام 1240 تصبح الطراز العصري بين الطبقات المتعلمة من غير رجال الدين في إيطاليا. وكان آلاف منهم يقبلون عقائد ابن رشد القائلة بان القانون الطبيعي يحكم العالم دون تدخل من قبل الله؛ وان العالم مخلد كله؛ وانه لا يوجد إلا نفس واحد خالدة هي (عقل) الكون (الفعال)، وان النفس الفردية ليست إلا مظهراً أو صورة عابرة زائلة من هذا العقل، وان الجنة والنار قصص اخترعت لتغرى العالم أو ترهبهم فيحسن سلوكهم (32). وأراد بعض المعتنقين لآراء ابن رشد ان يسترضوا محاكم التفتيش فتقدموا بعقيدة الحقيقة المزدوجة؛ فقالوا أن القضية قد تبدو صحيحة من ناحية الفلسفة أو حسب التعليل الطبيعي، ولكنها مع ذلك قد تكون خاطئة حسب الكتب المقدسة أو الدين المسيحي؛ واقروا في الوقت نفسه انهم يؤمنون بمقتضى الدين بما يشكون فيه حسب العقل والمنطق. وهذه النظرية تنكر الفرض الأساسي من فروض الفلسفة المدرسية - وهو إسكان التوفيق بين العقل والدين.
وكانت جامعة بدوا في أواخر القرن الثالث عشر، وطول القرنين الرابع عشر والخامس عشر مركزاً مضطرباً لفلسفة ابن رشد. ونذكر من الشواهد الدالة على هذا الاضطراب أن بطرس الأباوي Peter of abano ( حوالي 1250 - 1316) أستاذ الطب في جامعة باريس ثم أستاذ الفلسفة في جامعة يدوا، الف كتاباً يراد به التوفيق بين النظريات الطبية والفلسفية. وقد اكتسب مكانة(17/106)
ملحوظة في تاريخ العلوم الطبيعية لأنه قال في دروسه أن المخ هو مصدر الأعصاب وان القلب مصدر الأوعية الدموية. ولأنه قدر طول السنة تقديراً مدهشاً في وقته وهو 365 يوما، وست ساعات وأربع دقائق (34). وكان لثقته بالفلسفة يرجع العلل كلها تقريباً لقوة النجوم وحركتها، وكاد يبعد الله عن حكم العالم (35). واتهمه رجال محاكم التفتيش بالإلحاد؛ غير أن المركيز أزودست Azzo d'Este والبابا هونوريوس الرابع كانا من بين مرضاه فبسطا حمايتهما عليه. ثم اتهم مرة أخرى في عام 1315، ونجا هذه المرة من المحاكمة بان مات ميتة طبيعية. وحكم قضاة التفتيش بان تحرق جثته في ميدان الحريق، ولكن أصدقاءه أخفوا رفاته إخفاء محكما اضطرت المحكمة أن تنفذ حكمها بحرق صورة له (36).
ووجد تومس أكوناس بعد انتقاله من إيطاليا إلى باريسان فلسفة ابن رشد قد استحوذت من زمن بعيد على جزء كبير من الجامعة، ويؤيد هذا ما لاحظه وليم الأوفرني في عام 1240 من أن في الجامعة (كثيرين من الرجال يلتهمون هذه النتائج (من فلسفة ابن رشد) من غير تمحيص)؛ وان تومس نفسه وجد فلسفة أبن رشد منتشرة بين شباب الجامعة (37). ولعل ما نقله تومس عن هؤلاء قد روع البابا أسكندر الرابع (1256) فكلف ألبرتس مجنس أن يكتب رسالة في وحدة العقل ضد فلسفة ابن رشد. ولما جاء تومس ليدرس في باريس (1252 - 1261، 1269 - 1276) كانت حركة الفلسفة الرشدية قد بلغت ذروتها؛ وقد درس زعيمها في فرنسا سيجر البرابنتي Siger of Barbant في هذه الجامعة من 1266 إلى 1276. وظلت فلسفة ابن رشد والكثلكة تتخذان من جامعة باريس ميداناً لاقتتالهما جيلا من الزمان.
وكان سيجر (1235؟ - 1281) وهو قس من غير رجال الدين الاديرة متجراً في العالم؛ وحتى الأجزاء القليلة الباقية من مؤلفاته تنقل عن الكندي، والفارابي، والغزالي، وأبن سينا، وابن باجة، وأبن جبروئيل، وأبن ميمون. ويقول سيجر في سلسلة(17/107)
من الشروح والتعليقات على أرسطو، وفي مقالة جدلية ضد رجلي الفلسفة الذائعة الصيت، ألبرت وتومس، يقول سيجر في هذه وتلك أن ألبرت وتومس يفسران الفلسفة تفسيراً خاطئاً وان ابن رشد يفسرها تفسيراً صحيحاً (39). وهو يستخلص ما يستخلصه ابن رشد من أن العالم أزلي، وان القانون الطبيعي لا يتبدل، وان نفس النوع وحدها هي التي تبقى بعد موت الفرد. ويقول سيجر أن الله هو العلة النهائية، لا العلة الفعلية، للأشياء- وهو هدف الخليقة لا علتها. وقد افتتن بالمنطق فقاده هذا الافتتان كما قاد فيكو Vico ونتشة إلى الإيمان بعقيدة تسلسل الحادثات تسلسلاً لا نهائياً فقال: بما أن جميع الحادثات الأرضية تحددها في نهاية الأمر تجمعات النجوم، وبما أن عدد التجمعات الممكن حدوثها محدودة، فان كل تجمع لا بد أن يتكرر بصورته نفسها المرة بعد المرة في زمن لا نهائي، تكراراً تعقبه حتما نفس النتائج التي أعقبته من قبل؛ وبذلك تعود (نفس الأنواع، ونفس الاراء، والقوانين، والأديان) (40). وقد حرص سيرجو على أن يضيف إلى هذا (ونحن نقول هذا أخذاً برأي الفيلسوف، دون أن نقطع بصحته) (41). وكان يضيف مثل هذا الاحتياط إلى كل رأي من آراءه الملحدة. ولم يكن يجهر بعقيدة الحقيقتين؛ وكان يعلم تلاميذه أن بعض النتائج تستتبعها آراء أرسطو ويستتبعها العقل؛ فإذا كانت هذه النتائج تناقض العقائد المسيحية، فانه يؤكد إيمانه بعقائد الدين، ويسمها هي وحدها، دون الفلسفة بميسم الحق (42).
ويدل تقدم سير إلى المطالبة بان يكون مديراً للجامعة على انه كان له فيها اتباع كثيرون، وان لم يوفق في طلبه هذا (1271). وليس أدل على تمكن فلسفة ابن رشد في جامعة باريس من تنديد إتين تمبييه Etienne Tempier أسقف باريس بهذه الحركة المرة بعد المرة. ففي عام 1269 حكم بأن ثلاث عشرة(17/108)
قضية من القضايا التي يعلمها في الجامعة بعد الفلاسفة مبادئ الحادية لا تتفق مع الدين، وهذه القضايا هي:
انه لا يوجد في الناس كلهم إلا عقل واحد .... وان العالم أزلى ... وانه لم يوجد قط رجل أول ... وان النفس تفسد بفساد الجسم ... وان إرادة الإنسان تريد وتختار بحكم الضرورة ... وان الله لا علم له بالحوادث الفردية ... وان أعمال الإنسان لا تسيطر عليها العناية الإلهية (43).
ويبدو أن مدرسة ابن رشد الفلسفية ظلت تعلم كما كانت تعلم من قبل، وشاهد ذلك أن الأسقف اصدر في عام 1277 ثبتاً بتسع عشرة ومائتي مسألة قرر رسمياً إنها تسم القائلين بها بالإلحاد. وهذه المسائل، على حد قول الأسقف، كان يعلمها سيجر أو بؤيثوس الداشياوي Boethius of Dacia أو غيرهما من أساتذة جامعة باريس ومنهم القديس تومس نفسه. وكانت هذه المسائل التسع عشرة والمائتين تشمل التي حكم عليها في عام 1269 وغيرها من المسائل الشبيهة بالأقوال الآتية:
إن عملية الخلق مستحيلة ... إن الجسم إذا فسد (بالموت) لا يمكن أن يقوم بعدئذ بوصف كونه الجسم نفسه ... أن من واجب الفيلسوف ألا يؤمن ببعث في المستقبل، لان هذا لا يمكن ان يمحصه العقل ... أن أقوال علماء الدين قائمة على الطرافات ... أن علوم الدين لا تضيف شيئاً ما إلى معلوماتنا ... أن الدين المسيحي يقف في سبيل العلم ... أن الإنسان يحصل على السعادة في هذه الحياة لا في غيرها ... أن العقلاء في هذه الأرض هم الفلاسفة وحدهم ... انه ليس ثمة حالة افضل من أن يجد الإنسان فراغاً في دراسة الفلسفة (44).
وأدانت محكمة التفتيش سيجر في شهر أكتوبر من عام 1277؛ وقضى سنيه الأخيرة في إيطاليا سجيناً بأمر المحكمة الرومانية حتى اغتاله مختال نصف مجنون في أرفيتو Orvieto.(17/109)
الفصل الرابع
تطور الفلسفة المدرسية
لم يكن الحكم على هذه القضايا الإلحادية يكفي لصد هذه الهجوم الشديد على الدين المسيحي. ذلك أن الشباب ثمن بخمر الفلسفة القوي. فهل كان كسب المعركة بالالتجاء إلى العقل؟ لقد اقبل علماء الدين من الرهبان الفرنسيس والدمنيكيين، والأحبار من غير الرهبان أمثال وليم الأوفرني وهنري الغنتي Henry of Ghent، للدفاع عن المسيحية وعن الكنيسة، كما كان المتكلمون من قبلهم يدافعون عن الإسلام ضد المعتزلة.
وقسم الدفاع نفسه الى معسكرين رئيسيين: المعسكر الصوفي- الأفلاطوني ومعظم رجاله من الرجال الفرنسيس؛ والمعسكر العقلي- الأرسطوي ليس ومعظم رجاله من الرهبان الدمنيكيين. أما البندكتيون أمثال هيو Hugh ورتشرد السانت فكتوري فقد كانوا يحسون أن خير الدفاع عن الدين هو إدراك الإنسان المباشر وجود حقيقة روحية اعمق من كل تعمق ذهني. وكان (المتزمتون) أمثال بطرس رجل بلوا Blois، واستيفن رجل تورناي يقولون إن الفلسفة يجب ألا تبحث في مسائل اللاهوت، فإذا فعلت فعليها أن تتحدث وتسلك بوصفها خادماً للاهوت (46). ومن واجبنا أن نذكر أن هذا الرأي لم يكن يقول به إلا قسم من الجبهة المدرسية (47).
وعالج عدد قليل من الرهبان الفرنسيس أمثال اسكندر الهاليسي (1170؟ - 1245) المسألة عن طريق العقل، وحاولوا أن يدافعوا عن المسيحية باستخدام المصطلحات الفلسفية والأرسطوطاليسية، ولكن معظم الرهبان الفرنسيس(17/110)
لم يكونوا يثقون بالفلسفة؛ وكانوا يحسون أن مغامرات العقل مهما تأت للكنيسة بالقوة والمجد إلى حين، قد تفلت من السيطرة عليها فيما بعد، وتبعد الناس عن الدجين بعد أن تترك المسيحية ضعيفة لا نصير لها في عام جاحد فاسد الأخلاق. فكانوا لهذا يفضلون أفلاطون عن أرسطو، وبرنار عن أبلار، وأغسطين عن أكوناس. وكانوا يعرفون النفس كما عرفها افلاطون بأنها روح مستقلة تسكن الجسم وتسكن فيه، وهالهم أن يروا تومس يأخذ بتعريف أرسطو للنفس بأنها (الصورة المادية) للجسم. وقد وجدوا في أفلاطون نظرية للخلود غير الشخصي لا فائدة منها قط في قمع غرائز الناس الحيوانية. واتبعوا رأي أغسطين فوضعوا الإرادة فوق العقل في الله وفي الإنسان على حد سواء، وكان الهدف الذي يبتغونه هو الخير لا الحقيقة. وكانوا في تربيتهم للقيم يجعلون الصوفي اقرب من الفيلسوف لجوهر الحياة الخفي ومعناها.
وسيطر القسم الأفلاطوني- الأوغسطيني من جيش المدرسين على العلوم الدينية التقليدية في النصف الأول من القرن الثاني عشر. وكان اعظم الناطقين بلسان هذا القسم هو بونافنتورا التقي- وهو رجل طيب القلب طارد الإلحاد، وصوفى يكتب في الفلسفة، وعالم يستهجن العلم، وصديق مدى الحياة ومعارض لتومس أكوناس، ومدافع عن الفقر الذي يدعو إليه الإنجيل ومضرب المثل لهذا الفقر، جمعت طائفة الرهبان الفرنسيس بإشرافه ورعايته قدراً كبيراً من الثروة الجماعية ولقد ولد جيوفني دي فدنزا Giovanni di Fidanza في تسكانيا عام 1221 ثم اصبح اسمه لسبب لا نعرفه بونا فنتورا- الحظ الحسن. وكاد يموت وهو صغير من أحد أمراض الأطفال، وأخذت أمه تصلي الى القديس فرانسيس ليمن عليه بالشفاء؛ وأحس جيوفني بعدئذ بأنه مدين بحياته إلى هذا القديس. ولهذا انظم إلى اتباعه وأرسل إلى باريس ليدرس على الاسكندر الهاليسي، ثم شرع في عام 1248 يعلم اللاهوت في الجامعة، واختير في عام 1257،(17/111)
وهو لا يزال شاباً في السادسة والثلاثين من عمره، راعياً عاماً لطائفة الرهبان الفرنسيس، فلم يدخر وسعاً في إصلاح ما دبَّ في الطائفة من تراخ، ولكن دماثة أخلاقه لم تمكنه من النجاح، وان كان هو نفسه يحيى حياة الزاهد البسيطة؛ ولما حاءه الرسل يبلغونه انه اختير كردنالاً وجدوه يغسل الصحاف؛ ومات بعد عام واحد (1274) منفرط الإجهاد.
وكانت كتبه جيدة الأسلوب، واضحة، موجزة. وكان يتظاهر بأنه الجامع لها لا اكثر، ولكنه بعث في كل موضوع مسه بقلمه روح النظام، والحماسة، والتواضع الذي يستل السخائم. وكان كتابه القول الموجز خلاصة للاهوت المسيحي كثير الإعجاب، كما كان الحديث المفرد، ورحلة العقل إلى الله درة في تاج النقي الصوفي. ومن أهم مبادئه ان المعرفة الحقة لا تأتي عن طريق إدراك الحواس للعالم المادي بل تأتي لإدراك النفس للعالم الروحي عن طريق اللقانة. وكان بونا فنتورا يحب القديس تومس، ولكنه كان يعارض في قراءة الفلسفة، وينتقد في صراحة بعض ما استخلصه أكوناس من النتائج. وكان يذكر الرهبان الدمنيكيين بان أرسطو كان كافراً، وانه يجب الا توضع أقواله في منزلة أقوال آباء الكنيسة، وتساءل هل في مقدور فلسفة أرسطو أن تفسر حركات نجم من النجوم لحظة واحدة؟ (48). وهو يقول أن الله ليس نتيجة يصل إليها العقل عن طريق العقل بل هو وجود حي، الإحساس به خير من تحديده، وان الخير أسمى من الحقيقة، والفضائل الساذجة تعلو على كل العلوم. ويقولون ان الاخ إجيديو Egidio هاله في يوم من الأيام تبحر بونا فنتورا في العلم فقال له: (واحسرتاه! ماذا نفعل نحن الجهلاء السذج كي نكون خليقين بحب الله!) فأجابه بونا فنتورا بقوله: (أخي، انك لتعلم حق العلم انه يكفيك حب الله) فرد عليه أديجو بقوله: (فهل تؤمن إذن بان مقدور امرأة ساذجة ان تسره كما يسره أستاذ في اللاهوت؟). فلما أجابه بنعم اندفع ديجو الى الطريق وصاح(17/112)
في امرأة متسولة: (ابتهجي، لأنك إذا أحببت الله، قد يكون لك مكان في ملكوت السموات أعلى من مكان الأخ بونا فنتورا!) (49).
وجلي أن من الخطأ أن نظن أن (الفلسفة) المدرسية المعروفة بهذا الاسم إنما هي آراء وأساليب في البحث مجدبة متفق عليها بالإجماع. لقد كانت هناك في واقع الأمر مائة من الفلسفات المدرسية؛ فقد كانت الكلية الواحدة من كليات الجامعة تضم أحد أشباع تومس الذي يمجد العقل، واحد أنصار بونا فنتورا الذي يستهجنه ويزدريه، واحد اتباع وليم الاوفرني (1180 - 1240) الذي يقول مع ابن جبيرول بحرية الإرادة، واحد اتباع سيجر يعلم فلسفة ابن رشد. وكاد الاختلاف والنزاع بين أنصار الدين القويم يبلغان من الشدة ما بلغاه بين الدين واللادين. فكان يوحنا بكهام الأسقف الفرنسيسي يندد بأكوناس تنديداً لا يقل صرامة عن تنديد تومس بسيجر وابن رشد؛ وكتب ألبرتس مجنس في ساعة فارقة فيها صلاحه يقول: (هناك أناس جاهلون لا يتورعون في محاربة استخدام الفلسفة لكل سلاح، وأَخُصُ بالذكر من هؤلاء الرهبان الفرنسيس- أولئك الوحوش الكاسرة الذين يسبون مالا يعرفون) (50).
وكان ألبرت يحب العلم ويعجب بأرسطو الا حين يتطرق إلى الإلحاد في الدين، وكان أول من درس من الفلاسفة المدرسين جميع مؤلفات الفيلسوف الكبرى، واخذ على نفسه أن يفسرها تفسيراً يوافق الدين المسيحي. وكان مولده في لاننجن Laningen بسوايبا Swabia حوالي عام 1201 وولده هو الكونت بلستادت Bollst?dt الثري، ثم درس في يدوا وانظم الى الرهبان الدمنيكيين واشتغل في بالتدريس في مدارس الدمنيك في هلدسهايم Hildesheim، وفرايبرح Freibueg، وراتسبون Ratisbon، واسترسبورج، وكولوني (1228 - 1245) وباريس (1245 - 1248). ثم عين بعدئذ مندوباً إقليمياً(17/113)
لطائفته في ألمانيا ثم أسقفاً لراتسبون (1260) على الرغم من تفضله حياة التدريس. وتقول الرواية المأثورة انه كان يمشي حافي القدمين في جميع أسفاره (51). وفي عام 1262 سمح له أن يعتزل العمل ويأوى الى دير في كولوني، ثم ترك ما كان فيه من هدوء وهي في السادسة والسبعين من عمره (1277) ليدافع عن عقيدة تلميذه المتوفى تومس أكوناس وعن ذكراه في جامعة باريس. وافلح فيما ندب إليه، وعاد الى ديره، وتوفي في التاسعة والسبعين من عمره. وان حياته العامرة بالوفاء والإخلاص لدينه، وتواضعه الخلقي، وتعدد نواحي نشاطه العقلي، لتظهر فيها حياة الأديرة في خير مظاهرها.
وليس ثمة ما يفسر لنا كيف يستطيع رجل قضا ما قضا من الوقت في التدريس والأعمال الإدارية أن يكتب مقالات في كل فرع من فروع العلم تقريباً، ورسائل قيمة في كل فرع من فروع الفلسفة وعلوم الدين، نقول ليس ثمة شيء يفسر لنا هذا إلا هدوء حياة الأديرة الرتيبة والصبر الفائق الذي يمتاز به العلماء الألمان%=@وإلى القارئ كتب ألبرت الكبرى في الفلسفة واللاهوت بأسمائها الأصلية:
(1) في المنطق de praedicabilibus; Philosophia Rationalis Perihermenias؛ de sex principüs; de praedicamentis Analytica priora, (De interpretatione i. e) ؛ libri elenchorum; Tropica; Analytica posteriora.؛ (2) وفيما وراء الطبيعة- De unitate intellictus contra Averroistas; metaphy Sica; de fato (3) وفي علم النفس De anima; De sensu et sensato, De memoria et reminiscentia, De intellectua et intelligibili, De potentüs animae (4) وفي علم الأخلاق Ethica (5) وفي السياسة Politicia (6) وفي اللاهوت Summa de creaturis; Summa theologiae Commentarium in sententias Petri Lombardi; ommentarium de divians nominibus. وتتكون الرسائل الخمس الواردة في هذا الثبت من واحد وعشرين مجلداً من مؤلفات ألبرت التي لم تنتشر كلها بعد. @. وقلما يوجد في التاريخ من كتب هذا القدر من المكتب والرسائل والمقالات، واخذ من غيره مثل ما اخذ، او اعترف بمثل صراحته،(17/114)
بدينه لمن اخذ عنهم. ويتخذ البرت مؤلفات أرسطو أسساً لكتبه وتكاد عناوينها كلها تكون هي بعينها عناوين مؤلفات الفيلسوف القديم؛ وهو يستعين بشروح ابن رشد على تفسير مؤلفات ذلك الفيلسوف، ولكنه يفسر المؤلفات الأصيلة والشروح تفسيراً جريئاً اذا ما ناقضت الدين المسيحي. وهو يرجع الى آراء المفكرين المسلمين بدرجة جعلت مؤلفاته مصدراً هاماً بما نعرفه عن الفلسفة الإسلامية. ولا تخلو صفحتان من كتبه من أقوال يقتبسها من ابن رشد، ويرجع أحياناً إلى كتاب دلالة الحائرين لابن ميمون، ويعترف بان أرسطو اعظم مرجع في العلوم والفلسفة، وأوغسطين اعظم مرجع في علوم الدين، والكتاب المقدس اعظم المراجع في كل شيء ومقالاتهم المكدسة التي يخطئها الحصر سيئة الترتيب ولا يمكن ان يستخلص منها نظام متسق للتفكير، وهو يدافع عن عقيدة ما في موضع ثم يهاجمها في موضع اخر او في الموضع نفسه احياناً؛ ولم يتسع وقته لتصفيه متناقضاته. وكان إفراطه في الطيبة والتقي يحول بينه وبين التفكير الموضعي؛ وكان في وسعه ان يتبع تعليقاً على أرسطو برسالة طويلة مؤلفة منن اثنى عشر (كتاباً) في الثناء على مريم العذراء المباركة يقول فيها أن مريم كانت ملمة إلماماً كاملاً بالنحو، والبيان، والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك.
فما هي إذن أهم أعماله؟ أن أهم هذه الأعمال هي انه كان له نصيب موفور في البحث العلمي في ذلك الوقت وفي نظرياته؛ وانه كان في ميدان الفلسفة (قدم أرسطو للاتين)، وهو كل ما كان يهدف إليه؛ وكان له الفضل في استخدام مؤلفات أرسطو في تعليم الفلسفة؛ وجميع كنوز التفكير والجدل الوثنية والعربية واليهودية والمسيحية التي استخدمها تلميذه الذائع الصيت في فلسفته التركيبية التي تفوق فلسفة أستاذه وضوحاً وتنظيماً. ولسنا نجافي الحقيقة إذا قلنا انه لولا ألبرت لما وجد تومس.(17/115)
الفصل الخامس
تومس أكوناس
(أو تومس الأكوينى)
كان تومس، كما كان ألبرت، من أسرة شريفة، ولكنه تخلى عن الثراء لينال جنة الخلد؛ فقد كان والده الكونت لاندلف الأكويني Count Landulf من النبلاء الألمان، وابن عم بربرسا، ومن أبرز الشخصيات في البلاط الاكويني لفردريك الثاني الزنديق. كذلك كانت أمه من سلالة أمراء صقلية النورمان. ومع أن تومس ايطالي المولد فقد كان من ناحيتي أبيه وأمه ينتمي الى اصل شمالي أهم ما يجري في عرقه هو الدم التيوتوني؛ ولم يكن فيه شيء من الظرف الطليان وخبثهم، بل شب على ضخامة الجسم الالمانية، فكان كبير الرأس، عريض الوجه، أشقر الشعر، هادئاً بجده الذهني، وكان أصدقاؤه يلقبونه (ثور صقيلة الأبكم العظيم) (52).
ولقد ولد في عام 1225 بقصر أبيه في ركاسكا Roccosecca، على بعد ثلاثة أميال من أكوينو وفي منتصف الطريق بين نابلي وروما. وكان دير جبل كسينا قريباً من مسقط رأسه، وفيه تلقى تومس تعليمه المبكر، ولما بلغ الرابعة عشر من عمره بدأ دراسته في جامعة نابلي واستمرت هذه الدراسة خمس سنين؛ وكان في هذه الجامعة ميخائيل اسكت يترجم مؤلفات ابن رشد إلى اللغة اللاتينية؛ ويعقوب الأناضولي يترجم مؤلفات هذا الفيلسوف إلى اللغة العبرية؛ وبطرس الايرلندي أحد أساتذة تومس الشديد التحمس لأرسطو. وكانت هذه الجامعة تموج بالمؤثرات اليونانية والعربية، والعبرية، تصطدم فيها بالأفكار المسيحية. واتجه اخوة تومس نحو الشعر؛ ودخل أحدهم رينلدو Rainaldo(17/116)
في بلاط فرديريك وصار فيها من الصائدين بالبزاة، وطلب إلى تومس أن ينظم إليه وأيده في هذه الدعوة ببرودل فنى Piero delle Vigne وفدريك نفسه، ولكن تومس، بدلاً من ان يقبل الدعوة، انظم إلى الرهبان الدمنيكيين (1244)؛ وأرسل بعد قليل من ذلك الوقت إلى باريس ليدرس اللاهوت؛ غير أن اثنين من اخوته اختطفاه في بداية رحلته بتحريض أمهما؛ وجيء به إلى قصر ركاسكا حيث وضع تحت الرقابة مدة عام (53)، اتخذت معه في خلاله كل وسيلة لمنعه من الاتجاه إلى هذه الناحية؛ وتروي إحدى القصص، واكبر الظن أنها موضوعه، أن فتاة حسناء أدخلت إلى حجرته رجاء أن تغريه بالعودة إلى هذه الحياة الدنيا، ولكنه اختطف من المدفأة شعلة ملتهبة أخرجها بها من الحجرة، وحرق علامة الصليب التي كانت في الباب (54). وما لبثت شدة تقواه أن ضمت أمه إلى جانبه، فساعدته على الفرار؛ ثم أصبحت أخته ماركتا Marcotta، بعد أحاديث كثيرة معه، راهبة بندكتيه.
وكان ألبرت الأكبر أحد معلميه في جامعة باريس (1254)، فلما نقل ألبرت إلى جامعة كولوني تبعه تومس إليها، وظل يدرس معه فيها حتى عام 1252. وكان تومس يبدو غبياً في بعض الأحيان، ولكن ألبرت كان يدافع عنه ويتنبأ بعظمته (55). ثم عاد بعدئذ إلى باريس واخذ يدرس فيها بعد أن نال درجة البكالوريوس في علوم الدين، وحذا في هذا الوقت حذو أستاذه فبدأ سلسلة من المؤلفات يعرف فيها فلسفة أرسطو في ثياب مسيحية. وغادر باريس في عام 1259 ليدرس في المعهد الذي أقامه الديوان البابوي تارة في أناني وتارة في آرفيتو وطوراً في فيتربو. والتقى في الديوان البابوي بوليم موربيك William Moerbeke وطلب إليه أن يصدر ترجمة لاتينية لمؤلفات أرسطو من اللغة اليونانية مباشرة.
وكان سيجر برابانت وقتئذ يتزعم في جامعة باريس ثورة تدعو إلى فلسفة ابن رشد، فأرسل تومس ليقاوم هذه الدعوة؛ ولما وصل إلى باريس نقل مركز(17/117)
المعركة إلى معسكر العدو برسالته في وحدة العقل ضد فلسفة ابن رشد (1270) واختتمها بهذه الفقرة النارية التي لا عهد للناس بها:
انظروا كيف فدنا هذه الاخطاء؛ انا لم نبن هذا التفنيد على أسس من وثائق مستندة الى الإيمان بالدين، بل بيناه على علل وأقوال منقولة عن الفلاسفة أنفسهم. فإذا وجد إنسان يفخر مزهواً بحكمته المزعومة، ويرغب في نقل ما كتباه، فعليه ألا يفعل هذا في ركن من الأركان، أو أمام الأطفال لا قدرة لهم على البث في مثل هذه المسائل الشائكة. عليه ان يجيب علناً إذا كان له من الشجاعة ما يمكنه من هذا العمل، وسيجدني مستعداً لمواجهته، ولن يجد شخصي العاجز وحده، بل سيجد كثيرين غيري ممن جعلوا الحقيقة موضوع دراستهم؛ سنحارب أخطاؤه ونداوي جهله (56).
ولم تكن الحرب في ميدان واحد، لان تومس لم يكن مضطراً في هذه الفترة الثانية من اشتغاله بالتدريس أن يقاوم فلسفة ابن رشد وحدها، بل كان عليه فوق ذلك أن يصد هجمات زملائه الرهبان، الذين لم يكونوا يثقون بالعقل، ويرفضون قول تومس انه يمكن التوفيق بين أرسطو والمسيحية. ووجه جون بكهام الذي خلف بونافتورا في كرسي الرهبان الفرنسيس للفلسفة بجامعة باريس اشد اللوم إلى تومس لربطه اللاهوت المسيحي بفلسفة إنسان وثني. ويقول بكهام فيما بعد أن تومس لم يتحول عن موقفه ورد عليه (برفق وتواضع عظيمين) (57). وربما كانت هذه السنوات الثلاث التي احتدم فيها الجدل هي التي أنهكت قواه.
ودعى في عام 1272 إلى العودة إلى إيطاليا بدعوة من شارل دوق أنجو ليعيد تنظيم جامعة نابلي، ثم امتنع عن الكتابة في سنيه الأخيرة؛ ولسنا نعرف أكان سبب هذا ما اعتراه من ملل أم انه قد خاب ظنه في فائدة النقاش والجدل. ولما أن ألح عليه صديق له بان يتم كتابه الموجز في علوم الدين أجابه(17/118)
بقوله: (لا أستطيع؛ لقد تكشفت لي أشياء يبدو لي معها أن ما كتبته ليس الا هباء) (58). ودعاه جريوجوري العاشر في عام 1274 لحضور مجلس ليون؛ وبدأ سفره الطويل على ظهر بغل مخترقاً إيطاليا، ولكنه اعتراه الضعف في الطريق بين نابلي وروما فآوى إلى الفراش في دير السترسبين فسانوفا Fossanuova بكنبانيا، وتوفي في عام 1274 غير متجاوز التاسعة والأربعين من عمره.
ولما ضم بعد وفاته إلى مجمع القديسين شهد شهود بأنه كان حلو اللسان، سهل الحديث، بشوش الوجه وديعاً .. كريم الاخلاق، صبوراً إلى أقصى حد، يتلألأ وجهه بالبشاشة والتقوى الممزوجة بالرقة، شديد العطف على الفقراء (59). وكان منهمكاً في التقى والدرس انهماكاً يشغل كل تفكيره وكل لحظة يقضيها مستيقظاً في يومه. يحضر جميع الصلوات المقررة في مواعيدها، يتلو قداسا أو يستمع لقداسين في كل صباح، ويقرأ ويكتب، ويعظ ويعلم، ويصلي. وكان من عاداته قبل أن يلقي عظة أو محاضرة، وقبل أن يجلس للدرس أو التأليف، أن يصلي؛ وكان زملاؤه الرهبان يظنون أنه (مدين بعلمه إلى صلواته اكثر مما هو مدين به إلى جهود عقله) (60). وأنا لنجد من حين إلى حين على هامش مخطوطاته دعوات صالحات مثل (السلام عليك يامريم Ave Maria!) (61) . وقد انهمك في الحياة الدينية والعقلية انهماكاً قلما كان يلاحظ معه ما يحدث حوله؛ فكانت صحفته ترفع وتغير في غرفة الطعام دون ان يدري ما بها في بعض الأحيان؛ ولكن يبدو أن شهيته للطعام كانت جيدة. دعى مرة للعشاء مع جماعة من رجال الدين على مائدة لويس التاسع، فترك العنان للتفكير وهو جالس إلى المائدة حتى نسى نفسه، ثم ضرب المائدة فجأة بقبضته وصاح قائلاً: (هذه هي الحجة الدامغة ضد المانويين!). وانبه رئيس ديره على عمله هذا وقال له: انك جالس إلى مائدة ملك فرنسا، ولكن لويس اظهر من الرقة والمجاملة ما هو خليق بملك مثله، فأمر أحد اتباعه بأن يأتي للراهب المنتصر بأدوات(17/119)
كتابية (62). ومع هذا كله كان بمقدور الراهب المنهمك في أمور الدين أن يكتب في كثير من شئون الحياة العملية كتابة جيدة المعنى. وكان الناس يلاحظون كيف يستطيع أن يكيف مواعظه لتلائم عقول زملائه الرهبان المجدين في الدرس، أو عقول العامة السذج. وكان بعيداً عن التكلف، عديم مطالب الحياة، لا يسعى إلى ألقاب التعظيم، ويرفض الرقى الى مناصب الكنيسة، وقد انتشرت كتاباته في جميع العالم، ولكنها لا تحتوي على كلمة واحدة نابية؛ وهو يواجه بها كل حجة مقاومة لدينه، ويقرعها بالحسنى وفي هدوء.
وجرى على عادة زمانه وزاد عليها، فكان يعترف بصراحة بما يأخذه عن غيره، فهو يقتبس من ابن سينا، والغزالي، وأبن رشد، واسحق اسرائيلي، وابن جبيرول، وابن ميمون؛ وما من شك في أن أي طالب لا يستطيع فهم فلسفة القرن الثالث عشر المدرسية من غير أن يدرس ما سبقها من فلسفات المسلمين واليهود. ولا يشارك تومس وليم الأوفرني في تقديره لابن جبيرول، ولكنه عظيم الاجلال (للرابي ميسيز Rabbi Moyses) كما يسمى موسى بن ميمون، ويقول بما قال به هذا الفيلسوف من انه يمكن التوفيق بين العقل والدين، ولكنه يوافقه أيضاً على ان بعض أسرار الدين بعيدة عن متناول العقل؛ وينقل الحجج المؤيدة لهذا البعد من كتاب دلالة الحائرين (63). وهو يتفق مع ابن ميمون في أن مقدور العقل البشري ان يثبت وجود الله، ولكنه ليس في مقدوره ان يسموا لمعرفة صفاته، وهو يتتبع خطى ابن ميمون خطوة خطوة في بحث أزلية العالم (1). ويسترشد في المنطق وما بعد الطبيعة بأرسطو ويكاد ينقل عنه في كل
_________
(1) ويقول العالم جلسن Gilson: " لو أن ابن ميمون لم يتأثر بابن رشد فيعتنق فكرة خاصة عن الخلود، لكان في وسعنا أن نقول إن ابن ميمون وتومس يتفقان في جميع النقط الهامة" (65) وفي هذا القول شئ من المبالغة إلا إذا قلنا إن التثليث وتجسد الأقنوم الثاني، والكفارة من العناصر غير ذات الشأن في الدين المسيحي.(17/120)
صفحة من كتبه، ولكنه لا يتردد في أن يخالفه حينما يحيد الفيلسوف عن العقائد المسيحية؛ وبعد أن يعترف بان التثليث، والتجسد، والافتداء، ويوم الحساب لا يمكن إثباتها عن طريق العقل، يتقبل حكم العقل في جميع المسائل الأخرى قبولا كاملاً لا تردد فيه، ارتاع له اتباع أوغسطين. وكان ينزع الى مبادئ الصوفية في اعترافه بان بعض العقائد المسيحية فوق متناول العقل البشري، ويشاركهم في الشوق الى الاتحاد مع الله؛ ولكنه كان من جماعة (العقليين) لانه يفضل العقل على (القلب) بوصفه أداة توصل الى الحقيقة. وقد تنبأ بان أوربا مقبلة على (عصر العقل)، وكان يرى أن من واجب الفيلسوف المسيحي أن يستعد لملاقاة هذه النزعة الجديدة في ميدانها. وكان يبدأ حججه المنطقية بأقوال يقتبسها من الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، ولكنه يقول بصراحة محكمة قوية: (أن الحجة التي تستند إلى أقوال الغير أوهن الحجج) (66). ومن أقواله في هذا المعنى: (أن دراسة الفلسفة لا تهدف الى الكشف عما فكر فيه الآخرون بل تريد أن تصل إلى حقيقة الأمور) (67). وان كتاباته لتضارع كتابات أرسطو فيما يسري فيها كلها من منطق.
وقلما نجد في التاريخ كله عقلاً واحداً اخضع مثله ميدانا من ميادين التفكير بمثل هذه السعة لحسن التنظيم وللوضوح. ولن نجد في أسلوب تومس ما يبهر أو يخلب لبنا، فهو أسلوب سهل يصل الى الهدف من اقرب السبل، موجز، دقيق، خال من الحشو والزخرف؛ ولكننا لا نجد فيه مثل ما نجد في أسلوب أوغسطين من قوة، وسعة الخيال، وانفعال ونزعة شعرية. وكان تومس يرى أن لا محل في الفلسفة للبلاغة، وكان يستطيع إذا شاء أن ينازل الشعراء في ميدانهم؛ ذلك أن اقرب ما كتبه الى الكمال هو الترانيم والأوراد التي وضعها لصيد القربان المقدس، ومن بينها ترنيمة Lauda Sion salvatorem التي تقول بوجود جسم المسيح ودمه وجوداً حقيقيا في العشاء الرباني، وصاغها في شعر فخم(17/121)
طنان رنان. وفي التسابيح ترنيمة تبدأ بعبارة من أقوال أمبروز: Verqum supernum prodiens، وتختم بمقطوعتين Osalularis Bostia تنشدان أثناء البركة التي يمنحها الكاهن وقت العشاء الرباني، وفي صلاة المساء ترنيمة هي اعظم ما وجد من الترانيم في جميع العصور، وهي مزيج من الشعر واللاهوت:
تغن، يا لسان، بسر الجسم المجيد،
وبالدم الذي لا يقدر بمال، والذي أراقه
ملك الخلائق جميعا، وثمرة إكرام الأرحام،
فداء للعالمين.
أهدته إلينا وولدته عذراء لم يمسسها بشر،
وأقام على هذا الكوكب ينشر بذور الكلمة التي استحالت لحما،
أقام بيننا في تواضع، ثم اختتم مقامه اختتاماً عجيبا.
وفي ليلة العشاء الأخير والرسل لا يزالون مضطجعين،
مراعين كل ما تقضى به الشريعة القديمة في شأن الطعام الذي وضعته الشريعة،
الطعام الذي يطعمه الاثنا عشر مجتمعين يقدمه لنفسه بيديه،
إن الكلمة التي تجسدت تحيل الخبز بكلمة إلى لحمه؛
والنبيذ يصبح دم المسيح، وإذا عجزت الحواس أن ترى،
فليقو الطهر في القلب بالإيمان وحده.
ومن أجل هذا نجلّ هذا العشاء الرباني العظيم ونحن سجد؛
ألا فلتخل الطقوس القديمة مكانها لهذه الشعيرة الجديدة،
ولينج إيماننا عجز حواسنا المظلمة.
سبحوا بحمد الوالد والمولود وغنوا له أبهج الأغاني،(17/122)
سلام، وتكريم، وسلطان، وبركات كثيرة
وليرفع الله له تسبيحا غير منتقص
صادر عن حواسنا وقلوبنا (1).
وتكاد كتابات تومس تساوي في كثرتها كتابات ألبرت، وأن كانت حياة أولهما لا تزيد ألا قليلاً عن حياة الأخير، وقد كتب شروحاً على أحكام بطرس لمبارد، وعلى أناجيل أشعيا، وايوب، وبولس؛ وعلى كتاب تيماوس لافلاطون، وعلى مؤلفات بؤيثيوس والمؤلفات المدسوسة على ديونيسيوس، وعلى مكتب أرغنون، وفي السماء والارض، والسكون والفساد، والأفلاك، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، وفي النفس، والسياسة، والاخلاق، وفي الحقيقة، وفي السلطان، وفي الشر، وفي العقل، وفي الفضيلة، وغيرها نن كتب أرسطو؛ وكتب يبحث نقطا تثار عارضة في جلسات الجامعة. وله رسائل في قوانين الطبيعة، والكائن، والجوهر، وحكم الامراء، وعمليات الطبيعة الخفية، وكتاب في اربعة مجلدات يسمى: خلاصة المذهب الكاثوليكي ضد الوثنيين Summa de veritate catholica de contra Gentiles (1267 - 1273) وخلاصة اللاهوت Compendium theologiae (1271 - 1273) . ويملأ ما نشر من مؤلفات تومس 10. 000 صفحة من القطع الكبير ذي العمودين في كل صفحة.
وكان إعداد خلاصة الدين الكاثوليكي ضد الوثنيين بطلب من ريمند البنيافورتي Raymond of Penafort زعيم طائفة الرهبان الدمنيكيين، ليستعين به على ضم المسلمين واليهود في أسبانيا إلى الدين المسيحي. ولهذا فان تومس يكاد
_________
(1) والمقطوعتان الأخيرتان تنشدان في أثناء البركة التي يمنحها الكاهن وقت العشاء الرباني وتتلى الترنيمة كلها في موكب يوم الخميس الصعود.(17/123)
يستند في كل ما يورد من حجج في هذا الكتاب الى العقل والمنطق، وان كان يقول في أسف أن (هذا لا يكفي في الأمور المتعلقة بالله) (68). وهو يتخلى فيه عن الطريقة المدرسية في النقاس، ويعرض مادته في أسلوب يكاد يكون هو الأسلوب الحديث بعينه، ويعرضها أحياناً بمرارة لا تليق بهذا العالم الوديع الشبيه بالملاك. وهو يقول أن المسيحية دين الهي بلا ريب؛ لأنها غلبت روما وأوروبا على الرغم من دعوتها ضد ملاذ الدنيا وملاذ الجسد، وهي الدعوة التي لا يرحب بها الناس (69)؛ وهو يعترف صراحة الجزء الرابع من الكتاب بان العقائد الأساسية في الدين المسيحي لا يمكن إثباتها بالاستناد الى العقل والمنطق، وأنها تتطلب الإيمان بالوحي الإلهي كما جاء في الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين.
ويوجه تومس أوسع كتبه كلها وهو خلاصة اللاهوت الى المسيحيين أنفسهم؛ وهو محاولة لشرح مجموعة العقائد الكاثوليكية في الفلسفة واللاهوت والدفاع عنها بالاستناد الى الكتب المقدسة وكتب آباء الكنيسة إلى العقل (1). ومما جاء في مقدمة الكتاب: (سنحاول أن نتتبع الأمور المتعلقة بالعقائد المقدسة بإيجاز ووضوح بقدر ما تسمح به مادة هذا الموضوع). وقد يكون من حقنا ان نبتسم لهذا الإيجاز الذي يحتويه واحد وعشرون مجلداً، ولكن هذا ما يقوله المؤلف. والحق أن هذه الخلاصة ضخمة الحجم ولكنها بعيدة عن الحشو واللغو؛ وليست ضخامة حجمها إلا نتيجة سعة مجال بحثها؛ ذلك أن في هذه الرسالة عن اللاهوت رسائل كاملة فيما بعد الطبيعة، وفي علم النفس، والاخلاق، والقانون؛ وفيها ثمان وثلاثون رسالة، و631 سؤالاً أو موضوعاً، وعشرة آلاف اعتراض أو رد. وترتيب الحجج الخاصة بكل سؤال مما يدعو إلى الإعجاب.
_________
(1) هذا الكتاب من أوله إلى السؤال التسعين من الجزء الثالث بما فيه هذا من تأليف تومس؛ أما بقية الكتاب فقد يكون من تأليف ريجلند البيرنوي رفيقه وناشر كتبه.(17/124)
أما تركيب الكتاب فقد نال من الثناء اكثر مما يستحق، فهلا لا يضارع التنظيم المنطقي لكتاب الأخلاق لاسبنوزا او التتابع المسلسل لكتاب الفلسفة التركيبية لاسبنسر. ورسالته في علم النفس (الجزء الأول المشتمل على الأبواب من 75 إلى 94) موضوعة بين بحثه في الستة الأيام التي تم فيها الخلق وبين دراسة الإنسان وهو في عهد البراءة الأولى. وشكل الكتاب اكثر طرافة من تركيبه؛ وهو في جوهره يواصل طريقة أبلار من الحد الذي بلغته على يد بطرس لمبارد ويبلغ بها درجة الكمال: يبدأ بالسؤال، تتلوه الحجج النافية، والاعتراضات على الحجج الموجبة، ثم الحجج الموجبة المأخوذة من الكتاب المقدس، ومن كتب الآباء، والمستندة إلى العقل، ثم الردود على الاعتراضات. وهذه الطريقة تضيع الوقت أحياناً لأنها تورد حججاً واهية ثم تدحضها، ولكن النقاش أحياناً نقاش جوهري وحق. ومن خصائص تومس انه يورد الرأي المخالف لرأيه بصراحة مدهشة وقوة عظيمة؛ وبهذه الطريقة كان الكتاب خلاصة للإلحاد كما هو حصن حصين للعقائد المسيحية، ولكننا لا نستطيع أن نشكو قط من ان الشيطان لم يجد له مدافعاً قديراً.(17/125)
الفصل السادس
فلسفة تومس
1 - المنطق
ما هي المعرفة؟ هل هي نور الهي بعثه الله في الإنسان، وبغير هذا لا يمكن أن تكون؟ يخالف تومس منذ البداية أوغسطين، والمتصوفة، والقائلين بمذهب اللقانة (1): فالمعرفة في رأيه نتاج طبيعي، يحصل عليها الإنسان من حواس الجسم الخارجية، ومن الحاسة الداخلية المعروفة يا لشعور بالذات. وهي معرفة محدودة غاية في القصور، فما من عالم قد عرف حتى وقتنا هذا حقيقة الذبابة (70). ولكن المعرفة في داخل حدودها خليقة بان يوثق بها، ولا حاجة بنا لان يتولانا الغضب من أن العالم الخارجي قد يكون كله خداعاً في خداع. ويقبل تومس تعريف المدرسيين للحقيقة بأنها مطابقة الفكرة للشيء adequatio rei et intellectus، (71) . وإذ كان العقل يستمد كل معلوماته الطبيعية من الحواس (72) فان معرفته المباشرة للأشياء الخارجة عنه مقصورة على الأجسام- أي على عالم الحس والمحسوس، وليس في مقدوره أن يعرف من طريق مباشر العالم الذي فوق المحسوس، عالم ما وراء الطبيعة، العقول التي في داخل الأجسام أو الله في خلقه؛ ولكن في وسعه عن طريق المقارنة والقياس أن يستمد من تجارب الحس معرفة غير مباشرة بالعقول الأخرى، وان يحصل بمثل هذه الطريقة على معرفة مباشرة بالله (73). أما العالم الثالث عالم ما فوق الطبيعة - حيث يوجد الله- فليس في مقدور عقل الإنسان أن يعرف عنه شيئاً ألا من طريق الوحي
_________
(1) Intuitionists(17/126)
الإلهي. وفي وسعنا ان نعرف طريق الفهم الطبيعي لن الله موجود، وانه واحد، لان وجوده ووحدانيته تتلألآن في عجائب العالم وحسن تنظيمه؛ ولكننا لا نستطيع بعقلنا وحده ان نعرف جوهرة اغو حقيقة التثليث؛ وحتى علم الملائكة أنفسهم قاصر ومحدود وإلا كانوا آلهة.
وقصور علمنا في حد ذاته دليل على وجود عالم فوق الطبيعي. ويكشف الله لنا عن هذا العالم في كتبه المقدسة؛ وكما ان من الحمق ان يقول الفلاح إن نظريات الفلسفة كاذبة لأنه يعجز عن فهمها، كذلك يكون من الحمق أن يرفض الإنسان الإيمان بالوحي الإلهي بحجة انه يبدو له في بعض النقط مناقضاً لمعلومات الإنسان الطبيعية. وعلينا أن نثق بأنه لو كانت معلوماتنا كاملة، لما كان ثمة تناقض بين الوحي والفلسفة؛ ومن الخطأ أن نقول إن قضية ما يمكن أن تكون خاطئة في الفلسفة وصحيحة في الدين؛ ذلك بأن الحقائق كلها تأتي من عند الله وهي واحدة. غير انه يحسن بنا أن نفرق بين ما نفهمه عن طريق العقل وما نعتقده عن طريق الإيمان (74)، لان ميداني الفلسفة والتصور ميدانان منفصلان؛ ويجوز للعلماء ان يبحثوا فيما بينهم ما يعترض به على الدين، ولكن (لا يحسن بالسذج من الناس أن يسمعوا إلى ما يقوله غير المؤمنين ضد الدين) لان العقول الساذجة ليس لها من الاستعداد ما تستطيع أن ترد به على المعترضين (75). ويجب على العلماء والفلاسفة، كما يجب على الفلاحين ان ينحنوا أمام قرارات الكنيسة؛ ومن واجبنا أن نهتدي بهديها في كل شيء (76)؛ لأنها هي المكان الذي أودع فيه الله الحكمة الإلهية؛ وقد أعطى البابا (الحق في ان يصدر أحكاماً نهائية في شؤون الدين حتى يأخذها الناس جميعاً بالإيمان لا يتزعزع) (77). وبغير هذا لا مفر من الفوضى العقلية، والأخلاقية، والاجتماعية.(17/127)
2 - ما وراء الطبيعة
(الميتافيزيقا)
ميتافيزيقية تومس تعريفات معقدة عويصة وفروق دقيقة يقوم عليها كلها لاهوته.
1 - الجوهر والوجود في الأشياء المخلوقة مختلفان، فالجوهر هو ما لا بد منه لإدراك الشيء؛ والوجود هو عملية الكينونة. فجوهر المثلث - أي انه ثلاثة خطوط مستقيمة تظم بينها فراغاً- واحد لا يتغير سواء وجد المثلث أو كان مجرد إدراك ذهني. أما في حالة الله فالجوهر والوجود شيء واحد؛ لان جوهرها هو انه العلة الأولى، والقوة التي يقوم عليها كل الأشياء (التي تقف تحت الأشياء) كما يقول أسبنوزا. وتعريفه يحتم وجوده لكي يوجد كل ما عداه من الأشياء.
2 - والله موجود بالحقيقة، وهو الكائن المكون لجميع الكائنات، وعلتها التي تستند إليها، وكل الكائنات الأخرى موجودة بالتصور لا غير، وبالاشتراك المحدد في حقيقة الله.
3 - وكل الكائنات المخلوقة فاعلة ومنفعلة معاً - أي أنها تفعل وتنفعل. وهي أيضاً مزيج من الكينونة والصيرورة: فلها صفات معينة قد تفقد بعضها وتكسب غيرها- فالماء مثلاً قد يدفأ. ويعبر تومس عن هذا التأثير بالعمل الخارجي أو التبدل الداخلي بلفظ الإمكانية potentia. والله وحده هو المنزه عن هذه الإمكانية، فهو لا ينفعل ولا يتبدل، وهو نشاط خالص، وحقيقة خالصة؛ وهو من بادئ الأمر كل شيء يمكن أن يكونه. ويمكن ترتيب الموجودات التي دون الله ترتيباً تنازلياً يقوم على عظم إمكانيتها في التأثر بما هو(17/128)
خارج عنها والتحدد به. وعلى هذا يكون الرجل أرقى من المرأة لان (الأب هو المبدأ الفعال، على حين ان الأم هي المبدأ المنفعل أو المادي؛ فهي تقدم مادة الجسم التي لا صورة لها، والتي تتلقى صورتها عن طريق القوة المكونة التي في منى الأب) (78).
4 - كل الكائنات ذات الأجسام تتكون من مادة وصورة، ولكن الصورة هنا (كما هي عند أرسطو) ليس معناها الشكل بل العنصر الفطري المنشط المميز. وحين تكون الصورة أو العنصر الحيوي جوهر كائن ما فهي تكون صورة أساسية جوهرية، وبهذا تكون النفس العاقلة- أي القوة التي تهب الحياة والقادرة على التفكير- هي صورة الجسم الأساسية، والله هو صورة الكون الأساسية.
5 - والحقائق كلها إما جوهر أو عرض: إما أن تكون موجودات منفصلة كالحجر والانسان، او انها لا توجد الا على هيئة صفات في شيء آخر كالبياض والكثافة. أما الله فهو جوهر محض، لأنه هو الحقيقة الكاملة الموجودة بذاتها.
6 - والجواهر كلها فردية، ولا شيء غير الأفراد موجود إلا في الفكر، والفكرة القائلة بان الفردية خداع هي نفسها خداع.
7 - وفي الكائنات المكونة من مادة وصورة يكون العنصر الأساسي أو مبدأ الانفراد- أي تضاعف عدد الأفراد في النوع أو الصنف - هو المادة. أما الصورة أو المبدأ الحيوي في النوع بأكمله فهي في جوهرها واحدة. وهذا المبدأ يستخدم لكل فرد، مقداراً معيناً وشكلاً من المادة، ويستحوذ عليه، ويعطيه شكلاً؛ وهذه المادة التي تعينت بكميتها هي مبدأ الانفرادية- وليست الانفرادية هي الفردية بل الذاتية المنفصلة.(17/129)
3 - اللاهوت
المحور الذي تدور حوله فلسفة وموضوع بحثها هو الله لا الانسان، وقد كتب في ذلك يقول: (أن أرقى ما نستطيع تحصيله من معرفة عنه في هذه الحياة أن نعرف انه فوق كل ما يمكن أن يدور. بخلدنا عنه) (79). وهو يرفض حجج أنسلم الكونية، ولكنه يقترب منها حين يقول أن وجوده وجوهره شيء واحد، فالله عنده هو الوجود نفسه: (أنا من أنا).
ويقول تومس انه يمكن البرهنة على وجود الله بعلل طبيعية (1) فالحركات كلما تنشأ من حركات سابقة، وهذه تنشأ من أخرى قبلها اسبق منها رجوعاً لا نهاية له وهذا مستحيل (2) كذلك يتطلب تسلسل العلل علة أولى (3) والعرضي، وهو ما قد يكون ولكن لا يتحتم أن يكون، يعتمد على الضروري الذي لا بد أن يكون؛ ويعتمد الممكن على الواقع، وهذا التسلسل يرجع بنا الى كائن ضروري هو الحقيقة الخالصة (4) والأشياء طيبة، وحقه، وسامية، بدرجات مختلفة، ولا بد أن يكون هناك اصل أو مصدر لهذه الفضائل الناقصة يبلغ حد الكمال في الطيبة والحقيقة والسمو (5) في العالم آلاف من الشواهد الدالة على ما فيه من نظام، وحتى الجمادات نفسها تتحرك بطريقة منظمة، وكيف يمكن وجود هذا إلا إذا كانت هناك قوة عاقلة هي التي خلقت هذه الأشياء؟ (1).
وإذا ما استثنينا مسالة وجود الله قلنا أن تومس يكاد يكون لا إداريا في اللاهوت الطبيعي (لا نستطيع أن نعرف ما هو الله، بل نعرف فقط ما لا يمكن أن يكونه) (82) - انه لا يترك، ولا يتعدد، ولا يتحول، ولا يحيط به زمان ولم تريد العقول المتناهية في الصغر ان تزيد علمها بما لا نهاية له؟ ويقول تومس
_________
(1) 221، 5 منقولة عن ألبرت عن أرسطو (3) عن ابن ميمون (4) عن أنسلم.(17/130)
أن من الصعب علينا أن نتصور الروح غير المادية (وهو يسبق برجسون في قوله هذا) لان العقل يعتمد على الحواس، ولان تجاربنا الخارجية كلها مقصورة على الأشياء المادية؛ وعلى هذا (لا نعرف الأشياء المجردة من الأجسام، والتي لا صور لها، إلا بمقارنتها بالأجسام المحسوسة التي لها صور) (83). وليس في مقدورنا أن نعرف الله (كما يقول ابن ميمون) إلا عن طريق المجاز والتشبيه، فستدل عليه من أنفسنا ومن تجاربنا؛ وعلى هذا فإذا كان في الناس خير، وحب، وحق، وعقل، وقدرة، وحرية، أو أي ميزة اخرى، فلا بد ان تكون هذه أيضاً في خالق الإنسان، وان تكون فيه بدرجة أعلى تتفق مع النسبة الموجودة بين اللانهائية وبيننا نحن. وإذا ما استعملنا ضمائر المذكر حين نتحدث عن الله فليس ذلك إلا من قبيل التيسير، أما الحقيقة فليس ثمة ذكر وأنثى في الله ولا في الملائكة. والله واحد لأنه حسب تعريفه هو الوجود ذاته، وان السير العالم الموحد ليكشف عن عقل واحد وقانون واحد. وان القول بوجود ثلاثة أقانيم في هذه الوحدة الإلهية له سر غامض لا يدركه العقل، ولا بد أن تعتقده بإيمان الواثقين.
وليس في مقدورنا كذلك أن نعرف هل خلق العالم في وقت بعينه، وبذلك يكون قد خلق من لاشيء، أو هل هو أزلي كما يظن أرسطو وابن رشد؟ ومن رأيه أن الحجج التي يدلى بها رجال الدين ليثبتوا بها خلق العالم في زمن بعينه حجج واهية يجب رفضها (حتى لا تبدو العقيدة السمحة بأنها قائمة على أسانيد منطقية جوفاء) (84). ويستنتج تومس من هذا أن علينا أن تعتقد بالاستناد إلى إيماننا وحده بخلق العالم في وقت معين؛ إذ ليس ثمة وقت بلا تغيير، ولا مادة تتحرك. وهو يحاول بأقصى جهده ان يشرح كيف ينتقل الله من لا خلق إلى خلق دون أن يعتريه تغير. وعملية الخلق في رأيه أزلية، ولكنها(17/131)
تشمل في إرادة القيام بها تحديد الوقت الذي يتطلبه ظهور نتائجها (85) - وتلك طريقة ظريفة يروغ بها هذا الرجل العنيد من المشكلة التي يواجهها.
والملائكة في رأيه هم أرقى طبقات الخلق، وهم عقول بلا أجسام، غير قابلين للفساد، مخلدون. وهم رسل الله في حكم العالم بهم تترك الأجرام السماوية وبهم تهتدي (86)؛ ولكل إنسان ملك يحرسه وكبار الملائكة يعنون بجماعات كبيرة كم الناس. وإذ كان من الملائكة عقولاً بلا مادة فان بمقدورهم أن ينتقلوا من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر من غير أن يتجاوزا ما بينهما من فضاء. ويملأ تومس ثلاثاً وتسعين صفحة في طبقات الملائكة، وحركاتهم، وحبهم، وعلمهم، وارادتهم، وكلامهم، وعاداتهم - وهذا هو اكثر أجزاء الخلاصة الطويلة تكلماً واكثر استعصاء على التنفيذ.
وكما أن هناك ملائكة فكذلك يوجد عفاريت، وهم أبالسة صغار يأتمرون بأمر الشيطان؛ وليس هؤلاء مجرد خيالات تخلقها عقول، العوام بل هم كائنات حقيقية يسيبون ما لا حصر له من الأذى؛ وفي وسعهم أن يجعلوا الرجل عاجزاً عن القيام بالوظيفة الجنسية بأن يثيروا فيه كره المرأة (87)، ويقومون بضروب مختلفة من السحر؛ فقد يرقد العفريت تحت الرجل، ويتلقى منيه، ويحمله مسرعاً في الفضاء؛ ويجامع أمرأة، فتحمل من منى رجل غائب (88). وفي وسع العفاريت أن يمكنوا السحرة من أن يتنبئوا بالحوادث التي لا تعتمد على إرادة الإنسان الحرة. وفي وسعهم أن يبلغوا الناس معلومات بأن يطيعوها في خيالهم، أو بأن يظهروا أمام عيونهم، أو يتحدثوا لهم بصوت مسموع؛ وقد يتعاونون مع الساحرات، ويساعدونهن على إيذاء الأطفال، عن طريق الحسد (89).
وكان تومس يعتقد بصدقى التنجيم في كثير من الأمور، شأنه في ذلك شأن كثيرين من معاصريه، وكثيرين من معاصرينا نحن:
يجب أن نربط بين حركات الأجسام ... على هذه الأرض وحركات(17/132)
الأجرام السماوية وهي علتها ... وثمة طريقتان يستطاع بهما تفسير قدرة المنجمين في كثير من الأحيان على التنبؤ بالحقائق برصد النجوم: أولاهما إن عدداً كبيراً من الناس يسيرون وراء انفعالاتهم الجسمية، وبذلك تتجه أعمالهم في معظم الأحيان حسب ميل الأجرام السماوية، على حين إن هناك قلة منهم -وهم العقلاء وحدهم- يهدؤون ميولهم بعقولهم ... وثانيتهما ناشئة من تدخل العفاريت (90).
بيد إن (أعمال البشر لا تخضع لفعل الأجرام السماوية إلا خضوعاً عارضاً وبطريق غير مباشر) (91)؛ وفيها مجال كبير لحرية الآدميين.
4 - علم النفس
يعنى تومس ببحث المشاكل الفلسفية التي يتضمنها علم النفس، والصفحات التي يخصصها لهذا الموضوع من أحسن ما في كتابه من تحليل وهو يبدأ بفكرة إن الكائن الحي عضوي معارضاً في ذلك فكرة إنه آلي: فالآلة تتكون من أجزاء تضم بعضها إلى بعض من الخارج، أما الكائن الحي فيكون أجزاءه بنفسه ويحرك نفسه بما فيه من قوة داخلية (92). وهذه القوة الداخلية المكونة هي النفس، ويعبر تومس عن هذه الفكرة بمصطلحات من كتب أرسطو: فالنفس عنده (صورة هيولية) للجسم - أي إنها هي المبدأ الحيوي والطاقة التي تعطي الكائن الحي وجوداً وشكلاً: (النفس هي المبدأ الأول لغذائنا، وإحساسنا، وحركتنا وفهمنا) (93). والنفس ثلاث درجات النفس الثابتة - أي القدرة على النماء، والنفس الحساسة - أي القدرة على الشعور، والنفس العاقلة - أي القدرة على التعقل والاستدلال. والأولى موجودة في كل ما هو حي، أما الثانية فلا توجد إلا في الحيوانات والآدميين، وأما الثالثة فلا توجد إلا في بني الإنسان. غير إن الكائنات الحية العليا تمر في نمائها الجسمي والفردي بالمراحل التي تبقى فيها(17/133)
للكائنات السفلى؛ و (كلما علت الصورة في سلم المخلوقات ... زاد عدد الأشكال الوسطى التي تمر بها قبل أن تصل إلى صورتها الكاملة) (94) -ويشبه هذا القول نظرية (الإعادة) التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي تقول إن جنين الإنسان يمر بالمراحل التي مر فيها النوع أثناء نموه.
وبينما كان أفلاطون، وأوغسطين، والرهبان الفرنسيس يظنون إن النفس سجينة في الجسم، ويقولون إن الإنسان هو النفس لا غير، كان تومس جريئاً في قبول فكرة أرسطو، وهو يعرف الإنسان - بل يعرف الشخصية نفسها- بأنه مزيج من الجسم والنفس ومن المادة والصورة (95). فالنفس وهي الطاقة الداخلية التي تبعث الحياة، وتخلق الصورة، توجد في كل جزء من أجزاء الجسم كاملة غير قابلة للانقسام (96) وهي ترتبط بالجسم بألف طريقة. فهي بوصفها نفساً نباتية تعتمد على الطعام، وبوصفها نفساً حاسة تعتمد على الإحساس، وبوصفها نفساً عاقلة تحتاج إلى الصور التي تنتج أو تتركب من الاحساسات. وحتى المقدرة العقلية والمدركات الأخلاقية تعتمد على وجود جسم سليم إلى حد معقول. فالجلد السميك يدل على النفس عديمة الإحساس (97)؛ وللأحلام، والانفعالات، والأمراض العقلية، والأمزجة أسس في وظائف الأعضاء (98). ويتحدث تومس في بعض الأحيان كما لو كان الجسم والنفس حقيقة واحدة موحدة، أي الطاقة الداخلية والصورة الخارجية لكل لا يتجزأ. ومع هذا فقد كان يبدو له واضحاً كل الوضوح ان النفس العاقلة- المجردة، المعممة، المستدلة، المصورة للكون، - حقيقة غير جسمية؛ وإننا مهما حاولنا، وعلى الرغم من ميلنا الى التفكير في جميع الأشياء بمصطلحات مادية، لا نستطيع ان نجد شيئاً مادياً في الإدراك؛ فهو حقيقة تختلف كل الاختلاف عن جميع الأشياء المادية أو المكانية؛ ويجب ان نصف هذه النفس العاقلة بأنها روحية، شيء يبعثه فينا الله وهو القوة النفسية القائمة وراء كل الظواهر المادية. والقوة غير المادية وحدها هي التي تستطيع(17/134)
ان تكون فكرة كلية، أو تقفز إلى الإمام والى الخلف في الزمان، او تدرك الكبير والصغير بدرجة واحدة من السهولة (99). وفي مقدور العقل أن يدرك نفسه، ولكن من المستحيل ان نتصور كائناً مادياً يدرك نفسه.
ولهذا فلا حرج علينا إذا اعتقدنا إن هذه القوة الروحية الموجودة فينا تبقى بعد موت الجسم؛ ولكن النفس التي تفارق الجسم على هذا النحو ليست ذات شخصية؛ فهي لا تقدر ان تحس أو تريد، أو تفكر، بل هي طيف لا قوة له ولا يستطيع أن يقوم بعمل بغير الجسم (100)، ولا تكون مع الجسم شخصية منفردة لا يجوز عليها الموت إلا إذا عادت إلى الاتحاد مع الجسم، أي مع الإطار الجسدي الذي كانت هي حياته الداخلية. ولقد كان السبب الذي دفع ابن رشد واتباعه إلى النظرية القائلة بأن (لا خلود إلا للعقل الفاعل) وحده، أو نفس الكون، أو نفس النوع، هو عدم إيمانهم ببعث الجسم. أما تومس فيسخر كل ما وهب من قوة الجدل ليدحض هذه النظرية؛ وعنده ان اختلافه عن ابن رشد في مسألة الخلود هم أهم المشاكل القائمة في القرن الذي يعيش فيه، وان ما ينشأ عن الوقائع الحربية من تبديل في الحدود وتغيير في الألقاب يبدو إلى جانبها عبثا وجنودنا لا اكثر.
ويقول تومس إن للنفس خمس صور أو قوى: النفس النباتية وبها نطعم، وننمو، ونتكاثر؛ والنفس الحاسة وبها نستقبل التنبيهات من العالم الخارجي؛ والنفس المشتهية، وبها نرغب ونريد، والنفس المحركة وبها تحدث الحركة، والنفس العاقلة وبها نفكر (101). والمعلومات كلها تبدأ بالحواس، ولكن التنبيهات لا تسقط على سطح فارغ أملس؛ بل يتلقاها بناء معقد هو مركز الإحساس المشترك، الذي يصوغ هذه التنبيهات أو الأحاسيس فيؤلف منها أفكاراً. ويتفق تومس مع أرسطو ولُك Locke في انه "لا شيء في العقل لم يكن له من قبل وجود في الحواس"، ولكنه يضيف إلى ذلك كما يضيف كانت وليبنتز قوله:(17/135)
"إلا العقل نفسه"- وهو قوة منظمة تستطيع تنبيهات التنبيهات إلى الأفكار، وأخيراً الى تلك الكليات والأفكار المجردة التي هي أدوات الاستدلال، والميزة التي اختص بها الإنسان على هذه الأرض.
والإرادة أو الرغبة هي الموهبة التي تستطيع بها النفس أو القوة الحيوية أن تتحرك نحو ما يرى العقل انه خير. ويعرف تومس الخير كما يعرفه أرسطو بأنه "هو الشيء المرغوب فيه" (102). والجمال شكل من أشكال الخير، لأنه هو الذي تسر رؤيته. ولم كانت رؤيته سارة؟ إنها تسر لما بين أجزائها من تناسب وتناسق يجعل منها كلا منظما. والعقل خاضع للإرادة لان الرغبة تستطيع أن تحدد اتجاه الفكر؛ ولكن الإرادة نفسها خاضعة للعقل لان رغباتنا تحددها الطريقة التي تدرك بها الأشياء، والآراء التي تكونها عنها (مقلدين في ذلك غيرنا عادة). وليست الحرية مستقرة حقيقة في الإرادة التي "يحركها بالضرورة" فهمنا للمادة كما يعرضها علينا العقل (103). بل هي مستقرة في التمييز ( arbitrium) : ولهذا تتناسب الحرية تناسباً مطرداً مع درجات المعرفة، والقدرة على الاستدلال، والحكمة، وعلى قدرة العقل ان يعرض صورة صحيحة للحالة القائمة على الإرادة؛ ومن ذلك يرى أن الحكماء وحدهم هم الأحرار حقاً (104). وليس الذكاء خير مواهب النفس وأسماء فحسب بل هو أيضاً أعظمها قوة: "وطلب الحكمة هو من بين مطالب الإنسان كلها أكملها، واسماها، وأعظمها نفعاً، واجلبها للسرور" (105): "وعمل الإنسان الخليق به هو أن يفهم" (106).
5 - علم الاخلاق
وإذن فغاية الإنسان الحقة هي أن يصل إلى الحقيقة في الحياة الدنيا، وان يشهد هذه الحقيقة في الله في الحياة الآخرة؛ ذلك إننا إذا سلمنا مع أرسطو بان ما يسعى إليه الإنسان هو السعادة، فأين يجد أحسنها؟ انه لا يجدها في الملاذ(17/136)
الجسمية، ولا في الشرف، ولا في الثروة، ولا في السلطان. بل انه لا يجدها في الأعمال الصادرة عن الفضيلة الخلقية، وان حصل من هذه كلها على البهجة. ولنسم كذلك بان (النظام الكامل للجسم ضروري ... للسعادة الكاملة) (107). ولكن ليس في هذه الطيبات كلها ما يضارع السعادة الهادئة الشاملة المتصلة الناشئة من الفهم. ولعل تومس كان يذكر وقتئذ قول فرجيل: (ما اسعد من استطاع أن يعرف علل الأشياء!) فاعتقد إن أسمى عمل تقوم به النفس واعظم ما تغتبط به - أي الذروة الطبيعية لعقليتها الخاصة - هي (أن ينقش عليها النظام الكامل للكون وأسبابه) (108). وان السلام الذي يعلو على الفهم لينشأ من الفهم.
ولكن هذه السعادة الدنيوية العليا نفسها لا تترك لإنسان راضياً كل الرضا قانعاً كل القناعة، فهو يعرف معرفة غامضة ان (السعادة الكاملة الحقة لا يمكن أن تنال في هذه الحياة). وان في داخله صوتاً لا يمكن إسكاته يجعله يتوق على الدوام ولفهم لا يتأثران بما يتعرض له الآدميون الفانون من تغيرات ومن صرف الزمان. وقد تجد غير هذه الشهوات ما يشبعها في الطيبات الوسطى، أما عقل الإنسان الكامل فلن يستريح إلا إذا وصل الى ذروة الحق وجماعة وهو الله (109). ففي الله وحده الخير الأسمى لأنه مصدر كل الطيبات الاخرى، ولانه علة سائر العلل، وحقيقة كل الحقائق، والهدف الأخير للإنسان هو نور النعيم الباهر- الرؤيا التي تهب السعادة (1).
وعلى هذا يكون علم الأخلاق هو الفن والعلم اللذين يعدان الإنسان لبلوغ هذه السعادة النهائية السرمدية؛ ويمكن تعريف الطيبة الخلقية أو الفضيلة بأنها السلوك المؤدي إلى غاية الإنسان الحقة وهي أن يرى الله. والإنسان بطبعه ميال الى الخير- المرغوب فيه: ولكن ما يراه هو خيراً ليس في كل الأحوال خيراً
_________
(1) وهو النور الذي يراه الملائكة والأبرار عند دخولهم الجنة. (المترجم)(17/137)
من الناحية الأخلاقية؛ وقد عصى الإنسان الله بسبب خطأ حواء في الحكم على ما هو خير، وهو يحمل الآن في كل جيل وزر هذه الخطيئة الأولى (1). وإذا ما سأل إنسان عند هذه النقطة لم خلق الله، الذي يعرف كل شيء قبل حدوثه، رجلاً وامرأة قدر عليهما أن يكونا مشغوفين بالمعرفة، وخلق جيلاً قدر عليه ان يكون ملوثاً بهذا الأثم الموروث، أجابه تومس ان المستحيل على أي مخلوق بمقتضى قوانين ما وراء الطبيعة ان يكون كاملاً، وان حرية الإنسان في أن يأثم هي الثمن الذي يجب عليه ان يؤديه نظير حريته في الاختيار. وإذ سلب الإنسان حرية الإرادة واصبح مجرد آلة ذات حركة ذاتية لا تسمو على الخير والشر بل تنحط دونهما، ولا تكون لها كرامة اكثر من إنها آلة.
وإذا كان تومس قد انغمس في عقيدة الخطيئة الاولى، وانغمس في مبادئ أرسطو، وفي الخوف من النساء واعتزلهن اعتزالاً ناشئاً من حياة الأديرة، فقد كان لابد من ان يكون سيئ الظن بالنساء، وان يتحدث عنهن حديث الرجال، وليس عليه في هذا لوم. وهو يحذو حذو أرسطو في أنانيته البالغة الخطورة حين يظن أن الطبيعة كبطارقة العصور الوسطى ترغب على الدوام في ان تخرج ذكوراً، وان المرأة مخلوق عاجز عارض، او انها ذكر أخطائه التوفيق ( mas occasisnatum) ، وأكبر الظن - على حد قوله - إنها نتيجة لضعف قوة التلقيح عند الأب، أو لعامل آخر خارجي مثل ربح جنوبية رطبة (111). وكان يظن بالاعتماد على آراء أرسطو وبعض معاصريه في علم الأحياء إن المرأة ليس لها إلا المادة المنفعلة في الذرية، أما الرجل فهو الذي يعطى الصورة الفاعلة؛ وان المرأة هي انتصار المادة على الصورة؛ وهي من ثم اضعف الأوعية في الجسم، والعقل، والإرادة. وشأنها
_________
(1) لم يكن تومس يعرف أن الكنيسة ستقر نظرية الحمل بلا دنس الخاصة بالعذراء - أي تحررها من التلوث بالخطيئة الأولى - ولهذا ظن أن مريم أيضاً قد (حملت في إثم) وقد أضاف إلى ذلك في شهامة لم تمح ما قرره قبل (أنها قد طهرت قبل أن تلد من الرحم).(17/138)
مع الإنسان شأن الحواس مع العقل. وفيها تسود الشهوة الجنسية؛ أما الإنسان فهو المعبر عن العنصر الأكثر ثباتاً. والرجل والمرأة كلاهما صوراً في صورة الله، ولكن الرجل أشبه به من المرأة. والرجل هو مبدأ المرأة وغايتها، كما أن الله هو مبدأ الكون وغايته، وهي تحتاج الى الرجل في كل شيء، أما هو فلا يحتاج إلا للتناسل؛ والرجل قادر على ان يؤدي جميع الواجبات احسن من أداء المرأة - لا يستثنى من هذا العناية بالبيت (112)، فهي لا تصلح لان تشغل أي منصب هام في الكنيسة او الدولة؛ وهي جزء من الرجل وان شئت الدقة الحرفية فهي ضلع من ضلوعه (113)؛ وعليها أن تنظر إلى الرجل نظرتها إلى سيدها الطبيعي، وان تقبل ارشاده، وتخضع لتقويمه وتأديبه، وبهذه الطريقة تؤدي رسالتها وتحظى بسعادتها.
هذا هو ما يقوله تومس عن المرأة؛ أما الشر فيبذل غاية جهده ليثبت انه في نظر علم ما وراء الطبيعة لا وجود له؛ ويقول ان الشر ليس موجوداً إيجابياً، لان كل حقيقة بوصفها حقيقة خير (114)؛ وليس الشر إلا غياب صفة أو مقدرة يجب أن تكون موجودة في الكائن بطبيعته، أو هي الحرمان من هذه الصفة أو المقدرة. فليس شراً في الرجل ألا يكون له جناحان، لكن شراً إلا تكون له يدان، مع انه ليس من الشر في الطائر إلا تكون له يدان. وكل شيء طيب كما خلقه الله، ولكن الله نفسه لا يستطيع ان ينقل كماله اللانهائي إلى مخلوقاته. والله يجيز بعض الشرور بقصد الوصول الى بعض الغايات الخيرة أو لمنع شرور اشد منها كما (تجيز بعض الحكومات ... بحق بعض الشرور- كالعهر مثلاً- خشية .. أن يؤدي منعها إضرار اشد منها) (115).
والخطيئة عمل من أعمال الإرادة الحرة حين تخرق نظام العقل الذي هو أيضاً نظام الكون. ونظام العقل هو التوفيق الصحيح بين الوسائل والغايات، وهو فيما يختص بالإنسان تكييف السلوك بحيث يؤدي إلى السعادة السرمدية. والله يهبنا(17/139)
حرية ارتكاب الخطأ، ولكنه يهبنا ايضاً، بوحيه الإلهي، الشعور بالصواب والخطأ. وهذا الضمير الغريزي ذو سلطان مطلق يجب أن يطاع مهما تكن النتيجة؛ فإذا أمرت الكنيسة إنساناً بشيء يخالف ضميره وجب عليه ان يعصى أمرها، وإذا حدثه ضميره بان الإيمان بالمسيح شر، وجب عليه أن ينفر من ذلك الدين (116).
والضمير في الأحوال العادية لا يميل بنا إلى الفضائل الطبيعية وحدها كالعدالة، والفطنة، والجلد، بل يميل بنا أيضاً الى الفضائل التي يأمرنا بها الدين كالإيمان، والأمل، والصدقات. وهذه الثلاث الصفات الأخيرة هي الصفات الخلقية التي يمتاز بها الدين المسيحي، وهي أيضاً سبب مجده. والإيمان واجب أخلاقي على الإنسان لان العقل البشري قاصر محدود؛ فعلى الإنسان أن يصدق تصديقاً قائماً على الإيمان عقائد الكنيسة التي تعلو على إدراك العقل وعقائدها التي يستطيع أن يعرفها بطريق العقل. وإذا كان الخطأ في شؤون الدين قد يؤدي بالإنسان إلى الجحيم، فان من الواجب ألا يتسامح في عدم الإيمان إلا إذا قصد بذلك تجنب شر أكبر؛ (فالكنيسة قد أجازت في بعض الأحيان شعائر الملحدين والوثنيين أنفسهم، حين كان غير المؤمنين كثيري العدد) (117). ويجب الا يسمح لغير المؤمنين بأن يكون لهم السيطرة أو السلطان على المؤمنين (118)؛ ويمكن التسامح بوجه خاص مع اليهود لان شعائرهم ترمز إلى شعائر الدين المسيحي قبل ظهوره، فتشهد بذلك على صحة هذا الدين (119). ويجب الا يرغم اليهود غير المعمدين على اعتناق الدين المسيحي (120)، ولكن الملحدين- وهم الذين تخلو عن إيمانهم بعقائد الكنيسة- يجوز إرغامهم دون ان يكون ذلك حرج على من يرغمهم (121). ويجب أن لا يعد أي إنسان ملحداً إلا إذا أصر على خطئه بعد أن تبينه له سلطة كهنويته؛ والذين يرجعون عن إلحادهم يمكن أن يسمح لهم بالتفكير عن ذنوبهم، بل يمكن فوق ذلك أن تعادلهم كرامتهم الأولى؛ فإذا عادوا(17/140)
إلى إلحادهم (جاز أن يسمح لهم بالتفكير عن ذنوبهم، ولكنهم لا ينجون من الآم الموت) (122).
6 - علم السياسة
كتب تومس في الفلسفة السياسية ثلاث مرات: في شرحه لكتاب السياسة لأرسطو، وفي الخلاصة في اللاهوت، وفي رسالة قصيرة تسمى: في حكم الأمراء De regimine principum (1) ويبدو لأول ولهة أن تومس يعيد أقوال أرسطو، ولكننا إذا واصلنا القراءة أدهشتنا كثرة ما في كتاباته من أفكار أصلية قاطعة.
فهو يقول إن التنظيم الاجتماعي أداة أوجدها الإنسان بدلاً من أعضاء الجسم للحصول على مطالبه والدفاع عن نفسه، وان المجتمع والدولة قد وجدا للفرد، ولم يوجد الفرد للمجتمع والدولة، وان السيادة تأتي من عند الله وهي حق للشعب؛ ولكن الشعب كثير العدد، مشتت، متقلب، جاهل، وهو لذلك عاجز أن يمارس حقوق السيادة بنفسه وبحكمة؛ ولهذا فانه يكل هذه السيادة إلى أمير أو زعيم آخر. وتوكيل الشعب من ينوب عنه على هذا النحو يستطاع إلغاؤه على الدوام، و (لا يحتفظ الأمير بسلطة التشريع إلا من حيث هو ممثل لإرادة الشعب) (123).
ويمكن أن ينيب الشعب عنه في ممارسة سيادته عدداً كبيراً من الناس أو عدداً قليلاً منهم أو فرداً واحداً. وتصلح الديمقراطية، والأرستقراطية، والملكية إذا صلحت القوانين وحسن تنفيذها. ويمكن القول بوجه عام أن خير
_________
(1) لم يكتب تومس من هذه الرسالة إلا الكتاب الأول والفصول 1 - 4 من الكتاب الثاني. أما بقية الرسالة فقد كتبها بطليموس اللوقي Ptolemy of Lucca.(17/141)
أنواع الحكومات هو الحكومة الملكية الدستورية، لأنها تمكن للوحدة، والاستمرار، والاستقرار. (وحكم الجماهير) كما يقول هوميروس (على يد الفرد خير من حكمهم على أيدي الكثيرين) (124). غير أن الأمير أو الملك يجب أن يختاره الشعب من أية طبقة حرة من السكان (125)؛ وإذا استبد الملك وجب خلعه بعمل منظم يقوم بع الشعب (126)، ويجب أن يظل على الدوام خادم القانون لا سيده.
والقانون ثلاثة أنواع: قانون طبيعي مثل (القوانين الطبيعية للكون)؛ والهي كالقوانين الواردة في الكتاب المقدس، وبشري أو وضعي كالقوانين التي تسنها الدولة. وقد اصبح النوع الثالث منها ضرورياً بسبب ما في طباع الناس من انفعالات، وبسبب قيام الدولة. ومن اجل هذا كان آباء الكنيسة يعتقدون ان الملكية الفردية تتعارض مع الشريعتين الطبيعية والإلهية، وإنها نتيجة لنزعة الإنسان في ارتكاب الآثام. لكن تومس لا يعترف بان الملكية تتعارض مع القوانين الطبيعية؛ فهو يبحث عن حجج الشيوعيين في أيامه ويرد عليهم كما يرد أرسطو بأنه إذا كان كل واحد من الناس يملك كل شيء فان أحداً من الناس لا يعنى بأي شيء (127). غير أن الملكية الفردية - في رأيه - وديعة عامة، (فالإنسان يجب إلا يمتلك الأشياء الخارجية على إنها ملكه الخاص بل على إنها ملك عام، وبذلك يكون على استعداد لان ينقلها الى غيره من الناس إذا ما احتاجوا إليها) (128). وإذا ما اشتهى الإنسان الكثير الزائد من الثروة، أو سعى إلى اكثر مما يحتاجه منها لحفظ مركزه في الحياة، كان طامعاً أثيما (129). (وكل ما يمتلكه بعض الناس اكثر من حاجتهم إنما يقصد به حسب القانون الطبيعي مساعدة الفقراء) و (إذا لم يوجد علاج آخر فان من حق الإنسان أن يسد حاجته من ملك غيره، بالاستيلاء عليه سراً أو جهراً) (130).
ولم يكن تومس الرجل الذي يجعل الاقتصاد علماً مملا غير شيق بفصله عن(17/142)
الأخلاق. فكان يؤمن بحق الجماعة في تنظيم أعمال الزراعة، والصناعة، والتجارة، والإشراف على الربا، وبلغ منه أن طالب بتحديد (ثمن عادل) للخدمات والسلع. وكان ينظر بعين الريبة الى عملية الشراء بثمن منخفض والبيع بثمن مرتفع. ويندد اشد التنديد بجميع أنواع المضاربة في التجارة، وبكل المحاولات التي تبذل للحصول على الكسب بالمهارة في الاستفادة من السوق (131). وكان يعارض من الإقراض بفائدة، ولكنه لا يرى إثماً في الاقتراض (لغرض طيب) من مقرض محترف (132).
ولم يكن أرقى من أهل زمانه في نظرته الى الاسترقاق، فقد كان الفقهاء السوفسطائيون، والراقيون، والرومان، يعلمون أن الناس (بطبيعتهم) أحرار؛ وكان آباء الكنيسة يوافقون على الرق ويفسرونه كما يفسرون الملك بأنه ناشئ من نزعة الإنسان الآثمة التي كسبها نتيجة لسقوط آدم. وبرر أرسطو صديق الأقوياء الرق بزعمه ان نتيجة عدم المساواة الطبيعية في الإنسان، وحاول تومس أن يوفق بين هذه الآراء المتعارضة: فقال أنه لم يكن ثمة رق في حالة البراءة، أما سقوط آدم فقد وجد أن من الخير إخضاع السذج للعقلاء، لان من لهم أجسام قوية وعقول ضعيفة فقد أريد لهم بحكم الطبيعة أن يكونوا أرقاء (133). لكن العبد ليس ملكاً لسيده إلا بجسمه لا بروحه؛ وليس العبد مرغماً على قبول الاتصال الجنسي بالسيد، ويجب أن تتبع قواعد الأخلاق المسيحية بأجمعها في معاملة العبد.
7 - الدين
وبدا لتومس انه ما دامت المسائل الاقتصادية والسياسية في آخر الأمر مسائل اخلاقية، فان من العدل أن يوضع الدين في مرتبة أعلى من مرتبة السياسة والصناعة، وان تخضع الدولة في مسائل الأخلاق لرقابة الكنيسة وإرشادها.(17/143)
وكلما سمت أغراض السلطة ازداد نبلها؛ ويجب أن يخضع ملوك الأرض، الذين يهدون الناس إلى السعادة الدنيوية، لسلطان البابا الذي يهدي الناس إلى السعادة الأبدية. على انه يجب أن تبقى الدولة صاحبة السلطان في الشئون الدنيوية، غير أن من حق البابا في هذه الشئون نفسها أن يتدخل إذا خالف الحكام قواعد الأخلاق الصالحة أو تسببوا في الأضرار بشعوبهم إضراراً كان يستطاع تجنبه. ولهذا فمن حق البابا أن يعاقب الملك المسيء أو يعفي رعاياه من يمين الولاء له؛ وفوق هذا فان من واجب الدولة إن تحمي الدين، وتؤيد الكنيسة، وتنفذ قراراتها (134).
والمهمة العليا للكنيسة أن تهدي الناس إلى سبيل النجاة؛ وليس الإنسان مواطناً في هذه الدولة الأرضية وحدها، بل هو فوق ذلك مواطن في مملكة روحية اعظم إلى ابعد حد من أية دولة أخرى. وحقائق التاريخ الكبرى تنبئ إن الإنسان قد ارتكب جرماً لا حد له بعصيان الله، فاستحق بهذا العصيان عقاباً لا حد له، وان الله الابن قد اصبح إنساناً وقاسى العار والموت، وانه قد خلق رصيداً من البركة المنجية يستطيع الإنسان أن ينجو به رغم خطيئته الاولى؛ والله يهب من يشاء من هذه البركة ما يشاء؛ وليس في مقدورنا ان نتبين أسباب اختياره، ولكن (ما من أحد من الناس قد بلغ من الجنون حداً يقول معه إن الجدارة هي سبب الاختبار الإلهي) (135). وتتردد عقيد بولس وأوغسطين الرهيبة في أقوال تومس الرفيق الظريف:
(من الخير أن يسير الله الإنسان بقضائه وقدره، لان الأشياء جميعاً خاضعة لمشيئته ... وإذا كان الناس قد هيئوا للحياة السرمدية بمشيئة الله، فان من مشيئة الله أيضاً أن يسمح لبعضهم أن يعجزوا عن بلوغ هذه الغاية، وهذا هو ما يسمى (الشقاء) ... وإذا كان قضاء الله وقدره يشمل إرادته في أن يهب البركة والمجد، فان الشقاء أيضاً يشمل إرادته في أن يسمح لشخص ما ان يقع في الخطيئة،(17/144)
وان يعاقب على تلك الخطيئة بعذاب الجحيم .. (اختارنا فيه قبل تأسيس العالم) (136).
ويبذل تومس ما وسعه من جهد ليوفق بين قضاء الله وقدره وبين حرية البشر، ويبين لم يجب على الإنسان الذي قدر له مصيره أن يعمل لكسب الفضيلة، وكيف تستطيع الصلوات أن تؤثر في الله الذي لا يتغير ولا يتحول، وماذا يكون عمل الكنيسة في مجتمع قسم أفراده من قبل إلى ناجين ومعذبين؟ وهو يجيب عن هذا بان كل ما هنالك أن الله قد عرف من قبل ما سوف يختاره كل إنسان بحريته؛ وهو يفترض أن الوثنيين جميعهم من المعذبين مع جواز استثناء عدد قليل منهم بعث الله إليهم بوحي شخصي خاص (1).
واعظم ما يناله الناجون من السعادة هو في رأيه رؤية الله؛ وليس معنى هذا انهم سيفعمونه؛ إذ لا يفهم اللانهائي غير اللانهائي؛ بيد أن المنعمين بما ينفخ فيهم من النعمة الإلهية سوف يشهدون جوهر الله (139). وبما أن الخليقة كلها قد نشأت من الله فأنها ستعود الى الله، والنفس البشرية التي هي منحة من كرمه لا تستريح حتى تعود فتنضم الى مصدرها. وهكذا تتم الدورة المقدسة دورة الخلق والعودة، وتختتم فلسفة تومس كما بدأت بالله.
8 - كيف استقبلت فلسفة تومس؟
لقد رأت الكثرة الغالبة من معاصريه إنها تكديس فضيع للاستدلالات الوثنية شديدة الخطر على الدين المسيحي؛ وصدمت مشاعر الرهبان الفرنسيس الذين كانوا يسلكون لمعرفة الله طريق الحب الصوفي الذي يقول به أوغسطين
_________
(1) إن الفقرة التي تقول أن كثيراً من المنعمين في الجنة يزيد نعيمهم بمشاهدة عذاب المعذبين توجد في ملحق كتاب الخلاصة (97: 7) وليست هذه الفقرة المخزية من أقوال تومس بل هي من أقوال ريجلند البيروني.(17/145)
(نزعة) تومس (العقلية)، ورفعة العقل فوق الارادة، والفهم فوق الحب. وعجب الكثيرون كيف يمكن الدعاء والصلاة لإله فاتر، سلبي، يُعبد كالإله الموصوفي في كتاب الخلاصة؟ وكيف يمكن أن يكون عيسى جزءاً من هذا المعنى المجرد؟ وماذا كان يقول القديس فرانسس عن الله أو بأي شيء كان يتحدث إليه؟ وبدا لهم قوله أن الجسم والنفس يكونان وحدة سيقضى على عقيدة خلود النفس وعدم فسادها، وقوله أن المادة والصورة وحدة ستؤدي، رغم إنكار تومس المتكرر، إلى الانحدار إلى نظرية ابن رشد القائلة بان العالم أزلي، وإن المادة، لا الصورة، هي مبدأ الانفرادية سيحول دون التفرقة بين نفس ونفس، وينحدر بنا إلى نظرية ابن رشد القائلة بوحدة النفس وخلودها اللاشخصي. وشر من هذا كله أن غلبة أرسطو على أوغسطين في فلسفة تومس قد بدت للرهبان الفرنسيس كأنها انتصار للوثنية على المسيحية. ألا يوجد من الآن في جامعة باريس معلمون وطلاب يرفعون كتب أرسطو فوق الأناجيل؟
ودافعت المسيحية (السنية) عن نفسها في الربع الثالث من القرن الثاني عشر من فلسفة تومس الأرسطوطيلية، كما قاوم أهل السنة المسلمون ابن رشد لاعتناقه فلسفة أرسطو ونفوه، وكما حرق اليهود السنيون في بداية القرن الثالث عشر كتب ابن ميمون لنزعته الأرسطوطيلية. فقد حدث في عام 1277 أن اصدر أسقف باريس بإيعاز البابا يوحنا الحادي والعشرين مرسوماً باعتبار 219 قضية من قضايا تومس خروجا على الدين. وكان من بين هذه القضايا ثلاث (بنوع خاص) اتهم بها الأخ تومس، وهي قوله ان الملائكة لا أجسام لها، وان كل واحد منهم يكون بمفرده نوعاً منفصلاً عن غيره؛ وان المادة أساس الانفرادية؛ وان الله لا يستطيع مضاعفة الأفراد في نوع ما من غير المادة. وقال(17/146)
الأسقف أن كل من يعتنق هذه العقائد يعد بهذا العمل وحده محروما من الدين. وبعد أيام قلائل من صدور هذا المرسوم اقنع ربرت كلواردبي Robert Kilwardby أحد كبار الرهبان الدمنيك أساتذة جامعة أكسفورد بان ينددوا ببعض عقائد تومس ومنها وحدة النفس والجسد في الإنسان.
وكان قد مضى على وفاة تومس في ذلك الوقت ثلاث سنين، ولم يكن في وسعه أن يدافع عن نفسه، ولكن ألبرت أستاذه القديم اندفع من كولوني الى باريس واقنع رهبان فرنسا الدمنيك بان يشدوا أزر زميلهم وأخيهم. ودخل راهب فرنسيسي يدعى وليم ده لا مار William de la Mare في المعركة برسالة سماها: Correctorium fratris Thomae يقول فيها ان تومس على حق في 118 نقطة، فقام راهب فرنسيسي آخر يدعى يوحنا بكنهام، كبير أساقفة كنتر برى يندد رسمياً بفلسفة تومس وينادي بالعودة الى بونا فنتورا والقديس فرانسس. وانضم دانتي الى المتنازعين فصاغ من فلسفة تومس فلسفة معدلة كانت الإطار العام الذي وضع فيه الملهاة المقدسة، واختار تومس ليقوده على السلم الموصل إلى أعلى سماء. ودامت الحرب مائة عام اقنع بعدها الرهبان الدمنيك البابا يوحنا الثاني والعشرين ان تومس من القديسين، وكان تقديسه (1323) انتصاراً لفلسفته. ووجد المتصوفة من ذلك الوقت في كتاب الخلاصة (140). اعمق واوضح عرض للحياة الصوفية الفكرية. ولما عقد مجلس ترنت (1545 - 1563) وضع كتاب الخلاصة على المذبح إلى جانب الكتاب المقدس وكتاب القوانين الكنسية (141). وفرض إجناتيوس ليولا Ignatius Loyola على اليسوعيين أن يعلموا فلسفة تومس، وقرر البابا ليو الثالث عشر في عام 1879،(17/147)
والبابا بندكت الخامس عشر في عام 1921 أن تكون مؤلفات تومس الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، وان لم يعلنا أن هذه المؤلفات سليمة من الأخطاء؛ وهذه الفلسفة تدرس الان في جميع كليات الروم الكاثوليكية؛ وقد كسبت لها انتصاراً جدداً في وقتنا الحاضر، وان كان لها نقاد من بين علماء الدين الكاثوليك، وهي الآن من أقوى أنظمة التفكير الفلسفي تأثيراً وأبقاها على الزمن، لا تقل في ذلك عن الأفلاطونية والأرسطوطيلية.
وبعد فان من السهل على من يقف الآن على كتفي السبعمائة العام الأخيرة أن يشير في مؤلفات أكوناس إلى بعض العناصر التي لم تثبت الأيام صحتها. وان مما يعيبه ويشرفه معاً انه كان كثير الاعتماد على ارسطو، وبقدر هذا الاعتماد كان يعوزه الابتكار ويظهر من الشجاعة ما أثار السبل للعقول في العصور الوسطى. وعنى تومس بالحصول على تراجم دقيقة لأرسطو منقولة عن اللغة اليونانية مباشرة، فكان لهذا يجيد معرفة مؤلفاته الفلسفية (لا العلمية) اكثر مما يجيد معرفتها أي مفكر آخر في العصور الوسطى عدا ابن رشد. ولم يكن يستكشف أن يأخذ العلم عن المسلمين واليهود، ويعامل فلاسفتهم باحترام صادر عن وثوقه بنفسه. وإنا لنجد في نظامه الفلسفي قدراً كبيراً من السخف والأباطيل التي نجد مثلها في جميع الفلسفات التي لا تتفق مع فلسفتنا؛ وان من اعجب الأشياء أن يكتب هذا الرجل المتواضع بمثل ما كتب من الطول عن الطريقة التي يعرف بها الملائكة ما يعرفون، وعما كان عليه الإنسان قبل سقوطه، وعما كان يؤول إليه أمر الجنس البشري لولا رغبة حواء في المعرفة. ولعلنا نخطئ إذ نفكر فيه على انه فيلسوف، فقد كان هو نفسه أميناً إذ سمى مؤلفه كتاباً في علم الدين، ولم يدع انه يسير وراء العقل الى حيث يقوده، ويعترف انه يبدأ بنتائجه، وهو عمل يسمه معظم الفلاسفة بأنه خيانة للفلسفة وان كانت كثرتهم تفعله. وقد كان(17/148)
مجال بحثه أوسع مما جرؤ عليه مفكر بعده عدا سبنسر، وكان في كل ميدان واضحاً هادئ المزاج بعيداً عن المغالاة يبحث عن الطريقة الوسطى المعتدلة، ومن أقواله في هذا المعنى (أن الرجل العاقل يخلق النظام) (142). ولم يفلح في التوفيق بين أرسطو والمسيحية، ولكنه وهو يحاول هذا التوفيق كسب للعقل نصراً مؤزراً سيدوم على مدى الأيام، فقد قاد العقل أسيراً إلى قلعة الدين؛ ولكنه قضى بانتصاره على عصر الإيمان.(17/149)
الفصل السابع
خلفاء تومس
يسرف المؤرخ على الدوام في التبسيط، ويتعجل فيعمد إلى حشد كبير من الأنفس والحوادث لا يستطيع قط ان يلم بها كل الإلمام أو يفهمها كل الفهم، ويختار من بينها عدداً قليلاً من الحقائق والوجوه يراها أطوع بقلمه من غيرها. وليس من حقنا أن نظن أن الفلسفة المدرسية معاني مجردة أزيلت منها آلاف الحقائق الغريبة؛ بل علينا أن ننظر إليها على إنها اسم غامض غير دقيق يطلق على مئات الفلسفات المتناقضة والنظريات اللاهوتية التي كانت تعلم في مدارس العصور الوسطى من أيام السلم في القرن الحادي عشر إلى أيام أكام Occam في القرن الرابع عشر. والمؤرخ يخضع اشد الخضوع وأثقله على نفسه بقصر الوقت ونفاذ الصبر الذي هو من طبيعة بني الإنسان؛ ويخط سطراً واحداً يحط به من قدر رجال خلدوا أسمائهم في أحد الأيام ولكنهم اختفوا الآن في طيات التاريخ. وكان من اعجب الشخصيات في القرن الثالث عشر المليء بذوي المواهب المتعددة من الرجال راومون لَلْ Ramon Lull او ريمند لَيْ Raymond Lully (1232؟ - 1315) . ولقد وُلد في بالما لأسرة قطالية Catalan وشق طريقه إلى بلاط جيمس الثاني في برشلونة، واستمتع بشاب صاخب، ثم اخذ يضيق نطاق عشقه حتى اكتفى بزوج واحدة. ولما بلغ سن الثلاثين نبذ على حين غفلة ملاذ العالم، والجسم، والشيطان، ووهب نشاطه المتعدد النواحي للتصوف والمعارف الخفية، وحب الانسانية، والتبشير بالدين، والسعي للاستشهاد. ثم درس اللغة العربية، وانشأ كلية للدراسات العربية في ميورقة، وطلب إلى مجلس(17/150)
فينا أن ينشئ مدارس للغات والآداب الشرقية تعد الناس للتبشير بين المسلمين واليهود. واستجاب المجلس لرغبته وأنشأ خمس مدارس من هذا النوع- في رومة، وبولونيا، وباريس، وأكسفورد، وسلمنقة- كان فيها كراسي للغات العبرية، والكلدانية، والعربية. ولعل إلى نفسه تعلم اللغة العبرية لأنه اصبح عالماً متبحراً في القبالة.
ويستحيل علينا أن نقسم مؤلفاته البالغ عددها 150 أصنافاً. وحسبنا أن نسجلها هنا فنقول إنه شبابه أنشأ الأدب القطالي بأن كتب عدة مجلدات من الشعر الغزلي؛ ثم ألف بالغة العربية كتاباً ترجمه فيما بعد إلى اللغة القطالية "كتاب في التفكير في الله". وليس هذا الكتاب مجرد حلم صوفي بل هو موسوعة في علوم الدين من ألف ألف كلمة (1272). وبعد عامين من ذلك الوقت، وكأنما بدل نفسه ألّف كتاباً في حرب الفروسية، وألف في الوقت عينه تقريباً كتاباً في حرب الفروسية، وألّف في الوقت عينه تقريباً كتاباً في التربية سماه "كتاب في عقائد الشباب"، ثم جرّب حظه في الحوار الفلسفي ونشر فيه ثلاثة كتب يعرض فيها وجهات النظر الإسلامية، واليهودية، والمسيحية اليونانية، والمسيحية الرومانية، والتتارية، بتسامح ونزاهة، ورفق، تثير الدهشة. وألّف حوالي عام 1283 رواية دينية طويلة سمّاها بلانكيرنا Blanquerna حكم الخبراء الذين أوتوا الصبر على قراءتها بأنها "من روائع آداب العصور الوسطى المسيحية". ثم أصدر في رومة عام 1295 موسوعة أخرى سماها شجرة العلم Arbre de sciencia حوت أربعة آلاف سؤال في ستة عشر علماً مع أجوبة عنها موثوق بها. وحارب أثناء مقامه في باريس (1309 - 1311) فلسفة ابن رشد التي كانت لا تزال باقية فيها، وذلك في عدة مؤلفات دينية صغرى وقعها بإمضاء دقيق دقة لم يعتدها وهو Phantasticus " الواهم" وظل خلال حياته الطويلة يصدر مجلدات في العلوم والفلسفة بلغت من الكثرة جداً يصعب معه حصرها.(17/151)
وافتتن في أثناء هذه المشاغل كلها بفكرة استهوت عقول العباقرة في هذه الأيام- وهي أن جميع قوانين المنطق وعملياته يمكن ردها إلى صور رياضية أو رمزية. فيقول ريموند إن "الفن العظيم"- فن المنطق- هو كتابة المدركات الأساسية للفكر البشري على مربعات متحركة، ثم جمع هذه المربعات في أوضاع مختلفة ليس القصد منها رد جميع الأفكار الفلسفية إلى معادلات وأشكال فحسب، بل يقصد بها كذلك أن تثبت بالمتساويات الرياضية حقائق الدين المسيحي. وكان ريموند يتصف بما يتصف به بعض مرضى العقول من دعة ولطف، فيأمل أن يرد المسلمين عن دينهم إلى الدين المسيحي بتأثير فنه المقنع. ورحبت الكنيسة بهذه الثقة، ولكنها لم ترض عما أقترحه من جميع أصول الدين إلى العقل ووضع التثليث والتجسد على مشرحة منطقه (144).
وأعتزم في عام 1292 أن يستعيض عن استيلاء المسلمين على فلسطين بتحويل أفريقية الشمالية إلى بلاد مسيحية، فعبَر البحر إلى تونس، ونظم فيها سراً جالية مسيحية صغيرة؛ ثم قبض عليه في عام 1307 أثناء رحلة تبشيرية إلى تلك البلاد وجيء به أمام قاضي القضاة. وعقد القاضي مناقشة علنية بين ريموند وبعض علماء الدين المسلمين. ويقول صاحب سيرة ريموند إنه انتصر فيما دار من نقاش وأنه ألقى في السجن، ولكن بعض التجار المسيحيين أفلحوا في إنقاذه وإعادته إلى أوربا. ويلوح أنه كان يتوق إلى الاستشهاد فعبر البحر مرة أخرى إلى بوجي في عام 1314، وأخذ يدعو للمسيحية علناً فرجمه الغوغاء المسلمون بالحجارة حتى مات (1315).
وإذا انتقلنا من ريموند إلى جون دنز اسكوتس John Duns Scotus كنا كمن ينتقل من كارمن إلى كلافيكورد الصافية المزاج (1). واشتق
_________
(1) تمثيليتان غنائيتان أولاهما لبيزيه والثانية لباخ. (المترجم)(17/152)
اسما جون الثاني والثالث من مسقط رأسه في دنز Duns من أعمال بروكشير Berwick-shire (؟) ولما بلغ الحادية عشرة من عمره أرسل إلى دير للرهبان الفرنسيس في دنفريز Dunfries، وانضم إلى طائفة الرهبان رسمياً بعد أربع سنين من دخول الدير. وتلقى العلم في جامعتي أكسفورد وباريس ثم علّم في أكسفورد، وباريس، وكولوني، ومات وهو كهل في الثانية والأربعين من عمره (1308)، بعد أن خلف وراءه عدداً جماً من المؤلفات معظمها فيما وراء الطبيعة تمتاز كلها بالغموض والخفاء بدرجة يندر أن تظهر مرة أخرى في الفلسفة إلا إذا ظهر اسكوتس جديد. والحق أن عمل دنز اسكوتس ليشبه إلى حد كبير عمل كانت الذي جاء بعده بخمسة قرون- فهو يقول إن العقائد الدينية يجب أن يدافع عنها بأنها لا غنى عنها من الوجهة الأخلاقية العلمية لا يتماسكها المنطقي. ورضى الرهبان الفرنسيس أن ينبذوا الفلسفة لينقذوا أوغسطين من تومس الدمنيكي فاتخذوا دكتورهم الشاب بطلاً لهم ونصيراً، وانضموا تحت لوائه، في حياته وبعد مماته، طوال عدة أجيال من الحرب الفلسفية.
وكان دنز هذا ذا عقل من أشد العقول توقداً وذكاء في تاريخ العصور الوسطى، فقد درس الرياضة وغيرها من العلوم، وتأثر في أكسفورد بجروستستى وروجر بيكين، فتكونت لديه فكرة صارمة عما يجب أن يكون الرهبان الصحيح، وطبق هذا الاختبار على فلسفة تومس فقضى بذلك على تهوره في اقتران الدين والفلسفة، ولما يكد هذا الاقتران يتم شهر العسل. وكان دنز يفهم الطريقة الاستقرائية في المنطق ولكنه كان يقول عكس ما يقوله فرانسس بيكن بالضبط، وهو أن كل استقراء، أي برهان- من النتيجة إلى العلة- برهان غير موثوق به، وإن البرهان الحقيقي الوحيد هو البرهان الاستنتاجي أي إظهار أن نتائج معينة لابد أن تحدث من طبيعة العلة ذاتها. مثال هذا أننا إذا أردنا أن نثبت وجود الله فإن علينا أن ندرس أولاً علم ما وراء الطبيعة- أي أن(17/153)
ندرس "الكائن بوصفه كائناً"، ثم نصل عن طريق المنطق الدقيق إلى الصفات الجوهرية للعالم. وفي عالم الجواهر لابد أن يكون هناك جوهر هو مصدر كل ما عداه منها وهو الكائن الأول؛ وهذا الكائن الأول هو الله. ويتفق دنز مع تومس في أن الله هو الحقيقة الخالصة ولكنه لا يفهم تلك العبارة على أنها الواقعية الخالصة بل يفهم منها أنها الفاعلية الخالصة. فالله هو أولاً إرادة لا عقل، وهو علة العلل جميعها، وهو أزلى، ولكن هذا هو كل ما نستطيع أن نعرفه عنه بطريق العقل. أما إنه إله الرحمة، وأنه ثلاثة في واحد، وأنه خلق العالم في وقت، وأنه يسيطر على جميع الأشياء بقدرته- هذه وجميع عقائد الدين المسيحي كلها تقريباً يجب أن نؤمن بها أي أن نصدقها اعتماداً على الكتب المقدسة والكنيسة ولكنا لا نستطيع إثباتها بالفعل. والحق أننا في الساعة التي نبدأ فيها باستخدام العقل في إثبات وجود الله نقع في متناقضات تحيرنا (وهي التي يسميها كانت "متناقضات العقل الخالص"). وإذا كان الله قادراً على كل شيء، فهو علة كل النقائض، ومنها كل الشرور؛ وإذن تكون العلل الثانوية ومنها الإرادة البشرية، وهماً لا حقيقة. ولكي نتلافى هذه النتائج الهدامة، ولما كانت العقيدة الدينية لازمة للحياة الأخلاقية (وهو ما يسميه كانت " العقل العملي" فإن من الحكمة ألا نلجأ إلى فلسفة تومس التي تحاول أن تثبت الديّن بالفلسفة، وأن نقبل عقائد الدين بالرجوع إلى الكتاب المقدس وإلى الكنيسة (145). وليس في مقدورنا أن نعرف الله ولكننا قادرون على أن نحبه، وهذا الحب خير من المعرفة (146).
ودنز في علم النفس "واقعي" من الطراز الدقيق الخاص به: فالكليات عنده حقيقة موضوعية بمعنى أن تلك المظاهر الموحدة التي يجرّدها العقل من الأجسام المتماثلة ليكون منها فكرة عامة، لابد أن تكون موجودة في الأجسام، وإلا لما استطعنا أن ندركها ونجردها. وهو يتفق مع تومس في أن جميع المعرفة(17/154)
الطبيعية مستمدة من الحواس، أما فيما عدا هذا فإنه يخالفه في جميع آرائه الفلسفية. فهو يقول إن أساس الانفرادية ليس هو المادة بل الصورة، والصورة بمعناها الضيق الدقيق التي نستطيع أن نقول عنها "هذه" haecceitas - أي الصفات الخاصة والعلامات المميزة للشخص أو الشيء الفردي. وليست من النفس ذاتها. وليست موهبة النفس الأساسية هي الفهم بل هي الإرادة، فالإرادة هي التي تعين إحساس أو القصد الذي يجب أن يتجه إليه العقل؛ والإرادة voluntas وحدها لا قوة الحكم ( arbitrium) هي الحرة؛ ومن رأيه أن قول مبالغ فيه لأنه يمكن تطبيقه على كل حيوان في الحقول، وليس في مقدورنا أن نثبت الخلود الشخصي، بل علينا أن نؤمن به لا أكثر.
وكان في وسع الرهبان الدمنيك أن يروا في دنز انتصار الفلسفة الغربية على الفلسفة الإسلامية، كما كان الرهبان الفرنسيس يدعون إنهم يرون في تومس انتصار أرسطو على الأناجيل، ففلسفة ما وراء الطبيعة عنده هي فلسفة ابن رشد، وفلسفة شرائع الكون هي فلسفة ابن جبيرول، ولكن الحقيقة الأساسية الداعية إلى الأسى في اسكوتس هي تخليه عن محاولته إثبات العقائد المسيحية الأساسية بالالتجاء إلى العقل. واشتط أتباعه فذهبوا في هذه المسألة إلى أبعد من هذا، وأخرجوا عقائد الدين واحدة بعد واحدة من ميدان العقل، وضاعفوا بذلك ما وضعه من الفروق والمميزات الدقيقة إلى حد جعل لفظ "الدنزى" في إنجلترا يعني الأبله المولع بالتقسيم الشّعري، والسوفسطائي: البليد والغبي. وأبى الذين يحبون الفلسفة أن يخضعوا لعلماء اللاهوت الذين نبذوا الفلسفة. وتنازعت الدراستان وافترقتا؛ وأدى رفض الدين للعقل إلى رفض العقل للدين، وانتهت بذلك المغامرة الجريئة الكبرى التي قامت في عصر الإيمان.(17/155)
وبعد فقد كانت الفلسفة المدرسية مأساة يونانية تكمن في جوهرها الأسباب التي قضت عليها. ذلك أن في محاولتها إثبات الدين عن طريق العقل اعترافاً ضمنياً بسلطان العقل، وأن اعتراف دنز أسكوتس وغيره بأن الدين في القرن الرابع عشر إضعافاً أدى إلى نشوب الثورة على طول جبهة العقائد الكنسية. لقد كانت فلسفة أرسطو هدية يونانية للمسيحية اللاتينية، وكانت أشبه بجواد طروادة يخفي في باطنه ألف عنصر من العناصر المعادية لهذا الدين. ولم تكن هذه البذور التي نبتت منها النهضة والاستنارة هي "انتقام الوثنية" من المسيحية فحسب، بل كانت فوق ذلك انتقاماً للإسلام على غير علم منه. فقد غزت المسيحية بلاد فلسطين، وأخرجت المسلمين من أسبانيا كلها تقريباً، فنقلوا علومهم وفلسفتهم إلى أوربا الغربية، وكانت هذه العلوم والفلسفة قوة من القوى العاملة على تفكك المسيحية وتفرقها، وكان ابن سينا وابن رشد، كما كان أرسطو، هما اللذين بثّا جراثيم النزعة العقلية في أوربا المسيحية.
ولكن مهما يكن من عيوب المغامرة المدرسية فإن شيئاً منها لا يمكن أن يغشى لآلآها الساطع. لقد كانت مغامرة جريئة متهورة جرأة الشباب من إفراط في الثقة وإسراف في الجدل؛ وكانت صوت أوربا الجديدة الناقهة التي كشفت من جديد قوة العقل المثيرة. ولقد استمتعت الفلسفة المدرسية في خلال القرنين اللذين سمت فيهما إلى عليائها بحرية في البحث، والتفكير، والتعليم، لانكاد نجد ما يفوقها في جامعات أوربا في هذه الأيام، وذلك على الرغم من المجالس التي كانت تطارد الإلحاد وبالرغم من محاكم التفتيش؛ واستطاعت بمعونة فقهاء القانون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أن تشحذ عقول الغربيين بما صاغته من أدوات المنطق ومصطلحاته، وبالاستدلال الدقيق(17/156)
المتقن الذي لا يفوقه في الفلسفة الوثنية شيء. وما من شك في أن هذه السهولة في الجدل قد أسرف فيها إسرافاً كبيراً، وأنها ولدت الجدل المفعم بالجشو ولغو الكلام "والتفتيت المدرسي" الذي لم يثر عليه روجر بيكن وفرانسس بيكن وحدهما، بل ثارت عليه أيضاً العصور الوسطى نفسها. ومع هذا فإن كفة الخير في هذا التراث ترجح كفة الشر. ذلك أن "المنطق، وعلم الأخلاق، وما وراء الطبيعة" على حد قول كندورسية Condorcet " مدينة للفلسفة المدرسية بما فيها من دقة لا يعرفها الأقدمون أنفسهم "، كما يقول سير وليم هملتن إن (اللغات العلمية مدينة للفلسفة المدرسية بما فيها من إحكام ودقة تحليلية" (149)، وإن أكثر ما في العقل الفرنسي من صفات خاصة ينفرد بها عما عداه - وهي حبه المنطق، ووضوحه، ودقته - قد كوّنه المنطق أيام مجده في مدارس فرنسا أثناء العصور الوسطى.
وكانت الفلسفة المدرسية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تقدماً ثورياً في التفكير البشري أو في إعادته إلى سابق عهده. ذلك أن التفكير " الحديث " يبدأ بنزعه أبلار العقلية، ويسمو إلى ذروته الأولى في وضوح تومس أكوناس ومغامراته، ويصاب بهزيمة مؤقتة على يد دنز أسكوتس، يفيق منها على يد أكاّم، ويستحوذ على البابوية حين يخضع ليو العاشر لسلطانه، وعلى المسيحية حين يقبض على إرزمس Erasmus، ويضحك بأعلى صوته في ربليه، ويبتسم في منتاني، ويصخب في فلنير، وينتصر متهكماً في هيوم، ويحزن على ما فاته من نصر في أناضول فرانس. ولقد كان الاندفاع وراء العقل في العصور الوسطى هو الذي أقام هذه الطائفة من الفلاسفة المتهورين ذوي الأسماء اللامعة والعقول الباهرة.(17/157)
الباب السابع والثلاثون
العلوم المسيحية
1095 - 1300
الفصل الأول
البيئة السحرية
كان الرومان في أوج مجدهم الإمبراطوري يقدرون العلوم التطبيقية، ولكنهم كادوا ينسون علوم اليونان البحتة. وإنا لنجد منذ العهد القديم في كتاب التاريخ الطبيعي تأليف بلنى الأكبر خرافات يظنها الناس من اختراع العصور الوسطى، ولا تكاد تخلو منها صحيفتان من ذلك الكتاب. ولقد تآزرت قلة عناية الرومان والمسيحيين بالعلوم حتى كادت تجدب البلاد منها قبل أن يغزوها البرابرة بزمن طويل وينثرون حطام المجتمع المدمر في سبل انتقال الثقافة. ودفن ما بقي في أوربا من علوم اليونان في مكتبات القسطنطينية، وحتى هذا القليل الباقي امتدت إليه يد التدمير حين نهبت المدينة في عام 1204. وهاجرت علوم اليونان في القرن التاسع إلى بلاد المسلمين عن طريق الشام، ونهبت أفكارهم فقامت في بلادهم نهضة ثقافية من أعظم النهضات وأكثرها إثارة للدهشة في التاريخ كله، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية تجاهد للخروج من ظلمات الخرافات والهمجية.
وكان لابد للعلوم والفلسفة في العصور الوسطى أن ينمو غرسهما في جو من(17/158)
الأساطير، والخرافات، والمعجزات، والفأل، والطيرة، والعفاريت، والهولات، والسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، وهي العقائد التي لا تنتشر إلا في عصور الفوضى والخوف. كل هذه كانت توجد في العالم الوثني، ولا تزال توجد في هذه الأيام، ولكنها يخفف من حدتها فكاهة المدنية والعقول المستنيرة. وكانت ذات سلطان قوي عند الأقوام الساميين، وأضحت لها الغلبة بعد أيام ابن رشد وأبن ميمون، وحطمت فيما بين القرن السادس والقرن الحادي عشر أسوار الثقافة في غربي أوربا، وغمرت عقول الناس في العصور الوسطى في بحر زاخر من الآراء الغامضة الخفية والسذاجة التي تصدّق كل ما يقال مهما كان بعيداً عن المعقول. وحسبنا أن نذكر مثلاً لذلك أن أوغسطين كان يعتقد أن آلهة الوثنيين لا تزال موجودة في صورة عفاريت، وأن جنّ الحراج وجنيّاتها حقيقة (1). كما كان أبلار يظن أن الشياطين تستطيع أن تقوم بأعمال السحر لمعرفتها الوثيقة بأسرار الطبيعة (2). وكان ألفنسو الحكيم يؤمن بالسحر ويقبل النبوءات عن طريق النجوم (3)، وإذا كان هذا هو اعتقاد أولك الرجال فكيف يشكّ فيه من هم أقل منهم شأناً؟
وتسربت طائفة كبيرة من الكائنات الخفية غير الطبيعية من الوثنية إلى المسيحية، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه لا تزال تتسرب إليها من ألمانيا واسكنديناوة وأيرلندة في صورة سَحَرة، وجن، ومردة، وجنيَّات، وأغوال، وهولات عجيبة، وشياطين وعفاريت تمتص الدماء. وظلت خرافات جديدة تدخل أوربا من بلاد الشرق؛ فكان الأموات يمشون في الهواء في صورة أشباح، وكان الخلائق الذين باعوا أنفسهم للشيطان يجوسون خلال الغابات والحقول كما كانت تجوس خلالها الذئاب؛ وكانت أرواح الأطفال الذين ماتوا قبل أن يعمدوا تغشى المستنقعات وتظهر للناس في صورة غاز المستنقعات المضئ؛ ولما أن رأى القديس إدمند رتش St. Edmund Rich جماعة من الغربان السود أدرك من(17/159)
فوره أنها سرب من الشياطين جاءت لتحمل روح غراب في تلك المنطقة (4)؛ وكانت كثير من قصص العصور الوسطى تقول إنه إذا خرج شيطان من جسم رجل، فإن في مقدور من حوله أن يروا ذبابة كبيرة سوداء تخرج من فمه (5)؛ وكانت دنيا الشياطين لا يعتريها الضعف مطلقاً.
وكانت مئات الأشياء - كالأعشاب، والحجارة، والنمائم، والأقراط، والجواهر - تلبس لكي ترد بقوتها السحرية الشياطين وتأتي للابسها بالحظ الطيب. وكان حذاء الفرس مجلبة للحظ الطيب لأنه على شكل الهلال، الذي كان في وقت ما إلهة معبودة. وكان الملاحون الذين هم تحت رحمة العناصر الطبيعية، والفلاحون الذين تتحكم فيهم تقلبات الأرض والسماء، يرون خوارق الطبيعة أينما ساروا، ويعيشون في جو من الخرافات والأوهام. وانتقل الاعتقاد بأن لبعض الأعداد قوى سحرية من فيثاغورس عن طريق الآباء المسيحيين: فكان رقم 3 وهو عدد الثالوث المقدس أكثر الأعداد قداسة، وكان يرمز إلى النفس البشرية؛ وكان الرقم 4 يمثل الجسم؛ ورقم 7 وهو مجموع الرقمين يرمز إلى الإنسان الكامل؛ ومن ثم كانت فضائل الرقم 7 - سبعة أعمار الإنسان، والكواكب السبعة، والسبع فضائل الرئيسية، والخطايا السبع المهلكة. وكانت عطسة في غير الوقت المناسب نذير سوء. وكان من الخير أن يتقى شرّها بعبارة (يرحمك الله)، كلما حدثت. وكان مزيج من الدواء يعطى لتوليد الحُب أو القضاء عليه؛ وكان منع الْحَمل ببصق ثلاث مرات في فم ضفدعة، أو إمساك حصاة من حجر اليشب باليد أثناء الجماع (6). وكان أجوبار Agobard المستنير كبير أساقفة ليون Lyons في القرن التاسع عشر يشكو من أن المسيحيين يؤمنون بهذه السخافات التي لم يكن يستطيع الإنسان قبل ذلك الوقت أن يحمل الكفرة على تصديقها) (7).
وقاومت الكنيسة وثنية هذه الخرافات، ونددت بالكثير من المعتقدات(17/160)
وأعمال الشعوذة، وعاقبت مرتكبيها بضروب من الكفارات متدرجة في صرامتها، فكانت تندد بالسحر الأسود - الالتجاء إلى العفاريت لنيل السلطان على الحوادث -، ولكن هذه الضرب من السحر كان واسع الانتشار في ألف مكان خفي. وكان الذين يمارسونه يوزعون سراً كتاب اللعنة المحتوي على أسماء العفاريت الكبرى، ومساكنها، وقواها الخاصة (8). وكان كل إنسان تقريباً يؤمن ببعض الوسائل السحرية التي تحول مقدرة الكائنات فوق الطبيعية إلى غايات محبوبة. وهاهو ذا يوحنا السلزبري يحدثنا عن ضرب من السحر يستخدمه شماس وقس كبير أساقفة (9). وكان أبسط أنواع السحر ما يحدث بتلاوة الرقية وهي عبارة تتلى عدة مرات في العادة؛ وبها يمكن اتقاء شر، وشفاء من مرض، وإبعاد عدو من الطريق. وأكبر الظن أن معظم المسيحيين كانوا يعدَون علامة الصليب، والصلاة الربانية، والسلام عليك يا مريم Ave Maria رقي سحرية، ويستخدمون الماء المقدس، والعشاء الرباني على أنهما من الطقوس السحرية ذات الآثار المعجزة.
وكاد الاعتقاد بوجود النساء الساحرات يكون عاماً في ذلك الوقت؛ فها هو ذا كتاب التوبة الذي وضعه أسقف إكستر Exter يندد بالنساء اللائي يدعين القدرة على تبديل عقول الرجال بضروب من السحر، كتبديل الكره حُبَّاً، والحب كُرهاً، أو (سحر بضائع الناس وسرقتها)، أو (يدعين القدرة على أن يركبن في بعض الليالي على ظهور بعض الدواب مع حشد من العفاريت في صورة النساء، وعلى أن ينضممن إلى تلك الجماعات) (10) - وذلك هو (سبت الساحرات) الذي ذاعت سمعته السيئة في القرن الرابع عشر. وكان من ضروب سحر النساء السهلة صنع صورة من الشمع للضحية المقصودة، وإنفاذ الأبر فيها، وتلاوة صيغ من اللعنات عليها؛ وقد أتهم وزير من وزراء فليب الرابع بأنه أستأجر ساحرة لتفعل هذا بصورة الملك. وكان من المعتقدات المنتشرة أن بعض النساء يستطعن أن(17/161)
يؤذين أو يقتلن بنظرة من (عيونهن الحاسدة). وكان برثولد الرجنزبرجي Berthold of Regenesburg يظن أن سيلقى في الجحيم من النساء أكثر ممن سيلقى فيها من الرجال لأن كثيرات من النساء يمارسن فنون السحر - فلديهن (رُقي للحصول على الزواج، ورقي للزواج، ورقي قبل مولد الطفل، ورقي قبل التعميد ... ومن عجب أن الرجال لا يفقدون عقولهن بسبب فنون السحر الرهيبة التي تمارسها النساء عليهن) (11). وكانت قوانين القوط الغربيين تتهم النساء باستحضار العفاريت، وبتقريب القرابين للشياطين، وبإثارة العواصف وما إلى ذلك، وتأمر بأن تحلق رؤوس من تثبت عليهن هذه الجرائم، وجلدهن مائتي جلدة (12). وكانت قوانين كانوت Cnut في إِنجلترا تعترف بأن من المستطاع قتل إنسان بالسحر. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر سهلة مع أصحاب هذه العقائد الشعبية، ترى فيها بقايا وثنية لن تلبث أن تزول، ولكن الذي حدث كان عكس هذا، فقد أخذت تزيد وتنتشر؛ حتى إذا كان عام 1298 شنت محكمة التفتيش حملة قوية بغية القضاء على السحر بحرق الساحرات علناً. ذلك أن الكثيرين من رجال الدين كانوا يعتقدون مخلصين أن من النساء من كن على صلة بالعفاريت، وأن من الواجب أن يحمي المؤمنون من رقاهن السحرية. ويؤكد لنا قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach أن كثيرين من الرجال في أيامه يتحالفون مع الشياطين (13)، ويقال أن من يمارسون السحر الأسود كانوا يحتقرون الكنيسة ويسخرون من شعائرها بأن يعبدوا الشيطان بقداس أسود (14). وكان كثيرون من المرضى وضعاف النفوس يعتقدون أنهم قد لبستهم العفاريت. ولربما كان القصد من الأدعية، والصيغ، والاحتفالات التي تتلى أو تقام لإخراج هذه العفاريت والتي تستخدمها الكنيسة لهذا الغرض، أن تتخذ علاجاً نفسياً لتهدئة عقول المخرّفين.
وكان الطب في العصور الوسطى إلى حد ما فرعاً من اللاهوت والشعائر(17/162)
الدينية؛ فقد كان أوغسطين يظن أن أمراض الآدميين تسببها العفاريت، ووافقه لوثر على ظنه هذا؛ وبدا من ثم أن علاج الأمراض بالصلوات، وعلاج الأوبئة بالموكب الدينية وإقامة الكنائس، أمر يتفق مع المنطق السليم. ومن أجل هذا بنيت كنيسة سانتا ماريا دلاسالوتي Santa Maria della Salute في البندقية لمقاومة الطاعون؛ وقد شفيت تلك المدينة - على حد قولهم - من وباء الزحار بفضل الصلوات التي أقامها القديس جربولد Gerbold أسقف بايو Bayeux (15) . وكان الأطباء الصادقون يرحبون بما يسديه الإيمان بالدين من عون لنجاح وسائل العلاج، فكانوا يوصون بإقامة الصلوات، ولبس التمائم (16)؛ ولهذا نجد منذ عهد إدورد المعترف لا بعد الحكام الإنجليز يباركون الخواتم لهذا العلاج الجذام (17). وكان الملوك الذين نالوا القداسة بلمس المخلفات الدينية يشعرون أن في مقدورهم علاج المرضى بوضع أيديهم عليهم؛ وكان يظن أن المصابين بالداء الخنازيري يستجيبون أكثر من غيرهم للمس الملوك؛ ولهذا سمي هذا المرض (داء الملك King's evil) . وما أكثر ما تحمل القديس لويس من العناء الطويل في مس المصابين بهذا الداء، ويقال إن فليب فالوا (مس) ألفاً وخمسمائة من الأشخاص في جلسة واحدة (18).
وكان ثمة وسائل سحرية للمعرفة وللصحة جميعا، فقد انتشرت في العصور الوسطى كلها معظم الوسائل الوثنية التي كانت تتبع التنبؤ بالغيب أو رؤية الغائبين على الرغم من تنديد الكنيسة بهذه الوسائل؛ مثال ذلك أن تومس أبكت Thomas à Becket أراد أن يسدي النصح إلى هنري الثاني في مشروعه لغزو بريطاني فاستشار لذلك عرّافاً بزجر الطير ومراقبة طيرانها، وقارئ كف عرف مصير الحملة بدراسة خطوط يده (19). ويدعي قارئو الكف أن (علمهم) هذا مؤيد من عند الله، ويستدلون على صدق السحر بآية من سِفر الخروج (الآية الثامنة عشر من الإصحاح الثاني والعشرين) التي تقول: لا تدع ساحرة تعيش.(17/163)
وكان غير هؤلاء من المتنبئين يحاولون معرفة الغيب بمراقبة حركات الرياح، أو المياه، أو الدخان المتصاعد من نار. وكان بعضهم يعلمون أن مواضع خبط عشواء على الأرض (أو أية مادة من مواد الكتابة) ويصلون هذه النقط بخطوط، ويتنبئون بحظ السائل بالنظر في الأشكال الهندسية التي تحدث بهذه الطريقة. ويقال أن بعضهم كانوا يتنبئون بالمستقبل باستحضار أرواح الموتى؛ من ذلك أن ألبرتس جروتس Albertus Grotus استحضر - على حد قولهم - روح زوجة الإمبراطور فردريك بربرسا بناء على طلبه (20). ومنهم من كان يستشير كتب التنبؤ بالغيب. كالكتب التي يقال أنها تحتوي على نبوءات السيبلات Sibyls أو من مرلين Merlin أو سليمان. ومنهم من كان يفتح الكتاب المقدس أو الإنياذة في غير موضع معين، ويتنبأ بالمستقبل بقراءة الآية أو بيت الشعر الذي تقع أعينهم عليه. وكان أكثر المؤرخين جداً ووقاراً في العصور الوسطى يجدون - كما وجد ليفي - أن الحوادث ذات البال قد عرفت قبل وقوعها إما مباشرة أو رمزاً، بالنذر، أو الرؤى، أو النبؤات، أو الأحلام. وكانت توجد أكداس من الكتب - ككتاب آرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova - تعرض أحدث التفسيرات العلمية للأحلام - ولم تكن هذه التفسيرات أكثر سخفاً مما كتبه أشهر العلماء في القرن العشرين. وكان الناس في الزمن القديم يمارسون الأساليب المتبعة للتنبؤ أو الجلاء البصري كلها تقريباً كما يمارسونها في هذه الأيام.
غير أن زماننا الحاضر، على الرغم مما بذل فيه من بعض الجهود، لم يبلغ ما بلغه عصر الإيمان - في الإسلام أو اليهودية أو المسيحية - من اعتقاد بأن المستقبل مكتوب في النجوم كتابة لا يستطيع حل رموزها (1). فإذا كان مناخ الأرض - على حد قولهم - ونمو النباتات يتأثران تأثراً واضحاً بالأجرام السماوية،
_________
(1) لعل الكاتب يريد أن بعض المسلمين كانوا يعتقدون أن المستقبل مدون في النجوم وربما كان هذا صحيحاً ولكن الدين الإسلامي نفسه لا يشير بهذا تصريحاً ولا تلميحاً. (المترجم)(17/164)
فكيف لا تؤثر هذه الأجرام، في أحوال الناس والدول، بل كيف لا تحدد هذه الأحوال تحديداً فتسيطر على نموهم، وطبيعتهم، وأمراضهم، ومراحل حياتهم، وخصوبتهم، وما يفتشوا بينهم من أوبئة، وما يقع لهم من أحداث وثورات، وتقرير مصيرهم؟ هذا ما كان راسخاً في عقل كل إنسان تقريباً في العصور الوسطى. وقلما كان يخلو بيت من ملك أو أمير من منجم محترف. وكان الأطباء يحجمون مرضاهم، كما لا يزال كثير من الفلاحين يبذرون حبهم، حسب أوجه القمر؛ وكانت معظم الجامعات تدرس مناهج في التنجيم، ويقصدون به (علم النجوم)؛ وكان علم الفلك نفسه جزءاً من التنجيم، وكان من أكبر أسباب تقدمه اهتمام الناس بالتنجيم وأغراضه. وكان العلماء الجادون يقررون أنهم وجدوا علاقات ثابتة منتظمة يمكن التنبؤ بنتائجها بين الأجرام السماوية والأرض؛ فالذين يولدون وزحل في أوجه يكونون باردي المزاج، نكدين، منقبضي الصدور؛ والذين يولدون والمشتري في أوجه يكونون معتدلي المزاج مرحين؛ ومن يولدون تحت تأثير المريخ يكونون ملتهبي المزاج ذوي نزعة عسكرية؛ ومن يولدون تحت تأثير الزهرة يتصفون بالرقة وكثرة النسل؛ ومن يولدون تحت تأثير عطارد يصيرون خلائق منقلبين لا يثبتون على حال؛ ومن يولدون والقمر في كبد السماء يكونون سوداويين قد تصل حالهم إلى الجنون. وكانت قراءة الطالع المولود تنبئ بحياتها كلها بالنظر إلى البرج الموجود وقت مولده. ولهذا فإن من يريد معرفة الطالع الصحيح لشخص يجب عليه أن ينظر إلى الساعة ويعرف بالدقة اللحظة التي ولد فيها، وموضع النجوم بغاية الدقة والتحديد. ومن ثم كانت أهم الأغراض التي وضعت من أجلها الأزياج الفلكية هي المساعدة على معرفة هذه الطوالع.
وتبرز في تلك الأيام أسماء المتبحرين في هذه العلوم الخفية؛ من هؤلاء بطرس الأبنووي Peter of Abano الذي كان ينزل بالفلسفة فيجعلها تنجيماً. وكان لآرنلد الفلانوفي الطبيب الشهير ولع بالسحر؛ وكان سكوداسكولي(17/165)
Cecco d' Ascoli، (1257؟ - 1327) مدرس التنجيم في جامعة بولونيا يفخر بأنه يستطيع قراءة أفكار أي إنسان، أو يعرف ما يخبؤه في يده إذا عرف تاريخ مولده. وأراد أن يشرح آراءه هذه فعمل على كشف طالع المسيح، وأثبت أن البرج الذي كان في السماء ساعة مولده قد جعل صَلْبه أمراً محتوماً. وأدانته محكمة التفتيش (1324)، وأرغم على إنكار دعواه، وعفى عنه شريطة أن يلزم الصمت، وخرج فلورنس، ومارس التنجيم لعدد من العملاء، ثم حرق علناً لأنه أنكر حرية الإرادة (1327). وأتهم كثير من العلماء المخلصين لعملهم - ومنهم قسطنطين الأفريقي، وجربرت، وألبرتس مجنس، وروجر بيكن، وفنسنت البوفسني Vincent of Beauvaris - بالسحر والاتصال بالشياطين لأن الناس لم يكونوا يصدقون أنهم حصلوا على علمهم بالوسائل الطبيعية. وكان ميخائيل اسكت هدفاً للريبة لأنه كتب رسائل ذائعة الصيت عن العلوم الخفية، منها كتاب في التنجيم، وكتاب في العلاقة بين الصفات الخلقية وصفات الجسم، وكتابين في الكيمياء الكاذبة. وكان ميخائيل يندد بالسحر، ولكنه يسره أن يكتب عنه، وقد ذكر ثماني وعشرين طريقة للتنبؤ بالغيب، ويبدو أنه كان يؤمن بها كلها (21). وكان كمعظم معاصريه دقيق الملاحظة، يجري بعض التجارب؛ ولكنه يقول إن حمل حجر اليشب أو الياقوت الأصفر يساعد الرجل على الامتناع عن الجماع (23). وقد بلغ مهارته أن ظل حسن الصلة بفردريك الثاني والبابوات، ولكن دانتي الصلب الذي لا يقبل شفاعة جعل مثواه الجحيم.
وكانت الكنيسة ومحكمة التفتيش جزءاً من البيئة المحيطة بالعلوم الأوربية في القرن الثالث عشر. وكانت الجامعات تعمل في الأغلب تحت سلطان الكنيسة ورقابتها؛ بيد أن الكنيسة كانت تترك للأساتذة قدراً كبيراَ من حرية العقيدة، وكانت في كثير من الأحوال تشجع طلب العلم. من ذلك أن(17/166)
وليم الأوفرني أسقف باريس (المتوفى عام 1249)، كان يناصر البحث العلمي، ويسخر من الذين يتسرعون فيرون في كل حادثة غير مألوفة عملاً من أعمال الله مباشرةً. وقد يرع جروستستي أسقف لنكلن في دراسة العلوم الرياضية، والبصريات، وفي العلوم التجريبية، براعة جعلت روجر بيكن يضعه في منزلة أرسطو. ولسنا نعرف أن طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس قد أثارتا اعتراضاً على الدراسات العلمية التي قام بها ألبرتس مجنس أو روجر بيكن؛ أما القديس برنار وبعض المتحمسين المتزمتين فكانوا يعرضون في طلب العلم؛ ولكن الكنيسة لم تأخذ برأيهم هذا (23)، وكانت ترى أن من الصعب عليها أن ترضى بتشريح جثث الآدميين لأن من عقائدها الأساسية أن الإنسان خلق في صورة الله، وأن الجسم والروح كليهما سيقومان من القبر. وكان المسلمون واليهود يرون معها هذا الرأي بعينه (24)، كما كانت تقول به الكثرة الغالبة من الناس (25). وقال جيدو الفجيفانوي Guido of Vigevano في عام 1345 عن التشريح إنه (محرم بأمر الكنيسة) (26). ولكننا لا نجد ما يحرمه في أوامرها قبل مرسوم البابا بنيفاس الثامن الصادر في عام 1300، وحتى هذا المرسوم لا ينهى إلا عن تقطيع الجثث وغلى لحمها، لكي ترسل عظام الصليبيين المعقمة إلى أهليهم ليدفنوها في بلادهم (27). وربما فسر هذا تفسيراً خاطئاً ففهم على أنه نهى عن تشريح الجثث بعد الموت، ولكننا نجد مندينو Mondino الجرّاح الإيطالي يغلي الجثث ويشرحها حوالي عام 1320؛ ومبلغ علمنا أن الكنيسة لم تحتج على عمله هذا (28).
وبعد فإذا ما بدت ثمار العلوم الطبيعية في الغرب أثناء العصور الوسطى ضئيلة قليلة الغناء في هذا الموجز الذي يراه القارئ فيما بعد، فإن علينا أن نذكر أنها نشأت في بيئة من الخرافة والسحر معادية للعلم، وفي عصر تتجه فيه خير العقول إلى القانون، واللاهوت، وفي وقت يعتقد فيه الناس كلهم تقريباً أن المسائل(17/167)
الكبرى الخاصة بنشأة الكون، وبني الإنسان، والطبيعة، ومصائر الناس قد حلّت كلها. ولكن العقول في أوربا الغربية استفاقت من رقدتها بعد عام 1150 لما أن ازداد الفراغ، ونمت الثروة، وأخذت التراجم تنصب صباً في أوربا من بلاد الإسلام، واشتدت رغبة الناس في المعرفة حتى صارت ولعاً وتحمساً، وشرعوا يبحثون شئون العالم القديم العظيم الذي كان يبحثه اليونان دون أن تقام في وجههم العقبات والعراقيل، ولم يمض إلاّ قرن من الزمان حتى كانت أوربا اللاتينية كلها تموج بالعلم والفلسفة.(17/168)
الفصل الثاني
الثورة الرياضية
إن أول الأسماء العظيمة في علوم ذلك الوقت اسم ليوناردو فيبوناتشي ألبيزي Leonardo Fibonacci of Pisa.
لقد انتقلت علوم الرياضة السومرية، التي لا نعرف نشأتها، إلى بابل عن طريق بلاد اليونان؛ وانتقل هلم الهندسة المصرية، الذي لا يزال ماثلاً أمام أعيننا في الأهرام، إلى أيونيا وبلاد اليونان، ولعل انتقاله كان عن طريق كريت ورودس؛ وانتقلت علوم الرياضة اليونانية إلى أيونيا في أثر الإسكندر، وكان لها شأن أيما شأن في ذلك التطور الذي بلغ ذروته في براهماجبتا Brahmagubta (588؟ -60؟) ؛ وترجمت مؤلفات الهنود الرياضية إلى اللغة العربية حوالي عام 775؛ وبعد قليل من ذلك الوقت ترجمت مؤلفات اليونان في هذا العلم إلى تلك اللغة نفسها؛ ودخلت الأرقام الهندية إلى بلاد المسلمين الشرقية حوالي عام 830؛ ثم نقلها جربرت Gerbert إلى فرنسا حوالي عام 1000، ودخلت علوم الرياضة اليونانية، والعربية، والعبرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بلاد أوربا الغربية عن طيق أسبانيا وصقلية، وحملها التجار الإيطاليون إلى البندقية وجنوى، وأملفي، وبيزا؛ وشأن النقل في الحضارة كشأن التناسل في الحياة.
وظهر طريق آخر من طرق نقل العلوم في القرن السادس قبل الميلاد وذلك في صورة "المِعَد"؛ وهو أداة للعد بنقل عصى صغيرة من الخيزران من مجموعة إلى أخرى؛ ولا تزال أداة منقولة عن هذه تستعمل في بلاد الصين إلى يومنا هذا؛ ويقول هيرودوت إن المصريين في القرن الخامس(17/169)
قبل الميلاد كانوا يستخدمون العصا في العَد، وينقلونه بأيديهم من اليمين إلى اليسار". أما اليونان فقد ساروا فيه من اليسار إلى اليمين. واستخدم الرومان أشكالاً كثيرة من المِعَد، كانت أدوات العد في احدها تنزلق في حزوز، وكانت هذه الأدوات تصنع من الحجارة، أو المعادن، أو الزجاج الملون؛ وكانوا يسمونها الكلسكولي Calculi أي الحجارة الصغيرة (29). ويذكر بؤيثيوس حوالي عام 525 المعد ويقول عنه إنه يمكّن الإنسان من العد بالعشرات؛ ولكن هذه البداية لاستخدام الطريقة العشرية أُهملت؛ وكان تجار إيطاليا يستخدمون العد، ولكنهم يكتبون نتائجه بالأرقام الرومانية السمجة.
ووُلد ليوناردو فيبوناتشي في بيزا عام 1180؛ وكان والده مديراً لإحدى المؤسسات التجارية في بلاد الجزائر، وانضم إليه ليوناردو في تلك البلاد وهو في سن المراهقة، وتعلم على يد أستاذ مسلم، ثم طاف ببلاد مصر، والشام، واليونان، وصقلية، ودرس أساليب التجار، وتعلم طريقة العد، على حد قوله "بوسيلة عجيبة استخدم فيها أرقام الهنود التسعة" (30)؛ وهنا كانت الأرقام الهندية في بداية تاريخها الأوربي تسمى بحق أرقاماً هندية؛ وكانت هذه الأرقام التي هي من أسبابا الملل والإجهاد لأطفال هذه الأيام موضع الدهشة والبهجة في ذلك الوقت. ولعل ليونادرو قد تعلم اللغة اليونانية كما تعلم العربية؛ وسواء كان ذلك أو لم يكن فإنا نجده ملماً برياضيات أرخميدس، وإقليدس، وهيرون، وديوفانتس Diophantus. ونشر في عام 1202 كتاب العد Libre abaci وهو أول عرض أوربي كامل للأرقام الندية، وللصفر، والطريقة العشرية، يقوم به مؤلف مسيحي، وكان بداية بعث العلوم الرياضية في بلاد أوربا المسيحية. وأدخل هذا الكتاب نفسه الجبر العربي في أوربا الغربية، وأحدث انقلاباً بسيطاً في ذلك العلم لأنه كان يستخدم من حين إلى حين حروفاً بدل الأرقام لتعميم(17/170)
المعادلات الجبرية واختزالها. واستخدم ليوناردو في كتابه الهندسة التطبيقية Practica geometrica (1220) لأول مرة في العالم المسيحي على ما نعلم الجبر في حل النظريات الهندسية. ووضع في كتابين آخرين نشرا في عام 1225 طرقاً مبتكرة لحل معادلات الدرجة الأولى والثانية. وفي تلك السنة نفسها رأس فردريك الثاني في مدينة بيزا مهرجاناً رياضياً، وضع فيه يوحنا بالرمو John Palermo مسائل مختلفة حلها فيبوناتشي.
وظل تجار أوربا يقاومون طريقة العد الجديدة على الرغم من ظهور هذا المؤلف الذي يُعدّ بداية عهد جديد في تاريخ العلوم الرياضية، فقد كان كثيرون منهم يفضلون تحريك المِعًد بأصابعهم وكتابة النتائج بالأرقام الرومانية؛ وفي عام 1299 استطاع "العدّادون" في فلورنس أن يقنعوا ولاة الأمور بسن قانون يحرم استعمال "الأرقام الخيالية الجديدة" (32)، ولم يدرك إلاّ عدد قليل من الرياضيين أن الرموز الجديدة وهي الصفر وترتيب الخانات العشرية في آحاد وعشرات ومئات ... قد مهدت السبيل إلى تطور علوم الرياضة تطوراً يكاد يكون مستحيلاً إذا ظلوا يتخذون الحروف القديمة اليونانية والرومانية واليهودية أرقاماً. ولم تحلّ الأرقام الهندية آخر الأمر محل الأرقام الرومانية إلاّ في القرن السادس عشر، ولا تزال طريقة العد الاثنا عشرية مستخدمة في ميادين كثيرة في إنجلترا وأمريكا لأن رقم 10 لم ينتصر بعد في كفاحه الطويل الذي دام الف عام انتصاراً حاسماً على رقم 12.
وكان للعلوم الرياضية في العصور الوسطى أغراض ثلاثة: خدمة التجار، وإمساك حسابات رجال الأعمال، ورسم خرائط للسماء. وكانت علوم الرياضة، والطبيعة، والفلك وثيقة الصلة بعضها ببعض، ومن كتب وفي واحد منها أفاد العلمين الآخرين؛ ومن أمثلة هؤلاء العلماء جون الهوليوودي John of Holywood ( في يروكشير) المعروف في العالم اللاتيني باسم جوانس ده سكروبسكو(17/171)
Johannes de Saerobosco الذي درس في أكسفورد، وكان أستاذاً في جامعة باريس، وألف رسالة عن الكرة الأرضية وعرضاً للرياضة الجديدة سماه الرياضة للملايين (حوالي 1230). ولكان لفظ اللوغارتمات وهو اسم ممسوخ من اسم الخوارزمي اصطلاحاً لاتينياً يطلق على الطريقة الرياضية التي تستخدم الأرقام الهندية. ويعزو جون إلى العرب فضل اختراع هذه الطريقة، وهو من المسئولين عن الخطأ الذي أدى إلى تسمية الأرقام الهندية بـ"الأرقام العربية" (33). وجاء رجل من تشيستر يدعى ربرت حوالي عام 1149 بحساب المثلثات العربي إلى إنجلترا، وأدخل لفظ الجيب في العلم الجديد، وذلك في أثناء تعديل أزياج البتاني والزرقاني.
وكان من أسباب دوام الاهتمام بالفلك حاجات الملاحة والرغبة الشديدة في التنجيم. وكانت المكانة العظيمة التي يمثلها كتاب المجسطي الذي ترجم مراراً كثيرة من أسباب جمود علم الفلك في أوربا المسيحية واستمساكه بنظرية بطليموس نظرية الدوائر المختلفة المراكز والدوائر التي في محيطات دوائر أخرى، والقائلة إن الأرض هي محور الكون. وأحست بعض العقول اليقظة كعقول ألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وروجر بيكن، بقوة النقد الذي وجهه العالم الفلكي البطروجي، لهذه النظرية في القرن الثاني عشر، ولكن لم توجد نظرية سماوية مقبولة تحل محل نظرية بطليموس الميكانيكية قبل أيام كوبرنيق. فقد كان علماء الفلك المسيحيون في القرن الثالث يتصورون أن الكواكب تدور حول الأرض، وأن النجوم الثوابت مرصوصة في قبة من البلور يسيرها العقل الإلهي، وتدور في حشد منظم حول الأرض؛ وأن مركز الكون كله وأرقى ما فيه هو ذلك الإنسان الذي يصفه علماء الدين بأنه دودة حقيرة ملوثة بالذنوب، ومحكوم على كثرة أفراده بأن يصلوا نار الجحيم. وقد بحث علماء الفلك الساميون في القرن(17/172)
الثالث عشر رأي هرقليدس القائل بأن منشأ حركة السماء اليومية الظاهرة دوران الأرض حول محورها، ولكن العالم المسيحي نسى هذا الرأي نسياناً تاماً؛ ونقل مكروبيوس Macrobius ومارتيانس كابلا Martianus Capella رأياً آخر لهرقليدس وهو أن عطارد والزهرة يدوران حول الشمس؛ واستمسك جون اسكوتس إرجينس بهذا الرأي في القرن الثامن ثم طبقه على المريخ والمشتري، وبهذا أوشكت النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم أن تنتصر (34). ولكن هذه الفروض الباهرة كانت من بين الأفكار التي اندثرت في العصور المظلمة، وظلت الأرض مركز الكون حتى عام 1512 slash وإن كان علماء الفك جميعهم قد اتفقوا على أن الأرض كروية (35).
وجاءت الأزياج والآلات الفلكية إلى الغرب من بلاد الإسلام، أو عملت على غرار الأزياج والآلات الإسلامية. ورصد ولشر اللوريني Walcher of Lorraine الذي أصبح فيما بعد رئيساً لدير ملفيرن Malvern خسوف القمر في إيطاليا بأسطرلاب؛ وكان هذا أول الأرصاد الفلكية المعروفة في العالم المسيحي الغربي؛ ولكن وليم الكلودي William of St Cloud اضطر بعد مائتي عام من ذلك الوقت (حوالي 1296) أن يذكر الفلكيين، بأقواله وبما ضربه لهم من مثل بنفسه، أن خير ما يتقدم به العلم هو الملاحظة لا القراءة أو الفلسفة. وخير ما قدم لعلم الفلك المسيحي من عون في ذلك الوقت هو الأزياج الأُنفسية لحركات الأجرام السماوية التي أعدها عالمان يهوديان أسبانيان لأنفسو الحكيم.
وتجمعت المعلومات الفلكية فكشفت عن أخطاء تقويم يوليوس قيصر (46 ق. م) الذي وضع على أساس عمل سويجنيس والذي جعل السنة أطول من حقيقتها بإحدى عشرة دقيقة وأربع عشرة ثانية. وكان ازدياد تنقل الفلكيين، والتجار، والمؤرخين بين أقطار العالم مما كشف عن الصعاب التي يلاقونها(17/173)
من جراء اختلاف التقاويم. وكان البيروني قد قام بدراسات نافعة للطرق المختلفة المتبعة في تقسيم الزمن وتاريخ الحوادث (حوالي عام 1000)، وواصل هارون ابن مشلام وابراهام بارخبة هذه الدراسة في عامي 1106 و 1122، وأعقبهما ربرت جروستستي وروجر بيكن فعرضا في القرن الثالث عشر مقترحات عملية، أسفرت (حوالي عام 1232) عن وضع جروستستي لطائفة من الأزياج لتعيين أوقات الحوادث الفلكية والتواريخ المتغيرة كتاريخ عيد القيامة، وكانت هذه الأزياج أول خطوة لوضع التقويم الجريجوري (1582) الذي يرشدنا ويضللنا في هذه الأيام.(17/174)
الفصل الثالث
الأرض وحياتها
وكان أكثر العلوم تقدماً في العصور الوسطى هو علم طبقات الأرض؛ وسبب ذلك أن الأرض كانت في رأيهم موطن المسيح، وغلاف الجحيم، وأن الأحوال الجوية من تقدير الله. وكان المسلمون واليهود والمسيحيون على السواء يغشون علم التعدين بغلاف من الخرافات. ويؤلفون "الجوهريات فيما للحجارة من قوى سحرية. من ذلك أن ماربو Marbood أسقف رنن Rennes (1035 - 1133) كتب بالشعر اللاتيني كتاباً شعبياً سماه كتاب الجواهر وصف فيه القوى الخفية الكامنة في ستين نوعاً من الحجارة الكريمة، فقال هذا الأسقف المتبحر في العلوم إنه إذا أمسك الإنسان بيده حجراً من الياقوت الأزرق أثناء الصلاة كان ذلك أدعى لاستجابة الله إلى دعائه (36)، وإن حجر عين الهر إذا لف في ورقة من نبات الغار يُخفي من يمسك به من أعين الناس، وإن حجر الجمشت يجعله بمأمن من السكر؛ وإن الماس يجعل من يمسك به صنديداً لا يُهزَم (37).
وكان التشوف والتحمس اللذان أحاطا معادن الأرض بهذه الخرافات هما اللذين بعثا الناس في العصور الوسطى على التجوال في أوربا وبلاد الشرق، فأغنوا بذلك علم الجغرافيا على مهل. من هؤلاء جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis - جرالد الويلزي Girald of Wales، (1147 - 1223) - الذي طاف ببلاد كثيرة وكتب في موضوعات كثيرة، وأتقن لغات كثيرة ليس(17/175)
منها لغته هو، والذي صحب الأمير جون إلى أيرلندة، وعاش فيها عامين، ثم طاف بأنحاء ويلز يدعو الناس إلى الحرب الصليبية الثالثة، وألف أربعة كتب ممتعة عن هذين البلدين. وقد أثقل صحف كتبه بتحيزه وبكثرة ما أورده فيها من أخبار المعجزات، ولكنه خففها بوصفه الواضح الحي للأشخاص والأماكن، وحديثه الظريف عن الأشياء التافهة التي توضح خصائص الأشخاص والعصور. وكان واثقاً من أن كتبه سوف تخلد ذكره (38)، ولكنه استخف بما يمتاز يه الزمان من قدرة على النسيان.
وكان هو واحداً من آلاف الرجال الذين حجوا إلى بلاد الشرق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقدر سمت خرائط البلاد والطرق ليهتدي بها هؤلاء الحجاج، وأفاد من ذلك علم الجغرافية. وحدث بين عامي 1107 و1111 أن أبحر سجورد جوراسلفار Siguard Jorasalfare ملك النرويج في حملة صليبية ومعه ستون سفينة، ومرَّ بإنجلترا، وأسبانيا، وصقلية، ووصل إلى فلسطين. وحارب المسلمين كلما لاحت له فرصة لحربهم، ثم قاد حملته بعد أن هلك منها من هلك إلى القسطنطينية، ومنها اجتاز بلاد البلقان، وألمانيا، والدنمرقة بطريق البر حتى وصل إلى النرويج. وتكون قصة هذه الرحلة المفعمة بالأخطار جزءاً من قصص اسكنديناوة الشعبية العظيمة. وفي عام 1270 أعاد لنزارتي مالوسلو Lanzarotte Maocello كشف جزائر الخالدات التي كانت معروفة للأقدمين. وتقول إحدى الروايات المتواترة التي لم تحقق بعد إن أجولينو Ugolino وفادينو فيفلدو Vadino Vivaldo أبحرا من جنوى حوالي عام 1290 على ظهر سفينتين كي يصلا إلى الهند بالطواف حول قارة أفريقية. ويبدو أن جميع من كانوا على ظهر السفينتين من الملاحين لقوا حتفهم. وانتقلت قصة هذه الرحلة بطريقة ساخرة في صورة رسالة من "برجستون" Prester John اسطوري (حوالي عام 1150) يتحدث فيها عن أملاكه في أواسط آسية،(17/176)
وعن جغرافية بلاد الشرق حديثاً مليئاً بالأوهام والخرافات. وقلّما كان المسيحيون يعتقدون بوجود أرضين وسكان في الأجزاء المقابلة لبلادهم وعلى سطح الأرض، وذلك على الرغم من قيام الحروب الصليبية وما استتبعته من الأسفار. وكان القديس أوغسطين يرى أن "من غير المعقول أن يسكن الناس في الجهة المقابلة لنا على سطح الأرض، حيث تغرب الشمس حين تشرق عندنا، وحيث يمشي الناس وأقدامهم في اتجاه أقدامنا" (39)؛ وكان راهب أيرلندي يدعى القديس فرجيل St. Fergil قد أشار حوالي عام 748 إلى إمكان وجود "عالم آخر وخلق آخرين تحت الأرض" (46). وقبِل ألبرتس مجنس وروجر بيكن هذه الفكرة، ولكنها بقيت خيالاً جريئاً يطوف بعقول قلة من الناس حتى طاف مجلان Magellan بالكرة الأرضية.
وجاءت إلى أوربا أهم المعلومات عن الشرق الأقصى من راهبين فرنسيين. ذلك أن إنوسنت الرابع أرسل في إبريل من عام 1245 إلى بلاط المغول في قرقورم جيوفني ده بيانو كربيني Giouanni de Piano Carpeni، وهو رجل بدين في الخامسة والستين من عمره. ولاقى جيوفني ورفيقه من العصاب أشد ما يلقاه الإنسان في حياته، فقد ظلا مسافرين خمسة عشر شهراً، يبدلان الجياد أربع مرات في كل يوم. وإذ كانت قوانين الرهبان الفرنسيس تحرم عليهما أكل اللحمـ فقد كادا يموتان جوعاً بين البدو الذي لا يكادون يجدون غيره طعاماً يمدونهما به. وأخفق جيوفني في مهمته، ولكنه كتب بعد موته وصفاً لرحلته يعد الآن من أمهات كتب الأدب الجغرافي - فهو يمتاز بوضوحه، وإنكاره لشخصه، واهتمامه بالحقائق دون غيرها لا يذكر فيها كلمة شكوى أو كلمة عن نفسه. وأرسل لويس التاسع في عام 1253 وليم الربركويزي William of Rubruquis ( وليم فان رويزبروك William van Ruysbrook) إلى الخان الأعظم ليعيد على مسامعه رغبة البابا في عقد حلف معه. وعاد وليم يحمل معه دعوة جافة(17/177)
بخضوع فرنسا إلى سلطة المغول (41)، وكان كل ما أثمرته البعثة هو وصف وليم الشيق الممتاز لعادات المغول وتاريخهم. وعرف الأوربيون وقتئذ لأول مرة منابع نهري الدن Don والفلجا، وموضع بحيرة بلكاش، وشعائر الدلاي لاما Dalai Lama، وأماكن النساطرة المسيحيين في الصين، والفرق بين المغول والتتار.
وأشهر الرحالة الأوربيين إلى بلاد الشرق الأقصى في العصور الوسطى وأعظمهم نجاحاً هم أسرة بولو تجار البندقية. فقد كان لأندريا بولو Andrea Polo أبناء ثلاثة هم ماركو الأكبر، ونقولو، ومافيو Maffeo؛ وكانوا كلهم يعملون في تجارة بيزنطية ويعيشون في القسطنطينية. وانتقل نقولو ومافيو حوالي عام 1260 إلى بخارى حيث بقيا ثلاث سنين، ومنها سافرا في أعقاب بعثة سياسية تتارية إلى بلاط كوبلاي خان في شانجتو. وأعادهم كوبلاي في بعثة إلى البابا كلمنت الرابع؛ واستغرقت عودتهما إلى البندقية ثلاث سنين، فلمّا جاء إليها كان كلمنت قد مات. وفي عام 1271 خرجا من البندقية عائدين إلى الصين، وأخذ نقولو معه ابنه ماركو الأصغر وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره. وقضيا ثلاث سنين ونصف سنة في رحلتهما مخترقين قارة آسية عن طريق بلخ، وهضبة البامير، وكاشغر، ولوب تور، وصحراء غربي، وتنجوت. فلمّا وصلا إلى تنجوت كان ماركو في الحادية والعشرين من عمره؛ وأعجب به كوبلاس، وخصه بمناصب رئيسية، ووكل إليه القيام ببعثات هامة، وأبقى أفراد أسرة بولو الثلاثة في الصين سبعة عشر عاماً. ثم أبحروا عائدين إلى بلادهم، وقضوا في عودتهم ثلاث سنين عن طريق جاوة، وسومطرة، وسنغافورة، وسرنديب، والخليج الفارسي؛ ثم ساروا براً إلى طربزون، ومنها ركبوا السفينة إلى القسطنطينية والبندقية. فلمّا استقروا فيها لم يصدق أحد، كما يعرف العالم كله، القصص التي أخذ يقصها "ماركو ذو الملايين" عن "بلاد الشرق(17/178)
الفخمة". وأسر ماركو وهو يحارب في جيش مدينة البندقية في عام 1298، وألقي في سجون جنوى عاماً كاملاً، وفي أملى قصته على زميل له في السجن. وأثبتت بحوث الرواد بعدئذ صحة عناصر قصته كلها تقريباً، وكانت تعد من قبل غير معقولة. فقد وصف ماركو للمرة الأولى رحلة تخترق جميع بلاد آسية، وفي كتابه أول لمحة كتبها أوربي عن بلاد اليابان، وأول وصف صادق لبكين، وجاوة، وسومطرة، وسيام، وبورما، وسرنديب، وساحل زنجبار، ومدغشقر، وبلاد الحبشة؛ وكشف كتابه للغرب الستار عن بلاد الشرق، وساعد على فتح طرق جديدة للتجارة، ولانتقال الأفكار، وكان له نصيب في تشكيل علم الجغرافية الذي أوحى إلى كولمبس بالسفر إلى الشرق بالاتجاه نحو الغرب.
ولمّا تسع ميدان التجارة والأسفار أخذ علم رسم الخرائط يعود متثاقلاً إلى المستوى الذي بلغه في أيام أغسطس، وشرع الملاحون يُعِدُّن كتباً يُهتَدَى بها إلى الثغور التجارية، تحتوي خرائط، ورسوماً، وإرشادات للسائحين، وأوصافاً لمختلف المرافئ؛ وبلغت هذه الكتب على أيدي أهل بيزا وجنوى درجة كبرى من الدقة. وكانت خرائط العالم التي رسمها الرهبان في ذلك الوقت إذا قورنت بغيرها تسير على نمط محدد لا تحيد له ويصعب فهمها.
وكانت رسائل أرسطو في علم الحيوان، وكتاب ثيوفراسطس الحجة في النبات، حافزاً قوياً لعقل الغرب المستيقظ من رقاده، فأخذ يكافح للخروج من القصص ومن أقوال بلني إلى علم الحيوان والنبات. وكان كل إنسان تقريباً في ذلك الوقت يعتقد أن الكائنات العضوية الصغيرة، بما فيها من الديدان والذباب، تتولد من تلقاء نفسها من التراب، والطين، والمواد المتعفنة، الفاسدة. وكادت الكتب التي تصف الحيوانات - الحقيقي منها والخرافي - وترسم صوراً لها تحل محل كتب علم الحيوان؛ وإذ كان الرهبان هم الذين يؤلفون معظم هذه الكتب فقد كان علم الحيوان يوصف في عبارات مستمدة من كتب اللاهوت(17/179)
بأنه مستودع للرموز المقوية للإيمان، وابتدعت منه مخلوقات إضافية ابتكرها الخيال للهو والتسلية، أو خلقتها الحاجة إلى التقى والصلاح. انظر مثلاً إلى قول الأسقف هونوريوس الأوتوني Honorius of Autun من رجال القرن الثاني عشر الميلادي:
وحيد القرن، وحش شديد الافتراس له قرن واحد، فإذا أريد القبض عليه وُضعت في الحقل فتاة عذراء، إذا رآها اقترب منها واستراح في حجرها، وبذلك يُقبض عليه. ويمثل هذا الحيوان المسيح، ويمثل قرنه قوة المسيح التي لا تُغلب ... فقد انتزعه الصيادون وهو في رحم عذراء - أي أن الذين أحبوا المسيح وجدوه في صورة إنسان (42).
وكان أقرب كتب الأحياء إلى العلم الصحيح في العصور الوسطى هو كتاب فردريك الثاني المسمى "فن القنص بالطير" وهو رسالة في هذا الفن في 589 صفحة، تعتمد فيما تعتمد عليه على المخطوطات اليونانية والإسلامية، ولكن الجزء الأكبر منها مستمد من الملاحظة والتجربة. وكان فردريك نفسه من أشهر الصائدين بالبزاة؛ ويحتوي وصفه لأجسام الطير على عدد كبير من المعلومات الأصيلة التي لم يسبقه إليها غيره من المؤلفين، ويدل تحليله لطيران الطيور وهجرتها، وتجاربه في تفريخ البيض بالطرق الصناعية، وأعمال الصقورة، على روح علمية لا نظير لها في أيامه (43). وقد وضح فردريك نصوص كتابه بمئات من صور الطير، ربما كانت من صنع يده - وهي رسوم "صادقة حتى في أدق التفاصيل" (44). ولم تكن مجموعات الحيوانات التي جمعها، مجرد هوى شاذ يقصد به التظاهر كما كان يظن بعض معاصريه، بل كانت معملاً يدرس فيه دراسة مباشرة مسلك الحيوانات. وبذلك كان هذا الإسكندر أرسطو نفسه.(17/180)
الفصل الرابع
المادة والطاقة
كان حظ الطبيعة والكيمياء أحسن من حظ علمي طبقات الأرض والأحياء، ذلك أن قوانينهما وعجائبهما كانت في جميع الأوقات أكثر ائتلافاً مع عقيدة الإيمان بالله من "أنياب العالم الطبيعي ومخالبه الحمراء". ويدلنا على قوة هذه العلمين في بداية تلك الفترة ما كان يبذله ألفر المالمزبري Oliver of Malmesbury من جهود لصنع طائرة؛ فقد أتم في عام 1065 تركيب جهازه، وعلا به في الجو من مكان مرتفع ولقي حتفه (45).
ولمع في عالم الميكانيكا في القرن الثالث عشر اسم عظيم، اسم راهب دمنيكي سبق إسحق نيوتن إلى عدد من المبادئ الأساسية في هذا العلم. ذلك هو جردانس نموراريوس Jordaus Nemorarius الذي أصبح في عام 1222 القائد الثاني للرهبان الدمنيكيين. وإن قيامه بأعماله الباهرة في ميدان العلوم الطبيعية ليشهد بما كان عليه الإخوان الواعظون من حماسة عقلية وغيرة علمية. وقد ألف هذا الراهب ثلاث رسائل في العلوم الرياضية نافس فيها رسائل فيبوناتشي في شجاعته ونفوذه العظيم، استخدم فيها الأرقام الهندية، وارتقى بعلم الجبر بحرصه الدائم على استعمال الحروف بدل الأرقام في قوانينه العامة. وقد درس في كتابه Elementa super demonstrationem ponderis فعل الجاذبية في مسير جسم متحرك، ووضع القانون المعروف الآن باسم بديهية جردانس. وهو أن القوة التي تستطيع رفع جسم معين إلى ارتفاع معين تستطيع رفع جسم أثقل من الأول ك المرات إلى ارتفاع يقل عن الارتفاع الأول ك المرات. وحلل في رسالة أخرى De ratione ponderis ( لعل مؤلفها أحد(17/181)
تلاميذه) فكرة قوة السكون - حاصل قوة ما في طول ذراع رافعتها، واستبق الأفكار الحديثة في ميكانيكية الروافع والمستويات المائلة (46). وحاولت رسالة أخرى تعزى إلى "مدرسة جوردانس" أن تعبر عن نظرية الإزاحة الافتراضية - وهي المبدأ الذي قدره فيما بعد ليوناردو دافنشي، وديكارت، وجون برنولي John Bernoulli وصاغه آخر الأمر ج. ولارد جبز J. Willard Gibbs في القرن التاسع عشر.
وأثر تقدم الميكانيكا في الاختراع تأثيراً بسيطاً. من ذلك أن ربرت الإنجليزي Robert of England عرض في عام 1271 نظرية رقاص الساعة عرضاً واضحاً؛ وفي عام 1288 نسمع عن ساعة كبيرة في برج بوستمنستر، كما نسمع حوالي ذلك الوقت نفسه عن ساعات ضخمة مثلها في كنائس أخرى بالقارة الأوربية؛ ولكننا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن هذه الساعات كانت آلات ميكانيكية كاملة؛ أما أول ذكر صريح لساعة تدار بالبكرات، والأثقال، والتروس فيرجع تاريخه إلى عام 1320 (47).
وكان أكثر فروع علم الطبيعة نجاحاً في ذلك الوقت هو علم البصريات، ذلك أن رسالة ابن الهيثم العربية التي ترجمت إلى اللاتينية قد فتحت آفاقاً جديدة في بلاد الغرب؛ وقد تحدث ربرت جروستستي عن هذا العلم في مقال له عن قوس قزح نشر حوالي عام 1230 عن "فرع ثالث من فن المنظور ... لم يطرق بابه ولم يعرفه بيننا أحد حتى هذا الوقت ... (وهو) يعرفنا كيف نجعل الأشياء الشديدة البعد عنا تبدو شديدة القرب منا، وكيف نجعل الأشياء الكبيرة القريبة التي تبدو جد صغيرة، وكيف نجعل الأشياء البعيدة تظهر بالحجم الذي نريده.
ويضيف إلى ذلك قوله إنه يمكن الوصول إلى هذه الأشياء العجيبة بتكسير "شعاع الضوء" وذلك بجعله يمر خلال عدة أجسام شفافة، أو عدسات مختلفة التركيب. وافتتن تلميذه روجر بيكن بهذه الآراء أيما افتتان. وبحث جون بكهام، وهو في أغلب الظن تلميذ من تلاميذ جروستستي في جامعة أكسفورد،(17/182)
في انعكاس الضوء، وانكساره، وتركيب العين في رسالة سماها فن المنظور العام Perspetiva Communis؛ وإذا ذكرنا أن بكهام أصبح بعدئذ كبير أساقفة كنتربري، أدركنا مرة أخرى ما كان بين العلوم وكنيسة العصور الوسطى من وفاق.
وكان من نتائج هذه الدراسات في الضوء اختراع النظارات. فقد كانت المجاهر - النظارات المكبرة - معروفة لليونان الأقدمين (48)، ولكن يبدو أن صنع هذه النظارات بحيث تجمع الأشعة جمعاً صحيحاً وهي قريبة من العين كان لابد أن ينتظر البحوث التي تجري في هندسة انكسار الضوء. وتوجد وثيقة صينية ترجع إلى تاريخ غير موثوق بصحته بين عامي 1260 و1300 تتحدث عن نظارات تسميها آي تاي Ai tai يستطيع بها كبار السن أن يقرءوا الكتابة الدقيقة. وجاء في موعظة لراهب دومنيكي ألقاها في بيسانزا عام 1305: "منذ عشرين عاماً قبل هذا الوقت كشف فن صنع النظارات (أكشيالي Occhiali) التي تمكن الإنسان من أن يحسن القراءة ... ولقد تحدثت بنفسي إلى الرجل الذي كان أول من كشفها وصنعها". وورد في خطاب مؤرخ عام 1289: "لقد تقدمت بي السنون حتى أصبحت عاجزاً من القراءة والكتابة بغير النظارات المسماة (أكيالي okiali) التي اخترعت من وقت قريب". ويعزى فضل اختراعها عادة إلى سلفينودا مارتو Salvino da Marto الذي كُتب على شاهد قبره المصنوع في عام 1317 "مخترع النظارات". وفي عام 1305 أعلن طبيب من منبلييه أنه أعد غسيلاً للعين يجعل الإنسان في غنى عن النظارات (49).
وكانت قوة المغنطيس الجاذبة معروفة هي الأخرى لليونان، ويلوح أن الصينيين هم الذين كشفوا في القرن الأول الميلادي قدرته على تعيين الاتجاه. وتعزو إحدى الروايات الصينية المتواترة إلى المسلمين أول استعمال للإبرة المغنطيسية في إرشاد السفن حوالي عام 1093. وأكبر الظن أن استعمالها كان واسع(17/183)
الانتشار بين الملاحين المسلمين والمسيحيين قبل نهاية القرن الثاني عشر؛ وترجم أقدم إشارة لهذا الاستعمال عند المسيحيين إلى عام 1205، وعند المسلمين إلى عام 1282 (50)، ولكن لعل الذين عرفوا هذا السر الثمين من زمن طويل لم يتعجلوا في إذاعته؛ يضاف إلى هذا أن الملاحين الذين كانوا يفيدون من هذا الاختراع كانوا يُرتاب في أمرهم فيظن أنهم سحرة، وبلغ من أمرهم أن بعض الملاحين رفضوا أن يسافروا مع أمير سفينة يحتفظ معه بهذه الآلة الشيطانية (51). ونجد أول وصف معروف لبيت إبرة تتحرك على نقطة ارتكاز في رسالة في المغنطيسية كتبها بطرس برجرينس Petrus Peregrinus في عام 1269. وقد سجل الحاج بطرس هذا كثيراً من التجارب، ودعا إلى الطريقة التجريبية، وأوضح فعل المغنطيس في جذب الحديد، ومغنطة غيره من الأجسام، وتعيين اتجاه الشمال، وحاول كذلك أن يصنع آلة دائمة الحركة تعمل بمغنطيسات تولد بنفسها القوة اللازمة لتحريكها (52).
وكانت البحوث في الكيمياء الكاذبة أكبر العوامل في تقدم علم الكيمياء؛ فقد أخذت النصوص العربية في هذا العلم تترجم إلى اللاتينية من القرن التاسع وما بعده، وما لبثت البحوث الخاصة بهذا النوع من الكيمياء أن انتشرت في بلاد الغرب حتى لم تخل منها الأديرة نفسها. فقد نشر الأخ إلياس خليفة القديس فرانسس كتاباً في الكيمياء القديمة طلبه إليه فردريك الثاني؛ وكتب راهب فرنسيسي آخر يشايع فكرة تحويل المعادن بعضا إلى بعض؛ وكان أشهر الكتب الطبية كلها في ذلك العهد كتاب في العلل يعرض الكيمياء القديمة والتنجيم كما وردا في كتاب مدسوس على أرسطو. وكان عدد من ملوك أوربا يستخدمون الكيميائيين القدامى ليسدوا ما ينقص من أموال خزائنهم بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب (53). وواصل غيرهم من المتحمسين البحث عن إكسير الحياة وحجر الفلاسفة. ولم تنقطع هذه البحوث(17/184)
رغم أن الكنيسة حرّمتها في عام 1307 ووصفتها بأنها من البحوث الشيطانية، ولعل بعض المؤلفين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أرادوا النجاة من غضب الكنيسة بأن عزوا مؤلفاتهم إلى "جبر" Gebir (1) المسلم.
وأضافت التجارب الطبية على العقاقير معلومات كثيرة إلى علم الكيمياء، كما أن العمليات الخاصة بالصناعة كادت ترغم على الكشف إرغاماً، وأفاد على الكيمياء فوائد جمة من أعمال عصر الجعة، وصنع مواد الصباغة، والخزف، والميناء، والزجاج، والغَراء، واللك، والمداد، ومواد التجميل. وألّف بطرس العمري Peter of St. Omer حوالي عام 1270 كتاب صنع الألوان libier de coloribus fasciendis، فيه ذِكر لعدد من المواد الملوّنة المستخدمة في التصوير تصف واحدة منها كيفية صنع ألوان زيتية بخلط المواد الملونة بزيت بذر الكتان (54). ونشرت حوالي عام 1150 رسالة تعرف باسم Magister Salernus - ربما كانت من رسائل مدرسة الطب في سلرنو - ذكر فيها تقطير الكحول؛ وكان هذا أول ذكر صريح لهذه العملية المنتشرة في جميع أنحاء العالم في هذه الأيام. وكانت الأقطار التي تنتج العنب تقطر النبيذ وتسمى ما ينتج من تقطير هذا العصير ماء الحياة eau de vie aqua vitae. أما بلاد الشمال ذات العنب القليل والبرد القارس فكانت تجد تقطير الحبوب أقل نفقة من تقطير العنب؛ وكان لفظ يسكبيثا uisqebeatha الكلتي الذي اختصر فصار وسكي whisky يعني أيضاً "ماء الحياة" (55). على أن التقطير كان معروفاً عند الكيميائيين المسلمين قبل ذلك الوقت بزمن طويل، غير أن استكشاف الكحول ثم استكشاف الأحماض المعدنية بعد ذلك في القرن الثالث عشر وسّعا دائرة المعارف الكيميائية وآفاق الصناعة توسيعاً كبيراً.
_________
(1) ريد جابر بن حيان الكيميائي الشهير. (المترجم)(17/185)
ويكاد يضارع تقطير الكحول فيما له من آثار خطيرة استكشاف البارود. ويرتاب العلماء الآن فيما كان يظن قديماً من سبق الصينيين إلى هذا الاختراع. وليست في المخطوطات العربية ذكر صريح به قبل عام 1300 (56). وكانت أول إشارة معروفة لهذه المادة المفرقعة هي التي وردت في كتاب النيران لحرق الأعداء الذي ألفه ماركس غريقس Marcus Graecus حوالي عام 1270، فقد وصف مارك اليوناني النار اليونانية والتألق الفسفوري، ثم وصف طريقة عمل البارود فقال: حوّل إلى مسحوق دقيق - كلاً على انفراد - رطلاً من الكبريت الحي، ورطلين من الفحم النباتي المصنوع من شجر الليمون الحامض أو الصفصاف، وستة أرطال من ملح البارود (نترات البوتاسيوم)، ثم أمزجها كلها (57). ولم نعثر على ذكر لاستخدام البارود في الأعمال الحربية قبل القرن الرابع عشر.(17/186)
الفصل الخامس
إحياء علم الطب
يخلط الفقر على الدوام بين الأساطير والطب لأن الأساطير حرة لا ثمن لها والعلم غال عزيز المنال. والصورة الأساسية لطب العصور الوسطى هي صورة الأم ومخزنها الصغير من وسائل العلاج المنزلية؛ والنساء العجائز غزيرات العلم بالأعشاب واللاصوق، والرقى السحرية؛ وجامعي حشائش التطبيب يطوفون بها على الناس، والعقاقير المجربة ذات الفائدة الأكيدة، والحبوب ذات القوة المعجزة؛ والقابلات المتأهبات على الدوام لفصل الحياة الجديدة عن القديمة في عملية الولادة المخزية السخيفة، والدجالين المتأهبين لمداواة الناس أو قتلهم نظير أتفه الأجور؛ والرهبان بما ورثوه من طب الأديرة؛ والراهبات يواسين المرضى في هدوء بما يقدمن لهم من خدمات أو دعوات صالحات؛ والأطباء المدربين في أماكن متفرقة يعالجون القادرين ويمارسون طبهم القائم على أسا علمي إلى حد ما. وانتشرت العقاقير الغريبة المروعة والصيغ السحرية العجيبة؛ وكما أن بعض الحجارة إذا أمسكت باليد كانت في رأي بعض الناس تمنع الحمل، كذلك كانت بعض النسوة وبعض الرجال - حتى في سلرنو مدينة الطب نفسها - يأكلون روث الحمير لتقوى قدرتهم على الإخصاب.
وظل بعض رجال الدين يمارسون الطب حتى عام 1139، وكل ما كان هناك من علاج في المستشفيات كان يوجد عادة في الملاجئ أديرة الرجال والنساء. وكان للرهبان فضل عظيم في حفظ التراث الطبي من الضياع، وهم الذين مهدوا السبيل لزراعة النباتات الطبية، وربما كانوا يعرفون ما يفعلون وهم يخلطون الطب بالمعجزات. وحتى الراهبات أنفسهن كن في بعض الأحيان يحذقن علاج(17/187)
المرضى؛ فقد كتبت هليجاردي Hildergarde المتصوفة رئيسة دير بنجن Bengin كتاباً في الطب العلاجي - هو كتاب العلل والعلاج (حوالي عام 1150) - وكتاباً في المواد الطبية أفسدته في بعض مواضعه بالرقى السحرية ولكنه مليء بالمعلومات الطبية. وربما كانت الرغبة في القيام بالخدمة الطبية الدائمة من البواعث على التجاء الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء إلى الأديرة. ولمّا أن تقدم الطب الذي يمارسه غير رجال الدين، وسرى حب الكسب في القائمين على العلاج في الأديرة، وحرّمت الكنيسة في أوقات مختلفة (1130، 1339، 1663) على رجال الدين ممارسة الأعمال الطبية جهرة، ولم يحل عام 1200 حتى كاد هذا الفن القديم كله يصبح في أيدي غير رجال الدين.
ويرجع أكبر الفضل في بقاء الطب العلمي في بلاد الغرب أثناء العصور المظلمة إلى الأطباء اليهود، الذين نشروا المعلومات الطبية اليونانية - العربية في بلاد العالم المسيحي، وذلك عن طريق الثقافة البيزنطية التي انتشرت في جنوبي إيطاليا وترجمة الرسائل الطبية اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية. وربما كانت مدرسة سلرنو الطبية قائمة في أحسن المواقع، وكانت أحسن المدارس استعداداً للإفادة من هذه المؤثرات؛ فقد كان الأطباء اليونان، واللاتين، والمسلمون، واليهود يعلمون أو يتعلمون فيها؛ وظلت حتى القرن الثاني عشر أكبر المعاهد الطبية في أوربا اللاتينية. وكانت النساء يدرسن التمريض والقبالة في سلرنو (59). وأكبر الظن أن النساء اللاتي يسمين طبيبات سلرنو كن قابلات تدربن في تلك المدرسة. وكان من أشهر ما أخرجته مدرسة سلرنو الطبية رسالة في التوليد نشرت في القرن الثاني عشر بعنوان: ترتولا وعلاج أمراض النساء، وأكثر المؤرخين مجمعون على أن ترتولا Trotula هذه كانت قابلة في سلرنو (60) ولقد وصلتنا من مدرسة سلرنو عدة رسائل هامة(17/188)
تشمل فروع الطب كلها تقريباً منها رسالة لأرخماثيوس Archimatheus تصف حال الطبيب وهو واقف بجوار سري المريض: يجب أن يتحلى الطبيب وهو ينظر إلى حال المريض بالرزانة، حتى لا تقلل من مكانته خاتمة المريض السيئة، وهو يضيف شفاؤه عجيبة أخرى إلى ما اشتهر به من العجائب؛ وعليه ألاّ يغازل زوجة المريض أو ابنته أو خادمته؛ وحتى إذا لم تكن ثمة ضرورة بدواء ما وجب عليه أن يصف له مركباً عديم الضرر، حتى لا يظن المريض أن العلاج لا يساوي أجر الطبيب، وحتى لا يظن أن الطبيعة هي التي شفت المريض دون معونة الطبيب (61).
وحلت جامعة نابلي محل مدرسة سلرنو بعد عام 1268، حتى لم نعد نسمع عن هذه المدرسة إلاّ الشيء القليل. وكان خريجوها قبل ذلك العام قد نشروا طب سلرنو في طول أوربا وعرضها. وكان ثمة مدارس للطب صالحة في القرن الثالث عشر في بولونيا، وبدوا، وفرارا، وبروجيا، وسينا، ورومة، ومنبلييه، وباريس، وأكسفورد؛ وامتزجت في هذه المدارس التقاليد الطبية الثلاثة الشهيرة - اليونانية، والعربية، واليهودية، وامتصتها امتصاصاً تاماً، وصيغ التراث الطبي كله صياغة جديدة حتى أصبح هو أساس علم الطب الحديث، واحتفظ أسلوبا التشخيص القديمان - وهما فحص جدران الصدر بالمسماع وتحليل البول - بشهرتهما وكثرة استعمالهما (ولا يزالان يحتفظان بهما إلى يومنا هذا). وبلغ من انتشارهما أن كانت المبولة رمز مهنة الطب أو دلالتها في بعض الأماكن (62). كذلك بقيت أساليب العلاج القديمة بالمسهلات والحجامة؛ وكان الطبيب في إنجلترا "مركب عَلَق". وكانت الحمامات الحارة من طرق العلاج المحببة. فكان المرضى يسافرون "ليأخذون الماء" من العيون المعدنية. وكان الطعام الخاص بالمرضى يوصف وصفاً دقيقاً في الأمراض كلها تقريباً (63)، ولكن العقاقير الطبية كانت موفورة، فقلّما كان هناك عنصر من العناصر لا يستخدم في العلاج - من الأعشاب البحرية (الغنية باليود) التي وصفها روجر السلرني عام 1180(17/189)
لعلاج تضخم الغدة الدرقية إلى الذهب الذي كان يتعاطى "لتسكين آلام الأطراف" (64) - ويظهر أن هذه هي طريقتنا الحديثة لعلاج التهاب المفاصل. ويكاد كل عضو من أعضاء الحيوان يكون له عمل في أقرباذين العصور الوسطى - قرون الغزال، دماء التنين، وصفراء الأفاعي، ومنيّ الضفادع؛ وكان براز الحيوان يوصف في بعض الأوقات (65). وكان أكثر العقاقير استعمالاً هو الترياق theriacum، وهو مزيج غريب من نحو سبع وخمسين مادة أشهرها لحم الأفاعي السامة. وكانت عقاقير كثيرة تستورد من بلاد الإسلام وظلت محتفظة بأسمائها العربية.
ولمّا ازداد عدد الأطباء المدربين شرعت الحكومات تنظم صناعة الطب. من ذلك أن روجر الثاني صاحب صقلية قصر مهنة الطب على الذين ترخص لهم الدولة، وأكبر الظن أ، هـ حذا في ذلك حذو السوابق الإسلامية القديمة. وحتم فردريك الثاني (1224) على من يريد ممارسة هذه المهنة أن يحصل على ترخيص بذلك من مدرسة سلرنو؛ فإذا أراد إنسان أن يحصل عليها وجب أن يتلقى منهاجاً يدوم ثلاث سنين في العلوم المنطقية Scientia logicali1 - ونظن أن معنى هذا اللفظ العلوم الطبيعية والفلسفة؛ وكان عليه بعدئذ أن يدرس الطب في المدرسة لمدة خمس سنين، وينجح في امتحانين، ويتمرن عاماً تحت إشراف طبيب مجرب (66).
وكانت كل مدينة ذات شأن تدفع أجور الأطباء لعلاج الفقراء مجاناً (67). وكان في بعض المدن أطباء موظفون. من ذلك أنه كان في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر طبيب تستأجره البلدية للعناية بقسم خاص من الأهلين، فكان يفحص في فترات محددة كل شخص في الإقليم المخصص له، ويسدي النصيحة له حسب ما يكشف عنه الفحص. وكان يعالج الفقراء في مستشفى عام، ويجبر(17/190)
على زيارة كل مريض ثلاث مرات في الشهر؛ فيصرح له في هذا الحال أن يطلب أجراً عن الزيارة التالية. وكان الطبيب الذي يؤدي هذه الخدمات يعفى من الضرائب ويتقاضى مرتباً سنوياً مقداره عشرون جنيها (68) قيمتها أربعة آلاف دولار في هذه الأيام (1).
وإذ كان الأطباء المرخصون قليلي العدد في أوربا المسيحية أثناء القرن الثالث عشر، فقد كانت أجورهم عالية، وكانت لهم منزلة اجتماعية سامية؛ فمنهم من جمعوا ثروات طائلة، ومنهم من أصبحوا من هواة جمع التحف الفنية، ومنهم من كانت لهم شهرة عالمية. فمن هؤلاء الأطباء بطرس هسبانس petrus Hispanus - بطرس اللشبوني ولكملستيلي Peter of Lis bon and Compostela - الذي هاجر إلى باريس ثم إلى سينا، وكتب أوسع كتب الطب انتشاراً في العصور الوسطى وهو كتاب كنز الفقراء، وخير بحث في علم النفس في تلك العصور وهو كتاب النفس De anima، وصار بعدئذ البابا يوحنا الحادي والعشرين في عام 1276، ثم قضى نحبه حين سقط عليه سقف في عام 1277. وكان أشهر طبيب مسيحي في ذلك الوقت هو آرنلد الفلانوفي (حوالي 1235 - 1311). وقد ولد بالقرب من بلنسية وتعلم اللغات العربية، والعبرية، واليونانية؛ ودرس الطب في نابلي، وعلمه هو أو الفلسفة الطبيعية في باريس، ومنبلييه، وبرشلونة، ورومة، وألف عدداً كبيراً من الكتب في الطب، والكيمياء، والتنجيم، والسحر، واللاهوت، وعصر النبيذ، وتفسير الأحلام. ولمّا عين طبيباً لجيمس الثاني ملك أرغونة أنذر الملك مراراً أنه إن لم يحم الفقراء من الأغنياء فإنه سوف يلقى إلى الجحيم (70). وكان جيمس يحبه رغم هذا التحذير
_________
(1) ولم يكن يحق للطبيب حسب قوانين القوط الغربيين في أسبانيا أن يتقاضى أجراً إذا توفي مريضه.(17/191)
ويرسله في كثير من البعثات الدبلوماسية. وهاله ما رآه في كثير من البلدان من البؤس والاستغلال، فأضحى من أتباع يواقيم الفورى Joachim of Flora وأعلن في رسائل يبعث بها إلى الأمراء والأحبار أن آثام الأقوياء وترف رجال الدين نذيران بخراب العالم. ورمى الرجل بالسحر الأسود والإلحاد وانهم بأنه صنع باستخدام الكيمياء سبائك من الذهب لربرت ملك نابلي. وأدانته محكمة الكنيسة ولكن البابا بنيفاس الثامن أطلق سراحه؛ ونجح في علاج البابا الشيخ من حصى في الكلى، فأهداه البابا قصراً في أنياني. ثم أنذر بنيفاس أنه إذا لم تصلح الكنيسة أحوالها، فسيحل عليها غضب الله سريعاً. وما لبث بنيفاس بعدئذ أن حلت به النوائب التي ذاعت أخبارها في طول البلاد وعرضها ومات من فرط اليأس. وظلت محكمة التفتيش تطارد آرنلد ولكن الملوك والبابوات كانوا يدافعون عنه لأنه يداوي أسقامهم، إلى أن مات غريقاً أثناء بعثة من قبل جيمس الثاني لكلمنت الخامس (71).
هذا من حيث الطب، أما الجراحة في ذلك الوقت فقد كانت تحارب في جبهتين إحداهما ضد الحلاقين والثانية ضد المطببين العموميين. فقد كان الحلاقون من زمن بعيد يعطون الحقن، ويخلعون الأسنان، ويعالجون بالجروح، ويحجمون. وكان الجراحون الذين تلقوا تدريباً طبياً يحتجون على أداء هذه الخدمات التي تستخدم فيها القوة العضلية، ولكن القانون ظل يحمي الحلاقين طوال العصور المظلمة كلها، حتى لقد ظل من واجبات جراحي الجيش في بروسيا إلى عهد فردريك الأكبر أن يحلقوا ذقون الضباط (72). وكان من نتائج هذا الخلط في الواجبات أن ظل الجراحون أقل منزلة من الأطباء في العلم وفي نظر المجتمع، فكان ينظر إليهم على أنهم صناع بسطاء يطيعون أوامر الطبيب الذي كان قبل القرن الثالث عشر يستنكف أن يمارس الجراحة بنفسه (73). وكان مما يثبط همم الجراحين زيادة على هذا خشيتهم من السجن أو الموت إذا أخفقوا في أعمالهم؛(17/192)
ولم يكن يجرؤ على القيام بالجراحات الخطرة إلاّ أعظمهم شجاعة؛ وكان معظم الأطباء يطلبون قبل إقدامهم على هذه المجازفة ضماناً كتابياً بأنهم لن يصيبهم مكروه إذا أخفقوا في عملهم (74).
ومع هذا فقد تقدمت الجراحة في ذلك الوقت أسرع من تقدم أي فرع آخر من فروع الطب؛ ويرجع بعض السبب في هذا إلى أنها كانت تعنى بأحوال قائمة لا بنظريات، كما يرجع بعضه إلى ما كان يتاح للجراحين من فرص قيمة في معالجة جراح الجنود. ونشر روجر السالرني حوالي 1170 كتابه العمليات الجراحية وهو أقدم رسالة في الجراحة معروفة في بلاد الغرب المسيحية؛ وظلت هذه الرسالة من المراجع الهامة ثلاثة قرون، وفي عام 1238 أمر فردريك الثاني أن تشرح جثة كل مرة خمس سنوات في سالرنو (75)؛ وظل تشريح الجثث يجري بانتظام في إيطاليا بعد عام 1275 (76). وفي عام 1286 فتح طبيب في كرمونا جثة ليدرس عليها سبب وباء انتشر في ذلك الوقت، فكان هذا أول تشريح لجثة بعد الموت لمعرفة سبب الوفاة؛ وفي عام 1266 بدأ تيودريكو برجنيوني Theodorico Brogonomi أسقف سرفيا Cervia كفاحاً طويلاً في الطب الإيطالي ضد الفكرة العربية القائلة إن تكوين الصديد يجب أن يشجع أولاً في علاج الجروح؛ ويعد بحثه من أعظم البحوث في طب العصور الوسطى. وخطا ججليلمو ساليستي Guglielmo Salicetti - وليم الساليستوي Wiliam of Saliceto (1210 - 1277) - أستاذ الطب في جامعة بولونيا خطوات كبيرة إلى الأمام في تحسين الجراحة، وذلك في كتاب الجراحة الذي صدر في عام 1275. وقد قرن في هذا الكتاب التشخيص الجراحي بمعرفة الطب الباطني، وكان يعنى بالاحتفاظ بسجلات للمرضى، وأظهر كيف يوصل الأعصاب المنفصلة، ودعا إلى استعمال المشرط بدل الكي الذي(17/193)
كان واسع الانتشار عند الأطباء المسلمين، لأن جروح المشرط أضمن من النار شفاءً ولا تترك أثر في الجسم مثل ما تتركه النار. وقال وليم في رسالة عامة إن سبب تضخم الغدة اللمفاوية والقرحة الزهرية هو الاتصال الجنسي بعاهر مصابة بالمرضين، ووصف داء الاستسقاء وصفاً دقيقاً وقال إنه ينشأ من تحجر الكليتين وضيقهما، وأسدى نصائح طبية ممتازة في الصحة والتغذية لكل سن في حياة الإنسان.
ونقل تلميذاه هنري المندفيلي Henri de Mondeville (1260 - 1320) وجيدو لانفرانشي Guido Lanfranchi ( المتوفى عام 1315) المعارف الطبية من بولونيا إلى فرنسا. وعمل المندفيلي ما عمله تيودوريكو فحسن طرق التعقيم بأن دعا إلى العودة إلى طريقة أبقراط وهي الاحتفاظ بالجرح نظيفاً بأبسط الوسائل. ولما نفي لانفرانشي من ميلان في عام 1290 انتقل إلى ليون وباريس، وألف كتاب التشريح الكبير Chirurgia Magna الذي أصبح المرجع المعتمد في هذا العلم في جامعة باريس. وقد وضع لافرانشي مبدأ بفضله أنقذ علم التشريح من الرسائل الهمجية وهو: "ليس في وسع إنسان أن يكون طبيباً قديراً إذا كان يجهل علم التشريح، وليس في مقدور إنسان ما أن يجري جراحات ناجحة إذا كان يجهل الطب". وكان لافرانشي أول من استخدم تشريح الأعصاب لعلاج التتنوس، وإدخال أمبوبة في المريء، وهو أول من أدلى بالوصف الجراحي لارتجاج المخ. وقصارى القول أن الفصل الذي وصف فيه إصابات الرأس من المعالم البارزة في تاريخ الطب.
وقد ورد ذكر الجرعات المنومة في كتب أرجن Origen، (185 - 254) وهيلاري أسقف بواتيه Hilary Bishop of Poitiers ( حوالي 353). وكانت طريقة التخدير المألوفة في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى هي طريقة(17/194)
الاستنشاق مصحوبة في أغلب الظن بشرب مزيج أساسه المندرغورة (1)، ومحتو في العادة على الأفيون وعصير الشوكران، والتوت. وقد ورد ذكر هذه "الإسفنجة المنومة" في القرن التاسع وما بعده (78). أما التخدير الموضعي فكان يستعان عليه بضمادة غمست في محلول شبيه بهذا. وكان المريض يوقظ بتشميمه عصير الشمر. ولم تكن أدوات الجراحة وقتئذ قد تقدمت عما كانت عليه عند اليونان الأقدمين؛ أما فن التوليد فقد انحط عما كان عليه في عهد سورانس Soranus ( عام 100م) وبولس الإنجيني paul of Aegina ( حوالي 240م). وقد ذكرت العملية القيصرية (2) في الأدب، ولكن يبدو أنها لم يكن يلجأ إليها. وكان تقطيع الجنين عند تعسر الولادة لتخليصه من الرحم يلجأ إليه في كثير من الأحيان لأن القابلة قلّما كانت تعرف كيف تغير وضع الجنين. وكانت الولادة تحدث في كرسي يعد لهذا الغرض خاصة (79).
وتقدمت المستشفيات وقتئذ عما عرف عنها في أي عصر من العصور القديمة. فقد كان عند اليونان الأقدمين مؤسسات دينية لعلاج المرضى؛ وأنشأ الرومان مستشفيات لعلاج جنودهم، ولكن نظم الصدقات المسيحية كانت هي السبب في تقدم نظام المستشفيات تقدماً كبيراً. وحسبنا أن نذكر عن هذا التقدم أن القديس باسيلي أسس في مدينة قيصرية من أعمال كبدوكيا داراً تسمى الباسلياس نسبة إليه، كان فيها عدة مبان للمرضى، والممرضات، والأطباء، والمصانع، والمدارس. وافتتح القديس إفرايم Ephraim مستشفى في الرها عام 375؛ وأنشئت مستشفيات أخرى في جميع أنحاء الشرق اليوناني وتخصصت وتنوعت. وكان عند اليونان البيزنطيين مصحات للمرضى، وملاجئ للقطاء، وأخرى لليتامى، وملاجئ للفقراء،
_________
(1) وتسمى البيروح وهي نبات من الفصيلة الباذنجانية معروف في العالم القديم سبيه بصورة الإنسان (من قاموس الدكتور شرف). (المترجم)
(2) وهي تخليص الجنين بشق البطن بدون استئصال الرحم. (المترجم)(17/195)
وغيرها للفقراء أو العاجزين من الحجاج، أو للشيوخ الطاعنين في السن. وقد أسست فابيولا Fabiola في رومة عام 400 أول مستشفى في البلاد المسيحية اللاتينية وأنشأت أديرة كثيرة مستشفيات صغيرة، وقام عدد من الرهبان - رهبان المستشفيات، ورهبان المعبد، والأنطونيين، والألكسيين Alexians، - والراهبات بالعناية بالمرضى. ونظم إنوسنت الثالث في روما عام 1204 مستشفى الروح القدس Santo Spirito، وقامت بوحي منه مؤسسات من نوعه في جميع أنحاء أوربا، فكان في ألمانيا وحدها في القرن الثالث عشر أكثر من مائة من "مستشفيات الروح القدس". وكانت المستشفيات في فرنسا تعنى بالفقراء، والطاعنين في السن، والحجاج، كما تعنى بالمرضى؛ وكانت كمؤسسات الأديرة تستضيف هذه الطوائف؛ وأنشأ لويس التاسع حوالي عام 1260 ملجأ في باريس يدعى الثلاثمائة Les quinze-vingt؛ وكان في بادئ الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أضحى مستشفى للرمد، وهو الآن من أهم المراكز الطبية في باريس؛ وأنشئ أول المستشفيات الإنجليزية المعروفة في التاريخ (وليس من الضروري أن يكون أول ما أنشئ منها في إنجلترا) بكنتربري عام 1084. وكانت هذه المستشفيات تقوم في العادة بأداء الخدمات بالمجان لمن يعجزون عن أداء الأجور، وكانت ممرضاتها (ماعدا مستشفيات أديرة الرجال) من الراهبات. واتخذت الأثواب التي ترتديها "ملائكة الرحمة ورسلها"، وهي التي تبدو في نظرنا مرهقة لهن، في القرن الثالث عشر، وأكبر الظن أنها اتخذت هذا الشكل لحمايتهن من الأمراض المعدية؛ ولهذا السبب عينه جرت عادة قص الشعر وتغطية الرأس (80).
وتطلب مرضان معينان اتخاذ وسائل خاصة للوقاية، وهذان المرضان هما "نار القديس أنطونيوس"، وهو وباء جلدي - لعله مرض الجمرة - وهو مرض بلغ من خبثه أن تألفت حوالي عام 1095 طائفة من الرهبان هي جماعة(17/196)
الأنطونيين لمعالجة ضحاياه. ويذكر جريجوري التوري Gregory of Tours ( حوالي عام 560) مستشفيات الجذام؛ وتألفت جماعة القديس لازار St. Lazarus من الرهبان للخدمة في مستشفيات الجذام. وكانت أمراض ثمانية تعد من الأمراض المعدية: وهي الطاعون الدملي، والتدرن الرئوي، والصرع، والجرب، والحمرة، والبثرة الخبيثة، والرمد الحبيبي، والجذام. وكان يحرم على المصاب بأحد هذه الأمراض أن يدخل مدينة إلاّ معزولاً عن غيره، أو أن يعمل في بيع الطعام أو الشراب. وكان يفرض على المجذوم أن يحذر الناس من اقترابه بالنفخ في قرن أو بدق ناقوس. وكان مرضه يبدو عادة في شكل طفح صديدي على الوجه والجسم. وليس هذا المرض شديد العدوى، ولكن أكبر الظن أن ولاة الأمور في العصور الوسطى كانوا يخشون انتشاره بطريقة الجماع. وربما كان هذا اللفظ شمل فيما يشمله، ما يعرف الآن عند الأطباء بأنه مرض الزهري، ولكننا لا نجد إشارة صريحة لهذا الداء قبل القرن الخامس عشر (81). ويبدو أنه لم تتخذ أية وسيلة خاصة لعلاج المصابين بأمراض عقلية قبل القرن الخامس عشر.
وعانت العصور الوسطى من فتك الأوبئة أكثر مما عاناه أي عصر آخر معروف، وذلك لأن الفقر كان يحول بين أهلها وبين النظافة أو الغذاء الصالح ومن أمثلة ذلك "الوباء الأصفر" الذي اجتاح أيرلندة في عامي 550 و664 وأهلك كما تقول الأخبار غير الموثوق بصحتها ثلثي الأهلين (82). واجتاحت أوبئة مثله بلاد ويلز في القرن السادس، وإنجلترا في القرن السابع. وفشا في فرنسا وألمانيا في أعوام 994، 1043، 1089، 1130وباء يسميه الفرنسيون mal des ardents ( وباء الاحتراق) وقد وصف بأنه يحرق الأمعاء. وربما كان الصليبيون هم الذين نشروا وبائي الجذام والأسقربوط، ويبدو أن مرض التثني البولندي Plica Polonica-(17/197)
وهو مرض من أمراض الشعر- قد جاء به الغزاة المغول إلى بولندة حين غزوها في عام 1287. وكان السكان البائسون يعزون هذه الأوبئة للقحط، والجدب، وجيوش الحشرات، وتأثير النجوم، وتسميم اليهود لآبار المياه، أو غضب الإله. وأقرب من هذه الأسباب إلى العقل ازدحام المدن الصغيرة المسورة بالسكان، وعدم وجود الاحتياطات الصحية أو مراعاة قواعدها، وما ينشأ عن ذلك من ضعف مقاومة الأهلين للعدوى التي يحملها الجنود والحجاج والطلاب العائدون إلى أوطانهم (83). وليست لدينا إحصاءات عن عدد الموتى في العصور الوسطى ولكن أكبر الظن أن الذين كانوا يصلون إلى سن النضوج لم يزيدوا على نصف المواليد، وكانت خصوبة النساء تعمل جاهدة للتكفير عن غباء الرجال وبسالة الجنود.
وتحسنت وسائل المحافظة على الصحة العامة في القرن الثالث عشر. ولكنها لم تبلغ قط في العصور الوسطى الدرجة الممتازة التي بلغتها أيام الإمبراطورية الرومانية. وكانت معظم المدن، وأحياء المدن، تعين موظفين للعناية بشوارعها (84)، ولكن أعمال هؤلاء الموظفين كانت بدائية. وكان من يزورون المدن المسيحية من المسلمين يشكون - كما يشكو من يزورون المدن الإسلامية من المسيحيين في هذه الأيام - من قذارة "مدن الكفار" ورائحتها الكريهة (85). فق كانت الفضلات وأقذار البالوعات تجري فوق البالوعات في شوارع كمبردج التي تبلغ الآن درجة كبرى من الجمال والنظافة، وكانت تنبعث منها "روائح كريهة ... يمرض منها الكثيرون من المدرسين والطلاب" (86). وكانت لبعض المدن في القرن الثالث عشر قنوات مغطاة لنقل ماء الشرب، وبالوعات، ومراحيض عامة؛ وكانت الأمطار هي التي يعتمد عليها في معظم المدن لاكتساح الأقذار، وكان تدنيس الآبار ينشر وباء التيفود؛ وكانت المياه التي تستخدم في عمل الخبز وعصر الخمر تؤخذ عادة- في البلاد الواقعة في(17/198)
شمال الألب- من المجاري المائية التي تتلقى أقذار المدن (87). وكانت إيطاليا أكثر رقياً من غيرها من البلدان، وأكبر السبب في هذا ما ورثته عن الرومان، وما سنه فردريك الثاني، من تشريعات مستنيرة لإزالة الأقذار، ولكن عدوى الملاريا الناشئة من المستنقعات المحيطة بها جعلت رومة مدينة غير صحية، قتلت كثيرين من كبار موظفيها وزائريها، وأنجت المدينة بين الفينة والفينة من الجيوش المعادية التي استسلمت للحمى وسط انتصاراتها.(17/199)
الفصل السادس
ألبرتس مجنس
1193 - 1280
تبرز أمامنا في تلك الفترة من الزمان أسماء ثلاثة رجال وهبوا أنفسهم للعلم: أدلارد الباثي Adelard of Bath، وألبرت العظيم، وروجر بيكن. فأما أدلارد فقد تلقى العلم في كثير من الأقطار الإسلامية ثم عاد إلى إنجلترا وكتب (حوالي عام 1130) حواراً طويلاً سماه الأسئلة الطبيعية يشمل كثيراً من العلوم. ويبدأ الكتاب على الطريقة الأفلاطونية بوصف اجتماع أدلارد بجماعة من أصدقائه، ويسألهم عن الحالة في إنجلترا، فيجيبونه بأن الملوك يشعلون نيران الحروب، والقضاة يرتشون، وكبار رجال الدين يسرفون في شرب الخمر، وأن العهود جميعها تنكث، والأصدقاء كلهم يتحاسدون. ويتقبل أدلارد هذا على أنه هو الحال الطبيعية التي لا تقبل التغيير، ويعرض على أصدقائه أن ينسوها. ويسأل ابنُ أخ لأدلارد عمَّه ماذا تعلم في بلاد المسلمين؟ فيجيبه بأنه يفضل علوم المسلمين عن علوم المسيحيين، فيتحداه أصدقاؤه وتكون أجوبته لهم مختارات طريفة من جميع علوم ذلك العصر. ويندد فيها بما تفرضه التقاليد والسلطات من قيود ثقيلة ويقول: لقد تعلمت عن أساتذتي العرب أن أسترشد بالعقل، أما أنتم يا من أسرتكم ... السلطات، فإنكم تسيرون إلى حيث يقودكم المقود والزمام ... وماذا عسى أن تسمى السلطة غير المقود والزمام؟ " إن الذين يحسبون الآن من أصحاب السلطان إنما حصلوا على سلطانهم باتباع العقل، لا السلطات. ثم يقول لابن أخيه: "فإذا شئت إذن أن تسمع مني أكثر مما سمعت فأعط العقل وخذه ... إذ ليس شيء أكثر ضماناً من العقل ... وليس شيء أكثر كذباً(17/200)
من الحواس (88) ". ويدلي أدلارد ببعض الأجوبة الطريفة وإن كان يسرف في اعتماده على المنطق الاستدلالي. فإذا سئل ما الذي يمسك الأرض في الفضاء أجاب بأن أسفل الأرض ومركزها شيء واحد؛ ويسأل إلى أي مدى يسقط الحجر إذا ألقى في ثقب يخترق مركز الأرض إلى الجانب الآخر منها؟ فيجيب بأنه لا يصل إلاّ إلى مركز الأرض. وهو يذكر في وضوح مبدأ عدم فناء المادة، ويقول إن مبدأ الاستمرار العالي يجعل وجود الفراغ مستحيلاً. وجملة القول أن أدلارد برهان ساطع على يقظة العقل في أوربا المسيحية أثناء القرن الثاني عشر. فقد كان شديد التحمس لإمكانيات العلوم، ويسمّى في زهو وخيلاء عصره أي عصر أدلارد بالعصر الحديث (89)، وأعلى ما وصل إليه التاريخ كله.
أما ألبرتس مجنس فلم تبلغ روحه العلمية ما بلغته روح أدلارد، ولكن شغفه بمعرفة حقائق الكون أدى به إلى إنتاج ضخم أكسبه اسم "العظيم". واتخذت معظم مؤلفاته العلمية، كما اتخذت معظم مؤلفاته الفلسفية، صورة شروح لرسائل أرسطو المقابلة لها، ولكنها تحتوي من حين إلى حين نسمات جديدة من الملاحظات المبتكرة، وتتاح له وسط سحب المقتبسات المنقولة عن المؤلفين اليونان، والعرب، واليهود فرص ينظر فيها إلى الطبيعة بنفسه. وقد زار معامل التجارب، والمناجم، ودرس كثيراً من المعادن المتنوعة، وفحص عن حيوان بلاده الأصلية - ألمانيا - ونباتها، ولاحظ حلول البحر محل الأرض والأرض محل البحر، وفسر بذلك وجود الحفريات القديمة في الصخور. وإذ كانت فلسفته قد طغت على علمه فحالت بينه وبين الدقة العلمية، فق ترك نظرياته "القَبْلية" (1) تؤثر في نظرته العلمية، مثال ذلك ادعاؤه أنه رأى شعر الخيل يتحول في الماء إلى ديدان. ولكنه كان مثل أدلارد يرفض تفسير الظواهر الطبيعية بأنها تحدث
_________
(1) النظريات القبلية هي التي تكون في عقل الباحث قبل أن يثبتها بالأدلة الاستقرائية Appiori theories(17/201)
تبعاً لإرادة الله، ويقول إن الله يعمل وفق علل طبيعية، وإن من واجب الإنسان أن يبحث عن الله في هذه العلل نفسها.
وقد طمست ثقته بأرسطو رأيه في التجارب العلمية. وإنّا لتثير عقولنا فقرة شهية في الكتاب العاشر من مؤلفه De vegetabilis يقول فيها: " إن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة Experimentum solum Certificat" ولكن كلمة تجربة esperimentum كان لها وقتئذ معنى أوسع من معناها في هذه الأيام كما يبدو ذلك من سياق هذه الفقرة: "إن كل ما هو مدون هنا إمّا ثمرة تجربتنا أو مأخوذ من مؤلفين نعلم أنهم قد كتبوا ما أيدته تجربتهم الشخصية، لأن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة". ومع هذا كله فقد كان عمل ألبرتس تقدماً سليماً عظيم النفع. ويسخر ألبرتس من المخلوقات الأسطورية أمثال الحيوان الذي نصفه أسد وتصفه نسر؛ والهولة المفترسة القذرة التي لها جسم امرأة، وجناحا الطير الجارح ومخالبه وقدماه، والتي هي رسول انتقام الآلهة، والخرافات وقصص الحيوانات الخرافية الواردة في أحد الكتب الواسعة الانتشار في ذلك الوقت وهو كتاب Physiologus؛ ويذكر فيما يذكره أن "الفلاسفة يذكرون كثيراً من الأكاذيب" (90). وكان في بعض الأحيان - ولا نقول في أغلب الأحيان - يجري تجارب، كما حدث حين أثبت هو ورفاقه أن "زيز الحصيدة" ( Cicada) ظل يغني لحظة وجيزة بعد أن قطع رأسه. ولكنه كان يثق بأقوال بلني ثقة الإنسان البريء بأولياء الله الصالحين، ويصدق تصديق السذج البلهاء القصص التي يرويها الكذابون من صائدي الوحوش والسمك.
وقد خضع لزمانه حين آمن بالتنجيم، وبعلم الغيب؛ وعزا قوى عجيبة للجواهر والأحجار، ويدعى أنه شاهد بعينيه ياقوتة زرقاء شفت قرحاً. وهو يرى، كما يرى تومس الواثق من نفسه، أن السحر من الحقائق المؤكدة، وأنه من فعل(17/202)
العفاريت ويؤمن بأن الأحلام تنبئ أحياناً بالحوادث المستقبلة، ويقول: "إن النجوم في الحقيقة هي التي تحكم العالم" في الأحوال الجسمية، وأن اقتران الكواكب يفسر في أغلب الظن "أحداثاً خطيرة وأعاجيب عظيمة"، وأن المذنبات قد تنذر بالحروب وموت الملوك: "إن في الإنسان مصدراً مزدوجاً للعمل - الفطرة والإرادة؛ فأما فطرته فتحكمها النجوم، وأما الإرادة فحرة؛ لكن الإرادة إذا لم تقاوم، اكتسحتها الفطرة". ويعتقد أن في وسع المنجمين القادرين أن يتنبئوا إلى حد كبير بما سوف يحدث للإنسان في حياته، أو بنتيجة ما سوف يقدم عليه من المشروعات، وذلك بالنظر في مواقع النجوم. وهو يقبل ببعض التحفظ نظرية الكيميائيين القدامى، (أو المذهب النووي الحديث) القائل بتحول العناصر بعضها إلى بعض (92).
وكان أحسن ما عمله في علم النبات. فقد كان أول عالم في النبات من أيام ثيوفراسطس (على قدر ما وصل إليه علمنا) بدرس النبات للعلم بالنبات لا لفائدته في الزراعة أو الطب. وقد صنف النباتات، ووصف ألوانها، ورائحتها، وأجزاءها، وثمارها، ودرس قوة إحساسها، ونومها، وتذكيرها وتأنيثها، ونموها، وحاول أن يكتب مقالاً في الفلاحة. وقد دهش همبولدت Humboldt إذ وجد في كتاب النبات لألبرت: "ملاحظات غاية في الدقة عن التركيب العضوي للنبات وعن وظائف أعضائه" (93). وأما كتباه الضخم في الحيوان فمعظمه شرح لأرسطو، ولكننا نجد فيه أيضاً ملاحظات أصيلة. فهو يحدثنا مثلاً بأنه "سافر في بحر الشمال للقيام ببحوث فيه، وبأنه نزل في الجزائر، وعلى الشواطئ الرملية ليجمع" نماذج للدرس (94) وقد وازن بين الأعضاء المتماثلة في الحيوان والإنسان (95).
وإذا ما نظرنا إلى هذه الكتب في ضوء علمنا الحاضر حكمنا على أن فيها كثيراً من الأغلاط، ولكننا إذا نظرنا إليها في ضوء ما كانت عليه عقول الناس في الزمن الذي ألفت فيه حكمنا بأنها من أعظم ما أثمرته العقول في العصور(17/203)
الوسطى. فقد كان الناس في ذلك الوقت يعترفون بأن ألبرت أعظم المعلمين في زمانه، ولقد طال به العمر حتى رأى رجالاً من طراز بطرس الأسباني Peter of Spain، وفنسنت البوفيزي اللذين ماتا قبله ينقلون عنه في مؤلفاتهم. نعم إنه لم يكن في مقدوره أن يضارع ابن سينا أو ابن ميمون أو تومس في دقة الحكم وصدقه أو في قبضته على ناصية الفلسفة، ولكنه كان أعظم علماء التاريخ الطبيعي في زمانه.(17/204)
الفصل السابع
روجر بيكن
حوالي عام 1214 - 1292
ولد أشهر علماء العصور الوسطى في سمرست حوالي عام 1214، ونحن على يقين من أنه عاش حتى عام 1292، وأنه قال عن نفسه في عام 1267 إنه شيخ كبير (96). ودرس في أكسفورد على جروستستي وكسب من هذا العالم المحيط بشتى الفنون افتتاناً بالعلم. وكانت الروح الإنجليزية، روح النفعية والاعتماد على الاختبار، قد أخذت تتشكل. وسافر بيكن إلى باريس حوالي عام 1240، ولكنه لم يجد فيها الحافز القوي الذي بعثته فيه أكسفورد؛ وأدهشه كثيراً أن لم يجد إلاّ قلة ضئيلة من أساتذة جامعة باريس تعرف لغة من لغات العلم خلاف اللغة اللاتينية، وأنهم لا يولون العلم إلاّ قدراً ضئيلاً من وقتهم، وأنهم ينفقون الكثير منه في الجدل المنطقي والميتافيزيقي وهو الذي كان يبدو لبيكن عديم النفع في الحياة إلى حد الإجرام. ودرس الطب وشرع يكتب رسالة في تخفيف متاعب الشيخوخة. وسعى للحصول على ما يلزمه من المعلومات لهذه الرسالة بالسفر إلى إيطاليا؛ ودرس اللغة اليونانية في بلاد اليونان الكبرى (1)، وفيها عرف بعض المؤلفات الطبية الإسلامية، ثم عاد إلى أكسفورد في عام 1251، وانضم إلى هيئة التدريس في تلك الجامعة؛ وكتب في عام 1267 يقول إنه أنفق في العشرين السنة السابقة على ذلك العام ألفي جنيه في شراء "الكتب السرية والآلات" وفي تعليم الشبان اللغات والعلوم الرياضة (97). واستأجر اليهود ليعلموه هو وطلابه اللغة العبرية وليعاونوه على قراءة العهد القديم بلغته الأصلية.
_________
(1) كان اليونان في الزمن القديم يطلقون هذا الاسم على جنوبي إيطاليا. (المترجم)(17/205)
وانضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس حوالي عام 1255، ولكن يبدو أنه لم يصبح في يوم من الأيام قساً.
وعافت نفس بيكن ميتافيزيقية المدرسيين، فألقى بنفسه بحماسة بالغة في تيار العلوم الرياضية، والتاريخ الطبيعي، والفلسفة. وليس من حقنا أن نفكر فيه على أنه مبتكر فذ، وصوت عالمي يدوي في بيداء الفلسفة المدرسية؛ لأن الواقع أنه كان في كل ميدان مديناً لمن سبقوه، وأن ما وهب من القدرة على الابتداع كان هو الذروة المحتومة لتطور طويل المدى. ولقد وضع ألكسندر نكهام، وبارثلميو الإنجليزي Bartholomew the Englishman، وربرت جروستستي، وآدم مارش Adam Marsh في أكسفورد تقاليد علمية ثابتة، ورثها بيكن، وأعلنها إلى العالم؛ وكان يعترف بفضل أولئك السابقين عليه ويثني عليهم ثناءً لا حد له: وكان يعترف كذلك بما للعلوم والفلسفة الإسلامية من فضل عليه وعلى العالم المسيحي كله، وربما هو مدين به لليونان عن طريق العلماء المسلمين؛ وأشار إلى أن علماء اليونان والمسلمين "الكفرة" كانوا هم أيضاً ممن تلقوا الوحي والهداية من الله (98). وكان يجل إسحق إسرائيلي، وابن جبيرول وغيرهما من المفكرين العبرانيين، ووجد في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من أن يقول كلمة طيبة عن اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين حينما صلب المسيح (99). ولم يكن يأخذ العلم بنهم عن العلماء وحدهم، بل كان يأخذه أيضاً عن أي إنسان تستطيع معارفه في الصناعات اليدوية أو الأعمال الزراعية أن تزيد ما لديه من معلومات. وكتب في هذا المعنى بتواضع لا عهد لنا به:
لا ريب في أن إنساناً ما لن يستطيع، قبل أن يرى الله وجهاً لوجه، أن يعرف شيئاً مؤكداً تأكيداً نهائياً ... لأنه لا يوجد إنسان ملم بجميع أحوال الطبيعة إلماماً يمكنه من أن يعرف كل شيء ... عن طبيعة ذبابة واحدة وخواصها .. وإذ كانت الأشياء التي يجهلها الإنسان لا حصر لها، وكانت أعظم وأجمل إذا(17/206)
قيست إلى ما يعرفه منها، فإن من يمتدح نفسه بكثرة ما يعرفه، مخبول قد اختلت موازين عقله. وكلّما زاد الناس حكمة، كانوا أكثر تواضعاً واستعداداً لتلقي العلم من غيرهم؛ وهؤلاء لا يحتقرون من يأخذون عنهم لسذاجته، ولكنهم يظهرون التواضع للفلاحين، وللعجائز من النساء والأطفال، لأن السذج وغير المتعلمين يعرفون أشياء كثيرة تخفى على الحكماء .... ولقد عرفت أنا نفسي من ناس ذوي مكانة وضيعة حقائق أكثر أهمية من التي عرفتها من جلة العلماء الذائعي الصيت. فليحذر كل إنسان إذن أن يفاخر بما أوتي من حكمة (100).
واندفع في العمل بجهد وسرعة أثرنا في صحته حتى أعتل جسمه في عام 1256، فانسحب من الحياة الجامعية ولم نعد نعرف عنه شيئاً في العشر سنين التالية. وأكبر الظن أنه ألّف في هذه الفترة بعض كتبه الصغيرة أمثال: في العدسات المحرقة وفي قوى الاختراع والطبيعة العجيبة، وتقدير الحادثات الطبيعية. ووضع في هذا الوقت خطة ((الكتاب الرئيسي))، وهو موسوعة من عمل رجل واحد أراد أن تكون في أربعة مجلدات: (1) النحو والمنطق. (2) الرياضة، والهيئة، والموسيقى. (3) العلوم الطبيعية - البصريات، والجغرافية، والتنجيم، والكيمياء القديمة، والزراعة، والطب، والعلوم التجريبية. (4) ما وراء الطبيعة والأخلاق.
وبعد أن كتب أجزاء متفرقة من هذه الموسوعة واتته فرصة خيل إليه أنها فرصة سعيدة، فحالت بينه مبين إنجاز برنامجه. ذلك أن جاي فولك Guy Foulques كبير أساقفة نربونة ارتقى عرش البابوية في شهر فبراير من عام 1265 وتسمى باسم كلمنت الرابع، وجاء معه إلى البابوية ببعض الروح الحرة التي نشأت في جنوبي فرنسا من اختلاط الشعوب والعقائد الدينية. وكتب إلى بيكن في شهر يونية بأمره بإرسال "نسخة مبيضة" من مؤلفاته "سراً وعاجلاً"(17/207)
و"دون مبالاة بتحريم أي رئيس ديني، أو لائحة الطائفة التي تنتمي إليها" (101). وشرع بيكن بكل ما في وسعه من جهد (كما يتبين ذلك من أسلوبه الحماسي) يعمل ليتم موسوعته؛ ولكنه خشي أن يتوفى كلمنت أو يفقد اهتمامه بالعمل قبل تماما÷ فأجله، وألف في اثني عشر شهراً - أو جمع من مخطوطاته - الرسالة الأولية المعروفة لنا بسام الكتاب الأكبر Opus Maius. وظن أن هذا المؤلف نفسه قد يكون أطول مما يريده البابا الكثير المشاغل فكتب عناصر منه سماها الكتاب الأصغر؛ وأرسل هذين المخطوطين في أوائل عام 1268 إلى كلمنت ومعها قال عن تضاعف الرؤية. وخشي أن تضيع هذه في طريقها إلى البابا فكتب خلاصة أخرى لآرائه هي الكتاب الرابع وأرسلها إلى كلمنت مع رسول خاص، مصحوبة بعدسة، وأشار على البابا أن يجري بها تجارب بنفسه. وتوفي كلمنت في شهر نوفمبر من عام 1268. ومبلغ علمنا أن كلمة واحدة لم ترسل إلى الفيلسوف من البابا نفسه أو ممن جاءوا بعده اعترافاً منه أو منهم بوصول هذه الكتب.
فالكتاب الأكبر إذن هو عندنا "أكبر مؤلفات" بيكن، وإن كان هو لم يرده إلاّ أن يكون فاتحة لمؤلفاته. وهو كتاب ضخم يضم ثمانمائة صفحة مقسمة إلى سبع رسائل: (1) في الجهل والخطأ. (2) وفي العلاقة بين الفلسفة وعلوم الدين. (3) وفي دراسة اللغات الأجنبية. (4) وفي فائدة العلوم الرياضية. (5) وفي فن المنظور والبصريات، (6) وفي العلوم التجريبية. (7) وفي الفلسفة الأخلاقية. وفي الكتاب قدره الخليق به من السخافات، وفيه كثير من الاستطراد، وأكثر مما يليق من المقتبسات الطويلة من مؤلفات غيره؛ ولكنه يمتاز بالقوة، والإخلاص، والاتجاه إلى القصد مباشرة، ويقبل عليه(17/208)
القراء في هذه الأيام أكثر من إقبالهم على أي مؤلف آخر من مؤلفات العصور الوسطى في العلوم أو الفلسفة. وإنّا ليسهل علينا أن نفهم الاضطراب الحماسي، والإشادة البابوية، والحرص الشديد على الجهر بالتمسك بالدين القويم، والنزول بالعلم والفلسفة إلى منزلة الخدم لعلوم الدين، نقول إنّا ليسهل علينا أن نفهم وجود هذا كله في كتاب يبلغ هذا المبلغ من اتساع المدى وتعدد الموضوعات، كتب ليكون خلاصة عاجلة، ويراد به الحصول على تأييد البابا للتربية العلمية والبحث العلمي. ذلك أن روجر بيكن كان يشعر بما يشعر به فرانسس بيكن وهو أن تقدم العلوم في حاجة إلى معونة رؤساء الدين وكبار رجال الدولة، وإلى أموالهم لتبتاع بها الكتب، والآلات والسجلات، ومعامل الاختبار، والتجارب، ولأداء أجور الموظفين.
وكأنما أراد أن يستبق سميه إلى تحطيم "الأصنام" بثلاثمائة عام، فبدأ بذكر أربعة أسباب هي التي توقع الإنسان في الخطأ وهي: "الاقتداء بالمراجع الراهنة غير الجديرة بأن يقتدى بها، والعادة التي استقرت من زمن بعيد، وإحساس الجماهير الجاهلة، وتغشية الجهل بستار من التظاهر بالحكمة" (102). ويحرص على أن يضيف إلى هذا أنه "لا يشير بحال من الأحوال إلى تلك السلطة القوية الموثوق بها التي ... وهبت إلى الكنيسة". (5) وهو يأسف لتسرع أهل زمانه واعتقادهم أنه يكفي لأن تكون قضية ما في رأيهم قد ثبتت بالدليل إذا وجدت في أرسطو، ويجهر بأنه لو أوتي السلطة الكافية لأحرق جميع كتب هذه الفيلسوف، لأنها في رأيه منبع الأخطاء ومصدر الجهل (103)، ثم تراه بعد هذا لا تخلو صفحتان من كتابه دون عبارة مقتبسة من أرسطو.
ويكتب في أول الجزء الثاني يقول: "وبعد أن أقصيت أسباب الخطأ الأربعة وألقيت بها في الدرك الأسفل أحب أن أبين حكمة واحدة لا أكثر هي الحكمة الكاملة، وهي الحكمة التي يحتويها الكتب المقدس". وفي رأيه أنه(17/209)
إذا كان فلاسفة اليونان قد ألهموا نوعاً من الإلهام الثانوي، فسبب ذلك أنهم اطلعوا على كتب الأنبياء والبطارقة (104). ويبدو أن بيكن يؤمن بقصص الكتاب المقدس إيماناً ساذجاً، ويعجب لم لا يسمح الله للناس أ، يعيشوا ستمائة عام (105). ويؤمن كذلك بقرب نزول المسيح وبنهاية العالم. وهو يدافع عن العلم لأنه يكشف عن الخالق في خله، ولأنه يمكن المسيحيين من أن يهدوا الكفار الذين لا يتأثرون بالكتاب المقدس. وهكذا "يتأثر العقل البشري فيؤمن بحقيقة مولد المسيح من العذراء، لأن بعض الحيوانات تحمل وهي عذراء وتلد صغاراً، ومن أمثلة ذلك الصقورة والقردة، كما يقول أمبروز في كتابه الأيام الستة (1). هذا إلى أن الخيل في كثير من البلدان تحمل بفعل الرياح وحدها حين تشتهي الذكر كما يقول بلني (106)، وتلك كلها أمثلة يؤسف لها اعتمد فيها على أصحاب "السلطة" العلمية لا أكثر.
ويبذل بيكن في الجزء الثالث من كتابة غاية جهده ليعلّم البابا اللغة العبرية لأن دراسة اللغات في رأيه لازمة للدين، والفلسفة، والعلوم، وذلك لأن الترجمة أياً كانت لا تنقل معنى الكتب المقدسة أو أقوال الفلاسفة الكفرة نقلاً دقيقاً. ويتحدث بيكن في الكتاب الأصغر حديثاً علمياً مدهشاً عن التراجم المختلفة للكتاب المقدس ويثبت علمه الواسع بالنصوص العبرية واليونانية. ويقترح أن يعين البابا لجنة من العلماء المتبحرين في اللغات العبرية، واليونانية، واللاتينية لمراجعة الترجمة اللاتينية القديمة لهذا الكتاب، وأن تكون هذه الترجمة المراجعة - لأحكام بطرس لمبارد هي التي تدرس مع علوم الدين. ويحث على إنشاء كراسي أساتذة لتدريس اللغات العبرية واليونانية والعربية، والكلدانية؛ ويعارض في استخدام القوة لتحويل غير المسيحيين إلى الدين المسيحي، ويتساءل
_________
(1) يريد الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم. (المترجم)(17/210)
كيف تستطيع الكنيسة أن تتصل بالمسيحيين اليونان، والأرمن، والسوريين، والكلدان إلاّ عن طريق لغاتهم. وكان بيكن يعمل بجد في هذا الميدان ويعظ الناس، وكان أول العلماء في العالم المسيحي الغربي يتم وضع كتاب نحو يوناني ليستخدمه الذين يعرفون اللاتينية، وأول مسيحي يؤلف في نحو اللغة العبرية. وكان يقول إن في مقدوره أن يكتب باللغتين اليونانية والعبرية، ويبدو أنه درس أيضاً اللغة العبرية (107).
وحين يصل بيكن إلى موضوع الرياضيات تصبح كتبه مسرحاً للتحمس البليغ والنظريات الغامضة. ويقول عن الرياضيات: "واعتقادي أن العلوم الرياضية لازمة وأنها تلي في ذلك اللغات". ويكشف عن خضوعه لتأثير الدين حين يقول إن العلوم الرياضية "يجب أن تساعد على معرفة مكان الجنة والنار"، وتزيد من علمنا بجغرافية الكتاب المقدس والتواريخ الدينية، وتمكن الكنيسة من إصلاح التقويم (108)، ويقول: ولنلاحظ كيف تساعدنا "القضية الأولى في الهندسة" - وهي إنشاء مثلث متساوي الأضلاع على خط معلوم - على "أن ندرك أننا إذا سلمنا بشخص الله الأب، تبدى أمامنا الثالوث ذو الأشخاص المتساوين" (109) , ثم ينتقل من هذا المركز السامي الذي يضع فيه الرياضة فيستبق استباقاً مدهشاً علم الطبيعة الرياضية الحديث بإصراره على أن العلم لا يبلغ حد الكمال في الخصائص العلمية إلاّ إذا صاغ نتائجه كلها في صورة رياضية، وإن كان لابد له أن يجعل التجارب هي الطريقة التي يستخدمها في الوصول إلى تلك الغاية. وعنده أن جميع الظواهر غير الروحية آثر من آثار المادة والقوة، وأن جميع القوى تعمل في تناسق وانتظام، ولهذا فإنها يمكن التعبير عنها بخطوط وأشكال؛ "ومن الواجب تحقيق الأشياء بالبراهين المبينة بخطوط وأشكال"؛ وليست جميع العلوم الطبيعية في آخر الأمر إلاّ علوماً رياضية (110).(17/211)
ولكن إن كانت الرياضة هي النتيجة، فإن التجربة يجب أن تكون وسيلة العلم وطريقة اختبار نتائجه. ولقد أحدث بيكن ثورة علمية أداتها الرياضيات والتجارب، على حين أن الفلاسفة المدرسيين من أبلار إلى تومس أكوناس قد وضعوا كل ثقتهم في المنطق، وكادوا يضمون أرسطو إلى الثالوث المقدس، لأنهم في واقع الأمر جعلوه روحاً قدساً. فهو يقول إن أدق النتائج التي يؤدي إليها المنطق تتركنا غير واثقين من صدقها، حتى تؤيدها الخبرة، فالحرق وحده هو الذي يقنعنا بحق أن النار تحرق؛ "ومن يُرد أن يبتهج ابتهاجاً لا ريب فيه بالحقائق الكامنة وراء الظواهر الطبيعية فليهب نفسه للتجارب العلمية" (111). ويبدو أنه في بعض الأوقات يرى أن التجربة experimentum ليست وسيلة من وسائل البحث، بل هي الطريقة النهائية من طرق البرهان بوضع الأفكار - التي وصل إليها الإنسان بالخبرة والاستدلال - موضع الاختبار، وذلك بأن تصنع على أساسها أشياء ذات فائدة علمية (112). وهو يدرك ويعلن في وضوح أكثر من فرانسس بيكن أن التجربة في العلوم الطبيعية هي البرهان الذي لا برهان غيره. ولم يكن يدّعي أن هذه الفكرة جديدة أتى بها من عنده، بل يعتقد أن أرسطو، وجالينوس، وبطليموس، والعلماء المسلمين، وأدلارد، وبطرس الاسبانيولي، وربرت جروستستي، وألبرتس مجنس وغيرهم قد قاموا بالتجارب العلمية أو امتدحوها، وكل ما فعله روجر بيكن أن جعل الضمني صريحاً، وأن ثبت راية العلم في الأرض المنتزعة من بيداء الجهل.
ولم يفد روجر بيكن العلوم نفسها، كما لم يفدها فرانسس بيكن، إلاّ في القليل الذي لا يغني، إذا استثنينا من ذلك علم البصريات وإصلاح التقويم. ذلك أن هذين الرجلين لم يكونا عالمين بل كانا من فلاسفة العلم. وقد واصل روجر عمل جروستستي وأمثاله فاستنتج أ، التقويم اليوليوسي البالغ في طول السنة الشمسية فزادها يوماً في كل 125 سنة - وهو أدق تقدير وصل إليه العالم في ذلك(17/212)
الوقت - وأن التقويم كان في عام 1267 متقدماً عن الشمس بعشرة أيام. ولهذا اقترح إسقاط يوم من التقويم اليوليوسي في كل 125 سنة. ولا تكاد الصفحات المائة التي خصها بعلم الجغرافية في الجزء الرابع من الكتاب الكبير تقل براعة عن هذه الفكرة البارعة. فقد تحدث روجر بحماسة بالغة مع وليم ربرسكوي William of Rubresquis عن عودة زملائه الرهبان الفرنسيس من الشرق، وعرف الشيء الكثير عنه، وانطبع في ذهنه قول وليم إن ثمة ملايين لا حصر لها من الناس لم يسمعوا شيئاً قط عن الدين المسيحي. وأعلن بالاستناد إلى أقوال وردت في أرسطو وسنكا أن "البحر الذي يفصل طرف أسبانيا الغربي عن شرقي الهند يمكن اجتيازه في بضعة أيام قليلة جداً إذا كانت الريح مواتية" (113). وقد اقتبس كولمبس الفقرة التي نقلت عنه في مصور العالم (1480) الكردنال بيير دايي Pierre d'Ailly في خطاب كتبه إلى فرديناند وإزبلا في عام 1480 وقال إنها مما أوحي إليه بالرحلة التي قام بها في عام 1492 (114).
وكأنما كان بيكن في العمل الذي قام به في علم الطبيعة يرى بعين الخيال المخترعات الحديثة، وإن كان يغشاها من حين إلى حين الآراء السائدة في عصره. وإلى القارئ ترجمة حرفية لفقرات مشهورة يقفز فيها من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين:
يختص جزء من خمسة أجزاء من كل بصنع آلات عظيمة النفع إلى أقصى حد كالآلات التي تستخدم في الطيران، أو بالانتقال في مركبات لا تجرها دواب، ولكنها تجري مع هذا بسرعة لا تعادلها قط سرعة أخرى؛ أو في عبور البحار من غير مجاديف وبسرعة أكبر مما يظن إنها مستطاعة على أيدي الآدميين. ذلك أن هذه الأشياء قد حدثت في أيامنا هذه. وليس من حق أي إنسان أن يسخر أو يدهش منها. وهذا الجزء من العلم يرينا كيف تصنع آلات يستطاع(17/213)
بها رفع أثقال لا يصدقها العقل أو إنزالها بغير مشقة ولا جهد ... (115). ألا إن من المستطاع صنع آلات طائرة ... إذا جلس الرجل في وسط الواحدة منا أمكنه أن يدير دولاباً عجيب الابتكار تستطيع به أجنحة صناعية أن تضرب الهواء كما يضربه جناحا الطائر ... ويمكن أيضاً صنع آلات يمشي بها الإنسان في البحر أو النهر وفي قاعهما نفسه، من غير خطر عليه (116).
وفي الكتاب الأكبر فقرة فسرت بأنها تشير إلى البارود:
لقد كشفت فنون جديدة لمقاومة أ'داء الدولة يستطاع بها إهلاك كل من يجرؤ على مقاومتها وإن لم يستخدم في ذلك سيف أو غيره من الأسلحة التي تحتاج إلى الاتصال البدني ... ذلك أن دوياً مروعاً يصدر من قوة الملح المعروفة بنيترات البوتاس إذا اشتعل فيه جسم ضئيل الحجم، وهو قطعة صغيرة من الرق؟ ... وهذا الدوي المروع يفوق هزيم الرعد وينبعث منه بريق أشد من البرق الذي يصحب الرعد.
وفي فقرة لعلها مدسوسة على الكتاب الثالث يضيف بيكن إلى القول السابق قوله إن بعض اللعب "المفرقعة" تستعمل في ذلك الوقت وتحتوي على خليط من نيترات البوتاس (بنسبة 41. 2%) والفحم النباتي (بنسبة 29. 4%) والكبريت (بنسبة 29. 4%) (117)، ويشير إلى أن قوة هذا المسحوق المفرقعة يمكن مضاعفتها بوضعه في داخل مادة صلبة. وهو لا يدّعي بأنه اخترع البارود، وكل ما في الأمر أنه كان من أوائل من درسوه كيميائياً وتنبئوا بإمكانياته.
وخير ما كتبه بيكن على الإطلاق هو الجزء الخامس من الكتاب الأكبر "في علم المنظور". وفي الرسالة المكملة له في تضاعف الرؤية. وقد تفرعت هذه المقالة البارعة في البصريات من كتاب جروستستي عن قوس قزح، ومن تلخيص وتلو Witelo لكتاب ابن الهيثم، ومن دراسات علم البصريات التي تنقلت من(17/214)
ابن سينا، إلى الكندي، إلى بطليموس، وبلغت غايتها في إقليدس (300 ق. م) الذي برع في تطبيق الهندسة النظرية على حركات الضوء. وكان من البحوث التي قام بها بيكن: هل الضوء هو انبعاث جزيئات من الجسم المرئي؟ أو هل هو تحرك الوسط الكائن بين هذا الجسم والعين؟ ويعتقد بيكن أن كل جسم مادي يشع قوة في جميع الاتجاهات، وأن هذه الإشعاعات قد تنفذ في الأجسام الصلبة:
ليس ثمة جسم يبلغ من الكثافة حداً يمنع الأشعة منعاً باتاً من أن تمر فيه. ذلك أن المادة التي تتركب منها الأجسام واحدة فيها جمياً، ولهذا فليس ثمة جسم لا تحدث الأفعال التي تصحب مرور شعاع ما تغيراً فيه ... إن أشعة الحرارة والصوت تخترق جدران إناء من الذهب أو الشب، ويقول بؤيثيوس إن عين الوشق (1) تخترق الجدران السميكة (118).
ولسنا واثقين من هذه القوة المعزوة إلى الوشق، ولكننا إذا استثنينا هذا القول حق علينا أن نعجب بهذا الخيال الجريء لذلك الفيلسوف، وهو "الخيال المتماسك في كل أجزائه". وحاول بيكن وهو يقوم بالتجارب على العدسات والمرايا أن يصوغ قوانين انكسار الضوء، وانعكاسه، وفعل الأشعة الضوئية في تكبير الأجسام وتصغيرها. ومثل لنفسه قدرة العدسة المجدبة على تركيز كثير من أشعة الشمس في نقطة واحدة، ثم تشتيت هذه الأشعة خلف هذه النقطة لتتكون منها صورة مكبرة فكتب يقول:
في مقدورنا أن نشكل الأجسام الشفافة (العدسات) ونرتبها بالنسبة إلى قوة بصرنا وللأجسام المرئية ترتيباً يجعل الأشعة تنكسر وتنحني في أي اتجاه نريده، فنرى من أية زاوية نشاء الجسم قريباً منا أو بعيداً عنا. وعلى هذا فإن في وسعنا أن نقرأ أصغر الحروف من بعد لا يصدقه الإنسان، وأن نعد حبات
_________
(1) Lynx وهو حيوان من فصيلة الهر مرتفع الجسم عند مؤخره، ذو شعر طويلـ وذيل قصير، تنتهي أذناه بخصلتين من الشعر ويقال إنه حاد البصر. (المترجم)(17/215)
التراب أو الرمل ... وعلى هذا فإن جيشاً صغيراً يمكن أن يبدو للناظر كبيراً ... وقريباً منه كل القرب ... وفي وسعنا أيضاً أن نجعل الشمس، والقمر، والنجوم تبدو كأنها قد نزلت إلينا، ... وما إلى هذا من الظواهر الكثيرة المماثلة مما لا يتقبله عقل الشخص الذي يجهل الحقائق ... (119) ويمكن إلى هذا تصوير السماء بكل ما لها من طول وعرض بصورة مجسمة تتحرك حركتها اليومية، وقيمة هذا عند الرجل العاقل تعادل مملكة بأسرها ... ثمة عجائب أخرى غير هذه يخطئها الحصر ويمكن عرضها على العين (120).
تلك فقرات ذات روعة وجلال، ويكاد كل عنصر من عناصر النظرية التي نبسطها يوجد قبل بيكن وخاصة في كتب ابن الهيثم؛ ولكنه هو الذي جمع مادتها كلها في صورة عملية ثورية استطاعت وقت أن حل أوانها أن تبدل العالم. وهذه الفقرات هي التي أرشدت ليونارد دجس Leonard Diggis ( المتوفى حوالي 1571) إلى وضع النظرية التي اخترع المرقب على أساسها (121).
ولكن ما الذي يحدث إذا زاد تقدم العلوم الطبيعية من قدرة الإنسان دون أن يسمو بأغراضه؟ لعل أكثر نظرات بيكن نفاذاً إلى الصميم هي سبقه إلى تصور مشكلة لم تتضح للعالم إلاّ في أيامنا هذه، فهاهو ذا في الكتاب الأكبر يعبر عن اعتقاده الراسخ أن العلم وحده لا ينجي الإنسان:
كل هذه العلوم السالفة الذكر نظرية. ولسنا ننكر أن لكل علم وجهة عملية؛ ... ولكن الفلسفة الأخلاقية وحدها هي التي نستطيع أن نقول عنها ... إنها عملية في جوهرها ... لأنها تبحث في سلوك الإنسان، في الفضيلة والرذيلة، في السعادة والشقاء ... والعلوم الأخرى كلها لا قيمة لها إلاّ من حيث أنها تعين على العمل الصالح؛ وعلى هذا الاعتبار تصبح العلوم "العملية"، كالتجارب والكيمياء، وغيرها علوماً نظرية إذا قورنت بالعمليات التي تعنى بها العلوم الأخلاقية أو السياسية. وعلم الأخلاق هذا هو سيد كل رفع من فروع الفلسفة (122).(17/216)
ويصور بيكن حكمه الأخير في صالح الدين لا في اصلح الفلسفة، فبالأخلاق وحدها يؤيدها الدين يستطيع الإنسان أن ينجي نفسه. ولكن أي دين يقصد؟ إنه يحدثنا عن ندوة الأديان - البوذية، والإسلام، والمسيحية - وهي الندوة التي عقدت، على ما يقول وليم الربرسكوي في قرقورم Karakorum بناءً على دعوة منجوخان وتحت رياسته (123). ويفاضل بيكن بين الأديان الثلاثة، ويصدر حكمه في صالح الدين المسيحي، ولكنه لا يصدر هذا الحكم بوصفه ديناً يتعبد به الناس في العالم وكفى. وهو يشعر بأن البابوية، مهما وجه إليها جروستستي من نقد لاذع، هي الرابطة الروحية لأوربا، وبدونها تمزقها فوضى العقائد والحروب، وكان يأمل أن يدعم الكنيسة بالعلوم، واللغات، والفلسفة ليمكنها من أن تحكم العالم حكماً روحياً خيراً من حكمها الحاضر (124). وختم كتابه كما بدأه بالجهر الصادر عن عقيدة قوية بولائه للكنيسة، ويمجد في نهايته القربان المقدس - كأنه يقول إن الإنسان إذا لم يعمل من حين إلى حين للاتصال بأسمى مثله العليا احترق في لهيب هذا العالم.
ولعل عجز البابوات عن الاستجابة بوسيلة ما إلى المنهج الذي وضعه بيكن وإلى دعواته المتكررة وقد أظلم روحه وأمرَّ قلمه. وكانت نتيجة هذا أنه نشر في عام 1271 موجز الدراسات الفلسفية غير كامل لم يضف إلاّ القليل للفلسفة، ولكنه أضاف الشيء الكثير إلى الأحقاد الدينية التي كانت تمزق المدارس تمزيقاً. وفيه قضى قضاءً عاجلاً على الجدل الآخذ وقتئذ في الضعف بين الواقعية والصورية فقال: "ليس الكلى إلاّ تماثيل عدة أفراد" و"في الفرد الواحد من الواقعية أكثر مما يف الكليات كلها مجتمعة" (125). وأخذ بنظرية أوغسطين ووصل إلى أن جهود الأشياء كلها لإصلاح شأنها قد أحدثت سلسلة طويلة من التطورات (126). كما أخذ بفكرة أرسطو القائلة بوجود العقل الفاعل(17/217)
أو العقل الكوني الذي "يسري إلى عقولنا وينيرها" وأقترب اقتراباً شديداً من مبدأ وحدة الوجود الذي ينادي به ابن رشد (127).
ولكنه لم يهز مشاعر معاصريه بآرائه الفلسفية بقدر ما هزها بهجومه على منافسيه وعلى مبادئ زمانه الأخلاقية. ذلك أنه في موجز الدراسات الفلسفية كاد يلهب بسوطه جميع نواحي الحياة في القرن الثالث عشر: اضطراب نظام المحاكم البابوية، وانحطاط طوائف رهبان الأديرة، وجهل رجال الدين، وثقل مواعظهم وخلوها من التشويق، وفساد أخلاق طلاب العلم، وما في الفلسفة من لغو وتلاعب بالألفاظ. وذكر في رسالة له عن أخطاء الطب "ستة وثلاثين عيباً أساسياً كبيراً" في النظريات والأعمال الطبية في عصره، وكتب في عام 1271 فقرة ربما تدعونا إلى التسامح في عيوب أيامنا هذه:
يُرتكب في عصرنا هذا من الذنوب أكثر مما يرتكب في أي عصر قبله. فالكرسي البابوي يمزقه خداع الظالمين وغدرهم ... ولقد فشا الكبرياء بين الناس، وغلت مراجل الطمع في الصدور، وأنشب الحسد أنيابه في جميع النفوس؛ والبلاط البابوي كله يسربله الفجور بالعار، والنهم هو سيد الجميع ... وإذا كان هذا هو شأن الرأس فماذا عسى أن تفعل سائر الأعضاء؟ فلننظر إلى كبار رجال الدين كيف يجرون وراء المال، ويهملون العناية بالأرواح، ويرفعون إلى المناصب العليا أبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من الأصدقاء وأولي الأرحام؛ والمحامين الماكرين الذين يفسدون كل شيء بنصائحهم ... ولننظر إلى طوائف الرهبان من رجال الدين، لست أستثني أحداً مما أشاهده بينهم؛ انظروا في أية هاوية تردوا، وهووا من شامخ مجدهم فرادى وجماعات، وهاهم أولاء الرهبان (الإخوان) الجدد قد فسدوا فساداً مروعاً وحادوا عن تقواهم الأولى. إن رجال الدين على بكرة أبيهم لا هم لهم إلاّ التكبر، والفجور، والبخل، وحيثما يجتمع طلاب العلم ...(17/218)
لا تسمع منهم إلاّ اغتياب غير رجال الدين والتشهير بحروبهم ومنازعاتهم ويغرها من الرذائل. والأمراء، والأشراف، والفرسان يظلم بعضهم بعضاً، ويُشقون رعاياهم بحروبهم ومطالبهم التي لا حد لها ... والشعب الذي يشقى بأمرائه، يحقد على هؤلاء الأمراء، ولا يدين لهم بولاء إلاّ إذا أرغم على ذلك قوة واقتداراً؛ وقد أفسده المثل السيئ الذي ضربه له سادته وكبراؤه، فترى أفراده يظلم بعضهم بعضاً ويخدعه ويغشه، ونحن نشهد هذا كله بأعيننا في كل مكان، وهم منهمكون في فسقهم ونهمهم، وقد بلغوا من الانحطاط حداً يعجز اللسان عن النطق به. أما التجار والصناع فحدث عنهم ولا حرج، لأن الخداع والغش هما ديدنهم في جميع أقوالهم وأفعالهم ... لقد كان الفلاسفة الأقدمون، وإن أعوزتهم الكياسة المنعشة التي تجعل الناس خليقين بالخلود، يعيشون خيراً منا إلى ابعد حد مستطاع، سواء في أدبهم أو في احتقارهم هذا العالم وكل ما فيه من بهجة وغنى، وثروة، وألقاب التكريم، كما يتبين الناس جميعاً من مؤلفات أرسطو، وسنكا، وتلي Tully، وابن سينا، والفارابي، وأفلاطون، وسقراط وغيرهم؛ وبهذا وصلوا إلى أسرار الحكمة، وكشفوا عن جميع المعارف؛ أما نحن المسيحيين فلم نكشف شيئاً شبيهاً بما كشفه أولئك الفلاسفة، بل إننا لنعجز عن إدراك حكمتهم. ومنشأ جهلنا هذا هو أن أخلاقنا شر من أخلاقهم ... وليس ثمة بين العقلاء من يخالجه أدنى شك في أن الواجب يقضي بتطهير الكنيسة (128).
ولم تنطبع في عقله صورة طيبة من الفلاسفة المعاصرين له، وشاهد ذلك ما كتبه عنهم إلى كلمنت الرابع يقول إن أحداً منهم لا يستطيع في عشر سنين أن يؤلف كتاباً مثل الكتاب الأكبر، فقد كانت مؤلفاتهم في نظر بيكن مجلدات ضخمة من "الكذب الذي لا يستطاع وصفه" والحشو الذي لا ضرورة له (129)؛ وكان هيكل تفكيرهم كله يقوم على الكتاب المقدس(17/219)
ومؤلفات أرسطو، وذاك قد أسيء فهمه وهذه قد أسيئت ترجمتها (130). وكان يسخر من نقاشا تومس الطويل في عادات الملائكة، وسلطانهم، وذكائهم، وحركاتهم (131).
وما من شك في أن هذا الإسراف في اتهام حياة أوربا وأخلاقها، وتفكيرها، في ذلك القرن المتلألئ الباهر قد جعل بيكن وحده في ناحية أوربا كلها في ناحية أخرى. ولكننا لا نجد دليلاً على أن طائفته أو الكنيسة قد اضطهدته أو تدخلت في حرية فكره أو قوله قبل عام 1277، أي قبل أن يكتب المرثاة السالفة الذكر بست سنين. ولكن حدث في تلك السنة أن أخذ يوحنا الفرشلي John of Vercelli رئيس الرهبان الدمنيك وجيروم الأسكولي Jerom of Ascoli رئيس الرهبان الفرنسيس يتفاوضان ليخففا من حدة بعض النزاع الذي شجر بين الطائفتين. واتفقا على أن يمتنع الإخوان في كل طائفة عن نقد الطائفة الأخرى، وأن "كل أخ يتبين أنه أساء إلى أخ من الطائفة الأخرى بالقول أو بالفعل يجب على مجلس مقاطعته أن يوقع عليه من العقاب ما يرضى أخاه الذي أسيء إليه (132). وبعد قليل من ذلك الوقت قام جيروم - على حد قول أخبار قادة الطائفة الأربعة والعشرين التي كتبت في القرن الرابع عشر - "عملاً بمشورة كثيرين من الإخوان فعارض واستقبح تعاليم الأخ روجر بيكن مدرس علم اللاهوت المقدس لأنها تحتوي على بدَع تثير الشك، ومن أجل هذا حكم على روجر المذكور بالسجن" (133). ولسنا نعلم عن هذه المسألة شيئاً غير هذا؛ فهل كانت هذه "البدع" هي الإلحاد، أو ارتياب من حكموا عليه في أنه يمارس فنون السحر، أو أن هذا الأمر يخفي في طياته قراراً بإسكات هذا الناقد البغيض إلى الدمنيك والفرنسيس على السواء؟ ولسنا نعرف كذلك ما فرض من التضييق على بيكن في سجنه أو طول الزمن الذي ظل فيه(17/220)
سجيناً مضيقاً عليه. وكل ما نعرفه أن بعض المساجين الذين حكم عليهم بالسجن في عام 1277 قد أطلق سراحهم في عام 1292، وربما كان بيكن ممن أطلق سراحهم في ذلك الوقت أو قبله، لأنه نشر في عام 1292 موجزاً في الدراسات اللاهوتية، ثم لا نجد بعد ذلك إلاّ كلمة في سجل قديم: دفن الدكتور روجر بيكن الجليل القدر في كنيسة جريسي فريزر Grecy Frairs ( كنيسة الرهبان الفرنسيس) بأكسفورد في عام 1292" (134).
ولم يكن لبيكن في عصره إلاّ أثر قليل. فكل ما يذكره به ذلك العصر أنه رجل يأتي بكثير من الأعاجيب، وأنه ساحر ومشعوذ. وقد صور بهذه الصورة في مسرحية كتبها روجر جرين Roger Green بعد ثلاثمائة سنة من وفاته. وليس من السهل علينا أن نعرف مقدار ما يدين له سمه فرانسس بيكن (1561 - 1626)؛ وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا أن فرانسيس وروجر على السواء كليهما رفضا منطق أرسطو، والطريقة المدرسية، وارتابا في الاعتماد على المراجع القديمة، وعلى العادات وغيرها من أصنام التفكير التقليدي، وامتدحا العلوم، وذكرا ما يتوقع اختراعه بالاعتماد عليها، ورسما منهاجاً لها، وأكدا فائدتها العملية؛ وطالبا بالمعونة المالية للبحوث العلمية. وأخذت شهرة بيكن تعظم وتنتشر ببطئ من القرن السادس عشر حتى أصبحت حياته من القصص الخرافية - فقيل إنه هو مخترع البارود، والبطل الحر التفكير، الذي ظل طول حياته مضطهداً من رجال الدين، والمبتكر العظيم للتفكير الحديث. والآن أخذت الآية تنقلب، فالمؤرخون يقولون أنه لم تكن لديه إلا فكرة مهوشة عن التجارب العلمية، وإنه لم يجر من هذه التجارب إلا القليل، وإنه كان في الدين أكثر حرصاً على تقاليده من البابا نفسه، وإن صفحات كتبه تنتشر فيها الخرافات والسحر، والخطأ في الاقتباس، والتهم الكاذبة، والقصص غير الصادقة المأخوذة من التاريخ.(17/221)
وهذا كله صحيح؛ وصحيح أيضاً أنه وإن لم يجر من التجارب إلا القليل، قد ساعد على دعم مبدأ التجربة العلمية، ومهد السبيل الى قيامها، وأن جهره بالتمسك بالسنن الدينية قد يكون إجراءً سياسياً من رجل يسعى للحصول على تأييد البابوية للعلوم التي كانت مثاباً للريبة. أما أخطاؤه فقد كانت عدوى زمانه، أو لعلها قد نشأت من العجلة التي تسير بها روح تحرص على أن تجعل المعارف كلها ميداناً لها. وأما امتداحه نفسه فقد كان هو البلسم الشافي لتجاهل عبقريته؛ كذلك كان هجومه على غيره تنفيساً لغرض إنسان جبار خابت آماله، فأخذ يشهد إخفاق أحلامه النبيلة تغرق في بحرٍ من الجهل وهو عاجز عن إنقاذها. وأما هجومه على النقل في الفلسفة والعلم فقد أنار السبيل لتفكيرٍ أوسع مجالاً وأكثر حريةً مما كان في زمانه؛ كذلك كان تأكيده لأسس العلم وأهدافه الرياضية تقدما بخمسمائة عام عن العصر الذي يعيش فيه؛ وخير من هذا كله أن تحذيره الناس من إخضاع الأخلاق للعلم درس لرجال الغد يجب أن يأخذوا به. وملاك القول أن الكتاب الأكبر، رغم أخطائه وآثامه، خليق باسمه، وأنه أعظم من أي مؤلف في جميع آداب ذلك القرن العجيب.(17/222)
الفصل الثامن
أصحاب الموسوعات
وقف العلماء المحيطون بمختلف العلوم موقفاً جريئاً بين العلم والفلسفة يعملون لبث النظام والوحدة في معارف عصرهم التي كانت آفاقها تزداد أتساعاً على مر الأيام؛ وليكونوا من العلم والفن، والصناعة والحكومة، والفلسفة والدين، والأدب والتاريخ، وحدة كلية منتظمة يمكن أن تتخذ أساساً للحكمة. ولهذا برز القرن الثالث عشر سائر القرون بما وضع فيه من الموسوعات، والخلاصات التي كانت كتباً جامعة طابعها التركيب. وكان أكثر أصحاب الموسوعات تواضعاً يقنعون بتلخيص موضوعات العلوم الطبيعية، ومن هؤلاء الكسندر نكهام رئيس دير سرنسستر Cirencester ( حوالي عام 1200)، وتموس الكنتمبريئي Thomas of Cantimpre الراهب الدومنيكي الفرنسي (حوالي عام 1244)؛ وقد كتب كلاهما موجزاً في العلوم بعنوان طبيعة الأشياء، ومنهم بارثلميو الإنجليزي Bartholomew of England وهو راهب فرنسيسي أخرج مجلداً كثير الحشو في خصائص الأشياء (حوالي 1240)؛ وفي عام 1266 كتب برونتو Brunetto Latini، وهو مسجل صكوك من فلورنس نفي من بلده لمبادئه السياسية الجلفية ( Guelf) ، وأقام بضع سنين في فرنسا، كتب بلغة دوئيل Lange d' oil كتاب الكنز Le livre de Tresor وهو موسوعة موجزة في العلوم والأخلاق والتاريخ والحكم. وظلت هذه الموسوعة واسعة الانتشار حتى أن نابليون نفسه فكر في أن تصدر الدولة طبعة منها بعد أن تراجع وذلك بعد خمسين عاماً من إصدار ديدرو Diderot موسوعته الكبرى التي هزت العالم هزاً. وكانت هذه(17/223)
المؤلفات كلها التي صدرت في القرن الثالث عشر تمزج اللاهوت بالعلوم، والخرافات بالمشاهدات، لأنها كانت تتنفس هواء زمانها؛ ولو أننا قدر لنا أن نعرف نظرة الناس الى علمنا الجامع بعد سبعة قرون من هذه الأيام لأغضبنا ما نراه.
وأشهر موسوعات المسيحيين في العصور الوسطى موسوعة فنسنت بوفيه المسماة المرآة الكبيرة (1200 - 1264 أو حوالي ذلك الوقت). وقد انضم بوفيه هذا إلى جماعة الرهبان الدومنيك، وأصبح معلماً للويس التاسع وولده، وعهد إليه الإشراف على مكتبة الملك، وأخذ على عاتقه هو وجماعة من أعوانه أن يضع في صورة سهلة التناول جميع ما يحيط به من ألوان المعرفة. وقد أطلق على موسوعته أسم صورة العالم Imago Mundi، ومثل فيها العالم بمرآة ينعكس عليها الذكاء القدسي والتخطيط الإلهي، وكانت موسوعة ضخمة تعادل في حجمها أربعين مجلداً من المجلدات الكبيرة الحجم في هذه الأيام. وأتم منها فنسنت مع النساخين ثلاثة أجزاء: المرآة الطبيعية، ومرآة العقائد، ومرآة التاريخ، وأضاف إليها من خلفوه في هذا العمل، حوالي عام 1310 مرآة الأخلاق ومعظمها مأخوذ من موجز تومس أكوناس. وكان فنسنت إنساناً متواضعاً ظريفاً، قال عن نفسه "إني لا أعرف علماً واحداً"، وهو يتنصل من أنه ابتكر شيئاً ما ويقول إن كل ما أراد أن يفعله هو أن ينقل أقوال 450 مؤلفاً يونانياً، ولاتينياً، وعربياً. وقد نقل أخطاء بلني بأمانة، وصدق كل عجائب التنجيم، وملء صحفه بالصفات السحرية للنبات والحجر، ولكن عجائب الطبيعة وروائع جمالها تبدو مع ذلك واضحة في كتابه من حينٍ إلى حين، تنفذ من خلال ما فيه من أقوال غير ذات قيمة، ويحس هو بها كما لا يستطيع أن يحس بها ملتهم الكتب فحسب:(17/224)
أعترف، وأنا الإنسان المذنب، ذو العقل الملوث في الجسد، أنني تدفعني الروح السامية نحو الخالق المسيطر على هذا العالم، وأني أزداد تعظيماً له حين تقع عيني على ما في خلقه ... من عظمة وجمال. ذلك بأن العقل إذا أرتفع من الأقذار التي يحبها، وسما، وهو القادر على السمو إلى نور التأمل، أبصر من شاهق علوه عظمة الكون المحتوي على أماكن لا حصر لها مليئة بطوائف المخلوقات المختلفة الأنواع (135).
ويضارع النشاط العلمي الذي انبثق في القرن الثالث عشر عظمة فلسفاته المختلفة، وآدابه المتنوعة الباهرة، من الشعراء الغزلين الى دانتي. لقد كان علم تلك الأيام، كما كانت موجزاته العظيمة والمسلاة الإلهية، يعاني الشيء الكثير من إسراف أصحابه في الوثوق به، ومن عجزهم عن بحث فروضه، ومن خلط المعارف بالدين بلا تفريق بينهما. ولكن سفينة العلم الصغيرة التي كانت تسبح في بحرٍ من المزاعم الخفية خطت خطوات واسعة في عصر الإيمان نفسه. فقد بدأ أدلارد وجروستستي، وألبرت، وآرنلد الفلانوفي، ووليم السليستوي، وهنري المندفيلي، ولانفراتشي وروجر بيكن، وبطرس الحاج وبطرس الأسباني، بدأ هؤلاء كلهم مشاهدات وملاحظات جديدة، وتجارب صغيرة أخذت تحطم ما كان لأرسطو، وبلني، وجالينوس من سلطان على العقول. وملأ التحمس للارتياد والمغامرة أشرعة سفينة الرواد، قد عبر عن ذلك الإخلاص العلمي الجديد ألكسندر نكهام في بداية ذلك القرن العجيب فكتب يقول " إن العلم لا ينال إلا بثمنٍ باهض، هو اليقظة الدائمة، وإنفاق الوقت الطويل، وبالجد والكدح المتواصلين، وباستخدام العقل بحماسة وقوة" (136).
ولكن مزاج العصور الوسطى يتحدث إلينا قبيل نهاية كتاب ألكسندر أحسن أحاديثه، ويتحدث إلينا برقة لا تتناسب مع عصره فيقول:(17/225)
ربما عشت أيها الكتاب بعد ألكسندر هذا، وربما أكلني الدود قبل أن تقرض صفحاتك ... إنك مرآة عقلي، وشارح تأملاتي ... والشاهد الصادق على ضميري، والماسي الرحيم لأحزاني ... وإنك أنت المستودع الأمين الذي أودعت فيه أسرار قلبي ... فيك أقرأ ما في نفسي ... سوف تقع في يدي قارئ ينزل من عليائه فيدعو لي بخير، وإذن فسيفيد منك صاحبك أيها الكتاب الصغير، وإذن ستجزى إسكندرك أحسن جزاء وأعظمه؛ ولست آسفاً على كدحي، فستصادف إخلاص قاري صالح يضعك تارة في حجره، ويرفعك تارة إلى صدره، ويتخذك حيناً وسادة تحت رأسه، ويطويك برفق، ويدعو لي في حرارة وإخلاص عيسى المسيح الذي يعيش مع الله والروح القدس خلال الأحقاب التي لا نهاية لها - آمين (137).(17/226)
الباب الثامن والثلاثون
عصر الخيال
1100 - 1300
الفصل الأول
إحياء اللغة اللاتينية
كل عصر في حياة العالم عصر خيال، لأن الناس لا يستطيعون أن يعيشوا بالخبز وحده، والخيال عماد الحياة، ولعل القرنين الثاني عشر والثالث عشر من تاريخ أوربا كانا إلى حد قليل أبعد خيالاً من معظم العصور الأخرى. ذلك أن هذين القرنين لم يرثا جميع المخلوقات الخفية التي ابتدعها خيال أوربا الوثاب فحسب، بل قبلاً الملحمة المسيحية بكل ما فيها من جمال الخيال ورهبته، واتخذا الحب والحرب فناً وديناً؛ وشهد هذان القرنان الحروب الصليبية وجاءا بمئات القصص والعجائب من بلاد الشرق، وكتبا في واقع الأمر أطول القصص الخيالية المعروفة في التاريخ كله.
وكان مما ساعد على ازدهار الأدب قي هذين القرنين ازدياد الثروة، والفراغ والأدب غير الديني، ونشأة المدن والطبقة الوسطى، وارتفاع شأن المرأة في الدين، ونظام الفروسية. ولما تضاعف عدد المدارس بهر شيشرون، وفرجيل، وهوارس، وأوفد، وليفي، وسالست، وسنكا، واستاتيوس، وجوفنال، وكونتليان، وسيوتونيوس، وأبوليوس، وسيدونيوس، وحتى ماريتال وبترونيوس(17/227)
السفيهان المفحشان، بهر هؤلاء بفنهم وعالمهم الغريب كثيراً عن ملاجئ الأساتذة والأديرة المنعزلة عن العالم وتسربا في بعض البلاد إلى قصور الأعيان. واختلست الأرواح المسيحية من جيروم إلى ألكوين، إلى هلواز، وهيدلبيرت، دقائق من أوقات صلواتهم لينشدوا أغاني الإنياذة وهم صامتون. وكانت جامعة أورليان تعتز اعتزازاً خاصاً قوياً بآداب روما الوثنية، حتى شكا أحد المتزمّتين وهو مرتاع وجل قائلاً إن الآلهة القدامى، لا المسيح أو مريم، هي التي تعبد فيها. وكاد القرن الثاني عشر يصبح "عصر أوفد"؛ فقد أنزل فرجيل عن العرش الذي رفعه إليه ألكوين حتى جعله شاعر بلاط شارلمان؛ وكان الرهبان، والسيدات، "والعلماء الجاءلون" على السواء يقرءون بنشوة وابتهاج كتب التحولات، والهيرويدات، وفن الحب. وفي وسعنا أن نعفو عن كثير من أسباب اللهو المباح عند الرهبان الذين أحبوا هذه الكتب الملعونة، وحفظوها من الضياع، ولقّنوها بإخلاص ووفاء إلى الشبان المتبرمين الشاكرين.
ونشأت من هذه الدراسات القديمة لغة لاتينية خاصة بالعصور الوسطى، كان فيها من التنوع وأسباب المتعة ما يعد من أعظم المفاجآت السارة في الكشوف الأدبية. مثال ذلك أن القديس برنار الذي لم يكن يعتد إلاّ قليلاً بالمزايا العقلية، كتب رسائل تفيض بالحب الرقيق، والقدح الفصيح، واللّغة اللاتينية الممتازة؛ وقد احتفظت عظات بطرس دميان، وبرنار، وأبلار، وبرثولد الرجنز برجي للّغة اللاتينية بقوتها وحيويتها.
وكتب المؤرخون الأخباريون في الأديرة بلغة لاتينية فظيعة، ولكنهم يدعون أنهم يكتبون كتابة تشبع حاسة الجمال لدى القرّاء. بل كانوا يسجلون أولاً نشأة أديرتهم وتاريخها - انتخاباتها، ومبانيها، ووفاة رؤسائها، ومعجزات الرهبان ومنازعاتهم؛ وأضافوا إلى ذلك مذكرات عن الخسوف(17/228)
والكسوف، والمذنّبات، والجفاف، والفيضان، والقحط، والأوبئة، ونذر أيامهم؛ وتوسع بعضهم فضمن كتاباته بعض الحوادث القومية والدولية نفسها. وقلّ منهم من كان يبحث في المراجع التي يعتمد عليها بروح النقد الصحيح، أو يفحص عن العلل؛ وكان معظمهم مهملين غير دقيقين، يضيفون إلى أرقامهم صفراً أو صفرين ليبعثوا الحياة في الإحصاءات الميتة. وكلّهم بلا استثناء يأتون بالمعجزات، ويظهرون سذاجةً أو استعداداً ظريفاً لتصديق كل ما يقال. من ذلك أن الإخباريين الفرنسيين افترضوا أن فرنسا قد استوطنها الطرواديون النبلاء، وأن شارلمان فتح أسبانيا واستولى على بيت المقدس، وحاول كِتاب أعمال الفرنسيين Gesta Francorum ( حوالي 1100) أن يروي بأمانة نسبية قصة الحرب الصليبية الأولى، ولكن كتاب أعمال الرومان Gesta Romanortum ( حوالي 1280) يروي في صراحة تاريخاً مخترعاً لتشوستر، وشكسبير، وألفاً من كتّاب الروايات. وجعل جوفري المنموثي Geoffrey of Monmouth حوالي (1100 - 1154) من كتابه تاريخ بريطانيا Historia Britonum ضرباً من الأساطير القومية، وجد فيها الشعراء قصص الملك لير، وآرثر، وميرلين Merlin، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وبرسفال، وبرسفال Perceval، وجريل المقدس Holy Grail. ومن الأدب الحي حتى الآن ثرثرة جوسلين Jocelyn وما رواه من أخبار بيوري سانت إدمندس Bury St. Edmonds ( حوالي 1200) وما رواه الأخ سلمبيني Salimbene عن بارما (حوالي 1280).
وفي عام 1208 أهدى ساكسولانج (اللغوي) Saxo Lange الذي سمّى بعد وفاته ساكسو النحوي Saxo Grammaticus إلى أبسالوم كبير أساقفة لند Lund كتابه أعمال الدنمرقيين، وهو كتاب فيه بعض الحشو وفيه من سرعة التصديق مالا يصدّقه الإنسان (1). ولكنّه مع ذلك قصة قوية حية، فيها من(17/229)
الاتصال أكثر مما في كثير من تواريخ الغرب في هذه الأيام. ففي الكتاب الثالث من هذا المؤلف نقراً عن أملث Amleth أمير جتلندة Jutland الذي قتل عمه الملك وتزوج الملكة. ويقول سكسو إن أملث هذا "اختار أن يتظاهر بالبلادة وفقدان الوعي فقداناً كاملاً، وضمن بهذا الصنع الماكر سلامته".
وارتقى خمسة من المؤرخين اللاّئين في ذينك القرنين من طبقة الإخباريين إلى طبقة المؤرخين وإن احتفظوا بالطابع الإخباري. من هؤلاء وليم المالزبري (حوالي 1090 - 1143) الذي رتّب مادة كتابه أعمال الأحبار Gesta Pontificum، وأعمال الملوك الإنجليز Gesta Regum Anglorum ليجعل منها قصة متصلة حية، نزيهة، جديرة بالثقة، تروي أخبار الأحبار والملوك. وأرسل أردركس فيتالس Ordericus Vitalis ( حوالي 1075 - 1143) المولود في شروزبري Shrewsbury إلى دير القديس إفرول St. Evroul في نورمندية في العاشرة من عمره وفاءً لنذر، وعاش فيها بقية سنيه الثمان والستين، ولم ير خلالها أبويه. وقضى من هذه السنين ثماني عشرة في كتابة تاريخ الكنيسة المكون من خمسة مجلدات، ولم يمتنع عن العمل في خلال تلك السنين، كما يقول الرواة، في أشد أيام الشتاء برداً حين كانت أصابعه تفقد حساسيتها من فرط البرد. ومن عجب أن عقلاً مضيقاً عليه في المكان يستطيع التحدّث عن هذا الحديث الحسن في مختلف الشئون الدينية والدنيوية، فضلاً عن استطرادات في تاريخ الرسائل والأخلاق العادية. وقص أتو Otto أسقف فرايزنج (حوالي 1114 - 58) في كتابه في المدينتين تاريخ الدين والعالم الدنيوي من خلق آدم إلى 1146، وبدأ ترجمة مليئة بالفخر لابن أخيه فردريك بربرسا، ولكنه توفي ولمّا يتجاوز بطله منتصف حياته. وعيّن رجل فرنسي مولود في فلسطين يدعى وليم الصوري William of Tyre ( حوالي 1130 - 1190) مستشاراً لبولدون الرابع ملك بيت المقدس،(17/230)
ثم أصبح بعدئذ كبير أساقفة صور؛ وتعلّم اللغات الفرنسية، واللاتينية واليونانية والعربية وقليلاً من اللغة العبرية؛ وكتب بلغة لاتينية سليمة كتاباً هو خير ما يعتمد عليه من المصادر في تاريخ الحملات الصليبية الأولى، وسمّاه تاريخ حوادث ما وراء البحار Historia reum in partibus transmarinis gestarum. وقد حاول فيه أن يفسّر الحوادث جميعها بالاستناد إلى الأسباب الطبيعية. وكانت نزاهته في تصوير أخلاق نور الدين محمود وصلاح الدين من أكبر أسباب عقيدة أوربا المسيحية في هذين العاهلين اللذين يخالفانها في الدين. وكان ماثيو باريس (حوالي 1200 - 1259) راهباً في دير سانت أولبنز، وشغل أولاً منصب مؤرخ لديره، ثم بعد ذلك منصب مؤرخ للملك هنري الثالث، واستعان بهذين المنصبين على تأليف كتابه التاريخ الكبير بلغة شيّقة ممتعة؛ وهو يروي الحوادث الهامّة التي وقعت في تاريخ أوربا بين عامي 1235، 1259. ويمتاز كتابه بالوضوح والدقّة، ولكن فيه تحيّزاً لم يكن متوقعاً منه؛ وندّد فيه "بالبخل الذي نفر الشعب من البابا"، وانحاز إلى فردريك الثاني ضد البابوية. وملأ صفحاته بأنباء المعجزات، وروى قصة اليهودي الجوّال (في عام 1228)، ولكنه روى بصراحة تشكّك أهل لندن في انتقال بعض نقط من دماء المسيح إلى دير وستمنستر (1247). ووضّح كتابه بعدّة خرائط لإنجلترا رسمها بنفسه، وهي خير ما رسم من الخرائط في ذلك الوقت، وربما كان هو الذي رسم أيضاً الأشكال التي وضّح بها كتابه. وإنّا لنعجب بجدة وغزارة علمه، ولكن الصورة التي رسمها للنبي محمد (1236) تكشف عمّا يمكن أن يكون عليه رجل مسيحي متعلّم من جهل عجيب بالتاريخ الإسلامي.
أمّا أعظم المؤرخين في ذلك العصر فهما فرنسيان كتبا بلغتهما القومية، وكان لهما مع الشعراء الغزلين ورواة الملاحم وشعرائها الفضل في جعل اللغة الفرنسية لغة(17/231)
أدبية. فأمّا أوّلهما جيوفروي ده فيل هاردون Geoffroy de Villehardouin ( حوالي 1150 - حوالي 1218). فكان من النبلاء والمحاربين لم ينل من التعليم النظامي إلاّ القليل؛ ولكن جهله بالحيل البلاغية التي تعلمّ في المدارس هو الذي مكّنه من أن يملي كتابه فتح القسطنطينية (1207) بلغة فرنسية دقيقة خالية من التنميق، تتّجه نحو الغرض من أقرب طريق، ومن أن يجعل هذا الكتاب من أهم ما كتب في فن كتابة التاريخ. ولم يكن من أسباب شهرة هذا الرجل بعده عن التحيّز، فقد كان وثيق الصلة بالحرب الصليبية الرابعة، واضطلع فيها بدور هام، فلم يستطيع لهذين السببين أن يرى تلك الخيانة الجميلة الظاهرة، خيانة الحقيقة والتاريخ، بعين الرجل الموضوعي الذي ينظر إلى الحقائق دون غيرها؛ ولكن من أهم مزاياه أنه كان في وسط الحوادث نفسها يشهدها ويحس بها حين وقوعها، ممّا أضفى على كتابه حيوية لا يكاد يبليها الزمن. وظهر بعد قرن أو نحوه من ذلك الوقت جان سير ده جوانفيل Jean Sire de Joinville قيم القصر في شمبانيا؛ وبعد أن خدم لويس التاسع في حملته الصليبية وفي فرنسا، كتب وهو في الثامنة والخمسين من عمره كتابه تاريخ القديس لويس (1309)؛ ونحن نحمد له وصفه خلائق التاريخ وصفاً أميناً بعيداً عن التكلف، واهتمامه بعاداتهم وقصصهم التي توضّح سيرهم وتنير ما يكتنفها من ظلمات. وبفضله نستطيع أن نحس بالجو الذي كان سائداً في ذلك العصر كما لا نحس به في كتاب فيل هاردون، فنصحبه حين يخرج من قصره بعد أن يرهن ما يمتلكه كله تقريباً لينضم إلى الحملة الصليبية؛ ويقول إنه لم يجرؤ على النظر إلى الوراء حتى لا يذوب قلبه أسىً حين تقع عينه على زوجته وأبنائه، ولعلّه لن يراهم بعد ذلك اليوم. ولم يكن لهذا الرجل ما كان لفيل هاردون من دهاء وسعة حيلة، ولكنه كان يمتاز بالإدراك الفطري السليم، وكان يرى ما في قديسه من عيوب، ولهذا رفض أن ينضم إلى الحملة الصليبية التالية حين طلب إليه لويس الانضمام إليها،(17/232)
لأنه رأى ببصيرته أن هذه مغامرة لا يرجى لها فلاح، ويقول إنه حين سأله هذا الملك الورع: "أيّهما تفضّل - أن تصاب بالجذام أو أن ترتكب خطيئة موبقة؟ ".
"فأجبته وأنا الذي لم يكذب عليه قط بأنه خير لي أن أرتكب ثلاثين خطيئة موبقة من أن أصاب بالجذام. ولمّا خرج الرهبان من حضرته استدعاني وحدي وأجلسني عند قدميه وقال لي: كيف تجرؤ على هذا القول؟ ... فأجبته بأني قلته مرة أخرى بعد ذلك الوقت؛ فردّ عليّ بقوله: لقد تسرّعت وكنت أحمق في ردّك، فإن من واجبك أن تعرف أنه ليس ثمة جذام أبشع من ارتكاب الخطيئة الموبقة ... وسألني: هل غسلت أقدام الفقراء يوم خميس الصعود؟ فأجبته: يا مولاي، لو فعلت لأصبت بالغثيان، إني لن أغسل قط أقدام أولئك الأدنياء. فقال لي الملك: الحق أنك قد أخطأت إذ نطقت بهذا القول، لأن عليك ألاّ تحتقر ما فعله الله ليعلمنا، ولهذا فإني أرجوك بحق حبّك الله أوّلاً وحبّك إياي ثانياً أن تعوّد نفسك غسل أقدام الفقراء" (2).
ولم تكن حياة القديسين كلها تروى بمثل هذا الصدق وتلك الأمانة، ذلك أن الإحساس بالتزام الأمانة ومراعاة الضمير في رواية التاريخ كانا من الضعف في عقول الناس في العصور الوسطى بحيث يخيّل إلينا معهما أن كتّاب هذه القصص الأخلاقية كانوا يظنّون أن لا ضرر مطلقاً في اعتقاد الناس أن ما يروونه صحيح كله، وأن الخير كل الخير في أن يصدقوه. وأكبر الظن أن المؤلفين كانوا في معظم الأوقات يأخذون القصص المنتشرة عن غيرهم، وأنهم كانوا يصدّقون ما يكتبون. وإذا أخذنا تراجم القديسين على أنها قصص لا أكثر وجدناها مليئة بالطرائف والمتع. فلينظر القارئ مثلاً إلى الطريقة التي حصل بها القديس كرستفر Christopher على اسمه. لقد كان في أول حياته رجلاً جباراً من أهل كنعان يبلغ طوله(17/233)
ثماني عشرة قدماً، ثم دخل في خدمة أحد الملوك لأنه سمع أن هذا الملك أقوى رجل في العالم. وحدث في يوم من الأيام أن رسم الملك على نفسه علامة الصليب حين ذكر بعضهم أمامه اسم الشيطان، فاستدل كرستفر من هذا على أن الشيطان أقوى من الملك، ولم يكن منه إلا أن دخل في خدمة الشيطان. ولكن الشيطان رأى علامة الصليب إلى جانب الطريق فولّى هارباً، واستدل كرستفر من هذا على أن عيسى (عليه السلام) أقوى بلا شك من الشيطان، فوهب نفسه للمسيح. ووجد الرجل مشقّة في الصوم المسيحي، فقد كان جسمه الضخم يتطلب الطعام الكثير، وكان لسانه الكبير يتعثر في أبسط الصلوات. ووضعه ناسك صالح على شاطئ مخاضة أغرق تيارها السريع كثيرين ممن حاولوا اجتيازها. وحمل كرستفر المسافرين على ظهره ونقلهم إلى الشاطئ الآخر في أمان دون أن يبتلّوا بالماء، حتى كان في يوم من الأيام يحمل طفلاً صغيراً ليعبر به المجرى، فوجده ثقيلاً؛ ولمّا سأله عن السبب أجابه الطفل بأنه يحمل ثقل العالم كله؛ ولمّا وصل هذا الطفل إلى بر السلامة شكر له حسن صنيعه وقال له: "أنا المسيح عيسى" ثم اختفى؛ وفي هذه اللحظة أزهرت فجاءة عصا كرستفر وكان قد غرسها في الرمل (3). ثم لينظر القارئ إلى قصة القديس جورج شفيع بريطانيا. فمن هو هذا القديس؟ لقد كان بالقرب من سيلينم Silenum في ليبيا تنين يقدّم له في كل عام شاب أو شابة طعاماً له؛ وكان هذا الشاب (أو الشابة) يختار بالقرعة ويقدّم للتنين حتى لا يسمّم القرية بنَفَسه. ووقعت القرعة في أحد الأعوام على ابنة الملك العذراء؛ ولمّا أقبل اليوم الموعود مشت نحو البِركة التي يقيم فيها التنين، فرآها القديس جورج وسألها عن سبب بكائها، فأجابته الفتاة قائلة: "أيها الشاب، أرى أن لك قلباً كبيراً نبيلاً، ولكني أرجوك أن تبادر بالابتعاد عني". وأبى الشاب أن يجيبها إلى ما طلبت، وما زال بها حتى أجابته عن سؤاله، فلما فعلت قال لها:(17/234)
"لا تخافي فإني سأساعدك باسم عيسى المسيح". وخرج التنين من الماء في هذه اللحظة ورسم جورج علامة الصليب، ونادى باسم المسيح، وهجم على التنين، وطعنه بحربته، وأمر الفتاة أن تلقى بمنطقتها حول عنق التنين الجريح، ففعلت ما أمرها به؛ وخضع التنين لسحر جمالها الفتّان كما يخضع له كل شهم من الرجال، وسار خلفها مطيعاً ذليلاً طوال حياتها. وجمع ياقوبو ده فوراجين Jacopo de Voragine كبير أساقفة جنوى هاتين القصتين وأمثالهما في كتاب ذائع الصيت نشر حوالي 1290؛ فكان يروى لكل يوم من أيام السنة قصة قديسها المخصص هذا اليوم له، وسمّى كتابه قراءات عن القديسين Legenda sanctorum. وصارت مجموعة قصص ياقوبو من الكتب المحببة للقرّاء في العصور الوسطى، وأطلقوا عليها اسم القراءات الذهبية. وأشارت الكنيسة بوجوب الاحتياط في تصديق بعض هذه القصص (4)، ولكن الناس أحبّوها وصدّقوها كلها، ولعلهم لم يكونوا في هذا أكثر انخداعاً في الحياة عن السذّج من الناس الذين يصدّقون القصص الخرافية هذه الأيام.
وكان الشعر أحسن ما كتب باللغة اللاتينية في العصور الوسطى، ولم يكن الكثير منه شعراً إلاّ بالاسم فحسب، لأن جميع المواد التلقينية على اختلاف أنواعها - من تاريخ، وقصص، ورياضة، ومنطق، ودين، وطب ـ كانت تكتب في أبيات موزونة مقفاة، ليسهل بذلك استظهارها. وكتبت أيضاً ملاحم تافهة عظيمة الطول مثل ملحمة الكسندريس Alexandreis (1176) التي نظمها ولتر الشاتيوني Walter of Chatillon؛ وتبدو لنا هذه الملاحم الآن مملة بقدر ما تبدو قصيدة الفردوس المفقود Paradise Lost. وكتب أيضاً جدل شعري ـ بين الجسم والنفس، والموت والإنسان، والرحمة والصدق، والفلاّح والقس، والمرأة والرجل، والنبيذ والماء، والنبيذ والجعة، والورد والبنفسج، والطالب الفقير والقس(17/235)
الذي ينال من الطعام كفايته. بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فكتب جدلاً بين هِلين وجنيميد ليوازن بين فضائل عض الرجال للنساء وعشق الرجال للغلمان (5). وقصارى القول أن شيئاً ما من شئون الآدميين لم يكن غريباً على الشعر.
وترك الكتَّاب من القرن الخامس وما بعده قياس أوزان الشعر بمقدار ما فيه من الحروف المتحركة كما كانوا يفعلون في الشعر القديم، وجاء الشعر اللاتيني المستمد من الشعور العام لا من الفن العلمي بنوع من الشعر جديد يعتمد على النبرات والوزن والقافية. وكانت هذه الضروب من الشعر موجودة بين الرومان قبل أن تغزو الأوزان اليونانية بلادهم، وظلّت ألف عام مع الطراز اليوناني. وبقيت الأنماط الفصحى - من شعر سداسي الأوتاد، ومراث، وشعر من نوع شعر سابقو طوال العصور الوسطى؛ ولكن العالم اللاتيني حلّ هذه الأنماط، فقد خيّل إليه أنها لا تتناغم مع أمزجة التقى، والرحمة، والرقة، والأدعية الدينية التي نشرها الدين المسيحي؛ فدخلت فيه أوزان أكثر منها بساطة، هي الأبيات القصيرة من البحر العمبقي (1) تكاد تنقل كل عاطفة بشرية من خلجات القلب إلى ضربات أرجل الجند الزاحفين إلى الحرب.
وما من أحد يعرف من أين جاءت القافية إلى العالم المسيحي الغربي وإن الكثيرون يبدون آراء تعتمد على الحدس وحده. لقد اتبعت القافية في عدد قليل من القصائد الوثنية كقصائد إينوس، وشيشرون، وابوليوس؛ وكانت تستعمل أحياناً في الشعر العبري والسرياني، واستعملت مراراً متفرقة في الشعر اللاتيني أثناء القرن الخامس؛ وهي شائعة الاستعمال في الشعر العربي منذ عهد قديم يرجع إلى القرن السادس الميلادي. ولعل حب المسلمين للقافية قد أثر في
_________
(1) iambic بحر من الشعر مؤلف من فواصل قصيرة تليها فواصل طويلة، أو من مقاطع لها نبرة صوتية تليها مقاطع غير ذات نبرة صوتية (المترجم عن قاموس سعادة)(17/236)
المسيحيين الذين اتصلوا بالإسلام؛ ويذكرنا الإفراط في التزام القافية في أواسط الأبيات وأواخرها في شعر العصور الوسطى اللاتيني بهذا الإفراط عينه في الشعر العربي. ومهما يكن في هذا من خير أو شر فإن هذه الصيغ الجديدة قد أنتجت ضرباً جديداً من الشعر اللاتيني، يختلف في كل شيء عن الشعر القديم، موفوراً وفرة عجيبة، يبلغ من الجودة درجة لم تكن متوقعة. وإلى القارئ مثلاً من شعر بطرس دميان (1007 - 1072) الناسك المصلح يشبّه دعوة المسيح بدعوة محب فتاة يحبها:
منذا الذي يدق بابي؟
أتريد أن تبدد أحلام ليلى؟
فيناديني: "يا أجمل العذارى،
يا أختي، ورفيقتي، يا جوهرة متألقة!
أسرعي! قومي! افتحي يا أحلى الفتيات!
...
أنا ابن الملك العليّ الأعلى
أنا أكبر أبنائه وأصغرهم
هبط من السماء إلى هذه الظلمة
ليحرر أرواح الأسرى
لقد تحملت الموت وكثيراً من ضروب الأذى"
فغادرت فراشي من فوري
وهرولت نحو عتبة الباب
لكي يفتح البيت كله إلى الحبيب
وتتملى روحي برؤية(17/237)
من تتحرق شوقاً إليه.
ولكنه مرّ بنا مسرعاً
وغادر بابي
فماذا أفعل أنا الشقية البائسة؟
فتبعت والدمع ينهمر من عيني
الشاب الذي صوّرت يداه الإنسان.
وكان قول الشعر عند بطرس دميان أمراً عارضاً؛ أما عند هيلدبرت اللفرديني Hildebert of Lavardin (1055 - 1133) كبير أساقفة تور فكان هياماً شق به طريقه إلى الإيمان. ولعل برنجر Birenger عالم تور Tours الذي درس على فلبرت في بلدة شارتر Chartres قد بعث فيه حباً للآداب اللاتينية القديمة. ونزلت به محن كثيرة سافر بعدها إلى رومة، وهو لا يدري أي الأمرين أقوى عنده من الآخر: أهو السعي إلى البركة البابوية، أم إلى رؤية الأماكن التي جعلتها القراءة عزيزة عنده؟ وتأثر الرجل بعظمة العاصمة القديمة واضمحلالها، وأنطقه شعوره بمرثاة من الطراز القديم.
"أي روما! ليس في المدائن كلها ما يماثلك! وإن كدت تصبحين خربات! ألا ما كان أعظمك وأنت بمنجاة من الدمار! إننا نتعلم منك في محنتك؛ لقد حطم كبرياءك مر الدهور، فتداعت في المناقع حصون قيصر مع هياكل الأرباب. وتهدمت تلك الصروح، تلك الصروح الشاهقة التي كان البرابرة العتاة يرتعدون خوفاً حين يرونها قائمة، ويحزنون حين يرونها متداعية ... ولكن كر الدهور وقعقعة السيوف لا يقويان على إبادة هذا المجد".
في هذه المرثاة برع شاعر في العصور الوسطى في استخدام اللغة اللاتينية براعة لا تقل عن براعة فرجيل نفسه. ولكنه لم تفارقه قط نزعته المسيحية، فقد كان يجد من السلوى في المسيح ومريم أكثر مما يجدها في جوبتر ومنيرفا، ولهذا(17/238)
نراه في قصيدة متأخرة عن القصيدة السابقة يهجر الأضرحة القديمة ويقول:
(روما تتحدث): إن هذه الهزيمة أحلى عندي من تلك الانتصارات وإني في فقري لأعظم مني في غناي، وإني وأنا ملقاة على الأرض لأعظم مني وأنا رفيعة العماد، ولقد أمدني عَلَم الصليب بأكثر ممّا أمدّتني النسور، ووهبني بطرس أكثر ممّا وهبني قيصر، وحبتني الجموع العزلاء بأكثر مما حباني القواد المدججون بالسلاح. لقد سدت الأمم وأنا قائمة على قدمي، وهأنذا وأنا مخربة أضرب في أعماق الأرض؛ ولقد سيطرت على الأجسام وأنا قائمة، وهأنذا وأنا محطمة جاثية أحكم الأرواح؛ لقد كنت في الزمن القديم آمر شعباً بائساً، أما الآن فإني أصدر أوامري إلى أمراء الظلام؛ لقد كانت المدائن مملكتي في الزمن القديم أما الآن فمملكتي هي السماء.
إن اللغة اللاتينية لم يكتب بها حتى ذلك الوقت شعر يضارع هذا الشعر منذ أيام فورتناتس Fortunatus.(17/239)
الفصل الثاني
الخمر والمرأة والأغاني
من الطبيعي أن يكون علمنا بالنواحي الوثنية أو المتشككة في حياة العصور الوسطى قطعاً متفرقة؛ ذلك بأن الماضي لم يصل إلينا نزيهاً أميناً إلا في دمائنا. وهذا يزيد من إعجابنا بروح التسامح والتحرر ـ أو روح الزمالة في الغبطة ـ التي حملت دير بندكتبيرن Benediktbeuern ( في بافاريا العليا) على الاحتفاظ بالمخطوط الذي شق طريقه إلى المطبعة في عام 1847 وسمّي باسم قصائد بيران Carmina Burana والذي يعد الآن أهم ما لدينا من المصادر لشعر "العلماء الجوالين" (1) ولم يكن هؤلاء من الذين يضربون في الآفاق؛ فقد كان منهم رهبان ضلوا في طريقهم إلى أديرتهم، ومنهم قساوسة فقدوا مناصبهم، وكانت كثرتهم طلاباً في طريقهم من موطنهم إلى جامعتهم أو من إحدى الجامعات إلى الأخرى؛ وكثيراً ما كانوا يقطعون طريقهم هذا سيراً على أقدامهم. وكان كثيرون من الطلاب بعرجون على الحانات في الطريق، ومنهم من كانوا يتذوقون الخمر والنساء، ويستمعون إلى المعارف غير المدونة، ومنهم من كانوا يؤلفون الأغاني، ويتغنون بها، ويبيعونها لمن يطلبها؛ ومنهم من فقدوا أملهم في أن يكونوا من رجال الدين فكانوا يعيشون بأقلامهم يخصون بشعرهم الأساقفة والأعيان. وكانت أكثر ميادين نشاطهم فرنسا وألمانيا الغربية؛ ولكن شعرهم ما لبث أن انتشر بين البلدان المختلفة لأنهم كانوا يكتبونه باللغة اللاتينية. وكانوا يدّعون أنهم ينتظمون في هيئة خاصة هي نقابة الجوّالين، واخترعوا لها مؤسساً موهوماً
_________
(1) ومن المصادر الأخرى مخطوط في مكتبة هارلم ألف قبل عام 1264 ونشره تومس رَيِت في عام 1841 باسم "قصائد لاتينية تعزى عادة إلى ولتر ميبس".(17/240)
وقديساً شفيعاً هو شخصية أسطورية شبيهة بشخصيات ربليه وسمّوه جلياس Golias. وإنا لنجد من ذلك الزمن البعيد، وهو القرن العاشر الميلادي، ولتر كبير أساقفة سان Sens ساخطاً أشد السخط على "أسرة جلياس" المرذولة، كما أن مجلساً كنسياً عقد في عام 1227 جهر بسخطه على الجلياردي Goliardi لأنهم ينشدون أشعاراً يسخرون فيها من أقدس الأناشيد والطقوس الدينية (6). ويقول مجلس سلز برج المنعقد في عام 1281 إنهم "يسيرون بين الناس عراة، وينامون في أفران الخبز، ويغشون الحانات، وأماكن الألعاب، والمواخير، ويكسبون عيشهم برذائلهم، ويتشبثون اشد التشبث بشيعتهم" (7).
ولسنا نعرف من هؤلاء الشعراء الجليارديين، إلاّ أفراداً قلائل، منهم شاعر يسمّى هيو Hugh أو هوجو بريماس Hugo Primas، وكان راهباً علمانياً في أورليان عام 1140 يصفه كاتب من منافسيه (8) بأنه "إنسان دنيء"، مشوه الوجه"، ولكنه اشتهر "في كثير من الأقاليم" بحضور البديهة، وقرض الشعر، هلك لأن أحداً لم يبتع شعره؛ وكان يقذف الأغنياء من رجال الدين بأقذع أنواع الهجاء التي يمليها عليه حقده. كان رجلاً غزي العلم، صفيق الوجه، قليل الحياء، يصوغ أفحش المعاني في شعر سداسي الأوتاد، لا يقل روعة عن شعر هيلدبرت.
وكان أوسع منه شهرة شاعر آخر لا نعرف الآن اسمه ولكن المعجبين به كانوا يسمّونه "كبير الشعراء Archipoeta" ( حوالي 1161)؛ وهو فارس ألماني يفضل الخمر والمداد عن السيف والدم، ويعيش عيشاً مضطرباً على الصدقات التي كان يمده بها من حين إلى حين رينلد فن داسل Rainald Von Dassel كبير أساقفة كولوني المنتخب، وسفير بربرسافي بافيا. وحاول رينلد أن يصلح ما فسد من أخلاقه، ولكن الشاعر توسل إليه أن يتركه وشأنه، وكان ذلك في قصيدة من أشهر ما قيل من القصائد في العصور الوسطى، وهي قصيدة "اعتراف(17/241)
جالوت" - التي أصبحت المقطوعة الأخيرة منها نشيد الشراب المحبب الشائع في الجامعات الألمانية:
1 - أنا الذي فاضت نفسي بالحقد الدفين الشديد،
استمع يا صاح إليّ أعلن ما في نفسي من حقد مرير:
لقد خلقت من عنصر واحد، مادتي الطيش،
أشبه الأشياء بورقة من شجرة في مهب الريح.
...
2 - لم أطق حتى اليوم الأحزان ولا الاعتدال في الشهوات،
أحب النكات، والمرح عندي أحلى من الشهد.
وكل ما أمرت به فينوس هو عندي الغبطة التي لا تعادلها غبطة،
وهي لم تتخذ قط لها مسكناً في قلب خبيث.
...
3 - إني أسير في الطريق الرحب شاباً غير نادم على شيء؛
إلا فلفني في الرذائل لفاً لكي أنسى كل الفضائل (1)
فإن شرهي لعب اللذات أكثر من شوقي إلى ملكوت السموات،
لأن ما كان فيّ من روح قد مات، وأصبح من الخير لي أن أنجي الجسد.
...
4 - عفواً أيها السيد الصالح، يا صاحب العقل الحصيف،
إن هذا الموت الذي أسعى إليه حلو، وهو سم ما أحلاه.
لقد نفذت في جسمي سهام لحاظ فتاة جميلة.
_________
(1) يذكرنا هذا بقول أبي نواس: تكثر ما استطعت من الخطايا ... الخ. انظر الجزء 13 من هذه السلسلة. (المترجم).(17/242)
وماذا على العقل لو عبدها إن لم يكن إليها من سبيل؟
...
5 - ألا تحرقك النار إن جلست في وسطها؟
وإن جئت إلى بافيا، فهل تعود منها طاهراً عفيفاً كما جئتها؟
بافيا التي تجتذب الشباب بأطراف أناملها،
الشباب الذي وقع في شرك عينيها وافتتن بسحر شفتيها.
...
6 - جيء بهبوليتس ليتعشى في بافيا،
فإذا أصبح الصباح اختفى هبوليتس عن الأنظار.
فليس في بافيا طريق لا يؤدي إلى الفجور،
وليس في أبراجها الكثيرة برج واحد للعفاف
...
7 - إن هذا هو معقد أملي؛ فإذا دنت الساعة مني،
فدعني أمت في الحانة وكأس الخمر إلى جواري،
والملائكة يطلون عليّ ويغنون مغتبطين:
"رضي الله عن هذا السكير" (1)
وتشمل قصائد بيرن جميع موضوعات الشباب: تشمل الربيع، والحب، والافتخار بغواية النساء، والفحش الرقيق، وأغاني الحب الحنونة التي لا يستجيب لها الحبيب، وأغنية ينشدها طالب علم يشير فيها بوقف الدرس، وتقرير يوم عطلة للحب ... وفي إحدى الأغاني تفاجئ فتاة شاباً أثناء كدحه وتسأله: "ماذا تفعل يا سيدي؟ هيا بنا نلعب سوياً"؛ وتتغنى أنشودة أخرى بخيانة النساء.، وأخرى
_________
(1) ما أشبه هذه القصيدة بشعر عمر الخيام الذي ذكر المؤلف شيئاً منه في الجزء الذي عقده للحضارة الإسلامية في هذا المجلد. (المترجم)(17/243)
غيرها بحزن فتاة غدر بها الحبيب، وكانت بدانتها سبباً في الضربات يكيلها لها أبواها. ويتغنى كثير من القصائد بملذات الشراب، والميسر، ومنها ما يتلذذ بثروة الكنيسة مثل "قصيدة الإنجيل حسب المارك الفضي"؛ ومنها ما يقلد أنبل الترانيم، ومنها قصيدة على غرار قصائد هوتمان Whitman تتغنّى بالطريق المفتوح (10). وكثير منها شعر غث لكن منه ما هو آية رائعة من آيات الشعر الغنائي. وهاهي ذي أنشودة محب يتغنى فيها بالموت المثالي:
لما أن استسلَمَت في غير مبالاة للحب ولي،
ضحك الجمال من كوكبها الوضّاء البعيد في السماء،
وغمرتني نشوة لا حد لعظمتها،
ولم يتّسع قلبي لهذه الغبطة العظيمة التي فاضت عليّ
حين بدّلتني حبيبتي، وقد طوّقتني بذراعيها، غير ما كنت،
وصبّت كل ما في شفتيها من رحيق في قُبلة حبتني بها.
وما أكثر ما أحلم بالحرية التي نلتها من صدرها اللين.
لقد أصبحت بعدها ربّاً آخر بين أرباب السماء،
وإذا ما وجدت يدي مرة أخرى فوق صدرها فسأكون المحكمُ الأعلى
بين الآلهة والخلق (1)
ومعظم الشعر الغزلي في قصائد بيرن شهواني صريح. نعم إن فيه أبياتاً تفيض رقةً وظرفاً ولكنها أبيات قليلة نادرة الوجود؛ وكان علينا ولو لم نعثر على هذا الشعر أن نتوقع وجود ترانيم ألفينوس تنشأ عاجلاً أو آجلاً إلى جوار ترانيم الكنيسة، ذلك أن المرأة، وهي الدعامة القوية الوفية للدين، هي أكبر منافس للآلهة. وظلت الكنيسة تستمتع وهي صابرة لهذه الأغاني، أغاني الحب والخمر،
_________
(1) وهذا يذكّرنا أيضاً بقول أمرئ القيس في معلقته: وبيضة خدر ... الخ. (المترجم)(17/244)
ولكن مجلساً لها عقد في عام 1281 قرر أن كل قس (ومن ثم كل طالب) يؤلف أغاني شهوانية أو خارجة على الدين، أو يتغنى بها، يفقد بذلك منصبه الديني وحقوقه. وبذلك انحط من بقى من الطلاب بعد هذا القرار موالياً لجولياث إلى منزلة المغنى، وخرج من سلك الأدباء إلى سلك الوزانين المفحشين. ولم يحل عام 1250 حتى كان عهد الطلاب الجوّالين قد انقضى. ولكنهم كانوا قد ورثوا تياراً وثنياً يسري في طيّات القرون المسيحية، ولهذا فإن مزاجهم وشعرهم بقيا كامنين حتى دخلا في عصر النهضة.
وكان الشعر اللاتيني نفسه يلفظ آخر أنفاسه بانقضاء عهد الطلاب الجوّالين؛ ذلك أن القرن الثالث عشر قد وجه العقول نحو الفلسفة؛ وانزوت الآداب القديمة وقنعت بمنزلة صغرى في برامج الجامعات. ولم يجد الأدب الظريف الممتع أدب هيلدبيرت ويوحنا السلزبري الذي كان يضارع أدب عصر أغسطس، لم يجد هذا الأدب من يرثه. ولما تصرم القرن الثالث عشر واتخذ دانتي اللغة الإيطالية أداة يكتب بها شعره، أضحت اللغات القومية لغات الأدب؛ وحتى التمثيل ربيب الكنيسة وخادمها خلع عنه رداء اللاتينية ونطق بلغات الشعوب.(17/245)
الفصل الثالث
بعث التمثيل
مات فن التمثيل القديم قبل بداية العصور الوسطى، لأنه انحدر إلى تمثيليات هزلية ماجنة ثم حلت محله استعراضات للألعاب؛ وكانت تمثيليات سنكا وهرسويذا Hroswitha حركات رياضية لا أكثر، ويبدو أنها لم تجد سبيلها إلى المسرح. وبقيت بعد ذلك ناحيتان من نواحي النشاط التمثيلي تصلان الماضي القديم بالزمن الذي تلا العصور الوسطى: أولاهما مناظر المحاكاة التي كانت تجري في الأعياد الزراعية، وثانيتهما التمثيليات الهزلية التي كان يمثلها المغنون الجوّالون والمهرّجون في أبهاء القصور أو ميادين القرى (12).
ولكن اشهر منابع التمثيل في العصور الوسطى هي الطقوس الكنسية شأنها في هذا شأن اليونان القديمة. فالقداس نفسه منظر تمثيلي، والحرم المقدس مسرح مقدس، وكان القساوسة القائمون بخدمة القداس يلبسون حللاً رمزية؛ ويقومون هم وخدم الكنيسة بالحوار. وأناشيد القساوسة والمرتلين المتبادلة، والمرتلين بعضهم مع بعض، توحي بأن التمثيل تطور من الحوار الذي نشأت منه المسرحية الديونيسية. وفي الاحتفالات التي كانت تقام في بعض الأعياد المقدسة نشأ العنصر التمثيلي نشأة واضحة صريحة؛ فقد كان الناس في بعض الطقوس الدينية التي تقام في يوم عيد الميلاد في القرن الحادي عشر يدخلون الكنائس في زي رعاة الغنم ويحييهم غلام "ملاك" من المغنين بقوله: "أخبار سارّة"، ويتعبّدون أمام صورة طفل من الجبس في مذود. ثم يدخلون ثلاثة "ملوك" من باب في الجهة الشرقية ويقودهم إلى المذود نجم يُجرّ على سلك (13). وكانت بعض الكنائس تمثل في(17/246)
الثامن والعشرين من ديسمبر "مذبحة البريئين": فكان بعض الغلمان المرتّلين يمشون في صحن الكنيسة وجناحيها، ويسقطون على الأرض كأن هيرود قد ذبحهم، ثم يقومون، ويسيرون إلى الحرم المقدس، يرمزون بذلك لصعودهم إلى السماء (14). وفي يوم الجمعة الحزينة كانت كنائس كثيرة ترفع صور المسيح المصلوب من المذبح. ثم تحمل هذه الصور وتوجع في مستقر يشبه الضريح المقدس، تعاد منه بعد ذلك إلى المذبح في صباح عيد الفصح باحتفال مهيب رمزاً لبعث المسيح (15). وكتب جريجوري نزيانزين Gregory Nazianzen بطريق القسطنطينية في عام 380 لا بعد قصة آلام المسيح في صورة تمثيلية يوربيدية Euripidean (16) ، ولا تزال تمثيلية آلام المسيح من ذلك الوقت حتى الآن ذات شأن عظيم عند الشعوب المسيحية. وكانت الكتب تقول إن أول مسرحية من هذا النوع هي التي مثلت في سينا حوالي عام 1200، ولكن أكبر الظن أن مسرحيات أخرى كثيرة من نوعها مثلّت قبل ذلك التاريخ بزمن طويل.
وإذ كانت الكنيسة تستعين بالبناء، والنحت، والتصوير، والموسيقى لتطبع في عقول المؤمنين المناظر والأفكار الرئيسية في الملحمة المسيحية، فإنها بذلك كانت تلجأ إلى خيال الشعب وتزيد تقواه بما تضفيه على المناظر التمثيلية في الأعياد الكبرى من روعة وتفاصيل مطردة الزيادة؛ وكانت النصوص الموضحة التي أضيفت إلى الطقوس الدينية لتكسبها الروعة الموسيقية، كانت هذه النصوص الموضحة تحوّل أحياناً إلى تمثيليات قصيرة. من ذلك أن نصّاً موضّحاً لعيد الفصح في مخطوط من القرن العاشر في سانت جول St. Gall يدخل الحوار الآتي في ترنيمة مقسمة لتمثل فيها الملائكة والمريمات الثلاث (1).
الملائكة: منذ الذي تبحثين عنه في الضريح يا خادمات المسيح؟
المريمات: نبحث عن المسيح الذي صلب يا رسلاً من السماء.
_________
(1) مريم أم المسيح، ومريم أختها؛ ومريم المجدلية. (المترجم)(17/247)
الملائكة: ليس هو في هذا المكان، لقد صعد كما قال من قبل؛ اذهبن وأذعن أنه قد صعد.
المرتّلون جميعاً: احمدوا الرب، الرب قد صعد (17).
وأخذت المناظر الدينية منذ القرن الثاني تزداد تعقيداً على مر الأيام حتى لم يعد تمثيلها في داخل الكنيسة مستطاعاً. ولذا أقيم سوار مرتفع في خارجها ومثّل المسرحية فوقه ممثلون يختارون من بين أفراد الشعب، ويدرّبون على استظهار أدوار مطولة مكتوبة. وأقدم ما لدينا من أمثلة لهذا الضرب من التمثيل تمثيلية آدم التي كتبت في القرن الثاني عشر باللغة الفرنسية بينها سطور باللغة اللاتينية مكتوبة بالمداد الأحمر لتكون تعليمات للممثلين.
وفي هذه المسرحية يظهر آدم وحواء في دثارين أبيضين يلعبان في جنة ممثلة بأعشاب وأزهار أمام الكنيسة. ثم تظهر الشياطين في الأثواب الحمراء الملتصقة بالجسم التي أضحت من ذلك الوقت ثيابهم الخاصة في دور التمثيل، ويجري أولئك الشياطين بين النظارة يلوون أجسامهم ويقطّبون وجوههم تقطيباً مروعاً رهيباً، ويقدّمون الفاكهة المحرّمة لآدم فيرفضها، فيقدّمونها لحواء، فتتناولها، وتقنع آدم بأن يحذو حذوها. ويدان آدم وحواء برغبتهما في المعرفة فيسلكان في أغلال من الحديد وتجرّهما الشياطين إلى الجحيم ممثلة بحفرة في الأرض ينبعث منها صوت رهيب دال على الفرح. وفي الفصل الثاني يستعد قايين لذبح هابيل وينادي: "يا هابيل سوف تموت"، فيسأله هابيل: "ولم أموت؟ " فيجيبه قايين: "أتريد أن تعرف لم أريد أن أقتلك؟ ... سأخبرك. سبب ذلك أنك تفرط في سعيك لتنال الحظوة عند الله". ويلقى قايين بنفسه فوق هابيل ويضربه حتى يموت. ولكن مؤلف الرواية تأخذه الرأفة فيكتب بين السطور بالمداد الأحمر: "سيكون تحت ثياب هابيل جفنة" (18).(17/248)
وأطلق فيما بعد على هذه التمثيليات المستمدة من الكتاب المقدس اسم "الأفعال الخفية"؛ واللفظ مشتق من الكلمة اللاتينية ministerium ومعناها الفعل، وكان هذا أيضاً هو معنى drama. ولمّا أضحت القصة تمثّل أحداثاً وقعت بعد زمن الكتاب المقدس سمّيت بمسرحيات المعجزات، وكانت تدور في العادة حول بعض الأفعال العجيبة التي قامت بها العذراء أو قام بها بعض القديسين. وقد كتب هيلاريوس Hillarius تلميذ أبلار كثيراً من هذه المسرحيات (حوالي 1125) بخليط من اللغتين اللاتينية والفرنسية، ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى كانت اللغات القومية الأداة التي تكتب بها "مسرحيات المعجزات". وأخذت الفكاهات المتزايدة الصراحة تصبح فيها ذات شأن مطرد الزيادة، كما أصبحت موضوعاتها تتجه شيئاً فشيئاً وجهة دنيوية غير دينية.
وكانت "المهازل" في هذه الأثناء قد أخذت تتطور تطوراً مستقلاً نحو المسرحيات. ويتمثل هذا التطور في مسرحيتين قصيرتين وصلتا إلينا من قلم آدم ده لا هال Adam de la Halle ( حوالي 1260)، وهو رجل أحدب من أراس Arras. وتدور إحدى هاتين المسرحيتين، مسرحية آدم Li jus Adam، حول حياة المؤلف نفسه. فقد كان يفكر في أن يكون قساً، ولكنه أحب مارية الحسناء. "وفي يوم جميل من أيام الصيف سماؤه صافية، وجوّه لطيف، بينما كانت الطيور تنطلق بأصواتها العذبة، لمحت بين الأشجار العالية على شاطئ النهر فتاة هي الآن زوجتي ... لقد رويت الآن ظمأي منها". ويخبرها بهذا في صراحة ظريفة ويعتزم الذهاب إلى باريس وإلى الجامعة. ويدخل المؤلف في هذا الفصل الخاص بشئونه هو وزوجته، طبيباً ومجنوناً، وراهباً، يستجدي الناس الصدقات ويعدهم بالمعجزات، وجماعة من الجنيات ينشدن الأناشيد، ويذكّرنا هذا بأدوار الرقص التي تقحم إقحاماً في التمثيليات الغنائية الحديثة. ويسيء آدم إلى إحدى الجنيات، فتصب عليه لعنة تمنعه أن يفارق زوجته طول حياته، ومن(17/249)
هذا الهراء أخذت المسرحيات تتطور تطوراً مستمراً حتى وصلت إلى مسرحيات برناردشو Bernard Shaw.
وكلما بعدت المسرحيات عن الموضوعات الدينية واقتربت من الموضوعات الدنيوية، انتقل تمثيلها شيئاً فشيئاً من الكنيسة وما حولها إلى السوق العامة أو إلى غيرها من ميادين البلدة. ذلك أنه لم تكن هناك وقتئذ دور للتمثيل، فكانوا إذا أرادوا أن يمثّلوا في مكان ما تلك المسرحيات القليلة ـ وكان ذلك يحدث في العادة في عيد من الأعياد الصيفية ـ يقيمون مسرحاً مؤقتاً، ويضعون مقاعد للنظارة، وينشئون مظلات مزركشة لأصحاب المقامات العالية. وكان من المستطاع أن تستخدم البيوت المحيطة بالميدان لتمثيل المناظر الخلفية وغيرها مما يحتاجه الممثلون. وكان الذين يقومون بالأدوار في المسرحيات الدينية هم الشبان من رجال الدين؛ أمّا في المسرحيات غير الدينية فكان الممثلون هم أهل المدينة "الماجنين" أو المغنّين الجوّالين؛ وقلّما كانت النساء يشتركن في التمثيل. ولما زاد بعد التمثيليات عن الكنيسة في مناظرها وموضوعاتها، نزعت هذه التمثيليات إلى التهريج والخلاعة والفحش؛ ورأت الكنيسة، وهي التي نشأت في أحضانها المسرحية الجدية، أن لابد لها من أن تعلن أن التمثيليات القروية تجافي الأخلاق الفاضلة. وهكذا نرى جروستستي أسقف لنكلن يضم التمثيليات، ومنها "تمثيليات المعجزات" إلى مجالس الشراب، "وعيد الحمقى" (1)، ويقول إن هذه أعمال يجب ألاّ يشهدها أي مسيحي؛ وصدرت بعده أوامر شبيهة بهذا الأمر (بين عامي 1136و 1144) تقضي بأن الممثلين الذين يشتركون في هذه التمثيليات يحرمون من الدين. أمّا القديس تومس فكان أكثر من هذا تسامحاً، وقال إن مهنة التمثيل قد وجدت لمواساة الإنسانية، وإن الممثل الذي يمارسها على خير وجه ربما نجا من الجحيم برحمة من الله.
_________
(1) اسم كان يطلق على رأس السنة عند بعض كنائس فرنسا في العصور الوسطى وسمّي كذلك لما كان يحدث فيه من الخلاعة. (المترجم)(17/250)
الفصل الرابع
الملاحم والقصص المنثورة
سار اصطباغ الأدب بالصبغة الدنيوية مع نشأة اللغات القومية جنباً إلى جنب. ويمكن القول بوجه عام إن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يفهمون اللغة اللاتينية قبل القرن الثاني عشر، وإن الكتّاب الذين كانوا يريدون أن يتصلوا بغير رجال الدين كانوا مضطرين إلى الكتابة باللغات القومية؛ وكان جمهور القرّاء يزداد اتساعاً كلما زاد النظام الاجتماعي نماء، وأخذت الآداب القومية ترتقي تدريجاً لتسد مطالب هذا الجمهور. وكانت نتيجة هذا أن نشأ الأدب الفرنسي في القرن الحادي عشر، والأدب الألماني في القرن الثاني عشر، والإنجليزي والأسباني والإيطالي في القرن الثالث عشر.
وكان من الطبيعي أن تصبح الصورة الأولى لهذا الأدب القومي هي الأغنية الشعبية، ثم طالت الأغنية فأضحت هي القصيدة الغنائية، ثم كبرت القصيدة الغنائية بما أدخل عليها من تطور وتضخم فصارت هي الملحمة الصغرى كملحمة بيولف Beowulf، وأغنية رولان Chanson de Roland ونيبلنجنلايد Nibelungenlied والسيد Cid. وأكبر الظن أن أغنية رولان ضمت بعضها إلى بعض حوالي عام 1130 من أغان كانت شائعة في القرن التاسع أو القرن العاشر. وهي تروى في أربعة آلاف بيت من الشعر السهل المنسجم العمبقي الوزن قصة موت رولان في رنسسفال Roncessvales. وتفصيل ذلك أن شارلمان بعد أن "فتح" بلاد الأندلس الإسلامية كان عائداً بجيشه نحو فرنسا، فما كان من جانيلون Ganelon الخائن إلا أن دل العدو على طريق الجيش، وتطوع رولان لقيادة المؤخرة لينجيها من مأزق خطر. وبينا هو سائر في أخدود ضيق(17/251)
ملتو في جبال البرانس إذ انقض حشد من الباشقنس من شعاب الجبال على قوة رولان الصغيرة. ويرجوه صديقه ألفييه أن ينفخ في بوقه الكبير ليستنجد بشارلمان، ولكن رولان يأبى أن يطلب النجدة، ويقود هو وألفييه، وتوربين Turpin كبير الأساقفة، جنودهم، ويدافعون عن أنفسهم دفاع المستميت حتى يقتلوا كلهم تقريبا. وينزف الدم من جروح مميتة في رأس ألفييه ويغشى عليه فيظن رولان جندياً من الأعداء ويضربه بسيفه ويشق خوذته من أعلى رأسه إلى موضع أنفه ولكنه ينجو من الموت:
وينظر إليه رولان وهو يضربه،
ويسأله بصوت لينحنون:
"أيها السيد الرفيق، أتفعل هذا بجد؟
إني أنا رولان الذي يحبك أعظم الحب
ولم تطلب إليّ قط النزال"
فيقول ألفييه: "أنا الآن أستمع إلى قولك؛
ولكني لا أراك، رعاك الله وأنجاك!
لقد ضربتك، فاغفرها لي! "
فيجيبه رولان: "لم أصب بسوء
وأعفو عنك لساعتي وأشهد الله. "
فلمّا نطق بهذا انحنى كلاهما لصاحبه
وافترقا متحابين (20).
وينفخ رولان أخيراً في بوقه العاجي، ويواصل النفخ حتى ينبثق الدم من صدغيه، ويسمعه شارلمان فيعود لنجدته و"لحيته البيضاء تطير في الريح". ولكن الطريق طويل و"الجبال شامخة، شاسعة مظلمة، والوديان عميقة، والأنهار سريعة التيار". ورولان في هذه الأثناء حزين مكب على جثة ألفييه(17/252)
يناديها بقوله: "أيها السيد الرفيق، لقد كنا زميلين أياماً وليالي طوالاً، لم تسيء إلي فيها ولم أسيء إليك، فإذا مت فالحياة من بعدك كلها آلام". ويتوسل إليه كبير الأساقفة وهو يحتضر أن ينجو بالهرب، ويأبى رولان، ويواصل الحرب حتى يفرّ المهاجمون، ولكنه هو أيضاً يصاب بجرح مميت. ويستجمع آخر ما فيه من قوة ويحطم فوق صخرة من الصخور سيفه دورندال Durendal المطعّم بالجواهر حتى لا يقع في أيدي الكفار. و"رقد الكونت رولان تحت شجرة صنوبر ووجهه متجه نحو أسبانيا ... وطافت به وقتئذ ذكريات كثيرة، ففكر في البلاد التي فتحها، وفي فرنسا الحلوة، وفي أسرته، وفي شارل الذي رباه، وبكى". ورفع قفازه إلى السماء دليلاً على خضوعه لله، ووفائه. ويقبل شارل ويجده قد مات. تلك هي خلاصة القصة مترجمة ولكن الترجمة أياً كانت لا تستطيع محاكاة أصلها السهل الجذل، وما من أحد غير من نشأ على حب فرنسا وتكريمها يستطيع أن يحس بالقوة والعاطفة اللتين تفيض بهما هذه الملحمة التي يحفظها كل طفل فرنسي ويتلوها في كل صلواته.
ووهب شاعر مجهول حوالي عام 1160 أسبانيا ملحمة قوية يمجد فيها أخلاق راي Ruy أو ردريجو دياز (المتوفى سنة 1099)، وهي المعروفة بملحمة السيد Poema de Cid. وموضوعها هي الأخرى القتال بين الفرسان المسيحيين والمسلمين في الأندلس، وتمجيد بطولة سادة الإقطاع، وشرفهم، وعظمتهم، وتفضيل أمجاد الحرب عن ذلة الحب. وينفي رولان ملك جاحد بفضله، فيودع زوجته وأبناءه في أحد الأديرة ويقسم ألاّ يعيش بينهم بعدئذ حتى ينتصر في خمس معارك، ويخر لقتال المسلمين. ويردد النصف الأول من القصيد ذكر انتصارات هومرية. وينهب السيد في خلال الفترات الواقعة بين المعارك أموال اليهود، ويوزع الصدقات على الفقراء، ويقدم الطعام بيده إلى مجذوم، ويأكل معه في صفحة واحدة، وينام معه في فراش واحد، ويتبين أنه ألعازر Lazarus الذي(17/253)
رفعه المسيح من بين الموتى. وليست هذه بطبيعة الحال هي صفات السيد التاريخية، ولكنها لا تسيء إلى التاريخ أكثر مما تسيء إليه أغنية رولان بتمجيدها شارلمان وجعلها إياه مثلاً أعلى للرجال. وأضحت ملحمة السيد حافزاً قوياً للتفكير الأسباني والعزة الوطنية الأسبانية؛ ,الفت مئات الأغاني الشعرية التي تدور حول بطلها، كما ألفت عنه مئات من الكتب متفاوتة القرب من الحقيقية التاريخية. وبعد فليس في الأشياء ما هو أبعد عن قلوب الناس من الصدق، وعماد النفس والدول هو الروايات الخيالية التي تتعاقب على مدى الأيام.
ولننتقل بعد ذلك إلى أيسلندة فنقول إن أحداً لم يفسر لنا بعد كيف أخرجت هذه الجزيرة الصغيرة، التي قست عليها الطبيعة وفصلتها البحار عن غيرها من البلدان، في تلك الفترة من الزمان، أدباً لا يتناسب في مداه ولا في بهائه مع مكانها وحجمها. لقد ساعدها على ذلك عاملان: قدر كبير من الروايات التاريخية المتواترة، العزيزة على قلب كل جماعة من الناس معزولة عن غيرها من الجماعات، وحب للقراءة، أو الاستماع إلى القارئين - أعان عليه طول الشتاء. لقد وجد في الجزيرة منذ القرن الثاني عشر لا بعد كثير من دور الكتب بالإضافة إلى مكتبات الأديرة. ولمّا أن أصبحت الكتابة من مميزات الشخص المهذب، صاغ الكتاب من رجال الدنيا والدين هذه القصص الشعبية صياغة أدبية بعد أن كانت من قبل ملكاً للشعراء الشعبيين.
وكان من بعض المصادفات النادرة أن نرى زعيم كتّاب القرن الثالث عشر في أيسلندة كان هو أغنى أهلها، والرجل الذي اختير مرتين ليكون رئيساً لجمهوريتها - الناطق بالقانون كما يسمونه فيها. كان أسنري استورلسون Snorri Sturlson (1178 - 1241) يحب الحياة أكثر مما يحب الأدب، وكان كثير الأسفار، منهمكاً في السياسة والمنازعات، ثم قتله زوج ابنته وهو في الثانية والستين من عمره.(17/254)
وقد روى في كتابه العالم المستدير Heimskringla تاريخ بلاد الشمال وقصصها بما فطر عليه رجل الجد والعمل من بساطة وإيجاز؛ وروى في كتاب أدا استرا استور لسونر Edda Snorra Sturlsoner أو إدا المنشورة موجز التاريخ الورد في الكتاب المقدس، وشذرات من أساطير الشماليين، وضمنه مقالاً في أوزان الشعر، ورسالة فنه، وشرحاً فذاً لنشأة هذا الفن من البول يقول فيه إن طائفتين من الأرباب اقتتلوا ثم عقدوا الصلح بأن أخذوا يبصقون في جرة، ونشأ من هذا البصاق نصف إله يدعى أكفاريز Kvasir علّم الناس الحكمة كما علّمهم إياها بروميثيوس. وقتل الأقزام أكفاريز، ومزجوا دمه بالخمر وصنعوا رحيقاً يهب كل من يشربه القدرة على الغناء. واتخذ الإله العظيم أودين Odin سبيله إلى المكان الذي خزن فيه الأقزام هذا الخمر الشعري، وشربه كله، وطار إلى السماء؛ غير أن بعض السائل المحبوس خرج منه بطريقة قلّما تستخدم في الفساقي العامة؛ وسقط هذا الماء الإلهي رذاذاً ملهماً على الأرض، وامتص من سقط عليه موهبة قرض الشعر (21). ذلك هراء جاء به عالم من العلماء وليس هو أبعد عن العقل من التاريخ.
وهذه الفترة من تاريخ أيسلندة غنية بأدبها غنى تحار في العقول، ولا يزال هذا الأدب يفيض طرافةً، ومرحاً، وفكاهةً، وفتنة شعرية تسرى في نثره. وكتبت في ذلك العهد مئات من القصص المنثورة بعضها قصير وبعضها في طول الروايات النثرية، بعضها تاريخي وبعضها يخلط التاريخ بالأساطير. وكلها بوجه عام ذكريات للحضارة من عصر الهمجية، مليئة بأعمال المروءة والعنف، يُعَقّدها التقاضي ويخفف من مللها الحب. وكثيراً ما يرد في قصص إنجلنجا Ynglinga تأليف أستري ذكر فرسال الشمال الذين يحرق بعضهم بعضاً، أو يحرق الواحد منهم نفسه، أو ذكر أبهائهم أو أقداح شرابهم. وأوسع هذه القصص خيالاً(17/255)
قصص الفلسنجاساجا Volsungasaga. وقد وردت قصصها في صورة باكرة في الإدا الكبرى أو الإدا الشعرية؛ وأحدث صورة لها هي التي وردت في خاتم النبلنجيين تأليف فاجنر Wagner.
والفلسنج Volsung هو كل من تناسل من ويلز Waels، وويلز هذا ملك من ملوك الشمال، وهو ابن حفيد أودين وجدّ سيجورد Sigurd ( سيجفريد Siegreied) . والنيبلنجيون حسب نص النيبلنجيد Nibelungenlied ملوك برغنديون، أما في الفلسنجاساجا فهم سلالة من الأقزام يحرسون في بلاد الرين كنزاً وخاتماً من الذهب يجلاّن من التقدير، ولكنهما يجلبان النقمة لكل من يمتلكها. ويقتل سيجورد فهنير Fahnir التنين الذي يحرس الكنز ويستولي عليه، ويصل في تجواله إلى تل تحيط به النيران وتنام عليه برندهلد Brundhild الفلكيرية Valkyrie ( نصف الإلهة التي هي من نسل أودين). وتلك إحدى صور قصة الجميلة النائمة Sleeping Beauty. ويفتتن سيجورد بجمالها وتفتتن هي به، ويقسمان يمين الوفاء، ثم يتركها ويواصل أسفارها - كما يفعل الرجال في كثير من فصص العصور الوسطى. ويلتقي في بلاط جيوكي Guki أحد ملوك بلاد الرين بالأميرة جدرون Gudrun، وتسقيه أمها شراباً مسحوراً ينسيه برندهلد ويتزوج جدرون؛ ثم يتزوج جنار Gunnar بن جيوكي برندهلد ويأتي بها إلى بلاط أبيه، ويسوؤها نسيان سيجورد إياها فتعمل على قتله، ثم تندم على فعلتها فتعلو كرمة حريقه، وتنتحر بسيفه وتحترق معه.
وأحدث صورة لهذه القصص الأيسلندية هي قصة أنجال المحترق Njal ( حوالي 1220). وشخصيات هذه القصة واضحة تحدد أعمالهم وأقوالهم أكثر مما يحدهم وصفهم. والقصة محكمة البناء وتنتقل حوادثها المثيرة تنقّلاً يحتمه السياق حتى تصل إلى الكارثة التي تدور حولها حوادثها - وهي احتراق بيت(17/256)
نجال، وأحتراقه هو وزوجته برجثورا Bergthura وأبنائه على أيدي جماعة مسلحة من الأعداء يقودهم شخص يدعى فلوسي Flosi يحقد على أبناء نجال ويعمل على الانتقام منهم:
ثم نادى فلوسي ... نجال، وقال له: "إني آذن لك، يا سيد نجال، أن تخرج لأنه لا يليق بك أن تحترق في داخل الدار"
فيرد عليه نجال قائلاً: "لن أخرج لأني شيخ كبير، لا أقوى على الثأر
لأبنائي، ولكن لن أعيش مجللاً بالعار"
ثم نادى فلوسي برجثورا قائلاً: "أخرجي يا صاحبة الدار لأني لا أريد
أن أحرقك داخل البيت مهما تكن الأسباب"
فتجيبه برجتورا بقولها: "لقد تزوجت نجال وأنا صغيرة، ووعدته
أن ألقى وإياه نفس المصير"
ثم عادا بعد ذلك إلى البيت.
وسألته برجثورا: "أية نصيحة نتبعها الآن؟ "
فيجيبها نجال: "سنذهب إلى فراشنا، ونرقد عليه، فطالما تاقت نفسي
إلى الراحة"
ثم قالت للغلام ثورد Thord بن كاري Kari: " سأخرجك أنت ولن
تحترق هنا"
فيجيبها الغلام قائلاً: لقد وعدتني يا جدتي ألاّ نفترق ما دمت أرغب
في البقاء معك؛ ولكني أرى أن موتي معك ومع نجال خير من
حياتي بعدكما"
ثم حملت الغلام إلى سريرها و ... ووضعته بينها وبين نجال، ورسما عليهما(17/257)
وعلى الغلام علامة الصليب، وأسلما روحهما إلى الله،
وكان هذا آخر لفظ سمعه الناس منهما (22).
وكان عصر الهجرة (300 - 600) قد ترك في ذكريات الشعوب والمغنين المضطربة ألف قصة وقصة عن الفوضى الاجتماعية، والشجاعة الهمجية، والحب القاتل؛ وانتقلت بعض هذه القصص إلى بلاد النرويج وأيسلندة وأثمرت الفلسنجاساجا، وكثير منها متقاربة الأسماء والموضوعات، وقد عاشت وتضاعف عددها في ألمانيا في صورة قصص تاريخية، وقصائد غنائية، وقصص شعبية، حتى قام رجل ألماني غير معروف في زمن غير معروف أثناء القرن الثاني عشر وصاغ من تلك المواد النيبلنجنليد أو أغاني النيبلنجببين، وهي مصوغة من قصص مسلسل من الشعر لكي بيتين منه قافية واحدة بلغة القسم الأوسط من ألمانيا العليا؛ وقصصها مزيج من الانفعالات البدائية والأمزجة الوثنية.
وحكم الملك جنثر Gumther وأخواه برغندية زمناً لها في القرن الرابع الميلادي من قصرهم في ورمز على ضفة نهر الدين، وكانت تقيم معهم في ذلك القصر أختهم الشابة كريمهيلد Kremhild - " التي لم يكن أجمل منها في بلد من البلاد". وكان الملك سجمند في هذه الأثناء يحكم الأراضي الوطيئة، وأقطع ابنه سيجفريد (سيجورد) ضيعة غنية بالقرب من أكسنتين Xanten الواقعة هي الأخرى على ضفة الرين. وترامت إلى مسامع سيجفريد أخبار جمال كريمهيلد فذهب لزيارة بلاط جنثر وأقام هناك على الرحب والسعة مدة عام، ولكنه لم ير كريمهيلد قط، وإن كانت هي قد أبصرت من نافذتها الشبان يتثاقفون في فناء القصر، فأحبته من أول نظرة. ذلك أن سيجفريد كان يفوق سائر الشباب في قراع السيوف، وأظهر بسالة عظيمة في حربة مع صفوف البرغنديين؛ واراد جنثر أن يحتفل بعقد الصلح بعد انتصاره فأمر سيدات القصر أن يشهدن الاحتفال!(17/258)
وزينت كثيرات من بنات الأشراف أحسن زينة، وتاقت نفوس الشبان لنيل رضاء السيدات وإعجابهن، ونزلوا عن حقهم في أرض الملك الغنية نظير فوزهم بهذا الإعجاب ... وتبدت كريمهيلد كأنها كوكب الصباح يتألق بين السحب الدكناء؛ ولم يكد يراها الشاب الذي انطوى قلبه على حبها من زمن بعيد حتى ذهب عنه ما كان يحس به من تعب .... وسر سيجفريد وحزن، فقد قال في نفسه: "كيف أخطب ود فتاة مثلك؟ تلك لا ريب أضغاث أحلام، ولكن الموت عندي أفضل من البعد عنك" ... واحمرت وجنتاها حين أبصرت أمامها ذلك الرجل ذا النفس العالية، وقالت: "مرحباً بك يا سيجفريد، أيها الفارس الباسل النبيل". وامتلأ قلب الفارس شجاعة حين سمع هذه الألفاظ، وانحنى أمامها انحناءة جميلة شأن الفارس الشهم، وشكر لها تحيتها. وارتبط قلباهما برباط الحب القوي وتبادلا النظرات سراً.
وترامت أخبار برنهيلد ملكة أيسلندة إلى جنثر وكان أعزب، وقيل له إنها لا ينالها إلاّ من يتفوق عليها في ثلاث تجارب للقوى، وإنه إذا أخفق في أية تجربة منها جوزي بقطع رأسه. ووافق سيجفريد على أن يساعد جنثر على نيل برنهيلد إذا زوجه بكريمهيلد. ويعبران البحر بسرعة القصص وسهولتها؛ ويلبس سيجفريد طيلساناً سحرياً يخفيه عن الأنظار، ويساعد جنثر على الخروج ظافراً من التجارب الثلاث، ويأتي جنثر ببرنهيلد إلى موطنه ليتزوجها على كره منها. وتساعد ست وثمانون فتاة كريمهيلد على إعداد الأثواب الغالية للعروس. ويحتفل بزواج جنثر وبرنهيلد وبزواج سيجفريد وكريمهيلد احتفالاً فخماً.
ولكن برنهيلد تبصر سيجفريد فتحس أن هو لا جنثر الذي يليق أن يكون زوجها. ويقبل جنثر عليها ليلة زفافها فترده عنها خائباً، وتربطه في عقدة وتعلقه على الجدار. وينطلق جنثر من العقدة ويستنجد بسيجفريد؛ وفي الليلة الثانية يتخفى البطل في زي جنثر وينام بجوار برنهيلد، بينما يكون جنثر نفسه مختبئاً في(17/259)
حجرة مظلمة يستمع إلى كل شيء ولا يرى شيئاً. وتلقى برنهيلد بسيجفريد بعيداً عن الفراش وتشتبك معه في معركة تفري العظم، وتحطم الرأس، ولا تجري على سنن متبعة. ويقول في نفسه أثناء المعركة: "واحسرتاه! إنني إذا مت بيد امرأة فإن الزوجات جميعهن سيحتقرن أزواجهن". وتهزم برنهيلد آخر الأمر، وتعد أن تكون زوجة. وينسحب سيجفريد دون أن يراه أحد حاملاً معه منطقتها وقرطها، ويحل جنثر نحله بجوار الملكة الخائرة القوى. ويهدي سيجفريد المنطقة والقرط إلى كريمهيلد، ويأتي بها إلى أبيها، فيتوجه ملكاً على الأراضي الوطيئة. ويستخدم سيجفريد ما له من ثروة في سنيبلنجن فيلبس زوجته ووصيفاتها من الثياب ما لم تلبسه امرأة أخرى قبلهن.
وتزور كريمهيلد بعد فترة من ذلك الوقت برنهيلد في مدينة ورمز. وتبصر برنهيلد أثواب كريمهيلد الغالية فتدب الغيرة في قلبها، وتذكّرها بأن سيجفريد من أتباع جنثر. وترد عليها كريمهيلد بأن تكشف لها عن المنطقة والقرط لتثبت لها أن سيجفريد لاجنثر هو الذي غلبها على أمرها. وكان لجنثر أخ نكد غير شقيق يدعى هاجن Hagen ملأ صدره حقداً على سيجفريد؛ فأرسلا إليه يدعوانه للخروج إلى الصيد. وينحني سيجفريد فوق مجرى ماء ليروي ظمأه، فيطعنه هاجن بحربة، وتبصر كريمهيلد بطلها يلقى منيته "فيغمى عليها وتفقد وعيها طوال ذلك اليوم وتلك الليلة". وترث كنز نيبلنج بوصفها أرملة سيجفريد، ولكن هاجن يغري جنثر باغتصابه منها، ويدفن جنثر وأخوته هذا الكنز في نهر الرين ويقسموا ألاّ يكشفوا لأحد عن مخبئه.
وتظل كريمهيلد ثلاثة عشر عاماً تفكر في الثأر من هاجن وأخوتها، ولكنها لا تجد الفرصة التي تمكنها من هذا الثأر، ثم تقبل ما عرضه عليها إتزل Etzel ( أتلا Atilla) ملك الهون من زواجه بها؛ وتنتقل إلى فينا Vienna لتعيش فيها وتكون زوجة له. "وكان إتزل ذا شهرة عظيمة تجتذب إلى بلاطه(17/260)
بلا انقطاع أشجع الفرسان مسيحيين وكفاراً على السواء .... وكان الإنسان يرى عنده ما لا يستطيع أن يراه في هذه الأيام - يرى المسيحيين والكفرة جنباً إلى جنب. وكان الملك ندي اليد سخياً على الناس جميعاً أياً كانت عقائدهم، فلم يكن ثمة أحد لا ينل رفده". وظلت كريمهيلد تحكم البلاد "حكماً صالحاً" مدى ثلاثة عشر عاماً بدا فيها أنها لم تعد تفكر في الانتقام؛ وبلغ من أمرها أن طلبت إلى إتزل أن يدعو هاجن وإخوتها إلى وليمة؛ ويلبي هؤلاء الدعوة رغم تحذير هاجن، ولكنهم يأتون معهم بحاشية من الفلاحين والفرسان المسلحين. وبينما كان إخوة الملك وهاجن ومن معهم من الفرسان يستمتعون بضيافة حاشية الهون في بهو إتزل، إذ يقتل الفلاحون الذين في خارج البهو بأمر كريمهيلد، ويتلقى هاجن النبأ، فيستل سيفه، وتدور معركة رهيبة في البهو بين البرغنديين والهون (ولعل القصة ذكرى حربهم الحقيقية التي دارت في عام 437). ويطيح هاجن بضربته الأولى برأس أرتليب Artlieb ابن كريمهيلد وإتزل البالغ من العمر خمس سنين ويلقى برأسه في حجر كريمهيلد وجنثر. ولمّا كاد البرغنديون جميعاً يهلكون يطلب جرنوت Gernot أخو كريمهيلد وجنثر إلى إتزل أن يسمح للباقين من الزوار بالخروج من البهو. ويظهر فرسان الهون رغبتهم في إجابة هذا الطلب ولكن كريمهيلد ترفضه، وتستمر المذبحة. ويتوسل إليها جزلهر Gisslher أخوها الأصغر الذي كان غلاماً بريئاً في الخامسة من عمره لما قتل سيجفريد ويناديها: "أختي يا أجمل النساء، بأي ذنب أستحق الموت بأيدي الهون؟ لقد كنت على الدوام وفياً لك، لم تمسسك يداي بأذى؛ ولكني جئت إلى هذا المكان يا أعز الأخوات لأني وثقت بحبك، فهلاّ رحمتني". وترضى كريمهيلد بأن يخرج الباقون إذا أسلموا هاجن، فيرد عليها جرنوت بقوله: "ذلك يا أماه الله في علو سمائه، خير لنا أن نهلك عن آخرنا من أن نفتدي أنفسنا بواحد ما". وتخرج كريمهيلد الهون من البناء، وتغلق الأبواب على من(17/261)
فيه من البرغنديين، وتأمر بإحراقه. ويجن البرغنديون من فرط الحرارة والظمأ فيصيحون من شدة الألم، فيأمرهم هاجن بأن يطفئوا ظمأهم بشرب دماء القتلى، فيصدعون بما يؤمرون، ويخرج بعضهم من بين الأخشاب الملتهبة المتساقطة، وتستمر المعركة دائرة في الفناء حتى لا يبقى حياً من البرغنديين غير جنثر وهاجن. ويقاتل ديتريخ Dietrich القوطي وهاجن، وينتصر عليه، ويأتي به إلى كريمهيلد مكبلاً بالأغلال. وتسأله هاجن أين أخفى كنز نيبلنج، فيجيبها بأنه لن يكشف لها عن ذلك السر ما دام جنثر حياً؛ ويقتل جنثر، وكان لا يوال حياً، بأمر أخته، ويحمل رأسه إلى هاجن، ولكن هاجن يتحداها بقوله: "إن مكان الكنز لا يعرفه الآن إلاّ الله وحده وأنا، ولن تعرفي هذا السر أيتها المرأة الشيطانة"، فتقبض بيدها على سيف وتقتله به. وتشمئز نفس هلدبراند Hildebrand القوطي مما سفكته كريمهيلد من الدماء فيقتلها.
تلك قصة رهيبة تجري فها الدماء كما تجري في أية قصة أخرى في عالم الأدب أو فيما هو دونه. وإنا لنظلم هذه القصة بعض الظلم إذا انتزعنا لحظاتها الرهيبة مما يحيط بها من ولائم، ومثاقفة، وصيد، وشئون النساء. ولكن هذا هو الموضوع الذي تدور حوادثها حوله - فتاة رقيقة يبدلها ما صادفته من الشر امرأة وحشية سفاحة. ومن عجب أنه قلّما يبقى في القصة بعد هذا شيء يقربها من الدين المسيحي، فهي في الواقع مأساة يونانية تدور حول الانتقام، ولا تفعل ما تفعله المآسي اليونانية إذ تأبى أن تقع في أعمال العنف على المسرح. وتطغى هذه الجرائم على جميع فضائل الإقطاع فلا يكاد يظهر منها شيء حتى إكرام رب الدار أضيافه الذين دعاهم لزيارته، وليس ثمة ما يفوق وحشية هذه القصة إلاّ وحشية أيامنا هذه.(17/262)
الفصل الخامس
شعراء الفروسية الغزليون Troubadour (1)
في أواخر القرن الثالث عشر، أي في الوقت الذي كنا نتوقع فيه أن يكون الأدب الأوربي مصطبغاً بالحماسة الدينية التي بعثتها في الناس الحروب الصليبية، في أواخر هذا القرن بالذات نشأت في جنوبي فرنسا مدرسة من الشعر الغنائي أرستقراطية، وثنية، غير كهنوتية، عليها الطابع العربي، تنبئ بانتصار المرأة على القيود الثقيلة التي فرضتها عليها نظرية سقوط آدم. وانتقل هذا الطراز الشعري من طولوز إلى باريس ومن باريس إلى لندن ومع إليانور الأكتانية، واستحوذ على قلب ابنها الباسل رتشرد الأول، وأوجد المتصببين بالشعر من الألمان، وصاغ النغمات العذبة الهادئة التي مهدت السبيل إلى دانتي.
ويتلألأ في بداية هذا الطراز من الشعر وليم التاسع كونت بواتو، ودوق أكتين، وجد إليانور نفسها، وألفى هذا الخليع المستهتر نفسه في الحادية عشرة من عمره (1087) حاكماً لفرنسا الجنوبية يكاد يكون مستقلاً بحكمعا؛ واشترك في الحرب الصليبية الأولى وتغنى بنصرها؛ ولكنه كان مثل كثيرين من غيره من النبلاء في أرضه التي طغى عليها الإلحاد، فكان قليل الإجلال للكنيسة يسخر من قساوستها. وقد وُصف في ترجمة بروفنسالية له بأنه "من أكثر خلق الله أدباً وظرفاً، ومن أكثرهم غواية للنساء، وأنه فارس مغوار، كثير التورط في مغامرات الحب، يجيد الغناء وقرض الشعر، وقد ظل وقتاً طويلاً يجول في البلدان ويغوي النساء" (23). وقد اختطف وهو متزوج كونتة شاتل رول Chatellerault الحسناء، وعاش معها علناً دون حياء؛ ولمّا أمره أنجوليم Angouleme الأصلع
_________
(1) انظر اشتقاق هذا اللفظ فيما بعد. (المترجم)(17/263)
الجريء أن يقلع عن غيه أجابه بقوله: "سأنبذ الكونتة في الساعة التي يحتاج فيها شعرك إلى مشط". والتقى يوماً ما بأسقف بواتيه بعد أن حكم بطرده من الكنيسة وقال له: "اغفر لي وإلاّ قتلتك" فرد عليه الأسقف وهو يمد له عنقه: "اضرب"، وأجابه وليم: "لست أحبك بالقدر الذي يكفي لأن أبعث بك إلى الجنة" (24). ووضع الدوق طرازاً من الشعر الغزلي يكتب إلى النبيلات، وكان يفعل ما يقول، وكانت حياته قصيرة مليئة بالمرح، فقد مات في السادسة والخمسين من عمره (1137)، وأورث إليانور ضياعه الواسعة وذوقه الشعري والغرامي.
وجمعت إليانور الشعراء حولها من طولوز، وسرّهم أن يتغنوا لها ولحاشيتها لجمال النساء وما تبعثه مفاتنهن من نشوة. وشرع برنار ده فنتادور Bernard de Ventadour، وكان شعره في نظر بترارك لا ينقص إلاّ قليلاً عن شعره هو نفسه، يتغنى بجمال فيكونتة فنتادور؛ وحملت الفيكونتة مديحه محمل الجد فاضطر زوجها أن يحبسها في برج قصره. وشجع هذا برنار فراح يتغنى بجمال إليانور نفسها وتبعها إلى رون Rouen؛ ولمّا أن فضلت حب ملكين أفرغ ما في قلبه من هيام في لحن حزين ذائع الصيت. وبعد جيل من ذلك الوقت أصبح الشاعر الغزلي برتران ده بورن Bertrand de Born صديق رتشرد الأول الحميم، ومنافسه المتفوق عليه في حب السيدة مينز المرتنياكية Dame Maens of Martignac؛ وصحب شاعر غزلي آخر يدعى بيرفيدال Piere Vidal (1167؟ -1215) رتشرد الأول في الحرب الصليبية، ورجع سالماً، وعاش بعد مجيئه فقيراً يقرض الشعر حتى رفض آخر الأمر بضيعة وهبها له ريمند السادس كونت طولوز (25). ولدينا أسماء 446 شاعراً آخر من الشعراء الغزلين، ولكن حسبنا هؤلاء الأربعة دليلاً على ما كانت عليه هذه الطائفة المغنية من انحلال.
كان بعض أفرادها موسيقيين أفاقين، وكانت كثرتهم من صغار النبلاء المولعين بالغناء، وكان أربعة منهم ملوكاً - رتشرد الأول، وفردريك الثاني،(17/264)
وألفنسو الثاني، وبدرو الثالث ملك أرغونة. وظل هؤلاء الشعراء قرناً من الزمان (1150 - 1250) يسيطرون على أدب فرنسا الجنوبية، ويشكلون عادات الطبقة الأرستقراطية التي كانت تنتقل في ذلك الوقت من الوحشية الريفية إلى الفروسية التي كادت تكفّر بالمجاملات عن آثام الحرب، وبالظرف والأدب عن الفجور والفسق. وكانت لغة شعراء الفروسية الغزلين هي لانج دك Langue Dioc أو لغة الرومان Roman التي كانوا يتكلمون بها في جنوبي فرنسا وشمالي أسبانيا الشرقي. أما اشتقاق اسمهم فهو موضع الخلاف الشديد، والراجح أن كلمة تروبدرو Troubodour مشتقة من الكلمة الرومانية تروبار Trobar ومعناها يجد أو يخترع، كما أن من الواضح أن الكلمة الإيطالية Trovatore ( تروفتوري) مشتقة من تروفاري Trovare، ولكن من الناس من يقول إنها مشتقة من كلمة الطرب العربية ومعناها الغناء (26). وكانوا يسمون فنهم "الحكمة المرحة" gai sebar أو gaya ciencia ولكنهم كانوا يرونه من الأعمال الجدية التي تتطلب وقتاً طويلاً من المران على الشعر، والموسيقى، وآداب الحديث التي تليق بالفرسان أولي النبل والشهامة. وكانوا يتزيّون بزي الأشراف، ويتّشحون برداء طرزت حواشيه بالذهب والفراء الثمينة، وكثيراً ما كانوا يركبون وهم مدرعون بدروع الفرسان، ويتسابقون في ألعاب البرجاس، سيقاتلون بالرماح وبالأقلام في سبيل السيدات اللاتي يقدمون لهن شعرهم وإن لم يقدموا لهن حياتهم. ولم يكونوا يكتبون لغير طبقة الأشراف، وكانوا عادة يلَحّنون بأنفسهم شعرهم الغنائي ويستأجرون المغنين ليغنوه في المآدب وألعاب البرجاس، ولكنه كثيراً ما كانوا هم أنفسهم يعزفون على القيثار وينفّسون بأغنية عن عاطفة مكبوتة.
وأكبر الظن أن العواطف التي كانوا يعبّرون عنها لم تكن إلاّ صورة أدبية، وأن تحرّقهم لم يكن أكثر من رغبة، وأن مسكنهم مع حبيباتهم في السماء تعبير عن إشباع رغبتهم، وأن يأس التروبدور المحزن إن هو إلاّ رخصة شعرية وأداة للتعبير.(17/265)
ويبدو أن الأزواج الذين كانوا يسمعون هؤلاء الشعراء يتشبثون بنسائهم لم يكونوا يرون في هيامهم أكثر من هذا، وأنهم لم يكونوا أكثر حرصاً على أزواجهم من معظم الذكور. وإذ كان الزواج بين الأشراف لا يعدو أن يكون حادثاً من حوادث تداول الثروة، فقد كان الحب إذا وجد يعقب الثروة لا يسبقها كما يحدث في القصص الفرنسي. وأما ما وجد من الحب في أدب العصور الوسطى فكان كله، من فرنسسكا Francesa وبيتريس Beatrice في الجنوب إلى إيسلد Isolde وجنيفير Guinevere في الشمال، حباً حراماً إذا استثنينا منه بعض الأمثلة القليلة. وكان عجز المحب عن الوصول إلى السيدة المتزوجة هو الذي أوجد طائفة التروبدور؛ ذلك أن من الصعب خلق رواية غرامية تدور حول الرغبة المشبعة، وحيث لا توجد العقبات لا يوجد الشعر. ولسنا نسمع إلاّ عن أفراد قلائل من شعراء الفروسية الغزلين حظوا آخر الأمر بعطف السيدات اللائي اختاروهن موضوعاً لأغانيهم، ولكن هذا لم يكن إلاّ خرقاً للمألوف من القواعد في العشر، فقد جرت العادة أن يطفئ الشاعر حرقته بقبلة من الحبيبة أو بلمس يدها. وكان هذا التمنع من أسباب الرقة والظرف؛ ومن أجل هذا انتقل شعر التروبدور - ولعله تأثر في هذا الانتقال بعبادة مريم - من الشهوانية إلى ما يقرب من الرقة الروحية.
لكنهم قلّما كانوا رجالاً أتقياء صالحين، وكان عدم تعففهم من أسباب التنافر بينهم وبين الكنيسة. وقد ألف بعضهم القصائد في هجو كبار رجال الدين، وفي السخرية من الجحيم (27)، والدفاع عن الملاحدة الألبجنسيين، والإشادة بالحملة الصليبية التي انتصر فيها فردريك العاصي حيث أخفق لويس الصالح. ولم يرض جولم أديمار Guillem Ademar إلاّ عن حملة صليبية واحدة، وكان سبب رضائه عنها أنها أبعدت من طريقه زوج سيدة يتشبّب بها. وكان(17/266)
ريمون جوردن Ra mon Jorden يفضل ليلة يقضيها مع محبوبته عن أية جنة سماوية يعدونها بها (28).
وكانت الصور الإنشائية في نظر شعراء الفروسية الغزلين أجل شأناً من الوصايا الأخلاقية. وكان لكل ضرب من قصائدهم اسم يتسمى به فالكانزو Canzo أغنية الغرام، والبلانتي plante مرثية لصديق أو حبيب مات، والسرفنتي sirvente أغنية الحرب، والنزاع والهجوم السياسي، والستينة sixtene قصيدة تتألف من ست مقطوعات معقدة القافية، في كل واحدة منها ستة أبيات، اخترعها أرنو دانيل Arnaud Daniel واعجب بها دانتي، والرعوية pastourelle حوار بين شاعر فروسية غزلي وراعية، والفجرية aubade أو alba أغنية الفجر، وهي في العادة تنذر العاشقين بأن النهار سوف يفضح أمرهم، والسيرينا أو السرنيد serena أو serenade أغنية المساء، والبلادا balada قصة شعرية. وهاهي ذي فجرية لشاعر غير معروف تنطق ببعض أبياتها فتاة من فتيات القرن الثاني عشر تذكرنا بجوليت Juliet:
في حديقة ينشر فيها الشوك الأبيض أوراقه،
كانت سيدتي يضطجع حبيبها بجوارها
حتى نادي الرقيب بطلوع الفجر - ويلاه الفجر الذي يحزن المحبين!
رباه، يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!
...
أتوسل إليك يارب ألا ينقضي الليل، الليل الحبيب،
وألاّ يبتعد عني حبيبي،(17/267)
وألاّ ينادي الرقيب "الفجر" - الفجر الذي يقضي على السلام!
رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!
...
"صديقتي الجميلة الحلوة، أنيليني شفتيك - شفتينا مرة أخرى!
ها هي ذي الطيور في المراعي تشدو
فليكن نصيبنا الحب، ونصيب الحسود الألم!
رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!
...
من تلك الريح الحلوة التي تقبل من بعيد
شربت حتى ارتويت من أنفاس الحبيب،
نعم، من أنفاس حبيبي المرح العزيز!
رباه! يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!
...
ألا ما لأجمل فتاتي وما أظرفها،
وما أكثر من يرقبون الطريق الذي يتجلى فيه جمالها
ولا يطوف بقلبها طائف القدر!
رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً! (29)
وقضى على حركة شعراء الفروسية الغزلين في فرنسا في منتصف القرن الثالث عشر، وكان من أسباب القضاء عليها ما في صياغتها وعواطفها من تكلف وتصنع أخذا يتزايدان على مر الأيام، وما حل بجنوبي فرنسا من دمار بسبب الحروب الدينية الألبجنسية، فقد تهدمت في الوقت العصيب كثير من القصور التي كان يأوي إليها شعراء الفروسية الغَزِلون؛ ولمّا أن قاست طولوز نفسها حصاراً مزدوجاً انهار نظام الفروسية هذا في أكتين. وفر بعض المغنين إلى أسبانيا وبعضهم إلى(17/268)
إيطاليا، وفيها بعث فن أغاني الحب بعثاً جديداً في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ولم يكن بترارك ودانتي إلاّ وريثين للتروبدور. وكان ما خلفوه من تقاليد الشهامة والمرح عوناً على صياغة دستور الفروسية، وتحويل سكان جنوبي أوربا الهمج إلى رجال مهذبين؛ ولقد ظلت الآداب من ذلك الحين تحس بأثر أغانيهم الرقيقة، ولعل الحب تفوح منه في هذه الأيام رائحة ذكية مستمدة من عطر مديحهم.(17/269)
الفصل السادس
المتصببون بالشعر من الألمان
انتشرت حركة شعراء الفروسية الغزلين من فرنسا إلى جنوبي ألمانيا حيث ازدهرت في عصر أباطرة هوهنستاوفن الذهبي وكان الشعراء الألمان يسمون المنيسانجر Mennisanger أي المتصببين بالشعر، ووجد شعرهم في الوقت الذي وجدت فيه في دستور الفروسية المعاصر خدمة المحبوب Minnedienst وخدمة السيدات Fraundienst. ونحن نعرف أسماء ثلاثمائة من هؤلاء المتصببين، ولدينا ثروة موفورة من شعرهم؛ وكان بعضهم من طبقة الأشراف الدنيا، وبعضهم من الفقراء، يرعاهم الأباطرة أو الأدواق. وكان كثيرون منهم أميين وإن التزموا قواعد صارمة في الوزن والقافية، وكانوا يملون ألفاظ أغانيهم موسيقاها؛ ولا يزال الشعر يسمى في ألمانيا إلى يومنا هذا دختونج Dichtung أي الإملاء. وكانوا عادة يتركون المغنين العازفين يغنون أشعارهم، وكانوا أحياناً ينشدونها بأنفسهم. ويروي لنا الرواة مباراة غنائية Sangerkreig عظيمة عقدت في قصر وارتبيرج Wartburg عام 1207، ويقال إن تان هوزر Tannhauser وولفرام فن إشنباخ Wolfram von Eschenbach اشتركا فيها (1). وظل المتصببون قرناً من الزمان يعملون على رفع منزلة المرأة في ألمانيا، وأضحت نساء طبقة الأشراف الباعثة والملهمة لثقافة أرق من أية ثقافة عرفتها تلك البلاد فيما بعد حتى عصر شلر Schiller وجيته.
_________
(1) لقد خلطت القصص بين تان هوزر، وهو من المتصببين المتأخرين، وبين الفارس تان هوزر الذي فر من فينسبرج Venusberg إلى روما ووجد له مكاناً صغيراً في إحدى المسرحيات الغنائية.(17/270)
ويضم ولفرام وولتر فن در فوجلويد Walter von der Vogeleide إلى طائفة المتصببين لأنهما كتبا في أغاني الحب، ولكن الأفضل أن يسلك ولفرام وقصائده المعروفة باسم بارزفال Parzival في سلك كتاب الروايات الغرامية. وكان مولد ولتر "ابن مرج الطيور" في مكان ما في التيرول Tirol قبل عام 1170. وكان من طبقة الفرسان ولكنه من فقرائهم، وزاد أحواله سوءاً على سوء بأن اتخذ الشعر صناعة له. ونسمع عنه وهو في سن العشرين يكسب قوته بالغناء في بيوت الأشراف من أهل فينا. وكان وهو في سن الشباب هذه يكتب في الحب كتابة شهوانية طليقة أغضبت منه منافسيه، ولا يزال الألمان حتى الآن يعتزون بقصيدته تحت شجرة التيليا Unter den Linden:
تحت شجرة التيليا وعلى الخلنج
كان لنا نحن الاثنين فراش،
وهنا كنت تبصيرنا وقد التفت حولنا
الأزهار المتقطعة والكلأ الهشيم؛
ومن أجمة في الوادي - تندرادى -
يشدو البلبل بألحانه العذبة.
...
وأسرعتُ إليه من خلال الفضاء بين الأشجار،
ووصل حبيبي إلى المكان قبلي،
وهناك وقعت في شرك الحبيب - وكنت أسعد الفتيات،
وحظيت بسعادة ليس فوقها سعادة.
وهناك قبّلني مراراً - تندرارى.(17/271)
انظروا إلى شفتيّ ما أشد حمرتهما!
...
وهنا أسرع وهو مغتبط
فأقام لنا عريشاً من الأزهار،
ولا يزال هذا دعابة زائلة،
لأن الذين يمرون بهذا الطريق يرون المكان الذي
وضعت فيها رأسي بين الورود - تندرارى!
...
ولو أن إنساناً (لا قدّر الله!) كان بالقرب منا
لجللني العار، فقد رقدنا هناك سويا.
ولكن هذا لم يعرفه أحد غيري أنا والحبيب
والعندليب لصغير - تندرارى! -
وأنا أعرف أنه لن ينم علينا (32)
ونضج تفكيره لما كبر، وبدأ يرى في المرأة مفاتن ومحاسن أجمل من بشرتها البضة، وبدت له فوائد الاتحاد بالزواج أعظم قيمة من التقلب بين النساء: "ما أسعد الرجل وما أسعد المرأة، اللذين يرتبط قلباهما بالإخلاص المتبادل، والذين تزداد حياتهما قيمة على مر الزمن، وبارك الله في بيتهما وجميع أيامهما (33). وأخذ يندد بتملق زملائه الشعراء نساء البلاط، وقال إن لقب "المرأة" أعظم قيمة لديه من لقب "السيدة"، وإن النساء الصالحات والرجال الصالحين هم الأشراف بحق، وإن "النساء الألمانيات يضارعن الملائكة في الجمال، وإن من ذمهن كذاب أشر" (34).
ومات الإمبراطور هنري السادس في عام 1197 وعمّت الفوضى بلاد ألمانيا مدى جيل كامل ولم تنقطع إلاّ بعد أن بلغ فردريك الثاني سن الرشد. ولم يعد(17/272)
الأشراف يناصرون الأدباء ويبسطون عليهم رعايتهم، فأخذ ولتر ينتقل من بلاط إلى بلاط يغني غناء البائس الشقي طلباً للقوت، ينافسه فيه المشعوذون والمهرجون الأذلاء. وحسبنا دليلاً على ما كان يعانيه في ذلك الوقت هذه العبارة المنقولة من حساب نفقات ولفجر Wolfeger أسقف باسو Passau " خمسة صلدات صرفت في 12 نوفمبر عام 1203 إلى ولتر فن درفوجلويد ليشتري بها سترة من الفراء يتقي بها برد الشتاء" (35). وكانت هذه حسنة مضاعفة لأن ولتر جبليني متحمس، هجا في شعره البابوات، وندد بعيوب الكنيسة، وثار على نقل الأموال الألمانية فوق جبال الألب لتملأ بها خزائن كنيسة القديس بطرس (36). غير أنه كان على الرغم من هذا مسيحياً صادقاً، ألف نشيداً عظيماً سماه "نشيد الصليبيين"، ولكنه كان يستطيع في بعض الأوقات أن يسمو فوق المعارك الحربية ويرى أن الناس كلهم أخوة:
الناس كلهم من أم واحدة
ونحن جميعاً أكفاء من الخارج والداخل؛
وأفواهنا تطعم كلها بطعام واحد،
وإذا ما سقطت عظامهم وأصبحت كومة مختلطة
فهل تعرفون يا من تميزون الأحياء بنظرة إليهم
أيهم الدنيء الآن وأيهم الشريف
بعد أن أكل الدود لحومهم وتعرت عظامهم؟
إن المسيحيين واليهود والكفار كلهم يتعبدون
والله يبسط رعايته على جميع الخلق (37).
وظل ولتر ربع قرن في تجواله وفقره، ثم وهبه فردريك الثاني ضيعة ودخلاً ثابتاً (1221)، فاستطاع أن يقضي السبع السنين الباقية من حياته(17/273)
هادئاً مطمئناً. وقد أحزنه أن شيخوخته ومرضه لا يمكنانه من الاشتراك في الحرب الصليبية، وطلب إلى الله أن يغفر له عجزه عن أن يحب أعداءه (38). وقد أوصى في قصيدة له بمن يرث مخلفاته "فللحساد سوء حظي، وللكاذبين أحزاني، وللمحبين النادرين حماقاتي، وللسيدات آلام قلبي" (39). ودفن في كتدرائية ورزبج Wurzburg وأقيم بالقرب منها نصب تذكاري يعلن حب ألمانيا لأعظم شعراء عصره.
وقضى على حركة الشعراء المتصببين بعد موته ما تورطت فيها من إسراف ومغالاة، وحل بها ما حل بألمانيا من دمار وسقوط فردريك الثاني. ويصف لنا ألريخ فن لختنشتاين Ulrich von Lichtenstein ( حوالي 1200 - 1276) في سيرته الذاتية الشعرية ( Frauendienst) كيف نشأ وسط عواطف "خدمة السيدات". فاختار سيدة لتكون له معبودة، وخيطت شفته الشرماء ليقلل نفورها منه، وحارب من أجلها في ألعاب برجاس. ولمّا قيل له إنها عجبت حين عرفت أنه لا تزال له إصبع كانت تظن أنه فقدها في الدفاع عن شرفها، قطع هذا العضو الآثم وبعث به إليها دليلاً على الولاء والخضوع. وكاد يغمى عليه من شدة الفرح حين أسعده الحظ بشرب الماء الذي غسلت فيه يديها (40). ولمّا تلقى منها رسالة ظل يحملها في جيبه عدة أسابيع حتى وجد شخصاً يستطيع أن يثق بأنه سيقرؤها له سراً، لأن الريخ كان يجهل القراءة (41). ولمّا وعدته بأنها ستعطف عليه انتظر وفاءها بوعدها يومين كاملين في ثياب المتسولين بين المجذومين الواقفين ببابها، ثم أذنت له بالدخول، ولمّا تبينت إلحاحه أمرت فأنزل من نافذة مخدعها في ملاءة سرير. وكان له في ذلك زوجة وأبناء.
واختتمت حركة الشعراء المتصببين اختتاماً فيه بعض الكرامة بموت هنريخ فن مايسن Henrich von Meissen الذي أحرز بأغانيه في تكريم(17/274)
النساء لقب "مداح النساء". ولمّا مات في مينز عام 1317 حملت نساء المدينة نعشه وأخذن يندبنه حتى ووري التراب في كتدرائية المدينة، وسكبن فوق تابوته خمراً بلغ من كثرتها أن جرت في طول الكنيسة كلها (42). وخرج فن الغناء بعد موته من أيدي الفرسان إلى أيدي الطبقة الوسطى؛ وزالت نزعة عباد السيدات الغرامية، وحل محلها في القرن الرابع عشر مرح جماعة المغنين في المدن وفنهم العارمان يرفعان إلى ربات الشعر قيام طبقة الملاك الوسطى.(17/275)
الفصل السابع
الروايات الغرامية
أما في الروايات الغرامية فقد كانت الطبقة الوسطى هي المسيطرة على الميدان؛ ذلك أن شعراء شمالي فرنسا أبناء الطبقة الدنيا - المعروفين عند الفرنسيين باسم التوفير Trouveres أي المخترعين - كانوا يحيون ليالي الطبقات الوسطى والعليا بقصص شعرية تتحدث عن الحب والحرب، كما كان شعراء الفروسية الغزلون - التروبدور والتروفنوري يكتبون الأغاني الشعرية الرقيقة لنساء جنوبي فرنسا وإيطاليا.
وكانت كتابات المخترعين تتخذ صور القصص الشعرية، Ballade والأغاني الشعرية lai، والتحدث بأعمال الأبطال Chanson de geste، والقصص الغرامية. وقد وصلت إلينا نماذج جميلة من الأغاني الشعرية من قول كاتبة تدعى إنجلترا وفرنسا كلتاهما أنها أول شاعراتها العظيمات. فقد انتقلت Marie de France ( ماريا الفرنسية) من بريطاني لتعيش في إنجلترا في أيام هنري الثاني (1154 - 1189). وأشار عليها أن تصوغ عدداً من أقاصيص البريطانيين شعراً، ففعلت وخلعت عليها من طلاوة اللفظ وقوة العاطفة ما لم يفقها فيهما أي شاعر من شعراء الفروسية الغزلين. وخليق بإحدى قصائدها العاطفية أن تحتل مكاناً في صفحات هذا الكتاب، هي جديرة به، لموضوعها غير العادي - حديث المحبوبة الحية إلى حبيبها الميت:
هل أحبَّك هناك إنسان طوال الصيف والشتاء؟
وهل وجدت هناك جمالاً وضع في القبر معك؟
وهل قبلة الميت الطويلة أحلى مما كانت قبلتي لك؟(17/276)
أو هل انتقلت إلى سعادة بعيدة ونسيتني كل النسيان؟
أي نوم رقيق همت به فلفّك لفاً رقيقاً؟
وأي موت ساحر أغواك بقوته العجيبة فاستحوذ عليك بالليل والنهار؟
إنك ترقد في بقعة صغيرة تحت الكلأ بعيدة من الشمس والظلال
ولكنها لشدة حزني بعيدة عني بعد السماء ....
ستظل ترقد في ذلك المكان كما ترقد الآن
وإن كان في العالم العلوي شخص آخر يحيا حياتك مرة أخرى
ويحب حبيبتك كما كنت تحبها.
أليس مقامك حلواً تحت النخيل؟
أليس اليوم الدفيء الهادئ الطويل الجميل الذي لا يعرف أحد كنهه
خيراً من الحب ومن الحياة؟
ألا ما أشبه أوراق الشجر العطرة العريضة العجيبة
بالأيدي تنسج برد الليل إلى نهايته،
تنسج النوم الذي لا يستطيع الطير البراق مقاومته،
أما أنت فالموت ينسج لك النوم
ويسلبك في الصباح وفي الظهيرة
كثيراً من الأنفاس العجيبة القوية.
ويقيني أنك وأنت في هذا المكان
قد وجدت الموت إغماءً لذيذاً.
لا تستمسك من هذه الساعة بكلمة قلتها أو غنّيتها؛
فما من شك في أنك قد سمعت من زمن بعيد أغاني كثيرة أعذب منها؛
لأن التربة الخصيبة قد وصلت بلا ريب إلى قلبك؛
وحولت إيمانك أزهاراً،
واختلست الريح الدافئة شيئاً فشيئاً روحك أثناء الساعات الغادرة.
ووجدت كثير من البذور الطرية تربة من التفكير المثمر(17/277)
أنبتت زهرة تستقبل الشمس، ولولاها لما استقبلتها،
ولا ريب في أنك قد استمعت إلى كثير
من العواطف القوية الجائشة
التي جعلت ذلك الموضع أجمل مما كان
وجعلت جزءاً من عواطفك لا يحنو عليّ هناك (43).
وربما نشأت أغاني الأفعال من قصص الحوادث أو الأغاني. فكان الشاعر ينسج حول حادث تاريخي، يأخذ عادة من المؤرخين الإخباريين، قصة من المغامرات الخيالية يريها في أبيات ذات عشرة مقاطع أو أثني عشر مقطعاً، وتبلغ من الطول ما لا تتسع له إلاّ ليالي الشتاء في الشمال. ولقد كانت أغنية رولان مثلاً متقدماً لهذه الأغاني. وكان البطل المحبب لأغاني الأفعال الفرنسية هو شارلمان؛ وقد أفاد الشعراء الغزلون الفرنسيون من عظمته التاريخية فرفعوه في شعرهم إلى درجة من العظمة لا يكاد يسمو إليها آدمي، فبدلوا هزيمته في أسبانيا فتحاً مبيناً، وسيروه في حملات مظفرة إلى القسطنطينية، وبيت المقدس، ومن حول لحيته البيضاء الخرافية هالة من العظمة والجلال. وكانت الأغاني الفرنسية مرآة ينعكس عليها عصر الإقطاع في موضوعاته، وأخلاق أهله، وأمزجته. وكما كان بيولف والنيبلنجليد يرددان أصداء "عصر الأبطال" في زمن الهجرات، كانت هذه الأغاني الفرنسية - أيا كان موضوعها، أو مكانها، أو زمانها - تتحرك في جو إقطاعي إلى أهداف إقطاعية في أثواب إقطاعية. وكان موضوعها الذي لا تنفك تردده هو الحرب، بين سادة الإقطاع، أو بين الدول، أو الأديان، ولم تكن المرأة والحب يجدان بين قعقعة السيوف إلاّ أصغر مكان.(17/278)
ولمّا صلحت أحوال النظام الاجتماعي، وارتفعت منزلة المرأة على أثر ازدياد الثروة، تختل الحرب عن مكانها في هذه الأغاني للحب، فأضحى هو موضوع الشعراء الرئيسين فلمّا كان القرن الثاني عشر حلت القصص الغرامية محل أغاني الأفعال، وجلست المرأة على عرش الأدب، وظلت تجلس عليه قروناً عدة. وكان اللفظ الفرنسي roman المقابل للرواية الغرامية يعني في أول الأمر أي مؤلَف مكتوب باللغة الفرنسية التي كانت تسمى هي الأخرى رومان Roman دليلاً على أنها من تراث الرومان الأقدمين. ولم تكن القصص الغرامية Romances تسمى في اللغة الفرنسية بهذا الاسم لأنها قصص وجدانية، بل كان الأمر عكس هذا أي أن بعض العواطف أضحت توصف بأنها رومانسية romantic ( وجدانية) لأنها كثيراً ما كتبت بهذه اللغة الرومانية roman الفرنسية. فكانت رواية الوردة Roman de la rose أو طروادة le Troie أو الثعلب de Renard لا تعني أكثر من قصة عن وردة، أو عن طروادة، أو عن ثعلب باللغة الرومانية أي الفرنسية الأولى. وإذ كانت كل صورة أدبية يجب ألاّ تولد في عرف الأدباء إلاّ من أبوين شرعيين، فإن لنا أن نعزو اصل الروايات الغرامية إلى أغاني الأفعال ممتزجة مع ما كان في قصائد شعراء الفروسية الغزلين من عواطف الغرام. ولعل بعض مادة هذه القصص قد أخذ من الروايات اليونانية مثل أثيوبيكا Ethiopica لهليودورس Heliodorus. وكان لكتاب واحد يوناني ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الرابع أثر عميق في هذه الناحية، ونعني به سيرة الإسكندر الخيالية التي تعزى زوراً إلى كلسثنيز Callisthenes مؤرخه الرسمي. ذلك أن القصص التي تروى عن الإسكندر أضحت المعين المحبب الذي لا ينضب للفيض المتتابع من "سلاسل" الروايات التي انتشرت خلال العصور الوسطى في أوربا وفي بلاد الشرق الناطقة باللغة اليونانية. وكانت أجمل صورة لهذه القصة في بلاد الغرب هي رواية الإسكندر(17/279)
Roman d'Alixandre من تأليف الشاعرين الغزلين لامبيير لي تور Lambert li Tors وإسكندر البرنابي Alexander of Bernay حوالي عام 1200. وتقع هذه الرواية في عشرين ألفاً من الأبيات الأثني عشرية المقاطع، أي من البحر المعروف بالبحر "الإسكندري".
وأكثر من هذه تنوعاً وأرق منها عاطفة سلسة الروايات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية التي أخذت موضوعاتها من حصار طروادة. وكان أكبر ملهم لهذه الروايات هو فرجيل لاهومر. وكانت القصة التي كتبها ديدو Dido رواية غرامية حقة وإن جاءت في هذا الوقت البعيد. ألم يستوطن الطرواديون الفارون من هزيمة هم غير خليقين بها فرنسا، وإنجلترا، كما استوطنوا إيطاليا؟ ثم قام حوالي عام 1184 شاعر فرنسي غزلي يسمى بنواده سانت مور Benoit de Ste-Maure بإعادة قصة طروادة في ثلاثين ألف بيت من الشعرـ ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، ودخلت في آداب أكثر من عشر أمم. وفي ألمانيا كتب ولفرام فن إسشنباخ Wolfram von Eschenbach قصة حصار طروادة التي لا تقل في حجمها عن الإلياذة نفسها، وفي إيطاليا أخذ بوكاشيو Boccaccio من بنوا Benoit قصة فيلوستراتو Filostrato؛ وفي إنجلترا كتب ليامون Layamon قص بروت Brut ( حوالي عام 1205) في 32. 000 بيت وصف بها تأسيس لندن على يد بروتس ابن حفيد إينياس Aeneas؛ ومن بنوا جاءت قصة ترويلس وكرسدي Troilus and Criseyde لتشوستر ومسرحية شيكسبير.
وكانت السلسلة الثالثة العظيمة من روايات العصور الوسطى الغرامية هي روايات آرثر Arthur. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن آرثر هذا نبيل مسيحي إنجليزي، حارب الغزاة السكسون في القرن السادس. ولسنا ندري من هو الذي خلق منه هو وفرسانه تلك القصص البديعة المطربة التي لم يتذوق جمالها(17/280)
إلاً محبو مالوري Malory وحدهم؟ ومنذا الذي ابتدع جاوين Gawaine وجلاهاد Galahad وبرسفال Perceval، ومرلين Merlin وجنيفر Guenevere، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وفروسية المائدة المستديرة Round Table ذات الصبغة الدينية المسيحية، وقصة الكأس المقدسة (1) Holy Grail؟ لم يصل الأدباء إلى جواب مؤكد عن هذه الأسئلة بعد نقاش دام مائة عام كاملة، ذلك أن البحث يقضي على الحقيقة المؤكدة (2). ونجد أقدم إشارة لآرثر في كتب المؤرخين الإخباريين الإنجليز، وتظهر بعض عناصر قصته في أخبار نينوس Nenius (976) ، ووُسّع نطاق هذه القصة في التاريخ البريطاني Historia Britanica لجوفري المنسوئي Geoffrey of Monmouth؛ وصاغ قصة جوفري شعراُ فرنسياً ربرت ويس Robert Wace وهو شاعر غزلي من جرسي Jersey في رواية بروتس الإنجليزي Le Brut d'Anglettere (1155) ؛ وفيها نجد للمرة الأولى قصة المائدة المستديرة. والراجح أن أقدم أجزاء متقطعة لهذه القصة هي بعض قصص ويلز التي جمعت الآن في مابنوجيون Mabinogion؛ وأقدم مخطوطات عثرنا عليها للقصيدة بعد نمائها وتطورها مخطوطات فرنسية. والإجماع منعقد على أن مكان بلاط آرثر والكأس المقدسة في ويلز والجنوب الغربي من بريطانيا. وأقدم رواية كاملة منثورة للقصة هي التي ندها في مخطوط إنجليزي يعزى إلى ولتر ماب Walter Map أحد كبار شمامسة أكسفورد (1137 - 1196) وإن كان هذا مشكوكاً في صحته. وأقدم صياغة شعرية لهذه السلسلة هي التي نجدها في روايات Romans كريتيان ده تروي Chretien de Troyes ( حوالي 1140 - 1191).
_________
(1) الكأس التي استعملها المسيح في العشاء الأخير. (المترجم)
(2) يريد في أغلب الظن ما كان يظنه الناس حقيقة مؤكدة. (المترجم)(17/281)
ولسنا نعرف عن حياة كريتيان إلاّ قدراً ضئيلاً لا يكاد يزيد على ما نعرفه عن حياة آرثر. نعرف عنه أنه ألف في بدء حياته الأدبية قصة مفقودة تدعى ترستان Tristan. ووصلت هذه القصة إلى يدي الكونتة ماري ده شمباني Marie de Champagne ابنة إليانور الإكتانية، ويلوح أنها قد بعثت في قلبها الأمل بأن كريتيان هو الرجل الخليق بأن يصوغ "الحب الرقيق"، وأنبل المثل العليا في صورة الرواية الغرامية. واستدعته ماري لأن يكون شاعرها الغزلي - إذا صح هذا التعبير - في بلاطها بتروي Troyes. وكتب وهو في رعايتها (1160 - 1172) أربع روايات غرامية في شعر مقفى (الشعر الدو بيت العربي) كل بيتين منه ذوا قافية، وفي كل بيت ثمانية مقاطع. وهذه الروايات هي ارك وانيد Eric et Enide وكليجيه Cliges، وأيفين Yvaine وفارس العربة Le Cheva,ier de la Charette - ولم يجد هذا الشاعر عنواناً أرقى من هذا لقصة "الفارس الكامل" لا نسلت Lancelot. وبدأ في عام 1175 أثناء إقامته في بلاد فليب كونت فلاندرز رواية كونت دل جرال Conte del Graal أو برسفال له جالوا Perceval le Gallois، وكتب منها 9000 بيت وتركها ليتمها غيره في 60. 000 بيت. ويظهر جو هذه في القصص بداية ارك:
عقد الملك آرثر في يوم عيد الفصح مجلساً للبلاط في كاردجان Cardigan، ولم يشهد الناس قبل ذلك الاجتماع حاشية أغنى من حاشيته، فقد حضر الاجتماع كثيرون من صفوة الفرسان الأقوياء، البواسل، ذوي الجرأة والشجاعة، كما أجتمع منها كثيرات من النساء والفتيات ذوات الثراء الواسع، وبنات الملوك ذوات الرقة والجمال. وقبل أن ينفض الاجتماع في ذلك اليوم أبلغ الملك فرسانه أنه يرغب في أن يخرج في اليوم الثاني لصيد الوعل الأبيض؛ وكان ذلك استمساكاً منه بالعادة القديمة. فلما سمع لورد جاوين هذا غضب أشد الغضب وقال: "مولاي!(17/282)
لن يعود عليك من هذا الصيد ثناء ولا رضاء. فنحن نعرف من زمن بعيد ما هي هذه العادة عادة الوعل الأبيض: نعرف أن من يقتل الوعل الأبيض يجب أن يقبل أجمل فتاة في حاشيتك ... ولكن هذا قد يؤدي إلى شر مستطير، لأن في هذا المكان خمسمائة فتاة من ذوات الحسب والنسب، ... وما من واحدة منهن إلا لها فارس جريء مغوار، على استعداد لأن يعلن بالحق أو بالباطل أن السيدة التي هو متيم بها أروعهن كلهن جمالاً وأعظمهن رقة". فأجابه الملك بقوله: "إني أعلم هذا حق العلم، ولكن علمي به لا يحول بيني وبين تنفيذ ما أعتزمته ... وسنذهب غداُ لنصيد الوعل الأبيض وسيكون ذلك اليوم يوم بهجة ومرح" (44).
وفي بداية الرواية أيضاً نجد المبالغات القصصية الممتعة. "لقد عمدت الطبيعة في تكوين إنيد Enide إلى كل ما لديها من حذق، ودهشت الطبيعة خمسمائة مرة من نجاحها في إبداع هذا المخلوق الكامل". ويقال في قصة لانسلت إن "المحب الكامل مطيع على الدوام، يسارع إلى تنفيذ رغبات حبيبته وهو مسرور ... والألم (في سبيلها) محبب إليه، لأن الحب الذي يهديه ويقوده في سبيله يخفف هذا الألم بل يمحوه" (45). غير أن الكونتة ماري كان لها في الحب رأي فيه شيء من المرونة:
إذا وجد الفارس فتاة أو عذراء مهجورة، وإذا كان يعنى بسمعته الطيبة، فإن نفسه لا تطاوعه بأن يعاملها معاملة غير شريفة إلاّ بقدر ما تطاوعه لأن يقطع عنقه. وإذا ما هاجمها فإنه سيجلل بالعار في كل بلاط، أما إذا انتزعها منه وهي تحت حراسته بحد السلاح فارس آخر اشتبك معه في معركة، فإن من حق هذا الفارس الثاني أن يفعل بها ما يريد دون أن يجلله عار أو يستحق من أجله لوماً (46).
وشعر كريتيان ظريف ولكنه ضعيف، وسرعان ما يمل الإنسان ثقله وكثرته في عصر السرعة الحديث. لكنه يمتاز بأن فيه أكمل تعبير باق حتى اليوم عن المثل الأعلى للفروسية، وذلك في الصورة التي رسمها الكاتب لحاشية(17/283)
تبدو فيها المجاملات، والشرف، والبسالة والإخلاص للحبيب أجل قدراً من الكنيسة أو العقيدة. ولقد أثبت كريتيان في روايته الأخيرة أنه خليق باسمه (1)، ورفع سلسلة الروايات التي تدور حول الملك آرثر إلى الذروة العليا بأن أضاف إليها قصة الكأس المقدسة (2) فقد جاء في القصة أن يوسف الأريماثيائي Josephh of Arimathea تلقى بعض دم المسيح المصلوب في وعاء شرب منه المسيح نفسه أثناء العشاء الأخير؛ وجاء يوسف أو واحد من نسله بهذا الوعاء والدم الخالد إلى بريطانيا، حيث احتفظ به ملك مريض سجين في قصر خفي عجيب، ولن يعثر على الكأس ويطلق سراح الملك بسؤاله عن سبب مرضه إلاّ فارس كملت طهارة حياته وقلبه. وتقول قصة كريتيان إن برسفال الغالي أخذ يبحث عن الكأس، أما الصيغة الإنجليزية للقصة فتقول إن الذي أخذ يبحث عنها هو جلاهاد الآن الطاهر للانسلوت الملوث. وتتفق القصتان في أن الذي عثر عليها صعد بها إلى السماء. وفي ألمانيا بدل ولفرام فن اسشنباخ برسفال فجعله بارفيزال Parvizal وأعطى القصة أشهر صورة كانت عليها في العصور الوسطى.
وولفرام هذا فارس بافاري (حوالي 1165 - حوالي 1220) كان يكسب قوته بشعره، ثم وجد له نصيراً في هرمان Herman أمير ثورنجيا Thuringia، وأقام في قصر وارتبرج Wartburg عشرين عاماً، وكتب أشهر قصيدة في القرن الثالث عشر. وما من شك في أنه كان يمليها إملاء لأن الرواة يؤكدون لنا أنه لم يتعلم قط القراءة. وهو يقول إنه لم يأخذ قصة بارزيفال عن كريتيان بل أخذها عن شاعر بروفنسالي يدعى كيو Kiot. ولسنا نعرف شاعراً يسمى بهذا الاسم، كما أننا لا نعرف أحداً لعرض لهذه القصة بين زمني كريتيان (1175)
_________
(1) أي بأنه مسيحي صميم. (المترجم)
(2) Holy Grail ويقال إن لفظ Grail مأخوذ من لفظ Cratalis المشتق من اللفظ اللاتيني crater ومعناه الكأس.(17/284)
وولفرام (1205). ويبدو أن أحد عشر "كتاباً" من "كتب" قصيدة ولفرام البالغ عددها ستة عشر تعتمد على قصة كونت دل جرال Conte del Graal لكريتيان، ولم يكن المسيحيون الصالحون والفرسان الأنجاد من رجال العصور الوسطى يرون أن مادة الروايات الغرامية ملك مشاع، من حق كل من يشاء أن يستعيرها إذا كان في وسعه أن يرقى بها، ولقد فاق ولفرام في هذه الناحية أستاذه كريتيان.
وبارزيفال في قصة ولفرام لبن فارس من أنجو Anjou رزقه من الملكة هرزليد Herzeleide ( الحزينة القلب) حفيدة تيتورل Titurel - أول حراس الكأس - وأخت أمفورتاس Amfortas الملك المريض في ذلك الوقت. ويبلغها قبل أن تلد بارزيفال بقليل أن زوجها خر صريعاً في معركة بين الفرسان أمام الإسكندرية. وتعتزم ألاّ تعرض بارزيفال للموت وهو صغير السن، فتربيه في عزلة في الريف، وتخفي عنه أصله الملكي، وينشأ جاهلاً بفنون القتال وحمل السلاح:
وحزن لذلك أهلها أشد الحزن، لأنهم رأوه عملاً مشئوماً،
وقالوا إن هذه النشأة لا تليق قط بابن ملك عظيم،
ولكن أمه أخفته في أودية الغابات البرية،
وحال حبها وحزنها بينها وبين التفكير في مبلغ إساءتها للطفل الملكي.
فلم تعطه قط سلاحاً من أسلحة الفرسان إلاّ ما كان يصنعه لنفسه
في أثناء لعبه من الأعشاب التي تنبت في طريقه المنعزل.
فقد صنع لنفسه منها قوساً وسهاماً، يقذف بها،
وهو مرح غافل عن التفكير،
الطيور وهي تشدو فوق رأسه على الأشجار المورقة.(17/285)
فلمّا أن سقط طير الغاب المغرد ميتاً عند قدميه،
مال برأسه ذي الشعر في دهشة وحيرة صامتة،
واندفع في غضب الطفولة وحيرتها الصامتة يقتلع غدائر شعره الذهبي؛
(فأنا أعلم حق العلم أنه لم يكن على ظهر الأرض كلها من يضارعه في جماله)
وطاف بعقله أن الموسيقى التي ظل طول حياته يعزفها بيده
قد ملأت بأنغامها العذبة قلبه نشوة، فأحزنه هذا التفكير وأمضه (47).
ويبلغ بارزيفال طور الرجولة وهو قوي الجسم فارغ العقل، حتى تقع عينه في يوم من الأيام على فارسين في الطريق، فيجب بدروعهما البراقة، ويظنهما إلهين لا فارسين، ويعتزم أن يكون له مثل ما لهما من رونق وبهاء. ويعود إلى موطنه ليبحث عن الملك آرثر الذي يجعل الرجال فرساناً، وتحزن أمه لذهابه حزناً يكاد يقتلها. ويلتقي بارزيفال في طريقه بدوقة نائمة فيختلس منها قبلة، ويسلبها منطقتها، وخاتمها، ويرتكب بعمله هذا إثماً يدنسه سنين طوالاً. ثم يلتقي بإيثر Ither، الفارس الأحمر، ويرسل معه هذا الفارس رسالة يدعو فيها الملك آرثر للقتال. ويدخل بارزيفال على الملك ويستأذنه في أن يجيب هو دعوة إيثر، فيأذن له ويعود إلى إيثر، ويقتله - لأن الحظ في القصص يكون في جانب المبتدئ - ويلبس دروعه، ويركب طلباً للمغامرات. ويطلب إلى جرنمانز Gernemanz في أثناء الليل أن يستضيفه، ويعجب به البارون الشيخ، فيعلمه أساليب القتال الإقطاعية وسدي إليه نصيحة الفرسان:
أشفق على المحتاجين، وكن رحيماً، كريماً، متواضعاً. إن الرجل الكريم المحتاج يستحيي أن يسأل، فتقدم إليه أنت بالعون قبل أن يسألك ... ولكن كن حازماً لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ... لا تكثر من السؤال، ولا ترفض الإجابة عن سؤال خليق أن تسأله. لاحظ واستمع ... أعف عمن يستسلم لك مهما تكن إساءته إليك ... تخلّق بأخلاق الرجولة(17/286)
وكن مرحاً ... احترم النساء وأحبهن، فذلك مما يزيد في شرف الشاب - كن ثابتاً فإن الثبات من شيم الرجال. ألا ما أقل ما ينال من الثناء شخص يخون الحب الشريف (48).
ويخرج بارزيفال مرة أخرى في طلب المغامرات، ويفك الحصار عن كندورامور Kondurramur، ويتزوجها، ويتحدى زوجها بعد عودته، ويبارزه، ويقتله، ثم يترك لزوجته يبحث عن أمه. وتشاء الصدف أن يصل إلى قصر "الكأس المقدسة" فيستضيفه حراسه الفرسان، وتقع عينه على الكأس (والكأس في هذه القصة حجر ثمين)، ويذكر نصيحة جورنماتز الطيب، فلا يسأل عن الكأس المسحورة أو الملك المريض، ولم يكن يعرف أنه عمه. ويصحو في صباح اليوم الثاني فيجد القصر كله خاوياً على عروشه؛ فيخرج منه على ظهر جواده، وترفع أيد مجهولة الجسور الموصلة إلى القصر كأنها تنهاه عن العودة إليه. وينضم مرة أخرى إلى بلاط آرثر، ولكن العرافة كندرى Kondury تتبعه في أثناء هذا الترحيب بالجهل وقلة الأدب لأنه لم يسأل عن سبب علة أمفورتاس، ويقسم بارزيفال أن يعود مرة أخرى لطلب الكأس.
ولكن سورة من الغضب تظلم عليه حياته في تلك الساعة. فهو يشعر أنه غير جدير بما وجهته إليه كندرى من تقريع، ويدرك كثرة ما في العالم من مظالم، ويخرج عن طاعة الله، ويظل أربع سنين لا يزور كنيسة، ولا ينطق بصلاة (49). وتصيبه في تلك السنين مائة من الكوارث، ويظل يبحث عن الكأس ولكنه لا يجدها. ثم يعثر في يوم من الأيام على خلوة ناسك يدعى تريفر يزنت Treverezent ويتبين أنه عمه، ويعرف منه قصة الكأس، وأن علة أمفورتاس التي تفارقه سببها أنه ترك حراسة الكأس ليشغل نفسه بحب غير مشروع. ويعيد الناسك بارزيفال إلى الدين المسيحي، ويتحمل عنه عقاب ذنوبه. وهكذا يهون بارزيفال على نفسه، وتطهر من خطاياه، وجهله وينجيه(17/287)
عذابه من آثامه، فيعود إلى البحث عن الكأس المقدسة. ويكشف الناسك إلى كندرى أن بارزيفال ابن أخي أمفورتاس ووارث ملكه، فتبحث عنه وتعلن إليه أنه اختير ليخلف أمفورتاس على العرش وليكون حارساً على الكأس. ثم تقوده إلى القصر الخفي، ويسأل أمفورتاس عن سبب مرضه، ويشفي الملك الشيخ لساعته. ويجد بارزيفال زوجته كندوبرامور وتأتي إليه لتكون ملكته. ويرزقان بولد يدعى لوهنجرين Lohengrin.
وكأنما أراد جتفرايد السلزبرجي Gottfied of Salisburg أن يمد فاجنر Wagner بموضوع آخر لمسرحياته الموسيقية، فأخرج حوالي عام 1210 أعظم تراجم قصة ترستان نجاحاً. وهذه القصة تمجد الزنا وعدم الوفاء تمجيداُ حماسياً، وتندد بالدستور الأخلاقي الإقطاعي والمسيحي على السواء.
ولد ترتستان، كما ولد بارزيفال، لأم صغيرة السن تدعى بلانش فلير Blanche fleur ( الزهرة البيضاء) ولمّا يمض إلاّ وقت قصير على نبأ يأتيها بأن زوجها الأمير قتل في معركة. ولهذا تسمى الطفل ترستان - أي الحزين - وتموت بعد مولده. ويكفل الولدَ عمُّه مارك Mark ملك كورنوول Cornwall ويجعله من الفرسان. ولمّا بلغ أشده واستوى نبغ في ألعاب البرجاس وقتل مورولد Morold خصيمه الأيرلندي، ولكنه يجرح في المعركة جرحاً مسموماً يقول له عنه مورولد وهو يحتضر إنه لا يشفيه إلاّ إيزيولت Iseult ملكة أيرلندة. فيتخفى في زي تانتريس Tantris العازف على القيثارة، ويزور أيرلندة وتشفيه ملكتها. ويعين مربياً لابنة الملكة واسمها أيضاً إيزيولت. ويعود بعدئذ إلى كورنوول ويحدث مارك عن جمال إيزيولت الصغيرة وحسن صفاتها وأدبها، ويرسله مارك مرة ثانية ليخطب له هذه الفتاة. وتأبى إيزيولت أن تفارق وطنها، وتتبين أن ترستان هو قاتل عمها مورولد فيمتلئ قلبها حقداً عليه، ولكن أمها تقنعها بالرحيل، وتعطي وصيفتها برنجين Brangane شراباً مسحوراً يبعث الحب(17/288)
في القلوب لتسقيه إيزيولت ومارك لتستثير به حبهما. وتخطيء الوصيفة فتسقيه إيزيولت وترستان فلا يلبث الاثنان أن يحتضن كلاهما الآخر، وتكثر الخيانات ويتفقان على أن يخفيا حبهما؛ وتتزوج إيزيولت مارك، وتنام مع ترستان، وتدبر مكيدة لقتل برنجين لأنها تعرف أكثر مما ينبغي أن تعرفه. ومارك هو الرجل الشهم النبيل في هذه القصة (وليس الأمر كذلك في قصة مالوري)؛ فهو يكشف الخديعة، ويخبر إيزيولت وترستان أنهما أعز عليه من أن ينتقم منهما، ويقنع في ذلك بنفي ابن أخيه من البلاد. ويلتقي ترستان في تجواله بإيزيولت ثالثة ويقع في حبها، وإن كان قد أقسم أن يكون هو وملكة مارك "قلباً واحداً، وروحاً واحدة، وجسماً واحداً، وحياةً واحدة". وهنا يترك جتفرايد القصة ناقصة حطمت فيها جميع المثل العليا للفروسية. أما بقية القصة فمن صنع مالوري وعصر متأخر.
وأخرجت ألمانيا في هذا الجيل العجيب، الحيل الأول من القرن الثالث عشر شاعراً آخر يكون هو وولتر، وولفرام، وجتفرايد أربعة لا يدانيهم أربعة سواهم في أي مكان آخر في أدب العالم المسيحي في أيامهم. بدأ هارتمان فن أو Hartman von Aue بتقليد كريتيان تقليداً أعرج في روايتيه الشعريتين ارك Erec وإوين Iwein، ولكنه لمّا التفت إلى أقاصيص بلاده سوابيا Swabia أخرج آية فنية صغرى هي Der arme heinrich ( حوالي عام 1205). وكان "هنري المسكين" كما كان أيوب رجلاً غنياً يصاب وهو في عنفوان مجده بداء الجذام ولا يستطيع أن يشفيه منه إلاّ موت عذراء طاهرة من أجله (إذ لابد أن يقول السحر في العصور الوسطى كلمته في القصص). ولا يتوقع هنري أن يجد هذه التضحية فيستسلم للحزن واليأس، ولكن فتاة هذه صفاتها في الوجود، تعتزم أن تموت كي يشفى هنريخ من دائه الوبيل. ويظن أبواها أن قرارها هذا موحى(17/289)
به من عند الله فيوافقان على هذا العمل الذي لم يكن أحد يظن أنهما سيوافقان عليه، وتكشف الفتاة عن صدرها الجميل للنصل. ولكن هنريخ تدب فيه نخوة الرجولة على حين غفلة، فيأمر بألاّ تقتل الفتاة، ويرفض هذه التضحية، ويمتنع عن العويل، ويرتضي آلامه معتقداً أنها من عند الله، وتتبدل روحه بفضل هذه النزعة الجديدة، فيزول مرضه الجثماني زوالاً سريعاً، ويتزوج الفتاة التي أنقذته ويعوض هارتمان القصة عما فيها من سخف وبعد عن المعقول بشعره البسيط السلس الخالي من التكلف، وقد احتفظت ألمانيا بهذه القصيدة حتى هذا العصر القليل الإيمان.
وثمة قصة أجمل منها كتبها شاعر فرنسي غير معروف في وقت ما في النصف الأول من القرن الثالث عشر وسماها هذان هما أوكسيان ونيقولت c'EST D'Aucassin et Nicolette. والقصة نصفها رواية غرامية، ونصفها سخرية من الروايات الغرامية، صيغت كما يليق بها أن تصاغ تارةً شعراً وتارةً نثراً، ووضعت لها علامات موسيقية بين النصوص الشعرية.
وخلاصتها أن أوكسان ابن الكونت بوكير Beaucaire يغرم بنيقولت متبناة فيكونت بوكير. ويعارض الكونت في زواجه بها لأنه يريد أن يزوج ابنه من أحد البيوت الإقطاعية التي تستطيع أن تمده بالعون في الحرب، ويأمر تابعه الفيكونت أن يخفي الفتاة. ويريد أوكسان أن يراها فيشير عليه الفيكونت أن "يدع نيقولت وشأنها وإلاّ فلن يرى الجنة قط". ويرد عليه أوكسان رداً يتفق مع نزعة التشكك التي أخذت تظهر في الوقت:
ما شأني أنا والجنة؟ إني لا يهمني قط أن أدخلها، وكل الذي يهمني أن أحظى بنيقولت ... ذلك أن الجنة لا يدخلها إلاّ القساوسة الطاعنون في السن، والشيوخ المقعدون، والمرضى الذين لا يبارحهم السعال ليلاً أو نهاراً أمام مذابح الكنائس ... أما أنا فلا شأن لي بهؤلاء، بل إني أريد أن يكون مأواي الجحيم، لأن الجحيم مثوى العلماء الظرفاء، والفرسان الأنجاد الذين يقتلون في ألعاب(17/290)
الفروسية أو الحروب العوان، كما هي مأوى النًّابل القوي والرجل الوفي. إني أريد أن أكون مع هؤلاء. وإليها تذهب السيدات الحسان الظريفات اللاتي لكل منهن أصدقاء - اثنان أو ثلاثة - زيادة على زوجها. وفيها يمر العازفون والمغنون، وملوك العالم. سأذهب مع هؤلاء إذا كان نيقولت صديقتي الحلوة الجميلة إلى جانبي.
ويغلق والد نيقولت باب حجرتها عليها، كما يحبس والد أوكسان ابنه في سرداب أرضي حيث يتغنى بدواء عجيب مسحور:
نيقولت - يا زهرة الزنبق البيضاء،
يا أحلى فتاة وجدت في عريش،
يا حلوة كالكرمة
التي تفيض بها الكأس المتبلة حلاوة؛
حدث لك في يوم من الأيام،
أن جاء من ليموزين Limousin
حاج متعب خائف،
يرقد من شدة الألم على فراشه،
يتقلب ويخشى الموت حين يتنفس،
مكتئب أشد الاكتئاب،
قاب قوسين أو أدنى من الموت.
فدخلتِ يا ذات الطهر والنقاء،
ومشيت بخفة حتى أبصرك الرجل العليل،
ورفعت زيل ثوبك المسبل.
ورفعت الجلباب الموشى بالفراء،(17/291)
ورفعت الشعار وكشفت له لخفة
عن كل عضو فيك جميل.
وحدث وقتئذ حادث عجيب،
فقد قام في تلك الساعة سليماً معافى،
وغادر فراشه، وأمسك بيده الصليب،
واتجه مرة أخرى نحو بلاده العزيزة.
يا زهرة الزنبق البيضاء الحلوة،
ما أحلى وقع قدميك!
وما أحلى ضحكك وما أخلى حديثك!
وما أجمل لعبنا معاً!
وما أحلى قبلاتك وما ألين ملمسك!
إن الناس كلهم لابد مولعون بك (51).
وفي هذه الأثناء تفتل زهرة الزنبق حبلاً من أغطية فراشها وتنزل به إلى الحديق، وتمسك ذيل ثوبها بكلتا يديها ... وانزلقت بخفة فوق الندى المتراكم على الكلأ، وخرجت بهذه الطريقة من الحديقة. وكان شعرها ذهبياً، جعلت منه غدائر حب صغيرة. وعيناها زرقاوين باسمتين، ووجهها جميل يسر المرء أن يراه. لها شفتان أشد حمرة من الوردة أو الكرزة في حر الصيف، وأسنان بيضاء صغيرة، وثديان ناهدان يبدوان تحت ثيابها كأنهما رمانتان. وكانت ذات خصر نحيل تكاد يداك تنطبقان عليه، وكانت الأزهار التي تنكسر تحت قدميها تبدو سوداء أمام باطنهما وبشرتها. ألا ما أنصع بياض تلك الفتاة الحسناء (52).
وتتخذ سمتها إلى نافذة سجن أوكسان ذات القضبان الحديدية وتقص خصلة من شعرها وتلقيها إليه، وتقسم أن حبها لا يقل عن حبه. ويرسل والدها من يبحث له عنها، فتفر إلى الغابات وتعيش مع الرعاة الذين يعرفون قدرها. ويظن(17/292)
والد أوكسان بعد مضي فترة من الزمان أنها أصبحت بعيدة عن ولده فيطلق سراحه. فيخرج اوكسان إلى الغابات ويبحث عنها وتعترضه في ذلك البحث حوادث لا تخلو من الهزل، ثم يعثر عليها ويردفها خلفه على جواده و"يقبّلها وهما راكبان". ويريدان الفرار من أبويها اللذين يتعقبانهما، فيركبان سفينة يعبران بها البحر المتوسط؛ وينزلان في أرض يلد فيها الرجال، ويحترب الناس بالترامي المرح بالفاكهة. ويعتقلهما محاربون أقل من هؤلاء رقة، ويفترقان مدى ثلاثة أعوام، ثم يجتمعان آخر الأمر مرة أخرى؛ ويموت الوالدان الحانقان لحسن الحظ، ويصبح أوكسان ونيقولت كونت بوكير وكنتتها.
وليس في أدب فرنسا الموفور الثراء ما هو أبدع من هذه القصة.(17/293)
الفصل الثامن
الرجوع إلى الهجاء
وكانت الفكاهة التي تخللت فصول هذه القصة توحي بأن الفرنسيين بدءوا يتخمون بالروايات الغرامية. ذلك أن أشهر قصائد العصور الوسطى - وهي القصيدة التي يعرفها من القراء أكثر ممن يعرفون المسلاة الإلهية - بدأت قصة غرامية وانتهت بأن كانت أقوى وأفحش قصيدة هجائية في التاريخ كله. وتفصيل ذلك أن جيوم ده لوريس Guillaume (1) ، وهو طالب صغير السن في أورليان، كتب حوالي عام 1237 قصيدة رمزية كان يقصد بها أن تشمل جميع فنون الحب، وأن تكون بفضل صبغتها التجريدية نموذجاً لجميع الروايات الغرامية وخلاصة لهذه الروايات. ولسنا نعرف عن وليم اللواري هذا William of the Loire أكثر من أنه كتب الأبيات الأولى البالغ عددها 4226 من رواية الوردة roman de la rose. وهو يصور نفسه فيها يطوف في حلمه بحديقة حب فخمة تتفتح فيها كل زهرة معروفة وتشدو فيها جميع الطيور، وتجتمع فيها أزواج سعيدة تمثل كل ما في حياة الحب من متعة ونعيم - المرح والسرور، والأدب والجمال، ويرقص كل زوجين اثنين من هذه المتع تحت رياسة إله الحب. ذلك دين جديد يحتوي فكرة جديدة عن الجنة تحل فيها المرأة محل الله. وفي هذه الجنة يرى الحالم زهرة أبهى من كل ما يحيط بها من جمال، ولكنها تحرسها ألف شوكة. وهذه الوردة هي رمز المحبوب. وتتألف من شوق بطل الرواية إلى بلوغها وقطفها قصة جميع الحملات الغرامية التي تثيرها الشهوة المكبوتة التي تثير الخيال وتغذيه. وليس في القصة كلها إنسان سوى راويها نفسه، أمّا من بقى من الممثلين فيها فتجسيد
_________
(1) جيوم هو وليم كما يكتبه الفرنسيون. (المترجم)(17/294)
الصفات خُلُقية توجد في كل القصور التي يطارد فيها الرجال النساء: المظهر الجميل، والكبرياء، والنذالة، والحياء، والثراء، والبخل، والحسد، والخمول، والنفاق، والشباب، واليأس، و"الفكر الجديد" نفسه - ومعنى الفكر الجديد هنا هو التذبذب. وأعجب ما في القصة أن جو يوم استطاع بهذه التجريدات أن يقرض شعراً ممتعاً - ولعل سبب ذلك أن الحب أياً كان عصره وأياً كان مظهره فيه من المتعة بقدر ما في الدم من حرارة (1).
ومات وليم صغير السن دون أن يتم قصيدته؛ وظل العالم أربعين عاماً حائراً لا يدري هل فعل المحب الذي أصابه كيوبد إله الحب بسهمه فأخذ يرتجف من شدة الحب، نقول هل فعل أكثر من أن يقبل الوردة. ثم أمسك فرنسي آخر يدعى جان ده مونج Jean de Meung بالشعلة، وبلغ بها أكثر من اثنين وعشرين ألف بيت من الشعر في قصيدة بينها وبين قصيدة وليم من البعد مثل ما بين ربليه وتنيسُنْ Tennyson. ذلك أن مرور جيل من الزمان قد بدل مزاج القوم؛ وأن الروايات الغرامية
_________
(1) لا تقل ترجمة تشوستر للنصف الأول من قصيدة رواية الوردة " The Roman of the Rose" في جمالها عن أصلها الذي كتبه وليم بنفسه.(17/295)
قد استنفذت إلى حين كل ما عندها من حديث، وأخذت الفلسفة تغشى بستار العقل شعر الإيمان؛ وكانت الحروب الصليبية قد أخفقت، وبدأ عصر الشك والهجاء. ويقول بعضهم إن جان كتب الجزء العاصف العجاج الذي أكمل به القصيدة بناءً على إشارة الملك فليب الرابع الذي بعث بمحاميه المتشككين ليضحكوا في وجه البابا. وكان مولد جان كلوبنل Jean Clopinel في مونج القائمة على شاطئ نهر اللوار حوالي عام 1250، ودرس الفلسفة والأدب في باريس، وأصبح من أعظم رجال زمانه تبحراً في العلوم. ولسنا ندري أي عامل من عوامل الشر والفساد أغراه بأن يسخّر علمه، وبغضه للكهنوتية، واحتقاره للمرأة والروايات الغرامية، أن يسخّر هذا كله ليكمل به أعظم قصيدة غرامية في الأدب كله. فقد أخذ جان يبسط آراءه في جميع الموضوعات من خلق العالم إلى يوم الحساب بينما ينتظر الحبيب المسكين في الحديقة طوال هذا الوقت ليقطف الوردة. ويصوغ أبياته في شعر من نفس البحر ذي الثمانية المقاطع والقافية الواحدة في كل بيتين كالذي صاغ فيه وليم قصيدته، ولكنه بما فيه من حماسة وطرب بعيدٌ كل البعد عن أشعار وليم الحالمة. وإذا كان قد بقى في قلب جان شيء من الغرام فقد كان ذلك هو صورة أفلاطون الخيالية للعصر ذهبي في الماضي "لا يقول أحد فيه إن هذا الشيء أو ذلك ملك له، ولا يعرف فيه الناس الشهوات أو السلب والنهب"، ولم يكن فيه سادة إقطاعيون، ولا دولة، ولا قانون، يعيش الناس فيه دون أن يأكلوا اللحم أو السمك أو الطير، و"تكون فيه جميع خيرات الأرض ملكاً مشاعاً بينهم" (53). وليس جان متحرراً من الدين، فهو يقبل عقائد الكنيسة دون أن يحط من قدرها، ولكنه يبغض "أولئك الفجار البدن المترفين، والإخوان المتسولين، الذين يخدعون الناس بالألفاظ الكاذبة، ويملأون بطونهم باللحم والشراب" (54) وهولا يطيق المنافقين، ويوصيهم بأكل البصل والثوم لييسر لهم أن يذرفوا دموع التماسيح (55). ويقر بأن "حب امرأة ظريفة" خير ما في الحياة مننعم، ولكن يبدو أنه لم يتذوق قط هذه النعمة (56)، ولعله لم يكن خليقاً بأن يتذوقها لأن الهجاء لم يكن قط طريق كسب فتاة حسناء؛ ولأن جان كان شديد التأثر بأوفد، وقد تتلمذ عليه إلى حد جعله يفكر في وسائل الانتفاع بالنساء، ويُعَلّم غيره هذه الوسائل، أكثر ممّا يحبهم. وهو يجهر بأن الاقتصار على زوجة واحدة سخف، لأن الطبيعة قد أعدت الكل للكل- كل النساء لكل الرجال. وهو يُنطق الرجل المشبع بهذه الأبيات يؤنب بها زوجته المزدانة:(17/296)
وماذا تجدي هذه المظاهر كلها؟
وأي نفع يعود على من الأثواب الغالية وهذه الحلل ذات القطع الشاذ الغريب؟
وماذا يعنيني من هذه العصائب التي تولين بها شعرك وتعقصينه،
وتجدلينه بخيوط من الذهب؟ ولماذا تطعمين بالعاج
مرايا مرصعة بالميناء، منشورة عليها دوائر ذهبية؟
وما شأن هذه الجواهر الخليقة بتيجان الملوك،
لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق جميل، يبعث فيك الغرور الجنوني الممقوت؟
وما جدوى هذه الأقمشة الغالية!
والطيات المثناة المجدولة، والمناطق التي تطوقين بها خصرك.
محلاة ومزدانة بالنقوش الكثيرة؟
ثم قولي لمَ تختارين أن تلبسي في قدميك حذاءين ملتمعين
إلاّ إذا كنت تشتهين أن تكشفي عن ساقيك الجميلتين؟
قسماً بالقديس ثيبو Thibaud لأبيعنّ هذه الأشياء الغثة
قبل أن تمضي من هذا الوقت ثلاثة أيام، ولأنبذنّك نبذ الثوب الخلق!
وإنّا لنجد بعض السلوى حين نعرف أن إله الحب يهاجم في آخر الأمر، على رأس أتباعه الذين يخطئهم الحصر، البرج الذي يقوم فيه الخطر، والحياء، والخوف (تردد السيدة) بحراسة الوردة، ويُدخِل الترحابُ الحبيبَ إلى الكعبة الداخلية ويتركه يقتطف أمل أحلامه. ولكن أنّى لهذه الخاتمة الغرامية التي طال انتظارها أن تمحو 18. 000 بيت من الواقعية الفظة والبذاءة الساحرة؟
وكان أكثر ما يقبل الناس على قراءته في أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كتب ثلاثة هي رواية الوردة، والقصة الذهبية، ورينار(17/297)
الثعلب. وبدأت قصة Reynard باللاتينية في إيسنجرينس Ysingrinus حوالي عام 1150 ثم انتقلت منها إلى عدة لغات قومية بأسماء مختلفة Roman de Renart، Reynard the Fox، Reinele de Vos، وانتهى تطوافها برواية Reineke Fuchs لجيته. وأضاف مؤلفون مختلفون نحو ثلاثين قصة مرحة لهذه السلسلة حتى بلغ مجموعها 24. 000 بيت خصصت كلها تقريباً لهجاء الأساليب الإقطاعية، وحاشية الملوك، والاحتفالات المسيحية، والعيوب الآدمية على لسان الحيوان.
ويحتال رينار الثعلب حيلاً شيطانية على الأسد نوبل Noble ( الشريف) ملك الدولة، ويُعطّر درع نوبل بالسيدة هاروج Dame Harouge الفهدة وينصب لها من الدسائس ما لا يقل عن دسائس تليران Talleyrand حتى ترضى أن تكون عشيقته. ويسترضي نوبل وغيره من الوحوش بأن يهب كلاً منها طلسماً ينبئ الزوج بخيانات زوجته. وبهذه الطريقة تنكشف مخاز رهيبة، ويضرب الأزواج زوجاتهم الخائنات، فتفر الزوجات ويحتمين ببرنار فيتخذهن جميعاً حريماً له. وتقول إحدى القصص إن الحيوانات تشتبك في ألعاب الفروسية، وتبدو بأثواب الفرسان الزاهية في استعراض رائع. وترى الثعلب في قصة رينار الميت La Mort Renart يحتضر؛ ويقبل برنار Bernard الحمار كبير أساقفة الحاشية ليقوم له بالمراسيم الدينية، ويخاطبه بلغة توفى على الغاية في العاطفة والإخلاص، وتصنع منتهى الجد والوقار. ويعترف رينار بذنوبه، ولكنه يشترط إذا شفي من مرضه أن يصبح في حل من يمينه غير مقيد بها. وتدل المظاهر كلها على أنه مات، وتجتمع كل الوحوش الكثيرة العدد التي خانها في زوجاتها، أو ضربها، أو مزق لحمها، أو خدعها، تتظاهر بحزنها عليه, ولكنها في خبيئة أمرها سعيدة بموته. ويلقى كبير الأساقفة على قبر الميت عظة شبيهة بأقوال ربليه، ويلوم رينار لأنه كان يرى "أن كل شيء حسن إذا استطعت أن(17/298)
تستحوذ عليه". ولكن رينار تدب فيه الحياة حين يرش عليه الماء المقدس، ويقبض على عُنق شانتكلير (الديك) وهو يطوح بالمبخرة، ويخرج إلى الغابة بفريسته. وبعد فإذا أراد الإنسان أن يفهم العصور الوسطى على حقيقتها فعليه ألاّ ينسى رينار.
ذلك أن قصة رينار أعظم القصص الخرافية التي تروى على لسان الحيوان لهجاء الإنسان. وكانت هذه القصص عادة تكتب بالشعر ذي الثمانية الأوتاد، ويتراوح طولها بين ثلاثين بيتاً وألف بيت؛ ومنها ما هو قديم يرجع إلى عهد إسيوب Aesop أو إلى أقدم من عهده، وجاء بعضها من بلاد الهند عن طريق المسلمين. وكان أكثره قذفاً في حق النساء أو القسيسين، يحسد النساء على ما حبتهن الطبيعة من سلطان، والقسيسين على ما لهم من قوى غير طبيعية؛ يضاف إلى هذا أن النساء والقساوسة قد عابوا على المغنين تلاوة القصص الخرافية الشائنة. ذلك أن الخرافات كانت تتجه على الدوام لأصحاب البطون القوية، وتستخدم لغة الحانات والمواخير، وصاغت آلافاً من الفكاهات شعراً. ولكن تشوسر، وبوكاشيو، وأريستو Aristo، ولافنتين، ومائة غيرهم من القصاصين استمدوا من معينها الفياض كثيراً من القصص المثيرة المدهشة.
وكانت نهضة الشعر الهجائي سبباً في انحطاط منزلة الشعر الغنائي. واشتق الشعراء المغنون الجوالون اسمهم Minstrels الإنجليزي من لفظ Ministerials، وهم في الأصل خدم في حاشية البارونات، أشتقوا اسمهم الفرنسي Jonglenurs من اللفظ اللاتيني ioculator أي صاحب النكات. وقد قام هؤلاء بوظيفة شعراء اليونان الدوارين والماجنين الرومان، وشعراء اسكنديناوة القدماء، والمغنين الإنجليسكسون، وشعراء ويلز وأيرلندة المداحين. وكان المغنون حين بلغت الروايات الغنائية قمة مجدها في القرن الثاني عشر يقومون مقام الطباعة في هذه الأيام؛ وقد احتفظا بمكانتهم بما كانوا يروونه أحياناً من القصص الخليقة بأن(17/299)
تسمى أدباً. فكان الواحد منهم يمسك بقيثارة أو الكمان الكبيرة وينشد الأغاني أو القصص القصيرة، أو الملاحم، أو قصص مريم أو القديسين، وأغاني أعمال الأبطال، والروايات الغرامية أو خرافات الحيوانات (1). وإذا حل موسم الصوم الكبير، وقل عليهم الطلب، عقدوا إذا استطاعوا مؤتمراً للمغنين والماجنين كالمؤتمر الذي نعرف أنه عقد حوالي عام 1000؛ وفيه يتعلم بعضهم ما عند البعض الآخر من حيل وأساليب، وما عند شعراء الفروسية الغزلين والقصاصين من أغان وقصص جديدة. ومنهم من كان يرضى، إذا تبين أن أو قاله ذات طابع عقلي أقوى مما يطيقه المستمعون، أن يسلوهم بالشعوذة، والألعاب البهلوانية، وثني الأجسام، والمشي على الحبال. ولمّا أخذ القصاصون يتنقلون في المدن يروون أقاصيصهم، ولمّا انتشرت عادة القراءة وقل الطلب على القصاصين، تحول المغني الجائل تدريجاً إلى ممثل للمهازل ذات الأغاني والرقص، وأصبح المغني في واقع الأمر مشعوذاً، يقذف بالسكاكين، ويحرك الدمى، ويعرض ألعاب الدببة المدربة؛ والقردة، والخيل، والديكة، والكلاب، والجمال، والأسود. ومن المغنين من حول خرافات الحيوانات إلى روايات هزلية، ومَثَّلها دون أن يمحو ما فيها من فحش. وقاومت الكنيسة شيئاً فشيئاً هذه الطائفة، وحرمت على الصالحين الاستماع إلى أفرادها، وعلى الملوك أن يطعموهم، وكان هونوريوس أسقف أوتون Autun يرى أن أحداً من أولئك المغنين أو القصاصين لن يدخل الجنة.
وكان حب الشعوب لأولئك المغنين والقصاصين ورواة خرافات الحيوانات، والترحيب الصاخب الذي لقيته ملحمة جان ده مونج عن الطبقة الوسطى
_________
(1) ما أشبه هؤلاء "بالشعراء" الذين ينشدون على الربابة قصص أبي زيد الهلالي وغيره من الأبطال والذين أخذوا مع الأسف الشديد ينقرضون في هذه الأيام. (المترجم)(17/300)
bourgoisie من الطبقات المتعلمة وطلبة الجامعات المتمردين؛ كان هذا خاتمة ذلك العصر. نعم إن الروايات الغرامية ظلت باقية، ولكنها كانت تتحداها من كل ناحية القصائد الهجائية، والفكاهات، والمزاج الدنيوي الواقعي الذي يسخر من قصص الفروسية قبل أن يولد سرفنتيز Cervantes بزمن طويل. وظل الهجاء قرناً كاملاً من ذلك الوقت هو المسيطر على الميدان، يقرض بأنيابه قلب الإيمان، حتى تزعزعت جميع دعائم صرح العصور الوسطى، وتحطمت أضلاعه، وتركت نفس الإنسان مزهوة تترنح على حافة العقل.(17/301)
الباب التاسع والثلاثون
دانتي
1265 - 1321
الفصل الأول
شعراء الفروسية الغزليون الإيطاليون
كان بلاط فردريك الثاني هو المكان الذي ولد فيه الأدب الإيطالي. وربما كان لمن في حاشيته من المسلمين نصيب في الحافز الباعث على نشأة هذا الأدب لأن كل مسلم يعرف القراءة والكتابة في ذلك الوقت كان يقرض الشعر. وساعد ذلك أن سيلو دالكلمو Cillo d'Alcamo ( حوالي عام 1260) كتب "حواراً" جميلاً "بين عاشق وسيدة". وتكاد مدينة ألكامو إحدى مدن صقلية تكون مدينة إسلامية. ولكن أثراً أقوى من أثر المسلمين جاء إلى الجزيرة من شعراء الفروسية الغزلين في يروفانس. فقد كان هؤلاء يرسلون أشعارهم، أو يأتون بأنفسهم، إلى فردريك وأعوانه المثقفين وكان هو يجلّهم ويقدّر جهودهم. ولم يكن فردريك نفسه يناصر الشعر فحسب، بل كان فوق ذلك يكتبه، ويكتبه باللغة الإيطالية. وقد ألّف كبير وزرائه بيرودل فني Piero delle Vigne أغاني ممتازة، وربما كان هو الذي صاغها في تلك الصيغة المجهدة. وكان رينلدوداكوينو Rinaldo d'Aquino ( أخو القديس تومس) والذي كان يعيش في بلاط فردريك، وجيدو دلي كولن(17/302)
Guido delle Colonne، وياقوبو دالنتينو Lacopo da Lentino أحد مسجلي الصكوك في بلاط فردريك، كان هؤلاء جميعاً من بين شعراء تلك "النهضة الأبولية". وإنّا لنجد في أغنية ياقوبو (كتبت حوالي 1233) أي قبل مولد دانتي بجيل من الزمان، ما نجده من قصائد الحياة الجديدة Vita Nuovo من رقة العاطفة وجمال الصقل:
أجد في قلبي قوة تدفعني إلى أن أخدم الله،
لكي يكون مثواي الجنة
المكان المقدس الذي سمعت أن البهجة والنعيم
يفيضان في كل مكان فيه.
غير أني أكره الذهاب إليها من غير حبيبتي
ذات الوجه المتلألئ والشعر البراق،
لأني أعرف أنها غابت عنها وكنت أنا فيها
كان نعيمي أقل من لا شيء.
ولكن حذار أن تظن أني أقول هذا
لأني سأرتكب فيها الآثام،
بل كل ما أبغيه أن أشاهد طلعتها البهية،
وعينيها الناعستين الجميلتين، ووجهها الصبوح
حتى تتم بذلك سعادتي
برؤية سيدتي مبتهجة في مكانها!
ولما أن سافر فردريك وحاشيته في بلاد إيطاليا أخذ معه شعراءه وحيواناته البرية، ونشر هؤلاء أثرهم في لاتيوم، وتسكانيا، ولمباردية. وسار ابنه مانفرد Manfred على سنته في مناصرة الشعر وكتب مقطوعات غنائية استحقت ثناء دانتي. وتُرجم كثير من الشعر "الصقلي" إلى لغة تسكانيا، وكان(17/303)